مناظرات شیخ الشریعة الاصفهانی مع السید محمود شکری الآلوسی

هوية الكتاب

بطاقة تعريف:الشریعة الاصفهاني، فتح الله بن محمدجواد، 1266-1339ق.

عنوان المؤلف واسمه:مناظرات شیخ الشریعة الاصفهاني مع السید محمود شکري الآلوسي: رسائل فی اثبات وجود الحجةالمنتظر(عج)الله تعالی فرجه الشریف.../ المولف الشریعة الاصفهاني؛ قدم لها و علق علیها جعفر السبحاني؛ التحقیق الجنه العلمیه فی موسسة الامام الصادق علیه السلام.

تفاصيل النشر:قم: موسسه الامام صادق (ع)، 1439ق.= 2018م.= 1397.

مواصفات المظهر:367ص.

شابک:978-964-357-619-6

حالة الاستماع:فاپا

لسان:العربية.

ملحوظة:ببليوغرافيا مع ترجمة.

عنوان آخر: رسائل في اثبات وجود الحجة المنتظر(عج) الله تعالي فرجه الشریف... .

موضوع:الشریعة الاصفهاني، فتح الله بن محمدجواد، 1266-1339ق -- مناظره ها

موضوع:الآلوسي، محمود شکري، 1857 - 1924م -- المناقشات

موضوع:Alusi, Mahmud Shukri -- Debates

موضوع:محمدبن حسن (عج)، امام دوازدهم، 255ق. - -- دفاعیه ها

موضوع:Muhammad ibn Hasan, Imam XII -- Apologetic works

موضوع:مهدویت-- انتظار -- دفاعیه ها و ردیه ها

Mahdism--*Waiting -- Apologetic works

معرف المضافة:السبحاني التبریزي، جعفر، 1308 -

معرف المضافة:Sobhani Tabrizi, Jafar, 1929-

معرف المضافة:موسسة الامام صادق (ع). گروه علمی تحقیق

تصنيف الكونجرس:BP22 4/4

تصنيف ديوي:297/462

رقم الببليوغرافيا الوطنية:5879845

معلومات التسجيل الببليوغرافي:فاپا

محرر الرقمي: میثم الحیدري

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

شريعت اصفهانى، فتح اللّٰه بن محمد جواد، 1266-1339 ق

مناظرات شيخ الشريعة الاصفهاني مع السيد محمود شكري الآلوسي / تقديم وإشراف وتعليق جعفر السبحاني؛ تحقيق اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام. - قم: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، 1397.

367 ص. 6-619-357-964-978: ISBN

فهرست نويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتابنامه به صورت زيرنويس.

1. آلوسى، سيد محمود شكرى بن عبداللّٰه، 1273-1342 ق. -- نقد و تفسير. 2. مهدويت.

3. امامت. 4. شيعه -- دفاعيه ها ورديه ها. الف. سبحانى تبريزى، جعفر، 1308 - ناظر، مقدمه و تعليقه نويس. ب. مؤسسه امام صادق عليه السلام. ج. عنوان: رسائل في اثبات وجود الحجة المنتظر عجل اللّٰه تعالى فرجه الشريف وإمامته،... د. عنوان.

8 م 4 ش/ 224 BP 297/462

1397

اسم الكتاب: مناظرات شيخ الشريعة الاصفهاني مع السيد محمود شكري الآلوسي

المؤلف: شيخ الشريعة الاصفهاني

تقديم و إشراف وتعليق: العلّامة المحقّق جعفر السبحاني

الطبعة: الأُولى

تاريخ الطبع: 1397 ه ش / 1439 ه. ق / 2018 م

المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

عدد الصفحات: 367 صفحة

القطع: وزيري

عدد النسخ: 1000 نسخة

التنضيد والإخراج الفني: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام - السيد محسن البطاط

تسلسل النشر: 1003 تسلسل الطبعة الأُولى: 480

مركز التوزيع

قم المقدسة: ساحة الشهداء: مكتبة التوحيد

? 7745457؛ 09121519271

http://www.Tohid.ir

http://www.imamsadiq.org

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المشرف: المستقبل المشرق للصالحين

الحمد للّٰه ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على سيّد المرسلين وآله الطاهرين، ثم الصلاة والسلام على المهدي الذي وعد اللّٰه به الأُمم، قال تعالى: «وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ اَلصّٰالِحُونَ».(1)

فالآية تبشّر بقيام دولة إسلامية كريمة عالمية، يديرها الصالحون من عباد اللّٰه تعالى، وأنّهم سيرثون الأرض كلّها بعد فسادها ويقول: «وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي اَلزَّبُورِ» : أي فرضنا على أنفسنا وراثة الصالحين الأرض بتمامها، وأخبرنا عنها في كتابين سماويين: في الزبور، والآخر «مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ» : أي التوراة، وأمّا هو المفروض؟ فهو «أَنَّ اَلْأَرْضَ» بعامّة أجزائها «يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ اَلصّٰالِحُونَ».

فالموروث هو الأرض بتمامها، وأُريد من الوراثة هو السلطة عليها بعد سلطة الآخرين، والوقوف على مغزى هذا الوعد رهن ما ورد في الزبور بعيداً عن التحريف، لأنّ يد التحريف لعبت في التوراة والإنجيل دون زبور داود عليه السلام، فقد جاء فيه: حِدْ عن الشر، وافعل الخير، واسكُن إلى الأبد، لأنّ الرب يحبّ الحقّ ولا يتخلّى عن أتقيائه، إلى الأبد يُحفظون، أمّا نسل الأشرار فينقطع. الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد. (إلى قوله):

ص: 7


1- . الأنبياء: 105.

انتظر الرب واحفظ طريقه فيرفعك لترث الأرض إلى انقراض الأشرار.(1)

ومن قرأ هذا الباب من المزامير وتأمّل في فقراته يقف على أنّها تُخبر عن دولة مباركة في الأرض تدور على انقراض الأشرار ووراثة الأرض للأخيار.

وبذلك يعلم أنّ القول بأنّ الآية مسوقة لوعد المؤمنين بميراث الأرض التي لقوا فيها الأذى وهي أرض مكة وما حولها، فتكون بشارة بصلاح حالهم في الدنيا بعد بشارتهم بحسن معادهم في الآخرة، بعيد جدّاً عن مساق ما ورد في الزبور.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا قوله سبحانه: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ»(2) ، وقوله سبحانه: «هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ»(3) ، وقوله سبحانه: «وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضىٰ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ * وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ».(4)

ففي الآية الأخيرة شاهدان على أنّ المراد من الاستخلاف هو

ص: 8


1- . الكتاب المقدس: مزامير داود برقم 37، الفقرات: 27 و 28 و 30 و 34.
2- . القصص: 5.
3- . التوبة: 33؛ الفتح: 28؛ الصف: 9.
4- . النور: 55-56.

الاستخلاف في أرض الدنيا حيث يقول أوّلاً: «وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً» ، ثم قال: «يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» ، وكلّ ذلك لا ينسجم إلّامع الاستخلاف في الأرض (الدنيا) ووراثتها. فلو كان مجموع هذه الآيات ناظراً إلى أمر واحد، يلزم القول بأنّه سبحانه وعد المؤمنين بوراثة تمام الأرض في برهة من الزمن، يسلّط اللّٰه المؤمنين على بركات الأرض ومنافعها ويعبدون اللّٰه فيها ولا يشركون به أبداً.

هذا ما وعد اللّٰه به سبحانه عباده المؤمنين، إنّما الكلام حول الزمان الذي يتحقّق فيه وعد اللّٰه سبحانه، فهل تحقّق منذ أخبر سبحانه أو لا؟

لا شكّ أنّه لم يتحقّق لحد الآن ما وعد به سبحانه بمعنى أن يسود الإيمان والعدل على المجتمع البشري عامّة، ولم ير من الكفر والظلم شيءٌ، فعلى هذا فلا محيص من القول بأنّ هذه الفترة، هي الزمن الذي يسود فيه العدل والأمن أرجاء المعمورة بقيادة المهدي المنتظر عليه السلام، وعندها لا نجد للظلم والجور أثراً. هذا وأنّ الحديث النبوي يتكفّل ببيان ذلك اليوم الذي يتحقّق فيه الوعد الإلهي.

ولأجل إكمال البحث يلزمنا دراسة الموضوع في فصول خمسة:

الأوّل: حديث خروج المهدي عليه السلام في كتب أهل السنّة.

الثاني: تصاريح علماء أهل السنّة بولادة الإمام المهدي عليه السلام.

الثالث: مَن رأى المهدي عليه السلام قبل غيبته.

الرابع: قصة القصيدة البغدادية وما حولها من الردود، نظماً ونثراً.

الخامس: الاعتراض على المهدي عليه السلام ذريعة لإنكار النصّ على الإمامة.

ص: 9

1- حديث خروج المهدي عليه السلام في كتب أهل السنّة

اشارة

قد أخرج حديث الإمام المهدي عليه السلام، ظهوره وخروجه، جمع من علماء السنّة في كتبهم وها نحن نذكر نزراً منها:

1. روى عبد اللّٰه بن أحمد، عن أبيه قال: حدّثنا حجّاج وأبو نعيم... قال حجّاج: سمعت عليّاً رضى الله عنه يقول: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم بعث اللّٰه عزّ وجلّ رجلاً يملأها عدلاً كما ملئت جوراً». قال أبو نعيم:

«رجلاً منّا».(1)

2. روى الترمذي بسنده عن زرّ، عن عبد اللّٰه، قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لا تذهب الدنيا حتّى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي».(2)

3. وروى الترمذي أيضاً بنفس السند عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «يلي رجلٌ من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي».(3)

4. روى أبو داود وابن ماجة في سننهما عن أُمّ سلمة، قالت: سمعت

ص: 10


1- . مسند أحمد: 99/1، المطبعة الميمنية. وج 117/2-118، الحديث 773، طبعة دار المعارف بمصر.
2- . سنن الترمذي: 343/3، كتاب الفتن، باب (44) ما جاء في المهدي، الحديث 2331.
3- . سنن الترمذي: 343/3، كتاب الفتن، باب (44) ما جاء في المهدي، الحديث 2332.

رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «المهديّ من عترتي من ولد فاطمة».(1)

5. روى أبو داود بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «المهديّ منّي، أجلىٰ الجبهة، أقنىٰ الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يملك سبع سنين».(2)

6. روى الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «ينزل بأُمّتي في آخر الزمان بلاءٌ شديدٌ من سلطانهم لم يُسمع بلاءٌ أشدّ منه، حتى تضيق عليهم الأرض الرحبة، وحتّى يملأ الأرض جوراً وظلماً، لا يجد المؤمن ملجأً يلتجئ إليه من الظلم، فيبعث اللّٰه عزّ وجلّ رجلاً من عترتي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، يرضىٰ عنه ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدخر الأرض من بذرها شيئاً إلّاأخرجته، ولا السماء من قطرها شيئاً إلّاصبّه اللّٰه عليهم مدراراً...» قال الحاكم بعد ذكر الحديث: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه.(3)

7. روى ابن ماجة في سننه بسنده عن أبي هُريرة، قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «لو لم يبق من الدنيا إلّايوم لطوّله اللّٰه عزّ وجلّ حتى يملك رجلٌ من أهل بيتي، يملك جبل الديلم والقسطنطينيّة».(4)

8. أخرج ابن عساكر بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم:

ص: 11


1- . سنن أبي داود: 310/2، كتاب المهدي، الحديث 4284؛ سنن ابن ماجة: 1368/2، كتاب الفتن، الباب 34، الحديث 4086.
2- . سنن أبي داود: 310/2، كتاب المهدي، الحديث 4285. أقول: وفي مدّة ملكه قول آخر أيضاً.
3- . المستدرك: 465/4؛ الصواعق المحرقة: 161، الآية الثانية عشرة.
4- . سنن ابن ماجة: 928/2-929، كتاب الجهاد، الباب 11، الحديث 2779.

«كيف تهلك أُمّة أنا أوّلها وعيسى في آخرها والمهدي في وسطها».(1)

9. روى السيوطي في العُرف الوردي، قال: أخرج أبو نعيم والحاكم عن أبي سعيد أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «يخرج المهدي في أُمّتي يبعثه اللّٰه غياثاً للناس، تنعم الأُمّة، وتعيش الماشية، وتخرج الأرض نباتها».(2)

10. وفي مسند أحمد، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «لاتقوم الساعة حتّى يملك رجلٌ من أهل بيتي، أجلىٰ، أقنىٰ، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت قبله ظلماً، يكون سبع سنين».(3)

هذه عشرة كاملة اكتفينا بها، وإلّا فما يدل على ظهور المهدي أكثر بكثير من ذلك، فقد جمع شيخنا الجليل آية اللّٰه الصافي ما ورد من الأحاديث والآثار حول ظهور المهدي في فصول مختلفة؛ فناهز عددها 785 حديثاً وأثراً.(4)

***

إنّ علماء أهل السنة قاطبة - إلّاالشواذ منهم - مذعنون بصحّة أحاديث المهدي عليه السلام، وقد أخرجوا الأحاديث المبشّرة بظهوره عليه السلام في آخر الزمان، وألّفوا في ذلك كتباً ورسائل.

فأوّل مَن ألف كتاباً مستقلاً في موضوع الإمام المهدي عليه السلام من علماء السنّة هو نعيم بن حمّاد الذي توفّي سنة 226 ه، أو 228 ه، وهو شيخ

ص: 12


1- . تاريخ ابن عساكر: 62/2.
2- . العرف الوردي: 132/2.
3- . مسند أحمد: 17/18؛ عقد الدرر: 35، الباب 2.
4- . لاحظ: منتخب الأثر: 335/1 وما بعدها.

البخاري. وقد صرّح غير واحد بصحّة أحاديث المهدي عليه السلام نذكر منهم:

1. الترمذي (المتوفّى 297 ه) قال عن ثلاثة أحاديث في الإمام المهديّ: هذا حديث حسن صحيح. وقال عن حديث رابع: هذا حديثٌ حسن.(1)

2. الحاكم النيسابوري (المتوفّى 405 ه)، قال عن أربعة أحاديث: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه. وعن ثلاثة أحاديث: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرّجاه. وعن ثمانية أحاديث: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه.(2)

3. البيهقي (المتوفّى 458 ه) قال: والأحاديث على خروج المهدي أصحّ إسناداً.(3)

4. البغوي (المتوفّى 510 ه) أخرج حديثاً في المهدي عليه السلام في فصل الصحاح، وخمسة أحاديث فيه أيضاً في فصل الحسان من كتابه مصابيح السنّة.(4)

والإمام البغوي يصفه صاحب المنار بأنّه محيي السنّة.

5. المفسّر أبو عبد اللّٰه محمد بن أحمد القرطبي المالكي (المتوفّى 671 ه) وهو من القائلين بالتواتر، قال عن حديث ابن ماجة في المهدي:

ص: 13


1- . سنن الترمذي: 505/4-506، برقم 2230، 2231، 2232 و 2233.
2- . مستدرك الحاكم: 429/4، 465، 553، 558، 450، 557، 588، 429، 442، 457، 464، 502، 520، 554، و 557.
3- . الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد: 127.
4- . لاحظ: مصابيح السنة: 488، و 492-493.

إسناده صحيح، مصرّحاً بأنّ حديث المهدي من ولد فاطمة هو أصحّ من حديث محمد بن خالد الجندي.(1)

6. ابن تيمية (المتوفّى 728 ه) قال: إنّ الأحاديث التي يحتجّ بها الحلّي على خروج المهدي أحاديث صحيحة.(2)

7. الحافظ الذهبي (المتوفّى 848 ه) قد سكت عن جميع ما صحّحه الحاكم في مستدركه من أحاديث المهدي، مصرّحاً بصحّة حديثين.(3)

8. الحافظ أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري السجزي (المتوفّىٰ 363 ه) في «مناقب الشافعي»، قال: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم في المهدي، وأنّه من أهل بيته.(4)

9. محمد صدّيق خان القنّوجي (المتوفّى 1307 ه)، قال: إنكار ذلك (خروج المهدي) جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة حدّ التواتر.(5)

10. ناصر الدين الألباني الشامي (معاصر) نشر بعنوان: «حول المهدي» بحثاً في حقل: «من القرّاء وإليهم» من مجلة: «التمدّن الإسلامي» الدمشقية قال فيه: إنّ عقيدة خروج المهدي عقيدة ثابتة متواترة عنه صلى الله عليه و آله و سلم يجب الإيمان بها وأنّها من أُمور الغيب، والإيمان بها من صفات المتّقين... وإنّ إنكارها لا

ص: 14


1- . التذكرة بأحوال الموتىٰ وأُمور الآخرة: 701، باب ما جاء في المهدي.
2- . منهاج السنة: 211/4.
3- . تلخيص المستدرك: 553/4، 558، في هامش المستدرك.
4- . انظر: تهذيب الكمال: 149/25، الترجمة 5181.
5- . الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة: 145-146.

يصدر إلّامن جاهل أو مكابر.(1)

11. أحمد بن محمد بن الصدّيق الغماري، المغربي (المتوفّى 1380 ه)، قال، وهو يتّهم ابن خلدون بأنّ تشكيكه لم يكن إلّاتعصّباً على أهل البيت عليهم السلام ثمّ هو، مع ذلك، لا يجد سبيلاً إلى نفي فضيلة عن عليّ وآل بيته الأطهار، أو إلصاق عيب وخطأ بهم إلّابادر إلى ذلك، كما صنع هنا، وكما صنع في أحاديث المهدي المنتظر فراراً من إثبات كون المجدّد الذي يحيي اللّٰه به الدين آخر الزمان من آل عليّ.(2)

12. الدكتور عبد الباقي أحمد محمد سلامة، قال، تعليقاً على مَن يزعم أنّ خلوّ صحيحَي البخاري ومسلم من أحاديث المهديّ، يدلّ على عدم صحّتها، قال: لا أرىٰ لزاماً علينا نحن المسلمين أن نربط ديننا بهما، فلنفرض أنّهما لم يكونا، فهل تُشلّ حركتنا وتتوقّف دورتنا؟ لا، فالأُمّة بخير والحمد للّٰه، والذين جاءُوا بعد البخاري ومسلم استدركوا عليهما، واستكملوا جهدهما، ووزنوا عملهما، وكشفوا بعض الخلاف في صحيحيهما، وما زال المحدّثون في تقدّم علميّ، وبحث وتحقيق، ودراسة وجمع، ومقارنة وتمحيص، حتى يغمر الضوء كلّ مجهول، ويظهر كلّ خفيّ.

وأضاف، وهو يتّهم ابن خلدون بالمبالغة في تضعيفها كلّها وردّها: إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين، أو راوٍ أو راويين، إنّها مجموعة من الأحاديث والآثار تبلغ الثمانين تقريباً، اجتمع على تناقلها مئات الرواة، وأكثر من صاحب كتاب صحيح.

ص: 15


1- . لاحظ: مجلة التمدّن الإسلامي: ج 27-642/28، السنة 22، شهر ذي القعدة.
2- . علي بن أبي طالب إمام العارفين: 45، ط 1، مصر.

فلماذا نردّ كلّ هذه الكمية؟ أكلّها فاسدة؟ لو صحّ هذا الحكم لانهار الدين - والعياذ باللّٰه - نتيجة تطرّق الشكّ والظنّ الفاسد إلى ماعداها من سنّة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

ثمّ إنّ في تقديره بأنّ روايات المهدي تبلغ الثمانين إنّما هو في نظره، ولو تتبّع الموسوعات الحديثية لوجد أنّ عدد الروايات أكثر بكثير ممّا ذكر.

ولنقتصر بهذا المقدار، ومن رغب في التفصيل فليراجع الموسوعات التي أُلفت حول الإمام المهدي عليه السلام ومنها: منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر لآية اللّٰه الشيخ لطف اللّٰه الصافي، كما سيجد في كتاب «واحة اليقين» للأُستاذ حيدر البغدادي ما فيه غنى وكفاية.(2)

ونحن نقتصر بذكر هؤلاء وتصريحاتهم وإلّا فمَن تتبّع كلمات أعلام السنّة يجد أنّ كثيراً منهم صحّحوا أحاديث المهدي عليه السلام.

نقد كلام صاحب المنار

ذكر صاحب المنار - عند بحثه في أحاديث الإسرائيليات -: أمّا التعارض في أحاديث المهدي فهو أقوى وأظهر، والجمع بين الروايات فيه أعسر، والمنكرون لها أكثر، والشبهة فيها أظهر، ولذلك لم يقيّد الشيخان بشيء من رواياتها في صحيحهما.

ثم نقل كلام ابن خلدون الذي هو المبتكر لإنكار الروايات وتضعيفها، وفي نهاية المقام نسب إلى الشيعة أنّهم يقولون: هو محمد بن الحسن

ص: 16


1- . لاحظ: بين يدي الساعة: 123-125.
2- . لاحظ: واحة اليقين: 575-580، طبعة مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، قم، 1434 ه.

العسكري، ويقولون دخل السرداب في دار أبيه في مدينة سرمن رأى التي تُسمّىٰ الآن سامراء سنة 265 ه وله من العمر تسع سنين، وأنّه لا يزال في السرداب حيّاً... إلى آخر ما ذكره.(1)

أقول: أوّلاً: ما ذكره أخيراً فيه اشتباه واتّهام، أمّا الاشتباه فإنّما غاب الإمام الثاني عشر عليه السلام عن الأنظار كغيبة المسيح، سنة 260، لا 265 ه، وأمّا التهمة فقوله: إنّه لا يزال في السرداب حيّاً. فاللّٰه سبحانه يحاسبه على هذه التهمة، إذ أن باب السرداب مفتوح للزائرين فكيف يكون فيه، وإنّما السرداب كان مكان عبادة له ولأبيه، وهو غاب عن الأنظار بعناية من اللّٰه سبحانه خارجاً عن السرداب.

وثانياً: ما نسبه إلى الشيخين من أنّهما لم يعتّدا بروايات المهدي (عج) غير صحيح فإنّ البخاري أشار إليه حيث روى عن أبي هريرة قول رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم وإمامكم منكم».(2)

ورواه مسلم أيضاً.(3)

وثالثاً: أنّ ما ذكره عن ابن خلدون فهو يعرب عن قصوره عمّا ورد حول المهدي من الروايات الصحيحة.

وقد مرّ تصريح أعلام أهل السنّة بتواتر أحاديث المهدي عليه السلام أو صحّتها.

ص: 17


1- . تفسير المنار: 489/9-501.
2- . صحيح البخاري: 168/4، باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام.
3- . لاحظ: صحيح مسلم: 94/1، باب نزول عيسى عليه السلام.

2- تصاريح علماء أهل السنّة بولادة

الإمام المهدي عليه السلام قد ذكرنا أحاديث المهدي، كما ذكرنا تأكيد عدد كبير من علماء السنّة على تواترها، فصارت النتيجة أنّ ظهور المهدي عليه السلام أمر حتميّ في الظروف التي ورد وصفها في تلك الأحاديث. وهنا موضوع مهم آخر، وهو أنّ المهدي الذي ورد ذكره في تلك الأحاديث هل أنّه ولد والآن حيّ يرزق، أو أنّه سيولد في آخر الزمان؟ فالإمامية قاطبة على القول الأوّل، وأمّا علماء السنّة فقد أقرّ جمع كثير من فحول المحدّثين والعلماء على ولادته، فلو حاولنا نقل أكثر ما ظفرنا بأقوالهم لطال بنا الكلام، وطال مقامنا مع القرّاء، وإنّما يجب علينا بذكر أسماء عدد منهم مع ذكر كتابه، وبذلك يتبين أنّ القول بولادة الإمام المهدي ليس من خصائص الإمامية؛ بل هو قول مشترك بينهم وبين جمع غفير من علماء أهل السنّة، وإليك هذه القائمة من أسماء هؤلاء الأعلام مرتّبة حسب زمان وفيّاتهم.

1. محمد بن هارون أبو بكر الروياني (المتوفّى 307 ه)، في كتابه:

(المسند) وهو مخطوط.(1)

ص: 18


1- . نسخة مصورة عن مخطوطة في مكتبة الأسد الوطنية - دمشق (مخطوطات المكتبة الظاهرية)؛ معجم أحاديث الإمام المهدي للكوراني: 490/2.

2. محمد بن أحمد بن أبي الثلج أبو بكر البغدادي (المتوفّى 322 ه) في: «تاريخ الأئمّة».(1)

3. الحسين بن حمدان أبو عبد اللّٰه الخصيبي (المتوفّى 334 ه)، وهو من أهل السنّة المنصفين، أفرد في كتابه «الهداية الكبرى» باباً في الإمام المهديّ عليه السلام وهو الباب الرابع عشر، أطلق عليه اسم (باب الإمام المهدي المنتظر عليه السلام) وقد تحدّث في هذا الباب عن ولادة الإمام المهدي عليه السلام وغيبته وظهوره وحكمه وصفاته، وما يتّصل به من أُمور أُخرى.(2)

4. الحافظ أبو محمد أحمد بن إبراهيم بن هاشم الطوسي البلاذري (استشهد بالطابران سنة 339 ه). له رواية عن (م ح م د) بن الحسن بن علي المحجوب إمام عصره.(3)

5. أبونصر سهل بن عبد اللّٰه البخاري (المتوفّى 341 ه) في: «سرّ السلسلة العلوية».(4)

6. الخوارزمي (المتوفّى 387 ه) في: مفاتيح العلوم: 32 و 33، طبعة ليدن (1895 م).

7. الحافظ محمد بن أحمد بن أبي الفوارس أبو الفتح البغدادي (المتوفّى 413 ه) في أربعينه، الحديث رقم 4، أعني قول رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم:...

ص: 19


1- . تاريخ الأئمّة: 15، طبعة مكتبة آية اللّٰه المرعشي - قم، 1406 ه.
2- . لاحظ: الهداية الكبرى: 353-437، الباب الرابع عشر.
3- . كشف الأستار: 179؛ منتخب الأثر: 376/2-377؛ أعيان الشيعة: 69/2، وفيهما: (استشهد بالطاهران).
4- . سرّ السلسلة العلوية: 35، المطبعة الحيدرية، النجف، 1381 ه.

ومن أحبّ أن يلقى اللّٰه عزّ وجلّ وقد كمل إيمانه وحسن إسلامه فليتول ابنه [المنتظر محمداً] صاحب الزمان المهدي.(1)

8. أبو بكر أحمد بن الحسين المعروف بالبيهقي الخسروجردي النيسابوري، الفقيه الشافعي (المتوفّى 458 ه)، ذكر في كتابه «شعب الإيمان» أقوال طوائف الناس حول المهدي، ويظهر من كلامه الميل إلى قول الإمامية، بل اختياره، وإلّا لأنكره.(2)

9. أبو محمد عبد اللّٰه بن أحمد بن محمد بن الخشاب البغدادي (المتوفّى 567 ه) روى في كتابه «تاريخ مواليد الأئمّة ووفياتهم»، عن الرضا عليه السلام، قال: «الخلف الصالح من ولد أبي محمد الحسن بن علي وهوصاحب الزمان وهو المهدي».(3)

10. الموفق بن أحمد الخطيب الخوارزمي الحنفي (المتوفّى 568 ه) قال بذلك في: «مقتل الحسين عليه السلام».(4)

11. يحيى بن سلامة الخصفكي الشافعي (المتوفّى 568 ه)، كما في «تذكرة الخواص» للعلّامة سبط ابن الجوزي.(5)

12. عبد اللّٰه بن محمد المفارقي (المتوفّىٰ 590 ه) المعروف بابن الأزرق في: تاريخ ميافارقين، كما في «وفيات الأعيان» لابن خلكان.(6)

ص: 20


1- . كشف الأستار: 167-171؛ منتخب الأثر: 383/2.
2- . منتخب الأثر: 374/2-375، الهامش.
3- . تاريخ مواليد الأئمّة ووفياتهم: 44-45.
4- . مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: 212/1، ف 7، ح 7؛ كشف الأستار: 233.
5- . تذكرة الخواص: 360.
6- . وفيات الأعيان: 562/1.

13. ياقوت الحموي (المتوفّى 626 ه) في: «معجم البلدان» قال في مدينة سامراء: (وبها السرداب المعروف في جامعها الّذي تزعم الشيعة أنّ مهديّهم يخرج منها).

ثمّ قال: وبسامراء قبر الإمام عليّ بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر، وابنه الحسن بن عليّ العسكريين، وبها غاب المنتظر في زعم الشيعة الإمامية.(1)

ثمّ إنّ قوله: (في زعم الشيعة)، أو: (الّذي تزعم الشيعة) لا يعني إنكار ولادة الإمام، بل يعني الشكّ في غيبته عليه السلام وإمامته. فهو مثل قول مَن يقول لغيره: زعمت أنّ النجف الأشرف تبعد عن كربلاء ثلاثة فراسخ! فهو - بقوله هذا - لا ينكر وجود مدينة اسمها النجف.

14. ابن الأثير الجزري عز الدين (المتوفّى 630 ه) في كتابه: «الكامل في التاريخ»، قال في حوادث سنة 260 ه: «وفيها تُوفّي أبو محمد العلوي العسكري، وهو أحد الأئمّة الاثني عشر على مذهب الإمامية، وهو والد محمد الّذي يعتقدونه المنتظر...».(2)

15. الشيخ محيي الدين المعروف بابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي (المتوفّى 638 ه) صاحب كتاب «الفتوحات المكيّة».

ذكر الشعراني عبارة ابن العربي، أعني قوله: واعلموا أنّه لابدّ من خروج المهدي عليه السلام، ثم قال: وهو من عترة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، من ولد فاطمة،

ص: 21


1- . معجم البلدان: 173/3 و 176 و 178، عند ذكره مدينة سامراء.
2- . الكامل في التاريخ: 274/7، في آخر حوادث سنة 260 ه.

جدّه الحسين بن علي ووالده الحسن العسكري... إلى آخر ما ذكره من النسب الطاهر.(1)

16. سعد الدين الحموي (المتوفّى 650 ه) في رسالة المهديّ المنتظر، كما في مرآة الأسرار للجامي.(2)

17. الشيخ كمال الدين أبو سالم محمد بن طلحة الشافعي القرشي النصيبي (528-652 ه)، قال في كتابه: «مطالب السؤول في مناقب آل الرسول»: عن الإمام العسكري عليه السلام: «أنّ المهدي محمّد نسله المخلوق منه، وولده المنتسب إليه، وبضعته المنفصلة عنه».(3)

18. الشيخ شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزاوغلي بن عبد اللّٰه، سبط الشيخ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي (المتوفّى 654 ه) قال في كتابه «تذكرة الخواص»: فصل: هو محمد بن الحسن بن علي... إلى أن انتهى إلى علي بن أبي طالب عليهم السلام... ثم قال: وهوالخلف الحجّة وصاحب الزمان القائم والمنتظر والتالي وهو آخر الأئمّة.(4)

19. الشيخ الحافظ أبو عبد اللّٰه محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي (المتوفّى 658 ه) صاحب كتاب «البيان في أخبار صاحب الزمان» وكتاب «كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب» فهو بعد ما ذكر الإمام

ص: 22


1- . لاحظ: اليواقيت والجواهر: 143/2، ط. مصر، 1378 ه؛ الفتوحات المكية: 327/3. وفي طبعة مصر يوجد تحريف واضح في عبارة ابن العربي؛ كشف الأستار: 148.
2- . كشف الأستار: 206 عن مرآة الأسرار: 31.
3- . مطالب السؤول في مناقب آل الرسول: 311، طبعة مؤسسة البلاغ، بإشراف السيد عبدالعزيز الطباطبائي.
4- . تذكرة الخواص: 506/2-512، كشف الأستار: 146.

الهادي عليه السلام وولده الإمام العسكري قال: وقبض يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأوّل سنة ستين ومائتين، وخلّف ابنه الإمام المنتظر صلوات اللّٰه عليه، ونختم الكتاب بذكره مفرداً.(1)

20. صدر الدين القونوي الرومي (المتوفّى 673 ه)، في قصيدته الرائية، وهو من كبار العرفاء والفلاسفة عند أهل السنّة، ذكر الإمام محمد بن الحسن المهديّ عليه السلام في قصيدته الرائية.(2)

21. ابن خلكان (المتوفّى 681 ه) في: «وفيات الأعيان»، قال: «أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري بن عليّ الهادي بن محمد الجواد، المذكور قبله، ثاني عشر الأئمة الإثني عشر على اعتقاد الإمامية المعروف بالحجّة.. كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين.. وذكر ابن الأزرق في (تاريخ مَيّافارقين) أنّ الحجّة المذكور ولد تاسع شهر ربيع الأيام سنة ثمان وخمسين ومائتين، وقيل في ثامن شعبان سنة ست وخمسين، وهو الأصحّ...».(3)

22. عزيز بن محمد النسفي الصوفي (المتوفّى 686 ه) في رسالته، كما في «ينابيع المودّة» للقندوزي الحنفي.(4)

23. الشيخ العارف عامر بن عامر البصري، نزيل (سيواس الروم) (المتوفّى 696 ه)، في تائيّته المسمّاة ب: ذات الأنوار.(5)

ص: 23


1- . ذيل كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب (المسمّى بالبيان في أخبار صاحب الزمان): 473.
2- . كشف الأستار: 217-220، برقم 31.
3- . وفيات الأعيان: 176/4، برقم 562.
4- . ينابيع المودّة: 143/3، الباب 87.
5- . كشف الأستار: 214-216، برقم 30.

24. الجويني الحمويني الشافعي (المتوفّى 732 ه).(1)

25. إسماعيل بن عليّ أبو الفداء (المتوفّى 732 ه) في كتابه:

«المختصر في أخبار البشر».(2)

26. شمس الدين محمد الذهبي (المتوفّى 748 ه) في: «العبر في خبر من غبر»، و «تاريخ دول الإسلام».

قال في (العِبر في خبر من غبر): «وفيها - أي: سنة 256 ه - ولد محمد بن الحسن بن عليّ الهادي بن محمد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني، أبو القاسم الذي تلقّبه الرافضة الخلف الحجّة، وتلقبه بالمهديّ والمنتظر، وتلقّبه بصاحب الزمان، وهو خاتمة الاثني عشر».(3)

27. ابن الوردي (المتوفّى 749 ه) في: ذيل تتمة المختصر المعروف بتاريخ ابن الوردي: 318/1، في حوادث سنة 254 ه، طبع مصر.

28. الشيخ صلاح الدين الصفدي (المتوفّى 764 ه) قال في «شرح الدائرة»: إنّ المهدي الموعود هو الإمام الثاني عشر من الأئمّة أوّلهم سيدنا عليّ عليه السلام، وآخرهم المهدي (رضي اللّٰه عنهم).(4)

29. عبد اللّٰه بن محمد المطيري الشافعي (المتوفّى 765 ه) في:

ص: 24


1- . فرائد السمطين: 337/2، طبعة بيروت.
2- . كشف الأستار: 23؛ المختصر في أخبار البشر: 45/2، (حوادث سنة 253 ه).
3- . العبر في خبر من غبر: 31/2، طبعة الكويت؛ وانظر: تاريخ دول الإسلام: 145.
4- . شرح الدائرة، كما في منتخب الأثر: 385/2، نقلاً عن ينابيع المودّة للقندوزي، الباب: 86؛ الوافي بالوفيات: 336/2.

«الرياض الزاهرة في فضل آل بيت النبيّ وعترته الطاهرة».(1)

30. عبد اللّٰه بن عليّ الشافعي اليافعي (المتوفّى 768 ه)، في: «مرآة الجنان» في حوادث سنة 260 ه، قال: «وفيها توفّي الشريف العسكري أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن عليّ بن موسى الرضا بن جعفر الصادق أحد الأئمّة الإثني عشر على اعتقاد الإمامية، وهو والد المنتظر عندهم، صاحب السرداب، ويعرف بالعسكري وأبوه أيضاً يعرف بهذه النسبة».(2)

31. عليّ بن شهاب بن محمد الهمداني (المتوفّى 786 ه) في: «مودّة القربىٰ وأهل العباد» (مخطوط).

32. محبّ الدين أبو الوليد محمد بن شحنة الحلبي الحنفي (المتوفّى 815 ه)، في: روضة المناظر في أخبار الأوائل والأواخر: 294/1، مطبوع في حاشية مروج الذهب بمصر، سنة 1303 ه.

33. الحافظ محمد بن محمد بن محمود البخاري الحنفي النقشبندي المعروف ب «خواجه پارسا»، (المتوفّى 822 ه). قال: وأبو محمد الحسن العسكري ولده (م ح م د) - رضي اللّٰه عنهما - معلوم عند خاصّة خواص أصحابه وثقات أهله.(3)

34. شهاب الدين أحمد بن شمس الدين بن عمر الزاوي الدولت آبادي الهندي الحنفي (المتوفّى 848 ه) صاحب تفسير: «البحر الموّاج

ص: 25


1- . كشف الأستار: 93.
2- . مرآة الجنان: 172/2، حوادث سنة 260 ه.
3- . كشف الأستار: 165؛ منتخب الأثر: 382/2.

والسراج الوهّاج»، في كتابه: «هداية السعداء في مناقب السادات».(1)

35. نور الدين علي بن محمد بن أحمد بن عبد اللّٰه المالكي المكّي المعروف بابن الصبّاغ (784-855 ه) صرّح في كتابه «الفصول المهمّة في معرفة أحوال الأئمّة) بولادته عليه السلام وتاريخها، وصرّح بأنّه الإمام الثاني عشر، وذكر جملة من الأحاديث الواردة في حقّه عليه السلام.(2)

36. عبد الرحمن البسطامي (المتوفّى 858 ه)، في: «درّة المعارف»، كما في «ينابيع المودّة» للقندوزي الحنفي، الباب 84.

37. سراج الدين محمد ابن السيد عبد اللّٰه بن محمد خزام الواسطي الرفاعي (المتوفّى 885 ه)، في: «صحاح الأخبار في نسب السادة الفاطمية الأخيار»، ص 143، طبع مصر لسنة 1306 ه.

38. نور الدين عبد الرحمن بن أحمد بن قوام الدين الدشتي، الجامي، الحنفي، صاحب شرح الكافية (817-898 ه)، وقد جعل في كتابه «شواهد النبوّة» الحجّة بن الحسن الإمام الثاني عشر.(3)

39. محمد بن داود النسيمي المنزلاوي (المتوفّى 901 ه).(4)

40. القاضي فضل اللّٰه بن روزبهان الخنجي الشافعي (المتوفّى بعد 909 ه) الذي كتب ردّاً على كتاب «كشف الحقّ ونهج الصدق» للعلّامة الحلّي، وأسمى ردّه ب «إبطال نهج الباطل»، وقد فرغ من تصنيفه عام 909 ه،

ص: 26


1- . لاحظ: إلزام الناصب: 321/1.
2- . الفصول المهمة: 1095/2، وما بعدها، تحقيق سامي الغريري، طبعة دارالحديث، قم.
3- . منتخب الأثر: 373/2؛ كشف الأستار: 159.
4- . ينابيع المودة: 566، الباب 86.

وذكر فيه الأئمة الاثني عشر، وقال في آخر أبياته:

سلام على السيد العسكري *** إمام يجهّز جيش الصفا

سلام على القائم المنتظر *** أبي القاسم القرم نور الهدىٰ

سيطلع كالشمس في غاسق *** ينجيه من سيفه المنتقىٰ(1)

41. جلال الدين محمد بن أسعد الفيلسوف الشافعي (المتوفّى 907 أو 918، أو 928 ه) في: «نور الهداية في إثبات الولاية»، المطبوع مع خصائص ابن بطريق لسنة 1211 ه، ومستقلاً في سنة 1275، طهران.

42. حسين بن علي، الملّا الكاشفي البيهقي (المتوفّى 910 ه)، في:

روضة الشهداء، الفصل الثامن، طبع دهلي، الهند.

43. جلال الدين السيوطي (المتوفّى 911 ه) في رسالته: «إحياء الميت بفضائل أهل البيت عليهم السلام».

44. شمس الدين محمد بن طولون (المتوفّى 953 ه) يقول:

وثاني عشرهم ابنه محمد بن الحسن،... بن الحسين بن علي رضي اللّٰه عنهم، وقد ذكرت المعتمد في أمر هذا في تعليقي «المُهدي إلى ما ورد في المهدي».(2)

45. الشيخ حسن العراقي (المتوفّى بعد 958 ه)، ذكره أبو المواهب عبد الوهاب الشعراني وقال عنه: المدفون فوق لحوم الريش، المطل على

ص: 27


1- . إلزام الناصب: 333/1.
2- . الأئمة الاثني عشر، لابن طولون: 118، طبعة دار صادر، ولاحظ كتاب الإمام المهدي عند أهل السنّة: 339.

بركة الرَّطلي بمصر المحروسة. وذكر أنّه اجتمع بالإمام المهدي عليه السلام.(1)

46. الشيخ علي الخوّاص البرلسي (المتوفّى بعد 958 ه)، ذكره أبو المواهب عبد الوهاب الشعراني، مع ذكره للشيخ حسن العراقي، وأشار إلى اجتماعهما بالإمام المهدي.(2)

47. حسين بن محمد الدياربكري القاضي المؤرخ (المتوفّى 966 ه) في: «تاريخ الخميس».(3)

48. الشيخ العارف الخبير أبو المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراني (المتوفّى 960 أو 973 ه)، قال: وهو [المهدي] من أولاد الإمام العسكري، ومولده عليه السلام ليلة النصف من شعبان سنة 255 ه.(4)

49. الشيخ ابن حجر الهيتمي المكّي (المتوفّى 974 ه)، قال في «الصواعق»، بعدما ذكر شيئاً من أحوال الإمام العسكري: ولم يخلف غير ولده: أبي القاسم محمد الحجّة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه اللّٰه فيها الحكمة.(5)

50. السيد جمال الدين عطاء اللّٰه بن السيد غياث الدين فضل اللّٰه بن السيد عبد الرحمن المحدّث المعروف (المتوفّى 1000 ه)، ذكر في كتابه

ص: 28


1- . كشف الأستار: 152 و 155؛ منتخب الأثر: 382/2.
2- . لاحظ: كشف الأستار: 157؛ منتخب الأثر: 382/2.
3- . تاريخ الخميس: 343/2، حوادث سنة 260 ه.
4- . كشف الأستار: 149-154؛ منتخب الأثر: 381/2، الهامش؛ اليواقيت والجواهر: 143/2، طبعة مصر، 1378 ه.
5- . الصواعق المحرقة: 208؛ منتخب الأثر: 371/2.

باللغة الفارسية «روضة الأحباب» ولادة الإمام المهدي في منتصف شعبان سنة 255 ه في سامراء، وأُمّه أُمّ ولد، المسمّاة بصيقل، أو سوسن، أو نرجس.(1)

51. أحمد بن يوسف أبو العباس القرماني الحنفي (المتوفّى 1019 ه)، في كتابه: «أخبار الدول وآثار الأُوَل».

قال في الفصل الحادي عشر (في ذكر أبي القاسم محمد الحجّة الخلف الصالح): وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، آتاه اللّٰه فيها الحكمة كما أُوتيها يحيى عليه السلام صبياً.(2)

52. العارف عبد الرحمن بن عبد الرسول بن القاسم الجشتي الصوفي (المتوفّى 1045 ه) في: مرآة الأسرار (مخطوط).(3)

53. أبو المجد عبد الحقّ بن سيف الدين الدهلوي البخاري الحنفي (958-1052 ه)، في: رسالة خاصّة بمناقب الأئمّة.(4)

54. عبد الملك بن حسين بن عبد الملك المكيّ العصامي (المتوفّى 1111 ه) في: «سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي».(5)

55. جمال الدين عبد اللّٰه بن محمد بن عامر الشبراوي الشافعي المصري (المتوفّى 1171 ه) قال في كتابه «الإتحاف بحب الأشراف»: الثاني

ص: 29


1- . منتخب الأثر: 371/2-372.
2- . أخبار الدول وآثار الأُول: 353/1-354، الفصل 11.
3- . كشف الأستار: 203-206، برقم 26؛ أعيان الشيعة: 68/2-69، برقم 10.
4- . كشف الأستار: 171-173، برقم 12.
5- . سمط النجوم العوالي: 150/4، طبعة دار الكتب، بيروت، 1419 ه؛ كشف الأستار: 238.

عشر من الأئمّة أبو القاسم محمد الحجّة الإمام. قيل: هو المهدي المنتظر.(1)

56. محمد بن عليّ الصبان الشافعي (المتوفّى 1207 ه) كما في:

«إسعاف الراغبين».(2)

57. المولوي علي أكبر بن أسد اللّٰه المودودي (المتوفّى 1210 ه)، من مشاهير علماء الهند ومن أعظم المتعصّبين الأشداء ضد الشيعة الإمامية، في:

«المكاشفات» وهو حواشي لكتاب نفحات الأُنس للجامي (327/7)، ضمن شرح حال ابن سهل الأصفهاني، والبحث في عصمة الأنبياء عليهم السلام، وفي الإمام المهديّ الموعود «عجل اللّٰه تعالى فرجه الشريف».

58. عبد العزيز بن ولي اللّٰه الدهلوي صاحب التحفة الاثنى عشرية (المتوفّى 1239 ه)، كما في استقصاء الأفهام للعلّامة مير حامد النيشابوري: 119، طبع لكهنو.

59. سليمان بن إبراهيم المعروف بالقندوزي الحنفي (المتوفّى 1270 ه)، كان القندوزي رحمه الله عالماً منصفاً، كما يظهر من كتابه القيّم: «ينابيع المودّة»، فقد أخرج فيه أحاديث كثيرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام في الإمام المهديّ عليه السلام، ونقل قول ابن حجر الهيتمي المتقدِّم في التسلسل رقم 49، ثمّ قال: «فالخبر المعلوم المحقّق عند الثقات أنّ ولادة القائم عليه السلام كانت ليلة الخامس عشر من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين في بلدة سامراء».(3)

60. مؤمن بن حسن بن مؤمن الشبلنجي الشافعي (المتوفّى بعد

ص: 30


1- . الاتحاف بحب الأشراف: 179، المطبعة الأدبية، مصر؛ منتخب الأثر: 393/2، الهامش.
2- . لاحظ: إسعاف الراغبين: 140.
3- . ينابيع المودّة: 114/3، آخر الباب 79.

1308 ه) في: «نور الأبصار في مناقب آل النبيّ الأطهار» فقد ذكر فيه اسم الإمام المهديّ، ونسبه الشريف الطاهر، وكنيته، وألقابه، ثمّ قال: «وهو آخر الأئمّة الإثني عشر على ما ذهب إليه الإمامية» ثمّ نقل عن ابن الوردي المتقدّم في التسلسل 27 قوله: «ولد محمد بن الحسن الخالص سنة خمس وخمسين ومائتين..».(1)

61. خير الدين الزركلي (المتوفّى 1396 ه)، قال في «الأعلام» تحت عنوان «المهديّ المنتظر»: «محمد بن الحسن العسكري الخالص بن عليّ الهادي أبو القاسم. آخر الأئمّة الإثني عشر عند الإمامية.. ولد في سامراء، ومات أبوه وله من العمر نحو خمس سنين.. وقيل في تاريخ مولده: ليلة نصف شعبان سنة 255، وفي تاريخ غيبته: سنة 265».(2)

62. تقي الدين بن أبي منصور، نقل عنه الشعراني في «اليواقيت» في أوّل الباب الخامس والستين، كما في «الإمام المهديّ في نهج البلاغة».

نكتفي بهذا المقدار ومن أراد المزيد فليرجع إلى المصادر التي ذكرناها.(3)

ص: 31


1- . نور الأبصار: 186.
2- . الأعلام للزركلي: 80/6.
3- . ذكر السيد ثامر هاشم العميدي (معاصر) في كتابه: «دفاع عن الكافي» أكثر من مائة وعشرين عالماً من علماء أهل السنة ذكروا ولادة الإمام المهدي (عج) في كتبهم. لاحظ: دفاع عن الكافي: 569/1-592، طبع مركز الغدير، قم، 1415 ه.

3- مَن رأى المهدي عليه السلام قبل غيبته

قد تبيّن ممّا سبق تواتر خبر خروج المهدي في فترة من الزمان، كما تواترت أخبار ولادته عن طريق محدّثي الشيعة والسنّة، وتعرّفت على أسماء مَن صرّح بولادته من أعلام أهل السنّة، بقي الكلام في الإشارة إلى مَن رآه قبل غيبته أيام كونه صبيّاً، فقد صرّح جمع من علمائنا بأسماء رجال عارفين رأوه بإذن الإمام العسكري عليه السلام:

1. إنّ الشيخ الكليني الذي عاش في الغيبة الصغرى عقد باباً في الجزء الأوّل من «الكافي» باسم «في تسمية مَن رآه عليه السلام» وذكر في المقام روايات تناهز 15 رواية.(1)

2. ألّف الشيخ الصدوق (306-381 ه) كتاباً في غيبة الحجّة عليه السلام أسماه ب «كمال الدين وتمام النعمة»، وقد عقد فيه باباً باسم: «ذكر مَن شاهد القائم ورآه وكلّمه»، أورد فيه أسماء 26 ممّن رآه قبل غيبته وذكر كيفية رؤيته وقصته.(2)

3. ألّف الشيخ الطوسي (385-460 ه) كتاباً باسم «كتاب الغيبة» في غيبة صاحب الزمان وسبب غيبته، إلى غير ذلك من المسائل، فعقد فيه فصلاً

ص: 32


1- . لاحظ: الكافي: 329/1.
2- . كمال الدين وتمام النعمة: 399-435.

أورد فيه من الأخبار المتضمّنة لمن رآه عليه السلام وذكر قصة 15 رجلاً ممّن رأوه.

غير أنّ بعض ما ذكره ترجع رؤيته إلى زمان غيبته.(1)

4. ألّف الشيخ المجلسي موسوعة كبيرة عديمة النظير أسماها «بحار الأنوار»، خصّص في الجزء الثاني والخمسين منها باباً ذكر فيه مَن رآه صلوات اللّٰه عليه. وقد ذكر في آخر الباب خبر سعد بن عبد اللّٰه ورؤيته للقائم.(2)

5. ألّف الحافظ الكبير السيد هاشم البحراني رسالة باسم «تبصرة الولي في مَن رأى القائم المهدي عليه السلام» وبسط الكلام وذكر أسماء 55 رجلاً ممّن رآه، وإن كان بعض مَن ذكره رآه بعد غيبته، وقد طبعت الرسالة في آخر كتابه «غاية المرام» فلاحظ.

6. وبما أنّ نقل كلّ ما ورد في هذه الكتب من القصص وأسماء الذين رأوه عليه السلام، يوجب التطويل، انبرى سيدنا محسن الأمين بتلخيص ما جاء في هذه الكتب مقتصراً بالأسماء، في موسوعة أعيان الشيعة.(3)

7. كما ألف شيخنا لطف اللّٰه الصافي كتاباً جامعاً حول الروايات الواردة في حقّ الإمام المهدي عليه السلام أسماه «منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر» أتىٰ فيه في الفصل الثاني من الجزء الثاني بأسماء من رآه عليه السلام في أيام والده وذكر 20 رجلاً منهم.(4)

ص: 33


1- . لاحظ: كتاب الغيبة: 252.
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 1/52-98.
3- . لاحظ: أعيان الشيعة: 70/2-71.
4- . لاحظ: منتخب الأثر: 431/2-435.

فمَن أراد الوقوف على مَن شاهده وزاره بعد ولادته وقبل غيبته أو بعدها، فعليه الرجوع إلى ما ذكرنا من المصادر، وبما أنّ الغرض الإشادة بالمشاهدة بعد الولادة اقتصرنا بذلك.

ونحن نذكر تيمّناً وتبركاً روايتين لبعض من رآه من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام.

الرواية الأُولى: روى الصدوق في «كمال الدين» قال: حدّثنا محمد بن علي بن ماجيلويه... إلى أن قال: قالوا: عرض علينا أبو محمد بن الحسن بن علي عليهما السلام ونحن في منزله وكنّا أربعين رجلاً، فقال: هذا إمامكم بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا، قالوا: فخرجنا من عنده، فما مضت إلّاأيام قلائل حتّى مضى أبو محمد عليه السلام.(1)

الرواية الثانية: ما رواه الصدوق في «كمال الدين» بالسند التالي، قال: حدّثنا عليّ بن عبد اللّٰه الورّاق، قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّٰه، عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعريّ، قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام وأنا أُريد أن أسأله عن الخلف [من] بعده، فقال لي مبتدئاً: يا أحمد بن إسحاق إنّ اللّٰه تبارك وتعالى لم يخلّ الأرض منذ خلق آدم عليه السلام ولا يخلّيها إلى أن تقوم الساعة من حجّة اللّٰه على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزِّل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض.

قال: فقلت له: يا ابن رسول اللّٰه فمَن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض عليه السلام

ص: 34


1- . كمال الدين وتمام النعمة: 435/2، الباب 43، الحديث 2؛ ينابيع المودّة: 146، الباب 82.

مسرعاً فدخل البيت، ثمّ خرج وعلى عاتقه غلامٌ كأنّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال: يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على اللّٰه عزّ وجلّ وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنّه سميّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وكنيّه، الّذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.

يا أحمد بن إسحاق مثله في هذه الأُمّة مثل الخضر عليه السلام، ومثله مثل ذي القرنين، واللّٰه ليغيبنّ غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلّامن ثبّته اللّٰه عزّ وجلّ على القول بإمامته ووفّقه [فيها] للدُّعاء بتعجيل فرجه.

فقال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي فهل من علامة يطمئنّ إليها قلبي؟ فنطق الغلام عليه السلام بلسان عربيّ فصيح فقال: أنا بقية اللّٰه في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق.(1)

وللحديث تتمّة فمن أراد الاطّلاع فليرجع إلى المصدر.

ص: 35


1- . كمال الدين وتمام النعمة: 357، الباب 38، الحديث 1.

4- القصيدة البغدادية و ما حولها من الردود

اشارة

يقول المحدّث الكبير الحاج ميرزا حسين النوري في مقدّمة كتابه:

«كشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار»: حملت إلينا ألسنة الرواة في هذه الأوقات قصيدة فريدة نظمها بعض علماء دار السلام ومدينة الإسلام، استغرب الناظم بها اختفاءه عليه السلام ولم يعلم أنّ له أُسوة بالأنبياء والمرسلين عليهم السلام واستبعد إلى هذه الأيام بقاءه وغفل عن قدرة رب العالمين، وزعم أنّ هذه الأيّام أوان خروجه، لانتشار الشر وكثرة الجور.(1)

ويظهر من غير واحد من المصادر أنّ القصيدة وردت عام 1317 ه.

ثمّ إنّ المحدّث النوري ألّف كتابه المذكور، في الردّ على مضامين القصيدة، فأخذ أبيات القصيدة واحداً بعد واحد بالردّ مستدلاً بالكتاب والسنّة على نحو لا يترك لمشكّك شكّاً ولا لمرتاب ريباً، ولذلك يصفه تلميذه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بقوله: وردت إلينا في هذه الأيام قصيدة من بعض جماعة دار السلام ولكنّها يتيمة وإن كانت في سوق الشعراء ما لها قيمة، يسأل فيها عن أُمور الحجّة المنتظر والإمام الثاني عشر، وتصدى شعراء العصر للجواب عنها ولكنّهم لم يبلغوا حقيقته وإن أجادوا

ص: 36


1- . كشف الأستار: 126.

وما أصابوا الغرض وإن أحسنوا بما جاءوا به وأفادوا.

فقلت في نفسي أعط القوس باريها فلا يخطي مراسيها، فعرضتها على علّامة الفقهاء والمحدّثين جامع أخبار الأئمة الطاهرين، حائز علوم الأوّلين والآخرين، حجّة اللّٰه على اليقين، مَن عقمت النساء عن أن تلد مثله، وتقاعست أساطين الفضلاء فلا يداني أحد فضله ونبله، التقيّ الأوّاه، المعجب ملائكة السماء بتقواه، من لو تجلى اللّٰه لخلقه لقال هذا نوري(1)، مولانا ثقة الإسلام الحاج ميرزا حسين النوري أدام اللّٰه تعالى وجوده الشريف، وحفظ سورة بقائه المبارك من التنقيص والتحريف.(2)

والكتاب يشتمل على فصلين وخاتمة:

الفصل الأوّل: في ذكر اختلاف المسلمين في ولادة المهدي عليه السلام وذكر من اعترف بها من علماء أهل السنّة الموافقين للإماميّة، وذكر دليل إجمالي على كون المهدي الموعود هو الحجّة بن الحسن العسكري عليهما السلام، بأوجز بيان وأحسن نظام.

الفصل الثاني: في ذكر الشبهات التي تضمنتها القصيدة والجواب عنها وهي في الحقيقة اثنتان، والباقي من المتفرّعات.

وأمّا الخاتمة فهي في نقد قول الناظم:

ص: 37


1- . قوله: نوري يُعدّ من المحسنات البديعية، فيفسّر بمعنيين، أحدهما: (نوري) أي المنتسب إلى مدينة (نور) من مدن محافظة مازندران. الثاني: نور اللّٰه بين الناس يهتدون به إلى معالم دينهم وشرائعه.
2- . كشف الأستار: 464-465.

وما أسعد السرداب في سُرَّ من رأىٰ *** له الفضل عن أُمّ القُرى وله الفخرُ

فيا للأعاجيب التي من عجيبها *** أن اتخذَ السرداب بُرجاً لهُ البدرُ

وذكر أنّ مضمون البيتين إفتراء على الشيعة ببيان رائق، وأضاف أنّ الناظم قد اجترّ ما ذكره ابن حجر في «الصواعق»، حيث قال: ولقد أحسن القائل:

ما آنَ للسّرداب أن يلد الذي *** صيّرتموه بزعمكم إنسانا

فعلى عقولكم العفاءُ فإنّكم *** ثلثتم العنقاء والغيلانا

قال المحدّث النوري: قلت: إن كان هو العقل الذي يبعث الإنسان على أن يفتري على المسلمين ويكذّب عليهم ثمّ يثبت ذلك في كتابه ثمّ يستهزئ بهم ويهجوهم بما افترىٰ عليهم فعلى عقولهم العفاء، إذ ليس بناؤهم على الافتراء فإنّهم إن نسبوا أمراً إلى غيرهم ذكروا كتابه وموضعه وصاحبه فنكرر المقالة ونقول: يا معاشر العلماء ويا أيها الناظم الذي تذكر في أبياتك:

فيا للاعاجيب التي من عجيبها *** أن اتخذ السرداب برجاً له البدرُ

هذه كتب الإمامية من قدمائهم ومتأخريهم، وأكابرهم وأصاغرهم من مطولاتها ومختصراتها، عربيّها وعجميّها موجودة، وكثير منها مطبوعة شائعة، نبئونا في أيّ كتاب يوجد هذا المطلب؟ ومن ذكر أنّه عليه السلام يخرج من السرداب؟(1)

ص: 38


1- . كشف الأستار: 417-418.

وأنا أقول: إنّه لم يكن للسرداب شأنٌ في حياة الإمامين العسكري وابنه المنتظر عليهما السلام سوى كونه مكاناً للعبادة والمناجاة والتهجّد، ونعم الحكم اللّٰه.

وقد بلغ إعجاب شيخنا كاشف الغطاء بالكتاب أنّه أفرغ ما جاء في الكتاب من الأجوبة عن الشبهة في قالب النظم حيث قال: وحيث إنّ السؤال كان نظماً أحببت أن يكون الجواب طبق السؤال، فنظمتها على الوزن والقافية على تشتت البال وجعلتها خدمة لإمامنا الحجة ولنوابه الأعلام، خصوصاً صاحب الرسالة فإنّ له على جميع المؤمنين منّة لا يقوم بواجبها الشكر ولو مدى العمر.(1)

أمّا القصيدة البغدادية فمستهلها:

أيا عُلَماءَ العَصْرِ يَامَنْ لَهُمْ خُبْرُ *** بِكُلِّ دقيقٍ حارَ (في مثلهِ) الفِكْرُ

ويبلغ عدد أبياتها 26 بيتاً.

إنّ المضامين التي أفرغها الناظم في قالب الشعر، ليست شيئاً جديداً، وإنّما أخذها من كتاب التحفة الاثنى عشرية للشاه عبد العزيز الدهلوي (1159-1239 ه) في ردّ الإمامية، والكتاب مكتوب بقلم فارسي مرتّب على اثني عشر باباً، وقد نسب الكتاب إلى الحافظ غلام حليم الدهلوي، وقد أخفىٰ المؤلّف اسمه خوفاً من النواب نجفخان الحاكم الشيعي، والكتاب مترجم أو مسروق من كتاب «الصواقع» للمولى نصر اللّٰه الكابلي، وقد نقل التحفة الاثنى عشرية الفارسية إلى العربية غلام محمد بن

ص: 39


1- . كشف الأستار: 465.

محيي الدين الأسلمي، واختصره المعرّب السيد محمود شكري ابن السيد عبد اللّٰه الآلوسي البغدادي، وطبع في الهند، ثم طبع في الرياض سنة 1404 ه وقد قام علماؤنا بردّ التحفة، بتأليف كتب وموسوعات وأخصّ بالذكر كتاب (العبقات). والقصيدة مستقاة من نفس الكتاب، وفي غالب الظن أنّ الناظم أيضاً هو مترجم التحفة.(1)

مَن هو ناظمها؟

قد عرفت أنّ من المحتمل أنّ ناظم القصيدة هو السيد محمود شكري الآلوسي، وهناك احتمالات أُخرى ذكرها محقّق الكتاب:

1. أنّ الناظم هو جميل صدقي الزهاوي (1279-1354 ه)، نسبه إليه السيد حسين البراقي (المتوّفى 1332 ه) في كتابه المخطوط: «السرّ المكنون في النهي لمن وقّت للغائب المصون».

2. معروف الرصافي (1294-1364 ه)، وقد نسبه إليه الشيخ محمد السماوي (المتوفّى 1370 ه) في كتابه «الطليعة».(2)

ثمّ إنّ محقّق الكتاب قال: ممّا يؤيد أنّ الناظم لها هو محمود شكري الآلوسي (ملخص معرّب التحفة الاثنى عشرية) المسمّى «بالمنحة الإلهية»، الرسائل التي أرسلها الآلوسي إلى شيخ الشريعة الاصفهاني بواسطة رجل من أهل بغداد، والتي أنكر فيها الإمام المهدي عليه السلام، وتلك الرسائل وأجوبتها

ص: 40


1- . كشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار: 444-445، الهامش لمحقّق الكتاب: (أحمد علي مجيد الحلّي) حيث بذل جهوداً جبّارة في نشر الكتاب والتعليق عليه.
2- . لاحظ: الطليعة: 194/1، رقم 46، ضمن ترجمه الشيخ البلاغي.

موجودة في مكتبة الإمام الحكيم قدس سره في النجف الأشرف.

وعلى كلّ تقدير فالقرائن تؤيد أنّ الناظم هو السيد محمود الآلوسي البغدادي.

ومن العجب أنّ العلّامة الحجة الشيخ أبا عبد اللّٰه الزنجاني ألّف كتاباً أسماه «تاريخ القرآن»، وقد قرضه أحمد أمين المصري وقدّر جهوده في هذا المصنّف. كما أنّ السيد محمود الآلوسي قد ثمّن هذا الكتاب الذي أصبح يُعدّ من الكتب التي ردّت على كتاب «فصل الخطاب» وقد نشرنا رسالته إلى العلّامة الزنجاني في رسالتنا: «إضاءات في طريق الوحدة والتعايش».(1)

أمّا أصحاب الردود على القصيدة البغدادية فمنذ أن انتشرت القصيدة بين العلماء والشعراء والأُدباء قامت ثُلّة من علمائنا بالردّ عليها نثراً ونظماً، أمّا النثر فهو كتاب «كشف الاستار عن وجه الغائب عن الأبصار» تأليف المحدّث الخبير حسين النوري.

وأمّا الردود على القصيدة بالشعر وأصحابها فهي كما يلي:

1. الردّ على القصيدة البغدادية، نظم العلّامة المتكلم الفقيه، الشيخ محمد الجواد بن الشيخ حسن بن طالب البلاغي (المتوفّى 1352 ه). والشيخ البلاغي أظهر من أن يُعرّف بهذه السطور، فهو في مجال الفقه ذلك الفقيه النحرير، وفي الكلام الأُستاذ البارع، وفي الردّ على المذاهب والنحل الباطلة عديم النظير، تدلّ على ما قلنا آثاره في هذه المجالات مضافاً إلى تفسيره باسم: «آلاء الرحمن» الذي لم يتم.

ص: 41


1- . لاحظ: إضاءات في طريق الوحدة والتعايش: 57-60.

وقد قمنا بترجمته في موسوعة طبقات الفقهاء وقلنا: كان فقيهاً إمامياً مفسّراً باحثاً في الأديان كاتباً شاعراً من مشاهير العلماء، وقد تضلّع في الفقه كما تضلع في العلوم الأدبية والفلسفية والكلامية. ويكفي في تضلعه معرفته ببعض اللغات غير العربية كالانجليزية والعبرية والفارسية.(1) وأمّا قصيدته في الردّ فإليك مستهلها:

أطعتُ الهوىٰ فيهِمُ وعاصاني الصبرُ *** فها أنا مالي فيه نهيٌ ولا أمرُ

2. الردّ على القصيدة البغدادية، نظم العالم الجليل والشاعر الشهير السيد رضا بن سيد محمد الموسوي الهندي (المتوفّى 1362 ه)، وقد ترجمه شيخنا المجيز الطهراني في نقباء البشر. ومن آثاره: بلغة الراحل في أُصول الدين الخمسة.(2)

وإليك مستهل القصيدة:

يُمثلُكَ الشوقُ المُبرَّحُ والفكرُ *** فلا حُجُبٌ تُخفيكَ عَني ولا سِترُ(3)

3. الرد على القصيدة البغدادية، نظم العلّامة الكبير، والكاتب الشهير السيد محسن بن السيد عبد الكريم الأمين الحسيني العاملي (1284 - 1371 ه) وقد قمنا بترجمته في موسوعة طبقات الفقهاء، وقد جاء فيها: كان من مشاهير علماء عصره، فقيهاً إمامياً، أديباً، شاعراً، مؤلفاً قديراً، ذا ثقافة واسعة وعقلية متفتحة.(4)

ص: 42


1- . لاحظ في الوقوف على آثاره: موسوعة طبقات الفقهاء: 644/2/14-647، برقم 4816.
2- . لاحظ: ترجمته في نقباء البشر: 768 برقم 1250.
3- . كشف الأستار: 499-510.
4- . موسوعة طبقات الفقهاء: 503/1/14، برقم 4727.

والقصيدة تتكون من 311 بيتاً، وقد شرحها المؤلّف بكتاب أسماه «البرهان على وجود صاحب الزمان» في صيدا عام 1333 ه، وإليك مستهلها:

نَأُوا وبقلبي من فراقهم جَمرُ *** وفي الخدِّ مِن دَمعي لبينهمُ غَمْرُ

4. الردّ على القصيدة البغدادية، نظم الشيخ رشيد بن قاسم أقعون الزبديني العاملي (المتوفّى 1317 ه) في النجف الأشرف، ذكرها السيد الأمين في «أعيان الشيعة».(1) كما ذكرها شيخنا المجيز في الذريعة(2)، والقصيدة بعد لم يظفر بها، وإنّما حكى شيخنا المجيز عن السيد حسن الصدر في التكملة أنّه رآها.

5. الردّ على القصيدة البغدادية، نظم العلّامة السيد علي بن محمود الأميني الحسيني الشقراني العاملي (المتوفّى 1328 ه) وهي أرجوزة مرتّبة على مقدّمتين وسبعة فصول وخاتمة، في 119 بيتاً، أوّلها:

يقول راجي عفو ربّه الحقّي *** سلالة الأمين عبده العلي(3)

6. الردّ على القصيدة البغدادية، نظم الشيخ عبد الهادي ابن الحاج جواد البغدادي المعروف بالهمداني، من بيت شليلة في بغداد (المتوفّى 1333 ه).(4)

7. الردّ على القصيدة البغدادية، نظم الشيخ محمد باقر الهمداني البهاري (المتوفّى 1331 ه)، قال شيخنا المجيز: الشهاب الثاقب في الرد على

ص: 43


1- . أعيان الشيعة: 5/7، برقم 4.
2- . الذريعة: 218/10، برقم 624.
3- . الذريعة: 475/1، برقم 2364، و 219/10، برقم 627؛ كشف الأستار: 547.
4- . لاحظ: الذريعة: 219/10، برقم 626.

ما لفقه العاقب (شكري أفندي البغدادي).

وهي أرجوزة لطيفة في الإمامة تقرب من خمسمائة بيت، أوّلها:

قال الشريف الفاطمي أحمد *** أبدأ بسم اللّٰه ثم أحمد(1)

ختامه مسك

8. الردّ على القصيدة البغدادية، نظم ركن الدين ومصلحه الشيخ محمد الحسين بن علي بن محمد رضا كاشف الغطاء المالكي النجفي (1294-1373 ه)، كان من أعلام مجتهدي الإمامية، وكبار الكتّاب، ومشاهير زعماء الدين ذوي النزعة الإصلاحية، الداعين إلى الوحدة الإسلامية. وقد أخرنا ذكرها ليكون ختام كلامنا مسكاً.(2)

والحقّ أنّ الشيخ كاشف الغطاء أعرف من أن يُعرّف فإنّ مواقفه العلمية والأدبية والكلامية، شيء يدلّ على نبوغه وجهوده المضنية في إصلاح المجتمع، وقد تقدّم منّا قسم من كلامه، في صدر المقال، يقول:

حيث إنّ السؤال كان نظماً أحببت أن يكون الجواب طبق السؤال فنظمتها على الوزن والقافية على تشتت البال وجعلتها خدمة لإمامنا الحجّة ولنوّابه الأعلام... إلى آخر ما قال... والقصيدة تتألف من 300 بيت تقريباً، ومطلعها:

بنفسي بَعيدَ الدَّارِ قرّبَّهُ الفِكرُ *** وأدناه من عُشّاقِه الشوقُ والذكرُ(3)

إلى هنا تمّ ما يرجع إلى القصيدة البغدادية وردودها بالنثر والنظم.

ص: 44


1- . لاحظ: الذريعة: 219/10.
2- . لاحظ: موسوعة طبقات الفقهاء: 683/14-686، برقم 4835.
3- . لاحظ: كشف الأستار: 465.

5- الاعتراض على المهدي عليه السلام ذريعة لإنكار النص في الإمامة

اشارة

إنّ السيد الآلوسي وإن جعل محور البحث غيبة الإمام المهدي معترضاً بأنّه كيف يكون إماماً وهو غير قادر على التبليغ، غير أنّ ظاهر القضية وباطنها يريد أن يثبت أن منصب الإمامة منصب موكول إلى اختيار الأُمّة وقد قامت الأُمّة بذلك بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فاختاروا الخليفة الأوّل، وهكذا بقية الخلفاء. والذي يكشف عن غرضه ما في الرسالة الثانية قال: إنّك قد عرفت أنّ مقصدنا الأقصى ومطلبنا الأعلى إثبات إمامة أبي بكر...(1)

ومع ذلك نحن ندرس هذه المسألة دراسة علمية معمّقة على ضوء المسائل المسلّمة في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وبعدها فنقول:

هل الخلافة عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم منصب إلهي كمنصب النبوّة، لا يُعرف المتصدّي لهذا المنصب إلّابتعيين من اللّٰه سبحانه وتبليغ من رسوله صلى الله عليه و آله و سلم، وله ما للنبيّ من الكمالات والفضائل غير أنّه يوحى إليه دونه؟

وإن شئت قلت: إنّ الرسالة والنبوّة صارتا مختومتين، لكنّ وظائف النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في تبليغ الدين، وإدارة المجتمع لم تزل باقية، أو أنّه منصب اجتماعي كسائر المناصب الاجتماعية لا يشترط فيه إلّاكفاءة الخليفة وحسن

ص: 45


1- . انظر الرسالة الثانية للآلوسي: ص 104.

إدارته وقدرته على تلبية حاجات الأُمّة؟!

فالشيعة الإمامية على الرأي الأوّل، وأهل السنّة على الرأي الثاني، ونحن نريد في هذا التقديم تحليل النظريتين، لكي يتّضح الحقّ بأجلى مظاهره، وإليك البيان:

لا شكّ أنّ وجود النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان يملأ فراغاً كبيراً و عظيماً في حياة الأُمّة الإسلامية، لكنّ رحلته سبّبت فراغاً أو فراغات هائلة في حياة الأُمّة الإسلامية، فلولا سدّها بمن يشغل منصب الخلافة لخسر المسلمون خسارة كبيرة لا تسد إلى يوم القيامة، وإليك بيانها:

1. الفراغ الهائل في جانب العقائد والمعارف

الإسلام عقيدة وشريعة. ويُراد بالأوّل الأُصول والمعارف التي يطلب فيها الإذعان واليقين، كتوحيده سبحانه خَلْقاً وربوبية وعبادة، ومعرفة أوصافه سبحانه وأفعاله، إلى غير ذلك ممّا يُبحث عنه في الكتب الكلامية.

ويراد بالثاني الأحكام العملية والوظائف الأخلاقية إبتداء من الطهارة إلى الدِّيات.

كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو المحور لتمييز الحقّ عن الباطل في مجال العقائد والأُصول والمعارف، وكانت كلمة المسلمين في أيام حياته كلمة موحّدة، لم يظهر منهم أي اختلاف فيما يرجع إلى المسائل العقدية، ولو طرأ طارئ وظهرت مسألة فيما يرجع إلى أحد الأمرين، فالرسول وكلامه كان هو الحقّ القاطع، ولكن بعد رحيل رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم حصل فراغ هائل في ذلك المجال، فمقتضى حكم العقل الحصيف عندئذٍ لزوم نصب قائد بين

ص: 46

المسلمين له من المؤهّلات ما للنبيّ فيما يرجع إلى الأُصول والعقائد حتى يكون كلامه محوراً للحقّ والباطل، وهذا ممّا يؤيّد نظرية التنصيب وأنّها منصب إلهي لا إجتماعي حتى يشغله كلّ شارد ووارد.

ثمّ إنّ الملموس في حياة النبيّ أنّه عالج هذا الفراغ الهائل وأشار إلى مَن هو المسؤول بعده في حديث الثقلين، فقال: «إنّي تارك فيكم الثقلين:

كتاب اللّٰه وعترتي فما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».(1)

وأمّا مَن رأى أنّ منصب الخلافة أمر اجتماعي أشبه بالإمارات ورئاسة الجمهورية واكتفوا في مشروعيته بالتصويت باختيار الأُمّة، ورفضوا من نصبه النبيّ الأعظم مرجعاً للقضاء في الخلافات العقدية (حديث الثقلين)، وقعوا في حيص وبيص في ذلك المجال، وتفرّقوا إلى شعب وطوائف كلّ يفسّق الآخر، وإن كنت في شكّ ممّا ذكرنا فاستمع لما يصفه السيوطي من طروء مسالك مختلفة وأحوال متضادة فصار المسلمون بين:

1. مرجئي، يرى أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان، وأنّه لا تضرّ معه معصية.

2. إلى ناصبي ينصب العداء لعليّ وأهل بيته عليهم السلام.

3. إلى قدري ينسب محاسن العباد ومساويهم إلى أنفسهم، ولا يُسند أفعالهم إلى اللّٰه تعالى.

4. إلى جهمي ينفي كلّ صفة للّٰه سبحانه، ويعتقد بخلق القرآن وحدوثه.

ص: 47


1- . الحديث متواتر، لا ينكر تواتره إلّامَن ليس له إلمام بالأحاديث الإسلامية.

5. إلى خارجي ينكر على أمير المؤمنين عليه السلام مسألة التحكيم ويتبرّأ منه.

6. إلى واقفي لا يقول في مسألة التحكيم بشيء أو في القرآن، كالحدوث والقدم وأنّه مخلوق أو غير مخلوق بشيء.

7. إلى متقاعد يرى لزوم الخروج على أئمّة الجور ولايباشره بنفسه.

إلى غير ذلك من ذوي الأهواء والآراء الذين شقّوا عصا المسلمين بانتحالاتهم وعقائدهم وقد بقيت آثارهم السيئة إلى يومنا هذا.

ثمّ ذكر السيوطي أسماء كثير من أتباع هذه المذاهب من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.(1)

وقد انشقّ المسلمون إلى فرق كثيرة ربّما تربو إلى سبعين أو أقلّ أو أكثر، فهذه الفاجعة في حياة المسلمين ما كانت تحصل إلّابسبب رفض من نصبه النبيّ مرجعاً للخلاف في هذه المجالات، قال الإمام علي عليه السلام: «لاٰيُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله و سلم مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ، وَلايُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً. هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ، وَعِمادُ الْيَقِينِ. إلَيْهِمْ يَفِيءُ الْغَالِي، وَبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي.

وَلَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلاٰيَةِ، وَفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَالْوِرَاثَةُ».(2)

نقول: إنّ هذه الرزية التي ابتُلي بها المسلمون تكشف عن أنّ القول الصحيح الذي يحكم به العقل الحصيف أن يكون بين الأُمّة قائدٌ محنكٌ عالم بأُصول الدين وفروعه، يكون هو المرجع حتى لا يبتلي المسلمون بهذه الفرق والطوائف التي يخرج قسم منها عن دائرة الإسلام. فلو ذهبت الإمامية إلى أنّ مقتضى قاعدة اللطف هو نصب الإمام، فهم يريدون ما ذكرنا،

ص: 48


1- . لاحظ: تدريب الراوي: 328/1.
2- . نهج البلاغة: الخطبة 2.

فالإمامية على أنّ هنا ضابطة مسلّمة أي كبرى وصغرى؛ أمّا الكبرى فالعقل يحكم أنّ مقتضى اللطف نصب قائد يكون مرجعاً للأُصول والمعارف يملأ الفراغ الحاصل من رحيله صلى الله عليه و آله و سلم، وأمّا الصغرى فقد أشار النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى هذا القائد في غير واحدة من خطبه وكلماته خصوصاً في حديث الغدير.

إنّ هذا الفراغ لا يختصّ بالمعارف والأُصول، بل يأتي في مورد الأحكام الفرعية، وهذا ما سندرسه تالياً.

2. الفراغ الهائل في بيان الأحكام الإسلامية

اشارة

لا شكّ أنّ الوحي الإلهي انقطع بوفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وختمت النبوّة برحيله، وقد أدّى ما عليه من مهمة التبليغ والدعوة خير أداء، وقام بتثقيف الأُمّة الإسلامية أفضل قيام، ولكن الأُمّة صارت تُعاني - بعد وفاته - من مشاكل كبيرة في مجال التشريع.

توضيح ذلك: أنّ القرآن الكريم والسنّة المطهّرة أعلنا عن إكماله سبحانه الشريعة، وأنّه ما من شيء تحتاج إليه الأُمّة إلّاوقد جاء به الكتاب والسنّة، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنّ الأُمّة الإسلامية واجهت - بعد وفاة النبي - حوادث جمّة لم تجد لها حلولاً لا في الكتاب ولا في السنة.

فكيف يمكن الجمع بين هذين الأمرين؟

وبعبارة أُخرى: إنّ اتّساع رقعة الدولة الإسلامية، ومخالطة المسلمين للشعوب والأقوام المختلفة بسبب الفتوحات المتتالية التي قام بها المسلمون، جعلهم أمام مشاكل مستجدّة ومسائل مستحدثة لم تكن معهودةً ولا معروفةً في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ص: 49

وفي غضون التاريخ شواهد كثيرة على عجز الخلفاء وغالب الصحابة عن الإجابة عن المسائل المستجدة، وما ذلك إلّالأنّها لم يرد فيها نصٌّ.

إنّ هذه الحاجات المستجدة بعد رحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لم يرد فيها نصّ في الذكر الحكيم ولا في الأحاديث المأثورة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، لأنّ آيات الأحكام محدودة جدّاً، والأحاديث الصحيحة التي نقلها أعلام السنّة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الفروع والأُصول لا تتجاوز (500) حديث.

قال السيد محمد رشيد رضا: إنّ أحاديث الأحكام خمسمائة حديث تمدّها أربعة آلاف فيما أذكر.(1)

فلجأوا - لأجل حلّ هذه الأزمة - إلى وضع قواعد من عند أنفسهم ما أنزل اللّٰه بها من سلطان كالقياس، والاستحسان، وسدّ الذرائع وفتحها، وحجّية قول الصحابي إلى غير ذلك، وفي ضوء هذه القواعد المصنوعة ظهرت مذاهب فقهية لا تُعدّ ولا تُحصى، فلمّا اتسع الخرق على الراقع، لم يجدوا محيصاً من حصر المذاهب الفقهية في أربعة مذاهب فقط.

وربّما لجأ بعضهم في العصر الأخير فزعم أنّ مصدر القوانين هو الأُمّة، وقال: نحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنّة، كما قرّره الإمام الرازي، والمنصوص قليل جدّاً.(2)

فهذا النوع من التفكير يتناقض تماماً مع إكمال الدين، الذي نادى به الذكر الحكيم قائلاً: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ

ص: 50


1- . الوحي المحمدي: 212، الطبعة السادسة.
2- . تفسير المنار: 189/5.

لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً».(1) ، كما أنّه لا يتماشىٰ مع قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «يا أيّها الناس واللّٰه ما من شيء يقرّبكم من الجنة ويباعدكم من النار، إلّاوقد أمرتكم به؛ وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنة، إلّاوقد نهيتكم عنه».(2)

التفسير الصحيح لإكمال الدين

فإذا لم يصحّ هذا التفسير للآية والرواية فلابدّ من تفسير إكمال الدين بشكل آخر، وهو أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أودع - بأمر اللّٰه سبحانه - كلّ ما تحتاج إليه الأُمّة من أُصول وفروع لدىٰ فرد أو طائفة خاصّة من الأُمّة، لكي يرجع إليهم المسلمون بعده صلى الله عليه و آله و سلم ويعالجوا بما يخرجونه إليهم من تلك المعارف والعلوم، مشاكلهم في العقيدة والعمل، في أُمور الدين والدنيا.

وليس المراد من إيداع ما لم يبلغه عنده، هو تعليمه بصورة تعليم بشريّ، بل تعليماً غيبياً، كفعل مصاحب موسى على ما يصفه الذكر الحكيم بقوله: «مِمّٰا عُلِّمْتَ رُشْداً».(3)

ثمّ إنّ التعرّف على مثل هذا الشخص أمر متعذّر على الأُمّة لدقّة المواصفات وخفاء المؤهلات... فلابدّ أن يكون التعريف من جانب اللّٰه المحيط بجميع عباده، العارف بأسرارهم وسرائرهم، العالم بنفوسهم ونفسياتهم، وذلك بالتنصيص عليه بالاسم والشخص.

وبعبارة أُخرى: أنّ هناك أمرين يتطلّبان أن يكون القائم مقام النبي صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 51


1- . المائدة: 3.
2- . الكافي: 74/2.
3- . الكهف: 66.

متعيّناً بتنصيص من اللّٰه سبحانه.

الأوّل: أنّه يجب أن يكون القائم مقامه قادراً على تبيين كلّ ما لم يبيّنه لكافّة المسلمين وعامّتهم لأسباب خاصّة، وهذه المقدرة لا تحصل في فرد أو جمع إلّابتربية إلهية وتعليم خارج عن نطاق التعليم البشري حتى يسدّ الفراغ في بيان كلّ ما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة.

