الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف المجلد 2

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: السبحاني التبريزي جعفر، - 1308

عنوان المؤلف واسمه: الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف

تاليف جعفر السبحاني

تفاصيل النشر: قم موسسة الامام الصادق ع ، 1423ق = 1381.

شابك : 964-357-047-9 (ج 1)

لسان : العربية

ملحوظة : ج 3 (1424ق = )1382

ملحوظة : فهرس

موضوع : فقه تطبيقي

معرف المضافة: موسسة الامام الصادق ع

تصنيف الكونجرس: BP169/7 /س2‮الف 8 1381

تصنيف ديوي: 297/324

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-19943

محرر الرقمي: میثم الحیدري

ص : 1

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم

ص : 2

ص : 3

الانصاف

في مسائل دام فيها

الخلاف

دراسات فقهیة موجزة في مسائل احتدم

فیها النقاش عبر القرون

الجزء الثاني

تأليف

الفقیه المحقق آیة الله

جعفر السبحاني

نشر مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام

ص : 4

بسم الله الرحمن الرحيم

المسائل الخلافيّة و دورها في الاستنباط

الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، والصلاة والسلام على أفضل خليقته وأشرف بريّته أبي القاسم محمد ، وعلى خلفائه المبشّرين المعصومين ، الموصوفين بكلّ جميل ، ما تعاقب جيل بعد جيل.

أمّا بعد ؛ فإنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الأُمّة الّتي أعظم الله بها عليهم النعمة ، حيث حفظهم عن وَصْمة محاباة أهل الكتابين ، المؤدِّية إلى تحريف ما فيهما ، واندراس تينك الملّتين ، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلاّ بيّنوه ، ولفاعل فعلاً فيه تحريف إلاّ قوّموه ، حتّى اتّضحت الآراء ، وانعدمت الأهواء ، ودامت الشريعة الواضحة البيضاء على امتلاء الآفاق بأضوائها ، وشفاء القلوب بها من أدوائها ، مأمونة من التحريف ، مصونة عن التصحيف. (1)

إنّ القرآن الكريم يُشيد بالوحدة ، واتّفاق الكلمة والاعتصام بالعروة الوثقى ،

ص : 5


1- إبانة المختار لشيخ الشريعة الاصبهاني ، نقله عن بعض الأعاظم : 10.

ورفض التشتّت والتفرّق ، ويندِّد بالاختلاف والفرقة ، يقول سبحانه : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا). (1)

فهذا المقطع من الآية الكريمة بإيجازها يتكفّل بيان أمرين :

1. يأمر بتوحيد الكلمة والاعتصام بحبل الله.

2. يزجر عن التفرّق والتشتّت.

وهذان الأمران من الوضوح بمرتبة لا يختلف فيهما اثنان.

ومع الاعتراف بذلك كلّه فاختلاف الكلمة إنّما يضرّ إذا كان صادراً عن ميول وأهواء ، فهذا هو الّذي نزل الكتاب بذمّه في غير واحدة من آياته ، يقول سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (2) ، ويقول : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (3) ، فهؤلاء اختلفوا بعد ما تمّت عليهم الحجة وبانت لهم الحقيقة ، فهذا النوع من الاختلاف آية الأنانية أمام الخضوع للحقائق الراهنة.

وأمّا إذا كان الاختلاف موضوعياً نابعاً عن حبِّ تحرّي الحقيقة وكشف الواقع ، فهذا أمر ممدوح ، وأساس للوصول إلى الحقائق المستورة ، وإرساء لقواعد العلم ودعائمه.

إنّ الاختلاف بين الفقهاء أشبه بالخلاف الّذي وقع بين نبيّين كريمين : داود وسليمان - على نبينا وآله وعليهما السلام - في واقعة واحدة حكاها سبحانه في كتابه العزيز وقال : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ

ص : 6


1- آل عمران : 103.
2- الأنعام : 159.
3- آل عمران : 105.

وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ * فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً). (1)

وكما آتى سبحانه لكلّ منهما حكماً وعلماً ، فقد آتى لكلّ فقيه ربّاني فهماً وعلماً ، يدفعه روح البحث العلمي إلى إجراء المزيد من الدقّة والفحص في الأدلّة المتوفّرة بين يديه ، بُغية الوصول إلى الواقع ، وهذا العمل بطبيعته يورث الاختلاف وتعدّد الآراء.

ولأجل ذلك نجم الاختلاف في الشريعة بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - واتّسعت شقّته في القرن الثاني والثالث.

وقد اهتمّ كثير من العلماء منذ وقت مبكر بالمسائل الخلافية وصنّفوا فيها كتباً عديدة ، جمعوا فيها آراء الفقهاء في مسائل خلافية إلى أن عادت معرفة العلم بالخلافيات علماً برأسه وأساساً لصحّة الاجتهاد ، حتّى قيل : إنّ معرفة الأقوال في المسألة نصف الاستنباط. وإليك فيما يلي أسماء بعض الكتب الّتي أُلّفت في الخلافيات ، فمن السنَّة :

1. «الموطّأ» للإمام مالك (المتوفّى 179 ه) يذكر فيه أقوال الفقهاء السابقين في مختلف أبوابه.

2. كتاب «الأُمّ» الّذي جمع فيه البويطي (المتوفّى 231 ه) ثم الربيع المرادي (المتوفّى 270 ه) أقوال الإمام الشافعي ، وقد ضمَّ فصولاً عديدة في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، واختلاف أبي حنيفة والأوزاعي ، واختلاف الشافعي مع محمد بن الحسن.

3. «مسائل إسحاق الكوسج» قد تضمنت اختلاف الإمام أحمد مع معاصريه كابن راهويه وغيره.

ص : 7


1- الأنبياء : 7978.

4. «اختلاف الفقهاء» تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن نصر المروزي (294202 ه) المطبوع بتحقيق الدكتور محمد طاهر حكيم ، ط عام 1420 ه.

5. «اختلاف الفقهاء» تأليف الإمام أبي بكر محمد بن المنذر النيسابوري الشافعي (المتوفّى 309 ه).

6. «اختلاف الفقهاء» تأليف الإمام محمد بن جرير الطبري (المتوفّى 310 ه)

ذكر في كتابه اختلاف مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة مع أبي يوسف ومحمد بن الحسن ثم أبي ثور ، وذكر بعض فقهاء الصحابة والتابعين وأتباعهم إلى المائة الثالثة ، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل ، وحكي انّه سئل عن سبب ذلك؟ فقال : لم يكن أحمد فقيهاً وانّما كان محدِّثاً.

وقد لعب بالكتاب طوارق الحدثان ولم يبق منه إلاّ القليل يبتدأ بكتاب : «المدبّر فالبيوع والصرف والسلم والمزارعة والمساقاة والغصب والضمان» ، والمطبوع من الكتاب مجلد واحد يشتمل على هذه الكتب.

7. «اختلاف العلماء» تأليف الإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي الحنفي (المتوفّى 321 ه) واختصره الإمام أبو بكر أحمد بن علي الجصّاص الحنفي (المتوفّى 370 ه) ونشره الدكتور محمد صغير حسن.

8. «اختلاف الفقهاء» تأليف محمد بن محمد الباهلي الشافعي (المتوفّى 321 ه).

9. «الخلافيات» للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (458384 ه) ناقش فيه أدلّة الحنفية وانتصر لمذهب الشافعية. وطبعت بتحقيق مشهور بن حسن آل سلمان.

10. «اختلاف العلماء» تأليف أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي

ص : 8

الوزير (المتوفّى 555 ه).

هذه عشرة كاملة ذكرناها لإيقاف القارئ على أهمية معرفة الخلافيات وعناية الفقهاء بها. هذا ما لدى السنّة وأمّا الشيعة فهي بدورها قد اهتمّت بهذا العلم أيضاً منذ عصر مبكِّر وألّفت فيه كتباً ، نذكر منها ما يلي :

1. كتاب «الاختلاف» لأبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي (207130 ه) ذكر ابن النديم : انّه كان يتشيّع ، حسن المذهب ، يلزم التقية ، وقال : وكتاب «الاختلاف» يحتوي على اختلاف أهل المدينة والكوفة في الشفعة والصدقة والعمرى والرقبى والوديعة والعارية والبضاعة والمضاربة والغصب والسرقة والحدود والشهادات ، وعلى نسق كتب الفقه ما يبقى.

2. «اختلاف الفقهاء» للقاضي أبي حنيفة نعمان بن أحمد المصري المغربي (المتوفّى 363 ه) نقله ابن خلّكان عن ابن زولاق في كتابه «أخبار مصر» ، قال : إنّه ينتصر فيه لأهل البيت - عليهم السلام - وعبّر عنه في «كشف الظنون» باختلاف أُصول المذاهب.

3. «مسائل الخلاف في الفقه» للشريف المرتضى (436355 ه) ذكره الشيخ الطوسي في «الفهرست». وقد أحال المصنّف إليها في كتاب «الناصريات».

4. «مسائل الناصريات» ألّفه الشريف المرتضى وفاءً لجده الناصر على الرغم من اختلاف المذهب بينهما ، ويتجلّى فيه روح التفاهم والتسالم بين عالمين إماميّ وزيديّ ، وهو لا يقتصر على المسائل الخلافية بين الإمامية والزيدية ، بل يحتوي جلّ الخلافات الفقهية على مستوى المذاهب.

5. «الخلاف في الأحكام» لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفّى 460 ه) ويقال له «مسائل الخلاف» وهو مرتّب على ترتيب كتب الفقه ، وقد صرح فيه بأنّه ألّفه بعد كتاب «التهذيب» و «الاستبصار» وناظر فيه المخالفين

ص : 9

جميعاً ، وقد طبع مراراً.

6. «المؤتلف من المختلف بين أئمة السلف» تأليف أمين الإسلام فضل بن الحسن الطبرسي (471 - 548 ه) وقد لخّص به كتاب «الخلاف» للشيخ الطوسي ونشر في ثلاثة أجزاء ، وأثبت هو في ذلك الكتاب انّ الخلاف بين الشيعة والسنّة في المسائل الفقهية ليس على نحو التباين ، بل كثيراً ما يوافق الشيعة مذهباً ويخالف مذهباً آخر ، وهذا هو الأمر السائد في معظم المسائل الفقهية.

7. «خلاف المذاهب الخمسة في الفقه» للشيخ تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلّي (707647 ه) صاحب كتاب الرجال المشهور برجال ابن داود.

8. «تذكرة الفقهاء» للعلاّمة حسن بن المطهر (726648 ه) والكتاب مشحون بنقل أدلّة الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، وقد طبع قديماً ، ويطبع حالياً طبعة جديدة محقّقة من قبل مؤسسة آل البيت - عليهم السلام - حيث صدر منه أكثر من 12 جزءاً.

9. «منتهى المطلب في تحقيق المذهب» للعلاّمة الحلي وهو أفضل ما أُلّف في الفقه المقارَن نقلاً وتحقيقاً ، يذكر آراء العلماء برحابة صدر ويناقش فيها ، والكتاب من حسنات الدهر. وقد طبع قديماً وحديثا.

10. «مختلف الشيعة» له أيضاً وهو يختص ببيان اختلافات خصوص الشيعة في المسائل الفقهية ، وقد طبع طبعات عديدة محقّقة. (1)

هذا بعض ما يمكن أن يذكر في المقام ، ولعلّك تلمس بما ذكرناه اهتمام

ص : 10


1- لاحظ للوقوف على أسماء هذه الكتب وميزاتها كشف الظنون : 1 / 64 ، مادة اختلاف ؛ الذريعة : 1 / 360 ، مادة اختلاف و 7 / 236 ، مادة خلاف ؛ مقدّمة كتاب اختلاف الفقهاء للمروزي ، والخلافيات للإمام البيهقي ، واختلاف الفقهاء لأبي جعفر الطبري وغيرها.

العلماء بالخلافيات ، وجدير بالذكر انّ الخلاف بين العلماء كان مرافقاً في الغالب برعاية أدب الخلاف وأُسلوب الحوار.

هذا البحث الموجز أوقفك على وجود الاختلاف في المسائل الفقهية في عصر الصحابة والتابعين والفقهاء إلى يومنا هذا ، إلاّ أنّ الكلام في أسباب الاختلاف ودوافعه ، فهناك أمران :

الأوّل : ما هو الحافز لاختلاف فقهاء السنّة فيما بينهم ، فقد ذكر ابن رشد : انّ أسباب الاختلاف بين فقهاء السنّة ، أُمور ستة :

الأوّل : تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع : أعني بين أن يكون اللفظ عامّاً يراد به الخاص ، أو خاصّاً يراد به العام ، أو عامّاً يراد به العام ، أو خاصّاً يراد به الخاص ، أو يكون له دليل خطاب ، أو لا يكون له.

الثاني : الاشتراك الّذي في الألفاظ ، وذلك إمّا في اللفظ المفرد كلفظ القرء الّذي يطلق على الأطهار وعلى الحيض ، وكذلك لفظ الأمر الذي يحمل على الوجوب أو الندب ، ولفظ النهي الذي يحمل على التحريم أو الكراهية ، وإمّا في اللفظ المركب مثل قوله تعالى : (إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا) فإنّه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط ، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد ، فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف.

والثالث : اختلاف الإعراب.

والرابع : تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز ، الّتي هي : إمّا الحذف ، وإمّا الزيادة ، وإمّا التقديم ، وإمّا التأخير وإمّا تردده على الحقيقة أو الاستعارة.

والخامس : إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة ، مثل إطلاق الرقبة في العتق تارة ، وتقييدها بالإيمان تارة.

ص : 11

والسادس : التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ الّتي يتلقى منها الشرع ، الأحكام بعضها مع بعض ، وكذلك التعارض الّذي يأتي في الأفعال أو في الإقرارات ، أو تعارض القياسات أنفسها ، أو التعارض الّذي يتركب من هذه الأصناف الثلاثة : أعني معارضة القول للفعل أو للإقرار أو للقياس ، ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس ، ومعارضة الإقرار للقياس. (1)

الثاني : ما هو الحافز للاختلاف بين الفقهين السني والشيعي؟ وهذا هو الذي نبحث عنه في المقام.

نعم هذه الأُمور الستة هي أسباب الاختلاف بين فقهاء أهل السنّة ، لكن أسباب الاختلاف بين الفقهين : السني والشيعي ترجع إلى الاختلاف في الكبريات أي حجّية أُمور يأتي الكلام عنها ، لا إلى الصغريات الّتي ذكرها ابن رشد ، ولعلّنا نستقصي في خاتمة المطاف الأُمور الّتي وسعت الشقةَ بين الفقهين ، ولكن نكتفي هنا ببيان سبب واحد.

الإعراض عن أحاديث العترة الطاهرة

إنّ العترة الطاهرة - بتنصيص النبي قرناء الكتاب وأعداله ، حيث قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».

والحديث متواتر أو متضافر ، رواه الفريقان ، أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي في سننه وأحمد في مسنده إلى غير ذلك من المصادر المتوفّرة. (2)

ص : 12


1- بداية المجتهد : 1 / 65 ، ط دار المعرفة ، بيروت
2- لاحظ صحيح مسلم : 7 / 122 و 123 ، باب فضائل علي ؛ سنن الترمذي : 2 / 308 ؛ مستدرك الصحيحين : 3 / 109 و 148 ؛ مسند أحمد : 3 / 17 و 26 و 4 / 371 و 5 / 181 ؛ الطبقات الكبرى لابن سعد : 2 / 2 ؛ حلية الأولياء : 1 / 355 و 9 / 64 ؛ كنز العمال : 1 / 47 و 96.

فعلى ذلك قولهم حجة قاطعة ، مصون من الخطأ كالكتاب العزيز بحكم انّهما عِدْلان وصنوان.

والحديث يركز على أنّ المرجع العلمي بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الكتاب والعترة ، وانّ قول العترة قول الرسول وكلامه ، وبقولهم تحفظ السنّة عبر القرون ، غير أنّ أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم تلقّوا روايات أهل البيت فتاوى خاصة لهم ، فلم يعتبروها حجّة شرعية على الجميع ، وهذا النوع من التفسير لأحاديثهم مخالف لحديث الثقلين أوّلاً وكلامهم ثانياً ، فإنّهم يعتبرون كل ما يروون ، سنّة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يرويه كابر عن كابر إلى أن يصل إلى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -.

هذا هو النجاشي ينقل في ترجمة محمد بن عذافر الصيرفي عن أبيه قال : كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر - عليه السلام - ، فجعل يسأله ، وكان أبو جعفر - عليه السلام - له مكرِماً ، فاختلفا في شيء ، فقال أبو جعفر - عليه السلام - : «يا بني قم فأخرج كتاب عليّ - عليه السلام -» فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً ، ففتحه وجعل ينظر حتّى أخرج المسألة ، فقال أبو جعفر - عليه السلام - : «هذا خط عليّ - عليه السلام - وإملاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» وأقبل على الحكم ، وقال : «يا أبا محمد اذهب أنت وسلمة بن كهيل وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً ، فو الله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل - عليه السلام -». (1)

فإذا كانت هذه مكانة أحاديث أئمة أهل البيت وأنّهم حفظة السنّة وعيبة علم الرسول ، فلا حجّة للسنّيّ في الإعراض عن أحاديثهم والالتجاء إلى قواعد ، كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع وفتحها وقول الصحابي إلى غير ذلك من القواعد الّتي ألجأهم إلى تأسيسها وإرسائها قلّة النصوص النبويّة في

ص : 13


1- رجال النجاشي : 2 / 261 ، الترجمة 967.

الشريعة والأحكام الفرعية.

ولكنّهم لو رجعوا إلى أحاديث أئمة أهل البيت - عليهم السلام - ، فيما لم يرد فيه نصّ في الكتاب والسنّة النبويّة لاستغنوا عن إرساء هذه القواعد والعمل بالظنون الّتي لا تغني من الحق شيئاً.

ويظهر ممّا رواه البخاري وغيره أن النبي الأكرم - صلى الله عليه وآله - كان بصدد التصريح باسم من يشغل منصّة الحكم ومرجعية الأحكام في أُخريات أيامه ، لكن حال بعضهم دون تحقيق أُمنيّة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

أخرج البخاري في كتاب العلم عن ابن عباس ، قال : لمّا اشتدّ بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعُهُ ، قال : ائتوني بكتاب أكتبُ لكم كتاباً لن تضلّوا بعده. قال عمر : إنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غَلَبَهُ الوَجَع ، وعندنا كتاب الله حسبُنا. فاختلفوا وكَثُرَ اللَّغَط قال : «قوموا عنّي ، ولا ينبغي عندي التنازع» فخرج ابن عباس يقول ، إنَّ الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبين كتابه. (1)

والحقّ أنّها كانت رزيّة ليس فوقها رزيّة ، فإنّ الحيلولة بين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأُمنيّته الكبرى ، وهو طريح الفراش ، فرّقت المسلمين ، وشتتت شملهم إلى يومنا هذا ، وظهرت خلافات على كافة الأصعدة.

والذي يميط الستر عن وجه الحقيقة ، هو ما رواه ابن أبي الحديد عن أحمد بن أبي طاهر صاحب كتاب «تاريخ بغداد» في كتابه مُسنداً ، حيث قال : روى ابن عباس (رض) ، قال : دخلتُ على عُمَر في أوّل خلافته ، وقد أُلقي له صاعٌ من تمر على خَصَفة ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلت تمرة واحدة ،

ص : 14


1- صحيح البخاري : 1 / 38 ، كتاب العلم ، الحديث 114 ، دار الكتب العلمية ، بيروت - 1420 ه. وللحديث أطراف في صحيح البخاري ، لاحظ الأرقام التالية : 3053 ، 3168 ، 4431 ، 4432 ، 5669 ، 7366.

وأقبل يأكل حتّى أتى عليه ، ثم شرب من جَرّ كان عنده ، واستلقى على مِرفقة له ، وطفق يحمد الله ، يكرر ذلك.

ثم قال : من أين جئت يا عبد الله؟ قلتُ : من المسجد ، قال : كيف خلّفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر ، قلتُ : خلّفتُه يلعب مع أترابه ، قال : لم أعنِ ذلك ، إنّما عنيتُ عظيمَكم أهلَ البيت ، قلتُ : خلّفته يمتح بالغَرْب (1) على نخيلات من فلان ، وهو يقرأ القرآن.

قال : يا عبد الله ، عليك دماء البُدن إن كتمتنيها! هل بقيَ في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ قلت : نعم ، قال : أيزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نصّ عليه؟ قلت : نعم ، وأزيدك ، سألت أبي عمّا يدّعيه ، فقال : صدق.

فقال عمر : لقد كان من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في أمره ذَرْوٌ (2) من قول لا يثبتُ حُجّة ، ولا يقطع عذراً ، ولقد كان يربَع في أمره وقتاً ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه ، فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام ، لا ورب هذه البنيّة لا تجتمع عليه قريش أبدا! ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انّي علمت ما في نفسه ، فأمسك ، وأبى الله إلاّ إمضاء ما حتم. (3)

فكل من يريد رأب الصدع وتقليل الشُّقّة بين الفقهين ، فيلزمه الرجوع إلى روايات أئمة اهل البيت - عليهم السلام - المروية بطرق صحيحة ، مضافاً إلى ما بين يديه من الروايات الواردة عن طريق الصحابة والتابعين. فلعل الله تعالى يلمّ بذلك الشّعَث والتفرّق.

ص : 15


1- الغَرْب : الدلو.
2- ذرو : طرف.
3- شرح نهج البلاغة : 12 / 2120 ، ولاحظ أيضاً ص 53.

وفي الختام نود أن نشير إلى خطوة كبيرة في مجال التقريب بين المذاهب قام بها صاحب الفضيلة الأُستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر في شأن جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية عند ما سُئل عن جواز التعبد به ، فأجاب :

1. انّ الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتباعَ مذهب معيّن ، بل نقول : إنّ لكلّ مسلم الحق في أن يقلد بادئ ذي بدء أيَّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة ، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره - أي مذهب كان - ولا حرج عليه في شيء من ذلك.

2. انّ مذهب الجعفرية المعروفة بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.

فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك ، وأن يتخلّصوا من العصبية ، بغير الحق لمذاهب معينة ، فما كان دين الله وما كان شريعته بتابعة لمذهب ، أو مقصورة على مذهب ، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند الله تعالى ، يجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم ، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات. (1)

نسأله سبحانه أن يجمع كلمة المسلمين ويلمّ شعثهم

بمنّه وكرمه

جعفر السبحاني قم

- مؤسسة الإمام الصادق - عليه السلام -

1 رمضان المبارك 1423

ص : 16


1- صدرت الفتوى بتاريخ 17 ربيع الأوّل 1378 ه - في القاهرة.

13- الخمس في الكتاب والسنّة

اشارة

ص : 17

ص : 18

الخمس في الكتاب والسنّة (1)

الأصل في ضريبة الخمس هو قوله سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (2)

لا شك أنّ الآية نزلت في مورد خاص ، أعني : يوم الفرقان ، يوم التقى الجمعان وهو غزوة «بدر» الكبرى ، لكن الكلام في مادة «الغنيمة» في قوله سبحانه : (أَنَّما غَنِمْتُمْ) هل هو عام لكلّ ما يفوز به الإنسان في حياته ، أو خاص بما يظفر به في الحرب من السلب والنهب؟

وعلى فرض كونه عامّاً فهل المورد مخصّص أو لا؟

فيقع الكلام في مقامين :

الأوّل : الغنيمة مطلق ما يفوز به الإنسان

فالظاهر من أئمّة اللغة أنّه في الأصل أعم ممّا يظفر به الإنسان في ساحات

ص : 19


1- ربّما يُخيّل لبعض البسطاء أنّ الشيعة تنفرد بالقول بوجوب الخمس في غير الغنائم ، ولأجل توضيح الحال ندرس الموضوع في ظل الكتاب والسنّة ، وكلمات الفقهاء.
2- الأنفال : 41.

الحرب ، بل هو لغة لكلّ ما يفوز به الإنسان ، وإليك بعض كلماتهم :

1. قال الخليل : الغُنْم : الفوز بالشيء في غير مشقة ، والاغتنام : انتهاز الغنم. (1)

2. قال الأزهري : قال الليث : الغنم : الفوز بالشيء ، والاغتنام انتهاز الغنم. (2)

3. قال الراغب : الغنم معروف ... والغُنْم : إصابته والظفر به ، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العِدَى وغيرهم ، قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) ، (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) والمغنم : ما يُغنم وجمعه مغانم ، قال : (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ). (3)

4. قال ابن فارس : «غنم» أصل صحيح واحد يدلّ على إفادة شيء لم يملك من قبل ثمّ يختص بما أُخذ من المشركين. (4)

5. قال ابن منظور : «الغُنْم» الفوز بالشيء من غير مشقّة. (5)

6. قال ابن الأثير : في الحديث : الرهن لمن رهنه ، له غُنمه وعليه غُرمه ، غُنْمه : زيادته ونماؤه وفاضل قيمته. (6)

7. قال الفيروزآبادي : «الغنم» الفوز بالشيء لا بمشقّة ، وأغنمه كذا تغنيماً نفله إيّاه ، واغتنمه وتغنّمه ، عدّه غنيمة. (7)

ص : 20


1- كتاب العين : 4 / 426 ، مادة غنم.
2- تهذيب اللغة : مادة «غنم».
3- المفردات : مادة «غنم».
4- مقاييس اللغة : مادة «غنم».
5- لسان العرب : مادة «غنم».
6- نهاية اللغة : مادة «غنم».
7- قاموس اللغة : مادة «غنم».

8. وقال الزبيدي : الغنيمة والغنم بالضم ، وفي الحديث : «الرهن لمن رهنه ، له غُنْمه وعليه غرمه» غنمه أي زيادته ونماؤه وفاضل قيمته ، والغنم الفوز بالشيء بلا مشقة. (1)

9. وقال في الرائد : غنم : يغنم : أصاب غنيمة في الحرب أو غيرها. (2)

10. انّ الغُنم يستعمل مقابل الغرم وهو الضرر ، فيكون معناه بمقتضى المقابلة هو النفع ، ومن القواعد الفقهية قاعدة «الغُنْم بالغرم» ومعناه انّ من ينال نفع شيء يتحمّل ضرره.

ودليل هذه القاعدة هو قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه» ، قال الشافعي : غنمه زيادته ، وغرمه هلاكه ونقصه. (3)

وهذه النصوص تعرب عن أنّ المادّة لم توضع لما يفوز به الإنسان في الحروب ، بل معناها أوسع من ذلك وإن كان يغلب استعمالها في العصور المتأخّرة عن نزول القرآن في ما يظفر به في ساحة الحرب.

ولأجل ذلك نجد أنّ المادة استعملت في مطلق ما يفوز به الإنسان في الذكر الحكيم والسنّة النبويّة.

لقد استعمل القرآن لفظة «المغنم» فيما يفوز به الإنسان وإن لم يكن عن طريق القتال ، بل كان عن طريق العمل العادي الدنيوي أو الأُخروي ، إذ يقول سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى

ص : 21


1- تاج العروس : ج 9 : مادة «غنم».
2- الرائد : 2 : مادة «غنم».
3- الموسوعة الفقهية : 31 / 301 ، مادة غنم.

إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ). (1)

والمراد بالمغانم الكثيرة : هو أجر الآخرة ، بدليل مقابلته لعرض الحياة الدنيا ، فيدل على أنّ لفظ المَغْنم لا يختصّ بالأُمور والأشياء التي يحصل عليها الإنسان في هذه الدنيا أو في ساحات الحرب فقط ، بل هو عام لكلّ مكسب وفائدة وإن كان أُخرويّاً.

كما وردت هذه اللفظة في الأحاديث وأُريد منها مطلق الفائدة الحاصلة للمرء.

روى ابن ماجة في سننه : أنّه جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «اللهمّ اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرما». (2)

وفي مسند أحمد عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «غنيمة مجالس الذكر الجنّة». (3)

وفي وصف شهر رمضان عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - : «غنم للمؤمن». (4)

وفي نهاية ابن الأثير : الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة ، سمّاه غنيمة لما فيه من الأجر والثواب. (5)

فقد بان ممّا نقلناه من كلمات أئمّة اللغة وموارد استعمال تلك المادة في الكتاب والسنّة ، أنّ العرب تستعملها في كل مورد يفوز به الإنسان ، من جهة العدى وغيرهم ، وإنّما صار حقيقة متشرعة في الأعصار المتأخّرة في خصوص ما

ص : 22


1- النساء : 94.
2- سنن ابن ماجة : كتاب الزكاة ، باب ما يقال عند إخراج الزكاة ، الحديث 1797.
3- مسند أحمد : 2 / 330 و 374 و 524.
4- المصدر نفسه : ص 177.
5- النهاية : مادة «غنم».

يفوز به الإنسان في ساحة الحرب ، ونزلت الآية في أوّل حرب خاضها المسلمون تحت لواء رسول الله ، ولم يكن الاستعمال إلاّ تطبيقاً للمعنى الكلّي على مورد خاص.

الثاني : المورد غير مخصّص

اشارة

إذا كان مفهوم اللفظ عامّاً يشمل كافّة ما يفوز به الإنسان ، فلا يكون وروده في مورد خاص ، مخصّصاً لمفهومه ومضيّقاً لعمومه ، فإذا وقفنا على أنّ التشريع الإسلامي فرض الخمس في الركاز والكنز والسيوب أوّلاً ، وأرباح المكاسب ثانياً ، فيكون ذلك التشريع مؤكّداً لإطلاق الآية ، ولا يكون وروده في الغنائم الحربية رافعاً له. وإليك ما ورد في السنّة من الروايات في الموردين :

1. وجوب الخمس في الركاز من باب الغنيمة

اشارة

اتّفقت السنّة على أنّ في الركاز الخمس وإنّما اختلفوا في المعادن ، فالواجب هو الخمس لدى الحنفية والمالكية ، وربع العشر عند الشافعية والحنابلة.

وقد استدلّت الحنفية على وجوب الخمس في المعادن بالكتاب والسنّة والقياس فقالوا :

أمّا الكتاب : فقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) ويعدّ المعدن غنيمة ، لأنّه كان في محلّه من الأرض في أيدي الكفرة ، وقد استولى عليه المسلمون عنوة.

وأمّا السنّة : فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «العجماء جُبار - أي هدر لا شيء فيه - والبئر جبار والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس» والركاز يشمل المعدن والكنز ، لأنّه من الركز

ص : 23

أي المركوز ، سواء من الخالق أو المخلوق.

وأمّا القياس : فهو قياس المعدن على الكنز الجاهلي ، بجامع ثبوت معنى الغنيمة في كلّ منهما ، فيجب الخمس فيهما. (1)

ترى أنّ الحنفية تستدلّ على وجوب الخمس في المعادن بآية الغنيمة ولا تصلح للاستدلال إلاّ أن يراد بها المعنى اللغوي لا المعنى الاصطلاحي.

وما جاء في ثنايا الاستدلال بأنّ المعدن غنيمة ، لأنّه كان في محلّه من الأرض في أيدي الكفرة وقد استولى عليه المسلمون عنوة ، غير تام ، بل الظاهر انّ المعدن - بما هو هو - مع قطع النظر عن تلك الحيثية «غنيمة» ، وإلاّ يتوجّه عليه إشكالان :

1. عدم وجوب الخمس في المعادن التي لم تكن عليها يد الكفر ، كما في الصحارى الخالية عن أيّة سلطة عبر التاريخ.

2. انّ أمر «الغنيمة» دائر بين كونها حقيقة في خصوص ما يفوز به الإنسان في ساحة الحرب أو مطلق ما يفوز به الإنسان ، وأمّا الفوز بالشيء بعد مرور قرن أو قرون على الحرب فهو ممّا لم يقل به أحد ، ومن الواضح انّ أكثر المعادن التي عليها يد الدولة الإسلامية أو آحاد الناس من هذا القبيل.

هذا وقد تضافرت الروايات عن طريق أهل السنّة على وجوب الخمس في الأُمور الأربعة :

أ. الركاز.

ب. الكنز.

ج. المعدن.

د. السيوب.

ص : 24


1- الفقه الإسلامي وأدلّته : 2 / 776.

روى لفيف من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة وجابر وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك ، وجوب الخمس في الركاز والكنز والسيوب ، وإليك قسماً ممّا روي في هذا المجال :

1. في مسند أحمد وسنن ابن ماجة واللفظ للأوّل : عن ابن عباس قال :

قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الركاز ، الخمس (1).

2. وفي صحيحي مسلم والبخاري واللفظ للأوّل : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «العجماء جرحها جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس». (2)

قال أبو يوسف في كتاب «الخراج» : كان أهل الجاهلية إذا عطبَ الرجل في قُلَيب جعلوا القليب عَقَله ، وإذا قتلته دابة جعلوها عقله ، وإذا قتله معدن جعلوه عقله. فسأل سائل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك؟ فقال : «العجماء جبار ، والمعدن جبار ، والبئر جبار ، وفي الركاز الخمس» فقيل له : ما الركاز يا رسول الله؟ فقال : «الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت». (3)

3. وفي مسند أحمد : عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «السائمة جبار ، والجُبّ جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس» قال الشعبي : الركاز : الكنز العادي. (4)

4. وفيه أيضاً : عن عبادة بن الصامت قال : من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّ

ص : 25


1- مسند أحمد : 1 / 314 ؛ سنن ابن ماجة : 2 / 839 ، ط 1373 ه.
2- صحيح مسلم : 5 / 127 ، باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار ، من كتاب الحدود ؛ صحيح البخاري : 1 / 182 ، باب في الركاز الخمس.
3- الخراج : 22.
4- مسند أحمد : 3 / 335.

المعدن جبار ، والبئر جبار ، والعجماء جرحها جبار. والعجماء : البهيمة من الأنعام وغيرها ، والجبار هو الهدر الذي لا يُغرم ، وقضى في الركاز الخمس. (1)

5. وفيه : عن أنس بن مالك قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى خيبر فدخل صاحب لنا إلى خربة يقضي حاجته فتناول لبنة ليستطيب بها فانهارت عليه تبرا ، فأخذها فأتى بها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره بذلك ، قال : «زنها» فوزنها فإذا مائتا درهم فقال النبي : «هذا ركاز وفيه الخمس». (2)

6. وفيه : أنّ رجلاً من مزينة سأل رسول الله مسائل جاء فيها : فالكنز نجده في الخرب وفي الآرام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «فيه وفي الركاز الخمس». (3)

7. وفي نهاية اللغة ولسان العرب وتاج العروس في مادة «سيب» واللفظ للأوّل : وفي كتابه - أي كتاب رسول الله - لوائل بن حجر : «وفي السيوب الخمس» السيوب : الركاز.

قالوا :

«السيوب : عروق من الذهب والفضة تَسيب في المعدن ، أي تتكوّن فيه وتظهر» والسيوب : جمع سيب ، يريد به - أي يريد النبي بالسيب - المال المدفون في الجاهلية ، أو المعدن لأنّه من فضل الله تعالى وعطائه لمن أصابه». (4)

تفسير ألفاظ الأحاديث

العجماء : الدابة المنفلتة من صاحبها ، فما أصابت في انفلاتها فلا غرم على

ص : 26


1- مسند أحمد : 5 / 326.
2- المصدر نفسه : 3 / 128.
3- المصدر نفسه : 2 / 186.
4- النهاية : مادة «سيب».

صاحبها ، والمعدن جبار يعني : إذا احتفر الرجل معدناً فوقع فيه انسان فلا غرم عليه ، وكذلك البئر إذا احتفرها الرجل للسبيل فوقع فيها إنسان فلا غرم على صاحبها ، وفي الركاز الخمس ، والركاز : ما وجد من دفن أهل الجاهلية ، فمن وجد ركازاً أدّى منه الخمس إلى السلطان وما بقي له. (1)

والآرام : الأعلام وهي حجارة تجمع وتنصب في المفازة يُهتدى بها ، واحدها إرَم كعنب. وكان من عادة الجاهلية أنّهم إذا وجدوا شيئاً في طريقهم لا يمكنهم استصحابه ، تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا عادوا أخذوه. (2)

وفي «لسان العرب» وغيره من معاجم اللغة ، : ركَزَه يركُزُه رَكزاً : إذا دفنه. والركاز : قطع ذهب وفضة تخرج من الأرض ، أو المعدن. واحده الركزة ، كأنّه ركز في الأرض.

وفي نهاية اللغة : والركزة : القطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها ، وجمع الركزة : الركاز.

إنّ هذه الروايات تعرب عن وجود ضريبة غير الزكاة ، هي الخمس ، وعليه كلام أبي يوسف في كتابه «الخراج» وإليك نصّه :

كلام أبي يوسف في المعدن والركاز

قال أبو يوسف : في كل ما أُصيب من المعادن من قليل أو كثير ، الخمس ، ولو أنّ رجلاً أصاب في معدن أقل من وزن مائتي درهم فضّة أو أقل من وزن عشرين مثقالاً ذهباً فإنّ فيه الخمس ، وليس هذا على موضع الزكاة إنّما هو على

ص : 27


1- سنن الترمذي : 6 / 145 ، باب ما جاء في العجماء.
2- النهاية : مادة «ارم».

موضع الغنائم (1) ، وليس في تراب ذلك شيء إنّما الخمس في الذهب الخالص والفضة الخالصة والحديد والنحاس والرصاص ، ولا يحسب لمن استخرج ذلك من نفقته عليه شيء ، وقد تكون النفقة تستغرق ذلك كلّه فلا يجب إذن فيه خمس عليه ، وفيه الخمس حين يفرغ من تصفيته قليلاً كان أو كثيراً ، ولا يحسب له من نفقته شيء من ذلك ، وما استخرج من المعادن سوى ذلك من الحجارة - مثل الياقوت والفيروزج والكحل والزئبق والكبريت والمغرّة - فلا خمس في شيء (2) من ذلك ، إنّما ذلك كلّه بمنزلة الطين والتراب.

قال : ولو أنّ الذي أصاب شيئاً من الذهب أو الفضة أو الحديد أو الرصاص أو النحاس ، كان عليه دين فادح لم يُبطل ذلك الخمس عنه ، ألا ترى لو أنّ جنداً من الأجناد أصابوا غنيمة من أهل الحرب خُمِّسَت ولم ينظر أعليهم دين أم لا ، ولو كان عليهم دين لم يمنع ذلك من الخمس.

قال : وأمّا الركاز فهو الذهب والفضة الذي خلقه الله عزّ وجلّ في الأرض يوم خلقت ، فيه أيضاً الخمس ، فمن أصاب كنزاً عاديّاً في غير ملك أحد - فيه ذهب أو فضة أو جوهر أو ثياب - فإنّ في ذلك الخمس وأربعة أخماسه للذي أصابه وهو بمنزلة الغنيمة يغنمها القوم فتخمَّس وما بقي فلهم.

قال : ولو أنّ حربياً وجد في دار الإسلام ركازاً وكان قد دخل بأمان ، نزع ذلك كلّه منه ولا يكون له منه شيء ، وإن كان ذمّياً أُخذ منه الخمس كما يؤخذ من

ص : 28


1- ترى أنّ أبا يوسف يعد الخمس الوارد في هذا الموضع من مصاديق الغنيمة الواردة في آية الخمس وهو شاهد على كونها عامة مفهوماً.
2- هذا رأي أبي يوسف ، واطلاق الآية يخالفه مضافاً إلى مخالفته مع روايات أئمّة أهل البيت فإنّها تفرض الخمس في الجميع.

المسلم ، وسلِّم له أربعة أخماسه. وكذلك المكاتب يجد ركازاً في دار الإسلام فهو له بعد الخمس .... (1)

إنّ الناظر في فتاوى العلماء وروايات الواردة في وجوب الخمس في الركاز الذي هو الكنز عند الحجازيين والمعدن عند أهل العراق يقف على أنّ إيجابه من باب انّه فوز بالشيء بلا بذل جهد ، كالغنائم المأخوذة في الغزوات ، وهذا يعرب عن أنّ مدلول الآية أوسع ممّا يتصوّر في بدء الأمر.

يقول ابن الأثير ناقلاً عن مالك : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي سمعت أهل العلم يقولون : إنّ الركاز إنّما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ، ما لم يطلب بمال ولم يتكلّف فيه نفقة ، ولا كبير عمل ولا مئونة ، فأمّا ما طلب بمال ، وتكلّف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطئ مرة ، فليس بركاز.

والركاز عند أهل الحجاز كنز الجاهلية ودفنها ، لأنّ صاحبه ركزه في الأرض ، أي أثبته وهو عند أهل العراق ، المعدن ، لأنّ الله تعالى ركزه في الأرض ركزاً ، والحديث إنّما جاء في التفسير الأوّل منهما ، وهو الكنز الجاهلي على ما فسّره الحسن وإنّما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه ، والأصل فيه أنّ ما خفت كلفته كثر الواجب فيه ، وما ثقلت كلفته قلّ الواجب فيه.

ويؤيد (2) ذلك ما رواه الإمام الصادق - عليه السلام - عن آبائه - عليهم السلام - في وصية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لعلي - عليه السلام - قال : «يا علي إنّ عبد المطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام ... ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدّق به فأنزل الله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)». إلى غير ذلك من الأخبار. (3)

ص : 29


1- الخراج : 22.
2- جامع الأُصول : 4 / 621620.
3- الوسائل : 6 ، الباب 5 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث 3.

ترى أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جعل الكنز من مصاديق الغنيمة الواردة في الآية المباركة ، وهذا يعرب عن سعة مفهوم الآية.

غير أنّ الشيعة الإمامية عمّمتها إلى أرباح المكاسب ولكن السنّة خصصتها بالركاز والكنز والمعدن ، وسيوافيك ما يدلّ على وجوب الخمس في أرباح المكاسب في روايات أهل السنّة.

2. الخمس في أرباح المكاسب

اشارة

هذا هو بيت القصيد في المقام ، والهدف من عنوان المسألة هو إثبات ذلك ، حيث يظهر من غير واحد من الروايات أنّ النبيّ الأكرم أمر بإخراج الخمس من مطلق ما يغنمه الإنسان من أرباح المكاسب وغيرها ، وإليك بعض ما ورد في المقام :

1. قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالوا : إنّ بيننا وبينك المشركين وإنّا لا نصل إليك إلاّ في شهر الحرام ، فَمُرْنا بأمر فصل ، إنْ عملنا به دخلنا الجنة وندعو إليه مَن وراءنا» فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع ؛ آمركم : بالإيمان بالله ، وهل تدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وتعطوا الخمس من المغنم». (1)

ومن المعلوم أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يطلب من بني عبد القيس أن يدفعوا غنائم الحرب كيف وهم لا يستطيعون الخروج من حيّهم في غير الأشهر الحرم ، خوفاً من

ص : 30


1- صحيح البخاري : 4 / 250 ، باب «والله خلقكم وما تعملون» من كتاب التوحيد ، وج 1 / 13 و 19 ، وج 3 / 53 ؛ صحيح مسلم : 1 / 35 - 36 باب الأمر بالإيمان ؛ سنن النسائي : 1 / 333 ؛ مسند أحمد : 1 / 318 ؛ الأموال : 12 وغيرها.

المشركين. فيكون قد قصد المغنم بمعناه الحقيقي في لغة العرب وهو ما يفوزون به فعليهم أن يعطوا خمس ما يربحون.

وهناك كتب ومواثيق ، كتبها النبيّ وفرض فيها الخمس على أصحابها وستتبيّن بعد الفراغ من نقلها ، دلالتها على الخمس في الأرباح وإن لم تكن غنيمة حربية ، فانتظر.

2. كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن :

«بسم الله الرحمن الرحيم ... هذا ... عهد من النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كلّه ، وأن يأخذ من المغانم خمس الله ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عُشر ما سقى البعل وسقت السماء ، ونصف العُشر ممّا سقى الغرب». (1)

والبعل ما سُقِيَ بعروقه ، والغَرَبَ : الدلو العظيمة.

3. كتب إلى شرحبيل بن عبد كلال ، وحارث بن عبد كلال ، ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ، ومعافر وهمدان :

«أمّا بعد ، فقد رجع رسولكم وأعطيتم من المغانم خمس الله». (2)

4. كتب إلى سعد هُذيم من قضاعة ، وإلى جذام كتاباً واحداً يعلّمهم فرائض الصدقة ، ويأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه أُبيّ وعنبسة أو من أرسلاه». (3)

ص : 31


1- فتوح البلدان : 1 / 81 باب اليمن ؛ سيرة ابن هشام : 4 / 265 ؛ تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك : 1 / 157.
2- الوثائق السياسية : 227 برقم 110. (ط 4 بيروت).
3- الطبقات الكبرى : 1 / 270.

5. كتب للفُجَيع ومن تبعه :

«من محمد النبيّ للفجيع ، ومن تبعه وأسلمَ وأقام الصلاةَ وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من المغانم خمس الله ...». (1)

6. كتب لجنادة الأزدي وقومه ومن تبعه :

«ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا من المغانم خمس الله وسهم النبي وفارقوا المشركين ، فإنّ لهم ذمّة الله وذمّة محمد بن عبد الله». (2)

7. كتب لجهينة بن زيد فيما كتب :

«إنّ لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها ، على أن ترعوا نباتها وتشربوا ماءها ، على أن تؤدّوا الخمس». (3)

8. كتب لملوك حمير فيما كتب :

«وآتيتم الزكاة ، وأعطيتم من المغانم : خمس الله ، وسهم النبي وصفيّه وما كتب الله على المؤمنين من الصدقة». (4)

9. كتب لبني ثعلبة بن عامر :

«من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأعطى خمس المغنم وسهم النبي والصفي». (5)

10. كتب إلى بعض أفخاذ جهينة :

ص : 32


1- المصدر نفسه : 304 - 305.
2- المصدر نفسه : 270.
3- الوثائق السياسية : 265 برقم 157.
4- فتوح البلدان : 1 / 82 ؛ سيرة ابن هشام : 4 / 258.
5- الإصابة : 2 / 189 ؛ أُسد الغابة : 3 / 34.

«من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من الغنائم الخمس». (1)

إيضاح الاستدلال بهذه المكاتيب

يتبيّن - بجلاء - من هذه الرسائل أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن يطلب منهم أن يدفعوا خمس غنائم الحرب التي اشتركوا فيها ، بل كان يطلب ما استحقّ في أموالهم من خمس وصدقة.

ثم إنّه كان يطلب منهم الخمس دون أن يشترط - في ذلك - خوض الحرب واكتساب الغنائم.

هذا مضافاً إلى أنّ الحاكم الإسلامي أو نائبه هما اللّذان يليان بعد الفتح قبض جميع غنائم الحرب وتقسيمها بعد استخراج الخمس منها ، ولا يَملِك أحد من الغزاة عدا سلب القتيل شيئاً ممّا سلب وإلاّ كان سارقاً مغلاّ.

فإذا كان إعلان الحرب وإخراج خمس الغنائم على عهد النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من شئون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فما ذا يعني طلبه الخمس من الناس وتأكيده في كتاب بعد كتاب ، وفي عهد بعد عهد؟

فيتبيّن أنّ ما كان يطلبه لم يكن مرتبطاً بغنائم الحرب. هذا مضافاً إلى أنّه لا يمكن أن يقال : إنّ المراد بالغنيمة في هذه الرسائل هو ما كان يحصل الناس عليه في الجاهلية عن طريق النهب ، كيف وقد نهى النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عن النهب والنهبى بشدّة ، ففي كتاب الفتن باب النهي عن النُّهبة عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - :

ص : 33


1- الطبقات الكبرى : 1 / 271.

«من انتهب نهبة فليس منّا» (1) ، وقال : «إنّ النهبة لا تَحِلّ». (2)

وفي صحيح البخاري ومسند أحمد عن عبادة بن الصامت : بايعنا النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن لا ننهب. (3)

وفي سنن أبي داود ، باب النهي عن النهبى ، عن رجل من الأنصار قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأصاب الناس حاجة شديدة وجهدٌ ، وأصابوا غنماً فانتهبوها ، فإنّ قدورنا لتغلي ، إذ جاء رسول الله يمشي [متّكئاً] على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ، ثمّ جعل يُرمِّل اللحم بالتراب ، ثمّ قال : «إنّ النُّهبة ليست بأحلَّ من الميتة». (4)

وعن عبد الله بن زيد : نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن النهبى والمثلة. (5)

إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في كتاب الجهاد.

وقد كانت النُّهبة والنهبى عند العرب تساوق الغنيمة والمغنم - في مصطلح يومنا هذا - الذي يستعمل في أخذ مال العدو.

فإذا لم يكن النهب مسموحاً به في الدين ، وإذا لم تكن الحروب التي تُخاض بغير إذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جائزة ، لم تكن الغنيمة في هذه الوثائق غير ما يفوز به الناس من غير طريق القتال بل من طريق الكسب وما شابهه ، ولا محيص حينئذ من أن يقال : إنّ المراد بالخمس الذي كان يطلبه النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - هو خمس أرباح الكسب والفوائد الحاصلة للإنسان من غير طريق القتال أو النهب الممنوع في الدين.

وفي الجملة : إنّ الغنائم المطلوب في هذه الرسائل النبويّة أداء خمسها إمّا أن

ص : 34


1- سنن ابن ماجة : 2 / 1298 برقم 3937 و 3938 ، كتاب الفتن.
2- سنن ابن ماجة : 2 / 1298 برقم 3937 و 3938 ، كتاب الفتن.
3- صحيح البخاري : 2 / 48 باب النهب بغير إذن صاحبه.
4- سنن أبي داود : 3 / 66 برقم 2705.
5- رواه البخاري في الصيد ، راجع التاج : 4 / 334.

يراد بها ما يُستولى عليه من طريق النهب والإغارة ، أو ما يستولى عليه من طريق محاربة بصورة الجهاد ، أو ما يستولى عليه من طريق الكسب والكد.

والأوّل ممنوع ، بنصّ الأحاديث السابقة فلا معنى أن يطلب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خمس النهبة.

والثاني يكون أمر الغنائم بيد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مباشرة ، فهو الذي يأخذ كل الغنائم ويضرب لكلّ من الفارس والراجل ما له من الأسهم بعد أن يستخرج الخمس بنفسه من تلك الغنائم ، فلا معنى لأن يطلبه النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من الغزاة ، فيكون الثالث هو المتعيّن.

وورد عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ما يدلّ على ذلك ، فقد كتب أحد الشيعة إلى الإمام الجواد - عليه السلام - قائلاً : أخبرني عن الخمس أعَلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصنّاع وكيف ذلك؟ فكتب - عليه السلام - بخطّه : «الخمس بعد المئونة».(1) وفي هذه الإجابة القصيرة يظهر تأييد الإمام - عليه السلام - لما ذهب إليه السائل ، ويتضمّن ذكر الكيفية التي يجب أن تراعى في أداء الخمس.

وعن سماعة قال : سألت أبا الحسن (الكاظم) - عليه السلام - عن الخمس؟ فقال : «في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير». (2)

وعن أبي علي ابن راشد (وهو من وكلاء الإمام الجواد والإمام الهادي - عليهما السلام -) قال : قلت له (أي الإمام الهادي - عليه السلام -) : أمرتني بالقيام بأمرك ، وأخذ حقّك ، فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم : وأي شيء حقّه؟ فلم أدر ما أُجيبه؟

ص : 35


1- الوسائل : ج 6 الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث 1.
2- المصدر نفسه ، الحديث 6.

فقال : «يجب عليهم الخمس» ، فقلت : وفي أي شيء؟ فقال : «في أمتعتهم وصنائعهم» ، قلت : والتاجر عليه ، والصانع بيده؟ فقال : «إذا أمكنهم بعد مئونتهم». (1)

إلى غير ذلك من الأحاديث والأخبار المرويّة عن النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - وأهل بيته الطاهرين - عليهم السلام - التي تدلّ على شمول الخمس لكلّ مكسب.

ثمّ إنّ هنا سؤالاً وهو إذا كان إخراج الخمس من أرباح المكاسب فريضة إلهية فلما ذا كان أمراً متروكاً قبل الصادقين - عليهما السلام -؟ فانّ الأخبار الدالة عليه مروية عنهما - عليهما السلام - وعمّن بعدهما من الأئمّة ، بل أكثرها مروية عن الإمامين الجواد والهادي - عليهما السلام - ، وهما من الأئمة المتأخّرين ، فهل كان هذا الحكم مهجوراً عند الفريقين بعد عصر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى عصر الإمام الصادق - عليه السلام -؟

والجواب هو انّه قد عرفت تضافر الروايات النبوية على وجوب الخمس في كلّ ما يربح الرجل ويفوز ، وأمّا عدم قيام الخلفاء به فلأجل عدم وقوفهم على هذا التشريع ، كما أنّ عدم قيام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذه المهمة على رءوس الأشهاد لأجل تفشّي الفقر بين المسلمين يوم ذاك ، والناس كانوا حديثي عهد بالإسلام ، وكانت المصلحة تقتضي تأخير إجراء التشريع إلى الأعصار اللاحقة.

وأمّا عصر الصادقين - عليهما السلام - الذي ورد فيه بعض الروايات ثمّ وردت تترى إلى عصر الجوادين - عليهما السلام - ، فلأجل تكدّس الأموال بين المسلمين ، الأمر الذي اقتضى الإجهار بالحكم ودعوة الشيعة إلى العمل به ، وإلاّ فأصل تشريع الخمس كان في عصر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما عرفت.

ص : 36


1- المصدر نفسه ، الحديث 3.

14- مواضع الخمس في القرآن الكريم

اشارة

ص : 37

ص : 38

مواضع الخمس في القرآن الكريم

يُقسَّم الخمس حسب تنصيص الآية على ستة أسهم ، فيفرق على مواضعها الواردة في الآية ، قال سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (1) غير أنّه يطيب لي تعيين المراد من ذي القربى.

يقصد ب (لِذِي الْقُرْبى) صاحب القرابة والوشيجة النسبية ، ويتعيّن فرده ، بتعيين المنسوب إليه. وهو يختلف حسب اختلاف مورد الاستعمال ، ويستعان في تعيينه بالقرائن الموجودة في الكلام وهي : الأشخاص المذكورون في الآية ، أو ما دلّ عليها سياق الكلام.

1. قال سبحانه : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) (2) والمراد أقرباء المذكورين في الآية ، أي النبيّ والمؤمنين لتقدّم قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا).

2. وقال سبحانه : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) (3) ، والمراد أقرباء المخاطبين في الآية بقوله : (قُلْتُمْ) و (فَاعْدِلُوا).

ص : 39


1- الأنفال : 41.
2- التوبة : 113.
3- الأنعام : 152.

3. وقال سبحانه : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) (1) والمراد أقرباء من يقسم ماله أعني الميّت مطلقاً.

فقد أُريد من ذي القربى في هذه الآيات الثلاث ، مطلق القريب دون أقرباء النبي خاصة ، لما عرفت من القرائن بخلاف الآيتين التاليتين ، فإنّ المراد ، أقرباء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لنفس الدليل.

4. قوله سبحانه : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى). (2)

5. وقوله سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (3). المراد في الآيتين قرابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لتقدّم ذكره وعدم صلاحية السياق إلاّ لذلك.

وأمّا آية الخمس من سورة الأنفال المتقدّم ذكرها ، فقد اتّفق المفسّرون على أنّ المراد من ذي القربى قرابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فسدس الخمس لذي القربى وهو حكم خالد ثابت غير منسوخ إلى يوم القيامة.

وأمّا الأسداس الثلاثة الباقية فهي للأصناف الثلاثة المذكورة في الآية - أعني : اليتامى والمساكين وابن السبيل - وهل المراد مطلق اليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، أو يتامى آل محمّد ومساكينهم وأبناء سبيلهم ، وبالجملة : الثلاثة من ذوي القربى على الخصوص؟ والسياق هنا وإن لم يقتض الالتزام بأحدهما ، إلاّ أنّ السنّة الشريفة الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأهل بيته اقتضت الأخير كما يأتي في البحث التالي.

ص : 40


1- النساء : 8.
2- الحشر : 7.
3- الشورى : 23.

مواضع الخمس في السنّة

وأمّا السنّة فهي أيضاً تدعم ما هو مفاد الآية :

روي عن ابن عباس : كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقسم الخمس على ستة : لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه حتى قبض. (1)

إنّ السهم الوارد في قوله : «وسهم لأقاربه» تعبير آخر عن ثلاثة أسهم من الخمس يدل عليه قوله «على ستة : لله وللرسول سهمان» فانّ معناه سهم لله ، وسهمان للرسول ، أي سهم لنفس الرسول وسهم «لذي القربى» فتبقى الأسهم الثلاثة في الخمس ومن لأقاربه ، أعني : اليتامى والمساكين وابن السبيل.

وهذا هو الذي عليه الإمامية في تقسيم الخمس.

وروي عن أبي العالية الرياحي (2) : كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة ، فتكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثمّ يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفّه ، فيجعله للكعبة وهو سهم الله ، ثمّ يقسّم ما بقي على خمسة أسهم ، فيكون سهم للرسول وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل. قال : والذي جعله للكعبة فهو سهم الله. (3)

ولعلّ جعله للكعبة كان لتجسيد السهام وتفكيكها ، وربّما خالفه كما روى

ص : 41


1- تفسير النيسابوري المطبوع بهامش الطبري : 10 / 4.
2- أبو العالية الرياحي : هو رفيع بن مهران ، مات سنة 90. لاحظ تهذيب التهذيب : 3 / 246.
3- الأموال : 325 ؛ تفسير الطبري : 10 / 4 ؛ أحكام القرآن : 3 / 60.

عطاء بن أبي رباح (1) قال : «خمس الله ، وخمس رسوله واحد ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يحمل منه ويعطي منه ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء». (2)

والمراد من كون سهمهما واحداً ، كون أمره بيده - صلى الله عليه وآله وسلم - بخلاف الأسهم الأُخر ، فإنّ مواضعها معيّنة.

وبذلك يظهر المراد ممّا رواه الطبري : «كان نبيّ الله إذا اغتنم غنيمة جعلت أخماساً ، فكان خمس لله ولرسوله. ويقسّم المسلمون ما بقي (الأخماس الأربعة) وكان الخمس الذي جعل لله ولرسوله ، لرسوله ، ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، فكان هذا الخُمْس خمسة أخماس خمس لله ولرسوله». (3)

فالمراد منه - كما يظهر - أنّ أمر السهمين كان بيد الرسول ولذا جعلهما سهماً واحداً ، بخلاف السهام الأُخر ، وإلاّ فالخبر مخالف لتنصيص القرآن الكريم ، لتصريحه بأنّ الخمس يقسم أسداساً.

وأمّا تخصيص بعض سهام الخمس بذي القربى ومن جاء بعدهم من اليتامى والمساكين وابن السبيل ، فلأجل الروايات الدالة على أنّه لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس من آل محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم -. روى الطبري : كان آل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم (ذوي القربى) خُمُس الخُمْسِ ، وقال : قد علم الله أنّ في بني هاشم الفقراء فجعل لهم الخُمْس مكان الصدقة (4). كما

ص : 42


1- عطاء بن أبي رباح مات سنة 114 ، أخرج حديثه أصحاب الصحاح.
2- تفسير الطبري : 10 / 4.
3- المصدر نفسه. والأصح أن يقول ستة أسداس وقد مرّ وجه العدول عنه.
4- المصدر نفسه : 5 ، فجعل لهم تارة خمس الخمس ، بلحاظ المواضع الخمسة ما سوى لله ، وجعله كله لهم تارة أُخرى كما في ذيل كلامه : «فجعل لهم الخمس» باعتبار أنّ أمره أيضاً بيده ، فلا منافاة بين الجعلين.

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت أنّ السهام الأربعة من الخمس ، لآل محمد صلى الله عليه وآله و (1) سلَّم.

فتبين انّ سدس الخمس لذي القربى والأسداس الثلاثة الباقية ، للطوائف الثلاث من آل محمّد.

هذا ما يستفاد من الكتاب والسنّة ، غير أنّ الاجتهاد لعب دوراً كبيراً في تحويل الخمس عن أصحابه ، وإليك ما ذهبت إليه المذاهب الأربعة :

إسقاط حقّ ذي القربى بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم

اتّفق أكثر فقهاء المذاهب تبعاً لأسلافهم على إسقاط سهم ذوي القربى من خمس الغنائم وغيره ، وإليك كلماتهم :

قالت الشافعية والحنابلة : تقسم الغنيمة ، وهي الخمس ، إلى خمسة أسهم ، واحد منها سهم الرسول ، ويصرف على مصالح المسلمين ، وواحد يعطى لذوي القربى ، وهم من انتسب إلى هاشم بالابوّة من غير فرق بين الأغنياء والفقراء ، والثلاثة الباقية تنفق على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، سواء أكانوا من بني هاشم أو من غيرهم.

وقالت الحنفية : إنّ سهم الرسول سقط بموته ، أمّا ذوو القربى فهم كغيرهم من الفقراء يعطون لفقرهم لا لقرابتهم من الرسول.

وقالت المالكية : يرجع أمر الخمس إلى الإمام يصرفه حسبما يراه من المصلحة.

ص : 43


1- الوسائل : ج 6 ، الباب 29 من أبواب المستحقّين للزكاة. ولاحظ أيضاً صحيح البخاري : 1 / 181 ، باب تحريم الزكاة على رسول الله.

وقالت الإمامية : إنّ سهم الله وسهم الرسول وسهم ذوي القربى يفوّض أمرها إلى الإمام أو نائبه ، يضعها في مصالح المسلمين. والأسهم الثلاثة الباقية تعطى لأيتام بني هاشم ومساكينهم وأبناء سبيلهم ، ولا يشاركهم فيها غيرهم. (1)

وفي هامش المغني لابن قدامة بعد ما روى أنّ أبا بكر وعمر - رضى الله عنهما - قسّما الخمس على ثلاثة أسهم : «وهو قول أصحاب الرأي - أبي حنيفة وجماعته - قالوا : يقسّم الخمس على ثلاثة : اليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأسقطوا سهم رسول الله بموته ، وسهم قرابته أيضاً.

وقال مالك : الفيء والخمس واحد يجعلان في بيت المال.

وقال الثوري : والخمس يضعه الإمام حيث أراه الله عزّ وجلّ.

وما قاله أبو حنيفة مخالف لظاهر الآية ، فإنّ الله تعالى سمّى لرسوله وقرابته شيئاً وجعل لهما في الخمس حقّاً كما سمّى الأصناف الثلاثة الباقية ، فمن خالف ذلك فقد خالف نصّ الكتاب ، وأمّا جعل أبي بكر وعمر - رضى الله عنهما - سهم ذي القربى في سبيل الله ، فقد ذكر لأحمد فسكت وحرّك رأسه ولم يذهب إليه ، ورأى أنّ قول ابن عباس ومن وافقه أولى ، لموافقته كتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - .... (2)

إسقاط سهم ذي القربى اجتهاد تجاه النص

ثمّ إنّ الخلفاء بعد النبيّ الأكرم اجتهدوا تجاه النص في موارد منها إسقاط سهم ذي القربى من الخمس ، وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى جعل لهم سهماً ،

ص : 44


1- الفقه على المذاهب الخمسة : 188.
2- الشرح الكبير - على هامش المغني - : 10 / 493 - 494.

وافترض أداءه نصاً في الذكر الحكيم والفرقان العظيم يتلوه المسلمون آناء الليل وأطراف النهار ، وهو قوله عزّ من قائل : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (1)

وقد أجمع أهل القبلة كافّة على أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يختصّ بسهم من الخمس ويخص أقاربه بسهم آخر منه ، وأنّه لم يَعْهَد بتغيير ذلك إلى أحد حتى قبضه الله إليه وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.

فلمّا ولي أبو بكر - رضى الله عنه - تأوّل الآية فأسقط سهم النبيّ وسهم ذي القربى بموت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومنع بني هاشم من الخمس ، وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم.

قال الزمخشري : وعن ابن عباس : الخمس على ستّة أسهم : لله ولرسوله ، سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض ، فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة ، وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء قال : وروي أنّ أبا بكر منع بني هاشم الخمس. (2)

وقد أرسلت فاطمة - عليها السلام - تسأله ميراثها من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفّيت ، وعاشت بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر ،

ص : 45


1- الأنفال : 41.
2- الكشاف : 2 / 126.

وصلّى عليها. الحديث. (1)

وفي صحيح مسلم عن يزيد بن هرمز قال : كتب نجدة بن عامر الحروري الخارجي إلى ابن عباس قال ابن هرمز : فشهدتُ ابن عباس حين قرأ الكتاب وحينَ كتب جوابه وقال ابن عباس : والله لو لا أن أردّه عن نتن يقع فيه ما كتبت إليه ، ولا نعمة عين. قال : فكتب إليه : إنّك سألتني عن سهم ذي القربى الذين ذكرهم الله من هم؟ وإنّا كنّا نرى أنّ قرابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هم نحن فأبى ذلك علينا قومُنا. الحديث. (2)

وأخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس في أواخر ص 294 من الجزء الأوّل من مسنده.

ورواه كثير من أصحاب المسانيد بطرق كلها صحيحة ، وهذا هو مذهب أهل البيت المتواتر عن أئمّتهم - عليهم السلام -.

لكن الكثير من أئمّة الجمهور أخذوا برأي الخليفتين فلم يجعلوا لذي القربى نصيباً من الخمس خاصّاً بهم.

فأمّا مالك بن أنس فقد جعله بأجمعه مفوّضاً إلى رأي الإمام يجعله حيث يشاء في مصالح المسلمين ، لا حقّ فيه لذي قربى ولا ليتيم ولا لمسكين ولا لابن سبيل مطلقاً.

وأمّا أبو حنيفة وأصحابه فقد أسقطوا بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سهمه وسهم ذي قرباه ، وقسموه بين مطلق اليتامى والمساكين وابن السبيل على السواء ، لا فرق

ص : 46


1- صحيح البخاري : 3 / 36 باب غزوة خيبر. وفي صحيح مسلم : 5 / 154 : «... وصلّى عليها علي».
2- صحيح مسلم : 2 / 105 ، كتاب الجهاد والسير.

عندهم بين الهاشميين وغيرهم من المسلمين.

والشافعي جعله خمسة أسهم : سهماً لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصرف إلى ما كان يصرف إليه من مصالح المسلمين كعُدَّة الغزاة من الخيل والسلاح والكراع ونحو ذلك ، وسهماً لذوي القربى من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل يقسم بينهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، والباقي للفرق الثلاث : اليتامى والمساكين وابن السبيل مطلقاً. (1)

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ الخمس يقسم على ستة أسهم ، الثلاثة الأُولى ، أمرها بيد الإمام يتولاّها حسب ما رأى من المصلحة ، والثلاثة الأُخرى ، للأيتام والمساكين وأبناء السبيل من آل النبيّ الأكرم لا مطلقهم.

ص : 47


1- النص والاجتهاد : 25 - 27.

ص : 48

15- الإشهاد على الطلاق

اشارة

ص : 49

ص : 50

الإشهاد على الطلاق

وممّا انفردت به الإماميّة ، القول : بأنّ شهادة عدلين شرط في وقوع الطلاق ، ومتى فُقِد لم يقع الطلاق ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك. (1)

وقال الشيخ الطوسي : كلّ طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان وإن تكاملت سائر الشروط ، فإنّه لا يقع. وخالف جميع الفقهاء ولم يعتبر أحد منهم الشهادة. (2)

قال سيد سائق : ذهب جمهور الفقهاء من السلف والخلف إلى انّ الطلاق يقع بدون إشهاد لانّ الطلاق من حقوق الرجل ولا يحتاج إلى بيّنة كي يباشر حقّه ولم يرد عن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا عن الصحابة ما يدلّ على مشروعية الإشهاد ، وخالف في ذلك فقهاء الشيعة الإمامية ... وممّن ذهب إلى وجوب الإشهاد واشتراطه لصحته من الصحابة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعمر ان بن حصين - رضي الله عنهما - ومن التابعين الإمام محمّد الباقر والإمام جعفر الصادق ، وبنوهما أئمّة أهل البيت - رضوان الله عليهم - ، وكذلك عطاء وابن جُريح وابن سيرين. (3)

ولا يخفى ما في كلامه من التهافت فأين قوله «ولم يرد عن النبي ولا عن

ص : 51


1- الانتصار : 127 - 128.
2- الخلاف : 2 ، كتاب الطلاق المسألة 5.
3- فقه السنة : 2 / 230.

الصحابة ما يدلّ على مشروعية الإشهاد» ، من قوله : «وممن ذهب إلى وجوب الإشهاد واشتراطه لصحّته من الصحابة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعمران بن حصين» أو ليسا من الصحابة العدول.

ولا نعثر على عنوان للموضوع في الكتب الفقهية لأهل السنّة وانّما تقف على آرائهم في كتب التفسير عند تفسير قوله سبحانه : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) (1). وهم بين من يجعله قيداً للطلاق والرجعة ، ومن يخصّه قيداً للرجعة المستفادة من قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

روى الطبري عن السدّي أنّه فسّر قوله سبحانه : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) تارة بالرجعة وقال : أشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهنّ وذلك هو الرجعة ، وأُخرى بها وبالطلاق ، وقال : عند الطلاق وعند المراجعة.

ونقل عن ابن عباس : أنّه فسّرها بالطلاق والرجعة. (2)

وقال السيوطي : أخرج عبد الرزاق عن عطاء قال : النكاح بالشهود ، والطلاق بالشهود ، والمراجعة بالشهود.

وسئل عمران بن حصين عن رجل طلّق ولم يشهد ، وراجع ولم يشهد؟ قال : بئس ما صنع طلّق في بدعة وارتجع في غير سنّة ، فليشهد على طلاقه ومراجعته وليستغفر الله. (3)

قال القرطبي : قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا) أمرنا بالإشهاد على الطلاق ، وقيل : على الرجعة ، والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. ثمّ الإشهاد مندوب إليه

ص : 52


1- الطلاق : 2.
2- جامع البيان : 28 / 88.
3- الدر المنثور : 6 / 232 ، وعمران بن حصين كان أيضاً من كبار أصحاب الإمام عليّ - عليه السلام -.

عند أبي حنيفة كقوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وعند الشافعي واجب في الرجعة. (1)

وقال الآلوسي : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبرّياً عن الريبة. (2)

تدلّ الآية تدلّ بوضوح على لزوم الإشهاد في صحّة الطلاق وتقرير الدلالة ، انّ قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) إمّا أن يكون راجعاً إلى الطلاق ، كأنّه قال : «إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهنّ وأشهدوا ، أو أن يكون راجعاً إلى الفرقة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، أو إلى الرجعة التي عبر تعالى عنها بالإمساك (فَأَمْسِكُوهُنَ).

ولا يجوز أن يرجع ذلك إلى الفرقة [الثاني] لأنّها ليست هاهنا شيئاً يوقع ويفعل ، وإنّما هو العدول عن الرجعة ، وإنّما يكون مفارقاً لها بأن لا يراجعها فتبين بالطلاق السابق ، على أنّ أحداً لا يوجب في هذه الفرقة الشهادة وظاهر الأمر يقتضي الوجوب ، ولا يجوز أن يرجع الأمر بالشهادة إلى الرجعة ، لأنّ أحداً لا يوجب فيها الإشهاد وإنّما هو مستحب فيها ، فثبت انّ الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق. (3)

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية.

وممّن أصحر بالحقيقة عالمان جليلان ، وهما : أحمد محمد شاكر القاضي المصري ، والشيخ أبو زهرة.

قال الأوّل - بعد ما نقل الآيتين من أوّل سورة الطلاق : «والظاهر من سياق

ص : 53


1- الجامع لأحكام القرآن : 18 / 157.
2- روح المعاني : 28 / 134.
3- الانتصار : 300.

الآيتين أنّ قوله : (وَأَشْهِدُوا) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً ، والأمر للوجوب ، لأنّه مدلوله الحقيقي ، ولا ينصرف إلى غير الوجوب - كالندب - إلاّ بقرينة ، ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب ، بل القرائن هنا تؤيّد حمله على الوجوب - إلى أن قال : - فمن أشهد على طلاقه ، فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به ، ومن أشهد على الرجعة فكذلك ، ومن لم يفعل فقد تعدّى حدود الله الذي حدّه له فوقع عمله باطلاً ، لا يترتّب عليه أيُّ أثر من آثاره - إلى أن قال : - وذهب الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق وأنّه ركن من أركانه ، ولم يوجبوه في الرجعة والتفريق بينهما غريب لا دليل عليه. (1)

وقال أبو زهرة : قال فقهاء الشيعة الإمامية الاثنا عشرية والإسماعيلية : إنّ الطلاق لا يقع من غير إشهاد عدلين ، لقوله تعالى - في أحكام الطلاق وإنشائه في سورة الطلاق - : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (2) فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق وجواز الرجعة ، فكان المناسب أن يكون راجعاً إليه ، وإنّ تعليل الإشهاد بأنّه يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يرشّح ذلك ويقوّيه ، لأنّ حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها إلى الزوجين ، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى.

وأنّه لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي ، فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين. (3)

ص : 54


1- نظام الطلاق في الإسلام : 118 - 119.
2- الطلاق : 32.
3- الأحوال الشخصية : 365 ، كما في الفقه على المذاهب الخمسة : 131.

وهذه النصوص تعرب عن كون القوم بين من يقول برجوع الإشهاد إلى الرجعة وحدها ، وبين من يقول برجوعه إليها وإلى الطلاق ، ولم يقل أحد من السنّة برجوعه إلى الطلاق وحده إلاّ ما عرفته من كلام أبي زهرة. وعلى ذلك فاللازم علينا بعد نقل النص ، التدبّر والاهتداء بكتاب الله إلى حكمه.

قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً * فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً). (1)

إنّ المراد من بلوغهنّ أجلهنّ : اقترابهنّ من آخر زمان العدة وإشرافهنّ عليه. والمراد بإمساكهنّ : الرجوع على سبيل الاستعارة ، كما أنّ المراد بمفارقتهنّ : تركهنّ ليخرجن من العدّة ويبنّ.

لا شك أنّ قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ) ظاهر في الوجوب كسائر الأوامر الواردة في الشرع ولا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل ، إنّما الكلام في متعلّقه. فهناك احتمالات ثلاثة :

1. أن يكون قيداً لقوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ).

2. أن يكون قيداً لقوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

3. أن يكون قيداً لقوله : (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

لم يقل أحد برجوع القيد إلى الأخير فالأمر يدور بين رجوعه إلى الأوّل أو

ص : 55


1- الطلاق : 21.

الثاني ، والظاهر رجوعه إلى الأوّل ، وذلك لأنّ السورة بصدد بيان أحكام الطلاق وقد افتتحت بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) فذكرت للطلاق عدّة أحكام :

1. أن يكون الطلاق لعدّتهنّ.

2. إحصاء العدّة.

3. عدم خروجهنّ من بيوتهنّ.

4. خيار الزوج بين الإمساك والمفارقة عند اقتراب عدّتهنّ من الانتهاء.

5. إشهاد ذوَي عدل منكم.

6. عدّة المسترابة.

7. عدّة من لا تحيض وهي في سن من تحيض.

8. عدّة أُولات الأحمال.

وإذا لاحظت مجموع آيات السورة من أوّلها إلى الآية السابعة تجد أنّها بصدد بيان أحكام الطلاق ، لأنّه المقصود الأصلي ، لا الرجوع المستفاد من قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَ) وقد ذكر تبعا.

وهذا هو المرويّ عن أئمتنا - عليهم السلام -. روى محمد بن مسلم قال : قدم رجل إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - بالكوفة فقال : إنّي طلّقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل أن أُجامعها ، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - : أشهدت رجلين ذوَي عدل كما أمرك الله؟ فقال : لا ، فقال : اذهب فانّ طلاقك ليس بشيء. (1)

ص : 56


1- الوسائل : ج 15 الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 7 و 3 ولاحظ بقية أحاديث الباب.

وروى بكير بن أعين عن الصادقين - عليهما السلام - أنّهما قالا : «وإن طلّقها في استقبال عدّتها طاهراً من غير جماع ، ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين ، فليس طلاقه إيّاها بطلاق». (1)

وروى الفضلاء من أصحاب الإمام الباقر الصادق كزرارة ومحمد بن مسلم ، وبريد ، وفضيل عنهما - عليهما السلام - في حديث انّهما قالا : وإن طلقها في استقبال عدتها طاهراً من غير جماع ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين فليس طلاقه إياها بطلاق. (2)

وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن - عليه السلام - أنّه قال لأبي يوسف : إنّ الدين ليس بقياس كقياسك وقياس أصحابك ، إنّ الله أمر في كتابه بالطلاق وأكّد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلاّ عدلين ، وأمر في كتابه التزويج وأهمله بلا شهود ، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل الله ، وأبطلتم شاهدين فيما أكّد الله عزّ وجلّ ، وأجزتم طلاق المجنون والسكران ، ثم ذكر حكم تظليل المحرم. (3)

قال الطبرسي : قال المفسرون : أُمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدّة ولا الرجل الطلاق. وقيل : معناه وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم ، وهو المروي عن أئمتنا - عليهم السلام - وهذا أليق بالظاهر ، لأنّا إذا حملناه على الطلاق كان أمراً يقتضي الوجوب وهو من شرائط الطلاق ، ومن قال : إنّ ذلك راجع إلى المراجعة ، حمله على الندب. (4)

ص : 57


1- الوسائل : ج 15 الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 7 و 3 ولاحظ بقية أحاديث الباب.
2- الوسائل : 15 ، الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ، الحديث 3.
3- الوسائل : ج 15 الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 12 ولاحظ بقية أحاديث الباب.
4- مجمع البيان : 5 / 306.

ومن عجيب الأمر حمل الأمر على الإشهاد في الآية على الندب قال الآلوسي : وأشهدوا ذوي عدل منكم عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) إن اخترتموها تبرياً عن الريبة وقطعاً للنزاع ، وهذا أمر ندب كما في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) وقال الشافعي في القديم : إنّه للوجوب في الرجعة. (1)

يلاحظ عليه : بأنّ المتبادر من الأمر هو الوجوب ، وقد قلنا في محلّه : إنّ الأصل المقرر عند العقلاء الذي أنفذه الشارع هو «انّ أمر المولى لا يترك بلا جواب» والجواب إمّا العمل بالأمر أو قيام الدليل على كونه مندوباً ، وعلى ضوء ذلك فالأمر في المقام للوجوب خصوصاً بالنسبة إلى حكمة التشريع الذي ذكره وهو قوله تبرياً عن الريبة وقطعاً للنزاع.

وأمّا قوله سبحانه : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) فقد اتّفقت الأُمّة على كون الإشهاد عند البيع أمراً مندوباً.

ثمّ إنّ الشيخ أحمد محمد شاكر ، القاضي الشرعي بمصر كتب كتاباً حول «نظام الطلاق في الإسلام» وأهدى نسخة منه مشفوعة برسالة إلى العلامة الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وكتب إليه : إنّني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق ، وإنّه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقاً ولم يعتد به ، وهذا القول وإن كان مخالفاً للمذاهب الأربعة المعروفة إلاّ أنّه يؤيّده الدليل ويوافق مذهب أئمّة أهل البيت والشيعة الإمامية.

وذهبتُ أيضاً إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة ، وهو يوافق أحد القولين للإمام الشافعي ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة ، واستغربت (2) من

ص : 58


1- روح المعاني : 28 / 134.
2- مرّ نصّ كلامه حيث قال : والتفريق بينهما غريب.

قولهم أن يفرقوا بينهما والدليل له : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) واحد فيها.

وبعث إليه العلاّمة كاشف الغطاء برسالة جوابية بيّن فيها وجه التفريق بينهما ، وإليك نص ما يهمنا من الرسالة :

قال بعد كلام له : وكأنّك - أنار الله برهانك - لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة كما هي عادتك من الإمعان في غير هذا المقام ، وإلاّ لما كان يخفى عليك أنّ السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه حتى أنّها قد سمّيت بسورة الطلاق ، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدّة أي لا يكون في طهر المواقعة ، ولا في الحيض ، ولزوم إحصاء العدّة ، وعدم إخراجهنّ من البيوت ، ثمّ استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق حيث قال عزّ شأنه : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي إذا أشرفن على الخروج من العدّة ، فلكم إمساكهنّ بالرجعة أو تركهنّ على المفارقة. ثمّ عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي في الطلاق الذي سيق الكلام كلّه لبيان أحكامه ويستهجن عوده إلى الرجعة التي لم تذكر إلاّ تبعاً واستطراداً ، ألا ترى لو قال القائل : إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه واكرامه وأن تستقبله سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه ، ويجب المشايعة وحسن الموادعة ، فانّك لا تفهم من هذا الكلام إلاّ وجوب المشايعة والموادعة للعالم لا له ولخادمه ورفيقه ، وإن تأخّرا عنه ، وهذا لعمري حسب القواعد العربية والذوق السليم جلي واضح لم يكن ليخفى عليك وأنت خريت العربية لو لا الغفلة (وللغفلات تعرض للأريب) ، هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآية الكريمة.

وهنالك ما هو أدقّ وأحقّ بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية والفلسفة

ص : 59

الإسلامية وشموخ مقامها وبعد نظرها في أحكامها. وهو أنّ من المعلوم أنّه ما من حلال أبغض إلى الله سبحانه من الطلاق ، ودين الإسلام كما تعلمون - جمعي اجتماعي - لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة لا سيما في العائلة والأُسرة ، وعلى الأخص في الزيجة بعد ما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى.

فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة ، فكثّر قيوده وشروطه على القاعدة المعروفة من أنّ الشيء إذا كثرت قيوده ، عزّ أو قلّ وجوده ، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أوّلاً وللتأخير والأناة ثانياً ، وعسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويعودان إلى الألفة كما أُشير إليه بقوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين ، لا شكّ أنّها ملحوظة للشارع الحكيم مضافاً إلى الفوائد الأُخر ، وهذا كلّه بعكس قضية الرجوع فإنّ الشارع يريد التعجيل به ، ولعلّ للتأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أيّ شرط من الشروط.

وتصح عندنا معشر الإمامية - بكلّ ما دلّ عليها من قول أو فعل أو إشارة - ولا يشترط فيها صيغة خاصة كما يشترط في الطلاق ؛ كل ذلك تسهيلاً لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده والرغبة الأكيدة في ألفتهم وعدم تفرّقهم ، وكيف لا يكفي في الرجعة حتى الإشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع وهي - أي المطلّقة الرجعية - عندنا معشر الإمامية لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العدّة ، ولذا ترثه ويرثها ، وتغسّله ويغسّلها ، وتجب عليه نفقتها ، ولا يجوز أن يتزوّج بأُختها ، وبالخامسة ، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية. (1)

ص : 60


1- أصل الشيعة وأُصولها : 163 - 165 ، الطبعة الثانية.

16- الطلاق ثلاثاً بصيغة أو ثلاث صيغ في مجلس واحد

اشارة

ص : 61

ص : 62

الطلاق ثلاثاً بصيغة أو ثلاث صيغ في مجلس واحد

من المسائل التي أوجبت انغلاقاً وعنفاً في الحياة ، وأدّت إلى تمزيق الأُسر وتقطيع صلات الأرحام في كثير من البلاد ، مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة ، بأن يقول : أنت طالق ثلاثاً ، أو يكرّره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد : أنتِ طالق ، أنتِ طالق ، أنتِ طالق. حيث تحسب ثلاث تطليقات حقيقية وتحرم المطلّقة على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره.

إنّ الطلاق عند أكثر أهل السنّة غير مشروط بشروط عائقة عن التسرّع إلى الطلاق ، ككونها غير حائض ، أو في غير طهر المواقعة ، أو لزوم حضور العدلين. فربّما يتغلّب الغيظ على الزوج ويمتلكه الغضب فيطلّقها ثلاثاً في مجلس واحد ، ثمّ يندم على عمله ندامة شديدة فتضيق عليه الأرض بما رحبت ويتطلّب المَخْلَص من أثره السيّئ ، ولا يجد عند أئمّة المذاهب الأربعة والدعاة إليها مخلصاً فيقعد ملوماً محسوراً ، ولا يزيده السؤال والفحص إلاّ نفوراً من الفقه والفتوى.

إنّ إغلاق باب الاجتهاد وإقفاله بوجه الأُمّة ، ومنع المفكرين من استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة دون التزام برأي إمام خاص ، أثار مشاكل كثيرة في مسائل لها صلة بالأُسرة ، يقول الكاتب محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار

ص : 63

السنة المحمدية : إنّ رابطة الأُسرة التي وثّقها الله برباط الزوجية وهَتْ وكادت أن تنفصم عروتها ، بلى قد انفصمت في كثير من الطبقات وكان منشأ ذلك ، ما استنّه الناس في الزواج من سنن سيئة وما شدّد الفقهاء قديماً وحديثاً في الطلاق حتّى جعلوه أشبه بالعبث واللعب (1) أو بالآصار والأغلال ، وكم لمست فيما عرض لي في حياتي الوعظية ، شقاء كثير من الأزواج الذين أوقعهم سوء حظهم في مشكل من مشاكل الطلاق فيطلبون حلها عند أحد أُولئك الجامدين فلا يزيدها إلاّ تعقيداً. (2)

وليس الفقّي هو المشتكي الوحيد من إغلاق باب الاجتهاد ، والتعبّد بحرفية المذاهب الأربعة ، بل هو أحد مَن ضم صوته إلى صوت أحمد محمد شاكر عضو المحكمة العليا الشرعية حيث لمس خطورة الموقف ، التي سبّبت إحلال القوانين الوضعية مكان الأحكام الإسلامية.

قال : كان والدي : الشيخ محمد شاكر كاتب الفتوى لدى شيخه الشيخ محمد العباس المهدي مفتي الديار المصرية - رحمه الله - فجاءت امرأة شابة ، حُكم على زوجها بالسجن مدّة طويلة ، وهي تخشى الفتنة وتريد عرض أمرها على المفتي يرى لها رأياً في الطلاق من زوجها لتتزوج من غيره ، وليس في مذهب الإمام أبي حنيفة حلٌّ لمثل هذه المعضلة إلاّ الصبر والانتظار فصرفها الوالد معتذراً آسفاً متألِّماً.

ثمّ عرض الأمر على شيخه المفتي ، واقترح عليه اقتباس بعض الأحكام من

ص : 64


1- يقف على صدق هذا ، من طالع مبحث الحلف بالطلاق في الكتب الفقهية التي تعبر عنه بالطلاق غير المعتبر ، حيث أصبح الطلاق أُلعوبة بيد الزوج.
2- مقدّمة «نظام الطلاق في الإسلام» : 6.

مذهب الإمام مالك في مثل هذه المشاكل ، فأبى الشيخ كلّ الإباء واستنكر هذا الرأي أشدّ استنكار ، وكان بين الأُستاذ وتلميذه جدال جادّ في هذا الشأن لم يؤثر على ما كان بينهما من مودة وعطف ، وما زال الأُستاذ الوالد - حفظه الله - ... برأيه ، معتقداً صحّته وفائدته للناس. (1)

ولو كان والد الشيخ أحمد (محمد شاكر) مطلعاً على فقه أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - وانّ لهم في هذه المشاكل المستعصية حلولاً واضحة مأخوذة من الكتاب والسنّة ، لاقترح على أُستاذه الرجوعَ إليه.

كيف والإمام جعفر الصادق - عليه السلام - أبو الفقهاء ، وقد تتلمذ على يده الأئمّة الأربعة إمّا مباشرة أو بالواسطة.

إنّ أغلب المشاكل التي واجهت الشيخ في المحاكم هي إعسار الزوج ، وإضراره بالزوجة ، وغيبته الطويلة وما ضاهاها ، ولم يكن في فقه الإمام أبي حنيفة حلولاً لها ، مع أنّ هذه المشاكل مطروحة في الفقه الإمامي بأوضح الوجوه.

وكان الأولى بوالد الشيخ أن يقترح كسر طوق التقليد والرجوع إلى الكتاب والسنّة لاستنباط الأحكام الشرعية من دون التزام برأي إمام دون إمام ، وهذا هو الحجر الأساس لحلّ هذه المعضلات ، ولم يزل الفقه الإمامي منادياً بهذا الأصل عبر القرون.

نحن نعلم علماً قاطعاً بأنّ الإسلام دين سهل وسمح ، وليس فيه حرج وهذا يدفع الدعاة المخلصين إلى دراسة المسألة من جديد دراسة حرّة بعيدة عن أبحاث الجامدين الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية أمام وجوههم ، وعن أبحاث أصحاب الهوى الهدّامين الذين يريدون تجريد الأُمم من الإسلام ، حتى

ص : 65


1- نظام الطلاق في الإسلام : 109.

ينظروا إلى المسألة ويتطلبوا حكمها من الكتاب والسنّة ، متجرّدين عن كلّ رأي مسبق فلعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً ، وربّما تفك العقدة ويجد المفتي مَخلصاً من هذا المضيق الذي أوجده تقليد المذاهب.

وإليك نقل الأقوال :

قال الشيخ الطوسي : إذا طلّقها ثلاثاً بلفظ واحد ، كان مبدعاً ووقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا ، وفيهم من قال : لا يقع شيء أصلاً وبه قال عليّ - عليه السلام - وأهل الظاهر ، وحكى الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنّه تقع واحدة كما قلناه ، ورُوي أنّ ابن عباس وطاوساً كانا يذهبان إلى ما يقوله الإمامية.

وقال الشافعي : فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثاً في طهر لم يجامعها فيه ، دفعة أو متفرّقة كان ذلك مباحاً غير محذور ووقع. وبه قال في الصحابة عبد الرحمن بن عوف ، ورووه عن الحسن بن علي - عليهما السلام - ، وفي التابعين ابن سيرين ، وفي الفقهاء أحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقال قوم : إذا طلّقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثاً دفعة واحدة ، أو متفرقة ، فعل محرّماً وعصى وأثم ، ذهب إليه في الصحابة عليّ - عليه السلام - ، وعمر ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ومالك ، قالوا : إلاّ أنّ ذلك واقع. (1)

قال ابن رشد : جمهور فقهاء الأمصار على أنّ الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة ، وقال أهل الظاهر وجماعة : حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك. (2)

ص : 66


1- الخلاف : 2 كتاب الطلاق ، المسألة 3. وعلى ما ذكره ، نقل عن الإمام عليّ رأيان متناقضان : عدم الوقوع والوقوع مع الإثم.
2- بداية المجتهد : 2 / 61 ، ط بيروت.

وقال عبد الرحمن الجزيري : يملك الرجل الحرُّ ثلاث طلقات ، فإذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة ، بأن قال لها : أنت طالق ثلاثاً ، لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة وهو رأي الجمهور ، وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين : كطاوس وعكرمة وابن إسحاق وعلى رأسهم ابن عباس - رضي الله عنهم -. (1)

وقد بين فتاوى الجمهور ، الفقيه المعاصر «وهبة الزحيلي» وقال : اتّفق فقهاء المذاهب الأربعة والظاهرية على أنّه إذا قال الرجل لغير المدخول بها : «أنت طالق ثلاثاً» وقع الثلاث ، لأنّ الجميع صادف الزوجية ، فوقع الجميع ، كما لو قال ذلك للمدخول بها.

واتّفقوا أيضاً على أنّه إن قال الزوج لامرأته : «أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق» وتخلل فصل بينها ، وقعت الثلاث سواء أقصد التأكيد أم لا ، لأنّه خلاف الظاهر ، وإن قال : قصدت التأكيد صدق ديانة ، لا قضاء.

وإن لم يتخلل فصل ، فإن قصد تأكيد الطلقة الأُولى بالأخيرتين ، فتقع واحدة ، لأنّ التأكيد في الكلام معهود لغة وشرعاً ، وإن قصد استئنافاً أو أطلق (بأن لم يقصد تأكيداً ولا استئنافاً) تقع الثلاث عملاً بظاهر اللفظ.

وكذا تُطلَّق ثلاثاً إن قال : أنت طالق ، ثمّ طالق ، ثم طالق ، أو عطف بالواو أو بالفاء. (2)

هذه هي آراء جمهور فقهاء السنّة ، وقد خالفهم جماعة من الصحابة والتابعين ذكر أسماء غير واحد منهم الشوكاني في «نيل الأوطار» وقال :

ص : 67


1- الفقه على المذاهب الأربعة : 4 / 341.
2- الفقه الإسلامي وأدلّته : 7 / 391 - 392.

ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنّ الطلاق لا يتبع الطلاق بل يقع واحدة فقط. وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أبي موسى ورواية عن عليّ - عليه السلام - وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد والهادي والقاسم والباقر والناصر وأحمد بن عيسى ، وعبد الله بن موسى بن عبد الله.

ورواية عن زيد بن علي وإليه ذهب جماعة من المتأخرين منهم ابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحقّقين ، وقد نقله ابن مغيث في كتاب الوثائق عن محمد بن وضاح ، ونُقل الفتوى بذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن بقي ومحمد بن عبد السلام وغيرهما ، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمر بن دينار وحكاه ابن مغيث أيضاً في ذلك الكتاب عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير. (1)

إلى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات التي تعرب عن اتّفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق محتجّين بما تسمع ، ورائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب ، الطلاق الثلاث بمرأى ومسمع من الصحابة ، ولكن لو دلّ الكتاب والسنّة على خلافه فالأخذ بما دلّ متعيّن.

وتبيين الحق يتم ضمن أُمور :

ص : 68


1- نيل الأوطار : 6 / 231.

دراسة الآيات الواردة في المقام

اشارة

قال سبحانه :

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (1)

قوله سبحانه : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) كلمة جامعة لا يُؤدَّى حقّها إلاّ بمقال ، وهي صريحة في أنّ الحقوق بينهما متبادلة ، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلاّ وعلى الرجل عمل يقابله ، فهما - في حقل المعاشرة - متماثلان في الحقوق والأعمال ، فلا تسعد الحياة إلاّ باحترام كل من الزوجين للآخر ، وقيام كلّ منهما بواجباته ، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل وإنجاز الأعمال فيه ، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه ، هذا هو الأصل الثابت في حياة الزوجين والذي تؤيدها الفطرة ، وقد قسّم النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الأُمور بين ابنته فاطمة وزوجها عليّ - عليه السلام - على النحو الذي ذكرناه.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما

ص : 69


1- البقرة : 228.

حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (1)

كان للعرب في الجاهلية طلاق وعدّة مقدرة للمطلقة ، ورجعة للمطلِّق أثناء العدة ، ولكن لم يكن للطلاق عدد معيّن ، فربما طلّق الرجل امرأته مائة مرة وراجعها ، وتكون المرأة بذلك أُلعوبة بيد الرجل يضارّها بالطلاق والرجوع متى شاء.

وجاء في بعض الروايات : انّ رجلاً قال لامرأته : لا أقربك أبداً ، ومع ذلك تبقين في عصمتي ، ولا تستطيعين الزواج من غيري ، قالت له : كيف ذلك؟ قال : أُطلّقك ، حتى إذا قرب انقضاء العدة راجعتُكِ ، ثمّ طلقتُكِ ، وهكذا أبداً ، فشكته إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فأنزل سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ). (2) أي أنّ الطلاق الذي شرع الله فيه الرجوع هو الطلاق الأوّل والثاني فقط وأمّا الطلاق الثالث فلا يحلّ الرجوع بعده حتّى تنكح زوجاً غير المطلق ، فعندئذ لو طلّقها فيحلّ للأوّل نكاحها ، هذا هو مفهوم الآية :

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (3)

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ

ص : 70


1- البقرة : 229.
2- مجمع البيان : 1 / 328 ؛ تفسير البغوي : 1 / 328 ؛ تفسير البغوي : 1 / 304 ؛ روح المعاني : 2 / 135 ؛ الكاشف : 1 / 346.
3- البقرة : 230.

بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ...). (1)

جئنا بمجموع الآيات الأربع - مع أنّ موضع الاستدلال هو الآية الثانية - للاستشهاد بها في ثنايا البحث وقبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات :

«المرّة» بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل ، و «الإمساك» خلاف الإطلاق.

و «التسريح» في قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) مأخوذ من السرح وهو الإطلاق ، يقال : سرّح الماشية في المرعى : إذا أطلقها لترعى. والمراد من الإمساك هو إرجاعها إلى عصمة الزوجية.

تفسير قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)

أنّ المقصود من «التسريح» عدم التعرّض لها لتنقضي عدتها في كل طلاق أو الطلاق الثالث الذي هو أيضاً نوع من التسريح. على اختلاف في معنى الجملة.

وذلك لانّ التسريح الذي هو خلاف الإمساك قابل للانطباق على الأمرين :

1. عدم التعرض لها حتّى تنقضي عدّتها.

2. أن يرجع إليها ثمّ يطلقها طلقة ثالثة.

وفي ضوء ذلك للمفسّرين في تفسير قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) رأيان :

الأوّل : انّه ناظر إلى عدم التعرض لها حتّى تنقضي عدّتها ، ويمكن تقريب

ص : 71


1- البقرة : 231.

هذا القول بالوجوه التالية :

أ. إنّ التسريح بالمعروف في الآية 231 أُريد به ترك الرجعة ، قال سبحانه : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

فالأولى حمل الثانية أيضاً على ترك الرجعة وإن اختلفا في التعبير حيث إنّ التعبير في المقام هو (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وفي الآية الأُخرى : (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) ، ولعلّ المعروف والإحسان بمعنى واحد ، كما عبّر عن ترك الرجعة بلفظة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (1) فالأولى تفسير الجميع بترك الرجعة.

ب. انّ التطليقة الثالثة مذكورة بعد هذه الجملة (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، حيث قال سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، وعندئذ فلا محيص من تفسير الجملة بترك الرجعة ، حتّى لا يلزم التكرار.

ج. لا يجوز أن يفسّر قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بالطلاق الثالث وإلاّ يلزم أن يكون قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ) طلاقاً رابعاً ولا طلاق رابع في الإسلام. (2)

الثاني : إنّ المراد بقوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) ، هو الطلاق الثالث ، لا ترك الرجعة بعد الطلاق الثاني ومعنى الآية انّ الزوج بعد ما طلّق زوجته مرّتين يجب أن يفكر في أمر زوجته أكثر ممّا مضى حتّى يقف على أنّه ليس له بعد الطلقتين إلاّ أحد أمرين :

أمّا الإمساك بمعروف والاستمرار معها ، أو التسريح بإحسان بالتطليقة الثالثة التي لا رجوع بعدها أبداً إلاّ في ظرف خاص أشار إليها في الآية التالية

ص : 72


1- الطلاق : 2.
2- هذه الوجوه ذكرها الجصّاص في تفسيره : 1 / 389.

بقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

وعندئذ يكون قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) إشارة إلى التطليق الثالث الذي لا رجوع فيه ويكون التسريح بالمقام متحقّقاً في الطلاق الثالث على هذا القول لا بترك الرجعة كما على القول الآخر.

هذا ما ذكرناه هو عصارة القولين ولكلّ قائل.

وأمّا الوجوه التي ذُكرت تأييداً للقول الأوّل فالثاني والثالث قابلان للدفع ، أمّا الثاني فلأنّه لا مانع من ذكر الشيء أوّلاً بالإجمال (أو تسريح بإحسان) ثمّ التفصيل ثانياً بقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، فهو بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي ، والتفصيل مشتمل على ما لم يشتمل عليه الإجمال من تحريمها عليه حتّى تنكح زوجاً غيره ، فلو طلّقها الزوج الثاني باختياره فلا جناح عليهما بالعقد الجديد ان ظنّا أن يقيما حدود الله ، فأين هذه التفاصيل من قوله (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)؟!

وبذلك يعلم دفع الوجه الثالث ، لأنّ حمل قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) على الطلقة الثالثة لا يلزم أن يكون قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ...) طلاقاً رابعاً ، بل يكون تفسيراً له.

أضف إلى ذلك انّ روايات الفريقين تؤيد المعنى الثاني.

روى أبو رزين قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فأين الثالثة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

ورواه الثوري وغيره عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين مثله. (1)

ص : 73


1- تفسير القرطبي : 3 / 128.

وقد عزا الطبرسي القول الأوّل إلى أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما السلام - مع أنّه روى السيد البحراني في تفسير البرهان روايات ست عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - تؤيّد القول الثاني.

وعلى كلّ تقدير فالوجه الثاني والثالث قابل للإجابة ، وأمّا الوجه الأوّل ، فالإجابة عنه واضحة ، وذلك لأنّ التسريح في الموارد الثلاثة بمعنى الإطلاق وإنّما الاختلاف في المصداق فلا مانع من أن يكون المحقّق له في المقام هو الطلاق وفي الآيتين هو ترك الرجعة والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافاً في المفهوم.

إلى هنا تمّ تفسير قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

وإليك تفسير ما بقي من الآية ، أعني قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (1)

وهذه الفقرة من الآية ناظرة إلى بيان أمرين :

الأوّل : انّه لا يحلّ للزوج أن يأخذ من الزوجة شيئاً ممّا آتاها إذا أراد طلاقها قال سبحانه : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) ، وفي آية أُخرى (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً). (2)

الثاني : انّه سبحانه استثنى من عدم جواز الأخذ صورة خاصة ، وهي أنّ

ص : 74


1- البقرة : 229.
2- النساء : 20.

تكون الزوجة كارهة للزوج ولا تُطيق عشرته بحيث يؤدي نفورها منه إلى معصية الله في التقصير بحقوق الزوج وقد يخاف الزوج أيضاً أن يقابلها بالإساءة أكثر ممّا تستحقّ ، ففي هذه الحال يجوز لها أن تطلب الطلاق من الزوج وتعوضه عنه بما يرضيه ، كما يجوز له أن يأخذ ما افتدت به نفسها ، وإليه يشير قوله سبحانه : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ...) إلى هنا تمّ تفسير الآية 229 ، وإليك تفسير الآية 230.

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (1)

ومحصل الآية انّ من طلّق زوجته ثلاث مرات فلا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره نكاحاً صحيحاً ، ثمّ إذا فارقها بموت أو طلاق وانقضت عدّتها جاز للأوّل أن يعقد عليها ثانياً.

ثمّ إنّ للمحلل شروطاً مذكورة في كتب الفقه.

وأمّا الآية الرابعة ، أعني قوله : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) ، فإنّها واضحة المفهوم.

هذا ما ارتأينا ذكره بشأن تفسير الآيات ، ونرجع الآن إلى صلب البحث وهو حكم الطلاق ثلاثاً ، فنقول :

إذا تعرّفت على مفاد الآية ، فاعلم أنّ الكتاب والسنّة يدلاّن على بطلان الطلاق ثلاثاً ، وأنّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى ، يتخلّل بينهما رجوع

ص : 75


1- البقرة : 230.

أو نكاح ، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة ، أو كرّر الصيغة فلا يقع الثلاث. وأمّا احتسابها طلاقاً واحداً ، فهو وإن كان حقّاً ، لكنّه خارج عن موضوع بحثنا ، وإليك الاستدلال عن طريق الكتاب أوّلاً والسنّة ثانياً :

أوّلاً : الاستدلال عن طريق الكتاب بوجوه :

1. قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)

إنّ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) : ظاهر في :

1. إنّ هذا الحكم يشمل كافّة أقسام الطلاق وانّ التفريق بين الطلقات ليس من خصيصة طلاق دون طلاق ، بل طبيعة الطلاق تلازم ذلك الطلاق ، لأنّ الألف واللام إذا لم يكونا للمعهود أفاد الاستغراق ، فصار تقدير الآية : كلّ الطلاق مرّتان ، ومرّة ثالثة ، ولو قال هكذا لأفاد انّ الطلاق المشروع متفرّق ، لأنّ المرّات لا تكون إلاّ بعد تفرّق بالإجماع. (1)

2. انّ قوله : مرّتان ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة وإلاّ يصير مرّة ودفعة ، ولأجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ «المرّة» ليدلّ على كيفية الفعل وانّه الواحد منه ، كما أنّ الدفعة والكرّة والنزلة ، مثل المرّة ، وزناً ومعنىً واعتباراً.

وعلى ما ذكرنا فلو قال المطلِّق : أنت طالق ثلاثاً ، لم يطلِّق زوجته مرة بعد أُخرى ، ولم يطلّق مرّتين ، بل هو طلاق واحد ، وأمّا قوله «ثلاثاً» فلا يصير سبباً لتكرّره ، وتشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضم عدد فوق الواحد. مثلاً اعتبر في اللعان شهادات أربع ، فلا تجزي عنها شهادة واحدة

ص : 76


1- التفسير الكبير : 6 / 103.

مشفوعة بقوله «أربعا». وفصول الأذان المأخوذة فيها التثنية ، لا يتأتّى التكرار فيها بقراءة واحدة وإردافها بقوله «مرتين» ، ولو حلف في القسامة وقال : «أُقسم بالله خمسين يميناً أنّ هذا قاتله» كان هذا يميناً واحداً ، ولو قال المقرّ بالزنا : «أنا أُقرّ أربع مرّات أنّي زنيت» كان إقراراً واحداً ، ويحتاج إلى إقرارات ثلاث ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار.

هذا هو المقياس الكلي في كلّ مورد اعتبر فيه العدد كرمي الجمرات السبع فلا يجزي عنه رمي الحصيات مرة واحدة ، وكتكبيرات صلاة العيدين الخمس أو السبع المتوالية - عند القوم - قبل القراءة لا تتأتى بتكبيرة واحدة بعدها قول المصلي خمساً أو سبعاً ، وكصلاة التسبيح (1) وقد أخذ في تسبيحاتها العدد عشراً وخمسة عشر فلا تجزي عنها تسبيحة واحدة مردوفة بقوله عشراً أو خمسة عشر ، وهذه كلّها ممّا لا خلاف فيها.

ولم أر من تردّد في ذلك غير ابن حزم ، فزعم انّه ربما يستعمل في غير ذلك المعنى حيث قال : وأمّا قولهم : معنى قوله (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) انّ معناه مرّة بعد مرّة فخطأ ، بل هذه الآية كقوله تعالى : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي مضاعفاً معاً ، وهذه الآية أيضاً تعليم لما دون الثلاث من الطلاق. (2)

يلاحظ على ما ذكره ، أنّ استعمال «مرّتين» في هذه الآية بمعنى مضاعفاً ، لأجل وجود القرينة ولولاها لحمل على المعنى الحقيقي ، وذلك لأنّه سبحانه يخاطب نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بخطابين :

الأوّل : قوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا

ص : 77


1- المراد صلاة جعفر الطيّار.
2- المحلى : 10 / 168.

الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

الثاني : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً). (1)

فقوله في الآية الأُولى : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) قرينة على أنّ المراد من قوله : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) إيتاء الأجر المضاعف لا الأجر بعد الأجر ، فلا يكون استعماله مرّتين في المضاعف فيها دليلاً على سائر المقامات.

قال الجصاص : والدليل على أنّ المقصد في قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) الأمر بتفريق الطلاق وبيان حكم ما يتعلّق بإيقاع ما دون الثلاث من الرجعة انّه قال : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، وذلك يقتضي التفريق لا محالة ، لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال : طلّقها مرّتين ، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال : أعطاه مرتين ، حتى يفرق الدفع ، فحينئذ يطلق عليه ، وإذا كان هذا هكذا ، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين ، إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرة الواحدة إذا طلّق اثنتين ، فثبت بذلك أنّ ذكر المرتين إنّما هو أمر بإيقاعه مرتين ، ونهي عن الجمع بينهما في مرّة واحدة. (2)

وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا طلاق إلاّ بعد نكاح» ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا طلاق قبل نكاح» ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا طلاق لمن لا يملك». (3)

فلا نكاح بعد الصيغة الأُولى حتّى يطلق.

ص : 78


1- الأحزاب : 3130.
2- أحكام القرآن : 1 / 379378.
3- السنن الكبرى : 7 / 318 - 321 ؛ المستدرك للحاكم : 2 / 24 ، وغيرهما من المصادر المتوفرة.

هذا كلّه إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة ، أمّا إذا كرّر الصيغة كما عرفت ، فربّما يغتر به البسطاء ويزعمون أنّ تكرار الصيغة ينطبق على الآية ، لكنّه مردود من جهة أُخرى وهي :

أنّ الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق ، فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع علقة الزوجية ، فلا زوجية بعد الصيغة الأُولى حتى تقطع ، ولا رابطة قانونية حتى تصرم.

وربّما يقال : إنّ المطلقة ما زالت في حبالة الرجل وحكمها حكم الزوجة ، فعندئذ يكون للصيغة الثانية والثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة.

يلاحظ عليه : أنّه ما ذا يريد من قوله : «انّها بحكم الزوجة»؟

فإن أراد به انّ للزوج حقّ الرجوع إليها ، فهو صحيح ولذلك يقال : الرجعية بحكم الزوجة ، أو هي زوجة باعتبار انّ للزوج إعادة البناء الذي هدمه بالطلاق ، فلا حاجة إلى النكاح الجديد ، وهذا غير المدّعى.

وإن أراد انّها زوجة بمعنى انّ صيغة الطلاق لم تؤثر شيئاً ولم تهدم بناء الزوجية وانّ حالها قبل الطلاق وبعده سيان ، فهو على خلاف الأُصول الصحيحة ، إذ كيف تكون حالها قبله وبعده سيّان ، مع أنّها لو تركت حتّى تنقضي عدّتها ، تصير أجنبية وبائنة بالتمام.

وكونها قابلة للطلاق الثاني - قبل الرجوع - مبنيّ على الوجه الثاني الذي عرفت مخالفته للأُصول ، لا على الوجه الأوّل.

وبعبارة واضحة : إنّ الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجيّة بينه وبين امرأته ويطلق سراحها من قيدها ، وهو لا يتحقّق بدون وجود تلك العلقة الاعتبارية الاجتماعية ، ومن المعلوم أنّ المطلّقة لا تطلق ، والمسرَّحة لا تسرح.

ص : 79

على أنّ هناك إشكالاً يختص بهذه الصورة(إنشاء الطلاق الثلاث بلا تكريرللصيغة)

وتقريره : انّ الطلاق أمر اعتباري يتحقّق بإنشاء المطلّق ، وليس له واقع وراء الاعتبار ، مقابل الأمر التكويني الذي له واقع وراء الذهن والاعتبار.

فإذا كان الانشاء واحداً فيكون المنشأ أيضاً كذلك ، فتعدّد الطلاق رهن تعدّد الإنشاء والمفروض وحدته.

نعم لا يتطرّق هذا الإشكال إلى ما إذا تعدّدت الصيغة كأن يقول : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق.

والحاصل : أنّه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث ، العدد الخاص الذي هو الموضوع للآية التالية ، أعني قوله سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) ، لأنّ تعدد الطلاق رهن تخلّل عقدة الزواج بين الطلاقين ، ولو بالرجوع ، وإذا لم تتخلّل يكون التكلّم أشبه بالتكلّم بكلام لغو.

قال سماك - من عنده - : إنّما النكاح عقدة تعقد ، والطلاق يحلّها ، وكيف تُحل عقدة قبل أن تعقد؟! (1)

والحاصل انّه إذا قال : أنت طالق ، فكأنّه قال لها : حللت العقدة بيني وبينك ، فسخت هذا العقد ، قطعت هذا الرباط الذي يربط كلاً منّا بصاحبه ؛ فإذا فسخ العقد الذي كان بينهما ، أو حلّت العقدة أو قطع الرباط فمن أين يملك الرجل فسخ العقد أو حل العقدة أو قطع الرباط مرة أُخرى أو ثالثة؟ وفي أي عقد من العقود في هذه الشريعة المطهرة أو في غيرها من الشرائع والقوانين ،

ص : 80


1- السنن الكبرى : 7 / 321.

يمكن فسخ العقد الواحد مرّتين أو ثلاثاً ، وهو عقد واحد ، إلاّ أن يتجدد العقد فيتجدد إمكان الفسخ ، ويكون فسخاً لعقد آخر. (1)

2. قوله سبحانه : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ)

تقدّم أنّ في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين ، والمفسّرون بين من يجعلونها ناظرة إلى الفقرة المتقدّمة ، أعني قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ ...) ومن يجعلونها ناظرة إلى التطليق الثالث الذي جاء في الآية التالية ، وقد عرفت ما هو الحق ، فتلك الفقرة تدل على بطلان الطلاق الثلاث على كل التقادير.

أمّا على التقدير الأوّل ، فواضح ، لأنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد أمرين : إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان.

قال ابن كثير : أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين ، فأنت مخيّر فيها ما دامت عدّتها باقية ، بين أن تردّها إليك ناوياً الإصلاح والإحسان وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها ، فتبين منك ، وتطلق سراحها محسناً إليها ، لا تظلمها من حقّها شيئاً ولا تضارّ بها. (2)

وأين هذا من الطلاق ثلاثاً بلا تخلّل واحد من الأمرين - الإمساك أو تركها حتى ينقضي أجلها - سواء طلّقها بلفظ : أنت طالق ثلاثاً ، أو : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق.

قال الشوكاني : يشترط في وقوع الثالثة أن تكون في حال يصح من الزوج فيها الإمساك - قبل الطلاق الثالث - وإذا لم يصحّ الإمساك إلاّ بعد المراجعة لم تصحّ الثالثة إلاّ بعدها لذلك ، وإذا لزم في الثالثة ، لزم في الثانية. (3)

ص : 81


1- نظام الطلاق في الإسلام : 72.
2- تفسير ابن كثير : 1 / 53.
3- نيل الأوطار : 6 / 234.

وأمّا على التقدير الثاني ، فإنّ تلك الفقرة وإن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث ، وساكتة عن حال الطلاقين الأوّلين ، لكن قلنا : إنّ بعض الآيات ، تدلّ على أنّ مضمونها من خصيصة مطلق الطلاق ، من غير فرق بين الأوّلين والثالث ، فالمطلّق يجب أن يُتبعَ طلاقه بأحد أمرين :

قال سبحانه : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ). (1)

1. الإمساك بمعروف.

2. التسريح بإحسان.

فالمحصّل من المجموع هو كون إتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الذي يصلح للرجوع.

ويظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أنّ قوله : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) من القيود الغالبية ، وإلاّ فالواجب منذ أن يطلّق زوجته ، هو القيام بأحد الأمرين ، لكن تخصيصه بزمن خاص وهو بلوغ آجالهن ، هو لأجل أنّ المطلّق الطاغي عليه غضبه وغيظه ، لا تنطفئ سورة غضبه فوراً حتى تمضي عليه مدّة من الزمن تصلح فيها لأن يتفكّر في أمر زوجته ويخاطب بأحد الأمرين ، وإلاّ فطبيعة الحكم الشرعي : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) تقتضي أن يكون حكماً سائداً على جميع الأزمنة من لدن أن يتفوّه بصيغة الطلاق إلى آخر لحظة تنتهي معها العدّة.

وعلى ضوء ما ذكرنا تدلّ الفقرة على بطلان الطلاق الثلاث وأنّه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق ، غير أنّ دلالتها على القول الأوّل بنفسها ، وعلى القول الثاني بمعونة الآيات الأُخر.

ص : 82


1- البقرة : 231.

3. قوله سبحانه : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)

إنّ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) وارد في الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع (1) ، ومن جانب آخر دلّ قوله سبحانه : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) (2). على أنّ الواجب في حقّ هؤلاء هو الاعتداد وإحصاء العدّة ، من غير فرق بين أن نقول أنّ «اللام» في (لِعِدَّتِهِنَ) للظرفية بمعنى «في عدّتهنّ» أو بمعنى الغاية ، والمراد لغاية أن يعتددن ، إذ على كلّ تقدير يدلّ على أنّ من خصائص الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع ، هو الاعتداد وإحصاء العدّة ، وهو لا يتحقّق إلاّ بفصل الأوّل عن الثاني ، وإلاّ يكون الطلاق الأوّل بلا عدّة وإحصاء لو طلّق اثنتين مرّة. ولو طلّق ثلاثاً يكون الأوّل والثاني كذلك.

وقد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق الثلاث.

روى صفوان الجمّال عن أبي عبد الله - عليه السلام - : أنّ رجلاً قال له : إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس واحد؟ قال : «ليس بشيء» ، ثمّ قال : «أما تقرأ كتاب الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) - إلى قوله سبحانه : - (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ثمّ قال : كلّما خالف كتاب الله والسنّة فهو يرد إلى كتاب الله والسنّة». (3)

ص : 83


1- فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة ، وطلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن وغيرهما.
2- الطلاق : 1.
3- قرب الاسناد : 30 ؛ ورواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ج 15 ، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 25.

4. قوله سبحانه : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً)

أنّه لو صحّ التطليق ثلاثاً فلا يبقى لقوله سبحانه : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) فائدة ، لأنّه يكون بائناً ويبلغ الأمر إلى ما لا تحمد عقباه ، ولا تحل العقدة إلاّ بنكاح رجل آخر وطلاقه ، مع أنّ الظاهر أنّ المقصود حلّ المشكل من طريق الرجوع أو العقد في العدّة.

ثانياً : الاستدلال عن طريق السنّة

قد تعرّفت على قضاء الكتاب في المسألة ، وأمّا حكم السنّة ، فهي تعرب عن أنّ الرسول كان يعدّ مثل هذا الطلاق لعباً بالكتاب.

1. أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال : أُخبر رسول الله عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً ، فقام غضبان ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل وقال : يا رسول الله ألا أقتله؟ (1)

ومحمود بن لبيد صحابي صغير وله سماع ، روى أحمد باسناد صحيح عنه قال : أتانا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فصلّى بنا المغرب في مسجدنا ، فلما سلّم منها ، قال : اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم ، للسبحة بعد المغرب. (2)

وهذا دليل على سماعه من الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد نقله الحافظ ابن حجر في «الإصابة». (3)

ولعلّ هذا الرجل الذي طلّق امرأته ثلاث تطليقات هو (ركانة) الذي يأتي

ص : 84


1- سنن النسائي : 6 / 142 ؛ الدر المنثور : 1 / 283.
2- مسند أحمد : 5 / 427.
3- لاحظ : 6 / 67.

الكلام عنه في الحديث الثاني.

ثمّ نرى أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يصف هذا النوع من الطلاق : باللعب بكتاب الله ، وتظهر آثار الغضب في وجهه أفيمكن القول بصحّته بعد ما كان هذا منزلته؟!

ولو سلمنا عدم سماعه كما يدّعيه ابن حجر في فتح الباري (1) فهو صحابي ومراسيل الصحابة حجة بلا كلام عند الفقهاء ، أخذاً بعدالتهم أجمعين.

2. روى ابن إسحاق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : طلّق ركانة زوجته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً ، فسأله رسول الله : كيف طلّقتها؟ قال : طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد. قال : إنّما تلك طلقة واحدة فارتجعها. (2)

والسائل هو ركانة بن عبد يزيد. روى الإمام أحمد باسناد صحيح عن ابن عباس قال : طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد ، فحزن عليها حزناً شديداً ، قال : فسأله رسول الله : كيف طلّقتها؟ قال : طلّقتها ثلاثاً. قال ، فقال : في مجلس واحد؟ قال : نعم. قال : فإنّما تلك واحدة فأرجعها إن شئت. قال : فأرجعها ، فكان ابن عباس يرى إنّما الطلاق عند كلّ طهر. (3)

ص : 85


1- فتح الباري : 9 / 315. ومع ذلك قال : رجاله ثقات ، وقال في كتابه الآخر «بلوغ المرام» : 224 : رواته موثّقون ؛ ونقل الشوكاني في نيل الأوطار : 6 / 227 ، عن ابن كثير أنّه قال : اسناده جيد.
2- بداية المجتهد : 2 / 61. ورواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان : 156 ، والسيوطي في الدر المنثور : 1 / 279 وغيرهم.
3- مسند أحمد : 1 / 265.

أدلّة القائل بصحّة الطلاق ثلاثاً

استدلّ القائل بجواز إرسال الثلاث دفعة أو مفرقة بالكتاب تارة والسنّة أُخرى والإجماع ثالثة.

أمّا الكتاب فبالآيات التالية :

1. انّ قوله سبحانه : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) يعمّ إيقاع الطلاق الثلاث دفعة.

2. وقوله : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ).

3. وقوله : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ).

4. وقوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ).

ولم يفرق في هذه الآيات بين إيقاع الواحدة والثنتين والثلاث.

