الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف المجلد 1

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: السبحاني التبريزي جعفر، - 1308

عنوان المؤلف واسمه: الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف

تاليف جعفر السبحاني

تفاصيل النشر: قم موسسة الامام الصادق ع ، 1423ق = 1381.

شابك : 964-357-047-9 (ج 1)

لسان : العربية

ملحوظة : ج 3 (1424ق = )1382

ملحوظة : فهرس

موضوع : فقه تطبيقي

معرف المضافة: موسسة الامام الصادق ع

تصنيف الكونجرس: BP169/7 /س2‮الف 8 1381

تصنيف ديوي: 297/324

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 81-19943

محرر الرقمي: میثم الحیدري

ص : 1

اشاره

ص : 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص : 3

ص : 4

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل خلقه وخاتم رسله محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين الذين هم عيبة علمه وحفظة سننه.

أمّا بعد ، فانّ الإسلام عقيدة وشريعة ، فالعقيدة هي الإيمان باللّه ورسله واليوم الآخر ، والشريعة هي الأحكام الإلهية التي تكفل للبشرية الحياة الفضلى وتحقّق لها السعادة الدنيوية والأُخروية.

وقد امتازت الشريعة الإسلامية بالشمول ، ووضع الحلول لكافّة المشاكل التي تعتري الإنسان في جميع جوانب الحياة قال سبحانه : ( الْيَوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلام دِيناً ). (1)

غير أنّ هناك مسائل فرعية اختلف فيها الفقهاء لاختلافهم فيما أثر عن مبلّغ الرسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، الأمر الذي أدّى إلى اختلاف كلمتهم فيها ، وبما أنّ الحقيقة بنت البحث فقد حاولنا في هذه الدراسات المتسلسلة أن نطرحها على طاولة البحث ، عسى أن تكون وسيلة لتوحيد الكلمة وتقريب الخطى في هذا الحقل ، فالخلاف فيها ليس خلافاً في جوهر الدين وأُصوله حتّى يستوجب العداء

ص : 5


1- المائدة : 3.

والبغضاء ، وإنّما هو خلاف فيما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم (1) ، وهو أمر يسير في مقابل المسائل الكثيرة المتّفق عليها بين المذاهب الإسلامية.

ورائدنا في هذا السبيل قوله سبحانه : ( وَاعْتَصمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْكُنْتُمْ أَعداءً فَألّفَ بين قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتهِ إِخْواناً ... ). (2)

والكتاب يقع في جزءين ، أهديه ، لكلّ فقيه حرّ التفكير ، يُرجِّح استنطاق الكتاب والسنّة على تقليد أئمّة المذاهب ، وتكون ضالّته الحقّ أينما وجده.

جعفر السبحاني

قم _ مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص : 6


1- إشارة إلى حوار دار بين الإمام علي عليه السلام وبعض اليهود بعد رحيل النبي وظهور الاختلاف في أمر الخلافة. فقال له بعض اليهود : ما دفنتم نبيّكم حتّى اختلفتم فيه فقال الإمام عليه السلام : «إنّما اختلفنا عنه لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتّى قُلتم لنبيّكم : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فقال إنّكم قوم تجهلون» (نهج البلاغة ، قسم الحكم ، تحت رقم 317).
2- آل عمران : 103.

1. الوضوء علی ضوء الكتاب والسنة

اشارة

ص : 7

ص : 8

1. آية الوضوء آية محكمة

اتّفق المسلمون تبعا للذكر الحكيم على أنّ الصلاة لا تصحّ إلاّ بطهور ، والطهور هو الوضوء والغسل والتيمّم وقد بيّن سبحانه سرّ التكليف بتحصيل الطهور قبل الصلاة بقوله ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ). (1)

وقد حظا الوضوء في التشريع الإسلامي بأهمية بالغة كما نطق بها الكتاب والسنّة فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « لا صلاة إلاّ بطهور ». (2) وفي كلام آخر له : « الوضوء شطر الإيمان ». (3)

فإذا كانت هذه مكانة الوضوء فمن واجب المسلم التعرّف على أجزائه وشرائطه ونواقضه ومبطلاته ، وقد تكفّلت الكتب الفقهية بيان هذه المهمة.

والذي نركز عليه في المقام هو تبيين ما اختلفت فيه كلمة الفقهاء ، أعني : حكم الأرجل من حيث المسح والغسل ، فنقول :

قال سبحانه في كتابه العزيز مبيّنا وجوب الوضوء وكيفيته بقوله :

ص : 9


1- المائدة : 6.
2- . الوسائل : 1 ، الباب 1 من أبواب الوضوء.
3- . الوسائل : 1 ، الباب 1 من أبواب الوضوء.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (1)

الآية تشكّل إحدى آيات الأحكام التي تستنبط منها الأحكام الشرعية العملية الراجعة إلى تنظيم أفعال المكلّفين فيما يرتبط بشئون حياتهم الدينية والدنيوية.

وهذا القسم من الآيات يتمتع بوضوح التعبير ، ونصوع الدلالة ، فإنّ المخاطب فيها هو الجماهير المؤمنة التي ترغب في تطبيق سلوكها العملي عليها ، وبذلك تفترق عن الآيات المتعلّقة بدقائق التوحيد ورقائق المعارف العقلية التي تشدّ إليها أنظار المفكّرين المتضلّعين ، خاصة فيما يرتبط بمسائل المبدأ والمعاد.

والإنسان إذا تأمّل في هذه الآيات ونظائرها من الآيات التي تتكفّل بيان وظيفة المسلم ، كالقيام إلى الصلاة في أوقات خمسة ، يجدها محكمة التعبير ، ناصعة البيان ، واضحة الدلالة ، تخاطب المؤمنين كافّة لترسم لهم وظيفتهم عند القيام إلى الصلاة.

والخطاب _ كما عرفت _ يجب أن يكون بعيدا عن الغموض والتعقيد ، وعن التقديم والتأخير ، وعن تقدير جملة أو كلمة حتّى يقف على مضمونها عامة المسلمين على اختلاف مستوياتهم من غير فرق بين عالم بدقائق القواعد العربية

ص : 10


1- المائدة : 6.

وغير عالم بها.

فمن حاول تفسير الآية على غير هذا النمط فقد غفل عن مكانة الآية ومنزلتها ، كما أنّ من حاول تفسيرها على ضوء الفتاوى الفقهية لأئمّة الفقه فقد دخل من غير بابها.

نزل الروح الأمين بهذه الآية على قلب سيّد المرسلين ، فتلاها على المؤمنين وفهموا واجبهم تجاهها بوضوح ، دون تردد ، ودون أن يشوبها أيّ إبهام أو غموض ، وإنّما دبّ الغموض فيها في عصر تضارب الآراء وظهور الاجتهادات.

فمن قرأ الآية المباركة بإمعان يقول في قلبه ولسانه :

سبحانك اللهم ما أبلغ كلامك وأفصح بيانك ، وقد أوضحت الفريضة وبيّنت الوظيفة فيما يجب على المسلم فعله قبل الصلاة ، فقلت :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ).

ثمّ قلت مبيّنا لكيفية الوظيفة وانّها أمران :

أ. ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ).

ب. ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).

سبحانك ما أبقيت إجمالا في كلامك ، ولا إبهاما في بيانك ، فأوصدت باب الخلاف ، وسددت باب الاعتساف بتوضيح الفريضة وبيانها.

سبحانك اللهم إن كان كتابك العزيز هو المهيمن على الكتب السماوية كما قلت ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) (1) فهو مهيمن _ بالقطع واليقين _ على المأثورات المرويّة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي

ص : 11


1- المائدة : 48.

بين آمرة بغسل الأرجل وآمرة بمسحها.

فما ذا نفعل مع هذه المأثورات المتناقضة المروية عمّن لا ينطق إلاّ عن الوحي ، ولا يناقض نفسه في كلامه؟

سبحانك لا محيص لنا إلاّ الأخذ بما نادى به كتابك العزيز وقرآنك المجيد وقد بيّنه في جملتين تعربان عن واقع الفريضة وأنّها تتألّف من غسلتين ، ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ).

كما تتألّف من مسحتين ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).

( أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً ) (1).

ص : 12


1- الأنعام : 114.

2. بداية الاختلاف

كان المسلمون قبل عهد الخليفة الثالث على وفاق في أمر الوضوء ، فلم يكن آنذاك أيّ خلاف بارز في مسح الرجلين أو غسلهما ، وإنّما بدأ الخلاف في عهد الخليفة الثالث كما يظهر من كثير من الروايات البيانيّة المروية عن عثمان ، وقد ذكر مسلم طائفة منها في صحيحه.

1. أخرج مسلم عن حمران مولى عثمان قال : أتيت عثمان بن عفان بوضوء فتوضأ ، ثمّ قال : إنّ ناسا يتحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث لا أدري ما هي؟ ألا إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ مثل وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ هكذا ، غفر له ما تقدّم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة. (1)

2. أخرج مسلم عن أبي أنس انّ عثمان توضّأ بالمقاسمة فقال : ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم توضّأ ثلاثا ثلاثا. وزاد قتيبة في روايته ، قال سفيان : قال أبو النضر عن أبي أنس قال : وعنده رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (2)

ص : 13


1- صحيح مسلم بشرح النووي : 3 / 115 ، برقم 229.
2- صحيح مسلم بشرح النووي : 3 / 115 ، برقم 230.

وهناك روايات بيانية أخرى على لسان عثمان لم يذكرها مسلم وإنّما ذكرها غيره يشير الجميع إلى أنّ ظهور الاختلاف في كيفية وضوء النبي كان في عصره ، وأمّا ما هو سبب الاختلاف فسيوافيك بيانه.

ص : 14

3. القرآن هو المهيمن

والمرجع الوحيد عند اختلاف الآثار

القرآن الكريم هو المهيمن على الكتب السماوية ، وهو ميزان الحقّ والباطل فما ورد فيها يؤخذ به إذا لم يخالف الكتاب العزيز وإلاّ فيضرب عرض الجدار.

فإذا كان هذا موقف القرآن الكريم بالنسبة إلى الكتب السماوية ، فأولى به أن يكون كذلك بالنسبة إلى السنن المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالكتاب مهيمن عليها ، فيؤخذ بالسنّة _ إذا صحت الاسناد _ ما دامت غير مخالفة للكتاب.

ولا يعني ذلك الاكتفاء ، بالكتاب وحذف السنّة من الشريعة ، فإنّه من عقائد الزنادقة ، بل السنّة حجّة ثانية للمسلمين _ بعد الكتاب العزيز _ بشرط ان لا تضاد السنّة الحاكية السند القطعي عند المسلمين.

فإذا كان القرآن ناطقا بشيء من المسح أو الغسل فما قيمة الخبر الآمر بخلافه ، فلو أمكن الجمع بين القرآن والخبر ، بحمل الثاني على فترة من الزمن ثمّ نسخه القرآن فهو ، وإلاّ فيضرب عرض الجدار.

قال الرازي : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا روي لكم حديث فأعرضوه على كتاب الله ، فإن وافقه فاقبلوه ، وإلاّ فردّوه ». (1)

ص : 15


1- مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير : 3 / 252 ، ط سنة 1308 بمصر.

4. سورة المائدة آخر سورة نزلت

إنّ سورة المائدة هي آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس فيها آية منسوخة.

أخرج أحمد ، وأبو عبيد في فضائله ، والنحاس في ناسخه ، والنسائي وابن المنذر ، والحاكم وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن جبير بن نفير.

قال : حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة ، قلت :

نعم ، فقالت : أما إنّها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه.

وأخرج أبو عبيد ، عن ضمرة بن حبيب ، وعطية بن قيس قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « المائدة من آخر القرآن تنزيلا ، فأحلّوا حلالها ، وحرّموا حرامها ».

وأخرج الفريابي وأبو عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن أبي ميسرة ، قال : في المائدة ثماني عشرة فريضة ليس في سورة من القرآن غيرها وليس فيها منسوخ ، وعدّ منها ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ).

وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل قال : لم ينسخ من المائدة شيء.

وأخرج عبد بن حميد قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة؟ قال : لا. (1)

ص : 16


1- الدر المنثور : 3 / 3 _ 4.

كلّ ذلك يدلّ على أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي ، فلا محيص من العمل على وفقها وليس فيها أي نسخ.

وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت على أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت وليس فيها آية منسوخة.

أخرج محمد بن مسعود العياشي السمرقندي بإسناده عن علي عليه السلام : « كان القرآن ينسخ بعضه بعضا ، وإنّما يؤخذ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بآخره ، وكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء ». (1)

أخرج الشيخ الطوسي بإسناده عن الصادق والباقر عليهما السلام ، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام ، إذ قال في حديث طويل : « وسبق الكتاب الخفّين ، إنّما نزلت السورة قبل أن يقبض بشهرين ». (2)

وعلى ضوء ذلك لو دلّ الكتاب على شيء من المسح والغسل ، فالآثار المخالفة له ، إمّا تؤوّل بكونها منسوخة بالقرآن أو تطرح.

ص : 17


1- . نور الثقلين : 1 / 483.
2- . نور الثقلين : 1 / 483.

5. مصدر الاختلاف

اشارة

فإذا كانت بداية الاختلاف في عهد الخليفة الثالث ، فهناك سؤال يطرح نفسه : ما هو سبب الاختلاف في أمر الوضوء بعد ما مضت قرابة عشرين سنة من رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فنقول : هناك وجوه واحتمالات :

1. اختلاف القراءة

ربما يتصوّر انّ مصدر الخلاف في ذلك العصر هو اختلاف القراءة حيث إنّ القرّاء اختلفوا في إعراب ( وَأَرْجُلَكُمْ ) في قوله سبحانه ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) ، فمنهم من قرأ بالجرّ عطفا على الرءوس الذي يستلزم وجوب المسح على الأرجل ، ومنهم من قرأ بالفتح عطفا على ( وُجُوهَكُمْ ) في قوله ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) الذي يستلزم الغسل.

إنّ هذا الوجه باطل جدا ، فإنّ العربي الصميم إذا قرأ الآية مجرّدا عن أي رأي مسبق لا يرضى بغير عطف الأرجل على الرءوس ، سواء أقرأ بالنصب أم بالجر ، وأمّا عطفه على وجوهكم فلا يخطر بباله حتّى يكون مصدرا للخلاف.

فعلى من يبتغي تفسير الآية وفهم مدلولها ، أن يجعل نفسه كأنّه الحاضر في

ص : 18

عصر نزول الآية ويسمع كلام الله من فم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أصحابه ، فما يفهمه عند ذاك حجة بينه وبين ربه ، وليس له عند ذاك ، الركون إلى الاحتمالات والوجوه المختلفة التي ظهرت بعد ذلك الوقت.

فلو عرضنا الآية على عربي بعيد عن الأجواء الفقهية ، وعن اختلاف المسلمين في كيفية الوضوء وطلبنا منه تبيين ما فهمه لقال بوضوح :

إنّ الوضوء غسلتان ومسحتان دون أن يفكّر في أنّ الأرجل هل هي معطوفة على الرءوس أو معطوفة على وجوهكم؟ فهو يدرك بأنّها تتضمّن جملتين صرّح فيهما بحكمين :

بدئ في الجملة الأولى ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) بغسل الوجوه ثمّ عطفت الأيدي عليها ، فوجب لها من الحكم مثل حكم الوجوه لأجل العطف.

ثمّ بدئ في الجملة الثانية ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) بمسح الرءوس ثمّ عطفت الأرجل عليها ، فوجب أن يكون لها من الحكم مثل حكم الرءوس لأجل العطف ، والواو تدلّ على مشاركة ما بعدها لما قبلها في الحكم.

والتفكيك بين حكم الرءوس وحكم الأرجل لا يحتمله عربي صميم ، بل يراه مخالفا لظهور الآية.

2. التمسّك بروايات الغسل المنسوخة

يظهر من غير واحد من الروايات أنّ غسل الرجلين كان سنّة أمر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فترة من عمره ، ولمّا نزلت سورة المائدة وفيها آية الوضوء والأمر بمسح

ص : 19

الأرجل مكان الغسل ، أخذ _ بعد فترة من الزمن _ من لا يعرف الناسخ والمنسوخ بالسنّة المنسوخة ، وآثار الخلاف غافلا عن أنّ الواجب عليه الأخذ بالقرآن الناسخ للسنّة وفيه سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أخرج ابن جرير عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنّة بالغسل. (1)

ويريد من السنّة عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل نزول القرآن ، ومن المعلوم أنّ القرآن حاكم وناسخ.

وقال ابن عباس : أبى الناس إلاّ الغسل ، ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح. (2)

وبهذا يمكن الجمع بين ما حكي من عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغسل وبين ظهور الآية في المسح ، وانّ الغسل كان قبل نزول الآية.

ونرى نظير ذلك في المسح على الخفّين ، فقد روى حاتم بن إسماعيل ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي أنّه قال : « سبق الكتاب الخفّين ». (3)

وروى عكرمة عن ابن عباس قال : سبق الكتاب الخفّين. ومعنى ذلك انّه لو صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فترة من عمره ، المسح على الخفّين ، فقد جاء الكتاب على خلافه ناسخا له حيث قال ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) أي امسحوا على البشرة لا على النعل ولا على الخفّ ولا الجورب. (4)

3. إشاعة الغسل من قبل السلطة

كان الحكام مصرّين على غسل الأرجل مكان المسح ويلزمون الناس على

ص : 20


1- . الدر المنثور : 3 / 1 ، 4.
2- . الدر المنثور : 3 / 1 ، 4.
3- . مصنف ابن أبي شيبة : 1 / 213 ، باب من كان لا يرى المسح ، الباب 217.
4- . مصنف ابن أبي شيبة : 1 / 213 ، باب من كان لا يرى المسح ، الباب 217.

ذلك بدل المسح لخبث باطن القدمين ، وبما انّ قسما كثيرا منهم كانوا حفاة ، فراق في أنفسهم تبديل المسح بالغسل ، ويدلّ على ذلك بعض ما ورد في النصوص.

1. روى ابن جرير عن حميد ، قال : قال موسى ابن أنس ونحن عنده : يا أبا حمزة انّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه وذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وانّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.

فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. (1)

2. وممّا يعرب عن أنّ الدعاية الرسمية كانت تؤيد الغسل ، وتؤاخذ من يقول بالمسح ، حتّى أنّ القائلين به كانوا على حذر من إظهار عقيدتهم فلا يصرّحون بها إلاّ خفية ، ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي مالك الأشعري انّه قال لقومه : اجتمعوا أصلّي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا اجتمعوا ، قال : هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا : لا ، إلاّ ابن أخت لنا ، قال : ابن أخت القوم منهم ، فدعا بجفنة فيها ماء ، فتوضّأ ومضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وظهر قدميه ، ثمّ صلّى. (2)

هذه وجوه ثلاثة يمكن أن يبرّر بها الغسل مكان المسح مع دلالة الكتاب العزيز على المسح ، والأقرب هو الثاني ثمّ الثالث.

ص : 21


1- تفسير القرآن لابن كثير : 2 / 25 ؛ تفسير القرآن للطبري : 6 / 82.
2- مسند أحمد : 5 / 342 ؛ المعجم الكبير : 3 / 280 برقم 12 34.

6. ما هو العامل في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ )؟

أنّ آية الوضوء هي الدليل المبرم على وجوب الوضوء وكيفيته ، وهي آية واضحة نزلت لتبيين ما هو تكليف المصلّي قبل الصلاة ، وطبيعة الحال تقتضي أن تكون آية واضحة المعالم ، محكمة الدلالة ، دون أن يكتنفها إجمال أو إبهام ، قال سبحانه :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ).

( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ).

( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ).

وتعيين أحد القولين من مسح الرجلين أو غسلهما رهن تشخيص العامل في لفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ).

توضيحه : إنّ في الآية المباركة عاملين وفعلين كل يصلح في بدء النظر لأن يكون عاملا في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) إنّما الكلام في تعيين ما هو العامل حسب ما يستسيغه الذوق العربي؟

والعاملان هما :

فاغسلوا :

ص : 22

وامسحوا :

فلو قلنا : إنّ العامل هو الأوّل يجب غسلهما ، ولو قلنا بأنّ العامل هو الثاني يجب مسحهما ، فملاك إيجاب واحد منهما رهن تعيين العامل في « أرجلكم ».

لا شكّ انّ الإمعان في الآية ، مع قطع النظر عن كل رأي مسبق وفعل رائج بين المسلمين ، يثبت انّ الثاني ، أي ( فامسحوا ) هو العامل دون الأوّل البعيد.

وإن شئت قلت : إنّه معطوف على القريب ، أي الرءوس لا على البعيد ، أعني : الوجوه ، ونوضح ذلك بالمثال التالي :

لو سمعنا قائلاً يقول : أحب زيدا وعمرا ومررت بخالد وبكر من دون أن يعرب « بكر » بالنصب أو الجرّ ، نحكم بأنّ « بكر » معطوف على « خالد » والعامل فيه هو الفعل الثاني وليس معطوفا على « عمرو » حتّى يكون العامل فيه هو الفعل الأوّل.

وقد ذكر علماء العربية أنّ العطف من حقّه أن يكون على الأقرب دون الأبعد ، وهذا هو الأصل والعدول عنه يحتاج إلى قرينة موجودة في الكلام ، وإلاّ ربما يوجب اللّبس واشتباه المراد بغيره.

فلنفرض أنّ رئيسا قال لخادمه : أكرم زيدا وعمرا واضرب بكرا وخالدا ، فهو يميز بين الجملتين ، ويرى أنّ « عمرا » عطف على « زيدا » ، وأمّا « خالدا » فهو عطف على « بكرا » ، ولا يدور بخلده خلاف ذلك.

قال الرازي : يجوز أن يكون عامل النصب في قوله ( أَرْجُلَكُمْ ) هو قوله : ( وَامْسَحُوا ) ويجوز أن يكون هو قوله ( فَاغْسِلُوا ) لكن العاملين إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى ، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله : ( أَرْجُلَكُمْ ) هو قوله ( وَامْسَحُوا ).

ص : 23

فثبت انّ قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بنصب اللام توجب المسح. (1)

فإذا كانت الحال كذلك ولا يجوز الخروج عن القواعد في الأمثلة العرفية ، فأولى أن يكون كلام ربّ العزة كذلك.

وليس المثال منحصرا بما ذكرنا ، بل بإمكانك الأدلاء بأمثلة مختلفة شريطة أن تكون مشابهة لما في الآية.

فلو إنّك عرضت الآية على أيّ عربيّ صميم يجرّد نفسه عن المذهب الذي يعتنقه ، وسألته عن دلالة الآية يجيبك :

إنّ هناك أعضاء يجب غسلها ، وهي الوجوه والأيدي.

وأعضاء يجب مسحها وهي الرءوس والأرجل.

ولو ألفت نظره إلى القواعد العربية تجده انّه لا يتردد انّ العامل في الرءوس والأرجل شيء واحد وهو قوله ( وَامْسَحُوا ) ولا يدور بخلده التفكيك بين الرءوس والأرجل بأن يكون العامل في الرءوس قوله ( فَامْسَحُوا ) والعامل في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) هو قوله ( فَاغْسِلُوا ).

فإذا اتّضحت دلالة الآية على واحد من المسح والغسل فلا نحتاج إلى شيء آخر ، فالموافق منه يؤكّد مضمون الآية ، والمخالف يعالج بنحو من الطرق أفضلها انّها منسوخة بالكتاب.

ص : 24


1- التفسير الكبير : 11 / 161.

7. القراءتان والمسح على الأرجل

إنّ اختلاف القرّاء في لفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالفتح والجر لا يؤثر في دلالة الآية على وجوب المسح ، فالقراءتان تنطبقان على ذلك القول بلا أي إشكال.

توضيح ذلك :

إنّه قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب ، وهذه هي القراءة المعروفة التي عليها المصاحف الرائجة في كلّ عصر وجيل.

وقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجرّ.

ونحن نقول : إنّ القراءتين تنطبقان على القول بالمسح بلا تريّث وتردد.

أمّا الثاني أي قراءة الجر ، فهو أقوى شاهد على أنّه معطوف على قوله : ( بِرُؤُسِكُمْ ) إذ ليس لقراءة الجرّ وجه سوى كونه معطوفا على ما قبله. وعندئذ تكون الأرجل محكومة بالمسح بلا شك.

وأمّا قراءة النصب فالوجه فيه أنّه عطف على محل ( بِرُؤُسِكُمْ ) لأنّه منصوب محلاّ مفعول لقوله ( وَامْسَحُوا ) وعندئذ تكون الأرجل أيضا محكومة بالمسح فقط ، والعطف على المحل أمر شائع في اللغة العربية ، وقد ورد أيضا في

ص : 25

القرآن الكريم.

أمّا القرآن فقال سبحانه ( أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (1) فقراءة :

( وَرَسُولِهِ ) بالضم هي القراءة المعروفة الرائجة ولا وجه لرفعه إلاّ كونه معطوفا على محل اسم إنّ ، أعني : لفظ الجلالة في ( أَنَّ اللهَ ) لكونه مبتدأ.

وقد ملئت مسألة العطف على المحل كتب الأعاريب ، فقد عقد ابن هشام بابا خاصا للعطف على المحل وذكر شروطه. (2)

وأمّا في الأدب العربي فحدّث عنه ولا حرج ، قال القائل :

معاوي إنّنا بشر فاسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا

فقول : « ولا الحديدا » بالنصب عطف على محل « بالجبال » لأنّها خبر ليس في قوله « فلسنا ».

فخرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ اختلاف القراءتين لا يؤثّر في تعيّن القول بالمسح ، وسوف يوافيك دراسة القراءتين على القول بالغسل.

ثمّ إنّ لفيفا من أعلام السّنة صرحوا بدلالة الآية على المسح قائلين بأنّ قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) معطوف على الأقرب لا الأبعد ، وانّ العامل فيه هو ( وَامْسَحُوا ) ، ونذكر بعض تلك الكلمات :

1. قال ابن حزم : وأمّا قولنا في الرجلين ، فان القرآن نزل بالمسح ، قال تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) ، وسواء قرئ بخفض اللام أو فتحها ، فهي على كلّ حال عطف على الرءوس امّا على اللفظ وإمّا على الموضع ، ولا يجوز

ص : 26


1- التوبة : 3.
2- مغني اللبيب : الباب 4 ، مبحث العطف. قال : الثاني : العطف على المحل ثمّ ذكر شروطه.

غير ذلك. (1)

وقال الرازي : أمّا القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرءوس ، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل.

وأمّا القراءة بالنصب ، فقالوا _ أيضا _ انّها توجب المسح ، وذلك لأنّ قوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) في محل النصب ، ولكنّها مجرورة بالباء ، فإذا عطف الأرجل على الرءوس جاز في الأرجل النصب عطفا على محل الرءوس ، والجر عطفا على الظاهر ، وهذا مذهب مشهور النحاة. (2)

2. وقال الشيخ السندي الحنفي _ بعد ان جزم انّ ظاهر القرآن هو المسح _ ما هذا لفظه : وإنّما كان المسح هو ظاهر القرآن ، لأنّ قراءة الجر ظاهرة فيه ، وقراءة النصب محمول على جعل العطف على المحل. (3)

ولعلّ هذا المقدار من النقول يكفي في تبيين انّ كلتا القراءتين تدعمان المسح فقط وتنطبقان عليه بلا إشكال.

ص : 27


1- المحلى : 2 / 56.
2- التفسير الكبير : 11 / 161.
3- شرح سنن ابن ماجة : 1 / 88 ، قسم التعليقة.

8. القراءتان وغسل الأرجل

اشارة

قد عرفت أنّ اختلاف القراءة في قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) لا يؤثر في القول بمسح الرجلين ، سواء أقرأنا قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب أم قرأناه بالجر ، فكلتا القراءتين تدعمان المسح وبالتالي العامل في قوله ( أَرْجُلَكُمْ ) هو قوله : ( وَامْسَحُوا ) ولفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) معطوفة على ( بِرُؤُسِكُمْ ) إمّا لفظا أو محلا.

إنّما الكلام في إمكانية تطبيق القول بالغسل على القراءتين المعروفتين ومقدار انسجامه معهما والقواعد العربية. وسيتضح من خلاله انّ فرض الغسل على الآية خرق واضح للقواعد العربية ، وإليك البيان :

الغسل وقراءة النصب

فلو قلنا بدلالة الآية على غسل الأرجل ، فلا محيص من أن يكون العامل هو قوله في الجملة المتقدّمة ( فَاغْسِلُوا ) وأن يكون معطوفا على قوله ( وُجُوهَكُمْ ) وهذا يستلزم الفصل بين المعطوف ( وَأَرْجُلَكُمْ ) والمعطوف عليه ( وُجُوهَكُمْ ) بجملة أجنبية وهي ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) مع أنّه لا يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بمفرد فضلا عن جملة أجنبية ، ولم يسمع في كلام العرب الفصيح قائل يقول : « ضربت زيدا » و « مررت ببكر وعمرا » بعطف « عمرا » على « زيدا ».

ص : 28

1. قال ابن حزم : لا يجوز عطف أرجلكم على وجوهكم ، لأنّه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدئة. (1)

2. وقال أبو حيان : ومن ذهب إلى أنّ قراءة النصب في ( وَأَرْجُلَكُمْ ) عطف على قوله ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) وفصل بينهما بهذه الجملة التي هي قوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فهو بعيد ، لأنّ فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة إنشائية. (2)

3. وقال الشيخ الحلبي في تفسير الآية : نصب ( وَأَرْجُلَكُمْ ) على المحل وجرها على اللفظ ، ولا يجوز أن يكون النصب للعطف على وجوهكم ، لامتناع العطف على وجوهكم للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية هي ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن الجملة ، ولم يسمع في الفصيح نحو ضربت زيدا ومررت ببكر وعمرا بعطف عمرا على زيد. (3)

4. وقال الشيخ السندي : وحمل قراءة النصب بالعطف على المحل أقرب لاطّراد العطف على المحل ، وأيضا فيه خلوص عن الفصل بالأجنبي بين المعطوف والمعطوف عليه ، فصار ظاهر القرآن هو المسح. (4)

إلى غير ذلك من الكلمات التي تصرح بأنّ قراءة النصب واستفادة الغسل يتوقّف على خرق قاعدة نحوية ، وهي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية.

ص : 29


1- المحلى : 2 / 56.
2- تفسير النهر الماد : 1 / 558.
3- غنية المتملي في شرح منية المصلي المعروف بالحلبي الكبير : 16.
4- شرح سنن ابن ماجة : 1 / 88.

الغسل وقراءة الجر

إنّ القائلين بغسل الأرجل برّروا قراءة النصب بوجه قد عرفت ضعفه وعدم انسجامه مع القواعد العربية ، ولكنّهم لمّا وقفوا على قراءة الجرّ وانّها تدلّ على المسح دون الغسل حاروا في تبريرها وتوجيهها مع القول بالغسل ، فإنّ قراءة الجر صريحة في أنّ لفظة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) معطوفة على ( بِرُؤُسِكُمْ ) فيكون حكمها حكم الرءوس ، وعند ذلك مالوا يمينا ويسارا حتّى يجدوا لقراءة الخفض مع القول بالغسل مبرّرا ، وليس هو إلاّ القول بالجرّ بالجوار.

وحاصله : انّ قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) محكوم حسب القواعد بالنصب لكونها معطوفة على قوله ( وُجُوهَكُمْ ) ، ولكنّه اكتسب أعراب الجرّ من قوله :

( بِرُؤُسِكُمْ ) لأجل وقوعه في جنب لفظ مجرور وهذا ما يقال له : « الجرّ بالجوار » وهو ترك اللفظ إعرابه الطبيعي واكتساب أعراب اللفظ المجاور معه ، وقد مثلوا له بقولهم « جحر ضبّ خرب » فان قوله « خرب » خبر لقوله : « جحر » ولكنّه قرأ بالجرّ لوقوعه في جنب كلمة ضبّ حيث إنّه مجرور باعتبار كونه مضاف إليه.

وبما أنّ الجرّ بالجوار إمّا غير واقع في فصيح اللغة ، وعلى فرض وقوعه فله شروط مفقودة في المقام ، نعقد لبيان الموضوع الفصل التالي.

ص : 30

9. الجر بالجوار صحة وشرطا

لما كان القائلون بغسل الأرجل يفسّرون قراءة الجرّ بالجوار ، نذكر كلمات أعلام الأدباء في المقام ليعلم مدى صحّة الجرّ بالجوار ، وعلى فرض صحّته ما هي شروطه؟

1. قال الزجاج : ربما يقال ( وَأَرْجُلَكُمْ ) مجرور لأجل الجوار ، أي لوقوعه في جنب الرءوس المجرورة ، نظير قول القائل : جحر ضب خرب ، فإن « خرب » خبر « الجحر » فيجب أن يكون مرفوعا ، لكنّه صار مجرورا لأجل الجوار.

هذا ، ثمّ ردّ عليه بقوله : وهو غير صحيح ، لاتّفاق أهل العربية على أنّ الأعراب بالمجاورة شاذ نادر ، وما هذا سبيله لا يجوز حمل القرآن عليه من غير ضرورة يلجأ إليها. (1)

2. قال علاء الدين البغدادي في تفسيره المسمى بالخازن : وأمّا من جعل كسر اللام في « الأرجل » على مجاورة اللفظ دون الحكم. واستدل بقولهم : « جحر ضب خرب » وقال : الخرب نعت للجحر لا الضب ، وإنّما أخذ إعراب الضب للمجاورة فليس بجيّد لوجهين :

ص : 31


1- معاني القرآن وإعرابه : 2 / 153.

أ. لأنّ الكسر على المجاورة إنّما يحمل لأجل الضرورة في الشعر ، أو يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس ، لأنّ الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر.

ب. ولأنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون واو العطف ، امّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب. (1)

3. أنكر السيرافي وابن جنّي الخفض على الجوار وتأوّلا قولهم « خرب » بالجر على أنّه صفة للضب ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المغني. (2)

4. قال ابن هشام : ولا يكون الجر بالجوار في النسق ، لأنّ العاطف يمنع التجاور. (3)

ويتلخص من هذه الكلمات التي نقلناها بالإيجاز الأمور التالية :

أوّلا : انّ الخفض بالجواز لم يثبت في الكلام الفصيح.

ثانيا : انّ الخفض بالجوار على فرض ثبوته إمّا لضرورة الشعر أو لأجل استحسان الطبع المماثلة بين اللفظين المتجاورين ، وكلّ من الوجهين منتفيان في المورد ، فليس هنا ضرورة شعرية ولا استحسان الطبع في إخلاء لفظ ( وَأَرْجُلَكُمْ ) من إعرابه الواقعي واكتسابه إعراب جاره.

ثالثا : انّ العطف بالجوار إنّما يجوز فيما إذا يؤمن عن الاشتباه كما في المثل المعروف فان « خرب » وصف للجحر لا للضبّ وان جرّ ، بخلاف المقام فإنّ قراءة الجرّ تورث الاشتباه ، فلو كان الأرجل في الواقع محكومة بالغسل فالجرّ بالجوار

ص : 32


1- تفسير الخازن : 2 / 16.
2- . مغني اللبيب ، الباب الثامن ، القاعدة الثانية ، 359.
3- . مغني اللبيب ، الباب الثامن ، القاعدة الثانية ، 359.

يوهم كون الأرجل محكومة بالمسح وانّها معطوفة على الرءوس من دون أن يلتفت المخاطب إلى أنّ الجرّ للجوار فلا داعي لارتكاب هذا النوع من الخفض الذي يضاد بظاهره مراد القائل.

ورابعا : لم يثبت الجر بالجوار إلاّ في الوصف والبدل وأمثالهما لا في المعطوف كما في الآية.

وظهر من هذا البحث الضافي انّ القول بالمسح ينطبق على كلتا القراءتين بلا أدنى تأويل وحرج ، وهذا بخلاف القول بالغسل فإنّه لا ينسجم لا مع قراءة النصب ولا مع قراءة الجرّ.

ص : 33

10. الاجتهاد تجاه النص

اشارة

إنّ آفة الفقه هو التمسك بالاعتبارات والوجوه الاستحسانيّة أمام النصّ ، لأنّه يضاد مذهب التعبديّة ، فالمسلم يتعبد بالنص _ وإن بلغ ما بلغ _ ولا يقدّم رأيه على كتاب الله وسنّة رسوله الصحيحة ، وهو آية الاستسلام أمام الله وأمام رسوله وكتابه وسننه ، قال سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (1)

أي لا تتقدّموا على الله ورسوله بافتراض رأيكم على الرسول والأمّة المسلمة.

إنّ تقديم الوجوه الاستحسانية على النصّ تقدّم على الله ورسوله ، ونعم ما قال الإمام الشافعي : « من استحسن فقد شرّع ».

وقد وقف غير واحد من أعلام السنّة على أنّ ظاهر الآية أو صريحها هو مسح الرجلين واعترفوا بذلك بوجدانهم أو بلسانهم وقلمهم ، ولكن التعبد بمذهب الأئمّة الأربعة وغيرهم عاقهم عن الأخذ بمضمون الآية ، فاتبعوا المذهب الموروث بدل الاتّباع للقرآن الكريم ، ولو لا انّهم نشئوا على هذه الفكرة منذ نعومة أظفارهم ، لما قدّموا اجتهاداتهم على كتاب الله العزيز الدالّ على المسح ، وحرّروا

ص : 34


1- الحجرات : 1.

تفكّرهم عن قيد التقليد ، وإليك شيئا من هذه الاجتهادات التي لا يرتضيها العقل ولا الوجدان الحرّ.

1. الغسل يشمل المسح

زعم الجصاص أنّ آية الوضوء مجملة فلا بدّ من العمل بالاحتياط ، وهو الغسل المشتمل على المسح أيضا ، بخلاف المسح فإنّه خال عن الغسل ، ثمّ رفع إبهام الآية بادّعاء اتّفاق الجميع على أنّه لو غسل فقد أدّى الفرض. (1)

يلاحظ عليه : أوّلا : بأنّه كيف يرمي الآية بالإجمال مع أنّها واضحة الدلالة ، لأنّها بصدد بيان ما هو الواجب على عامة المصلّين عند القيام إلى الصلاة ، ومثل هذا يجب أن يكون مبيّن المراد ، غير محتمل إلاّ لمعنى واحد ، وإنّما دعاه إلى القول بالإجمال الفرار عن ظاهر الآية الدالّ على أنّ فريضة الأرجل هو المسح لا الغسل.

وثانيا : أنّ ما يقوله إنّ الغسل يشمل المسح دون العكس فإنّه خال من الغسل ، غير صحيح ، لأنّ المراد من الغسل في المقام هو إسالة الماء على العضو ، كما أنّ المراد من المسح فيها هو إمرار اليد على العضو بالبلل المتبقّي في اليد ، وعندئذ يصبح الغسل والمسح فريضتين مختلفتين على نحو يغاير كلّ الآخر ، فلا الغسل يشتمل على المسح ولا المسح على الغسل.

وثالثا : أنّ ادّعاء رفع إبهام الآية بأنّه إذا غسل فقد أدّى فرضه باتّفاق الجميع مصادرة بالمطلوب ، إذ كيف يدّعي الاتفاق عليه مع أنّ القائلين بالمسح بين الصحابة والتابعين كما سيوافيك أسماؤهم ، ليسوا بأقلّ من القائلين بالغسل ، كما أنّ الإمامية وهم ربع المسلمين يرون بطلان الغسل ولزوم المسح فأين اتّفاق الجميع على الغسل؟!

ص : 35


1- أحكام القرآن : 2 / 346.

2. نسخ السنّة للكتاب

وهناك من يرى دلالة الآية على المسح بوضوح ويبطل القول بأنّ أرجلكم معطوف على قوله : « وجوهكم » ويقول : لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن المعطوف ، لأنّه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان. لا تقول : ضربت محمدا وزيدا ومررت بخالد وعمرا ، وأنت تريد أنّك ضربت عمرا أصلا ، فلما جاءت السنّة بغسل الرجلين صحّ انّ المسح منسوخ عنهما. (1)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّه لا يصحّ نسخ الكتاب إلاّ بالسنّة القطعية ، لأنّ الكتاب دليل قطعي لا ينسخه إلاّ دليل قطعي مثله.

وأمّا المقام فالسنّة الدالة على الغسل متعارضة مع السنّة الدالة على المسح ، فكيف يمكن أن نقدّم أحد المتعارضين على القرآن الكريم بغير مرجح؟ وستوافيك الروايات المتضافرة الدالة على أنّ النبي وأصحابه كانوا يمسحون الأرجل مكان الغسل.

وثانيا : اتّفقت الأمّة على أنّ سورة المائدة آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانّها لم تنسخ آية منها ، وقد مرّ من الروايات وأقوال الصحابة ما يدلّ على ذلك.

وثالثا : كان اللازم على ابن حزم أن يجعل الآية دليلا على منسوخيّة السنّة ، ولو ثبت انّ النبي غسل رجليه في فترة من الزمن فالآية ناسخة لها لا أنّها ناسخة للقرآن.

ص : 36


1- الإحكام في أصول الأحكام : 1 / 510.

3. التنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء

وقد وقف الزمخشري على أنّ قراءة الجر تلزم الإنسان بمسح الأرجل لا غسلهما ، فصار بصدد منع الدلالة ، وانّ الأرجل وإن كانت معطوفة على الرءوس ومع ذلك يفقد العطف الدلالة على الغسل ، قال :

قرأ جماعة ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب فدلّ على أنّ الأرجل مغسولة.

فإن قلت : فما تصنع بقراءة الجر ودخلوها في حكم المسح؟

قلت : الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها ، فكان مظنة للإسراف المذموم المنهيّ عنه ، فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها وقيل إلى الكعبين. (1)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّ ما ذكره من الوجه إنّما يصحّ إذا كانت النكتة ممّا تعيه عامة المخاطبين من المؤمنين ، وأين هؤلاء من هذه النكتة التي ابتدعها الزمخشري توجيها لمذهبه؟

وبعبارة أخرى : انّما يصحّ ما ذكره من النكتة إذا أمن من الالتباس لا في مثل المقام الذي لا يؤمن منه ، وبالتالي يحمل ظاهر اللفظ على وجوب المسح غفلة عن النكتة البديعة!! للشيخ الزمخشري.

وثانيا : أنّ الأيدي أيضا مظنة للإسراف مثل الأرجل ، فلما ذا لم ينبّه على وجوب الاقتصاد في صب الماء فيها أيضا؟!

كل ذلك يعرب عن أنّ هذا الوجه توجيه للمذهب الذي نشأ وترعرع صاحب الكشاف عليه ، ولو لا ذلك لم يرد بخلده هذا الوجه.

ص : 37


1- الكشاف : 1 / 326.

4. سهولة غسل الرجلين دون الشعر

لما وقف ابن قدامة على أنّ مقتضى عطف الأرجل على الرءوس هو المسح ، سواء أقرأت بالنصب أو بالجر ، أخذ يتفلسف ويجتهد أمام الدليل الصارم ويقول : إنّ هناك فرقا بين الرأس والرجل ، ولأجله لا يمكن أن يحكم عليهما بحكم واحد ، وهذه الوجوه عبارة عن :

1. انّ الممسوح في الرأس شعر يشقّ غسله ، والرجلان بخلاف ذلك فهما أشبه بالمغسولات.

2. انّهما محدودان بحد ينتهي إليه فأشبها باليدين.

3. انّهما معرّضتان للخبث لكونهما يوطّأ بهما على الأرض بخلاف الرأس. (1)

يلاحظ عليه : أنّه اجتهاد مقابل النص وتفلسف في الأحكام.

فأمّا الأوّل : فأيّ مشقّة في غسل الشعر إذا كان المغسول جزاء منه فإنّه الواجب في المسح ، فليكن كذلك عند الغسل.

وأمّا الثاني : فلانّ التمسك بالشّبه ضعيف جدا ، إذ كم من متشابهين يختلفان في الحكم.

وأفسد منه هو الوجه الثالث فإنّ كون الرّجلين معرّضتين للخبث لا يقتضي تعيّن الغسل ، فإنّ القائل بالمسح يقول بأنّه يجب أن تكون الرّجل طاهرة من الخبث ثمّ تمسح.

ولعمري إنّ هذا الوجه وما تقدّمه للزمخشري تلاعب بالآية لغاية دعم المذهب ، والجدير بالفقيه الواعي هو الأخذ بالآية ، سواء أوافقت مذهب إمامه أم لا. ولصاحب المنار كلمة قيّمة في حقّ هؤلاء الذين يقدّمون فتاوى الأئمّة على

ص : 38


1- المغني : 1 / 124.

الكتاب العزيز والسنّة الصحيحة يقول : إنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله. (1)

5. اتّباع السلف في الغسل

لمّا وقف ابن تيمية على أنّ قراءة الخفض تستلزم العطف على الرءوس فيلزم حينئذ مسح الرجلين لا غسلهما ، التجأ إلى تأويل النص ، وقال :

« ومن قرأ بالخفض فليس معناه وامسحوا أرجلكم كما يظنه بعض الناس ، لأوجه : أحدهما : انّ الذين قرءوا ذلك من السلف ، قالوا : عاد الأمر إلى الغسل ». (2)

يلاحظ عليه : أنّه لو صحّ ما ذكره لزم القول بأنّ السلف تركوا القرآن وراء ظهورهم وأخذوا بما لا يوافق القرآن ، ولو كان رجوعهم لأجل نسخ الكتاب فقد عرفت أنّ القرآن لا ينسخ بخبر الواحد. ولو سلّمنا جواز النسخ فسؤره المائدة لم ينسخ منها شيء.

ومن العجب أنّ ابن تيميّة ناقض نفسه فقد ذكر في الوجه السابع ما هذا نصه : « إنّ التيمّم جعل بدلا عن الوضوء عند الحاجة فحذف شطر أعضاء الوضوء وخفّ الشطر الثاني ، وذلك فإنّه حذف ما كان ممسوحا ومسح ما كان مغسولا ». (3)

فلو كان التيمّم على أساس حذف ما كان ممسوحا فقد حذف حكم الأرجل في التيمّم ، فلازم ذلك أن يكون حكمه هو المسح حتّى يصحّ حذفه ، فلو كان حكمه هو الغسل لم يحذف ، بل يبقى كالوجه واليد ويمسح.

ص : 39


1- تفسير المنار : 2 / 386.
2- التفسير الكبير : 4 / 48.
3- المصدر نفسه : 50.

6. التحديد آية الغسل

إنّ المفسر المعروف بالشيخ إسماعيل حقي البروسوي أيّد القول بالغسل بأنّ المسح لم يعهد محدودا وإنّما جاء التحديد في المغسولات. (1)

يريد بكلامه هذا انّ الأرجل حدّدت بالكعبين فأشبه غسل الكعبين بغسل الأيدي المحدّد بالمرافق ، فيحكم عليها بالغسل يحكم الاشتراك في التحديد.

يلاحظ عليه : أنّ كلاّ من المغسول والممسوح جاء في الآية محدّدا وغير محدّد ، فالوجوه في الآية تغسل ولم تحدد ، والأيدي تغسل وحدّدت بقوله ( إِلَى الْمَرافِقِ ) ، فيعلم من ذلك انّ الغسل تارة يكون محدّدا وأخرى غير محدد ، فلا التحديد دليل على وجوب الغَسل ولا عدم التحديد دليل على وجوب المسح ، وهكذا الحال في الممسوح فالأرجل _ على المختار _ تمسح ويكون محددا إلى الكعبين والرأس تمسح وهو غير محدد ، فجعل التحديد علامة للغسل أشبه بجعل الأعم دليلا على الأخص ، وما ذكره من أنّه لم يجيء في شيء من المسح تحديد ، أوّل الكلام ، وهو من قبيل أخذ المدّعى في الدليل.

ولو قلنا بهذه الاستحسانات ، فالذوق الأدبي يقتضي أن تكون الأرجل ممسوحة لا مغسولة.

قال المرتضى : إنّ الآية تضمّنت ذكر عضو مغسول غير محدود وهو الوجه وعطف عليه مغسول محدود وهما اليدان ، ثمّ استؤنف ذكر عضو ممسوح غير محدود وهو الرأس فيجب أن تكون الأرجل ممسوحة وهي محدودة ومعطوفة عليه دون غيره ، لتتقابل الجملتان في عطف مغسول محدود على مغسول غير محدود وفي عطف ممسوح محدود على ممسوح غير محدود. (2)

ص : 40


1- روح البيان : 2 / 351.
2- الانتصار : 24.

7. المرجع هو السنّة بعد تعارض القراءتين

ذهب الآلوسي إلى أنّ القراءتين المتواترتين المتعارضتين كأنّهما آيتان متعارضتان ، والأصل في مثله هو السقوط والرجوع إلى السنّة؟

قال : إنّ القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين ، بل بإطباق أهل الإسلام كلّهم ، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين انّ القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين ، فلا بدّ لنا أن نسعى ونجتهد في تطبيقهما أوّلا ، مهما أمكن ، لأنّ الأصل في الدلائل الأعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول ، ثمّ نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما ، ثمّ إذا لم يتيسر لنا الترجيح فنتركهما ونتوجّه إلى الدلائل الأخر من السنّة. (1)

يلاحظ عليه : أنّ من الغرائب أن نجعل القراءتين متعارضتين ثمّ نسعى في رفع التعارض بالوجوه التي ذكرها القائل ، فإنّ فرض التعارض بين القراءتين رهن فرض المذهب على القرآن وتطبيقه عليه وإلاّ فالقراءتان ليس فيهما أي تعارض وتهافت وكلتاهما تهدفان إلى أمر واحد وهو مسح الرجلين ، لأنّ قوله ( وَأَرْجُلَكُمْ ) على كلتا القراءتين معطوف على لفظ واحد وهو قوله ( بِرُؤُسِكُمْ ) ، لكن إمّا عطفا على المحل فتنصب أو عطفا على الظاهر فتجر.

8. الغسل إضافة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم

ذهب جمال الدين القاسمي إلى أنّ الآية صريحة في أنّ الفريضة هي المسح كما قاله ابن عباس وغيره ، ولكن إيثار غسلهما في المأثور عنه إنّما هو للتزيّد في الفرض والتوسّع فيه حسب عادته ، فإنّه سنّ في كلّ فرض سننا تدعمه وتقوّيه في

ص : 41


1- روح المعاني : 6 / 74.

الصلاة والزكاة والصوم والحجّ.

وممّا يدلّ على أنّ واجبهما المسح تشريع المسح على الخفّين والجوربين ولا سند له إلاّ هذه الآية ، فإنّ كلّ سنّة أصلها في كتاب الله منطوقا أو مفهوما ، فاعرف ذلك واحتفظ به والله الهادي. (1)

يلاحظ عليه : حاشا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يزيد أو ينقص في الفرائض ، بل هو يتّبع الوحي ، وكان شعاره صلى الله عليه وآله وسلم ( قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ) (2) وقوله ( قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَ ) (3) ولو زاد في الصلوات فإنّما بأمر من الله سبحانه.

ثمّ لو زاد ما زاد فإنّما يزيد فيما ثبت أصله بالسنّة ، لا بالكتاب العزيز كإضافة ركعتين في الرباعية وركعة في الثلاثيّة.

أخرج مسلم عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين. (4)

فلو افترضنا أنّ الفريضة كانت هي المسح دون الغسل وانّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم زاد في الفرض بحكم الروايات الآمرة بالغسل ، لكن ما ذا نفعل عندئذ بالروايات الآمرة بالمسح ، وهي روايات صحاح هائلة كما سيوافيك ، فهل هنا ملجأ بعد التعارض إلاّ الذكر الحكيم؟!

وكلّ هذه الكلمات تعرب عن أنّ أصحابها اتّخذوا موقفا مسبقا حيال الآية

ص : 42


1- التأويل : 6 / 112.
2- الأعراف : 203.
3- يونس : 15.
4- صحيح مسلم : 2 / 143 ، باب صلاة المسافرين.

الصريحة الواضحة الدلالة ، وفرضوا مذهبهم عليها ، الأمر الذي أوقعهم في حيص بيص ومأزق ، وطرقوا كافة الأبواب للخروج منه وتشبّثوا بوجوه استحسانية لا تغني عن الحقّ شيئا.

9. التمسّك بالمصالح

لما استشعر صاحب المنار ، بأنّ الآية ظاهرة في مسح الرجلين باليد المبلّلة بالماء حاول صرف الآية عن ظاهرها بالتمسّك بالمصالح ، وقال :

لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبلّلة بالماء حكمة ، بل هو خلاف حكمة الوضوء ، لأنّ طروء الرطوبة القليلة على العضو الذي عليه غبار أو وسخ يزيده وساخة ، وينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة. (1)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره استحسان لا يعرّج عليه مع وجود النص ، فلا شك أنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية ولا يجب علينا أن نقف عليها ، فأي مصلحة في المسح على الرأس ولو بمقدار إصبع أو إصبعين حتى قال الشافعي : إذا مسح الرأس بإصبع واحدة أو بعض إصبع أو باطن كفه ، أو أمر من يمسح له أجزأه ذلك؟!

وهناك كلمة قيّمة للإمام شرف الدين الموسوي نأتي بنصها ، قال _ رحمه الله _ : نحن نؤمن بأنّ الشارع المقدّس لاحظ عباده في كل ما كلّفهم به من أحكامه الشرعية ، فلم يأمرهم إلاّ بما فيه مصلحتهم ، ولم ينههم إلاّ عمّا فيه مفسدة لهم ، لكنّه مع ذلك لم يجعل شيئا من مدارك تلك الأحكام منوطا من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد ، بل تعبّدهم بأدلّة قويّة عيّنها لهم ، فلم يجعل لهم مندوحة

ص : 43


1- تفسير المنار : 6 / 234.

عنها إلى ما سواها. وأوّل تلك الأدلّة الحكيمة كتاب الله عزّ وجلّ ، وقد حكم بمسح الرءوس والأرجل في الوضوء ، فلا مندوحة عن البخوع لحكمه ، أمّا نقاء الأرجل من الدنس فلا بدّ من إحرازه قبل المسح عليها عملا بأدلّة خاصّة دلّت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه (1). (2)

10. اعتراض جملة ( وَامْسَحُوا. ) لبيان الترتب

إنّ الفصل بين المتعاطفات بقول ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) لبيان تقدّم المسح على غسل الأرجل. (3)

يلاحظ عليه : بأنّ في وسع المتكلم أن يجمع بين ذكر الترتيب ووضوح البيان بتكرار الفعل بأن يقول : « فامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم » فيكون كلامه مبيّنا لمقصده وفي الوقت نفسه نزيها عن اللّبس.

ص : 44


1- ولذا ترى حفاة الشيعة والعمال منهم _ كأهل الحرث وأمثالهم وسائر من لا يبالون بطهارة أرجلهم في غير أوقات العبادة المشروطة بالطهارة _ إذا أرادوا الوضوء غسلوا أرجلهم ثمّ توضّئوا فمسحوا عليها نقيّة جافّة.
2- مسائل فقهية : 82.
3- مجلة الفيصل العدد 235 صفحة 48 ، مقالة أبي عبد الرحمن الظاهري.

11. المسح على الأرجل في الأحاديث الصحيحة

اشارة

قد تعرّفت _ من دلالة الآية _ على أنّ الفرض في مورد الأرجل هو المسح ، وبما انّ الآية نزلت في أخريات حياة النبي ولم تنسخ بعد فهي بنفسها كافية في الدلالة على المقصود.

غير إنّنا تعزيزا للمطلب نذكر ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من لزوم المسح على الأرجل ، ونقتصر في ذلك بالمتون مع تجريد الأسانيد ، لأنّ الكتاب لا يسع لذكرها.

ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول مسح الأرجل

1. عن بسر بن سعيد قال : أتى عثمان المقاعد فدعا بوضوء فتمضمض واستنشق ثمّ غسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه ورجليه ثلاثا ثلاثا ، ثمّ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا توضّأ ، يا هؤلاء أكذلك؟ قالوا : نعم ، لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنده. (1)

ص : 45


1- مسند أحمد : 1 / 109 ، الحديث 489.

2. عن حمران قال : دعا عثمان بماء فتوضّأ ثمّ ضحك ، ثمّ قال : ألا تسألوني ممّ أضحك؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ما أضحكك؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ كما توضّأت ، فتمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ومسح برأسه وظهر قدميه. (1)

3. وفي مسند عبد الله بن زيد المازني انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين ومسح رأسه ورجليه مرتين. (2)

4. عن أبي مطر قال : بينما نحن جلوس مع علي في المسجد ، جاء رجل إلى علي وقال : أرني وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا قنبر ، فقال : ائتني بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه ثلاثا ، فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثا ، وغسل ذراعيه ثلاثا ومسح رأسه واحدة ورجليه إلى الكعبين ولحيته تهطل على صدره ثمّ حسا حسوة بعد الوضوء ثمّ قال : أين السائل عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (3)

5. عن عباد بن تميم ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ ومسح بالماء على لحيته ورجليه. (4)

6. عن علي بن أبي طالب عليه السلام ؛ قال : كنت أرى أنّ باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح ظاهرهما. (5)

ص : 46


1- كنز العمال : 9 / 436 ، الحديث 26863.
2- كنز العمال : 9 / 451 ، الحديث 26922.
3- كنز العمال : 9 / 448 برقم 26908.
4- كنز العمال : 9 / 429 برقم 26822.
5- مسند أحمد : 1 / 153 برقم 739 وص 183 برقم 91.

7. عن رفاعة بن رافع انّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « إنّه لا يجوز صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عزّ وجلّ ، ثمّ يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ». (1)

8. ما روي عن عبد الله بن عمرو ، قال : تخلّف عنّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضّأ فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : « ويل للأعقاب من النار » مرتين أو ثلاثا. (2)

9. عن أبي مالك الأشعري انّه قال لقومه : اجتمعوا أصلّي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلمّا اجتمعوا قال : هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا : لا ، إلاّ ابن أخت لنا ، قال : ابن أخت القوم منهم ، فدعا بجفنة فيها ماء ، فتوضّأ ومضمض واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ، ومسح برأسه وظهر قدميه ، ثمّ صلّى بهم فكبر بهم اثنتين وعشرين تكبيرة. (3)

10. عن عباد بن تميم المازني ، عن أبيه انّه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضّأ ويمسح الماء على رجليه. (4)

11. عن أوس بن أبي أوس الثقفي أنّه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى كظامة قوم بالطائف ، فتوضّأ ومسح على قدميه. (5)

12. عن رفاعة بن رافع قال : كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل فدخل المسجد ، فصلّى فلمّا قضى الصلاة جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى

ص : 47


1- سنن ابن ماجة : 1 / 156 ، حديث 460 ؛ سنن النسائي : 2 / 226.
2- صحيح البخاري : 1 / 23 ، باب من رفع صوته بالعلم من كتاب العلم ، الحديث 1.
3- مسند أحمد : 5 / 342.
4- سنن ابن ماجة : 1 ، الحديث 460.
5- تفسير الطبري : 6 / 86 ؛ المعجم الكبير : 1 / 221 برقم 603.

القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ارجع فصلّ فإنّك لم تصل » وجعل الرجل يصلّي ، وجعلنا نرمق صلاته لا ندري ما يعيب منها ، فلمّا جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى القوم قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « وعليك ارجع فصلّ فإنّك لم تصل ».

قال همام : فلا ندري أمره بذلك مرتين أو ثلاثا ، فقال له الرجل : ما أدري ما عبت من صلاتي؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّه لا تتم صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره الله ، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ، ثمّ يكبر الله تعالى ويثني عليه ، ثمّ يقرأ أمّ القرآن وما أذن له فيه ويسر ، ثمّ يكبر فيركع فيضع كفيه على ركبتيه حتّى تطمئن مفاصله ، ويسترخي ثمّ يقول :

سمع الله لمن حمده ، ويستوي قائماً حتّى يقيم صلبه ويأخذ كلّ عظم مأخذه ، ثمّ يكبر فيسجد فيمكن وجهه. قال همام : وربما قال جبهته من الأرض حتّى تطمئن مفاصله ويسترخي ، ثمّ يكبر فيستوي قاعدا على مقعده ويقيم صلبه ، فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتّى فرغ ، ثمّ قال : لا يتم صلاة أحدكم حتّى يفعل ذلك. (1)

13. عن ابن عباس انّه قال : ذكر المسح على القدمين عند عمر وسعد وعبد الله بن عمر فقال عمر بن الخطاب : سعد أفقه منك ، فقال عمر : يا سعد انّا لا ننكر انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح _ أي على القدمين _ ولكن هل مسح منذ أنزلت سورة المائدة فإنّها أحكمت كل شيء وكانت آخر سورة من القرآن إلا براءة. (2)

ص : 48


1- المستدرك للحاكم : 1 / 241.
2- الدر المنثور : 3 / 29.

14. عن عروة بن الزبير انّ جبرئيل عليه السلام لمّا نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أوّل البعثة فتح بالإعجاز عينا من ماء فتوضأ ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليه فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ، ففعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما رأى جبرئيل يفعل. (1)

15. روى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه انّ أبا جبير قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ابنته التي تزوجها رسول الله ، فدعا رسول الله بوضوء فغسل يديه فأنقاهما ، ثمّ مضمض فاه واستنشق بماء ، ثمّ غسل وجهه ويديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثمّ مسح رأسه ورجليه. (2)

إلى هنا تمّ ما عثرنا عليه من الروايات عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على وجه عابر ، وهي تدلّ على أنّ قول النبي وفعله كان على المسح لا الغسل.

ما حكي عن الصحابة والتابعين حول مسح الأرجل

16. حدث سفيان قال : رأيت عليا عليه السلام توضّأ فمسح ظهورهما. (3)

17. عن حمران انّه قال : رأيت عثمان دعا بماء غسل ، فغسل كفيه ثلاثا ومضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وظهر قدميه. (4)

18. عن عاصم الأحول ، عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح والسنّة بالغسل. وهذا اسناد صحيح. (5)

ص : 49


1- الخصائص الكبرى : 1 / 94.
2- أسد الغابة : 5 / 156.
3- مسند أحمد : 1 / 200 ، الحديث 1018.
4- كنز العمال : 5 / 106.
5- الأحاديث 18 _ 26 ، كلّها منقولة من تفسير الطبري : 6 / 82.

19. عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الوضوء غسلتان ومسحتان.

20. عن عبد الله العتكي ، عن عكرمة قال : ليس على الرجلين غسل انّما نزل فيهما المسح.

21. عن جابر ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : امسح على رأسك وقدميك.

22. عن ابن علية بن داود ، عن عامر الشعبي انّه قال : إنّما هو المسح على الرجلين ألا ترى أنّ ما كان عليه الغسل جعل عليه المسح وما كان عليه المسح أهمل ( في التيمّم ).

23. عن عامر الشعبي ، قال : أمر أن يمسح في التيمّم ما أمر أن يغسل في الوضوء ، وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء : الرأس والرجلان.

24. عن عامر الشعبي قال : أمر أن يمسح بالصعيد في التيمّم ، ما أمر أن يغسل بالماء ، وأهمل ما أمر أن يمسح بالماء.

25. عن يونس قال : حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال : فما رأيته غسل رجليه ، إنّما يمسح عليهما حتّى خرج منها.

26. عن قتادة في تفسير قوله سبحانه ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) افترض الله غسلتين ومسحتين.

27. قال موسى بن أنس لأبي حمزة : إنّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطهور فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وأنّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما ، فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله تعالى :

ص : 50

( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ).

قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّها.

قال ابن كثير : إسناده صحيح إليه. (1)

28. عن الشعبي قال : نزل جبرئيل بالمسح ، ثمّ قال الشعبي : ألا ترى أنّ التيمم أن يمسح ما كان غسل ويلغى ما كان مسحا. (2)

29. عن إسماعيل قلت لعامر الشعبي : إنّ أناسا يقولون إنّ جبرئيل نزل بغسل الرجلين؟ فقال : نزل جبرئيل بالمسح. (3)

30. عن النزال بن سبرة انّ عليا دعا بماء فتوضأ ثمّ مسح على نعليه وقدميه ، ثمّ دخل المسجد فخلع نعليه ثمّ صلّى. (4)

31. عن أبي ظبيان قال : رأيت عليا وعليه إزار أصفر وخميصة وفي يديه عنزة أتى حائط السجن ، ثم تنحى فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه ثمّ دخل المسجد ، فخلع نعليه ثمّ صلّى. (5)

هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير ، فمن تفحّص المسانيد والصحاح ومجامع الآثار يقف على أكثر ممّا وقفنا عليه على وجه عابر.

( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ). (6)

ص : 51


1- جامع البيان : 6 / 82 ؛ محاسن التأويل : 6 / 111 ؛ تفسير القرآن العظيم : 2 / 27.
2- تفسير القرآن العظيم : 2 / 27.
3- تفسير القرآن العظيم : 2 / 25.
4- كنز العمال : 9 / 435 برقم 26856.
5- كنز العمال : 5 / 126.
6- الأنعام : 90.

12. التجاهل لروايات المسح

قد تجاهل ابن كثير ومن تبعه روايات المسح وقال :

قد خالف الروافض في ذلك ( غسل الرجلين ) بلا مستند ، بل بجهل وضلالة ، فالآية الكريمة دالّة على وجوب غسل الرجلين مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وفق ما دلّت عليه الآية الكريمة ، وهم مخالفون لذلك كلّه وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر. (1)

وكأنّه لم يمعن النظر في الآية الكريمة ونصوص دلالتها على لزوم المسح ، وكأنّه لم يقف على تلك الأحاديث الكثيرة حينما ادّعى التواتر على الغَسل ، أو وقف عليها ولم يتأمّل فيها.

وقد تبعه الشيخ إسماعيل البروسوي قائلاً : ذهبت الروافض إلى أنّ الواجب في الرجلين المسح ، ورووا في المسح خبرا ضعيفا شاذّا. (2)

وكذلك ادّعى الآلوسي تشبّث الشيعة برواية واحدة حيث قال :

ولا حجّة لهم في دعوى المسح إلاّ بما روي عن علي _ كرم الله تعالى وجهه _

ص : 52


1- تفسير القرآن العظيم : 2 / 518.
2- تفسير روح البيان : 2 / 351.

( انّه مسح (1) وجهه ويديه ، ومسح رأسه ورجليه ، وشرب فضل طهوره قائماً ). (2)

ولو كان البروسوي والآلوسي معذورين في هذا العزو ، وأنّه ليس لوجوب المسح أيّ دليل سوى رواية شاذّة ، فليس هناك عذر لمن وقف على هذه الروايات الكثيرة التي تتجاوز الثلاثين ، فلو لم نقل بأنّ المسح نقل بالتواتر فلا بدّ أن نقول إنّه مستفيض.

أضف إلى ذلك أنّ الكتاب يدعمه ، فلا سبيل لنا إلاّ الأخذ بما يوافق الكتاب ، وتأويل المخالف أي ما دلّ على الغسل بوجه بأن يقال : كان يغسل في فترة بعد البعثة لكن نسخته الآية المباركة أو غير ذلك من المحامل.

( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ). (3)

ص : 53


1- كذا في المصدر ، والصحيح : غسل.
2- روح المعاني : 6 / 87.
3- الإسراء : 36.

13. أسماء أعلام الصحابة والتابعين القائلين بالمسح

قد تعرّفت على الروايات الدّالة على لزوم المسح في الوضوء ، وقد رواها أعلام الصحابة والتابعين ونقلها أصحاب الصحاح والمسانيد.

ولأجل إيقاف القارئ على أسمائهم وشيء من مكانتهم في النقل نذكر أسماءهم مع الإيعاز إلى ترجمتهم على وجه الإيجاز مرفقة برقم حديثهم. ليقف القارئ على أنّ القائلين به هم جبهة الصحابة والتابعين وسنام الثقات :

1. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وأنّه عليه السلام قال : لو كان الدين بالرأي لكان باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما ، لكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح ظاهرهما. ( أنظر الحديث 6 ).

2. الإمام الباقر عليه السلام محمد بن علي بن الحسين الإمام الثبت الهاشمي العلوي المدني أحد الأعلام ، روى عن أبيه ، وكان سيد بني هاشم في زمانه ، اشتهر بالباقر من قولهم : بقر العلم ، يعني : شقّه ، فعلم أصله وخفيه (1) ( أنظر

ص : 54


1- تذكرة الحفاظ : 1 / 124 ؛ تهذيب التهذيب : 9 / 350 ؛ حلية الأولياء : 3 / 180 ؛ شذرات الذهب : 1 / 149 ؛ الطبقات الكبرى : 5 / 324.

الحديث 21 ).

3. بسر بن سعيد ، الإمام القدوة المدني ، مولى بني الحضرمي ، حدّث عن عثمان بن عفان ، وثّقه : يحيى بن معين والنسائي ، قال : محمد بن سعد : كان من العباد المنقطعين والزهاد ، كثير الحديث. (1) ( أنظر الحديث 21 ).

4. حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان : يروي عنه ( أنظر الحديث 2 ) وكان من أهل الوجاهة ، ذكره ابن حبان في الثقات. (2)

5. عثمان بن عفان ، وقد تقدم في الحديث ( 1 و 2 ) انّه كان يتوضأ ويمسح على رجليه ويقول : هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

6. أبو مطر ذكره ابن حبان في الثقات ، روى عنه الحجاج بن أرطاة. (3) ( أنظر الحديث 4 ).

7. عبد الله بن زيد المازني صاحب حديث الوضوء عن فضلاء الصحابة يعرف بابن أم عمارة (4). ذكره ابن حبان في الثقات (5). ( أنظر الحديث 3 ).

8. النزال بن سبرة الهلالي الكوفي ، روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام ( أنظر الحديث 30 ) وعثمان وأبي بكر وابن مسعود ، وقال العجلي : كوفي تابعي ، ثقة من كبار التابعين ، وذكره ابن حبان في الثقات. (6)

9. عبد خير بن يزيد ، قال العجلي : كوفي تابعي ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات التابعين وجزم بصحبته عبد الصمد بن سعيد الحمصي في كتاب

ص : 55


1- سير أعلام النبلاء : 4 / 594.
2- الثقات : 4 / 179.
3- الثقات : 7 / 664.
4- سير أعلام النبلاء : 2 / 377.
5- الثقات : 3 / 223.
6- تهذيب التهذيب : 10 / 423 ؛ التأريخ الكبير : 8 / 117.

الصحابة. (1) ( أنظر الحديث 6 ).

10. عباد بن تميم بن غزية الأنصاري الخزرجي المازني : روى عن أبيه وعن عمه عبد الله بن زيد وعن عويمر بن سعد ، وثّقه : العجلي والنسائي وغيرهما ، وحديثه في الصحيحين ( البخاري ومسلم ) (2) وذكره ابن حبان في الثقات (3). ( أنظر الحديث 5 ، 10 ).

11. عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، وكان يسمّى البحر لسعة علمه ، ويسمّى حبر الأمّة. وقال عبد الله بن عتبة : كان ابن عباس قد فاق الناس بخصال : بعلم ما سبقه ، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه ، وقال : ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه ، ولا أفقه في رأي عنه ، ولا أعلم بتفسير القرآن منه (4). ( أنظر الحديث 13 ، 19 ).

12. أوس بن أبي أوس الثقفي : روى له أصحاب السنن الأربعة ، أحاديث صحيحة من رواية الشاميين عنه (5). ( أنظر الحديث 11 ).

13. الشعبي : عامر بن شراحيل بن عبد ، هو الإمام الحافظ الفقيه المتقي أستاذ أبي حنيفة وشيخه. قال أحمد بن حنبل ، والعجلي : مرسل الشعبي صحيح ، لأنّه لا يكاد يرسل إلاّ صحيحا. وقال ابن عيينة : العلماء ثلاثة : ابن عباس في زمانه ، والشعبي في زمانه ، والثوري في زمانه (6). ( أنظر الحديث 22 ، 23 ، 24 ، 28 ).

ص : 56


1- تهذيب التهذيب : 6 / 124.
2- الإصابة : 4 / 23.
3- الثقات : 5 / 141.
4- أسد الغابة : 3 / 192 _ 195.
5- الإصابة : 1 / 92.
6- تذكرة الحفاظ : 1 / 79 ؛ تهذيب التهذيب : 5 / 65 ؛ حلية الأولياء : 4 / 310 ؛ شذرات الذهب : 1 / 126 ؛ طبقات الحفاظ : 43.

14. عكرمة : أبو عبد الله المدني مولى ابن عباس ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن ، وكان جابر بن زيد يقول : عكرمة من أعلم الناس ، روى له أصحاب السنن الأربعة أحاديث صحيحة. (1) ( أنظر الحديث 25 ، 20 ).

15. رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان أبو معاذ الزرقي ، شهد بدرا. وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات في أوّل خلافة معاوية. (2) ذكره ابن حبان في الثقات. (3) ( أنظر الحديث 7 ، 12 ).

16. عروة بن الزبير بن العوام القرشي أخو عبد الله بن الزبير ، فقيه عالم ، وكان من أفاضل أهل المدينة وعلمائهم ، ذكره ابن حبان في الثقات. (4) ( أنظر الحديث 14 ).

17. قتادة بن عزيز الحافظ العلامة أبو الخطاب السدوسي البصري الضرير الأكمه المفسر. قال أحمد بن حنبل : قتادة عالم بالتفسير وباختلاف العلماء ، ووصفه بالحفظ. وأطنب في ذكره. وكان أحفظ أهل البصرة ، مات بواسط في الطاعون سنة 118 ه . (5) وذكره ابن حبان في الثقات (6). ( أنظر الحديث 26 ).

18. أنس بن مالك بن النضر خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 57


1- تهذيب التهذيب : 7 / 293 ، تذكرة الحفاظ : 1 / 95 ؛ تهذيب الأسماء : 1 / 340.
2- تهذيب التهذيب : 3 / 281.
3- الثقات : 4 / 240.
4- الثقات : 5 / 194 _ 195 ؛ تذكرة الحفاظ : 1 / 92 ؛ تهذيب التهذيب : 7 / 180.
5- تذكرة الحفاظ : 1 / 122 _ 124.
6- الثقات : 5 / 321 ؛ البداية والنهاية : 9 / 313 ؛ تهذيب الأسماء : 2 / 57 ؛ تهذيب التهذيب : 8 / 337.

المدينة وهو ابن عشر سنين ، وتوفي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن عشرين سنة ، انتقل إلى البصرة وتوفي بها عام 91 ه . (1) ( أنظر الحديث 18 ).

19. موسى بن أنس بن مالك قاضي البصرة ، يروي عن أبيه ، روى عنه مكحول وحميد الطويل. (2) ( أنظر الحديث 27 ).

20. حصين بن جندب الكوفي الجنبي ( أبو ظبيان الكوفي ) يروي عن علي بن أبي طالب وسلمان ، روى عنه : إبراهيم والأعمش ، مات سنة 56 ه ، ذكره ابن حبان في الثقات. (3) ( أنظر الحديث 31 ).

21. جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي ، يروي عن : أبي ذر وأبي الدرداء ، روى عنه أهل الشام ، كنيته أبو عبد الرحمن ، مات سنة 80 ه بالشام ، ذكره ابن حبان في الثقات. (4) ( أنظر الحديث 15 ).

22. إسماعيل بن أبي خالد البجلي الأحمسي أبو عبد الله الكوفي ، قال العجلي : وكان رجلا صالحا ثقة ثبتا وكان طحانا. وقال مروان بن معاوية : كان إسماعيل يسمّى الميزان. مات سنة 146 ه . (5) ( أنظر الحديث 29 ).

23. تميم بن زيد المازني ، أبو عباد الأنصاري من بني النجّار ، له صحبة ، وحديثه عند ولده. (6) ( أنظر الحديث 5 ، 10 ).

ص : 58


1- الثقات : 2 / 4 ، أسد الغابة : 1 / 84 ، تذكرة الحفاظ : 1 / 44 ، شذرات الذهب : 1 / 100.
2- الثقات : 5 / 401.
3- المصدر السابق : 4 / 156.
4- الثقات 4 / 111 ، تذكرة الحفاظ : 1 / 52 ، تهذيب التهذيب : 2 / 64 ، شذرات الذهب : 1 / 88.
5- تذكرة الحفاظ : 1 / 153 ، تهذيب التهذيب : 1 / 291 ، العبر : 1 / 203.
6- الثقات : 3 / 41.

24. عطاء القداحي ، يروي عن عبد الله بن عمر ، وروى عنه : عروة بن قيس ، والد يعلى بن عطاء ، ذكره ابن حبان في الثقات. (1) ( أنظر الحديث 11 ).

25. أبو مالك الأشعري : الحارث بن الحارث الأشعري الشامي الصحابي ، روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعنه أبو سلام الأسود. يكنى أبا مالك ، طعن أبو مالك الأشعري وأبو عبيدة بن الجراح في يوم واحد ، وتوفي في خلافة عمر. (2) ( أنظر الحديث 9 ).

وإن تعجب فعجب قول الشوكاني ، حيث يقول : لم يثبت من أحد من الصحابة خلاف ذلك ( أي الغسل ) إلاّ علي وابن عباس وأنس. (3)

غير انّ اعتقاده بالغسل عاقه عن الفحص والتتبّع في السنن والمسانيد.

ص : 59


1- الثقات : 5 / 202.
2- تهذيب التهذيب : 2 / 136 و 12 / 218.
3- نيل الأوطار : 1 / 163.

14. تأمّلات واهية في أخبار المسح

اشارة

إنّ لأهل النظر والبحث من أهل السنّة القائلين بالغسل في الوضوء _ أمام تلك الروايات المخالفة لمذهبهم _ تأمّلات مختلفة نذكر المهمّ منها :

التأمّل الأوّل : أنّ روايات المسح ضعيفة ، ونقل عن البخاري والشافعي أنّهما ضعّفاها باعتبار أنّ مخالفها أكثر وأثبت منها (1).

يلاحظ عليه : أنّه ، كيف نضعّف تلك الروايات المستفيضة؟! وإنّما الذي يخضع للنقاش والجرح هو الخبر الواحد ، لا المستفيض ولا المتواتر.

مضافا إلى أنّ في الروايات من يرويها البخاري ، فما ظنّك برواية يرويها الإمام البخاري؟! ( لاحظ الرواية رقم 8 ).

التأمّل الثاني : إنّ هذا كان في أوّل الإسلام ، ثم نسخ بأحاديث الغسل.

يلاحظ عليه : أنّ كثيرا من هذه الروايات رويت للاحتجاج على القائلين بالغسل ، فهل يمكن غفلة الراوي عن هذا الأمر؟! وبتعبير أوضح : أنّ الصحابة والتابعين يروونها لغاية إثبات أنّ الفريضة في

ص : 60


1- ابن القيم : في هامش مختصر سنن أبي داود : 1 / 96.

الوضوء هي المسح لا الغسل ، فلو كانت الروايات ناظرة إلى العصر الأوّل من البعثة ، فهل يمكن أن يغفل عنها الصحابة الأجلاّء والتابعون لهم بإحسان؟ وقد شارك في الروايات ثلّة من الصحابة والتابعين.

التأمّل الثالث : إنّ أحاديث المسح ، انّما هي وضوء من لم يحدث ، وقد اعتمد عليه ابن كثير في تفسيره. (1) وسار على ضوئه المتأخرون ، كالآلوسي في « روح المعاني ». (2) وأخيرا الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري (3).

يلاحظ عليه : النقاط التالية :

1. أنّ لفيفا من الروايات الدالّة على المسح وردت في وضوء المحدث ، لا في الوضوء بعد الوضوء ، فكيف يمكن حملها على وضوء من لم يحدث؟ كرواية النزال ابن سبرة ، حيث يحكي وضوء عليّ بعد البول.

2. أنّ أكثر هذه الروايات الدالّة على المسح ، تحكي وضوء رسول الله ، والمتبادر منه هو وضوؤه بعد الحدث ، لا قبله. فحمل هذه الروايات الكثيرة ، على الوضوء بعد الوضوء ، تفسير بالرأي ، حفظا للمذهب وانتصارا له.

3. لو سلّمنا أنّ ما ورد من الروايات في المسح على الرجلين ، بأنّه وضوء من لم يحدث ، لكنّها لا تشير إلى أنّ المسح على الرجلين فقط وضوء من لم يحدث ، وإنّما تشير إلى أنّ الاكتفاء بكفّ من الماء في غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين ، وضوء من لم يحدث.

ص : 61


1- تفسير القرآن العظيم : 2 / 27.
2- روح المعاني : 6 / 77.
3- مجلة الفيصل ، العدد : 235 ص 48.

فكم فرق بين أن يرجع اسم الإشارة إلى أنّ المسح على الرجلين هو وضوء من لم يحدث ، وبين أن ترجع إلى مجموع ما ورد في الرواية من الغسل والمسح بكفّ من الماء؟! وإن كنت في شكّ من ذلك فنتلو عليك نصوص تلك الروايات :

1. ما رواه الحافظ البيهقي حيث قال : أخبرنا أبو علي الروذباري ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محويه العسكري ، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي ، حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا عبد الملك بن ميسرة ، سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنّه صلّى الظهر ، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ، ثم أتي بكوز من ماء ، فأخذ منه حفنة واحدة ، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ، ثم قام فشرب فضله وهو قائم ، ثم قال : إنّ ناسا يكرهون الشرب قائماً ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنع كما صنعت ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث. رواه البخاري في الصحيح عن آدم بن أبي إياس ببعض معناه (1).

2. عن إبراهيم قال : كان علي إذا حضرت الصلاة دعا بماء ، فأخذ كفّا من ماء ، فتمضمض منه واستنشق منه ، ومسح بفضلة وجهه وذراعيه رأسه ورجليه ، ثم قال : هذا وضوء من لم يحدث (2).

ترى أنّ الإمام اكتفى في الوضوء بكف ماء وحفنة منه مع أنّه غير كاف في الوضوء الواجب باتفاق الأمّة ، ولأجل ذلك نبّه المخاطب بأنّه وضوء من لم يحدث ، وإلا فعلى المحدث أن يسبغ ماء الوضوء بأكف وحفنات ، فمحور المذاكرة بين

ص : 62


1- سنن البيهقي : 1 / 75 ، دار الفكر ، بيروت. ولاحظ كنز العمال : 9 / 474 ، الحديث 27030 ، مسند أحمد بن حنبل : 1 / 164 ، الحديث 799.
2- كنز العمال : 9 / 456 ، الحديث 26949.

الإمام ومخاطبة هو الاكتفاء بماء قليل لا المسح على الرجلين.

3. أخرج أحمد بسنده عن عبد الله ، قال : حدثني أبو خيثمة ، حدثنا إسحاق ابن إسماعيل ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبد الملك ، عن النزال بن سبرة قال : صلّينا مع علي ( رض ) الظهر ، فانطلق إلى مجلس له يجلسه في الرحبة ، فقعد وقعدنا حوله ، ثم حضرت العصر ، فأتى بإناء فأخذ منه كفا ، فتمضمض واستنشق ومسح بوجهه وذراعيه ومسح برأسه ورجليه ، ثم قال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل كما فعلت (1).

وعلى ذلك تحمل الرواية التالية :

4. عن عبد خير قال : رأيت عليا ( رض ) دعا بماء ليتوضّأ ، فتمسح بها تمسحا ومسح على ظهر قدميه ، ثم قال : هذا وضوء من لم يحدث ، ثم قال : لو لا إني رأيت رسول الله مسح على ظهر قدميه رأيت أنّ بطونهما أحقّ ، ثم شرب فضلة وضوئه وهو قائم (2).

فإنّ الظاهر أنّ الإمام قام بمجموع العمل بكف ماء واحد ، ويحتمل اتحاد الحديث مع الحديث الأوّل ، فاسم الإشارة في قوله : « هذا » ليس إشارة إلى مسح القدمين ، بل إلى مجموع ما أتى به من الأعمال من مسح الوجه والأيدي وغيرهما بالماء ، فإنّ الواجب فيهما الغسل ، والاكتفاء بالمسح لخلوه من الحدث.

عثرة لا تقال :

قد عرفت أنّ مجموعة كبيرة من الروايات الدالّة على المسح رواها ابن جرير

ص : 63


1- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 256 ، الحديث 1370.
2- مسند أحمد بن حنبل : 1 / 187 ، الحديث 946.

الطبري صاحب التفسير والتأريخ ، الغني عن الإطراء والبيان ، ولما كان ذلك الأمر ثقيلا على من يرى الغسل في الوضوء عاد يتحمل لتكذيب تلك الروايات بأنّه لم ينقلها ابن جرير الطبري السنّي وانّما رواها ابن جرير الشيعي ، وهي من غرائب الأمور كما سيوافيك ، وممّن التجأ إلى هذا العذر ابن القيم قائلاً :

إنّ حكاية المسح عن ابن جرير غلط بيّن ، فهذه كتبه وتفسيره كلّها تكذّب هذا النقل عنه ، وإنّما دخلت الشبهة ، لأنّ ابن جرير القائل بهذه المقالة رجل آخر من الشيعة يوافقه في اسمه واسم أبيه ، وقد رأيت له مؤلفات في أصول مذهب الشيعة وفروعهم (1).

وقد تبعه في هذه العثرة الآلوسي في تفسيره ، قال : وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلقة ، ورواها بعض أهل السنّة ممن لم يميّز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقّق ولا سند ، واتسع الخرق على الراقع ، ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب « الإيضاح للمسترشد في الإمامة » ، لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنّة ، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ، ولا الجمع ، ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه (2).

وممن تنبّه إلى عثرة ابن قيم والآلوسي ، صاحب المنار حيث إنّه بعد ما نقل عبارة الآلوسي أعقبه بقوله : « إنّ في كلامه _ عفا الله عنه _ تحاملا على الشيعة وتكذيبا لهم في نقل وجد مثله في كتب أهل السنّة. والظاهر أنّه لم يطّلع على تفسير ابن جرير الطبري » (3).

ص : 64


1- ابن القيم : في هامش سنن أبي داود : 1 / 97 _ 98.
2- روح المعاني : 6 / 77.
3- تفسير المنار : 6 / 233.

أقول : قد نقل أيضا غير واحد أنّ ابن جرير قال بالتخيير بين المسح والغسل ، ولكن اللاّئح من عبارته هو الجمع بينهما ، فمن أمعن النظر في تفسير ابن جرير يقف على أمور ثلاثة :

الأوّل : أنّه رجّح قراءة الجرّ على النصب وقال : وأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضا ، لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللّذين وصفت ، ولأنّه بعد قوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فالعطف على الرءوس مع قربه منه أولى من العطف به على الأيدي ، وقد حيل بينه وبينها بقوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) (1).

الثاني : أنّه يروي روايات المسح بصدر رحب ولا يتضايق كما نقل روايات الغسل.

الثالث : أنّه قائل بالجمع بين المسح والغسل ، ومراده منه ليس هو التوضّؤ مرتين تارة بالغسل وأخرى بالمسح بالنداوة المتبقّية على اليد ، بل بغسلهما باليد ومسح الرجل بها ، وإليك نص عبارته قال :

« والصواب من القول عندنا في ذلك أنّ الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء ، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمّم ، فإذا فعل ذلك بهما المتوضّي كان مستحقّا اسم ماسح غاسل ، لأنّ غسلهما ، إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء ، ومسحهما إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليه ، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح » (2).

والعجب عن عدّة من الباحثين حيث نسبوا إلى الطبري القول بالتخيير ،

ص : 65


1- . تفسير الطبري : 6 / 83.
2- . تفسير الطبري : 6 / 83.

منهم : نظام الدين النيسابوري في تفسيره غرائب القرآن (1) والقرطبي (2) والشوكاني (3) والشعراني (4).

والعجب أيضا انّ الآلوسي نسب إلى ابن جرير القول بالغسل فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير (5).

( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً

لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ). (6)

ص : 66


1- تفسير غرائب القرآن بهامش تفسير الطبري : 6 / 74 ونسبه إلى الحسن البصري أيضا.
2- الجامع لأحكام القرآن : 6 / 92.
3- نيل الأوطار : 1 / 168.
4- ميزان الشعراني : 1 / 19 ، ط عام 1318 ه .
5- روح المعاني : 6 / 78.
6- النحل : 89.

15. وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن لسان أئمّة أهل البيت عليهم السلام

إنّ أئمّة أهل البيت هم المرجع الثاني للمسلمين بعد كتاب الله فيما اختلفوا فيه ، فإنّهم حفظة سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعيبة علمه ، فقد نصّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك في حديث الثقلين الذي اتّفق المسلمون على نقله وصحته وقال :

« إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي ». (1)

ص : 67


1- حديث متّفق عليه رواه أصحاب الصحاح والمسانيد. _ أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم وهو الحديث 873 من أحاديث كنز العمال : 1 / 173. _ أخرجه الإمام أحمد من حديث زيد بن ثابت في الجزء الخامس من مسنده : 492. _ أخرجه الطبراني في الكبير عن زيد بن ثابت أيضا وهو الحديث 873 من أحاديث الكنز : 1 / 173. _ أخرجه الحاكم في الجزء الثالث من المستدرك : 148 ، ثم قال : هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين. _ أخرجه الذهبي في تلخيص المستدرك : 3 / 148. معترفا بصحته على شرط الشيخين. _ أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري في الجزء الثالث من مسنده : 394 ، الحديث 10747. _ أخرجه ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن سعد عن أبي سعيد وهو الحديث 945 من أحاديث الكنز :1 / 186. _ أخرجه ابن حجر في أواخر الفصل 2 من الباب 9 من الصواعق المحرقة : 75.

فإذا كانت هذه مكانة أهل البيت ، فلنرجع إليهم في كيفيّة وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّهم ارتشفوا من عذب معين ، وحفظوا سنّة الرسول بنقل كابر عن كابر ، وإليك ما رووه :

1. عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد وأبي داود جميعا ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ، عن داود بن فرقد ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إنّ أبي كان يقول : إنّ للوضوء حدّا من تعدّاه لم يؤجر ، وكان أبي يقول : إنّما يتلدّد ، فقال له رجل : وما حدّه؟ قال : تغسل وجهك ويديك ، وتمسح رأسك ورجليك. (1)

2. علي ، عن أبيه ، ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان جميعا ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن زرارة قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ » فقلنا : بلى ، فدعا بقعب فيه شيء من ماء ، ثم وضعه بين يديه ، ثم حسر عن ذراعيه ، ثم غمس فيه كفّه اليمنى ، ثم قال : هكذا إذا كانت الكفّ طاهرة ، ثم غرف فملأها ماء فوضعها على جبينه ، ثم قال : « بسم الله » وسدله على أطراف لحيته ، ثم أمرّ يده على وجهه وظاهر جبينه مرة واحدة ، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ، ثم وضعه على مرفقه اليمنى وأمرّ كفّه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ثم غرف بيمينه ملأها ، فوضعه على مرفقه اليسرى ، وأمرّ كفّه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ومسح مقدم رأسه وظهر قدميه ببلّة يساره وبقية بلّة يمناه.

ص : 68


1- الكافي : ج 3 / 21 ، كتاب الطهارة ، باب مقدار الماء الذي يجزي للوضوء والغسل ومن تعدّى في الوضوء ، الحديث 3.

قال : وقال أبو جعفر عليه السلام : « إنّ الله وتر يحب الوتر ، فقد يجزئك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه واثنتان للذراعين ، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك وما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى » ، قال زرارة : قال أبو جعفر عليه السلام : « سأل رجل أمير المؤمنين عليه السلام عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكى له مثل ذلك ». (1)

3. علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن زرارة وبكير أنّهما سألا أبا جعفر عليه السلام عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدعا بطست أو تور فيه ماء ، فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبّها على وجهه فغسل بها وجهه ، ثم غمس كفّه اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردها إلى المرفق ، ثم غمس كفّه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق وصنع بها مثل ما صنع باليمنى ، ثم مسح رأسه وقدميه ببلل كفه ، لم يحدث لهما ماء جديدا ، ثم قال : ولا يدخل أصابعه تحت الشراك ، قال : ثم قال : إنّ الله عزّ وجلّ يقول :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ). (2)

فليس له أن يدع شيئا من يديه إلى المرفقين إلاّ غسله ، لأنّ الله يقول : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) ثم قال ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه.

قال : فقلنا : أين الكعبان؟ قال : هاهنا ، يعني : المفصل دون عظم الساق ،

ص : 69


1- الكافي : ج 3 / 25 ، كتاب الطهارة ، باب صفة الوضوء ، الحديث 4.
2- المائدة : 6.

فقلنا : هذا ما هو؟

فقال : هذا من عظم الساق ، والكعب أسفل من ذلك.

فقلنا : أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجزي للوجه وغرفة للذراع؟ قال : نعم إذا بالغت فيها والثنتان تأتيان على ذلك كلّه (1).

4. عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن داود بن النعمان ، عن أبي أيوب ، عن بكير ابن أعين ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذ بكفّه اليمنى كفّا من ماء فغسل به وجهه ، ثم أخذ بيده اليسرى كفّا من ماء فغسل به يده اليمنى ، ثم أخذ بيده اليمنى كفّا من ماء فغسل به يده اليسرى ، ثم مسح بفضل يديه رأسه ورجليه. (2)

( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ). (3)

ص : 70


1- الكافي : 3 / 25 ، كتاب الطهارة ، باب صفة الوضوء ، الحديث 5.
2- المصدر نفسه : الحديث 2.
3- الأحزاب : 33.

16. نظرة عامّة في أخبار الغسل

اشارة

قد تعرّفت على قضايا الكتاب ، والسنّة النبويّة الصحيحة ، في حكم الأرجل ، وأنّهما قد أطبقا على المسح ، من غير مرية ولا شكّ ، لكن بقي الكلام في المأثورات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تعرب عن كون حكمها هو الغسل ، فلا محيص عن دراستها وتحليلها. فنقول : إنّها على قسمين :

أ _ ما روي بسند صحيح ، رواه الشيخان البخاري ومسلم.

ب _ ما روي بسند ضعيف.

1. أخرج مسلم ، عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سرح ، وحرملة بن يحيى التجيبي ، قالا : أخبرنا ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، أنّ عطاء بن يزيد الليثي أخبره ، أنّ حمران مولى عثمان أخبره ، أنّ عثمان بن عفان دعا بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاث مرات ، ثم مضمض واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ نحو

ص : 71

وضوئي هذا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من توضّأ نحو وضوئي هذا ، ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيها نفسه غفر له ما تقدّم من ذنبه. (1)

2. أخرج البخاري ، عن موسى قال : حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : تخلّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنّا في سفرة سافرناها ، فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار ، مرتين أو ثلاثا (2).

3. أخرج مسلم ، عن زهير بن حرب ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن حمران مولى عثمان : أنّه رأى عثمان ، دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرّات فغسلهما ، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل رجليه ثلاث مرات ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

من توضّأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلّى ركعتين ، لا يحدث فيها نفسه غفر له ما تقدّم من ذنبه (3).

4. عن بشر بن المفضل ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتينا ، فحدثتنا أنّه ، قال : اسكبي لي وضوءا _ فذكرت وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم _ قالت فيه : فغسل كفّيه ثلاثا ، ووضأ وجهه

ص : 72


1- صحيح مسلم : 3 / 107 ، كتاب الطهارة ، الحديث برقم 226 ؛ أخرجه البخاري أيضا بسنده : 1 / 51 ، باب الوضوء ثلاثا ثلاثا ؛ سنن النسائي : 1 / 80 ، كتاب الطهارة ، باب حدّ الغسل ؛ جامع الأصول : 7 / 154 ؛ سنن الترمذي برقم 48 ، 49 في الطهارة ؛ مجمع الزوائد : 1 / 229.
2- صحيح البخاري : 1 / 52 ، باب غسل الرجلين.
3- صحيح مسلم : 3 / 111 ، الحديث برقم 4 ، باب صفة الوضوء وكماله.

ثلاثا ، ومضمض واستنشق مرة ، ووضأ يديه ثلاثا ثلاثا ، ومسح برأسه مرّتين ، بدأ بمؤخّر رأسه ، ثم بمقدمه ، وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما ، ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا (1).

5. حدثنا موسى قال : حدثنا وهيب ، عن عمرو ، عن أبيه قال : شهدت عمرو بن أبي حسن ، سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فدعا بتور من ماء ، فتوضّأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثا ، ثم أدخل يده في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات ، ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ، ثم أدخل يده فمسح رأسه فأقبل به وأدبر مرة واحدة ، ثم غسل رجليه إلى الكعبين (2).

إنّ هذه الروايات وان نقلت بسند صحيح ، لكنّ الاختلاف والتهافت في المضمون مريب جدا ومسقط لها عن الحجّية ، وكلّها تحكي وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ الاختلاف والتهافت فيها من جوانب أربعة :

1. الاختلاف في عدد غسل اليدين.

2. الاختلاف في مقدار المسح.

3. الاختلاف في كيفيّة المسح من جهة التقديم والتأخير.

4. الاختلاف في عدد مسح الرأس.

وإليك البيان :

أمّا الأوّل : ففي رواية حمران مولى عثمان أنّه غسل يده اليمنى إلى المرفقين

ص : 73


1- جامع الأصول : 7 / 164 برقم 5149 ، سنن الترمذي : 1 / 48 برقم 33 في الطهارة.
2- صحيح البخاري : 1 / 81 برقم 186.

ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك. ( أنظر الحديث 1 ).

وفي رواية عبد الله بن زيد : ثم غسل يده مرتين إلى المرفقين. ( أنظر الحديث 5 ).

وأمّا الثاني : ففي رواية الصحابية الربيع بنت معوذ بن عفراء : بأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما. ( أنظر الحديث 4 ) مع أنّ المذكور في غير هذه الرواية أنّه مسح رأسه دون أذنيه ظهورهما وبطونهما. ( أنظر الحديث 5 ).

وأمّا الثالث : ففي رواية الصحابيّة أنّه بدأ بمؤخّر رأسه ثم بمقدّمه ، ولكن في رواية عبد الله بن زيد : فمسح رأسه فأقبل بها وأدبر مرة واحدة. ( أنظر الحديث 5 ).

وأمّا الرابع : ففي رواية الصحابيّة أنّه مسح برأسه مرتين. ( أنظر الحديث 4 ) مع أنّ المذكور في غيرها أنّه مسح رأسه. الظاهر في كونه مرّة واحدة إذ لو كان متعددا لم يغفل الراوي عن نقله.

فوجوه الاختلاف هذه تعرب عن اضطراب الحديث وعدم إمكان الأخذ به ، وتصوّر أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ بكيفيّات مختلفة ، وإنّ كلّ واحد يروي ما رآه من الكيفيّة بعيد جدا خاصّة وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنّما يتوضّأ بأفضل الكيفيّات ما لم تكن هناك ضرورة على ترك الأفضل.

وأمّا رواية عبد الله بن عمر فهي على الخلاف أدلّ ، لأنّها تعرب أنّ عبد الله ابن عمر ورهطه كانوا يمسحون الأرجل طيلة أعوام ، ومن البعيد أن يكون مثله غافلا عما هو الواجب.

فليس في الرواية أذن أي دلالة على غسل الأرجل ، وإنّما توهم من توهم

ص : 74

ذلك ، لأنّ البخاري ذكرها تحت عنوان باب غسل الرجلين ، ومن المعلوم أنّ تبويب المحدّث وذكر الحديث تحت عنوان لا يثبت ظهورا له فيه ، فعلى المجتهد بذل الجهد في فهم الرواية.

بقي الكلام في أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لما ذا دعا بالويل للأعقاب من النار؟ فيه وجوه واحتمالات أرجحها أنّه كان قوم من طغام العرب يمشون حفاة ولا يبالون من تلبيس الأرجل بأي نجاسة ، وكانوا يتوضّئون ويمسحون أرجلهم دون غسلها قبل الوضوء من آثار النجاسة ، فتوعّدهم النبي بما قال.

على أنّ النبي من أفصح العرب وأفضل من نطق بالضاد ، فلو أراد بكلمته هذه التنبيه على وجوب غسل الأرجل لأتى بكلمة واضحة الدلالة ، ترشد المكلّف إلى وظيفته لا أن يتوصل بكلمة غامضة لإفادة مراده ، أعني قوله : « ويل للأعقاب من النار ».

وهذه هي حال الصحاح من الروايات ، وإليك ما نقل في ذلك المجال من ضعافها ، وحسبك ما نذكره فيما يلي :

1. عن ابن أبي مليكة قال : رأيت عثمان بن عفان يسأل عن الوضوء؟ فدعا بماء فأتى بميضاة ، فأصغى على يده اليمنى ، ثم أدخلها في الماء فتمضمض ثلاثا واستنثر ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يده اليمنى ثلاثا وغسل يده اليسرى ثلاثا أدخل يده فأخذ ماء فمسح برأسه وأذنيه فغسل بطونهما وظهورهما مرّة واحدة ، ثم غسل رجليه ، ثم قال : أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضّأ (1).

ص : 75


1- جامع الأصول : 7 / 155.

وفي سنده ابن أبي مليكة ، قال عنه البخاري وأحمد : منكر الحديث. (1) وقال ابن سعد : له أحاديث (2) ، وقال ابن معين : ضعيف ، وقال النسائي : متروك (3).

2. أخرج ابن ماجة بسنده عن هشام بن عمار ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن حريز بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن ميسرة ، عن المقدام بن معديكرب أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ فغسل رجليه ثلاثا ثلاثا (4).

وفي سنده عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي ، قال عنه ابن المديني : مجهول لم يرو عنه غير حريز بن عثمان (5).

3. أخبرنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد قال : حدثنا شعبة ، قال : أخبرني أبو جعفر المدني ، قال : سمعت ابن عثمان بن حنيف _ يعني : عمارة _ قال : حدثنا القيس ، قال : إنّه كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأتى بماء فقال على يديه من الإناء فغسلهما مرة ، وغسل وجهه وذراعيه مرة مرة وغسل رجليه بيمينه كلتيهما (6).

وفي سنده عمارة بن عثمان بن حنيف وهو مجهول ، فعن خزيمة بن ثابت أنّه لا يعرف (7).

4. عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه : أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 76


1- التأريخ الكبير : 5 / 260.
2- الطبقات الكبرى : 5 / 364.
3- الميزان : 2 / 550.
4- سنن ابن ماجة : 1 / 156 ، الحديث 457.
5- ميزان الاعتدال : 2 / 594 ، برقم 4986 ؛ الطبقات الكبرى : 7 / 457 ، الجرح والتعديل : 5 ، الترجمة 1362.
6- جامع الأصول : 7 / 165 برقم 5150 ؛ : سنن النسائي : 1 / 79 في الطهارة.
7- تهذيب الكمال : 21 / 254 برقم 4191 ؛ ميزان الاعتدال : 3 ، الترجمة 6032.

فقال : يا رسول الله ، كيف الطهور؟ ، فدعا بماء في إناء ، فغسل كفيه ثلاثا ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل ذراعيه ثلاثا ، ثم مسح برأسه ، فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه ، وبالسباحتين باطن أذنيه ، ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا ، ثم قال : هكذا الوضوء ، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم (1).

وفي سنده عمرو بن شعيب ، قال عنه أحمد بن حنبل : له أشياء مناكير وإنّما نكتب حديثه نعتبر به فأمّا أن يكون حجة ، فلا (2).

5. أخرج النسائي ، أخبرنا محمّد بن آدم ، عن ابن أبي زائدة ، قال : حدثني أبي وغيره ، عن أبي إسحاق ، عن أبي حية الوادعي ، قال : رأيت عليا توضأ فغسل كفّيه حتى أنقاهما ، ثم تمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا وغسل ذراعيه ثلاثا ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل قدميه إلى الكعبين ، ثم قام ، فأخذ فضل طهوره فشرب وهو قائم ثم قال : أحببت أن أريكم كيف كان طهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم (3).

وهذا الحديث ساقط بسقوط سنده من عدة جهات :

الأولى : أنّ إباحيّة راوي هذا الحديث نكرة من أبهم النكرات ، وقد أورده الذهبي في الكنى من ميزانه ، فنصّ على أنّه لا يعرف ، ثم نقل عن ابن المديني وأبي الوليد الفرضي النصّ على أنّه مجهول ، وقال أبو زرعة : لا يسمّى (4).

الثانية : أنّ هذا الحديث تفرّد به أبو إسحاق وقد شاخ ونسي واختلط ، فتركه

ص : 77


1- جامع الأصول : 7 / 161 برقم 5147 ؛ سنن أبي داود : برقم 122 في الطهارة.
2- سير أعلام النبلاء : 5 / 165 ؛ ميزان الاعتدال : 3 / 263 ؛ لسان الميزان : 7 / 325.
3- جامع الأصول : 7 / 153 ؛ سنن النسائي : 1 / 79 ، سنن الترمذي : 1 / 67 برقم 48 ؛ سنن ابن ماجة : 1 / 155 الحديث 456 ؛ مسند أحمد بن حنبل : 1 / 259 ، الحديث 1383.
4- ميزان الاعتدال : 4 / 519 برقم 10138 ؛ تهذيب الكمال : 33 / 269 برقم 7334.

الناس ولم يروه عنه إلاّ أبو الأحوص وزهير بن معاوية الجعفي ، فعابهم الناس بذلك ، قال أبو زرعة : إنّه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط (1).

الثالثة : أنّ هذا الحديث يعارض الأحاديث الثابتة عن أمير المؤمنين وعن أبنائه الميامين ، أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي والتنزيل ، ويخالف كتاب الله ، فليضرب به عرض الجدار.

6. عن عبد الرحمن بن عباد بن يحيى بن خلاد الزرقي ، قال : دخلنا على عبد الله بن أنيس ، فقال : ألا أريكم كيف توضّأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكيف صلّى؟ قلنا : بلى.

فغسل يديه ثلاثا ثلاثا ومسح برأسه مقبلا ومدبرا وأمس أذنيه وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا ، ثم أخذ ثوبا فاشتمل به وصلّى ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوضّأ ويصلّي. رواه الطبراني في الأوسط (2).

وفي سنده عبد الرحمن بن عباد بن يحيى بن خلاد الزرقي ، وهو مجهول لم أجد من ترجم له (3).

7. عن خالد بن معدان ، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يصلّي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء ، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة (4).

وفي سنده بقية بن الوليد ، وهو كثير التدليس عن الضعفاء ، وقال عبد الحق : بقية لا يحتج به (5).

ص : 78


1- ميزان الاعتدال : 2 / 86 ، ترجمة زهير بن معاوية برقم 2921.
2- مجمع الزوائد : 1 / 233.
3- مجمع الزوائد : 1 / 233.
4- جامع الأصول : 7 / 168 ؛ سنن أبي داود ، الحديث 175.
5- ميزان الاعتدال : 1 / 231 برقم 1250.

8. عن ابن عباس قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتطهّر وبين يديه إناء قدر المدّ وإن زاد فقلّ ما زاد ، وإن نقص فقلّ ما نقص ، فغسل يديه وتمضمض واستنشق ثلاثا ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا وخلّل لحيته ، وغسل ذراعيه ثلاثا ، ومسح برأسه وأذنيه مرتين مرتين ، وغسل رجليه حتى أنقاهما ، فقلت : يا رسول الله هكذا التطهّر؟ قال : هكذا أمرني ربي عزّ وجلّ (1).

وفي سنده نافع أبو هرمز ، ضعّفه أحمد وجماعة ، وكذّبه ابن معين ، وقال أبو حاتم : متروك ذاهب الحديث ، وقال النسائي : ليس بثقة (2).

9. عن أبي النضر : أنّ عثمان دعا بالوضوء وعنده الزبير وطلحة وعلي وسعد ، فتوضّأ وهم ينظرون ، فغسل وجهه ثلاث مرات ، ثم أفرغ على يمينه ثلاث مرات وعلى شماله ثلاث مرات ، ومسح برأسه ورشّ على رجله اليمنى ثلاث مرات ثمّ غسلها ، ثم رشّ على رجله اليسرى ثم غسلها ثلاث مرات ، ثم قال للّذين حضروا : أناشدكم الله عزّ وجلّ أتعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوضّأ كما توضّأت الآن؟ قالوا : نعم وذلك لشيء بلغه (3).

وفي سنده غسان ابن الربيع ، ضعّفه الدارقطني ، وقال عنه الذهبي : ليس بحجّة في الحديث (4).

10. عن وائل بن حجر قال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أتى بإناء فيه ماء ، فأكفأ على يمينه ثلاثا ، غمس يمينه في الإناء فأفاض بها على اليسرى ثلاثا ، ثم

ص : 79


1- مجمع الزوائد : 1 / 232.
2- ميزان الاعتدال : 4 / 243 برقم 9000.
3- مجمع الزوائد : 1 / 229.
4- ميزان الاعتدال : 3 / 334 برقم 6659.

غمس اليمنى فحفن حفنة من ماء فتمضمض بها واستنشق واستنثر ثلاثا ، ثم أدخل كفّيه في الإناء فحمل بهما ماء فغسل وجهه ثلاثا ، ثم خلّل لحيته ومسح باطن أذنيه وأدخل خنصره في داخل أذنه ليبلغ الماء ، ثم مسح رقبته وباطن لحيته من فضل ماء الوجه وغسل ذراعه اليمنى ثلاثا حتى جاوز المرفق وغسل اليسرى مثل ذلك باليمنى حتى جاوز المرفق ، ثم مسح على رأسه ثلاثا ومسح ظاهر أذنيه ومسح رقبته وباطن لحيته بفضل ماء الرأس ، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا وخلّل أصابعها وجاوز بالماء الكعب ورفع في الساق الماء ، ثم فعل في اليسرى مثل ذلك ، ثم أخذ حفنة من الماء بيده اليمنى فوضعه على رأسه حتى انحدر من جوانب رأسه ، وقال : هذا تمام الوضوء ، فدخل محرابه ، وصفّ الناس خلفه. رواه الطبراني في الكبير (1).

وفي سنده سعيد بن عبد الجبار ، قال عنه محمد بن مخلد الرعيني : لا يعرف (2).

وفي سنده أيضا محمد بن حجر ، قال عنه الزهري : مجهول (3).

11. عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا توضّأ أحدكم فليمضمض ثلاثا فإنّ الخطايا تخرج من وجهه ، ويغسل يديه ثلاثا ، ويمسح برأسه ثلاثا ، ثم يدخل يديه في أذنيه ، ثم يفرغ على رجليه ثلاثا. رواه الطبراني في الأوسط (4).

وفي سنده أبو موسى الحناط ، وهو متروك (5).

ص : 80


1- مجمع الزوائد : 1 / 232.
2- ميزان الاعتدال : 2 / 147 برقم 3224 ، تهذيب الكمال : 10 / 523 برقم 2307.
3- ميزان الاعتدال : 3 / 511 برقم 7360.
4- مجمع الزوائد : 1 / 233.
5- المصدر السابق.

12. محمّد بن جابر ، عن عبد الله بن بدر قال : نزل القرآن بالمسح ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغسل فغسلنا. رواه الطبراني في الكبير (1).

وفي سنده محمد بن جابر وهو ضعيف ، كان أعمى واختلط عليه حديثه ، وقال عنه عمرو بن علي : كثير الوهم ، متروك الحديث ، وقال البخاري : ليس بالقوي ، يتكلّمون فيه ، روى مناكير (2).

13. وعن ابن عباس : أنّ أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله كيف الوضوء؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوضوء فغسل يده اليمنى ثلاثا ، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء ، ثم مضمض واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ويديه ثلاثا ، ومسح برأسه وظاهر أذنيه مع رأسه ، ثم غسل رجليه ثلاثا ، ثم قال : هكذا الوضوء ، فمن زاد فقد تعدّى وظلم. رواه الطبراني في الكبير (3).

وفي سنده سويد بن عبد العزيز ، قال عنه البخاري : في بعض حديثه نظر ، وقال أحمد : ضعيف ، متروك ، وقال النسائي : ليس بثقة (4).

قد عرفت مكانة هذه الروايات من حيث ضعف رواتها وعدم وثاقتهم ، ومع ذلك كلّه فلنا حول هذه الروايات صحيحها وضعيفها تأمّلات :

1. يكفي في عدم صحّة الاحتجاج أنّها مخالفة لكتاب الله سبحانه ، ولا قيمة لرواية مهما صحّ سندها إذا كانت معارضة للكتاب ، ولا يمكن أن يقال أنّها ناسخة له ، لما عرفت أنّ الكتاب لا ينسخ بالرواية خصوصا الآحاد منها ، مضافا

ص : 81


1- مجمع الزوائد : 1 / 234.
2- تهذيب الكمال : 24 / 564 برقم 5110.
3- مجمع الزوائد : 1 / 231 ؛ المعجم الكبير : 11 / 62 ، الحديث 11091 ونقله الأخير بسنده الكامل.
4- ميزان الاعتدال : 2 / 251 برقم 3623.

إلى أنّ سورة المائدة هي السورة الأخيرة التي اتّفقت الأمّة على عدم نسخ شيء منها ، فهل يمكن أن ينزل الوحي في أواخر عمر النبي بالمسح ثم ينسخه بالغسل؟!

على أنّ حبر الأمّة وعيبة الكتاب والسنّة : عبد الله بن عباس كان يحتجّ بالكتاب على المسح ، ويقول : افترض الله غسلتين ومسحتين ، ألا ترى أنّه ذكر التيمم وجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين؟!

وكان يقول : الوضوء غسلتان ومسحتان ، ولمّا بلغه أنّ الربيع بنت معوذ بن عفراء الأنصارية تزعم أنّ النبي توضّأ عندها فغسل رجليه ، أتاها يسألها عن ذلك ، وحين حدّثته به قال _ غير مصدّق بل منكرا ومحتجا _ إنّ الناس أبو إلاّ الغسل ، ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح.

2. أنّها لو كانت حقّا لا ربت على التواتر ، لأنّ الحاجة إلى معرفة طهارة الأرجل في الوضوء حاجة عامّة لرجال الأمّة ونسائها ، أحرارها ومماليكها ، وهي حاجة ماسّة لهم في كلّ يوم وليلة ، فلو كان هناك حكم غير المسح بين الحدّين حيث دلّ عليه الكتاب ، لَعَلِمَهُ المكلّفون في عهد النبوة وبعده ، وكان مسلّما بينهم ، ولتواترت أخباره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل عصر ومصر ، فلا يبقى مجال لإنكاره ولا الريب فيه ، ولمّا لم يكن الأمر كذلك ظهر لنا الوهن المسقط لتلك الأخبار عن درجة الاعتبار.

معالجة روايات الغسل

قد عرفت دلالة القرآن الكريم على المسح وتضافر السنّة عليه ، فيبقى السؤال عن كيفيّة معالجة الروايات الدالة على الغسل ، فنقول هناك علاجان :

ص : 82

أ. نسخها بالقرآن

إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في فترة من عمره الشريف يغسل رجليه بأمر من الله سبحانه ، ولعلّ الحديث المعروف : « ويل للأعقاب من النار » ورد في تلك الفترة ، ولكن لمّا نزل القرآن الكريم بالمسح نُسِخَت السنّة بالقرآن الكريم.

وقد عرفت أنّ سورة المائدة آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينسخ منها شيء.

ب. إشاعة الغسل بعد نزول القرآن من قبل السلطة

لا شكّ أنّ القرآن دعا للمسح ، ولكن المصلحة لدى الخلفاء والحكام اقتضت إلزام الناس على غسل الأرجل بدل المسح لخبث باطن القدمين ، وبما أنّ قسما كبيرا منهم كانوا حفاة ، فراق في أنفسهم تبديل المسح بالغسل ، ويدلّ على ذلك بعض ما ورد في النصوص :

روى ابن جرير عن حميد ، قال : قال موسى بن أنس ونحن عنده : يا أبا حمزة أنّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه وذكر الطهور ، فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وإنّه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.

فقال أنس : صدق الله وكذب الحجّاج قال الله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّها (1).

وممّا يعرب عن أنّ الدعاية الرسمية كانت تؤيد الغسل ، وتؤاخذ من يقول

ص : 83


1- تفسير ابن كثير : 2 / 27 ؛ تفسير الطبري : 6 / 82.

بالمسح ، حتّى إنّ القائلين به كانوا على حذر من إظهار عقيدتهم فلا يصرّحون بها إلاّ خفية ، ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي مالك الأشعري أنّه قال لقومه : اجتمعوا أصلّي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا اجتمعوا ، قال : هل فيكم أحد غيركم؟ قالوا : لا ، إلاّ ابن أخت لنا ، قال : ابن أخت القوم منهم ، فدعا بجفنة فيها ماء ، فتوضّأ ومضمض واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ، ومسح برأسه وظهر قدميه ، ثم صلّى (1).

( الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ). (2)

ص : 84


1- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 342 ، المعجم الكبير : 3 / 280 برقم 3412.
2- هود : 1.

خاتمة المطاف: الآن حصحص الحق

لقد بانت الحقيقة وظهرت بأجلى مظاهرها وذلك بالأمور التالية :

1. تصريح الكتاب بمسح الأرجل وأنّ غسلها لا يوافق القرآن الكريم.

2. إنّ لفيفا من أعلام الصحابة وسنامها _ الذين هم عيبة السنّة وحفظة الآثار _ كانوا يمسحون وينكرون الغسل أشدّ الإنكار ، وقد وقفت على رواياتهم الكثيرة البالغة حدّ التضافر.

3. إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وفيهم : الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام بيّنوا وضوء رسول الله ، وانّه كان يمسح الأرجل بدل غسلها ، وقد مرت كلماتهم.

4. إنّ ما دلّ على غسل الأرجل ففيه الصحيح ، والضعيف ، بل الضعاف أكثر من الصحاح ، فعلى الفقيه معالجة تعارض الروايات الدالّة على الغسل ، بعرضها على الكتاب أوّلا وعلى السنّة الدالة على المسح ثانيا.

5. إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أمر المسلمين قاطبة بالأخذ بأقوال العترة حيث قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي » فالتمسّك بأقوالهم وأحاديثهم امتثال لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يصدر إلاّ عن الحق ، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسّك بما ينقذه من الضلالة ، ومن أخذ بواحد منهما فقد خالف الرسول.

ص : 85

مضافا إلى أنّ عليا _ باب علم النبيّ _ هو المعروف بالقول بالمسح ، ويقول الرازي في الاقتداء بعليّ : « ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهمّ أدر الحق مع علي حيث دار » (1).

6. إذا كان الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استنباط الأحكام عن أدلّتها الشرعيّة فلما ذا اختصّت هذه النعمة الكبرى بالأئمّة الأربعة دون سواهم ، وكيف صار السلف أولى بها من الخلف؟!

هذا ونظيره يقتضي لزوم فتح باب الاجتهاد في أعصارنا هذه والإمعان في عطاء الكتاب والسنّة في حكم هذه المسألة ونظائرها ممّا ستمرّ عليك في هذا الكتاب متجردا عن قول الأئمّة الأربعة ونظرائهم.

أنّ الاجتهاد رمز خلود الدين وصلاحيته للظروف والبيئات وليس من البدع المحدثة ، بل كان مفتوحا منذ زمن النبيّ وبعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم وقد أغلق لأمور سياسية عام 665 ه .

قال المقريزي في بدء انحصار المذاهب في أربعة : فاستمرت ولاية القضاة الأربعة من سنة 665 ه حتى لم يبق في مجموع أقطار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها ، وأنكر عليه ولم يولّ قاضٍ ولا قبلت شهادة أحد ما لم يكن مقلّدا لأحد هذه المذاهب وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم عداها ، والعمل على هذا إلى اليوم. (2)

ص : 86


1- مفاتيح الغيب : 1 / 111.
2- راجع الخطط المقريزية : 2 / 333 _ 344.

إكمال: آية الوضوء وكيفية غسل الأيدي

أنّ آية الوضوء نزلت لتعليم الأمّة كيفية الوضوء والتيمّم ، والمخاطب بها جميع المسلمين عبر القرون إلى يوم القيامة ، ومثلها يجب أن تكون واضحة المعالم مبيّنة المراد ، حتّى ينتفع بها القريب والبعيد والصحابي وغيره.

فالآية جديرة بالبحث من جانبين :

الأوّل : مسألة كيفية غسل اليدين ، وأنّه هل يجب الغسل من أعلى إلى أسفل أو بالعكس؟

الثاني : حكم الأرجل من حيث المسح أو الغسل.

فلنشرع في البحث في الجانب الأوّل.

قال سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ). (1)

اختلف الفقهاء في كيفية غسل اليدين ، فأئمّة أهل البيت وشيعتهم ، على أنّ الابتداء بالمرفقين إلى أطراف الأصابع وانّ هذه هي السنّة ، وحجتهم على ذلك هو ظاهر الآية المتبادر عند العرف ، فإنّ المتبادر في نظائر هذه التراكيب هو الابتداء من أعلى إلى أسفل ، فمثلا إذا قال الطبيب للمريض : اغسل رجلك بالماء الفاتر إلى الركبة ، يتبع المريض ما هو المتداول في غسل الرجل عند العرف ، وهو الغسل

ص : 87


1- المائدة : 6.

من أعلى إلى أسفل. أو إذا قال صاحب الدار للصبّاغ ، أصبغ جدران هذه الغرفة إلى السقف ، فيتبع الصبّاغ ما هو المألوف في صبغ الجدران من الأعلى إلى الأسفل ولا يدور بخلده ، أو بخلد المريض من أنّ مالك الدار أو الطبيب استخدم لفظة « إلى » لبيان انتهاء غاية الصبغ والغسل عند السقف والرجل بل لتحديد المقدار اللازم لهما.

وأمّا كيفية الغسل فمتروك إلى ما هو المتّبع والمتداول في العرف ، وهو _ بلا ريب _ يتبع الأسهل فالأسهل ، وهو الابتداء من فوق إلى تحت ، وما هذا إلاّ لأنّ المتكلّم بصدد تحديد العضو المغسول ، وهو اليد مع قطع النظر عن كيفية الغسل من حيث الابتداء والانتهاء ، فإذا كان هذا هو المفهوم ، فليكن الأمر كذلك في الآية المذكورة من دون أن نتكلّف بشيء من الوجوه التي يذكرها المفسّرون في تأييد أحد المذهبين.

نعم ، إنّ أساس الاختلاف في الابتداء بالمرفقين إلى أصول الأصابع أو بالعكس عندهم إنّما هو في تعيين متعلّق « إلى » في الآية الكريمة ، فهل هو قيد « للأيدي » أي المغسول ، أو قيد للفعل أعني : « واغسلوا »؟

فعلى الأوّل تكون الآية بمنزلة قولنا : « الأيدي إلى المرافق » يجب غسلها ، وإنّما جاء بالقيد لأنّ اليد مشترك تطلق على أصول الأصابع والزند والمرفق إلى المنكب ، ولما كان المغسول محددا إلى المرافق قيّدت اليد بقوله ( إِلَى الْمَرافِقِ ) ، ليفهم أنّ المغسول هو هذا المقدار المحدد من اليد ولو لا اشتراك اليد بين المراتب المختلفة وانّ المغسول بعض المراتب لما جاءت بلفظة « إلى » فالإتيان بها لأجل تحديد المقدار المغسول من اليد.

ص : 88

وعلى الثاني ، أي إذا قلنا بكونه قيدا للأمر بالاغتسال ، فربّما يوحي إلى ضرورة الابتداء من أصول الأصابع إلى المرفقين ، فكأنّه سبحانه قال : « الأيدي » اغسلوها إلى المرافق.

ولكن لا يخفى ما في هذا الإيحاء من غموض ، لما عرفت من أنّ المتّبع في نظائر هذه الأمثلة ما هو المتعارف وهو الابتداء من الأعلى إلى الأسفل.

أضف إلى ذلك : أنّه لو سلمنا أنّ حرف الجر قيد للفعل ، لا نسلم أنّه بمعنى « إلى » الذي هو لانتهاء الغاية ، بل يحتمل أن يكون بمعنى « مع » أي الأيدي اغسلوها مع المرافق ، وليس هذا بعزيز في القرآن والأدب العربي.

يقول سبحانه ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ). (1)

وقال سبحانه _ حاكيا عن المسيح _ ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ ) (2) ، أي مع الله.

وقوله سبحانه ( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ) (3) ، أي مع قوتكم.

ويقال في العرف : ولى فلان الكوفة إلى البصرة ، أي مع البصرة ، وليس في هذه الموارد من الغاية أثر.

وقال النابغة الذبياني :

ولا تتركني بالوعيد كأنّني إلى *** الناس مطليّ به القار أجرب

أراد مع الناس أو عند الناس.

وقال ذو الرمة :

بها كلّ خوار إلى كل صولة *** ورفض المذرعات الترائب

ص : 89


1- النساء : 2.
2- آل عمران : 52.
3- هود : 52.

وقال امرؤ القيس :

له كفل كالدعص لبّده الندى *** إلى حارك مثل الغبيط المذأب

أراد مع حارك. (1)

وعلى ضوء ذلك فليست « إلى » لبيان الغاية ، بل لبيان الجزء الواجب من المغسول سواء أكان الغسل من الأعلى أو من الأسفل.

هذا والدليل القاطع على لزوم الابتداء من الأغلى إلى الأسفل هو لزوم اتّباع ما هو المألوف في أمثال المورد كما سلف.

وقد نقل أئمّة أهل البيت عليهم السلام وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنحو التالي :

أخرج الشيخ الطوسي بسنده عن بكير وزرارة بن أعين ، أنّهما سألا أبا جعفر عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا بطست أو بتَوْر (2) فيه ماء ، فغسل كفّيه ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في التور فغسل وجهه بها ، واستعان بيده اليسرى بكفّه على غسل وجهه ، ثمّ غمس كفّه اليسرى في الماء فاغترف بها من الماء فغسل يده اليمنى من المرفق إلى الأصابع لا يردّ الماء إلى المرفقين ، ثمّ غمس كفّه اليمنى في الماء فاغترف بها من الماء فأفرغه على يده اليسرى من المرفق إلى الكفّ لا يردّ الماء إلى المرفق كما صنع باليمنى ، ثمّ مسح رأسه وقدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه ولم يجدد ماء. (3)

( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ

وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ). (4)

ص : 90


1- رسائل الشريف المرتضى : الرسالة الموصلية الثالثة : 213 _ 214.
2- التوْر : إناء صغير.
3- تهذيب الأحكام : 1 / 59 برقم 158.
4- المائدة : 6.

2. المسح على الخفّين اختيارا في الحضر والسفر

اشارة

ص : 91

ص : 92

2. المسح على الخفّين اختيارا في الحضر والسفر

حكي عن كثير من الصحابة والتابعين جواز المسح على الخفّين ، في الحضر والسفر اختيارا من دون ضرورة تقتضيه ، وانّ المكلّف مخيّر بمباشرة الرجلين بالغَسْل ، والخفّين بالمسح ، مع اتّفاقهم على عدم جواز المسح على الرجلين مكان الغَسْل اختيارا واضطرارا.

غير انّ لفيفا من الصحابة وأئمّة أهل البيت قاطبة ، أنكروا جواز المسح على الخفّين ، أشدّ الإنكار كما ستوافيك كلماتهم وفي مقدّمتهم :

1. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

2. حبر الأمّة عبد الله بن عباس.

3. أمّ المؤمنين عائشة.

4. عبد الله بن عمر ، وإن حكي عنه العدول أيضا.

5. الإمام مالك على إحدى الروايتين ، فقد أنكر جواز المسح على الخفّين في آخر أيّامه.

ص : 93

قال الرازي : وأمّا مالك فإحدى الروايتين عنه انّه أنكر جواز المسح على الخفّين ، ولا نزاع انّه كان في علم الحديث كالشمس الطالعة فلو لا انّه عرف فيه ضعفا وإلاّ لما قال ذلك ، والرواية الثانية عن مالك انّه ما أباح المسح على الخفّين للمقيم وأباحه للمسافر مهما شاء من غير تقدير فيه. (1)

وروى النووي في « المجموع » عن مالك ست روايات ، إحداها : لا يجوز المسح ، الثانية : يجوز ولكنّه يكره ، الثالثة : يجوز أبدا وهي الأشهر عنه والأرجح عند أصحابه ، الرابعة : يجوز مؤقتا ، الخامسة : يجوز للمسافر دون الحاضر ، السادسة : عكسه. (2)

6. أبو بكر محمد بن داود الظاهري ، وهو ابن داود الذي ينسب إليه المذهب الظاهري. (3)

هذا هو موقف الصحابة والتابعين وإمام الظاهريّة في المسألة ، والمهم هو دراسة الأدلّة ، فإنّ الإجماع غير محقّق في المسألة وقد عرفت وجود الاختلاف بينهم ، وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نرى من الأجدر أن نشير إلى نكتة مهمة في المقام.

إنّ الاختلاف في الرأي إنّما يكون سائغا إذا كان نتيجة الاجتهاد في فهم الأدلّة ، كاختلاف المصلّين في غَسْل الأرجل ومَسْحِهما ، لأجل الاختلاف في عطف ( أَرْجُلَكُمْ ) في قوله سبحانه ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) _ حيث اختلفوا _ في أنّها هل هي معطوفة على ( بِرُؤُسِكُمْ ) فلا بد من مسحهما أو على « الوجوه والأيدي » المذكورتين في الجملة السابقة فلا بد من

ص : 94


1- التفسير الكبير : 11 / 163.
2- . المجموع : 1 / 500.
3- . المجموع : 1 / 500.

غسلهما؟ فبذلك صار المسلمون على طائفتين مختلفتين في حكم الأرجل.

وهذا النوع من الاختلاف إنّما يتصوّر فيما إذا كان في المسألة دليل من الكتاب والسنّة قابل للاجتهاد وبالتالي قابل للاختلاف في الاستظهار ، وأمّا إذا لم يكن فيها أيّ دليل لفظي ، غير ادّعاء رؤية عمل النبي وانّه كان يمسح على الخفّين فالاختلاف في مثلها عجيب جدّا ، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوضّأ أمام الناس ، ليله ونهاره وكان الناس يتسابقون بالتبرّك بماء وضوئه ، ومع ذلك صارت الصحابة بعد رحيله على صنفين ، بين مثبت للمسح على الخفّين مطلقا ، وناف كذلك ، ومفصل بين الحضر والسفر ، مع أنّ الطائفة النافية كانوا هم الذين يلازمونه طيلة حياته ، في إقامته وظعنه كعلي وعائشة وكانوا يعدّون شعارا بالنسبة إليه صلى الله عليه وآله وسلم لا دثارا.

وعلى كلّ تقدير فالمتّبع هو الدليل ، وإليك دراسة أدلّة النافين ، فقد احتجّوا بالكتاب والسنّة واتّفاق أئمّة أهل البيت.

1. الاحتجاج بالكتاب العزيز

قال سبحانه ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ). (1)

فظاهر الآية فرض مباشرة الأرجل نفسها والمسح على الخفّين ليس مسحا على الأرجل ، والآية ، في سورة المائدة المشتملة على آية الوضوء ، وهي آخر سورة نزلت على النبي كما نصّت عليه أمّ المؤمنين عائشة.

روى الحاكم عن جبير بن نفير ، قال : حججت فدخلت على عائشة وقالت لي : يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت : نعم ، قالت : أما إنّها آخر سورة نزلت ، فما وجدتم

ص : 95


1- المائدة : 6.

فيها من حلال فاستحلّوه ، وما وجدتم من حرام فحرّموه.

ثمّ قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه.

ونقل أيضا عن عبد الله بن عمرو ، انّ آخر سورة نزلت ، سورة المائدة. وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وأقرّه الذهبي وصححه. (1)

وعلى هذا فليس لنا العدول عمّا في هذه السورة من الأحكام إلاّ بدليل قطعي يصحّ نسخ الكتاب به إذا قيل بجوازه في الحضر أو السفر اختيارا ولو مدة قصيرة.

قال الرازي : أجمع المفسرون على أنّ هذه السورة ( المائدة ) لا منسوخ فيها البتة إلاّ قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ) فإنّ بعضهم قال هذه الآية منسوخة ، وإذا كان كذلك امتنع القول بأنّ وجوب (2) غسل الرجلين منسوخ.

ثمّ إنّ خبر المسح على الخفّين بتقدير انّه كان متقدّما على نزول الآية ، كان خبر الواحد منسوخا بالقرآن ، ولو كان بالعكس كان خبر الواحد ناسخا للقرآن. (3) ولا ينسخ القرآن بخبر الواحد مهما بلغ من الصحة.

2. الاحتجاج بالسنّة

روى البيهقي عن ابن عمر قال : توضّأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّة مرّة ثمّ قال : هذا وضوء من لا تقبل له صلاة إلاّ به ، ثمّ توضّأ مرّتين مرّتين ثمّ قال : هذا وضوء من

ص : 96


1- مستدرك الحاكم : 2 / 311.
2- يريد الوجوب التعيّني لمن له خفّ.
3- تفسير الرازي : 11 / 163.

يضاعف له الأجر مرتين ، ثمّ توضّأ ثلاثا ثلاثا ثمّ قال : هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي. (1)

ولا شكّ انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم باشر الفعل بالرجلين دون الخف ، لأنّه لو أوقع الفعل على الخفّين لم يحصل الإجزاء إلاّ به وذلك منفي اتفاقا ، وعلى ضوء ذلك فمن توضّأ ومسح على الخفّين لا تقبل صلاته حسب تصريح الرسول.

3. إجماع أئمة أهل البيت عليهم السلام

اشارة

اتّفق أئمّة أهل البيت عليهم السلام على المنع. وقد تضافرت الروايات عنهم ، نذكر منها ما يلي :

1. روى الشيخ الطوسي في « التهذيب » بسند صحيح عن زرارة بن أعين ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قلت له : في مسح الخفّين تقية؟ فقال : « ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحدا : شرب المسكر ، ومسح الخفّين ، ومتعة الحجّ ». (2)

2. روى الشيخ الطوسي بسنده عن أبي الورد قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : إنّ أبا ظبيان حدّثني أنّه _ رأى عليا عليه السلام _ أراق الماء ثمّ مسح على الخفّين فقال : « كذب أبو ظبيان ، أما بلغك قول علي عليه السلام فيكم سبق الكتاب الخفّين ». فقلت : فهل فيهما رخصة؟ فقال : « لا ، إلاّ من عدوّ تقية ، أو ثلج تخاف على رجليك ». (3)

3. روى الشيخ الطوسي عن زرارة ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : سمعته

ص : 97


1- السنن الكبرى : 1 / 80 ، باب فضل التكرار في الوضوء ، ورواه ابن ماجة في سننه : 1 / 419. ولاحظ أحكام القرآن للجصاص : 3 / 351.
2- التهذيب : 1 / 362 ، الحديث 1093.
3- التهذيب : 1 / 362 ، الحديث 1092.

يقول : جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم عليّ عليه السلام ، فقال : ما تقولون في المسح على الخفّين؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح الخفّين. فقال علي عليه السلام : « قبل المائدة أو بعدها؟ » فقال : لا أدري. فقال علي عليه السلام : « سبق الكتاب الخفّين. إنّما أنزلت المائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة ». (1)

4. روى الصدوق بإسناده عن ثابت الثمالي ، عن حبابة الوالبية في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قالت سمعته يقول : « إنّا أهل بيت لا نمسح على الخفّين ، فمن كان من شيعتنا فليقتد بنا وليستنّ بسنتنا. (2)

وقال في مكان آخر : _ ولم يعرف للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خفّ إلاّ خفّ أهداه له النجاشي وكان موضع ظهر القدمين منه مشقوقا ، فمسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجليه وعليه خفّاه ، فقال الناس : إنّه مسح على خفّيه ». (3)

5. روى الصدوق بإسناده عن الأعمش ، عن جعفر بن محمد عليه السلام قال : « هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسّك بها ، وأراد الله هداه : إسباغ الوضوء كما أمر الله في كتابه الناطق ، غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ، ومسح الرأس والقدمين إلى الكعبين مرّة مرّة ومرّتان جائز ، ولا ينقض الوضوء إلاّ البول والريح والنوم والغائط والجنابة ، ومن مسح على الخفّين فقد خالف الله ورسوله وكتابه ، ووضوؤه لم يتمّ ، وصلاته غير مجزية. ». (4)

ص : 98


1- التهذيب : 1 / 361 ، الحديث 1091.
2- الفقيه : 4 / 298 ح 898.
3- الفقيه : 1 / 48 ، الحديث 10 من أحاديث حدّ الوضوء. ولاحظ سنن البيهقي : 1 / 282 ففيها ما يؤيد مضمون ذلك الحديث.
4- الوسائل : 1 / 279 ، الحديث 18 من الباب 15 من أبواب الوضوء.

6. ما تضافر عن علي عليه السلام أنّه كان يحتج على القائل بالجواز ، بأنّ الكتاب سبق المسح على الخفّين. (1)

ما يدعم القول بالمنع

إنّ هناك وجوها تدعم القول بالمنع نذكرها تباعا :

7. ما روي عن ابن عباس ( رض ) قال : سلوا هؤلاء الذين يروون المسح هل مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول المائدة؟ والله ما مسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول المائدة ، ولئن أمْسَحُ على ظهر عنز في الصلاة أحب إليّ من أن أمسح على الخفّين. (2)

8. وما روي عن عائشة أنّها قالت : لئن تقطع قدماي أحبّ إليّ من أن أمسح على خفّين. (3)

نعم نقل غير واحد انّ عليا وعائشة رجعا عن القول بالمنع ، إلى القول بالجواز.

غير انّ قولهم بالمنع ثابت عند الجميع ورجوعهم عمّا قالا ، خبر واحد لا يصح الاعتماد عليه في المقام.

على أنّ الإمام عليّا وعائشة كانا مع النبي ليله ونهاره ، فكيف يمكن أن يقال : خفي عليهما كيفية وضوء النبي فأفتيا بالمنع ولمّا تبيّن الحق ، عدلا عن قولهما؟!

9. انّ الأخذ بالجواز لو كان متأخّرا عن نزول المائدة كان ناسخا للقرآن الكريم ، والقرآن لا ينسخ بخبر الواحد ، وقد اتّفق الأصوليون إلاّ من شذّ على ما

ص : 99


1- سنن البيهقي : 1 / 272 ، عمدة القارئ : 3 / 97 ، نيل الأوطار : 1 / 223.
2- المبسوط للسرخسي : 1 / 98 ، تفسير الرازي : 11 / 163 وفي لفظ الرازي : لأمسح على جلد حمار.
3- المبسوط : 1 / 98.

ذكرنا ، فلا محالة يكون الحديث معارضا للقرآن الكريم وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « إذا روي لكم عني حديث فأعرضوه على كتاب الله ، فإن وافقه فاقبلوه وإلاّ فردّوه ». (1)

10. اتّفق فقهاء السنّة على أنّ مسح البشرة لا يغني عن الغسل ، فالقول بأنّ المسح على الخفّين يغني عن غَسْل الرجلين أمر عجيب يخالف العقل الصريح.

11. الاختلاف الشديد بين الفقهاء في الجواز وعدمه يوجب سقوط الروايات المجوزة والمانعة فلا محيص من الرجوع إلى ظاهر كتاب الله.

12. انّ المسح على الخفّين اختيارا مكان الغسل أو المسح لو كان أمرا مشروعا ، لعرفه الصحابة كلّهم ولم يقع بينهم نزاع ولبلغ مبلغ التواتر مع انّا نرى أنّ النزاع كان بينهم على قدم وساق.

كلّ ذلك يدلّ على عدم الجواز ، وعلى فرض ثبوت المسح على الخفّين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمكن الجمع بينه وبين الآية الكريمة بالوجهين التاليين :

أ. أن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفّين في فترة خاصة قبل نزول آية الوضوء في سورة المائدة ، والكتاب نسخ ما أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبهذا يمكن الجمع بين جواز المسح على الخفّين ، ولزوم مباشرة الرجلين ، وما روي عن علي عليه السلام متضافرا بأنّه سبق الكتاب الخفّين يشير إلى ذلك ، وأنّ المسح على الخفّين كان رخصة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فترة من الزمان ، غير أنّ الكتاب نسخ هذه الرخصة.

ب. انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح على خفّ أهداه له النجاشي وكان موضع ظهر

ص : 100


1- التفسير الكبير : 11 / 163.

القدم منه مشقوقا غير مانع عن مسح البشرة ، فمسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجليه وعليه خفّاه ، فقال الناس : إنّه صلى الله عليه وآله وسلم مسح على خفّيه ، من دون التفات إلى أنّه لم يمسح على نفس الخفّ بل على الرجلين تحت الخفّ. (1)

وبما ذكرنا من الوجهين يمكن الجمع بين ما نقل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنّه مسح على الخفّين وما يستفاد من الكتاب من لزوم مباشرة الرجلين وما عليه أئمّة أهل البيت عليهم السلام ولفيف من الصحابة وعلى رأسهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي عرفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : « عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض ». (2)

والذي قال الإمام الرازي في حقّه في مسألة الجهر بالبسملة _ حيث كان علي عليه السلام يرى لزوم الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية _ : ومن اتّخذ عليّا إماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه. (3)

إلى هنا تمت دراسة أدلّة القائلين بالمنع ، فهلمّ معي ندرس أدلّة القائلين بالجواز.

أدلّة القائلين بجواز المسح

اشارة

قد تعرفت على أدلّة القائلين بالمنع ، فهلمّ معي ندرس أدلّة القائلين بالجواز ، وهي عبارة عن عدّة روايات :

الأوّل : رواية جرير بن عبد الله البجلي

احتجّ القائلون بالجواز بما رواه مسلم في صحيحه عن جرير ( بن عبد الله

ص : 101


1- لاحظ ص 98 ، رقم 4.
2- تاريخ بغداد : 14 / 321 ؛ ومجمع الزوائد : 7 / 232.
3- التفسير الكبير : 1 / 207.

البجلي ) وروي عن إبراهيم الأدهم أنّه قال : ما سمعت في المسح على الخفّين أحسن من حديث جرير. (1)

فأخرج مسلم عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام قال : بال جرير ثمّ توضّأ ومسح على خفّيه ، فقيل : تفعل هذا قال : نعم ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بال ثمّ توضأ ومسح على خفّيه.

قال الأعمش ، قال إبراهيم : كان يعجبهم هذا الحديث ، لأنّ إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.

وقد فسر النووي وجه إعجابهم بقوله : إنّ الله تعالى قال في سورة المائدة : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) فلو كان إسلام جرير متقدّما على نزول المائدة ، لاحتمل كون حديثه في مسح الخف منسوخا بآية المائدة ، فلمّا كان إسلامه متأخّرا علمنا أنّ حديثه يعمل به ، وهو مبين انّ المراد بآية المائدة غير صاحب الخف ، والسنّة مخصّصة للآية ، والله أعلم. (2)

يلاحظ عليه : أوّلا : بأنّه خبر واحد لا ينسخ الكتاب به ، فان للكتاب العزيز مكانة عظيمة لا يجاريه شيء سوى السنة المتواترة أو الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم لا الخبر الواحد فضلا عن حديث يتعجّب راويه عن عمل جرير ، فلو كان شيئا شائعا بين المسلمين لما تعجّب منه.

وثانيا : أنّ الاحتجاج به فرع أن يكون إسلام جرير بعد نزول المائدة وهو غير ثابت ، بل الثابت خلافه حيث أسلم قبله.

ص : 102


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 3 / 164 _ 165 ، الحديث 72.
2- المصدر السابق : 3 / 168.

قال ابن حجر العسقلاني : جزم ابن عبد البر « انّ جريرا أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأربعين يوما » ، وهو غلط ، ففي الصحيحين عنه انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له : استنصت الناس في حجة الوداع ، وجزم الواقدي بأنّه وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان سنة عشر وانّ بعثه إلى ذي الخلصة كان بعد ذلك وانّه وافى مع النبي حجّة الوداع من عامه _ إلى أن قال : _ إنّ الشعبي حدّث عن جرير انّه قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ أخاكم النجاشي قد مات ، أخرجه الطبراني فهذا يدلّ على أنّ إسلام جرير كان قبل سنة عشر ، لأنّ النجاشي مات قبل ذلك. (1)

أقول : إنّ النجاشي قد توفي في حياة النبي في شهر رجب سنة تسع من الهجرة.

قال الذهبي : قال النبي للناس : أنّ أخا لكم قد مات بأرض الحبشة ، فخرج بهم إلى الصحراء وصفّهم صفوفا ، ثمّ صلّى عليه ، فنقل بعض العلماء انّ ذلك كان في شهر رجب سنة تسع من الهجرة. (2)

ونقل في الموسوعة العربية العالمية أنّه توفّى في عام تسع من الهجرة يعادل 630 ميلادية. (3)

وعلى ضوء هذا فلا يصحّ الاحتجاج بخبر جرير ، لأنّه من المحتمل جدّا أن يكون عمل النبي قبل نزول المائدة بكثير ، فنسخته سورة المائدة كما قال علي عليه السلام : « سبق الكتاب الخفّين ».

ولو احتملنا أنّ إسلامه كان بعد سورة المائدة ، فهو خبر واحد لا ينسخ به

ص : 103


1- الإصابة : 1 / 234 ، ترجمة جرير ، برقم 1136.
2- سير أعلام النبلاء : 1 / 443 برقم 86.
3- الموسوعة العربية العالمية : 25 / 220.

الكتاب فان للكتاب ، منزلة عظيمة لا يعادلها شيء.

الثاني : رواية المغيرة بن شعبة

أخرج مسلم بسنده عن الأسود بن هلال ، عن المغيرة بن شعبة قال : بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة إذ نزل فقضى حاجته ، ثمّ جاء فصببت عليه من إداوَة كان معي ، فتوضّأ ومسح على خفّيه.

وقد أخرجه بطرق أخرى كلّها تنتهي إلى المغيرة بن شعبة. (1)

يلاحظ على الرواية : أوّلا : أنّ المغيرة بن شعبة لا يحتج بحديثه لسوابقه النكراء قبل إسلامه وبعده على الرغم من أنّ له في الصحيحين اثني عشر حديثا ، ويكفي في ذلك ما نتلوه عليك من جريمته المروّعة على قومه.

1. روى المؤرّخون : وَفَد المغيرة مع نفر من بني مالك على المقوقس فأهدى لهم ما أهدى ، فلمّا خرجوا من عنده أقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهلهم فخرجوا وحملوا معهم الخمر.

يقول المغيرة : كنّا نشرب الخمر فأجمعت على قتلهم فتمارضت ، وعصبت رأسي ، فوضعوا شرابهم ، فقلت : رأسي يُصدَّع ولكنّي أُسقيكم فلم ينكروا ، فجعلت أسرف لهم ، وأترع لهم جميعا الكأس ، فيشربون ولا يدرون حتى ناموا سكرا ، فوثبت وقتلتهم جميعا وأخذت ما معهم ، فقدمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدته جالسا في المسجد مع أصحابه وعليّ ثياب سفر ، فسلّمت ، قال أبو بكر : أمن مصر أقبلتم؟ قلت : نعم ، قال : ما فعل المالكيون؟ قلت : قتلتهم ، وأخذت أسلابهم ، وجئت بها إلى رسول الله ليخمسها ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « أمّا إسلامك فنقبله ولا آخذ من أموالهم

ص : 104


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 3 / 171 ، برقم 76 ولاحظ رقم 75 و 77 و 78 و 80.

شيئا ، لأنّ هذا غدر ولا خير في الغدر » فأخذني ما قرب وما بعد.

قلت : إنّما قتلتهم وأنا على دين قومي ، ثمّ أسلمت الساعة.

قال : « فإنّ الإسلام يجبّ ما كان قبله ».

وكان قتل منهم ثلاثة عشر. (1)

هذه جريمته النكراء في عهد الجاهلية وتكشف عن خبث باطنه وطينته حيث قتل ثلاثة عشر شخصا من أرحامه طمعا في أموالهم ، والإسلام وإن كان يجبّ ما قبله من حيث الحكم التكليفي ، إلاّ أنّه لا يغيّر خبث سريرة الإنسان الذي شبّ عليه إلاّ بالعكوف على باب التوبة والانقطاع إلى الأعمال الحسنة والتداوم عليها والتي تنمّ عن تبدّل حاله وإيقاظ ضميره.

هذه صحيفة حياته السوداء قبل الإسلام ، وأمّا بعده فلم تختلف كثيرا ، ويشهد على ذلك الأمور التالية :

2. أخرج الذهبي عن عبد الله بن ظالم قال : كان المغيرة ينال في خطبته من علي ، وأقام خطباء ينالون منه ، وذكر الحديث في العشرة المشهود لهم بالجنة لسعيد بن زيد. (2)

3. انّ معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل على ذلك جعلا يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضوه ، منهم المغيرة بن شعبة. (3)

4. أخرج أحمد في مسنده عن قطبة بن مالك قال : نال المغيرة بن شعبة من

ص : 105


1- سير أعلام النبلاء : 3 / 25 ، رقم الترجمة 7.
2- سير أعلام النبلاء : 3 / 31 ، رقم الترجمة 7.
3- شرح نهج البلاغة : 1 / 358.

علي ، فقال زيد بن أرقم : قد علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى عن سبّ الموتى فلم تسبّ عليّا وقد مات. (1)

5. وقد أخرج أيضا في مسنده أحاديث نيله من أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته واعتراض سعيد بن زيد عليه. (2)

6. قال ابن الجوزي في كتاب « الأذكياء » : قال : قدمت الخطباء إلى المغيرة بن شعبة بالكوفة ، فقام صعصعة بن صوحان فتكلّم ، فقال المغيرة : أرجوه فأقيموه على المصطبة فليلعن عليا ، فقال : لعن الله من لعن الله ولعن علي بن أبي طالب ، فأخبره بذلك ، فقال : أقسم بالله لتقيّدنه ، فخرج ، فقال : انّ هذا يأبى إلاّ علي بن أبي طالب فالعنوه لعنه الله ، فقال المغيرة : أخرجوه أخرج الله نفسه. (3)

إنّ سوابقه تحكي على أنّه كان داهية يستغل دهاءه لنيل مآربه بأي قيمة كانت وإن انتهت على حساب الإسلام.

7. روى الذهبي أنّ معاوية دعا عمرو بن العاص بالكوفة ، فقال : أعنّي على الكوفة ، قال : كيف بمصر؟ قال : استعمل عليها ابنك عبد الله بن عمرو ، قال : فنعم ، فبينا هم على ذلك جاء المغيرة بن شعبة _ وكان معتزلا بالطائف _ فناجاه معاوية ، فقال المغيرة : تؤمّر عمرا على الكوفة ، وابنه على مصر وتكون كالقاعد بين لحيي الأسد ، قال : ما ترى؟ قال : أنا أكفيك الكوفة ، قال : فافعل. فقال معاوية لعمرو حين أصبح : إنّي قد رأيت كذا ، ففهم عمرو ، فقال : ألا أدلّك على أمير الكوفة؟ قال : بلى ، قال : المغيرة ، واستغن برأيه وقوته عن المكيدة ، واعزله عن

ص : 106


1- مسند أحمد : 4 / 369.
2- المسند : 1 / 188.
3- كتاب الأذكياء : 142 ، طبع دار الفكر.

المال ، قد كان قبلك عمر وعثمان فعلا ذلك ، قال : نِعْمَ ما رأيت ، فدخل عليه المغيرة ، فقال : إنّي كنت أمّرتك على الجند والأرض ، ثمّ ذكرت سنّة عمر وعثمان قبلي ، قال : قد قبلت. (1)

وكفت سنّة عمر وعثمان في حقّه في الدلالة على مدى ما كان يتمتّع به الرجل من الأمانة والورع في حقوق المسلمين وأموالهم!!

8. والذي يشهد على موبقات الرجل وانّه لم يتغير عمّا كان عليه في عصر الجاهلية انّه اتّهم بالزنا وهو أمير الكوفة في عصر الخليفة عمر بن الخطاب وشهد عليه شهود أربعة ، منهم : أبو بكرة ونافع وشبل فشهدوا على أنّهم رأوه يولجه ويخرجه ويلج ولوج المِرْوَد في المكحلة فلمّا حاول رابع الشهود وهو زياد بن أبيه حاول الخليفة أن يدرأ عنه الحد للشبهة فخاطبه بقوله : إنّي لأرى رجلا لم يخز الله على لسانه رجلا من المهاجرين ، فقال له الخليفة : أرأيته يدخله كالميل في المكحلة؟ فقال : لا ، ولكنّي رأيت مجلسا قبيحا وسمعت نَفَسا عاليا ورأيته متبطّنها (2). وبذلك درأ عنه الحدّ بالشبهة.

فهذه مكانة الرجل بين المسلمين ، أفيمكن أن يقبل حديث ذلك الرجل في أمر عبادي يمارسه المسلمون في نهارهم وليلهم؟!

وثانيا : نفترض انّه رجل يحتج بحديثه وانّ الإسلام جبّ ما قبله ، ولكنّه من أين ثبت انّ فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بعد نزول المائدة؟ إذ من المحتمل أن يكون قبله بكثير ، وقد أسلم الرجل قبل صلح الحديبية الذي كان في العام السادس ، ويؤيد

ص : 107


1- سير أعلام النبلاء : 3 / 30 ، رقم الترجمة 7.
2- سير أعلام النبلاء : 3 / 28 ، رقم الترجمة 7 ؛ الأغاني : 14 / 146 ؛ تاريخ الطبري : 4 / 207 ؛ الكامل : 2 / 228 ، إلى غير ذلك من المصادر المتوفرة.

ذلك ما رواه الذهبي عن أبي إدريس قال : قدم المغيرة بن شعبة دمشق فسألته ، قال : وضّأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك فمسح على خفّيه. (1)

الثالث : دراسة سائر الروايات

قد روى غير واحد من المحدّثين فعل النبي في السفر أو في السفر والحضر وأنّه مسح على الخفّين ، والغالب عليها هو نقل فعل النبي من دون أن يذكر فيها لفظه وأنّه أمر لفظا بالمسح على الخفّين ، وعلى فرض أنّه أمر بالمسح على الخفين لم تُعيّن ظروف العمل ، وقد جمع أبو بكر البيهقي عامّة الروايات في السنن ، فنذكر قسما كبيرا ممّا رواه :

1. عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفّين.

2. عن حذيفة قال : مشى رسول الله إلى سباطة قوم فبال قائماً ، ثمّ دعا بماء فجئته بماء فتوضّأ ومسح على خفّيه. وقال : رواه البخاري في الصحيح عن آدم بن أبي إياس ، ورواه مسلم من وجه آخر عن الأعمش.

وكفى في ضعف الرواية الثانية أنّه نسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يليق بمنزلته ومكانته ولا يرتكبه إلاّ الأراذل من الناس.

كيف يمكن أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم انّه بال قائماً مع أنّ المروي عن ابن مسعود انّه قال : من الجفاء أن تبول وأنت قائم ، وكان سعد بن إبراهيم لا يجيز شهادة من بال قائماً.

قالت عائشة : من حدّثكم انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبول قائماً فلا تصدّقوه ، ما كان يبول إلاّ قاعدا.

ص : 108


1- سير أعلام النبلاء : 3 / 22.

ثمّ إنّ ابن قدامة بعد ما نقل هذا حاول أن يصحّح الحديث بقوله : ولعلّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فَعَل ذلك ( البول قائماً ) لتبيين الجواز ولم يفعله إلاّ مرة واحدة ، ويحتمل انّه في موضع لا يتمكّن من الجلوس فيه. (1)

وما ذكر من الوجه الأوّل مردود بأنّ في إمكان الرسول أن يبيّن جواز المسح على الخفين بكلامه لا بفعله الذي يعد من صفات غير المبالين بأحكام الشريعة.

قد أخرج ابن ماجة في سننه عن عمر قال : رآني رسول الله أبول قائماً ، فقال : يا عمر لا تبل قائماً. (2)

مضافا إلى أنّ ظاهر الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتطهّر من البول فلا بدّ من القول بالحذف والتقدير في جمل الحديث ، وعلى فرض الصحّة فهو ينقل فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن يوقّت ظروفه فلا يكون حجّة في مقابل القرآن الكريم. ولعلّه كان قبل نزول آية الوضوء. وبه تظهر حال رواية سعد بن أبي وقاص حيث لم تعيّن ظرف العمل وانّه هل كان قبل نزول المائدة أو بعدها؟

3. عن جعفر بن أميّة بن الضمري ، عن أبيه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح على عمامته وخفّيه ، والكلام في هذا الحديث هو نفس الكلام في الحديثين السابقين.

4. عن كعب بن عجرة قال : حدّثني بلال قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ ومسح على الخفّين والخمار.

5. عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضّأ مرّة مرّة ومسح على الخفّين ، وصلّى الصلوات كلّها بوضوء واحد. فقال له عمر : صنعت شيئا ما كنت تصنعه. فقال : عمدا فعلته يا عمر.

ص : 109


1- المغني : 1 / 156.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 112 ، برقم 309.

أقول : قد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفعله هذا يوم الفتح قبل نزول سورة المائدة بشهادة رواية بريدة حيث قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفّيه. فقال له عمر : أنّي رأيتك صنعت شيئا لم تصنعه ، قال : عمدا صنعته.

6. روى المقدام بن شريح قال : سألت عائشة عن المسح على الخفّين؟ فقالت : ائت عليا فإنّه أعلم بذلك منّي ، فأتيت عليّا فسألته عن المسح ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا أن يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثا.

ولا يصحّ الاحتجاج به وبنظيره ما لم يثبت ظرف العمل وانّ فعل النبي كان بعد نزول سورة المائدة. (1)

ص : 110


1- لاحظ في الوقوف على هذه المأثورات : السنن الكبرى للبيهقي : 1 / 270 _ 277.

تساؤلات حول مسألة المسح على الخفّين

ثمّ إنّ هناك تساؤلات حول هذه المسألة نطرحها على صعيد البحث والدراسة ، ولعلّ الفقيه المفتي بجواز المسح على الخفّين في عصرنا هذا يجد لها أجوبة :

1. لا شكّ أنّ الوضوء وإن كان عبادة وشرطا في صحّة الصلاة ولكنّه في الوقت نفسه تطهير للمتوضّئ يقول سبحانه في ذيل آية الوضوء ( وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (1)

فإذا كان الوضوء كالغسل والتيمّم سببا للتطهير فهو فرع مباشرة الرجلين لا الخفّين والنعلين ولا الجوربين ، فان المسح عليها لا يستتبع طهارة إن لم يؤثر في انفعال اليد بالأوساخ التي على الخفّين أو النعلين أو الجوربين. فتجويزه في الحضر والسفر اختيارا مؤقتا أو غير مؤقت على خلاف النظافة التي دعا إليها الإسلام في غير واحد من تعاليمه.

2. إنّ المسح على الخفّين مسألة فقهية فرعية اختلف فيها الصحابة والتابعون ، وقد اشتهر عن علي وابن عباس وعائشة وأئمة أهل البيت قاطبة وغيرهم المنع عنه ، وكان الإمام عليه السلام وتلميذه حبر الأمّة يستدلاّن بأنّ آية الوضوء نسخت هذا ، ومع هذا فلا يتجاوز الاختلاف فيه عن الاختلاف في الحكم

ص : 111


1- المائدة : 6.

الفرعي ، وما أكثر الخلاف في الأحكام الفرعية ؛ ومع ذلك نرى أنّ شهاب الدّين أحمد بن محمد القسطلاني ينقل في شرحه على صحيح البخاري عن الكرخي أنّه قال : أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفّين ، وليس [ المسح ] بمنسوخ ، لحديث مغيرة في غزوة تبوك وهي آخر غزواته صلى الله عليه وآله وسلم والمائدة نزلت قبلها في غزوة المريسيع ، فأين النسخ للمسح. (1)

ولا يخفى ما في كلامه من الوهن.

أمّا أوّلا : فإنّ ما ذكره لا يخلو من المغالاة في القول ، إذ أي ملازمة بين عدم تجويز المسح على الخفّين والخروج عن حظيرة الإسلام ، وليس في المسألة إلاّ خبر واحد كخبر المغيرة ، غير المفيد علما ولا قطعا.

واتّهام المخالف بالكفر سيئة موبقة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا كفّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما ». (2)

وثانيا : أنّ المائدة نزلت قبل رحيله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أشهر أو أقلّ ، وأمّا غزوة المريسيع ، فقد كانت في شهر شعبان من العام السادس من الهجرة ، وقيل قبله. (3) نعم نزل فيها آية التيمّم وهي قوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ). (4)

ص : 112


1- في المصدر مكان أين : فأمن. راجع : إرشاد الساري : 1 / 278.
2- صحيح مسلم : 1 / 56 ، كتاب الإيمان ، باب من قال لأخيه يا كافر.
3- السيرة النبوية : 2 / 289.
4- النساء : 43.

3. وممّا يشهد على أنّ النزاع بين الصحابة والتابعين في مسألة المسح على الخفّين كان على قدم وساق انّ بعض من يروي المسح على الخفّين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بخلافه. روى البيهقي عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن المسح على الخفّين فقال : للمسافر ثلاثة أيام ولياليهنّ وللمقيم يوم وليلة ، وكان أبي ( أبو بكرة ) ينزع خفّيه ويغسل رجليه. (1)

ولما كان ذيل الحديث يوجد وهنا فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث إنّ عمله كان على خلاف روايته ، حاول غير واحد من المحدّثين تصحيحه. (2)

4. إنّ الظاهر من غير واحد من الروايات التي نقلها البيهقي في سننه أنّه يجوز المسح على الخفّين في السفر والحضر جميعا ، وقد عقد بابا بهذا العنوان : « باب مسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الخفّين في السفر والحضر » ، وقد عرفت رواية حذيفة وأسامة انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسح على الخفّين وهو في المدينة ، ومعنى ذلك أنّه يجوز أن يختار المكلّف طيلة عمره المسح على الخفّين ، وأنّ غسل الرجلين مختصّ بمن لم يلبس الخفّين ، وهذا شيء لا ترتضيه روح الفقه ولا سيرة المتشرّعة ولا حكمة الوضوء.

وإن كنت في شكّ من ذلك ، فإليك فتاوى الفقهاء في هذا الصدد :

يرى جمهور الفقهاء الحنفيّة والشافعيّة والحنابلة ، توقيت مدّة المسح على الخفّين بيوم وليلة في الحضر وثلاثة أيّام للمسافر ، ولكن المالكية تجوّز المسح على الخفّين في الحضر والسفر من غير توقيت بزمان ، فلا ينزعهما إلاّ بموجب الغسل ويندب للمكلّف نزعهما في كلّ أسبوع مرّة يوم الجمعة ولو لم يرد الغسل لها ، ونزعهما

ص : 113


1- السنن الكبرى : 1 / 276.
2- الشرح الصغير : 1 / 152 ، 153 ، 158 ؛ جواهر الإكليل : 1 / 24 ، ولاحظ الموسوعة الفقهية الكويتية ، ج 37 ، مادة « مسح ».

مرّة في كلّ أسبوع في مثل اليوم الذي لبسهما فيه ، فإذا نزعهما لسبب أو لغيره وجب غسل الرجلين.

واستدلّوا بما رواه ابن أبي عمارة ، قال : قلت : يا رسول الله : أمسح على الخفّين؟ قال : نعم ، قلت : يوما؟ قال : ويومين ، قلت : وثلاثة؟ قال : نعم وما شئت. (1)

5. انّ الشيء الغريب حقّا هو انّ الفقهاء لم يجوّزوا المسح بماء الوضوء على الرجلين مباشرة لا في الحضر ولا في السفر ، ومع ذلك جوّزوا المسح على الخفّين على الرغم من أنّ الخفين لا صلة لها بالمتوضّي سوى انّهما وعاءان للرجْلين.

6. ثمّ هناك من يتصوّر انّ الحكمة في جواز المسح على الخفّين ، التيسير والتخفيف عن المكلّفين الذين يشق عليهم نزع الخف وغسل الرجلين في أوقات الشتاء والبرد الشديد ، وفي السفر وما يصاحبه من الاستعجال ومواصلة السفر. (2)

وما ذكر من الحكمة _ لو صحت _ يوجب اختصاص المسح على الخفّين بموارد الحرج والضرورة ، وأين هذا من الإفتاء به دون تقييد؟!

7. وأظنّ أنّ الإصرار على بقاء حكم المسح على الخفّين كان لأجل مخالفة الإمام علي عليه السلام ؛ حيث كان هو وبيته الرفيع يجاهرون بالمنع من المسح على الخفّين ، وقد أعطى المجوّزون المسألة أكثر ممّا تستحقّ ، قال أبو بكر بن المنذر : روينا عن الحسن البصري ، حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يمسح على الخفّين ، قال : وروينا عن ابن المبارك قال : ليس في المسح على الخفّين اختلاف. هو جائز قال جماعات من السلف نحو هذا. (3)

ص : 114


1- كتاب المجموع شرح المهذّب للنووي : 1 / 505.
2- الموسوعة الفقهية : 37 / 262.
3- المجموع : 1 / 501.

كما ذكر البيهقي أسماء حوالي عشرين صحابيا جوّزوا المسح على الخفّين منهم : عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو أيوب الأنصاري وأبو موسى الأشعري وعمّار بن ياسر وجابر بن عبد الله وعمرو بن العاص وأنس بن مالك وسهل بن سعد وأبي مسعود الأنصاري والمغيرة بن شعبة والبراء بن عازب وأبي سعيد الخدري وجابر بن سمرة وأبو أمامة الباهلي وعبد الله بن الحارث بن جزر وأبو زيد الأنصاري. (1)

والعجب انّهم عطفوا عليّا عليه السلام ؛ وابن عباس على هؤلاء لمزيد كسب الثقة بالجواز.

فروع المسألة

ثمّ إنّ القائلين بجواز المسح على الخفّين اختلفوا فيما يرجع إليه من فروع اختلافا شديدا فاختلفوا في المواضع التالية :

1. تحديد المحل : فاختلفوا فيه فقال قوم : إنّ الواجب من ذلك مسح أعلى الخف وإنّ مسح الباطن _ أعني : أسفل الخف _ مستحب ، ومالك أحد من رأى هذا ، والشافعي ؛ ومنهم من أوجب مسح ظهورهما وبطونهما ، وهو مذهب ابن نافع من أصحاب مالك.

ومنهم من أوجب مسح الظهور فقط ولم يستحب مسح البطون ، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وسفيان وجماعة ؛ وشذّ أشهب : فقال : إنّ الواجب مسح الباطن أو الأعلى ، أيّهما مسح ، وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك

ص : 115


1- سنن البيهقي : 1 / 272.

وتشبيه المسح بالغسل.

2. نوع محل المسح فإنّ القائلين به اتّفقوا على جواز المسح على الخفّين واختلفوا في المسح على الجوربين ، فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم ، وممّن منع ذلك : مالك والشافعي وأبو حنيفة ، وممّن أجاز ذلك : أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري ، وسبب اختلافهم في صحّة الآثار الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، انّه مسح على الجوربين والنعلين ، واختلافهم أيضا في هل يقاس على الخف غيره ، أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدّى بها محلّها؟

3. صفة الخفّ فإنّهم اتّفقوا على جواز المسح على الخفّ الصحيح واختلفوا في المخْرَق ، فقال مالك وأصحابه : يمسح عليه إذا كان الخرق يسيرا ، وحدّد أبو حنيفة بما يكره الظاهر منه أقلّ من ثلاثة أصابع ، وقال قوم بجواز المسح على الخفّ المنخرق ما دام يسمّى خفّا ، وإن تفاحش خرقه ، وممّن روي عنه ذلك الثوري ، ومنع الشافعي أن يكون في مقدّم الخف خرق يظهر منه القدم ، ولو يسيرا في أحد القولين عنه. ثمّ ذكر سبب اختلافهم.

4. التوقيت فان الفقهاء اختلفوا فيه ، فرأى مالك انّ ذلك غير مؤقت وإنّ لا بس الخفّين يمسح عليها ما لم ينزعهما أو تصيبه جنابة ، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنّ ذلك مؤقت. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك.

5. شرط المسح على الخفين هو أن تكون الرْجلان طاهرتين بطُهر الوضوء وذلك شيء مجمع عليه إلاّ خلافا شاذا. وقد روي عن ابن القاسم عن مالك ، ذكره ابن لبابة في المنتخب ، وإنّما قال به الأكثر لثبوته في حديث المغيرة وغيره إذا أراد أن ينزع الخف عنه فقال عليه السلام : دعهما فإنّي أدخلتهما وهما طاهرتان ، والمخالف حمل

ص : 116

هذه الطهارة على الطهارة اللغوية.

6. الاختلاف في نواقض هذه الطهارة فإنّهم أجمعوا على أنّها نواقض الوضوء بعينها واختلفوا هل نزع الخف ناقض لهذه الطهارة أم لا؟ فقال قوم : إن نَزَعه وغسل قدميه فطهارته باقية ، وإن لم يغسلهما وصلّى أعاد الصلاة بعد غسل قدميه ، وممّن قال بذلك مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة _ إلى أن قال _ وقال قوم : طهارته باقية حتى يحدث حدثا ينقض الوضوء وليس عليه غسل ، وممّن قال بهذا القول داود وابن أبي ليلى وقال الحسن بن حي : إذا نزع خفّيه فقد بطلت طهارته. (1)

وهذه الاختلافات في الفروع مبنية على القول بجواز المسح على اختيار ، فإذا بطل الأصل يكون الكلام في الفروع أمرا لغوا لا طائل تحته وإن أطنب القائلون بالجواز الكلام فيها.

ص : 117


1- بداية المجتهد : 1 / 18 _ 23 بتلخيص.

ص : 118

3. تشريع الأذان و التثويب في أذان الفجر

اشارة

1. قيل للإمام الصادق عليه السلام :

يقولون إنّ رجلا من الأنصار رأى الأذان في النوم ، فأجاب عليه السلام :

« كذبوا فان دين الله أعزّ من أن يُرى في النوم ».

2. قال محمد بن الحنفية :

عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنّه انّما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه تحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام.

ص : 119

ص : 120

تمهيد : الأذان لغة وشرعا ومكانة المؤذّن عند الله

الأذان لغة : الإعلام ، قال سبحانه ( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) (1) أي إعلام منهما إلى الناس.

وشرعا : الإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة بألفاظ معلومة مأثورة على صفة مخصوصة ، وهو من خير الأعمال التي يتقرّب بها إلى الله تعالى ، وفيه فضل كثير وأجر عظيم.

أخرج الشيخ الطوسي في « التهذيب » عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أذّن في مصر من أمصار المسلمين سنة ، وجبت له الجنة ». (2)

وأخرج أيضا عن سعد الإسكاف ، قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : « من أذّن سبع سنين احتسابا جاء يوم القيامة ولا ذنب له ». (3)

ص : 121


1- التوبة : 3.
2- التهذيب : 2 / 283 ح 1126.
3- التهذيب : 2 / 283 ح 1128.

وأخرج الصدوق عن العرزمي ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « أطول الناس أعناقا يوم القيامة ، المؤذّنون ». (1)

وأخرج أحمد بن محمد بن خالد البرقي في « المحاسن » عن جابر الجعفي ، عن محمد بن علي الباقر عليه السلام ، قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المؤذّن المحتسب ، كالشاهر بسيفه في سبيل الله ، القاتل بين الصفّين ». (2)

إلى غير ذلك من الروايات الحاثّة على نشر الأذان وقيام قاطبة الطبقات به ، وكراهة حصر الأذان بضعفائهم.

وعقدنا هذا البحث لبيان أمرين :

الأوّل : انّ تشريع الأذان كان إلهيّا لا مدخلية للإنسان فيه.

الثاني : دراسة تاريخ التثويب في الفجر وانّه ليس جزءا من الأذان وإنّما دخل فيه بتصويب البعض.

فيقع الكلام في مقامين :

ص : 122


1- ثواب الأعمال : 52.
2- المحاسن : 48 برقم 68.

المقام الأوّل

1. منزلة الأذان في التشريع الإسلامي

لم يشارك في تشريعه أيّ إنسان

إنّ الأذان والإقامة من صميم الدين وشعائره ، أنزله الله سبحانه على قلب سيّد المرسلين ، وإنّ الله الذي فرض الصلاة ، هو الذي فرض الأذان ، وإنّ منشأ الجميع واحد ولم يُشارك في تشريعه أيّ إنسان لا في اليقظة ولا في المنام ، وهذا شأن كلّ عبادة يعبد بها الإنسان خالقَه وبارئه ، ولم نجد في التشريع الإسلامي عبادة مشروعة قام الإنسان بوضعها ، ثمّ نالت إمضاء الشارع وتصويبه إلاّ في مواضع خاصة ثبتت من النبيّ المعصوم.

والذي يعرب عن ذلك انّ لجميع فصوله من التكبير إلى التهليل ، مسحة إلهية وعذوبة ، وسموّ المعنى وفخامته ، تثير شعور الإنسان إلى مفاهيم أرقى وأعلى وأنبل ممّا في عقول الناس ، فلو كان للأذان والإقامة مصدر غير الوحي ربّما لا تتمتع بهذه العذوبة ولا المسحة الإلهيّة.

وعلى ضوء ذلك فليس لمسلم إلاّ قبول أمرين :

ص : 123

أ : انّ تشريع الأذان والإقامة يرجع إلى الله سبحانه وانّه أوحى إلى عبده الأذان والإقامة ولم يكن لبشر دور في تشريعهما.

ب : كما أنّ أصل الأذان وحي إلهي أنزله الله على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهكذا كلّ فصل منه إيحاء إلى النبي فليس لأيّ إنسان أن ينقص منه فصلا أو يضيف إليه جزءاً.

ص : 124

2. تاريخ تشريع الأذان في أحاديث أهل البيت عليهم السلام

اتّفقت أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنّ الأذان من الأمور العبادية ، له من الشأن ما لغيره من العبادات وأنّ المشرّع له هو الله سبحانه وقد هبط جبرئيل بأمر منه وعلّمه رسول الله ، كما علّمه رسول الله بلالا ، ولم يشارك في تشريعه بل ولا في تشريع الإقامة أحد ، فهذا من الأمور المسلّمة عند أئمّة أهل البيت ، وقد تضافرت عليه رواياتهم وكلماتهم نذكر في المقام نزرا يسيرا « ويكفيك من القلادة موضع عنقها ». (1)

1. روى ثقة الإسلام الكليني بسند صحيح عن زرارة والفضيل ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : « لمّا أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء فبلغ البيت المعمور ، وحضرت الصلاة ، فأذّن جبرئيل عليه السلام وأقام فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفّ الملائكة والنبيّون خلف محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ».

2. أخرج أيضا بسند صحيح ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : « لمّا

ص : 125


1- مثل يضرب لبيان كفاية القليل عن الكثير.

هبط جبرئيل بالأذان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان رأسه في حجر علي عليه السلام ، فأذّن جبرئيل وأقام (1) ، فلمّا انتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا علي سمعت؟ قال : نعم (2) قال : حفظت؟ قال : نعم. قال : ادع بلالا ، فدعا علي عليه السلام ؛ بلالا فعلّمه ». (3)

3. أخرج أيضا بسند صحيح عن عمر بن أذينة عن الصادق عليه السلام قال : ما تروي هذه ( الجماعة )؟ فقلت : جعلت فداك في ما ذا؟ فقال : في أذانهم. فقلت : إنّهم يقولون إنّ أبيّ بن كعب رآه في النوم. فقال : كذبوا فان دين الله أعزّ من أن يرى في النوم. قال : فقال له سدير الصيرفي : جعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكرا. فقال أبو عبد الله ( الصادق ) عليه السلام : إنّ الله عزّ وجلّ لمّا عرج بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى سماواته السبع إلى آخر الحديث الأوّل. (4)

4. وروى محمد بن مكي الشهيد في « الذكرى » عن فقيه الشيعة في أوائل القرن الرابع _ أعني : ابن أبي عقيل العماني _ أنّه روى عن الإمام الصادق عليه السلام : أنّه لعن قوما زعموا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الأذان من عبد الله بن زيد (5) فقال : ينزل الوحي على نبيّكم فتزعمون أنّه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد؟! » (6).

ص : 126


1- لا منافاة بين الروايتين ، وكم نزل أمين الوحي بآية واحدة مرّتين ، والغاية من التأذين في الأوّل غيرها في الثاني ، كما هو واضح لمن تدبّر.
2- كان علي عليه السلام محدّثا وهو يسمع كلام الملك. لاحظ صحيح البخاري : 4 / 200 ، وشرحه : إرشاد الساري : 6 / 99 وغيره ، باب رجال يُكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء. روى أبو هريرة عن النبيّ أنّه قال : « لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل. ».
3- الكافي : 3 / 302 ، باب بدء الأذان ، الحديث 1 و 2.
4- الكافي : 3 / 482 ح 1 ، باب النوادر. وسيأتي أنّه ادّعى رؤية الأذان في النوم ما يقرب من أربعة عشر رجلا.
5- سيوافيك نقله عن السنن.
6- وسائل الشيعة : الجزء 4 / 612 ، الباب الأوّل من أبواب الأذان والإقامة ، الحديث 3.

وليست الشيعة متفرّدة في هذا النقل عن أئمة أهل البيت ، فقد روى الحاكم وغيره نفس النقل عنهم ، وإليك بعض ما أثر في ذلك المجال عن طريق أهل السنّة.

5. روى الحاكم عن سفيان بن الليل قال : لمّا كان من أمر الحسن بن علي ومعاوية ما كان ، قدمت عليه المدينة وهو جالس. قال : فتذاكرنا عنده الأذان ، فقال بعضنا : إنّما كان بدء الأذان رؤيا عبد الله بن زيد ، فقال له الحسن بن علي : إنّ شأن الأذان أعظم من ذاك ، أذّن جبرئيل عليه السلام في السماء مثنى مثنى ، وعلّمه رسول الله وأقام مرة مرة (1) فعلّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (2)

6. روى المتقي الهندي عن الشهيد زيد بن الإمام علي بن الحسين ، عن آبائه ، عن علي : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عُلّم الأذان ليلة أسري به وفرضت عليه الصلاة. (3)

7. روى الحلبي عن أبي العلاء ، قال : قلت لمحمد ابن الحنفية : إنّا لنتحدّث أنّ بدء هذا الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه ، قال : ففزع لذلك محمد ابن الحنفية فزعا شديدا وقال : عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ، ومعالم دينكم ، فزعمتم أنّه إنّما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه ، تحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام ، قال : فقلت له : هذا الحديث قد استفاض في الناس. قال : هذا والله الباطل. (4)

8. روى المتقي الهندي عن مسند رافع بن خديج : لمّا أسري برسول

ص : 127


1- المروي عنهم عليهم السلام أنّ الإقامة مثنى مثنى إلاّ الفصل الأخير وهو مرة.
2- مستدرك الحاكم : 3 / 171 ، كتاب معرفة الصحابة.
3- كنز العمال : 12 / 350 برقم 35354.
4- السيرة الحلبية : 2 / 300 _ 301.

الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء أوحى إليه بالأذان فنزل به فعلّمه جبرئيل. ( الطبراني في الأوسط عن ابن عمر ) (1).

9. ويظهر ممّا رواه عبد الرزاق بن همام الصنعاني ( 126 _ 211 ه ) عن ابن جريج عن عطاء ، انّ الأذان كان بوحي من الله سبحانه. (2)

10. قال الحلبي : ووردت أحاديث تدلّ على أنّ الأذان شرّع بمكة قبل الهجرة ، فمن تلك الأحاديث ما في الطبراني عن ابن عمر. ونقل الرواية الثامنة. (3)

هذا هو تاريخ الأذان وطريق تشريعه أخذته الشيعة من عين صافية ، من أناس هم بطانة سنّة الرسول ، يروي صادق عن صادق حتى ينتهي إلى الرسول ، وأيّدته آثار أخرى كما عرفت.

ص : 128


1- كنز العمال : 8 / 329 برقم 23138 ، فصل في الأذان.
2- المصنّف : 1 / 456 برقم 1775.
3- السيرة الحلبية : 2 / 296 ، باب بدء الأذان ومشروعيته.

3. كيفيّة تشريع الأذان عند أهل السنّة

قد ورد في روايات أهل السنّة حول كيفية تشريع الأذان أمور لا تصحّ نسبتها إلى الرسول الأعظم ، وحصيلة هذه الروايات _ كما ستمر عليك تفاصيلها _ ما يلي :

كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مهتما بأمر الصلاة جماعة ، ولكن كان متحيّرا في أنّه كيف يجمع الناس إلى الصلاة مع بُعْد الدار وتفرّق المهاجرين والأنصار في أزقّة المدينة ، فاستشار في ذلك في حل العقدة ، فأشاروا عليه بأمور :

1. أن يستعين بنصب الراية ، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا ، فلم يُعجبه.

2. أشاروا إليه باستعمال القبع ، أيّ بوق اليهود ، فكرهه النبي.

3. أن يستعين بالناقوس كما يستعين به النصارى ، كرهه أوّلا ثمّ أمر به فعمل من خشب ليضرب به للناس حتى يجتمعوا للصلاة.

4. كان النبي الأكرم على هذه الحالة ، إذ جاء عبد الله بن زيد وأخبر رسول

ص : 129

الله بأنّه كان بين النوم واليقظة إذ أتاه آت فأراه الأذان ، وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك بعشرين يوما فكتمه ثمّ أخبر به النبي ، فقال : ما منعك أن تخبرني؟ فقال : سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت ، فقال رسول الله : يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فعلّمه ، فتعلّم بلال الأذان وأذّن.

هذا مجمل ما يرويه المحدّثون حول كيفيّة تشريع الأذان ، فتجب علينا دراسة متونه وإسناده وإليك البيان.

ص : 130

4. استعراض ما روي في كيفية تشريع الأذان في السنن

1. روى أبو داود ( 202 _ 275 ه ) قال : حدّثنا عباد بن موسى الختلي ، وزياد بن أيوب ، _ وحديث عباد أتمّ _ قالا : حدّثنا هشيم ، عن أبي بشر ، قال زياد : أخبرنا أبو بشر ، عن أبي عمير بن أنس ، عن عمومة له من الأنصار ، قال : اهتمّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها ؛ فقيل له : انصب راية عند حضور الصلاة ، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا ، فلم يعجبه ذلك ؛ قال : فذكر له القُنْع _ يعني الشبّور _ قال زياد : شبور اليهود ، فلم يعجبه ذلك ؛ وقال : « هو من أمر اليهود » قال : فذكر له الناقوس ، فقال : « هو من أمر النصارى ».

فانصرف عبد الله بن زيد ( بن عبد ربّه ) وهو مهتم لهمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأُرى الأذان في منامه ، قال : فغدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فقال ( له ) : يا رسول الله ، إنّي لبين نائم ويقظان ، إذ أتاني آت فأراني الأذان ، قال : وكان عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين

ص : 131

يوما (1) ، قال : ثمّ أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : « ما منعك أن تخبرني؟ » فقال : سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا بلال ، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله » قال : فأذّن بلال ، قال أبو بشر : فأخبرني أبو عمير أنّ الأنصار تزعم أنّ عبد الله بن زيد لو لا أنّه كان يومئذ مريضا ، لجعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مؤذنا.

2. حدّثنا محمد بن منصور الطوسي ، حدّثنا يعقوب ، حدّثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، حدّثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه ، قال : حدّثني أبي : عبد الله بن زيد ، قال : لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي ، وأنا نائم ، رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت : يا عبد الله ، أتبيع الناقوس؟ قال : وما تصنع به؟ فقلت : ندعو به إلى الصلاة قال : أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت ( له ) : بلى ، قال : فقال تقول :

الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أنّ محمدا رسول الله ، أشهد أنّ محمدا رسول الله ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله.

قال : ثمّ استأخر عنّي غير بعيد ، ثمّ قال : وتقول إذا أقمت الصلاة :

الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أنّ محمدا رسول الله ، حيّ

ص : 132


1- أفيصح في منطق العقل أن يكتم الإنسان تلك الرؤيا التي فيها إراحة للنبيّ وأصحابه عشرين يوما ، ثم يعلّل ذلك _ بعد سماعها من ابن زيد _ بأنّه استحيا؟! وأنا أجلّ الخليفة عن هذا المنطق ، مضافا إلى وجود التنافي بينه وبين الحديث الثاني.

على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله.

فلمّا أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما رأيت فقال : « إنّها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فالق عليه ما رأيت فليؤذّن به ، فإنّه أندى صوتا منك ». فقمت مع بلال ، فجعلت ألقيه عليه ويؤذّن به ، قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجرّ رداءه ويقول : والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « فلله الحمد ». (1)

ورواه ابن ماجة ( 207 _ 275 ه ) بالسندين التاليين :

3. حدّثنا أبو عبيد : محمد بن ميمون المدني ، حدّثنا محمد بن سلمة الحرّاني ، حدّثنا محمد بن إسحاق ، حدّثنا محمد بن إبراهيم التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله قد همّ بالبوق ، وأمر بالناقوس فنُحِتَ ، فأُرى عبد الله بن زيد في المنام. إلخ.

4. حدّثنا : محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي : حدّثنا أبي ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه : أنّ النبي استشار الناس لما يهمّهم إلى الصلاة ، فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود ، ثمّ ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى ، فأرى النداء تلك الليلة رجل من الأنصار يقال له : عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب.

قال الزهري : وزاد بلال في نداء صلاة الغداة : الصلاة خير من النوم ، فأقرّها

ص : 133


1- سنن أبي داود : 1 / 134 _ 135 برقم 498 _ 499 تحقيق محمد محيي الدين. والحديث حاك عن اطّلاع عمر بعد أذان بلال ، خلافا للحديث السابق.

رسول الله. (1).

ورواه الترمذي بالسند التالي :

5. حدّثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي ، حدّثنا أبي ، حدّثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد ، عن أبيه قال : لمّا أصبحنا أتينا رسول الله فأخبرته بالرؤيا. إلخ.

6. وقال الترمذي : وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق أتمّ من هذا الحديث وأطول ، ثم أضاف الترمذي : وعبد الله بن زيد هو ابن عبد ربّه ، ولا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا يصحّ إلاّ هذا الحديث الواحد في الأذان. (2)

هذا ما رواه أصحاب السنن المعدودة من الصحاح أو الكتب الستة ، ولها من الأهمية ما ليس لغيرها من السنن كسنن الدارمي أو الدارقطني أو ما يرويه ابن سعد في طبقاته ، والبيهقي في سننه ، ولأجل تلك المكانة الخاصّة فصلنا ما روي في السنن المعروفة ، عمّا روي في غيرها.

فلندرس هذه الروايات متنا وسندا حتّى تتّضح الحقيقة ثمّ نذكر بقية النصوص الواردة في غيرها فنقول :

ص : 134


1- سنن ابن ماجة : 1 / 232 _ 233 ، باب بدء الأذان ، برقم 706 _ 707.
2- سنن الترمذي : 1 / 358 _ 361 ، باب ما جاء في بدء الأذان برقم 189.

5. تحليل مضمون الروايات

اشارة

إنّ هذه الروايات غير صالحة للاحتجاج لجهات شتى :

الأولى : لا تتّفق مع مقام النبوّة

إنّه سبحانه بعث رسوله لإقامة الصلاة مع المؤمنين في أوقات مختلفة. وطبع القضية يقتضي أن يعلّمه سبحانه كيفية تحقيق هذه الأمنية. فلا معنى لتحيّر النبيّ أياما طويلة أو عشرين يوما على ما في الرواية الأولى التي رواها أبو داود ، وهو لا يدري كيف يحقّق المسئولية الملقاة على عاتقة ، فتارة يتوسّل بهذا ، وأخرى بذاك حتى يرشد إلى الأسباب والوسائل التي تؤمّن مقصوده ، مع أنّه سبحانه يقول في حقّه ( وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (1) والمقصود من الفضل هو العلم بقرينة ما قبله ( وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ).

إنّ الصلاة والصيام من الأمور العبادية وليسا كالحرب والقتال الذي ربّما كان النبي يتشاور فيه مع أصحابه ولم يكن تشاوره في كيفية القتال عن جهله بالأصلح ، وإنّما كان لأجل جلب قلوبهم كما يقول سبحانه :

ص : 135


1- النساء : 113.

( وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ). (1)

أليس من الوهن في أمر الدين أن تكون الرؤيا والأحلام والمنامات من أفراد عاديّين ، مصدرا لأمر عبادي في غاية الأهمية كالأذان والإقامة؟!.

إنّ هذا يدفعنا إلى القول بأنّ كون الرؤيا مصدرا للأذان أمر مكذوب على الشريعة. ومن القريب جدا أنّ عمومه عبد الله بن زيد هم الذين أشاعوا تلك الرؤيا وروّجوها ، لتكون فضيلة لبيوتاتهم وقبائلهم. ولذلك نرى في بعض المسانيد أنّ بني عمومته هم رواة هذا الحديث ، وأنّ من اعتمد عليهم انّما كان لحسن ظنّه بهم.

الثانية : أنّها متعارضة جوهرا

إنّ ما مضى من الروايات حول بدء الأذان وتشريعه متعارضة جوهرا من جهات :

1. إنّ مقتضى الرواية الأولى ( رواية أبي داود ) أنّ عمر بن الخطاب رأى الأذان قبل عبد الله بن زيد بعشرين يوما. ولكن مقتضى الرواية الرابعة ( رواية ابن ماجة ) أنّه رأى في نفس الليلة التي رأى فيها عبد الله بن زيد.

2. إنّ رؤيا عبد الله بن زيد هو المبدأ للتشريع ، وأنّ عمر بن الخطاب لمّا سمع الأذان جاء إلى رسول الله وقال : إنّه أيضا رأى نفس تلك الرؤيا ولم ينقلها إليه استحياء.

3. إنّ المبدأ لتشريع الأذان ، هو نفس عمر بن الخطاب ، لا رؤياه ، لأنّه هو

ص : 136


1- آل عمران : 159.

الذي اقترح النداء بالصلاة الذي هو عبارة أخرى عن الأذان.

روى الترمذي في سننه وقال : كان المسلمون حين قدموا المدينة. إلى أن قال : _ وقال بعضهم : اتّخذوا قرنا مثل قرن اليهود ، قال : فقال عمر بن الخطاب : أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا بلال قم فناد بالصلاة ، _ أي الأذان. (1)

ورواه النسائي (2) والبيهقي (3) في سننهما.

نعم فسّر ابن حجر النداء بالصلاة ب_ « الصلاة جامعة » (4) ولا دليل على هذا التفسير.

4. إنّ مبدأ التشريع هو نفس النبي الأكرم.

روى البيهقي :. فذكروا أن يضربوا ناقوسا أو ينوّروا نارا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. قال : ورواه البخاري عن محمد عن عبد الوهاب الثقفي ، ورواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم. (5)

ومع هذا التناقض في النقل كيف يمكن الاعتماد على هذه النقول؟

5. انّ عمر كان حاضرا عند نقل عبد الله بن زيد رؤياه للنبي _ حسب الحديث الأوّل _ ولكنّه كان غائبا حسب الحديث الثاني ، حيث خرج من بيته لمّا سمع أذان بلال بعد نقل عبد الله رؤياه.

ص : 137


1- . سنن الترمذي : 1 / 362 رقم 190 ؛ سنن النسائي : 2 / 3 ؛ سنن البيهقي 1 / 389 في باب بدء الأذان ، الحديث الأوّل.
2- . سنن الترمذي : 1 / 362 رقم 190 ؛ سنن النسائي : 2 / 3 ؛ سنن البيهقي 1 / 389 في باب بدء الأذان ، الحديث الأوّل.
3- . سنن الترمذي : 1 / 362 رقم 190 ؛ سنن النسائي : 2 / 3 ؛ سنن البيهقي 1 / 389 في باب بدء الأذان ، الحديث الأوّل.
4- السيرة الحلبية : 2 / 297.
5- سنن البيهقي : 1 / 390 ، الحديث 1.
الثالثة : انّ الرائي كان أربعة عشر شخصا لا واحدا

يظهر ممّا رواه الحلبي أنّ الرائي للأذان لم يكن منحصرا بابني زيد والخطاب ، بل ادّعى أبو بكر أنّه أيضا رأى نفس ما رأياه ، وقيل : سبعة من الأنصار ، وقيل : أربعة عشر (1) كلّهم ادّعوا أنّهم رأوا في الرؤيا الأذان ، وليست الشريعة شرعة لكل وارد ، فإذا كانت الشريعة والأحكام خاضعة لرؤيا كلّ وارد فعلى الإسلام السّلام.

الرابعة : التعارض بين نقل البخاري وغيره

إنّ صريح صحيح البخاري أنّ النبي أمر بلالا في مجلس التشاور بالنداء للصلاة وعمر حاضر حين صدور الأمر ، فقد روى عن ابن عمر : كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصلاة ، ليس ينادى لها ، فتكلّموا يوما في ذلك فقال بعضهم : اتّخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم : بل بوقا مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله : يا بلال قم فناد بالصلاة. (2)

وصريح أحاديث الرؤيا : أنّ النبي إنّما أمر بلالا بالنداء إذ قصّ عليه ابن زيد رؤياه ولم يكن عمر حاضرا وإنّما سمع الأذان وهو في بيته ، خرج وهو يجرّ ثوبه ويقول : والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى. (3)

وليس لنا حمل ما رواه البخاري على النداء ب_ « الصلاة جامعة » وحمل

ص : 138


1- السيرة الحلبية : 2 / 300.
2- صحيح البخاري : 1 / 120 ، باب بدء الأذان.
3- لاحظ الحديث رقم 2.

أحاديث الرؤيا على التأذين بالأذان ، فإنّه جمع بلا شاهد أوّلا ، ولو أمر النبي بلالا برفع صوته ب_ « الصلاة جامعة » لحلّت العقدة ثانيا ، ورفعت الحيرة خصوصا إذا كررت الجملة « الصلاة جامعة » ولم يبق موضوع للحيرة ، وهذا دليل على أنّ أمره بالنداء ، كان بالتأذين بالأذان المشروع. (1)

ص : 139


1- النص والاجتهاد : 137.

6. مناقشة الأسانيد

ما ذكرنا من الوجوه الخمسة ترجع إلى دراسة مضمون الأحاديث وهي كافية في سلب الركون إليها. وإليك دراسة أسنادها واحدا بعد الآخر. وهي بين موقوف لا يتّصل سندها بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، ومسند مشتمل على مجهول أو مجروح أو ضعيف متروك ، وإليك البيان حسب الترتيب السابق.

أمّا الرواية الأولى التي رواها أبو داود فهي ضعيفة :

1. تنتهي الرواية إلى مجهول أو مجاهيل ، لقوله : عن عمومة له من الأنصار.

2. يروي عن العمومة ، أبو عمير بن أنس ، فيذكره ابن حجر ويقول فيه :

روى عن عمومة له من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رؤية الهلال وفي الأذان.

وقال ابن سعد : كان ثقة قليل الحديث.

وقال ابن عبد البر : مجهول لا يحتج به. (1)

وقال جمال الدين : وهذا _ ما حدّث به في الموضوعين : رؤية الهلال والأذان _ جميع ما له عندهم. (2)

ص : 140


1- تهذيب التهذيب : 12 / 188 برقم 867.
2- تهذيب الكمال : 34 / 142 برقم 7545.

أمّا الرواية الثانية : فقد جاء في سندها من لا يصح الاحتجاج به ، نظراء :

1. محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي : أبو عبد الله المتوفّى حدود عام 120 ه .

قال أبو جعفر العقيلي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي وذكر محمد بن إبراهيم التيمي المدني فقال : في حديثه شيء ، يروي أحاديث مناكير ، أو منكرة. (1)

2. محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار ، فإنّ أهل السنّة لا يحتجون برواياته ، وإن كان هو الأساس ل_ « سيرة ابن هشام _ المطبوعة _ ».

قال أحمد بن أبي خيثمة :. وسئل يحيى بن معين عنه ، فقال : ليس بذاك ، ضعيف. قال : وسمعت يحيى بن معين مرة أخرى يقول : محمد بن إسحاق عندي سقيم ليس بالقوي.

وقال أبو الحسن الميموني : سمعت يحيى بن معين يقول : محمد بن إسحاق ضعيف. وقال النسائي : ليس بالقوي. (2)

3. عبد الله بن زيد ، راوية الحديث وكفى في حقّه أنّه قليل الحديث ، قال الترمذي : لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئا يصح إلاّ هذا الحديث الواحد في الأذان ، قال الحاكم : الصحيح : أنّه قتل بأحد ، والروايات عنه كلّها منقطعة ، قال ابن عدي : لا نعرف له شيئا يصح عن النبيّ إلاّ حديث الأذان. (3)

وروى الترمذي عن البخاري : لا نعرف له إلاّ حديث الأذان. (4)

ص : 141


1- تهذيب الكمال : 24 / 304.
2- المصدر نفسه : 24 / 423 _ 424 ، ولاحظ تاريخ بغداد : 1 / 221 _ 224.
3- سنن الترمذي : 1 / 361 ؛ تهذيب التهذيب : 5 / 224.
4- تهذيب الكمال : 14 / 541.

وقال الحاكم : عبد الله بن زيد هو الذي أُرِيَ الأذان ، الذي تداوله فقهاء الإسلام بالقبول. ولم يخرج في الصحيحين لاختلاف الناقلين في أسانيده. (1)

وأمّا الرواية الثالثة : فقد اشتمل السند على محمد بن إسحاق بن يسار ، ومحمد بن إبراهيم التيمي ، وقد تعرّفت على حالهما كما تعرفت على أنّ عبد الله بن زيد كان قليل الرواية ، والروايات كلّها عنه منقطعة ، لأنّه قتل بأحد.

وأمّا الرواية الرابعة : فقد جاء في سندها :

1. عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله المدني.

قال يحيى بن سعيد القطان : سألت عنه بالمدينة ، فلم أرهم يحمدونه. وكذلك قال علي بن المديني.

وقال علي أيضا : سمعت سفيان وسئل عن عبد الرحمن بن إسحاق ، قال : كان قدريا فنفاه أهل المدينة ، فجاءنا هاهنا مقتل الوليد ، فلم نجالسه.

وقال أبو طالب : سألت أحمد بن حنبل عنه ، فقال : روى عن أبي الزناد أحاديث منكرة.

وقال أحمد بن عبد الله العجلي : يكتب حديثه ، وليس بالقوي.

وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ، ولا يحتجّ به.

وقال البخاري : ليس ممّن يعتمد على حفظه. لا يعرف له بالمدينة تلميذ إلاّ موسى الزمعيّ ، روى عنه أشياء في عدّة منها اضطراب.

وقال الدارقطني : ضعيف يرمى بالقدر.

وقال أحمد بن عدي : في حديثه بعض ما ينكر ولا يتابع. (2)

ص : 142


1- مستدرك الحاكم : 3 / 336.
2- تهذيب الكمال : 16 / 519 برقم 3755.

2. محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي ( 150 _ 240 ه ) فيعرّفه جمال الدين المزّي بقوله : قال ابن معين : لا شيء ، وأنكر روايته عن أبيه. وقال أبو حاتم : سألت يحيى بن معين عنه ، فقال : ذاك رجل سوء كذّاب. ، وأخرج أشياء منكرة.

وقال أبو عثمان سعيد بن عمرو البردعي : وسألته يعني _ أبا زرعة _ عن محمد بن خالد ، فقال : رجل سوء.

وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال : يخطئ ويخالف. (1)

وقال الشوكاني بعد نقل الرواية : وفي إسناده ضعف جدّا. (2)

وأمّا الرواية الخامسة : فقد جاء في سندها :

1. محمد بن إسحاق بن يسار.

2. محمد بن الحارث التيمي.

3. عبد الله بن زيد.

وقد تعرّفت على جرح الأوّلين ، وانقطاع السند في كل ما يرويان عن الثالث ، وبذلك يتّضح حال السند السادس فلاحظ.

هذا ما ورد في السنن. أمّا ما ورد في غيرها فنذكر منه ما رواه الإمام أحمد ، والدارمي ، والدارقطني في مسانيدهم ، والإمام مالك في موطّئه ، وابن سعد في طبقاته ، والبيهقي في سننه ، وإليك البيان :

ص : 143


1- المصدر نفسه : 25 / 139 برقم 5178.
2- نيل الأوطار : 2 / 37 _ 38.

7. روايات الأذان في غير الكتب الستّة

اشارة

قد عرفت من الحاكم انّ الشيخين : البخاري ومسلما لم يخرّجا حديث عبد الله بن زيد لاختلاف الناقلين في أسانيدهما وإنّما أخرجه من أصحاب الكتب الستة ، أبو داود والترمذي وابن ماجة أصحاب السنن ، وقد عرفت وجود التناقض في مضامينها والضعف في أسانيدها ، فهلم معي ندرس ما رواه أصحاب المسانيد وغيرهم ممّن تعدّ كتبهم دون الكتب الستة في الإتقان والصحّة.

ألف : ما رواه الإمام أحمد في مسنده

روى الإمام أحمد رؤيا الأذان في مسنده عن عبد الله بن زيد بأسانيد ثلاثة (1) :

1. قد ورد في السند الأوّل زيد بن الحباب بن الريان التميمي ( المتوفّى 203 ه ).

وقد وصفوه بكثرة الخطأ وله أحاديث تستغرب عن سفيان الثوري من جهة إسنادها ، وقال ابن معين : أحاديثه عن الثوري مقلوبة. (2)

ص : 144


1- مسند أحمد : 4 / 42 _ 43.
2- ميزان الاعتدال : 2 / 100 برقم 2997.

كما اشتمل على عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه ، وليس له في الصحاح والمسانيد إلاّ رواية واحدة وهي هذه ، وفيها فضيلة لعائلته ، ولأجل ذلك يقلّ الاعتماد عليها.

كما اشتمل الثاني على محمد بن إسحاق بن يسار الذي تعرّفت عليه.

واشتمل الثالث على محمد بن إبراهيم الحارث التيمي ، مضافا إلى محمد بن إسحاق ، وينتهي إلى عبد الله بن زيد ، وهو قليل الحديث جدا.

وقد جاء في الرواية الثانية بعد ذكر الرؤيا وتعليم الأذان لبلال :

إنّ بلالا أتى رسول الله فوجده نائما ، فصرخ بأعلى صوته : الصلاة خير من النوم ، فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر. وكفى في ضعف الرواية ما في ذيلها.

ب : ما رواه الدارمي في مسنده

روى رؤيا الأذان الدارمي في مسنده بأسانيد ، وكلها ضعاف ، وإليك الأسانيد وحدها :

1. أخبرنا محمد بن حميد ، حدّثنا سلمة ، حدّثني محمد بن إسحاق وقد كان رسول الله حين قدمها. إلخ.

2. نفس هذا السند وجاء بعد محمد بن إسحاق : حدّثني هذا الحديث ، محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه ، عن أبيه بهذا الحديث.

3. أخبرنا محمد بن يحيى ، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، حدّثنا أبي عن ابن إسحاق. والباقي نفس ما جاء في السند الثاني. (1)

ص : 145


1- سنن الدارمي : 1 / 268 _ 269 باب بدء الأذان.

والأوّل منقطع ، والثاني مشتمل على محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وقد عرفت حاله ، والثالث مشتمل على ابن إسحاق وقد عرفت حاله.