الثاني: أنّ التعرّف على هذا الشخص لا يتحقّق بالاختبار والتجربة.

وكلّ من هذين الأمرين يسوقنا إلى أنّ اللازم في تربية الأُمّة واستغنائها عن كلّ تشريع وضعي، التعريف من جانب اللّٰه بفرد أو جمع تمتّعوا بتربية إلهية لسدّ هذا الفراغ، وهذا هو المراد من أنّ مقتضى قاعدة اللطف هو تنصيب الإمام من جانبه سبحانه.

3. الفراغ الهائل في تفسير الذكر الحكيم

إنّ رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، لم تكن مقتصرة على تلاوة القرآن الكريم، بل كان من إحدى مهماته تفسير القرآن الكريم، وقد أشار سبحانه إلى هذه المهمة في قوله: «وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ».(1) ، وقوله سبحانه: «وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ إِلاّٰ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ».(2)

والذي يُرشدنا إلى أنّ تفسير القرآن من إحدى مهماته ما يلي من الأسباب:

1. وجود المجملات في أحكام العبادات والمعاملات الواردة في

ص: 52


1- . النحل: 44.
2- . النحل: 64.

آياته.

2. كون آياته ذات أبعاد وبطون متعدّدة.

3. غياب القرائن الحاليّة التي كانت آياته محفوفة بها حين النزول، وكانت معلومةً للمخاطبين بها في ذلك الوقت.

ثمّ إنّ تلك المهمة لا تنقطع برحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فإنّ قسماً من الآيات لم يزل مورد نقاش واختلاف في العقائد والأحكام، ونذكر نماذج منه.

1. قال سبحانه في آية الوضوء: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرٰافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ».(1)

وقد تضاربت الآراء في فهم هذه الآية، وصارت الأُمّة إلى قولين:

فمن عاطف لفظ «أَرْجُلَكُمْ» على الرؤوس فيحكم على الأرجل بالمسح.

ومن عاطف له على الأيدي فيحكم على الأرجل بالغسل.

ومن المعلوم، أنّ إعراب القرآن الكريم إنّما حدث بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فأيّ الرأيين هو الصحيح؟(2)

2. لقد حكم اللّٰه تعالى على السارق والسارقة بقطع الأيدي حيث قال:

ص: 53


1- . المائدة: 6.
2- . وممّن أقرّ بالحقيقة وأنّ مدلولها يوافق مذهب الإماميّة، ابن حزم الظاهريّ في كتابه «المحلّى»، والفخر الرازيّ في تفسيره، والحلبيّ في كتاب «منية المتملّي في شرح غنية المصلّي»، فلاحظ: المحلّى 54/3، المسألة (200) فإنّه أدّى حقّ المقال فيها؛ ومفاتيح الغيب: 161/11 (طبعة دار الكتب العلمية).

«وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا».(1)

وقد اختلفت الأُمّة في مقدار القطع وموضع اليد:

فمن قائل: إنّ القطع من أُصول الأصابع دون الكفّ وترك الإبهام، كما عليه الإماميّة وجماعة من السلف.

ومن قائل: إنّ القطع من الكوع، وهو المفصل بين الكفّ والذراع، كما عليه أبو حنيفة ومالك والشافعيّ.

ومن قائل: إنّ القطع من المنكب كما عليه الخوارج.(2)

3. أمر اللّٰه سبحانه الورثة بإعطاء السدس للكلالة في قوله سبحانه:

«وَ إِنْ كٰانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاٰلَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ».(3)

وفي الوقت نفسه يحكم سبحانه بإعطاء الكلالة النصف أو الثلثين كما في قوله: «إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثٰانِ مِمّٰا تَرَكَ».(4)

فما هو الحلّ وكيف الجمع بين هاتين الآيتين؟

لا شكّ أنّه لم يكن ثمّة إبهام في مورد هاتين الآيتين.. بل حدث الإبهام في ذلك فيما بعد.

ألا يدلّ هذا على ضرورة وجود الإمام؛ الذي يرفع الستر عن الوجه

ص: 54


1- . المائدة: 38.
2- . راجع: الخلاف للطوسيّ الجزء: 437/5، المسألة 31، كتاب السرقة.
3- . النساء: 12.
4- . النساء: 176.

الصحيح لفهم الآية بما عنده من علوم مستودعة.

4. قوله سبحانه: «وَ إِذٰا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنٰا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنّٰاسَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا لاٰ يُوقِنُونَ».(1)

فما هذه الدابة التي تخرج من الأرض، وكيف تكلّمهم ومع مَن تتكلّم؟

هذه الفراغات الثلاثة تدلّ بوضوح على أنّ إكمال الدين في مجالي العقيدة والشريعة يستلزم وجود قائد له من العلوم والمؤهّلات ما كان للنبي صلى الله عليه و آله و سلم سوى أنّه إمام وليس بنبي، يملأ بحكمته وتدبيره وعلومه الربانيّة ما حصل من الفراغ برحيل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ومثل هذا القائد فرع أن يكون عنده علوم إلهية وتربية غيبية لا يعرفها إلّااللّٰه سبحانه ونبيّه.

فلو أنّ الشيعة الإمامية يستدلّون بقاعدة اللطف على نصب الإمام يُريدون ما أوضحنا من مقاصدهم في هذه المجالات، فرفض نصب القائد ودفع أمر الإمامة إلى الأُمّة يستلزم هذه التوالي الفاسدة التي ابتلىٰ بها المسلمون غبّ الغفلة عن الضابطة وما عالج به الرسول هذه المشاكل كحديثي الثقلين والغدير وغيرهما.

***

4. الفراغ الحاصل في صيانة السنّة النبوية عن عمل الكذّابين والوضّاعين

اتّفقت الأُمّة الإسلامية على أنّ السنّة الشريفة هي المصدر الثاني بعد

ص: 55


1- . النحل: 82.

الكتاب، وأنّه لا غنىٰ لفقيه أو محدّث عنها، وأنّ من قال: «حسبنا كتاب اللّٰه» فقد تكلّم بشيء غير صحيح، غير أنّ الأُمّة ابتليت بالكذّابة على رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم بعد رحيله، ولذلك قال: «أيّها الناس قد كثرت عليّ الكذّابة، فمَن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار».(1)

فأدخلت في السنّة النبوية أحاديث كثيرة مكذوبة تُعدّ من الإسرائيليات أو المسيحيّات أو المجوسيّات، وأمّا السبب لهذا النوع من الكذب على رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، فليس هو شيئاً واحداً بل أُمور مختلفة:

1. لم يهتم بكتابة الحديث من قبل الخلفاء طوال قرن ونصف، ومعه كيف يكون حاله مع أعدائه الذين كانوا له بالمرصاد، ويشهد على ذلك أنّ أحمد بن حنبل ذكر في مسنده قرابة 30 ألف حديث انتخبها من أكثر من 700 ألف حديث، وكان يحفظ ألف ألف حديث.

2. فسح المجال للأحبار والرهبان للتحدّث، فقد افتعلوا أحاديث كثيرة وبثّوها بين المسلمين كحقائق راهنة، وتلقّاها السذّج من المحدّثين بالقبول.

3. التجارة بالحديث، ففي تاريخ الحديث الإسلامي نجد أُناساً عُرفوا بالوضع والكذب، وكانت الغاية من بثّ هذه الأحاديث، هو الطمع بالدنيا والازدلاف إلى أهلها والانتصار للأهواء والعقائد الدخيلة.(2) وسيوافيك ذكر

ص: 56


1- . الخصال للصدوق: 256.
2- . إن أردت أن تقف على نماذج من هذا النوع من التجارة. فلاحظ: الموضوعات لابن الجوزي: 78/3، باب السبق بالحمام؛ شرح نهج البلاغة: 73/4.

عددهم إجمالاً.

4. وضع الحديث لأغراض حزبية ومذهبية، فإنّ الولاء للأحزاب والمذاهب المختلفة دفع بالمحدّثين من أصحاب الأهواء إلى اختلاق أحاديث في هذا الصدد. أخرج ابن الجوزي عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أنّه قال: لا يصحّ عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في فضل معاوية بن أبي سفيان شيء.

وأخرج أيضاً عن عبد اللّٰه بن أحمد بن حنبل أنّه قال: سألت أبي فقلت: ما تقول في علي ومعاوية؟ فأطرق ثمّ قال: إنّي أقول فيهما: إنّ عليّاً عليه السلام كان كثير الأعداء، ففتّش أعداؤه له عيباً، فلم يجدوا، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فأطروه كيداً منهم له.(1)

وثمة أُناس افتعلوا أكاذيب على لسان رسول للّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في مناقب أئمتهم، فهناك مناقب حيكت في حقّ أبي حنيفة.(2)

ثمّ إنّ لوضع الحديث أسباباً أُخرى نعرض عن ذكرها روماً للاختصار، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتابنا «الحديث النبوي بين الرواية والدراية».(3)

ولأجل علاج هذه الظاهرة الخطرة، قام غير واحد من الباحثين بجمع الأخبار الضعيفة والموضوعة، آخرهم المحدّث المعاصر محمد ناصر الدين

ص: 57


1- . الموضوعات: 24/2.
2- . انظر: تاريخ بغداد: 289/2.
3- . الحديث النبوي بين الرواية والدراية: 48.

الألباني فقد ألّف كتاباً أسماه ب «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» في خمسة أجزاء، كلّ جزء يشتمل على خمسمائة حديث، ولو أنّه أنصف لقال أكثر من ذلك.

ثمّ إنّ الباحث الكبير العلّامة المجاهد الأميني رحمه الله قام في موسوعته «الغدير» - الجزء الخامس - باستخراج أسماء الكذّابين والوضّاعين للحديث ورتّبها حسب الحروف الهجائية، فبلغ عددهم 700 وضّاع.(1)

وما قام به رحمه الله وإن كان عملاً كبيراً يُشكر عليه، غير أنّه لو قامت بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكر ذلك الباحث الكبير.

أفلا يحكم العقل الحصيف بلزوم وجود قائد عارف بالسنّة الصحيحة يكون مرجعاً في تمييز الصحيح عن الزائف قبل أن يختلط الحابل بالنابل، ويقوم لفيف من العلماء بتأليف كتب لتمييز الصحيح عن الموضوع.

5. الأُمّة الإسلامية والخطر الثلاثي

ما قدّمنا إليك من الفراغات الهائلة التي لا تُسد إلّابقائد محنّك مؤدب بتأديب اللّٰه ومعلّم بعلوم من عنده، حتى تُسدّ به هذه الفراغات قبل أن تنتشر، يُعتبر عامل داخلي.

ولكن يمكن دراسة الموضوع من عامل خارجي ألا وهو الخطر الثلاثي الذي كان يحدق بالأُمّة الإسلامية، بعد رحيله، وهو يُلزم القائد الأكبر أن ينصب خليفته في حال حياته قبل أن ينتشر الداء، ويتّفق أعداء الإسلام

ص: 58


1- . لاحظ: الغدير: 301/5-475.

من داخله وخارجه على ضربه.

إنّ من الواضح لكلّ مطّلع على أوضاع الأُمّة الإسلامية قبيل وفاة النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّ الدولة الإسلامية الحديثة التأسيس كانت محاصرة من جهتي الشمال والغرب بأكبر إمبراطوريّتين عرفهما تأريخ تلك الفترة.

إمبراطوريّتان كانتا على جانب كبير من القوّة والبأس والقدرة العسكرية المتفوّقة ممّا لم يتوصّل المسلمون إلى أقلّ درجة منها،... وتلك الامبراطوريّتان هما: الروم، وفارس، هذا من الخارج. وأمّا من الداخل، فقد كان المجتمع الإسلامى يعاني من جماعة المنافقين الذين كانوا يشكلون العدو الداخلي المبطّن (أو ما يُسمّى بالطابور الخامس). ومن قرأ كتب التاريخ يقف على ذلك عن كثب وأنّ الخطر كان قائماً على ساقيه، فمن البعيد أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يترك الأُمّة بلا قائد مع علمه بخطورة الموقف بإحاطة العدو بالدولة الإسلامية الفتيّة من الداخل والخارج.

6. العشائريات تمنع من نصب قائد متّفق عليه

اشارة

ارتحل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وكان السائد على المجتمع العربي هو النظام القبلي والتقسيمات العشائرية التي كانت تحتل مكانة كبرى وتتمتّع بأهمية عظيمة.

لا شكّ أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم جعل الأُمّة الإسلامية أُمّة واحدة ووصفهم بالوحدة والإخوّة، لكن رواسب الحياة القبلية كانت متجذّرة في نفوسهم وقد ظهرت تلك الرواسب في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم لكنّه عالجها بحنكته وتدبيره.

والتاريخ الصحيح زاخر بذكر نماذج من هذه الأحداث، ونحن نذكر حادثة

ص: 59

واحدة كشاهد على ذلك.

وهي ما نقله البخاري في صحيحه في قصة الإفك، قال: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين مَن يعذرني من رجل بلغني عنه أذاه في أهلي، واللّٰه ما علمت على أهلي إلّاخيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلّاخيراً، وما يدخل على أهلي إلّامعي».

قالت عائشة: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، فقال: أنا يا رسول اللّٰه أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.

قالت: فقام رجل من الخزرج وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة، فقال سعد بن عبادة: كذبت لعمر اللّٰه لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل.

فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمّ سعد [بن معاذ]، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر اللّٰه لنقتلنّه، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين.

قالت عائشة: فثار الحيّان (الأوس والخزرج) حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قائم على المنبر.

قالت: فلم يزل رسول اللّٰه يخفّضهم (أي يهدّئهم) حتّى سكتوا وسكت.(1)

فكيف كان يجوز - والحال هذه - أن يترك الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم أُمّته

ص: 60


1- . صحيح البخاري: 58/5، باب حديث الإفك.

المفطورة على العصبيّات القبليّة، وعلى الاستئثار بالسلطة والزعامة وحرصها على النفس، ورفض سلطة الآخر؟

فهل كان يجوز للنبيّ أن يترك تعيين مصير الخلافة لتقوم به أُمّة هذا حالها، وفي تعيينه قطع لدابر الاختلاف والفرقة؟

وهل كان من المحتمل أن تتّفق كلمة الأُمّة جمعاء على قائد واحد. ولا تخضع للرواسب القبليّة ولا يبرز إلى الوجود مرّة أُخرى ما مضى من الصراعات والتطلّعات العشائرية، وما يتبع ذلك من حزازات؟

أم هل يصلح لقائد يهتمّ ببقاء دينه وأُمّته أن يترك أكبر الأُمور وأعظمها، وأشدّها دخالةً في حفظ الدين، إلى أُمّة نشأت على الاختلاف، وتربّت على الفرقة، مع أنّه كان يرى الاختلاف منهم في حياته أحياناً أيضاً، كما عرفت؟

إنّ التأريخ يدلّ على ظهور الاختلاف والتشاجر بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في حادثة السقيفة حيث سارعت كلّ قبيلة إلى ترشيح نفسها للزعامة، منتحلةً لنفسها حججاً وأعذاراً... وطالبةً ما تريد بكلّ ثمن حتّى بتجاهل المبادئ وتناسي التعاليم الإسلاميّة، والوصايا النبويّة.

إنّ ما حصل بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في السقيفة أفضل دليل على أنّ الرواسب القبلية كانت سائدة ومؤثّرة في انتخاب الخليفة دون مراعاة الضوابط التي أقرّتها الشريعة الإسلامية كميزان للانتخاب، والحديث ذو شجون، ومن أراد المزيد فليقرأ احتجاج الأنصار بأنّهم أولى بالخلافة عن رسول اللّٰه، فقد قال واحد منهم - حسب ما يحكيه عمر بن الخطاب -:

ص: 61

(أمّا بعد فنحن أنصار اللّٰه وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منّا، وقد دفّت دافّة من قومكم (أي جاء جماعة ببطء) وإذا هم يريدون أن يحتازونا (أي يدفعوننا) من أصلنا، ويغصبونا الأمر).

... فقام أبو بكر وقال:

(أمّا ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر (أي الزعامة) إلّالهذا الحيّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم) وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجرّاح:

ثمّ قام وقال قائل من الأنصار: (أنا جذيلها المحكّك، وعذيلها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش).

قال عمر بن الخطاب: فكثر اللغط (أي اختلاف الأصوات ودخول بعضها على بعض)، وارتفعت الأصوات حتّى تخوّفت الاختلاف.(1)

ولم يقتصر اختلاف الأُمّة على هذا الذي ذكرنا، بل ظهرت مظاهر التشتت القبليّ حتّى بعد ما جرى في السقيفة من بيعة من فيها لأبي بكر، حيث راح المهاجرون والأنصار يتهاجون فيما بينهم، وجرت بينهم مشادّات كلاميّة وشعريّة هجائيّة، هاجم فيها كلّ فريق الفريق الآخر بأشدّ أنواع الهجاء نقلها المؤرّخون، ونذكر منها شيئاً:

فقد جاء في «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد نقلاً عن كتاب الموفّقيّات: لمّا بويع أبو بكر.. وراح أبو سفيان بن حرب يدّعي الفضل

ص: 62


1- . صحيح البخاري: 27/8، طبعة دار الفكر، 1401 ه.

لقريش ويذكر أُموراً في هذا المجال، قال حسّان بن ثابت:

تنادى سهيل وابن حرب وحارث *** وعكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل

قتلنا أباه وانتزعنا سلاحه *** فأصبح بالبطحا أذلّ من النعل(1)

الآن حصحص الحق

تلك محاسبات عقليّة واجتماعيّة من واقع المجتمع الإسلاميّ الأوّل، تدلّنا على أنّ الحقّ في مسألة القيادة في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو أن يستخلف صلى الله عليه و آله و سلم (قائداً) للأُمّة، وراعياً لمصالحها وشؤونها؛ لما في نفس التنصيب من مصلحة وقطع دابر الاختلاف.

فمثل هذه المحاسبات، تمنع القائد الحكيم أن يترك الأُمّة من بعده من دون أن يعيّن لها قيادةً تحافظ على الكيان الإسلاميّ الناشئ من الأخطار المحدقة به، وتقود الأُمّة الإسلاميّة الفتية في الطريق الشائك إلى الهدف المرسوم لها، والغاية المطلوبة.

إنّ القائد الحكيم، والرئيس المحنّك هو مَن يعتبر بالأوضاع الاجتماعيّة لأُمّتة والظروف المحيطة بها، ويأخذ بنظر الاعتبار ما يمكن أن يحدث لها جرّاء غيبته ووفاته، ثمّ يرسم على ضوء تلك الظروف والأحوال، والتوقّعات والمحاسبات ما يراه صالحاً للأُمّة ولمستقبلها، وأهم تلك الأُمور هو تعيين القائد لها، والمدير لشؤونها من بعده.

إنّ أوضاع المسلمين آنذاك، والظروف الحرجة المحيطة بهم؛ كانت

ص: 63


1- . اقرأ بقية القصّة في: شرح نهج البلاغة: 17/6-38، طبعة مصر.

تقتضي أن لا يدع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تلك الأُمّة الحديثة العهد بالإسلام وتلك الدولة الفتية الجديدة التأسيس، لآراء الأُمّة وإرادتها لتختار هي بنفسها قائدها ورئيسها، وهي في خضمّ تلك الأخطار، والظروف الحسّاسة البالغة الخطورة، إذ ربمّا كانت تبتلي - في ذلك الأمر - بالخلاف الذريع، والفرقة الكبيرة؛ فتسهّل للخصم سبيل السيطرة عليها وتمكّنه من تحقيق مؤامراته ونواياه.

إنّ عدم بلوغ الأُمّة الإسلاميّة حدّ الاكتفاء الذاتيّ في ملء الفراغات الحاصلة بعد رحيل النبيّ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار، الأخطار التي كانت تحدق بها، والرواسب القبليّة الجاهليّة، وعدم قدرتها على التغلّب على كلّ ذلك لوحدها؛ كانت توجب على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بحكم العقل السليم؛ أن ينصّب للأُمّة قائداً يكون مرجعاً في الأُصول والمعارف، والفروع والأحكام، وتعليم السنّة ويدبّر شؤونها ويجمع شتاتها ويحافظ على وحدتها، ويقود سفينتها إلى شاطئ الأمن والدعة والسلام، وممّا ذُكر تُعلم قيمة كلام الشيخ الرئيس ابن سينا حيث يقول: الاستخلاف بالنصّ أصوب، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف.(1)

وبما ذكرنا ظهر أنّ مقتضى حكم العقل الحصيف ورعاية مصالح الأُمّة وإبعادها عن الاختلاف والشغب هو نصب الوصي من اللّٰه سبحانه وأن يكون له مقدرة علمية كالنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وكفاءة إدارية، إلى غير ذلك ممّا يشترط في المدير الكفوء.

ص: 64


1- . الشفاء (الإلهيات): 452/1، تحقيق إبراهيم مدكور.

وقد ظهر في هذا البحث المبسوط الأُمور التالية:

1. أنّ الإمامية استدلّوا على إمامة الأئمة الاثني عشر بوجهين:

الأوّل: الأحاديث المتواترة حول تنصيب الإمام علي عليه السلام والمتضافرة لمن بعده وهذا هو الأصل الّذي اعتمد عليه شيوخ الإمامية في القرون السابقة؛ لأن الاستدلال بالنصوص الواردة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقنع الإنسان ويقطع طريق الجدل مهما كان مجادلاً.

الثاني: لمّا تكامل علم الكلام في القرن الثالث والرابع بيد علمائهم وطرحت مسألة الإمامة على طاولة البحث أخذ المشايخ يستدلون عليه بالعقل الحصيف وقاعدة اللطف حسب ما شرحناه وليس هذا بمعنى أنّه لو لم يقتنع أحد بقاعدة اللطف بطل القول بإمامة الأئمة المعصومين، لما عرفت من أن التنصيب عن طريق الأحاديث المتواترة أقوى دليل وأقوم معتمد.

***

2. أنّ تبليغ الأحكام ليست فريدة ملقاة على عاتق الإمام - كما زعم السيد الآلوسي - بل عرفت على الإمام ملء الفراغات الهائلة بعد رحيل الرسول من تبيين المعارف والأُصول العقدية، وبيان المسائل الشرعية في الأُمور المستجدة وتفسير القرآن الكريم ورد الشبهات الطارئة من قبل الأعداء والمنافقين إلى غير ذلك، فتركيز السيد الآلوسي على واحد من هذه الوظائف دليل على أنّه لم يقرأ كتب الأصحاب في الإمامة.

***

ص: 65

3. أن التكليف حسب القدرة إذ لا يكلّف اللّٰه نفساً إلّاوسعها، فالأئمة المعصومون قد قاموا بوظائفهم المحوّلة إليهم بعد رحيل الرسول حسب مقدرتهم وقدراتهم، فلو قام الظالم وحال بين الإمام وبين القيام بهذه الوظائف الهائلة لا يكون دليلاً على أنّه ليس بإمام، فالنبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كان مأموراً بالوظائف الثقيلة حيث إنّه كان محبوساً في الشعب ثلاث سنين فعدم تمكنّه من التبليغ لا يكون دليلاً على أنّه ليس بنبي، وقس على ذلك بقية الأنبياء الّذين منعوا من التبليغ كإبراهيم الخليل عليه السلام وغيره، وبذلك يعلم أنّ ما يكرّره السيد الآلوسي في رسائله بأنّ الإمام هو المأمور بالتبليغ، فإذا لم يستطع القيام بذلك فلا يكون إماماً، وبما أنّ الإمام الثاني عشر غائب عن الأنظار فالأُمّة الإسلامية لا تتمتع بوجوده، فاستنتج بذلك أنّه ليس بإمام!! وهذا غفلة أو تغافل منه وتناسٍ للآيات الّتي تدلّ على اشتراط التكليف بالقدرة والاختيار. فالأئمة المعصومون غير الإمام المهدي قاموا بالمسؤوليّات حسب القدرة وهم بين مسجون أو مراقب في بيته وبلده، ومع ذلك ملأت العالم آثارهم وعلومهم، وأمّا المهدي (عج) ففي زمن الغيبة لا يتمكّن من التبليغ وغيره، لا لقصور أو لتقصير - نعوذ باللّٰه منه - بل لأجل وجود العدو الغاشم حيث كانوا مترصّدين لاغتياله وقتله، وذلك لمّا انتشر خبر وفاة الإمام الحسن العسكري أحاطت شرطة الخلافة بالبيت لما اشتهر بأنّ ولده هو المهدي الّذي وعد به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لإسقاط صرح الظالمين، فلمّا يأسوا من القبض عليه كبسوا الدار.

***

ص: 66

ترجمة شيخ الشريعة الإصفهاني قدس سره

هو فتح اللّٰه بن محمد جواد النمازي(1) الشيرازي الأصل، الاصفهاني ثم النجفي (1266-1339 ه).

كان فقيهاً بارعاً، أُصولياً محقّقاً، علّامة في العلوم العقلية، من أعلام الإمامية، وأحد أكابر رجال ثورة العشرين في العراق.

ولد في أصفهان سنة ست وستين ومائتين وألف.

وتتلمذ على: محمد صادق التنكابني، وحيدر علي الأصفهاني، وعبد الجواد الخراساني، وأحمد السبزواري الأصفهاني.

وحضر على محمد باقر بن محمد تقي الأصفهاني في كثير من المباحث الفكرية والأُصولية.

وسافر إلى المشهد الرضوي، فجرت بينه وبين علمائه مناظرات، ظهرت فيها مواهبه.

ورجع إلى أصفهان، فشرع في التدريس بطريقة أعجب الطلبة بها.

وارتحل إلى النجف الأشرف، فتصدى للتدريس والبحث، وحضر في أثناء ذلك على العلمين: الميرزا حبيب اللّٰه الرشتي النجفي، ومحمد حسين بن هاشم الكاظمي النجفي.

ثمّ انقطع للتدريس والإملاء والتأليف والإفتاء، وأخذ عنه وتخرّج عليه لفيف من العلماء والمجتهدين، منهم: السيد عبد الهادي بن إسماعيل

ص: 67


1- . نسبة إلى أُسرة (النمازية) التي عُرفت باسم جدّها محمد علي النمازي الشهير بكثرة مداومته على الصلوات والنوافل، و (نماز) باللغة الفارسية معناها الصلاة.

الشيرازي النجفي، ومحمد حسين بن محمد جعفر السبحاني التبريزي(1)، ومحسن بن علي الطهراني الشهير بآقا بزرگ صاحب «الذريعة»، ومحمد حسن بن محمد المظفر النجفي، والسيد كاظم بن محمد رضا الطباطبائي التبريزي المفيد، والسيد علي مدد النجفي، والسيد محمد باقر بن أبي الحسن محمد الكشميري (المتوفّى 1346 ه).

ورجع إليه في التقليد جمع من الناس.

وشارك في حركة الجهاد عام (1914 م) بعد احتلال البصرة من قبل القوات البريطانية، ورابط مع العلماء والمجاهدين في محور القرنة (من توابع البصرة).(2)

ثم برز اسمه في ثورة العراق الكبرى (ثورة العشرين) سنة (1920 م)، وتناقل الناس ما أصدره من الفتاوى فيها، وكان في بدئها عوناً لمرجع الطائفة الميرزا محمد تقي الشيرازي، وبوفاة الميرزا الشيرازي سنة (1338 ه)، انتقلت إليه قيادة الثورة، والزعامة الدينية، وأصبح المرجع الشهير للشيعة في غالب الأقطار.

واستمر في جهاده ضد الاحتلال البريطاني، إلى أن توفّي بعد خمسين يوماً من تشكيل الوزارة الأُولى برئاسة عبد الرحمن النقيب، وذلك في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة وألف. وقد ترك جملة من المؤلّفات، منها: إبانة المختار في إرث الزوجة من

ص: 68


1- . والدنا تغمده اللّٰه برحمته الواسعة.
2- . لاحظ: الحوزة العلمية في مواجهة الاستكبار، لصادق جعفر الرّوازق: 17.

ثمن العقار، رسالة في الغُسالة، رسالة في الكعب، رسالة في اللباس المشكوك، إفاضة القدير في أحكام العصير (مطبوع)، رسالة في تعريف البيع، رسالة في قاعدة الطهارة، رسالة في قاعدة لا ضرر (مطبوعة)، حاشية على «الفصول» في أُصول الفقه لمحمد حسين بن محمد رحيم الأصفهاني الحائري، رسالة في صفات الذات وصفات الفعل، المناظرات مع السيد محمود شكري الآلوسي في إثبات وجود الحجّة وإمامته، وهي ثلاث رسائل، القول الصراح حول الصحاح (مطبوع)، رسالة في الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد، رسالة في نفي البأس وانّ مدلوله نفي الحرمة، وإنارة الحالك في قراءة مَلِك ومالك، وغير ذلك.(1)

***

ترجمة محمود شكري الآلوسي

هو أبو المعالي محمود شكري بن عبداللّٰه بن شهاب الدين محمود بن عبداللّٰه بن محمود الخطيب الحسيني الآلوسي البغدادي (1273-1342 ه) مؤرّخ، أديب، لغوي. ولد في رصافة بغداد في 19 رمضان سنة 1273 ه.

وأخذ العلم عن أبيه وعمّه وغيرهما.

وتصدّر للتدريس في داره وفي بعض المساجد.

ولمّا نشبت الحرب العالمية الأُولى وهاجم البريطانيون العراق، انتدبته الحكومة العثمانية للسفر إلى نجد والسعي لدى الأمير عبدالعزيز آل سعود (ملك المملكة العربية السعودية بعد ذلك) للقيام بمناصرتها، فقصده

ص: 69


1- . لاحظ: موسوعة طبقات الفقهاء: 483/1/14-485، برقم 4715.

الآلوسي (سنة 1333 ه) عن طريق سوريا والحجاز، وعرض عليه ما جاء من أجله، فاعتذر، وآب الآلوسي مخفقاً. واحتلّ البريطانيون بغداد (1335 ه)، وكان عضواً في مجلس المعارف في بداية تشكيل الحكومة العراقية في بغداد. وتوفّي في بغداد سنة 1342 ه / 1924 م.

له مصنّفات كثيرة، منها: «بلوغ الأرب في أحوال العرب» مطبوع في ثلاثة أجزاء، «تاريخ نجد» مطبوع، «المسك الأذخر في تراجم القرن الثالث عشر» مطبوع، «مختصر التحفة الاثنى عشرية» مطبوع، وكتاب «التحفة الاثنى عشرية» أصله فارسي لعبد العزيز الدهلوي، وقد عرّبه في سنة 1227 ه الشيخ غلام محمد بن محيي الدين بن عمر الأسلمي، واختصر المعرّب صاحب الترجمة في سنة 1301 ه.(1)

المناظرات بين شيخ الشريعة والسيد الآلوسي

ثمّ إنّ السيد الآلوسي - كما تقدّم ذكره - لم يقتصر بالقصيدة البغدادية، بل كتب رسالة موجزة حول غيبة الإمام المهدي وما هو وجه غيبته لو كان موجوداً، وأرسلها بواسطة رجل إلى علماء النجف، وممن وصلت إليه الرسالة هو شيخ الشريعة فكتب رسالة مختصرة جواباً عن سؤاله واعتراضه.

ثمّ إنّ السيد الآلوسي كتب رسالة ثانية متوسطة استشكل فيها بعض الأُمور الّتي ذكرها شيخ الشريعة في رسالته الأُولى، وأجاب عنها شيخ الشريعة برسالة مثلها. ويظهر من صدر رسالة شيخ الشريعة أنّها أيضاً كتبت

ص: 70


1- . الأعلام للزركلي: 172/7-173؛ الذريعة: 283/22 و 321.

عام 1327 ه.

ثمّ إنّ السيد الآلوسي عزّز رسالتيه برسالة ثالثة توسّع فيها في النقاش، فأجاب عنها شيخ الشريعة برسالة ثالثة مبسوطة تشتمل على أربعة عشر فصلاً. وأصل هذه الرسائل الست يدور حول وجود الإمام المهدي - عجّل اللّٰه تعالى فرجه الشريف - وإمامته، وإن تطرّقت إلى بحوث كلامية وروائية ورجالية أُخرى.

فهذه الرسائل الست سؤالاً وجواباً، أو اعتراضاً ونقداً، تأتي مع التحقيق في هذه المجموعة، ونحن ننشرها ونضعها أمام أنظار أهل التحقيق والعلم حتى تُعلم قيمة السؤال والجواب.

شكر وتقدير

وفي الختام أتقدّم بالشكر الجزيل للجنة التحقيق في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، وأخصّ بالذكر:

المحقّق الفاضل محمد عبد الكريم بيت الشيخ.

فقد قاموا بتحقيق الكتاب على أكمل وجه، وبذلوا جهودهم في مقابلة النسخ الخطية، وتقويم النص، وتخريج المصادر والأقوال، وإعراب الآيات، وترتيب عناوينه وفصوله، وحلّ معضلاته والتعليق عليها، وتصحيح الكتاب بدقّة حتى ظهر بهذا الشكل اللائق؛ فشكر اللّٰه مساعي الجميع.

أمّا منهج التحقيق فأتركه لقلم المحقّقين.

ص: 71

النسخ المعتمدة

اعتمدنا في عملنا على النسختين الخطّيتين التاليتين:

1. النسخة الخطّية المحفوظة في مكتبة آية اللّٰه المرعشي النجفي في قم برقم 8531. كتبها عبد اللّٰه بن محمد حسن الهشترودي وفرغ من كتابتها في مشهد مولانا أمير المؤمنين، النجف الأشرف على مشرّفها آلاف التحية والسلام في يوم الأربعاء، سادس وعشرين ذي حجّة الحرام من سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة بعد الألف سنة 1334 ه. والنسخة تحتوي على 150 صفحة، كلّ صفحة تتكون من 18 سطراً ذات أبعاد: 21 * 14 سم. وهي نسخة جيدة الخط لكنّها لا تخلو من هفوات. كُتبت بأمر وتوجيه من الميرزا محمد أمين المعروف بصدر الإسلام الخوئي، وقد قابلها حسن علي الهمداني على نسخة المؤلّف في سنة 1335 ه. وفي بدايتها ونهايتها ختم مكتبة الخوئي.

وقد رمزنا لها بالحرف «م». 2. النسخة الخطية المحفوظة في مكتبة السيد الحكيم العامّة في النجف الأشرف برقم 2676 تحت عنوان: «رد على كتاب التحفة». والنسخة تحتوي على 206 صفحة، كلّ صفحة تتكون من 19 سطراً، ذات أبعاد:

12/9 * 20/6. وهي نسخة جيدة من حيث سلامة المتن وقلّة الأخطاء، علاوة على جودة الخط ووضوحه، لكنّها خلت من اسم الناسخ وسنة النسخ. وقد استفدنا منها كثيراً للحصول على متن صحيح خالٍ من الأخطاء. وقد رمزنا لها بالحرف: «ح».

ص: 72

منهج التحقيق

1. بعد تهيئة النسختين قمنا بمقابلتهما مع بعض، وقد اعتمدنا طريقة التلفيق بين النسختين وتثبيت الصحيح في المتن مع الإشارة إلى الاختلافات المهمة في الهامش.

2. بعد الانتهاء من مقابلة النسخ الخطية قمنا بتقويم نص الكتاب وضبطه وتنقيحه.

3. إعراب الآيات القرآنية وتخريجها.

4. تخريج الأحاديث والروايات والأقوال الواردة في متن الكتاب وإرجاعها إلى مصادرها الرئيسية.

5. تخريج أقوال العلماء واستعراض الآراء المتعلّقة بالموضوع.

6. كتابة بعض التعاليق الضرورية حول مواضيع الكتاب المختلفة، خصوصاً ما يتعلّق بالأُمور الأدبية واللغوية والعقائدية، وشرح الألفاظ الصعبة وتبيين معانيها لغة واصطلاحاً.

7. إتماماً للفائدة قمنا بترجمة بعض الأعلام الذين ذكرهم المؤلّف في متن كتابه.

8. كلّ ما بين المعقوفتين [] فهو إضافة منّا لضرورة يقتضيها سياق العبارة.

9. قمنا بكتابة عناوين استناجية حسب مطالب الكتاب ومحتوياته ووضعها بين معقوفتين تسهيلاً للقارئ الكريم.

10. قام المشرف بكتابة تعليقات قيّمة على بعض مطالب الكتاب وقد

ص: 73

وضعناها في الهامش وألحقنا بها كلمة المشرف لتمييزها عن بقية الهوامش.

11. كما قام المشرف بكتابة تعليقات مفصّلة على رسالتي الآلوسي الثانية والثالثة، وقد وضعناها بعد الرسالة الثانية والثالثة للآلوسي حسب ما ارتآه المشرف حفظه اللّٰه.

12. كان في النسختين الخطيتين بعض الحواشي جعلناها في الهامش مع الإشارة إلى مَن كتبها لتمييزها عن بقية الهوامش.

***

هذا نصّ المحقّقين - وفّقهم اللّٰه - حول منهج التحقيق.

نسأل اللّٰه تعالى أن يلم كلمة المسلمين ويرزقهم توحيد الكلمة، كما رزقهم كلمة التوحيد، إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.

وآخر دعوانا أن الحمد للّٰه ربّ العالمين

جعفر السبحاني

قم - مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

24 ربيع الأوّل 1439 ه

ص: 74

ص: 75

ص: 76

ص: 77

ص: 78

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

الحمد للّٰه ربّ العالمين، وأفضل صلواته وتسليماته على أفضل أنبيائه محمد وآله الطاهرين.

وبعد؛ فقد رُفع إليّ سؤال في هذه الأيام عن بغداد وجّهه إليّ بعض إخواننا في الإيمان قائلاً: إنّ بعض فضلاء أهل السنّة اعترض به عليه، طالباً منّي الجواب على الاستعجال، فكتبت ما خطر لي بالبال، وسنح لي في الحال، راجياً فيه انتفاع المؤمنين وإخواننا في الدين، وها أنا أذكر نصّ السؤال:

ص: 79

ص: 80

1- الرسالة الأُولى للسيد الآلوسي

قال: ما يقول مولانا وملاذنا حجّة الإسلام ومرجع الخاص والعام - أدام اللّٰه أيامه - في جواب اعتراض اعترضه بعض أهل السنّة في كتابه المسمّى ب «التحفة»(1) وهو:

إنّكم معاشر الإمامية تدّعون وجود إمام معصوم في كلّ عصر حتى في هذا العصر، وأنّه مختف محتجب عن الناس، وتقولون: إنّ الغرض الأهمّ من نصبه ووجوده هو تبليغ الأحكام الشرعيّة الفرعية، وإجماعكم قائم على هذا، وأدلّتكم التي تستدلّون بها تقتضيه ككونه حافظاً للشرع، وإنّ وجوده لطف في الامتثال، وأخباركم عن أئمتكم متواترة في أنّ الغرض من نصب الإمام هو تعريف الأحكام، فنقول: لو كان إمام منصوب لتعريف الأحكام لعرّفها حسب تمكّنه واقتداره، وإلّا لزم العبث ونقض الغرض، ولمّا عرفنا أنّه

ص: 81


1- . كتاب التحفة للشاه عبد العزيز بن شاه ولي اللّٰه الدهلوي (1159-1239 ه) واسم الكتاب الكامل هو: «التحفة الاثنى عشرية في الردّ على الشيعة الإمامية» وقد نقله إلى العربية: الشيخ غلام محمد بن محيي الدين. وقد اختصرالمعرّب السيد محمود شكري الآلوسي - صاحب هذه المناظرات مع شيخ الشريعة الأصفهاني - وسمّاه: «مختصر التحفة الاثنى عشرية» وقد طبع في الرياض سنة 1404 ه بتحقيق محب الدين الخطيب. وقد أخذ مؤلّف التحفة جُلّ ما ذكره من كتاب «الصواقع» لنصر اللّٰه الكابلي وهو بدوره قد أخذ ما أورده في كتابه من كتاب للفاضل بن روزبهان.

يتمكّن من التعريف ولم يعرّف، عرفنا أنّه ليس هناك إمام موجود.

أمّا أنّه يتمكّن من التعريف فلأنّه يتمكّن من الظهور لجماعة من العلماء الأتقياء من شيعته على وجه يحصل بهم التواتر لو نقلوا كلامه إلى غيره ولو بأن يظهر لكلّ واحد واحد على انفراده، إذ لا يتوهّم أنّه يخاف القتل من رجل واحد، [لا] سيّما(1) والبرهان قائم على أنّ الإمام أشجع الناس على أنّه يعلم أنّه الموعود بالبقاء حتّى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وليكن ظهوره مع معجزة دالّة على صدقه، وكذلك يتمكّن من دفع كتاب جامع للأحكام، يرفع الاختلاف كلّاً أو جلّاً ويأمرهم بكتابته ونقله لمن بعدهم والإفتاء على طبقه، فلو ظهر مثلاً للكليني وابن بابويه والشيخ الطوسي مع معجزة تدلّ على صدقه وعلّمهم الأحكام وأمرهم بكتابتها بدلاً عمّا دوّنوه من الأخبار المتعارضة لحصل بهم التواتر، فإنّ الخبر الذي أجمع هؤلاء على نقله يحصل به التواتر، ولا يجوّز عاقل عليهم الكذب في النقل، وإنّما لا يحصل العلم بأخبارهم المنقولة من جهة الوسائط بينهم وبين الإمام، ولو علم أنّه لا يحصل بهم التواتر ضمّ إليهم غيرهم كالمفيد والمرتضى، أو غيرهم كالمحقّق والعلّامة والشهيد، ولو ادّعيتم أنّ هذه الفائدة لم تكن مقصودة من نصبه لزم بطلان أدلّتكم حتى النصوص الواردة من آبائه لأنّها لا تقاوم النصوص الواردة عنهم الدالّة على أنّ هذه الفائدة هي المقصودة من نصبه؛ ادفعوا عنّا هذا الإشكال دفع اللّٰه عنكم البلاء، وأهلك مَن كان لكم من الأعداء؟

***

ص: 82


1- . استعمال «سيما» مجرداً عن «لا» غير صحيح، ولذا جعلناها بين معقوفتين. (المشرف).

2- جواب شيخ الشريعة قدس سره على رسالة السيد الآلوسي الأُولى

اشارة

[بسم اللّٰه الرحمن الرحيم]

قلت: متوكّلاً على اللّٰه المتعال، مجيباً عن السؤال، رافعاً للإشكال: إنّ هذا الاعتراض لم أجده في «التحفة» بعد تتبّع مظانّ مثله، وقد جمع هذا التقريب بين خطاء وكذب وتمويه، واستيعاب جهات الفساد فيه يحتاج إلى إفراد كتاب ضخم مبسوط، إلّاأنّا نختصر القول فيه غاية الإختصار، ونحيل أكثر المقدّمات إلى محالّها المعروفة المتضّمنة لمقنع من القول، فيه شفاء لما في الصّدور. فنقول:

الذي يعتمد عليه الإماميّة - شيّد اللّٰه أركانهم، وكثّر أعوانهم - في القول بإمامة صاحب الزمان الحجّة ابن الحسن - سلام اللّٰه عليه وعلى آبائه الأكرمين - ووجوده وبقائه ليس قاعدة اللّطف وإن ذكرها بعضهم تأييداً، بل الأخبار المتواترة عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم وعن الأئمّة الطاهرين من ذرّيته المروية بطرق غير محصورة عن رجال الشيعة والسنّة جميعاً، المدوّنة في كتبهم العلمية وصحفهم الدينية من الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها.

وقد عثرت على الروايات المتضمّنة للوعد بظهوره ولولادته وبقائه

ص: 83

وغيبته(1)، وأنّ له عليه السلام غيبتين صغرىٰ وكبرىٰ، وعلامات ظهوره وغيرها ممّا يتعلّق به عليه السلام ما يزيد على ثلاثمائة رواية موجودة في كتب الفريقين، وليس في شيء منها أنّ الغرض الأهمّ من نصبه ووجوده تعريف الأحكام وبيان الحلال والحرام، بل جملة منها خالية عن ذكر علله وفوائده.

وفي جملة منها: أنّه أبقاه اللّٰه تعالى ليظهر فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، ويطهّر الأرض من أرجاس الكفّار والمشركين، ويقطع دابر الظالمين، ويتمّ به وعد اللّٰه تعالى في كتابه المبين من الاستخلاف وتمكين الدين.(2)

وفي جملة منها: أنّه أمان لأهل الأرض، ولولاه لساخت بأهلها.(3)

وفي جملة منها: أنّ الناس ينتفعون به حال غيبته كانتفاعهم بالشمس المستترة بالسّحاب(4)، وفي هذا التشبيه وجوه ولطائف عديدة لا نطيل بذكرها.

وفي بعضها: أنّ اللّٰه تعالى يرزق بوجود الإمام عباده ويعمّر به بلاده، وينزل به القطر من السماء، وتخرج به بركات الأرض، وبه يمهل أهل المعاصي ولا يعجل عليهم بالعقوبة والعذاب.(5)

وفيما رواه الفريقان بطرق شتى عن الّنبي صلى الله عليه و آله و سلم: «النجوم أمان لأهل

ص: 84


1- . قد تقدّم ما يدلّ على الأُمور المذكورة في مقدمتنا. (المشرف)
2- . لاحظ: بحار الأنوار: 12/51، 32، 50، 71-74.
3- . لاحظ: بحار الأنوار: 380/75؛ معجم أحاديث الإمام المهدي: 270/5.
4- . لاحظ: كمال الدين: 253؛ بحار الأنوار: 92/52، ح 8؛ معجم أحاديث الإمام المهدي: 68/5 برقم 1492.
5- . لاحظ: معجم أحاديث الإمام المهدي: 74/5 برقم 1496.

السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون».(1)

اللازم على الإمام بيان الأحكام بالطرق المتعارفة

وأمّا ما في عدّة من الأخبار من أنّ الأرض لا تخلو من حجّة يفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم، فالمراد به مَن لو فزع الناس إليه في الأحكام وتمكّن من البيان على الوجه المتعارف لعرّفهم وعلّمهم، ولا يراد بها خصوص الحجّة المنتظر المهدي عليه السلام، بل يعمّه وآباءه من النبيّ وعترته المطهرّين - سلام اللّٰه عليهم أجمعين -(2) ولا يراد بها فعلية البيان والتعريف والتعليم منهم على الإطلاق، وليست وظيفة الإمام الغائب عليه السلام من هذه الجهة أزيد من آبائه الحاضرين، ولا يدلّ شيء من هذه الروايات على خصوصيّة زائدة فيه، بل المتحصّل من الجميع وجوب وجود مَن يحفظ ببركته الدين عن الاضمحلال والاندراس، ويكون محيطاً بعلوم الدين والدنيا وعارفاً بمصالح الآخرة والأُولى، بحيث لو تمكّن الناس من الرجوع إليه ورجعوا وتمكّن هو من البيان بالطرق العاديّة، أزاح عنهم العلل، وأوضح لهم كلّ ما خفي عليهم وأشكل.

وهذا المعنى هو الذي نعتقده في الحجّة المنتظر وآبائه الطاهرين، وكلّ مَن يتمسّك بقاعدة اللطف لا يريد أزيد من هذا المعنى ضرورة كفاية

ص: 85


1- . علل الشرائع: 123/1، ح 1، الباب 103 (العلّة التي من أجلها يحتاج إلى النبي والإمام عليهما السلام).
2- . قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في «نهج البلاغة»: 497، قسم الحكم برقم 147: «... اللَّهُمَّ بَلَىٰ! لَاتَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلّهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً (حافياً) مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللّٰهِ وَبَيِّنَاتُهُ...».

هذا القدر في اللطف المدّعى وجوبه، وستأتي تتمة لهذا الكلام.

إجابة نقضية عن السؤال

وممّا يزيد به المرام بياناً ويصير به السر عياناً أنّه لا شكّ أنّ الغرض من بعث النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم هو إرشاد الجهّال وإنقاذ الضلّال وتبليغ الأحكام وبيان الحلال والحرام؛ فلو أنّ ملحداً مشكّكاً قال لهذا المعترض علينا: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يتمكّن من تبليغ أحكامه وتعريف دينه بحيث يبقى مصوناً عن الشبهات والاختلافات، ولو بأن يدوّن أو يأمر بتدوين كتاب جامع للفروع والأحكام الّتي أمر بتبليغها، ويأمر بنسخ ذلك الكتاب وكتابته وقراءته ومدارسته وتعليمه وتعلّمه، ولو فعل ذلك لارتفع هذا الخلاف العظيم كلّاً أو جلّاً بين أُمّته الّذي فرقهم فرقاً شتّى، وصنوفاً لا تحصى، ذوي أقوال لا تُحد، وآراء لا تُعد، ويزيد وينمو على مرّ السنين والأعوام، ويؤدّي إلى التشاحن والتباغض بين الأنام.

ألا ترى أنّ الحنفية والشافعية وغيرهم لا يختلفون في مذاهب أئمّتهم ويتّفقون على أنّ قول إمامهم في تلك المسألة كذا وفي تلك كذا، والإمامية لا يختلفون في أنّ مذهب المحقّق صاحب الشرائع - مثلاً - كذا وكذا من جهة حفظ آرائهم وفتاويهم فيما دوّنوا، ولو كان هناك كتاب جامع مدوّن بأمره صلى الله عليه و آله و سلم(1) لاتّضح واشتهر وتواتر، وكانت العناية بحفظه من جهة الاحتياج إليه في كلّ الأحكام أشدّ من العناية بالصلوات اليومية والفرائض الضرورية؛ فلمّا رأينا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يفعل ذلك مع تمكّنه منه عرفنا -

ص: 86


1- . في «م»: تعالى.

والعياذ باللّٰه - أنّه لم يكن نبيّاً، وإلّا لما قصّر في التبليغ ولحفظ أُمّته عن الضلال والوقوع في خلاف ما أتى به وكان يدّعي أنّه مبعوث على كافّة من يأتي إلى يوم القيامة، وأنّه خاتم الأنبياء، وأنّ دينه باقٍ إلى قيام الساعة، وأنّ نسبة الأوّلين والآخرين نسبة واحدة، فكيف رضي بضلالهم ووقوعهم في كلّ ما أتى به أو جلّه في خلاف الواقع ولو بالإخلال بجزء أو شرط من عباداتهم من وضوئهم وصلاتهم وصومهم وحجّهم وعمرتهم وكذا في معاملاتهم؟

فمَن يعجز عن بيان وجه الحكمة في الإخلال بمثل هذا الكتاب المدوّن من مثل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم المبعوث للتبليغ والبيان ولا يجعله قدحاً في نبوّته، كيف يطالب بمثله في حقّ بعض فروعه وأوصيائه ويجعله قدحاً في إمامته؟!

وإذا اعتذر عن تركه عن مثل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مع ظهوره وبروزه وعدم خوفه، واحتفافه بأُلوف من المهاجرين والأنصار والقبائل والأتباع، وكونه على ثقة من وعد اللّٰه تعالى بأنّه يعصمه من الناس، فليعتذر عن الإمام الغائب المستور جعلنا اللّٰه تعالى فداه [مثله].

والفرق بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان له أوصياء ظاهرون أودع علومه عندهم، لا يكفي بمجرّده في حفظ الأُمّة عن الاختلاف في الأحكام ما لم يوجب على وصيّه تدوين ما أودع عنده في كتاب وتشهيره بين أُولي الألباب.

ولو ترقّى ذلك الملحد إلى الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقال: إنّ اللّٰه تعالى صرّح فيه بأنّه إنّما أنزله نوراً وهدى وبياناً للناس وتبياناً لكلّ شيء وشفاء لما في الصدور وإخراجاً لهم من

ص: 87

الظلمات إلى النور، فلو بدّل فيه مثل سورة يوسف عليه السلام - المتضمّنة لتلك القصة الطويلة المعروفة المذكورة مفصّلة في التوراة المشهورة في ذاك الزمان وقد نهى رسوله صلى الله عليه و آله و سلم نساء أُمّته عن تعلّم هذه السّورة -، بمائة وإحدىٰ عشرة آية، تتضمّن كلّ واحدة قاعدة دينية يستخرج منها فروع جزئية؛ أو أنزل بدلاً عن قصّة موسى وفرعون - المتكرّرة مرّات عديدة - وقصّة آدم وإبليس - المذكورة في مواضع كثيرة - قواعد علمية وفوائد دينيّة وقوانين كلّيّة يرتفع بها جلّ الاختلاف عن الناس ويخرجون بها في أغلب مطالبهم الأصلية والفرعية والاعتقادية عن الاشتباه والالتباس، لكان أعظم في الانتفاع وأدخل في الهدى والبيان؛ أو اقتصر في هاتين القصّتين المتكرّرتين على موضع واحد ومحلّ فارد.

أو شكّك ذاك الملحد وقال ما وجه الحكمة في إنزال الآيات المتشابهات وما يظهر منها التشبيه والتجسيم والجبر والإضلال في الكتاب الّذي نزل للبيان والهداية حتى ألجأ ذلك إلى ذهاب جماعة من أهل السنّة إلى القول بأنّه تعالى وتقدّس في جهة الفوق تمسّكاً بمثل قوله تعالى: «يَخٰافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ».(1) ، وقوله تعالى: «وَ هُوَ اَلْقٰاهِرُ فَوْقَ عِبٰادِهِ»(2) وقوله تعالى: «تَعْرُجُ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ إِلَيْهِ»(3) ، وقوله تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ»(4) ، وقوله تعالى: «بَلْ رَفَعَهُ اَللّٰهُ إِلَيْهِ»(5) ، وقوله تعالى: «إِنِّي مُتَوَفِّيكَ

ص: 88


1- . النحل: 50.
2- . الأنعام: 18 و 61.
3- . المعارج: 4،
4- . فاطر: 10.
5- . النساء: 158.

وَ رٰافِعُكَ إِلَيَّ».(1) ، وقوله تعالى: «تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ»(2) ، وقوله تعالى:

«تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(3) ، وقوله تعالى: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ» (4)الدّال على أنّ كلامه نزل به الروح الأمين من أعلى مكان إلى رسوله صلى الله عليه و آله و سلم، إلى غير ذلك من الآيات.

قال بعضهم وهو علّامتهم ابن القيّم(5) الذي بلغنا عن مقرر الاعتراض أنّه يبالغ في كثرة فضله وتبحّره وجلالته ويسلك مسلكه في أُصوله وفروعه بعد نقل الآيات ما لفظه:

ومَن له أدنى بصيرة يعلم أنّه لا شيء في النصوص أظهر ولا أبين دلالة من مضمون هذه النصوص، فإذا كانت متشابهة فالشريعة كلّها متشابهة وليس فيها شيء محكم ألبتة، ولازم هذا القول لزوماً لا محيد عنه أنّ ترك الناس بدون هذه الآيات خير لهم من إنزالها إليهم، فإنّها أوهمتهم وأفهمتهم غير المراد، وأوقعتهم في اعتقاد الباطل، ولم يتبيّن لهم ما هو الحقّ في نفسه، بل أُحيلوا فيه على ما يستخرجونه بعقولهم وأفعالهم ومقائسهم.

ص: 89


1- . آل عمران: 55.
2- . الزمر: 1؛ غافر: 2؛ الجاثية: 2؛ الأحقاف: 2.
3- . فصّلت: 42.
4- . النحل: 102.
5- . هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزُّرعي الدمشقي، أبو عبد اللّٰه ابن قيّم الجوزية (691-751 ه) كان فقيهاً حنبلياً، تفقّه على ابن تيمية ولازمه وحبس معه بسبب فتاواه حول إنكار زيارة قبر النبيّ ومسألة الطلاق وغيرهما، وأُهين وطيف به على جمل مضروباً بالدّرة، ولم يفرج عنه إلّابعد موت شيخه ابن تيمية. قال ابن حجر: غلب عليه حب ابن تيميّة حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذّب كتبه ونشر علمه. لاحظ موسوعة طبقات الفقهاء: 175/8 برقم 2791.

قال: (وأشار إلى اللّٰه تعالى حسّاً إلى جهة العلو)(1) مَن هو أعلم به، وما يجب له ويمتنع عليه من أفراخ الجهمية والمعتزلة والفلاسفة في أعظم مجمع على وجه الأرض يرفع إصبعه إلى السماء ويقول: اللّهم اشهد، (وإنّما فعل ذلك)(2) ليشهد الجميع أنّ الرب الذي أرسله ودعا إليه واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه. انتهى.(3)

فإن عجز ذلك المعترض عن وجه الحكمة في إنزال المتشابهات أو الظاهرات فيما هو خلاف الواقع، أو ترك التبديل لبعض قصص القرآن بالقواعد الكلّية الدينية الرافعة للاختلاف، ولم يجعل ذلك منافياً لكون الغرض الأهم من إنزال القرآن الهداية والبيان وإرشاد الناس إلى الحقّ الصريح والقول الصحيح، فالمأمول أن لا يجعل ترك ظهور الحجّة المنتظر عليه السلام في زمن غيبته مقروناً بمعجزة دالّة على صدقه لجماعة من خواصّ أوليائه بمقدار يحصل بهم التواتر، منافياً لإمامته.

والأصل في ذلك كلّه أنّ الدليل القاطع للعذر المفيد لليقين إذا قام على شيء ثم لم نقدر على تطبيق بعض الواقع على ما يقتضيه ذلك الدليل، لم يوجب ذلك رفع اليد عن ذلك الدّليل.

عدم إحاطة العقول لحِكَمِ الأحكام ومصالحها

فإذا قام الدليل مثلاً على أنّ اللّٰه تعالى عدل حكيم في أفعاله، ثم عجزنا

ص: 90


1- . في المصدر: الإشارة إليه حسّاً إلى العلو كما أشار إليه.
2- . ليس في المصدر.
3- . أعلام الموقعين: 302/2.

عن إثبات وجه الحكمة في إيلام الأطفال وابتلائهم بالجدري الموحش الموجع المؤذي، أو القروح الخبيثة الموجعة، أو الآلام المؤذية المؤلمة ثم إماتتهم في حال صباهم، وكذا في البهائم والمجانين، أو عن الحكمة في تسليط الكفّار والأشرار على المؤمنين والأخيار، لم نعدل عن القول بعدله وحكمته.

أو عرفنا مثلاً باليقين أنّ شرائعه متضمّنة لحِكَم ومصالح لا تحصى، ثمّ لم نفهم وجه المصلحة في السعي والهرولة ورمي الجمرات، أو وجه الفرق بين عدّة الحرّة والأمة مثلاً، لم نتعدّ عمّا علمناه على البت والقطع واليقين.

فإذا عرفنا - مثلاً - بالخبر المتواتر عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الذي ثبتت نبوّته على وجه اليقين أنّه قال: يكون بعدي اثنا عشر خليفة.

تضافر حديث الأئمّة الاثني عشر

ففي «مسند أحمد بن حنبل» عن مسروق قال: كنّا مع عبد اللّٰه جلوساً في المسجد يقرئنا فأتاه رجل فقال: يابن مسعود هل حدّثكم نبيّكم كم يكون بعده من خليفة؟ قال: نعم كعدّة نقباء بني إسرائيل.(1)

وفي بعض طرق الحديث: نعم اثنى عشر، عدّة نقباء بني إسرائيل.(2)

وفي بعضها: نعم عهد إلينا نبيّنا أنّه يكون بعده اثنى عشر خليفة بعدد نقباء بني إسرائيل.(3)

ص: 91


1- . مسند أحمد: 406/1.
2- . مستدرك الحاكم: 501/4؛ المعجم الكبير للطبراني: 158/10 برقم 10310.
3- . ينابيع المودّة للقندوزي: 315/2 برقم 906، و ج 290/3 برقم 5.

وفي صحيح البخاري: يكون بعدي اثنا عشر أميراً(1)، وقال: كلّهم من قريش.(2)

وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه و آله و سلم فسمعته يقول: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»، ثم تكلّم بكلام خفيّ، قال: قلت لأبي: ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش».(3)

وأخرج مسلم أيضاً في صحيحه أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال يوم جمعة عشية رجم الأسلمي: «لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش».(4)

وروى البزار عنه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يزال أمر أُمّتي قائماً حتى يمضي اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش».(5)

وروى مثله أبو داود وزاد: فلمّا رجع إلى منزله أتته قريش فقالوا: ثم يكون ماذا؟ قال: «الهرج».(6)

وروى الحمويني الشافعي عن عباية بن ربعي عن ابن عباس رفعه

ص: 92


1- . في المصدر بزيادة: فقال كلمة لم أسمعها فقال أبي: إنّه قال....
2- . صحيح البخاري: 127/8، كتاب الأحكام.
3- . صحيح مسلم: 3/6، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.
4- . صحيح مسلم: 4/6، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.
5- . الصواعق المحرقة للهيتمي: 20؛ تاريخ الخلفاء للسيوطي: 13؛ الصوارم المهرقة في جواب الصواعق المحرقة للتستري: 93.
6- . سنن أبي داود: 309/2 برقم 4281، كتاب المهدي.

قال صلى الله عليه و آله و سلم: «أنا سيد النبيين(1) وعلي(2) سيد الوصيين، وإنّ أوصيائي من بعدي اثنا عشر، أوّلهم عليّ عليه السلام(3)، وآخرهم المهدي».(4)

وروى بإسناده عن الأصبغ بن نباتة، عن ابن عباس رفعه قال صلى الله عليه و آله و سلم: «أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين عليه السلام مطهّرون معصومون».(5)

وفي «مناقب الخوارزمي» رواية متضمّنة للتصريح بأسامي الأئمّة الاثني عشر سلام اللّٰه عليهم من شاء فليرجع إليه، إلى غير ذلك ممّا رواه أهل السنّة في صحاحهم ومسانيدهم وكتبهم.(6)

وفي التوراة الموجودة الآن بيد اليهود أنّه تعالى وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريّة إسماعيل البركة، وأن يخرج منهم اثني عشر عظيماً.(7)

ص: 93


1- . في المصدر: أنا سيد المرسلين.
2- . في المصدر: علي بن أبي طالب.
3- . في المصدر: علي بن أبي طالب.
4- . فرائد السمطين: 313/2 برقم 564؛ ينابيع المودة: 295/3 برقم 3.
5- . فرائد السمطين: 313/2 برقم 563؛ كشف الغمة: 314/3؛ ينابيع المودة: 316/2 برقم 910؛ إعلام الورى: 181/2.
6- . نقله المؤلف عن مناقب الخوارزمي ولم نعثر عليه فيه، ولكن نقله الخوارزمي في كتاب «مقتل الحسين عليه السلام»: 95/1-96؛ الفصل السادس (في فضائل الحسن والحسين عليهما السلام) تعليق العلّامة الشيخ محمد السماوي، مطبعة الزهراء - النجف الأشرف - 1367 ه/ 1948 م؛ ولاحظ: كشف الأستار: 233.
7- . لاحظ: الكتاب المقدّس (العهد القديم والجديد): 25/1، في سفر التكوين، الإصحاح السابع عشر (18-20) طبع مجمع الكنائس الشرقية. وقد ورد هذا النص أو قريب منه في مصادر الفريقين راجع: البداية النهاية: 280/6؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: 257/3؛ التبيان في تفسير القرآن: 560/4؛ بحار الأنوار: 263/5 و ج 177/15 و 207 و ج 214/36.

وروايات الشيعة في هذا الباب ممّا يتعسّر إحصاؤها، وأنّ تسعة منهم من صلب الحسين وذريته، وأنّ تاسعهم هو الحجّة المنتظر، وأنّ له غيبتين:

صغرى يصل فيها إلى حضرته سفراؤه وبعض خواصّه، وكبرى. وقد أفرد جماعة من أعيان الشيعة والسنّة كتباً فيما يتعلّق بالمهدي المنتظر، وقد صنّف بعضها في حياة والده العسكري عليه السلام ممّا وصل إلينا، ككتاب «الغيبة» للفضل بن شاذان، الموجود بين أيدينا الآن المذكور في كتب التراجم في عداد مصنّفاته باسم كتاب «إثبات الرجعة»، وقد وقع الأمر على طبق ما رواه الرواة الثقات المتوفّون قبل ولادته بكثير.

ثمّ إنّ من المعلوم أنّه ليس فرقة من فرق الإسلام قائلين معتقدين بأنّ الخلفاء بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم اثنا عشر إلّاالطائفة المحقّة الإمامية - شيّد اللّٰه أركانهم - ولا تنطبق هذه الأحاديث المتواترة على شيء من المذاهب إلّاعلى المذهب المنصور، «وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ».(1) ؛ فإذا عرفنا ذلك ولم نعرف وجه الحكمة في الغيبة أو طولها أو عدم التبليغ الظاهر في ضمنها، لم نعدل عمّا تيقّناه.

ولعمري إنّه لا يمكن الجمع (بين انكار إمامته وبقائه وبين تصديق النبي صلى الله عليه و آله و سلم في نبوّته، كما لا يمكن الجمع)(2) بين نفي إمامته عليه السلام وبين ما اتّفق عليه المسلمون قاطبة من اتّصاف آبائه المطهّرين كالسجّاد والباقر والصادق والكاظم والرضا ومن بعدهم - سلام اللّٰه عليهم - بالورع والتُّقى والصدق والزهد والعفاف والديانة، وإن لم يتّفقوا على خلافتهم وإمامتهم، حيث إنّ

ص: 94


1- . النور: 40.
2- . ليس في «م».

إخبارهم بإمامته وطول غيبته وإنّ له غيبتين، من اليقينيّات الّتي جاوزت حدّ التواتر بكثير، ومن راجع كتب الشيعة والسنّة لا سيّما كتب الغيبة، عرف ضرورة صدق ما ادّعيناه.

وإن شئت أن تنظر إلى سطوع نور الحقّ ووضوحه فانظر إلى كلام ابن روزبهان(1) في شرحه وجرحه لكلام العلّامة الحلّي قدس سره(2) فإنّه مع كثرة تعصّبه في هذا الشرح وإنكاره لكثير من الأُمور الواضحة، ذكر بعد احتجاج العلّامة رحمه الله بحديث الاثني عشر خليفة ما هذا لفظه: إنّ هذا صحيح ثابت في الصحاح - ثم احتمل في معناه وجوهاً سخيفة إلى أن قال: - وأمّا حمله على الأئمّة الاثني عشر فإن أُريد بالخلافة: وراثة العلم والمعرفة وإيضاح الحجّة والقيام بإتمام منصب النبوّة، فلا مانع من الصحّة، ويجوز هذا الحمل بل يحسن؛ وإن أُريد به الزعامة الكبرى والإيالة(3) العظمى، فهذا أمر لا يصحّ؛ لأنّ من الاثني عشر اثنين كانا صاحب الزعامة الكبرى، وهما: علي والحسن -

ص: 95


1- . هو الفضل بن روزبهان بن فضل اللّٰه الخنجي الأصبهاني الحنفي الأشعري الشهير بخواجه مولانا عامّي مؤرّخ، مشارك في بعض العلوم من آثاره: إبطال نهج الباطل في الرد على ابن المطهر. معجم المؤلفين: 68/8؛ هدية العارفين: 820/1.
2- . كتب الفضل بن روزبهان في نقض كتاب «نهج الحق وكشف الصدق» للعلّامة الحلّي كتاباً أسماه: «إبطال نهج الباطل وإهمال كشف العاطل» هاجم فيه الإمامية عامّة والعلّامة الحلّي خاصة، وقد رد عليه القاضي التستري الشهيد ببلاد الهند بكتاب: «إحقاق الحق وإزهاق الباطل» وعهد الشيخ محمد حسن المظفر (المتوفّى 1375 ه) إلى تأليف كتاب: «دلائل الصدق لنهج الحق» تتميماً لما كتبه القاضي التستري. وكتاب «إبطال نهج الباطل» غير مطبوع في ما نعلم إلّاأنّ متنه الكامل موجود في كتاب «إحقاق الحق» وكتاب «دلائل الصدق لنهج الحق».
3- . الإيالة: السياسة. النهاية لابن الأثير: 85/1، مادة «أيل».

رضي اللّٰه عنهما -، والباقون لم يتصدّوا للزعامة الكبرى.(1)

أقول: لا ندّعي لخلافتهم معنى إلّاالأوّل وهو القيام بإتمام منصب النبوّة ووراثة العلم والمعرفة، والحمد للّٰه على اعترافه بثبوتها بهذا المعنى لهم عليهم السلام.

ونقل الحافظ العسقلاني عن ابن بطال عن المهلب في حديث الاثني عشر أنّه قال: لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث، يعني بشيء معين.(2)

وعن ابن الجوزي في «كشف المشكل»: قد أطلت البحث في معنى هذا الحديث، وتطلّبت مظانّه، وسألت عنه، فلم أقع على المقصود به.(3)

فانظر أيّدك اللّٰه تعالى إلى أعاظمهم هؤلاء كيف أعمى التعصّب وتقليد الآباء والأسلاف بصائرهم عن معنى هذا الحديث الواضح متناً وسنداً ودلالة، الذي لا ينطبق إلّاعلى مذهب الإمامية؛ فإذا ضممت إلى هذه ما تواتر عندنا وصحّ عندهم، وروي في صحاحهم - من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».(4)

ص: 96


1- . نقله عنه القاضي التستري في إحقاق الحق: 478/7؛ والمظفر في دلائل الصدق لنهج الحق: 269/6.
2- . فتح الباري: 182/13.
3- . كشف المشكل من حديث الصحيحين: 449/1-450. ونصّ العبارة فيه هكذا: هذا الحديث قد أطلت البحث عنه، وطلبته مظانه، وسألت عنه، فما رأيت أحداً وقع على المقصود به.
4- . ورد هذا الحديث في مصادر أهل السنّة بألفاظ مختلفة. ففي مسند أحمد: 96/4 بسنده عن معاوية قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. وورد بهذا اللفظ في مسند أبي داود الطيالسي: 259؛ المعجم الكبير للطبراني: 388/9؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 155/9؛ كنز العمال: 103/1 برقم 464 و ج 65/6 برقم 14863؛ حلية الأولياء لأبي

أو: «مَن مات وليس في عنقه بيعة إمام»، كما في بعض طرق أهل السنّة.(1)

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم فيما أخرجه أبو عمر والمسدد وابن أبي شيبة والطبراني وغيرهم: «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض من أُمّتي».(2)

وروى أحمد بن حنبل في المناقب: «النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض».(3)

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم فيما رواه جماعة كثيرة منهم: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، مَن ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق».(4)

وقوله صلى الله عليه و آله و سلم فيما تواتر عنه برواية الفريقين: «إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ

ص: 97


1- . لاحظ صحيح مسلم: 22/6، باب حكم مَن فرّق أمر المسلمين وهو مجتمع؛ سنن البيهقي: 156/8؛ فتح الباري: 5/13.
2- . كنز العمال: 101/12-102 برقم 34188؛ تاريخ مدينة دمشق: 20/40؛ ينابيع المودّة للقندوزي: 71/1-72.
3- . مناقب أحمد (مخطوط)؛ ينابيع المودّة: 71/1 برقم 1 و ج 114/2 برقم 320؛ الصواعق المحرقة: 236.
4- . مستدرك الحاكم: 343/2؛ مجمع الزوائد: 168/9؛ المعجم الأوسط للطبراني: 355/5 و ج 85/6؛ الجامع الصغير للسيوطي: 373/1 برقم 2442؛ كنز العمال: 94/12 برقم 34144 و ص 95 برقم 34151.

الحوض».(1) إلى غير ذلك - ممّا اتّضح واشتهر، لم يبق لك شكّ في ثبوت إمام من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم في كلّ عصر يجب معرفته والتمسّك به، وتكون النجاة منحصرة في التشبّث(2) بذيله، ويكون الموت مع الجهل به كموت الجاهلية.

وعرفت أنّ الغرض الأهم من نصبه ووجوده ليس هو تعريف الأحكام وبيان الحلال والحرام، لا سيّما وقد صدر البيان الشافي في المسائل المبتلى بها من آبائه المعصومين الظاهرين بين الناس في مدّة(3) تقرب من ثلاثمائة سنة، واقتضت الحكمة ثبوت الجهل ببعض الجزئيات مع معذورية الجاهل بها إذا وقع بعد الفحص في خلاف الواقع، لا سيّما ومخالفة الواقع ضروري الوقوع في الخارج وإن علم جميع الأحكام على وجه اليقين والضرورة وذلك من جهة الجهل بموضوعاتها، فلا فرق من هذه الجهة بين مَن شرب العصير مثلاً جاهلاً بحرمته أو عالماً بها جاهلاً بأنّه عصير أو مغلّىٰ، وإن كان بينهما فروق شتّى من جهات أُخرى، فهل يجوّز مَن لم يعم التعصّب بصر بصيرته أن يكون تكليف الحجّة المنتظر في زمان غيبته واستتاره أزيد في تعريف الأحكام من النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم المبعوث للتبليغ والإرشاد ومن آبائه الحاضرين في البلاد بين العباد؟!

ص: 98


1- . حديث متواتر رواه الفريقان.
2- . في «م» التثبّت.
3- . في «م»: (في هذه) وهو تصحيف. وفي حاشية نسخة «م» توجد التعليقة التالية: كلمة (في هذه) لا يفهم لها معنى مناسب في هذا المقام وأظن أن يكون كلمة (في هذه) [هو الصحيح] والغلط إنّما هو من الناسخ فتأمّل. إمامي (ره).

التعرّف على الأحكام من إحدى الحِكَم

وعلمت بعد ذلك كلّه أنّ ما ذكره السائل المعترض: [ب] «أنّ إجماع الإمامية قائم على أنّ الغرض الأهم من وجوده ونصبه هو التعريف الفعلي للأحكام على وجه الإطلاق، وأنّ النصوص الواردة من آبائه عليهم السلام المتضمّنة بأنّ الغرض من نصبه هو هذا أكثر وأزيد ولا تقاومه النصوص الدالّة على أصل وجوده»، كذب(1) محض وافتراء صرف على رواياتنا وروايات أهل السنّة، وإن أصرّ بعد ذلك على عناده فلينقل الروايات المتضمّنة لهذا المضمون مسندة إلى مَن رواها وخرّجها.

وأمّا الروايات العامّة الواردة في حقّ مطلق الحجّة في كلّ عصر أعمّ من النبي صلى الله عليه و آله و سلم ومن سائر الأئمّة، فهي وإن كانت متعدّدة، إلّاأنّه لا يراد بها إلّا وجوب وجود مَن يصلح لتعليم الأحكام بأجمعها، ولرفع الاختلافات وحلّ المعضلات والمشكلات، وأنّه إحدى الحكم والمصالح في وجوده، كما أنّ من مصالح وجوده ما يظهر من كثير من أخبارنا وأخبارهم من ترتّب عزّة الدين وقوّته وحفظه من الاندراس، على وجوده بالأسباب الغيبية.

ومنها: إفاضة العلوم والمعارف في القلوب المستعدّة وإغاثة المكروبين وإعانة الملهوفين وإجابة المضطرّين إذا توسّلوا بحبلهم وتمسّكوا بعروتهم، وشواهد هذه الفائدة ممّا لا تحصى في الخارج، وقد تقدّم من أخبار الفريقين ما يدلّ على أنّ وجوده أمان لأهل الأرض، ولو ذهبنا نستقصي الفوائد في وجوده بحيث يتبيّن منها أنّ تعريف الأحكام

ص: 99


1- . خبر لقوله: أنّ ما ذكره السائل المعترض.

بالنسبة إليها سيّما بعد وجود ما يكفي في الأُصول والفروع ومعذورية الجاهل ببعض الجزئيات كقطرة من بحر، لخرجنا عن وضع الجواب، واحتجنا إلى إفراد رسالة مستقلّة في هذا الباب، واللّٰه أعلم بالصواب.

***

جواب آخر عن السؤال

وربّما يختلج بالبال في حلّ أصل الاعتراض والإشكال أن يقال(1): إنّ ما ذكر في السؤال من أنّ الغرض الأهمّ من نصبه هو تبليغ الأحكام، مسلّم دلّت عليه الأدلّة كما ذكره، إلّاأنّ الغرض خصوص(2) التبليغ على مجرى العادّة لا الأعمّ منه ومن خرقها، كما أنّ تبليغ نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم وسائر الأنبياء عليهم السلام كان على المجرى المعتاد، ولم يذهب بطيّ الأرض إلى البلاد النائية للتبليغ، ولابعث أحداً إلى الأمكنة التي لم يكن في ذاك الزمان طريق عادي للسّلوك إليها، بل اختفى هو صلى الله عليه و آله و سلم في الشعب سنين ولم يكن ذلك قادحاً في نبوّته ولا ناقضاً لغرض بعثته.

فكذلك في الإمام عليه السلام فإنّ ظهوره لجماعة من خواصّه لتعريف الأحكام ليس إلّابخرق العادة، فلا يجب، وحاله حال طيّ الأرض للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

إلّا أنّه يشكل بأنّ خرق العادة إنّما هو في مثل ظهور الغائبين عن الحواس كالملائكة والجنّ للناس، أو ظهور الأموات للأحياء في اليقظة، وما

ص: 100


1- . مرّت الإشارة إلى هذا الجواب إجمالاً في الصفحة 85.
2- . في «م»: من خصوص.

يشبه هذه الأُمور، وأمّا غيبة شخص موجود حيّ باقٍ في قالبه العنصري وبدنه الدنيوي لبعض الأشخاص كأوليائه وأقربائه دون أعدائه، فليس ممّا فيه عادة نوعية ولا جنسية مطّردة جارية، يعدّ خلافه خرقاً لها.

فهل يجوّز أحد من العقلاء أن يعد استتار الشخص الحيّ الموجود عن أعدائه دون أوليائه أو ظهوره لجماعة وخفائه عن أُخرى من خوارق العادة؟!

وإن أُريد خصوص هذه العادة في خصوص هذه الغيبة عن خصوص هذا الغائب عليه السلام، لم يكن ذلك من العادات الجارية الّتي لا يمكن خرقها إلّا بمعجزة أو كرامة، بل كان ذلك اعترافاً بالإشكال لا جواباً عنه، فهل كان الإشكال إلّافي هذا؟ وأنّه كيف جرت عادة هذا الغائب واستقرت سجيّته على الاستتار عن كلّ أحد؟ ولماذا عوّد نفسه على ذلك؟ وهلّا جعل عادته الظهور على ثلاثة أو أربعة مثل الكليني والصدوق والشيخ؟ وكيف ترك منصبه (وأهمل بوظيفته)(1) مع تمكّنه منها من غير خرق لعادة جارية مطّردة؟

وأمّا اختفاء النّبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الشعب فلا يشبه المقام، فإنّ عمدة ما كان مأموراً به في تلك الأيام دعوة الناس إلى الإقرار بالتوحيد والرسالة، وقد بلّغ بأبلغ ما يمكن وأقصى ما يتصوّر، وتحمّل الأذى في التبليغ وصدع بالرسالة، ولو سلّم نزول فريضة مأمور بتبليغها قبل الاختفاء فقد بلّغ وأنذر، ونزول فريضة جديدة أيام الشعب أمر بتبليغها ممّا لم يدّعه أحد، بل لو فرض في

ص: 101


1- . الظاهر: «وأهمل وظيفته»، أو: «أخلّ بوظيفته».

ذلك الزمان الذي بلّغ وصدع بجميع ما أُنزل إليه إلى ذلك الوقت وأمر بتبليغه أنّه توفّي وارتحل إلى الآخرة، لم يتوهّم عاقل أنّه قادح في نبوّته، وكذلك لو ترك التبليغ في شطر من أيام حياته لما كان قد بلغه سابقاً وعلم منه بالضرورة وتواتر عنه أنّه يدّعي كذا ويأمر بكذا، وهذا بخلاف مَن كان الغرض الأهمّ من نصبه كما سلّمتم هو التبليغ ولم يتواتر عنه وكان متمكّناً من الإبلاغ على وجه لا يلزم منه خرق العادات الجارية، بل يترك هو ما عوّد نفسه عليه من الاختفاء عن كلّ عدو ووليّ.

والجواب الحاسم للإشكال ما ذكرنا من الحلّ والنقوض، فتبصّر.

هذا ما اقتضاه قلم الاستعجال مع ضيق المجال واختلال الأحوال.

وقد عثرت بعد ذلك على حديث شريف خرج عن ينبوع العلم ومعدن الحكمة واليقين أحببت ختم الكلام به ليكون ختامه مسكاً وهو ما روي مسنداً عن عبد اللّٰه بن الفضل الهاشمي قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول: «إنّ لصاحب الأمر عليه السلام غيبة لابدّ منها يرتاب فيها كلّ مبطل».

فقلت له: ولِمَ جعلت فداك؟ قال: «لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم».

قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال: «وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات مَن تقدّمه من حجج اللّٰه تعالى ذكره، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّابعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى إلّاوقت افتراقهما، يابن الفضل هذا أمر من أمر اللّٰه وغيب من غيب اللّٰه، ومتى علمنا أنّه عزّ وجلّ

ص: 102

حكيم، صدّقنا بأنّ أفعاله كلّها حكمة وإن كان وجهها غير منكشف لنا».(1)

انتهى الحديث الشريف وقد تقدّم التنبيه على ما في ذيله بما ذكرنا في تلو قولنا، والأصل في ذلك إلى آخر ما مرّ، ولنختم الكلام والمقال حامدين شاكرين للّٰه المتعال، مصلّين مسلّمين على رسوله المفضال، وآله المعصومين الحاوين لمكارم الخصال.

***

حرّره الآثم الجاني مصنّفه فتح اللّٰه الغروي الاصبهاني المشتهر بشيخ الشريعة، عفا اللّٰه عن جرائمه الفظيعة في الثامن والعشرين من شهر ربيع الثاني من شهور سنة 1327.

***

ص: 103


1- . كمال الدين: 482، ح 11؛ علل الشرائع: 246/1، ح 8، الباب 179 (علّة الغيبة).

[

3- الرسالة الثانية للآلوسي جواباً عن رسالة شيخ الشريعة

اشارة

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم الحمد للّٰه ربّ العالمين، والصلاة على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين.

نسخة الجواب الواصل من بغداد

مولانا أدام اللّٰه تعالى بقاءكم قد عرضنا جوابكم على الخصم، وبعد يومين ردّه علينا مجيباً عنه بجوابات عديدة.(1)

قال في أوّل كلامه: إنّك قد عرفت أنّ مقصدنا الأقصى ومطلبنا الأعلى إثبات إمامة أبي بكر، وهو متوقّف على إبطال مقدّمتين، إبطالهما عمدة ما يتوقّف عليه إثباتها:

إحداهما: وجوب النصّ على الإمام من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

والثانية: وجوب العصمة.

ولا يخفى أنّ كلتا المقدّمتين عمدة مبناهما على أصلين هما: وجوب اللطف.(2)

ص: 104


1- . هذا كلام الواسطة بين المتناظرين.
2- . لاحظ: تعليقتنا رقم (1) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 132. (المشرف)

ووجوب مبلّغ ومبيّن للأحكام في كلّ عصر».