وقد أُجيب عن الاستدلال بأنّ هذه عمومات مخصّصة وإطلاقات مقيّدة بما ثبت من الأدلة الدالّة على المنع من وقوع فوق الواحدة. (1)

والأولى أن يجاب بأنّ شرط التمسّك بالإطلاق كون المتكلّم في مقام البيان لا في مقام الإجمال والإهمال ، مثلاً : لو كان المتكلّم في مقام بيان حكم الطبيعة بما هي هي بأن يقول : الغنم حلال ، والخنزير حرام فلا يمكن أن يستدلّ بهما على حلية الغنم وإن كان جلاّلاً أو مغصوباً تمسّكاً بإطلاقه ، وقد قرر في علم الأُصول

ص : 86


1- نيل الأوطار : 6 / 232.

انّ التمسّك بالإطلاق رهن شروط ثلاثة ، أوّلها : كون المتكلّم في مقام بيان الحيثية التي نحن بصدد استنباط حكمها ، فإذا سكت يتمسّك بالإطلاق ، وأمّا إذا لم يكن في مقام بيان تلك الحيثية ، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق ، وهذه الآيات من هذا القبيل فانّها في مقام بيان أُمور أُخرى ، فالأولى منها في مقام بيان كون المطلقة محرمة أبداً حتّى تنكح زوجاً غيره ، والثانية في مقام بيان حكم المطلقة قبل المس ومثلها الثالثة والرابعة في مقام بيان انّ للمطلقة حقّاً خاصاً باسم المتاع ، فأين هذه الموضوعات من تجويز الطلاق ثلاثاً.

والحقّ انّ إغلاق باب الاجتهاد من أواسط القرن السابع إلى يومنا هذا صار سبباً لتدهور الاستنباط ، وإلاّ فلا يخفى ضعف هذا النوع من الاستدلال على المستنبط الملمّ بالأُصول.

الاستدلال بالسنّة

اشارة

استدلّ القائل بصحّة الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد بالسنّة :

1. خبر فاطمة بنت قيس

روى ابن حزم من طريق يحيى بن أبي كثير : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أنّ فاطمة بنت قيس أخبرته انّ زوجَها ابن حفص بن المغيرة المخزومي طلّقها ثلاثاً ، ثمّ انطلق إلى اليمن ، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في بيت ميمونة أُمّ المؤمنين فقالوا : انّ ابن حفص طلّق امرأته ثلاثاً فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «ليس لها نفقة ، وعليها العدّة». (1)

ص : 87


1- المحلى : 10 / 172.

فلو كانت التطليق ثلاثاً أمراً منكراً لأنكره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

يلاحظ عليه : أنّ ابن حزم نقل الرواية على غير وجهها ، فقد روى أحمد في مسنده بسنده عن فاطمة بنت قيس ، قالت : كنت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة ، وكان قد طلّقني تطليقتين ، ثمّ إنّه سار مع علي إلى اليمن حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فبعث بتطليقتي الثالثة. (1)

وفي سنن الدارقطني بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس أنّها أخبرته أنّها كانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة ، فطلّقها آخر ثلاث تطليقات ، فزعمت أنّها جاءت رسول الله فاستفته في خروجها من بيتها. (2)

وما نقله المحدثان دليل على أنّ التطليقات كانت متفرقة لا مجتمعة ، غير أنّ ابن حزم تغافل عن ذكر نص الحديث.

2. حديث عائشة

روى ابن حزم عن طريق البخاري عن عائشة أُمّ المؤمنين قالت : إنّ رجلاً طلّق امرأته ثلاثاً فتزوجت فطلق (3) ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أتحلّ للأوّل؟ قال : «لا حتّى يذوق عسيلتها كما ذاق الأوّل» ، فلم ينكر عليه الصلاة والسلام هذا السؤال ، ولو كان لا يجوز لأخبر بذلك. (4)

يلاحظ عليه : أنّ الرواية غير ظاهرة في أنّ التطليقات كانت مجتمعة لو لم نقل انّها ظاهرة في المتفرقة ، بشهادة وقوع الطلاق في عصر رسول الله ، وقد كان

ص : 88


1- مسند أحمد : 7 / 563 ، حديث 26789.
2- سنن الدارقطني : 4 / 29 ، كتاب الطلاق ، الحديث 80.
3- أي طلّقها الزوج الثاني.
4- المحلى : 10 / 171.

الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. (1)

3. حديث سهل

روى سهل بن سعد الساعدي قال : لاعن رسول الله بين الزبير العجلاني وزوجته ، فلمّا تلاعنا ، قال الزوج : إن أمسكتها فقد كذبت عليها ، فهي طالق ثلاثاً ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : لا سبيل لك عليها. (2)

وجه الاستدلال : انّ العجلاني كان قد طلق في وقت لم يكن له أن يطلق فيه ، فطلق ثلاثاً فبين له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حكم الوقت ، وانّه ليس له أن يطلق فيه ولم يبين له حكم العدد ، ولو كان ذلك العدد محرماً وبدعة لبيّنه.

يلاحظ عليه : بأنّه من غرائب الاستدلال فانّ الزوج إذا لاعن زوجته تحرم عليه مؤبداً. (3) فلا موضوع للنكاح والطلاق ، ولمّا كان الرجل جاهلاً بحكم الإسلام وأنّها بانت عنه باللعان من دون حاجة إلى الطلاق ، طلّقها ثلاثاً بزعم انّها زوجته على رسم الجاهلية.

وأمّا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فليس في كلامه انّه انّه صحّح قوله - بعد اللعان - فهي طالق ثلاثاً ، بل أشار إلى الحرمة الأبدية وانّها صارت محرمة على الزوج ، وقال : «لا سبيل لك عليها» ، وأين هذا من تصحيح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حكم العدد.

ص : 89


1- صحيح مسلم : 2 ، باب الطلاق الثلاث ، الحديث 15.
2- سنن البيهقي : 7 / 328.
3- اتّفقت فقهاء المذاهب الأربع على أنّ اللعان يحرم مؤبداً فلا تحلّ له أبداً حتّى وإن أكذب نفسه ، نعم قالت الحنفية بالحرمة المؤبدة إلاّ إذا أكذب نفسه. (الفقه الإسلامي وأدلّته : 7 / 177).

الاستدلال بالإجماع

استدلّ القائل بالصحّة بالإجماع وانّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ ، فقال العيني في «عمدة القارئ» :

فإن قلت : ما وجه هذا النسخ وعمر لا ينسخ؟ وكيف يكون النسخ بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟

قلت : لما خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار صار إجماعاً ، والنسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنصّ ، فيجوز أن يثبت النسخ به ، والإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور ، فإذا كان النسخ جائزاً بالخبر المشهور فجوازه بالإجماع أولى.

فإن قلت : هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم ، فلا يجوز ذلك في حقّهم.

قلت : يحتمل أن يكون ظهر لهم نصّ أوجب النسخ ، ولم ينقل إلينا ذلك. (1)

يلاحظ عليه : كيف يدّعي الإجماع وقد تواتر النصّ على أنّه كان على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحداً ، ومع ذلك كيف يدّعي الإجماع مع تحقّق الخلاف في المسألة وذهاب كثير من الصحابة والتابعين إلى عدم صحّة الطلاق ثلاثاً؟!

وأمّا التمسّك بسكوت الناس ، فهو لا يكشف عن وجود نصّ يدلّ على النسخ ، إذ لو كان هناك نص لأظهروه ، ويصل من السلف إلى الخلف قطعاً ، لأنّ المسألة ممّا يعمّ بها الابتلاء.

ص : 90


1- عمدة القارئ : 20 / 222.

ولو افترضنا وجود النصّ فكيف خفي في عصر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وعصر الخليفة الأوّل وسنتين من عصر الخليفة الثاني؟!

الاجتهاد تجاه النص

التحق النبيّ الأكرم بالرفيق الأعلى وقد برز بين المسلمين اتّجاهان مختلفان ، وفكران متباينان ، فعليّ وسائر أئمّة أهل البيت ، كانوا يتعرّفون على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية أو رواية ، ولا يعملون برأيهم بتاتاً ، وفي قبالهم لفيف من الصحابة يستخدمون الرأي للتوصّل إلى الحكم الشرعي من خلال التعرّف على المصلحة ووضع الحكم وفق متطلّباتها.

إنّ استخدام الرأي فيما لا نصّ فيه ، ووضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث والنقاش ، إنّما الكلام في استخدامه فيما فيه نص ، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص ، لا في خصوص ما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة بل حتى فيما كان فيه نصّ ودلالة.

يقول أحمد أمين المصري : ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه ، وذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة ، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك ، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث ، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه ، وهو أقرب شيء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته. (1)

إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر ، ونبذ النص

ص : 91


1- فجر الإسلام : 238 ، نشر دار الكتاب.

والعمل بالرأي أمر آخر ، ولكن الطائفة الثانية كانت تنبذ النص وتعمل بالرأي ، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة ، من هذا القبيل. وإن كنتَ في ريب من ذلك ، فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه :

1. روى مسلم عن طاوس عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر : طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم. (1)

2. وروى مسلم عن ابن طاوس عن أبيه : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وثلاثاً من (خلافة) عمر؟ فقال : نعم. (2)

3. وروى مسلم عن طاوس أيضاً : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال : قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم. (3)

وربما يقال : انّ هذه الرواية تخالف ما روي عن ابن عباس أنّه أفتى بوقوع الثلاث. قال أحمد بن حنبل : كلّ أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما رواه طاوس في هذه المسألة ، أعني بهم : سعيد بن جبير ومجاهد ونافع.

قال أبو داود في سننه : صار قول ابن عباس فيما حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن محمد بن إياس انّ ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثاً فكلّهم ، قال :

ص : 92


1- صحيح مسلم : 4 / 184 باب الطلاق الثلاث ، الحديث 31. التتايع : بمعنى التتابع في الشر.
2- صحيح مسلم : 4 / 184 باب الطلاق الثلاث ، الحديث 31. التتايع : بمعنى التتابع في الشر.
3- صحيح مسلم : 4 / 184 باب الطلاق الثلاث ، الحديث 31. التتايع : بمعنى التتابع في الشر.

لا تحلّ له حتّى تنكح زوجاً غيره. (1)

يلاحظ عليه : بأنّ المعتبر إنّما هو رواية ابن عباس وهي على بطلان الطلاق ثلاثاً ، وأمّا ما نقل عنه من الرأي وهو حجّة عليه لا على غيره ، ولو صحّ انّه أفتى على خلاف الرواية ، فلا يكون دليلاً على ضعف الرواية ، لأنّ الاحتمالات المسوّغة لترك الرواية والعدول إلى الرأي ، كثيرة منها النسيان ونظائره.

ثمّ إنّ الشوكاني بعد ما ذكر هذا الجواب قال : إنّ القائلين بالتتابع (صحّة الطلاق ثلاثاً) قد استكثروا من الأجوبة على حديث ابن عباس كلّها غير خارجة عن دائرة التعسف ، والحقّ أحقّ بالاتّباع. (2)

4. روى البيهقي ، قال : كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس ، قال : أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها ، جعلوها واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر - رضى الله عنه - وصدراً من إمارة عمر - رضى الله عنه - فلمّا رأى الناس قد تتابعوا فيها ، قال : أجيزوهن عليهم. (3)

5. أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال : لمّا كان زمن عمر - رضى الله عنه - قال : يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة وإنّه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه. (4)

6. عن طاوس قال : قال عمر بن الخطاب : قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم ، وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك. (5)

ص : 93


1- نيل الأوطار : 6 / 233.
2- نيل الأوطار : 6 / 234.
3- سنن البيهقي : 7 / 339 ؛ الدر المنثور : 1 / 279.
4- عمدة القارئ : 9 / 537 ، وقال : اسناده صحيح.
5- كنز العمال : 9 / 676 ، برقم 27943.

7. عن الحسن : أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري : لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة ، ولكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم ، فألزِمُ كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه؟ من قال لامرأته : أنت عليَّ حرام ، فهي حرام ؛ ومن قال لامرأته : أنت بائنة ، فهي بائنة ؛ ومن قال : أنت طالق ثلاثاً ، فهي ثلاث. (1)

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه ، ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط وإسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تشارك النصوص في المسألة ، كما إذا قال : الخمر حرام ، فيسري حكمه إلى كلّ مسكر أخذاً بروح القانون ، وهو أنّ علّة التحريم هي الإسكار الموجود في المنصوص وغير المنصوص ، وانّما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد تجاه النص ونبذ الدليل الشرعي ، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه ، وقد ذكروا هنا تبريرات لحكم الخليفة نذكرها تباعاً :

تبريرات لحكم الخليفة

اشارة

لمّا كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نصّ القرآن أو ظاهره ، حاول بعض المحقّقين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتّى يبرّر حكمه ويصحّحه ويخرجه عن مجال الاجتهاد تجاه النص ، بل يكون صادراً عن دليل شرعي ، وإليك بيانه :

ص : 94


1- كنز العمال : 9 / 676 ، برقم 27943.

1. نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النص

إنّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ.

فان قلت : ما وجه هذا النسخ وعمر - رضى الله عنه - لا ينسخ ، وكيف يكون النسخ بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟

قلت : لمّا خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار ، صار إجماعاً ، والنسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا ، بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به ، والإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور.

فان قلت : هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقّهم.

قلت : يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا. (1)

يلاحظ عليه أولاً : أنّ المسألة يوم أفتى بها الخليفة ، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة ، فكيف انعقد الإجماع على قول واحد؟! وقد عرفت الأقوال في صدر المسألة. ولأجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الإجماع البتة ويقول : وقد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أنّ الثلاث بلفظ واحد ، واحدة ، ولم ينقض هذا الإجماع بخلافه ، بل لا يزال في الأُمّة من يفتي به قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا. (2)

وثانياً : أنّ هذا البيان يخالف ما برّر به الخليفة عمله حيث قال : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم ، ولو كان هناك نص عند الخليفة ، لكان التبرير به هو المتعيّن.

ص : 95


1- العيني : عمدة القارئ : 9 / 537.
2- تيسير الوصول : 3 / 162.

وفي الختام نقول : أين ما ذكره صاحب العمدة ممّا ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفّى 1298 ه) حيث قال : إنّ المعروف عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعند سائر العلماء المسلمين : أنّ حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نصّ كتاب الله تعالى أو سنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وجب نقضه ومنع نفوذه ، ولا يُعارض نصّ الكتاب والسنّة بالاحتمالات العقليّة والخيالات النفسية ، والعصبيّة الشيطانية بأن يقال : لعلّ هذا المجتهد قد اطّلع على هذا النصّ وتركه لعلّة ظهرت له ، أو أنّه اطّلع على دليل آخر ، ونحو هذا ممّا لهج به فرق الفقهاء المتعصّبين وأطبق عليه جهلة المقلّدين. (1)

2. تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود الله

لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثاً في مجلس ، إلاّ عقابهم من جنس عملهم ، وتعزيرهم على ما تعدّوا حدود الله ، فاستشار أُولي الرأي ، وأُولي الأمر وقال : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فلمّا وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم وقال : أيّها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة وأنّه من تعجّل أناة الله ألزمناه إيّاه. (2)

لم أجد نصّاً - فيما فحصت - في مشاورة عمر أُولي الرأي والأمر ، غير ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري بقوله : لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة .... (3) وهو يُعرب عن عزمه وهمّه لا عن استشارته له ، ولو كان بصدد الاستشارة ، فالأجدر به أن يستشير الصحابة من المهاجرين

ص : 96


1- إيقاظ همم أُولي الأبصار : 9.
2- مسند أحمد : 1 / 314 ، برقم 2877.
3- كنز العمال : 9 / 676 ، برقم 27944.

والأنصار القاطنين في المدينة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب ، وقد كان يستشيره في مواقف خطيرة ويقتفي رأيه.

ولا يكون استعجال الناس ، مبرّراً لمخالفة الكتاب والسنّة ، بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيّئ بقوّة ومنعة ، وكيف تصحّ مؤاخذتهم بموافقتهم في عمل أسماه رسول الله لعباً بكتاب الله؟! (1)

ثمّ إنّ أحمد محمد شاكر مؤلف كتاب «نظام الطلاق في الإسلام» وإن أبدى شجاعة في هذه المسألة وأفتى ببطلان الطلاق الثلاث مطلقاً واستنبط حكم المسألة من الكتاب والسنة بوجه جدير بالاهتمام ، لكنّه برّر عمل الخليفة بوجه لا يخلو من التعسّف ، وقد صدر عمّا أجاب به ابن قيم الجوزية - كما سيوافيك كلامه - يقول :

«ولم يكن هذا الإلزام من عمر تغييراً للحكم الظاهر من القرآن ، والثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انّ الطلاق لا يلحق الطلاق ، وانّ الطلقة الأُولى ليس للمطلق بعدها إلاّ الرجعة أو الفراق ، وكذلك الثانية بعد رجعة أو زواج ، وإنّما كان إلزاماً بحكم السياسة الشرعية في النظر إلى المصالح. ممّا جعل الله للحكام بعد استشارة أُولي الأمر ، وهم العلماء وزعماء الناس وعرفاؤهم ، فقد أراد عمر والصحابة أن يمنعوا الناس من الاسترسال في الطلاق ، ومن التعجل إلى بت الفراق ، فألزموا المطلق ثلاث مرات في عدّة واحدة ما ظنّه - أو ما رغب فيه - من أنّها بانت منه بمرة ، فمنعوه من رجعتها بإرادته ومن تزويجها بعقد آخر حتّى تنكح زوجاً غيره ، ولذلك قال عمر : انّه من تعجل أناة الله في الطلاق الزمناه إياه ، فجعله إلزاماً من الإمام ومن أُولي الأمر. ولم يجعله حكماً بوقوع الطلاق الذي لم يقع ، لأنّ الأحكام

ص : 97


1- الدر المنثور : 1 / 283.

الثابتة بالكتاب والسنّة صريحاً لا يملك أحد تغييرها أو الخيار بينها وبين غيرها ، سواء أكان فرداً أم كان أُمّة مجتمعة».

يلاحظ على (1) ه أوّلاً : أنّ للحاكم الإسلامي اتّخاذ سياسة مناسبة من أجل دفع المجتمع إلى ما فيه صلاحه وزجره عمّا فيه فساده.

فالتعزيرات الشرعية معظمها من هذا الباب ويشترط فيها قبل كلّ شيء أن تكون أمراً حلالاً لا حراماً ، فلا يصحّ تعزير الناس بأمر لم يشرِّعه الشارع.

وعلى ضوء ذلك فلا يمكن أن يعد إمضاء عمر للتطليقات الثلاث سياسة شرعية ، لأنّه من قبيل دفع الناس إلى ما نهاهم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عنه وحذّرهم منه وعدّه لعباً بكتاب الله حيث قال غاضباً : «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!»

وثانياً : أنّ الصحابة والتابعين ومن تلاهم تلقوه تشريعاً قام به الخليفة لا حكماً تأديبياً ، ولذلك أخذوا به عبر القرون إلى يومنا هذا ، وما خالفه إلاّ النادر من أهل السنّة ، كابن تيمية في «الفتاوى الكبرى» ، وابن القيم في «اعلام الموقعين» و «إغاثة اللهفان».

والحقّ أن يقال : انّ إمضاء هذا النوع من الطلاق من قبل الخليفة بأيّ داع كان ، قد جرّ الويل والويلات على الأُسر والعائلات ، فصار سبباً لانفصام عُقَد الزوجية في عوائل كثيرة.

وممّا ذكرنا يظهر ضعف تبرير ابن قيم الجوزية عمل الخليفة بقوله : إنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسنّة والقياس والإجماع القديم ، ولم يأت بعده إجماع يبطله ، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر - رضى الله عنه - أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة ، فرأى من المصلحة

ص : 98


1- نظام الطلاق في الإسلام : 80.

عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أنّ أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة ، وحرّمت عليه ، حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة ، يراد للدوام لا نكاح تحليل ، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق المحرَّم ، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه ، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ وعهد الصديق ، وصدراً من خلافته كان الأليق بهم ، لأنّهم لم يتابعوا فيه وكانوا يتّقون الله في الطلاق ، وقد جعل الله لكلّ من اتّقاه مخرجاً ، فلمّا تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلّقوا على غير ما شرّعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإنّ الله شرّع الطلاق مرّة بعد مرّة ، ولم يشرّعه كلّه مرّة واحدة. (1)

وبما ذكرنا حول كلام أحمد محمد شاكر يعلم ضعفه فلا نعيد.

3. تنفيذ الطلاق ثلاثاً للحد من الكذب

وربما يقال في تبرير فعل الخليفة الثاني هو وجود الفرق بين عصر رسول الله وعصر الخليفة ، ففي عصر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان الناس في صلاح وفلاح ، وإذا قالوا : أردنا من قولنا : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، التكرير يؤخذ بقولهم ، بخلاف عصر الخليفة ، فقد فشا في عصره الفساد والكذب فكانوا يعتذرون بنفس ما كانت الصحابة يعتذرون به ، وبما انّ قسماً كثيراً منهم يكذبون في قولهم ، بالتأكيد لم يجد الخليفة بداً من الأخذ بظاهر كلامهم وهو الطلاق ثلاثاً.

وهذا الوجه نقله الشوكاني ، فقال : إنّ الناس كانوا في عهد رسول الله وعهد أبي بكر على صدقهم وسلامتهم وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار لم يظهر فيهم خب ولا خداع ، وكانوا يصدقون في إرادة التوكيد ، فلمّا رأى عمر في زمانه

ص : 99


1- اعلام الموقعين : 3 / 36.

أُموراً ظهرت وأحوالاً تغيرت وفشا إيقاع الثلاث جملة بلفظ لا يحتمل التأويل ألزمهم الثلاث في صورة التكرير ، إذ صار الغالب عليهم قصدها ، وقد أشار إليه بقوله : «إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة».

ثمّ إنّ الشوكاني ردّه - بعد نقله - حيث قال : وقد ارتضى هذا الجواب القرطبي ، وقال النووي : إنّه أصحّ الأجوبة ، ولا يخفى انّ ما جاء بلفظ يحتمل التأكيد وادعى انّه نواه يُصدَّق في دعواه ولو في آخر الدهر فكيف بزمن خير القرون ومن يليهم؟!

وإن جاء بلفظ لا يحتمل التأكيد لم يصدق إذا ادّعى التأكيد من غير فرق بين عصر وعصر. (1)

أقول : إنّ هذا التبرير - بالإضافة إلى ما ذكره الشوكاني - من قبيل دفع الفاسد بالأفسد ، وقد زاد في الطين بلّة ، حيث إنّ المجيب حاول أن يبرر عمل الخليفة ويبرّئه من الخطأ ولو على حساب كرامة قسم من الصحابة والتابعين ، حيث إنّ كثيراً منهم كان يرجع إلى الخليفة ، فكيف يرميهم بالكذب والخداع؟!

وفي الختام نأتي بكلمة قيمة للشوكاني ، فانّه بعد ما ذكر أدلّة القائلين بوقوع الطلاق ثلاثاً ، وتأويل رواية ابن عباس ، وتبرير عمل الخليفة ، قال : فإن كانت تلك المماشاة لأجل مذاهب الأسلاف فهي أحقر وأقل من أن تُؤثَر على السنّة المطهرة ، وإن كانت لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول الله ، فأيّ مسلم من المسلمين يستحسن عقله وعلمه ترجيح قول صحابي على قول المصطفى؟! (2)

ص : 100


1- نيل الأوطار : 6 / 233.
2- نيل الأوطار : 6 / 234.

نعم بعض علماء أهل السنّة في هذه العصور فنّد هذا النوع من الطلاق ، ولأجل ذلك تغيّر قانون محاكم مصر الشرعية وخالف مذهب الحنفية بعد استقلالها وتحرّرها عن سلطنة الدولة العثمانية. كما أنّ عدداً من مفتي أهل السنّة عمِد إلى تفنيد هذا النوع من الطلاق ، في هذا الإطار يقول مؤلّف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة : ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم ، فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها ، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله. (1)

4. تغيّر الأحكام بالمصالح

ولابن قيم الجوزية كلام مسهب في تحليل إمضاء عمر الطلاق ثلاثاً ، وهو يعتمد على تغيّر الأحكام بالمصالح ، ويخلط الصحيح بالسقيم ، وإليك ملخّص كلامه :

قال : الأحكام نوعان :

نوع لا يتغيّر عن حالة واحدة هو عليها ، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمّة ، كوجوب الواجبات وتحريم المحرّمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم.

والنوع الثاني : ما يتغيّر بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً ، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها - ثمّ أتى بأمثلة كثيرة في باب التعزيرات - وقال : ومن ذلك أنّه رضى الله عنه - يريد عمر بن الخطاب - لمّا رأى الناس قد

ص : 101


1- تفسير المنار : 2 / 386 ، الطبعة الثالثة - 1376 ه.

أكثروا في الطلاق ، رأى أنّهم لا ينتهون عنه إلاّ بعقوبة ، فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفّوا عنها ، وذلك :

إمّا من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس.

وإمّا ظنّاً أنّ جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال.

وإمّا لقيام مانع قام في زمنه منع من جعل الثلاث واحدة.

- إلى أن قال : - فلمّا رأى أمير المؤمنين أنّ الله سبحانه عاقب المطلِّق ثلاثاً ، بأن حال بينه وبين زوجه وحرّمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، علم أنّ ذلك لكراهة الطلاق المحرّم ، وبغضه له ، فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلّق ثلاثاً بأن ألزمه بها وأمضاها عليه. وقال :

فإن قيل : كان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ، ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله لئلاّ يقع المحذور الذي يترتّب عليه.

قيل : نعم ، لعمر الله كان يمكنه ذلك ، ولذا ندم في آخر أيامه وودَّ أنّه كان فعله ، قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر : أخبرنا أبو يعلى ، حدثنا صالح بن مالك ، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك ، عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب : ما ندمت على شيء مثل ندامتي على ثلاث : أن لا أكون حرّمت الطلاق ، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي ، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح.

وليس مراده من الطلاق الذي حرّمه ، الطلاق الرجعيّ الذي أباحه الله تعالى وعلم من دين رسول الله جوازه ، ولا الطلاق المحرّم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض والطهر المجامع فيه ، ولا الطلاق قبل الدخول ، فتبيّن قطعاً أنّه أراد تحريم الطلاق الثلاث - إلى أن قال : - ورأى عمر أنّ المفسدة تندفع

ص : 102

بإلزامهم به فلمّا تبيّن أنّ المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلاّ شدّة ، أخبر أنّ الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها ، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وأوّل خلافة عمر. (1)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من تقسيم الأحكام إلى نوعين ، صحيح. ولكن من أين علم أنّ حكم الطلاق الثلاث من النوع الثاني ، فأيّ فرق بين حكم الواجبات والمحرّمات وقوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) وكيف يتغيّر حكم وصفَ رسول الله خلافه لعباً بالدين؟

وأمّا ما ذكره من الاحتمالات الثلاثة ، فالاحتمال الأوّل هو المتعيّن وهو الموافق لكلام الخليفة نفسه ، وأمّا الاحتمالان الأخيران - أي جعل الثلاث واحدة كان مشروعاً بشرط وقد زال ، أو قام مانع عن إمضائه - فلا يعتمد عليهما ، ويبدو أن الدافع إلى تصوّر هذين الاحتمالين هو الخضوع للعاطفة وتبرير عمل الخليفة بأي نحو كان.

5. تغيّر الأحكام حسب مقتضيات الزمان

إنّ الأحكام التي تتغيّر بتغيّر الزمان وتبدّل الظروف ، عبارة عن الأحكام التي حُدّد جوهرها برعاية المصالح ، وتركت خصوصياتها وأشكالها إلى رأي الحاكم الإسلامي ، فهذا النوع من الأحكام يتعرّض للتغيّر دون ما قام الشارع بتحديد جوهره وشكله وكيفيته ، ولم يترك للحاكم الإسلامي أيّ تدخّل فيه ، والأحكام

ص : 103


1- إعلام الموقعين : 3 / 36 ، وأشار إليه أيضاً في كتابه «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» : 1 / 336.

الواردة في الأحوال الشخصية من هذا القبيل ، فليس للحاكم التدخل في أحكام النسب والمصاهرة والرضاع والعدد ، فليس له أن يحرّم ما أحلّ الله عقوبة للخاطئ وبالعكس ، وإنّما هي أحكام ثابتة لا تخضع لرأي حاكم وغيره.

وأمّا ما يجوز للحاكم التدخل فيه فهو عبارة عن الأحكام التي تركت خصوصياتها وأشكالها إلى الحاكم ، ليصون مصالح الإسلام والمسلمين ، بما تقتضيه الظروف السائدة ، وإليك نزراً يسيراً منها ، لئلاّ يخلط أحدهما بالآخر :

1. في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية : يجب على الدولة الإسلامية أن تراعي مصالح الإسلام والمسلمين ، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامة ، وأمّا كيفية تلك الرعاية ، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية ، فتارة تقتضي المصلحة ، السلام والمهادنة والصلح مع العدو ، وأُخرى تقتضي ضد ذلك.

وهكذا تختلف المقررات والأحكام الخاصّة في هذا المجال ، باختلاف الظروف ، ولكنّها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي هو رعاية مصالح المسلمين ، كقوله سبحانه :

(وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً). (1)

وقوله سبحانه : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (2)

2. العلاقات الدولية التجارية : فقد تقتضي المصلحة عقد اتّفاقيات

ص : 104


1- النساء : 141.
2- الممتحنة : 98.

اقتصادية وإنشاء شركات تجارية أو مؤسّسات صناعية ، مشتركة بين المسلمين وغيرهم ، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك. ومن هذا الباب حكم الإمام المغفور له ، الفقيه المجدّد السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتّفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وانجلترا ، إذ كانت مجحفة بحقوق الأُمّة المسلمة الإيرانية ، لأنّها خوّلت لانجلترا حقّ احتكار التنباك الإيراني.

3. الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلال البلاد وصيانة حدودها من الأعداء ، قانون ثابت لا يتغيّر ، فالمقصد الأسنى لمشرّع الإسلام ، إنّما هو صيانة السيادة من خطر الأعداء وأضرارهم ، ولأجل ذلك أوجب تحصيل قوة ضاربة ، وإعداد جيش عارم جرّار ، ضدّ الأعداء كما يقول سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (1) ، فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام الذي يؤيده العقل والفطرة ، أمّا كيفيّة الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح ، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه ، فكلّها موكولة إلى مقتضيات الزمان ، تتغيّر بتغيّره ، ولكن في إطار القوانين العامة ، فليس هناك في الإسلام أصل ثابت ، حتى مسألة لزوم التجنيد الإجباري ، الذي أصبح من الأُمور الأصلية في غالب البلاد.

وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب أو وضع كتاب خاص ، لأحكام السبق والرماية ، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة ، ونقل أحاديث في ذلك الباب عن الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - وأئمّة الإسلام فليست أحكامها أصلية ثابتة في الإسلام ، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة ، بل كانت نوعاً من أنواع التطبيق لذلك الحكم ، الغرض منه تحصيل القوّة الكافية تجاه العدو في تلك العصور ، وأمّا الأحكام التي ينبغي أن تطبّق في العصر الحاضر ، فإنّها

ص : 105


1- الأنفال : 60.

تخضع تفرضها لمقتضيات العصر نفسه. (1)

فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه وقواته المسلحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الإسلام ومعتنقيه عن الخطر ، ويصدّ كلّ مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب إمكانيات الوقت.

والمقنّن الذي يتوخّى ثبات قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به ، لا يجب عليه التعرّض إلى تفاصيل الأُمور وجزئياتها ، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات والأُصول ليساير قانونه جميع الأزمنة بأشكالها وصورها المختلفة ، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظّه من البقاء قليلاً جدّاً.

4. نشر العلم والثقافة واستكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع مادياً ومعنوياً يعتبر من الفرائض الإسلامية ، أمّا تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدّد بحدّ خاص ، بل يوكل إلى نظر الحاكم الإسلامي ، واللّجان المقررة لذلك من جانبه حسب الإمكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة.

وبالجملة : فقد ألزم الإسلام ، رعاة المسلمين ، وولاة الأمر نشر العلم بين أبناء الإنسان واجتثاث مادة الجهل من بينهم ومكافحة أيّ لون من الأُميّة ، وأمّا نوع العلم وخصوصياته ، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي وهو أعلم

ص : 106


1- قال المحقق في «الشرائع» : 152 : وفائدة السبق والرماية : بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال وهي معاملة صحيحة. وقال الشهيد الثاني : في «المسالك» في شرح عبارة المحقّق : لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد ، بل أمر به النبي في عدّة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة وهي من أهم الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدو في الجهاد لأعداء الله تعالى. الذي هو أعظم أركان الإسلام ولهذه الفائدة يخرج عن اللهو واللعب المنهى عن المعاملة عليهما. فإذا كانت الغاية من تشريعها الاستعداد للقتال والتدرّب للجهاد ، فلا يفرق عندئذ بين الدارج في زمن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره أخذاً بالملاك المتيقّن.

بحوائج عصره.

فربّ علم ، لم يكن لازماً ، لعدم الحاجة إليه ، في العصور السابقة ، ولكنّه أصبح اليوم في طليعة العلوم اللازمة ، التي فيها صلاح المجتمع ، كالاقتصاد والسياسة.

5. حفظ النظام وتأمين السبل والطرق ، وتنظيم الأُمور الداخلية ورفع المستوى الاقتصادي و... من الضروريات ، فيتبع فيه وأمثاله ، مقتضيات الظروف وليس فيه للإسلام حكم خاص يتبع ، بل الذي يتوخّاه الإسلام ، هو الوصول إلى هذه الغايات ، وتحقيقها بالوسائل الممكنة ، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل وإنّما ذلك متروك إلى إمكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر ، وكلّها في ضوء القوانين العامة.

6. قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال ، وهو قوله سبحانه : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ، وقد فرع الفقهاء على هذا الأصل شرطاً في صحّة عقد البيع أو المعاملة فقالوا : يشترط في صحّة المعاملة وجود فائدة مشروعة وإلاّ فلا تصح المعاملة ، ومن هنا حرّموا بيع (الدم) وشراءه.

إلاّ أنّ تحريم بيع الدم وشرائه ليس حكماً ثابتاً في الإسلام ، بل التحريم كان في الزمان السابق صورة إجرائية لما أفادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل ، وكان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقاً له ، فالحكم يدور مدار وجود الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) وعدم تحقّق الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) فلو ترتّبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شرائه فسوف يتبدّل حكم الحرمة إلى الحلّية ، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

ص : 107

وفي هذا المضمار ورد أنّ علياً - عليه السلام - سئل عن قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - : غيّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود؟ فقال - عليه السلام - : «إنّما قال - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك والدين قُلٌّ ، فأمّا الآن فقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامْرؤٌ وما اختار». (1)

هذا ولمّا كان الحكم بصحة الطلاق ثلاثاً ، مثيراً للفساد ، عبر التاريخ ، قام ابن قيم - مع تبريره عمل الخليفة بما ذكر - ببيان ما ترتّب عليه من شماتة أعداء الدين به ، وها نحن ننقل نصّ كلامه :

جزاء الانحراف عن الطريق المهيع

إنّ ابن القيم - كما عرفت - كان من المدافعين المتحمّسين عن فتيا الخليفة ، وقد برّر حكمه بأنّ المصلحة يوم ذاك كانت تقتضي الأخذ بما التزم به المطلّق على نفسه ، وقد عرفت ضآلة دفاعه ووهن كلامه ، ولكنّه ذكر في آخر كلامه بأنّ المصلحة في زماننا هذا على عكس ما كان عليه زمن الخليفة ، وأنّ تصحيح التطليق الثلاث ، جرّ الويلات على المسلمين في أجوائنا وبيئاتنا ، وصار سبباً لاستهزاء الأعداء ، بالدين وأهله ، وأنّه يجب في زماننا هذا الأخذ بمُرّ الكتاب والسنّة ، وهو أنّه لا يقع منه إلاّ واحد.

ولكنّه غفل عمّا هو الحق في المقام وأنّ المصلحة في جميع الأزمنة كانت على وتيرة واحدة ، وأنّ ما حدّه سبحانه من الحدود ، هو المطابق لمصالح العباد ومصائرهم ، وأنّ الشناعة والاستهزاء اللَّتين يذكرهما ابن قيم الجوزية إنّما نجمتا من الانحراف عن الطريق المهيَع والاجتهاد تجاه النص بلا ضرورة مفضية إلى العدول ومن دون أن يكون هناك حرج أو كلفة ، ولأجل ذلك نأتي بكلامه حتى يكون عبرة

ص : 108


1- نهج البلاغة ، الحكمة رقم 16. لاحظ كتابنا مفاهيم القرآن : 3 / 265 - 275.

لمن يريد في زماننا هذا أن يتلاعب بالأحكام الشرعية بهذه المصالح المزعومة ، وإليك نصّ كلامه :

هذه المسألة ممّا تغيّرت الفتوى بها بحسب الأزمنة وأمّا في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربّها من مفسدة التحليل ، وقبح ما يرتكبه المحلّلون ممّا هو رمد بل عمى في عين الدين ، وشجىً في حلوق المؤمنين ، من قبائح تشمّت أعداء الدين بها ، وتمنع كثيراً ممّن يريد الدخول فيه بسببه ، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب ، ولا يحصرها كتاب ، يراها المؤمنون كلّهم من أقبح القبائح ويعدّونها من أعظم الفضائح ، قد قلبت من الدين رسمه ، وغيّرت منه اسمه ، وضمخ التيس المستعار فيها المطلّقةَ بنجاسة التحليل ، وقد زعم أنّه قد طيّبها للحليل ، فيا لله العجب! أيّ طيب أعارها هذا التيس الملعون؟! وأيّ مصلحة حصلت لها ولمطلِّقها بهذا الفعل الدون؟!

أترى وقوف الزوج المطلِّق أو الولي على الباب ، والتيس الملعون قد حلّ أزرارها وكشف النقاب ، وأخذ في ذلك المرتع ، والزوج أو الولي يناديه : لم يُقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع ، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ، وربّ العالمين ، أنّك لست معدوداً من الأزواج ، ولا للمرأة أو أوليائها بك رضاً ولا فرح ولا ابتهاج ، وإنّما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب ، الذي لو لا هذه البلوى لما رضينا وقوفك على الباب ، فالناس يُظهرون النكاح ويُعلنونه فرحاً وسروراً ، ونحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال ، ونجعله أمراً مستوراً بلا نثار ولا دف ، ولا خوان ولا اعلان ، بل التواصي بهس ومس والاخفاء والكتمان ، فالمرأة تنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها.

والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك ، فانّه لا يُمسك بعصمتها ، بل

ص : 109

قد دخل على زوالها ، والله تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكناً لصاحبه ، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم ، وتتم بذلك المصلحة التي شرّعه لأجلها العزيز الحكيم.

فسل التيس المستعار : هل له من ذلك نصيب ، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب؟! وسله : هل اتّخذ هذه المصابة حليلة وفراشاً يأوى إليه؟ هل رضيت به قط زوجاً وبعلاً تعول في نوائبها عليه؟! وسل أُولي التمييز والعقول : هل تزوّجت فلانة بفلان؟! وهل يعد هذا نكاحاً في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؟ وكيف يلعن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رجلاً من أُمّته نكح نكاحاً شرعياً صحيحاً ، ولم يرتكب في عقده محرماً ولا قبيحاً؟! وكيف يشبهه بالتيس المستعار ، وهو من جملة المحسنين الأبرار؟! وكيف تعيّر به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران ، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان؟! وسل التيس المستعار : هل حدّث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق ، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق؟! وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك ، أو حدّثت نفسها به هنالك؟! وهل طلب منها ولداً نجيباً واتّخذته عشيراً وحبيباً؟!

وسل عقول العالمين وفطرهم : هل كان خير هذه الأُمّة أكثرهم تحليلاً ، وكان المحلّل الذي لعنه الله ورسوله أهداهم سبيلاً؟ وسل التيس المستعار ومن ابتليت به : هل تجمّل أحد منهما لصاحبه كما يتجمّل الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسب أو مال أو جمال؟ وسل المرأة : هل تكره أن يتزوّج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرّى ، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أُخرى ، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشيرته وسعة نفقته؟! وسل التيس المستعار : هل سأل قط عمّا يسأله عنه مَن قصد حقيقة النكاح ، أو يتوسل إلى بيت أحمائه

ص : 110

بالهدية والحمولة ، والنقد الذي يتوسّل به خاطب الملاح؟ وسله : هل هو «أبو يأخذ» أو «أبو يعطي»؟ وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد : خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟ وسله : هل تحمّل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟

وسله عن وليمة عرسه ، هل أولم ولو بشاة؟ وهل دعا إليها أحداً من أصحابه فقضى حقّه وأتاه؟ وسله : هل تحمّل من كلفة هذا العقد ما يتحمّله المتزوّجون ، أم جاءه - كما جرت به عادة الناس - الأصحاب والمهنئون؟ وهل قيل له بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية ، أم لعن الله المحلِّل والمحلَّل له لعنة تامة وافية؟ (1)

يلاحظ عليه : أنّ العار الذي - على زعمه - دخل الإسلام رهن تصحيح الطلاق ثلاثاً ، وأنّ الطلاق الواحد حقيقة يعد ثلاثاً ، وأمّا ما شرّعه الذكر الحكيم من توقّف صحّة النكاح بعد التطليقات الثلاث على المحلّل فهو من أفضل قوانينه المشرقة ، وأرسخها وأتقنها فلا يدخل العار من جانبه على الإسلام أبداً ، وذلك :

أوّلاً : أنّه يصد الزوج عن الطلاق الثالث لما يعلم أنّ النكاح بعده يتوقّف على التحليل الذي لا يتحمّله أكثر الرجال.

وثانياً : أنّه لا يقوم به إلاّ إذا يئس من التزويج المجدّد ، لأنّ التجارب المتكرّرة ، أثبتت أنّ الزوجين ليسا على شاكلة واحدة من جانب الأخلاق والروحيات فلا يُقدِم على الطلاق إلاّ إذا كان آيساً من الزواج المجدّد وقلّما يتّفق تجدد الجنوح إلى بناء البيت بالزوجة التي طلّقها ثلاثاً لو لم نقل إنّه يندر جداً -

ص : 111


1- اعلام الموقّعين : 3 / 4341. ولاحظ إغاثة اللهفان له أيضاً : 1 / 312.

فعند ذاك تقل الحاجة إلى المحلّل جداً ، وهذا بخلاف تصحيح الطلاق الواحد ، ثلاثاً ، فكثيراً ما يندم الزوج من الطلاق ويريد إعادة بناء البيت الذي هدمه بالطلاق - وهو حسب الفرض يتوقّف على المحلّل الذي يلصق العار بهما ويترتّب عليه ما ذكره ابن قيم الجوزية في كلامه المسهب.

وفي كلامه ملاحظات أُخرى تركناها خصوصاً في تصويره المحلّل كأنّه الأجير للتحليل ، ويتزوّج لتلك الغاية ، وهو تصوير خاطئ جداً ، بل يتزوج بنفس الغاية التي يتزوّج لأجلها سائر النساء ، غير أنّه لو طلّق الزوجة عن اختيار يصير حلالاً للزوج السابق ، وأين ذلك ممّا جاء في كلامه؟!

ص : 112

17- الطلاق المعلّق

اشارة

ص : 113

ص : 114

الطلاق المعلّق

ينقسم الطلاق إلى منجَّز ومعلّق ، والأوّل هو الطلاق الخالي في صيغته عن التعليق ، والثاني على خلافه فيكون مضمون صيغة الطلاق ، مقروناً بحصول أمر آخر ، سواء أكان ذلك الأمر ، فعلَ المطلِّق أو فعلَ المطلَّقة أو غيرهما. إذا عرفت ذلك فنقول :

هل يشترط في صحّة الطلاق ، التنجيز ، أو يصحّ مع التعليق أيضاً ، كما إذا قال : أنت طالق إن طلعت الشمس ، أو أنت طالق إن قدم الحاج؟

والجواب : إنّ الطلاق المعلّق على قسمين :

1. قسم يعلّق على غير وجه اليمين وهذا كما في المثالين السابقين ، ومثلهما ما إذا قال : إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ، أو إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق.

2. قسم يعلّق على وجه اليمين وهو الذي يُقصد به الحثّ أو المنع ، كما إذا قال : إن كلّمتِ فلاناً فأنت طالق ، أو إن ذهبت إلى دار عدوي فأنت طالق ، وربّما يكون المقصود حمل المخاطب على الثقة بكلام الحالف فيقول مثلاً عند نقطة التفتيش : «ليس في حقيبتي ما هو ممنوع ولو كان فزوجتي طالق».

ونركز على البحث في القسم الأوّل ونحيل البحث في القسم الثاني ، إلى المسألة الآتية.

ص : 115

فنقول : إنّ للشروط تقسيمات :

1. ما تتوقّف عليه صحّة الطلاق ككونها زوجة - ويقول : إن كنت زوجتي فأنت طالق - وما لا تتوقف عليه كقدوم الحاج.

2. ما يعلم المطلق بوجوده عند الطلاق ، كتعليقه بكون هذا اليوم يوم الجمعة ، وأُخرى ما يشكّ في وجوده.

3. ما يذكر في الصيغة تبركاً ، لا شرطاً وتعليقاً كمشيئته سبحانه ، كما إذا قال : إن شاء الله فأنت طالق.

ومورد البحث هو القسم الثاني ، أمّا الأوّل فالطلاق معلّق على مثل هذا الشرط لبّاً ، سواء تكلم به أو لا ، وأمّا الثالث فانّما يذكر تبركاً ، لا اشتراطاً ، وهو كثير الدوران على لسان المسلمين.

إذا عرفت ذلك ، نقول : إنّ بطلان الطلاق المعلّق من متفردات الفقه الإمامي ، وإليك بعض كلمات فقهائنا :

1. قال السيد المرتضى : ممّا انفردت الإمامية به القول بأنّ الطلاق لا يقع مشروطاً وإن وجد شرطه ، وخالف باقي الفقهاء في ذلك وأوقعوا الطلاق عند وقوع شرطه الذي علّقه المتلفظ. (1)

2. قال الشيخ في «الخلاف» : إذا قال لها أنت طالق ، إذا قدم فلان ، فقدم فلان لا يقع طلاقه ، وكذلك لو علّقه بشرط من الشروط أو بصفة من الصفات المستقبلة فانّه لا يقع أصلاً ، لا في الحال ولا في المستقبل حين حصول الشرط والصفة وقال جميع الفقهاء : انّه يقع إذا حصل الشرط. (2)

ص : 116


1- الانتصار ، كتاب الطلاق ، المسألة 16.
2- الخلاف : الجزء 4 ، كتاب الطلاق ، المسألة 12.

وبما انّ المسألة عندنا موضع وفاق نقتصر على هذا المقدار ، وقد وافقَنا فيها الظاهريّة ، قال ابن حزم - الذي يُمثِّل فقهُه ، فقه الظاهريين - : إذا قال : إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ، أو ذكر وقتاً ما ، فلا تكون طالقاً بذلك لا الآن ولا إذا جاء رأس الشهر. برهان ذلك : انّه لم يأت قرآن ولا سنّة بوقوع الطلاق بذلك ، وقد علّمنا الله الطلاق على المدخول بها وفي غير المدخول بها ، وليس هذا فيما علّمنا (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). (1)

وقال السبكي : قد أجمعت الأُمّة على وقوع المعلّق كوقوع المنجّز ، فإنّ الطلاق ممّا يقبل التعليق ، ولا يظهر الخلاف في ذلك إلاّ عن طوائف من الروافض ، ولما حدث مذهب الظاهريّين المخالفين لإجماع الأُمّة المنكرين للقياس خالفوا ذلك - إلى أن قال - : ولكنّهم قد سبقهم الإجماع. (2)

أدلّة القائل بالبطلان

الأوّل : الطلاق المشروط غير مسنون

إنّ تعليق الطلاق بالشرط غير مسنون ، والمشروع في كيفية الطلاق غيره ، فيجب أن لا تتعلّق به حكم الفرقة ، لأنّ الفرقة حكم شرعي ، والشرع هو الطريق إليه ، وإذا انتفى الدليل الشرعي ، انتفى الحكم الشرعي.

الثاني : مقتضى الاستصحاب بقاء الزوجية

ثبوت الزوجية متيقّن ، فلا ينتقل عنه إلى التحريم إلاّ بيقين ولا يقين في

ص : 117


1- المحلّى : 10 / 213 ، المسألة 1970.
2- الدرة المضيئة : 155 - 156.

الطلاق المشروط. (1)

وإلى الأخير أشار الشيخ الطوسي أيضاً في خلافه فقال : الأصل بقاء العقد ، وإيقاع هذا الضرب من الطلاق يحتاج إلى دليل ، والشرع خال من ذلك. (2)

وإلى الوجه الأوّل يشير ابن حزم فيقول : وبرهان عدم الصحة انّه لم يأت قرآن ولا سنّة بوقوع الطلاق بذلك ، وقد علّمنا الله الطلاق على المدخول بها ، وفي غير المدخول بها ، وليس هذا فيما علمنا (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). (3)

وتوضيح الوجه الأوّل : أنّ الطلاق ليس كالبيع والإجارة ، حيث إنّ الأخيرين من الأُمور العقلائية ، التي عليها رحى معاشهم وحياتهم فيُتّبع ما عليه العقلاء في ذينك الأمرين إلاّ إذا دلّ الدليل على اعتبار شيء زائد ، وهذا بخلاف الطلاق فهو وإن كان أمراً عرفياً ، لوجود الطلاق بين الناس قبل بزوغ شمس الإسلام لكن الإسلام تصرف فيه كثيراً ، وحدّ له حدوداً ، يظهر ذلك من مطالعة الآيات الواردة في سورة البقرة ، الآيات 226 - 232 ، والآية 237 والآية 241 ، والآية 49 من سورة الأحزاب ، والآية 31 من سورة الطلاق ، كلّ ذلك أضفى على الطلاق حقيقة وماهية ، تختلف مع تلك التي بين العقلاء ، فلا يتمسّك بما في يد العقلاء لتجويز ما شكّ ، بل يجب أن يرجع إلى الشرع ، فان تبيّن حكم الطلاق المعلّق فيُتبع ، وإلاّ فالحكم هو الاحتياط.

يقول الفقيه الفقيد الشيخ محمد جواد مغنية - رضوان الله عليه - : إنّ الإمامية يضيّقون دائرة الطلاق إلى أقصى الحدود ، ويفرضون القيود الصارمة على المطلِّق والمطلَّقة ، وصيغة الطلاق وشهود ، كلّ ذلك لأنّ الزواج عصمة ومودة ورحمة

ص : 118


1- الانتصار : 298 - 299.
2- الخلاف : 4 / 458.
3- المحلّى : 10 / 213 ، المسألة 1970.

وميثاق من الله ، قال الله تعالى : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (1) ، وقال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). (2) إذن لا يجوز بحال أن ننقض هذه العصمة والمودة والرحمة ، وهذا العهد والميثاق ، إلاّ بعد أن نعلم علماً قاطعاً لكلّ شك ، بأنّ الشرع قد حلّ الزواج ، ونقضه بعد أن أثبته وأبرمه. (3)

هذا كلّه حول الدليل الأوّل ، وأمّا الثاني أي التمسّك بالاستصحاب وبقاء العقد ، فكأنّه مكمّل له ، فإذا شككنا في بقاء العقد ونقضه ، فالاستصحاب هو المحكم ، إلاّ إذا دلّ الدليل على نقض الحالة السابقة.

الثالث : الطلاق المعلّق خارج عن القسمين

دلّ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (4) على أنّ الطلاق يجب أن يتمتع بأحد الأمرين : إمساك بمعروف بالرجوع إليها ، أو تسريح بإحسان بتركها على حالها حتى تنقضي عدّتها ، والطلاق بالأجل والشرط ، خارج عن كلا القسمين ، فلو قال في أوّل السنة : أنت طالق في نهاية السنة ، أو أنت طالق عند رجوع الحجاج ، فالمرأة لا مأخوذة ولا متروكة حتّى تنقضي عدّتها ، لاحتمال عدم حصول المعلّق ، فتبقى في الزوجية.

الرابع : المطلّقة أشبه بالمعلّقة

إنّ عناية الإسلام بنظام الأُسرة الذي أُسّه النكاح والطلاق ، تقتضي أن يكون

ص : 119


1- النساء : 21.
2- الروم : 21.
3- الفقه على المذاهب الخمسة : 414.
4- البقرة : 229.

الأمر فيها منجّزاً لا معلّقاً ، فإنّ التعليق ينتهي إلى ما لا تحمد عاقبته من غير فرق بين النكاح والطلاق ، فالمرء إمّا إن يقدم على النكاح والطلاق أو لا ، فعلى الأوّل ينكح أو يطلّق بتاتاً ، وعلى الثاني يسكت حتّى يحدث بعد ذلك أمراً ، والتعليق في النكاح والطلاق لا يناسب ذلك الأمر الهامّ ، فقد قال سبحانه : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً). (1)

والله سبحانه يشبّه المرأة التي يترك الزوج أداء حقّها الواجب عليه ، بالمعلّقة التي هي لا ذات زوج ولا أيّم ، فالمنكوحة معلّقاً ، أو المطلّقة كذلك ، أشبه شيء بالمعلّقة الواردة في الآية ، فهي لا ذات زوج ولا أيّم.

الخامس : إجماع أئمّة أهل البيت - عليهم السلام -

يظهر من مجموع الروايات الواردة في هذه المسألة وما يتلوها ، إجماع أئمّة أهل البيت على بطلان الطلاق المعلّق.

روى بكير بن أعين عن أحدهما - عليهما السلام - أنّه قال : «ليس الطلاق إلاّ أن يقول الرجل لها - وهي طاهر من غير جماع - : أنت طالق ، ويشهد شاهدي عدل ، وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى». (2)

وأيّ تعبير أوضح من قوله : «وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى» مع شيوع الطلاق المعلق خصوصاً قسم الحلف في أعصارهم.

فإذا أضيف إلى ذلك ما روي عنهم - عليهم السلام - في بطلان الحلف بالطلاق ،

ص : 120


1- النساء : 129.
2- وسائل الشيعة : 15 ، الباب 16 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ، الحديث 1.

لأصبح الحكم واضحاً ، لأنّ الحلف قسم من أقسام الطلاق المعلّق.

نعم ربّما استدلّ ببعض الوجوه العقلية على البطلان ، وهي ليست تامّة عندنا ، نظير :

أ. إنّ الطلاق المعلّق من قبيل تفكيك المنشأ عن الإنشاء ، لأنّ المفروض عدم وقوعه قبل الشرط ، فيلزم تفكيك المنشأ عن الإنشاء.

وأنت خبير بعدم استقامة الدليل ، فإنّ المنشأ بعد الإنشاء محقّق من غير فرق بين المنجّز والمعلّق ، غير أنّ المنشأ تارة يكون منجّزاً وأُخرى معلّقاً ، وفائدة الإنشاء أنّه لو تحقّق المعلّق عليه لا يحتاج إلى إنشاء جديد.

ب. ظاهر الأدلّة ترتّب الأثر على السبب فوراً ، فاشتراط تأخّره إلى حصول المعلّق عليه ، خلاف ظاهر الأدلّة.

يلاحظ عليه : أنّه ليس في الأدلّة ما يثبت ذلك ، فالوارد في الأدلّة هو لزوم الوفاء بالإنشاء غير أنّ الوفاء يختلف حسب اختلاف مضمونه.

وبذلك يظهر عدم صحّة الاستدلال على البطلان بما في «المحلّى» حيث قال : فإن كلّ طلاق لا يقع حين إيقاعه فمن المحال أن يقع بعد ذلك في حين لم يوقعه فيه. (1)

أدلّة القائل بالصحّة

استدلّ القائل بالصحّة بوجوه :

1. إطلاق قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) حيث لم يفرق بين منجز ومعلّق. (2)

ص : 121


1- المحلى : 10 / 213 ، المسألة 1970.
2- الفقه الإسلامي وأدلته : 7 / 448.

يلاحظ عليه : أنّ من شرائط التمسك بالإطلاق أو من شرائط انعقاد الإطلاق كون المتكلّم بصدد بيان حكم الأمر المشكوك فيه ، حتّى يستدلّ بسكوته على التسوية بين الأمر المشكوك فيه وغيره ، كما في قوله : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) (1) فإذا شكّ في شرطية الإيمان في تحرير الرقبة ، يحكم بعدم الشرطية بإطلاق الآية.

وأمّا إذا لم يكن بصدد بيان حكم الأمر المشكوك فيه فلا يستدلّ بسكوته وعدم تعرّضه على التسوية كما في المقام ، حيث إنّ قوله سبحانه بصدد بيان عدد الطلاق وانّه مرتان ، وليس بصدد بيان كيفيته من حيث التنجيز والتعليق حتّى يتمسك بإطلاقه.

وكون المتكلّم في بيان المقام من مقدمات انعقاد الإطلاق كما هو محرر في محله.

2. المسلمون عند شروطهم ، والطلاق المعلّق من قبيل الأُمور المشروطة.

يلاحظ عليه : أنّ قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «المسلمون عند شروطهم» ضابطة شرعية يستدلّ بها إذا شكّ في لزوم العمل بالشرط وعدمه ، - بعد ثبوت صحة الاشتراط - كما إذا اشترطت الزوجة في عقد النكاح أن لا يمنعها الزوج من مواصلة الدراسة أو العمل في خارج البيت إذا لم يكن مخلاً بحقّ الزوج ففي مثل هذا المورد - بعد ثبوت أصل مشروعية التعليق - يتمسك بالكبرى ويلزم الزوج بالعمل بالشرط.

وأمّا إذا شكّ في جواز أصل تعليق الإنشاء ، وانّه هل يصحّ أو لا ، لاحتمال خصوصية في الطلاق ، فلا يتمسك بالكبرى لإثبات أصل مشروعية الصغرى ، وهذا واضح لمن له إلمام بالأُصول.

ص : 122


1- المجادلة : 3.

ونظير الشرط ، النذر ، والعهد واليمين ، فإنّما يستدلّ بكبرياتها على لزوم العمل إذا ثبتت المشروعية ، وأمّا إذا شكّ في صحّة النذر ، فلا يتمسك بالكبرى لإثبات صحة الصغرى ، فلو نذر أن يتوضأ بالماء المضاف ، أو بالنبيذ ، فلا يصلح قوله : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) (1) لإثبات مشروعية التوضّؤ بهما.

3. انّ القائلين بالصحّة استدلوا بآثار وفتاوى من ابن مسعود ، وأبي ذرّ الغفاري ، وعائشة ، والحسن البصري وغيرهم من الفقهاء ، ومعلوم أنّ أقوالهم وآراءهم حجّة على أنفسهم لا على غيرهم ما لم يثبت صدورها عن المعصوم.

ص : 123


1- الحج : 29.

ص : 124

18- الحلف بالطلاق

اشارة

ص : 125

ص : 126

الحلف بالطلاق

قد عرفت أنّ الحلف بالطلاق من أقسام الطلاق المعلّق ويفارق المسألة السابقة في انّ الغاية فيها ربط مضمون صيغة الطلاق بفعل المطلّق أو المطلّقة أو غيرهما كطلوع الشمس وقدوم الحاج من دون أن يكون فيه حث على الفعل أو منع عنه ، بخلاف الحلف بالطلاق ، فانّ الغاية فيه هو الحث أو المنع من العمل ، أو حمل المخاطب على الثقة بكلامه ، وإنّما سمّي حلفاً تجوّزاً لمشاركته الحلف في الغاية وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر ، كقوله «والله لأفعلن» وليس في الواقع حلفاً.

وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً :

الأوّل : ليس للطلاق إلاّ صيغة واحدة

ذهبت الإمامية تبعاً لأئمة أهل البيت - عليهم السلام - إلى أنّه ليس للطلاق إلاّ صيغة واحدة. روى بكير بن أعين عن أحدهما - عليهما السلام - قال : «ليس الطلاق إلاّ أن يقول الرجل لها - وهي طاهر من غير جماع - : أنت طالق ، ويشهد شاهدي عدل ، وكلّ ما سوى ذلك فهو ملغى». (1)

خلافاً لأهل السنّة فقد أجازوا الطلاق بكلّ ما دلّ عليه لفظاً ، وكتابة ،

ص : 127


1- وسائل الشيعة : 15 ، الباب 16 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ، الحديث 1.

وصراحة ، وكناية مثل : أنت عليّ حرام ، أو أنت بريّة ، أو اذهبي فتزوجي ، أو حبلك على غاربك ، أو الحقي بأهلك ، إلى غير ذلك من الصيغ. وللبحث في تعيّن الصيغة الواحدة أو كفاية كلّ ما دلّ على الطلاق ، مقام آخر.

الثاني : تسويد الصفحات بأقسام الحلف بالطلاق

ذهبت الإمامية إلى بطلان الحلف بالطلاق ، لأنّه من أقسام المعلّق الذي أوضحنا حاله ، وبذلك أراحوا أنفسهم من تسويد الصفحات الطوال العراض بأقسام الحلف بالطلاق ، في حين زخرت كتب فقهاء السنّة بآراء وفتاوى لم يبرهنوا عليها بشيء من الكتاب والسنّة ، والراجع إلى تلك الصفحات التي ربما تستغرق 45 صفحة يذعن بأنّ الطلاق أُلعوبة يتلاعب بها الرجل بصور شتى ، وإن كنت في شك من ذلك فلاحظ الكتابين المعروفين :

1. المغني : تأليف محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة (المتوفّى عام 620) وهو أوسع كتاب فقهي ظهر عند الحنابلة مع الترجيح بين الأقوال بالدليل المقنع لهم. فقد خصّص (45) صفحة من كتابه لهذا النوع من الصيغ. (1)

2. الفقه على المذاهب الأربعة : تأليف الشيخ عبد الرحمن الجزيري ، ألّفه ليعرض الفقه بثوبه الجديد على الجيل الجديد ، ومع ذلك تجد قد خصّص لهذا النوع من صور الطلاق صفحات كثيرة. (2) وإليك نماذج من هذه الصور حتى تقف على صدق ما قلناه ؛ ننقلها من «المغني» لابن قدامة.

1. إن قال لامرأتيه : كلّما حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان ، ثمّ أعاد ذلك ثلاثاً ، طلّقت كل واحدة منهما ثلاثاً.

ص : 128


1- لاحظ الجزء السابع 369 - 414 بتصحيح الدكتور محمد خليل هراس.
2- الفقه على المذاهب الأربعة ، الجزء الرابع.

2. إن قال لإحداهما : إن حلفت بطلاقك ، فضرّتك طالق ، ثمّ قال للأُخرى مثل ذلك ...

3. وإن كان له ثلاث نسوة فقال : إن حلفتُ بطلاق زينب ، فعمرة طالق ، ثم قال : وإن حلفت بطلاق عمرة ، فحفصة طالق ، ثمّ قال : إن حلفت بطلاق حفصة ، فزينب طالق ، طلّقت عمرة ، وإن جعل مكان زينب عمرة طلّقت حفصة ، ثمّ متى أعاده بعد ذلك طلّقت منهنّ واحدة ...

4. ومتى علّق الطلاق على صفات فاجتمعن في شيء واحد وقع بكلّ صفة ما علّق عليها كما لو وجدت متفرّقة وكذلك العتاق ، فلو قال لامرأته : إن كلّمت رجلاً فأنت طالق ، وإن كلّمت طويلاً فأنت طالق ، وإن كلّمت أسود فأنت طالق ، فكلّمت رجلاً أسود طويلاً ، طلّقت ثلاثاً. (1)

إلى غير ذلك من الصور التي لا يترتب على نقلها سوى إضاعة الوقت والورق.

الثالث : بطلان الحلف بالطلاق عند البعض

المشهور عند أهل السنّة هو صحّة الطلاق بالحلف به ، ومع ذلك ذهب لفيف من الصحابة والتابعين إلى كونه باطلاً ، ووافقهم بعض المتأخّرين من الظاهريين كابن حزم ، وابن تيمية من الحنابلة.

قال ابن حزم : وصحّ خلاف ذلك (وقوع الطلاق باليمين) عن السلف.

1. روينا من طريق حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن : انّ رجلاً تزوّج امرأة وأراد سفراً فأخذها أهل امرأته فجعلها طالقاً إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر ،

ص : 129


1- المغني : 7 / 369 - 376.

فجاء الأجل ولم يبعث بشيء ، فلمّا قدم خاصموه إلى عليّ ، فقال عليّ - عليه السلام - : اضطهدتموه حتى جعلها طالقاً ، فردّها عليه. (1)

2. روينا من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عطاء : في رجل قال لامرأته : أنتِ طالق إن لم أتزوّج عليك. قال : إن لم يتزوّج عليها حتى تموت أو يموت ، توارثا. والحكم بالتوارث آية بقاء العلقة.

3. ومن طريق عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن غيلان بن جامع ، عن الحكم بن عتيبة قال : في الرجل يقول لامرأته : أنتِ طالق إن لم أفعل كذا ثمّ مات أحدهما قبل أن يفعل ، فإنّهما يتوارثان.

إنّ في عدم اعتداد الإمام عليّ بالطلاق - بلا إكراه - والحكم بالتوارث في الروايتين الأخيرتين دلالة على عدم الاعتداد باليمين بالطلاق.

4. ومن طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج : أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنّه كان يقول : الحلف بالطلاق ليس شيئاً. قلت : أكان يراه يميناً؟ قال : لا أدري.

قال ابن حزم بعد نقل هذه الروايات : فهؤلاء علي بن أبي طالب وشريح (2) وطاوس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث ، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - ثم يقول : من أين أجزتم الطلاق بصفة ولم تجيزوا النكاح بصفة ، والرجعة بصفة كمن قال : إذا دخلت الدار فقد راجعت زوجتي المطلّقة ، أو قال : فقد تزوّجتك ، وقالت هي مثل ذلك ، وقال الولي مثل

ص : 130


1- ظاهر الحديث : أنّ الإمام ردّ المرأة لوقوع الطلاق مكرهاً ، وبما أنّه لم تكن هناك كراهة ولم يطلب أهل المرأة سوى النفقة ، يحمل على خلاف ظاهره ، من بطلان الطلاق لأجل الحلف به.
2- نقل رواية عن شريح تركنا نقلها لعدم دلالتها. وكان عليه عطف عطاء عليه أيضاً.

ذلك ولا سبيل إلى فرق. (1)

هذا وقد فصّل ابن تيميّة بين التعليق الذي يقصد به الإيقاع والذي يقصد به اليمين.

فالأوّل أن يكون مريداً للجزاء عند الشرط وإن كان الشرط مكروهاً له ، لكنّه إذا وجد الشرط فانّه يريد الطلاق لكون الشرط أكره إليه من الطلاق ، كما إذا قال لزوجته : «إن خنت فأنت طالق» ، فخانت الزوجة ، فهذا موقع للطلاق عند الصفة لا حالف ووقوع الطلاق في مثل هذا هو المأثور عن الصحابة.

والثاني هو التعليق الذي يقصد به اليمين ، ويمكن التعبير عن معناه بصيغة القسم ، كما إذا قال : «إن خنتِ فأنت طالق» بقصد زجرها أو تخويفها باليمين لإيقاع الطلاق (في المستقبل) إذا فعلت ، لأنّه لا يكون مريداً لها - له - وإن فعلت لكون طلاقها أكره إليه من مقامها على تلك الحال فهو علق بذلك لقصد الحظر والمنع لا لقصد الإيقاع فهذا حالف ليس بموقع. (2)

حاصل تفصيله : يرجع إلى التفريق بين الحلف على النتيجة ، والحلف على الفعل ، فعلى الأوّل يتحقّق الطلاق ، إذا حصل المعلّق عليه ولا يتصوّر فيه الحنث ، لصيرورة الزوجة عندئذ مطلقة ، شاء الزوج أم لم يشأ ، لأنّ المنشأ صيرورتها مطلقة عند وقوع المعلق عليه وأمّا على الثاني ، فالمنشأ قيامه بالفعل في المستقبل وتطليقها ، وعندئذ يتصوّر فيه الحنث ولو كان ابن تيمية ملمّاً بفقه الشيعة ومصطلحاتهم ، لسهل عليه التعبير عن مقصده بما قلناه.

نعم الحلف على النتيجة ، إنّما يصحّ إذا لم يتوقّف حصولها على سبب

ص : 131


1- المحلّى : 10 / 213212.
2- الفتاوى الكبرى : 3 / 9.

خاص ، ككون الشيء ملكاً لزيد ، وأمّا إذا توقّف على سبب خاص أو شكّ في توقّفها عليه ، كما هو الحال في الطلاق ، فالحلف به ، لا يفيد في حصولها.

إذا عرفت هذه الأُمور يقع الكلام في محورين :

الأوّل : صحة الطلاق بالحلف به عند حصول المعلّق عليه.

الثاني : حكم الزوجة في الفترة التي لم يتحقق المعلّق عليه.

وإليك الكلام في الأوّل :

بطلان الطلاق بالحلف به

ذهبت الإمامية - كما عرفت - إلى بطلانه ، وقد اشتهرت الطائفة في باب الطلاق بإنكار أُمور :

1. طلاق المرأة وهي حائض.

2. طلاق المرأة دون حضور عدلين.

3. الحلف بالطلاق.

والدليل على بطلان الحلف بالطلاق ، هو نفس الدليل على بطلان الطلاق المعلّق ، لما عرفت من أنّ الأوّل من أقسام الثاني ، ونزيده بياناً بما ورد عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في خصوص الحلف بالطلاق.

عن أبي أُسامة الشحام ، قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - : إنّ لي قريباً لي أو صهراً حلف إن خرجت امرأته من الباب فهي طالق ثلاثاً ، فخرجت ، فقد دخل صاحبها منها ما شاء الله من المشقة ، فأمرني أن أسألك ، فأصغى إليّ ، فقال : «مره فليُمسكها فليس بشيء» ، ثمّ التفت إلى القوم فقال : «سبحان الله يأمرونها أن تتزوّج

ص : 132

ولها زوج». (1)

ونعيد هنا كلمة لبعض المشايخ ، مرّت بنا والصفحات الماضية ، قال : إنّ الزواج عصمة ومودة ورحمة وميثاق من الله. قال تعالى : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (2) ، وقال سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). (3) إذن لا يجوز بحال أن ننقض هذه العصمة والمودة والرحمة ، وهذا العهد والميثاق ، إلاّ بعد أن نعلم علماً قاطعاً لكلّ شكّ بأنّ الشرع قد حلّ الزواج ، ونقضه بعد أن أثبته وأبرمه. (4)

دليل القائل بالصحّة

استدلّ القائل بالصحّة بما مرّ في الطلاق المعلّق من أنّه التزم أمراً عند وجود شرطه فلزمه ما التزمه مثلاً التزم بأنّه إذا كلّمت الزوجة فلاناً فهي طالق.

يلاحظ عليه : أنّه عبارة أُخرى للتمسّك بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «المسلمون عند شروطهم» وقد سبق انّه لا يستدلّ بالكبرى على صحّة الصغرى فانّ معنى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «المسلمون عند شروطهم» هو انّهم عند شروطهم التي ثبتت صحّة الاشتراط بها في الإنشاء ، دون ما إذا شكّ في صحّة الاشتراط.

وربما يستدلّ عليه بالإجماع ، كما ذهب إلى ذلك السبكي في «الدرة» ، وقد عرفت وجود الخلاف بين الصحابة والتابعين فكيف يدّعي الإجماع؟!

ص : 133


1- الوسائل : الجزء 15 ، الباب 18 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 3.
2- النساء : 21.
3- الروم : 21.
4- الفقه على المذاهب الخمسة : 414.

حكم المرأة في الفترة

لو قلنا ببطلان الحلف بالطلاق وانّ وجوده وعدمه سيان ، تكون المحلوف عليها زوجته ، سواء تحقّق المعلّق عليه أو لا ، فيكون البحث أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع ، وقد مرّ في كلام أبي عبد الله - عليه السلام - : «سبحان الله يأمرونها أن تتزوّج ولها زوج»

وأمّا على القول بصحّة الإنشاء وصيرورتها مطلّقة عند تحقّق المعلّق عليه فمقتضى القاعدة جواز مسها في الفترة بين إنشاء الصيغة وتحقّق المعلّق عليه ، وقد روى ابن حزم عن ابن عباس جواز مسّها قبل رأس الشهر إذا علّق الطلاق عليه ، ومع ذلك نقل عن سعيد بن المسيب حرمة المس قبل رأس شهر.

ويترتب على ذلك التوارث إذا مات أحدهما قبل رأس الشهر ، فيرث على قول ابن عباس ، لأنّها زوجته ولا يرث على القول الآخر.

كما روى عن مالك التفصيل بين كون المعلّق عليه مشكوك الوجود في المستقبل ، فيجوز فيها ويتوارثان إذا مات أحدهما قبل تحقّق المعلّق عليه ، دون ما إذا كان محقّق الوجود ، فلا يجوز فيها ولا يتوارثان. (1)

ص : 134


1- المحلى : 10 / 214213 ، ونقل قولاً رابعاً لا يخلو من إبهام ولذا تركنا نقله.

خاتمة المطاف: هل تتعلّق الكفّارة إذا حنث

قال الشهيد : تختصّ الكفّارة بما إذا حلف بالله أو أسمائه الخاصة لتحقّق ما يحتمل المخالفة والموافقة في المستقبل. (1)

وقال العلاّمة : اليمين عبارة عن تحقيق ما يمكن فيه الخلاف بذكر اسم الله أو صفاته. (2) إلى غير ذلك من الكلمات المتضافرة من اختصاص الكفّارة بالحلف بالله وصفاته ولا ينعقد الحلف باليمين على غير الله وصفاته وإن كان المحلوف به هو الكعبة والقرآن والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وعلى ذلك فالبحث عن الكفّارة على أُصولنا أشبه بالسالبة بانتفاء الموضوع لعدم انعقاد اليمين بغير الله وصفاته.

نعم ذهبت المالكية إلى أنّ أيمان المسلمين ستة أشياء ، وهي : اليمين بالله تعالى ، والطلاق البات لجميع الزوجات ، أو عتق ما يملك من العبيد والإماء ، والتصدق بثلث المال ، والمشي بحج وصوم عام. ونُقل قريب من ذلك من الحنابلة. (3)

واختاره ابن تيمية فقال : إنّ هذا يمين من أيمان المسلمين فيجري فيها ما

ص : 135


1- الدروس : 2 / 161.
2- القواعد : 3 / 266.
3- الموسوعة الفقهية : 17 / 251.

يجري في أيمان المسلمين ، وهو الكفارة عند الحنث ، إلاّ أن يختار إيقاع الطلاق فله أن يوقعه ولا كفّارة. (1)

ولكن من أين ثبت انّه من أيمان المسلمين ، ليكونَ للطلاق من القداسة ما للفظ الجلالة ، فلاحظ.

ومن عجيب الأمر ما أحدثه الحجاج بن يوسف الثقفي المعروف بأيمان البيعة ، فكان يأمر الناس عند البيعة لعبد الملك بن مروان أن يحلفوا بالطلاق والعتاق واليمين بالله وصدقة المال ، فكان هذه الأيمان الأربعة ، أيمان البيعة القديمة المبتدعة.

ثمّ أحدث المستحلفون من الأمراء عن الخلفاء والملوك وغيرهم إيماناً كثيرة تختلف فيها عاداتهم. (2)

ومع ذلك فلا خلاف بين فقهاء السنة عدا ابن تيميّة في كلامه السابق انّ الحلف بغير الله لا تجب بالحنث فيه الكفّارة ، إلاّ ما روي عن أكثر الحنابلة في وجوب الكفارة على من حنث في رسول الله ، لأنّه أحد شطري الشهادتين اللّتين يصير بهما الكافر مسلماً.

ثمّ إنّ الحنث إنّما يتصوّر إذا حلف على الفعل بأن يطلقها في المستقبل عند حصول المعلّق عليه ، فإذا حصل ولم يطلق ، حصل الحنث دون ما إذا حلف على النتيجة أي صيرورة المرأة مطلقة أو ماله صدقة أو عبده معتقاً بنفس هذه الصيغة إذا حصل المعلّق عليه من دون حاجة إلى صيغة أُخرى ، إذ تكون المرأة عندئذ مطلقة ، شاء الحالف أم لم يشأ. ومثله كون أمواله صدقة وعبيده عتقاء ، وقد مرّ توضيحه عند نقل كلام ابن تيمية.

ص : 136


1- الفتاوى الكبرى : 3 / 12 و 13.
2- الموسوعة الفقهية : 7 / 250.

19- الطلاق في الحيض والنفاس أو في طهر جامعها

اشارة

ص : 137

ص : 138

الطلاق في الحيض والنفاس أو في طهر جامعها

اشارة

اتّفقت الإمامية على أنّ الطلاق في الحيض والنفاس حرام تكليفاً وباطل وضعاً ، وهكذا الطلاق في طهر المواقعة ، وأمّا جمهور الفقهاء من السنّة فاتّفقوا على وقوع الطلاق مع اتّفاقهم على وقوع الإثم فيه على المطلِّق. وقبل الخوض في تحرير دليل المسألة ، نقدّم أُموراً :

الأوّل : تقسيم الطلاق إلى سُنّي وبدعيّ

قسَّم الفقهاء الطلاق من حيث وصفه الشرعي إلى سُنّي وبدعي ؛ ويريدون بالسنّي ما وافق السنّة في طريقة إيقاعه ، والبدعي ما خالف السنّة في ذلك.

فمن مصاديق الطلاق السُّني هو أن يطلّق الزوج زوجته طلقة واحدة رجعية في طهر لم يطأها فيه ، وعلى ذلك فالطلاق في الطهر الذي واقعها أو في حالة الحيض والنفاس طلاق بدعي ، وهذا ممّا لا كلام فيه.

ص : 139

الثاني : في تفسير شرطية الطهر في الطلاق السنّي

اتّفقت كلمتهم على أنّ طهارة المرأة من الحيض والنفاس طلاق سنّي ومقابله بدعي ، إلاّ أنّ الكلام في مفاد شرطية الطهر ، فهل هو شرط الصحة والإجزاء ، أو شرط الكمال والتمام؟

وبعبارة أُخرى : هل التكليف في المقام تكليف وضعي بمعنى كونها شرطاً لصحّة الطلاق ولولاه كان الطلاق باطلاً ، أو انّه حكم تكليفي متوجّه إلى المطلِّق ، وهو انّه يجب أن يُحلّ العقدة في حال كونها طاهرة من الحيض والنفاس فلو تخلّف أثم وصحّ الطلاق؟

فالإمامية وقليل من غيرهم كسعيد بن المسيب. (1) وابن عليّة كما يأتي على الأوّل (شرط الصحّة) وأكثر المذاهب على الثاني (حكم تكليفي).

الثالث : نقل كلمات الفقهاء

قال الشيخ الطوسي في «الخلاف» : الطلاق المحرَّم ، هو أن يطلّق مدخولاً بها غير غائب عنها غيبة مخصوصة ، في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه ، فما هذا حكمه فانّه لا يقع عندنا ، والعقد ثابت بحاله. وبه قال ابن عليّة ، وقال جميع الفقهاء : إنّه يقع وإن كان محظوراً ، ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه ومالك والأوزاعي والثوري والشافعي. (2)

وقال ابن رشد في حكم من طلّق في وقت الحيض : إنّ الجمهور قالوا :

ص : 140


1- تفسير القرطبي : 18 / 150.
2- الخلاف : 4 ، كتاب الطلاق ، المسألة 2.

يُمضى طلاقه ، وقالت فرقة : لا ينفذ ولا يقع ، والذين قالوا : ينفذ ، قالوا : يؤمر بالرجعة ، وهؤلاء افترقوا فرقتين ، فقوم رأوا انّ ذلك واجب ، وأنّه يجبر على ذلك ، وبه قال مالك وأصحابه ، وقالت فرقة : بل يندب إلى ذلك ولا يجبر ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد. (1)

وفي الموسوعة الفقهية : اتّفق جمهور الفقهاء على وقوع الطلاق البدعي ، مع اتّفاقهم على وقوع الإثم فيه على المطلق لمخالفته السنّة المتقدّمة.

فإذا طلق زوجته في الحيض وجب عليه مراجعتها ، رفعاً للإثم لدى الحنفية في الأصح عندهم ، وقال القدوري من الحنفية : إنّ الرجعة مستحبة لا واجبة.

وذهب الشافعي إلى أنّ مراجعة من طلقها بدعياً سنّة ، وعبر الحنابلة عن ذلك بالاستحباب. (2)

الرابع : ما هو المراد من القُرء؟

اتّفق الفقهاء على أنّ المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، غير أنّهم اختلفوا في معنى «القرء» الذي يجمع على قروء ، فالشيعة الإمامية على أنّ المراد منه هو الأطهار الثلاثة.

وقد تبعوا في ذلك ما روي عن عليّ - عليه السلام - ؛ روى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : قلت له : إنّي سمعت ربيعة الرأي يقول : إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة بانت منه ، وإنّما القرء ما بين الحيضتين وزعم انّه أخذ ذلك برأيه ، فقال أبو جعفر - عليه السلام - : «أخذه عن عليّ - عليه السلام -» قال : قلت له : وما قال فيها عليّ - عليه السلام -؟ قال : «كان يقول : إذا

ص : 141


1- بداية المجتهد : 2 / 64.
2- الموسوعة الفقهية : 29 / 35.

رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها ولا سبيل عليها وإنّما القرء ما بين الحيضتين». (1)

روى زرارة قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - سمعت ربيعة الرأي يقول : من رأيي انّ الاقراء التي سمّى الله عزّ وجلّ في القرآن إنّما هو الطهر فيما بين الحيضتين ، فقال : «إنّما بلغه عن عليّ - عليه السلام -» فقلت : أكان عليّ - عليه السلام - يقول ذلك ، فقال : «نعم ، إنّما القرء الطهر الذي يُقرأ فيه الدم ، فيجمعه ، فإذا جاء المحيض دفعه». (2)

وذهب أصحاب سائر المذاهب إلاّ من عرفت إلى أنّ المراد منها هي الحيضات والتحقيق في محلّه ، وإنّما ذكرنا ذلك مقدّمة لتفسير الآية الآتية.

الخامس : عدم احتساب الحيضة من العدّة

إذا طلق زوجته في الحيض والنفاس فلا تحسب تلك الحيضة من الإقراء الثلاثة عند القائلين بصحّة الطلاق ، بل تحسب الحيضة الثانية بعد انقضاء الأُولى بالدخول في طهرها ، وعلى هذا الأصل ذكر بعض الباحثين بأنّ الحكمة في المنع من الطلاق في الحيض هو انّ ذلك يُطيل على المرأة العدة ، فانّها إن كانت حائضاً لم تحتسب الحيضة من عدتها ، فتنتظر حتى تطهر من حيضها وتتم مدة طهرها ، ثمّ تبدأ العدة من الحيضة التالية. (3)

هذا على مذهب أهل السنّة من تفسير القروء ، وبالتالي العدّة بالحيضات.

وتطول العدة أيضاً على القول بتفسير «القرء» بالطهر ، إذا لا تحتسب الحيضة من عدتها فتنتظر حتّى تطهر من حيضها وتبدأ العدة من يوم طهرت.

ص : 142


1- الوسائل : 15 ، الباب 15 من أبواب العدد ، الحديث 4 ، ولاحظ الحديث 1.
2- الوسائل : 15 ، الباب 14 من أبواب العدد ، الحديث 4.
3- نظام الطلاق في الإسلام : 27.

السادس : طلاق عبد الله بن عمر هو الأصل

إنّ دليل القائل بالجواز في حال الحيض رواية عبد الله بن عمر ، وقد وردت بألفاظ كثيرة ، حتّى أوجدت في الرواية اضطراباً ، وسيوافيك صورها ومعالجة اضطرابها وانطباقها على المختار.

إذا عرفت هذه الأُمور ، فلنذكر الدليل على بطلان الطلاق.

الاستدلال بالكتاب على شرطية الطهر

يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً). (1)

والآية ظاهرة في أنّ المسلم إذا أراد أن يطلّق زوجته فعليه أن ينتظر الوقت المناسب للدخول في العدة بحيث يكون الوقت الذي تطلّق فيه جزءاً من العدة ، فلو طُلِّقت في حالة الحيض ، فانّها لا تحسب منها بالاتّفاق.

قال القرطبي : معنى فطلقوهنّ لعدتهنّ ، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن ، وحصل الإجماع على أنّ الطلاق في الحيض ممنوع ، وفي الطهر مأذون فيه. (2)

توضيح ذلك : انّ الآية دالّة على شرطية الطهارة من الحيض مطلقاً ، سواء فسرت ثلاثة قروء - وبالتالي قوله : «لعدتهن» - بالأطهار الثلاثة ، أو بالحيضات

ص : 143


1- الطلاق : 1.
2- تفسير القرطبي : 18 / 153.

الثلاث.

وذلك انّه إذا قلنا بأنّ المراد من قوله «لعدتهن» هي الأطهار الثلاثة ، فاللام في قوله : (لِعِدَّتِهِنَ) عندئذ ظاهرة في الغاية والتعليل والمعنى فطلقوهن لغاية أن يعتددن ، والأصل هو ترتّب الغاية على ذيها بلا فصل ولا تريّث (ما لم يدلّ دليل على الخلاف) ، مثل قوله سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (1) وقوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) (2) ، واحتمال كون اللام للعاقبة التي ربّما يكون هناك فصل بين الغاية وذيها ، مثل قوله سبحانه : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (3) غير صحيح ، لأنّ موردها فيما إذا كانت النتيجة مرتبة على ذيها ترتّباً قهرياً غير إرادي كما في الآية ، ومثل قولهم : لدوا للموت وابنوا للخراب.

وأمّا إذا قلنا بأنّ المراد من قوله : «لعدتهن» هو الحيضات الثلاث فبما انّ الطلاق في حال الحيض حرام تكليفاً في عامة المذاهب الفقهية ، فلا يصحّ تفسير اللام بالظرفية إن طلقوهن في عدتهن (الحيضات) أو بالغاية فطلقوهن لغاية اعتدادهنّ بعد الطلاق ، لما عرفت من أنّ الحيضة التي وقع الطلاق فيها لا تحسب من الثلاث ، فلا محيص من تفسير الآية بتقدير كلمة «مستقبلات لعدتهن» كما تقول : «لقيته لثلاث بقين من الشهر» تريد مستقبلاً لثلاث ، وبما انّ المراد ب «عدتهن» هو الحيضات الثلاث ، فيكون المراد بمستقبلها ، هو أيّام الطهر من الحيض ، أي طلقوهن في حال كونهن مطهرات ، مستقبلات لعدتهنّ ، أي الحيضات الثلاث.

ص : 144


1- النحل : 44.
2- النحل : 64
3- القصص : 8.

قال القرطبي : معنى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي من قَبْل عدتهن أو لقبل عدتهن ، وهي قراءة النبي كما قال ابن عمر في صحيح مسلم وغيره : فَقَبْل العدة آخر الطهر حتى يكون القرء هو الحيض.

هذا ولكن الحقّ هو الوجه الأوّل ، فانّ لازم ذلك اختصاص الطلاق بآخر الطهر ، ويترتّب عليه انّه لو طلق في أوّل الطهر لا يصلح ، إذ لا يكون عندئذ مستقبلاً للعدة ، لأنّ المفروض انّ الحيض لم يقبل بعد ، ولعلّ هذا دليل على عدم صحّة تفسير (لِعِدَّتِهِنَ) بالحيضات وتعيّن تفسيرها بالأطهار.

وعلى كلّ تقدير فالآية ظاهرة في شرطية الطهارة في صحّة الطلاق ، سواء أفسرت «العدّة» بالأطهار أو بالحيضات.

الاستدلال بالسنّة

اشارة

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - على اشتراط الطهارة.

روى الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - قال : «كلّ طلاق لغير السنّة فليس بطلاق ، أن يطلّقها وهي حائض أو في دم نفاسها أو بعد ما يغشاها قبل أن تحيض فليس طلاقها بطلاق». (1)

هذا ما لدى الشيعة وأمّا ما لدى السنّة فالمهم لديهم في تصحيح طلاق الحائض هو رواية عبد الله بن عمر ، حيث طلّق زوجته وهي حائض ، وقد نقلت بصور مختلفة نأتي بها. (2)

ص : 145


1- الوسائل : 15 ، الباب 8 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 9 ، وغيره.
2- راجع للوقوف على تلك الصور ، السنن الكبرى : 7 / 324 - 325.

الأُولى : ما دلّ على عدم الاعتداد بتلك التطليقة

1. روى أبو الزبير قال : سألت جابراً عن الرجل يطلّق امرأته وهي حائض؟ فقال : طلّق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض ، فأتى عمر رسول الله فأخبره بذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ليراجعها فانّها امرأته.

2. روى نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنّه قال في الرجل يطلّق امرأته وهي حائض ، قال ابن عمر : لا يعتدّ بها.

الثانية : ما يتضمّن التصريح باحتساب تلك التطليقة طلاقاً صحيحاً

1. يونس بن جبير قال : سألت ابن عمر قلت : رجل طلّق امرأته وهي حائض؟ فقال : تعرف عبد الله بن عمر؟ قلت : نعم ، قال : فانّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض ، فأتى عمر - رضى الله عنه - النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فسأله ، فأمره أن يراجعها ثمّ يطلّقها من قبل عدّتها. قال ، قلت : فيعتدّ بها؟ قال : نعم ، قال : أرأيت إن عجز واستحمق.

2. يونس بن جبير قال : سألت ابن عمر قلت : رجل طلّق امرأته ، وهي حائض؟ قال : تعرف ابن عمر؟ إنّه طلّق امرأته وهي حائض ، فسأل عمر النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فأمره أن يراجعها ، قلت : فيعتد بتلك التطليقة؟ قال : فمه؟ أرأيت إن عجز واستحمق.

3. يونس بن جبير قال : سمعت ابن عمر قال : طلّقت امرأتي وهي حائض. فأتى عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكر ذلك له ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ليراجعها ، فإذا طهرت فليطلّقها ، قال : فقلت لابن عمر : فاحتسبت بها؟ قال : فما يمنعه؟ أرأيت إن عجز واستحمق.

ص : 146

4. أنس بن سيرين قال : سمعت ابن عمر يقول : طلَّقت امرأتي وهي حائض ، قال : فذكر ذلك عمر للنبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال ، فقال : ليراجعها فإذا طهرت فليطلقها. قال : فقلت له - يعني لابن عمر : يحتسب بها؟ قال : فمه؟

5. أنس بن سيرين : ذكر نحوه غير أنّه قال : فليطلّقها إن شاء. قال : قال عمر - رضى الله عنه - : يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال : نعم.

6. أنس بن سيرين قال : سألت ابن عمر عن امرأته التي طلّق؟ فقال : طلّقتها وهي حائض. فذكر ذلك لعمر - رضى الله عنه - فذكره للنبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : مره فليراجعها ، فإذا طهرت فليطلّقها لطهرها. قال : فراجعتها ثمّ طلّقتها لطهرها. قلت : واعتدّت بتلك التطليقة التي طلّقت وهي حائض؟ قال : ما لي لا أعتدّ بها ، وإن كنت عجزت واستحمقت.

7. عامر قال : طلّق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة ، فانطلق عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره ، فأمره إذا طهرت أن يراجعها ثمّ يستقبل الطلاق في عدّتها ثمّ تحتسب بالتطليقة التي طلّق أوّل مرّة.

8. نافع عن ابن عمر - رضى الله عنه - أنّه طلّق امرأته ، وهي حائض ، فأتى عمر - رضى الله عنه - النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكر ذلك له فجعلها واحدة.

9. سعيد بن جبير عن ابن عمر - رضى الله عنه - قال : حُسِبَتْ عليَّ بتطليقة.

الثالثة : ما ليس فيه تصريح بأحد الأمرين

1. ابن طاوس عن أبيه : أنّه سمع ابن عمر سئل عن رجل طلق امرأته حائضاً؟ فقال : أتعرف عبد الله بن عمر؟ قال : نعم. قال : فإنّه طلّق امرأته حائضاً ، فذهب عمر - رضى الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره الخبر ، فأمره أن

ص : 147

يراجعها. قال : لم أسمعه يزيد على ذلك لأبيه.

2. منصور بن أبي وائل : إنّ ابن عمر طلّق امرأته ، وهي حائض ، فأمره النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يراجعها حتى تطهر ، فإذا طهرت طلّقها.

3. ميمون بن مهران عن ابن عمر أنّه طلّق امرأته في حيضها ، قال : فأمره رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يرتجعها حتى تطهر ، فإذا طهرت فإن شاء أمسك قبل أن يجامع.

4. سئل أبو الزبير عن رجل طلّق امرأته حائضاً؟ قال : طلّق عبد الله بن عمر - رضى الله عنهما - امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فسأل عمر - رضى الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : إنّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض؟ فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : ليراجعها ، فردّها عليّ وقال : إذا طهرت فليطلّق أو ليمسك ، قال ابن عمر : وقرأ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي في قبل عدّتهنّ.

وبعد تصنيف هذه الروايات نبحث عن الفئة الراجحة منها بعد معرفة طبيعة الإشكالات التي تواجه كلاً منها ومعالجتها.

معالجة الصور المتعارضة

لا شك أنّ الروايات كانت تدور حول قصة واحدة ، لكن بصور مختلفة ، فالحجة بينها مردّدة بين تلك الصور والترجيح مع الأُولى لموافقتها الكتاب وهي الحجّة القطعية ، وما خالف الكتاب لا يحتج به ، فالعمل على الأُولى.

وأمّا الصورة الثالثة ، فيمكن إرجاعها إلى الأُولى لعدم ظهورها في الاعتداد والصحّة ، نعم ورد فيه الرجوع الذي ربّما يتوهّم منه ، الرجوع إلى الطلاق الملازم

ص : 148

لصحّته ، لكن ليس بشيء.

فانّ المراد من المراجعة فيها هو المعنى اللغوي لا مراجعة المطلّقة الرجعية ، ويؤيّد ذلك أنّ القرآن يستعمل كلمة الرد أو الإمساك ، فيقول : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) (1).

وقال سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) (2) ، وقال سبحانه : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (3) ، وقال تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (4).

نعم استعمل كلمة الرجعة في المطلّقة ثلاثاً إذا تزوّجت رجلاً آخر فطلّقها ، قال سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) (5).

بقي الكلام في النصوص الدالة على الاحتساب ، أعني : الصورة الثانية ، فيلاحظ عليها بأُمور :

1. مخالفتها للكتاب ، وما دلّ على عدم الاحتساب.

2. أنّ غالب روايات الاحتساب لا تنسبه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإنّما إلى رأي ابن عمر وقناعته ، فلو كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أمر باحتسابها ، لكان المفروض أن يستند ابن عمر إلى ذلك في جواب السائل ، فعدم استناده إلى حكم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دليل على عدم صدور ما يدل على الاحتساب من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه ، فتكون هذه النصوص موافقة للنصوص التي لم تتعرّض للاحتساب ، لأنّها كلّها تتّفق في عدم حكم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - باحتساب التطليقة ، غايته اشتمل بعضها على نسبة الاحتساب إلى ابن عمر نفسه ، وهو ليس حجّة لإثبات الحكم الشرعي.

ص : 149


1- البقرة : 228.
2- البقرة : 229.
3- البقرة : 231.
4- البقرة : 231.
5- البقرة : 230.

وأمّا الرواية الأُولى لنافع فقد نسب الحكم بالاحتساب في إحدى الصيغتين إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه (الرواية 8 من القسم الثاني) ، بينما رويت الثانية بصيغة أُخرى تضمّنت النسبة إلى ابن عمر بعدم الاحتساب (الرواية 2 من القسم الأوّل).

وأمّا رواية أنس فرويت بصيغتين تدلاّن على أنّ الحكم بالاحتساب هو قناعة ابن عمر نفسه لا قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (الرواية 4 و 6 من القسم الثاني) وبصيغة ثالثة نسبت الاحتساب إلى النبيّ (الرواية 5 من القسم الثاني) ومع هذا الاضطراب لا تصلح الرواية لإثبات نسبة الحكم بالاحتساب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه.

3. أنّ فرض صحّة التطليقة المذكورة لا يجتمع مع أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإرجاعها وتطليقها في الطهر الذي بعده هذا ، لأنّ القائلين بصحّة الطلاق في الحيض لا يصحّحون إجراء الطلاق الثاني في الطهر الذي بعده ، بل يشترطون بتوسّط الحيض بين الطهرين وإجراء الطلاق في الطهر الثاني. فالأمر من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإرجاعها وتطليقها في الطهر الأوّل ينافي احتساب تلك تطليقة صحيحة.

4. اشتهر في كتب التاريخ أنّ عمر كان يعتبر ولده عاجزاً عن الطلاق ، وظاهره يوحي بأنّ ما فعله لم يكن طلاقاً شرعيّاً.

وبعد ملاحظة كل ما قدّمناه يتّضح عدم ثبوت نسبة الاحتساب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والذي يبدو أنّ النص - على فرض صدوره - لم يتضمّن احتساب التطليقة من قبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وانّما هي إضافات أو توهّمات بسبب قناعة ابن عمر أو بعض من هم في سلسلة الحديث ، ولذلك اضطربت الصيغ في نقل الحادثة.

بقيت هنا رواية ثالثة لنافع وهي : إنّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي

ص : 150

حائض ، في عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : فليراجعها ، ثمّ ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثمّ تطهر ، ثمّ إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدّة التي أمر الله عزّ وجلّ أن يطلّق لها النساء.

فالظاهر انّ الرواية من أدلّة القول بالبطلان ، إذ لا تدلّ على صحّة التطليقة الأُولى إلاّ بادّعاء ظهور «الرجوع» في صحّة الطلاق وقد علمت ما فيه.

وأمّا أمره بالطلاق في الطهر الثاني بعد توسّط الحيض بين الطهرين حيث قال : «مره فليراجعها ، ثمّ ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر. ثمّ إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله عزّ وجلّ أن يطلّق لها النساء» وكان بإمكانه أن يطلقها في الطهر الأوّل حسب مختارنا فلعلّ أمره بمضي طهر وحيض ، لأجل مؤاخذة الرجل حيث تسرّع في الطلاق وجعله في غير موضعه فأُرغم أن يصبر طهراً وحيضاً ، فإذا استقبل طهراً ثانياً فليطلّق أو يمسك.

وبعد كلّ هذا لا يصحّ الاعتماد على رواية عبد الله بن عمر ، لاضطراب النقل عنه ، خصوصاً مع ملاحظة الكتاب العزيز الدالّ على وقوع الطلاق في العدّة.

الطلاق في طهر المواقعة

قد عرفت أنّ الطلاق في حالة الحيض والنفاس حرام تكليفاً وباطل وضعاً وإن ذهب جمهور الفقهاء إلى الحرمة التكليفية دون الوضعية.

بقي الكلام في طلاق الزوجة في طهر المواقعة ، فهو أيضاً من الطلاق البدعيّ ، حكمه حكم الطلاق في الحيض والنفاس.

ص : 151

ويدلّ عليه من طرق أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - صحيحة الفضلاء (1) كلّهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله - عليهما السلام - انّهما قالا : «إذا طلّق الرجل في دم النفاس أو طلّقها بعد ما يمسّها فليس طلاقه إيّاها بطلاق». (2)

وروى أيضاً عمر بن أُذينة ، عن بكير بن أعين وغيره ، عن أبي جعفر - عليه السلام - كلّ ذلك لغير السنّة فليس بطلاق ، أن يطلقها وهي حائض أو في دم نفاسها أو بعد ما يغشاها ، قبل أن تحيض فليس طلاقه بطلاق». (3)

هذا عند الشيعة الإمامية وأمّا فقهاء السنّة فلهم أقوال ثلاثة :

1. إذا أوقع الزوج الطلاق في طهر جامعها فيه ، كان الطلاق عند الجمهور حراماً شرعاً.

2. قالت الحنفية : مكروه تحريميّاً ، وهو المسمّى طلاقاً بدعيّاً.

3. ذهبت المالكية إلى القول بتحريم الطلاق في الحيض أو النفاس ويكره في غيرهما. (4)

وعلى كلّ تقدير فإنّ الطلاق في هذه الحالة حرام تكليفاً ، أو مكروه عند المالكية ولا يضرّ بصحّة الطلاق ، ويمكن الاستدلال على بطلانه في طهر المواقعة بالكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فلقوله سبحانه : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ).

فإن قلنا بأنّ المراد من قوله : (لِعِدَّتِهِنَ) هي الأطهار الثلاثة فواضح ، سواء

ص : 152


1- المراد : زرارة ومحمد بن مسلم وبكير بن أعين وبُريد وفضيل وإسماعيل الأزرق ومعمر بن يحيى.
2- الوسائل : 15 ، الباب 8 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 5 ، 9.
3- الوسائل : 15 ، الباب 8 من أبواب مقدّمات الطلاق ، الحديث 5 ، 9.
4- الفقه الإسلامي وأدلّته : 7 / 402.

قلنا : إنّ اللام بمعنى «في» فإنّ المراد إيقاع الطلاق في الزمان الذي يصلح للاعتداد ، أو بمعنى الغاية والمراد إيقاع الطلاق لغاية الاعتداد ، وعلى كلا الوجهين يجب أن يترتّب الاعتداد على إيقاع الطلاق بلا تريث ، فلا تعمّ الآية الطلاقَ في طهر المواقعة ، لأنّه لا يصلح للاعتداد ، ظرفاً وغاية في عامّة المذاهب.

وأمّا إن قلنا بأنّ المراد بها ، هي الحيضات الثلاث ، فكذلك ، لما عرفت من أنّ المراد بالآية ، هو إيقاع الطلاق مستقبلاً لعدتهن ، وبما انّ الحيضة التي تقدّمها طهر المواقعة ، لا تحسب من العدة ، فالآية لا تعمّ إيقاعه في مثل ذلك الطهر ، لأنّه ليس من أقسام «مستقبلات عدة».

وأمّا السنّة فيمكن الاستدلال برواية ابن عمر أنّه طلّق امرأة له وهي حائض ، فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فتغيظ فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثمّ قال : ليراجعها ، ثمّ يمسكها حتّى تطهر ، ثمّ تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلّقها ، فليطلّقها قبل أن يمسها ، فتلك العدّة كما أمر الله تعالى.

وفي لفظ : فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء.

وأمّا كيفية الاستدلال : فلأنّ النبي بصدد بيان كيفية إيقاع الطلاق وشروطه ، فأمر بإيقاعها في الطهر الثاني بشرط أن لا يمسّها ، فلو كان الطلاق في الطهر الذي واقعها صحيحاً ، لما خصّه النبي بالطهر المشروط.

وأمّا عدم تجويز إيقاعه في الطهر الأوّل ، فلأجل مؤاخذة الرجل حيث تسرّع في الطلاق ، وجعله في غير موضعه فأُرغم أن يصبر طهراً وحيضاً ، كما مرّ.

ص : 153

ص : 154

20- الوصيّة للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

اشارة

ص : 155

ص : 156

الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

اتّفقت المذاهب الخمسة على أنّ الوصية التبرّعيّة تنفذ في مقدار الثلث فقط ، مع وجود الوارث سواء صدرت في المرض أم في الصحّة ، وما زاد عن الثلث يفتقر إلى إجازة الورثة. وإن كان الأفضل في بعض المذاهب أن لا يستوعب الثلث بالوصية. (1)

وأمّا في مقدار الثلث فتنفّذ وصيته عند الإمامية في الأقرب والأجنبي ، ومن غير فرق في الأقرب ، بين الوارث وغيره. وأمّا المذاهب الأربعة فأجازت الوصية للأقرب بشرط أن لا يكون وارثاً ، وأمّا الوارث فلا تجوز الوصية له سواء كان بمقدار الثلث أم أقل أم أكثر ، إلاّ بإجازة الورثة.

قال السيد المرتضى : وممّا ظنّ انفراد الإمامية به ، ما ذهبوا إليه من أنّ الوصية للوارث جائزة ، وليس للوارث (غير الموصى له) ردّها. وقد وافقهم في هذا المذهب بعض الفقهاء (2) وإن كان الجمهور والغالب ، على خلافه. (3)

وقال الشيخ الطوسي : تصحّ الوصية للوارث مثل الابن والأبوين. وخالف

ص : 157


1- المغني : 6 / 78.
2- سيوافيك التصريح به من صاحب المنار أيضاً.
3- الانتصار : 308.

جميع الفقهاء في ذلك وقالوا : لا وصية للوارث. (1)

وقال الخرقي في متن المغني : «ولا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة ذلك». وقال ابن قدامة في شرحه : إنّ الإنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يجزها سائر الورثة ، لم تصح ، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر وابن عبد البرّ : أجمع أهل العلم على هذا ، وجاءت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك فروى أبو أُمامة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : «إنّ الله قد أعطى كل ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث» رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي ، ولأنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منع من عطية بعض ولده وتفضيل بعضهم على بعض في حال الصحّة وقوّة الملك وإمكان تلافي العدل بينهم بإعطاء الذي لم يعطه فيما بعد ذلك ، لما فيه من إيقاع العداوة والحسد بينهم ، ففي حال موته أو مرضه وضعف ملكه وتعلّق الحقوق به وتعذّر تلافي العدل بينهم أولى وأحرى ، وإن أجازها جازت في قول الجمهور من العلماء. (2)

وحاصل الكلام : انّ فقهاء السنّة يشترطون لنفاذ الوصية أن لا يكون الموصى له وارثاً للموصي عند موت الموصي إذا كان هناك وارث آخر لم يجز الوصية ، فإن أجاز بقية الورثة الوصية للوارث نفذت الوصية ، فتكون الوصية للوارث موقوفة على إجازة بقية الورثة أخذاً بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا تجوز وصية لوارث إلاّ أن يشاء الورثة» ، وقوله : «لا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة».

ثمّ إنّ القوم بدل أن يعرضوا المسألة على الكتاب أخذوا بالتفلسف ونحت الحكمة للمسألة كما عرفت في كلام ابن قدامة حيث قال : «لما فيه من ايقاع العداوة والحسد بينهم».

ص : 158


1- الخلاف : 2 كتاب الوصية 1.
2- المغني : 6 / 8079.

وقال بعضهم : لما في إيثار بعض الورثة من غير رضا الآخرين ما يؤدي إلى الشقاق والنزاع وقطع الرحم وإثارة البغضاء والحسد بين الورثة.

لكن هؤلاء غفلوا عن أنّ ما ذكروه من الوجه ليس كلياً ، بل ولا غالبياً ، إذ ربما يكون بعض الورثة أولى ببعض الميراث من غيرهم ، كما إذا كان المورث صاحب كتاب مخطوط أو مطبوع لا يستفيد منه إلاّ الوارث الطالب دون الآخرين المشتغلين بالتجارة ، فهل الإيصاء عندئذ يوجب البغضاء؟

وربما يكون الموصى له عاجزاً مقعداً مستحقاً للإيصاء فهل يثير الإيصاء في المقام البغضاء والحسد ، ولأجل ذلك نرى أنّ قانون الوصية في مصر أخذ برأي الشيعة الإمامية في سنة 1946 م ، فأجاز الوصية للوارث في حدود الثلث من غير إجازة الورثة ، نعم التزم القانون السوري برأي الجمهور وهي انّ الوصية لا تنفذ إلاّ إذا أجازها الورثة.

ومع أنّ الكتب الفقهية للمذاهب الأربعة تنفي جواز الوصية للوارث ، إلاّ إذا أجاز الورثة ، حتى أنّ بعضهم يقول بأنّ الوصية باطلة وإن أجازها سائر الورثة إلاّ أن يعطوه عطية مبتدأة (1) - ومع هذا التصريح - ينقل الشيخ محمد جواد مغنية : ما زال عمل المحاكم الشرعية السنّية في لبنان على عدم صحّة الوصية للوارث ، ومنذ سنوات قدّم قضاتها مشروعاً إلى الحكومة يجيز الوصية للوارث ورغبوا إليها في تبنّيه. (2)

يلاحظ على ما ذكره ابن قدامة من الحكمة : أنّها لا تقاوم الذكر الحكيم ، واتّفاق أئمّة أهل البيت ، ولو صحّت لزم تحريم تفضيل بعضهم على بعض في

ص : 159


1- المصدر نفسه.
2- الفقه على المذاهب الخمسة : 465.

الحياة في البر والإحسان ، لأنّ ذلك يدعو إلى الحسد والبغضاء مع أنّه لا خلاف في جوازه ، وما نقل عن النبي من النهي ، فهو محمول على التنزيه لا التحريم إذ لم يقل أحد بحرمة التفضيل في الحياة. وسيوافيك الكلام فيما تصور من الحكمة.

والأوْلى عرض المسألة على الكتاب والسنّة ، أمّا الكتاب فيكفي في جواز الوصية قوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).(1)

المراد من حضور الموت : ظهور أماراته من المرض والهرم وغيره ، ولم يرد إذا عاين ملك الموت ، لأنّ تلك الحالة تشغل الإنسان عن الوصيّة ، وأيضاً يجب أن يراعى جانب المعروف في مقدار الوصية والموصى له ، فمن يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف ، كما أنّ الإيصاء للغني دون الفقير خارج عن المعروف ، فانّ المعروف هو العدل الذي لا ينكر ، ولا حيف فيه ولا جور.

والآية صريحة في الوصية للوالدين ، ولا وارث أقرب للإنسان من والديه ، وقد خصّهما بالذكر لأولويّتهما بالوصية ثم عمّم الموضوع وقال : (وَالْأَقْرَبِينَ) ليعمّ كل قريب ، وارثاً كان أم لا.

وهذا صريح الكتاب ولا يصح رفع اليد عنه إلاّ بدليل قاطع مثله ، وقد أجاب القائلون بعدم الجواز عن الاستدلال بالآية بوجهين :

1. آية الوصية منسوخة بآية المواريث

قالوا : إنّها منسوخة بآية المواريث ، فعن ابن عباس والحسن : نسخت

ص : 160


1- البقرة : 180.

الوصية للوالدين بالفرض في سورة النساء (1) ، وتثبت للأقربين الذين لا يرثون ، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين ، وجماعة من أهل العلم.

ومنهم من يأبى كونها منسوخة ، وقال : بأنّها محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللَّذين لا يرثان كالكافرين والعبدين ، وفي القرابة غير الورثة. (2)

ومرجع الوجه الأوّل : إلى نسخ جواز الايصاء في الوالدين وانّه لا يوصى لهما مطلقاً وارثين كانا أو ممنوعين من الإرث لأجل الكفر والرق ، وتقييد جواز الإيصاء للأقربين بما إذا كانا غير وارثين.

ومرجع الوجه الثاني : إلى تقييدين ، تقييد جواز الايصاء للوالدين بما إذا كانا ممنوعين من الإرث ، وتقييد جواز الايصاء بالأقربين بما مرّ في الوجه الأوّل.

وقال الجصاص في تفسير الآية : نسختها آية الفرائض.

1. قال ابن جريج عن مجاهد : كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين. فهي منسوخة. (3)

2. وقالت طائفة أُخرى : قد كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين فنسخت عمّن يرث ، وجعلت للوالدين والأقربين الذين لا يرثون (4).

وعلى الوجه الأوّل فآية الوصية منسوخة بالمعنى الحقيقي ، وعلى الثاني مخصّصة حيث أخرج الوارث منهما وأبقى غير الوارث ، لكن لازم كون الوصية

ص : 161


1- (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ...) النساء : الآية 11.
2- الجامع لأحكام القرآن : 2 / 262 - 263.
3- سنن الدارمي : 2 / 419 مرسلاً عن قتادة.
4- أحكام القرآن : 1 / 164.

واجبة وبقاء الأقربين تحت العموم ، وجوب الوصية لغير الوارث منهما. وهو كما ترى.

تجد نظير هذه الكلمات في كتب التفسير والفقه لأهل السنّة ونعلّق عليها بوجهين :

الأوّل : إنّ السابر في كتب القوم يقف على أنّ الذي حملهم على ادّعاء النسخ والتخصيص في الآية هو رواية أبي أُمامة أو عمر بن خارجة وأنّه سمع رسول الله يقول في خطبته - عام حجة الوداع : ألا أنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث. (1) ولو لا هذه الرواية لما خطر في بال أحد بأنّ آية المواريث ناسخة لآية الوصية ، إذ لا تنافي بينهما قيد شعرة حتى تكون إحداهما ناسخة أو مخصّصة ، إذا لا منافاة أن يكتب سبحانه على الإنسان فرضاً أو ندباً أن يوصي للوالدين والأقربين بشيء ، لا يتجاوز الثلث ، وفي الوقت نفسه يُورِّث الوالدين والأقربين على النظام المعروف في الفقه.

والذي يوضح ذلك : هو أنّ الميراث ، في طول الوصيّة ، ولا يصح للمتأخّر أن يعارض المتقدّم ، وأنّ الورّاث يرثون بعد إخراج الدين والوصية ، قال سبحانه : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) (2) وفي ثلاثة موارد أُخرى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ) ... (تُوصُونَ) ... (يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) ، (3) فلا موضوع للنسخ ولا للتخصيص.

وقد تفطّن القرطبي لبعض ما ذكرنا وقال : ولو لا هذا الحديث لأمكن الجمع

ص : 162


1- سيوافيك نصّه وسنده.
2- النساء : 11.
3- النساء : 12.

بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورِّث بالوصية ، وبالميراث إن لم يوص ، أو ما بقى بعد الوصية ، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع. (1)

أقول : أمّا الإجماع ، فغير متحقّق ، وكيف يكون كذلك مع أنّ أئمة أهل البيت - كما سيوافيك - اتّفقوا على جوازه وكذلك فقهاء الإمامية طوال القرون وهم ثلث المسلمين ، وبعض السلف كما يحدّث عنه صاحب المنار ، وأمّا الحديث فسيوافيك ضعفه ، وأنّه على فرض الصحّة سنداً ، قابل للتأويل والحمل على ما زاد الإيصاء عن الثلث.

الثاني : إنّ ادّعاء النسخ أو التخصيص في الآية ، بآية المواريث ، متوقّف على تأخّر الثانية عن الأُولى وأنّى للقائل بهما إثباته؟! بل لسان آية الوصية بما فيها من التأكيد لأجل الإتيان بلفظ (كُتِبَ) وتوصيفه بكونه حقّاً على المؤمنين يأبى عن كونه حكماً مؤقتاً لا يدوم إلاّ شهراً أو شهوراً.

قال الإمام عبده : إنّه لا دليل على أنّ آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا فانّ السياق ينافي النسخ ، فانّ الله تعالى إذا شرّع للناس حكماً وعلم أنّه مؤقت وأنّه سينسخه بعد زمن قريب ، فانّه لا يؤكّده ولا يوثّقه بمثل ما أكّد به أمر الوصية هنا من كونه حقّاً على المتّقين ومن وعيد لمن بدّله.

ثم قال : وبإمكان الجمع بين الآيتين إذا قلنا إنّ الوصيّة في آية المواريث مخصوصة بغير الوارث بأن يخصّ القريب هنا بالممنوع من الإرث ولو بسبب اختلاف الدين ، فإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران ، فله أن يوصي لهما بما يؤلّف به قلوبهما. (2)

ص : 163


1- الجامع لأحكام القرآن : 1 / 263.
2- تفسير المنار : 2 / 136 - 137.

ولا يخفى ما في صدر كلامه من الإتقان لو لا ما تنازل في آخره وحاول الجمع بين الآيتين بتخصيص جواز الوصية لمن لا يرثان من الوالدين لسبب كالقتل والكفر والسرقة ، إذ لقائل أن يسأل الإمام أنّه إذا كان المراد من الوالدين والأقربين في آية الوصية هم الممنوعين من الوراثة ، فما معنى هذا التأكيد والعناية البارزة في الآية مع ندرة المصداق أو قلّته بالنسبة إلى غير الممنوعين ، أوَليس هذا أشبه بالتخصيص المستهجن فلا محيص عن القول بعموم الآية ، لكلّ والد ووالدة ، والأقربين ممنوعين كانوا أم غيرهم.

وأمّا ما يثيرون حول الإيصاء للوالدين من كونه سبباً لظهور العداء ، فقد مرّ جوابه في صدر البحث ، وهنا نزيد ما ذكره ذلك الإمام بقوله :

وجوّز بعض السلف الوصية للوارث نفسه بأن يخصّ بها من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنياً والبعض الآخر فقيراً. مثال ذلك أن يطلّق أبوه أُمّه وهو غنيّ ، ولا عائل لها إلاّ ولدها ، ويرى أنّ ما يصيبها من التركة لا يكفيها ، ومثله أن يكون بعض ولده أو إخوته - إن لم يكن له ولد - عاجزاً عن الكسب فنحن نرى أنّ الحكيم الخبير اللطيف بعباده ، الذي وضع الشريعة والأحكام لمصلحة خلقه ، لا يحكم أن يساوي الغني الفقير. والقادر على الكسب من يعجزه عنه ، فإذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنّهم سواسية في الحاجة كما أنّهم سواء في القرابة ، فلا غرو أن يجعل أمر الوصيّة مقدّماً على أمر الإرث ... ويجعل الوالدين والأقربين في آية أُخرى أولى بالوصيّة لهم من غيرهم لعلمه سبحانه وتعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحياناً ، فقد قال في آيات الإرث في سورة النساء : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي

ص : 164

بِها أَوْ دَيْنٍ) فأطلق أمر الوصية وقال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لتلك.

لقد بان الحق ممّا ذكرنا وانّ الذكر الحكيم أعطى للإنسان حقّ الإيصاء للوالدين لمصالح هو أعرف بها ، على حدّ لا يتجاوز الثلث ، وليكون إيصاؤه أيضاً على حدّ المعروف.

ويؤيّده إطلاق قوله سبحانه في ذيل آية المواريث قال سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (1). ويريد من الذيل الإحسان في الحياة والوصية عند الموت فانّه جائز. (2) وإطلاقه يعمّ الوارث وغيره.

والله سبحانه هو العالم بمصالح العباد ، فتارة يخصّ بعض الورّاث ببعض التركة عن طريق تنفيذ الوصية ما لم تتجاوز الثلث ، وأُخرى يوصي لغير الوارث بشيء منها ، يقول سبحانه : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً). (3)

والمراد من ذوي القربى الأخ للميت الشقيق وهو لا يرث ، وكذلك العم والخال والعمّة والخالة ويعدّون من ذوي القربى للوارث ، الذي لا يرثون معه وقد يسري إلى نفوسهم الحسد فينبغي التودّد إليهم ، واستمالتهم بإعطائهم شيئاً من ذلك الموروث ، بحسب ما يليق بهم ولو بصفة الهبة أو الهدية .... (4)

ص : 165


1- الأحزاب : 7.
2- الجامع لأحكام القرآن : 14 / 126.
3- النساء : 8.
4- تفسير المنار : 2 / 394.

2. آية الوصية منسوخة بالسنّة

اشارة

قد عرفت مدى صحّة نسخ الآية بآية المواريث فهلمّ معي ندرس منسوخية الآية بالسنّة التي رواها أصحاب السنن ولم يروها الشيخان : البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وإليك ما نقل سنداً ومتناً.

روى الترمذي في باب : ما جاء لا وصية لوارث :

1. حدثنا علي بن حجر وهنّاد قالا : حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني ، عن أبي أُمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول في خطبته عام حجة الوداع : إنّ الله قد أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ...

2. حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة : أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خطب على ناقته وأنا تحت جِرانها وهي تقصع بجرّتها (1) وإنّ نعامها يسيل بين كتفي فسمعته يقول : إنّ الله أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر .... (2).

وفي الاسناد : من لا يحتجّ به.

1. إسماعيل بن عياش

قال الخطيب : عن يحيى بن معين يقول : أمّا روايته عن أهل الحجاز فإنّ

ص : 166


1- «الجران» : هو من العنق ما بين المذبح إلى المنحر. و «تقصع بجرّتها» : أراد شدة المضغ وضمّ بعض الأسنان على بعض ، وقيل : قصع الجرّة : خروجها من الجوف إلى الشدق. النهاية.
2- سنن الترمذي : 4 / 433 ، باب ما جاء لا وصية لوارث ، الحديث 21212120.

كتابه ضاع ، فخلط في حفظه عنهم.

وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن علي بن المديني : كان يوثق فيما روى عن أصحابه أهل الشام فأمّا من روى عن غير أهل الشام ففيه ضعف.

وقال عمر بن علي : كان عبد الرحمن بن المهدي : لا يحدّث عن إسماعيل بن عياش. (1)

وقال ابن منظور : وقال مضر بن محمد الأسدي ، عن يحيى : إذا حدّث عن الشاميين وذكر الخبر فحديثه مستقيم ، فإذا حدّث عن الحجازيين والعراقيين خلط ما شاء. (2)

وقال الحافظ جمال الدين المزّي : قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سئل أبي عن إسماعيل بن عياش فقال : نظرت في كتابه عن يحيى بن سعيد أحاديث صحاح ، وفي «المصنّف» أحاديث مضطربة.

وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن دحيم : إسماعيل بن عياش في الشاميّين غاية ، وخلط عن المدنيّين.

وقال أحمد بن أبي الحواري : سمعت وكيعاً يقول : قدم علينا إسماعيل بن عياش فأخذ منّي أطرافاً لاسماعيل بن أبي خالد ، فرأيته يُخلِّط في أخذه.

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : ما أشبه حديثه بثياب سابور يُرقّم على الثوب المائة ، وأقلّ شرائه دون عشرة. قال : كان من أروى الناس عن الكذابين.

وقال أبو إسحاق الفزاري في حقّه : ذاك رجل لا يدري ما يخرج من رأسه. (3)

ص : 167


1- تاريخ بغداد : 6 / 227226.
2- مختصر تاريخ دمشق : 4 / 376.
3- تهذيب الكمال : 3 / 178175.

ونقل الترمذي بعد ذكر الحديث عن أبي إسحاق الفزاري : ولا تأخذوا عن إسماعيل بن عياش ما حدّث عن الثقات ولا عن غير الثقات. (1)

2. شرحبيل بن مسلم الخولاني الشامي

قال ابن معين : ضعيف واختُتِنَ في ولاية عبد الملك بن مروان ، ووثّقه الآخرون. (2)

3. شهر بن حوشب

تابعي توفّي حدود عام 100.

قال النسائي : ليس بالقوي. (3)

وقال يحيى بن أبي بكر الكرماني عن أبيه : كان شهر بن حوشب على بيت المال فأخذ خريطة فيها دراهم ، فقال القائل :

لقد باع شهر دينه بخريطة

فمن يأمن القرّاء بعدك يا شهرُ(4)

وقال جمال الدين المزّي : قال شبابة بن سوّار عن شعبة : ولقد لقيت شهراً فلم أعتد به. وقال عمرو بن علي : كان يحيى لا يُحدِّث عن شهر بن حوشب. وقال أيضاً : سألت ابن عون عن حديث هلال بن أبي زينب عن شهر ... فقال : ما يُصنع بشهر إنَّ شعبة نزك شهراً. فقال النضر : نزكوه. أي طعنوا فيه.

ص : 168


1- سنن الترمذي : 4 / 433 ، الحديث 2120.
2- تهذيب الكمال : 12 / 431 برقم 1721.
3- الضعفاء والمتروكين : 134 برقم 310.
4- تهذيب التهذيب : 4 / 286 ، برقم 570.

وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني : أحاديثه لا تشبه حديث الناس. وقال موسى بن هارون : ضعيف. وقال علي بن المديني : كان يحيى بن سعيد لا يحدّث عن شهر ، وقال يعقوب بن شيبة : ... على أنّ بعضهم قد طعن فيه. (1)

3. روى أبو داود : حدثنا عبد الوهاب بن نجدة ، حدثنا ابن عياش ، عن شرحبيل بن مسلم : سمعت أبا أُمامة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : «إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا وصية لوارث». (2)

والاسناد مشتمل على إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم وقد عرفت حالهما. فلاحظ.

4. روى النسائي : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة قال : خطب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصية لوارث.

5. أخبرنا إسماعيل بن مسعود ، قال : حدّثنا خالد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدّثنا قتادة عن شهر بن حوشب ، أنّ ابن غنم ذكر أنّ ابن خارجة ذكر له أنّه شهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب الناس على راحلته ، وإنّها لتقصع بجرّتها وإنّ نعامها ليسيل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطبته : إنّ الله قد قسّم لكل إنسان قسمة من الميراث ، فلا تجوز لوارث وصية.

فالإسنادان مشتملان على شهر بن حوشب ، وقد تعرّفت عليه.

6. أخبرنا عتبة بن عبد الله المروزي قال : أنبأنا عبد الله بن المبارك ، قال : أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قتادة ، عن عمرو بن خارجة قال : قال رسول

ص : 169


1- تهذيب الكمال : 12 / 581.
2- سنن أبي داود : 3 / 114 ، باب ما جاء في الوصية للوارث ، برقم 2870.

الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّ الله عزّ اسمه قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا وصيّة لوارث». (1)

وقد اشتمل الإسناد على قتادة بن دعامة بن قتادة : أبو الخطاب البصري (11761 ه) الذي ورد في حقّه عن حنظلة بن أبي سفيان : كنت أرى طاوساً إذا أتاه قتادة يسأله يفرّ منه ، قال : وكان قتادة يتّهم بالقَدَر.

وقال علي بن المديني : قلت ليحيى بن سعيد : إنّ عبد الرحمن يقول : اترك كلّ من كان رأساً في بدعة يدعو إليها. قال : كيف تصنع بقتادة ...؟ ثم قال يحيى : إنْ تَرَكَ هذا الضرب ، تَرَكَ ناساً كثيراً.

وقال الحاكم في علوم الحديث : لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس.

وقال أبو داود : حدّث قتادة عن ثلاثين رجلاً لم يسمع منهم. (2)

7. روى ابن ماجة : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يزيد بن هارون : أنبأنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة : أنّ النبيّ خطبهم وهو على راحلته ، وإنّ راحلته لتقصع بجرّتها ، وإنّ لُغامَها ليسيل بين كتفيَّ ، قال : إنّ الله قسّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث ، فلا يجوز لوارث وصية ، والولد للفراش ...

الإسناد مشتمل على شهر بن حوشب ، وقد مرّ الكلام فيه.

8. حدثنا هشام بن عمّار ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني : سمعت أبا أُمامة الباهلي يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول في خطبته ، عام حجّة

ص : 170


1- سنن النسائي : 6 / 207 ، كتاب الوصايا ، باب إبطال الوصية للوارث. الحديث بأسناده الثلاثة ينتهي إلى عمرو بن خارجة الذي قال البزار في حقّه : إنّه لا نعلم له عن النبي إلاّ هذا الحديث.
2- تهذيب التهذيب : 8 / 319 ؛ تهذيب الكمال : 23 / 509.

الوداع : إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ، فلا وصية لوارث.

وفي الاسناد إسماعيل بن عياش ، وقد عرفت حاله.

9. حدثنا هشام بن عمّار ، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور ، حدثنا عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر ، عن سعيد بن أبي سعيد ، أنّه حدّثه عن أنس بن مالك قال : إنّي لتحت ناقة رسول الله ، يسيل عليَّ نعامها ، فسمعته يقول : إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه ألا لا وصية لوارث. (1)

وفي السند ، من لا يحتج به :

1. عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي ، أبو عتبة الشامي (المتوفّى عام 153 ه).

قال الفلاس : ضعيف الحديث ... روى عن أهل الكوفة أحاديث مناكير. (2)

2. سعيد بن أبي سعيد ، واسمه كيسان المقبري أبو سعد المدني (المتوفّى عام 125 ه).

قال يعقوب بن شيبة : قد كان تغيّر واختلط قبل موته يقال بأربع سنين ، وقال الواقدي : اختلط قبل موته بأربع سنين ، وقال ابن حبّان في «الثقات» : اختلط قبل موته بأربع سنين. (3)

10. روى الدارقطني : نا أبو بكر النيسابوري ، نا يوسف بن سعيد ، نا حجاج ، عن جريج ، عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : لا تجوز

ص : 171


1- سنن ابن ماجة : 2 / 905 ، كتاب الوصايا ، باب لا وصية لوارث ، الأحاديث 2712 - 2714.
2- تهذيب التهذيب : 6 / 266 برقم 581.
3- المصدر نفسه : 4 / 34 برقم 61.

الوصية لوارث إلاّ أن يشاء الورثة.

وفي الاسناد عطاء بن أبي مسلم الخراساني (50 - 135 ه).

قال الدارقطني : لم يلق ابن عباس.

وقال أبو داود : ولم يدرك ابن عباس ولم يره.

البخاري قد ذكر عطاء الخراساني في الضعفاء ... والبخاري لم يخرج له شيئاً.

وقال ابن حبّان : كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم ، فبطل الاحتجاج به. (1)

وقال البيهقي : عطاء هذا هو الخراساني لم يدرك ابن عباس ولم يره. قاله أبو داود السجستاني وغيره ، وقد روى من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس. (2)

11. نا علي بن إبراهيم بن عيسى ، نا أحمد بن محمد الماسرجسي ، نا عمرو ابن زرارة ، نا زياد بن عبد الله ، نا إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن عمرو بن خارجة قال : قال رسول الله : لا وصية لوارث إلاّ أن يجيز الورثة.

ولو صحّ الاسناد ، فهو محمول على ما إذا زاد عن الثلث كما سيأتي نقله.

12. نا عبيد الله بن عبد الصمد بن المهتدي ، نا محمد بن عمرو بن خالد ، نا أبي ، عن يونس بن راشد ، عن عطاء الخراساني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله : «لا يجوز لوارث وصية إلاّ أن يشاء الورثة». (3)

ولا أظنّ أن فقيهاً يحتجّ بحديث في سنده :

ص : 172


1- المصدر نفسه : 7 / 190 برقم 395.
2- السنن الكبرى : 6 / 264.
3- سنن الدار قطني : 4 / 152 «الوصايا» الحديث 10 و 11.

عكرمة البربري : أبو عبد الله المدني ، مولى ابن عباس : وقد عرّفه أهل الرجال بما يلي :

قال ابن لهيعة : عن أبي الأسود : كان عكرمة قليل العقل خفيفاً ، كان قد سمع الحديث من رجلين ، وكان إذا سئل حدّث به عن رجل يسأل عنه بعد ذلك ، فيحدّث به عن الآخر ، فكانوا يقولون : ما أكذبه.

وقال يحيى بن معين : إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة ، لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية (طائفة من الخوارج) وقال عطاء : كان إباضياً.

وقال أبو خلف الخزاز ، عن يحيى البكاء : سمعت ابن عمر يقول لنافع : اتّق الله ويحك يا نافع ولا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.

وعن سعيد بن المسيب أنّه كان يقول لغلامه : لا تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس.

وعن عطاء الخراساني : قلت لسعيد بن المسيب : إنّ عكرمة يزعم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تزوّج ميمونة وهو محرم ، فقال : كذب مخبثان.

وقال سعيد بن جبير : كذب عكرمة.

وقال وهيب بن خالد عن يحيى بن سعيد الأنصاري : كان كذّاباً.

وكان مالك لا يرى عكرمة ثقة ويأمر أن لا يؤخذ عنه.

وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل : ... وعكرمة مضطرب الحديث يختلف عنه.

وقال ابن علية : ذكره أيوب فقال : قليل العقل.

وقال الحاكم : أبو أحمد احتجّ بحديثه الأئمّة القدماء لكن بعض المتأخرين

ص : 173

أخرج حديثه من حيز الصحاح. (1)

13. نا أحمد بن كامل ، نا عبيد بن كثير ، نا عباد بن يعقوب ، نا نوح بن دراج ، عن أبان بن تغلب ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه قال : قال رسول الله : لا وصية لوارث ولا إقرار بدين.

وفي الاسناد من لا يحتجّ به أهل السنّة ، وهو نوح بن دراج (المتوفّى عام 182 ه) والحديث نقل محرّفاً.

فقد تضافر عن جعفر بن محمد ، صحّة الوصية للوارث إلاّ إذا تجاوز عن الثلث ، فانّه إضرار بالورثة ويؤيّده ذيل الحديث «ولا إقرار بدين» والإقرار بالدين ، والإيصاء فوق الثلث مظنّة الإضرار بالورثة.

14. نا أحمد بن زياد ، نا عبد الرحمن بن مرزوق ، نا عبد الوهاب ، نا سعيد ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة قال : خطبنا رسول الله بمنى فقال : إنّ الله عزّ وجلّ قد قسّم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث ، فلا يجوز لوارث وصية إلاّ من الثلث.

قال : ونا سعيد بن مطر ، عن شهر ، عن عمرو بن خارجة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مثله. (2)

والسند مشتمل على شهر بن حوشب ، والمتن يؤيد مقالة الإمامية حيث قال : فلا يجوز لوارث وصية إلاّ من الثلث.

15. روى الدارمي : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام الدستوائي ، حدثنا قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن عمرو بن خارجة ، قال :

ص : 174


1- تهذيب التهذيب : 7 / 234 رقم 476.
2- سنن الدارقطني : 4 / 152 «الوصايا» الحديث 12 و 13.

كنت تحت ناقة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهي تقصع بجرّتها ونعامها وينوص بين كتفي ، سمعته يقول : ألا إنّ الله قد أعطى كلّ ذي حقّ حقّه فلا يجوز وصية لوارث. (1)

وفي الاسناد شهر بن حوشب وكفى به ضعفاً.

16. روى البيهقي بأسانيد مختلفة ، لا تخلو من ضعف.

فالأوّل مقطوع برواية عطاء عن ابن عباس ، وقد عرفت عدم إدراكه له ، وعطاء هذا هو عطاء الخراساني.

والثاني مشتمل على رواية : عطاء عن عكرمة عن ابن عباس ، وقد عرفت حال الرجلين.

والثالث أيضاً مثل الثاني.

والرابع مشتمل على الربيع بن سليمان ، الذي كان يوصف بغفلة شديدة ، وعن الشافعي أنّه ليس بثبت وإنّما أخذ أكثر الكتب من آل البويطي بعد موت البويطي. (2)

وعلى سفيان بن عيينة (المتوفّى عام 198) قال محمد بن عبد الله بن عمّار : سمعت يحيى بن سعيد يقول : اشهدوا أنّ سفيان بن عيينة اختلط سنة 197 ، فمن سمع في هذه السنة وبعدها ، سماعه لا شيء. (3)

وعلى مجاهد بن جبر المكّي المولود في خلافة عمر (المتوفّى عام 100 ه) فمضافاً إلى أنّ الرواية مقطوعة فقد ورد في حقّه : مجاهد معلوم التدليس ، فعنعنته لا تفيد الوصل. (4)

ص : 175


1- سنن الدارمي : 2 / 419 ، باب الوصية للوارث.
2- تهذيب التهذيب : 3 / 213 برقم 473.
3- تهذيب الكمال : 11 / 196.
4- تهذيب التهذيب : 10 / 40 برقم 68.

والخامس مشتمل على ابن عياش وشرحبيل بن مسلم ، وقد تعرّفت عليهما.

والسادس مشتمل على شهر بن حوشب.

والسابع مشتمل على حماد بن سلمة عن قتادة ، والسند إمّا مقطوع أو موصول بواسطة شهر بن حوشب بقرينة الرواية السابقة.

والثامن مشتمل على إسماعيل بن مسلم ، وهو مردّد بين العبدي (أبو محمد البصري) والمكي (أبو إسحاق البصري) الذي ضعّفه جمال الدين المزّي بقوله : قال عمرو بن علي : كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدّثان عن إسماعيل المكي.

وقال أبو طالب : قال أحمد بن حنبل : إسماعيل بن مسلم المكي منكر الحديث.

وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين : إسماعيل بن مسلم المكي ليس بشيء. وكذلك قال عثمان بن سعيد الدارمي وأبو يعلى الموصلي عن يحيى.

وعن علي بن المديني : إسماعيل بن مسلم المكي لا يكتب حديثه ... وكان ضعيفاً في الحديث ... يكثر الخلط.

وقال أبو زرعة : هو بصري سكن مكة ، ضعيف الحديث.

وقال النسائي : ... متروك الحديث. وقال في موضع آخر : ليس بثقة. (1)

والتاسع مشتمل على عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي ، وسعيد بن أبي سعيد ، وقد تعرّفت عليهما.

والعاشر مشتمل على سفيان بن عيينة وقد تعرّفت عليه ؛ وعلى طاوس بن كيسان اليماني ، وهو تابعي لم يدرك النبيّ ، وإنّما ينقل ما ينقل عن ابن عباس. (2).

17. روى الحافظ سعيد بن منصور المكي (المتوفّى 227) في سننه هذا

ص : 176


1- تهذيب الكمال : 3 / 198 برقم 483.
2- سنن البيهقي : 6 / 265264.

الحديث بأسانيد مختلفة.

فالأوّل - مضافاً إلى أنّه مقطوع بمجاهد - : مشتمل على سفيان بن عيينة.

والثاني : مقطوع بعمرو بن دينار (المتوفّى حدود عام 125 ه) ومشتمل على سفيان بن عيينة.

والثالث : مشتمل على إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم.

والرابع : مشتمل على شهر بن حوشب.

والخامس : مشتمل على سفيان بن عيينة وهشام بن حجر المكي الذي ضعّفه يحيى بن معين ، وعن غيره أنّه يضرب على حديثه ، وعن أبي داود أنّه ضرب الحدّ بمكة. (1)

18. روى عبد الرزاق بن همام الصنعاني (211176 ه) بسند ينتهي إلى شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة ، قال : سمعت رسول الله يقول : لا وصية لوارث. (2) وقد تعرفت على حال «شهر».

ملاحظات على نسخ الآية بالسنّة

ويلاحظ على هذه الإجابة - أي نسخ الكتاب بهذه الروايات - بوجوه :

1. الكتاب العزيز ، قطعي السند ، وصريح الدلالة في المقام. وظاهر الآية كون الحكم أمراً أبدياًّ وأنّه مكتوب على المؤمنين ، وهو حقّ على المتّقين ، أفيصح نسخه أو تخصيصه برواية لم يسلم سند منها عن خلل ونقاش فرواتها : مخلّط ، من أروى الناس عن الكذابين ، لا يرى ما يخرج من رأسه ، إلى ضعيف أُختُتِنَ في كبر

ص : 177


1- تهذيب التهذيب : 11 / 32 برقم 74.
2- المصنف : 9 / 70 برقم 16376.

سنِّه ، إلى بائع دينه بخريطة ، إلى مسنِد ولم ير المسند إليه ، إلى محدود أُجري عليه الحد في مكة ، إلى خارجيّ يُضرب به المثل ، إلى ، إلى ، إلى .... (1)

ولو قلنا بجواز نسخ الكتاب فانّما نقول به إذا كان الناسخ ، دلالة قرآنية أو سنّة قاطعة.

2. كيف يمكن الاعتماد على رواية ، تدّعي أنّ النبي الأكرم خطب في محتشد كبير لم ينقل لنا التاريخ له مثيلاً في حياة النبي إلاّ في وقعة الغدير ، وقال : إنّه لا وصية لوارث ، ولم يسمعه أحد من الصحابة إلاّ أعرابي مثل عمرو بن خارجة الذي ليس له رواية عن رسول الله سوى هذه (2) ، أو شخص آخر كأبي أُمامة الباهلي وهذا ما يورث الاطمئنان على وجود الخلل فيها سنداً أو دلالة.

3. لو سلم أنّ الحديث قابل للاحتجاج ، لكنّه لا يعادله ولا يقاوم ما تواتر عن أئمّة أهل البيت من جواز الوصية للوارث. فهذا هو محمد بن مسلم أحد فقهاء القرن الثاني ، من تلاميذ أبي جعفر الباقر - عليه السلام - يقول : سألت أبا جعفر عن الوصية للوارث؟ فقال : «تجوز» ، ثم تلا هذه الآية : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ). (3)

وهذا أبو بصير المرادي شيخ الشيعة في عصر الصادق - عليه السلام - يروي عنه أنّه سأله عن الوصية للوارث؟ فقال : تجوز. (4)

4. أنّ التعارض فرع عدم وجود الجمع الدلالي بين نصّ الكتاب والحديث ،

ص : 178


1- لاحظ ما نقلناه عن أئمة الرجال في حق رواة الحديث ونقلته.
2- الاصابة : 2 / 527 ؛ تهذيب الكمال : 21 / 599 ؛ الثقات : 3 / 271.
3- وسائل الشيعة : 13 ، الباب 15 من أبواب أحكام الوصايا ، الحديث 2 و 3 ، وفيه ثلاثة عشر حديثاً تصرِّح بجواز الوصية للوارث.
4- وسائل الشيعة : 13 ، الباب 15 من أبواب أحكام الوصايا ، الحديث 2 و 3 ، وفيه ثلاثة عشر حديثاً تصرِّح بجواز الوصية للوارث.

إذ من المحتمل جداً أنّ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكر قيداً لكلامه ، ولم يسمعه الراوي أو سمعه ، وغفل عن نقله ، أو نقله ولم يصل إلينا وهو أنّه مثلاً قال : «ولا تجوز وصية للوارث» إذا زاد عن الثلث أو بأكثر منه ، كما ورد كذلك من طرقنا ، وطرق أهل السنّة. وقد عرفت : أنّ الدارقطني نقله عن الرسول الأكرم بهذا القيد. (1) وقد ورد من طرقنا عن النبي الأكرم أنّه قال في خطبة الوداع : «أيّها الناس إنّ الله قد قسّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث ، ولا تجوز وصية لوارث بأكثر من الثلث».(2) وبعد هذه الملاحظات لا يبقى أيّ وثوق بالرواية المنقولة بالصورة الموجودة في كتب السنن.

أضف إلى ذلك : أنّ الإسلام دين الفطرة ، ورسالته خاتمة الرسالات ، فكيف يصحّ أن يسد باب الإيصاء للوارث ، مع أنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى الإيصاء للوارث ، بعيداً عن الجور والحيف ، من دون أن يثير عداء الباقين وحسد الآخرين كما إذا كان طفلاً ، أو مريضاً ، أو معوّقاً أو طالب علم ، لا يتسنّى له التحصيل إلاّ بعون آخرين.

كل ذلك يدعو فقهاء المذاهب في الأمصار ، إلى دراسة المسألة من الأصل عسى أن يتبدّل المختلف إلى المؤتلف والخلاف إلى الوفاق بفضله وكرمه سبحانه.

قد عرفت أنّ مصدر الحكم عند القوم هو الروايات التي تعرفت على ضعفها ومقدار دلالتها ، وربّما يستدلّ بوجه غريب : انّ المال حينئذ صار للورثة ، فحكم الموصي فيما استحقوه بالميراث باطل ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» فليس لهم إجازة الباطل ، لكن إن أحبوا أن

ص : 179


1- لاحظ الرقم 14 ممّا سلف وفيه : فلا يجوز لوارث وصية إلاّ من الثلث.
2- تحف العقول : 34.

ينفذوا الوصية من مالهم باختيارهم ، فلهم التنفيذ ، ولهم حينئذ أن يجعلوا الأجر لمن شاءوا.

يلاحظ عليه : ما هو الدليل لقوله : «المال حينئذ صار للورثة فحكم الموصي فيما استحقّوه بالميراث باطل.

فإن كان الدليل هو الرواية ، أعني قوله : «لا وصية لوارث» فقد عرفت ضعف الرواية وانّها لا تقاوم الذكر لحكيم أوّلاً ، وإمكان الجمع بينهما ثانياً.

وإن كان الدليل قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّ دماءكم وأولادكم وأعراضكم عليكم حرام» كما هو الظاهر من ذيل كلامه ففيه انّه لم يدل دليل على أنّ الموصى به ملك للورثة ينتقل منهم إلى الموصى له ، بل ظاهر الآية انّ المنقول من التركة إلى الوارث مخصص بغير الدين والوصية ، فمقدار الدين وما أوصى به لا ينتقلان إلى الورثة حتّى ينتقلا إلى الموصى له ، بل المنقول إليهم مضيق من أوّل الأمر بغير الدين والوصية ، ويدلّ عليه قوله سبحانه في موردين :

أ. (فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ).

ب. (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ).

ص : 180

21- المسلم يرث الكافر دون العكس

اشارة

ص : 181

ص : 182

المسلم يرث الكافر دون العكس

اشارة

إنّ للإرث في الفقه الإسلامي موجبات وموانع

أمّا الموجبات له فسببان : النسب والسبب. وقد قيل :

الإرث في الشرع بأمرين وجب

بالنسب الثابت شرعاً وسبب

وأمّا الموانع فهي : الكفر ، والقتل ، والرقّ ، فنُهمِلُ الكلامَ في المانعين الأخيرين ، ونركّز على المانع الأوّل ضمن مسألتين :

الأُولى : توريث الكافر من المسلم

لا يرث الكافر المسلم مطلقاً ، إجماعاً محقّقاً بين المسلمين ، مع تضافر الروايات عليه.

قال المفيد في «المقنعة» : ولا يرث كافر مسلماً على حال. (1)

وقال الطوسي في «المبسوط» : والكافر لا يرث المسلم بلا خلاف. (2)

وقال ابن قدامة : أجمع أهل العلم على أنّ الكافر لا يرث المسلم. (3)

وبما انّ هذه المسألة ممّا لم يختلف فيها اثنان ، وهي مورد اتفاق بين الفريقين نكتفي بهذا المقدار ونركّز البحث على المسألة الثانية.

ص : 183


1- المقنعة : 700.
2- المبسوط : 4 / 79.
3- المغني : 6 / 340.

الثانية : توريث المسلم من الكافر

اشارة

هذه المسألة اختلفت فيها كلمات الفقهاء ، فالإمامية ولفيف من غيرهم على أنّه يرث الكافر ، ولكن الأكثرية من غيرهم على المنع.

وتحقيق الكلام في هذه المسألة التي أصبحت مثار بحث وجدل واسع بين المذهبين ، يتم ببيان أُمور :

ص : 184

1- استعراض كلمات الفقهاء

1. قال الشيخ الطوسي : ذهبت الإمامية قاطبة تبعاً لأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ، ومعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان من الصحابة ، ومسروق وسعيد وعبد الله بن معقل ومحمد بن الحنفية وإسحاق بن راهويه من التابعين إلى أنّ المسلم يرث الكافر.

وقال جمهور الصحابة والفقهاء على أنّه لا يرث المسلم الكافر. (1)

2. وقال ابن قدامة : قال جمهور الصحابة والفقهاء : لا يرث المسلم الكافر. يروى هذا عن أبي بكر وعثمان وعلي وأُسامة بن زيد وجابر بن عبد الله ، وبه قال عمرو بن عثمان وعروة والزهري وعطاء وطاوس والحسن وعمر بن عبد العزيز وعمرو بن دينار والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وعامّة الفقهاء ، وعليه العمل.

وروي عن عمر ومعاذ ومعاوية ، أنّهم ورَّثوا المسلم من الكافر ولم يورِّثوا الكافر من المسلم. وحكي ذلك عن محمد بن الحنفية ، وعلي بن الحسين ، وسعيد بن المسيب ، ومسروق ، وعبد الله بن معقل ، والشعبي ، والنخعي ، ويحيى بن يعمر ،

ص : 185


1- الخلاف : 4 / 23 ، كتاب الفرائض ، المسألة 16.

وإسحاق ؛ وليس بموثوق به عنهم ، فإنّ أحمد قال : ليس بين الناس اختلاف في أنّ المسلم لا يرث الكافر. (1)

وجدير بالذكر انّهم ينسبون عدم الإرث إلى عليّ - عليه السلام - وعلي بن الحسين المعروف بزين العابدين - عليه السلام - مع أنّ روايات أئمة أهل البيت متضافرة على خلافه كما سيوافيك.

ص : 186


1- المغني : 6 / 340.
2- الكتاب حجّة قطعية لا يعدل عنه إلاّ بدليل قطعي

إنّ الكتاب حجّة قطعية سنداً ودلالة في غير المجملات والمبهمات والمتشابهات ولا ترفع اليد عن مثله إلاّ بدليل قطعي آخر ، فإنّ كون الكتاب حجّة ليس ككون خبر الواحد حجّة ، بل هو من الحجج القطعية الذي لا يعادله شيء إلاّ نفس كلام المعصوم ، لا الحاكي عنه الذي يحتمل أن يكون كلام المعصوم أو موضوعاً على لسانه ، وقد سمّاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث الثقلين بالثقل الأكبر ، ومعه كيف يمكن رفع اليد عن ظواهر القرآن بخبر الواحد وإن كان ثقة؟!

ولذلك قلنا في الأُصول : إنّ رفع اليد عن إطلاق الكتاب وعمومه بمجرّد ورود خبر ثقة مشكل جدّاً ، إلاّ إذا احتفّ الخبر بقرينة توجب اطمئنان الإنسان بصدوره من المعصوم يجعله بمثابة تسكن النفس إليه ، ولأجل ذلك لم تجوّز طائفة من الأُصوليّين تخصيص القرآن بخبر الواحد.

قال الشيخ الطوسي - بعد نقل الآراء في تخصيص الكتاب وتقييده بخبر الواحد - :

والذي أذهب إليه انّه لا يجوز تخصيص الكتاب بها [بأخبار الآحاد] على

ص : 187

كلّ حال ، سواء خُصّ أم لم يخصّ ، بدليل متّصل أو منفصل ، والذي يدلّ على ذلك انّ عموم القرآن يوجب العلم ، وخبر الواحد يوجب غلبة الظن ، ولا يجوز أن يترك العلم بالظن على حال ، فوجب بذلك أن لا يخصّ العموم به. (1)

وأيّده المحقّق الحلّيّ فقال : لا نسلّم انّ خبر الواحد دليل على الإطلاق ، لأنّ الدلالة على العمل به ، هي الإجماع على استعماله فيما لا يوجد عليه دلالة فإذا وجدت الدلالة القطعية سقط وجوب العمل. (2)

وحاصل كلامهما وجود الشكّ في سعة دليل حجّية خبر الواحد ، وانّه هل يعمّ ما إذا كان في المورد دليل قطعي مثل الكتاب؟!

إنّ كثيراً من الأُصوليّين وإن كانوا يتعاملون مع الكتاب العزيز معاملة سائر الحجج ، أعني : السنّة الحاكية ، لكنّ الكتاب أعظم شأناً من أن يكون عِدْلاً لأمثالها بل هو حجة قطعية ، فعموم القرآن وإطلاقاته حجّة على المجتهد إلاّ إذا وقف على حجّة أُخرى تسكن النفس إليها ويطمئن بها المجتهد ، فعند ذلك يقيّد عموم القرآن وإطلاقاته به.

إذا عرفت ذلك فلندخل في صلب الموضوع ونقدّم أدلّة القائلين بالإرث على أدلّة نفاته.

ص : 188


1- عدّة الأُصول : 1 / 135.
2- المعارج : 46.
3- أدلّة القائلين بإرث المسلم من الكافر
اشارة

استدلّ القائلون بأنّ المسلم يرث الكافر مطلقاً ، كتابياً كان أو وثنياً بوجوه :

1. إطلاقات الكتاب العزيز

إنّ مقتضى إطلاقات الكتاب وعموماته ، هو التوارث في الحالتين ، من دون فرق بين إرث الكافر ، المسلم وبالعكس ، قال سبحانه :

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). (1)

وقال سبحانه : (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ ...). (2)

ص : 189


1- النساء : 11.
2- النساء : 12

وقال سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ...). (1)

غير أنّ الدليل القطعي وهو اتّفاق المسلمين قام على إخراج إرث الكافر من المسلم من تحت هذه الإطلاقات والعمومات.

وأمّا إرث المسلم من الكافر فخروجه رهن دليل قطعي تسكن إليه النفس حتّى يعد عديلاً للقرآن في الحجّية ويخصّ الكتاب أو يقيّد بهذا الدليل ، فلا بدّ من دراسة الروايات التي استدلّ بها على عدم توريث المسلم من الكافر ، وانّه هل هي بهذه المثابة أو لا؟ وستتم دراسته في الفصل القادم.

2. إجماع الإمامية على الإرث

اتّفقت الإمامية على أنّ المسلم يرث الكافر مطلقاً ، ولم يختلف فيه اثنان منهم ، وقد مرّت الإشارة إلى إجماع الطائفة في كلام الشيخ الطوسي ، ولنذكر غيرها ، حتّى يتّضح اتّفاقهم في المسألة.

1. قال المفيد (336 - 413 ه) : ويرث أهل الإسلام بالنسب والسبب أهلَ الكفر والإسلام ، ولا يرث كافر مسلماً على كلّ حال. فإن ترك اليهودي ، أو النصراني ، أو المجوسي ، ابناً مسلماً وابناً على ملّته ، فميراثه عند آل محمد لابنه المسلم دون الكافر ؛ ولو ترك أخاً مسلماً وابناً كافراً ، حجب الاخُ المسلم الابنَ في الميراث وكان أحقّ به من الابن الكافر ، وجرى الابن الكافر مجرى الميت في حياة أبيه ، أو القاتل الممنوع بجنايته من الميراث. (2)

2. وقال السيد المرتضى (355 - 436 ه) في «الانتصار» : وممّا انفردت به

ص : 190


1- النساء : 176.
2- المقنعة : 700.

الإمامية عن أقوال باقي الفقهاء في هذه الأزمان القريبة وإن كان لها موافق في متقدّم الزمان : القول بأنّ المسلم يرث الكافر وإن لم يرث الكافر ، المسلم.

وقد روى الفقهاء في كتبهم موافقة الإمامية على هذا المذهب عن سيدنا علي بن الحسين - عليه السلام - ومحمد بن الحنفية وعن مسروق وعبد الله بن معقل المزني وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر ومعاذ بن جبل ، ومعاوية بن أبي سفيان. (1)

3. وقال الطوسي (385 - 460 ه) : والكافر لا يرث المسلم بلا خلاف ، والمسلم يرث الكافر عندنا ، حربياً كان أو ذمّيّاً ، أو كافر أصل ، أو مرتداً عن الإسلام. (2)

4. وقال ابن زهرة (585511 ه) : إنّ الكافر لا يرث المسلم ، فأمّا المسلم فانّه يرث الكافر عندنا وإن بعد نسبه. ويدلّ على ذلك الإجماع الماضي ذكره ، وظاهر آيات الميراث ، لأنّه إنّما يخرج من ظاهرها ما أخرجه دليل قاطع. (3)

5. وقال ابن إدريس (539 - 598 ه) : قد بيّنا فيما مضى انّ الكافر لا يرث المسلم ، فأمّا المسلم فانّه يرث الكافر عندنا وإن بعد نسبه ويحجب من قرب عن الميراث بلا خلاف بيننا. (4)

6. وقال الكيدري (... - 600 ه) : المسلم يرث الكافر ، وإن بعد نسبه ، أمّا بالعكس فلا ، كما مضى.

7. و (5) قال المحقّق الحلي : (602 - 676 ه) : ويرث المسلم الكافر ، أصلياً

ص : 191


1- الانتصار : 587 ، المسألة 323.
2- المبسوط : 4 / 79.
3- غنية النزوع : 328 ، تحقيق مؤسسة الإمام الصادق - عليه السلام -.
4- السرائر : 3 / 266.
5- إصباح الشيعة بمصباح الشريعة : 370.

ومرتداً ، ولو مات كافر وله ورثة كفّار ، ووارث مسلم ، كان ميراثه للم (1) سلم.

8. قال الشهيد الثاني - معلّقاً على كلام المحقّق «ويرث المسلم الكافر» : هذا موضع وفاق بين الأصحاب. (2)

إلى غير ذلك من الكلمات الّتي يجدها الباحث في مظانّها ، ولا حاجة إلى نقلها تفصيلاً.

وهذا النوع من الإجماع الموسوم بالإجماع المحصّل حجّة بنفسه حسب أُصول المخالفين ، وكاشف عن رأي المعصوم على أُصولنا ، وهو حجّة قطعية لا يعدل عنها إلى غيرها.

3. الروايات المتضافرة عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام -

قد تضافرت الروايات على أنّ المسلم يرث الكافر ولا عكس ، وقد جمعها الشيخ الحرّ العاملي في كتاب الفرائض الباب الأوّل من أبواب موانع الإرث ، وهي تناهز عشر روايات ، وإليك استعراضها :

1. أخرج الصدوق بسند صحيح عن أبي ولاّد ، قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «المسلم يرث امرأته الذمّيّة ، وهي لا ترثه». (3)

ومورد الرواية هو إرث المسلم زوجته ، ولكن المورد غير مخصّص خصوصاً بقرينة ما يأتي من المطلقات والعمومات.

2. أخرج الصدوق عن الحسن بن صالح ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «المسلم يحجب الكافر ويرثه ، والكافر لا يحجب المسلم ولا يرثه». (4)

ص : 192


1- الشرائع : 2 / 814.
2- مسالك الأفهام : 13 / 31.
3- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 1 و 2.
4- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 1 و 2.

وعلى ذلك فلو كان للكافر ابن كافر ، وأخ مسلم يحجب الأخ إرث الابن الكافر ؛ والكلام في المقام في إرث المسلم ، الكافر ، وكونه - وراء ذلك - حاجباً عن إرث الكافر مسألة ثانية ، ولا ملازمة عقلاً بين المسألتين ، إذ يمكن الفصل بين المسألتين عقلاً ، بأن يكون وارثاً ، لا حاجباً.

نعم دلّت الروايات على كونه حاجباً أيضاً ، فيحجب إرث الكافر من الكافر ، سواء كان الحاجب متّحداً مع الممنوع في الطبقة أو متأخّراً عنه ، فالولد المسلم يحجب الولد الكافر ، كما أنّ الأخ المسلم يحجب إرث الولد الكافر.

3. أخرج الشيخ بسند معتبر عن أبي خديجة ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «لا يرث الكافر المسلم ، وللمسلم أن يرث الكافر ، إلاّ أن يكون المسلم قد أوصى للكافر بشيء». (1)

4. أخرج الشيخ عن عبد الرحمن بن أعين ، عن أبي جعفر - عليه السلام - في النصراني يموت وله ابن مسلم ، أيرثه؟ قال : «نعم ، إنّ الله عزّ وجلّ لم يزدنا بالإسلام إلاّ عزّاً ، فنحن نرثهم وهم لا يرثوننا». (2)

5. ما أخرجه الصدوق بسند موثّق عن سماعة ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : سألته عن المسلم هل يرث المشرك؟ قال - عليه السلام - : «نعم ، فأمّا المشرك فلا يرث المسلم». (3)

6. أخرج الفقيه بسند معتبر عن محمد بن قيس ، عن أبي جعفر - عليه السلام - ، قال : سمعته ، يقول : «لا يرث اليهودي والنصراني المسلمين ، ويرث المسلمون اليهود والنصارى». (4)

ص : 193


1- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 3 ، 4 ، 5 ، 7.
2- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 3 ، 4 ، 5 ، 7.
3- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 3 ، 4 ، 5 ، 7.
4- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 3 ، 4 ، 5 ، 7.

7. أخرج الشيخ في «التهذيب» عن أبي العباس (البقباق) قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «لا يتوارث أهل ملّتين (يرث هذا هذا ، ويرث هذا هذا) إلاّ أنّ المسلم يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم». (1)

8. أخرج الكليني بسند صحيح عن جميل وهشام ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - انّه قال : فيما روى الناس عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّه قال : «لا يتوارث أهل ملّتين ، قال : نرثهم ولا يرثونا ، انّ الإسلام لم يزده في حقّه إلاّ شدّة».

وفي رواية الشيخ الطوسي : «انّ الإسلام لم يزده إلاّ عزّاً في حقّه». (2)

ثمّ إنّ الرواية السابعة والثامنة تفسران ما رواه الجمهور عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من أنّه لا يتوارث أهل ملّتين كما سيوافيك بيانه ، وحاصل التفسير : انّ نفي التوارث كما يحصل بعدم إرث كلّ الآخر ، يتحقّق أيضاً بعدم إرث الكافر المسلم دون المسلم ، الكافر.

وبذلك أيضاً يفسر بعض الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت بنفس اللفظ النبوي أو قريب منه ، نظير الروايات التالية :

9. أخرج الشيخ بسند معتبر عن حنان بن سدير ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : سألته يتوارث أهل ملّتين؟ قال : «لا». (3)

10. ونظيره ما رواه علي بن جعفر - عليه السلام - ، عن أخيه موسى بن جعفر - عليه السلام - ، قال : سألته عن نصراني يموت ابنه وهو مسلم ، فهل يرث ، فقال : «لا يرث أهل ملّة».

وفي المصدر : لا يرث أهل ملّة ملّةً. (4)

ص : 194


1- الوسائل ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 15 ، 14 ، 20.
2- الوسائل ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 15 ، 14 ، 20.
3- الوسائل ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 15 ، 14 ، 20.
4- لاحظ الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 24.

وهو محمول على عدم التوارث من الطرفين فلا ينافي إرث المسلم الكافر.

إلى هنا تمّت دراسة ما دلّ على إرث المسلم الكافر ، وهي متضافرة تفيد الاطمئنان بالصدور.

الروايات المعارضة

ثمّ إنّ هناك روايات ربّما يتراءى التعارض بينها وبين ما سبق ، لا تعارضاً مطلقاً ، بل تعارضاً نسبياً ، وهي القول بإرث المسلم الكافر إلاّ في مورد الزوج والزوجة أو خصوص الزوجة.

ومقتضى صناعة الفقه تخصيص المطلقات السابقة بهذه الروايات المتعارضة ، إلاّ أنّها فاقدة للحجّية فيطرح تخصيصها بها ، وإليك ما يعارضها بظاهره :

1. ما رواه الصدوق مرسلاً ، قال : قال أبو عبد الله - عليه السلام - في الرجل النصراني تكون عنده المرأة النصرانية فتسلم أو يسلم ثمّ يموت أحدهما؟ قال : «ليس بينهما ميراث». (1)

2. رواية عبد الملك بن عمير القبطي ، عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنّه قال للنصراني الذي أسلمت زوجته : «بضعها في يدك ، ولا ميراث بينكما». (2)

3. رواية عبد الرحمن البصري ، قال : قال أبو عبد الله - عليه السلام - : «قضى أمير المؤمنين - عليه السلام - في نصراني ، اختارت زوجته الإسلام ودار الهجرة : أنّها في دار الإسلام لا تخرج منها ، وأنّ بضعها في يد زوجها النصراني ، وأنّها لا ترثه ولا

ص : 195


1- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 12 و 22.
2- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 12 و 22.

يرثها». (1)

4. رواية عبد الرحمن بن أعين قال : قال أبو جعفر - عليه السلام - : «لا نزداد بالاسلام إلاّ عزّاً ، فنحن نرثهم ولا يرثونا ، هذا ميراث أبي طالب في أيدينا ، فلا نراه إلاّ في الولد والوالد ، ولا نراه في الزوج والمرأة». (2)

وهذه الروايات لا يعتمد عليها في مقابل ما تضافر.

أمّا الأُولى فهي مرسلة الصدوق في «المقنع» وليست مسندة إلى المعصوم.

وأمّا الثانية - فهي مضافاً إلى كونها مرسلة لما في سندها من قوله : عن أُمّي الصيرفي أو بينه وبينه رجل ، عن عبد الملك بن عمير القبطي - فإنّ عبد الملك لم يوثّق.

وأمّا الثالثة فسندها وإن كان موثّقاً ومقتضى الجمع الصناعي هو تخصيص ما دلّ على إرث المسلم الكافر بهذه الرواية وتكون النتيجة : إرث المسلم الكافر ، إلاّ الزوجة المسلمة فإنّها لا ترث الزوج الكافر.

ولكن العمل بهذه الرواية في مقابل ما تضافر وتواتر عنهم غير صحيح ، مضافاً إلى أنّ مقتضى التعليل الوارد في رواية عبد الرحمن بن أعين عن أبي عبد الله - عليه السلام - : «لا يتوارث أهل ملّتين ، نحن نرثهم ولا يرثونا ، إنّ الله عز وجلّ لم يزدنا بالإسلام إلاّ عزّاً». (3) هو عدم الفرق بين الزوجة وغيرها ، لأنّ التعليل آب عن التخصيص.

وأمّا الرواية الرابعة فيرد عليها أمران :

ص : 196


1- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 23 و 19.
2- الوسائل : 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 23 و 19.
3- انظر الرواية الرابعة.

الأوّل : انّ ظاهر الرواية هو عدم إيمان أبي طالب ، وهذا ممّا اتّفق أئمّة أهل البيت على خلافه.

الثاني : انّ إخراج الزوجة والزوج خلاف مقتضى التعليل الوارد في نفس هذه الرواية.

أضف إلى ذلك إعراض المشهور عن هذه الروايات الأربع ومخالفتها لصحيح أبي ولاّد (الرواية الأُولى) على نحو التباين.

فخرجنا بالنتيجة التالية : انّ الرأي السائد عند أتباع أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - هو إرث المسلم الكافر ، من دون فرق في المسلم بين كونه زوجاً أو زوجة.

وأمّا هذه الروايات الأربع ، فهي بين ضعيفة كمرسلة الصدوق ورواية عبد الملك بن عمير ، أو مخالفة للتعليل الآبي عن التخصيص ، كالرواية الثالثة ، أو مخدوش في المضمون لاشتماله على كفر أبي طالب ، مضافاً إلى أنّ إخراج الزوج والزوجة خلاف التعليل الوارد فيها وخلاف صحيحة أبي ولاّد.

إلى هنا تمّت دراسة الروايات المروية عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام -.

الرابع : الآثار المروية في السنن

ثمّ إنّ هناك آثاراً مروية عن الصحابة تؤيّد موقف الإمامية في المسألة ، وإليك بعض ما وقفنا عليه :

1. أخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة ، انّ أخوين اختصما إلى يحيى بن يعمر ، يهودي ومسلم فورّث المسلم منهما ، وقال : حدّثني أبو الأسود انّ رجلاً حدّثه ، انّ معاذاً حدّثه ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : الإسلام يزيد ولا

ص : 197

ينقص ، فورث المسلم. (1)

2. أخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، عن أبي الأسود الدؤلي انّ معاذاً أتى بميراث يهودي وارثه مسلم ، بمعناه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. (2)

3. أخرج الدارمي عن مسروق قال : كان معاوية يورِّث المسلم من الكافر ولا يورث الكافر من المسلم ، قال : قال مسروق : وما حدث في الإسلام قضاء أحب إليّ منه ، قيل لأبي محمد تقول بهذا ، قال : لا. (3)

قال السيد المرتضى بعد نقل قضاء معاذ : ونظائر هذا الخبر موجودة كثيرة في رواياتهم.

وعلى كلّ تقدير ففي الكتاب مع ما تضافر من الروايات عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - وفي هذه الآثار كفاية لمن رام الحق ، ولكن لا يتم الإفتاء إلا بدراسة دليل المخالف فانتظر.

الخامس : حرمان المسلم خلاف الامتنان

إنّ من درس موارد الحرمان في الإرث يقف على أنّه إمّا للإرغام ، أو لضعة الوارث.

والأوّل كما في القاتل فلا يرث المقتول ، وذلك لأنّه حاول بقتله أن يرثه معجلاً ، فانعكس الأمر وصار محروماً بتاتاً.

والثاني كما في الرق حيث لا يرث الحر لضعة مرتبته ودرجته.

ص : 198


1- سنن أبي داود : 3 / 126 ، حديث رقم 2912.
2- سنن أبي داود : 3 / 126 ، برقم 2913.
3- سنن الدارمي : 370 ، باب في ميراث أهل الشرك وأهل الإسلام.

فعلى ضوء ما ذكرنا يجب أن يرث الكافر المسلم دون العكس ، وإلاّ يلزم أن يكون حرمان المسلم إرث الكافر إرغاماً له ، وهو كما ترى.

وإن شئت قلت : إنّ التشريع الإسلامي قائم على الترغيب والترهيب ، ففي الموضع الذي يكون المورِّث كافراً والوارث على وشك اعتناق الإسلام ، فلو قيل له أنت لو أسلمت يكون جزاء إسلامك هو حرمانك من عطايا والدك وأُمّك التي يتركها لك ، فهو يرجع إلى الوراء ويتعجب من هذا التشريع الذي يُرهب مكان الترغيب ، ويبعِّد بدل التقريب إلى الإسلام ويعده على طرف النقيض من الترغيب.

إلى هنا تمّ ما دلّ على إرث المسلم الكافر.

فحان حين البحث في أدلّة نفاة الإرث وهي على قسمين :

1. الأحاديث الواردة في الموضوع.

2. الآثار المنقولة عن الصحابة.

فإليك دراسة كلّ واحد على حدة.

ص : 199

4- أدلّة القائلين بعدم التوريث
اشارة

استدلّ القائلون بعدم توريث المسلم من الكافر بأحاديث وآثار ، نشير إلى الجميع.

1. حديث عمرو بن شعيب

أخرج أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا يتوارث أهل ملّتين شتى». (1)

وأخرج الدارقطني بسنده عن عمرو بن شعيب ، قال : أخبرني أبي ، عن جدّي عبد الله بن عمرو ، انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قام يوم فتح مكة ، قال : «لا يتوارث أهل ملّتين». (2)

وأخرجه البيهقي بنفس السند ، قال : لا يتوارث أهل ملّتين شتّى. وفي لفظ آخر : ولا يتوارثون أهل ملّتين. (3)

ص : 200


1- سنن أبي داود 3 / 126 ، برقم 2911.
2- سنن الدارقطني : 2 / 72 ، برقم 16.
3- سنن البيهقي : 6 / 218 ، باب لا يرث المسلم الكافر.

ورواه أيضاً ابن ماجة في سننه. (1)

ونقله الدارمي عن عمر مرسلاً عن النبي ، وعن أبي بكر وعمر موقوفاً أنّ رسول الله وأبا بكر وعمر قالوا : لا يتوارث أهل دينين. ونقل عن عمر قال : لا يتوارث أهل ملّتين. (2)

ولكن الاستدلال غير تام دلالة وسنداً.

أمّا الدلالة فقد أُشير إليه في غير واحد من روايات أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ، وحاصله : انّ الحديث بصدد نفي التوارث لا الإرث من كلّ جانب ويصدق نفي التوارث بعدم توريث الكافر من المسلم دون العكس ، فلو قيل : ما تضارب زيد وعمرو ، كفي في صدقه عدم الضرب من جانب واحد ، فيقال : لم يكن هنا تضارب بل ضرب من جانب واحد ، فالنبي بصدد نفي التوارث وهو لا ينافي الإرث من جانب واحد ، وهذه الروايات وإن مرّت الإشارة إليها لكن نأت بواحد منها.

أخرج الكليني عن جميل وهشام ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - انّه قال : فيما روي الناس عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - انّه قال : لا يتوارث أهل ملّتين ، قال : «نرثهم ولا يرثونا ، انّ الإسلام لم يزده في حقّه إلاّ شدة». (3)

هذا كلّه حول دلالة الرواية ، وأمّا السند فقد تفرّد بروايته عمرو بن شعيب وأبوه وجدّه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أفيمكن ترك الكتاب بالخبر الذي تفرد به هؤلاء؟!

على أنّ عمرو بن شعيب مطعون به ، فقد ترجم له ابن حجر في «التهذيب» ترجمة ضافية على نحو يسلب سكون النفس إلى روايته ، حيث قال : قال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد : حديثه عندنا واه.

ص : 201


1- سنن ابن ماجة : 2 / 912 ، الحديث 2731.
2- سنن الدارمي : 2 / 369.
3- لاحظ الرواية الثامنة.

وقال علي عن ابن عيينة : حديثه عند الناس فيه شيء.

وقال أبو عمرو بن العلاء : كان يعاب على قتادة وعمرو بن شعيب انّهما كانا لا يسمعان شيئاً إلاّ حدّثا به.

وقال الميموني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : له أشياء مناكير ، وإنّما يكتب حديثه يعتبر به فأمّا أن يكون حجّة فلا.

إلى أن قال : وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين : إذا حدّث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه فهو كتاب ، ومن هنا جاء ضعفه. (1)

فمن قرأ ترجمته المفصّلة في هذا الكتاب وأقوال العلماء المتضاربة في حقّه ، يقف على أنّه لا يمكن تقييد الكتاب وتخصيصه بروايته.

2. حديث أُسامة

أخرج البخاري عن أبي عاصم ، عن ابن جريج ، عن ابن شهاب ، عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أُسامة بن زيد انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم. (2)

أخرج مالك عن عمرو بن عثمان بن عفان ، عن أُسامة بن زيد ، انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : لا يرث المسلم الكافر. (3)

أخرج مسلم بنفس هذا السند انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم. (4)

وأخرجه البيهقي في سننه (5) ، إلى غير ذلك من المصادر.

يلاحظ على الاستدلال : أوّلاً : أنّه خبر واحد تفرّد بنقله أُسامة بن زيد كما

ص : 202


1- تهذيب التهذيب : 8 / 48 برقم 80.
2- فتح الباري : 12 / 40 برقم 6764.
3- الموطأ : 2 / 519 ، الحديث 10.
4- صحيح مسلم : 5 / 59 ، كتاب الفرائض.
5- سنن البيهقي : 6 / 218.

تفرد بنقله من نقل عنه ، وطبيعة المسألة تقتضي أن يقوم بنقلها غير واحد من الصحابة والتابعين لا سيّما في العهد النبوي ومن بعده حيث إنّ شرائح كبيرة من المجتمع كانت تبتلي بتلك الظاهرة ، فتفرّد أُسامة بسماع الحكم دون غيره يورث الشك بالرواية.

وثانياً : أنّ ابن شهاب في سند البخاري عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أُسامة انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (1) ، مع أنّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ومنهم علي بن الحسين - عليهما السلام - كانوا يروون ويفتون على خلاف ذلك ، فقد اشتهر أنّ آل محمّد متفردون بهذا الرأي.

وثالثاً : أنّ الدارمي نقل الحديث عن علي بن الحسين ، عن أُسامة بحذف عمرو بن عثمان من السند. (2)

وقد نقل المرتضى في «الانتصار» أنّ الزهري [ابن شهاب] نقله عن عمرو بن عثمان ولم يذكر علي بن الحسين ، فالاختلاف في السند يوجب الطعن في الرواية. (3)

ورابعاً : أنّ أحمد بن حنبل ينقل عن مالك ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين - عليهما السلام - ، عن عمرو بن عثمان ، عن أُسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا يرث المسلم الكافر» (4) الظاهر في عدّ سماعة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، مباشرة خلافاً لما رواه البخاريّ الظاهر في سماعة عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا أيضاً اختلاف واضطراب في الرواية ، يحطّ من الاعتماد عليها.

3. حديث عامر الشعبي

عن عامر الشعبي انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبا بكر وعمر قالوا : لا يتوارث أهل

ص : 203


1- مسند أحمد : 5 / 208
2- سنن الدارمي : 2 / 370.
3- نقله المرتضى في الانتصار : 590.
4- مسند أحمد : 5 / 208.

دينين.

ولكن الرواية مرسلة ، لأنّ الشعبي (1) ولد بالكوفة سنة 19 ه - وقيل : سنة 21 ه ، ورأى الإمام عليّاً وصلّى خلفه ، فكيف ينقل عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟! والمعروف أنّ الشعبي كان من الموالين لبني أُميّة أعداء أهل البيت - عليهم السلام - ، فكيف يمكن الاعتماد على روايته؟!

4. الاستدلال بالآثار المروية عن الصحابة

وقد استدلّ بالروايات الموقوفة على الصحابة من دون أن تسند إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهي كثيرة :

1. أخرج الدارمي عن عامر الشعبي ، عن عمر قال : لا يتوارث أهل ملّتين. (2)

2. عن عامر انّ المغيرة بنت الحارث توفيت باليمن وهي يهودية ، فركب الأشعث بن قيس وكانت عمّته إلى عمر في ميراثها ، فقال عمر : ليس ذلك لك ، يرثها أقرب الناس منها من أهل دينها ، لا يتوارث ملّتان. (3)

3. عن ابن سيرين ، قال عمر بن الخطاب : لا يتوارث ملّتان شتّى ولا يحجب من لا يرث. (4)

يلاحظ على الاستدلال بهذه الآثار : أنّها موقوفات لم تسند إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهي حجّة على أصحابها على أنّ قوله : «لا يتوارث أهل ملّتين» أو قوله : «لا يتوارث ملّتان شتّى» لا يصلح دليلاً على عدم توريث المسلم من الكافر ، لما عرفت من أنّه يهدف إلى نفي التوارث ، ويكفي في صدقه عدم توريث الكافر من المسلم.

ص : 204


1- انظر موسوعة طبقات الفقهاء : 1 / 414 برقم 181.
2- سنن الدارمي : 2 / 369 ، 370 ؛ سنن البيهقي : 6 / 218.
3- سنن الدارمي : 2 / 369 ، 370 ؛ سنن البيهقي : 6 / 218.
4- سنن الدارمي : 2 / 369 ، 370 ؛ سنن البيهقي : 6 / 218.

نعم فهم الخليفة وأضرابه ، نفي الإرث من كلّ جانب ، ففهمهم حجّة على أنفسهم دون غيرهم.

ولذلك يمكن أن يقال : انّ الحرمان من كلا الطرفين كان سنّة للخليفة لمصلحة رآها ، وليس ذلك ببعيد ، فإنّ له نظيراً غير هذا المورد.

أخرج مالك في موطّئه عن الثقة عنده انّه سمع سعيد بن المسيب يقول : أبى عمر بن الخطاب أن يورث أحداً من الأعاجم ، إلاّ أحداً ولد في العرب. (1)

قال مالك : وإن جاءت امرأة حامل من أرض العدو ووضعته في أرض العرب ، فهو ولدها يرثها إن ماتت وترثه إن مات. (2)

وبذلك يعلم أنّ ما نسب إلى سعيد بن المسيب انّه قال : مضت السنّة أن لا يرث المسلم الكافر. (3) فلعلّ مراده من السنّة هو سنّة الخلفاء لا سنّة الرسول ، وإلاّ لنسبها إليه - صلى الله عليه وآله وسلم -.

وأمّا ما رواه البيهقي في سننه عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب انّ عمر بن الخطاب قال : لا نرث أهل الملل ولا يرثونا. (4)

فهو مخدوش ، لأنّ المعروف انّ سعيد بن المسيب ممّن يقول بالإرث ، وقد نقله عنه غير واحد من الفقهاء.

وفي الحاوي : وحكي عن معاذ بن جبل ومعاوية انّ المسلم يرث الكافر ولا يرث الكافر المسلم ، وبه قال محمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب ومسروق والنخعي والشعبي وإسحاق بن راهويه. (5)

ص : 205


1- الموطأ : 2 / 520 برقم 14.
2- الموطأ : 2 / 520 برقم 14.
3- نقله المرتضى في الانتصار : 589.
4- سنن البيهقي : 6 / 219.
5- الحاوي : 8 / 78.

ونقله أيضاً النووي في شرح صحيح مسلم. (1)

إلى هنا تمت دراسة أدلّة المانعين ، وهي على أقسام :

1. غير تامّة دلالة ، أعني : ما يركز على نفي التوارث بين المسألتين الذي يصدق بنفي الإرث من جانب الكافر فقط.

2. تامّة سنداً ودلالة ، مثلما أخرجه البخاري ، لكنّه خبر واحد لا يقاوم الكتاب.

3. غير تامّة سنداً كرواية عمرو بن شعيب ، وقد عرفت ضعفها.

4. آثار موقوفة ليست حجّة إلاّ على أصحابها.

بقي للمانعين دليل آخر وحاصله : انّ الإرث من آثار الولاية ، ولا ولاية بين الكافر والمسلم.

5. انقطاع الولاية بين الكافر والمسلم

استدلّ القائل بنفي التوريث مطلقاً بوجه آخر ، وهو انّه سبحانه قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (2) فإنّ الآية بصدد بيان نفي الولاية من الكفّار والمسلمين ، فإن كان المراد به الإرث فهو إشارة إلى أنّه لا يرث المسلم الكافر ، وإن كان المراد به مطلق الولاية ففي الإرث الولاية لأحدهما على الآخر. (3)

وقال ابن حجر : إنّ التوارث يتعلّق بالولاية ، ولا ولاية بين المسلم والكافر ، لقوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (4). (5)

ص : 206


1- شرح صحيح مسلم : 11 / 52.
2- الأنفال : 73.
3- المبسوط للسرخسي : 30 / 30.
4- المائدة : 51.
5- فتح الباري : 12 / 50.

يلاحظ عليه بأمرين :

أوّلاً : بأنّ الإرث من آثار الولاية في العتق وضمان الجريرة ، فميراث المعتَق للمعتِق لأجل الولاء ، وهكذا الأمر في ضمان الجريرة.

وأمّا الوراثة في غير هذين الموردين فلم يعلم أنّه من آثار الولاية ، بل من آثار النسب والسبب.

والذي يدلّ على ذلك انّ التوارث أمر عقلائي لا يختصّ بأصحاب الشرائع ، بل يعمّ قاطبة البشر ، والملاك عند الجميع هو العلقة التكوينية بين أصحاب النسب أو الاعتبارية في السبب ووجود الولاية بين الوالد والولد أو غيرهما وإن كان أمراً ثابتاً مع العلقة التكوينية ، لكن ليس كلّ مقرون بها يكون موضوعاً للوراثة.

والذي يوضح ذلك انّ الفقهاء يذكرون عند بيان أسباب الإرث ، السببَ والنسَب مقابل الولاء.

أسباب ميراث الورى ثلاثة

كل يفيد ربّه الوراثة

وهي نكاح وولاء ونسب

ما بعدهن من مواريث سبب(1)

وثانياً : أنّ كون الولاية هي السبب للميراث يخالف ما عليه الحنفية ومن تبعهم من أنّ المسلم ، يرث المرتد مع انقطاع الولاية بين المسلم والمرتد.

قال النووي في شرح المهذب : قال أبو حنيفة والثوري : ما اكتسبه قبل الردة ورث عنه ، وما اكتسب بعد الردة يكون فيها. (2)

ص : 207


1- المجموع : 17 / 48.
2- المجموع : 17 / 57.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم : أمّا المسلم فلا يرث المرتد عند الشافعي ومالك وربيعة وابن أبي ليلى وغيرهم ، بل يكون ماله فيئاً للمسلمين.

وقال أبو حنيفة والكوفيون والأوزاعي وإسحاق : يرثه ورثته من المسلمين ، وروي ذلك عن علي وابن مسعود وجماعة من السلف. (1)

وقال في الشرح الكبير عن أحمد ما يدلّ على أنّ ميراث المرتد لورثته من المسلمين ، يروى ذلك عن أبي بكر الصديق وعلي وابن مسعود (رض) ، وبه قال سعيد بن المسيب وجابر بن زيد والحسن وعمر بن عبد العزيز وعطاء والشعبي والحكم والأوزاعي والثوري وابن شبرمة وأهل العراق وإسحاق. (2)

ومن غريب القول : إنّ المسلم لا يرث الكافر ولكن الكافر يرث عتيقه المسلم ، وهو منقول عن أحمد كما في الموسوعة الفقهية. (3)

ونكتفي بهذا المقدار من البحث ، ولعلّ فيه غنى وكفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد ، وأمّا الكلام في الفروع الأُخرى ، أعني :

1. حجب المسلم الكافر.

2. إذا أسلم الكافر قبل القسمة وبعدها.

3. اشتراط عدم حجب المسلم الكافر في عقد الذمّة.

فنحيل الكلام فيها إلى مجال آخر ، فإنّ هذه الفروع اختلفت فيها كلمة الفريقين بخلاف الفرع الأوّل ، فجماهير أهل السنّة على المنع والإمامية على الجواز ، وقد دام هذا الخلاف إلى يومنا هذا ، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً.

ص : 208


1- شرح النووي لصحيح مسلم : 11 / 52.
2- المغني : 7 / 167.
3- الموسوعة الفقهية : 3 / 25 ، مادة إرث نقله عن العذب الفائض : 1 / 31.

22- الميراث بالقرابة أو بالتعصيب

اشارة

ص : 209

ص : 210

الميراث بالقرابة أو بالتعصيب

اشارة

الميراث بالتعصيب من خصائص الفقه السنّي وليس في الفقه الإمامي منه عين ولا أثر ، بل هو منكر عند الإمامية أشدّ الإنكار كما سيوافيك ، ولإيضاح المقام نقدّم أُموراً

الأوّل : العَصَبة في اللغة والاصطلاح

العَصَبَة جمع عاصب كطلبة جمع طالب ، وهو مأخوذ من العَصَب وهو الطيّ الشديد ، يقال : عصب برأسه العمامة ، شدّها ولفّها عليه ، ومع كونها جمعاً لكن تطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وتجمع أيضاً على عَصَبات.

ويطلق على الذكر من أقارب الميت الذي لم تدخل في نسبته إلى الميت أُنثى ، وسُمُّوا عصبة لأنّهم أصابوا به ، أي أحاطوا بالميت ، فالأب طرف والابن طرف والأخ طرف ، والعم طرف ، وهؤلاء كلّهم عَصَبَة ، لأنّهم يحيطون بالميت كإحاطة العمامة بالرأس.

وفي مصطلح الفقهاء : العصبَة ، هو الوارث بغير فرض وتقدير ، فإذا كان

ص : 211

معه ذو فرض أخذ بما فضل عنه قلّ أو كثر ، وإن انفرد ، أخذ الكل ، وإن استغرقت الفروض المال ، سقط. (1)

الثاني : أقسام العصبة

تنقسم العصبة عندهم إلى قسمين :

الأوّل : العصبة النَّسَبيّة.

الثاني : العصبة السببيّة.

أمّا القسم الأوّل فهو على ثلاثة أصناف :

أحدها : العصبة بنفسه وهي كلّ ذكر لا يدخل في نسبته إلى الميت أُنثى ، وتنحصر في أربعة.

أ. البنوة ، وتسمّى جزء الميت.

ب. الأُبوة ، وتسمّى أصل الميت.

ج. الأُخوة ، وتسمّى جزء أبيه.

د. العمومة ، وتسمّى جزء الجد.

ثانيها : عصبة بغيره ، وهي الأُنثى التي يكون فرضها النصف حال الانفراد ، والثلثين إذا كان معها أُخت أو أكثر ، فإذا كان معها أو معهن أخ صار الجميع حينئذ عصبة به ، وهي أربع :

1. البنت أو البنات.

2. بنت أو بنات الابن.

ص : 212


1- المغني : 6 / 226.

3. الأُخت أو الأخوات الشقيقات.

4. الأُخت أو الأخوات لأب.

فكلّ صنف من هذه الأصناف الأربعة يكون عصبة بغيره وهو الأخ ويكون الإرث بينهم للذكر مثل حظ الأُنثيين.

ثالثها : العصبة مع الغير وهي كلّ أُنثى تحتاج في كونها عاصبة إلى أُنثى أُخرى وتنحصر العصبة مع الغير في اثنتين فقط من الإناث ، وهي :

أ. الأُخت الشقيقة أو الأخوات الشقيقات مع البنت أو بنت الابن.

ب. الأُخت لأب أو الأخوات لأب مع البنت أو بنت الابن ، ويكون لهن الباقي من التركة بعد الفروض.

وأمّا القسم الثاني ، أي العصبة السببية هو المولى المعتِقُ ، ذكراً كان أم أُنثى ، فإذا لم يوجد المعتِق فالميراث لعصبته الذكور. (1)

الثالث : أقسام نسبة الفروض مع مجموع التركة

الفروض الستة المقدرة في كتاب الله ، تارة تتساوى مع مجموع التركة ، كبنتين وأبوين ، وحينئذ لا عول ولا تعصيب ، حيث تأخذ البنتان الثلثين ، والأبوان الثلث.

وأُخرى تنقص الفروض عن التركة ، كبنت واحدة ، فإن فرضها النصف أو بنتين فإن فرضهما الثلثان ، فهل يردّ الباقي إليها أو إليهما بالقرابة كما عليه الإمامية ، أو يردّ إلى العصبة كما عليه فقهاء السنّة ويسمّى الميراث بالتعصيب؟

وثالثة تزيد الفروض على مجموع التركة ، كزوج وأبوين وبنت ، فإنّ فرض

ص : 213


1- فقه السنّة : 3 / 442 ، ط بيروت.

الزوج الربع والبنت النصف والأبوين الثلث ، والتركة لا تتحمل ربعاً ونصفاً وثلثاً ، وهذا هو العول الذي سيوافيك حكمه في المسألة الآتية.

الرابع : إيضاح التوريث بالتعصيب

المراد من التعصيب هنا هو توريث العصبة مع ذي فرض قريب ، كما إذا كان للميت بنت أو أكثر ، وليس له ولد ذكر.

أو لم يكن له أولاد أصلاً لا ذكور ولا إناث ، وله أُخت أو أخوات وليس له أخ ، وله عمّ.

فانّ مذاهب السنة تجعل أخ الميت شريكاً مع البنت أو البنات ، في المثال الأوّل ، كما تجعل العم أيضاً شريكاً مع الأُخت أو الأخوات كذلك في المثال الثاني.

هذا ما لدى السنّة ، وأمّا الإمامية فالإرث بالتعصيب باطل مطلقاً وإنّما الميراث بالفرض المسمى في كتاب الله ، أو بالقرابة أو الأسباب التي يورث بها من الزوجيّة والولاء.

ففي المثالين المذكورين إن بقي من الفرض يجب رده على صاحب الفرض القريب ، فالتركة عندهم بكاملها للبنت أو للبنات وليس لأخ الميت شيء ، وإذا لم يكن له أولاد ذكور ولا إناث وكان له أُخت أو أخوات ، فالمال كلّه للأُخت والأخوات ولا شيء للعمّ ، لأنّ الأُخت أقرب منه ، والأقرب يحجب الأبعد.

وبالجملة ليس للتعصيب دور في الميراث وإنّما يدور الميراث على الفروض والقرابة والسببية : الزوجية والولاء.

ص : 214

الخامس : ضابطة الميراث عند الفريقين

إنّ الضابطة لتقديم بعض الأقرباء النسبيّين على البعض الآخر عند الإمامية أحد أمرين :

1. كونه صاحب فريضة في الكتاب ، قال سبحانه : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً). (1)

2. القربى إذا لم يكن صاحب فريضة ، فالأقرب إلى الميّت ، هو الوارث للكلّ ، أو لما فضل عن التركة ، قال سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (2)

وأمّا عند أهل السنّة فالملاك بعد الفرض ، هو التعصيب - بالمعنى الذي عرفت - بعد أصحاب الفرض ، وإن بعد عنهم ، كالأخ عند ما يموت عن بنت أو بنتين ، أو العم عند ما يموت عن أُخت أو أُختين فيرث الأخ أو العم ، الفاضلَ من التركة ، بما أنّهما عصبة ، ويُردّ عندنا إلى أصحاب الفروض ، وربّما لا يترتّب على الخلاف ثمرة ، كما في الموردين التاليين :

كما لو اجتمع الأب مع الابن ، فالأب يأخذ فرضه وهو السدس ، وما بقي يأخذه الابن بالاتّفاق لكن عندنا بالقرابة وعند أهل السنّة بالعصبة.

ومثله لو اجتمع الأب مع ابن الابن فبما أنّ الأولاد تنزل منزلة الآباء فللأب السدس والباقي لابن الابن عندنا بالقرابة وعندهم بالتعصيب.

لكن تظهر الثمرة في موارد أُخر. كما إذا كانت العصبة بعيدة عن ذي فرض ، كالأخ فيما إذا ترك بنتاً أو بنات ، ولم يكن له ولد ذكر ، أو العم فيما إذا ترك

ص : 215


1- النساء : 11.
2- الأنفال : 75.

أُختاً أو أخوات ولم يكن له أخ ، فعلى مذهب الإمامية لا يرد إلى البعيد أبداً ، سواء كان أخاً أو عمّاً ، لأنّ الضابط في التقديم والتأخير هو الفرض والقرابة ، وأمّا الأخو العم فهما ليسا من أصحاب الفروض قطعاً ، كما أنّهما بعيدان عن الميّت مع وجود البنت أو الأُخت ، فيرد عليهما الفاضل ، فالبنت ترث النصف فرضاً والنصف الآخر قرابة ، وهكذا الصورة الأُخرى.

وأمّا على مذاهب أهل السنّة ، فبما أنّهم حكموا بتوريث العصبة مع ذي فرض قريب ، يردّون الفاضل إلى الأخ في الأوّل ، والعم في الثاني.

قال الشيخ الطوسي : القول بالعصبة باطل عندنا ولا يورث بها في موضع من المواضع ، وإنّما يورث بالفرض المسمّى أو القربى ، أو الأسباب التي يورث بها من الزوجية والولاء ، وروي ذلك عن ابن عباس ، لأنّه قال فيمن خلّف بنتاً وأُختاً : إنّ المال كلّه للبنت دون الأُخت (1) ، ووافقه جابر بن عبد الله في ذلك.

وروى موافقة ابن عباس عن إبراهيم النخعي ، روى عنه الأعمش ولم يجعل داود الأخوات مع البنات عصبة ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأثبتوا العصبات من جهة الأب والابن. (2)

السادس : عدم الثمرة فيما إذا كان قريب مساو لا فرض له

إذا بقى من سهام التركة شيء - بعد إخراج الفريضة - وكان بين الورثة من لا فرض له لا فرق بين القولين ولا تترتب عليهما ثمرة.

وبعبارة أُخرى : إذا اجتمع من لا فرض له مع أصحاب الفرض ففيها يردّ الفاضل على المساوي الذي ليس له سهم خاص في الكتاب ، سواء قلنا

ص : 216


1- وهي عصبة بالغير أي الأخ.
2- الخلاف : 4 / 62 ، كتاب الفرائض ، المسألة 80.

بالتعصيب أم لا. وإليك بعض الأمثلة :

1. إذا ماتت عن أبوين وزوج.

2. إذا مات عن أبوين وزوجة.

فالزوج في الأوّل ، والزوجة في الثاني ، والأُمّ في كليهما من أصحاب الفروض دون الأب ، فما فضل بعد أخذهم ، فهو لمن لا فرض له ، أي الأب ، فللزوج والزوجة نصيبهما الأعلى وللآُمّ الثلث ، والباقي للأب لأنّه لا فرض له ، نعم الأب من أصحاب الفروض إذا كان للميّت ولد قال سبحانه : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) (1) بخلاف الأُمّ فهي مطلقاً من ذوات الفروض.

قال الخرقي في متن المغني : وإذا كان زوج وأبوان ، أُعطي الزوج النصف والأُم ثلث ما بقي ، وما بقي فللأب ، وإذا كانت زوجة أُعطيت الزوجة الربع ، والأُمّ ثلث ما بقي ، وما بقي للأب.

قال ابن قدامة : هاتان المسألتان تسمّيان العُمَريّتين لأنّ عُمَر قضى فيهما بهذا القضاء ، فتبعه على ذلك عثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود ، وروي ذلك عن علي ، وبه قال الحسن والثوري ومالك والشافعي - رضي الله عنهم - وأصحاب الرأي ، وجعل ابن عباس ثلث المال كلّه للآُمّ في المسألتين ، ويروى ذلك عن علي. (2)

ص : 217


1- النساء : 11.
2- المغني : 6 / 236 - 237. وهذا ونظائره الكثيرة في الفرائض يعرب عن عدم وجود نظام محدّد في الفرائض في متناول الصحابة ، ومع أنّهم يروون عن النبي أنّ أعلم الصحابة بالفرائض هو زيد بن ثابت وانّه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «أفرضهم زيد ، وأقرأهم أُبيّ». لكنّه تبع قضاء عمر ولم يكن عنده شيء في المسألة التي يكثر الابتلاء بها.

3. ذلك الفرض ولكن كان للآُمّ حاجب ، فللزوج والزوجة نصيبهما الأعلى وللآُمّ السدس ، والكلّ من أصحاب الفرض ، والباقي للأب الذي لا فرض له.

4. إذا مات عن أبوين وابن وزوج أو زوجة ، فلهما نصيبهما الأدنى - لأجل الولد - وللوالدين السدسان والباقي للابن الذي لا فرض له.

5. إذا مات عن زوج أو زوجة وإخوة من الأُمّ ، وإخوة من الأبوين أو من الأب ، فللزوج النصف أو للزوجة الربع ، وللإخوة من الأُمّ الثلث ، والباقي لمن لا فرض له ، أي الإخوة من الأبوين أو الذين يتقرّبون بالأب.

ففي هذه الصورة فالزائد بعد إخراج الفرائض للمساوي في الطبقة الذي لا فرض له. ولعلّ هذه الصورة موضع اتّفاق بين الفقهاء : السنّة والشيعة.

السابع : ترتّب الثمرة إذا لم يكن قريب مساو لا فرض له

إذا لم يكن بين الورثة - وراء أصحاب الفروض - قريب مساو لا فرض له وزادت سهام التركة عن الفروض ، فهناك رأيان مختلفان بين الفقهاء : الشيعة والسنّة.

1. الشيعة كلّهم على أنّ الزائد يرد إلى أصحاب الفرائض عدا الزوج والزوجة (1) بنسبة سهامهم ، فإذا مات عن أبوين وبنت وليس في طبقتهم من ينتمي إلى الميّت بلا واسطة سواهم ، يرد الفاضل - أي السدس - عليهم بنسبة

ص : 218


1- اتّفقت عليه المذاهب كلّها قال ابن قدامة : «فأمّا الزوجان فلا يرد عليهما ، باتّفاق أهل العلم» المغني : 6 / 257.

سهامهم ، فيرد السدس عليهم أخماساً فللأبوين : الخمسان من السدس ، وللبنت ثلاثة أخماس منه ، ولا تخرج التركة عن هذه الطبقة أبداً.

2. أهل السنّة يرون أنّه يرد إلى أقرباء الميّت من جانب الأب والابن وهم العصبة.

إذا عرفت هذه الأُمور فلندرس أدلّة القولين :

ص : 219

دراسة أدلّة نفاة التعصيب

اشارة

احتجّت الإمامية على نفي التعصيب - وانّه لا دور له في الميراث وانّه مع وجود الأقرب وإن كان ذا فرض لا يرد إلى البعيد وإن كان ذكراً - بالكتاب والسنّة ، وإليك دراسة ما يدلّ على نفيه من الكتاب :

الآية الأُولى: مشاركة النساء للرجال في الميراث

قال سبحانه : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً). (1)

وجه الاستدلال : انّ ظاهر الآية انّ النساء في درجة الرجال من حيث الاستحقاق وانّ كلّ مورد يرث فيه الرجل ، ترث فيه المرأة إلاّ ما خرج بالدليل كالقاتل والمرتد.

وبعبارة أُخرى : انّه أوجب توريث جميع النساء والأقربين ، ودلّت على المساواة بين الذكور والإناث في استحقاق الإرث - لا في مقداره - ، لأنّها حكمت بأنّ للنساء نصيباً كما حكمت بأنّ للرجال نصيباً ، مع أنّ القائل بالتعصيب يُورّث

ص : 220


1- النساء : 7.

الرجال دون النساء مع كونهما في رتبة واحدة ، وذلك في الصور التالية :

1. لو مات وترك بنتاً ، وأخاً وأُختاً ، فالفاضل عن فريضة البنت يرد إلى الأخ ، ويحكم على الأُخت بالحرمان.

2. لو مات وترك بنتاً ، وابن أخ ، وابن أُخت ، فالقائل بالتعصيب يعطي النصف للبنت ، والنصف الآخر لابن الأخ ، ولا شيء لابن أُخته مع أنّهما في درجة واحدة.

3. لو مات وترك أُختاً ، وعمّاً ، وعمّة ، فالفاضل عن فريضة الأُخت يرد إلى العم ، لا العمّة.

4. لو مات وترك بنتاً ، وابن أخ ، وبنت أخ ، فإنّهم يعطون النصف للبنت ، والنصف الآخر لابن الأخ ، ولا يعطون شيئاً لبنت الأخ مع كونهما في درجة واحدة.

فالآية تحكم بوراثة الرجال والنساء معاً وبوراثة الجميع ، والقائل بالتعصيب يورّث الرجال دون النساء والحكم به أشبه بحكم الجاهلية المبني على هضم حقوق النساء كما سيوافيك بيانه.

وحمل ظهور الآية في مشاركة الرجال والنساء ، على خصوص الميراث المفروض ، لا الميراث لأجل التعصيب كما ترى ، لأنّه حمل بلا قرينة في الآية ، وعلى خلاف إطلاقها.

والحاصل : أنّ نتيجة القول بالتعصيب هو توريث الرجال وإهمال النساء على ما كانت الجاهلية عليه.

قال العلاّمة الصافي في تفسير قوله سبحانه : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ...) قد أبطل الله بهذه الآية النظام الجاهلي المبنيّ على توريث الرجال دون النساء ، مثل توريث الابن دون البنت ، وتوريث الأخ دون الأُخت ،

ص : 221

وتوريث العم دون العمّة ، وابن العم دون بنته ، فقرّر بها مشاركة النساء مع الرجال في الإرث ، إذا كنّ معهم في القرابة في مرتبة واحدة ، كالابن والبنت ، والأخ والأُخت ، وابن الابن وبنته ، والعم والعمّة وغيرهم ، فلا يوجد في الشرع مورد تكون المرأة مع المرء في درجة واحدة إلاّ وهي ترث من الميت بحكم الآية ... فكما أنّ القول بحرمان الرجال الذين هم من طبقة واحدة نقض لهذه الضابطة المحكمة الشريفة ، كذلك القول بحرمان النساء أيضاً ... ومثل هذا النظام - الذي تجلّى فيه اعتناء الإسلام بشأن المرأة ورفع مستواها في الحقوق المالية كسائر حقوقها - يقتضي أن يكون عامّاً لا يقبل التخصيص والاستثناء. (1)

قال السيد المرتضى : توريث الرجال دون النساء مع المساواة في القربى والدرجة ، من أحكام الجاهلية ، وقد نسخ الله بشريعة نبيّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أحكام الجاهلية ، وذمّ من أقام عليها واستمرّ على العمل بها بقوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) (2) وليس لهم أن يقولوا إنّنا نخصّص الآية التي ذكرتموها بالسنّة ، وذلك أنّ السنّة التي لا تقتضي العلم القاطع لا يُخصَّص بها القرآن ، كما لم يُنسخ بها ، وإنّما يجوز بالسنّة أن يخصّص وينسخ إذا كانت تقتضي العلم واليقين ، ولا خلاف في أنّ الأخبار المروية في توريث العصبة أخبار آحاد لا توجب علماً ، وأكثر ما يقتضيه غلبة الظن ، على أنّ أخبار التعصيب معارضة بأخبار كثيرة ترويها الشيعة من طرق مختلفة في إبطال أن يكون الميراث بالعصبة ، وأنّه بالقربى والرحم ، وإذا تعارضت الأخبار رجعنا إلى ظاهر الكتاب. (3)

ص : 222


1- مع الشيخ جاد الحق ، شيخ الأزهر : 1615.
2- المائدة : 5.
3- الانتصار : 278.

الآية الثانية: الضابطة في الميراث هي الأقربية

اشارة

قال سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وقال فى (1) آية أُخرى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً). (2)

وجه الاستدلال : أنّ الآية ظاهرة في أنّ ذوي الأرحام والقرابة بعضهم أحقّ بميراث بعضهم من غيرهم ، والمروي عن جماعة من المفسّرين انّ الآية ناسخة لما قبله من التوارث بالمعاقدة والهجرة وغير ذلك من الأسباب ، فقد كانوا يتوارثون بالمؤاخاة ، فانّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كان قد آخى بين المهاجرين والأنصار.

ثمّ إنّ وجه الأولوية هو الأقربية ، فكلّ من كان أقرب إلى الميت في النسب كان أولى بالميراث ، سواء كان ذا سهم أو غير ذي سهم ، وسواء كان عصبة أو غير ذي عصبة. (3)

ص : 223


1- الأنفال : 75.
2- الأحزاب : 6.
3- مجمع البيان : 2 / 563.

قال العلاّمة الطباطبائي : جعل الولاية بين أُولي الأرحام والقرابات ، وهي ولاية الإرث ، فانّ سائر أقسام الولاية لا ينحصر فيما بينهم.

والآية تنسخ ولاية الإرث بالمؤاخاة التي أجراها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بين المسلمين في أُول الهجرة ، وتُثبت الإرث بالقرابة ، سواء كان هناك ذو سهم أو لم يكن ، وكان عصبة أو لم يكن ، فالآية مطلقة كما هو ظاهر. (1)

وقد استدلّ بالآية بعض الفقهاء والمفسّرين في مورد الإرث وفسروه بالنحو التالي الموافق لما ذكرنا.

قال السرخسي في مبسوطه : والميراث يبنى على الأقرب ، قال الله تعالى : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) وزيادة القرب تدلّ على قوة الاستحقاق.

وقال أيضاً : فإن كان بعضهم أقرب فهو بالميراث أحقّ.

وقال أيضاً : وميراث ذوي الأرحام يبنى على القرب. (2)

وممّا يدلّ على أنّ مفاد الآية هو منع القريب البعيد هو انّ بعض فقهاء السنة تمسك بالآية على أُولوية بعض العصبة على بعض ، مثلاً : قدّموا الأخ على ابن الأخ ، والعم على ابن العم ، حتّى أنّهم يقدّمون الأخ لأبوين على ابن الأخ لأب ، كما أنّ العمّ لأبوين يقدّمونه على العمّ لأب ، وابن العم لأبوين على ابن العم لأب ، تمسّكاً بالآية. (3)

وبما انّ الآية وردت في سورتين مدنيتين ، فهي تؤكد على نسخ ما كان شائعاً في الجاهلية من تقديم الأقوياء على الضعفاء ، والرجال على النساء في الميراث ،

ص : 224


1- الميزان : 9 / 142.
2- المبسوط : 29 / 139 ، 30 / 13 و 20.
3- تفسير القرطبي : 8 / 58 و 59.

وتضع ملاكاً جديداً ، هو الأقربية للميت ، فالأقرب يرث ويمنع غيره من دون فرق بين الرجل والمرأة.

وعلى ضوء ذلك فكيف يرث الأخ أو العم مع وجود الأقرب - أعني : البنت أو الأُخت - وهما أقرب إلى الميّت من الأخ والعم ، لأنّ البنت تتقرّب إلى الميّت بنفسها ، والأخ يتقرّب إليه بالأب ، والأُخت تتقرّب إلى الميّت بالأب ، والعمّ يتقرّب إليه بواسطة الجد ، والأُخت تتقرّب بواسطة ، والعم يتقرّب بواسطتين ، وأولاده بوسائط.

وممّا يدل على أنّ الآية في بيان تقديم الأقرب فالأقرب - مضافاً إلى ما مرَّ من أنّها وردت ناسخة للتوارث بمعاقدة الإيمان والتوارث بالمهاجرة اللَّذين كانا ثابتين في صدر الإسلام - أنّ عليّاً كان لا يعطي الموالي شيئاً مع ذي رحم ، سمّيت له فريضة أم لم تسم له فريضة وكان يقول :

«(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) قد علم مكانهم فلم يجعل لهم مع أُولي الأرحام». (1)

وروى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - في قول الله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) : إنّ بعضهم أولى بالميراث من بعض ، لأنّ أقربهم إليه رحماً أولى به ، ثمّ قال أبو جعفر : أيّهم أولى بالميت وأقربهم إليه؟ أُمّه؟ أو أخوه؟ أليس الأُمّ أقرب إلى الميّت من إخوته وأخواته؟ (2)

وروي عن زيد بن ثابت أنّه قال : من قضاء الجاهلية أن يورث الرجال دون النساء. (3)

وربما يثار على الاستدلال بالآية استفساران :

ص : 225


1- الوسائل : 17 ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 10 و 11 و 12.
2- الوسائل : 17 ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 10 و 11 و 12.
3- الوسائل : 17 ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 10 و 11 و 12.
الأوّل : تخصيص الآية بما دلّ على ميراث العصبة

إنّ قوله سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) لا يعدو إمّا أن يكون مطلقاً أو عاماً ، فالمطلق يُقيّد والعام يخصص بما ورد من توريث العصبة بعد استيفاء ذوي الفروض فروضهم وإن كانوا بُعَداء.

يلاحظ عليه : - بعد غضّ النظر عن الضعف الطارئ على أدلّة التعصيب سنداً ودلالة كما سيوافيك - انّ الآية المباركة تأبى على التخصيص والتقييد ، لأنّها تحكي عن تشريع صدر استجابةً لميول ورغبات البشر ، وهو انّ الإنسان أرأف وأميل بالوارث الأقرب من الأبعد ، فتخصيص مثل ذلك التشريع يأباه الطبع السليم ، مثل قوله سبحانه : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (1) ، أو قوله سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2) ، وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (3) وأمثالها.

والشاهد على إبائها التخصيص والتقييد انّه لو قيل (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) إلاّ في مورد كذا لما استحسنه الطبع ولاستهجنه ، مثل ما إذا قيل (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) إلاّ في مورد كذا ..

الثاني : حرمان الرجال من الميراث في الفقه الإمامي

إذا دلّت الآية على المشاركة ، فكما أنّ حرمان النساء مخالف لها ، فكذلك حرمان الرجال مع أنّه ثابت في القول بعدم التعصيب ، وذلك كما في المثال التالي :

إذا مات الرجل عن بنت وعم أو ابن عم ، فإنّ التركة كلّها للبنت عندهم

ص : 226


1- التوبة : 91.
2- الحج : 78.
3- التوبة : 120.

ولا حظّ لهما. وهو حرمان الرجال دون النساء عكس القول بالتعصيب ، ويشتركان في الحرمان ومخالفة الذكر الحكيم.

يلاحظ عليه : أنّ الحرمان في المثال لأجل عدم الاستواء في القرابة. ألا ترى أنّ ولد الولد (ذكوراً كانوا أو إناثاً) لا يرثون مع الولد ، لعدم التساوي في الدرجة والقرابة ، وإن كانوا يدخلون تحت التسمية بالرجال والنساء ، وإذا كانت القرابة والدرجة مراعاة بين العم وابنه ، فلا يساوي - العم - البنت في القربى والدرجة ، وهو أبعد منها كثيراً.

وليس كذلك العمومة والعمّات وبنات العم وبنو العم ، لأنّ درجة هؤلاء واحدة وقرباهم متساوية والمخالف يورِّث الرجال منهم دون النساء ، فظاهر الآية حجّة عليه وفعله مخالف لها ، وليس كذلك قولنا في المسألة التي وقعت الإشارة إليها ، وهذا واضح فليتأمّل. (1)

ص : 227


1- الانتصار : 283.

الآية الثالثة: توريث الأُخت مشروط بعدم وجود الولد

قال سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (1)

إنّ ظاهر قوله سبحانه : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) هو انّ توريث الأُخت من الأخ مشروط بعدم وجود الولد له مع أنّه يلزم في بعض صور التعصيب توريث الأُخت مع وجود الولد (البنت) للميّت ، وذلك فيما إذا كان التعصيب بالغير كأُخت أو أخوات لأبوين ، أو أُخت وأخوات لأب ، فإنّهنّ عصبة بالغير من جانب الأب فلو مات عن بنت وأُخت لأبوين أو لأب ، فالنصف للبنت ، والنصف الآخر للعصبة وهي الأُخت أو الأخوات مع أنّ وراثة الأُخت مشروطة بعدم الولد في صريح الآية. قال الخرقي : والأخوات مع البنات عصبة ، لهنّ ما فضل ، وليس لهنّ معهنّ فريضة مسمّاة.

وقال ابن قدامة في شرحه : والمراد بالأخوات هاهنا ، الأخوات من الأبوين ،

ص : 228


1- النساء : 176.

أو من الأب ، وإليه ذهب عامّة الفقهاء إلاّ ابن عباس ومن تابعه ، فإنّه يروى عنه أنّه كان لا يجعل الأخوات مع البنات عصبة فقال في بنت وأُخت : للبنت النصف ولا شيء للأُخت. فقال ابن عباس : أنتم أعلم أم الله ، يريد قول الله سبحانه : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ...) فإنّما جعل لها الميراث بشرط عدم الولد.

ثمّ إنّ ابن قدامة ردّ على الاستدلال بقوله : إنّ الآية تدل على أنّ الأُخت لا يفرض لها النصف مع الولد ، ونحن نقول به ، فإنّ ما تأخذه مع البنت ليس بفرض ، وإنّما هو بالتعصيب كميراث الأخ ، وقد وافق ابن عباس على ثبوت ميراث الأخ مع الولد مع قول الله تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) وعلى قياس قوله «ينبغي أن يسقط الأخ لاشتراطه في توريثه منها عدم ولدها». (1)

حاصل كلامه : أنّ الأُخت ترث من الأخ النصف في حالتي وجود الولد وعدمه ، غاية الأمر عند عدم الولد ترث فرضاً ، وعند وجوده ترثه عصبة.

يلاحظ عليه : أنّ المهم عند المخاطبين هو أصل الوراثة ، لا التسمية تارة بالفرض وأُخرى بالتعصيب ، فانّ الأسماء ليس بمطروحة لهم ؛ فإذا كان الولد وعدمه غير مؤثّر فيها ، كان التقييد لغواً ، وما ذكره من أنّها ترث النصف عند الولد تعصيباً لا فرضاً أشبه بالتلاعب بالألفاظ ، والمخاطب بالآية هو العرف العام ، وهو لا يفهم من الآية سوى حرمان الأُخت عند الولد وتوريثها معه باسم آخر ، يراه مناقضاً.

وما نسبه إلى ابن عباس من أنّه كان يرى ميراث الأخ مع الولد ، غير ثابت ، وعلى فرض تسليمه فهو ليس بحجة.

ص : 229


1- المغني : 6 / 227.

الاستدلال بالسنّة على نفي التعصيب

1. روى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص أنّه قال : مرضت بمكّة مرضاً فأشفيت (1) منه على الموت فأتاني النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يعودني فقلت : يا رسول الله : إنّ لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلاّ ابنتي أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال : لا ، قلت : فالشَّطرُ؟ قال : لا ، قلت : الثلث؟ قال : الثلث كبير ، إنّك إن تركت ولدك أغنياء خيرٌ من أن تتركهم عالةً يتكفّفون الناس. (2)

وفي لفظ مسلم في باب الوصية بالثلث : «ولا يرثني إلاّ ابنة لي واحدة». (3) والرواية صريحة في أنّه كان يدور في خلد سعد ، أنّها الوارثة المتفرّدة والنبيّ سمع كلامه وأقرّه عليه ، ولم يرد عليه بأنّ لك وارثاً آخر وهم العصبة ، بل قرره على ذلك فيكون المال للبنت فالنصف فرضاً والنصف الآخر بالردّ.

وقد كان السؤال والجواب بعد نزول آيات الفرائض.

ص : 230


1- أي فأشرفت وقاربت.
2- صحيح البخاري : 8 / 150 ، كتاب الفرائض ، باب ميراث البنات.
3- صحيح مسلم ، ج 4 ، باب الوصية بالثلث ، ص 71.

2. روى البيهقي عن سويد بن غفلة في ابنة وامرأة ومولى قال : كان علي - عليه السلام - يعطي الابنة النصف والمرأة الثمن ويرد ما بقي على الابنة (1).

ورواه الدارمي عن حيان بن سليمان قال : كنت عند سويد بن غفلة فجاءه فسأله عن فريضة رجل ترك ابنته وامرأته قال : أما أُنبئك قضاء عليّ؟ قال : حسبي قضاء عليّ. قال : قضى عليّ لامرأته الثمن ولابنته النصف ، ثمّ رد البقية على ابنته. (2)

3. روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال : : من ترك مالاً فلأهله. (3)

وليس الأخ ، أو الأُخت من أهل الرجل وإنّما أهله أولاده وزوجته.

4. وربّما يستدل بما روي عن واثلة بن الأسقع ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : والمرأة تحوز ثلاث مواريث : عتيقها ولقيطها وولدها الذي تلاعن عليه. (4)

وجه الاستدلال ظاهر في الرواية انّ الأُمّ ترث ما يتركه ولدها كلّه ، لأنّ الأب ممنوع من الإرث للملاعنة ونفي الولد عنه فيكون المال كله للأُمّ سدسه أو ثلثه بالفرض والباقي بالردّ ، لأنّ سهم الأُمّ هو السدس أو الثلث ، وقد حكم على الفاضل عن التركة بالرد عليها دون العصبة. إلاّ أن يقال : إنّ عدم الرد لعدم وجود العصبة شرعاً (بحكم اللعان) فلا يصحّ الاستدلال به على ما إذا كانت هناك عصبة.

ص : 231


1- السنن الكبرى : 6 / 242 ، باب الميراث بالولاء.
2- سنن الدارمي ، كتاب الفرائض ، باب فيمن أعطى ذوي الأرحام دون الموالي ، ص 288.
3- صحيح البخاري : 8 / 150 كتاب الفرائض باب قول النبي : من ترك مالاً فلأهله ؛ كنز العمال : 11 / 7 الحديث 30388 ؛ جامع الأُصول : 9 / 631 قال : رواه الترمذي.
4- مسند أحمد : 3 / 490 ؛ سنن ابن ماجة : 2 / 916 ، باب ما تحوزه المرأة ، ثلاث مواريث رقم 2742 ؛ وفي جامع الأُصول : 9 / 614 ، برقم 7401 ... ولدها الذي لاعنت عنه. أخرجه أبو داود والترمذي.

إلى هنا تمّ الاستدلال بما رواه أهل السنّة وليعلم إنّ القول بالتعصيب يقتضي كون توريث الوارث مشروطاً بوجود وارث آخر ، وهو مخالف لما علم الاتّفاق عليه ، لأنّه إمّا أن يتساوى مع الوارث الآخر فيرثان ، وإلاّ فيمنع وذلك كما في المثال الآتي :

إذا خلّف الميّت بنتين ، وابنة ابن ، وعمّ. فبما أنّ العمّ من العصبة بالنفس والابنة عصبة بالغير يرد الفاضل إلى العمّ. ولا شيء لبنت الابن. ولكنّه لو كان معها أخ أي ابن الابن ، فهي تتعصّب به ، وبما أنّه أولى ذَكَر بالميّت يكون مقدماً على العم ويكون الفاضل بينهما أثلاثاً ، للإجماع على المشاركة ، لقوله سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (1) ، وهذا هو ما قلناه من أنّه يلزم أن يكون توريث الابنة مشروطاً بالأخ وإلاّ فيرث العم.

قال الخرقي في متن المغني : «فإن كنّ بنات ، وبنات ابن ، فللبنات الثلثان وليس لبنات الابن شيء إلاّ أن يكون معهنّ ذكر فيعصبهن فيما بقي للذكر مثل حظّ الأُنثيين»

وقال ابن قدامة : «فإن كان مع بنات الابن ، ابن في درجتهنّ كأخيهنّ أو ابن عمّهنّ ، أو أنزل منهنّ كابن أخيهنّ أو ابن ابن عمّهنّ أو ابن ابن ابن عمّهن ، عصبهنّ في الباقي فجعل بينهم للذكر مثل حظّ الأُنثيين». (2)

الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام

لقد أُثر عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - أنّ الفاضل عن الفروض للأقرب ، وفي

ص : 232


1- النساء : 11.
2- المغني : 6 / 229.

ذلك روايات متضافرة لو لم نقل أنّها متواترة ، ولعل الشهيد الثاني لم يتفحّص في أبواب الإرث فقال : ترجع الإمامية إلى خبر واحد (1) ، ويظهر من الروايات أنّه كان مكتوباً في كتاب الفرائض لعليّ - عليه السلام -.

1. روى حماد بن عثمان قال : سألت أبا الحسن - عليه السلام - عن رجل ترك أُمّه وأخاه؟ قال : «يا شيخ تريد على الكتاب؟» قال : قلت : نعم. قال : «كان علي - عليه السلام - يعطي المال للأقرب ، فالأقرب». قال : قلت : فالأخ لا يرث شيئاً؟ قال : «قد أخبرتك أنّ علياً - عليه السلام - كان يعطي المال الأقرب فالأقرب». (2)

2. روى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - في رجل مات وترك ابنته وأُخته لأبيه وأُمّه؟ فقال : «المال كلّه للابنة وليس للأُخت من الأب والأُمّ شيء». (3)

3. روى عبد الله بن خداش المنقري أنّه سأل أبا الحسن عن رجل مات وترك ابنته وأخاه؟ فقال : «المال للابنة». (4)

4. عن بريد العجلي عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : قلت له : رجل مات وترك ابنة وعمّه؟ فقال : «المال للابنة وليس للعم شيء ، أو قال : ليس للعم مع الابنة شيء». (5)

5. ما رواه حسين الرزاز قال : أمرت من يسأل أبا عبد الله - عليه السلام - المال لمن هو؟ للأقرب أو العصبة؟ فقال : «المال للأقرب والعصبة في فيه التراب». (6)

6. ما رواه العياشي في تفسيره عن ابن سنان ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال :

ص : 233


1- المسالك ، كتاب الفرائض عند شرح قول المحقق : ولا يثبت الميراث عندنا بالتعصيب.
2- الوسائل : 17 ، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين ، الحديث : 6 و 1.
3- الوسائل : 17 ، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين ، الحديث : 6 و 1.
4- الوسائل : 17 ، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث : 3 و 14. ولاحظ الحديث 4 و 5 و 7 من ذلك الباب.
5- الوسائل : 17 ، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث : 3 و 14. ولاحظ الحديث 4 و 5 و 7 من ذلك الباب.
6- الوسائل : 17 ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 1 ، وفي السند : صالح بن السعدي وهو ممدوح ، والحسين الرزاز مجهول ، وفي التهذيب : 9 / 267 رقم 972 «البزاز» مكان الرزّاز وهو أيضاً مجهول.

«اختلف علي بن أبي طالب وعثمان في الرجل يموت وليس له عصبة يرثونه وله ذو قرابة لا يرثونه ، ليس لهم سهم مفروض ، فقال عليّ : ميراثه لذوي قرابته ، لأنّ الله تعالى يقول : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وقال عثمان : اجعل ماله في بيت مال المسلمين. (1)

7. ما رواه الشيخ في «التهذيب» عن محمد بن الحسن الصفار ، عن السندي ، عن موسى بن حبيش ، عن عمّه هاشم الصيداني ، قال : كنت عند العباس وموسى بن عيسى ، وعنده أبو بكر بن عيّاش ، وإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة ، وعلي بن ظبيان ، ونوح بن درّاج تلك الأيام على القضاء ، قال : فقال العباس : يا أبا بكر أما ترى ما أحدث نوح بن درّاج (2) في القضاء ، أنّه ورث الخال ، وطرح العصبة ، وأبطل الشفعة ، فقال أبو بكر بن عياش : ما عسى أن أقول لرجل قضى بالكتاب والسنّة ، قال : فاستوى العبّاس جالساً فقال : وكيف قضى بالكتاب والسنّة؟ فقال أبو بكر : إنّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لما قُتل حمزة بن عبد المطلب بعث علي بن أبي طالب - عليه السلام - فأتاه بابنة حمزة فسوّغها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الميراث كلّه ، فقال له العباس : يا أبا بكر فظلم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جدّي؟ فقال : مه أصلحك الله ، شرع لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما صنع ، فما صنع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلاّ الحقّ. (3)

هذا بعض ما روي عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - وغيرهم ومن أراد الإحاطة بكلّ ما روي فعليه الرجوع إلى الجوامع الحديثية.

ص : 234


1- الوسائل : 17 ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 9.
2- هو اخو جميل بن درّاج : كان قاضياً في الكوفة ، ترجمه النجاشي عند ترجمة ابنه ، أيوب في رجاله وقال : «صحيح الاعتقاد» أي شيعي إماميّ.
3- تهذيب الأحكام : 6 / 356 ، ذيل الحديث 63 ، باب في الزيادات في القضايا والأحكام ط الغفاري. ونقله ملخصاً في الوسائل ، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 3.

دراسة أدلّة القائلين بالتعصيب

اشارة

لقد اتّضح الحق وتجلّى بأجلى مظاهره ، بقي الكلام في دراسة أدلّة المخالف ، فقد استدلّ بوجوه :

الأوّل : لو أراد سبحانه توريث البنات ونحوهنّ أكثر ممّا فرض لهنّ لفعل ذلك والتالي باطل ، فإنّه تعالى نصّ على توريثهنّ مفصّلاً ولم يذكر زيادة على النصيب.

بيان الملازمة أنّه تعالى لما ورّث الابن الجميع لم يفرض له فرضاً ، وكذا الأخ للأب والعم وأشباههم ، فلولا قصر ذوي الفروض على فرضهم لم يكن في التنصيص على المقدار فائدة.

وحاصله : أنّ كل من له فرض لا يزاد عنه وإلاّ كان الفرض لغواً وكل من لم يفرض له يعطى الجميع.

يلاحظ عليه : أوّلاً : بالنقض بورود النقيصة على ذوات الفروض عند أهل السنّة إذا عالت الفرائض على السهام ، كما سيوافيك شرحه فإنّهم يدخلون النقص على الجميع مثل باب الديون ، فربّما يكون سهم البنت والأُخت أقل من النصف ، فإذا جاز النقص فما المانع من الزيادة ، بل الأمر في النقصان أولى ، لأنّ النقصان ينافي الفرض بخلاف الزيادة عليه بدليل آخر ، فإنّ فيه إعمال الدليلين والأخذ بمفادهما.

ص : 235

وثانياً : بالحلّ إنّ تحديد الفرض بالنصف إنّما يكون لغواً إذا لم تترتّب عليه فائدة مطلقاً ، ولكنّه ليس كذلك لترتّب الثمرة عليه فيما إذا كان معه وارث ذو فرض كالأُم ، فإنّ كيفية الرد على الوارثين لا تعلم إلاّ بملاحظة فرضهما ثم الرد عليهما بحسب تلك النسبة فلو لم يكن سهم البنت والبنتين منصوصاً في الذكر الحكيم لما عُلِمت كيفيّة الرد عليهما وعلى الأُمّ.

وبالجملة : أنّه وإن كان لا تظهر للقيد ثمرة إذا كان الوارث هو البنت أو الأُخت وحدها ، ولكنّه ليس كذلك إذا كان معه وارث آخر وهو ذو فرض مثلها كالأُمّ ، فإنّ الرد عليهما يتوقّف على ملاحظة فرضهما ثمّ الرد بتلك النسبة.

وثالثاً : أنّ التصريح بالفرض لأجل التنبيه على أنّها لا تستحق بالذات إلاّ النصف أو الثلثين ، وإنّما تأخذ الزائد بعنوان آخر وهو عند ما لم يكن معه وارث مساو بخلاف الابن أو الأخ ، فإنّ كلاّ يستحق المال كلّه بالذات.

ورابعاً : إنّ المفهوم في المقام أشبه بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة فيه.

الثاني : قوله سبحانه : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ).(1)

وجه الاستدلال : أنّه سبحانه حكم بتوريث الأُخت ، نصف ميراث أخيها مع عدم الولد وحكم بتوريث الأخ ميراث الأُخت - إذا لم يكن لها ولد - أجمع بدليل قوله تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها) فلو ورثت الأُخت - نصفه بالفرض ونصفه الآخر بالردّ لأجل القرابة - الجميع كما هو مذهبكم لن تبقَ للفرق بين الأخ والأُخت ثمرة أصلاً.

الجواب : أنّ التقييد بالنصف مع أنّها ربّما ترث الكلّ لأجل التنبيه ، على أنّها

ص : 236


1- النساء : 176.

لا تستحق بالذات إلاّ النصف وأنّ الأصل القرآني هو استحقاق الذكر ضعف سهم الأُنثى وهو النصف ، وأنّها إن ورثت المال كله فإنّما هو لأجل طارئة خاصة ، على أنّ التصريح بالفرض لأجل تبيين ما يتوقّف عليه تقسيم الفاضل ، بينها وبين من يشاركه في الطبقة كالإخوة أو الأخوات من الأُمّ ، فإنّ الباقي يردّ عليهما بنسبة سهامهما فلو لم يكن هناك تحديد بالنصف فمن أين تعلم كيفيّة الرد.

الثالث : قوله تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا). (1)

وجه الاستدلال : أنّ زكريا - عليه السلام - لمّا خاف أن ترثه العصبة ، سأل الله سبحانه أن يهبه وليّاً حتى يرث المال كلّه ، لا وليّة حتى ترث المال نصفه ويرث الموالي الفاضل ، ولو لا ذلك لما أكّد على كون الولد الموهوب من الله ذكراً ، في قوله سبحانه : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا).

يلاحظ عليه : أنّ المقصود من قوله «وليّاً» هو مطلق الأولاد ذكراً كان أو أُنثى ، وذلك على مساق إطلاق المذكّر وإرادة الجنس ، وهو شائع في القرآن الكريم.

مثل قوله سبحانه : (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بشهادة قوله تعالى في آية أُخرى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ). (2)

بل يمكن أن يقال إنّه طلب ذرّية مثل مريم لقوله سبحانه قبل هذه الآية : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا

ص : 237


1- مريم : 65.
2- آل عمران : 38.

(قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ هُنالِكَ دَعا ...) (1) أي في هذه الحال التي رأى فيها الكرامة من مريم سأل الله سبحانه أن يرزقه ذريّة طيّبة (مثل مريم) فلو لم نقل إنّه سأل أُنثى مثل مريم ، ليس لنا أن نقول إنّه طلب الذكر.

ولو سلمنا أنّه طلب الذكر لكنّه لم يطلب لأجل أنّه لو رزق الأُنثى ترثه العصبة وإنّما سأله الذكر للحبّ الكثير له ، أو لأنّه أولى بالإدارة من الأُنثى كما لا يخفى.

الرابع : الروايات والآثار الواردة في هذا المجال ولعلّها أهم المدارك والمصادر لهذه الفتيا.

الرواية الأُولى : في أنّ بقية المال لأولى رجل ذكر

روى البخاري عن مسلم بن إبراهيم ، عن وهيب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر. (2)

ص : 238


1- مريم : 87.
2- صحيح البخاري : 8 / 151 ، باب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن ؛ وص 152 ، باب ميراث الجد مع الأب والإخوة ، ورواها عن سليمان بن حرب (مكان مسلم بن إبراهيم) ورجال السند في غيرهما ، واحد ، وباب ابني عم أحدهما أخ والآخر زوج ص 153 ، رواها عن أُمية بن بسطام ، عن يزيد بن زريع عن روح عن عبد الله بن طاوس. وصحيح مسلم : 5 / 59 ، باب ألحقوا الفرائض بأهلها عن ابن طاوس عن ابن عباس برقم 1615. وصحيح الترمذي في الفرائض باب ميراث العصبة برقم 2099. وسنن أبي داود في الفرائض باب ميراث العصبة برقم 2898. ولاحظ السنن الكبرى : 6 / 238 باب العصبة ؛ جامع الأُصول : 9 / 6104 برقم 7421.

وهذه الرواية ، هي الرواية المعروفة برواية طاوس بن كيسان اليماني (المتوفّى سنة 132).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الرواية ضعيفة سنداً ، لأنّ الروايات تنتهي إلى عبد الله بن طاوس بن كيسان اليماني وقد وثّقه علماء الرجال (1) ، لكن يعارض توثيقهم مع ما ذكره أبو طالب الأنباري (2) في حقّ هذه الرواية قال : حدثنا محمد بن أحمد البربري ، قال : حدثنا بشر بن هارون ، قال : حدثنا الحميري ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن قاربة بن مضرب (3) قال : جلست عند ابن عباس وهو بمكة ، فقلت : يا ابن عباس حديث يرويه أهل العراق عنك وطاوس مولاك يرويه : إنّ ما أبقت الفرائض فلأولي عصبة ذكر؟ قال : أمن أهل العراق أنت؟ قلت : نعم ، قال : أبلغ من وراءك أنّي أقول : إنّ قول الله عزّ وجلّ : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) وقوله : (أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وهل هذه إلاّ فريضتان ، وهل أبقتا شيئاً؟ ما قلت هذا ، ولا طاوس يرويه عليّ ، قال قاربة بن مضرب : فلقيت طاوساً فقال : لا والله ما رويت هذا على ابن عباس قط وإنّما الشيطان ألقاه على ألسنتهم ، قال سفيان :

ص : 239


1- تهذيب التهذيب : 5 / 268 ؛ برقم 458 سير أعلام النبلاء ، حوادث عام 132 ، وغيرهما.
2- هو عبيد الله بن أبي زيد أحمد بن يعقوب بن نصر الأنباري. قال النجاشي : شيخ من أصحابنا «أبو طالب» ثقة في الحديث ، عالم به ، كان قديماً من الواقفة توفّي عام 356 (رجال النجاشي برقم 615 طبع بيروت).
3- وأمّا رجال السند ففي تعليقة الخلاف أنّه لم يتعرّف على البربريّ ، وأمّا بشر بن هارون لعلّه تصحيف بشر بن موسى ، إذ هو الراوي عن الحميدي على ما في تاريخ البغدادي : 86. والحميدي هو عبد الله بن الزبير القرشي توفّي بمكة 219 كما في تذكرة الحفّاظ : 2 / 413 ، وسفيان هو سفيان بن عيينة ، وأبو إسحاق هو : عمرو بن عبد الله بن عبيد السبيعي.

أراه من قبل ابنه عبد الله بن طاوس فإنّه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك (1) وكان يحمل على هؤلاء القوم حملاً شديداً - أي بني هاشم -. (2)

إنّ سليمان بن عبد الملك الأموي المرواني هو الذي قتل أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي الحنفية بالسم ظلماً وخداعاً ، فكيف يكون حال من يواليهم؟!

وثانياً : أنّ وراثة العصبة ليست من المسائل التي يقل الابتلاء بها ، بل هي ممّا تعمّ البلوى بها في عصر النبيّ وعصور الخلفاء ، فلو كان هناك تشريع على مضمون هذه الرواية لما خفي على غيره ونقله الآخرون ، وقد عرفت أنّ الأسناد ينتهي إلى عبد الله بن طاوس.

وثالثاً : أنّ فقهاء المذاهب أفتوا في موارد على خلاف مضمون هذا الخبر ، وقد أشار إليها فقيه الطائفة الشيخ الطوسي ، نذكر قسماً منها.

1. لو مات وخلّف بنتاً وأخاً وأُختاً ، فقد ذهبوا إلى أنّ للبنت النصف والنصف الآخر للأخ والأُخت (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) مع أنّ مقتضى خبر ابن طاوس أنّ النصف للأخ فقط لانّه أخذاً بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما يفي فهو لأولى رجل ذكر».

2. لو أنّ رجلاً مات وترك بنتاً ، وابنة ابن ، وعمّاً ، فقد ذهبوا إلى أنّ النصف للبنت والنصف الآخر لابنة الابن والعم ، مع أنّ مقتضى الخبر أن يكون النصف الآخر للعم وحده لأنّه أولى ذكر. (3)

ص : 240


1- سليمان بن عبد الملك بن مروان سابع خلفاء بني أُمية ، بويع سنة 96 وتوفّي سنة 98 ، وهو ابن خمس وأربعين سنة ، وكان خاتمه بيده يختم رسائله بخاتمه صيانة عن التزوير.
2- التهذيب : 9 / 262 ؛ الخلاف : 2 ، المسألة 80.
3- الخلاف : 4 / 68 ، المسألة 80 ؛ والتهذيب : 9 / 306 ط الغفاري.

إلى غير ذلك من الأحكام التي اتّفقوا عليها وهي على طرف النقيض من الخبر.

فإن قلت : فما ذا تصنع بالخبر (خبر عبد الله بن طاوس) ، مع أنّ الشيخين نقلاه بل نقله غيرهما على ما عرفت؟

قلت : يمكن حمل الخبر على ما لا يخالف إطلاق الكتاب ولا ما أطبق المسلمون عليه ، وهو أنّه وارد في مجالات خاصّة : مثلاً :

1. رجل مات وخلّف أُختين من قبل الأُمّ ، وابن أخ ، وابنة أخ لأب وأُمّ ، وأخاً لأب ، فالأُختان من أصحاب الفرائض ، كلالة الأُمّ ، يعطى لهما الثلث والباقي لأولى ذكر ، وهو الأخ لأب.

2. رجل مات وخلّف زوجة وخالاً وخالة ، وعمّاً وعمّة ، وابن أخ ، فالزوجة من أصحاب الفرائض تلحق بفريضتها وهي الربع والباقي يدفع إلى أولى ذكر ، وهو ابن الأخ.

3. رجل مات وخلّف زوجة ، وأُختاً لأب ، وأخاً لأب وأُمّ ، فإنّ الزوجة من أصحاب الفرائض تلحق بفريضتها وهي الربع والباقي للأخ للأب والأُم ، ولا ترث الأُخت لأب معه.

4. امرأة ماتت وخلّفت زوجاً ، وعمّاً من قبل الأب والأُم ، وعمّة من قبل الأب ، فللزوج النصف سهمه المسمّى وما بقي للعم للأب والأُمّ ، ولا يكون للعمّة من قبل الأب شيء.

إلى غير ذلك من الصور التي يمكن أن ينطبق عليها الخبر.

قال السيد المرتضى ، ولا عتب إذا قلنا إنّ الرواية وردت : في من خلّف أُختين لأُمّ ، وابن أخ ، وبنت أخ لأب وأُمّ ، وأخاً لأب ، فإنّ الأُختين من الأُمّ

ص : 241

فرضهنّ الثلث وما بقي فلأولى ذكر أقرب ، وهو الأخ من الأب وسقط ابن الأخ وبنت الأخ ، لأنّ الأخ أقرب منهما.

وفي موضع آخر وهو أن يخلف الميّت امرأة وعمّاً وعمّة ، وخالاً وخالة ، وابن أخ ، فللمرأة الربع وما بقي فلأولى ذكر وهو ابن الأخ ؛ وسقط الباقون. والعجب أنّهم ورثوا الأُخت مع البنت عصبة ، فإن قالوا : من حيث عصَّبها أخوها ، قلنا : فألاّ جعلتم البنت عصبة عند عدم البنين ويكون أبوها هو الذي يعصِّبها. (1)

الرواية الثانية : ما ورد في ميراث البنتين

ما أخرجه الترمذي وابن ماجة وأبو داود وأحمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع ، بابنتيها من سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أُحد شهيداً ، وإنّ عمّهما أخذ مالهما فلم يدَع لهما مالاً ، ولا تُنكحان إلاّ ولهما مال ، قال : يقضي الله في ذلك ، فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى عمّهما فقال : أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أُمّهما الثمن وما بقي فهو لك. (2)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ جابر بن عبد الله نقل نزول الآية في واقعة أُخرى قال

ص : 242


1- الانتصار : 280.
2- سنن الترمذي 4 / 414 ، باب ما جاء في ميراث البنات رقم 2092 ؛ سنن ابن ماجة : 2 / 908 باب فرائض الصلب رقم 272 ؛ سنن أبي داود : 3 / 121 ، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2891 ؛ ومسند أحمد : 4 / 319 ، الحديث 14384.

السيوطي : أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه ، من طرق عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لا أعقل شيئاً ، فدعا بماء فتوضّأ منه ثم رشّ عليّ فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (1) واحتمال نزول الآية مرّتين ، أو كون سبب النزول متعدّداً يحتاج إلى دليل.

وثانياً : أنّ ابن كثير روى هذه الرواية وفيها انّ لسعد بن الربيع بنات وليس فيها ذكر للأُم والعم.

و (2) ثالثاً : أنّ أبا داود أخرج الرواية وفيها مكان بنتا سعد بن الربيع ، بنتا ثابت بن قيس. (3)

وهذا يكشف عن عدم ضبط الراوي فتارة ينقل الواقعة في بنتي سعد بن الربيع وأُخرى في بنتي ثابت بن قيس وإن كان الصحيح هو الأوّل ، لأنّ المقتول في غزوة أُحد ، هو سعد بن الربيع ، وأمّا ثابت بن قيس فقد قتل في يوم اليمامة. (4)

ص : 243


1- الدر المنثور : 2 / 124.
2- جامع المسانيد والسنن : 24 / 216 ، الحديث 24.
3- سنن أبي داود : 3 / 120 ، الحديث 2891.
4- السنن الكبرى : 6 / 229 باب فرض الابنتين ، وقال البيهقي : قوله : ثابت بن قيس خطأ ، إنّما هو سعد بن الربيع ، وقال أبو داود 3 / 121 رقم 2891 : أخطأ بشر بن المفضل فيه انّما هما ابنتا سعد بن الربيع ، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة.

ورابعاً : أنّ في سند الرواية من لا يصحّ الاحتجاج به ، وإليك البيان :

1. عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ، والأسانيد في سنن الترمذي وابن ماجة وأبي داود ، تنتهي إليه.

ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة وقال : كان منكر الحديث ، لا يحتجّون بحديثه وكان كثير العلم ، وقال بشر بن عمر : كان مالك لا يروي عنه ، وقال يعقوب بن أبي شيبة عن ابن المديني : لم يُدخله مالك في كتبه ، قال يعقوب : وابن عقيل صدوق وفي حديثه ضعف شديد جداً ، وكان ابن عيينة يقول : أربعة من قريش يُترك حديثهم فذكره فيهم ، وقال ابن المديني عن ابن عيينة : رأيته يحدّث نفسه فحملته على أنّه قد تغيّر ، إلى غير ذلك من الكلمات الجارحة التي تسلب ثقة الفقيه بحديثه. (1)

2. الراوي عنه في سنن الترمذي هو عبيد بن عمرو البصري الذي ضعّفه الأزدي وأورد له ابن عدي حديثين منكرين وضعّفه الدارقطني ووثّقه ابن حبَّان. (2)

3. الراوي عنه في سنن أبي داود : بشر بن المفضّل ، قال ابن سعد : كان ثقة كثير الحديث عثمانياً ..

ا (3) لى غير ذلك من رجال في الأسانيد ، مرميّين بأُمور لا يحتجّ معها.

4. انّ الاستدلال بفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فرع معرفة وجهه ، فكما يحتمل انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ورّث العم من باب التعصيب ، يحتمل انّه دفع الباقي إلى العم لأجل تكفله

ص : 244


1- تهذيب التهذيب : 6 / 140 ، ولاحظ بقيّة كلامه.
2- المصدر نفسه : 4 / 121.
3- تهذيب التهذيب : 1 / 459.

حضانة البنتين والحفاظ على أموالهما من التلف والضياع ، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أولى بالمؤمنين من أنفسهم فكيف على أموالهم.

* * *

أضف إلى ذلك انّه ورد من طرقهم ما يخالف ذلك.

أخرج البيهقي في سننه بسنده عن حيان بياع الأنماط ، قال : كنت جالساً مع سويد بن غفلة فأتى في ابنة ، وامرأة ومولى ، فقال : كان علي رضي الله عنه يعطي الابنة النصف ، والمرأة الثمن ويرد ما بقي على الابنة. (1)

الرواية الثالثة : ما ورد في ميراث البنت والأُخت

روى الأسود بن يزيد قال : أتانا معاذ بن جبل باليمن معلّماً وأميراً ، فسألناه عن رجل توفّي وترك ابنة وأُختاً؟ فقضى : أنّ للابنة النصف ، وللأُخت النصف. ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حي. (2)

وفي لفظ أبي داود : أنّ معاذ بن جبل ورث أُختاً وابنة ، جعل لكلّ واحدة منهما النصف ، وهو باليمن ، ونبيّ الله يومئذ حي. (3)

والأثر يتضمّن عمل الصحابة وهو ليس بحجّة إلاّ إذا أُسند إلى المعصوم وكون النبي حيّاً يوم ذاك لا يلازم تقريراً لعمله.

والرجوع إلى الآثار الواردة عن الصحابة في مجال الفرائض يعرب عن أنّه لم

ص : 245


1- السنن الكبرى : 6 / 242.
2- صحيح البخاري : 8 / 150 في الفرائض باب ميراث البنات ، وباب ميراث الأخوات مع البنات عصبة.
3- سنن أبي داود في الفرائض ، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2893. ولاحظ جامع الأُصول : 9 / 610 رقم 7394.

يكن عندهم إحاطة بأحكام الفرائض ، بل كلّ كان يفتي حسب معايير ومقاييس يتصوّرها صحيحة. ويكفي في ذلك اختلاف أبي موسى الأشعري مع ابن مسعود في رجل ترك بنتاً وأُختاً وابنة ابن.

روى البخاري : سُئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن ، وأُخت؟ فقال : للابنة النصف ، وللأُخت النصف وأْت ابن مسعود فسيتابعني ، قال : سئل ابن مسعود وأُخبر بقول أبي موسى فقال : لقد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين ، أقضي فيها بما قضى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : للابنة النصف ، ولابنة ابن السدس تكملةَ الثلثين ، وما بقي فللأُخت ، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. (1)

الرواية الرابعة : ما ورد في ميراث الأخوات مع البنات

أخرج البخاري ، قال : حدّثني عمرو بن عباس ، حدّثنا عبد الرحمن ، حدّثنا سفيان عن أبي قيس عن هزيل ، قال : قال عبد الله : لأقضين فيها بقضاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للابنة النصف ولابنة الابن السدس ، وما بقي فللأُخت. (2)

يلاحظ عليه : أوّلاً : بأنّه لا يصحّ الاحتجاج به ، إذ في سنده عبد الرحمن بن ثروان ، قال ابن حجر في «التهذيب» ناقلاً عن أبي حاتم انّه قال فيه : ليس بقوي ، هو قليل الحديث وليس بحافظ. (3)

ص : 246


1- صحيح البخاري : 8 / 151 ، باب ميراث ابنة ابن مع ابنة ؛ سنن الترمذي : 4 / 415 ، باب ما جاء في ميراث ابنة الابن مع ابنة الصلب رقم 2093 ؛ سنن أبي داود : 3 / 120 ، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2890.
2- صحيح البخاري : 8 / 189.
3- تهذيب التهذيب : 6 / 138.

وعدّه الصقيل من الضعفاء. (1)

وثانياً : أنّ دفع السدس لبنت الابن لم يكن من باب التعصيب ، إذ عليه يكون للابنة النصف والباقي بين الأُخت وابنة الابن بالمناصفة ، فالحكم عليه بالسدس مخالف للتعصيب.

الرواية الخامسة : ما رواه البخاري في صحيحه عن الأسود

قال : قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - النصف للابنة والنصف للأُخت ، ثمّ قال سليمان : قضى فينا ولم يذكر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. (2)

يلاحظ عليه : بأنّه عمل صحابي موقوف لم يسنده إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفعله أو تقريره فهو حجّة عليه.

هذا ما استدلّ به القائل بالتعصيب من الروايات بعد الذكر الحكيم.

مضاعفات القول بالتعصيب

ثمّ إنّه يلزم على القول بالتعصيب أُمور يأباها الطبع ولا تصدّقها روح الشريعة ، نأتي بنماذج :

1. لو كان للميّت عشر بنات وابن ، يأخذ الابن السدس ، وتأخذ البنات خمسة أسداس ، وذلك أخذاً بقوله سبحانه : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ).

2. لو كان له مكان الابن ، ابن عم للميّت ، فللبنات فريضتها وهي الثلثان ،

ص : 247


1- الضعفاء الكبير : 2 / 327.
2- صحيح البخاري : 8 / 189.

والباقي - أي الثلث - لابن العم. فيكون الابن أسوأ من ابن العم.

قال السيد المرتضى : فإذا تبيّن بطلان القول بالتعصيب يظهر حكم كثير من المسائل ، منها : فمن هذه المسائل أن يخلف الرجل بنتاً وعمّاً فعند المخالف أنّ للبنت النصف والباقي للعم بالعصبة ، وعندنا أنّه لا حظّ للعم والمال كلّه للبنت بالفرض والرد ، وكذلك لو كان مكان العم ابن عم ، وكذلك لو كان مكان البنت ابنتان ، ولو خلف الميت عمومة وعمّات أو بني عم وبنات عم فمخالفنا يورّث الذكور من هؤلاء دون الإناث لأجل التعصيب - أي قول : لأولى رجل ذكر - ونحن نورث الذكور والإناث. ومسائل التعصيب لا تحصى كثرة. (1)

يقول المحقّق محمد جواد مغنية : إنّ الإنسان أرأف بولده منه بإخوته ، وهو يرى أنّ وجود ولده ذكراً أو أُنثى امتداد لوجوده ، ومن هنا رأينا الكثير من أفراد الأُسر اللبنانية الذين لهم بنات فقط يبدلون مذهبهم من التسنّن إلى التشيّع ، لا لشيء إلاّ خوفاً أن يشترك مع أولادهم الإخوان أو الأعمام.

ويفكر الآن ، الكثير من رجال السنّة بالعدول عن القول بالتعصيب ، والأخذ بقول الإمامية من ميراث البنت تماماً كما عدلوا عن القول بعدم صحّة الوصيّة للوارث ، وقالوا بصحّتها كما تقول الإمامية ، على الرغم من اتّفاق المذاهب على عدم الصحّة. (2)

ص : 248


1- الانتصار : 282.
2- الفقه على المذاهب الخمسة : 517 - 518.

23- العول في الفرائض

اشارة

ص : 249

ص : 250

العول في الإرث أو حكم الفرائض إذا عالت

اشارة

قبل الخوض في المقصود ، نقدّم أُموراً :

الأوّل : العول لغة واصطلاحاً

للعول في اللغة معاني متعددة أو معنى واحد ، له مصاديق مختلفة ، فيُستعمل في الموارد التالية :

1. الفاقة والحاجة يقال : عال ، يعيل ، عيلة : إذا احتاج ، قال سبحانه : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) (1) وفي الحديث : «ما عال مقتصد». (2)

2. الميل إلى الجور ، قال سبحانه : (ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا). (3)

3. النقصان : يقال : عال الميزان عولاً فهو عائل إذا نقص.

4. الارتفاع : يقال : عالت الناقة بذنبها إذا رفعته ، ومنه العويل وهو ارتفاع الصوت بالبكاء.

إلى غير ذلك ممّا ذكره أصحاب المعاجم. (4)

ص : 251


1- التوبة : 28.
2- المقاييس : 4 / 198.
3- النساء : 3.
4- انظر اللسان : 11 / 481 - 484 ؛ المصباح المنير : 2 / 599.

وأمّا اصطلاحاً فهو عبارة عن زيادة السهام المفروضة في الكتاب على مبلغ المال ، أو نقصان المال عن السهام المفروضة.

قال السيد المرتضى : إنّ لفظ العول يجري مجرى الأضداد ، وإنّما دخل هذا الاسم في الفرائض في الموضع الذي ينقص فيه المال عن السهام المفروضة فيه ، فدخل هاهنا النقصان ، ويمكن أن يكون دخوله لأجل الزيادة ، لأنّ السهام زادت على مبلغ المال [وبالجملة] إذا أضيف إلى المال كان نقصاناً وإذا أُضيف إلى السهام كان زيادة. (1)

وحصيلة الكلام هو انّ العول عبارة عن زيادة سهام الفروض عن أصل المسألة بزيادة كسورها عن الواحد الصحيح. مثلاً إذا ترك الميت زوجة وأبوين وبنتين فللزوجة الثُّمن ، وللأبوين الثلث ، وللبنتين الثلثان ، والتركة لا تتسع للثمن والثلث والثلثين ، بل يستغرق الأخيران مجموعَ التركة ولم يتَّسع للثمن.

وكذا لو ماتت امرأة وتركت زوجاً وابنتين شقيقتين ، فللزوج النصف - لعدم الولد للميت - وللبنتين الثلثان ، والمال المتروك لا يتسع للنصف والثلثين ، ولا يتحقّق العول إلاّ بوجود الزوج أو الزوجة مع سائر الورثة ، فلو فقد الزوج والزوجة بين الورثة لما يتحقّق العول عندنا ، وأمّا عند غيرنا فيتحقّق عند فقدهما أيضاً كما سيوافيك.

الثاني : العول ، تاريخيّاً

إنّ مسألة العول من المسائل التي لم يرد فيها نصّ عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقد ابتلى بها عمر بن الخطاب عند ما ماتت امرأة في عهده وكان لها زوج وأُختان ،

ص : 252


1- الانتصار : 561.

فجمع الصحابة ، فقال لهم : فرض الله تعالى للزوج النصف ، وللأُختين الثلثان ، فإن بدأت للزوج لم يبق للأُختين حقهما ، وإن بدأت للأُختين لم يبق للزوج حقّه ، فأشيروا عليَّ ، فاتّفق رأيه مع عبد الله بن مسعود ، على العول ، أي إيراد النقص على الجميع بنسبة فرضهم من دون تقديم ذي فرض على آخر ؛ وخالف ابن عباس ، في عصر عثمان ، وقال : إنّ الزوجين يأخذان تمام حقّهما ويدخل النقص على البنات فهو يقدّم من له فرضان في الكتاب على من له فرض واحد كما سنبيّن.

ومنذ ذلك العصر صار الفقهاء على فرقتين ، فالمذاهب الأربعة وما تقدّمها من سائر المذاهب الفقهية قالوا بالعول ، والشيعة الإمامية ، تبعاً للإمام عليّ - عليه السلام - وتلميذه ابن عباس على خلافه ، فهم على إيراد النقص على البعض دون بعض من دون أن يكون عملهم ترجيحاً بلا مرجح.

فعن عبد الله بن عباس انّه قال : أوّل من أعال الفرائض عمر لما التوت عليه الفرائض ودافع بعضها بعضاً ، فقال : ما أدري أيّكم قدَّمه الله ولا أيّكم أخّره ، فقال : ما أجد شيئاً أوسع لي من أن أقسِّم التركة عليكم بالحصص ، وأدخل على كلّ ذي حقّ ما دخل عليه من عول الفريضة ، ولم يخالف في ذلك أحد حتى انتهى أمر الخلافة إلى عثمان ، فأظهر ابن عباس خلافه في ذلك وقال : لو أنّهم قدَّموا من قدَّم الله وأخّروا من أخّر الله ما علت فريضة قط ، فقيل له : من قدّمه الله ومن أخّره الله؟ فقال : قدّم الله الزوج والزوجة ، والأُمّ والجدة ، وأمّا من أخّره الله فالبنات وبنات الابن والأخوات الشقيقات والأخوات لأب.

وفي رواية أُخرى أنّه قال : من أهبطه الله من فرض إلى فرض فهو الذي قدّمه ، ومن أهبطه الله من فرض إلى غير فرض فهو الذي أخّره. (1)

ص : 253


1- المبسوط للسرخسي : 29 / 161 - 162.

ويظهر من بعض الروايات انّ ابن عباس كان يصرّ على رأيه ويدعو المخالف إلى المباهلة.

قال الشربيني في «مغني المحتاج» : كان ابن عباس صغيراً فلما كبر أظهر الخلاف بعد موت عمر وجعل للزوج النصف ، وللأُمّ الثلث وللأُخت ما بقي (1) ولا عول حينئذ فقيل له : لِمَ ، لَمْ تقل هذا لعمر؟ فقال : كان رجلاً مهاباً فهبتُه ، ثمّ قال : إنّ الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يجعل في المال نصفاً ونصفاً وثلثاً ، ذهب النصفان بالمال فأين موضع الثلث؟

ثمّ قال له عليّ - عليه السلام - : هذا لا يغني عنك شيئاً لو متُّ أو مت لقُسِّم ميراثنا على ما عليه الناس من خلاف رأيك ، قال : فإن شاءوا فلندع أبناءنا وأبناءهم ، ونساءنا ونساءهم ، وأنفسنا وأنفسهم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، فسمّيت المباهلة لذلك. (2)

وروى الجصاص في تفسيره عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال : دخلت أنا وزفر بن أوس بن الحدثان على ابن عباس بعد ما ذهب بصره فتذاكرنا فرائض الميراث ، فقال : ترون الذي أحصى رمل عالج عدداً لم يحص في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً ، إذا ذهب نصف ونصف فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر : يا ابن عباس ، مَنْ أوّل من أعال الفرائض؟ قال : عمر بن الخطاب ، قال : ولم؟ قال : لما تدافعت عليه وركب بعضها بعضاً ، قال : والله ما أدري كيف أصنع بكم؟ والله ما أدري أيّكم قدّم الله ولا أيّكم أخّر ، قال : وما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن أُقسمه عليكم بالحصص ، ثمّ قال ابن عباس : وأيم الله لو قدّم من

ص : 254


1- وهذه المسألة نفس ما ابتلى به عمر بن الخطاب ، غير أنّه أُضيفت عليها «الأُمّ».
2- مغني المحتاج : 3 / 33. وانظر المبسوط 29 / 161.

قدّم الله ، وأخّر من أخر الله ما عالت فريضة ، فقال له زفر : وأيّهم قدّم وأيهم أخّر؟ فقال : كلّ فريضة لا تزول إلاّ إلى فريضة فتلك التي قدّم الله وتلك فريضة الزوج ، له النصف فإن زال فإلى الربع لا ينقص منه ، والمرأة لها الربع فإن زالت عنه صارت إلى الثمن لا تنقص منه ، والأخوات لهن الثلثان والواحدة لها النصف ، فإن دخل عليهم كان لهنّ ما بقي فهؤلاء الذين أخّر الله ، فلو أعطى من قدّم الله فريضة كاملة ثمّ قُسِّم ما يبقى بين من أخّر الله بالحصص ما عالت فريضة ، فقال له زفر : فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال : هبته والله. (1)

الثالث : الأقوال المطروحة في العول

اتّفقت الشيعة ووافقهم الظاهرية وثلّة من الصحابة والتابعين على بطلان العول بمعنى إدخال النقص على جميع الورثة بنسبة فروضهم ، بل يقدّم من له الفرضان على من له فرض واحد.

قال السيد المرتضى في «الانتصار» : والذي تذهب إليه الشيعة الإمامية : أنّ المال إذا ضاق عن سهام الورثة قدم ذو السهام المؤكدة من الأبوين والزوجين على البنات والأخوات من الأُمّ وعلى الأخوات من الأب والأُمّ أو من الأب ، وجعل الفاضل عن سهامهم لهنّ.

وذهب ابن عباس إلى مثل ذلك وقال به أيضاً عطاء بن أبي رباح وحكى الفقهاء من العامة هذا المذهب عن محمد بن علي بن الحسين الباقر - عليه السلام - ومحمد بن الحنفية ، وهو مذهب داود بن علي الاصفهاني.

وقال باقي الفقهاء : إنّ المال إذا ضاق عن سهام الورثة قُسِّم بينهم على قدر

ص : 255


1- أحكام القرآن : 2 / 109 ؛ مستدرك الحاكم : 4 / 340.

سهامهم كما يفعل في الديون والوصايا إذا ضاقت التركة عنها. (1)

وقال في الناصريات : وذهب أصحابنا - بلا خلاف - انّ الفرائض لا تعول ، ووافقنا على ذلك ابن عباس ، وداود بن علي الاصفهاني ، وخالفنا باقي الفقهاء. (2)

وقال الشيخ في «الخلاف» : العول عندنا باطل فكلّ مسألة تعول على مذهب المخالفين فالقول عندنا فيها بخلاف ما قالوه. وبه قال ابن عباس فانّه لم يُعْوِلْ المسائل وأدخل النقص على البنات وبنات الابن والأخوات للأب والأُمّ أو للأب ، وبه قال محمد بن الحنفية ، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليهم السلام - وداود بن علي ، وأعالها جميع الفقهاء. (3)

وممّن خالف العول ابن حزم في «المُحلّى» وهو من أعيان مذهب الظاهرية : وقال أوّل من قال به (العول) زيد بن ثابت ووافقه عليه عمر بن الخطاب وصحّ عنه هذا ، وروي عن علي وابن مسعود غير مسند ، وذكر عن العباس ولم يصحّ ، وصحّ عن شريح ونفر من التابعين يسير ، وبه يقول أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد. وأصحاب هؤلاء القوم إذا اجتمع رأيهم على شيء كان أسهل شيء عليهم دعوى الإجماع ، فإن لم يمكنهم ذلك ، لم تكن عليهم مئونة من دعوى أنّه قول الجمهور وانّ خلافه شذوذ وانّ خصومهم ليرثون لهم من تورطهم في هذه الدعاوى الكاذبة نعوذ بالله من مثلها ... وبقول ابن عباس هذا ، يقول عطاء ومحمد بن علي بن أبي طالب ومحمد بن علي بن الحسين وأبو سليمان وجميع أصحابنا وغيرهم. (4)

ص : 256


1- الانتصار : 561 - 562.
2- الناصريات : 403 ، المسألة 190.
3- الخلاف : 4 / 73 ، المسألة 81.
4- المحلّى : 9 / 263 - 264 ، المسألة 1717.

الرابع ذكر نماذج من صور العول

ذكر الفقهاء للعول صوراً مختلفة نذكر بعضها روماً للاختصار :

1. زوج وأُختان : للزوج النصف أي الثلاثة من ستة ، وللُاختين الثلثان أي الأربعة منها. ومن المعلوم أنّ المال ليس فيه نصف وثلثان فلو أُخذ من الست ، النصفُ ، لا يفي الباقي بالثلثين وهكذا العكس ، فتعول السهام إلى السبعة (7 / 4+ 3).

ففي المذهب الإمامي يقدّم الزوج فيعطى له النصف والباقي للأُختين ، وأمّا القائل بالعول فهو يقسّم التركة إلى سبعة سهام ، مكان الستة فيعطي للزوج ثلاثة سهام ، وللُاختين أربعة سهام لكن من السبعة ، وبذلك يُدخل النقص على الجميع ، فلا الزوج ورث النصف الحقيقي ولا الأُختان ، الثلثين ، بل أخذ كل أقل من سهامه.

2. تلك الصورة ومعهما أُخت واحدة من الأُمّ فريضتها السدس ، ومن المعلوم أنّ التركة لا تفي بالنصف والثلثين والسدس ، فتعول التركة إلى ثمانية سهام وذلك (8 / 4+ 3+ 1). ففي الفقه الإمامي يقدّم الزوج والأُخت لكونهما ذو فرضين فيعطى للزوج النصف وللأُخت السدس والباقي للأُختين ، وأمّا القائل بالعول فهو يورد النقص على الجميع ، فيقسّم المال إلى ثمانية سهام ، فيعطي للزوج ثلاثة. وللأُختين أربعة ، وللأُخت من الأُمّ واحداً ، ولكنّ الكلّ من ثمانية أجزاء ، فلا الزوج نال النصف ، ولا الأُختان الثلثين ، ولا الأُخت من الأُمّ ، السدس.

3. تلك الصورة ومعهم أخ من أُم وفريضتها أيضاً السدس فتعول الفريضة إلى تسعة ، وذلك (9 / 4+ 3+ 1+ 1).

ص : 257

ففي الفقه الإمامي يقدّم الزوج والأُخت من الأُمّ ، والأخ من الأب ، ويختص الباقي بالأُختين ؛ وأمّا القائل بالعول فيعطي للزوج ثلاثة ، وللُاختين أربعة ، ولكلّ من الأُخت والأخ من الأُمّ واحداً لكن من تسعة أسهم ، لا من ستة سهام ، وبالتالي لا يُمتَّع الزوج بالنصف ، ولا الأُختان بالثلثين ، ولا الأُخت والأخ من الأُمّ بالثلث إلاّ لفظاً.

4. زوجة وأبوان وبنتان وهي المسألة المعروفة باسم المسألة المنبرية ، وهي التي سُئل عنها الإمام عليّ - عليه السلام - وهو على المنبر ، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين رجل مات وترك ابنتيه وأبويه وزوجة؟ فقال الإمام - عليه السلام - : «صار ثمن المرأة تسعاً». ومراده : أنّه على الرأي الرائج ، إدخال النقص على الجميع صار سهمها تسعاً.

وذلك لأنّ المخرج المشترك للثلثين والسدس والثمن هو عدد (24) فثلثاه (16) وسدساه (8) وثمنه (3) ، وعند ذلك تعول الفريضة إلى (27) سهماً ، وذلك مثل (27 / 16+ 8+ 3).

فالقائل بالعول ، يورد النقص على جميع أصحاب الفروض ، فيعطي لأصحاب الثلثين (16) سهماً ، وللأبوين (8) سهام ، وللزوجة (3) سهام ، من (27) ، بدل إعطائهم بهذا المقدار من (24) سهماً ، والزوجة وإن أخذت (3) سهام ، لكن لا من (24) سهماً حتى يكون ثمناً واقعياً ، بل من (27) وهو تُسْع التركة ، وهي في الواقع (24) سهماً (1). بخلاف المذهب الإمامي فهو يقدّم الزوجة والأبوين والباقي لابنتيه.

هذه هي نظرية العول وبيانها بوجه سهل غير مبتن على المحاسبات الدقيقة

ص : 258


1- سهم الزوجة 3 / 1 / 27 / 9 مجموع السهام 27 / 16+ 8+ 3.

وإن كان البيان على ضوئها أتقن وأدق.

ويظهر من السيد المرتضى أنّ القائلين بالعول ربّما يوافقون الإمامية في بعض الصور ، كامرأة ماتت وخلّفت بنتين وأبوين وزوجاً ، والمال يضيق عن الثلثين والسدسين والربع ، فنحن بين أُمور : إمّا أن ندخل النقص على كل واحد من هذه السهام أو ندخله على بعضها ، وقد أجمعت الأُمّة على أنّ البنتين هاهنا منقوصتان بلا خلاف ، فيجب أن نعطي الأبوين السدس والزوج الربع ، ويجعل ما بقي للابنتين ، ونخصّهما بالنقص لأنّهما منقوصتان بالاجماع. (1)

إذا عرفت هذه الأُمور فلندرس أدلّة القائلين بالعول أوّلاً ، ثمّ أدلّة القائلين بتقديم ذي الفرضين على من له فرض واحد.

ص : 259


1- الانتصار : 284.

أدلّة القائلين بالعول

اشارة

استدلّ القائلون بالعول بوجوه : (1)

1. قياس الحقّ بالدين

إنّ الدُّيّان يقتسمون المال على تقدير قصوره عن دينهم بالحصص ، وكذلك الورّاث ، والجامع ، الاستحقاق للمال.

يلاحظ عليه : أنّه قياس مع الفارق فانّ الدَّيْن يتعلّق بالذمة ، والتركة كالرهن عند الدائن. وبعبارة أُخرى : تعلّق الدين بعين المال تعلّقُ استحقاق لا تعلّق انحصار ، فلو لم يؤدّوا حقّ الغرماء فلهم مصادرة التركة واستيفاء طلبهم من باب التقاص ، ولو قاموا بالتأدية من غير التركة فليس لهم أيّ اعتراض ، ولأجل ذلك ليس بمحال أن يكون لرجل على رجل ألف ، ولآخر ألفان ، ولثالث عشرة آلاف وإن صار الدَّين أضعاف التركة ، لأنّ المديون أتلف مال الغير بالاستقراض والصرف ، فصار مديوناً بما أتلف ، كان بمقدار ماله أو أزيد أو أنقص فلا إشكال في تعلّق أضعاف التركة بالذمة لأنّها تسع أكثر من ذلك.

وأمّا سهام الإرث فانّها انّما تتعلّق بالتركة والأعيان الموروثة ، ومن المحال أن يكون للمال نصف ، ونصف وثلث (كما إذا ماتت الزوجة عن زوج وأُخت للأبوين وأُختين للأُمّ) ، فامتلاك الورثة من التركة بقدر هذه الفروض أمر غير معقول ،

ص : 260


1- أخذنا الدلائل الثلاثة الأُول من المغني : 6 / 242 مع تفصيل منّا.

فلا بدّ أن يكون تعلّقها بشكل آخر تسعها التركة. بأن لا يكون لبعض أدلّة الفروض إطلاق يعمّ حالي الانفراد والاجتماع حتى لا يستلزم المحال ، وسيوافيك بيان ماله إطلاق لحال الاجتماع مع سائر الفروض وما ليس له إطلاق.

وقد فصّل أصحابنا في نقد هذا الدليل بوجوه ، وما ذكرناه أتقن ، وإليك ما ذكره المرتضى في نقد هذا الدليل :

قال : ما يقولونه في العول : إنّ الديون إذا كانت على الميّت ولم تف تركته بالوفاء بها ، فإنّ الواجب القسمة للمال على أصحاب الديون بحسب ديونهم من غير إدخال النقص على بعضهم ، وذلك أنّ أصحاب الديون مستوون في وجوب استيفاء أموالهم من تركة الميّت ، وليس لأحد مزية على الآخر في ذلك ، فإن اتّسع المال لحقوقهم استوفوها ، فإن ضاق تساهموه وليس كذلك مسائل العول ، لأنّا قد بيّنّا أنّ بعض الورثة أولى بالنقص من بعض ، وأنّهم غير مستويين كاستواء أصحاب الديون فافترق الأمران. (1)

2. قياس الإرث بالوصية

إنّ التقسيط مع القصور واجب في الوصية للجماعة والميراث كذلك ، والجامع بينهما استحقاق الجميع التركة ، فلو أوصى لزيد بألف ، ولعمرو بعشرة آلاف ، ولبكر بعشرين ألف ، وضاق ثلثه عن القيام بالجميع ، يُورد النقص على الجميع حسب سهامهم.

يلاحظ عليه : أنّ الحكم ليس بمسلّم في المقيس عليه حتى يستظهر حال المقيس منها. بل الحكم فيه أنّه يعطى الأوّل فالأوّل - عند الإيصاء - إلى أن يبقى

ص : 261


1- الانتصار : 285.

من المال شيء ويسقط من لم يسعه الثلث ، لأنّه أوصى بشيء لم يملكه فتكون وصيّته باطلة.

نعم لو ذكر جماعة ثمّ سمّى ، كما إذا قال : زيد وعمر وبكر لكل واحد ألف ، فعجز عنه مقدار ما ترك ، فلا شك أنّه يدخل النقص على الجميع والفارق بينه وبين المقام هو تصريح الموصي بالعول ، ولو ورد التصريح به في الشريعة - وأغضينا عمّا سيوافيك - يجب اتباعه فكيف يقاس ، ما لم يرد فيه التصريح بالتقسيط بما ورد فيه التصريح به.

3. تقديم البعض على البعض ترجيح بلا مرجّح

إنّ النقص لا بدّ من دخوله على الورثة على تقدير زيادة السهام ، أمّا عند العائل فعلى الجميع وأمّا عند غيره فعلى البعض ، لكن هذا ترجيح من دون مرجّح.

يلاحظ عليه : أنّ رفع الأمر المحال بإيراد النقص على الجميع فرع إحراز صحّة أصل تشريعه ، وأنّه يصحّ أن يتملّك شخص ، نصفَ المال ، وآخر نصفَه الآخر ، وثالث ثلاثة ، وقد عرفت أنّه غير صحيح وأنّ المال لا يتحمّل تلك الفروض ، ومع عدم صحّة تشريعه لا تصل النوبة إلى احتمال ورود النقص على الجميع ، فانّ تصويره بصورة العول ، وإيراد النقص على الجميع رجوع عن الفرض ، واعتراف بأنّه ليس فيه نصفان وثُلث كما سيظهر عند بيان أدلّة القائلين ببطلانه ، لأنّ من سهمه النصفان أو الثُّلث ، يأخذ أقل من سهمهما ، وبالتالي يعترف بأنّه ليس في المال نصفان وثلث.

أضف إلى ذلك ، وجود المرجّح الذي أشار إليه الإمام أمير المؤمنين وتلميذه ابن عباس سابقاً ، وسيأتي كلامهما وكلام عترته الطاهرة.

ص : 262

4. قول علي عليه السلام - في المسألة المنبرية

روى البيهقي قال أخبرنا أبو سعيد ، أنبأنا أبو عبد الله ، حدثنا محمد بن نصر ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث عن علي - رضي الله عنه - في امرأة وأبوين وبنتين ، صار ثمنها تسعاً. (1)

والمسألة تسمّى المنبرية ، لأنّه سئل عنها الإمام وهو على المنبر ، يخطب ، ويظهر من أحمد المرتضى انّ السائل كان هو ابن الكوّاء ، أحد المناوئين فأجاب الإمام بقوله : «صار ثمنها ، تسعاً» ثمّ مضى في خطبته. (2)

قال في الشرح الكبير : انّ المرأة كان لها الثمن ثلاثة من أربعة وعشرين صار لها بالعول ثلاثة من سبعة وعشرين وهي التُّسع. (3)

وبعبارة أُخرى : انّ الثلاثة إذا نسبت إلى أربعة وعشرين فهو ثُمن التركة وإذا نسبت إلى سبعة وعشرين فهو تُسْع التركة ولذلك قال : «صار ثمنها تسعاً» ، وهذا صريح في العول ، إذ على القول الآخر : انّها لا تنقص سهمها عن الثمن ، وقد جعل الإمام ثمنها تسعاً.

يلاحظ عليه : أنّ السند ضعيف ، والدلالة غير تامة.

أمّا الأوّل ففيه : شريك بن عبد الله بن أبي شريك ، أبو عبد الله الكوفي القاضي فقد ترجمه ابن حجر في التهذيب» وقال : قال الجوزجاني : شريك ، سيّئ الحفظ ، مضطرب الحديث مائل.

وقال ابن أبي حاتم قلت لأبي زرعة : شريك يحتج بحديثه قال : كان كثير

ص : 263


1- السنن الكبرى : 6 / 253.
2- البحر الزخار : 356 باب العول والردّ ؛ الشرح الكبير في ذيل متن المغني : 7 / 74.
3- الشرح الكبير في ذيل متن المغني : 7 / 47.

الخطأ ، صاحب حديث وهو يغلط أحياناً.

وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : أخطأ في أربعمائة حديث.

وقال ابن المثنى : ما رأيت يحيى ولا عبد الرحمن حدثنا عنه بشيء.

ونقل عن عبد الله بن أحمد عن أبيه الإمام أحمد : حسن بن صالح أثبت من شريك ، كان شريك لا يبالي كيف حدث. (1)

ويروي شريك ذلك الحديث عن أبي إسحاق وهو عمرو بن عبد الله السبيعي ، وقد وصفه ابن حيان في «الثقات» بأنّه كان مدلّساً ، كما وصفه به حسين الكرابيسي وأبو جعفر الطبري. (2)

ومع كلّ ذلك كيف يحتجّ به على الحكم الشرعي.

وأمّا الدلالة : ففيه احتمالات :

1. انّ الإمام ذكر ذلك تعجّباً ، وكأنّه قال : أصار ثُمنها تسعاً؟! فكيف يمكن ذلك ، مع أنّه سبحانه جعل فرضها الثمن ، وفي ما سألت صار فرضها تُسعاً حسب الظاهر ، وأمّا ما هو علاج المسألة وصيانة ثمنها الوارد في القرآن ، فقد سكت عنه الإمام ومضى في خطبته.

2. انّ ما ذكره إخبار عما جرى عليه الناس بعد إفتاء الخليفة بإدخال النقص على الجميع ، دون أن يفتي على وفقه.

3. انّه ذكر ذلك مجاراة للرأي السائد في ذلك وإخماداً للفتنة ، حيث إنّ السائل كان أحد المناوئين للإمام ، وقد حاول بسؤاله ، أن يجعل الإمام في مأزق ، وكان عارفاً برأي الإمام.

ويظهر ما ذُكر ممّا نقله شيخ الطائفة عن أبي طالب الأنباري قال : حدثني

ص : 264


1- تهذيب التهذيب : 4 / 295 - 296.
2- تهذيب التهذيب : 8 / 59

الحسن بن محمد بن أيوب الجوزجاني قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عبيدة السلماني قال : كان عليّ - عليه السلام - على المنبر فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين رجل مات وترك ابنتيه وأبويه وزوجة ، فقال عليّ - عليه السلام - : صار ثمن المرأة تسعاً. قال سماك : قلت لعبيدة : وكيف ذلك؟ قال : إنّ عمر بن الخطاب وقعت في إمارته هذه الفريضة ، فلم يدر ما يصنع وقال : للبنتين الثلثان ، وللأبوين السدسان ، وللزوجة الثمن. قال : هذا الثمن باق بعد الأبوين والبنتين ، فقال له أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - : اعط هؤلاء فريضتهم ، للأبوين السدس ، وللزوجة الثمن ، وللبنتين ما يبقى ، فقال : فأين فريضتهما الثلثان؟ فقال له علي بن أبي طالب - عليه السلام - : لهما ما يبقى. فأبى ذلك عمر وابن مسعود فقال عليّ - عليه السلام - : على ما رأى عمر. قال عبيدة : وأخبرني جماعة من أصحاب عليّ - عليه السلام - بعد ذلك في مثلها أنّه أعطى للزوج الربع ، مع الابنتين ، وللأبوين السدسين والباقي ردّ على البنتين [قال :] وذلك هو الحق وإن أباه قومنا. (1)

ويستفاد من الحديث أوّلاً : أنّ عليّاً وأصحاب النبيّ إلاّ القليل منهم كانوا يرون خلاف العول ، وأنّ سيادة القول العول لأجل أنّ الخليفة كان يدعم ذلك آنذاك.

وثانياً : أنّ الإمام عمل في واقعة برأيه وأورد النقص على البنتين فقط ، وعلى ذلك يكون المراد من قوله ، فقال عليّ - عليه السلام - : «على ما رأى عمر» ، هو المجاراة والمماشاة ، وإلاّ يصير ذيل الحديث مناقضاً له.

إلى هنا تمت دراسة أدلّة القائلين بالعول. فلنذكر أدلّة المنكرين.

ص : 265


1- تهذيب الأحكام : 9 / 300 ، الحديث 13 ط الغفّاري.

أدلّة القائلين ببطلان العول

1. استلزام العول نسبة الجهل أو العبث إلى الله

يستحيل أن يجعل الله تعالى في المال نصفين وثلثاً ، أو ثلثين ونصفاً ونحو ذلك ممّا لا يفي به وإلاّ كان جاهلاً أو عابثاً ، تعالى الله عن ذلك.

توضيحه : انّ السهام المنصوصة في الذكر الحكيم ستة ، وهي :

الثلثان : وهو فرض صنفين : 1. البنتان فصاعداً ، 2. والأُختان الشقيقتان فصاعداً أو من الأب.

النصف : وهو فرض أصناف ثلاثة : 1. الزوج مع عدم الولد ، 2. والبنت المنفردة ، 3. والأُخت منفردة من الأبوين ، أو من الأب.

الثلث : وهو فرض صنفين : 1. الأُمّ مع عدم الولد ، 2. الاخوان أو الأُختان أو أخ وأُخت فصاعداً من الأُمّ.

الربع : وهو فرض صنفين : 1. الزوج مع الولد ، 2. الزوجة مع عدم الولد.

السدس : وهو فرض أصناف ثلاثة : 1. الأبوان مع الولد ، 2. الأُمّ مع الحاجب ، 3. الأخ والأُخت من الأُمّ.

الثمن : وهو فرض صنف واحد وهو الزوجة مع الولد.

إذا عرفت ذلك فعندئذ يقع الكلام في أنّ الأدلة المتكفّلة لبيان فروض هذه الأصناف هل هي مطلقة ، بمعنى ثبوت الفرض في كافة الصور ، كاجتماع أبوين والبنت مع الزوج ، أو ليس لها ذلك الإطلاق؟

فعلى الأوّل يلزم عبثية التشريع ولغويته لاستغراق فرض الزوج (النصف) و

ص : 266

فرض البنت المنفردة (النصف) مثلاً مجموع التركة وعدم اتساعها لفرض الأبوين وهو الثلث.

وعلى الثاني يلزم الوقوف على من قدّمه الله سبحانه ومن أخّره لئلاّ يلزم المحذور وهذا هو المطلوب.

2. استلزامه التناقض والإغراء بالجهل

إنّ القول بالعول يؤدّي إلى التناقض والإغراء بالجهل ، أمّا التناقض فقد بيّنا عند تفصيل القول بالعول أنّه إذا مات وترك أبوين وبنتين وزوجاً ، وقلنا : إنّ فريضتهم من اثني عشر ، فمعنى ذلك أنّ للأوّلين أربعة من اثني عشر ، وللثانيتين ، ثمانية من اثني عشر ، وللزوج ثلاثة من اثني عشر ، فإذا أعلناها إلى خمسة عشر فأعطينا الأبوين أربعة من خمسة عشر وللبنتين ثمانية من خمسة عشر ، وللأبوين أربعة من خمسة عشر ، فقد دفعنا للأبوين (مكان الثلث) خمساً وثلثه ، وإلى الزوج (مكان الربع) خُمساً ، وإلى الابنتين (مكان الثلثين) ثلثاً وخمساً ، وذلك نفس التناقض.

وأمّا الإغراء بالجهل ، فقد سمّى الله سبحانه ، الخمس وثلثه باسم الثلث ، والخُمس باسم الربع ، وثلثاً وخمساً باسم الثلثين (1).

ويمكن جعل الدليل الأوّل والثاني ، دليلاً واحداً بأن يقال : إذا جعل الله سبحانه في المال نصفين وثلثاً ، فأمّا أن يجعلها بلا ضم حلول - مثل العول - إليه ، يلزم كونه سبحانه جاهلاً أو عابثاً تعالى عن ذلك ، وأمّا أن يجعل مع النظر إلى حلول مثل العول ، يلزم التناقض بين القول والعمل ، والإغراء مع كونه قبيحاً.

ص : 267


1- لاحظ ص 253.

3. يلزم تفضيل النساء على الرجال

لو قلنا بالعول يلزم تفضيل النساء على الرجال في موارد ، ومن المعلوم أنّه يخالف روح الشريعة الإسلامية ، ولنذكر نموذجاً :

إذا ماتت المرأة عن زوج وأبوين وبنتاً ، فالتركة لا تتسع لنصفين وثلثاً ، فلو قلنا بالعول ارتفعت السهام إلى 13 سهماً ، فللبنت منها 6 وللأبوين منها 4 وللزوج منها 3 ، فهذه صورة المسألة :

41 (سهم الزوج) + 21 (سهم البنت) + 62 (سهم الأبوين) / 1213 / 4+ 6+ 123

(سهم الزوج) + (سهم البنت) + (سهم الأبوين)/

ففي هذه الصورة على القول بالعول صار سهم البنت 6 من 13.

ولو كان الابن مكان البنت ، أُعطي الأبوان 4 سهام من أصل 12 سهماً ، والزوج 3 سهام من أصل 12 سهماً والباقي وهو 5 سهام للابن فصار سهم الابن أقلّ من سهم البنت ، وهذا التالي الفاسد جاء من القول بالعول في الصورة الأُولى.

وقد جاء ذلك الدليل في رواية أبي جعفر الباقر - عليه السلام -.

أخرج الكليني عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر - عليه السلام - في امرأة ماتت وتركت زوجها وأبويها وابنتها ، قال : للزوج الربع ثلاثة أسهم من اثني عشر سهماً ، وللأبوين لكلّ واحد منهما السدس سهمين من اثني عشر سهماً ، وبقي خمسة أسهم فهي للابنة ، لأنّه لو كان ذكراً لم يكن له أكثر من خمسة أسهم من اثني عشر سهماً ، لأنّ الأبوين لا ينقصان كلّ واحد منهما في السدس شيئاً وانّ الزوج لا ينقص من الربع شيئاً. (1)

وقد جاءت الإشارة إلى بعض هذه الصور التي يلزم على القول بالعول

ص : 268


1- الوسائل : 17 ، الباب 18 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديث 2.

زيادة نصيب النساء على الرجال في الروايات. (1)

الرابع : تصريح أئمّة أهل البيت ببطلان العول

اشارة

قد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت - مضافاً إلى ما عرفت عن عليّ - عليه السلام - - على بطلان العول ، وإليك طائفة منها :

1. أخرج الكليني عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : «السهام لا تعول».

2. أخرج الكليني عن محمد بن مسلم ، قال : أقرأني أبو جعفر - عليه السلام - صحيفة كتاب الفرائض التي هي إملاء رسول الله وخط علي بيده فإذا فيها انّ السهام لا تعول.

3. أخرج الشيخ الطوسي بسنده عن أبي بكر الحضرمي ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : كان ابن عباس يقول : إنّ الذي يحصي رمل عالج ليعلم أنّ السهام لا تعول من ستة ، فمن شاء لاعنته عند الحجر انّ السهام لا تعول من ستة».

ومعنى قوله : «لا تعول من ستة» انّها وإن زادت ولكن لا تزيد أُصولها على ستة.

إلى غير ذلك من الروايات التي رواها الشيخ الحرّ العاملي في «الوسائل». (2)

أُسلوب علاج العول من منظار روائي

قد عرفت أنّ أئمّة أهل البيت أنكروا العول ، ولم يكتفوا بالإنكار فحسب ، بل وضعوا الحلول المناسبة لعلاجه والتي وردت في روايات كثيرة ، نختار منها

ص : 269


1- لاحظ الوسائل : 17 ، الباب 3 من أبواب ميراث الإخوة والأجداد ، الحديث 3.
2- الوسائل : 17 ، الباب 6 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 1 ، 11 ، 12.

طائفة ، ومن أراد التفصيل فعليه ، فليرجع إلى الجوامع الحديثية.

1. ما ذكره ابن عباس وقد أخذه عن إمامه وأُستاذه علي بن أبي طالب - عليه السلام - ، وقد تقدّم ذكره فلنقتصر على محل الشاهد ، قال :

وأيم الله لو قدّم من قدّم الله وأخّر من أخّر الله ما عالت فريضة.

فقال له زفر : وأيّها قدّم وأيّها أخّر؟

فقال : كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلاّ إلى فريضة فهذا ما قدّم الله. وأمّا ما أخّر : فلكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يبق لها إلاّ ما بقى ، فتلك التي أخّر.

فأمّا الذي قدَّم : فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء ؛ والزوجة لها الربع ، فإذا دخل عليها ما يزيلها عنه صارت إلى الثمن لا يزيلها عنه شيء ؛ والأُم لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس ، ولا يزيلها عنه شيء ، فهذه الفرائض التي قدّم الله.

وأمّا التي أخّر : ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان ، فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لهنّ إلاّ ما بقى ، فتلك التي أخّر ؛ فإذا اجتمع ما قدّم الله وما أخّر بدئ بما قدّم الله فأُعطي حقّه كاملاً ، فإن بقى شيء كان لمن أخّر ، وإن لم يبق شيء فلا شيء له. (1)

فقد جاء في كلام ابن عباس الطوائف الذين لا يدخل عليهم النقص وهم عبارة عن :

1. الزوج. 2. الزوجة. 3. الأُمّ ، وهؤلاء يشتركون في أنّهم لا يهبطون عن

ص : 270


1- الوسائل : 17 ، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث : 6. لاحظ المستدرك للحاكم : 4 / 340 كتاب الفرائض والحديث صحيح على شرط مسلم ؛ وأورده الذهبي في تلخيصه إذعاناً بصحّته.

فريضة إلاّ إلى فريضة أُخرى ، وهذا دليل على أنّ سهامهم محدودة لا تنقص.

وكان عليه أن يذكر الأخ والأُخت من أُمّ ، لأنّهم أيضاً لا يهبطون من سهم (الثلث) إلاّ إلى سهم آخر وهو السدس ، وقد جاء الجميع في كلام الإمام أمير المؤمنين التالي.

2. روى أبو عمر العبدي عن علي بن أبي طالب - عليه السلام - أنّه كان يقول : الفرائض من ستة أسهم : الثلثان أربعة أسهم ، والنصف ثلاثة أسهم ، والثلث سهمان ، والربع سهم ونصف ، والثمن ثلاثة أرباع سهم ، ولا يرث مع الولد إلاّ الأبوان والزوج والمرأة ، ولا يحجب الأُمّ عن الثلث إلاّ الولد والإخوة ، ولا يزاد الزوج عن النصف ولا ينقص من الربع ، ولا تزاد المرأة على الربع ولا تنقص عن الثمن ، وإن كنّ أربعاً أو دون ذلك فهنّ فيه سواء ، ولا تزاد الإخوة من الأُمّ على الثلث ولا ينقصون من السدس وهم فيه سواء الذكر والأُنثى ، ولا يحجبهم عن الثلث إلاّ الولد ، والوالد ، والدية تقسم على من أحرز الميراث». (1)

3. روى أبو بصير ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : أربعة لا يدخل عليهم ضرر في الميراث : الوالدان ، والزوج ، والمرأة». (2) وبما أنّ المراد من المرأة هي الزوجة فلا بدّ من تقييد الرواية بإدخال كلالة الأُمّ فيها ، لأنّها أيضاً لا يدخل عليها ضرر. فإذا كان هؤلاء من قدّمهم الله ولا يزيد عليهم النقص ، فيكون من أخّره الله عبارة عن البنت أو البنتين أو من يتقرّب بالأب والأُم أو بالأب من الأُخت أو الأخوات.

4. محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : قلت له : ما تقول في امرأة تركت زوجها وإخوتها لأُمّها وإخوة وأخوات لأبيها؟ قال : «للزوج النصف ثلاثة

ص : 271


1- الوسائل : 17 ، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 12.
2- الوسائل : 17 الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 3.

أسهم ، ولإخوتها من أُمّها الثلث سهمان الذكر والأُنثى فيه سواء ، وما بقي سهم للإخوة والأخوات من الأب : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، لأنّ السهام لا تعول ، ولأنّ الزوج لا ينقص من النصف ، ولا الإخوة من الأُمّ من ثلثهم فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث». (1)

5. وورد تعبير لطيف في رواية الصدوق في «عيون الأخبار» : عن الرضا - عليه السلام - في كتابه إلى المأمون وهو أنّه : «وذو السهم أحقّ ممّن لا سهم له». (2)

ما الفرق بين البنت وكلالة الأُمّ؟

بقي الكلام في عدّ البنت والبنات والأُخت والأخوات ، ممّن يدخل عليهم النقص دون الأُخت والأخ من الأُمّ ، مع أنّ الطوائف الثلاث على وتيرة واحدة.

فللبنت : الثلثان والنصف ، وللأُخت : الثلثان والنصف ، ولكلالة الأُمّ : الثلث والسدس. فما هو الفارق بين الطائفة الثالثة والأُوليين؟

يتّضح الجواب ببيان أمر : وهو دخول الأخ في كلالة الأُمّ ، لا يخرجها عن كونها وارثة بالفرض ، فالواحد منها سواء كان ذكراً أم أُنثى له السدس ، وغير الواحد ، سواء كان ذكراً أم أُنثى ، أو ذكراً وأُنثى لهم الثلث يقتسمون بالمناصفة.

وهذا بخلاف الطائفتين الأُوليين فللبنت والأُخت الواحدتين النصف ، ولأزيد من الواحد الثلثان ، ولو انضمّ إليهما الأخ فللذكر مثل حظّ الأُنثيين في الطائفتين ، أي لا يرثن بالفرض بل بالقرابة.

وعلى ذلك فكلالة الأُمّ مطلقاً وارثة بالفرض لا ترث إلاّ به ، بخلاف البنت وأزيد ، أو الأُخت وأزيد ، فربّما يرثن بالقرابة وذلك فيما إذا انضمّ إليهنّ الأخ.

ص : 272


1- الوسائل : 17 ، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 17.
2- الوسائل : 17 ، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 15.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فنقول :

إنّ كلالة الأُمّ ، ترث بالفرض مطلقاً كان معهم ذكر أو لا ، تفرّدت من الطبقة بالإرث أو لا ، فلو لم يكن وارث سواها وكانت واحدة ترث السدس ، وإن كانت غير واحدة ترث الثلث فرضاً والباقي ردّاً. ولا ينقص حظّهم في صورة من الصور لو لم يزد عند الرد ، وهذا آية عدم ورود النقص عند التزاحم.

وبالجملة : لا نرى فيهم أيّ إزالة من الفرض في حال من الحالات إلاّ إلى فرض آخر ولا ورود نقص عليهم عند تطوّر الأحوال. وهذا بخلاف البنت والأُخت فلو دخل فيهم : الأخ ، يتغيّر الفرض من النصف أو الثلثين ، إلى مجموع ما ترك بعد دفع سهام الآخرين كالوالدين ، أو كلالة الأُمّ ، ثم يقتسمون بالتثليث وتنقص حظوظ البنت أو البنات أو الأُخت والأخوات عن النصف والثلثين بكثير ، وهذا آية جواز دخول النقص عليهم عند التزاحم.

وبعبارة أُخرى : أنّ كلالة الأُمّ ترث دائماً بالفرض حتى فيما إذا تفرّدت ، وأمّا الطائفتان الأُوليتان فإنّما ترثان بالفرض تارة كما إذا لم يكن بينهم أخ ، وأُخرى بالقرابة فقط كما إذا انضمّ الأخ إليهنّ. وأيضاً : كلالة الأُمّ لا يرد عليها النقص ولا ينقص حظهم عن الثلث والسدس ، بخلاف الأخيرتين فينقص حظّهما عن النصف والثلثين.

ولعلّه إلى ما ذكرنا من التوضيح يشير صاحب الجواهر بقوله : دون من يتقرّب بالأُم الذي لا يرث إلاّ بفرض ، بخلاف غيره فإنّه يرث به تارة وبالقرابة أُخرى كالبنت والبنتين ، اللَّتين ينقص إذا اجتمعن مع البنين عن النصف أو الثلثين بنصّ الآية ، لأنّ للذكر حينئذ مثل حظّ الأُنثيين. (1)

وقال العاملي : ويدخل النقص على البنت والبنات ، لأنّهنّ إذا اجتمعن مع

ص : 273


1- الجواهر : 39 / 110. وحاشية جمال الدين على الروضة البهية : 2 / 297 في هامش الكتاب.

البنين ربّما نقص عن العشر أو نصفه لنصّ الآية (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، وكذا الحال في الإخوة والأخوات من قبل الأب أو من قبلهما. (1)

وقال المحقّق : يكون النقص داخلاً على الأب أو البنت أو البنتين ، أو من يتقرّب بالأب والأُم أو بالأب من الأُخت والأخوات دون من يتقرّب بالأُم. (2)

وليعلم أنّ عامل العول هو الزوج أو الزوجة إذا اجتمع أحدهما مع البنت أو البنات ، أو مع الأُخت أو الأخوات من قبل الأبوين أو لأب ، وإلاّ لم يلزم العول.

وعلى ذلك :

1. فلو خلفت زوجاً وأبوين وبنتاً ، يختصّ النقص بالبنت بعد الربع والسدس.

2. لو خلّفت زوجاً وأحد الأبوين وبنتين ، يختصّ النقص بهما بعد الربع والسدس.

3. لو خلّف زوجة وأبوين وبنتين ، يختصّ النقص بهما بعد الثمن والسدسين.

4. لو خلّفت زوجاً مع كلالة الأُمّ وأُختاً أو أخوات لأب وأُم أو لأب ، يدخل النقص بالأُخت أو الأخوات بعد النصف والسدس إن كانت الكلالة واحدة أو الثلث إن كانت متعدّدة.

إنّ ما ذكرناه من أنّ عامل العول هو الزوج والزوجة إنّما يتم على أُصولنا في الإرث ، وأمّا على أُصول غيرنا فيأتي العول من غير جهة الزوج والزوجة ، كما إذا مات عن أبوين مع الأُختين ، فانّهما لا يرثان على أُصولنا مع وجود الأبوين ، لأنّهما أقرب من الأُختين بخلافه على أُصول غيرنا حيث ترث الأُختين بالتعصيب ،

ص : 274


1- مفتاح الكرامة : 8 / 120.
2- الشرائع : 4 / 823 ط الاستقلال.

فعندئذ يلزم العول ، لأنّ فرض الأُمّ عند عدم الولد للميت هو الثلث وفرض الأُختين هو الثلثان.

ولا يبقى من التركة للأب شيء إذا بدأنا بالأُم والأُختين.

بقيت هنا نكات نذكرها :

1. إنّ الآثار المروية عن ابن عباس تشهد على أنّ حبر الأُمّة كان صارماً في رأيه ببطلان العول إلى حد كان معه مستعدّاً للمباهلة. قال ابن قدامة : روي عن ابن عباس أنّه قال في زوج وأُخت وأُم : من شاء باهلته أنّ المسائل لا تعول ، إنّ الذي أحصى رمل عالج عدداً ، أعدل من أن يجعل في مال نصفاً ونصفاً وثلثاً ، هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟! فسُمِّيت هذه المسألة ، مسألة المباهلة لذلك. (1)

ومن الغريب انّ العول أسفر عن طرح مسائل اشتهرت بألقاب خاصة نذكر منها ما يلي :

الأكدرية : وصورتها إذا ماتت المرأة عن زوج وأُمّ وأُخت وجدّ ، فللزوج النصف وللأُمّ الثلث وللأُخت النصف وللجد السدس ، وتسمّى هذه المسألة الأكدريّة ، قيل لأنّ عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلاً اسمه الأكدر ، وقد اختلفت فتاوى فقهاء السنة بل التابعين في المسألة ، والمسألة من فروع العول حتّى ولو لم نقل انّ للجدّ سهماً في المقام ، لأنّ للزوج النصف وللأُخت النصف وللأُمّ الثلث فلا تتسع التركة لهذه الفروض فكيف إذا قلنا بوجوب السدس للجد؟

المروانية : وصورتها ست أخوات متفرقات وزوج ، للزوج النصف وللأُختين لأبوين الثلثان وللأُختين لأُم الثلث ، سميت المروانيّة لوقوعها في فرض مروان بن

ص : 275


1- المغني : 7 / 69 ، ونقله عن ابن عباس أكثر من تعرّض للمسألة.

الحكم ، وتسمّى العراء لاشتهارها بينهم.

وقد ذكرت ألقاب أُخرى لبعض المسائل في الموسوعة الفقهية. (1) وإن كان بعض هذه الصور خارجاً عن مسألة العول.

2. قد عرفت أنّ القول بالعول لا يصمد أمام الأدلّة الدالّة على خلافه ، والذي يصدّ الفقهاء الأربعة والتابعين عن العدول عن العول هو إفتاء عمر بن الخطاب بالعول ، وقد عرفت أنّ الرجل كان مهاباً لا يجرأ أحد على مخالفته ، ولم يكن الخليفة ملمّاً بأحكام الفرائض ، ولذلك كان يفتي بحكم في واقعة يخالفها في واقعة أُخرى.

أخرج البيهقي في سننه عن عبيدة انّه قال : إنّي لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلّها ينقض بعضها بعضاً. (2)

ولا بأس بنقل ما قضى به في مسألة سمّيت بالحمارية.

روى البيهقي بسنده عن الحكم بن مسعود الثقفي قال : شهدت عمرَ بن الخطاب أشرك الإخوة من الأب والأُم مع الإخوة من الأُمّ في الثلث ، فقال له رجل : قضيت في هذا عام أوّل بغير هذا ، قال : كيف قضيت؟

قال : جعلته للإخوة من الأُمّ ولم تجعل للإخوة من الأب والأُمّ شيئاً ، قال : تلك على ما قضينا وهذا على ما قضينا. (3)

وفي رواية السرخسي انّ الإخوة لأب وأُم سألوا عمر عن هذه المسألة ، فأفتى بنفي التشريك كما كان يقوله أوّلاً ، فقالوا : هب انّ أبانا كان حماراً ، ألسنا من أُمّ واحدة؟ فقال عمر : صدقتم ورجع إلى القول بالتشريك. (4)

ومن أجل ذلك سمّيت هذه المسألة بالحمارية.

ص : 276


1- الموسوعة الفقهية : 3 / 75 - 80.
2- السنن الكبرى : 6 / 245.
3- السنن الكبرى : 6 / 255.
4- المبسوط : 29 / 154 - 155.

3. إنّ فقيه المدينة : الزهري كان يستحسن فتوى ابن عباس ويقول : إنّها الحجّة لو لا أنّه تقدّم عليه عمر بن الخطاب.

روى الشيخ في «الخلاف» عن عبيد الله بن عبد الله وزفر بن أوس البصري أنّهما سألا ابن عباس : من أوّل من أعال الفرائض؟ قال : عمر بن الخطاب ، قيل له : هلا أشرت به عليه؟ قال : هبته وكان أمره مهيباً ، قال الزهري : لو لا أنّه تقدّم ابن عباس ، إمام عدل وحكم به وأمضاه وتابعه الناس على ذلك ، لما اختلف على ابن عباس اثنان. (1)

4. أطنب موسى جار الله في الكلام مسألة «العول» إلى حدّ مملّ جداً وأخذ يجترّ كلاماً واحداً ، وحصيلة كلامه : يغلب على ظنّي أنّ القول بأنّ لا عول عند الشيعة ، قول ظاهري ، فإنّ العول هو النقص ، فإن كان النقص في جميع السهام بنسبة متناسبة ، فهو العول العادل أخذت به الأُمّة وقد حافظت على نصوص الكتاب ، وإن كان النقص في سهم المؤخّر ، فهو العول الجائر أخذت به الشيعة وخالفت به نصوص الكتاب. (2)

يلاحظ عليه : أوّلاً : إنّ المعنى المناسب للعول في المقام هو الارتفاع أو الميل إلى الجور ، وتفسيره بالنقص وإن كان صحيحاً كما مرّ في صدر المسألة لكن الأنسب في المقام هو الزيادة ، لظهور ارتفاع الفرائض عن سهام التركة ، وارتفاعها وإن كان ملازماً لنقص التركة عن الإجابة لجميع الفروض ، لكن ينظر إلى المسألة من زاوية ارتفاع الفرائض دون نقصان سهام التركة ، ولأجل ذلك يقول ابن عباس : «وأيم الله لو قدّموا من قدّم الله ، وأخّروا من أخّر الله ما عالت فريضة» ومن المعلوم عدم صحّة تفسيره ب - «وما نقصت الفريضة».

ص : 277


1- الخلاف : 2 / 282 ، المسألة 81 وغيرها.
2- الوشيعة في نقض عقائد الشيعة ، وقد نقلنا كلامه مجرّداً عن الطعن بأئمّة أهل البيت - عليهم السلام -.

وثانياً : سلّمنا أنّ العول بمعنى النقص لكن رمي الشيعة بأنّهم يقولون به حيث إنّهم يوردون النقص على المؤخّر ، غفلة من نظره ، فانّ النقص إنّما يتصوّر إذا كان المؤخّر ذا فرض ، ولكنّه عندهم ليس بذي فرض ، بل يرث بالقرابة كسائر من يرثون بها ، وعندئذ لا يصدق النقص أبداً في هذه الحالة.

يشهد بذلك كلام ابن عباس حيث يفسّر المقدّم بأنّه ممّن له فرضان ، والمؤخّر بأنّه ممّن ليس له إلاّ فرض واحد وهو في غير هذا المورد : حيث قال في جواب «زفر» الذي سأله عمّن قدّمه ومن أخّره؟ فقال : والذي أهبطه من فرض إلى فرض فذلك الذي قدّمه ، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقى فذلك الذي أخّره الله. (1)

وبعبارة أُخرى : إنّ الذي أخّره الله لم يجعل له حقّاً مفروضاً في حالة التزاحم والاجتماع فيرث ما بقى ، وليس هو بذي فرض في هذا الفرض لكونه وارثاً بالقرابة. وبذلك تبيّن أنّه لا عول عند الشيعة بالمعنى المصطلح عند الفقهاء.

وثالثاً : ما ذكره من أنّ السنّة حافظت على نصوص الكتاب ولكن الشيعة بإدخال النقص على المؤخّر خالفت نصوصه ، من أعاجيب الكلام ، فإذا كان في دخول النقص على المؤخّر (على وجه المسامحة) مخالفة لظاهر الكتاب ، ففي دخولها على الجميع مخالفة مضاعفة ، فقد عرفت في ما سبق أنّ من فرض الله له النصف أعطوه أقلّ منه ، ومن فرض له الثلثان أعطوه أقلّ منهما. فكيف لا يكون فيه مخالفة. (2)

ص : 278


1- لاحظ الوسائل : 17 ، الباب 7 من أبواب موجبات الإرث ، الحديث 6.
2- وقد كفانا في نقد ما اختلقه من الشبهات أو أخذها ممّن تقدم عليه العلمان الجليلان : السيد عبد الحسين العاملي في كتابه «أجوبة موسى جار الله» ، والسيد محسن العاملي في «نقض الوشيعة» - قدّس الله أسرارهما -.

24- التقية في الكتاب والسنّة

اشارة

ص : 279

ص : 280

تُعنى الشعوب الحيّة بتاريخها ، وتقف طويلاً عند أحداثه ووقائعه ، وتتطلّع إلى ما يزخر به من مواقف مضيئة ، ساهم في صنعها العظماء ، لتستهدي بها في بناء حاضرها ومستقبلها ، وتعزير وجودها وكيانها.

وهي في ذات الوقت لا تنفكّ عن ملاحظة ما شابَ تاريخَها من مساحات سوداء وصفحات مظلمة ، ودراسة الأسباب التي أدت إلى تواجدها ، بهدف إثراء التجربة وإنماء الوعي وصولاً إلى رسم حاضر ومستقبل زاهر ، تضيق فيه تلك المساحات أو تزول ، على حسب ما تتمتع به هذه الشعوب من وعي وعزم وإرادة تحثّها على تجاوز أسباب الضعف والتخلف والتقهقر.

وإذا كان التاريخ - كلّ تاريخ - بحاجة إلى دراسة وإعادة تقييم على ضوء الأفكار والمعطيات الجديدة والمناهج الحديثة لكي تنتفع به الأُمّة في مسيرتها الفكرية والاجتماعية والسياسية ، فإنّ التاريخ الإسلامي لا يشذّ عن ذلك ، بل هو - كما نرى - أشدّ حاجة إلى ذلك من غيره ، لتعدّد وتنوّع العوامل التي ساهمت في العبث به تحريفاً للحقائق وتزويراً للأقوال واختلافاً للأحداث.

فقد دُوِّن جانب كبير من تاريخنا بيد حكام الجور من بني أُميّة وبني العباس وأشياعهم من تجّار الحديث والتاريخ ، وبيد مستسلمة أهل الكتاب وغيرهم من أصحاب الأهواء والأطماع والأحقاد ، الذين جهدوا في طمس الحقائق ونشر الأباطيل وترويج الأكاذيب.

ص : 281

وممّا لا شكّ فيه أنّ أتباع مدرسة أهل البيت - عليهم السلام - قد نالهم على مرّ التاريخ - من التشويه والطعن والتحامل نصيب وافر ، ولا زالت معاناتهم في هذا المجال قائمة ، ولله درّ الشاعر الأزري ، حيث يقول :

اقرأْ بعصرك ما الأهواءُ تكتبهُ *** يُنْبِئْكَ عمّا جرى في سالف الحُقُبِ

لقد آن الأوان لإماطة اللثام عن وجه الحقيقة ، ورفع الحيف عن المظلومين من خلال دراسة جادّة للتاريخ ، تُعيد تفسير أحداثه ووقائعه انطلاقاً من مقاييس وموازين ومفاهيم صحيحة تعتمد الصدق والاخلاص والأمانة التاريخية والمناهج العلمية الحديثة.

ونحن نعتقد أنّ النقد البنّاء للتاريخ لإجلاء حقائقه سوف ينعكس بنتائجه الايجابية على حاضرنا ومستقبلنا ويوطّد عرى الوحدة والتعاون بين المسلمين ، ويذيب الخلافات بينهم والصراعات التي تُنهك القوى وتُبعثر الجهود.

النقد يُصلحُ للشعوب كيانَها *** وتُماثُ فيه الفتنة الصمّاء

وإذا تمّ اعتماد ما سبق ، وكُسرت قيود التعصب ، وأُغمد سيف التهديد والإرعاب ، فإنّ الآفاق ستتسع للتعبير الأفكار والمفاهيم والرؤى دون خوف أو وجل ، وعندها سترحل التقيّة - التي اشتهر بالعمل بها أتباع مدرسة أهل البيت - عليهم السلام - - عن واقعنا ، وسيحلّ محلّها الاطمئنان والثقة المتبادلة.

ولما كانت التقيّة قد أُحيطت بالغموض ، وأُثيرت حولها الشبهات ، فإنّنا نعمد إلى الكشف عن حقيقتها بهذا البيان القائم على الحجج التاريخية الصحيحة التي أُسدل عليها ستار الجهل.

تُعدّ التقية من المفاهيم الإسلامية الأصيلة ، المنسجمة مع حكم العقل ،

ص : 282

وروح الإسلام ، ومرونة الشريعة المقدسة وسماحتها ، وضرورات العمل الإسلامي ، وقد وردت في القرآن الكريم ، وأكّدتها السنة الشريفة ، وآمن بمشروعيتها علماء المسلمين.

ولا ريب في أنّ الشيعة - وبحكم الظروف العصيبة التي حاقت بهم على امتداد فترات تاريخية طويلة - اشتهروا بالعمل بالتقية ، واللّياذ بظلها كلما اشتدت عليهم وطأة القهر والظلم.

وقد سعى الصائدون في الماء العكر من حُكّام الجور والمغرضين والمتعصّبين إلى استغلال هذا الأمر ، وذرّ الرماد في العيون من خلال إيجاد تصوّرات وأوهام باطلة ، وغرسها في أذهان الناس ، بدعوى أنّ التقية عند الشيعة ضرب من النفاق والخداع والتموية ، وأنّها تجعل منهم منظّمة سرية غايتها الالتفاف على الإسلام وتشويه صورته وتهديم أركانه.

إنّ العمل بالتقية والاحتراز عن الإفصاح عن المبادئ والأفكار لا يعنيان أبداً أنّ للشيعة أسراراً وطلاسم يتداولونها بينهم ، ولا يتيحون للآخرين فرصة الاطلاع عليها ومعرفتها ، ولا يعنيان أيضاً أنّ لهم نوايا عدوانية ضدّ الإسلام وأهله ، وإنّما يتعلّق الأمر كلّه بإرهاب فكري وسياسي مُورس ضدهم ، وجرائم وحشية ارتكبت بحقهم ، ألجأتهم إلى اتخاذ التكتّم والاحتراز أسلوباً لصيانة النفوس والأعراض والمحافظة عليها. ونحن إذا نظرنا إليهم في بعض العهود التي استطاعوا أن يتنفسوا فيها نسائم الحرية ، نجد كيف أنّهم بادروا وبنشاط إلى نشر أفكارهم وآرائهم وبثّ مبادئهم وتعاليمهم ، وكيف أنّهم ساهموا - مع إخوانهم من سائر المذاهب والطوائف - في صنع حضارة الإسلام الخالدة.

ص : 283

وإذا كان الانصاف يدعو إلى تبرير موقف ضحايا القمع والاستبداد بالالتجاء إلى حمى التقية لضمان السلامة والتوقّي من الشر المستطير ... وإذا كان الضمير الحي يدعو إلى مواساة هؤلاء المظلومين الذين تُحصى عليهم أنفاسهم ويعانون أفانين الضغط والإكراه ، وأشكال التضييق والمحاربة ، فإنّ شيئاً من هذا ولا ذاك لم يحصل ، بل حصل العكس ، إذ عمد الكثير من أهل السنّة والجماعة - ومع الأسف - إلى الإغضاء عن الجزّارين أو معاضدتهم ، وإلى التنديد بالضحايا والتشهير بهم!!

وأخيراً ، نحن نعتقد أنّ العمل بالتقية أمر لا مفرّ منه ، وأنّ مجانبتها تماماً وفي كلّ الأحوال والعصور أمر لا واقع ولا حقيقة له. وأنت إذا رميت ببصرك إلى بعض الشعوب التي تحكمها أنظمة قمعية استبدادية ، لوجدت أنّها - وفيها من هم من أهل السنّة - تتجنّب الإعلان عن آرائها وأهدافها جهرةً ، وتسكت عمّا يُمارس بين ظهرانيها من أعمال منافية للإسلام ، وما ذلك إلاّ خوفاً من البطش والقتل والأذى الذي سيصيبها لو أنّها نطقت بما يخالف إرادة المستبدين.

وهذه الرسالة المتواضعة ، ستميط الستر عن وجه الحقيقة وتثبت ، انّ التقية ثمرة البيئة التي صودرت فيها الحريات ، ولو كان هناك لومٌ وانتقاد ، فالأجدر أن نتوجه بهما إلى من حمل المستضعفين على التقية ، لا إليهم أنفسهم.

وستتضح للقارئ في غضون هذه الرسالة ، انّ التقيّة من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة ، ليصون بها نفسه وعرضه وماله ، أو نفسَ من

ص : 284

يمتُّ إليه بصلة وعرضَه ومالَه ، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل (1) ولاذ بها عمّار عند ما أُخذ وأُسِر وهُدِّد بالقتل (2) ، إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنّة ، فمن المحتّم علينا أن نتعرّف عليها ، مفهوماً (لغة واصطلاحاً) ، وتاريخاً وغايةً ودليلاً وحدّاً ، حتى نتجنَّب الافراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.

وتحقيق المسألة يتم ببيان أُمور :

ص : 285


1- القصص : 20.
2- النحل : 106.

1- التقية لغة

التقية اسم مصدر ل «اتقى يتقي» وأصل اتقى : اوتقى فقلبت الواو ياءً للكسرة قبلها ، ثمّ أُبدلت تاءً وادغمت وقد تكرر ذكر الاتقاء في الحديث ومنه حديث علي : «كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله» ، أي جعلناه وقاية لنا من العدو. (1)

وقد أخذ «اتقى» من وقي الشيء ، يقيه إذا صانه ، قال الله تعالى : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أي حماه (2) منهم فلم يضرّه مكرهم.

وربما تستعمل مكان التقية لفظة «التُّقاة» قال سبحانه : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً). (3)

قرأ الأكثر «تقاة» إلاّ يعقوب فقرأ «تقيّة» وكلاهما مصدر لفعل اتقى «فتقاة ، أصله «وقية» أبدلت الواو تاءً كما أبدلوها في تُجاة وتكاة وانقلبت الياء الفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وهو مصدر على وزن فُعل كتؤدة وتخمة. (4)

ص : 286


1- النهاية : مادة وقي.
2- غافر : 45.
3- آل عمران : 28.
4- عن تعليق أحمد محمد شاكر على دائرة المعارف الإسلامية : 5 / 423.

2- التقية اصطلاحاً

التقية كما عرّفها السرخسي هي أن يقي الإنسان نفسه بما يظهره وإن كان ما يضمر خلافه. (1)

وقال ابن حجر : التقية : الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير. (2)

وعرفها صاحب المنار بأنّها ما يقال أو يفعل مخالفاً للحقّ لأجل توقّي الضرر. (3)

وعرفها الشيخ محمد أبو زهرة بأنّها أن يخفي الشخص ما يعتقد دفعاً للأذى. (4)

والتعريف الثالث أشمل من الرابع لاختصاص الأخير بالعقيدة وعمومية الآخر لها وللفعل.

ص : 287


1- المبسوط للسرخسي : 25 / 45.
2- فتح الباري : 12 / 314 ، ط المكتبة السلفية.
3- تفسير المنار : 3 / 280.
4- محمد أبو زهرة : الإمام الصادق : 255.

وأمّا الشيعة فقد عرّفها الشيخ المفيد بقوله : التقية كتمان الحقّ وستر الاعتقاد فيه ، ومكاتمة المخالفين وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا.

وفُرض ذلك ، إذا علم بالضرورة أو قوي في الظن ، فمتى لم يعلم ضرراً بإظهار الحقّ ولا قوي في الظن ذلك لم يجب فرض التقية. (1)

وعرفها الشيخ الأنصاري بقوله : التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ. (2)

ص : 288


1- شرح عقائد الصدوق : 66 ، ط تبريز.
2- رسالة التقية للشيخ الأنصاري : 37.

3- التقية تاريخيّاً

اشارة

ربما يتصوّر لأوّل وهلة انّ للتقية مبدأً تاريخياً ظهر في المجتمع الإنساني ، ولكن هذا التصور يجانب الحقّ ، فظاهرةُ التقية زامنت وجود الإنسان على هذا الكوكب يوم برز بين البشر القويّ والضعيف ، وصادر الأوّل حريات الثاني ولم يسمح له بإبداء ما يضمره عن طريق القول والفعل.

فظهور التقية في المجتمع البشري إذن ، كان تعبيراً عن مصادرة الحريات ، وسلاحاً لم يجد الضعيف بدّاً من اللجوء إليه للدفاع عن نفسه وعرضه وماله.

1. التقيّة في عصر الكليم

وأظهر مورد تبنّاه القرآن الكريم في هذا الصدد هو مؤمن آل فرعون ، يقول الله تعالى :

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). (1)

ص : 289


1- غافر : 28.

وكانت عاقبة أمره أن (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ). (1)

وما كان ذلك إلاّ لأنّه بتعميته ، استطاع أن ينجّي نبيَّ الله من القتل كما يحكيه سبحانه عنه ويقول : (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ). (2)

نقل الثعلبي عن السدي ومقاتل انّ مؤمن آل فرعون كان ابن عم فرعون وهو الذي أخبر الله تعالى عنه فقال : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى). (3)

وقال آخرون : كان إسرائيلياً ، ومجاز الآية : «وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعونْ ، واختلفوا أيضاً في اسمه.

فقال ابن عباس وأكثر العلماء : اسمه حزبيل.

وقال وهب بن منبه : اسمه حزيقال.

وقال ابن إسحاق : خبرل. (4)

2. التقية في عصر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم

هناك حوادث تاريخية تدلّ على شرعية التقية في عصر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - نكتفي بهذين النموذجين :

1. يقول سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ). (5)

قال المفسرون : قد نزلت الآية في جماعة أُكْرِهُوا على الكفر ، وهم عمّار وأبوه

ص : 290


1- غافر : 45.
2- القصص : 20.
3- القصص : 20.
4- تفسير الثعلبي : 8 / 273.
5- النحل : 106.

ياسر وأُمّه سُميّة ، وقُتل الأبوان لأنّهما لم يُظهرا الكفر ولم ينالا من النبي ، وأعطاهم عمّار ما أرادوا منه فأطلقوه ، ثمّ أخبر بذلك رسول الله ، وانتشر خبره بين المسلمين ، فقال قوم : كفر عمار ، فقال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - : «كلاّ انّ عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه».

وفي ذلك نزلت الآية السابقة ، وكان عمّار يبكي ، فجعل رسول الله يَمْسَحَ عينيه ، ويقول : «إن عادُوا لك فعُد لهم بما قلت». (1)

2. أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن ، انّ مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال لأحدهما :

أتشهد انّ محمّداً رسول الله؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أنّي رسول الله؟ قال : نعم ، ثمّ دعا بالآخر فقال : أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال : نعم ، فقال له : أفتشهد انّي رسول الله؟ قال : إنّي أصمّ. قالها ثلاثاً ، كل ذلك يجيبه بمثل الأوّل ، فضرب عُنقُه ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : أمّا ذلك المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه ، وأخذ بفضله ، فهنيئاً له.

وأمّا الآخر فقبلَ رخصة الله فلا تبعةَ عليه. (2)

3. التقية بعد رحيل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم

قد استغل الأمويُّون مسألة القضاء والقدر وركّزوا على أنّ كلّ ما يجري في

ص : 291


1- مجمع البيان : 3 / 388.
2- مسند ابن أبي شيبة : 12 / 358 ، ط السلفية ؛ التبيان : 2 / 453 ، وقد علق الطوسي على الرواية وقال : وعلى هذا التقية رخصة ، والافصاح بالحق فضيلة ، وظاهر أخبارنا يدلّ على انّها واجبة ، وخلافها خطأ وسيوافيك أنّها على أقسام خمسة.

المجتمع الإسلامي بقضاء وقدر من الله سبحانه وليس لأحد فيه الاختيار ولا الاعتراض ، وعلى ذلك فالفقر المدقع السائد بين أكثر المسلمين تقدير من الله ، والترف الذي يعيشه الأمويون ، والظلم الذي يُلحقونه بالمسلمين تقدير من الله.

ولما كانت تلك المزعمة مخالفة لضرورة الدين وبعثة الأنبياء ، قام غير واحد بوجه هذه الفكرة ، وسكت كثيرون خوفاً من بطش الأمويين ، فكتموا عقيدتهم وسلكوا مسلك التقيّة.

1. هذا هو ابن سعد يروي عن الحسن البصري بانّه كان يخالف الأمويين في القدر بالمعنى الذي تتبنّاه السلطة آنذاك فلما خوّفه بعض أصدقائه من السلطان ، وعد أن لا يعود.

روى ابن سعد في طبقاته عن أيوب قال : نازلت الحسن في القدر غير مرة حتّى خوّفته من السلطان ، فقال : لا أعود بعد اليوم. (1)

2. كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد أن يُشخص إليه سبعة نفر من المحدثين منهم :

1. محمد بن سعد كاتب الواقدي ، 2. أبو مسلم ، مستملي يزيد بن هارون ، 3. يحيى بن معين ، 4. زهير بن حرب أبو خثيمة ، 5. إسماعيل بن داود ، 6. إسماعيل بن أبي مسعود ، 7. أحمد بن الدورقي فامتحنهم المأمون وسألهم عن خلق القرآن ، فأجابوا جميعاً انّ القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينة السلام ، وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره فشهّر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث فأقرّوا بمثل ما أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم. وقد فعل إسحاق بن إبراهيم ذلك بأمر المأمون.

ص : 292


1- طبقات ابن سعد : 7 / 167 ، ط بيروت.

يُذكر أن الرأي الذي كان سائداً بين المحدّثين هو قدم القرآن أو عدم حدوثه ولكنّهم اتّقوا واعترفوا بخلق القرآن ، وهذا هو نفس التقية التي يعمل بها الشيعة ، وقد مارسها المحدِّثون في عصر المأمون.

وهناك رسالة أُخرى للمأمون إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة ، وممّا جاء فيها : وليس يَرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة (القرآن ليس بمخلوق) حظاً في الدين ولا نصيباً من الإيمان ....

فلما جاءت الرسالة إلى إسحاق بن إبراهيم أحضر لفيفاً من المحدّثين ربما يبلغ عددهم إلى 26 فقرأ عليهم رسالة المأمون مرتين حتّى فهموها ثمّ انّ إسحاق دعا بهم رجلاً رجلاً فأجاب القوم كلّهم واعترفوا بانّ القرآن مخلوق إلاّ أربعة نفر منهم :

أحمد بن حنبل ، وسجادة ، والقواريري ، ومحمد بن نوح المضروب ، فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشُدُّوا في الحديد ، فلما كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده وخلّى سبيله وأصرّ الآخرون على قولهم.

فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول ، فأجاب القواريري بأنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده وخلّى سبيله ، وأصرّ أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح على قولهما ولم يرجعا فشدّا جميعاً في الحديد ووُجِّها إلى طرسوس وكتب معهما كتاباً بإشخاصهما.

ثمّ لما اعتُرض على الراجعين عن عقيدتهم ، برّروا عملهم بعمل عمار بن ياسر حيث أكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان. (1)

ص : 293


1- لاحظ تاريخ الطبري : 7 / 197 ، حوادث 218 ه.

كلّ ذلك يدلّ على انّ التقية أصل مشروع التزم بها المسلمون عند الشعور بالضعف أمام السلطة الغاشمة.

وبذلك يظهر انّ اتهام الشيعة بتفرّدها بالقول بالتقية يضادُّ الذكر الحكيم والسنة النبوية وسيرة المسلمين عبر التاريخ.

إنّ التقية سلاح الضعيف ، سلاح من صُودرتْ حقوقه وحرّياته من قبل سلطة غاشمة ، قاهرة ، لا تُبدي أية مرونة في مواقفها ، وهذا هو حكم العقل وهو دفع الضرر عن النفس والنفيس بإظهار الموافقة لساناً وعملاً حتّى يرتفع الضرر ثمّ يعود الإنسان إلى ما كان عليه.

ومثل هذا لا يمكن أن يختص بفرقة دون أُخرى.

ص : 294

4- محنة الشيعة في عصر الأمويين والعباسيين

اشارة

اشتهرت الشيعة بالتقيّة أكثر من سائر الفرق ، ولكونهم أكثر من غيرهم من حيث التعرّض للضغط ، ومصادرة الحريّات ، والأخذ بالظنّة ، والتشريد والقتل تحت كلّ حجر ومدر.

إنّ الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين إخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة ، فلو لم يكن هناك في غابر القرون - من عصر الأمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين - أيُّ ضغط على الشيعة ، ولم تكن بلادهم وعُقر دارهم مخضّبة بدمائهم (والتاريخ خير شاهد على ذلك) ، لأصبح من المعقول أن تَنْسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من قاموس حياتها ، ولكن - يا للأسف - إنّ كثيراً من إخوانهم كانوا أداة طيّعة بيد الأمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم ، فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم ، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة ، لم يكن للشيعة ، بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدّسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله.

ص : 295

والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعدَّ ، إلاّ أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها : فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا وكيفما كانوا ، وإليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة :

محنة الشيعة في العصر الأموي

روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب «الأحداث» قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عُمّاله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة ، وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ويتبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة مَن بها من شيعة عليّ - عليه السلام - فاستعمل عليها زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتتبَّع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنّه كان منهم أيام عليّ - عليه السلام - ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسَمَلَ العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرَّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم ، وكتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق : ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة أُخرى : مَن اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكّلوا به ، واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرجل من شيعة عليّ - عليه السلام - ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيُلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ، ليكتمنَّ عليه.

ص : 296

وأضاف ابن أبي الحديد : فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي - عليهما السلام - ، فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض.

ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين - عليه السلام - ، وولي عبد الملك بن مروان ، فاشتد على الشيعة ، وولّى عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من البغض من عليّ - عليه السلام - وعيبه ، والطعن فيه ، والشنئان له ، حتى أنّ إنساناً وقف للحجاج - ويقال إنّه جد الأصمعي عبد الملك بن قريب - فصاح به : أيّها الأمير إنّ أهلي عقوني فسمّوني علياً ، وإنّي فقير وبائس وأنا إلى صلة الأمير محتاج ، فتضاحك له الحجاج ، وقال : للطف ما توسّلتَ به ، قد ولّيتك موضع كذا. (1)

واستمر الحزب الأموي في الإرهاب وسفك الدماء على امتداد مراحل وجوده في السلطة ، حيث سجّل لنا التاريخ حوادث أُخرى تحكي أبشع صور الإرهاب والاستخفاف بقيم الحق والعدل أيام عبد الملك بن مروان وقتله سعيد بن جبير. وقد جاء في كتاب عبد الملك بن مروان الذي ولى فيه خالد بن عبد الله القسري :

أمّا بعد ، فانّي ولّيت عليكم خالد بن عبد الله القسري ، فاسمعوا له وأطيعوا ، ولا يجعلن امرؤ على نفسه سبيلاً ، فإنّما هو القتل لا غير ، وقد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير ، والسلام. ثمّ التفت إليهم خالد ، وقال : والذي نحلف به ، ونحجُّ إليه ، لا أجده في دار أحد إلاّ قتلته وهدمت داره ودار كلّ من جاوره واستبحت حرمته ، وقد أجلّت لكم فيه ثلاثة أيّام. (2)

ص : 297


1- شرح نهج البلاغة : 11 / 44 - 46.
2- الإمامة والسياسة : 2 / 47 ، ط مصر.

ثمّ يُلقى القبض على سعيد بن جبير الذي كان من طلائع الموالين لآل البيت النبوي ، ويُسلَّم إلى الحجاج السفّاح الشهير في تاريخ الإسلام الذي قتل عشرات الآلاف من معارضي السلطة ، فيقتله.

وهذا هو الإمام الباقر - عليه السلام - يصف بيئته والمجتمع الذي كان يعيش فيه حيث قال لبعض أصحابه : يا فلان ، ما لقينا من ظلم قريش إيانا ، وتظاهرهم علينا ، وما لقي شيعتنا ومحبونا من الناس ... - إلى أن قال - ثمّ لم نزل - أهلَ البيت - نُستذل ونُستضام ، ونُقصى ونُمتهن ، ونُحرم ونُقتل ، ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون ، لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقربون به إلى أوليائهم ، وقضاة السوء وعمال السوء في كلّ بلدة ، فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ورووا عنّا ما لم نقله وما لم نفعله ، ليبغّضونا إلى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن - عليه السلام - فقتلت شيعتنا بكلّ بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله ، أو هدمت داره ، ثمّ لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين - عليه السلام - ثمّ جاء الحجاج فقتلهم كلّ قتلة وأخذهم بكلّ ظنة وتهمة ، حتّى انّ الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يقال شيعة علي. (1)

محنة الشيعة في العصر العباسي

لقد مارست السلطة العباسية سياسة البطش والقتل والتشريد كنظيرتها

ص : 298


1- شرح ابن أبي الحديد : 11 / 43 - 44.

السلطة الأموية بل كانت أكثر بطشاً وتنكيلاً ، وهذا هو أبو الفرج الاصفهاني يقول في حقّ المتوكل :

كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظاً في جماعتهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظن والتهمة لهم ... واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي ، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ومنع الناس من البرّ بهم ، وكان لا يبلغه انّ أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء ، وإن قل إلاّ أنهكه عقوبة ، واثقله غرماً ، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة ثمّ يرقعنه ، ويجلسن على مغازلهن عواري حاسرات. (1)

هكذا شاء أمير المؤمنين المتوكل على الله ، أن تقبع العلويات في بيوتهن عاريات يتبادلن القميص المرقع عند الصلاة ، وان تختال الفاجرات العاهرات بالحلي وحلل الديباج بين الاماء والعبيد ... لقد أرسل الرشيد إلى بنات الرسول من يسلب الثياب عن أبدانهن ، أمّا المتوكّل فقد شدد وضيق عليهن ، حتّى ألجأهن إلى العري ، وهكذا تتطور الفلسفات والمناهج مع الزمن على أيدي القرشيين العرب أبناء الأمجاد والأشراف!

لقد تفرق العلويون أيام المتوكل ، فمنهم من توارى فمات في حال تواريه كأحمد بن عيسى الحسين وعبد الله بن موسى الحسيني ، ومنهم من ثار على القهر والجور كمحمد بن صالح ومحمد بن جعفر.

ولم يكتف المتوكل بالتنكيل بالأحياء ، حتّى اعتدى على قبور الأموات فهدم

ص : 299


1- مقاتل الطالبيين : 395 - 396.

قبر الحسين - عليه السلام - وما حوله من المنازل والدور ، ومنَع الناس من زيارته ونادى مناديه من وجدناه عند قبر الحسين - عليه السلام - حبسناه في المطبق - سجن تحت الأرض - فقال الشاعر :

تالله إن كانت أمية قد أتت *** قتل ابن بنت نبيها مظلوماً

فلقد أتاه بنو أبيه مثلها *** هذا لعمرك قبره مهدوماً

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا *** في قتله فتَتّبعوه رميماً(1)

نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضاءل أُخرى ، حسب قوّة الضغط وضآلته ، فشتّان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت ، ويكرم العلويين ، وبين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.

فهذا ابن السكيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل ، وقد اختاره معلّماً لولديه فسأله يوماً : أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ قال ابن السكيت : والله إنّ قنبر خادم عليّ - عليه السلام - خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل : سلّوا لسانه من قفاه ، ففعلوا ذلك به فمات. ولما مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال : هذه دية والدك!! (2).

وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي :

ص : 300


1- الشيعة والحاكمون : 169 - 170.
2- ابن خلكان : وفيات الأعيان : 3 / 33. الذهبي : سير أعلام النبلاء : 12 / 16.

أكلّ أوان للنبيّ محمّد *** قتيل زكيّ بالدماء مضرَّجُ

بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم *** لبلواكم عمّا قليل مفرِّجُ

أبعد المكنّى بالحسين شهيدكم *** تضيء مصابيح السماء فتسرجُ (1)

وكان العباسيون أشدّ كرهاً للعلويين من الأمويين ، وأعظم بغضاً فأمعنوا فيهم قتلاً وحرقاً واضطهاداً وتعذيباً ، فهذا هو المنصور يُحمل إليه من المدينة كلّ من كان فيها من العلويين مقيدين بالسلاسل والأغلال ، ولما وصلوا إليه حبسهم في سجن مظلم لا يعرف فيه ليل من نهار ، وكان إذا مات أحدهم تُرك معهم وأخيراً أمر بهدم السجن عليهم ، وفي ذلك يقول أحد شعراء الشيعة :

والله ما فعلت أمية فيهم *** معشار ما فعلت بنو العباس

وقال آخر :

يا ليت جور بني مروان دام لنا *** وليت عدل بني العباس في النار(2)

وقال أبو فراس :

ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت *** تلك الجرائم إلاّ دون نيلكم

وقال الشريف الرضي :

ألا ليس فعل الأولين وإن علا *** على قبح فعل الآخرين بزائد

وقال الشيخ الطوسي الذي كان يعيش في عصر ازدهار الخلافة العباسية ، وهو يصف حال الشيعة :

ص : 301


1- ديوان ابن الرومي : 2 / 243.
2- الشعر لأبي عطاء السندي.

لم تلق فرقة ولا بُلي أهل مذهب بما بُليت به الشيعة ، حتّى إنّا لا نكاد نعرف زماناً تقدّم سلمت فيه الشيعة من الخوف ولزوم التقية ، ولا حالاً عريت فيه من قصد السلطان وعصبيته وميله وانحرافه. (1)

هذه لمحة خاطفة لمحنة الشيعة في العصر العباسي وقد دام الأمر على هذه الوتيرة في العصور المتأخرة لا سيما في عصر الأيوبيين والعثمانيين.

محنة الشيعة في العصرين : الأيوبي والعثماني

ما إن انتزع صلاح الدين الأيّوبي الملك من الفاطميين حتّى قام بعزل القضاة الشيعة واستناب عنهم قضاة شافعية ، وأبطل من الأذان «حي على خير العمل» وتظاهر الناس بمذهب مالك والشافعي ، واختفى مذهب التشيع إلى أن نسي من مصر ، وكان يحمل الناس على التسنن وعقيدة الأشعري ، ومن خالف ضربت عنقه ، وأمر أن لا تقبل شهادة أحد ولا يقدم للخطابة ولا للتدريس إلاّ إذا كان مقلداً لأحد المذاهب الأربعة ، قال الخفاجي في كتابه «الأزهر في ألف عام» ما ن (2) صه : فقد غالى الأيوبيون في القضاء على كلّ أثر للشيعة.

وأمّا في العصر العثماني فقد تولى السلطان سليم زعامة السنة واستحصل على فتوى من شيوخ السوء بأنّ الشيعة خارجون على الدين يجب قتلهم ولذلك أمر بقتل كلّ من كان معروفاً بالتشيع داخل بلاده.

وبهذا الأمر قُتل في الأناطول وحدها أربعون ألفاً وقيل سبعون ، لا لشيء إلاّ لأنّهم شيعة. وجاء في «الفصول المهمة» للسيد شرف الدين انّ الشيخ نوح الحنفي

ص : 302


1- الطوسي : تلخيص الشافي : 2 / 59.
2- الأزهر في ألف عام : 1 / 58.

أفتى بكفر الشيعة ووجوب قتلهم ، فقتل من جراء هذه الفتوى عشرات الألوف من شيعة حلب حتّى لم يبق فيها شيعي واحد وكان التشيّع فيها راسخاً ومنتشراً منذ كانت حلب عاصمة الدولة الحمدانية ، وقد نشأ في حلب منذ القديم العديد من كبار العلماء وأئمة الفقه كبني زهرة وآل أبي جرادة وغيرهم ممن جاء ذكرهم في كتب السير والتراجم خاصة كتاب «أمل الآمل». (1)

وقتل العثمانيون الشهيد الثاني المشهور بفضله وورعه وكتبه العلمية الجليلة التي يدرس بعضها حتّى اليوم في جامعة النجف وقم ، وفَعل الجزار والي عكا بجبل عامل ما فَعل الحجاج في العراق.

وانتهب الجزار أموال العامليين ومكتباتهم ، وكان في مكتبة آل خاتون خمسة آلاف مجلد ، وبقيت أفران عكا توقد أسبوعاً كاملاً من كتب العامليين ، ولم يسلم من ظلم الجزار إلاّ من استطاع الفرار ، وفي عهده هاجر علماء جبل عامل مشردين في الأقطار ، ومن هؤلاء الشاعر الشيعي إبراهيم يحيى الذي هرب إلى دمشق ، وفي نفسه لوعة وحسرة ، وذكرى فظائع الجزار لا تفارقه بحال ، وقد صورها وهو شاهد عيان في قصائد تدمي الأفئدة والقلوب منها قصيدة طويلة ، يقول فيها :

مضى ما مضى والدهر بؤس وأنعم *** وبصر الفتى ان مسه الضر أحزم

إلى أن قال :

يعز علينا أن نروح ومصرنا *** لفرعون مغنى ، يصطفيه ومغنم

منازل أهل العدل منهم خليّة *** وفيها لأهل الجور جيش عرمرم

ص : 303


1- راجع الفصول المهمة : 206 ، الفصل التاسع ؛ غنية النزوع : 11 ، المقدمة.

هذه لمحة خاطفة لمحنة الشيعة في العصر العثماني ، وعلى الرغم من شيوع الحرية في عصرنا الراهن فلم تزل الشيعة في أكثر نقاط العالم تمارس التقية ، وإلاّ يضيق عليها الخناق.

يقول العلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستاني : إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها مُنيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى ، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه ، وفي عهد العباسيين على طوله ، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية ، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أيّ قوم ، ولما كانت الشيعة ، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهيّة ، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وتصدقه التجارب ، لذلك أضحت شيعة الأئمّة من آل البيت مضطرّة في أكثر الأحيان إلى كتمان ما تختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك ، تبتغي بهذا الكتمان ، صيانةَ النفس والنفيس ، والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين ، لئلاّ تنشق عصا الطاعة ، ولكي لا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمدية.

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الاخرى ، متبعة في ذلك سيرة الأئمّة من آل محمد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل : «التقية ديني ودين آبائي» ، إذ أنّ دين الله يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية ، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم. (1)

ص : 304


1- غافر : 28 ؛ النحل : 106.

روي عن صادق آل البيت - عليهم السلام - في الأثر الصحيح :

«التقية ديني ودين آبائي».

لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت - عليهم السلام - دفعاً للضرر عنهم ، وعن أتباعهم ، وحقناً لدمائهم ، واستصلاحاً لحال المسلمين ، وجمعاً لكلمتهم ، ولمّاً لشعثهم ، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأُمم. وكل إنسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه ، أو ماله بسبب نشر معتقده ، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول.

من المعلوم أنّ الإمامية وأئمّتهم لاقوا من ضروب المحن ، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة ، أو أُمّة أُخرى ، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم ، وترك مظاهرتهم ، وستر عقائدهم ، وأعمالهم المختصة بهم عنهم ، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.

ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم. (1)

حصيلة البحث

فحصيلة البحث انّ أوساط الشيعة شهدت مجازر بشعه على يد السلطات الغاشمة ، فقتل الآلاف منهم ، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل والارهاب والتخويف ، والحقّ يقال : انّ من الأُمور العجيبة أن يبقى لهذه الطائفة باقية رغم كلّ ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع بل العجب العجاب أن تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة وعدة وأقامت دولاً وشيّدت

ص : 305


1- مجلة المرشد : 3 / 252 ، 253 ولاحظ تعاليق اوائل المقالات ص 96.

حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكرين.

فلو كان الأخ السني يرى التقية أمراً محرماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي وأن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه ، وليعذره في عقيدته وعمله كما عذَرَ أُناساً كثيرين خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الديار ، فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته ، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فما ذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.

وإذا كانوا يقولون - وذاك هو العجيب - انّ الخروج على الإمام عليّ - عليه السلام - غير مضرّ بعدالة الخارجين والثائرين عليه ، وفي مقدمتهم طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة ، وإنّ إثارة الفتن في صفّين - التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين - لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين!! وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ ، فَلِمَ لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ولا يذهب إلى أنّهم معذورون ومثابون!!

ص : 306

5- الغاية من تشريع التقية

الغاية من التقية : هي صيانة النفس والعرض والمال ، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن تترتّب على ذلك مضار وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة تمارس الارهابَ ، والتشريد والنفي ، والقتل والتنكيل ، ومصادرة الأموال ، وسلب الحقوق الحقة ، وعندئذ لا يجد صاحبُ العقيدة - الذي يرى نفسه محقاً - محيصاً من إبطانها ، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجّهاته حتى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل ، إلى أن يُحدِث الله أمراً.

إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم ، سلاح من يُبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله ، لا لشيء إلاّ لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ والأفكار.

إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل ، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت والسكوت مُرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها ، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لا بدّ منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوة ، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولاً إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي

ص : 307

حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها ، يتصوّر أو يصوِّر أنّ الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب ، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرية ، وهو تصوّر خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلاً أو عمداً دون أن يرتكزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة ، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يُذكر ، ولو لم تستبد الظروف القاهرة والأحكام المتعسفة بهذه الجموع المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية ، ولما تحمّلوا عبء إخفاء معتقداتهم ولَدَعوا الناس إليها علناً ، ودون تردّد.

أين العمل الدفاعي بصورة بدائية من الأعمال التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للإطاحة بالسلطة وامتطاء منصّة الحكم؟ وهي أعمال كلها تخطيطات مدبّرة لغايات ساقطة.

وهؤلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرّر الوسائل» فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشئومة.

إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتخذ التقية غطاءً ، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير ، حتى لا يُقْتَل ولا يُستأصل ، ولا تُنهب داره وماله ، إلى أن يُحدث الله أمراً ، من قبيل عطف المباين على مثله.

إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصورها ، فإنّ الشيوعيّين طيلة تسلّطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ ، فصادروا أموالهم وأراضيهم ، ومساكنهم ، ومساجدهم ، ومدارسهم ، وأحرقوا مكتباتهم ، وقتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً ووحشياً ، فلم ينج منهم إلاّ من اتقاهم بشيء من التظاهر

ص : 308

بالمرونة ، وإخفاء المراسيم الدينية ، والعمل على إقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم الله سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة ، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد ، فملكوا أرضهم وديارهم ، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً فشيئاً ، وما هذا إلاّ ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها الله تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين.

فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها ، وكانت هذه غايتَها وهدفَها ، فهي أمر فطريّ ، يسوق الإنسان إليها قبل كل شيء عقلُه ولبُّه ، وتدعوه إليها فطرته ، ولأجل ذلك يلوذ بها كل من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك ، من غير فرق بين المسلم - شيعياً كان أم سنيّاً - وغيره ، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.

ولأجل دعم هذا الأصل الحيويّ ، ندرس دليله من القرآن والسنّة.

ص : 309

6- التقية في الكتاب العزيز

اشارة

شرّعت التقية بنص القرآن الكريم ، حيث وردت فيها جملة من الآيات الكريمة (1) سنحاول استعراضها في الصفحات التالية :

الآية الأُولى :

قال سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). (2)

ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم ، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان ، وصرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى والجُدد ، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنّباً عن الإطالة والاسهاب ، ولمن يبتغي المزيد فعليه مراجعة كتب التفسير المختلفة :

1. قال الطبرسي : قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر ، وهم عمّار

ص : 310


1- غافر : الآية 28 و 45 ، والقصص : الآية 20 ، وستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.
2- النحل : 106.

وأبوه ياسر وأُمّه سمية ، وقُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبيّ ، وأعطاهم عمّار ما أرادوا منه ، فأطلقوه ، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول الله ، وانتشر خبره بين المسلمين ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال الرسول : «كلاّ إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه».

وفي ذلك نزلت الآية السابقة ، وكان عمّار يبكي ، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول : «إن عادوا لك فعد لهم بما قلت». (1)

2. وقال الزمخشري : روي أنّ أُناساً من أهل مكّة فُتِنُوا فارتدّوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمّار بن ياسر وأبواه : ياسر وسمية ، وصهيب وبلال وخبّاب.

أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً .... (2)

3. وقال الحافظ ابن ماجة : والايتاء : معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقية في مثل هذه الحال جائزة ، لقوله تعالى : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ). (3)

4. وقال القرطبي : قال الحسن : التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة - ثمّ قال : - أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تَبين منه زوجته ولا يُحكم عليه بالكفر ، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي (4).

ص : 311


1- مجمع البيان : 3 / 388.
2- الكشاف عن حقائق التنزيل : 2 / 430.
3- ابن ماجة : السنن : 1 / 53 ، شرح حديث رقم 150.
4- الجامع لأحكام القرآن : 4 / 57.

5. قال الخازن : التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة ، قال الله تعالى : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ثمّ هذه التقية رخصة. (1)

6. قال الخطيب الشربيني : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ) أي على التلفّظ به (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب. (2)

7. وقال إسماعيل حقّي : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ) أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه ... لأنّ الكفر اعتقاد ، والإكراه على القول دون الاعتقاد ، والمعنى : «ولكن المكره على الكفر باللسان» ، (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) لا تتغير عقيدته ، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند الله ، هو التصديق بالقلب. (3)

الآية الثانية :

قال سبحانه : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (4).

وكلمات المفسّرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح :

1. قال الطبري : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : قال أبو العالية : التقية باللسان ، وليس بالعمل ، حُدّثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحّاك يقول في قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قال :

ص : 312


1- تفسير الخازن : 1 / 277.
2- السراج المنير. في تفسير الآية.
3- تفسير روح البيان : 5 / 84.
4- آل عمران : 28.

التقيّة باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به وهو لله معصية فتكلم مخافة نفسه (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فلا إثم عليه ، إنّما التقية باللسان. (1)

2. وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع. (2)

3. قال الرازي في تفسير قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : المسألة الرابعة : اعلم : أنّ للتقية أحكاماً كثيرة ، ونحن نذكر بعضها :

ألف : إنّ التقيّة إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار ، ويخاف منهم على نفسه ، وماله ، فيداريهم باللسان ، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول ، فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

ب : التقيّة جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة : لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ، لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، ولقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «من قتل دون ماله فهو شهيد». (3)

4. وقال النسفي : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) إلاّ أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتّقاؤه ، أي ألاّ يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة وإبطان المعاداة. (4)

5. وقال الآلوسي : وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرَّفوها بمحافظة

ص : 313


1- جامع البيان : 3 / 153.
2- الكشاف : 1 / 422.
3- مفاتيح الغيب : 8 / 13.
4- تفسير النسفي بهامش تفسير الخازن : 1 / 277.

النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. والعدو قسمان :

الأوّل : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين ، كالكافر والمسلم.

الثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية ، كالمال والمتاع والملك والامارة. (1)

6. وقال جمال الدين القاسمي : ومن هذه الآية : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق). (2)

7. وفسّر المراغي قوله تعالى : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) بقوله : أي انّ ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء ، إذ القاعدة الشرعية : «إنّ درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح».

وإذا جازت موالاتهم لاتّقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين ، إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة ، لفائدة تعود إلى الأُولى ، إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضر المسلمين ، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كل وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق ، لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس ، أو العرض ، أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك ، وقلبه مطمئن

ص : 314


1- روح المعاني : 3 / 121.
2- محاسن التأويل : 4 / 82.

بالإيمان ، لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان ، وفيه نزلت الآية :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ). (1)

هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالاً إلاّ أن يحكم بشرعية التقيّة بالمعنى الذي عرفته ، بل قد لا يجد أحد مفسّراً أو فقيهاً وقف على مفهومها وغايتها ، وهو يتردد في الحكم بجوازها ، كما أنّك - أخي القارئ - لا تجد إنساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة ، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة ، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.

وإنّما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها ، فإنّما يفسّرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية والمذاهب الهدّامة كالباطنية وأمثالهم ، إلاّ أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدّامة لكل فضيلة رابية.

الآية الثالثة :

قوله سبحانه : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). (2)

وكانت عاقبة أمره أن : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ

ص : 315


1- تفسير المراغي : 3 / 136.
2- غافر : 28.

الْعَذابِ). (1)

وما كان ذلك إلاّ لأنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبيّ الله من الموت : (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (2).

وهذه الآيات تدل على جواز التقية لإنقاذ المؤمن من شرّ عدوّه الكافر.

ص : 316


1- غافر : 45.
2- القصص : 20.

7- التقيّة في السنّة النبويّة

اشارة

دلّت الروايات على أنّ الوجوب والحرمة ترتفع عند طروء الاضطرار ، الذي تعدّ التقية من مصاديقه وأوضح دليل على ذلك هو حديث الرفع الذي رواه الفريقان.

1. روى الصدوق بسند صحيح في خصاله عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «رفع عن أُمّتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أُكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة». (1)

إنّ للحديث دوراً في مبحث البراءة والاشتغال في علم الأُصول ، وقد فصلنا الكلام حوله في بحوثنا الأُصولية. (2)

وعلى كلّ تقدير فالحديث صريح في أنّ الاضطرار يبيح المحظور.

2. روى الكليني بسند صحيح عن زرارة ، عن أبي جعفر - عليه السلام - ، قال : «التقية في كلّ ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به». (3)

3. روى الكليني عن محمد بن مسلم وزرارة قالوا : سمعنا أبا جعفر - عليه السلام -

ص : 317


1- الخصال : 417.
2- لاحظ إرشاد العقول : 1 / 347 - 364.
3- الوسائل : 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 1.

يقول : «التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له». (1)

4. وعن الإمام الصادق - عليه السلام - انّه قال : «وكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فانّه جائز». (2)

5. وعنه - عليه السلام - انّه قال : «ولا حنث ولا كفّارة على من حلف تقية يدفع بذلك ظلماً عن نفسه». (3)

6. وعنه - عليه السلام - قال : «وانّ التقية لأوسع ممّا بين السماء والأرض». (4)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا الموضوع.

ولك أن تضيف إلى ذلك الاستدلال بالآيات التي رخصت عند الاضطرار ، قال تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (5) ومورد الآية وإن كان الاضطرار لأجل الجوع ، ولكن الموضوع هو الاضطرار ، سواء أكان العامل داخلياً كاضطراره إلى أكل الميتة ، أو خارجياً قاهراً مُلْزِماً على العمل بالخلاف على نحو لو لم يفعله لأدّى إلى إلحاق الضرر بنفسه ونفيسه.

التقية في كلمات العلماء

1. قال ابن عباس : التقيّة باللسان والقلب مطمئن بالإيمان ولا يبسط يده للقتل. (6)

2. قال الحسن البصري : التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة إلاّ في قتل النفس. (7)

ص : 318


1- الوسائل : 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 2.
2- الكافي : 2 / 168.
3- الخصال : 607.
4- بحار الأنوار : 75 / 412.
5- البقرة : 173.
6- فتح الباري : 12 / 279.
7- تفسير النيسابوري في هامش الطبري : 3 / 178.

3. وقال الرازي : تجوز التقية لصون المال على الأصح كما يجوز صون النفس. (1)

4. وقال السيوطي : يجوز أكل الميتة في المخمصة وإساغة اللقمة في الخمر ، والتلفظ بكلمة الكفر ، ولو عمّ الحرام قطراً بحيث لا يوجد فيه حلال إلاّ نادراً فانّه يجوز استعمال ما يحتاج إليه. (2)

وقد أنكر الشاطبي على الخوارج إنكارهم التقية في القول والفعل ، وعدها من جملة مخالفاتهم للكليات الشرعية أصلية وعملية. (3)

5. وقال الطوسي : والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس ، وقد روي رخصة في جواز الإفصاح بالحق عنده. (4)

6. وقال العلاّمة الطباطبائي : الكتاب والسنّة متطابقان في جوازها في الجملة ، والاعتبار العقلي يؤيده ، إذ لا بغية للدين ولا همَّ لشارعه إلاّ ظهور الحقّ وحياته ، وربما يترتّب على التقية والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحقّ حفظ مصلحة الدين وحياة الحق ما لا يترتب على تركها وإنكار ذلك مكابرة وتعسف. (5)

مجال التقية هو الأُمور الشخصية

عُرِفَتِ الشيعة بالتقية وأنّهم يتّقون في أقوالهم وأفعالهم ، فصار ذلك مبدأ لوهم عَلِقَ بأذهان بعض السطحيين والمغالطين ، فقالوا : بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون ويكتبون وينشرون ، إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعايات والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة ، ويكرّره الكاتب الباكستاني «إحسان إلهي ظهير» في كتبه السقيمة

ص : 319


1- التفسير الكبير : 8 / 13.
2- الأشباه والنظائر : 76.
3- الموافقات : 4 / 180.
4- التبيان : 2 / 435.
5- الميزان : 3 / 153.

التي يتحامل بها على الشيعة.

ونحن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس ، فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت ما يُلحق بالمؤمن الضرر ، يُصبح هذا المورد من مواردها ، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتقاء حتى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الأُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصوّر فيها التقية ، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير ، إذ لا خوف هناك حتى يكتب خلاف ما يعتقد ، حيث ليس هناك أيُّ مُلْزم للكتابة أصلاً في هذه الأحوال فله أن يسكت ولا يكتب شيئاً.

فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن قلّة معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة.

والحاصل : أنّ الشيعة إنّما كانت تتّقي في عصر لم تكن لهم دولة تحميهم ، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار. وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرّر للتقية إلاّ في موارد جزئيّة خاصة.

إنّ الشيعة كما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك ، وهو حق لا أعتقد أنّ أحداً ممّن ينظر إلى الآُمور بلبّه لا بعواطفه يخالفها فيه ، إلاّ أنّ من الأُمور المسلّمة في تاريخ التشيّع ، كثرة التقية على مستوى الفتاوى ، وأمّا على المستوى العمليّ فالشيعة من أكثر الناس تضحية ، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره من الحكّام الأمويين ، والحكام العباسيين ، أمثال حجر بن عدي ، وميثم التمار ، ورشيد الهجري ، وكميل بن زياد ، ومئات من غيرهم ، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوراتهم المتتالية وقد مرّ تفصيله في بعض الفصول.

ص : 320

8- أقسام التقية

تنقسم التقية حسب انقسام الأحكام إلى خمسة ، والمهم هو الإشارة إلى الأقسام الثلاثة :

1. التقية الواجبة : وهي ما كانت لدفع الخوف على نفس أو عرض محترمين ، أو ضرر لا يتحمل عن نفسه أو غيره من المؤمنين.

2. التقية المندوبة : وهي ما كانت لدفع ما يرجح دفعه من ضرر يسير يتحمّل عادة ، سواء تعلق بنفسه أو بغيره.

3. التقية المحرمة وهي ما يترتّب عليها مفسدة أعظم ، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية ، وتسلّط الأعداء على شئون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم ، ولأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الأحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين ، فللتقية مواضع معينة ، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.

إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتى يزول الخطر ، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش ، ولكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة ، خائف متردّد الخطوات يملأ حناياه الذل ، كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا

ص : 321

تتعداها ، فكما هي واجبة في حين ، هي حرام في حين آخر ، فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية مثلاً محرّمة ، إذ فيها الذل والهوان ونسيان المُثُل والرجوع إلى الوراء ، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف ، وإنّما تحددها جوازاً ومنعاً مصالح الإسلام والمسلمين.

إنّ للإمام الخميني - قدّس الله سرّه - كلاماً في المقام ننقله بنصّه حتى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة وربّما تحرم لمصالح عالية. قال - قدّس الله سرّه - :

تحرم التقية في بعض المحرّمات والواجبات التي تمثّل في نظر الشارع والمتشرّعة مكانة بالغة ، مثل هدم الكعبة ، والمشاهد المشرّفة ، والرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسد المذهب ويطابق الإلحاد وغيرها من عظائم المحرّمات ، ولا تعمّها أدلة التقية ولا الاضطرار ولا الإكراه.

وتدلّ على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها : «فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز». (1)

ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق ، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرّمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمه ، كما لو أُكره على شرب المسكر والزنا مثلاً ، فإنّ جواز التقية في مثله متمسّكاً بحكومة دليل الرفع (2) وأدلّة التقية مشكل بل ممنوع ، وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية ، ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير ، كما لو

ص : 322


1- الوسائل : 10 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 8.
2- الوسائل : 10 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، الحديث 1.

أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أُصول الأحكام فضلاً عن أُصول الدين أو المذهب ، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة ، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الاصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأُصوله ، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية ، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة. (1)

وعلى ضوء ما تقدّم ، نخرج بالنتائج التالية :

1. إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية ، وقد عمل بها في عصر الرسالة من ابتلي من الصحابة ، لصيانة نفسه ، فلم يعارضه الرسول ، بل أيّده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر ، حيث أمره - صلى الله عليه وآله وسلم - بالعودة إذا عادوا.

2. انّ التقيّة ليست بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب والهدم ، وهذا لا يمتّ إلى التقية بصلة.

3. اتّفق المفسّرون عند التعرّض لتفسير الآيات الواردة في التقية على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.

4. تنقسم التقية حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة ، فبينما هي واجبة في موضع ، تجدْها محرّمة في موضع آخر.

5. إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية ، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً ، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط ، فلا مجال للتقية.

وفي ختام هذا البحث نقول :

نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه وعرضه وماله ، ولكنّها

ص : 323


1- رسالة في التقية مطبوعة ضمن الرسائل العشر : 14 ، باب حول موارد استثنيت من الأدلّة.

في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم ويدفعه إلى أن يتظاهر بشيء من القول والفعل الذي لا يعتقد به ، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد ، أن يسمح له بالحرية في مجال الحياة ويتركه بحاله ، وأقصى ما يصح في منطق العقل ، أن يسأله عن دليل عقيدته ومصدر عمله ، فإن كان على حجّة بيّنة يتبعه ، وإن كان على خلافها يعذره في اجتهاده وجهاده العلمي والفكري.

نحن ندعو المسلمين للتأمّل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية ، وأن يعملوا قدر الإمكان على فسح المجال لإخوانهم في الدين فإنّ لكل فقيه مسلم ، رأيَه ونظرَه ، وجهدَه وطاقتَه.

إنّ الشيعة يقتفون أثر أئمّة أهل البيت في العقيدة والشريعة ، ويرون رأيهم ، لأنّهم هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وأحد الثقلين اللّذين أمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بالتمسّك بهما في مجالي العقيدة والشريعة ، وهذه عقائدهم لا تخفى على أحد ، وهي حجّة على الجميع.

نسأل الله سبحانه ، أن يصون دماء المسلمين وأعراضهم عن تعرض أي متعرض ، ويوحّد صفوفهم ، ويؤلّف بين قلوبهم ، ويجمع شملهم ، ويجعلهم صفّاً واحداً في وجه الأعداء ، إنّه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

ص : 324

9- شبهات حول التقية

اشارة

لقد تعرفت على حقيقة التقية : لغة واصطلاحاً وتاريخاً ، كما تعرفت على أدلّتها من الكتاب والسنّة وظهر انّ سيرة المسلمين جرت على ممارسة التقية عند الشدة ، وبقيت ثمّة شبهات تدور حول التقية ، نطرحها على طاولة البحث.

الشبهة الأُولى : التقية من شعب النفاق

إذا كانت التقية إظهارَ ما يُضمر القلبُ خلافَه أو ارتكاب عمل يخالف العقيدة ، فهي إذن شعبة من شعب النفاق ، لأجل انّ النفاق عبارة عن التظاهر بشيء على خلاف العقيدة.

والجواب عنها واضح : لأنّ مفهوم التقية في الكتاب والسنّة هو إظهار الكفر وإبطان الايمان ، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحق ، وإذا كان هذا مفهومها ، فهي تقابل النفاق ، تقابلَ الإيمان والكفر ، فانّ النفاق ضدها وخلافها ، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، والتظاهر بالحق وإخفاء الباطل ، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدّها من فروع النفاق.

وبعبارة أُخرى : انّ النفاق في الدين ستر الكفر بالقلب ، وإظهار الإيمان

ص : 325

باللسان ، وأين هذا من التقية التي هي على العكس تماماً (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فهي إظهار الكفر وإخفاء الإيمان وستره بالقلب ، وأمّا تقية الشيعة فهي تَكْمُنُ في إخفاء الاعتقاد بالإمامة والولاية لأهل البيت - عليهم السلام - يعني ستر التشيع مع التظاهر بموافقة الآخرين في عقيدتهم تجاه الإمامة وفي الوقت نفسه يشاركون المسلمين في الشهادتين والإيمان بالقيامة ، ويمارسون العبادات ويعملون بالفروع ويعتقدون ذلك بقلوبهم ويعيشون هذه العقيدة بوجدانهم وبأرواحهم.

نعم من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن وبه صوّر التقية - الواردة في الكتاب والسنّة - من فروعه ، فقد فسره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن ، فانّه يعرف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (1) فإذا كان هذا حدّ المنافق فكيف يعمّ من يستعمل التقية تجاه الكفار والعصاة فيُخفي إيمانه أو عقيدته في ولاء أهل البيت ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس والعرض والمال من التعرض؟!

ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي ، ولو كانت من قسم النفاق ، لكان ذلك أمراً بالقبيح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (2)

الشبهة الثانية : لما ذا عُدَّت التقية من أُصول الدين؟

قد نقل عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - انّهم قالوا : التقية ديني ودين آبائي ، ولا

ص : 326


1- المنافقون : 1.
2- الأعراف : 28.

دين لمن لا تقية له. (1)

وظاهر هذه الروايات انّ الاعتقاد بالتقية وتطبيق العمل على ضوئها من أُصول الدين فمن لم يتق فقد خرج عن الدين وليس له من الإيمان نصيب.