ج : ما رواه الإمام مالك في الموطأ

روى الإمام مالك رؤيا الأذان في موطّئه : عن يحيى ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد أنّه قال : كان رسول الله قد أراد أن يتّخذ خشبتين يضرب بهما. (1)

والسند منقطع ، والمراد يحيى بن سعيد بن قيس المولود قبل عام 70 وتوفّى بالهاشمية سنة 143 ه . (2)

د : ما رواه ابن سعد في طبقاته

رواه محمد بن سعد في طبقاته بأسانيد (3) موقوفة لا يحتجّ بها :

الأوّل : ينتهي إلى نافع بن جبير الذي توفّى في عشر التسعين وقيل سنة 99 ه .

والثاني : ينتهي إلى عروة بن الزبير الذي تولّد عام 29 وتوفّى عام 93 ه .

والثالث : ينتهي إلى زيد بن أسلم الذي توفّى عام 136 ه .

والرابع : ينتهي إلى سعيد بن المسيب الذي توفّى عام 94 ، وإلى عبد الرحمن بن أبي ليلى الذي توفّى عام 82 ، أو 83 ه .

وقال الذهبي في ترجمة عبد الله بن زيد : حدّث عنه سعيد بن المسيب وعبد

ص : 146


1- الموطأ : 75 باب ما جاء في النداء للصلاة برقم 1.
2- سير أعلام النبلاء : 5 / 468 برقم 213.
3- الطبقات الكبرى : 1 / 246 _ 247.

الرحمن بن أبي ليلى ولم يلقه. (1)

وروى أيضا بالسند التالي :

أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي ، أخبرنا مسلم بن خالد ، حدّثني عبد الرحيم بن عمر ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عمر : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يجعل شيئا يجمع به الناس. حتى أري رجل من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد ، وأُريه عمر بن الخطاب تلك الليلة. إلى أن قال : _ فزاد بلال في الصبح « الصلاة خير من النوم » فأقرّها رسول الله.

فقد اشتمل السند على :

1. مسلم بن خالد بن قرقرة : ويقال : ابن جرحة.

ضعّفه يحيى بن معين.

وقال علي بن المديني : ليس بشيء.

وقال البخاري : منكر الحديث.

وقال النسائي : ليس بالقوي.

وقال أبو حاتم : ليس بذاك القوي ، منكر الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به ، تعرف وتنكر. (2)

2. محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني ( 51 _ 123 ه ).

قال أنس بن عياض ، عن عبيد الله بن عمر : كنت أرى الزهري يعطي

ص : 147


1- سير أعلام النبلاء : 2 / 376 برقم 79 ، وسيوافيك تفصيله في المقام الثاني.
2- تهذيب الكمال : 27 / 508 برقم 5925.

الكتاب فلا يقرأه ولا يقرأ عليه ، فيقال له : نروي هذا عنك ، فيقول : نعم.

وقال إبراهيم بن أبي سفيان القيسراني عن الفريابي : سمعت سفيان الثوري يقول : أتيت الزهري فتثاقل عليّ ، فقلت له : لو أنّك أتيت أشياخنا ، فصنعوا بك مثل هذا ؛ فقال : كما أنت ، ودخل فأخرج إليّ كتابا ، فقال : خذ هذا فاروه عنّي ، فما رويت عنه حرفا. (1)

ه_ : ما رواه البيهقي في سننه

روى البيهقي رؤيا الأذان بأسانيد لا يخلو الكل عن علّة أو علاّت ، وإليك الإشارة إلى الضعاف الواردين في أسانيدها :

الأوّل : يشتمل على أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار ، وقد تعرفت على أبي عمير بن أنس ، وأنّه قال فيه ابن عبد البر : وإنّه مجهول لا يحتجّ به (2) يروي عن مجاهيل (3) باسم العمومة ، ولا دليل على كون هؤلاء من الصحابة ، وإن افترضنا عدالة كل صحابي ، وعلى فرض التسليم أنّ العمومة كانوا منهم ، لكن موقوفات الصحابي ليست بحجّة ، إذ لا علم بأنّه روى عن النبي.

الثاني : يشتمل على أناس لا يحتج بهم :

1. محمد بن إسحاق بن يسار.

2. محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي.

3. عبد الله بن زيد.

وقد تعرّفت على الجميع.

ص : 148


1- المصدر نفسه : 26 / 439 _ 440.
2- سنن البيهقي : 1 / 390.
3- تهذيب التهذيب : 12 / 188 برقم 868.

الثالث : مشتمل على ابن شهاب الزهري ، يروي عن سعيد بن المسيب المتوفّى عام 94 ه عن عبد الله بن زيد. (1) وقد عرفت أنّهما لم يدركا عبد الله بن زيد.

و : ما رواه الدارقطني في سننه

روى الدارقطني رؤيا الأذان بأسانيد ، إليك بيانها :

1. حدّثنا محمد بن يحيى بن مرداس ، حدّثنا أبو داود ، حدّثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدّثنا حماد بن خالد ، حدّثنا محمد بن عمرو ، عن محمد بن عبد الله ، عن عمّه عبد الله ابن زيد.

2. حدّثنا محمد بن يحيى : حدّثنا أبو داود ، حدّثنا عبيد الله بن عمر ، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدّثنا محمد بن عمرو ، قال : سمعت عبد الله بن محمد ، قال : كان جدي عبد الله بن زيد بهذا الخبر. (2)

وقد اشتمل السندان على محمد بن عمرو ، وهو مردّد بين الأنصاري ، الذي ليس له في الصحاح والمسانيد إلاّ هذه الرواية ، قال الذهبي : لا يكاد يعرف ، وبين محمد بن عمرو أبو سهل الأنصاري الذي ضعّفه يحيى القطان ، وابن معين وابن عدي. (3)

3. حدّثنا أبو محمد بن صاعد ، حدّثنا الحسن بن يونس ، حدّثنا الأسود بن عامر ، حدّثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الرحمن بن أبي

ص : 149


1- سنن البيهقي : 1 / 390.
2- سنن الدارقطني : 1 / 245 برقم 56 و 57.
3- ميزان الاعتدال : 3 / 674 برقم 8017 و 8018 ، تهذيب الكمال : 26 / 220 برقم 5516 ، تهذيب التهذيب : 9 / 378 برقم 620.

ليلى ، عن معاذ بن جبل ، قال : قام رجل من الأنصار ، عبد الله بن زيد ، _ يعني إلى النبي _ فقال : يا رسول الله إنّي رأيت في النوم. (1)

وهذا السند منقطع ، لأنّ معاذ بن جبل توفّى عام 20 أو 18 ه وتولّد عبد الرحمن بن أبي ليلى ، سنة 17 ه ، مضافا إلى أنّ الدارقطني ضعّف عبد الرحمن وقال : ضعيف الحديث سيّئ الحفظ ، وابن أبي ليلى لا يثبت سماعه من عبد الله بن زيد. (2)

إلى هنا تم الكلام في المقام الأوّل ، واتّضح أنّ الأذان إنّما شرع بوحي إلهي ، لا برؤيا عبد الله بن زيد ولا برؤيا عمر بن الخطاب ولا بأيّ ابن أنثى كائنا من كان ، وانّ هذه الأحاديث ، متعارضة جوهرا ، غير تامّة سندا ، لا يثبت بها شيء ، مضافا إلى ما ذكرنا في صدر البحث من الاستنكار العقلي ، فلاحظ.

وحان البحث عن كيفية دخول التثويب في أذان الفجر ، وهذا هو المقام الثاني الذي نتلوه عليك فنقول :

ص : 150


1- سنن الدارقطني : 1 / 242 برقم 31.
2- سنن الدارقطني : 1 / 241.

المقام الثاني :

1. دراسة تاريخ دخول التثويب

في أذان صلاة الفجر

التثويب من ثاب يثوب : إذا رجع فهو بمعنى الرجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة ، فإنّ المؤذّن إذا قال : « حيّ على الصلاة » فقد دعاهم إليها ، فإذا قال : « الصلاة خير من النوم » فقد رجع إلى كلام معناه : المبادرة إليها.

وفسّره صاحب القاموس : بمعان منها : الدعاء إلى الصلاة ، وتثنية الدعاء ، وأن يقول في أذان الفجر : « الصلاة خير من النوم _ مرتين _ ».

وقال في المغرب : التثويب : القديم ، هو قول المؤذن في أذان الصبح : « الصلاة خير من النوم _ مرتين _ » والمحدث « الصلاة الصلاة » أو « قامت قامت ». (1)

والظاهر أنّه غلب استعماله بين أئمّة الحديث في القول المذكور أثناء الأذان ، ربّما يطلق على مطلق الدعوة بعد الدعوة ، فيعمّ ما إذا نادى المؤذّن بعد تمام الأذان بالقول المذكور أيضا أو بغيره ممّا يفيد الدعوة إليها بأيّ لفظ شاء.

ص : 151


1- الحدائق : 7 / 419. ولاحظ النهاية في غريب الحديث : 1 / 226 ، لسان العرب مادة « ثوب » ، والقاموس مادة « ثوب ».

قال السندي في حاشيته على سنن النسائي : التثويب هو العود إلى الإعلام بعد الإعلام ، وقول المؤذّن « الصلاة خير من النوم » لا يخلو عن ذلك. فسمّي تثويبا. (1)

فالمقصود في المقام تبيين حكم قول المؤذّن أثناء الأذان لصلاة الفجر : « الصلاة خير من النوم » ، فهل هو مشروع ، أو بدعة حدثت بعد النبي لما استحسنه بعض الناس من إقراره في الأذان ، سواء أكان هو التثويب فقط أو عمّ مطلق الدعوة إلى الصلاة ولو بعد تمام الأذان ، بهذا اللفظ أو بغيره؟

فنقول : التثويب بهذا المعنى ورد تارة في خلال أحاديث رؤية الأذان ، وأخرى في غيرها ، أمّا الأوّل فقد ورد في ما يلي :

1. ما رواه ابن ماجة ( الرواية الرابعة ) وقد عرفت نصّ الشوكاني على ضعفها. (2)

2. ما رواه الإمام أحمد : وقد عرفت ما في سنده من الضعف حيث جاء فيه :

محمد بن إسحاق ، وعبد الله بن زيد بن عبد ربّه. (3)

3. ما رواه ابن سعد في طبقاته : وفي سنده : مسلم بن خالد بن قرقرة وقد عرفت ضعفه. (4)

وأمّا الثاني _ أي نقل التثويب في غير رؤية الأذان _ فقد نقله أصحاب السنن ، وإليك النصوص :

ص : 152


1- السنن : 2 / 14 قسم التعليقة.
2- لاحظ الرواية الرابعة ص 133 وكلمة الشوكاني ص 143 من هذا الكتاب.
3- لاحظ ما نقلناه عن الإمام أحمد ، بعد أحاديث السنن ص 144.
4- لاحظ ص 147 من هذا الكتاب.

4. ما رواه ابن ماجة : بالسند التالي : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدّثنا محمد بن عبد الله الأسدي ، عن أبي إسرائيل ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن بلال ، قال : أمرني رسول الله أن أثوب في الفجر ونهاني أن أثوب في العشاء. (1)

وفي هذه الرواية دلالة على أنّ التثويب يستعمل في مطلق الدعوة إلى الصلاة ، وإن لم يكن بلفظ « الصلاة خير من النوم » بشهادة النهي عن التثويب في العشاء ، لأنّ التثويب فيه لا يتحقّق إلاّ بلفظ آخر ، مثل « الصلاة جامعة » ، أو « قد قامت الصلاة » وغيرهما.

5. حدثنا عمر بن رافع ، حدّثنا عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب عن بلال : أنّه أتى النبيّ يؤذِنه بصلاة الفجر فقيل : هو نائم ، فقال : الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم ، فأقرّت في تأذين الفجر ، فثبت الأمر على ذلك. (2)

والسندان منقطعان أمّا الأوّل : فابن أبي ليلى ولد عام 17 ومات بلال عام 20 أو 21 بالشام وكان مرابطا بها قبل ذلك من أوائل فتوحها ، فهو شامي وابن أبي ليلى كوفي ، فكيف يسمع منه مع حداثة السن وتباعد الديار؟! (3)

ورواه الترمذي مع اختلاف في أوّل السند ، وقال : حديث بلال لا نعرفه إلاّ من حديث أبي إسرائيل الملاّئي ، وأبو إسرائيل لم يسمع هذا الحديث من الحكم ( ابن عتيبة ) قال : إنّما رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم.

ص : 153


1- سنن ابن ماجة : 1 / 237 برقم 715.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 237 برقم 716.
3- نيل الأوطار : 2 / 38.

وأبو إسرائيل اسمه : إسماعيل بن أبي إسحاق ، وليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث. (1)

أمّا الثاني فقد قال فيه ابن ماجة نقلا عن الزوائد : إسناده ثقات إلاّ أنّ فيه انقطاعا ( لأنّ ) سعيد بن المسيب لم يسمع من بلال. (2)

6. ما رواه النسائي : أخبرنا سويد بن نصر قال : أنبأنا عبد الله ، عن سفيان ، عن أبي جعفر ، عن أبي سلمان ، عن أبي محذورة ، قال : كنت أؤذّن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنت أقول في أذان الفجر الأوّل : حيّ على الفلاح ، الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله. (3)

وفي سنن البيهقي (4) وسبل السّلام (5) مكان « أبي سلمان » : « أبي سليمان ».

قال البيهقي : وأبو سليمان اسمه « همام المؤذن » ولم نجد ترجمة لهمام المؤذّن فيما بأيدينا من كتب الرجال فلم يذكره الذهبي في « سير أعلام النبلاء » ، ولا المزّي في « تهذيب الكمال » ، والرجل غير معروف.

وأمّا أبو محذورة فهو من الصحابة لكنّه قليل الرواية ، لا يتجاوز ما رواه عن عشر روايات وقد أذّن لرسول الله في العام الثامن ، في غزوة حنين. (6)

7. ما رواه البيهقي في سننه بسند ينتهي إلى أبي قدامة ، عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة ، عن أبيه ، عن جده قال : قلت : يا رسول الله علّمني سنّة الأذان ، وذكر الحديث وقال فيه : حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، فإن كان

ص : 154


1- سنن الترمذي : 1 / 378 ، برقم 198.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 237 ، برقم 716. ولد سعيد بن المسيب عام 13 وتوفّى عام 94 ه .
3- سنن النسائي : 2 / 13 باب التثويب في الأذان.
4- سنن البيهقي : 1 / 422 ، سبل السّلام : 1 / 221.
5- سنن البيهقي : 1 / 422 ، سبل السّلام : 1 / 221.
6- أسماء الصحابة الرواة : 161 برقم 188.

صلاة الصبح قل : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم.

8. ما رواه أيضا بسند ينتهي إلى عثمان بن السائب : أخبرني أبي وأم عبد الملك بن أبي محذورة ، عن أبي محذورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه. (1)

ومحمد بن عبد الملك قد تعرّفت على حاله. وعثمان بن السائب ولدا ووالدا ، غير معروفين ليس لهما إلاّ رواية واحدة. (2)

9. ما رواه أبو داود بسند ينتهي إلى الحرث بن عبيد ، عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قلت : يا رسول الله علّمني سنّة الأذان _ إلى أن قال : _ فإن كان صلاة الصبح قلت : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم. (3).

والسند مشتمل على محمد بن عبد الملك ، قال ابن حجر : قال عبد الحق : لا يحتج بهذا الاسناد ، وقال ابن القطان : مجهول الحال ، لا نعلم روى عنه إلاّ الحارث. (4)

وقال الشوكاني في حقّ محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة : غير معروف الحال ، والحرث بن عبيد وفيه مقال. (5)

10. روى أيضا بسند ينتهي إلى عثمان بن سائب : أخبرني أبي وأمّ عبد الملك بن أبي محذورة ، عن أبي محذورة ، عن النبي نحو هذا الخبر. (6)

ص : 155


1- سنن البيهقي : 1 / 421 _ 422 باب التثويب في أذان الصبح.
2- ميزان الاعتدال : 2 / 114 ، برقم 3075 ( السائب ) ، تهذيب التهذيب : 7 / 117 برقم 252 ( عثمان بن السائب ).
3- سنن أبي داود : 1 / 136 ، برقم 500.
4- تهذيب التهذيب : 9 / 317.
5- نيل الأوطار : 2 / 38.
6- سنن أبي داود : 1 / 136 _ 137 ، باب كيفية الأذان برقم 501.

وقد عرفت ضعف السند.

11. روى أيضا بسند ينتهي إلى إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة قال : سمعت جدي عبد الملك بن أبي محذورة يذكر أنّه سمع أبا محذورة يقول : ألقى عليّ رسول الله الأذان حرفا حرفا _ إلى أن قال _ : وكان يقول في الفجر : الصلاة خير من النوم. (1)

وإبراهيم بن إسماعيل له رواية واحدة ، وهو بعد لم يوثّق (2) مضافا إلى احتمال الانقطاع في السند.

وما رواه الدارقطني فعلى أقسام :

12. ما يدلّ على أنّه سنّة في الأذان ، رواه عن أنس وعمر من دون أن ينسباه إلى النبي وهي ثلاثة أحاديث. (3)

13. ما يدلّ على أنّ النبي أمر بلالا بذلك لكن السند منقطع. رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال (4) مع ضعف في سنده لمكان عبد الرحمن بن الحسن فيه المكنّى ب_ « أبي مسعود الزجاج » وقد عرّفه أبو حاتم : بأنّه لا يحتج به ، وإن ليّنه الآخرون. (5)

14. ما يدلّ على الإعلام قبل الأذان ، بأي شكل اتّفق ، وهو خارج عن المقصود ، وقد ضعّف بعض من جاء في سنده. (6)

ص : 156


1- سنن أبي داود : 1 / 136 _ 137 ، باب كيفية الأذان برقم 504.
2- تهذيب الكمال : 2 / 44 برقم 147.
3- سنن الدارقطني : 1 / 243 برقم 38 _ 39 _ 40.
4- سنن الدارقطني : 1 / 243 برقم 41.
5- انظر ميزان الاعتدال : 2 / 556 برقم 4851.
6- سنن الدارقطني : 1 / 244 _ 245 برقم 48 ، 51 ، 52 ، 53.
ما رواه الدارمي :

15. روى الدارمي بسند ينتهي إلى الزهري ، عن حفص بن عمر بن سعد المؤذن. قال حفص : حدّثني أهلي ، أنّ بلالا أتى رسول الله يؤذنه لصلاة الفجر فقالوا : إنّه نائم ، فنادى بلال بأعلى صوته : الصلاة خير من النوم. فأقرّت في أذان صلاة الفجر. (1)

والرواية لا يحتج بها لمكان الزهري أوّلا ، وحفص بن عمر الذي ليس له إلاّ رواية واحدة وهي هذه (2) مضافا إلى كون الأصل الناقل مجهولا.

16. ما رواه الإمام مالك : انّ المؤذّن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما ، فقال : الصلاة خير من النوم. فأمر عمر أن يجعلها في نداء الصبح. (3)

حصيلة الروايات :

إنّ روايات التثويب متعارضة جدا لا يمكن إرجاعها إلى معنى واحد ، وإليك أقسامها :

1. ما يدلّ على أنّ عبد الله بن زيد رآه في رؤياه وأنّه كان جزءا من الأذان من أوّل الأمر.

2. ما يدلّ على أنّ بلالا زاده فيه وقرّره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يجعله بلال جزءا من الأذان كما في رواية الدارمي.

ص : 157


1- سنن الدارمي 1 / 270 ، باب التثويب في أذان الفجر.
2- تهذيب الكمال : 7 / 30 برقم 1399 ، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال : 1 / 560 برقم 2129 : تفرّد عن حفص ، الزهري.
3- الموطأ : 78 برقم 8.

3. ما يدلّ على أنّ عمر بن الخطاب أمر المؤذّن أن يجعلها في نداء الصبح كما رواه الإمام مالك.

4. ما يدلّ على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علّمها أبا محذورة ، كما رواه البيهقي في سننه.

5. ما يظهر أنّ بلالا ينادي بالصبح فيقول : « حيّ على خير العمل » فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل مكانها : « الصلاة خير من النوم » وترك « حيّ على خير العمل » كما رواه المتقي الهندي في كنزه ( 8 / 345 برقم 23188 ).

ومع هذا التعارض الواضح ، لا يمكن الركون إليها ، وبما أنّ أمرها دائر بين السنّة والبدعة ، فتركها متعيّن لعدم العقاب على تركها ، بخلاف ما لو كانت بدعة.

ص : 158

2. كلمات الأعلام في التثويب

إنّ بين الصحابة والتابعين من يراه بدعة وأنّه لم يأمر به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وإنّما حدث بعده صلى الله عليه وآله وسلم ، وإليك نصوصهم :

1. قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن حفص أنّ سعدا ( المؤذّن ) أوّل من قال : الصلاة خير من النوم ، في خلافة عمر ، فقال عمر : بدعة ، ثمّ تركه ، وانّ بلالا لم يؤذّن لعمر.

2. وعنه أيضا : أخبرني حسن بن مسلم أنّ رجلا سأل طاوسا : متى قيل الصلاة خير من النوم؟ فقال : أما إنّها لم تقل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنّ بلالا سمعها في زمان أبي بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولها رجل غير مؤذن ، فأخذها منه. فأذّن بها فلم يمكث أبو بكر إلاّ قليلا حتى إذا كان عمر قال : لو نهينا بلالا عن هذا الذي أحدث ، وكأنّه نسيه وأذّن بها الناس حتى اليوم. (1)

3. روى عبد الرزاق الصنعاني عن ابن عيينة عن ليث عن مجاهد قال : كنت مع ابن عمر فسمع رجلا يثوب في المسجد ، فقال : اخرج بنا من ( عند )

ص : 159


1- كنز العمال : 8 / 357 برقم 23252 و 23251 ، ورواه عبد الرزاق في المصنف : 1 / 474 برقم 1827 و 1828 و 1829.

هذا المبتدع. (1)

نعم يظهر ممّا رواه أبو داود في سننه أنّ الرجل ثوب في الظهر والعصر لا في صلاة الفجر. (2)

4. ما روي عن أبي حنيفة كما في « جامع المسانيد » عنه ، عن حماد ، عن إبراهيم قال : سألته عن التثويب؟ فقال : هو ممّا أحدثه الناس ، وهو حسن ، ممّا أحدثوه. وذكر أنّ تثويبهم كان حين يفرغ المؤذّن من أذانه : إنّ الصلاة خير من النوم _ مرتين. قال : أخرجه الإمام محمد بن الحسن ( الشيباني ) في الآثار فرواه عن أبي حنيفة ثمّ قال محمد : وهو قول أبي حنيفة وبه نأخذ. (3)

وهذه الرواية تدلّ على أنّ التثويب في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو في عصر الخلفاء كان بعد الفراغ عن الأذان ولم يكن جزءا منه وانّما كان يذكره المؤذّن من عند نفسه إيقاظا للناس من النوم. ثمّ إنّه أدرج في نفس الأذان.

5. قال الشوكاني نقلا عن البحر الزخار : أحدثه عمر فقال ابنه : هذه بدعة. وعن علي عليه السلام حين سمعه : لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه. ثم قال بعد أن ذكر حديث أبي محذورة وبلال : قلنا لو كان لما أنكره علي وابن عمر وطاوس سلمنا فأمرنا به إشعارا في حال ، لا شرعا جمعا بين الآثار. (4)

6. وقال الأمير اليمني الصنعاني ( المتوفّى عام 182 ه ) : قلت : وعلى هذا ليس « الصلاة خير من النوم » من ألفاظ الأذان المشروع للدعاء إلى الصلاة

ص : 160


1- المصنف : 1 / 475 برقم 1832 ، ورواه أيضا المتقي الهندي في كنز العمال : 8 / 357 برقم 23250.
2- سنن أبي داود : 1 / 148 برقم 538.
3- جامع المسانيد : 1 / 296.
4- نيل الأوطار : 2 / 38.

والإخبار بدخول وقتها ، بل هو من الألفاظ التي شرعت لإيقاظ النائم ، فهو كألفاظ التسبيح الأخير الذي اعتاده الناس في هذه الأعصار المتأخرة عوضا عن الأذان الأوّل. ثم قال : وإذا عرفت هذا ، هان عليك ما اعتاده الفقهاء من الجدال في التثويب هل هو من ألفاظ الأذان أو لا ، وهل هو بدعة أو لا؟ (1)

7. نقل ابن قدامة عن إسحاق أنّه بعد ما نقل رواية أبي محذورة قال : هذا شيء أحدثه الناس ، وقال أبو عيسى : هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم وهو الذي خرج منه ابن عمر من المسجد لما سمعه. (2)

8. ما استفاض من أئمّة أهل البيت من كونها بدعة : روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال : سألت أبا عبد الله عن التثويب الذي يكون بين الأذان والإقامة؟ فقال : « ما نعرفه ». (3)

9. والذي تبيّن لي من دراسة ما ورد حول الأذان : أنّ عائلتين استغلّتا ما روي عن جدّهم عبد الله بن زيد وأبي محذورة فعَمِدتا بنشر ما نُسِبَ إلى جدهما لما فيه من فضيلة للعائلة ، ولو لا ذلك لم يكن لهذين الأمرين ( تشريع الأذان بالرؤيا والتثويب في أذان صلاة الفجر ) انتشار بهذا النحو الواسع ، ولأجل ذلك ربّما يرتاب الإنسان فيما نقل عن جدهما ، وقد عرفت وجود رواة في أسانيد الروايات يُنسَبون إلى هاتين العائلتين.

10. انّ الفصل الأوّل والفصل الثاني يشهد على أنّه سبحانه هو الإله في صفحة الوجود وأنّ ما سواه سراب ما أنزل الله به من سلطان.

وثالث الفصول ، يشهد على أنّ محمّدا صلى الله عليه وآله وسلم رسوله ، الذي بعثه لإبلاغ

ص : 161


1- سبل السّلام في شرح بلوغ المرام : 1 / 120.
2- المغني : 1 / 420.
3- الوسائل : 4 / 650 الباب 22 من أبواب الأذان والإقامة ، الحديث 1 ، ولاحظ أحاديث الباب.

رسالاته وإنجاز دعوته.

ففي نهاية ذلك الفصل يتبدّل نداوة وإعلانه من الشهادة ، إلى الدعوة إلى الصلاة التي فرضها والتي بها يتّصل الإنسان بعالم الغيب ، وفيها يمتزج خشوعه ، بعظمة الخالق ، ثمّ الدعوة إلى الفلاح والنجاح ، وخير العمل التي تنطوي عليها الصلاة.

وفي نهاية الدعوة إلى الفلاح وخير العمل ، يعود ويذكر الحقيقة الأبدية التي صرّح بها في أوّليات فصوله ويقول : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله ، لا إله إلاّ الله.

هذه هي حقيقة الأذان وصورته والجميع سبيكة واحدة أفرغتها يد التشريع السماوي في قالب جمل ، تحكي عن حقائق أبدية ، تصدّ الإنسان عن الانكباب في شواغل الدنيا وملاذّها.

هذا ما يحسّه كل إنسان واع منصت للأذان ، ومتدبّر في فصوله ومعانيه ، ولكن هنا حقيقة مرّة لا يمكن لي ولا لغيري إخفاؤها _ بشرط التجرّد عن كل رأي مسبق ، أو تعصّب لمذهب _ وهو أنّ المؤذّن إذا انحدر من الدعوة إلى الصلاة ، والفلاح وخير العمل _ في أذان صلاة الفجر _ إلى الإعلان بأنّ الصلاة خير من النوم ، فكأنّما ينحدر من قمة البلاغة إلى كلام عار عن الرفعة والبداعة ، يُعلِن شيئا يعرفه الصبيان ومن دونهم ، يصيح _ بجد وحماس _ على شيء لا يجهله إلاّ من يجهل البديهيات ، لأنّ إعلانه بأنّها خير من النوم ، أشبه بمن يُعلن في محتشد كبير بأنّ الاثنين نصف الأربعة.

هذا هو الذي أحسسته عند ما تشرفت بزيارة بيت الله الحرام عام 1375 ه وأنا أستمع للأذان في الحرمين الشريفين ، ولم تزل تجول في ذهني ومخيّلتي أنّ هذا الفصل ليس من كلام الوحي وانّما أُقحم لسبب من الأسباب ، بين فصول الأذان ، فهذا ما دعاني إلى البحث والتنقيب في هذا الموضوع.

ص : 162

خاتمة المطاف بدعة تلو بدعة

اشارة

إنّ تاريخ الأذان والإقامة حافل بالبدع ، وقد تصرفت فيه يد المبدعين لغايات استحسانية لا يعرّج إليها في التشريع ، وإليك بعض ما أحدث فيه بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

1. الأذان الثاني يوم الجمعة

جرت السيرة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والشيخين على إقامة الأذان حينما يصعد الإمام على المنبر لإلقاء الخطابة ، ولما كثر الناس في عهد الخليفة الثالث أمر بأذان ثان وهو الأذان عند دخول الوقت على المأذنة ، وهذا هو المعروف بالأذان الثاني للخليفة. وقد روي عن الشافعي من أنّه استحب أن يكون للجمعة أذان واحد عند المنبر. (1)

إذا كان الأذان من الأمور التوقيفية فليس ليد التشريع البشري التصرف فيه بزيادة أو نقيصة وكان في وسع الخليفة أن يقوم بعلاج الموقف من وجه آخر ، وهو إعلام الناس بالوسائل التي لا تمت إلى التشريع الإسلامي بصلة مكان أن يأمر المؤذن بأذان آخر لم يكن من ذي قبل.

ص : 163


1- المجموع : 3 / 132.

والعجب انّ الفقهاء أنفسهم اختلفوا فيما يتعلّق بأذاني الجمعة من أحكام وأيّهما المعتبر في تحريم البيع الوارد في قوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ). (1)

2. وقد استحدث علماء الكوفة من الحنفية بعد عهد الصحابة تثويبا آخر ، وهو زيادة الحيعلتين _ أي عبارة « حي على الصلاة ، حي على الفلاح » _ مرّتين بين الأذان والإقامة في الفجر ، واستحسنه متقدّمو الحنفية في الفجر فقط ، وكره عندهم في غيره ، والمتأخّرون منهم استحسنوه في الصلوات كلّها _ إلاّ في المغرب لضيق الوقت _ وذلك لظهور التواني في الأمور الدينية ، وقالوا : إنّ التثويب بين الأذان والإقامة في الصلوات يكون بحسب ما يتعارفه أهل كلّ بلد بالتنحنح ، أو الصلاة الصلاة ، أو غير ذلك.

3. استحدث أبو يوسف جواز التثويب لتنبيه كل من يشتغل بأمور المسلمين ومصالحهم كالإمام والقاضي ونحوهما ، فيقول المؤذن بعد الأذان :

السلام عليك أيّها الأمير ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، الصلاة يرحمك الله. وشارك أبا يوسف في هذا الشافعية وبعض المالكية ، وكذلك الحنابلة إن لم يكن الإمام ونحوه قد سمع الأذان ، واستبعده محمد بن الحسن ، لأنّ الناس سواسية في أمر الجماعة وشاركه في ذلك بعض المالكية. (2)

ص : 164


1- الجمعة : 9.
2- الموسوعة الفقهية : 2 / 361 ، مادة أذان.
5. حذف الحيعلة من الأذان

قد تقدّم منّا أنّ البدعة في الأذان بإدخال التثويب ليس فريدا في بابه ، بل له نظير آخر ، وهو : حذف « حيّ على خير العمل » من فصول الأذان والإقامة ، وذلك لغاية أن لا يكون الإعلان به في الأذان سببا في تثبيط العامة عن الجهاد ، لأنّ الناس إذا عرفوا أنّ الصلاة خير العمل ، لاقتصروا عليها وأعرضوا عن الجهاد.

وهذا بعين الله إطاحة بالتشريع وتصرّف فيه ، بتفلسف تافه. فان المشرّع كان واقفا على هذا المحذور ، ومع ذلك أدخله في الأذان.

قال القوشجي _ وهو من متكلّمي الأشاعرة _ ناقلا عن الخليفة الثاني أنّه قال على المنبر :

ثلاث كنّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهنّ وأحرّمهنّ وأعاقب عليهنّ : وهي متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحيّ على خير العمل. (1)

وقد أطبقت الشيعة على كونه جزءا من الأذان ، وعلى ذلك جروا ، من العهد النبوي إلى يومنا هذا ، وصار ذلك شعارا لهم. وإنّ كثيرا من المؤرّخين يكنّون عن

ص : 165


1- علاء الدين القوشجي ( المتوفّى عام 879 ه بالقسطنطينية ) : شرح التجريد : 484. اقرأ ترجمته في كتابنا « بحوث في الملل والنحل ج 2 _ ط. بيروت.

الشيعة بمن يحيعلون أي الذين يقولون : « حيّ على خير العمل ».

قال أبو الفرج الأصفهاني ( 284 _ 356 ه ) في « مقاتل الطالبيين » في مقتل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه السلام : أنّه استولى على المدينة ، وصعد عبد الله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند موضع الجنائز ، فقال للمؤذّن : أذّن ب_ « حي على خير العمل ». (1).

وقال الحلبي : ونقل عن ابن عمر وعن الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السلام أنّهما كانا يقولان في أذانيهما بعد « حيّ على الفلاح » : « حيّ على خير العمل ». (2)

( أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ). (3)

ص : 166


1- مقاتل الطالبيين : 297.
2- السيرة الحلبية : 2 / 305.
3- الأنعام : 90.

4. القبض بين البدعة والسنة

اشارة

ص : 167

ص : 168

حكم القبض في الصلاة

إنّ قبض اليد اليسرى باليمنى ممّا اشتهر ندبه بين فقهاء أهل السنّة.

فقالت الحنفية : إنّ التكتف مسنون وليس بواجب ، والأفضل للرجل أن يضع باطن كفّه اليمنى على ظاهر كفّه اليسرى تحت سرّته ، وللمرأة أن تضع يديها على صدرها.

وقالت الشافعية : يسنّ للرجل والمرأة ، والأفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر وفوق السرّة ممّا يلي الجانب الأيسر.

وقالت الحنابلة : إنّه سنّة ، والأفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه ، ويجعلها تحت السرة.

وشذّت عنهم المالكية فقالوا : يُندَب إسدال اليدين في الصلاة الفرض ، وقالت جماعة أيضا قبلهم ، منهم : عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وابن جريج ، والنخعي ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، وجماعة من الفقهاء. وهو مذهب الليث بن سعد إلاّ انّه قال : إلاّ أن يطيل القيام فيعيى أي يتعب فله القبض.

ص : 169

والمنقول عن الإمام الأوزاعي التخيير بين القبض والسدل. (1)

وذهب محمد عابد مفتي المالكية بالديار الحجازية إلى أنّ السدل والقبض سنّتان من رسول الله وانّ المؤمن إذا طال عليه القيام وهو مسدل ، قبض وقال بأنّ السدل أصل والقبض فرع. (2)

وأمّا الشيعة الإمامية ، فالمشهور أنّه حرام ومبطل ، وشذّ منهم من قال بأنّه مكروه ، كالحلبي في الكافي. (3)

ومع أنّ غير المالكية من المذاهب الأربعة قد تصعّدوا وتصوبوا في المسألة ، لكن ليس لهم دليل مقنع على جوازه في الصلاة ، فضلا عن كونه مندوبا ، بل يمكن أن يقال : إنّ الدليل على خلافهم ، والروايات البيانية عن الفريقين التي تبيّن صلاة الرسول خالية عن القبض ، ولا يمكن للنبي الأكرم أن يترك المندوب طيلة حياته أو أكثرها ، وإليك نموذجين من هذه الروايات : أحدهما عن طريق أهل السنّة ، والآخر عن طريق الشيعة الإمامية ، وكلاهما يبيّنان كيفية صلاة النبي وليست فيهما أيّة إشارة إلى القبض فضلا عن كيفيته.

القبض بدعة محدثة

اشارة

إنّ القبض بدعة محدثة ظهرت بعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وعمادنا في هذا السبيل حديثان صحيحان :

أحدهما مروي عن طرق أهل السنّة ، والآخر من طرق الإمامية ، والحديثان

ص : 170


1- الفقه على المذاهب الخمسة : 110.
2- لاحظ رسالة مختصرة في السدل للدكتور عبد الحميد بن مبارك : 5.
3- جواهر الكلام : 11 / 15 _ 16.

دليلان قاطعان على أنّ سيرة النبي وأهل بيته عليهم السلام جرت على السدل في الصلاة ، وانّ القبض ابتدع بعد رحيله صلى الله عليه وآله وسلم.

ألف : حديث أبي حميد الساعدي

روى حديث أبي حميد الساعدي غير واحد من المحدّثين ، ونحن نذكره بنص البيهقي ، قال : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ : فقال أبو حميد الساعدي : أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قالوا : لِمَ ، ما كنت أكثرنا له تبعا ، ولا أقدمنا له صحبة؟! قال : بلى ، قالوا : فأعرض علينا ، فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكبيه ، ثم يكبّر حتّى يقرّ كل عضو منه في موضعه معتدلا ، ثم يقرأ ، ثم يكبّر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه ، ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع ، ثم يرفع رأسه ، فيقول : سمع الله لمن حمده ، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حتى يعود كل عظم منه إلى موضعه معتدلا ، ثم يقول : الله أكبر ، ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه ، ثم يرفع رأسه فيثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد ، ثم يعود ، ثم يرفع فيقول : الله أكبر ، ثم يثني برجله فيقعد عليها معتدلا حتى يرجع أو يقرّ كل عظم موضعه معتدلا ، ثم يصنع في الركعة الأخرى مثل ذلك ، ثم إذا قام من الركعتين كبّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما فعل أو كبّر عند افتتاح صلاته ، ثم يصنع مثل ذلك في بقية صلاته ، حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى وقعد متورّكا على شقّه الأيسر ، فقالوا جميعا : صدق هكذا كان يصلّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1)

ص : 171


1- سنن البيهقي : 2 / 72 ، 73 ، 101 ، 102 ؛ سنن أبي داود : 1 / 194 ، باب افتتاح الصلاة ، الحديث 730 _ 736 ؛ سنن الترمذي : 2 / 98 ، باب صفة الصلاة ؛ مسند أحمد : 5 / 424 ؛ وابن خزيمة في صحيحه ، باب الاعتدال في الركوع ، برقم 587.

والذي يوضح صحّة الاجتماع به الأمور التالية :

1. تصديق أكابر الصحابة (1) لأبي حميد يدلّ على قوة الحديث ، وترجيحه على غيره من الأدلّة.

2. أنّه وصف الفرائض والسنن والمندوبات ولم يذكر القبض ، ولم ينكروا عليه ، أو يذكروا خلافه ، وكانوا حريصين على ذلك ، لأنّهم لم يسلّموا له أوّل الأمر أنّه أعلمهم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بل قالوا جميعا : صدقت هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي ، ومن البعيد جدا نسيانهم وهم عشرة ، وفي مجال المذاكرة.

3. الأصل في وضع اليدين هو الإرسال ، لأنّه الطبيعي فدلّ الحديث عليه.

4. هذا الحديث لا يقال عنه إنّه مطلق وأحاديث تقيّده ، لأنّه وصَفَ وعدّد جميع الفرائض والسنن والمندوبات وكامل هيئة الصلاة ، وهو في معرض التعليم والبيان ، والحذف فيه خيانة ، وهذا بعيد عنه وعنهم.

5. بعض من حضر من الصحابة ، ممّن روي عنه أحاديث القبض ، فلم يعترض ، فدلّ على أنّ القبض منسوخ ، أو على أقل أحواله بأنّه جائز للاعتماد لمن طوّل في صلاته ، وليس من سنن الصلاة ، ولا من مندوباتها ، كما هو مذهب الليث بن سعد ، والأوزاعي ، ومالك. (2)

قال ابن رشد : والسبب في اختلافهم انّه قد جاءت آثار ثابتة ، نقلت فيها صفة صلاته _ عليه الصلاة والسلام _ ولم ينقل انّه كان يضع يده اليمنى على اليسرى. (3)

ص : 172


1- منهم : أبو هريرة ، وسهل الساعدي ، وأبو أسيد الساعدي ، وأبو قتادة الحارث بن ربعي ، ومحمد بن مسلمة.
2- رسالة مختصرة في السدل : 11.
3- بداية المجتهد : 1 / 99.

بقي هنا سؤال وهو انّه قد اشتهر أنّ المالكية لا تقول بالقبض وانّ إمامهم مالكا كرهه ، وقال في المدونة : كره مالك وضع اليد اليمنى على اليسرى في الفريضة وقال : لا أعرفه في الفريضة ، مع أنّه روى في « الموطأ » حديث القبض حيث روى عن سهل بن سعد ، كما روى مرسل عبد الكريم ابن أبي المخارق البصري أنّه قال : من كلام النبوة : إذا لم تستح فافعل ما شئت ، ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة يضع اليمنى على اليسرى ، وتعجيل الفطر ، والاستيفاء بالسحور. (1)

قلت : إنّ كتاب الموطأ ، كتاب رواية ، والإمام ربما ينقل ولا يفتي على وفقه ، فلذلك ترى في « المدونة » فتاوى تخالف ما رواه في « الموطأ » ومن كان ملمّا بفقهه ، يرى أنّ بين ما دوّن من فتاواه وما رواه في « الموطأ » ، اختلافا في موارد كثيرة.

قد أشار الدكتور عبد الحميد في رسالة السدل إلى مواردها. (2)

وعلى كلّ تقدير فقوله : « لا أعرفه في الفريضة » دليل صريح في أنّ عمل أهل المدينة على خلافه ، إذ قوله : « لا أعرفه » ، معناه لا أعرفه من عمل الأئمة الذين هم التابعون الذين تلقّوا العلم عن الصحابة.

هذا هو الحديث الذي قام ببيان كيفية صلاة النبي وقد روي عن طريق أهل السنّة ، وقد عرفت وجه الدلالة ، وإليك ما رواه الشيعة الإمامية.

ب : حديث حمّاد بن عيسى

روى حمّاد بن عيسى ، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : « ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة » قال

ص : 173


1- الموطأ : 1 / 158 ، باب وضع اليدين إحداهما على الأُخرى في الصلاة ، الحديث 46 ، 47.
2- رسالة مختصرة في السدل : 6 _ 7.

حمّاد : فأصابني في نفسي الذل ، فقلت : جعلت فداك فعلّمني الصلاة ، فقام أبو عبد الله مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضمّ أصابعه وقرّب بين قدميه حتى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات ، واستقبل بأصابع رجليه ( جميعا ) لم يحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة ، فقال : الله أكبر ، ثم قرأ الحمد بترتيل ، وقل هو الله أحد ، ثم صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم ، ثم قال : الله أكبر ، وهو قائم ثم ركع وملأ كفيه من ركبتيه مفرّجات ، وردّ ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره ، حتى لو صبت عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره وتردّد ركبتيه إلى خلفه ، ونصب عنقه ، وغمض عينيه ثم سبح ثلاثا بترتيل وقال : سبحان ربي العظيم وبحمده ، ثم استوى قائماً ، فلما استمكن من القيام قال : سمع الله لمن حمده ، ثم كبّر وهو قائم ، ورفع يديه حيال وجهه ، وسجد ، ووضع يديه إلى الأرض قبل ركبتيه وقال : سبحان ربي الأعلى وبحمده ، ثلاث مرات ، ولم يضع شيئا من بدنه على شيء منه ، وسجد على ثمانية أعظم : الجبهة ، والكفّين ، وعيني الركبتين ، وأنامل إبهامي الرجلين ، والأنف ، فهذه السبعة فرض ، ووضع الأنف على الأرض سنّة ، وهو الإرغام ، ثم رفع رأسه من السجود فلمّا استوى جالسا قال : الله أكبر ، ثم قعد على جانبه الأيسر ، ووضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى ، وقال : أستغفر الله ربي وأتوب إليه ، ثم كبّر وهو جالس وسجد الثانية ، وقال كما قال في الأولى ولم يستعن بشيء من بدنه على شيء منه في ركوع ولا سجود ، وكان مجنّحا ، ولم يضع ذراعيه على الأرض ، فصلّى ركعتين على هذا.

ثم قال : « يا حمّاد هكذا صل ، ولا تلتفت ، ولا تعبث بيديك وأصابعك ، ولا تبزق عن يمينك ولا ( عن ) يسارك ولا بين يديك ». (1)

ص : 174


1- الوسائل : 4 ، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة ، الحديث 1. ولاحظ الباب 17 ، الحديث 1 و 2.

ترى أنّ الروايتين بصدد بيان كيفية الصلاة المفروضة على الناس وليست فيهما أيّة إشارة إلى القبض بأقسامه المختلفة فلو كان سنّة لما تركه الإمام في بيانه ، وهو بعمله يجسّد لنا صلاة الرسول ، لأنّه أخذه عن أبيه الإمام الباقر ، وهو عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ، عن الرسول الأعظم _ صلوات الله عليهم أجمعين _ فيكون القبض بدعة ، لأنّه إدخال شيء في الشريعة وهو ليس منه.

دليل القائلين بلزوم القبض

اشارة

ثم إنّ للقائل بالقبض أدلّة نأخذ بدراستها :

إنّ مجموع ما يصحّ الاستدلال به على أنّ القبض سنّة في الصلاة لا يعدو عن روايات ثلاث (1) 1. حديث سهل بن سعد. رواه البخاري.

2. حديث وائل بن حجر. رواه مسلم ونقله البيهقي بأسانيد ثلاثة.

3. حديث عبد الله بن مسعود. رواه البيهقي في سننه وغيره.

وإليك دراسة كل حديث :

1. حديث سهل بن سعد

روى البخاري عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : « كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة » قال أبو حازم : لا

ص : 175


1- وللقبض أدلة أخرى غير صحيحة كما هو المفهوم من كلام الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم : 4 / 358 ، وسيوافيك الكلام فيها.

أعلمه إلاّ ينمي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (1)

قال إسماعيل (2) : ينمي ذلك ولم يقل ينمي.

والرواية متكفّلة لبيان كيفية القبض إلاّ أنّ الكلام في دلالته بعد تسليم سنده. ولا يدل عليه بوجهين :

أوّلا : لو كان النبي الأكرم هو الآمر بالقبض فما معنى قوله : « كان الناس يؤمرون »؟ أو ما كان الصحيح عندئذ أن يقول : كان النبي يأمر؟ أو ليس هذا دليلا على أنّ الحكم نجم بعد ارتحال النبي الأكرم حيث إنّ الخلفاء وأمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيّل أنّه أقرب للخشوع؟ ولأجله عقد البخاري بعده بابا باسم باب الخشوع. قال ابن حجر : الحكمة في هذه الهيئة أنّه صفة السائل الذليل ، وهو أمنع عن العبث وأقرب إلى الخشوع ، كان البخاري قد لاحظ ذلك وعقّبه بباب الخشوع.

وبعبارة أخرى : انّ الأمر بالقبض دليل على أنّ الناس كانوا يصلّون على وجه السدل في عصر النبي وشيئا بعد عصره ، ثمّ حدثت الفكرة فأمروا الناس به.

وثانيا : أنّ في ذيل السند ما يؤيد أنّه كان من عمل الآمرين ، لا الرسول الأكرم نفسه حيث قال :

قال إسماعيل : « لا أعلمه إلاّ ينمي ذلك إلى النبي » بناء على قراءة الفعل

ص : 176


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري : 2 / 224 ، باب وضع اليمنى على اليسرى ، صحيح مسلم : 2 / 13 ، باب وضع يده اليمنى على اليسرى ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى : 2 / 28 ، الحديث 3 ، باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة.
2- المراد : إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي. لاحظ فتح الباري : 5 / 325.

بصيغة المجهول.

ومعناه أنّه لا يعلم كونه أمرا مسنونا في الصلاة غير أنّه يعزى وينسب إلى النبي ، فيكون ما يرويه سهل به سعد مرفوعا.

قال ابن حجر : ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي : ينميه ، فمراده : يرفع ذلك إلى النبي. (1)

هذا كلّه إذا قرأناه بصيغة المجهول ، وأمّا إذا قرأناه بصيغة المعلوم ، فمعناه أنّ سهلا ينسب ذلك إلى النبي ، فعلى فرض صحّة القراءة وخروجه بذلك من الإرسال والرفع ، يكون قوله : « لا أعلمه إلاّ. » معربا عن ضعف العزو والنسبة ، وأنّه سمعه عن رجل آخر ولم يسمّ.

قال ابن حجر في « فتح الباري » : هذا حديث تكلّم في رفعه ، فقال الداني : هذا معلول لأنّه ظن من أبي حازم ، وقيل بأنّه لو كان مرفوعا لما احتاج إلى قوله : « لا أعلمه ». (2)

2. حديث وائل بن حجر

اشارة

وروي بصور :

الصورة الأولى للحديث :

روى مسلم ، عن وائل بن حجر : أنّه رأى النبي رفع يديه حين دخل في الصلاة كبّر ، ثم التحف بثوبه ، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ، فلمّا أراد أن

ص : 177


1- المصدر نفسه : هامش رقم 1.
2- فتح الباري : 4 / 126.

يركع أخرج يديه من الثوب ، ثم رفعهما ، ثم كبّر فركع. (1)

والاحتجاج بالحديث احتجاج بالفعل ، ولا يحتج به إلاّ أن يعلم وجهه ، وهو بعد غير معلوم ، لأنّ ظاهر الحديث أنّ النبي جمع أطراف ثوبه فغطّى صدره به ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وهل فعل ذلك لأجل كونه أمرا مسنونا في الصلاة ، أو فعله لئلاّ يسترخي الثوب بل يلصق الثوب بالبدن ويتّقي به _ نفسه _ عن البرد؟ والفعل أمر مجهول العنوان ، فلا يكون حجّة إلاّ إذا علم أنّه فعله بما انّه فعل مسنون في الصلاة.

وهناك احتمال آخر وهو انّ عمل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان للتحرز عن سدل الثوب في الصلاة.

اخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : نهى رسول الله عن السدل في الصلاة. قال في اللسان : السدل هو إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه فإن ضمه فليس بسدل ، وقد رويت الكراهة فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (2)

إنّ النبيّ الأكرم صلّى مع المهاجرين والأنصار أزيد من عشر سنوات ، فلو كان ذلك ثابتا من النبي لكثر النقل وذاع ، ولما انحصر نقله بوائل بن حجر ، مع ما في نقله من الاحتمالين.

ص : 178


1- صحيح مسلم : 1 / 13 ، الباب 5 من كتاب الصلاة ، باب وضع يده اليمنى على اليسرى ، وفي سند الحديث « همام » ولو كان المقصود ، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار فيه : كان يحيى القطّان لا يعبأ ب_ « همام » وقال عمر بن شيبة : حدثنا عفان قال : كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه. وقال أبو حاتم : ثقة في حفظه. لاحظ هدى الساري : 1 / 449. وفيه أيضا : محمد بن جحادة ، وقد أشار النووي في شرحه على صحيح مسلم وقال فيه محمد بن جحادة وسكت.
2- سنن الترمذي : 2 / 217 ، الحديث 378.
الصورة الثانية للحديث :

أخرج النسائي والبيهقي في سننهما بسندين مختلفين عن وائل بن حجر ، قال : رأيت رسول الله إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله. (1)

وفي لفظ البيهقي : إذا قام إلى الصلاة قبض على شماله بيمينه ، ورأيت علقمة يفعله. (2)

والاستدلال بالحديث رهن صحّة السند وتمامية الدلالة.

أمّا السند فالشيخان وإن نقلاه بسندين مختلفين لكنّهما يشتركان في وجود عبد الله في كلا السندين ، وفي سنن النسائي : « أنبأنا عبد الله » ، وفي سنن البيهقي : « أنبأنا عبد الله بن جعفر » ، والمراد هو عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي ، وكفى في ضعفه ما نقله عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه : كان وكيع إذا أتى على حديثه جزّ عليه ، وقال في موضع آخر ينقل عن أبيه عن مشايخه انّه قال : ما كنت أكتب من حديثه شيئا بعد أن تبيّن أمره.

وقال الدوري عن ابن معين : ليس بشيء.

وقال أبو حاتم : سأل يزيد بن هارون عنه ، فقال : لا تسألوا عن أشياء.

وقال عمرو بن علي : ضعيف.

وقال أبو حاتم : منكر الحديث جدا ، يحدث عن الثقات بالمناكير.

إلى أن قال :

وقال النسائي : متروك الحديث.

ص : 179


1- سنن النسائي : 2 / 97 ، باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة.
2- سنن البيهقي : 1 / 28 ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.

وقال مرة : ليس بثقة. (1)

وأمّا الدلالة : فلانّه من المحتمل انّ الحديث هو صورة أخرى من الحديث الأوّل ، والفرق هو انّ الحديث الأوّل اشتمل على زيادة دونه ، حيث جاء في الصورة الأولى التحف بثوبه ثمّ وضع يده اليمنى على اليسرى وقد مرّ انّ ظاهر الحديث انّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جمع أطراف ثوبه فغطى به صدره ووضع يده اليمنى على اليسرى لئلا يسترخي الثوب بل يلصق الثوب بالبدن ويقي به نفسه عن البرد أو يتحرّز عن إسبال الثوب ، وبما انّ الفعل مجهول العنوان لا يحتج به ما لم يعرف وجهه.

على أنّ في نفس الحديث شهادة على أنّ القبض لم يكن رائجا في الصدر الأوّل ، وذلك لأنّه جاء في الحديث : « رأيت علقمة يفعله » فلو كان القبض أمرا رائجا بين الصحابة والتابعين لما كان وجه لنسبة هذا الفعل الرائج إلى علقمة راوي الحديث عن وائل ، وهذا يدلّ على أنّه كان أمرا غير رائج ولذلك نقله علقمة.

الصورة الثالثة للحديث :

أخرج النسائي بسنده عن وائل بن حجر انّه قال : قلت : لا. إلى صلاة رسول الله كيف يصلّي ونظرت إليه ، فقام فكبر ورفع يديه حتّى حاذتا أذنيه ، ثمّ وضع يده اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد. (2)

وأخرجه أيضا البيهقي في سننه بنفس اللفظ. (3)

والاحتجاج بالرواية رهن صحّة السند والدلالة.

ص : 180


1- تهذيب التهذيب : 5 / 174 برقم 298.
2- سنن النسائي : 2 / 97 ، باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة.
3- سنن البيهقي : 2 / 28 ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.

أمّا سند النسائي فهو مشتمل على عاصم بن كليب الكوفي ، وقد ذكر ابن حجر انّه سئل ابن شهاب عن مذهب كليب وانّه كان مرجئا ، قال : لا أدري ، ولكن قال شريك بن عبد الله النخعي انّه كان مرجئا.

وقال ابن المديني : لا يحتج به إذا انفرد. (1)

وأمّا سند البيهقي فهو مشتمل على عبد الله بن رجاء ، فنقل ابن حجر عن ابن معين انّه قال : كان كثير التصحيف ، وليس به بأس.

وقال عمرو بن عدي ، صدوق كثير الغلط والتصحيف ليس بحجة ، وتوفّى عام 219 ه أو 220 ه ، وليس المراد منه عبد الله بن رجاء المكي الذي يروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام وغيره.

ولو افترض انّ المراد هو عبد الله بن رجاء المكي فهو ليس أيضا سالما عن النقد ، نقل ابن حجر عن الساجي انّه قال عنده مناكير.

واختلف أحمد ويحيى فيه ، قال أحمد : زعموا انّ كتبه ذهبت فكان يكتب من حفظه فعنده مناكير وما سمعت منه إلا حديثين ، وحكى نحوه العقيلي عن أحمد. (2)

وأمّا الدلالة فلا شكّ انّه أوضح دلالة من الصورتين الأوليين ، ويحتمل فيه أيضا أن يكون نفس الرواية الأولى غير انّه نقل على

وجوه مختلفة وجاء الاختلاف من الرواة وحيث إنّه يحتمل أن يكون نفس الصورة الأولى ، فقد عرفت أنّ فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتمل وجهين (3) ومعه لا يحتج به.

إلى هنا تمّت دراسة الحديثين :

ص : 181


1- تهذيب التهذيب : 5 / 56 ، برقم 89.
2- تهذيب التهذيب : 5 / 211 ، برقم 364.
3- الاتقاء عن البرد والتحرز عن إسبال الثوب.

الأوّل : حديث سهل الساعدي.

الثاني : حديث وائل بن حجر بصورة الثلاث.

وقد عرفت قصور دلالتهما مع وجود الضعف في أسناد حديث وائل بن حجر ، بقي حديث ثالث يستدلّ به على القبض.

3. حديث عبد الله بن مسعود

أخرج النسائي عن الحجاج بن أبي زينب قال : سمعت أبا عثمان يحدّث عن ابن مسعود قال : رآني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد وضعت شمالي على يميني في الصلاة ، فأخذ بيميني فوضعها على شمالي. (1)

وأخرجه البيهقي بنفس اللفظ لكن بسند آخر.

والاستدلال بالحديث رهن صحّة السند والدلالة.

أمّا الأوّل فكلا السندين يشتملان على الحجاج بن أبي زينب السلمي الذي قال في حقّه أحمد بن حنبل : أخشى أن يكون ضعيف الحديث.

وقال ابن معين : ليس به بأس.

وقال الحسن بن شجاع البلخي عن علي بن المديني : شيخ من أهل واسط ضعيف.

وقال النسائي : ليس بالقوي.

وقال ابن علي : أرجو انّه لا بأس به فيما يرويه.

ثمّ قال : قال الدارقطني : ليس بالقوي ولا الحافظ. (2)

ص : 182


1- سنن النسائي : 2 / 97 ، باب في الإمام إذا رأى الرجل قد وضع شماله على يمينه.
2- تهذيب التهذيب : 2 / 201 ، برقم 372.

إلى غير ذلك من الكلمات.

وأمّا الدلالة فيلاحظ انّ عبد الله بن مسعود كان من السابقين إلى الإسلام وقد أسلم في أوائل البعثة ، وقد لاقى ما لاقى من قريش لأجل إيمانه بالنبي والإسلام ، فمثل هذا لا يمكن أن يجهل بكيفية القبض _ على فرض كونه سنّة _ فيضع شماله على يمينه.

4. أحاديث ضعاف لا يحتجّ بها

اشارة

ما ذكرناه من الأحاديث هو العمدة في الاستدلال على قبض اليمنى باليسرى ، وقد عرفت حالها وعدم قيامها بإثبات المطلوب.

وهناك أحاديث وآثار رويت في غضون الكتب جمعها البيهقي في سننه ، ولا يصحّ واحد منها لضعفها سندا ودلالة ، ونحن لأجل إكمال حلقة البحث نسرد تلك الأحاديث ونناقشها سندا ودلالة حتى يقف القارئ على مواطن الخلل.

1. حديث هُلْب
اشارة

أخرج الترمذي عن قتيبة عن أبي الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن قبيصة بن هُلْب ، عن أبيه : قال :

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤمّنا فيأخذ شماله بيمينه. (1)

ورواه البيهقي بلفظ آخر وهو : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضعا يمينه على شماله في الصلاة. (2)

ص : 183


1- سنن الترمذي : 2 / 32 ، برقم 252.
2- سنن البيهقي : 2 / 29.

يلاحظ عليه : أنّ السند ضعيف كالدلالة.

أمّا السند ، فإليك ترجمة راويين منه.

قبيصة بن هُلب

قال الذهبي : قال العجلي : ثقة ، وذكره ابن حبّان في الثقات.

وقال ابن المديني : مجهول. (1)

وقال ابن حجر : مجهول لم يرو عنه غير سماك.

وقال النسائي : مجهول. (2)

سماك بن حرب

قال الذهبي : صدوق ، صالح. روى ابن المبارك عن سفيان انّه ضعيف.

قال جرير الضبّي : أتيت سماكا فرأيته يبول قائماً فرجعت ولم أسأله ، فقلت :

خرف.

وروى أحمد بن أبي مريم عن يحيى : سماك ثقة ، كان شعبة يضعّفه.

وقال أحمد : سماك مضطرب الحديث.

وقال أبو حاتم : ثقة ، صدوق.

وقال صالح : جَزَرة : يضعف.

وقال النسائي : إذا انفرد بأصل لم يكن بحجة ، لأنّه كان يلقّن فيتلقن إلى غير ذلك من كلمات التضعيف. (3)

ص : 184


1- ميزان الاعتدال : 3 / 384 ، رقم 6863.
2- تهذيب التهذيب : 8 / 350 ، رقم 633.
3- ميزان الاعتدال : 2 / 233 برقم 3548.

وقال ابن حجر :

قال عنه أحمد : مضطرب الحديث.

قال ابن أبي خيثمة : قال سمعت ابن معين سئل عنه ما الذي عابه قال : أسند أحاديث لم يسندها غيره.

وقال ابن عمار : يقولون إنّه كان يخلّط ويختلفون في حديثه.

وكان الثوري يضعّفه بعض الضعف.

وقال يعقوب بن شيبة : قلت لابن المديني : رواية سماك عن عكرمة ، فقال : مضطربة.

وقال زكريا بن علي ، عن ابن المبارك : سماك ضعيف في الحديث.

قال يعقوب : وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة. (1)

وأمّا الدلالة فليست في الرواية تصريح في أنّه يضع يمينه على شماله في خصوص حال القراءة ، بل ظاهره انّه يضع يمينه على شماله في عامة حالات الصلاة وهو ممّا لم يلتزم به أحد.

2. حديث محمد بن أبان الأنصاري

أخرج البيهقي بسنده عن محمد بن أبان الأنصاري ، عن عائشة قالت : ثلاث من النبوّة : تعجيل الإفطار ، وتأخير السحور ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة. (2)

ص : 185


1- تهذيب التهذيب : 8 / 350 ، رقم 633.
2- سنن البيهقي : 2 / 29.

ويكفي في ضعف الحديث ما ذكره البخاري في تاريخه الكبير ، بعد نقل هذا الحديث وقال : ولا نعرف لمحمد سماعا من عائشة ، وفي نسخة ولا يعرف لمحمد سماع. (1)

وقد نقل محقّق كتاب « التأريخ الكبير » للبخاري في الهامش أقوال الرجاليين في حقّه ، فخرج بالنتيجة التالية :

إنّه أنصاري مدني ، ثمّ صار إلى اليمامة ، وانّه أرسل عن عائشة. (2)

3. حديث عقبة بن صهبان

روى البيهقي بسنده عن حماد بن سلمة ، عن عاصم الجحدري ، عن عقبة بن صهبان ، عن علي رضي الله عنه ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) قال : هو وضع يمينك على شمالك في الصلاة. (3)

يلاحظ على الاستدلال أوّلا : أنّ عاصم الجحدري لم يوثّق. قال الذهبي : عاصم بن العجّاج الجحدري البصري ، قرأ على يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم ، أخذ عنه سلام بن أبو المنذر وجماعة قراءة شاذة فيها ما ينكر. (4)

وذكره البخاري في تاريخه وقال : عاصم الجحدري يعدّ في البصريين ، عن عقبة بن ظبيان ولم يوثقه. (5)

ثمّ إنّ الحديث حسب نقل البيهقي ينتهي إلى عقبة بن صهبان.

ص : 186


1- التأريخ الكبير : 11 / 32 رقم 47 ؛ ميزان الاعتدال : 3 / 454 برقم 7129.
2- التأريخ الكبير : 11 / 34 ، قسم الهامش.
3- سنن البيهقي : 2 / 29.
4- ميزان الاعتدال : 2 / 354 ، رقم 4057.
5- التأريخ الكبير : 6 / 486 ، رقم 3061.

وقال البيهقي : ورواه البخاري في التأريخ في ترجمة عقبة بن ظبيان عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة : سمع عاصم الجحدري ، عن أبيه ، عن عقبة بن ظبيان عن علي ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) رفع يده اليمنى على وسط ساعده على صدره.

وما يرويه البخاري في تاريخه حسب ما نقله البيهقي يختلف عمّا نقله البيهقي بالمباشرة بوجهين :

الأوّل : انّ السند ينتهي عند البيهقي إلى عقبة بن صهبان ، وحسب نقل البخاري إلى عقبة بن ظبيان.

الثاني : انّ عاصم الجحدري حسب نقل البيهقي يروي عن عقبة بن صهبان ، وحسب ما نقله عن تاريخ البخاري ينقل عاصم عن أبيه عن عقبة بن ظبيان.

ومع الأسف الشديد انّ أباه ( عجاج ) لم يعنون في الرجال فمثل هذا الحديث لا يحتج به أبدا.

4. حديث غزوان بن جرير

روى البيهقي عن غزوان بن جرير ، عن أبيه ، قال : كان علي رضي الله عنه إذا قام إلى الصلاة فكبّر ، ضرب بيده اليمنى على رسغه الأيسر ، فلا يزال كذلك حتّى يركع ، إلاّ أن يحكّ جلدا أو يصلح ثوبه. (1)

وكفى في ضعف الرواية انّ جريرا والد غزوان مجهول.

قال الذهبي : جرير الضبي عن علي وعنه ابنه غزوان لا يعرف. (2)

ص : 187


1- سنن البيهقي : 2 / 29.
2- ميزان الاعتدال : 1 / 397 رقم 1474.
5. مرسلتا غضيف وشدّاد

روى البيهقي وقال : وروينا عن الحارث بن غضيف الكندي وشداد بن شرحبيل الأنصاري انّ كلّ واحد منهما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك « واضعا يمينه على شماله ». (1)

هذا ما نقله البيهقي وضبطه الترمذي بالنحو التالي : غطيف بن الحارث. (2)

فعلى نقل البيهقي الراوي هو الحارث بن غضيف الكندي بينما على نقل الترمذي الراوي هو غطيف بن الحارث ، فاشتبه الوالد بالولد ولم يعرفا.

ويظهر ممّا نقله ابن حجر أنّه أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو صبي ، قال ناقلا عنه : كنت صبيا أرمي نخل الأنصار فأتوا بي النبيّ ، فمسح رأسي وقال : كُلْ ممّا سقط ولا ترمي نخلهم.

بل يظهر من بعضهم انّه من التابعين لم يدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قال : ذكره جماعة في التابعين. (3)

فتلخص ممّا ذكرنا انّ الحديث لا يحتجّ به ، وذلك للأسباب التالية :

أوّلا : انّه حديث مرسل ، وليس لأصحاب الحديث سند إليه.

وثانيا : انّه أدرك النبي وهو صبي ، ولأجل ذلك ترى انّهم يعرّفونه بقولهم : « له صحبة » أي صحبة قليلة.

وثالثا : لم يثبت أنّه صحابي ، وقد عدّه جماعة من التابعين.

وعلى كلّ حال فحديث هذا حاله _ اشتبه اسمه ضبطا أوّلا ، واشتبه الوالد

ص : 188


1- سنن البيهقي : 2 / 29.
2- سنن الترمذي : 2 / 32 ، الحديث 252.
3- الإصابة : 3 / 186 رقم 6912.

بالولد ثانيا ، وكانت صحبته قليلة في أيام الصبي ثالثا ، بل لم يثبت له صحبة وانّه من التابعين رابعا _ لا يحتجّ به.

6. حديث نافع عن ابن عمر

أخرج البيهقي بسنده عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن أبيه ، عن نافع ، عن ابن عمر انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنّا معاشر الأنبياء أمرنا بثلاث : تعجيل الفطر ، وتأخير السحور ، ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.

هذا نفس الحديث الذي رواه محمد بن أبان الأنصاري عن عائشة ، لاحظ رقم 2.

وقال البيهقي : تفرّد به عبد المجيد ، وإنّما يعرف بطلحة بن عمرو وليس بالقويّ. (1)

وعرفه الذهبي بأنّه صدوق مرجئ كأبيه.

وثّقه ابن معين. وقال أبو داود : ثقة داعية إلى الإرجاء.

وقال ابن حبان : يستحق الترك ، منكر الحديث جدا ، يقلب الأخبار ، ويروي المناكير عن المشاهير.

قال أبو حاتم : ليس بالقوي ، يكتب حديثه.

وقال الدارقطني : لا يحتجّ به ويعتبر به.

وقال أحمد بن أبي مريم عن ابن معين : ثقة يروي عن قوم ضعفاء.

وقال البخاري : كان الحميدي يتكلّم فيه وقال أيضا في حديثه بعض

ص : 189


1- سنن البيهقي : 2 / 29.

الاختلاف ولا يعرف له خمسة أحاديث صحاح. (1)

7. حديث ابن جرير الضبي
اشارة

أخرج أبو داود عن ابن جرير الضبي ، عن أبيه ، قال : رأيت عليّا رضي الله عنه يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة.

قال أبو داود : وروى عن سعيد بن جبير « فوق السرة » ، وقال أبو مجلز : « تحت السرة » وروى عن أبي هريرة وليس بالقوي. (2)

يلاحظ عليه : أنّ ابن جرير الضبّي هو نفس غزوان بن جرير وقد تقدّم الكلام في الوالد برقم 4 ، ولعلّه نفس الحديث السابق وليس حديثا آخر.

وأمّا ما روى عن طاوس قال : كان رسول الله يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثمّ يشدّ بينهما على صدره وهو في الصلاة (3) ، فهو حديث مرسل لأنّ طاوس من التابعين.

وهناك آثار عزيت إلى ابن الزبير انّه قال : صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنّة. (4)

كما قال أبو هريرة : أخذ الأكف على الكف في الصلاة تحت السرة. (5)

ومن المعلوم أنّ قول الصحابي ليس بحجة ما لم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ص : 190


1- ميزان الاعتدال : 2 / 648 ، برقم 5183.
2- . سنن أبي داود : 1 / 201 ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة برقم 757 و 759.
3- . سنن أبي داود : 1 / 201 ، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة برقم 757 و 759.
4- . سنن أبي داود : 1 / 200 _ 201 ، برقم 754 و 758.
5- . سنن أبي داود : 1 / 200 _ 201 ، برقم 754 و 758.
الآن حصحص الحق

قد تبيّن من هذا البحث الضافي أمور :

الأوّل : انّ أبا حُميد الساعدي ممّن نقل صلاة النبي بتفاصيلها ولم يذكر شيئا من القبض ، وقد نقل كيفية صلاة النبي في حضور عشرة من الصحابة ، وقد نال تصديق الحاضرين منهم.

وليس القبض أمرا طفيفا حتّى يغفل عنه الراوي أو الحضور من الصحابة ، فلو كانت صلاة النبي مرفّقة معه لاعترض أحد منهم عليه وآخذوه بترك ذكره.

الثاني : انّ ما استدلّ على كون القبض سنّة بين ضعيف الدلالة ، أو ضعيف السند ، أو كليهما.

الثالث : إذا كان القبض من سنن الصلاة لما خالفه أئمّة أهل البيت قاطبة حتى عدّوه من سنّة المجوس كما ستوافيك روايتهم.

الرابع : انّ الأمر دائر بين البدعة والسنّة ، ومقتضى الاحتياط هو ترك القبض ، لأنّ في الأخذ احتمال الحرمة وارتكاب البدعة ، بخلاف الترك فليس فيه إلاّ ترك أمر مسنون ، وهو ليس أمرا محظورا.

الخامس : العجب من فقهاء أهل السنّة انّهم طرقوا جميع الأبواب إلاّ باب أئمة أهل البيت عليه السلام!!

ص : 191

أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام

إنّ أئمّة أهل البيت كانوا يتحرّزون عن القبض ويرونه من صُنع المجوس أمام الملك.

1. روى محمد بن مسلم ، عن الصادق أو الباقر عليه السلام قال : قلت له : الرجل يضع يده في الصلاة _ وحكي _ اليمنى على اليسرى؟ فقال : « ذلك التكفير ، لا يفعل ». (1)

2. وروى زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : « وعليك بالإقبال على صلاتك ، ولا تكفّر ، فإنّما يصنع ذلك المجوس ». (2)

3. روى الصدوق بإسناده عن علي عليه السلام أنّه قال : « وعليك بالإقبال على صلاتك ، ولا تكفّر ، فإنّما يصنع ذلك المجوس ». (3)

4. روى الصدوق بإسناده عن علي عليه السلام أنّه قال : « لا يجمع المسلم يديه في صلاته وهو قائم بين يدي الله عزّ وجلّ يتشبّه بأهل الكفر _ يعني المجوس _ ». (4)

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى كلمة صدرت من الدكتور علي السالوس ، فهو بعد ما نقل آراء فقهاء الفريقين ، وصف القائلين بالتحريم والإبطال بقوله : « وأولئك الذين ذهبوا إلى التحريم والإبطال ، أو التحريم فقط ، يمثّلون التعصب المذهبي وحبّ الخلاف ، تفريقا بين المسلمين ». (5)

ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد والفحص في الكتاب والسنّة إلى أنّ

ص : 192


1- الوسائل : 4 ، الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 1.
2- . الوسائل : 4 الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 2 و 3 و 7.
3- . الوسائل : 4 الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 2 و 3 و 7.
4- . الوسائل : 4 الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة ، الحديث 2 و 3 و 7.
5- فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة : 183.

القبض أمر حدث بعد النبي الأكرم ، وكان الناس يؤمرون بذلك أيام الخلفاء ، فمن زعم أنّه جزء من الصلاة فرضا أو استحبابا ، فقد أحدث في الدين ما ليس منه ، أفهل جزاء من اجتهد ، أن يرمى بالتعصب المذهبي وحب الخلاف؟!

ولو صح ذلك ، فهل يمكن توصيف الإمام مالك به؟ لأنّه كان يكره القبض مطلقا ، أو في الفرض أفهل يصح رمي إمام دار الهجرة بأنّه كان يحب الخلاف؟!

أجل لما ذا لا يكون عدم الإرسال والقبض ممثلا للتعصب المذهبي وحبّ الخلاف بين المسلمين ، يا ترى؟!

( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ). (1)

ص : 193


1- النجم : 22.

ص : 194

5. البسملة جزئيّتها والجهر بها

اشارة

ص : 195

ص : 196

تمهيد

البسملة في اللغة والاصطلاح

اشارة

البسملة في اللغة والاصطلاح : قول بسم الله الرّحمن الرحيم ، يقال بَسْمَل بَسْمَلة : إذا قال أو كتب « بسم الله » ، يقال : أكثر من البسملة ، أي أكثر من قول بسم الله. (1)

البسملة هي سمة المسلمين حيث لا يستفتحون بشيء إلاّ بعد ذكر بسم الله الرحمن الرّحيم ، وهي آية التوحيد وسبب نفر المشركين ، يقول سبحانه ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً ). (2)

وقد كان شعار المشركين في عصر الجاهلية قولهم : « باسمك اللهم » وكانوا يستفتحون بذلك كلامهم. وقد آل الأمر في صلح الحديبية إلى كتابة وثيقة صلح بين الطرفين ، أمر النبي عليّا عليه السلام أن يكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فكتب علي وفق ما أمر ، فقال سهيل مندوب قريش : لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم. (3)

فالبسملة هي الحد الفاصل بين الإسلام والشرك ، وبها يميّز المؤمن عن

ص : 197


1- لسان العرب والمصباح المنير : مادة بسملة.
2- الفرقان : 60.
3- سيرة ابن هشام : 2 / 317.

الكافر ، ولا ينفك المسلم منها في حلّه وترحاله.

البسملة آية قرآنية تشهد عليها المصاحف عبر القرون ، وقد كتبت في مفتتح كلّ سورة خلا سورة التوبة ، كتبوها كما كتبوا غيرها من سائر الآيات بدون ميز مع اتّفاقهم على أن لا يكتبوا شيئا من غير القرآن فيه إلاّ بميزة بيّنة حرصا منهم على أن لا يختلط به شيء من غيره.

ولذلك تراهم ميّزوا عنه أسماء سوره ، وعدد آياته ، ورموز أجزائه ، وأرباعه ، وركوعه وسجوده ، كتبوها على نحو يعلم أنّها خارجة عن القرآن ، وفي الوقت نفسه اتّفقوا على كتابة البسملة مفتتح كلّ سورة كسائر الآيات دون فرق بين الخلف والسلف ، ولا تجد قرآنا مخطوطا من عهد الصحابة إلى يومنا هذا على غير هذا النمط ، وهذا اتّفاق عملي منهم على أنّ البسملة جزء من المصحف.

غير انّه طرأ الاختلاف بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، والأظهر انّ الاختلاف ظهر في خلافة معاوية بن أبي سفيان أو قبله بقليل ، وأمّا ما هي العلّة لطروء هذا الاختلاف ، فلعلّ بعض الدواعي له ، هو المخالفة لسيرة الإمام علي عليه السلام في البسملة حيث أطبق الجميع على أنّ علي بن أبي طالب كان يجهر بها.

قال الرازي : وأمّا انّ علي بن أبي طالب فقد كان يجهر بالتسمية وقد ثبت بالتواتر ، وكان يقول : يا مَنْ ذِكْره شَرف للذاكرين. (1)

وقد تضافرت الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، على أنّ كون البسملة جزء من الفاتحة وانّها يجب الجهر بها في الصلوات الجهرية ، كما أنّها جزء من كلّ سورة.

وتظهر حقيقة الحال في ضمن فصول.

ص : 198


1- التفسير الكبير : 1 / 204.

1. فضل البسملة

قد ورد في فضل البسملة أحاديث كثيرة نقتبس منها القليل :

1. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « فُضِّلتُ ببسم الله الرحمن الرحيم » وقال : « لم تنزل على أحد غيري سوى ما حكاه الله سبحانه من كتاب سليمان ». (1)

2. قال الإمام الباقر عليه السلام : « أكرم آية في كتاب الله : بسم الله الرّحمن الرّحيم ». (2)

3. أخرج الشيخ الطوسي عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، عن الصادق ، عن أبيه عليهما السلام قال : « بسم الله الرّحمن الرّحيم أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها ». (3)

ص : 199


1- كنز العمال : 1 / 655 رقم 2492 ؛ تفسير ابن كثير : 1 / 17 ؛ بحار الأنوار : 89 / 227 رقم 4.
2- تفسير العياشي : 1 / 19 رقم 4.
3- التهذيب : 2 / 289 رقم 1159.

2. أقوال الفقهاء في جزئيّة البسملة

قد ذكر القرطبي أقوال أئمّة المذاهب الأربعة بوضوح ، فقال :

اختلفوا في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح القراءة في الصلاة.

1. فمنع ذلك مالك في الصلاة المكتوبة _ جهرا كانت أو سرا _ لا في استفتاح أمّ القرآن ولا في غيرها من السور ، وأجاز ذلك في النافلة.

2. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد : يقرؤها مع أمّ القرآن في كلّ ركعة سرا.

3. وقال الشافعي : يقرؤها ولا بدّ في الجهر جهرا وفي السرّ سرّا ، وهي عنده آية من فاتحة الكتاب ، وبه ( كون البسملة آية من فاتحة الكتاب ) قال أحمد وأبو ثور وعبيد.

واختلف قول الشافعي هل هي آية من كلّ سورة أم إنّما هي آية من سورة النمل فقط ومن فاتحة الكتاب؟ فروي عنه القولان جميعا.

وسبب الاختلاف من هذا آئل إلى شيئين :

أحدهما : اختلاف الآثار في هذا الباب.

والثاني : اختلافهم هل « بسم الله الرحمن الرحيم » آية من فاتحة الكتاب أم لا؟ (1)

ص : 200


1- بداية المجتهد : 1 / 124.

وقال الشيخ الطوسي : بسم الله الرّحمن الرّحيم آية من كلّ سورة من جميع القرآن ، وهي آية من أوّل سورة الحمد.

وقال الشافعي : إنّها آية من أوّل الحمد بلا خلاف بينهم ، وفي كونها آية من كلّ سورة قولان :

أحدهما : انّها آية من أوّل كلّ سورة ، والآخر : انّها بعض آية من كلّ سورة وإنّما تتمّ مع ما بعدها فتصير آية.

وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيدة وعطاء والزهري وعبد الله بن المبارك : إنّها آية من أوّل كلّ سورة حتّى أنّه قال : من ترك بسم الله الرّحمن الرّحيم ترك مائة وثلاث عشرة آية.

وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وداود : ليست آية من فاتحة الكتاب ولا من سائر السور.

وقال مالك والأوزاعي وداود : يكره أن يقرأها في الصلاة بل يكبّر ، ويبتدي بالحمد إلاّ في شهر رمضان ، والمستحب أن يأتي بها بين كلّ سورتين تبركا للفصل ، ولا يأتي بها في أوّل الفاتحة. (1)

وحاصل الأقوال : إنّ مالكا لا يرى البسملة جزءا من السور مطلقا ، وأمّا الحنفية والحنابلة فيرونها جزءا من فاتحة الكتاب لكن يقرءونها سرا.

وأمّا الشافعية فيرونها جزءا من فاتحة الكتاب ، ويقرءونها في الجهر جهرا وفي السرّ سرّا ، وأمّا كونها جزءا من سائر السور ففيه عن الشافعي قولان.

وأمّا الشيعة الإمامية فليس عندهم إلاّ قول واحد ، وهو انّ البسملة جزء من

ص : 201


1- الخلاف : 1 / 328 ، المسألة 82 من كتاب الصلاة.

كلّ سورة ، ويجهر بها في الصلوات الجهرية وجوبا وفي الصلوات السرية استحبابا.

وأبعد الأقوال بالنسبة إليهم قول مالك حيث إنّ البسملة عنده ليست آية من القرآن إلاّ في سورة النمل فإنّها جزء من آية ويكره قراءتها بصلاة فرض للإمام وغيره قبل الفاتحة أو سورة بعدها.

وأين هذا القول من كلام الإمام الصادق عليه السلام حيث قال مندّدا لمن يترك البسملة في الصلاة ويرى الجهر بها بدعة ، فقال :

« ما لهم عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله عزّ وجلّ فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها ، وهي بسم الله الرّحمن الرّحيم ». (1)

وتحقيق المقام يقتضي البحث في الأمور التالية :

الأوّل : هل البسملة جزء من الفاتحة أم لا؟

الثانية : لو افترضنا انّها جزء فهل يجهر بها في الصلوات الجهرية؟

الثالثة : هل البسملة جزء من سائر السور أم لا؟

ونستعرض في كلّ مورد أدلّة الأقوال مع القضاء الحاسم بإذن الله سبحانه.

ص : 202


1- تفسير العياشي : 1 / 21 ، الحديث 16.

3. البسملة جزء من الفاتحة

اشارة

أنّ البسملة جزء من الفاتحة ، ويدلّ عليه أمور نذكرها تباعا :

الأوّل : ما رواه الشافعي بإسناده انّ معاوية قدم المدينة فصلّى بها ، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يكبّر عند الخفض إلى الركوع والسجود ، فلما سلّم ناداه المهاجرون والأنصار : يا معاوية ، سرقت من الصلاة ، أين بسم الله الرحمن الرحيم؟! وأين التكبير عند الركوع والسجود؟! ثمّ إنّه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير.

قال الشافعي : إنّ معاوية كان سلطانا عظيم القوة ، شديد الشوكة ، فلو لا انّ الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كلّ الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وإلاّ لما قد روا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية. (1)

ونحن نقول : ولو لا أنّ التسمية جزء من الفاتحة لما اعترض المهاجرون والأنصار على تركها مضافا إلى ترك الجهر بها. وهذا الأثر كما يدلّ على جزئيّة التسمية ، يدلّ على لزوم الجهر بها ، فيستدلّ به في كلا الموردين.

الثاني : روى الشافعي عن مسلم ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن أمّ سلمة انّها قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتحة الكتاب فعدّ بسم الله الرحمن الرحيم

ص : 203


1- مسند الشافعي : 13 ، ونقله الرازي بتمامه في تفسيره الكبير : 1 / 204 والمستدرك : 1 / 233.

آية ، الحمد لله ربّ العالمين آية ، الرحمن الرحيم آية ، مالك يوم الدين آية ، إياك نعبد وإياك نستعين آية ، اهدنا الصراط المستقيم آية ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية. (1) وهذا نص صريح على الجزئيّة.

الثالث : أخرج الحاكم عن أمّ سلمة انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرّحيم فعدها آية ، الحمد لله ربّ العالمين آيتين ، الرّحمن الرّحيم ثلاث آيات ، مالك يوم الدين أربع آيات ، وقال : هكذا إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ، وجمع خمس أصابعه. (2)

الرابع : أخرج الحاكم عن أمّ سلمة ، قالت : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الحمد لله ربّ العالمين يقطعها حرفا حرفا.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأقرّه على صحّته الذهبي في تلخيصه. (3)

الخامس : أخرج الحاكم عن نعيم المجمر ، قال : كنت وراء أبي هريرة ، فقرأ بسم الله الرّحمن الرّحيم قرأ بأمّ القرآن حتّى بلغ ولا الضّالين ، قال : آمين. وقال الناس : آمين ، ويقول كلّما سجد : الله أكبر ، ويقول إذا سلّم : والذي نفسي بيده انّي لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقرره الذهبي في تلخيصه. (4)

السادس : أخرج الحاكم عن قتادة قال : سئل أنس بن مالك كيف كان

ص : 204


1- المستدرك : 1 / 232.
2- . المستدرك : 1 / 232.
3- . المستدرك : 1 / 232.
4- المستدرك : 1 / 232.

قراءة رسول الله؟ قال : كانت مدّا ، ثمّ قرأ : بسم الله الرّحمن الرّحيم ويمد الرحيم. (1)

وقرره على ذلك الذهبي في تلخيصه.

السابع : أخرج الحاكم عن ابن جريج ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) قال : فاتحة الكتاب ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، وقرأ السورة. وقال ابن جريج : فقلت لأبي لقد أخبرك سعيد عن ابن عباس انّه قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، آية ، قال : نعم.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح ولم يخرجاه وتمام هذا الباب في كتاب الصلاة. (2)

الثامن : أخرج الثعلبي بإسناده إلى أبي هريرة قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد إذ دخل رجل يصلّي ، فافتتح الصلاة ، وتعوّذ ثمّ قال ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : « يا رجل قطعت على نفسك الصلاة ، أما علمت أنّ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) من الحمد؟ فمن تركها فقد ترك آية ، ومن ترك آية فقد أفسد عليه صلاته. (3)

التاسع : أخرج الثعلبي عن علي انّه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وكان يقول : من ترك قراءتها فقد نقص ، وكان يقول : هي تمام السبع المثاني. (4)

ص : 205


1- المستدرك : 2 / 233.
2- المستدرك : 1 / 551 ، تفسير سورة الفاتحة.
3- الدر المنثور : 1 / 21.
4- كنز العمال : 2 / 297 رقم 4049.

العاشر : أخرج الثعلبي عن طلحة بن عبيد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من ترك ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فقد ترك آية من كتاب الله ، وقد نزل عليّ فيما عدّ من أمّ الكتاب ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). (1)

الحادي عشر : أخرج الدارقطني _ وصحّحه _ والبيهقي في السنن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قرأتم « الحمد » فاقرءوا ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أنّها أمّ القرآن ، وأمّ الكتاب ، والسبع المثاني ، و ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) إحدى آياتها. (2)

الثاني عشر : أخرج الطبراني في الأوسط والدارقطني والبيهقي عن نافع ، انّ ابن عمر كان إذا افتتح الصلاة يقرأ ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في أمّ القرآن وفي السورة التي تليها ، ويذكر أنّه سمع ذلك من رسول الله. (3)

الثالث عشر : أخرج أبو داود والترمذي والدارقطني والبيهقي عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح صلاته ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). (4)

الرابع عشر : أخرج الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة « انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ _ وهو يؤم الناس _ افتتح ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) قال أبو هريرة : هي آية من كتاب الله ، اقرءوا إن شئتم فاتحة القرآن ، فإنّها الآية السابعة. (5)

الخامس عشر : أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر انّه كان يقرأ في

ص : 206


1- كنز العمال : 1 / 556 برقم 2494.
2- الدر المنثور : 1 / 11 ، السنن الكبرى : 2 / 45.
3- المعجم الأوسط : 1 / 257 ، السنن الكبرى : 2 / 48 ، مجمع الزوائد : 2 / 109.
4- سنن الترمذي : 1 / 155 ، ح 245 ، سنن الدارقطني : 1 / 303 ، السنن الكبرى : 2 / 47.
5- السنن الكبرى : 2 / 47 ، سنن الدارقطني : 1 / 305.

الصلاة ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فإذا ختم السورة قرأها يقول : ما كتبت في المصحف إلاّ لتقرأ. (1)

السبع المثاني هي فاتحة الكتاب

قد تضافرت الآثار عن علي وابن مسعود وغيرهما من الصحابة وكثير من التابعين على أنّ المراد من السبع المثاني في قوله سبحانه ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) (2) هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، انّ آياتها لا تبلغ سبعا إلاّ إذا عُدّ البسملة آية منها ، فإليك الكلام في المقامين.

أمّا ما دلّ على المراد من السبع المثاني هو سورة الفاتحة ، فهو على قسمين :

ما يفسر السبع المثاني بفاتحة الكتاب من دون تصريح بأنّ البسملة جزء من فاتحة الكتاب.

ما يفسر السبع المثاني بفاتحة الكتاب مع التصريح بأنّ البسملة من آياتها.

أمّا القسم الأوّل فإليك بعض ما وقفنا عليه لا كلّه ، لأنّه يوجب الإطناب في الكلام.

1. أخرج الطبري عن عبد خير ، عن علي عليه السلام قال : « السبع المثاني فاتحة الكتاب ». (3)

2. أخرج الطبري عن ابن سيرين قال : سئل ابن مسعود عن سبع من المثاني ، قال : فاتحة الكتاب. (4)

3. أخرج الطبري عن الحسن في قوله ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي )

ص : 207


1- شعب الإيمان : 2 / 439 _ 440 ، ح 2336.
2- الحجر : 87.
3- تفسير الطبري : 14 / 37.
4- تفسير الطبري : 14 / 37.

قال : هي فاتحة الكتاب.

وأخرج أيضا عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : فاتحة الكتاب.

4. أخرج الطبري عن أبي فاختة في هذه الآية ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) قال : هي أمّ الكتاب. (1)

5. أخرج الطبري عن أبي العالية في قول الله ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) قال : فاتحة الكتاب سبع آيات ، قلت لربيع : إنّهم يقولون السبع الطول فقال : لقد أنزلت هذه وما أنزل من الطول شيء.

6. أخرج الطبري عن أبي العالية قال : فاتحة الكتاب ، قال : وإنّما سمّيت المثاني ، لأنّه يثنّى بها كلّما قرأ القرآن قرأها ، فقيل لأبي العالية : إنّ الضحاك بن مزاحم يقول : هي السبع الطول ، فقال : لقد نزلت هذه السورة سبعا من المثاني وما نزل شيء من الطول.

7. أخرج الطبري عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : السبع من المثاني هي فاتحة الكتاب.

8. أخرج الطبري عن ابن جريج عن ابن مليكة قال ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) قال : فاتحة الكتاب ، وذكر فاتحة الكتاب لنبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم لم تذكر لنبي قبله.

9. أخرج الطبري عن أبي هريرة ، عن أبيّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلا أعلّمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ، قلت : بلى.

قال : إنّي لأرجو أن لا تخرج من ذلك الباب حتّى تعلّمها ، فقام رسول الله

ص : 208


1- تفسير الطبري : 14 / 38.

صلى الله عليه وآله وسلم وقمت معه فجعل يحدثني ويده في يدي ، فجعلت أتباطأ كراهية أن يخرج قبل أن يخبرني بها ، فلمّا قرب من الباب قلت : يا رسول الله السورة التي وعدتني ، قال : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال : فقرأ فاتحة الكتاب ، قال : هي هي ، وهي السبع المثاني التي قال الله تعالى ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) الذي أعطيت. (1)

وأخرجه الحاكم في « المستدرك » وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (2)

10. أخرج الطبري عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : هي أمّ القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني. (3)

11. أخرج الطبري عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فاتحة الكتاب ، قال : هي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني والقرآن العظيم. (4)

وأمّا القسم الثاني وهو ما يفسر السبع المثاني بفاتحة الكتاب ويجعل البسملة أوّل آية منها.

12. أخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والحاكم _ وصحّحه _ والبيهقي في سننه عن ابن عباس انّه سُئل عن السبع المثاني ، قال : فاتحة الكتاب استثناها الله لأمّة محمّد ، فرفعها في أمّ الكتاب ، فذخرها لهم حتى أخرجها ولم يعطها أحدا قبله ، قيل : فأين الآية السابعة؟ قال : بسم الله الرحمن الرحيم. (5)

13. أخرج الطبري عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً

ص : 209


1- تفسير الطبري : 14 / 40.
2- المستدرك : 2 / 258.
3- تفسير الطبري : 14 / 41.
4- تفسير الطبري : 14 / 41.
5- الدر المنثور : 5 / 94.

مِنَ الْمَثانِي ) قال : فاتحة الكتاب ، فقرأها على ست ، ثمّ قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، الآية السابعة.

قال سعيد : وقرأها ابن عباس عليّ كما قرأها عليك ، ثمّ قال : الآية السابعة ، بسم الله الرحمن الرحيم. (1)

14. أخرج الطبري عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي ابن عباس : فاستفتح ثمّ قرأ فاتحة الكتاب ثمّ قال : تدري ما هذا ( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ).

ولا شهادة في قوله : « فاستفتح ثمّ قرأ فاتحة الكتاب » على خروج البسملة من جوهرها ، وذلك لأنّ البسملة لما كانت موجودة في صدر عامة السور فأشار إلى البسملة بقوله : « فاستفتح » ثم أشار إلى سائر آياتها التي تتميز عن سائر السور بقوله : « ثمّ قرأ فاتحة الكتاب ».

وبما ذكرنا يفسر الحديث التالي :

15. أخرج الطبري عن أبي سعيد بن المعلى انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاه وهو يصلّي فصلّى ثمّ أتاه فقال : ما منعك أن تجيبني ، قال : إنّي كنت أصلّي ، قال : ألم يقل الله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) (2) ، قال : ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأعلمنك أعظم سورة في القرآن ، فكأنّه بيّنها أو نسي ، فقلت : يا رسول الله الذي قلت.

قال : الحمد لله ربّ العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. (3)

ص : 210


1- تفسير الطبري : 14 / 38.
2- الأنفال : 24.
3- تفسير الطبري : 14 / 41.

16. أخرج الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة « انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ _ وهو يؤم الناس _ افتتح ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) قال أبو هريرة : آية من كتاب الله ، اقرءوا إن شئتم فاتحة الكتاب ، فإنّها الآية السابعة. (1)

17. أخرج الدارقطني والبيهقي في السنن بسند صحيح عن عبد خير ، قال : سئل علي رضي الله عنه عن السبع المثاني ، فقال ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) فقيل له : إنّما هي ست آيات! فقال ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) آية. (2)

18. أخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أمّ سلمة قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) وقال : هي سبع يا أمّ سلمة. (3)

فاتحة الكتاب سبع آيات مع البسملة

إنّ فاتحة الكتاب آيات سبع إذا قلنا بكون التسمية جزءا منها ولذلك ترى أنّ المصاحف المعروفة تعد البسملة آية من سورة الفاتحة وإن كان يترك عدّها آية من سائر السور ، وعلى ذلك يكون عدد الآيات سبعا كالشكل التالي :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) ).

ص : 211


1- السنن الكبرى : 2 / 47 ؛ سنن الدارقطني : 1 / 305.
2- سنن الدارقطني : 1 / 311 ؛ السنن الكبرى : 2 / 45.
3- الدر المنثور : 1 / 12.

فترى أنّ كلّ آية جملة تامة ، وأمّا من لم يجعل التسمية من السبع فقد جعل ( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) آية ، ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) آية أخرى ، ومعنى ذلك جعل المبدل منه آية والبدل آية أخرى ، وهذا ما لا يستسيغه الذوق السليم.

كما أنّ من حاول أن يجعل ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) آية ، ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) آية أخرى فقد سلك مسلكا وعرا ، فإنّ الجملتين كسبيكة واحدة تنص على التوحيد في العبادة والاستعانة فما معنى الفصل بينهما.

هذا بعض ما وقفنا عليه من روايات أهل السنّة الدالة على أنّ البسملة جزء من الفاتحة ، ويدلّ عليه أيضا أمران آخران :

1. ما سيمرّ عليك من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يجهرون بالبسملة.

2. ما يدلّ على أنّ البسملة جزء من كلّ سورة.

غير انّه رعاية لنظام البحث فصلنا ما يدلّ على الجهر بالبسملة في قراءة الفاتحة عن ذكر البسملة ، كما فصلنا ما يدلّ على أنّ البسملة جزء من كلّ سورة.

روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام

أمّا ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام فحدّث عنه ولا حرج ، ولنذكر بعض ما روي عنهم عليهم السلام :

1. أخرج الشيخ في « التهذيب » عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السبع المثاني والقرآن العظيم ، أهي الفاتحة؟ قال : « نعم » ، قلت ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) من السبع؟ قال : نعم ، هي أفضلهن. (1)

ص : 212


1- التهذيب : 2 / 289 ، برقم 1157.

2. أخرج الشيخ في « التهذيب » عن عبد الله بن يحيى الكاهلي ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، عن أبيه قال : « ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها ». (1)

3. أخرج الكليني عن معاوية بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إذا قمت للصلاة أقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في فاتحة الكتاب؟ قال : « نعم ». (2)

4. أخرج الصدوق في « عيون الأخبار » عن الحسن بن علي العسكري عليه السلام ، قال : قيل لأمير المؤمنين عليه السلام أخبرنا عن ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، أهي من فاتحة الكتاب؟ قال : « نعم ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأها ويعدها آية ، ويقول : فاتحة الكتاب هي السبع المثاني ». (3)

إلى غير ذلك ممّا ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في جزئيّة البسملة من الفاتحة.

ويؤيّد ذلك أنّ المأثور المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله : « كلّ أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله أقطع ، وكلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر أو أجذم ». (4)

ومن المعلوم أنّ القرآن أفضل ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله وانّ كلّ سورة منه ذات بال وعظمة تحدّى الله بها البشر فعجزوا عن أن يأتوا بمثلها ، فهل يمكن أن يكون القرآن أقطع؟ تعالى الله وتعالى فرقانه الحكيم وتعالت سوره عن ذلك علوّا كبيرا.

ص : 213


1- التهذيب : 2 / 289 ، برقم 1159.
2- الكافي : 3 / 312 ، الحديث 1.
3- عيون أخبار الرضا : 2 / 11.
4- التفسير الكبير : 1 / 198.

والصلاة هي الفلاح وهي خير العمل كما ينادى به في أعلى المنائر والمنابر ويعرفه البادي والحاضر ، لا يوازنها ولا يكايلها شيء بعد الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر ، فهل يجوز أن يشرعها الله تعالى بتراء جذماء؟! انّ هذا لا يجرأ على القول به برّ ولا فاجر ، لكن الأئمّة البررة مالكا والأوزاعي وأبا حنيفة رضي الله عنهم ذهلوا عن هذه اللوازم ، وكلّ مجتهد في الاستنباط من الأدلّة الشرعية معذور ومأجور إن أصاب وإن أخطأ. (1)

ص : 214


1- مسائل فقهية : 28 _ 29.

4. التسمية ولزوم الجهر بها

اشارة

قد أثبت البحث السالف الذكر انّ التسمية جزء من فاتحة الكتاب ومن صميمها ، فلا تتم السورة إلاّ بقراءتها ، وأمّا الجهر بها فحكمه كحكم سائر أجزاء السورة ، فلو كانت الصلاة من الصلوات الجهرية يجب الجهر بها ما لم يدلّ دليل على جواز المخافتة ، مضافا إلى أنّه قد تضافرت الروايات على لزوم الجهر بها ، ويستفاد ذلك من الروايات التالية :

1. أخرج الحاكم عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. (1)

2. أخرج الحاكم عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وقال : رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات ، وأقرّه على ذلك الذهبي في تلخيصه. (2)

3. أخرج الحاكم في مستدركه عن محمد بن أبي السري العسقلاني ، قال : صليت خلف المعتمر بن سليمان ما ، لا أحصي صلاة الصبح والمغرب فكان يجهر

ص : 215


1- المستدرك : 1 / 232.
2- المستدرك : 1 / 232.

ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ، وسمعت المعتمر يقول : ما آلو أن اقتدي بصلاة أبي ، وقال أبي : ما آلو أن اقتدي بصلاة أنس بن مالك ، وقال أنس بن مالك : ما آلو أن اقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات ، وأقرّه على ذلك الذهبي في تلخيصه. (1)

4. أخرج الحاكم عن حميد الطويل ، عن أنس ، قال : صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف علي كلّهم كانوا يجهرون بقراءة ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، ثمّ قال :

وقد بقي في الباب عن أمير المؤمنين عثمان وعلي ، وطلحة بن عبيد الله ، وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عمر ، والحكم بن عمير الثمالي ، والنعمان بن بشير ، وسمرة بن جندب ، وبريدة الأسلمي ، وعائشة بنت الصديق كلّها مخرجة عندي في الباب ، تركتها إيثارا للتخفيف واختصرت منها ما يليق بهذا الباب ، وكذلك ذكرت في الباب من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم من الصحابة والتابعين وأتباعهم. (2)

وبما انّ الكلام الأخير الذي يدّعي إطباق الأئمة على الجهر بالتسمية في الصلوات يخالف مذهب إمام الذهبي ، فغاظ غيظه وادّعى انّ نسبة الجهر إلى هؤلاء كذب محض ، ثمّ حلف على صدق مدّعاه مع أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « البينة على المدّعي واليمين على المنكر » فمن يدّعي الكذب فعليه البيّنة لا الحلف ، وإلاّ ففي وسع كلّ من يرى الحديث مخالفا لهواه وللمذهب الذي نشأ عليه ، أن يحلف على كذبه.

ص : 216


1- . المستدرك : 1 / 232.
2- . المستدرك : 1 / 232.