كما لا يخفى على مَن له أدنى اطّلاع على كتب الكلام، حتى مَن راجع الباب الحادي عشر، فضلاً عن التجريد وشروحه والشافي ومنار الهدى وكشف البراهين وكتاب الألفين ونهج الحقّ ومنهاج الكرامة وغيرها، بل لا تجد كتاباً من كتب الشيعة فيه مبحث الإمامة إلّاوعمدة الاستدلال فيه على هذين المقدّمتين بهذين الأصلين - أعني: وجوب اللّطف، ووجوب المبلّغ المبيّن للأحكام - بزعم أنّ البيانات الّتي بين أيدينا غيركافية، فأردنا إبطال هذين الأصلين بتوضيح وكشف مراد صاحب التحفة مع بعض زيادات متمّمة لمقصوده، فذكرت لك سابقاً من الأدلّة على بطلان وجوب اللّطف ما لا يحصى، وإن شئت تكريرها أخبرنا نكرّرها لك، ومن هذا الاعتراض نستفيد(1) واحداً من الأدلّة على بطلان اللطف؛ لأنّ الإمام المعصوم أيضاً لطف في الأحكام الشرعية، فلو وجب اللطف على اللّٰه لوجب عليه نصب مبلّغ للأحكام؛ لأنّ نصب المعصوم من فعله تعالى، ولو نصب لبلّغ مع التمكّن...

إلخ، التقريب الّذي ذكرناه في أصل الاعتراض.

وبهذا الاعتراض ذكرت لك إبطال وجوب نصب المبلّغ والمبيّن في كلّ عصر بدليل دالّ على عدم وجود مبلّغ بطريق المعارضة(2)، وهو كلام

ص: 105


1- . في «ح»: تستفيد.
2- . أقول: يريد بذلك أن نصب الإمام إذا كان لأجل تبليغ الأحكام، فهو غير موجود في الإمام الثاني عشر، فيستدلّ بعدم وجود هذا الأثر على عدم وجود الإمام. لكنّه غفل عن نكتة وهي أن نصب الإمام بعد النبيّ لأجل أسباب مختلفة، تقدم بيانها في المقدمة نعم منها تبليغ مالم يبلغه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، لكن وقد قام بذلك خلفاؤه إلى عهد الإمام الحادي عشر الحسن بن علي

مبني على ما أسّستموه من أنّ الناس محتاجون إلى البيان، والكتاب والسنّة والإجماع والعقل والقياس غير كافية في البيان.

ومحصّل كلامنا: إنّ هذا دليلكم الّذي تستدلّون به على وجوب المبلّغ إن تمّ يقتضي عدم وجود المبلّغ؛ لأنّه يقتضي وجوب البيان مع التمكّن، وإذا لم يبلّغ مع تمكّنه يلزم إمّا نفي وجود الإمام، أو نقض الغرض والسفه وتكليف ما لايطاق تعالى اللّٰه عمّا يقول الظالمون، حتى يلزمكم الاعتراف بعدم وجوب مبلّغ على اللّٰه في كلّ عصر، فإذا سلّمتم هذا فقد تمّ مطلوبنا وكمل اعتراضنا، وليس غرضنا في هذا الاعتراض كما أنت تعلم سوى إبطال هذا المطلب حتى يتفرّع عليه عدم وجوب العصمة والنصّ، ولسنا(1) نقول: إنّه لا دليل على وجوب العصمة والنص سوى وجوب اللطف ووجوب المبلّغ في كلّ عصر، كما أنّا لا نقول: إنّه لا دليل على إمامة الثاني عشر سوى هذين، بل نعترف أنّ للشيعة أدلّة أُخرى على وجوب النصّ والعصمة ضعيفة واهية، كما نعترف بأنّ لهم أدلّة أُخرى على إمامة الثاني عشر واهية من قبيل

ص: 106


1- . في «ح»: وليس.

الاستدلال بحديث الثقلين، وحديث: مَن مات ولم يعرف إمام زمانه، ونحوها.

لكنّك قد عرفت أنّ غرضنا في هذا الاعتراض لم يتعلّق بإبطالها وإن أمكن إبطالها به على التحقيق، بل إبطال سائر الأدلّة الأُخرى مذكور في محلّه، نعم لمّا كان إبطال هذا الأصل - أعني: وجوب نصب مبلّغ مبيّن للناس الأحكام - بطريق يمكن معه إبطال واحد من الأدلّة التي يستدلّ به الشيعة على إمامة الثاني عشر وهو معتمدهم، سحبنا الكلام إليه وهو النصوص عليه التي ينقلونها في كتبهم عن آبائه؛ لأنّه إذا أمكن إبطال شيئين بطريق واحد يستحسن التعميم، وإن كان لنا في تكذيب النصوص التي ينقلونها طرق أُخرى ذكرناها في كتابنا «روح النفوس».

ومحصّل كلامنا بهذا الاعتراض في تكذيب النصوص: إنّكم قد رويتم من الأخبار عن آبائه في أنّ الإمام منصوب لتعريف الأحكام، وللبيان أكثر من الأخبار الّتي رويتموها عنهم من النصوص عليه، وقد بان كذب الأُولى لعدم التبليغ مع إمكانه ببعض الطرق، ولو كان عدم نصب المبيّن يوجب حجّة العبد على اللّٰه تعالى، لكان عدم أمره بالتبليغ مع عدم تمكّن وصول المكلّفين إليهم وإمكان وصوله إليهم مبقياً للحجّة لهم، وإذا بان كذب هذه الأخبار التي هي أكثر من النصوص عليه، فكيف يعتمد على النصوص ويعتقد بصدورها من آبائه وتجعل عقيدة؟(1)

وبعد أن عرفت أصل الاعتراض وما المراد منه، تعرف أنّه لا يرد علينا النقض بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم، لما عرفت أنّ هذا كلامنا من قبيل الإلزام لكم، وأنّه على

ص: 107


1- . لاحظ: تعليقتنا رقم (2) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 134. (المشرف)

دعواكم يلزمكم تكذيب النصوص؛ وتعرف أيضاً أنّ الاستدلال على إمامة الثاني عشر بحديث: «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه» ونحوها كحديث الثقلين في جواب هذا الاعتراض ليس له مناسبة، لما عرفت أنّ مطمح نظرنا إبطال دليل وجوب المبلّغ وإبطال النصوص عليه من آبائه وتكذيبها خاصّة، وليس لنا غرض في هذا الاعتراض لإبطال سائر ما تستدلّ به الشيعة على إمامة الثاني عشر، لوضوح بطلانها، وكثرة الاعتراضات عليها على وجه صارت مبتذلة يعرفها كلّ أحد.

وإذا تمهّد هذا فلنشرع لك في بيان فسادات الجواب الطويل، ثم ننتقل إلى الجواب عن الوجه المختصر الذي ذكره أخيراً، وإن لم يرتضه فإنّه قد ارتضاه غيره من مشاهير الشيعة، فنقول:

الجواب الطويل مجموعه محتوٍ على أجوبة متعدّدة بعضها غير مناسب للمقام؛ لأنّك قد عرفت مطمح نظرنا في أصل الاعتراض، وذلك هو جوابه بالنقض بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وبآيات القصص وجوابه بالاستدلال على إمامة الثاني عشر بالأدلّة الّتي لم نوجّه عليها الاعتراض، كحديث الثقلين ونحوه وسيأتي الكلام عليهما آنفاً، وإن كانا غير واردين على أصل الاعتراض.

وبعض أجوبته مناسبة لأصل الاعتراض، وهو جوابه بالمنع من كون الفائدة المهمّة من نصب الإمام هو تعريف الأحكام، فلنقدّم الكلام فيه أوّلاً، فنقول:

كلامه في هذا الجواب مشوّش غاية التشويش، ففي أوّل كلامه ووسطه وآخره لا سيّما في الوجه الّذي لم يرتضه وارتضاه غيره ما حاصله إلى إنكار كون الإمام منصوباً لهذه الفائدة، بل هو منصوب لفوائد أُخر،

ص: 108

وإنكار الأخبار المصرّحة بهذا، وإنكار كلمات علمائهم واستدلالهم وإجماعهم أنّ الإمام منصوب لهذه الفائدة، ومنع اشتراط تحصيل الواقع في الأحكام، وأنّ حكمة اللّٰه اقتضت عدم العلم بالواقع والعمل بالظنّيات، بل مخالفة الواقع ضروري الوقوع، (وكما لا تضر مخالفة الواقع)(1) في الموضوعات، فكذا في الأحكام وإنكار اعتماد أصحابه على دليل اللطف، ويطلب منّا أن نريه هذه الأخبار، وأنّ الأخبار العامّة لا تدلّ على مطلوبنا.

وبعض كلماته حاصلها: أنّ الأخبار الدالّة على نصب الإمام لهذه الفائدة ليست خاصّة بالثاني عشر، بل هي عامّة له ولآبائه وللنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

وبعض كلماته حاصلها تسليم ذلك وتسليم تمكّن الإمام في الجملة، لكن شرط وجوب التبليغ تمكّن المبلِّغ والمبلَّغ، فإنّ الإمام وإن كان متمكّناً إلّا أنّ المكلّفين غير متمكّنين.

وبعض كلماته حاصلها: أنّه منصوب لهذه الفائدة، وأنّها مقصودة من نصبه لكن يجب عليه التبليغ حيث يحتاج الناس إليه، والناس غير محتاجين لحصول البيان الشافي في المسائل المبتلى بها من آبائه، فلا يجب عليه الظهور، إذ لا فائدة فيه سوى تحصيل الحاصل.

وبعض كلماته حاصلها تسليم أنّه منصوب لذلك وأنّه متمكّن من التبليغ، لكن لا نعرف الحكمة في عدم التبليغ، وعدم معرفتنا لا يجوّز أن نرفع اليد عن الدليل إليها.

وبعضها حاصله: أنّ الفائدة مقصودة كما ذكرتم، لكنّها ليست هي

ص: 109


1- . ليس في «م».

الغرض الأهمّ من نصبه كما ذكرتم، بل الفوائد الأهمّ حاصلة، وعدم حصول هذه الفائدة لا يلزم منه نقض الغرض.

هذا أقصى ما يتصوّر من كلماته المناسبة لأصل الاعتراض، وإن كنّا لا نعلم أنّ هذه الوجوه مقصودة له أم لا، فلنتكلّم عليها، ثم نتبعها بالكلام على باقي أجوبته، وإن كان كلامنا ليس على نمط ترتيبه، فنقول:

أمّا ما أورده على أصل الاعتراض من إنكار كون الإمام منصوباً لهذه الفائدة وإنكار الأخبار وكلمات علمائهم المصرّحة بذلك، فهو يشبه إنكار الضروريات، بل هو في الحقيقة إنكار للضروريات، فلا يستحقّ منكره الجواب، ولكن ننبّه عليه لئلّا يظن بنا العجز، فنقول:

الأخبار الواردة في ذلك من طرق الشيعة عن أئمتهم أكثر الكتب لها جمعاً المجلد السابع من كتاب البحار(1) في أوائله التي هي في الإمامة، وفي المجلد التاسع منه(2) في أحوال علي عليه السلام كثير من أخبار هذا الباب، لا سيّما في تفسير آية «إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ» فإنّه لو لم يكن من الأخبار الّتي أنكرها هذا الشيخ إلّاما روي في تفسير هذه الآية لكفى، وكذا في كثير من الآيات وأبواب الفضائل التي رواها في هذا المجلد - أعني: التاسع - وفي المجلد الثالث عشر(3) الذي هو في أحوال الثاني عشر كثير من هذه الأخبار،

ص: 110


1- . المجلد السابع من كتاب البحار حسب ترتيب المؤلّف يقابله الأجزاء: 23-27 من المطبوع المتداول حالياً (طبعة مؤسسة الوفاء، بيروت).
2- . المجلد السابع من كتاب البحار حسب ترتيب المؤلّف يقابله الأجزاء: 35-42 من المطبوع في بيروت، نشر مؤسسة الوفاء.
3- . المجلد الثالث عشر من كتاب البحار حسب ترتيب المؤلف يقابله الأجزاء 51-53 من المطبوع، نشر مؤسسة الوفاء، بيروت.

وكذا هذه الأخبار موجودة في: أُصول الكافي، وفي كتاب إكمال الدين وإتمام النعمة، وفي كتاب الغيبة للطوسي، وبصائر الدرجات، ونهج البلاغة، وكتاب منار الهدى، وغيرها.

وقد اعترف بتواتر هذه الأخبار جملة من علماء الشيعة، منهم صاحب القوانين في بحث الإجماع بطريق اللطف على رأي الطوسي ومن تبعه كما لا يخفى.

وأمّا ما يفهم من كلامه من أنّ هذه الأخبار ليست خاصّة بالثاني عشر، بل شاملة له ولغيره من آبائه فلا نعرف ما مراده من هذا؟

إن أراد أنّ هذا أيضاً لم يحصل من آبائه مع تمكّنهم كما لم يحصل منه مع تمكّنه، فتزيد الشناعة عليهم.

وإن أراد منّا أخباراً دالّة على أنّ هذا المعني هذا الثاني عشر فقط منصوب(1) لأجله فهو هذيان، إذ أنّا لم ندّع أنّ أخبارهم خاصّة بالثاني عشر؛ بل معناها شامل له ولغيره، وإنّما لم نعمّم القول في آبائه لإمكان الجواب عنهم أنّهم كانوا يبلغون أهل زمانهم.

وأمّا ما يفهم من كلامه من أنّ هذه الأخبار ليس مدلولها أنّ الإمام مقصود من نصبه التبليغ، فنقول:

هل يفهم أحد من الأخبار الدالّة على أنّه لابدّ لكلّ قوم من هاد يهديهم، وأنّ اللّٰه لو لم ينصب إماماً لبطلت حججه وبيّناته ولولاه لكانت الحجّة ثابتة، وأنّه محال أن يترك اللّٰه الأرض بغير عالم، وأنّه لابدّ ممّن يرجع

ص: 111


1- . في «م»: مصوب.

إليه الناس لئلّا تختلط عليهم أُمورهم، إلى غير ذلك من الأخبار التي لا يفهم منها إلّاأنّ طرق(1) البيان للناس منحصرة(2) في الإمام وإلّا فلا معنى لإبطال حجج اللّٰه وبيناته.

وأمّا كلمات علمائهم وأقوالهم واستدلالهم الدالّ على إجماعهم بأنّ الإمام منصوب لهذه الفائدة فلا يكاد يخفى على الصبيان، حتى أنّ النزاع بيننا وبينهم قائم إلى اليوم أكثر من ألف سنة إلى أنّه هل يجب نصب الإمام لكونه لطفاً في العلم والعمل ولكونه حافظاً للشرع؟

حتى أنّ شيخهم الطوسي اقتصر في غيبته على دليل اللطف ولم يستدلّ بغيره، وأنّ ابن المطهّر قد ملأ كتابه المسمّى بالألفين من هذه الأدلّة على المطلب، وكذا غيره من الكتب التي تلوناها عليك في صدر هذا الجواب، حتى الباب الحادي عشر، بل في جميع الكتب المذكورة وغيرها أنّ الفائدة المقصودة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعينها مقصودة من الإمام، ولا فرق بينهما إلّافي تلقّي الوحي.

بل أكثرهم يقولون: إنّ أئمّتهم محدّثون أيضاً(3) وأخبارهم بهذا كثيرة، لا سيّما في سابع البحار وتاسعه(4)، ولا نعرف حينئذٍ ما الفرق عندهم بين النبي صلى الله عليه و آله و سلم والإمام؟

بل إنّهم في كتبهم الكلامية عرّفوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّه المخبر عن اللّٰه تعالى

ص: 112


1- . في «ح»: طريق.
2- . في «ح»: منحصر.
3- . لاحظ: تعليقتنا رقم (3) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 136. (المشرف)
4- . أي حسب ترتيب مصنّفه محمد باقر المجلسي كما ذكرنا في هوامش ص 110.

بلا واسطة بشر، [و] قالوا وخرج بقيد عدم واسطة البشر الإمام، حتى هو أيضاً اعترف بهذا في جوابه هذا تبعاً للسيد نور اللّٰه التستري في اعتراضهم على الفضل الروزبهاني في كلامه على حديث الاثني عشر خليفة المروي من طريق ابن مسعود وابن سمرة، حيث قال: لا ندّعي للخلافة معنى إلّا الأوّل، بل في غير موضع من كلامه من قوله: لا يراد من هذه الأخبار إلّا وجود مَن يصلح لتعليم الأحكام ولرفع الاختلافات وحلّ المشكلات؛ وإن كان غرضه من هذا الكلام مجرّد وجود مَن يصلح لذلك وإن لم يفعله مع الاحتياج إليه، فهو هذيان، وهذا المعنى حاصل بجبرئيل، وما الفائدة فيه، ولزوم العبث فيه أقبح.

وبما تلونا عليك تعرف ما في كلامه من أنّ أصحابه لم يعتمدوا على دليل اللطف، نعم أصحابه يذكرون النصوص عليه بعد إثبات إمامتهم بأحد الطرق، والنصوص بمجرّدها لا تدلّ على وجوب(1) الإمامة كما لا يخفى(2)، ويظهر لك ما في كلامه من عدم اشتراط تحصيل الواقع في الأحكام وأنّ حكمة اللّٰه اقتضت الجهل ببعض الأحكام، وأنّ مخالفة الواقع ضروري الوقوع؛ وذلك لأنّ كلامه هذا عين التسليم لاعتراضنا، وذلك لأنّك قد عرفت أنّ غرضنا من أصل الاعتراض أنّ دعواكم اشتراط تحصيل العلم بالواقع الذي تستدلّون بها على وجوب مبلّغ كاذبة، وكذا أخباركم التي تروونها عن أئمّتكم أنّه لابدّ من إمام لبيان الأحكام الواقعية، كاذبة أيضاً، واستدلالكم على أنّه لابدّ لنا من حافظ للشرع، وإلّا لقبح التكليف لعدم كفاية البيانات التي بين

ص: 113


1- . في «م»: وجود.
2- . لاحظ تعليقتنا رقم (4). في ختام هذه الرسالة في الصفحة 138. (المشرف)

أيدينا، خطأ ظاهر، فإذا سلّم لنا هذا فقد تمّ الاعتراض بحذافيره.

فإن قلتم: إنّ ما ذكرتموه من عدم وجوب اللطف والمبلّغ صحيح، وكذا الأخبار الواردة في أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ونحوها، كاذبة؛ لعدم مطابقتها للواقع(1)، لكن لا يلزمهم من كذب هذه الأخبار كذب النصوص عليه من آبائه؛ لأنّ النصوص عليه من آبائه فيها قرينة قطعية تدلّ على صدقها ومطابقتها للواقع، وإن كانت مروية من طرق الشيعة، وذلك كما في الأحاديث المصرّحة بتسمية الاثني عشر وأنّهم فلان وفلان، وذلك لما فيها من الإخبار بالغيب؛ لأنّها وإن كان الاستدلال بها بمجرّدها على وجوده مشكلاً لكن نقول: إنّها أخبرت بوجود آبائه قبل وجودهم فيلزم صدق ما أخبرت به من وجوده.

لأنّا نقول: هذا الاستدلال بها إنّما يتمّ لو سلّمنا أنّها موجودة في زمان الصادق والكاظم عليهما السلام، ولكنّا نمنع ذلك ونقول: إنّها أخبار حادثة بعد ولادة العسكري عليه السلام(2)، وسند المنع واضح. ألاترى أنّ أصحاب الصادق والكاظم والرضا والجواد عليهم السلام إلى الثاني عشر وخواصّهم كانوا يضطربون من بعد موت كلّ واحد غاية الاضطراب ويفترقون في الأقوال في الإمامة كما تواتر ذلك بعد موت الصادق عليه السلام من رجوع الهشامين وأبي بصير ومؤمن الطاق وغيرهم من أجلّاء أصحاب الصادق عليه السلام إلى ابنه الأفطح ثم رأوا موسى عليه السلام أعلم منه فرجعوا إليه، ولو كانت هذه الأخبار معروفة بينهم لما وقعوا في هذه الحيرة، وزرارة أرسل ولده من الكوفة للتفحّص عن الإمام، وهكذا بعد

ص: 114


1- . لاحظ: تعليقتنا رقم (5) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 139. (المشرف)
2- . لاحظ: تعليقتنا رقم (6) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 141. (المشرف)

موت كلّ إمام منهم.

وبالجملة إنّا نقول: هذه الأخبار حدثت بعد موت الهادي العسكري، ولم نر أحداً قبل وفاة الهادي من المصنّفين ذكرها في كتاب، بل أوّل مَن جمع من أخبار هذا الباب محمد بن يعقوب الكليني، فالمسلّم وجودها في زمان الكليني وقبله بطبقة أو طبقتين لا أزيد من هذا.

وأمّا ما ذكره هذا المجيب من أنّ الفضل بن شاذان الذي هو من أصحاب الرضا عليه السلام له كتاب في الغيبة، فكذب صرف(1) لا يعرف للفضل بن شاذان كتاب في الغيبة، بل المجلسي مع جمعه في كتابه لكلّ غث وسمين لم ينقل هذا الكتاب ولم يعرفه، كما لا يخفى.

ولو سلّم أنّ له كتاباً في الغيبة فمن الّذي رواه عن صاحبه؟ ولو سلّم فلا نسلّم فيه أخباراً من هذا الباب، أترى أنّ المجلسي يذكر في كتابه التفسير المنسوب إلى العسكري وكتاب سليم بن قيس وكتاب الكفاية ويترك هذا، على أنّ الأخبار الّتي هي من هذا الباب - أعني: التي أخبرت بأسمائهم - أكثرها في كتاب الكفاية، وهو يُسمّى بكتاب النصوص أيضاً، والكتاب

ص: 115


1- . أقول: إنّ المعترض جريء في التكذيب حيث يقول بضرس قاطع: لا يعرف للفضل بن شاذان كتاب في الغيبة، وهذا هو السيد مير محمد بن محمد لوحي النقيبي الحسيني الموسوي السبزواري الإصفهاني (من أعلام القرن الثاني عشر الهجري) له كتاب «الأربعون حديثاً» في أحوال المهدي عليه السلام، وقد استخرجه من كتاب «الغيبة» للفضل بن شاذان النيسابوري (المتوفّى 260 ه). (الذريعة: 427/1). وعدم نقل المجلسي عنه في «بحار الأنوار» لا يدلّ على عدم وجوده؛ بل لأنّه لم يكن في متناوله، وكم له من نظير، فقد استدرك على «بحار الأنوار» الشيخ العسكري في عدد من المجلدات الكبار. (المشرف)

المذكور مجهول الصاحب كما لا يخفى على من راجع المجلد الأوّل والمجلد الخامس والعشرين من كتاب البحار، ولا يخفى أنّ آثار الوضع عليه لائحة، أترى أنّ مثل هذه الأحاديث تخفى على ابن بابويه أو يتركها ويملأ كتبه من أحاديث لا تدلّ على مقصوده من قبيل حديث ابن سمرة وابن مسعود فإنّه ذكرهما بطرق لا تحصى.

وأمّا الاستدلال بأنّ له غيبة صغرى وغيبة كبرى(1) فهذا إخبار عن الغيب، ففيه مالا يخفى، إذ هاهنا لا يتمّ الاستدلال إلّابعد الاعتراف بوجود الأخبار قبل موت العسكري وبعد تسليم أنّه وجد وغاب غيبتين، وهو مصادرة كما لا يخفى.

ويمكن الاستدلال على تكذيب النصوص عليه من آبائه بالإجماع؛ لأنّه إذا بان عدم وجوب اللطف وعدم وجوب المبلّغ في كلّ عصر، فقد بان عدم وجوب نصب الإمام على اللّٰه تعالى، وكلّ مَن قال بعدم وجوبه قال بعدم إمامة الثاني عشر(2)، وكذا من عدم وجوبها ما يظهر عدم اشتراط

ص: 116


1- . لاحظ: تعليقتنا رقم (7) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 142. (المشرف)
2- . ادّعى المعترض في كلامه هذا ثبوت أُمور لم تثبت بل ثبت خلافها: أ. عدم وجوب اللطف، وقد علمت أنّ اللطف كرامة من اللّٰه سبحانه لعباده، لأجل هدايتهم إلى ما فيه سعادتهم. ب. عدم وجود المبلّغ في كلّ عصر، وقد ذكرنا فيما سبق الآيات التي تتحدّث عن وجود الحجّة في كلّ عصر. ج. عدم وجوب نصب الإمام على اللّٰه تعالى، وقد عرفت أنّ الفراغات الحاصلة بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ووجود مثلث الشر الغاشم المحيط بدولة الإسلام، يكشف عن وجوب نصب الإمام. د. ثم قال: كلّ مَن قال بعدم وجوبه قال بعدم إمامة الثاني عشر، وقد تقدّم منّا أنّ التعرّف على الصغرى إنّما هو من طريق الروايات المتضافرة على الإمام المهدي (عج) فليس هنا أيّة ملازمة بين إنكار قاعدة اللطف والقول بعدم إمامة الثاني عشر، لأنّ الأخباريين والمحدّثين لا يعترفون بقاعدة اللطف، ولكن السنّة والشيعة رووها عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم. (المشرف)

العصمة في كلّ من لم يشترطها نفى إمامته، ولا تستدلّوا علينا بأدلّة العصمة الأُخرى فإنّا نعرفها بجميع مقدّماتها وإبطالاتها والأجوبة عنها، فإن شئتم بيان فسادها أخبرونا نبيّن فسادها لكم بأتمّ وجه.

وأمّا ما في مضمون كلامه من أنّ التبليغ إنّما يجب مع تمكّن الإمام والناس، والإمام وإن كان متمكّناً بالكيفيّة الّتي ذكرناها، إلّاأنّ الناس غير متمكّنين.

ففيه: أنّه إن سلّم أنّ الناس محتاجون إلى البيان، وأنّ الإمام منصوب للبيان لهم فيجب عليه إرشادهم ودلالتهم واحداً واحداً عليه حتى يمضوا إليه ويتعلّموا الأحكام منه، وإن أنكر ذلك عاد البحث إلى الأوّل.

وأمّا مضمون كلامه: أنّ البيان حاصل من آبائه ولو ظهر لزم تحصيل الحاصل، فإن أراد أنّ البيان حاصل منهم لأهل هذا الزمان بطريق اليقين على وجه لا حاجة لهم إلى الإمام، ففيه:

أوّلاً: أنّ هذا يستلزم مطلوبنا من عدم وجوب المبلّغ في كلّ عصر، وكذب الأخبار الدالّة على أنّه لابدّ في كلّ عصر من مبلّغ، إذ ليس المراد مجرّد وجوده كما عرفته سابقاً، ولزوم العبث من نصب إمام لفائدة حاصلة بدونه، وإن أنكر نصبه لهذه الفائدة عاد البحث معه إلى ما تقدّم.

وثانياً: أنّ هذا كذب صريح كما لا يخفى على مَن راجع وسائل الشيعة

ص: 117

وكتبهم الفقهية، ورأى ما فيها من تعارض أخبار الآحاد واختلاف العلماء، حتّى أنّ لهم في بعض المسائل ما يقرب من عشرين قولاً واستدلالهم بأصل البراءة والاستصحاب، ومن راجع رجال الكشي ثم راجع الوسائل لا يجد فيها خبراً جامعاً لشرائط الصحّة(1)، فأين البيان الشافي؟ وعليك بمراجعة خطبة الحدائق فيتّضح لك ما في كلامه من حصول البيان الشافي.

وأمّا ما يفهم من كلامه أنّه وإن سلّم جميع مقدّمات الاعتراض إلّاأنّه لا يعرف السبب في عدم التبليغ، وعدم معرفة وجه الحكمة في شيء لا يجوّز أن يرفع بها اليد عن الدليل القاطع،(2)ففيه:

أوّلاً: بعد أن تعرف أنّ مرادنا من أصل الاعتراض بطلان وجوب

ص: 118


1- . أقول: ياللّٰه لهذا الخبر الواضح الفساد!! فإنّ الروايات تنقسم عند الشيعة إلى: صحيح وحسن وموثق وضعيف. والأصناف الثلاثة الأُولى، يستدلّ بها في الأحكام الشرعية، وأمّا الأُصول الاعتقادية فإنّما يستدلّ بالمتواتر، ويكفي في بيان بطلان هذا القول الرجوع إلى كتاب العلّامة المجلسي «مرآة العقول» فقد شرح الروايات مع بيان موقفها من الصحّة والضعف، وقد بيّن أنّ الصحيح بلغ المئات، فضلاً عن الروايات المعتبرة والحسنة. وها نحن نذكر عدد الأحاديث الصحيحة في خصوص كتاب الكافي للكليني، يقول المحدّث يوسف البحراني في كتابه «لؤلؤة البحرين»، وتحت عنوان [عدد الأحاديث المدونة في كلّ من الكتب الأربعة]، قال: (فائدة) - قال بعض مشايخنا المتأخّرين: أمّا الكافي فجميع أحاديثه حصرت في ستة عشر ألف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثاً، والصحيح منها - باصطلاح مَن تأخّر -: خمسة آلاف واثنان وسبعون حديثاً، والحسن مائة وأربعة وأربعون حديثاً، والموثق مائة حديث وألف حديث وثمانية عشر حديثاً. (لؤلؤة البحرين: 394-395). وأمّا الصحيح في: مَن لا يحضره الفقيه، أو التهذيب والاستبصار، فحدّث عنه ولا حرج، وقد ذكر عددها المحدّث البحراني في نفس الكتاب. وبذلك يعلم مدى تتبع المعترض وصدق كلامه!!! (المشرف)
2- . لاحظ: تعليقتنا رقم (8) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 143. (المشرف)

اللطف والمبلّغ وبطلان قولكم: إنّ الأدلّة الّتي بين أيدينا غير كافية، فنقول: إذا قام الدليل القاطع على أنّه ليس إمام معصوم هنا منصوب للتبليغ وإلّا لبلغ، وإلّا لزم نقض الغرض والعبث بالتقريب الّذي ذكرناه، ولا نعرف وجه الحكمة في إيكالنا إلى الأدلّة والبيانات التي بين أيدينا مع أنّها لا تفيد القطع، فلا يجوز لنا أن نثبت وجوده ونعتقد اعتقاداً قام البرهان على بطلانه ونترك نصب الأئمّة ونرفع اليد عن الدليل القاطع بمجرّد ذلك.

وأمّا ثانياً: فلأنّ عدم جواز رفع اليد عن الأدلّة اللفظية حيث لا يعارضها صريح العقل وإلّا وجب تأويلها، وإن لم يمكن فنطرحها.

فنقول حينئذٍ: إنّ الأخبار الدالّة على أنّه لا بدّ من حجّة للّٰه(1) على عباده يحكم العقل بكذبها بالتقريب الّذي ذكرناه في أصل الاعتراض وأيّدناه هنا؛ لأنّها لو كانت مطابقة للواقع لبلّغ الإمام(2) على حسب تمكّنه لأنّها نصّ في انحصار البيان في الإمام، وإذا وجب طرح هذه الأخبار وجب طرح

ص: 119


1- . في «ح»: له.
2- . أقول: إنّ الأخبار الدالّة على لزوم حجّة اللّٰه، أمر يشمل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وعلى هذا فالنبي والإمام بُعثا للتبليغ لكن حسب الموازين العرفية والسنن العقلائية لا على سنن خوارق العادات. وقد صرّح بذلك المعلم الثاني للشيعة نصير الدين الطوسي، وقال: «الإمام وجوده لطف، وتصرّفه لطف آخر، وعدمه منّا»، فإذاً كانت الأُمّة هي السبب في حرمان الأُمّة من تبليغه، لا الإمام. ولو تأمّل الباحث في هذا الجواب لجمع أطراف كلامه، غير أنّه يصرّ على أنّ الإمام يجب عليه التبليغ بخوارق العادات وخلاف العاديّات، وببقائه. لا شكّ أنّ المسلمين متّفقون على حياة أربعة من الأنبياء اثنان منهم في السماء، وهما: إدريس وعيسى، واثنان في الأرض هما: إلياس والخضر. فما فائدة وجودهما؟ فلو قيل بعدم الاتّفاق في الثلاثة فالمسيح بن مريم حيّ بنص القرآن الكريم، وهو نبيّ فوّض إليه أمر التبليغ قبل بعثة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فما فائدة وجوده؟ (المشرف)

النصوص عليه من آبائه؛ لأنّها إن لم تزد عليها فلا أقلّ من المساواة، كما لا يخفى على من قابل الأخبار في الكتب التي تلوناها عليك.

وأمّا ما يُفهم من كلامه أنّ هذه الفائدة مقصودة من نصبه لكنّها ليست هي الأهمّ بل الأهمّ غيرها، ففيه:

أوّلاً: أنّ مجرّد قصد هذه الفائدة من نصبه وإن كان ثم أهم منها كافٍ في لزوم نقض الغرض مع عدم التبليغ مع التمكّن منه واحتياج الناس إليه، وإن أنكر احتياج الناس إليه عاد إلى ما تقدّم.

وأمّا ثانياً: فلأنّ إنكاره لكون هذه الفائدة أهمّ المقاصد من نصبه، باطل بما قدّمناه، ومن جملته أنّ أصحابه متّفقون على أنّ المقصود من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مقصود من الإمام لا فرق بينهما، ولا يخفى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أهمّ المقاصد من بعثته التبليغ، بل في الحقيقة لم يبعث إلّالأجله.

وأمّا ثالثاً: فلأنّ الفوائد في الإمام سوى فائدة العلم والعمل لا يعرف له معنى، بل هو ليس من معنى الإمامة، فلو فرض أنّ اللّٰه تعالى خلق رجلاً كي يتوسّلون به إليه في رزقهم والتوسعة عليهم ونحو هذه الأشياء من المطالب المذكورة في الجامعة من دون نصبه للتبليغ أو لكونه لطفاً في العمل، فهو خارج عن معنى الإمامة الّتي قام بيننا وبينهم النزاع فيها، وليس غرضنا في ثبوت (هذا الإمام)(1) بهذا المعنى ونفيه، وإن جعلوا النزاع في هذا فليرونا الأدلّة الدالّة على وجوب نصب الإمام على اللّٰه بهذا المعنى، ثمّ هذا المعنى يحصل بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وبالأموات من آبائه، فلا حاجة إليه، بل يحصل بمَلَك من

ص: 120


1- . في «م»: هذه الإمامة.

الملائكة.

وأيضاً إنّ اللّٰه يخلق رجلاً ينزل الغيث على عباده لأجله، هذا من(1)الكلام، لأنّ اللّٰه تعالى إن أراد أن ينزل الغيث على عباده نزّله، وإلّا فلا معنى لهذه الواسطة، إلّاأن يزعموا أنّ اللّٰه تعالى يستعين به. ثمّ إنّا نرى التوسعة الدنيوية على الكفّار أعظم من هؤلاء الذين يتوسّلون بهذا الإمام، على أنّه لو ثبت هاهنا إمام منصوب لهذه الفوائد فلعلّنا لا ننازع فيه، إذ قد عرّفناك ما المراد من أصل الاعتراض.

وكلامنا هذا الأخير يصلح لبطلان كلّ دليل من أدلّتهم الّتي يستدلّون بها على إمامة الثاني عشر من النصوص من آبائه، وحديث الثقلين، وحديث من مات ولم يعرف إمام زمانه، وغيرها؛ لأنّهم إن أرادوا بهذه الأدلّة أنّها تثبت وجود إمام منصوب لأجل اللطف في العلم والعمل فقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّه لا إمام هاهنا بهذا المعنى، وإن أرادوا أنّها مثبتة لوجود إمام بغير هذا المعنى، فليعرّفونا وجه دلالتها عليه.

على أنّا لعلّنا لا ننكر وجود إمام منصوب لغير المعنى إذا قام دليل عليه ولو غير قاطع، لأنّك قد عرفت مطمح نظرنا في أصل الاعتراض، وهذا كافٍ في دفع الأدلّة التي استدلّ بها على إمامة الثاني عشر الّتي لم نوجه إليها الاعتراض، لكن لمّا ذكرها هذا المجيب في جوابه فنزيد في بطلانها على ما تقدّم.

فنقول: أمّا ما ذكره من أنّه رأى في كتب الطرفين ثلاثمائة(2) رواية تدلّ

ص: 121


1- . في «م»: لمن.
2- . لاحظ: تعليقتنا رقم (9) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 145. (المشرف)

على وجود المهدي، فإن أراد كلّ رواية وردت في المهدي، وأنّ كلّ عالم ذكرها في كتابه يُسمّي هذا رواية حتى مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «المهدي من ولدي» من رواية الخدري، وقد رواها أكثر من عشرة من العلماء عن أبي سعيد، يُسمّي هذه عشر روايات فقد صدق في كلامه؛ وإن أراد أنّه وجد هذه الروايات بطرق عديدة بمقدارها وأنّها مصرّحة بأنّه فلان ابن فلان فكذبه ظاهر، وليس في روايات أهل السنّة ذكر ولا خبر من هذه الروايات، وما نقله عن الخوارزمي ليس له في أصل الكتاب أثر، كما لا يخفى على مَن راجعه.

نعم ذكر المسبّب لطبعه في أوائله أنّ هذه الرواية نقلها عن الخوارزمي السيد ابن طاووس وأنّه لم يجدها في أصل الكتاب، على أنّه لو سلّمنا صدق ابن طاووس في نقلها عنه، فرجالها رجال الشيعة، وإن قلنا إنّ الخوارزمي ليس منهم، فإنّ أكثر رجاله الذين يروي عنهم رجال الشيعة.

وأمّا ما نقله عن الحمويني فلم نعثر على هذا الكتاب المنسوب إلى الحمويني(1)، ولا أظن له وجوداً. نعم ذكر هذه الرواية عنه صاحب ينابيع المودّة، ولو صدق في النقل عنه فلا نعرف رجال السند، إذ لعلّهم من الشيعة على أنّه لا دلالة فيها على أنّه فلان ابن فلان، ولو كان فيها دلالة فيكون حالها كحال أخبار الشيعة المروية من طرقهم، وقد أقمنا البرهان فيما سبق على كذبها.

وكذا ليس في أخبار أصحابه هذا المقدار من الروايات كما لا يخفى،

ص: 122


1- . أقول: قال تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ اَلظَّنِّ»، وقال تعالى: «إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً»، كيف يقول الآلوسي ذلك وأنّ صاحب ينابيع المودّة - وهو من محدّثي السنّة - قد نقل عنه، فكيف يقول: إنّه لا أظن له وجوداً، وسيأتي تفصيل ذلك في تعليق شيخ الشريعة على الرسالة الثالثة للمعترض. (المشرف)

بل الآن لا نعرف من الرواة للنصّ عليه سوى الكليني وابن بابويه والطوسي والنعماني.

وأمّا ما ذكره من الاستدلال بحديث الاثني عشر خليفة فهو خبر واحد لا يوجب(1) علماً وقد رواه اثنان من الصحابة: عبد اللّٰه بن مسعود، وجابر بن سمرة؛ وهو ظاهر في أنّ هؤلاء الخلفاء يكونون متمكّنين والناس منقادون لهم، وأنّ الدين بسببهم(2) يكون محفوظاً من الأعداء، ولا يخفى عدم انطباقه على أئمّة الشيعة إلّابالحمل على خلاف ظاهره، وإذا حمل على خلاف

ص: 123


1- . أقول: إنّ حديث: «الاثني عشر خليفة» رواه الشيخان في صحيحهما وأنتم تقولون كلّ ما في البخاري صحيح. (لاحظ: صحيح البخاري: 4، كتاب الأحكام، الباب برقم 52، رقم الحديث 7222؛ صحيح مسلم: كتاب الإمارة، باب الناس تبع قريش، الخلافة في قريش). وإليك متن الحديث كما في صحيح البخاري، بروايته عن: جابر بن سمرة قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «يكون اثنا عشر أميراً». فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: «كلّهم من قريش». وقد رواه أيضاً غير الشيخين منهم: الطيلساني في مسنده (مسند الطيلساني: 105/3، الحديث 768)، ومسند أحمد في غير موضع من كتابه (مسند أحمد: 92/5، إلى غير ذلك، كسنن أبي داود، كتاب المهدي؛ وسنن الترمذي، كتاب الفتن، الباب 46؛ المعجم الكبير للطبراني: 214/2، برقم 1792؛ الحاكم في المستدرك على الصحيحين: كتاب معرفة الصحابة: 317/2)، إلى غير ذلك من المشايخ الذين يطول الكلام في ذكرهم، وقد جمع شيخنا الصافي الكلبايكاني (حفظه اللّٰه) تلك الأحاديث الناصّة على الخلفاء الاثني عشر في كتابه: «منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر» وجعل الروايات في بابين: الأوّل: الأحاديث الناصّة على الخلفاء الاثني عشر بالعدد وبأنّهم عدّة نقباء بني إسرائيل، وحواري عيسى عليه السلام، وذكر فيه 148 حديثاً. الثاني: الأحاديث الناصّة على الاثني عشر والمفسّرة للأحاديث المخرّجة في الباب الأوّل، وفيه 161 حديثاً. وقد تقدّم الكلام فيه فيما سبق. (لاحظ: منتخب الأثر: 101/1-254). (المشرف)
2- . في «ح»: لسببهم.

ظاهره فليحمل على أحد المحامل المذكورة في كتب أصحابنا، ومن جملتها أنّه أشار صلى الله عليه و آله و سلم إلى ما يكون بعده من الخلفاء في جميع مدّة الإسلام، وقد مضى منهم إلى الآن تسعة وسيكون في مستقبل الزمان ثلاثة أحدهم المهدي الذي وعد به النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

على أنّا نقول لهم ما تريدون من الخلفاء؟ إن أردتم أنّهم الذين يخلفون النبي صلى الله عليه و آله و سلم في التبليغ وفي إقامة شعائر الدين، فقد بيّنّا سابقاً أنّه ليس هنا إمام منصوب للتبليغ، وإلّا لبلّغ مع تمكّنه ولو لخواصّه، ولا إمام هاهنا أيضاً منصوب من اللّٰه لإقامة شعائر الدين وحفظ حوزة المسلمين خاصّة من دون تبليغ، لما عرفت أنّ روايات الشيعة ناطقة بأنّ التبليغ مقصود من نصبه؛ ولأنّ نصبه لهذه الفائدة خاصّة، أعني: إقامة شعائر الدين وحفظ حوزة المسلمين.

أمّا على سبيل الوجوب على اللّٰه تعالى وهو مبني على وجوب اللطف، وهو باطل وقد أشرنا سابقاً إلى بطلانه.

وإن شئت زيادة البيان في بطلانه أخبرنا على أنّ هذا المجيب قد أنكر الاعتماد عليه أو على سبيل التفضّل منه بمعنى أنّ الإخلال به لا يقبح، فمع ما فيه من خرق الإجماع على الوجوب أنّ نصبه على سبيل التفضّل مع العلم بعدم حصول هذه الفائدة منه في هذه المدّة العظيمة، عبث وسفه.

ولا يقال هاهنا: إنّ نصبه لدفع حجّة المكلّفين؛ لأنّا قد فرضنا أنّه منصوب على سبيل التفضّل، ولا حجّة للمكلّفين بترك نصبه.

وأمّا استدلاله بحديث: «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه»، فهو

ص: 124

خبر (واحد لم يرو من طرق السنّة إلّاعن)(1) واحد من الصحابه وألفاظه مضطربة(2)، ولا من طرق الشيعة إلّاعن سُليم بن قيس الهلالي برواية أبان عنه، ولا يخفى طعن السنّة فيه، كما أنّه لا يخفى طعن الشيعة على روايات سليم بن قيس، وأنّ كتابه مكذوب لا أصل له،(3) وروي هذا الحديث عن محمد الباقر عليه السلام أيضاً من طرق الشيعة ولم يسنده إلى آبائه(4)، وليس له عن غير هذين في كتب الشيعة طريق آخر، كما لا يخفى على مَن راجع أوائل المجلد السابع من كتاب البحار.(5)

ولو صحّ فيجب حمله على غير مَن له الرئاسة العامّة من معاني الإمام:

إمّا القرآن أو العالم بالنسبة إلى مقلّده، لما عرفت في كلامنا على حديث الاثني عشر خليفة، وفي أصل الاعتراض من قيام الدليل القاطع على نفي إمام هاهنا موجود منصوب لتبليغ الأحكام وحفظ الحوزة.

ص: 125


1- . ليس في «م».
2- . سيوافيك ما ورد في هذا الموضوع في هامش جواب شيخ الشريعة على رسالة الآلوسي الثالثة. (المشرف)
3- . لاحظ تعليقتنا رقم (10) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 142. (المشرف)
4- . أقول: قد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ رواياتهم مأخوذة من النبيّالأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حيث يروي الولد عن الوالد حتى ينتهي إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فلو حدّث الإمام الباقر عليه السلام فإنّما يحدّث عن لسان أبيه علي بن الحسين عليهما السلام، وهو عن الحسين بن علي عليهما السلام، وهو عن علي عليه السلام وهو عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. روى الكليني بسنده عن حمّاد بن عثمان وغيره قالوا: سمعنا أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّٰه، وحديث رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قول اللّٰه عزّ وجلّ». (الكافي: 42/1، برقم 14) (المشرف)
5- . أي حسب ترتيب مصنّفه ويقابله الأجزاء: 23-27 من المطبوع في بيروت، نشر مؤسسة الوفاء.

وأمّا استدلاله بحديث الثقلين، فالحديث صحيح، إلّاأنّ الاستدلال به فاسد؛ لأنّ أصحابه يستدلّون به على وجود مبلّغ في كلّ عصر يجب الرجوع إليه والتمسّك به وأخذ الأحكام منه، وقد عرفت سابقاً عدم وجود مبلغ في هذه الأزمنة، وبدون هذا الاستدلال لا يثبت مدّعاه، فيجب حمله على أحد التفاسير المذكورة في كتب أصحابنا.

وكذا الكلام في حديث: «أهل بيتي كسفينة نوح»، كالكلام في حديث الثقلين، إن سلم صحّته.

وكذا الكلام في حديث: «أهل بيتي أمان لأُمّتي» إن أُريد به ظاهره، فليس من محلّ النزاع؛ لأنّ اعتراضنا ليس في نفي الإمام بهذا المعنى، مع أنّ التخصيص(1) بعلي والحسن والحسين مجال واسع وشواهد كثيرة، وإن عممته فلا ينطبق على إمامة مَن تدّعون له الإمامة، أعني: الثاني عشر، لما عرفت أنّ أخبار الشيعة صريحة في أنّ إمامهم منصوب لتعريف الأحكام لا لهذه الفائدة خاصّة.(2)

على أنّا ندّعي أنّ المشار إليهم بذلك هم أهل البيت من أهل السنّة والجماعة، وهذا المعنى المقصود من إيجادهم لا يفتقر إلى معرفتهم حتى يقال: مَن هم، (وأين هم؟)(3) وإن أُريد غير ظاهره، أعني: أنّهم أمان لأهل الأرض بمعنى مفزع لهم يرجعون إليهم في تعاريف الأحكام، كما هو ظاهر

ص: 126


1- . في «ح»: للتخصيص.
2- . أقول: قد عرفت أنّ نصب الإمام لأجل ملء الفراغات الحاصلة على إثر رحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولا يختصّ بتعريف الأحكام. (المشرف)
3- . ليس في «م».

كلام أصحابه فيمنع(1) ذلك؛ وسند المنع ما تقدّم من عدم وجود إمام منصوب لهذه الفائدة، وإلّا لبلّغ خواصّه ودلّهم على نفسه حتى يرجعوا إليه، وإلّا لزم نقض الغرض والعبث، وإن أجاب بعدم التمكّن عاد إلى أصل الاعتراض.

وما نقله عن التوراة(2) فنطالبه:

أوّلاً: بأي موضع ذكرت هذه الألفاظ وبأيّ سفر؟

وثانياً: بدلالتها على مقصوده.

وثالثاً: بحجّيتها.

ورابعاً: بدفع الاعتراض الّذي وجّهناه إليه، إذ هو جار بالنسبة إليها على تقدير دلالتها على مقصوده، وهذا كافٍ في إبطال (ما استدلّ به، ولا حاجة لنا إلى التطويل لأنّك قد عرفت أنّه ليس غرضنا إبطال)(3) سائر ما تستدلّ به الشيعة على إمامة الثاني عشر، بل غرضنا تكذيب النصوص الّتي يروونها عن آبائه، وبطلان قولهم إنّ البيانات التي بين أيدينا غير كافية، وإنّه يجب على اللّٰه تعالى نصب إمام معصوم في كلّ عصر لأجل التبليغ.

وأمّا ما أورده علينا(4) بالنقض بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم فهو غير وارد، لما عرفت أنّ اعتراضنا على سبيل الإلزام على أنّا نقول: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالنسبة إلى معاصريه ما كانوا محتاجين إلى كتاب يجمع لهم فيه الأحكام، بل هو كان موجوداً والوحي ينزل عليه ظاهراً لامختفياً فيرجع إليه الناس، وأردنا من إمامكم

ص: 127


1- . في «ح»: فمنع.
2- . أقول: سيوافيك نصّ التوراة في التعليقة فانتظر... (المشرف)
3- . ليس في «م».
4- . ليس في «ح».

الكتاب خوفاً من أن تقولوا: إنّه لا يتمكّن من الظهور كظهور النبي صلى الله عليه و آله و سلم حتى يرجع إليه كلّ مَن أراد معرفة الأحكام.

وأمّا بالنسبة لمَن بعده فإنّا لم نقل بأنّه صلى الله عليه و آله و سلم مأمور بإيصال الأحكام إليهم على وجه اليقين ثم أمره اللّٰه بتركه حتى يرد علينا مثل ما ورد عليكم تزعمون أنّ اللّٰه تعالى نصب الإمام ليعلم الأحكام الشرعية على وجه اليقين ثم أمره بترك التبليغ حتى مع تمكّنه، وأمره بالاختفاء والاستتار على وجه لا يتمكّن خواصّه من الرجوع إليه، بل نقول: إنّ من بعده لم يكلّفوا بتحصيل اليقين بالأحكام وهم مأمورون بالعمل بالروايات التي تنقل وإن كانت لا تفيد القطع وبظواهر الكتاب والرجوع إلى القياس وأصالة النفي فيما فقد فيه نصّ.

وقد أقمنا البراهين على أنّا متعبّدون عقلاً وشرعاً بهذه الأدلّة، وأنّه لا قبح في تعبّدنا بهذه الأدلّة، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يُبعث لنا بأكثر من ذلك، لا أنّه مأمور بإيصال الأحكام على وجه اليقين وقصّر في تبليغه، ولا ينافي هذا كون النبي صلى الله عليه و آله و سلم مبعوثاً للإرشاد؛ لأنّ الإرشاد هو أن يبلغهم ويوصل إليهم ما أمره اللّٰه بإيصاله ولم يأمرهم اللّٰه تعالى بأكثر من ذلك وبتحصيل اليقين تسهيلاً وتخفيفاً عليهم رحمة منه لهم لا سيما ومخالفة الواقع ضروري الوقوع كما ذكره هذا المجيب.

ولو فرضنا معرفة الأحكام يقيناً فكيف نكون مكلّفين بتحصيل اليقين؟ فإذا اعترفتم وسلّمتم أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يبعث بأكثر من ذلك، وأنّ البيانات الّتي عند الناس كافية لهم، وأنّ اللّٰه تعبدنا بهذه الأدلّة التي بين أيدينا وله الحجّة البالغة علينا بذلك من دون أن يجب عليه نصب إمام، وأنّ

ص: 128

اختلاف الأُمّة رحمة حيث لا يكونوا مقصّرين في تتبّع الأدلّة؛ فقد حصل المطلوب من اعتراضنا وظهر كذب الأخبار الّتي ترويها الشيعة، أنّ اللّٰه تعالى لو لم ينصب إماماً لبقيت الحجّة عليه.

والحاصل: أنّا لم نقل أنّه صلى الله عليه و آله و سلم مبعوث بأكثر من ذلك حتى مع تمكّنه من الزيادة وإيصال الأحكام لنا على سبيل التواتر لا يجب عليه ذلك، نعم هذا وارد عليكم؛ لأنّكم تقولون: إنّه مأمور بالتبليغ لمن يوجد بعده على وجه يفيده اليقين، ولهذا احتاج إلى نصب معصوم مبلّغ بعده.

والحاصل: أنّ النقض علينا لا يرد إلّاحيث نقول: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان مبعوثاً بشيء ولم يفعله مع تمكّنه مع(1) فعله.

وقوله: إنّه لا يكفي إيداع علومه للوصي دفعاً لما يقال على كلامه أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم إنّما لم يفعل ذلك، أعني: لم يجمع الأحكام على وجه يوصلها بالتواتر لمن يوجد بعده، اتّكالاً على الوصي، وارد عليه؛ لأنّه لو كان هذا واجباً على النّبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لما اكتفى بالوصي ولجمع الأحكام في كتابه وحرّض جميع أصحابه على نقله، ولمّا لم يفعل عرفنا أنّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يكن مأموراً بذلك، ولم يكن مَن يوجد بعده مكلّفين بتحصيل اليقين، وأنّ البيان الّذي حصل منه هو لجميع الناس إلى يوم القيامة، ولا يجب نصب مبلغ للأحكام معصوم بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فيلزم بطلان الأخبار الدالّة على ذلك وكذبها، وهو واضح؛ لأنّه على هذا الفرض أنّ البيان حاصل بدون نصب الإمام، ففيه الحجّة البالغة، وإن لم ينصب إماماً.

وبما تقدّم يظهر لك ما في قوله من أنّه لو وجب على النبي صلى الله عليه و آله و سلم التبليغ

ص: 129


1- . من. ظ.

على وجه اليقين لبدل اللّٰه القصص الواردة في القرآن بالأحكام الشرعية؛ لما عرفت من أنّا لم نقل بذلك، بل نقول: إنّ البيانات الّتي بين أيدينا كافية(1) فلا حاجة إلى التبديل، وإنّما كلامنا إلزام لهم، وكذا الآيات الّتي فهم منها التجسيم والتشبيه بعض السنّة وبعض الشيعة، كهشام بن الحكم(2) وهشام بن سالم ويونس وأتباعهم، كما صرّح بذلك المجلسي في المجلد الثاني من كتاب البحار(3)، والكشي في رجاله، ليس فيها نقض الغرض من بعثة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وعدم فهمهم المراد منها لتقصيرهم، غير مناف لإنزالها.

والحاصل: أنّا نقول الحلال ما أحلّه الخبر الواحد والقياس وظاهر

ص: 130


1- . أقول: قد عرفت فيما سبق أنّ فقهاء السنّة لمّا واجهتهم مسائل مستجدّة ولم يجدوا جواباً لهافي الكتاب ولا في السنّة المحدّدة بخمسمائة حديث، وضعوا من عند أنفسهم قواعد، كالقياس والاستحسان وسد الذرائع وفتحها إلى غير ذلك من القواعد التي لم يدلّ دليل على صحّتها - لو لم يدلّ دليل على خلافها - فكيف يقول: إنّ البيانات التي بأيدينا كافية؟! (المشرف)
2- . أقول: إنّ وصف هؤلاء الأجلّة بالتجسيم والتشبيه نسبة غير صحيحة، فإنّ ربيب بيت الإمام الصادق عليه السلام كهشام بن الحكم، يستحيل أن يكون مجسّماً. وقد خلق له انتصاره على الأعداء ما هو بريء عنه براءة يوسف ممّا نسب إليه، كالقول بالتجسيم وغيره. وكان الجاحظ أشدّ الناس عداوة لهشام فنسب إليه تلك المفتريات للانتقاص منه والحطّ من كرامته، وكذلك فعل النظّام إبراهيم بن سيّار، وجاء ابن قتيبة في «مختلف الحديث» فأرسلها إرسال المسلّمات، وكذلك الخياط المعتزلي كما جاء في كتاب «الانتصار». وقس عليه اتّهام هشام بن سالم، ويونس بن عبد الرحمن بهذه التهم الباطلة. ومن أراد الوقوف على نزاهة هؤلاء الأجلّاء عن هذه التهم، فليراجع تراجمهم في المصادر المعتبرة. (لاحظ: موسوعة طبقات الفقهاء: 599/2، برقم 701، وج 602/2، برقم 702، وج 634/3، برقم 1226). (المشرف)
3- . المجلد الثاني من كتاب البحار حسب ترتيب مصنّفه يقابل الأجزاء: 3 و 4 من المطبوع في بيروت، نشر مؤسسة الوفاء.

الكتاب ونحوها، وكذا الحرام وإن كان يختلف باختلاف المجتهدين.

وبالجملة هو عبارة عن التكليف الظاهري في اصطلاح الشيعة، فكيف يتأتّى للملحد الاعتراض علينا إذا قلنا له: إنّه يعاقبهم على تقصيرهم إذا قصّروا؟! وإنّما وجّهنا الاعتراض عليكم حيث إنّكم تقولون: يجب عليه تبليغ الأحكام على وجه يحصل القطع بها للمكلّفين، ولم يبلغها مع تمكّنه، هذا كافٍ في دفع جميع ما ذكره.

وأمّا الجواب الأخير الذي لم يرتضه هو وارتضاه غيره من أنّ التبليغ يجب أن يكون بالطريق العادي لا بخرق العادة، كما هو الطريق المسلوك لجميع الأنبياء والمرسلين وظهوره لأوليائه ليس إلّابخرق العادة، فقد كفانا المجيب بنفسه مؤونة دفع هذا الجواب، مع أنّا نذكر ما فيه من الفساد، فنقول:

أقول: لم يبلغني من جوابه إلّاهذا المقدار بعيون ألفاظه.

وأمّا ما يتعلّق بالجواب الأخير الّذي لم ارتضه فقد بلغني أنّه كتب كلاماً يتعلّق به إلى بعض الأعاظم الّذي أشار إليه في أوّل الرسالة ولم يتّفق لي ملاحظتها فأحكيها وأتكلّم عليها، فليعلم.

***

ص: 131

تعليقات العلّامة السبحاني على رسالة الآلوسي الثانية(1)

التعليقة رقم (1):

ادّعى السيد الآلوسي أنّ الشيعة الإمامية يستدلّون بقاعدة اللطف على كُلٍّ من الأمرين التاليين:

1. وجوب النصّ على الإمام من النبي.

2. وجوب العصمة.

أقول: أمّا الأمر الأوّل ففيه مسألتان:

الف. الاستدلال على إمامة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

ب. هل نصب الإمام، واجب على اللّٰه من باب اللطف أو لا؟

فنقول: أمّا المسألة الأُولى فإنّ الشيعة الإمامية عن بكرة أبيهم كانوا يستدلّون على إمامة علي عليه السلام بالنصوص الواردة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم حول إمامته وخلافته بصور مختلفة، فإنّ الذي يمكن أن يكون دليلاً صارماً مغنياً هو كلام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم في غير واحد من المواقف، كحديث الغدير أوّلاً، وحديث المنزلة ثانياً، وحديث الثقلين ثالثاً، وقوله صلى الله عليه و آله و سلم في شكوى بُريدة عليّاً عليه السلام قال: «دعوا عليّاً، إنّ عليّاً منّي وأنا منه وهو ولي كلّ مؤمن بعدي»، وفي رواية: «لا تقعن يا بُريدة في عليّ فإنّ عليّاً منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي» إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة التي تصرّح بأنّه الإمام بعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم، هذا هو المستمسك الوحيد الذي يقنع كلّ طالب للحقّ.

وأمّا المسألة الثانية، أي وجوب نصب الإمام بعد رحيل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على اللّٰه سبحانه،

ص: 132


1- . لأهمية هذه التعليقات ارتأى صاحب التعليقات والمشرف على تحقيق هذا الكتاب العلّامة المحقّق جعفر السبحاني أن توضع هنا بعد رسالة السيد الآلوسي الثانية. وبقية التعليقات تأتي بعد رسالة الآلوسي الثالثة.

فهي مسألة كلامية ظهرت في القرن الرابع بين المتكلّمين.

فأصحاب الحديث والأشاعرة والجبّائيان من المعتزلة قالوا: إنّه واجب سمعاً لا عقلاً.

وقال أبو الحسين البصري والبغداديون والإمامية: إنّه واجب عقلاً. ثم اختلفوا، فقالت الإمامية: إنّ نصبه واجب على اللّٰه تعالى، وقال أبو الحسين والبغداديون على أنّه واجب على العقلاء.(1) وبهذا يُعلم أنّ الاستدلال بقاعدة اللطف على نصب الإمام استدلال في مقابل أقوال سائر المتكلّمين، ولكن المهم عندهم هو المسألة الأُولى التي تبتني على النصوص، سواء أتمّت قاعدة اللطف أو لا، فالذي يشكّل أساس المذهب هو النصوص.

إلى هنا تمّ الكلام حول الأمر الأوّل، بقي الكلام في الأمر الثاني وهو أنّه ادّعى أنّ وجوب عصمة الإمام مبني على قاعدة اللطف.

أقول: إنّ هذا ادّعاء غير تام، فإنّهم يستدلّون على لزوم عصمة الإمام بأدلّة أُخرى، كقوله سبحانه: «لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ» بالدلائل العقلية التالية:

1. امتناع التسلسل يوجب عصمته.

2. أنّه حافظ للشرع.

3. لوجوب الإنكار عليه لو أقدم على المعصية فيضاد أمر الطاعة.

4. ويفوت الغرض من نصبه.

5. ولانحطاط درجته عن أقلّ العوام(2)، ومع هذا فأين الاستدلال بقاعدة اللطف.

وارجاع بعض هذه الأدلّة إلى قاعدة اللطف تكلّف واضح.

وممّا يورث العجب قوله: إنّ إثبات إمامة أبي بكر متوقّف على إبطال مقدّمتين - وجوب النصّ على الإمام من النبي ووجوب العصمة - مع أنّ إبطالهما لا يلازم إمامة أبي بكر، بل إثبات إمامته، رهن دليل آخر. فكيف يستنتج إثبات شيء من نفي دليل

ص: 133


1- . لاحظ: كشف المراد: 181.
2- . كشف المراد: 184، قسم المتن. لاحظ شرح هذه الأدلة: كشف المراد: 184-185.

آخر، وكأنّهما عنده من قبيل «ضدّان لا ثالث لهما»؟! (المشرف)

***

التعليقة رقم (2):

حاصل كلام المعترض على جواب شيخ الشريعة مع طوله عبارة عن الأمر التالي: إنّ الغاية من نصب الإمام هو بيان الأحكام الشرعية والتكاليف الدينية، والإمام الثاني عشر وإن كان لا يتمكّن من الظهور إلى الجميع حتّى يقوم بوظيفته بصورة جماعية للخوف على نفسه وروحه، ولكن يتمكّن من الظهور على مَن له به ثقة، كالشيخ الكليني والشيخ الطوسي والمرتضى ومَن بعدهم من العلماء الأعلام، فعدم ظهوره لهم وبالتالي عدم تبليغه الأحكام لهؤلاء، نستكشف عدم وجوده كاستكشاف عدم المؤثّر من عدم الأثر.

هذا خلاصة ما ذكره في تلك الصحائف.

فنقول: إنّ وجوب نصب الإمام لغاية التبليغ نتيجة قاعدة اللطف، ولكن القاعدة لها شرطان عند المستدلّين بها:

الأوّل: أن لا يكون له حظ في التمكين وحصول القدرة، إذ العاجز غير مكلّف فلا يتصوّر اللطف في مورده.

الثاني: أن لا يبلغ حدّ الإلجاء ولا يسلب عن المكلّف الاختيار، لئلّا ينافي الحكمة في جعل التكليف من ابتلاء العباد وامتحانهم.

وعلى هذا فالذي يقتضيه اللطف عبارة عن قيام الإمام بوظيفته بالطرق العاديّة حسب تمكّنه وقدرته، وأمّا ظهوره لشخص دون شخص كالكليني دون غيره أو للسيد المرتضىٰ دون آخر كما زعم فلا تقتضيه قاعدة اللطف؛ لأنّه يتبع في أمر التبليغ طريقة سائر الأنبياء والرسل وآبائه الطاهرين.

إنّ الإمامية وإن ذكروا أنّ من وظائف الإمام تبليغ الأحكام، ولكن أرادوا تبليغاً حسب الموازين العرفية والإمكانات الموجودة التي لا تورث الريب ولا الشك، فلو ظهر

ص: 134

مثلاً للكليني وابن بابويه والشيخ الطوسي مع معجزة تدلّ على صدقه وعلّمهم الأحكام وإن حصل به أمر التبليغ، لكن يلاحظ عليه بأُمور:

1. مَن أين يعلم الكليني أو ابن بابويه أنّ الذي ظهر له هو الإمام الثاني عشر، فيجب على الإمام في كلّ ظهور الإتيان بالإعجاز، وعلى ذلك فعليه أن يقوم بمعاجز كثيرة عبر غيبته إلى يومنا هذا.

2. لو فرضنا أنّ الإمام عليه السلام ظهر إلى أحد المشايخ بالإعجاز فأذعن بما رآه وأخذه فكيف هو يقوم بنقل ما أخذه من الإمام إلى الناس، أفلا يكون أمره وقوله: «لقد رأيت الإمام المهدي في يوم كذا وقال ما قال»، مريباً ومورثاً للشك والاعتراض؟!

3. لو قام الإمام بذلك عبر قرون مضت على غيبته، لأصبح الدين أمراً سريّاً غائباً عن أعين الناس. وصار المتديّنون جمعية سريّة منعزلة عن المجتمع الإسلامي.

4. لو فتحنا هذا الباب لأخذه الكذّابون وسيلة للدسّ في الشريعة وإدخال ما لا ينسجم مع ما أراده اللّٰه، فربّما ينتهي إلى قول القائل:

فكلّ يدّعي وصلاً بليلى *** وليلى لا تقرّ لهم بذاكا

لا شكّ أنّ وكلاء الناحية المقدّسة الأربعة كانوا حلقة الوصل بين الأُمّة والإمام المهدي (عجّل اللّٰه تعالى فرجه الشريف) خلال الغيبة الصغرى، فكانوا يسألون الإمام (عجّل اللّٰه تعالى فرجه الشريف) عن مسائل ويأتي الجواب إليهم منه، وهذه الأسئلة والأجوبة تُسمّى بالتوقيعات، ومع أنّهم يذكرونها بتكريم وتبجيل لكن مؤلّفو الكتب الأربعة التي هي عمدة مراجع الشيعة الإمامية في تلكم التآليف لم يذكروا فيها شيئاً من الرقاع والتوقيعات الصادرة عن الناحية المقدّسة، وهذا يوقظ شعور الباحث إلى أنّ مشايخ الإمامية الثلاثة كانوا عارفين بما يؤول إليه أمر الأُمّة من البهرجة وإنكار وجود الحجّة، فكأنّهم كانوا منهيين عن ذكر تلك الآثار الصادرة من الناحية الشريفة في تآليفهم مع أنّهم هم رواتها وحملتها إلى الأُمّة، حتى لا يبقى لرجال العصبية العمياء مجال للقول بأنّ مذهب الإمامية مأخوذ من

ص: 135

الإمام الغائب الذي لا وجود له في مزعمتهم، وأنّهم يتعبّدون بالرقاع المزوّرة في حسبانهم، وهذا سرٌّ من أسرار الإمامة يؤكِّد الثقة بالكتب الأربعة والاعتماد عليها.(1)

على أنّ الغاية من نصب الإمام لا تنحصر بتبليغ الأحكام، بل يجب عليه ملء الفَراغات الحاصلة من رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم التي عرفت في تقديمنا أعني:

1. الفراغ الحاصل في جانب العقائد والمعارف.

2. الفراغ الحاصل في بيان الأحكام الشرعية.

3. الفراغ الحاصل في تفسير الذكر الحكيم.

4. الفراغ الحاصل في صيانة السنّة النبوية عن عمل الكذّابين والوضّاعين.

إلى غير ذلك ممّا تنتفع به الأُمّة من وجود النبيّ، أفيمكن ملء هذه الفراغات الحاصلة من رحيل النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالمسارّة إلى أمثال الكليني والسيد المرتضىٰ، فمن زعم أنّ هذه الفوائد تكون متحقّقة بتعليم هذا وذاك، فقد زعم شيئاً يشهد وجدانه على بطلانه. (المشرف)

***

التعليقة رقم (3):

اتّفق العلماء على أنّ بين الأُمّة الإسلامية جماعة محدَّثون، يُحدِّثهم المَلك ويُكلّمهم من دون أن يكونوا أنبياء، وهذا أمر لا شبهة فيه، وقد روى أهل السنّة ما يدلّ على ذلك بوضوح.

ولأجل إيقاف القارئ على المحدّث في الإسلام ومفهومه نذكر شيئاً في توضيحه.

المحدَّث: مَن تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ورؤية صورة، أو يُلهم ويُلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت له في قلبه من

ص: 136


1- . لاحظ: الغدير: 388/3.

حقائق تخفىٰ على غيره.

فالمحدّث بهذا المعنى ممّا أصفقت الأُمّة الإسلامية عليه، بيد أنّ الخلاف في مصاديقه، فالسنّة ترى عمر بن الخطاب من المحدَّثين، والشيعة ترى عليّاً وأولاده الأئمّة منهم.

أخرج البخاري في صحيحه: عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: لقد كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء؛ فإن يكن من أُمّتي منهم فعمر.(1)

وقد أفاض شرّاح صحيح البخاري الكلام حول المحدَّث.(2)

وللمحدّثين من أهل السنّة كلمات حول المحدَّث نأتي بملخّصها:

يقول القسطلاني حول الحديث: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوة.(3)

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: قد كان في الأُمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أُمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف تفسير العلماء للمراد ب «محدَّثون» فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: يصيبون إذا ظنّوا، فكأنّهم حُدّثوا بشيء فظنّوه، وقيل:

تكلّمهم الملائكة، وجاء في رواية: مكلّمون.(4)

وقال الحافظ محب الدين الطبري في «الرياض»، ومعنى «مُحدّثون» - واللّٰه أعلم - أن يلهموا الصواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدّثهم الملائكة لا لوحي، وإنّما يطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلة عظيمة.(5)

وحصيلة الكلام: أنّه لا وازع من أن يخصّ سبحانه بعض عباده بعلوم خاصّة يرجع نفعها

ص: 137


1- . صحيح البخاري: 200/4، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، دار الفكر، بيروت.
2- . لاحظ: إرشاد الساري، شرح صحيح البخاري للقسطلاني: 99/6.
3- . إرشاد الساري، شرح صحيح البخاري: 431/5.
4- . شرح صحيح مسلم للنووي: 166/15، دار الكتاب العربي، بيروت.
5- . الرياض النضرة: 199/1.

إلى العامّة من دون أن يكونوا أنبياء، واللّٰه سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله: «فَوَجَدٰا عَبْداً مِنْ عِبٰادِنٰا آتَيْنٰاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً» (1)، ولم يكن المصاحب نبيّاً، بل كان وليّاً من أولياء اللّٰه سبحانه وتعالى بلغ من العلم والمعرفة مكانةً، دعت موسى - وهو نبيّ مبعوث بشريعة - إلى القول: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّٰا عُلِّمْتَ رُشْداً» .(2)

ويصف سبحانه وتعالى جليس سليمان - آصف بن برخيا - بقوله: «قٰالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّٰا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قٰالَ هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي» .(3)

وهذا الجليس لم يكن نبيّاً، ولكن كان عنده علم من الكتاب، وهو لم يحصّله من الطرق العاديّة التي يتدرّج عليها الصبيان والشبان في المدارس والجامعات، بل كان علماً إلهياً أُفيض عليه لصفاء قلبه وروحه، ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه ويقول: «هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي» .(4)

والإمام علي عليه السلام والأئمّة من بعده، الّذين أُنيطت بهم الهداية في حديث الثقلين، ليسوا بأقلّ من مصاحب موسى عليه السلام، أو جليس سليمان، فأي وازع من أن يقفوا على سنن النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن طريق الإشراقات الإلهية. (المشرف)

***

التعليقة رقم (4):

كيف يقول: النصوص بمجرّدها لا تدلّ على وجود الإمامة؟

أو لا يدلّ عليها حديث المنزلة حيث قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لعلي عليه السلام: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ من بعدي» فأثبت لعليّ عليه السلام كافّة مناصب هارون عليه السلام

ص: 138


1- . الكهف: 65.
2- . الكهف: 66.
3- . النمل: 40.
4- . الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف: 365/2-366.

واستثنى النبوّة، ومن مناصبه كونه خليفة لموسى عليه السلام، ومن المعلوم أنّ ما وراء النبوّة ليس شيء إلّاالإمامة والخلافة، ومن هنا صدر موسى عليه السلام حيث أخلفه عند ذهابه إلى الميقات: «اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاٰ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ» (1)، أو لا يكفي قوله صلى الله عليه و آله و سلم خطاباً لبريدة: «دعوا عليّاً إنّ عليّاً منّي وأنا منه وهو ولي كلّ مؤمن بعدي».(2)

وبعد هذين الحديثين، ففي الحديث المتواتر - بل فوق التواتر - حديث الغدير فماذا يُريد النبي الأعظم في يوم بلغت حرارة الشمس إلى حدٍّ يضع الرجل طرف عبائه تحت رجليه والطرف الآخر فوق رأسه، والنبي صلى الله عليه و آله و سلم يخطب في محتشد عظيم لا يظلّهم شيء إلّاأشعة الشمس وحرارة الجو، بقوله: «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه»، فهل يُريد ولاء الحب أو ولاء النصر؟! أو يُريد الولاية على الأنفس والأموال؟ فإنّ الإخبار عن الأوّلين إخبار عن أمر بديهي لا يحتاج إلى بيان، على أنّهما لا يختصّان بعلي عليه السلام فإنّ المؤمنين يوالون بعضهم بعضاً كما أنّهم ينصرون بعضهم بعضاً، فلم يبق إلّاإنشاء الولاية بالنسبة للأنفس والأموال التي لا يرتدي بها إلّاالنبي ومَن قام مقامه بإذن من اللّٰه سبحانه. (المشرف)

***

التعليقة رقم (5): يعترض السيد الآلوسي على القول بأنّ الأرض لا تخلو من حجّة بأنّها - يعني الأخبار - كاذبة لعدم مطابقتها للواقع.

أقول: قال الإمام علي عليه السلام: «اللَّهُمَّ بَلَىٰ! لَاتَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلّهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً (حافياً) مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللّٰهِ وَبَيِّنَاتُهُ».(3)

هذا كلام أمير البيان عليه السلام الذي ينتهي إليه نسب الكاتب، وقبل هذا نعطف نظر القارئ إلى الآيات التالية:

ص: 139


1- . الأعراف: 142.
2- . مسند أحمد: 438/4.
3- . نهج البلاغة: قصار الحكم، برقم 147.

1. قوله تعالى: «إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ» .(1)

2. قوله تعالى: «وَ لَقَدْ بَعَثْنٰا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّٰاغُوتَ» .(2)

3. قوله تعالى: «وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً» .(3)

4. قوله تعالى: «رَبَّنٰا لَوْ لاٰ أَرْسَلْتَ إِلَيْنٰا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيٰاتِكَ» .(4)

5. قوله تعالى: «وَ لَوْ أَنّٰا أَهْلَكْنٰاهُمْ بِعَذٰابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقٰالُوا رَبَّنٰا لَوْ لاٰ أَرْسَلْتَ إِلَيْنٰا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيٰاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزىٰ» .(5)

6. قوله تعالى: «وَ مٰا أَهْلَكْنٰا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّٰ لَهٰا مُنْذِرُونَ» .(6)

إلى غير ذلك من الآيات، وحصيلتها: أنّ اللّٰه سبحانه يحتجّ على العباد بالحجج، سواء أكان رسولاً أو إماماً، فلفظ الرسول والمنذر في هذه الآيات كناية عن وجود الحجّة وإتمام البيان بأي نحو كان، سواء أكان رسولاً صاحب شريعة أو كان مبلغاً عنه، ولذلك نرى أنّه سبحانه يقول: «قُلْ فَلِلّٰهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبٰالِغَةُ» .(7)

وهذه الآيات تدلّ على أنّ الأرض لم تخلو من حجّة للّٰه سبحانه يحتجّ اللّٰه بهم على العباد يوم القيامة، فمن تبعهم فقد فاز ومَن تخلّف فقد خسر، وبذلك يُعلم أنّ قوله: (لعدم مطابقتها للواقع) ماذا يُريد به؟ فهل يريد عدم وجود دليل على وجود الحجّة في كلّ زمان؟! فهذه الآيات تدلّ عليه بصراحة، وأنّ للّٰه سبحانه في كلّ فترة من الأزمنة حجّة يحتجّ بها على العباد! وإن أراد عدم تعرّفه على تلك الحجج، فيرجع هو إلى التاريخ فإنّ المسيح قد رُفع ولكن أوصياؤه واحداً بعد آخر كانوا

ص: 140


1- . الرعد: 7.
2- . النحل: 36.
3- . الإسراء: 15.
4- . القصص: 47.
5- . طه: 134.
6- . الشعراء: 208.
7- . الأنعام: 149.

حجج اللّٰه في كلّ قرن إلى أن بعث اللّٰه سبحانه خاتم النبيين صلى الله عليه و آله و سلم. (المشرف)

***

التعليقة رقم (6):

أقول: سيأتي في كلام شيخ الشريعة قدس سره ذكر ما ورد من الروايات التي اشتملت على أسماء الأئمّة الاثني عشر والتي رواها أئمّة السنّة والشيعة، وفيما ذكره كفاية لطالب الحقّ.

غير أنّا نضيف هنا شيئاً وهو أنّ شيخنا الحرّ العاملي (المتوفّى 1104 ه) قد جمع في الجزء الأوّل من كتابه «إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات» في الباب التاسع في الفصول التالية: 9، 18، 19، 27، الروايات الواردة حول الأئمّة الاثني عشر، وجاء في قسم منها أسماؤهم على وجه التفصيل؛ فمَن أراد أن يقف على تلك الروايات فعليه الرجوع إليه.

والعجب أنّ السيد الآلوسي يدّعي أنّها أخبار حادثة بعد ولادة العسكري، ولم يقم أي دليل على أنّ حدوثها بعد ولادة العسكري!! فلو كان نقل روايات تدلّ على مَن يخلفه يكون دليلاً على الجعل والوضع فليكن كلّ خبر فيه تنبّؤ عن المستقبل ورواه أصحاب الصحاح كذباً وجعلاً. ثمّ يستدلّ على ذلك بأنّ أصحاب الصادق والكاظم والرضا والجواد عليهم السلام إلى الثاني عشر كانوا يضطربون عند موت كلّ واحد منهم غاية الاضطراب، حتى أنّ زرارة أرسل ولده من الكوفة للتفحّص عن الإمام.

أقول: إنّه نقض مدّعاه بدليله.

أوّلاً: أنّه يدلّ على أنّ الرأي العام بين الشيعة هو وجود إمام يخلف الإمام الذي قبله، ولذلك كانوا يتفحّصون عنه.

وثانياً: أنّ الإمام الصادق عليه السلام قد توفّي في عهد المنصور العباسي، وكان من أشدّ الناس قسوة على الشيعة والعلويّين خاصّة، والتاريخ يشهد على جرائمه. وقد بلغ التضييق في عصر المنصور، حدّاً تمنّى الشيعة أن تعود أيام ظلم بني أُمية، لأنّها كانت أهون بالنسبة إلى ظلم بني العباس فقال شاعرهم:

ص: 141

ياليت ظلم بني مروان دام لنا *** ياليت عدل بني العباس في النار

وقال آخر:

تاللّٰه ما فعلت أُمية فيهمو *** معشار ما فعلت بنو العباس

ولأجل التعمية عن المنصور وعلى حاشيته، فقد أوصى الإمام الصادق عليه السلام إلى خمسة أشخاص: أوّلهم نفس أبي جعفر المنصور!! وآخرهم ولده موسى عليه السلام، وبذلك صان نفس ولده الطاهر، غير أنّ الخصّيصين من أصحاب الإمام كانوا يعرفون ذلك، ولذلك رجع كلّ من قال بإمامة عبد اللّٰه الأفطح، بعد سبعين يوماً، إلى ولده موسى الكاظم عليه السلام. وأمّا أنّ إرسال زرارة ولده للفحص عن الإمام لهم، فلم يكن الأمر مشتبهاً عليه، بل كان يريد أن يحتجّ بما أخبر على عموم الشيعة.

نعم كان الاضطراب مختصّاً بهذه الفترة، وأمّا بعد رحيل الإمام الكاظم عليه السلام لم يكن هناك أي اضطراب، ولذلك استدعى المأمون الإمام الرضا عليه السلام إلى خراسان، وبذلك صارت سنّة بين الحكام العباسيّين، وهي أن يضعوا الإمام تحت نظرهم، فوضعوا بقية الأئمّة - أعني: الجواد والهادي والعسكري - في عواصمهم، لأنّهم كانوا أئمّة الشيعة والناس تلتف حولهم. (المشرف)

***

التعليقة رقم (7):

أقول: إنّ للإمام المهدي (عجل اللّٰه تعالى فرجه الشريف) غيبتين، قضية ثابتة رواها جمع من المحدّثين، نشير إلى من وقفنا على نقله.

1. محمد بن يعقوب الكليني (المتوفّى 329 ه) في كتابه الكافي: ج 340/1.

2. أبو عبد اللّٰه محمد بن إبراهيم النعماني (المعاصر للشيخ الكليني) في كتابه المعروف بغيبة النعماني (صفحة 173، الحديث 8).

3. أبو القاسم علي بن محمد بن علي الخزاز الرازي من تلاميذ الصدوق (المتوفّى 381 ه) في كتابه (كفاية الأثر: الباب 23، الحديث 3، الصفحة 146).

ص: 142

4. يوسف بن يحيى المقدسي الشافعي (من علماء القرن السابع) في الباب الخامس، صفحة 134 من كتابه (عقد الدرر).

5. علاء الدين علي بن حسام الدين الشهير بالمتّقي الهندي نزيل مكّة المشرّفة (المتوفّى 975 ه) في كتابه: البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (الصفحة: 171 - 172).

6. الشيخ سليمان بن الشيخ إبراهيم الحسيني البلخي القندوزي (المتوفّى 1294 ه)، في كتابه ينابيع المودّة، صفحة 427، تحت عنوان: المحجّة فيما نزل في القائم الحجة.

وهذا بعض من وقفنا على رواياتهم أنّ للإمام (عج) غيبتين:

فرمي هؤلاء المشايخ العظام الذين بلغوا في الطهارة والتقوى مبلغاً كبيراً، بالتسامح بالدين ووصف أسانيد هذه الروايات بالكذب، جرأة على الدين وجرأة على الأُمّة الإسلامية.

إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة *** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

ثمّ إنّ الإخبار عن الغيب بإلهام من اللّٰه سبحانه ليس أمراً عسيراً، فكم لأئمّة أهل البيت عليهم السلام من إخبارات عن الغيب بإذن اللّٰه سبحانه، وهذا هو يعقوب النبي عليه السلام وولده يوسف عليه السلام أخبرا عن الغيب في كثير من الموارد تظهر بتلاوة سورة يوسف، فأئمّة أهل البيت أحد الثقلين وخلفاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لهم من المكانة التي تسهّل لهم الإخبار عن الغيب بإلهام من اللّٰه سبحانه، وقد مرّ أنّهم محدّثون. (المشرف)

***

التعليقة رقم (8):

قد تقدّم منّا أنّ مقتضى قاعدة اللطف نصب الإمام، لفوائد كثيرة، التي منها التبليغ، لكن حسب الإمكانات العرفية لا على نحو خوارق العادات، إذ ليس أمر الإمام فوق أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وكذا أوامر سائر الأنبياء، فكلّهم مأمورون بتبليغ الأحكام الإلهية حسب الإمكانات الموجودة.