يلاحظ عليه : بأنّ التقية من الموضوعات الفقهية ، تخضع كسائر الموضوعات للأحكام الخمسة ، فتارة تجب وأُخرى تحرم ، وثالثة ... ، ومعه كيف يمكن أن تكون من أُصول الدين ، وقد ذكرها فقهاء الشيعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأمّا الروايات التي عدتها من الدين فهي من باب الاستعارة وغايتها ، التأكيد على أهميتها وتطبيقها في الحياة لصيانة النفس والنفيس ، وبما انّ بعض الشيعة كانوا يجاهرون بعقائدهم وشعائرهم ، الأمر الذي يؤدي إلى إلقاء القبض عليهم وتعذيبهم وإراقة دمائهم ، فالإمام وللحيلولة دون وقوع ذلك يقول بأنّ (التقية ديني ودين آبائي) لحثّهم على الاقتداء بهم ، وأمّا ما ورد في الحديث «لا دين لمن لا تقيّة له» فالغاية التأكيد على الالتزام بالتقيّة ، نظير قوله : لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد.

وبعبارة أُخرى : ليس المراد من الدين هو الأُصول العامة كالتوحيد والنبوة والمعاد التي بالاعتقاد بها يرد إلى حظيرة الإسلام وبإنكارها أو إنكار واحد منها أو إنكار ما يلازم إنكار أحد الأُصول الثلاثة يخرج عنها ، وإنّما المراد به هو الشأن الذي يتعبد به الإمام ويعمل بدين الله ، فقوله : «التقية ديني ودين آبائي» أي هو من شئوننا أهل البيت - عليهم السلام - فاقتدوا بنا ، وأمّا من يتصور انّ التقية تمس كرامته فهو إنسان جاهل خارج عن هذا الشأن الذي عليه تدين الأئمة به.

ص : 327


1- الوسائل : 10 ، الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث 3 ، 22.

الشبهة الثالثة : التقية تؤدي إلى محق الدين

إذا مارست جماعةٌ التقية فترة طويلة في أُصول الدين وفروعه ، ربما يتجلى للجيل المقبل بأنّ ما مارسه آباؤهم من صميم الدين وواقعه ، فعند ذلك تنتهي التقية إلى محق الدين واندثاره.

يلاحظ عليه : أنّ الظروف مختلفة وليست على منوال واحد ، فربما يشتد الضغط فلا يجد المحقّ مجالاً للإعراب عن رأيه وعقيدته وشريعته ، وقد تتبدّل الظروف إلى ظروف مناسبة تسمح بممارسة الشعائر بكلّ حرية ، وقد عاشت الشيعة بين الحين والآخر في هذه الظروف المختلفة ، وبذلك صانت أُصولها وفروعها وثقافتها والله سبحانه هو المعين لحفظ الدين وشريعته.

وبعبارة أُخرى : انّ للتقية سيطرة على الظاهر دون الباطن ، فالأقلّية التي صودرت حرياتها يمارسونها في الظاهر ، وأمّا في المجالس الخاصة فيقومون بواجبهم على ما هو عليه ويربّون أولادهم على وفق التعاليم التي ورثوها عن آبائهم عن أئمتهم.

ولو افترضنا انّ مراعاة التقية فترة طويلة تنتهي إلى محق الدين فالتقية عندئذ تكون محرمة يجب الاجتناب عنها. وقد مرّ انّ التقية لها أحكام خمسة ، فالتقية المنتهية إلى محق الدين محظورة.

الشبهة الرابعة : التقية تؤدي إلى تعطيل الأمر بالمعروف

إنّ التقية فكرة تحوّل المسلم إلى إنسان يتعايش مع الأمر الواقع على ما فيه من ظلم وفساد وانحراف ، فتعود إلى الرضا بكلّ ما يحيط بها من الظلم والفساد

ص : 328

والانحراف.

يلاحظ عليه : أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروط بالتمكن منه ، فمرتبة منه وظيفة الفرد وهو الأمر بالمعروف بكراهية القلب واللسان ، ومرتبة منه وظيفة المجتمع وعلى رأسه الدولة صاحبة القدرة والمنعة ، فالممارس للتقية يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حسب مقدرته ولو لا القدرة فلا حكم عليه ، لأنّ الله سبحانه لا يكلف نفساً إلاّ وسعها.

ومع ذلك فالممارس للتقية يتحيّن الفرص للانقضاض على الواقع الفاسد وتغييره ، فلو ساعدته الظروف على هذا التغيير فحينها يتخلّى عن التقية ويجاهر بالحقّ قولاً وعملاً.

الشبهة الخامسة : التقية من المسلم من البدع

ربما يتصور انّ التقية من اختلافات الشيعة وانّها لا دليل عليها من الكتاب والسنّة ، وذلك لأنّ الآيات الواردة في التقية ترجع إلى اتّقاء المسلم من الكافر ، وأمّا اتّقاء المسلم من المسلم فهذا ما لا دليل عليه من الكتاب والسنة.

الجواب

إنّ مورد الآيات وإن كان هو اتّقاء المسلم من الكافر ، ولكن المورد كما هو المسلم لا يكون مخصِّصاً ، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلاّ صيانة النفس والنفيس من الشر ، فإذا ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر ، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله ، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة

ص : 329

النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية ، ولو كان هناك وزر فإنّما يحمله من يُتّقى منه لا المتّقي. ونحن نعتقد أنّه إذا سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية ، وتحمّلت كل فرقة آراء الفرقة الأُخرى لوقفت على أنّ الرأي الآخر هو نتيجة اجتهادها ، وعندها لا يضطر أحد من المسلمين إلى استخدام التقية ، ولساد الوئام مكان النزاع.

وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرّحوا به ، وإليك نصوص بعضهم :

1. قال الشافعي : تجوز التقية بين المسلمين كما تجوز بين الكافرين محاماة عن النفس. (1)

2. يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) : ظاهر الآية يدل على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفّار الغالبين ، إلاّ أنّ مذهب الشافعي - رضي الله عنه - : أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس ، وقال : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «من قتل دون ماله فهو شهيد». (2)

3. ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه «إيثار الحق على الخلق» ما نصّه : وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران : أحدهما : خوف العارفين - مع قلّتهم - من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، وإجماع أهل الإسلام ، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق ، وقد صحّ عن أبي هريرة - رضي الله

ص : 330


1- تفسير النيسابوري في هامش تفسير الطبري : 3 / 178.
2- مفاتيح الغيب : 8 / 13 في تفسير الآية.

عنه - أنّه قال - في ذلك العصر الأوّل - : حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وعاءين ، أمّا أحدهما فبثثته في الناس ، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. (1)

4. وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) : ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسّم في وجوههم ، وبذل المال لهم ، لكف أذاهم وصيانة العرض منهم ، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها ، بل هو مشروع ، فقد أخرج الطبراني قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة». (2)

إنّ الشيعة تتقي الكفّار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتّقيهم السنّي ، غير أنّ الشيعي ولأسباب لا تخفى ، يلجأ إلى اتّقاء أخيه المسلم لا لتقصير في الشيعي ، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك ، لأنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو عنده موافق لأُصول الشرع الإسلامي وعقائده ، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول : إنّ الله ليس له جهة ، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة ، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت بعد رحلة النبي الأكرم ، أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ. إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق - التي استنبطت من الكتاب والسنّة - سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مرّ عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية ، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب ، جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم ، ورفض للملاك الذي شُرّعت لأجله التقية ، وإعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم.

ص : 331


1- محاسن التأويل : 4 / 82.
2- تفسير المراغي : 3 / 136.

وقد مرّ الكلام عن لجوء جملة من كبار المحدّثين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم وبما يملكون ، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه (1) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً وقد علموا انّ إنكاره يستعقب قتل الجميع دون رحمة ، ولما أبصر أُولئك المحدّثون لَمَعان ، حد السيف عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسرّوا معتقدهم في صدورهم ، ولمّا عُوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان ، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض بالتشنيع فيها على الشيعة وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة.

ص : 332


1- تاريخ الطبري : 7 / 206195.

10- الآثار البنّاءة للتقية

اشارة

إذا ساد الاستبداد المجتمعَ الإنساني وصودرت فيه الحريات وهُضمت فيه الحقوق وأُخمدت فيه أصوات الأحرار ، فحينئذ لا تجد الأقلية المهضومة ، حيلة سوى اللجوء إلى التقية والتعايش مع الأمر الواقع ، وهذا الأمر وان يتلقّاه البعض أمراً مرغوباً عنه ، ولكن الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - - كما سيوافيك كلامه - يصفه بأنّه رخصة من الله تفضّل الله بها على المؤمنين. كيف وقد يترتّب على ممارسة التقية آثار بنّاءة تتلخّص في الأُمور التالية :

1. حفظ النفس والنفيس

إنّ ممارسة التقية والمداراة مع الظالم المستبد يصون الأقلية من البطش والكبت والقتل ومصادرة الأموال بخلاف عدم ممارستها فانّه يعرِّضها للقتل والفناء ، ولذلك يعبر عنها بالترس والجُنّة ، قال الإمام الصادق - عليه السلام - : «إنّ التقية ترس المؤمن ، ولا إيمان لمن لا تقية له». (1)

وقال - عليه السلام - : «كان أبي يقول : وأي شيء أقرّ لعيني من التقية ، انّ التقية جُنّة المؤمن». (2)

ص : 333


1- الوسائل : 11 ، الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث 4 و 6.
2- الوسائل : 11 ، الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث 4 و 6.

روى شيخنا المفيد قال : كتب علي بن يقطين (الوزير الشيعي للرشيد) إلى الإمام الكاظم - عليه السلام - يسأله عن الوضوء؟ فكتب إليه أبو الحسن - عليه السلام - : «فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك أن تمضمض ثلاثاً ، وتستنشق ثلاثاً ، وتغسل وجهك ثلاثاً ، وتخلّل شعر لحيتك ، وتغسل يديك من أصابعك إلى المرفقين ثلاثاً ، وتمسح رأسك كلّه ، وتمسح ظاهر أُذنيك وباطنهما ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً ، ولا تخالف ذلك إلى غيره.

فلمّا وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب مما رسم له أبو الحسن - عليه السلام - فيه ممّا أجمع العصابة على خلافه ، ثمّ قال : مولاي أعلم بما قال : وأنا أمتثل أمره ، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالاً لأمر أبي الحسن - عليه السلام - ، وسُعِيَ بعلي بن يقطين إلى الرشيد ، وقيل : إنّه رافضي ، فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر ، فلمّا نظر إلى وضوئه ناداه : كذب يا علي بن يقطين من زعم أنّك من الرافضة ، وصلحت حاله عنده ، وورد عليه كتاب أبي الحسن - عليه السلام - : «ابتدأ من الآن يا علي بن يقطين وتوضّأ كما أمرك الله تعالى ، اغسل وجهك مرة فريضة وأُخرى إسباغاً واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كنّا نخاف منه عليك ، والسلام». (1)

ترى أنّ الإمام أنقذ علي بن يقطين من الموت من خلال أمره بالتقية وكم له في التاريخ من نظير ، وكفى شاهداً قصة عمّار وأبيه وأُمّه المتقدّمة.

ص : 334


1- الوسائل : 1 ، الباب 32 من أبواب الوضوء ، الحديث 3.

2. حفظ وحدة الأُمّة

لا شكّ انّ وحدة الكلمة هي مصدر قوة الأُمّة وازدهارها ، وهي حبل الله الوثيق الذي لا بدّ من الاعتصام به ، حيث قال في محكم كتابه : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا). (1)

فقد عدّ سبحانه التفريق والتشرذم والتشتت عذاباً يستأصل الأُمّة ويستنفد قواها ، قال سبحانه : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ). (2)

إلى غير ذلك من الآيات الحاثّة على الوحدة والمحذِّرة من التفرق والتبدد.

وتشريع التقية يعين على الوحدة ويمسك الأُمة عن التبدد ، فلذلك يصفها الإمام بأنّها «رخصة تفضّل بها الله على المؤمنين رحمة لهم».

وهذا لا يعني الإفراط في ممارسة التقية حتّى إذا توفرت الفرص المناسبة للتعبير عن رأيه ومنهجه ، فعند ذلك تحرم التقية ، لأنّه يترتب عليها طمس الدين وكتمان الحقيقة.

3. الحفاظ على القوى من الاستنزاف

إنّ الجماعة المهضومة ، بممارسة التقية تحمي قواها وطاقاتها من الاستنزاف ، وبالتالي تربّي جماعة واعية لأهدافها ، فإذا هبّ على مجتمعها نسيم الحرية فيتيسّر عندها أن تُجاهر بأفكارها وآرائها دون أي خوف أو وجل وتطالب بحقوقها ، وهذا من آثار التقية حيث صانت الجماعة الضعيفة من استنزاف قواها.

ص : 335


1- آل عمران : 103.
2- الأنعام : 65.

وبما انّ هذه الآثار البنّاءة تعبير واضح للرحمة ، التي أشار إليها الإمام أمير المؤمنين ، نأتي بنص كلمته :

روى الشريف المرتضى في رسالة «المحكم والمتشابه» نقلاً عن «تفسير النعماني» عن عليّ - عليه السلام - أنّه قال : «وانّ الله منّ على المؤمن بإطلاق الرخصة له عند التقية في الظاهر ، أن يصوم بصيامه ويفطر بإفطاره ويصلّي بصلاته ويعمل بعمله ويظهر له استعمال ذلك ، موسعاً عليه فيه ، وعليه أن يدين الله تعالى في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأُمّة ، فهذه رخصة تفضّل الله بها على المؤمنين رحمة لهم ليستعملوها عند التقية في الظاهر». (1)

ص : 336


1- الوسائل : 1 ، الباب 25 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 1.

11- موقف أئمة أهل البيت - عليهم السلام - من التقية

إنّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - خلفاء الرسول في الخلافة والإمامة ، فهم ساسة العباد في حقل قيادة المجتمع إلى المنهج المهيع ، والمرجع العلمي في تفسير الكتاب والسنّة وما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة في حقل الأحكام ، هذا عندنا وأمّا غيرنا ، فقد اتّفقت كلمة الأُمّة على أنّ العترة الطاهرة باب علم النبي بحكم حديث الثقلين ، ولذلك يرجع إليهم الموافق والمخالف في حلّ المشاكل العقائدية والتشريعية.

فأئمّة المذاهب الأربعة وغيرهم من التابعين قد نهلوا من نمير علومهم ، ولا يشكّ في ذلك مَن له أدنى إلمام بتاريخ الحديث والفقه ، ولا يسع المقام هنا لبيان التفصيل.

وينبغي أن يعلم أنّ أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - لم يمارسوا التقية في حياتهم الشخصية إلاّ في المجالات السياسية التي تمس سياسة الخلفاء ، ولم تكن لديهم أيّة خشية في الإفصاح عن أفكارهم وآرائهم أمام فقهاء عصرهم ، كيف وانّ الفقهاء والمحدّثين كلّهم كانوا معترفين بفضلهم ومغترفين من علومهم ، وكانوا عيالاً عليهم ، وبذلك يظهر ما ينسب إلى الأئمّة من التقية في حياتهم لا يجانب

ص : 337

الصواب.

نعم كانوا يمارسون التقية في الأُمور التي تتعلّق بالسلطان ولا يخالفونه.

روى الصدوق بسند صحيح عن عيسى بن أبي منصور أنّه قال : كنت عند أبي عبد الله - عليه السلام - في اليوم الذي يشك فيه ، فقال : يا غلام اذهب فانظر أصام السلطان أم لا؟ فذهب ثمّ عاد فقال : لا ، فدعا بالغداء فتغدّينا. (1)

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو انّه لا يشكّ مَن أمعن في الأخبار المروية عن أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - انّهم كانوا يفتون - في بعض الموارد - على وفق آراء فقهاء عصرهم تقية مع أنّ الحكم الواقعي لديهم غير ذلك ، فما هو الوجه في الإفتاء بالتقية؟

والجواب : انّ الإفتاء بالتقية لم يكن لأجل الحفاظ على أنفسهم من القتل والتعذيب ، وإنّما كان الغرض صيانة شيعتهم من أن يُعرَّضوا ويُؤخذوا لمخالفتهم الرأي العام في حقل العقيدة والشريعة ، ولما قلناه شواهد كثيرة في تاريخ الحديث والفقه ، نكتفي بهذين الحديثين :

1. روى سلمة بن محرز قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - : إنّ رجلاً مات وأوصى إليّ بتركته وترك ابنته ، قال : فقال لي : «أعطها النصف» ، قال : فأخبرت زرارة بذلك ، فقال لي : اتّقاك إنّما المال لها ، قال : فدخلت عليه بعدُ ، فقلت : أصلحك الله! إنّ أصحابنا زعموا أنّك اتّقيتني فقال : «لا والله ما اتّقيتك ، ولكنّي اتّقيت عليك أن تُضْمن ، فهل علم بذلك أحد؟» قلت : لا ، قال : «فاعطها ما بقي». (2)

ص : 338


1- الوسائل : 7 ، الباب 75 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث 1.
2- الوسائل : 17 ، الباب 4 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديث 3.

2. روى عبد الله بن محرز بياع القلانس ، قال : أوصى إليّ رجل ، وترك خمسمائة درهم أو ستمائة درهم ، وترك ابنة ، وقال : لي عصبة بالشام ، فسألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن ذلك؟ فقال : «اعط الابنة النصف ، والعصبة النصف الآخر».

فلمّا قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا ، فقالوا : اتّقاك ، فأعطيت الابنة النصف الآخر ، ثمّ حججت فلقيت أبا عبد الله - عليه السلام - فأخبرته بما قال أصحابنا وأخبرته انّي دفعت النصف الآخر إلى الابنة ، فقال : «أحسنت إنّما أفتيتك مخافة العصبة عليك». (1)

إنّ مذهب أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - كان أمراً ذائعاً بين الناس وكان خلافهم مع سائر الفقهاء والمحدّثين في مسائل كثيرة واضحة ، ولذلك لم يكن أيّ ضغط عليهم بالإفصاح بالحقيقة ، نعم الإفتاء على وفق الواقع واجتماع الشيعة على العمل به يورث سوء الظن للسلطة وتقف في وجههم بحجة انّهم بصدد الثورة عليها ، فلذلك كان الإمام يكره اجتماعهم على فكرة واحدة لئلاّ يؤخذوا. نعم البطانة من أصحاب الأئمة كانوا يميزون الحكم الواقعي عن الحكم الصادر تقية ، يقول الشيخ جعفر كاشف الغطاء :

وليس مذهبنا أقل وضوحاً من مذهب الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية والزيدية والناووسية والواقفية والفطحية وغيرهم ، فانّ لكلّ طائفة طريقة مستمرة يتوارثونها صاغراً عن كابر ، بل أهل الملل من عدا المسلمين على بُعد عهدهم عن أنبيائهم الماضين لهم طرائق وسير يمشون فيها على الأثر ولا يصغون إلى إنكار من أنكر. (2)

ص : 339


1- المصدر نفسه ، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، الحديث 4.
2- كشف الغطاء : 1 / 215.

12- في إجزاء العمل الموافق للتقية

اشارة

قد تقدّم البحث في أقسام التقية وأحكامها التكليفية ، بقي الكلام في أحكامها الوضعيّة ، والمراد منها هو صحّة العمل الموافق للتقية المخالف للواقع ، وله أقسام :

1. أن تكون التقية في العمل بالحكم الواقعي كغسل القدمين مكان مسحهما ، والمسح على الخفّين ، والنكس في غسل اليدين والصلاة في جلد الميتة وما لا يؤكل لحمه ، والتكفير في اليدين (قبض اليسرى باليمنى) والتأمين في الصلاة ، والسجود على ما لا يصحّ السجود عليه ، والطلاق بلا حضور عدلين أو مع كون المطلقة حائضاً ، إلى غير ذلك من الأعمال التي تخالف الواقع وتوافق التقية ، ومورد التقيّة هو الأحكام الشرعية.

2. أن تكون التقية في الموضوعات لا في الأحكام الشرعية ، سواء كان الموضوع عاماً غير مقيد بزمان دون زمان ، ككون المغرب متحقّقاً بسقوط القرص ؛ أو في الموضوعات الخاصة كثبوت هلال ذي الحجة أو شهر رمضان أو شوال في سنة معينة ، وعندئذ يقع الكلام في صحّة العمل في هذه الموارد فالعمل موافق للتقية لكنّه مخالف للوظيفة الواقعية في مجال الحكم والموضوع.

ص : 340

والظاهر الصحّة في جميع الأقسام وفاقاً للشيخ كاشف الغطاء في كتابه (1) والسيد الأُستاذ الإمام الخميني كما أفاد في محاضراته.

ثمّ إنّ الروايات الدالّة على صحّة العمل الصادر عن التقية على أصناف :

1. ما دلّ على صحّة العمل المضطر إليه ، فيختصّ هذا الصنف بالتقية الاضطرارية التي تنبع عن خوف الضرر على النفس والنفيس ، ضرراً لا يتحمل عادة.

2. ما دلّ على صحّة العمل المأتي به تقية والظاهر انصراف هذا الصنف إلى التقية الاضطرارية.

وعلى كلّ تقدير فعنوان الحكم في الصنف الأوّل هو الاضطرار وفي الصنف الثاني هو التقية.

3. ما دلّ على صحّة العمل المخالف للواقع والموافق للمخالف مداراة له حفظاً للوحدة الإسلامية.

فها نحن نتناول لغاية الاختصار من كلّ صنف بعض الروايات.

الصنف الأوّل : ما يكون فيه الموضوع هو الاضطرار

إذا أتى بعمل مخالف للواقع لأجل الاضطرار ، فيدلّ على صحّته الروايات التالية :

1. حديث الرفع ، أعني قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «رفع عن أُمّتي ... ما اضطروا إليه». (2)

والرواية صحيحة سنداً لكن المهم تحقيق مدلولها ، فإنّ الرفع يتعلّق بأمر وجودي وهو دائر بين أحد أُمور ثلاثة :

أ. المؤاخذة والعقاب.

ص : 341


1- كشف الغطاء : 1 / 300.
2- الوسائل : 11 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، الحديث 1.

ب. الأثر المناسب لكلّ واحد من الأُمور التسعة.

ج. تمام الآثار المترتبة على الأمر المرفوع في لسان الشرع.

والأوّل غير صحيح ، لوضوح انّ الرواية بصدد الإخبار عن رفع أمر تشريعي من الوجوب والحرمة أو الجزئية والمانعية ، وأمّا المؤاخذة والعقاب الأُخروي فهو أمر تكويني لا تشريعي.

أضف إلى ذلك انّه لا يصحّ تقديرها في رفع النسيان والخطأ اللّذين هما من الأُمور التسعة ، لعدم وجود العقوبة فيهما حتّى يصحّ الامتنان من الشرع على الأُمّة برفعها فيهما.

والثاني بعيد أيضاً فانّه يحتاج إلى الفحص عن الأثر المناسب لكلّ واحد من الأُمور التسعة وربّما لا يصل الإنسان إليه في بعضها.

والثالث هو المتعيّن ، أي رفع تمام الآثار الشرعية المترتبة على الموضوع ، مثلاً : يحرم التكفير في الصلاة ، كما تجب السورة كاملة فيها ، فينتزع من حرمة التكفير ، مانعيته للصلاة ؛ ومن وجوب السورة ، جزئيتها لها. فإذا اضطر إلى التكفير أو إلى ترك قراءة السورة الكاملة ، فالآثار المترتبة على التكفير أو السورة مرفوعة ، فالمرفوع في التكفير هو الحرمة وبالتالي المانعية ، كما أنّ المرفوع في ترك السورة الكاملة اضطراراً هو الوجوب وبالتالي الجزئية ، وكأنّ الشارع لم يحكم على التكفير والسورة بشيء من الأحكام ، فينحصر المأمور به فيما أتى على وفق التقيّة.

فإن قلت : إنّ الرفع يتعلّق بأمر وجودي ، وعندئذ يصحّ التمسك بحديث الرفع في التكفير الذي هو أمر وجودي دون ترك السورة الذي هو أمر عدمي.

قلت : الملاك في الاستدلال هو تعلّق الرفع بعنوان كلّي - أعني : ما اضطروا إليه وهو أمر وجودي - سواء كان المنطبَق والمصداق أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً ،

ص : 342

فالمصحِّح لصدق الرفع هو متعلّقه في الحديث - أعني : ما اضطروا إليه - وعلى ذلك فلو اضطرّ إلى ترك الوقوف في عرفات دون المشعر أمكن التمسّك في صحّة العمل بحديث الرفع ، لأنّ العنوان في الحديث الذي تعلّق به الرفع (الاضطرار) أمر وجودي.

2. صحيحة زرارة ، عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - : «إنّ التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم ، فقد أحلّه الله له». (1)

وجه الدلالة : انّ الإنسان يضطر إلى التكفير وترك الوقوف بعرفة وغير ذلك من الأفعال والتروك الممنوعة شرعاً في عباداته ، فكلّ ذلك أحلّه الله ورفع المنع الثابت فيها لو لا التقية.

وبعبارة أُخرى : المراد بالإحلال رفع المنع السابق ، والرفع في كلّ ممنوع بحسب حاله سواء كان الممنوع حكماً تكليفياً كشرب النبيذ أو الفقاع أو حكماً غيرياً كالتكفير وترك الوقوف بعرفة ، فالمنع في كلا الموردين مرفوع بحكم قوله : أحلّه الله ، وينتج صحّة العمل.

3. موثّقة سماعة ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «إذا حلف رجل تقية لم يضرّ إذا هو أُكره أو اضطر إليه» وقال : «ليس شيء ممّا حرم الله إلاّ وقد أحلّه الله لمن اضطر إليه». (2)

وجه الدلالة على صحّة العمل المأتي به اضطراراً ، هو انّ حنث الحلف حرام تكليفاً ووضعاً بمعنى ترتب الكفّارة عليه في حالة الاختيار ، وهذا العمل إذا صدر عن إكراه واضطرار يتجرّد عن كلا الحكمين ، فلا هو حرام تكليفاً ولا وضعاً بمعنى

ص : 343


1- الكافي : 2 / 175 ، الحديث 18 ، باب التقية. ولاحظ الوسائل : 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 2.
2- الوسائل : 16 ، الباب 12 من كتاب الأيمان ، الحديث 18.

وجوب الكفّارة.

4. صحيحة زرارة : «عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : التقية في كلّ ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به». (1)

والظاهر انّ الضرورة أعمّ من الاضطرار من حيث المورد ، فانّ الثاني يختصّ بما إذا كان الخوف على نفس الشخص ونفيسه ، بخلاف الضرورة فهي أعمّ ، فتصدق أيضاً على ما إذا كان في ترك العمل خطر يهدد كيان الإسلام والمسلمين أو طائفة منهم.

هذا بعض ما دلّ على صحّة العمل المخالف للواقع لأجل الاضطرار والضرورة ، وعلى ضوء ذلك فلو اضطر الإنسان أو دعت الضرورة إلى فعل المانع كالتكفير أو ترك الجزء كالسورة الكاملة فالعمل جائز وماض ، وسيوافيك في روايات الصنف الثاني انّ المراد من قوله : «أحله الله» هو تنفيذ العمل وقبوله لا بمعنى حلّيته وعدم حرمته.

الصنف الثاني : ما يكون الموضوع فيه «التقيّة»

ما اتّخذ عنوان التقيّة موضوعاً لتنفيذ العمل وتصحيحه فيدلّ عليه الروايات التالية :

1. موثّقة مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - في حديث وتفسير ما يتّقى : «مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحقّ وفعله ، فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدي إلى الفساد في الدين فانّه جائز». (2)

ص : 344


1- الوسائل : 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 1.
2- الوسائل : 11 ، الباب 25 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 6.

فلو أُريد من الجواز الإباحة فيدلّ على حلية العمل إذا كان حراماً في الواقع ، وأمّا لو أُريد به نفوذ العمل ومضيّه عند الشارع فيدلّ على صحّة العمل مثل قوله : «الصلح جائز بين المسلمين» ، فإفطار المؤمن عند سقوط القرص أو وقوفه بعرفات قبل وقته أو إيقاعه الطلاق مع عدم العدلين كلّها جائزة أي نافذة ومقبولة لدى الشارع.

نعم المتبادر من التقية هي التقية الاضطرارية ، ولا يعمّ القسم المدارائي الذي يتجرّد عن الخوف.

2. صحيحة أبي الصباح إبراهيم بن النعيم ، قال : والله لقد قال لي جعفر بن محمد : «إنّ الله علم نبيه التنزيل والتأويل ، فعلمه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - علياً - عليه السلام -» قال : «وعلمنا والله» ثمّ قال : «ما منعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية ، فأنتم منه في سعة». (1)

فقوله : «ما منعتم من شيء ... تقية» يعم كلّ عمل صدر من الإنسان تقية فهو في سعة منه ، أي لا يترتب عليه الأثر ، فلو كفّر أو ترك سورة كاملة أو سجد على ما لا يجوز السجود عليه ، فالمصلي في سعة من هذا العمل يعني لا يعد عمله هذا محرّماً ولا يترتب عليه الإعادة والقضاء ، وتوهم انّ المراد من السعة هو خصوص عدم الحرمة لا رفع الكفّارة فقط كما ترى ، مخالف لإطلاقها.

3. موثّقة سماعة قال : سألته عن رجل كان يصلّي ، فخرج الإمام وقد صلّى الرجل ركعة من صلاة فريضة ، قال : «إن كان إماماً عدلاً فليصل أُخرى وينصرف ويجعلها تطوعاً ، وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو ، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ، ويصلّي ركعة أُخرى ، ويجلس قدر ما يقول : أشهد أن لا

ص : 345


1- الوسائل : 16 ، الباب 12 من أبواب كتاب الأيمان ، الحديث 3.

إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، ثمّ ليتم صلاته معه على ما استطاع فانّ التقية واسعة ، وليس شيء من التقية إلاّ وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله». (1)

والرواية صريحة في صحّة صلاته بمحضر منهم مع ترك ما لم يستطع فعله أو إتيان ما لم يستطع تركه من الأجزاء والشرائط والموانع.

والرواية كالضابطة الكلية في كافة الأعمال حيث قال : «فانّ التقية واسعة ، وليس شيء من التقية إلاّ وصاحبها مأجور».

وحصيلة الكلام : انّ الإنسان إذا تأمّل في العناوين التالية :

1. رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه.

2. كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله.

3. ليس شيء ممّا حرم الله إلاّ وقد أحلّه الله لمن اضطر إليه.

4. التقيّة في كلّ ضرورة وصاحبها أعلم بها.

5. كلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية فانّه جائز.

6. ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه في يمين في تقية فأنتم منه في سعة.

7. وليس شيء من التقية إلاّ وصاحبها مأجور عليها.

فإذا أمعن في هذه العناوين وما حمل عليها من الأحكام يقف على أنّ طروء الاضطرار والضرورة والتقية سبب لرفع الحكم أو نفوذ العمل وجوازه فينتزع منه صحّة العمل في مجالي التكليف والوضع.

4. ما رواه في أُصول الكافي بسنده عن أبي جعفر أنّه قال : «التقية في كلّ شيء إلاّ في شرب المسكر والمسح على الخفّين». (2)

ص : 346


1- الوسائل : 8 / 405 ، الباب 56 من أبواب كتاب الصلاة ، الحديث 2.
2- الكافي : 2 / 172 ، باب التقية ، الحديث 2.

دلّت الرواية على ثبوت التقية ومشروعيتها في كلّ شيء ممنوع لو لا التقية ، إلاّ في الفعلين المذكورين ، فاستثناء المسح على الخفين مع كون المنع فيه عند عدم التقية منعاً غيرياً دليل على عموم الشيء لكلّ ما يشبهه من الممنوعات ، لأجل التوصّل بتركها إلى صحّة العمل ، فدلّ على رفع التقية لمثل هذا المنع الغيري وتأثيرها في ارتفاع أثر ذلك الممنوع منه ، فيدلّ على أنّ التقية ثابتة في التكفير في الصلاة مثلاً ، بمعنى عدم كونه ممنوعاً عليه فيها عند التقية ، وكذا في غسل الرجلين واستعمال النبيذ في الوضوء ونحوهما. (1)

فظهر ببركة هذه الروايات انّ العمل الموافق للتقية مجزي مطلقاً.

فإن قلت : قد ورد في بعض الروايات وجوب القضاء لمن أفطر في شهر رمضان تقية ، نظير :

1. ما رواه الكليني بسند صحيح عن داود بن الحصين ، عن رجل من أصحابه ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنّه قال وهو بالحيرة في زمان أبي العباس : إنّي دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم وهو والله من شهر رمضان ، فسلّمت عليه ، فقال : يا أبا عبد الله أصمت اليوم؟ فقلت : لا والمائدة بين يديه ، قال : فادنُ فكل ، قال : فدنوت فأكلت ، قال : وقلت : الصوم معك والفطر معك ، فقال الرجل لأبي عبد الله - عليه السلام - : تفطر يوماً من شهر رمضان؟! فقال : «أي والله أفطر يوماً من شهر رمضان وأقضي أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي». (2)

2. ما رواه الكليني عن رفاعة ، عن رجل ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «دخلت على أبي العباس بالحيرة ، فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟ فقال :

ص : 347


1- لاحظ رسالة التقية للشيخ الأنصاري : 56 - 57.
2- الوسائل : 7 ، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث 4.

«ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا ، وإن أفطرت أفطرنا ، فقال : يا غلام عليّ بالمائدة فأكلت معه ، وأنا أعلم والله انّه يوم من شهر رمضان ، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله». (1)

فهاتان الروايتان تدلاّن على لزوم القضاء وعدم كفاية التقية في الإجزاء.

قلت : مضافاً إلى أنّ الروايتين لا يحتجّ بهما لوجود الإرسال في آخرهما أنّ الكلام في الإجزاء وعدمه في العمل الموافق للتقية ، كما إذا أتى العمل على وفق التقية لا فيما إذا تركه رأساً كما في المقام ، لأنّ مصب روايات التقية هو العمل المأتي به لتلك الغاية لا ترك العمل للتقية ، وعندئذ الروايات الدالة على وجوب القضاء لمن أفطر يوم الشك ولو عن عذر حاكم في المقام لو عملنا بالروايتين وقد علمت ضعفهما.

الصنف الثالث : التقية لغاية المداراة

كان الكلام في السابق في التقية الناشئة من الخوف وهناك قسم آخر من التقية وهو المسمّى بالتقية المدارائية.

والمراد منها هو حسن المعاشرة مع العامة بالحضور في شعائرهم والمشاركة في عباداتهم تحبيباً للقلوب ، دون أيّ خوف على النفس والنفيس. ويدلّ عليه روايات :

1. صحيحة هشام بن الحكم وفيه قال : قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «إيّاكم أن تعملوا عملاً نُعيَّر به ، فإنّ ولد السوء يُعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ، ولا تكونوا عليه شيناً ، صلّوا في عشائرهم ، وعوِّدوا مرضاهم ،

ص : 348


1- المصدر السابق ، الحديث 5.

واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخبء» ، قلت : وما الخبء؟ قال : «التقية». (1)

2. ما رواه الصدوق عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «من صلّى معهم في الصف الأوّل كمن صلّى مع رسول الله في الصف الأوّل». (2)

وليست الرواية ناظرة إلى صورة الخوف ، وإلاّ لأشار إليه الإمام.

3. صحيحة حفص البختري ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «يحسب لك إذا دخلت معهم وإن كنت ، لا تقتدي بهم ، مثل ما يحسب لك إذا كنت مع من تقتدي به». (3)

4. صحيحة حماد ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «من صلّى معهم في الصف الأوّل كان كمن صلّى خلف رسول الله». (4)

5. ما رواه إسحاق بن عمار ، قال لي أبو عبد الله - عليه السلام - : «يا إسحاق ، أتصلّي معهم في المسجد» ، قلت : نعم ، قال : «صلّ معهم ، فانّ المصلّي معهم في الصف الأوّل كالشاهر سيفه في سبيل الله». (5)

6. ما رواه البرقي عن عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : أُوصيكم بتقوى الله عز وجل ، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتُذلّوا ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)».

ص : 349


1- الوسائل : 11 ، الباب 26 من أبواب الأمر والنهي ، الحديث 2.
2- الوسائل : 5 ، الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 1.
3- المصدر السابق ، الحديث 2.
4- المصدر السابق ، الحديث 3.
5- المصدر السابق ، الحديث 7.

ثمّ قال : «عودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، واشهدوا لهم وعليهم ، وصلوا معهم في مساجدهم». (1)

7. ما رواه سماعة ، قال : سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم ، فقال : «هذا أمر شديد لم تستطيعوا ذلك ، قد أنكح رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وصلّى عليّ - عليه السلام - وراءهم». (2)

إنّ الدعوة إلى معاشرتهم وإقامة الصلاة في مساجدهم وجماعاتهم ربما يترتّب عليه فعل المانع في الصلاة أو ترك الجزء أو غير ذلك من الأُمور المبطلة للصلاة عندنا ومع ذلك نرى أنّ الإمام يرغب إلى العمل في صفوفهم وعشائرهم.

فقوله في صحيحة هشام : «والله ما عبد الله بشيء أحبّ إليه من الخبء» ، قلت : وما الخبء؟ ، قال : «التقية» لأجل دفع استبعاد المخاطب صحّة العمل المخالف للواقع وانّه كيف يكون أحب العبادات وأحسنها ، ولكن القدر المتيقن من هذا الصنف هو الصلاة وشموليّتها لسائر الأُمور لا يخلو من تأمّل.

ثمّ إنّ هناك روايات ربما يستظهر منها خلاف ما ذكرناه ، مثلاً قوله :

1. رواية عمرو بن ربيع انّه سأل الإمام - عليه السلام - إن لم أكن أثق به أُصلّي خلفه وأقرأ ، قال : «لا ، صلّ قبله أو بعده» ، قيل له : أفأُصلّي خلفه وأجعلها تطوعاً ، قال : «ولو قبلت التطوع لقبلت الفريضة ولكنّها اجعلها سبحة». (3)

والرواية ضعيفة وفي سندها مجهول ، وهو أحمد بن محمد بن يحيى الخازني ، كما أنّ في سندها الحسن بن الحسين وهو مشترك.

ص : 350


1- المصدر السابق ، الحديث 8.
2- المصدر السابق ، الحديث 10.
3- الوسائل : 5 ، الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 5.

2. رواية ناصح المؤذن ، قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - إنّي أُصلّي في البيت وأخرج إليهم ، قال : «اجعلها نافلة ولا تكبر معهم فتدخل معهم في صلاتهم ، فانّ مفتاح الصلاة التكبيرة». (1)

والرواية ضعيفة ، والناصح المؤذن مجهول على أنّ الرواية ظاهرة في الصحّة إذا كبّر ودخل معهم في الصلاة.

3. رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله قال : قلت : إنّي أدخل المسجد وقد صليت فأُصلّي معهم فلا أحتسب تلك الصلاة ، قال : «لا بأس».

وأمّا أنا فأُصلّي معهم وأُريهم إنّي أسجد وما أسجد».

والرواية ضعيفة لوجود قاسم بن عروة في سندها وهو مجهول. إلى غير ذلك من الروايات التي يستشم منها عدم الاعتداد بالأعمال التي يؤتى بها معهم ، فالجل لو لا الكلّ ضعاف وما دلّ على الصحّة أكثر عدداً وأوضح دلالة.

وبما اخترنا من صحّة العمل في مجالي الاضطرار والمداراة نستغني عن عقد البحث حول «اشتراط عدم المندوحة في صحّة العمل المأتي به تقية» كمالا يخفي كما نستغني عن البحث حول وجوب اعمال الحيلة والتورية لفظاً وعملاً.

بقي هنا مباحث طفيفة تظهر الحال فيها ممّا ذكرنا.

والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

ص : 351


1- الوسائل : 5 ، الباب 6 من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث 7.

ص : 352

خاتمة المطاف: جذور الاختلاف بين الفريقين

اشارة

ص : 353

إنّ الاختلاف بين الفقهاء أمر مستحسن ، إذ في ظلّه تتلاقى الأفكار وتتلاقح الآراء ، ويُثمر عن نتائج بنّاءة تعود بالنفع إلى الأُمّة الإسلامية ، ولعلّ على هذا ورد في بعض الآثار انّه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «اختلاف أُمّتي رحمة» فالمراد من هذا الاختلاف هو جانبه الإيجابي ، المؤدّي إلى الوصول إلى الحقيقة.

وثمة وجه مشترك بين الاختلاف والشكّ ، فكما أنّ الشكّ قنطرة إلى اليقين فكذلك الاختلاف الموضوعي هو القنطرة الأُخرى لنيل الحقيقة شريطة أن لا يراوح في مكانه بل يتجاوزه إلى اليقين.

فلأجل هذه الغاية طرحت هذه المسائل على طاولة البحث ، ليكون حافزاً للمفكرين على مناقشة هذه المسائل في ظل إقامة مؤتمر فقهي يجمع كافة المذاهب الإسلامية حتّى ينفض عن وجهها غبار الاختلاف المضني ، ويتجلى وجه الحقيقة بأنصع صورها ولا ينال هذا الهدف إلاّ بإزالة العراقيل أمام الجهود المخلصة للوصول إلى الحقّ.

وهذه العراقيل عبارة عن ضرورة التعرف على جذور الاختلاف ومحاولة استئصالها على ضوء المنهج الموضوعي بعيداً عن التعصب المقيت.

وقد دونت هذه البحوث لتكون خطوة متواضعة للوقوف على جذور الاختلاف كي يُبان الحقُ ويُتَّبع ، ويأتي ذلك في ضمن فصول :

ص : 354

الفصل الأوّل: أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - هم المرجع العلمي للمسلمين بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

إنّ الإمامية - كما تصدر عن الكتاب والسنّة في مجالي العقيدة والشريعة - كذلك تصدر عن أحاديث أئمّة أهل البيت وترى قولهم وفعلهم وتقريرهم حجّة ، وهذا لا يعني أنّ أحاديثهم ، حجّة ثالثة ، في عرض الكتاب والسنّة أو أنّهم أنبياء يوحى إليهم كما ربّما يتخيّله من ليس له إلمام بعقائدهم وأُصولهم ، بل العترة الطاهرة لما كانوا وعاة علمه - صلى الله عليه وآله وسلم - وحفظة سنّته ، وخلفاءه بعده ، يحكون بقولهم وأفعالهم وتقريرهم ، سنّة النبي الأكرم ، فالاحتجاج بأحاديثهم ، احتجاج في الحقيقة بحديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وكلامه. ولأجل إيضاح الموضوع ، نأتي بتفصيل ذلك :

أئمّة الشيعة أوصياء الرسول

اشارة

اتّفقت الشيعة على أنّ الأئمّة الاثني عشر أوصياء الرسول ، وأنّهم أئمّة الأُمّة وأحد الثقلين اللَّذين أوصى بهما رسول الله في غير موقف من المواقف ، وقال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي» والحديث من التواتر بمكان أغنانا عن

ص : 355

ذكر مصادره ، ويكفي في ذلك ما نشرته دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة في هذا المجال.

إنّ الشيعة الإماميّة كسائر المسلمين مؤمنون بعالمية رسالة النبيّ الأكرم كما هم مؤمنون بخاتمية رسالته ، مستدلين بقوله سبحانه : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (1).

وقوله سبحانه : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (2) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.

إنّ خاتمية رسالة النبي الأكرم من الأُمور الدينية الضرورية تكفّل لبيانها الذكر الحكيم والأحاديث المتضافرة التي بلغت حدّ التواتر ، منها قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - عند ما خرج إلى غزوة تبوك فقال له علي : أأخرج؟ فقال : لا ، فبكى علي ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي». (3)

وهذا علي أمير المؤمنين أوّل الأئمّة الاثني عشر قال وهو يلي غسل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «بأبي أنت وأُمّي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء». (4)

وفي كلام آخر له : «أمّا رسول الله فخاتم النبيّين ليس بعده نبيّ ولا رسول ،

ص : 356


1- الأحزاب : 40.
2- فصّلت : 4241.
3- أمالي الصدوق : 29 ؛ معاني الأخبار : 94 وغيرها من المصادر الشيعية ولاحظ صحيح البخاري : 6 / 3 باب غزوة تبوك.
4- نهج البلاغة : الخطبة 129.

وختم رسول الله الأنبياء إلى يوم القيامة». (1)

ونكتفي في هذه العجالة بهذا المقدار من النصوص فمن أراد أن يقف على نصوص الأئمّة الاثني عشر على ختم النبوّة وانقطاع الوحي وسدّ باب التشريع بعد رحلة الرسول ، فعليه الرجوع إلى الجزء الثالث من كتابنا «مفاهيم القرآن» فقد جاء فيه قرابة (134) نصّاً من النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين في ذلك المجال.

إنّ فقهاء الشيعة حكموا بارتداد من أنكر عالمية الرسالة ، أو خاتميتها ، فلأجل ذلك فالبابية والبهائية وهكذا القاديانية مرتدّون عندهم ارتداداً فطرياً أو ملّيّاً (2) أحياناً ، وهذه كتبهم الفقهية في باب الحدود وأحكام المرتد وغير ذلك.

هذا قليل من كثير اكتفينا به لتبيين عقيدة الشيعة في حقّ الرسول الأعظم وأنّهم عن بكرة أبيهم معتقدون بعالمية رسالة الرسول وخاتميته ، ولم ينحرفوا عن هذا الخط قيد شعرة ، ويظهر ذلك من المرور على الكتب الاعتقادية المدوّنة من بداية القرن الثالث الهجري إلى عصرنا هذا ، فقد ألّفوا مئات الكتب والرسائل ، بل الموسوعات الكبيرة حول العقائد الإسلامية وهي بين مخطوطة ومطبوعة منتشرة في العالم وهذه كتبهم ومكتباتهم وجامعاتهم العلمية ، وخطباؤهم ومنشوراتهم الرسمية لا تجد فيها كلمة تشير إلى نبوّة غير النبي الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، أو بنزول الوحي على غيره فلا محيص عن القول بأنّ هذه النظرية الخاطئة ، استنبطها البعض من خلال أُمور لا دلالة لها على ما يرتئيه ولا بأس بالإشارة إلى بعض هذه الأُمور التي كانت

ص : 357


1- نهج البلاغة : الخطبة 230 ؛ مجالس المفيد : 527 ؛ بحار الأنوار : 22 / 527.
2- المرتد الملّي : عبارة عن من لم يكن أحد والديه مسلماً حين انعقاد نطفته ، كما إذا كان الوالدان كتابيين فأسلم الولد بعد البلوغ ثم ارتدّ.

سبباً لهذا الوهم ، وقد ألمح إليها بعض دكاترة العصر من المستهترين وهي لا تتجاوز أمرين :

1. حجّية أحاديثهم وأفعالهم.

2. القول بعصمتهم من الإثم والخطأ.

وإليك تحليل هذين الأمرين :

ص : 358

1- حجّية أقوال العترة الطاهرة
اشارة

إنّ الشيعة يتعاملون مع أحاديث العترة الطاهرة كالتعامل مع أحاديث النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فلولا كونهم أنبياء أو طرفاً للوحي فكيف تكون أحاديثهم حجّة؟

الجواب : إنّ الشيعة الإمامية تأخذ بأقوالهم للأُمور التالية :

ألف : إنّ النبيّ الأكرم هو الذي أمر المسلمين قاطبة بالأخذ بأقوال العترة حيث قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ...» (1) فالتمسّك بأحاديثهم وأقوالهم امتثال لقول الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وهو لا يصدر إلاّ عن الحق ، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسّك بما ينقذه من الضلالة ، ومن أخذ بواحد منهما فقد خالف الرسول.

ب : نرى أنّ الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمر الأُمّة بالصلاة على آل محمد في الفرائض والنوافل ، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يذكرون العترة بعد النبيّ الأكرم في تشهّدهم ويصلّون عليهم مثل الصلاة عليه ، والفقهاء وإن

ص : 359


1- ربّما يروى عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وسنّتي. ولا تعارض بين الخبرين ، غير أنّ الأوّل متواتر دون الثاني والأوّل مسند ، والثاني مرسل نقله الإمام مالك في موطئه ، وأين هو من حديث العترة الذي أطبق المحدّثون على نقله؟! والتفصيل موكول إلى محلّه.

اختلفوا في صيغة التشهّد ولكنّهم لا يختلفون في لزوم الصلاة على النبي وآله وفيها يقول الإمام الشافعي :

يا أهل بيت رسول الله حبّكمُ *** فرض من الله في القرآن أنزلهُ

كفاكمُ من عظيم الشأن أنّكم *** من لم يصلّ عليكم لا صلاة لهُ

فلو لم يكن للعترة شأن ومقام في مجال هداية الأُمّة ولزوم الاقتفاء بهم ، فما معنى جعل الصلاة عليهم فريضة في التشهّد وتكرارها في جميع الصلوات ليلاً ونهاراً ، فريضة ونافلة؟

وهذا يعرب عن سرّ نقف عليه من خلال أمر النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا المجال ، وهو أنّ لآل محمّد شأناً خاصّاً في الأُمور الدينية والقيادة الإسلامية أظهرها : أنّ أقوالهم وآراءهم حجّة على المسلمين ، وأنّ لهم المرجعية الكبرى بعد رحلة الرسول ، سواء أكان في مجال العقيدة والشريعة أم في مجال آخر.

ج : إنّ النبيّ الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - شبّه العترة الطاهرة بسفينة نوح ، وأنّه من ركبها نجا ، وأنّ من تخلّف عنها غرق (1). وهو يدلّ على حجّية أقوالهم وأفعالهم.

إلى غير ذلك من الوصايا الواردة في حقّ العترة التي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد ، ومن أراد فليرجع إلى مصادرها.

فالمسلم المؤمن بصحّة هذه الوصايا لا يشك في حجّية أقوال العترة سواء أعلم مصدر علومهم أم لم يعلم. قال سبحانه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (2).

ص : 360


1- مستدرك الحاكم : 2 / 151 ؛ الخصائص الكبرى : 2 / 266 ؛ الصواعق : 191 ، الباب 12.
2- الأحزاب : 36.

ومع ذلك كلّه نحن نشير إلى بعض مصادر علومهم حتى يتّضح أنّ حجية أقوالهم لا تدلّ على أنّهم أنبياء أو فوّض إليهم أمر التشريع :

1. السماع عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - :

إنّ الأئمّة يروون أحاديث رسول الله سماعاً منه - صلى الله عليه وآله وسلم - ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة آبائهم ، ولأجل ذلك ترى في كثير من الروايات أنّ الإمام الصادق - عليه السلام - يقول : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن زين العابدين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن عليّ أمير المؤمنين ، عن الرسول الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم -. وهذا النمط في الروايات كثير في أحاديثهم ، وقد تضافر عن الإمام الصادق أنّه كان يقول : «حديثي ، حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي» ، فعن هذا الطريق تحمّلوا أحاديث كثيرة عن الرسول الأكرم وبلّغوها ، من دون أن يعتمدوا على الأحبار والرهبان ، أو على أُناس مجاهيل ، أو شخصيات متسترة بالنفاق وهذا النوع من الأحاديث ليس بقليل.

2. كتاب عليّ - عليه السلام - :

يرجع قسم آخر من أحاديثهم إلى ما أخذوه عن كتاب الإمام أمير المؤمنين بإملاء رسول الله وخطّ عليّ ، وقد أشار أصحاب الصحاح والمسانيد إلى بعض هذه الكتب. (1)

فقد كان لعليّ كتاب خاص بإملاء رسول الله وقد حفظته العترة الطاهرة وصدرت عنه في مواضع كثيرة ونقلت نصوصه في موضوعات مختلفة ، وقد بثّ الحر العاملي في موسوعته الحديثية ، أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية

ص : 361


1- مسند أحمد : 1 / 81 ؛ صحيح مسلم : 4 / 217 ؛ السنن الكبرى : 8 / 26 نقلاً عن الإمام الشافعي.

من الطهارة إلى الديات ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.

وقال الإمام الصادق - عليه السلام - عند ما سئل عن الجامعة؟ فقال : «فيها كل ما يحتاج الناس إليه وليس من قضية إلاّ فيها حتى أرش الخدش».

وكان كتاب علي مصدراً لأحاديث العترة الطاهرة يرثونه واحداً بعد آخر وينقلون عنه ويستدلّون به على السائلين.

وهذا هو أبو جعفر الباقر - عليه السلام - يقول لأحد أصحابه - أعني حمران بن أعين - وهو يشير إلى بيت كبير : «يا حمران إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ عليّ - عليه السلام - وإملاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لو ولّينا الناس لحكمنا بما أنزل الله لم نعد ما في هذه الصحيفة».

وهذا هو الإمام الصادق - عليه السلام - يعرّف كتاب عليّ - عليه السلام - بقوله : «فهو كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من فلق فِيهِ وخطّ علي بن أبي طالب - عليه السلام - بيده ، فيه والله جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة حتى أنّ فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة».

ويقول سليمان بن خالد : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً إملاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وخطّ عليّ - عليه السلام - بيده ، ما من حلال ولا حرام إلاّ وهو فيها حتى أرش الخدش».

ويقول أبو جعفر الباقر - عليه السلام - لبعض أصحابه : «يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» (1).

ص : 362


1- وقد جمع العلاّمة المجلسي ما ورد من الأثر حول كتب الإمام عليّ في موسوعته «بحار الأنوار» : 26 / 18 - 66 تحت عنوان «باب جهات علومهم وما عندهم من الكتب» فلاحظ الباب ، الحديث 12 ، 1 ، 10 ، 30.
3. الاستنباط من الكتاب والسنّة :

المصدر الثالث لأقوالهم ، هو إمعانهم في الكتاب والسنّة وتدبّرهم فيهما ، فاستخرجوا من المصدرين الرئيسيين ما يخصّ العقيدة والشريعة بصورة يقصر عنها أكثر الأفهام ، وهذا هو الذي جعلهم متميّزين بين المسلمين بالوعي والدقّة والفهم ، وخضع لهم أئمّة الفقه في مواقف شتّى حتى قال الإمام أبو حنيفة بعد تتلمذه على الإمام الصادق «سنتين» : لو لا السنتان لهلك النعمان. ولأجل ذلك كانوا يستدلّون على كثير من الأحكام عن طريق الكتاب والسنّة ويقولون : «ما من شيء إلاّ وله أصل في كتاب الله وسنّة نبيّه».

أخرج الكليني باسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : سمعته يقول : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكلّ شيء حدّاً. وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».

أخرج الكليني باسناده عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : سمعته يقول : «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة».

وأخرج عن سماعة عن أبي الحسن موسى - عليه السلام - قال : قلت له : أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه أو تقولون فيه؟ قال : «بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه». (1)

ومن وقف على الأحاديث المروية عنهم يقف على أنّهم كيف يستدلّون على الأحكام الإلهية عن المصدرين بفهم خاص ووعي متميّز يبهر العقول ، ويورث

ص : 363


1- راجع الكافي : 1 / 6259 «باب الرد إلى الكتاب والسنّة» تجد فيه أحاديث تصرّح بما ذكر ، والمراد منها أُصول الأحكام وجذورها لا فروعها وجزئياتها.

الحيرة. ولو لا الخوف من الإطالة لنقلت في المقام نماذج من ذلك ونكتفي ببيان موردين :

1. قُدِّم إلى المتوكّل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، وقال بعضهم : يُضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الإمام الهادي يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : يُضرب حتى يموت ، فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلّة ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (1) فأمر به المتوكّل فضرب حتى مات. (2)

إنّ الإمام الهادي ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم ، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره ، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصّاً لدلالته ، لا يلتفت إليه إلاّ من نزل القرآن في بيته ، وليس هذا الحديث غريباً في مورده ، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه - عليهم السلام -.

2. لمّا سمّ المتوكّل نذر لله : إن رزقه الله العافية أن يتصدّق بمال كثير ، أو بدراهم كثيرة. فلمّا عوفي اختلف الفقهاء في مفهوم «المال الكثير» فلم يجد المتوكّل عندهم فرجاً ، فبعث إلى الإمام عليّ الهادي فسأله؟ قال : يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً ، فقال المتوكل : من أين لك هذا؟ فقال : من قوله تعالى : (لَقَدْ

ص : 364


1- غافر : 84 - 85.
2- مناقب آل أبي طالب : 4 / 405.

نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ...). (1)

والمواطن الكثيرة : هي هذه الجملة ، وذلك لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - غزا سبعاً وعشرين غزوة ، وبعث خمساً وخمسين سرية ، وآخر غزواته يوم حنين ، وعجب المتوكل والفقهاء من هذا الجواب. (2)

وقد ورد عن طريق آخر أنّه قال «بثمانين» مكان «ثلاثة وثمانين» وذلك لأنّ عدد المواطن التي نصر الله المسلمين فيها إلى يوم نزول هذه الآية كان أقلّ من ثلاثة وثمانين. (3)

4. الإشراقات الإلهية :

إنّ هناك مصدراً رابعاً لأحاديثهم نعبّر عنه بالإشراقات الإلهية ، وأيّ وازع من أن يخصّ سبحانه بعض عباده بعلوم خاصّة يرجع نفعها إلى العامّة من دون أن يكونوا أنبياء ، أو معدودين من المرسلين ، والله سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) ولم يكن المصاحب نبيّاً بل كان وليّاً من أولياء الله سبحانه وتعالى بلغ في العلم والمعرفة مكاناً حتى قال له موسى - وهو نبيّ مبعوث بشريعة - : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً). (4)

يصف سبحانه وتعالى جليس سليمان - آصف بن برخيا - بقوله : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا

ص : 365


1- التوبة : 25.
2- تذكرة الخواص : 202.
3- مناقب آل أبي طالب : 4 / 402.
4- الكهف : الآية 66.

عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي). (1)

وهذا الجليس لم يكن نبيّاً ، ولكن كان عنده علم من الكتاب ، وهو لم يحصّله من الطرق العاديّة التي يتدرّج عليها الصبيان والشبان في المدارس والجامعات ، بل كان علماً إلهياً أُفيض إليه لصفاء قلبه وروحه ، ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه ويقول : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي).

تضافرت الروايات على أنّ في الأُمّة الإسلامية - مثل الأُمم السابقة - رجالاً مخلصين محدَّثين تفاض عليهم حقائق من عالم الغيب من دون أن يكونوا أنبياء ، وإن كنت في شكّ من ذلك فارجع إلى ما رواه أهل السنّة في هذا الموضوع.

روى البخاري في صحيحه : لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فعمر. (2)

قال القسطلاني ليس قوله : «فإن يكن» للترديد بل للتأكيد كقولك : إن يكن لي صديق ففلان ، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء.

وإذا ثبت أنّ هذا وجد في غير هذه الأُمّة المفضولة فوجوده في هذه الأُمّة الفاضلة أحرى. (3)

وأخرج البخاري في صحيحه بعد حديث الغار : عن أبي هريرة مرفوعاً : أنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأُمم محدَّثون إن كان في أُمّتي هذه منهم فإنّه عمر ابن الخطاب. (4)

ص : 366


1- النمل : 40.
2- صحيح البخاري : 2 / 149.
3- إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 6 / 99.
4- صحيح البخاري : 2 / 171.

قال القسطلاني في شرحه : قال المؤلف : يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة. (1)

وقال الخطابي : يُلقى الشيء في روعه ، فكأنّه قد حُدِّث به يظن فيصيب ، ويخطر الشيء بباله فيكون ، وهي منزلة رفيعة من منازل الأولياء.

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : قد كان في الأُمم قبلكم محدَّثون فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم.

ورواه ابن الجوزي في «صفة الصفوة» وقال : حديث متّفق عليه. (2)

وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في «مشكل الآثار» بطرق شتى عن عائشة وأبي هريرة ، وأخرج قراءة ابن عباس : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدّث. قال : معنى قوله محدَّثون أي ملهمون ، فكان عمر - رضى الله عنه - ينطق بما كان ينطق ملهماً. (3)

قال النووي في شرح صحيح مسلم : اختلف تفسير العلماء للمراد بمحدّثون فقال ابن وهب : ملهمون ، وقيل : مصيبون إذا ظنّوا فكأنّهم حُدِّثوا بشيء فظنّوه. وقيل : تكلّمهم الملائكة ، وجاء في رواية : مكلّمون. وقال البخاري : يجري الصواب على ألسنتهم وفيه إثبات كرامات الأولياء.

وقال الحافظ محبّ الدين الطبري في «الرياض» : ومعنى «محدّثون - والله أعلم - أي يلهمون الصواب ، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدّثهم الملائكة لا

ص : 367


1- إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري : 5 / 431.
2- صفة الصفوة : 1 / 104.
3- مشكل الآثار : 2 / 257.

بوحي وإنّما بما يطلق عليه اسم حديث ، وتلك فضيلة عظيمة». (1)

قال القرطبي : محدَّثون - بفتح الدال - اسم مفعول جمع محدَّث - بالفتح - أي ملهم أو صادق الظن ، وهو من أُلقي في نفسه شيء على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى ، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد ، أو تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ، أو من إذا رأى رأياً أو ظنّ ظنّاً أجاب كأنّه حدّث به ، وأُلقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له ، وهذه كرامة يكرم الله بها من شاء من عباده ، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء.

فإن يكن من أُمّتي منهم أحد فإنّه عمر ، كأنّه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنّه نبيّ ، فلذلك أتى بلفظ «إن» بصورة التردّد. قال القاضي : ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص قولك : إن كان لي صديق فهو زيد ، فإنّ قائله لا يريد به الشكّ في صداقته بل المبالغة في أنّ الصداقة مختصّة به لا تتخطّاه إلى غيره. (2)

فإذا كان في الأُمم السالفة رجال بهذا القدر والشأن فلِمَ إذاً لا يكون بين الأُمّة الإسلامية رجال شملتهم العناية الإلهية فأحاطوا بالكتاب والسنّة إحاطة كاملة يرفعون حاجات الأُمّة في مجال العقيدة والتشريع.

فمن زعم أنّ مثل هذه الإفاضة تساوق النبوّة والرسالة ، فقد خلط الأعم بالأخصّ فالنبوّة منصب إلهيّ يقع طرفاً للوحي يسمع كلام الله تعالى ويرى رسول الوحي ، ويكون إمّا صاحب شريعة مستقلّة أو مروّجاً لشريعة من قبله.

وأمّا الإمام : وهو الخازن لعلوم النبوّة في كل ما تحتاج إليه الأُمّة من دون أن

ص : 368


1- الرياض : 1 / 199.
2- لاحظ للوقوف على سائر الكلمات حول المحدّث ، كتاب الغدير : 5 / 42 - 49.

يكون طرفاً للوحي أو سامعاً كلامه سبحانه أو رائياً للملك الحامل له. ولإحاطته بعلوم النبوّة طرقاً أشرنا إليها.

ومن التصوّر الخاطئ : الحكم بأنّ كل من أُلهم من الله سبحانه أو كلّمه الملك فهو نبيّ ورسول ، مع أنّ الذكر الحكيم يعرّف أُناساً ، أُلهموا أو رأوا الملك ولم يكونوا بالنسبة إلى النبوّة في حلّ ولا مرتحل.

هذه أُمّ موسى يقول في حقّها سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). (1)

أفصارت أُمّ موسى بهذا الإلهام نبيّة من الأنبياء؟

وهذه مريم البتول ، تكلّمها الملائكة من دون أن تكون نبيّة قال سبحانه : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ * يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ...). (2)

بلغت مريم العذراء مكاناً شاهدت رسول ربّها المتمثَّل لها بصورة البشر قال سبحانه : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا * قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا). (3)

نرى أنّ مريم البتول رأت الملك وسمعت كلامه ولم تصبح نبيّة ولا رسولة ، فمن تدبّر في الكتاب والسنّة يقف على أبدال شملتهم العناية الإلهية وقفوا على أسرار الشريعة ومكامن الدين بفضل من الله سبحانه من دون أن يصيروا أنبياء.

ص : 369


1- القصص : 7.
2- آل عمران : 42 - 43.
3- مريم : 2117.
2- عصمة الأئمّة الاثني عشر

إنّ القول بعصمة الأئمّة الاثني عشر وقعت ذريعة لتخيّل أنّهم أنبياء ، زاعمين بأنّ العصمة تساوي النبوّة ، غافلين عن أنّها أعمّ من النبوّة وإليك البيان :

العصمة : قوّة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ ، حيث لا يترك واجباً ، ولا يفعل محرّماً مع قدرته على الترك والفعل ، وإلاّ لم يستحقّ مدحاً ولا ثواباً ، وإن شئت قلت : إنّ المعصوم قد بلغ في التقوى حدّاً لا تتغلّب عليه الشهوات والأهواء ، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبة لا يخطأ معها أبداً.

وليست العصمة شيئاً ابتدعته الشيعة وإنّما دلّهم عليها في حق العترة الطاهرة كتاب الله وسنّة رسوله ، أمّا الكتاب :

فقد قال سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (1) وليس المراد من الرجس إلاّ الرجس المعنوي وأظهره هو الفسق.

وأمّا السنّة فنذكر بعضها :

ص : 370


1- الأحزاب : 33.

1 - قال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - : «عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه كيفما دار». (1) ومن دار معه الحقّ كيفما دار محال أن يعصي أو أن يخطأ.

2 - وقال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في حقّ العترة : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً». (2) فإذا كانت العترة عدل القرآن ، تصبح معصومةً كالكتاب ، لا يخالف أحدهما الآخر وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلّهم عدول.

ولا أظنّ أن يرتاب فيما ذكرنا أحد ، إلاّ أنّ اللازم التعرّف على أهل بيته عن طريق نصوص الرسول الأكرم فنقول : من هم العترة وأهل البيت؟

لا أظنّ أنّ أحداً ، قرأ الحديث والتاريخ ، يشكّ في أنّ المراد من العترة وأهل البيت لفيف خاصّ من أهل بيته ، ويكفي في ذلك مراجعة الأحاديث التي جمعها ابن الأثير في جامعه عن الصحاح ، ونكتفي بالقليل من الكثير منها.

روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال : لمّا نزلت هذه الآية : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ...) الآية ، دعا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عليّاً ، وفاطمة ، وحسناً ، وحسيناً ، فقال : «اللهمّ هؤلاء أهلي».

وروى أيضاً عن أُمّ سلمة - رضي الله عنها - : إنّ هذه الآية نزلت في بيتي : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

قالت : وأنا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله ، ألستُ من أهل البيت؟ فقال : إنّك إلى خير ، أنت من أزواج رسول الله. قال : وفي البيت رسول الله ،

ص : 371


1- حديث مستفيض ، رواه الخطيب في تاريخه : 14 / 321 ، والهيثمي في مجمعه : 7 / 236.
2- حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده : 2 / 114 وغيرهم.

وعليّ ، وفاطمة ، وحسن ، وحسين ، فجلّلهم بكسائه وقال : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً».

وروي أيضاً عن أنس بن مالك : أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يمرُّ بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريباً من ستة أشهر ، يقول : «الصلاة أهل البيت» : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وروى مسلم عن زيد بن أرقم قال : قال يزيد بن حيّان : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم ، إلى زيد بن أرقم ، فلمّا جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وسمعت حديثه ، وغزوت معه ، وصلّيت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً ، حدّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟

قال : يا ابن أخي والله ، لقد كبر سنّي ، وقدم عهدي ، فما حدّثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلّفونيه. ثم قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً ، بين مكّة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ثم قال :

«أمّا بعد ، ألا أيّها الناس ، إنّما أنّا بشر ، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأُجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به - فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ، ثمّ قال : - وأهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي ، أُذكّركم الله في أهل بيتي».

فقلنا : من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال : وأيم الله ، إنّ المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ، ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها ، أهل بيته أصله وعصبته

ص : 372

الذين حرموا الصدقة بعده. (1)

3. روى المحدّثون عن النبيّ الأكرم أنّه قال : «إنّما مثل أهل بيتي في أُمّتي ، كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق». (2)

فشبّه - صلوات الله عليه وآله - أهل بيته بسفينة نوح في أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ أُصوله وفروعه منهم نجا من عذاب النار ، ومن تخلّف عنهم كان كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله غير أنّ ذاك غرق في الماء وهذا في الحميم.

فإذا كانت هذه منزلة علماء أهل البيت (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)؟

يقول ابن حجر في صواعقه : «ووجه تشبيههم بالسفينة : أنّ من أحبّهم وعظّمهم ، شكراً لنعمة مشرّفهم وأخذاً بهدي علمائهم ، نجا من ظلمة المخالفات. ومن تخلّف عن ذلك ، غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان». (3)

ص : 373


1- لاحظ فيما نقلناه من الأحاديث ، جامع الأُصول : 1 / 100 - 103 الفصل الثالث ، من الباب الرابع.
2- مستدرك الحاكم : 2 / 151 ؛ الخصائص الكبرى : 2 / 266. وللحديث طرق ومسانيد كثيرة من أراد الوقوف عليها ، فعليه بتعاليق إحقاق الحق : 9 / 270 - 293.
3- الصواعق : 191 الباب 11. يقول سيدنا شرف الدين في مراجعاته : راجع كلامه هذا لما ذا لم يأخذ - ابن حجر - بهدي أئمتهم في شيء من فروع الدين وعقائده ، ولا في شيء من أُصول الفقه وقواعده ، ولا في شيء من علوم السنّة والكتاب ، ولا في شيء من الأخلاق والسلوك والآداب؟ ولما ذا تخلّف عنهم ، فأغرق نفسه في بحار كفر النعم ، وأهلكها في مفاوز الطغيان؟! لاحظ المراجعات : 25 ، المراجعة 8.

عصمة الإمام في الكتاب

وممّا يدلّ على عصمة الإمام على وجه الإطلاق قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). (1)

والاستدلال مبنيّ على دعامتين :

1. إنّ الله سبحانه أمر بطاعة أُولي الأمر على وجه الإطلاق ، أي في جميع الأزمنة والأمكنة وفي جميع الحالات والخصوصيات ، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما هو مقتضى الآية.

2. إنّ من البديهي أنّه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ).

من غير فرق (2) بين أن يقوم به العباد ابتداءً من دون تدخّل أمر آمر أو نهي ناه ، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من أُولي الأمر.

فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين : وجوب إطاعة أُولي الأمر على وجه الاطلاق وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان ، وأن يتّصف أُولو الأمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الإطلاق ، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربّانية ، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلاّ عبارة أُخرى عن كونهم معصومين ، وإلاّ فلو كانوا غير واقعين تحت العناية ، لما صحّ الأمر بإطاعتهم على وجه الاطلاق ولما صحّ الأمر بالطاعة بلا قيد وشرط. فيستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة.

ص : 374


1- النساء : 59.
2- الزمر : 7.

هذه الآية تدلّ على عصمة من أمر الله بطاعتهم ولا تحدد مصداق المعصوم الواجب طاعته ، ولكن اتّفقت الأُمّة على عدم عصمة غير النبي والأئمّة الاثني عشر ، فلا محيص عن انطباقه عليهم لئلاّ تخلو الآية عن المصداق.

وممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الإمام الرازي في تفسيره ويطيب لي أن أذكر نصّه حتى يمعن فيه من يعشق الحقيقة قال :

«إنّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع ، لا بدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيٌ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وأنّه محال فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم وثبت أنّ كلّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ وأن يكون معصوماً». (1)

وهذه الأدلّة والبراهين على لزوم اتّباع أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - لا تبقي شكّاً لمشكّك ولا جدلاً لمجادل ، ويفرض على المسلمين الرجوع إليهم فيما لا نصّ فيه في كتاب أو سنّة ، ولكن - مع الأسف الشديد - نجد انّ جماهير أهل السنّة ولجوا كلّ باب إلاّ باب أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - في الأُصول والفروع حتّى بلغ الأمر إلى حد أثار تعجب الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر الأسبق من عدول أهل السنة عنهم ، والتوجه إلى غيرهم ويقول : «فما ندري لما ذا عدل أهل القبلة عن أئمّة أهل البيت

ص : 375


1- مفاتيح الغيب : 10 / 144.

فلم يتعبدوا بمذاهبهم في شيء من الأُصول والفروع ، ولا وقفوا في المسائل الخلافية عند قولهم ، ولا كان علماء الأُمّة يبحثون عن رأيهم ، بل كانوا يعارضونهم في المسائل النظرية ولا يبالون بمخالفتهم ، وما برح عوام الأُمّة خلفاً عن سلف يرجعون في الدين إلى غير أهل البيت بلا نكير». (1)

ص : 376


1- المراجعات : المراجعة 17.

الفصل الثاني: الصحابة والمرجعية العلميّة بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

إنّ الصحابة هم الذين رأوا نور الوحي واستضاءوا به ، وصحبوا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وجاهدوا بين يديه ونشروا الإسلام وحملوا رايته خفّاقة ، كما تعلّموا منه العقيدة والشريعة في ظل تعلم القرآن والسنّة ، وأخذ منهم الخلف ، فلهم حقّ كبير على الأُمّة في حفظ الشريعة ونشرها.

ومع أنّهم بذلوا جهوداً كبيرة في تعلّم الدين وأحكام الشريعة ومعالمها ومعارفها ، ولكنّهم لم يستوعبوا كلّ ما تحتاج إليه الأُمّة عبْر القرون ، فهم وإن أخذوا من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - معالم دينهم ولكنّهم لم يبلغوا مستوى يؤهّلُهم لرفع حاجات الأُمّة في مختلف العصور.

ولعلّ القارئ يتلقّى ما ذكرنا دعوة بلا برهان نظراً للقداسة التي حظي بها الصحابة عبر القرون على نحو عرفوا بمراجع الدين في العقيدة والشريعة.

ولكنّه فكرة مرفوضة ، لأنّ التاريخ يشهد على خلافه ، وإليك نماذج من تلك الشواهد.

ص : 377

1- الإفتاء بالرأي

إنّ ردّ الفرع إلى الأصل ، واستخراج حكم الواقعة من الأُصول الكلية ، ليس إفتاءً بالرأي وإنّما هو إفتاء بالدليل وبالكتاب والسنّة ، غاية الأمر انّ الكتاب أدلى ، والسنّة أشارت إلى القاعدة ، والمستنبط يستخرج حكم الواقعة الجزئية من الضوابط الكلية ، وهذا هو الاجتهاد الصحيح الذي هو رمز بقاء الشريعة ولولاه لما قامت لخاتمية الإسلام دعامة ، ومن أنكره فإنّما ينكره بلسانه ويذعن به بقلبه.

إنّ الإفتاء بالمقاييس الظنية التي لم تثبت حجيتها بدليل قاطع هو الإفتاء بالرأي ، والصحابة بعد رحيل النبي إذا لم يجدوا في الواقعة المستجدة دليلاً من الكتاب والسنّة أفتوا بتلك المقاييس ، وربّما تشاوروا فأخذوا بالرأي الراجح المظنون انّه حكم الله سبحانه ، ومن المعلوم أنّ الإفتاء بهذا النوع من الرأي ، ليس إفتاءً بحكم الله سبحانه ، بل أشبه بالأحكام الوضعية الرائجة في الغرب غاية الأمر انّهم كانوا يلتجئون إلى هذا النوع من الحكم بعد اليأس عن وجود دليل في الكتاب والسنّة ، وإليك شواهد على ذلك.

1. عن ميمون بن مهران قال : كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يَقْضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب وعُلِمَ عن رسول الله في ذلك الأمر سنّة قضى بها ، فإن أعياه خرج ، فسأل المسلمين ،

ص : 378

فقال : أتاني كذا وكذا ، فهل علمتم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلّهم يذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه قضايا ، فيقول أبو بكر : الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ علينا علم نبيّنا ، فإن أعياه ان يجد فيه سنّة عن رسول الله ، جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به. (1)

وهذا اعتراف صريح من الخليفة بأنّ السنّة النبوية التي وعاها الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كانت غير وافية بالحاجات الفقهية ، ولذلك كان يعمد إلى الأخذ بالرأي والمقاييس الظنيّة لاستنباط حكم الموضوع ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الصحابة لم يكونوا بمنزلة ، تجعلهم مصادر الحكم ومراجع الدين على نحو تكون الشريعة مخزونة عندهم ، بل كانوا كسائر الناس في عدم المعرفة بالمستجدات وما ليس فيه نص معين وإن كانوا يتفاوتون عن الآخرين بصحبتهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأخذهم عنه قسماً من معالم الدين حسب ما سمح لهم الوقت.

2. نصب عمر بن الخطاب شريحاً قاضي بالكوفة وأوصاه على النحو التالي :

إن جاءك شيء من كتاب الله ، فاقض به ولا يُلفتك عنه الرجال ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ، فانظر سنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فاقض بها ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم تكن في سنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول الله ولم يتكلّم فيه أحد قبلك فاختر أيّ الأمرين شئت : إن شئت أن تجتهد برأيك فتُقدِّم ، وإن شئت ان تتأخر فتأخر ، ولا أرى التأخير إلاّ خيراً لك. (2)

ص : 379


1- دائرة المعارف لفريد وجدي : 3 / 212 ، مادة جهد.
2- دائرة المعارف لفريد وجدي : 3 / 212 مادة جهد.

فالمراد من قوله : «ان تجتهد برأيك» هو العمل بالمقاييس الظنية التي لم يدل عليه دليل ، وإلاّ فلو كان هناك دليل لما كان هناك حاجة إلى الرأي.

وممّا يدلّ على أنّ العمل بالرأي لم يكن عملاً بالدليل الشرعي ، بل كان تخلّصاً من المأزق ، انّ الإمام علياً - عليه السلام - لما ولى شريحاً على القضاء ، اشترط عليه ألاّ ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه ، وما ذلك إلاّ لأجل انّ الإمام كان واقفاً بأنّ بعض المعايير التي يقضي على ضوئها شريح ، ليست معايير شرعية فلذلك اشترط عليه العرض. (1)

3. يقول عبد الله بن مسعود : أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك ، وان الله قد قدر من الأمر ان قد بلغنا ما ترون ، فمن عرض له قضاء بعد اليوم ، فليقض فيه بما في كتاب الله عزّ وجلّ ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فليقض فيه بما قضى به الصالحون ، ولا يقل إنّي أخاف وإنّي أرى. (2)

وزاد مؤلف كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» : فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيُّه ولم يقض به الصالحون ، فليجتهد برأيه فإن لم يحسن فليقم ولا يستحيي. (3)

فهو على النصّ الأوّل نهي عن الإفتاء بالرأي ، بخلاف النصّ الثاني فقد أجاز الإفتاء به.

4. كان ابن عباس إذا سئل عن أمر : فإن كان في القرآن أخْبِر به ، وإن لم

ص : 380


1- الوسائل : 18 ، الباب 3 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 6.
2- دائرة المعارف لفريد وجدي : 3 / 212 - 213 ، مادة جهد.
3- تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية : 177.

يكن في القرآن وكان عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أخْبِر به ، فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر ، فإن لم يكن ، كان فيه رأيه. (1)

إنّ هذه العبارات ونظائرها من الاعترافات ، تستطيع أن تكشف عن مدى قصور الصحابة في أخذ التعاليم والأحكام الإسلامية عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

فهي تكشف بوضوح عن أنّ الصحابة كانوا يواجهون وقائع وحوادث جديدة لا يجدون لها حلولاً في الكتاب الكريم أو في ما تلقُّوه من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولذلك كانوا يحاولون استنباط حلول لها من غير الكتاب والسنّة.

نحن لا نلومهم في أخذ الرأي لوقوفهم على قصور ما بأيديهم من مصادر التشريع عن إغنائهم من الإفتاء بالرأي ، كيف وكلّ الأحاديث الصحيحة التي نقلها أعلام السنّة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الفروع لا تتجاوز 500 حديث.

قال السيد محمد رشيد رضا : إنّ أحاديث الأحكام والأُصول 500 حديث تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر. (2)

وما ذكره من الممدّات ، هي آثار موقوفة على الصحابة ، أو مراسيل ، لا يحتج بها.

وقال في تفسير المنار : يقولون إنّ مصدر القوانين الأُمة ، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة كما قرره الإمام الرازي ، والمنصوص قليل جداً. (3)

كيف يقول : إنّ مصدر القوانين في غير المنصوص هو الأُمّة أو ليس سبحانه وتعالى يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). (4)

ص : 381


1- دائرة المعارف لفريد وجدي : 3 / 213.
2- الوحي المحمدي : 217.
3- تفسير المنار : 5 / 189.
4- المائدة : 3.

ويصرح به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطابه التاريخي في حجة الوداع إذ يقول : «أيّها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلاّ وقد نهيتكم عنه». (1)

وقد أكد الإمام عليّ - عليه السلام - على هذه الحقيقة أي اكتمال الدين وغناء الأُمّة عن الرجوع إلى القوانين الوضعية التي مصدرها رأي نواب الأُمّة ، وقال : «أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له ، فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل الله سبحانه ديناً تاماً فقصّر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عن تبليغه وأدائه ، والله سبحانه يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وفيه تبيان لكلّ شيء). (2)

فإذا كان الله قد أكمل دينه فلا نقصان فيه ، والرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقصِّر عن تبليغه وأدائه ، وكانت الصحابة عاجزة عن حل المعضلات الجديدة التي تواجهها في حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، فمن المرجع والمفزع للمسلمين عند ذاك؟

ترى أنّ الكتاب والسنّة يحكمان بكمال الدين في كلّ ما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة في الأُصول والفروع ، في الحوادث الفعلية ، أو المستجدة وعندئذ كيف يمكن القول بأنّ مصدر القوانين هو الأُمّة وما هذه إلاّ امتداد لنفس الفكرة في عصر الصحابة لكن بنحو آخر حيث قام رأي الأُمّة ، مكانَ رأي الصحابي واجتهاده وسعيه في بيان حكم الواقعة.

إلى هنا تبيّن انّ الصحابة - مع الاعتراف بفضلهم - لم يستوعبوا الأحكام الشرعية ولذلك التجئوا إلى العمل بالرأي.

وهناك شواهد أُخرى على العمل بالرأي أعرضنا عن ذكرها مخافة الإطناب.

ص : 382


1- الكافي : 2 / 74.
2- نهج البلاغة : الخطبة رقم 18.

2- اعتراف الصحابة بقصور علمهم بالشريعة

إنّ هناك شواهد تاريخية تحفل بها كتب التاريخ والمعاجم على قصور علم جُلّ الصحابة عن الإحاطة بالأحكام ولذلك يرجع بعضهم إلى بعض ، وربما لا ينتهي إلى نتيجة ونذكر هنا نماذج :

1. روى ابن عساكر في تاريخه عن أبي عبيدة (بن عبد الله بن مسعود) قال : أرسل عثمان إلى أبي يسأله عن رجل طلّق امرأته ثمّ راجعها حين دخلت في الحيضة الثالثة ، فقال أبي : وكيف يفتي منافق؟ فقال عثمان : نعيذك بالله أن تكون منافقاً ، ونعوذ بالله أن نسمّيك منافقاً ، ونعيذك بالله أن تكون مثل هذا ، قال : أولى أنّه إذاً أحقّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، وتحل لها الصلاة.

قال : لا أعلم عثمان إلاّ أخذ بذلك. (1)

وذيل الرواية يدلّ على أنّ عثمان لم يكن جازماً بصحة ما أفتى به ابن مسعود ولكنّه أخذ به لأجل الضرورة ، فإذا كان هذا حال من جلس على منصَّة الحكم فما ظنك بغيره.

2. روى ابن عساكر في تاريخه عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي : أنّه أُتي في فريضة ابني عم ، أحدهما أخ لأُمّ فقالوا : أعطاه ابن مسعود المال كلّه ، فقال : يرحم الله ابن مسعود ، إن كان لفقيهاً لكني أعطيه سهم الأخ من الأُمّ من قبل أُمّه ،

ص : 383


1- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 150.

ثمّ أقسم المال بينهما. (1)

3. روى ابن عساكر في تاريخه عن أبي عمرو الشيباني قال : أتى رجل ابن مسعود ، فقال : في حجري بنت عم لي ، وإن امرأتي خافتني عليها فأرضعتْها ، فقال : سألت أحداً قبلي؟ قال : نعم ، أبا موسى ، فقال : حُرِّمتْ عليك ، قال : إنّه لا يقول شيئاً ، لا أُحرّم من الرضاع إلاّ ما أنبت اللحم والدم ، فأتيت أبا موسى فذكرت ذلك له ، فقال : لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم ، فو الله لقد رأيته ، وما رأيته إلاّ عبد آل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. (2)

4. روى ابن عساكر في تاريخه عن ابن عطية قال :

جاء رجل إلى أبي موسى فقال : إنّ امرأتي ورم ثديها فمصصتُ فدخل حلقي شيء فسبقني ، فشدّد عليه أبو موسى فأتى ابن مسعود فقال : سألت أحداً غيري ، قال : نعم ، أبا موسى ، فشدّد عليّ وقال : فأتى أبا موسى ، فقال له : أرضيع هذا؟ فقال أبو موسى : لا تسألون ما دام هذا الحبر بين أظهركم. (3)

هذا حال أبي موسى الأشعري الصحابي الكبير الذي اختير حكماً في وقعة صفين!

ويظهر من غير واحد من الروايات انّ عبد الله بن مسعود كان يختلف مع زيد بن ثابت في الفتيا والقراءة وقد قالوا : إنّ زيد بن ثابت أفرض الصحابة.

5. روى ابن عساكر عن أبي وائل عن عبد الله قال : لقد أخذتُ من في رسول الله بضعاً وسبعين سورة وانّ زيد بن ثابت له ذؤابة يلعب مع الغلمان. (4)

ص : 384


1- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 151.
2- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 151.
3- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 152.
4- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 135.

6. وفي رواية أُخرى خطب ابن مسعود على المنبر فقال : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) غُلاّ) (1) مصاحفكم ، كيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت؟ وقد قرأت من في رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بضعاً وسبعين سورة ، وانّ زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان ، والله ما نزل من القرآن إلاّ وأنا أعلم في أيّ شيء نزل ، ما أحد أعلم بكتاب الله مني ، وأما أنا خيركم ، ولو أعلم مكاناً تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته.

قال أبو وائل : فلمّا نزل عن المنبر جلست في الحِلَق فما أحد ينكر ما قال. (2)

وكم في غصون التاريخ شواهد كثيرة على اختلاف الصحابة بعضهم مع بعض في التشريع والقراءة وغير ذلك ، وهذا إن دل فإنّما يدلّ على عدم استيعابهم لأحكام الشريعة ومعالم الدين ، فكيف يكونوا مراجع الأحكام ومصادر التشريع ومنابع الحكم بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟!

ص : 385


1- آل عمران : 161.
2- تاريخ مدينة دمشق : 33 / 136.

3- قلة معرفتهم بالأحكام

إنّ تاريخ الفقه سجل أُموراً يكثر بها الابتلاء ومع ذلك لم يكن عند الصحابة حلول واضحة لها ، لذلك تشبّثوا بالمقاييس والظنون ولنذكر أمثلة :

1. لقد شغلتْ مسألةُ العول بالَ الصحابة فترة من الزمن ، ويُعنى به أن تقصر التركة عن سهام ذوي الفروض ولا تقصر غالباً إلاّ بدخول الزوج أو الزوجة في الورثة كما في المثال التالي :

إذا ترك الميت زوجة وأبوين وبنتين ، ففرض الزوجة هو الثمن ، وفرض الأبوين هو السدسان ، وفرض البنتين الثلثان مع أنّ التركة لا تسع للثمن والسدسين والثلثين.

أو إذا ماتت امرأة وتركت زوجاً وأُختين للأب ، ففرض الزوج النصف ، وفرض الأُختين الثلثان ، فحينئذ زادت السهام عن التركة.

وقد واجه الصحابة هذه المسألة ، فاختلفوا على قولين :

أ: إدخال النقص على من له فريضة واحدة في القرآن وذلك كالأب والبنتين والأُختين دون من له فريضتان في الكتاب لاستحالة أن يجعل الله في المال ثمناً وسدسين وثلثين ، كما أنّه محال أن يجعل فيه نصفاً وثلثين وإلاّ كان المشرع جاهلاً أو عابثاً ، تعالى عن ذلك. وهذا ما كان عليه الإمام عليّ - عليه السلام - وحبر الأُمّة

ص : 386

ابن عباس وغيرهما.

ب : ما اختاره الخليفة عمر بن الخطاب بعد ما تحيّر وقال : والله ما أدري أيّكم قدَّم الله وأيكم أخّر ، ولكنّي لا أجد شيئاً هو أوسع لي من أن أقسم المال عليكم بالحصص وادخل على ذي حقّ ما أدخل عليه من عول الفريضة. (1)

وكم لهذه المسألة (العول) من نظير في حياة الصحابة :

2. سأل رجل عمر بن الخطاب عن رجل طلق امرأته في الجاهلية تطليقتين وفي الإسلام تطليقة ، فهل يحسب ذلك ثلاثَ تطليقات؟ فقال عمر : لا آمرك ولا أنهاك ، وقد احتاط الخليفة في الإفتاء وعمل بالوظيفة لكن ابنه عبد الرحمن بن عمر ، قال : لكنّي آمرك ليس طلاقك في الشرك بشيء. (2)

ولم يذكر دليل حكمه وقضائه.

3. روى الشعبي قال : اختلف علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان وابن عباس في جد وأُمّ وأُخت لأب وأُمّ ؛ فقال علي : للأُخت النصف ، وللأُمّ الثلث ، وللجدّ السدس ؛ وقال ابن مسعود : للأُخت النصف ، وللأُمّ السدس ، وللجدّ الثلث ؛ وقال عثمان : للأُمّ الثلث ، وللأُخت الثلث ، وللجدّ الثلث ؛ وقال زيد : هي على تسعة أسهم ، للأُمّ الثلث ثلاثة ، وما بقي فثلثان للجدّ ، والثلث للأُخت ؛ وقال ابن عباس : للأُمّ الثلث ، وما بقي فللجد وليس للأُخت شيء. (3)

4. روى عكرمة قال : أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج

ص : 387


1- أحكام القرآن للجصاص : 2 / 114.
2- كنز العمال : 5 / 161.
3- كنز العمال : 11 / 68.

وأبوين؟ فقال : للزوج النصف ، وللأُمّ الثلث ممّا بقي ، وللأب الفضل ، فقال ابن عباس : أفي كتاب الله وجدتَه أم رأي تراه؟ قال : رأي أراه ، لا أرى ان أُفضل أُمّاً على أب ، وكان ابن عباس يجعل لها الثلث من جميع المال. (1)

5. ورد عن طريق أهل السنّة انّ زيد بن ثابت أفرض الصحابة. (2)

ولكن روى بكير بن أعين من أصحاب الإمام الباقر - عليه السلام - قال : دخل رجل على أبي جعفر الباقر - عليه السلام - فسأله عن امرأة تركت زوجها واخوتها لأُمّها وأختاً لأب ، قال أبو جعفر : «للزوج النصف ثلاثة أسهم ، وللإخوة من الأُمّ الثلث سهمان ، وللأُخت للأب سهم» فقال له الرجل : فإنّ فرائض زيد وابن مسعود وفرائض العامة والقضاة على غير ذا يا أبا جعفر ، يقولون : للأب والأُمّ ثلاثة أسهم نصيب من ستة يعول إلى ثمانية؟ فقال أبو جعفر - عليه السلام - : «ولم قالوا ذلك؟» قال : لأنّ الله قال : (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ).

فقال أبو جعفر : «فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجون بأمر الله فإنّ الله سمّى لها النصف وإن الله سمّى للأخ الكل ، فالكلّ أكثر من النصف ، فإنّه قال : (فَلَهَا النِّصْفُ) وقال للأخ : (وَهُوَ يَرِثُها) يعني جميع المال إن لم يكن لها ولد ، فلا تعطون الذي جعل له الجميع في بعض فرائضكم شيئاً وتعطون الذي جعل الله له النصف تاماً». (3)

6. أُتي عمر بن الخطاب بخمسة نفر أُخذوا في زنا ، فأمر أن يقام على كلّ

ص : 388


1- المصدر نفسه : 43.
2- السنن الكبرى : 6 / 210.
3- البحار : 101 / 346 ، الباب 5 من أبواب الميراث ، ح 25.

واحد منهم الحدّ ، وكان أمير المؤمنين على - عليه السلام - حاضراً ، فقال : «يا عمر ، ليس هذا حكمهم» قال عمر : فأقم أنت عليهم الحكم. فقدّم واحداً منهم فضرب عنقه ، وقدّم الثاني فرجمه حتى مات ، وقدّم الثالث فضربه الحدّ ، وقدّم الرابع فضربه نصف الحدّ ، وقدّم الخامس فعزّره. فتحيّر الناس وتعجّب عمر!!

فقال : يا أبا الحسن خمسة نفر في قضية واحدة ، أقمت عليهم خمس حكومات (أي أحكام) ليس فيها حكم يُشبه الآخر؟

فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - : «نعم ، أمّا الأوّل ، فكان ذمياً وخرج عن ذمّته فكان الحكم فيه السيف.

وأمّا الثاني : فرجل محصن قد زنا فرجمناه.

وأمّا الثالث : فغير محصن ، زنا فضربناه الحد.

وأمّا الرابع : فرجل عبد زنا فضربناه نصف الحدّ.

وأمّا الخامس : فمجنون مغلوب على عقله عزّرناه».

فقال عمر : لا عشت في أُمّة لست فيها يا أبا الحسن. (1)

هذه نماذج قليلة من الموارد التي لم يرد فيها نصّ صريح ، وقد واجهتها كبار الصحابة بعد وفاة النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وعجزوا عن حلّ معضلاتها ممّا يدلّ بوضوح على أنّه لو كان الصحابة مستوعبين لكلّ أحكام الشريعة وأبعادها ، لأجابوا عليها دون تحير أو تردد. ويثبت انّ المرجع العلمي على الإطلاق ، أعني : الذين يعلمون كلّ الأحكام بلا تحيّر وتردد ، غيرهم.

ص : 389


1- الكافي : 7 / 265 ، الحديث 26.

4- اختلافهم فيما يكثر الابتلاء به

إنّ أدلّ دليل على عدم استيعابهم للسنّة النبوية ، اختلافهم في أبسط المسائل التي يعمل بها المسلمون كلّ يوم وليلة ، أعني : كيفية صلاة الميت ، فهل يصلى عليه بخمس أو بالأربع فقد قال زيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان انّها خمس تكبيرات (1) ، وقد كبر عليّ - عليه السلام - على سهل بن حنيف خمساً. (2)

وكان أصحاب معاذ يكبرون على الجنازة خمساً. (3) وعليه أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ، وقال الإمام الباقر - عليه السلام - كبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (4) خمساً.

وسئل الصادق - عليه السلام - عن التكبير على الميت فقال خمس. (5)

وقال الفقهاء الأربعة والثوري والأوزاعي وداود وأبو ثور التكبير أربع ، ورووه عن الحسن بن علي - عليهما السلام - وأخيه محمد بن الحنفية ، وعمر ، وابن عمر ، وزيد ، وجابر ، وأبي هريرة ، والبراء بن عازب ، وعتبة بن عامر ، وعطاء بن أبي رباح ، لأنّ

ص : 390


1- المجموع : 5 / 231.
2- المغني : 2 / 387 ؛ الشرح الكبير : 2 / 349 نقلاً عن سعيد في سننه.
3- سنن البيهقي : 4 / 37 ؛ مصنف ابن أبي شيبة : 3 / 303.
4- التهذيب : 3 / 315 ، الحديث 977.
5- الكافي : 3 / 184 ، الحديث 3.

رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نعى النجاشي للناس وكبّر بهم أربعاً. (1)

وفي مقابل هاتين الطائفتين قال محمد بن سيرين (2) وأبو الشعثاء جابر بن زيد انّه يُكبّر ثلاثاً ، ورواه الجمهور عن ابن عباس. (3)

وقال عبد الله بن مسعود : يكبر ما كبر الإمام أربعاً وخمساً وسبعاً وتسعاً. (4)

وعن أحمد روايات : إحداها : يكبر أربعاً ، والأُخرى يتابع الإمام إلى خمس ، وأُخرى يتابعه إلى سبع. (5)

ومن حاول أن يقف على اختلافهم في عدد التكبيرات على الميت فليرجع إلى «السنن الكبرى» للبيهقي فقد جمع عدداً كبيراً من الروايات الواردة حول التكبير على الميت تحت باب عدد التكبير في صلاة الجنائز والبابين التاليين. (6) وإذا كان هذا حال هذه المسألة فما ظنك بسائر المسائل التي لا يكثر الابتلاء بها.

ولا يقتصر اختلافهم عند هذا الحد بل تعداه إلى الاختلاف في تفسير الآيات التي تتضمن بيان الأحكام ، فلنأت بنماذج :

1. قال سبحانه في آية الوضوء : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). (7)

ص : 391


1- صحيح البخاري : 2 / 92 و 112 ؛ صحيح مسلم : 2 / 656 و 951 ؛ سنن الترمذي : 3 / 342 ؛ سنن أبي داود : 3 / 212 ؛ سنن النسائي : 4 / 72 ؛ والموطأ : 1 / 226.
2- المجموع : 5 / 231 ؛ المحلى : 5 / 127.
3- المغني : 2 / 389 ؛ المجموع : 5 / 231 ؛ المحلّى : 5 / 127.
4- المغني : 2 / 388.
5- المغني : 2 / 387 - 388 ؛ الشرح الكبير بهامش المغني : 2 / 349 ؛ المجموع : 5 / 231.
6- سنن البيهقي : 4 / 35 - 38.
7- المائدة : 6.

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية ، وصارت الأُمّة إلى قولين :

فمن عاطف لفظ «أرجلكم» على الرءوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل ، فأي الرأيين هو الصحيح؟!

2. لقد حكم الله تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي ، حيث قال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما). (1)

وقد اختلفت الأُمّة في مقدار القطع وموضع اليد.

فمن قائل : انّ القطع من أُصول الأصابع دون الكف وترك الإبهام ، كما عليه الإمامية وجماعة من السلف.

ومن قائل : انّ القطع من الكوع ، وهو المفصل بين الكف والذراع ، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعي.

ومن قائل : انّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج. (2)

هذه نماذج من اختلافاتهم في حقل التفسير.

ص : 392


1- المائدة : 38.
2- راجع الخلاف للطوسي كتاب السرقة : 184.

5- المرجع العلمي وأصناف الصحابة

نفترض انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ارتحل وجعل أصحابه المرجع العلمي بعده لاستنطاق الكتاب والسنّة وبيان معالم الشريعة ، ولكن الصحابة كانوا على أصناف.

فصنف منهم هم المهاجرون والأنصار أهل الجهاد والإنفاق.

وصنف آخر يشمل الأعراب والطلقاء والمنافقين.

فهل المرجع العلمي هو صنف خاص أو يعم جميع الأصناف؟

فعلى الأوّل ما هو سماتهم وصفاتهم ، وعلى الثاني فيعم الأعراب والطلقاء والمنافقين ومن رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مرّة واحدة ، فهل يمكن أن يكون هؤلاء مراجع العلم؟!

وحصيلة الكلام : انّه لو كانت المرجعية العلمية بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو أصحابه لكان على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يحدّدهم صنفاً ووصفاً.

ثمّ إنّ طائفة كبيرة من الصحابة اتهموا بالنفاق وقد سجّل وصفهم بالنفاق في المعاجم ، كما أنّ طائفة كبيرة منهم لم يُحسنوا الصحبة ومع ذلك كيف يكونون مراجع الفتيا؟! نظير :

1. احمد بن قيس الأنصاري ، قيل انّه صاحب الجمل الأحمر ، وقد قال في

ص : 393

حقّه النبي : كلّكم مغفور له إلاّ صاحب الجمل الأحمر. رواه مسلم. (1)

2. الحرقوص بن زهير السعدي شهد الرضوان لكنّه كان رأس الخوارج ، وهو الذي قال للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : اعدل يا محمد.

3. الحارث بن سويد بن الصامت ، عدّه ابن حزم من المتهمين بالنفاق ويظهر له براءته فقد شهد بدراً لكنّه قتل المجذر بن زياد يوم أحد لثأر جاهلي فأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقتل الحارث بالمجذر.

4. العرنيون الذين قتلهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جزاء على فعلهم بقتل بعض الرعاة وسرقة الإبل ، كانوا قد صحبوا قبل الحديبية.

5. محلم بن جثامة ، وقد قال فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة ، ولم يكن منافقاً لكنّه قتل صحابياً متعمّداً.

6. مقيس بن صبابة ، قتل نفساً مؤمنة فأهدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دمه ، فقتل في فتح مكة.

7. عبد الله بن خطل ، كان صحابياً ثمّ ارتد ولحق بمكة وقتل يوم فتح مكة.

8. المغيرة بن شعبة ، اتّهم بالنفاق في غزوة الطائف ، وساءت سيرته بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

9. مدعم مولى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي غلّ من غنائم خيبر.

10. كركرة مولى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غلّ من غنائم خيبر أيضاً.

11. سمرة بن جندب ، لم يؤثر عنه نفاق لكنّه أساء السيرة بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فكان يبيع الخمر ويقتل البشر ويُرضي معاوية في سخط الخالق.

ص : 394


1- صحيح مسلم ، ح 8 ، كتاب صفات المنافقين ، ص 123 ، وليس في الرواية ما يدلّ على انّه كان منافقاً ، وإنّما ذكره مسلم في ذلك الباب لصيانة عدالة الصحابة

12. عبيد الله بن جحش الأسدي كان من السابقين إلى الإسلام ومن مهاجرة الحبشة لكنّه تنصّر بالحبشة.

13. الحارث بن ربيعة بن الأسود القرشي افتتن وارتد بمكة.

14. علي بن أُميّة بن خلف افتتن بمكة.

15. العاص بن المنبه بن الحجاج افتتن بمكة وقتل ببدر مع المشركين.

16. الوليد بن عقبة الذي وصفه القرآن الكريم بالفسق في سورة الحجرات عند قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا). (1)

17. مسلم بن عقبة الأشجعي الذي أباح القتل والنهب في المدينة المنورة ثلاثة أيام في سنة 63 ه.

18. بسر بن أبي أرطاة الذي ذبح ولدي عبيد الله بن العباس.

19. معاوية بن أبي سفيان رأس الفئة الباغية وهو الذي قال في حقّه النبي مخاطباً عمار : «ويح عمار ، تقتلك الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار».

20. أبو الغالية قاتل عمار. (2)

هذه نماذج من الصحابة الذين لم يُحسنوا الصحبة ، وأمّا ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (3) وقوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ). (4)

وقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّ الله اطّلع على أهل بدر - إن كان الخبر صحيحاً - فكلّه مشروط بسلامة العاقبة ، ولا يجوز أن يخبر الحكيم فرداً غير معصوم بأنّه لا عقاب عليه فليفعل ما شاء.

وبعبارة أُخرى : كلّ ما ورد من الثناء على المهاجرين والأنصار في الكتاب

ص : 395


1- الحجرات : 6.
2- لاحظ كتاب : الصحبة والصحابة : 182 - 184.
3- الحجرات : 18.
4- الحجرات : 29.

العزيز فإنّما هو ثناء على مجموعهم لا على كلّ فرد فرد منهم وإن تبيّن فسقه وبانت زلّته ، وكم له في الذكر الحكيم من نظير :

1. انّه سبحانه أثنى على بني إسرائيل في غير واحد من الآيات وقال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (1)

2. وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). (2)

فليس لأحد أن يستدل بهذه الآيات على تنزيه كلّ فرد من بني إسرائيل.

3. وقال تعالى في حقّ أُمّة نبينا : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). (3)

فالآية تصف الأُمة المرحومة بأنّها خير أُمّة ولكنّها ليست بصالحة للاستدلال على صلاح كلّ مسلم وفلاحه ، وهل كلّ فرد من آحاد الأُمّة كذلك؟!

ونحن لم نزل نسمع عن كلّ من يحاول اثبات عدالة كلّ صحابي الاستدلال بهذه الآيات ولكنّهم غفلوا عن نكات :

الأوّل : انّ الآيات نزلت في حقّ المهاجرين والأنصار ، فأين هي من الأعراب والطلقاء والمرتدين والمنافقين المندسين في الصحابة؟!

الثانية : انّها ثناء على مجموعة ولا يخص كلّ فرد فرد منهم ، مثلاً إذا أُثني على الأُمة العربية فإنّما يراد المجموعة من الأُمة لا كلّ فرد فرد حتّى أُولئك الخونة الذين باعوا الأراضي الإسلامية بثمن بخس.

ص : 396


1- البقرة : 47.
2- الجاثية : 16.
3- آل عمران : 110.

6- المرجع العلمي وعدم تدوين الحديث و تفرق الصحابة

إنّ مرجعية الصحابة بعد رحيل النبي في حلّ المشاكل والمعضلات الطارئة في مختلف الأصعدة ، بمعنى مرجعية سنّة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - التي حدّث بها النبي أو شوهد منه فعل أو تقرير ، ولكنّها إنّما تُزيح العلة وترفع حاجات الأُمّة إذا كانت مدونة في ضمن صحف ورسائل حتّى يتيسّر رجوع بغاة العلم وأهل الفتيا إليها ، ولكنّها - وللأسف - لم تكن مدونة في عصره - صلى الله عليه وآله وسلم - بل حالت الخلافة ، بينها وبين تدوينها قرابة قرن ونصف - فبعد ما بلغ السيل الزُّبى واندرس العلم وأُبيد معظمُ الصحابة والتابعين فعند ذلك وقف المسلمون على الرزيّة الكبرى التي مُنوا بها ، فعادوا يتداركونه ببذل جهود حثيثة في تقييد شوارد الحديث.

يقول ابن الأثير : لما انتشر الإسلام ، واتسعت البلاد ، وتفرقت الصحابة في الاقطار ، وكثرت الفتوح ، ومات معظم الصحابة ، وتفرّق أصحابهم وأتباعهم وقلّ الضبط ، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة ولعمري انّها الأصل ، فانّ الخاطر يغفل ، والذهن يغيب ، والذكر يُهمِل والعلم يحفظ ولا

ص : 397

ينسى. (1)

يقول الذهبي : «في سنة مائة وثلاثة وأربعين شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريج بمكة ، ومالك الموطّأ بالمدينة ، والأوزاعي بالشام ، وابن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة ، ومعمر باليمن ، وسفيان الثوري بالكوفة ، وصنّف أبو إسحاق المغازي ، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي - إلى أن قال - وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلّمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة. (2)

أفيصحّ في منطق العلم ، اتهام صاحب الرسالة بعدم وضع ضمانات لازمة لحلّ العويصات التي تطرأ على المجتمع الإسلامي في هذه الفترة الطويلة ، فإذا لم يصحّ فما هي الضمانات اللازمة فيها ، وهل هناك مرجع آخر ، غير العترة الطاهرة الذين هم حَفَظة سُننه ورواةُ أحاديثه ، وعيبة علمه.

وهناك مشكلة أُخرى وهي عدم حضور أكثر الصحابة في عامة القضايا والوقائع التي يقضي فيها النبي ويُفتي أو يحدّث أو يقرر ، لأنّ أكثر الصحابة كانوا على النعت الذي يصفهم به ابن حزم ويقول : مشاغيل في المعاش ، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش في الحجاز ، وانّه كان يفتي بالفتيا ويحكم بالحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط ، وانّه إنّما قامت الحجة على سائر من لم يحضر بنقل من حضره وهم واحد أو اثنان. (3)

ص : 398


1- جامع الأُصول : 1 / 40.
2- تاريخ الخلفاء للسيوطي : 316.
3- الأُصول العامة للفقه المقارن : 166 ، نقلاً عن تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية : 123 ، نقلاً عن ابن حزم.

هذا ويقول المحقّق الفقيد : السيد محمد تقي الحكيم بعد نقل هذا : وإذا صحّ هذا - وهو صحيح جدّاً ، لأنّ التاريخ لم يحدثنا عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّه كان يجمع الصحابة جميعاً ، ويبلّغهم بكلّ ما يجد من أحكام ، ولو تصورناه في أقواله فلا نتصوره في أفعاله وتقريراته وهما من السنّة - فما ذا يصنع من يريد التمسك بسنّته من بعده ولنفترضه من غير الصحابة؟

أيظل يبحث عن جميع الصحابة - وفيهم الولاة والحكام ، وفيهم القواد والجنود في الثغور - ليسألهم عن طبيعة ما يريد التعرف عليه من أحكام؟ أم يكتفي بالرجوع إلى الموجودين وهو لا يجزيه ، لاحتمال صدور الناسخ أو المقيِّد أو المخصِّص أمام واحد أو اثنين ممّن لم يكونوا بالمدينة؟ والحجية - كما يقول ابن حزم - : لا تتقوّم إلاّ بهم.

والعمل بالعام أو المطلق لا يجوز قبل الفحص عن مخصِّصه أو مقيِّده ، ما دمنا نعلم أنّ من طريقة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في التبليغ هو الاعتماد على القرائن المنفصلة ، فالإرجاع إلى شيء متشتّت وغير مدوّن تعجيز للأُمّة وتضييع للكثير من أحكامها الواقعية.

وإذا كانت هذه المشكلة قائمة بالنسبة إلى من أدرك الصحابة وهم القلة نسبياً ، فما رأيكم بالمشكلة بعد تكثر الفتوح ، وانتشار الإسلام ، ومحاولة التعرف على أحكامه من قِبَل غير الصحابة من رواتهم ، وبخاصة بعد انتشار الكذب والوضع في الحديث للأغراض السياسية أو الدينية أو النفسية؟

ومثل هذه المشكلة هل يمكن أن لا تكون أمامه - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو المسئول عن وضع الضمانات لبقاء شريعته ما دامت خاتمة الشرائع؟!

إنّ الشيء الطبيعي أن لا يفرض أيَّ مصدر تشريعي على الأُمّة ما لم يكن

ص : 399

مدوّناً ومحدَّد المفاهيم ، أو يكون هناك مسئول عنه يكون هو المرجع فيه.

وما دمنا نعلم أنّ السنّة لم تدوّن على عهد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وانّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منزّه عن التفريط برسالته ، فلا بدّ أن نفترض جعل مرجع تُحدَّد لديه السنّة بكلّ خصائصها. (1)

وليس هناك أي مرجع بهذا الوصف إلاّ العترة الطاهرة الذين هم أحد الثقلين ، اللذين أُنيط بالتمسك بهما ، النجاة من الضلالة في حديث الثقلين المتواتر أو المتضافر ، وحديث السفينة الذي جاء فيه : «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق». (2)

ص : 400


1- الأُصول العامة للفقه المقارن : 167.
2- مستدرك الحاكم : 3 / 151.

الفصل الثالث: حجّية العقل في مجالات خاصّة

اشارة

إنّ الشيعة الإمامية أدخلت العقل في دائرة التشريع واعترفت بحجيته في الموارد التي يصلح له التدخل والقضاء فيها. فالعقل أحد الحجج الشرعية وفي مصافّ المصادر الأُخر للتشريع وبه يُكْشف الحكم الشرعي وتُبين وجهة نظر الشارع في مورده ، وانّه من الممتنع أن يحكم العقل بشيء ولا يحكم الشرع على وفاقه أو يحكم بخلافه إذا كان الموضوع من المواضيع التي يصلح للعقل أن يقضي فيه ، فالملازمة بين حكمي العقل والشرع حتمية.

ولا يهمّنا البحث في أنّ ما يدركه العقل في مورد ، هل هو نفس الحكم الشرعي أو انّه يكشف عن نظر الشارع إذا توفّرت فيه الشروط التي اعتبرها الشارع في حجّية إدراكاته.

وإنّما المهم أن نقف على أنّ العقل احتلّ محلاً خاصاً في التشريع الإسلامي وانّ كلّ ما يحكم به العقل فكأنّه ينطق على لسان الشرع كالكتاب والسنّة ، وعند ذلك يستند إليه الشارع في تبليغ أحكامه إلى الناس كما يستند إلى القرآن والسنّة.

ص : 401

وقد فتح هذا الاعتراف للإسلام بقاء وخلوداً ، وجعله صالحاً للانطباق مع عامة الحضارات الإنسانية ، وغدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة وانطلاق وشمول لما يتجدد من الأحداث ولما يطرأ من الأوضاع الاجتماعية الجديدة.

هذا بخلاف ما إذا اعتبرناه عنصراً غريباً في صعيد التشريع وعزلناه عن الحكم ورفضنا كلّ ما يدركه من الأحكام العقلية المحضة ، فانّه يؤدي إلى تجميد المخطط القانوني ، وعدم صلاحيته للحكم والتطبيق في البيئات والظروف الاجتماعية المختلفة.

نعم ليس معنى الاعتراف بحجّية العقل ، انّه يطلق سراحه في جميع المجالات حتّى يتاح له أن يتسرع في الحكم في مصالح الفرد والمجتمع وشكل العلاقات والروابط الاجتماعية والعبادات والأحكام التوقيفية.

بل يفسح له الحكم في مجالات خاصة إذا توفرت فيه الشرائط التي تصونه عن الاشتباه والخطأ واقترن بالضمانات الكافية التي تحفظه عن الزلل.

وقد نصّ أئمّة أهل البيت على حجّيته في مجالات خاصة ، فهذا هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم - عليه السلام - يخاطب تلميذه هشام بن الحكم ويقول : «يا هشام : ما بعث الله أنبياءَه ورسلَه إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن الله فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة.

يا هشام انّ لله على الناس حجّتين : حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ؛ فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول». (1)

وقال الصادق - عليه السلام - : «حجّة الله على العباد ، النبي ، والحجّة على ما بين العباد

ص : 402


1- الكافي : 1 / 16 ، الحديث 12.

وبين الله ، العقل». (1)

هذا الحديث وما قبله وغيرهما يعرب عن نظر الإسلام السامي في الأحكام التي يستقل بها العقل بشرط أن يتجرّد عن الرواسب المنحرفة ، والغرائز الحيوانية ، والعواطف الإنسانية ، ويحكم حكماً باتاً عقلانياً محضاً غير منبعث عن هذه الجوانب ويحترز عن بعض الأساليب التي منع الشارع عن إعمالها في طريق استنباط الحكم الشرعي كالأقيسة والاستحسانات ، وما هذا لانّها تفيد الظنّ.

وعلى ذلك جرى علماؤنا من عصر مبكر إلى يومنا هذا ، فحصروا الأدلة الشرعية في أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، فلنذكر نصاً من أحد علمائنا القدامى.

يقول ابن إدريس الحلّي (539 - 598 ه) : إنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق : إمّا كتاب الله سبحانه ، أو سنّة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - المتواترة المتفق عليها ، أو الإجماع ، أو دليل العقل ، فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة ، التمسكُ بدليل العقل فيها ، فانّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها فمن تنكّب عنها عسف وخبط خبط عشواء ، وفارق قولُه من المذهب. (2)

وحصيلة الكلام : إذا كان حكم العقل منبعثاً عن الجانب العقلي المحض ، غير متأثر بالجوانب اللاشعورية ، والغرائز الحيوانية ، والعواطف الإنسانية ، وتجنب عن الأساليب الممنوعة ، وحكم من صميم التدبر والتفكر بحكم بات

ص : 403


1- الكافي : 1 / 25 ، الحديث 22.
2- السرائر : 1 / 46.

يصير حجة بين الله وعبده وتكون النتيجة تأسيسَ حكم شرعي أو تحديدَ إطلاق لحكم شرعي أو تخصيصاً لعموم ، ويصير عند ذاك أحد الأدلة التي يستنبط منها الحكم الشرعي ويدور عليها رحى الاستنباط ويعد قريناً للكتاب والسنّة والإجماع ولا ينفك عن قرنائه وأعداله.

هذا هو إجمال الموضوع ، وأمّا تفاصيله فتحتاج إلى بيان المجالات التي يكون العقل فيها حجّة قطعية.

ص : 404

1- مجال التحسين والتقبيح

اشارة

إذا استقل العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه ، وتجرّد في قضائه عن كلّ شيء إلاّ النظر إلى نفس الفعل فهل يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع ، نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحسنه معه ، فهل يستكشف منه انّ حكم الشرع كذلك؟ والجواب نعم.

وذلك لأنّ الحكم المزبور من الأحكام البديهية للعقل العملي وكلّ إنسان يجد من نفسه حسن العدل وقبح الظلم ، وإذا عرض الإنسان ذينك الأمرين على وجدانه وعقله يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل وتنفراً عن الظلم وهكذا كلّ فعل يصدق عليه أحد العنوانين وهذا من الأحكام العقلية النابعة عن صميم العقل من دون أن يكون متأثراً عن الجوانب اللاشعورية أو الغرائز الحيوانية أو العواطف الإنسانية ، يقول العلاّمة الحلي :

انّا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع ، فانّ كلّ عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه ويُقبِّح الإساءة والظلم ويذم عليه ، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفاداً من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع. (1)

ص : 405


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 59 ، المطبوع مع تعاليقنا.

ويقول أيضاً في كتاب آخر : إنّ من الأفعال ما هو معلوم الحُسن والقبح بضرورة العقل ، كعلمنا بحسن الصدق النافع ، وقبح الكذب الضار ، فكلّ عاقل لا يشكّ في ذلك ، وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب ، وأنّ الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية.

ومنها ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو قبحه فيكشف الشرع عنه كالعبادات.

وقالت الأشاعرة : إنّ الحسن والقبح شرعيان ، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها ولا بقبحه ، بل القاضي بذلك هو الشرع ، وما حسّنه فهو حسن وما قبحه فهو قبيح. (1)

ومن حسن الحظ انّ الذكر الحكيم يشير إلى موقف العقل من درك تحسين الأشياء وتقبيحها ، فترى أنّه يحتج في موارد بقضاء فطرة الإنسان على حسن بعض الأفعال وفي الوقت نفسه يقبح بعضها على وجه يُسلِّم انّ الفطرة الإنسانية صالحة لهذين الإدراكين ، ولذلك يتخذ وجدان الإنسان قاضياً صادقاً في قضائه ويقول :

1. (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ). (2)

2. (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ). (3)

3. (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ). (4)

ففي هذه الطائفة من الآيات يوكّل الذكرُ الحكيم القضاءَ إلى وجدان

ص : 406


1- نهج الحق وكشف الصدق : 83.
2- ص : 28.
3- القلم : 35.
4- الرحمن : 60.

الإنسان ، وانّه هل يصحّ التسوية بين المفسدين والمتّقين ، والمسلمين والمجرمين ، كما يتّخذ من الوجدان قاضياً ، في قوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ).

وهناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي على نحو تسلِّم انّ المخاطب ، يعرفهما معرفة ذاتية ولا يحتاج إلى الشرع بغيَة التعرّف على الموضوع ، وكان الشرع يؤكد ما يجده الإنسان بفطرته.

ويقول سبحانه :

1. (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (1)

2. (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ). (2)

3. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). (3)

معنى درك حسن الفعل أو قبحه

إنّ العقل بفضل سعة آفاق إدراكه ، يدرك انّ نفس الفعل بما هو هو إمّا حسن أو قبيح ، سواء كان الفاعل واجباً أو ممكناً ، مؤثراً في حفظ النظام (كالعدل) أو لا ، مؤمِّناً لغرض الفاعل أو لا ، كلّ هذه القيود مرفوضة غير مأخوذة في الموضوع ، بل الموضوع هو نفس الفعل بما هو هو ، مع غض النظر عنها ، كردّ الأمانة ، والخيانة فيها ، والوفاء بالميثاق ونقضه ، وجزاء الإحسان بالإحسان ، وبالإساءة ، وهكذا.

ص : 407


1- النحل : 90.
2- الأعراف : 33.
3- الأعراف : 157.

فإذا كان الموضوع هو نفس الفعل ولا دور لأي قيد في وصفه بأحدهما فيكون حكمه بالحسن أو القبح وبالتالي : وجوب إتيان الأوّل ، وترك الثاني ، حكماً عامّاً يحكي عن كونه كذلك عند الواجب والممكن فيستكشف من حسن الفعل وجوبه ، ومن قبحه ، حرمته ، وبذلك يُصبح العقل من منابع التشريع ومصادره في إطار خاص ، أي إطار إدراك العقل حسن الأفعال وقبحها.