5. ما رواه الإمام الشافعي في مسنده انّ معاوية قدم المدينة فصلّى بها ولم يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، فاعترض عليه المهاجرون والأنصار بقولهم : يا معاوية سرقت منّا الصلاة ، أين ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )؟!

وعلّق عليه الشافعي بقوله : فلو لا أنّ الجهر بالتسمية كان كالأمر المتقرر عند كلّ الصحابة من المهاجرين والأنصار ، وإلاّ لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب ترك التسمية.

6. وأخرجه الحاكم بنحو آخر وقال : إنّ أنس بن مالك قال : صلّى معاوية بالمدينة صلاة فجهر فيها بالقراءة فقرأ فيها ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) لأمّ القرآن ولم يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) للسورة التي بعدها حتّى قضى تلك القراءة ، فلمّا سلّم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار من كلّ مكان : أسرقت الصلاة أم نسيت؟! فلمّا صلّى بعد ذلك قرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) للسورة التي بعد أمّ القرآن وكبّر حين يهوي ساجدا.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتج بعبد المجيد بن عبد العزيز وسائر الرواة متفق على عدالتهم ، وأقرّه على ذلك الذهبي في تلخيصه.

7. قال الرازي في تفسيره : أنّ البيهقي روى الجهر ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في سننه عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير ، ثمّ قال الرازي ما هذا لفظه : وأمّا انّ علي بن أبي طالب كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى ، قال : والدليل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم أدر الحقّ مع علي حيث دار. (1)

ص : 217


1- التفسير الكبير : 1 / 204.

8. أخرج البزار والدارقطني والبيهقي في « شعب الإيمان » من طريق أبي الطفيل قال سمعت علي بن أبي طالب وعمار يقولان : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر في المكتوبات ب_ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » في فاتحة الكتاب. (1)

9. أخرج الدارقطني عن عائشة انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجهر ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). (2)

10. أخرج الدارقطني عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله : « أمّني جبرئيل عليه السلام عند الكعبة فجهر ب_ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ». (3)

11. أخرج الدارقطني عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ب_ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » في السورتين جميعا. (4)

12. أخرج الدارقطني والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ب_ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » في الصلاة وزاد البيهقي : « فترك الناس ذلك ». (5)

13. أخرج الدارقطني عن عبد الله بن عمر قال : « صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يجهرون ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). (6)

14. أخرج الثعلبي عن علي بن زيد بن جدعان انّ العبادلة كانوا

ص : 218


1- سنن الدارقطني : 1 / 302 ؛ شعب الإيمان : 2 / 436 ؛ الحديث 2322 ، باب تعظيم القرآن ، الدر المنثور : 1 / 21 ، 22.
2- الدر المنثور : 1 / 23.
3- سنن الدارقطني : 1 / 309 ؛ الدر المنثور : 1 / 22.
4- سنن الدارقطني : 1 / 302 ؛ الدر المنثور : 1 / 22.
5- مستدرك الحاكم : 1 / 208 ؛ السنن الكبرى : 2 / 47 ؛ سنن الدارقطني : 1 / 306.
6- سنن الدارقطني : 1 / 305 ؛ الدر المنثور : 1 / 22.

يستفتحون القراءة ب_ « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » يجهرون بها : عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير. (1)

15. أخرج البيهقي عن الزهري قال : من سنّة الصلاة أن تقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، وانّ أوّل من أسرّ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة وكان رجلا حييّا. (2)

16. أخرج الدارقطني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علّمني جبرئيل الصلاة ، فقام فكبّر لنا ثمّ قرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فيما يجهر ، في كلّ ركعة. (3)

17. أخرج الدارقطني عن الحكم بن عمير _ وكان بدريا _ قال : صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجهر في الصلاة ب_ « بسم الله » وصلاة الليل ، وصلاة الفجر وصلاة الجمعة. (4)

وقد احتجّ الرازي على لزوم الجهر بالتسمية في الصلوات الجهرية بما أوعزنا إليه في صدر البحث من أنّ حكم جزء السورة كحكم كلّها ولا يصحّ التبعيض بين الكل والجزء إلاّ بدليل قاطع ، وقد ذكره الرازي باللفظ التالي :

قد دللنا على أنّ التسمية آية من الفاتحة ، وإذا ثبت هذا فنقول : الاستقراء دلّ على أنّ السورة الواحدة إمّا أن تكون بتمامها سرية أو جهرية ، فأمّا أن يكون بعضها سريا وبعضها جهريا فهذا مفقود في جميع السور ، وإذا ثبت هذا كان الجهر بالتسمية مشروعا في القراءة الجهرية. (5)

ص : 219


1- الدر المنثور : 1 / 21.
2- الدر المنثور : 1 / 21.
3- سنن الدارقطني : 1 / 305 ؛ الدر المنثور : 1 / 20 ، 21.
4- سنن الدارقطني : 1 / 308 ؛ الدر المنثور : 1 / 22 ، 23.
5- التفسير الكبير : 1 / 204.
أئمّة أهل البيت عليهم السلام والجهر بالبسملة

تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام على الجهر بالبسملة ، وكانت سيرة الإمام علي عليه السلام والأئمّة عليهم السلام بعده على الجهر بها ، نقتطف شيئا ممّا أثر عنهم :

18. أخرج الشيخ أبو الفتوح الرازي في تفسيره بإسناده إلى الرضا ، عن أبيه ، عن الصادق عليه السلام قال : « اجتمع آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم على الجهر ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ». (1)

19. أخرج علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن ابن أذينة قال : قال أبو عبد الله عليه السلام ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أحقّ ما جهر به وهي الآية التي قال الله عزّ وجلّ ( وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) (2). (3)

20. أخرج الصدوق بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد عليهما السلام انّه قال : « والإجهار ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في الصلاة واجب ». (4)

21. أخرج الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان فيما كتبه الرضا للمأمون في بيان محض الإسلام جاء فيه : « والإجهار ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في جميع الصلوات سنّة ». (5)

22. وعن الرضا عليه السلام انّه كان يجهر ببسم الله الرّحمن الرحيم في جميع صلواته بالليل والنهار. (6)

ص : 220


1- روض الجنان : 1 / 50 ؛ مستدرك الوسائل : 4 / 189 رقم 4456.
2- الإسراء : 46.
3- تفسير القمّي : 1 / 28.
4- الخصال : 2 / 604 ، أبواب المائة فما فوقه ، رقم 9.
5- عيون أخبار الرضا : 2 / 122 ، الباب 35.
6- عيون أخبار الرضا : 2 / 181 ، الباب 44 رقم 5.

23. أخرج الكليني عن صفوان الجمّال قال : صلّيت خلف أبي عبد الله عليه السلام أيّاما ، فكان إذا كانت صلاة لا يجهر فيها ، جهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وكان يجهر في السورتين. (1)

24. أخرج العياشي عن خالد المختار قال : سمعت جعفر بن محمد يقول : « ما لهم عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها ، وهي ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ». (2)

25. أخرج الكليني عن يحيى بن أبي عمران الهمداني قال : كتبت إلى أبي جعفر [ الجواد ] عليه السلام : جعلت فداك ما تقول في رجل ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاته وحده في أمّ الكتاب فلمّا صار إلى غير أمّ الكتاب من السورة تركها ، فقال العباسي : ليس بذلك بأس؟

فكتب بخطّه : « يعيدها _ مرّتين _ على رغم أنفه _ يعني العباسي _ ». (3)

ولعلّ فيما ذكر من الروايات غنى وكفاية ، لطالب الحقّ ورائد الحقيقة.

ص : 221


1- الكافي : 3 / 315 ، الحديث 20.
2- تفسير العياشي : 1 / 21 ، الحديث 16.
3- الكافي : 3 / 313 ، الحديث 2.

5. حجّة القائلين بعدم جزئية البسملة

وحكم الجهر بها

وقد تجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها وظهرت بأوضح الدلائل ، انّ البسملة جزء من الفاتحة وانّها يجهر بها في الصلوات الجهرية لزوما ، وهناك روايات غريبة بين ما يدلّ على أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إمّا تركها بتاتا أو لم يجهر بها ، لكن مضمون بعضها أوضح دليل على كذبها ووضعها نذكرها تباعا.

1. أخرج مسلم عن شعبة قال : سمعت قتادة يحدّث عن أنس قال : صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ).

2. وأخرجه أيضا بسند آخر عن أنس بن مالك انّه قال : صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون ب_ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) لا يذكرون ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في أوّل قراءة ولا في آخرها. (1)

يلاحظ عليه : بأنّه معارض بما أخرج الحاكم عن أنس بن مالك قال :

ص : 222


1- صحيح مسلم : 2 / 12 باب حجّة من قال لا يجهر بالبسملة.

سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جهر ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). (1)

فلأجل هذا التعارض لا يمكن الاعتماد عليه.

وقد كفانا الرازي في الإجابة عن الحديثين اللّذين هما العمدة في القول بالترك أو بالسرّ قال :

قال الشيخ أبو حامد الأسفرايني : روي عن أنس في هذا الباب ست روايات ، أمّا الحنفية فقد رووا عنه ثلاث روايات :

إحداها قوله : صلّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وخلف أبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون الصلاة ب_ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ).

وثانيتها قوله : إنّهم ما كانوا يذكرون ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ).

وثالثتها قوله : لم أسمع أحدا منهم قال ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية ، وثلاث أخرى تناقض قولهم :

إحداها : ما ذكرنا أنّ أنسا روى أنّ معاوية لمّا ترك ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار ، وقد بيّنا أنّ هذا يدلّ على أنّ الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.

وثانيتها : روى أبو قلابة عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرّحمن الرحيم.

وثالثتها : أنّه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال : لا أدري هذه المسألة.

فثبت أنّ الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخبط والاضطراب ، فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل.

ص : 223


1- لاحظ ص 215 _ 216 ، الرواية 2 و 4.

قال الشافعي : لعلّ المراد من قول أنس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح الصلاة ب_ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أنّه كان يقدّم هذه السورة في القراءة على غيرها من السور ، فقوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) المراد منه تمام هذه ، فجعل هذه اللفظة اسما لهذه السورة.

وأيضا ففيها نكتة أخرى ، وهي أنّ عليّا عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلما وصلت الدولة إلى بني أميّة بالغوا في المنع من الجهر ، سعيا في إبطال آثار علي عليه السلام ، فلعلّ أنسا خاف منهم ، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه ، ونحن وإن شككنا في شيء فانّا لا نشكّ أنّه مهما وقع التعارض بين قول أنس وقول علي بن أبي طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمرة ، فإنّ الأخذ بقول علي أولى ، فهذا جواب قاطع في المسألة.

3. أخرج ابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن عبد الله بن مغفل قال : سمعني أبي وأنا أقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فقال : أي بني محدث؟ صلّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر ، وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحدا منهم جهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم. (1)

وقد أجاب الرازي عن هذا الحديث بقوله : إنّ الجواب بوجوه :

الأوّل : أنّ راوي أخباركم أنس وابن المغفل ، وراوي قولنا علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة ، وهؤلاء كانوا أكثر علما وقربا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أنس وابن المغفل.

الثاني : أنّ من المعلوم بالضرورة أنّ النبي عليه السلام كان يقدّم الأكابر على

ص : 224


1- السنن للبيهقي : 2 / 522 ، الدر المنثور : 1 / 29.

الأصاغر ، والعلماء على غير العلماء ، والأشراف على الأعراب ، ولا شكّ أنّ عليا وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالا في العلم والشرف وعلوّ الدرجة من أنس وابن المغفل ، والغاية على الظن أنّ عليا وابن عباس وابن عمر كانوا يقفون بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان أنس وابن المغفل يقفان بالبعد منه ، وأيضا أنّه عليه السلام ما كان يبالغ في الجهر امتثالا لقوله تعالى ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ) (1) ، وأيضا فالإنسان أوّل ما يَشْرع في القراءة إنّما يَشْرع فيها بصوت ضعيف ثمّ لا يزال يقوى صوته ساعة فساعة ، فهذه أسباب ظاهرة في أن يكون علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة سمعوا الجهر بالتسمية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّ أنسا وابن المغفل ما سمعاه.

الثالث : لعلّ المراد من عدم الجهر في حديث ابن المغفل عدم المبالغة في رفع الصوت ، كما قال تعالى ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها ).

الرابع : أنّ الدلائل العقلية موافقة لنا ، وعمل علي ابن أبي طالب عليه السلام معنا ، ومن اتّخذ عليا إماما لدينه ( فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ) في دينه ونفسه.

4. ما روي عن أبي هريرة ، انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فلما قال العبد ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، يقول الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال ( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، يقول الله تعالى : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال ( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) ، يقول الله تعالى : مجّدني عبدي ، وإذا قال ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) يقول الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي.

والاستدلال بهذا الخبر من وجهين :

الأوّل : انّه عليه الصلاة والسّلام لم يذكر التسمية ولو كانت آية من الفاتحة

ص : 225


1- الإسراء : 110.

لذكرها.

الثاني : انّه تعالى قال : جعلت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، والمراد من الصلاة ، الفاتحة ، وهذا التنصيف إنّما يحصل إذا قلنا بأنّ التسمية ليست آية من الفاتحة ، لأنّ الفاتحة سبع آيات ، فيجب أن يكون فيها لله ثلاث آيات ونصف ، وهي من قوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) إلى قوله ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) وللعبد ثلاث آيات ونصف وهي من قوله ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) إلى آخر السورة.

أمّا إذا جعلنا ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) آية من الفاتحة حصل لله أربع آيات ونصف وللعبد آيتان (1) ونصف ، وذلك يبطل التنصيف المذكور. (2)

يلاحظ عليه أوّلا : بأنّه معارض بخبر ابن عباس مرفوعا وفيه : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ، فإذا قال العبد ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، قال الله تعالى :

دعاني عبدي إلى آخر الحديث ، وقد اشتملت الرواية على البسملة وليست في مرفوعة ابن عباس كلمة نصفين ، والتقسيم لا يستدعي المساواة من حيث العدد.

قال الرازي : إنّ لفظ النصف كما يحتمل النصف في عدد الآيات يحتمل النصف في المعنى ، قال عليه السلام : الفرائض نصف العلم ، وسمّاه بالنصف من حيث إنّه بحث عن أحوال الأموات والموت والحياة قسمان.

وثانيا : انّ أبا هريرة روى عن رسول الله الجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم وكان هو يجهر بها ويقول : إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد مرّ عليك حديثه في ذلك. (3)

ص : 226


1- كذا في المصدر والصحيح : ثلاث.
2- التفسير الكبير : 1 / 201.
3- انظر الحديث 12.

5. روت عائشة انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله ربّ العالمين ، وهذا يدلّ على أنّ التسمية ليست آية من الفاتحة.

يلاحظ عليه : أنّ عائشة جعلت الحمد لله ربّ العالمين اسما لهذه السورة ، كما يقال : قرأ فلان ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ ) والمراد انّه قرأ هذه السورة فكذا هاهنا.

أقول : ما أكثر التعبير عن مجموع السورة بالآية التي وردت في أوّلها فيقال : قرأ فلان سورة قل هو الله أحد أو قرأ سورة يسبح لله ما في السموات وما أشبه ذلك ، فيكون معنى الحديث انّه كان يفتتح الصلاة بالتكبير وبقراءة هذه السورة التي أوّلها ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). إلخ. (1)

ما يزيّفه التأريخ الصحيح

6. أخرج الطبراني من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا قرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) هزأ منه المشركون وقالوا : محمد يذكر إله اليمامة ، وكان مسيلمة يتسمّى الرحمن ، فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول الله أن لا يجهر بها. (2)

وهو نفس ما أخرجه ابن داود عن سعيد بن جبير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم ، وكان أهل مكة يسمّون مسيلمة « الرحمن » فقالوا : إنّ محمّدا يدعو إلى إله اليمامة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإخفائها فما جهر بها حتّى مات. (3)

ص : 227


1- التفسير الكبير : 1 / 202.
2- المعجم الأوسط : 5 / 89 ؛ الدر المنثور : 1 / 29.
3- الدر المنثور : 1 / 29.

ولكن التأريخ يكذّب الرواية مهما صحّح سندها أو أرسلت إرسال المسلّم ، لأنّه ما علا أمر مسيلمة إلاّ في السنة العاشرة من الهجرة ، وأين هو من بدء الهجرة وصدر البعثة؟!

روى الطبري وغيره انّ مسيلمة وفد إلى النبي مع جماعة وأسلم ، ولمّا عاد إلى موطنه ادّعى النبوة ، والتفّ حوله عصابة من قومه تعصبا ، وقد نقل انّ واحدا من أتباعه سأل مسيلمة ذات مرة وقال : من يأتيك؟

قال مسيلمة : رحمان.

قال السائل : أفي نور أم في ظلمة؟

فأجاب : في ظلمة.

فقال السائل : أشهد أنّك كذّاب وانّ محمّدا صادق ، ولكنّ كذّاب ربيعة أحبّ إلينا من صادق مضر. (1)

قال شيخنا « معرفة » في موسوعته الروائيّة للتفسير : كانت العرب تعرف « الرحمن » وانّه ربّ العالمين ( وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) (2) ، ( قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ ) (3) وقد خاطبهم الله سبحانه بهذا الوصف أزيد من خمسين موضعا ، فكيف يا تُرى أنكروا وصفه تعالى بهذا الوصف وزعم أنّه مستعار من وصف صاحب اليمامة؟!

وأمّا قوله سبحانه ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً ) (4) ، فليس إنكارهم دليلا على عدم عرفانهم ، فان قولهم ( وَمَا الرَّحْمنُ ) مثل قول فرعون ( وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ) استهزاء بموضع

ص : 228


1- تاريخ الطبري : 2 / 508.
2- الزخرف : 20.
3- يس : 15.
4- الفرقان : 60.

الكليم في دعوته إلى عبادة الله بما أنّه إله واحد لا شريك له.

7. أخرج ابن شيبة عن ابن عباس قال : الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قراءة الاعراب. (1)

بالله عليك هل كان الإمام علي عليه السلام الذي اشتهر بأنّه كان يجهر بها في صلواته عامة ، من الأعراب؟! وهل الإمام الشافعي ومن أخذ عنه أو أخذ منه ، الذين كانوا يجهرون بها في الصلوات الجهرية من الأعراب؟! ( فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ).

8. ونظيره ما أخرجه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي قال : جهر الإمام ببسم الله الرحمن الرحيم بدعة. (2)

وقد كانت الأئمة الذين أخذ إبراهيم عنهم الفقه ، يجهرون بالتسمية فهل أخذ الفقه من المبدعة؟!

كلّ ذلك يشهد على أنّ عزو هذه الأقاويل إلى أئمّة الحديث والفقه ، كذب مفترى.

إلى هنا تمّ الكلام في الأمرين التاليين :

أ. انّ التسمية جزء من الفاتحة.

ب. انّ التسمية يجهر بها في الصلوات الجهرية.

ص : 229


1- مصنف ابن أبي شيبة : 1 / 441 ؛ الدر المنثور : 1 / 29.
2- المصنف : 1 / 448 ؛ الدر المنثور : 1 / 29 _ 30.

6. البسملة جزء من مفتتح كلّ سورة

قد أوقفك البحث السابق على أنّ التسمية جزء من الفاتحة ، وأنّه يجب الجهر بها في الصلوات الجهرية بلا ريب.

بقي الكلام في البحث الثالث وهو انّ التسمية جزء من مفتتح كلّ سورة إلاّ سورة التوبة ، ويدلّ على ذلك الأمور التالية :

الأوّل : انّ الصحابة كافة فالتابعين أجمعين فسائر تابعيهم وتابعي التابعين في كلّ خلف من هذه الأمّة منذ دوّن القرآن إلى يومنا هذا مجمعون إجماعا عمليا على كتابة البسملة في مفتتح كلّ سورة خلا براءة. كتبوها كما كتبوا غيرها من سائر الآيات بدون ميزة مع أنّهم كافة متصافقون على أن لا يكتبوا شيئا من غير القرآن إلاّ بميزة بيّنة حرصا منهم على أن لا يختلط فيه شيء من غيره ، ألا تراهم كيف ميّزوا عنه أسماء سورة ورموز أجزائه وأحزابه وأرباعه وأخماسه وأعشاره فوضعوها خارجة عن السور على وجه يعلم منه خروجها عن القرآن احتفاظا به واحتياطا عليه ، ولعلّك تعلم أنّ الأمّة قل ما اجتمعت بقضّها وقضيضها على أمر كاجتماعها على ذلك ، وهذا بمجرده دليل على أنّ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية

ص : 230

مستقلة في مفتتح كلّ سورة رسمها السلف والخلف في مفتتحها. (1)

الثاني : أخرج الحاكم عن ابن عباس انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جاءه جبرئيل فقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) علم أنّها سورة. هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. (2)

الثالث : أخرج الحاكم عن ابن عباس ( رض ) قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم ختم السورة حتّى تنزل ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ). قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وأقرّه على صحّته الذهبي في تلخيص المستدرك. (3)

الرابع : أخرج الحاكم عن ابن عباس قال : كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتّى تنزل ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ، فإذا نزلت ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) علموا أنّ السورة قد انقضت. (4)

الخامس : روى ابن ضريس عن ابن عباس قال ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) آية. (5)

السادس : أخرج الواحدي عن عبد الله بن عمر قال : أنزلت ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في كلّ سورة. (6)

ص : 231


1- مسائل فقهية : 28.
2- المستدرك : 1 / 231.
3- المستدرك : 1 / 231.
4- المستدرك : 1 / 232.
5- . الدر المنثور : 1 / 20.
6- . الدر المنثور : 1 / 20.

السابع : أخرج الطبراني في الأوسط والدارقطني والبيهقي عن نافع انّ ابن عمر كان إذا افتتح الصلاة يقرأ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) في أمّ القرآن وفي السورة التي تليها ويذكر انّه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1)

( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً

لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ). (2)

ص : 232


1- الدر المنثور : 1 / 22.
2- الأنعام : 115.

6. السجود على الأرض

اشارة

ص : 233

1. السجود على الأرض

مظهر ناصع من مظاهر العبودية

لعلّ من أوضح مظاهر العبودية والانقياد والتذلّل من قبل المخلوق لخالقه. هو السجود ، وبه يؤكّد المؤمن عبوديّته لله تعالى ، والبارئ عزّ اسمه يقدّر لعبده هذا التصاغر وهذه الطاعة فيضفي على الساجد فيض لطفه وعظيم إحسانه ، لذا روي في بعض المأثورات : « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده ».

ولمّا كانت الصلاة من بين العبادات معراجا يتميّز بها المؤمن عن الكافر ، وكان السجود ركنا من أركانها ، لم يكن هناك أوضح في إعلان التذلّل لله تعالى من السجود على التراب والرمل والحجر والحصى ، لما فيه من تذلّل أوضح وأبين من السجود على الحصر والبواري ، فضلا عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الوثيرة والذهب والفضّة ، وإن كان الكلّ سجودا ، إلاّ أنّ العبودية تتجلّى في الأوّل بما لا تتجلّى في غيره.

والإمامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم ، ولا يعدلون

ص : 234

عنها إلاّ إلى ما أنبت منها بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس ، ولا يرون السجود على غير الأرض وما أنبت منها صحيحا في حال الصلاة أخذا بالسنّة المتواترة عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وصحبه. وسيظهر _ في ثنايا البحث _ أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت ، كانت هي السنّة بين الصحابة ، وأنّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخرة.

ص : 235

2. اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه

اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كلّ ركعة مرّتين ، ولم يختلفوا في المسجود له ، فإنّه هو الله سبحانه الذي ( لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) (1) وشعار كلّ مسلم قوله سبحانه ( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ ) (2) وإنّما اختلفوا في شروط المسجود عليه _ أعني : ما يضع الساجد جبهته عليه _ فالشيعة الإمامية تشترط كون المسجود عليه أرضا أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري ، وما أشبه ذلك. وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب ، وإليك نقل الآراء :

قال الشيخ الطوسي (3) _ وهو يبيّن آراء الفقهاء _ : لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار.

ص : 236


1- إشارة إلى قوله سبحانه ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) _ الرعد / 15.
2- فصلت : 37.
3- من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلّفات ولد عام 385 ه وتوفّى عام 460 ه ، من تلاميذ الشيخ المفيد ( 336 _ 413 ه ) ، والسيّد الشريف المرتضى ( 355 _ 436 ه ) _ رضي الله عنهم.

وخالف فقهاء السنّة في ذلك حيث أجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك _ إلى أن قال _ : لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة ، وطرف الرداء ، وكمّ القميص ، وبه قال الشافعي ، وروي ذلك عن علي عليه السلام وابن عمر ، وعبادة بن الصامت ، ومالك ، وأحمد بن حنبل.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه ، أجزأه.

وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه ، وروي ذلك عن الحسن البصري (1).

وقال العلاّمة الحلّي (2) _ وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه _ : لا يجوز السجود على ما ليس بأرض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع ، وأطبق جمهور السنّة على الجواز. (3)

وقد اقتفت الشيعة في ذلك أثر أئمتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين ، ونحن نكتفي هنا بإيراد شيء ممّا روي عنهم في هذا الجانب :

روى الصدوق بإسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبد الله عليه السلام : أخبرني عمّا يجوز السجود عليه ، وعمّا لا يجوز؟ قال : « السجود لا يجوز إلاّ على الأرض ، أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما أكل أو لبس ». فقال له : جعلت فداك ما العلّة في ذلك؟

قال : « لأنّ السجود خضوع لله عزّ وجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل

ص : 237


1- الخلاف : 1 / 357 _ 358 ، المسألة 112 _ 113 ، كتاب الصلاة.
2- الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي ( 648 _ 726 ه ) وهو زعيم الشيعة في أواخر القرن السابع والثامن ، لا يسمح الدهر بمثله إلاّ في فترات خاصة.
3- التذكرة : 2 / 434 ، المسألة 100.

ويلبس ، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون ، والساجد في سجوده ، في عبادة الله عزّ وجلّ ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا بغرورها ». (1)

وقال الصادق عليه السلام : « وكلّ شيء يكون غذاء الإنسان في مطعمه أو مشربه ، أو ملبسه ، فلا تجوز الصلاة عليه ، ولا السجود إلاّ ما كان من نبات الأرض من غير ثمر ، قبل أن يصير مغزولا ، فإذا صار غزلا فلا تجوز الصلاة عليه إلاّ في حال ضرورة ». (2)

فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولا ولا ملبوسا اقتداء بأئمّتهم.

على أنّ ما رواه أهل السنّة في المقام ، يدعم نظريّة الشيعة ، وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم ، ويتّضح أنّ السنّة كانت هي السجود على الأرض ، ثمّ جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط ، ولم يثبت الترخيص الثالث ، بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.

روى المحدث النوري في « المستدرك » عن « دعائم الإسلام » : عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليه السلام ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إنّ الأرض بكم برّة ، تتيمّمون منها ، وتصلّون عليها في الحياة ( الدنيا ) وهي لكم كفاة في الممات ، وذلك من نعمة الله ، له الحمد ، فأفضل ما يسجد عليه المصلّي الأرض النقيّة ». (3)

ص : 238


1- الوسائل : ج 3 ، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 1 ، وهناك روايات بمضمونه. والكلّ يتضمّن أنّ الغاية من السجود التي هي التذلّل لا تحصل بالسجود على غير الأرض وما ينبت غير المأكول والملبوس فلاحظ.
2- الوسائل : 3 ، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 11.
3- مستدرك الوسائل : 4 / 14 ، الباب 10 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 1.

وروى أيضا عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنّه قال : « ينبغي للمصلّي أن يباشر بجبهته الأرض ، ويعفّر وجهه في التراب ، لأنّه من التذلّل لله ». (1)

وقال عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري المصري المعروف بالشعراني ( من أعيان القرن العاشر الهجري ) _ ما هذا نصّه _ : المقصود إظهار الخضوع بالرأس حتى يمسّ الأرض بوجهه الذي هو أشرف أعضائه ، سواء كان ذلك بالجبهة أو الأنف ، بل ربّما كان الأنف عند بعضهم أولى بالوضع من حيث إنّه مأخوذ من الأنفة والكبرياء ، فإذا وضعه على الأرض ، فكأنّه خرج عن الكبرياء التي عنده بين يدي الله تعالى ، إذ الحضرة الإلهية محرّم دخولها على من فيه أدنى ذرة من كبر فإنّها هي الجنة الكبرى حقيقة ، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : « لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ». (2)

نقل الإمام محمد بن محمد بن سليمان المغربي المالكي الروداني ( المتوفّى 1049 ه ) : عن ابن عباس رفعه : من لم يلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته. (3)

كما أنّ أصل العمل العبادي أمر توقيفي فكذلك شرائطه وأحكامه هي الأخرى التي يجب أن توضح وتبيّن من جانب مبيّن الشريعة ومبلّغها ونعني به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم هو الاسوة بنصّ القرآن الكريم والمبين للكتاب العزيز وعلى المسلمين جميعا أن يتعلموا منه أحكام دينهم وتفاصيل شريعتهم وقد قال سبحانه :

ص : 239


1- مستدرك الوسائل : 4 / 14 ، الباب 10 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 2.
2- اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر : 1 / 164. الطبعة الأولى.
3- جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد : 1 / 214 برقم 1515.

( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ). (1)

( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ). (2)

إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مبيّن للشريعة بنصّ من القرآن الكريم ، وأئمّة أهل البيت _ حسب تنصيص النبي _ أعدال الكتاب وقرناؤه ، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّي تارك فيكم ما ان تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما. (3)

فلا محيص عن الاهتداء بهديهم ، والاقتداء بهم وسوف يوافيك أنّهم كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض أو ما أتيت منها.

ص : 240


1- الأحزاب : 21.
2- الحشر : 2.
3- سنن الترمذي : 5 / 328 ، رقم 874 ط دار الفكر وغيرها من المصادر المتوفرة.

3. الفرق بين المسجود له والمسجود عليه

كثيرا ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت منها بدعة وتتخيّل التربة المسجود عليها وثنا ، وهؤلاء ، هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له ، والمسجود عليه ، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي وثن يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف ، ولم يفرّق بين الأمرين ، وزعم المسجود عليه مسجودا له ، وقاس أمر الموحّد بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر ، فأخذ بالصور والظواهر ، مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر ، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له ، يضعه أمامه ويركع ويسجد له ، ولكن الموحّد الذي يريد إظهار العبودية إلى نهاية مراتبها ، يخضع لله سبحانه ويسجد له ، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر والرمال والحصى ، مظهرا بذلك مساواته معها عند التقييم قائلاً : أين التراب وربّ الأرباب؟

نعم : الساجد على التربة غير عابد لها ، بل يتذلّل إلى ربّه بالسجود عليها ، ومن توهّم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان ، وسيؤدي إلى إرباك كلّ المصلين

ص : 241

والحكم بشركهم ، فمن يسجد على الفرش والقماش وغيره لا بدّ أن يكون عابدا لها على هذا المنوال فيا للعجب العجاب!!

روى الآمدي عن علي أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال : السجود الجسماني : وضع عتائق الوجوه على التراب. (1)

روى الصدوق عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام قولهم : « الصلاة إقرار بالربوبية لله عزّ وجلّ ،. ووضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظام لله جلّ جلاله ».

كما أنّ وضع الذقن على الأرض تذلّل لله سبحانه قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) (2). (3)

ص : 242


1- غرر الحكم ودرر الكلم : 1 / 107 برقم 2234.
2- الإسراء : 107.
3- الفقيه : 1 / 215 ، الحديث 645.

4. السجدة في اللغة

اشارة

لا شكّ انّ السجود من فرائض الصلاة ، وقد روى الفريقان عن ابن عباس ( رض ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين. (1)

ومع ذلك فإنّ حقيقة السجدة وواقعها ومقومها هو وضع الجبهة على الأرض ، وأمّا الباقون فأشبه بالشرائط ويدلّ على ذلك قول أصحاب المعاجم حيث لا يذكرون في تعريف السجدة إلاّ وضع الجبهة على الأرض فكأنّ غيرها من شرائط السجدة التي فرضها الشارع وأضافها إلى حقيقتها اللغوية والعرفية.

قال ابن منظور ناقلا عن ابن سيده : سجد يسجد سجودا : وضع جبهته بالأرض ، وقوم سجد وسجود. (2)

وقال ابن الأثير : سجود الصلاة ، وهو وضع الجبهة على الأرض ، ولا خضوع أعظم منه. (3)

ص : 243


1- أخرجه الشيخان البخاري في صحيحه : 1 / 206 ومسلم في صحيحه : 1 / 354.
2- لسان العرب : 6 ، مادة سجد.
3- النهاية : 2 ، مادة سجد.

وفي « تاج العروس من جواهر القاموس » : سجد : خضع ، ومنه سجود الصلاة وهو وضع الجبهة على الأرض ، ولا خضوع أعظم منه ، والاسم ، السجدة ( بالكسر ). (1)

وهذه الكلمات من أصحاب المعاجم ونظائرها المبثوثة في كتب اللغة ، تعرب عن أنّ حقيقة السجدة وواقعها ومقومها هو وضع الجبهة على الأرض ، ولو لا انّ النبي فرض السجود على سبعة أعظم لكفى وضع الجبهة على الأرض ، ولكنّه صلى الله عليه وآله وسلم أضاف إلى الوضع أمورا أخرى ، فصار الواجب السجود على سبعة أعظم.

فإذا كان كذلك فلا غرو في أن يختص وضع الجبهة بشرط خاص دون سائر الأعضاء ، ( هو اشتراط كون المسجود عليه هو الأرض أو ما ينبت منها ) ولا يجوز السجود على غيرها دون سائر الأعضاء.

سرّ كشف الجبهة في السجدة

والذي يعرب عن ذلك انّ معظم فقهاء السنّة ذهبوا إلى لزوم كشف الجبهة دون سائر الأعضاء ، فلو كان لسائر الأعضاء دور في حقيقة السجدة كالجبهة ، لكان حكمها حكم الجبهة مع أنّ الواقع خلافه.

1. ففي مختصر أبي القاسم الخرقي وشرحه : « ولا تجب عليه مباشرة المصلّي بشيء منها إلاّ الجبهة على إحدى الروايتين » ، وفي رواية أخرى انّه يجب عليه مباشرة المصلّي بالجبهة ذكرها أبو الخطاب وروى الأثرم قال : سألت أبا عبد الله عن السجود على كور العمامة فقال : لا يسجد على كورها ولكن يحسر (2) العمامة. وهو

ص : 244


1- تاج العروس : 8 ، مادة سجد.
2- في المصدر : يحصر ( بالصاد ).

مذهب الشافعي.

لما روى خباب قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرّ الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا _ إلى أن قال : _ وعن علي ( رض ) قال : إذا كان أحدكم يصلي فليحسر العمامة عن جبهته ، رواه البيهقي. (1)

2. وفي « الوجيز » : يجب كشف الجبهة في السجود لما روي عن خباب ، قال :

شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرّ الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا ، أي لم يزل شكوانا.

وقال في شرحه : ولا يجب كشف الجميع من ( الجبهة ) بل يكفي ما يقع عليه الاسم كما في الوضع ، ويجب أن يكون المكشوف من الموضوع على الأرض ، فلو كشف شيئا ووضع غيره لم يجز ، وإنّما يحصل الكشف إذا لم يكن بينه وبين موضع السجود حائل متصل به يرتفع بارتفاعه ، فلو سجد على طرفه أو كور عمامته لم يجز ، لأنّه لم يباشر بجبهته موضع السجود.

لنا حديث خباب ، وأيضا روي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : الزق جبهتك بالأرض. (2)

3. وقال ابن رشد : اختلفوا أيضا هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة ( مكشوفة ) وموضوعة على الذي يوضع عليه الوجه ، أم ليس ذلك من شرطه؟

وقال مالك : ذلك من شرط السجود أحسبه شرط تمامه. (3)

وقال جماعة : ليس ذلك من شرط السجود.

ومن هذا الباب : اختلافهم في السجود على طاقات العمامة وللناس فيه

ص : 245


1- الشرح الكبير على متن الخرقي : 1 / 557 _ 558 على هامش المغني.
2- العزيز ، شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير : 1 / 521.
3- ومعنى ذلك انّه ليس شرطا للصحة بل شرط للكمال.

ثلاثة مذاهب :

قول بالمنع ، وقول بالجواز ، وقول بالفرق بين أن يسجد على طاقات يسيرة من العمامة أو كثيرة ، وقول بالفرق بين أن يمس من جبهته الأرض شيء أو لا يمس منها. (1)

4. وقال القفال : فإن كان على جبهته عصابة لعلة بها فسجد عليها أجزأ ولا إعادة عليه ، ومن أصحابنا خرّج فيه قولا آخر في وجوب الإعادة من المسح على الجبيرة. (2)

5. وفي « الفقه على المذاهب الأربعة » : الشافعية _ قالوا : يضر السجود على كور العمامة ونحوها كالعصابة إذا ستر كلّ الجبهة ، فلو لم يسجد على جبهته المكشوفة بطلت صلاته إن كان عامدا عالما إلاّ لعذر كأن كان به جراحة وخاف من نزع العصابة حصول مشقة شديدة ، فإنّ سجوده عليها في هذه الحالة صحيح. (3)

الظاهر انّ سرّ لزوم كشف الجبهة لأجل إلصاق الجبهة المكشوفة بالصعيد حتّى يبلغ المصلّي منتهى الخضوع والعبودية.

غير انّ هؤلاء خصّوا كشف الجبهة بعدم وجود حاجز عليها يمنعها من السجود ككور العمامة وطاقاتها والعصابة وبالرغم من ذلك فقد سوغوا السجدة على السجاد والفرش.

وبذلك أبطلوا سرّ لزوم كشف الجبهة وفائدته.

ص : 246


1- بداية المجتهد : 1 / 139.
2- حلية العلماء في معرفة مذهب الفقهاء : 122.
3- الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 233.

فعندئذ يتوجه إليهم السؤال التالي :

إذا كانت السجدة على الفرش والسجاد جائزة ، فأي فرق بين السجود عليها والسجود على العصابة وكور العمامة؟! فإنّ التفريق بين الأمرين أمر غريب ، فإنّ العصابة أو العمامة منسوج كالفرش والسجاد ، وكون العمامة وأجزائها ممّا يحمله المصلّي دون الفرش والسجاد لا يوجب الفرق بعد اشتراكهما في تحقّق السجدة على زعمهم. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ سرّ الكشف هو لصوق الجبهة بالصعيد ، فعندئذ لا يكون أي فرق بين العصابة والسجاد.

وإلى ذلك ذهب علماؤنا أجمع ، قال العلاّمة : يجب إبراز الجبهة للسجود ، على ما يصحّ عليه السجود. (1)

ص : 247


1- منتهى المطلب : 5 / 154.

5. السجود

في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبعده

إنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها ، متحمّلين شدّة الرمضاء ، وغبار التراب ، ورطوبة الطين ، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل ولا على الحصر والبواري والخمر ، ولا على الفرش والسجاد ، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة ، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود عليها ، وقد شكا بعضهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شدّة الحرّ ، فلم يجبه ، إذ لم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم أن يبدّل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه ، إلى أن وردت الرخصة بالسجود على الخمر والحصر ، فوسّع الأمر للمسلمين لكن في إطار محدود ، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك الوقت على المسلمين مراحل ثلاث لا غير :

1. ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين ، ولم تكن هناك أيّة رخصة لغيرها.

2. المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصر

ص : 248

والبواري والخمر ، تسهيلا للأمر ، ورفعا للحرج والمشقّة.

3. المرحلة التي رخّص فيها السجود على الثياب اضطرارا وفي حال الضرورة.

وإليك البيان :

المرحلة الأولى: السجود على الأرض

اشارة

1. روى الفريقان عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ». (1)

والمتبادر من الحديث أنّ كلّ جزء من الأرض مسجد وطهور يسجد عليه ويقصد للتيمّم ، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين : للسجود تارة ، وللتيمّم أخرى.

إنّ هذا الحديث يثبت بجلاء انّ وجه الأرض ، ترابا كان أو صخرا أو حصى هو الأصل في السجود وهو الذي يجب أن يتخذ موضعا للسجود ولا يجوز التعدي عن ذلك إلاّ بدليل آخر.

وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود لله سبحانه لا يختص بمكان دون مكان ، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبيع والكنائس ، فليس هذا المعنى مغايرا لما ذكرناه ، فإنّه إذا كانت الأرض على وجه الإطلاق مسجدا للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة للعبادة ، فما

ص : 249


1- صحيح البخاري : 1 / 91 كتاب التيمّم الحديث 2 ، سنن البيهقي : 2 / 433 ، باب : أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد ، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن.

ذكر معنى التزامي لما ذكرناه ، ويعرب عن كونه المراد ذكر « طهورا » بعد « مسجدا » وجعلهما مفعولين ل_ « جعلت » والنتيجة هي توصيف الأرض بوصفين : كونها مسجدا وكونها طهورا ، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال : إنّ ما جعله من الأرض مسجدا ، هو الذي جعله طهورا. (1)

ومثله غيره من شرّاح الحديث.

فإذا كانت التربة والحصى طهورا فهي أيضا مسجود عليه للمصلّي.

فالحصر حجّة إلى أن يدلّ دليل على الخروج عنه.

تبريد الحصى للسجود عليها

2. عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : كنت أصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الظهر ، فآخذ قبضة من الحصى ، فأجعلها في كفّي ثمّ أحوّلها إلى الكف الأخرى حتى تبرد ثمّ أضعها لجبيني ، حتّى أسجد عليها من شدّة الحرّ. (2)

وعلّق عليه البيهقي بقوله : قال الشيخ : ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود. (3)

ونحن نقول : ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلا أم منفصلا جائزا ، لكان أسهل من تبريد الحصى ، ولأمكن حمل منديل أو سجّادة أو ما شابه للسجود عليه.

ص : 250


1- أحكام القرآن : 2 / 389 ، نشر بيروت.
2- مسند أحمد : 3 / 327 من حديث جابر ، سنن البيهقي : 1 / 439 باب ما روي في التعجيل بها في شدّة الحرّ.
3- سنن البيهقي : 2 / 105.

3. روى أنس قال : كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شدّة الحرّ ، فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه (1).

4. عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شدّة الرمضاء في جباهنا وأكفّنا فلم يشكنا. (2)

قال ابن الأثير في معنى الحديث : إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك ، لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم. (3)

هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط ، حتّى أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنسوجات المنفصلة ، وهو صلى الله عليه وآله وسلم مع كونه بالمؤمنين رءوفا رحيما أوجب عليهم مسّ جباههم الأرض ، وإن آذتهم شدّة الحرّ.

والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض ، وعن إصرار النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتّصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد ، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحدة من الروايات ، وإليك البيان.

الأمر بالتتريب

5. عن خالد الجهني : قال : رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صهيبا يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له : « ترّب وجهك يا صهيب ». (4)

ص : 251


1- السنن الكبرى : 2 / 106.
2- سنن البيهقي : 2 / 105 ، باب الكشف عن الجبهة.
3- النهاية : 2 / 497 ، مادة « شكا ».
4- كنز العمال : 7 / 465 برقم 19810.

والظاهر أنّ صهيبا كان يتّقي عن التتريب ، بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل ، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية ، وعلى كلّ تقدير ، فالحديث شاهد على أفضليّة السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى لما مرّ من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.

6. روت أمّ سلمة : رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلاما لنا يقال له « أفلح » ينفخ إذا سجد ، فقال : « يا أفلح ترّب ». (1)

7. وفي رواية : « يا رباح ترّب وجهك ». (2)

8. روى أبو صالح قال : دخلت على أمّ سلمة ، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين ، فلمّا سجد نفخ التراب ، فقالت أمّ سلمة : ابن أخي لا تنفخ ، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لغلام له يقال له يسار _ ونفخ _ : « ترّب وجهك لله ». (3)

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة

9. روي : أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته. (4)

10. روي عن علي أمير المؤمنين أنّه قال : « إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه » ، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة. (5)

ص : 252


1- المصدر نفسه : 7 / 459 برقم 19776.
2- المصدر نفسه : 7 / 459 برقم 19777.
3- المصدر نفسه : 7 / 465 ، برقم 19810 ، مسند أحمد : 6 / 301.
4- الطبقات الكبرى : 1 / 151 ، كما في السجود على الأرض : 41.
5- منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند : 3 / 194.

11. روى صالح بن حيوان السبائي : أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبهته. (1)

12. عن عياض بن عبد الله القرشي : رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يسجد على كور عمامته فأومأ بيده : « ارفع عمامتك » وأومأ إلى جبهته. (2)

هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ السجود على الأرض ، ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى ، ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك ، ولما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتتريب ، ولما حسر العمامة عن الجبهة.

سيرة النبي في السجود

يظهر من غير واحد من الروايات انّ النبي كان يهتم بالسجود على الأرض وإليك نماذج من هذا :

1. يقول وائل بن حجر : « رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد وضع جبهته وأنفه على الأرض ». (3)

2. يقول ابن عباس : انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد على الحجر. (4)

3. روي عن عائشة : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متقيا وجهه بشيء ». (5)

قال ابن حجر : وفي الحديث إشارة إلى أنّ مباشرة الأرض عند السجود هو

ص : 253


1- السنن الكبرى : 2 / 105.
2- المصدر نفسه.
3- أحكام القرآن : 3 / 36 ؛ مسند أحمد : 315 ، 317.
4- السنن للبيهقي : 2 / 102.
5- المصنف : 1 / 397 وكنز العمال : 4 / 212.

الأصل ، لأنّه علق بعدم الاستطاعة. (1)

وهذا الحديث يعرب عن جواز السجود على الثياب عند الضرورة وعدم جوازه في حال الاختيار ، وهذا هو المروي عن أئمّة أهل البيت.

فعن عيينة بباع القصب قال : قلت لأبي عبد الله أدخل في المسجد في اليوم الشديد الحرّ فأكره أنّ أصلي على الحصى فأبسط ثوبي فأسجد عليه ، قال : نعم ليس به بأس. (2)

وعن القاسم بن الفضيل قال : قلت للرضا عليه السلام : جعلت فداك الرجل يسجد على كمه من أذى الحرّ والبرد ، قال : لا بأس به. (3)

* * *

إنّ هناك أحاديث وروايات تعرب عن أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسجد على الطين والأرض في البرد القارص ، وكان يصلي في كساء يتقي به برد الأرض بيده ورجله دون جبهته ، وإليك ما يدلّ على ذلك.

1. عن وائل بن حجر رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي في كساء أبيض في غداة باردة يتقي بالكساء برد الأرض بيده ورجله. (4)

2. عن ثابت بن صامت انّ رسول الله صلّى في بني عبد الأشهل وعليه كساء متلفف به يضع يديه عليه يقي برد الحصى. (5)

ص : 254


1- فتح الباري : 1 / 414.
2- الوسائل : 3 ، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 1.
3- الوسائل : 3 ، الباب 4 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 2.
4- السنن الكبرى : 2 / 106.
5- سنن ابن ماجة : 1 / 329.

3. عن أبي هريرة قال : سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم مطير حتّى أنّي لأنظر إلى أثر ذلك في جبهته وأرنبته. (1)

هذه الروايات ونظائرها تعرب عن عمل النبي في سجدته في يوم مطير والبرد وانّه كان يسجد تارة على الطين ولم يقي وجهه بشيء ، وأخرى وقى يديه من دون تعرض للوجه مع أنّ تدقيق الرواة في بيان عمل النبي في اتقاء يديه بالكساء عن البرد والطين وتركهم ذكر الجبهة يكشف عن أنّه لم يبق وجهه بشيء وإلاّ لذكره الرواة ولم يغفلوا عنه.

* * *

سيرة الصحابة والتابعين في السجود

يظهر من غير واحد من الروايات انّ سيرة لفيف من الصحابة كانت جارية على السجود على الأرض.

1. عن أبي أميّة أنّ أبا بكر كان يسجد أو يصلّي على الأرض مفضيا إليها. (2)

2. عن أبي عبيدة انّ ابن مسعود لا يسجد _ أو قال لا يصلّي _ إلاّ على الأرض. (3)

3. كان مسروق بن الأجدع من أصحاب ابن مسعود لا يرخص في السجود على غير الأرض حتّى في السفينة ، وكان يحمل في السفينة شيئا يسجد عليه. (4)

ص : 255


1- مجمع الزوائد : 2 / 126.
2- المصنف لعبد الرزاق : 1 / 397.
3- المصنف : 1 / 397.
4- الطبقات الكبرى : 6 / 53 ، المصنف لعبد الرزاق : 2 / 583.

4. كان إبراهيم النخعي الفقيه الكوفي التابعي يقوم على البردي ويسجد على الأرض.

قال الراوي : قلنا ما البردي ، قال : الحصير. (1) وفي لفظ انّه كان يصلّي على الحصر ويسجد على الأرض.

5. كان عمر بن عبد العزيز لا يكتفي بالخمرة بل يضع عليها التراب ويسجد عليه. (2)

6. كان عروة بن الزبير يكره الصلاة على شيء دون الأرض. (3)

7. كتب علي بن عبد الله بن عباس إلى « زرين » ان ابعث إليّ بلوح من أحجار المروة عليه أسجد. (4)

* * *

والحاصل انّ التذلل والخضوع في مقابل عظمة الله سبحانه يتحقّق بأفضل مجاليه بوضع الجبهة والأنف على التراب والطين ، قائلاً : أين التراب ورب الأرباب وأنّه والتراب سواسية ولا تجد ذلك في السجود على المصنوعات وللعلاّمة الأميني كلمة قيمة وإليك نصّها :

والأنسب بالسجدة التي إن هي إلاّ التصاغر والتذلّل تجاه عظمة المولى سبحانه وو جاه كبريائه ، أن تتخذ الأرض لديها مسجدا يعفّر المصلّي بها خدّه ويرغم أنفه لتذكّر السّاجد لله طينته الوضيعة الخسيسة التي خلق منها وإليها

ص : 256


1- المصنف لعبد الرزاق : 1 / 397.
2- فتح الباري : 1 / 410.
3- فتح الباري : 1 / 410.
4- أخبار مكة للأزرقي.

يعود ومنها يعاد تارة أخرى حتّى يتّعظ بها ويكون على ذكر من وضاعة أصله ليتأتى له خضوع روحي وذلّ في الباطن وانحطاط في النفس واندفاع في الجوارح إلى العبودية وتقاعس عن الترفّع والأنانية ، ويكون على بصيرة من أنّ المخلوق من التراب حقيق وخليق بالذلّ والمسكنة ليس إلاّ.

ولا توجد هذه الأسرار قطّ وقطّ في المنسوج من الصوف والديباج والحرير وأمثاله من وسائل الدّعة والراحة ممّا يري للإنسان عظمة في نفسه ، وحرمة وكرامة ومقاما لديه ويكون له ترفّعا وتجبرا واستعلاء وينسلخ عند ذلك من الخضوع والخشوع. (1)

ص : 257


1- سيرتنا وسنّتنا : 125 _ 126.

المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخُمُر والحُصر

ما مرّ من الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها ، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنها ، وإن صعب الأمر واشتدّ الحرّ ، لكنّ هناك نصوصا تعرب عن ترخيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم _ بإيحاء من الله سبحانه إليه _ السجود على ما أنبتت الأرض ، فسهُل لهم بذلك أمر السجود ، ورفع عنهم الإصر والمشقّة في الحرّ والبرد ، وفيما إذا كانت الأرض مبتلّة ، وإليك تلك النصوص :

1. عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة. (1)

2. عن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة ، وفي لفظ : وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة. (2)

3. عن عائشة : كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة. (3)

4. عن أمّ سلمة : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة. (4)

ص : 258


1- أخبار أصبهان : 2 / 141.
2- مسند أحمد : 1 / 269 ، 303 ، 309 و 358.
3- المصدر نفسه : 6 / 179 وفيه أيضا قال للجارية وهو في المسجد : ناوليني الخمرة.
4- المصدر نفسه : 302.

5. عن ميمونة : ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة فيسجد. (1)

6. عن أمّ سليم قالت : كان [ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ] يصلّي على الخمرة. (2)

7. عن عبد الله بن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمر. (3)

وقد اعترض عليّ بعض المرشدين في المسجد الحرام لمّا رأى التزامي بالسجود على الحصير ، وسألني عن وجهه فقلت له : إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلّي على الحصير ، فقال : إنّ صلاة النبي على الحصر والبواري لا يلازم السجود عليهما إذ يمكن أن يصلّي على الحصير ويسجد على شيء آخر.

فقلت له : إنّ التفريق بين الأمرين لا يقبله الذوق السليم فان قوله : يصلّي على الحصير بمعنى انّه يصلّي عليه في عامة حالات الصلاة من القيام والركوع والسجود لا انّه يضع قدميه على الحصير أو ركبتيه ويديه عليه ويضع جبهته على شيء آخر.

على أنّ في لفيف من الروايات تصريحا بسجوده على الحصير.

1. روى أبو سعيد الخدري أنّه دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : فرأيته يصلّي على حصير يسجد عليه. (4)

2. وعن أنس بن مالك قال :

« كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الخمرة ويسجد عليها ». (5)

وفي ضوء الأحاديث المذكورة يتبين جواز السجود على الأرض والتراب وبعض ما ينبت من الأرض مثل الحصير المصنوع من خوص جريد النخل.

ص : 259


1- مسند أحمد : 6 / 331 و 335.
2- المصدر نفسه : 377.
3- المصدر نفسه : 2 / 92 و 98.
4- صحيح مسلم : 2 / 62 ، دار الفكر ، بيروت.
5- صحيح ابن خزيمة : 2 / 105 ، المكتب الإسلامي ، ط 2 _ 1412 ه ، المعجم الأوسط : 8 / 348 ، المعجم الكبير : 12 / 292.

المرحلة الثالثة: السجود على الثياب لعذر

اشارة

قد عرفت المرحلتين الماضيتين ، ولو كانت هناك مرحلة ثالثة فإنّما هي مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّرا عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يُجب شكوى الأصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء ، وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحرّ والأذى ، ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع حرج السجود على الثياب لعذر وضرورة ، وإليك ما ورد في هذا المقام :

1. عن أنس بن مالك : كنّا إذا صلّينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض ، طرح ثوبه ثم سجد عليه.

2. وفي لفظ آخر : كنّا نصلّي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض ، بسط ثوبه.

3. وفي لفظ ثالث : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحرّ مكان السجود. (1)

وهذه الرواية التي نقلها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد تكشف عن حقيقة بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في

ص : 260


1- صحيح البخاري : 1 / 101 ؛ صحيح مسلم : 2 / 109 ؛ مسند أحمد : 1 / 100 ؛ السنن الكبرى : 2 / 106.

حالة الاختيار أيضا. وذلك لأنّ رواية أنس نصّ في اختصاص الجواز بحالة الضرورة ، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات ، وإليك بعض ما روي في هذا المجال :

1. عبد الله بن محرز عن أبي هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على كور عمامته. (1)

إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن السجود عليه (2) ، محمولة على العذر والضرورة ، وقد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه ، حيث قال : قال الشيخ : وأمّا ما روي في ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك ، وأصحّ ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. (3)

وقد روي عن ابن راشد قال : رأيت مكحولا يسجد على عمامته فقلت : لم تسجد عليها؟ قال أتّقي البرد على أسناني. (4)

2. ما روي عن أنس : كنّا نصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيسجد أحدنا على ثوبه. (5)

والرواية محمولة على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه ، وبما رواه عنه البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في شدّة الحرّ ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه (6).

ويؤيّده ما رواه النسائي أيضا : كنّا إذا صلّينا خلف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالظهائر

ص : 261


1- كنز العمال : 8 / 130 برقم 22238.
2- لاحظ ص 252.
3- السنن الكبرى : 2 / 106.
4- المصنف لعبد الرزاق : 1 / 400 ، كما في سيرتنا وسنّتنا ، والسجدة على التربة : 93.
5- السنن الكبرى : 2 / 106 ، باب من بسط ثوبا فسجد عليه.
6- صحيح البخاري : 2 / 64 ، كتاب الصلاة ، باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.

سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ (1).

وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدلّ إلاّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلّى على الفرو. وأمّا أنّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.

3. عن المغيرة بن شعبة : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة (2).

والرواية مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث ، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه ، لأنّه شيء كالجبّة يبطّن من جلود بعض الحيوانات كالأرانب والسمّور فلا يسع بدن المصلّي لصغره فيحتمل انّه صلى الله عليه وآله وسلم وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها. وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.

حصيلة البحث

إنّ المتأمّل في الروايات يجد بوضوح أنّ قضيّة السجود في الصلاة مرت بمرحلتين أو ثلاث مراحل ، ففي المرحلة الأولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يرخّص للمسلمين السجود على غيرها ، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض ، وليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة أخرى إلا مرحلة جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة ، فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقا فمحمولة على الضرورة ، أو لا دلالة لها على السجود عليه لصغره ، بل غايتها الصلاة عليه.

ص : 262


1- جامع الأصول : 5 / 468 برقم 3660.
2- سنن أبي داود : باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم 331.

ومن هنا يظهر بوضوح أنّ ما التزمت به الشيعة من السجود على الأرض أو ما أنبتته الأرض هو عين ما جاءت به السنّة النبويّة ، ولم تنحرف عنه قيد أنملة ، ونحن ندعو إلى قليل من التأمّل لإحقاق الحقّ وتجاوز البدع.

فالسجدة على الفراش والسجاد والبُسُط المنسوجة من الصوف والوبر والحرير وأمثالها والثوب المتّصل فلا دليل يسوّغها قطّ ، ولم يرد في السنّة أيّ مستند لجوازها وهذه الصحاح الستّ وهي تتكفّل بيان أحكام الدين ولا سيّما الصلاة الّتي هي عماده لم يوجد فيها ولا حديث واحد ، ولا كلمة إيماء وإيعاز إلى جواز ذلك.

فالقول بجواز السجود على الفرش والسجاد والالتزام بذلك ، وافتراش المساجد بها للسجود عليها كما تداول عند الناس بدعة محضة ، وأمر محدث غير مشروع ، يخالف سنّة الله وسنّة رسوله ، ولن تجد لسنّة الله تحويلا. (1)

ص : 263


1- سيرتنا وسنّتنا : 133 _ 134.

6. ما هو السرّ في اتّخاذ تربة طاهرة؟

اشارة

بقي هنا سؤال يطرحه كثيرا إخواننا أهل السنّة حول سبب اتّخاذ الشيعة تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربّما يتخيّل البسطاء _ كما ذكرنا سابقا _ أنّ الشيعة يسجدون لها لا عليها ، ويعبدون الحجر والتربة ، وذلك لأنّ هؤلاء المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة ، والسجود لها.

وعلى أيّ تقدير فالإجابة عنها واضحة ، فإنّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها ، من أيّ أرض أخذت ، ومن أيّ صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلّها في ذلك سواء.

وليس هذا الالتزام إلاّ مثل التزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلاّه ، وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كلّ أرض يحلّ بها ، ويتّخذها مسجدا ، لا تتأتّى له في كلّ موضع من المواضع التي يرتادها المسلم في حلّه وترحاله ، بل وأنّى له ذلك وهذه الأماكن ترتادها أصناف مختلفة من البشر ، مسلمين كانوا أم غيرهم ، ملتزمين بأصول الطهارة أم غير ذلك ، وفي ذلك محنة كبيرة تواجه المسلم في صلاته فلا يجد مناصا من أن يتخذ لنفسه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها ، يسجد عليها لدى صلاته حذرا من السجدة على الرجاسة

ص : 264

والنجاسة ، والأوساخ التي لا يتقرّب بها إلى الله قط ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم ، خصوصا بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها :

المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، والحمام ، ومواطن الإبل ، بل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها. (1)

وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التأريخ عن نقلها ، فقد روي : أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع ( المتوفّى عام 62 ه ) كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها. كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف ، باب من كان حمل في السفينة شيئا يسجد عليها. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقا كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها. (2)

إلى هنا تبيّن أنّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجدا ليس إلاّ لتسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره خوفا من أن لا يجد أرضا طاهرة أو حصيرا طاهرا فيصعب الأمر عليه ، وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليها.

وأمّا السرّ في التزام الشيعة استحبابا بالسجود على التربة الحسينية ، فإنّ من الأغراض العالية والمقاصد السامية منها ، أن يتذكّر المصلّي _ حين يضع جبهته على تلك التربة _ تضحية ذلك الإمام عليه السلام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.

ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة ، وفي الحديث : « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده » فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية ، أولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ ، وارتفعت أرواحهم إلى الملإ الأعلى ،

ص : 265


1- سيرتنا وسنّتنا : 158 _ 159.
2- مصنف ابن أبي شيبة : 2 / 172 ، دار الفكر _ 1409 ه .

ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة ، وزخارفها الزائلة ، ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر ، فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب. (1)

وقال العلاّمة الأميني : نحن نتّخذ من تربة كربلاء قِطَعا لمعا ، وأقراصا نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع ، يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها ، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة ، فقيه المدينة ، ومعلّم السنّة بها ، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أيّ حزازة وتعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أو خروج من حكم العقل والاعتبار.

وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجدا لدى الشيعة من الفرض المحتّم ، ولا من واجب الشرع والدين ، ولا ممّا ألزمه المذهب ، ولا يفرّق أيّ أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم ، وإن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ ، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت ، وكثير من رجال المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم (2).

هذا إلمام إجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّه ، وقد أغنانا

ص : 266


1- الأرض والتربة الحسينية : 24.
2- سيرتنا وسنّتنا : 142.

عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره ، وأخص بالذكر منهم :

1. المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء ( 1295 _ 1373 ه ) في كتابه « الأرض والتربة الحسينية ».

2. العلاّمة الكبير الشيخ عبد الحسين الأميني مؤلّف الغدير ( 1320 _ 1390 ه ) فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبعت في آخر كتابه « سيرتنا وسنّتنا ».

3. « السجود على الأرض » للعلاّمة الشيخ علي الأحمدي قدس سره فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.

فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم الله الماضين من علمائنا وحفظ الله الباقين منهم.

هذا ما وقفنا عليه من الروايات والتي أوردناها في هذا المختصر.

ص : 267

خاتمة المطاف

اشارة

نذكر فيها أمرين :

1. فرض العقيدة والفقه على الزائر

إنّ من غرائب الدهر و « ما عشت أراك الدهر عجبا » أن تصادر الحريات في الحرمين الشريفين فتفرض على الزائر ، العقيدة والفقه الخاص ، مع أنّ السيرة عبر القرون كانت جارية على حرية الزائر في الحرمين الشريفين في عقيدته وعمله.

إنّ التوسل والتبرّك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام كانت سنّة رائجة في القرون الغابرة ، ولم يكن هناك أي منع وقد وردت فيه صحاح الروايات ومسانيدها ، وكان الحرمان الشريفان أمنا للزائر كما شاء سبحانه أن يكونا كذلك ، قال تعالى ( فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (1) وقال تعالى حاكيا دعاء إبراهيم ( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (2) ولكن أصبح اليوم من تلك الناحية على خلاف ما دعا إليه إبراهيم ، فالزائر الشيعي المقتدي بفقه أئمة أهل البيت لا يسمح له أن يمارس طقوسه بحرية تامة ، ولا أن يتكلم بشيء ممّا يعتقد به ، ومن مظاهر ذلك فرض السجود على الفرش المنسوجة والمنع

ص : 268


1- آل عمران : 97.
2- البقرة : 126.

من السجدة على الصعيد والتربة.

ونحن بدورنا نقترح على الحكومة الراشدة في أراضي الوحي أن يمنحوا حريات مشروعة لعامّة الحجاج كي يمارسوا طقوسهم بحرية ، فإنّ ذلك يعزّز أواصر الوحدة والتعاون بين المسلمين على اختلاف طوائفهم.

2. صيرورة السنّة بدعة

قد وقفت على أنّ السجود على الأرض أو على الحصر والبواري وأشباهها هو السنّة ، وأنّ السجود على الفرش والسجاجيد وأشباهها هو البدعة ، وأنّه ما أنزل الله به من سلطان ، ولكن يا للأسف صارت السنّة بدعة والبدعة سنّة. فلو عمل الرجل بالسنّة في المساجد والمشاهد ، وسجد على التراب والأحجار يوصف عمله بالبدعة ، والرجل بالمبدع. ولكن ليس هذا فريدا في بابه فقد نرى في فقه المذاهب الأربعة نظائر. نذكر الموارد التالية :

1. قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي :

السنّة في القبر ، التسطيح. وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي.

وقال أبو حنيفة ومالك : التسنيم أولى ، لأنّ التسطيح صار شعارا للشيعة. (1)

وقال الرافعي : إنّ النبي سطّح قبر ابنه إبراهيم ، وعن القاسم بن محمد قال : رأيت قبر النبي وأبي بكر وعمر مسطّحة.

وقال ابن أبي هريرة : إنّ الأفضل الآن العدول من التسطيح إلى التسنيم ، لأنّ التسطيح صار شعارا للروافض ، فالأولى مخالفتهم ، وصيانة الميت وأهله عن

ص : 269


1- رحمة الأمّة في اختلاف الأئمّة : 1 / 88 ؛ ونقله أيضا العلاّمة الأميني في الغدير : 10 / 209.

الاتّهام بالبدعة ، ومثله ما حكي عنه : أنّ الجهر بالتسمية إذا صار في موضع شعارا لهم فالمستحب الإسرار بها مخالفة لهم ، واحتج له بما روي انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « كان يقوم إذا بدت جنازة ، فأخبر انّ اليهود تفعل ذلك ، فترك القيام بعد ذلك مخالفة لهم ».

وهذا الوجه هو الذي أجاب به في الكتاب ومال إليه الشيخ أبو محمد وتابعة القاضي الروياني لكن الجمهور على أنّ المذهب الأوّل.

قالوا : ولو تركنا ما ثبت في السنّة لإطباق بعض المبتدعة عليه لجرّنا ذلك إلى ترك سنن كثيرة ، وإذا اطّرد جرينا على الشيء خرج عن أن يعد شعارا للمبتدعة. (1)

2. قال الإمام الرازي : روى البيهقي عن أبي هريرة قال : كان رسول الله يجهر في الصلاة ب_ ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) وكان عليّ _ رضي الله عنه _ يجهر بالتسمية وقد ثبت بالتواتر ، وكان علي بن أبي طالب يقول : يا من ذكره شرف للذاكرين ، ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه.

وقالت الشيعة : السنّة ، هي الجهر بالتسمية ، سواء أكانت في الصلاة الجهرية أو السرية ، وجمهور الفقهاء يخالفونهم _ إلى أن قال _ : إنّ عليّا كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أميّة بالغوا في المنع من الجهر ، سعيا في إبطال آثار عليّ _ رضي الله عنه _ (2).

3. قال الزمخشري في تفسير قوله سبحانه ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ ).

فإن قلت : فما تقول في الصلاة على غيره؟

قلت : القياس جواز الصلاة على كلّ مؤمن لقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي

ص : 270


1- العزيز شرح الوجيز : 2 / 453.
2- مفاتيح الغيب : 1 / 205 _ 206.

عَلَيْكُمْ ) وقوله تعالى ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) وقوله : اللهم صَلِّ على آل أبي أوفى ، ولكن للعلماء تفصيلا في ذلك وهو أنّها إن كانت على سبيل التبع كقولك : صلى الله على النبي وآله فلا كلام فيها ، وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه ، لأنّ ذلك صار شعارا لذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأنّه يؤدي إلى الاتّهام بالرفض. (1)

4. وفي « فتح الباري » : اختلف في السّلام على غير الأنبياء بعد الاتّفاق على مشروعيته في الحيّ ، فقيل يشرع مطلقا ، وقيل بل تبعا ولا يفرّد لواحد لكونه صار شعارا للروافضة ، ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني. (2)

ومعنى ذلك انّه لم يجد مبرّرا لترك ما شرّعه الإسلام ، إلاّ عمل الرافضة بسنّة الإسلام ، ولو صحّ ذلك ، كان على القائل أن يترك عامة الفرائض والسنن التي يعمل بها الروافض.

( قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا

فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ

وَمَنِ اهْتَدى ). (3)

ص : 271


1- الكشاف : 2 / 549.
2- فتح الباري : 11 / 14.
3- طه : 135.

ص : 272

7. الجمع بين الصلاتين

اشارة

ص : 273

ص : 274

أقسام الجمع بين الصلاتين

اشارة

اعلم أنّ للجمع بين الصلاتين صورا مختلفة :

1. الجمع بين الصلاتين في المزدلفة وعرفة.

2. الجمع بين الصلاتين في السفر.

3. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل الأعذار كالمطر والوحل.

4. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا بلا عذر.

وقد اتّفقت كلمة الفقهاء على الجمع في المزدلفة وعرفة واختلفت في غيرهما ، فها نحن نأخذ كلّ واحدة بالبحث مع ذكر الأقوال والمصادر بوجه موجز.

ص : 275

1. الجمع بين الصلاتين في عرفة والمزدلفة

اتّفقت كلمة الفقهاء على رجحان الجمع بين الصلاتين في المزدلفة وعرفة من غير خلاف بينهم ، قال القرطبي : أجمعوا على أنّ الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة أيضا في وقت العشاء سنّة أيضا ، وإنّما اختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين. (1)

وقال ابن قدامة : قال الحسن وابن سيرين وأصحاب الرأي لا يجوز الجمع إلاّ في يوم عرفة بعرفة ، وليلة المزدلفة بها. (2)

أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكث تسع سنين لم يحج ثمّ أذن في الناس في العاشرة انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاجّ ، فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعمل مثل عمله _ إلى أن قال : _ حتّى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي وخطب الناس _ إلى أن قال : _ ثمّ أذّن ثمّ أقام فصلّى الظهر ، ثمّ أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا _ إلى أن قال : _ حتّى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا. (3)

وبما انّ المسألة مورد اتّفاق بين الفقهاء نقتصر على هذا المقدار.

ص : 276


1- بداية المجتهد : 1 / 170 ، تحت عنوان الفصل الثاني في الجمع.
2- المغني : 2 / 112.
3- صحيح مسلم : 4 / 39 _ 42 ، باب حجّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

2. الجمع بين الصلاتين في السفر

ذهب معظم الفقهاء غير الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه إلى جواز الجمع بين الصلاتين في السفر ، فيجوز عند الجمهور غير هؤلاء ، الجمع بين الظهر والعصر تقديما في وقت الأولى وتأخيرا في وقت الثانية ، وبين المغرب والعشاء تقديما وتأخيرا أيضا ، فالصلوات التي تجمع هي : الظهر والعصر ، المغرب والعشاء في وقت إحداهما ، ويسمّى الجمع في وقت الصلوات الأولى جمع التقديم ، والجمع في وقت الصلوات الثانية جمع التأخير. وقد ذكر الشوكاني الأقوال بالنحو التالي :

1. ذهب إلى جواز الجمع في السفر مطلقا تقديما وتأخيرا ، كثير من الصحابة والتابعين ، ومن الفقهاء : الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والشعبي.

2. وقال قوم : لا يجوز الجمع مطلقا إلا بعرفة ومزدلفة. وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه.

3. وقال الليث : وهو المشهور عن مالك انّ الجمع يختص بمن جدّ به السير.

4. وقال ابن حبيب : يختص بالسائر.

5. وقال الأوزاعي : إنّ الجمع في السفر يختصّ بمن له عذر.

6. وقال أحمد : واختاره ابن حزم ، وهو مروي عن مالك انّه يجوز جمع التأخير دون التقديم.

ص : 277

هذه هي الأقوال الستة :

فإذا كانت المسألة على وجه الإجمال مورد اتّفاق الجمهور إلاّ من عرفت ، فلا بدّ من البحث في مقامين :

1. هل الجمع مختصّ بمن جدّ به السير؟ أي من أسرع في سيره.

2. هل الجواز يختصّ بجمع التأخير ولا يعمّ التقديم؟

أمّا المقام الأوّل فنقول :

إنّ الأخبار الحاكية لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صنفين :

صنف يصرح بأنّه صلى الله عليه وآله وسلم يجمع إذا جدّ به السير أو أعجله السير في السفر.

1. أخرج مسلم عن نافع ، عن ابن عمر انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. (1)

2. أخرج مسلم عن سالم ، عن أبيه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السير. (2)

3. أخرج مسلم عن سالم بن عبد الله انّ أباه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخّر صلاة المغرب حتّى يجمع بينها وبين صلاة العشاء. (3)

4. أخرج مسلم عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا عجّل عليه السفر يؤخّر الظهر إلى أوّل وقت العصر فيجمع بينهما ، ويؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق. (4)

وصنف آخر يحكي فعل رسول الله بلا قيد « إذا جدّ به السير ».

ص : 278


1- . صحيح مسلم : 2 / 150 باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
2- . صحيح مسلم : 2 / 150 باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
3- . صحيح مسلم : 2 / 150 باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
4- صحيح مسلم : 2 / 151 ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.

1. اخرج مسلم عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر ثمّ نزل فجمع بينهما ، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلّى الظهر ثمّ ركب. (1)

2. أخرج مسلم عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخّر الظهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر ثمّ يجمع بينهما. (2)

3. أخرج أبو داود والترمذي عن معاذ بن جبل : انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر حتّى يجمعها إلى العصر يصلّيهما جميعا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلّى الظهر والعصر جميعا ثمّ سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء ، وكان إذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاّها مع المغرب. (3)

4. أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس ( رض ) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب ، فإذا لم تزغ له في منزله ، سار حتّى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر ، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء ، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما. (4)

وقال الشوكاني بعد نقله الرواية عن مسند أحمد : ورواه الشافعي في مسنده بنحوه وقال فيه : وإذا سار قبل أن تزول الشمس أخّر الظهر حتّى يجمع بينها وبين

ص : 279


1- صحيح مسلم : 2 / 151 ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
2- صحيح مسلم : 2 / 151 ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر من كتاب الصلاة.
3- سنن أبي داود : 2 / 8 كتاب الصلاة ، باب الجمع بين الصلاتين ، الحديث 1220.
4- مسند أحمد بن حنبل : 5 / 241 ؛ سنن أبي داود : 2 / 7 ، كتاب الصلاة ، باب الجمع بين الصلاتين ، الحديث 1220.

العصر في وقت العصر. (1)

أقول : إنّ أنس بن مالك نقل فعل النبي تارة على وجه الإطلاق ، وأخرى على وجه التقييد (2) ومقتضى القاعدة هو حمل المطلق على المقيد وتقييد الروايات المطلقة بما في المقيدة.

أضف إلى ذلك : أنّ الروايات الحاكية لفعل الرسول على وجه الإطلاق دليل لبّي لا لسان له ، وما كان هذا شأنه لا ينعقد فيه الإطلاق ، لأنّ الإطلاق شأن اللفظ ، وليس هناك للرسول صلى الله عليه وآله وسلم لفظ بل صدر منه عمل ، نقله الراوي ولعلّ عمله كان مقارنا لما جدّ به السير ولم يذكره الراوي لعدم احتمال دخله في الحكم.

وعلى ضوء هذا لا يجمع إلاّ إذا جدّ به السير. ولعلّه إلى هذا يشير ابن رشد : والجمع إنّما نقل فعلا فقط. (3)

ولكن الظاهر انّ القيد ( الجدّ في السير والعجلة فيه ) من قبيل الدواعي إلى الجمع ، وتخلّف الداعي في مورد لا يكون سببا لانتفاء الحكم ، فإنّ الإنسان لا يترك الأفضل ( التفريق ) إلاّ إذا كان هناك داع إليه ، فلأجله اختار الجمع وترك التفريق ، وقد قرر في محلّه انّ انتفاء الدواعي والحكم لا تعد من قيود الحكم بل يكون ثابتا مع انتفائهما.

وأمّا المقام الثاني أي عدم اختصاصه بجمع التأخير وعمومه بجمع التقدّم فيكفي في ذلك ما أخرجه أبو داود والترمذي عن معاذ بن جبل وما أخرجه أحمد عن ابن عباس فلاحظ الرقم الثالث والرابع من الأحاديث الماضية.

ص : 280


1- نيل الأوطار : 3 / 213.
2- . بداية المجتهد : 1 / 173 ، وفي طبعه أخرى محقّقة : 2 / 374.
3- . بداية المجتهد : 1 / 173 ، وفي طبعه أخرى محقّقة : 2 / 374.

3. الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل العذر

المشهور هو جواز الجمع بين المغرب والعشاء لعذر خلافا للحنفية حيث لم يجوّزوا الجمع مطلقا إلاّ في الحج بعرفة والمزدلفة.

وأمّا القائلون بالجمع فقد اختلفوا من وجوه :

الأوّل : هل يختص الجواز بالمطر ، أو يعمّه وغيره؟

الثاني : هل يختص الجواز بالمغرب والعشاء ، أو يعمّ الظهر والعصر؟

الثالث : هل يختص الجواز بجمع التقديم أو يعمّ جمع التأخير؟ (1)

وإليك نقل كلماتهم في الوجوه الثلاثة.

أمّا الأوّل ، فالظاهر من الشافعية هو اختصاص الجواز بالمطر.

قال الشيرازي : يجوز الجمع بين الصلاتين في المطر ، وأمّا الوحل والريح والظلمة والمرض فلا يجوز الجمع لأجلها. (2)

وقال ابن رشد : أمّا الجمع في الحضر لعذر المطر فأجازه الشافعي _ إلى أن قال : _ وأمّا الجمع في الحضر للمريض ، فأمّا مالكا أباحه له إذا خاف أن يغمى

ص : 281


1- ما ذكرناه هو رءوس الاختلاف ، وأمّا فروعها فكثيرة لا حاجة للتعرّض إليها.
2- المجمع : 4 / 258 ، قسم المتن.

عليه أو كان به بطن ، ومنع ذلك الشافعي. (1)

وقال في الشرح الكبير : وهل يجوز ذلك _ وراء المطر _ لأجل الوحل والريح الشديدة الباردة ، أو لمن يصلّي في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط على وجهين. (2)

وأمّا الثاني ، أي هل يختص الجواز بالمغرب والعشاء أو يعمّ الظهرين؟

فقال ابن رشد : وأمّا الجمع في الحضر لعذر المطر فأجازه الشافعي ليلا كان أو نهارا ، ومنعه مالك في النهار وأجازه في الليل. (3)

وقال النووي : قال الشافعي والأصحاب يجوز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المطر ، وحكى إمام الحرمين قولا إنّه يجوز بين المغرب والعشاء في وقت المغرب ولا يجوز بين الظهر والعصر ، وهو مذهب مالك ، وقال المزني : لا يجوز مطلقا. والمذهب الأوّل هو المعروف من نصوص الشافعي قديما وجديدا. (4)

وأمّا الثالث ، أي اختصاص الجواز بجمع التقديم دون جمع التأخير.

فقال الشيرازي : يجوز الجمع بين الصلاتين في المطر في وقت الأولة منهما ، وهل يجوز أن يجمعهما في وقت الثانية؟ فيه قولان :

قال [ الشافعي ] في « الإملاء » : يجوز ، لأنّه عذر يجوز الجمع به في وقت الأولى فجاز الجمع في وقت الثانية كالجمع في السفر.

ص : 282


1- بداية المجتهد : 1 / 173 _ 174 ، في موضعين.
2- المغني : 2 / 118 ، قسم الذيل.
3- بداية المجتهد : 1 / 173.
4- المجموع : 4 / 260.

وقال في « الأمّ » : لا يجوز ، لأنّه إذا أخّر ربما انقطع المطر فجمع من غير عذر. (1)

هذا إجمال الأقوال في النقاط الثلاث ، ولهم اختلافات في مواضع أخر لا حاجة لذكرها.

إذا عرفت ذلك ، فالمهمّ هو وجود الدليل على جواز الجمع في الحضر لعذر.

وقد استدلّوا بحديثين :

1. ما دلّ على جواز الجمع في الحضر على وجه الإطلاق حيث حملوه على صورة المطر أو صورة العذر المطلق.

أخرج البخاري عن ابن عباس ( رض ) انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر ، المغرب والعشاء. (2)

قال ابن رشد : وأمّا الجمع في الحضر لغير عذر ، فان مالكا وأكثر الفقهاء لا يجيزونه وأجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر وأشهب من أصحاب مالك ، وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم حديث ابن عباس ، فمنهم من تأوّله على أنّه كان في مطر كما قال مالك ، ومنهم من أخذ بعمومه مطلقا.

2. ما رواه ابن عباس ( رض ) انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا سفر ولا مطر ، قيل لابن عباس : ما أراد بذلك ، قال : أراد أن لا يحرج أمّته. (3)

فظاهر الحديث يعطي انّ الجمع في المطر كان أمرا مسلما ، ولذلك حاول

ص : 283


1- المجموع : 4 / 258.
2- ستوافيك مصادر هذه الروايات في الصورة الرابعة من صور الجمع.
3- ستوافيك مصادر هذه الروايات في الصورة الرابعة من صور الجمع.

ابن عباس أن يبيّن بأنّ هذا الجمع لم يكن لغاية المطر أو سائر الأعذار ، بل عفوا لغاية عدم إحراج أمّته.

فلو جاز الجمع في الحضر لأجل العذر يكون الجمع في السفر اختيارا من غير عذر من أحكام السفر ، لأنّ المسافر يجمع فيه بين الصلاتين بلا عذر وأمّا الحاضر فإنّما يجمع لعذر أو غيره. وأمّا إذا قلنا بالجواز في الحضر اختيارا كما سيوافيك فلا يكون الجمع بين الصلاتين من أحكام السفر.

إلى هنا تم الكلام في الصورة الثالثة ، بقي الكلام في الصورة الرابعة وهي الجمع بين الصلاتين في الحضر ، فلو ثبت جواز الجمع بينهما في الحضر اختيارا ، ثبت جواز الجمع في السفر لعذر أو لغير عذر ، بطريق أولى ، ولذلك أولينا أهمية خاصة للصورة الرابعة لأنّ ثبوت الجواز فيها مفتاح ثبوت الجواز في سائر الصور ، فلاحظ.

ص : 284

4. الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا

اتّفقت الإمامية على أنّه يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا وإن كان التفريق أفضل.

يقول الشيخ الطوسي : يجوز الجمع بين الصلاتين ، بين الظهر والعصر وبين المغرب وعشاء الآخرة ، في السفر والحضر وعلى كلّ حال ، ولا فرق بين أن يجمع بينهما في وقت الأولة منهما أو وقت الثانية ، لأنّ الوقت مشترك بعد الزوال وبعد المغرب على ما بيّناه. (1)

إنّ الجمع بين الصلاتين على مذهب الإمامية ليس بمعنى إتيان الصلاة في غير وقتها الشرعي ، بل المراد الإتيان في غير وقت الفضيلة ، وإليك تفصيل المذهب.

قالت الإمامية _ تبعا للنصوص الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام _ إنّه إذا زالت الشمس دخل الوقتان _ أي وقت الظهر والعصر _ إلاّ أنّ صلاة الظهر يؤتى بها قبل العصر ، وعلى ذلك فالوقت بين الظهر والغروب وقت مشترك بين الصلاتين ، غير انّه يختص مقدار أربع ركعات من الزوال بالظهر ومقدار أربع

ص : 285


1- الخلاف : 1 / 588 ، المسألة 351 وسيوافيك ما بينه في أوقات الصلوات.

ركعات من الآخر للعصر وما بينهما وقت مشترك ، فلو صلّى الظهر والعصر في أي جزء من بين الزوال والغروب فقد أتى بهما في وقتهما ، وذلك لأنّ الوقت مشترك بينهما ، غير انّه يختص بالظهر مقدار أربع ركعات من أوّل الوقت ولا يصحّ فيه العصر ويختص بالعصر بمقدار أربع ركعات من آخر الوقت ولا يصحّ إتيان الظهر فيه.

هذا هو واقع المذهب ، ولأجل ذلك فالجامع بين الصلاتين في غير الوقت المختص به آت بالفريضة في وقتها فصلاته أداء لا قضاء.

ومع ذلك فلكلّ من الصلاتين _ وراء وقت الاجزاء _ وقت فضيلة.

فوقت فضيلة الظهر من الزوال إلى بلوغ ظل الشاخص الحادث بعد الانعدام أو بعد الانتهاء مثله ، ووقت فضيلة العصر من المثل إلى المثلين عند المشهور.

وبذلك يعلم وقت المغرب والعشاء ، فإذا غربت الشمس دخل الوقتان إلى نصف الليل ، ويختص المغرب بأوّله بمقدار أدائه والعشاء بآخره كذلك وما بينهما وقت مشترك ، ومع ذلك انّ لكلّ من الصلاتين وقت فضيلة ، فوقت فضيلة صلاة المغرب من المغرب إلى ذهاب الشفق وهي الحمرة المغربية ، ووقت فضيلة العشاء من ذهاب الشفق إلى ثلث الليل. (1)

وأكثر من يستغرب جمع الشيعة الإمامية بين الصلاتين لأجل انّه يتصور انّ الجامع يصلّي إحدى الصلاتين في غير وقتها ، ولكنّه غرب عن بآلة أنّه يأتي بالصلاة في غير وقت الفضيلة ولكنّه يأتي بها في وقت الإجزاء ، ولا غرو أن يكون

ص : 286


1- لاحظ العروة الوثقى : 171 ، فصل في أوقات اليومية.

للصلاة أوقاتا ثلاثة.

أ. وقت الاختصاص كما في أربع ركعات من أوّل الوقت وآخره ، أو ثلاث ركعات بعد المغرب وأربع ركعات قبل نصف الليل.

ب. وقت الفضيلة ، وقد عرفت تفصيله في الظهرين والعشاءين.

ج. وقت الإجزاء ، وهو مطلق ما بين الحدّين إلاّ ما يختصّ بإحدى الصلاتين ، فيكون وقت الإجزاء أعمّ من وقت الفضيلة وخارجه.

وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت انّه إذا زالت الشمس دخل الوقتان إلاّ أنّ هذه قبل هذه.

روى الصدوق بإسناده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : « إذا زالت الشمس دخل الوقتان : الظهر والعصر ، وإذا غابت الشمس دخل الوقتان : المغرب والعشاء الآخرة ». (1)

روى الشيخ الطوسي بإسناده عن عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن وقت الظهر والعصر؟ فقال : « إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر ، إلاّ انّ هذه قبل هذه ثمّ أنت في وقت منهما جميعا حتى تغيب الشمس ». (2)

والروايات بهذا المضمون متوفرة اقتصرنا على هذا المقدار.

فإذا كانت الصلوات تتمتع بأوقات ثلاثة كما بيّناه يتبيّن انّ الجمع ليس بأمر مشكل وإنّما يفوت به فضيلة الوقت لا أصل الوقت ، ولأجل ذلك ورد عن أئمّة أهل البيت أنّ التفريق أفضل من الجمع ، فنذكر في المقام بعض ما يصرح بجواز

ص : 287


1- الفقيه : 1 / 140 ، وأورده أيضا في الحديث 1 من الباب 17 من هذه الأبواب.
2- التهذيب : 2 / 26.

الجمع تيمّنا وتبرّكا ، وإلاّ فالمسألة من ضروريات الفقه الإمامي.

1. روى الصدوق بإسناده عن عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه السلام انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين ، وجمع بين المغرب والعشاء في الحضر من غير علّة بأذان واحد وإقامتين ». (1)

2. وروى أيضا بإسناده عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى الظهر والعصر في مكان واحد من غير علة ولا سبب ، فقال له عمر _ وكان أجرأ القوم عليه _ : أحدث في الصلاة شيء؟ قال : لا ولكن أردت أن أوسّع على أمّتي ». (2)

3. أخرج الكليني بإسناده عن زرارة ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « صلّى رسول الله بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علّة ، وصلّى بهم المغرب والعشاء الآخرة قبل سقوط الشفق من غير علّة في جماعة ، وإنّما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتسع الوقت على أمّته ». (3)

إلى غير ذلك من الروايات المتوفرة التي جمعها الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة. (4)

إلى هنا تبيّنت نظرية الشيعة في الجمع بين الصلاتين.

* * *

ص : 288


1- الفقيه : 1 / 186 برقم 886.
2- علل الشرائع : 321 ، الباب 11.
3- الكافي : 3 / 286 ، الحديث 1.
4- الوسائل : 4 / 220 _ 223 ، الباب 32 من أبواب المواقيت.

التنويع في الوقت في فقه السنّة

وربما يتصوّر من لا خبرة له أنّ هذا التنويع في الوقت من خصائص الفقه الإمامي ، فان تنويع الوقت إلى أوقات ثلاثة يوجد في كلا الفقهين وإن كان بينهما اختلاف في الكمية.

قال النووي في شرح المهذب : فرع : للظهر ثلاثة أوقات : وقت فضيلة ، ووقت اختيار ، ووقت عذر. فوقت الفضيلة أوّله ، ووقت الاختيار ما بعد وقت الفضيلة ، إلى آخر الوقت ، ووقت العذر وقت العصر في حقّ من يجمع بسفر أو مطر.

ثمّ قال : وقال القاضي حسين : لها أربعة أوقات : وقت فضيلة ، ووقت اختيار ، ووقت جواز ، ووقت عذر. فوقت الفضيلة إذا صار ظل الشيء مثل ربعه ، والاختيار إذا صار مثل نصفه ، والجواز إذا صار ظله مثله وهو آخر الوقت ، والعذر وقت العصر لمن جمع بسفر أو مطر. (1)

من يوافق الإمامية بعض الموافقة

كما أنّ هناك من يقول ببعض ما ذهبت إليه الإمامية ، نقله النووي وقال : قال عطاء وطاوس : إذا صار ظل الشيء مثله دخل وقت العصر وما بعده وقت للظهر والعصر على سبيل الاشتراك حتى تغرب الشمس.

فهذا القول يخصّ صيرورة ظل الشيء مثله للظهر ، ثمّ يجعل الباقي مشتركا بينهما حتى تغرب الشمس ، وهو قريب ممّا ذهب إليه الإمامية.

ص : 289


1- المجموع : 3 / 27.

وقال مالك : إذا صار ظله مثله فهو آخر وقت الظهر وأوّل وقت العصر بالاشتراك ، فإذا زاد على المثل زيادة بيّنة خرج وقت الظهر. (1)

وهذا القول يجعل قسما من الوقت _ أعني : بعد صيرورة الظل مثله _ إلى زيادة الظل عنه زيادة بيّنة ، وقتا مشتركا بين الظهر والعصر.

ثمّ نقل عنه أيضا انّ وقت الظهر يمتد إلى غروب الشمس. (2) إلى غير ذلك من الأقوال التي فيها نوع موافقة للفقه الإمامي.

من يوافق الإمامية تمام الموافقة من السنّة

والجمع بين الصلاتين اختيارا وإن كان من ضروريات الفقه الإمامي ، لكن ليست الإماميّة متفردة فيه بل وافقهم لفيف من فقهاء السنّة.

قال ابن رشد : وأمّا الجمع في الحضر لغير عذر فإن مالكا وأكثر الفقهاء لا يجيزونه ، وأجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر ، وأشهب من أصحاب مالك.

وسبب اختلافهم ، اختلافهم في مفهوم حديث ابن عباس ، فمنهم من تأوّله على أنّه كان من سفر.

ومنهم من أخذ بعمومه مطلقا ، وقد خرّج مسلم زيادة في حديثه وهو قوله : من غير خوف ولا سفر ولا مطر ، وبهذا تمسّك أهل الظاهر. (3)

قال النووي : فرع في مذاهبهم من الجمع بلا خوف ولا سفر ، ولا مطر ولا مرض ، مذهبنا ( الشافعي ) ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد والجمهور انّه لا يجوز ،

ص : 290


1- المجموع : 3 / 24.
2- المجموع : 3 / 27.
3- بداية المجتهد : 2 / 374 ، الطبعة المحققة.

وحكى ابن المنذر عن طائفة جوازه بلا سبب ، قال : وجوّزه ابن سيرين لحاجة أو ما لم يتّخذه عادة. (1)

وعلى كل تقدير فالمهم هو الدليل لا الأقوال ، فإن وافقت الدليل فهو ، وإلاّ فالمرجع هو الدليل.

الكتاب والجمع بين الصلاتين

قال سبحانه ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ). (2)

إنّ الآية متكفّلة لبيان أوقات الصلوات الخمسة ، فلو قلنا بأنّ المراد من غسق الليل هو انتصافه ، فيكون ما بين الدلوك وغسق الليل أوقاتا للصلوات الأربع ، غير أنّ الدليل دلّ على خروج وقت الظهرين بغروب الشمس ، فيكون ما بين الدلوك والغروب وقتا مشتركا للظهرين كما يكون ما بين الغروب وغسق الليل وقتا مشتركا للمغرب والعشاء.

وربما يفسر الغسق بغروب الشمس ، فعندئذ تتكفل الآية لبيان وقت الظهرين وصلاة الفجر دون المغرب والعشاء ، والمعروف هو التفسير الأوّل.

قال الطبرسي : وفي الآية دلالة على أنّ وقت صلاة الظهر موسّع إلى آخر النهار ، لأنّ الله سبحانه جعل من دلوك الشمس الذي هو الزوال إلى غسق الليل وقتا للصلوات الأربع إلاّ انّ الظهر والعصر اشتركا في الوقت من الزوال إلى

ص : 291


1- المجموع : 4 / 264.
2- الإسراء : 78.

الغروب ، والمغرب والعشاء الآخرة اشتركا في الوقت من الغروب إلى الغسق وأفرد صلاة الفجر بالذكر في قوله ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) ففي الآية بيان وجوب الصلوات الخمس وبيان أوقاتها. (1)

وما ذكرناه هو الذي نصّ عليه الإمام الباقر عليه السلام حيث قال : « قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) ، أربع صلوات سمّاهن الله وبيّنهن ووقّتهن ، وغسق الليل هو انتصافه ، ثمّ قال تبارك وتعالى ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) فهذه الخامسة ». (2)

وقال الصادق عليه السلام : « منها صلاتان أوّل وقتهما من زوال الشمس إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلاّ أنّ هذه قبل هذه ». (3)

وقال القرطبي : وقد ذهب قوم إلى أنّ صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب ، لأنّ الله سبحانه علّق وجوبها على الدلوك وهذا دلوك كلّه ؛ قاله الأوزاعي وأبو حنيفة في تفصيل ، وأشار إليه مالك والشافعي في حالة الضرورة. (4)

وقال الرازي : إن فسرنا الغسق بظهور أوّل الظلمة _ وحكاه عن ابن عبّاس وعطاء والنضر بن شمّيل _ كان الغسق عبارة عن أوّل المغرب ، وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات : وقت الزوال ، ووقت أوّل المغرب ، ووقت الفجر.

ص : 292


1- مجمع البيان : 3 / 434.
2- نور الثقلين : 3 / 200 ، الحديث 370.
3- نور الثقلين : 3 / 202 ، الحديث 377.
4- الجامع لأحكام القرآن : 1 / 304.

قال : وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتا للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركا بين هاتين الصلاتين ، وأن يكون أوّل المغرب وقتا للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركا أيضا بين هاتين الصلاتين ، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء مطلقا ، إلاّ أنّه دلّ الدليل على أنّ الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز ، فوجب أن يكون الجمع جائزا لعذر السفر وعند المطر وغيره. (1)

وما حقّقه الرازي في المقام ، حقّ ليس وراءه شيء ، لكن عدوله عنه ، بحجّة « انّ الجمع في السفر من غير عذر لا يجوز لوجود الدليل » رجم بالغيب ، إذ أيّ دليل قام على عدم الجواز بلا عذر ، فهل الدليل هو الكتاب؟ والكتاب حسب تحقيقه يدلّ على الجواز ، أو السنّة وسيوافيك تضافر النصوص على الجواز ، أو الإجماع فليس عدم الجواز موضع إجماع وقد عرفت القول بالجواز أيضا من أهل السنّة ، مضافا إلى إطباق أئمّة أهل البيت عليهم السلام على الجواز ؛ وليس وراء الكتاب والسنّة والإجماع حجّة ، كما ليس وراء عبادان قرية. (2)

السنّة والجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا

قد تضافرت الروايات عن الصادق بالحق على جواز الجمع بين الصلاتين

ص : 293


1- التفسير الكبير : 21 / 27.
2- وكم للإمام الرازي من مواقف مشرقة في تحقيق ما هو الحقّ ، الذي هو الأحقّ بالاتّباع لكنّه عدل عنه لوجوه واهية. لاحظ ما حقّقه حول مسح الرجلين في تفسير قوله سبحانه ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ، وما ذكره حول المراد من قوله ( وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) في تفسير قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) وغيرهما.

في الحضر اختيارا رواها أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد ، فلنقدم ما رواه مسلم بالسند والمتن ثمّ نذكر ما نقله غيره.

1. حدّثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر.

2. وحدّثنا أحمد بن يونس وعون بن سلام جميعا عن زهير ، قال ابن يونس : حدّثنا زهير ، حدّثنا أبو الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير : فسألت سعيدا : لم فعل ذلك؟ فقال : سألت ابن عباس كما سألتني فقال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمّته.

3. وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : حدّثنا أبو معاوية ؛ وحدّثنا أبو كريب وأبو سعيد الأشج _ واللفظ لأبي كريب _ قالا : حدّثنا وكيع كلاهما عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر « في حديث وكيع » قال : قلت لابن عباس : لم فعل ذلك؟ قال : كي لا يحرج أمّته. وفي حديث أبي معاوية قيل لابن عباس : ما أراد إلى ذلك؟ قال : أراد أن لا يحرج أمّته.

4. وحدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدّثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : صلّيت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمانيا جميعا وسبعا جميعا ، قلت : يا أبا الشعثاء أظنه أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل

ص : 294

العشاء ، قال : وأنا أظن ذاك. (1)

ما ظنه _ لو رجع إلى الجمع الصوري كما سيوافيك _ لا يغني من الحقّ شيئا ، وسيوافيك الكلام فيه.

5. حدّثنا أبو الربيع الزهراني ، حدّثنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بالمدينة سبعا وثمانيا (2) الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

6. وحدّثني أبو الربيع الزهراني ، حدّثنا حماد ، عن الزبير بن الخريت ، عن عبد الله بن شقيق قال : خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم ، وجعل الناس يقولون : الصلاة الصلاة قال : فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني : الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتعلّمني بالسنّة لا أمّ لك ، ثمّ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته ، فصدّق مقالته.

7. وحدّثنا ابن أبي عمر ، حدّثنا وكيع ، حدّثنا عمران بن حدير ، عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال : قال رجل لابن عباس : الصلاة ، فسكت ؛ ثمّ قال : الصلاة ، فسكت ؛ ثمّ قال : الصلاة ، فسكت ، ثمّ قال : لا أمّ لك أتعلّمنا بالصلاة وكنّا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (3)

ص : 295


1- فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بقرينة الحديث الخامس.
2- لف ونشر غير مرتب ، والمرتب منه : ثمانيا وسبعا.
3- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 213 _ 218 ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ومع أنّ العنوان خاص بالحضر نقل فيه ثلاث روايات جاء فيها الجمع بين الصلاتين في السفر تركنا نقلها. ولعلّه نقلها في هذا الباب إيعازا بأنّ كيفية الجمع في الحضر مثلها في السفر كما سيوافيك بيانه.

هذا ما نقله مسلم في صحيحه ، وإليك ما نقله غيره.

8. أخرج البخاري عن ابن عباس : انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بالمدينة سبعا وثمانيا : الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، فقال أيوب : لعلّه في ليلة مطيرة؟ قال : عسى. (1)

9. أخرج البخاري عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : صلّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعا جميعا وثمانيا جميعا. (2)

10. أخرج البخاري بإرسال عن ابن عمر وأبي أيّوب وابن عباس ، صلّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المغرب والعشاء. (3)

11. أخرج الترمذي عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر ، قال : فقيل لابن عباس : ما أراد بذلك؟ قال : أراد أن لا يحرج أمّته.

قال الترمذي بعد نقل الحديث : حديث ابن عباس قد روي عنه من غير وجه ، رواه جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعبد الله بن شقيق العقيلي. (4)

12. أخرج الإمام أحمد عن قتادة قال : سمعت جابر بن زيد ، عن ابن عباس قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة في

ص : 296


1- صحيح البخاري : 1 / 110 ، باب تأخير الظهر إلى العصر من كتاب الصلاة.
2- صحيح البخاري : 1 / 113 ، باب وقت المغرب من كتاب الصلاة.
3- صحيح البخاري : 1 / 113 ، باب ذكر العشاء والعتمة.
4- سنن الترمذي : 1 / 354 ، رقم الحديث 187 ، باب ما جاء في الجمع في الحضر. ثمّ إنّ محقّق الكتاب أشار في الهامش إلى الوجوه التي روي بها هذا الحديث عن ابن عباس فلاحظ. كما أنّ للترمذي تفسيرا مرفوضا بالنسبة إلى هذا الحديث سيوافيك في محلّه.

غير خوف ولا مطر ، قيل لابن عباس : وما أراد لغير ذلك؟ قال : أراد إلاّ يحرج أمّته. (1)

13. أخرج الإمام أحمد عن سفيان ، قال عمر : وأخبرني جابر بن زيد انّه سمع ابن عباس يقول : صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانيا جميعا وسبعا جميعا ، قلت له : يا أبا الشعثاء أظنّه أخّر الظهر وعجل العصر ، وأخّر المغرب وعجّل العشاء ، قال : وأظن ذلك. (2)

14. أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن شقيق ، قال : خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم وعلق الناس ينادونه الصلاة وفي القوم رجل من بني تميم فجعل يقول : الصلاة الصلاة ، فغضب ، قال : أتعلّمني بالسنّة شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، قال عبد الله : فوجدت في نفسي من ذلك شيئا فلقيت أبا هريرة فسألته فوافقه. (3)

15. أخرج مالك عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عباس انّه قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر. (4)

16. أخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عباس ، قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر.