ص: 143

ثمّ إنّه لما دلّت الروايات المتواترة على وجود المهدي عليه السلام وغيبته وفرضنا أنّ الأُمّة لا تنتفع بتبليغه، فهل لنا إنكار وجوده بعد اتفاق الروايات على تولّده؟ نعم للباحث أن يسأل، عن حكمة وجود إمام غير موفّق للتبليغ؟

فنقول: السؤال عن الحكمة والمصلحة في ذلك لا بأس به، فإن وفقنا للإجابة فهو، وإلّا فيصير أمر الإمام كسائر الأحكام التكليفية التي لم تصل الأُمّة إلى أسرارها، وللعلّامة الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء رحمه الله كلام في هذا الصدد، يقول:

ولكن ليت شعري هل يريد أُولئك القوم أن يصلوا إلى جميع الحكم الربّانية، والمصالح الإلهية، وأسرار التكوين والتشريع ولا تزال جملة أحكام إلى اليوم مجهولة الحكمة، كتقبيل الحجر الأسود مع أنّه حجر لا يضرّ ولا ينفع، وفرض صلاة المغرب ثلاثاً والعشاء أربعاً والصبح اثنتين، وهكذا إلى كثير من أمثالها، وقد استأثر اللّٰه سبحانه بعلم جملة أشياء لم يّطلع عليها ملكاً مقرّباً ولا نبياً مرسلاً، كعلم الساعة وأخواته «إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ» .(1)

وأخفىٰ جملة أُمور لم يعلم على التحقيق وجه الحكمة في إخفائها، كالاسم الأعظم، وليلة القدر، وساعة الاستجابة، والغاية أنّه لا غرابة في أن يفعل سبحانه فعلاً أو يحكم حكماً مجهول الحكمة لنا، إنّما الكلام في وقوع ذلك وتحقّقه، فإذا صحّ إخبار النبي وأوصيائه المعصومين عليهم السلام لم يكن بدّ من التسليم والإذعان ولا يلزمنا البحث عن حكمته وسببه.

والقول الفصل: إنّه إذا قامت البراهين في مباحث الإمامة على وجوب وجود الإمام في كلّ عصر وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة، وأنّ وجوده لطف، وتصرّفه لطف آخر، فالسؤال عن الحكمة ساقط، والأدلّة في محالّها على ذلك متوفّرة، وفي هذا القدر من الإشارة كفاية إن شاء اللّٰه.(2) (المشرف)

ص: 144


1- . لقمان: 34.
2- . أصل الشيعة وأُصولها: 107-108، الطبعة الثانية.

***

التعليقة رقم (9):

ذكر شيخ الشريعة بأنّه رأى في كتب الطرفين ثلاثمائة رواية تدلّ على وجود المهدي عليه السلام، فأورد عليه الآلوسي بأنّه إن أراد أنّه وجد هذه الروايات بطرق عديدة بمقدارها وأنّها مصرحة بأنّه فلان بن فلان، فكذبه ظاهر، وليس في روايات أهل السنّة ذكر ولا خبر من هذه الروايات.

يلاحظ عليه: بأنّ حكم الشرع يبعثنا على حمل كلامه على عدم تتبّعه، فإنّ الروايات الدالّة على وجود المهدي وخصوصياته في حياته ومماته أزيد من هذا، وها نحن نذكر فيما يلي عدد الروايات الواردة المبيّنة لخصوصياته وعلائمه. سواء أكان بلسان أنّه ابن فلان أو غيره، ممّا يشخّصه عن غيره، وإليك البيان:

1. ما يدلّ على أنّ اسمه اسم رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وكنيته كنيته، وأنّه أشبه الناس به شمائل وأقوالاً وأفعالاً، وأنّه يعمل بسنّته، وفيه 54 حديثاً من الفريقين.

2. ما يذكر شمائله عليه السلام، وفيه 29 حديثاً.

3. ما يدلّ على أنّه من ولد أمير المؤمنين علي عليه السلام، وفيه 225 حديثاً.

4. ما يدلّ على أنّه من ولد سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام، وفيه 202 حديثاً.

5. ما يدلّ على أنّه من أولاد السبطين الحسن والحسين عليهما السلام، وفيه 125 حديثاً.

6. ما يدلّ على أنّه من ولد الحسين عليه السلام، وفيه 208 أحاديث.

7. ما يدلّ على أنّه من الأئمّة التسعة من ولد الحسين عليهم السلام، وفيه 165 حديثاً.

8. ما يدلّ على أنّه التاسع من ولد الحسين عليه السلام، وفيه 160 حديثاً.

9. ما يدلّ على أنّه من ولد عليّ بن الحسين زين العابدين عليهم السلام، وفيه 197 حديثاً.

10. ما يدلّ على أنّه السابع من ولد الباقر محمّد بن عليّ عليهما السلام، وفيه 121 حديثاً.

11. ما يدلّ على أنّه من ولد الصادق جعفر بن محمّد عليهم السلام، وفيه 120 حديثاً.

12. ما يدلّ على أنّه السادس من ولد الصادق جعفر بن محمّد عليهم السلام، وفيه 112 حديثاً.

ص: 145

13. ما يدلّ على أنّه من صلب الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهم السلام، وفيه 121 حديثاً.

14. ما يدلّ على أنّه الخامس من ولد الإمام السابع موسى بن جعفر عليه السلام وفيه 115 حديثاً.

15. ما يدلّ على أنّه الرابع من ولد الإمام أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهم السلام، وفيه 111 أحاديث.

16. ما يدلّ على أنّه من ولد الإمام محمّد بن عليّ الرضا عليهم السلام، وفيه 109 أحاديث.

17. ما يدلّ على أنّه من ولد الإمام أبي الحسن علي بن محمّد بن علي بن موسى الرضا عليهم السلام، وفيه 107 أحاديث.

18. ما يدلّ على أنّه خلف خلف أبي الحسن وابن أبي محمّد الحسن عليهم السلام، وفيه 107 أحاديث. (المشرف)

***

التعليقة رقم (10):

أقول: إنّ القول (بأنّ كتاب سُليم بن قيس، مكذوب) دعوى بلا برهان ولا دليل، وكأنّ المعترض اعتاد وصف كلّ شيء بالكذب إذا لم يوافق رأيه، فإنّ قسماً من العلماء وصفوا الكتاب بالاعتبار، ونذكر منهم ما يلي:

1. محمد بن إسحاق المعروف ب: ابن النديم.(1)

2. الشيخ أبو العباس أحمد بن علي بن العباس النجاشي (المتوفّى 450 ه).(2)

3. شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (المتوفّى 460 ه).(3)

4. الشيخ الجليل أبو عبد اللّٰه محمد بن إبراهيم النعماني (المتوفّى 462 ه).(4) حيث يقول: ليس بين جميع الشيعة ممّن حمل العلم ورواه عن الأئمّة خلاف في أنّ

ص: 146


1- . لاحظ: الفهرست: 275، الفن الخامس من المقالة السادسة.
2- . لاحظ: رجال النجاشي: 6.
3- . لاحظ: الفهرست للطوسي: 81، برقم 336.
4- . لاحظ: الغيبة: 61.

كتاب سُليم بن قيس الهلالي أصل من أكبر كتب الأُصول... وهو من الأُصول التي ترجع إليها الشيعة.

5. الحافظ الشهير محمد بن علي بن شهر آشوب المازندراني (المتوفّى 588 ه).(1)

6. العالم الجليل السيد جمال الدين أحمد بن طه آل طاووس (المتوفّى 677 ه).(2)

7. العلّامة محمد تقي المجلسي (المتوفّى 1070 ه).(3)

إلى غير ذلك من الأعلام، الذين يناهز عددهم إلى 29، ممّن صرّحوا بنسبة الكتاب إليه أو نقلوا عنه.

وقد قام الشيخ محمد باقر الأنصاري الزنجاني بدراسة مستوعبة حول الكتاب ومؤلفه فجاء بتحقيقات رشيقة في هذا المجال، وطبع الكتاب في ثلاثة أجزاء في مؤسسة نشر الهادي عليه السلام. (المشرف)]

***

ص: 147


1- . لاحظ: معالم العلماء: 58، برقم 390.
2- . لاحظ: التحرير الطاووسي: 136، برقم 175.
3- . لاحظ: روضة المتقين: 372/14.

4- جواب شيخ الشريعة عن رسالة الآلوسي الثانية

اشارة

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّٰه ربّ العالمين، وأفضل صلواته وتسليماته على أفضل أنبيائه محمّد وآله الطاهرين.

وبعد فقد بلغني يا أخي ما كتبه بعض مَن ينتحل العلم من أهل السنّة جواباً عمّا أسلفته أنا وأرسلته، ورأيت فيه من إساءة التعبير وخشونة الألفاظ، وترك ما ينبغي لأهل العلم مراعاته ما أجلّ نفسي عن المقابلة بمثله وأمرّ به كريماً.

الآلوسي يُنكر وجود الإمام الثاني عشر (عج) والردّ عليه

وذكر أنّ الغرض المهم من أصل اعتراضه هو ما كان معهوداً منه سابقاً بينه وبينك من الإشكال على قاعدة اللطف، إلّاأنّ الّذي بلغنا كان من أوّله إلى آخره مسوقاً لإنكار وجود الإمام الغائب عليه السلام في هذه الأزمان على ما تدّعيه الشيعة، مستدلّاً عليه بأنّ أخباركم متواترة في أنّ الغرض الأهمّ من نصبه ووجوده تعريف الأحكام وتبليغ الحلال والحرام، وهو الآن متمكّن ممّا نصب لأجله ولم يفعل، فعلمنا أنّه ليس هناك إمام موجود؛ وادّعى في تلك الكتابة الأُولى المتضمّنة للاعتراض وفي الكتابة الثانية المبعوثة

ص: 148

للجواب أنّ النصوص الدالّة على أنّ الغرض الأهمّ من وجوده هذا أزيد وأكثر من النصوص الواردة من آبائه عليهم السلام في أصل وجوده وغيبته، فإذا تبيّن كذب الأكثر الأقوى تبيّن كذب الأقلّ الأدنى بطريق أولى.

فبيّنت في الجواب أنّ هذه المقدّمة خطاء أو كذب، وأنّ النصوص المتضمنّة لذكره عليه السلام منه ما يفيد كذا، (ومنه ما يفيد كذا)(1) وذكرت أنّ ما ورد من النصوص من أنّه لابدّ في كلّ عصر من حجّة يفزع الناس إليه في حلالهم وحرامهم ويهديهم إلى أحكامهم ليس فيها ما يختصّ بالغائب المستور عليه السلام، بل يعمّه وآباءه الطاهرين عليهم السلام؛ ولعدم نيله الغرض من هذا الكلام كما اعترف به، أجاب بما أجاب، وإنّما الغرض منه أنّ هذه النصوص المرويّة عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله: «لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللّٰهِ وَبَيِّنَاتُهُ»(2) وعن الأئمّة اللاحقين الذين اتّفق الناس كافّة على اختلاف طبقاتهم وآرائهم على ورعهم وعفافهم وكمال عقولهم ورجحان أحلامهم، لا يمكن أن يريدوا بها معنى لا ينطبق على أنفسهم، فيكونوا بذلك ناقضين لغرضهم، مبطلين لإمامتهم كالباحث عن حتفه بظلفه، فلو كان الغرض منها وجود حجّة في كلّ عصر يعلّم الناس الأحكام ويعرّفهم على وجه يحصل لهم اليقين ويرفع الاختلاف بين الأُمّة ويبيّن لهم الواقعيات بالبيان والتعريف الفعليين، لكان عدم انطباق هذا المعنى عليهم أوضح من كلّ شيء، وهذا ينافي كونهم لا محالة من العقلاء فكيف من أكاملهم؟! فمتى تمكّن أمير المؤمنين عليه السلام وهو سيّدهم على التعريف الفعلي، بل على تغيير سنّة من سنن مَن قبله؟ أو تمكّن مثل

ص: 149


1- . ليس في «م».
2- . نهج البلاغة: 497، قسم الحكم، برقم 147.

الكاظم عليه السلام المحبوس عند الرشيد سنين من البيان الفعلي ورفع الاختلاف، بل المتيقّن من حال الباقر والصادق عليهما السلام اللّذين منهما وصل كثير من الأحكام أنّهما غالباً لا يبتدئان ببيان الأحكام، بل إذ سئلا عن شيء منها وتمكّنا من إظهار الواقع فيه أجابا به، فهذه رواياتنا وأحاديثنا تنطق غالباً بأنّها ليست ابتدائية، بل وقعت غالباً جواباً عن سؤال السائلين، ولهذا الأمر وجوه عديدة ليس المقام محلّ تفصيلها.

ومن المعلوم بالضرورة أنّهم لا يريدون بهذه الروايات إثبات إمامة غيرهم بحيث يجب عليهم وعلى الناس الرجوع إلى ذلك الغير، فلم يبق إلّا أن يكون الغرض منها معنى ينطبق عليهم، وهو ما ذكرنا مَن وجوب وجود من يحيط علماً بالأحكام بحيث لو تمكّن من البيان من غير خوف على نفسه وشيعته وتمكّن الناس من الرجوع إليه ورجعوا أزاح عنهم العلل، وأوضح لهم ما خفي عليهم وأشكل.

وأمّا عدم الاكتفاء بمثل جبرئيل عليه السلام فالوجه فيه هو ما أجاب اللّٰه عزّ اسمه عن الكفّار بقوله تعالى: «وَ لَوْ جَعَلْنٰاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنٰاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنٰا عَلَيْهِمْ مٰا يَلْبِسُونَ».(1) . وتفصيل الكلام ووجوه الحكمة فيه مذكور في كتب الكلام والتفسير.

وبمثل هذا البيان يتبيّن غرض المتمسّكين بقاعدة اللّطف، وأنّهم يستحيل أن يريدوا به معنى لا ينطبق على أحد من أئمّتهم عليهم السلام، حتى يكونوا ممّن يجعل المبطل للشيء دليلاً عليه، والمانع عن الأمر مقتضياً له.

هذا كلّه مضافاً إلى ما أشرنا إليه في الكتابة السابقة من أنّه يظهر من

ص: 150


1- . الأنعام: 9.

كثير من الروايات كون نفس وجود الأئمّة عليهم السلام بين أظهر الناس حافظاً للدين عن الاضمحلال والاندراس، مانعاً من بطلان حجج اللّٰه وبيّناته لا تعريفهم الفعلي، وأنّ نفس وجودهم من الأسباب الغيبية لحفظ الدين وبقائه بهذا المقدار الذي نراه الآن، وكونه مقدوراً للّٰه تعالى بغير هذا الوجه ممّا لا ينافي جريان مشيئته النافذة وقضائه اللازم على ترتّب شيء على شيء، كما قضى وقدر في جميع التكوينيات والتشريعيات والنبوآت والتبليغات والمثوبات والعقوبات ومصالح الدين والدنيا وما يتعلّق بالآخرة والأُولى، ولولا ضيق الوقت وكون المقام تطفّلياً، لأرخيت عنان الكلام، وأزلت غشاوة الإبهام عن قلوب اللئام الطغام.

ثمّ إنّ ما ذكرناه في تلك الكتابة من النقض بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم الذي لا شكّ في كون الغرض من بعثته تبليغ الأحكام وبيان الحلال والحرام، ولم يبيّن في زعمهم أكثر ما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة، وأبقاهم حيارى جاهلين، وأحال إكمال الدين إلى آراء مثل أبي حنيفة وأقيسته فهو المكمل للدين حقيقة، والبعض الذي بلّغه لم يأمر بتدوينه ليصان عن الاختلاف.

وكذا النقض بمثل الكتاب العزيز الذي نزل هدى وبياناً ونوراً وتبياناً وشفاء لما في الصدور، وقد أخلّ بأغلب الأحكام، بل أنزل فيه الآيات المتشابهات، بل الآيات الظاهرات عند أهل المحاورات فيما هو خلاف الواقع حتى ألجأ جماعة من أعاظم أهل السنّة إلى ما هو معهود عنهم، وقد نقلنا بعضه سابقاً فممّا لم نر في كلامه جواباً شافياً عنه، وما ذكره من كون الحلال ما أحلّه الخبر الواحد وأصل البراءة، فهو بظاهره تصويب باطل، فرغنا عن وجوه خلله وفساده في الأُصول، أو يؤدّي على بعض التقادير إلى

ص: 151

اجتماع الضدّين أو النقيضين، أو المثلين، أو اجتماع المصلحة والمفسدة من غير كسر وانكسار بينهما، إلى غير ذلك من المفاسد المقرّرة في محلّه.(1)

وتصحيح الأحكام الظاهرية عندنا، إنّما هو على وجه لا يخطر على بال مثله.

وما ذكره من عدم مناسبة النقض بتبليغ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وآيات القصص لاعتراضه، فهو مكابرة واضحة لا تخفى على مَن له أدنى تفطّن، والذي وصل إلينا من الاعتراض من أوّله إلى آخره مسوق لإنكار وجود الإمام الغائب عليه السلام تمسّكاً بأنّه منصوب عندكم للتبليغ وهو الغرض الأهمّ من نصبه، ولم يبلّغ على وجه يتواتر عنه، فليس موجوداً، وما ذكرنا من النقض وارد على هذا من غير إشكال، إذ لا يتأمّل أحد في أنّ الغرض الأهمّ من بعثة النّبي صلى الله عليه و آله و سلم تبليغ الأحكام وأنّه يتمكّن على وجه يتواتر عنه ولم يفعل.

وما أطال به في كلامه فبين ما هو بيّن وهنه ظاهر سخافته، وبين ما هو ممّا يمكن القول بمثله في الإمام الغائب.

كما أنّ ما ذكره من عدم مناسبة إثبات إمامة الإمام الغائب عليه السلام ووجوده للاعتراض، أبين ضعفاً من سابقه، فإنّ الاعتراض بإقامة الدليل على عدم وجوده ممّا ينهدم أساسه بإقامة الدليل على وجوده، وما ذكر من أنّ مطمح نظره شيء آخر فهو عذر بارد بعد كون كلامه بأجمعه مسوقاً لإبطال دعوى وجوده، ولو جعل مطمح نظره شيئاً آخر فيما وصل إلينا لوجهنا إليه نظرنا، وطمحنا إليه بصرنا.

ثمّ إنّ مطالبتنا لما ذكره في النوبتين من أكثرية النصوص الدالّة على أنّ

ص: 152


1- . لاحظ فرائد الشيخ الأنصاري عند البحث عن إمكان التعبّد بالظن، و «فوائد الأُصول» تقريراًلبحث المحقّق النائيني من نفس البحث. المشرف

الغرض الأهم من نصبه هو تعريف الأحكام فعلاً من النصوص الدالّة على وجوده وغيبته باقية والحوالة فيه على إنصافه(1) بعد مراجعته لما عدّه من الكتب الحاضرة عنده فضلاً عن غيرها من الكتب فيعترف بخطئه أو كذبه.

ودعواه أنّ إنكارها إنكار للضروريات، فهو ناشٍ من عدم إصابته الغرض من الإنكار مع نهاية وضوح عباراتي فيه، فإنّ الّذي أنكرته مراراً هو نفي ما ادّعاه من كثرة الأخبار في أنّ الغرض من الإمام في كلّ زمان هو البيان والتعريف الفعليان(2) أو الهداية المطلقة المنجّزة، وأنّه ليس هناك أخبار كثيرة تدلّ على ذلك لا في خصوص الإمام الغائب عليه السلام ولا في غيره؛ بل إنّما صدرت عن الأئمّة عليهم السلام أخبار عامّة لا يمكن أن يريدوا ولو بقرينة صدورها عمّن هو ممنوع من البيان الظاهر غير متصد لرفع الاختلاف إلّاما بيّناه آنفاً، فتذكّر.

وأمّا إسناد التشويش إلى جوابي فهو أيضاً ممّا نشأ من تشويش ذهنه، واضطراب خياله، فتراه لم يأت في بيان التشويش إلّاكون الأجوبة متعدّدة بعضها تحقيقي وبعضها تنزيلي.(3)

الإشكال على قاعدة اللطف لا يبطل مذهب الشيعة

ثمّ إنّ الإشكال على قاعدة اللطف - كما صدر عن جماعة من الإمامية

ص: 153


1- . في «م»: اتصافه.
2- . في «ح»: الفعليين.
3- . في «م»: تنزلي.

أيضاً بل بطلانها رأساً لو سُلم - لا يبطل مذهب الشيعة أصلاً بعد وجود الأدلّة القطعية الكثيرة على حقيّته(1)، وأنّ النصّ على الإمام وإن سُلم عدم وجوبه لكنّه وجد ووقع ورواه الخاص والعام وبلغ أهل الإسلام، كما أنّ بطلان اللطف لا يثبت مذهب أهل السنّة، فالمأمول منه أن يقتصر في إثبات مذهبه بما لفّقه أسلافه ممّا اعترف بعض محقّقيهم بأنّ غاية مفادها الظن، وأنّ مسألة الإمامة فرعية يُكتفى فيها بالظن.

قال شارح المقاصد بعد ما ذكر أنّ العمدة في إمامة أبي بكر هو الإجماع واستدلّ بوجوه تبلغ معه إلى عشرة ما لفظه: وهذه الوجوه وإن كانت ظنّيات، فنصب الإمام من العمليات، فيكفي فيه الظن على أنّها باجتماعها ربّما تفيد القطع لبعض المنصفين.(2)

أقول: بشرط أن يكون نشوؤه بين أهل السنّة وكون أسلافه من المتسنّنين.

الآلوسي وادّعاء عدم وجود خبر جامع لشرائط الصحّة في الوسائل ورجال الكشّي!!

وما ذكره من أنّ مَن راجع الكشّي ثم راجع الوسائل لم يجد فيها خبراً جامعاً لشرائط الصحّة، فممّا لا نقابله إلّابالسكوت، ولا نحيله إلى المراجعة إلى أحوال مَن ينتهي إليه رواياتهم من الصحابة والتابعين، وتبع التابعين، ولا عجب من مثله دعوى هذه السالبة الكلّية في رواياتنا، فإنّ العذر فيه معلوم!

ص: 154


1- . في «م»: حقيقته.
2- . شرح المقاصد للتفتازاني: 287/2.

إلّا أنّي أقول: لا ينبغي للعالم إثبات الدعوى بالمجازفات كهذا السلب الكلّي، وكإنكاره كتاب «الغيبة» للفضل بن شاذان وأنّ ادّعاء وجوده كذب صرف، وكتاب فرائد السمطين(1) للحمويني الشافعي والنسخ العتيقة الصحيحة من كليهما موجودة والحمد للّٰه، وإن لم تكن النسخة الأُولى حاضرة عند المجلسي حال تصنيف البحار، إلّاأنّه قد نقل عنها مَن سبقه ومَن لحقه، وهي الآن موجودة على طبق ما نقلوا، بل كانت موجودة في عصره، بل في بلد إقامته عند الفاضل المحدّث المشتهر بميرلوحي(2)صاحب الأربعين، وقد نقل عنه كثيراً كغيره، وكم له من نظائر ليس المقام محلّ شرحها.

وأمّا ما نقلناه عن التوراة فهو موجود في الآية المتمّمة للعشرين من الباب السابع عشر من سفر التكوين فليراجع، ووجه دلالته وانطباقه على الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام مبسوط في محلّه، ولذا ذكر الجواد الساباطي(3) - من

ص: 155


1- . كتاب: «فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين والأئمّة من ذرّيتهم عليهم السلام» للمحدّث الكبير إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن عبد اللّٰه بن علي بن محمد بن الجويني الحمويني الخراساني الشافعي (644-730 ه) من أعلام القرن السابع والثامن الهجري. والكتاب مطبوع في مجلّدين كبيرين من قبل مؤسسة المحمودي للطباعة والنشر في بيروت، سنة 1400 ه، تحقيق الشيخ محمد باقر المحمودي.
2- . هو محمد بن محمد ميرلوحي الموسوي السبزواري الأصفهاني الملقّب بالمطهّر و المتخلّص: «نقيبي» والمعاصر للعلّامة المجلسي. وكان عنده كتب نفيسة جليلة، ككتاب الرجعة للفضل بن شاذان، والفرج الكبير في الغيبة لأبي عبد اللّٰه محمّد بن هبة بن جعفر الوراق الطرابلسي، وكتاب الغيبة للحسن بن حمزة المرعشي وغيرها، ولم يطّلع عليها المجلسي مع كثرة احتياجه إليها. راجع: الذريعة: 6/12؛ خاتمة المستدرك: 32/1.
3- . هو جواد ساباط بن إبراهيم ساباط بن محمد ساباط الساباطي باسيفين الحسيني الهجري

فضلاء أهل السنّة - في كتابه الموضوع لردّ النصارى أنّ هذه الفقرة من التوراة ظاهرة في مذهب الإمامية.(1)

ادّعاء الآلوسي بأنّ جميع الروايات المتعلّقة بالإمامة موضوعة

وأمّا ما احتمله بل جزم به من أنّ جميع الروايات المتعلّقة بالإمامة المروية عن رجال غير محصورين الموجودة في الكافي وإكمال الدين وبصائر الدرجات وغيبة النعماني والكفاية والبحار وغيرها كلّها موضوعة مختلقة وضعوها بعد موت العسكري عليه السلام ونسبوها إلى الرواة السابقين، فهو ممّا لا نرجو من مثله ممّن أتعب نفسه في مراجعة جملة من كتب الشيعة، ولا يناسب طريقة مَن يحتاط في دينه ويخاف حساب آخرته ويتذكّر قوله تعالى: «مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»(2) .

ولو قابله أحد بدعوى أنّ أصحاب الصحاح السّت أو جماعة ممّن قبلهم بيسير تواطأوا على وضع هذه الروايات الكثيرة المودعة في بطون كتبهم وعلى إسنادها إلى جماعة من التابعين أو الصحابة.

أو بدعوى الوضع في جميع الروايات المنتهية إلى أبي هريرة مثلاً

ص: 156


1- . راجع النجم الثاقب للمحدّث النوري: 411/1-412.
2- . ق: 18.

الذي روى أهل السنّة عن عمر بن الخطاب وابنه عبد اللّٰه وعائشة في حقّه ما رووا ممّا هو معهود في محلّه، واستثنى أبو حنيفة رواياته كروايات أنس بن مالك وسمرة بن جندب من بين روايات الصحابة في الاعتبار ووجوب القبول على ما نقلوا عنه من أنّه كان يقول: إنّ ما يرويه الصحابة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم فعلى الرأس والعين إلّاما يرويه هؤلاء الثلاثة.

أو بدعوى أنّ الروايات المنتهية إلى عمرو بن العاص أو ابن الزبير أو عكرمة وأشباههم قد عرفنا أنّها مكذوبة، فكذا غيرها، فهل عنده إلّارميه بالمجازفة؟! فكذلك لا نرجو منه تكذيب جميع هذه النصوص المتواترة معنى، المروية في أعصار مختلفة عن أئمّة متعدّدة برواية العدول الثقات والفضلاء الأثبات.

ثمّ إنّ هذه الأسطر ممّا سطرتها بعد رؤية الجواب من غير تراخٍ ومهلة في ساعة يسيرة، وقد أغمضت النظر عن مناقشات عديدة في مواضع كثيرة من كلامه، بل كدت أن أترك جوابه رأساً من كثرة ما تأذّيت من أفحاشه في القول، وتعدّيه عن طور مناظرة أهل الفضل، وإن كانت عادة إسناد الهذيان موروثة لأمثاله من سالف الزمان.

ثمّ إنّه لو وفّق لمطالعة بعض المجلدات الكثيرة المعترضة لأجوبة التحفة المسروقة من الكابلي، لما بقي مقلّداً لكلماته مفتخراً بإفاداته؛ وكثرة اشتغالي ووفور أشغالي ممّا يمنعني عن تعرضه بأزيد من هذا، والحمد للّٰه ربّ العالمين، وصلّى اللّٰه على محمد وآله أجمعين.

***

ص: 157

حرّره الأحقر الجاني فتح اللّٰه الغروي الأصبهاني المشتهر بشيخ الشريعة عفا اللّٰه عن جرائمه الفضيعة. وقد تلا هذه الأجزاء نقض من المعترض الناصب وتعقبنا ذاك النقض برسالة كبيرة متضمنة لنفائس المطالب.

ص: 158

5- رسالة الآلوسي الثالثة

اشارة

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم

ليعلم أنّ اعتراضنا على الشيعة ليس خاصّاً بتكذيب الأخبار التي ترويها الشيعة من أنّه لابدّ في كلّ عصر من إمام، كما أنّه ليس غرضنا الاعتراض عليهم في جميع مطالبهم المخالفة للعقل والنقل، بل غرضنا إبطال مطالب معدودة تدّعيها الشيعة نطلب منهم الجواب عن اعتراضاتنا عليها؛ لأنّا لم نجد لها أجوبة فيما عثرنا عليه من كتبهم، والواجب عليكم الجواب عن كلّ ما ينافي مذهبكم، فافرضوا هذا ابتداء الاعتراض وأجيبوا عنها بجوابات صالحة لها.

المطلب الأوّل: في بطلان قاعدة اللطف

من المطالب التي تدّعيها الشيعة ونريد إبطالها قولهم بوجوب اللّطف، وأنّه يجب على اللّٰه نصب الإمام ليقرّب الناس إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية؛ لأنّه لطف، وهو معتمدهم في إثبات وجوب نصب الإمام، كما لا يخفى على مَن راجع كتبهم الكلامية، وقد ذكرنا في سابق الوقت بطلان وجوب اللطف وفساد أدلّته بالحلّ والنقض بما لا يحصى، ومع هذا فنكرّر ذكرها حتى يتمّ المقصود، فنقول:

إنّ الشيعة قد استدلّوا على وجوب اللطف بدليلين:(1)

ص: 159


1- . لاحظ: تعليقتنا رقم (1) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 200.

أحدهما: زعموا أنّه يلزم من ترك الألطاف نقض الغرض، وهو محال على اللّٰه تعالى.

الثاني: زعموا أنّ ترك الألطاف بخل، والبخل نقص.

والجواب عنهما بالحلّ والنقض.

أمّا بالحلّ فيتوقّف على تمهيد مقدّمة، وهي: أنّ القائلين بالحسن والقبح العقليّين أجمعوا على أنّ إرادة اللّٰه تعالى للطاعات من العبد موكولة إلى اختيارهم، وليس تعالى مريداً لها مطلقاً، سواء كانت عن اختيار أو عن اضطرار.

قال العلّامة في شرح التجريد في دفع الاستدلال للأشاعرة على أنّ اللّٰه مريد لكلّ ما وقع وإلّا لزم المغلوبية، قال: إنّ المغلوبية غير لازمة؛ لأنّ اللّٰه تعالىٰ إنّما يريد الطاعة من العبد على سبيل الاختيار، وهو إنّما يتحقّق بإرادة المكلّف، ولو أراد اللّٰه تعالى إيقاع الطاعة مطلقاً سواء كانت عن اختيار أو عن اضطرار لوقعت.(1)

وقال العلّامة أيضاً وصاحب كشف البراهين(2) وغيرهما في دفع الاعتراض على حسن التكليف(3) بأنّ ضرر الكافر والعاصي من سوء اختيارهما، وأنّ التعريض حسن، فمَن قبل منهم ما عرّض له وفعل فمن قِبل نفسه، ومَن أبى فقد شقي من قِبل نفسه، قالوا: وهذا يجري مجرى من أولم وليمة وبسط بساطاً وفتح الدهليز وأذن إلى الناس في الدخول إذناً عامّاً،

ص: 160


1- . كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 423، تحقيق الآملي.
2- . كشف البراهين في شرح زاد المسافرين لابن أبي جمهور الأحسائي من أعلام القرن العاشر.
3- . راجع كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 437.

وأرسل رسله إليهم وأقام البراهين القاطعة على تصديق الرسل وأقدرهم على الإتيان للوليمة، فمَن وصل منهم إلى مائدته استنفع(1)، ومَن لم يصل حرم ذلك من قبل نفسه لا من قبل صاحب الوليمة، قالوا: ولا يقبح التعريض وإرسال المرسل(2) وإن علم أنّ فيهم مَن لا يأتي إلى الوليمة، بل يحسن ويحسن أيضاً معاقبة الممتنع إذا كان الأمر واجب الطاعة، ولا يجب على هذا السلطان صاحب الوليمة المتفضّل بوليمته أن يبعث إلى كلّ واحد من المدعوّين سائقاً يسوقه إلى الإتيان للوليمة، والضرورة قاضية بعدم القبح وعدم البخل لو لم يرسل سائقاً يسوق المدعو ولا نقض غرض في ذلك؛ لأنّه أراد إتيانهم باختيارهم.

وكذا لو أنّ شخصاً صادق الوعد قد أوعد أحد عبيده أو رعيته بالإكرام أو العتق في الوقت الفلاني إذا جاء إلى المكان المعيّن، وأقدره على الإتيان إلى ذلك المكان، وامتنع العبد من المسير إلى المكان وحرم من الإكرام، لا يعد ذلك نقض غرض من السلطان ولا بخل من حيث إنّه لم يبعث لهذا الشخص سائقاً يسوقه إلى الإتيان للمكان. وإذا عرفت هذا تعرف ما في كلامهم من أنّه يلزم نقض الغرض والبخل من ترك الألطاف، وكأنّهم إذا وصلوا إلى مبحث اللطف ينسون أو يتناسون مبحث المتقدّم عليه في حسن التكليف وكيفية إرادة اللّٰه تعالى لأفعال العباد هي على أي نحو ويخلطون في المقام الثاني، وهذا المطلب واضح جدّاً، فالعجب من الفحول كيف خفي عليهم ذلك وزعموا أنّ اللّٰه تعالى يريد الطاعات، فلو علم أنّ المكلّفين لا

ص: 161


1- . في «ح»: استغنى.
2- . في «ح»: الرسل.

يفعلوها حتى ينصب لهم إماماً مثلاً فلو ترك ذلك للزمه نقض الغرض.

وأمّا النقض فهو أنّ هذا التقريب الذي ذكروه في وجوب اللطف يقتضي صدور الطاعات من المكلّفين وامتناعهم من المعاصي كما لا يخفى؛ لأنّ اللّٰه تعالى قادر على مقدور والقول بأنّه لا يمكن منعهم عن جميع المعاصي إلّابالإلجاء وهو قبيح ممنوع:

أوّلاً: أنّ اللّٰه تعالى قادر على مقدور وممنوع قبحه.

وثانياً: ألاترى أنّ إقامة الحدود حسنة وكذا الجهاد والأمر بالمعروف، فلو كان الإلجاء قبيحاً، لكانت هذه الأشياء قبيحة.

والجواب الجواب، بل أنّهم قالوا: إنّ الإمام لطف؛ لأنّه يقيم الحدود ويؤدّب العصاة والجناة، فقد أخذوا هذه الأشياء في مفهومه ولم تكن قبيحة عندهم، فكيف يكون الإلجاء قبيحاً لو خلق اللّٰه تعالى أعواناً بهم الإمام يقرّب الناس إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية؟

وأيضاً أنّ اللطف الّذي يفعله اللّٰه تعالى بالمكلّف بحيث لا يكون معه داعٍ إلى ترك طاعة ولا فعل معصية من فعل اللّٰه تعالى، وهو الذي تفسّر به الشيعة معنى العصمة، ولم يجب على اللّٰه تعالى فعله في كلّ فرد فرد من المكلّفين، ولم يلزم البخل ولا نقض الغرض من تركه تعالى اللّٰه، فيبطل ما زعموه من أنّ كلّ لطف من فعل اللّٰه تعالى يجب عليه فعله. وفرّعوا عليه أنّ الإمام المعصوم لطف من فعله تعالى، فيجب عليه.

وأيضاً لو كان ترك الألطاف بخلاً لكان عدم التوسعة على المحتاجين

ص: 162

وعدم إفاضته للأشياء(1) على مَن يتمنّى بخل؛ لأنّ اللّٰه تعالى قادر على الإفاضة وقادر على دفع المفسدة لو كان يحتمل وقوع مفسدة من هذه الإفاضة.

وأيضاً لو قبح التكليف بدون اللطف لقبح من اللّٰه تعالى تكليف كلّ مَن لم يكن سبباً لاستتار الإمام وخوفه، ولكان العاصي في زمان الغيبة غير مكلّف.

وأيضاً عدم العفو عن صاحب الكبائر لطف مع أنّه لا يجب على اللّٰه تعالى، بل الشيعة مجمعة على جواز العفو عن أهل الكبائر ويعترفون بأنّه حسن، والعقل والنقل يشهدان بذلك.

وأيضاً أنّ الإمام يتمكّن من جلب الناس وتقريبهم إلى الطاعة وتبعيدهم عن المعصية ببذل الدراهم والدنانير لهم، فلو كان اللطف واجباً عليه لوجب تمكين الإمام منهما، وأمره بالبذل للناس حتى تتمّ فائدة اللطف وأدلّة وجوب اللطف إن تمّت تقتضي وجوب أمثال هذه الأشياء.

ولو سلّمنا ونزلنا عن جميع ذلك فنقول: لا نسلّم أنّ مجرّد وجود الإمام لطف كما زعمه الطوسي والمتأخّرون؛ لأنّا لا نسلّم أنّ مجرّد وجود شخص له أكثر من ألف سنة لا يقرّب من طاعة ولا يبعّد عن معصية ولا عاقب جانياً ولا أدّب عاصياً، أنّ مثل هذا الشخص لطف.

ولو سلّم فلا نسلّم أنّ هذا اللطف لا يقوم مقامه غيره، بل نقول: إنّ الوعد من الصادق المقطوع بأنّه لا يخلف (العهد بمن)(2) سيرسل في مستقبل

ص: 163


1- . في (ح): إفاضة الأشياء.
2- . في «م»: بأنّه.

الزمان مَن يقرّب إلى الطاعة ويقيم الحدود، ويقوم مقام الإمام الموجود الذي أكثر من ألف سنة ما أحد انتفع به، وقد أخبر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأنّه سيخلق اللّٰه تعالى رجلاً يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وقول بعضهم معنى أنّ مجرّد وجوده لطف من جهة أنّه يحفظ الشرع عن الزيادة والنقصان؛ فإن أراد بمجرد كونه عالماً بالأحكام تقرّب الناس إلى الطاعة وتبعّد عن المعصية، فهذا شيء خلاف البديهة ولا يقول عاقل؛ وإن أراد أنّ الإمام إذا كان معصوماً وبلّغ الأحكام الواقعية للناس يكونوا أقرب إلى الطاعة بسبب معرفتهم الأحكام اليقينية فنقول: إنّ هذا شيء لم يحصل من هذا الإمام مع تمكّنه كما فرضناه في أصل الاعتراض واعترف به هذا الشيخ من أنّه يتمكّن من تبليغ خواصّه.

وهذا أيضاً برهان آخر على عدم وجوب اللطف؛ لأنّه لو كان واجباً على اللّٰه تعالى ومنه نصب المعصوم للتبليغ لنصبه، ولو نصب لبلّغ وأمره بالتبليغ؛ لأنّ التبليغ لطف، لأنّ الناس إذا كان لهم مَن يعلّمهم الأحكام الواقعية يكونوا أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية.

لا يقال: يمنعه الخوف من التبليغ.

لأنّا نقول: إذا وجب على الإمام التبليغ لعموم الأشخاص في عموم الأزمان، يكون تكليفه بالتبليغ دائراً مدار تمكّنه من التبليغ، فلو وجب عليه تبليغ الجميع ولم يتمكّن من تبليغ الجميع في جميع الأزمان، لا يسقط عنه وجوب التبليغ لو تمكّن منه في بعض الأزمان ولبعض الأشخاص، وقد ذكرنا في سؤالنا الأوّل تمكّن الإمام من التبليغ على بعض الوجوه،(1) فلو

ص: 164


1- . قد تقدّم منّا أنّ الإمام مكلّف من اللّٰه سبحانه للتبليغ على الوجه العادي وعلى الخط الذي كان عليه الأنبياء والأولياء عبر القرون، وأمّا التبليغ على بعض الوجوه الذي أشار إليه المؤلّف فلا

كان ثمّة إماماً منصوباً للتبليغ لبلّغها على الوجه الذي ذكرناه في سؤالنا الأوّل، والقول بحصول التبليغ للخواص مخالف للضرورة، إذ مَن تأمّل نزاعهم واعتماداتهم على أخبار الآحاد وأصل البراءة والاستصحاب وإجماعات المرتضى وابن زهرة يجزم يقيناً بأنّهم لم يعرفوا الأحكام على وجه اليقين من مظانّها.

وأيضاً إنّا ادّعينا الضرورة في أصل سؤالنا على أنّ الإمام يتمكّن من الظهور لخواصّه ويأمر جماعة منهم يحصل بهم التواتر بالنقل لمن بعدهم كالمعاصرين لنا، ولا شكّ في عدم الحصول للمعاصرين. وبهذا كلّه يندفع القول بوجوب اللطف.

وإذا تبيّن لك فساد وجوب(1) اللطف، تبيّن لك فساد ما فرّعوا عليه من وجوب نصب الإمام على اللّٰه تعالى في كلّ عصر، ولم نعثر في كتبهم على دفع شيء من هذه الاعتراضات التي ذكرناها، والآن نطلب من العلماء المعاصرين: إمّا الجواب عمّا أوردناه على دليل اللطف، أو الاعتراف بعدم وجوب نصب الإمام على اللّٰه تعالى في كلّ عصر، (أو إقامة برهان قاطع على وجوب نصب الإمام على اللّٰه تعالى في كلّ عصر).(2)

المطلب الثاني: لا طريق لمعرفة الأحكام من غير الإمام

ص: 165


1- . في «م»: وجود.
2- . ليس في «م».

من المطالب التي تدّعيها الشيعة ونريد إبطالها، هو أنّ الشيعة تدّعي أنّا مكلّفون والعمل بالبيانات التي بين أيدينا لا يجوز، والبيانات القطعية غير كافية، ولا طريق لمعرفة الأحكام من غير الإمام، ولولاه لسقط التكليف. وهذا الدليل لا تجد كتاباً من كتبهم الكلامية يخلو عنه، وصاحب منار الهدى قد مهّد لإثباته خمس مقدّمات، وهذا الدليل إذا تمّ وكذا نصب المبلّغ لكونه لطفاً في العلم إذا علم الأحكام الشرعية، يقتضي وجوب البيان والتبليغ لا مجرّد وجود مَن هو عالم بالأحكام من دون أن يجب عليه التبليغ؛ وذلك لأنّهم قد أخذوا في الاستدلال به احتياج الناس إلى مبيّن، وإذا لم ينصب لهم مبيّن سقط عنهم التكليف، وكذا كونه لطفاً، إنّما يتمّ إذا بلّغ الأحكام لا بمجرّد وجوده؛ لأنّهم قالوا: إنّ الناس إذا كان لهم مَن يبيّن لهم الأحكام وعلموها منه كانوا أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية ممّا إذا عرفوا الأحكام على سبيل الظن، وهذا مطلب واضح لا يكاد يخفى، ومقتضاه أيضاً - إن تمّ - يجب عليه تعالى إرشاد الناس إليه ودلالتهم عليه وإن لم يمكن أمر الإمام بالمسير إليهم مادام التكليف باقياً. وإذا عرفت أنّ هذا الدليل يقتضي وجوب التبليغ على الإمام، فهو على حدّ غيره من الواجبات مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب حيث يتمكّن الإمام منه، ويسقط حيث لا يتمكّن.

وإذا عرفت هذا فنشرع في بطلان استدلالهم فنقول:

أمّا قولهم: إنّ البيان لا يحصل إلّامن الإمام، وإنّ أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها فيه؛ ففيه:

أوّلاً: أنّ الضرورة قضت بأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم والباقر والصادق وغيرهم كانوا يجيزون العمل بالخبر الواحد في زمانهم ويأمرون بالترجيح بين

ص: 166

المتعارضات، وكذا أخبار الشيعة ناطقة بالجواز بالرجوع إلى أصالة النفي في زمان أئمّتهم، وكانوا في زمانهم(1) يأمرون بالرجوع إلى غير المعصومين والتحاكم عندهم، بل أنّي قد رأيت في كتب الشيعة نيف وعشرين خبراً أنّ أئمّتهم كانوا يستدلّون بالقياس على خواصّهم إذا سألوهم في مسألة وطلبوا منهم عليها دليلاً، بل لا يخفى على المتتبّع أنّ آراءهم في الفتوى مختلف على وجه لا يمكن حمل الاختلاف على التقية، وقد حرّرنا رسالة منفردة لبيان أنّ الباقر والصادق والرضا عليهم السلام آراؤهم مختلفة في الفتوى، وأنّهم تارة ينقلون الأحكام عن آبائهم، وتارة عن غيرهم من الصحابة، وتارة بالقياس، وأبطلنا كلّ جواب يعتذر عنهم بذلك ولسنا الآن بصدده.

بل الغرض أنّ أخبار الآحاد ممّا قامت الضرورة على جواز العمل بها وإن اشتبه المرتضى ومنع العمل بها.

وثانياً: أنّ هذا الدليل إن تمّ يقتضي وجوب التبليغ على الإمام كما ذكرناه مع تمكّنه، وذكرنا أنّ الإمام يتمكّن من التبليغ لخواصّه على وجه يتمكّنون من الإيصال لغيرهم، فلو كان هذا الدليل صحيحاً وأنّ اللّٰه تعالى ناصب إماماً لأجل تعريف الأحكام، وأنّه لو لم ينصبه لسقط التكليف المبلّغ، وليس فليس، وبهذا يبطل جميع استدلالات العلّامة في «الألفين» على وجوب نصب المبلّغ للأحكام على اللّٰه تعالى.

فإن قلت: لعلّه يخاف على العلماء والخواصّ إذا بلّغهم الأحكام وأمرهم بالنقل لمَن بعدهم.

ص: 167


1- . في «م»: ويأمرون.

قلنا: هم اليوم أكثر فرق الإسلام عدداً متجاهرين بالقول بإمامته ويصرّحون بظلم غيره، وملأوا الطوامير من الاستدلال به على إمامته، وشغلوا أبحاثهم وأوقاتهم بذلك، ويدعون بالفرج له في المحافل والتعازي والأشعار، ويدّعون الوكالة عنه، فإذا زادوا على هذه الجملة: إنّ إمامنا علّمنا الأحكام، فما يصيبهم من ذلك؟ بل هم الآن وسابقاً يشتمون الخلفاء على المنابر، ولا سيّما في إيران وفي النجف وكربلاء، ولا يقدر أحد على أذاهم بشيء ألبتة.

ولو سلّمنا الخوف فنقول: يأمرهم بترك التبليغ إلى حين وفاتهم يجمعون الأحكام وينقلونها إلى مَن بعدهم على وجه يحصل بهم التواتر كما شرطناه أوّلاً.

ودليلهم هذا إن تمّ يقتضي إيجاب مثل هذا وأكثر منه، كما لا يخفى، ولو خالفوه وأذاعوا في حياتهم ونالهم أذى فمن قبل أنفسهم، ويكون نقلهم لجميع الأخبار كنقلهم لبعض الروايات التي ينقلوها بواسطة محمد بن عثمان العمري ونحوه.

ولو نزلنا عن هذا فنقول: يظهر للخواصّ منهم الذين هم مرجع الناس في كلّ عصر ويعلّمهم الأحكام ويستتر ويأمرهم بالعمل بها وإفتاء مقلّديهم على وجه لا يكون على سبيل الرواية ويرفع النزاع فيما بينهم واعتماداتهم على الشهرة وإجماع المرتضى وأخبار الآحاد الغير السالمة عن المعارض.

وما عساه أن يقال من أنّ هذا حاصل للخواصّ، بل قد قيل فهو مكابرة محضة وقد تقدّم بيانه، وهلّا ظهر لخواصّه وعرّفهم الصواب في أمر المشروطة حتى تتّفق آراؤهم على شيء وتحقن الدماء والأعراض

ص: 168

والأموال، فإنّه في الحقيقة سبب تلف هذه النفوس في إيران سببه اختلاف العلماء في هذه المسألة، وبهذا أيضاً يندفع ما عساه أن يقال: إنّ الإمام يخاف من حسد بعضهم لبعض، على أنّ هذه الأشياء الوهمية والاحتمالات العقلية لو كانت مسقطة للواجبات لما بقينا مكلّفين بشيء ألبتة، إذ ما من واجب من الواجبات إلّاويحتمل في أدائه بعض هذه الاحتمالات. وقول هذا المجيب:

إنّ المستدلّين بهذا الدليل لم يريدوا وجوب التبليغ على الإمام حين الإمكان؛ لأنّه نقيض مطلوبهم هو في الحقيقة إبطال لهذا الدليل ونحوه، واستدلاله على ذلك بأنّه نقيض مطلوبهم لا يخفى فساده، إذ كتبهم مشحونة بالاعتذار عن ذلك بالخوف ونحن قد أثبتنا عدمه، وإذا لم يكن هذا مقصودهم فنطلب منه بيان مقصودهم، وبيان أنّ ما قصدوه واجب نصبه على اللّٰه تعالى وواجب العصمة، فنطلب من هذا المجيب: إمّا الاعتراف بعدم وجوب نصب المبلّغ على اللّٰه تعالى في كلّ عصر، أو إقامة دليل على ذلك سالم من هذه المناقشات.

المطلب الثالث: ادّعاء الشيعة بأن عدم نصب الإمام ينافي الرحمة والرأفة بالعباد

ممّا قصدنا بطلانه بهذه الرسالة أنّ الشيعة تدّعي أنّ عدم نصب المعصوم في كلّ عصر ينافي الرحمة والرأفة بالعباد،(1) وشفقة اللّٰه تعالى

ص: 169


1- . قد عرفت أنّ الدليل الوحيد على قاعدة اللطف هو كونه حكيماً لا ينقض غرضه، وأمّا سائرالتعابير كالجود والكرم أو الرحمة والرأفة، كلّها إشارات إلى كمال الفاعل في ذاته وصفاته، سواء أكان كماله لأجل حكمته أو عدله أو جوده وكرمه أو رحمته ورأفته، والفاعل ذو الكمال التام لا يناقض غرضه، فأمّا ما أطنب فيه في ردّ هذا القول، فهو كسائر اعتراضاته. فمبدأ البرهان كونه حكيماً وسائر العناوين إشارات إلى كمال الذات. وسيأتي تفصيله في تعليقتنا في آخر هذه الرسالة برقم 2. (المشرف)

عليهم.

وجوابه أوّلاً: أنّ الرحمة والشفقة تقتضي نصبه لهم حيث يعلم أنّهم ينتفعون به، وأمّا إذا علم أنّهم لا ينتفعون به فما الفائدة في نصبه؟ أترى أنّ الوالد لو كان في غاية الشفقة على ولده وعلم علماً يقيناً أنّه لا يمكن وصول هذا الشيء المخصوص إليه، فأرسلها إليه مع العلم بأنّ الرسول يعارض في الطريق ويقتل ولا ينتفع المرسول إليه بهذا الشيء، لا يعدّ إرساله لهذا الشيء من الشفقة، إذا علمنا أنّه يعلم ذلك، ولا سيّما إذا علمنا أنّه قادر على إيصاله له بطريق آخر، بل العقلاء يعدّون هذا من عدم الشفقة والرحمة؛ هذا إذا قالوا: إنّ رحمة اللّٰه تعالى تقتضي أن ينصب إماماً معصوماً لتبليغ الأحكام ولحفظ الحوزة وإقامة قوانين الشريعة.

وإن زعموا أنّ رحمة اللّٰه تعالى تقتضي أن ينصب لهم إماماً لغير هذه الفوائد، فلا مناقشة لنا معهم في ذلك، ونرجو منهم بيان أنّ ترك نصب الإمام وعصمته لهذا الذي قصدوه منافياً للرحمة.

وأيضاً أنّ الرحمة والشفقة يقتضيان تبليغ الأحكام وأن لا يترك الناس حيارى مجهودين في تحصيل الأحكام الشرعية لا مجرّد إيجاد الإمام من دون إيجاب التبليغ عليه، إذ مجرّد وجود شخص عالم بالأحكام لا ينتفع بعلمه وليس مأموراً بالتبليغ ليس من الشفقة وهو حاصل بجبريل، وجواب هذا الشيخ عن عدم الاكتفاء بجبريل بقوله تعالى: «وَ لَوْ جَعَلْنٰاهُ

ص: 170

مَلَكاً لَجَعَلْنٰاهُ رَجُلاً».(1) ، واضح الفساد، إذ الآية ناظرة لمن يكون مأموراً بالتبليغ ونحن قلنا: إنّ مجرّد وجود الإمام الغير المأمور بالتبليغ، يكفي عنه وجود جبرئيل.

ألا ترى أنّ جبرئيل عالم بالأحكام، غاية الأمر ليس مأموراً بالتبليغ، فإذا كان الإمام كذلك كان وجوده كوجود جبرئيل؛ ثم أي رحمة أعظم من نصب المبلّغ، فإذا لم يكن تركه منافٍ للرحمة فكذا غيره؛ هذه مجموع استدلالاتهم على وجوب نصب الإمام على اللّٰه تعالى في كلّ عصر، نعم العلّامة في كتاب «الألفين» قد أكثر وطوّل لكن جميع استدلالاته ناظرة إلى هذه الثلاثة، كما لا يخفى على العاقل.

المطلب الرابع: أدلّة وجوب العصمة عند الشيعة ونقدها

من المطالب المجمع عليها [عند] الشيعة وأردنا إفساده، قولهم بوجوب العصمة واستدلّوا على ذلك بأدلّة مرجعها إلى ثمانية كما لا يخفى على مَن لاحظها وتتبّعها.(2)

الأوّل - وهو العمدة -: ما زعموه من أنّ نصب الإمام إنّما هو لحفظ الشرع وتبليغ الأحكام على وجه اليقين، وإلّا لما حصل الوثوق بقوله، وقد عرفت بطلان وجوب نصب المبلّغ وأنّه لا إمام هاهنا منصوب للتبليغ، فيبطل ما فرّعوا عليه من وجوب العصمة، وانظر إلى كلامهم تعرف ما في كلام هذا المجيب؛ لأنّهم يقولون: حتى يحصل الوثوق بقوله، (فلو كان

ص: 171


1- . الأنعام: 9.
2- . لاحظ: تعليقتنا رقم (2) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 203.

مرادهم مجرّد وجود عالم بالأحكام وليس مأموراً بالتبليغ فما معنى وجوب عصمته حتى يحصل الوثوق بقوله؟!).(1)

الثاني: أنّ نصب الإمام لطف وكذا عصمته وإلّا لزم التسلسل، والعصمة من فعله تعالى، وكلّ فعل من أفعاله تعالى لطف للمكلّفين يجب عليه؛ لأنّ اللطف الذي هو من فعلنا لا يجب عليه. وقد عرفت أيضاً فساد ذلك.

الثالث: زعموا أنّه لو جازت المعصية على الإمام لزم سقوط محلّه من القلوب وانحطاط رتبته عن العوام.

وفيه: إن تمّ ذلك يقتضي انحطاط رتبة المفيد والمرتضى والشيخ والمحقّق والعلّامة والطباطبائي والشيخ مرتضى، وهذا المجيب وغيرهم من العلماء الفحول العدول عن رتبة العامّي البحت الخمّار اللّواط الزاني الذي لا يعقل أي طرفيه أطول، ولزم سقوط محلّهم من القلوب، وعدم انقياد الناس لمتابعتهم وتقليدهم والاعتناء بأقوالهم؛ وكذا هذا يلزم منه عصمة الولاة الّذين ينصبهم الإمام والنبي صلى الله عليه و آله و سلم، إذ لو كانوا غير معصومين لسقط محلّهم من القلوب.

الرابع: زعموا أنّ قوله تعالى: «وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ» (2)مطلق، ولا يجوز إيجاب الطاعة كذلك لغير المعصوم.

وفيه: أنّ التعميم وعدم التخصيص في أُولي الأمر أولى من تعميم المطلق كما لا يخفى، وأقلّها تساوي الاحتمالين، فيسقط الاستدلال بمجرد

ص: 172


1- . ليس في «ح».
2- . النساء: 59.

الآية.(1)

وأيضاً أنّ المطلق إنّما يعمّ إذا كان العقل بمعزل عن عدم جريانه في بعض المقامات، فلو فرضنا صدور المعصية من الإمام فالعقل يحكم بأنّ ذلك المطلق على إطلاقه ولم يعمّ هذا المورد؛ بل قد تحقّق في موضعه أنّ الأمر لا دلالة له على التكرار إليه(2)، والمرّة تكفي في حصول الطبيعة.

لا يقال: ليس بعض أفراد الإطاعة أولى من بعض، لوضوح أنّ إطاعة الإمام في أوامره ونواهيه أولى من إطاعته في معصية اللّٰه تعالى، هذا إذا كان الاستدلال بمجرّد الآية، والقول بأنّ اللطف يقتضي التساوي في العامل في الحقيقة أنّ قائله لم يشمّ رائحة العربية، على أنّ الفرق موجود.

وأمّا إذا كان استدلالهم على وجوب العصمة(3) بمجرّد وجوب إطاعة

ص: 173


1- . يبدو أنّ المعترض لم يقف على كيفية دلالة الآية على عصمة أُولي الأمر. فنقول: إنّ الآية تدلّ على عصمة أُولي الأمر بوجهين: الأوّل: أنّه جعل إطاعة أُولي الأمر في عداد طاعة اللّٰه والرسول صلى الله عليه و آله و سلم ومقتضى وحدة السياق أن يكون أُولو الأمر كالسابقين في العصمة عن الخطأ. الثاني: أنّه سبحانه أمر بطاعة أُولي الأمر على وجه الإطلاق دون أن يقيّدها بشرط أن لا يأمروا بالحرام، فيُعلم من ذلك أنّهم لا يأمرون إلّابالحقّ دون الباطل. وبما ذكرنا يعلم أنّ ما استشكل به في دلالة الآية، ليس بشيء، حيث قال: إنّ التعميم وعدم التخصيص في أُولي الأمر أولى من تعميم المطلق، كما لا يخفى. يلاحظ عليه: أنّ السياق - أعني: وقوع أُولي الأمر بعد الرسول - يُشكّل قرينة على أنّ أُولي الأمر نظراء الرسول في الإطاعة المطلقة، فأين العموم حتى يقال: إنّ حفظ العموم أولى من تعميم المطلق؟! (المشرف)
2- . في «م»: ألبتة.
3- . في «م»: النعمة.

الإمام فيما لا يعلم قبحه، فهو يقتضي عصمة الولاة والعلماء والقضاة، والجواب الجواب، والفرق بينهما غير مسلّم أوّلاً، وغير مقتضٍ للعصمة ثانياً.

الخامس: زعموا أنّ الغرض من نصب الإمام إقامة شعائر الدين وحفظ الحوزة، وإذا جاز على الإمام المعصية لزم نقض الغرض من نصبه.

وفيه أوّلاً: النقض بالأُمراء والولاة الذين ينصبهم الإمام والاعتذار بأنّ خوفهم من الإمام يمنعهم من المعاصي أوّلاً مخالف للوجدان، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ بعض الأُمراء الذي أرسلهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم (وعلي عليه السلام)(1) خالفوا أوامرهم، وبعضهم سرق بيت مال المسلمين في البصرة.

وثانياً: أنّ الإمام يجوز قيام الأُمّة عليه واجتماعهم على عزله أكثر من تجويز الأُمراء عزل الإمام لهم، فإذا كان ذلك مقتضياً لعصمتهم فهو مقتض لعصمة الإمام، وكون الإمام مستولياً على الرعية لا ينافي تجويز استيلائهم عليه، والوجدان شاهد على ذلك، فكيف لا يحتمل الإمام. هذا عبد الحميد لمّا صنع ما صنع كيف فعلت الرجال به، وهكذا من زمان عثمان إلى يومنا هذا اضطراب السلاطين من رعيتهم أكثر من اضطراب الأُمراء.

ثمّ إنّ عدم حصول الفائدة من الإمام إنّما يكون قبيحاً إذا كان السبب في عدم حصولها هو الناصب له. أمّا إذا كان الإمام هو السبب من جهة عصيانه فلا قبح على اللّٰه تعالى ولا على غيره، بل اللّٰه تعالى يعاقبه إن مات مصرّاً على ذنبه أو يعفو عنه.

وبالجملة كما أنّ عدم حصول الفائدة من إمامهم في هذه الأزمنة لا

ص: 174


1- . ليس في «م».

يوجب القبح على اللّٰه تعالى؛ لأنّه من قبل المكلّفين، فكذا إذا كان عدم حصول الفائدة من قبل الإمام، وكما أنّ ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا قبح فيه على اللّٰه تعالى حيث لم يمتثلوا أمره ولم يطيعوه ولا يجب عليه عصمتهم إذا كلّفهم بالأمر بالمعروف، فكذا الإمام إذا كلّفه اللّٰه تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يمتثل أمر اللّٰه تعالى لا قبح فيه على اللّٰه كما لا يخفى، وبهذا أيضاً يندفع استدلالهم على وجوب العصمة لو سلّمنا وجوب اللطف وأنّ الإمامة إنّما تجب لكونها لطفاً.

السادس: قالوا الإجماع حقّ وكلّ واحد من الأُمّة جائز الخطاء، فكذا المجموع فلو لم يكن معهم معصوم لما كان إجماعهم حقّاً.

وفيه أوّلاً: إذا ثبت أنّ الإجماع حقّ ولو كان الخطاء جائزاً على الأفراد، لكن لمّا جوّزه العقل نفاه أدلّة حجّية الإجماع، أترى أنّ كلّ ما جوّزه العقل يجب وقوعه، فلو فرضنا أنّ كلّ واحد من الأُمّة جائز الخطاء، ولكن من الجائز عقلاً أنّهم إذا اجتمعوا لا يخطأون، وإذا جاز ذلك عقلاً وقد أخبر الصادق بوقوعه فيجب الاعتراف به ولم يتوقّف على وجود معصوم وهو واضح، ولو فرضنا وجود معصوم في الأُمّة وتمّ الاستدلال على وجوده بهذا الطريق أو بغيره فمن أين علم أنّه هو الإمام؟ فإن قالوا: لأنّ الإمام تجب عصمته فهو مصادرة، وإن قالوا: الإجماع على أنّ كلّ مَن قال بوجود معصوم، قال بأنّه هو الإمام، فهو قول باطل؛ لأنّ النافي إنّما ينفي وجوب عصمة الإمام لا غير حتى أنّ عندنا يجوز أن يكون الإمام معصوماً، بل كثير من أصحابنا ادّعى عصمة أبي بكر إلّاأنّهم أجمعوا على أنّه غير واجب العصمة على أنّه إنّما يتمّ هذا إذا ثبت وجوب نصبه على اللّٰه.

ص: 175

وأمّا إذا جاز أن تنصب الأُمّة إماماً فلا يجب نصبهم للمعصوم وإن قالوا إنّما يجب المعصوم حين وجوده دون غيره؛ لأنّ العلّة المحوجة إليه أكثر من جهة تعليم الناس للأحكام(1)، وغير المعصوم محتاج إلى المعصوم من غير عكس، فقد عرفت سابقاً أن لا إمام هنا منصوب لتبليغ الأحكام وإلّا لبلّغها.

السابع: من أدلّتهم قوله تعالى: «لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ»(2) بزعم أنّ صدق مطلق الظلم على الإمام موجب لعدم كونه إماماً.

وفيه أوّلاً: أنّ نسبة الظلم إلى الأنبياء في القرآن لا تحصى(3) ولو كان المراد في الآية مطلق واضع الشيء في غير موضعه لما كانت الأنبياء أنبياء وانعزلوا عن النبوة، فالآية قطعاً ليس المراد منها مطلق وضع الشيء في غير موضعه، وإلّا لشملت المكروهات وكثير من المندوبات.

و [ثانياً:] أيضاً شيوع استعمال الشارع لفظ الظلم في غير العدالة من الكفر والفسق، لا يكاد يحصى بل لا يبعد دعوى أنّ إطلاق الظالم على العادل مجازاً في لسان الشارع، فبعد هذا التخصيص وشيوع الاستعمال في الكافر والفاسق فكيف يتمسّك في مسألة علمية بهذا الظاهر الذي صار احتمال الحقيقة اللغوية مرجوحاً بالنسبة إلى إرادة غيرها وإن كان من الجائز أن يراد بها النبوة؟ ولسنا ندّعي لا يحتمل غيره، بل احتمال إرادة النبوة يكفينا، فكيف وظاهر السياق يساعدنا على ذلك على أنّه لو أخذ الإمام عامّاً

ص: 176


1- . في «م»: الأحكام.
2- . البقرة: 124.
3- . لاحظ: تعليقتنا رقم (3) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 204.

شاملاً للنبي وغيره واقتضى ذلك العصمة، لاقتضى ذلك عصمة الأُمراء والقضاة والعلماء؛ لأنّهم من مصاديق الإمام لغة، والناس في بلادهم النائية عن بلد الإمام مقتداهم وإمامهم كالوالي الذي من قبله وتخصيصه بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم والإمام الذي له الرياسة ليس أولى من تخصيصه بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم وحده، بل ليس أولى من تخصيص الظلم بغير العادل.

وأيضاً إنّي رأيت في أخبار الشيعة تفسير الظلم في هذه الآية بخصوصها بالكفر أخباراً لا تحصى، فإن شئتم نبيّن لكم مواضعها والناقلين لها، وفي بعضها تفسيره بالسفيه في هذه الآية بخصوصها، فليراجع تفسير البرهان(1) وغيره.

الثامن من أدلّتهم على وجوب العصمة: زعموا أنّ أمر الإمام بالمعروف لو صدر عنه معصية منافٍ لإيجاب طاعته دائماً ووجوب تعظيمه.

وفيه أوّلاً: أنّ الأمر بالمعروف إنّما يجب على مرتكب الكبيرة عمداً لا سهواً إذا لم يتب ولم يظهر منه الإقلاع عن الذنب، أمّا الصغيرة أو الكبيرة سهواً أو مع التوبة، فلا، وعندي أنّ الإمام إذا أصرّ على الكبيرة وفسق ينعزل تبعاً لأكثر أصحابنا لكن مع التمكّن من عزله، وإذا كان كذلك فلم يبق له وجوب الطاعة أو وجوب التعظيم حينئذٍ، وأمّا مع عدم التمكّن فسكوت عن اضطرار.

وثانياً: أنّ وجوب الطاعة إنّما هو في غير معصية اللّٰه تعالى، ووجوب

ص: 177


1- . لاحظ البرهان في تفسير القرآن: 322/1، ح 3 (605) و ص 324، ح 10 (612).

تعظيمه لا ينافي وجوب تنفيذ أوامر اللّٰه تعالى فيه، كالوالد بالنسبة لولده فإنّ وجوب تعظيمه لا ينافي أمره بالمعروف إنفاذاً لأوامر اللّٰه تعالى ولا يقتضي ذلك عصمة الوالد.

فنطلب الآن إمّا الاعتراف بعدم وجوب نصب الإمام أو دفع الإيرادات التي أوردناها على استدلالهم، وليس في كتبهم الموجودة الآن أثر لدفع هذه الاعتراضات، والموجود فيها من الاعتذارات قد أشرنا إليه في مطاوي كلماتنا، فالحوالة على الكتب غير مقبول، وإذا كان ثمّ كتاب فيه دفع هذه الاعتراضات فابعثوا به إلينا وعلينا ثمنه ولو بألف مجيدي.(1)

المطلب الخامس: ادّعاء الآلوسي عدم وجود إمام منصوب من اللّٰه في هذه الأزمنة

اشارة

من المطالب الّتي وجهنا اعتراضنا إليها، أنّا ندّعي عدم وجود إمام منصوب من اللّٰه تعالى في هذه الأزمنة، ونعني أنّه لا إمام موجود بالمعنى المعروف،(2) فلو ثبت أنّ اللّٰه تعالى خالق شخصاً بوجوده يرزق الخلق

ص: 178


1- . المجيدي هو قطعة فضية من النقود العثمانية المنقرضة في هذا الزمن، ويقال له: الدينار العثماني، وهو منسوب إلى السلطان العثماني عبد المجيد (1823-1861 م) الذي ولي السلطنة سنة 1839 م. وزنه سبعة دراهم صيرفية ونصف الدرهم وهو يعادل ستة مثاقيل شرعية وثلثي المثقال. والمجيدي مجيديان: كبير وصغير، وكلاهما نقد تركي عراقي من الفضة، فالمجيدي الكبير قيمته 80 قرشاً رائجاً، والمجيدي الصغير يساوي 8 قروش رائجة، وكان عندهم نصف مجيدي وربع مجيدي. راجع: الأوزان والمقادير للشيخ إبراهيم سليمان: 117؛ والعقد المنير للسيد موسى الحسيني المازندراني: 171.
2- . أقول: من أين علم عدم وجود إمام منصوب من اللّٰه في هذه الأزمنة؟! وما هو سبب علمه بصورة القطع واليقين، مع تضافر الروايات على وجود المهدي؟ فإن قال: إنّ الإمام المنصوب عبارة عن الإمام المتصرّف القائم بالوظائف، والمهدي الموعود - على فرض وجوده - لا يقوم بالوظائف التي حوّلت إلى الإمام؟ أقول: هذا أيضاً ادّعاء غيب آخر، فمن أين علم من أنّ الإمام لا يقوم بالوظائف التي حوّلت إليه في عصر الغيبة؟! أو ما كان مصاحب موسى عليه السلام وليّاً من أولياء اللّٰه كان يقوم بوظائفه من دون أن يقف عليه النبي موسى عليه السلام، فلوجود المهدي عليه السلام فوائد كثيرة نحن لا ندركها، ولذلك جاء في الروايات: «إنّ مثله مثل الشمس وراء السحاب» فهي لا تُرىٰ ولكن ينتفع بها الإنسان والحيوان والنباتات. فحرمان الأُمّة من بعض بركات وجوده - كالتبليغ - لا يلازم عدم الفائدة من وجوده - والإنسان بما أُوتي من العلم القليل «وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً» (الإسراء: 85)، يريد الإحاطة بأسرار التشريع كافّة، فإذا لم يدرك مصالح التشريع وملاكاته أخذ بالنفي والردّ!! (المشرف)

وسمّى هذا إماماً، فلا نزاع لنا فيه ولا مشاحّة لنا في تسمية هذا إماماً، لكن هذا يرجع إلى النزاع اللفظي بين الفريقين فنقول:

الرد على أدلّة الشيعة في إمامة الإمام الثاني عشر (عج)

اشارة

يدلّ على عدم وجود إمام منصوب من اللّٰه تعالى هاهنا وفساد الأدلّة التي استدلّوا بها على إمامته أُمور:

الأوّل: الإجماع

الإجماع بعد إثبات وجوب نصب الإمام على الناس وعدم وجوبه على اللّٰه تعالى في كلّ عصر وعدم اشتراط العصمة وكلّ مَن قال بذلك قال بعدم وجود إمام منصوب من اللّٰه تعالى، بل الشيعة تستدلّ على أنّ كلّ مَن قال بالوجوب والعصمة أثبت إمامة عليّ عليه السلام، وكلّ مَن نفاهما، نفاها، فلا يخفى عليك أنّ هذا الدليل تام بالنسبة إلى الاثني عشرية وإن كان لا يتمّ

ص: 179

بالنسبة إلى الزيدية، لكن غرضنا وكلامنا إنّما هو مع الاثني عشرية لا مع غيرهم.(1)

فإن قلت: أو ليس قد قال بوجود المهدي جماعة لم يقولوا بوجوب نصب الإمام على اللّٰه تعالى في كلّ عصر كمحيي الدين ابن العربي وجماعة ذكرهم النوري في أستاره؟

قلت: أوّلاً: نطلب البرهان على أنّ هؤلاء لم يقولوا بوجوب نصب الإمام على اللّٰه تعالى، إذ لعلّه كما دخلتهم الشبهة وخرافاتهم إلى الاعتراف بوجوده، دخلتهم بالنسبة إلى وجوب نصبه، وإلّا لكان قولهم معلوم البطلان؛ لأنّهم خالفوا الإجماع السابق عليهم، لأنّ الناس قبل هؤلاء كانوا بهذين القولين لا أزيد.

وثانياً: أنّ هؤلاء الجماعة الصوفية إنّما يقولون هو المهدي الموجود ولا يقولون إنّه إمام على أهل هذه الأزمنة، وإلّا لكانوا شيعة حقيقة، والذي يضرّ من الخروج هو المعنى الثاني لا الأوّل، وكلامنا في هذه الأوراق في نفي إمام منصوب على أهل هذا الزمان.

الأمر الثاني: ما هي فائدة الإمام المنصوب في هذا الزمان؟

نقول لهم: الإمام المنصوب من اللّٰه تعالى على أهل هذا الزمان لأي فائدة نصب؟(2) فهل هو منصوب لتبليغ الأحكام فقط، أو لتبليغ الأحكام

ص: 180


1- . في «م»: الزيدية.
2- . ذكر المعترض في كلامه فوائد متعدّدة لوجود الإمام من تبليغ الأحكام وإقامة قوانين الشرع من الحدود والجهاد، ثم استنتج من عدم قيام المهدي بهذين الأمرين عدم وجوده، أو عدم نصبه إماماً. يلاحظ عليه: بما ذكرنا سابقاً من أنّ التشريع على قسمين: قسم يُدرك العقل ملاكات الأحكام ومصالحها ومفاسدها. وقسم آخر أُمور تعبدية ربّما لا يدرك المكلّفون عللها وأسبابها. فإنّا لا نشّك في أنّ نصب إمام غائب لا يخلو من فوائد، صوناً لفعل اللّٰه سبحانه عن العبث، وأمّا ما هي الفوائد فربّما لا يمكننا إدراكها، وقد ورد في القرآن الكريم ما لا ندرك بعقولنا مصالحه ومفاسده، فإنّ عقل الإنسان قاصر عن الإحاطة بعلل التشريع وأسبابه، ولو كان الإنسان قد بلغ ذلك المبلغ لاستغنى عن التشريع السماوي، فنحن نؤمن بالأمرين التاليين: 1. أنّ المهدي (عج) آخر الأوصياء الاثني عشر الذين ورد التصريح بعددهم في الصحيحين وتواترت الروايات على ذلك من قبل الفريقين، وأنّه حيّ يُرزق وسيظهره اللّٰه سبحانه في ظروف خاصّة لبسط العدل. 2. أنّ الأُمّة الإسلامية تنتفع بوجوده وإن لم تقف على خصوصيات الانتفاع صوناً لفعله سبحانه عن اللغو. وبذلك يُعلم أنّ حصر الفوائد فيما ذكره وعدم لمسها ظاهراً، لا يدلّ على عدم انتفاع الأُمّة، كيف وقد كان مصاحب موسى يتصرّف في الناس حسب مصالحهم على نحو كان نبي الزمان غير عارف بها. (المشرف)

وإقامة قوانين الشرع، أو لإقامة قوانين الشرع من الحدود والجهاد والأمر بالمعروف خاصّة، أو لغير هذين الفائدتين؟

فإن قالوا بالأوّل أو بالثاني توجّه عليهم اعتراضنا الأوّل من أنّه لو كان منصوباً لهذه الفائدة لبلّغ إلى آخر ما قدّمناه سابقاً.

وإن قالوا بالرابع قلنا لهم: لا نزاع لنا في نفي إمام منصوب لغير هذين الفائدتين، ولا يتعلّق مطلب من المطالب بإثبات هذا أو وجوده، ووجوده لا يدلّ على عدم وجوب نصب الإمام على الأُمّة لإقامة قوانين الشرع وحفظ الحوزة.

ص: 181

وإن قالوا بالثالث يعني أنّه منصوب لحفظ الحوزة وإقامة قوانين الشرع خاصّة من دون وجوب التبليغ عليه؛ ففيه:

أوّلاً: أنّه خلاف مذهبهم وإجماعهم على أنّ الإمام منصوب لفائدة التبليغ.

وثانياً: نقول لهم: إنّ نصبه لحفظ الحوزة وإقامة قوانين الشرع إمّا على سبيل الوجوب على اللّٰه تعالى وهو مبني على وجوب اللطف، وقد أوضحنا فساده، أو على سبيل التفضّل منه بمعنى أنّه لا يقبح منه تركه(1) لو تركه.

ففيه: أنّ هذا مقتضى للعبث، إذ نصب الإمام لفائدة مع العلم بأنّه لا يحصل منه أكثر من ألف سنة، ولم يأمر بالمعروف ولا نهى عن المنكر ولا أقام حدّاً ولا جاهد عدواً، عبث صرف، ولا يمكن أن يقال هاهنا لإلقاء الحجّة على المكلّفين كما قيل في دليل اللّطف، لأنّا قد فرضنا أنّه منصوب على سبيل التفضّل، ولا حجّة لهم بتركه له تركه فكان نصبه وعدمه سواء في عدم الحجّية، ولا يرد علينا النقض بالأنبياء؛ لأنّا لا نسلّم أنّ الأنبياء مبعوثون(2)لهذه الفائدة خاصّة بل لها وللتبليغ، والعمدة هو الثاني وقد بلّغوا.

وبالجملة لا نسلّم أنّ اللّٰه بعث نبياً وترك ذلك النبي - عليه وعلى نبيّنا وآله الصلاة والسلام - التبليغ؛ بل هم تحمّلوا الأذى والإهانة وبلّغوا ما أمرهم(3)اللّٰه تعالى بتبليغه بأجمعه، وليس حاله كحال إمامكم أنّه منصوب للتبليغ ولم يفعل ذلك، بل عندنا أنّ التقية لا تجوز على الأنبياء، وكذا ادّعى بعض الشيعة

ص: 182


1- . في «م»: تركه له.
2- . ليس في «م».
3- . في «م»: أيّدهم.

كالسيد نور اللّٰه التستري، ولا يخفى أنّ الموجب لعدمها في النبي موجب لعدمها في الإمام.

الثالث: عدم الدليل على وجود الإمام الثاني عشر عليه السلام

من الأُمور الدالّة على أنّه لا إمام هاهنا على أهل هذه الأزمنة عدم الدليل على وجوده مع أنّ هذا العمر الطويل خارق للعادة لا يجوز إثباته إلّا بدليل قاطع؛ وذلك لأنّ عمدة استدلالهم على إمامته دليل اللطف والعصمة ووجوب نصب المبلّغ على اللّٰه، وقد عرفت ما فيها.

في إبطال الروايات الدالّة على إمامة الغائب عليه السلام

واستدلّوا على إمامته أيضاً بحديث الثقلين ونحوه من الأحاديث الواردة في فضل العترة الطاهرة، ووجه استدلالهم بهذه الأحاديث على ما في «نهج الحق» و «منار الهدى» وغيرهما، أنّ هذا الحديث يدلّ على أنّه في كلّ عصر إمام من أهل البيت يجب على الناس التعلّم منه والتمسّك به ولا يجوز لهم العدول إلى غيره.

ولا يخفى ما فيه؛ لأنّه إن تمّ ما ذكروه يجب على اللّٰه تعالى تعريفهم به ودلالتهم عليه حتى يتمسّكوا به، وإن خاف الإمام منهم مضى إليهم وعلّمهم بنفسه وعلّمهم ما يحتاجون إليه.

وبالجملة هذا الحديث إن تمّ استدلالهم به يجب أن يكون الإمام منصوباً للتبليغ، ولو كان كذلك لوجب عليه التبليغ ولو لخواصّه ووكلائه، وهلّا بلّغ هؤلاء الذين تزعمون أنّهم منصوبين من قبله بالخصوص في زمان الغيبة، كمحمد بن عثمان العمري وأصحابه، وأمرهم بالنقل لمَن بعدهم على

ص: 183

وجه يحصل بهم التواتر، نعم قد بلّغ بعض التوقعيات(1) وذلك أنّ رجلاً سأله أن يسأل الإمام عن تفسير: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ»(2) ؟ قال: اخلع حب أهلك عن قلبك، وهكذا قد بلّغ كآبائه من تفسير الباطن ولم نراه علّمهم جميع الأحكام وأمرهم بالنقل لغيرهم، فهذا يدلّ على فساد استدلالهم بهذا الحديث ولم نر لهم سوى ما ذكرناه من الاستدلال، فنطلب إمّا الاعتراف بعدم الدلالة على مقصودهم، أو دلالة الحديث على إثبات وجود إمام بالمعنى المتنازع فيه، والحوالة على الكتب غير كافية.

ومنها: استدلالهم بحديث الاثني عشر خليفة.

وفيه ما عرفت أنّه خبر واحد لا يوجب علماً، ولا يجوز التمسّك به في هذه المسألة التي مبنى صحّة المذهب عليها.

ص: 184


1- . أقول: لا يخفى أنّ المعترض لم يرجع إلى مصدر القصّة، وما ذكره يتنافى مع ما في المصدر، وأصله هو ما رواه الصدوق في «كمال الدين» عن سعد بن عبد اللّٰه القمي أنّه خرج مع أحمد بن إسحاق قاصداً نحو مولانا بسامراء، فلمّا أُذن لهم بالدخول قال الإمام العسكري عليه السلام: يا سعد ما جاء بك؟ قلت: شوقاً إلى لقائك. قال: فالمسائل التي أردت أن تسألها سل من قرّة عيني - يريد المهدي - فسأله عن معنى الآية؟ قال: كان موسى شديد الحبّ لأهله، فقال تعالى: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ»: أي انزع حبّ أهلك عن قلبك. هذا إجمال القصة، وأنت ترى أنّ بين ما نقله وما هو الواقع، بوناً شاسعاً، وذلك: أوّلاً: كان سؤاله للإمام المهدي، مباشرة دون أن يتوسّط بينه شخص من وكلاء الناحية، أعني: محمد بن عثمان العمري. وثانياً: أنّ أصل الحديث غير مقبول عند الأصحاب، فهذا هو النجاشي يقول: ولقى الإمام أبا محمد عليه السلام ورأيت بعض أصحابنا يضعفون لقاءه لأبي محمد عليه السلام ويقولون هذه حكاية موضوعة عليه، واللّٰه أعلم. (رجال النجاشي: 177، برقم 467). (المشرف)
2- . طه: 12.

وأيضاً لا يمكن انطباقه على الثاني عشر أبداً؛ لأنّ المراد بالخليفة مَن يخلف رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في تبليغ الأحكام كما اعترف به هذا المجيب في جوابه السابق، فقد عرفت أنّه لا إمام هاهنا منصوب للتبليغ، وكذا إن قال: إنّه منصوب للتبليغ ولإقامة حوزة المسلمين، أو أنّ المراد بالخليفة هو المنصوب من اللّٰه تعالى لإقامة قوانين الشرع وحفظ الحوزة خاصّة من دون تبليغ، فقد عرفت أنّ هذا مع ما فيه من منافاته لمذهبهم أنّه لا إمام منصوب من اللّٰه تعالى لهذه الفائدة خاصّة لا على سبيل الوجوب ولا على سبيل التفضّل، وإن زعموا أنّ المراد بالخليفة هو المنصوب لغير هذين الفائدتين فلا نزاع لنا معهم.

ومنها: استدلالهم بحديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه» وهو أيضاً خبر واحد(1) كما عرفته سابقاً أنّه لم يروه من السنة إلّاواحد من الصحابة، ولا الشيعة إلّاعن سليم، ولا يجوز الاعتماد في هذه المسألة على هذا.