الآثار المترتبة على التحسين والتقبيح
اشارة

تحتل مسألة التحسين والتقبيح العقليين مكانة مرموقة في المعارف والعقائد والتشريع والأحكام ، ونذكر شيئاً من آثارهما ممّا يتعلق بباب التشريع ونترك ما يرجع إلى باب العقائد والمعارف :

أ. أصالة البراءة من التكليف

إذا شكّ الإنسان في وجوب شيء أو حرمته ، وفحص عن مظان التكليف فحصاً كاملاً فلم يعثر على بيان الشارع ، فالعقل عندئذ يستقل بقبح العقاب بلا بيان ، وانّه لو كان في الواقع واجباً أو حراماً والعبد تركه أو ارتكبه ، لا يكون معاقباً فانّ عقابه عقاب بلا بيان وهو قبيح بحكم العقل لا يصدر من الله الحكيم.

وعلى ضوء ذلك بنوا أصالة البراءة في عامة الشبهات شريطة أن لا يكون الشكّ مقترناً بالعلم الإجمالي.

ص : 408

ب : وجوب الاحتياط عند العلم الإجمالي

إذا علم المكلّف انّ أحد الفعلين واجب أو انّ أحدهما حرام فعندئذ يجب عليه إتيان الأوّلين معاً وترك الآخرين كذلك ، لأنّ العقل يستقل بالاحتياط ، في كلا الموردين ، لأنّ اشتغال ذمّته بأحد التكليفين قطعي ، والعقل يستقل بأنّ الاشتغال القطعي يبعث الإنسان إلى تحصل البراءة القطعية وهو لا يتحقّق إلاّ بفعل الأوّلين وترك الآخرين وذلك باب واسع في الفقه الإسلامي.

ثمّ إنّ مذهب الأشعري تبعاً لأهل الحديث أنكر التحسين والتقبيح العقليين ، وبذلك صار شعار أهل السنّة حذف العقل عن مجال المعارف والتشريع.

وعمدة أدلّتهم على إنكار الحسن والقبح هو تخيّل انّ القول بالتحسين والتقبيح بمعنى فرض الوجوب على الله من جانب العبد. والله سبحانه فوق أن يقع معرضاً لحكم العقل عليه بالتحسين والتقبيح وبالتالي التكليف على الله بإيجاب الحسن ، وتحريم القبيح. (1)

يلاحظ عليه : أنّ المستدل خلط بين التكليف على الله وكشف ما عنده سبحانه من الحكم من خلال صفاته وكماله ، فالقائل بالملازمة لا يفرض التكليف على الله ، ويقول : أين التراب ورب الأرباب ، لكن هذا لا يمنع من أن نستكشف ما عنده من الأحكام من خلال دراسة صفاته الكمالية ، فهو بما انّه عادل لا يجور ، وحكيم لا يعبث ، وعالم لا يجهل ، نستكشف الأحكام اللائقة به حسب صفاته ، فالتكاليف المخوّلة إليه من قبيل التكاليف التي فرضتها عليه حكمته وعدله

ص : 409


1- شرح المقاصد : 2 / 105 ، طبع الآستانة ، اسلامبول.

وعلمه ، فلو قلنا لا يجوز على الله سبحانه تعذيب البريء أو أخذه بذنب المجرم لا نعني أن نفرض هذا التكليف عليه ، وانّه يجب أن يقوم به ، وإنّما يراد أنّ لازم صفاته الكمالية هو أن لا يفعل ذلك.

وهذا نظير ما يقوم به العلماء من كشف أسرار الطبيعة وقوانينها ، فلو قال القائل بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين ، فهذا لا يعني إلاّ أنّه في الواقع كذلك لا انّه يجب أن يكون كذلك لأجل حكمه به.

فإذا كان النظام السائد على الكون نظاماً مبنياً على العلم والعدل والحكمة ، فلازم ذلك أن لا يؤخذ البريء بذنب المجرم ، فكشف هذا الحكم نظير كشف القوانين السائدة على الكون في العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية.

ص : 410

2- في مجال الملازمات

قد تقدّم انّ العقل حجّة في مجالات خاصة ، منها : حكمه بالتحسين والتقبيح على النحو الذي ذكرنا ، ومن المجالات التي يؤخذ فيها بحكم العقل ويستكشف حكم الشرع ، هو مجال الملازمات ، أعني بها :

1. الملازمة بين الوجوبين ، كوجوب الشيء وجوب مقدّمته.

2. الملازمة بين الحرمتين ، كحرمة الشيء وحرمة مقدّمته.

3. الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه ، كوجوب المضيق وحرمة الموسّع عند التزاحم.

4. الملازمة بين امتثال المأمور به ، وأجزائه.

5. الملازمة بين النهي عن العبادة ، وفسادها.

6. الملازمة بين النهي عن المعاملة ، وفسادها.

7. الملازمة بين الوجود لدى الوجود ، والانتفاء لدى الانتفاء (المفاهيم).

8. الملازمة بين وجوب الشيء وامتناع وصفه بالحرمة على القول بالامتناع وبالعكس ، أو عدم الملازمة على القول بالاجتماع كما في الصلاة في الدار المغصوبة.

إلى غير ذلك من أبواب الملازمة الموصوفة عندهم بالملازمات غير المستقلة ، فانّ الحكم المستكشف في هذه الموارد عن طريق الملازمة ، حكم

ص : 411

شرعي نظير :

1. كوجوب مقدّمة ، الواجب.

2. حرمة مقدّمة الحرام.

3. حرمة الضدّ الموسّع المزاحم للمضيق كالصلاة عند الابتلاء بإزالة النجاسة عن المسجد ، أو أداء الدين الحال.

4. إجزاء المأتي به وكونه مسقطاً عن الإعادة والقضاء ، سواء كان المأتي به واجباً بالأمر الواقعي ، أو الاضطراري ، كالصلاة مع الطهارة الترابية ، أو بالأمر الظاهري كالصلاة في ثوب نجس واقعاً محكوم بالطهارة ظاهراً.

5. فساد العبادة المنهية ، كالصوم في يوم الفطر.

6. فساد المعاملات كبيع المنابذة.

7. انتفاء الحكم عند انتفاء القيد كما في قوله في سائمة الغنم زكاة.

8. كون الموضوع محكوماً بأحد الحكمين أو كلاهما في الصلاة في الدار المغصوبة.

إلى غير ذلك من الموارد التي توصف بباب الملازمات غير المستقلة. وفي الفقه الشيعي والأُصول دور كبير لباب الملازمات ، فمن مثبت وناف ومفصِّل.

والعجب انّ أهل السنة أعرضوا عن العقل في مجال التحسين والتقبيح ولكن لهم مواقف مشهورة في باب الملازمات حيث طرحوا في علم الأُصول وجوب المقدّمة وحرمتها وهكذا سائر أبواب الملازمات.

قال المحقّق السيد علي القزويني معلّقاً على قول المحقّق القمي : «ومنها ما يحكم به العقل بواسطة خطاب الشرع كالمفاهيم والاستلزامات» أي بملاحظته

ص : 412

كحكمه بوجوب المقدمة بملاحظة الخطاب بذي المقدمة ، وبحرمة الضد ، بملاحظة الخطاب بالمأمور به المضيق ، وبالانتفاء عند الانتفاء بملاحظة الخطاب المعلق على شرط أو وصف أو غيرهما ، لئلا يلغوا التعليق وذكر القيد ويسمّى بالاستلزامات العقلية كحكم العقل باستلزام إيجاب الشيء وجوب مقدماته واستلزام الأمر بالشيء لحرمة ضده ، واستلزام الوجود عند الوجود ، والانتفاء عند الانتفاء فالمفاهيم أيضاً مندرجة في الاستلزامات. (1)

إلى هنا تبيّن حجّية حكم العقل في المجالين :

1. مجال التحسين والتقبيح ويسمّى بالملازمات المستقلة.

2. مجال الملازمات غير المستقلة.

ووجه تسمية الأوّل بالمستقلات والثاني بغيرها ، هو انّ إدراك الموضوع والحكم في الأوّل ، راجع إلى العقل ولا يستعين في حكمه بالشرع ، بل يدرك الموضوع ويصدر الحكم ، كقولنا : العدل حسن والظلم قبيح. بخلاف القسم الثاني ، فانّه في حكمه يستعين بالشرع ، فإنّ الشارع هو المعيّن للموضوع ، مثلاً يقول : إنّ الوضوء مقدمة للواجب ، والعقل يصدر الحكم ويقول مقدمة الواجب واجب ، ومثله سائر الموارد الثمانية.

ص : 413


1- القوانين : 2 / 1 ، قسم الحواشي.

3- في مجال تنقيح المناط لا في مجال تخريجه

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف وخصوصيات لا يراها العرف دخيلة في الموضوع ويتلقّاها من قبيل المثال ، كما إذا ورد في السؤال : رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع فأجيب بأنّه يبني على كذا ، فانّ السائل وإن سأل عن الرجل الذي شكّ في المسجد ، لكنّه يتلقّى العرف تلك القيود ، مثالاً ، لا قيداً للحكم ، أي بأنّه يبني على كذا ، فيعمّ الرجل والأُنثى ومن شكّ في المسجد والبيت.

إنّ تنقيح المناط على حدّ يساعده ، الفهم العرفي ممّا لا إشكال فيه ، ولا صلة له بالقياس ، إذ لا أصل ولا فرع ، بل الحكم يعمّ الرجل والأُنثى ، والشاك في المسجد والبيت ، مرة واحدة.

وأمّا تخريج المناط فهو ممنوع ومعناه أنّه إذا قضى الشارع على حكم في محل من دون أن ينصَّ لمناطه ، مثلاً : إذا حرّم الربا المعاوضي في البُرّ فيعمم إلى كل مكيل بدعوى انّ مناط التحريم هو الكيل ، وهذا ما ربما يعبر عنه باستنباط علّة الحكم بطريق من الطرق ، ثمّ تعميم الحكم حسب صدقها على مواردها وقد ذكر له طرقاً سبعة أو أكثر والمهم منها هو استنباط العلة عن طريق السبر والتقسيم. وسيوافيك انّ تخريج المناط بهما ممنوع جدّاً ولا يفيد سوى الظن وسيوافيك توضيحه عند البحث في عدم حجّية القياس.

ص : 414

4- في مجال درك مصالح الأفعال ومفاسدها

إذا أدرك العقل وجود ا لمصلحة أو المفسدة في فعل إدراكاً نوعياً يستوي فيه جميع العقلاء كوجود المفسدة في استعمال المخدرات ففي مثله يكون حكم العقل ذريعة لاستكشاف الحكم الشرعي دون ما لا يكون كذلك ، كإدراك فرد أو فردين وجوب المصلحة الملزمة أو المفسدة ، وذلك.

إذا أدرك العقل المصلحة في شيء أو المفسدة ولم يكن إدراكه مستنداً إلى المصلحة أو المفسدة العامتين يتساوى في إدراكها جميع العقلاء فلا سبيل للعقل إلى الحكم بأنّ ما أدركه علّة ، هي العلة التامة التي يدور الحكم مدارها ، إذ يحتمل أن يكون هناك مانع يمنع من حكم الشارع على وفق ما أدركه العقل وإن كان ما أدرك مقتضياً لحكم الشرع. (1)

يقول المحقّق الاصفهاني : إنّ مصالح الأحكام الشرعية المولوية التي هي ملاكات تلك الأحكام ومناطاتها ، لا تندرج تحت ضابطة ، ولا تجب أن تكون هي بعينها ، المصالح العمومية ، المبنى عليها حفظ النظام وإبقاء النوع وعليه لا سبيل للعقل بما هو إليها.

اللهمّ إلاّ إذا وصل الأمر إلى المصالح والمفاسد العامة التي أطبق العقلاء

ص : 415


1- وبذلك رفضوا المصالح المرسلة التي لم يتّفق العقلاء عليها بل يدركها الفقيه.

عامة على صلاحها أو فسادها على نحو صار من الضروريات وهذا كتعاطي المخدرات التي أطبق العقلاء على ضررها ، ومثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجدري والحصبة وغيرهما فقد أصبحت من الأُمور التي لا يتردد في صلاحيتها ذوو الاختصاص.

ص : 416

الفصل الرابع: التشريع تابع للمصالح والمفاسد

اشارة

إنّ الأحكام الشرعية عند الإمامية تابعة للمصالح والمفاسد ، فلا واجب إلاّ لمصلحة في فعله ، ولا حرام إلاّ لمفسدة في اقترافه وانّ التشريع الإسلامي بعيد عن الفوضى ، ونصوص الكتاب والسنّة يشهدان على ذلك.

1. انّه سبحانه يعلِّل وجوب الاجتناب عن الخمر والميسر بأنّهما وسيلتان للعداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله عموماً والصلاة خصوصاً يقول سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). (1)

كما أنّه يعلل وجوب الصلاة بأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، قال سبحانه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (2) إلى غير ذلك من الآيات والروايات التي تشير إلى ملاكات التشريع في الذكر الحكيم.

وأكد الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - - في كلماته - على ذلك وقال : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يبح أكلاً ولا شرباً إلاّ لما فيه المنفعة والصلاح ، ولم يُحرّم إلاّ ما فيه

ص : 417


1- المائدة : 91.
2- العنكبوت : 45.

الضرر والتلف والفساد». (1)

وقال - عليه السلام - : «في الدم انّه يُسيء الخُلْق ، ويورث القسْوة للقلب ، وقلّة الرأفةَ والرحمةَ ولا يؤمن أن يقتل ولده ووالده». (2)

وقال أبو جعفر الباقر - عليه السلام - : «إنّ مدْمن الخمر كعابد الوثن ، وپيورثه الارتعاشُ ويهدم مروّته ، ويحمله على التجسّر على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا». (3)

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمّة الدين. (4)

ولكن المعروف عن الأشاعرة خلاف ذلك ، وذلك لأنّ أفعاله سبحانه عندهم ليست معلّلة بالأغراض ، واحتجّوا لذلك : انّه لو كان فعله تعالى لغرض لكان ناقصاً لذاته ، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض ، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه ، وهو معنى الاستكمال. (5)

فإذا كان فعله عارياً عن الغرض ، يكون تشريعه الذي هو أيضاً من أفعاله سبحانه ، خالياً عنه.

ولكن الاستدلال ضعيف غايته ، لأنّ الاستكمال بالغرض إنّما يلزم إذا كان الغرض عائداً إليه سبحانه ، لا إذا كان تفضلاً على العباد ، واستصلاحاً لأحوالهم.

وبعبارة أُخرى : الغاية ، غاية للفعل ، لا للفاعل ، وقد خلط الأشعري بين الغرض الراجع إلى الفاعل ، والغرض الراجع إلى الفعل ، فالاستكمال لازم المعنى

ص : 418


1- مستدرك الوسائل : 3 / 71.
2- بحار الأنوار : 62 / 165 ، الحديث 3.
3- بحار الأنوار : 62 / 164 ، الحديث 2.
4- راجع علل الشرائع ، للشيخ الصدوق.
5- المواقف للإيجي : 331.

الأوّل دون الثاني ، والقائل بكون أفعاله ومنها تشريعاته ، معللة بالأغراض والغايات والدواعي والمصالح ، انّما يعني المعنى الثاني دون الأوّل ، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنياً مطلقاً في ذاته ، وصفاته ، وأفعاله ولكن إثبات الغرض بالمعنى الثاني يخرج فعله سبحانه عن العبث واللغو ، فالجمع بين كونه سبحانه غنياً غير محتاج إلى شيء ، وكونه حكيماً منزهاً عن العبث واللغو يتحقّق بالقول باشتمال أفعاله على مصالح وحكم ترجع إلى العباد لا إلى وجوده وذاته.

ثمّ إنّ النصوص الصريحة تؤيد موقف الإمامية في ذلك.

يقول سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ). (1)

وقال عزّ من قائل : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ). (2)

وقال سبحانه : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). (3)

وقال سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ). (4) إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي العبث عن فعله وتصرح باقترانه بالحكمة والغرض.

إجابة عن سؤال

قد تقدّم في الفصل الثاني انّ العقل من مصادر التشريع في موردين فقط :

1. إذا استقل بحسن الفعل أو قبحه.

2. إذا أدرك الملازمة بين الحكمين.

ص : 419


1- المؤمنون : 115.
2- الدخان : 38.
3- ص : 27.
4- الذاريات : 56

وسبق انّه إذا أدرك الفعل مصالح ومفاسد في الفعل من عند نفسه - دون ورود نصّ حولهما - فلا يصح للفقيه أن يتخذه ذريعة إلى استكشاف الحكم الشرعي من الوجوب والحرمة ، بحيث يكون علمه بالمصالح والمفاسد من مصادر التشريع.

ومع هذا الاعتراف كيف يصحّ القول بأنّ الأحكام الشرعية رهن المصالح والمفاسد؟!

وأمّا الإجابة فواضحة ، إذ لا منافاة بين الأمرين فانّ الكلام هنا في مقام الثبوت وانّ التشريع الإسلامي ، رهن الملاكات والمناطات عند الله سبحانه وربما يقف عليها العباد عن طريق النصّ كما أنّهم كثيراً ما يجهلون بعلل التشريع. والحاصل : وليس التشريع فوضى غير خاضع للملاك.

وهذا لا ينافي ما رفضناه من أنّه ليس للفقيه الخوض في تعيين مصالح الأفعال ومفاسدها فيحكم على الأوّل بالوجوب وعلى الثاني بالحرمة لقصور العقل عن الإحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية وربما يدرك العقل مصلحة أو مفسدة ويغفل عن موانعهما ، فإدراكه أحد الأمرين لا يكون دليلاً على التشريع.

مرجّحات باب التزاحم

اشارة

ثمّ إنّ المصالح والمفاسد ، لما لم تكن على وزان واحد ، بل رب واجب يسوغ في طريق إحرازه ، اقتراف بعض المحرّمات ، لاشتماله على مصلحة كثيرة لا يجوز تركها بحال ، كإنقاذ الإنسان المتوقف على استطراق أرض الغير ، بلا إذنه ، ورب حرام ذي مفسدة كبيرة لا يجوز اقترافه وإن استلزم ترك الواجب أو الواجبات. فلذلك يحكم العقل بتقديم الأهم على المهم عند التزاحم.

ص : 420

وعلى هذا الأساس ، فَتح الفقه الإمامي باباً باسم «التزاحم» - وهو غير باب التعارض - وانّه إذا كان هناك تزاحم بين الواجبين أو الحرامين ، أو الواجب وارتكاب الحرام ، يقدّم الأهم منها على المهم ، وقد أعان ذلك على حل كثير من المشاكل الاجتماعية التي ربما يتوهم الجاهل انّها تعرقل خطا التشريع الإسلامي ، عن التحرك نحو الأمام ومسايرة الحياة ، ونأتي بمثال.

أصبح تشريح بدن الإنسان في المختبرات من الضروريات الحيويّة التي يتوقف عليه نظام الطب الحديث فلا يتسنّى تعلم الطب إلاّ بالتشريح والاطّلاع على خفايا الأمراض والأدوية ، غير أنّ هذه المصلحة ، تصادمها مصلحة احترام المؤمن حيّه وميته إلى حد أوجب الشارع التسريعَ بتغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن ، كما حرّم نبش قبره إذا دفن وحرّم التمثيل به وتقطيع أعضائه ، لانّه من المحرمات التي لم يجوزها الشارع حتّى بالنسبة إلى الكلب العقور.

لكن عناية الشارع بالصحة العامة صارت سبباً لتسويغ هذا العمل لتلك الغاية الكبرى مقدِّماً بدن الكافر على المسلم ، والمسلم غير المعروف على المعروف وهكذا.

ولمعرفة التزاحم ومعرفة مرجحاته دور كبير في استنباط كثير من الأحكام التي لم ترد في الكتاب والسنّة بشرط تميز الأهم من المهم ، تمييزاً قطعياً ، مستند إلى الدليل ، ولأجل ذلك نذكر شيئاً من مرجحات ذلك الباب :

1. تقديم ما لا بدل له على ما له بدل

إذا كان واجبان لأحدهما بدل شرعاً دون الآخر ، فالعقل يحكم بتقديم الثاني على الأوّل جمعاً بين الامتثالين ، كالتزاحم الموجود بين رعاية الوقت وتحصيل

ص : 421

الطهارة الحدثية بالماء ، فبما أنّ الوقت فاقد للبدل بخلاف الطهارة الحدثية فانّ له البدل كالتراب ، فتقدّم مصلحة الوقت على تحصيل مصلحة الطهارة الحدثية بالماء فيتيمّم.

2. تقديم المضيّق على الموسّع

إذا كان هناك تزاحم بين المضيّق الذي لا يرضى المولى بتأخيره والموسّع الذي لا يفوت بالاشتغال بالواجب المضيّق إلاّ فضيلة الوقت ، يحكم العقل بتقديم الأوّل ولذلك تجب إزالة النجاسة أوّلاً ، ثمّ القيام إلى الصلاة ثانياً.

فإن قلت : إنّ مرجع المرجّح الثاني إلى المرجّح الأوّل فانّه من باب تقديم ما لا بدل له كالمضيّق على ما له بدل ، كالموسّع ، إذ له إبدال طول الوقت.

قلت : لا مشاحة في الاصطلاح فيطلق الأوّل على ما يكون البدل في عرض ما لا بدل له كاجتماع الطهارة الحدثية الترابية مع الطهارة الخبثية بالماء في صلاة واحدة بخلاف الثاني ، فانّما يطلق على ما إذا كان ماله البدل في طول ما ليس له البدل كإزالة النجاسة في الوقت الأوّل والصلاة في الوقت الثاني.

3. تقديم الواجب التعييني على التخييري

إذا كان هناك تزاحم بين امتثال الواجب التعييني كأداء الدين وامتثال الواجب التخييري ببعض أعداله كإطعام ستّين مسكيناً بحيث لا يتمكّن من أداء الدين إذا صرفه في كفّارة شهر رمضان عن طريق الطعام ، وهكذا العكس ، فالعقل يحكم بأداء الدين ، إذ ليس له بدل ، وامتثال وجوب الكفّارة عن طريق الصوم.

ص : 422

4. تقديم أحد المتزاحمين على الآخر لأهميّته

هذا هو المرجّح الواضح في باب المتزاحمين ، فإذا دار الأمر بين ترك الأهمّ والمهمّ فالعقل يحكم بترك المهمّ وامتثال الأهم ، وهذا من القضايا التي قياساتها معها.

5. سبق امتثال أحد الحكمين زماناً

إذا كان أحد الواجبين سابقاً في مقام الامتثال على الآخر زماناً كما إذا وجب صوم يوم الخميس والجمعة ولا يقدر إلاّ على صيام يوم واحد ، ومثله إذا وجبت عليه صلاتان ولا يتمكّن إلاّ من الإتيان بواحدة منهما قائماً ، أو وجبت صلاة واحدة ولا يتمكّن إلاّ من القيام في ركعة واحدة ؛ ففي جميع هذه الصور يستقل العقل بتقديم ما يجب امتثاله سابقاً على الآخر حتّى يكون في ترك الواجب في الزمان الثاني معذوراً إلاّ إذا كان الواجب المتأخّر أهمّ في نظر المولى فيجب صرف القدرة في الثاني ، وهو خارج عن الفرض. وبعبارة أُخرى : لو صام يوم الخميس أو صلّى الظهر قائماً فقد ترك صوم الجمعة والقيام في صلاة العصر عن عذر وحجّة ، بخلاف ما إذا أفطر يوم الخميس وصلّى الظهر قاعداً فقد ترك الواجب بلا عذر.

6. تقديم الواجب المطلق على المشروط

إذا كان هناك واجب مطلق ، وآخر مشروط لم يحصل شرطه ، يقدّم المطلق على المشروط كما إذا احتلم المعتكف ، فانّ مكثَ الجنب في المسجد حرام ، وخروجَ المعتكف في اليوم الثالث حرام ، لكنّه مشروط بعدم الحاجة ، ولكن الشرط العدمي غير حاصل فيقدّم الخروج على البقاء.

ص : 423

ونظيره إذا حصل في يده مال ، يدور أمره بين صرفه في نفقة من يجب عليه الإنفاق عليه بلا شرط كالزوجة غير الناشزة ، والوالدين والأولاد ، وصرفه في الحجّ ، فيقدّم الأوّل ، لأنّ الثاني مشروط بالاستطاعة ، وهي من ملك زاد نفسه وزاد من تجب نفقته عليه والراحلة والعود إلى الكفاية ، وشرط الثاني غير موجود ، لأنّه يجب عليه صرفه في نفقة هؤلاء بلا شرط ، ومعه ينتفي شرط وجوب الحجّ وهو الاستطاعة.

ص : 424

الفصل الخامس: ما هو المرجع فيما لا نصّ فيه في الفقه الشيعي؟

اشارة

إنّ المرجع عند الشيعة الإمامية في ما لا نصّ فيه في الكتاب والسنّة وليس فيه إجماع بين الأُمّة ولا يمكن استنباطه من العقل هو الأُصول العملية ، أعني بها :

1. أصالة البراءة.

2. أصالة الاشتغال.

3. أصالة التخيير.

4. الاستصحاب.

5. الأُصول الخاصة بمورد دون مورد.

وإليك تفصيل مجاري تلك الأُصول.

الأدلّة الشرعية التي يتمسّك بها المستنبط على قسمين :

ألف : أدلّة اجتهادية.

ب. أُصول عملية.

وهذا التقسيم من خصائص الفقه الشيعي ، وأمّا الفرق بينهما فهو :

ص : 425

إنّ الدليل قد يكون طريقاً إلى الحكم الشرعي إمّا طريقاً قطعياً ، كالكتاب والسنّة المتواترة والإجماع المحصّل وحكم العقل ، أو طريقاً مورثاً للاطمئنان ، كالخبر المستفيض ، وخبر الثقة ، وهذا ما يسمّى بالدليل الاجتهادي أو الأمارات الشرعية.

وأمّا إذا قصرت يد المجتهد عن الدليل الشرعي الموصل إلى الواقع ، وصار شاكاً متحيراً في حكم الواقعة ، فعند ذلك عالج الشارع تحيّر المجتهد بوضع قواعد لها جذور بين العقلاء ، وهذا ما يسمّى بالأُصول العملية ، أو الدليل الفقاهي ، وهي بين أُصول خاصة بباب ، أو عامة شاملة لجميع أبواب الفقه ، فمن القسم الأوّل القواعد التالية :

1. قاعدة الطهارة : كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر.

2. أصالة الحلية : كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام.

3. أصالة الصحّة في فعل الغير.

4. قاعدة التجاوز والفراغ عند الشك في صحّة عمل النفس بعد التجاوز عن محله.

5. القرعة لكلّ أمر مشكل.

ومن القسم الثاني الأُصول التالية :

1. أصالة البراءة

إذا شكّ في وجوب شيء أو حرمته بعد الفحص عن مظانّه ولم يقف على ما دلّ على وجوبه أو على حرمته ، فالعقل والشرع يحكمان بعدم صحّة العقاب على مخالفته ، وهذا ما يعبر عنه بالبراءة العقلية أو الشرعية.

ص : 426

أمّا العقلية فلاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان كما عرفت.

وأمّا الشرعية فلقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «رفع عن أُمّتي تسعة : الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطروا إليه ...». (1)

2. أصالة الاشتغال

إذا علم بوجوب شيء مردّد بين أمرين أو حرمته كذلك ، فالعقل يستقل بالاشتغال والاحتياط بمعنى الإتيان بهما أو ترك كليهما ، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة القطعية ، فقد تضافر العقل والنقل على الاحتياط.

أمّا العقل ، فلاستقلاله على لزوم تحصيل البراءة بعد الاشتغال اليقيني.

وأمّا الشرع ، فلما ورد في غير واحد من الروايات في أنّ المبتلى بإناءين مشتبهين إذا علم بنجاسة أحدهما يهريقهما ويتيمّم. (2)

3. أصالة التخيير

إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة ؛ فبما أنّ التحصيل اليقيني أمر محال ، فهو يتخير بين الأخذ بأحد الحكمين إذا لم يكن أحدهما أهم من الآخر ، وهذا ما يعبر عنه بأصالة التخيير.

4. الاستصحاب

إذا تيقّن بوجوب شيء ، أو حرمته ، أو طهارته ، أو نجاسته ، ثمّ عرض له الشك في بقاء المتيقّن السابق فيحكم بالبقاء ، وهو أصل عقلائي إجمالاً أمضاه

ص : 427


1- الخصال : 417 ، باب التسعة ، الحديث 9.
2- الوسائل : الجزء 1 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 82.

الشارع وتضافرت روايات عن أئمّة أهل البيت على حرمة نقض اليقين بالشك.

فهذه هي الأُصول العملية الأربعة المستمدة حكمها من العقل والشرع.

فظهر انّ الأُصول على قسمين ، إمّا خاصة ببعض الأبواب ، أو عامة شاملة لجميع أبواب الفقه.

وبما ذكرنا من أنّ الأُصول العملية الخاصة أو العامة تستمد حكمها من الكتاب أو السنّة أو العقل ، فهي ليست من مصادر التشريع برأسها ، وإنّما ترجع إلى المنابع الأربعة الأُولى ؛ خلافاً لما يتراءى من أهل السنّة ، فجعلوا البراءة أو الاستصحاب في عرض الكتاب والسنّة ، كما جعلوا القياس أيضاً كذلك.

وأمّا أهل السنّة ، فالمرجع عندهم فيما لا نصّ فيه ، هي الأُمور السبعة التالية التي نطرحها على صعيد البحث والدراسة ، في الفصل التالي.

ص : 428

الفصل السادس: ما هو المرجع فيما لا نصّ فيه في الفقه السنّيّ؟

اشارة

قد تعرّفت على ما هو المرجع فيما لا نصّ فيه عند الشيعة الإمامية بقي الكلام في بيان ما هو المرجع عند أهل السنّة فيما لا نصّ فيه.

إنّ قلة النصوص الشرعية في الأحكام هو السبب الرئيسي لالتجاء فقهائهم إلى العمل بالقواعد الظنية ، وهي كالتالي :

1. القياس.

2. الاستحسان.

3. المصالح المرسلة (الاستصلاح).

4. سدّ الذرائع.

5. فتح الذرائع.

6. قول الصحابي.

7. اتّفاق أهل المدينة.

فما ذكرناه من المصادر هي المعروفة بين فقهاء المذاهب الأربعة وإن كان

ص : 429

بينهم اختلاف في حجّية بعض دون بعض ، فمثلاً القياس قد اتّفقوا على حجّيته جميعاً ، غير الظاهرية في حين انّ المصالح المرسلة قد انفرد بها مالك وإن نسب القول بها إلى غيره كما سيتضح فيما بعد ، فنسبة هذه الأُمور إلى أهل السنّة لا تعني انّهم يعتبرون الجميع على حدّ سواء ، بل انّ بعضها محلّ خلاف بينهم.

ص : 430

1- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة

القياس
اشارة

ظهر القول بالقياس بعد رحيل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمواجهة الأحداث الجديدة وكان هناك اختلاف حادّ بين الصحابة في الأخذ به ، ولو توفرت بأيديهم نصوص في الموضوع ، لما حاموا حول القياس ، ولكن إعواز النصوص جرّهم إلى القياس لأجل معالجة المشاكل العالقة والمسائل المستحدثة وقد نقل ابن خلدون عن أبي حنيفة انّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول إلاّ سبعة عشر حديثاً. (1)

فإذا كان الصحيح عنده هذا المقدار اليسير فكيف يقوم باستنباط الأحكام من الكتاب والسنّة؟ فلم يكن له محيص إلاّ اللجوء إلى القياس ونظائره.

فأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - ولفيف من الصحابة والتابعين رفضوه ، وأكثروا من ذمّه ، والشيعة عن بكرة أبيهم تبعاً للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأهل بيته أبطلوا العمل بالقياس ، ووافقهم من الفقهاء داود بن خلف ، إمام أهل الظاهر ، وتبعه ابن حزم الأندلسي فلم يقيموا له وزناً ، وأوّل من توسع في القياس هو أبو حنيفة شيخ أهل القياس وتبعه مالك والشافعي وابن حنبل وقال الشافعي : ليس لأحد أبداً أن يقول في

ص : 431


1- مقدّمة ابن خلدون : 444 ، الفصل السادس في علوم الحديث.

شيء : حل ولا حرم إلاّ من جهة العلم ، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس. (1)وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

الأوّل : القياس لغة واصطلاحاً

قال في «لسان العرب» : قاس الشيء يقيسه قَيساً : إذا قدّره على مثاله والمقياس : المقدار. (2)

ومن ذلك يقال : قاس الثوب بالذراع إذا قدّره به ، وفي كلام عليّ - عليه السلام - : «لا يقاس بآل محمّد من هذه الأُمّة أحد» أي لا يسوّى بهم أحد.

وأمّا اصطلاحاً فيستعمل في موردين ، أحدهما مهجور والآخر ذائع.

الأوّل : التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل وجعلها مقياساً لصحة النصوص الشرعيّة فما وافقها يحكم عليه انّه حكم الله الذي يُؤخذ به وما خالفها كان موضعاً للرفض أو التشكيك ، وعلى هذا النوع من الاصطلاح تنزّل التعبيرات الشائعة : انّ هذا الحكم موافق للقياس وذلك الحكم مخالف له.

وقد كان القياس بهذا المعنى مثارَ معركة فكرية واسعة النطاق على عهد الإمام الصادق - عليه السلام - وبعض فقهاء عصره. وعلى هذا الاصطلاح دارت المناظرة التالية بين الإمام وأبي حنيفة : روى أبو نعيم بسنده عن عمرو بن جميع : دخلتُ على جعفر بن محمد أنا وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ، فقال لابن أبي ليلى : من هذا

ص : 432


1- الرسالة : 39 ، تحقيق حمد محمد شاكر.
2- لسان العرب : مادة قاس.

معك؟! قال : هذا رجل له بصر ونفاذ في أمر الدين ، قال : «لعلّه يقيس أمر الدين برأيه» إلى أن قال : «يا نعمان ، حدثني أبي عن جدّي انّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أوّل من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال الله تعالى له : اسجد لآدم فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنّه اتّبعه بالقياس». (1)

فالقياس في هذه الرواية منصرف إلى هذا المصطلح حيث إنّ إبليس تمرّد عن الأمر بالسجود ، لأنّه على خلاف قياسه لتخيله انّ الأمر بالسجود يقتضي أن يبتني على أساس التفاضل العنصري ، ولأجل هذا خطّأ الحكم الشرعي لاعتقاده بأنّه أفضل في عنصره من آدم لكونه مخلوقاً من نار وهو مخلوق من طين. (2)

وعلى هذا الاصطلاح يبتني ما رواه أبان حيث يقول :

قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - : ما تقول في رجل قطع إصبعاً من أصابع امرأة ، كم فيها؟ قال : «عشرة من الإبل» ، قلت : قطع اثنين؟ قال : «عشرون». قلت : قطع ثلاثاً؟ قال : «ثلاثون».

قلت : قطع أربعاً؟ قال : «عشرون».

قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون؟! انّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : إنّ الذي قاله ، الشيطان ، فقال - عليه السلام - : «مهلاً يا أبان! هذا حكم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثُلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان انّك

ص : 433


1- حلية الأولياء : 3 / 197.
2- الأُصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم : 315. وهو - قدس سره - أوّل من نبّه بوجود اصطلاحين في استعمال القياس.

أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين». (1)

إنّما صار أبان إلى تخطئة الخبر الذي وصل إليه حتّى نسبه إلى الشيطان ، لأجل أنّه وجده خلاف ما حصّله وأصّله ، وهو انّه كلّما ازدادت الأصابع المقطوعة تزداد الدية فلمّا سمع قوله «قطع أربعاً ، قال : عشرون» قامت سورته ، إذ وجده مخالفاً للأصل الأصيل عنده ، فردعه الإمام بأنّ هذا هو حكم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وانّ استنكارك قائم على الأخذ بالقياس ، والسنّة إذا قيست محق الدين ، وتصحيح الأحكام وتخطئتها حسب الموازين المتخيّلة سبب لمحق الدين ، وأنّى للعقول أن تصل إليها.

هذا أحد المصطلحين في القياس ، وقد صار هذا الاصطلاح مهجوراً في العصور المتأخرة ، والرائج هو الاصطلاح التالي.

الثاني : هو استنباط حكم واقعة - لم يرد فيها نصّ - عن حكم واقعة ورد فيها نص لتساويهما في علّة الحكم ومناطه وملاكه.

هذا هو القياس الذي وقع معركة للنقاش والجدال ، وما ذكرنا من التعريف أوضح التعاريف وأفضلها ، وقد عرف بتعاريف أُخرى.

1. حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة. (2)

2. مساواة فرع لأصله في علّة حكمه الشرعي.

إلى غير ذلك من التعاريف.

ص : 434


1- وسائل الشيعة : 29 / 352 ؛ القوانين المحكمة : 2 / 89.
2- إرشاد الفحول : 2 / 198.
الثاني : أركان القياس

ثمّ إنّ أركان القياس أربعة :

الأصل : وهو المقيس عليه.

الفرع : وهو المقيس.

الحكم : وهو ما يحكم به على الثاني بعد الحكم به على الأوّل.

العلة : وهي الوصف الجامع ، الذي يجمع بين المقيس والمقيس عليه ، ويكون هو السبب للقياس.

مثلاً إذا قال الشارع : «الخمر حرام» وثبت بطريق انّ علّة التحريم هو الإسكار ، فإذا شككنا في حكم سائر السوائل المسكرة كالنبيذ والفقاع يحكم عليهما بالحرمة ، لاشتراكهما مع الخمر في الجهة الجامعة.

الثالث : إمكان العمل بالقياس

لا شكّ انّ التعبد بالقياس أمر ممكن فللشارع أن يتعبّدنا به كما تعبدنا بالعمل بقول الثقة ، وما ربما يُنسب إلى الشيعة بقولهم بامتناع العمل بالقياس وعدم إمكانه (1) ففي غير موضعه.

وذلك لأنّ القياس كسائر الأدلّة الظنية المشتركة في إمكان التعبّد به ، وإنّما الكلام في وقوعه وعدم ورود النهي عنه ، فالشيعة الإمامية على الثاني.

ويعجبني أن أنقل كلمة لبعض علمائنا السابقين لمناسبتها المقام :

يقول ابن زهرة الحلبي (511 - 585 ه) : ويجوز من جهة العقل التعبّد بالقياس في الشرعيات ، لأنّه يمكن أن يكون طريقاً إلى معرفة الأحكام الشرعية

ص : 435


1- المستصفى : 2 / 56.

ودليلاً عليها ، ألا ترى أنّه لا فرق في العلم بتحريم النبيذ المسكر مثلاً بين أن ينصَّ الشارع على تحريم جميع المسكر ، وبين أن ينصَّ على تحريم الخمر بعينها ، وينص على أنّ العلّة في هذا التحريم ، الشدة.

ولا فرق بين أن ينصّ على العلة ، وبين أن يدل بغير النص على أنّ تحريم الخمر لشدتها أو ينصب لنا أمارة تغلب في الظن عندها انّ تحريم الخمر لهذه العلّة مع إيجابه القياس علينا في هذه الوجوه كلّها ، لأنّ كلّ طريق منها ، يوصل إلى العلم بتحريم النبيذ المسكر ، ومن منع من جواز ورود العبادة بأحدها كمن صنع من جواز ورودها بالباقي. (1)

الرابع : أقسام القياس

القياس ينقسم إلى منصوص العلة ومستنبطها.

فالأوّل عبارة عمّا إذا نصّ الشارع على علّة الحكم وملاكه على وجه علم انّه علّة الحكم التي يدور الحكم موردها ، لا حكمته التي ربما يتخلّف الحكم عنها.

والثاني : فيما إذا لم يكن هناك تنصيص من الشارع عليها ، وإنّما قام الفقيه باستخراج علّة الحكم بفكره وجُهده ، فيطلق على هذا النوع من القياس ، مستنبط العلّة.

وينقسم مستنبط العلّة إلى قسمين :

تارة يصل الفقيه إلى حد القطع بأنّ ما استخرجه علّة الحكم ومناطه ، وأُخرى لا يصل إلاّ إلى حدّ الظن بكونه كذلك.

ص : 436


1- غنية النزوع : 386 ، قسم الأُصولين ، الطبعة الحديثة.

وقلّما يتّفق لإنسان عادي أن يقطع بأنّ ما وصل إليه من العلّة هو علّة التشريع ومناطه واقعاً ، وليس هناك ضمائم أُخرى وراء ما أدرك.

الخامس : الفرق بين علّة الحكم وحكمته

كثيراً ما يختلط على الفقيه علّة الحكم مع حكمته ، والعلّة هي ما يدور الحكم مدارها ، والحكمة أعمّ من ذلك.

وبعبارة أُخرى : لو كان الحكم دائراً مدار الشيء وجوداً وعدماً فهو علّة الحكم ومناطه ، كالإسكار بالنسبة إلى الخمر ، وأمّا إذا كان الحكم أوسع ممّا ذكر في النصّ ، أو استُنبط فهو من حِكَم الأحكام ومصالحه ، لا من مناطاته وملاكاته ، فمثلاً :

وهذا ما سمّوه ب «المناسب المؤثر» يقول خلاف : ولا خلاف بين العلماء في بناء القياس على المناسب المؤثر ويسمّون القياس بناء عليه قياساً في معنى الأصل. (1)

ولعلّ من هذا القبيل قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الهرة : «إنّها ليست بنجس انّها من الطوافين عليكم والطوافات». (2) فلو كان المفهوم من الرواية «انّ الطواف» علة الحكم ويدور مدارها ، صحّ إلحاق الحشرات من الفأرة وغيرها بها ، وأمّا لو قلنا بأنّه حكمة الحكم ، لا علّته ، يتوقّف في الإلحاق.

نعم الإنجاب وتشكيل الأُسرة من فوائد النكاح ومصالحه ، وليس من مناطاته وملاكاته ، بشهادة انّه يجوز تزويج المرأة العقيمة واليائسة ومن لا تطلب ولداً بالعزل ، وغير ذلك من أقسام النكاح.

ص : 437


1- مصادر التشريع فيما لا نص فيه : 45.
2- سنن الترمذي : 1 / 154 ، كتاب الطهارة ، ح 92.

ولنذكر مثالاً آخر : قال سبحانه : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). (1)

ففرض سبحانه على المطلّقة تربّص ثلاثة قروء بُغية استعلام حالها من حيث الحمل وعدمه ، وأضاف سبحانه بأنّها لو كانت حاملاً فعدتها أن تضع حملها ، قال سبحانه : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ). (2)

ولكن استعلام حال المطلّقة ليس ضابطاً للحكم ولا ملاكاً له ، بل من حِكَمِه ، بشهادة انّه لو غاب زوجها عنها مدّة سنة أو أقلّ أو أكثر فطلّقها يجب عليها التربّص مع العلم بعدم حملها منه.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ بعض ما ورد في الشرع بصورة العلّة ، ربما تكون حكمة ومصلحة.

قال أبو زهرة : الفارق بين العلّة والحكمة ، هو انّ الحكمة غير منضبطة بمعنى انّها وصف مناسب للحكم يتحقّق في أكثر الأحوال ، وأمّا العلة فهي وصف ظاهر منضبط محدود ، أقامه الشارع أمارة على الحكم. (3)

السادس : حكم القياس في منصوص العلّة

العمل بالقياس في منصوص العلّة راجع في الحقيقة إلى العمل بالسنّة ، لا بالقياس ، لأنّ الشارع شرّع ضابطة كلية عند التعليل فنسير على ضوئها في جميع الموارد التي تمتلك تلك العلة.

نفترض انّه ورد في الحديث : «الخمر حرام لأنّه مسكر» فإلحاق غير الخمر

ص : 438


1- البقرة : 228.
2- الطلاق : 4.
3- أُصول الفقه لأبي زهرة : 223 و 233.

من سائر المسكرات عليه ليس عملاً بالقياس المصطلح ، بل عمل بالسنّة الشريفة والضابطة الكلية التي أدلى بها الشارع.

وعلى ضوء ذلك فما يلحق من الفروع بالأصل المنصوص ليس قياساً أوّلاً بل عمل بالسنّة ، وعلى افتراض كونه عملاً بالقياس فهو خارج عن محل النزاع ثانياً ، وقد أطبق مشايخنا الإمامية على العمل بمنصوص العلّة.

توضيحه : إذا كان استخراج الحكم غير متوقّف إلاّ على فهم النص بلا حاجة إلى اجتهاد ، فهو عمل بالظاهر ، بخلاف ما إذا كان متوقفاً وراء فهم النص إلى بذل جهد ، والوقوف على المناط ثمّ التسوية ثمّ الحكم ، قال سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ). (1) فلا نحتاج في فهم حكم الخير الكثير إلاّ إلى فهم مدلول الآية.

ولنذكر مثالاً من طريقنا.

روى محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الإمام الرضا - عليه السلام - ، أنّه قال : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء ، إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فيُنزح حتّى يذهب الريح ، ويطيب طعمه لأنّ له مادة». (2)

فإنّ قوله : «لأنّ له مادة» بما أنّه تعليل لقوله : «لا يفسده شيء» يكون حجّة في غير ماء البئر أيضاً ، فيشمل التعليل بعمومه ، ماءَ البئر ، وماءَ الحمام والعيون وحنفيةَ الخزّان وغيرها فلا ينجس الماء إذا كان له مادة ، فالعمل عندئذ بظاهر السنّة لا بالقياس ، فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع

ص : 439


1- الزلزلة : 7.
2- وسائل الشيعة : 1 ، الباب 14 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 6.

بل موضوع الحكم هو العلة والفروع بأجمعها داخلة تحته.

وعلى ضوء ما ذكرنا ، يكون العمل بالملاك المنصوص عملاً بظاهر السنّة لا بالقياس ، وأمّا المجتهد فعمله تطبيق الضابطة التي أعطاها الشارع على جميع الموارد دفعة واحدة فليس هناك أصل ولا فرع ولا انتقال من حكم الأصل إلى الفرع ، بل موضوع الحكم هو العلة والفروع بأجمعها داخلة تحتها.

وإن شئت قلت : هناك فرق بين استنباط الحكم عن طريق القياس وبين استنباط الحكم عن طريق تطبيق القاعدة المعطاة على مواردها.

ففي الأوّل أي استنباط الحكم من طريق القياس ، يتحمل المجتهد جُهداً في تخريج المناط ، ثمّ يجعل الموضوع الوارد في الدليل أصلاً ، والذي يريد إلحاقه به فرعاً وأمّا الثاني فيكفي فيها فهم النصّ لغة بلا حاجة إلى الاجتهاد ، ولا إلى تخريج المناط فيكون النص دالاّ على الحكمين بدلالة واحدة.

يقول سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (1) دلت الآية على وجوب الاعتزال في المحيض ، وعلّل بكونه أذى ، فلو دلّت الآية على كونه تمام الموضوع للحكم فيتمسك بها في غير المحيض إذا كان المسّ أذى كالنفاس وليس ذلك في العمل بالقياس بل من باب تطبيق الضابطة على مواردها.

السابع : قياس الأولوية

إذا كان ثبوت الحكم في الفرع أولى من ثبوته في الأصل لقوة العلّة المفهومة فيه بطريق النص فهو قياس الأولوية ، وهو حجّة على الإطلاق وهو أيضاً عمل

ص : 440


1- البقرة : 222.

بالنص لا بالقياس وعلى فرض كونه قياساً فهو حجّة عند الجميع نظير الاحتجاج بقوله سبحانه : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) على تحريم ال (1) ضرب ، ولا شكّ في وجوب الأخذ بهذا الحكم ، لأنّه مدلول عرفي يقف عليه كلّ من تدبّر في الآية.

الثامن : تنقيح المناط

إذا اقترن الموضوع في لسان الدليل بأوصاف وخصوصيات لا يراها العرف دخيلة في الموضوع ويتلقّاها من قبيل المثال ، كما إذا ورد في السؤال : رجل شكّ في المسجد بين الثلاث والأربع فأجيب بأنّه يبني على كذا ، فانّ السائل وإن سأل عن الرجل الذي شكّ في المسجد ، لكنّه يتلقّى العرف تلك القيود ، مثالاً ، لا قيداً للحكم ، أي بأنّه يبني على كذا ، فيعمّ الرجل والأُنثى ومن شكّ في المسجد والبيت.

إنّ تنقيح المناط على حدّ يساعده ، الفهم العرفي ممّا لا إشكال فيه ، ولا صلة له بالقياس ، إذ لا أصل ولا فرع ، بل الحكم يعمّ الرجل والأُنثى ، والشاك في المسجد والبيت ، مرة واحدة.

ولعلّ من هذا القبيل قصة الأعرابي حيث قال : هلكت يا رسول الله ، فقال له : ما صنعت؟ قال وقعت على أهلي في نهار رمضان ، قال : اعتق. (2)

والعرف يساعد على إلغاء القيود الثلاثة التالية وعدم مدخليتها في الحكم.

1. كونه أعرابياً.

2. الوقوع على الأهل.

3. صيام شهر رمضان.

ص : 441


1- الإسراء : 23.
2- صحيح مسلم ، كتاب الصيام ، الحديث 187 ، وقد روي بطرق مختلفة وباختلاف يسير في المتن.

فيعمّ البدوي والقروي والوقوع على الأهل وغيره وصيام شهر رمضان وغيره فيكون الموضوع من أفطر بالوقاع صومَه الواجب.

إنّ تنقيح المناط من المزالق للفقيه وربما يُلغي بعض القيود باستحسان ، أو غيره مع عدم مساعدة العرف عليه ، فعليه الاحتياط التام في تنقيح موضوع الحكم والاقتصار بما يساعد عليه فهم العرف على إلغاء القيد وإن شك ، في مساعدة العرف على الإلغاء وعدمها ، فليس له تعميم الحكم.

وعلى كلّ حال ، فهذه التعميمات ، لا صلة لها بالقياس ، وإنّما هي استظهار مفاد الدليل واستنطاقه حسب الفهم العرفي.

وهذا ما يعبر عنه في الفقه الإمامي ، بإلغاء الخصوصية ، أو مناسبة الحكم والموضوع ، مضافاً إلى التعبير عنه ب «تنقيح المناط».

التاسع : المتشابهان غير المتماثلين

إنّ مصبّ القياس هو الأمران المتشابهان لا الأمران المتماثلان ، فكم فرق بين المتماثلين والمتشابهين ، فمثلاً إذا أثبتنا بالتجربة أنّ الفلز يتمدّد بالحرارة ، فيكون ذلك معياراً كلّياً لكلّ فلز مماثل وأنّه يخضع لنفس الحكم ، وهذا خارج عن مصبّ البحث ، إنّما الكلام في القياس بين أمرين متغايرين نوعاً ، متشابهين في جهة خاصة ، فهل يصحّ لنا تسرية حكم الأصل إلى الفرع بذريعة وجود التشابه بينهما أو لا؟ فمثلاً الخمر نوع حرام بالنصّ ، والفقّاع نوع آخر ، لأنّ الأوّل مأخوذ من العنب ، والثاني مأخوذ من الشعير ، فهما نوعان ، فهل يصحّ لنا أن نُسري حكم الخمر إلى الفقّاع لتساويهما في صفة الإسكار؟

وكثيراً ما نرى أنّ الباحثين لا يميّزون بين المتماثلين والمتشابهين ، إذ مرجع

ص : 442

الأوّل غالباً إلى التجربة التي هي دليل عقليّ قطعيّ ، بخلاف الثاني فإنّ الحكم فيه ظنّي لجهة المناسبة والمشابهة إلاّ أن ينتهي إلى مرحلة القطع.

العاشر : تخريج المناط
اشارة

إذا قضى الشارع على حكم في محل من دون أن ينصَّ لمناطه ، مثلاً : إذا حرّم الربا المعاوضي في البُرّ فيعمم إلى كل مكيل بدعوى انّ مناط التحريم هو الكيل ، وهذا ما ربما يعبر عنه باستنباط علّة الحكم بطريق من الطرق ، ثمّ تعميم الحكم حسب صدقها على مواردها وقد ذكر له طرقاً سبعة أو أكثر والمهم منها هو استنباط العلة عن طريق السبر والتقسيم.

والسبر في اللغة هو الامتحان ، وتقريره : أن يُحصر الأوصاف التي توجد في واقعة الحكم وتَصْلح لأن تكون العلّة واحداً منها ، ويختبرها وصفاً وصفاً على ضوء الشروط الواجب توفّرها في العلّة ، وأنواع الاعتبار الذي تعتبر به ، وبواسطة هذا الاختبار تُستبعد الأوصاف التي لا يصحّ أن تكون علّة ويُستبقي ما يصحّ أن تكون علّة ، وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصّل إلى الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة.

إنّ الغزالي ذكر لإثبات العلّة بالاستنباط طرقاً ثلاثة وجعل السبر والتقسيم النوع الأوّل وقال : وهو دليل صحيح وذلك أن يقول : هذا الحكم معلّل ولا علّة له إلاّ كذا وكذا ، وقد بطل أحدهما فتعيّن الآخر ، وإذا استقام السبر كذلك فلا يحتاج إلى مناسبة ، بل له أن يقول : حرّم الربا في البر ولا بدّ من علامة تضبط مجرى الحكم عن موقعه ، ولا علامة إلاّ الطعم أو القوت أو الكيل ، وقد بطل القوت والكيل بدليل كذا ، فثبت الطعم. لكن يحتاج هاهنا إلى إقامة الدليل على ثلاثة

ص : 443

أُمور :

الأوّل : انّه لا بدّ من علامة ، ولا يمكن أن يقال هو معلوم باسم البُرّ فلا يحتاج إلى علامة وعلة ، وذلك لأنّه يستلزم أن ينتفي الربا إذا صار دقيقاً أو سويقاً وقد زال اسم البر ، فدلّ انّ مناط الربا أعمّ من اسم البر.

الثاني : أن يكون سبره حاصراً يحصر جميع ما يمكن أن يكون علّة.

الثالث (1) : إفساد سائر العلل تارة ببيان سقوط أثرها في الحكم بأن يظهر بقاء الحكم مع انتفائها ، أو بانتقاضها بأن يظهر انتفاء الحكم مع وجودها. (2)

يلاحظ عليه : بأنّ السبر والتقسيم إنّما يوجب الاطمئنان في موردين :

1. فيما إذا أفاد السبر والتقسيم الاطمئنان بأنّ ما أخذه هو المناط للحكم ، كما في مسألة تحريم الخمر فلو افترضنا انّه لم يرد فيه نصّ على علّة الحكم ، فالمجتهد يردّد العلّة بين كونه من العنب ، أو كونه سائلاً ، أو كونه ذا لون خاص ، أو كونه مسكراً ، ويستبعد كلّ واحد من العلل إلاّ الأخير فيحكم بأنّه علّة ، ثمّ يقيس كلّ مسكر عليه ، لكن يفقد أكثر موارد القياس هذا النوع من الاطمئنان.

2. التقسيم إذا كان دائراً بين النفي والإثبات يفيد اليقين ، كقولك : العدد إمّا زوج أو فرد ، والحيوان إمّا ناطق أو غير ناطق. وأمّا إذا كان بشكل التقسيم والسبر أي ملاحظة كلّ وصف خاصّ وصلاحيّته للحكم ، فما استحسنه الذوق الفقهي يجعله مناطاً للحكم ، وما يستبعده يطرحه ، فمثل هذا لا يكون دليلاً قطعياً بل ظنّياً ، وهذا شيء أطبق عليه مثبتو القياس.

ص : 444


1- سقط لفظ «الثالث» عن النسخة المطبوعة ببولاق مصر عام 1324 ه.
2- المستصفى : 2 / 74.

قال الشيخ عبد الوهاب خلاّف : وخلاصة هذا المسلك أنّ المجتهد ، عليه أن يبحث في الأوصاف الموجودة في الأصل ، ويستبعد ما لا يصلح أن يكون علّة منها ، ويستبقي ما هو العلّة حسبَ رجحان ظنّه. وهاديه في الاستبعاد والاستبقاء تحقيقُ شروط العلّة بحيث لا يستبق إلاّ وصفاً منضبطاً متعدّياً مناسباً معتبراً بنوع من أنواع الاعتبار ، وفي هذا تتفاوت عقول المجتهدين ، لأنّ منهم من يرى المناسب هذا الوصف ، ومنهم من يرى المناسب وصفاً آخر.

فالحنفية رأوا المناسب في تعليل التحريم في الأموال الربوية ، القدر مع اتحاد الجنس ، والشافعية رأوه الطعم مع اتحاد الجنس ، والمالكية رأوه القوت والادّخار. (1) فمن أين يجزم القائس بأنّ المناط هو الطعم لا القوت ولا الكيل ، فما ذكره الغزالي من أنّه إذا بطل القوت والكيل بدليل كذا وكذا فثبت الطعم ، غير تام ، وذلك لأنّه إن أراد من الدليل الدليل الشرعي القاطع للنزاع فهو حقّ ، ولكن أين للمستنبط هذا الدليل القاطع ، وإن أراد الظن بأنّه المناط دون الآخرين فهو ظن لم يقم على حجّيته دليل.

ونأتي في المقام بمثال حتّى يعلم أنّ استخراج المناط أمر محظور لا يمكن الاطمئنان به.

قد ورد في الحديث «لا يزوّج البكر الصغيرة إلاّ وليّها» ، فقد ألحق بها أصحاب القياس الثيّبَ الصغيرة ، بل المجنونةَ والمعتوهةَ ، وذلك بتخريج المناط وانّه عبارة عن كون المزوّجة صغيرة ناقصة العقل ، فيعمّ الحكم الثيّب الصغيرة والمجنونة أو المعتوهة لاتحاد المناط.

وأمّا استخراج المناط فهو بالبيان التالي :

ص : 445


1- علم أُصول الفقه : 87.

إنّ الحديث اشتمل على وصفين كلّ منهما صالح للتعليل ، وهما الصغر والبكارة ، وبما انّه عُلّلت ولاية الولي على الصغيرة في المال في آية (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (1) وما دام الشارع قد اعتبر الصغر علة للولاية على المال ، والولاية على المال والولاية على التزويج نوعان من جنس واحد وهو الولاية ، فيكون الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية على التزويج بوجه من وجوه الاعتبار ، ولهذا يقاس على البكر الصغيرة من في حكمها من جهة نقص العقل ، وهي المجنونة أو المعتوهة ، وتقاس عليها أيضاً الثيّب الصغيرة.

وبذلك أسقطوا دلالة لفظ البكارة من الحديث مع إمكان أن تكون جزءاً من التعليل كما هو مقتضى جمعها مع الصغر لو أمكن استفادة التعليل من أمثال هذه التعابير. (2)

فانّ استخراج الحكم الشرعي عن هذا الطريق أمر لا يعتمد عليه إلاّ إذا ورد الدليل القاطع على حجّيته.

مضافاً إلى أنّ قياس باب النكاح بباب التصرف في الأموال ، قياس مع الفارق ، فانّ العناية بصيانة مال الصغير تستدعي أن يكون الموضوع هو الصغر ذكراً كان أو أُنثى ، بكراً كان أو ثيباً ، إذ لا دخالة لهذه القيود في أمر الصيانة ولهذا يعم الحكم جميع أفراد الصغير ، وهذا بخلاف باب النكاح فيحتمل فيه الفرق بين الصغير البكر والثيب نظير الفرق بين الكبير البكر والثيب حيث ذهب جماعة إلى أنّ الأُولى أيضاً لا تزوّج إلاّ بإذن الوليّ.

ص : 446


1- النساء : 6.
2- الأُصول العامة للفقه المقارن : 298.
تخريج المناط بالسبر والتقسيم يفيد الظنّ
اشارة

إنّ تخريج المناط بالسبر والتقسيم يفيد الظن لا القطع بالمناط ، وقد عرفت تصريح عبد الوهاب خلاف باختلاف العقول في تشخيص المناط ونزيد على بيانه بأنّ هنا احتمالات أُخرى تخلُّ بعلّية المناط بالبيان التالي :

أوّلاً : نحتمل أن يكون الحكم في الأصل معلّلاً عند الله بعلّة أُخرى غير ما ظنه القائس وهو كونه صغيراً أو قاصر العقل ، وليس هذا بأمر بعيد وقد قال سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً). (1)

إذ الإنسان لم يزل في عالم الحس تنكشف له أخطاؤه ، فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة ، فكيف بملاكات الأحكام ومناطاتها المستورة على العقل إلاّ في موارد جزئية كالإسكار في الخمر ، أو إيقاع العداء والبغضاء في الميسر ، أو إيراث المرض في النهي عن النجاسات؟ وأمّا ما يرجع إلى العبادات والمعاملات خصوصاً فيما يرجع إلى أبواب الحدود والديات فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية وإن كان يظن شيئاً.

قال ابن حزم : وإن كانت العلة غير منصوص عليها فمن أيِّ طريق تعرف ولم يوجد من الشارع نص يبين طريق تعرفها؟ وترك هذا من غير دليل يعرف العلة ينتهي إلى أحد أمرين : إمّا انّ القياس ليس أصلاً معتبراً ، وإمّا انّه أصل عند الله معتبر ولكن أصل لا بيان له وذلك يؤدي إلى التلبيس ، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فلم يبق إلاّ نفي القياس. (2)

ثانياً : لو افترضنا انّ المقيس أصاب في أصل التعليل ، ولكن من أين يعلم انّها تمام العلة ، ولعلّها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضم إليه في الواقع ولم يصل

ص : 447


1- الإسراء : 85.
2- أُصول الفقه لأبي زهرة : 210 ، نقلاً عن الاحكام.

القائس إليه؟

ثالثاً : احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئاً أجنبياً إلى العلة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس عليه.

رابعاً : احتمال أن يكون في الأصل خصوصية في ثبوت الحكم وقد غفل عنها القائس ، ويعلم ذلك بالتدبر في الأمثلة التالية :

1. قياس الولاية في النكاح بالميراث

يقدّم الأخ من الأب والأُمّ على الأخ للأب في الميراث / المقيس عليه

فيقدّم الأخ من الأب والأُمّ على الأخ للأب في ولاية النكاح / المقيس

فإنّ علّة التقديم في الميراث امتزاج الاخوة وهو الجامع المؤثر الموجود في الطرفين.

2. قياس الجهل في المهر بالبيع

انّ الجهل بالعوض يفسد البيع بالاتفاق / المقيس عليه

فالجهل بالمهر يفسد النكاح / المقيس

لوجود المعاوضة والجهل فيها / الجامع

3. قياس ضمان السارق بالغاصب
اشارة

إنّ الغاصب يضمن إذا تلف المال تلف يده / المقيس عليه

والسارق أيضاً يضمن وإن قطعت يده / المقيس

تلف المال تحت اليد العادية / الجامع

ص : 448

فانّ تخريج المناط في هذه الموارد وعشرات من أمثالها تخريجات ظنية وهي بحاجة إلى قيام الدليل ، وإلاّ فيمكن أن يكون للميراث خصوصية غير موجودة في النكاح أو يكون الجهل بالعوض مفسداً في البيع دون النكاح ، لأنّ البيع مبادلة بين المالين بخلاف النكاح فانّه علاقة تجمع بين شخصين ، فالعلّة هو الجهل بالعوض لا الجهل بالمهر ، والمهر ليس عوضاً.

وفي كلام الإمام الصادق لابن شبرمة إلماع إلى محظورية هذا النوع من التخريج فانّه أشبه بالرجم بالغيب.

روى أبو نعيم في «حلية الأولياء» مذاكرة الإمام الصادق - عليه السلام - مع أبي حنيفة كما في رواية ابن شبرمة بالنحو التالي :

أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا.

قال : قتل النفس.

قال : فإنّ الله عزّ وجلّ جعل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة؟

ثمّ قال : أيّهما أعظم الصلاة أم الصوم؟

قال : الصلاة.

قال : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة.

فكيف ويحك يقوم لك قياسك ، اتق الله ولا تقس الدين برأيك. (1)

توضيح الاستدلال : انّه لو افترضنا ورود النص في قتل النفس دون الزنا وانّ القتل يثبت بشاهدين فمقتضى القياس هو قبول الشاهدين في الفرع مع أنّ حكم الله على خلافه.

ونظيره الصلاة والصوم ، فلو افترضنا ورود النصّ في أنّ الحائض لا تقضي و

ص : 449


1- حلية الأولياء : 3 / 197.

لم يرد النص في الصوم فمقتضى القياس عدم لزوم قضائه مع أنّ الحكم الواقعي هو خلافه.

حصيلة البحث

قد خرجنا من دراسة هذه الأُمور العشرة انّ ما هو محط النزاع عبارة عن أمرين :

1. التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل وقد عرفت انّ الإمام الصادق - عليه السلام - ركّز على هذا النوع في كلام له مع أبي حنيفة وهذا النوع من الاصطلاح في مورد القياس مهجور.

2. تخريج المناط عن طريق السبر والتقسيم ، فانّ المسالك لمعرفة العلة غير مقطوعة ، وقد اعترف بها مثبتو القياس ، وأمّا ما سوى ذلك من الأقيسة فهو ليس بقياس حقيقة وإنّما عمل بالسنّة.

إذا علمت هذه الأُمور فلنختم هذا البحث بتأسيس الأصل في حجية الظن ، فهل الأصل في الظنون الحجية إلاّ ما ورد المنع فيه ، أو الأصل عدم الحجية إلاّ ما دلّ الدليل عليه؟ وهذا من أروع البحوث في أُصول الفقه الإمامي وقد خلا عنه كتب السنّة ، وحصيلة هذا البحث هو ما يلي :

الشكّ في الحجية يساوق القطع بعدمها
اشارة

إنّ الأثر تارة يترتب على الوجود الواقعي للشيء كتحريم الخمر المترتب على الخمر الواقعي ، وأُخرى يترتّب على واقعه ومشكوكه معاً كالطهارة حيث إنّ الطاهر الواقعي ومشكوك الطهارة كلاهما محكومان بالطهارة واقعاً أو ظاهراً.

وثالثة أُخرى يترتب على الوجود العلمي للشيء بأن يكون معلوماً للمكلّف.

ص : 450

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المراد من الحجّة في المقام هو ما يحتج به المولى على العبد ، والعبد على المولى ولها آثار منها :

1. التنجز عند الإصابة ، 2. التعذير عند المخالفة ، وهما من آثار ما علم كونه حجّة بالفعل ، وإلاّ فلو كان حجّة في الواقع ولم يقف المكلف على كونه كذلك لا يترتب عليه شيء من الأثر ، لأنّ العقل حاكم بقبح العقاب بلا بيان ، وعند ذلك لو شككنا في حجية شيء فهو ملازم للقطع بعدم الحجية الفعلية ومعه لا يترتّب عليه شيء من آثارها فيكون الأصل في الشك في الحجية عدمها قطعاً ، أي عدم صحّة الاحتجاج وترتب الآثار.

وبعبارة أُخرى : انّ معنى حجّية الظن هو صحة اسناد مؤدّاه إلى الله سبحانه ، والاستناد إليه في مقام العمل ، فإذا كان هذا معنى الحجّية فلا شكّ انّه مرتب على العلم بحجيّة الشيء بأن يقوم دليل قطعي على حجّية الظن ، من كتاب أو سنّة ، فعند ذلك يوصف الظن بالتنجيز أو التعذير ، ويصح إسناد مؤدّاه إلى الله سبحانه ، كما يصحّ الاستناد إليه في مقام الامتثال والعمل.

وأمّا إذا لم يقم الدليل القطعي على حجّية الظن ، بل صار مظنونَ الحجّية أو محتملها فلا يترتب عليه الأثران الأوّلان : التنجز والتعذير ، لأنّ العقل إنّما يحكم بتنجيز الواقع إذا كان هناك بيان من الشارع وإلاّ فيستقل بقبح العقاب بلا بيان والمفروض انّه لم يثبت كون الظن بياناً للحكم الشرعي ، إذ لم يصل بيان من الشارع على حجّية الظن ، كما أنّه لا يعد المكلف العاملُ بالظن معذوراً إذا خالف الواقع إذا لم يدعمه دليل قطعي.

فخرجنا بتلك النتيجة : انّ الحجية بمعنى التنجيز والتعذير من آثار معلوم الحجّية لا مظنونها ولا محتملها ، هذه هي الضابطة في مطلق الظن.

ص : 451

ومنها يظهر حكم القياس ، وذلك لأنّ المفروض وجود الشكّ في حجّية القياس حيث إنّ البحث الآن فيما لم يدعمه دليل ونهى عنه ومعه يكون الاحتجاج به غير صحيح ، إلاّ إذا دل الدليل القطعي على حجيته ، كما أنّ الأثرين الأخيرين ، أعني : اسناد مضمونه إلى الشارع والاستناد إليه في مقام العمل من آثار ما علم كونه حجّة ، وإلاّ يكون الاسناد والاستناد بدعة ، وتشريعاً محرماً ، حيث إنّ الاستناد إلى مشكوك الحجية في مقام العمل واسناد مؤدّاه إلى الشارع تشريع عملي وقولي دلّت على حرمته الأدلة الأربعة.

وعلى ضوء ما ذكرنا فالقاعدة الأوّلية هو عدم حجّية أيّ ظن من الظنون بمعنى انّه لا يحتج به ما لم يقم على صحّة الاحتجاج به دليل ، ومن تلك الظنون القياس فالأصل فيه عدم الحجّية ، فإن قام على حجّيتها دليل فهو وإلاّ كان العمل به بدعة داخلة تحت قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). (1)

ومفاد الآية انّ كلّ ما لم يأذن به الله فاسناده إلى الله والاستناد إليه في مقام العمل يعد افتراءً على الله ، ونظيره قوله سبحانه : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ). (2)

ومفاد الآية انّ التقول على الله بما لا يعلم كونه من الله أمر محرم ، سواء أمر به في الواقع أم لا.

وعلى ضوء ذلك فنفاة القياس في فسحة من إقامة الدليل على حجيته ، لأنّ الأصل عدم حجّية الظن إلاّ ما قام على حجيته الدليل ، وإنّما يلزم على مثبتي

ص : 452


1- يونس : 59.
2- الأعراف : 28.

القياس إقامة الدليل القطعي على أنّ الشارع سوّغ العمل بهذا النوع من الظن كما سوغ العمل بخبر الثقة ، فيجب علينا دراسة أدلّتهم من الكتاب والسنّة والعقل ، وهذا هو بيت القصيد في هذا الفصل وقد استدلّوا بآيات من الذكر الحكيم نذكر ما هو المهم وهي ستة :

1. آية الاعتبار

قال سبحانه في حادثة بني النضير : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ). (1)

والحشر هو الاجتماع ، قال سبحانه : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (2) ، وهو كناية عن اللقاء بين اليهود والمسلمين.

وجه الاستدلال : أنّ الله سبحانه بعد ما قصّ ما كان من بني النضير الذين كفروا ، وما حاق بهم من حيث لم يحتسبوا ، قال : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فَقِسُوا أنفسَكم بهم ، لأنّكم أُناسٌ مثلهم إن فعلتم مثلَ فعلهم حاق بكم مثل ما حاق بهم ، من غير فرق بين تفسير الاعتبار بالعبور والمرور ، أو فُسِّرَ بالاتّعاظ ، فهو تقرير ، لبيان أنّ سنّة الله في ما جرى على بني النضير وغيرهم واحد. (3)

نعم لو فسّر بالتعجب كما عن ابن حزم فلا صلة له بالقياس ، وأمّا لو فسّر بالعبور والمجاوزة فهو يرتبط به ، لأنّ في القياس عبوراً من حكم الأصل ، ومجاوزة

ص : 453


1- الحشر : 2.
2- طه : 59.
3- الحاصل من المحصول : 2 / 162 ؛ المحصول في علم الأُصول : 2 / 247.

عنه إلى حكم الفرع ، فإذا كنّا مأمورين بالاعتبار ، فقد أمرنا بالقياس وهو معنى حجّيته كما أنّه لو فسّر بالاتعاظ فهو أيضاً ظاهر في جعل الحجية للقياس ، لأنّه تقرير لسنّة الله في خلقه ، وانّ ما يجري على النظير ، يجري على نظيره. (1)

يلاحظ على الاستدلال : أوّلاً : بأنّ الآية بصدد بيان سنّة الله في الظالمين ، سواء فسّر الاعتبار بالتجاوز أو بالاتّعاظ ، وأنّ إجلاء بني النضير من قلاعهم وتخريبهم بيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين كان جزاءً لأعمالهم الإجرامية ، وأنّ الله تبارك وتعالى يعذّب الكافر والمنافق والظالم بأنحاء العذاب ولا يتركه ، فليس هناك أصل متيقّن ولا فرع مشكوك حتى نستبين حكمَ الثاني من الأوّل بواسطة المشابهة ، بل كل ذلك فرض على مدلول الآية ، وكم لها من نظائر في القرآن الكريم ، قال سبحانه : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ). (2)

هل تجد في نفسك أنّ الآية بصدد إضفاء الحجّية على القياس؟ أو أنّها لبيان سنّة الله في المكذّبين؟ وقال سبحانه : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً). (3)

قال سبحانه : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ). (4)

وأدلّ دليل على أنّ الآية ليست بصدد بيان حجّية القياس ، هو أنّك لو وضعت كلمة أهل القياس مكان قول : (أُولِي الْأَبْصارِ) فقلت : فاعتبروا يا أهل

ص : 454


1- مصادر التشريع الإسلامي : 26.
2- آل عمران : 137 - 138.
3- الإسراء : 76 - 77.
4- هود : 82 - 83.

القياس ، لعاد الكلام هزلاً غير منسجم.

وثانياً : نفترض انّ الآية بصدد بيان انّ حكم النظير ، يستكشف من حكم النظير ولكن مصبّها ، هو الأُمور الكونيّة لا الأُمور التشريعية والأحكام الاعتبارية فتعميم مدلول الآية في الأُولى إلى الثانية يحتاج إلى الدليل ، وإثبات التعميم بالتمسك بالقياس مستلزم للدور.

وثالثاً : نفترض انّها بصدد إضفاء الحجّية على القياس في التشريع أيضاً ، وانّ حكم الفرع يعلم في حكم الأصل فيما إذا توفّرت علة الحكم بينهما بحيث يجعلهما كصنوان على أساس واحد ، ولكن ما هو المسلك الكاشف عن توفر العلّة ، فالآية ساكتة عنه ، فهل المسلك الكاشف هو :

1. تنصيص الشارع في كلامه.

2. أو الإجماع على وحدة العلّة.

3. أو تنقيح المناط حسب فهم العرف من الكلام.

4. أو تخريج المناط بالسبر والتقسيم.

وبما انّ الآية ساكتة عن هذه الجهة فلا يصحّ الاستدلال بها على حجّية القياس على وجه الإطلاق.

2. آية الردّ إلى الله والرسول

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). (1)

ص : 455


1- النساء : 59.

وجه الاستدلال : أنّ الله سبحانه أمر المؤمنين - بأنّهم إن تنازعوا واختلفوا في شيء ليس لله ولا لرسوله ولا لأُولي الأمر منهم فيه حكم - أن يردُّوه إلى الله وإلى الرسول ، وردّه أي إرجاعه إلى الله وإلى الرسول بإطلاقه يشمل كلّ ما يصدق عليه أنّه ردّ إليهما ، فردّه إلى قواعد الشرع الكلية ردّ إلى الله ورسوله ، وردّ ما لا نصّ فيه إلى ما فيه النصّ ، والحكم عليه بحكم النصّ لتساوي الواقعتين في العلّة التي بُني عليها الحكم ، هو ردّ المتنازع فيه إلى الله ورسوله.

والحاصل : انّ القياس بعد استنباط علّته بالطرق الظنية من الكتاب والسنّة يكون ردّاً إلى الله والرسول وبما انّا مأمورون بالرجوع إليها بهذه الآية ، فتكون النتيجة : نحن مأمورون بالرجوع إلى القياس في التنازع.

قال أبو زهرة : وليس الردّ إلى الله وإلى الرسول إلاّ بتعرّف الأمارات الدالّة منهما على ما يرميان إليه ، وذلك بتعليل أحكامهما والبناء عليها ، وذلك هو القياس. (1)

يلاحظ عليه أوّلاً : إنّ الردّ إلى الله ورسوله يتحقّق إمّا بالرجوع إليهم وسؤالهم عن حكم الواقعة قال سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (2)

أو إرجاعها إلى الضابطة الكلّية التي ذكرها الرسول ، فمثلاً إذا شككنا في لزوم شرط ذكره المتعاقدون في العقد وعدمه ، فنرجع إلى الضابطة التي ذكرها الرسول في باب الشروط وقال : إنّ المسلمين عند شروطهم ، إلاّ شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً. (3)

قال القرطبي في تفسير قوله : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) أي ردّوا ذلك الحكم

ص : 456


1- أُصول الفقه : 207.
2- الأنبياء : 7.
3- الوسائل : الجزء 12 ، الباب 6 من أبواب الخيار ، الحديث 5.

إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته أو بالنظر إلى سنّته بعد وفاته وهذا قول مجاهد والأعمش وقتادة وهو الصحيح - إلى أن قال - : «وقد استنبط عليّ - رضي الله عنه - مدة أقل الحمل - وهو ستة أشهر من قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهراً بقيت ستة أشهر. (1)

وأين هذا (أي الرد إلى كتاب الله وسنّة رسوله) ، من الرجوع إلى القياس لأنّ قياس ما لا نصّ فيه على ما نصّ فيه لأجل تساوي الواقعتين في شيء أو في أشياء نحتمل أو نظنّ أن تكون جهة المشاركة هي العلّة لبناء الحكم ، ليس ردّاً إلى الله ورسوله ، لأنّ العلّة ، ليست منصوصة في كلامه أو كلام نبيّه ، بل مستنبطة بطريق من الطرق التي لا نذعن بإصابتها ، وبذلك يظهر ضعف ما استند إليه الشيخ أبو زهرة ، وذلك لأنّ الاهتداء بتعليل الأحكام إلى نفسها إنّما يصحّ إذا كانت العلّة مذكورة في كلامه سبحانه أو كلام رسوله ، لا ما إذا قام العقل الظنيّ باستخراج العلّة بالسبر والتقسيم أو بغيرهما من الطرق.

وثانياً : انّ الآية نزلت في مورد التخاصم والتحاكم ، كما يدلّ عليه قوله سبحانه في نفس الآية : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) ، وقوله سبحانه بعد هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (2). ومن المعلوم أنّ الرجوع إلى القياس الظني لا يفضّ نزاعاً ولا يقطع اختلافاً ، وإنّما يقطع النزاعُ الرجوعَ إلى كتاب الله وسنّة رسوله اللّذين لا يختلف فيهما اثنان ، ولذلك تختلف فتاوى العلماء القائلين بحجيّة القياس في موارد كثيرة حيث إنّ

ص : 457


1- تفسير القرطبي : 5 / 262.
2- النساء : 60.

البعض يرى توفر شروط العمل به دون البعض الآخر ، ومثله لا يقطع الخصومة.

وثالثاً : انّ مصب الآية هو التنازع فلو دلت الآية على حجّية القياس في باب التحاكم لاختصت دلالتها به ، وتعميمها إلى باب الإفتاء ، يحتاج إلى الدليل والتمسك بالقياس في هذا المورد ، يستلزم الدور ، لأنّ حجّية الآية في مورد الافتاء تتوقف على حجّية القياس ، والمفروض ، انّ حجّيته موقوف على دلالة الآية. (1)

3. آية الاستنباط

قال سبحانه : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً). (2)

وقد استدلّ به السرخسي في أُصوله ، وقال : والاستنباط استخراج المعنى من المنصوص بالرأي ، وقيل : المراد بأُولي الأمر : أُمراء السرايا ، وقيل : العلماء وهو الأظهر ، فإنّ أُمراء السرايا إنّما يستنبطونه بالرأي إذا كانوا علماء. (3)

وقد تفرّد السرخسي في الاستدلال بها ، والمشهور هو الاستدلال بالآية السابقة ، غير أنّ تفسير أُولي الأمر بالعلماء تفسير على خلاف الظاهر ، وإلاّ لقال : «أُولي العلم منهم» ، كما قال سبحانه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ). (4)

يقول العلاّمة الطباطبائي : ومورد قوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) هي الأخبار التي لها جذور سياسية ترتبط بأطراف شيء ربّما أفضى قبولها ، أو ردّها ، أو إهمالها بما فيها من المفاسد والمضار الاجتماعية إلى ما لا يمكن

ص : 458


1- الأُصول العامة : 319.
2- النساء : 83.
3- أُصول الفقه : 2 / 128.
4- آل عمران : 18.

أن يستصلح بأيّ مصلح آخر ، أو يبطل مساعي أُمّة في طريق سعادتها ، أو يذهب بسؤددهم ويضرب بالذلّة والمسكنة والقتل والأسر عليهم ، وأيّ خبرة للعلماء من حيث إنّهم محدّثون أو فقهاء أو قرّاء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر الله سبحانه بإرجاعها وردّها إليهم. (1)

وأمّا من هم «أُولي الأمر» في زمن نزول الآية ، فلسنا بصدد بيانه ، وعلى أيّ حال لا صلة للآية بالقياس أبداً ، بل هدف الآية الإشارة إلى أنّ واجب المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله من أمن أو خوف أو سلامة وخلل ، هو عدم إذاعة ما سمعوه ، وردّه إلى أُولي الأمر الذين يستخرجون صحّة أو سقم ما وصل إليهم من الخبر بفطنتهم وتجاربهم ، وهل تجويز الاستنباط في المسائل السياسيّة بالقرائن يكون دليلاً على جواز استنباط الأحكام الشرعيّة بالقياس؟

4. آية النشأة الأُولى

قوله سبحانه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (2).

فإنّ الآية الثانية جواب لما ورد في الآية الأُولى من قوله : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فأُجيب بالقياس ، فإنّ الله سبحانه قاس إعادة المخلوقات بعد فنائها على بدء خلقها وإنشائها أوّل مرّة ، لإقناع الجاحدين بأنّ من قدر على خلق الشيء وإنشائه أوّل مرّة قادر على أن يعيده بل هذا أهون عليه.

فهذا الاستدلال بالقياس ، إقرار لحجّية القياس وصحّة الاستدلال به وهو

ص : 459


1- الميزان : 5 / 23.
2- يس : 78 - 79.

قياس في الحسيات ولكنّه يدلّ على أنّ النظير ونظيره يتساويان. (1)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الله سبحانه لم يدخل من باب القياس ، وهو أجل من أن يقيس شيئاً على شيء ، وإنّما دخل من باب البرهان ، فأشار إلى سعة قدرته ووجود الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام وإيجادها أوّل مرّة بلا سابق وجوده ، وبين القدرة على إحيائها من جديد ، بل القدرة على الثاني أولى ، فإذا ثبتت الملازمة بين القدرتين والمفروض أنّ الملزوم وهي القدرة على إنشائها أوّل مرّة موجودة ، فلا بدّ أن يثبت اللازم ، وهي القدرة على إحيائها وهي رميم ، فأين هو من القياس؟!

ولو صحّت تسمية الاستدلال قياساً ، فهو من باب القياس الأولوي الذي فرغنا عن كونه خارجاً عن مورد النزاع ، ويدلّ على ذلك أنّه سبحانه لم يقتصر بهذا البرهان ، بل أشار إلى سعة قدرته بآية أُخرى بعدها وقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ). (2)

والآيات كسبيكة واحدة والهدف من ورائها تنبيه المخاطب على أنّ استبعاد إحياء العظام الرميمة في غير محلّه ، إذ لو كانت قدرته سبحانه محدودة لكان له وجه ، وأمّا إذا وسعت قدرته كلَّ شيء بشهادة أنّه خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً ، وخلق السماوات والأرض وهي خلق أعظم من الإنسان ، لكان أقدر على معاد الإنسان وإحياء عظامه الرميمة.

وليس كلّ استدلال عقلي قياساً.

وثانياً : سلّمنا دلالة الآية على حجّية القياس لكن مصبّها هو قياس الأُمور الكونيّة بعضها ببعض فيما إذا كانت الجهة المشتركة بين المقيس والمقيس عليه ،

ص : 460


1- مصادر التشريع : 27.
2- يس : 81.

أمراً واضحاً كالشمس في رائعة النهار ، وأين هذا من القياس في الأُمور التشريعية الاعتبارية في الموارد التي يصل المجتهد فيها إلى الجهة المشتركة بالسبر والتقسيم وربما يظن الذي لا يفيد سوى الظن بالمشاركة ، فتعميم مفاد الآية إلى التشريع لا يصحّ إلاّ بضرب من القياس والاستدلال عليه بالآية عندئذ يستلزم الدور كما مرّ نظيره.

5. آية جزاء الصيد

قال الله تعالى : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) (1).

قال الشافعي : فأمرهم بالمثْل ، وجعل المثْل إلى عدلين يحكمان فيه فلمّا حُرِّم مأكولُ الصيد عامّاً كانت لدوابّ الصيد أمثال على الأبدان ، فحكم مَنْ حكم من أصحاب رسول الله على ذلك فقضى في الضَّبع بكبش وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة. (2)

والعلم يحيط أنّهم أرادوا في هذا ، المثل بالبدن لا بالقيم ، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم لاختلاف أثمان الصيد في البلدان ، وفي الأزمان وأحكامهم فيها واحدة.

والعلم يحيط أنّ اليربوع ليس مثل الجفرة في البدن ، ولكنّها كانت أقرب الأشياء منه شبهاً فجعلت مثله ، وهذا من القياس ، يتقارب تقارب العنز والظبي ،

ص : 461


1- المائدة : 95.
2- العناق - بفتح العين المهملة - : هي الأُنثى من أولاد المعز ما لم يتمّ له سنة ، والجفرة : ما لم يبلغ أربعة أشهر وفصل عن أُمّه وأخذ في الرعي.

ويبعد قليلاً بعد الجفرة من اليربوع. (1)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ حاصل مفاد الآية أنّه يشترط في الكفارة أن تكون مماثلة لما قتله من النعم إمّا مماثلة في الخلقة كما هو المشهور ، أو المماثلة في القيمة كما هو المنقول عن إبراهيم النخعي ، وعلى أيّ تقدير فلا صلة له بحجّية القياس في استنباط الأحكام الشرعية وكونه من مصادرها ، لأنّ أقصى ما يستفاد من الآية أنّ المحرم إذا قتل الصيد متعمّداً فجزاؤه هو ذبح ما يشبه الصيد في الخلقة كالبدنة في قتل النعامة ، والبقرة في قتل الحمار الوحشي وهكذا ، وهل اعتبار التشابه في مورد يكون دليلاً على أنّ الشارع أخذ به في جميع الموارد ، أو يقتصر بمورده ولا يصحّ التجاوز عن المورد إلاّ بالقول بالقياس غير الثابت إلاّ بهذه الآية ، وهل هذا إلاّ دور واضح؟

إنّ وزان التمسّك بالآية في حجّية القياس نظير الاستدلال عليها بقول الفقهاء في ضمان المثلي بالمثلي والقيمي بالقيمي ، حيث اقتصر في براءة الذمّة ، بالمماثلة ، في العين أو قيمتها.

وثانياً : أنّ محطّ البحث هو كون القياس من مصادر التشريع للأحكام الشرعية الكلّية ، وأين هذا من كون التشابه معياراً في تشخيص مصداق الواجب على الصائد؟

وربما يستدلّ بالآية بوجه آخر ، وهو انّه سبحانه أوجب المثل وجعل طريق تشخيص المماثلة هو الظن. (2)

يلاحظ عليه : أنّ حجّية الظنّ في مورد لا يكون دليلاً على اعتباره في سائر الموارد كما سيوافيك.

ص : 462


1- الرسالة : 491 ، ذكره في باب الاجتهاد ، وهو عنده مساو للقياس كما مرّ.
2- الطوسي : العدة : 2 / 276.

وقد استدلّ الشوكاني (1) بوجه ثالث قريب من الوجه الثاني هو انّه سبحانه أوجب المثل ولم يقل أيّ مثل فوكّل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا ، نظيره أنّه أمر بالتوجه إلى القبلة بالاستدلال وقال : (حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). (2)

يلاحظ عليه : أنّ الشارع وإن ترك لنا تشخيص الموضوعات ، إلاّ أنّه جعل لها طرقاً كالبيّنة ، مضافاً إلى الطرق العلمية في مورد القبلة ، وكون القياس أحد هذه الطرق أوّل الكلام.

6. آية القدر

وتعلّقوا أيضاً بقوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ). (3) قالوا : والمثلية والمقدار طريقة غالب الظن وبقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). (4) قالوا : وذلك طريقة غالب الظن. (5)

يلاحظ عليه : أنّه إذا ثبتت حجّية الظنّ في مورد أو موردين لا يكون دليلاً على حجّيته مطلقاً ، ولو قيل بذلك يصير قياساً وكلامنا في مسألة القياس ، فكيف يستدلّ به على نفسه؟

7. آية العدل

واستدلّ ابن تيمية على حجّية القياس بقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى). (6) بتقريب انّ العدل هو التسوية ، والقياس هو التسوية بين مثلين في الحكم فيتناوله عموم الآية.

ص : 463


1- إرشاد الفحول : 201.
2- البقرة : 201.
3- البقرة : 236.
4- النساء : 3.
5- عدة الأُصول : 2 / 276.
6- النحل : 90.

يلاحظ عليه : أنّ الله سبحانه يأمر بالعدل والإحسان والنهي عن الظلم والبغي في الحياة الفردية والاجتماعية ، وأي صلة للآية بالقياس في الأحكام وانّ المثلين في المناط المستخرج عن طريق السبر والتقسيم يجب أن يكونا متماثلين.

يقول الشوكاني : لو قلنا بدلالة الآية على حجّية القياس فإنّما نقول بها في الأقيسة التي قام الدليل على نفي الفارق فيها لا الأقيسة التي هي شعبة من شعب الرأي ونوع من الظنون الزائغة وخصلة من خصال الخيالات الزائفة. (1)

وقد تمسّكوا بآيات أُخرى ليس لها أيّ مساس بحجّية القياس ، فلنذكر ما استدلّوا به على صحّته من السنّة.

2. الاستدلال بالسنّة

اشارة

استدلّ القائلون بالقياس بروايات نذكر ما هو المهمّ منها :

1. حديث معاذ بن جبل
اشارة

احتجّ غير واحد من أصحاب القياس بحديث معاذ بن جبل والاحتجاج فرع إتقان الرواية سنداً ومتناً وإليك بيانها :

عن الحرث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة ، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص :

إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حين بعثه إلى اليمن ، فقال : كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟

قال : أقضي بما في كتاب الله.

ص : 464


1- إرشاد الفحول : 202.

قال : فإن لم يكن في كتاب الله؟

قال : فبسنّة رسول الله.

قال : فإن لم يكن في سنّة رسول الله؟

قال : أجتهد رأيي ، لا آلو.

قال : فضرب رسول الله صدري ، ثمّ قال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله. (1)

وقد استدلّ به الإمام الشافعي ، فقال - بعد ما أفاد أنّ القياس حجّة فيما لم يكن في المورد نصّ كتاب أو سنّة - : فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ ثمّ أجاب : هما اسمان لمعنى واحد. (2)

وقال في موضع آخر : أمّا الكتاب والسنّة فيدلاّن على ذلك ، لأنّه إذا أمر النبي بالاجتهاد فالاجتهاد أبداً لا يكون إلاّ على طلب شيء ، وطلب الشيء لا يكون إلاّ بدلائل ، والدلائل هي القياس. (3)

وقال أبو الحسين البصري : وجه الاستدلال به أنّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - صوّبه في قوله : أجتهد رأيي عند الانتقال من الكتاب والسنّة ، فعلمنا أنّ قوله : أجتهد رأيي ، لم ينصرف إلى الحكم بالكتاب والسنّة. (4)

وثمّة كلمات متماثلة لما ذكرنا في تقريب الاستدلال به.

لكنّ الحديث ضعيف سنداً وغير تام دلالة.

ص : 465


1- مسند أحمد : 5 / 230 ؛ سنن الدارمي : 170 ؛ سنن أبي داود : 3 / 303 برقم 3593 ؛ سنن الترمذي : 3 / 616 برقم 1328 ، ينتهي سند الجميع إلى حارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص.
2- الرسالة : 477 و 505 ، طبع مصر ، تحقيق أحمد محمد شاكر.
3- الرسالة : 477 و 505 ، طبع مصر ، تحقيق أحمد محمد شاكر.
4- المعتمد : 2 / 222.

أمّا السند ، ففيه الأُمور التالية :

1. إنّ أبا عون محمد بن عبيد الله الثقفي الوارد في السند ، مجهول لم يعرف.

2. إنّ الحارث بن عمرو ، مجهول مثله ولم يعرف سوى أنّه ابن أخي المغيرة بن شعبة.

3. إنّ الحارث بن عمرو ، ينقل عن أُناس من أهل حمص وهم مجهولون فتكون الرواية مرسلة. وبعد هذه الأُمور أفيصحّ الاستدلال بحديث يرويه مجهول عن مجهول عن مجاهيل؟!

قال ابن حزم : وأمّا خبر معاذ ، فإنّه لا يحلّ الاحتجاج به لسقوطه ، وذلك أنّه لم يُروَ قطّ إلاّ من طريق الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يدري أحد من هو : حدّثني أحمد بن محمد العذري ، حدثنا أبو ذر الهروي ، حدثنا زاهر بن أحمد الفقيه ، حدثنا زنجويه بن محمد النيسابوري ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري فذكر سند هذا الحديث ، وقال :

قال البخاري : ولا يعرف الحارث إلاّ بهذا ولا يصحّ. هذا نصّ كلام البخاري في تاريخه الأوسط ، ثمّ هو عن رجال من أهل حمص لا يدرى من هم. (1)

وقال الذهبي : الحارث بن عمرو ، عن رجال ، عن معاذ بحديث الاجتهاد ، قال البخاري : لا يصحّ حديثه.

قلت : تفرّد به أبو عون (محمد بن عبيد الله الثقفي) عن الحارث بن عمرو الثقفي ابن أخي المغيرة وما روى عن الحارث ، غير أبي عون وهو مجهول.

وقال الترمذي : ليس إسناده عندي بمتّصل. (2)

ص : 466


1- الإحكام : 5 / 207.
2- ميزان الاعتدال : 1 / 439 برقم 1635.

وقال السيد المرتضى : إنّ حديث معاذ خبر واحد وبمثله لا تثبت الأُصول المعلومة ، ولو ثبتت بأخبار الآحاد لم يجز ثبوتها بمثل خبر معاذ ، لأنّ رُواته مجهولون. وقيل : رواه جماعة من أصحاب معاذ ولم يُذكَروا. (1)

وفي عون المعبود : وهذا الحديث أورده الجوزقاني في «الموضوعات» وقال : هذا حديث باطل ، رواه جماعة عن شعبة ، وقد تصفحت هذا الحديث في أسانيد الكبار والصغار ، وسألت من لقيتُه من أهل العلم بالنقل عنه فلم أجد له طريقاً غير هذا ، - إلى أن قال : - فإن قيل انّ الفقهاء قاطبة أوردوه واعتمدوا عليه قيل هذا طريقه والخلف قلّد السلف. (2)

وأمّا الدلالة ، فانّ الاستدلال بالحديث على حجّية القياس لا يخلو من غرابة.

أمّا أوّلاً : فلأنّها مبنية على مساواة الاجتهاد بالقياس ، بل المراد به هو الاجتهاد في كتاب الله وسنّة رسوله حتّى يتوصل إلى حكم الله عن طريقهما ، لأنّ الأحكام على قسمين قسم موجود في ظواهر الكتاب والسنّة لا يحتاج إلى بذل الجهد ، بل يعرفه كلّ من يعرف اللغة ، وقسم منه غير موجود في ظواهره لكن يمكن التوصل إليها عن طريقهما بالتدبر فيهما.

وهذا هو الاجتهاد الدارج بين العلماء ، وأين هذا من القياس الذي ورد فيه النص على حكم الأصل دون الفرع ، والقائس يبذل جهده ، ليجد فيهما التشابه ، حتّى يسري حكم الأصل إلى الفرع.

قال المرتضى : ولا يُنكر أن يكون معنى قوله : «أجتهد رأيي» أي أجتهد

ص : 467


1- الذريعة إلى أُصول الشريعة : 2 / 773.
2- عون المعبود شرح سنن أبي داود : 9 / 510.

حتى أجد حكم الله تعالى في الحادثة ، من الكتاب والسنّة ، إذ كان في أحكام الله فيهما ما لا يتوصّل إليه إلاّ بالاجتهاد ، ولا يوجد في ظواهر النصوص ، فادّعاؤهم أنّ إلحاق الفروع بالأُصول في الحكم لعلّة يستخرجها القياس ، هو الاجتهاد الذي عناه في الخبر ، ممّا لا دليل عليه ولا سبيل إلى تصحيحه. (1)

وثانياً : أنّ تجويز القياس في القضاء لا يكون دليلاً على تجويزه في الإفتاء ، لأنّ القضاء أمر لا يمكن تأخيره ، بخلاف الإفتاء ، فالاستدلال بجواز القياس في القضاء على جوازه في الإفتاء ، مبنيّ على صحّة القياس وهو دور واضح.

وثالثاً : أنّ القضاء منصب خطر إذ به تصان الدماء والأعراض والأموال ، كما به تباح النواميس والشئون الخطيرة ، فهل يمكن أن يبعث النبي رجلاً ويخوّل له النبي التصرف في مهام الأُمور ، باعمال الرأي من دون أن يحدّده على وجه يصونه عن الخطأ ومجانبة الواقع ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المراد من الاجتهاد هو استخراج حكم الواقعة عن المصدرين بالتأمل فيهما ، لا إعمال الرأي بأقسامه المختلفة التي ربما لا تمس الواقع غالباً.

وهذا يكشف عن وجود خصوصية في معاذ تصدّه عن استعمال الرأي الخارج عن حدود الكتاب والسنّة ، وإلاّ لما خوله أمر القضاء من دون تحديده.

ويشهد على ما ذكرنا ما حكي من سيرة معاذ حيث إنّه لم يكن يجتهد برأيه في الأحكام وإنّما كان يتوقّف حتى يسأل النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -.

روى يحيى بن الحكم أنّ معاذاً قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أُصدِّق أهلَ اليمن ، وأمرني أن آخذ من البقر من كلِّ ثلاثين تبيعاً ، ومن كلّ أربعين مُسِنَّةً قال : فعرضوا عليّ أن آخذ من الأربعين فأبيت ذاك ، وقلت لهم : حتى أسأل

ص : 468


1- الذريعة : 2 / 776.

رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك.

فقدمتُ ، فأخبرت النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فأمرني أن آخذ من كلّ ثلاثين تبيعاً ، ومن كلّ أربعين مُسِنَّةً. (1)

فإذا كانت هذه سيرته فكيف يقضي بالظنون والاعتبارات؟!

ثمّ إنّ هناك نقطة جديرة بالذكر ، وهي أنّ القضاء منصب خطير لا يشغله إلاّ العارف بالكتاب والسنّة والخبير في فضّ الخصومات ، فالنبيّ الذي نصبه للقضاء لا بدّ أن يعلِّمه الكتاب والسنّة أوّلاً وأن يكون واقفاً على مدى إحاطته بهما ، ثم يبعثه إلى القضاء وفصل الخصومات مع المعرفة التامّة لحال القاضي.

وعلى هذا (أي لزوم المعرفة بكفاءة المبعوث قبل البعث) يكون السؤال بقوله : «فكيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال : أقضي بما في كتاب الله» أمراً لغواً ، وهذا يعرب عن أنّ الحديث لم ينقل على الوجه الصحيح ، وستوافيك الصور الأُخرى للرواية.

قال الرازي : إنّ الحديث يقتضي أنّه سأله عمّا به يقضي بعد أن نصبه للقضاء ، وذلك لا يجوز لأنّ جواز نصبه للقضاء مشروط بصلاحيته للقضاء ، وهذه الصلاحية إنّما تثبت لو ثبت كونه عالماً بالشيء الذي يجب أن يقضي به والشيء الذي لا يجب أن يقضي به. (2)

ثمّ إنّ المتمسّكين بالحديث لمّا رأوا ضعف الحديث سنداً ودلالة ، حاولوا تصحيح التمسّك بقولهم بأنّ خبر معاذ خبر مشهور ولو كان مرسلاً ، لكنّ الأُمّة تلقّته بالقبول. (3)

ص : 469


1- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 240 ؛ المسند الجامع : 15 / 230 برقم (11518 - 41).
2- المحصول : 2 / 255.
3- الحاصل من المحصول : 2 / 163.

لكن عزب عن المستدلّ أنّ اشتهار الحديث نتيجة الاستدلال به للقياس ولو لا كونه مصدراً لمقالة أهل القياس لما نال تلك الشهرة.

يقول السيد المرتضى : أمّا تلقّي الأُمّة له بالقبول ، فغير معلوم ، فقد بيّنا أنّ قبول الأُمّة لأمثال هذه الأخبار كقبولهم لمسّ الذكر ، وما جرى مجراه ممّا لا يُقطع به ولا يُعلم صحّته. (1)

إلى هنا تمّ مناقشة الحديث سنداً ودلالة ، وتبيّن أنّ الحديث غير صالح للاحتجاج به.

الصور الأُخرى للحديث

إنّ الحديث قد ورد بصور مختلفة وبينها تضادّ كبير في المضمون ، وإليك هذه الصور :

الصورة الأُولى : ما رواه ابن حزم قال : حدثنا حمام وأبو عمر الطلمنكي قال حمام : حدثنا أبو محمد الباجي ، حدثنا عبد الله بن يونس ، قال : حدثنا بقى (2) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة.

وقال الطلمنكي : حدثنا ابن مفرج ، حدثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ، قال : حدثنا محمد بن علي بن زيد ، حدثنا سعيد بن منصور ، ثمّ اتّفق ابن أبي شيبة وسعيد كلاهما عن أبي معاوية الضرير. حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي - أبو عون - قال : لمّا بعث رسول الله معاذاً إلى اليمن ، قال : يا معاذ بم تقضي؟ قال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : فإن جاءك

ص : 470


1- الذريعة إلى أُصول الشريعة : 2 / 774.
2- هكذا في المصدر.

أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيّه؟ قال : أقضي بما قضى به الصالحون. قال : فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيّه ولا قضى به الصالحون؟ قال : أؤم الحقّ جهدي.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : الحمد لله الذي جعل رسول رسول الله يقضي بما يُرضى به رسول الله. (1)

ترى أنّ معاذاً يقدّم ما قضى به الصالحون على كلّ شيء ، بعد الكتاب والسنّة ، ولعلّ مراده هي الأعراف السائدة بين المجتمعات التي تكون مرجعاً للقضاء كما أوضحنا في بعض محاضراتنا الأُصوليّة (2) حالها عند دراسة حجّية العرف والأعراف. ويحتمل أن يكون مراده ، هو ما ورد في الشرائع السالفة.

كما أنّ مراده من قوله : «أؤمّ الحقّ» هو التفكّر في الأُصول والقواعد الواردة في الكتاب والسنّة.

أضف إلى ذلك أنّ الرواية مرسلة ، لأنّ أبا عون لا يروي عن «معاذ» مباشرة ، لتأخّر طبقته في الحديث عن «معاذ» بطبقتين.

الصورة الثانية : عن عبد الرحمن بن غنم ، قال : حدثنا معاذ بن جبل ، قال :

لمّا بعثني رسول الله إلى اليمن ، قال : لا تقضينّ ولا تفصِلنّ إلاّ بما تعلم ، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبيّنه أو تكتب إليَّ فيه. (3)

وهي : متّصلة السند ولكن المتن غير ما جاء في الحديث بل يغايره تماماً ، وينفي مقالة حماة القياس.

الصورة الثالثة : ما وردت في الكتب الأُصولية ولعلّها منقولة بالمعنى.

قال أبو الحسين البصريّ : روي عن النبيّ ، أنّه قال لمعاذ وأبي موسى

ص : 471


1- الإحكام : 5 / 208.
2- إرشاد العقول : 1 / 285 - 291.
3- أخرجه ابن ماجة برقم 55.

الأشعري ، وقد أنفذهما إلى اليمن ، بم تقضيان؟

قالا : إن لم نجد الحكم في السنّة ، قسنا الأمر بالأمر ، فما كان أقرب إلى الحقّ عملنا به. (1)

ونقله الرازي في «المحصول» ، وقال : روي أنّه أنفذ معاذاً وأبا موسى الأشعري إلى اليمن فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - لهما : بما تقضيان ، فقالا : إذا لم نجد الحكم في السنّة نقيس الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى الحقّ عملنا به.

فقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : أصبتما. (2)

وتبعه الأرموي في «التحصيل من المحصول». (3)

والظاهر أنّ الحديث نقل بالمعنى حسب فهم الراوي ، ولم نعثر على هذا النصّ في الصحاح والمسانيد.

نعم أخرج أحمد عن أبي بردة عن أبي موسى أنّ رسول الله بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن فأمرهما أن يعلّما الناس القرآن. (4)

وعلى أيّ تقدير فالرواية مرسلة أوّلاً ، وإجابة الرجلين بجواب واحد في زمان واحد بعيد ثانياً ، واختصاصها بالقضاء دون الإفتاء ثالثاً ، وتفويض أمر القضاء إلى رأي الرجلين دون تحديد له ، يلازم التهاون بالنواميس رابعاً ، فلا محيص عن القول بوجود خصوصية فيهما كانت تصدهما عن الإفتاء بالرأي الذي ليس له جذر في الكتاب والسنّة.

ص : 472


1- المعتمد : 2 / 222.
2- المحصول : 2 / 254.
3- الحاصل من المحصول : 2 / 163.
4- مسند أحمد بن حنبل : 4 / 397.
2. حديث عمر

عن جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب ، قال : هششت فقبَّلتُ وأنا صائم ، فقلت : يا رسول الله أتيت أمراً عظيماً قبّلتُ وأنا صائم ، فقال : «أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم؟» فقلت : لا بأس بذلك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «ففيم؟!». (1)

قال ابن قيم الجوزية : ولو لا أنّ حكمَ المثل حكمُ مثلِه وأنّ المعاني والعلل مؤثّرة في الأحكام نفياً وإثباتاً لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى ، فَذَكَره ليُدلّ به على أنّ حكم النظير حكمُ مثله ، وأنّ نسبة القبلة التي هي وسيلة للوطء كنسبة وضع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شربه ، فكما أنّ هذا الأمر لا يضرّ ، فكذلك الآخر. (2)

وقال السرخسي : هذا تعليم المقايسة ، فإنّ بالقبلة يفتتح طريق اقتضاء الشهوة ولا يحصل بعينه اقتضاء الشهوة ، كما أنّ بإدخال الماء في الفم يفتتح طريق الشرب ولا يحصل به الشرب. (3)

أقول : إنّ القياس عبارة عن استفادة حكم الفرع عن حكم الأصل بحيث يعتمد أحدهما على الآخر وليس المقام كذلك ، بل كلاهما كغصني شجرة أو كجدولي نهر ، فالمبطل هو الأكل والجماع لا مقدّمتهما فبما أنّ المخاطب كان واقفاً على ذلك الحكم في الأكل دون الجماع ، أرشده النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إليه بتشبيه القبلة بالمضمضة إقناعاً للمخاطب لا استنباطاً للحكم من الأصل وليس الكلام في إقناع المخاطب ، بل في استنباط الحكم والرواية غير ظاهرة ، في الأمر الثاني الذي

ص : 473


1- سنن أبي داود : 2 / 311 ، كتاب الصوم رقم 2385 ؛ مسند أحمد : 1 / 21.
2- إعلام الموقعين : 1 / 199.
3- أُصول الفقه : 2 / 130.

هو المقصود بالاستدلال بها.

أضف إلى ذلك ما ذكره ابن حزم حولها حيث قال :

لو لم يكن في إبطال القياس إلاّ هذا الحديث لكفى ، لأنّ عمر ظنّ أنّ القبلة تفطر الصائم قياساً على الجماع ، فأخبره - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّ الأشياء المماثلة والمتقاربة لا تستوي أحكامها ، وأنّ المضمضة لا تفطر ، ولو تجاوز الماء الحلق عمداً لأفطر ، وأنّ الجماع يفطر ، والقبلة لا تفطر ، وهذا هو إبطال القياس حقاً. (1)

3. حديث ابن عباس

عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس ، أنّ رجلاً سأل النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّ أبي أدركه الحجّ وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته فإن شددته خشيت أن يموت أفأحجّ عنه؟

قال : أفرأيت لو كان عليه دَين فقضيتَه أكان مجزئاً؟ قال : نعم.

قال : فحجّ عن أبيك.

ورواه نافع بن جبير وسعيد بن جبير وعكرمة وأبو الشعثاء وعطاء عن ابن عباس بتعابير متقاربة ، فالرواية واحدة لانتهاء أسنادها إلى ابن عباس والرواة عنه متعدّدون (2) ولكن الرواية في الكتب الأُصولية منسوبة ، إلى جارية خثعميّة. (3)

والرواية المنسوبة إليها ليست مشتملة على التشبيه ، وإليك نصّها :

عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنّه قال :

ص : 474


1- الإحكام : 7 / 409.
2- لاحظ للوقوف على صور الروايات : المسند الجامع : 9 / 16 - 19 ، كتاب الحج.
3- المنخول : 329 ؛ المحصول : 2 / 262.

كان الفضل بن عباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشقّ الآخر. قالت : يا رسول الله إنّ فريضة الله في الحجّ على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحجّ عنه؟ قال : نعم ، وذلك في حجّة الوداع. (1)

وعلى كلّ تقدير فقد استدلّ بهذه الرواية ، يقول السرخسي : هذا تعليم المقايسة وبيان بطريق إعمال الرأي.

وقال الآمدي : إنّه ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه وهو عين القياس. (2)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما جاء في هذه الرواية ليس من مقولة القياس ، بل من باب تطبيق الكبرى المسلّمة عند القائل على صغراها ، أعني قوله : كلّ دين يقضى ، وقد طبقها رسول الله على دين الله لأبيها ، فحكم بلزوم القضاء فأين هذا من القياس؟!

وإن شئت قلت : إنّ القياس يتحقّق بأركان أربعة :

1. الأصل ، 2. الفرع ، 3. الجهة الجامعة بينهما ، 4. الحكم ، فيلاحظ القياس الأصل أوّلاً ، ثمّ الفرع ثانياً ، ثمّ يتفحص عن الجهة الجامعة بينهما ، ثمّ يحكم بالتحاق الفرع بالأصل ، وأين هذه الأُمور المتسلسلة ، ممّا ورد في الرواية ، بل النبي لما كان عالماً بالتشريع الإلهي وهو انّ كلّ دين يقضى من غير فرق بين كونه دين الناس ، أو دين الله سبحانه ، وكان السائل جاهلاً بالتسوية ، فشبّه أحدهما

ص : 475


1- موطأ مالك : 236 ؛ مسند أحمد : 1 / 361 برقم 1893 ؛ صحيح البخاري : 2 / 163 ؛ صحيح مسلم : 4 / 101 ؛ سنن النسائي : 5 / 117 ؛ سنن أبي داود : برقم 1809.
2- الأحكام للآمدي : 3 / 78.

بالآخر بنية تطبيق الكبرى على الصغرى.

وثانياً : أنّ القياس الوارد في الحديث من باب القياس الأولوي ، وقد مرّ أنّه خارج عن محلّ النزاع ، والشاهد عليه قوله : «أحقّ بالقضاء».

4. حديث الأعرابي

عن أبي طاهر وحرملة بن يحيى قالا : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة :

إنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جاءه أعرابي فقال : يا رسول الله إنّ امرأتي ولدت غلاماً أسود (وإنّي أنكرته) ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «هل لك من إبل؟» قال : نعم ، قال : «ما ألوانها؟» ، قال : حمر ، قال : «هل فيها من أورق؟» قال : نعم ، قال : «فأنّى كان ذلك؟» ، قال : أراه عرق نزعه ، قال : «فلعلّ ابنك هذا عرق نزعه». (1)

يلاحظ عليه : أنّ الأصل المقرّر في الشرع ، هو أنّ الولد للفراش ، ولم يكن للأعرابي نفي الولد بحجّة عدم التوافق في اللون ، وأراد النبيّ أن يبطل حجّته بأنّ عدم التوافق لا يكون دليلاً على عدم الإلحاق ، وليس ذلك بعجيب ، لأنّه يوجد نظيره في الحيوانات فالإبل الحمر ربّما تلد أورق بالرغم من حمرتها ، وقد بيّن وجهه في الحديث.

فلو صحت تسمية ذلك قياساً فإنّما هو في الأُمور الطبيعية لا في الأحكام الشرعية.

قال ابن حزم : وهذا من أقوى الحجج عليهم في إبطال القياس ، وذلك لأنّ الرجل جعل خلاف ولده في شبه اللون علّة لنفيه عن نفسه ، فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -

ص : 476


1- صحيح البخاري ، كتاب الحدود : 8 / 173.

حكم الشبه ، وأخبره أنّ الإبل الورق قد تلدها الإبل الحمر ، فأبطل - صلى الله عليه وآله وسلم - أن تتساوى المتشابهات في الحكم ، ومن المحال الممتنع أن يكون من له مسكة عقل يقيس ولادات الناس على ولادات الإبل ، والقياس عندهم إنّما هو ردّ فرع إلى أصله وتشبيه ما لم ينصّ بمنصوص ، وبالضرورة نعلم أنّه ليس الإبل أولى بالولادة من الناس ، ولا الناس أولى من الإبل وأنّ كلا النوعين في الإيلاد ، والإلقاح سواء ، فأين هاهنا مجال للقياس؟ وهل من قال : إن توالد الناس مقيس على توالد الإبل ، إلاّ بمنزلة من قال : إنّ صلاة المغرب إنّما وجبت فرضاً لأنّها قيست على صلاة الظهر؟ وإنّ الزكاة إنّما وجبت قياساً على الصلاة.

وهذه حماقة لا تأتي بها إلاّ عضاريط أصحاب القياس ، لا يرضون بها لأنفسهم.

فكيف أن يضاف هذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي آتاه الله الحكمة والعلم دون معلّم للناس ، وجعل كلامه على لسانه ما أخوفنا أن يكون هذا استخفافاً بقدر النبوّة وكذباً عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -. (1)

وممّا ذكرنا يعلم حال بعض ما استدلّ به على حجّية القياس نظير :

جاء في الحديث انّه قال لأُمّ سلمة «قد سُئلتْ عن قبلة الصائم : هل أخبرته انّي أُقبّل وأنا صائم».(2)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ لسان الرواية يأبى نسبة مضمونها إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو أسمى من أن يشهر بشيء يعود إلى شئونه وعوالمه الخاصة مع نسائه وحسبه من تبليغ الحكم بغير هذا الطريق. (3)

ص : 477


1- الإحكام : 7 / 413 - 414.
2- الإحكام للآمدي : 3 / 78.
3- الأُصول العامة للفقه المقارن : 344.

وثانياً : أنّ النبي بصدد بيان السنّة بفعله ، فانّها كما تبلغ بالقول بأن يقول القبلة لا تبطل الصوم ، كذلك تبلغ بالفعل ، وهو بفعله حكى السنة وأين هذا من القياس.

هذه هي الأحاديث التي تشبّثوا بها في إثبات القياس ، وقد عرفت قصور الجميع في الدلالة ، وقصور بعضها في السند ، وإليك دراسة بقية أدلّتهم.

3. الاستدلال بإجماع الصحابة
اشارة

وقد اعتبر الآمدي إجماع الصحابة أقوى الأدلة وقال ابن عقيل الحنبلي : وقد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعماله وهو قطعي.

وقال الصفي الهندي : دليل الإجماع هو المعوَّل لجماهير المحقّقين من الأُصوليين وقال الرازي في المحصول : مسلك الإجماع هو الذي عول عليه جمهور الأُصوليين. (1)

ثمّ إنّ الرازي استدلّ بدليل مؤلف من مقدّمات ثلاث :

المقدّمة الأُولى : إنّ بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به.

المقدّمة الثانية : إنّه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل القياس ، فلأنّ القياس أصل عظيم في الشرع نفياً أو إثباتاً فلو أنكر بعضهم لكان ذلك الإنكار أولى بالنقل من اختلافهم ، ولو نقل لاشتهر ، ولوصل إلينا فلمّا لم يصل إلينا علمنا أنّه لم يوجد.

ص : 478


1- الأحكام للآمدي : 3 / 81.

المقدّمة الثالثة : إنّه لمّا قال بالقياس بعضهم ولم ينكره أحد منهم فقد انعقد الإجماع على صحّته.(1)

يلاحظ عليه : أنّ كلاً من المقدّمات الثلاث قابلة للنقاش والرد.

أمّا الأُولى فلنفترض انّ بعض الصحابة عمل بالقياس على وجه الإجمال ولكن لم يُشخّص تفاصيله ، وانّهم هل عملوا بمنصوص العلّة أو بمستنبطها؟ وعلى فرض العمل بالثاني فلم يعلم ما هو مسلكهم في تعيين علة الحكم ومناطه فهل كان بالسبر والتقسيم أو من طريق آخر؟ ومع هذا الإجمال كيف يمكن أن يتخذ عمل الصحابة دليلاً على حجّية القياس في عامة الموارد وعامة المسالك إلى تعيين علّة الحكم ومناطه.

وأمّا الثانية فلأنّ تسمية عمل البعض مع سكوت الآخرين إجماعاً غير صحيح جدّاً ، لأنّ الإجماع عند الأُصوليين وحتّى الغزالي نفسه عبارة عن اتفاق علماء عصر واحد على حكم شرعي. (2)

ومن المعلوم أنّ عمل البعض لا يعدّ دليلاً على الإجماع وإن سكت الآخرون ، وذلك لأنّ الصحابة لم يكونوا مجتمعين في المدينة المنورة بل ميادين الجهاد والبلدان المفتوحة والثغور وغيرهما أخذت كثيراً من الصحابة ولاة وعُمّالاً وجنداً وقادة فكيف عرف اتّفاقهم على هذين المقامين حتّى يتحقّق الإجماع.

وأمّا الثالثة وهو عدم إنكار أحد منهم فهو أيضاً محجوج بالروايات القطعية عن الصحابة والتابعين في استنكار القياس.

ص : 479


1- المحصول : 2 / 262 - 269. وقد صرح في ص 292 : انّ مذهب أهل البيت إنكار القياس.
2- المستصفى : 1 / 110.

وستوافيك نصوص المخالفين واستدلالهم على عدم صحّته ، وقد اشتهر بين المحدّثين قول الإمام عليّ - عليه السلام - بأنّه لو كان الدين بالقياس لكان باطن الخُفّ أولى بالمسح من ظاهره.

وقد روي عن ابن مسعود أنّه قال : إذا قلتم في دينكم بالقياس ، أحللتم كثيراً مما حرّم الله وحرمتم كثيراً ممّا حلل الله. (1)

وقال ابن عباس : إياكم والمقاييس فإنّما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس. (2)

إلى غير ذلك من الآثار المروية عن الصحابة والتابعين وقد نقلها ابن قيم الجوزية في «اعلام الموقعين» ، وابن حزم في كتاب «إبطال القياس» ومع هذه النقول عن الصحابة ، كيف يمكن أن نعتمد على مثل هذا الإجماع؟! (3)

وقد شاع بين التابعين نقد أدلّة القائلين بالقياس ، بأنّ أوّل من قاس هو إبليس إذ قاس نفسه بآدم ، وقال : خلقتني من نار وخلقته من طين.

والحاصل لم يكن هناك إجماع من الصحابة على العمل بالقياس ، ولو كان هناك شيء فإنّما هو كقضية جزئية لا تكون سنداً للقاعدة. على أنَّ قول الصحابي ليس بحجّة ما لم يعلم استناده إلى الرسول ، فكيف يكون فعله حجّة؟ وستوافيك نصوص من الصحابة والتابعين على نفي القياس.

قال ابن حزم : أين وجدتم هذا الإجماع؟ وقد علمتم أنّ الصحابة أُلوف لا تحفظ الفتيا عنهم في أشخاص المسائل إلاّ عن مائة ونيّف وثلاثين نفراً منهم سبعة مكثرون ، وثلاثة عشر نفساً متوسطون ، والباقون مقلّون جدّاً تروى عنهم

ص : 480


1- الإحكام : 3 / 83.
2- الإحكام : 3 / 83.
3- أُصول الفقه للمظفر : 2 / 172.

المسألة والمسألتان حاشا المسائل التي تيقن إجماعهم عليها ، كالصلوات وصوم رمضان فأين الإجماع على القول؟! (1)

عمل الصحابة بالرأي

وربّما يتمسّك بأنّ الصحابة كانوا يفتون بالرأي وقد شاع بينهم «هذا رأي فلان» في الكلالة ، أو «بيع أُمّهات الأولاد» وليس الرأي إلاّ الإفتاء بالقياس.