ص : 297


1- مسند أحمد : 1 / 223.
2- مسند أحمد : 1 / 221 ، وما ظنه ان أراد به الجمع الصوري كما سيوافيك فهو ليس بحجّة حتى للظان ، والظن لا يغني عن الحقّ شيئا.
3- مسند أحمد : 1 / 251.
4- موطإ مالك : 1 / 144 ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر ، الحديث 4.

قال مالك : أرى ذلك كان في مطر. (1)

17. أخرج أبو داود عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، قال : صلّى بنا رسول الله بالمدينة ثمانيا وسبعا الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء.

قال أبو داود : ورواه صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس قال : في غير مطر. (2)

18. أخرج النسائي عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا من غير خوف ولا سفر. (3)

19. أخرج النسائي عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلّي بالمدينة يجمع بين الصلاتين بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ، قيل له : لم؟ قال : لئلاّ يكون على أمّته حرج. (4)

20. أخرج النسائي عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس قال : صلّيت وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانيا جميعا وسبعا جميعا. (5)

21. أخرج النسائي عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس انّه صلّى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء ، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل ، وزعم ابن عباس انّه صلّى مع رسول الله بالمدينة ، الأولى والعصر ثمان

ص : 298


1- سنن أبي داود : 2 / 6 ، الحديث 1210 ، باب الجمع بين الصلاتين. وسيوافيك الكلام في تفسير مالك للحديث.
2- المصدر السابق ، الحديث 1214.
3- سنن النسائي : 1 / 290 ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
4- سنن النسائي : 1 / 290 ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
5- سنن النسائي : 1 / 290 ، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.

سجدات ليس بينهما شيء. (1)

22. أخرج الحافظ عبد الرزاق عن داود بن قيس ، عن صالح مولى التوأمة انّه سمع ابن عباس يقول : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير سفر ولا مطر ، قال قلت لابن عباس : لم تراه فعل ذلك؟ قال : أراه للتوسعة على أمّته. (2)

23. أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر ، بالمدينة في غير سفر ولا خوف ، قال : قلت لابن عباس : ولِمَ تراه فعل ذلك؟ قال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمّته. (3)

24. أخرج عبد الرزاق عن عمرو بن دينار انّ أبا الشعثاء أخبره انّ ابن عباس أخبره ، قال : صلّيت وراء رسول الله ثمانيا جميعا وسبعا جميعا بالمدينة ، قال ابن جريح ، فقلت لأبي الشعثاء : أنّي لأظن النبي أخّر من الظهر قليلا وقدّم من العصر قليلا ، قال أبو الشعثاء : وأنا أظن ذلك. (4)

قلت : ما ظنّه ابن جريح وصدّقه أبو الشعثاء ظن لا يغني من الحقّ شيئا ، وحاصله : انّ الجمع كان صوريا لا حقيقيا. وسيوافيك ضعف هذا الحمل وانّ الجمع الصوري يوجب الإحراج أكثر من التفريق فإنّ معرفة أواخر الوقت من الصلاة الأولى وأوائله من الصلاة الثانية أشكل من الجمع.

25. أخرج عبد الرزاق عن عمرو بن شعيب ، عن عبد الله بن عمر قال : جمع لنا رسول الله مقيما غير مسافر بين الظهر والعصر فقال رجل لابن عمر : لِمَ

ص : 299


1- سنن النسائي : 1 / 286 ، باب الوقت الذي يجمع فيه المقيم والمراد من ثمان سجدات ثمان ركعات.
2- . مصنف عبد الرزاق : 2 / 555 _ 556 ، الحديث 4434 ، 4435.
3- . مصنف عبد الرزاق : 2 / 555 _ 556 ، الحديث 4434 ، 4435.
4- مصنف عبد الرزاق : 2 / 556 ، الحديث 4436.

ترى النبي فعل ذلك؟ قال : لأن لا يحرج أمّته إن جمع رجل. (1)

26. أخرج الطحاوي في « معاني الآثار » بسنده عن جابر بن عبد الله قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة للرخص من غير خوف ولا علّة. (2)

27. أخرج الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ( المتوفّى عام 430 ه ) عن جابر بن زيد انّ ابن عباس جمع بين الظهر والعصر ، وزعم انّه صلّى مع رسول الله بالمدينة الظهر والعصر. (3)

28. أخرج أبو نعيم عن عمرو بن دينار قال : سمعت أبا الشعثاء يقول : قال ابن عباس ( رض ) : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثماني ركعات جميعا وسبع ركعات جميعا من غير مرض ولا علّة. (4)

29. أخرج البزار في مسنده عن أبي هريرة قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الصلاتين في المدينة من غير خوف. (5)

30. أخرج الطبراني في الأوسط والكبير بسنده عن عبد الله بن مسعود قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم _ يعني بالمدينة _ بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فقيل له في ذلك ، فقال : صنعت ذلك لئلاّ تحرج أمّتي. (6)

هذه ثلاثون حديثا جمعناها من الصحاح والسنن والمسانيد ، وبسطنا الكلام في النقل ، ليقف القارئ على أنّها أحاديث اعتنى بنقلها حفّاظ المحدّثين وأكابرهم

ص : 300


1- مصنّف عبد الرزاق : 2 / 556 ، الحديث 4437.
2- معاني الآثار : 1 / 161.
3- حلية الأولياء : 3 / 90 باب جابر بن زيد.
4- حلية الأولياء : 3 / 90 باب جابر بن زيد.
5- مسند البزار : 1 / 283 ، الحديث رقم 421.
6- المعجم الكبير : 10 / 269 ، الحديث 10525.

ولا يمكن لأحد أن يتناكرها أو يرفضها ، وهناك روايات مبثوثة في كتب الحديث أعرضنا عن ذكرها لأجل الاختصار. (1)

وهذه الأسانيد المتوفرة تنتهي إلى الأشخاص التالية أسماؤهم :

1. عبد الله بن عباس حبر الأمّة.

2. عبد الله بن عمر.

3. أبو أيّوب الأنصاري مضيّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

4. أبو هريرة الدوسي.

5. جابر بن عبد الله الأنصاري.

6. عبد الله بن مسعود.

والروايات صريحة في أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جمع بالمدينة بين الصلاتين من غير خوف ولا مطر ولا علّة ، جمع لبيان جواز الجمع ومشروعيته لئلاّ يتوهّم متوهّم بأنّ التفريق فريضة لما كان صلى الله عليه وآله وسلم يستمر على التوقيت والإتيان في وقت الفضيلة ، ولكنّه بعمله أثبت انّ الجمع جائز وإن كان التوقيت أفضل.

تبريرات لرفض الجمع بين الصلاتين

اشارة

ولما كان مضمون الروايات مخالفا للمذاهب الفقهية الرائجة حاول غير واحد من المحدّثين وأهل الفتيا إخضاع الروايات على فتوى الأئمّة مكان أخذها مقياسا لتمييز الحقّ عن الباطل ، فترك كثير منهم العمل بهذه الروايات ، غير انّ

ص : 301


1- لاحظ المعجم الأوسط : 2 / 94 وكنز العمال : 8 / 246 _ 251 ، برقم (22764). و 22771 ، 22774 ، 22777 ، 22778 . 2276. و 22771 ، 22774 ، 22777 ، 22778.

لفيفا منهم عملوا بها وأفتوا على ضوئها ، ذكر أسماءهم ابن رشد في « بداية المجتهد » والنووي في « المجموع » على ما مرّ ، وإليك الأعذار التي التجأ إليها المخالف وهي أوهن من بيت العنكبوت.

1. ترك الجمهور العمل بها

إنّ ممّا يؤخذ على هذه الروايات ترك الجمهور للعمل بها ، وهو يوجب سقوط الاستدلال بها.

يقول الترمذي بعد ذكر أحاديث الجمع : والعمل على هذا عند أهل العلم :

أن لا يجمع بين الصلاتين إلاّ في السفر أو بعرفة. (1)

وقد ردّ عليه غير واحد من المحقّقين.

أ. يقول النووي : هذه الروايات الثابتة في مسلم كما تراها وللعلماء فيها تأويلات ومذاهب ، وقد قال الترمذي في آخر كتابه : ليس في كتابي حديث أجمعت الأمّة على ترك العمل به إلاّ حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر ، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة. (2)

وهذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله فهو حديث منسوخ دلّ الإجماع على نسخه ، وأمّا حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به بل لهم أقوال ، ثمّ ذكر بعض التأويلات التي نشير إليها. (3)

ب. وقال الشوكاني ردا على الترمذي : ولا يخفاك انّ الحديث صحيح ، وترك الجمهور للعمل به لا يقدح في صحته ولا يوجب سقوط الاستدلال به ، وقد أخذ

ص : 302


1- سنن الترمذي : 1 / 354.
2- لاحظ العلل : 2 / 331 و 4 / 384.
3- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 224.

به بعض أهل العلم كما سلف وإن كان ظاهر كلام الترمذي انّه لم يأخذ به ولكن قد أثبت ذلك غيره ، والمثبت مقدّم. (1)

ج. وقال الآلوسي : مذهب جماعة من الأئمة جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذ عادة ، وهو قول ابن سيرين ، وأشهب من أصحاب مالك ، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الإمام الشافعي ، وعن أبي إسحاق المروزي وعن جماعة من أصحاب الحديث ، واختاره ابن المنذر ، ويؤيده ظاهر ما صحّ عن ابن عباس ، ورواه مسلم أيضا ، انّه لما قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر : قيل له : لِمَ فعل ذلك؟ فقال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمّته.

وهو من الحرج بمعنى المشقة فلم يعلّله بمرض ولا غيره.

ويعلم ممّا ذكرنا أنّ قول الترمذي في آخر كتابه : ليس في كتابي حديث أجمعت الأمّة على ترك العمل به إلاّ حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ، ناشئ من عدم التتبع ، نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح فقد صرحوا بأنّه حديث منسوخ دلّ الإجماع على نسخه. (2)

د. وبهذه النقود ظهر انّه ليس هناك إعراض عن العمل بهذه الأحاديث ، ولعلّ عدم إفتاء الجمهور بمضمون هذه الأحاديث هو كون التوقيت والتفريق أحوط.

لكن هذا الاحتياط يخالف مع احتياط آخر ، وهو انّ التفريق في أعصارنا هذا

ص : 303


1- نيل الأوطار : 3 / 218 تحت باب جمع المقيم في مطر أو غيره.
2- روح المعاني : 15 / 133 _ 134 في تفسير الآية ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ).

أدى بكثير من أهل الأشغال إلى ترك الصلاة _ كما شاهدناه عيانا _ بخلاف الجمع فإنّه أقرب إلى المحافظة على أدائها ، وبهذا ينقلب الاحتياط إلى ضده ، ويكون الأحوط للفقهاء أن يفتوا العامة بالجمع وأن ييسّروا ولا يعسّروا _ ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (1) ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2) والدليل على جواز الجمع مطلقا موجود والحمد لله سنة صحيحة صريحة كما سمعت بل كتابا محكما مبيّنا. (3)

2. الحديث لا ينص على جمع التقديم والتأخير

قال القاضي شرف الدين الحسين بن محمد المغربي في كتابه « البدر التمام في شرح بلوغ المرام » : إنّ حديث ابن عباس لا يصح الاحتجاج به ، لأنّه غير معيّن لجمع التقديم والتأخير كما هو ظاهر رواية مسلم وتعيين واحد منها تحكم ، فوجب العدول إلى ما هو واجب من البقاء على العموم في حديث الأوقات للمعذور وغيره وتخصيص المسافر بثبوت المخصص. (4)

يلاحظ عليه : أنّ ابن عباس لم ينقل كيفية الجمع لوضوحها فان الجمع في الحضر كالجمع في السفر ، فكما أنّه يجوز في السفر بكلتا الصورتين جمع التقديم وجمع التأخير كما مرّ التنصيص به فيما سبق. (5) فكذلك في الحضر ، وسكوت ابن عباس وعدم سؤال الرواة عن الكيفية يعرب عن أنّهم فهموا من كلامه عدم

ص : 304


1- البقرة : 185.
2- الحج : 78.
3- مسائل فقهية : 9.
4- حكاه السيد محمد بن إسماعيل الصنعاني المعروف بالأمير في كتابه سبل السّلام : 2 / 43.
5- لاحظ الرواية 3 و 4 في فصل الجمع بين الصلاتين في السفر من الصنف الثاني ، ص 279.

الخصوصية لواحدة من الصورتين وإلاّ كان عليهم السؤال ثانيا من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع على نحو جمع التقديم أو جمع التأخير.

ويؤيد ذلك وحدة التعليل في كلام ابن عباس في الموردين.

أخرج مسلم عن ابن عباس انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، قال سعيد : فقلت لابن عباس : ما حمله على ذلك؟ قال : أراد أن لا يحرج أمّته. (1)

ويؤيد الإطلاق وعدم الفرق بين الصورتين هو عموم العلة وهو عدم الإحراج على الأمّة ورفع الحرج منه ، فالإحراج في الالتزام بالتفريق بين الصلاتين ورفعه يحصل بكلّ واحدة من الصورتين ، سواء أكانت جمع تقديم أم جمع تفريق.

أضف إلى ذلك انّ ابن عباس عمل بالحديث بصورة جمع التأخير ، فقد مرّ انّ ابن عباس خطب يوما بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون : الصلاة الصلاة ، فجاء رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني ويقول : الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتعلّمني بالسنّة لا أمّ لك إلى آخر ما مرّ من الحديث.

ولعمر القاري انّ المخالف لمّا وقف أمام هذه الروايات الهائلة الدالة على تجويز الجمع مقابل التفريق ورأى أنّ فقه الجمهور على الخلاف ، عمد إلى التشكيك بها ، ولذلك أتى بهذه الشبهة وهي أشبه بسؤال بني إسرائيل موسى بن عمران عن سن البقرة ولونها. (2)

ص : 305


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 224 ، باب الجمع بين الصلاتين ، ح 51.
2- سورة البقرة : 67 _ 71.

3. كان الجمع بين الصلاتين جمعا صوريا

اشارة

إنّ غير واحد ممّن تعرض لحلّ هذه الأحاديث التجأ إلى أنّ الجمع لم يكن جمعا حقيقيا كما في الجمع في السفر ، بل كان جمعا صوريا ، بمعنى انّه صلى الله عليه وآله وسلم أخّر الظهر إلى حد بقي من وقتها مقدار أربع ركعات فصلّى الظهر ، وبإتمامها دخل وقت العصر وصلّى العصر فكان جمعا بين الصلاتين مع أنّ كلّ واحدة من الصلاتين أتي بها في وقتها. وهذا هو الظاهر في غير واحد من شراح الحديث ، وإليك كلماتهم :

1. قال النووي : ومنهم من تأوّله على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلاّها فيه فلمّا فرغ منها دخلت الثانية فصلاّها فصارت صلاته صورة جمع.

ثمّ رده وقال : وهذا أيضا ضعيف أو باطل ، لأنّه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل ، وفعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطب ، واستدلاله بالحديث لتصويب فعله وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره ، صريح في ردّ هذا التأويل. (1)

وكان على النووي أن يرد عليه بما ذكرناه ، وهو انّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الصلاتين بغية رفع الحرج عن الأمّة ، والجمع بالنحو المذكور أكثر حرجا من التفريق.

قال ابن قدامة : إنّ الجمع رخصة ، فلو كان على ما ذكروه لكان أشد ضيقا وأعظم حرجا من الإتيان بكلّ صلاة في وقتها ، لأنّ الإتيان بكلّ صلاة في وقتها أوسع من مراعاة طرفي الوقتين بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلاّ قدر فعلها.

ص : 306


1- شرح صحيح مسلم : 5 / 225.

ثمّ لو كان الجمع هكذا ، لجاز الجمع بين العصر والمغرب ، والعشاء والصبح ولا خلاف بين الأمّة في تحريم ذلك والعمل بالخبر على الوجه السابق إلى الفهم منه أولى من هذا التكلّف. (1)

كما أنّ المقدسي في الشرح الكبير (2) ردّ على هذا التأويل بنفس ما ذكره ابن قدامة ، واللفظ في كلا الكتابين واحد ولذلك اقتصرنا بلفظ ابن قدامة.

نعم انّهما ردّا بما نقلناه عنهما على من فسّر جواز الجمع بين الصلاتين للمسافر بالجمع الصوري ، ولمّا كان ملاك الجمع في كلا المقامين ( المسافر والحاضر ) واحدا ، وهو رفع الحرج والمشقة عن الأمّة ، وكان الجمع الصوري محرجا على نحو أشد ، أثبتنا كلامهما في المقام أيضا.

ولأجل ما ذكرنا حمل الخطّابي الجمع في الرواية على الجمع الحقيقي دون الصوري ، فقال :

ظاهر اسم « الجمع » عرفا لا يقع على من أخّر الظهر حتّى صلاّها في آخر وقتها وعجّل العصر فصلاّها في أوّل وقتها ، لأنّ هذا قد صلّى كلّ صلاة منهما في وقتها الخاصّ بها.

قال : وإنّما الجمع المعروف بينهما أن تكون الصلاتان معا في وقت إحداهما ، ألا ترى أنّ الجمع بعرفة بينهما ومزدلفة كذلك. (3)

ص : 307


1- المغني : 2 / 113 _ 114 ، ذكره في نقد كلام من حمل الجمع بين الصلاتين في السفر ، ولما كان المناط واحدا نقلناه في المقام.
2- الشرح الكبير في ذيل المغني : 2 / 115.
3- معالم السنن : 2 / 52 ، ح 1163 ؛ عون المعبود : 1 / 468.
أدلّة الشوكاني على أنّ الجمع كان صوريّا

ثمّ إنّ الشوكاني ممّن يؤيّد تفسير الجمع بالجمع الصوري ، وأيّده بوجوه ثلاثة :

الأوّل : ما أخرجه مالك في الموطّأ والبخاري وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود ، قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى صلاة لغير ميقاتها إلاّ صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وصلّى الفجر يومئذ قبل ميقاتها.

قال الشوكاني : نفى ابن مسعود مطلق الجمع وحصره في جمع المزدلفة ، مع أنّه ممّن روى حديث الجمع بالمدينة كما تقدّم ، وهو يدلّ على أنّ الجمع الواقع بالمدينة جمع صوري ، ولو كان جمعا حقيقيا لتعارض روايتاه والجمع ما أمكن المسير إليه هو الواجب. (1)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّه لا يحتجّ به ، لأنّه حصر الجمع في المزدلفة مع تضافر الروايات على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم جمع في المزدلفة وعرفة ، فالحديث متروك الظاهر لا يعرّج عليه ، ولا يصحّ قرينة على المراد من الجمع في روايات المقام.

وثانيا : انّ ابن مسعود نفسه روى جمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين الصلاتين في المدينة وقال : جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فقيل له في ذلك ، فقال : صنعت ذلك لئلاّ تحرج أمّتي. (2)

وقد عرفت أنّ الجمع الصوري أشدّ حرجا من الجمع الحقيقي ، فإنّ معرفة أواخر الأوقات وأوائلها على وجه الضبط كان مشكلا في الأعصار السابقة ، فلا

ص : 308


1- نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار : 3 / 217. وفي المصدر « المصير » مكان « المسير ».
2- لاحظ الرواية برقم 30.

محيص من تفسير الجمع بالجمع الحقيقي ، وهذا دليل على أنّ رواية الحصر في المزدلفة متروكة لا يحتجّ بها.

الثاني : ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان يؤخّر الظهر ويعجّل العصر فيجمع بينهما ، ويؤخر المغرب ويعجّل العشاء فيجمع بينهما ، وهذا هو الجمع الصوري. (1)

يلاحظ عليه : أنّ الحديث وإن كان مشعرا بالجمع الصوري ولكنّه لا يؤخذ به ، وذلك لإجمال المراد منه ، فإن أراد أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك في السفر ، فقد تقدّم أنّ جمع الرسول بين الصلاتين في السفر ، كان جمعا حقيقيا.

روى مسلم عن أنس بن مالك أنّه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر ، ثمّ نزل فجمع بينهما. (2)

وفي رواية أخرى عنه : أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا عجّل عليه السفر يؤخر الظهر إلى أوّل وقت العصر فيجمع بينهما ، ويؤخّر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتّى يغيب الشفق. (3)

وإن أراد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الصلاتين بالجمع الصوري في الحضر ، فقد عرفت تضافر الروايات على الجمع الحقيقي ، حيث إنّ حديث ابن عباس وغيره صريح فيه وقرينة على حمل سائر الروايات على الحقيقي فلا يمكن أن يطرح حديث حبر الأمّة وعمله بحديث مجمل لابن عمر.

الثالث : ما أخرجه النسائي عن ابن عباس : صلّيت مع النبي الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا ، « أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل

ص : 309


1- نيل الأوطار : 3 / 217.
2- . شرح صحيح مسلم ، ج 5 ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر ، برقم 46 و 48.
3- . شرح صحيح مسلم ، ج 5 ، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر ، برقم 46 و 48.

العشاء » ، وهذا ابن عباس راوي حديث الباب قد صرّح بأنّ ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري. (1)

يلاحظ عليه : بأنّ التفسير _ أعني قوله : أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل العشاء _ ليس من ابن عباس ، بل من جابر بن زيد ، بقرينة ما أخرجه الإمام أحمد عن جابر بن زيد أنّه سمع ابن عباس يقول : صلّيت مع رسول الله ثمانيا جميعا وسبعا جميعا ، قلت له : يا أبا الشعثاء أظنّه أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل العشاء قال : وأنا أظن ذلك. (2)

وهذا دليل واضح على أنّ التفسير من أبي الشعثاء وأضرابه ، وما أوّلوه إلاّ لأنّهم اعتادوا على التوقيت والتفريق بين الصلوات ، فزعموا أنّ التوقيت فرض لا يترك ، ولمّا وقفوا على هذه الروايات الهائلة تحيّروا في مفاد الرواية واتخذ كلّ منهم مهربا ، وفسّره أبو الشعثاء بالجمع الصوري.

4. كان الجمع لعذر المطر

هذا هو التأويل الثالث الذي لجأ إليه من لم يجوز الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا.

قال النووي : منهم من تأوّله على أنّه جمع بعذر المطر ، وهذا مشهور عن جماعة من الكبار المتقدّمين ، ثمّ رد عليه بأنّه ضعيف بالرواية الأخرى من غير خوف ولا مطر. (3)

ص : 310


1- نيل الأوطار : 3 / 216.
2- مسند أحمد : 1 / 221.
3- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 225.

إنّ السبب لهذا النوع من التأويل هو تطبيق الرواية على فتوى الجمهور وإلاّ فالروايات صريحة في أنّ هذا الجمع كان بلا عذر ولو استقرأت نصوص الروايات التي نقلناها عن ابن عباس وغيره لوقفت على أنّ الجمع لم يكن لعذر بل كان لأجل رفع الحرج عن الأمة.

ففي بعضها : في غير خوف ولا سفر ( لاحظ الرواية رقم 1 ، 2 ، 15 ، 16 ، 18 ، و 23 ).

وفي بعض آخر : في غير خوف ولا مطر ( لاحظ الرواية رقم 3 ، 4 ، 11 ، (12). ).

(1). ).

وفي بعضها : في غير سفر ولا مطر ( لاحظ الرواية 22 ).

وفي بعضها : من غير خوف ولا علة ( لاحظ الرواية 26 ).

وفي بعضها : من غير مرض ولا علة ( لاحظ الرواية 28 ).

أضف إلى ذلك التعليل الوارد في الروايات الذي يرد هذا الاحتمال بوضوح ، وإليك نصها :

فقد علّل في بعض الروايات بقوله : ( أراد ان لا يحرج أحدا من أمّته ) ( لاحظ الرواية رقم 2 و (3). و 12 و 23 ).

(1). و 12 و 23 ).

وفي بعض آخر : لئلا يكون على أمته حرج ( لاحظ الرواية 19 ).

وفي بعض آخر : أراه للتوسعة على أمّته ( لاحظ الرواية 22 ).

وفي بعض آخر : لأن لا يحرج أمّته ان جمع رجل ( لاحظ الرواية 25 ).

وفي بعض آخر : لئلا تحرج أمّتي ( لاحظ الرواية 30 ).

فالناظر في هذه الروايات يذعن بأنّ الجمع لم يكن لعذر المطر والسفر والخوف ولا لعلة أخرى وانّ الصادق بالحق جمع بين الصلاتين في المدينة _ بلا أيّ

ص : 311

عذر _ بأمر من الله سبحانه ليتسع الأمر على أمّته ولئلا يتوهم متوهم انّ التوقيت فرض لا يمكن التخلّف عنه بل هو فضيلة لا تنكر ، ومع ذلك لكلّ واحد من آحاد الأمّة الجمع بين الصلاتين بلا توقيت.

5. كان الجمع للغيم في السماء

ومنهم من تأوّله على أنّه كان غيم فصلى الظهر ثمّ انكشف الغيم وبان انّ وقت العصر دخل فصلاها.

وهذا الاحتمال من الوهن بمكان وكفى في وهنه ما ذكره النووي حيث قال : إنّه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر ولكن لا احتمال فيه في المغرب والعشاء مع أنّ الجمع لم يكن مختصا بالظهرين بل جمع بين المغرب والعشاء حتّى انّ ابن عباس أخّر المغرب إلى وقت العشاء. (1)

أضف إلى ذلك انّه لو كان الجمع في هذه الحالة كان على الرواية التصريح بذلك أفيحتمل انّ حبر الأمة غفل عن القيد أو تذكر ولم ينقل وهكذا غيره نظراء أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود؟!

6. كان الجمع لمرض

وقد أوّله بعض من لا يروقه الجمع بين الصلاتين وقال بأنّ الرواية محمولة على الجمع بعذر المرض أو نحوه ، نقله النووي عن أحمد بن حنبل والقاضي حسين من الشافعية واختاره الخطابي والتولي والروياني من الشافعية. واختاره النووي

ص : 312


1- شرح صحيح مسلم : 5 / 225.

وقال : وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث ولفعل ابن عباس وموافقة أبي هريرة ، ولأنّ المشقة فيه أشدّ من المطر. (1)

يلاحظ عليه : بأنّه أيضا كسائر التأويلات في الوهن والسقوط ، وقد ورد في بعض الروايات من غير خوف ولا علة ، وفي البعض الآخر من غير مرض ولا علّة.

والذي يبطل ذلك هو انّ ابن عباس جمع بين المغرب والعشاء ولم يكن هناك مرض ولا مريض ، بل كان يخطب الناس وطال كلامه حتى مضى وقت الفضيلة للمغرب فصلّى المغرب مع العشاء في وقت واحد.

على أنّه لو كان التأخير للمرض ، فيجوز لخصوص المريض لا لمن لم يكن مريضا مع أنّ النبي جمع بين الصلاتين مع عامة أصحابه ، واحتمال انّ المرض عمّ الجميع بعيد غاية البعد. (2)

وبما ذكرنا صرّح الحافظ ابن حجر العسقلاني فقال : لو كان جمعه صلى الله عليه وآله وسلم بين الصلاتين لعارض المرض لما صلّى معه إلاّ من به نحو ذلك العذر ، والظاهر أنّه صلّى بأصحابه ، وقد صرّح بذلك ابن عباس في روايته. (3)

وهذا هو الخطابي يحكي في معالمه عن ابن المنذر انّه قال : ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار ، لأنّ ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهو قوله : « أراد أن لا تحرج أمّته » وحكي عن ابن سيرين انّه كان لا يرى بأسا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتّخذه عادة. (4)

وقال المحقّق لسنن الترمذي بعد نقل كلام الخطابي : وهذا هو الصحيح

ص : 313


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 226.
2- لاحظ نيل الأوطار للشوكاني : 3 / 216.
3- فتح الباري : 2 / 24.
4- معالم السنن : 1 / 265.

الذي يؤخذ من الحديث ، وأمّا التأوّل بالمرض أو العذر أو غيره فإنّه تكلّف لا دليل عليه ، وفي الأخذ بهذا رفع كثير من الحرج عن أناس قد تضطرهم أعمالهم أو ظروف قاهرة إلى الجمع بين الصلاتين ويتأثّمون من ذلك ويتحرّجون وفي هذا ترفيه لهم وإعانة على الطاعة ما لم يتّخذه عادة كما قال ابن سيرين. (1)

وما ذكره هو الحقّ ولكنّه تضييق أيضا لما وسّعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحصر الجمع بمن له حاجة مع أنّ النبي بإذن من الله وسّع على وجه الإطلاق سواء أكانت هناك علة أو لا.

نعم لا شكّ انّ التوقيت أفضل ومن أتى بكلّ صلاة في وقتها ( وقت الفضيلة ) أفضل من إتيانها في الوقت المشترك ، ومع ذلك فمجال الإتيان في الشريعة أوسع.

7. كان الجمع لأحد الأعذار المبهمة

لما كان تعيين العذر المسوّغ للجمع ، أمرا مشكلا سلك بعضهم مسلك الإبهام والإجمال وانّ الجمع كان لأحد الأعذار المسوّغة ، من دون تعيين.

وممّن عرّج على هذا الاحتمال مفتي السعودية السابق عبد العزيز بن باز في تعليقة مختصرة له على « فتح الباري بشرح صحيح البخاري » فهو لمّا ضعّف مختار ابن حجر في تفسير الجمع ( الجمع الصوري ) بقوله هذا الجمع ضعيف ، قال :

الصواب حمل الحديث المذكور على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الصلوات المذكورة لمشقّة عارضة ذلك اليوم من مرض غالب أو برد شديد أو وحل ونحو ذلك ، ويدلّ على ذلك قول ابن عباس ، لمّا سئل عن علّة هذا الجمع ، قال : لئلاّ يحرج أمّته

ص : 314


1- سنن الترمذي : 1 / 358 ، قسم التعليقة بقلم أحمد محمد شاكر.

ثمّ استحسن هذا الجمع وقال : وهو جواب عظيم سديد شاف. (1)

يلاحظ عليه : أنّ هذا الجمع كالجمع الذي ضعّفه في الضعف والوهن سواء ، وذلك لأنّه يخالف رواية ابن عباس وعمله ، فإنّه جمع بين الصلاتين في البصرة من دون أن يكون هناك مرض غالب أو برد شديد أو وحل.

أضف إلى ذلك إطلاق التعليل ، أعني : رفع الحرج عن الأمّة ، فإنّ الحرج لا يختصّ بصور الأعذار ، بل يعمّ إلزام الناس بالتفريق بين الصلوات على وجه الإيجاب عبر الحياة.

إنّ لابن الصدّيق في تأليفه المنيف المسمّى ب_ « إزالة الحظر عمّن جمع بين الصلاتين في الحضر » هنا كلاما لا بأس بإيراده هنا :

قال : إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صرّح بأنّه فعل ذلك ليرفع الحرج عن أمّته وبيّن لهم جواز الجمع إذا احتاجوا إليه. فحمله على المطر بعد هذا التصريح من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الذين رووه ، تعسف ظاهر ، بل تكذيب للرواة ومعارضة لله والرسول ، لأنّه لو فعل ذلك للمطر لما صرّح النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بخلافه ، ولما عدل الرواة عن التعليل به ، إلى التعليل بنفي الحرج ، كما رووا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يأمر المنادي أن ينادي في الليلة المطيرة : « ألا صلّوا في الرحال » ولم يذكروا ذلك في الجمع فكيف وقد صرّحوا بنفي المطر؟!

وأضاف أيضا وقال : إنّ ابن عباس الراوي لهذا الحديث أخّر الصلاة وجمع لأجل انشغاله بالخطبة ، ثمّ احتجّ بجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجوز أن يحتجّ بجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمطر _ وهو عذر بيّن ظاهر _ على الجمع لمجرّد الخطبة أو الدرس الذي في

ص : 315


1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري : 2 / 24 ، بتعاليق عبد العزيز بن باز.

إمكانه أن يقطعه للصلاة ثمّ يعود إليه أو ينتهي منه عند وقت الصلاة ولا يلحقه فيه ضرر ولا مشقة كما يلحق الإنسان في الخروج في حالة المطر والوحل. (1)

حصيلة الكلام : انّ هذا التشريع من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله سبحانه أضفى للشريعة مرونة قابلة للتطبيق على مرّ العصور وعلى كافة أصعدة الحياة المتطورة مهما تطورت.

فمن ألقى نظرة فاحصة على الحياة المتطورة في الغرب الصناعي يقف على أنّ التفريق بين الصلاتين _ خصوصا الظهر والعصر _ أمر شاق على المسلمين خاصة العمال والموظفين بنحو ينتهي الأمر ، إمّا إلى تحمل المشقة الكبيرة ، أو ترك الصلاة من رأس ، وربما ينجر الأمر إلى الإعراض عن الفريضة.

إنّ لفقهاء السنّة الواعين أن يأخذوا بنظر الاعتبار السماحة التي نادى بها الإسلام في اجتهاداتهم ، والسعة التي جاءت بها الأخبار في حساباتهم ، وأن يعلنوا للملإ بصراحة انّ الجمع بين الظهرين والعشاءين أمر مسموح به موافق للشريعة وإن كان التوقيت أفضل ، فمن فرّق فله فضل التوقيت ، ومن جمع فقد أدّى الفريضة وأخذ بالسعة والسماحة.

ص : 316


1- إزالة الحظر عمّن جمع بين الصلاتين في الحضر : 116 _ 120.

أسئلة وأجوبة

اشارة

ثمّ إنّ من لم يجوّز الجمع بين الصلاتين ، اعترض على الاحتجاج برواية ابن عباس وغيره بوجوه نذكرها مع تحليلها.

الأوّل : الجمع وحديث « حنش »

أخبار الجمع يعارضها ما أخرجه الترمذي عن حنش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر. (1)

أقول : كفى في ضعفه انّ في سنده حنش ، وهو لقب حسين بن قيس الرحبي الواسطي وهو ضعيف للغاية.

قال أحمد : متروك ، وقال البخاري : أحاديثه منكرة ولا يكتب حديثه.

وقال أبو زرعة وابن معين : ضعيف ، وقال النسائي : ليس بثقة.

وقال مرة : متروك. وقال السعدي : أحاديثه منكرة جدا ، وقال الدارقطني :

متروك وعدّ الذهبي من مناكيره هذا الحديث. (2)

وقال العقيلي في حديثه : « من جمع بين صلاتين فقد أتى بابا من الكبائر » لا يتابع عليه ولا يعرف إلاّ به ، ولا أصل له ، وقد صحّ عن ابن عباس انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 317


1- سنن الترمذي : 1 / 356.
2- ميزان الاعتدال : 1 / 546 ، الترجمة رقم 2043.

جمع بين الظهر والعصر. (1)

أضف إلى ذلك انّ في سنده أيضا عِكْرمة ، وهو ضعيف لا يحتج بحديثه.

الثاني : الجمع وحديث ليلة التعريس

وربّما تتوهّم المعارضة بين ما دلّ على جواز الجمع بين الصلاتين جمعا حقيقيا وما رواه مسلم من حديث ليلة التعريس نقله الآلوسي في تفسيره عن ابن الهمام بقوله : قال ابن الهمام : إنّ حديث ابن عباس معارض بما في مسلم في حديث ليلة التعريس أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليس في النوم تفريط وإنّما التفريط في اليقظة أن يؤخّر الصلاة حتّى يدخل وقت صلاة أخرى ».

قال الآلوسي بعد نقل كلام ابن الهمام : وللبحث في ذلك مجال. (2)

وفي الاستدلال _ كما ذكره الآلوسي _ مجال للبحث بل للرّدّ.

أوّلا : إنّ حديث التعريس لا يشمل جمع التقديم ، بل يختصّ بجمع التأخير حيث قال : « يؤخّر الصلاة حتّى يدخل وقت صلاة أخرى ».

ثانيا : إنّ فعل ابن عباس رضي الله عنه حاك عن أنّ جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الصلاتين كان جمع تأخير على ما رواه مسلم كما مرّ ، وفيه : خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون : الصلاة الصلاة ، قال : فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني : الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتعلّمني بالسنة لا أمّ لك ، ثمّ قال : رأيت رسول الله جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فقال عبد الله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك

ص : 318


1- تهذيب التهذيب : 1 / 538.
2- روح المعاني : 15 / 134 في تفسير آية ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )

شيء فأتيت أبا هريرة ، فسألته فصدّق مقالته ». (1)

فأي الحديثين أولى بالأخذ؟

والحديث محمول على تأخير صلاة العشاء حتّى يدخل وقت صلاة الفجر لا تأخيره إلى نهاية الوقت ويؤيّده ورود الرواية في ليلة التعريس الّتي ينشغل فيها الإنسان بأمور حتى يدخل وقت صلاة الفجر.

الثالث : حديث حبيب بن أبي ثابت لا يحتجّ به

إنّ الرواية الثالثة التي أخرجها مسلم ، ورد في سندها حبيب بن أبي ثابت قال في حقّه الخطابي في معالم السّنن : هذا حديث لا يقول به أكثر الفقهاء ، وإسناده جيّد إلاّ ما تكلّموا من أمر حبيب. (2)

يلاحظ عليه : بأنّ ما ذكره من أنّ الحديث لا يقول به أكثر الفقهاء حق ، ولكن يقول به كثير من الفقهاء ومن يؤخذ عنه الفتوى وقد مرّت أسماؤهم ، وأمّا عدم أخذ الأكثر به فقد عرفت أنّ الوجه في عدم الأخذ إمّا لكون التفريق موافقا للاحتياط أو كونه مخالفا لما استمرّ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أمّا الاحتياط فقد مرّ أنّ الإفتاء بلزوم التفريق في ظروفنا هذه على خلاف الاحتياط ، لأنّه ربما ينتهي الأمر بسببه إلى ترك الصلاة رأسا.

وأمّا فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد عرفت أنّه جمع أيضا ، ليفهم الأمّة على أنّ استمراره على التفريق سنّة مؤكّدة وليست بفرض.

وأمّا ما ذكر من أنّهم تكلّموا في حبيب بن أبي ثابت ، فهو يخالف ما ذكره

ص : 319


1- لاحظ الرواية برقم 6.
2- معالم السنن : 2 / 55 ، رقم 1167.

الذهبي في « ميزان الاعتدال » ، حيث قال : احتجّ به كلّ من أفراد الصحاح بلا تردّد وقال : وثّقه يحيى بن معين وجماعة. (1)

على أنّ الرواية في أحد الصحيحين اللّذين اتّفق الجمهور على صحّة أحاديثهما والعمل بما ورد فيهما.

وفي الختام نأتي بحديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي نقله الفريقان قال صلى الله عليه وآله وسلم « إنّ هذا الدّين متين فأوغل فيه برِفْق ولا تبغّض إلى نفسك عبادة ربّك ، فان المنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع ». (2)

ص : 320


1- ميزان الاعتدال : 1 / 451 برقم 1690.
2- روى الفريقان هذا الحديث بصيغ مختلفة بهذا المضمون اخترنا منها ما يلي : الكافي : 2 / 87 ، الحديث 6 ، باب الاقتصاد في العبادة ، السنن الكبرى : 3 / 18 ، مسند أحمد : 3 / 199.

8. القصر في السفر

اشارة

ص : 321

ص : 322

هل القصر في السفر

عزيمة أو رخصة؟

اتّفق المسلمون تبعا للكتاب العزيز والسنّة النبوية على مشروعية القصر في السفر وإن لم يكن معه خوف.

إنّما الكلام في أنّ القصر في السفر عزيمة ، أو سنّة مؤكدة ، أو رخصة؟!

هنا أقوال ثلاثة نشير إليها بالتفصيل :

ذهبت الإمامية والحنفية إلى أنّها عزيمة ، وإنّ فرض المسافر في كلّ صلاة رباعية ركعتان.

وقالت المالكية : القصر سنّة مؤكدة لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّه لم ير منه في أسفاره أنّه أتمّ الصلاة.

اخرج الشيخان عن ابن عمر انّه قال : صحبت النبي فكان لا يزيد في السفر على ركعتين ، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك. (1)

وقالت الشافعية والحنابلة : القصر رخصة على سبيل التخيير ، فللمسافر أن يتمّ أو يقصر.

ص : 323


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 205 ، باب صلاة المسافرين وقصرها من كتاب الصلاة برقم 8.

قال الشيخ الطوسي في « الخلاف » : التقصير في السفر فرض وعزيمة ، والواجب في هذه الصلوات الثلاث : الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتان ، فإن صلّى أربعا مع العلم وجب عليه الإعادة.

وقال أبو حنيفة مثل قولنا : إلاّ أنّه قال : إن زاد على ركعتين ، فإن كان تشهد في الثانية صحّت صلاته وما زاد على اثنتين يكون نافلة إلاّ أن يأتم بمقيم فيصلي أربعا فيكون الكل فريضة أسقط بها الفرض.

والقول بأنّ التقصير عزيمة مذهب علي عليه السلام وعمر ، وفي الفقهاء مذهب أبي حنيفة وأصحابه.

وقال الشافعي : هو بالخيار بين أن يصلّي صلاة السفر ركعتين وبين أن يصلّي صلاة الحضر أربعا ، فيسقط بذلك الفرض عنه.

وقال الشافعي : التقصير أفضل.

وقال المزني : والإتمام أفضل ، وبمذهبه قال في الصحابة : عثمان وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعائشة ، وفي الفقهاء : الأوزاعي وأبو ثور. (1)

هذه هي الأقوال.

ثمّ إنّ البحث في صلاة المسافر واسع المجال ، فيبحث فيها تارة عن المسافة التي يجوز فيها القصر ، وأخرى عن نوع السفر وانّه هل يختص القصر بالسفر المباح أم يعم سفر المعصية أيضا؟ وثالثة في الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالقصر ؛ ورابعة في مقدار الزمان الذي يتمّ فيه المسافر إذا أقام في موضع ، فهناك من يقول يكفي نيّة إقامة أربعة أيام كالمالكية والشافعية (2) ، وهناك من يقول بأنّه

ص : 324


1- الخلاف : 1 / 569 ، كتاب الصلاة ، المسألة 321.
2- الفقه الإسلامي وأدلّته : 2 / 338 _ 339 ، نقلا عن الشرح الكبير ومغني المحتاج.

يقصر إلاّ إذا نوى إقامة عشرة أيّام كما عليه الإمامية ، إلى غير ذلك من المباحث الراجعة إلى صلاة المسافر ، ونحن نركز على موضع آخر وهو كون القصر عزيمة أو سنّة مؤكّدة أو رخصة. ولا ندخل في المواضع الأربعة كما لا ندخل في مبحث شروط القصر التي ذكرها الفقهاء ، فان البحث في هاتيك المواضيع يحوجنا إلى تأليف كتاب مفرد وقد قمنا بتحريرها في كتاب « ضياء الناظر في صلاة المسافر » المطبوع.

إذا عرفت ذلك فلندخل في صلب الموضوع فنقول :

أمّا الكتاب فقد قال سبحانه : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ). (1)

تفسير مفردات الآية

1. الضرب في الأرض كناية عن السفر ، أي إذا سرتم فيها فليس عليكم جناح _ يعني : حرج _ ولا إثم أن تقصروا من الصلاة _ يعني : من عددها _ فتصلّوا الرباعيات ركعتين. (2)

وبهذا أيضا فسر القرطبي في « الجامع لأحكام القرآن » (3) ويؤيد ذلك استعمال الضرب في الأرض في غير واحد من الآيات كقوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا ). (4)

ص : 325


1- النساء : 101.
2- التبيان في تفسير القرآن : 3 / 307.
3- الجامع لأحكام القرآن : 5 / 351.
4- النساء : 94.

وقال سبحانه ( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ). (1)

وقال سبحانه ( إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ). (2)

2. وأمّا الجناح فهو بمعنى الإثم كما تقدّم في عبارة الشيخ في « التبيان » ، وقد تضافر استعماله في الإثم في آيات كثيرة.

يقول سبحانه ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ). (3)

وقد ورد لفظة « جناح » في الكتاب العزيز 25 مرة ، والمقصود في الجميع هو ما ذكرنا.

3. انّ قوله ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) جزاء للشرط المتأخر ، فكأنّه قال سبحانه : « إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ».

4. المراد من القصر هو تخفيف عدد الركعات من أربع ركعات إلى ركعتين ، وربما يفسر بتخفيف كيفية الصلاة ووصفها من تبدّل الركوع والسجود إلى الإيماء أو الإتيان بالصلاة راكبا أو ماشيا حسب ما تقتضيه الظروف ، كما ورد في صلاة الخوف والمطاردة والمسايرة.

نسب ذلك المعنى في بعض الروايات إلى ابن عباس وابن جريح عن ابن طاوس عن أبيه ، ومال إليه أبو بكر الجصاص في تفسيره. (4)

ص : 326


1- المائدة : 106.
2- آل عمران : 156.
3- البقرة : 158.
4- أحكام القرآن : 2 / 259.

وربما يظهر من السيد المرتضى في « انتصاره » (1) والقطب الراوندي في « فقه القرآن ». (2)

ولكن المعروف بين المفسرين وعليه روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام هو انّ المراد من القصر هو تخفيف ركعات الصلوات الرباعية ، وعلى ذلك فلفظة « من » في قوله : « من الصلاة » تبعيضية أي شيئا من الصلاة.

وأمّا جعل من زائدة حسب ما نقله أبو البقاء عن الأخفش القائل بزيادتها في الإثبات فهو غير لائق بالكتاب العزيز. (3)

ثمّ إنّ الآية تخصّ القصر بالسفر المرافق للخوف ، وظاهرها انّ السفر ليس موضوعا مستقلا ، بل الموضوع هو السفر المرافق للخوف ، لكنّ السنّة فسرت الآية وأعطت للسفر استقلالا للتقصير.

فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصر في حالتي الخوف والأمن كما ستوافيك رواياته ، وأمّا تعليق القصر على الخوف في الآية كأنّه كان لتقرير الحالة الواقعة ، لأنّ غالب أسفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تخلو منه.

وبعبارة أخرى : انّ القيد في الآية قيد غالبي بالنسبة إلى الظروف التي نزلت الآية فيها ، فمن حاول أن يحصر التقصير بسفر الخوف دون سفر الأمن ، فقد أخذ بظاهر الآية وترك السنّة النبوية واتّفاق المسلمين وفي مقدمهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام الذين عرّفهم الرسول بكونهم أعدال القرآن وقرناء الكتاب.

ثمّ إنّ من زعم انّ القصر رخصة تمسّك بظاهر الآية وهو قوله سبحانه :

ص : 327


1- الانتصار : 53.
2- فقه القرآن : 4 / 516.
3- نقله عن أبي البقاء الآلوسي في روح المعاني : 5 / 131.

( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) ، ولكنّه غفل عن أنّ هذا التعبير لا يدلّ على مقصوده ، لأنّ الآية وردت في مقام رفع توهم الحظر ، فكأنّ المخاطب يتصوّر انّ القصر إيجاد نقص في الصلاة وهو أمر محظور ، فنزلت الآية لدفع هذا التوهم ، لتطيب النفس بالقصر وتطمئن إليه. (1)

وليس ذلك بغريب فقد ورد مثله في قوله سبحانه ( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ ). (2)

فان المسلمين لمّا أرادوا الطواف بين الصفا والمروة في عمرة القضاء شاهدوا وجود الأصنام فوق الصفا والمروة ، فتحرّج المسلمون من الطواف بينهما ، فنزل قوله سبحانه ( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ).

يقول الطبرسي : كان على الصفا صنم يقال له : إساف وعلى المروة صنم يقال له : نائلة ، وكان المشركون إذا كانوا بهما مسحوهما ، فتحرّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهو منقول عن الشعبي وكثير من العلماء ، فرجع رفع الجناح عن الطواف بهما إلى تحرّجهم عن الطواف بهما لأجل الصنمين لا إلى عين الطواف ، كما لو كان الإنسان محبوسا في موضع لا يمكنه الصلاة إلاّ بالتوجه إلى ما يكره التوجه إليه من المخرج وغيره ، فيقال له : لا جناح عليك في الصلاة إلى ذلك المكان ، فلا يرجع رفع الجناح إلى عين الصلاة ، لأنّ عين الصلاة واجبة وإنّما يرجع التوجّه إلى ذلك المكان.

ورويت رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام انّه كان ذلك في عمرة القضاء ،

ص : 328


1- الكشاف : 1 / 294 ، ط دار المعرفة.
2- البقرة : 158.

وذلك انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام ، فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام ، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل له : إنّ فلانا لم يطف وقد أعيدت الأصنام ، فنزلت هذه الآية ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) أي والأصنام عليهما ، قال : فكان الناس يسعون والأصنام على حالها. (1)

ويجري نفس هذا الكلام في المقام ، فان قصر الصلاة وتبديلها إلى ركعتين من الأمور التي يتحرّج به المسلم ويتصوّر انّه ترك للفريضة ، ففي هذه الظروف يقول سبحانه ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ).

وعلى ضوء هذا فالآية لا تدلّ على العزيمة ولا على الرخصة ، بل هي ساكتة عن هذا الجانب.

إلى هنا تبين انّ الآية لا تدلّ على أحد الأقوال ، فلا محيص من الرجوع إلى السنّة.

أدلّة القول بأنّ القصر عزيمة

دلّت السنّة المتضافرة المبثوثة في الصحاح والسنن والمسانيد على أنّ القصر عزيمة ، وكان النبي يقصر في عامّة أسفاره ، فنذكر من الكثير ما يلي :

1. أخرج مسلم عن عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم انّها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. (2)

قال الشوكاني : وهو دليل ناهض على الوجوب ، لأنّ صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها كما أنّها لا تجوز الزيادة على الأربع في الحضر.

ص : 329


1- مجمع البيان : 1 / 240 في تفسير الآية.
2- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 201 ؛ وصحيح البخاري : 2 / 55 ، باب يقصر إذا خرج من موضعه من كتاب الصلاة.

ثمّ إنّ بعض من يحاول إخضاع الرواية على فقه إمام مذهبه ناقش فيها بوجوه واهية ، نقلها الشوكاني في كتابه ، وإليك نصها :

أ. انّ الحديث من قول عائشة غير مرفوع ، وانّها لم تشهد زمان فرض الصلاة وانّه لو كان ثابتا لنقل تواترا.

يلاحظ عليه : بأنّ مقتضى عدالة الراوي هو انّه سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو من عدل آخر سمعه منه.

ولو اقتصرنا في الأخذ بروايات عائشة على زمن ملازمتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لسقط قسط كبير من رواياتها عن الاعتبار ، فإنّها كثيرا ما تروي حوادث لم تشاهدها ، ونذكر في المقام كنموذج رواية كيفية نزول الوحي على النبي ، نقلها البخاري في صحيحه على وجه التفصيل.

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجاور في حراء من كلّ سنة شهرا حتّى إذا كان الشهر الذي بعثه الله سبحانه فيه خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حراء حتّى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ، جاءه جبرئيل بأمر الله ، ولنترك وصف ذلك إلى ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله :

« فجاءني جبرئيل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ؟ قلت : ما اقرأ؟

فغتني به حتى ظننت انّه الموت ثمّ أرسلني فقال : اقرأ؟ قال : قلت : ما أقرأ؟

قال : فغتني به حتى ظننت انّه الموت ثمّ أرسلني فقال : اقرأ؟ قال : قلت : ما ذا أقرأ. (1)

ترى أنّها كيف ترسل كيفية نزول الوحي على الرسول مع أنّها لم

ص : 330


1- صحيح البخاري : 1 / 3 و 3 / 173 في تفسير سورة العلق.

تولد يوم ذلك.

ب. انّ المراد بقولها : فرضت ، أي قدرت.

ج. المراد من قولها : فرضت ، يعني : لمن أراد الاقتصار عليها ، فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار. (1)

يلاحظ عليهما : أنّ كلا من الوجهين صرف للدليل عن وجهه ، وهو تفسير بالرأي ، وهو أمر مرفوض من غير فرق بين تفسير كلام الله سبحانه أو كلام نبيه أو كلام غيره.

2. أخرج مسلم عن عائشة أنّ الصلاة أوّل ما فرضت ركعتين فأقرّت صلاة السفر وأتمّت صلاة الحضر. قال الزهري : فقلت لعروة : ما بال عائشة تتمّ في السفر؟ قال : إنّها تأوّلت كما تأوّل عثمان. (2)

وسيوافيك الكلام في إتمام عائشة في السفر.

3. أخرج مسلم عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة.

4. أخرج مسلم عن موسى بن سلمة الهذلي ، قال : سألت ابن عباس كيف أصلّي إذا كنت بمكة إذا لم أصلّ مع الإمام؟

فقال : ركعتين ، سنّة أبي القاسم.

5. أخرج مسلم عن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال : صحبت ابن عمر في طريق مكة ، قال : فصلّى لنا الظهر ركعتين.

ص : 331


1- نيل الأوطار : 3 / 201.
2- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 201.

إلى أن قال : إنّي صحبت رسول الله في السفر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله ، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله ، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله ، ثمّ صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتّى قبضه الله ، فقد قال الله ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ).

6. أخرج مسلم عن أنس انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى الظهر بالمدينة أربعا ، وصلّى العصر بذي الحليفة ركعتين.

7. أخرج مسلم عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ « شعبة الشاك » صلّى ركعتين.

وظاهر الحديث انّ مبدأ القصر بعد الخروج مسيرة ثلاثة أميال ، والمشهور على خلافه.

قال النووي : هذا ليس على سبيل الاشتراط وإنّما وقع بحسب الحاجة ، لأنّ الظاهر من أسفاره انّه ما كان يسافر سفرا طويلا فيخرج عند حضور فريضة مقصورة ويترك قصرها بقرب المدينة ويتمّها ، وإنّما كان يسافر بعيدا من وقت المقصورة فتدركه على ثلاثة أميال أو أكثر أو نحو ذلك فيصلّيها حينئذ ، والأحاديث المطلقة مع ظاهر القرآن متعاضدات على جواز القصر من حين يخرج من البلد فإنّه حينئذ يسمّى مسافرا. (1)

8. أخرج مسلم عن جبير بن نفير قال : خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا ، فصلّى ركعتين ، فقلت له فقال :

ص : 332


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 207.

رأيت عمر صلّى بذي الحليفة ركعتين ، فقلت له فقال : إنّما أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل.

والحديث دالّ على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقصر في السفر دائما ، وانّما الاختلاف في أنّ مبدأ القصر هو الخروج عن البلد كما جرى عليه عمر أو بعد الخروج مسيرة ثمانية عشر ميلا.

قال النووي : أمّا قوله : « قصر شرحبيل على رأس 17 ميلا أو 18 ميلا » فلا حجة فيه ، لأنّه تابعي فعل شيئا يخالف الجمهور ، أو يتأوّل على أنّها كانت في أثناء سفره لا انّها غايته ، وهذا التأويل ظاهر. (1)

وعلى كلّ تقدير فما هو موضع الخلاف خارج عن إطار بحثنا.

9. أخرج مسلم عن أنس بن مالك قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة إلى مكة فصلّى ركعتين ركعتين حتّى رجع ، قلت : كم أقام بمكة؟ قال : عشرا.

ثمّ إنّ قصر النبي في مكة مع إقامته فيها عشرة أيّام وإن كان يوافق بعض المذاهب لكنّه يخالف مذهب الإمام مالك ، كما يخالف مذهب الإمامية ، فإنّ نية العشرة قاطعة للسفر موجبة للإتمام ، ولعلّ الإقامة لم تكن عشرة كاملة بالضبط بل كانت عشرة عرفية وربما تنقص عن العشرة التامة.

هذه الأحاديث التسعة نقلها مسلم في صحيحه ، وإليك بعض ما نقله غيره.

10. أخرج أبو داود عن عمران بن الحصين ، قال : غزوت مع رسول الله

ص : 333


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 208.

وشهدت معه الفتح فأقام بمكة 18 ليلة لا يصلي إلاّ ركعتين ، ويقول : يا أهل البلد صلّوا أربعا فانّا قوم سفر. (1)

ويؤخذ من الحديث صدره ، وأمّا ما نسب إلى النبي أنّه أقام 18 ليلة لا يصلّي إلاّ ركعتين ، فهو معارض مع ما نقله أنس من أنّه أقام بمكة 10 أيام.

وعلى كلّ تقدير انّ تأكيد النبي على القصر في مكة المكرمة طول إقامته فيها _ مع أنّه كان بصدد تعليم أحكام الصلاة لأهل مكة الذين كانوا يدخلون في دين الله أفواجا _ دليل على كون القصر عزيمة ، وإلاّ لأتمّ الصلاة ، لكونه أوفق في مقام التعليم ، لأجل وحدة الإمام مع صلاة المأموم في الكم والكيف.

11. أخرج ابن ماجة في سننه عن عمر أنّه قال : صلاة السفر وصلاة الجمعة ركعتان ، والفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (2)

12. أخرج الطبراني عن ابن عباس قال : افترض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعا. (3)

وهناك آثار مبثوثة في الكتب الفقهية ، وإليك نصّها :

13. روي عن صفوان بن محرز انّه سأل ابن عمر عن الصلاة في السفر ، فقال : ركعتان فمن خالف السنّة كفر. (4)

14. وروي عن ابن عمر قال : إنّ رسول الله أتانا ونحن ضلال فعلّمنا ، فكان فيما علّمنا أنّ الله عزّ وجل أمرنا أن نصلّي ركعتين في السفر. (5)

ص : 334


1- سنن أبي داود : 2 / 10 ، برقم 1229 ؛ وسنن الترمذي : 2 / 430 برقم 545.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 338 ، برقم 1036.
3- نصب الراية : 2 / 189.
4- المغني : 2 / 107.
5- نيل الأوطار : 3 / 204 ، قال : رواه النسائي.

15. وقال عمر بن عبد العزيز : الصلاة في السفر ركعتان حتم لا يصلح غيرها. (1)

16. وعن عمر بن الخطاب عن النبي قال : صلاة المسافر ركعتان حتّى يئوب إلى أهله أو يموت. (2)

17. عن إبراهيم انّ عمر بن الخطاب صلّى الظهر بمكة ركعتين فلما انصرف قال : يا أهل مكة إنّا قوم سفر ، فمن كان منكم من أهل البلد فليكمل ، فأكمل أهل البلد. (3)

18. عن أبي الكنود عبد الله الأزدي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال : ركعتان نزلتا من السماء ، فإن شئتم فردّوهما. (4)

والحديث يكشف عن وجود نزاع قائم على قدم وساق بين التابعين والصحابة.

19. عن الصائب بن يزيد الكندي ، قال : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ثمّ زيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر. (5)

20. عن ابن مسعود قال : من صلّى في السفر أربعا أعاد الصلاة. (6)

21. عن سلمان قال : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فصلاّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكّة حتّى قدم المدينة فصلاّها بالمدينة ما شاء الله ، وزيد في صلاة الحضر

ص : 335


1- المغني : 2 / 108 ؛ المحلى : 4 / 271.
2- أحكام القرآن : 2 / 254.
3- الآثار : (30). لأبي يوسف كما في الغدير : 8 / 113.
4- مجمع الزوائد : 2 / 154 ، قال : ورجاله موثقون.
5- مجمع الزوائد : 2 / 155 ، ومرّ نظير هذا الحديث عن عائشة.
6- مجمع الزوائد : 2 / 155.

ركعتين وتركت الصلاة في السفر على حالها. (1)

22. عن جعفر بن عمر قال : انطلق بنا أنس بن مالك إلى الشام إلى عبد الملك ونحن أربعون رجلا من الأنصار ليفرض لنا ، فلمّا رجع وكنّا بفج الناقة صلّى بنا الظهر ركعتين ، ثم دخل فسطاطه وقام القوم يضيفون إلى ركعتيهم ركعتين أخريين ، فقال : قبح الله الوجوه فو الله ما أصابت السنّة ولا قبلت الرخصة ، فاشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « إنّ أقواما يتعمّقون في الدين ، يمرقون كما يمرق السهم من الرميّة ». (2)

23. عن ثمامة بن شراحيل قال : خرجت إلى ابن عمر فقلت : ما صلاة المسافر؟ قال : ركعتين ركعتين إلاّ صلاة المغرب ثلاثا. إلى آخر الحديث. (3)

24. عن أبي هريرة قال : أيّها الناس إنّ الله عزّ وجلّ فرض لكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في الحضر أربعا. (4)

25. عن ابن حرب قال : سألت ابن عمر ، كيف صلاة السفر يا أبا عبد الرحمن؟ قال : إمّا أنتم تتبعون سنّة نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم أخبرتكم ، وإمّا لا تتبعون سنّة نبيّكم فلا أخبركم؟ قلنا : فخير ما اتّبع ، سنة نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من المدينة لم يزد على ركعتين حتّى يرجع إليها. (5)

26. عن سعيد بن المسيب ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : « خياركم من قصّر في السفر وأفطر ». (6)

ص : 336


1- المصدر نفسه : ص 156.
2- مسند أحمد : 3 / 159 ، مجمع الزوائد : 2 / 155.
3- مسند أحمد : 2 / 154.
4- المصدر نفسه : 2 / 400.
5- مسند أحمد : 2 / 124 ، المغني : 2 / 111.
6- المغني : 2 / 111.

هذا ما وقفنا عليه من النصوص عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ، وقد أخذ بها لفيف من الصحابة وغيرهم ؛ منهم : عمر بن الخطاب ، وابنه ، وابن عباس ، وجابر ، وجبير بين مطعم ، والحسن ، والقاضي إسماعيل ، وحماد بن أبي سليمان ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة ، والكوفيون. (1)

أضف إلى ذلك اتّفاق أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وفقهاء الشيعة من عصر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى يومنا هذا.

أترى مع هذه الأحاديث مجالا للقول بأنّ القصر في السفر رخصة لا عزيمة؟! ولو كان الإتمام في السفر سائغا لكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرب عنه بقول أو بفعل ولو بإتيانه في العمر مرّة لبيان جوازه كما يفعل في غير هذا المورد.

أخرج مسلم في صحيحه من حديث بريدة قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضّأ عند كل صلاة فلمّا كان يوم الفتح صلّى صلوات بوضوء واحد. فقال له عمر : إنّك صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال : « عمدا صنعته » أي لبيان الجواز. (2)

ولو كان هناك ترخيص لما خفي على أكابر الصحابة حتّى نقدوا من أتمّها نقدا مرّا. وبذلك تعلم قيمة تبرير عمل المتمّين بأنّ الإتمام والقصر مسألة اجتهادية اختلف فيها العلماء. (3)

قصر الصلاة بمنى

تضافرت الروايات على أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء بعده وحتّى عثمان في سنين

ص : 337


1- الجامع لأحكام القرآن : 5 / 351.
2- صحيح مسلم : 1 / 122 ؛ نيل الأوطار : 1 / 258.
3- الرياض النضرة : 2 / 251.

من خلافته كانوا يقصرون في منى دون استثناء ، فلمّا أتمّ عثمان بعد ثمانية سنين قامت ضجة عليه ، ولما سمع عبد الله بن مسعود انّ الخليفة أتمّ الصلاة في منى استرجع ، أي قال ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ) ، ولا تقال تلك الكلمة إلاّ إذا ألمّت مصيبة ، وهذا يدلّ على أنّ عبد الله بن مسعود تلقّى فعل عثمان مصيبة في الدين ورزءا عظيما.

والناظر في هذه الروايات التي سننقلها تباعا يذعن بأنّ متلقّى الصحابة هو كون القصر عزيمة والتمام غير مشروع ، وإلاّ فلو كان القصر رخصة أو سنّة لما أثارت حفيظة الصحابة والتابعين ضدّ عثمان.

27. أخرج مسلم في صحيحه عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انّه صلّى صلاة المسافر بمنى (1) وغيره ركعتين وأبو بكر وعمر وعثمان ركعتين صدرا من خلافته ثمّ أتمّها أربعا. (2)

28. أخرج مسلم عن ابن عمر قال : صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ركعتين ، وأبو بكر بعده ، وعمر بعد أبي بكر ، وعثمان صدرا من خلافته. انّ عثمان صلّى بعد أربعا ، فكان ابن عمر إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعا وإذا صلاّها وحده صلّى ركعتين. (3) وسيأتي انّه كان يعيدها في بيته.

29. أخرج مسلم عن حفص بن عاصم ، عن ابن عمر ، قال : صلّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى صلاة المسافر وأبو بكر وعمر وعثمان ثمانية سنين أو قال : ست سنين ، قال حفص : وكان ابن عمر يصلّي بمنى ركعتين ثمّ يأتي فراشه ، فقلت : أي عمّ لو

ص : 338


1- انّ منى تذكر وتؤنث بحسب القصد ، إن قصد الموضع فيذكّر ، وإن قصد البقعة فتؤنّث.
2- . شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 209 ، باب قصر الصلاة بمنى من كتاب صلاة المسافرين وقصرها.
3- . شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 209 ، باب قصر الصلاة بمنى من كتاب صلاة المسافرين وقصرها.

صلّيت بعدها ركعتين؟ قال : لو فعلت لأتمت الصلاة. (1)

30. اخرج مسلم عن حارث بن وهب الخزاعي ، قال : صلّيت خلف رسول الله بمنى والناس أكثر ما كانوا ، فصلّى ركعتين في حجّة منى. (2)

31. أخرج مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد ، يقول : صلّى بنا عثمان بمنى أربع ركعات ، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود ، فاسترجع ، ثمّ قال : صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ركعتين ، وصلّيت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين ، وصلّيت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ، ركعتان متقبّلتان. (3)

يقول النووي بعد قوله : ( فليت حظي من أربع ركعات ، ركعتان متقبّلتان ) : إنّ معناه ليت عثمان صلّى ركعتين بدل الأربع كما كان النبي وأبو بكر وعمر وعثمان في صدر خلافته يفعلون.

ولما كانت الرواية صريحة في أنّ متلقّى عبد الله بن مسعود من فعل النبي هو كون القصر عزيمة ، ولذلك استرجع وأردفه بقوله : ( فليت حظي من أربع ركعات ، ركعتان متقبّلتان ) حاول النووي وغيره تأويل الأثر وتخفيف الوطأة وقال : مقصوده كراهة مخالفة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحباه ، ومع هذا فابن مسعود _ رضي الله عنه _ موافق على جواز الإتمام ، ولهذا كان يصلّي وراء عثمان متمّا ، ولو كان القصر عنده واجبا لما استجاز تركه وراء أحد.

ص : 339


1- . شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 209 ، باب قصر الصلاة بمنى من كتاب صلاة المسافرين وقصرها.
2- . شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 209 ، باب قصر الصلاة بمنى من كتاب صلاة المسافرين وقصرها.
3- صحيح البخاري : 2 / 53 ، باب ما جاء في التقصير ؛ شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 209 ، باب قصر الصلاة بمنى.

ولا يخفى انّ ما ذكره تعسف ظاهر ، إذ لا معنى للاسترجاع ولا للتمنّي لو كان عمل الخليفة عملا مشروعا سوّغه الشرع وأبلغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير انّه اختار النبي أحد فردي التخيير الأفضل مع عدم نفي العدل الآخر.

ثمّ إنّ ما عزي إلى عبد الله بن مسعود من أنّه أتمّ الصلاة في السفر عند ما صلّى مع عثمان فإنّما كان مراعاة سياسة مقطعية اتّباعا لما رآه عثمان خلافا لرأي نفسه في لزوم القصر ، قال الأعمش : حدّثني معاوية بن قرّة عن أشياخه ، انّ عبد الله صلّى أربعا ، فقيل له : عبت على عثمان ثمّ صليت أربعا؟ قال : الخلاف شر. (1)

ومنه يظهر حال عبد الله بن عمر ، قال ابن حزم : روينا من طريق عبد الرزاق ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر انّه كان إذا صلّى مع الإمام بمنى أربع ركعات ، انصرف إلى منزله فصلّى فيه ركعتين أعادها. (2)

وهؤلاء كانوا يرون رعاية شئون السياسة الزمنية خوفا من الشر ، وهي عندهم أولى من رعاية حفظ الأحكام كما نزلت من عند الله والوقوف أمام قبولها وتغييرها ، إلاّ أنّ بعض الصحابة يرى خلاف ذلك ، فهذا علي عليه السلام أبى أن يصلّي أربعا في منى رغم إصرار عثمان وبني أميّة ، حيث قيل له : صلّ بالناس ، فقال : « إن شئتم صلّيت لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم » يعني ركعتين ، قالوا : لا إلاّ صلاة أمير المؤمنين _ يعنون عثمان _ أربعا ، فأبى عثمان (3). (4)

هذا وإنّ بني أميّة قد اتّخذوا من أحدوثة عثمان سنّة مستمرة مقابل سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأبد وإن لم يكن لهم عذر شرعي للإتمام.

ص : 340


1- سنن أبي داود : 1 / 308 ، كتاب الأم للشافعي : 1 / 159.
2- المحلى : 4 / 270. وفي الهامش : في بعض النسخ « أبي » فقط.
3- هكذا في المطبوع والصحيح : فأبى علي.
4- المحلى : 4 / 270.

32. أخرج الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن عبد الله بن الزبير ، قال : لمّا قدم علينا معاوية حاجّا قدمنا معه مكة ، قال : فصلّى بنا الظهر ركعتين ، ثمّ انصرف إلى دار الندوة ، قال : نهض إليه مروان بن الحكم وعمر بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبتَه به ، فقال لهما : وما ذاك؟ قال : فقالا له : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكة؟ قال : فقال لهما : ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صلّيتهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر وعمر ، قالا : فان ابن عمك قد كان أتمّها وإن خلافك إيّاه له عيب.

قال : فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعا. (1)

إلى هنا تمّ ما يدلّ من الأحاديث والآثار على أنّ القصر في السفر عزيمة وانّ الإتمام أحدوثة حدثت بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اجتهادا أو اتباعا للمصالح المقطعية ، ولا محيص لفقيه ، أمام مداومة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوّلا ، وهذه الروايات والآثار ثانيا من الخضوع لها والإخبات إليها.

نعم بقي علينا أن نستعرض أدلّة القول بأنّ القصر رخصة أو سنّة مؤكّدة لا عزيمة وهي أدلّة واهية للغاية لا يصحّ للفقيه أن يستند إليها إذا كان ملما باستنباط الحكم عن أدلّته.

أدلّة القائلين بأنّ القصر رخصة

استدلّ القائلون بعد الكتاب العزيز بأمور نذكرها تباعا.

أمّا الكتاب ، فقد مضى الكلام فيه حيث قلنا بأنّ الآية لا تدلّ على أحد القولين : الرخصة أو العزيمة ، بل هي بصدد بيان رفع توهّم الحظر حيث كان قصر

ص : 341


1- مسند أحمد : 4 / 94.

الصلاة مظنّة توهم انّه إيجاد نقص في الصلاة فبيّن سبحانه ( بأنّه لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة ) وأين هذا من الدلالة على أنّ القصر رخصة؟!

إنّما المهم الروايات والآثار المروية.

1. أخرج مسلم عن يعلى بن أميّة ، قال : قلت لعمر بن الخطاب ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فقال : عجبت ممّا عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال : « صدقة منّ الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ». (1)

وجه الدلالة : انّ المتصدّق عليه لا يجب عليه قبول الصدقة.

وأجاب الشوكاني عن الاستدلال المذكور بقوله : إنّ الأمر بقبولها يدلّ على أنّه لا محيص عنها وهو المطلوب. (2)

وكان للشوكاني أن يرد على الاستدلال بوجه آخر أيضا ويقول : إنّ قياس صدقة الله وهديته ، على صدقات الناس وهداياهم قياس مع الفارق ، وذلك لأنّ المهدى إليه أو المتصدّق عليه لا يجب عليه قبول الهدية أو الصدقة إذا كان المتصدّق إنسانا مثله ، وأمّا إذا كان المتصدّق هو الله سبحانه فيجب قبولها ، وذلك لأنّ صدقة الله أمر امتناني ، وامتناناته سبحانه ليست أمورا اعتباطية ، بل هي ناشئة من الحكمة البالغة الإلهية ، فحيث يعلم الله بأنّ المصالح الذاتية للبشر تقتضي ذلك الامتنان يمنّ بها على العباد ، فيصير القبول أمرا مفروضا عليهم.

وربما يظهر من أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام انّه يحرم رد صدقة الله ، حيث قال الصادق عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ الله عزّ وجلّ تصدّق على مرضى أمّتي

ص : 342


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 203 برقم 4.
2- نيل الأوطار : 3 / 201.

ومسافريها بالتقصير والإفطار ، أيسرّ أحدكم إذا تصدق بصدقة أن ترد عليه؟! ». (1)

وكأنّ في رد الصدقة نوع إهانة للمتصدّق ، وفي المقام ازدراء بالتشريع الإلهي.

2. أخرج الدارقطني والبيهقي واللفظ للأوّل عن عبد الرحمن بن أسود ، عن عائشة قالت : خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت ، وقصّر وأتممت ، فقلت : يا رسول الله بأبي وأمي ، أفطرت وصمت ، وقصّرت وأتممت؟ فقال : أحسنت يا عائشة. (2)

قال الشوكاني : أخرجه أيضا النسائي والبيهقي بزيادة : « أنّ عائشة اعتمرت مع رسول الله من المدينة إلى مكة حتّى إذا قدمت مكة قالت : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله أتممت وقصّرت » ، والاحتجاج بالرواية رهن صحّة السند أوّلا وإمكان الأخذ بالمضمون ثانيا.

أمّا السند ففيه العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن أسود بن يزيد النخعي ، عن عائشة. قال ابن حبان : كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات ، فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الإثبات.

قال الدارقطني : وهذا اسناد حسن ، وعبد الرحمن قد أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق وهو مع أبيه وقد سمع منها. (3)

وقال أبو حاتم : دخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها ، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن الأخذ بقول راو لم يثبت سماعه من عائشة؟! وعلى فرض السماع فقد سمع وهو صغير أو مراهق.

ولأجل ذلك احتمل الدارقطني في « العلل » انّه مرسل كما نقله عنه

ص : 343


1- وسائل الشيعة : 1 / 175.
2- سنن الدارقطني : 2 / 188 ، السنن الكبرى : 3 / 142.
3- سنن الدارقطني : 2 / 188 ، رقم 40.

الشوكاني في « نيل الأوطار ». (1)

والذي يزيد في الطين بلّة ، انّ الدارقطني تارة نقله عن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة ، وأخرى عن عبد الرحمن عن عائشة. (2)

ونقل البيهقي عن أبي بكر النيسابوري انّه من قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ. (3)

هذا كلّه حول السند.

وأمّا المضمون فيلاحظ عليه أوّلا : أنّه جاء في حديث عائشة أنّها قالت : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة رمضان إلخ ، وهذا ما يخالف التأريخ القطعي في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد جاء في السيرة الحلبية : « لا خلاف انّ عمرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تزد على أربع ، أي كلّهن في ذي القعدة مخالفا للمشركين ، فإنّهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون هي من أفجر الفجور. وأوّل تلك الأربعة عمرة الحديبية التي كانت في ذي القعدة التي صدّه فيها المشركون عن البيت.

وثانيها : عمرته من العام المقبل وهي عمرة القضاء وكانت في ذي القعدة.

وثالثها : عمرته صلى الله عليه وآله وسلم حين قسم غنائم حنين وكانت من الجعرّانة وكانت في ذي القعدة.

ورابعها : عمرته صلى الله عليه وآله وسلم مع حجة الوداع فإنّه أحرم لخمس بقين من ذي القعدة ، وقد قالت عائشة : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع. (4)

وعلى هذا فكيف يمكن الأخذ بمضمون الحديث مع أنّه لم يكن للنبي مع

ص : 344


1- نيل الأوطار : 3 / 202.
2- سنن الدارقطني : 2 / 188 برقم 39 و 40.
3- السنن الكبرى : 3 / 142.
4- السيرة الحلبية : 3 / 340 _ 341.

زوجته أيّة عمرة في شهر رمضان؟!

قال في « البدر المنير » : إنّ في متن هذا الحديث نكارة ، وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة رمضان ، والمشهور انّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتمر إلاّ أربع عمر ليس منهنّ شيء في رمضان بل كلّهن في ذي القعدة إلاّ التي مع حَجّته ، فكان إحرامها في ذي القعدة وفعلها في ذي الحجة ، وهذا هو المعروف في الصحيحين وغيرهما. (1)

وثانيا : أنّه كيف أتمّت عائشة وصامت مع أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قصّروا وأفطروا ولم يكن عملها عمل يوم واحد ، بل كانت على ما يروى عبر الأيام من المدينة المنورة إلى مكة المشرفة ، وكانت القوافل تقطع المسافة بين البلدين في حوالي عشرة أيام ، فهل يعقل أن تخالف أمّ المؤمنين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وهي بمرأى ومسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره؟!

ولذلك قال ابن تيمية : هذا حديث كذب على عائشة ، ولم تكن عائشة تصلّي بخلاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ثمّ تتم هي وحدها بلا موجب.

كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين فزيدت في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر؟! فكيف يظن بها انّها تزيد على فرض الله وتخالف رسول الله وأصحابه؟!! (2)

3. أخرج الدارقطني عن محمد بن منصور بن أبي الجهم ، حدّثنا نصر بن علي ، حدّثنا عبد الله بن داود ، عن المغيرة بن زياد الموصلي ، عن عطاء ، عن عائشة : انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتم الصلاة في السفر ويقصر.

ص : 345


1- نيل الأوطار : 3 / 202 ، نقلا عن البدر المنير.
2- زاد المعاد : 1 / 161 ونقله أيضا الشوكاني في نيل الأوطار : 3 / 203.

ثمّ قال : المغيرة بن زياد الموصلي ليس بالقوي. (1)

4. أخرج أبو داود الطيالسي ، قال : حدثنا يونس ، قال : حدّثنا أبو داود ، قال : حدّثنا طلحة قال : سمعت عطاء يحدث عن عائشة ، قالت : كلّ ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر صام وأفطر. (2) بناء على وحدة حكم الصلاة والصوم في السفر وإلاّ فالرواية أجنبيّة عن المقام.

ونقله الدارقطني بهذا الاسناد مع اختلاف طفيف في المتن ، ثمّ قال في آخره : طلحة ضعيف. (3)

يلاحظ على الروايتين : أنّ السند لا يحتج به ، لما عرفت من أنّ المغيرة ليس بالقوي وطلحة ضعيف ، وعلى فرض صحّة الاحتجاج فلا يقاومان ما تضافر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولا وفعلا على القصر ، كما لا يقاوم ما تضافر عن الصحابة من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصر طيلة عمره في السفر وقد مرت الروايات الدالّة عليه.

وأمّا الدلالة فلأنّ عائشة تروي فعل النبي وانّه كان يتم ولكن من المحتمل انّ إتمامه كان في صورة عدم اجتماع شرائط القصر في سفره ، وقد قرر في محلّه انّ العمل لا يحتج به حتّى يعلم وجهه ، والعمل في تينك الروايتين مجمل جدّا ، لاحتمال أن يكون الإتمام لأجل الرخصة في السفر أو لعدم وجود شرائط القصر.

ثمّ إنّ لابن حزم في « المحلى » كلاما جامعا حول هذه الروايات ، حيث قال :

أمّا الذي من طريق عبد الرحمن بن الأسود ، فانفرد به العلاء بن زهير الأزدي لم يروه غيره ، وهو مجهول.

وأمّا حديث عطاء ، فانفرد به المغيرة بن زياد لم يروه غيره ، وقال فيه أحمد بن

ص : 346


1- سنن الدارقطني : 2 / 189.
2- مسند الطيالسي : 6 / 209 ، ط دار المعرفة ، بيروت.
3- سنن الدارقطني : 2 / 189.

حنبل : هو ضعيف كلّ حديث أسنده فهو منكر.

5. ما رواه النووي في شرحه على صحيح مسلم وحيث قال : إنّ الصحابة _ رضي الله عنهم _ كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمنهم القاصر ومنهم المتمم ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض. (1)

نقل ابن قدامة عن أنس ، قال : كنّا أصحاب رسول الله نسافر فيتمّ بعضنا ويقصر بعضنا ويصوم بعضنا ويفطر بعضنا فلا يعيب أحد على أحد ، ثمّ قال :

ولأنّ ذلك إجماع الصحابة رحمهم الله بدليل انّ فيهم من كان يتم الصلاة ولم ينكر الباقون عليه بدليل حديث أنس. (2)

وقال الشوكاني : الحجة الثالثة على جواز الإتمام ما في صحيح مسلم وغيره ، انّ الصحابة كانوا يسافرون مع رسول الله فمنهم القاصر ومنهم المتم ، ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض. (3)

يلاحظ عليه : بأنّه قد أخرج مسلم في باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر سبع روايات عن أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري وأنس بن مالك ليس فيها أيّ أثر من القصر والإتمام ، بل الروايات تدور على الصوم والإفطار ، فلم يظهر لي مصدر ما نسب إلى أنس : « فيتم بعضنا ويقصر بعضنا ». (4)

ص : 347


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 5 / 201 ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها.
2- المغني : 2 / 109.
3- نيل الأوطار : 3 / 201 _ 202 ، وذكره النووي في شرح صحيح مسلم.
4- لاحظ شرح صحيح مسلم للنووي : 7 / 237 باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر الحديث 93 ، 94 ، 95 ، 96 ، 97 ، 98 ، 99 ولاحظ صحيح مسلم : 3 / 143 ، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر من كتاب الصوم.

ونذكر نموذجا من هذه الروايات.

سئل أنس ( رض ) عن صوم رمضان في السفر ، فقال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.

قال الشوكاني : ولم نجد في صحيح مسلم قوله : « فمنهم القاصر ومنهم المتم » وليس فيه إلاّ أحاديث الصوم والإفطار. (1)

ولنفرض صحّة ما عزي إلى صحيح مسلم لكن من أين ثبت انّ النبي اطّلع على فعلهم فأقرّهم عليه حتى يكون التقرير حجة علينا؟ وليس عمل الصحابي بمجرّده حجة ما لم يعلم كونه مستندا إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمله.

قال الشوكاني : إنّ إجماع الصحابة في عصره ليس بحجّة والخلاف بينهم في ذلك مشهور بعد موته. (2)

إلى هنا تمّ ما يمكن أن يكون دليلا لجواز الإتمام في السفر ، وقد عرفت أنّ الجميع سراب لا ماء فلا يمكن أن يحتج بها أمام الروايات والآثار الهائلة ، التي رويت بطرق مختلفة تنتهي إلى الصحابة.

يقول ابن حزم : ورويناه أيضا من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر كلّهم عن رسول الله بأسانيد في غاية الصحة. (3)

بقي هنا شيء آخر وهو التمسّك بعمل الصحابي والصحابية ، وإليك دراسته.

ص : 348


1- . نيل الأوطار : 3 / 202.
2- . نيل الأوطار : 3 / 202.
3- المحلّى : 4 / 271.

الاحتجاج بفعل عثمان وعائشة

وربما يحتجّ على جواز الإتمام بفعل عثمان الذي أتمّ في مكة وفي منى مع أنّه كان مسافرا ومهاجرا عن مكة ومتوطّنا في المدينة.

يلاحظ على هذا الاحتجاج : أنّ فعل الصحابي ليس حجّة ما لم يستند إلى حديث صحيح عن رسول الله ، فإنّ الحجة هي فعل المعصوم لا فعل غيره.

أضف إلى ذلك انّه قامت الضجة ضد عثمان واستنكره كثير من الصحابة حتى استرجع عبد الله بن مسعود.

والذي يدلّ على أنّ عثمان أتمّ من عند نفسه من دون دليل صالح ، ما أخرجه مسلم عن الزهري عن عروة عن عائشة.

قال الزهري : فقلت لعروة : ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال : إنّها تأوّلت كما تأوّل عثمان. (1)

ونقله ابن حزم في « المحلى » ، قال : قال الزهري ، فقلت لعروة : فما كان عمل عائشة ان تتم في السفر وقد علمت أنّ الله تعالى فرضها ركعتين ركعتين؟ قال : تأوّلت من ذلك ما تأوّل عثمان من إتمام الصلاة بمنى. (2)

فلو كان لعثمان دليل على جواز الإتمام لاحتجّ به ولم يلجأ إلى التأويل ، وهذا دليل على أنّ القصر في السفر متعيّن ولكنّه أتمّ بمسوّغ خاص هو أعلم به.

وقد قام غير واحد ممّن يحاول تبرير فعل الخليفة وأمّ المؤمنين بنحت أعذار لهما!!

ص : 349


1- شرح صحيح مسلم : 5 / 202 ، كتاب صلاة المسافرين.
2- المحلّى : 4 / 270.

قال النووي : اختلف العلماء في تأويلهما :

1. فالصحيح الذي عليه المحقّقون أنّهما رأيا القصر جائزا والإتمام جائزا ، فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام.

يلاحظ عليه : أنّه ليس بتأويل ، فلو كان هناك دليل على جواز الإتمام لكان عليه أن يحتجّ به من دون تأويل ، ولذلك أوّلوا فعل الخليفة وأمّ المؤمنين بوجوه أخرى ، أعني :

2. انّ عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمّهم فكأنّهما في منازلهما.

يلاحظ عليه : عزب عن المؤوّل انّ النبي أولى منهما بذلك ، فلما ذا تداوم على القصر؟!

3. انّ عثمان تأهّل بمكة.

يلاحظ عليه : بمثل ما لوحظ على الوجه السابق ، فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سافر بأزواجه منهنّ مكية وقد قصّر.

4. فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه لئلاّ يظنوا ان فرض الصلاة ركعتان أبدا حضرا وسفرا.

يلاحظ عليه : بما لوحظ على السابق بأنّ هذا المعنى كان موجودا في زمن النبي ، بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر ممّا قيل.

إلى غير ذلك من الوجوه التافهة التي لا يركن إليها الفقيه والتي نقلها الإمام النووي في شرحه وأبطل الكلّ إلاّ الوجه الأوّل ، وقد عرفت أنّه أيضا غير مبرر. (1)

ص : 350


1- شرح صحيح مسلم : 5 / 202 ، باب صلاة المسافرين وقصرها.

وبذلك يعلم أنّ فعل الصحابية عائشة لا يكون دليلا مع أنّها الرواية بأنّه سبحانه فرض الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرّت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. (1)

إنّ لابن جرير الطبري كلاما حول فعل عائشة حيث روى في تفسير قوله تعالى ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) بسنده عن عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، قال : سمعت أبي يقول : سمعت عائشة تقول : في السفر أتموا صلاتكم ، فقالوا : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي في السفر ركعتين ، فقالت : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في حرب وكان يخاف ، هل تخافون أنتم؟! (2)

وعلّق عليه الشوكاني بقوله : قيل في تأويل عائشة أنّها إنّما أتمّت في سفرها إلى البصرة لقتال علي عليه السلام والقصر عندها إنّما يكون في سفر طاعة _ إلى أن قال : _ وأمّا تأوّل عائشة فأحسن ما قيل فيه ما أخرجه البيهقي بإسناد صحيح من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنّها كانت تصلّي في السفر أربعا ، فقلت لها : لو صليت ركعتين ، فقالت : يا بن أختي إنّه لا يشق علي ، وهو دالّ على أنّها تؤوّل أنّ القصر رخصة وانّ الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل. (3)

ص : 351


1- شرح صحيح مسلم : 5 / 202.
2- تفسير الطبري : 4 / 155.
3- نيل الأوطار : 3 / 212.

ص : 352

9. إفطار المسافر في شهر رمضان

اشارة

ص : 353

ص : 354

الإفطار في السفر

اشارة

اتّفقت كلمة الفقهاء على مشروعية الإفطار جوازا أو وجوبا في السفر تبعا للذكر الحكيم والسنّة المتواترة إلاّ انّهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة ، نظير الخلاف في كون القصر فيه جائزا أو واجبا.

ذهبت الإمامية تبعا لأئمّة أهل البيت عليهم السلام والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة ، واختاره من الصحابة : عبد الرحمن بن عوف وعمر وابنه عبد الله وأبو هريرة وعائشة وابن عباس ، ومن التابعين : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وابنه محمد الباقر عليه السلام وسعيد بن المسيب وعطاء وعروة بن الزبير وشعبة والزهري والقاسم بن محمد بن أبي بكر ويونس بن عبيد وأصحابه (1).

وذهب جمهور أهل السنّة وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة إلى كون الإفطار رخصة وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار والصوم.

قال الجصّاص : الصوم في السفر أفضل من الإفطار ، وقال مالك والثوري : الصوم في السفر أحبّ إلينا لمن قوي عليه ، وقال الشافعي : إن صام في السفر أجزأه. (2)

ص : 355


1- المحلّى : 6 / 258.
2- أحكام القرآن : 1 / 215.

وقال السرخسي : إنّ أداء الصوم في السفر يجوز في قول جمهور الفقهاء ، وهذا قول أكثر الصحابة ، وعلى قول أصحاب الظواهر لا يجوز _ إلى أن قال : _ إنّ الصوم في السفر أفضل من الإفطار عندنا.

وقال الشافعي : الفطر أفضل ، لأنّ ظاهر ما روينا من آثار يدلّ على أنّ الصوم في السفر لا يجوز ، فإن ترك هذا الظاهر في حقّ الجواز (1) بقي معتبرا في أنّ الفطر أفضل ، وقاس بالصلاة فإنّ الاقتصار على الركعتين في السفر أفضل من الإتمام فكذلك الصوم لأنّ السفر يؤثر فيهما ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم ». (2)

وقال ابن قدامة : حكم المسافر حكم المريض في إباحة الفطر وكراهية الصوم وإجزائه إذا فعله ، وإباحة الفطر ثابتة بالنص والإجماع ، وأكثر أهل العلم على أنّه إن صام أجزأه _ إلى أن قال : _ والفطر في السفر أفضل. (3)

وقال القرطبي : واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر ، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما : الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجعل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي ، قال الشافعي ومن تبعه : هو مخيّر ولم يفضّل وكذلك ابن عليّة. (4)

وهذه النقول وغيرها صريحة في اتّفاق الجمهور على جواز الإفطار في السفر لا على وجوبه مع اعتراف الشافعي بأنّ ظواهر الأدلّة هو المنع عن الصوم حيث

ص : 356


1- كذا في النسخة ولعلّ الصحيح : في حدّ الجواز.
2- المبسوط للسرخسي : 3 / 91 _ 92.
3- الشرح الكبير في ذيل المغني : 3 / 17 _ 19.
4- الجامع لأحكام القرآن : 2 / 280.

قال : « لأنّ ظاهر ما روينا من الآثار يدلّ على أنّ الصوم في السفر لا يجوز ». (1) وإن كان ما نقله القرطبي وغيره عنه يخالفه.

وعلى كلّ تقدير ، فالمهم هو بيان ما يستفاد من الأدلّة من كون الإفطار عزيمة أو رخصة. وسيتضح إليك انّ الإفطار عزيمة يدلّ عليها الكتاب والسنّة.

ص : 357


1- المبسوط : 3 / 91.

1. الكتاب وصوم رمضان في السفر

اشارة

قال سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). (1)

( أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ). (2)

( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (3)

إنّ هذه الآيات المباركة تتضمّن أحكام الطوائف الأربع بعد التأكيد على أنّ الصوم ممّا كتب على المؤمنين كما كتب على الذين من قبلهم والكتابة آية الفرض

ص : 358


1- البقرة : 183.
2- البقرة : 184.
3- البقرة : 185.

والوجوب غالبا ، وليس للمكلّف تركه ، فالله سبحانه يخاطب قاطبة المؤمنين بقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ). فالصيام مكتوب على الإنسان بأشكال مختلفة من غير فرق بين المصحّ والمريض والمسافر والمطيق ، لكن يختلف امتثاله حسب اختلاف أحوال المكلّف ، لأنّه ينقسم حسب العوارض إلى الأصناف الأربعة ، ولكلّ صنف حكمه.

الفقيه كلّ الفقيه ما يكون بصدد فهم القرآن والسنّة سواء أوافق مذهب إمامه الذي يقلّده أم خالف ، غير انّ كثيرا من المفسرين في تفسير هذه الآيات حاولوا أن يطبقوها على مذهب إمامهم من دون أن يمعنوا النظر في مفردات الآية وجملها حتّى يخرجوا بنتيجة واحدة من دون اختلاف وقد عرفت أقوالهم.

فنقول : الآيات المتقدّمة تبيّن أحكام الأصناف الأربعة التي عرفت عناوينها ، وإليك بيان ما يستفاد من الآيات في حقّ هؤلاء.

1. الصحيح المعافى

إنّ قوله سبحانه ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) صريح في لزوم الصوم لمن شهد الشهر ، من غير فرق بين تفسير شهود الشهر بالحضور في البلد وعدم السفر ، أو برؤية الهلال ، فليس للشاهد إلاّ تكليف واحد وهو صوم الشهر كلّه إذا اجتمعت فيه الشرائط.

2. المريض
3. المسافر
اشارة

وقد بيّن سبحانه حكم المريض والمسافر بقوله في موردين

ص : 359

_ ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ). (1)

_ ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ). (2)

والمقصود فهم ما تتضمّنه الجملة في الموردين من الحكم في حقّ المريض والمسافر ، فهل هو ظاهر في كون الإفطار عزيمة أو رخصة؟

والإمعان في الآية يثبت انّ الإفطار عزيمة ، وذلك بوجوه أربعة :

الأوّل : وجوب الصيام في العدّة ، آية لزوم الإفطار

إنّ معنى قوله سبحانه ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي « فعليه صيام عدّة أيام أخر » أو « يلزمه صيام تلك الأيام » ، وهذا هو الظاهر من أكثر المفسرين حيث يذكرون بعد قوله سبحانه ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) قولهم : عليه صوم أيّام أخر. وعلى ذلك فالمتبادر من الآية هو انّه يلزمه صيام تلك الأيّام ، أو على ذمّته صيامها ، هذا من جانب.

ومن جانب آخر : انّه إذا وجب صيام تلك الأيام مطلقا ، يكون الإفطار في شهر رمضان واجبا ، وإلاّ فلو جاز صومه ، لما وجب صيام تلك الأيام ( أَيَّامٍ أُخَرَ ) على وجه الإطلاق فإيجاب صيامها كذلك ، آية وجوب الإفطار في شهر رمضان.

الثاني : التقابل بين الجملتين يدلّ على حرمة الصوم

إذا كانت في الكلام جملتان متقابلتان فإبهام إحداهما يرتفع بظهور الأخرى ، وهذا ممّا لا سترة عليه ، وعلى ضوء هذا نرفع إبهام قوله ( أَوْ عَلى سَفَرٍ ) بالجملة الأخرى التي تقابله فنقول :

قال سبحانه في من شهد الشهر :

ص : 360


1- البقرة : 184.
2- البقرة : 185.

( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )

ثمّ قال في من لم يشهد الشهر :

( فَمَنْ كانَ ... أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ).

فإذا كان معنى الجملة الأولى انّ الشاهد يصوم ، يكون معنى الجملة الثانية _ بحكم التقابل _ انّ غير الشاهد ( المسافر ) لا يصوم ، فإذا كان الأمر في الجملة الأولى ظاهرا في الوجوب يكون النهي في الثانية ظاهرا في التحريم.

وقد روى عبيد بن زرارة ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : قلت له ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ، قال : « ما أبينها :

من شهد الشهر فليصمه ومن سافر فلا يصمه ». (1)

الثالث : المكتوب عليهما من أوّل الأمر هو صيام العدّة
اشارة

الثالث (2) : المكتوب عليهما من أوّل الأمر هو صيام العدّة

إنّ ظاهر قوله سبحانه ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) هو انّ المكتوب على الصنفين من أوّل الأمر هو الصيام في أيّام أخر ، فإذا كان الصيام واجبا على عامة المكلّفين وكان المكتوب عليهم من أوّل الأمر هو الصيام في أيام أخر ، فصيامهم في شهر رمضان يكون بدعة وتشريعا محرّما ، لاتّفاق الأمّة على عدم وجوب صومين طول السنة.

كلمات بعض المفسرين تدعم موقفنا

إنّ لفيفا من المفسرين عند تفسير الآية _ حرفيّا _ فسروا الآية على غرار ما ذكرنا ، لكن عند ما وصلوا إلى بيان حكم الإفطار من العزيمة والرخصة ، صدّهم

ص : 361


1- الوسائل : 7 ، الباب 1 من أبواب من يصحّ منه الصوم ، الحديث 8.
2- يأتي الوجه الرابع ص 366 فلا تغفل.

فتوى إمامهم عن الإصحار بالحقيقة.

يقول الطبري : فمن كان منكم مريضا ممن كلّف صومه أو كان صحيحا غير مريض وكان على سفر فعدّة من أيام أخر ( يقول ) فعليه صوم عدّة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره من أيام أخر ، يعني من أيّام أخر غير أيّام مرضه أو سفره. (1)

فظاهر قوله : « فعليه صوم عدّة أيّام » أي يلزم عليهما صوم تلك العدة ، ومع لزوم القضاء مطلقا كيف يكون مخيّرا بين الإفطار والصيام؟!

قال ابن كثير ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر ، لما في ذلك من المشقة عليهما ، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أخر. (2)

وفي الوقت نفسه هو يقول بعد صفحة ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخّص فيه للمريض والمسافر. (3) فأين قوله : « لا يصومان في حال المرض والسفر » من قوله : ويرخّص فيه للمريض والمسافر؟!

فالتعبير الأوّل تعبير عن ظهور الآية جرى على قلمه بصورة عفوية من دون أن يلتفت إلى مذهب إمامه ، والجملة الثانية صدرت منه _ غفلة عمّا ذكره _ لدعم رأي إمام مذهبه.

تقدير « فأفطر » لتطبيق الآية على المذهب

ثمّ إنّ بعض المفسرين لما أدرك ظهور الآية في لزوم الإفطار وصيام أيّام أخر

ص : 362


1- تفسير الطبري : 2 / 77.
2- تفسير القرآن العظيم : 1 / 376.
3- المصدر نفسه : 1 / 378.

مكان الأيّام التي أفطر فيها ، حاول أن يطبّق الآية على مذهب الترخيص فقدّر بعد قوله : « أو على سفر » لفظة « فأفطر » وقال : « فأفطر » فعدّة من أيّام أخر ، وكأنّ الصيام كتب عليهم أيضا في شهر رمضان لكن لهم الخيار ، فإذا أفطروا يجب عليهم صيام العدة وإن لم يفطروا فلا ، وليس هذا إلاّ لغاية تطبيق الآية على المذهب دون تفسير الآية برأسها ، وها نحن نذكر نماذج من كلماتهم :

1. إنّ الإمام الرازي ممّن ذكر دليل القائل بكون الإفطار عزيمة لا رخصة ومع ذلك اختار المذهب الآخر بحجّة انّ في الآية تقديرا أعني : « فأفطر » ، أو انّ القضاء يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر ، يقول :

ذهب قوم من علماء الصحابة إلى أنّه يجب على المريض والمسافر أن يفطر أو يصوم عدّة من أيّام أخر وهو قول ابن عباس وابن عمر.

وذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ الإفطار رخصة ، فإن شاء أفطر وإن شاء صام.

احتجّ الجمهور بوجوه :

الأوّل : انّ في الآية إضمارا ، لأنّ التقدير : فأفطر فعدة من أيّام أخر.

الثاني : ما ذكره الواحدي في كتاب البسيط ، قال : القضاء إنّما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر.

الثالث : ما رواه ابن داود في سننه عن هشام. انّ حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : يا رسول الله هل أصوم على السفر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم : صم إن شئت وأفطر إن شئت. (1)

يلاحظ على الوجه الأوّل : انّ الإضمار على خلاف الظاهر. ولا دليل على

ص : 363


1- التفسير الكبير : 5 / 74 و 76.

تقديره سوى تطبيق الآية على المذهب الفقهي.

وعلى الوجه الثاني : فهو ادّعاء بلا دليل ، وظاهر الآية والروايات التي ستوافيك انّ السفر لا يجتمع مع الصوم سواء أفطر أو لا.

وأمّا الوجه الثالث : فسيوافيك حال الرواية ، فانتظر.

2. قال صاحب المنار في تطبيق الآية على فتوى مذهب الجمهور ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي من كان كذلك « فأفطر » فعليه صيام عدّة من أيّام أخر غير تلك الأيّام المعدودات ، فالواجب عليه القضاء _ إذا أفطر _ بعدد الأيام التي لم يصمها. (1)

أقول : ما ساق صاحب المنار إلى تقدير قوله « فأفطر » أو قوله : « إذا أفطر » إلاّ وقوفه على دلالة الآية على لزوم الإفطار وانّ الواجب عليه هو صوم عدّة أيّام أخر ، فحاول بتقدير « إذا أفطر » أن يصرف الآية عن ظهورها ويجعلها ظاهرة في التخيير بين صيام رمضان وصيام عدّة أيّام أخر.

والعجب انّه يصرّح في موضع آخر من كلامه بأنّه « تأويل » ، ومعنى كلامه عندئذ انّه صرف للآية عن ظاهرها بلا دليل.

يقول : اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة : لا يجزي الصوم عن الفرض ، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر ، لظاهر قوله تعالى : ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ... ظاهره فعليه عدّة أو فالواجب عدة ، وتأوّله الجمهور بأنّ التقدير : فأفطر فعدة. (2)

ص : 364


1- تفسير المنار : 2 / 150.
2- تفسير المنار : 2 / 153.