ولو سلّمنا صحّته فنقول: إنّه لا ينطبق على إمامة الثاني عشر أبداً بالتقريب الذي ذكرناه في حديث الاثني عشر خليفة، فنطلب منهم تصوير معاني هذه الأحاديث وبيان المراد منها، والبرهان على أنّ المراد منها مثبت لدعواهم، ودفع الإشكالات التي ترد عليهم،(2) وهذا كلّه غير موجود في كتب الشيعة، فالحوالة غير كافية، ولابدّ من البرهان على أنّ هذه الأحاديث

ص: 185


1- . قد عرفت مصادر الحديث، وقد روي عن الحميدي حيث أخرجه في «الجمع بين الصحيحين» (296/2، برقم 1498) وعن الحاكم أنّه أخرج عن ابن عمر أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «من مات وليس عليه [جماعة] إمام فإنّ موتته موتة جاهلية». (لاحظ: المستدرك: 117/1). (المشرف)
2- . لاحظ: تعليقتنا رقم (4) في ختام هذه الرسالة في الصفحة: 206.

تفيد العلم، إذ بدون ذلك لا يثبت المطلوب، والحوالة على الكتب دأب العاجزين، فإنّ الكتب موجودة والكاتب موجود فيأمر الكاتب بكتابة الجواب.

ومنها: استدلالهم بما ينقلوه من النصّ عليه من آبائه، وهذه النصوص مكذوبة غير مطابقة لأُمور:

منها: ما تقدّم من الإجماع على عدم وجود إمام بعد إثبات عدم وجوب نصبه.

ومنها: ما أوردناه على الاستدلال بحديث الثقلين وحديث الاثني عشر خليفة من أنّه لا إمام هاهنا منصوب لتبليغ الأحكام ولا لإقامة قوانين الشرع وحفظ الحوزة. وإن قالوا أيضاً: إنّها نصّ على إمامة إمام منصوب لغير هذين الفائدتين فليس من محلّ النزاع.

ومنها: أنّ أخبار الشيعة كثيرة منها متناقضة مكذوبة لا يجوز الاعتماد عليها، كأخبارهم الواردة في الغلوّ والتفويض، وكأخبارهم الواردة في تفسير الباطن، وأخبارهم الواردة في نقيصة القرآن، وغير ذلك ممّا يزيد كلّ منها على الأخبار التي هي نصّ على إمامة الثاني عشر.

ومنها: ما يروونه عن آبائه من أنّ الإمام منصوب لتبليغ الأحكام، واقتصرنا في هذا الاعتراض على بيان كذبها خاصّة، إذ تكذيبها كافٍ في تكذيب النصوص، وبرهنّا سابقاً وجه دلالة تلك الأخبار على أنّ الناس محتاجون إلى البيان وإلى تفسير الكتاب وأنّ الإمام منصوب للتبليغ وليس المراد بها مجرّد وجود شخص عالم بالأحكام وليس مأموراً بالتبليغ مع تمكّنه، فإنّه لا يعقل من معنى (لولا نصب الإمام لبطلت حجج اللّٰه وبيّناته)،

ص: 186

إلّا أنّ الناس محتاجون إلى البيان ولو لم ينصب اللّٰه تعالى لهم مبلّغاً لقبح تكليفهم، ولما كان له معاقبة العصاة.

وهكذا الأخبار الدالّة على أنّه لابدّ لكلّ قوم من هاد يهديهم، صريح في أنّهم محتاجون إلى الهداية.

وكذا أخبارهم الدالّة على أنّ لكلّ واقعة حكماً معيّناً عند الإمام عليه السلام، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يبيّن جميع الأحكام لأصحابه، وأنّه يجب على الناس الرجوع إليهم وأخذ ذلك الحكم منهم، ويجب عليهم التبليغ الفعلي مع تمكّنهم، والأخبار الدالّة على وجوب التعلّم منهم وعدم جواز الأخذ من غير الإمام.

والأخبار الواردة بأنّ الناس يجب عليهم الرجوع إلى الإمام في معرفة الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، وأنّ الناس لابدّ لهم من إمام يرجعون إليه ويرفع النزاع بينهم.

إلى غير ذلك من الأخبار والآثار التي ينقلوها عن أئمّتهم من أنّ النبيّ لابدّ أن ينصب في كلّ عصر إمام يقوم مقامه في التبليغ بحيث لو جمعت الموجود منها في كتاب «البحار» خاصّة لزاد على المجلد التاسع منه؛ وكلّها من الوضوح على أنّ الإمام منصوب للتبليغ بحيث لا تكاد تخفى لكن مع التمكّن، إذ بدونه يقبح تكليفه بالتبليغ، والشيعة كلّهم يدّعون إنّما قلنا بوجوب نصب المبلّغ في كلّ عصر تبعاً لأئمّتنا وأنّ هذا هو مذهب أئمّتنا.

ولا كنت أتوهم أنّ أحداً يقول: إنّ هذه الأخبار لا تدلّ على أزيد من وجود عالم بالأحكام ولا تدلّ على أنّه يجب عليه التبليغ، وليت شعري أنّ مجرّد وجود الشخص العالم كيف يكون هادياً لنا ورافعاً لحجّتنا، ومعرفاً لنا

ص: 187

بالناسخ والمنسوخ، وقائم مقام النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أصحابه فينا، أترى أنّ جبرئيل عالم للأحكام أم لا؟ وهل علمه سبب لهدايتنا ورفع(1) الحجّة ومعرفة الأحكام والناسخ والمنسوخ؟ واستدلاله بجلالة آبائه وأنّ هذا لم يحصل منهم فكيف يريدون بهذا هذه المطالب، واضحة الفساد جدّاً؛ لأنّكم تروون عن آبائه أخباراً أقبح من هذه - كما لا يخفى على مَن راجع سابع البحار(2)وغيره - لأنّ الموجود فيه أقبح، فنقول حينئذٍ:

إن كان آباؤه من الجلالة كما ذكرت بحيث محال صدور هذه الأشياء عنهم، فيلزم أن تكون هذه الأخبار مكذوبة عليهم، وإن كانوا ليس كما ذكرت، فلا يبعد صدور هذا عنهم.

وقوله: إنّ موسى بن جعفر مدة عمره في الحبس(3) فمتى تمكّن من البيان الفعلي، فاسد جدّاً؛ لأنّ المحبوس لا يتمكّن من التبليغ بخلاف الثاني عشر فإنّه غير محبوس، بل يتمكّن من الإتيان إلى هذا الشيخ ويعلمه الأحكام ويستتر، وكذا غيره من الذين هم مرجع للناس الذين يدّعون الوكالة عنه.

وقد عرفت فساد اعتذاره بالآية على عدم جواز الاكتفاء بحصول هذه

ص: 188


1- . في «م»: دفع.
2- . حسب ترتيب المصنّف ويقابله الأجزاء: 23-27 المطبوع في بيروت، مؤسسة الوفاء.
3- . أقول: هذا الكلام شبيه كلام مَنْ لم يكن له أدنىٰ إلمام بحياة الأئمّة الاثني عشر، فإنّ الإمام الكاظم عليه السلام ولد عام 128 ه، واستشهد بالسمّ عام 183 ه، وتقلّد الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام جعفر الصادق عليه السلام عام 148 ه، فمجموع مدة إمامته يكون 35 سنة، وأُخذ بأمر هارون سنة 179 ه، نقل إلى البصرة، ثم إلى سجن بغداد واستشهد بالسمّ عام 183 ه، فتكون مدّة حبسه 5 سنوات، وأين هو من قوله: إنّ موسى بن جعفر مدّة عمره في الحبس. (المشرف)

الفائدة بجبريل؛ لأنّ موردها فيمن يكون مأموراً بالتبليغ، وليس المراد أنّ مجرّد وجود شخص عالم بالأحكام لا يصلح أن يكون من الملائكة، لأنّ الواقع خلافه.

ألاترى أنّ جبرئيل عالم بالأحكام، ونحن قلنا هذا المعنى حاصل بجبرئيل، يعني مجرّد وجود شخص عالم بالأحكام من غير أن يكون مأموراً بالتبليغ.

وأيضاً نقول: لو كان مجرّد وجود الإمام سبب للهداية وحفظ الدين ومعرفة الناسخ من المنسوخ، لزم أن تكون الناس كلّها متّفقة في الهداية وعارفة بالأحكام، ولزم بقاء الدين على ما كان عليه في زمان النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ولا يخفى أنّ الدين قد أشرف على الاضمحلال، وفي كلّ عصر تتزايد الشرور حتى الآن لم يبق من الإسلام إلّارسمه، وتركت الحدود والجهاد والأمر بالمعروف وأُبيحت المحرّمات وسفكت الدماء، فلو كان مجرّد وجود الإمام سبباً لدفع هذه الأشياء لما وقعت.

ولو نزلنا عن ذلك كلّه فنقول: الإمام بهذا المعنى وهو مجرّد وجود شخص بسبب وجوده يحفظ اللّٰه الدين وليس للإمام مدخلية في حفظه، بل وجوده بالنسبة إلى سائر المكلّفين كوجود جبرئيل بالنسبة لهم، ليس من محلّ النزاع بيننا وبينكم، وغرضنا يتمّ وإن ثبت وجود إمام بهذا المعنى. هذا كلّه جواب عن اعتذاره عن حمل الأحاديث بأنّ المراد بها مجرّد وجوده من دون تبليغ.

وأمّا اعتذاره الثاني الذي حاصله: أنّ النصوص وإن دلّت على وجوب نصبه لذلك لكن ذلك مشروط بالتمكّن من الإمام والرعية، والإمام وإن كان

ص: 189

متمكّناً من التبليغ بهذا الطريق لكن الرعية لا يتمكّنون.

ففيه: أنّ الأخبار إن دلّت على أنّ الناس لابدّ لهم من مبيّن وأنّ تكليفهم بدونه قبيح وأنّ الحجّة ثابتة لهم بدونه، فيحكم العقل حكماً أوّلياً بوجوب دلالتهم عليه وتعيين محلّه حتى يمضوا إليه، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق، والعبث إذا كلّفوا بتعليم الأحكام ممّن لا يقدروا على الوصول إليه(1)؛ وإن كان يخاف من دلالتهم عليه يجب أن يمضي إليهم واحداً واحداً على وجه يحصل بهم التواتر ويعلّمهم الأحكام حتى يتمّ الغرض ويرفع العبث، وأن يتحمّل الأذى بذلك كالأنبياء المبعوثين للتبليغ.

وإن قال: إنّ الناس غير محتاجين إلى البيان لحصول البيان الثاني من آبائه، عدنا معه إلى الجواب السابق، وليت شعري هل قائل يقول ذلك مع أنّه يلزم منه كذب الأخبار أيضاً لدلالتها على احتياج الناس في كلّ عصر، وممّا يقضى منه العجب قوله: مجرّد إيجاد الإمام مانعاً من إبطال حجج اللّٰه تعالى، وهل عاقل يتصوّر ذلك؟

وأمّا النقض بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم لا يتمّ إلّاحيث يوجد في أخبارنا بأنّه مبعوث بشيء ولم يفعله مع تمكّنه، ونحن نمنع ذلك ونقول: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد بلّغ كلّ ما أمره اللّٰه تعالى بتبليغه، وهذا واضح جدّاً، وكأنّ الناقض لا يعرف مورد

ص: 190


1- . أقول: أمّا الأئمّة الاثنا عشر غير المهدي عليه السلام فهم وإن كانوا في ضيق من خلفاء الجور، ولكنّهم بلّغوا ما يجب على الأُمّة أن تعلمه في مجالي العقيدة والأحكام، وقد بلغ عدد الأحاديث المروية عنهم حول الأحكام حوالي 50 ألف حديث، مع وجود التكرار في بعضها. وأمّا الإمام المهدي عليه السلام فالناس معذورون في هذه الفترة، فإنّ الأعداء قد حالوا بينه وبين الأُمّة في تعلّم الأحكام، وقد تعلّقت مشيئته سبحانه بوجوده بين الأُمّة - غائباً - إلى أن يبعثه في زمان يملأ بالجور والفساد، فيكون الإمام مستثنى من هذا الأمر. (المشرف)

النقض، ومن منّا يزعم أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم مبعوث بشيء ولم يبلّغه، بل نقول: إنّ العمل بالقياس وأصالة النفي ممّا جاء [به] النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

وقوله: لا يتأمّل أحد من أنّ الغرض من بعثة النبي صلى الله عليه و آله و سلم التبليغ، مسلّم، لكن لا نسلّم أنّه مبعوث لأن يوصل الأحكام لمن بعده على وجه يفيده اليقين؛ بل مأمور بإيصالها إليهم ولو بطريق الظن، وقد فعل ما أمر به بخلاف أدلّتكم وأخباركم وإجماعكم قائم على أنّ الإمام منصوب لأن يفيد اليقين، وإلّا فلا معنى لإبطال حجج اللّٰه وبيّناته، إذ البيانات التي حصلت من النبي صلى الله عليه و آله و سلم تفيد الظن قطعاً، فالفرق واضح والإشكال عنّا مندفع بما ذكرناه، وعنكم لا يمكن دفعه إلّابالاعتراف بأنّه لا يجب نصب إمام لإفادة القطع بالأحكام، وأنّ الناس غير محتاجة إلى ذلك، وأنّ الأخبار الدالّة على ذلك لا أصل لها. وأيضاً قد ذكرنا سابقاً فرق بين المعاصرين للمبلّغ وغيرهم.

أمّا المعاصرون فيجب تبليغهم على وجه يفيدهم القطع، وأمّا من بعده فلا، بل يكون مأموراً بإيصال الأحكام إليهم ولو بالطرق الظنية، وقد فعل ما أُمر به، والشيعة تدّعي أنّ المبلّغ معاصر لهم في كلّ عصر ولم يحصل منه البيان لمعاصريه لا بطريق القطع ولا بطريق الظن، فهذا أيضاً فرق واضح.

وأيضاً لو قلنا: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم مأمور بإيصال الأحكام الواقعية لمن بعده على المماشاة، فإيداع العلوم عند الوصي كافية في ذلك، والقول بعدم الاكتفاء به مكابرة، وإلّا كان أيضاً وجوده الشريف غير كاف.

وبالجملة: قد أشبعنا الكلام سابقاً في عدم ورود النقض علينا فلا حاجة إلى الإعادة، بل أكثر كلامنا هذا قد تقدّم، لكن لمّا لم نر في جوابه الثاني سوى التكرار لما أجاب به أوّلاً، أعدنا الكلام.

ص: 191

ومن استدلالهم على إمامته ما ذكره هذا الشيخ نقلاً عن التوراة، وهو استدلال يُضحك الثكلى، فإنّ عبارة التوراة المذكورة في الآية العشرين من الباب السابع عشر من سفر التكوين في وعد اللّٰه تعالى لإبراهيم في حقّ إسماعيل ما هذا لفظه: (وعلى إسماعيل استجبت لك هو ذا أُباركه وأكبره وأكثره جلداً فسيله اثني عشر رئيساً) هذه عبارة التوراة بعينها، ولقد أجاد هذا الشيخ حيث أحال الاستدلال بها على ما هو مذكور في محلّه، ولا نعرف أين محلّه حتى نرجع إليه في الكتب، فإنّ الكتب الموجودة عندنا ليس فيها بيان الاستدلال على إمامة الثاني عشر بهذه الآية، ولا أظن ثمّ كتاب آخر للشيعة في الإمامة لا يوجد عندنا، وكأنّ الشيخ توهّم ذلك من لفظ «اثني عشر رئيساً» أو لشدة أُنس ذهنه بالتفاسير الباطنية حسب أنّ المراد من باطن هذه الآية أئمته الاثني عشر.

هذا مجموع أدلّتهم التي عثرنا لهم عليها في إمامة الثاني عشر، فنطلب الآن دفع الاعتراضات عليها على وجه لا نحتاج إلى التكرار أو الاستدلال على وجوب نصب الإمام في كلّ عصر سالم عن هذه الاعتراضات ويجب أن يكون معصوماً، هذا ما يتعلّق بمطلوبنا، فنعود إلى إفساد كلامه وقد تقدّم في الأثناء جملة منه ممّا يرتبط وينفع في أصل الاعتراض فنقول:

قوله: «فمتى تمكّن أمير المؤمنين عليه السلام على تغيير سنّة من سنن من قبله» لا يخفى ما فيه:

أمّا أوّلاً: فلأنّا قد فرضنا أنّ إمامهم متمكّن فهو قياس مع الفارق.

وثانياً: هذا دليل على حقيّة خلافة مَن قبله وكمال علمهم، حتى أنّ باب مدينة العلم تابعهم في أحكامهم وقضاياهم.

ص: 192

وأمّا قوله: «إنّا نزعم أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يبيّن جميع ما أمره اللّٰه تعالى بتبليغه إلى الأُمّة وأحال إتمام الدين على رأي أبي حنيفة» فهذه تشنيعات باردة منشؤها العجز عن الجواب عن أصل الاعتراض، كيف وقد علم كلّ أحد أنّ مذهبنا أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بلّغ جميع ما أُنزل إليه من ربّه، وعدم النصّ على خصوص بعض الأحكام وإيكالها على القواعد الكلّية - مثل القياس وأصالة النفي - لا يوجب أن يكون العامل بهما مكمّلاً للدين، وكيف وهذا لازم للشيعة؟ أترى أنّ عمدة أدلّتهم اليوم أصالة البراءة وتنقيح المناط الذي هو عبارة أُخرى عن القياس.

ثمّ إنّ الشيعة الاثني عشرية وإن منعوا عن العمل بالقياس في كتبهم الأُصولية، إلّاأنّهم ينسون ذلك في كتبهم الفقهية، وكثيراً ما يستدلّون بها، وقد جمعنا رسالة ذكرنا فيها استدلالات الشيعة بالقياس، بل عمل أئمّتهم به، وذكرنا منشأ توهّمهم من العمل بالقياس.

وهكذا أنّهم في كتب الأُصول قرّروا عدم حجّية الإجماع والشهرة.

ثمّ في كتب الفقه يستدلّون على الأحكام بإجماعات الشيخ والمرتضى وابن إدريس والغنية المناقض بعضها لبعض وبالشهرة، بل على مذهبهم وأخبارهم أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يبلّغ جميع الأحكام إلى أصحابه وأحال ذلك على إمامهم الثاني عشر وآبائه، فكمّلوه بالتفاسير الباطنية وبقرآن آخر(1)غير هذا القرآن الذي بين أيدينا قد جمعه النوري، لكن الثاني عشر أيضاً هذه التكملة لم تحصل منه.

وما ذكره من أنّ العمل بخبر الواحد يستلزم التصويب فلا يستحق

ص: 193


1- . لاحظ: تعليقتنا رقم (5) في ختام هذه الرسالة في الصفحة: 208.

جواباً، كيف وعملهم اليوم على أخبار الآحاد والضعيفة المتعارضة، كما سيأتي بيانه.

وأمّا قوله: «إنّه لو علم بمرادنا من الاعتراض لأجاب عنه جواباً مطابقاً له»، فها نحن قد أوضحنا له اعتراضنا وبيّنّا أنّه ليس خاصّاً بتكذيب الأخبار الواردة عن أئمّتهم أنّ الإمام منصوب للتبليغ.

وأمّا قوله: «إنّ الإشكال على قاعدة اللطف لو سلّم لا يبطل مذهب الشيعة» ففيه: أنّه وإن كان بمجرّده لا يبطل مذهب الشيعة لكن هذه الأوراق التي أوردناها في إبطال هذه المطالب إن سلمت، سهل إبطال مذهب الشيعة، بل في الحقيقة أنّ الموجودين من الشيعة الآن هم الزيدية والاثنا عشرية والإسماعيلية، وإن تمّ ما ذكرناه يبطل ما سوى مذهب الزيدية، كما لا يخفى على العارف، والأمر معهم سهل.

وإبطال الاستدلال على إمامة علي عليه السلام بحديث الغدير والمنزلة ونحوهما بعد بطلان النصّ والعصمة، أسهل.

ويبطل فقههم أيضاً؛ لأنّ فقههم مأخوذ من محمد الباقر وأولاده، ولا يتمّ جواز الأخذ منهم على وجه يجعل حالهم كحال النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلّابعد ثبوت عصمتهم، ولا تثبت عصمتهم إلّابعد إثبات عصمة الإمام.

وما ذكره بعضهم من أنّه بعد إثبات عصمة علي وحسن وحسين تثبت عصمتهم لعدم القول بالفصل؛ ففيه لو سلم ثبوت عصمة علي وحسن وحسين فليس كلّ مَن قال بعصمتهم قال بعصمة الاثني عشر، إذ كثير من أصحابنا قائلون بعصمتهم، غاية الأمر أنّه عندنا وجوب العصمة في الإمام ممنوع، وكذا جميع فرق الشيعة قائلون بعصمة علي والحسن والحسين ولم

ص: 194

يقولوا بعصمة الاثني عشر، كالزيدية والإسماعيلية وغيرهم، على أنّ القول بالفصل عندي جائز.

نعم إنّما يتمّ عدم الجواز على مذاق الشيعة من أنّ حجّية الإجماع من جهة دخول الإمام المعصوم،(1) ولا يخفى عدم تأتيه هنا؛ لأنّا الآن نتكلّم قبل وجود الإمام، فلا يصحّ الاستدلال على وجوده بوجوده.

وكذا ما ذكره بعضهم من أنّه بعد إثبات عصمة علي وحسن وحسين، تثبت عصمة الباقي، لوجود النصّ من كلّ سابق منهم على لاحقه؛ ولا يخفى أنّ النصّ من الحسين على علي ولده لم ينقله إلّاشخص واحد(2)، كما لا يخفى على مَن راجع الحادي عشر من كتاب البحار، فكيف نقل هذا الواحد يكون موجباً لعصمة الجميع ويجعل حالهم كحال النبي صلى الله عليه و آله و سلم، بل تطرح أحاديث النبي ويتمسّك بأحاديثهم.

وأمّا تشنيعه علينا حيث نعتمد على الأدلّة الظّنية في إمامة أبي بكر فلا يخفى أنّ الظنّ الحاصل من إجماع الصحابة إلّاالشاذّ النادر الكاشف عن رأي رئيسهم أقوى من الظن الحاصل من جميع الأدلّة التي لفقها على إمامة الثاني عشر كما لا يخفى، بل لا يبعد القول بحصول القطع بإجماع الصحابة إلّا النادر منهم؛ لأنّ إجماعهم كاشف عن رأي رئيسهم بطريقة الحدس الّتي

ص: 195


1- . أقول: إنّ ذلك غفلة عن كلام الأُصوليّين في حجّية الإجماع لدى الإمامية. إنّ حجية الإجماع من جهة دخول الإمام المعصوم خاصّة بعصر الحضور، مثلاً إذا اجتمع مَن تؤخذ منهم الفتيا في عصر الإمام الصادق عليه السلام على حكم يستكشف دخول الإمام في جملتهم فيكون المفتىٰ به حجّة، وأمّا في زمان الغيبة فالميزان لحجية الإجماع هو كشفه عن قوله، لا دخوله في المجمعين، وأمّا كشف قوله: «عن طريق الإجماع» فقد ذكر الأُصوليون طرقاً لذلك. (المشرف)
2- . لاحظ: تعليقتنا رقم (6) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 209.

تذكرها الشيعة وإن فسدت أدلّة الإجماع، وإن قلنا بتخلّف جماعة عن بيعته، وهكذا الكلام في بقية الظنون الحاصلة على إمامة أبي بكر.

وأمّا إنكاره على دعوانا بعدم وجود خبر جامع لشرائط الصحّة لا معارض له في الوسائل؛ ففيه أوّلاً: أنّ هذا ممّا تقول به الأخبارية أجمع وتعترف أنّه لم يوجد في أخباركم خبر جامع لشرائط الصحّة بالمعنى المعروف،(1) وكذا بعض الأُصوليّين يعترفون بهذا كما لا يخفى على مَن راجع أوائل الجلد الأوّل من كتاب الحدائق، وها أنا ذا أنقل عبارة من كلامه ومن أراد تمام المطلب فليرجع إليه.

قال: ومن البيّن الواضح أنّ جلّ الأخبار من هذا القسم - يعني من قسم الضعيف - كما لا يخفى على مَن راجع الكافي أُصولاً وفروعاً وغيره من كتب الأخبار والكتب الخالية من الأسانيد، هذه عبارة الحدائق.(2)

فإذا اعترف أنّ جلّ أخبار الكافي أُصولاً وفروعاً وغيره من الكتب المعتبرة عندهم من قسم الضعيف والباقي منها الحسن والموثق والصحيح، فالصحيح حينئذٍ بالنسبة إلى المجموع أقل قليل، فيصحّ حينئذٍ إطلاق السلب الكلّي، على أنّا إنّما قلنا مَن راجع الكشي والوسائل يعرف أنّ لا خبر في الوسائل جامع لشرائط الصحّة أشرنا إلى نكتة بها يتمّ دعوى السلب الكلّي، لكنّه لم يتنبه لها، وهي أنّ بعض الأخبار التي يدّعون صحّتها وَهْمٌ منهم؛ لأنّها لا تخلو عن واحد في سندها مجروح، كما لا يخفى على مَن

ص: 196


1- . أقول: قد تبيّن عدم صحّة كلامه، وذكرنا عدد ما هو الصحيح في الكافي، وتركنا ذكر ما هوالصحيح في الكتب الثلاثة الباقية فضلاً عن سائر الكتب، فراجع. (المشرف)
2- . لاحظ: الحدائق الناضرة: 21/1، المقدّمة الثانية. وقد نقلها بتصرّف واختلاف في الألفاظ.

راجع الكشي؛ كزرارة ومحمد بن مسلم وهشام بن الحكم ويونس وغيرهم، فإنّ الطعون الواردة عليهم لا يمكن حملها على التقيّة كما لا يخفى،(1) وإذا تمّ عدم توثيق هؤلاء وأمثالهم وتبيّن أنّ الطعون التي فيهم لا يمكن حملها على التقية، يتمّ دعوى السلب الكلّي كما لا يخفى، وإن طلب منّا بيان أنّ الطعون الواردة في هؤلاء لا يمكن حملها على التقية فنحن متكفّلون له بذلك إن شاء اللّٰه.(2)

وأمّا كتاب المحمدين فنحن ما قلنا: إنّ ادّعاء وجوده كذب، بل قلت:

إنّي لم أعثر عليه، وإذا كان الكتاب موجوداً عنده، فنطلب منه بيان سنده إلى صاحبه وصحّة نسبته إليه.

وأمّا كتاب الفضل بن شاذان فهب أنّ غير المجلسي قد ذكره، لكن صاحب الجواهر قد طعن على (الكتاب لعدم)(3) عثور المجلسي والحرّ العاملي عليه كما لا يخفى على مَن راجع كتاب الأمر بالمعروف من المجلد الثالث من الجواهر(4)، فليكن حالنا عند هذا المجيب كحال صاحب الجواهر؛ لأنّ هذين الشخصين لم يعثرا على هذا الكتاب أيضاً، ومع هذا فنطلب منه الآن صحّة نسبته إلى صاحبه.(5)

ص: 197


1- . لاحظ: تعليقتنا رقم (7) في ختام هذه الرسالة في الصفحة 211.
2- . أقول: قد عرفت من تنصيص الإمام الصادق عليه السلام أنّ هذه الذموم لأجل المحافظة على حياة هؤلاء من شرور الأعداء، وبعد هذا التصريح كيف لا يمكن حملها على التقيّة؟! (المشرف)
3- . في «ح»: كتاب بعدم.
4- . لاحظ: جواهر الكلام: 352/21.
5- . توجد حاشية في نسخة «م» لفضل اللّٰه الزنجاني وهو من الأعلام الأفاضل ومن تلاميذ شيخ الشريعة الاصفهاني تجد ترجمته في أعيان الشيعة: 407/8. نأتي بها لأهمّيتها: قد افترى المعترض هنا على صاحب الجواهر رحمه الله حيث إنّه ليس في كلامه في كتاب الأمر بالمعروف ذكر هذا الكتاب بل إنّما ذكر في مسألة جواز إقامة الحدود للفقهاء بعض النصوص الواردة في أنّ الحدود للإمام المعارضة مع سائر الأدلّة، وضعّفه ظنّاً بأنّه مروي عن كتاب الاشعثيات لمحمد بن محمد بن الأشعث، وقال: بل الكتاب المذكور ليس من الأُصول المشهورة ولم يحكم (أحد) بصحّته من أصحابنا، بل لم تتواتر نسبته لمصنّفه ولذا لم ينقل عنه الحر في الوسائل ولا المجلسي في البحار مع شدّة حرصهما - خصوصاً الثاني - على كتب الحديث، ومن البعيد عدم عثورهما عليه. (جواهر الكلام: 398/21) على أنّ المجلسي قد نقل عن كتاب الغيبة للفضل بن شاذان في بحاره بتوسط أذكر منها موضعاً وهو ما في كتاب المزار في الباب المعنون بفضل النجف وماء الفرات حيث قال: روى السيد علي بن عبد الحميد في كتاب الغيبة باسناده إلى الفضل بن شاذان من أصل كتابه باسناده إلى الأصبغ بن نباتة قال: خرج أمير المؤمنين عليه السلام إلى ظهر الكوفة إلى آخر الرواية (بحارالأنوار: 234/97)، فظهر كذبه في الموضعين كما ظهر من ذلك أيضاً الجواب عن صحّة نسبته إلى مصنّفه، فإنّ السيد علي بن عبد الحميد المذكور رواه مسنداًعن مصنّفه رحمه الله وأسانيد المجلسي رحمه الله إليه معلومة. الأحقر فضل اللّٰه الزنجاني عفي عنه.

وأمّا ما احتملناه من تكذيب النصوص على الثاني عشر من حيث معارضتها لما ذكرناه، ونحن لا ندّعي أنّ الأخبار المتعارضة الموجودة في الصحاح قطعية الصدور ونجعلها دليلاً في الاعتقادات، بل غايتها جواز العمل بها بعد حصول الترجيح.

وأمّا الطعن على بعض الرواة فهو لا يوجب الطعن في المذهب ولا في النقلة عنهم إذا اجتهدوا في توثيقهم، وكأنّ هذا الشخص لم يطّلع على كتاب الكشّي وغيره من كتب رجالهم، ويرى طعن أئمّتهم وعلمائهم في رجالهم، وهذه العبارة قد أخذها من السيد نور اللّٰه التستري في «نهج الحقّ» وجعل يفتخر بها ولابدّ للمجيب عن اعتراضنا هذا من ملاحظة الاعتراض

ص: 198

المتقدّم الذي أوردناه على جوابه الأوّل حتّى يستحضر جميع الاعتراضات التي أوردناها سابقاً ولا يقتصر على هذا، ولابدّ من الجواب، والحوالة لا تكفي.

وأمّا افتخاره بسرعة جوابه عمّا أوردناه عليه فأخبروه أنتم بمدة جوابنا لكم.

وأمّا ما نسبه لنا من الفحش في الكلام فلينظر العاقل المنصف جوابه الأوّل والثاني واعتراضنا هذا والذي قبله، ويقابلهما، فهل يبلغ الفحش في كلامنا عشر الذي في كلامه وجسارته على العلماء وشتمه لهم ورميه لهم بالإفتاء بالرأي من دون دليل، ولو قابلناه بما ذكره لطال الكلام.

وأمّا الكلمة التي أشار إليها في آخر كلامه، فالجواب عنها يطول ذكره والإعراض أولى.

وأمّا كتاب الكابلي فلم نعثر عليه، وإذا كان الكابلي قد أجاب عن الاعتراضات التي اعترضناها عليه، فنطلب منه أن يأمر الكاتب يكتب أجوبة اعتراضاتنا عليه. والسلام على مَن اتّبع الهدى.

هذا آخر ما اعترضه المعترض.(1)

***

ص: 199


1- . ربّما تكون هذه الفقرة من الناسخ، أو من حامل الرسائل بين المتناظرين.

تعليقات العلّامة السبحاني على رسالة الآلوسي الثالثة

التعليقة رقم (1): أطنب المعترض الكلام في إبطال قاعدة اللطف حسب زعمه، وزعم أنّ لازم اللطف في المثال المذكور أن يُرسل صاحب الوليمة إلى كلّ واحد من المدعوين سائقاً يسوقه إلى الإتيان للوليمة، فرتّب عليه أنّ الضرورة قاضية بعدم القبح وعدم البخل لو لم يرسل سائقاً يسوق المدعو، ولا نقض غرض في ذلك لأنّه أراد إتيانهم باختيارهم.

هذا مبلغ علمه بمفاد القاعدة وتصوّر أنّ لازم القول باللطف - في المثال المذكور - إرسال السائق بجلب المدعو إلى الوليمة، لكنّه غفل عن مفاد القاعدة عند القائلين بها.

ونحن نذكر نصوصاً حتى يُعلم أنّ القول بقاعدة اللطف لا يسلب الاختيار عن المكلّف.

قال القاضي عبد الجبار (المتوفّى 415 ه): إنّ اللطف هو كلّ ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنّب عن القبيح، أو يكون عنده أقرب إمّا إلى اختيار الواجب أو ترك القبيح.(1)

وقال المحقّق الطوسي (المتوفّى 672 ه): اللطف عبارة عن جميع ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية، بحيث لا يؤدّي إلى الإلجاء.(2)

وقال المحقّق البحراني (المتوفّى 679 ه): مرادنا باللطف هو ما كان المكلّف معه أقرب إلى الطاعة وأبعد من فعل المعصية، ولم يبلغ حدّ الإلجاء.(3)

ص: 200


1- . شرح الأُصول الخمسة، مبحث اللطف وأصله.
2- . تلخيص المحصل: 342، طبع دارالاضواء.
3- . قواعد المرام: 117.

إلى غير ذلك من الأقوال التي تنادي بأوضح العبارات أنّ قاعدة اللطف لا تثبت إلّا تشريع أُمور كلّية ترغّب المكلّف إلى الطاعة دون أن يكون هناك إلجاء أو سلب اختيار.

ويشهد على ذلك أنّهم قالوا بأنّ جعل الجزاء للتكاليف ثواباً وعقاباً واجب من باب اللطف؛ لأنّ المكلّف في ضوئها يكون أقرب إلى الطاعة وأبعد من المعصية.

وبعبارة أُخرى: إنّ قاعدة اللطف لا تدلّ على أكثر من جعل الدواعي والحوافز الكلّية للمكلّف حتى تُحدِث فيه الترغيب، على نحو لولاه لما رغب أو لا يكون أقرب إلى الطاعة، ولم يقل أحد أنّه يجب على صاحب الغرض أن يرسل لكلّ مكلّف سائقاً يجلبه إلى الطاعة، وفي مورد المثال إلى حضور الوليمة.

وعلى ضوء ذلك قالوا بوجوب نصب الإمام من باب اللطف؛ لأنّ الإمام الذي له تربية إلهية وعلم واسع وعصمة تحصّنه، إلى غير ذلك من الأوصاف يكون سبباً لملء الفراغات الحاصلة بعد رحلة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وبالتالي يكون المكلّف عندئذٍ أقرب إلى الطاعة وأبعد عن الضلال لوجود الحجّة الإلهية.

وممّا ذكرنا علم أنّ ما أرعد وأبرق به لم يأت بشيء يُعتمد لا حلّاً ولا نقضاً.

أمّا الحلّ فقد عرفت أنّ مفاد القاعدة تشريع أُمور يؤثّر في قرب المكلّف إلى الطاعة لا يسلب عنه الاختيار، ولذلك يصير المكلّف بين مطيع وعاص.

وأمّا النقض فقال: إنّ هذا التقريب الذي ذكروه في وجوب اللطف يقتضي صدور الطاعات من المكلّفين وامتناعهم عن المعاصي، كما لا يخفى.

يلاحظ عليه: أنّه خلط بين كون اللطف داعياً إلى الطاعة، وبين كونه موجباً لها، والإشكال إنّما يتوجّه إلى الصورة الثانية، وهم لا يقولون به.

وأمّا دليل اللطف فهو منحصر بكونه حكيماً، والحكيم المعتد بغرضه - أعني: إرشاد العباد باختيارهم - لا يترك ما يكون مرغّباً لهم إلى الطاعة.

المشهور في كلمات العدلية أنّ اللطف من لوازم حكمته تعالى، وإنّ ترك اللطف

ص: 201

يستلزم نقض الغرض وهو ينافي حكمته تعالى، يقول الشيخ المفيد: «والدليل على وجوبه توقّف غرض المكلّف عليه، فيكون واجباً في الحكمة».(1)

ثمّ إنّ الشيخ المفيد استدلّ على وجوب اللطف بقاعدة الحكمة، لكنّه بني في «أوائل المقالات» اللطف على صفتي الجود والكرم، وقال: إنّما أوجبه أصحاب اللطف من اللطف إنّما وجب من جهة الجود والكرم.(2)

والظاهر أنّ مراده كمال الفاعل في ذاته وصفاته، سواء أكان كماله لأجل حكمته أو عدله أو جوده وكرمه، وكأنّ اللفظين مرآة للكمال وعلى هذا فالميزان هو الحكمة لا الجود ولا الكرم.

ثمّ إنّ في كلامه فلتات نشير إليها:

1. قال: وأيضاً لو كان ترك الألطاف بخلاً لكان عدم التوسعة على المحتاجين وعدم إفاضته للأشياء على مَنْ يتمنىٰ، بخلاً؛ لأنّ اللّٰه تعالى قادر على الإفاضة وقادر على دفع المفسدة لو كان يحتمل وقوع مفسدة من هذه الإفاضة.

يلاحظ عليه: قد عرفت أنّ أساس قاعدة اللطف كونه سبحانه حكيماً، وأنّ مصبّ القاعدة جعل الدواعي لهداية الناس إلى الطاعة وترك المعصية، وأنّ الاستدلال بالجود والكرم إرشاد إلى كمال الذات وكونه حكيماً، لا أنّ الجود والكرم محور للقاعدة حتى يأتي ما ذكره المعترض من لزوم إغناء الناس.

أضف إلى ذلك: انّ مسألة تقسيم الرزق تابع للمصالح التي يعلمها اللّٰه سبحانه، قال تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ» (3)، وقال سبحانه: «وَ لَوْ بَسَطَ اَللّٰهُ اَلرِّزْقَ لِعِبٰادِهِ لَبَغَوْا فِي اَلْأَرْضِ» (4)، وقال تعالى: «وَ اَللّٰهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلىٰ بَعْضٍ فِي

ص: 202


1- . لاحظ: النكت الاعتقادية: 35.
2- . لاحظ: أوائل المقالات: 59.
3- . الإسراء: 30.
4- . الشورى: 27.

اَلرِّزْقِ» (1) .

وحصيلة الكلام: أنّ مقتضى قاعدة اللطف جعل الدواعي إلى المكلّف إلى الطاعة، لا جعل الناس سواسية في الرزق والتمكّن.

2. قال: وأيضاً لو قبح التكليف بدون اللطف لقبح من اللّٰه تكليف كلّ من لم يكن سبباً لاستتار الإمام وخوفه، ولكان العاصي في زمان الغيبة غير مكلّف.

يلاحظ عليه: أنّ نصب الإمام ليس حجّة منحصرة للتكليف حتى يكون العاصي في زمان الغيبة غير مكلّف، بل هو أحد الدواعي، وهناك دواع أُخرى في زمان الغيبة تكفي في إتمام الحجّة على المكلّف وهو الكتاب والسنّة، اللّذان يكفيان في بعث المكلّف إلى الطاعة، نعم هو غير مكلّف بالنسبة إلى الأمر الذي يكون وجود الإمام مؤثّراً فيه، ولو صدر منه خطأ في التفكير أو في الإفتاء فهو معذور لعدم وجود المعصوم حتى يرجع إليه. (المشرف)

***

التعليقة رقم (2):

أقول: إنّ دليل العصمة في النبي والإمام، شيء واحد، وهو ما أشار إليه المحقّق الطوسي بقوله: ويجب في النبي العصمةُ ليحصل الوثوق فيحصل الغرض، ولوجوب متابعته وضدّها، والإنكار عليه.(2)

وقال العلّامة في شرحه: أنّ الغرض من بعثة الأنبياء عليهم السلام إنّما يحصل بالعصمة، فتجب العصمة تحصيلاً للغرض.

وبيان ذلك: أنّ المبعوث إليهم لو جوّزوا المعصية والكذب على الأنبياء لجوّزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك، وحينئذٍ لا ينقادون إلى

ص: 203


1- . النحل: 71.
2- . كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 155، قسم المتن.

امتثال أوامرهم، وذلك نقض للغرض من البعثة.(1)

أقول: إنّ ثقة الناس بالأنبياء، وبالتالي حصول الغرض من بعثتهم، إنّما هو رهن الاعتقاد بصحّة مقالهم وسلامة أفعالهم، وهذا بدوره فرع كونهم معصومين عن الخلاف والعصيان في السرّ والعلن من غير فرق بين معصية وأُخرى، ولا بين فترة من فترات حياتهم وأُخرى.

ثمّ إنّ الإمام في مصطلح الشيعة هو القائم بعامّة وظائف الرسول غير النبوّة وتلقّي الوحي، فهو يفسّر القرآن الكريم ويبيّن مجملاته، ويجيب عن المسائل المستجدّة التي ليس لها دليل في الكتاب والسنّة إلى غير ذلك من الأُمور المهمة، وحصول الوثوق بكلّ ذلك فرع كونه معصوماً، وإلّا فلو احتمل فيه السهو والنسيان أو الكذب، وغيره، لما حصل الغرض من بعثة الرسول.

فإن قلت: يكفي في الاعتماد على قول الإمام مصونيّته من معصية واحدة، وهي الكذب دون سائر المعاصي.

قلت: إنّ التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي - لو صحّ في عالم الثبوت - فلا يمكن إثباته في حقّ مدّعي النبوّة بأن يثبت أنّه لا يكذب أبداً مع تجويز ركوبه سائر المعاصي، فمن أين يحصل للأُمّة العلم بأنّ مدّعي النبوّة مع اقترافه لأنواع الفجور والمآثم لا يكذب أبداً؛ بل حتى لو صرّح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك، لم يذعن له أحد، لسريان الريب إلى نفس هذا التصريح.

هذا هو الدليل العقلي، وأمّا الأدلة النقلية فحدّث عنها ولا حرج. (المشرف)

***

التعليقة رقم (3):

المراد من الظلم في قوله تعالى: «اَلظّٰالِمِينَ» هو عصيان اللّٰه سبحانه اعتقاداً أو عملاً، أمّا اعتقاداً فكالشرك والغلو، وأمّا عملاً فمعلوم، فهؤلاء محرومون عن «عهد اللّٰه»

ص: 204


1- . كشف المراد: 156.

الذي عرّفه سبحانه بقوله: «إِمٰاماً» .

أمّا قوله: «إنّ نسبة الظلم إلى الأنبياء في القرآن لا تحصىٰ» فكلمة خرجت من غير تتبع، إذ لم يرد في القرآن الكريم من هذه النسبة حسب الظاهر إلّاالآيتان التاليتان:

1. قوله سبحانه - حاكياً عن آدم وحواء -: «قٰالاٰ رَبَّنٰا ظَلَمْنٰا أَنْفُسَنٰا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنٰا وَ تَرْحَمْنٰا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ» (1).

2. قوله سبحانه - حاكياً عن موسى عليه السلام -: «قٰالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ» (2).

فأين الآيات الكثيرة التي يدّعي أنّها لا تحصىٰ؟! وأمّا هاتان الآيتان فخارجتان عن مفاد قوله سبحانه: «لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ» ؛ لأنّ سبب الحرمان، عصيانه سبحانه، وظلم النفس في الآيتين غير عصيانه اللّٰه.

أمّا الآية الأُولى، فلأنّ آدم وزوجته كانوا في عيشة راضية في جنة عالية، فبالأكل من الشجرة المنهية سُلبت عنهم هذه النعمة فظلموا أنفسهم، وقد ثبت في محلّه(3)أنّ النهي عن الأكل من تلك الشجرة كان نهياً إرشادياً لا مولوياً، أي أنّه إرشاد إلى ما يترتّب عليه من المشاكل بعد الخروج من الجنّة.

وأمّا الآية الثانية، فقد ظلم النبي موسى نفسه دون أن يعصي اللّٰه، لأنّ قتل القبطي الذي لم تكن لدمه حرمة سبّب أن يهرب من مصر ويواجه المشاكل الكثيرة في الطريق وغيرها.

وأمّا تمامية الآية في الدلالة على عصمة الأنبياء فواضحة؛ لأنّ المراد من «عهد اللّٰه» هو الإمامة فلا ينالها عصاة رب العالمين عقيدة وعملاً. فتكون النتيجة: أنّ الإمامة

ص: 205


1- . الأعراف: 23.
2- . القصص: 16.
3- . في تفسير قوله سبحانه: «إِنَّ لَكَ أَلاّٰ تَجُوعَ فِيهٰا وَ لاٰ تَعْرىٰ * وَ أَنَّكَ لاٰ تَظْمَؤُا فِيهٰا وَ لاٰ تَضْحىٰ» (طه: 118-119).

عندنا رداء البسه اللّٰه المعصومين. (المشرف)

***

التعليقة رقم (4):

دلالة حديث اثني عشر خليفة على خلافة الأئمّة الطاهرين، يعلم بالسبر والتقسيم، لأنّ لفظ الحديث - حسب ما رواه مسلم وغيره -: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش» فعندئذٍ نسأل المعترض وغيره الذين آمنوا بصحّة هذه الأحاديث، عن هؤلاء الذين أُنيط بهم عزّ الإسلام؟

قال ابن حجر في فتح الباري: كلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث وأُرجحه لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: «كلّهم يجتمع عليه الناس» ثم ذكر أسماء من وقع الاجتماع على خلافتهم وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد، وعبد الملك وأولاده الأربعة الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وعمر بن عبد العزيز بين سليمان ويزيد، قال فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك.

فنقول: أوّلاً: ما استند إليه من قولهم: «كلّهم يجتمع عليه الناس» لم يأت في الصحيحين، ومن المظنون أنّه زيد لتطبيق الحديث على الأمويين والمروانيين فنسأل:

1. كيف يصحّ حمل هذه البشائر التي صدرت على سبيل المدح على معاوية الذي حارب أمير المؤمنين عليه السلام الذي قال فيه سيد النبيين صلى الله عليه و آله و سلم: «حربك حربي» وأعلن بسبه على المنابر، ودسّ السمّ إلى الحسن عليه السلام سيد شباب أهل الجنّة؟!

2. كيف يمكن القول بأنّ النبي يبشّر بخلافة يزيد بن معاوية قاتل الحسين عليه السلام، والفاسق المتجاهر بالمنكرات والكفر، المتمثّل بأشعار ابن الزبعرىٰ فرحاً بحمل رأس ابن بنت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم إليه، وهو الذي أباح بأمره مسلم بن عقبة المدينة ثلاثاً في واقعة الحرّة المعروفة، إلى غير ذلك من الأحداث المرّة.

3. ثم كيف يمكن أن يُعد عبد الملك بن مروان ممّن يعتز به الإسلام، وقال السيوطي في

ص: 206

«تاريخ الخلفاء» عنه: لو لم يكن من مساوي عبد الملك إلّاالحجّاج وتوليته إيّاه على المسلمين وعلى الصحابة (رضي اللّٰه عنهم) يهينهم ويذلّهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يحصى، فضلاً عن غيرهم، وختم في عنق أنس وغيره من الصحابة ختماً يريد بذلك ذلّهم، فلا رحمه اللّٰه ولا عفا عنه.(1)

4. كيف يمكن أن يقال بأنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بشّر بعزّة الإسلام بخلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهو الفاسق الشريب للخمر والمنتهك لحرمات اللّٰه تعالى، وهو الذي أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة فمقته الناس لفسقه، وهو الذي مزّق القرآن ورماه بالسهام، وقد ذكر المسعودي عن المبرّد أنّ الوليد ألحد في شعر له، ذكر فيه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وقال:

تلعب بالخلافة هاشمي *** بلا وحي أتاه ولا كتاب

وقل للّٰه يمنعني طعام *** وقل للّٰه يمنعني شراب

وحكىٰ في العقد الفريد: أنّه أخرج واحدة من جواريه متلثمة، عليها بعض ثيابه فصلّت بالناس (صلاة الفجر).(2)

فإذا بطل هذا التطبيق وما شابهه من إدخال فرد وإخراج فرد آخر من الأمويّين والمروانيّين أو العباسيّين الذين كانوا بمعزل عن أن يناط بهم عز الإسلام فلم يبق في الأُمّة (بعد رحيل النبي) إلّااثنى عشر خليفة مبتدأ من الإمام علي ثم الحسن والحسين ثم التسعة من ذرية الإمام الحسين عليهم السلام الذين عرفوا بالطهارة والقداسة والعلم والفضل والنباهة والعظمة...

والعجب أنّ المعترض لا يحوم حول مصاديق هذا الحديث. (المشرف)

***

ص: 207


1- . تاريخ الخلفاء: 240.
2- . تاريخ مدينة دمشق: 142/70؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: 281/12، وغيرهما.

التعليقة رقم (5):

قال: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يبلّغ جميع الأحكام إلى أصحابه وأحال ذلك على إمامهم الثاني عشر وآبائه، فكمّلوه بالتفاسير الباطنية وبقرآن آخر.

أقول: يا للّٰه من هذا الكلام الباطل!!

أوّلاً: أنّ النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم بمفاد حديث الثقلين أحال ما لم يبلغه إلى كلّ الأئمّة الاثني عشر مبتدئاً من علي عليه السلام إلى أن ينتهي إلى الإمام الثاني عشر، فقام أحد عشر منهم بأمر التبليغ على أحسن وجه، وأمّا الإمام الثاني عشر فالظروف لم تساعده على التبليغ، ولو ظهر للتبليغ لقتل قطعاً، مع أنّ مشيئته سبحانه تعلّقت ببقاء إمام حيّ بين الناس إلى الوقت المعلوم.

ثانياً: ماذا يُريد بقوله: «فكمّلوه بالتفاسير الباطنية وبقرآن آخر»؟! أمّا ما يُسمّيه بالتفاسير الباطنية فهي بين مكذوب أو مدسوس من جانب الأعداء لتشويه سمعة الأئمة عليهم السلام كالخطابية وغيرهم، وبين صحيح من باب تطبيق القاعدة الكلّية على مصاديقها عبر القرون دون أن يُقصد نزول الآية في هذا المورد، فقد استدلّ الإمام عليه السلام في حرب الجمل بقول تعالى: «فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاٰ أَيْمٰانَ لَهُمْ» (1)، وهذا ليس تفسيراً باطنياً بل أخذاً بالضابطة.

ثمّ ماذا يُريد ب «قرآن آخر» مع أنّ القرآن الموجود بين الشيعة عبر القرون نفس القرآن الموجود بين السنّة؟!

أقسم باللّٰه وآياته ليس عندنا قرآن غير هذا القرآن، وفي وسع الباحث مراجعة المطابع ومكتبات الشيعة ودور النشر لهم، فسوف لا يجد أثراً من هذا القرآن المفترى.

(المشرف)

***

ص: 208


1- . التوبة: 12.

التعليقة رقم (6):

قوله: أنّ النص من الحسين على علي ولده، لم ينقله إلّاشخص واحد.

أقول: ما ذكره من أنّ النص من الحسين على علي ولده، لم ينقله إلّاشخص واحد، لا يخلو من تغطية على الحقيقة، فإنّ النص على علي بن الحسين إنّما ثبت بنصّ الحسين عليه السلام عليه كتابة تبقى ما بقيت.

1. فقد روي أنّ الحسين عليه السلام لمّا سار إلى العراق استودع أُمّ سلمة (رض) الكتب والوصية، فلمّا رجع علي بن الحسين عليهما السلام دفعتها إليه.(1)

وقد اتّفقت الأئمّة بعده على صحّة هذه الوصية، فإمامة السجّاد ثبتت بكتاب منصوص من والده عليه عرفه كلّ مَن وقف عليه.

2. روى الكليني: لمّا حضر الحسين ما حضره، دفع وصيته إلى ابنته فاطمة، ظاهرة في كتاب مدرج، فلمّا أن كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان، دفعت ذلك إلى علي بن الحسين عليهما السلام قلت له: فما فيه - يرحمك اللّٰه -؟ فقال: ما يحتاج إليه ولد آدم منذ كانت الدنيا إلى أن تفنىٰ.(2)

3. روى علي بن محمد الخزّاز القمي في كتاب «الكفاية في النصوص» - كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر - عن محمد بن وهبان البصري عن أحمد بن محمد السرفي عن أحمد بن الأزهر، عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد اللّٰه بن عتبة قال: كنت عند الحسين عليه السلام إذ دخل علي بن الحسين الأصغر... إلى أن قال:

إن كان ما أعوذ باللّٰه أن أراه فيك فإلى من؟ فقال: «إلى عليّ ابني هذا، هو الإمام، وأبو الأئمّة».(3)

4. روى مؤلّف «المختار في مناقب الأخيار» قال: قال أبو العز: كنّا عند جابر بن عبد اللّٰه

ص: 209


1- . الكافي: 304/1، برقم 3 (كتاب الحجّة).
2- . الكافي: 304/1، برقم 2 (كتاب الحجّة).
3- . إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات للحرّ العاملي: 3/3، برقم 6.

وقد كُفّ بصره وعلت سنُّه، فدخل عليه علي بن الحسين ومعه ابنه محمد وهو صبيّ صغير فسلّم على جابر وجلس وقال لابنه محمد: قم إلى عمّك فسلّم عليه وقبّل رأسه، ففعل الصبيّ ذلك، فقال جابر: من هذا؟ فقال: «محمد ابني»، فضمّه وبكى، فقال: يا محمد إنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يقرأ عليك السلام، فقال له صحبه: وما ذاك أصلحك اللّٰه؟ فقال: كنت عند رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فدخل عليه الحسين بن علي فضمّه إليه وقبّله وأقعده إلى جنبه ثمّ قال: يولد لابني هذا ابن يقال له علي إذا كان يوم القيامة نادىٰ مناد من بطنان العرش ليقم سيّد العابدين، فيقوم هو، ويولد له محمد إذا رأيته يا جابر فاقرأ عليه السلام منّي، واعلم أنّ بقاءك بعد ذلك اليوم قليل» فما لبث جابر بعد ذلك اليوم إلّابضعة عشر يوماً حتى توفّي.(1)

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في كتب الأحاديث.

على أنّ اتّفاق أئمّة أهل البيت عليهم السلام وبيت الهاشميّين على إمامته أقوى دليل على كونه المنصوص عليه من جانب والده.

أضف إلى ذلك: أنّ التعرّف على الإمام وإن كان يتمّ عن طريق التنصيص، ولكن هناك طريقاً آخر وهو ما أُثر عنه من المآثر العلمية والعلوم النبوية في مجالي العقيدة والشريعة ورجوع كثير من المحدّثين والفقهاء إليه في أمر الشريعة، ووجود الأدعية التي يسمو بها الإنسان إلى أعلى مدارج الكمال، فإنّها تدلّ على أنّ ما أُثر عنه قبس من الأنوار النبوية.

مضافاً إلى أنّ الأُمّة الإسلامية كانت توقّره، وتعظّمه وتقدّمه على الآخرين، ويكفي في ذلك، قصة الشاعر الفرزدق مع هشام الأُموي.

فقد جاء في كتب الفريقين: أنّ هشام بن عبد الملك حجّ في خلافة أبيه وطاف بالبيت فأراد استلام الحجر فلم يقدر عليه من الزحام، فنصب له منبر فجلس عليه، إذ أقبل

ص: 210


1- . إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: 5/3، تكملة الباب 16، نقلاً عن كتاب: المختار في مناقب الأخيار: 30، من النسخة الخطية في مكتبة الظاهرية بدمشق.

عليّ بن الحسين عليهما السلام وعليه أزار ورداء، من أحسن النّاس وجهاً وأطيبهم رائحة وبين عينيه سجادة كأنّها ركبة عنز، فجعل يطوف بالبيت فإذا بلغ الحجر تنحّى عنه النّاس حتّى يستلمه هيبةً له وإجلالاً، فغاظ ذلك هشاماً، فقال رجل من أهل الشام لهشام: مَن هذا الّذي قد هابه الناس هذه الهيبة وأفرجوا له عن الحجر؟ فقال هشام:

لا أعرفه - لئلّا يرغب فيه أهل الشام - فقال الفرزدق - وكان حاضراً -: لكنّي أعرفه، فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فأنشأ قصيدة نذكر بعض أبياتها هنا:

هذا الّذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحلُّ والحرمُ

هذا ابن خير عباد اللّٰه كلّهم *** هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلمُ

هذا الّذي أحمد المختار والده *** صلّى عليه إلهي ما جرى القلمُ

إلى أن قال:

فجدّه في قريش في أرومتها *** مُحمّدٌ وعليٌّ بعده عَلَمُ

بدرٌ له شاهدٌ والشِّعب من أُحد *** والخندقان ويوم الفتح قد عُلِمُوا

وخيبر وحنين يشهدان له *** وفي قريظة يومٌ صيلمٌ قتمُ

وما قولك: «من هذا» بضائره *** العرب تعرف من أنكرت والعجمُ(1)

(المشرف)

***

التعليقة رقم (7):

قال: إنّ بعض الأخبار التي يدّعون صحّتها لا يخلو عن واحد في سندها مجروح، كما لا يخفى على مَن راجع الكشّي، كزرارة، ومحمد بن مسلم، وهشام بن الحكم، ويونس وغيرهم.

ص: 211


1- . الأغاني: 376/21، طبعة بيروت؛ ومناقب ابن شهر آشوب: 169/4، وقد نقلت هذه القضية في كثير من الكتب التاريخية والأدبية. لاحظ: البيان والتبيين، والعقد الفريد، ومطالب السؤول، وتذكرة الخواص، ونور الأبصار.

أقول: أمّا زرارة - فإنّ أمر المعترض عجيب - فإنّه يذكر ما يوافق هواه، وأمّا ما يخالف هواه فلا يذكر منه شيئاً، وذلك لأنّ ما صدر عن الإمام الصادق عليه السلام في بعض الظروف، من كلام لا يناسب شأن الرجل، فإنّما صدر عنه عليه السلام لحفظ دمه وعرضه، لأنّ الرجل كان وليد بيت كبير ضرب بجرانه الكوفة وأطرافها، وكان معاشراً لأكابر السنّة وحكّامهم وقضاتهم، وكان في بيته من لم يتشيّع بعدُ، وكان أعداء أهل البيت يكنّون العداء لرافع ولائهم، ولوائهم، فأراد الإمام عليه السلام بكلامه هذا صيانة دمه. وقد صرّح الإمام بذلك في كلامه مع ولده الحسين بن زرارة، فقال: «أقرئ منّي على والدك السلام، وقل له إنّي إنّما أُعيبُك دفاعاً منّي عنك، فإنّ الناس والعدوّ يسارعون إلى كلِّ مَن قرّبناه وحمدنا مكانه، لإدخال الأذى في مَن نحبُّه ونقرِّبه، ويرمونه لمحبّتنا له وقربه ودنوّه منّا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله، ويَحمدون كلّ من عبناه نحن، وإن (لم) يُحْمَد أمره، فإنّما أُعيبك لأنّك قد اشتهرت بنا ولميلك إلينا وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا وبميلك إلينا، فأحببت أن أُعيبك ليَحْمِدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ويكون ذلك منّا دافع شرهم عنك. ثمّ تمثّل بآية السفينة التي كانت لمساكين... وقال: لا واللّٰه ما عابها إلّالكي تَسْلَمَ من الملك ولا تُعْطَبَ على يديه، ولقد كانت صالحة ليس للعيب منها مساغ».(1)

إنّ هناك بوناً شاسعاً بين أبي بصير خِصِّيص الإمام الصادق عليه السلام وزرارة ابن أعين، إذ لم تكن لأبي بصير أيّة صلة بالشخصيات البارزة في العراق خصوصاً الحكّام والقضاة، وما كان معروفاً في أوساط العراق، وهذا بخلاف زرارة، فقد كان من رجال العراق ورئيس قبيلة، وكفى في ذلك ما قاله الجاحظ: زرارة بن أعين مولى

ص: 212


1- . رجال الكشّي: 138، برقم 221؛ وسائل الشيعة: 374/30، الفائدة الثانية عشرة. وقد أفاض الكلام في ذلك العلّامة المامقاني، لاحظ: تنقيح المقال.

بني أسعد بن همام، وكان رئيس النميمية.(1) ويصفه أبو غالب من مشايخ الشيعة من أبناء ذلك البيت الرفيع بقوله: إنّ زرارة كان وسيماً، جسيماً، أبيض، وكان يخرج إلى الجمعة وعلى رأسه برنس أسود، وبين عينيه سجادة، وفي يده عصا، فيقوم له الناس سماطين، ينظرون إليه لحسن هيئته، وربّما رجع عن طريقه، وكان خصماً، جدلاً، لا يقوم أحد لحجّته، إلّاأنّ العبادة أشغلته عن الكلام، والمتكلّمون من الشيعة تلاميذه.(2)

وأمّا ورود الذمّ في حقّ محمد بن مسلم، فقد روى الكشّي روايات كثيرة مادحة صدرت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في حقّ محمد بن مسلم منها:

1. روى عبد اللّٰه بن أبي يعفور - من رجال الحديث - قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ويمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه؟ قال: «فما يمنعك من محمد بن مسلم فإنّه قد سمع من أبي وكان عنده وجيهاً».(3)

2. قال الإمام الصادق عليه السلام: «بشّر المخبتين بالجنة...، ومحمد بن مسلم، أربعة نجباء أُمناء اللّٰه على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست».(4)

3. وقال عليه السلام: «إنّ أصحاب أبي كانوا زيناً أحياء وأمواتاً، أعني: زرارة، ومحمد بن مسلم، ومنهم: ليث المرادي، وبُريد العجلي، هؤلاء القوّامون بالقسط، وهؤلاء السابقون السابقون، أُولئك المقربون».(5)

4. روى عبد اللّٰه بن محمد بن خالد الطيالسي، عن أبيه، قال: كان محمد بن مسلم من

ص: 213


1- . رسالة أبي غالب الزراري: 134.
2- . رسالة أبي غالب الزراري: 136.
3- . رجال الكشي: 383/1، برقم 273.
4- . رجال الكشي: 398/1، برقم 286.
5- . رجال الكشي: 399/1، برقم 287.

أهل الكوفة يدخل على أبي جعفر عليه السلام فقال أبو جعفر: «بشّر المخبتين...».(1)

ومع ذلك فإنّ الرجل ألقى الستر على هذه الأحاديث المتضافرة، وأخذ بحديث أو حديثين ورد فيهما الذم، لنفس السبب الذي ذكرناه في حقّ زرارة.

وأمّا هشام بن الحكم فقد ولد بالكوفة (وقيل بواسط)، وقضىٰ بها جُلَّ أيّامه، وتردّد إلى بغداد للتجارة، ثمّ استقرّ بها.

تلمّذ للإمام جعفر الصادق عليه السلام في شتّى صنوف العلوم والمعارف الإسلامية، ثمّ اختصّ بالإمام موسى الكاظم عليه السلام، فأخذ عنه العلم، وروى عنهما وعن: سدير بن حُكيم الصيرفي، وشهاب بن عبد ربه الأسدي، وزرارة بن أعين، وأبي عبيدة الحذّاء، وآخرين.

وبرّز في الفقه والحديث، وألمّ بالتفسير والأدب، وبرع في الكلام.

واستحوذت عليه نزعة الجدل، وذاع صيته في ذلك، لما امتاز به من حدّة الذهن، وحضور الجواب، وعمق التفكير، وسعة الثقافة، وقوّة الحجّة، حتّى صار - في ذلك العصر الحافل بضروب التيارات والاتجاهات والمذاهب - أكبر شخصية شيعية في علم الكلام (على حدّ تعبير أحمد أمين المصري)، ومن فرسان المناظرة المُعْلَمين.

اقتحم المترجم ميادين المناظرة والحجاج، مدافعاً عن الإسلام وعن مذهب أهل البيت، ومفنّداً الشبه المثارة من الزنادقة والفلاسفة وأصحاب الطبائع الثنوية، وناقداً لآراء مختلف المذاهب والفِرق كالمعتزلة والزيدية والخوارج وغيرهم، وكان يخرج من جميع مناظراته منتصراً، الأمر الذي خلق له خصوماً وحسّاداً، نسبوا إليه آراءً منكرة ومقالات فاسدة افتراءً عليه، أو تلبيساً على الناس، أو جهلاً بأساليب المناظرة.(2)

ص: 214


1- . رجال الكشي: 388/1، برقم 278.
2- . مثل أن يُنقل كلامه الذي يورده لمعارضة خصمه، وكأنّه من آرائه الثابتة، ومن الواضح أنّه ليس كلّ مَن عارض بشيء يكون معتقداً به. انظر: المراجعات: 292.

ومثل هذا الرجل لا يخلو من حُسّاد ينسبون إليه ما هو بريء منه.

ثمّ إنّ هذه الروايات الذامّة لأكبر شخصيات الشيعة، قد صدرت لحفظ أرواحهم وقد صرّح بذلك الإمام الصادق عليه السلام كما مرّ، ومع ذلك لا ينبغي للباحث الواعي أن يتّخذها سنداً لآرائه.

وقد حقّق شيخنا العلّامة الحجّة (عبد اللّٰه نعمة) واقع هذه الروايات فمَن أراد التحقيق فليراجع كتابه المسمّى ب «هشام بن الحكم» والمطبوع في بيروت.

وأمّا يونس بن عبد الرحمن فقد روى الكشي، وقال:

1. حدّثني علي بن محمد القتيبي قال: حدّثني الفضل بن شاذان قال: حدّثني عبد العزيز بن المهتدي - وكان خير قمّي رأيته وكان وكيل الرضا عليه السلام وخاصته - قال: سألت الرضا عليه السلام فقلت: إنّي لا ألقاك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال: «خذ عن يونس بن عبد الرحمن».

2. حدّثني علي بن محمد القتيبي قال: حدّثني الفضل بن شاذان قال: حدّثني محمد بن الحسن الواسطي وجعفر بن عيسى ومحمد بن يونس أنّ الرضا عليه السلام ضمن ليونس الجنة ثلاث مرّات.

3. حدّثني علي بن محمد القتيبي عن الفضل قال: حدّثني جعفر بن عيسى اليقطيني ومحمد بن الحسن جميعاً أنّ أبا جعفر عليه السلام ضمن ليونس بن عبد الرحمن الجنة على نفسه وآبائه عليهم السلام.

4. حدّثني جعفر بن معروف قال: حدّثني سهل بن بحر قال: حدّثني الفضل بن شاذان قال: حدثني أبي الخليل الملّقب بشاذان قال: حدّثني أحمد بن أبي خلف عن أبي جعفر عليه السلام قال: كنت مريضاً فدخل عليَّ أبو جعفر عليه السلام يعودني عند مرضي، فإذا عند رأسي كتاب يوم وليلة، فجعل يتصفح ورقه حتى أتى عليه من أوّله إلى آخره

ص: 215

وجعل يقول: «رحم اللّٰه يونس، رحم اللّٰه يونس، رحم اللّٰه يونس».(1) إلى غير ذلك من الأحاديث المادحة، ومنه يعلم أنّ بعض ما ورد من الروايات، إمّا مكذوب، أو محمول على التقية. (المشرف)]

***

ص: 216


1- . رجال الكشي: 410، برقم 351.

6- جواب شيخ الشريعة عن رسالة الآلوسي الثالثة

اشارة

بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّٰه ربّ العالمين، وأفضل صلواته وتسليماته على أفضل أنبيائه محمد وآله الطاهرين.

وبعد فقد وصلت إليّ أوراق من بعض أهل سنّة بغداد جواباً عمّا كتبته في حلّ ما عرض له من الإشكال وبعث إليّ من السؤال، فرأيته قد أطنب وأطال، وانتقل من مقال إلى مقال، لتوسيع دائرة الجدال بحيث كان التعرّض لإفساد جميع كلماته محتاجاً إلى تجديد البحث عن جميع المسائل المتعلّقة بالإمامة بمقدّماتها وذيولها وفروعها وأُصولها، وقد بذل الفريقان في هذه السنين المتطاولة غاية مجهودهم في هذه الأُمور، ولا أرى فائدة مهمة في إعادة البحث وتجديد المقال، فإنّ الشبهة إذا استحكمت ورسخت ونشأ عليها الإنسان من أوّل صباه وشاهد عليها آباءه وأقرباه، لم يرج الرجوع عنها بدليل وبرهان، كما هو المشاهد في المتعصّبين من جميع الملل والأديان، وإنّما ينجع الدواء إذا لم يستحكم الداء، غير أنّي أذكر جملاً مختصرة في ضمن فصول:

ص: 217

الفصل الأوّل: خلاف الشيعة مع السنّة لا يتعدّى الخلاف بين المذاهب الأربعة

إنّ ما يشاهد من كثير من أهل السنّة من كثرة التعنّت والمشاحنة والمباغضة مع الإمامية ممّا لا ينبغي بعد إعمال شيء من الإنصاف، حيث إنّ اختلاف الطائفتين في الفروع لم يعلم زيادته على الخلاف الواقع بين الحنفية والشافعية وأمثالهم، ولو لم يكن إلّاقضية الصلاة التي صلّاها القفّال المروزي(1) في ذلك المحفل العظيم بمحضر مثل ذلك السلطان الجليل وأتباعه وحواشيه لكفى.(2)

ص: 218


1- . هو أبو بكر عبد اللّٰه بن أحمد بن عبد اللّٰه القفّال المروزي (327-417 ه) كان حاذقاً في صنعة الأقفال، فلما بلغ الثلاثين من عمره أقبل على دراسة الفقه، وبرع في مذهب الشافعي، حتى صار رأساً فيه، وهو صاحب طريقة الخراسانيين في الفقه. توفّي سنة سبع عشرة وأربعمائة ودفن بسجستان، وقبره بها معروف يزار. موسوعة طبقات الفقهاء: 192/5 برقم 1870.
2- . هذه الحادثة وقعت في زمان السلطان محمود بن سبكتكين (المتوفّى 433 ه) ونقلها ابن خلّكان عن إمام الحرمين عبد الملك الجويني أنّ السلطان محموداً كان على مذهب أبي حنيفة وكان مولعاً بعلم الحديث... وكان يستفسر عن الأحاديث فوجد أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي فوقع في خلده حكمة فجمع الفقهاء من الفريقين في مرو والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتّفاق على أن يصلّوا بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي وأبي حنيفة... فصلّى القفال المروزي بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة من الطهارة والسترة واستقبال القبلة وأتى بالأركان والهيئات والسنن... على وجه الكمال والتمام وقال: هذه صلاة لا يجوّز الشافعي دونها. ثمّ صلى ركعتين على ما يجوّز أبو حنيفة فلبس جلد كلب مدبوغاً ولطخ ربعه

وقال الفخر الرازي(1): إنّ ترك الصلاة أهون بكثير من هذه الصلاة المشتملة على هذه الفضائح، وقال من فعله ما(2) قال المسلمون: إنّه ملحد مستخف بالدين والشرع.(3)

ولو رام أحد استقصاء طعون الطائفتين بعضهم في بعض لتعسّر عليه في زمان يسير. وأمّا الاختلاف في الأُصول بين الأشعرية(4)

ص: 219


1- . هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، أبو عبد اللّٰه فخر الدين الرازي المفسّر الأُصولي (544-606 ه) أصله من طبرستان ومولده في الري وإليها نسبته، له تصانيف كثيرة منها: مفاتيح الغيب، المحصول في علم الأُصول، ومعالم أُصول الدين وغيرها. الأعلام: 313/6.
2- . ليس في «ح».
3- . قاله الفخر الرازي في رسالته في ترجيح مذهب الشافعي. لاحظ: استخراج المرام من استقصاء الإفحام للميلاني: 388/3.
4- . الأشعرية هم أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعري (260-324 ه) وهومن أحفاد أبي موسى الأشعري أحد الحكمين في يوم صفين، ولذلك اشتهر بالأشعري منتسباً إلى جدّه الأعلى. كان معتزلياً ثم رجع عن الاعتزال وقام بالرد عليهم ونصر أهل الحديث والسنّة، وقد امتاز عن أهل الحديث باستحسان الخوض في المسائل الكلامية والاستدلال بالدليل والبرهان والآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ثمّ إنّ مذهبه لم يكن رائجاً بين الناس

والمعتزلة(1) والماتريدية(2) والكرّامية(3) وما وقع من كلّ منهم من تبديع الأُخرى وتضليلها فممّا اتّضح واشتهر، وصار أشهر من كفر إبليس وإيمان سلمان، وذكر الغزالي(4) أنّ الأشعرية تكفّر الحنبلية، والحنبلية تكفّر

ص: 220


1- . المعتزلة مدرسة كلامية فكرية عقلية أعطت للعقل القسط الأوفر. ومؤسّس هذا المذهب هوواصل بن عطاء (80-131 ه) تلميذ الحسن البصري. اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة هي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فمن دان بهذه الأُصول فهو معتزلي ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم. ولمزيد الاطّلاع على أُصولهم وعقائدهم راجع «المذاهب الإسلامية» للسبحاني: 92.
2- . الماتريدية هم أصحاب أبي منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي (المتوفّى 333 ه) والماتريدي نسبة إلى ماتريد قرية من قرى سمرقند، ناصرَ السنّة وكافح المعتزلة في أقصى الشرق الإسلامي (ماوراء النهر) متقلّداً رأي أبي حنيفة في الفقه والعقائد والكلام. بينهم وبين الأشاعرة اختلاف في بعض المسائل كمسألة التكوين وغيرها. وللاطلاع على أُصولهم وعقائدهم راجع كتاب: «المذاهب الإسلامية» للسبحاني: 61.
3- . الكرامية فرقة منسوبة إلى محمد بن كرّام السجستاني (المتوفّى 255 ه) الذي قال عنه الذهبي: ساقط الحديث على بدعته...، وقال عنه ابن حبان: خذل حتى التقط من المذاهب أردأها... وكانت الحركة الكرامية حركة رجعية بحتة حيث دعا أتباعه إلى تجسيم معبوده وأنّه جسم له حدّ ونهاية من تحت والجهة التي منها يلاقي عرشه. ولهم آراء وعقائد غريبة. راجع بحوث في الملل والنحل للعلّامة السبحاني: 201/3-203.
4- . هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزّالي (450-505 ه) ولد في الطابران - وهي قصبة من قصبات طوس - وتوفّي فيها. رحل إلى نيسابور ثم إلى بغداد فالحجاز فبلاد الشام فمصر، وعاد إلى بلدته. نسبته إلى صناعة الغزل عند مَن يقول بتشديد الزّاي، أو غزالة (من قرى طوس) لمن قال بالتخفيف. صنّف كتباً كثيرة منها: المستصفى في أُصول الفقه (مطبوع)، إحياء علوم الدين (مطبوع)، تهافت الفلاسفة (مطبوع) وغيرها. الأعلام: 22/7.

الأشعرية.

وأمّا الوهابيّة فالمعترض في غاية المعرفة بعقائدهم ومقالاتهم وحكمهم بأنّ المسلمين علماءهم وجهّالهم كفّار مشركون من ستمائة سنة أو سبعمائة قبل هذا إلى الآن، وأنّ شركهم أسوأ من شرك مشركي قريش(1)، وأنّ دماءهم وأموالهم وأعراضهم مباحة لمن جاهدهم، وهو يدري أنّ الشيعة عمدة مخالفتهم مع أهل السنّة في مسألة الخلافة والإمامة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وهم مع ذلك قائلون بخلافة أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بلا فصل بالمعنى الّذي يريده أكثر أهل السنّة من الخلافة من الرئاسة والإمارة على المسلمين لتجهيز الجيوش وقود العساكر وجباية الأموال وسياسة المدن وأشباه ذلك.

ولا يشترط عند أهل السنّة فيها العصمة، ولا النصّ من اللّٰه ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم، ولا كونه أفضل رعيّته، بل ولا معرفته ببعض واضحات الأحكام الدينية، فيجوّزون عليه الجهل(2) بمثل حكم التيمّم المنصوص في القرآن مرّتين، ويقولون في كتبهم الكلامية: إنّه ينعقد مثل هذه الخلافة بأحد أُمور ثلاثة، منها: الاستيلاء القهري على المسلمين، وأي شيعي ينكر مثل هذه الخلافة للخلفاء المشهورين؟!

ص: 221


1- . لاحظ: كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب: 27/1، الفصل الحادي عشر (إثبات أنّ شرك الأوّلين أخف من شرك أهل زماننا، نشر وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، السعودية - 1418 ه (ضمن مجموعة كتب من موقع الإسلام كما في المكتبة الشاملة).
2- . إشارة إلى ما ثبت في صحاحهم عن عمر بن الخطاب من ذهابه إلى أنّ المجنب في السفر إذا لم يجد ماءً ترك الصلاة حتى يجده وإن امتدّ سنّة وكان مصراً على هذا القول وردعه عمّار فلم يرتدع. وسيأتي في الفصل السابع بعض ما يتعلّق به. (منه قدس سره).

فهذه حال الشيعة مع السنّة في أُصولهم وفروعهم، وهم مع ذلك مأمورون من أئمّتهم عليهم السلام بموادّة أهل السنّة ومخالطتهم ومجاملتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم، وقد تأكّد هذا الأمر في زماننا هذا بإظهار المحبّة والمودّة والأُخوة والمساواة والمواساة حتى يكونوا يداً واحدة على مَن يعاندهم ويكذّب نبيّهم ويسبّه ويشتمه، ولا يصلي إلى قبلتهم ويستهزئ بدينهم، ويبذل غاية مجهوده في محو شعائر الإسلام والإيمان وإبطال الصلاة والأذان والقرآن، فأي فائدة تصوّرها المعترض في تجديد البحث والجدال وإثارة الفتنة وتكثير القيل والقال؟ فهل يزعم أنّ الشيعة يرجعون عمّا اعتقدوه من مسائل خلافهم بمجرّد هذه المموهات التي أخذها المعترض وقلّد فيها ابن تيمية وصاحب التحفة؟! بل كان المناسب له حين شرع بعد هذه السنين المتطاولة لمكاتبة علماء النجف الأشرف أن يسلك غير هذا المسلك، وينحو سوى هذا المنحى.

ص: 222

الفصل الثاني: قلّة بضاعة الآلوسي في العلم والأُصول

اشارة

إنّي لا أنكر فضل هذا المعترض واطّلاعه على كثير ممّا يلائم مذهبه أو ينافره، إلّاأنّ هذه الأوراق التي بعثها وأرسلها إذا وقعت بيد غيري فلربّما استدلّ بها على قلّة بضاعته في العلم، وبعده عن النظر والغور والتحقيق، وإفناء عمره في مطالعة المشاغبات والجدليات والخطابيات، وتوسّعه في العرض(1)، وحرمانه من الغور والعمق واستقامة الفهم، ومجانبته عن الإنصاف والوصول إلى جلائل المطالب فكيف بدقائقها، وها أنا أُنبّه على يسير من كثير ما ربّما يستدلّ به على هذه الأُمور ممّا هو معلوم من ملاحظة هذه الأوراق القليلة.

فأقول: يدلّ على معرفته بالعربيّة وجودة فهمه في استنقاذ المقاصد من العبارات وتفطّنه لدقائق الإشارات بعد ملاحظة كثرة لحنه فيما لفّقه من الكلمات وتعبيراته الغثة الرخوة السمجة الباردات إنّي ذكرت في آخر الرسالة ما نصّه: «إنّه لو وفّق لمطالعة بعض المجلدات الكثيرة المتعرّضة لرد التحفة المسروقة من الكابلي، لما بقي مقلّداً لكلماته مفتخراً بإفاداته»، وهو قد فهم لجودة إدراكه وشدّة أُنسه بالعربية أنّ الكابلي رجل من علماء الشيعة صنّف كتاباً في الردّ على أهل السنّة متضمّناً لأجوبة اعتراضاته، فكتب في جوابه ما لفظه: «وأمّا كتاب الكابلي فلم نعثر عليه، وإذا كان الكابلي قد أجاب

ص: 223


1- . في «م»: الغرض.

عن الاعتراضات التي اعترضناها عليه، فنطلب منه أن يأمر الكاتب يكتب أجوبة اعتراضاتنا عليه». فلينظر العاقل إلى هذه العبارة وليتعجّب من معرفته بمفاد العبارات، ومن اطّلاعه على الكتب والمصنّفات، وليكن أحد علماء نحلته حكماً بينه وبيني فيما فهمه من هذه العبارة، هل يراه ممّا يخفى على مَن قرأ الأُجرومية أو قطر الندى؟! ولعلّه صرفه عن صريح العبارة من كون كتاب الكابلي أصلاً لكتاب التحفة ما يعلمه من علو(1) أهل كابل في التشيّع!!

ثم أقول: هب إنّه لم ير كتاب الكابلي لكن كون التحفة منتحلة مسروقة من كتاب الكابلي ممّا شاع وذاع وقرع الأسماع وملأ الأصقاع، وقد صنّفت كتب كثيرة وطبعت في ردّ التحفة،(2) وذكروا عبارات التحفة في المتن وطبعوا في هامشها عبارات «صواقع» الكابلي توضيحاً لأخذها وانتحالها منها.(3)

ادّعاء الآلوسي بأن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بلّغ شرطاً من الأحكام!!

ويدلّ على مهارته في أُصول الفقه ما يأتي منه في قوله تعالى: «أَطِيعُوا

ص: 224


1- . في «ح»: غلو.
2- . لمّا انتشر كتاب «التحفة» أخذ غير واحد من العلماء بالنقد عليه، وأوّل من ردّ عليه السيدالجليل السيد دلدار، ثم جاء بعده إمام التحقيق والنقد السيد ميرحامد حسين فألّف كتاباً أسماه «عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار» في عدّة مجلدات، وشيخ الشريعة يُريد بكلامه: «لو وفّق لمطالعة بعض المجلدات الكثيرة»، هو «عبقات الأنوار»، ومن بواعث السرور أنّ كتاب «العبقات» ترجم إلى اللغة العربية في عشرين جزءاً، فعلى المؤلّف والمترجم آلاف الثناء والتحيّة.
3- . راجع كتاب تشييد المطاعن لكشف الظغائن للسيد محمد قلي كنتوري لكهنوي (المتوفّى 1260 ه): 168. والكتاب باللغة الفارسية.

اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ».(1) * وما عرضَ له هناك من الغفول والذهول.

ويدلّ أيضاً على تبحّره في فن الأُصول أنّه ذكر أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بلّغ شطراً من الأحكام وأحال الباقي إلى ما دلّ عليه خبر الواحد والقياس وأصل البراءة، فالحلال ما أحلّه الخبر والقياس والأصل؛ فقلت: إنّ هذا الكلام بظاهره من التصويب الباطل الذي فرغنا عن وجوه خلله وفساده في الأُصول، أو يؤدّي على بعض التقادير إلى اجتماع النقيضين أو الضدّين أو المثلين أو اجتماع المصلحة والمفسدة من غير كسر وانكسار؛ وذكر في جواب هذا الكلام: «انّ ما ذكره من أنّ العمل بخبر الواحد يستلزم التصويب ممّا لا يستحقّ جواباً كيف وعملهم اليوم على أخبار الآحاد الضعيفة المتعارضة؟!»

فأقول له: أوّلاً: متى ذكرت هذا، وفي أي مكان أو كتابة أو رسالة؟!

وثانياً: إنّ التصويب معنى لا يرتبط بالعمل، كما هو واضح على المتبدئين، فإن لزم كان لازماً عمل بالخبر أو لم يعمل، وإن لم يلزم لم يتّجه أيضاً عمل أو لم يعمل.