وقد روي عن أبي بكر في الكلالة أنّه قال : أقول فيها برأيي ، فإن يكون صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه. (2)

وقد روي أيضاً عنه انّه حكم بالرأي في التسوية في العطاء حتّى قيل له : كيف تجعل من ترك دياره وأمواله وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرهاً؟ فقال أبو بكر : إنّما أسلموا لله وأُجورهم على الله ، وإنّما الدنيا بلاغ ، وحيث انتهت النوبة إلى عمر فرّق بينهما. (3)

كما روي عن عمر أنّه قال : أقضي في الجد برأيي وأقول فيه برأيي. (4)

وقال ابن مسعود : سأقول فيها بجهد رأيي ، فإن كان صواباً فمن الله وحده ، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء. (5)

يلاحظ عليه : لا شكّ أنّ بعض الصحابة كانوا يفتون بالرأي ، ولكن لم يكن الرأي مساوقاً للعمل بالقياس بل لعلّهم اعتمدوا فيها على ضرب من الاستدلال والتأمّل ، ولو كان ديدنهم في الإفتاء في غير ما نصّ عليه على القياس ، لبان وارتفع الخلاف. ويتّضح ذلك ممّا يذكره الشيخ المظفّر في المقام قائلاً :

ص : 481


1- إبطال القياس : 19.
2- روضة الناظر : 148.
3- الإحكام : 3 / 81.
4- الإحكام : 3 / 81.
5- المحلى : 1 / 61.

ويجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي وأكثروا بل حتى فيما خالف النصّ تصرّفاً في الشريعة باجتهاداتهم ، والإنصاف أنّ ذلك لا ينبغي أن ينكر من طريقتهم ، ولكن لم تكن الاجتهادات واضحةَ المعالم عندهم من كونها على نحو القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ولم يعرف عنهم ، على أيّ كانت اجتهاداتهم ، أكانت تأويلاً للنصوص ، أم جهلاً بها ، أم استهانة بها؟ ربّما كان بعض هذا أو كلّه من بعضهم ، وفي الحقيقة إنّما تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه وخصائصه في القرن الثاني والثالث. (1)

إنّ هنا اجتهادات حُكيت من الصحابة لا يصحّ حملها على القياس :

1. تحريم المتعتين : قال عمر بن الخطاب : متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا محرّمهما ومعاقب عليهما.

2. جعل عمر الطلاق الثلاث ، ثلاثاً مع أنّه كان في عصر الرسول وخلافة أبي بكر وسنتين من خلافته ، واحدة.

3. قطع أيضاً سهم المؤلّفة قلوبهم.

4. إلغاء الحيعلة وهو قول : «حيّ على خير العمل» من الأذان. (2)

وغيرها.

وليس الاجتهاد فيها مبنيّاً على القياس بل الاستحسان المطلق.

وقد ذكر الغزالي مواضع من اجتهادات الصحابة وحاول تطبيقها على القياس بجهد بالغ غير ناجح ، لأنّ أكثرها بعيد عن القياس.

نعم روي عن عمر انّه كتب في رسالته إلى أبي موسى الأشعري : اعرف

ص : 482


1- أُصول الفقه : 2 / 172.
2- لاحظ للوقوف على تفصيل هذه الأُمور : كتاب «النص والاجتهاد» للسيد شرف الدين ، وكتاب «الاعتصام بالكتاب والسنّة» للمؤلّف ، وغيرهما.

الأشياء والأمثال وقس الأُمور. (1)

أقول : لم يثبت رسالة عمر إلى أبي موسى ، وقد وصفها ابن حزم انّها مكذوبة عليه وراويها عبد الملك بن وليد بن معدان عن أبيه وهو ثابت بلا خلاف ، وأبوه أسقط منه أو هو مثله في السقوط. (2)

4. الاستدلال بدليل العقل
اشارة

استدلّ على حجّية القياس بوجوه :

1. إنّه سبحانه ما شرع حكماً إلاّ لمصلحة ، وأنّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من وراء تشريع الأحكام ، فإذا تساوت الواقعة المسكوتُ عنها ، بالواقعة المنصوص عليها ، في علّة الحكم التي هي مظنّة المصلحة ، قضت الحكمةُ والعدالةُ أن تساويها في الحكم تحقيقاً للمصلحة التي هي مقصود الشارع من التشريع ، ولا يتّفق وعدل الله وحكمته أن يحرّم الخمر لإسكارها محافظة على عقول عباده ويبيح نبيذاً آخر فيه خاصّية الخمر وهي الإسكار ، لأنّ مآلها المحافظة على العقول من مسكر وتركها عرضة للذهاب بمسكر آخر. (3)

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره من «أنّه سبحانه ما شرع حكماً إلاّ لمصلحة وانّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام» ، مبني على القول بأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، والمذهب الأشعري يرد ذلك كما يرد كون فعله سبحانه معللاً بالأغراض ، ومن أفعاله تعالى هو تشريعه فالاستدلال مبني على قول العدلية القائلين بالتحسين والتقبيح أوّلاً ، وعلى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ثانياً ، فعندئذ يُصبح الاستدلال جدلياً لا برهانياً حيث استدلّ بعقيدة

ص : 483


1- المحلى : 1 / 59.
2- المحلى : 1 / 59.
3- مصادر التشريع الإسلامي : 34 - 35.

الخصم ومسلماته.

وثانياً : أنّ الكبرى وهي أنّ أحكام الشرع تابعة للمصالح والمفاسد أمر مسلّم ، إنّما الكلام في الوقوف على مناط الحكم وعلّته ، وأمّا ما مثّله من قياس النبيذ على الخمر فهو خارج عن محلّ الكلام ، لأنّا نعلم علماً قطعياً واضحاً بأنّ مناط التحريم هو الإسكار ، ولأجل ذلك جاءت في روايات أئمّة أهل البيت : حرّم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسول الله المسكر من كلّ شارب فأجاز الله له ذلك. (1) وإنّما الكلام في أنّ الظنّ بالعلّة هل يغني عن مُرّ الحق شيئاً؟ وهل المظنون كونه علّة يكون علّة حقيقة ، أو أنّ هناك احتمالات أُخرى قد مضى بيانها عند بيان استنباط العلّة؟

إنّ المستدل جعل القياس في مسألة اتّفق عليها العقل والعقلاء والنصوص الشرعية ، دليلاً على حجّيته في عامة الموارد التي لم تُعلم الجهةُ المشاركة المظنونة هي علة الحكم في الأصل فكيف في الفرع ، وإنّما ظن المستدل به ، فكيف يمكن أن يحتج بالظن على الحكم الشرعي الذي لم يقم عليه دليل.

2. إنّ نصوص القرآن والسنّة محدودة ومتناهية ، ووقائع الناس وأقضيتهم غير محدودة ولا متناهية ، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها مصادر تشريعية لما لا يتناهى.

وبعبارة أُخرى : القياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة ، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث ويوفّق بين التشريع والمصالح. (2)

ص : 484


1- الكافي : 1 / 266.
2- مصادر التشريع الإسلامي : 35 ، وانظر : المنخول من تعليقات الأُصول : 359 و 327.

يلاحظ عليه :

أوّلاً : أنّ عدم إيفاء النصوص عند أهل السنّة بالإجابة على جميع الأسئلة المتكثّرة ، لا يكون دليلاً على حجّية القياس ، فربّما تكون الحجّة غيره ، إذ غاية ما في الباب أنّ عدم الوفاء يكون دليلاً على أنّ الشارع قد حلّ العقدة بطريق ما ، وأمّا أنّ هذا الطريق هو القياس ، فلا يكون دليلاً عليه.

إنّ القوم لو رجعوا إلى الطرق والأمارات والأُصول المؤمِّنة الأربعة التي مضى الإيعاز إليها في صدر البحث لاستغنوا عن اعتبار القياس ، وهذه الضوابط والأمارات واردة في حديث أئمّة أهل البيت عن جدّهم ، والقوم لما أعرضوا عن أحد الثقلين - أعني : العترة الطاهرة في حديث الرسول - وقعوا في هذا المأزق وزعموا انّ النصوص غير وافية ببيان الأحكام غير المتناهية ، وقد غفلوا انّ غير المتناهي هي الجزئيات والمصاديق ، وهو لا يوجد مشكلة إذا كانت الضوابط العامة قادرة على إعطاء حكمها.

وثانياً : أنّ المستدلّ اتّخذ المدّعى دليلاً وقال : والقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة ، مع أنّ الكلام في أنّ القياس هل هو مصدر تشريعيّ حتى نأخذ به في مسايرته مع الوقائع المتجدّدة أو لا؟ ومجرد كونه يساير الأحداث لا يكون دليلاً على كونه حجّة.

3. القياس يفيد الظنّ بالحكم وهو يلازم الظنّ بالضرر فيجب دفعه.

قال الرازي : إنّ من ظنّ أنّ الحكم في الأصل معلّل بكذا وعلم أو ظنّ حصول ذلك الوصف في الفرع ، وجب أن يحصل له الظنّ بأنّ حكم الفرع مثل حكم الأصل ومعه علم يقيني بأنّ مخالفة حكم الله تعالى سبب العقاب ، فتولد من ذلك الظن ، وهذا العلم ، ترك العمل به سبب للعقاب ، فثبت أنّ القياس يفيد ظن

ص : 485

الضرر. (1)

يلاحظ عليه : أنّ الرازي خلط بين القاعدتين العقليتين المحكمتين :

1. قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

2. وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل.

أمّا القاعدة الأُولى فهي قاعدة محكمة دلّ العقل والنقل على صحّتها أمّا العقل فواضح فانّ استقلال العقل بالقبح شيء لا ينكر وأمّا النقل فيكفي قوله سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). (2)

فإذا لم يرد في واقعة دليل شرعي على الحرمة أو الوجوب يستقل العقل بقبح عقاب المكلّف إذا ارتكب حتى ولو ظن بأحد الحكمين ، وذلك إمّا لأنَّه لا يكون هناك ظنّ بالضرر أو يكون ظنّ به لكن لا يكون مثله واجب الاجتناب.

وذلك لأنّه لو أُريد بالضرر ، الضرر الأُخروي فهو مقطوع الانتفاء بحكم تقبيح العقل مثل ذلك العقاب وتأييد الشرع ، ففي مثل ذلك المورد لا يكون الظن بالحرمة أو الوجوب ، ملازماً للظن بالضرر أبداً لعدم تمامية الحجّة على المكلّف.

ولو أُريد بالضرر ، الضرر الدنيوي فهو وإن كان ملازماً للظنِّ بالحكم غالباً نظراً إلى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، لكنّه ليس بواجب الدفع إلاّ إذا كان ضرراً عظيماً لا يتحمل ففي مثله يستقل العقل بدفعه.

وحصيلة الكلام : انّ القياس لما لم تثبت حجّيته فالظن بالحكم لأجله ، لا يلازم الظن

ص : 486


1- المحصول : 2 / 288.
2- الإسراء : 15.

بالضرر الأُخرويّ أبداً ، وأمّا الضرر الدنيوي فهو وإن كان يلازمه لكنّه غير واجب الدفع غالباً إلاّ ما ذكرناه.

فخرجنا بتلك النتيجة : انّ الظن الحاصل بالحكم لأجل القياس الذي لم تثبت حجّيته لا يكون ملازماً للظن بالعقوبة ولا يكون داخلاً في قاعدة «لزوم دفع الضرر المظنون».

وأمّا القاعدة الثانية التي زعم الرازي انّ المقام من مصاديقها وجزئياتها فموردها ما إذا قام الدليل على الحكم الكلي ، وعلى وجود الموضوع له ، فعندئذ يجب دفع الضرر بصوره الثلاث :

ألف. تارة يكون الضرر (العقاب) مقطوعاً كما إذا علم بأنّ الخمر حرام وانّ هذا المائع خمر.

ب. وأُخرى يكون الضرر مظنوناً ، كما إذا علم بأنّ الخمر حرام وعلم أنّ أحد الإناءين خمر ، فشرب أحدهما - لا كليهما - مظنة للضرر الأُخروي.

ج. وثالثة يكون الضرر (العقاب) مشكوكاً ، كما إذا تردد الخمر بين أوان عشرة فشرب أحدها ، محتملاً للضرر.

فالضرر بتمام صوره واجب الدفع للعلم بالكبرى ، أعني : الحكم الكلي ، والعلم بالموضوع معيناً أو مردداً بين إناءين أو أواني كثيرة.

فاللازم على الفقيه تنقيح مصاديق القاعدتين حتى لا يخلط مواردهما ، كما خلط الرازي.

ص : 487

الآن حصحص الحقّ

لقد أثبتت البحوث السابقة حول ما أُقيم من الأدلّة على حجّية القياس انّه ليس هناك دليل صالح قاطع للنزاع ، مفيد للعلم بأنّ الشارع جعل القياس حجّة فيما لا نصّ فيه ، وهناك نكتة جديرة بالتأمّل فيها ، وهي انّه إذا كان للقياس في الشريعة المقدسة هذه المنزلة في التشريع الإسلامي فلما ذا لم يقع في إطار البيان الصريح من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كما وقع قول الثقة أو حجّية البيّنة في إطاره؟

وقد عرفت أنّ ما استدلّوا من كلام الشارع في ذلك المجال كلّها انتزاعات شخصية فرضت عليه ، وانّ عقيدة المستدل جرّته إلى أن يبحث عن الدليل حول عقيدته فلذلك جمع أشياء من هنا وهناك ليثبت بها مدّعاه ، والجميع بريء ممّا يرتئيه.

بقي هنا كلام وهو دراسة كلمات أئمّة أهل البيت في القياس ، فانّهم أحد الثقلين وكسفينة نوح ، حتّى نقف على موقفهم من القياس في الشريعة الإسلامية.

القياس في كلمات أئمّة أهل البيت - عليهم السلام :

1. عن جعفر بن محمد - عليهما السلام - عن أبيه - عليه السلام - أنّ علياً - عليه السلام - قال : «من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس».

2. كتب الإمام الصادق - عليه السلام - في رسالة إلى أصحابه أمرهم بالنظر فيها وتعاهدها والعمل بها ، وقد جاء فيها : «لم يكن لأحد بعد محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه ، ثمّ قال : واتبعوا آثار رسول الله وسنّته فخذوا بها ولا تتبعوا أهواءكم ورأيكم فتضلّوا».

ص : 488

3. روى سماعة بن مهران عن أبي الحسن - عليه السلام - : «ما لكم وللقياس ، إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس».

4. دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله - عليه السلام - ، فقال له : «يا أبا حنيفة بلغني انّك تقيس؟» قال : نعم ، قال : «لا تقس فإنّ أوّل من قاس إبليس».

5. عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - : ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنّته فننظر فيها؟ فقال : «لا ، أما إنّك إن أصبت لم تؤجر ، وإن أخطأت كذبت على الله».

6. عن يونس بن عبد الرحمن ، قال : قلت لأبي الحسن الأوّل - عليه السلام - : بما أوحّد الله؟ فقال : «يا يونس لا تكونن مبتدعاً ، من نظر برأيه هلك ، ومن ترك أهل بيت نبيّه ضل ، ومن ترك كتاب الله وقول نبيّه كفر».

7. عن المفضّل بن عمر قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «من شك أو ظنّ فأقام على أحدهما فقط حبط عمله ، انّ حجّة الله هي الحجّة الواضحة».

8. عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «إنّ السنّة لا تقاس ، ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ، يا أبان إنّ السنّة إذا قيست محق الدين».

9. عن عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى - عليه السلام - عن القياس ، فقال : «وما لكم وللقياس ، إنّ الله لا يسأل كيف أحلّ وكيف حرّم».

10. عن أبي شيبة الخراساني ، قال : سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلاّ بعداً ، وإنّ دين الله لا يصاب بالمقاييس».

11. عن محمد بن مسلم قال : كنت عند أبي عبد الله - عليه السلام - بمنى إذ أقبل أبو

ص : 489

حنيفة على حمار له فلما جلس قال : إنّي أُريد أن أُقايسك ، فقال أبو عبد الله - عليه السلام - : «ليس في دين الله قياس».

12. عن زرارة بن أعين قال : قال لي أبو جعفر محمد بن علي - عليه السلام - : «يا زرارة إيّاك وأصحاب القياس في الدين ، فانّهم تركوا علم ما وُكّلُوا به وتُكلِّفوا ما قد كفوه ، يتأوّلون الأخبار ، ويكذبون على الله عزّ وجلّ ، وكأنّي بالرجل منهم ينادى من بين يديه فيجيب من خلفه ، وينادى من خلفه فيجيب من بين يديه ، قد تاهوا وتحيّروا في الأرض والدين».

13. عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : «إنّ أصحاب القياس ، غيّروا كتاب الله وسنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - واتّهموا الصادقين في دين الله». (1)

القياس في كلمات الصحابة والتابعين

إنّ لفيفاً من الصحابة والتابعين ممّن يؤخذ عنهم العلم قد خالفوا القياس بحماس وندّدوا به ، وإليك نزراً من كلماتهم ليعلم أنّ القياس لم يكن أمراً متفقاً عليه بين أوساط الصحابة والتابعين :

1. عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس ، قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذّراً ، فبعث الله نبيّه - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنزل كتابه وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو.

2. عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : ليس عام إلاّ والذي بعده شر منه ، لا أقول عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهب خياركم وعلماؤكم ، ثمّ يحدث قوم يقيسون

ص : 490


1- راجع الوسائل : 18 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضي.

الأُمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم.

3. عن جابر بن زيد ، قال : لقيني ابن عمر قال : يا جابر إنّك من فقهاء البصرة وستُسْتفتى ، فلا تُفتينَّ إلاّ بكتاب ناطق أو سنّة ماضية.

4. عن زيد بن عميرة ، عن معاذ بن جبل ، قال : تكون فتن يكثر فيها الملل ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمؤمن والمنافق ، فيقرؤه الرجل فلا يتبع ، فيقول : والله لأقرأنّه علانية ، فيقرؤه علانية فلا يتبع ، فيتخذ مسجداً ويبتدع كلاماً ليس من كتاب الله ولا من سنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإيّاكم وإيّاه ، فإنّها بدعة ضلالة ، قالها ثلاث مرات.

هذا وقد ذكر ابن حزم أحاديث أُخرى على لسان الصحابة في ذم القياس أعرضنا عنها خوفاً من الإطالة ، ونقتصر على سرد أسمائهم :

أبو هريرة ، سمرة بن جندب ، عبد الله بن أبي أوفى ، ومعاوية. (1)

وكذلك صرح أئمة التابعين على ذم القياس وشجبه والنهي عنه :

1. عن داود بن أبي هند قال : سمعت محمد بن سيرين ، يقول : القياس شؤم وأوّل من قاس إبليس فهلك ، وإنّما عُبدت الشمسُ والقمرُ بالمقاييس.

2. قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن علي انّ شريحاً القاضي قال : إنّ السنّة سبقت قياسَكم.

3. عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي ، قال : السنّة لم توضع بالقياس.

4. وعن عامر الشعبي أيضاً : إنّما هلكتم حيث تركتم الآثار وأخذتم

ص : 491


1- انظر الاحكام في أُصول الاحكام لابن حزم : 6 / 508 ، 511 ؛ اعلام الموقعين عن ربّ العالمين لابن قيم الجوزية : 1 / 242240 ، طبعة دار الكتاب العربي.

بالمقاييس.

5. عن جابر ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : لا أقيس شيئاً بشيء قيل : لمَ؟ قال : أخشى أن تزل رجلي.

وكان يقول : إيّاكم والقياس والرأي ، فانّ الرأي قد يزل.

إلى غير ذلك من الروايات التي يطول بذكرها الكلام ، ونكتفي هنا بسرد أسماء التابعين الذين نالوا من القياس :

إياس بن معاوية ، مالك بن أنس ، وكيع بن الجراح ، حماد بن أبي حنيفة ، ابن شبرمة ، مطر الوراق ، عطاء بن أبي رباح ، أبو سلمة بن عبد الرحمن. (1)

وبعد نقل هذه الطائفة الكبيرة من الأحاديث من قبل أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - والصحابة والتابعين كيف يُدّعى انّ الإجماع قام على صحّة القياس ولم يخالفه أحد ، لو لم نقل انّ الإجماع قام على نفي القياس؟!

وهذا يدلّ على أنّ هذا العنصر قد دخل حيّز التشريع الإسلامي بموافقة بعض ومخالفة البعض الآخر له ، وانّ ادّعاء الإجماع في مثل هذه المسألة أمر لا يليق بمن تتبع كلمات الفقهاء في هذا الصدد ، وقد نقل ابن قيم الجوزيّة كلمات الموافقين كما نقل كلمات المخالفين للقياس ، وإن كان في كثير من المباحث عيالاً على كتاب الإحكام لابن حزم الأندلسيّ.

ص : 492


1- انظر الاحكام في أُصول الاحكام لابن حزم : 6 / 511 - 514 ؛ اعلام الموقعين لابن قيم الجوزية : 1 / 243 - 246 ؛ العدّة للشيخ الطوسي : 2 / 688 - 690.

2- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة

الاستحسان

الاستحسان من مصادر التشريع لدى المالكيّة ، وقد روي عن الإمام مالك أنّه قال : «الاستحسان تسعة أعشار العلم» خلافاً للشافعي حيث رفضه وقال : «من استحسن فقد شرّع» وربما يُفصّل بين الاستحسان المبنيّ على الدليل ، والاستحسان المبنيّ على الهوى والرأي ، ومع كونه أصلاً معتبراً لدى المالكيّة وغيرهم ، فلم يُعرَّف بوجه يكون مثلَ القياس ، واضحَ المعالم ، فإنّ الاستحسان ضد الاستقباح ، وتعالى التشريع الإسلامي أن يكون تابعاً لاستحسان إنسان أو استقباحه من دون أن يكون له رصيد من الشرع والعقل ، ولا يصحّ الإفتاء إلاّ بما دلّ الدليل القطعي على حجّيته ، والاستحسان بما هو هو ، ليس عِلْماً ولا ظنّاً يدل دليل قطعي على حجّيته ، كلّ ذلك يبعثنا إلى تحقيق مراد القائلين من كونه دليلاً فقهياً كسائر الأدلّة ، واللازم هو الإمعان في موارد استعماله.

أقول : مع ما عُرّف الاستحسان بتعاريف كثيرة أكثرها خاضعة للسجع دون بيان الواقع نظير ما يحكى عن الحاكم الذي كتب إلى قاضي قم بقوله :

أيّها القاضي بقم

قد عزلناك فقم

ص : 493

ولذلك قال القاضي المعزول ما عزلني إلاّ وحدة القافية ، وإن شئت فأمعن النظر في هذه التعاريف ، فكأنّ الغاية فيها هو حفظ السجع دون تفهيم المراد.

1. الاستحسان : ترك القياس ، والأخذ بما هو أوفق للناس.

2. الاستحسان : طلب السهولة في الأحكام ، فيما يبتلى به الخاص والعام.

3. الاستحسان : الأخذ بالسعة ، وابتغاء الدعة.

4. الاستحسان : الأخذ بالسماحة ، وانتفاء ما فيه الراحة.

5. الاستحسان : هو الالتفات إلى المصلحة والعدل.

فإنّ هذه التعاريف لا تُوضح حقيقة الاستحسان ، فالذي يمكن أن يكون محطاً للنزاع هو ما سنذكره عن قريب.

وقبل استعراضه يجب أن نركّز على نكتة وهي انّ ظاهر القائلين بالاستحسان عدّه دليلاً مستقلاً وراء الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. ووراء القياس والاستصلاح (المصالح المرسلة) وسد الذرائع وفتحها وغيرها لكنّه في أغلب الموارد يرجع إلى أحد الأدلة المذكورة كما سيتضح عن قريب.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يُطلق ويراد منه أحد المعاني التالية :

الأوّل : العمل بالرأي والظن

قد يطلق الاستحسان ويراد منه العمل بالرأي فيما جعله الشارع موكولاً إلى آرائنا ، ويظهر هذا من السرخسيّ في أُصول فقهه ، كما في مورد تمتيع المطلقة غير المدخول بها قال سبحانه : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً

ص : 494

بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ). (1)

ونظيره قوله سبحانه في مورد رزق الوالدات وكسوتهنّ ، قال سبحانه : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (2) فقد ترك الشارع تعيين كيفية التمتيع وتقدير المعروف بحسب اليسر والعسر إلى آرائنا. (3) وهو يختلف حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.

والاستحسان بهذا المعنى ، عمل بالظن في موضوع من الموضوعات ، كالعمل به في سائر الموارد الذي جعل الظن فيه حجّة ، فلو قام دليل على حجّية مثل هذا الظن يتمسك به ويقتصر على مورده سواء استحسنه المجتهد أم لا ، وإلاّ فلا. وتسمية مثل هذا استحساناً أمر مُورِث للاشتباه.

على أنّ المرجع في هذه الموارد هو عرف البلد لا رأي القاضي ولا المجتهد كما هو واضح ، ولذلك يختلف مقدار تمتيع المطلقة ونفقة الزوجة حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.

الثاني : العدول من قياس إلى قياس أقوى منه

وقد يطلق ويراد منه العدول عن مقتضى قياس ظاهر إلى مقتضى قياس أقوى منه ، وهذا هو الذي نقله أبو الحسين البصري عن بعضهم ، فقال : العدول من موجب قياس إلى قياس أقوى منه. (4)

ص : 495


1- البقرة : 236.
2- البقرة : 233.
3- أُصول الفقه : 2 / 200.
4- المعتمد : 2 / 296.

وعلى هذا لا يكون الاستحسان دليلاً مستقلاً ويكون مرجّحاً لتقديم القياس الأقوى على غيره كما هو الحال في سائر الأدلّة حيث يقدم الأقوى على غيره ، كالخاص على العام ، والمقيّد على المطلق ، وهكذا ، ولو أُريد من الاستحسان هذا فمثله لا يليق أن يقع موضع خلاف بين القائلين بحجّية القياس كمالك والشافعي ، فالجميع على تقديم أقوى الدليلين على الآخر من غير فرق بين القياسين أو الدليلين.

الثالث : العدول من مقتضى قياس جلي إلى قياس خفي

يطلق الاستحسان ويراد منه ، العدول من مقتضى القياس الجلي إلى قياس خفي. (1) وهذا هو الذي يظهر من الأُصولي المعاصر الدكتور «وهبة الزحيلي» وغيره والفرق بين التعريفين - الثاني والثالث بعد اشتراكهما في أنّ المعدول عنه والمعدول إليه ، قياس - هو انّ المعدول إليه على التعريف الثاني ، هو القياس الأقوى الأعم من أن يكون جلياً أو خفياً ، بخلاف التعريف الثالث فإنّ المعدول إليه قياس خفيّ. ولنذكر مثالين :

1. مقتضى القياس الجلي ، هو إلحاق سؤر الطيور المعلّمة بسؤر الحيوان المفترس في النجاسة - على القول بنجاسة سؤره - لاشتراكهما في الافتراس ، ولكن مقتضى القياس الخفي إلحاقه بسؤر الإنسان في الطهارة.

2. إذا وقف أرضاً زراعية فهل يدخل فيه حقوق الري والمرور؟ قولان :

أ. لا يدخل حقوق الريّ والمرور في الوقف قياساً على البيع ، فإنّ البيع ، والوقف يشتركان في خروج المبيع عن ملك الواقف والبائع ، فلا يدخل في بيع

ص : 496


1- الوجيز في أُصول الفقه : 86.

الأرض الزراعية حقوقُ ريّها وصرفها والمرور إليها بدون ذكرها ، فكذلك في وقفها ، وهذا هو مقتضى القياس الظاهري.

ب. يدخل حقوق الري والمرور قياساً على الإجارة بجامع انّ المقصود من كلّ منهما الانتفاع بريع العين لا تملُّك رقبتها ، وفي إجارة الأرض الزراعية تدخل حقوق ريّها وصرفها والمرور إليها بدون ذكرها ، فكذلك في وقفها ، وهذا هو العدول عن مقتضى القياس الظاهري إلى مقتضى القياس الخفي وسموه بالاستحسان. (1)

أقول : إنّ دخول حقّ الريّ والمرور أو عدمه لا يبتني على قياس الوقف بالبيع أو الإجارة ، بل هما مبنيان على وجود الملازمة العرفية بين وقف الأرض ودخول حقوق ريّها والمرور إليها فيه أو عدمها ، فلو قلنا بالملازمة العرفية بين إخراج الشيء عن ملكه وإخراج ما يتوقف الانتفاع به عليه (كحقوق ريّها وصرفها والمرور إليها على نحو إذا بيعت الأرض الزراعية أو أُوجرت أو أُوقفت يفهم منه نقل توابعها ممّا يتوقف الانتفاع بها عليها) فيدخل إلاّ أن ينصَّ على خلافه ، ولو قلنا بعدم الملازمة وانّه لا يفهم من نقل الأصل ، نقل التوابع ، فلا يدخل واحد ، فعلى الأوّل يكونُ الدخول هو مقتضى القاعدة حتى يثبت خلافه بخلاف الثاني ، فإنّه يكون عدم الدخول هو المطابق لمقتضى القاعدة حتى يثبت خلافه.

ونظير المقام توابع المبيع من اللجام والسرج ومفتاح الباب وغيرها ، وبذلك تعرف انّه لا دور للقياس في حلّ المسألتين خروجاً وعدمه ، حتّى يسمّى العدول استحساناً وإنّما يجب على الفقيه أن يركز على الملازمة العرفية بين النقلين وعدمها.

ص : 497


1- مصادر التشريع الإسلامي : 72.
الرابع : العدول من مقتضى القياس بدليل

قد يطلق ويراد منه هو العدول عن مقتضى القياس بدليل شرعي سواء كان المعدول إليه قياساً أم غيره. نعم يشترط في المعدول عنه كونه قياساً.

وهذا هو الذي يظهر أيضاً من السرخسي في أُصول فقهه قال : هو الدليل يكون معارضاً للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إنعام التأمل فيه ، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادث وأشباهه من الأُصول يظهر انّ الدليل الذي عارضه ، فوقه في القوة وانّ العمل به هو الواجب. (1)

وظاهر هذا التعريف كما عرفت أنّ العدول عن القياس بدليل شرعي هو الاستحسان ، وعلى ضوء هذا يختص الاستحسان بصورة العدول عن مقتضى القياس فحسب لا مطلق الدليل ، فيشترط في المعدول عنه أن يكون قياساً وامّا المعدول إليه ، فيشترط أن يكون دليلاً غير القياس.

وهذا هو الظاهر من الكرخي أيضاً حيث عرفه بقوله : إثبات الحكم في صورة من الصور على خلاف القياس من نظائرها مع أنّ القياس يقتضي إثباته ، بدليل خاص لا يوجد في غيرها. (2)

ولنذكر مثالاً :

إذا ضاع شيء تحت يد الصانع ، فمقتضى القياس هو عدم ضمانه إذا ضاع أو تلف لديه من غير تقصير منه قياساً على يد المودع ، ولكن روي عن الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - والقاضي أبي أُمية شريح بن الحارث الكندي بأنّهما يضمّنان

ص : 498


1- أُصول الفقه : 2 / 200.
2- الوصول إلى الأُصول : 2 / 321 ؛ المنخول : 375 ، حيث قال : الصحيح في ضبط الاستحسان ما ذكره الكرخي.

الصنّاع ، وما هذا إلاّ لأنّ عدم تضمينهم ربما ينتهي إلى إهمالهم في حفظ أموال الناس. (1)

وروي أنّ الإمام الشافعي يذكر انّه قد ذهب شريح إلى تضمين القصّار فضمّن قصّاراً احتُرق بيته ، فقال : تضمّنني وقد احترق بيتي ، فقال شريح : أرأيت لو احترق بيته كنت تترك له أجرك. (2)

وعلى ضوء هذا المثال ربما يفسر الاستحسان : بترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس.

أقول : المثال قابل للنقاش.

أوّلاً : ليس المورد من موارد القياس ، لأنّ قياس الأجير ، بالودعي قياس مع الفارق ، فإنّ الأوّل يأخذ المال لصالحه بُغية أخذ الأُجرة لعمله ، وهذا بخلاف الودعي فانّه يأخذ المال لصالح صاحب المال ، فقياس الأوّل بالثاني مع هذا الفارق ، قياس مع الفارق.

ثانياً : إذا كان المورد غير صالح لاعمال القياس - لفقدان بعض شرائطه - فيكون المرجع ، هو الأصل الأوّلي في الأموال ، وليس إلاّ الاحترام والضمان حتى يثبت خلافه لا الاستحسان «أعني : كون الضمان أوفق للناس ، أو لئلاّ ينتهي إلى الإهمال في أموال الناس». فإذا أتلفه الأجير أو تلف عنده فمقتضى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» هو الضمان ما لم يدل دليل على خلافه كما دلّ في مورد الودعي حيث ليس لصاحب المال تغريم الودعي ، نعم لصاحب المال إحلافه على أنّ التلف لم يكن عن تعد أو تفريط ، ولذلك قالوا : «ليس على الأمين إلاّ اليمين».

ص : 499


1- السنن الكبرى : 3 / 122.
2- السنن الكبرى : 3 / 122.
الخامس : الاستحسان والعمل بأقوى الدليلين

إذا كان بين الدليلين تعارض بنحو التباين أو بنحو العموم والخصوص من وجه ، يُعمل بأقوى الدليلين ، فالأوّل كما إذا ورد «ثمن العذرة سحت» ، وورد أيضاً «لا بأس ببيع العذرة». والثاني كما إذا قال : أكرم العلماء وقال أيضاً : لا تكرم الفاسق ، فاجتمع الدليلان في العالم الفاسق ، ففي هذه الموارد يرجع إلى مرجحات باب التعارض التي طرحها الأُصوليون في باب التعادل والترجيح ، وأهمّ المرجّحات هو موافقة الكتاب ، أو موافقة السنّة ، أو كون أحد الدليلين موافقاً لما هو المشهور بين العلماء ، أو غير ذلك.

ونظير ذلك إذا كان بين الدليلين تزاحم كما إذا تزاحم الأمر بإنقاذ نفس محترمة بالتصرف في أرض الغير ، أو تزاحم أداء الدين مع الحجّ إلى غير ذلك من موارد المتزاحمين ، فيرجع فيهما إلى أقوى الدليلين ملاكاً وأعظمهما أهمية.

فلو أُريد من الاستحسان هذا فلا أظن أن يكون هذا موضع اختلاف بين مالك والشافعي ، أو بين القائلين به والنافين له.

السادس : الاستحسان والأخذ بالعرف

وربما يفسر الاستحسان بالرجوع إلى العرف كما في عقد «الاستنصاع» وهو عقد على معدوم وقد قيل بصحته لأخذ العرف به ، ولعلّ المراد من العرف هو السيرة ولكنّها لا تكون دليلاً على مشروعية العقد إلاّ أن تكون متصلة إلى عصر المعصوم حتّى يقع موقع إقراره.

ومن عجيب الأمر أن يتوارد النفي والإثبات على موضوع كالاستحسان من دون أن يحدد مفهوم الاستحسان.

ص : 500

السابع : الاستحسان والمصلحة

وربما يفسر الاستحسان بإدراك الفعل لمصلحة توجب جعل حكم من الشارع له على وفقها ، وهذا يرجع إلى الاستصلاح والمصالح المرسلة الذي سيوافيك البحث فيه في الفصل التالي.

إلى هنا تبين انّه لم نعثر على معنى واضح للاستحسان ليقع مورد النزاع فالوجوه السبعة الآنفة الذكر ليست مورداً للخلاف وليس لها من الأهمية حتّى يعدّه مالك تسعة أعشار العلم كما نُقل عنه.

وإليك إجمال ما مضى من المعاني السبعة :

أمّا المعنى الأوّل أي العمل بالظن والرأي ، فهو فرع وجود دليل على حجّيته ولا يختلف فيه علمان.

وأمّا الثاني - أعني : العدول من قياس إلى قياس أقوى - فلو قلنا بحجّية القياس فلا محيص عن العدول.

وأمّا الثالث - أعني : العدول عن مقتضى قياس جلي إلى قياس خفي - فلو كان المعدول إليه أقوى فلا محيص عنه ، وإلاّ لكان القياسان متعارضين.

وأمّا الرابع - أي العدول من مقتضى القياس بالدليل - فهو أيضاً على وفق القاعدة بشرط أن يكون الدليل أقوى من القياس.

وأمّا الخامس - وهو العمل بأقوى الدليلين في بابي التعارض والتزاحم - فهو أيضاً أمر لا سترة فيه.

وأمّا السادس - أعني : العمل بالعرف والسيرة المستمرة - فهو أمر صحيح بشرط أن تكون السيرة مورد تقرير للمعصوم.

ص : 501

وأمّا السابع - أعني : العمل بالمصلحة - فالاستحسان بهذا المعنى لا يكون أصلاً مستقلاً برأسه ، والمفروض انّه دليل في مقابل الاستصلاح ، فلم يبق من المحتملات إلاّ الوجه الآتي ، أعني :

الثامن : العدول عن مقتضى الدليل إلى ما يستحسنه المجتهد
اشارة

الظاهر انّ المراد بالاستحسان هو العدول عن مقتضى الدليل باستحسان المجتهد.

وقريب منه ما يقال «دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه» ولذلك يستحسن أن يفتي على وفقه.

وبعبارة أُخرى : يستحسن أن يكون الموضوع داخلاً تحت ذلك الدليل لا الدليل الآخر من دون أن يكون له دليل على هذا سوى استحسانه.

والاستحسان بهذا المعنى قابل للنقض والإبرام ، ولذلك يصفه الشافعي بقوله : «أفرأيت إذا قال المفتي في النازلة ليس فيها نصّ خبر ولا قياس ، وقال : استحسن فلا بدّ أن يزعم انّه جائز لغيره أن يستحسن خلافه ، فيقول كلّ حاكم في بلد ومفت بما يستحسن ، فيقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا ، فإن كان هذا جائزاً عندهم فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاءوا ، وإن كان ضيقاً فلا يجوز أن يدخلوا فيه». (1)

ولعلّ مراد الشافعي من كلامه هذا ما استظهره بعض الأجلة وقال :

والظاهر انّ مراده هو الردع عن خصوص هذا القسم ، كما تومئ إليه بقية أقواله ، ممّا لا تخضع لضوابط من شأنها أن تقلل من وقوع الاختلاف وتفسح

ص : 502


1- فلسفة التشريع الإسلامي : 174.

المجال أمام المتطفّلين على منصب الإفتاء ليرسلوا كلماتهم بسهولة استناداً إلى ما يدعونه لأنفسهم من انقداحات نفسية وأدلة لا يقدرون على التعبير عنها ، ممّا يسبِّب إشاعة الفوضى في عوالم الفقه والتشريع. (1)

ويمكن توضيح هذا الوجه بمثالين :

أ. انّ مقتضى إطلاق قوله سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (2) هو قطع يد السارق دون فرق بين عام الرخاء والمجاعة ، ولكن نقل عن عمر عدم العمل به في عام المجاعة.

ب. يقول سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (3) وقد نقل عن الإمام مالك إخراج الأُمّ الرفيعة المنزلة التي ليست من شأن مثلها أن ترضع ولدها ، وعلى هذا ينطبق تعريف الجرجاني : الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس. (4)

أقول : لا وجه للعدول عن إطلاق الآية الشامل لعام المجاعة والأُم الرفيعة المنزلة وغيرهما إلاّ بدليل ، ويمكن أن يكون الدليل انصراف الآية عن الصورتين ، والانصراف يحدّد دلالة الدليل ويُتّبع الدليل في غير مورد الانصراف.

ولكن الذي يؤاخذ على هذا الاستعمال هو انّ تسمية الانصراف وأشباهه ممّا يوجب العدول عن الدليل الأوّل بالاستحسان أمر غير صحيح.

وبعبارة أُخرى : إذا كان هنا دليل على العدول ، وكان المورد يتمتع برصيد خاص ، فما هو الوجه لاستعمال كلمة الاستحسان المريب ، إذ من الواضح انّ

ص : 503


1- الأُصول العامة للفقه المقارن : 363.
2- المائدة : 38.
3- البقرة : 233.
4- التعريفات : 13.

استحسان شخص واستقباحه ما لم يعتمد على دليل ، لا يعدان من مصادر التشريع؟

وهنا نقطة جديرة بالإشارة وهي انّ الاختلاف في تعريف الاستحسان الذي جعل من مصادر الفقه إلى هذا المستوى يعرب عن أنّه لم يمتلك مفهوماً واضحاً حتى عرّف بتعاريف مختلفة.

إنّ الاختلاف في حجّية الاستحسان ناتج عن عدم دراسة مصادر التشريع حسب مراتبها ، فإنّ تقديم دليل على دليل آخر سواء كانا قياسين أو غيرهما فرع وجود الملاك للتقديم حتى تقدم إحدى الحجّتين على الأُخرى بملاك وليس الاستحسان منه أبداً ، وعلى القائلين بالاستحسان بالوجوه المذكورة أن يدرسوا ملاك تقدّم الأدلّة بعضها على بعض.

مثلاً أنّ الخاص يقدّم على العام ، والمقيّد على المطلق ، والنص على الظاهر المخالف ، وأحكام العناوين الثانوية كالضرر والحرج على أحكام العناوين الأوّلية وغير ذلك فتقديم أيّ دليل على آخر يجب أن يكون داخلاً تحت أحد هذه الملاكات وأمثالها ممّا قرّر في مبحث تعارض الأدلّة وترجيحها ، لا تحت عنوان الاستحسان ، وعلى هذا لو فسروا الاستحسان بمعنى تقدم أحد الدليلين على الدليل الآخر بملاك موجب له ، لاتفقت الشيعة أيضاً معهم.

وممّا يرشد إلى ذلك انّ الأُستاذ «أبو زهرة» يعرف القياس ويقسمه إلى قسمين : أحدهما : استحسان القياس ، والآخر : استحسان سبب معارضة القياس ، ويمثل للقسم الأوّل بقوله : أن يكون في المسألة وصفان يقتضيان قياسين متباينين أحدهما ظاهر متبادر وهو القياس الاصطلاحي ، والثاني خفي يقتضي إلحاقها بأصل آخر فتسمى هنا استحساناً ، مثل انّ المرأة عورة من قمة رأسها إلى قدميها ،

ص : 504

ثمّ أُبيح النظر إلى بعض المواضع للحاجة ، كرؤية الطبيب ، فأعملت علّة التيسير هنا في هذا الموضع. (1)

إنّ الأُستاذ وإن أصاب في تقديم الدليل الثاني على الأوّل ولكنّه لم يذكر وجهه ، فانّ المقام داخل تحت العناوين الثانوية فتقدم على أحكام العناوين الأوّلية ، فقوله سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (2) يدلّ على أنّ كلّ حكم حرجي مرفوع في الإسلام وغير مشرّع ، فلو افترضنا انّ بدن المرأة عورة كلّه يجب عليها ستره ، لكن هذا الحكم يختص بغير حالة الضرورة ، وذلك لتقدم أحكام العناوين الثانوية كالضرورة والاضطرار على العناوين الأوّلية ، فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه» دليل على إباحة الرؤية ، فأي صلة لهذه المسألة بالاستحسان ، وما هذا إلاّ لأنّ القوم لم يقيّموا مصادر التشريع حسب مراتبها فأسموا مثلَ ذلك بالاستحسان.

الاستدلال على حجّية الاستحسان

استدلّوا على حجّية الاستحسان بوجوه :

الاستدلال بالكتاب والسنّة

الأوّل : قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ). (3)

ص : 505


1- أُصول الفقه : 247 - 249.
2- الحج : 78.
3- الزمر : 18.

الثاني : قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. (1)

يلاحظ على الأوّل : أنّه لا نزاع في الكبرى وانّ عباد الله هم الذين يستمعون القول فيتّبعون ما هو الأحسن ، ولكن الكلام في أنّ الإفتاء بشيء ممّا لم يقم عليه دليل سوى استحسان المجتهد ، هل هو اتّباع للأحسن أو اتّباع للهوى؟

وبعبارة أُخرى : القرآن يدعو إلى اقتفاء القول الأحسن وهو الذي دعمه العقل الصريح والشرع المبين ، وأين هذا من الإفتاء بشيء بمجرّد استحسان ذهن المجتهد ورأيه من دون أن يقوم عليه دليل قطعي من عقل أو شرع؟! نعم إذا كان الإفتاء مستنداً إلى دليل شرعي فهو حجّة قطعية ولا حاجة في جواز الإفتاء بها إلى الاستدلال بالآية ، بل يكفي دليل حجّيته.

والدليل على أنّ المراد من قوله «أحسن» هو ما قام الدليل على حجّيته انّك لو فسرت الآية بالاستحسان وقلت : الذين يتبعون الاستحسان لاختل انسجام الآية.

والحاصل : انّ لفظ «الأحسن» يُمثّل أحد معنيين :

1. امّا أن يتضمن معنى التفصيل ، فعندئذ يدلّ على أنّ هناك قولاً حسناً وقولاً أحسن فيتبعون الثاني دون الأوّل ، ولا يوصف القول بالحُسْن إلاّ إذا دلّ الدليل من العقل والنقل على كونه حجّة.

2. أن يكون بمعنى الحسن خالياً عن المفاضلة فيكون المعنى يتبعون الحسن دون غيره ، وعلى كلا التقديرين لا صلة للآية بما يستحسنه المجتهد بأنّه حكم الله من دون أن يستند إلى دليل قاطع.

ص : 506


1- احكام الفصول في احكام الأُصول : 688 - 689 ؛ الإحكام : 6 / 192 - 196.

ومنه يظهر انّ الحديث لا صلة له بالمقام ، فإنّ المراد ما رآه المسلمون حسناً أي ما اتّفقت عليه عقولهم لا رأي واحد منهم.

الاستدلال بالإجماع

وربما يستدلّ بإجماع الأُمّة واستحسانهم دخول الحمام وشرب الماء بأيدي السقّائين من غير تقدير لزمان المكث وتقدير الماء والأُجرة.

يلاحظ عليه : أنّه إذا جرت السيرة على هذا فهي حجّة إذا استمرت إلى عصر المعصوم حتّى يقع موقع التقرير وإلاّ فليست السيرة حجّة في مقابل الأدلة الشرعية ، حيث إنّ الجهل في المعاملة مرفوض شرعاً إلاّ ما جرت السيرة المستمرة عليه بالشرط المذكور.

بقي هنا أمر :

ربما يُمثّل بالاستحسان بالموارد التالية ويدعى انّ النبي الأعظم أفتى فيها به دون الوحي وانّه كان يجتهد كسائر الناس :

أ. نهى رسول الله عن بيع المعدوم ، ورخّص في السلم.

ب. نهى رسول الله عن بيع الرطب باليابس ، ورخّص في العرايا.

ج. نهى رسول الله عن أن يخضد شجر مكة وأن يختلى خلاها ورخّص في الإذخر.

يلاحظ على المثال الأوّل : أنّه لم يرد على لسان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قوله : نهى رسول الله عن بيع المعدوم ، وإنّما الوارد قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا تبع ما ليس عندك» (1) وهو ناظر إلى بيع المبيع الشخصي الذي هو تحت يد الغير ، فما لم يتملّكه البائع لا حق له في بيعه ،

ص : 507


1- لاحظ بلوغ المرام : 162 ، الحديث 820.

لعدم جواز بيع ما لا يملك ، وأين هو من بيع السلم الذي هو بيع شيء في الذمة ، فلم يكن ما صدر عن الرسول بنحو الضابطة شاملاً لبيع السلم حتى يكون الثاني استثناء من الأوّل ومبنيّاً على اجتهاده واستحسانه.

ومنه يظهر حال المثال الثاني أعني : «نهى رسول الله عن بيع الرطب باليابس».

فانّ نهي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إنّما كان منصبّاً على المجنيّ من الثمرة دون ما كان على الشجرة ، فنهى عن بيع الرطب باليابس ، لئلا يلزم الربا ، وإليك نصّ الحديث

عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر ، فقال : أينقص الرطب إذا يبس؟ قال : نعم ، فنهى عن ذلك. (1) وعلى ذلك فالنهي كان منصبّاً على البيع الشخصي ، أي تبديل الرطب المعيّن بعين يابس ، وعلى ضوء ذلك فلم يكن بيع العرايا داخلاً في النهي حتى يحتاج إلى الترخيص ويكون مبنياً على الاستحسان.

ومن ذلك يعلم أنّ ما رواه زيد بن ثابت «انّ رسول الله رخص في العرايا تباع بخرصها كيلاً» (2) ليس بمعنى انّه كان ممنوعاً ، ثمّ رخصه رسول الله ، بل بمعنى عدم تعلّق النهي به من بدء الأمر ، بخلاف المجنيّ.

وأمّا الثالث فلأنّ استثناء الإذخر من «اختلاء خلاه» ليس بمعنى انّ النبي استثناه من تلقاء نفسه معتمداً على الاستحسان ، بل كان الحكم (لا يخضد شجر مكة ولا يختلي خلاها) غير شامل للأُذخر في الواقع ، ولعلّ النبي كان مستعداً لبيان المخصص غير أنّ عمه العباس لما سبقه وقال : إلاّ الإذخُر ، فأعقبه النبي وقال : إلاّ الأُذخُر ، فزُعم انّ النبي قاله اجتهاداً أو استحساناً ، وما ذكرناه وإن كان احتمالاً ، لكنّه يكفي في نقض الدليل وإسقاطه عن الصلاحية

ص : 508


1- بلوغ المرام : 172 ، الحديث 865.
2- بلوغ المرام : 173 ، الحديث 867.

3- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة

الاستصلاح أو المصالح المرسلة
اشارة

المصالح المرسلة» مركبة من كلمتين لا بدّ من إيضاحهما :

أمّا الأُولى فيقول الغزالي : المصلحة هي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة - وقال - : ولسنا نعني به ذلك ، فانّ جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم ، لكنّا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ؛ ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينَهم ، ونفسَهم ، وعقلَهم ، ونسلهم ، ومالهم ؛ فكلّ ما يتضمن هذه الأُصول الخمسة فهو مصلحة ، وكلّ ما يفوِّت هذه الأُصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة. (1)

وأمّا المرسلة فقد اختلفت كلمتهم في تفسيرها على وجهين :

1. المراد هو المصلحة غير المعتمدة على نصّ خاص ولكن تدخل ضمن ما ورد في الشريعة من نصوص عامة.

وبعبارة أُخرى : لم يرد في خصوص تلك المصلحة دليل معيّن ولكن المصلحة داخلة في مقاصد الشريعة التي يُرغب إليها وهذا هو الظاهر من الأُستاذ

ص : 509


1- المستصفى : 1 / 140.

الدواليبي في تفسير الاستصلاح فقال : الاستصلاح في حقيقته هو نوع من الحكم بالرأي المبني على المصلحة ، وذلك في كلّ مسألة لم يرد في الشريعة نصّ عليها ، ولم يكن لها في الشريعة أمثال تقاس بها ، وإنّما بنى الحكم فيها على ما في الشريعة من قواعد عامة برهنت على أنّ كلّ مسألة خرجت عن المصلحة ليست من الشريعة بشيء وتلك القواعد هي مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (1) وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا ضرر ولا ضرار». (2)

2. انّ المراد عدم الاعتماد على أي نص شرعي من دون فرق بين الخاص والعام وإنّما يترك للعقل حق استكشافها ، وعلى هذا عرفه ابن برهان بقوله : هي ما لا تستند إلى أصل كلي أو جزئي.

وعلى هذا الوجه فكشف العقل المصلحة في فعل الشيء أو تركه من أدلة التشريع عند القائلين به.

ولو قبل به فالأولى تعريفه بالنحو التالي :

المصالح المرسلة عبارة «عن كلّ مصلحة لم يرد فيها أيُّ نصّ يدعو إلى اعتبارها ، أو عدم اعتبارها ، ولكن في اعتبارها نفع أو دفع ضرر».

وبعبارة أُخرى : الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع وانّ المصلحة المطلقة التي لا يوجد من الشرع ما يدلّ على اعتبارها ولا إلغائها ، مصلحة صالحة لأن يبنى عليها الاستنباط. (3)

وهي من مصادر الفقه والاستنباط عند المالكية والحنابلة ، دون الحنفية

ص : 510


1- النحل : 90.
2- المدخل إلى أُصول الفقه للدواليبي : 284.
3- مصادر التشريع : 73.

والشافعية ، فقد ذهب الأوّلان إلى أنّ الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نصّ فيه ولا إجماع ، وانّ المصلحة المطلقة - التي لا يوجد دليل من الشرع يدل على اعتبارها ولا على إلغائها - مصلحة صالحة لأن يبنى عليها الاستنباط.

والمعروف من الحنفية انّهم لا يأخذون بالاستصلاح ، وكذا الشافعية ، حتى روي عن الشافعي انّه قال : «من استصلح فقد شرّع» ، كما أنّ «من استحسن فقد شرّع» ، والاستصلاح كالاستحسان متابعة الهوى.

وقد اعتبرها الإمام مالك بشروط ثلاثة :

1. أن لا تنافي إطلاقَ أُصول الشرع ، ولا دليلاً من أدلّته.

2. أن تكون ضرورية للناس مفيدة لهم ، أو دافعة ضرراً عنهم.

3. أن لا تمسّ العبادات ، لأنّ أغلبها لا يعقل لها معنى على التفسير.

والفرق بين الأدلة الثلاثة واضح.

فالقياس عبارة عن استنباط حكم الفرع عن الأصل بحجّة اشتراكهما في العلّة.

والاستحسان عبارة عن العدول عن مقتضى دليل إلى دليل آخر بوجه من الوجوه.

والاستصلاح عبارة عن حيازة المصلحة المطلقة في مورد ، لم يرد من الشارع دليل لصيانتها ولا لإلغائها.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّهم استدلّوا على القاعدة بوجوه سيأتي التعرض لها والأولى بيان صور الاستصلاح :

ص : 511

الأوّل : تقديم المصلحة على النصّ ، ونبذ الآخر

إنّ الاستصلاح بهذا المعنى تشريع محرّم وتقدّم على الله ورسوله قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (1) والواجب على كلّ مسلم ، التجنّب عن هذا القسم من الاستصلاح فمن يتوهم المصلحة في سلب حق التطليق عن الزوج ، أو منح الزوجة حق التطليق أيضاً ، لا يصحّ له التشريع ، ولكن نجد - مع الأسف - رواج هذا الأُسلوب بين الخلفاء حيث كانوا يقدّمون المصلحة على النص.

1. روى مسلم عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم.

2. وروى عن ابن طاوس ، عن أبيه : انّ أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبي بكر وثلاثاً من خلافة عمر؟ فقال : نعم.

3. وروى أيضاً : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك (2) ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال : قد كان ذلك ، فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم. (3)

هذه النصوص تدلّ بوضوح على أنّ عمل الخليفة لم ينطلق من الاجتهاد

ص : 512


1- الحجرات : 1.
2- يقال في فلان هنات : أي خصلات شر ، ولا يقال ذلك في الخير.
3- صحيح مسلم 4 / 184183 ، باب الطلاق ثلاثاً ، الحديث 31.

فيما لا نصّ فيه ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط ، وإنّما كان عمله من الاجتهاد تجاه النص ونبذ الدليل الشرعي والسير وراء رأيه.

ومن هذا القبيل : نهي الخليفة عن متعة الحجّ ، ومتعة النساء ، والحيعلة في الأذان ، وغير ذلك.

الثاني : تقييد النصّ بالمصلحة

روي أنّه جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال : هلكت يا رسول الله ، قال : «ما أهلكك؟».

قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، فقال : «هل تجد ما تعتق رقبته؟» قال : لا ، قال : «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال : لا ، قال : «فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال : لا ، ثمّ جلس فأُتي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعرق فيه تمر ، فقال : «تصدق بهذا». (1)

ومقتضى إطلاق الحديث كفاية كلّ من الخصال في مقام التكفير فالغنيّ المفطر ، له أن يكفّر بالعتق كما له التكفير بالأُخرى ، ولكن ربما يقال بتعيّن الصيام على الغني ، لأنّه لا يُكفّر ذنبه إلاّ به ، أي صوم شهرين متتابعين ، لأنّه هو الرادع له عن العود إلى الإفطار لا الإطعام ولا عتق الرقبة ، لعسر الأوّل ويسر الثانيين.

ولكنّه تشريع تجاه النص والاستصلاح في المقام ، كالاستصلاح في القسم الأوّل بدعة ، غير أنّه في الأوّل بمعنى نبذ النص من رأسه وفي المقام نبذ لإطلاقه.

إنّ هذا القسم من الاستصلاح ربما يعبر عنه بالأخذ بروح القانون (2) ، وهو

ص : 513


1- بلوغ المرام : 136 ، الحديث 695.
2- فجر الإسلام : 238 ، نشر دار الكتاب.

بذل الجهد للوقوف على ملاك الحكم ومناطه الذي يقع التشريع وراءه وهو يكون أساساً لعملين :

1. إسراء الحكم ممّا فيه النصّ إلى ما ليس فيه إذا كان حائزاً للمناط ، وهنا تلتقي المصالح المرسلة مع القياس.

2. تقييد إطلاق النص بالمناط والاسترشاد بالمصلحة والأخذ بروح القانون لا بحرفيّته.

لكن تنقيح المناط في كلا الموردين محظور جداً سواء كان أساساً للقياس ، أو كان سبباً لتقييد الدليل ، فإنّ عقول الناس أقصر من أن تحيط بالمصالح والمفاسد فيكون الاستصلاح في كلا الموردين تشريعاً محرماً وباطلاً.

وعلى هذا الأساس المنهار ، منع الخليفة إعطاء المؤلّفة قلوبهم في أيّام خلافته قائلاً بأنّ مناط الحكم هو ضعف المسلمين وشوكة الكافرين فيصرف شيء من الزكاة فيهم ، لكي يستعان بهم على الكفار ، وهو منتف الآن. وبهذا ، قيّد إطلاق الآية : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (1) وخصّصها بصورة الضعف وأخرج صورة القوّة.

والاستصلاح بهذا المعنى ، فوق ما يرومه الأُصوليون من أهل السنّة ، وقد عرفت أنّ الإمام مالكاً خصّ العمل به بما إذ توفّرت فيه الشروط الثلاثة التي منها أن لا تنافي إطلاق أُصول الشرع ولا دليلاً من أدلّته.

فتلخص انّ الاستصلاح بالمعنى الأوّل والمعنى الثاني بكلا قسميه خارج عمّا هو محط البحث لدى الأُصوليين ، وإليك سائر الأقسام.

ص : 514


1- التوبة : 60.
الثالث : إنشاء الحكم فيما لا نصّ فيه على وفق المصلحة

إذا كان الموضوع ممّا لا نصّ فيه ولكن أدركنا بعقولنا وجود مصلحة فيه وإن لم يرد من الشارع أمر بالأخذ ، ولا بالرفض ، فتشريع الحكم الشرعي على وفقها هو الاستصلاح ولا مانع منه ويعلّله بعض المعاصرين بأنّ الحياة في تطوّر مستمر ، ومصالح الناس تتجدّد وتتغير في كلّ زمن ، فلو لم تشرع الأحكام المناسبة لتلك المصالح ، لوقع الناس في حرج ، وتعطّلت مصالحهم في كلّ الأزمنة والأمكنة ، ووقف التشريع عن مسايرة الزمن ومراعاة المصالح والتطوّرات ، وهذا مصادم لمقصد التشريع في مراعاة مصالح الناس وتحقيقها. (1)

يلاحظ عليه : أنّ لتشريع الحكم على وفق المصلحة صوراً :

الأُولى : تشريعه في الأُمور العبادية التوقيفية ، كتشريع الأذان الثاني لصلاة الجمعة لمّا كثر المسلمون ولم يكف الأذان بين يدي الخطيب لإعلامهم ، فلا شكّ انّه تشريع محرّم وإدخال في الدين ما لم يأذن به الله ، لأنّ الأذان الثاني عمل عباديّ لم يأذن به الشارع مع توفّر طرق أُخرى عاديّة لإعلام المصلّين ، من دون لزوم التشريع كما هو واضح.

الثانية : إذا كان أصل الحكم منصوصاً بوجه كلي ، ولكن فُوِّضت كيفيةُ العمل به وتحقيقه على صعيد الحياة إلى الحاكم الشرعي ، وذلك مثل ما مرّ من الأمثلة ، كإنشاء الدواوين أو سكّ النقود ، وتكثير الجنود وغيرها فالمنصوص ، هو حفظ بيضة الإسلام ، للحيلولة دون غلبة الكفار. قال سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (2) وقوله

ص : 515


1- الوجيز في أُصول الفقه : 94 ؛ مصادر التشريع الإسلامي : 100.
2- الأنفال : 60.

- صلى الله عليه وآله وسلم - : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه». (1)

فعند ذلك فالحكم المنشأ على وفق المصلحة ليس حكماً شرعياً أوّلياً ، ولا حكماً شرعياً ثانوياً وإنّما هو حكم ولائي نابع من ولاية الحاكم على إجراء القانون المنصوص إليه على صعيد الحياة وفقاً للمصالح ، ما لم يخالف تشريع الكتاب والسنّة فقد سمح للحاكم وضع هذه الضوابط والمقررات ضمن «إطار خاص» لأجل تطبيق الأحكام الكلية على صعيد الحياة فهي لازمة الاتّباع ما دامت تضمن مصلحة الأُمة فيدوم ما دام الحكم مقروناً بالمصلحة ، فإذا فقد الملاك ينتفي.

والأولى تسمية هذا النوع من الأحكام بالمقررات ، لتمييزها عن الأحكام الشرعية المجعولة الصادرة من ناحية الشرع.

فلو أُريد كون الاستصلاح مبدأ لهذا النوع من الحكم ، فهو صحيح لكن يبدو انّه غير مراد للقائلين بكونه من مبادئ التشريع ومصادره.

الثالثة : تشريع الحكم حسب المصالح والمفاسد العامة الذي اتّفق عليه العقلاء ، فلو افترضنا انّ موضوعاً مستجدّاً لم يكن له نظير في عصر النبي والأئمّة المعصومين ، لكن وجد فيه مصلحة عامة للمسلمين أو مفسدة لهم ، فالعقل يستقل بارتكاب الأُولى والاجتناب عن الثانية ، فالعقل عندئذ لا يكون مشرِّعاً بل كاشفاً عن حكم شرعي دون أن يكون للمجتهد حقّ التشريع. وذلك كتعاطي المخدّرات فقد اتّفق العقلاء على ضررها وإفسادها الجسم والروح ، فيكون العقل كاشفاً عن حكم شرعي ، للملازمة بين الحكمين ، وعندئذ تكون قاعدة الاستصلاح من شعب حجّية العقل.

ص : 516


1- الوسائل : الجزء 17 ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، الحديث 11.

ومثله التلقيح الوقائي عند ظهور الأمراض السارية كالجدري ، والحصبة وغيرهما فقد أصبح من الأُمور التي لا يتردد في صلاحيتها ذوو الاختصاصات.

يقول الأُستاذ عبد الوهاب خلاف : إنّ الأحكام الشرعية إنّما شرعت لتحقيق مصالح العباد وانّ هذه المصالح التي بنيت عليها الأحكام الشرعية ، معقول ، أي ممّا يدرك العقل حسنها كما أنّه يدرك قبحها فيصح ما نهى عنه ، فإذا حدثت واقعة لا نصّ فيها ، وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر ، كان حكمه على أساس صحيح معتبر من الشارع ولذلك لم يقع باب الاستصلاح إلاّ في المعاملات ونحوها ممّا تعقل معاني أحكامها. (1)

أقول : ما ذكره لا غبار عليه لو لا ما في قوله : «وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر» حيث اتّخذ الإدراك الفردي ملاكاً للتشريع وهو غير صحيح ، لأنّ كون الفعل ذا مصلحة أو مفسدة عند الفقيه ، لا يكشف عن كونه كذلك في الواقع ، لقصور العقل الفردي عن الإحاطة بالمصالح والمفاسد الواقعية ، فربما يدرك المصلحة والمفسدة ويغفل عن موانعهما ، فإدراك فرد واحد أو فردين ، أو ثلاثة وجود المصلحة أو المفسدة في الفعل لا يكون ملاكاً للتشريع على وفقه.

وهذا بخلاف ما أُطبق عليه العقلاء جيلاً بعد جيل على اشتمالَ الفعل على المصلحة الملزمة أو المفسدة ، فيؤخذ بما يحكم فيه العقل.

الرابعة : إذا استدعى العمل بالتشريع الإسلامي حرجاً عاماً أو مشقة للمجتمع الإسلامي لأجل ظروف وملابسات مقطعية أو كان هناك تزاحم بين الحكمين الواقعيين ، فللحاكم الإسلامي رفع الحرج بتقديم أحكام العناوين

ص : 517


1- مصادر التشريع الإسلامي : 75.

الثانوية على أحكام العناوين الأوّلية ما دام الحرج باقياً ، أو تقديم الأهم من الحكمين على المهم ، وهذا النوع من الأحكام ليست أوّلية ، كوجوب الصلاة ولا ثانوية كالتيمم عند فقدان الماء ، بل صلاحيات خوّلها الشارع إلى الحاكم الشرعي لما يتمتع به من ولاية على الناس. فهذا النوع من التصرّف لغاية تطبيق الأحكام على صعيد الحياة.

يقول الأُستاذ خلاف : «إنّ الوقائع تحدث ، والحوادث تتجدد ، فلو لم ينفتح للمجتهدين باب التشريع بالاستصلاح ، ضاقت الشريعة الإسلامية عن مصالح العباد وقصرت عن حاجاتهم ، ولم تصلح لمسايرة مختلف الأزمنة والأمكنة والبيئات والأحوال مع أنّها الشريعة العامة لكافة الناس وخاتمة الشرائع كلّها. (1)

ما ذكره الأُستاذ مؤلّف من أمرين قد خلط بينهما :

1. انّ النصوص المتناهية غير وافية لاستنباط الحوادث الطارئة غير المتناهية فلا بدّ من الأخذ بقاعدة الاستصلاح ، للإجابة عليها.

وقد استدلّ به على حجّية القياس وقد تقدّم انّ الحوادث وإن كانت غير متناهية ، لكن في الإطلاقات والعمومات ، مضافاً إلى القول بحجّية العقل من باب التحسين والتقبيح غنى وكفاية.

2. لو لم نقل بالاستصلاح ضاقت الشريعة الإسلامية عن مصالح العباد ... ، لكن الفقيه إذا عرف موانع الأدلّة ودرجاتها ، فهي في غنى عن التشريع والاستصلاح وأخص بالذكر أمرين :

1. معرفة الأدلّة الثانوية كالضرر والحرج والعسر وما يحكم به العقل في موارد التزاحم.

ص : 518


1- مصادر التشريع الإسلامي : 75.

2. الأحكام الولائية التي يصدر الحاكم الإسلامي في مواجهة المشاكل والمعضلات الاجتماعية ، وهي أحكام حكومية مؤقتة.

ففي ذلك غنى عن التشريع بالاستصلاح.

وعلى ضوء ما ذكرنا ليس للفقيه ، تصحيح الاستصلاح على وجه الإطلاق أو رفضه كذلك ، بل لا بدّ من الإمعان في صوره وأقسامه.

والذي تبيّن لي من إمعان النظر في قاعدة الاستصلاح انّ السبب من وراء جعلها من مصادر التشريع أُمور ثلاثة :

الأوّل : إهمال العقل كأحد مصادر التشريع بالمعنى الذي أشرنا إليه - أعني : كونه كاشفاً عن التشريع الإلهي في مجال التحسين والتقبيح لا كونه مشرعاً بنفسه - في مجالات خاصّة ، هذا من جانب ومن جانب آخر واجه الفقهاء مصلحة حقيقية عامة لا تختلف في كونها مصلحة ، قاطبة العقلاء - أي ليست مصلحة شخصية - فرأوا انّ حيازتها أمر لازم فاخترعوا قاعدة الاستصلاح مع أنّها في هذا المورد من شعب قاعدة حجّية العقل ، فلو أضفوا على العقل وصف الحجّية واعتبروه من مصادر التشريع لاستغنوا عن تلك القاعدة.

الثاني : عدم دراسة أحكام العناوين الأوّلية والثانوية كأدلّة الضرر والحرج ، فإنّ الأحكام الأوّلية محددة بعدم استلزام إطلاقها الحرج والضرر ، فإذا صارت موجبة لأحدهما يقدّم حكمهما على الأحكام الأوّلية.

وبذلك يستغني الفقيه عن قاعدة الاستصلاح مع ما لها من الانطباعات المختلفة.

وبما ذكرنا يعلم ما في كلام الأُستاذ عبد الوهاب خلاف ، حيث قال : إنّ الذين لا يحتجون بالمصلحة المرسلة إطلاقاً لا فيما لا نصّ على حكمه ولا فيما

ص : 519

ورد نص بحكمه قد سدّوا باباً من أبواب اليسر ورفع الحرج في التشريع وأظهروا الشريعة قاصرة عن مصالح الناس وعن مسايرة التطورات. (1)

يلاحظ عليه : بأنّ الذين قالوا بحجّية حكم العقل فيما له مجال القضاء فيه ، قد فتحوا باباً من أبواب اليسر فيما لا نصّ على حكمه ، أوّلاً ؛ ومن وقف على مكانة أحكام العناوين الثانوية بالنسبة إلى أحكام العناوين الأوّلية ، فقد رفع الحرج في التشريع ، ثانياً.

الثالث : انّ كلّ من كتب حول قاعدتي الاستصلاح وسد الذرائع لم يفرّقوا بين الأحكام الشرعية والأحكام الولائية الحكومية ، فانّ الطائفة الأُولى أحكام شرعية جاء بها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لتبقى خالدة إلى يوم القيامة ، وأمّا الطائفة الثانية فإنّما هي أحكام مؤقتة أو مقررات يضعها الحاكم الإسلامي (على ضوء سائر القوانين) لرفع المشاكل العالقة في حياة المجتمع الإسلامي.

ومنه يتضح انّ ما مثّلوا به لقاعدة الاستصلاح - فإنّما هو في الواقع - من صلاحيات الحاكم الشرعي ، فمثلاً عدّوا الأمثلة التالية من مصاديق تلك القاعدة :

أ. إنشاء الدواوين.

ب. سكّ النقود.

ج. فرض الإمام العادل على الأغنياء من المال ما لا بدّ منه كتكثير الجند وإعداد السلاح وحماية البلاد.

د. سجن المتهم كي لا يفر.

ص : 520


1- مصادر التشريع الإسلامي : 100.

إلى غير ذلك ممّا يعد من صلاحيات الحاكم الشرعي التي خوّلت إليه بغية تنظيم أُمور المجتمع في إطار الأحكام الأوّلية والثانوية.

وبذلك يظهر ما في كلام الأُستاذ عبد الوهاب خلاف حيث استدلّ على الاستصلاح بسيرة الصحابة وقال : «إنّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لمّا طرأت لهم بعد وفاته حوادث وجدّت لهم طوارئ ، شرّعوا لها ما رأوا أنّ فيه تحقيق المصلحة وما وقفوا عن التشريع لأنّ المصلحة ما قام دليل من الشارع على اعتبارها ، بل اعتبروا انّ ما يجلب النفع أو يدفع الضرر حسبما أدركته عقولهم هو المصلحة واعتبروه كافياً لأن يبنوا عليه التشريع والأحكام.

1. فأبو بكر جمع القرآن في مجموعة واحدة.

2. حاربَ مانعي الزكاة.

3. ودرأ القصاصَ عن خالد بن الوليد.

4. وعمر أوقع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة.

5. ووقّف تنفيذ حدّ السرقة في عام المجاعة.

6. وقتل الجماعة في الواحد.

7. وعثمان حدّد أذاناً ثانياً لصلاة الجمعة. (1)

يلاحظ عليه : أنّ ما قاموا به من الاعمال بين ما لها رصيد في القرآن والسنّة أو هي بدعة في الدين ورفض لحكم الكتاب والسنّة.

فمن الأوّل ، جمع القرآن في عصر من العصور قال سبحانه : (ثم (إِنَّ عَلَيْنا

ص : 521


1- مصادر التشريع الإسلامي : 75. كما في الأُصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم : 389.

جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ، (1) فالآية تدلّ على أنّ جمع القرآن أمر محبوب لله وهو سبحانه ينفِّذ إرادته من خلال أعمال عباده ، ونظيره محاربة مانعي الزكاة ، فانّه من شعب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقرب منها ، وقف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة ، فلعلّه كان لأجل انصراف أدلّة الحد عن هذه الصورة.

ومن الثاني ، إيقاع الطلاق الثلاث وتنفيذها ثلاثاً ، فقد خالف كتاب الله وسنّة رسوله ، والرأي العام للصحابة ذاك اليوم ، وندم على ما فعل في أُخريات عمره ، نعم ندم حينما لا ينفعه الندم وقد بلغ السيلُ الزبى ، وقد مرّ تفصيله في هذا الجزء.

وأمّا درء القصاص عن خالد بن الوليد حيث قتل «مالك بن نويرة ، ثمّ نزا على امرأته» فكان خطيئة ، إذ كيف يمكن درء هذه الخطيئة التي لا تغسل عن ثوب المقترف بماء البحار ، ولذلك قال عمر بن الخطاب لخالد عند ما دخل المدينة : «قتلتَ امرأً مسلماً ، ثمّ نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك» وأقصى ما كان عند أبي بكر من العذر هو ما قال في جواب عمر : «ما كنتُ لأغمد سيفاً سلّه الله عليهم» أي وإن فعل ما فعل ، وإن كانت الغاية من سل السيف صيانة دماء المسلمين وأعراضهم ، لا سفك دمائهم واستباحة نواميسهم ، فما قيمة هذا السيف الذي يستعمل السلّ ضد الإسلام والمسلمين.

وحصيلة البحث :

1. أنّ المصلحة لو كانت مستفادة من المنصوص والقواعد العامة فيحكم

ص : 522


1- القيامة : 19.

على وفقها ، ولكنّه عندئذ لا يكون الاستصلاح دليلاً مستقلاً بل يعدّ عملاً بالسنّة.

2. ولو كانت مستفادة من حكم العقل فيعمل بها ، ولا يكون دليلاً مستقلاً بل عملاً بحكم العقل.

وإن لم يكن مستفادة من الشرع ولا العقل ، ولم ينص الشارع عليها ولم يلغها ، فلا يكون مصدراً للتشريع ، لاحتمال وجود مانع من جعل الحكم ، أو لأنّها فاقدة لبعض الشرائط ، فمثل هذه المصلحة المظنونة لا يصلح دليلاً للحكم الشرعي ، والشكّ في حجّية ذلك الظن ، يساوق القطع بعدم حجّيتها.

ص : 523

4- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة

سدّ الذرائع

إنّ سدّ الذرائع من الأُصول المعتبرة لدى المالكية والحنابلة دون غيرهما.

وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدّم أُموراً :

1. سدّ الذرائع لغة واصطلاحاً

«الذريعة» في اللغة ، بمعنى الوسيلة التي يتوصّل بها إلى الشيء ، سواء أكان الشيء محبوباً أم مبغوضاً ، أم أمراً مباحاً غير محبوب ولا مبغوض. و «السدّ» يقابل الفتح ، وبما انّ البحث في المقام مركز على «سد الذرائع» في مقابل «فتح الذرائع» الذي سيوافيك بيانه في البحث القادم ، يكون المراد من الشيء في المقام هو الأمر المحرّم أو المكروه ، ولا يعمّ ما يقع ذريعة للواجب والمستحبّ ، فضلاً عن المباح.

وعلى ضوء هذا ، فأفضل التعاريف ما ورد في ألسنة المتأخّرين ، أعني : «ما يتوصّل به إلى شيء ممنوع مشتمل على مفسدة». (1)

ص : 524


1- المدخل للفقه الإسلامي : 266.
2. سدّ الذرائع من مصادر التشريع مستقلاً

يبدو من أصحاب سدّ الذرائع كالمالكية والحنابلة ، انّ سدّ الذرائع أصل برأسه ومصدر مستقل وراء الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، لكن لو قلنا بدلالة النهي عن الشيء ، على حرمة مقدّمته دلالة لفظيّة ، أو قلنا بوجود الملازمة العقلية بين الحرمتين ، لرجع الأصل إلى أحد المصدرين ، ولا يعدّ مصدراً مستقلاً.

3. تعريفه وأقسامه
اشارة

وقد عُرّف بتعاريف منها :

«العمل الذي يعدّ حلالاً في الشرع ، لكن الفاعل يتوصل به إلى فعل محظور».

أو :

التذرّع بفعل جائز إلى عمل غير جائز.

إلى غير ذلك من التعاريف التي جمعها محمد هاشم البرهاني في كتابه «سد الذرائع في الشريعة الإسلامية». (1)

وأوضحها الشاطبي بالمثال التالي :

إذا اشترى شخص غنماً من رجل بعشرة إلى أجل ، ثمّ باعها منه بثمانية نقداً ، فقد صار مآل هذا العمل مقدمة لأكل الربا ، لأنّ المشتري أخذ ثمانية ودفع عشرة عند حلول الأجل. فالقائل بسد الذرائع يمنع البيع الأوّل تجنّباً عن الربا. (2)

ص : 525


1- انظر ص 74.
2- الموافقات : 4 / 112.

ومع أنّ القائلين بالقاعدة ركّزوا على قسم واحد وهو ما عرفته ، لكن ذكر ابن القيم للذريعة أقساماً أربعة :

1. الوسائل الموضوعة للإفضاء إلى المفسدة كشرب الخمر المفضي إلى مفسدة السكر ، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش.

2. الوسائل الموضوعة للأُمور المباحة ، إلاّ انّ فاعلها قصد بها التوصّل إلى المفسدة كما يعقد البيع قاصداً الربا (كما في مثال الشاطبي).

3. الوسائل الموضوعة للأُمور المباحة ، والتي لم يقصد بها التوصّل إلى المفسدة لكنّها مفضية إليها غالباً ، كسبّ آلهة المشركين المفضي إلى سبّ الله سبحانه وتزين المتوفى عنها زوجها في زمن عدّتها.

4. الوسائل الموضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها ، كالنظر إلى المخطوبة ، أو المشهود عليها. (1)

هذا ولكن المالكية ثمّ الحنابلة الذين هم الأصل لتأسيس هذا الأصل ، يركزون على القسم الثاني من تلك الأقسام ، وهي الوسائل المباحة التي يقصد التوصّل بها إلى المفسدة. والحقّ اختصاص القاعدة به ، وذلك لأنّ القسم الأوّل في كلام ابن القيّم خارج عن محط البحث ، إذ مضافاً إلى أنّ نفس شرب المسكر حرام سواء أدّى إلى السكر أم لا ، انّ لازم ذلك ، دخول عامّة المحرمات النفسية الواردة في الكتاب والسنّة تحت هذا الأصل وبالتالي انقلابها من الواجب النفسي إلى الواجب الغيري بناء على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، ومن المعلوم أنّ الغاية من تأسيس ذاك الأصل غير المحرمات النفسية.

كما أنّ الثالث ممّا مثل به من سب آلهة المشركين أو تزيّن المتوفّى عنها زوجها

ص : 526


1- اعلام الموقعين : 3 / 148.

في زمن عدتها ، حرام بالذات كما سيوافيك بيانه.

وأمّا الرابع فليس بحرام قطعاً وانحصر مورد الأصل بالصورة الثانية ، وقد أكثر الإمام مالك العمل بهذه القاعدة حتّى أفتى لمن رأى هلال شوال وحده ، أن لا يفطر لئلاّ يقع ذريعة إلى إفطار الفسّاق ، محتجّين بما احتجّ به ، ولكن كان في وسع الإمام أن لا يُحرِّم عليه الإفطار عملاً بالسنّة : «صوموا عند الرؤية وأفطروا عند الرؤية» ((1)) وفي الوقت نفسه يمنعه عن التظاهر به ويجمع بين القاعدتين ، ولعلّ هذا مراد الإمام.

وممّن أطنب فيه الكلام ، ابن القيم حيث استدلّ على القاعدة بوجوه بلغت تسعة وتسعين وجهاً ، فمن أراد فليرجع إلى اعلام الموقعين.(2) ونحن نقتصر بالوجوه الأربعة المستمدة من الأدلّة الأربعة.

أدلّة القاعدة

وقد استدلّوا على القاعدة بالكتاب والسنّة والإجماع والعقل :

الاستدلال بآيات أربع من الكتاب
1. آية النهي عن سبّ الآلهة

قال سبحانه : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ). ((3))

ص : 527


1- بلوغ المرام برقم 271 باختلاف يسير.
2- اعلام الموقعين : 3 / 171149.
3- الأنعام : 108.

وقد نهى سبحانه عن سب آلهة المشركين لئلاّ يقع ذريعة لسبِّه سبحانه بغير علم.

2. آية النهي عن القول ب «راعنا»

قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ). (1)

وإنّما مُنعوا من مخاطبة الرسول بقولهم : «راعنا» لئلا يكون ذريعة لاستعمال اليهود إيّاه شتيمة له على ما ذكره المفسرون.

قال الزمخشري في تفسير الآية : كان المسلمون يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا ألقى إليهم شيئاً من العلم «راعنا» يا رسول الله ، أي راقبنا وانتظرنا وتأنّى بنا حتى نفهمه ونحفظه ، وكانت لليهود كلمة يتسابّون بها عبرانية أو سريانية ، فلمّا سمعوا بقول المؤمنين «راعنا» اغتنموا الفرصة وخاطبوا به الرسول ، وهم يعنون به تلك المسبَّة ، فنُهي المؤمنون عنها وامروا بما هو في معناه وهو انظرنا.

3. آية النهي عن حيازة الحيتان

قال سبحانه : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). (2)

نهاهم عن حيازة الحيتان يوم السبت لئلاّ تقع ذريعة للاصطياد.

ص : 528


1- البقرة : 104.
2- الأعراف : 163.
4. آية النهي عن التقرب من الشجرة
اشارة

قال سبحانه : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ). (1)

نهاهم عن التقرب ، لأنّها ذريعة للأكل.

يلاحظ على الاستدلال بأنّه لا دليل على أنّ التحريم في هذه الموارد ، تحريم غيريّ ، بل ظاهر الآيات انّها محرمة تحريماً نفسيّاً ، وفي الوقت نفسه ، له غايات كما في تحريم سب آلهة المشركين ، فانّ الغاية من تحريمه ، عدم إثارة حفيظة المشركين ، لسبّ الله عدواً ، وكون التحريم لغاية صحيحة لا يكون سبباً لكونه تحريماً غيريّاً ، وإلاّ تصبح عامة المحرمات ، واجبة غيرية ، حرمت لغايات قصوى.

الاستدلال بالسنّة

قد استدلّوا - وراء الكتاب - بما ورد في السنّة أوضحها : ما رواه معاذ بن جبل قال : كنت رديف رسول الله على حمار يقال له عفير قال : فقال : «يا معاذ تدري ما حقّ الله على العباد ، وما حقّ العباد على الله؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «فإنّ حقّ الله على العباد أن يعبدوا الله ، ولا يشركوا به شيئاً ، وحقّ العباد على الله عزّ وجلّ أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً» ، قال : قلت يا رسول الله : أفلا أبشر الناس؟ قال : «لا تبشرهم فيتّكلوا». (2)

مناقشة حديث معاذ

أ. انّ ما نقله عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من حقّ العباد على الله وأمره بكتمانه ، فقد جاء

ص : 529


1- البقرة : 25.
2- شرح النووي على صحيح مسلم : 1 / 232.

في الذكر الحكيم ولم يكتمه سبحانه حيث قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (1) ، وقوله سبحانه : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (2) ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (3) أي في حالة كونهم ظالمين وعاصين ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على غفرانه سبحانه لذنوب عباده.

ب. لو صحّ الحديث ، فقد أمر النبي معاذاً بالكتمان ، فلما ذا أفشى سره وارتكب الحرام مع أنّه كسائر الصحابة عدل؟!

الاستدلال بالإجماع

اتّفقوا على النهي عن إلقاء السم في أطعمة المسلمين المبذولة للتناول ، بحيث يعلم أو يظن انّهم يأكلونها فيهلكون ، والمنع عن حفر بئر خلف باب الدار في الظلام الدامس لئلا يقع فيها الداخل.

يلاحظ عليه : أنّ النهي في هذه الموارد نفسيّ وإن كان لغاية أُخرى ، كما شأن عامة النواصي في المصدرين.

الاستدلال بالعقل
اشارة

يقول ابن قيم الجوزية في تقرير القاعدة : فإذا حرّم الربُّ تعالى شيئاً ، وله طرق ووسائل تُفضي إليه ، فانّه يحرّمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له ، ومنعاً أن يقرب حماه ، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً

ص : 530


1- النساء : 48.
2- الزمر : 53.
3- الرعد : 6.

للتحريم ، وإغراءً للنفوس به ، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كلّ الإباء ، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك ، فانّ أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثمّ أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعدّ متناقضاً ، ولحصل من رعيته وجنده ضدّ مقصوده ، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه ، وإلاّ فسد عليهم ما يرومون إصلاحه ، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ، ومن تأمّل مصادرها ومواردها علم أنّ الله تعالى ورسوله سدّ الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرّمها ونهى عنها.

يلاحظ عليه : بأنّ الحرام - كما سيوافيك - الجزء الأخير من المقدّمة الذي لا ينفك عن ذيها.

إذا وقفت على أدلّة القائلين بهذا الأصل وما فيه فلنرجع إلى تحليل القاعدة.

أقول : يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : تحليل القاعدة وتبيين مكانتها في علم الأُصول.

الثاني : دراسة الأمثلة الّتي فرّعوها عليها.

1. مكانة القاعدة في علم الأُصول

إنّ قاعدة سدّ الذرائع ليست قاعدة مستقلة وإنّما ترجع لإحدى القاعدتين :

الأُولى : وجود الملازمة بين حرمة الشيء وحرمة مقدّمته.

فمغزى القاعدة عبارة عن أنّه إذا حُرِّم الشيء ، حرِّمت مقدّماته وذرائعه التي يتوصل الإنسان بها ، وهي مطروحة في كتب الأُصول ، فمنهم من حرّم مطلقَ المقدّمة ، ومنهم من حرّم المقدّمة الموصلة ، ومنهم من حرّم الجزء الأخير من المقدّمة

ص : 531

بمعنى العلّة التامة التي لا تنفك عن ذيها ، والأخير هو المتعيّن ، لأنّ قبح الذريعة أو ممنوعيتها لأجل كونها وسيلة للوصول إلى الحرام ، فلا توصف بالحرام إلاّ إذا كانت موصلة لا غير ، ولا يتحقّق الإيصال إلاّ بالجزء الأخير الذي يلازم وجود المبغوض.

وعلى ضوء ذلك فلا يصحّ لنا الحكم بحرمة كلّ مقدمة للعمل المحظور ، إلاّ إذا انتهى إلى الجزء الأخير من المقدمة الذي لا ينفك عن المحظور.

الثانية : الإعانة على الإثم التي أفتى الفقهاء بحرمتها ، مستدلّين بقوله سبحانه : (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ). (1) بناءً على انّ التعاون يعمّ الإعانة الجماعية والفرديّة ، ومن هذا القبيل سبّ آلهة المشركين الذي يثير حفيظتهم إلى سبّ الله سبحانه ، أو خطاب النبي بقولهم : «راعنا» والذي يحرك الآخرين لاستعماله في هتك حرمة النبي ، فليس لنا أصل باسم سدّ الذرائع ، وإنّما مرجعه إلى إحدى القاعدتين.

2. دراسة بعض الفروع المبنية عليها

ثمّ ذكر بعض الكتّاب المعاصرين تطبيقات عملية لهذه القاعدة نسرد بعضها :

1. الاجتهاد لاستنباط أحكام الوقائع أمر مقرر مشروع ، لكنَّ في الاجتهاد الفردي في هذه الأيّام مفسدة ينبغي التحرّز عنها وسدّ أبوابها بأن تؤلف مجالس تَضُم كبارَ العلماء المختصين في مختلف علوم الشريعة وأبوابها ويسند إليها أمر الاجتهاد.

ص : 532


1- المائدة : 2.

أقول : إنّ الحقيقة بنت البحث ، والاختلاف إذا نشأ عن نيّة صادقة يؤدي إلى نضج العلم وتكامله ، ولذلك يُعدّ الاجتهاد الجماعي أوثقَ وأقوى ، ولكن إذا بلغ الرجل مبلغَ الاجتهاد ، فمنعه عن الاجتهاد والعمل برأيه والإفتاء به ، أمر بالمنكر وصدّ عن العمل بالواجب.

2. ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية فزعم القائل عدم جوازه سدّاً لذريعة التبديل والتغيير والتحريف. مضافاً إلى أنّ اللغات الأجنبية لا تسع لمعاني القرآن العميقة والدقيقة.

يلاحظ عليه : لا شكّ انّ ترجمة القرآن بأيّ لغة كانت لا تواكب معاني القرآن العميقة ، وهذا أمر ليس بحاجة إلى برهنة ، ولكن الحيلولة بين القرآن وترجمته ، يوجب سدَّ باب المعرفة للأُمم التي لا تجيد اللغة العربية ، فإذا أقر المترجم في مقدمة ترجمته بما ذكرناه وانّ ترجمته اقتباس ممّا جاء في الذكر الحكيم فعندها سترتفع المفسدة ، فتكون الترجمة ذات مصلحة خالية عن المفسدة.

ثمّ إنّ النص القرآني محفوظ بين المسلمين فهو المرجع الأصيل دون الترجمة.

3. تدّخل الدولة في أيّام الأزمات والحروب لتحديد الأسعار ، والأُجور والخدمات وتنظيم الحياة العامة على نحو معين لحماية الضعفاء من أرباب الجشع والطمع على أن يتجاوز حدّ الضرورة.

أقول : المراد من مصادر التشريع ، ما يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية التي أمر النبي بإبلاغها ، للناس ، وهي أحكام ثابتة عبر الأجيال والقرون.

وأمّا تحديد الأسعار ، فليس من الأحكام الشرعية بالمعنى المتقدّم ، بل هو حكم حكومي ، يعدّ من حقوق الحاكم واختياره ، فلو مسّت الحاجة إلى التسعير

ص : 533

قام به ، وإلاّ ترك الناس والأجناس بحالها ، فعدّ سدّ الذرائع من مصادر التشريع ، واستنتاج جواز تحديد الأسعار منه واقع في غير محلّه.

حصيلة البحث

إنّ سدّ الذرائع ، ليس دليلاً مستقلاً في عرض سائر الأدلّة الأربع ، فانّ حرمة المقدمة إمّا مستفادة من نفس النهي عن ذيها ، فتدخل في السنّة حيث إنّ النهي عن ذيها ، يدلّ بإحدى الدلالات على تحريم المقدّمة.

أو مستفادة من العقل الحاكم بالملازمة بين التحريمين وانّه إذا حرم الشيء ، يجب أن يحرم ما يتوصّل به إليه. أو هي من فروع الإعانة على الإثم والعدوان.

وعلى كلّ تقدير فليس سدّ الذرائع أصلاً برأسه.

ص : 534

5- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
الحيل(فتح الذرائع)

إنّ فتح الذرائع من أُصول الحنفية كما أنّ سدّ الذرائع من أُصول المالكية ، ويسمّى الأوّل بالمخارج من المضائق ، والتحيّل على إسقاط حكم شرعي ، أو قلبه إلى حكم آخر.

وقد صارت هذه القاعدة مثاراً للنزاع وسبباً للطعن بالحنفية ، حيث إنّ التحيّل لإبطال المقاصد الشرعية لأجل أحد أمرين :

إمّا نفي الحكمة المقصودة من الأحكام الشرعية حتى يصير المكلّف ناظراً إلى الصور ، والألفاظ لا إلى المقاصد والأغراض.

وأمّا الاجتراء على إبطال الحكمة الشرعية بما يُرضي العامة ، وهذه نزعة إسرائيلية معروفة تشهد بها آية السبت في سور مختلفة. (1)

ص : 535


1- ذُكرت قصة أهل السبت في مواضع خمسة من القرآن : البقرة : 65 - 66 ، النساء : 154 - 155 ، الأعراف : 163 ، النحل : 124 ، وقد جاء لعنهم في سورة النساء : 47 قال سبحانه : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ).

إنّ ذهاب الحنفية إلى هذه القاعدة أثار حفيظة الآخرين ، ممّا حدا بالبخاري أن يعقد باباً خاصّاً للرد على القاعدة معبّراً عن أبي حنيفة ، بقوله : «قال بعض الناس» وإليك الباب وما فيه :

«باب» إذا غصب جارية فزعم أنّها ماتت ، فقُضي بقيمة الجارية الميتة ، ثمّ وجدها صاحبها فهي له ويرد القيمة ، ولا تكون القيمة ثمناً - ثمّ أضاف البخاري قائلاً : وقال بعض الناس : الجارية للغاصب لأخذه القيمة ، وفي هذا احتيال لمن اشتهى جارية رَجل لا يبيعها فغصبها واعتلّ بأنّها ماتت حتى يأخذ ربُّها قيمتها ، فيطيب للغاصب جارية غيره ، قال النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - : «أموالكم عليكم حرام ، ولكلّ غادر لواء يوم القيامة». (1)

ومن أكثر الناس ردّاً للحيل الحنابلة ، ثمّ المالكية ، لأنّهم يقولون بسدِّ الذرائع ، وهو أصل مناقض للحيل تمام المناقضة.

يقول ابن القيم : إنّ هؤلاء المحتالين الذين يُفتون بالحيل التي هي كفر أو حرام ، ليسوا مقتدين بمذهب أحد من الأئمّة ، وانّ الأئمّة أعلم بالله ورسوله ودينه وأتقى له من أن يفتوا بهذه الحيل (2) ، فقد قال أبو داود في مسائله : سمعتُ أحمد وذكر أصحاب الحيل يحتالون لنقض سنن رسول الله ، وقال في رواية أبي الحارث الصانع : هذه هي الحيل التي وضعوها ، عَمِدوا إلى السنن واحتالوا لنقضها.

والشيء الذي قيل لهم انّه حرام احتالوا فيه حتى أحلّوه ، قالوا : الرهن لا

ص : 536


1- صحيح البخاري : 9 / 32 ، كتاب الإكراه.
2- لا يخفى ما في كلامه من المبالغة فإنّ الحنفية - وعلى رأسهم أبو حنيفة - قد ابتدعت تلك القاعدة ، فكيف نزّهه عنها؟

يحلّ أن يستعمل ، ثمّ قالوا : يحتال له حتى يستعمل فكيف يحل ما حرم الله ورسوله بالحيلة؟

وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم ، فأذابوها ، فباعوها ، وأكلوا أثمانها ، أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحم». (1)

ثمّ إنّ ابن القيم لمّا كان من المتعصبين للمذهب الحنبلي خصّص الجزء الثالث وقسماً من الرابع في القاعدتين ، فاستدلّ على قاعدة سد الذرائع بتسعة وتسعين وجهاً. (2)

كما بسط الكلام في قاعدة الحيل ، واستوعب قسماً كبيراً من الجزء الثالث وقسماً من الجزء الرابع فخصص 361 صفحة لإبطال هذه القاعدة ، وضرب أمثلة كثيرة لها ناهزت 116 مثالاً.

وقد استدلّ المثبتون لها بالكتاب والسنّة :
الاستدلال بالكتاب :

1. قوله سبحانه : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). (3)

روى المفسرون أنّ أيّوب قد حلف على ضرب امرأته بمائة سوط ، فأمره سبحانه أن يجمع مائة من شماريخ (4) ويجعلها ضِغثاً ، ويضربها مرة واحدة ، وكأنّه

ص : 537


1- اعلام الموقعين : 3 / 191.
2- اعلام الموقعين : 3 / 147 - 171.
3- سورة ص : 44
4- جمع الشمراخ غصن دقيق ينبت في أعلى الغصن الغليظ.

ضربها مائة سوط ، فذلك تحلّة أيمانه.

يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال بالآية غير صحيح ، لاحتمال أن يكون ذلك الحكم تخفيفاً من الله سبحانه في حقّ أيّوب لمّا صبر طيلة سنين متمادية حتى وصفه الله سبحانه بقوله : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ) فهذا النوع من التخفيف كان جزاءً له على صبره ، وتخفيفاً عن امرأته ورحمة بها.

ولو كان هذا الحكم عاماً لما خفي على أيوب وهو نبيّ من أنبيائه سبحانه ، وسّع الله صدره بالعلم.

وما ربما يقال من أنّ الخصوصية لا تثبت إلاّ بدليل (1) ، وإن كان صحيحاً ولكن الدليل على الخصوصيّة هو التعليل الوارد في الآية.

2. وقوله سبحانه : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). (2)

حيث أمر يوسف - عليه السلام - بجعل صواع الملك في رحل أخيه ليتوصل بذلك إلى أخذه وكيد إخوته. (3)

يلاحظ عليه : أنّ يوسف توصّل بالحلال إلى الحلال ، وهو أخذ الأخ ولم يكن غير راض بذلك في الواقع ، كما ولم يكن قصده بذلك إيذاء إخوته ولا إيذاء أبيه.

أمّا الأوّل (إيذاء الإخوة) فواضح إذ لو كان قاصداً لذلك لعاقبهم بغير هذا

ص : 538


1- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي : 2 / 491.
2- يوسف : 62.
3- اعلام الموقعين : 3 / 224.

الأُسلوب ، وأمّا الثاني (إيذاء الأب) فلأنّ الوالد كان واقفاً على أنّ أخا يوسف سيُحاصر ، حيث قال لهم : (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ). (1)

والظاهر من الكتاب العزيز أنّ يوسف قام بذلك بأمر من الله سبحانه حيث قال : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ) (2) ، أمره سبحانه بذلك ليبلغ الكتاب أجله ويتم البلاء الذي أحاط بيعقوب ويوسف وتبلغ حكمة الله تعالى التي قضاها لهم نهايتَها.

وهل يكون ذلك دليلاً على الجواز لعامة الناس لغايات سخيفة؟!

الاستدلال بالسنّة

استدلّوا من السنّة بما رواه البخاري ، عن أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري ، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - استعمل رجلاً على خيبر ، فجاءه بتمر جنيب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أكلُّ تمر خيبر هكذا؟» قال : لا والله يا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انّا لنأخذ الصاعَ من هذا ، بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ، ثمّ ابتع بالدراهم جنيباً». (3)

والجمع نوع من تمر خيبر رديء ، والجنيب نوع جيد ، ولم يفصّل بين أن يكون البيع من رجلين أو رجل واحد.

وسيوافيك الكلام فيها فانتظر.

ص : 539


1- يوسف : 66.
2- يوسف : 76.
3- اعلام الموقعين : 3 / 202 ؛ ولاحظ بلوغ المرام برقم 855.
القول الحاسم في فتح الذرائع (الحيل)

إنّ الموافق والمخالف لفتح الذرائع قد أطنبوا الكلام في المقام ، وكلّ تمسك وجوه من الأمثلة الفقهية ، فلنذكر ما يحسم الموقف ويزيل الخلاف فنقول :

إنّ الحيل التي يتوصّل بها على أقسام :

1. أن يكون التوصل بالوسيلة منصوصاً في الكتاب والسنّة ، وليس المكلّف هو الذي يتحيّلها بل أنّ الشارع هو الذي جعلها سبباً للخروج عن المضائق ، نظير تجويز السفر في شهر رمضان لغاية الإفطار ، قال سبحانه : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). (1)

فَخيَّر المكلّف بين البقاء في بلده فيصوم ، والخروج عنه فيفطر ، فالخروج عن ضيق الصوم بالسفر ، ممّا أرشده إليه الشارع. وليس بإيعاز من المكلّف نفسه.

ونظير تجويز نكاح المطلّقة ثلاثاً بعد التحليل ، إذ من المعلوم أنّه من طلّق زوجته ثلاثاً حرمت عليه أبداً قال سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) وفي الوقت نفسه إنّ الشارع قد أرشده إلى الخروج من هذا المأزق بقوله : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ). (2)

ص : 540


1- البقرة : 185.
2- البقرة : 230.

فلا أظن فقيهاً من المذاهب يرى مثل هذا التحيّل أمراً قبيحاً ، أو على خلاف المصلحة ، فانّ معنى ذلك هو رفض التشريع الإلهي ، بل يمكن أن يقال : انّ هذا القسم خارج عن محلّ الكلام ، لاختلاف موضوعي الحكمين ، فقد وجب الصوم على الحاضر ، والإفطار على المسافر ، ومثله المطلقة ثلاثاً. فالمحرّمة هي غير المنكوحة للغير ، والمحلّلة هي المنكوحة بعد الطلاق.

2. إذا كان هناك أمر واحد له طريقان ، أحلّ الشارع أحدهما وحرّم الآخر ، فلو سلك الحلال لا يعدّ ذلك تمسكاً بالحيلة ، لأنّه اتّخذ سبيلاً حلالاً إلى أمر حلال.

مثاله : انّ مبادلة التمر الرديء بالجيّد تفاضلاً رباً محرّم ، ولكن بيعَ كلّ على حدة أمر جائز ، وإن كانت النتيجة في كلا الأمرين واحدة ، ولكن الحرام هو سلوك الطريق الثاني لا الأوّل.

وهذا القسم خارج عن محلّ النزاع أيضاً ، لأنّه فيما إذا احتال وتوصل بالحلال إلى الحرام ، وأمّا هنا فقد توصل بالحلال إلى الحلال.

3. إذا كان السبب غير مؤثر في حصول النتيجة شرعاً ، فالتوصل في مثله محرّم غير ناتج ، وذلك كالمثال الذي نقله الإمام البخاري عن أبي حنيفة وانّه أفتى بأنّه إذا غصب جارية ، فزعم انّها ماتت فقضى بقيمة الجارية الميتة ، وانّ الجارية للغاصب وإن تبيّن بعدُ انّها حيّة ، وليس لصاحبها أخذها إذا وجدها حية.

وغير خفي انّ زعم الغاصب موت الجارية لا يخرجها عن ملك صاحبها ، ولا يوجب اشتغال ذمة الغاصب بقيمتها ، بل تبقى الجارية على ملكية المالك ، فلو ظهر حياتها انكشف انّ القضاء بردّ القيمة كان باطلاً من أصله.

ص : 541

ومن خلاله ظهر انّ السبب (زعم الغاصب موت الجارية) غير مؤثر في الانتقال فلا تقع ذريعة لتملّكها ، وهو الذي رتّب عليها البخاري رداً على أبي حنيفة وقال : إنّه يحتال من اشتهى جارية رجل لا يبيعها ، فغصبها واعتلّ بأنّها ماتت حتى يأخذ ربّها قيمتها ، فيطيب للغاصب جارية غيره.

لما عرفت من أنّ اعتقاد الغاصب بموت الجارية جازماً لا يكون سبباً لخروج الجارية عن ملك صاحبها وخروج قيمتها عن ملك الغاصب ، فكيف إذا كان عالماً بالخلاف وكاذباً في الإخبار؟ فعدم جواز التحيّل في هذه المسألة لأجل انّ السبب حلالاً كان أو حراماً غير مؤثر فيه.

4. إذا كانت الوسيلة حلالاً ، ولكن الغاية هي الوصول إلى الحرام على نحو لا تتعلّق إرادته الجدّية إلاّ بالمحرم ولو تعلّق بالسبب فإنّما تعلق بها صورياً لا جدياً ، كما إذا باع ما يسوى عشرة بثمانية نقداً ، ثمّ اشتراه بعد بعشرة نسيئة إلى شهرين فمن المعلوم أنّ إرادته الجدية تعلّقت باقتراض ثمانية ودفع عشرة ، وحيث إنّ ظاهره ينطبق مع الربا ، فاحتال ببيعين مختلفين مع عدم تعلّق الإرادة الجدية بهما ، فيكون عندها التحيّل أمراً محرماً ، ولعلّ من هذا القسم قوله سبحانه في سورة الأعراف : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). (1)

فإنّ الغرض من تحريم الاصطياد في السبت هو امتحانهم في أُمور الدنيا ، ولكنّهم توصلوا بحيلة مبطلة لغرضه سبحانه ، وهي حيازة الحيتان وحبسها عن الخروج إلى البحر يوم السبت ، لغاية الاصطياد يوم الأحد ، فكيف يمكن أن يكون

ص : 542


1- الأعراف : 163.

مثل هذا التحيّل أمراً جائزاً؟!

ومنه يعلم أنّ أكثر الحيل المطروحة للمرابين أمر محرّم ، لعدم تعلّق الإرادة الجدّية بصورة المعاملة وإنّما تعلّقت بالنتيجة وهو أخذ الفائض.

هذا هو القول الحاسم في العمل بالحيل حسب ما طرحه علماء السنّة في المقام ، وبذلك خرجنا بالنتائج التالية :

1. إذا كان الشارع هو الذي أرشد إلى الخروج عن المضائق ، أو أنّه لم يُشِرْ إلى الخروج ، ولكن جعل لأمر واحد طريقين ، حرّم أحدهما وأحلّ الآخر ، فهاتان الصورتان خارجتان عن محطّا لبحث.

2. إذا كان السبب غير مؤثر في حصول النتيجة ، والتوصل به للوصول إلى الحلال توصلاً باطلاً لافتراض أنّه غير مؤثر في نظر الشارع ، كالجارية المغصوبة التي يزعم الغاصب موتها كذباً ويكتم حياتها ، ففي مثله لا يكون الخروج عن الغرامة بدفع القيمة مؤثراً في تملّك الجارية.

3. إذا كانت الغاية من التوصّل بالأمر الحلال صوريّاً وتعلّقت الإرادة الجدية بالأمر الحرام فالتوصّل بها حرام ، نظير توصل أصحاب السبت إلى اصطياد الحيتان بحفر جداول قرب البحر لحبسها يوم السبت واصطيادها يوم الأحد ، أو بيع الشيء نقداً بثمانية واشترائه نسيئة بعشرة.

ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : قاتل الله اليهود انّ الله تعالى لما حرّم عليهم شحومها جملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه. (1)

ثمّ إنّ علماء الشيعة تطرّقوا لفتح الذرائع في آخر كتاب الطلاق ، وأطنبوا

ص : 543


1- بلوغ المرام : برقم 801. وجملوه : أي جمعوه ثم أذابوه احتيالاً على الوقوع في المحرم.

القول فيه كالمحقّق في «الشرائع» (1) والشهيد الثاني في «مسالك الأفهام» (2) والمحدّث البحراني في «الحدائق» (3) ولنذكر كلام شيخنا الشهيد الثاني ، قال عند شرح قول المحقّق : «يجوز التوصل بالحيل المباحة دون المحرمة في إسقاط ما لو لا الحيلة تثبت».

هذا باب واسع في جميع أبواب الفقه ، والفرق هو التوصّل إلى تحصيل أسباب يترتّب عليها أحكام شرعية ، وتلك الأسباب قد تكون محلّلة وقد تكون محرمة ، (وربما تكون محكومة بالأحكام الخمسة) والغرض من ذكرها تعليم الفقيه الأسباب المباحة ، وأمّا المحرمة فيذكرونها بالعرض ، ليعلم حكمها على تقدير وقوعها.

ص : 544


1- الشرائع : 3 / 3331.
2- المسالك : 9 / 203 - 210.
3- الحدائق : 25 / 375.
6- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
قول الصحابي

يعدُّ الأئمّة الثلاثة غير أبي حنيفة قولَ الصحابي من مصادر التشريع ، وربّما ينقل عنه أيضاً خلافه ، لكن المعروف انّه لا يعترف بحجية قول الصحابي. والمهم في المقام هو تحرير محل النزاع وتعيين موضوعه ، فإنّه غير منقّح في كلامهم.

إنّ ظاهر العنوان - مذهب الصحابي من مصادر التشريع - هو انّ مذهبه من مصادره ، في عرض الكتاب والسنّة والإجماع والعقل وغيرها وربما يعبّر عن مذهب الصحابي ، بسنّته ، الظاهرة في أنّ له سنّة ، عرض سنّة النبي ، فلو أُريد هذا فهو محجوج بما ذكره الغزالي حيث قال :

إنّ من يُجوَّز عليه الغلط والسهو ، ولم تثبت عصمته عنه فلا حجّة في قوله ، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ؟ وكيف تدّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟ وكيف يتصوّر قوم يجوز عليهم الاختلاف؟ وكيف يختلف المعصومان؟ كيف وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة؟ فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتبع

ص : 545

اجتهاد نفسه. (1)

وعلى ظاهر العنوان (مصادر التشريع) اعترض عليه الشوكاني وقال : والحقّ أنّه ليس بحجّة ، فإنّ الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمّداً - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وليس لنا إلاّ رسول واحد وكتاب واحد ، وجميع الأُمّة مأمورة باتّباع كتابه وسنّة نبيّه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك ، فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية ، وباتّباع الكتاب والسنّة ، فمن قال : إنّه تقوم الحجّة في دين الله عزّ وجلّ بعد كتاب الله تعالى وسنّة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وما يرجع إليهما ، فقد قال في دين الله بما لا يثبت. (2)

ويمكن أن يقال : انّ في عدّ مذهب الصحابي من مصادر التشريع مسامحة واضحة وغرض القائل ، ادّعاء حجّية مذهبه وقوله ، بشهادة انّهم يقولون بحجّيته شريطة أن لا يكون قوله موافقاً للقياس ، إذ في صورة الموافقة وبما يكون مصدر قوله ، هو القياس ، وعندئذ يكون الجميع أمامه سواء ، وعلى كلّ تقدير ، فنحن نذكر صور القاعدة.

لا شكّ انّه لو نقل الصحابي سنّة الرسول يؤخذ به بالإجماع عندهم ، وعندنا إذا اجتمعت فيه شرائط الحجّية. وهذا خارج عن محل البحث.

كما إذا اتّفق سائر الصحابة على رأي الصحابي ؛ فمن قال بحجّية الإجماع بما هو هو ، أو لكشفه عن وجود الحجّة في البين ، يكون قوله حجّة ، لأجل انعقاد الإجماع عليه. وهذا أيضاً خارج عن محل البحث.

فينحصر النزاع في الموارد الثلاثة التالية :
اشارة

فينحصر النزاع في الموارد الثلاثة التالية :

ص : 546


1- المستصفى : 1 / 135.
2- إرشاد الفحول : 214.
1. قول الصحابي

إذا نقل الصحابي قولاً ، ولم يُسْنده إلى الرسول ، ودلّت القرائن على أنّه نقلُ قول لا نقلُ رأي فهل هو حجّة أو لا؟ لاحتمال كونه ناقلاً قول الرسول ، أو قول غيره ، وهذا ما يطلق عليه «الموقوف» لوقف النقل على الصحابي دون أن يتجاوز عنه إلى غيره.

2. رأي الصحابي

إذا نقل رأيه واستنباطه من الكتاب والسنّة وما فهمه منهما ، فهو حجّة له ولمقلِّديه ، ولا يكون حجّة لسائر المجتهدين.

3. قوله المردّد بين النقل والرأي
اشارة

إذا تردّد بين كونه نقلَ قول أو نقلَ رأي ؛ فلو قلنا بحجّية قوله ورأيه على سائر المجتهدين ، يكون حجّةً في المقام بخلاف ما لو خصّصنا الحجّية بنقل القول دون الرأي - كما هو الحقّ - فلا يكون النقل المردّد بين القول والرأي حجّة.

هذه هي الصور الثلاث التي تصلح لأن تقع محلاً لورود النفي والإثبات.

وأمّا الأقوال ، فمن قائل بحجّية ما روي عن الصحابي ، إلى آخر ناف لها ، إلى ثالث يفصّل بين كون المنقول موافقاً للقياس فليس بحجّة وكونه مخالفاً له فهو حجّة.

إذا وقفت على الصور المتصوّرة لمحلّ النزاع والأقوال ، فلنتناول كلّ واحدة منها بالدراسة :

ص : 547

1. الحجّة هو قول الصحابي لا رأيه
اشارة

يظهر من السرخسي انّ محلّ النزاع هو الصورة الأُولى ، فقد حاول في كلام مبسوط أن يثبت انّ قول الصحابي ظاهر في أنّ مستنده هو قول النبي وإن لم يسنده إليه ظاهراً ، يقول :

لا خلاف بين أصحابنا المتقدّمين والمتأخرين انّ قول الواحد من الصحابة حجّة فيما لا مدخل للقياس في معرفة الحكم فيه ، وذلك لأنّ أحداً لا يظن بهم المجازفة في القول ، ولا يجوز أن يحمل قولهم في حكم الشرع على الكذب ؛ فإنّ طريق الدين من النصوص إنّما انتقل إلينا بروايتهم ، وفي حمل قولهم على الكذب والباطل قولٌ بفسقهم ، وذلك يبطل روايتهم.

فلم يبق إلاّ الرأي أو السماع ممّن ينزل عليه الوحي ، ولا مدخل للرأي (القياس) في هذا الباب ، فتعيّن السماع وصار فتواه مطلقاً كروايته عن رسول الله ، ولا شكّ انّه لو ذكر سماعه من رسول الله لكان ذلك حجّة لإثبات الحكم به ، فكذلك إذا أفتى به ولا طريق لفتواه إلاّ السماع ، ولهذا قلنا : إنّ قول الواحد منهم فيما لا يوافقه القياس يكون حجّة في العمل به كالنص يترك القياس به. (1)

وخلاصة كلامه : أنّ قول الصحابي إن كان موافقاً للقياس نحدس بأنّه رأيه ونظره استند إلى القياس فلا يكون حجّة للمجتهد الآخر ، وأمّا إذا كان مخالفاً للقياس ، فلا يكون لقوله مبدأ سوى السماع عن الرسول ويكون حجّة.

يلاحظ على كلامه بوجوه :

الأوّل : أنّ كلامه مبنيّ على أنّ للاجتهاد دعامتين : إحداها : القياس ،

ص : 548


1- أُصول السرخسي : 2 / 110 بتلخيص.

والأُخرى : النص. فإذا كان قول الصحابي مخالفاً للقياس ، فيكون دليلاً على أنّه اعتمد على النص ونقله ، ولكنّك خبير بأنّ للاجتهاد دعامات أُخرى ، فمن الممكن أن يستند في قوله إلى إطلاق الآية وليس لها إطلاق ، أو عموم دليل وليس بعام ، وعلى كلّ تقدير استنتج الحكم من دليل لو وصل إلينا لم نعتبره دليلاً ، فمع هذا الاحتمال لم يبق وثوق بأنّه سبحانه أذن في الإفتاء وفق قوله.

الثاني : أنّ أقصى ما يمكن أن يقال هو الظنّ بأنّه استند إلى النّص ، لا القطع ، ومن المعلوم أنّ الظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً ، بل يجب أن يحرز أنّه استند إلى النص ، فيكون ممّا أذن الله أن يفتى به ، فما لم يحرز اعتماده على النصّ إحرازاً علمياً ، يدخل الإفتاء به تحت قوله سبحانه : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). (1)

الثالث : لو كان قول الصحابي مستنداً إلى سماعه عن النبي ، أو عمّن سمعه من النبي ، لم يكن يترك ذكره ، لما فيه من الشرف والمفخرة له ، بشهادة أنا نجد اهتمام الصحابة بنقل كلّ ما يمتّ إلى النبي بصلة من دقيق وجليل وقول وفعل وتقرير وتصديق.

فالإفتاء بلا ذكر السماع يُشرف الفقيه على القطع بأنّ ما نقله الصحابي هو في الواقع اجتهاد منه ، وبذلك لا يبقى أيّ اطمئنان ووثوق بمثل هذا القول.

وهناك حقيقة مرّة ، وهي انّ التأكيد على حجية قول الصحابي لأجل انّ حذفه من الفقه السنّي يوجب انهيار صرح البناء الفقهي الذي أشادوه ، وتغيّر القسم الأعظم من فتاواهم ، وحلول فتاوى أُخر محلّها ربما استتبع فقهاً جديداً لا

ص : 549


1- يونس : 59.

أُنس لهم به.

ومنه يظهر ضعف ما جاء به بعض المعاصرين حيث يقول في جملة كلامه :

إنّ الصحابة هم الذين عاصروا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ونقلوا أقواله وأفعاله ، فكانوا أعرف الناس بأسرار التشريع الإسلامي ومصادره وموارده ، فمن اتّبعهم فهو من الذين قال الله فيهم : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ثمّ نقل عن الإمام أبي حنيفة ، أنّه كان يقول : إذا لم أجد في كتاب الله ولا سنّة رسول الله ، أخذت بقول من شئت من أصحابه ، وتركت من شئت ، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم. (1)

يلاحظ عليه بأمرين :

1. كونهم أعرف بآراء التشريع لا يلازم كون المنقول ممّا سمعه ، إذ من المحتمل انّه استنبطه من الأدلّة بحجّة أنّهم أعرف بأسرار التشريع.

2. انّ ما نقله من أبي حنيفة يدلّ على حرمة الخروج عن أقوال الصحابة إذا علم إجمالاً أنّ الحقّ غير خارج عن أقوالهم المتعارضة ، وأين هذا من الأخذ بقول كلّ صحابي وإن لم ينحصر الحقّ في قوله؟!

وهناك نكتة أُخرى وهي انّ الصحابة لو كانوا مقتصرين في مقام الأخذ ، على سنّة الرسول فقط كان لما ذكره وجه ، ولكنّهم - مع الأسف - لم يقتصروا عليها ، بل أخذوا من مستسلمة أهل الكتاب ، فقد أخذ أبو هريرة وابن عباس من كعب الأحبار - الذي عدّوه من أوعية العلم - كثيراً ، كما أخذ عنه وعن أضرابه كتميم

ص : 550


1- مصادر التشريع الإسلامي : 269 - 277 ؛ ولاحظ كتاب الأُمّ : 7 / 24.

الداري غيرهما من الصحابة.

والحاصل : انّ الحجّة هو العلم بأنّه بصدد نقل سنة الرسول ، وأمّا إذا ظنّ بأنّه كذلك فليس بحجّة وما دلّ من الأدلّة على حجّية قول الصحابي ، منحصر بما إذا علم أنّه بصدد بيان كلام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وقوله ، أو عمله وفعله ، أو تقريره وتصديقه.

2. الحجّة هو الأعم من القول والرأي
اشارة

يظهر من كلام ابن القيم ، انّ موضوع النزاع أعمّ من القول والرأي فقد أقام على حجّيته 46 دليلاً لا يسعنا ذكر معشارها ، لأنّ غالبها لا يخرج عن نطاق الحدس وليس لها أصالة ، وإنّما نقتصر على دليلين :

الدليل الأوّل
اشارة

إنّ قول الصحابي يحتمل أوجهاً لا تخرج عن ستة :

1. أن يكون قد سمعها من النبي.

2. أن يكون سمعها ممّن سمعها منه.

3. أن يكون فهمها من آيات كتاب الله فهماً خفي علينا.

4. أن يكون قد اتّفق عليها ملؤُهم ولم ينقل إلينا إلاّ قول المفتي بها وحده.

5. أن يكون لمكان علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنّا ، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب ، أو لمجموع أُمور فهموها على طول الزمان لأجل معاشرة النبي.

ص : 551

6. أن يكون فهم ما لم يرده الرسول واخطأ في فهمه ، والمراد غير ما فهمه ، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجّة ، ومعلوم قطعاً أنّ وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين ، وذلك يفيد ظناً غالباً قوياً على أنّ الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال مَن بعده وليس المطلوب إلاّ الظنّ الغالب والعمل به متعيّن ، ويكفي العارف هذا الوجه. (1)

أقول : يلاحظ عليه بوجوه :

أوّلاً : أنّ أقصى ما يمكن أن يقال هو الظن الغالب بأنّه استند إلى الوجوه الخمسة الأُولى لا القطع به ، وقد دللنا في صدر الفصل على أنّ الأصل في الظن عدم الحجّية ، إلاّ إذا دلّ دليل قطعي على حجّيته.

ثانياً : من أين نعلم أنّ فهمه من الكتاب كان فهماً صحيحاً؟ أو انّ استفادته من اللغة كانت استفادة رصينة مع أنّ التابعين من العرب الأقحاح مثله؟ فما هو الفرق بين أن يكون قوله حجّة دون التابعين؟

ثالثاً : على أنّه يحتمل أن يكون لفتواه مصادر ظنّية اعتمد عليها ، كالقياس بشيء لا يخطر في أذهاننا ، أو الاعتماد على وجوه واعتبارات تبلورت في ذهنه ، أو الاستناد إلى الإطلاق والعموم مع أنّه ليس من مواردها ، لكون المورد شبهة مصداقية لهما.