ولا ينقضي تعجّبي منه ، حيث إنّه يصفه بأنّه تأويل _ ومع ذلك يصرّ على صحة فتوى الجمهور ، ومع أنّه يندّد في ثنايا تفسيره بجملة من المقلّدين لأئمّة مذاهبهم حيث يؤوّلون ظواهر الآية تطبيقا لها لفتوى مذهب إمامهم ، ويقول في مسألة الطلاق ثلاثا _ التي اختار فيها تبعا لظاهر القرآن بأنّه لا يقع إلاّ مرة واحدة _ : ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها ، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله. (1)

وقد ردّ غير واحد من علماء الإمامية على من قدّر « فأفطر » بغية إثبات التخيير.

يقول الشيخ الطوسي : وفي هذه الآية دلالة على أنّ المسافر والمريض يجب عليهما الإفطار ، لأنّه تعالى أوجب عليهما القضاء مطلقا ، وكلّ من أوجب عليه القضاء بنفس السفر والمرض ، أوجب الإفطار.

فإن قدّروا في الآية « فأفطر » كان ذلك على خلاف الآية. وبوجوب الإفطار في السفر قال عمر بن الخطاب ( وقد ذكر أسماء عدّة من الصحابة والتابعين القائلين بوجوب الإفطار الذين ذكرنا أسماءهم في صدر البحث ). (2)

يقول العلاّمة الطباطبائي ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) « الفاء » للتفريع ، والجملة متفرعة على قوله : « كتب » وقوله : « معدودات » أي انّ الصيام مكتوب مفروض عليهم فيها.

ثمّ يقول : وقد قدّر القائلون بالرخصة في الآية تقديرا فقالوا : إنّ التقدير

ص : 365


1- تفسير المنار : 2 / 386.
2- التبيان : 2 / 150.

فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدّة من أيّام أخر.

ويرد عليه أوّلا : انّ التقدير كما صرّحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلاّ بقرينة ، ولا قرينة من نفس الكلام عليه.

وثانيا : انّ الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدلّ على الرخصة ، فإنّ المقام كما ذكروه مقام تشريع وغاية ما يدلّ عليه قولنا : « فمن كان مريضا أو على سفر فأفطر » هو ، انّ الإفطار لا يقع معصية ، بل جائزا بالجواز بالمعنى الأعم من الوجوب والاستحباب والإباحة ، وأمّا كونه جائزا بالمعنى الأخصّ فلا دليل عليه من الكلام البتة ، بل الدليل على خلافه ، فان بناء الكلام على عدم بيان ما يجب بيانه في مقام التشريع لا يليق بالمشرّع الحكيم وهو ظاهر. (1)

الرابع : ذكر المريض والمسافر في سياق واحد

إنّ الآية ذكرت المريض والمسافر في سياق واحد وحكم عليهما بحكم واحد وقال ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فهل الرخصة في حقّ المسافر فقط ، أو تعمّ المسافر والمريض؟

فالأوّل يستلزم التفكيك ، فان ظاهر الآية انّ الصنفين في الحكم على غرار واحد لا يختلفان ، فالحكم بجواز الإفطار في المسافر دون المريض لا يناسب ظاهر الآية.

وأمّا الثاني فهل يصحّ لفقيه أن يفتي بالترخيص في المريض إذا كان الصوم ضارا أو شاقا عليه؟! فان الإضرار بالنفس حرام في الشريعة المقدسة كما أنّ

ص : 366


1- الميزان : 2 / 11.

الإحراج في امتثال الفرائض ليس مكتوبا ولا مجعولا في الشرع ، قال سبحانه : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ). (1)

إلى هنا تبين حكم المسافر والمريض ، وإليك حكم الصنف الرابع.

4. المطيق
اشارة

هذا هو الصنف الرابع الذي يبيّن سبحانه حكمه بقوله ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ).

والمراد هو الشيخ الكبير والشيخة الكبيرة اللّذين لا يستطيعان أن يصوما أو لا يستطيعان إلاّ بمشقة كبيرة ، والظاهر هو الثاني ، لأنّ الإطاقة في اللغة أدنى درجات المكنة والقدرة على الشيء ، فلا تقول العرب أطاق إلاّ إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمّل به مشقة كثيرة.

وعلى كلّ تقدير فالواجب عليه فدية طعام ، وقد اختلفوا في مقدار الفدية على نحو مذكور في الفقه ، فمنهم من قال : نصف صاع وهم أهل الرأي ، وقال الشافعي : مدّ عن كلّ يوم ، وهو المذهب المنصور عند الإمامية.

لكن الاكتفاء بهذا المقدار أمر جائز ، غير انّ من قدر على الزائد من هذا المقدار فهو خير ، كما يقول سبحانه ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) أي أطعم أكثر من مسكين فهو خير.

ثمّ إنّ هنا تفسيرين آخرين للتطوّع :

1. الجملة ناظرة إلى المطيق والمقصود من جمع بين الصوم والصدقة فهو خير.

ص : 367


1- الحج : 78.

يلاحظ عليه بأنّه بعيد عن ظاهر الآية ، فإنّ المفروض انّ الشيخ لا يطيق الصوم إلاّ ببذل عامة جهده وطاقته فهل يستحبّ له الجمع بين الصوم والصدقة؟!

أضف إلى ذلك انّ المستطيع يجب عليه الصوم وحده ولا يستحب له الفدية ولكن الشيخ الكبير يستحب له مع الصوم ، الفدية!!

2. الجملة ناظرة إلى أصحاب الأعذار ، أعني : المريض والمسافر ، والمقصود : إن زادا على تلك الأيام المعدودات فهو خير له ، لأنّ فائدته وثوابه له ، و « الفاء » في قوله ( فَمَنْ تَطَوَّعَ ) يدلّ على هذا ، لأنّها تفريع على حصر الفرضية في الأيام المعدودات. (1)

يلاحظ عليه بأنّه كيف تكون الجملة ناظرة إلى أصحاب الأعذار _ مع توسط حكم الصنف الرابع بينهما حيث قال ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) ، ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) ، ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ).

والظاهر انّه يرجع إلى الصنف الرابع ، والجملة تفريع على حصر الفرض في طعام مسكين ، والمقصود : فمن تطوّع بزيادة إطعام المسكين فهو خير له.

إلى هنا تمّ حكم الأصناف الأربعة.

* * *

بقي الكلام في تفسير قوله سبحانه ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فنقول :

ص : 368


1- تفسير المنار : 2 / 158.
من هو المخاطب في قوله ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ )؟

ثمّ إنّه سبحانه بعد ما بيّن أحكام الأصناف الأربعة خاطب عامة المؤمنين مرّة أخرى بقوله :

( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).

وهذا الخطاب على غرار الخطاب السابق ، أعني قوله :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ).

والفرق بين الخطابين انّ الخطاب السابق خطاب قبل التفصيل ودعوة إلى الصوم والخطاب اللاحق خطاب بعد تفصيل أحكام الأصناف الأربعة ، فتكون النتيجة :

وان تصوموا أيّها المكلّفون على النحو المذكور في الآية خير لكم ، أي : يصوم الشاهد ، ويفطر المريض والمسافر ويصوم في أيّام أخر ويفدي المطيق.

وأمّا من يقول بالرخصة في المريض والمسافر أو في خصوص المسافر يتخذ ذلك ذريعة للرخصة ويقول « إنّ الخطاب فيها لأهل الرخص ، وانّ الصيام في رمضان خير لهم من الترخّص بالإفطار ». (1)

يلاحظ عليه بأنّ التفسير نابع من محاولة إخضاع الآية على المذهب الفقهي ، وهو التخيير بين الصوم والإفطار ، ولكنّه غير تام لوجهين :

1. انّ صرف الخطاب العام إلى الصنف الخاص ، تفسير بلا دليل ومن شعب التفسير بالرأي.

ص : 369


1- تفسير المنار : 2 / 158 ، نقله عن بعض المفسرين وردّ عليه بقوله : وهذا غير مطرد ولا متفق عليه.

2. لو كان الخطاب لأهل الرخص كان اللازم أن يقول : وان يصوم المسافر خير من الإفطار ويبيّن الحكم باللفظ الغائب ، لا بالخطاب الحاضر.

بل الظاهر _ كما مرّ _ أنّه تأكيد على امتثال الفريضة وانّ الصوم خير ، فله أثره الجميل في النفس فان التنزّه عن الاسترسال في استيفاء اللذائذ الجسمانية ، وكبح جماح الشهوات يورث التقوى والتجافي عن الإخلاد إلى الأرض.

ولغاية الإيضاح نقول إنّ الآية الثانية ، تتشكل من أربع فقرأت بعد بيان انّ الواجب لا يتجاوز عن كونه أيّاما معدودات.

الأولى ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ).

الثانية ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ).

الثالثة ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ).

الرابعة ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ).

وجاءت الفقرات الثلاث الأول بصيغة الغائب بخلاف الأخيرة فجاءت بصيغة الخطاب.

وهذا دليل على أنّه منقطع عن المقاطع الثلاثة وتأكيد للخطاب الأوّل بعد التفصيل أعني قوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ).

* * *

ثمّ إنّه سبحانه ذكر في الآية الثالثة جملا ثلاثا :

أ. ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ).

وهو بيان لحكمة رفع الصيام عن الأصناف الثلاثة ، أي أمروا بالإفطار لأجل اليسر ودفع العسر ، من غير فرق بين المريض والمسافر ومن يشق عليه

ص : 370

الصيام.

ب. ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ).

وهو راجع إلى قضاء المريض والمسافر ، أي أنّ الموضوع عنهما هو حكم الصيام في شهر رمضان ، وأمّا القضاء بعدد الأيّام المعدودات فلا.

ج. ( وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).

الجملة غاية أصل الصيام حيث إنّه سبحانه يطلب من عباده ، تكبيرة في مقابل هدايتهم حتّى يكونوا شاكرين لنعمه.

هذا تفسير الآيات الثلاث حسب ما يوحيه ظاهرها.

ص : 371

2. السنّة وصوم رمضان في السفر

قد عرفت قضاء الكتاب في مورد الصوم في السفر وانّ الواجب هو الإفطار والقضاء في أيّام أخر حسب ما أفطر ، فلنرجع إلى السنّة ولندرس الروايات الواردة ، وسيوافيك انّها تعاضد القرآن الكريم ولا تخالفه قيد شعرة بشرط الإمعان في مضامينها وأسنادها ، أمّا ما ورد عن طريق أئمّة أهل البيت عليهم السلام فهو متضافر لا يسعنا نقلها في المقام وإنّما نتبرّك بذكر بعضها :

1. روى الكليني بسنده عن الزهري ، عن علي بن الحسين عليهما السلام في حديث قال : « وأمّا صوم السفر والمرض فإنّ العامة قد اختلفت في ذلك ، فقال قوم : يصوم ، وقال آخرون : لا يصوم ، وقال قوم : إن شاء صام وإن شاء أفطر ، وأمّا نحن فنقول : يفطر في الحالين جميعا ، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء ، فان الله عزّ وجلّ يقول ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) فهذا تفسير الصيام ». (1)

2. روى الكليني بسنده عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : « سمّى رسول

ص : 372


1- الكافي : 4 / 83 ، باب وجوه الصوم.

الله صلى الله عليه وآله وسلم قوما صاموا حين أفطر وقصّر : عصاة ، وقال : هم العصاة إلى يوم القيامة ، وانّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا ». (1)

3. روى الكليني عن عبيد بن زرارة قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام قول الله عزّ وجلّ ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) ، قال : « ما أبينها : من شهد الشهر فليصمه ، وإن سافر فلا يصمه ». (2)

4. روى الكليني عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إنّ الله عزّ وجلّ تصدّق على مرضى أمّتي ومسافريها بالتقصير والإفطار ، أيسرّ أحدكم إذا تصدّق بصدقة ان ترد عليه ». (3)

5. روى الكليني عن عيص بن القاسم ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافرا أفطر » وقال : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلمّا انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشرب وأفطر ثمّ أفطر الناس معه ، وثمّ أناس على صومهم فسمّاهم العصاة ، وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ». (4)

هذا بعض ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ذكرناه ليكون نموذجا لما لم نذكر ، واقتصرنا بالقليل من الكثير ، ومن المعلوم أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام أحد

ص : 373


1- الكافي : 4 / 127 ، باب كراهية الصوم في السفر ، الحديث 6.
2- المصدر نفسه ، الحديث 1.
3- المصدر نفسه ، الحديث 2.
4- المصدر نفسه ، الحديث 5. وقد ورد هذا المضمون في غير واحد من روايات أهل السنّة روى مسلم في رواية خرج رسول الله عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثمّ أفطر وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ( شرح صحيح مسلم للنووي : 7 / 229 ).

الثقلين اللّذين تركهما الرسول بين الأمّة لصيانتها عن الضلالة فلا يعادل قولهم قول الآخرين.

ومن حسن الحظ انّ روايات أهل السنّة توافق ما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، ونذكر منها ما يلي :

1. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، كان رسول الله في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلّل عليه.

فقال : ما هذا؟

فقالوا : صائم.

فقال : ليس من البر الصوم في السفر.

وفي لفظ صحيح مسلم : ليس البر أن تصوموا في السفر. (1)

إنّ البر في مصطلح القرآن هو العمل الحسن الذي يقابله الإثم ، يقول سبحانه ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (2) فإذا لم يكن الصوم في السفر برا فهو إثم ، وحكم الإثم واضح.

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم وإن ورد فيمن وقع في حرج شديد ، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب قاعدة كلية لمطلق الصائم في السفر ، سواء أكان عليه حرج أم لا ، بشهادة انّه لو كان الموضوع هو الصوم الحرجي لكان عليه التركيز عليه ويقول ليس من البر الصوم الحرجي أو يستشهد بقوله سبحانه ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ).

يقول ابن حزم : فإن قيل : إنّما منع عليه السلام في مثل حال ذلك الرجل.

قلنا : هذا باطل لا يجوز ، لأنّ تلك الحال محرّم ، البلوغ إليها باختيار المرء

ص : 374


1- صحيح البخاري : 3 / 44 ؛ صحيح مسلم : 7 / 233.
2- المائدة : 2.

للصوم في الحضر كما هو في السفر ، فتخصيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمنع من الصيام في السفر إبطال لهذه الدعوى المفتراة عليه صلى الله عليه وآله وسلم وواجب أخذ كلامه عليه السلام على عمومه. (1)

2. أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر الناس إليه ثمّ شرب ، فقيل له بعد ذلك : إنّ بعض الناس قد صام؟ فقال : « أولئك العصاة ، أولئك العصاة ». (2)

والمراد من العصيان هو مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول سبحانه ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ). (3)

والعجب ممّن يريد احياء مذهب إمامه يحمل الحديث على أنّ أمره صلى الله عليه وآله وسلم كان أمرا استحبابيا ، لكنّه بمعزل من الواقع ، فأين الاستحباب من قوله : « أولئك العصاة ، أولئك العصاة »؟!

3. أخرج ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر ». (4)

ودلالة الحديث على كون الإفطار عزيمة واضحة ، فإنّ الإفطار في السفر إذا كان إثما وحراما فيكون النازل منزلته أعني : الصيام في نفس هذا الشهر إثما وحراما.

4. أخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك ، عن رجل من بني عبد الأشهل

ص : 375


1- المحلّى : 6 / 254.
2- شرح صحيح مسلم للنووي : 7 / 232.
3- الأحزاب : 36.
4- سنن ابن ماجة : 1 / 532 ، رقم الحديث 1666 ؛ سنن أبي داود : 2 / 217 رقم 2407.

قال : أغارت علينا خيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتغدّى ، فقال : « ادن فكل » ، قلت : إنّي صائم قال : « اجلس أحدّثك عن الصوم أو الصيام ، إنّ الله عزّ وجلّ وضع عن المسافر شطر الصلاة ، وعن المسافر والحامل والمرضع ، الصوم أو الصيام ». والله لقد قالهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلتاهما أو إحداهما ، فيا لهف نفسي فهلاّ كنت طعمت من طعام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1)

5. روى أبو داود انّ دحية بن خليفة خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفسطاط ، وذلك ثلاثة أميال في رمضان ، ثمّ إنّه أفطر وأفطر معه أناس وكره آخرون أن يفطروا ، فلمّا رجع إلى قريته ، قال : والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أنّي أراه ، انّ قوما رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك للذين صاموا ثمّ قال عند ذلك : اللهم اقبضني إليك. (2)

هذا بعض ما يستدلّ به على كون الإفطار عزيمة ، وقد تركنا البعض الآخر لما استوفينا البحث في نقل الروايات الواردة في الصحاح والسنن في كتابنا « البدعة » (3) ، فمن أراد التبسط فليرجع إليه.

ص : 376


1- سنن ابن ماجة : 1 / 533 برقم 1667.
2- سنن أبي داود : 2 / 319 ، الحديث 2413.
3- البدعة : 283 _ 287.

3. ما اتّخذ ذريعة لجواز الصوم في السفر

اشارة

إنّ هنا روايات يتمسّك بها على أنّ الإفطار رخصة وانّ المكلّف مخيّر بينه وبين الصيام وقبل الخوض في المقام نلفت نظر القارئ إلى أمور ثلاثة يظهر بالإمعان فيها حال بعض ما روي في المقام.

1. انّ البحث مركّز على حكم صيام شهر رمضان في السفر ، وانّ الإفطار عزيمة أو رخصة وامّا صيام غيره في السفر فخارج عن موضوع البحث.

2. انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالإفطار في عام الفتح ( السنة الثامنة من الهجرة ) وكان الحكم قبله على الجواز ، فلو دلّ حديث عليه فإنّما يصحّ الاستدلال به إذا ورد بعد عام الفتح ، وإلاّ فالجواز قبل الفتح ليس موردا للنقاش.

3. لو افترضنا دلالة الروايات على التخيير فتقع المعارضة بين الآمرة بالإفطار والحاكمة على التخيير ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات فما وافق الكتاب فهو الحجّة دون ما خالف.

وعلى ضوء هذه الأمور ندرس الروايات المجوّزة ونقول : إنّ الروايات المجوّزة على أصناف :

ص : 377

أ. ما ليس صريحا في شهر رمضان

1. أخرج البخاري عن عائشة انّ حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : أصوم في السفر _ وكان كثير الصيام _ فقال : « إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر ». (1)

إنّ قوله : « وكان كثير السفر » يصلح أن يكون قرينة على أنّ السؤال كان عن الصوم المندوب ، ولو لم يكن قرينة فالحديث ليس صريحا في صيام شهر رمضان ، وما لم يكن كذلك لا يحتجّ به.

2. ما أخرجه البخاري بسنده عن أبي الدرداء قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتّى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرّ وما فينا صائم إلاّ ما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وابن رواحة. (2)

يلاحظ عليه : بما ذكرناه في الرواية السابقة من عدم ظهور الرواية في صوم شهر رمضان ، ومعه لا يحتجّ به ، مع أنّه يحتمل أن يكون صومه قبل عام الفتح.

3. أخرج البخاري عن أنس بن مالك قال : كنّا نسافر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. (3)

يلاحظ عليه : بأنّه ليس صريحا في شهر رمضان _ مضافا _ إلى سكوت الصحابة ليس حجّة شرعية وليس بعد نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوة تشريعية حتّى يكون تقريرهم حجّة.

ص : 378


1- صحيح البخاري : 3 / 43.
2- صحيح البخاري : 3 / 43.
3- صحيح البخاري : 3 / 44. ونقله مسلم مقيّدا برمضان ، وسيوافيك في القسم الثاني.

على أنّه يحتمل أن يكون ذلك قبل يوم الفتح ، وقد عرفت أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ندّد بمن لم يفطر في ذلك اليوم وقال : « أولئك العصاة ، أولئك العصاة ».

4. أخرج مسلم بسنده عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : لا تعب على من صام ولا على من أفطر ، فقد صام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السفر وأفطر. (1)

وليس الحديث صريحا في شهر رمضان ولا ظاهرا فيه ، على أنّه يمكن أن يكون قبل الفتح ، ومنه يظهر ما نقله مسلم في صحيحه (2) وما ذكره ابن حزم في « المحلّى » عن علي. (3)

ب : ما هو صريح في شهر رمضان وليس صريحا في ما بعد الفتح

5. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد _ رضي الله عنه _ قال : كنّا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمضان فما يعاب على الصائم صومه ولا على المفطر إفطاره. (4)

6. وأخرج عن أنس _ رضي الله عنه _ عن صوم رمضان في السفر فقال :

سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. (5)

يلاحظ عليه : قد سافر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّة في شهر رمضان في غزوة بدر ، وأخرى في عام الفتح ، فلعلّ الحديثين ناظران إلى سفره صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان في غزوة بدر ، وإلاّ فهو صلى الله عليه وآله وسلم قد ندّد بمن تخلّف وصام في رمضان عام الفتح وسمّاهم

ص : 379


1- صحيح مسلم : 3 / 143 ، باب جواز الصوم والفطر.
2- صحيح مسلم : 3 / 143.
3- المحلى : 6 / 247.
4- . صحيح مسلم : 3 / 143 ، باب جواز الصوم والفطر.
5- . صحيح مسلم : 3 / 143 ، باب جواز الصوم والفطر.

عصاة ، والحديثان شاهدان على أنّ ما دلّ على الجواز ، فإنّما يرجع إلى ما قبل الفتح لا فيه ولا بعده.

ج : ما هو ضعيف سندا لا يحتجّ به

وهناك روايات ضعاف لا يحتج بها ، نذكر منها نموذجين :

1. ما روي عن العطريف بن هارون مرسلا : انّ رجلين سافرا فصام أحدهما وأفطر الآخر ، فذكرا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كلاكما أصاب. (1)

2. ما روي مرسلا عن أبي عياض : انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن ينادى في الناس من شاء صام ومن شاء أفطر. (2)

والرواية مرسلة لا يحتجّ به. (3)

كما أنّ ما رواه ابن حزم عن عائشة (4) « انّها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة » اجتهاد منها لا يحتجّ به إذا صامت في شهر رمضان بعد الفتح.

وحاصل الكلام : انّ هذه الروايات بين ما هي غير صريحة في كون الصيام كان صيام شهر رمضان أو صريح في كونه في شهر رمضان لكن ليس صريحا فيما بعد الفتح وبين ما هي ضعيفة سندا لا يحتج بها.

ولو افترضنا دلالة هذه الروايات على الرخصة فتقع المعارضة بينها وبين ما دلّت بصراحتها على أنّ الإفطار عزيمة وعندئذ يقع التعارض بينهما فتصل النوبة إلى المرجّحات ، وأولى المرجّحات هو موافقة الكتاب ، ومن المعلوم انّ الطائفة الأولى توافق الكتاب وقد عرفت دلالة الكتاب على أنّ الإفطار عزيمة.

ص : 380


1- المحلى : 6 / 247.
2- المحلى : 6 / 248.
3- . المحلى : 6 / 247.
4- . المحلى : 6 / 247.

10. صلاة التراويح

اشارة

ص : 381

ص : 382

صلاة التراويح

إنّ التهجّد في ليالي شهر رمضان سنّة مؤكّدة ، ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم السلام حسب ما يوافيك بيانه ، والتهجّد فيها بنوافلها من أفضل المسنونات والمندوبات ، وقد سنّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والهدف الذي يستعقبه هذا المقال هو البحث في جواز إقامتها جماعة وعدمه ، ويتجلّى ما هو الحقّ ضمن أمور :

1. التراويح لغة واصطلاحا

التراويح جمع ترويحة ، وهي مأخوذة من الراحة بمعنى زوال المشقة والتعب ، والترويحة في الأصل اسم للجلسة مطلقة ، وسمّيت الجلسة التي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان بالترويحة ، لاستراحة القوم بعد كلّ أربع ركعات ، وهي المرّة الواحدة من الراحة ، مثل تسليمة من السّلام. (1)

ص : 383


1- لسان العرب : 2 ، مادة روح.

2. قيام ليالي رمضان بالتطوع

سنّة مؤكّدة

أنّ قيام ليالي شهر رمضان سنّة مؤكدة (1) حثّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه.

1. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لرمضان من قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه. (2)

2. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال : من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه. (3)

3. أخرج الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي الورد ، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال : « خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس في آخر جمعة من شعبان فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس انّه قد أظلّكم شهر ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، وهو شهر

ص : 384


1- سنّة مؤكّدة عند الإمامية وثلاثة من الأئمة وخالفت المالكية.
2- صحيح البخاري : 3 / 44 ، باب فضل من قام رمضان ، صحيح مسلم : 2 / 176 ، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
3- صحيح مسلم : 2 / 177 ، الباب نفسه.

رمضان ، فرض الله صيامه ، وجعل قيام ليلة فيه بتطوع صلاة ، كمن تطوع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور ، وجعل لمن تطوع فيه بخصلة من خصال الخير والبر ، كأجر من أدّى فريضة من فرائض الله عزّ وجلّ ، ومن أدّى فيه فريضة من فرائض الله عزّ وجلّ كان كمن أدّى سبعين فريضة من فرائض الله فيما سواه من الشهور. ». (1)

4. أخرج الشيخ عن يونس بن عبد الرحمن ، عن محمد بن يحيى قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فسأل هل يزاد في شهر رمضان في صلاة النوافل؟ فقال : « نعم ، قد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي بعد العتمة في مصلاّه فيكثر ». (2)

5. أخرج الشيخ عن علي بن أبي حمزة ، قال : دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام فقال له أبو بصير : ما تقول في الصلاة في رمضان؟ فقال له : « إنّ لرمضان لحرمة وحقا لا يشبهه شيء من الشهور ، صلّ ما استطعت في رمضان تطوعا بالليل والنهار ، وإن استطعت في كلّ يوم وليلة ألف ركعة فصلّ انّ عليا عليه السلام كان في آخر عمره يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة ، فصلّ يا أبا محمد زيادة في رمضان » فقال : كم جعلت فداك؟ فقال : « في عشرين ليلة تمضي في كلّ ليلة عشرين ركعة ، ثماني ركعات قبل العتمة واثنتي عشرة بعدها سوى ما كنت تصلي قبل ذلك ، فإذا دخل العشر الأواخر فصلّ ثلاثين ركعة كلّ ليلة ، ثمان قبل العتمة واثنتين وعشرين بعد العتمة سوى ما كنت تفعل قبل ذلك ». (3)

ص : 385


1- التهذيب : 3 / 57 ، باب فضل شهر رمضان والصلاة فيه زيادة على النوافل.
2- التهذيب : 3 / 60 ، باب فضل شهر رمضان ، الحديث 8.
3- التهذيب : 3 / 64 ، باب فضل شهر رمضان ، الحديث 18.

3. خير صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة

أخرج أصحاب الصحاح والسنن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انّه قال : إنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة ، وانّ للمرء أن يجعل للبيت نصيبا من الصلاة.

1. اخرج مسلم عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبورا ». (1)

2. وأخرج أيضا عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « صلّوا في بيوتكم ولا تتّخذوها قبورا ». (2)

3. وأخرج أيضا عن جابر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته ، فان الله جاعل في بيته من صلاته خيرا ». (3)

4. أخرج مسلم عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت ». (4)

5. أخرج مسلم عن زيد بن ثابت ، قال : احتجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله يصلّي فيها قال : فتتبع إليه رجال وجاءوا

ص : 386


1- . صحيح مسلم : 2 / 187 _ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
2- . صحيح مسلم : 2 / 187 _ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
3- . صحيح مسلم : 2 / 187 _ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
4- . صحيح مسلم : 2 / 187 _ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.

يصلون بصلاته ، قال : ثمّ جاءوا ليلة فحضروا وابطأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، قال : فلم يخرج إليهم ، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت انّه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فان خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة. (1)

6. أخرج أبو داود عن زيد بن ثابت قال : احتجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد حجرة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من الليل فيصلّي فيها ، قال : فصلّوا معه بصلاته _ يعني رجالا _ وكانوا يأتونه كلّ ليلة ، حتّى إذا كان ليلة من الليالي لم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتنحنحوا ورفعوا أصواتهم وحصّبوا بابه ، قال : فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا ، فقال : أيّها الناس ، ما زال بكم صنيعكم حتّى ظننت أن ستكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فان خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة. (2)

7. أخرج النسائي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلّوا في بيوتكم ولا تتّخذوها قبورا. (3) وقد شبّه النبي البيت الذي لا يصلّى فيه بالقبر الذي لا يتعبّد فيه.

8. أخرج النسائي عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن أبيه ، عن جدّه قال : صلّى رسول الله صلاة المغرب في مسجد بني الأشهل ، فلمّا صلّى قام ناس يتنفّلون فقال النبي : عليكم بهذه الصلاة في البيوت. (4)

ص : 387


1- صحيح مسلم : 2 / 187 _ 188 باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
2- سنن أبي داود : 2 / 69 ، حديث 1447.
3- سنن النسائي : 3 / 197 ، باب قيام الليل وتطوع النهار.
4- سنن النسائي : 3 / 198 ، باب قيام الليل وتطوع النهار ؛ وأخرجه أحمد في المسند : 5 / 427 و 428.

وعلى ضوء هذا الإيصاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسنّة التي أوصى بها غير مرة ، تخرج إقامة صلاة التراويح في شهر رمضان في المساجد مطلقا _ سواء أقيمت جماعة أو فرادى _ على خلاف السنّة وعلى خلاف إيصائه صلى الله عليه وآله وسلم غير مرّة ، إذ بذلك تضحى بيوت المسلمين كالقبور حيث لا يصلّى فيها ولا يتعبّد.

ولا أدري لما ذا تركت هذه السنّة عبر القرون مع إصرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إقامة النوافل في البيوت؟!

والعجب من ابن حزم انّه اعترف بأفضلية كلّ تطوع في البيوت ولكن استثنى ما صلّى جماعة في المسجد حيث قال : « مسألة » وصلاة التطوّع في الجماعة أفضل منها منفردا ، وكلّ تطوع فهو في البيوت أفضل منه في المساجد إلاّ ما صلّى منه جماعة في المسجد فهو أفضل. (1)

ولا يخفى على القارئ الكريم انّ ما استثناه ابن حزم اجتهاد في مقابل النصّ ، فان كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مطلق يعمّ حالتي الفرادى والجماعة ، وقد مرّ في رواية سعد بن إسحاق انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى صلاة المغرب في مسجد بني عبد الأشهل فلما صلّى ، قام ناس يتنفّلون ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « عليكم بهذه الصلاة في البيوت ». فلو كان التنفّل مع الجماعة في المسجد أفضل من التنفّل في البيوت ، لأرشدهم النبي إلى ما هو الأفضل مع أنّه قال بضرس قاطع : « عليكم بهذه الصلاة في البيوت » أي اتركوا التنفّل في المسجد مطلقا فرادى وجماعة وعليكم بها في البيوت.

ص : 388


1- المحلّى : 3 / 38.

لقد نقل المعلّق على « المحلّى » تعليقا في المقام ، يدعم ما ذكرنا ، قال ما هذا نصه :

« قال ابن حزم ما كان عليه السلام ؛ ليدع الأفضل ، وهذا في هذه الوجهة ، ثمّ قال : هنا الجماعة أفضل للمتطوع ، وقد علم كلّ عالم انّ عامة تنفّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان منفردا فعلى ما أصل ابن حزم ، كيف كان يدع الأفضل ، فعلمنا انّ صلاة الجماعة تفضل بخمسة وعشرين درجة إذا كانت فريضة لا تطوعا » وهو نقد وجيه ، وهو الحق.

9. أخرج ابن ماجة عن عبد الله بن سعد قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيّما أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ قال : ألا ترى إلى بيتي ما أقربه إلى المسجد؟! فلان أصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أصلّي في المسجد إلاّ أن تكون صلاة مكتوبة. (1)

قال المعلّق في الزوائد : إسناده صحيح ورجاله ثقات.

10. أخرج ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال : « إذا قضى أحدكم صلاته فليجعل لبيته نصيبا ، فان الله جاعل في بيته من صلاته خيرا ». (2)

ولا ينافي ما ذكرنا ما رواه الترمذي مرسلا عن حذيفة انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلّى المغرب ، فما زال يصلّي في المسجد حتى صلّى العشاء الآخرة. (3) وذلك لأنّ

ص : 389


1- سنن ابن ماجة : 1 / 439 برقم 1378.
2- سنن ابن ماجة : 1 / 438 برقم 1376.
3- سنن الترمذي : 2 / 500 ذيل حديث 604 ، وأخرجه أحمد في المسند : 5 / 414.

الحديث محمول على وجود عذر خاص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للتنفّل في المسجد بعد المغرب ، وقد اتّفق للنبي التنفّل في المسجد في بعض الليالي ، وكان كلّها استثناء من القاعدة لأجل عذر خاص ، كضيق في البيت أو غير ذلك.

فخرجنا بالنتيجة التالية : إنّ التنفّل في المساجد حتّى إقامة نوافل شهر رمضان فيها جماعة أو فرادى على خلاف السنّة النبوية ، فعلى المسلمين إقامتها في البيوت لا في المساجد.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى حكم إقامة نوافل شهر رمضان جماعة والتي يطلق عليها صلاة التراويح فنقول :

ص : 390

4. صلاة التراويح جماعة عند الإماميّة

اتّفقت الشيعة الإمامية تبعا لأئمّة أهل البيت عليهم السلام على أنّ نوافل شهر رمضان تقام فرادى. وانّ إقامتها جماعة بدعة حدثت بعد رسول الله بمقياس ما أنزل الله به من سلطان. (1)

قال الشيخ الطوسي : نوافل شهر رمضان تصلى انفرادا والجماعة فيها بدعة. (2)

وقال العلاّمة : ولا تجوز الجماعة في هذه الصلاة عند علمائنا أجمع. (3)

وقال في « المنتهى » : قال علماؤنا : الجماعة في نافلة شهر رمضان بدعة. (4)

ترى هذه الكلمة _ أي انّ إقامة النوافل في شهر رمضان بدعة _ في عامّة الكتب الفقهية للشيعة الإمامية ولم يختلف فيه اثنان.

وقد تضافرت الأحاديث عن أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنّها بدعة محدثة حدثت بعد الرسول ، ونذكر بعض ما أثر عنهم :

ص : 391


1- ذكر ذلك المقياس ابن حجر العسقلاني في فتح الباري : 4 / 240 ، وسوف يوافيك نصه.
2- الخلاف : كتاب الصلاة ، المسألة 268.
3- التذكرة : 2 / 282.
4- المنتهى : 6 / 142.

1. روى الشيخ الطوسي في التهذيب عن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : سألته عن الصلاة في رمضان في المساجد؟ قال : « لمّا قدم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن علي عليهما السلام أن ينادي في الناس : « لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة » ، فنادى في الناس الحسن بن علي عليهما السلام بما أمره به أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن علي صاحوا : وا عمراه ، وا عمراه ، فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له : ما هذا الصوت؟ فقال : يا أمير المؤمنين : الناس يصيحون : وا عمراه ، وا عمراه ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : قل لهم صلّوا ».

قال الشيخ الطوسي : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام لما أنكر ، أنكر الاجتماع ولم ينكر نفس الصلاة ، فلمّا رأى أنّ الأمر يفسد عليه ويفتتن الناس ، أجاز وأمرهم بالصلاة على عادتهم. (1)

2. أخرج الكليني عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل سألوا أبا جعفر الباقر عليه السلام وأبا عبد الله الصادق عليه السلام عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة؟ فقالا : « إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ثمّ يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي ، فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي كما كان يصلّي ، فاصطف الناس خلفه فهرب منهم إلى بيته وتركهم ، ففعلوا ذلك ثلاث ليال ، فقام صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الرابع على منبره ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلّوا صلاة الضحى ، فإنّ تلك معصية ألا فإنّ كل بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار. ثمّ نزل وهو يقول : قليل في سنّة ، خير من كثير في بدعة ». (2)

ص : 392


1- التهذيب : 3 ، باب فضل شهر رمضان ، الحديث 30.
2- الكافي : 4 / 154.

وأخرجه الشيخ في التهذيب. (1)

3. أخرج الكليني عن عبيد بن زرارة ، عن الصادق عليه السلام قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيد في صلاته في شهر رمضان إذا صلّى العتمة ، صلّى بعدها ، فيقوم الناس خلفه فيدخل ويدعهم ، ثمّ يخرج أيضا فيجيئون فيقومون خلفه ، فيدعهم ويدخل مرارا ». (2)

وحصيلة هذه الروايات : انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهاهم بتركهم ودخوله البيت مرّة بعد أخرى ، غير انّ القوم لأجل رغبتهم إلى التنفّل جماعة وراء النبي ، حال بينهم وبين ما يصبو إليه النبي من تركهم ودخول البيت ، فلمّا رأى أنّهم يصرّون على ذلك قام في اليوم الرابع على منبره فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : « أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلّوا صلاة الضحى ، فان تلك معصية ألا فإنّ كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار ». ثمّ نزل وهو يقول : « قليل في سنّة خير من كثير في بدعة ». (3)

ص : 393


1- التهذيب : 3 / 69 باب في فضل شهر رمضان ، الحديث 29.
2- الكافي : 4 / 154.
3- الفقيه : 1 / 87 ، كتاب الصوم.

5. صلاة التراويح جماعة عند أهل السنّة

المشهور عند أهل السنّة هو جواز إقامتها جماعة وعليه عملهم عبر القرون إلاّ أنّهم اختلفوا فيما هو الأفضل من الجماعة والانفراد :

قال الشافعي : صلاة المنفرد أحبّ إليّ منه. (1)

واختلف أصحاب الشافعي في ذلك على قولين :

فقال أبو العباس وأبو إسحاق وعامّة أصحابه : صلاة التراويح في الجماعة أفضل بكلّ حال.

والقول الثاني منهم من قال بظاهر كلام الشافعي وانّ صلاة التراويح على الانفراد أفضل منها في الجماعة بشرطين :

أحدهما : أن لا تختل الجماعة بتأخّره عن المسجد.

والثاني : أن يطيل القيام والقراءة فيصلّي منفردا ويفرد أكثر ممّا يفرد إمامه. (2)

قال النووي : اتّفق العلماء على استحبابها واختلفوا في أنّ الأفضل صلاتها في بيته منفردا أم في جماعة في المسجد ، فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وأحمد وبعض المالكية وغيرهم : الأفضل صلاتها جماعة ، كما فعله عمر بن الخطاب

ص : 394


1- المجموع : 4 / 5.
2- الخلاف : 1 / 528 ، المسألة 268 من كتاب الصلاة.

والصحابة واستمر عمل المسلمين عليه ، لأنّه من الشعائر الظاهرة وأشبه بصلاة العيد ، وبالغ الطحاوي فقال : إنّ صلاة التراويح في الجماعة واجبة على الكفاية ، وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم : الأفضل فرادى في البيت لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أفضل الصلاة ، صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة » متّفق عليه. (1)

وقال الشوكاني : قالت العترة إنّ التجميع فيها بدعة. (2)

وقد فصل عبد الرحمن الجزيري في كتابه « الفقه على المذاهب الأربعة » الأقوال على النحو التالي :

قالت المالكية : الجماعة في صلاة التراويح مستحبة أمّا باقي النوافل ، فان صلاتها جماعة تارة يكون مكروها ، وتارة يكون جائزا ، فيكون مكروها إذا صلّيت بالمسجد ، وصلّيت بجماعة كثيرين ، أو كانت بمكان يكثر تردد الناس عليه ، وتكون جائزة إذا كانت بجماعة قليلة ، ووقعت في المنزل ونحوه في الأمكنة التي لا يتردد عليها الناس.

وقال الحنفية : تكون الجماعة سنّة كفاية في صلاة التراويح والجنازة ، وتكون مكروهة في صلاة النوافل مطلقا والوتر في غير رمضان ، وإنّما تكره الجماعة في ذلك إذا زاد المقتدون عن ثلاث. أمّا الجماعة في وتر رمضان ففيها قولان مصححان ، أحدهما : انّها مستحبة فيه ، وثانيهما : انّها غير مستحبة ولكنّها جائزة ، وهذا القول أرجح.

وقالت الشافعية : أمّا الجماعة في صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف

ص : 395


1- شرح صحيح مسلم للنووي : 6 / 286.
2- نيل الأوطار : 3 / 50.

والتراويح ووتر رمضان فهي مندوبة.

وقالت الحنابلة : أمّا النوافل فمنها ما تسنّ فيه الجماعة وذلك كصلاة الاستسقاء والتراويح والعيدين ، ومنها ما تباح فيه الجماعة كصلاة التهجد ورواتب الصلاة المفروضة. (1)

هذه هي أقوال أهل السنّة وآراؤهم.

ص : 396


1- الفقه على المذاهب الأربعة : 407 ، كتاب الصلاة.

6. صلاة التراويح جماعة في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

سيوافيك في الفصل التالي انّ ظاهر الروايات وكلام الخليفة عمر بن الخطاب وما حوله من كلمات الشرّاح انّ إقامة نوافل رمضان جماعة تستمد مشروعيتها من عمل الخليفة لا من عمل النبي ، لكن هناك من يقول بأنّ إقامتها جماعة تستمدّ مشروعيتها من إقامة المسلمين لها وراء النبي في بعض ليالي شهر رمضان وإن كان لا يتجاوز عن ليلة أو ثلاث ليال.

أقول : إنّ النصوص الدالّة على ذلك مختلفة وفيها شذوذ نشير إليها تباعا.

1. إقامتها ليلة واحدة

اشارة

أخرج مسلم عن زيد بن ثابت قال : احتجر رسول الله حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي فيها ، قال : فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلّون بصلاته ، قال : ثمّ جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، قال : فلم يخرج إليهم فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما زال بكم صنيعكم حتّى ظننت انّه سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فان خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة. (1)

ص : 397


1- صحيح مسلم : 2 / 188 ، باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
تفسير لغات الحديث

1. الحجيرة _ بضم الحاء _ تصغير حُجرة ، عطف الحصير على الخصفة يعرب عن شك الراوي في تعيّن واحد منهم ، ومعنى الرواية احتجر حجرة أي حوّط موضعا من المسجد بحصير أو نحوه ليستره ليصلّي فيه ولا يمرّ بين يديه مارّ ولا يتهوش بغيره ويتوفر خشوعه وفراغ قلبه.

2. « فتتبع إليه رجال » أي طلبوا موضعه.

3. « حصبوا الباب » أي رموه بالحصاء وهي الحصاء الصغار تذكيرا له وظنوا أنّه نسي.

فلو صحّ الحديث لدلّ على أنّ المسلمين أقاموا نوافل شهر رمضان جماعة مع الرسول مرة واحدة من دون إذن أو استئذان ، فلما جاءوا ليلة أخرى فحضروا وأبطأ رسول الله عنهم فلم يخرج إليهم ، رفعوا أصواتهم وحصبوا الباب ، فخرج إليهم رسول الله مغضبا ، وقال ما قال.

فعلى ضوء هذا الحديث لم تثبت مشروعية الجماعة بفعل الرسول ، لأنّ القوم اقتدوا به من دون أن يستفسروا ويستبينوا حكمه ، وأمّا الليلة الثانية فلم يقم الجماعة أبدا بل ظهرت ملامح الغضب على وجهه لما صدر عنهم من موقف مشين بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوّلا ، وإصرارهم على إقامة النوافل جماعة ثانيا بالرغم من عدم استبانتهم حكمها.

2. إقامتها ليلتين

انّ هناك روايات أخرى تخالف الرواية الأولى حيث يدلّ على أنّه أقيمت الجماعة في ليلتين.

ص : 398

أخرج البخاري عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أمّ المؤمنين انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلّى ذات ليلة في المسجد وصلّى بصلاته ناس ، ثمّ صلّى من القابلة فكثر الناس ، ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلمّا أصبح ، قال : قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ انّي خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان. (1)

وأخرجه مسلم أيضا في صحيحه. (2)

3. إقامتها ثلاث ليال

اشارة

أخرج البخاري عن عروة انّ عائشة أخبرته انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلّى في المسجد وصلّى رجال بصلاته ، فأصبح الناس فتحدّثوا فاجتمع أكثر منهم ، فصلّى وصلّوا معه ، فأصبح الناس فتحدّثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلّى وصلّوا بصلاته ، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتّى خرج لصلاة الصبح ، فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثمّ قال : « أمّا بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها » فتوفّي رسول الله والأمر على ذلك. (3)

وأخرجه مسلم في صحيحه. (4)

ص : 399


1- صحيح البخاري : 2 / 49 باب تحريض النبي على صلاة الليل.
2- صحيح مسلم : 2 / 177 باب الترغيب في قيام رمضان.
3- صحيح البخاري : 3 / 45 ، باب فضل من قام رمضان.
4- صحيح مسلم : 2 / 177 ، باب الترغيب في قيام رمضان.

أخرج البيهقي عن أبي ذر ، قال : صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر ، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، ثمّ لم يقم بنا في الثالثة ، وقام بنا في الخامسة ، حتّى ذهب شطر الليل ، فقلنا : يا رسول الله لو نفلنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال : إنّه من قام مع الإمام حتّى ينصرف كتب له القيام ليلة ، ثمّ لم يقم بنا حتّى بقي ثلاث من الشهر فصلّى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه ، فقام بنا حتّى تخوفنا الفلاح ، قلت له : وما الفلاح؟ قال : السحور. (1)

وعلى هذه الرواية خرج في الليلة الرابعة ( أو الثالثة والعشرين على قول بعضهم ) (2) والعشرين والسادسة والعشرين والثامنة والعشرين.

هذه عمدة ما روي في المقام.

إنّ الأخذ بمضمون هذه الروايات مشكل لوجوه عديدة :

1. الاختلاف في عدد الليالي وتواليها ومواضعها

إنّ بين هذه الروايات تعارضا واختلافا في أمور ثلاثة :

الأوّل : وجود التعارض بين هذه الروايات في مقدار الليالي التي أقام النبي فيها جماعة ، فان كلّ واحد بصدد بيان عدد الليالي التي أقيمت فيها النوافل جماعة مع النبي ، فهل أقامها النبي ليلة واحدة كما هو مضمون الرواية الأولى؟ أو ليلتين أو ثلاث ليال ، كما هو مضمون الطائفتين الأخيرتين؟ وهذا يعرب عن أنّ الرواة لم يضبطوا الواقع بشكل دقيق.

ص : 400


1- سنن البيهقي : 2 / 494 ، باب من زعم أنّها بالجماعة أفضل ، ونقله الشوكاني في نيل الأوطار : 3 / 50 ، وقال : رواه الخمسة وصححه الترمذي.
2- الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 251.

الثاني : الاختلاف في توالي الليالي وعدمه ، فصريح رواية البخاري : « انّه صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي بصلاته ناس ثمّ صلّى من القابلة » انّ الليالي كانت متوالية ، وصريح رواية أبي ذر انّها كانت غير متوالية ، فقد صلّى معهم في الليلة الرابعة والعشرين ، والسادسة والعشرين ، والثامنة والعشرين.

الثالث : الاختلاف في مواضع الليالي ، فالمتبادر من أغلبها أنّه صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بهم في أوائل الشهر ، وصريح رواية أبي ذر انّه صلى الله عليه وآله وسلم صلّى بهم في العشر الآخر.

ومع هذا الاختلاف كيف نؤمن بصحّة ما فيها من المضامين؟!

2. عدم إناطة التشريع برغبة الناس

إنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها » يعرب عن أنّ التشريع تابع لإقبال الناس وأدبارهم ، ولا أقلّ لإقبالهم ، فلو أظهر الناس رغبتهم إلى العمل ربّما يفرض عليهم مع أنّ الملاك في فرض شيء على كلّ الناس ، هو وجود مصلحة ملزمة في الشيء ، سواء أكان هناك رغبة من الناس أم لا ، فتشريعه سبحانه ليس تابعا لرغبة الناس أو أعراضهم وإنّما يتبع الملاكات الواقعية ، فالمصلحة الملزمة تستتبع تشريعها ، وعدمها عدمه ، ولمّا وقف شراح الصحيحين على هذا الإشكال مالوا يمينا ويسارا لحلّه.

قال ابن حجر في شرح جملة : « إلاّ انّي خشيت أن تفرض عليكم » انّ ظاهر هذا الحديث انّه صلى الله عليه وآله وسلم توقع ترتّب افتراض الصلاة في الليل جماعة على وجود المواظبة عليها _ ثمّ قال : _ وفي ذلك إشكال.

إنّ ابن حجر وإن أحجم عن بيان مقصوده من الإشكال ولكن يمكن أن يكون إشارة إلى أمرين :

ص : 401

1. انّ الأحكام تابعة للملاكات الواقعية لا لرغبة الناس فيها ولا عنها.

2. انّ في الشريعة المقدسة أمورا واظب عليها النبي والمسلمون كالمضمضة والاستنشاق ، ولم تفرض عليهم ، كما أنّ هناك أحكاما رغب عنها كثير من المسلمين حتى في زمن النبي فضلا عما بعده ومع ذلك بقي حكمه على ما كان ، وهذا كحكم الجهاد الذي تقاعس عنه بعض المسلمين حتّى واجهوا تقريعه سبحانه وتبكيته حيث قال ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ). (1)

إنّ بعض أئمّة أهل البيت عليهم السلام كالإمام الباقر والصادق عليهما السلام نقلا كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه الذين كانوا مصرّين على إقامة نوافلهم بالجماعة مع الرسول ، وليس فيه أيّ إشارة إلى هذا التعليل ، فقالا :

« إنّ رسول الله حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس انّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل. ». (2) ترى أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حسب هذا النقل علل عدم حضوره لإقامة النوافل جماعة بأنّه أمر غير مشروع لا انّه خشي أن يكتب عليهم.

3. مخالفة التعليل لنداء المعراج

أخرج أصحاب الصحاح والسنن عن أنس بن مالك قال : فرضت [ الصلاة ] على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسري به الصلوات خمسين ، ثمّ نقصت حتّى جعلت خمسا ثمّ نودي يا محمد انّه لا يبدّل القول لدي وإنّ لك بهذه الخمس

ص : 402


1- التوبة : 38.
2- الفقيه : 1 / 87 ، كتاب الصوم.

خمسين. (1)

قال العسقلاني : وقد استشكل الخطابي أصل هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء انّ الله تعالى قال : هنّ خمس وهنّ خمسون لا يبدل القول لديّ ، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟! (2)

ثمّ ذكر الشارحان العسقلاني والقسطلاني توجيهات وتمحلات لا تغني ولا تسمن من جوع ، وقد حكى القسطلاني في إرشاد الساري عن صاحب شرح التقريب تلك التمحلات وانّه قال : ومع هذا فإنّ المسألة مشكلة ولم أر من كشف الغطاء عن ذلك. (3)

4. رغبة الصحابة لا يكون ملاكا للتشريع في حقّ الأجيال

لو افترضنا انّ الصحابة أظهرت اهتمامها بصلاة التراويح بإقامتها جماعة ، أفيكون ذلك ملاكا للفرض على غيرهم ولم تكن نسبة الحاضرين إلى الغائبين إلاّ شيئا لا يذكر ، فان مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ذاك كان مكانا محدودا لا يسع إلاّ ما يقارب ستة آلاف شخص أو أقل ، فقد جاء في الفقه على المذاهب الخمسة : كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 35 مترا في 30 مترا ثمّ زاده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجعله 57 مترا في 50 مترا. (4) أفيصحّ جعل اهتمامهم كاشفا عن اهتمام جميع الناس بها عبْر العصور إلى يوم القيامة.

ص : 403


1- صحيح البخاري : 1 / 75 ، باب كيف فرضت الصلوات في الاسراء ، سنن الترمذي : 1 / 417 ، باب كم فرض الله على عباده من الصلوات ، الحديث 213 ، واللفظ للترمذي.
2- فتح الباري : 3 / 10.
3- إرشاد الساري : 3 / 428.
4- الفقه على المذاهب الخمسة : 2850.

5. القدر المتيقّن من فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

لو افترضنا صحّة مضامين هذه الروايات لكن الظاهر من روايات الصحيحين انّ النبي خرج في جوف الليل فصلّى في المسجد وهو كناية انّه صلّى في المسجد ، النوافل الليلية ، وهي لا تتجاوز عن ثماني ركعات ، فسواء أقلنا انّه خرج ليلة واحدة أو ليلتين أو ثلاث أو أربع فقد خرج في جوف الليل لإقامة النوافل الليلية فاقتدى به من اقتدى من الصحابة ، فعندئذ يكون الثابت من فعل النبي هو هذا المقدار وأين هذا من إقامة صلاة التراويح في عامة شهر رمضان في كلّ ليلة عشرين ركعة ، ترويحة بعد أربع ركعات فتكون ستمائة ركعة إذا كان الشهر تاما.

فلو قلنا بأنّ التشريع ثبت بفعل النبي فإنّما ثبت هذا المقدار القليل فما الدليل على الأكثر منه؟ يقول عبد الرحمن الجزيري في كتابه « الفقه على المذاهب الأربعة » :

روى الشيخان أنّه صلى الله عليه وآله وسلم خرج من جوف الليل ليالي من رمضان ، وهي ثلاث متفرقة : ليلة الثالث ، والخامس ، والسابع والعشرين ، وصلّى في المسجد ، وصلّى الناس بصلاته فيها ، وكان يصلّي بهم ثماني ركعات ويكملون باقيها في بيوتهم فكان يسمع لهم أزيز ، كأزيز النحل.

وقال : ومن هذا يتبين انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنّ لهم التراويح والجماعة فيها ولكن لم يصلّ بينهم عشرين ركعة كما جرى عليه من عهد الصحابة ومن بعدهم إلى الآن. (1)

وممّن التفت إلى هذا الإشكال ، القسطاني ، قال :

ص : 404


1- الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 251.

1. انّ النبي لم يسنّ لهم الاجتماع لها.

2. ولا كانت في زمن الصديق.

3. ولا أوّل الليل.

4. ولا كلّ ليلة.

5. ولا هذا العدد.

ثمّ التجأ في إثبات مشروعيتها إلى اجتهاد الخليفة ، وسيوافيك الكلام فيه.

وقال العيني : إنّ رسول الله لم يسنّها لهم ولا كانت في زمن أبي بكر ، ثم اعتمد في شريعته إلى اجتهاد عمر واستنباطه من إقرار الشارع الناس يصلّون خلفه ليلتين. (1)

وقال الشاطبي : وممّن نبّه بذلك من السلف الصالح ، أبو أمامة الباهلي قال : أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم ، إنّما كتب عليكم الصيام فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فان أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حقّ رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال ( وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ). (2)

فلم يبق هنا مبرر لأزيد ممّا ثبت من عمل النبي إلاّ عمل الخليفة وسوف نتكلم فيه.

6. صلاة التراويح بين اللغوية وعدم التشريع

إنّ التشريع الإلهي مصون من اللغو ، فالمشرّع هو الله سبحانه ، وفعله نزيه

ص : 405


1- عمدة القارئ : 11 / 126.
2- الاعتصام : 2 / 291.

من اللغو والعبث ، فعندئذ تتوجه الأسئلة التالية إلى مشروعية نوافل رمضان جماعة في عصر الرسول :

1. إنّ إقامتها جماعة في عصر الرسول لم تخل عن صورتين :

كانت إقامتها كذلك أمرا مشروعا وسنّ سبحانه لنبيّه أن يقيمها جماعة.

لم تكن مشروعة وكانت الجماعة مختصة بالفرائض.

فلو كانت مشروعة ، فلما ذا أهمل النبي تلك السنّة في حياته بل كان عليه أن يجسّد مشروعيتها حينا بعد حين على وجه لا يخشى عليها الافتراض مع أنّه لم يفعل كذلك طيلة عمره ، بل خرج مغضبا ورادعا عن هذا الأمر؟!

وهذا يعرب عن كون الواقع هو الأمر الثاني ، وانّ إقامة النوافل مطلقا ، أو نوافل شهر رمضان جماعة ، كان أمرا غير مشروع ، ولذلك صارت متروكة في عصره صلى الله عليه وآله وسلم وعصر الخليفة الأوّل وسنين في خلافة الثاني ، ثمّ بدا له ما بدا.

2. إذا كانت إقامة صلاة التراويح جماعة ، أمرا مشروعا في الشريعة الإسلامية ، فطبع الحال يقتضي أن تكون محددة من جانب الوقت ، وأنّه هل تصلّى في أوائل الليل أو أواسطه أو أواخره ، كما يجب أن تحدد من حيث عدد الركعات ، حتّى لا يكون المصلّون على غمّة من الأمر.

فإذا كان النبي قد صلّى ثماني ركعات في المسجد ، وأتمها في بيته ، فلما ذا لم يحدّد الركعات ، ويبقى الأمر مكتوما حتّى حدّده عمر بن الخطاب بعشرين ركعة من دون أن ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف يحتجّ بفعله؟ فإنّ فعل الصحابة وقولهم ما لم يسندهما إلى المعصوم ليسا بحجّة إلاّ على نفسه.

3. كيف يتدخل عمر بن عبد العزيز في أمر الشريعة ، فأدخل فيها ما ليس منها ، ليتساوى _ في رأيه _ أهل المدينة وأهل مكة في الفضيلة والثواب ، فإنّ فتح

ص : 406

هذا الباب لعمر بن عبد العزيز وأقرانه ، يجعل الشريعة المقدسة شرعة لكلّ وارد ، والعوبة بيد الحكام يحكمون فيها بآرائهم.

4. ثمّ إنّ عمر بن عبد العزيز جعل عدد ركعاتها (36) ركعة ، بحجّة أنّ أهل مكة يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرّة ، فرأى أن يصلّى بدل كلّ طواف أربع ركعات.

فلو صحّ هذا ( يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات ) ، يجب أن يجعل عدد ركعاتها أربعين ركعة ، لأنّ أهل مكة كانوا يطوفون بعد كلّ أربع ركعات مرّة ، ومن المعلوم أنّهم كانوا _ حسب هذا التعبير _ يطوفون بعد عشرين ركعة طوافا آخر ، فيبلغ عد مرات طوافهم خمسة ، فلو أقيم مكان كلّ طواف أربع ركعات ، لصارت الزيادة مع الأصل أربعين ركعة ، عشرون ركعة بدل الطواف مضافة إلى عشرين ركعة مسنونة بالأصل.

نعم على ما نقله ابن قدامة من أنّ الطواف كان بين كلّ ترويحة ، يبلغ عدد مرات الطواف أربعة ، فيصير عدد الركعات ستا وثلاثين.

7. الاختلاف الكبير في عدد ركعاتها

اختلف الفقهاء في عدد ركعات صلاة التراويح ، فقال الخرقي في مختصره : وقيام شهر رمضان عشرون ركعة ، يعني صلاة التراويح.

وقال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي : والمختار عند الإمام أحمد عشرون ركعة ، وبهذا قال الثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي. وقال مالك : ستة وثلاثون ، وزعم أنّه الأمر القديم ، وتعلّق بفعل أهل المدينة. (1)

ص : 407


1- المغني : 2 / 137 _ 138.

وقد اعتمد من جعله عشرين ركعة على فعل الخليفة عمر ، في حين اعتمد من جعله ستّا وثلاثين ركعة على فعل عمر بن عبد العزيز.

قال عبد الرحمن الجزيري في « الفقه على المذاهب الأربعة » : إنّ عددها ليس مقصورا على الثماني ركعات التي صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم ، بدليل أنّها يكملونها في بيوتهم ، وقد بيّن فعل عمر ، أنّ عددها عشرون ، حيث إنّه جمع الناس أخيرا على هذا العدد في المسجد ، ووافقه الصحابة على ذلك. نعم زيد فيها في عهد عمر بن عبد العزيز ، فجعلت ستا وثلاثين ركعة ، وكان القصد من هذه الزيادة مساواة أهل مكة في الفضل ، لأنّهم كانوا يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرة ، فرأى عمر بن عبد العزيز أن يصلّى بدل كلّ طواف أربع ركعات. (1)

وربما يظن القاري أنّ الاختلاف ينحصر بهذين القولين ، ولكن الاختلاف في عدد ركعاتها أوسع من ذلك بكثير إلى حدّ قلّ نظيره في أبواب العبادات.

فمن قائل : إنّ عدد ركعاتها 13 ركعة ، إلى آخر : أنّها 20 ركعة ، إلى ثالث :

أنّها 24 ركعة ، إلى رابع : أنّها 28 ركعة ، إلى خامس : أنّها 36 ركعة ، إلى سادس : أنّها 38 ركعة ، إلى سابع : أنّها 39 ركعة ، إلى ثامن : أنّها 41 ركعة ، إلى تاسع : أنّها 47 ركعة ، وهلمّ جرّا. (2)

إنّ العبادة الجماعية كصلاة التراويح ، التي تقيمها الأمّة الإسلامية في رمضان كلّ سنة ، تطلب لنفسها أن تكون مبيّنة الحدود في لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 408


1- الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 251 ، كتاب الصلاة ، مبحث صلاة التراويح.
2- فتح الباري : 4 / 204 ، إرشاد الساري : 3 / 426 ، عمدة القاري : 11 / 126. وقد تكلّفوا في الجمع بين هذه الأقوال المتشتّتة.

محددة من جانب الركعات وغيرها من الجهات لكن تسرّب الفوضى إليها من وجوه شتّى ، يكشف عن عدم نص من الرسول في الموضوع ، ولا وجود رغبة منه إلى إقامة الأمّة لها بعد رحيله ، فإنّ السنّة المؤكدة ، أو السنّة المرغوبة فيها تكون بعيدة عن الغمّة.

ص : 409

7. صلاة التراويح جماعة في كلام عمر

اشارة

لم تنعقد الجماعة لنوافل شهر رمضان في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعصر الخليفة الأوّل وسنين من عصر الخليفة الثاني ، بل كان المسلمون يصلّون نوافل شهر رمضان في البيوت والمساجد فرادى.

نعم بدا للخليفة الثاني جمع المصلّين المتفرقين في المسجد على إمام واحد.

ويدلّ على ما ذكرنا ما أخرجه الشيخان في هذا المضمار.

أخرج البخاري عن أبي هريرة انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قام شهر رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه ، قال : ابن شهاب : فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمر على ذلك ، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر. (1) وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه. (2)

قوله : « فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمر على ذلك ، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ».

فقد فسّره الشرّاح بقولهم : أي على ترك الجماعة في التراويح ، ولم يكن رسول

ص : 410


1- صحيح البخاري : 3 / 44 ، باب فضل من قام رمضان من كتاب الصوم.
2- صحيح مسلم : 2 / 176 ، باب الترغيب في قيام رمضان.

الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع الناس على القيام. (1)

وقال بدر الدين العيني : والناس على ذلك ( أي على ترك الجماعة ) ثم قال : فإن قلت : روى ابن وهب عن أبي هريرة : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا الناس في رمضان يصلّون في ناحية المسجد ، فقال : « ما هذا » فقيل : ناس يصلّي بهم أبيّ بن كعب ، فقال : « أصابوا ونعم ما صنعوا » ، ذكره ابن عبد البر. ثم أجاب بقوله ، قلت : فيه مسلم بن خالد وهو ضعيف ، والمحفوظ أنّ عمر _ رضي الله عنه _ هو الذي جمع الناس على أبيّ بن كعب _ رضي الله عنه. (2)

وقال القسطلاني : والأمر على ذلك ( أي على ترك الجماعة في التراويح ) ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ، إلى آخر ما ذكره. (3)

وقال النووي : في شرح قوله « فتوفّي رسول الله والأمر على ذلك » معناه : استمر الأمر هذه المدة على أنّ كلّ واحد يقوم رمضان في بيته منفردا حتّى انقضى صدرا من خلافة عمر ثمّ جمعهم عمر على أبي بن كعب فصلّى بهم جماعة ، واستمر العمل على فعلها جماعة. (4)

وأخرج أيضا عن عبد الرحمن بن عبد القاري انّه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلّي الرجل لنفسه ويصلّي الرجل فيصلّي بصلاته الرهط (5) ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت

ص : 411


1- فتح الباري : 4 / 203.
2- عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري : 6 / 125 ، وجاء نفس السؤال والجواب في فتح الباري.
3- إرشاد الساري : 3 / 425.
4- شرح صحيح مسلم للنووي : 6 / 287.
5- الرهط بين الثلاثة إلى العشرة.

هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب ، ثمّ خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوّله. (1)

قوله : « نعم البدعة » :

إنّ الظاهر من قوله : « نعم البدعة هذه » أنّها من سنن نفس الخليفة ولا صلة لها بالشرع ، وقد صرّح بذلك لفيف من العلماء.

قال القسطلاني : سمّاها ( عمر ) بدعة ، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنّ لهم الاجتماع لها ، ولا كانت في زمن الصديق ، ولا أوّل الليل ولا كلّ ليلة ولا هذا العدد _ إلى أن قال : _ وقيام رمضان ليس بدعة ، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : « اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر » ، وإذا اجتمع الصحابة مع عمر على ذلك زال عنه اسم البدعة.

وقال العيني : وإنّما دعاها بدعة ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنّها لهم ، ولا كانت في زمن أبي بكر _ رضي الله عنه _ ولا رغب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها. (2)

وهناك من نقل أنّ عمر أوّل من سنّ الجماعة ، نذكر منهم :

1. قال ابن سعد في ترجمة عمر : هو أوّل من سنّ قيام شهر رمضان بالتراويح ، وجمع الناس على ذلك ، وكتب به إلى البلدان ، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة. (3)

ص : 412


1- صحيح البخاري : 3 / 44 ، باب فضل من قام رمضان من كتاب الصوم.
2- عمدة القاري : 6 / 126 _ وقد سقط لفظة « لا » من قوله و « رغب » كما أنّ كلمة « بقوله » بعد هذه الجملة في النسخة مصحّف « قوله » فلاحظ.
3- الطبقات الكبرى : 3 / 281.

2. وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر : وهو الذي نوّر شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه. (1)

قال الوليد بن الشحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 23 ه : وهو أوّل من نهى عن بيع أمهات الأولاد. وأوّل من جمع الناس على إمام يصلّي بهم التراويح. (2)

إذا كان المفروض أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنّ الجماعة فيها ، وإنّما سنّها عمر ، وهل يكفي تسنين الخليفة في مشروعيتها؟ مع أنّه ليس لإنسان _ حتى الرسول _ حقّ التسنين والتشريع ، وإنّما هو صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عن الله سبحانه.

إنّ الوحي يحمل التشريع إلى النبي الأكرم وهو صلى الله عليه وآله وسلم الموحى إليه وبموته انقطع الوحي وسدّ باب التشريع والتسنين ، فليس للأمة إلاّ الاجتهاد في ضوء الكتاب والسنّة ، لا التشريع ولا التسنين ، ومن رأى أنّ لغير الله سبحانه حقّ التسنين فمعنى ذلك عدم انقطاع الوحي.

قال ابن الأثير في نهايته ، قال : ومن هذا النوع قول عمر : نعم البدعة هذه ( التراويح ) لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها ، إلاّ أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنّها لهم وإنّما صلاّها ليالي ثم تركها ، ولم يحافظ عليها ، ولا جمع الناس لها ، ولا كانت في زمن أبي بكر وإنّما عمر جمع الناس عليها وندبهم إليها ، فبهذا سمّاها بدعة وهي في الحقيقة سنّة ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي » ، وقوله : « اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر ». (3)

ص : 413


1- الاستيعاب : 3 / 1145 برقم 1878.
2- روضة المناظر كما في النص والاجتهاد : 150.
3- النهاية : 1 / 79.

وكلامه وكلام كلّ من برّر كون الجماعة سنّة ، دالّ على أنّ للخلفاء حقّ التشريع والتسنين ، أو للخليفتين فقط.

التشريع مختص بالله سبحانه

إنّ هؤلاء الأكابر مع اعترافهم بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يسنّ الاجتماع ، برّروا إقامتها جماعة بعمل الخليفة ، ومعناه أنّ له حقّ التسنين والتشريع ، وهذا يضاد إجماع الأمّة ، إذ لا حقّ لإنسان أن يتدخّل في أمر الشريعة بعد إكمالها ، لقوله تعالى :

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (1) وكلامه يصادم الكتاب والسنّة ، فان التشريع حقّ الله سبحانه لم يفوّضه لأحد والنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مبلّغ عنه.

أضف إلى ذلك : لو كان للخليفة استلام الضوء الأخضر في مجال التشريع والتسنين ، فلم لا يكون لسائر الصحابة ذلك الضوء مع كون بعضهم أقرأ منه كأبي بن كعب ، وأفرض كزيد بن ثابت ، وأعلم كعليّ بن أبي طالب عليه السلام؟! فلو كان للجميع ذلك الضوء ، لانتشر الفساد وعمّت الفوضى أمر الدين ويكون الدين العوبة بأيدي غير المعصومين.

وأمّا التمسّك بالحديثين ، فلو صحّ سندهما فإنّهما لا يهدفان إلى أنّ لهما حقّ التشريع ، بل يفيدان لزوم الاقتداء بهما لأجل أنّهما يعتمدان على سنّة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا أنّ لهما حقّ التسنين.

نعم يظهر ممّا رواه السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يعتقد أنّ للخلفاء حقّ التسنين ، قال : قال حاجب بن خليفة : شهدت عمر بن عبد العزيز

ص : 414


1- المائدة : 3.

يخطب وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا أنّ ما سنّ رسول الله وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه ، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه. (1)

وعلى كل تقدير ، نحن لسنا بمؤمنين بأنّه سبحانه فوّض أمر دينه في التشريع والتقنين إلى غير الوحي ، وفي ذلك يقول الشوكاني : والحقّ أنّ قول الصحابي ليس بحجة ، فإنّ الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلاّ نبيّنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وليس لنا إلاّ رسول واحد ، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنّة ، فمن قال إنّه تقوم الحجّة في دين الله بغيرهما ، فقد قال في دين الله بما لا يثبت ، وأثبت شرعا لم يأمر به الله. (2)

استنباط مشروعيتها من تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم

نقل القسطلاني عن ابن التين وغيره : إنّ عمر استنبط مشروعيته من تقرير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومن صلّى معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم فإنّما كرهه خشية أن يفرض عليهم. فلمّا مات النبيّ حصل الأمن من ذلك ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة ، ولأنّ الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلّين. (3)

يلاحظ عليه : أنّه لو كانت صلاة التراويح أمرا مشروعا ومما سنّها الله سبحانه فلما ذا كرهه النبي؟! ولو كانت الكراهة لأجل الخشية من الفرض ، يكفي في دفعها ، إقامتها حينا بعد حين ، فدخوله البيت وعدم حضوره في المسجد ، طيلة عمره دالّ على أنّها لم تكن مشروعة ، إذ لو كانت مسنونة لما تركها النبي بتاتا ، وقد

ص : 415


1- تاريخ المذاهب الإسلامية. كما في بحوث مع أهل السنّة : 235.
2- المصدر نفسه.
3- فتح الباري : 4 / 204.

مرّ انّ التشريع المجرّد عن التطبيق على الصعيد العملي لغو (1) لا يصدر من الله سبحانه.

روى أبو يوسف قال : سألت أبا حنيفة عن التراويح وما فعله عمر ، قال : التراويح سنّة مؤكّدة ، ولم يتخرص عمر من تلقاء نفسه ولم يكن فيه مبتدعا ولم يأمر به إلاّ عن أصل لديه وعهد من رسول الله. ولقد سنّ عمر هذا وجمع الناس على أبي بن كعب فصلاها جماعة والصحابة متوافرون من المهاجرين والأنصار وما رد عليه واحد منهم بل وافقوه وأمروا بذلك. (2)

يلاحظ عليه : بأنّه برر عمل الخليفة بالوجوه التالية :

1. أصل لديه ، 2. عهد من رسول الله ، 3. لم يعترض عليه أحد من الصحابة.

يلاحظ على الأوّل ما ذا يريد من الأصل الموجود لدى الخليفة ، وهل كان هذا الأصل يختص بالخليفة أو يعمّ غيره؟

وعلى الثاني ما هو العهد الذي كان عهده إليه رسول الله سوى انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امتنع من إقامتها جماعة وأمر بإقامتها في البيوت؟

وعلى الثالث من أنّ أئمّة أهل البيت وعلى رأسهم علي بن أبي طالب عليه السلام اعترض عليه ووصفها بالبدعة ولم تكن يوم ذاك آذان صاغية.

وختاما نقول : إنّ ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتجاوز عن انّه صلّى صلاة الليل ليلة أو ليلتين إلى أربع ليالي جماعة ثمّ دخل بيته ولم يخرج ، فلو قلنا بأنّ عمل النبي هذا في هذه الظروف المحدقة بالإبهام حجّة ، وغضضنا النظر عمّا حوله من ردود من النبي على إقامتها جماعة ، فلا يصحّ لنا إلاّ هذا المقدار ( ثماني ركعات ) بشرط أن تكون الصلاة صلاة الليل لا مطلق النوافل.

ص : 416


1- لاحظ ص 404.
2- الموسوعة الفقهية الكويتية : 13827 نقلا عن فتح القدير : 1 / 333.

خاتمة المطاف

اشارة

( وفيها أمور : )

1. إقامة التراويح جماعة غفلة عن حكمة الله

لو كانت إقامة التراويح جماعة ، سنّة مؤكدة ، كان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يوصي بإقامتها بعد رحيله ، لارتفاع خوف الفرض على المسلمين برحيله. ومع ذلك لم ينبس صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ببنت شفة ، بل دخل بيته مغضبا ، ولم يقمها جماعة إلاّ مرّة أو مرّتين أو ثلاث ، كلّها على مضاضة.

وذلك يعرب أنّ الحكمة تكمن في إقامتها فرادى في البيوت لا في المساجد ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم أعرف بمصالح ذلك العمل ، وأنّه يعطي للبيوت حظا من البركة.

إنّ لتشريعات الإسلام وشعائره أسرارا وحكما تدركها العقول تارة ، وتخفى عليها تارة أخرى ، تغيب عن أذهان بعضهم آونة ، وتنكشف لآخرين آونة أخرى ، تجهل في مقطع زمني معيّن ، وتعلم في مقطع آخر.

ص : 417

وممّا لا شكّ فيه أنّ من وراء سنّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ( الذي لا ينطق عن الهوى ) في عدم إقامة صلاة التراويح جماعة ، حكمة سامية ، قد تتجلى في الآثار الإيجابية التي ترتّب على إقامتها في البيوت فرادى ، حيث يقف المصلّي بين يدي ربّه عزّ وجلّ خاشعا خائفا راجيا ، يبثّه همومه وأحزانه ، ويستمطر رحمته وعفوه وغفرانه ، ينقطع إليه تعالى بكلّه لا يشغله عن ذلك شاغل ، ولا تكدّر موقفه شائبة من شوائب العجب والتباهي والرياء.

ثمّ إنّ إقامتها في البيوت يشيع عليها جوا من الإيمان والطهر والبركة والصفاء ، حيث لا يخلو البيت من ذكر وتسبيح وصلوات.

ولا ريب أنّ من يقطن في البيت ( من زوجة وأولاد وغيرهم ) سوف يعيش في رحاب هذه الأجواء ، ويتنسّم أريجها الفوّاح ، وذلك لعمري من العوامل التربوية المهمة في الأخذ بأيديهم إلى حيث الهدى والصلاح والاستقامة والسلوك القويم.

يقول السيد شرف الدين : إنّ فائدة إقامتها في البيت فرادى ، وهي إنّ المصلّي حين يؤديها ينفرد بربه عزّ وعلا يشكو إليه بثّه وحزنه ويناجيه بمهماته مهمة مهمة حتى يأتي على آخرها ملحّا عليه ، متوسّلا بسعة رحمته إليه ، راجيا لاجئا ، راهبا راغبا ، منيبا تائبا ، معترفا لائذا عائذا ، لا يجد ملجأ من الله تعالى إلاّ إليه ، ولا منجى منه إلاّ به.

لهذا ترك الله السنن حرة من قيد الجماعة ليتزوّدوا فيها من الانفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه ، ونشطت أعضاؤهم له ، يستقلّ منهم من يستقل ، ويستكثر من يستكثر ، فإنّها خير موضوع ، كما جاء في الأثر عن سيّد البشر.

إمّا ربطها بالجماعة فيحدّ من هذا النفع ، ويقلّل من جدواه.

أضف إلى هذا أنّ إعفاء النافلة من الجماعة يمسك على البيوت حظّها من

ص : 418

البركة والشرف بالصلاة فيها ، ويمسك عليها حظّها من تربية الناشئة على حبّها والنشاط لها ، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء والأمهات والأجداد والجدّات ، وتأثيره في شد الأبناء إليها شدّا يرسخها في عقولهم وقلوبهم ، وقد سأل عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيّما أفضل ، الصلاة في بيتي ، أو الصلاة في المسجد؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم « ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد ، فلأن أصلّي في بيتي أحب إليّ من أن أصلّي في المسجد إلاّ أن تكون صلاة مكتوبة » رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه كما في باب الترغيب في صلاة النافلة من كتاب الترغيب والترهيب للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. وعن زيد بن ثابت أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « صلّوا أيّها الناس في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة » رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه. (1)

وحصيلة الكلام : قد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم انّه قال : « فصلّوا أيّها الناس في بيوتكم فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة ». (2)

وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأداء النوافل في البيوت ابتعادا عن الرياء والسمعة مطلقا وليس مقيّدا بزمانه ، وهذا يدلّ على مرجوحيّة أداء النوافل في المساجد.

فلو كانت الجماعة مشروعة في النوافل لكان الإتيان بها في المساجد جماعة أفضل من الإتيان بها في البيوت ، إلاّ أن تصريح النبي بأنّ الإتيان بها في البيوت أفضل كما في الحديث ، فهذا ممّا يلوّح _ على الأقلّ _ بعدم مشروعيّة الجماعة فيها.

ص : 419


1- النص والاجتهاد : 151 _ 152.
2- سنن النسائي : 3 / 161.
2. تقديم المصلحة على النصّ

إنّ عمل الخليفة لم يكن إلاّ من قبيل تقديم المصلحة _ حسب تشخيصه _ على النص وليس المورد وحيدا في حياته بل له نظائر في عهده نظير :

1. تنفيذ الطلاق ثلاثا بعد ما كان في عهد الرسول وبعده وسنين من عهده طلاقا واحدا.

2. تحريم متعة الحجّ وقد تمتع الصحابة في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيوافيك تفصيله في المسألة القادمة.

3. تحريم متعة النساء ، وسيوافيك تفصيلها في المسألة الثانية عشرة.

يقول أحمد أمين المصري : ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه ، وذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة ، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك ، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث ، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه ، وهو أقرب شيء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيّته. (1)

إنّ الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر ، ونبذ النص والعمل بالرأي أمر آخر ، ولكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النص ويعملون بالرأي ، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة ونظائرها من هذا القبيل.

ص : 420


1- فجر الإسلام : 238 ، نشر دار الكتاب.
3. تقسيم البدعة إلى الحسنة والسيئة بدعة

قد سمعت من أنّ الخليفة سمّى عمله بدعة حسنة ، أو سمّى اجتماع الناس على إمامة أبيّ بن كعب ، بدعة حسنة ، فإذا كانت البدعة عبارة عن التدخل في أمر الشريعة ، فليس له إلاّ قسم واحد لا يثنّى ولا يكرر.

إنّ إقامة صلاة التراويح جماعة لا تخلو من صورتين :

الأولى : إذا كان لها أصل في الكتاب والسنّة ، فعندئذ يكون عمل الخليفة إحياء لسنّة متروكة ، سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم على قارئ واحد ، فلا يصحّ قوله : « نعمت البدعة هذه » إذ ليس عمله تدخّلا في الشريعة.

الثانية : إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسين ، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم على قارئ واحد ، وإنّما كره الخليفة تفرّق الناس ، ولأجل ذلك أمرهم بإقامتها جماعة ، أو بقارئ واحد ، وعندئذ تكون هذه بدعة قبيحة محرّمة.

ص : 421

4. بين السنة والبدعة

البدعة في الدين من كبائر المعاصي وعظائم المحرمات ، لأنّ المبتدع ينازع سلطان الله تبارك وتعالى في مجالي العقيدة والشريعة ويتدخّل في دينه فيزيد فيه وينقص منه افتراء على الله سبحانه.

فإذا دار أمر العبادة بين كونها سنّة أو بدعة فاللازم تركها ، لأنّ روح العبادة هو قصد التقرّب بإتيانها ولا يتمشّى قصد القربة بصلاة يحتمل كونها بدعة.

نحن نفترض أنّ ما سردناه من الأدلّة على عدم مشروعية التراويح جماعة ، لم يفد اليقين بأنّ صلاة التراويح بدعة لكنّها تورث الشك في مشروعيتها ، ومجرّد الشكّ فيها كاف في إلزام العقل بتركها ، إذ لا يجوز التعبّد بعمل مشكوك.

فاللازم على المسلم المحتاط إقامة نوافل شهر رمضان بين الأهل والعيال في البيوت فرادى عسى أن يقيض الله رجالا متحررين عن قيد التقليد ، يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنّة من جديد ، وذلك ببناء نهضة علمية وثّابة تعالج الخلافات الفقهية من جذورها ، انّه خير مأمول وخير مجيب.

ص : 422

11. متعة الحجّ

اشارة

ص : 423

ص : 424

المتعة وأقسامها

التمتّع بمعنى التلذّذ ، يقال : تمتّع واستمتع بكذا ومن كذا : انتفع وتلذّذ به زمانا طويلا ، والمتعة في مصطلح الفقهاء يستعمل في موارد ثلاثة :

1. متعة الحجّ الواردة في قوله سبحانه ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ ). (1) وسيوافيك توضيحها.

2. متعة الطلاق ، وهي ما تصل إلى المرأة بعد الطلاق من قميص وإزار وملحفة ، وإليه يشير قوله سبحانه ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ). (2)

وهل هذه المتعة لخصوص من لم يسمّ لها صداق؟ أو لكلّ مطلقة سوى المختلعة والمبارأة والملاعنة؟ أو لكلّ مطلقة سوى المفروض لها إذا طلقت قبل الدخول فان لها نصف الصداق ولا متعة لها خلاف. (3)

3. متعة النساء ويسمّى بالزواج المؤقت ، وهي عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع _ من نسب أو سبب أو رضاع أو

ص : 425


1- البقرة : 196.
2- البقرة : 236.
3- مجمع البيان : 1 / 340.

إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية _ بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق ، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق ، ويجب عليها مع الدخول بها _ إذا لم تكن يائسة _ أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض ، وإلاّ فبخمسة وأربعين يوما. والأصل فيه قوله سبحانه ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ). (1)

والمتعة بالمعنى الأوّل والثاني مورد اتّفاق بين الفقهاء ، واختلفوا في المتعة بالمعنى الثالث ؛ فالشيعة الإمامية على حلّيّتها وعدم منسوخيتها ، وأكثر الجمهور على التحريم ، وسيوافيك التفصيل في المسألة الثانية عشر بإذن الله.

ص : 426


1- النساء : 24.

أقسام الحج الثلاثة

اشارة

ينقسم الحجّ إلى أقسام ثلاثة : تمتع ، وقران ، وإفراد.

فلنبيّن هذه الأقسام على ضوء المذهب الإمامي ثمّ نردفه بتوضيحها وفقا لمذهب أهل السنّة.

أمّا التمتع في الفقه الإمامي فهو عبارة عن إحرام المكلّف من الميقات بالعمرة المتمتع بها إلى الحجّ ، ثمّ يدخل مكة فيطوف سبعة أشواط بالبيت ، ويصلّي ركعتي الطواف بالمقام ، ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط ، ثمّ يقصّر ، فإذا فعل ذلك فقد أحلّ من كلّ شيء أحرم منه ، فله التمتّع بأي شيء شاء من الأمور المحلّلة بالذات إلى أن ينشئ إحراما آخر للحجّ.

ثمّ ينشئ إحراما آخر للحج من مكة يوم التروية وإلاّ فيما يعلم معه إدراك الوقوف ، ثمّ يمضي إلى عرفات فيقف بها إلى الغروب ، ثمّ يفيض إلى المشعر الحرام فيقف به بعد طلوع الفجر ، ثمّ يفيض إلى منى ويرمي جمرة العقبة ، ثمّ يذبح هديه ، ثمّ يحلق رأسه ، ثمّ يأتي مكة ليومه أو من غده ، فيطوف للحج ويصلّي ركعتين ، ثمّ يسعى سعي الحجّ ، ثمّ يطوف طواف النساء ويصلّي ركعتيه ، ثمّ يعود إلى منى ليرمي ما تخلّف عليه من الجمار الثلاث ، يوم الحادي عشر ، والثاني عشر. (1)

وأمّا الإفراد فهو أن يحرم من الميقات أو من حيث يصحّ له الإحرام منه

ص : 427


1- تحرير الأحكام : 1 / 557.

بالحجّ ، ثمّ يمضي إلى عرفات فيقف بها ، ثمّ يقف بالمشعر الحرام ، ثمّ يأتي منى فيقضي مناسكه بها ، ثمّ يأتي إلى مكة يطوف بالبيت للحج ويصلّي ركعتين ويسعى للحجّ ويطوف طواف النساء ويصلي ركعتين ، فيخرج من الإحرام فيحل له كلّ المحرمات.

ثمّ يأتي بعمرة مفردة من أدنى الحلّ.

وأمّا القران فهو نفس حجّ الإفراد _ عند الإمامية _ إلاّ أنّه يضيف إلى إحرامه سياق الهدي ، وإنّما يسمّى بالقران لسوقه الهدي فيقرن حجّه بسوقه. فالقران والإفراد شيء لا يفترقان إلاّ في حال واحدة ، وهي انّ القارن يسوق الهدي عند إحرامه ، وأمّا من حجّ حجّة الإفراد فليس عليه هدي أصلا.

إنّ التمتع فرض من نأى عن المسجد الحرام وليس من حاضريه ، ولا يجزئه غيره مع الاختيار.

وأمّا القران والإفراد فهو فرض أهل مكة وحاضريها.

وحدّ حاضري المسجد الحرام الذين لا متعة عليهم من كان بين منزله ومكة دون 48 ميلا من كلّ جانب ، ويعادل 88 كيلومترا. (1)

والحاصل : انّ من نأى عن مكة أكثر من 48 ميلا لا يجوز له إلاّ التمتع.

وأمّا القران والإفراد فهما فرض أهل مكة ومن كان بينه وبينها دون 48 ميلا ولا يجوز لهما غير هذين النوعين.

ثمّ إنّ من وظيفته التمتع لا يجوز أن يعدل إلى غيره ، إلاّ لضيق وقت أو حيض ، فيجوز العدول حينئذ إلى الإفراد على أن يأتي بالعمرة بعد الحجّ. وحدّ الضيق هو انّه إذا اعتمر لا يتمكّن من الوقوف بعرفة عند الزوال.

ص : 428


1- ربما قيل 12 ميلا ، فيعادل 22 كيلومترا.

ولا يجوز لمن فرضه القران أو الإفراد كأهل مكة وضواحيها أن يعدل إلى التمتع إلاّ مع الاضطرار ، كخوف الحيض المتوقّع. هذه هي صور أقسام الحجّ الثلاثة ، ويتلخص الكلّ في الأمور التالية :

1. انّ حجّ التمتع للنائي عن مكة وحجّ الإفراد والقران لغير النائي.

2. لا يجوز للمتمتع أن يعدل إلى غيره إلاّ عند الضرورة ، وهكذا للمفرد والقارن إلاّ عند الضرورة.

3. انّ حجّ الإفراد والقران شيء واحد يفترقان في سوق الهدي وعدمه.

4. لا يجوز التداخل بين إحرامين ، فلا يجوز لمن أحرم أن ينشئ إحراما آخر حتّى يكمل أفعال ما أحرم له.

5. ويشترط في حجّ التمتع وقوعه في أشهر الحجّ _ وهي : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجّة _ وأن يأتي بالحجّ والعمرة في سنة واحدة ، ولو أحرم بالعمرة المتمتع بها في غير أشهر الحجّ لم يجز له التمتع بها. (1)

إلى هنا تمّ بيان صور الأقسام الثلاثة على مذهب الإمامية ، وإليك بيان أقسام الحجّ وفق مذهب أهل السنّة ، فنقول :

قالوا : من أراد الحجّ والعمرة جاز له في الإحرام بهما ثلاث كيفيات.

الأوّل : الإفراد ، وهو أن يحرم بالحجّ وحده ، فإذا فرغ من أعماله أحرم بالعمرة وطاف وسعى لها ويأتي بأعمال العمرة.

الثاني : القران ، وهو الجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد حقيقة أو حكما

ص : 429


1- راجع الشرائع : 1 / 174 _ 177 ، تحرير الأحكام : 1 / 557 _ 559 ، جواهر الكلام ، وغيرها من الكتب الفقهية للشيعة الإمامية.

( وسيوافيك تفصيلهما ).

الثالث : التمتع ، وهو أن يعتمر أوّلا ثمّ يحجّ من عامه.

هذا إجمال الأقسام الثلاثة عند مذهب أهل السنّة ، وفي تفاصيلها اختلاف بينهم.

فالذي يهمنا أمران :

الأوّل : تفسير القرآن ، فالقران عند أهل السنّة هو الجمع بين الحجّ والعمرة في إحرام واحد ، وصفة القرآن عندهم أن يهل بالعمرة والحج معا من الميقات ويقول : اللهم إنّي أريد الحجّ والعمرة فيسّرهما لي وتقبّلهما مني ، فهي عندهم كحجّ التمتع إلاّ أنّه يهلّ بالعمرة والحجّ بنيّة واحدة ولا يتحلّل بين العمرة والحجّ.

وفي « المغني » لابن قدامة : إنّ الإحرام يقع بالنسك من وجوه ثلاثة :

1. تمتع ، وإفراد ، وقران.

فالتمتع أن يُهلّ بعمرة مفردة من الميقات في أشهر الحجّ ، فإذا فرغ منها أحرم بالحجّ من عامه.

والإفراد أن يهل بالحجّ مفردا.

والقران أن يجمع بينهما في الإحرام بهما أو يحرم بالعمرة ثمّ يدخل عليها الحجّ قبل الطواف ، فأي ذلك أحرم به جاز.

وأمّا الأفضل ، فاختارت الحنابلة انّ الأفضل هو التمتع ثمّ الإفراد ثمّ القران ، وممّن روي عنه اختيار التمتع : ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وعائشة وحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد والقاسم وسالم وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي.

وروى المروزي عن أحمد : إن ساق الهدي فالقران أفضل ، وإن لم يسقه فالتمتع أفضل ، لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن حين ساق الهدي ومنع كلّ من ساق الهدي من

ص : 430

الحل حتّى ينحر هديه. (1)

هذا إجمال ما عليه المذاهب الأربعة ، ولعلّ الاختلاف بين المذهب الإمامي وسائر المذاهب في ماهية النسك الثلاثة ، قليل ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في موضعين :

1. في تفسير القرآن ، فحجّ القران عند الإمامية هو نفس حجّ الإفراد ، غير انّ المفرد لا يسوق الهدي والقارن يسوق.

2. انّهم بتفسير القرآن بالجمع بين العمرة والحج ، جوّزوا ذلك بالصورتين التاليتين :

أ. أن يهلّ بالعمرة والحجّ معا من الميقات بنيّة الأمرين معا ، وهو الجمع الحقيقي.

ب : أن يهلّ بالعمرة فقط ثمّ بالحجّ قبل أن يطوف للعمرة أكثر الطواف.

قال ابن رشد : أمّا القران فهو أن يهلّ بالنسكين معا أو يهلّ بالعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يردف ذلك بالحجّ قبل أن يحل من العمرة والقارن يلزمه الهدي إن كان آفاقيّا وإلاّ فلا.

وربّما يقال ويصحّ العكس عند أكثر الفقهاء بأن يحرم بالحجّ ثمّ يدخل العمرة عليه ، لكنّه مكروه عند الحنفية. (2)

وأمّا الشيعة الإمامية فلا تجوّز القران بين الحجّ والعمرة بنيّة واحدة ، ولا إدخال أحدهما على الآخر.

إذا عرفت ذلك فتحقيق المقام رهن البحث في أمور :

ص : 431


1- المغني : 3 / 233.
2- راجع : بداية المجتهد : 3 / 293 _ 301 ، الهداية في شرح البداية : 1 / 150 _ 154 ، المغني : 3 / 232 ، الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 688 _ 695.

الأوّل : في بيان الأحكام الواردة في الآية

اشارة

يقول سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ). (1)

الآية المباركة تتضمن أحكاما نشرحها حسب مقاطع الجمل.

1. إتمام الحج والعمرة لله

يقول سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) فما هو المراد من الإتمام؟

إنّه سبحانه يأمر بإتمام الحجّ والعمرة ، والمراد من الإتمام في المقام وغيره هو إنجاز العمل كاملا لا ناقصا ، كما أنّ المراد من كون الإتمام لله ، كون العمل بعيدا عن الرياء والسمعة ، والذي يعرب عن كون المراد من الإتمام هو الإكمال ، أمران :

أ : أطلق الإتمام في القرآن الكريم وأريد به الإكمال ، كقوله سبحانه ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ ) (2) وقوله سبحانه : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى

ص : 432


1- البقرة : 196.
2- البقرة : 124.

اللَّيْلِ ) (1) وقوله سبحانه ( وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (2) وقوله سبحانه ( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ ). (3)

ب : قوله سبحانه ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ) أي منعكم حابس قاصر عن إتمام الحجّ فعليكم بما استيسر من الهدي ، فالجملة قرينة على أنّ المراد من الإتمام ، الإكمال.

وعلى ذلك جرى المفسرون في تفسير الجملة الآنفة الذكر ، قال الشيخ الطوسي : يجب أن يبلغ آخر أعمالها بعد الدخول فيها ، ثمّ عزاه إلى مجاهد والمبرد وأبي علي الجبائي. (4)

وقال الرازي : إنّ الإتمام يراد به فعل الشيء كاملا وتامّا ، فالمراد الإتيان به بما جاء في ذيل الآية من حكم الحصر. (5)

هذا هو المفهوم من الآية ، وأمّا تفسير الآية بأفراد كلّ واحد منهما بإنشاء سفر مستقل ، فممّا لا تدلّ عليه الآية.

نعم انّ العرب في عصر الجاهلية كانوا يفرّقون بين الحجّ والعمرة ، فكانوا يأتون بالعمرة في غير أشهر الحج وبالحجّ في أشهره ، وكانوا يفردون كلاّ عن الآخر ، وكانت سيرتهم على ذلك إلى أن أدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم العمرة في الحجّ حتّى أمر من لبّى بالحج في أشهر الحجّ وأحرم له ، أن يجعله عمرة ثمّ يتحلّل ويحرم للحج ثانيا ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم « دخلت العمرة في الحجّ إلى الأبد » كما سيوافيك تفسيره.

ص : 433


1- البقرة : 187.
2- التوبة : 32.
3- يوسف : 6.
4- التبيان : 1 / 154.
5- تفسير الرازي : 5 / 139.

نعم روي ذلك مرفوعا عن أبي هريرة ، كما روي أنّ عمر كان يترك القران والتمتع ويذكر أنّ ذلك أتمّ للحجّ والعمرة وأن يعتمر في غير شهور الحجّ ، فان الله تعالى يقول ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال : « فرّقوا بين حجّكم وعمرتكم ». (1)

كما روي ذلك القول عن قتادة أنّه قال : « الاعتمار في غير أشهر الحج » (2) ، ولعلّه أراد العمرة المفردة لا عمرة التمتّع التي لا تنفكّ عن الحجّ.

فظهر ممّا ذكرنا انّ المراد بإتمام الحجّ والعمرة لله هو إكمالهما على النحو المقدور ، فإن لم يمنع حابس يكمله بإتيان عامّة الأجزاء وإن حُصِر ، يخرج من الإحرام على النحو الذي سيوافيك ، وهو أيضا نوع من الإتمام.

وأمّا تفسير الإتمام بإنشاء السفر لكلّ من العمرة والحجّ ، فغير مفهوم من الآية ومخالف لسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمر أصحابه بإدخال العمرة في الحجّ وتبديل النيّة من الحجّ إلى العمرة ، وقد كان ذلك شاقّا على أصحابه ، لأنّهم كانوا قد أحرموا للحجّ على النحو الرائج في العصر السابق ، فمن حاول تفسير الآية بتفكيك العمرة عن الحجّ بإنشاء سفرين : أحدهما في أشهر الحجّ والآخر يعني : العمرة في غيره ، فقد فسّر الآية برأيه أوّلا ، وخالف سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثانيا.

2. إذا أحصر بالعدو أو المرض

لمّا أمر سبحانه حجاج بيته بإتمام الحجّ والعمرة وإكمالهما ، حاول بيان وظيفة المحصر الذي يمنعه حابس عن إكمال الحجّ والعمرة ، فقال : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا

ص : 434


1- تفسير الرازي : 5 / 145.
2- التبيان : 1 / 154.

اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ).

أصل الحصر ، الحبس ، ومنه يقال للّذي لا يبوح بسرّه « حصر » لأنّه حبس نفسه عن البوح ، والمعروف انّ لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو إذا منعه عن مراده وضيّق عليه ، وربما يستعمل في مطلق المانع ويقال : أحصر بالمرض وحصر بالعدو.

وعلى ذلك فالمحصر عليه التحلّل بالذبح ، ولا يتحلّل قبل الذبح كما قال سبحانه ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أي ما تيسّر منه ، وقيل الهدي جمع الهدية كالتمر جمع التمرة ، والمراد من الهدي ما يهدى إلى بيت الله عزّ وجلّ تقرّبا إليه ، أعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأيسره شاة.

3. لا يتحلّل قبل الذبح

إنّ المحصر يتحلّل بالذبح ، فلا يتحلّل من الإحرام حتّى ينحر أو يذبح. قال سبحانه ( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) وأمّا ما هو المراد من المحل؟ فهناك أقوال ثلاثة :

أ. الحرم فإذا ذبح به في يوم النحر أحل.

ب : الموضع الذي يصد فيه ، لأنّ النبي نحر هديه بالحديبية وأمر أصحابه ففعلوا مثل ذلك ، وليست الحديبية من الحرم.

ج : التفصيل بين المحصر بالعدو ، والمحصر بالمرض. فالأوّل يذبح في المحل الذي صدّ فيه ، وأمّا الثاني ينتظر إلى أن يذبح في يوم النحر.

ص : 435

4. حكم المريض ومن برأسه أذى

لمّا منع سبحانه حلق الرأس قبل بلوغ الهدي محلّه رخّص لفريقين وإن لم يذبحوا :

أحدهما : المريض الذي يحتاج إلى الحلق للمداواة.

والثاني : من كان برأسه أذى.

وقال ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فالمحرم المعذور يحلق رأسه قبل الذبح ، وفي الوقت نفسه يكفّر بأحد الأمور الثلاثة ، وكلّ واحد منها فدية ، أي بدل وجزاء من العمل الذي تركه لأجل العذر ، وهو أن يصوم أو يتصدّق أو يذبح شاة. وأمّا الصوم فيصوم ثلاثة أيّام ، وأمّا الصدقة فيتصدّق على ستة مساكين أو عشرة ، وأمّا النسك فيذبح شاة ، وهو مخيّر بين الأمور الثلاثة.

5. التمتّع بالعمرة إلى الحجّ

يقول سبحانه ( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) ، كان كلامه سبحانه في المحصر ، والكلام في المقام في غير المحصر ومن حصل له الأمن وارتفع المانع كما يدلّ عليه قوله سبحانه ( فَإِذا أَمِنْتُمْ ) ، فعلى قسم من المكلّفين (1) إذا أتوا بالعمرة ثمّ أحرموا للحج فعليه ما تيسّر من الهدي في يوم النحر في أرض منى.

المراد من التمتع في ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ ) هو التمتع

ص : 436


1- أي غير حاضري المسجد الحرام كما سيأتي في الآية.

بمحظورات الإحرام بسبب أداء العمرة فيبقى متحلّلا متمتعا إلى أن يحرم للحج ، وعندئذ يجب عليه ما تيسّر من الهدي.

والآية تصرح بأنّ صنفا من المكلّفين ، وهم الذين فرض عليهم حجّ التمتع يحلّ لهم التمتع بعامة المحظورات إلى زمن إحرام الحجّ ، فاستنكار التمتع بين العمرة والحجّ _ لأجل استلزامه تعرّس الحاج بين العمرة والحج ورواحة إلى المواقف ورأسه يقطر ماء _ إطاحة بالوحي وتقديم للرأي على الوحي ، كما سيوافيك تفصيله.

وإنّما ذكر من أعمال الحجّ الكثيرة خصوص الهدي ، فقال ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) مع أنّ من تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فعليه الإحرام أوّلا ثمّ الوقوف في عرفة ، ثمّ الإفاضة إلى المشعر والمزدلفة ، ثمّ منها إلى منى ورمي الجمرات والذبح والحلق إلى غير ذلك.

أقول : إنّما خصّ ذلك بالذكر لاختصاص الهدي بحكم خاص ، وهو سبحانه بصدد بيان حكمه ، وهو انّه إذا عجز عن الهدي فله بدل ، بخلاف سائر الأعمال فإنّ ذاتها مطلوبة وليس لها بدل ، فقال سبحانه مبيّنا لبدل الهدي.

6. الفاقد للهدي

بيّن سبحانه حكم من لم يجد الهدي ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ) أي انّه يصوم بدل الهدي ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى موطنه على وجه يكون الجميع عشرة كاملة ، وأمّا أيّام الصوم فقد ذكرت في الكتب الفقهية ، وهي اليوم السابع والثامن والتاسع.