وثالثاً: نوضح له الإشكال بعض التوضيح ثم نطالبه بأن يجيب تفضّلاً وإن كنّا غير مستحقّين.

فنقول: إذا كان الحلال والحرام الذي أتى به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو ما دلّ عليه الخبر والقياس، فإذا دلّ الخبر مثلاً عند أحد على الإباحة أو الاستحباب أو الوجوب في واقعة من الوقائع في زمان، فهل لهذه الواقعة مع قطع النظر عن

ص: 225


1- . النساء: 59؛ النور: 54؛ محمد: 33.

مدلول الخبر، حكم في الواقع ونفس الأمر أو لا؟

فإن كان الثاني لزم التصويب وكون الحكم تابعاً لرأي المجتهد وظنّه، وتبدّله باختلاف ظنون نفسه وباختلاف ظنونه مع ظنون غيره، ومفاسد التصويب كثيرة إن لم يسمع بها لعدم اشتغاله بأمثال هذه المطالب وشاء معرفتها عرّفناه بها.

وإن كان الأوّل فإن فرضنا أنّ الحكم في الواقع هو التحريم، ودلّ الخبر على الوجوب أو العكس، فإن اعتقد تبعاً لشيخيه ابن تيمية وابن القيّم أنّ الأحكام الشرعية ذوات مصالح ومفاسد في نفس الأمر مقتضية لها؛ فإن التزم بوقوع الكسر والانكسار بين مصالح الحكم الواقعي والحكم الذي دلّ عليه الخبر، لزم أن تكون الواقعة لا واجبة ولا محرّمة، بل مباحة مثلاً، وهو خلاف الحكمين؛ وإن لم يلتزم بوقوع الكسر والانكسار، لزم المحال المشار إليه في تلك العبارة، وإن لم يعتقد أنّها ذوات مصالح ومفاسد، لزم كون الواقعة جامعة لحكمين متناقضين أو متضادّين، إن كانا مختلفين، أو جامعة لمثلين إن كانا متّحدين، فليتفضّل بالجواب على مَن لا يستحق!!

ورابعاً: كيف لم يتنبّه لقولي: «وتصحيح الأحكام الظاهرية عندنا على وجه لا يخطر على بال مثله» فإنّه بصريحه يدلّ على عملنا بما دلّت عليه أخبار الآحاد، وأنّه صحيح عندنا وإن لم نعرّفه وجه التصحيح.

ويدلّ على كثرة اطّلاعه قوله وإسناده إلي في بعض ما أوردت عليه أنّي أخذت تلك العبارة من السيد نور اللّٰه التستري رحمه الله في «نهج الحق» فما أدرى أيّهما أعجب إسناد «نهج الحق» إلى السيد نور اللّٰه، أو إسناد أخذي لما

ص: 226

رآه في تلك الرسالة من ذلك السيد الأيِّد(1)؟!

ويدلّ على ورعه وصدق لهجته وصحّة نقله أُمور:

منها: ما ابتدأ به في مطلبه الثاني، وسيأتي أنّه كذب في سطرين خمس كذبات!!

الشيعة ليس عندهم خبر جامع لشرائط الصحّة!!

ويدلّ على تفطّنه للغوامض والنكات ممّا لا يتنبّه لها إلّامَن هو في طبقته أنّه قال: «مَن لاحظ كتاب الكشي ثم راجع الوسائل وجد أنّه ليس عند الإمامية خبر جامع لشرائط الصحّة» وبعد أن أنكرت عليه هذا السلب الكلّي وقابلته بإحالة المنصف(2) إلى ما كتبوه في أحوال مَن تنتهي إليه رواياتهم قال في الجواب: «إنّي راعيت في العبارة نكتة لم تتنبّهوا لها» وشرح النكتة الدقيقة التي ما تنبّهت لها بأنّ الغرض ملاحظة الطعون المذكورة في الكشي في حقّ الرواة ثم ملاحظة أسانيد الوسائل وعدم خلوّها عن المطعونين، فليتعجّب العاقل ولينظر، هل يفهم أحد من هذه العبارة غير هذا المعنى؟! وهل أعمل هو فيها نكتة لطيفة أو دقيقة طريفة، وما ذلك إلّالأنّ أمثال هذه البديهيّات تعدّ عنده من طرائف النكات.

الآلوسي يكذّب جميع الأخبار الدالّة على وجوب وجود الإمام

ويدلّ على خلوّه من الاعوجاج والعصبيّة وسلامته من الأمراض

ص: 227


1- . أيد: الأيْد والآد جميعاً القوة، قال سبحانه: «وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ» (سورة ص: 17) أي ذا القوة، ورجل أيِّد بالتشديد أي قويّ. لسان العرب: 76/2، مادة «أيد».
2- . في «م»: المصنف.

النفسانية والأهواء الرديّة أنّه ذكر أنّ الأخبار الدالّة على وجوب وجود إمام منصوب للتبليغ في كلّ عصر لو جمع الموجود منها في كتاب البحار خاصّة لزيدت على المجلد التاسع منه(1) ومع ذلك فهي كلّها مكذوبة!! وهل يجوّز مَن لم يكن مريض القلب مطبوعاً مختوماً أن تكون هذه الأخبار الواردة في أعصار مختلفة عن رواة غير محصورين بطرق لا تحصى كلّها كذباً واختلاقاً؟! وإنّي وإن كنت اعتقد في جملة من أهل السنّة أنّهم معذورون، لكنّي لا أعذر هذا المعترض ممّن وصلت إليه تلك الروايات والأدلّة، واتّضحت لديه المحجّة، وتمّت عليه الحجّة، وأمثال هذه كثيرة في هذه الأوراق اليسيرة، وسيأتيك نبأ بعض منها في الفصول الآتية إن شاء اللّٰه تعالى، وإن كان هذا النموذج كافياً في معرفته بالعربية وجودة فهمه في فهم المقاصد، ومهارته في فن الأُصول، واستقامة فهمه واعتدال ذهنه، واطلاعه على المصنّفين والمصنّفات، وتفطّنه للدقائق والنكات، وكثرة تورّعه وصدقه فيما يذكره من المنقولات، فلو أنّه مع هذا التبحّر العظيم واجتماع خلال الفضل، ترك التعرّض للإمامية وإبطال مذهبهم وخلّاهم على ما هم فيه وعليه ففاتته هذه المنقبة لم يضرّه شيء!! ويعجبني ما قيل بالفارسية:

قد خم، موى سفيد، اشك دمادم يحيى *** تو بدين هيئت اگر عشق نبازى چه شود(2)

ص: 228


1- . المجلد التاسع حسب ترتيب صاحب البحار ويقابله الأجزاء: 35-42 من المطبوع في بيروت، مؤسسة الوفاء.
2- . هذا البيت للشاعر يحيى اللاهيجاني (المتوفّى 953 ه)، والذي يخاطب نفسه بأنّه بهذا الظهر المنحني واللحية البيضاء، والدموع المتسايلة، هل يبقى لك مطمع بالعشق. (لاحظ: مجمع الخواص: 184؛ رياض العارفين: 238؛ لغت نامه دهخدا: 155/50).

الفصل الثالث: مسألة الإمامة عند الشيعة

اشارة

إنّ مذهب الإمامية - شيّد اللّٰه تعالى أركانهم - في مسألة الإمامة معروف، يعلمه منهم كلّ مؤالف ومخالف، فيعتقدون أنّ الخليفة بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم الّذي استخلفه وأوصى إليه وأودع علومه عنده ونصّ عليه يوم الغدير وأوجب على الناس فرض طاعته هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبعده الحسن، ثم الحسين عليهما السلام، إلى أن ينتهي إلى الإمام الثاني عشر صلوات اللّٰه عليهم.

ويعتقدون أنّ كلّ واحد نصّ على الآخر، وأنّه جرت على يدي كلّ واحد بواهر الكرامات، وتواتر عن كلّ واحد دعواه الإمامة وخلافة النبي صلى الله عليه و آله و سلم لنفسه، وكان لكلّ منهم في عصرهم أتباع وشيعة يعتقدون فيهم هذا المعنى ويدّعونه لهم، وهم لم يمنعوهم عنه، بل قرّروهم على ذلك، وأكّدوا ذلك الاعتقاد فيهم بالأقوال والأفعال.

ويعتقدون أنّهم معصومون عن الكبائر والصغائر من أوّل عمرهم إلى أن فارقوا الدنيا.

هذا الذي ذكرنا هو الّذي يشترك فيه كلّ الإمامية، ولا يتفاوت في القول به كون اللطف واجباً على اللّٰه تعالى أو لا، وكون عصمتهم واجبة أم لا، بل واقعة من باب الاتّفاق، فيكون أمير المؤمنين عليه السلام منصوباً منصوصاً عندهم ككون النبي صلى الله عليه و آله و سلم مبعوثاً من اللّٰه تعالى عند أهل الإسلام في أصل الوقوع؛ فإنّ أهل السنّة منهم وإن لم يقولوا بوجوب البعثة على اللّٰه تعالى من باب إنكار

ص: 229

وجوب شيء من الأشياء عليه تعالى أصلاً، إلّاأنّهم لا ينكرون البعثة، وأنّه وإن لم يجب لكنّه وقع؛ وكذلك النصّ على أمير المؤمنين عليه السلام عندنا بالروايات المتواترة المروية في كتب الفريقين التي عقدوا مجلدات كثيرة مبسوطة في سندها ودلالتها ودفع ما يتوهّم من الجواب عنها، ولهم طرق كثيرة في إثبات هذا المعنى لو لم يكن عين ولا أثر من قاعدة اللطف في الدنيا لم يضرّها، ولذا أنكر صحّة التمسّك بها بعضهم، واستشكل فيها آخر، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في الرسالة السابقة، فما هذه السماجة الباردة والإصرار على التكلّم في قاعدة اللطف؟! وما الداعي إليه إلّاالفرار عن محلّ النزاع والقيام في بعض ما بنى بعض الإمامية بعض أدلّتهم عليه، وهل ذلك إلّا لتغليط العوام ومن يضارعهم من منتحلة العلم؟!

كلام في قاعدة اللطف

ثم إنّه ينبغي أن يعلم أنّ صحّة أصل قاعدة اللطف غير صحّة الاستدلال بها في بعض الموارد، فكم من قواعد صحيحة متقنة يقينيّة لا يصحّ الاستدلال بها في بعض الجزئيات للشكّ في اندراجها تحتها وكونها من صغرياتها، أو للعلم بعدم شمولها لها.

فقولنا: «سؤر المؤمن الكامل شفاء» بعد ثبوت هذا المعنى بطريق صحيح، لا ينافي صحّته عدم إمكان الاحتجاج به في شيء من أفراد السؤر في عصرنا مثلاً، لعدم العلم بأنّه مؤمن كامل.

وكذا قول الطبيب الحاذق: «استعمال الروادع نافع أو شرب القوابض مضرّ» لا ينافي صحّته عدم الجزم بمعرفة شيء من الروادع والقوابض.

ص: 230

والحال في قاعدة اللطف أيضاً كذلك فإنّ أصل القاعدة لا ينبغي لعاقل إنكارها، إذ بعد ثبوت تعلّق الغرض بشيء على وجه الإطلاق وملاحظة كون بعض الأشياء مقرّباً إلى امتثاله ومبعّداً عن مخالفته ووجود المقتضي لذلك الشيء وعدم المانع عنه بالنسبة إلى القابل والفاعل وغيرهما، وكونه بحيث لو فات، فات الغرض يحكم العقل على وجه الضرورة بوجوب الإتيان بذلك الشيء على الآمر الذي تعلّق غرضه بذاك، إلّا أن يتعلّق غرضه بالوجود على وجه خاص، أعني: بالوجود من غير اقتران بذلك المقرب وإلّا كان ناقضاً لغرضه، ونقض الغرض ممّا لا يقدم عليه الحيوان فكيف بالإنسان؟! فهل ترى الطيور تهدم أوكارها، والبهائم العجم تألف مضارّها؟! إلّاأنّ إحراز صغرى هذه القاعدة ممّا يتعسّر جدّاً، لعدم إحاطة العقول المتعارفة بمصالح الأشياء ومفاسدها غالباً وعدم معرفتها بمقتضياتها وموانعها ممّا يتعلّق بنظام ذلك الأمر الشخصي أو النظام الكلّي.

ما هو المراد من قاعدة اللطف؟

ولذلك قال بعض أكابر الإمامية(1) (قدّس اللّٰه تعالى روحه): إنّ مرادهم باللطف ووجوبه هل هو وجوبه عليه مطلقاً من غير اشتراط بوجود المقتضي من جانب القابل، أو عدم الموانع التي من جهة القابل، أو عدم الموانع الخارجة(2) عنه، أو يشترط بذلك؟

فإن أرادوا الأوّل فهو بديهي الفساد ضرورة اشتراط تحقّق كلّ شيء

ص: 231


1- . القائل هو المحقّق النراقي أحمد بن محمد مهدي (المتوفّى 1245 ه) في كتابه «عوائد الأيام».
2- . في المصدر: الخارجية.

بوجود المقتضي ورفع المانع(1)؛ ولأنّه أي دليل دلّ على وجوب مثل ذلك عليه سبحانه، بل مع عدم المقتضي أو وجود المانع لا يكون ذلك لطفاً، مع أنّ هذا ممّا يكذبه المشاهدة والعيان، فإنّ من الأُمور ما يدعون القطع بكونه أو مثله لطفاً، ومع ذلك لم يقع ولم يتحقّق في الخارج، ويسندون عدمه إلى المانع، ولذا قال المحقّق الطوسي(2) في التجريد: وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر، وعدمه منّا.(3)

وإن أرادوا الثاني، أي يجب اللطف عليه بشرط وجود المقتضي في كلّ فعل وانتفاء الموانع الداخلية والخارجية فلا تفيد لنا هذه القاعدة في مقام أصلاً؛ لأنّ الحكم بمقتضاها والاستناد إليها في كلّ مورد يراد موقوف على علمنا بالمقتضيات وانتفاء جميع الموانع، وهو موقوف على إحاطتنا التامّة بذوات الأشياء والأفعال وحقائقها وجميع الأُمور الداخلية والخارجية الحسّية والمعنوية، مع أنّا نرى من المقتضيات والموانع ما(4) لا يمكن دركه لنا، فإنّا نرى أنّهم يقولون: إنّ التكليف لطف ويثبتونه للذكر بتمام خمسة

ص: 232


1- . في المصدر: الموانع.
2- . هو الخواجه نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الجهرودي القمي الطوسي (597-672 ه) الفيلسوف المحقّق، أشهر علماء القرن السابع وأشهر مؤلفيه، قال تلميذه العلّامة الحلّي: كان أفضل أهل زمانه في العلوم النقلية والعقلية. له مصنّفات كثيرة تناهز المائة والأربعة ثمانين ما بين كتب ورسائل وأجوبة مسائل في فنون شتّى وله شعر كثير بالفارسية. توفّي ببغداد في يوم الغدير ودفن في جوار مرقد الإمامين الكاظمين عليهما السلام. راجع موسوعة طبقات الفقهاء: 243/7 برقم 2589.
3- . كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 184، قسم الإلهيات، تحقيق السبحاني. ولاحظ كشف المراد: 491، تحقيق حسن زاده الآملي.
4- . في المصدر: ممّا.

عشر عاماً من سنّه دون خمسة عشر إلّانصف يوم أو ساعة، فما الذي يدرك أنّه مقتض لذلك اللطف في تمام خمسة عشر ولا يقتضيه في نصف يوم قبله؟ و(1) ما المانع منه في الثاني دون الأوّل؟ وما المقتضي لهذا اللطف في الأُنثى في تسع سنين دون الذكر؟ وما المانع منه في الثاني دون الأوّل؟ انتهى ما أردنا نقله.(2)

إشكالات أُخرى للآلوسي على قاعدة اللطف

ثمّ شرع في إشكالات أُخر على هذه القاعدة ونقوض كثيرة تربو وتزيد على ما ذكره هذا المعترض.

أقول - ومن اللّٰه التوفيق -: إنّ من الأُمور التي يتراءى كونها ألطافاً ما لم يقع في الخارج؛ كالتوسعة على الفقراء والمحتاجين وإنالتهم ما يتمنون، واستجابة كثير من الدعوات، وابتلاء العاصي دائماً بالآلام والمصائب، وتنعم كلّ مطيع، وعصمة جميع الناس عن القبائح، وإلجاء الكلّ إلى الإيمان ظاهراً وباطناً وأشباه ذلك، ولم نعلم أنّ عدم وقوعها لفقد المقتضيات، أو وجود الموانع بالنسبة إلى الأشخاص أو النوع أو النظام الكلّي.

ومن الأُمور ما وقع ولم نعلم وجه المصلحة في وقوعه، كإيلام الأطفال والمجانين والبهائم.

ومنها ما وقع وعلمنا بالعقل أو السمع أو كليهما وجوه المصالح فيه وانتفاء المفاسد عنه، كبعث الأنبياء بالشرائع والأديان، والأنبياء الذين ليس لهم شرع وكتاب يدعون إلى شرع من قبلهم، ونصب الأوصياء لهم بتعيين

ص: 233


1- . في المصدر: أو.
2- . عوائد الأيام: 707-708.

وأمر من اللّٰه سبحانه.

وعرفنا بضرورة العقل جملة من وجوه المصالح في وجودهم ونصبهم وتأييدهم بالمعجزات والبراهين، وقد أعلمنا اللّٰه تعالى أنّه ينقطع بهم حجّة الناس فلا يمكنهم أن يقولوا: «لَوْ لاٰ أَرْسَلْتَ إِلَيْنٰا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيٰاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزىٰ».(1) كما عرفنا انتفاء جميع وجوه المفاسد عنها بعد استمرار وجوده في أُلوف من السنين، ففي مثل هذا الأمر ربّما يجزم العقل بأنّ وجود مثل هذا الشخص في كلّ عصر، سواء سُمّي نبيّاً أو وصيّاً أو إماماً، كان ذا شرع جديد أم لا، هو من اللطف الواجد للمقتضي الفاقد للموانع الشخصية والنوعية.

وقد عرفت أنّ أصل القاعدة أعني: وجوب وجود ما يقرّب إلى الغرض المقصود بعد إحراز وجود المصالح والمقتضيات فيه وانتفاء جميع الموانع عنه، وبعد إحراز أنّ الغرض لم يتعلّق بخصوص صورة، فقد مثل هذا الشيء من بديهيات العقل المستقيم، وإنّما التأمّل والإشكال في إحراز الصغرى وبعد إحرازها لا يبقى إشكال، فمن هنا صحّ للإمامية دعوى كون وجود الإمام بالمعنى الّذي يدعونه لطفاً، وأنّه واجب بمعنى أنّ الإخلال به مخالف للحكمة، بل ربّما يجزم العقل ويحدس حدساً ضرورياً بملاحظة ما دون ذلك؛ كما قال الشيخ الرئيس(2) في «الشفاء» في مقام إثبات وجوب

ص: 234


1- . طه: 134.
2- . هو أبو علي الحسين بن عبد اللّٰه بن سينا، الفيلسوف الرئيس (370-428 ه) صاحب التصانيف في الطب والمنطق والإلهيات. أصله من بلخ ومولده في إحدى قرى بخارى، نشأ وتعلّم بها وطاف البلاد وناظر العلماء، واتّسعت شهرته وتقلّد الوزارة في همذان وثار عليه عسكرها

بعثة الأنبياء عقلاً بعد أن شرح كون الإنسان مدنياً، وأنّ قوام تحصّلهم وبقائهم بمَن يسنّ لهم سنّة عدل لا يتعدّون عنها ما لفظه:

إنّ الحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الإنسان ويتحصّل وجوده أشدّ من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار(1) وتقعير(2) الأخمص من القدمين وأشياء أُخر من المنافع التي لا ضرورة فيها في البقاء، بل أكثر ما لها أنّها تنفع في البقاء ووجود الإنسان الصالح لأن يسنّ ويعدل ممكن، فلا يجوز أن تكون العناية الأُولى تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه المنافع التي هي أُسّها. انتهى.(3)

وبهذا البيان الذي قدّمناه من الفرق بين ما وقع وما لم يقع يندفع جميع ما تخيّله المعترض من الحلّ والنقض بما لم يقع ممّا يزعم في بادي النظر كونها ألطافاً، وبقيت مناقشات أُخر في كلامه يضيق الوقت عن التعرّض لها؛ كالجزم بعدم قبح الإلجاء، وأنّه واجد للمصلحة فاقد للمفسدة، وكجعل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق الإلجاء

ص: 235


1- . في المصدر بزيادة: وعلى الحاجبين.
2- . القعر: العمق، والتقعير: التعميق، والتقعير في الكلام: التشدّق فيه، والتقعّر: التعمّق. صحاح الجوهري: 797/2، مادة «قعر».
3- . الشفاء - الإلهيات -: 441/2-442.

والاضطرار ظاهراً وباطناً، وجعل بذل الدراهم والدنانير لترغيب الناس إلى الإيمان والطاعات المسبّبة عنهما من أفراد اللطف، وأمثال ذلك.

وينبغي لمثله التأمّل في ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة» فيما يشبه المقام، قال عليه السلام: «وَلَوْ أَرَادَ اللّٰهُ سُبْحٰانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ(1)، وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ(2)، وَمَغَارِسَ الْجِنَانِ، وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَوُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ. وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ(3)، وَبَطَلَ الْجَزَاءُ، وَاضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ، وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلِينَ، وَلَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ، وَلَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيهَا - إلى أن قال: - وَلَوْ أَرَادَ سُبْحٰانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ، وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ، بَيْنَ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ، وَسَهْلٍ وَقَرَارٍ(4)، جَمَّ الْأَشْجَارِ(5)، دَانِيَ الِّثمَارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَىٰ(6)، مُتَّصِلَ الْقُرَىٰ، بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ(7)، وَرَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَأَرْيَافٍ(8) مُحْدِقَةٍ، وَعِرَاصٍ(9) مُغْدِقَةٍ(10)، وَرِيَاضٍ نَاضِرَةٍ، وَطُرُقٍ عَامِرَةٍ،

ص: 236


1- . الذهبان - بكسر الذال - جمع ذهب.
2- . العقيان: نوع من الذهب ينمو في معدنه.
3- . سقط البلاء: أي الامتحان الذي به يتميّز الخبيث من الطيب.
4- . القرار: المطمئن من الأرض.
5- . جم الأشجار: كثيرها.
6- . البُنى: جمع بنية - بضم الباء وكسرها - ما ابتنيته وملتف البُنى: كثير العمران.
7- . البُرّة: الحنطة. والسمراء: أجودها.
8- . الأرياف: الأراضي الخصبة.
9- . العراص: جمع عرصة، الساحة ليس بها بناء.
10- . المغدقة: من أغدق المطر، كثر ماؤه.

لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَىٰ حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ. وَلَوْ كَانَ الْإِسَاسُ(1)الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا، وَالْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا، بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَنُورٍ وَضِيَاءٍ، لَخَفَّفَ ذٰلِكَ مُصَارَعَةَ (مضارعة) الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَنَفَىٰ مُعْتَلَجَ(2) الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ»(3) إلى آخر ما ذكره صلوات اللّٰه عليه، فانظر كيف بيّن عليه السلام جملة من المفاسد والموانع من سقوط البلاء وبطلان الجزاء وغيرها في حلّ ما تخيّله هذا المعترض ألطافاً.

وبالجملة فرق واضح بين ما جرت سنّة اللّٰه تعالى عليه في أعصار طويلة وما لم تجر عليه أصلاً، والجزم بكون الأوّل لطفاً لا يلازم الجزم به في الثاني، وربّما تمسّك به بعض مَن سلك في العلوم على غير بصيرة وتناولها بيد قصيرة بهذه الفقرات من «النهج» على إنكار اللطف غفلة عن دقيقة الفرق، وعن كون ما نبه عليه السلام به من الموانع عن اللطف المتخيّل لا إنكار اللطف المعلوم عدم وجود مفسدة فيه، وفي هذا المقام أسرار عميقة ومطالب دقيقة يصعب على أكثر الناس فهمها، فنطويها على غرّها ويجري مثل ما ذكره عليه السلام من البيان في كلّ ما ادّعاه المعترض أو جلّه ممّا لم يقع ويرى في الأنظار القاصرة أنّها أصلح.

ص: 237


1- . الإساس - بكسر الهمزة -: جمع أس مثلثها، أو أساس.
2- . معتلج: مصدر ميمي من الاعتلاج: الالتطام. اعتلجت الأمواج: التطمت، أي زال تلاطم الريب والشك من صدور الناس.
3- . نهج البلاغة: 291، الخطبة 192.

الفصل الرابع: افتراءات الآلوسي على الشيعة

اشارة

قد ذكر في مطلبه الثاني أنّ الشيعة تدّعي أنّا مكلّفون، والعمل بالبيانات التي بين أيدينا لا يجوز، إلى آخر ما نقله عنهم. ثم أجاب عنه بوجهين:

أحدهما: قضاء الضرورة بجواز العمل بخبر الواحد.

وثانيهما: أنّه يقتضي وجوب التبليغ مع التمكّن، وقد أثبتنا أنّ الإمام في هذا الزمان لم يبلغ مع تمكّنه.

الآلوسي يكذب على الشيعة في سطرين خمس كذبات!!

وهذا المطلب ممّا يقضي منه العجب حيث إنّه أوّلاً افترى افتراءات قبيحة، وكذب كذبات صريحة، ثم بنى عليه ما تخيّله جواباً، فيقال له: هذا الدليل بهذا التقريب من أي شيعي صدر؟ وفي أي كتاب ذُكر؟ ومتى قالوا: إنّ العمل بالبيانات التي بين أيدينا لا يجوز، حتى يجيب عنهم بقضاء الضرورة بحجية الخبر؟! فإسناد هذا المعنى إلى الشيعة كذب واضح!!

ثم قوله: «لا تجد كتاباً من كتبهم الكلامية يخلو عنه»، كذب آخر.

ثم إسناده إلى خصوص صاحب منارالهدى، كذب آخر.

وكذلك إسناد تمهيد خمس مقدّمات إليه لإثبات هذا التقريب الذي اخترعه، كذب رابع.

ثم قوله في الدليل من قبلهم أنّهم يقولون: «لا طريق لمعرفة الأحكام من غير الإمام من غير تقييد بالواقعية» أيضاً كذب وافتراء خامس.

ص: 238

وتمامية هذا الدليل ليست مبنية على إنكار جواز العمل بأخبار الآحاد، ولذا تراهم بعد تسالمهم عليه يستدلّون بهذا الدليل الذي حرّفه ونسخه، ومَن بقي له ريب فيما ذكرنا فليراجع ما عنده من الكتب التي ذكر فيها هذا الدليل.

في ردّ افتراء الآلوسي على صاحب «منار الهدى»

وأمّا صاحب منار الهدى(1) فلم يقرّر دليلاً بهذا التقريب أصلاً، وإنّما قال: إنّ الحجّة لا تقوم للّٰه تعالى على خلقه بدون مرشد مأمون يبيّن للناس أمر الدين، وتزاح به علّة المكلّفين، ويهدي العباد إلى طريق الصواب، ويرفع عنهم الاختلاف والحيرة. ويؤيّده قوله تعالى: «إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ»(2) الدالّ على أنّ كلّ قوم لابدّ لهم من هادٍ يهديهم إلى سبيل الحقّ.(3)

ص: 239


1- . هو الشيخ علي بن عبد اللّٰه بن علي البحراني الستري (المتوفّى 1319 ه) نزيل مسقط، فقيه إمامي، ولد في البحرين، وانتقل إلى مطرح فمكث فيها إماماً، ثم غادرها إلى لنجة (أحد موانئ إيران على خليج فارس) فتوفّى بها مسموماً. من كتبه: منار الهدى (مطبوع) في الإمامة، لسان الصدق (مطبوع)، والأجوبة العلية للمسائل المسقطية (مطبوع). الأعلام: 308/4. وكتاب «منار الهدى في النص على إمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام» ألّفه سنة 1295 ه، وأخرجه إلى البياض سنة 1296 ه، رتّبه على مقدّمة وفصلين، تعرّض فيه لنقض كلام ابن أبي الحديد المعتزلي وللرد على كلام القوشجي في شرح التجريد. والكتاب مطبوع في بمبي سنة 1320 ه وعليه تقريظ ابن أُخته الشيخ أحمد بن محمد بن سرحان البحراني. كما طبع في بيروت سنة 1405 ه بتحقيق السيد عبد الزهراء الخطيب. راجع الذريعة: 244/22 برقم 6885؛ مستدرك أعيان الشيعة: 186/6.
2- . الرعد: 7.
3- . منار الهدى: 55.

[ثمّ] قال: واعلم أنّ مبنى هذا الدليل على خمس مقدّمات ذكر في أوّلها: أنّ للّٰه سبحانه في كلّ واقعة حكماً معيّناً.(1)

وفي ثانيتها: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يبيّن جميع الأحكام مفصّلة لجميع الأُمّة.

وفي الثالثة: أنّ المراد للّٰه تعالى والمطلوب له من العباد العمل في كلّ واقعة بما هو حكمها عند اللّٰه تعالى.(2)

وفي الرابعة(3): أنّه لا طريق إلى معرفة الحكم المعيّن عند اللّٰه في الواقعة إلّامن بيان خليفة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.(4)

قال: والدليل على ذلك أنّ نصوص الكتاب والسنّة لا تفي إلّابيسير من الأحكام الشرعية، وظواهرهما لا تفيد اليقين.(5)

إلى أن قال: وأخبار الآحاد لا تفيد إلّاظناً مع أنّ كلّاً من ظواهر الكتاب والسنّة النبوية المتواترة وأخبار الآحاد لا تستوعب الأحكام والوقائع.(6)

إلى أن قال: والقياس لا يفيد إلّاوهماً(7) على أنّ أصحابنا أبطلوه من

ص: 240


1- . منار الهدى: 55.
2- . منار الهدى: 64.
3- . في المصدر: الخامسة. وقد سقطت المقدّمة الرابعة من الأصل، ونصّها كما جاء في المصدر: المقدّمة الرابعة: أنّه لا يجوز أن يكلّف اللّٰه العباد بما لا سبيل لهم إلى معرفته ولا طريق لهم إلى استعلامه لأنّه تكليف ما لا يطاق. راجع منار الهدى: 78.
4- . منار الهدى: 79.
5- . منار الهدى: 79.
6- . منار الهدى: 80.
7- . في المصدر بزيادة: غير معتبر في الشرع، لأنّ المطلوب معرفة الحكم باليقين لا بالوهم.

الأصل.(1)

فهل تجد في هذا الدليل من غير إنكار جواز العمل بالقياس شيئاً حتّى يجاب عنه بقضاء الضرورة بحجيّة الخبر؟! ولذا ذكر إبطال أصحابنا للقياس فيه ولم يذكره في أخبار الآحاد.

وأمّا قوله: «إنّ الدليل لو تمّ دلّ على وجوب التبليغ مع التمكّن مع ما يرى من عدم التبليغ»، فقد مرّ جوابه مراراً وسنعيد توضيحه، ولعمري إنّ أمر هذا المعترض لعجيب جدّاً حيث إنّه في مقام المناظرة والمخاصمة وإرسال الكتاب إلى خصمه لا يبالي بما يقول وما يكتب، وقد سوّلت له نفسه أنّ معنى الجواب أن يسرد الإنسان جملاً غير مرتبطة وينتقل من غصن إلى غصن، ومن مقال إلى مقال، ويصرّ على الجدال والمراء، ويروّج كلامه بالكذب والافتراء، ثم لم يكفه هذا حتى نسب إلى أئمّتنا صلوات اللّٰه عليهم الاستدلال بالقياس!!

فإن أراد أنّهم يستدلّون به تقيّة أو إلزاماً أو لتعليم الراوي طريق الإلزام أو لتقريب المطلب إلى ذهن السائل لبعض المصالح، فأي ربط لهذا الكلام بهذا المقام!!

وإن أراد أنّ مذهبهم جواز العمل بالقياس، فهذا معنى ينكره عليه مَن له أدنى خبرة بالطرق والمذاهب، وكان عن طريق الإنصاف غير ناكب، فإنّ إنكارهم للقياس واحتجاجاتهم في المنع عنه معروفة، يعرفه منهم كلّ مؤالف ومخالف منصف. ولذا اعترف علّامتهم الفرغاني العبري شارح المنهاج بذلك فقال: الحق إنّه قد اشتهر عن أهل البيت كالباقر والصادق

ص: 241


1- . منار الهدى: 80.

وغيرهما من الأئمّة رضوان اللّٰه عليهم إنكار القياس، كما اشتهر عن أبي حنيفة والشافعي ومالك القول بوجوب العمل به.(1)

ومَن راجع «مرآة الجنان» لليافعي، و «الدرر الكامنة» للعسقلاني(2)، وطبقات ابن جماعة(3) عرف جلالة العبري المذكور.

ولنقتصر على عبارة الأوّل قال: في سنة كذا توفّي الإمام العلّامة قاضي القضاة عبيد اللّٰه بن محمد العبيدي(4) الفرغاني الحنفي البارع العلّامة(5)يضرب بذكائه ومناظرته المثل، كان إماماً بارعاً متقناً(6) خرج به الأصحاب، يعرف المذهبين الحنفي والشافعي أقرأهما وصنّف فيهما، وأمّا الأُصول والمعقول فتفرّد فيهما بالإمامة. وله تصانيف، منها: شرح الغاية في الفقه في مذهب الشافعي، وشرح الطوالع، وشرح المصباح، وشرح المنهاج للبيضاوي، وغير ذلك من التصانيف والأمالي والتعاليق، وولي تبريز وأعمالها إلى أن توفّي، وكان أُستاد الأُستادين في وقته.(7)

وأمّا اختلافهم في الفتوى فإن ثبت كونه منهم من غير استناد إلى خطاء

ص: 242


1- . شرح المنهاج في الأُصول: مخطوط، نقلاً عن: استخراج المرام من استقصاء الإفحام للسيّد الميلاني: 356/3.
2- . الدرر الكامنة بأعيان المائة الثامنة: 433/2 برقم 256، كما في استخراج المرام من استقصاء الأفحام: 359/3.
3- . طبقات الشافعية لابن جماعة: 183/3 برقم 597، كما في استخراج المرام: 359/3.
4- . في المصدر: عبد اللّٰه بن محمد العبيدلي.
5- . في المصدر بزيادة: المناظر.
6- . في المصدر: متفنناً.
7- . مرآة الجنان: 230/4.

الراوي أو كذبه أو تحريفه، فمحمول على التقية على نفسه أو شيعته أو الراوي.

وأمّا المواضع التي تخيّل بعض العامّة أنّ الشيعة أو أئمتهم عملوا فيها بالقياس، فقد لفّقها قبل هذا المعترض بعض متحذلقيهم وسمع جوابه عنها.

وأمّا النقل عن آبائهم تارة وعن الصحابة أُخرى فهذا ممّا لا يعده عاقل من الاختلاف في الفتوى.

وأمّا ما ذكره في هذا المطلب من جوابه الثاني من عدم التبليغ مع التمكّن فقد سمع جوابه مراراً، وسنعيد توضيحه حيث إنّه عقد له مطلباً على حدة، وما أتى به في تقريب هذا الجواب ليس فيه ما يستحقّ أن يذكر ويجاب، وكذلك ما أطال في ضمن مطلبه الثالث حيث إنّه بعينه عبارة عن وجوب نصب الإمام في كلّ عصر الذي فرّعه على وجوب اللطف وأبطله بزعمه في مطلبه الأوّل، واختلاف الدليل لا يوجب تعدّد المدلول، وإلّا كان عليه أن يجعل مطلب وجوب العصمة أيضاً ثمانية مطالب حيث زعم انحصار أدلّته في ثمانية وتعرض لها ولجرحها.

ثم إنّه عقد مطلباً خامساً في عدم وجود الإمام المنصوب فلا وجه لجعل هذا المطلب الثالث مقصداً مستقلّاً، بل كان عليه أن يدرجه في الأوّل أو الخامس، إلّاأنّه لحسن سليقته وجودة قريحته في نظم المطالب وترتيب المقاصد اختار هذا النمط!!

ص: 243

الفصل الخامس: فيما يتعلّق بكلامه في وجوب العصمة

في تعريف العصمة

وليعلم أوّلاً: أنّ ما يظهر منه في مطلبه الأوّل من تفسير العصمة بعدم وجود داعي المعصية، وإسناد هذا التفسير إلى الشيعة، ليس بصحيح؛ بل العصمة عندهم: عبارة عن التوفيق بغلبة داعي الطاعة على داعي المعصية لا على وجه يستحيل منه صدور المعصية؛ بل بمعنى أنّه يطيع دائماً ولا يخطئ أصلاً. وتحقيق هذه اللفظة على ما قال المفيد (قدّس اللّٰه روحه): إنّ العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء، كأنّه امتنع به عن الوقوع فيما يكره، وليس هي جنساً من أجناس الفعل، ومنه قولهم: «اعتصم فلان بالجبل» إذا امتنع به، ومنه سُمّيت العصم وهي وعول الجبال، لامتناعها بها.

والعصمة من اللّٰه تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان ممّا يكره إذا أتى بالطاعة، وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبّث به فيسلم، فهو إذا أمسكه واعتصم به سُمّي ذلك الشيء عصمة له لما تشبّث به فسلم من الغرق، ولولم يعتصم به لم يسم عصمة له، وكذلك سبيل اللطف إنّ الإنسان إذا أطاع سُمّي توفيقاً وعصمة، وإن لم يطع لم يسمّ توفيقاً ولا عصمة، وقد بيّن اللّٰه تعالى ذكر هذا المعنى في كتابه بقوله: «وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّٰهِ جَمِيعاً».(1) وحبل اللّٰه تعالى هو دينه.

ص: 244


1- . آل عمران: 103.

ألا ترى أنّهم بامتثال أمره يسلمون من الوقوع في عقابه، فصار تمسّكهم بأمره اعتصاماً، وصار لطف اللّٰه تعالى لهم في الطاعة عصمة، فجميع المؤمنين من الملائكة والنبيّين والأئمّة عليهم السلام معصومون، لأنّهم متمسّكون بطاعة اللّٰه تعالى.(1) انتهى.

وفي هذا المقام مباحث شريفة لسنا بصددها.

وليعرف ثانياً: أنّ للإمامية وجوهاً كثيرة وأدلّة وفيرة على العصمة، حتى أنّ العلّامة قدس سره ذكر أزيد من ألف دليل على خصوص مسألة العصمة، فما لم يبطل هذا المعترض [الأدلة] جميعها لم يتم له دعوى إنكارها، بحيث لو أبطل جميعها إلّاواحداً منها لخاب سعيه وتمّت دعوى خصمه، ودعوى رجوعها إلى هذه الثمانية من أسمج الأكاذيب وأوضح الأباطيل.

في ردّ الآلوسي على أدّلة الشيعة في وجوب العصمة والرد عليها

وليعلم ثالثاً: أنّي لست في هذه الرسالة بصدد إثبات هذه المسألة ونقضها وإبرامها وهدمها وإحكامها، فإنّ الكلام فيها طويل جدّاً، وإنّما الغرض إبطال اعتراضاته على بعض الأدلّة التي نقلها بحيث لو تمّ دليل واحد من بينها وسلم ممّا سنح له من الاعتراض، تمّ الدليل على وجوب العصمة باعترافه، فلنتكلّم في جملة منها يتبيّن منها حال الباقي، فنقول:

أوّل الأدلّة التّي نقلها عن الشيعة على وجوب العصمة - بتقريب سخيف وذكر أنّه العمدة - هو أنّ نصب الإمام لحفظ الشرع وتبليغ الأحكام على وجه اليقين، ولو لم يكن معصوماً لما حصل الوثوق بقوله؛ وأجاب عنه

ص: 245


1- . أوائل المقالات: 134-135، الباب 153: القول في العصمة.

بأنّك عرفت بطلان وجوب نصب المبلّغ، وأنّه لا إمام هاهنا منصوب للتبليغ.

أقول: قد عرفت الجواب عمّا تخيّله من وجه البطلان، وستعرف التفصيل في الفصل الآتي إن شاء اللّٰه تعالى وفساد ما زعمه دليلاً على عدم وجود المبلّغ في عصرنا، فإذا اندفع الاعتراض تمّ الاستدلال.

ثانيها: أنّ نصب الإمام لطف وكذا عصمته.

وأجاب عنه بأنّك عرفت فساد قاعدة اللطف.

أقول: قد عرفت أنّ أصل القاعدة يقيني لا إشكال فيها، وإنّما الإشكال في صغرياتها، وأنّ ما نحن فيه ممّا يجزم العقل المستقيم بوجود المصالح والمقتضيات فيه وانتفاء المفاسد والموانع عنه.

الثالث: أنّه لو جازت المعصية على الإمام، لزم سقوط محلّه عن القلوب وانحطاط رتبته عن العوام.

وأجاب بأنّه يقتضي انحطاط رتبة مثل المفيد والمرتضى عن رتبة العامّي الخمّار اللوّاط.

أقول: هذا الدليل يقرّر بوجهين، (ولم ينقل هو وجه الملازمة في انحطاط الدرجة عن العاميّ، ونحن ننقل لك كلا الوجهين)(1) فانظر أنّ هذا النقض يرتبط بأحدهما أو كليهما أو لا؟ فنقول:

التقريب الأوّل: ما ذكره العلّامة قدس سره ننقله بنص عبارته، قال: لو كان الإمام غير معصوم لزم أن يكون أقلّ رتبة عند اللّٰه تعالى ومحلّاً (من العامّيّ)(2)،

ص: 246


1- . ليس في «م».
2- . في المصدر: للمعاصي.

والتالي باطل، فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة: أنّ الإمام إنّما هو لمصلحة المكلّف غير المعصوم، فإذا كان الإمام مكلّفاً غير معصوم ولم ينصب له إمام مع إيجاب اللّٰه تعالى النصب لغيره دونه، لزم أن قد راعى اللّٰه تعالى مصلحة العوام دون مصلحة الإمام، فيكون أقلّ رتبة من العوام.(1)

وهذا التقريب كما ترى ليس بينه وبين هذا النقض الشنيع الفظيع مساس وربط أصلاً، فإنّ مثل المفيد والمرتضى وغيرهما ممّن عدّهما قد راعى اللّٰه تعالى مصلحتهما كما راعى مصلحة العوام، فنصب على كليهما الإمام فلم يلزم الانحطاط أصلاً.

التقريب الثاني: ما ذكره جماعة من أنّ الإمام لو أقدم على المعاصي مع علمه ومعرفته بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات، كان صدور المعصية منه أقبح من صدورها من العوام. وهذا التقريب هو الذي ربّما يتوهّم لنقضه مساس به، إلّاأنّه فاسد جدّاً، إذ الغرض من الاستدلال هو التنبيه على المقدّمة البديهية عند العقلاء، وهي أنّ كلّ معصية فرض صدورها من العامّيّ فهي من العالم أقبح، وملاك معرفة القبح والأقبحية إنّما هو فرض تساوي العالم والعامّيّ من جميع الجهات إلّامن جهة العلم والجهل، فإذا صدرت معصية شخصية من العالم وصدر مثلها عن العامّيّ كان الأوّل أقبح، وأمّا إذا فرض اختلافهما في ذلك بأن صدرت من الأوّل زلة صغيرة يتبعها الندم والاستغفار، وصدرت من الثاني أنواع من القبائح والمنكرات وأصناف من الكبائر والمنهيات، مصرّاً عليها عاكفاً مقبلاً إليها، فأي سفيه يحكم بكون

ص: 247


1- . الألفين: 176 برقم 97.

الأوّل أقبح؟! ومعنى كون المفيد والمرتضى والصدوق غير معصومين هو هذا المعنى، أعني: تجويز صدور بعض المنهيّات عنهم، مستتبعين لها بالندم والتوبة، ومَن ذهب عنه فَهْم أمثال هذه المقاصد من هذه العبائر فلا ينبغي أن يُعدّ من أهل العلم.

رابع الأدلة الّتي نقلها: قوله تعالى: «أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ».(1) . وذكر في الجواب كلمات لا تشبه كلمات أهل العلم لكنّي ابتليت بها وبنقضها، فأذكر بعض ما فيها مختصراً محرّراً إن شاء اللّٰه تعالى بعد أن أُبيّن وجه الاستدلال. فأقول:

دلالة قوله: «أَطِيعُوا اللّٰهَ...» على عصمة المطاع

ذكروا أنّ اللّٰه تعالى أوجب في الآية إطاعة اللّٰه تعالى على وجه الإطلاق من غير تقييد بشيء دون شيء، ووقت دون وقت، ومكان دون مكان، بل لا معنى للتقييد بأن يراد بها الإطاعة في بعض الأشياء أو في بعض الأوقات، فإنّ العلّة المقتضية لوجوب الطاعة من كونه إلهاً وكونهم عبيداً يقتضي العموم.

وكذلك أوجب طاعة الرسول على وجه الإطلاق لعين تلك العلّة، فإنّ كونه مرسلاً من اللّٰه تعالى إليهم يقتضي طاعته في جميع ما أمر به، وطاعته وإن كانت طاعة اللّٰه حقيقة إلّاأنّه لتوسّطه في التبليغ أُسندت إليه ونبّه الناس على أنّ كلّ ما يصدر عنه فهو حقّ من عند اللّٰه، أسنده إلى اللّٰه تعالى أو لم يسنده، وقرأ في ذلك عليهم وحياً أو لم يقرأ. وكرّر لفظ «أطيعوا» تنبيهاً على

ص: 248


1- . النساء: 59.

تفرّع الثاني على الأوّل، وعطف على الرسول أُولي الأمر فأوجب طاعتهم على وجه الإطلاق، فيدلّ على أنّ كلّ ما أمروا به فهو من عند اللّٰه ورسوله.

ثم إنّ المراد بهم ليس كلّ مَن يأمر بشيء بالضرورة، بل الأُمّة مجمعة على أنّه أُريد بهم طائفة خاصّة، إمّا أُمراء السرايا أو العلماء أو أئمّة الدين؛ وعلى الأوّلين يلزم تقييدهم بما إذا لم يأمروا بمعصية أو بخصوص ما اجتمعوا عليه، وعلى الثالث لا يلزم تقييد وتخصيص وارتكاب خلاف ظاهر، لا في الإطاعة ولا في متعلّقها سوى ما لا بدّ منه على جميع التقادير من حملهم على طائفة خاصّة.

إذا عرفت هذا فنقول: إيجاب الطاعة على الناس على وجه الإطلاق لطائفة في كلّ ما يأمرون، لا يجتمع إلّامع عصمتهم عن الخطاء والمعصية، فيتعيّن المعنى الثالث الذي تدّعيه الشيعة، إذ بعد تردّد الأمر في أُولي الأمر بين عدّة معانٍ علم بعدم العصمة في بعضها، وكان الحال في بعضها مشكوكاً غير ثابت يتعيّن الحمل على الأخير الغير المستلزم للتخصيص والتقييد، ويرتفع الشكّ عن البعض المشكوك وينقلب بالإطلاق ما لم يعلم حاله إلى ما علم عصمته.

الرازي يقرّ بدلالة الآية على عصمة المطاع

وظهور الآية في إطلاق وجوب الطاعة واقتضائها لعصمة مَن وجبت طاعته بلغ حدّاً اعترف به الفخر الرازي مع ما علم من حاله ومذهبه وتشكيكه، ولذلك التجأ إلى حمل (أُولي الأمر) على إرادة الإجماع، بل لم يكتف بالظهور في الإطلاق فادّعاه أوّلاً، ثم استدلّ عليه ثانياً بأنّ طاعة الرسول وأُولي الأمر ذكرتا بلفظة واحدة ولا يجوز أن تكون اللفظة الواحدة

ص: 249

مطلقة ومشروطة معاً، وستسمع عبارته، فنأخذ بما اعترف به من دلالة الآية على عصمة المطاع، ونبيّن فساد حمله على الإجماع.

قال: اعلم أنّ قوله: «وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ» يدلّ عندنا على أنّ إجماع الأُمّة حجّة، والدليل على ذلك أنّ اللّٰه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومَن أمر اللّٰه تعالى بطاعته على سبيل الجزم والقطع، لابدّ وأن يكون معصوماً عن الخطاء، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطاء كان بتقدير إقدامه على الخطاء يكون قد أمر اللّٰه تعالى بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطاء، والخطاء لكونه خطاء منهيّ عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنّه محال، فثبت أنّ اللّٰه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أنّ كلّ مَن أمر اللّٰه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطاء، فثبت قطعاً أنّ أُولي الأمر المذكور في هذه الآية لابدّ وأن يكون معصوماً، ثم نقول: ذلك المعصوم إمّا مجموع الأُمّة أو بعض الأُمّة، لا جائز أن يكون بعض الأُمّة؛ لأنّا بيّنّا أنّ اللّٰه تعالى أوجب طاعة أُولي الأمر في هذه الآية قطعاً، وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أنّنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الذي أمر اللّٰه(1) بطاعته ليس بعضاً من أبعاض الأُمّة، ولا طائفة من طوائفهم، ولمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله: «وَ أُولِي اَلْأَمْرِ» أهل الحل والعقد

ص: 250


1- . في المصدر بزيادة: المؤمنين.

من الأُمّة، وذلك يوجب القطع بأنّ إجماع الأُمّة حجّة.(1)

مَن هم أُولي الأمر عند الرازي

ثم أورد على نفسه سؤالاً حاصله: أنّ الأُمّة مجمعة على خلاف هذا التفسير فإنّهم بين وجوه أربعة:

أحدها: أنّهم الخلفاء الراشدون.

ثانيها: أنّهم أُمراء السرايا.

ثالثها: أنّهم العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية ويعلّمون الناس دينهم، قال: وهذا رواية الثعلبي عن ابن عباس، وقول الحسن ومجاهد والضحاك.

رابعها: أنّهم الأئمّة المعصومون الذين تدّعيهم الروافض. ولمّا كانت أقوال الأُمة محصورة في هذه الوجوه، وكان القول الذي نصرتموه خارجاً عنها، كان ذلك بإجماع الأُمّة باطلاً.

وأجاب عنه بأنّه لا نزاع أنّ جماعة من الصحابة والتابعين حملوا قوله تعالى: «وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ» على العلماء، فإذا قلنا المراد منه جميع العلماء من أهل الحل والعقد، لم يكن هذا قولاً خارجاً عن أقوال الأُمّة، بل كان هذا اختياراً لأحد أقوالهم وتصحيحاً له بالحجّة القاطعة.(2)

ثم أفسد حمل الآية على ما تدّعيه الإمامية بوجوه (يأتي ذكرها ودفعها.

ص: 251


1- . تفسير الرازي: 144/10.
2- . تفسير الرازي: 144/10-145 باختصار وتلخيص.

أقول: يرد على المعنى الذي أختاره وجوه من الكلام وضروب من الملام)(1):

أحدها: أنّ تفسير أُولي الأمر بالإجماع خلاف تفسير الكلّ وقول خارج عن أقوال الأُمّة كما ذكره، وما اعتذر عنه ليس بصحيح، فإنّ مَن يفسّره بالعلماء يقول بوجوب إطاعة أهل العلم والفقه فيما يأمر به، ولزوم الانقياد لكلّ واحد منهم إذا أخبر أو أمر بشيء، ولا يخصّه بصورة اجتماع كلّ الفقهاء والعلماء، فكيف يكون ما ذكره اختياراً لقول ذاك فهو يعتبر الإجماع في وجوب الطاعة، وذاك لا يعتبر، وهو يقول بأنّ المراد بأُولي الأمر كلّ الأُمّة وذاك يقول بعضهم، ومجرّد اشتراك القولين في أخذ العلماء وأهل الدين في كليهما في الجملة لا يوجب اتّحادهما ورجوع أحدهما إلى الآخر، كما هو واضح.

وثانياً: أنّ المراد بالمؤمنين الذين أوجب اللّٰه عليهم الطاعة في الآية ليس هو الرسول وأُولي الأمر قطعاً، ضرورة تغاير المطيع والمطاع، فإذا كان المراد بأُولي الأمر على ما قرّره هو كلّ الأُمّة وكانوا خارجين عن تحت المؤمنين الذين وجبت عليهم الطاعة بل كانوا مطاعين، فمَن الذي يبقى بعد ذلك مصداقاً للمطيعين الذين يتوجّه إليهم هذا التكليف؟!

وثالثاً: أنّ وجوب إطاعة إجماع العلماء فيما أجمعوا عليه ثابت لنفس المجمعين، فيجب عليهم قطعاً اتّباع الإجماع، فيجب اعتبار خروجهم عن تحت المؤمنين وإدراجهم في أُولي الأمر تارة بعد لزوم تغاير المطيع والمطاع، واعتبار العكس أُخرى من إدراجهم في المؤمنين وإخراجهم عن

ص: 252


1- . ليس في «م».

أُولي الأمر. وفيه ما لا يخفى من عدم الصحّة أو المنافرة والبشاعة والألغاز والتعمية فيما هو في أعلى درجة البيان والبلاغة.

ورابعاً: أنّه على ما ذكره يصير المراد بأُولي الأمر طائفة خاصّة من الأُمّة وهم أهل الحلّ والعقد، إذ المعتبر في الإجماع بالإجماع هو اتّفاق آرائهم ولا عبرة بالعوام وهم أكثر الأُمّة، فما فرّعه على اختيار هذا المعنى، بل جعله أصلاً له ودليلاً عليه ومرجّحاً له على باقي الأقوال من أنّه يصير المراد بأُولي الأمر كلّ الأُمّة لا بعضهم ولا طائفة خاصّة على هذا المعنى، عجيب جدّاً، ينبغي لهذا المعترض المأموم إصلاح كلام إمامه.

وخامساً: أنّ تقييد وجوب طاعة أُولي الأمر بخصوص ما اجتمعوا عليه، تقييد من غير مقيّد، ولا يفهم من الآية أصلاً، ولا يعقله أحد من أهل المحاورات وذوي المعرفة باللسان.

في إنكار الرازي قول الشيعة حول الآية والجواب عنه

ثم إنّه ذكر لاستبعاد حمل الآية على ما تدّعيه الإمامية وجوهاً ثلاثة:

أحدها: أنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم، كان هذا تكليف ما لا يطاق، ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم، صار هذا الإيجاب مشروطاً، وظاهر قوله تعالى: «أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ» يقتضي الإطلاق. وأيضاً ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال؛ وذلك لأنّه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أُولي الأمر في لفظة واحدة، وهو قوله: «وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ» واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معاً،

ص: 253

فلمّا كانت هذه اللفظة مطلقة في حقّ الرسول، وجب أن تكون مطلقة في حقّ أُولي الأمر.

الثاني: أنّه تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر وأُولو الأمر جمع، وعندهم لا يكون في الزمان إلّاإمام واحد، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر.

وثالثها: أنّه قال: «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ».(1) ولو كان المراد بأُولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال: فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الإمام.(2)

أقول: والجواب عن الوجه الأوّل: أنّه ترك الشقّ الثالث الذي هو عين ما هو المعروف عن الإمامية وهو إيجاب طاعتهم وإيجاب معرفتهم، فلا ندّعي إيجاب الطاعة قبل المعرفة حتّى يكون تكليفاً بما لا يطاق، ولا إيجاب الطاعة إن اتّفقت المعرفة حتى يكون من الواجب المشروط، بل نقول:

أوجب طاعتهم وأوجب معرفتهم، فيكون حال الأُولى مع الثانية من هذه الجهة حال الصلاة مع الطهارة.

ثم أقول: الإطاعة التي هي عبارة عن امتثال الأمر موقوفة واقعاً على صدور الأمر كما أنّ تنجّزها ووجوبها الفعلي موقوف على وصول الأمر والوقوف عليه، فمَن عرفهم وعرف أوامرهم تنجّز في حقّه وجوب الطاعة والامتثال؛ ومَن عرفهم ولم يعرف أوامرهم إمّا لعدم صدورها منهم أو عدم وصولها إليه، لم يجب عليه الطاعة؛ لانتفاء الموضوع في الأوّل، وعدم التنجّز وثبوت المعذورية في الثاني. ومَن جهل أوامرهم لتقصيره في معرفتهم

ص: 254


1- . النساء: 59.
2- . تفسير الرازي: 146/10.

عوقب على ترك المعرفة وترك الطاعة، وهذا كلّه واضح لا إشكال فيه.

والجواب عن الثاني: أنّ الجمع باعتبار التوزيع على الأزمان والأعصار مضافاً إلى أنّ ارتكاب خلاف الظاهر سهل بعد قيام القرينة.

وعن الثالث: فبأنّ الأمر أوّلاً وبالذات للّٰه(1) سبحانه، والطريق الأصلي الأوّلي فيه هو تبليغ النبي صلى الله عليه و آله و سلم والإمام نائب عنه في التبليغ وفرع للرسول، وإنّما يرد إليه من جهة أنّ الردّ إليه ردّ إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لا من جهة أنّه طريق مستقل في قبال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وقسيم له، ولذلك ناسب أن يقال: ردّوا عند التنازع إلى اللّٰه ورسوله.

إذا عرفت هذا كلّه فلنعد إلى مدّعى المعترض ونقض كلامه وهدم مرامه في منع الاحتجاج بالآية فنقول:

أمّا ما ذكره من أنّ التعميم في أُولي الأمر أولى من تعميم المطلق؛ ففيه:

أنّه بعد الاتّفاق على أنّ المراد بأُولي الأمر طائفة خاصّة كما هو المسلّم عند الكلّ، أنّ ما ذكره لو صحّ فإنّما يصحّ على غير قولنا واختيارنا، وأمّا على قولنا فلا ضرورة إلى رفع اليد عن أحد التعميمين حتى يلاحظ الترجيح بينهما، بل نأخذ بكلا التعميمين ونقول: معنى الآية أطيعوا على وجه الإطلاق والعموم أُولي الأمر في جميع ما يأمرون، ويستكشف من إطلاق وجوب الإطاعة أنّ جميع ما يأمرون به حقّ وصواب، وإنّما المحتاج إلى التخصيص أو التقييد من يحمل أُولي الأمر على جماعة يعلم أنّ في أوامرهم صواباً وخطاءً، وطاعة ومعصية، وحقّاً وباطلاً، كأُمراء السرايا مثلاً، وأمّا من حمله على جماعة علم إصابتهم فيما يقولون فلا، وكذلك الحمل على جماعة شكّ

ص: 255


1- . في «م»: عنه.

في عصمتهم وإصابتهم وكانت إصابتهم في كلّ ما يأمرون في محلّ النزاع والشك ومعرض عدم الثبوت، فإنّ إطلاق وجوب الإطاعة يرفع النزاع والشكّ ويدلّ على حقيّة قول مَن يدّعي إصابتهم، فهو نظير ما لو قيل: أكرموا أهل البيت الفلاني أو أهل المدرسة الفلانية، وقد علم من الخارج بقرينة عقلية أنّه لا يريد إكرام أعدائه، فإذا علم أنّ في ذاك البيت أو تلك المدرسة عدوّاً له لا محالة لزم التخصيص، وأمّا إذا لم يعلم بل كان وجود العدو فيها مشكوكاً استكشف بالإطلاق عدم وجود العدو.

وبهذا البيان اندفع إشكاله الثاني من كون العقل(1) قرينة على خروج ما إذا أمر أولو الأمر بالمعصية، فإنّه لو اتّجه فإنّما يتّجه على مَن يلتزم باليقين بأنّ في أوامرهم ما هو عصيان للّٰه، وأمّا إذا لم يعلم بل كان محلّ الشكّ والنزاع فلا، فالقرينة العقلية إنّما توجب التخصيص والتقييد إذا علم بوجود مصداق لما حكم العقل بعدم ثبوت الحكم له، وأمّا مع الشكّ وملاحظة القرينة العقلية فإنّما يحكم بعدم وجوده.

ولا أدري أنّ مَن لا يتفطّن لمثل هذه الأُمور ويغفل مثل هذا الغفول والذهول، كيف يتصدّى لمقابلة العلماء الفحول، ويتعرّض للنقض والردّ والقبول؟!!

وأمّا ما ذكره من عدم اقتضاء الأمر للتكرار فهو كلام سمعه من طلبة العلم ولم يدر موضع استعماله، فإنّه في اقتضاء الأمر بمجرّده له وعدمه مع قطع النظر عن خصوصية المادة وخصوصيات القرائن الداخلية والخارجية، وبعد ملاحظة إطلاق إيجاب الطاعة، وأنّ وجوبها عقلي إرشادي متوقّف

ص: 256


1- . في «م»: الفعل.

على وجود أمر هتّاك(1) حتى يطاع ويمتثل، وأنّه علم عدم الفرق في أوامر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وأُولي الأمر أو لم يعلم بل شكّ في أنّ كلّها صواب أم لا، لا يبقى معنى لهذا الكلام أصلاً كما أنّه تَبيَّن تَبيُّن النور على الطور فساد ما ذكره من أولوية أوامر الإمام في طاعة اللّٰه على أوامره في معصية اللّٰه.

وحيث إنّك قد عرفت أنّه ليس الغرض التكلّم في جميع ما استدلّوا به على العصمة، وأنّه يكفينا إتمام واحد من تلك الأدلّة، فلنكتف بهذا المقدار الذي يتبيّن به مقدار المعترض في النظر والأُصول والكلام، ومقدار اعتراضاته في القوّة والإتقان والإحكام، ومقدار ما لفّقه في بقية أدلّة هذا المرام، فالجرعة تدلّ على الغدير، والحفنة ترشد إلى البيدر الكبير.

ص: 257


1- . في «م»: هناك.

الفصل السادس: شبهة الآلوسي في عدم وجود إمام منصوب والرد عليها

اشارة

في إفساد ما زعمه دليلاً على أنّه ليس في هذا الزمان إمام منصوب من اللّٰه تعالى، وهي على ما ذكره ثلاثة.

أدلة الآلوسي على عدم وجود إمام منصوب

أوّلها: الإجماع المركّب

فإنّ الأُمّة بين قولين: أحدهما وجوب نصب إمام معصوم على اللّٰه سبحانه، وأنّ هناك إماماً منصوباً منه تعالى. الثاني: عدم وجوبه وعدم وجود منصوب منه سبحانه في هذا الزمان كما عليه أهل السنّة، فالقول بعدم وجوبه وأنّ هناك إماماً منصوباً خرق للقولين، وحيث أثبتنا عدم وجوب النصّ على اللّٰه تعالى وعدم وجوب العصمة تعيّن القول الثاني.

والجواب عنه أوّلاً: لم يثبت عدم وجوب النصب على اللّٰه حيث لم يتعرّض لإبطال جميع الأدلّة الّتي أقامتها الإمامية على بطلان اختيار الناس، ومتى صحّ واحد منها صحّ وجوب النصب من اللّٰه بالإجماع المركّب الذي ذكره، حيث إنّ القول بعدم وجوب النصب لا من اللّٰه ولا من الناس، خرق لإجماع الأُمّة.

وثانياً: أنّ ما ذكره في الإشكال على قاعدة اللطف من الحلّ والنقض قد مرّ الجواب عنه، مع أنّه أحد الأدلّة على الوجوب، وبمجرد إبطاله لو سلم لا يبطل المدّعى.

ص: 258

وثالثاً: أنّ ما ذكره من الإشكال على أدلّة العصمة قد سمعت تزييفه بما لا مزيد عليه.

ورابعاً: أنّ القول بالفصل موجود كما تنبّه له ممّا نبّهه عليه العلّامة المحدّث النوري قدس سره في «كشف الأستار» حيث ذكر ما يقرب من أربعين شخصاً من أعاظم أهل السنّة وأكابرهم وأماثلهم الذين سوّدوا في نشر مناقبهم وفضائلهم وجوه الأوراق صرّحوا بوجود الإمام المنصوب(1)، وما اعتذر عنه من عدم العلم بعدم قولهم بوجوب النصب من اللّٰه تعالى فلعلّهم قائلون به، فاسد، إذ عدم العلم بقولهم كافٍ في فساد الاستناد إلى الإجماع المركّب، إذ يصير محصّل كلامه بناء على ما ذكره: أنّ جماعة ممّن علم قولهم بوجوب النصب، قالوا بوجود الإمام المنصوب، وجماعة ممّن علم منهم القول بعدم وجوب النصب، قالوا بعدم وجوده، وجماعة ثالثة لم يعلم قولهم بوجوب النصب، وقالوا بوجوده، فكيف يمكن دعوى مخالفة القائل بعدم وجوب النصب وبوجود المنصوب للأُمّة، فلعلّ الجماعة الثالثة موافقة له؟!

واعتذاره الثاني أفسد لتواتر الأخبار من طرقنا وطرقهم على أنّ المهدي الموعود حجّة من اللّٰه تعالى على عباده، وأنّه مفترض الطاعة، وأنّ متبعه هو المصيب ومخالفه هو الهالك، وأنّه من خلفاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

وخامساً: نقول: لو سلّمنا جميع ما ذكره من أنّه أثبت فساد دعوى وجوب النصّ وفساد أدلّة وجوب العصمة، فالاستدلال بالإجماع المركّب

ص: 259


1- . لاحظ: كشف الأستار: 137-229. وراجع المقدّمة ص 18 في بحث: تصاريح علماء أهل السنّة بولادة الإمام المهدي (عج).

بعد ذلك أيضاً فاسد جدّاً، فإنّا قد أوضحنا في المباحث الأُصولية أنّ الإجماع المركّب ما لم يرجع إلى الإجماع البسيط على عدم جواز إحداث القول الثالث لم يكن حجّة، وإنّ مجرّد وجود القولين وعدم وجود ثالث لا يكفي في بطلانه.

ألا ترى أنّ أغلب التفاصيل في أغلب المسائل الفقهية والأُصولية حدثت بعد ما لم تكن، مثلاً ذهب جماعة إلى أنّ الاستصحاب مطلقاً حجّة وجماعة إلى عدم حجّيته مطلقاً، إلى أن فصّل بعد مدّة مديدة جماعة بين الشكّ في المقتضي والرافع، أو بين النفي والإثبات، أو غيرهما.

وبعبارة أُخرى: يشترط في جواز التمسّك بالإجماع المركّب أن يعلم على وجه اليقين أنّ إحدى الطائفتين - على تقدير بطلان قولها - لا تختار إلّا قول خصمها وأنّها مسلّمة لحقّيّة قول خصمها على فرض فساد قولها؛ وأمّا إذا لم يعلم منها ذلك، بل احتمل في حقّ كلّ منهما أنّه على تقدير فساد قوله لعلّه يختار قولاً ثالثاً، فلا عبرة بمثل هذا الإجماع المركّب.

وتنبّه لما ذكرنا جملة من فضلاء العامّة أيضاً، وما اختاره الحاجبي(1)

ص: 260


1- . هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي الدويني ثم المصري الفقيه المالكي المعروف بابن الحاجب (570-646 ه) ولد بإسنا (بصعيد مصر) ونشأ بالقاهرة، وتفقّه على مذهب مالك، واشتغل بالعربية وبرع فيها، وكان من كبار العلماء بالعربية، فقيهاً أُصولياً. أقام بدمشق مدّة ودرّس بجامعها، وبالمدرسة النورية ثم عاد إلى القاهرة ودرّس بها، ثم توجّه إلى الاسكندرية فلم تطل مدته هناك وتوفّي بها. من كتبه: الكافية (مطبوع) في النحو، الشافية (مطبوع) في الصرف، منتهى السؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل (مطبوع)، ومختصر منتهى السؤل والأمل (مطبوع) ويعرف بمختصر ابن الحاجب، وكان مداراً للتدريس لقرون، وقد اعتنى العلماء بشرحه. موسوعة طبقات الفقهاء: 152/7 برقم 2511.

والعضدي(1) من التفصيل في الإجماع المركّب، راجع إلى ما قلناه، وإن لم يحرّراه حقّ التحرير، فخفي مرادهما على كثيرين، والمسألة مبسوطة في محلّها، وإن شاء تفصيلها لعدم خوضه في أمثال هذه الأُمور عرّفناه به، مع أنّه بعد التنبيه ممّا ينبغي أن يعد واضحاً، وكلّ مَن له تفطّن صحيح إذا تأمّل في هذه الجملة التي ذكرنا، وفي وجه حجّية الإجماع، عرف أنّه لا معدل عمّا قلنا .

ثمّ من الواضح أنّ مسألتنا من هذا القبيل، فمن أين عرف أنّ الشيعة المدّعين لأمرين من وجوب النص ووقوعه بخبر الغدير والمنزلة والثقلين وحديث الاثني عشر ومن مات ولم يعرف وغيرها، لو رجعوا عن دعوى وجوب النص وفسدت عندهم هذه المقدمة، رجعوا عن الدعوى الثانية أيضاً واختاروا مذهب أهل السنّة من عدم وجوبه وعدم وجود إمام منصوب؟!

نصب الإمام بلا فائدة عبث ينزّه اللّٰه تعالى عنه

الثاني من الأدلة الّتي زعمها على مدّعاه وأنّ نصب الإمام على أهل هذا الزمان بلا فائدة، عبث ينزّه الحكيم تعالى عنه. والفائدة إمّا تبليغ الأحكام، أو هو وإقامة قوانين الشرع وحفظ الحوزة، أو الإقامة والحفظ فقط من غير التبليغ، أو شيء ثالث غير هذين؛ والكلّ باطل على ما قرّره.

ص: 261


1- . هو أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفّار عضد الدين الإيجي الشافعي (700-756 ه) عالم بالأُصول والمعاني والعربية، من أهل إيج (بفارس) ولي القضاء، وجرت له محنة مع صاحب كرمان، فحبسه بالقلعة، فمات مسجوناً. من تصانيفه: المواقف (مطبوع) في علم الكلام. العقائد العضدية (مطبوع)، شرح مختصر ابن الحاجب (مطبوع). الأعلام: 295/3.

والجواب عنه واضح بعد ما قرّرنا(1) سابقاً فيجاب عنه تارة بأنّ الفائدة هي التبليغ؛ والإيراد عليه بأنّه لو كان لذلك لبلّغ حسب تمكّنه - كما مرّ مفصلاً - مدفوع بما مرّ منّا مفصّلاً وستسمع توضيحه في الفصل الآتي، فإنّ كثرة تكراره لهذا الكلام وتبجّحه(2) به أحوجنا إلى تكرار التوضيح.

وتارة أُخرى باختيار الشق الثاني؛ ويندفع الإشكال عليه بما اندفع به سابقه.(3)

وثالثة باختيار الشقّ الثالث وأنّه واجب من باب اللطف، وما ذكره في فساد القاعدة قد اتّضح فساده.

الثالث من أدلّته: عدم الدليل على وجوده

وفيه أوّلاً: أنّه لا يليق بالعاقل مثل هذا الكلام في هذا المطلب الذي سلم إمكان وقوعه، وكان هناك جماعة متوافرون متكاثرون يزيدون على آلاف أُلوف يدّعون وقوعه، وعندهم شواهد كثيرة وأدلّة وفيرة عليه، وعندهم أخبار كثيرة شهيرة عن أشخاص معروفين بالعدالة والضبط في ولادته وكيفيتها وخصوصياتها.

ثمّ كان له وكلاء ظاهرون في مدّة تقرب من سبعين سنة معروفون بأسمائهم وأنسابهم وأوطانهم يخبرون عنه بالمعجزات والكرامات وأجوبة

ص: 262


1- . في «م»: قرّر.
2- . في «م»: تلجلجه.
3- . في «م»: سابقاً.

السؤالات، وكانت تجري على أيدي هؤلاء الوكلاء خوارق العادات، وكانوا من أعيان المسلمين وخيار الصالحين كلّما قرب وفاة واحد منهم عيّن هو عليه السلام مَن يقوم مقامه، ورواياتهم مأثورة منقولة وأنسابهم وسيرهم وقبورهم مشهورة معلومة، ولمّا بلغ الأمر إلى علي بن محمد السمري(1) ذكر أنّ المهدي عرّفه يوم وفاته وأنّه تقدّم إليه أنّه لا يوكّل أحداً غيره، وتوفّي في الوقت الذي أشار إليه، ثم وقعت الغيبة الكبرى.(2)

وقد لقيه في هذه الغيبة أيضاً مَن لا يحصى من الخلائق مع خوارق عادات شهدتها كثير من الناس، وقد شاهد بعضها العلماء الأجلّاء وأهل بغداد وأهل سامرّاء وأطباء المسلمين والنصارى واتّضح عند الخليفة

ص: 263


1- . علي بن محمد السمري (المتوفّى 329 ه) الفقيه أبو الحسن البغدادي، كان آخر السفراء و النوّاب الأربعة للإمام المهدي المنتظر عجّل اللّٰه تعالى فرجه الشريف، في زمن الغيبة الصغرى، وبموته وقعت الغيبة الكبرى، وانسدّ باب السفارة الخاصّة، وكان من الأجلّاء والعظماء الذين وثّقهم الأئمّة عليهم السلام وأمروا بالرجوع إليهم. موسوعة طبقات الفقهاء: 315/4 برقم 1513.
2- . روى الصدوق في كمال الدين (: 516، ح 44، الباب 45: ذكر التوقيعات) باسناده عن أبي محمد الحسن بن أحمد المكتب قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفّي فيها الشيخ علي بن محمد السمري - قدّس اللّٰه روحه - فحضرته قبل وفاته بأيام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: بسم اللّٰه الرّحمن الرّحيم: يا علي بن محمد السمري، أعظم اللّٰه أجر إخوانك فيك، فإنّك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية، فلا ظهور إلّابعد إذن اللّٰه عزّ وجلّ، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً...» قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: مَن وصيّك من بعدك؟ فقال: للّٰه أمر هو بالغه. ومضى رضي اللّٰه عنه، فهذا آخر كلام سمع منه.

العباسي كقضية الشيخ إسماعيل الهرقلي(1) الواقعة بعد الستمائة، وبعد هذا كلّه فهل يليق بالعاقل أن يجزم بعدم الوقوع مستدلّاً عليه بعدم الدليل؟! ومَن رضى بمثل هذا الاحتجاج فقد جعل نفسه ضحكة للعقلاء!!

ويعجبني ما نقله إمامه الرازي في مناظرة وقعت بينه وبين نصراني يدّعي التحقيق والتعميق ذكرها في تفسيره حيث يظهر منه عدم جواز التمسّك بعدم الدليل ولو في الأُمور الخارقة للعادة، ولو فيما لم يدّع أحد عليه شواهد ودلائل، فكيف بمثل المقام؟!

قال: قلت له: ما الّذي دلّك على كون عيسى إلهاً؟

فقال: الذي دلّ عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وذلك لا يمكن حصوله إلّابقدرة الإله تعالى.

فقلت له: هل تسلّم أنّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا؟ فإن لم تسلّم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع. وإن سلّمت أنّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. فأقول: لمّا جوّزت الحلول في بدن عيسى عليه السلام فكيف عرفت أنّ الإله ما حلّ (في) بدني وبدنك وفي بدن كلّ حيوان ونبات وجماد؟

ص: 264


1- . وهو إسماعيل بن الحسن الهرقلّي الحلّي، من قرية في الحلّة يقال لها: هرقل. وخلاصة قصّته: خروج توثة (بثرة متقرّحة) على فخذه الأيسر فوق العرق الأكحل، ودخل إلى مجلس رضي الدين علي بن طاووس رحمه الله وشكا إليه ما يجده منها، فأحضر له أطباء الحلّة فلم يفعلوا له شيئاً، وأخذه معه إلى بغداد فعجز الأطباء هناك أيضاً عن علاجه، ثم شفي ببركة الإمام الحجة عجل اللّٰه تعالى فرجه الشريف في قصة طويلة يرويها علي بن عيسى الإربلي (الثقة عند الفريقين) في كشف الغمة: 296/3؛ والمحدّث النوري في النجم الثاقب: 78/2، الحكاية الخامسة.

فقال: الفرق ظاهر؛ وذلك لأنّي إنّما حكمت بذلك الحلول، لأنّه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه، والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك، فعلمنا أنّ ذلك الحلول مفقود هاهنا.

فقلت له: تبيّن الآن أنّك ما عرفت معنى قولي إنّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول؛ وذلك لأنّ ظهور تلك الخوارق دالّة على حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام، فعدم ظهور تلك الخوارق منّي ومنك ليس فيه إلّاأنّه لم يوجد ذلك الدليل، فإذا ثبت أنّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق منّي ومنك عدم الحلول في حقّي و (في) حقّك، بل وفي حقّ الكلب والسنّور والفار.

ثم قلت له: إنّ مذهباً يؤدّي القول به إلى تجويز حلول ذات اللّٰه تعالى في بدن الكلب والذباب لفي غاية الخسّة والركاكة!!(1)

وثانياً: أنّ الأدلّة على وجوده - صلوات اللّٰه عليه - وعلى غيبته وبقائه أكثر من أن تحصى، وأوفر من أن تستقصى، وما يضرّ الشمس الطالعة الضاحية خفاؤها عن أعين الخفافيش.(2)

ص: 265


1- . تفسير الرازي: 84/8، وما بين القوسين من المصدر.
2- . راجع المقدّمة: ص 18 و 32، البحث الثاني والثالث.

الفصل السابع: في أقسام التبليغ

اشارة

اعلم وفّقك اللّٰه تعالى أنّ ممّا علم بضرورة الشرع والدين، وعرف على وجه القطع واليقين، أنّ التبليغ الذي كان هو الغرض الأهم من بعثة سيد الأنبياء والمرسلين - عليه وآله أفضل صلوات المصلّين - كان على قسمين:

أحدهما: ما كان من قبيل الواجب المطلق

فكان يأمر به ويبلّغه ويوضّحه ويكرّره لأصحابه سئل أو لم يسأل، ولذا صار من الضروريات التي يعرفها كلّ مَن دخل في دينه.

وثانيهما: ما كان من قبيل الواجب المشروط

فيبلّغه ويبيّنه لمن سأله دون مَن لم يسأله، وهذا هو الأغلب الأكثر، ولذا اختصّ كلّ من أصحابه بعلم بعض ما خفي على الآخر.

وقد حدّث أبو هريرة عنه صلى الله عليه و آله و سلم بأشياء كثيرة لم يسمعها أحد حتى ارتاب في حقّه عمر بن الخطاب وقال: لتكفّن عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم أو لألحقنّك بجبال دوس، على ما في كنز العمّال عن ابن عساكر.(1)

ص: 266


1- . روى ابن عساكر في تاريخه: 171/5-172 بإسناده عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم أو لألحقنّك بأرض دوس. (تاريخ مدينة دمشق: 71/50-72. وقد ورد هذا المضمون مع اختلاف يسير في الألفاظ في مصادر عديدة، فلاحظ: الإصابة: 69/1؛ كنز العمال: 291/10 برقم 29472؛ أُصول السرخسي 341/1.

وقالت عائشة لابن أُختها: ألا تعجب من كثرة رواية هذا الرجل ورسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم حدّث بأحاديث لوعدّها عادُّ لأحصاها.(1)

وروى مسلم في صحيحه عن أبي رزين أنّه خرج إلينا أبو هريرة فضرب بيده إلى (2) جبهته فقال: ألا إنّكم تحدّثون أنّي أكذب على رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لتهتدوا وأضلّ.(2)

وروى ابن عمر كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج أنّه صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن المخابرة فتركناها.(3)

وروى أحمد بن عمر وابن عمر كنّا نخابر حتى زعم رافع بن خديج أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم نهى عنها فتركناها.(4)

وكان عند عائشة ما لم يكن عند غيرها، وعند ابن مسعود ما ليس عند غيره، وهذا باب واسع جداً وكثيراً ما كان يأمر رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم بشيء من غير بيان أنّه واجب أو مندوب، وأنّه يجب تعييناً أو تخييراً، وأنّه يتعيّن بشخصه أو يعمّ بدله ومثله، وأنّه فرض بعينه أو بقيمته، أو ينهى عن شيء من غير بيان لتحريم أو مكروه؛ وقد ثبت في الروايات أنّ الصحابة كثيراً ما كانوا يهابون السؤال منه عن بعض ما يحتاجون إليه، فيتمنون قدوم الأعرابي أو الطارئ حتى يسأل فيتعلّموا.(5)

ص: 267


1- . أُصول السرخسي: 2.341/1. في المصدر: على.
2- . صحيح مسلم: 153/6، كتاب اللباس والزينة، باب إذا انتعل فليبدأ باليمين.
3- . المجموع للنووي: 400/14؛ الشرح الكبير لابن قدامة: 555/5.
4- . مسند أحمد: 11/2 و ج 463/3؛ صحيح مسلم: 22/5، باب كراء الأرض، باختلاف في الألفاظ.
5- . روى الترمذي في سننه: 308/5 برقم 3825 بإسناده عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما

وقد صحّ بالروايات المستفيضة غضبه على سراقة بن مالك(1) حين سأله عن الحجّ وأنّه في عام واحد أو في كلّ عام.(2)

وأخرج أحمد بن حنبل وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن أبي أُمامة أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وقف في حجّة الوداع وهو مردف الفضل بن عباس على جمل آدم(3) فقال: يا أيّها الناس خذوا العلم قبل رفعه وقبضه، وكنّا نهاب مسألته بعد تنزيل اللّٰه تعالى: «لاٰ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيٰاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ

ص: 268


1- . هو سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو بن تيم بن مدلج الكناني المدلجي وقدينسب إلى جدّه، يكنى أبا سفيان، أسلم يوم الفتح. الإصابة: 35/3 برقم 3122.
2- . لاحظ: صحيح البخاري: 114/3، باب الاشتراك في الهدي؛ صحيح مسلم: 37/4، باب بيان وجوه الإحرام؛ مسند أحمد: 320/3 و 366 و 388؛ ووسائل الشيعة: 222/11، ح 14 (14657)، الباب 2 من أبواب أقسام الحجّ.
3- . جمل آدم: الأُدْمَة في الإبل: البياض مع سواد المُقْلتين، أو هو البياض الواضح. وقيل: هو من أُدْمة الأرض وهو لونها. وقد أَدُم كعَلِمَ وكرم فهو آدم بالمد، جمعه: أُدْم. وقال الأصمعي: الآدم من الإبل: الأبيض، فإن خالطته حُمرة فهو أصهب. ومن المجاز: ظلّ أديم النهار صائماً، قيل: عامّته أو بياضه. حكى ابن الأعرابي: ما رأيته في أديم نهار ولا سواد ليل. لاحظ: تاج العروس: 10/16، مادة «أدم».