الدليل الثاني
اشارة

قد ذكر ابن القيم في الوجه الرابع والأربعين ما هذا لفظه : انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

ص : 552


1- أعلام الموقعين : 4 / 148 في ضمن الدليل الثالث والأربعين.

قال : «لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين بالحق».

وقال علي - كرم الله وجهه - : «لا تخلو الأرضُ من قائم لله بحجّة ، لئلاّ تبطل حججُ الله وبيّناته» فلو جاز أن يخطئ الصحابي في حكم ولا يكون في ذلك العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الأُمّة قائم بالحقّ في ذلك الحكم ، لأنّهم بين ساكت ومخطئ ، ولم يكن في الأرض قائم لله بحجّة في ذلك الأمر ، ولا من يأمر فيه بمعروف أو ينهى فيه عن منكر. (1)

أقول : أمّا الحديث الأوّل فيدلّ على وجود طائفة ظاهرين بالحقّ من أُمّته ، ولكن من أين نعلم أنّهم هم الصحابة؟ فانّ الأخبار عن الكبرى لا تثبت الصغرى ، أي كون القائمين بالحقّ هم الصحابة ، فليكن التابعين لهم بإحسان.

وأمّا الحديث الثاني فيدلّ على وجود القائم بالحقّ بين الأُمّة في كلّ الأزمنة والأعصار لا الناطق بالحقّ ، وشتان ما بين القائم بالحقّ والناطق بالحقّ ، والقائم بالحقّ بطبيعة الحال يكون ناطقاً ، ولكن ربما يكون مضطراً للسكوت خوفاً من حكّام الجور ، فلا يكون سكوت الأُمّة دليلاً على إصابة الصحابي الناطق وكونه القائم بالحقّ.

وجود المخالفة بين الصحابة

إنّ تاريخ التشريع حافل بنماذج كثيرة من مخالفة صحابي لصحابي آخر حتى بعد سماع كلامه وقوله ، فلو كان قول الصحابي نتاجاً للسماع لما جاز لآخر أن يخالفه ويقدّم رأيه على قوله ، فإنّه يكون من قبيل تقديم الرأي على النصّ ، وهذا يعرب على أنّ قول الصحابي لا يساوق سماعه عن النبي ، بل أعمّ منه بكثير ، وهذا

ص : 553


1- أعلام الموقعين : 4 / 150 ، فصل جواز الأخذ بفتاوى الصحابة.

هو الذي يسوغ وجود المخالفة بينهم ، فمثلاً :

كان أبو بكر وعمر وعبد الله بن عباس يرون قول الرجل لامرأته : أنت عليّ حرام ، إيلاء ويميناً ، وفي الوقت نفسه كان ابن مسعود يراه طلقة واحدة ، وكان زيد ابن ثابت يراه طلاق ثلاث ، فلم يقل أحد انّ قول الخليفتين حجّة على الآخرين.

وذلك لأنّ كلّ واحد كان مجتهداً ومستنبطاً ، وليس رأي المستنبط حجّة على الآخرين ، فإذا كان هذا هو الحال بين الصحابة ، فليكن كذلك بعدهم ، فإنّ التكليف واحد ، والتشريع فارد ، فلا معنى أن يكون تكليف الصحابة مغايراً لتكليف التابعين لهم بإحسان ، أي لا يكون رأي الصحابي حجّة على مثله ، ولكنّه حجّة على التابعين.

اجتهاد الصحابي بين الردّ والقبول

كان اجتهاد الصحابة عند غيبتهم عن الرسول حجّة لهم لعدم تمكّنهم من الرجوع إليه ، فإذا ما رجعوا إليه ، إمّا يقرّهم على ما رأوا ، وإمّا أن يبيّن لهم خطّ الصواب ، فلم يكن اجتهاد الصحابي بما هو اجتهاد من مصادر التشريع ، وهو ظاهر لمن رجع إلى اجتهادات الصحابة وطرحها على الرسول ، وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - بين مصوّب لهم ومخطِّئ ، ولنذكر نموذجين :

1. كان علي - عليه السلام - باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام ، فقال كلّ واحد منهم هو ابني ، فجعل علي - عليه السلام - يخبرهم واحداً واحداً أترضى أن يكون الولد لهذا؟ فأبوا ، فقال : «أنتم شركاء متشاكسون» فأقرع بينهم ، فجعل الولد للذي خرجت له القرعة ، وجعل عليه للرجلين الآخرين ثلثي الدية ، فبلغ ذلك

ص : 554

النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه ، من قضاء علي - عليه السلام -. روى ذلك الخطيب البغدادي في كتاب «الفقيه والمتفقّه». (1)

وقد اعتبر علي - عليه السلام - في هذا الحكم أنّه بالنسبة للقارع بمنزلة الإتلاف للآخرين ، كمن أتلف رقيقاً بينه وبين شريكين له ، فإنّه يجب عليه ثلثا القيمة لشريكيه ، فإتلاف الولد الحر بحكم القرعة ، كإتلاف الرقيق الذي بينهم.

2. روى مسلم ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه انّ رجلاً أتى عمر ، فقال : إنّي أجنبت فلم أجد ماء؟ قال : لا تصلّ ، فقال عمار : ما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية ، فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأمّا أنت فلم تصلّ ، وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصليت.

فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : إنّما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثمّ تنفخ ، ثمّ تمسح بهما وجهك وكفيك.

فقال عمر : اتّق الله يا عمار ، قال : إن شئت لم أُحدّث به. (2)

أحاديث الاقتداء بالصحابة

قد ذكرنا انّ ابن قيم الجوزية استدلّ على أنّ رأي الصحابة والتابعين حجّة بأنفسهما ، واستدل على ذلك بوجوه كثيرة لا دلالة فيها لما يروم إليه. وإليك بعض ما استدلّ به من الروايات :

1. ما رواه الترمذي من حديث الثوري ، عن عبد الملك بن عمير ، عن هلال مولى رِبْعي بن حِرَاش ، عن رِبْعي ، عن حذيفة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «اقتدوا

ص : 555


1- أعلام الموقعين : 1 / 203.
2- صحيح مسلم : 1 / 193 ، باب التيمّم.

باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر». (1)

يلاحظ عليه : أنّ الحديث مخدوش سنداً ودلالةً.

أمّا سنداً فبعبد الملك بن عمير ، حيث روى إسحاق الكوسج ، عن يحيى بن معين قال : مخلِّط.

وقال علي بن الحسن الهسنجاني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : عبد الملك ابن عمير مضطرب الحديث جداً مع قلّة روايته.

وذكر إسحاق الكوسج عن أحمد ، أنّه ضعفه جداً. (2)

وقد نُقل هذا الحديث بسند ثان عن أحمد بن محمد بن الجسور ، حدّثنا أحمد ابن الفضل الدينوري ، حدّثنا محمد بن جبير ، حدّثنا عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي ، حدّثنا محمد بن كثير الملائي ، حدّثنا المفضل الضبي ، عن ضرارة بن مرة ، عن عبد الله بن أبي الهذيل العتري ، عن جدته.

وهو مخدوش أيضاً ، لأنّه مروي عن مولى لربعي مجهول ، كما أنّ المفضل بن محمد الضبي متروك الحديث ، متروك القراءة. (3)

كما نقل هذا الحديث بسند ثالث عن القاضي أبي الوليد بن الفرضي ، عن ابن الدخيل ، عن العقيلي ، عن محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا وكيع ، حدثنا سالم المرادي ، عن عمرو بن هرم ، عن ربعي بن حرث وأبي عبد الله ، عن رجل من أصحاب حذيفة ، عن حذيفة.

ص : 556


1- أعلام الموقعين : 4 / 140.
2- سير أعلام النبلاء : 5 / 439.
3- الجرح والتعديل : 8 / 318 برقم 1466 ؛ لسان الميزان : 6 / 81 برقم 293.

وفيه أنّ هلال مولى ربعي مجهول ، كما أنّ سالم المرادي قد ضعَّفه ابن معين والنسائي. (1)

وأمّا دلالةً ، فقد قال ابن حزم : وأمّا رواية : «اقتدوا باللّذين من بعدي» فحديث لا يصح. ولو صحّ لكان عليهم لا لهم ، لأنّهم - أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي - أترك الناس لأبي بكر وعمر ، وقد بيّنا انّ أصحاب مالك خالفوا أبا بكر ممّا رووا في «الموطّأ» خاصة في خمسة مواضع ، وخالفوا عمر في نحو ثلاثين قضية ممّا رووا في «الموطأ» خاصة ، وقد ذكرنا انّ عمر وأبا بكر اختلفا ، وإن اتّباعهما فيما اختلفا فيه ، متعذر ممتنع لا يقدر عليه أحد. (2)

2. ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح عن أبي قتادة انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : إن يطع القوم أبا بكر وعمر يُرشَدُوا. (3)

أقول : لو صحّت الرواية ، وقلنا بأنّ المراد من القوم هم المسلمون بأجمعهم إلى يوم القيامة ، لدلّت على وجوب طاعتهما فيما لهما فيه أمر ونهي ، وأين هما من لزوم الأخذ بآرائهما وفتاواهما في الأحكام الشرعية التي ليس لهما فيه أي أمر ونهي؟!

3. ما روي عن طريق عبد الله بن روح ، عن سلام بن سلم ، قال : حدثنا الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر مرفوعاً انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. (4)

وهذا الحديث مخدوش سنداً ودلالة.

ص : 557


1- كتاب الضعفاء الكبير : 2 / 150 برقم 651 ؛ لسان الميزان : 3 / 7 برقم 21.
2- الاحكام : 5 / 243.
3- أعلام الموقعين : 4 / 140.
4- جامع العلم : 2 / 91 ؛ جامع الأُصول : 8 / 556 ، الحديث 6369.

أمّا سنداً فبالحارث بن غصين ، قال عنه ابن عبد البر في كتاب العلم : مجهول. (1)

كما أنّ في السند المذكور سلام بن سلم المدائني ، وقيل : سلام بن سليمان المدائني ، قال عنه يحيى : كان ضعيفاً.

وقال الأعين : سمعت أبا نعيم ضعّف سلام بن سلم. (2)

وقال عنه البخاري : سلام بن سلم المدائني : متروك.

وذكره ابن حبان في المجروحين. (3)

كما روي هذا الحديث أيضاً عن طريق عبد الرحيم بن زيد العمي ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر. وعن طريق حمزة الجزري ، عن نافع ، عن ابن عمر.

وفيه أنّ عبد الرحيم بن زيد وأباه متروكان (4) ، وحمزة الجزري مجهول.

وأمّا دلالة : فلما قاله ابن حزم : قد ظهر أنّ هذه الرواية لا تثبت أصلاً ، إذ من المحال أن يأمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - باتّباع كلّ قائل من الصحابة ، وفيهم من يحلل الشيء ، وغيره منهم يحرّمه. (5)

ولقد أجاد الشوكاني حينما قال : وأمّا ما تمسّك به بعض القائلين بحجيّة قول الصحابي ممّا روي عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنّه قال : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ، فهذا ممّا لم يثبت قط ، والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن بحيث لا يصحّ العمل بمثله

ص : 558


1- لسان الميزان : 2 / 156.
2- الضعفاء الكبير : 2 / 158.
3- المجروحين : 2 / 339.
4- سير أعلام النبلاء : 8 / 358 ؛ التاريخ الكبير : 6 / 137 ؛ ميزان الاعتدال : 2 / 605.
5- الاحكام : 5 / 244.

في أدنى حكم من أحكام الشرع ، فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل؟! (1)

وحاصل الكلام : أنّ الفقيه يجب أن يعتمد على كتاب الله وسنّة رسوله ، وان يحتج بما جعله الله حجّة بينه وبين الله تبارك وتعالى ، كخبر العدل المتصل إلى المعصوم ، أو العقل فيما له فيه قضاء وحكم ، وأمّا في غير هذه الموارد كآراء الصحابة أو سنّتهم وسيرتهم أو التابعين فكلّها أُمور ظنية لا دليل على الاحتجاج بها إلاّ إذا ثبت أنّها أقوال الرسول وسننه ، وأنّى لنا إثبات ذلك.

وبذلك يعلم أنّ الفقه ليس هو نقل آراء الصحابة والتابعين ، أو الفقهاء الذين جاءوا بعدهم ، فإنّ مرد ذلك إلى سرد آراء أُناس غير مصونين عن الخطأ والزلل.

رؤيا الصحابي والتشريع

قد وقفت على أنّ التشريع الإلهي أعلى وأجلّ من أن تناله يد الاجتهاد ، فالتشريع فيض إلهي جار من ينبوع فياض لا يشوبه خطأ ولا وهم ولا ظن ولا خرص ولا تخمين ، والنبي هو المبيّن للتشريع ، وليس بمجتهد فيه يضرب الآراء بعضها ببعض كي يصل إلى حكم الله سبحانه.

وأسوأ من ذلك أن تكون رؤيا الصحابة أو تصويبهم مصدراً للتشريع ، ومع الأسف نرى نماذج كثيرة منها مروية في الصحاح والمسانيد ، فلنقتصر على ذكر نموذجين على سبيل المثال :

1. اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له : انصب راية عند

ص : 559


1- إرشاد الفحول : 214.

حضور الصلاة ، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً ، فلم يعجبه ذلك ، قال : فذكر له القبع - يعني الشبور - قال زياد : شبور اليهود ، فلم يُعجبه ذلك ، وقال : هو من أمر اليهود.

قال : فذكر له الناقوس ، فقال : هو من أمر النصارى.

فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربّه وهو مهتم لهمِّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأُري الأذان في منامه ، قال : فغدا على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره ، فقال له : يا رسول الله ، إنّي لبين نائم ويقظان ، إذ أتاني آت فأراني الأذان.

قال : وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك ، فكتمه عشرين يوماً ، ثمّ أخبر النبي به ، قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : ما منعك أن تخبرني؟ فقال : سبقني عبد الله بن زيد ، فاستحييت.

فقال رسول الله : يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله ، قال : فأذّن بلال ، قال أبو بشر : فأخبرني أبو عمير انّ الأنصار تزعم أنّ عبد الله بن زيد لو لا انّه كان يومئذ مريضاً لجعله رسول الله مؤذناً. (1)

إنّ هذه الرواية وما شاكلها لا تتفق مع مقام النبوة ، لأنّه سبحانه بعث رسوله لإقامة الصلاة مع المؤمنين في أوقات مختلفة ، وطبيعة الحال تستدعي أن يعلّمه سبحانه كيفية تحقّق هذه الأُمنية ، فلا معنى لتحيّر النبي أياماً طويلة ، وهو لا يدري كيف يحقّق المسئولية الملقاة على عاتقه!!

إنّ الصلاة والصيام من الأُمور العبادية وليست من الأُمور الطبيعية العادية

ص : 560


1- سنن أبي داود : 1 / 135134 برقم 498 - 499 ، تحقيق محمد محي الدين. لاحظ سنن ابن ماجة : 1 / 232 - 233 ، باب بدء الأذان برقم 706 - 707 ؛ سنن الترمذي : 1 / 358 باب ما جاء في بدء الأذان برقم 189.

حتى يشاور النبي فيها أصحابه ، أوليس من الوهن في أمر الدين أن تكون رؤيا وأحلام أشخاص عاديّين مصدراً لأمر عبادي في غاية الأهمية كالأذان والإقامة؟!

إنّ هذا يدفعنا إلى القول بأنّ الرؤيا كانت مصدراً للأذان أمر مكذوب ومجعول على الشريعة ، وانّ الكذّابين المنتمين إلى بيت عبد الله بن زيد هم الذين أشاعوا هذه الأُكذوبة طلباً لعلو المنزلة والجاه.

إنّ البحث عن اسناد الروايات الواردة في هذا الموضوع وما فيها من التناقضات لا يناسب وضع الكتاب. (1)

2. روى الإمام أحمد أنّ الصحابة «كانوا يأتون الصلاة ، وقد سبقهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ببعضها ، فكان الرجل يشير إلى الرجل إن جاءكم صلى ، فيقول : واحدة أو اثنتين ، فيصلّيها ، ثمّ يدخل مع القوم في صلاتهم.

قال : فجاء معاذ ، فقال : لا أجده على حال أبداً إلاّ كنت عليها ، ثمّ قضيت ما سبقني.

قال : فجاء وقد سبقه النبي ببعضها ، قال : فثبت معه ، فلمّا قضى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاته قام فقضى.

فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : قد سنَّ لكم معاذ فهكذا فاصنعوا. (2)

قد سبق انّ الصلاة عبادة إلهية وليس في الإسلام عبادة أعظم منها ، فكيف تخضع لسنّة صحابي مقطوع عن الوحي ، وقد سنَّ شيئاً اعتباطياً دون أن يستأذن

ص : 561


1- انظر الجزء الأوّل : 131 - 162.
2- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 246.

من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فكان عمله أشبه بالبدعة وإدخال شيء في الدين ما لم يأذن به الله؟! ومعاذ أجلَّ من أن لا يعرف حد البدعة والسنّة ويدخل في الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد سبقه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثمّ يقضي ما فاته.

وأنت إذا تصفّحت الصحاح والمسانيد تعثر على نماذج كثيرة لهذا النوع من التشريع.

عود إلى بدء

قد تقدّم في صدر البحث انّ مغزى القول بحجيّة مذهب الصحابي إلى حكاية قول الرسول بقرينة انّهم يشترطون في حجية قوله : «كونه مخالفاً للقياس» دون ما إذا كان موافقاً له.

ولكن الظاهر من الشاطبي في موافقاته انّ سنّة الصحابة سنّة يعمل بها ويرجع إليها ، واستدلّ على ذلك بوجوه أربعة لا يستدلّ بها إلاّ من أعوزه الدليل مع الرغبة الأكيدة إلى إثبات المدّعى ، قال :

أحدها : ثناء الله عليهم من غير مثنوية ، مدحهم بالعدالة وما يرجع إليها ، كقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (1) وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (2) ففي الأُولى إثبات الأفضلية على سائر الأُمم ، وذلك يقضي باستقامتهم في كلّ حال ، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة ؛ وفي الثانية إثبات العدالة مطلقاً ، وذلك يدلّ على ما دلّت عليه الأُولى.

يلاحظ على الآية الأُولى : أنّها بمعزل عن الدلالة على «استقامتهم على كلّ

ص : 562


1- آل عمران : 110.
2- البقرة : 143.

حال» وإنّما هي بصدد بيان أحد أمرين :

1. انّ الآية تخاطب معاشر المسلمين عبر القرون بأنّهم خير أُمّة أظهرها الله للناس بهدايتها بحجّة انّهم يؤمنون بالله ويأتون بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والخطاب وإن كان للحاضرين في عصر الخطاب لكن خطابات القرآن كخطابات الكتب المصنّفة لا تختص بفرد دون فرد ، بل تشمل كلّ المسلمين من دون اختصاص بالصحابة ، كيف وقد قال سبحانه : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (1) ، وقال سبحانه : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (2) فيكون الخطاب عاماً يشمل جميع المسلمين من عصر الرسالة إلى يوم البعث.

ومن المعلوم أنّ وصف الأُمّة بهذا الوصف ليس باعتبار اتصاف كلّ فرد منهم به بل لأجل اتصاف جمع منهم بحقيقة الإيمان والقيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس ذلك بأمر بديع وقد وصف القرآن بني إسرائيل بكونهم ملوكاً وهو وصف لبعضهم وقال : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً). (3)

ولو افترضنا تواجد هذه الصفات في عامة المسلمين ، لما كان دليلاً على حجّية آرائهم وتفكراتهم ، بل يكون دليلاً على فضيلتهم وكرامتهم وأين هي من حجّية آراءهم.

2. انّ الآية تمدح حال المؤمنين في أوّل ظهور الإسلام من السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار ، وتخاطبهم بقوله كنتم خير أُمّة ظهرت للناس لأجل

ص : 563


1- الفرقان : 1.
2- الأنعام : 19.
3- المائدة : 20.

الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثمّ يصف بأنّه لو كان أهل الكتاب مثلكم لكان خيراً لهم ، ولكنّهم اختلفوا ، منهم أُمّة مؤمنون وأكثرهم فاسقون. ويدلّ على ما ذكر ذيل الآية ، وإليك الآية بتمامها : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ). (1)

فاتّضح بذلك انّ الآية ليست بصدد إثبات الاستقامة للصحابة في عامّة الأحوال ولا بصدد إثبات العدالة لهم ، ولا لإفاضة الحجّية على أقوالهم وآرائهم ، وليست للآية أي صلة بهذا الموضوع ، بل يدور المعنى على أحد أمرين :

إذا قلنا بأنّ فعل «كنتم» منسلخ عن الزمان يكون الهدف مدح المسلمين عامة لأجل اتّصافهم بالأوصاف الواردة بالآية 1. الأمر بالمعروف ، 2. النهي عن المنكر ، 3. الإيمان بالله ، 4. ووحدة الكلمة المفهومة من قوله «أُمّة».

ومن المعلوم أنّ عامّة المسلمين لا يشاركون في هذه الأوصاف ، بل عدّة منهم بوصف الجميع باعتبار وصف البعض. ولو افترضنا تواجدها في جميعهم ، لما كان أيضاً دليلاً على حجّية آرائهم.

وإذا قلنا : إنّ فعل «كنتم» غير منسلخ عن الزمان والآية تختص بالمهاجرين والأنصار ، فالآية بصدد تنبيه أهل الكتاب وتذكيرهم بأن يتّصفوا بأوصاف المسلمين ويكونوا مثلهم في الأوصاف الأربعة ، لكنّهم - للأسف - ليسوا على وتيرة واحدة ، فقليل منهم مؤمن بالله وأكثرهم فاسقون.

هذا كلّه حول الآية الأُولى.

وأمّا الآية الثانية ، أعني قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ

ص : 564


1- آل عمران : 110.

عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). (1)

يلاحظ على الاستدلال : بأنّ ظاهر الآية انّه سبحانه جعل الأُمّة الإسلامية أُمّة وسطاً ، لأجل تخلّلهم بين الناس والرسول فجعلهم وسطاً.

1. ليكونوا شهداء على الناس من جانب.

2. ويكون الرسول شهيداً عليهم من جانب آخر.

وعندئذ فمعنى كونهم وسطاً لأجل تخلّلهم بين الرسول والناس.

فالناس هم المشهود عليهم.

والأُمّة الإسلامية هم الشهداء عليهم.

والرسول هو الشهيد على الأُمّة.

هذا هو ظاهر الآية ، وبذلك يعلم معنى الوسطية التي هي تخلّلهم بين الناس والرسول.

وعلى ضوء هذا فيجب أن نقف على معنى كون الأُمّة شهداء على الناس ، فهل يصح وصف جميع الأُمّة بذلك ، وإنّما هو وصف لطائفة خاصة ، أعني : الذين وصلوا في طهارة القلب والروح إلى حدّ يشهدون يوم القيامة على الناس؟ ومن المعلوم أنّ مثل هذه الشهادة ليست في وسع الإنسان العادي إلاّ رجل يتولّى الله أمره وكشف الغطاء عن بصره وبصيرته ، وأمّا من هم الذين لهم تلك الميزة والمكانة فالآية ساكتة عنه ، ولكن الآيات الأُخرى تفصح عن ذلك ، يقول سبحانه : (مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (2) ، والمراد من الشهداء هم شهداء

ص : 565


1- البقرة : 143.
2- النساء : 69

الاعمال الذين شملتهم عنايته سبحانه فشهدوا على حقائق الأعمال والمعاني النفسية من الكفر والإيمان والفوز والخسران ، فلا صلة للآية بعدالة الصحابة.

إنّ للإمام الصادق - عليه السلام - في تفسير الآية بياناً بديعاً رواه أبو عمرو الزبيري عنه قال : قال الإمام بعد تلاوة الآية : «فإن ظننتَ انّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين؟ أفترى أنّ من لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمم الماضية؟!». (1)

ثمّ لو افترضنا دلالة الآية على عدالة كلّ صحابي ، ولكنّه لا يكون دليلاً على حجّية كلّ ما يصدر عنهم من السنّة ، وإلاّ لعمّمنا الحكم إلى كلّ عادل ، سواء كان صحابياً أم غير صحابي ، لكون الموضوع هو العدل والعدالة ، وغاية ما تقتضيه العدالة انّه لا يتعمّد الكذب ، امّا مطابقة كلامه وفعله للواقع نزيهاً عن الخطأ وا لاشتباه فالآيتان لا تدلاّن عليه.

ثمّ إنّ الإمام الشاطبي استدلّ بوجه ثان وهو التمسّك في مدح الصحابة وقال :

الدليل الثاني : ما جاء في الحديث من الأمر باتّباعهم ، وانّ سنّتهم في طلب الاتّباع كسنّة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كقوله : «فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسّكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» ، وقوله : «وتفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة».

قالوا : ومن هم يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي».

وعنه أنّه قال : «أصحابي مثل الملح ، لا يصلح الطعام إلاّ به».

وعنه أيضاً : انّ الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيّين

ص : 566


1- البرهان في تفسير القرآن : 1 / 160.

والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ، فجعلهم خير أصحابي كلّهم خير» ويروى في بعض الأخبار : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» إلى غير ذلك ممّا في معناه. (1)

يلاحظ على الاستدلال : أنّ الشاطبي أرسل هذه الروايات إرسالَ المسلّمات من دون أن يبحث عن أسانيدها وما جاء فيها من الطعون ، ونحن أيضاً نتغافل عمّا حول الأسانيد من الضعف والنكارة ونركّز الأمر على المضامين.

أمّا الحديث الأوّل ، أعني قوله : «فعليكم سنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهتدين ...» فقد ذكر محقّق كتاب الموافقات انّه قطعة من الحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي ولم يصف السند بشيء ، فهو قاصر عن إثبات عدالة عامّة الصحابة وبالتالي حجّية أقوالهم ومذاهبهم ، فانّه يختص بالخلفاء الأربعة لا غير.

أضف إلى ذلك انّ العمل بمضمونه مستحيل لاختلاف سيرة الخلفاء وكيف يمكن أن يتعبّدنا الشارع بالمتناقضات من سيرتهم.

وهذا هو أبو بكر ساوى في توزيع الأموال الخراجية وخالفه عمر حيث فاوت فيها ، وكان أبو بكر يرى طلاق الثلاث واحداً ، ورآه عمر ثلاثاً.

وأمّا الاختلاف بين سيرة الشيخين وعثمان فواضح جدّاً حتّى أنّ اختلافه معهما أودى بحياة الخليفة وأثار حفيظة المسلمين على خلافته فقتل في عقر داره.

كما أنّ اختلاف سيرة علي مع عثمان بل مع الجميع واضح لمن استقرأ التاريخ ، فكيف يمكن للنبي أن يتعبّدنا بالعمل بالمتناقضات؟!

وأمّا الحديث الثاني ، أعني قوله : «تفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة» فيكفي في نكارة الحديث.

أوّلاً : انّ هذه الزيادة غير موجودة في بعض نصوص الرواية ، ولا يصحّ أن

ص : 567


1- الموافقات للشاطبي : 4 / 56.

يقال انّ الراوي ترك نقلها مع عدم الأهمية.

وثانياً : انّ المعيار الوحيد للهلاك والنجاة هو شخص النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمّا أصحابه فلا يمكن أن يكونوا معياراً للهداية والنجاة إلاّ بقدر اهتدائهم واقتدائهم برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإلاّ فلو تخلّفوا عنه قليلاً أو كثيراً فلا يكون الاقتداء بهم موجباً للنجاة.

وعلى ذلك فعطف «وأصحابي» على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يخلو من غرابة!!

وثالثاً : انّ المراد إمّا صحابته كلّهم ، أو الأكثرية الساحقة.

فالأوّل : مفروض العدم ، لاختلاف الصحابة في مسالكهم ومشاربهم السياسية والدينية بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأدلّ دليل على ذلك ما وقع من الخلاف في السقيفة وبعدها في كثير من الأحكام والموضوعات.

والثاني : ممّا لا يلتزم به أهل السنّة ، فانّ الأكثرية الساحقة من الصحابة خالفوا الخليفة الثالث ، وقد قتله المصريون والكوفيون في مرأى ومسمع من بقية الصحابة ، الذين كانوا بين مؤلِّب ، أو مهاجم ، أو ساكت.

وأمّا الحديث الثالث ، أعني قوله : «أصحابي مثل الملح لا يصلح الطعام إلاّ به».

قال معلق كتاب «الموافقات» : رواه ابن قيّم الجوزية في «اعلام الموقعين» عن ابن بطة باسنادين إلى عبد الرزاق ، ثمّ بطرق أُخرى عن الحسن عنه ، منها رواية البغوي فلو افترضنا صحّة الحديث ، فالحديث مجمل للغاية ، لا يثبت شيئاً.

وأمّا الحديث الرابع ، أعني «انّ الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيّين والمرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ، فجعلهم

ص : 568

خير أصحابي كلّهم خير» فمع غض النظر عن سنده فهو يناقض ما تضافر عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - من ارتداد كثيراً من أصحابه فكيف يمكن أن يكونوا كلّهم خيراً؟!

روى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : «بينا أن قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، ثمّ إذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلم ، قلت : أين؟ قال : إلى النار والله ، قلت : وما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم». (1)

وفي روايته الأُخرى عن سهل بن سعد قال : قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إنّي فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم» ، قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم ، فقال : اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : «فأقول : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول سحقاً سحقاً لمن غير بعدي». (2)

وكأنّ هذه الأحاديث تفسر قوله سبحانه : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (3)

ولا يصحّ حملها على الأعراب المرتدّة لمكان قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «أعرفهم ويعرفوني».

وأمّا الحديث الخامس ، أعني : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»

ص : 569


1- صحيح البخاري : 8 / 121 ، باب في الحوض ، الحديث 6099.
2- المصدر السابق.
3- آل عمران : 144.

فيكفي في ضعفه ما قاله ابن حزم في حقّه حيث قال : حديث موضوع مكذوب باطل ، وقال أحمد : حديث لا يصحّ وقال البزاز : لا يصحّ هذا الكلام عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. (1)

وقد نقل الشارح الحديدي عن النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري انّه قال : إنّ هذا الحديث «أصحابي كالنجوم» من موضوعات متعصبة الأموية فانّ لهم من ينصرهم بلسانه وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف.

الدليل الثالث : أنّ جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل.

فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجّة ودليلاً.

وبعضهم عدّ قول الخلفاء الأربعة دليلاً.

وبعضهم يعدّ قول الصحابة على الإطلاق حجّة ودليلاً. ولكلّ قول من هذه الأقوال متعلّق من السنّة.

وهذه الآراء - وإن ترجّح عند العلماء خلافها - ففيها تقوية تضاف إلى أمر كلّي هو المعتمد في المسألة ، وذلك أنّ السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ، ويتكثرون بموافقتهم ، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمّة المعتبرين ، فتجدهم إذا عينوا مذاهبهم قوّوها بذكر من ذهب إليها من الصحابة. وما ذاك إلاّ لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم ، وقوة مآخذهم دون غيرهم ، وكبر شأنهم في الشريعة ، وأنّهم ممّا يجب متابعتهم وتقليدهم فضلاً عن النظر معهم فيما نظروا فيه.

وقد نقل عن الشافعي أنّ المجتهد قبل أن يجتهد لا يُمنع من تقليد

ص : 570


1- لاحظ تعليقة الموافقات : 4 / 56.

الصحابة ، ويمنع من غيره. وهو المنقول عنه في الصحابي : «كيف أتركُ الحديثَ لقول من لو عاصرتُه لحَجَجْتُه؟» ولكنّه مع ذلك يعرف لهم قدرهم. (1)

يلاحظ عليه : أنّ المدّعى في هذا الدليل بطوله هو قوله : «إنّهم ممّا يجب متابعتهم وتقليدهم» ، ولكن الدليل غير واف بإثباته ولا يلازمه إذ غاية ما يثبته : انّ جمهور العلماء عند تعارض الأقاويل يرجّحون قول الشيخين أو الخلفاء الأربعة أو عامّة الصحابة ، وأين الترجيح عند التعارض من القول بحجّية آرائهم ومذاهبهم وسننهم مطلقاً ، كان هناك تعارض أوّلاً ، وانّه يجب على الخلف متابعة الصحابة وتقليدهم ثانياً.

أضف إلى ذلك انّ أصل الدليل غير ثابت ، إذ طالما خالف الخَلفُ ، السلفَ ، نعم لو اتّفقت الصحابة على أمر من الأُمور يكون حكمه ، حكم سائر الإجماعات ، وعندئذ لا تظهر خصوصية ، لإجماعهم.

هذا وقد علّق على الدليل محقّق الكتاب وقال : فإن كان غرض المسألة وجوب الأخذ بسنّتهم التي اتّفقوا عليها فذلك ما لا نزاع فيه ، لأنّه أهمّ أنواع الإجماع فليس من باب السنّة ، وإن كان الغرض ما جرى العمل عليه في عهدهم ، وإن لم يتّفقوا عليه ، فهذا ليس بدليل شرعي يتقيّد به المجتهد. (2)

ويظهر من الآمدي وجه آخر لحجّية سنّتهم ، وهي أنّها عند الاختلاف لا تخرج عن كونها حجّة في نفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة ، وعلى هذا يكون سنّة قولاً وفعلاً في غير موضع الإجماع منهم ، تعدّ سنّة كخبر الواحد فيعوّل عليها ويرجع إليها كحجّة ظنية.

يلاحظ عليه : أنّ قياس رأي الصحابة وسنّتهم ، على خبر الواحد ، قياس مع

ص : 571


1- الموافقات : 4 / 57.
2- الموفقات : 4 / 57 ، قسم التعليقة.

الفارق ، فانّ الثاني يروي عن المعصوم ويسنده إليه ، فيدخل في باب السنّة المحكية بواسطة الثقة ، بخلاف سنّة الصحابي ، فهي مرددة بين النقل عن المعصوم ، والاستنباط عن الكتاب والسنّة ، ومع هذا التردد كيف يجوز للمجتهد أن يأخذ بها ، إذ لو كانت رأي الصحابي لا يكون حجّة عليه.

على أنّك قد عرفت أنّ الأصل في الظن هو عدم الحجّية ، والشكّ فيها يساوق القطع بعدمها ، فكيف يُؤخذ بهذا الظن مع عدم قياس دالّ عليه.

الدليل الرابع : ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبّتهم وذم من أبغضهم ، وانّ من أحبّهم فقد أحبّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام ، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط ، إذ لا مزية في ذلك ، وإنّما هو لشدة متابعتهم له وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنّته ، مع حمايته ونصرته ، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتّخذ قدوة ، وتجعل سيرته قبلة ، ولما بالغ مالك في هذا المعنى بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستنّ بسنّتهم جعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك ، فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره ويقتدون بأفعاله ، ببركة اتّباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم وجعلهم قدوة أو من اتّبعهم ، (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (1)

يلاحظ عليه : أنّ هذا الدليل ، كسابقه ضعيف غايته : إذ مع غض النظر عمّا في أسانيد هذه الروايات انّ أقصى ما يدلّ عليه ، هو تكريمهم وحرمة بغضهم ، لأنّهم رأوا نور الوحي ، وعاشوا معه في السراء والضرّاء ، في الحرب والسلم ، والشدة والرخاء ، وأين هذا من حجّية آرائهم ومذاهبهم واجتهاداتهم ، كمشرِّع يؤخذ بتشريعاته؟!

ص : 572


1- المجادلة : 22.

والعجب انّ الشاطبي يجعل الأمر بحب الصحابة دليلاً على حجّية آرائهم ومذاهبهم - مضافاً إلى حجّية أقوالهم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - - فلما ذا لم يأخذ شيئاً من أقوال أئمّة أهل البيت وآرائهم ومذاهبهم؟! مع تضافر النصوص على لزوم حبهم ، قال سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). (1)

وأمّا النصوص فنقتصر من الكثير بالقليل :

1. «لا يؤمن عبد حتّى أكون أحب إليه من نفسه ، وتكون عترتي أحبّ إليه من عترته ، ويكون أهلي أحبّ إليه من أهله».

2. «إنّ لكلّ نبيّ عصبة ينتمون إليها إلاّ ولد فاطمة فأنا وليّهم وأنا عصبتهم وهم عترتي خلقوا من طينتي ، ويل للمكذبين بفضلهم ، من أحبهم أحبه الله ، ومن أبغضهم أبغضه الله».

3. انّ النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أخذ بيد حسن وحسين ، وقال : «من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأُمهما كان معي في درجتي يوم القيامة». (2)

أيّ الفريقين أحقّ بالأمن؟

قد عرفت منزلة مذهب الصحابي ورأيه تحليلاً ونقداً ، وتبيّن انّ قول الصحابي إنّما يكون حجّة إذا أسنده إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وأمّا لو وقف ولم يسنده ، أو تبيّن انّه رأيه ومذهبه وسنّته فلا قيمة له في عالم الاعتبار ، ومع ذلك عرفت إصرار الشاطبي ومن لفّ لفّه على لزوم الأخذ بآرائهم ومذاهبهم وإن كان نتيجة اجتهادهم واستنباطهم.

وهناك من يوافقه من قدماء القوم.

ص : 573


1- الشورى : 23.
2- لاحظ للوقوف على هذه الأحاديث ونظائرها الكثيرة ، كتاب كنز العمال : ج 10 و 12 و 13.

1. أخرج السيوطي وقال : قال حاجب بن خليفة شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا إنّ ما سنَّ رسولُ الله وصاحباه فهو دين نأخذ به وتنتهي إليه وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه. (1)

2. أخرج ابن سعد في طبقاته عن ثعلبة بن أبي مالك القرطبي انّه قال في محاضرته مع عبد الملك بن مروان : وليست سنّة أحبّ إليّ من سنّة عمر. (2)

3. يقول الشيخ أبو زهرة : لقد وجدناهم يأخذون (أي الفقهاء من أهل السنّة) جميعاً بفتوى الصحابي ولكن يختلفون في طريق الأخذ ، فالشافعي كما يصرح في «الرسالة» يأخذ بفتواهم على أنّها اجتهاد منهم واجتهادهم أولى من اجتهاده ، ووجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم على أنّها من السنّة ويوازن بينها وبين الأخبار المروية ان تعارض الخبر مع فتوى صحابي ، ثمّ يقول ما حاصله : انّه اختلف في نظر أبي حنيفة وأبو الحسن الكرخي اعتبر أبو حنيفة الأخذ بفتوى الصحابي من قبيل الأخذ بالحديث والسنّة وأبو سعيد البراذعي يجعل أبا حنيفة مثل الشافعي ، وأمّا أحمد بن حنبل فنراه يقدم الحديث الصحيح على فتوى الصحابي ويأخذ بكلّ فتاوى الصحابة كما نجده يقدّم فتوى الصحابي على الحديث المرسل. ويلخّص أبو زهرة رأي أحمد : انّ فتاوى الصحابة سنّة ولكنّها سنّة بعد الحديث الصحيح وحيث لا تصح سنّة غير أقوالهم. (3)

فإذا دار الأمر بين الأخذ بهذه السنن والآراء التي هي نتاج الاجتهاد والاستنباط دون الاستناد إلى قول الرسول وفعله وتقريره ، وبين الأخذ بأقوال أئمّة أهل البيت الذين يروون عن آبائهم فأجدادهم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فأيّهما أولى وأحق بالأخذ؟

ص : 574


1- تاريخ الخلفاء : 160.
2- طبقات ابن سعد : 5 / 172.
3- بحوث مع أهل السنة والسلفية : 234.

1. فهذا هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما قالا : سمعنا أبا عبد الله - عليه السلام - يقول : «حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين - عليه السلام - ، وحديث أمير المؤمنين - عليه السلام - حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قول الله عزّ وجلّ». (1)

2. روى جابر قال : قلت لأبي جعفر (الباقر - عليه السلام -) إذا حدثتني بحديث فأسنده لي.

فقال : «حدّثني أبي ، عن جدّي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، عن جبرئيل - عليه السلام - ، عن الله عزّ وجلّ ، وكلّما أحدّثك بهذا الاسناد».

فقال : يا جابر لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها. (2)

3. وهذا عنبسة قال : سأل رجل أبا عبد الله - عليه السلام - عن مسألة فأجابه فيها ، إلى أن قال : «مهما أجبتك بشيء فهو عن رسول الله لسنا نقول برأينا من شيء».

4. وفي رواية لجابر عن أبي جعفر قال : «يا جابر انّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهو انا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله». إلى غير ذلك من الروايات. (3)

وعلى ضوء هذا

(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (4)

ص : 575


1- الكافي : 1 / 3 / 53.
2- أمالي المفيد : 42.
3- لاحظ كتاب جامع أحاديث الشيعة : 1 ، الباب الرابع من أبواب المقدّمات وما هو الحجّة في الفقه : 181 - 183 وقد أخذنا بالقليل عن الكثير.
4- الأنعام : 81.
7- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
إجماع أهل المدينة

قد نقل انّ مالك بن أنس اعتمد في فقهه على أحد عشر دليلاً :

1. القرآن ، 2. السنّة ، 3. الإجماع ، 4. إجماع أهل المدينة ، 5. القياس ، 6. قول الصحابي ، 7. المصلحة المرسلة ، 8. العرف والعادة ، 9. سدّ الذرائع ، 10. الاستصحاب ، 11. الاستحسان.

غير أنّ الشاطبي في «الموافقات» أرجع هذه الأدلّة إلى أربعة ، وهي : الكتاب والسنّة والإجماع والرأي ، فإنّ إجماع أهل المدينة وقول الصحابي كاشفان عن السنّة فهما من شعبها ، والخمسة الباقية من شعب الرأي ومن وجوهه.

وعلى كلّ تقدير فقد ذهب مالك إلى حجّية اتّفاق أهل المدينة قائلاً : بأنّ المدينة دار الهجرة ، وبها نزل القرآن وأقام رسول الله وأقام صحابته ، وأهل المدينة أعرف الناس بالتنزيل وبما كان من بيان رسول الله للوحي ، وهذه ميزات ليست لغيرهم ، وعلى هذا فالحقّ لا يخرج عمّا يذهبون إليه ، فيكون عملهم حجّة يقدّم على القياس وخبر الواحد.

وقد أوجد مشربه هذا ضجة كبيرة بين معاصريه ، فردّ عليه فقيه عصره

ص : 576

اللّيث بن سعد في رسالة مفصّلة نقد فيها قسماً من آراء مالك التي أفتى بها نظراً لاتّفاق أهل المدينة عليها وإن كان موضع خلاف بينهم وبين من خرجوا من دار الهجرة إلى غيرها من أمصار الإسلام ، وهذه المسائل عبارة عن :

1. الجمع بين الصلاتين ليلة المطر.

2. القضاء بشهادة واحد ويمين صاحب الحق.

3. طلب المرأة مؤخّر صداقها حال قيام الزوجية.

4. الإيلاء ووقوع الطلاق به.

5. الحكم إذا ملّك الزوج امرأته أمرها.

6. ترتيب أعمال صلاة الاستسقاء.

7. زكاة أموال الخليطين.

8. المفلس وقد باعه رجل سلعة.

9. الإسهام في الجهاد لفرس واحد أو لفرسين.

وقد نقل ابن قيّم الجوزية رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس في كتاب «أعلام الموقعين عن رب العالمين». (1)

وقد سبقه في النقل أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي (المتوفّى 277 ه) في كتابه «المعرفة والتاريخ» (2) وبسط الدكتور محمد يوسف موسى الكلام حول هذه المسائل من وجهة نظر الفقه السنّي ، فمن أراد التفصيل فليرجع إليه. (3)

ص : 577


1- أعلام الموقعين : 3 / 10094.
2- المعرفة والتاريخ : 1 / 697687.
3- تاريخ الفقه الإسلامي : 2 / 90 - 101.

ولمّا وصلت رسالة الليث إلى مالك ردّ عليها وكتب رسالة نقلها القاضي عياض (المتوفّى 544 ه) في كتابه «ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة اعلام مذهب مالك» وحيث إنّ هذه الرسالة موجزة ننقلها بنصها ، وكان الأحرى أن ننقل رسالة الليث أيضاً ، لكن إسهابها عاقنا عن إثباتها بنصّها :

رسالة مالك إلى الليث بن سعد

من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد.

سلام عليكم!

فإنّي أحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد عصمنا الله وإيّاك بطاعته في السر والعلانية ، وعافانا وإيّاك من كلّ مكروه. اعلم رحمك الله أنّه بلغني أنّك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك ، وحاجة من قبلك إليك ، واعتمادهم على ما جاءهم منك ، حقيق بأن تخاف على نفسك وتتبع ما ترجو النجاة باتّباعه ، فإنّ الله تعالى يقول في كتابه : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (1) الآية. وقال تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (2) الآية. فإنّما الناس تبع لأهل المدينة ، إليها كانت الهجرة ، وبها نزل القرآن ، وأحلّ الحلال وحرّم الحرام ، إذ رسول الله بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ، ويأمرهم فيطيعونه ، ويسنّ لهم فيتّبعونه ، حتى توفّاه الله ، واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثمّ قام من بعده أتبع الناس له من أُمّته ممّن ولي الأمر من بعده ، فما نزل بهم ممّا علموا أنفذوه ، وما لم يكن

ص : 578


1- التوبة : 100.
2- الزمر : 17 - 18.

عندهم فيه علم سألوا عنه ، ثمّ أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم ، وإن خالفهم مخالف أو قال امرؤ غيره أقوى منه أو أولى ، ترك قوله وعمل بغيره ، ثمّ كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبل ويتبعون تلك السنن ، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أر لأحد خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادّعاؤها ، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون هذا العمل ببلدنا ، وهذا الذي مضى عليه من مضى منّا ، لم يكونوا من ذلك على ثقة ، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم.

فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك ، واعلم أنّي أرجو أن لا يكون دعاني إلى ما كتبت به إليك إلاّ النصيحة لله تعالى وحده ، والنظر لك والضن بك ، فانزل كتابي منك منزلته ، فإنّك إن فعلت تعلم أنّي لم آلك نصحاً. وفقنا الله وإيّاك لطاعته وطاعة رسوله في كلّ أمر وعلى كلّ حال. والسلام عليك ورحمة الله ، وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر. (1)

ولم تكن رسالة مالك إلى الليث مقنعة لمن أتى بعده ، فقد رد عليه ابن حزم الظاهري قائلاً في إبطال قول من قال : الإجماع هو إجماع أهل المدينة ، فإنّ هذا قول لهج به المالكيون قديماً وحديثاً ، وهو في غاية الفساد ، لأنّ قولهم : إنّ أهل المدينة أعلم بأحكام رسول الله من سواهم كذب وباطل ، وإنّما الحقّ انّ أصحاب رسول الله وهم العالمون بأحكامه ، سواء بقى منهم من بقى بالمدينة ، أو خرج منهم من خرج لم يزد (2) الباقي بالمدينة بقاءه فيها درجة في علمه وفضله ولا حطّ (3) الخارج

ص : 579


1- ترتيب المدارك : 1 / 6564.
2- في المطبوع : لم يرد ، وهو تصحيف.
3- في المطبوع : لاحظ ، وهو تصحيف.

منهم عن المدينة خروجه عنها درجة من علمه وفضله.

وأمّا قولهم : شهدوا آخر حكمه وعلموا ما نسخ ممّا لم ينسخ ، فتمويه فاحش وكذب ظاهر ، بل الخارجون من الصحابة عن المدينة شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم لها منهم سواء ، كعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم ، والكذب عار في الدنيا ونار في الآخرة.

فظهر فساد كلّ ما موّهوا به ، وبنوه على هذا الأصل الفاسد ، وأسموه بهذا الأساس المنهار. (1)

كما ردّ عليه الإمام الآمدي أيضاً بقوله : اتّفق الأكثرون على أنّ إجماع أهل المدينة وحدهم لا يكون حجّة على من خالفهم في حالة انعقاد إجماعهم ، خلافاً لمالك ، فإنّه قال : يكون حجّة.

ومن أصحابه من قال : إنّما أراد بذلك ترجيح روايتهم على رواية غيرهم.

ومنهم من قال : أراد به أن يكون إجماعهم أولى ، ولا تمتنع مخالفته.

ومنهم من قال : أراد بذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.

والمختار مذهب الأكثرين ، وذلك انّ الأدلّة الدالّة على أنّ الإجماع حجّة ، ليست ناظرة إلى أهل المدينة دون سواهم لا سيما وانّهم لا يشكلون كلّ الأُمة ، فلا يكون إجماعهم حجة.

ثمّ ذكر من نصر مذهب مالك بالنص والعقل ، وذكر من الثاني ثلاثة أوجه ، ثمّ أخذ بالرد على جميع الوجوه ، وخرج بالنتيجة التالية :

لا يكون إجماع أهل الحرمين : مكة والمدينة ، والمصرين : الكوفة والبصرة ،

ص : 580


1- الإحكام : 4 / 587586. ولكلامه صلة ، فراجع.

حجّة على مخالفيهم ، وإن خالف فيه قوم لما ذكرناه من الدليل. (1)

إنّ اتّفاق أهل المدينة على حكم شرعي ليس بأقوى من إجماع علماء عصر واحد على حكم شرعي ، فكما أنّ الثاني لا يكون حجّة على المجتهد ولا يمكن أن يستدلّ به على الحكم الشرعي ، فهكذا اتّفاق أهل المدينة خاصة انّ عنصر الاتّفاق تم على تقليد بعضهم البعض ، فالاحتجاج بهذا الاتفاق ونسبته إلى الشارع بدعة وإفتاء بما لم يعلم أنّه من دين الله.

نعم لو كان اتفاقهم ملازماً للإصابة خاصة في العصور الأُولى ، فيؤخذ به لحصول العلم ، وأنّى للمجتهد إثبات تلك الملازمة ، أو لو كشف اتّفاقهم عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا يمكن أن يحتج به.

وحصيلة البحث : أنّ اتّفاق أهل المدينة أو اتّفاق المصرين : الكوفة والبصرة رهن وجود الملازمة العادية بين الاتّفاق وإصابته للواقع ، أو بين الاتّفاق ووجود دليل معتبر وإلاّ فلا قيمة لاتّفاق غير المعصوم قليلاً كان أو كثيراً.

ص : 581


1- الإحكام في أُصول الأحكام : 1 / 302 - 305.
8- مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة
إجماع العترة

إجماع العترة (1)

كلّ من كتب في تاريخ الفقه الإسلامي وتعرض لمنابع الفقه والأحكام غفل عن ذكر أئمّة أهل البيت - عليهم السلام - وحجّية أقوالهم فضلاً عن حجّية اتّفاقهم ، وذلك بعين الله بخس لحقوقهم ، وحيث إنّ المقام يقتضي الاختصار نستعرض المهم من الأدلّة الدالّة على حجّية أقوالهم فضلاً عن اتّفاقهم على حكم من الأحكام ، كقوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (2)

والاستدلال بالآية على عصمة أهل البيت وبالتالي حجية أقوالهم رهن أُمور :

الأوّل : الإرادة في الآية إرادة تكوينية لا تشريعية ، والفرق بين الإرادتين واضحة ، فإنّ إرادة التطهير بصورة التقنين تعلّقت بعامّة المكلّفين من غير

ص : 582


1- وهو نفس تعبير الطوفي في رسالته. وإلاّ فالحجّة عندنا قول أحد العترة فضلاً عن إجماعهم وبما انّا قدمنا بعض الكلام في حجية قول العترة الطاهرة في الفصل الثاني من فصول جذور الاختلاف اختصرنا الكلام في المقام.
2- الأحزاب : 33.

اختصاص بأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - كما قال سبحانه : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ). (1)

فلو كانت الإرادة المشار إليها في الآية إرادة تشريعية لما كان للتخصيص والحصر وجه مع انّا نجد فيها تخصيصاً بوجوه خمسة :

أ: بدأ قوله سبحانه بحرف (إِنَّما) المفيدة للحصر.

ب : قدّم الظرف (عَنْكُمُ) وقال : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) ولم يقل ليذهب الرجس عنكم لأجل التخصيص.

ج : بيّن من تعلّقت إرادته بتطهيرهم بصيغة الاختصاص ، وقال : (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي أخصّكم.

د : أكد المطلوب بتكرير الفعل ، وقال : (وَيُطَهِّرَكُمْ) تأكيداً (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).

ه : أرفقه بالمفعول المطلق ، وقال : (تَطْهِيراً).

كلّ ذلك يؤكد انّ الإرادة التي تعلّقت بتطهير أهل البيت غير الإرادة التي تعلّقت بعامة المكلّفين.

ونرى مثل هذا التخصيص في مريم البتول قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ). (2)

الثاني : المراد من الرجس كل قذارة باطنية ونفسية ، كالشرك ، والنفاق ، وفقد الإيمان ، ومساوئ الأخلاق ، والصفات السيئة ، والأفعال القبيحة التي يجمعها الكفر والنفاق والعصيان ، فالرجس بهذا المعنى أذهبه الله عن أهل البيت ، ولا شكّ انّ المنزّه عن الرجس بهذا المعنى يكون معصوماً من الذنب بإرادة منه سبحانه ،

ص : 583


1- المائدة : 6.
2- آل عمران : 42.

كيف وقد ربّاهم الله سبحانه وجعلهم هداة للأُمة كما بعث أنبياءه ورسله لتلك الغاية.

الثالث : المراد من أهل البيت هو علي وفاطمة وأولادهما ، لأنّ أهل البيت وإن كان يطلق على النساء والزوجات بلا شك ، كقوله سبحانه : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ). (1) ولكن دلّ الدليل القاطع على أنّ المراد في الآية غير نساء النبي وأزواجه وذلك بوجهين :

أ: نجد انّه سبحانه عند ما يتحدّث عن أزواج النبي يذكرهن بصيغة جمع المؤنث ولا يذكرهن بصيغة الجمع المذكر ، فإنّه سبحانه أتى في تلك السورة (الأحزاب) من الآية 28 إلى الآية 34 باثنين وعشرين ضميراً مؤنثاً مخاطباً بها نساء النبي ، وإليك الإيعاز بها :

1. كُنْتُنّ ، 2. تُرِدْنَ ، 3. تَعالَيْنَ ، 4. أُمتّعكُنّ ، 5. أُسرّحْكُنَّ. (2)

6. كُنْتُنَّ ، 7. تُرِدْنَ ، 8. مِنْكُنَّ. (3)

9. مِنْكُنَّ. (4)

10. مِنْكُنَّ. (5)

11. لَسْتُنَّ ، 12. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ، 13. فَلا تَخْضَعْنَ ، 14. قُلْنَ. (6)

15. قَرنَ ، 16. فِي بُيُوتِكُنَّ ، 17. تَبَرَّجْنَ ، 18. أَقِمْنَ ، 19. آتِينَ ، 20. أَطِعْنَ اللهَ. (7)

ص : 584


1- هود : 73.
2- الأحزاب : 28.
3- الأحزاب : 29.
4- الأحزاب : 30.
5- الأحزاب : 31.
6- الأحزاب : 32.
7- الأحزاب : 33.

21. اذكُرْنَ ، 22. في بُيُوتِكُنَّ. (1)

وفي الوقت نفسه عند ما يذكر أئمة أهل البيت في آخر الآية 33 يأتي بضمائر مذكّرة ويقول : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ) ... (وَيُطَهِّرَكُمْ) فإنّ هذا العدول دليل على أنّ الذكر الحكيم انتقل من موضوع إلى موضوع آخر ، أي من نساء النبي إلى أهل بيته ، فلا بدّ أن يكون المراد منه غير نساءه.

ب : انّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أماط الستر عن وجه الحقيقة ، فقد صرّح بأسماء من نزلت الآية بحقّهم حتى يتعيّن المنظور منه باسمه ورسمه ولم يكتف بذلك ، بل أدخل جميع من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء ومنع من دخول غيرهم.

ولم يقتصر على هذين الأمرين (ذكر الأسماء وجعل الجميع تحت كساء واحد) بل كان كلّما يمرّ ببيت فاطمة إلى ثمانية أشهر يقول : الصلاة ، أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وقد تضافرت الروايات على ذلك ، ولو لا خوف الإطناب لأتينا بكلِّ ما روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولكن نذكر من كلّ طائفة نموذج.

أمّا الطائفة الأُولى : أخرج الطبري في تفسير الآية عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نزلت الآية في خمسة : فيّ وفي علي رضي الله عنه وحسن رضي الله عنه ، وحسين رضي الله عنه ، وفاطمة رضي الله عنها ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وقد رويت روايات كثيرة في هذا المجال ، فمن أراد فليرجع إلى تفسير الطبري والدر المنثور للسيوطي.

ص : 585


1- الأحزاب : 34.

وأمّا الطائفة الثانية : فقد روى السيوطي وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما معه ، ثمّ جاء علي فأدخله معه ، ثمّ قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

ولو لم نذكر فاطمة في هذا الحديث ، فقد جاء في حديث آخر ، حيث روى السيوطي ، قال : واخرج ابن جرير والحاكم وابن مردويه عن سعد ، قال : نزل على رسول الله الوحي ، فأدخل علياً وفاطمة وابنيهما تحت ثوبه ، قال : اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي.

وفي حديث آخر جاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى فاطمة ومعه حسن وحسين ، وعلي حتى دخل ، فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كلّ واحد منهما على فخذه ، ثمّ لفّ عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وأمّا الطائفة الثالثة : فقد أخرج الطبري عن أنس أنّ النبي كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول : الصلاة أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (1)

والروايات تربو على أربع وثلاثين رواية ، رُوِيتْ من عيون الصحابة ؛ أبو سعيد الخدري ، أنس بن مالك ، ابن عباس ، أبو هريرة الدوسي ، سعد بن أبي وقاص ، واثلة بن الأسقع ، أبو الحمراء ، أعني : هلال بن حارث ، وأُمهات المؤمنين :

ص : 586


1- وللوقوف على مصادر هذه الروايات لاحظ : تفسير الطبري : 22 / 75 ، والدر المنثور : 5 / 198 - 199.

عائشة وأُمّ سلمة. (1)

فعلى ضوء هذا فأئمّة أهل البيت - عليهم السلام - معصومون من الذنب ، قولاً وفعلاً فيكون قولهم كاتفاقهم حجّة وإن غاب هذا الأمر عن أكثر إخواننا أهل السنّة.

نعم قد عدّ نجم الدين الطوفي (المتوفّى 716 ه) إجماع العترة الطاهرة من مصادر التشريع الإسلامي كما أنهاها إلى 19 مصدراً ، وإليك رءوسها :

1. الكتاب.

2. السنّة.

3. إجماع الأُمّة.

4. إجماع أهل المدينة.

5. القياس.

6. قول الصحابي.

7. المصلحة المرسلة.

8. الاستصحاب.

9. البراءة الشرعية.

10. العوائد.

11. الاستقراء.

12. سد الذرائع.

13. الاستدلال.

14. الاستحسان.

15. الأخذ بالأخف.

16. العصمة.

17. إجماع أهل الكوفة.

18. إجماع العترة.

19.إجماع الخلفاءالأربعة. (2)

ولا يخفى انّ بعضها متّفق عليه وبعضها مختلف فيه ، وانّ كثيراً ممّا عدّه من مصادر التشريع قابل للإدغام في البعض الآخر ، كما مرّ في بعض الفصول.

إلى هنا تمّ بيان ما هو مصادر التشريع عند أهل السنّة ، وإليك الكلام فيما بقي من جذور الاختلاف.

ص : 587


1- ورواه مسلم في صحيحه : 7 / 123122. ولاحظ جامع الأُصول لابن الأثير : 10 / 103.
2- رسالة الطوفي ، نشرها الأُستاذ عبد الوهاب خلاف في مصادر التشريع الإسلامي فيما يرجع إلى المقام ، ص 109.

الفصل السابع: هل الإجماع أصل برأسه أو حاك عن الدليل؟

اشارة

اتّفق الفريقان على حجّية الإجماع المحصّل واختلفوا في وجه حجّيته وسبب كونه من مصادر التشريع ؛ فالشيعة الإمامية على أنّه حجّة لأجل كشفه عن قول المعصوم أو دليل معتبر صدر عنه المجمعون ، وعلى هذا ليس الإجماع دليلاً برأسه فلو يتمّ كشفه عن قوله أو الدليل المعتبر فلا يعدّ حجّة ، وهذا بخلاف الإجماع عند أهل السنّة ، فله عندهم كيان مستقل في جعل المجمع عليه حكماً واقعيّاً ، فلا يحتاج في حجّيته رجوعه إلى الأُصول الثلاثة - أعني : الكتاب والسنّة والعقل - وإنّما هو مستقل في مقابلها.

نعم يشترط أن يكون له مستند كما يقول الخضري في «أُصول الفقه» إنّه لا ينعقد الإجماع إلاّ عن مستند».

وقال بعض المعاصرين : لو كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة ، فالاتّفاق على حكم شرعي استناداً إلى ذلك الدليل يجعله حكماً شرعياً قطعياً ، كزيادة أذان لصلاة الجمعة في عهد عثمان لإعلام الناس

ص : 588

بالصلاة كي لا تفوتهم حتّى صار الأذان الآخر عملاً شرعياً إلهياً وإن لم ينزل به الوحي. (1)

وعلى هذا فاتّفاق الأُمّة على شيء سبب لصيرورة المجمع عليه حكماً شرعيّاً.

هذا وينبغي الكلام في موقفين :

الأوّل : مكانة الإجماع المحصّل عند الشيعة

اشارة

إنّ الأُمّة مع قطع النظر عن الإمام المعصوم بينهم ، غير مصونة من الخطأ في الأحكام ، فليس للاتّفاق والإجماع رصيد علمي ، إلاّ إذا كشف عن الحجّة بأحد الطريقين :

1. استكشاف قول المعصوم - عليه السلام - بالملازمة العقلية (قاعدة اللطف).

2. استكشاف قوله - عليه السلام - بالملازمة العادية (قاعدة الحدس).

أمّا الأمر الأوّل فحاصل النظرية انّه يمكن أن يستكشف عقلاً رأي الإمام - عليه السلام - من اتّفاق من عداه من العلماء على حكم وعدم ردعهم عنه نظراً إلى قاعدة اللطف التي لأجلها وجب على الله نصب الحجّة الموصوف بالعلم والعصمة في كلّ الأزمنة. فإنّ من أعظم فوائدها ، حفظ الحقّ وتمييزه عن الباطل كي لا يضيع بخفائه ويرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره ، وتلقينُهم طريقاً يتمكّن العلماء وغيرهم من الوصول به إليه ومنعهم وتثبيطهم عن الباطل أوّلاً ، أو ردّهم عنه إذا أجمعوا عليه ثانياً. (2)

وحاصل هذا الوجه : انّ من فوائد نصب الإمام هو هداية الأُمّة وردّهم عن

ص : 589


1- الوجيز في أُصول الفقه : 49.
2- كشف القناع عن وجه حجّية الإجماع : 114.

الإجماع على الباطل وإرشادهم إلى الحقّ ، فلو كان المجمع عليه باطلاً كان على الإمام ردّهم عن ذلك الاتّفاق بوجه من الوجوه. وهذا ما يسمّى بقاعدة اللطف.

وأمّا الثاني - أي استكشاف قوله - عليه السلام - بالملازمة العادية - فيمكن تقريره بالنحوين التاليين :

الف : تراكم الظنون مورث لليقين

إنّ فتوى كلّ فقيه - وإن كان يفيد الظن ولو بأدنى مراتبه ، إلاّ أنّها - تعزَّز بفتوى فقيه ثان فثالث ، إلى حدّ ربما يحصل للفقيه - من إفتاء جماعة على حكم - القطعُ بالحكم ، إذ من البعيد أن يتطرّق البطلان إلى فتوى جماعة كثيرين.

نقل المحقّق النائيني عن بعضهم : إنّ حجّيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حدّ يوجب القطع بالحكم ، كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر. (1)

ب : الاتّفاق كاشف عن دليل معتبر

إنّ حجّية الاتّفاق ليس لأجل إفادتها القطع بالحكم ، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا ، وهذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول وقال : يستكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمّة في الأحكام وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي والاستحسان. (2)

ص : 590


1- فوائد الأُصول : 3 / 149.
2- الفصول : 2 / 248 ، الطبعة الحجرية.

الثاني : الإجماع أصل برأسه عند السنّة

قد عرفت أنّ الإجماع عند أهل السنّة برأسه بشرط أن يكون في مورد الإجماع مستند ظني ، بل يظهر من الآمدي انّه لا يشترط المستند بل يجوز صدوره عن توفيق بأن يوفقهم الله تعالى لاختيار الصواب. (1)

وعلى كلّ تقدير فالكلام في ثبوت مدّعاه وانّه أصل برأسه ، وقد استدل بآيات وروايات ، وقد أوضحنا حال الآيات في كتابنا «مصادر الفقه الإسلامي ومنابعه». (2) وانّها لا صلة للآيات بالإجماع.

كما أنّهم استدلّوا بروايات لا صلة لها بالمقصود ، مثل قولهم : «إنّ الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد». (3)

«يد الله مع الجماعة ، ولا يبالي الله بشذوذ من شذ». (4)

«لا تزال طائفة من أُمّتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم». (5)

«من خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه». (6)

«من فارق الجماعة ... ومات ، فميتة جاهلية». (7) إلى غيرها من الروايات أوردها الخضري في «أُصول الفقه». (8)

ص : 591


1- أُصول الفقه للخضري : 275.
2- مصادر السنة الإسلامي ومنابعه : 142 - 147 ؛ الوسيط : 32 - 35.
3- كنز العمال ، الحديث 1033.
4- سنن الترمذي : 4 / 466 ، كتاب الفتن ، الحديث 2167.
5- سنن أبي داود : 4 / 98 ، كتاب الفتن ، الحديث 4252.
6- المعجم الكبير : 10 / 289 ، ح 10687.
7- صحيح البخاري : 8 / 87 ، كتاب الفتن.
8- أُصول الفقه : 279 وبعدها.

فإنّ هذه الروايات لا مساس لها بحجّية الإجماع ، وإنّما الغاية منها الدعوة إلى الأُلفة والتجمع ، نظير قوله «اتّبعوا السواد الأعظم فانّه من شذّ شذّ في النار». (1)

والمهم في المقام ما استندوا عليه من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لا تجتمع أُمّتي على الخطأ».

وقد ألّفنا رسالة في بيان حال الحديث وأوضحنا انّ أكثرها ضعيف ، وعلى فرض صحة السند فهو خبر غير متواتر فلا يفيد العلم ، ومعه لا يمكن أن يحتج به على مسألة أُصولية. (2)

يقول الطوفي في رسالته : إنّ هذا الخبر وإن تعدّدت ألفاظه ورواياته لا نسلم انّه بلغ رتبة التواتر المعنوي ، لأنّه إذا عرضنا هذا الخبر على أذهاننا ، وسخاء حاتم وشجاعة علي ونحوهما من المتواترات المعنوية ، وجدناها قاطعة بثبوت الرأي الثاني غير قاطعة بالأوّل ، فهو إذن في القوة دون سخاء حاتم وشجاعة علي ، وهما متواتران ، وما دون المتواتر ليس بمتواتر ، فهذا الخبر ليس بمتواتر لكنّه في غاية الاستفاضة. (3)

وقال تاج الدين السبكي (المتوفّى 771 ه) : أمّا الحديث فلا أشك انّه اليوم غير متواتر ، بل لا يصحّ ، أعني : لم يصحّ منه طريق على السبيل الذي يرتضيه جهابذة الحفاظ ، ولكنّي أعتقد صحّة القدر المشترك من كلّ طرقه ، والأغلب على الظن انّه «عدم اجتماعها عن الخطأ». (4)

هذا كلّه حول سندها وأمّا الدلالة ففيها :

ص : 592


1- مستدرك الحاكم : 1 / 115.
2- نشرت الرسالة في مصادر الفقه الإسلامي : 147 - 160.
3- مصادر التشريع الإسلامي ، رسالة الطوفي : 105.
4- رفع الحاجب عن ابن الحاجب : ورقة 176 ب ، المخطوط في الأزهر.

أوّلاً : فلأنّه جعل الملاك اتّفاق الأُمّة ، ومن المعلوم أنّ اتّفاقهم بعامّة أصنافهم حجّة إمّا برأسها أو لكشفها عن الدليل ، وأين هو من اتّفاق المجتهدين منهم في عصر واحد ، أو اتّفاق أهل الحديث كما في رأي مالك ، أو اتفاق أهل الحرمين (مكة والمدينة) أو أهل المصرين (الكوفة والبصرة) ، أو اتّفاق الشيخين ، أو اتّفاق الخلفاء الأربع؟! (1)

وثانياً : أنّ المنقول مسنداً هو لفظ «الضلالة» لا لفظ «الخطأ» أو «على غير هدى» وإنّما جاء الخطأ في غير الكتب الحديثية.

وعلى ذلك فالحديث على فرض ثبوته يرجع إلى المسائل العقائدية التي عليها مدار الهداية والضلالة ، أو ما يرجع إلى صلاح الأُمّة من وحدة الكلمة والاجتناب عن التشتت فيما يمس وحدة المسلمين.

وأمّا المسائل الفقهية فلا يوصف المصيب والمخطئ فيها بالهداية والضلالة كما لا يكون مصير الشاذ فيها هو النار أو لا يكون الشاذ نصيب الشيطان.

وعلى ذلك فالاستدلال به على حجّية الإجماع في المسائل الفقهية كما ترى.

ثالثاً : لو سلمنا سعة دلالة الحديث فالمصون من الضلالة هو الأُمّة بما هي أُمّة ، لا الفقهاء فقط ، ولا أهل العلم ، ولا أهل الحلّ والعقد ، وعلى ذلك ينحصر مفاد الحديث بما اتّفقت عليه جميع الأُمّة من العقائد والأُصول.

رابعاً : أنّ مصونية الأُمّة كما يمكن أن يكون سببه كمال عقلها ، يمكن أن يكون لوجود معصوم فيهم ، والرواية ساكتة عنه ، فلا يمكن أن يستدلّ بالرواية على أنّ الأُمّة مع قطع النظر عن المعصوم مصونة عن الخطأ ، بل لما ثبت في محله انّ الزمان لا يخلو من إمام معصوم تكون عصمة الأُمّة بعصمة الإمام - عليه السلام -.

ص : 593


1- أُصول الفقه للخضري : 270.

الفصل الثامن: الخلاف في مسألة التخطئة والتصويب

اشارة

اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً شرعياً أُمر الرسول بتبليغه بلا واسطة أو من خلال بيان خلفائه.

1. روى الكليني بسنده عن عمر بن قيس ، عن أبي جعفر - عليه السلام - قال : سمعته يقول : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل لكلّ شيء حدّاً وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً».

2. روى الكليني بسنده عن حمّاد ، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال : سمعته يقول : «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة». (1)

إنّ الإمام الصادق - عليه السلام - يصف الجامعة التي هي كتاب علي ويقول : «فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه ، وليس من قضية إلاّ وهي فيها حتّى أرش الخدش». (2)

ص : 594


1- الكافي : 1 / 59 ، الباب الرد إلى الكتاب والسنة ، الحديث 2 و 4.
2- الكافي : 1 / 241 ، باب فيه ذكر الصحيفة الجامعة ، الحديث 5.

إلى غير ذلك من الروايات الحاكية عن ذلك.

وعلى ضوء هذه الأحاديث ، اتّفقت الشيعة الإمامية على أنّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً بيّنه الرسول مباشرة أو عن طريق خلفائه ، والمجتهد إمّا مصيب أو مخطئ ، فلذلك عرفت بالمخطئة أي لا يصوّبون آراء المجتهدين عامة في كلّ مسألة ، بل المصيب واحد وغيره مخطئ.

هذا ما لدى الشيعة ، وأمّا السنّة فقد اشتهروا بالتصويب فنقول :

لو ورد النصّ في حكم واقعة خاصة يبيّن حكمها فلا أظنّ أنّ أحداً يصف المجتهد بالتصويب ، بل المصيب واحد ، وغيره مخطئ.

فمسألة التصويب مختصّة بما إذا لم يكن في الواقعة نصّ ، كما نصّ به الغزالي في «المستصفى» وقسّم المصوبة إلى قسمين : أحدهما للأشاعرة والآخر لغيرهم.

يقول : إنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معيّن يُطلب بالظن ، بل الحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على كلّ مجتهد ما غلب على ظنه ، وهو المختار ، وإليه ذهب القاضي [الباقلاني].

وذهب قوم من المصوبة إلى أنّ في تلك الواقعة حكماً معيناً يتوجه إليه الطلب ، إذ لا بدّ للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلف المجتهد إصابتَه ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي لم يؤمر بإصابته. (1)

وربما ينسب القول الثاني في كتب الأُصول (2) إلى المعتزلة ، ويظهر من الغزالي فيما يأتي انّه خيرة الشافعي.

وإنّما عدل صاحب القول الثاني عن تصويب الأشاعرة ، لأجل توجّه الدور

ص : 595


1- المستصفى : 2 / 109.
2- فوائد الأُصول للكاظمي : 1 / 252.

إليه ، لأنّه إذا لم يكن لله سبحانه فيما لا نصّ فيه حكم معيّن فما معنى الطلب وبذل الجهد؟ فالطلب موقوف على وجود الحكم لله سبحانه ، والمفروض انّه تابع لرأي المجتهد.

وهذا بخلاف القول الثاني فالمفروض فيه : انّ فيه حكماً معيناً يتوجّه إليه الطلب لكن المجتهد غير مكلّف بإصابته ، فلذلك يكون مصيباً وإن كان قد أخطأ ذلك الحكمَ المعين الذي لم يؤمر بإصابته.

ثمّ إنّ الغزالي في «المستصفى» نسب التصويب بالمعنى الثاني إلى الشافعي وقال : أمّا المصوبة فقد اختلفوا فيه ، فذهب بعضهم إلى إثباته وإليه تشير نصوص الشافعي لأنّه لا بدّ للطالب من مطلوب ، وربّما عبروا عنه بأنّ مطلوب المجتهد الأشبه عند الله تعالى والأشبه معين عند الله. (1)

وقال الخضري : لكن المجتهد لم يكلّف بإصابته ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك المعين الذي لم يؤمر بإصابته. (2)

قول ثالث في التصويب

ولمّا كان القول بإنكار الحكم الإلهي في الوقائع التي لا نصّ فيها ، يحبط من جامعية الإسلام في مجالي العقيدة والشريعة ، حاول بعض أهل السنّة تفسير التصويب بمعنى لا يخالف ذلك ، ومجمل ما أفاد : انّ القول بالتصويب ليس بمعنى نفي حكم الله في الواقع ، وانّ حكم الله تابع لرأي المفتي ، بل هو في قبال القول بالتأثيم وانّ المجتهد إذا أخطأ يأثم ، فصار القائل بالتصويب يعني نفي الإثم لا إصابة الواقع ، فعليه يصير النزاع في التصويب والتخطئة لفظياً.

ص : 596


1- المستصفى : 2 / 116.
2- أُصول الفقه للخضري : 336.

وعلى ضوء ذلك فالمراد من التصويب هو نفي القول بالإثم الذي أصرّ عليه بشر المريسيّ لا إصابة كلّ مجتهد للحق الملازم لنفي الحكم المشترك ، وكيف يمكن نسبة القول بالتصويب بمعنى نفي حكم الله في الواقعة مع أنّهم رووا في كتبهم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر. (1)

وممّن جزم بالمعنى الثالث الشوكاني فقال : إنّ المجتهد لا يأثم بالخطإ ، بل يؤجر على الخطأ بعد أن يُوفي الاجتهاد حقّه ، ولم نقل انّه مصيب للحقّ الذي هو حكم الله في المسألة ، فإنّ هذا خلاف ما نطق به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث حيث قال - صلى الله عليه وآله وسلم - : «إن اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر».

فتلخص من ذلك انّ الأقوال في تخطئة المجتهد وتصويبه لا يتجاوز عن أربع.

1. انّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً واقعياً بلّغه الرسول مباشرة أو غير مباشرة ، والمجتهد إمّا يصيبه أو يخطأه ، وهذا ما عليه الإمامية ، وهو مقتضى إكمال الدين.

2. ليس لله تعالى في الواقعة التي ليس فيها نصّ حكم معيّن. وهذا هو المنسوب إلى الأشاعرة واختاره الغزالي ، وقد أطال الكلام في تقريبه ودفع ما يورد عليه من الشبه ، وقد تصعّد وتصوب ولكنّه لم يتمكن من رفع الدور المتوجه إلى هذه النظرية.

3. انّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً يتوجه إلى الطلب ، إذ لا بدّ

ص : 597


1- صحيح البخاري : 4 / 268 ؛ صحيح مسلم : 3 / 122 ؛ وسنن أبي داود : 3 / 307 ؛ المستدرك : 4 / 88

للطلب من مطلوب لكن المجتهد لم يكلّف إصابته ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ. وهذا هو المنسوب إلى الإمام الشافعي وفي الكتب الأُصولية للمعتزلة كما مرّ. (1)

4. انّ المراد من التصويب هو رفع الإثم لا إصابة المجتهد ، وفي الحقيقة يتفق هو مع الإمامية في أنّ لله سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيناً لكن خطأ المجتهد لا يستلزم الإثم.

وهناك قول خامس ، وهو : انّ المجتهد الذي أخطأ الدليل القطعي آثم غير فاسق ولا كافر. وهذا قول بشر المريسي ، ونسبه الغزالي والآمدي إلى ابن عليّة وأبي بكر الأصم ، وهؤلاء هم المؤثمة. (2)

وقد عرفت مقتضى الأدلّة هو التخطئة مطلقاً ، وأمّا الأجر مع التخطئة فهو رهن ثبوت الدليل على الأجر ولعلّه غير بعيد حسب ما مرّ.

وأمّا ما هو الحافز للقول بالتصويب بالمعنيين الأوّلين فيُكْمن في أمرين :

الأوّل : قلة النصوص بين أهل السنّة فاستنتج منها عدم الحكم.

يقول الغزالي : أمّا المسائل التي لا نصّ فيها فيعلم أنّه لا حكم فيها ، لأنّ حكم الله تعالى خطابُه ، وخطابه يعرف بأن يُسمع من الرسول ، أو يدلّ عليه دليل قاطع من نقل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو سكوته ، فانّه قد يعرفنا خطاب الله من غير استماع صيغة ، فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم؟ فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراماً فمعنى تحريمه انّه قيل فيه لا تشربوه ، وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطباً ، والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون ، ولا بدّ أن يكون المخاطب به هم المكلّفون من الآدميين ، ومتى

ص : 598


1- فوائد الأُصول للكاظمي : 1 / 142.
2- المستصفى : 2 / 361.

خوطبوا ولم ينزل فيه نصّ ، بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق ، فإذن لا يعقل خطاب لا مخاطب به ، كما لا يعقل علم لا معلوم له وقتل لا مقتول له ، ويستحيل أن يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل. (1)

فاستنتج من عدم ورود النص في الصحاح والسنن والمسانيد ، عدم ورود النصّ من الشارع ، ولكنّه لو رجع إلى أحاديث أئمّة أهل البيت المروية عن النبي بأسانيد لا غبار عليها ، لوقف على النصّ في أكثر المسائل ووجود الإطلاقات والعمومات والعمل في غيره.

هذا ما لدى الأشاعرة.

الثاني : انّ الحافز عند الشافعي الذي ذهب إلى وجود الحكم في كلّ واقعة لله سبحانه ولكنّه لم يكلّف بإصابته هو وجود الإشكال في الجمع بين الحكم الواقعي عند الله سبحانه والأمارات الظنية التي ثبتت حجّيتها مع العلم ، وذلك لأنّ بعضها يخالف الحكم الواقعي المعيّن عند الله ، فلم يجد بدّاً لأجل الجمع بين الحكم الواقعي وحجّية هذه الأمارات بالقول بعدم تكليف المجتهد بإصابة الواقع وعندئذ يرفع اليد عن الأحكام الواقعية المعيّنة عند الله.

وهذا ما يعبّر عنه في علم الأُصول الإمامي بانقلاب الحكم الواقعي إلى ما في الأمارات والأُصول ، ولنا حول الجمع بين الحكم الواقعي ، ومفاد الأمارات والأُصول العملية بحوث رائعة لا يسع المجال لإيرادها ، ومن حاول التوسع فليرجع إلى المصدرين التاليين. (2)

ص : 599


1- المستصفى : 2 / 116.
2- المحصول في علم الأُصول : 3 / 110 ؛ إرشاد العقول إلى علم الأُصول : 3 / 112.

الفصل التاسع: انفتاح باب الاجتهاد عند الشيعة وانسداده عند السنّة

1. الاجتهاد لغة واصطلاحاً

الاجتهاد مأخوذ من الجُهد - بضم الجيم - بمعنى الطاقة والوسع ، وبفتحها بمعنى المشقة ، فإذا كان من باب الافتعال يراد به إمّا بذل الوسع والطاقة في طلب الشيء ، أو تحمّل المشقّة. (1)

وأمّا في اصطلاح الأُصوليّين فعرّفه الغزّالي بأنّه بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة ، والاجتهاد التام هو أن يبذل الوسع بحيث يحسّ من نفسه بالعجز من مزيد الطلب. (2)

يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّه مشتمل على الدور الواضح حيث أُخذ المعرّف في التعريف.

ص : 600


1- لاحظ لسان العرب : مادة جهد.
2- المستصفى : 2 / 350.

وثانياً : أنّ الغاية من الاجتهاد تارة يكون تحصيل العلم بالحكم الشرعي وأُخرى تحصيل الحجّة القطعية عليه ، وكون الشيء حجّة قطعية لا يلازم كون مفاده قطعياً وعلماً واقعياً بالحكم الشرعي ، كما في الخبر الواحد القائم على حكم من الأحكام ، فقد قام الدليل القطعي على حجّيته ، فهو حجّة قطعاً ومع ذلك لا يفيد العلم بالحكم الشرعي.

وأفضل التعاريف ما عرّفه الشيخ بهاء الدين العاملي في «زبدة الأُصول» وقال : بأنّه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل ، فعلاً أو قوّة قريبة من الفعل. (1)

وقوله : «فعلاً أو قوة» قيدان للاستنباط لا للملكة للزوم فعلية الملكة.

نعم يرد عليه : انّ الغاية من الاجتهاد أعمّ من استنباط الحكم الشرعي الفرعي أو الوظيفة الفعلية ، كالبراءة والاشتغال عند اليأس عن الدليل الاجتهادي.

2. الاجتهاد المطلق والاجتهاد في مذهب خاص

المراد من الاجتهاد المطلق هو أن يجتهد على وفق الأُصول والمعايير التي حصلها قبل الاستنباط واعتمد عليها في علم الأُصول وغيره وأثبت حجّيتها.

وبعبارة أُخرى : أن يستنبط الحكم الشرعي على وفق المنهاج الذي اختاره بنفسه ، والمراد من الاجتهاد في المذهب هو الاجتهاد على وفق الأُصول التي قررها إمام مذهبه ويلتزم بمنهاجه وأُصوله التي اعتبرها.

نعم ربما يخالف الواحد منهم مذهب إمامه في بعض الأحكام الفرعية ،

ص : 601


1- زبدة الأُصول : 150 ، المنهج الرابع في الاجتهاد والتقليد.

ومن هؤلاء الحسن بن زياد من الحنفية ، وابن القاسم وأشهب من المالكية ، والبويطي والمازني من الشافعية. (1)

ثمّ إنّ مهمة الصنف الثاني تتلخص في الأُمور التالية التي ذكرها «عبد الوهاب خلاف» في كتابه بالنحو التالي :

1. الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها عن إمام المذهب وفق الأُصول المجعولة من قبله وبالقياس على ما اجتهد فيها من الفروع ، كالخصاف والطحاوي والكرخي من الحنفية ، واللخمي وابن العربي وابنُ رشيد من المالكية ، والغزالي والاسفراييني من الشافعية.

2. الاجتهاد الذي لا يتجاوز تفسير قول مجمل من أقوال أئمتهم أو تعيين وجه معين لحكم يحتمل وجهين فإليهم المرجع في إزالة الخفاء والغموض الذي يوجد في بعض أقوال الأئمّة وأحكامهم ، كالجصاص وأضرابه من علماء الحنفية.

3. اجتهاد أهل الترجيح بمعنى الموازنة بين ما روي عن أئمّتهم من الروايات المختلفة ، وترجيح بعض على بعض من جهة الرواية أو من جهة الدراية ، كأن يقول المجتهد منهم : هذا أصحّ رواية وهذا أولى النقول بالقبول ، أو هذا أوفق للقياس أو أرفق للناس ، ومن هؤلاء القدوري وصاحب الهداية وأضرابهما من علماء الحنفية. (2)

3. لزوم فتح باب الاجتهاد

إنّ الاجتهاد رمز خلود الدين وبقاء قوانينه ، لأنّه يحفظ غضاضة الدين

ص : 602


1- خلاصة التشريع الإسلامي : 342
2- خلاصة التشريع الإسلامي : 342.

وطراوته ، ويجدّده ويصونه عن الاندراس ، ويغني المسلمين عن موائد الأجانب ، بإعطائه كلّ موضوع ما يقتضيه من حكم.

أمّا لزوم فتح هذا الباب في أعصارنا هذه فلا يحتاج إلى البرهنة والدليل ، إذ نحن في زمن تتوالى فيه الاختراعات والصناعات ، وتستجدّ الحوادث التي لم يكن لها مثيل فيما غبر ، وتجعلنا هذه المجالات امام أحد أُمور :

إمّا بذل الوسع في استنباط أحكام الموضوعات الحديثة ، من الأُصول والقواعد الإسلامية أو اتّباع المبادئ الأُوروبية ، من غير نظر إلى مقاصد الشريعة ، وإمّا الوقوف من غير إعطاء حكم. (1)

وليس الاجتهاد من البدع المحدثة ، فانّه كان مفتوحاً في زمن النبوة وبين أصحابه - صلى الله عليه وآله وسلم - فضلاً عن غيرهم وفضلاً عن سائر الأزمنة التي بعده ، نعم غايته انّ الاجتهاد يومئذ كان خفيف المئونة جدّاً لقرب العهد وتوفر القرائن وإمكان السؤال المفيد للعلم القاطع ، ثمّ كلّما بعد العهد من زمن الرسالة وكثرت الآراء والأحاديث والروايات ، ربّما قد دخل فيها الدسّ والوضع ، وتوفرت دواعي الكذب على النبي ، أخذ الاجتهاد ومعرفة الحكم الشرعي ، يصعب ويحتاج إلى مزيد من المئونة واستفراغ الوسع. (2)

ولم يزل هذا الباب مفتوحاً عند الشيعة ، من زمن صاحب الرسالة إلى يومنا هذا ، وقد تخرج منهم الآلاف من المجتهدين والفقهاء ، قد أحيوا الشريعة وأنقذوها من الانطماس ، وأغنوا بذلك الأُمّة الإسلامية في كلّ مصر وعصر ، عن التطلّع إلى موائد الغربيّين ، وألّفوا مختصرات ومطوّلات لا يحصيها إلاّ الله سبحانه.

ص : 603


1- رسالة الإسلام : السنة الثالثة ، العدد الثاني عن مقال أحمد أمين المصري.
2- أصل الشيعة وأُصولها : 119.

وقد اقتدى الشيعة في فتح هذا الباب على مصراعيه في وجه الأُمّة بأئمّة دينهم وخلفاء رسولهم الذين حثُّوا شيعتهم بأقوالهم وأفعالهم على التفقّه في الدين والاجتهاد فيه ، وانّه «مَن لم يتفقه فهو اعرابي» ، وأرشدوهم إلى كيفية استخراج الفروع المتشابكة من الآيات والقواعد المتلقاة عنهم ، بالتدبّر فيهما ، وأمروا أصحابهم بالتفريع ، وقد بلغت عنايتهم بذلك إلى حد دفعهم إلى تنصيب بعض من يعبأ بقوله ورأيه ، لمنصب الإفتاء ، إلى غير ذلك.

غير انّ أهل السنّة قد أقفلوا باب الاجتهاد إلاّ الاجتهاد في مذهب خاص ، وبما انّ الفتاوى المنقولة عن الأئمّة مختلفة ، أخذ علماء كلّ مذهب يبذلون جهدهم لتشخيص ما هو رأي كلّ إمام في هذا الباب.

ولا أدري لما ذا أقفل هذا الباب المفتوح من زمن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وإن تفلسف في بيان وجهه بعض الكتّاب من متأخّريهم ، وقال : ولم يكن مجرّد إغلاق باب الاجتهاد باجتماع بعض العلماء وإصدار قرار منهم ، وإنّما كان حالة نفسية واجتماعية ، ذلك انّهم رأوا غزو التتر لبغداد وعسفهم بالمسلمين ، فخافوا على الإسلام ، ورأوا انّ أقصى ما يصبون إليه هو أن يصلوا إلى الاحتفاظ بتراث الأئمة ممّا وضعوه واستنبطوه. (1)

ولا يخفى ما في اعتذاره من الإشكال ، وسوف يوافيك بيان الأسباب الّتي أدّت إلى الاغلاق.

وأمّا زمان إقفاله فيظهر من المقريزي في خططه انّه أقفل عام 665 ه ، قال :

إنّه تولّى القاضي أبو يوسف القضاء من قبل هارون الرشيد بعد سنة 170 إلى ان صار قاضي القضاة ، فكان لا يولّي القضاء إلاّ من أراده ، ولمّا كان هو من

ص : 604


1- رسالة الإسلام : العدد الثالث من السنة الثالثة عن مقال أحمد أمين المصري.

أخصّ تلاميذ أبي حنيفة فكان لم ينصب للقضاء ببلاد خراسان والشام والعراق وغيرهما إلاّ من كان مقلّداً لأبي حنيفة ، فهو الذي تسبّب في نشر مذهب الحنفية في البلاد.

وفي أوان انتشار مذهب الحنفية في المشرق نشر مذهب مالك في إفريقية المغرب ، بسبب زياد بن عبد الرحمن ، فانّه أوّل من حمل مذهب مالك إليها ، وأوّل من حمل مذهب مالك إلى مصر سنة 160 ه - هو عبد الرحمن بن القاسم.

قال : ونشر مذهب محمد بن إدريس الشافعي في مصر بعد قدومه إليها سنة 198 وكان المذهب في مصر لمالك والشافعي إلى أن أتى القائد «جوهر» بجيوشِ مولاه المعز لدين الله أبي تميم معد الخليفة الفاطمي إلى مصر سنة 358 فشاع بها مذهب الشيعة حتّى لم يبق بها مذهب سواه (أي سوى مذهب الشيعة).

ثمّ إنّ المقريزي بيّن بدء انحصار المذاهب في أربعة فقال :

فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665 حتّى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة ، وعودي من تمذهب بغيرها ، وأُنكر عليه ، ولم يُولّ قاض ولا قُبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلّداً لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها والعمل على هذا ، إلى اليوم. (1)

وهذه الكلمة أعني : «وتحريم ما عداها» تكشف عن أعظم المصائب التي واجه بها الإسلام ، حيث إنّه قد مضى على الإسلام ما يقرب من سبعة قرون ومات فيها على دين الإسلام ما لا يحصي عددهم إلاّ ربهم ، ولم يسمع أحد من أهل القرنين الأوّلين اسم المذاهب أبداً ، وفيما بعد القرنين كان المسلمون بالنسبة إلى

ص : 605


1- راجع الخطط المقريزية : 2 / 333 و 334 و 344.

الأحكام الفرعية في غاية من السعة والحرية ، كان يقلّد عامّيهم من اعتمد عليه من المجتهدين ، وكان المجتهدون يستنبطون الأحكام عن الكتاب والسنّة على موازينهم المقررة عندهم في العمل بالسنّة النبوية ، فأي شيء أوجب في هذا التاريخ على عامّة المسلمين : «العامّي المقلّد والفقيه المجتهد» أن لا يخرج أحد في الأحكام الشرعية عن حد تقليد الأئمة الأربعة؟! وبأي دليل شرعي صار اتّباع أحد المذاهب الأربعة واجباً مخيراً ، والرجوع إلى ما ورائها حراماً معيناً مع علمنا بأحوال جميع المذاهب من بدئها وكيفية نشرها وتأثير العوامل في تقدّم بعضها على غيرها ، بالقهر والغلبة من الدولة والحكومة ، كما أوضح عن بعض ذلك ما ذكره ابن الفوطي في الحوادث الجامعة ، ص 216 في وقائع سنة 645 ، يعني قبل انقراض بني العباس بإحدى عشرة سنة في أيام المستعصم الذي قتله هولاكو ، سنة 656 ، فلاحظ ذلك الكتاب. (1)

وقد خلّف هذا الوضع أثراً سلبياً عجيباً ، وهو انّ انتصار كلّ حاكم من الحكام لمذهب من المذاهب ، صار سبباً لانقراض كثير من المذاهب ؛ كمذهب سفيان الثوري ، وسفيان بن عينية ، وعبد الله بن مبارك ، وابن عمر ، والأوزاعي ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وليث بن سعد ، وداود بن علي ، وأبي ثور ، وابن جرير الطبري ، وغيرهم.

فقد كانت الدولة العباسية تثبّت دعائم مذهب أبي حنيفة ، فيولّى القضاء من كان متّبعاً لهذا المذهب ، ولمّا استولى الفاطميون على مصر نشروا المذهب الإسماعيلي ومنعوا التفقّه على مذهب أبي حنيفة ، لأنّه مذهب الدولة العباسية وسمحوا بالتفقّه على المذهب المالكي والشافعي والحنبلي.

ص : 606


1- رسالة الاجتهاد للطهراني : 104.

4. ما هي العوامل التي سببت الإغلاق؟

اشارة

ثمّ إنّ المهم هو كشف العوامل التي سبّبت إغلاق باب الاجتهاد. فقد ذكر الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء عوامل ثلاثة نأتي بها بنصها :

أ. التعصّب المذهبي

فقد تعصّب التلاميذ لآثار أساتذتهم من الأئمّة المجتهدين الّذين أناروا العصر السابق ، وكشفوا ظلمات المسائل بنور عقولهم الساطع.

إنّ التعصّب لفكرة تحمل الإنسان على الجمود عليها والتعلّق بأهدابها ، ودعوة الناس إليها دون سواها ، وهكذا فعل أُولئك الذين جاءوا بعد الأئمة السابقين ، فقد عنوا بدراسة مذاهبهم ونشرها بدلاً من السير على منهاجها ، والاجتهاد كما اجتهد أصحابها ، فوثق الناس بالسابقين وشكّوا في أنفسهم.

ب. ولاية القضاء

فقد كان الخلفاء يختارون القضاة أوّل الأمر من المجتهدين لا من مقلّديهم ، ولكنّهم فيما بعدُ آثروا اختيارهم من المقلّدين ، ليقيدوهم بمذهب معين ، ويعيّنوا لهم ما يحكمون على أساسه بحيث يكونون معزولين عن كلّ قضاء يخالف ذلك المذهب ، ولأنّ بعض القضاة المجتهدين كان يتعرض الفقهاء المذهبيون لتخطئته ، فيكون حكمه مثاراً لنقد الناس لا سبب اطمئنان لهم.

وهكذا كان تقيّد القاضي بمذهب يرتضيه الخليفة سبباً في اكتفاء أكثر الناس به وأقبالهم عليه.

ص : 607

ج. تدوين المذاهب

إنّ تدوينها قد سهل على الناس تناولها ، والناس دائماً يطلبون السهل اليسير دون الصعب العسير ، وقد كان يدفع الناس إلى الاجتهاد في العصور السابقة ضرورة ملجئة إلى تعرّف أحكام حوادث وشئون جديدة لا يعرفون حكمها الشرعي.

فلمّا جاء المجتهدون في الأدوار السابقة ودوّنوا أحكام الحوادث التي عرضت والتي يحتمل عروضها ، صار الناس كلّما عرضت لهم مسألة وجدوا السابقين قد تعرّضوا لها ، فاكتفوا بمقالهم في شأنها ، فسدّت حاجتهم بما وجدوا ، فلا حافز يحفزهم إلى بحث جديد.

وساعد على ذلك ما للأقدمين من موقع علمي كبير جدير بالتقدير ، وما يكسبهم تفوقهم على مضي الزمن من إجلال ، وما يكون من عناية الأُمم بتكريم سلفها الصالح ليرتبط حاضرها بماضيها برباط متين.

لهذا كلّه انصرف الناس إلى التقليد ، اللهمّ إلاّ في تعرّف علل الأحكام المذهبية ، أو ترجيح بعض الآراء في المذهب نفسه على غيرها.

ويسمّى من أُوتي القدرة العلمية على ذلك : مجتهداً في المذهب ، أي انّه ليس مجتهداً مطلقاً ذا مذهب مستقل ، بل هو من أتباع إمام مجتهد ، ولكنّه ذو رأي معتبر في ضمن مذهب إمامه ، وفي البناء على أُصوله. (1)

هذه العوامل الثلاثة وإن سببت ركود الحركة الاجتهادية ، ولكنّها عوامل جانبية على ما يبدو ، بل هناك سبب آخر وهو المهم في شلِّ الحركة العلمية الفقهية ، وهو تأثير السياسة التي اتّخذها القادر بالله الخليفة العباسي للحد من

ص : 608


1- المدخل الفقهي العام : 1 / 179177.

نشاط الحركة الاجتهادية حيث تصدّى للخلافة ما يقرب عن 41 عاماً. (1) ساد في هذه الفترة الطويلة فكرة التقشّف والتنسّك وذم الفكر والاجتهاد في الدين ، ويعرف ذلك عن ما ذُكر من حالاته وأفعاله ، فقد عرفوا القادر بالله بأنّه : صنّف كتاباً ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث ، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز ، وأفكار المعتزلة ، والقائلين بخلق القرآن ، وكان الكتاب يقرأ في كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ، ويحضر الناس سماعه ، ذكر محمد بن عبد الملك الهمداني انّ القادر بالله كان يلبس زي العوام ويقصد الأماكن المعروفة بالبركة ، كقبر معروف وتربة ابن بشار. (2)

وقد بلغ كبح جماح الفكر حداً انّه استتاب القادر بالله سنة 408 ه - فقهاء المعتزلة والحنفية ، فأظهروا الرجوع وتبرّءوا من الاعتزال ، ثمّ نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام ، وأخذ خطوطهم بذلك وانّهم متى خالفوه حلّ بهم من النكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم ، وامتثل يمين الدولة وأمين الملّة أبو القاسم محمود أمرَ أمير المؤمنين ، واستنّ بسننه في أعماله التي استخلفه عليها في خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم ، وأمر بلعنهم على منابر المسلمين ، وإبعاد كلّ طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم ، وصار ذلك سنّة في الإسلام. (3)

فإذا كان هذا حال أمير المؤمنين وحال وزيره في أصقاع كبيرة من الأرض

ص : 609


1- بويع بالخلافة عام 381 ه - وتوفّي عام 422 ه. لاحظ المنتظم : 14 / 353 و 15 / 217.
2- المنتظم : 14 / 354.
3- المنتظم : 15 / 125 - 126.

كخراسان ، فكيف يستطيع أيّ متكلم بارع أو فقيه متضلّع أن يفكّر في تجديد الهيكلية الفقهية أو العقائدية ، أو يطرح وجهات نظره الخاصة ، إذ لا يؤمن من أن يؤخذ باتّهام مخالفته لأهل السنّة والجماعة ، فينكل به أو يحبس أو يصلب على أعواد المشانق؟!

وقد مضى انّه كتب كتاباً عرف باسم «الاعتقاد القادري» ، وكأنّه وحي منزل يجب أن يقرأ في كلّ جمعة ، وقد امتد ذلك طول خلافته الطويلة ، ومع أنّه توفّي عام 422 ه ، ولكن السياسة التي ابتدعها للدولة دامت بعد موته في خلافة ابنه القائم بأمر الله ، وهذا هو ابن الجوزي يذكر في حوادث عام 433 ه - انّه قرأ الاعتقاد القادري في الديوان ، وحضر الزهّاد والعلماء ، وممّن حضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ، فكتب خطه تحته قبل أن يكتب الفقهاء ، وكتب الفقهاء خطوطهم فيه : إنّ هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر ، ثمّ ذكر نص الاعتقاد القادري. (1)

ويقول في آخره : هذا هو قول أهل السنّة والجماعة الذي من تمسّك به كان على الحق المبين ، وعلى منهاج الدين ، والطريق المستقيم ، ورجا به النجاة من النار ودخوله الجنة. (2)

وقد ذكر عبد الوهاب خلاف في «خلاصة التشريع الإسلامي» عوامل أربع ربما تتداخل بعض ما ذكره فيما نقلناه عن الأُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء ، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى «خلاصة التشريع الإسلامي». (3)

ص : 610


1- المنتظم : 15 / 279 ، حوادث سنة 433 ه.
2- المنتظم : 15 / 281.
3- خلاصة التشريع الإسلامي : 341 وما بعدها.

5. اجتهاد الشيعة اجتهاد مطلق

إنّ اجتهاد فقهاء الشيعة من أوّل يومهم ، اجتهاد مطلق ، وكلّ مجتهد ، يجتهد حسب الميزان والمنهاج الذي انتخبه.

لكن يظهر من الشيخ أبي زهرة انّ اجتهاد الشيعة ، من قبل الاجتهاد المنتسب (الاجتهاد في مذهب خاص) ، وذلك لأنّ اجتهادهم حسب ما رسمت لهم المناهج من بيان أحكام النسخ والعموم ، وطريق الاستنباط والتعارض بين الأخبار وحكم العقل وإن لم يكن نصّ ، وكلّ هذا يقتضي أن يطبق في اجتهاده ، لا أن يرسم ويخطِّط ، فهو يسير في اجتهاده على خط مرسوم لا يعدوه ولا يبتعد عنه يمنة ولا يسرة ، وبهذا النظر يكون في درجة المجتهد المنتسب. (1)

يلاحظ عليه بأمرين :

أوّلاً : أنّ قسماً من الخطط التي يسر عليها مجتهد الشيعة ومستنبطهم ، أمر حصّله من الكتاب والسنّة النبوية القطعية والسيرة المستمرة إلى عهد الرسول والعقل الحاسم إلى غير ذلك من الأُمور التي تكون السنة والشيعة أمامها سواء.

وثانياً : أنّ الخطط الكلّية التي أخذوها عن أئمّة أهل البيت انّما وصلت إليهم عن النبي ، فهم حفظة سنّة النبي وعيبة علمه ، وأعدال الكتاب وقرناؤه ، معصومون من الضلال والخطأ كنفس القرآن من دون أن يكونوا أنبياء ، وهم يصدرون من عين صافية ، لا كدر فيها ، ومن أخذ عنهم فقد صدر أيضاً عن عين صافية. غير أنّ أبا زهرة زعم انّ أئمّة أهل البيت ، مجتهدون كالأئمّة الأربعة أو غيرهم ، لهم آراء وتفكّرات ، شأن كلّ عالم مفكّر ، ورتّب على ذلك بأنّ اجتهاد فقهاء

ص : 611


1- الإمام الصادق - عليه السلام - : 540.

الشيعة اجتهاد في مذهب وليس اجتهاداً مطلقاً ......... لكنّه زعم خاطئ ، يضاد كلماتهم وإرشاداتهم ، كما مرّ في صدر البحث فما رسموا من الخطوط ، والضوابط ، فإنّما هو مقتبس من أحاديث الرسول ، وكلماته رواها كابر عن كابر.

(الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات)

نحمده سبحانه ونشكره ونستعين به ونصلّي على

خاتم أنبيائه وخلفائه الطاهرين

فرغ المؤلّف من تبييض هذه الأوراق

عشية يوم العشرين من شهر رمضان المبارك

من شهور عام 1423 ه

ص : 612

فهرس محتويات الكتاب

المسائل الخلافيّة ودورها في الاستنباط ...... 5

الكتب المؤلّفة في الخلافيّات من السنة...... 7

الكتب المؤلّفة في الخلافيّات من الشيعة..... 9

ما هو السبب لاختلاف فقهاء السنة فيما بينهم...... 11

ما هو سبب الاختلاف بين الفقهين: الشيعي والسني... 11

الفتوى التاريخية للإمام الشيخ الشلتوت... 16

(13)

الخمس في الكتاب والسنّة

الغنيمة مطلق ما يفوز به الإنسان.... 19

ورود الآية في مورد الغنائم الحربيّة غير مخصص..... 23

وجوب الخمس في الركاز من باب الغنيمة...... 23

كلام أبي يوسف في المعدن والركاز...... 27

ص : 613

السنة النبوية والخمس في أرباح المكاسب ..... 30

إيضاح الاستدلال على تعلق الخمس بالأرباح ..... 33

(14)

مواضع الخمس

في القرآن الكريم

الخمس حسب تنصيص الآية يقسم على ستة أسهم... 39

مواضع الخمس في السنة.... 41

اسقاط حقّ ذي القربى بعد رحيل الرسولصلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم.... 43

اسقاط سهم ذي القربى كان اجتهاداً تجاه النصّ... 44

(15)

الاشهاد على الطلاق

دلالة الآية على لزوم الإشهاد في صحة الطلاق ... 52

تصريح علمين من أهل السنة على لزوم الإشهاد في صحّة الطلاق ... 53

رجوع الاشهاد في الآية إلى الطلاق دون الرجعة.... 55

رسالة الشيخ أحمد محمد شاكر إلى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في رجوع الاشهاد إلى الطلاق والرجعة معا 58

إجابة الشيخ كاشف الغطاء على رسالته...... 59

ص : 614

(16)

الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة

بصيغة أو ثلاث صيغ

مضاعفات تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة..... 63

نقل كلام الشيخ أحمد محمد شاكر في الموضوع..... 64

أقوال الفقهاء في الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد .... 66

دراسة الآيات الواردة في المقام ... 69

تفسير قوله:(فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)... 71

1. الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً بقوله: (الطلاق مرّتان).... 76

2. الاستدلال على البطلان بقوله(فإمساك بمعروف أو تسريح باحسان) 81

3. الاستدلال على البطلان بقوله(فطلّقوهنّ لعدتهنّ)..... 83

4. الاستدلال على البطلان بقوله : (لعل الله يحدث بذلك أمراً)...... 84

الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً عن طريق السنّة ...... 84

استدلال القائل بصحّة الطلاق ثلاثاً بالسنة والإجماع ونقده ..... 86

اجتهاد الخليفة تجاه النصّ ...... 91

تبريرات لحكم الخليفة ..... 94

1. نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النصّ .... 95

2. تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود اللّه.... 96

3. تنفيذ الطلاق ثلاثاً للحد من الكذب ..... 99

ص : 615

4. تغير الأحكام بالمصالح..... 101

5. تفسير تغيّر الأحكام حسب مقتضيات الزمان..... 103

جزاء الانحراف عن الطريق المهيع ... 108

(17)

الطلاق المعلّق

تقسيم الطلاق إلى منجَّز ومعلَّق ... 115

أدلّة القائل ببطلان الطلاق المعلق: ..... 117

1. الطلاق المشروط غير مسنون ... 117

2. مقتضى الاستصحاب بقاء الزوجية ...... 117

3. الطلاق المعلّق خارج عن القسمين(فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) 119

4. تلك المطلقة أشبه بالمعلقة ...... 119

5. إجماع أئمّة أهل البيت على البطلان ..... 120

أدلّة القائلين بالصحة ..... 121

1. إطلاق قوله: الطلاق مرّتان ونقده (الطلاق مرّتان) .... 121

2. إطلاق قوله: المسلمون عند شروطهم ونقده ...... 122

(18)

الحلف بالطلاق

ليس للطلاق إلاّ صيغة واحدة ..... 127

ص : 616

تسويد الصفحات الطوال حول أقسام الحلف بالطلاق ... 128

بطلان الحلف بالطلاق عند البعض من أهل السنة ... 129

بطلان الطلاق بالحلف به عند الإمامية وأدلته ... 132

دليل القائلين بالصحّة ونقده ...... 133

خاتمة المطاف: هل تتعلّق الكفّارة إذا حنث ..... 135

(19)

الطلاق في الحيض والنفاس

أو في طهر جامعها

تقسيم الطلاق إلى سنّي وبدعيّ ... 139

تفسير شرطية الطهر في الطلاق السني ...... 140

نقل كلمات الفقهاء ..... 140

ما هو المراد من القرء في قوله (والمطلّقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)... 141

عدم احتساب الحيضة على فرض الطلاق فيها من العدة عند الجميع ... 142

الاستدلال بالكتاب على شرطيّة الطهر ..... 143

الاستدلال بالسنة على شرطيّة الطهر ...... 145

الروايات الواردة حول طلاق عبد اللّه بن عمر على طوائف ثلاث ...... 146

1. ما دلّ على عدم الاعتداد بالطلاق في الحيض .... 146

ص : 617

2. ما يتضمن التصريح باحتسابها ...... 146

3. ما ليس فيه تصريح بأحد الأمرين.... 147

معالجة الصور المتعارضة ... 148

حكم الطلاق في طهر المواقعة ..... 151

دلالة الكتاب على عدم صحّة الطلاق في ذلك الطهر ... 152

(20)

الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث

اتّفاق الإمامية على انّ الوصية للوارث جائزة ..... 157

اتّفاق أهل السسنة إلاّ القليل على انّه لا وصية للوارث إلاّ إذا أجاز سائر الورثة 158

عرض المسألة على الكتاب والسنّة ودلالتها على نفوذ الوصية ..... 160

هل آية الوصية منسوخة ب آية المواريث ونقدها ..... 160

هل آية الوصية منسوخة بالسنة ونقدها ..... 166

دراسة سند رواية أبي أمامة الباهلي وجود مجاهيل فيه ..... 167

ملاحظات على تجويز نسخ الآية بالسنة .... 177

(21)

المسلم يرث الكافر دون العكس

توريث الكافر من المسلم باطل إجماعاً ...... 183

ص : 618

توريث المسلم من الكافر صحيح عند الإمامية وبيانه ضمن أُمور ... 184

استعراض كلمات الفقهاء ..... 185

الكتاب حجّة قطعية لا يعدل عنه إلاّ بدليل قطعي ...... 187

أدلّة القائلين بإرث المسلم من الكافر ... 189

أدلّة القائلين بعدم التوريث ونقدها ..... 200

(22)

الميراث بالقرابة

أو بالتعصيب

العَصَبة في اللغة والاصطلاح ...... 211

أقسام العصبة ... 212

أقسام نسبة الفروض مع مجموع التركة ...... 213

إيضاح التوريث بالتعصيب .... 214

ضابطة الميراث عند الفريقين ... 215

عدم الثمرة فيما إذا كان قريب مساو لا فرض له .... 216

ترتب الثمرة إذا لم يكن قريب مساو لا فرض له ..... 218

دراسة أدلة نفاة التعصيب من الكتاب ..... 220

دراسة أدلة نفاة التعصيب من السنة ... 230

الأحاديث المأثورة من أئمّة أهل البيت في نفي التعصيب ...... 232

دراسة أدلّة القائلين بالتعصيب من الكتاب ونقدها ... 235

ص : 619

دراسة أدلّة القائلين بالتعصيب من السنة ونقدها .... 238

مضاعفات القول بالتعصيب ...... 247

(23)

العول في الإرث

العول لغة واصطلاحاً .... 251

العول تاريخياً .... 252

الأقوال المطروحة في العول ..... 255

ذكر نماذج من صور العول .... 257

أدلة القائلين بصحّة العول .... 260

1. قياس الحق بالدين ونقده ... 260

2. قياس الإرث بالوصية ونقده .... 261

3. تقديم البعض على البعض ترجيح بلا مرجح ونقده ..... 262

4. قول علي عليه السَّلام في المسألة المنبرية وإيضاحه...... 263

أدلّة القائلين ببطلان العول ... 266

استلزام العول نسبة الجهل أو العبث إلى المشرّع ...... 266

استلزامه التناقض والاغراء بالجهل ...... 267

استلزامه تفضيل النساء على الرجال .... 268

تصريح أئمّة أهل البيت على بطلان العول ...... 269

ص : 620

أُسلوب علاج العول من منظار روائي .... 69

ما الفرق بين البنت وكلالة الأُم .... 272

نكات في المقام ...... 275

(24)

في التقية

اعمال سياسة القمع والاستبداد في حقّ الشيعة عبر القرون .... 281

التقية لغة واصطلاحاً ..... 286

التقية تاريخياً .... 289

التقية في عصر الكليم ... 289

التقية في عصر الرسول ... 290

التقية بعد رحيل الرسول ...... 291

تقية المحدثين في مسألة خلق القرآن في عصر المأمون ...... 292

محنة الشيعة في العصر الأموي ..... 296

محنة الشيعة في العصر العباسي .... 298

محنة الشيعة في العصرين: الأموي والعثماني ...... 302

كلام العلاّمة هبة الدين الشهرستاني حول التقية ..... 304

حصيلة البحث ..... 305

الغاية من تشريع التقية ... 307

التقية في الكتاب العزيز ...... 310

ص : 621

التقية في السنة النبوية .... 317

التقية في كلمات العلماء ...... 318

مجال التقية هو الأُمور الشخصية ...... 319

أقسام التقية .... 321

شبهات حول التقية ...... 325

الآثار البنّاءة للتقية ...... 333

موقف أئمّة أهل البيت من التقية ...... 337

في اجزاء العمل الموافق للتقية عن الإعادة والقضاء .... 340

حكم التقية لغاية المداراة ...... 348

خاتمة المطاف

في جذور الاختلاف بين الفقهين

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: أئمّة أهل البيت هم المرجع العلمي بعد النبي صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم 355

أئمّة الشيعة أوصياء الرسول وخلفاؤه ... 355

حجّية أقوال العترة الطاهرة .... 355

مصادر علومهم ..... 360

1. السماع عن رسول اللّه ..... 361

2. كتاب علي عليه السَّلام ... 361

3. الاستنباط من الكتاب والسنة ...... 363

ص : 622

4. الاشراقات الإلهية وكونهم محدَّثين .... 365

عصمة الأئمة الإثني عشر .... 370

عصمة الإمام في الكتاب العزيز ... 374

الفصل الثاني: الصحابة والمرجعية العلمية بعد رحيل الرسول ... 377

1. الافتاء بالرأي مكان الافتاء بالكتاب والسنة ...... 378

2. اعتراف الصحابة بقصور علمهم بالشريعة .... 383

3. قلّة معرفتهم بالأحكام ..... 386

4. اختلافهم فيما يكثر الابتلاء به ..... 390

5. المرجع العلمي وأصناف الصحابة .... 393

6. المرجع العلمي وعدم تدوين الحديث وتفرق الصحابة ... 397

الفصل الثالث: حجّية العقل في مجالات خاصة ...... 401

العقل أحد الأدلة الأربعة عندنا مصرّ ونقل كلام ابن إدريس ... 403

1. حكم العقل في مجال التحسين والتقبيح ...... 405

الآثار المرتبة على القول بالتحسين والتقبيح ... 408

2. حكم العقل في مجال الملازمات... 411

3. حكم العقل في مجال تنقيح المناط ... 414

4. حكم العقل في مجال لدرك المصالح والمفاسد ... 415

الفصل الرابع: التشريع تابع للمصالح والمفاسد ... 417

إنكار الأشاعرة تبعية أفعاله سبحانه بالأغراض... 418

ص : 623

إنكارهم تبعية الأحكام بالمصالح والمفاسد ... 418

مرجحات باب التزاحم ... 420

الفصل الخامس: ما هو المرجع فيما لا نصّ فيه في الفقه الشيعي ... 425

المرجع فيما لا نصّ فيه في الفقه الشيعي: الأُصول العملية ..... 426

الأُصول العلمية عبارة عن البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ..... 427

الفصل السادس: مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه عند أهل السنّة ..... 429

1. القياس

القياس لغة واصطلاحاً ... 432

أركان القياس وإمكان العمل به .... 435

أقسام القياس والفرق بين علة الحكم وحكمته ... 437

حكم القياس في منصوص العلة ... 438

قياس الأولوية وتنقيح المناط ... 441

المتشابهان غير المتماثلين... 442

تخريج المناط بالسبر والتقسيم ...... 443

تخريج المناط بالسبر والتقسيم يفيد الظن .... 447

الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها ..... 450

الاستدلال على حجّية القياس ب آيات سبع لا دلالة لها على حجّية القياس 453

الاستدلال بالسنة ... 464

ص : 624

دراسة حديث معاذ بن جبل سنداً ودلالة ... 466

الصور المختلفة لحديث معاذ بن جبل ...... 470

الاستدلال بحديث ابن عمر وحديث ابن عباس ونقدهما ...... 473

الاستدلال بحديث الاعرابي ... 476

الاستدلال بإجماع الصحابة ونقده ..... 478

الاستدلال بدليل العقل ...... 483

القياس في كلمات أئمّة أهل البيت عليهم السَّلام..... 488

القياس في كلمات الصحابة والتابعين.... 492

2. الاستحسان

تعريف الاستحسان بتعاريف مختلفة .... 494

ما هو المراد من الاستحسان: فيه آراء ...... 494

العمل بالرأي والظن ..... 495

العدول من قياس إلى قياس أقوى ...... 495

العدول من مقتضى قياس جلي إلى قياس خفي ...... 496

العدول من مقتضى القياس بدليل ...... 498

الاستحسان والعمل بأقوى الدليلين .... 500

الاستحسان والأخذ بالعرف ...... 501

الاستحسان والمصلحة ... 501

العدول عن مقتضى الدليل إلى ما يستحسنه المجتهد ...... 502

ص : 625

الاستدلال على حجّية الاستحسان بوجوه ضعيفة .... 505

3. الاستصلاح أو المصالح المرسلة

تفسير مفردات العنوان ... 510

الاستصلاح وتقديم المصلحة على النص .... 512

الاستصلاح وتقييد النصّ بالمصلحة .... 513

الاستصلاح وانشاء الحكم فيما لا نصّ فيه على وفق المصلحة ..... 515

ما هو السبب لعدّ الاستصلاح من مصادر التشريع ...... 517

الاستصلاح ليس دليلاً مستقلاً ... 519

4. سدّ الذرائع

سدّ الذرائع لغة واصطلاحاً .... 524

أدلّة القاعدة من الكتاب ..... 527

أدلّة القاعدة من السنة ... 529

أدلة القاعدة من الإجماع والعقل ... 530

مكانة القاعدة في علم الأُصول .... 531

دراسة بعض الفروع المبنيّة عليها ... 532

5. فتح الذرائع

الاستدلال على جواز فتح الذرائع بالكتاب ونقده .... 537

الاستدلال على فتح الذرائع بالسنة ونقده ...... 539

القول الحاسم في فتح الذرائع ...... 540

ص : 626

6. قول الصحابي

قول الصحابي حجّة إذا أسنده إلى الرسول... 547

رأي الصحابي أو القول المردد بين النقل والرأي ليسا بحجّة .... 547

الحجّة هو الأعم من القول والرأي عند ابن القيم ..... 551

وجود المخالفة بين الصحابة ... 553

أحاديث الاقتداء بالصحابة وتفسيرها ...... 555

رؤيا الصحابة والتشريع ... 559

عود إلى بدء .... 562

استدلال الشاطئ بوجوه أربعة على حجّية رأي الصحابي ونقدها ... 563

7. إجماع أهل المدينة

اختلاف مالك والليث في حجّية إجماع أهل المدينة... 576

رسالة الليث إلى مالك في الموضوع ..... 578

8. إجماع العترة الطاهرة

أئمّة أهل البيت معصومون بتنصيص القرآن الكريم ...... 583

الفصل السابع:هل الإجماع أصل برأسه أو حاك عن الدليل ... 588

مكانة الإجماع المحصّل عند الشيعة ..... 589

الإجماع عند أهل السنة أصل برأسه .... 591

الاستدلال برواية لا تجتمع أُمتي على خطأ ونقده .... 592

ص : 627

الفصل الثامن: في مسألة التخطئة والتصويب ... 594

التصويب وأقسامه ... 595

ما هو السبب للقول بالتصويب عند أهل السنة ..... 598

الفصل التاسع: انفتاح باب الاجتهاد عند الشيعة وانسداده عند أهل السنة . 600

الاجتهاد لغة واصطلاحاً ...... 600

الاجتهاد المطلق والاجتهاد في مذهب خاص .... 601

لزوم فتح باب الاجتهاد ...... 602

مبدأ غلق باب الاجتهاد ...... 605

ما هي العوامل التي سبّبت الاغلاق..... 607

اجتهاد الشيعة اجتهاد مطلق ...... 611

الحمدالله ربّ العالمين

ص : 628

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.