ص : 437

7. التمتع بالعمرة إلى الحجّ وظيفة الآفاقي

إنّه سبحانه أشار بأنّ التمتع بالعمرة إلى الحجّ فريضة من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، وقال ( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) أي ما تقدّم ذكره حين التمتع بالعمرة إلى الحجّ ليس لأهل مكة ومن يجري مجراهم وإنّما هو لمن لم يكن من حاضري مكة ، وأمّا الحاضر فهو من يكون بينه وبينها دون 48 ميلا ، من كلّ جانب على الاختلاف.

ثمّ إنّه سبحانه أتمّ الآية بالأمر بالتقوى ، أي العمل بما أمر والنهي عمّا نهى ، وذلك لأنّه سبحانه شديد العقاب ، فقال ( وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ).

هذا هو تفسير الآية المباركة جئنا به ليكون قرينة واضحة على تفسير ما سنسرد من الروايات والأحاديث من احتدام النزاع بين النبي وأصحابه في كيفية الحجّ ودام حتّى بعد رحيله صلى الله عليه وآله وسلم.

والمهم في المقام في إفادة المقصود هو الجملتان التاليتان :

1. ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ).

2. ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ ).

فالأولى تدلّ على إكمالهما دون أفرادهما في الزمان ، كما أنّ الثانية تدلّ على لزوم التحلّل والتمتّع بين العملين.

* * *

ص : 438

الثاني : متعة الحجّ سنّة أبدية

تضافرت الروايات الصحاح على أنّ متعة الحجّ سنّة أبدية إلى يوم القيامة لا تتغيّر ولا تتبدّل ، بل تبقى بحالها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ونذكر في ذلك ما رواه الشيخان ولا نتجاوز عنهما.

1. روى مسلم عن عمرة قالت : سمعت عائشة ( رضي الله عنها ) تقول : خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذي القعدة ولا نرى إلاّ أنّه الحج حتّى إذا دنونا من مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل. (1)

2. أخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه انّه قال : أقبلنا مهلّين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحجّ مفرد ، وأقبلت عائشة ( رضي الله عنها ) بعمرة ، حتّى إذا كنا بسرف عركت حتّى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحل منّا من لم يكن معه هدي ، قال : فقلنا : حلّ ما ذا؟ قال : الحلّ كلّه ، فواقعنا النساء وتطيّبنا بالطيب ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلاّ أربع ليال ، ثمّ أهللنا يوم التروية. (2)

3. أخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 439


1- صحيح مسلم : 4 / 32 ، باب وجوه الإحرام.
2- صحيح مسلم : 4 / 35 ، باب وجوه الإحرام.

مهلّين بالحج معنا النساء والولدان ، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من لم يكن معه هدي فليحلل ، قال : قلنا : أيّ الحل؟ قال : الحلّ كلّه ، قال : فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب ، فلمّا كان يوم التروية أهللنا بالحج. (1)

4. أخرج مسلم عن عطاء ، قال : حدّثني جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه حجّ مع رسول الله عام ساق الهدي معه ، وقد أهلّوا بالحجّ مفردا ، فقال رسول الله : « أحلّوا من إحرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصّروا وأقيموا حلالا ، حتّى إذا كان يوم التروية فأهلّوا بالحجّ ، واجعلوا التي قدمتم بها متعة » قالوا : كيف نجعلها متعة وقد سمّينا الحجّ؟ قال : « افعلوا ما آمركم به فانّي لو لا أنّي سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به ولكن لا يحلّ منّي حرام حتّى يبلغ الهدي محله ، فافعلوا ». (2)

5. أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال : قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهلّين بالحجّ ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نجعلها عمرة ونحل ، قال : وكان معه الهدي فلم يستطع أن يجعلها عمرة. (3)

6. أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله في حديث مفصّل انّه قال : لسنا ننوي إلاّ الحجّ ، لسنا نعرف العمرة ، حتّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن _ إلى أن يقول : _ حتّى إذا كان آخر طوافه ( النبي ) على المروة ، فقال : « لو انّي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي

ص : 440


1- صحيح مسلم : 4 / 36 ، باب وجوه الإحرام.
2- صحيح مسلم : 4 / 37 ، باب وجوه الإحرام.
3- صحيح مسلم : 4 / 38 ، باب وجوه الإحرام.

فليحلّ وليجعلها عمرة » فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ، ألعامنا أم لا بد؟ فشبّك رسول الله أصابعه واحدة في الأخرى ، فقال : « دخلت العمرة في الحج مرتين : لا ، بل لا بد أبد ». (1)

هذا بعض ما رواه مسلم ، وتركنا البعض الآخر وربّما يأتي لمناسبة أخرى.

وإليك ما رواه البخاري في صحيحه.

1. أخرج البخاري عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قالت : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجّة الوداع فأهللنا بعمرة ، قال النبي : من كان معه هدي فليهل بالحجّ مع العمرة ، ثمّ لا يحلّ حتّى يحلّ منهما جميعا. (2)

2. أخرج البخاري عن ابن عباس انّه سئل عن متعة الحجّ ، فقال : أحلّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي في حجّة الوداع وأهللنا فلمّا قدمنا مكة ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اجعلوا إهلالكم بالحجّ عمرة إلاّ من قلّد الهدي ، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب. (3)

هذا بعض ما رواه البخاري ويأتي بعضه الآخر ، وما رواه الشيخان يدلّ على أمور :

1. انّ حجّ التمتع فريضة من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

2. انّ التمتّع بين العمرة والحجّ سنّة فيها وليس لأحد أن يعترض على التمتع بين الأمرين.

3. انّ العرب في الجاهلية والإسلام كانوا يحرمون بالحجّ في أشهر الحجّ

ص : 441


1- صحيح مسلم : 4 / 40 ، باب حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
2- صحيح البخاري : 2 / 140 ، باب كيف تحل الحائض والنفساء.
3- صحيح البخاري : 2 / 144 ، باب قول الله ( لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ).

لا للعمرة ، ولذلك أحرم أصحاب النبي وأزواجه للحجّ تبعا للسيرة السائدة بين العرب من اختصاص أشهر الحجّ بالحجّ فلمّا دنوا من مكة (1) أو قضوا أعمال العمرة أمرهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بجعل الإحرام عمرة والعدول إليها ، وقد كان ثقيلا عليهم ، كما ستوافيك الروايات في هذا الباب.

4. انّ التمتع بين العمرة والحجّ سنّة أبدية لا تختص بعام دون عام ولا بقوم دون قوم.

5. انّ من ساق الهدي معه ليس له أن يتحلّل ولا يخرج من الإحرام إلاّ إذا بلغ الهدي محلّه وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممّن ساق الهدي ، ولذلك لم يخرج حتّى أبلغ هديه محله ، وقد كان عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مظنة سؤال للصحابة حيث أمرهم بالتحلّل وبقي نفسه على إحرامه ، فنبّههم النبي بأنّه ساق الهدي ولكنّه لو وفّق للحجّ في المستقبل لما ساق الهدي ، وإلى ذلك يشير قوله : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ».

إنّ في هذا الموضوع روايات في السنن الأربع اقتصرنا بما ذكرنا ، وللقارئ أن يرجع إلى السنن والمسانيد فإنّه يجد أمثال ما ذكرناه بوفرة.

ص : 442


1- الترديد لأجل اختلاف الروايات في ذلك ، فلاحظ.

الثالث : سيرة العرب قبل الإسلام في الحجّ

يظهر ممّا سردناه من الروايات وما سيوافيك انّ العرب لم تكن تعرف العمرة في أشهر الحجّ وإنّما تأتي بها في غيرها ، ولذلك تعاظم عليهم إدخال العمرة في الحجّ ، ولأجل إيقاف القارئ على تلك الحقيقة عن كثب ، نذكر بعض ما ورد :

1. أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور ، ويجعلون محرم صفرا ويقولون : إذا برأ الدّبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر حلّت العمرة لمن اعتمر. قدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة مهلّين بالحجّ ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله أي الحلّ؟ قال : الحلّ كلّه. (1)

والحديث يدلّ بوضوح على أنّ إفراز العمرة عن الحجّ كان سنّة جاهلية سادت على الحج لأسباب غير معلومة وكانوا يصرون على أنّ العمرة بعد انقضاء صفر وفي الحقيقة بعد انقضاء محرّم ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام بوجه هذه البدعة مدة إقامته في المدينة ، فقد اعتمر ثلاث عمر في ذي القعدة الحرام كما أتى بعمرة رابعة في حجّه في شهر ذي الحجّة في حجة الوداع ، وإليك العمر التي أحرم لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم طيلة حياته :

ص : 443


1- صحيح البخاري : 2 / 142 ، باب التمتع والإقران والإفراد بالحجّ.

الأولى : عمرة الحديبية ، وهي أوّلهنّ سنّة ست ، فصدّه المشركون عن البيت ، فنحر البدن وحلق هو وأصحابه رءوسهم وحلّوا من إحرامهم ورجعوا إلى المدينة.

الثانية : عمرة القضاء في العام المقبل في نفس ذلك الشهر.

الثالثة : عمرته من الجعرّانة لما خرج إلى حنين ثمّ رجع إلى مكة فاعتمر من الجعرانة داخلا إليها.

الرابعة : عمرته التي قرنها مع حجته.

ص : 444

الرابع : احتدام النزاع بين الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

قد عرفت أنّ العرب في العصر الجاهلي يفرزون العمرة عن الحجّ ويأتون بها في غير أشهر الحجّ ، وقد كان الجمع بينهما من أفجر الفجور ، وقد ترسخت تلك الفكرة عند العرب في العصر الجاهلي حتّى أضحت جزءا من كيانهم ، فالدعوة إلى إدخال العمرة في الحج كانت دعوة على خلاف ما شبّوا وشاخوا عليه ، ولذلك لمّا أمرهم النبي بإدخال العمرة إلى الحجّ وجعل الإهلال للحجّ عمرة ، تعاظم أمرهم وثارت ثورتهم ، وقاموا بوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو أثاروا غضبه ، وإليك بعض ما روي في المقام :

1. أخرج مسلم عن عطاء قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه في ناس معي قال : أهللنا أصحاب محمد بالحجّ خالصا وحده ، قال عطاء : قال جابر : فقدم النبي صبح رابعة مضت من ذي الحجّة فأمرنا أن نحل ، قال عطاء : قال : حلّوا وأصيبوا النساء ، قال عطاء : ولم يعزم عليهم ولكن أحلهنّ لهم ، فقلنا : لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلاّ خمس ، أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكرنا المني.

ص : 445

قال : يقول جابر بيده كأنّي أنظر إلى قوله « بيده » يحركها ، قال : فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينا فقال : قد علمتم أنّي أتقاكم لله وأصدقكم وأبرّكم ولو لا هديي لحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي فحلّوا ، فحللنا وسمعنا وأطعنا.

قال عطاء : قال جابر : فقدم عليّ من سعايته فقال : بم أهللت؟ قال : بما أهلّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله : فأهد ، وامكث حراما ، قال : وأهدى له علي هديا ، فقال سراقة بن مالك بن جُعشم : يا رسول الله : ألعامنا هذا أم لا بد ، فقال : لا بد. (1)

2. روى مسلم عن جابر بن عبد الله ( رض ) قال : أهللنا مع رسول الله بالحجّ ، فلمّا قدمنا مكة أمرنا أن نحلّ ونجعلها عمرة ، فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما ندري أشيء بلغه من السماء أم شيء من قبل الناس ، فقال : أيّها الناس أحلّوا فلو لا الهدي الذي معي ، فعلت كما فعلتم ، قال : فأحللنا حتّى وطئنا النساء وفعلنا ما يفعل الحلال حتّى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر ، أهللنا بالحج. (2)

3. أخرج مسلم عن عائشة انّها قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأربع مضين من ذي الحجّة أو خمس فدخل عليّ وهو غضبان ، فقلت : من أغضبك يا رسول الله ، أدخله الله النار؟ قال : أو ما شعرت إنّي أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ، ولو اني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتّى أشتريه ثمّ أحلّ كما حلّوا. (3)

ص : 446


1- صحيح مسلم : 3 / 36 ، باب بيان وجوه الإحرام وانّه يجوز إفراد الحجّ والتمتع والقران.
2- صحيح مسلم : 3 / 37 ، باب بيان وجوه الإحرام وانّه يجوز إفراد الحجّ والتمتع والقران.
3- صحيح مسلم : 3 / 33 ، باب بيان وجوه الإحرام.

هذا غيض من فيض ممّا يحكي عن حالة عصيان بين الصحابة في ذلك الموضوع وانّهم لم يستجيبوا بادئ بدء لأمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتّى أغضبوه ، فأين عملهم هذا من قوله سبحانه ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (1) وقوله سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). (2)

أي لا تتقدّموا على الله ورسوله ، ولا تقدّموا قولكم على قولهما.

ص : 447


1- الأحزاب : 36.
2- الحجرات : 1.

الخامس : عودة التقاليد الجاهلية

اشارة

حجّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه وعلّمهم مناسك الحجّ ومواقفه وسننه وطقوسه فأعاد كلّ ما حرّف إلى محله ، ولكن للأسف انّ عمر بن الخطاب ، قدم الاجتهاد على النص ومنع من متعة الحج وشدد النكير عليه وتبعه عثمان ودام الأمر عليه إلى العهود التالية ، وكفى في ذلك ما رواه الشيخان وغيره.

1. روى مسلم عن أبي موسى قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو منيخ بالبطحاء ، فقال لي : أحججت؟ فقلت : نعم ، فقال : بم أهللت؟ قال : قلت : لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : فقد أحسنت طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحلّ (1) قال : فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثمّ أتيت امرأة من بني قيس ففلت رأسي ثمّ أهللت بالحج ، قال : فكنت أفتي به الناس حتّى كان في خلافة عمر.

فقال له رجل : يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ، رويدك بعض فتياك فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النّسك بعدك ، فقال : يا أيّها النّاس ما كنّا أفتيناه فتيا فليتّئد (2) فإنّ أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فائتمّوا.

ص : 448


1- مع أنّ أبا موسى علّق إحرامه بإحرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك أمر النبي بإحلاله بعد العمرة ، وستوافيك الإجابة عنه في آخر الرسالة في خاتمة المطاف ص 467 فانتظر.
2- فليتأنّ.

قال : فقدم عمر فذكرت ذلك له ، فقال : إن نأخذ بكتاب الله فان كتاب الله يأمر بالتمام ، وإن نأخذ بسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحلّ حتّى بلغ الهدي محله. (1)

والعجب من أبي موسى مع أنّه كان يفتي الناس بما جرت عليه سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنّه في خلافة عمر عدل عن هدي الرسول وأمر الناس بالتأنّي مع أنّه سمع من السائل بأنّه حدث جديد في النسك.

نعم استدلّ عمر على إخراج العمرة عن الحجّ بأمرين :

الأوّل : ما في كتاب الله حيث أمر سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ).

الثاني : سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث لم يحل حتّى بلغ الهدي محله.

وكلا الاستدلالين من الوهن بمكان.

أمّا الاستدلال بالكتاب فقد عرفت أنّ معنى إتمام الحجّ والعمرة إكمالهما في مقابل المحصر الذي لا يستطيع الإكمال ، وأين هو من إخراج العمرة عن الحجّ بإنشاء السفر المستقل لكلّ منهما؟!

وأمّا سيرة النبي فقد كشف قوله صلى الله عليه وآله وسلم النقاب عن عدم إحلاله ، لأنّه ساق الهدي وكلّ من ساق الهدي لا يحلّ إلاّ أن يبلغ الهدي محله.

2. أخرج مسلم عن أبي نضرة ، قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها ، قال : فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله ، فقال : على يدي دار الحديث ، تمتعنا مع رسول الله ، فلمّا قام عمر قال : إنّ الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء ، وانّ القرآن قد نزل منازله فأتمّوا الحجّ والعمرة لله كما أمركم الله وابتّوا نكاح هذه النساء. (2)

ص : 449


1- صحيح مسلم : 4 / 44 ، باب في نسخ التحلّل من الإحرام.
2- صحيح مسلم : 4 / 48 ، باب في المتعة الحجّ والعمرة.

3. وروى أيضا بالإسناد السابق انّ عمر قال : فافصلوا حجّكم من عمرتكم فإنّه أتمّ لحجّكم وأتمّ لعمرتكم. (1)

ويدلّ الحديث على أنّ فصل الحج عن العمرة ظهر في عصر عمر ، وقد عرفت أنّ استدلاله بقوله سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) لا يمتّ إلى هذا الباب بصلة ، وقوله في ذيل الحديث الثاني ( فافصلوا حجكم من عمرتكم ) صريح في فصل الحجّ من العمرة والإتيان بها في غير أشهر الحجّ ، وقد مرّ انّ العرب في العصر الجاهلي ترى الجمع بينهما من أفجر الفجور فكأنّ الرجل تأثر مما رسب في ذهنه فحرّم متعة الحج.

4. أخرج مسلم عن أبي موسى انّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النّسك بعد حتى لقيه بعد فسأله ، فقال عمر : قد علمت أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ في الأراك (2) ، ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رءوسهم. (3)

الحديث يكشف عن أنّه اجتهد أمام النص ، لأنّه يكره أن يذهب الحاج إلى عرفة ورأسه يقطر ماء. وصار ذلك سببا للمنع عن السنّة القطعية. (4)

وقد استنكر الخليفة متعة الحجّ إلى حدّ كان الأعاظم من الصحابة على خوف من أن يتفوّهوا بجوازه وكانوا يوصون أن لا ينقل عنهم ما داموا على قيد الحياة ، وهذا هو عمران بن حصين يوصي بعدم إفشاء كلامه ما دام حيّا.

ص : 450


1- صحيح مسلم : 4 / 48 ، باب في متعة الحجّ والعمرة.
2- الأراك موضع بعرفة قرب نمرة.
3- صحيح مسلم : 4 / 45.
4- سيوافيك البحث عن سبب استنكاره ص 452.

أخرج مسلم عن قتادة ، عن مطرّف قال : بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفّى فيه ، فقال : إنّي محدّثك بأحاديث لعل الله ينفعك بها بعدي ، فإن عشت فأكتم عني وإن مُتُّ فحدّث بها إن شئت ، انّه قد سُلّم عليّ وأعلم انّ نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع بين حج وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبيّ الله قال رجل فيها برأيه ما شاء. (1)

صورة ثانية

وأخرج أيضا عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير ، عن عمران بن حصين قال : اعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب ولم ينهنا عنهما رسول الله ، قال فيها رجل برأيه ما شاء. (2)

صورة ثالثة

وأخرج أيضا عن مطرّف ، قال : قال لي عمران بن حصين انّي لأُحدّثك بالحديث اليوم ينفعك الله به بعد اليوم ، وأعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أعمر طائفة من أهله في العشر فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه حتّى مضى لوجهه ، ارتأى كلّ امرئ بعد ما شاء أن يرتئي. (3)

صورة رابعة
اشارة

وأخرج البخاري عن قتادة ، قال : حدّثني مطرف عن عمران قال : تمتّعنا على عهد رسول الله فنزل القرآن ، قال رجل برأيه ما شاء. (4) فان قول عمران بن

ص : 451


1- . صحيح مسلم : 4 / 48 ، باب جواز التمتع.
2- . صحيح مسلم : 4 / 48 ، باب جواز التمتع.
3- صحيح مسلم : 4 / 47 ، باب جواز التمتع.
4- صحيح البخاري : 2 / 144 باب التمتع.

حصين فإن عشت فاكتم عنّي وإن مت فحدث بها إن شئت ، أو قوله : « قال رجل فيها برأيه ما شاء » يعرب عن وجود ضغط وكبت من جانب الخليفة في المسألة.

ثمّ إنّ السبب لنهي الخليفة عن متعة الحجّ أحد أمرين :

الأوّل : كراهته أن يكون الحجّاج معرسين بهن في الأراك ثمّ يروحون إلى الحج ورءوسهم تقطر ماء.

قال أبو حنيفة عن حمّاد ، عن إبراهيم النخعي ، عن الأسواد بن يزيد قال : بينما أنا واقف مع عمر بن الخطاب بعرفة عشية عرفة ، فإذا هو برجل مرجّل شعره ، يفوح منه ريح الطيب ، فقال له عمر : أمحرم أنت؟ قال : نعم ، فقال عمر : ما هيأتك بهيئة محرم ، إنّما المحرم ، الأشعث ، الأغبر ، الأذفر ، قال : إنّي قدمت متمتّعا وكان معي أهلي وإنّما أحرمت اليوم ، فقال عمر عند ذلك : لا تتمتعوا في هذه الأيام ، فإنّي لو رخصت في المتعة لعرسوا بهنّ في الأراك ثمّ راحوا بهنّ حجاجا. (1)

روى سعيد بن المسيب : انّ عمر بن الخطاب نهى أنّ المتعة في أشهر الحجّ ، وقال : فعلتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنها ، وذلك أنّ أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا في أشهر الحج وإنّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثمّ يقدم فيطوف بالبيت ويحلّ ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى منى يلبّي بحجة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلاّ يوما ، والحجّ أفضل من العمرة ، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهنّ تحت الأراك مع أنّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع ، وإنّما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم. (2)

ص : 452


1- زاد المعاد : 1 / 214 ، ط مصر ، المطبعة المصرية.
2- كنز العمال : 5 / 164 رقم 12477.

الثاني : خوف تسرب الفقر إلى سكان البيت حيث ليس لهم ضرع ولا زرع فمنع عن الجمع بين العمرة والحجّ حتّى يتقاطر الحاج في عامة الشهور إلى البلد الأمين ، ولأجل هذه الغاية منع عن الجمع حتّى يكون الحجّ في عام والعمرة في عام آخر بإنشاء سفر مستقل لكلّ واحد.

روى أبو نعيم في « حلية الأولياء » : انّ عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحجّ ، وقال : فعلتها مع رسول الله وأنا أنهى عنها وذلك : انّ أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثا نصبا معتمرا أشهر الحجّ وإنّما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثمّ يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيّب ويقع على أهله إن كانوا معه حتّى إذا كان يوم التروية أهلّ بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجّة لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلاّ يوما ، والحجّ أفضل من العمرة ، لو خلّينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك وإنّ أهل هذا البيت ( أي أهل مكة ) ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم في من يطرأ عليهم. (1) وقد مرّ ما يؤيّده من رواية سعيد بن المسيب.

هذا وانّه سبحانه نقل دعاء الخليل حيث سأله سبحانه أن يرزق سكنة مكة من الثمرات وقال ( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ). (2)

وقد استجاب سبحانه لدعاء أبيهم إبراهيم ، يقول سبحانه : ( وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ

ص : 453


1- حلية الأولياء : 5 / 205.
2- إبراهيم : 37.

شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ). (1) وعندئذ فلا حاجة للمنع عن السنّة النبوية بغية توفير أرزاقهم.

ولعمر الحقّ انّ هذه الأعذار لا تبرّر تغيّر الشريعة وتبديلها والمنع من المناسك التي شرعها سبحانه وبلغها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وصاحب الشريعة أعرف بمصالح المسلمين ومصالح سدنة مكة وسكنتها.

وقد بلغ منع الخليفة عن متعة الحجّ حتّى قال في بعض خطبه : « متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة الحجّ ومتعة النساء » وفي لفظ الجصاص : لو تقدمت فيها لرجمت. وفي رواية أخرى : أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحجّ. (2)

حجّ التمتع على عهد عثمان

وقد اتّبع عثمان سلفه فيما أبدع وأحدث في المناسك فقد منع من الجمع بين العمرة والحجّ.

روى ابن حزم انّ عثمان بن عفان سمع رجلا يحلّ بعمرة وحجّ فقال : عليّ بالمهلّ ، فضربه وحلقه. (3)

ص : 454


1- القصص : 57.
2- البيان والتبيين : 2 / 193 ، أحكام القرآن : 1 / 290 _ 293 ، الجامع لأحكام القرآن : 2 / 261 ، زاد المعاد : 2 / 184 ، ط مصر.
3- المحلى : 7 / 107 ، ط منشورات دار الآفاق الجديدة ، بيروت.

السادس : الصحابة وتحريم متعة الحج

اشارة

قد استنكر لفيف من الصحابة عمل الخليفة وتحريمه متعة الحج بحماس نذكر منهم بعضهم :

1. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

قد كان الإمام أمير المؤمنين يكافح البدع والمحدثات الطارئة على الشريعة بحماس ولا يعير أهمية لنهي الناهي مهما كان له السطوة والشوكة.

1. روى البخاري عن مروان بن الحكم قال : شهدت عثمان وعليا ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلمّا رأى علي ، أهلّ بهما ، لبّيك بعمرة وحجة ، قال : ما كنت لأدع سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقول أحد. (1)

2. أخرج البخاري عن سعيد بن المسيب قال : اختلف عليّ وعثمان وهما بعُسفان ، في المتعة ، فقال علي : ما تريد إلاّ أن تنهى عن أمر فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلمّا رأى ذلك عليّ أهلّ بهما جميعا. (2)

3. روى مالك في « الموطأ » : انّ المقداد بن الأسود دخل على عليّ عليه السلام

ص : 455


1- صحيح البخاري : 2 / 142 ، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج.
2- صحيح البخاري : 2 / 143 ، باب التمتع.

بالسهيا وهو ينجع بكرات له دقيقا وخبطا ، فقال : هذا عثمان بن عفان ينهى أن يقرن بين الحج والعمرة ، فخرج علي عليه السلام وعلى يديه أثر الدقيق والخبط فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه ، حتّى دخل على عثمان فقال : أنت تنهى عن أن يقرن بين الحجّ والعمرة ، فقال عثمان : ذلك رأيي ، فخرج علي عليه السلام مغضبا وهو يقول : لبيك اللهم لبيك بحجة وعمرة معا. (1)

4. عن سعيد بن المسيب قال : حجّ علي وعثمان فلمّا كنّا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع ، فقال علي : إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا ، فلبّى علي وأصحابه بالعمرة ، فلم ينههم عثمان ». (2)

5. روى عبد الله بن الزبير ، قال : أنا والله لمع عثمان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام وفيهم حبيب بن مسلمة الفهري ، إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحجّ : أن أتمّوا الحجّ وخلّصوه في أشهر الحجّ ، فلو أخّرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل ، فإنّ الله قد وسع في الخير.

فقال له علي : « عمدت إلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورخصة رخّص للعباد بها في كتابه ، تضيق عليهم فيها وتنهى عنها ، وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار » ، ثمّ أهلّ بعمرة وحجّة معا ، فأقبل عثمان على الناس.

فقال : وهل نهيت عنها؟ إنّي لم أنه عنها إنّما كان رأيا أشرت به ، فمن شاء أخذ به ، ومن شاء تركه.

قال : فما أنسى قول رجل من أهل الشام مع حبيب بن مسلمة : انظر إلى هذا كيف يخالف أمير المؤمنين؟ والله لو أمرني لضربت عنقه ، قال : فرفع « حبيب »

ص : 456


1- موطإ مالك : 336 ، باب القران في الحج ، الحديث 40.
2- سنن النسائي : 5 / 152 ، كتاب الحجّ باب حج التمتع ، مستدرك الصحيحين : 1 / 472.

يده فضرب بها في صدره وقال : اسكت فإنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعلم بما يختلفون فيه. (1)

2. عبد الله بن عمر
اشارة

ولم يكن عليّ عليه السلام هو الوحيد بين الصحابة في الاستنكار _ وإن كان وحيدا في شدة استنكاره _ بل كان هناك من يستنكر التحريم بين الفينة والأخرى ، روى القرطبي في تفسيره عن سالم قال : إنّي لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، فقال ابن عمر : حسن جميل ، قال : فإنّ أباك كان ينهى عنها ، فقال : ويلك فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمر به أفبقول أبي آخذ أم بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! قم عنّي. (2)

وسئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج؟ قال : هي حلال ، فقال له السائل : إنّ أباك قد نهى عنها ، فقال : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أأمر أبي يتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فقال الرجل : بل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (3)

صورة ثانية

قال سالم : سئل ابن عمر عن متعة الحجّ فأمر بها فقيل له : إنّك تخالف أباك؟ قال : إنّ أبي لم يقل الذي تقولون إنّما قال : أفردوا العمرة من الحجّ ، أي انّ العمرة لا تتم في شهور الحجّ إلاّ بهدي وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحجّ ، فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتم الناس عليها ، وقد أحلّها الله عزّ وجلّ وعمل بها

ص : 457


1- جامع العلم : 270 ، طبع دار الكتب الحديثة ، مصر.
2- تفسير القرطبي : 2 / 388.
3- سنن الترمذي : 3 / 186 برقم 824.

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فإذا أكثروا عليه. قال : أفكتاب الله عزّ وجلّ أحقّ أن يتبع أم عمر؟! (1)

صورة ثالثة

قال سالم : كان عبد الله بن عمر يفتي بالذي أنزل الله عزّ وجلّ من الرخصة في التمتع وسنّ فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقول ناس لعبد الله بن عمر : كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك؟!

فيقول لهم عبد الله : ويلكم ، ألا تتقون الله؟ أرأيتم إن كان عمر نهى عن ذلك يبتغي فيه الخير ويلتمس فيه تمام العمرة فلم تحرّمون وقد أحلّه الله وعمل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أفرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحقّ أن تتّبعوا سنّته أو عمر؟! إنّ عمر لم يقل لك : إنّ العمرة في أشهر الحجّ حرام ولكنّه قال : إن أتمّ العمرة أن تفردوها من أشهر الحجّ. (2)

3. استنكار ابن عباس

وممّن استنكر عمل الخليفة ومن لفّ لفّه ، حبر الأمّة عبد الله بن عباس رضي الله عنه. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : تمتّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : ما يقول عريّة؟! (3) قال : نقول نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : أراهم سيهلكون ، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون : قال أبو بكر وعمر. (4)

ص : 458


1- السنن الكبرى : 5 / 21.
2- السنن الكبرى : 5 / 21.
3- مصغّر عروة.
4- مسند أحمد : 1 / 337.
4. استنكار أبي بن كعب

وممّن استنكر تحريم المتعة ولم ير نهي الخليفة صالحا للأخذ هو الصحابي العظيم : أبي بن كعب أخرج السيوطي عن مسند ابن راهويه وأحمد انّ عمر بن الخطاب همّ أن ينهى عن متعة الحجّ فقام إليه أبي بن كعب فقال : ليس ذلك لك ، قد نزل بها كتاب الله واعتمرناها مع رسول الله ، فنزل عمر. (1)

5. استنكار سعد بن أبي وقاص

إنّ سعد بن أبي وقاص كان ممّن يعظّمه عمر بن الخطاب ويحترمه وكان يأمر ابنه عبد الله باتّباعه ، وقد أنكر تحريم متعة الحجّ. أخرج الإمام مالك عن محمد بن عبد الله بن حارث ، أنّه حدّثه : أنّه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وممّا يذكر انّ التمتع بالعمرة أي الحج ، فقال الضحاك بن قيس : لا يفعل ذلك إلاّ من جهل أمر الله عزّ وجلّ ، فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي ، فقال الضحاك : فان عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك ، فقال سعد : قد صنعها رسول الله وصنعناها معه. (2)

عن محمد بن عبد الله بن نوفل قال : سمعت عام حجّ معاوية يسأل سعد بن مالك كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلى الحجّ؟ قال : حسنة جميلة ، قال : قد كان عمر ينهى عنها فأنت خير من عمر؟! قال : عمر خير مني وقد فعل ذلك النبي وهو خير من عمر. (3)

ص : 459


1- الدر المنثور : 1 / 520 ، ط دار الفكر.
2- الموطأ : 294 ، برقم 63 ، باب ما جاء في التمتع ؛ زاد المعاد : 1 / 179 ط مصر.
3- سنن الدارمي : 2 / 36 ، ط دار الفكر.
6. عمران بن حصين
اشارة

قد استنكر عمران بن حصين تحريم متعة الحج وأوصى في أخريات عمره وفي المرض الذي توفّى فيه أن يُحدّث عنه : انّ نبي الله جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله ولم ينه عنها نبي الله وإنّما نهى عنها رجل برأيه ، دون دليل في كتاب الله وسنّة رسوله. (1)

وقد توالى الاستنكار في العهود اللاحقة وإن كان المرتقون على صهوات الحكم مصرّين على اتّباع السلف إلى أن زالت الحكومة الأموية وأخذ بنو عباس بزمام الحكم ، فانتشر القول بجواز التمتع بالعمرة إلى الحجّ ، وذلك لأنّ الجواز موقف جد العباسيّين فرفعوا الحرج عن المسلمين ، وتبنّى أحمد بن حنبل في عهدهم دخولها في الحج ، وذاع القول به إلى يومنا هذا بين المذاهب خصوصا بين الحنابلة.

التمتّع بالعمرة إلى الحج وشروطه

قد عرفت أنّ حجّ التمتّع عبارة عن الإهلال بالعمرة ثمّ الإهلال بعد الإتيان بها ثمّ الإحرام إلى الحجّ ، وإليه يشير قوله سبحانه ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ).

قال القرطبي : التمتّع بالعمرة إلى الحجّ عند العلماء على أربعة أوجه منها وجه واحد مجتمع عليه ، والثلاثة مختلف فيها.

فأمّا الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول الله جلّ وعز : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ

ص : 460


1- صحيح مسلم : 4 / 48 ، باب جواز التمتع.

بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحجّ وأن يكون من أهل الآفاق ، وقدم مكة ففرغ منها ثمّ أقام حلالا بمكة إلى أن أنشأ الحجّ منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، فإذا فعل ذلك كان متمتعا وعليه ما أوجب الله على المتمتع ، وذلك ما استيسر من الهدي يذبحه ويعطيه للمساكين بمنى أو بمكة ، فإن لم يجد صام ثلاثة أيّام ، وسبعة إذا رجع إلى بلده ، وليس له صيام يوم النحر بإجماع من المسلمين واختلف في صيام أيّام التشريق.

فهذا إجماع من أهل العلم قديما وحديثا في المتعة ، ورابطها ثمانية شروط :

الأوّل : أن يجمع بين الحجّ والعمرة.

الثاني : في سفر واحد.

الثالث : في عام واحد.

الرابع : في أشهر الحجّ.

الخامس : تقديم العمرة.

السادس : لا يمزجها ، بل يكون إحرام الحجّ بعد الفراغ من العمرة.

السابع : أن تكون العمرة والحجّ عن شخص واحد.

الثامن : أن يكون من غير أهل مكة.

وتأمّل هذه الشروط فيما وصفنا من حكم التمتع تجدها. (1)

وهذا هو الذي منع عنه بعد رحيل الرسول ، لا غير.

ونهى عنه عمر بن الخطاب وتبعه عثمان ومعاوية ومن بعدهم.

ص : 461


1- الجامع لأحكام القرآن : 2 / 391.

السابع : التبريرات المختلقة للحظر المفروض

اشارة

لمّا كان النهي عن متعة الحجّ ، يضاد صريح الكتاب ، وعمل النبي وسنّته ، وعمل أكابر أصحابه ، حاول غير واحد تأويل النهي ، بوجوه نذكر منها وجهين :

1. فسخ الحجّ إلى العمرة

ربما يقال : انّ المنهي ، هو فسخ الحجّ إلى العمرة التي يأتي بعدها فمن أحرم للحجّ ، فله أن يأتي بأعماله ثمّ ينشئ إحراما آخر للعمرة ، فليس له أن يعدل عن حجّ القران إلى حجّ التمتع ، وهذا هو الذي ينقله بدر الدين العيني الحنفي عن بعضهم ، وإليك نصّه : قال عياض وغيره جازمين بأنّ المتعة التي نهى عنها عمر وعثمان هي فسخ الحجّ إلى العمرة ، لا العمرة التي يحجّ بعدها.

ولمّا كان التأويل بمكان من الوهن _ حيث تدفعه النصوص السابقة عن جابر وابن عباس وعمران بن حصين وسعد بن أبي وقاص ، كما تدفعه نصوص العلماء على أنّ المنهي عنه هو الجمع بين العمرة والحجّ _ ردّ عليه بدر الدين الحنفي وقال : قلت : يرد عليهم ما جاء في رواية مسلم في بعض طرقه التصريح بكونه متعة الحجّ ، وفي رواية له انّ رسول الله أعمر بعض أهله في العشر ، وفي رواية : جمع بين حج وعمرة ، ومراده التمتع المذكور وهو الجمع بينهما في عام

ص : 462

واحد. (1)

قلت : ويخالف هذا التأويل ، كلمات المحرّم :

الف : أنّي أخشى أن يعرّسوا بهن في الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجاجا.

ب : انّي لو رخصت في المتعة لهم لعرسوا بهن في الأراك ثمّ راحوا بهنّ حجاجا.

ج. كرهت أن يكونوا معرسين بهنّ في الأراك ثمّ يروحون في الحج تقطر رءوسهم.

د : انّ أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنّما ربيعهم في من يطرأ عليهم.

فان هذه الكلمات صريحة في أنّ النهي عن الجمع بين العمرة والحج ، بل ليس للوافد إلاّ الحجّ ، ثمّ الإتيان بالعمرة في العام المقبل ، لاستكراهه التعرس بالنساء بين العملين أو ليفيض الزائر في عامة الشهور إلى مكة المكرمة.

2. اختصاص التمتّع بالصحابة

إنّ في الفقه الإسلامي بابا باسم خصائص النبي والأمور أو الأحكام المختصة به ، وقد ذكرها العلامة الحلّي برمّتها في كتاب « تذكرة الفقهاء » أوائل كتاب النكاح ولم تسمع إذن الدنيا ، خصائص الصحابة وانّ لهم خصائص كخصائص النبي مع أنّ حكمه صلى الله عليه وآله وسلم على الأوّلين كحكمه على الآخرين ، وحلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

لكن لما كان تحريم التمتع ، والمنع عن الجمع بين العمرة والحجّ ، يضاد الكتاب والسنّة القطعية حاول بعضهم تأويله قائلاً بأنّ الجمع بينهما من

ص : 463


1- عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري : 4 / 568.

خصائص أصحاب النبي ، حتّى عزوه إلى أبي ذر ، حسب ما رواه مسلم.

أخرج مسلم عن أبي ذر انّه قال : كانت متعة الحجّ لأصحاب محمد خاصّة. (1)

وفي رواية أخرى : لا تصلح المتعتان إلاّ لنا خاصة يعني : متعة النساء ومتعة الحجّ. (2)

وقد أيّدوه ببعض الآثار التي قال في حقّها ابن قيم الجوزية : إنّ تلكم الآثار الدالّة على الاختصاص بالصحابة بين باطل لا يصحّ عمّن نسب إليه البتة ، وبين صحيح عن قائل غير معصوم لا يعارض به نصوص المشرّع المعصوم. (3)

وفي صحيح الشيخين وغيرهما عن سراقة بن مالك قال : متعتنا هذه يا رسول الله لعامنا هذا أم لا بد؟ قال : لا بل لا بد أبد.

وفي صحيحة أخرى عن سراقة : قام رسول الله خطيبا فقال : ألا إنّ العمرة قد دخلت في الحجّ إلى يوم القيامة. (4)

وقد مرّ نقل البخاري انّ العرب كانت تعدّ العمرة في أشهر الحجّ قبل الإسلام من أفجر الفجور ، وقد نهض النبي بأمر من الله بإعادة السنّة الإبراهيمية إلى الساحة ، فاعتمر أربع عمر كلّها في أشهر الحجّ.

3. عزوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطروء النسيان على الصحابة

قد تعرفت على مدى صحة التأويلين السابقين وبعدهما عن النصوص الواردة في الموضوع فهلم معي نقرأ ما انتحله ابن أبي سفيان حيث نسب النهي عن

ص : 464


1- . الجمع بين الصحيحين : 1 / 271 رقم 368.
2- . الجمع بين الصحيحين : 1 / 271 رقم 368.
3- زاد المعاد : 1 / 207.
4- مسند أحمد : 4 / 175 ، سنن البيهقي : 4 / 352.

الجمع بين العمرة والحجّ إلى رسول الله ، ولما سأل أصحاب النبي عن هذا النهي وواجه استنكارهم له ، رماهم بالنسيان.

أخرج أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان انّه قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل تعلمون انّ رسول الله نهى عن كذا أو كذا ، وركوب جلود النمور؟ قالوا : نعم ، قال : فتعلمون انّه نهى ان يقرن بين الحجّ والعمرة؟ فقالوا : أمّا هذا فلا ، فقال : أما إنّها معهن ولكن نسيتم. (1)

ولو كان المسئول شخصا أو شخصين من أصحاب النبي لكان احتمال تطرق النسيان إليه أو إليهما مبرر ، ولكنّه سأل أصحاب النبي ، الظاهر في أنّ المسئول كان جماعة كثيرة ، فهل يحتمل أن يتسرب النسيان إلى هؤلاء ، الذين طالت صحبتهم مع النبي ولا يذكره إلاّ ابن أبي سفيان الذي أسلم عام الفتح وقصرت صحبته وقلّ سماعه؟!

كيف وقد كان مع النبي ألوف من الصحابة رأوا بأمّ أعينهم عمل النبي وقوله وحثّه وترغيبه إلى الجمع بين العمرة والحجّ ، والإحلال بينهما من المحظورات.

قال ابن قيم : لما عزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الحج علم الناس انه حاج فتجهّزوا للخروج معه ، وسمع بذلك مَنْ حول المدينة فقدموا يريدون الحج مع رسول الله ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون ، فكان من بين يده ومن خلفه وعن يمينه وشماله مدّ البصر. (2)

ص : 465


1- سنن أبي داود : 2 / 157 رقم الحديث 1794.
2- زاد المعاد : 1 / 175 ، طبع مصر.
خاتمة المطاف في أمور :

الأوّل : اتّفقت كلمة شرّاح الصحيحين على أنّ المراد من « رجل » في قوله : « وقال رجل برأيه » هو عمر بن الخطاب ، قال القسطلاني في شرح قوله : « قال رجل برأيه ما يشاء » هو عمر بن الخطاب لا عثمان بن عفان ، لأنّ عمر أوّل من نهى عنها فكان من بعده تابعا له في ذلك.

ففي صحيح مسلم انّ ابن الزبير كان ينهى ، وابن العباس يأمر بها فسألوا جابرا فأشار إلى أنّ أوّل من نهى عنها عمر. (1)

وقال النووي في شرح صحيح مسلم : هو عمر بن الخطاب ، لأنّه أوّل من نهى عن المتعة ، فكان من بعده من عثمان وغيره تابعا له. (2)

الثاني : أخرج مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثني إلى اليمن فوافقته في العام الذي حجّ فيه ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا موسى كيف قلت حين أحرمت؟ قال : قلت : لبيك إهلالا كإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : هل سقت هديا؟ فقال : لا ، قال : فانطلق فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ثمّ أحل. (3)

ص : 466


1- إرشاد الساري : 4 / 169.
2- شرح النووي : 8 / 451.
3- شرح صحيح مسلم للنووي : 8 / 450.

هنا سؤال هو انّ علي بن أبي طالب وأبا موسى علّقا إحرامهما بإحرام النبي ، فأمر عليّا بالدوام على إحرامه ، وأمر أبا موسى بجعله عمرة فما هو الفارق بين الإحرامين؟

أقول : قد أجاب عنه النووي في شرحه وقال : إنّ عليّا كان معه هدي كما كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدي فبقي على إحرامه كما بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلّ من معه هدي ، وأبو موسى لم يكن معه هدي فتحلّل بعمرة كمن لم يكن معه هدي ولو لا الهدي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجعلها عمرة. (1)

الثالث : انّ في حظر متعة الحجّ لعبرة لمن سبر التأريخ ، وحاول الوقوف على الوقائع التي جرت فيه ، فهذا هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حجّ ومعه آلاف من أصحابه ومن تبعه من الأعراب حيث أمر فيه بإدخال العمرة في الحجّ والإحلال بينهما وقد شهد به الكبير والصغير والداني والنائي ، وبالرغم من ذلك فقد غلب منطق القوة على قوة المنطق عقب رحيله حتى صار التمتع بالعمرة إلى الحجّ من المحرمات التي يعاقب عليها مرتكبها أشدّ العقوبة ، مع أنّ هذه المسألة لم تكن مصدر تهديد للسلطات الحاكمة.

فإذا كان هذا هو حالها فما ظنك بالمسائل السياسية التي تهدّد المنافع الشخصية للبعض ، فلا غرو في أن يقف أصحاب الآراء والأهواء بوجه الحقّ الذي أمر به النبي.

وبذلك يسهل على القارئ الكريم الوقوف على مغزى مخالفة بعض الصحابة للحقّ المشروع لعلي عليه السلام في الخلافة.

ص : 467


1- شرح صحيح مسلم : 8 / 450.

إنّ كثيرا من الباحثين من أهل السنّة يأوّلون ما ورد من النصوص حول خلافة الإمام أمير المؤمنين في أوائل البعثة وأواسطها وأواخرها ويفسرونها بالدعوة إلى نصرة علي ومحبّته ، يقول الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر في وقته في رسالته إلى السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي :

إنّ أولي البصائر النافذة والرؤية الثاقبة ينزّهون الصحابة عن مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شيء من ظواهر أوامره ونواهيه ولا يجوّزون عليهم غير التعبّد بذلك ، فلا يمكن أن يسمعوا النص على الإمام ثمّ يعدلوا عنه أوّلا وثانيا وثالثا ، وكيف يمكن حملهم على الصحّة في عدولهم عنه مع سماعهم النصّ عليه؟ ما أراك بقادر على أن تجمع بينهما. (1)

وما ذكره شيخ الأزهر نابع من حسن ظنه بالصحابة كافة ، ولكن لو سبر أخبارهم لوقف على أنّهم خالفوا النصوص في موارد كثيرة ، ومنها متعة الحجّ على الرغم من أنّها لم تشكّل تهديدا لمصالحهم بل كانت مجرد استهجان للتحلّل بين العمرة والحجّ.

وأمّا النصوص التي تتعرض لمصالحهم الشخصية ، فقد كانوا يخالفونها في حياته فكيف بعد رحيله؟! والموارد التي لم يتعبّد السلف من الصحابة بالنصوص فيها أكثر من أن تذكر في ذلك المجال ، وكفانا في ذلك ما قام به السيد شرف الدين العاملي في كتابه القيّم « النص والاجتهاد » فقد جمع شطرا وافرا من اجتهادات الصحابة مقابل النص ، وقد أنهاها إلى 66 موردا ، نقتصر منها على هذا النموذج :

ص : 468


1- المراجعات : ص 234 ، المراجعة 83.

رزية يوم الخميس التي حيل فيها بين النبي وما كان يرومه من كتابة أمر بالغ الأهمية ، فإنّها من أشهر القضايا وأكبر الرزايا أخرجها أصحاب الصحاح والسنن ونقلها الإمام البخاري في صحيحه ، بسنده إلى عبيد الله بن عتبة ابن مسعود عن ابن عباس ، قال : لمّا حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هلمّ أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده ، فقال عمر : إنّ النبي قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم النبي كتابا لا تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قوموا ، فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (1)

ويكشف عن ذلك الحوار الذي جرى بين الخليفة وابن عباس الذي نقله على وجه التفصيل شارح نهج البلاغة ابن أبي الحديد في شرحه ، يقول :

قال عمر بن الخطاب لابن عباس : يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم؟ قال : لا ، يا أمير المؤمنين.

قال : لكنّي أدري.

قال : ما هو ، يا أمير المؤمنين؟

قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فتُجْحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ، ووفقت فأصابت. (2)

ص : 469


1- صحيح البخاري : 1 / 30 ، باب كتابة العلم.
2- شرح نهج البلاغة : 12 / 53 ، في شرح قوله : لله بلاد فلان.

وبما انّ المقام لا يقتضي التبسّط فلنقتصر على ذلك.

الرابع : المعروف انّ الخليفة حرم متعة الحجّ لاستلزامه التحلّل بين العمرة والحجّ ، وهذا ممّا كان يستهجنه الخليفة ويعرب عنه قوله :

« إنّي أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثمّ يروحوا بهنّ حجّاجا » ، وقوله : « كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رءوسهم ».

وعلى ذلك فقد رخص في الإفراد والقران ، أمّا الفارد فلأنّ العمرة يؤتى بها بعد الحجّ ، وأمّا القران فان الحاج بما انّه يهل بالعمرة والحجّ معا فلا يتحلّل بين العملين.

ولكنّه بالنسبة إلى سائر أقواله فقد منع عن حجّ القران أيضا ، وذلك لأنّه كان يصر بفصل الحجّ عن العمرة مستدلا بأنّه ليس لأهل هذا البلد ضرع ولا زرع. (1) وكان ينادي بقوله : « فافصلوا حجّكم عن عمرتكم فإنّه أتم لحجّكم وأتمّ لعمرتكم » (2) ومعنى ذلك حرمان أكثر الناس من العمرة التي دعا إليها سبحانه بقوله ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ) ، إذ ربما لا تتهيّأ الأسباب لإقامة الآفاقي في مكة المكرمة حتّى يحول الحول فيأتي بالعمرة نزولا لنهي الخليفة.

وما أبعد عمل الخليفة وما يرويه ابن عباس ، ويقول : والله ما أعمر رسول الله عائشة في ذي الحجّة إلاّ ليقطع بذلك أمر أهل الشرك ، وقال كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض. (3)

الخامس : قد روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ما مرّ من احتدام النزاع بين

ص : 470


1- . مرّ كلامه ص 408 ، 410 ، 411.
2- . مرّ كلامه ص 408 ، 410 ، 411.
3- صحيح البخاري : 3 / 69.

النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفيف من صحابته في إدخال العمرة في الحجّ والتحلّل بعد الأولى.

روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال : « لمّا فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سعيه بين الصفا والمروة أتاه جبرئيل عليه السلام عند فراغه من السعي وهو على المروة ، فقال : إنّ الله تعالى يأمرك أن تأمر الناس أن يحلّوا إلاّ من ساق الهدي. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الناس بوجهه ، فقال : يا أيّها الناس هذا جبرئيل _ وأشار بيده إلى خلفه _ يأمرني عن الله عزّ وجلّ أن آمر الناس أن يحلّوا إلاّ من ساق الهدي فآمرهم بما أمر الله به.

فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نخرج إلى منى ورءوسنا تقطر من النساء. وقال آخرون : يأمرنا بشيء ويصنع هو غيره. فقال : « يا أيّها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت صنعت كما صنع الناس ، ولكنّي سقت الهدي ولا يحلّ من ساق الهدي حتّى يبلغ الهدي محلّه » فقصر الناس وأحلّوا وجعلوها عمرة.

فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال : بل للأبد إلى يوم القيامة وشبّك بين أصابعه. وأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (1). (2)

السادس : انّ رسول الله أقام بالمدينة عشر سنين فلما نزل قوله سبحانه : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (3)

ص : 471


1- البقرة : 196.
2- التهذيب : 5 / 30 ، باب ضروب الحجّ ، الحديث 3.
3- الحج : 27.

أمر المؤذنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأنّ رسول الله يحجّ في عامه هذا فاتبعه من حضر المدينة وأهل العوالي والاعراب.

واختلفت كلمة أهل السنّة في كيفية حجّه إلى أقوال ووجوه :

1. انّه صلى الله عليه وآله وسلم كان قارنا لا مفردا. وهذا خيرة ابن قيم الجوزية ، وأقام على مختاره ما يربو على 21 دليلا. (1)

2. انّه صلى الله عليه وآله وسلم حجّ حجّا مفردا لم يعتمر فيه واحتجّوا برواية عائشة في الصحيحين انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل بالحجّ.

3. انّه صلى الله عليه وآله وسلم حجّ متمتّعا تمتعا حلّ فيه من إحرامه ثمّ أحرم يوم التروية بالحجّ مع سوق الهدي.

4. حجّ متمتعا تمتعا لم يحل منه لأجل سوق الهدي.

هذه الوجوه ذكرها ابن قيم الجوزية وبسط الكلام في أدلّة القائلين ونقدها. (2) وأمّا ما هو الحقّ حسب روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام فموكول إلى محلّه وقد استدلّ صاحب الحدائق على أنّه لم يكن متمتعا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ». (3)

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ

قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ). (4)

ص : 472


1- زاد المعاد 1 / 216 _ 220.
2- لاحظ زاد المعاد : 1 / 222 _ 232.
3- الحدائق : 14 / 313.
4- سورة ق : 37.

12. متعة النساء أو الزواج المؤقت

اشارة

ص : 473

ص : 474

تمهيد: الغريزة الجنسية بين التحديد والإباحة الغربية

أنّ العلاقة الجنسية علاقة طبيعية راسخة في وجود كلّ إنسان في مقطع زمنيّ خاص ، بنحو لا تجد لها مثيلا في سائر العلاقات ، وفي ظلّها تنفتح مشاعر الحب والعطف والحنان وتتعاظم المسئولية بغية إرساء دعائم الأسرة التي هي أوّل نواة المجتمع الإنساني الكبير.

أنّ تلبية الغريزة الجنسية تعدّ من حاجات الإنسان الملحّة ، ومن ضروريات الحياة ، التي لا يختلف فيه اثنان. وليست حاجته إلى الزواج بأقلّ من حاجته إلى الطعام والشراب.

أنّ الشريعة الإسلامية بما أنّها خاتمة الشرائع ، ونبيّها خاتم الأنبياء ، وكتابها خاتمة الكتب ، قد تناولت هذا الجانب من شخصية الإنسان وأشبعته بسنن وقوانين تنسجم مع سائر غرائزه الكامنة في وجوده.

وقد بلغت عناية الشريعة بالدعوة إلى تلبية الغريزة المذكورة حدا أن عدّ

ص : 475

النكاح ، سنّة إلهية والإعراض عنه إعراض عن الشريعة كما يجسّده حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « النكاح سنّتي فمن أعرض عن سنّتي فليس مني ». (1)

وهذا يعرب عن قدسية الزواج في الإسلام وانّه أرفع من أن يكون تبادلا بين الإنسان والمال كما طاب لبعض الجدد المتأثرين بالغرب أن يسمّيه. (2)

ومهما حرص الإنسان على حياة التبتّل والعزوف عن الزواج ، فإنّه يظل يشعر بفراغ كبير لا يسدّه شيء سوى الزواج.

وانطلاقا من هذه الأهمية فقد شرّع الإسلام قوانين رائعة في تنظيم الغريزة الجنسية وسوقها في الاتجاه الصحيح الذي يكفل للإنسان إشباع غريزته الجنسية ، بأسلوب يتجاوب مع سائر ميوله وغرائزه ويحفظ له كرامته وشرفه ، قال سبحانه ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ). (3)

فقد سمح له في غير واحد من الآيات ، أن يلبّي حاجته الجنسية بطرق ثلاثة :

1. النكاح الدائم.

2. النكاح المؤقت.

3. ملك يمين.

ومهما يكن من أمر فالذي دعانا إلى عقد بحث في النكاح المؤقت هو انّ الإخلاء والألدّاء أجحفوا بحقه في كتاباتهم.

ص : 476


1- جامع أحاديث الشيعة : 25 / 38 رقم 36412.
2- الزواج المؤقت عند الشيعة للكاتبة شهلا حائري : 45.
3- النور : 32.

أمّا الألدّاء فقد نظروا إليه بعين الحقد والحسد ، نظرة الضّرة ، إلى الضّرة ، فصوّروا محاسنه معايب.

وأمّا الإخلاء فقد أكثروا فيه اللغط والتهويش ، وأخذوا بالقضاء والإبرام من دون تدبر وتبصر وعدل وإنصاف ، حتّى تجاوز بعضهم وعدّه زواجا أقرب إلى الدعارة والزنا ، ومعنى ذلك انّ صاحب الرسالة _ والعياذ بالله _ رخّص الدعارة في أيام قلائل لأصحابه لأجل إخماد نار الشهوة فيهم ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ).

فما تنتظر من موضوع ، خاض في تحليله وتبيينه العدو للطعن به ، والصديق للجهل بحقيقته ، أن لا تحوم حوله الشبهات. ولو أنّ الصديق درس الموضوع دراسة معمّقة ، وأحاط بما ورد فيه في الذكر الحكيم ، وأحاديث الرسول لما كان يتفوّه بتلك الكلمة القارصة.

فالذي نشير إليه في هذه العجالة ، هو انّ الإسلام عالج مشكلة الغريزة الجنسية بالدعوة إلى النكاح الدائم وجعله أساسا في حياة الإنسان ، وتلقى هذا النوع من النكاح أمرا ضروريا وطعاما روحيا لكافة بني الإنسان.

وعلى الرغم من ذلك فقد تطرأ ظروف خاصة لا يتمكن الإنسان خلالها من سلوك الطريق العام ( أي النكاح الدائم ) ، فكان لا بدّ للشريعة الإسلامية أن تقول كلمتها في هذا المضمار ، من خلال تقنين زواج خاصّ كعلاج مقطعيّ ، فمن الخطأ أن نتصور انّ دعوة الإسلام إلى الزواج المؤقت كدعوته إلى الزواج الدائم ، كلاّ ، فالزواج الدائم تلبية للحاجة الجنسية في عامة مقاطع الحياة.

وأمّا النكاح المؤقت فهو _ كما عرفت _ دواء وليس بطعام ، علاج لضروريات مقطعية يحول دون انتشار الفساد في المجتمع الإسلامي.

ص : 477

إذ ربما تطرأ على الإنسان ظروف لا يتيسر من خلالها الزواج الدائم فلا يبقى أمامه سوى الأمور الثلاثة التالية :

1. كبت جماع الشهوة.

2. التردّد على بيوت الدعارة والفساد.

3. النكاح المؤقت بالشروط التي وضعها الإسلام.

أمّا الأوّل فمن المستحيل عادة أن يصون به أحد نفسه _ إلاّ من عصمه الله _ ولا يطرق ذلك الباب إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس وأين هو من عامة الناس؟! وأمّا الثاني ففيه _ مضافا إلى هدم الكرامة الإنسانية _ شيوع الفساد والأمراض وتداخل الأنساب فلم يبق إلاّ الطريق الثالث وهو النكاح المؤقت.

وعلى ذلك فالزواج المؤقت من أروع السنن الإسلامية التي سنّها الإسلام وأراد بها صون كرامة الإنسان.

وقد وقف الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام على عمق المشكلة ، فأدلى بكلمة قيّمة تقرع آذاننا وتحذّر المجتمع من تفاقم هذا الأمر عند إهماله لهذا العلاج ، وقال : « لو لا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي أو شقية ».

وهنا كلام للمفكّر الإسلامي الشهيد المطهري يقول : « السمة المميزة لعصرنا هي اتساع المسافة الزمنية بين البلوغ الجنسي ، والنضج الاجتماعي حين يصبح بمقدور المرء تأسيس عائلة ، فهل بإمكان الشبّان قضاء فترة من التنسك المؤقت ، وتحمل قيود التقشف القاسية في انتظار تمكنهم من عقد زواج دائم.

ولنفترض انّ هناك شابا مستعدا لتحمل هذا التنسك المؤقت ، فهل ستكون الطبيعة مستعدة _ عند الامتناع عن النكاح _ بتحمل تلك العقوبات النفسية الفظيعة والخطرة التي يصاب بها الأشخاص الذين يمتنعون عن ممارسة

ص : 478

النشاطات الجنسية الغريزية كما يدل على ذلك اكتشافات علماء النفس الآن.

فعند ذاك انّ أمام الشبان خيارين :

1. إمّا اتّباع النموذج الغربي المنحطّ _ أعني : الإباحة الجنسية _ القائم على إعطاء الحرية للشبّان والشابات على قدم المساواة.

2. أو الإقرار بشرعية الزواج المؤقت المحدد ».

هذا وقد ضمّ بعض فلاسفة الغرب في العصور الأخيرة من الذين اشتهروا بالتحرر من القيود والحرية في الرأي ، أصواتهم إلى صوت الإسلام في تشريعه الخالد للنكاح المؤقت.

فهذا هو « راسل » يرى أنّ سنن الزواج قد تأخرت بغير اختيار وتدبير فان الطالب كان يستوفي علومه قبل مائة سنة أو مائتي سنة في نحو الثامنة عشرة أو العشرين فيتأهب للزواج في سن الرجولة الناضجة ، ولا يطول به عهد الانتظار إلاّ إذا آثر الانقطاع للعلم مدى الحياة ، وقلّ من يؤثر ذلك بين المئات والألوف من الشبان.

أمّا في العصر الحاضر فالطلاب يبدءون التخصص في العلوم والصنائع بعد الثامنة عشرة أو العشرين ، ويحتاجون بعد التخرج من الجامعات إلى زمن يستعدون فيه لكسب الرزق من طريق التجارة أو الأعمال الصناعية والاقتصادية. ولا يتسنّى لهم الزواج وتأسيس البيوت قبل الثلاثين ، فهناك فترة طويلة يقضيها الشابّ بين سن البلوغ وبين سن الزواج لم يحسب لها حسابها في التربية القديمة.

وهذه الفترة هي فترة النمو الجنسي ، والرغبة الجامحة ، وصعوبة المقاومة للمغريات ، فهل من المستطاع أن نسقط حساب هذه الفترة من نظام المجتمع الإنساني ، كما أسقطها الأقدمون وأبناء القرون الوسطى؟

ص : 479

يقول الفيلسوف الآنف الذكر أنّ ذلك غير مستطاع ، وأنّنا إذا أسقطناها من الحساب فنتيجة ذلك شيوع الفساد والعبث بالنسل بين الشبان والشابات ، وإنّما الرأي عنده أن تسمح القوانين في هذه السن بضرب من الزواج بين الشبان والشابات ، لا يؤدهم بتكاليف الأسرة ، ولا يتركهم لعبث الشهوات الموبقات وما يعقبه من العلل والمحرجات. وهذا ما سماه ب_ « الزواج بغير أطفال » ، وأراد أن يكون عاصما من الابتذال ومدرّبا على المعيشة المزدوجة قبل السن التي تسمح بتأسيس البيوت. (1)

ولعلّ مراده من قوله : « الزواج بغير أطفال » هو استعمال موانع الحمل ومع ذلك فالالتزام بهذا الشرط أمر ممكن ولكنّه مشكل ، وعلى فرض استعماله ، فلو أنجبا طفلا فهو ولد شرعي يلحق بالوالدين.

إنّ الاقتراح الذي عرضه الفيلسوف الإنجليزي هو ما دعا إليه الإسلام منذ أكثر من 14 قرنا ، ولكن الإسلام جعله في إطار تقنيني وتشريعي أضفى عليه مزيدا من الروعة والجمال وكمالا من حيث القيود والشروط.

هذه دراسة موجزة حول النكاح المؤقّت نقدّمها للقراء الكرام راجين أن يولوا عناية فائقة بهذا الموضوع ويتدارسوه من زوايا مختلفة حتّى تتبين لهم عظمة التشريع الإسلامي وانّ الأغيار جحدوا حقّه ، وغيرهم جهلوه وما عرفوه.

والله من وراء القصد

ص : 480


1- الفلسفة القرآنية لعباس محمود العقاد : 87 _ 88.

آراء الفقهاء في المتعة

اشارة

اتّفقت المذاهب الفقهية على أنّ متعة النساء كانت حلالا أحلّها رسول الله بوحي منه سبحانه في برهة من الزمن وإنّما اختلفوا في استمرار حليتها وكونها منسوخة أو لا؟ فالشيعة الإمامية ولفيف من الصحابة والتابعين على بقاء الحلية خلافا للمذاهب الأربعة وهي على التحريم.

ومن المعلوم انّ مسألة المتعة مسألة شائكة ، يكتنفها شيء من الغموض والإبهام ، وليس معنى ذلك أنّ المسألة تفقد الدليل الشرعي من الذكر الحكيم والسنّة المطهرة على حلّيتها بعد رحيل الرسول إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

بل يراد من الغموض ، هو أنّ الكاتب مهما كان موضوعيا ، ربما يتّهم بالانسياق وراء الشهوات عند الخوض في هذه المسائل.

هذا ، مع الاعتراف بأنّ ظاهرة المتعة ليست ظاهرة متفشية بين القائلين بحليتها _ كما يتصوّرها المغفلون _ بل تمارس في نطاق ضيق ، وفي ظروف معينة.

وتبيين الحقّ يتم ضمن أمور :

ص : 481

1. تعريفها ونبذ من أحكامها

اشارة

الزواج المؤقت عبارة عن تزويج المرأة الحرة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع _ من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية _ بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتفاق ، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق ، ويجب عليها من الدخول بها _ إذا لم تكن يائسة _ أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض وإلاّ فبخمسة وأربعين يوما.

إنّ الزواج المؤقت كالزواج الدائم لا يتم إلاّ بعقد صحيح دالّ على قصد الزواج جدّا ، وكلّ مقاربة تحصل بين رجل وامرأة من دون عقد فلا تكون متعة حتّى مع التراضي والرغبة ، ومتى تم العقد كان لازما يجب الوفاء به.

نبذ من أحكامها
اشارة

إنّ أكثر المشكلات التي تثار على زواج المتعة نابعة من عدم الوقوف على حقيقتها وآثارها وأحكامها ، فنذكر شيئا موجزا منها حتّى يتبين انّ بين المتعة والسفاح بعد المشرقين.

إنّ لنكاح المتعة أحكاما مشتركة بينها وبين النكاح الدائم ، كما أنّ لها أحكاما خاصّة فقد بسطنا الكلام في كلا القسمين من أحكامها في كتابنا « نظام

ص : 482

النكاح في الشريعة الإسلامية الغرّاء » فمن أراد التفصيل فليرجع إليه. (1) فها نحن نذكر شيئا من أحكامها المشتركة والمختصة والفقيه العارف يميّز المشترك من المختص.

للنكاح المنقطع أركان أربعة :

1. الصيغة ، 2. المحل ، 3. الأجل ، 4. المهر.

الف : الصيغة

فهي الإيجاب والقبول ويكفي في الإيجاب أحد الألفاظ الثلاثة : زوجتك ومتّعتك وأنكحتك ، ويكفي في القبول كلّ لفظ دالّ على الرضا بذلك الإيجاب كقوله : قبلت النكاح أو المتعة.

ب : المحل

وهو الزوج والزوجة ويشترط فيهما ما يشترط في النكاح الدائم إلاّ ما استثني ، فيشترط أن تكون الزوجة مسلمة ويجوز أن تكون كتابية على القول الأشهر بين الفقهاء.

وأمّا المسلمة فلا تتمتع إلاّ بالمسلم خاصة.

ولا يدخل على الزوجة المنقطعة بنت أختها ، ولا بنت أخيها إلاّ بإذنها ، ولو فعل توقّف على إذنها ، فإن ردت ، بطل العقد.

ج : المهر

المهر ركن في عقد المتعة ، يبطل العقد بعدم ذكره في العقد ويشترط أن يكون

ص : 483


1- نظام النكاح : 2 / 47 _ 108.

مملوكا ، معلوما إمّا بالكيل أو الوزن أو المشاهدة والوصف.

ولو وهب الزوج ، المدة لها ، قبل الدخول لزمه النصف ، ولو دخل استقرّ المهر كله.

د : الأجل

فهو ركن من عقد المتعة ، ولو ترك الأجل فهنا قولان : بطل وقيل ينقلب العقد دائما ، ولا بد أن يكون معينا محروسا من الزيادة والنقصان.

يجوز العزل من المتمتع بها ولا يقف على إذنها خلافا للدائمة فلا يجوز العزل إلاّ بإذنها.

وتبين المتمتع بها بانقضاء الأجل ولا يقع بها طلاق ولا يتوارثان إلاّ مع الشرط في متن العقد.

المتعة كالدوام فيما يحرم بالمصاهرة ، فلو عقد على امرأة تمتعا ، حرمت عليه أمّها ، مطلقا ، وبنتها مع الدخول ، وهكذا سائر المحرمات المذكورة في باب التحريم بالمصاهرة.

وإذا دخل بها وانقضى أجلها فإن كانت من ذوات الحيض ، وجب عليها الاعتداد بحيضتين ، وإن لم تكن من ذوات الأقراء ، وهي في سنهنّ اعتدت بخمسة وأربعين يوما ، وإن لم يكن دخل بها فلا عدّة عليها.

ولو مات عنها في الأجل اعتدت بأربعة أشهر وعشرة أيّام ، سواء دخل بها أو لا إن كانت حائلا ، وقيل شهران وخمسة أيّام ، وإن كانت حاملا اعتدت بأبعد الأجلين ، ولو كانت أمة اعتدت حائلا بشهرين وخمسة أيّام. (1)

ص : 484


1- شرائع الإسلام : 2 / 307 ، تحرير الأحكام : 3 / 526.

والغرض من ذلك هو الإشارة إلى أنّ نكاح المتعة نكاح حقيقي ، وهو كالنكاح الدائم في عامّة الأحكام إلاّ ما خرج بالدليل ، وأهمّ الفروق عبارة عن :

1. الزوجة الدائمة تفارق بالطلاق وهذه تفارق بانقضاء الأجل.

2. الزوجة الدائمة ينفق عليها ، دونها.

3. الزوجة الدائمة ترث زوجها وهو يرثها ، دونها.

4. انّ الدائم إذا طلقت تعتد بثلاثة أشهر أو بثلاث حيضات وهي تعتد بحيضتين أو خمسة وأربعين يوما.

وهذه الفروق الضئيلة لا تخرجها عن كونها زوجة لها من الأحكام ما لغيرها ، مثلا يقول سبحانه ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (1) والمزوجة متعة داخلة في قوله سبحانه ( إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ ) فهي زوجة حقيقة ، لها من الأحكام ما للزوجة الدائمة إلاّ ما استثني بالدليل كما عرفت. وانتفاء بعض الأحكام أو تخصيصها في مورد المؤقتة ، لا يسلب عنها عنوان الزوجيّة ، وسيوافيك انّ الدائمة أيضا تبين أحيانا بلا طلاق ، أو لا ترث أو لا يرثها زوجها ، أو لا ينفق عليها فانتظر.

ص : 485


1- المؤمنون : 5 _ 6.

2. الزواج المؤقت في صدر الإسلام

بزغت شمس الإسلام وكانت المتعة أمرا رائجا بين الناس غير انّ الإسلام حدّ لها حدودا وجعل لها شروطا كما مرّ ، ويكفيك في ذلك دراسة تاريخها وذلك بملاحظة ما يلي :

1. ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت متعة النساء في أوّل الإسلام ، كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته ولا يحفظ متاعه ، فيتزوج المرأة إلى قدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته ، فتنظر له متاعه وتصلح له ضيعته. (1)

2. أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كانت المتعة في أوّل الإسلام. فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنّه يفرغ من حاجته لتحفظ متاعه وتصلح له شأنه. (2)

3. أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن ابن مسعود قال : كنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس معنا نساؤنا فقلنا : ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ، ثمّ قرأ عبد الله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ص : 486


1- . الدر المنثور : 2 / 139 _ 140.
2- . الدر المنثور : 2 / 139 _ 140.

لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) (1). (2)

4. أخرج عبد الرزاق وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني قال : أذن لنا رسول الله عام فتح مكة في متعة النساء فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة. (3)

6. أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع ، قال : كنّا في جيش فأتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا. (4)

7. أخرج مسلم في صحيحه بسنده : خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا ، يعني متعة النساء. (5)

8. أخرج مسلم في صحيحه أيضا بسنده عن سلمة بن الأكوع ، وجابر بن عبد الله انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتانا فأذن لنا في المتعة. (6)

والأحاديث الأخيرة _ بشهادة ما تقدّمها _ تكشف عن كون الاستمتاع بالمرأة في ظروف خاصة لغايات عقلائية كان أمرا معروفا ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أرشد بإذنه إليه لا انّه صلى الله عليه وآله وسلم ابتكره.

فإذا كان مثل هذا الزواج أمرا رائجا بين الناس في عصر الرسالة فلا منتدح للشارع عن التعرض له من خلال الإمضاء أو الرد ولا يصحّ غض النظر عنه ، بعد عدم كونها من قبيل السفاح ، وإلاّ فمن المستحيل أن يحلله النبي ولو في فترة خاصة ( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ). (7)

ص : 487


1- المائدة : 87.
2- صحيح البخاري : 7 / 4 ، باب ما يكره من التبتل والخصاء من كتاب النكاح.
3- الدر المنثور : 2 / 140.
4- . صحيح مسلم : 4 / 130 _ 131 ، باب نكاح المتعة.
5- . صحيح مسلم : 4 / 130 _ 131 ، باب نكاح المتعة.
6- . صحيح مسلم : 4 / 130 _ 131 ، باب نكاح المتعة.
7- الأعراف : 28.

3. الزواج المؤقت

في الذكر الحكيم

قد سبق انّ المتعة كانت أمرا رائجا بين الناس وانّه لا محيص للشارع من بيان حكمها إمضاء أو ردّا ، ومن حسن الحظ انّ الذكر الحكيم حسب نظر مشاهير المفسرين تعرض لها بالإمضاء ( وإن ادّعى بعضهم كونها منسوخة ) وذلك في قوله سبحانه :

1. ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ) _ إلى أن قال سبحانه : ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ). (1)

2. ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ). (2)

3. ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما

ص : 488


1- النساء : 23.
2- النساء : 24.

مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ). (1)

تفسير الآيات الثلاث

هذه الآيات الثلاث تحدد ما هو الحرام والحلال في أمر النساء.

أمّا الآية الأولى وشيء من صدر الآية الثانية يبيّن ما هو الحرام من نكاح النساء وهو عبارة عن :

1. الأمّهات ، 2. البنات ، 3. الأخوات ، 4. العمّات ، 5. الخالات ، 6. بنات الأخ ، 7. بنات الأخت ، 8. الأمّهات المرضعة ، 9. الأخوات من الرضاعة ، 10. أمّهات النساء ، 11. الربائب التي دخل بأمّهاتهن ، 12. حلائل الأبناء ، 13. الجمع بين الأختين ، 14. النساء المتزوجات ، وقد أشار إلى الأخير في أوائل الآية الثانية وقال ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) والمحصنات جمع المحصنة وهي المتزوجة فهي محرمة لمكان زوجها إلاّ صورة واحدة أخرجت بقوله : ( إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ).

وأمّا ما هو المراد من هذا الاستثناء ففيه خلاف بين المفسرين فليرجع إلى محله.

إلى هنا تمّ بيان ما هو الحرام من نكاح النساء وقد أنهاها التشريع القرآني إلى 14 ، وبه تمّ تفسير الآية الأولى وجزء من الآية الثانية التي عطف فيها « المحصنات » ذوات الأزواج إلى المحرمات.

وأمّا بقية الآية فقد ابتدأ بقوله ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ

ص : 489


1- النساء : 25.

عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ).

فلنأخذ بتفسيرها ضمن مقاطع :

1. ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) : المراد من الموصول هو النساء غير المذكورات ولا غرو في استعمال ما مكان « من » كما في قوله سبحانه ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ). (1)

قوله ذلكم مركّب من ( ذا ) و ( كم ) والأوّل للإشارة إلى ما سبق والثاني خطاب للمؤمنين كافة ، والمراد أحل لكم ما وراء المذكورات من النساء أيّها المؤمنون. وأمّا ما هو الوجه في استعمال « ذا » مكان « ذي » فليطلب من محلّه.

2. ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ) هو بدل البعض من الكل أو عطف بيان من قوله ( ما وَراءَ ذلِكُمْ ) وقد حذف مفعوله ، ولعله نكاح النساء : أي تبتغوا بأموالكم نكاح النساء. وعلى أي تقدير فالجملة تبين الطريق المشروع في نكاح النساء غير المذكورات وانّه يجوز لكم نكاح النساء بصرف المال. ومصاديقه في بادي النظر تنحصر في ثلاثة :

أ. النكاح بأجرة.

ب. نكاح الأمة.

ج. السفاح وهو الزنا.

3. ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) : أي أن تطلبوا بأموالكم نكاح النساء في حال انّكم تريدون العفة لا السفاح والزنا ومعنى الجملة : متعفّفين ، لا زانين وبذلك حرم القسم الثالث ، وانّه ليس للمسلم أن يبتغي بأمواله مباشرة النساء عن طريق السفاح والزنا.

ص : 490


1- النساء : 3.

وتنحصر الحلية في القسمين الآخرين وهو نكاح الحرة ونكاح الأمة.

4. ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) : وهذا المقطع يشير إلى نكاح الحرة كما أنّ الآية الثالثة تشير إلى نكاح الإماء (1) وبما انّ نكاح الأمّة خارج عن محط البحث لا نذكر فيه شيئا ، فالمهم هو تفسير ما يرجع إلى نكاح الحرائر الوارد في قوله سبحانه ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) وهذا المقطع من الآية هو بيت القصيد في المقام من دون فرق بين كون ( ما ) « فيما استمتعتم » شرطية أو موصولة عائدها هو الضمير في لفظة « به » وعندئذ يقع الكلام في أنّ المراد منه هو النكاح الدائم أو النكاح المؤقت ، والإمعان في القرائن الخارجية والقرائن المحتفة بالآية يعين الثاني ولا يبقى مجال لإرادة المعنى الأوّل وإليك القرائن المعينة للمقصود.

القرينة الأولى : الاستمتاع هو عقد المتعة

إنّ لفظ الاستمتاع _ يوم نزول الآية _ كان منصرفا إلى عقد المتعة والزواج المؤقت على النحو الذي مرّ في أوّل البحث لا التلذذ والجماع وإن كان يطلق عليه أيضا كقوله سبحانه ( رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ ) (2) ويرشدك إلى ما ذكرناه أمران :

1. تعابير الصحابة حيث يعبرون عن نكاح المتعة بلفظة « الاستمتاع ».

أخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله ، قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله وأبي بكر حتّى _ ثمة _ نهى عنه عمر. (3)

ص : 491


1- أي قوله سبحانه ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ. ).
2- الأنعام : 128.
3- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.

أخرج مالك عن عروة بن الزبير انّ خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب ، فقالت : إنّ ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولّدة فحملت منه ، فخرج عمر يجرّ رداءه فزعا ، فقال : هذه المتعة لو كنت تقدمت فيه لرجمته. (1)

إلى غير ذلك من الروايات والآثار التي ورد فيها الاستمتاع بصورها المختلفة وأريد به نكاح المتعة والعقد على امرأة بأجل مسمّى وأجرة مسمّاة.

2. انّ المراد من الاستمتاع في الآية هو العقد لا الاستمتاع بمعنى الانتفاع والتلذذ ، بشهادة ترتب دفع الأجرة على الاستمتاع ترتّب الجزاء على الشرط ويقول ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) فلو أريد من الاستمتاع هو العقد لصحّ الترتب ، لأنّ المهر كلّه يجب بمجرد العقد غاية الأمر يسقط النصف بالطلاق قبل الدخول في العقد الدائم وبانقضاء المدة قبله في المؤقت.

وأمّا لو أريد من الاستمتاع هو التلذذ والانتفاع فلا يصحّ الترتب ، لأنّ الأجرة تلزم على الزوج قبل الاستمتاع ، فالزوج يكون مكلّفا بدفع المهر كلّه. سواء أكان هناك تلذذ أو لا ، كلّ ذلك يؤيد على أنّ المراد من الاستمتاع هو العقد.

قال الطبرسي : إنّ لفظ الاستمتاع ، والتمتع وإن كان في الأصل واقعا على الانتفاع والالتذاذ ، فقد صار بعرف الشرع مخصوصا بهذا العقد المعيّن ، لا سيما إذا أضيف إلى النساء. فعلى هذا يكون معناه فمتى عقّدتم عليهن هذا العقد المسمّى متعة فآتوهن أجورهن.

ويدلّ على ذلك انّ الله علّق وجوب عطاء المهر بالاستمتاع وذلك يقتضي أن يكون معناه ، هذا العقد المخصوص دون الجماع والاستلذاذ ، لأنّ المهر لا يجب إلاّ بالعقد. (2)

ص : 492


1- الموطأ : 2 / 30 ، سنن البيهقي : 7 / 206.
2- مجمع البيان : 2 / 32 ، ط صيدا.

ولعلّ الزمخشري وقف على أنّ وجوب المهر لا يتوقف على الاستمتاع ، عطف العقد على الجماع ، وقال « فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة أو عقد عليهن ». (1)

القرينة الثانية : الحمل على المتعة يستلزم التكرار

يجب علينا إمعان النظر فيما تهدف إليه جملة ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) ، هنا احتمالات :

أ. تحليل النكاح الدائم.

ب. التأكيد على دفع المهر بعد الاستمتاع.

ج. نكاح المتعة.

أمّا الأوّل فالحمل عليه يوجب التكرار بلا وجه ، لأنّه سبحانه بيّن حكمه في الآية الثالثة من تلك السورة ، قال سبحانه ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ). (2)

وأمّا الثاني فمثل الأوّل فقد بيّنه في الآية الرابعة من هذه السورة وقال : ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) (3) بل بينه في آيتين أخريين أعني قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ). (4)

وقال سبحانه : ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً

ص : 493


1- الكشاف : 1 / 391 ، في تفسير الآية.
2- النساء : 3.
3- النساء : 4.
4- النساء : 19.

فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ). (1)

فلم يبق من الوجوه المحتملة التي تهدف إليها الجملة إلاّ نكاح المتعة.

القرينة الثالثة : الجملتان المتقدّمتان

إنّ في الجملتين المتقدّمتين على قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ. ) أعني :

1. ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ).

2. ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ).

إشارة إلى الزواج المؤقت وانّ المراد من الاستمتاع هو نكاح المتعة والعقد على المتمتع بها.

أمّا الجملة الأولى فتدلّ على أنّها بصدد بيان النكاح الذي يبتغى بالأموال على نحو يكون فيه للمال ( الصداق ) دور كبير ، بحيث لولاه لبطل ، وليس هو إلاّ نكاح المتعة الذي عرف بقوله : « أجل مسمّى وأجر مسمّى » فالأجر في نكاح المتعة ركن ولولاه لبطل (2) بخلاف النكاح الدائم إذ لا يجب فيه ذكره ، يقول سبحانه : ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) (3) ولذلك قالوا يستحبّ أن لا يعرى النكاح عن تسمية الصداق ، لأنّ النبي كان يزوّج بناته وغيرهن ويتزوج فلم يكن يخلي ذلك من صداق. (4)

أمّا الجملة الثانية فالله سبحانه يؤكد قبل الأمر بعقد الاستمتاع على كون الزوجين _ محصنين غير مسافحين _ بأن يكون اللقاء بنيّة التعفّف لا الزنا وبما انّ

ص : 494


1- النساء : 20.
2- وقد مرّ عند بيان أحكام نكاح المتعة ، انّه لو نسي ذكر المهر أو لم يذكره بطل العقد ، فنكاح المتعة من أوضح مصاديق قوله سبحانه ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ).
3- البقرة : 236.
4- المغني : 7 / 136.

عقد المتعة ربما ينحرف عن مجراه ومسيره الصحيح فيتخذ لنفسه لون السفاح لا الزواج ، أمر سبحانه بأن يكون الهدف هو الزواج لا السفاح.

وبما انّ نكاح الإماء أيضا مظنة لذلك الأمر إذ الغالب على الإماء هو روح الابتذال ، قيّد سبحانه نكاح الإماء في الآية الثالثة بقوله ( مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ). (1)

فافتتاح الكلام بجملتين حاملتين مفهوم المتعة قرينة على أنّ المراد من قوله : ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ ) عقد النكاح كما أنّ هاتين الجملتين بما انّهما يحملان مفهوم نكاح المتعة سوّغ دخول الفاء على قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ ) لأنّ فاء التفريع لا يستعمل إلاّ إذا سبق الكلام فيه ولو إجمالا.

القرينة الرابعة : تفسيره في لسان الصحابة بنكاح المتعة

إنّ لفيفا من الصحابة والتابعين فسروا قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ ) بنكاح المتعة نذكر منهم ما يلي :

1. أخرج الحاكم وصحّحه من طرق عن أبي نضرة قال ابن عباس « فما استمتعتم به منهنّ » « إلى أجل مسمّى » فقلت ما نقرأها كذلك ، فقال ابن عباس : والله لأنزلها الله كذلك. (2)

2. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قراءة أبيّ بن كعب « فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى ». (3)

3. أخرج ابن أبي داود في المصاحف عن سعيد بن جبير ، قال : في قراءة أبيّ بن كعب « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ». (4)

ص : 495


1- النساء : 25.
2- . الدر المنثور : 2 / 484 _ 488.
3- . الدر المنثور : 2 / 484 _ 488.
4- . الدر المنثور : 2 / 484 _ 488.

وظهور هذه الروايات في كون قوله « إلى أجل مسمّى » جزءا من الآية محمول على تأويل الآية وتحقيق معناها. وإلاّ فالقرآن مصون من التحريف والنقص والزيادة.

4. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد فما استمتعتم به منهن ، قال : يعني نكاح المتعة. (1)

5. أخرج الطبري عن السدي قال : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فآتوهن أجورهن فريضة قال : فهذه المتعة ، الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمّى ويشهد شاهدين وينكح بإذن وليها وإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه برية وعليها أن تستبرئ ما في رحمها وليس بينهما ميراث ليس يرث واحد منهما صاحبه. (2)

6. أخرج الإمام أحمد بإسناد رجاله كلّهم ثقات عن عمران بن الحصين ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله وعملنا بها مع رسول الله فلم تنزل آية تنسخها ولم ينه عنها النبي حتّى مات. (3)

7. أخرج الطبري في تفسيره بإسناد صحيح عن شعبة عن الحكم قال : سألته عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال : لا. (4)

8. أخرج البيهقي عن أبي نضرة عن جابر قال : قلت : إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة وانّ ابن عباس يأمر بها ، قال : على يدي جرى الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر فلمّا ولي عمر خطب الناس : إنّ رسول الله هذا الرسول ، وإنّ

ص : 496


1- انظر الدر المنثور : 2 / 484 _ 488 ولاحظ تفسير الطبري : 5 / 8 _ 10.
2- تفسير الطبري : 5 / 8 _ 10.
3- مسند أحمد : 4 / 446.
4- تفسير الطبري : 5 / 9.

القرآن هذا القرآن ، وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : إحداهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلاّ غيّبته بالحجارة ، والأخرى متعة الحجّ. (1)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة حول تفسير الآية الحاكية عن استمرار الحلية أو منسوخيتها فان النسخ فرع القول بدلالتها على نزولها في نكاح المتعة من الصحابة والتابعين وفي مقدمهم الإمام أمير المؤمنين وأهل بيته فقد فسروا الآية بنكاح المتعة.

القرينة الخامسة : اتّفاق أئمّة أهل البيت عليهم السلام على نزول الآية في المتعة

اتّفق أئمّة أهل البيت عليهم السلام على نزول الآية في نكاح المتعة ، والروايات عنهم متضافرة أو متواترة نكتفي بالقليل من الكثير.

1. أخرج الكليني عن أبي بصير قال : سألت أبا جعفر عن المتعة فقال : نزلت في القرآن ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ). (2)

2. أخرج الكليني عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : سمعت أبا حنيفة يسأل أبا عبد الله عن المتعة ، فقال : « عن أي المتعتين تسأل؟ » فقال : سألتك عن متعة الحجّ فأنبئني عن متعة النساء أحق هي؟ فقال : « سبحان الله أما تقرأ كتاب الله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) فقال أبو حنيفة : والله كأنّها آية لم أقرأها قط. (3)

ص : 497


1- سنن البيهقي : 7 / 206.
2- . الكافي : 5 / 448 _ 449 ، أبواب المتعة ، الحديث 6.
3- . الكافي : 5 / 448 _ 449 ، أبواب المتعة ، الحديث 6.
القرينة السادسة : تصريح الصحابة بالحلّية

لا شكّ انّ من سبر تاريخ المسألة في عصر ظهر الاختلاف في استمرار الحلية وعدمها ، يقف على أنّ الصحابة قالوا بحلية المتعة سواء أقالوا ببقائها واستمرارها أم ذهبوا إلى منسوخيتها وكان أفضل مصدر لقولهم ، هو نفس الآية مضافا إلى تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد عرفت فيما سبق أسماء لفيف من الصحابة فسروا الآية بنكاح المتعة ، ونأتي الآن بأسماء من قالوا بحلية المتعة وإن لم يصرحوا بمصدر فتواهم. وقد ذكرهم ابن حزم في « المحلّى ».

قال : ولا يجوز نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل وكان حلالا على عهد رسول الله ثمّ نسخها الله تعالى على لسان رسوله نسخا باتا إلى يوم القيامة وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله جماعة من السلف رضي الله عنهم ، منهم من الصحابة رضي الله عنهم : أسماء بنت أبي بكر الصديق ، وجابر بن عبد الله ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن حريث ، وأبو سعيد الخدري ، وسلمة ، ومعبد أبناء أمية بن خلف ، ورواه جابر بن عبد الله عن جميع الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومدة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر ، واختلف في إباحتها عن ابن الزبير ، وعن علي فيها توقف وعن عمر بن الخطاب انّه إنّما أنكرها إذا لم يشهد عليها عدلان فقط وأباحها بشهادة عدلين.

ومن التابعين : طاوس وعطاء وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكة. (1)

وقد اعتمد السيد المرتضى على قول هؤلاء في رد من شمت بالشيعة حيث قال الشامت :

ص : 498


1- المحلى : 9 / 519 _ 520.

قول الروافض نحن أطيب مولد

قول أتى بخلاف قول محمد

نكحوا النساء تمتعا فولدن من

ذاك النكاح فأين طيب المولد

إنّ انتماء شيعة أهل البيت بطيب المولد يرجع إلى أمور أخرى ولا يمتّ بكونهم مواليد نكاح المتعة ، فإنّ نكاح المتعة _ على الرغم من اتّفاقهم على حليتها _ بينهم قليل جدا ، كما هو واضح لمن عاشرهم.

فأجابه السيد المرتضى بقوله :

انّ التمتع سنّة مفروضة

ورد الكتاب بها وسنة أحمد

وروى الرواة بأنّ ذلك قد جرى

من غير شك في زمان محمد

ثمّ استمرّ الحال في تحليلها

قد صحّ ذلك في الحديث المسند

عن جابر وعن ابن مسعود التقيّ

وعن ابن عباس كريم المولد

حتّى نهى عمر بغير دلالة

عنها فكدّر صفو ذاك المورد

لا بل مواليد النواصب جدّدت

دين المجوس فأين دين محمد

ص : 499

وقد وقفت على ما روي عن ابن عباس وابن مسعود في استمرار حلّيتها ، وإليك ما روي عن جابر في صحيح مسلم.

أخرج مسلم في صحيحه عن أبي نضرة قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال : فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله ، فقال : على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قام عمر ، قال : إنّ الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء وانّ القرآن قد نزل منازله ، فأتموا الحجّ والعمرة لله كما أمركم الله وأبتّوا نكاح هذه النساء فلئن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة. (1)

فبالتمسك بقوله سبحانه ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) حرّم فصل العمرة عن الحجّ بالتحليل بينهما. وبالتالي أنكر حجّ التمتع.

وبقوله : « ابتّوا نكاح هذه النساء » أنكر نكاح المتعة.

وأمّا انّ عمر أوّل من نهى عن هذا النكاح فسيوافيك بيانه.

ص : 500


1- صحيح مسلم : 4 / 38 ، باب في المتعة بالحجّ والعمرة من كتاب الحجّ.

4. المتعة في السنّة النبوية

قد تعرفت على دلالة الذكر الحكيم على حلّية المتعة واستمرارها إلى يومنا هذا فحان البحث عن السنّة النبوية وقد مضى شطر منها حول تفسير الآية من الصحابة والتابعين (1) ، ولنذكر من الروايات ما يدلّ على حلية المتعة واستمرارها من الصحاح والمسانيد :

1. أخرج الحفاظ عن عبد الله بن مسعود انّه قال : كنّا نغزو مع رسول الله وليس لنا نساء فقلنا : يا رسول الله ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ثمّ رخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل ثمّ قرأ علينا ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ). (2)

وغرضه من تلاوة الآية هو الإطاحة بقول من حرّمها من غير دليل ، فنكاح المتعة عند ابن مسعود من الطيبات التي أحلّها الله سبحانه ، وليس لأحد تحريم الطيبات.

2. أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع ، قال : خرج علينا

ص : 501


1- لاحظ صفحة 495 _ 496 من هذا الكتاب.
2- صحيح البخاري : 7 / 4 ، باب ما يكره من التبتل والخصاء من كتاب النكاح ، صحيح مسلم : 4 / 130 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.

منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أذن لكم أن تستمتعوا ( يعني : متعة النساء ). وفي لفظ : إنّ رسول الله أتانا فأذن لنا في المتعة. (1)

3. أخرج مسلم عن ابن جريج ، قال : أخبرني أبو الزبير قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث. (2)

4. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي نضرة قال : كنت عند جابر بن عبد الله ، فأتاه آت فقال ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما. (3)

5. أخرج الترمذي انّ رجلا من أهل الشام سأل ابن عمر عن المتعة ، فقال : هي حلال ، فقال الشامي : إنّ أباك قد نهى عنها؟ فقال ابن عمر : أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أبي نتّبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (4)

6. أخرج مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير انّ عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال : إنّ ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرّض برجل ( ابن عباس ) فناداه فقال : إنّك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين ( يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال له ابن الزبير : فجرّب بنفسك ، فو الله لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك. (5)

ص : 502


1- المصدر السابق ، وانظر صحيح البخاري : 7 / 13 ، باب نهي الرسول عن نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
3- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
4- سنن الترمذي : 3 / 186 برقم 824.
5- صحيح مسلم : 4 / 133 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.

والعجب من ابن الزبير حيث يرجم من ينكح نكاح المتعة _ تبعا لسلفه _ مع أنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، فالفاعل يعتقد بكونه نكاحا حلالا لا سفاحا ، وله من الكتاب والسنّة دليل ومع هذه الشبهة كيف يرجم إلاّ أن يكون غرضه التهديد والتخويف.

7. أخرج مسلم عن ابن شهاب انّه قال : فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله انّه بينا هو جالس عند رجل جاءه رجل فاستفتاه في المتعة فأمره بها ، فقال له ابن أبي عمرة الأنصاري : مهلا ما هي والله لقد فعلت في عهد إمام المتقين. (1)

8. أخرج أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن نعيم الأعرجي قال : سأل رجل ابن عمر في المتعة _ وأنا عنده _ متعة النساء ، فقال : والله ما كنّا على عهد رسول الله زانين ولا مسافحين. (2)

9. أخرج أحمد في مسنده عن ابن الحصين انّه قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله تبارك وتعالى وعملنا بها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم تنزل آية تنسخها ولم ينه عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتّى مات. (3)

10. روى ابن حجر عن سمير ( لعلّه سمرة بن جندب ) قال : كنّا نتمتع على عهد رسول الله. (4)

ولنقتصر على هذا المقدار وقد تعرفت على أسماء المحلّلين للمتعة من الصحابة والتابعين في كلام ابن حزم في « المحلّى ». (5)

ص : 503


1- صحيح مسلم : 4 / 133 _ 134 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2- مسند أحمد : 2 / 95.
3- مسند أحمد : 4 / 436.
4- الإصابة : 2 / 181.
5- لاحظ ص 498 من هذا الكتاب.

قال أبو عمر ( صاحب الاستيعاب ) : أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلّهم يرون المتعة حلالا على مذهب ابن عباس وحرمها سائر الناس. (1)

وقال القرطبي في تفسيره : أهل مكة كانوا يستعملونها كثيرا. (2)

وقال الرازي في تفسيره : ذهب السواد الأعظم من الأمّة إلى أنّها صارت منسوخة ، وقال السواد منهم إنّها بقيت كما كانت. (3)

وهذه الكلمات المنثورة في الكتب والتي تجد لها نظائر كثيرة تثبت انّ المتعة كانت أمرا حلالا في عهد رسول الله ودامت إلى شطر من خلافة عمر ، فمن حاول إثبات النسخ فعليه أن يأتي بدليل قاطع يصلح لنسخ القرآن الكريم ، فان خبر الواحد لا ينسخ به القرآن ، والقرآن دليل قطعي لا ينسخ إلاّ بدليل قطعي.

والذي يعرب عن عدم وجود الناسخ هو انّ التحريم يسند إلى عمر وانّه هو المحرم كما سيوافيك لفظه ، فلو كان هناك تحريم من رسول الله لما أسند عمر التحريم إلى نفسه!!

قال الرازي : إنّ الأمّة مجمعة على أنّ نكاح المتعة كان جائزا في الإسلام ولا خلاف بين أحد من الأمّة فيه إنّما الخلاف في طريان الناسخ ، فنقول : لو كان الناسخ موجودا ، لكان ذلك الناسخ إمّا أن يكون معلوما بالتواتر أو بالآحاد ، فإن كان معلوما بالتواتر ، كان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعمران بن الحصين منكرين لما عرف ثبوته بالتواتر من دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وذلك يوجب تكفيرهم ، وهو باطل قطعا ، وإن كان ثابتا بالآحاد فهذا أيضا باطل ، لأنّه لما كان ثبوت

ص : 504


1- تفسير القرطبي : 5 / 133.
2- تفسير القرطبي : 5 / 132 ؛ فتح الباري : 9 / 142.
3- تفسير الرازي : 10 / 53.

إباحة المتعة معلوما بالإجماع والتواتر ، كان ثبوته معلوما قطعا ، فلو نسخناه بخبر الواحد لزم جعل المظنون رافعا للمقطوع وانّه باطل.

قالوا : وممّا يدلّ أيضا على بطلان القول بهذا النسخ ، إنّ أكثر الروايات انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، وأكثر الروايات انّه عليه الصلاة والسّلام أباح المتعة في حجّة الوداع وفي يوم الفتح ، وهذان اليومان متأخران عن يوم خيبر ، وذلك يدلّ على فساد ما روي انّه عليه السلام نسخ المتعة يوم خيبر ، لأنّ الناسخ يمتنع تقدّمه على المنسوخ ، وقول من يقول : إنّه حصل التحليل مرارا والنسخ مرارا ضعيف ، لم يقل به أحد من المعتبرين ، إلاّ الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات. (1)

وسيوافيك اضطراب أقوال المحرّمين _ ربّما ناهزت الستة _ في عدد التحليل والتحريم ومكانهما ، وهذا النوع من الاضطراب ، يورث الشكّ في أصل التحريم ، فانتظر.

ص : 505


1- تفسير الرازي : 10 / 52.

5. المتعة في التفاسير غير الروائية

لقد تعرفت على موقف التفاسير الروائية من تفسير الآية بالنكاح المؤقت ، حيث نقل الطبري والسيوطي والثعلبي نزول الآية في المتعة ، هلمّ معي ندرس ما ذكره الآخرون من المفسرين فإنّهم بين من فسروا الآية بنكاح المتعة بقول واحد أو جعلوا نزولها في نكاح المتعة أحد القولين ، وها نحن ننقل في المقام شيئا موجزا.

1. يقول الزمخشري : قيل نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله. (1)

2. قال القرطبي : قال الجمهور : إنّها نزلت في نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام. (2)

3. وقال البيضاوي : نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة. (3)

4. وقال ابن كثير : وقد استدلّ بعموم الآية على نكاح المتعة ، ولا شكّ انّه

ص : 506


1- الكشاف : 1 / 519.
2- الجامع لأحكام القرآن : 5 / 130.
3- أنوار التنزيل : 1 / 375.

كان مشروعا في ابتداء الإسلام ثمّ نسخ ، وقد قيل بإباحتها للضرورة وهي رواية واحدة عن الإمام أحمد. (1)

5. وقال أبو السعود : نزلت في المتعة التي هي النكاح إلى وقت معلوم (2) وقد تعرفت على كلام الرازي تفصيلا.

6. وقال الشوكاني : قال الجمهور : إنّ المراد بالآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ويؤيد ذلك قراءة أبيّ بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن ». (3)

7. وقال علاء الدين البغدادي في تفسيره المعروف بتفسير « الخازن » : المراد من حكم الآية هو نكاح المتعة ، وهو أن ينكح امرأة إلى مدة معلومة بشيء معلوم ، فإذا انقضت المدة بانت منه بغير طلاق ، وكان هذا في ابتداء الإسلام. (4)

8. وقال الآلوسي : قراءة ابن عباس وعبد الله بن مسعود ، الآية : « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى » ثمّ قال : ولا نزاع عندنا في أنّها قد حلّت ثمّ حرمت. (5)

وفيما ذكرنا غنى وكفاية غير انّ هؤلاء الأعاظم _ عفا الله عنّا وعنهم _ بين من نسب الحلية إلى صدر الإسلام كالقرطبي وابن كثير والخازن ومن نسبها إلى عام الفتح كالزمخشري والبيضاوي ، وقد عرفت أنّ نكاح المتعة كان أمرا رائجا حين بزوغ شمس الإسلام وانّ التشريع الإسلامي ، أنفذها وحدّد لها حدودا وأكملها حتى عادت نكاحا صحيحا ، تحل مشاكل الأمة في أوقات حرجة.

ص : 507


1- تفسير ابن كثير : 1 / 474.
2- هامش تفسير الرازي : 2 / 251.
3- تفسير الشوكاني : 1 / 414 كما في الغدير : 6 / 235.
4- تفسير الخازن : 1 / 357.
5- روح المعاني : 5 / 5.

6. شبهات وحلول

اشارة

قد تعرفت على دلالة الذكر الحكيم والسنّة النبوية على حلّية المتعة واستمرارها بعد رحيله فلا منتدح للمسلم عن القول بجوازه فمن حرّمها فقد حرّم ما أحل الله.

ثمّ إنّ جمعا ممّن لم يقف على حدود المتعة ولا على حقيقتها راموا ينحتون شبهات واهية حول تحليل المتعة ، ونحن نذكر تلكم الشبهات واحدة تلو الأخرى حتّى يتّضح انّ التشريع الإلهي من أحكم التشريعات وأنصعها فلا يزول بهذه الشبهات التي هي أوهن من بيت العنكبوت.