تَسُؤْكُمْ».(1) ، فقدّمنا إليه أعرابياً فرشوناه برداء على مسألته، فاعتمّ بها حتى رأيت حاشية (البُرد)(2) على حاجبه الأيمن، وقلنا له: سل رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم كيف يرفع العلم؟ إلى آخر الحديث.(3)

وأخرج أبو يعلى عن البرّاء قال: إن كان ليأتي عليّ السنة أُريد أن أسأل رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم عن الشيء فأتهيّب، وإن كنّا نتمنّى قدوم الأعراب، أي ليسألوا فيسمعوا أجوبة سؤالات الأعراب.(4)

وأخرج مسلم عن أنس قال: كان يعجبنا أن يجيء (الرجل الغافل من أهل البادية)(5) فيسأله ونحن نسمع.(6)

وعن النواس بن سمعان قال: أقمت مع رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم سنة بالمدينة لا يمنعني من الهجرة إلّاالمسألة كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه و آله و سلم.(7)

قال العسقلاني: ومراده أنّه قدم وافداً فاستمر بتلك الصورة ليحصّل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة، فيصير مهاجراً، فيمتنع عليه السؤال. قال: وفيه إشارة إلى أنّ المخاطب بالنهي عن السؤال

ص: 269


1- . المائدة: 101.
2- . من المصدر. وفي النسختين: البر. والبرد - بضم الباء - نوع من الثياب معروف. والجمع: أبرادوبرود، والبردة الشملة المخططة. النهاية لابن الأثير: 116/1، مادة «برد».
3- . تفسير الدر المنثور: 336/2؛ مسند أحمد: 266/5؛ المعجم الكبير للطبراني: 215/8؛ مجمع الزوائد: 199/1.
4- . فتح الباري: 224/13؛ تفسير ابن كثير: 157/1.
5- . في المصدر: الرجل من أهل البادية العاقل.
6- . صحيح مسلم: 32/1، باب في بيان الإيمان باللّٰه وشرائع الدين.
7- . صحيح مسلم: 7/8، باب تفسير البر والإثم.

غير الأعراب وفوداً كانوا أو غيرهم.(1)

وبالجملة لذلك وأمثاله وقع من كثير من أصحابه كثير ممّا وقع كما رجموا ماعز بن مالك(2) بعد فراره، فوبّخهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم وقال لهم: لو كان عليٌّ عليه السلام فيكم لما ضللتم.(3)

وأصابت عمّاراً جنابة فتمعّك(4) في التراب فعيّره النبي صلى الله عليه و آله و سلم.(5)

ودعا صلى الله عليه و آله و سلم على مَن غسّل مجدوراً أصابته جنابة فكز(6) فمات، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: قتلوه قتلهم اللّٰه تعالى ألا يمّموه.(7)

ص: 270


1- . فتح الباري: 224/13، باب ما يكره من كثرة السؤال.
2- . هو ماعز بن مالك الأسلمي، صحابي أتى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فاعترف بالزنا فأمر برجمه، فهرب من الحفيرة فقتلوه ووبّخهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ووداه من بيت المال.
3- . لاحظ الرواية كاملة في: الكافي: 185/7، ح 5، باب صفة الرجم؛ وسائل الشيعة: 101/28، ح 1 (34322)، الباب 15 من أبواب حدّ الزنا.
4- . تمعّك في التراب: أي تقلّب وتمرّغ. النهاية لابن الأثير: 344/4.
5- . لاحظ: الاستبصار للطوسي: 170/1، ح 4 (591)؛ بحار الأنوار: 169/78؛ سنن الدارقطني: 196/1 برقم 691.
6- . الكُزاز: داء يتولّد من شدّة البرد وتعتري منه رعدة، وقيل: هو نفس البرد. والمكْزوز: مَن أصابه تشنج من البرد الشديد أو من خروج دم كثير. والكُزّاز: الرِّعدة من البرد. والعامّة تقول: الكُزاز، وقد كزّ: انقبض من البرد. لسان العرب: 400/5، مادة «كزز».
7- . النصّ المذكور مأخوذ من روايتين: الأُولى: إنّ فلاناً أصابته جنابة وهو مجدور فغلسوه فمات، فقال: قتلوه، ألا سألوا، ألا يمّموه؟!... والثانية: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذكر له أنّ رجلاً أصابته جنابة على جرح كان به فأُمر بالغسل فاغتسل، فكزّ فمات، فقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: قتلوه قتلهم اللّٰه. وسائل الشيعة: 347/3، الباب 5 من أبواب التيمّم، الحديث 1 و 6. ولاحظ: سنن البيهقي: 227/1؛ الكافي: 68/3.

وكان أنس(1) الذي خدم رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم عشر سنين(2) لا يعرف حكم القصر في الصلاة، ولّاه الحجّاج سابور بأرض فارس، فكان يقصر مدّة سنتين من إقامته ويفطر في شهر رمضان ويقول: لا أدري مدّة مقامي وأنّ الحجّاج متى يعزلني.

وأفتى عمر بن الخطاب وعبد اللّٰه بن مسعود بأنّ الجنب يترك الصلاة ولو سنة إلى أن يجد الماء، وذكر عمّار للأوّل حكم التيمّم وما وقع لهما في السفر، وأمر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالتيمّم فلم يقنع بقوله؛ على ما رواه: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والحميدي، وعبد الرزّاق، وابن أبي شيبة، والطحاوي، وابن الأثير الجزري، والعلّامة السيوطي، وصاحب المشكاة، وصاحب المصابيح، وغيرهم.

ففي البخاري عن شقيق بن أبي سلمة قال: كنت عند عبد اللّٰه وأبي موسى، فقال له أبو موسى: أرأيت يا أبا عبد الرحمن إذا أجنب الرجل فلم يجد الماء كيف يصنع؟ فقال عبد اللّٰه: لا يصلّي حتى يجد الماء، فقال أبو موسى: فكيف تصنع بقول عمّار حين قال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يكفيك التيمّم؟ قال: ألم تر عمر لم يقنع بذلك منه، فقال أبو موسى: فدعنا من قول عمّار

ص: 271


1- . هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم الأنصاري النجاري (10 ق ه - 93، 91 ه) أبو حمزة المدني، نزيل البصرة، خادم رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم مدة مقامه في المدينة عشر سنين، وقد غزا معه غير مرّة. وهو ممّن كتم شهادته بحديث الغدير في علي عليه السلام فدعا عليه السلام عليه فابتلي بالبرص. فكان أنس يقول: لا أكتم حديثاً سئلت عنه في علي بعد يوم الرحبة. وكان الحجّاج الثقفي قد ختم في عنق أنس: هذا عتيق الحجاج حتى ورد كتاب عبد الملك بن مروان فيه. وهو آخر مَن مات من الصحابة بالبصرة. لاحظ: موسوعة طبقات الفقهاء: 49/1 برقم 6.
2- . صحيح البخاري: 141/6، كتاب النكاح، باب الهدية للعروس.

كيف تصنع بهذه الآية؟ فما درى عبد اللّٰه ما يقول.(1)

وفي صحيح مسلم عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي، عن أبيه أنّ رجلاً أتى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماء، فقال: لا تصلّ، فقال عمّار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً فأمّا أنت فلم تصل، وأمّا أنا فتمعّكت في التراب وصلّيت، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إنّما (كان) يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفّيك، فقال عمر: اتق اللّٰه يا عمّار، فقال: إن شئت لم أُحدّث به، فقال عمر: نولّيك ما تولّيت.(2)

ومثلها أو قريب منها ما في الكتب الأُخرى.(3)

وما وقع من ابن عمر من الطلاق حال الحيض معروف ورد عليه النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد ما بلغه، واستعظم ذلك أبوه حتى جعله قادحاً في استحقاقه الخلافة.(4)

ولا أدري أي الجهلين كان أعظم؟! وبعض ما ذكرنا كافٍ في فساد ما ادّعاه المعترض غير مرّة من أنّ المعاصرين للنبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يجب عليه تبليغهم على وجه يفيدهم القطع، فكيف بما لم نذكر من أضعاف أضعاف ذلك؟!

ص: 272


1- . صحيح البخاري: 90/1، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت.
2- . صحيح مسلم: 193/1، باب التيمّم. وما بين القوسين من المصدر.
3- . لاحظ: سنن ابن ماجة: 188/1 برقم 569؛ سنن أبي داود: 81/1 برقم 322، باب التيمّم؛ سنن النسائي: 166/1؛ المصنّف لعبد الرزاق الصنعاني: 239/1 برقم 915؛ مسند الحميدي: 79/1 برقم 144؛ المصنّف لابن أبي شيبة: 182/1؛ تفسير الدر المنثور: 167/2.
4- . لاحظ: صحيح البخاري: 67/6، كتاب التفسير، سورة الطلاق.

وأعجب من الجميع(1)!! خفاء حكم الإرث على أمير المؤمنين الذي وصفه هذا المعترض بأنّه باب مدينة علم الرسول، وعلى مثل فاطمة البتول والعباس بن عبد المطلب عمّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وعلى أزواجه، فهؤلاء مع شدّة المخالطة مع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ومشاركتهم له في سرّه وجهره وكونهم من عشيرته الأقربين الذين أُمر بإنذارهم خاصّة لم يعرفوا أنّهم لا يرثونه!! ولم يسمع بذلك أحد من بني هاشم مدّة حياة نبيّهم صلى الله عليه و آله و سلم ولا بعد وفاته حتى خرج بعضهم يطلب ميراثه وبعضهم يرضى بذلك الطلب!! فتبذلوا وتبذلت فاطمة المعظمة العزيزة فطلبت ظلم جميع المسلمين، ولم يبلّغهم هذا الحكم من لم يبعث إلّاللتبليغ كما يقوله هذا المعترض، ومن يجب عليه تبليغ معاصريه على وجه يفيدهم القطع!!

روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين: من المتّفق عليه أنّ فاطمة والعباس أتيا إلى أبي بكر يلتمسان ميراثهما من رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وهما يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر.(2)

وروى أيضاً: من المتّفق عليه أنّ أزواج رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم حين توفّي رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن.(3)

وأعجب من ذلك أنّه بعد أن بلّغهم أبو بكر أنّ الأنبياء لا يورّثون، جاء العباس وعلي بعد أن توفّيت فاطمة عند أبي بكر يطلبان ميراث رسول

ص: 273


1- . في «م»: ذلك الجمع.
2- . صحيح البخاري: 25/5، باب حديث بني النضير، كتاب المغازي؛ صحيح مسلم: 155/5، باب قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: لا نورث ما تركنا فهو صدقة؛ الجمع بين الصحيحين: 86/1-87.
3- . صحيح البخاري: 5/8، كتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم لا نورث ما تركنا صدقة.

اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، وبعد أن ردّهما أبو بكر ومنعهما فزعما فيه كذا وكذا، جاءا بعد أن توفّي أبوبكر عند عمر بن الخطاب يسألان ميراثهما من رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

كلّ ذلك في صحاحهم من الصحيحين وغيرهما وهذا باب لا نُحبّ الخوضَ فيه.

ثم أقول: ومن راجع كتب حديث أهل السنّة من صحاحهم ومسانيدهم ومعاجمهم وغيرها، وجد أنّ أغلب ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم إنّما وقع بعد سؤال مَن سأل وكثير منها من الأحكام التي تعمّ بها البلوى وتشتدّ إليها الحاجة، ولو ذهبنا نستقصي ذلك احتجنا إلى إفراد كتاب كبير مبسوط.

ثمّ إنّه قد يقع السؤال عن شيء فيترك جوابه رأساً لعدم كونه ممّا يعني السائل، وقد يترك إلى ما هو أهمّ منه، نظير ما وقع في قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ قُلْ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ»(2) حيث إنّ السؤال عن الذي ينفقونه والجواب بمن ينفق عليه؛ وكذا قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ»(3) بناءً على أنّ السؤال عن علّة التشكّلات الهلالية والبدرية والجواب ببيان فوائدها.

ثم من المعلوم بالضرورة أنّه بعد إثبات الرسالة إذا كان تبليغ حكم فرعي متوقّفاً على خرق عادة وإظهار معجزة وكرامة لم يكن واجباً بضرورة الشرائع والأديان؛ فإذا عرفت هذه الجملة وعرفت أنّ كون وجوب التبليغ مشروطاً بسؤال السائلين غير منافٍ للتبليغ الذي هو منصب النبي

ص: 274


1- . لاحظ: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 227/16.
2- . البقرة: 215.
3- . البقرة: 218.

الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، بل ذكر هذا المعترض أنّه لم يبعث إلّاله وأنّه غير واجب أصلاً إذا كان متوقّفاً على إظهار معجزة؛ عرفت أنّ عدم تبليغ الحجّة الغائب - سلام اللّٰه عليه وعلى آبائه الأكرمين - في عصرنا هذا غير منافٍ لكون نصبه للتبليغ، إذ التبليغ الذي هو من قبيل الواجب المطلق ويجب وقوعه، كان هناك سؤال أم لا، قد صدر من النبي صلى الله عليه و آله و سلم وما وجب بعد سؤال السائل قد وقع منه صلى الله عليه و آله و سلم شطر في أيام حياته، ومن أوصيائه الطاهرين - سلام اللّٰه عليهم أجمعين - شطر في امتداد أيامهم، ومن الإمام الغائب عليه السلام شطر في أيام الغيبة الصغرى بتوسّط السفراء ممّا يتعلّق بالصلاة والزكاة والخمس والصوم وغيرها.

وقد ضبط الطبرسي رحمه الله في آخر «الاحتجاج» جملة منها، وكذا غيره في غيره، وقد تغافل وتعامى هذا المعترض عن جميعها واقتصر على ما روي عنه عليه السلام في تفسير: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ».(1) ، فهل لهذا الداء من دواء؟!

وبعد ما اقتضت الحكمة البالغة الغيبة التامّة لم يقع سؤال حتى يبلّغ ما هو من الصنف الثاني، ولم يعلم بقاء ما هو من قبيل الصنف الأوّل، مضافاً إلى أنّ تبليغه (صلوات اللّٰه عليه) في هذا الزمان لا يمكن إلّابخرق العادة لا بمعنى أنّ نفس ظهوره لبعض الأشخاص خرق للعادة، فإنّك قد عرفت في الرسالة أنّ هذا ممّا لا يصحّ ولا ارتضيه في الجواب، بل بمعنى أنّ العلم بكونه هو الإمام الغائب وأنّ ما يبلّغه هو الحكم الواقعي ممّا لا يمكن عادة إلّا مع اقتران بيانه بمعجزة تدلّ على صدقه، كما اعترف به هذا المعترض في أصل سؤاله الأوّل حيث قال: إنّه يتمكّن من الظهور لبعض أوليائه وليكن مع معجزة تدلّ على صدقه.

ص: 275


1- . طه: 12.

وقد عرفت أنّ مثل هذا التبليغ المتوقّف على المعجزة ممّا لا يجب على نبي من الأنبياء ولا وصي من الأوصياء، فهل بقي بعد ذلك شكّ في أنّ ما يلهج به مراراً، ويأتي به كراراً، ويكرّره تكراراً من أنّ منصبه التبليغ، والناس وإن كانوا غير متمكّنين من الوصول لكنّه متمكّن من الوصول إليهم والتبليغ لهم، فكيف يهمل وظيفته ويترك منصبه؟! وأنّه يجب عليه أن يمضي إليهم هو بنفسه ويعرّفهم الأحكام، كلام قشري ناشٍ من التخبّط والوسواس، ليوقع رعاع الناس في الجهل والالتباس، فعليه أن يثبت أنّ نصبه للتبليغ ملازم لكون تبليغه واجباً مطلقاً عليه، فيجب كلّ ما يتوقّف عليه سواء سأله سائل أم لا، توقّف على إظهار معجزة أم لا.

وهذا شرح ما ذكرنا في الرسالة الأُولى من أنّ الروايات الدالّة على وجوب وجود من يفزع إليه الناس في حلالهم وحرامهم، لا يراد به التبليغ والتعريف الفعليان المنجّزان المطلقان، بل وجوب وجود مَن يحيط علماً بالأحكام بحيث لو تمكّن الناس من الرجوع إليه ورجعوا وتمكّن هو من البيان بالطرق العادية لفعل. وقلنا: إنّ هذه الروايات عامّة له ولآبائه الطاهرين سلام اللّٰه عليهم أجمعين، ولعدم إصابته الغرض من هذا الكلام - وأنّى له بذلك - جعل يكرّر إشكاله الواهي مرّة بعد أُخرى، ويتعجّب تارة ويستهزئ كرّة بعد أُولى، فليضحك الآن قليلاً وليبك كثيراً، وليستعن بأوليائه ولا يجد نصيراً.

ص: 276

الفصل الثامن: هل الغرض من نصب الإمام الغائب هو التبليغ؟

في شرح الحال في أُمور مرتبطة بالمقام وإفساد ما له من الكلام في هذه الأُمور المتعلّقة بهذا المرام، ولنذكر في هذا الفصل أُموراً:

أحدها: أنّ هذا (المعترض قد ذكر)(1) في أوّل سؤال وصل منه إلينا أنّ أخباركم متواترة في أنّ الغرض الأهمّ من نصب الإمام الغائب عليه السلام هو تبليغ الأحكام، وفرّع عليه ما ذكره من الإشكال؛ فأجبته بأنّ الأخبار المتعرّضة لحال المهدي الموعود عليه السلام من طرقنا وطرقهم متواترة لا تحصى، إلّاأنّها خالية عن الذي ذكره، وأمّا الأخبار الدالّة على ما ذكره فليست خاصّة بالإمام الغائب عليه السلام، بل تعمّه وآباءه الطاهرين من النبي وأوصيائه المعصومين (صلوات اللّٰه عليهم أجمعين)، ولا يراد بها إلّاوجوب وجود مَن يحيط علماً بأحكام الدين والدنيا بحيث لو تمكّن الناس من الرجوع إليه ورجعوا وتمكّن هو من البيان بالطرق العادية أزاح عنهم العلل، وأوضح لهم ماخفي عليهم وأشكل، ولا يراد بها التبليغ والتعريف الفعليان.

فذكر في ضمن ما كتب إلينا ثانياً أنّ عدم اختصاص الأخبار بالإمام الغائب ممّا لا يفهم المراد منه بل توجب زيادة الشناعة، وأنّ الأخبار ظاهرة في التبليغ الفعلي لا مجرّد وجود عالم بالأحكام، فبيّنت له ثانياً وشرحت

ص: 277


1- . في «م»: قد كرّر.

المراد بعض الشرح بأنّ الغرض من هذه الأخبار الصادرة عن آبائه الطاهرين الذين اتّفق المسلمون قاطبة على عفافهم وزهدهم وكمال عقولهم ورجحان أحلامهم، لا يمكن أن يراد بها معنى لا ينطبق على أنفسهم، وإلّا لكانوا بذلك ناقضين لغرضهم مبطلين لإمامتهم، وهذا المعنى ينافي - لا محالة - كونهم من العقلاء، فكيف بأن يكونوا من أكاملهم؟

فأجاب المعترض في هذه الكتابة الثالثة بأنّ الاستدلال على إرادة هذا المعنى بجلالة الأئمّة فاسد، فإنّهم إن كانوا في الجلالة كما ذكر فهذه الأخبار مكذوبة، وإن لم يكونوا كذلك فلا يبعد صدور مثل هذه الأخبار منهم!!

هذا كلامه وأنا أطلب في هذا المقام الإنصاف من العلماء وإن كانوا على طريقته، ومن ذوي الأحلام وإن كانوا من أهل نحلته أنّ مَن يقابل مثل ذاك الكلام بمثل هذا الجواب هل يستحقّ الرد والخطاب؟!

فإنّ الاستدلال إنّما كان بكونهم عقلاء لا يقدمون على نقض الغرض الذي لا يصدر من البهائم ومن الطيور بالنسبة إلى أوكارها فما ذكره في الجواب من شقّي الترديد مع قطع النظر عن قبح مثل هذا الترديد الذي لا يقدم عليه أشدّ النواصب، فاسد جداً بكلا شقّيه، لا ينبغي التفوّه به.

فإنّه على اختيار الشقّ الأوّل لا يلزم إلّاما ذكرنا لزوماً لا محيص عنه من كون صدور هذه الأخبار منهم قرينة على إرادة معنى ينطبق عليهم، فكيف يفرّع عليه كونها مكذوبة ويقول: إن كانوا في الجلالة كما تدعون فيلزم أن تكون هذه الأخبار مكذوبة، وكيف وأنّى له هذه الملازمة؟!

وعلى اختيار الشقّ الثاني وهو نفي الجلالة عنهم - والعياذ باللّٰه - كيف يقول: لا يبعد صدور مثلها عنهم؟! فإنّه على هذا التقدير لا ينفي العقل عنهم

ص: 278

وكونهم عقلاء شاعرين، والعقلاء بل البهائم العجم أيضاً يبعد عنهم صدور ما ينقض غرضهم إن لم يمتنع.

والحاصل: أنّ كلّاً من شقّي ترديده لغو صرف، وباطل محض.

ثانيها: أنّه قد ذكر مراراً عديدة أنّ مثل قوله عليه السلام: «لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللّٰهِ وَبَيِّنَاتُهُ» لا يعقل منها معنى إلّافعلية التبليغ والتعريف والبيان، لا مجرّد كونه عالماً بالأحكام، صالحاً للتبليغ وإن لم يبلّغ.

وتبيّن من كثرة تكراره لخصوص هذا الخبر من بين الأخبار أنّه أظهر دلالة من الجميع عنده، وأنّه غير قابل للحمل على المعنى الذي ندّعيه، ونحن ننقل هذا الخبر الشريف بسابقه ولاحقه ونحيل المعنى إلى إنصاف مَن له أدنى معرفة باللغة العربية ومحاوراتهم حتى يحكموا بظهوره فيما يدّعيه هذا المعترض ويكرّره مرّة بعد أُخرى أو فيما ذكرنا فنقول:

هذا الخبر مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة» في ضمن الخبر الطويل المشهور الذي ذكره جماعة كثيرة من الخاصّة والعامّة بطرق عديدة وفيرة شهيرة ينبغي لمَن أراد بسط القول في تلك الطرق إفراد رسالة مستقلة كبيرة.

قال عليه السلام: «لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلّهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللّٰهِ وَبَيِّنَاتُهُ. وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولٰئِكَ؟ أُولٰئِكَ - وَاللّٰهِ - الْأَقَلُّونَ عَدَداً، وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللّٰهِ قَدْراً. يَحْفَظُ اللّٰهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ، حَتَّىٰ يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ. هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَىٰ حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ، وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ، وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَعْوَرَهُ

ص: 279

الْمُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ. وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَىٰ. أُولٰئِكَ خُلَفَاءُ اللّٰهِ فِي أَرْضِهِ، وَالدُّعَاةُ إِلَىٰ دِينِهِ. آهِ آهِ شَوْقاً إِلَىٰ رُؤْيَتِهِمْ!».(1)

هذا كلامه صلوات اللّٰه عليه فانظر وفّقك اللّٰه في هذا الكلام وتأمّل فيه، هل يحتمل إلّاأن يكون المراد منه أنّ هذا القائم للّٰه بحجّة حامل لحجج اللّٰه وبيّناته، وأنّها محفوظة عنده مودوعة لديه، وأنّ بطلان الحجج بعدم وجوده وإن حفظها بوجوده، وأنّهم عارفون بها، وأنّهم لا يذهبون من الأرض حتى يودعوها نظراءهم من الخلفاء المتعلّقة أرواحهم بالمحلّ الأعلى، وأنّ معنى بطلان الحجج وعدمها إنّما هو وجود مَن يحملها وعدمه.

وهل يفهم أحد من هذا الكلام إلّاأنّ المشيئة النافذة والحكمة البالغة اقتضت عدم خلو الأرض ممّن كان حاملاً لحجج اللّٰه وبيّناته عارفاً بها، حافظاً لها، وإنّ أحدهم يودعها عند مَن هو مثله؟

وأين في هذا الكلام موضع الدلالة على أنّه يعرّف الناس الأحكام ويبلّغهم بالتبليغ الفعلي؟ كلّا بل هو صريح فيما ذكرنا من وجوب وجود عالم بالأحكام والحجج والأدلّة، صالح(2) للتعريف والتعليم مزيحٌ لعلل الناس لو رجعوا إليه ومكّنوه من بيانها وشرحها، ولعمري إنّ هذا المعنى واضح بعد ملاحظة قوله عليه السلام: «قائم للّٰه بحجّة» وقوله عليه السلام: «بهم يحفظ اللّٰه حججه وبيّناته»، وقوله عليه السلام: «حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم».

ص: 280


1- . نهج البلاغة: 497، قسم الحكم برقم 147، تحقيق صبحي الصالح.
2- . في «م»: صالحة.

هذا هو الحال في هذا الحديث الذي يعتقد أنّه أوضح الأحاديث فيما يدّعيه ولا يزال يكرّره، ونعمة العادة للإنسان سيّما العالم سيّما في مقام المناظرة التأمّل فيما يقوله ويكتبه ويلقيه، فلو ألقى كلمة واحدة حسنة في موقعها، أو كتب سطراً مفيداً متضمّناً لمعنى دقيق، أحسن من أن يلقي ألف كلمة في غير موقعها، أو يكتب مجلداً كبيراً في المعاني الساقطة، والمطالب الباطلة، فالأُستاد الماهر في الخط مَن إذا كتب كلمة كتبها على قواعد حسن الخط، ومَن يكتب مجلدات لا على قواعده فهو في العرف الحاضر كاتب لا أنّه من أساتيد الخط، وهذا المعترض لم يفهم من المناظرة والجواب والتصنيف إلّاإكثار المعاني الساقطة، والمطالب المبتذلة المرذولة وتكرارها، وأن يذكر عقيب كلّ كلام كلاماً ويُسمّيه جواباً، وإن كان من قبيل ما نقل عمّن سُئل أنّه لِمَ يضع المؤذن يده حال الأذان على أُذنه؟ فأجاب بأنّه إن وضع يده على فيه لم يقدر على الأذان!! وسئل أنّه لِمَ ترفع الدجاجة إحدى رجليها حال القيام؟ فأجاب بأنّها لو رفعت الأُخرى لسقطت ولم تقدر على القيام!!

ثالثها: أنّه ذكر في الرسالة السابقة نقضاً علينا حيث قلنا: إنّه لا يراد من تلك الروايات إلّاالصالح للتبليغ، بأنّه لو كفى مجرّد العالم بالأحكام لاكتفى بوجود جبرئيل؟ ونحن أجبنا عنه بأنّه مدفوع بما أجاب اللّٰه عزّ اسمه عن الكفّار بقوله تعالى: «وَ لَوْ جَعَلْنٰاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنٰاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنٰا عَلَيْهِمْ مٰا يَلْبِسُونَ».(1) فلم يقنع بهذا الجواب وجعل يكرّر هذا الكلام بعينه مرّات عديدة في هذه الرسالة اللاحقة، وذكر أنّ الآية ناظرة إلى التبليغ.

فأقول له: الغرض أنّ سنّة اللّٰه في خليقته التي لا تجد فيها تبديلاً

ص: 281


1- . الأنعام: 9.

ولاترى عنها تحويلاً أن يكون المبعوث الصالح لتبليغ الأحكام إلى الناس بشراً من جنسهم ومن سنخهم لحِكَم ومصالح كثيرة، سواء تمكّن من التبليغ أو لا، وسواء مكّنه الناس ورجعوا إليه أو خوّفوه وقتلوه، فيجب أن يكون المنصوب من قبله سبحانه في هذا الزمان أيضاً بشراً من جنس الناس.

ثم اعلم أنّ هذه الشبهة الضعيفة قديمة قد عمّرت ألف سنة تقريباً قد ورثها هذا المعترض من أبي علي الجبائي(1) كجملة أُخرى من شبهاته، وجملة منها انتحلها من ابن تيمية وصاحب التحفة يريد التجمّل بها بين عوام بغداد وسفلته.

ولننقل كلام السيد المرتضى قدس سره في «الشافي» فإنّه لا يخلو عن فائدة حسنة، فإنّه قدس سره نقل أوّلاً كلام أبي علي أنّه إن كان الغرض إثبات إمام في الزمان وإن لم يبلغ ولم يقم بالأُمور، وصحّ ذلك، (فما الأمان من أنّه جبرئيل)(2) أو بعض الملائكة في السماء ويستغنى عن إمام في الأرض، لأنّ المعنى الذي لأجله يطلب الإمام عندكم يقتضي ظهوره، فإذا لم يظهر كان وجوده كعدمه، وكان كونه في الزمان بمنزلة كون جبرئيل في السماء؟

فأجاب قدس سره بأنّه لا شكّ في أنّ الغرض ليس هو وجود الإمام فقط، بل أمره ونهيه وتصرّفه؛ لأنّ بهذه الأُمور يكون المكلّفون من القبيح أبعد، وإلى فعل الواجب أقرب، غير أنّ الظالمين منعوه ممّا هو الغرض، فاللوم فيه

ص: 282


1- . هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلّام الجبّائي (235-303 ه) من أئمّة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره، وإليه نسبت الطائفة الجبّائية، نسبة إلى (جبى) قرية من قرى البصرة، له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب، وله تفسير مطوّل. الأعلام: 256/6.
2- . في حاشية نسخة «ج»: فما المانع من أن يكون جبرئيل. خ ل

عليهم، واللّٰه المطالب لهم.

ولمّا كان ما هو الغرض لا يتمّ إلّابوجوده أوجده اللّٰه تعالى، وجعله بحيث لو شاء المكلّفون أن يصلوا إليه، وينتفعوا به لوصلوا وانتفعوا بأن يعدلوا عمّا أوجب خوفه وتقيّته، فيقع منه الظهور الذي أوجبه اللّٰه تعالى عليه مع التمكّن، ولمّا كان المانع من تصرّفه وأمره ونهيه غير مانع من وجوده لم يجز من حيث امتنع عليه التصرّف بفعل الظلمة أن يعدمه اللّٰه تعالى، أو أن لا يوجده في الأصل؛ لأنّه لو فعل ذلك لكان هو المانع حينئذٍ للمكلّفين لطفهم، ولكانوا إنّما أتوا في فسادهم، وارتفاع صلاحهم من جهته؛ لأنّهم غير متمكّنين مع عدم الإمام من الوصول إلى ما فيه لطفهم ومصلحتهم، فجميع ما ذكرناه يفرّق بين وجود الإمام مع الاستتار وبين عدمه، وبما تقدّم (يُعلم) أيضاً الفرق بينه وبين جبرئيل في السماء؛ لأنّ الإمام إذا كان موجوداً مستتراً كانت الحجّة للّٰه تعالى على المكلّفين(1) ثابتة، لأنّهم قادرون على أفعال تقتضي ظهوره، ووصولهم من جهته إلى منافعهم ومصالحهم، وكلّ هذا غير حاصل في جبرئيل عليه السلام فالمعارض به ظاهر الغلط. انتهى كلامه رفع مقامه.(2)

ثمّ إنّه بقيت مواضع كثيرة من كلامه يضيق وقتي عن استيفاء القول في جهات فسادها، وربّما يتبيّن جملة منها من تضاعيف ما أسلفنا.

ص: 283


1- . في المصدر بزيادة: به.
2- . الشافي في الإمامة: 278/1-280. وما بين القوسين من المصدر.

الفصل التاسع: في الخلافة والخلفاء بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم

اشارة

في التنبيه على فائدة حسنة طريفة وهي أنّه يظهر من صحاح روايات القوم وتصريحات جملة من أكابرهم أنّ خلافة النبي صلى الله عليه و آله و سلم المبشّرة بها على لسانه إنّما يراد بها معنى لا يشترط فيها التسلّط الفعلي والتبليغ وجباية الأموال وإقامة شعائر الشرع فعلاً، بل يراد بها مَن يصلح لهذه الأُمور وإن لم يصدر عنه لمانع.

ففي صحيح مسلم عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان». ومثله في مسند أحمد بن حنبل.(1)

وفي صحيح البخاري: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان».(2)

وفي «الكوكب المنير شرح الجامع الصغير» لشمس الدين محمد بن العلقمي الشافعي(3) تلميذ المصنّف بعد ما ذكر حديث «قريش ولاة هذا الأمر» وحديث البخاري ومسلم، قال ما لفظه: قوله: «هذا الأمر» أي الخلافة،

ص: 284


1- . صحيح مسلم: 3/6، باب الناس تبع لقريش؛ مسند أحمد: 29/2 و 93 و 128.
2- . صحيح البخاري: 155/4، باب مناقب قريش.
3- . هو محمد بن عبد الرحمن بن علي بن أبي بكر العلقمي (897-969 ه) فقيه شافعي، من بيوتات العلم في القاهرة، كان من تلاميذ جلال الدين السيوطي، ومن المدرسين بالأزهر. له مصنّفات منها: الكوكب المنير بشرح الجامع الصغير، قبس النيرين على تفسير الجلالين، مختصر إتحاف المهرة بأطراف العشرة، وغيرها. الأعلام: 195/6.

قوله: «ما بقي منهم اثنان» في رواية ما بقي من الناس، ولمّا كان الناس تبعاً لقريش في الجاهلية وهم رؤساء العرب، كانوا تبعاً لهم في الإسلام وهم أصحاب الخلافة، وهي مستمرة لهم إلى آخر الدنيا ما بقي من الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله عليه السلام فمن زمنه إلى الآن الخلافة في قريش من غير تزاحم فيها وإن كان المتغلّبون ملكوا البلاد. انتهى(1)

أقول: لو أراد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بخلافته المستمرة إلى انقضاء الدنيا، المعنى الذي لا يزال هذا المعترض يكرّره ويصرّ عليه، لزم كذب النبي صلى الله عليه و آله و سلم - والعياذ باللّٰه - فيما ثبت وصحّ عنه من كونها فيهم ما بقي من الناس اثنان، فترى البلاد كلّها خالية من خليفة قرشي متسلّط يجبي الخراج ويعرف الأحكام. ونقل ملك العلماء شهاب الدين(2) الممدوح بجلائل المدائح والمحامد والفضائل في كتبهم عن التشريح أنّه لمّا قتل علي بن أبي طالب - كرم اللّٰه وجهه - كانت الخلافة للحسن بن علي، ثم للحسين بن علي رضي اللّٰه عنهم، وبغى في عهد الحسين يزيد بن معاوية بغياً تغلباً(3).(4)

قلت: وأين الخلافة بالمعنى الذي يريده هذا المعترض وأين سيد الشهداء سلام اللّٰه عليه؟!

ص: 285


1- . الكوكب المنير: مخطوط. ولاحظ: عمدة القاري للعيني: 75/16؛ والنجم الثاقب للمحدّث النوري: 447/1.
2- . هو شهاب الدين أحمد بن عمر الدولت آبادي الهندي (المتوفّى 849 ه) فقيه حنفي أديب بالعربية. مولده في دولت آباد، ووفاته في جونفور. كان ينعت بملك العلماء. الأعلام: 187/1.
3- . في المصدر: صار مسلّطاً به.
4- . مناقب السادات المسمّى ب: هداية السعداء: مخطوط. لاحظ: النجم الثاقب: 448/1.

كلام طريف لصاحب التحفة

وأطرف شيء في المقام ما ذكره صاحب التحفة - الذي أفنى هذا المعترض عمره في مطالعة كلماته وملاحظة عباراته ولا يزال يفتخر بإفاداته في حاشية له على التحفة الاثني عشرية مسمّاة بمفتاح الكنوز الخفية - قال:

بدانكه خلافت پيغمبر صلى الله عليه و آله و سلم هر قدر از ظاهر اسلام قاصر مى باشد در باطن كامل مى باشد، ولهذا خلافت در ايام خليفه رابع برنگ ولايت ظهور فرمود، و بعد از آن جناب بالكليه از ظاهر مختفى گشت، و به باطن در آمد و مستور گشت، و آن معنى مستور در حضرات أئمه عليهم السلام به ترتيب ظهور فرمود، و از اين است كه فيض باطن از حضرات أئمه عليهم السلام در تمام امت منتشر گشت، و سلاسل أهل ولايت از جناب ايشان منشعب گرديد، پس در زمان ائمه خلافت پيغمبر صلى الله عليه و آله و سلم در باطن بود كه آن را امامت گويند و بعد از غيبت امام ثانى عشر آن امامت نيز در بطون رفت و أقسام ديگر از ولايت بر روى كار آمد، و هيئت وحدانيه تمام امت در اين باب نيز مرتفع گشت، و به همين اشاره است در حديث صحيح ظهور الايات بعد المائتين.(1) انتهى

ص: 286


1- . ترجمة هذه الفقرة كالتالي: اعلم أنّ خلافة النبي صلى الله عليه و آله و سلم ربّما حسب الظاهر كانت قاصرة ولكنّها باطناً كانت كاملة. ولهذا الخلافة في أيام الخليفة الرابع ظهرت بلون الولاية وبعد رحيل حضرته اختفى هذا الظاهر بالكلّية وانتقل إلى الباطن المستور. وهذا المعنى الباطني ظهر في حضرات الأئمّة عليهم السلام حسب الترتيب وقد انتشر هذا الفيض الباطني من الأئمّة عليهم السلام إلى تمام الأُمّة. وتفرّعت سلسلة الولاية من حضرته صلى الله عليه و آله و سلم ولذلك في زمان الأئمّة كانت خلافة النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الباطن تحت عنوان الإمامة، وبعد غيبة الإمام الثاني عشر ذهبت تلك الإمامة إلى الباطن أيضاً وظهرت أقسام أُخرى من الولاية وارتفعت وحدة الأُمّة في الباب أيضاً وإلى نفس الإشارة يشير الحديث الصحيح: ظهور الآيات بعد المائتين.

وموضع العجب من هذا الكلام أمران:

أحدهما: اعترافه بوجود الإمام الثاني عشر وغيبته.

والآخر: اعترافه بأنّ الخلافة النبوية معنى يجتمع مع بطونها وخفائها.

وسيأتي كلام آخر له أعجب من هذا، فانتظر.

ثمّ إنّ من المعلوم أنّ الاستيلاء التام ونظم شمل الإسلام وتعريف الأحكام واجتماع الناس على البيعة والائتمام لم يتفق لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، فلو كان مراد النبي صلى الله عليه و آله و سلم بخلفائه من يتصدّى لهذه الأُمور ويجتمع الناس على بيعته كما ذكره جماعة من أهل نحلته، لزم إنكار خلافته، ولعلّ اللازم ليس من التوالي الفاسدة عند هذا المعترض اقتداء بغير واحد من أكابرهم الماضين وأئمّتهم الشامخين، كعبد اللّٰه بن عمر وسعيد بن المسيّب وغيرهما.

عبداللّٰه بن عمر وحديث الاثني عشر

ذكر علّامتهم السيوطي في «تاريخ الخلفاء»: أخرج ابن عساكر عن عبد اللّٰه بن عمر قال: أبو بكر الصديق أصبتم اسمه، عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه، ابن عفان ذو النورين قتل مظلوماً يؤتى كفلين من الرحمة، معاوية وابنه ملكا الأرض المقدّسة، والسّفاح وسلام ومنصور وجابر والمهدي والأمين وأمير العصب كلّهم من بني كعب، كلّهم صالح لا يوجد مثله. قال الذهبي: له طرق عن ابن عمر ولم يرفعه أحد.(1)

أقول: وهذا الكلام كما أنّه صريح في إخراج أمير المؤمنين عليه السلام عن

ص: 287


1- . تاريخ الخلفاء: 329.

خلفاء النبي صلى الله عليه و آله و سلم وإدراج يزيد بن معاوية فيهم، فهو صريح أيضاً في أنّه ممّن روى حديث الاثني عشر خليفة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وقد عيّنه في هؤلاء الجماعة باجتهاده.

وفي «كنز العمال» عن سعيد بن المسيّب قال: الخلفاء ثلاثة وسائرهم ملوك، قيل: مَن هؤلاء الثلاثة؟ قال: أبو بكر وعمر وعمر، قيل له: قد عرفنا أبا بكر وعمر فمَن عمر الثاني؟ قال: إن عشتم أدركتموه، وإن متم كان بعدكم.(1)

نعيم بن حماد(2) في «الفتن» عن حبيب بن هند الأسلمي قال: قال لي سعيد بن المسيّب: إنّما الخلفاء ثلاثة، قلت: مَن؟ قال: أبو بكر وعمر وعمر، قلت: هذا أبو بكر وعمر قد عرفناهما فمَن عمر؟ قال: إن عشت أدركته، وإن مت كان بعدك. (كر، يعني أخرجه ابن عساكر).(3)

عن مالك عن سعيد بن المسيّب أنّه قال: الخلفاء أبو بكر والعمران، فقيل له أبو بكر وعمر قد عرفناهما فمَن عمر الآخر؟ قال: يوشك إن عشت أن تعرفه. يريد به عمر بن عبد العزيز (كر، بذلك المعنى).(4) ولو شاء أحد الاطّلاع على محامد هذين الجليلين العظيمين الفقيهين التي سوّدوا بها وجوه الأوراق، احتاج إلى تضييع زمان كثير.

ص: 288


1- . كنز العمال: 26/14 برقم 37848.
2- . هو نعيم بن حماد المروزي أبو عبد اللّٰه الأعور (المتوفّى 228 ه) قال الأزدي: كان يضع الحديث في تقوية السنّة وحكايات مزوّرة في ثلب أبي حنفية النعمان كلّها كذب. لاحظ الغدير: 269/5؛ المغني في الضعفاء للذهبي: 463/2 برقم 6658.
3- . الفتن: 57؛ تاريخ مدينة دمشق: 188/45.
4- . كنز العمال: 27/14 برقم 37850؛ تاريخ مدينة دمشق: 190/45.

الفصل العاشر: في طعن علماء السنّة بصحيحي: البخاري ومسلم!!

صحيح البخاري ومسلم أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم

اعلم وفقك اللّٰه تعالى أنّ اعتماد العامّة على الصحاح السّت سيّما على صحيحي البخاري ومسلم واستنادهم إليها، ومبالغتهم في الثناء عليها أمر لا يكاد يخفى على أحد، وذكر محقّقهم المناوي(1) اتّفاق أهل المشرق والمغرب على صحّة ما فيها.(2)

وذكر جماعة أنّ مَن حلف على صحّتها لم يحنث.(3)

وقال إمام الحرمين: لو حلف إنسان بطلاق امرأته أنّ ما في

ص: 289


1- . هو محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين، زين الدين الحدادي ثم المناوي القاهري (952-1031 ه) الفقيه الشافعي المتفنّن المصنّف. موسوعة طبقات الفقهاء: 334/11 برقم 3541.
2- . لاحظ فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: 27/2. أقول: بالغ علماء العامّة في صحيحي: البخاري ومسلم وأكثروا في ذلك حتى بلغوا حد الإفراط، وإليك بعض أقوالهم: قال النووي في تقريبه: 3: إنّ أصح الكتب بعد القرآن الصحيحان: البخاري ومسلم. وقال في مقدمة شرحه على صحيح مسلم: 14/1: اتّفق العلماء على أنّ أصحّ الكتب بعد القرآن العزيز: الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأُمّة بالقبول. وقال ابن حجر الهيتمي المكي في الصواعق المحرقة: 9، الفصل الأوّل: الصحيحان هما أصحّ الكتب بعد القرآن بإجماع مَن يُعتدّ به.
3- . راجع: شرح صحيح مسلم للنووي: 19/1-20.

الصحيحين ممّا حكما بصحّته هو من قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ألزمته الطلاق، لإجماع المسلمين على صحّته.(1)

وذكروا أنّ البخاري ألّف صحيحه في بيت اللّٰه الحرام(2)، والتزم عند كتابة كلّ حديث أن يغتسل غسلاً ويصلّي ركعتين ثم يكتب.(3)

وأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم في بعض المنامات الصالحة نسب الكتاب إلى نفسه وأمر بدرسه، بل نقلوا الحديث المتّصل عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه أمر في اليقظة برواية البخاري عنه صلى الله عليه و آله و سلم وأنّ كلّ ما رواه عنه فهو صحيح.

قال صاحب «الدر الثمين(4) في مبشّرات النبي الأمين» من أعاظم هذه الفرقة وأكابرهم المحقّقين: أخبرنا(5) الشيخ أحمد النخلي(6) قال: أخبرنا

ص: 290


1- . شرح صحيح مسلم للنووي: 19/1.
2- . وقيل: إنّه صنّفه في خراسان، قال ابن حجر:... خرج إلى خراسان ووضع كتابه الصحيح فعظم شأنه وعلا ذكره. تهذيب التهذيب: 47/9. ويؤيّد ذلك قول البخاري: صنّفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة. تاريخ بغداد: 14/2؛ تاريخ مدينة دمشق: 72/52. حيث إنّ إقامته في الحجاز أقلّ من ذلك.
3- . ذكر ابن حجر في مقدّمة فتح الباري: 5: عن محمد بن يوسف الغربري قال: قال البخاري: ما كتبت في كتاب الصحيح حديثاً إلّااغتسلت قبل ذلك وصلّيت ركعتين.
4- . مؤلّف كتاب «الدر الثمين» هو ولي اللّٰه الدهلوي أحمد بن عبد الكريم بن وجيه الدين العمري، أبو عبد العزيز الدهلوي الهندي، المعروف بولي اللّٰه (1114-1176 ه) كان فقيهاً حنفياً صوفياً مفسّراً من المحدّثين، درس على والده وأُجيز منه ثم رحل وسكن الحجاز سنتين، وأخذ عن علماء الحرمين علوم الحديث، وعاد إلى الهند فاشتهر اسمه وذاع صيته بين العلماء والمتصوّفة، وتصدّر للتدريس والوعظ. موسوعة طبقات الفقهاء: 41/12 برقم 3602.
5- . في المصدر: أخبرني الشيخ أبو طاهر قال: أخبرنا...
6- . هو أحمد بن محمد بن أحمد بن علي شهاب الدين أبو محمد المكّي، الشهير بالنخلي

شيخنا السيد السند أحمد بن عبد القادر قال: أخبرنا الشيخ جمال القيرواني عن شيخه الشيخ يحيى الخطاب المالكي قال: أخبرنا عمّي الشيخ بركات الخطاب، عن والده، عن جدّه الشيخ محمد بن عبد الرحمن الخطّاب شارح مختصر الخليل قال: مشينا مع شيخنا العارف باللّٰه تعالى الشيخ عبد المعطي التونسي لزيارة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فلمّا قربنا من الروضة الشريفة ترجّلنا، فجعل الشيخ عبد المعطي يمشي خطوات ويقف حتى وقف تجاه القبر الشريف فتكلّم بكلام لم نفهمه، فلمّا انصرفنا سألناه عن وقفاته؟ قال: كنت أطلب الإذن من رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في القدوم عليه، فإذا قال لي: أقدم، قدمت ساعة ثم وقفت، وهكذا حتى وصلت إليه، فقلت: يا رسول اللّٰه أكل ما روى البخاري عنك صحيح؟ فقال: صحيح، فقلت له: أرويه عنك يا رسول اللّٰه؟ قال: أروه عنّي.

وقد أجاز الشيخ عبد المعطي نفعنا اللّٰه به الشيخ محمد الخطاب أن يرويه عنه، وهكذا كلّ واحد أجاز من بعده، وأجاز السيد أحمد بن عبد القادر النخلي أن يرويه عنه بهذا السند، وأجاز النخلي لأبي طاهر، وأجاز أبو طاهر لنا.

ووجدت هذا الحديث بخط الشيخ عبد الحقّ الدهلوي(1) باسناد له

ص: 291


1- . هو الشيخ أبو المجد عبد الحق بن سيف الدين الدهلوي (959-1052) فقيه حنفي من أهل دهلي بالهند كان محدّث الهند في عصره، جاور الحرمين الشريفين أربع سنوات وأخذ عن

عن الشيخ عبد المعطي بمعناه وفيه: فلمّا فرغ من الزيارة وما يتعلّق بها سأله أن يروي عنه صلى الله عليه و آله و سلم صحيح البخاري وصحيح مسلم، فسمع الإجازة من النبي صلى الله عليه و آله و سلم فذكر صحيح مسلم أيضاً. انتهى بألفاظه.(1)

فترى في هذا الحديث أنّ كلّ واحد لم يكتف بالنقل للآخر وروايته له وتحديثه به حتى أجازه أيضاً، وأنّ احتمال السهو والنسيان والإرسال والانقطاع وغيرها غير جارٍ فيه، فلو شكّ بعد ذلك أحد في مثله ولم يقطع بثبوته لم يجز له الاعتماد على إجازات علمائهم التي يفتخرون بها ويباهون باتصالها، بل كان الكلّ عنده مغشوشة مخدوشة؛ كما أنّ عبد المعطي من شدّة تورّعه واحتياطه لم يكتف بقول النبي صلى الله عليه و آله و سلم له إنّ كلّ ما روى البخاري عنه صحيح، حتى استفهمه ثانياً واستأذن منه في الرواية عنه.

ثم إنّ جماعة من أعاظم محقّقيهم ذهبوا إلى إفادة ما في الصحيحين بصحّته، بل القطع بصدوره من النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ونقل النووي(2) في التقريب هذا

ص: 292


1- . الدر الثمين في مبشرات النبي الأمين: الحديث 33؛ كما في استخراج المرام في استقصاء الإفحام للميلاني: 357/2-358. وراجع هدى الساري مقدّمة فتح الباري: 5.
2- . هو يحيى بن شرف بن حسن الحزامي، محيي الدين أبو زكريا النووي الدمشقي (631-676 ه) كان فقيهاً شافعياً عارفاً بالمذهب مفتياً حافظاً ولي دار الحديث الأشرفية واشتهر اسمه، له مصنّفات كثيرة، منها: شرح صحيح مسلم (مطبوع)، التقريب والتيسير في مصطلح الحديث (مطبوع)، المنشورات وهو كتاب فتاويه (مطبوع) وغيرها. ولد في بلدة نوى (من قرى حوران السورية) وتوفّي بها. موسوعة طبقات الفقهاء: 302/7 برقم 2639.

القول عن ابن الصلاح(1) قال: وذكر الشيخ - يعني ابن الصلاح - أنّ ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحّته، والعلم القطعي حاصل فيه.(2)

وذكر السيوطي في «تدريب الراوي» في شرح هذا الكلام أنّه قال: - يعني ابن الصلاح(3) - خلافاً لمن نفى ذلك محتجّاً بأنّه لا يفيد إلّاالظنّ وإنّما تلقّته الأُمّة بالقبول، لأنّه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ قال:

وكنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً، ثم بان لي أنّ (المذهب) الذي اخترناه أوّلاً هو الصحيح؛ لأنّ ظن مَن هو معصوم عن الخطأ لا يخطئ، والأُمّة في إجماعها معصومة من الخطاء، ولذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حجّة مقطوعاً بها.

وقد قال إمام الحرمين لو حلف إنسان بطلاق امرأته أنّ ما في الصحيحين ممّا حكما بصحّته من قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم ألزمته الطلاق، لإجماع علماء المسلمين على صحّته.

إلى أن نقل السيوطي عن البلقيني(4) أنّه قال: نقل بعض الحفّاظ

ص: 293


1- . هو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي النصر الكردي، تقي الدين أبو عمروالشهرزوري المعروف بابن الصلاح (577-643 ه) أحد أعلام الشافعية ولد في شرخان (قرب شهرزور) وتفقّه على والده الصلاح وارتحل في طلب العلم إلى الموصل وبغداد وهمذان ونيسابور ومرو وحلب ودمشق ودرّس بالمدرسة الصلاحية بالقدس، ثمّ استقر بدمشق. من مصنفاته: معرفة أنواع الحديث (مطبوع) ويعرف بمقدمة ابن الصلاح، الأمالي، الوسيط في الفقه، وغيرها. توفّي في دمشق. موسوعة طبقات الفقهاء: 152/7 برقم 2512.
2- . شرح صحيح مسلم: 19/1؛ تقريب النووي: 23.
3- . مقدّمة ابن الصلاح: 30.
4- . هو عمر بن رسلان بن نصير بن صالح البلقيني، أبو حفص العسقلاني المصري (724-805 ه)

المتأخّرين مثل قول ابن الصلاح عن جماعة من الشافعية، ك: أبي إسحاق(1) وأبي حامد الاسفرائيين(2) والقاضي أبي الطيب(3) والشيخ أبي إسحاق الشيرازي(4)، وعن السرخسي(5) من الحنفية، والقاضي عبد

ص: 294


1- . هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفراييني، كان يلقّب بركن الدين وهوأوّل من لقّب من الفقهاء، نشأ في إسفرايين - وهي مدينة بين نيسابور وجرجان - ثم خرج إلى نيسابور ودرّس فيها، ورحل إلى خراسان وبعض أنحاء العراق. له مناظرات مع المعتزلة. مات في نيسابور سنة 418 ه. ودفن في إسفرايين. الأعلام: 61/1.
2- . هو أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الاسفرائيني الشافعي (344-406 ه) ولد في اسفرايين ورحل إلى بغداد فتفقّه فيها وعظمت مكانته. له مصنّفات منها مطول في أُصول الفقه، ومختصر في الفقه سمّاه «الرونق». توفّي ببغداد. الأعلام: 211/1.
3- . هو طاهر بن عبد اللّٰه بن طاهر بن عمر، القاضي أبو الطيب الطبري (348-450 ه) أحد فقهاء الشافعية الكبار وعلمائهم المشهورين، ولد بآمل ودرس فيها ثم ارتحل إلى نيسابور، وقدم بغداد واستوطنها ودرّس فيها وأفتىٰ حتى اشتهر بها وولي القضاء بربع الكرخ، صنّف في الخلاف والمذهب والأُصول. موسوعة طبقات الفقهاء: 148/5 برقم 1827.
4- . هو إبراهيم بن علي بن يوسف، أبو إسحاق الشيرازي (393-476 ه) نزيل بغداد، الفقيه الشافعي الكبير. ولد بفيروزآباد (بلدة قرب شيراز) درس في شيراز والبصرة ثم قدم بغداد ولازم أبا الطيب الطبري وصار معيد درسه والنائب عنه في مجلسه. وصنف في الأُصول والفروع والمذهب، وكان ينظم الشعر ويحفظ منه الكثير. توفّي ببغداد. (موسوعة طبقات الفقهاء: 7/5 برقم 1688.
5- . هو محمد بن أحمد بن أبي سهل، أبو بكر السرخسي، (المتوفّى حدود 490 ه) كان من كبار

الوهاب(1) من المالكية، وأبي يعلى(2) وابن الزاغوني(3) من الحنابلة، وابن فورك(4) وأكثر أهل الكلام من الأشعرية وأهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامّة - إلى أن قال: - وقال ابن كثير: وأنا مع ابن الصلاح فيما عوّل عليه وأرشد إليه.

قال السيوطي: قلت: وهو الذي اختاره ولا أعتقد سواه.(5)

أقول: وممّن اختار هذا القول هو العلّامة الحافظ العسقلاني، وشيخه

ص: 295


1- . هو عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي، أبو محمد القاضي (362-422 ه) من فقهاءالمالكية، له نظم ومعرفة بالأدب. ولد ببغداد وولي القضاء في أسعرد وبادرايا في العراق، ورحل إلى الشام فمرّ بمعرّة النعمان واجتمع بأبي العلاء المعرّي. وتوجّه إلى مصر فعلت شهرته وتوفّي بها. له عدّة كتب، منها: التلقين، شرح المدونة، غرر المحاضرة ورؤوس مسائل المناظرة. الأعلام: 184/4،
2- . هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف، القاضي أبو يعلى البغدادي (380-458 ه) شيخ الحنابلة، يعرف بابن الفرّاء. برع في الفقه ثم أفتى ودرّس، وكان من مشاهير فقهاء الحنابلة، عالماً بعلوم القرآن والتفسير والنظر والأُصول. له مصنّفات كثيرة، منها: أحكام القرآن، العدة في أُصول الفقه، الأحكام السلطانية. موسوعة طبقات الفقهاء: 289/5 برقم 1969.
3- . هو علي بن عبيد اللّٰه بن نصر بن الزاغواني، أبو الحسن البغدادي (455-527 ه) كان من أعيان الحنابلة فقيهاً أُصولياً واعظاً مصنفاً. من مصنّفاته: الخلاف الكبير، الإيضاح في أُصول الدين، الإقناع. موسوعة طبقات الفقهاء: 197/6 برقم 2238.
4- . هو محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري، أبو محمد الاصبهاني الشافعي. سمع بالبصرة وبغداد، وحدّث بنيسابور وبنى فيها مدرسة وتوفّي على مقربة منها سنة 406 ه. من كتبه: الحدود في الأُصول، مشكل الحديث وغريبه، وحل الآيات المشكلات. الأعلام: 83/6.
5- . تدريب الراوي: 131/1-134 بلتخيص.

البلقيني، وابن تيمية.

أمّا الأوّل فقد صرح به في «شرح نخبة الفكر» قائلاً: إنّ الخبر المحتف بالقرائن أنواع؛ منها: المشهور إذا كانت له طرق متبائنة سالمة من ضعف الرواة والعلل؛ ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ممّا لم يبلغ حدّ التواتر، فإنّه احتفت به قرائن، منها: جلالتهما في هذا الشأن، وتقدّمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقّي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقّي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرّد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، وليس الاتّفاق على وجوب العمل فقط. فإنّ الاتّفاق حاصل على وجوب العمل بكلّ ما صحّ ولو لم يخرجه الشيخان، فلم يبق للصحيحين في هذا مزية، والإجماع حاصل على أنّ لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحّة. وممّن صرّح من أئمّة الأُصول بإفادة ما خرّجه الشيخان، العلمَ اليقيني النظري الأُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني، ومن أئمّة الحديث أبو عبد اللّٰه الحميدي(1)وأبو الفضل بن الطاهر(2).(3)

ص: 296


1- . هو محمد بن فتوح بن عبد اللّٰه بن فتوح بن حميد الأزدي الميورقي الحميدي، الحافظ أبو عبداللّٰه بن أبي نصر الأندلسي (420-488 ه) الفقيه الظاهري صاحب ابن حزم وتلميذه. أصله من قرطبة من أهل جزيرة ميورقة. رحل إلى مصر ودمشق ومكّة وأقام ببغداد وتوفّي فيها. قال عنه الذهبي: المتقن الحافظ، شيخ المحدّثين... وجمع وصنّف، وعمل (الجمع بين الصحيحين) ورتّبه أحسن ترتيب. سير أعلام النبلاء: 120/19 برقم 63؛ الأعلام: 327/6.
2- . هو أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي الشيباني، المعروف بابن القيسراني (448-507 ه) الحافظ الجوال الرحّال، الظاهري الصوفي. ولد ببيت المقدس ووفاته ببغداد، رحل إلى مصر والحرمين والشام والجزيرة والعراق وأصبهان وفارس وخراسان، وكتب ما لا يوصف كثرة، وصنّف وجمع وله كتب كثيرة. لاحظ: سير أعلام النبلاء: 368/19.
3- . شرح نخبة الفكر: 26-27 مع تقديم وتأخير.

وأمّا الثانيان فلما في إمعان النظر في توضيح «نخبة الفكر» بعد ذكر مذهب ابن الصلاح (قال: وانتصر لابن الصلاح)(1) المصنّف ومن قبله شيخه البلقيني تبعاً لابن تيمية، وقد حرّر صاحب(2) دراسات اللبيب دليل ابن الصلاح تحريراً وافياً فقال: تمسّك ابن الصلاح بما صورة شكله: ما في الصحيحين مقطوع الصدور عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّ الأُمّة اجتمعت على قبوله، وكلّ ما اجتمعت الأُمّة على قبوله مقطوع، فما في الصحيحين مقطوع.

أمّا ثبوت الصغرى فبالتواتر عن الأسلاف إلى الأخلاف.

وأمّا الكبرى فبما يثبت قطعية الإجماع ولو على الظن، كما إذا حصل الإجماع في مسألة قياسية، فإنّ الإجماع هناك ظنون مجتمعة أورثت القطع بالمظنون، لعصمة الأُمّة، فكذلك أخبار الآحاد مظنونة في نفسها، فإذا حصل الإجماع عليها أورثت القطع.(3)

ثم حرّر دليل النووي في المعارضة ثم شرع في تحرير دليل ابن الصلاح(4) وقال: له أن يحرر دليله ويقول من البديهيات الأوّلية أنّ كلّ مَن

ص: 297


1- . ليس في «م».
2- . صاحب كتاب «دراسات اللبيب في الأُسوة الحسنة بالحبيب» هو محمد معين بن محمد أمين بن طالب اللّٰه السندي الهندي التتوي الحنفي (المتوفّى سنة 1161 ه) أحد العلماء المبرزين في الحديث والكلام والعربية، من تلاميذ الشيخ عبد القادر مفتي مكة. ولد ونشأ بإقليم السند... نزهة الناظر لعبد الحيّ: 351/6-355؛ أهل البيت عليهم السلام في المكتبة العربية لعبد العزيز الطباطبائي: 19.
3- . دراسات اللبيب كما في نفحات الأزهار للميلاني: 179/17.
4- . وذلك في رسالة أسماها: «غاية الإيضاح في المحاكمة بين النووي وابن الصلاح» المدرجة في كتابه: «دراسات اللبيب في الأُسوة الحسنة بالحبيب».

يدرك صحّة كلام ينسب إلى قائل يدرك على حسبها تحقّق نسبته وصدوره عنه في نفس الأمر، فإن أدرك الصحّة قطعاً بعلم يقيني علم صدوره عنه قطعاً، وإن ظنّاً فظنّاً، وإن شكّاً فشكّاً على أنّه ليس من الإدراك في شيء، وإنّما غرضنا التوسيع في تفرّع إدراك المدلول على إدراك الدالّ على نحوه، فمَن علم صحّة قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وصدّق صدوره عنه قطعاً، كالمتواتر من الأحاديث، قطع بما أفاده من فعل الرسول أو قوله، وإن ظن صحّته في نسبة صدوره عنه ظنّاً غالباً كما في الأحاديث التي حكم عليها بالصحّة المصطلحة عند المحدّثين فذلك، وإن ظن ظنّاً مغلوباً كما في الضعاف فذاك، فظهر أنّ الحكم على قول من أقوال الشارع أنّه صحيح مصطلح يلزمه غلبة ظن أنّه كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم وبهذه الغلبة يجب عليه العمل بما فيه ولو لم يكن ذلك اللزوم لما وجب الأخذ عليه، فإذا ثبت عندنا إجماع الأُمّة على حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه صحيح على اصطلاح المحدّثين، ثبت عندنا إجماعهم على أنّه كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم ظنّاً غالباً منهم، وظنّ الأُمّة بأجمعهم على شيء مقطوع العصمة عن الخطاء، وكلّ ظن مقطوع بعصمته عن الخطاء قطعي التحقّق والثبوت، فكون هذا الكلام كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم قطعي قال بمعنى مقطوع الصدور عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فإنّ كلّ ما اجتمعت الأُمّة على صحّته لو لم يكن كذلك لزم أحد الأمرين: إمّا عدم ظن ما اجتمعوا على صحّتها واقعاً وصادراً عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم وهو خلاف البداهة عقلاً، وإمّا عدم إيراث الظنون المجتمعة القطع، وهو باطل بدليل قطعية الإجماعات الاجتهادية.

ثمّ إنّ شارح النخبة وإن خصّ هذا المعنى بالأحاديث التي في الصحيحين ممّا لم ينتقدها أحد من الحفّاظ، وممّا لم يقع التجاذب بين

ص: 298

مدلوليه، إلّاأنّ لهذا القائل كلاماً طويلاً في هذا التخصيص لا يهمنا ذكره.

بعض علماء السنّة يطعنون بأحاديث الصحيحين عند مناظرة الشيعة!!

إذا عرفت هذا كلّه فنقول: إنّ هذه الفرقة مع هذه الدعاوي العريضة الطويلة في صحاحهم أو في صحيحيهم وقطعية صدورها، واتّفاق علماء المشرق والمغرب على العمل بها، كثيراً ما يتّفق من شيوخهم وأعاظمهم عند مناظرة الإمامية واحتجاجهم بأحاديث الصحيحين الجرح والقدح والغمز واللمز والثلب والقصب لها وفيها، ألاترى أنّ حديث المنزلة مع ذكره في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والمعاجم والكتب وتعدّد طرقه، واعتراف جملة منهم بتواتره، لا يتركون في مقام الجواب الطعن في سنده ومنع صحّته.

فهذا العضدي(1) محقّقهم ذكر في «المواقف» في الجواب عن حديث المنزلة ما نصّه: والجواب منع صحّة الحديث.(2)

وكذا الشارح القديم للتجريد قال: لا يصحّ الاستدلال به من جهة السند كما تقدّم في الخبر المتقدّم، ولئن سلم صحّة سنده إلخ.(3) ومثله في شرح الطوالع.(4)

ص: 299


1- . عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، القاضي عضد الدين الإيجي. من أهل إيج بفارس. من تصانيفه: المواقف في علم الكلام (مطبوع)، العقائد العضدية (مطبوع)، الرسالة العضدية (مطبوع). توفّي سنة 756 ه. الأعلام: 295/3.
2- . المواقف: 603/3.
3- . شرح التجريد: مخطوط.
4- . شرح الطوالع: مخطوط. ومؤلّفه هو محمود بن عبد الرحمن بن أحمد، شمس الدين

وفي شرح القوشجي:(1) وأُجيب بأنّه على تقدير صحّته. إلخ.

الآلوسي يطعن في أحاديث الصحيحين على خلاف المشهور عند السنّة!!

ثم تلاهم هذا المعترض فذكر في حديث: «من مات وليس في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية»(2) المروي في صحيح البخاري كلاماً ثم قال:

ولو سلّمنا صحّته فهو لا ينطبق إلخ، فنحن في هذا الفصل نطالبه بأُمور ننتظر جوابها ونشتاق إلى توضيحها.

أحدها: أنّه بماذا يعتذر عند أهل نحلته وعلماء طريقته في هذه الجرأة والجسارة على خبر مذكور في مثل صحيح البخاري، جامع لشروط الصحّة عندهم مع إجماع الأُمّة على العمل بأخباره، وتلقّيهم إيّاها بالقبول من جهة مزية زائدة على نفس الصحّة راجعة إلى إخراج مثل البخاري له في صحيحه؟!

فإن تنبّه لذلك واعتذر بإرجاع الضمير في صحّته إلى الاعتماد لا إلى الخبر، طالبناه بأمر ثان وهو: الوجه في عدم جواز الاعتماد على الخبر الصحيح في مثل المسألة التي اتّفقوا على كونها من العمليات، وجواز الاكتفاء فيها بالظن المعتبر، وعدم اعتمادنا عليه لا يوجب عدم اعتماده فهو لا يقلّدنا في هذه الأُمور، فإذا تمّت عليه ما هو حجّة عنده وجب عليه

ص: 300


1- . شرح القوشجي علاء الدين: 370، كما في نفحات الأزهار للميلاني: 167/17.
2- . لم أجده في صحيح البخاري. ووجدناه في صحيح مسلم: 22/6، باب حكم مَن فرّق بين المسلمين.

الإذعان والقبول، أذعن خصمه أو لا.(1)

ولو جزنا عن ذلك طالبناه بأمر ثالث وهو: الوجه في دعوى كون هذا الخبر كخبر «الاثني عشر» الذي اتّفق الشيخان وغيرهما على نقله وإخراجه، خبراً واحداً لا يوجب علماً، مع ما عرفت في الدليل الذي استدلّ به ابن الصلاح وغيره وحرّره صاحب الدراسات. وما ادّعاه العسقلاني في «شرح النخبة» أنّ الخبر الذي رواه الشيخان مجتمعين أو منفردين يفيد العلم القطعي النظري، فنطلب منه أن يحرر تحريراً شافياً وافياً ببطلان دليل ابن الصلاح بالتحرير الماضي، أو يعترف بخطائه في دعوى أنّ مثل الخبر الذي اتّفق الشيخان على نقله وأورد له مسلم طرقاً عديدة كثيرة من الآحاد التي لا توجب علماً.

ثم نطلب منه شيئاً رابعاً وهو: بيان الداعي له على العدول في هذه المسألة عن الذي ذكره السيوطي أنّه مذهب عامّة السلف، مع أنّ المعهود منه ترويج طريقة السلف، وعمّا اختاره ابن تيمية في هذه المرحلة مع انهماكه في متابعة دعاويه، فنرجو أن لا يحرمنا من بيان هذه الفوائد الشريفة والمسائل اللطيفة.

أصل خلافة أبي بكر وأساسها كان على خبر الواحد

ثم نذكر له أمراً خامساً وهو: أنّ أصل الخلافة البكرية وأساسها كان على خبر الواحد، وهو ما تفرّد بروايته أبو بكر في مثل ذاك المقام وذاك المدّعى، وهو خبر أنّ الأئمّة من قريش على ما صرّح به كثير من محقّقي

ص: 301


1- . شرح المختصر: 59/2، لاحظ المواقف: 588/3 و 600-601.

علمائهم، واستشهدوا به على جواز العمل بخبر الواحد!! فسبحان اللّٰه كيف تكون مسألة واحدة ممّا يجوز العمل فيها بخبر الواحد ولا يجوز؟!

ففي شرح المختصر للعضدي: عمل الصحابة بخبر أبي بكر: «الأئمّة من قريش».

وفي شرح المسلم: عمل كلّ من الصحابة بخبر أبي بكر: «الأئمّة من قريش».(1)

وقال إمامهم الرازي في «نهاية العقول»: قوله: الأنصار طلبوا الإمامة مع علمهم بقوله عليه السلام: الأئمّة من قريش.

قلنا: هذا الحديث من باب الآحاد ثم إنّه ضعيف الدلالة على منع غير القرشي من الإمامة؛ لأنّ وجه التعلّق به إمّا من حيث إنّ تعليق الحكم بالاسم يقتضي نفيه عن غيره، أو لأنّ الألف واللام يقتضيان الاستغراق. والأوّل باطل، والثاني مختلف فيه، فكيف يساوي ذلك ما يدّعونه من النصّ المتواتر الذي لا يحتمل التأويل؟

وأيضاً: فإنّ الحديث مع ضعفه في الأصل والدلالة لمّا احتجوا به على الأنصار تركوا طلب الإمامة، فكيف يعتقد بهم عدم قبول النصّ الجلي المتواتر؟ انتهى.(2)

فثبت باعتراف هؤلاء الأعلام أنّ أصل الخلافة وأساسها ودفع الأنصار كان بخبر واحد ضعيف الأصل والدلالة.

ص: 302


1- . فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت لعبد العلي الأنصاري الهندي (المطبوع في هامش المستصفى): 132/2، كما في شرح منهاج الكرامة للميلاني: 85/2.
2- . نهاية العقول: المسألة الثامنة من الأصل العشرين، كما في نفحات الأزهار: 172/17.

ثمّ إنّ صاحب «النواقض»(1) كأنّه استحيى من كون أصل الخلافة البكرية مستنداً إلى رواية تفرّد هو بنفسه بروايته فأسندها إلى رجل منكر ناقلاً عن أصحاب الحديث وغيرهم قال: اعلم أنّ أرباب السير وأصحاب الحديث نقلوا أنّ يوم السقيفة لمّا اختلفوا أوّلاً في أمر الخلافة وكانت الأنصار يقولون: لا نرضى بخلافة المهاجرين علينا بل منّا أمير ومنكم أمير، فقام رجل وقال: سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «الأئمّة من قريش» فسكت الأنصار وبايعوا أبا بكر، لغاية اتّباعهم أقوال النبي صلى الله عليه و آله و سلم وكمال تقواهم، ومع أنّ خلافة المهاجرين عليهم كانت عندهم مكروهة غاية الكراهة، رضوا بمحض خبر واحد وإن كان لهم مجال بحث فيه.(2)

وقال ابن روزبهان(3): فأمّا حديث «الأئمّة من قريش» فلم يروه أبو بكر، بل رواه غيره من الصحابة، وهو كان لا يعتمد على خبر الواحد.(4)

وبالجملة فالمأمول من المعترض أن لا يضايق بإفادة ما عنده من الحقائق في هذه المضايق.

ص: 303


1- . صاحب النواقض هو الميرزا مخدوم الشريفي حفيد الشريف الجرجاني شارح المواقف من أعلام القرن العاشر الهجري.
2- . النواقض: مخطوط، الفصل الثالث، الدليل العاشر، كما في: نفحات الأزهار: 173/17.
3- . هو القاضي فضل بن روزبهان الاصفهاني المنسوب من الأُم إلى الشريف الجرجاني. ذيل كشف الظنون لآقا بزرگ الطهراني: 95.
4- . كتاب الباطل كما في النفحات: 175/17.

الفصل الحادي عشر: في بعض الكلام في حديث الثقلين

اشارة

لا يخفى أنّ هذا الحديث من المتواترات الجلية والقطعيات اليقينية التي صدع بها سيد البرية - عليه وآله آلاف ألف سلام وتحية - وقد أفرد بعض الأكابر مجلّداً كبيراً في أسماء ناقليه ومخرجيه من العامّة. ولفظ الحديث على ما رواه أحمد بن حنبل عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي قد تركت فيكم ما إن (تمسكتم بهما)(1) لن تضلّوا بعدي الثقلين أحدهما أكبر من آخر: كتاب اللّٰه(2) ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي. ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».(3)

وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يوماً فينا خطيباً بماء يُدعى خمّاً بين مكة والمدينة، فحمد اللّٰه وأثنى عليه ووعظ وذكّر، ثم قال: «أمّا بعد ألا يا أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني(4)رسول ربّي فأُجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب اللّٰه فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللّٰه واستمسكوا به» فحثّ على كتاب اللّٰه ورغّب فيه ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم اللّٰه في أهل بيتي» ثلاثاً.(5)

ص: 304


1- . في المصدر: أخذتم به.
2- . في المصدر بزيادة: حبل.
3- . مسند أحمد: 59/3. ولاحظ ص 14، 17 و 26 ذكر الحديث باختلاف يسير في الألفاظ.
4- . في المصدر: يأتي.
5- . صحيح مسلم: 122/7، باب فضائل علي عليه السلام.

ورواه أحمد في المسند أيضاً بهذه الألفاظ.(1)

وروى عن زيد بن ثابت قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّي تارك فيكم خليفتين: كتاب اللّٰه حبل ممدود (ما) بين السماء والأرض، أو ما بين السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض جميعاً».(2)

وفي «تفسير الثعلبي» عن أبي سعيد قال: سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «أيّها الناس (إنّي تركت فيكم الثقلين خليفتين)(3) إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّٰه حبل ممدود بين السماء والأرض، أو قال: إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».(4)

حديث الثقلين متواتر وطرقه كثيرة

وبالجملة فهذا الحديث من المتواترات القطعيات، وطرقه كثيرة شهيرة، وصحاح العامّة ومسانيدهم ومعاجمهم وجوامعهم(5) متضمّنة لها لا فائدة في نقلها، ولذا لم يتفوّه هذا المعترض مع غاية مماراته بما تفوّه في

ص: 305


1- . مسند أحمد: 367/4.
2- . مسند أحمد: 182/5 و 189. وما بين القوسين من المصدر.
3- . في المصدر: إنّي قد تركت فيكم خليفتين.
4- . تفسير الثعلبي: 163/3.
5- . لاحظ: سنن الترمذي: 328/5 برقم 3874 و 329 برقم 3876؛ السنن الكبرى للنسائي: 45/5 برقم 8148؛ سنن الدارمي: 431/2؛ سنن البيهقي: 30/7؛ مستدرك الحاكم: 109/3 و 148؛ مجمع الزوائد: 170/1 و ج 163/9 وج 363/10؛ صحيح ابن خزيمة: 63/4؛ وغيرها كثير.

أمثاله من أنّه خبر واحد، وإن أنكر تواتره فليخبرنا حتى نبعث إليه ما ينكشف له الخُبْر من الخَبَر.

وفي «الصواعق» لابن حجر المكي: اعلم أنّ لحديث التمسّك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً، وفي بعض الطرق أنّه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي آخر أنّه قال بغدير خم، وفي آخر أنّه قال بالمدينة في مرضه وقد ملئت الحجرة بأصحابه، وفي آخر أنّه قال: لمّا قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف؛ ولا تنافي إذ لا مانع من أنّه كرّر عليهم في تلك المواطن وغيرها، اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة. انتهى.(1)

ثمّ إنّ الخبر صريح في أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن أخبرهم بقرب رحيله كما في كثير من طرق هذا الخبر. «أنّه لن يعمّر نبي إلّانصف عمر الذي قبله»، وفي كثير من طرقه: «انّه يوشك أن أُدعى فأُجيب» أراد تعيين ما يرجعون إليه بعده ويتمسّكون به، فعبّر عنه بالثقل الذي هو المتاع النفيس الجليل، أو بخليفته، أو بكليهما، وجعل أهل بيته قريناً للكتاب الذي فيه الهدى والنور، وأمر بالتمسّك بهما بلفظة واحدة على وجه الإطلاق، وجعل التمسّك بهما سبباً لعدم الوقوع في الضلال أبداً، وأخبر بأنّه لن يفترق أحدهما عن الآخر.

وفي جملة من طرقه قال صلى الله عليه و آله و سلم: «نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا» تأكيداً للبيان وتشييداً، وإن كان كلّ ما يخبر به فهو عن اللّٰه تعالى وإن لم يسنده إليه تعالى، وهو صريح في أنّه خلف من أهل بيته بين الناس من هو حليف للقرآن قرين له، مخرج لمن تمسّك به من الضلالة إلى الهدى.

ص: 306


1- . الصواعق المحرقة: 150.

حديث الثقلين دليل على عصمة أهل البيت عليهم السلام

ويدلّ على عصمته أيضاً بأوضح بيان من حيث جعله قريناً للقرآن وإيجاب التمسّك به على وجه الإطلاق، والإخبار بأنّ التمسّك به لا يوجب الضلال أبداً، ثم صرّح بهذا المعنى أوضح تصريح أنّه لا يفارق القرآن حتى يردا معاً عليه الحوض أو على الحوض، وهو صريح في العصمة.

وتفسير زيد بن أرقم: «أهل بيته» بجميع قرابته مردود عليه تعرّض جماعة من الخاصّة والعامّة لفساده مع أنّه يأباه صريح ألفاظ الحديث، وبعد ملاحظة أنّ إيداع الكتاب ليس لأهل عصر دون عصر، وأنّ تخليفه وتخليف أهل بيته إنّما وقع شفقة ورحمة على أُمّته بأن يكون فيهم مَن لو تمسّكوا به لن يضلّوا، وأنّ العلّة عامّة لجميع الأعصار، يتبيّن وجود رجل معصوم قرين للقرآن من أهل بيته في كلّ عصر، وليس إلّاما يدّعيه الإمامية.

فإذا انضم ذلك إلى الأخبار الدالّة من طرقنا وطرقهم على أنّ لكلّ زمان إماماً يجب على الناس معرفته، ويكون الموت مع الجهل به موت الجاهلية، والأخبار الدالّة من طرقنا وطرقهم على أنّ لكلّ أُناس في كلّ زمان إماماً يدعون به يوم القيامة يكون قريناً لكتاب اللّٰه، اتّضح المدّعى من استمرار وجود إمام من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم في كلّ عصر يؤتم به ويجب معرفته، وإنّه قرين لكتاب اللّٰه وإنّه معصوم.

هذا كلّه مضافاً إلى الأخبار المتواترة عنه صلى الله عليه و آله و سلم المروية من طرقنا وطرق أهل السنّة من إخباره بأنّ عليّاً والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون.(1) ويأتي في الفصل الآتي إلى بعضها الإشارة.

ص: 307


1- . كشف الغمة: 314/3؛ ينابيع المودّة: 316/2 برقم 910؛ إعلام الورى: 181/2؛ مناقب ابن شهر آشوب: 254/1.

إقرار صاحب التحفة ووالده بعصمة أهل البيت عليهم السلام

ولعلّه وقع لهذا وأمثاله الاعتراف من جماعة من عظماء أهل السنّة بعصمة الاثني عشر (صلوات اللّٰه عليهم) نكتفي من نقل كلماتهم بنقل كلام صاحب التحفة - الذي تهالك هذا المعترض على إفاداته، ونقل كلام والده الذي ذكر صاحب التحفة في حقّه أنّه آية من الآيات الإلهية ومعجزة من المعجزات النبوية - فنقول:

في مجموعة فتاوى صاحب التحفة وأجوبة الأسئلة المعروفة في الهند عند أهل نحلته أنّه سأله بعضهم بما ترجمته أنّه قد ثبت عند أهل الحقّ - أعني: أهل السنّة والجماعة - بالبراهين العقلية والنقلية أنّ عصمة غير الأنبياء والملائكة غير ثابتة، وعدم جواز إطلاق المعصوم على غيرهم، فما معنى ما أثبته فخر المحدّثين الشاه ولي اللّٰه قدس سره في التفهيمات الإلهية وغيرها من الصفات الأربعة للأئمة الاثني عشر، أعني: العصمة والحكمة والوجاهة والقطبية الباطنية، وأنتم أيضاً قد أثبتم لهم هذه الصفات الأربعة في رسالة الاعتقادات، فعلى أي محمل صحيح يمكن حمل هذا الكلام؟ وأي دليل من الكتاب أو السنّة أو الإجماع قائم عليه؟ وكيف يجاب عن مخالفة هذا القول لمذهب أهل السنّة؟ وهو مع ذلك منافٍ لمسألة تفضيل الخلفاء الثلاثة سيّما الشيخين مع أنّ تفضيلهما مجمع عليه عند مَن يعتدّ به من أهل السنّة، مضافاً إلى أنّ والدكم الماجد قد أثبت مسألة تفضيل الخلفاء الثلاثة خصوصاً الشيخين إثباتاً مقترناً بأنواع غير محصورة من الضبط والربط بالدلائل العقلية والنقلية والكشفية والوجدانية، وقرّرها بتقرير شافٍ ومثال وافٍ وترتيب كافٍ، وكيف يجاب عن مخالفة هذه المسألة الممهدة الثابتة المتّفق عليها مع

ص: 308

المسألة الغريبة الغير الثابتة عند أهل الحقّ؟

فأجاب بما ترجمته: إنّ العصمة والحكمة والوجاهة لها عند الصوفية معانٍ اصطلاحية مذكورة في كتب الوالد الماجد، ومن جهة غلبة الأمراض لا يسعني ذكرها بتمهيد مقدّماتها، وأكثر كتب المرحوم موجودة ينبغي التشفّي منها، والجواب الذي أكتبه الآن موافقاً لعلماء الظاهر:

في معنى العصمة

إنّ العصمة لها معنيان:

الأوّل: امتناع صدور الذنب مع القدرة عليه. وهذا المعنى مخصوص بالأنبياء والملائكة بإجماع أهل السنّة.

والثاني: عدم صدور الذنب مع جوازه. وهذا المعنى يُسمّى عند الصوفية بالمحفوظية، وبهذا المعنى يسألون العصمة لأنفسهم، كما وقع في أوّل دعاء حزب البحر: «نسألك العصمة في الحركات والسكنات والارادات والخطرات إلخ»(1) وهذا المعنى لا يختص بالأنبياء والملائكة، والعصمة التي سألها النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأهل بيته بقوله: «اللّهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»، هي بهذا المعنى، وبه أُريد ما ورد في حقّ عمر أنّ الشيطان يفرّ من عمر، وما ورد أنّ الحقّ ينطق على لسان عمر وقلبه، وورد في حقّ صهيب

ص: 309


1- . هذا الدعاء للشيخ أبي الحسن علي بن عبداللّٰه بن عبدالجبار بن تميم بن هرمز الشاذلي المغربي (591-656 ه) شيخ الطائفة الشاذلية من الصوفية، وصاحب الأوراد المسمّاة: «حزب الشاذلي» مطبوع. ولد في بلاد غمارة بريف المغرب وتفقّه وتصوّف بتونس، وسكن شاذلة قرب تونس فنسب إليها. رحل إلى بلاد المشرق، فحجّ ثم سكن الاسكندرية وكان ضريراً. الأعلام: 305/4؛ الوافي بالوفيات: 141/21.

الرومي(1): نعم العبد صهيب، لو لم يخف اللّٰه لم يعصه، فلا إشكال.