الشبهة الأولى : المتعة وتكوين الأسرة
اشارة

الهدف من تشريع النكاح هو تكوين الأسرة وإيجاد النسل وهو يختص بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتب عليه سوى استجابة للقوة الشهوية وصب الماء والسفح.

قال الدكتور الدريني : شرع النكاح في الإسلام لمقاصد أساسية قد نصّ عليها القرآن الكريم صراحة ترجع كلّها إلى تكوين الأسرة الفاضلة التي تشكّل النواة الأولى للمجتمع الإسلامي بخصائصه الذاتية من العفّة والطهر والولاية

ص : 508

والنصرة والتكافل الاجتماعي ، ثمّ يقول : إنّ الله إذ يربط الزواج بغريزة الجنس لم يكن ليقصد مجرد قضاء الشهوة ، بل قصد أن يكون على النحو الذي يحقّق ذلك المقصد بخصائصه من تكوين الأسرة التي شرع أحكامها التفصيلية في القرآن الكريم.

وعلى هذا فان الاستمتاع مجردا عن الأنجاب وبناء الأسرة ، يحبط مقصد الشارع من كلّ أصل تشريع النكاح. (1)

يلاحظ عليه بوجوه :

الأوّل : أنّ الأستاذ خلط علّة التشريع ومناطه ، بحكمته ، فإنّ العلّة عبارة عمّا يدور الحكم مدارها ، يحدث الحكم بوجودها ويرتفع بارتفاعها ، وهذا بخلاف الحكمة ، فربّما يكون الحكم أوسع منها ، وإليك توضيح الأمرين :

إذا قال الشارع اجتنب المسكر ، فالسكر علّة وجوب الاجتناب بحجّة تعليق الحكم على ذلك العنوان ، فما دام المائع مسكرا ، له حكمه ، فإذا انقلب إلى الخلّ يرتفع.

وأمّا إذا قال ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ). (2)

فالتربّص _ لأجل تبيّن وضع الرحم ، وإنّها هل تحمل ولدا أو لا؟ _ حكمة الحكم ، لا علّته ، ولأجل ذلك نرى أنّ الحكم أوسع منها بشهادة أنّه يجب التربّص

ص : 509


1- الدكتور الدريني في تقديمه لكتاب « الأصل في الأشياء الحلية. ولكن المتعة حرام » وكلّما ننقله منه فهو من تقديمه لهذا الكتاب ولاحظ أيضا : المنار : 5 / 8 فإنّ عامة اعتراضاته مأخوذة من هذا الكتاب. كما أنّ المنار ، في طرح الشبهات عيال على غيره حيّا الله الأمانة.
2- البقرة : 228.

على من نعلم بعدم وجود حمل في رحمها.

1. كما إذا كانت عقيما لا تلد أبدا.

2. إذا كان الرجل عقيما.

3. إذا غاب عنها الزوج مدة طويلة كستة أشهر فما فوق ، ونعلم بعدم وجود حمل في رحمها.

4. إذا تبيّن عن طريق إجراء التجارب الطبّية ، خلو رحمها عنه.

ومع العلم بعدم وجود الحكمة في هذه الموارد فحكم الآية محكمة وإن لم تكن حكمة الحكم موجودة ، وهذا لا ينافي ما توافقنا عليه من تبعية الأحكام للمصالح ، فان المقصود منه هو وجود الملاكات في أغلب الموارد لا في جميعها.

إذا عرفت الفرق بين الحكمة والعلّة تقف على أنّ الأستاذ خلط بين العلة والحكمة ، فتكوين الأسرة والأنجاب والتكافل الاجتماعي كلّها من قبيل الحكم بشهادة أنّ الشارع حكم بصحّة الزواج في موارد فاقدة لهذه الغاية.

1. يجوز زواج العقيم بالمرأة الولود.

2. يجوز زواج المرأة العقيم بالرجل المنجب.

3. يجوز نكاح اليائسة.

4. يجوز نكاح الصغيرة.

5. يجوز نكاح الشاب من الشابة مع العزم على عدم الأنجاب إلى آخر العمر.

أفيصح للأستاذ أن يشطب على هذه الأنكحة بقلم عريض بحجّة افتقادها لتكوين الأسرة؟!

ص : 510

على أنّ من الأمور الواضحة هو أنّ أغلب المتزوّجين في سنّ الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر ، واستيفاء اللذة من طريقها المشروع ، ولا يخطر ببالهم طلب النسل ، وإن كان يحصل لهم قهرا.

الثاني : يجب على الأستاذ التفصيل بين من يتزوّج متعة لغاية الأنجاب وتشكيل الأسرة بخصائصها الذاتية من العفّة ، والطهر ، والولاية ، والنصرة ، والتكافل الاجتماعي ، وبين من يتزوّج لقضاء الوطر ، ودفع الشهوة بهذا الطريق ، فيحرّم الثانية دون الأولى ، وأمّا إنّه لما ذا يتزوّج زواجا مؤقتا للإنجاب وتشكيل الأسرة؟ فلأجل وجود بعض التسهيلات في المؤقت دون الدائم.

إنّ الأستاذ كأكثر من كتب عن المتعة من أهل السنّة ، يتعامل مع المتمتع بها معاملة الغانيات المفتوحة أبوابهنّ ، يدخل عليهنّ في كل يوم رجل ويجتمع معهنّ ذلك اليوم ثم يفارق ويأتي رجل آخر بهذه الخصوصية. فلو كان هذا معنى التمتّع بالمرأة والزواج المؤقت ، فالشيعة الإمامية بريئون من هذا التشريع الذي يرادف الزنا إلاّ في التسمية. ولكن المتعة تفارق ذلك مائة بالمائة ، فربّما يكون هناك نساء توفّى عنهنّ أزواجهنّ ولهنّ جمالهنّ وكمالهنّ ، وربّما لا يتمكّن الرجل من الزواج الدائم لمشاكل اجتماعية ، ومع ذلك يرغب إلى هذه الطبقة من النساء فيتزوّجها طالبا بها رفع العنت أوّلا وتشكيل الأسرة بما لها من الخصوصيات ثانيا.

والحق أنّ ما اختمر في ذهن الكاتب وغيره من المتعة أشبه بالنساء المبذولات في بيوت خاصة ، ومحلاّت معيّنة فمثل ذلك لا يمكن أن تضفى عليه المشروعية ، غير أنّ المتعة الشرعية غير ذلك ، وربّما يتوقّف التزوّج بهنّ على طي عقبات ، فيشترط فيها ما يشترط في الدائم ، ويفارق الدائم بأمور أوضحها : الطلاق والنفقة.

ص : 511

وأمّا التوارث فيتوارثان بالاشتراط على الأقوى ، ومثل ذلك يلازم الغايات المطلوبة للنكاح غالبا.

والحق أنّ الغاية القصوى في كل مورد رخّص فيه الشارع العلاقة الجنسية بعامّة أقسامها حتى ملك اليمين وتحليل الإماء في بعض المذاهب الفقهيّة هو صيانة النفس عن الوقوع في الزنا والسفاح. وأمّا سائر الغايات من تشكيل الأسرة ، والتكافل الاجتماعي ، فإنّما هي غايات ثانوية تحصل بالنتيجة سواء توخّاها الزوجان أم لا.

والغاية القصوى موجودة في الزواج المؤقت ، وأنّ الهدف من تشريعه هو صيانة النفس عن الحرام لمن لا يتمكّن من الزواج الدائم ، ولأجل ذلك استفاض عن ابن عباس قوله : « يرحم الله عمر ما كانت المتعة إلاّ رحمة من الله رحم بها أمّة محمد ولو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلاّ شقيّ ». (1) وروي النص باختلاف طفيف عن عليّ عليه السلام أيضا. (2)

إنّ قوله سبحانه ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ. ) (3) دليل على أنّ الغاية من تجويز النكاح ، والنهي عن الرهبانية هو صيانة النفس عن الفحشاء ودفعها إلى التعفّف ، وهذه الغاية كما عرفت موجودة في جميع الأنكحة والعلاقات الجنسية من الزواج الدائم إلى الزواج المؤقّت إلى ملك اليمين إلى تحليل الإماء بشروطها المقرّرة في الفقه.

ص : 512


1- الدر المنثور : 2 / 141.
2- لاحظ تفسير الرازي : 3 / 200 المسألة الثالثة في بيان نكاح المتعة.
3- النور : 33. وقوله ( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ) ( الروم : 2 ).
الشبهة الثانية

المتعة خارجة عن الحصر المحلل

انّه سبحانه أمر بحفظ الفروج إلاّ في موردين وقال ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (1) والمراد من قوله فمن ابتغى هم المتجاوزون عمّا أحله الله لهم إلى ما حرمه عليهم ، والمرأة المتمتع بها ليست زوجة ليكون لها على الرجل مثل الذي له عليها بالمعروف. (2)

يلاحظ عليه : أنّ المستشكل لم يدرس حقيقة المتعة إلاّ بما دارت على الألسن من تشبيه المتعة بالنساء المبتذلات في بيوت خاصة ومحلات معينة ، ومن المعلوم انّ مثل هذه المرأة غير داخلة في قوله ( إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ ).

وأمّا المتمتع بها فهي زوجة حقيقة لا تحل بلا عقد ولا تحرم إلاّ بانقضاء الأجل ويجب عليها الاعتداد بعد الفراق ، كما تقدّم عند شرح نبذ من أحكامها إلى غير ذلك من الأحكام المذكورة فمثل ذلك داخل في قوله ( إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ ).

نسأل القائل إذا صحّ ما يقوله من أنّها ليست زوجة فكيف أحلّها الذكر

ص : 513


1- المؤمنون : 5 _ 7.
2- الدكتور الدريني في تقديمه ، ص 26.

الحكيم والرسول الكريم في غير موقف من المواقف؟ فهل يتوهم انّه سبحانه أحلّ الفحشاء أو انّ نبيه دعا أصحابه إليها ، وهو القائل سبحانه ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) كلّ ذلك يبعث الباحث إلى القول بأنّ المتمتع بها زوجة بلا شك.

نحن نسأل القائل عن الزوجين اللّذين يتزوجان نكاح دوام ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد سنة. فهل هذا نكاح صحيح أو لا؟ لا أظن أنّ فقيها من فقهاء الإسلام يمنع ذلك إلاّ إذا أفتى بغير دليل ولا برهان ، فأي فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى أنّ المدّة مذكورة في الأوّل دون الثاني؟

يقول صاحب المنار : إنّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنيّة الطلاق ، وإن كان الفقهاء يقولون إنّ عقد النكاح يكون صحيحا إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد ، ولكن كتمانه إيّاه يعدّ خداعا وغشّا وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت. (2)

أقول : نحن نفترض أنّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّا ، حتى لا يكون هناك خداع وغشّ ، فهو صحيح بلا إشكال.

ص : 514


1- النور : 33.
2- تفسير المنار : 5 / 17.
الشبهة الثالثة

لو كانت زوجة

فلما ذا لا ينفق عليها ولا ترث؟

إنّ المرأة المتمتع بها ليست أمة كما هو واضح ولا زوجة لعدم ترتّب آثار عقد النكاح الصحيح عليها كالنفقة والإرث والطلاق وقد استدلّ به غير واحد من المانعين ونقلها الرازي في تفسيره عنهم فقال :

وهذه المرأة لا شكّ انّها ليست مملوكة ولا زوجة ، ويدلّ عليه أنّها لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى ( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ) بالاتفاق لا توارث بينهما ، وثانيا لثبت النسب لقوله عليه الصلاة والسّلام : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » وبالاتفاق لا يثبت ، ثالثا ولوجبت العدة عليها لقوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ). (1)

يلاحظ عليه : بأنّ المستدلّ خلط آثار الشيء بمقوماته ، فالذي يضرّ هو فقدان المقومات لا بعض الآثار ، فان النكاح رابطة وعلقة بين الزوجين ، كما أنّ

ص : 515


1- البقرة : 234.

البيع رابطة بين المالين ، فالذي يجب وجوده هو ما جاء في التعريف من وجود الزوجين ، أو وجود المالين ، وأمّا ما وراء ذلك فإنّما هي آثار ربّما تترتّب ، وربّما تتخلّف ، فقد ذكر من آثار النكاح : النفقة ، والإرث ، والطلاق. وزعم أنّ فقدان واحد منها يوجب فقدان حقيقة النكاح ، ولكنّ الأمر ليس كذلك ، بشهادة الموارد التالية التي تفقد الآثار ولا تفقد حقيقة النكاح :

1. الزوجة الناشزة لا تجب نفقتها مع أنّها زوجة.

2. الزوجة الصغيرة زوجة ولا تجب نفقتها.

3. الزوجة القاتلة لا ترث الزوج مع أنّها زوجة.

4. الزوجة المسلمة زوجة ولا ترث زوجها الكافر عند أهل السنّة.

5. الزوجة المجنونة وغيرها من ذوي العاهات تفارق بلا طلاق قال الخرقي في متن المغني : « وأي الزوجين وجد بصاحبه جنونا أو جذاما أو برصا أو كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء أو فتقاء أو الرجل مجنونا فلمن وجد ذلك منهما بصاحبه الخيار في فسخ النكاح » (1) أي تبين بلا طلاق.

إلى غير ذلك من الموارد التي يبين فيها الزوجان بلا طلاق ممّا ذكره الفقهاء في مجوّزات الفسخ.

6. الزوجة التي بأهلها الزوج تبين بلا طلاق.

وأمّا الاعتداد فقد مرّ انّها تعتدّ بعد انقضاء الأجل وعند موت الزوج.

ولا أدري من أين يقول إنّها لا تثبت النسب ، إذ لا فرق بين النكاحين في

ص : 516


1- المغني : 7 / 109 تصحيح محمد خليل ، ولاحظ الخلاف للطوسي : 2 / 396 فصل في العيوب المجوّزة للفسخ المسألة 124.

موارد ثبوت النسب.

وقال السدّي _ أحد التابعين _ في تعريفه نكاح المتعة : الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمّى ويشهد شاهدان ، وينكح بإذن وليّها ، وإذا انقضت المدّة فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة وعليها أن تستبرئ ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث. (1)

وكان على الباحث أن يدرس مقوّمات الموضوع ويميّزها عن آثارها ، وعلى ذلك فالمتمتّع بها داخلة في قوله ( إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ ) بلا إشكال. ويترتّب على عقدها آثار خاصة وإن كان يفقد بعض آثار النكاح الدائم.

ص : 517


1- تفسير الطبري : 5 / 9.
الشبهة الرابعة

لو كانت جائزة لما أمر بنكاح الإماء والاستعفاف

لو كان نكاح المتعة زواجا صحيحا ونكاحا مطابقا للأصول فلما ذا أمر الله تعالى بالاستعفاف ، وقال ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1) لأنّ أعباء الاستمتاع وتكاليفه سهلة ميسورة فلا حاجة إذن إلى الأمر بالاستعفاف ، وهذا دليل على أنّه ليس للمسلم إلاّ طريق واحد وهو النكاح أو الاستعفاف؟

يلاحظ عليه : أنّ الكاتب خلط بين النساء المتعفّفات ، والمبتذلات في النوادي والفنادق وبيوت الدعارة ، وقد عرفت أنّ كثيرا من النساء لعلوّ طبعهنّ لا يخضعن للمتعة وإن كانت حلالا ، إذ ليس كل حلال مرغوبا عند الكل ، ولأجل ذلك تصل النوبة إلى الاستعفاف وربما لا يجد الشاب نكاحا مؤقتا ولا دائما.

* * *

لو كانت المتعة جائزة لما وصلت النوبة إلى نكاح الإماء مع أنّه سبحانه قيّد

ص : 518


1- النور : 33.

نكاحهن بعدم الاستطاعة على نكاح الحرائر دائما أو منقطعا حسب الفرض وقال ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) (1) لأنّ في نكاح المتعة مندوحة عن ذلك كلّه ، لو كان جائزا.

يقول الأستاذ مصطفى الرافعي : فلو كانت المتعة جائزة على الإطلاق لما كانت ثمة حاجة _ كما يقول المانعون _ إلى نكاح الأمة. (2)

يلاحظ عليه : أنّ هذه الشبهة نظير ما سبق من الشبهة والجواب عن الجميع واحد ، ومصدرهما الذهنيّة الخاطئة بالنسبة إلى المتعة ، وتصور انّ المرأة المتمتع بها لا تختلف عن النساء المبتذلات اللاتي يعرضن أنفسهن في النوادي والفنادق وبيوت الدعارة ، فان الالتذاذ بهن يغني عن نكاح الإماء وما أكثرها في تلك البيوت.

ولكن المتمتع بهنّ _ يا أستاذ _ حرائر عفاف لا صلة بينهن وبين المتواجدات في دمن الفحشاء.

إنّ إغناء نكاح المتعة عن نكاح الإماء ، رجم بالغيب ، إذ ليس بالوفرة التي يتخيّلها الكاتب حتّى يستغنى بها عن نكاح الإماء ، فإنّ كثيرا من النساء الثيّبات تأبى نفوسهنّ عن العقد المنقطع ، فضلا عن الأبكار ، فليس للشارع إلاّ فتح طريق ثالث _ وراء النكاح الدائم والمنقطع _ وهو نكاح الإماء عند عدم الطول وخوف العنت.

ص : 519


1- النساء : 25.
2- إسلامنا في التوفيق بين السنّة والشيعة : 152 ، في فصل زواج المتعة.
الشبهة الخامسة

اندراج المتعة ضمن السفاح

وقد بلغ تجرّء بعض الكتّاب من المعاصرين إلى حدّ ألحقه بالسفاح وقال :

ولطالما نهى القرآن عن السفاح ، وحرّمه تحريما قاطعاً ، وحاسما بالنسبة إلى الرجال والنساء على السواء ودعا إلى النكاح المشروع الدائم ورغّب فيه. (1)

يلاحظ عليه : أنّ المسلمين عامة أصفقوا على أنّ نبي الإسلام أحلّ المتعة في فترة سواء أكانت في فتح خيبر ، أم فتح مكة ، أم غيرهما ، ولو افترضنا انّ المتعة داخلة تحت السفاح ، يكون معنى ذلك انّ الشريعة الإسلامية أمرت بالزنا والسفاح ، ونزل الوحي السماوي على تشريعه ، ولا أظن مسلما على أديم الأرض يتفوّه بذلك ، فان معناه انّ الله ورسوله أمر بالفحشاء مع ( إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ). (2)

والمسلم المؤمن بالحسن والقبح والعارف بمقاصد الشريعة لا يخطر بباله انّه سبحانه جوّز الزنا للمسلمين في فترة من الزمن وأمر بالقبح مكان الأمر بالحسن ، كلّ ذلك يفرض علينا أن ندرس المتعة من جديد حتّى نقف على حدودها

ص : 520


1- الدكتور الدريني في تقديمه : 31.
2- الأعراف : 28.

وشرائطها وأحكامها ، وعندئذ يتجلّى الحقّ بأجلى مظاهرة ، ولا يبقى شكّ في أنّ نكاح المتعة ، لا يفترق عن النكاح الدائم في الماهية والحقيقة وإن كانا يفترقان في بعض الأحكام ، نظير نكاح الإماء ، الذي ندب إليه الوحي ، بقوله ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. ). (1) فنكاح الإماء لا يفترق عن نكاح الحرائر جوهرا وحقيقة ، وإن افترقا في بعض الأحكام الشرعية.

ولو انّ الكاتب أمعن في أحكام المتعة التي تقدم الحديث عنها في صدر الرسالة ، لأذعن بأنّ بين نكاح المتعة والسفاح فرقا شاسعا فان متعة النكاح من المسائل الفقهية الفرعية التي اختلفت أنظار الفقهاء في استمرار حلّيتها لا أصلها كسائر المسائل الفقهية المختلف فيها ، فعندئذ يطرح هذا السؤال وهو : ما هذا الصخب الذي أثير حول هذه المسألة ، وما هو السبب لرشق السهام في حلبة القائلين بالحلية؟ أو ليس من الأفضل أن نمرّ على هذه المسألة كسائر المسائل الفقهية من دون تفسيق وتكفير ، ومع الأسف الشديد صارت المسألة من المسائل التي تشهّر بها طائفة من المسلمين ويطعن عليها لقولهم بحليّتها ، وليس القول بحليتها من خصائص تلك الطائفة فحسب ، بل سبقهم إليه لفيف من الصحابة والتابعين في عصر تضاربت فيه الأقوال ، وقد تقدّمت أسماؤهم.

وأظن _ وظن الألمعي صواب _ انّ وراء هذا الهياج والضوضاء ، خلفيات سياسية تتلخص في تبرير عمل الخليفة الثاني الذي قام بتحريم متعة النكاح كمتعة الحج ، فحرّم ما أحله الله تبارك وتعالى.

ص : 521


1- النساء : 25.

ولما كان هذا الأمر ثقيلا في ميزان العدل ، راح رجال من هنا وهناك بنحت شبهات حول الحلية ليسهل تعاطي الحرمة التي فرضها الخليفة على مثل هذا النكاح.

هب انّهم برروا عمل الخليفة وموقفه حيال هذه المسألة فبما ذا يبررون العديد من المواقف التي اتّخذها الخليفة قبال النص؟! مثلا : حكم على الطلاق ثلاثا في مجلس واحد بلا تخلّل العدة والرجوع ، بأنّها تحسب تطليقات ثلاث خلافا لنصّ الكتاب والسنّة ، وقد وقف الخليفة على مضاعفات عمله بعد ما بلغ السيل الزبى.

والفقيه الموضوعي يجعل الكتاب والسنّة قدوة لفتياه من دون أن يتّخذ موقفا مسبقا في مسألة حتّى يسهل له الوصول إلى الحق.

ص : 522

الشبهة السادسة

المتمتع يقصد السفح لا الإحصان

إنّ المتمتّع في النكاح المؤقت لا يقصد الإحصان دون المسافحة ، بل يكون قصده مسافحة ، فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه ومنعها من التنقّل في دمن الزنا ، فإنّه لا يكون فيه شيء ما من إحصان المرأة التي تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل :

كرة حذفت بصوالجة

فتلقّفها رجل رجل (1)

يلاحظ عليه : أنّه من أين وقف على أنّ الإحصان في النكاح المؤقّت يختص بالرجل دون المرأة ، فإنّا إذا افترضنا كون العقد شرعيا ، فكل واحد من الطرفين يحصن نفسه من هذا الطريق ، وإلاّ فلا محيص عن التنقل في دمن الزنا. والذي يصون الفتى والفتاة عن البغي أحد الأمور الثلاثة :

1. النكاح الدائم ، 2. النكاح المؤقّت بالشروط الماضية ، 3. كبت الشهوة الجنسية.

فالأوّل ربّما يكون غير ميسور خصوصا للطالب والطالبة اللّذين يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة ، والثالث أي كبت الشهوة الجنسية أمر شاق لا يتحمّله إلاّ الأمثل فالأمثل من الشباب ، والمثلي من النساء ، وهم قليلون ، فلم يبق إلاّ الطريق الثاني ، فيحصنان نفسهما عن التنقّل في

ص : 523


1- تفسير المنار : 5 / 13.

بيوت الدعارة.

إنّ الدين الإسلامي هو الدين الخاتم ، ونبيّه خاتم الأنبياء ، وكتابه خاتم الكتب ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا بدّ أن يضع لكل مشكلة اجتماعية حلولا شرعية ، يصون بها كرامة المؤمن والمؤمنة ، وما المشكلة الجنسية عند الرجل والمرأة إلاّ إحدى هذه النواحي التي لا يمكن للدين الإسلامي أن يهملها ، وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه :

ما ذا يفعل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم ، وتمنعهم كرامتهم ودينهم عن التنقّل في بيوت الدعارة والفساد ، والحياة المادية بجمالها تؤجّج نار الشهوة في نفوسهم؟ فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلاّ من عصمه الله ، فلم يبق طريق إلاّ زواج المتعة ، الذي يشكّل الحل الأنجح لتلافي الوقوع في الزنا ، وتبقى كلمة الإمام علي بن أبي طالب ترنّ في الآذان محذّرة من تفاقم هذا الأمر عند إهمال العلاج الذي وصفه المشرّع الحكيم له ، حيث قال عليه السلام : « لو لا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي أو شقيّة ».

وأمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الشاعر ومن استشهد به بحقيقة نكاح المتعة وحدودها ، فإنّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل (1) إلى الشيعة ، وهم براء من هذا الإفك ، إذ يجب على المتمتّع بها بعد انتهاء المدّة الاعتداد على ما ذكرنا ، فكيف يمكن أن تؤجّر نفسها كلّ طائفة من الزمن لرجل؟! سبحان الله ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم ، وما مضمون الشعر إلاّ إطاحة بالوحي والتشريع الإلهي ، وقد اتّفقت كلمة المحدّثين والمفسّرين على التشريع ، وأنّه لو كان هناك نهي أو نسخ فإنّما هو بعد التشريع والعمل.

ص : 524


1- لاحظ كتابه : السنّة والشيعة : 65 _ 66.
الشبهة السابعة
اشارة

نسخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلية المتعة (1)

لقد وقفت على دلالة الكتاب في تحليل المتعة ومكانتها في السنّة النبوية ، وذهاب جمع من الصحابة إلى حليتها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا منتدح إلاّ الأخذ بما ورد في الكتاب والسنّة كما وقفت على شبهاتهم مهلهلة النسج لا أساس لها في الواقع والتي حيكت لأغراض خاصة.

بقيت هنا شبهة أخرى وهي العمدة في تحريمها عند الفقهاء حيث قالوا : إنّ حلّية المتعة منسوخة نسخها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستدلّين بأحاديث تصل إلى لفيف من الصحابة ، منهم :

1. سلمة بن الأكوع

أخرج مسلم عن إياس بن سلمة ، عن أبيه قال : رخّص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثمّ نهى عنها. (2) وعام أوطاس هو عام الفتح ( السنة الثامنة من الهجرة ) وأوطاس واد بديار هوازن.

ص : 525


1- لمّا كان القائلون بالتحريم يعرّجون على تلك الشبهة أكثر من سائر الشّبه ، بسطنا الكلام في دحضها بوجوه سبعة على نحو لا يبقى لمشكّك شك ولا لمرتاب ريب في عدم صدور أيّ تحريم من النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
2- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2. سبرة بن معد الجهني

أخرج مسلم عن سبرة انّه قال : أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمتعة فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنّها بكرة عيطاء فعرضنا عليها أنفسنا فقالت : ما تعطي؟ فقلت : ردائي وقال صاحبي : ردائي ، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي ، وكنت أشبّ منه ، فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها وإذا نظرت إليّ أعجبتها ، ثمّ قالت : أنت ورداؤك يكفيني ، فمكثت معها ثلاثا ، ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع فليخلّ سبيلها. (1)

وقد أخرج مسلم عن الربيع بن سبرة عن أبيه سبرة هذا الحديث بألفاظ مختلفة تصل طرقها إلى عشرة ، وربما يظن الغافل انّها روايات عشر مع أنّها رواية واحدة بطرق مختلفة تصل إلى شخص واحد وهو سبرة بن معد الجهني ، وسيوافيك وجود الاختلاف فيما روي عنه على نحو يسقطها عن الاعتبار.

3. ابن مسعود

أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود ، قال : المتعة منسوخة نسخها الطلاق والصدقة والعدة والميراث. (2)

والرواية مكذوبة على لسان ابن مسعود ، وقد مرّ انّه أحد القائلين بحلية المتعة مستشهدا بآية تحريم الطيبات (3) ثمّ كيف خفي عليه انّ انتفاء بعض الأحكام في مورد المتعة يعد تخصيصا للعموم ولا يعد الثاني نسخا لحلية المتعة؟ ثم كيف تنسخها آية العدّة مع أنّ على المتمتع بها ، عدة الفراق والوفاة كما سلف.

ص : 526


1- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2- الدر المنثور : 2 / 486.
3- لاحظ ص 486 من هذا الكتاب.
4. أبو ذر

أخرج البيهقي عن أبي ذر ، قال : إنّما أحلت لأصحاب رسول الله متعة النساء ثلاثة أيّام نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (1)

5. ابن عباس

أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) قال : نسختها ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ ) ، ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) ، ( وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ). (2)

إنّ حبر الأمّة ، تلميذ الإمام علي عليه السلام أعرف بكتاب الله وسنّة رسوله وكيف تنسخ ما شرعه كتابه سبحانه ، بهذه الآيات ، مع أنّ التمتع بها ممّن كتب عليها العدة؟!

6. علي بن أبي طالب

أخرج مسلم عن يحيى بن يحيى بسند يتصل إلى عبد الله والحسن ابني محمد بن علي ( الحنفية ) ، عن أبيهما ، عن علي بن أبي طالب انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. (3)

أخرج مسلم بهذا السند عن علي انّه سمع ابن عباس يليّن في متعة النساء ،

ص : 527


1- الدر المنثور : 2 / 486.
2- الدر المنثور : 2 / 485.
3- صحيح مسلم : 4 / 134 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.

فقال : مهلا يا بن عباس فان رسول الله نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية. (1) والحديثان مكذوبان على الإمام ، كيف وهو وبيته الرفيع ممّن ينادون باستمرار الحلية وقد خلا الخافقين كلامه : لو لا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي؟!

7. عمر بن الخطاب
اشارة

أخرج البيهقي عن عمر انّه خطب فقال : ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها ، لا أوتى بأحد نكحها إلاّ رجمته. (2)

يلاحظ على هذه الشبهة _ وراء ما عرفت في ضمن النقل _ بأمور :

الأوّل : وجود التعارض بين الروايات
اشارة

لو افترضنا صحّة الاحتجاج بهذه الروايات على أنّها نسخت نكاح المتعة لكن هناك روايات صحيحة رواها مسلم في صحيحه تدلّ على استمرار الحلية تصل إلى بعض الصحابة ، منهم :

1. جابر بن عبد الله

1. أخرج مسلم عن أبي الزبير قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث. (3)

2. أخرج مسلم عن ابن نضرة قال : كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت

ص : 528


1- صحيح مسلم : 4 / 135 ، باب نكاح المتعة من كتاب النكاح.
2- الدر المنثور : 2 / 486.
3- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة.

فقال ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما. (1)

2. عبد الله بن مسعود

كنّا نغزو مع رسول الله وليس معنا نساؤنا فقلنا : ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ورخّص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ، ثمّ قرأ عبد الله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ). (2)

3. عبد الله بن عمر

أخرج الترمذي : انّ رجلا من أهل الشام سأل ابن عمر عن متعة النساء ، فقال : هي حلال ، فقال : إنّ أباك قد نهى عنها ، فقال ابن عمر : أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وقد سنّها رسول الله ، أنترك السنة ونتبع قول أبي؟! (3)

4. عبد الله بن العباس

وقد مضت رواياته وسيوافيك بعض من تمتع من الصحابة في عصر الخليفة غير مبال لتهديده وتخويفه. (4)

إلى غير ذلك من صحاح الروايات التي مرت ومع وجود هذا التعارض تسقط الروايات من كلا الجانبين ويكون المرجع هو كتاب الله العزيز فهو راسخ كالجبل الشامخ فما لم يثبت النسخ فعلى الفقيه الرجوع إلى كتاب الله لحسم الموقف.

ص : 529


1- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة.
2- الدر المنثور : 2 / 485.
3- سنن الترمذي : 3 / 186 برقم 824.
4- لاحظ ص 541 _ 542 من هذا الكتاب.
الثاني : التعارض في الروايات الحاكية للتحريم
اشارة

إنّ في نفس الروايات الحاكية للتحريم تعارضا في زمان التحريم ومكانه وعدده واضطرابا شديدا ولأجل إيقاف القارئ على وجوه الاضطراب نذكر ما ورد في ذلك.

أ. التحريم في خيبر

أخرج مالك وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن علي انّ رسول الله نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. (1)

ب. التحريم في أرض هوازن

أخرج مسلم عن إياس بن سلمة عن أبيه قال : رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثمّ نهى عنها. (2) وقد أقام النبي في مكة المكرمة العشر الأواخر من شهر رمضان وأياما من شهر شوال ثمّ غادر مكة إلى هوازن ، وعلى ذلك فقد استغرق التحليل والتحريم بعد الفتح ثلاثة أيّام في أرض أوطاس ، وهو واد بديار هوازن ولم يكن أي تحليل وتحريم في أرض مكة.

ج. التحريم في أرض مكة

أخرج مسلم عن سبرة انّه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة قال : فأقمنا بها خمس عشرة ( ثلاثين بين ليلة ويوم ) فأذن لنا رسول الله في متعة النساء فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة ، إلى أن قال :

ص : 530


1- الدر المنثور : 2 / 486.
2- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة.

حتّى إذا كنّا بأسفل مكة أو بأعلاها فتلقتنا فتاة مثل البكرة _ إلى أن قال : _ ثمّ استمتعت منها فلم أخرج حتّى حرمها رسول الله.

وفي رواية أخرى عنه : أمرنا رسول الله بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة ثمّ لم نخرج منها حتّى نهانا عنها. (1)

فأين التحريم في غزوة خيبر التي وقعت في أوائل السنة السابعة من الهجرة من التحريم في أرض أوطاس في الغزوة التي وقعت في العشر الثاني من شهر شوال من العام الثامن أو من التحريم في أرض مكة التي دخلها رسول الله في الثامن عشر من شهر رمضان وخرج منها بعد مضي قرابة عشرين يوما.

فلا يمكن الركون إلى هذه الروايات المتعارضة.

الثالث : خلو حديث الرسول عن التحريم في المواقف المذكورة

إنّ من تتبع كلمات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المواقف المذكورة لم يجد أيّ أثر للتحريم ، امّا غزوة خيبر فقد كان مسير الرسول إليها في شهر محرم الحرام ولا نجد في كتب السيرة أي تصريح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حول المتعة ، على أنّ المتعة تختص بالحرائر وأمّا سبايا خيبر فمقتضى الحال انّهم كانوا إماء للمسلمين فكيف يحلّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم التمتع بالإماء اللواتي هن ملك يمين؟! يقول سبحانه ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ). (2)

ومن سبر كتب السير لم يجد في كلمات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أي أثر من تحريم المتعة.

وإليك بعض كلامه في خيبر :

روى ابن إسحاق عن حنش الصنعاني ، قال : غزونا مع رويفع بن ثابت

ص : 531


1- صحيح مسلم : 4 / 133 ، باب نكاح المتعة.
2- المؤمنون : 5 _ 6.

الأنصاري المغرب فافتتح قرية من قرى المغرب يقال لها جربة ، فقام فينا خطيبا ، فقال : يا أيّها الناس إنّي لا أقول فيكم إلاّ ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوله فينا يوم خيبر ، قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :

لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماؤه زرع غيره ، يعني إتيان الحبالى من السبايا حتّى يستبرئها ، ولا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي حتّى يستبرئها ، ولا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتّى يقسم ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتّى إذا أعجفها ردها فيه ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتّى إذا أخلقه رده فيه. (1)

والمكان المناسب لتحريم المتعة هو هذا الموضع من كلامه ولا نرى فيه أثرا لتحريم المتعة.

يقول ابن القيم : « وقصة خيبر لم يكن الصحابة يتمتعون باليهوديات ، ولا استأذنوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نقله أحد قط في هذه الغزوة ، ولا كان للمتعة فيها ذكر البتة لا فعلا ولا تحريما ، فان خيبر لم يكن فيها مسلمات وإنّما كنّ يهوديّات ، وإباحة نساء أهل الكتاب لم يكن ثبت بعد. وإنّما ابحن بعد. (2)

وأمّا فتح مكة فقد ذكر أهل السير خطبة النبي وانّه صلى الله عليه وآله وسلم قام على باب الكعبة فقال : لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده إلى آخر الخطبة التي جاء في آخرها : اذهبوا فأنتم الطلقاء. (3) فأين حلّل المتعة وأين حرّمها؟! أو ليس جديرا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول على رءوس الاشهاد بأنّ ما حلله صار

ص : 532


1- سيرة ابن هشام : 2 / 331.
2- زاد المعاد : 2 / 158 و 204.
3- سيرة ابن هشام : 2 / 412.

حراما وأفضل المواقف لهذه الأمور حين إلقاء الخطب.

والعجب انّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خطب في حجّة الوداع وذكر فيها النساء ولم يذكر شيئا لا من تحريم المتعة ولا تحليها : فقال : أمّا بعد ، أيّها الناس فان لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقّا ، لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فان الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنّكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فاعقلوا أيّها الناس قولي فإنّي قد بلغت. (1)

الرابع : اضطراب كلماتهم في زمان التحريم

ما ذكر من التعارض في زمان التحليل والتحريم ومكانهما يرجع إلى خصوص ما رواه مسلم في صحيحه وأمّا اختلاف فقهاء السنة في تحليها وتحريمها عددا وزمانا ومكانا فحدّث عنه ولا حرج فقد ذكر النووي تفصيلها ونحن نذكر ملخصه :

1. أحلت وحرّمت في غزوة خيبر. رووه عن علي عليه السلام.

2. ما حلّت إلاّ في عمرة القضاء وهو المروي عن الحسن البصري. وروى هذا عن سبرة الجهني.

3. أحلّت وحرمت يوم الفتح وهو المروي عن سبرة الجهني أيضا.

4. نهى عنها النبي في غزوة تبوك كما في رواية إسحاق بن راشد عن الزهري.

ص : 533


1- سيرة ابن هشام : 2 / 604.

5. أباحها يوم أوطاس.

6. أباحها يوم حجة الوداع.

هذه الأقوال نقلها النووي في شرحه على صحيح مسلم وناقش في بعضها ثمّ قال : إنّ الذي جرى في حجّة الوداع مجرّد النهي كما جاء في غير رواية ويكون تجديده صلى الله عليه وآله وسلم النهي عنها يومئذ لاجتماع الناس وليبلغ الشاهد الغائب ولتمام الدين وتقرر الشريعة كما قرر غير شيء وبين الحلال والحرام يومئذ وبتّ تحريم المتعة حينئذ لقوله إلى يوم القيامة. (1)

وقد عزب عن النووي انّه لو صحّ ما ذكره أخيرا كان الأنسب أن ينهى عن هذا الأمر إلهام عند إيراد الخطبة في حجّة الوداع في ذلك المحتشد العظيم الذي لم ير مثله إلاّ في الغدير عند ما أوصى بالنساء وقال : فان لكم على نسائكم حقّا.

وقد عرفت أنّه ليس هناك أيّ أثر من التحريم في ذلك الموقف العظيم.

وقال ابن قدامة : اختلف أهل العلم في الجمع بين هذين الخبرين _ تحريم المتعة يوم خيبر وفي فتح مكة _ فقال قوم في حديث علي ( نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية ) تقديم وتأخير ، وتقديره : انّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، ونهى عن متعة النساء ولم يذكر ميقات النهي عنها ، وقد بيّنه الربيع بن سبرة حديثه انّه كان في حجة الوداع ، لأنّه قال : اشهد على أبي انّه حدّث أنّ النبي نهى عن المتعة في حجة الوداع.

وقال الشافعي : لا أعلم شيئا أحلّ الله ثمّ حرمه ، ثمّ أحلّه ، ثمّ حرمة ، إلاّ المتعة فحمل الأمر على ظاهره ، وانّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرمها يوم خيبر ثمّ أباحها في حجة الوداع ثلاثة أيام ثم حرمها. (2)

ص : 534


1- شرح صحيح مسلم : 9 / 191.
2- المغني : 7 / 572.

أنّ التشريع بهذا المنوال ، أشبه بتقنين إنسان غير عالم بعواقب الأمور ، غير محيط بمصالحها ومفاسدها ، فيحكم وينقض من دون تروّ وتفكير ، ونبيّ الإسلام هو نبيّ العظمة والقداسة قد أوتي من العلم ما لم يؤت أحد من العالمين قال سبحانه ( وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (1) ونجلّ ساحته من التشريع الأشبه بالتلاعب بالأحكام.

وقال ابن حجر في « فتح الباري » : قال السهيلي : وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة ، فأغرب ما روي في ذلك ، رواية من قال في غزوة تبوك ، ثمّ رواية الحسن انّ ذلك كان في عمرة القضاء ، والمشهور في تحريمها إنّ ذلك كان في غزوة الفتح كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه ، وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود انّه كان حجّة الوداع ، قال : ومن قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح.

ثمّ قال ابن حجر : فتحصّل ممّا أشار إليه ستة مواطن : خيبر ، ثمّ عمرة القضاء ، ثمّ الفتح ، ثمّ أوطاس ، ثمّ تبوك ، ثمّ حجّة الوداع ، إلى أن قال : ومن قال لا مخالفة بين أوطاس والفتح لأنّ الفتح كان في رمضان ثمّ خرجوا إلى أوطاس في شوال.

ثمّ أخذ ابن حجر بالنقض والإبرام بما لا يسعنا نقله. (2)

وعلى كلّ حال فهذا الاختلاف الكبير يجرّ الباحث إلى التشكيك في أصل التحريم ، وإلاّ فكيف خفي زمان التحريم ومكانه على المسلمين حتّى صاروا طوائف ست لا سيما في مسألة كمسألة المتعة التي يبتلى بها الناس في حلّهم

ص : 535


1- النساء : 113.
2- فتح الباري : 9 / 170.

وترحالهم ، فلا يمكن نسخ القرآن الكريم بهذه الأخبار المشوّشة المضطربة.

ثمّ إنّ ابن القيم ممن حاول أن يجتهد في المسألة ويجمع بين المتعارضين فأورد السؤال بما هذا لفظه :

فإن قيل : فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتّى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث ، وفيما ثبت عن عمر انّه قال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أنهى عنهما : متعة النساء ومتعة الحجّ.

ثمّ أجاب وقال : إنّ الناس في هذا طائفتان :

1. طائفة تقول انّ عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون ، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح ، فإنّه من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جدّه وقد تكلّم فيه ابن معين ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدة الحاجة إليه وكونه أصلا من أصول الإسلام.

ولو صحّ عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به ، قالوا : ولو صحّ حديث سبرة لم يخف على ابن مسعود حتّى يروي انّهم فعلوها ويحتج بالآية. وأيضا ولو صحّ لم يقل عمر انّها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنها وأعاقب عليها ، بل كان يقول : انّه صلى الله عليه وآله وسلم حرّمها ونهى عنها ، قالوا : ولو صحّ لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقّا.

والطائفة الثانية : رأت صحة حديث سبرة ، ولو لم يصحّ فقد صحّ حديث علي عليه السلام انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم متعة النساء فوجب حمل حديث جابر على أنّ الذي

ص : 536

أخبر عنها بفعلها لم يبلغه التحريم ، ولم يكن قد اشتهر حتّى كان زمن عمر ، فلمّا وقع فيها النزاع ظهر تحريمها واشتهر وبهذا تألف الأحاديث الواردة فيها. (1)

ولا يخفى على الباحث قوة منطق الطائفة الأولى ، وأمّا ما نقله عن الطائفة الثانية فيتلخص في الأمور التالية :

1. صحّة حديث سبرة.

2. صحّة الحديث عن علي انّ رسول الله حرم المتعة.

3. انّ جابر بن عبد الله لم يبلغه التحريم.

أمّا الأوّل فقد عرفت وجود التعارض في حديث سبرة على وجه يسقطه عن الاحتجاج به وانّ البخاري لم يخرّجه.

وأمّا الثاني أي المنقول عن علي فهو مكذوب على لسانه ، لأنّ عليّا وبيته الرفيع اشتهروا بالقول بجواز المتعة وهو القائل : لو لا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي.

وأمّا الثالث وهو عدم بلوغ التحريم إلى صحابي عظيم كجابر بن عبد الله الأنصاري إلى أن اشتهر الحكم في زمان عمر فهو أمر غريب ، لأنّ المسألة ليست من المسائل المغفول عنها حتّى لا يبلغه التحريم على أنّك عرفت انّه نسب جابر التحريم إلى نفس الخليفة دون النبي.

الخامس : نقل أحاديث متعارضة عن راو واحد

وانّ أغرب ما في الباب هو أن ينسب إلى علي روايتين متعارضتين ، فقد أخرج مسلم عن محمد الحنفية بن علي بن أبي طالب انّه سمع علي بن أبي طالب

ص : 537


1- زاد المعاد : 2 / 205 _ 206.

يقول لابن عباس نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. (1) مع أنّه اشتهر عن علي قوله : « لو لا نهي عمر عن المتعة ما زنى إلاّ شقي ». (2)

وقال الرازي : وأمّا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب عليه السلام انّه قال : « لو لا انّ عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلاّ شقي ». (3)

وأغرب من ذلك انّهم يروون عن ابن عباس تحريم المتعة.

أخرج البخاري عن أبي جمرة قال : سئل ابن عباس عن متعة النساء فرخّص فيها ، فقال له مولى له : إنّما كان ذلك وفي النساء قلة والحال شديد! فقال ابن عباس : نعم. (4) مع أنّ ابن عباس قد اشتهر بالفتيا بحلية المتعة.

أخرج مسلم عن عروة بن الزبير انّ عبد الله بن الزبير قام بمكة ، فقال : إنّ ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرّض برجل ، فناداه فقال : أنت لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين _ يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم _ فقال له ابن الزبير : فجرب بنفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك.

أخرج الحافظ ابن أبي شيبة عن نافع : انّ ابن عمر سئل عن المتعة؟ فقال : حرام ، فقيل له : إنّ ابن عباس يفتي بها ، قال : فهلا ترمرم بها _ تزمزم _ في زمان عمر. (5)

ص : 538


1- صحيح مسلم : 4 / 135 ، باب نكاح المتعة.
2- تفسير الطبري : 3 / 200 ؛ الدر المنثور : 2 / 486.
3- تفسير الرازي : 10 / 50.
4- الدر المنثور : 2 / 486.
5- الدر المنثور : 2 / 487.
السادس : استناد التحريم إلى نفس الخليفة

قد تضافرت الروايات على نسبة التحريم إلى الخليفة نفسه وانّه هو الذي حرمها وأوعد مرتكبيها بالرجم ، ولا يسعنا نقل ما ذكره أهل السير والتأريخ في ذلك الموقف فنقتصر بالقليل عن الكثير :

1. قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب الله وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى مات ، قال رجل برأيه بعد ما شاء. (1)

2. قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينزل قرآن يحرمه ، ولم ينه عنها حتّى مات ، قال رجل برأيه ما شاء. (2)

3. أخرج مسلم عن أبي الزبير قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث. (3) وسيوافيك ما ورد في شأن ابن حريث.

4. أخرج أيضا عن أبي نضرة قال : كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال : ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما. (4)

5. أخرج مسلم عن أبي نضرة قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنهما ، قال : فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال : على يديّ دار

ص : 539


1- صحيح مسلم : 4 / 49 باب جواز التمتع وفي الحديث إشارة إلى كلتا المتعتين.
2- صحيح البخاري : 6 / 33.
3- صحيح مسلم : 4 / 131 ، باب نكاح المتعة.
4- المصدر نفسه.

الحديث تمتعنا مع رسول الله فلما قام عمر ، قال : إنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء ، وانّ القرآن قد نزل منازله ، فأتموا الحجّ والعمرة لله كما أمركم الله.

وأبتّوا نكاح هذه النساء فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة. (1)

والمقطع الأوّل راجع إلى تحريم التحلل بين العمرة والحجّ ، كما أنّ المقطع الثاني راجع إلى تحريم متعة النساء.

6. ما تضافر من أنّ عمر بن الخطاب قال على المنبر : متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهما : متعة الحجّ ، ومتعة النكاح. (2)

إنّ خطبة عمر من الخطب المتسالم عليها ، وقد اكتفينا من المصادر بالقليل عن الكثير حتّى أنّ المتكلّم الأشعري القوشجي في شرحه على تجريد الاعتقاد حاول تأويله دون أن يناقش سنده ، وإليك نصّه.

7. قال عمر وهو على المنبر : أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنهنّ وأحرمهنّ وأعاقب عليهنّ : متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحيّ على خير العمل. ثمّ اعتذر عنه بقوله : إنّ ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه ، فان مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع. (3)

8. قال الراغب في « المحاضرات » ، قال : يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة بمن

ص : 540


1- صحيح مسلم : 4 / 38 ، باب في المتعة بالحجّ والعمرة.
2- تفسير الفخر الرازي : 5 / 370 ؛ زاد المعاد لابن القيم : 2 / 184 ؛ سنن البيهقي : 7 / 206 ؛ المبسوط : 4 / 37 ؛ المغني : 7 / 571 ؛ الشرح الكبير : 7 / 537 ؛ المحلى : 7 / 107 ؛ بداية المجتهد : 1 / 268 ؛ أحكام القرآن للجصاص : 2 / 152 ؛ كنز العمال : 16 / 519 برقم 45715 _ 45722 ؛ مسند أحمد : 3 / 325.
3- شرح التجريد : 484 الطبعة الحجرية.

اقتديت في جواز المتعة قال : بعمر بن الخطاب ، قال : كيف وعمر كان أشدّ الناس فيها؟ فقال : لأنّ الخبر الصحيح انّه صعد المنبر ، فقال : إنّ الله ورسوله قد أحلاّ لكم متعتين وأنا محرّمهما عليكم وأعاقب عليهما ، فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه. (1)

السابع : سيرة الصحابة بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم

إنّ السبر في كتب التأريخ والسير يثبت بأنّ سيرة الصحابة بعد رحيل النبي استمرت على الحلية فكان يستمتعون بلا تريث ، وإنّما بدأ الاختلاف عند ما أفتى الخليفة بتحريمها في أخريات خلافته.

وقد مرت أسماء طائفة من الصحابة الذين استمتعوا بعد رحيل الرسول ولم يعترض عليهم أحد وقد وقفت على أحاديث لفيف منهم :

1. جابر بن عبد الله الأنصاري.

2. عبد الله بن مسعود.

3. عمران بن حصين.

إلى غير ذلك ممن مرت أسماؤهم ، وها نحن نذكر هنا نزرا يسيرا ممّن استمتع بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهم من الصحابة العدول وإن أثار حفيظة المحرّم.

1. أخرج الحافظ عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير عن جابر قدم عمرو بن حريث الكوفة فاستمتع بمولاة فأتى بها عمرو حبلى فسأله فاعترف ، قال : فذلك حين نهى عنها عمر. (2)

ص : 541


1- المحاضرات : 2 / 94.
2- فتح الباري : 9 / 141.

2. أخرج المتقي الهندي عن سليمان بن يسار عن أمّ عبد الله ابنة أبي خيثمة انّ رجلا قدم من الشام فنزل عليها ، فقال : إنّ العزبة قد اشتدت عليّ فابغيني امرأة أتمتع بها ، قالت : فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك عدولا ، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث.

ثمّ إنّه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب فأرسل إليّ فسألني أحقّ ما حدّثت؟ قلت : نعم. قال : فإذا قدم فأذنيني ، فلمّا قدم أخبرته فأرسل إليه ، فقال : ما حملك على الذي فعلته؟ قال : فعلته مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ لم ينهنا عنه حتّى قبضه الله ، ثمّ مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتّى قبضه الله ، ثمّ معك فلم تحدث لنا فيه نهيا ، فقال عمر : أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدّمت في نهي لرجمتك ، بينوا حتّى يعرف النكاح من السفاح. (1)

3. نقل ابن حجر عن ابن الكلبي إنّ سلمة بن أميّة بن خلف الجمحي استمتع من سلمى مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص الأسلمي ، فولدت له ، فجحد ولدها ، فبلغ ذلك عمر فنهى المتعة. وروى أيضا انّ سلمه استمتع بامرأة فبلغ عمر فتوعّده. (2)

ص : 542


1- كنز العمال : 16 / 522 برقم 45726.
2- الإصابة : 2 / 63.
الشبهة الثامنة

الزواج المؤقت

ومشكلة الأنجاب

كانت الشبهة السابقة تدور حول حلّية المتعة كتابا وسنّة أو منسوخيّتها كذلك.

ولكن ثمة شبهة أخرى وهي ترجع إلى مشكلة اجتماعية مفادها انّ الرجل إذا نزل بلدة واستمتع بامرأة مسلمة وقضى وطره منها ثمّ تركها وغادر البلدة والمرأة حبلى فحينها تثار مشكلة المولود وانتسابه إلى الأب ، وربما يبقى المولود إلى آخر عمره لا يعرف أباه ، ويولّد ذلك بمرور الزمن عقد نفسية لا يمكن تجاوزها.

وحسم هذه المشكلة يتم بالبيان التالي :

1. انّ المشكلة مشتركة بين الزواج الدائم والمؤقت ، فربما يتوافق الزوجان على عقد دائم عرفي مع إقامة الشهود والولي فربما يغادر الزوج البلد ويتركها من دون أن يطلع الزوجة على مكانه والزوجة حبلى ، فتثار حينها مشكلة الولد كنظيرتها في النكاح المؤقت.

2. انّ الملاك في تشريع القوانين وتقنينها هو انسجامها مع مصالح

ص : 543

المجتمع على الوجه الغالب ولا تضر المفسدة في شواذّ الأمور ونوادرها ، إذ قلّما يؤمّن القانون مصالح المجتمع بالتمام ، فعلى الباحث أن يطالع القانون وآثاره الإصلاحية في أكثر الموارد دون أن يأخذ بنظر الاعتبار الموارد الشاذّة.

هذا والذي يحسم جذور الإشكال انّ على المرأة المتزوجة إذا خافت من مضاعفات النكاح المؤقت أن لا ترضى إلاّ بالعزل أوّلا ثمّ الإشهاد على الزواج ثانيا ، سواء كان الإشهاد واجبا كما في فقه السنّة ، أو مستحبا كما في فقه الشيعة ، وأولى من ذلك أن يكون هناك وثيقة رسمية تكفل لها حقوقها في المحاكم الرسمية كالزواج الدائم.

نعم يتجلّى الإشكال في أكثر البلاد الإسلامية والتي لم يعترف فيها بالمتعة تحليلا ، وأمّا إذا كان هناك اعتراف رسمي بالزواج المؤقت فيكون المؤقت والدائم على حدّ سواء.

وتتلو هذه الشبهة شبهة أخرى ربما تتّحدان جوهرا وتختلفان صورة ، وهي مسألة اختلاط الأنساب وضياع النسل وعقد عابر الطريق والمجهول في النكاح المؤقت ، وهذه الشبهة هي التي طرحها السيد الراوي البغدادي في المقام.

والشبهة نابعة من عدم الإمعان في حقيقة النكاح المؤقت ، وقد عرفت أنّ من أحكامه العدّة : عدة الطلاق ، وعدة الوفاة ، وفي ظلّه يحفظ النسل ويمنع اختلاط المياه ، فلا يجوز لأحد أن يتمتع بامرأة تمتع بها غيره حتّى تخرج من عدة ذلك الغير وإلاّ كان زانيا ومع اعتبار العدة فأين يكون اختلاط الأنساب وضياع النسل؟!

وحصيلة الكلام : انّه يجب على الزوج أن يتعرف حال المتمتع بها حتّى إذا ولدت ولدا الحق به كي لا تضيع الأنساب وكذلك المتمتع بها إذا انتهى أجلها يجب عليها أن تعتد.

ص : 544

الشبهة التاسعة

أكذوبة

المتعة الدورية

إنّ طرح مثل هذه الشبهة ممّا يندي له الجبين ويأسف له العقل السليم ، وفي الحقيقة هي ليست شبهة ، بل فرية وافتراء على شريحة واسعة من المسلمين الذين أخذوا عقيدتهم من معين أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم العذب الذين عرّفهم النبي بأنّهم أعدال القرآن وقرناؤه وقال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ».

وحاصل الشبهة : انّ المرأة الواحدة يتناوبها ويتعاقبها عدة من الرجال بحسب ساعاتهم ، فعندئذ فبمن يلحق الولد.

أقول : إنّ ما نسبه إلى القائلين بالحلية يعرب عن أنّ صاحب الشبهة أعياه البرهان حتى التجأ إلى الكذب والفرية ، وقد عرفت في صدر البحث أحكام المتعة ووجوب العدة ومع ذلك كيف يمكن تصحيح تلك المتعة الدورية التي هي في الواقع زنا لا غير؟!

وهنا كلام قيم للإمام المصلح الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي كان ينبض قلبه للمّ شمل الأمّة وجمع شتاتها ، يقول ردا على طرح تلك الشبهة :

ص : 545

فاللازم أوّلا : ان تدلنا على كتاب جاهل من الشيعة ذكر فيه تحليل هذا النحو من المتعة فضلا عن عالم من علمائهم ، وإذا لم تدلنا على كتابة منهم أو كتاب ، فاللازم إن تحد حد المفتري الكذاب ، كيف وإجماع الإمامية على لزوم العدة في المتعة وهي على الأقل خمسة وأربعون يوما ، فأين التناوب والتعاقب عليها حسب الساعات؟!

وإن كنت تريد انّ بعض العوام والجهلاء الذين لا يبالون بمقارفة المعاصي وانتهاك الحرمات قد يقع منهم ذلك ، فهذا مع أنّه لا يختص بعوام الشيعة بل لعلّه في غيرهم أكثر ، ولكن لا يصحّ أن يسمّى هذا تحليلا ، إذ التحليل ما يستند إلى فتوى علماء المذهب لا ما يرتكبه عصاتهم وفسّاقهم ، وهذا النحو من المتعة عند علماء الشيعة من الزنا المحض الذي يجب فيه الحدّ ولا يلحق الولد بواحد ، كيف وقد قال سيد البشر : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ». (1)

قال العلاّمة الأميني _ ردّا على صاحب المنار الذي نسب المتعة الدورية إلى الشيعة _ ما هذا لفظه :

نسبة المتعة الدوريّة وقل : الفاحشة المبيّنة إلى الشيعة إفك عظيم تقشعرّ منه الجلود ، وتكفهرّ منه الوجوه ، وتشمئزّ منه الأفئدة ، وكان الأحرى بالرّجل حين أفك أن يتّخذ له مصدرا من كتب الشيعة ولو سوادا على بياض من أيّ ساقط منهم ، بل نتنازل معه إلى كتاب من كتب قومه يسند ذلك إلى الشيعة ، أو سماع عن أحد لهج به ، أو وقوف منه على عمل ارتكبه أناس ولو من أوباش الشيعة وأفنائهم ، لكنّ المقام قد أعوزه عن كلّ ذلك ، لأنّه أوّل صارخ بهذا الإفك الشائن ، ومنه أخذ القصيمي في [ الصراع بين الإسلام والوثنيّة ] وغيره. (2)

ص : 546


1- أصل الشيعة وأصولها : 151 ، مطبعة العرفان ، صيدا.
2- الغدير : 3 / 286.
الشبهة العاشرة

تحاشي الأشراف من تعاطيها

وهناك من يجعل تحاشي الأشراف دليلا على عدم الحلية ويقول : لو كانت المتعة حلالا فلما ذا نرى أنّ أشراف الشيعة وأعيانهم يتحاشون من تعاطيها بينهم ، فلم يسمع من يقول حضرنا تمتّع السيد الفلاني أو الفاضل الفلاني بالآنسة بنت السيد الفلاني كما يقال : حضرنا عقد نكاح الفاضل الفلاني بآنسة الفاضل ، بل أكثر جريانها وتعاطيها في الساقطات والسافلات ، فهل ذلك إلاّ لقضاء الوطر وإن حصل منه النسل قهرا؟

فنقول : إنّ هذه الشبهة ممّا تضحك منها الثكلى ، كيف يعد التحاشي دليلا على الحرمة والإقبال دليلا على الحلية ، فإنّ الطلاق أمر مشروع لكن يتحاشى منه الأشراف غالبا ، فهل يمكن أن يستدلّ بتحاشيهم على حرمته؟!

إنّ القائل بادر إلى طرح هذه الشبهة نتيجة استفلاسه عن دحض أدلّة الزواج المؤقت بحجج دامغة ، فالتجأ إلى هذه الشبهة غافلا عن أنّ النكاح المؤقت كما مرّ في المقدمة دواء لمقطع زمني خاص وليس هو السبيل الأمثل ، وانّ المتمتع إنّما يتمسك بأهداب المتعة حين الاضطرار وعدم مقدرته على الزواج الدائم ، ولهذا السبب لا يعقد له النوادي ولا الحفلات ولا تبعث له التبريكات ، يقول

ص : 547

العلاّمة كاشف الغطاء : أمّا تحاشي أشراف الشيعة وسراتهم من تعاطيها فهو عفّة وترفّع واستغناء واكتفاء بما أحلّ الله لهم من تعدّد الزوجات الدائمة مثنى وثلاث ورباع ، فإن أرادوا الزيادة على ذلك جاز لهم التمتع بأكثر من ذلك كما يفعله بعض أهل الثروة والبذخ من رؤساء القبائل وغيرهم.

وعلى كلّ فإنّ تحاشي الأشراف والسراة لا يدلّ على الكراهة الشرعية فضلا عن عدم المشروعية ، ألا ترى أنّ الصحابة والتابعين _ رضوان الله عليهم _ كانوا كثيرا ما يتسرون بالإماء ويتمتعون بملك اليمين ويلدن لهم الأولاد الأفاضل.

أمّا اليوم فالأشراف يأنفون من ذلك مع أنّه حلال بنص القرآن العزيز. (1)

* * *

هذه هي المتعة وهذه هي حقيقتها ودلائلها الساطعة من الكتاب والسنّة وسيرة الصحابة بعد رحيل النبي ، وهذه شبهاتها الواهية وأجوبتها الواضحة ، وعندئذ :

فما هذا النكير والنفير ، والنبز والتعيير على الشيعة في أمر المتعة يا فقهاء الإسلام ويا حملة الأحكام.

والحق كما يقوله المصلح الكبير الشيخ كاشف الغطاء : لو انّ المسلمين عملوا بها على أصولها الصحيحة من العقد ، والعدة ، والضبط ، وحفظ النسل منها ، لانسدت بيوت المواخير وأوصدت أبواب الزنا والعهار ، ولارتفعت أو قلت ويلات هذا الشر على البشر ، ولأصبح الكثير من تلك المومسات المتهتكات ، مصونات محصنات ، ولتضاعف النسل وكثرت المواليد الطاهرة ، واستراح الناس

ص : 548


1- أصل الشيعة وأصولها : 151 _ 152 ، مطبعة العرفان ، صيدا.

من اللقيط والنبيذ ، وانتشرت صيانة الأخلاق وطهارة الأعراق إلى كثير من الفوائد والمنافع التي لا تعد ولا تحصى.

ولله در عالم بني هاشم وحبر الأمة عبد الله بن عباس ( رض ) في كلمته الخالدة الشهيرة التي رواها ابن الأثير في « النهاية » والزمخشري في « الفائق » وغيرهما حيث قال : ما كانت المتعة إلاّ رحمة رحم الله بها أمّة محمد ولو لا نهيه عنها ما زنا إلاّ شقي ، وقد أخذها من عين صافية من أستاذه ومعلّمه ومربّيه أمير المؤمنين ، وفي الحق أنّها رحمة واسعة ، وبركة عظيمة ولكن المسلمون فوّتوها على أنفسهم وحرموا من ثمراتها وخيراتها ووقع الكثير في حمأة الخنا والفساد والعار والنار والخزي والبوار ( أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ). (1)

ص : 549


1- أصل الشيعة وأصولها : 148.

خاتمة المطاف

لا يخفى انّ كلّ هذا الضجيج الذي أثير حول النكاح المؤقت ما ظهر إلاّ لتبرير عمل الخليفة الثاني الذي حرم ما نص على حلّيته الذكر الحكيم والسنّة النبوية وسيرة الصحابة وقضاء الفطرة الإنسانية ، فلم يجدوا بدّا إلاّ القول بمنسوخية التشريع في حياة الرسول وجاء عمل الخليفة الثاني كتعزيز وتأكيد لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، غير انّ هذا التبرير لا يعضده التأريخ ويزيّفه قول الخليفة نفسه ، فإنّه نسب صراحة التحريم إلى نفسه ، وقد مرّ نصّه وذلك بعد ما وقف على قضية عمرو بن حريث وانّه تمتع ، فثارت ثورته من العمل المذكور فقال ما قال.

وأجود ما يقال في تبرير عمل الخليفة أنّ تحريمه انطلق من مصلحة زمنية في نظره دعته إلى تحريمها والكيد بفاعلها.

وما ذكرناه من التوجيه هو الذي مال إليه الشيخ كاشف الغطاء _ رضوان الله عليه _ فقال : إذا أردنا أن نسير على ضوء الحقائق ، ونعطي المسألة حقّها من التمحيص والبحث عن سرّ ذلك الارتباك وبذرته الأولى _ التي نمت وتأثلت _ لا نجد حلا لتلك العقدة إلاّ أنّ الخليفة قد اجتهد برأيه لمصلحة رآها بنظره للمسلمين في زمانه وأيامه ، اقتضت أن يمنع من استعمال المتعة منعا مدنيا لا دينيا ، لمصلحة زمنية ، ومنفعة وقتية ، ولذا تواتر النقل عنه أنّه قال : « متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما ». ولم يقل انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص : 550

حرّمهما أو نسخهما ، بل نسب التحريم إلى نفسه وجعل العقاب عليها منه لا من الله سبحانه. (1)

ولو انّ مخالفي النكاح المؤقت اعتمدوا على التوجيه الذي بذله الشيخ كاشف الغطاء ، لانصاعوا لأدلّة النكاح المؤقت الدامغة ، وبما انّ تحريم الخليفة كان تحريما مؤقتا نابعا من مصلحة زمنية ، فإذا ارتفع المانع عاد المقتضي ، حينها يأخذ النكاح المؤقت مكانته في التشريع الإسلامي ولحل محلّ المحرم ولصلحت الأمة الإسلامية في حاضرها ومستقبلها ، وبذلك يتجسّد القول الخالد لأمير المؤمنين عليه السلام : « لو لا النهي عن المتعة لما زنا إلاّ شقي ».

قال سبحانه :

( وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا

حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ

الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ). (2)

ص : 551


1- أصل الشيعة وأصولها : 138.
2- النحل : 116.

ص : 552

الفهارس

اشارة

* فهرس المصادر

* فهرس المحتويات

ص : 553

ص : 554

فهرس المصادر

نبدأ تبرّكاً بالقرآن الكريم

حرف الألف

1. أحكام القرآن : أحمد بن علي الرازي الجصّاص الحنفي ( المتوفّى 370 ه_ ) دار الكتاب العربي ، بيروت _ 1406 ه_.

2. الإحكام في أُصول الأحكام : ابن حزم الأندلسي الظاهري ( 383 _456 ه_ ) دار الجيل ، بيروت _ 1407 ه_.

3. اخبار اصبهان : أبو نعيم الأصفهاني أحمد بن عبد اللّه ( المتوفّى430 ه_ ) منشورات جهان ، إيران.

4. الأذكياء : أبو الفرج بن علي بن الجوزي ( من أعلام القرن السادس الهجري ) مكتبة القرآن ، القاهرة ، مصر.

5. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري : أحمد بن القسطلاني ( 851 _ 923 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

6. الأرض والتربة الحسينية : الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ( 1295 _

ص : 555

1373 ه_ ) ، المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام ، قم المقدسة _ 1416 ه_.

7. أُسد الغابة : ابن الأثير علي بن أبي الكرم ( المتوفّى630 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

8. إسلامنا في التوفيق بين السنّة والشيعة : مصطفى الرافعي ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت _ 1404 ه_.

9. أسماء الصحابة والرواة : ابن حزم الأندلسي الظاهري ( 383 _ 456 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1412 ه_.

10. الإصابة : ابن حجر أحمد بن علي العسقلاني ( 773 _ 852 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

11. أصل الشيعة وأُصولها : الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ( 1295 _1373 ه_ ) مؤسسة الإمام علي ، قم المقدسة _ 1415 ه_.

12. الاعتصام بالكتاب والسنّة : جعفر السبحاني ( تولد 1347 ه_ ) مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، قم المقدسة_ 1414 ه_.

13. الانتصار : الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي ( 355 _ 436 ه_ ) منشورات المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف _ 1391 ه_.

14. أنوار التنزيل وأسرار التأويل ( المعروف بتفسير البيضاوي ) : عبد اللّه بن عمر بن محمد البيضاوي ( المتوفّى791 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1408 ه_.

حرف الباء

15. بحار الأنوار : محمد باقر المجلسي ( المتوفّ_ى 1110 ه_ ) مؤسسة الوفاء ، بيروت _ 1403 ه_.

ص : 556

16. بداية المجتهد : محمد بن رشد القرطبي ( 520 _ 595 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت _ 1403 ه_.

17. البداية والنهاية : ابن كثير الدمشقي ( 700 _ 774 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1402 ه_.

18. البدعة : جعفر السبحاني ( تولّد 1347 ه_ ) مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، قم المقدسة _ 1416 ه_.

19. البيان والتبيين : أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( 150 _ 255 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

حرف التاء

20. تاج العروس من جواهر القاموس : محمد مرتضى الحسيني الزبيدي ( 1145 _ 1205 ه_ ) دار الهداية ، بيروت.

21. تاريخ بغداد : أحمد بن علي الخطيب البغدادي ( المتوفّى463 ه_ ) المكتبة السلفية ، المدينة المنورة.

22. التاريخ الكبير : إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري ( المتوفّى 256 ه_ ) دار الفكر ، بيروت.

23. تاريخ المذاهب الإسلامية : محمد أبو زهرة ( المتوفّى 1396 ه_ ) دار الفكر العربي ، بيروت.

24. التبيان في تفسير القرآن : محمد بن الحسن الطوسي ( 385 _ 460 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

25. تحرير الأحكام : العلاّمة الحلّي ( 648 _ 726 ه_ ) مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، قم المقدسة _ 1420 ه_.

ص : 557

26. تذكرة الحفاظ : محمد بن أحمد الذهبي ( 683 _ 748 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

27. تذكرة الفقهاء : العلاّمة الحلّي ( 648 _ 726 ه_ ) مؤسسة آل البيت عليهم السلام ، قم المقدسة _ 1414 ه_.

28. تفسير ابن كثير ( تفسير القرآن العظيم ) : إسماعيل بن كثير الدمشقي ( 700 _ 774 ه_ ) دارالفكر ، بيروت _ 1403 ه_.

29. تفسير الخازن المسمّى « لباب التأويل في معاني التنزيل » : علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الشهير بالخازن ( المتوفّى 725 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1415 ه_.

30. تفسير الطبري ( جامع البيان ) : محمد بن جرير الطبري ( المتوفّى 310 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت.

31. تفسير العياشي : محمد بن مسعود بن محمد الكوفي ( من أعلام القرن الثالث الهجري ) طبع المكتبة الإسلامية ، طهران.

32. تفسير غرائب القرآن ( المطبوع بهامش تفسير الطبري ) : النيشابوري الحسن بن محمد بن حسين القمي ، دار المعرفة ، بيروت.

33. تفسير القمي : علي بن إبراهيم القمي ( من أعلام القرن الثالث والرابع الهجري ) مؤسسة دار الكتاب ، قم _ 1404 ه_.

34. تفسير المنار : محمد رشيد رضا ( المتوفّى 1354 ه_ ) دار المنار ، مصر _ 1373 ه_.

35. تفسير النهر الماد من البحر المحيط : أبو حيان الأندلسي ( المتوفّى 754 ه_ ) مؤسسة الكتب الثقافية ودار الجنان ، بيروت _ 1407 ه_.

36. تهذيب الأحكام : محمد بن الحسن الطوسي ( 385 _ 460 ه_ ) دار الكتب الإسلامية ،

ص : 558

طهران _ 1397 ه_.

37. تهذيب الأسماء واللغات : أبو زكريا محيى الدين بن شرف النووي ( 631 _ 676 ه_ ) دارالفكر ، بيروت _ 1416 ه_.

38. تهذيب التهذيب : أحمد بن علي بن حجر ( 773 _ 852 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1404 ه_.

39. تهذيب الكمال في أسماء الرجال : جمال الدين المزي أبو الحجاج يوسف ( 654 _ 742 ه_ ) مؤسسة الرسالة ، بيروت _ 1406 ه_.

حرف الثاء

40. الثقات : محمد بن حبّان التميمي البستي ( المتوفّى354 ه_ ) دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن ، الهند _ 1973م.

41. ثواب الأعمال : الشيخ الصدوق ( 306 _ 381 ه_ ) مكتبة الصدوق ، طهران.

حرف الجيم

42. جامع أحاديث الشيعة : إسماعيل المعزّي الملايري ( المعاصر ) تحت إشراف السيد حسين الطباطبائي البروجردي قدس سره ، قم المقدسة _ 1421 ه_.

43. جامع الأُصول : ابن الأثير الجزري المبارك بن محمد ( 544 _ 606 ه_ ) دارالفكر ، بيروت _ 1403 ه_.

44. الجامع لأحكام القرآن : أبو عبد اللّه محمد بن أحمد القرطبي ( المتوفّى671 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1405 ه_.

45. جامع المسانيد : محمد بن محمود الخوارزمي ( 593 _ 665 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

ص : 559

46. الجرح والتعديل : أبو حاتم الرازي ( المتوفّى 327 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1371 ه_.

47. الجمع بين الصحيحين : محمد بن فتوح الحميدي ( المتوفّى488 ه_ ) دار ابن حزم ودار الصميعي ، بيروت والرياض _ 1419 ه_.

48. جمع الفوائد من جامع الأُصول ومجمع الزوائد : محمد بن محمد بن سليمان المغربي ( المتوفّى 1049 ه_ ).

49. جواهر الكلام : الشيخ محمد حسن النجفي ( المتوفّى1266 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1981م.

حرف الحاء

50. الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة : الشيخ يوسف البحراني ( 1107 _ 1186 ه_ ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم المشرفة _ 1405 ه_.

51. حلية الأولياء : أبو نعيم أحمد بن عبد اللّه الاصبهاني ( المتوفّى 430 ه_ ) دار الكتاب العربي ، بيروت _ 1378 ه_.

52. حلية العلماء في معرفة مذهب الفقهاء : محمد بن أحمد الشاشي القفّال ( 429 _ 507 ه_ ) مكتبة الرسالة الحديثة ، المملكة الأردنية الهاشمية _ 1988م.

حرف الخاء

53. الخصائص الكبرى : عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ( 215 _ 303 ه_ ) تحقيق محمدباقر المحمودي ، قم المقدسة _ 1403 ه_.

54. الخصال : الشيخ الصدوق : محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ( 306

ص : 560

_ 381 ه_ ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم _ 1403 ه_.

55. الخطط المقريزية : تقي الدين المقريزي ( المتوفّى 845 ه_ ) دار صادر ، بيروت.

56. الخلاف : الشيخ الطوسي ( 385 _ 460 ه_ ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم المشرفة _ 1407 ه_.

حرف الدال

57. الدر المنثور : عبد الرحمن السيوطي ( 849 _ 911 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1403 ه_.

حرف الراء

58. رحمة الأُمّة في اختلاف الأئمّة : محمد بن عبد الرحمن الدمشقي ( من أعلام القرن الثامن الهجري ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1407 ه_.

59. الرسائل : الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي ( 355 _ 436 ه_ ) دار القرآن الكريم ، قم المقدسة _ 1405 ه_.

60. رسالة مختصرة في السدل : عبد الحميد بن مبارك ، الإمارات العربية المتحدة _1414 ه_.

61. روح المعاني : أبو الفضل محمود البغدادي الآلوسي ( المتوفّى 1270 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

62. روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان : الشهيد الثاني زين الدين العاملي ( 911 _ 965 ه_ ) مؤسسة آل البيت عليهم السلام ، الطبعة الحجرية ، إيران.

63. الرياض النضرة : أبو جعفر أحمد الشهير بالمحب الطبري ( المتوفّى 694 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

ص : 561

حرف الزاء

64. زاد المعاد : ابن قيّم الجوزية ( المتوفّى 751 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

65. الزواج المؤقت عند الشيعة : شهلا حائري ، ترجمة فادي حمود ، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ، بيروت _ 1996م.

حرف السين

66. سبل السلام : الصنعاني محمد بن إسماعيل الكحلاني المعروف بالأمير ( 1059 _ 1182 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1379 ه_.

67. السجود على الأرض : العلاّمة علي الأحمدي ، مؤسسة في طريق الحق ، قم المقدسة.

68. السنن : ابن ماجة محمد بن يزيد القزويني ( 207 _ 275 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

69. السنن : أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ( 202 _ 275 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

70. سنن الترمذي : محمد بن عيسى بن سورة ( 209 _ 279 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

71. سنن الدار قطني : علي بن عمر الدار قطني ( المتوفّى 385 ه_ ) المدينة المنورة _ 1386 ه_.

72. سنن الدارمي : عبد اللّه بن عبد الرحمن ( 181 _ 255 ه_ ) دار إحياء السنّة النبوية.

73. السنن الكبرى : أحمد بن الحسين البيهقي ( المتوفّى 458 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت _ 1406 ه_.

74. سنن النسائي : أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ( 215 _ 303 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1348 ه_.

ص : 562

75. السنّة والشيعة : محمد رشيد رضا ( المتوفّى1354 ه_ ).

76. سير أعلام النبلاء : محمد بن أحمد الذهبي ( المتوفّى 848 ه_ ) مؤسسة الرسالة ، بيروت _ 1409 ه_.

77. سيرتنا وسنتنا : العلاّمة عبد الحسين الأميني ( 1320 _ 1390 ه_ ) المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف.

78. السيرة الحلبية : علي بن برهان الدين الحلبي ( 975 _ 1044 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت.

79. السيرة النبوية : ابن هشام عبد الملك بن أيوب الحميري ( المتوفّى 213 أو 218 ه_ ) دار التراث العربي ، بيروت.

حرف الشين

80. شذرات الذهب : ابن عماد الحنبلي ( 1032 _ 1089 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1399 ه_.

81. شرائع الإسلام : المحقّق الحلّي جعفر بن الحسن ( 602 _ 676 ه_ ) تحقيق عبد الحسين محمد علي ، النجف الأشرف _ 1389 ه_.

82. شرح التجريد : علاء الدين القوشجي ، طبعة حجر ، تبريز.

83. شرح صحيح مسلم : النووي أبو زكريا محيي الدين بن شرف ( 631 _ 676 ه_ ) دار القلم ، بيروت _ 1407 ه_.

84. شرح نهج البلاغة : ابن أبي الحديد المعتزلي ( المتوفّى 655 ه_ ) دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة _ 1378 ه_.

85. شعب الإيمان : البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين ( 384 _ 458 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

ص : 563

حرف الصاد

86. صحيح ابن خزيمة : محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري ( 223 _ 311 ه_ ) المكتب الإسلامي ، ط 2 ، بيروت _ 1412 ه_.

87. الصحيح : البخاري محمد بن إسماعيل ( المتوفّى256 ه_ ) مكتبة عبد الحميد أحمد حنفي ، مصر _ 1314 ه_.

88. الصحيح : مسلم بن الحجاج القشيري ( المتوفّى 261 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

حرف الطاء

89. طبقات الحفّاظ : جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ( 849 _ 911 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1403 ه_.

90. الطبقات الكبرى : محمد بن سعد ( المتوفّى 230 ه_ ) دار صادر ، بيروت _ 1380 ه_.

حرف العين

91. العروة الوثقى : السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ( المتوفّى 1337 ه_ ) دار الكتب الإسلامية ، طهران _ 1388 ه_.

92. العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير : عبد الكريم بن محمد الرافعي الشافعي ( المتوفّى 623 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1417 ه_.

93. علل الشرائع : الشيخ الصدوق ( 306 _ 381 ه_ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت _ 1408 ه_.

94. عمدة القاري في شرح صحيح البخاري : محمود بن أحمد العيني الحنفي ، طبع مصر.

ص : 564

95. عون المعبود في شرح سنن أبي داود : محمد شمس الحق العظيم آبادي ، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان ، دار الفكر ، بيروت.

96. عيون أخبار الرضا : الشيخ الصدوق ( 306 _ 381 ه_ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت _ 1404 ه_.

حرف الغين

97. الغدير : العلاّمة عبد الحسين أحمد الأميني ( 1320 _ 1390 ه_ ) دار الكتاب العربي ، بيروت _ 1387 ه_.

98. غرر الحكم ودرر الكلم : عبد الواحد الآمدي التميمي ( من علماء القرن الخامس الهجري ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت _ 1407 ه_.

حرف الفاء

99. فتح الباري : أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ( 773 _ 852 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

100. فجر الإسلام : أحمد أمين المصري ( المتوفّى 1388 ه_ ) نشر دار الكتاب العربي.

101. الفقه الإسلامي وأدلّته : الدكتور وهبة الزحيلي ، دار الفكر ، دمشق _ 1417 ه_.

102. فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة : علي السالوس ، مكتبة ابن تيمية ، الكويت _ 1398 ه_.

103. الفقه على المذاهب الأربعة : عبد الرحمن الجزيري ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

104. الفقه على المذاهب الخمسة : محمد جواد مغنية ، دار العلم للملايين ، بيروت _ 1979م.

ص : 565

105. فقه القرآن : قطب الدين سعيد بن هبة اللّه الراوندي ( المتوفّى 573 ه_ ) نشر مكتبة المرعشي النجفي ، قم المقدسة _ 1405 ه_.

106. الفلسفة القرآنية : عباس محمود العقاد.

حرف الكاف

107. الكافي : محمد بن يعقوب الكليني ( المتوفّى 329 ه_ ) دار الكتب الإسلامية ، طهران _ 1397 ه_.

108. الكامل في التاريخ : ابن الأثير محمد بن محمد الجزري ( المتوفّى 630 ه_ ) دار صادر ، بيروت.

109. الكشاف : محمود بن عمر الزمخشري ( المتوفّى 538 ه_ ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة _ 1367 ه_.

110. كنز العمال : المتقي الهندي ( المتوفّى 975 ه_ ) مؤسسة الرسالة ، بيروت _ 1405 ه_.

حرف اللام

111. لسان العرب : العلاّمة ابن منظور محمد بن مكرم ( المتوفّى 711 ه_ ) قم المقدسة _ 1405 ه_.

112. لسان الميزان : أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ( 773 _ 852 ه_ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت.

حرف الميم

113. المبسوط : محمد بن أحمد السرخسي ( المتوفّى 483 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت _ 1406 ه_.

ص : 566

114. مجمع البيان : الفضل بن الحسن الطبرسي ( 471 _ 548 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت _ 1408 ه_.

115. مجمع الزوائد : علي بن أبي بكر الهيثمي ( 735 _ 807 ه_ ) دار الكتاب العربي ، بيروت _ 1402 ه_.

116. المجموع شرح المهذب للشيرازي : أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي ( 631 _ 676 ه_ ) مكتبة الإرشاد ، جدّة.

117. المحاسن : أحمد بن محمد بن خالد البرقي ( المتوفّى 274 أو 280 ه_ ) دار الكتب الإسلامية ، قم.

118. محاسن التأويل : جمال الدين القاسمي ( المتوفّى 1332 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1398 ه_.

119. المحاضرات : الراغب الاصفهاني حسين بن محمد ( المتوفّى حدود 425 ه_ ) المكتبة الحيدرية ، قم المقدسة _ 1416 ه_.

120. المحلّى : ابن حزم الأندلسي : محمد بن علي بن أحمد ( المتوفّى 456 ه_ ) دار الآفاق الجديدة ، بيروت.

121. المراجعات : سيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي ( المتوفّى 1377 ه_ ) منشورات أُسوة التابعة لمنظمة الأوقاف ، قم _ 1413 ه_.

122. مسائل فقهية : عبد الحسين شرف الدين العاملي ( المتوفّى 1377 ه_ ) منظمة الأعلام الإسلامي ، طهران _ 1407 ه_.

123. المستدرك على الصحيحين : الحاكم النيسابوري : محمد بن عبد اللّه ( المتوفّى 405 ه_ ) ، دار المعرفة ، بيروت.

124. مستدرك الوسائل : الشيخ النوري الحسين بن محمد تقي ( 1254 _ 1320 ه_ )

ص : 567

مؤسسة آل البيت عليهم السلام ، قم المقدسة _ 1407 ه_.

125. المسند : أحمد بن حنبل ( المتوفّى241 ه_ ) دار الفكر ، بيروت.

126. مسند البزار : أحمد بن عمرو البزار ( المتوفّى 292 ه_ ).

127. مسند الشافعي : محمد بن إدريس الشافعي ( 150 _ 204 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

128. مسند الطيالسي : سليمان بن داود البصري الشهير بأبي داود الطيالسي ( المتوفّى 204 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت.

129. المصباح المنير : أحمد بن محمد بن علي المقري الفيّومي ( المتوفّى 770 ه_ ) ايران _ 1405 ه_.

130. المصنف : ابن أبي شيبة ( المتوفّى 235 ه_ ) دار الفكر ، بيروت _ 1409 ه_.

131. المصنف : عبد الرزاق بن همام الصنعاني ( 126 _ 211 ه_ ) تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي ، دار الكتب السلفية ، القاهرة.

132. معاني القرآن وإعرابه : إبراهيم بن السري الزجاج ( المتوفّى سنة 311 ه_ ) عالم الكتب ، بيروت _ 1408 ه_.

133. المعجم الأوسط : أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ( المتوفّى 360 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت _ 1420 ه_.

134. المعجم الكبير : أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ( 260 _ 360 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1404 ه_.

135. المغني : عبد اللّه بن قدامة ( 541 _ 620 ه_ ) مطبعة الإمام ، مصر.

136. مغني اللبيب : ابن هشام عبد اللّه بن يوسف الأنصاري ( المتوفّى 761 ه_ ) بيروت _ 1979م.

ص : 568

137. مفاتيح الغيب ( التفسير الكبير ) : محمد بن عمر الخطيب الرازي ( 504 _ 606 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

138. مقاتل الطالبيين : أبو الفرج الاصفهاني ( 284 _ 356 ه_ ) النجف الأشرف.

139. منتخب كنز العمال ( المطبوع في هامش مسند أحمد ) : المتقي الهندي ، دار الفكر.

140. منتهى المطلب : العلاّمة الحلّي : الحسن بن يوسف ( 648 _ 726 ه_ ) مجمع البحوث الإسلامية ، مشهد ، إيران _ 1412 ه_.

141. من لا يحضره الفقيه : الشيخ الصدوق ( 306 _ 381 ه_ ) مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، قم المقدسة.

142. الموسوعة العربية العالمية : مؤسسة اعمال الموسوعة للنشر والتوزيع ، الرياض ، المملكة العربية السعودية _ 1419 ه_.

143. الموسوعة الفقهية الكويتية : وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، الكويت _ 1414 ه_.

144. الموطأ : مالك بن أنس ( المتوفّى 179 ه_ ) دار الآفاق الجديدة ، بيروت _ 1403 ه_.

145. الميزان في تفسير القرآن : العلاّمة الطباطبائي ( 1321 _ 1402 ه_ ) مؤسسة الأعلمي ، بيروت _ 1403 ه_.

146. ميزان الاعتدال : محمد بن أحمد الذهبي ( المتوفّى 748 ه_ ) دار المعرفة ، بيروت.

حرف النون

147. النص والاجتهاد : سيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي ( المتوفّى 1377 ه_ ) المجمع الثقافي لمنتدى النشر ، النجف الأشرف _ 1375 ه_.

ص : 569

148. نظام النكاح في الشريعة الإسلامية الغرّاء : جعفر السبحاني ( تولّد 1347 ه_ ) مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام ، قم المقدسة _ 1418 ه_.

149. النهاية في غريب الحديث : ابن الأثير الجزري مبارك بن محمد ( المتوفّى 606 ه_ ) مؤسسة إسماعيليان ، قم المقدسة _ 1405 ه_.

150. نور الثقلين : عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي ، مؤسسة إسماعيليان ، قم _ 1412 ه_.

151. نيل الأوطار : محمد بن علي بن محمد الشوكاني ( 1172 _ 1255 ه_ ) دار الكتب العلمية ، بيروت.

حرف الهاء

152. الهداية في شرح البداية : علي بن أبي بكر المرغيناني ( المتوفّى 593 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

حرف الواو

153. وسائل الشيعة : الحرّ العاملي محمد بن الحسن ( 1033 _ 1104 ه_ ) دار إحياء التراث العربي ، بيروت _ 1403 ه_.

حرف الياء

154. اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر : عبد الوهاب الشعراني ، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ، مصر _ 1378 ه_.

ص : 570

فهرس المحتويات

مقدمة........ 5

1. الوضوء في الكتاب والسنة

آية الوضوء آية محكمة..... 9

بداية الاختلاف......... 13

القرآن هو المهيمن والمرجع الوحيد عند اختلاف الآثار...... 15

سورة المائدة آخر سورة نزلت....... 16

مصدر الاختلاف في كيفية الوضوء......... 18

1. اختلاف القراءة... 18

2. التمسّك بروايات الغسل المنسوخة........ 19

3. إشاعة الغسل من قبل السلطة..... 20

ما هو العامل في قوله «أرجلكم»؟... 22

القراءتان والمسح على الأرجل....... 25

ص : 571

القراءتان وغسل الأرجل.... 28

الغسل وقراءة النصب.... 28

الغسل وقراءة الجر....... 30

الجر بالجوار صحة وشرطا... 31

الاجتهاد تجاه النص......... 34

1. الغسل يشمل المسح....... 35

2. نسخ السنّة للكتاب....... 36

3. التنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء........ 37

4. سهولة غسل الرجلين دون الشعر......... 38

5. اتّباع السلف في الغسل.... 39

6. التحديد آية الغسل........ 40

7. المرجع هو السنّة بعد تعارض القراءتين.... 41

8. الغسل إضافة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.... 41

9. التمسّك بالمصالح......... 43

10. اعتراض جملة «فامسحوا» لبيان الترتب........ 44

المسح على الأرجل في الأحاديث الصحيحة......... 45

ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حول مسح الأرجل......... 45

ما حكي عن الصحابة والتابعين حول مسح الأرجل........ 49

التجاهل لروايات المسح..... 52

أسماء أعلام الصحابة والتابعين القائلين بالمسح....... 54

تأمّلات واهية في أخبار المسح....... 60

ص : 572

عثرة لا تقال :...... 63

وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن لسان أئمّة أهل البيت عليهم السلام....... 67

نظرة عامّة في أخبار الغسل......... 71

معالجة روايات الغسل....... 82

أ. نسخها بالقرآن..... 83

ب. إشاعة الغسل بعد نزول القرآن من قبل السلطة... 83

خاتمة المطاف : الآن حصحص الحق........ 85

إكمال : آية الوضوء وكيفية غسل الأيدي......... 87

2. المسح على الخفّين

اختيارا

في الحضر والسفر

حكم المسح على الخفين في حال الاختيار.... 93

1. الاحتجاج بالكتاب العزيز........ 95

2. الاحتجاج بالسنّة......... 96

3. إجماع أئمة أهل البيت عليهم السلام..... 97

ما يدعم القول بعدم جواز المسح على الخفين........ 99

أدلّة القائلين بجواز المسح على الخفين...... 101

الأوّل : رواية جرير بن عبد الله البجلي........ 101

ص : 573

الثاني : رواية المغيرة بن شعبة... 104

الثالث : دراسة سائر الروايات........ 108

تساؤلات حول مسألة المسح على الخفّين......... 111

فروع المسألة...... 115

3. تشريع الأذان و التثويب في أذان الفجر

المقام الأول : وفيه أُمور

الأذان لغة وشرعا ومكانة المؤذن عند الله....... 121

منزلة الأذان في التشريع الإسلامي...... 123

تاريخ تشريع الأذان في أحاديث أهل البيت عليهم السلام..... 125

كيفيّة تشريع الأذان عند أهل السنّة.... 129

استعراض ما روي في كيفية تشريع الأذان في السنن.... 131

تحليل مضمون الروايات بوجوه........ 135

الأول : لا تتّفق هذه الروايات مع مقام النبوّة... 135

الثاني : أنّها متعارضة جوهرا.... 136

الثالث : انّ الرائي كان أربعة عشر شخصا لا واحدا... 138

الرابع : التعارض بين نقل البخاري وغيره...... 138

ص : 574

مناقشة الأسانيد والروايات في الكتب السنة ...... 140

روايات الأذان في غير الكتب الستّة....... 144

المقام الثاني : التثويب في الأذان

دراسة تاريخ دخول التثويب في أذان صلاة الفجر........ 151

كلمات الأعلام في التثويب....... 159

خاتمة المطاف : بدعة تلو بدعة.... 163

حذف الحيعلة من الأذان... 165

4. القبض

بين البدعة والسنة

حكم القبض في الصلاة.... 169

القبض بدعة محدثة........ 170

1. حديث أبي حميد الساعدي......... 171

2. حديث حمّاد بن عيسى..... 173

دليل القائلين بلزوم القبض........ 175

1. حديث سهل بن سعد... 175

2. حديث وائل بن حجر... 177

3. حديث عبد الله بن مسعود...... 182

4. أحاديث ضعاف لا يحتجّ بها..... 183

ص : 575

الآن حصحص الحق....... 191

أحاديث أئمة أهل البيت عليهم السلام في القبض........ 192

5. البسملة

جزئيّتها والجهر بها

البسملة في اللغة والاصطلاح...... 197

فضل البسملة..... 199

أقوال الفقهاء في جزئيّة البسملة.... 200

البسملة جزء من الفاتحة... 203

السبع المثاني هي فاتحة الكتاب..... 207

فاتحة الكتاب سبع آيات مع البسملة...... 211

روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام حول البسملة...... 212

التسمية ولزوم الجهر بها... 215

أئمّة أهل البيت عليهم السلام والجهر بالبسملة.... 220

حجّة القائلين بعدم جزئية البسملة وحكم الجهر بها....... 222

ما يزيّفه التأريخ الصحيح......... 227

البسملة جزء من مفتتح كلّ سورة........ 230

ص : 576

6. السجود على الأرض

السجود على الأرض مظهر ناصع من مظاهر العبودية..... 234

اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه......... 236

الفرق بين المسجود له والمسجود عليه..... 241

السجدة في اللغة... 243

سرّ كشف الجبهة في السجدة..... 244

السجود في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومراحل بعد السجود......... 248

المرحلة الأولى : السجود على الأرض..... 249

تبريد الحصى للسجود عليها....... 250

الأمر بالتتريب..... 251

الأمر بحسر العمامة عن الجبهة..... 252

سيرة النبي في السجود..... 253

سيرة الصحابة والتابعين في السجود....... 255

المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخُمُر والحُصر........ 258

المرحلة الثالثة : السجود على الثياب لعذر........ 260

حصيلة البحث.... 262

ما هو السرّ في اتّخاذ تربة طاهرة ......... 264

ص : 577

خاتمة المطاف : يذكر فيها أمران... 268

1. فرض العقيدة والفقه على الزائر....... 268

2. صيرورة السنّة بدعة... 269

7. الجمع بين الصلاتين

أقسام الجمع بين الصلاتين........ 275

الجمع بين الصلاتين في عرفة والمزدلفة..... 276

الجمع بين الصلاتين في السفر..... 277

الجمع بين الصلاتين في الحضر لأجل العذر........ 281

الجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا..... 285

التنويع في الوقت في فقه السنّة..... 289

من يوافق الإمامية بعض الموافقة من السنة......... 289

من يوافق الإمامية تمام الموافقة من السنّة.... 290

الكتاب والجمع بين الصلاتين..... 291

السنّة والجمع بين الصلاتين في الحضر اختيارا..... 293

تبريرات غير ناجحة لرفض الجمع بين الصلاتين... 301

1. ترك الجمهور العمل بها..... 302

2. الحديث لا ينص على جمع التقديم والتأخير........ 304

ص : 578

3. كان الجمع بين الصلاتين جمعا صوريا...... 306

أدلّة الشوكاني على أنّ الجمع كان صوريّا...... 308

4. كان الجمع لعذر المطر...... 310

5. كان الجمع للغيم في السماء........ 312

6. كان الجمع لمرض... 312

7. كان الجمع لأحد الأعذار المبهمة... 314

أسئلة وأجوبة...... 317

الأوّل : الجمع وحديث « حنش »..... 317

الثاني : الجمع وحديث ليلة التعريس.... 318

الثالث : حديث حبيب بن أبي ثابت لا يحتجّ به....... 319

8. القصر في السفر

هل القصر في السفر عزيمة أو رخصة؟.... 323

أدلّة القول بأنّ القصر عزيمة....... 329

قصر الصلاة بمنى... 337

أدلّة القائلين بأنّ القصر رخصة.... 341

الاحتجاج بفعل عثمان وعائشة.... 349

ص : 579

9. إفطار المسافر في شهر رمضان

الإفطار في السفر......... 355

الكتاب وصوم رمضان في السفر... 358

الاستدلال بالآية على أن الإفطار في شهر رمضان للمسافر عزيمة......... 360

تفسير قوله : ( وان تصوموا خير لكم )........ 368

السنّة وصوم رمضان في السفر..... 372

ما اتّخذ ذريعة لجواز الصوم في السفر..... 377

10. صلاة التراويح

التراويح لغة واصطلاحا.... 383

قيام ليالي رمضان بالتطوع سنّة مؤكّدة.... 384

خير صلاة المرء في بيته إلاّ المكتوبة........ 386

صلاة التراويح جماعة عند الإماميّة........ 391

صلاة التراويح جماعة عند أهل السنّة...... 394

صلاة التراويح جماعة في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم......... 397

ص : 580

الاختلاف في عدد الليالي وتواليها ومواضعها...... 400

عدم إناطة التشريع برغبة الناس.... 401

مخالفة التعليل لنداء المعراج........ 402

رغبة الصحابة لا يكون ملاكا للتشريع في حقّ الأجيال.... 403

القدر المتيقّن من فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم........ 404

صلاة التراويح بين اللغوية وعدم التشريع......... 405

الاختلاف الكبير في عدد ركعاتها......... 407

صلاة التراويح جماعة في كلام عمر....... 410

التشريع مختص بالله سبحانه....... 414

استنباط مشروعيتها من تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم....... 415

خاتمة المطاف : وفيه أمور

الأمر الأول : إقامة التراويح جماعة غفلة عن حكمة الله.... 417

الأمر الثاني : تقديم المصلحة على النصّ.... 420

الأمر الثالث : تقسيم البدعة إلى الحسنة والسيئة بدعة..... 421

الأمر الرابع : بين السنة والبدعة... 422

11. متعة الحجّ

المتعة وأقسامها..... 425

ص : 581

أقسام الحج الثلاثة........ 427

الأوّل : في بيان الأحكام الواردة في الآية... 432

إتمام الحج والعمرة لله...... 432

إذا أحصر بالعدو أو المرض....... 434

لا يتحلّل قبل الذبح....... 435

حكم المريض ومن برأسه أذى..... 436

التمتّع بالعمرة إلى الحجّ.... 436

الفاقد للهدي...... 437

التمتع بالعمرة إلى الحجّ وظيفة الآفاقي..... 438

الثاني : متعة الحجّ سنّة أبدية....... 439

الثالث : سيرة العرب قبل الإسلام في الحجّ........ 443

الرابع : احتدام النزاع بين الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم......... 445

الخامس : عودة التقاليد الجاهلية... 448

حجّ التمتع على عهد عثمان....... 454

السادس : الصحابة وتحريم متعة الحج...... 455

التمتّع بالعمرة إلى الحج وشروطه......... 460

السابع : التبريرات المختلقة للحظر المفروض....... 462

1. فسخ الحجّ إلى العمرة...... 462

ص : 582

2. اختصاص التمتّع بالصحابة......... 463

3. عزوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطروء النسيان على الصحابة...... 464

خاتمة المطاف : في أُمور.... 466

الأوّل : المراد من « رجل » هو مر بن الخطاب........ 466

الثاني : الفرق بين إحرام علي وإحرام أبي موسى....... 466

الثالث : ان في حظر متعة الحج لعبرة لمن سبر التاريخ... 467

الرابع : هل الخليفة حرم خصوص التحلل بين العمرة والحج؟... 470

12. متعة النساء أو الزواج المؤقت

الغريزة الجنسية بين التحديد والإباحة الغربية...... 475

كلمة « راسل » والزواج المؤقت......... 479

آراء الفقهاء في الزواج المؤقت..... 481

الزواج الؤقت ، تعريفها ونبذ من أحكامها........ 482

الزواج المؤقت في صدر الإسلام... 486

المتعة في الذكر الحكيم..... 488

ص : 583

القرائن الست على أن المراد من قوله ( فما استمتعتم ) هو عقد النكاح المؤقت لا التلذذ الجنسي 491

المتعة في السنّة النبوية...... 501

المتعة في التفاسير غير الروائية...... 506

شبهات وحلول.... 508

الشبهة الأولى : المتعة وتكوين الأسرة... 508

الشبهة الثانية : المتعة خارجة عنالحصر المحلل.... 513

الشبهة الثالثة : لو كانت زوجة لمذا لا ينفق عليها ولا ترث؟... 515

الشبهة الرابعة : لو كانت جائزة لما أمر بنكاح الإماء والاستعفاف..... 518

الشبهة الخامسة : اندراج المتعة ضمن السفاح... 520

الشبهة السادسة : المتمتع يقصد السفح لا الإحصان.... 523

الشبهة السابعة : نسخ النبي حلية المتعة......... 525

الشبهة الثامنة : الزواج المؤقت ومشكلة الإنجاب....... 543

الشبهة التاسعة : اكذوبة المتعة الدورية......... 545

الشبهة العاشرة : تحاشي الأشراف عن تعاطيها........ 547

خاتمة المطاف : في توجيه نهي الخليفة...... 550

الفهارس... 553

1. فهرس المصادر...... 555

2. فهرس المحتويات.... 571

ص : 584

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.