في معنى الحكمة

وأمّا الحكمة: بمعنى العلم النافع فإن كان مكتسباً لم يسمّ عند الصوفية حكمة، بل يُسمّى فضيلة، وإن ورد على قلب أحد بطريق الذهب سُمي حكمة، نحو قوله تعالى: «وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ»(2) ، «وَ كُلاًّ آتَيْنٰا حُكْماً وَ عِلْماً»(3) ، سواء تعلّق بالعقائد أو الأعمال أو الأخلاق، وهذا المعنى أيضاً مخصوص بالأنبياء، كقوله تعالى: «وَ لَقَدْ آتَيْنٰا لُقْمٰانَ اَلْحِكْمَةَ أَنِ اُشْكُرْ لِلّٰهِ»(4) أعني: ما وصل بالوحي؛ وأمّا ما كان بالذهب فلا يخصّهم، بل يشركه فيه غيرهم. وفي الحديث: «أنا دار الحكمة وعليّ بابها».(5) وفي الحديث المشهور: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها».(6)

في معنى الوجاهة

وأمّا الوجاهة: فهي أن يعامل اللّٰه تعالى مع بعض عباده بما يبقى معه محفوظاً عن طعن المعاندين والاتّهام بالعيوب، وقد ثبت هذا المعنى في

ص: 310


1- . هو صهيب بن سنان الرومي مولى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم. وعن الكشي رواية أنّ صهيباً عبد سوء يبكي على عمر. معجم رجال الحديث: 155/10 برقم 5948 و 5949.
2- . ص: 20.
3- . يوسف: 22.
4- . لقمان: 12.
5- . سنن الترمذي: 301/5 برقم 3807؛ مناقب ابن المغازلي: 93 برقم 113؛ كشف الغمة: 111/1؛ ينابيع المودة: 218/1.
6- . مستدرك الحاكم: 126/3 و 127؛ المعجم الكبير للطبراني: 55/11؛ أمالي الصدوق: 425 برقم 650، المجلس 55؛ الخصال: 574.

القرآن في حقّ اثنين من أُولي العزم من الرسل: أوّلهما موسى عليه السلام حيث اتّهموه بالبرص، قال اللّٰه تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسىٰ فَبَرَّأَهُ اَللّٰهُ مِمّٰا قٰالُوا وَ كٰانَ عِنْدَ اَللّٰهِ وَجِيهاً».(1) فلم يرض اللّٰه تعالى بذلك الاتّهام مع أنّه لم يكن فيه محذور شرعي. وثانيهما في حقّ عيسى عليه السلام حيث اتّهموه بالولادة من الزنا فأنطقه اللّٰه بما برّئ من تلك التهمة، قال اللّٰه تعالى:

«وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ * وَ يُكَلِّمُ اَلنّٰاسَ فِي اَلْمَهْدِ وَ كَهْلاً».(2)

وهذا المعنى قد ثبت في حقّ أكثر الأولياء، كما في حقّ أبي بكر من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: إنّ اللّٰه يكره فوق السماوات العلى أن يخطأ أبو بكر في الأرض، وفي حقّ علي: «اللّهمّ أدر الحقّ معه حيث دار»(3) ولم يقل أدره حيث دار الحقّ.

في معنى القطبية الباطنية

وأمّا القطبية الباطنية: فهي أن يخصّ اللّٰه بعض عباده بأن يجعله مهبطاً للفيوض الإلهية فيهبط عليهم أوّلاً وبالذات، وينتقل منهم إلى غيرهم، وإن لم يكن ممّن تلمّذ عليهم واكتسب منهم ظاهراً؛ كشعاع الشمس الواقع على بعض الروازن فيستنير ذلك الروزن(4) أوّلاً، ثمّ جميع البيت بتوسّطه، ويُسمّى مثل هذا قطب الإرشاد بخلاف قطب المدار.

ص: 311


1- . الأحزاب: 69.
2- . آل عمرن: 45-46.
3- . سنن الترمذي: 297/5 برقم 3798؛ مستدرك الحاكم: 124/3؛ كشف الغمة: 145/1 و 294.
4- . الروزنة: الكوّة، وقيل: الخرق في أعلى السقف، ويقال للكوّة النافذة: الروزن، جمعها روازن. لسان العرب: 179/13، مادة «رزن».

وبالجملة فإثبات هذه الصفات الأربعة عند التحقيق ليس مخالفاً لمذهب أهل السنّة وإن تحاشى عنها الظاهريّون القشريّون، ولا مخالفاً لتفضيل الشيخين المجمع عليه عند جميع أهل الحقّ، فإنّ مدار ذلك التفضيل على أكثرية الثواب عند المتكلّمين، ويجوز أن يخصّ اللّٰه تعالى بعض عباده بزيادة الثواب وإن كانت الفضائل وصفات الكمال في غيره، أو فرد أكثر. والذي عليه مصنّف كتاب الهمعات: إنّ مدار تفضيل الشيخين على التشبّه بالأنبياء في السياسة ورفع الشبهات وترويج الدين وحفظ الناس عن البدع وإجراء الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومزية الشيخين في هذه الأُمور أوضح من الشمس وأبين من الأمس، ولذا قال أكثر المتكلّمين: التفضيل عندنا بالتوفيق لا بالفضائل. انتهى ما في مجموعة الأجوبة.

وكم لهذا الكلام من نظير صدر من الأعلام، إلّاأنّ كلام صاحب التحفة ووالده في هذا المقام من أطرف طرائف الأيام، وأعجب ما يتّفق في الشهور والأعوام، وعلى اللّٰه التوكّل وبه الاعتصام.

وأمّا الأدلّة الدالّة على عصمة أمير المؤمنين والحسنين فكثيرة شهيرة اعترف بها كثير من أهل السنّة على ما ذكر هذا المعترض المماري.

وأمّا قوله في هذا الحديث المتواتر: إنّه لو أُريد به ما يدّعون، لزم على اللّٰه أو على النبي صلى الله عليه و آله و سلم تعريفهم وتمييزهم؛ فقد وقع التعريف والتمييز التام، وبلغ جميع أهل الإسلام، حتى الخوارج والنواصب اللئام وإن أقاموا على تكذيبها أو عاندوا في تأويلها.

وأمّا قوله: فيجب حينئذٍ على الإمام الغائب [أن] ينصبه بنفسه إلى

ص: 312

الناس ولو إلى الخواصّ وإخراجهم عن الالتباس؛ فقد مرّ جوابه مراراً، وأنّ التبليغ الواجب عليه ليس بأزيد ممّا يجب على النبي صلى الله عليه و آله و سلم بل هو على حدّه، فلا ينافي أن يكون وجوبه مشروطاً بسؤال السائل كما اتّضح في الفصول السابقة، وما يجب تبليغه بالوجوب المطلق سأله أحد أو لم يسأل، ممّا لم يعلم بقاؤه، سيّما والواجب المطلق إذا توقّف على مقدّمة غير مقدورة خرج عن إطلاقه، وإظهار المعجزة ما لم يأذن فيه اللّٰه تعالى ولم يقدّره عليه ليس مقدوراً، وكان هذا الإشكال الساقط الواهي عنده من الأوراد والأذكار لا يزال يشتغل فيه بالإعادة والتكرار والإدمان والإصرار، فجزاؤه على العالم بالخفيّات والأسرار العارف بنيّات عباده من الأخيار والأشرار.

ص: 313

الفصل الثاني عشر: في شطر من القول في حديث الاثني عشر

البخاري ومسلم أخرجا حديث الاثني عشر في صحيحيهما

قد عرفت أنّ الشيخين الجليلين محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم ابن الحجاج القشيري النيشابوري أخرجا هذا الحديث الشريف في صحيحهما بطرق عديدة، وقبلهما أحمد بن حنبل شيخهما في مسنده بطرق كثيرة، وقد مرّ سابقاً تصريح كثير من أعاظمهم ومحقّقيهم بأنّ الحديث الذي أخرجه أحد الشيخين يفيد العلم القطعي النظري بصدوره عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فكيف بما إذا اتّفقا على إخراجه؟! وكيف إذا تعدّدت طرقه؟!

أحمد يروي حديث الاثنى عشر في مسنده

وكيف إذا أخرجه أحمد أيضاً في مسنده الذي قالوا: إنّه أصل من أُصول الإسلام.(1)

وقال ابن الجوزي: صحّ عند الإمام أحمد من الأحاديث سبعمائة ألف وخمسين ألفاً. والمراد بهذه الأعداد الطرق لا المتون، أخرج منها مسنده المشهور الذي تلقّته الأُمّة بالقبول والتكريم، وجعلوه حجّة يرجع إليه ويعول عند الاختلاف عليه. وصنّف الحافظ الكبير والجهبذ الشهير أبو

ص: 314


1- . ذكر السبكي في طبقاته أنّ مسند أحمد أصل من أُصول هذه الأُمّة. طبقات الشافعية الكبرى: 31/2.

موسى المديني(1) تصنيفاً خاصّاً(2) في إثبات صحّة جميع أحاديث مسنده(3)، وأفتى شيخ الإسلام أبو العلا الهمذاني(4) الحافظ العلّامة المقري - من مشاهير حفّاظهم ونحارير أيقاظهم - بصحّة جميع أحاديثه.(5)

هذا كلّه مضافاً إلى رواية مثل أبي داود السجستاني في سننه الذي استخرجه من خمسمائة ألف حديث، قالوا: إنّه لأصحاب الحديث كالمصحف يتبعونه ولا يخالفونه، وإنّ مَن كان في بيته هذا الكتاب فكأنّما عنده نبي يتكلّم، وقد ألان اللّٰه له الحديث كما ألان لداود الحديد.(6) فضلاً عن غيرهم من الحفّاظ المشاهير والأثبات الأيقاظ النحارير.

ادّعاء الآلوسي أنّ حديث الاثني عشر ينتهي إلى صحابيّين فقط!! والرد عليه

وقد عرفت سابقاً الدليل على إفادة حديث الصحيحين القطع، وتحرير صاحب الدراسات له، واعتراف جمع من النحارير به؛ ودعوى هذا المعترض أنّ هذا الحديث من طرق أهل السنّة ينتهي إلى اثنين من

ص: 315


1- . هو أبو موسى محمد بن أبي بكر عمر بن أبي عيسى أحمد بن عمر الأصبهاني المديني (501-581 ه) الحافظ المشهور: ولد بأصبهان ورحل عنها في طلب الحديث ثم رجع إليها وتوفّي بها. وفيات الأعيان: 286/4 برقم 618.
2- . المصنف هو: خصائص مسند الإمام أحمد (مطبوع) تحقيق مكتبة التوبة، الرياض - 1410 ه.
3- . خصائص مسند الإمام أحمد: 16.
4- . هو أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن سهل الهمذاني العطار (488-569 ه) شيخ همذان الحافظ المقرئ كان إمام العراقيّين في القراءات، وله باع في التفسير والحديث والأنساب والتواريخ. سير أعلام النبلاء: 40/21 برقم 2: الأعلام: 181/2.
5- . لاحظ: طبقات الشافعية الكبرى: 31/2-33.
6- . راجع: سير أعلام النبلاء: 203/1 برقم 117.

الصحابة: عبد اللّٰه بن مسعود وجابر بن سمرة، ناشئة من كثرة عناده وتعصبه، أو قلّة اطّلاعه وتتبّعه! فقد روي في كتبهم عن هذين وعن: أمير المؤمنين عليه السلام، وسيدالشهداء عليه السلام، وأبي جعفر الباقر، وأبي عبد اللّٰه الصادق، والرضا عليهم السلام، وسلمان المحمدي، وعائشة، وعمر بن الخطاب، وأبي هريرة، وعبد اللّٰه بن عمر، وعبد اللّٰه بن العباس، والعباس بن عبد المطلب، وأبي جحيفة وهب بن عبد اللّٰه، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد اللّٰه، وزيد بن أرقم، وأبي سليمان راعي رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، وأبي قتادة بطرق كثيرة وفيرة من رجال أهل السنّة، واعتضد كلّ ذلك بما رواه الإمامية من رجالهم وأئمتهم بطرق يتعسّر إحصاؤها، فمَن ذكر بعد ذلك كلّه أنّه خبر واحد لا يفيد علماً، فقد اجترى جرأة قبيحة، وتجاسر جسارة شنيعة، وجنى على نفسه جناية عظيمة، وليتدبر بعد ذلك الوجوه الأربعة التي مرّت في الفصل العاشر وطالبناه بجوابها، وقد أسمعناك سابقاً أنّ عبد اللّٰه بن عمر ممّن كان يعترف بهذا الحديث إلّاأنّه كان يعيّن الاثني عشر في مَن مرّ ذكرهم في كلام السيوطي والذهبي، بل في كتبهم روايته بطرق عديدة يأتي بعضها.

ثم من الواضح أنّ الأخبار السابقة الدالّة على أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خلّف الثقلين لأُمّته وأمر بالتمسّك بهما واتّباعهما، والأحاديث الماضية، والآتية الصريحة في أنّ لكلّ زمان إمام خاصّ يجب معرفته ويُدعى الناس به يوم القيامة مثل كتاب اللّٰه، إذا انضم بعضها إلى بعض يصير ممّا ينادي بأعلى صوته أنّ لكلّ زمان إماماً خاصّاً معصوماً قريناً لكتاب اللّٰه من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم يجب معرفته، وأنّه خليفته في أُمّته، ويكون صريحاً في أنّ ذاك الإمام هو مصداق أحد الخلفاء الاثنى عشر، فاحتمال الانقطاع وعدم التوالي

ص: 316

كما في كلام هذا المعترض خلاف صريح هذه الأخبار مستلزم لخلو الزمان عن الإمام والخليفة كليهما، أو أنّ أحدهما غير الآخر، وفساد كليهما واضح.

وقوله: إنّه لا ينطبق على الإمام الغائب؛ لأنّ الخليفة هو الذي يخلف النبي صلى الله عليه و آله و سلم في التبليغ، قد مرّ جوابه مراراً فلا نعيد.

والعجب منه كيف يعد أمير المؤمنين من الخلفاء الذين أرادهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم من هذا الحديث، مع أنّه أيضاً لم يتمكّن من إعزاز الدين، ولم يكن الناس له بمنقادين، حتى أغلب أتباعه الذين كانوا معه في الصورة مجاهدين، ولم يتّفق له جهاد الكفّار والمشركين، بل وضع السيف على المسلمين، كما أصرّ على هذه الجملة جماعة من علمائهم المتقدّمين والمتأخّرين؛ إلّاأن يرجع إلى الحقّ وينقض جميع ما أبرمه، ويهدم كلّ ما أحكمه، ويفسّر الخلافة بما مرّ في الفصل التاسع من جملة من أكابرهم الأعيان، ويؤوب بالخيبة والخسران.

وما ذكره من أنّه عليه السلام كان مع سعة علمه تابعاً لمَن تقدّمه إلى آخر ما رقمه، فهذا باب لا نريد فتحه، وطريق لا نحب سلوكه، وملاحظة ما تواتر من خطبه وكلماته وتصريحاته وإشاراته وتعريضاته وشكاياته، كافية للمستبصر.

حديث الاثني عشر من غير طريق ابن مسعود وابن سمرة

ولنذكر في هذا الفصل شطراً ممّا رواه أئمّة أهل السنّة بطرقهم إلى هذا الحديث ممّا لا ينتهي إلى هذين الاثنين اللّذين سلّمهما المعترض - أعني:

ابن مسعود وابن سمرة - وأمّا الاستيعاب فلا، فإنّ الكتاب كتاب نظر لا كتاب خبر، ولو شئت أفردت في كلّ حديث من الأحاديث التي عنونت البحث

ص: 317

فيها مجلداً كبيراً مبسوطاً متضمّناً لأسماء مخرجيه، وأحوال رواته، وما قيل في حالهم من الجرح والتعديل، وترجيح أحدهما على الآخر فنقول:

روى عبيد اللّٰه بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطّة العكبري البطّي المعروف عندهم ب: ابن بطّة - المنوّه على جملة من جلائل خصاله ومحاسن أحواله في «الأنساب» للسمعاني وطبقات الدمشقي وتراجم الحفّاظ، وعدّه والد صاحب التحفة من المشايخ الأجلّة الكرام والأئمّة القادة الأعلام المجمع على فضلهم بين الخافقين، وتمسّك برواياته مثل ابن تيمية مع ما هو عليه من التعنّت والتعصّب والتشدّد في أمر الحديث وغيره ممّا يعرفه أهله(1) - روى في «الإبانة» حديث الاثني عشر بطرق كثيرة عن ابن مسعود وابن سمرة، لا حاجة إلى نقلها؛ وعن عبد اللّٰه بن أُمية مولى مجاشع، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر أميراً من قريش، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها».(2)

وروى أبو الفرج محمد بن فارس الغوري المحدّث بإسناده عن أنس قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «يكون منّا اثنا عشر خليفة».(3)

وروى الليث بن سعد - المجمع على جلالته وإمامته، الذي كان يتأسّف الشافعي على فواته، وكان يقول: (هو أفقه من مالك)(4) إلّاأنّ أصحابه

ص: 318


1- . لاحظ ترجمة ابن بطة في: الأنساب للسمعاني: 368/1 و 378/2؛ اللباب لابن الأثير: 160/1؛ شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي: 122/3.
2- . مناقب ابن شهر آشوب: 250/1؛ إعلام الورى: 161/2.
3- . مناقب ابن شهر آشوب: 250/1؛ بحار الأنوار: 269/36 ح 91.
4- . في «م»: موافقة من المالك.

لم يقوموا به، ووصفه الذهبي بالإمام الحافظ تارة، وبالإمام الحجّة أُخرى(1) - عن خالد بن بريد، عن أبي سعيد بن هلال، عن ربيعة بن سيف قال: كنّا عند شقيق الأصبحي(2) فقال: سمعت عبد اللّٰه بن عمر يقول: سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «يكون بعدي اثنا عشر خليفة».(3)

وذكر أبو بكر بن ثابت الخطيب في «تاريخ بغداد» قال: حدّث حمّاد بن سلمة، عن أبي الطفيل قال: قال لي عبد اللّٰه بن عمر: يا أبا طفيل أعدد اثني عشر خليفة بعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم ثم يكون بعده النقف والنقاف(4).(5)

وروى عبد اللّٰه بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان البغوي الأصل البغدادي - المنبه على شطر من جلالته وإمامته وعظمته ومحاسنه ومحامده في «الأنساب» للسمعاني والتذكرة والعبر للذهبي وغيرها، ووصفه الذهبي بالحافظ الثقة الكبير مسند العالم وبأنّه سمع من أزيد من ثلاثمائة شيخ، وأنّه قد احتجّ به عامّة من خرّج الصحيح كالإسماعيلي والدارقطني والبرقاني(6) -

ص: 319


1- . تذكرة الحفّاظ: 224/1 برقم 210.
2- . شقيق تصحيف والصحيح هو شفي بن ماتع ويقال: ابن عبداللّٰه الأصبحي، أبو عثمان، أرسل عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم وروى عن عبد اللّٰه بن عمرو بن العاص وأبي هريرة، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن يونس: كان عالماً حكيماً. توفّي سنة خمس ومائة. طبقات ابن سعد: 513/7؛ الثقات: 371/4؛ تهذيب التهذيب: 315/4.
3- . الاستنصار للكراجكي: 25-26؛ مناقب ابن شهر آشوب: 250/1؛ إعلام الورى: 163/2.
4- . أي القتل والقتال. والنقف: هشم الرأس. أي تهييج الفتن والحروب بعدهم. النهاية لابن الأثير: 109/5، مادة «نقف».
5- . تاريخ بغداد: 261/6 برقم 3296؛ تقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبي: 418؛ غيبة الطوسي: 132 برقم 95؛ مناقب ابن شهر آشوب: 250/1؛ المعجم الأوسط: 155/4.
6- . الأنساب: 375/1 و 440/2؛ تذكرة الحفّاظ: 737/2؛ العبر: 176/2.

روى عن علي بن الجعد، عن أحمد بن وهب بن منصور، عن أبي قبيصة شريح بن محمد العنبري، عن نافع، عن عبد اللّٰه بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

«يا علي أنا نذير أُمّتي وأنت هاديها، والحسن قائدها، والحسين سائقها، وعلي بن الحسين جامعها، ومحمد بن علي عارفها، وجعفر بن محمد كاتبها، وموسى بن جعفر محصيها، وعلي بن موسى معبرها ومنجيها وطارد مبغضيها، ومدني مؤمنيها، ومحمد بن علي قائدها وسائقها، وعلي بن محمد سائرها وعاملها، والحسن بن علي ناديها ومعطيها، والقائم الخلف ساقيها وناشدها وشاهدها «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ».(1) .(2)

ولا ينافي هذا ما مرّ من ابن عمر بتصريح ابن عساكر والذهبي والسيوطي(3) من أنّه كان يعيّن الخلفاء في غير هؤلاء الجماعة، فإنّه كان يعتقد للخلافة معنى لا ينطبق على أمير المؤمنين عليه السلام فكيف بمن بعده؟! ولذا لم يبايع له باتّفاق علماء العامّة ومحدّثيهم بل بايع معاوية ويزيد، ثم لم يبايع لابن الزبير بل بايع عبد الملك بن مروان، كلّ هذا مذكور في كتبهم مع أنّه كان يعتقد الفضل والجلالة في أمير المؤمنين ويروي مناقبه، فكذلك في الذين سمّاهم في هذا الحديث وسمعه من النبي صلى الله عليه و آله و سلم. وأمّا التعيين السابق المنقول منه فلم يسنده إلى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، ولذا قال الذهبي بعد نقله عنه: إنّ له طرقاً عن ابن عمر ولم يرفعه أحد.(4)

ص: 320


1- . الحجر: 75.
2- . الاستنصار للكراجكي: 22-23؛ مناقب ابن شهر آشوب: 251/1؛ العدد القوية: 88.
3- . لاحظ: تاريخ الخلفاء: 229. وفي تاريخ مدينة دمشق: 409/65؛ وتاريخ الإسلام: 271/5-272 عن عبد اللّٰه بن عمرو.
4- . تاريخ الإسلام: 271/5. وفيه: وله طريق آخر ولم يرفعه إلى أحد.

وأخرج أخطب الخطباء موفق بن أحمد الخوارزمي في مناقبه(1)بإسناده عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن الحارث وسعيد بن بشير، عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «أنا واردكم على الحوض، وأنت يا علي الساقي، والحسن الذائد، والحسين الآمر، وعلي بن الحسين الفارط(2)، ومحمد بن علي الناشر، وجعفر بن محمد السائق، وموسى بن جعفر محصي المحبّين والمبغضين وقامع المنافقين، وعلي بن موسى مزين المؤمنين، ومحمد بن علي منزل أهل الجنة في درجاتهم، وعلي بن محمد خطيب شيعته ومزوّجهم الحور العين، والحسن بن علي سراج أهل الجنة يستضيئون به، والمهدي شفيعهم يوم القيامة حيث لا يأذن اللّٰه إلّالمن يشاء ويرضى».

وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الرحمن بن يزيد، عن جابر، عن سلامة، عن أبي سليمان الراعي راعي رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في حديث طويل في المعراج في ذيله: فالتفت عن يمين العرش فالتفت، فإذا (أنا) بعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والمهدي في ضحضاح من نور قيام يصلّون. الحديث.(3) رواهما عنه

ص: 321


1- . لم نجده في مناقب الخوارزمي ولكن وجدناه في كتاب آخر له وهو مقتل الحسين للخوارزمي: 94/1-95، ط النجف؛ مائة منقبة: 23؛ مناقب ابن شهر آشوب: 251/1؛ ينابيع المودّة: 341/2 برقم 988.
2- . في حاشية «ح»: الفارض. خ ل
3- . مقتل الحسين للخوارزمي: 95/1-96، ط النجف. ولاحظ: مائة منقبة: 39؛ الطرائف لابن طاووس: 173 برقم 270.

جماعة منهم الحمويني الشافعي.(1)

وروى الحمويني باسناده عن عباية بن ربعي، عن ابن عباس عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون».(2)

وعن ابن عباس عنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «أنا سيد المرسلين، وعليٌّ سيد الوصيّين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر، أوّلهم علي وآخرهم المهدي».(3)

وأخرج شارح غاية الأحكام من رواية أبي بلج(4) عن عمر بن ميمون، وحبيب بن يسار، عن جرير بن عثمان، وعلي بن زيد، عن سعيد بن المسيّب؛ كلّهم عن أبي قتادة قال: سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «الأئمّة بعدي اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل وحواري عيسى عليه السلام».(5)

وفي شرح المشكاة(6) عن أبي هريرة عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «الأئمّة

ص: 322


1- . فرائد السمطين: 320/2 برقم 571.
2- . فرائد السمطين: 313/2 برقم 563.
3- . فرائد السمطين: 313/2 برقم 564؛ ينابيع المودة: 316/2 برقم 911، و ج 291/3 ح 7 و ص 295 ح 3.
4- . في «م»: بلخ وفي «ح»: بلح وما أثبتناه من المصادر الرجالية. وهو يحيى بن سليم ويقال: يحيى بن أبي سليم، أبو بلج الفزاري الواسطي ويقال الكوفي. وهو من أتباع التابعين. لاحظ تهذيب الكمال: 162/33 برقم 7269.
5- . شرح غاية الأحكام: لم أقف عليه، وورد عن أبي قتادة في عدة مصادر، منها: فضائل أمير المؤمنين عليهم السلام لابن عقدة: 151؛ كفاية الأثر للخزاز القمي: 139.
6- . للملّا علي بن سلطان محمد الهروي القاري، فقيه حنفي، ولد في هراة، وسكن مكة وتوفّي بهاسنة 1014 ه، صنّف كتباً كثيرة، منها: تفسير القرآن، والفصول المهمة في الفقه، ومرقاة المفاتيح في مشكاة المصابيح الذي يُسمّى شرح المشكاة. الأعلام: 12/5.

بعدي من عترتي عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين، والتاسع مهديهم».(1)

وعن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «الأئمّة بعدي اثنا عشر»(2)، «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان»(3)، «إنّ عدة الخلفاء من بعدي عدّة نقباء موسى».(4) والطرق إلى بقية من سمّيناهم ومتونها ممّا تكرّر التنبيه عليها في الكتب، ولا حاجة إلى نقلها، والعاقل تكفيه الإشارة والجاهل الجاحد لا يكفيه ألف منارة.

شبهة الآلوسي بأن حديث الاثني عشر لا ينطبق على أئمة الشيعة!!

وأمّا شبهته القديمة العتيقة المتكررة من عدم انطباقها على الأئمّة الاثني عشر بالمعنى المتنازع فيه، أو على خصوص الثاني عشر - سلام اللّٰه عليه وعلى آبائه الطاهرين - فقد تكرّر الجواب عنه مراراً فلا نعيد، فإن خالجته بعد ذلك شبهة أُخرى فليعرضها ويذكرها حتى ننظر فيها ونقصّ قوادمها وخوافيها، وليتأمّل العاقل المنصف - إذا أحب خلاص نفسه واحتاط لأمر آخرته - ما جبل اللّٰه تعالى عليه قلوب الطوائف المتشتّتة والفرق المختلفة على تباين مشاربها ومواردها ومصادرها من تعظيم هؤلاء

ص: 323


1- . مرقاة المفاتيح في شرح المصابيح؛ ورواه أيضاً في كفاية الأثر: 23 و 123؛ بحار الأنوار: 329/36، ح 185؛ وذكر نحوه في المناقب لابن شهر آشوب: 254/1.
2- . كفاية الأثر: 90؛ مناقب ابن شهر آشوب: 254/1.
3- . صحيح البخاري: 155/4، باب مناقب قريش؛ صحيح مسلم: 3/6، باب الناس تبع لقريش.
4- . تاريخ مدينة دمشق: 286/16؛ الجامع الصغير للسيوطي: 350/1 برقم 2297؛ كنز العمال: 89/6 برقم 14971.

الأئمّة وتبجيلهم، والانقياد لفضائلهم وتسليم مناقبهم، وإفراد جماعة كثيرة من أهل السنّة كتباً مخصوصة في مزاياهم ومكارمهم وخصائصهم، وإنّ كثيرين منهم ممّن ذكر فضائل العترة الطاهرة عقد لكلّ من هؤلاء باباً مخصوصاً وفصلاً مستقلّاً، وإنّ الطوائف المشهورة من صوفية السنّة لا تزال تفتخر بانتهاء سلاسلهم إليهم، وإنّ كلّ فرقة من فرق المسلمين يتجمّلون بين أتباعهم وأشياعهم باتّباعهم، وإنّ كثيراً من أهل تعصّبهم وتعنّتهم يثبتون لهم الكرامات وخوارق العادات، ولم نعهد أمثال ذلك بل ولا أعشارها في أحد من آحاد المؤمنين والأخيار والصالحين، ولو ذهبنا نشرح هذه الجملة التي أشرنا إليها لم يتيسّر لنا إلّابوضع مجلدات ضخام في توضيح هذا المرام.

كلام شريف للسيد المرتضى حول مكانة الأئمة عليهم السلام عند عامّة المسلمين

ولنختم الكلام في هذا المقام بإيراد كلام شريف جيد اللفظ والمعنى للشريف الأجل الأعظم المرتضى - قدّس اللّٰه روحه -، قال: إنّ اللّٰه تعالى قد ألهم جميع القلوب وغرس في كلّ النفوس تعظيم شأنهم وإجلال قدرهم على تباين مذاهبهم واختلاف دياناتهم ونحلهم، وما أجمع هؤلاء المختلفون المتباينون مع تشتّت الأهواء وتشعّب الآراء على شيء إجماعهم(1) على تعظيم من ذكره(2) وإكباره، فإنّهم يزورون قبورهم ويقصدون من شاحط البلاد وشاطئها(3) مشاهدهم ومدافنهم والمواضع التي

ص: 324


1- . في المصدر: كإجماعهم.
2- . في المصدر: ذكرناه.
3- . شحط البلاد: بعد، وشاطئ البلاد: أطرافها.

(رسمت صلاتهم)(1) فيها وحلولهم بها وينفقون في ذلك الأموال ويستنفدون الأحوال، فقد أخبرني مَن لا أحصيه كثرة أنّ أهل نيشابور ومَن والاها من تلك البلدان يخرجون في كلّ سنة إلى طوس لزيارة الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا - صلوات اللّٰه عليهما - بالجمال الكثيرة والأُهب(2) التي لا يوجد مثلها إلّاللحج إلى بيت اللّٰه الحرام.

وهذا مع ما هو المعروف من انحراف أهل خراسان عن هذه الجهة وازورارهم(3) عن هذا الشعب، وما تسخير هذه القلوب القاسية وعطف هذه الأُمم النائية إلّاكالخارق للعادات والخارج عن الأُمور المألوفات؛ وإلّا فما الحامل للمخالفين لهذه النحلة المنحازين عن هذه الجملة على أن يراوحوا هذه المشاهد ويغادوها، ويستنزلوا عندها من اللّٰه تعالى الأرزاق، ويستفتحوا بها الأغلاق(4)، ويطلبوا ببركتها الحاجات، ويستدفعوا البليات، والأحوال الظاهرة كلّها لا توجب ذلك ولا تقتضيه ولا تستدعيه، وإلّا فعلوا ذلك فيمَن يعتقدونهم، أو أكثرهم يعتقدون إمامته وفرض طاعته، وإنّه في الديانة موافق لهم غير مخالف، ومساعد غير معاند، ومن المحال أن يكونوا فعلوا ذلك لداعٍ من دواعي الدنيا، فإنّ الدنيا عند غير هذه الطائفة موجودة وعندها هي مفقودة؛ ولا لتقية واستصلاح، فإنّ التقية هي فيهم لا منهم ولا خوف من جهتهم ولا سلطان لهم، وكلّ خوف إنّما هو عليهم، فلم يبق إلّاداعي الدين، وذلك هو الأمر الغريب العجيب الذي لا تنفذ في مثله إلّامشية اللّٰه تعالى

ص: 325


1- . في المصدر: وسمت بصلاتهم.
2- . في المصدر: والأُهبة.
3- . أي انحرافهم.
4- . في المصدر: الأغلال.

وقدرة القهّار التي تذلّل الصعاب وتقود بأزمتها الرقاب.

وليس لمَن جهل هذه المزية أو تجاهلها وتعامى عنها وهو يبصرها أن يقول: إنّ العلّة في تعظيم غير فرق الشيعة لهؤلاء القوم ليست ما عظمتموه وفخمتموه وادّعيتم خرقه للعادة وخروجه عن الطبيعة، بل هي لأنّ هؤلاء القوم من عترة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وكلّ مَن عظّم النبي فلابدّ أن يكون لعترته وأهل بيته معظّماً مكرماً، وإذا انضاف إلى القرابة الزهد وهجر الدنيا والعفة والعلم زاد الإجلال والإكرام لزيادة أسبابها.(1)

والجواب عن هذه الشبهة الضعيفة أنّه قد شارك أئمتنا عليهم السلام والصلاة في نسبهم وحسبهم وقرابتهم من النبي صلى الله عليه و آله و سلم غيرهم، وكانت لكثير منهم عبادات ظاهرة، وزهادة في الدنيا بادية، وسمات جميلة، وصفات حسنة من ولد أبيهم عليه وآله السلام ومن ولد العباس رضوان اللّٰه عليهم، فما رأينا من الإجماع على تعظيمهم وزيارة مدافنهم والاستشفاع بهم في الأغراض والاستدفاع بمكانهم للأعراض والأمراض، وما وجدنا مشاهداً معايناً في هذا الاشتراك، وإلّا فمَن الذي أجمع على فرط إعظامه وإجلاله من سائر صنوف العترة يجري في هذا الحال(2) مجرى الباقر والصادق والكاظم والرضا - صلوات اللّٰه عليهم أجمعين -؛ لأنّ من عدا مَن ذكرناه من صلحاء العترة وزهّادها ممّن يعظمه فريق من الأُمّة ويعرض عنه فريق، ومَن عظّمه منهم وقدّمه لا ينتهي في الإجلال والإعظام إلى الغاية التي ينتهي إليها من ذكرناه. ولولا أنّ تفصيل هذه الجملة ملحوظ معلوم لفصّلناها على طول

ص: 326


1- . في المصدر: أسبابهما.
2- . في المصدر: هذه الحالة.

ذلك ولأسمينا من كتبنا(1) عنه، ونظرنا بين كلّ معظم مقدم (من العترة) ليعلم أنّ الذي ذكرناه هو الحقّ الواضح وماعداه هو الباطل الماضح.(2)

وبعد فمعلوم (ضرورة) أنّ الباقر والصادق ومَن وليهما من أئمّة أبنائهما - صلوات اللّٰه عليهم أجمعين - كانوا في الديانة والاعتقاد وما يفتون به من حلال وحرام على خلاف ما يذهب إليه مخالفو الإمامية، وإن ظهر شكّ في ذلك كلّه فلا شكّ ولا شبهة على منصف في أنّهم لم يكونوا على (مذاهب الفرق المخالفة)(3) المجمعة على تعظيمهم والتقرّب إلى اللّٰه تعالى بهم.

وكيف يعترض ريب فيما ذكرناه؟ ومعلوم ضرورة أنّ شيوخ الإمامية وسلفهم في تلك الأزمان كانوا بطانة الباقر(4) والصادق - صلوات اللّٰه عليهما ومن وليهما عليهم أجمعين السلام - وملازمين لهم ومتمسكين بهم، ومظهرين أنّ كلّ شيء يعتقدونه وينتحلونه ويصحّحونه أو يبطلونه، فعنهم تلقّوه ومنهم أخذوه، فلو لم يكونوا عليهم السلام بذلك راضين وعليه مقرّين، لأبوا عليهم نسبة تلك المذاهب إليهم، وهم منها بريئون خليّون، ولنفوا ما بينهم من مواصلة ومجالسة وملازمة وموالاة ومصافاة ومدح وإطراء وثناء، ولأبدلوه بالذمّ واللوم والبراءة والعداوة، فلو لم يكن على أنّهم عليهم السلام لهذه المذاهب معتقدون وبها راضون (لبان واتّضح، ولو لم يكن) إلّاهذه الدلالة

ص: 327


1- . في المصدر: كنينا.
2- . مضح الرجل عرض فلان إذا شانه وعابه. (كتاب العين: 111/3، مادة «مضح»).
3- . في المصدر: مذهب الفرقة المختلفة.
4- . في المصدر: للباقر.

لكفت وأغنت، وكيف يطيب قلب عاقل أو يسوغ في الدين لأحد أن يعظم في الدين مَن هو (على) خلاف ما يعتقد أنّه الحقّ وما سواه باطل، ثم ينتهي في التعظيمات والكرامات إلى أبعد الغايات وأقصى النهايات، وهل جرت بمثل ذلك عادة أو مضت عليه سنّة؟!

أو لا يرون أنّ الإمامية لاتلتفت إلى مَن خالفها من العترة و حاد عن جادّتها في الديانة ومحجّتها في الولاية، ولا تسمح له بشيء من المدح والتعظيم فضلاً عن غايته وأقصى نهايته، بل تتبرأ منه وتعاديه، وتجريه في جميع الأحكام مجرى مَن لا نسب له ولا حسب ولا قرابة ولا علقة. وهذا يوقظ على أنّ اللّٰه تعالى خرق في هذه العصابة العادات وقلب الجبلات، ليبيّن من عظيم منزلتهم وشريف مرتبتهم، وهذه فضيلة تزيد على الفضائل، وتوفى على جميع الخصائص والمناقب، وكفى بها برهاناً لائحاً وميزاناً راجحاً.(1)

ص: 328


1- . رسائل الشريف المرتضى: 253/2-257، الرسالة 23 (الرسالة الباهرة في العترة الطاهرة). وما بين القوسين من المصدر.

الفصل الثالث عشر: في حديث: «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه

اشارة

في شطر من القول في حديث: «مَن مات ولم يعرف» حيث قد تكرّر في كلام هذا المعترض أنّه لم يرو من طريق السنّة إلّامن رجل واحد، ومن طرق الشيعة إلّاعن سليم بن قيس الذي طعن الشيعة والسنّة في رواياته! فليعلم أنّ هذا الحديث أورده من أرباب الصحاح مسلم بن الحجّاج في صحيحه بطرق ثلاثة، وكتابه أحد الكتابين اللّذين نقلوا إجماع الأُمّة على تلقّي أحاديثهما بالقبول، وذهب كثير من المحقّقين الذين نقلنا أسامي جملة منهم إلى إفادة الحديث الذي أخرجه أحدهما للعلم القطعي النظري بالصدور، بل الحافظ الخبير والجهبذ الشهير البصير أبو علي النيسابوري(1)رجّح صحيحه على صحيح البخاري وقال: ما تحت أديم السماء أصحّ من كتاب مسلم.(2)

وعن بعض المغاربة أيضاً تفضيله عليه(3)، وحجّتهم أنّ مسلماً شرط أن لا يكتب في صحيحه إلّاما رواه تابعيان ثقتان عن صحابيّين، وكذا وقع في تبع التابعين وسائر الطبقات إلى أن ينتهي إليه، مراعياً في ذلك ما لزم في

ص: 329


1- . هو الحسين بن علي بن يزيد بن داود، أبو علي النيسابوري الإمام الحافظ (277-349 ه) من كبار حفّاظ الحديث، له تصانيف، وهو شيخ الحاكم النيسابوري. ولد في نيسابور، ورحل إلى هراة وبغداد والكوفة والبصرة وواسط والأهواز وأصبهان والموصل وبلاد الشام، وعظمت شهرته. توفّي في نيسابور. الأعلام: 244/2.
2- . صحيح مسلم: 252/8.
3- . نفس المصدر.

الشهادة، ولم يتخلّف في جميع هذا الصحيح عن هذا الشرط إلّاحديث:

«إنّما الأعمال بالنيّات» حيث لم يرو عن جميع وجوهه إلّاعن عمرو عن عمر إلّاعلقمة، واعتذروا عنه بأنّه مع أنّ النادر لا حكم له إنّما أورده لثبوت صحّته وشهرته والتبرّك به، لا لأنّه على شرطه.

وذكر جماعة من وجوه تفضيله على صحيح البخاري أنّ البخاري يقع الغلط له في أهل الشام حيث أخذ الحديث عن كتبهم بالمناولة، فيذكر الرجل الواحد تارة بالاسم وتارة بالكنية معتقداً فيه أنّه اثنان.

وأيضاً اتّفق للبخاري من جهة التقديم والتأخير والحذف والإسقاط تعقيد في متون بعض الروايات، وإن كان تنحل العقدة بملاحظة بعض آخر ممّا أورده، لكن مسلم لم يتّفق له ذلك.

وأمّا تفضيله من جهة ما قالوا: إنّه أودع في أسانيد أحاديثه وترتيبها وحسن سياقها وبديع طريقها من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص الحديث واختصاره وضبط متفرّقاته وغير ذلك من عجائب الأُمور ومحاسنها، فممّا لا إشكال فيه عند كثير من محدّثيهم.(1)

حديث: «من مات ولم يعرف...» في كتب السنّة

وبالجملة فلفظ هذه الرواية في صحيحه بإسناده إلى عبد اللّٰه بن عمر عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».(2)

ص: 330


1- . لاحظ: خلاصة عبقات الأنوار للنقوي: 117/1-118؛ تذكرة الحفّاظ: 589/2.
2- . صحيح مسلم: 22/6، باب الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن.

وعن الحميدي في الجمع بين الصحيحين أنّه أخرج عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية».(1)

وعن الحاكم في «المستدرك» أنّه أخرج وصحّح قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن مات وليس عليه إمام فإنّ موته موتة جاهلية».(2)

وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده وابن ماجة القزويني في صحيحه عن ابن عباس مثل المتن الذي رواه مسلم عن ابن عمر.(3)

وفي «كنز الفوائد» للكراجكي أنّ كثيراً من العامّة رووا عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «مَن مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».(4)

حديث: «مَن مات ولم يعرف...» في كتب الشيعة من غير كتاب سليم

وأمّا الرواة من أفاضل الشيعة ومحدّثيهم الذين رووا عن أئمّتهم عليهم السلام هذا الخبر فكثيرون جداً.

فمنها: ما في «الكنز» عن محمد بن أحمد بن شاذان القميّ بإسناده المتّصل عن علي بن موسى الرضا، عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:

قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «من مات وليس له إمام من ولدي مات ميتة جاهلية، يؤخذ بما عمل في الجاهلية والإسلام».(5)

ص: 331


1- . كما في شرح إحقاق الحقّ: 306/2؛ كنز العمال: 186/1، ط حيدرآباد.
2- . مستدرك الحاكم: 117/1.
3- . لاحظ: مسند أحمد: 297/1 و 310.
4- . كنز الفوائد: 152.
5- . كنز الفوائد: 151؛ بحار الأنوار: 92/23 ح 39.

ومنها: ما في «العيون» بإسناده عن الرضا، عن آبائه عليهم السلام، عن علي عليه السلام، قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن مات وليس له إمام من ولدي مات ميتة جاهلية، ويؤخذ بما عمل في الجاهلية والإسلام».(1)

ومنها: ما في «المحاسن» للبرقي بإسناده عن بشير الدّهان قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن مات وهو لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية».(2)

وعن عيسى بن السّري قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: «إنّ الأرض لا تصلح إلّا بالإمام، ومَن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية».(3)

وعن الحسين بن أبي العلاء قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن قول رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «من مات ليس له إمام مات ميتة جاهلية»؟ فقال: «نعم، لو أنّ الناس تبعوا علي بن الحسين عليهما السلام وتركوا عبد الملك بن مروان اهتدوا»، فقلنا: مَن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية، ميتة كفر، قال: «لا ميتة ضلال».(4)

وعن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: قال أبي: «من مات ليس له إمام مات ميتة جاهلية».(5)

وعن الحارث بن المغيرة قال: سمعت عثمان بن المغيرة يقول:

حدّثني الصادق، عن علي عليهما السلام، قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «مَن مات بغير إمام

ص: 332


1- . عيون أخبار الرضا عليه السلام: 63/2 ح 214؛ بحار الأنوار: 81/23 ح 18.
2- . المحاسن: 153/1 ح 78؛ بحار الأنوار: 76/23 ح 1.
3- . المحاسن: 153/1 ح 79؛ بحار الأنوار: 76/23 ح 2.
4- . المحاسن: 154/1 ح 80؛ بحار الأنوار: 76/23 ح 3.
5- . المحاسن: 155/1 ح 81؛ بحار الأنوار: 77/23 ح 4.

جماعة مات ميتة جاهلية» قال الحارث بن المغيرة: فلقيت جعفر بن محمد فقال: «نعم».(1)

وفي «غيبة النعماني» باسناده عن يحيى بن عبد اللّٰه، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «يا يحيى مَن بات ليلة لا يعرف فيها إمام زمانه مات ميتة جاهلية».(2)

وفي «المحاسن» روى مثل ما سبق عن الفضيل، عن أبي جعفر عليه السلام.(3)

وفي «الإكمال» عن محمد بن إسماعيل، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام.

ورووا أيضاً مثله عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام؛ وعن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه السلام، وعن عمر بن يزيد عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام؛ وعن محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام؛ وعن أبي الجارود عنه عليه السلام.(4)

وعن سليم بن قيس أنّه سمع من سلمان ومن أبي ذر ومن المقداد حديثاً عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «مَن مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»، ثم عرضه على جابر وابن عباس فقالا صدقوا وبرّوا.(5)

هذه شطر من الروايات التي ذكرت في سابع البحار(6) الذي أحال إليه

ص: 333


1- . المحاسن: 155/1 ح 82؛ بحار الأنوار: 77/23 ح 5.
2- . بحار الأنوار: 78/23 ح 8؛ عن الغيبة للنعماني: 62.
3- . المحاسن: 155/1 ح 85؛ بحار الأنوار: 77/23 ح 6.
4- . كمال الدين: 409 ح 9، و 412 ح 10 و 11؛ بحار الأنوار: 78/23 ح 7.
5- . كمال الدين: 413 ح 15؛ بحار الأنوار: 88/23 ح 31.
6- . أي حسب ترتيب مصنّفه ويقابله الأجزاء: 23-27 من المطبوع في بيروت، مؤسسة الوفاء.

هذا المعترض لكن لم يعلم لأي مصلحة من المصالح ذكر في الرسالة الأُولى أنّه لم يرو من طريق الشيعة إلّاعن سُليم برواية أبان عنه، وإلّا عن الباقر من غير اسناده إلى آبائه؛ وذكر في الرسالة الأخيرة انحصار الطرق في سليم وأسقط الثاني أيضاً، وكيف لم يذكر الروايات المنتهية إلى الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وقد أسندها إلى آبائه إلى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، والروايات المنتهية إلى أبي عبد اللّٰه عليه السلام ممّا أسندها إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم وما لم يسندها والمنتهية إلى أبي الحسن الأوّل عليه السلام؟ وكيف رضي بهذا المعنى في حقّ نفسه مع هذه الطرق الكثيرة ممّا ذكرنا وما لم نذكر؟ وهذه كلّها موجودة في أوائل المجلد السابع الذي أحال إليه.(1)

ثم كيف حصره من طرق السنّة في رجل واحد؟ فإن كان عنده بيان شافٍ في هذا الفرق والحذف والإسقاط فليفد، ولا يمكن لخدام جنابه الاعتذار عن هذه الوقاحة والامتراء(2) والكذب والافتراء ولو غاروا في الغبراء أو صعدوا إلى السماء، فقد ذكر أوّلاً صريحاً بطريق النفي والاستثناء انحصار طرق الشيعة فيما أسندوه إلى سليم وإلى الباقر عليه السلام ثم أكّد هذا التصريح بقوله: وليس له عن غير هذين في كتب الشيعة طريق آخر. ثم أحاله إلى الوضوح وقال: «كما لا يخفى على مَن راجع أوائل المجلد السابع من البحار».

ص: 334


1- . لاحظ بحار الأنوار: 76/23-95، باب وجوب معرفة الإمام.
2- . الامتراء في الشيء: الشكّ فيه، والمراء: المماراة والجدل. وفي التنزيل العزيز: «فَلاٰ تُمٰارِ فِيهِمْ إِلاّٰ مِرٰاءً ظٰاهِراً» (الكهف: 22) قال: وأصله في اللغة الجدال وأن يستخرج الرجل من مناظره كلاماً ومعاني الخصومة وغيرها. لاحظ: لسان العرب: 278/15، مادة «مرا».

ونعم ما قيل: الوقاحة بضاعة صالحة، وتجارة رابحة، تضعف المال وتسعف الآمال، تفيدك ما أردت، وتطلق لسانك الأرت(1)، وتفتح لك الأبواب المقفلة، وتدر لك الضروع المحفلة، فإن رزقتها ونعمت الحبالة حيزت لك الدنيا وبئست الحثالة. ولعمري ما أطلق لسانه الأرت إلاّ ما رزق من هذه التجارة الرابحة، والتمس منه الإنصاف إنّ من كانت هذه بضاعته في النقليات والحسّيات كيف يكون حاله في الحدسيات والنظريات وغوامض المسائل العقليات؟!

الروايات الدالّة على أنّ لكلّ أُناس في كلّ زمان إماماً

ثم أقول: إذا انضمّت إلى هذه الروايات طائفة أُخرى من روايات الفريقين دالّة على أنّ لكلّ أُناس في كلّ زمان إماماً يدعون به يوم القيامة، ازداد المرام وضوحاً؛ مثل ما في «الدر المنثور» للسيوطي قال: أخرج ابن مردويه، عن علي رضى الله عنه قال: قال رسول اللّٰه - عليه وآله وسلم -: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ»(2) قال: يُدعى كلّ قوم بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنّة نبيّهم.(3)

وما رواه الثعلبي في تفسيره قال: (حدّثنا يعقوب بن أحمد الأرعياني قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن عبد اللّٰه العُماني، قال:)(4) حدّثنا أبو القاسم

ص: 335


1- . الأرت الذي في لسانه عقدة وحبسة، ويعجل في كلامه فلا يطاوعه لسانه. النهاية لابن الأثير: 193/2، مادة «رتت».
2- . الإسراء: 71.
3- . تفسير الدر المنثور: 194/4.
4- . ليس في «م».

محمد بن عبد اللّٰه بن أحمد بن عامر الطائي (قال: حدّثني أبي)(1) قال:

حدّثني علي بن موسى الرضا، حدّثني أبي موسى بن جعفر، حدّثني أبي جعفر بن محمد، حدّثني أبي محمد بن علي، حدّثني أبي علي بن الحسين، حدّثني أبي الحسين بن علي، حدّثني أبي علي بن أبي طالب، قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في قوله عزّ وجلّ: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ» قال: «(كلّ قوم يدعون)(2) بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنّة نبيّهم».(3)

وفي «معاني الأخبار»(4) بطريق آخر إلى الإسناد السابق بعينه قال:

حدّثنا أبو الحسن محمد بن علي بن الشاه الفقيه المرورودي(5) بمرو الرود(6) في داره قال: حدّثنا (أبو بكر محمد)(7) بن عبد اللّٰه النيشابوري،

ص: 336


1- . ليس في «م».
2- . في المصدر: يؤتى كلّ قوم.
3- . تفسير الثعلبي (الكشف والبيان عن تفسير القرآن): 115/6.
4- . الظاهر: «عيون أخبار الرضا عليه السلام».
5- . في عيون أخبار الرضا عليه السلام: المروزي. وهو محمد بن علي بن الشاه الفقيه أبو الحسن المروزي، من أعلام القرن الرابع الهجري، من مشايخ الصدوق (المتوفّى 381 ه) روى عنه كثيراً في كتابيه: عيون أخبار الرضا عليه السلام والخصال وغيرهما. قال التستري: والظاهر كونه عامّياً حيث إنّه روى عنه بإسناده عن الرضا عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أخباراً كثيرة، وهذا دأبهم عليهم السلام مع العامّة. (لاحظ موسوعة طبقات الفقهاء: 437/4 برقم 1618؛ قاموس الرجال: 441/9 برقم 7050.
6- . مرو الرود: الروذ - بالذال المعجمة - بالفارسية: النهر، فكأنّه مرو النهر وهي مدينة قريبة من مروالشاهجان بينهما خمسة أيام وهي على نهر عظيم، فلذا سمّيت بذلك، وهي صغيرة بالنسبة إلى مرو الأُخرى. معجم البلدان: 112/5.
7- . في عيون أخبار الرضا عليه السلام: أبو بكر بن محمد.

قال: حدّثنا أبو القاسم (عبد اللّٰه بن أحمد بن عامر بن سليمان)(1) الطائي بالبصرة، قال: حدّثني أبي في سنة ستين ومائتين، قال: حدّثني علي بن موسى الرضا سنة أربع وتسعين ومائة.

وباسناد آخر قال: حدّثنا أبو منصور أحمد بن إبراهيم بن بكر الجوزي(2) بنيشابور، قال: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن مروان بن محمد الجوزي، قال: حدّثنا جعفر بن محمد بن زياد الفقيه الجوزي بنيشابور، قال: حدّثنا أحمد بن عبد اللّٰه الهروي الشيباني، عن الرضا علي بن موسى عليه السلام.

وبإسناد آخر حدّثنا أبو عبد اللّٰه الحسين بن محمد الأشناني الرازي العدل ببلخ، قال: حدّثنا (علي بن محمد بن مهرويه)(3) القزويني، عن داود

ص: 337


1- . في «م» و «ح»: محمد بن عبد اللّٰه بن أحمد بن عامر بن سلمويه، وما أثبتناه من المصادر الرجالية وكتب الحديث وهو عبد اللّٰه بن أحمد بن عامر بن سليمان بن صالح الطائي أبو القاسم البغدادي. كان أبوه أحمد من المعمّرين، لقي الإمام الرضا عليه السلام وروى عنه، وبقي حتى أدرك الإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام. ورأى المترجم الإمامين المذكورين وسمع أباه وروى عنه عن الإمام الرضا عليه السلام، وصنّف كتباً منها: كتاب قضايا أمير المؤمنين عليه السلام. توفّي سنة 324 ه. موسوعة طبقات الفقهاء: 232/4 برقم 1441.
2- . في عيون أخبار الرضا عليه السلام: الخوري، وفي بعض المصادر: الخوزي؛ ولعلّه تصحيف الجوري، نسبة إلى جور، وهي محلة بنيسابور. وما يقال فيه يقال في الأسماء التي بعده. لاحظ: معجم رجال الحديث: 21/2 برقم 391؛ مستدركات علم رجال الحديث للنمازي الشاهرودي: 240/1 برقم 611؛ معجم البلدان: 182/2، مادة «جور».
3- . في «م» و «ح»: محمد بن محمد مهرويه. والصحيح ما أثبتناه من مصادر الرجال والحديث. وهو علي بن محمد بن مهرويه القزويني الصنعاني أبو الحسن، من مشايخ الصدوق. ذكره السمعاني في الأنساب قائلاً:... وكان شيخاً مسنّاً ومحله الصدق. توفّي سنة 335 ه.

بن سليمان الفرّاء، قال: حدّثني علي بن موسى، قال: حدّثني أبي، عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في قول اللّٰه تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ» قال: «يُدعى كلّ قوم بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنّة نبيّهم».(1)

وفي «مجمع البيان» قال: روى الخاصّ والعامّ عن الرضا علي بن موسى عليه السلام بالأسانيد الصحيحة أنّه روى عن آبائه، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال فيه: «يُدعى كلّ أُناس بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنّة نبيّهم».(2)

وفي كتاب «المناقب» لابن شهرآشوب قال: روى الخاصّ والعامّ عن الرضا عليه السلام عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «يُدعى كلّ أُناس بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنّة نبيهم».(3)

ولا أدري بعد هذه الطرق الكثيرة المنتهية إلى الرضا عليه السلام هل يحصل للمعترض العلم القطعي بصدور هذا الحديث عن الرضا عليه السلام أو لا، بل يجوز تواطؤ الجميع على وضع هذا اللفظ بعينه وإسناده إليه عليه السلام؟! وعلى تقدير قطعه بصدوره عنه هل يقطع بصدقه في نقله (عن آبائه عليهم السلام وصدق آبائه في النقل)(4) عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أو لا، سيّما بعد ضمّ رواية ابن مردويه بإسناده عين

ص: 338


1- . عيون أخبار الرضا عليه السلام: 28/2 و 36-37 ح 61؛ عمدة عيون صحاح الأخبار لابن البطريق: 351 ح 677؛ اليقين للسيد ابن طاووس: 493؛ بحار الأنوار: 264/24 ح 24.
2- . مجمع البيان: 275/6.
3- . مناقب ابن شهر آشوب: 263/2.
4- . ليس في «م».

هذه الألفاظ عن أمير المؤمنين عليه السلام عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم؟!

وروى العياشي بإسناده عن عمّار الساباطي، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال:

«لا تترك الأرض بغير إمام يحلّ حلال اللّٰه ويحرّم حرامه، وهو قول اللّٰه تعالى «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ» - ثم قال: - قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: مَن مات بغير إمام مات ميتة جاهلية».(1)

وهذا طريق آخر للحديث السابق غير الطرق السالفة، قادح في حصر المعترض، وقد ذكرنا غير مرّة ما يوضح اتّحاد المراد والمصداق من خبر الثقلين المتواتر من طرقهم، (وخبر الاثني عشر المتواتر من طرقهم)(2)وخبر: «مَن مات ولم يعرف»، وخبر: «انّ لكلّ زمان إماماً يُدعى الناس به وبكتاب ربّهم» فيتّضح مدّعى الإمامية كالشمس الضاحية من وجود إمام معصوم من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله و سلم في كلّ عصر يكون خليفة له ويجب التمسّك به ومعرفته، فإذا انضمّت إليه الأخبار الكثيرة من طرقهم وطرقنا أنّ أهل بيته أمان لأهل الأرض، وغيرها ممّا روي في صحاحهم ومسانيدهم، ازداد المرام وضوحاً، وقد اعترف المعترض بأنّ الأخبار الدالّة على هذه المضامين وشبهها من طرق الإمامية الموجودة في خصوص البحار لوجمعت لزادت على المجلد التاسع(3) منه، فإن تجاسر على تكذيبها فهو لا يقدر على ردّ ما تواتر عنهم وصحّ في طرقهم وتكذيبها وفيه الكفاية، ومَن

ص: 339


1- . تفسير العياشي: 303/2 ح 119.
2- . ليس في «م».
3- . المجلد التاسع حسب ترتيب المصنّف يقابله الأجزاء: 35-42 من المطبوع في بيروت، مؤسسة الوفاء.

ردّ أخبار السنّة والشيعة جميعاً يتعيّن عليه أن يختار ديناً غير هذا الدين، ونبيّاً غير سيّد النبيّين عليه وآله أفضل صلوات المصلّين!!

وأمّا دعواه المكرّرة من أنّها لو تمّت لدلّت على وجود مَن يجب عليه التبليغ، ولو وجد في هذا الزمان مَن وجب عليه التبليغ لبلّغ لتمكّنه، فقد عرفت الجواب عنه مراراً وأنّها تدلّ على وجود مَن يجب عليه التبليغ على حدّ وجوبه على النبي صلى الله عليه و آله و سلم، بحيث لو رجعوا إليه وسألوه لأجابهم، ولا يفيد وجوباً على الفرع أزيد ممّا على الأصل وتكليفاً على الخليفة أعظم ممّا على المستخلف وكونه أدخل في الهدى والبيان من الثقل الأكبر الذي هو الكتاب الذي لا ينتفع به إلّامن آمن به وصدّقه ورجع إليه وأخلى قلبه من الزيغ، قال اللّٰه تعالى: «وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاٰ يَزِيدُ اَلظّٰالِمِينَ إِلاّٰ خَسٰاراً».(1) ويختلف تأثير الشيء الواحد بحسب المحال والمواضع حتى وسوسة إبليس لعنه اللّٰه، انظر وتأمّل قوله تعالى: «لِيَجْعَلَ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقٰاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَفِي شِقٰاقٍ بَعِيدٍ * وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهٰادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(2) كيف أشار إلى القلوب الثلاثة من المريضة القابلة للعلاج، والقاسية الميتة، والقلوب المخبتة، وأنّه كيف يكون إلقاء الشيطان فتنه لجماعة، وسبباً للإخبات والمعرفة بالحقّية لأُخرى.

وما ذكره مراراً من أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد بلّغ ما وجب عليه تبليغه، فقد سمعت كراراً أنّه لا يقول بغير ذلك مسلم فيما وجب عليه بالوجوب

ص: 340


1- . الإسراء: 82.
2- . الإسراء: 53-54.

المنجز، إلّاأنّ الكلام في كيفية الوجوب عليه؟ وأنّه كان مطلقاً دائماً، أو مشروطاً بالسؤال والرجوع دائماً، أو مطلقاً تارة ومشروطاً أُخرى؟

فإذا سلّم القسمين الأخيرين ولابدّ له أن يسلّم أحدهما كما حقّقناه في الفصل السابع، فليكن وجوب التبليغ على وصيّه على حد وجوب التبليغ عليه صلى الله عليه و آله و سلم بعد عدم العلم ببقاء ما يجب تبليغه على وجه الإطلاق، أو خروجه عن الإطلاق من جهة توقّفه على مقدّمة خارجة عن اختياره موقوفة على إقدار اللّٰه تعالى إيّاه، وقد عرفت وضوح فساد ما ادّعاه من تبليغه عليه السلام لمعاصريه على وجه أفادهم القطع بما أسمعناك في الفصل المشار إليه وإن كان لا يضرّنا ولا ينفعه.

ص: 341

الفصل الرابع عشر: الشبهات الواردة على وجود الإمام المنتظر (عج) وغيبته والرد عليها

اشارة

في نقض ما لفّقه جواباً عن نصوص آباء الإمام الغائب عليه السلام الدالّة على وجوده وغيبته، فقد ذكر أنّها مكذوبة لأُمور:

أحدها: ما تقدّم من الإجماع المركّب على عدم وجود الإمام بعد عدم وجوب نصبه.

والجواب عنه: ما تقدّم فقد أخذناه بالوجوه الخمسة من الجهات الأربعة، فلم يبق سعيه مشكوراً، وقدمنا إلى ما عمل من عمل فجعلناه هباء منثوراً.

الثاني: ما أورده على الاستدلال بالروايات السابقة من أنّه ليس هاهنا إمام منصوب للتبليغ وإلّا لبلّغ.

والجواب عنه: ما أوردناه غير مرّة على هذا المعنى الساقط الهابط المغسول(1) المرذول الذي يتبجّح به ويبتهج بإعادته.

الثالث: أنّ أخبار الشيعة كثير منها متناقضة مكذوبة، كأخبارهم الواردة في الغلو والتفويض، والواردة في تفسير الباطن، والواردة في نقيصة القرآن.

والجواب عنه بعد وضوح وجود المتعارضين في روايات الفريقين،

ص: 342


1- . كلام فلان مغسول ليس بمعول كما تقول ساذج وعريان، للّذي لا يُنكّت فيه قائله، كأنّما غسل من النكت والفِقَر غسلاً، أو من حقّه أن يغسل ويطمس. تاج العروس: 545/15، مادة «غسل».

ووضوح أنّ اشتمال خبر أو أخبار على علّة قادحة في صحّته لا يوجب طرح ما خلا عن تلك العلّة المعارضة بأنّ أخبار السنّة كثير منها متضمّن لما ثبت خلافه عندهم أو عند الكلّ بالعقل الصريح أو بالنقل الصحيح، كأخبارهم الدالّة على التجسيم، وعلى الطعن في الأنبياء والمرسلين بما لا يجوز على آحاد السوقيّين، وعلى الطعن في الصحابة وتفسيقهم المخالف للقضية المسلّمة عندهم من أنّ الصحابة كلّهم عدول، وعلى نقيصة القرآن بل وقوع اللحن والغلط في هذا الموجود، مضافاً إلى أنّ كثيراً من رواتهم من الزنادقة والخوارج وأهل البدع الباطلة، وكثيراً منهم من المجاهيل، بل يظهر من كتب رجالهم أنّ مجاهيل رواتهم أزيد من ثمانمائة، وكثيراً منهم كان كذّاباً يضع الحديث باعترافهم.

وتوضيح هذه الفقرات يحتاج إلى أن يفرد كلّ منها برسالة مستقلّة، وحيث إنّ الكلام استطرادي تطفّلي نذكر شطراً يسيراً من كثير ما يتعلّق بالمقام.

فقد روي من طرقهم عن أبي هريرة: أنّ اللّٰه تعالى لمّا أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسه من ذلك العرق.(1)

وعن ابن عباس رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ربّه في صورة شاب أمرد.(2)

وعن عائشة رأى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ربّه على صورة شاب جالس على كرسي رجله في خضرة من نور يتلألأ.

ص: 343


1- . لاحظ: تاريخ مدينة دمشق: 145/13؛ تاريخ الإسلام للذهبي: 128/30؛ لسان الميزان: 239/2.
2- . طبقات الحنابلة: 218/1؛ ميزان الاعتدال: 593/1-594؛ السيرة الحلبية: 140/2.

وفي طريق آخر: في صورة شاب أمرد عليه حلّة خضراء. وفي طريق آخر: في صورة شاب أمرد (عليه ستر من لؤلؤ)(1) قدماه في خضرة.(2)

وأخبار مطاعن الأنبياء والأوصياء والصحابة كثيرة بطرقهم معروفة لا حاجة إلى ذكرها مع أنّ كثيراً من محقّقيهم لا يرضون بفسق معاوية وعمرو بن العاص!! قال محقّقهم الموصوف عندهم بكاشف أسرار المباني، مجدّد الألف الثاني، حجّة اللّٰه على البرية، برهان الطريقة المصطفوية: إنّه لو قيل بفسق معاوية لارتفع الاعتماد عن شطر من أحكام الدين الذي وصل إلينا بتبليغه وتبليغ مَن كان معه من نصف أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم تقريباً المشاركين معه في محاربة علي عليه السلام!! مع أنّ صدق المقدّم ثابت على وجه القطع واليقين، وباعتراف جماعة منهم صاحب التحفة أنّه كان مرتكباً لأشد الكبائر، فيترتّب عليه صدق التالي من بطلان شطر من أحكام دينهم، ويلازمه بطلان الشطر الآخر بنظير الإجماع المركّب الذي ذكره المعترض.

ادّعاء الآلوسي بأنّ الشيعة يقولون بنقيصة القرآن!! والرد عليه

وأمّا أخبار نقيصة القرآن الموصوفة عنده بالزور والبهتان، فنذكر قليلاً من كثير ما نصّ عليه أئمتهم الأعيان.

فمنها: ما ثبت عن ابن عمر من القول بذهاب كثير من القرآن؛ فأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن الأنباري في المصاحف على ما في «الدر

ص: 344


1- . ليس في «م».
2- . لاحظ: مستدرك الحاكم: 316/2؛ فتح الباري: 170/7.

المنثور» للسيوطي عن ابن عمر قال: لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كلّه، ما يدريه ما كلّه قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن يقل قد أخذت ما ظهر منه.(1)

ومنها: ما دلّ على سقوط سورة كبيرة تعدل سورة براءة لم يحفظ منها إلّا آية عند أبي موسى، وهي أيضاً غير موجودة في هذا الجمع. وما دلّ على سقوط سورة تعدل إحدى المسبّحات مثل سابقتها ففي «مستدرك الحاكم» عن أبي حرب بن أبي الأسود أنّه قال: بعث أبو موسى الأشعري إلى قرّاء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم فاتلوه، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب مَن كان قبلكم، وإنّا كنّا نقرأ سورة نشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها غير أنّي حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من المال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب. وكنّا نقرأ سورة نشبّهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم.(2)

ومن العجب أنّ هذه الرواية قد أوردها أيضاً مسلم في صحيحه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن أبي موسى الأشعري.(3)

ومنها الروايات المتعدّدة من طرقهم الدالّة على أنّ سورة براءة كانت

ص: 345


1- . تفسير الدر المنثور: 106/1.
2- . لاحظ: مستدرك الحاكم: 224/2 نحوه.
3- . صحيح مسلم: 100/3، باب لو أنّ لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً؛ ولاحظ: حلية الأولياء: 187/4 و ج 257/1؛ والدر المنثور: 105/1 و 106 و ج 378/6.

تعدل البقرة لطولها(1)، وأنّه لا يقرأون الآن إلّاربعها(2)، وأنّها ما أقلعت عن الناس حتى ما كانت تدع منهم أحداً وكانت تُسمّى الفاضحة.(3)

ومنها الروايات الكثيرة الدالّة على نقصان سورتي الحفد والخلع مع أنّهما مثبّتتان في مصحف أُبي ابن كعب وابن عباس، وكان أبو موسى يقرأ بهما، وكان أمير المؤمنين عليه السلام علمهما عبد اللّٰه الغافقي.(4)

أُولاهما: اللهم إيّاك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجد، إنّ عذابك بالكفّار ملحق.

والثانية: اللّهم إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك.(5)

وأمّا الروايات الدالّة على سقوط الآيات أو بعض الجمل فكثيرة جدّاً، وتواتر من طرقهم أنّ آية الرجم كانت عند عمر بن الخطاب ولم يكتبها

ص: 346


1- . لاحظ: عمدة القاري: 253/18؛ الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 177/1.
2- . لاحظ: مستدرك الحاكم: 331/2؛ المصنف لابن أبي شيبة: 178/7، برقم 3؛ الإتقان في علوم القرآن: 68/2.
3- . لاحظ: صحيح البخاري: 58/6؛ صحيح مسلم: 245/8؛ الدر المنثور: 208/3؛ المصنّف لابن أبي شيبة: 201/7؛ كنز العمال: 420/2.
4- . هو عبد اللّٰه بن زرير الغافقي المصري، رُمي بالتشيع، من الطبقة الثانية، روى عن علي عليه السلام وعمر. وثّقه العجلي وابن سعد وابن حبان. مات في خلافة عبد الملك بن مروان سنة 80 ه أو ما بعدها. لاحظ: تهذيب التهذيب: 190/5 برقم 375.
5- . لاحظ الدر المنثور: 420/6-422، باب: «ذكر ما ورد في سورة الخلع وسورة الحفد» فقد ذكر روايات كثيرة حول هاتين السورتين. ولاحظ أيضاً: سنن البيهقي: 210/2؛ مصنّف عبد الرزاق: 116/3؛ صحيح ابن خزيمة: 156/2؛ الإتقان في علوم القرآن: 178/1-179 برقم 843-850.

مخافة قول الناس؛ ففي كتب كثيرة بطرق شهيرة منها «صحيح البخاري» قال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللّٰه لكتبت آية الرجم بيدي.(1)

واستقصاء الروايات الدالّة على سقوط بعض الجمل والكلمات متعسّر جدّاً، وأمّا الروايات الدالّة على وقوع اللحن والغلط فيها فكثيرة أيضاً من طرقهم؛ فقد أخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي داود وابن المنذر على ما في «الدر المنثور» عن عروة قال: سألت عائشة عن لحن القرآن «إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هٰادُوا وَ اَلصّٰابِئُونَ»(2) (وعن قوله تعالى)(3): «وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاٰةَ وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ»(4) و (عن قوله تعالى)(5): «إِنْ هٰذٰانِ لَسٰاحِرٰانِ»(6) فقالت: يابن أخي هذا عمل الكتّاب أخطأوا(7) في الكتاب.(8)

وأخرجه السيوطي في «الإتقان» وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.(9)

وورد من طرق كثيرة منهم أنّه: لمّا كتبت المصاحف وعرضت على

ص: 347


1- . صحيح البخاري: 113/8، باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء.
2- . المائدة: 164.
3- . ليس في المصدر.
4- . النساء: 164.
5- . ليس في المصدر.
6- . طه: 63.
7- . في «م»: خطأوا.
8- . تفسير الدر المنثور: 246/2.
9- . الإتقان في علوم القرآن: 536/1 برقم 3482.

عثمان وجد فيها حروفاً من اللحن فقال: لا تغيّروها فإنّ العرب ستغيّرها، أو قال: ستعربها بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف.(1)

فلينظر الناظر أنّ إسناد اللحن والغلط إلى القرآن الموجود أشد وأشنع أم إسناد النقيصة إليه؟!

ولنكتف في إثبات هذا المرام بهذا المقدار من الكلام وليكف المعترض القرّاف(2) اللّوام لسان التشنيع والملام عن العلّامة النوري أحلّه اللّٰه دار السلام، وأنّه أتى للقرآن الكريم بالتكملة والإتمام بما لم يأت به الإمام الغائب عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام.

وأمّا إسناد تفاسير الباطنية إلى رواياتنا ففيه:

أوّلاً: أنّ هذه الأطعمة الشهية عند الصوفية من السنية المسمّاة بتفاسير الباطنية كانت موضوعة في المائدة السنيّة التي بسطها ووضعها شيخهم الكبير وحافظهم الشهير ومحدّثهم الخبير أبو عبد الرحمن السلمي(3) الذي أشار إلى بعض ألقابه ومحامده: اليافعي في «مرآة الجنان»(4)، والسمعاني

ص: 348


1- . الإتقان في علوم القرآن: 536/1 برقم 3483.
2- . القرف: التهمة، والجمع: القراف. راجع النهاية لابن الأثير: 46/4، مادة «قرف».
3- . هو محمّد بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدي السلمي النيسابوري أبو عبد الرحمن (325-412 ه) من علماء المتصوّفة، قال الذهبي: شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفسيرهم، قيل: كان يضع الأحاديث للمتصوّفة، له مصنّفات منها: حقائق التفسير مختصر على طريقة أهل التصوّف، طبقات الصوفية (مطبوع)، مقدّمة في التصوّف. الأعلام: 99/6.
4- . مرآة الجنان: 21/3، سنة 412 ه.

في «الأنساب»(1)، والحاكم في «تاريخ نيشابور»(2)، والسبكي في «الطبقات»(3)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء»(4)، ورآه محيي الدين في المقام الذي بين الصديقية والنبوة على ما في الباب الحادي والستين والمائة فسئل عنه؟ فقال: قبض روحي وأنا في هذا المقام فبقيت فيه دائماً.(5)

وبالجملة هذا الشيخ هو الذي وضع على بعض أئمتنا - سلام اللّٰه عليهم - جملة وافرة من هذه التفاسير.

وذكر ابن تيمية في مقام نسبة الأكاذيب إلى مولانا الصادق عليه السلام ما لفظه:

حتى نسب إليه أنواع من تفسير القرآن على طريقة الباطنية، كما ذكر ذلك عنه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب «حقائق التفسير» فذكر قطعة من التفاسير التي هي من تفاسيره، وهي من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وتبديل مراد اللّٰه من الآيات بغير مراده. وكلّ ذي علم بحال جعفر يعلم أنّه كان بريئاً من هذه الأقوال الباطلة والكذب على اللّٰه(6).(7)

وذكر أيضاً: أنّ ما ينقل في حقائق السلمي من التفسير عن جعفر الصادق عامّته كذب على جعفر، كما قد كذب عليه غير ذلك.(8)

ص: 349


1- . الأنساب: 279/3.
2- . تاريخ نيسابور (المنتخب من السياق) لعبد الغافر بن إسماعيل الفارسي (المتوفّى 529 ه): 9.
3- . طبقات الشافعية: 147/4 برقم 320.
4- . حلية الأولياء: 191/4 برقم 275.
5- . الفتوحات المكية: 261/2.
6- . في المصدر بزيادة: في تفسير كتابه العزيز.
7- . منهاج السنّة النبوية: 11/8.
8- . منهاج السنّة النبوية: 43/8.

وثانياً: أنّ المراد بتفاسير الباطنية إن كان من قبيل ما ينسب إلى طائفة من الملاحدة من إنكار الصلاة والزكاة والصوم والحج وأمثالها بظواهرها بالمرّة، وأنّ الغرض منها أشياء أُخر، فمثل هذا لا يوجد أبداً في كتب الإمامية، ومذهبهم في ذلك معروف، والتزامهم بظواهر الشرع المبين مشهور لا ينكره مخالف ومؤالف؛ ومَن الذي ينكر على القمر نوره، وعلى الشمس ضياءه وظهوره، وعلى البحر جوده، وعلى الملك سجوده؟!

وإن كان الغرض منها أنّهم يقولون بعد الالتزام التام بظواهر الكتاب الكريم إنّ لها في بعض المواطن بواطن، فهذا أمر لا ينكر، فقد ثبت أنّ للقرآن ظهراً وبطناً، والعالم الفاضل والكيّس العاقل من جمع بينهما وفاز بشرفهما.

وجود أهل البدع والكذّابين والضعفاء في صحاح أهل السنّة

وأمّا وجود الزنادقة وأهل البدع والكذّابين في روايات أهل السنّة، فهذا باب واسع لا نريد الخوض فيه، بل نذكر شطراً من القول فيما هو أصحّ الكتب عندهم بعد كتاب اللّٰه، وهو صحيح البخاري الذي قد مرّ شطر من مناقبه ويعلم منه حال البقية، ثم نعطف عليه ذكر جماعة صرّحوا بأنّهم كذّابون وضّاعون فنقول:

البخاري يروي عن المجاهيل والخوارج في صحيحه

ذكر بعض أعاظمهم في معرفة أُصول الحديث أنّ البخاري احتجّ بأزيد من مائة من المجاهيل(1)، وأنّه قد صحّ عند العلماء أنّه روى عن ألف

ص: 350


1- . نهاية الدراية للسيد حسن الصدر: 499 نقلاً عن ابن يسع في كتاب معرفة أُصول الحديث.

ومائتين من الخوارج مع ذهاب كثير من الخاصّة والعامّة إلى كفرهم.(1)

وقد حبسه قاضي بخارى للإكثار من الرواية عن الخوارج.(2)

وقال له أحمد بن حنبل: كيف سمّيت كتابك الصحيح مع أنّ أكثر رواته من الخوارج.(3)

وقد روى فيه عن جماعة من الشيعة ك: أبان بن تغلب وإسماعيل بن أبان وإسماعيل بن زكريا الخلقاني وجرير بن عبد الحميد وخالد بن مخلد القطواني وسعيد بن فيروز وسعيد بن كثير بن عفير وسعيد بن عمر وابن اسوع وعباد بن العوام وعباد بن يعقوب وعبد اللّٰه بن عيسى بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى وعبد الرزاق بن همام وعبد اللّٰه بن موسى وعلي بن جعد وعبد الملك بن أعين أخي زرارة والفضل بن دكين وقطر بن أبي خليفة ومحمد بن حجارة(4) الكوفي ومحمد بن فضيل بن غزوان ومالك بن إسماعيل أبي غسان.

البخاري ومسلم يرويان عن جماعة من القدرية في صحيحيهما

وروى أيضاً عن جماعة من القدرية، وهم كثيرون ننبه على بعض مَن روى عنه البخاري أو مسلم أو كثير منهم ك: بشر بن السري وثور بن يزيد الحمصي وحسّان بن عطية المحاربي وحسن بن ذكوان وداود بن الحصين وسالم بن عجلان وسلام بن مسكين الأزدي وشبل بن عباد المكي وشريك

ص: 351


1- . نهاية الدراية للسيد حسن الصدر: 499 نقلاً عن ابن يسع في كتاب معرفة أُصول الحديث.
2- . نهاية الدراية: 499.
3- . نهاية الدراية: 499.
4- . في «ح»: حجاوة.

بن عبد اللّٰه بن أبي نمر وعبداللّٰه بن عمرو، وأبو معمر وعبد اللّٰه بن لبيد المزني وعبد اللّٰه بن أبي نجيح مكي وعبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري وعبد الوارث بن سعيد التنوري وعطاء بن ميمونة والعلاء بن الحرث وعمر بن أبي زائدة وعمران بن مسلم القصير وعوف الأعرابي البصري وقتادة وكهمس بن المنهال ومحمد بن سوار البصري وهارون بن موسى الأعور وهشام بن أبي عبد اللّٰه الدستوائي ووهب بن منبه اليماني ويحيى بن حمزة الحضرمي.(1)

البخاري ومسلم يرويان عن جماعة من المرجئة

وقد روى الشيخان عن جماعة من المرجئة ك: إبراهيم بن طهمان وأيوب (بن عائذ الطائي وذر بن عبد اللّٰه المرهبي وشبابة بن سوّار وعبد الحميد الحماني وعبد الحميد)(2) بن عبد العزيز بن أبي رواد وعثمان بن غياث البصري وعمرو بن ذر وعمر بن مرة ومحمد بن حازم أبو معاوية الضرير وورقاء بن عمرو اليشكري ويحيى بن صالح الوحاظي ويونس بن بكير.(3)

وفي رواياتهم ما يقتضي كفر هذين الصنفين فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «صنفان من أُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية».(4)

ص: 352


1- . لاحظ: نهاية الدراية: 510-511.
2- . ليس في «م».
3- . لاحظ نهاية الدراية: 511-513.
4- . سنن الترمذي: 308/3 برقم 2239، باب ما جاء في القدرية.

وروى أبو داود السجستاني عن ابن عمر قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم:

«القدرية مجوس هذه الأُمّة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم».(1)

البخاري ومسلم وأصحاب السنن يروون عن الضعفاء والكذّابين

وأمّا الضعفاء الذين روى البخاري [عنهم] وغيره فكثيرون.

وأمّا المطعونون بخصوص التكذيب والوضع، بل بصيغة المبالغة ممّن رووا عنه في صحاحهم فممّن لا تخفى كثرتهم على مَن راجع كتب الحديث والرجال من الجماعة نذكر شطراً يسيراً منهم.

فمنهم: إسماعيل بن أبي أويس الذي روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة في صحاحهم، مع أنّ المروزي وصفه بأنّه كذّاب، وابن معين بأنّه هو وأبوه يسرقان الحديث، وبأنّه مخلط يكذب ليس بشيء.(2)

ومنهم: الحسن بن مدرك البصري الطحان الذي روى عنه البخاري والنسائي وابن ماجة، مع أنّ أبا داود وصفه بأنّه كذّاب.(3)

ومنهم: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الذي روى عنه ابن ماجة في صحيحه، ووصفه يحيى القطّان بأنّه كذّاب، وابن معين بأنّه كذّاب رافضي، وأحمد بن حنبل بأنّه قدري معتزلي متروك الحديث يروي أحاديث ليس

ص: 353


1- . سنن أبي داود: 410/2 برقم 4691، باب في القدر.
2- . تهذيب الكمال: 127/3 برقم 459.
3- . ميزان الاعتدال: 522/1 برقم 1949.

لها أصل، وتارة بأنّه قدري جهمي كلّ بلاء فيه؛ والعجب أنّهم ذكروا أنّ إمامهم الشافعي كان يعتمد في فتاويه على أحاديث هذا القدري الجهمي المجوسي الكذّاب، وربّما استحيا عن ذكر اسمه فيكنّيه.(1)

ومنهم: أحمد بن عبد الرحمن بن وهب الذي روى عنه مسلم في صحيحه مع أنّ ابن عدي قال: رأيت شيوخ مصر مجمعين على ضعفه، وعدّه النسائي في الضعفاء وقال: إنّه كذّاب.(2)

ومنهم: أحمد بن محمد بن أيوب صاحب المغازي(3)؛ وأبو الوليد ابن عبد الرحمن البسري(4)؛ وأيوب بن جابر بن سيار(5)؛ وثابت بن موسى الضبي(6)؛ وجبارة بن المغلس الحماني(7)؛ وجعفر بن الزبير الذي قال شعبة: إنّه وضع أربعمائة حديث على رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، وكان يقول: إنّه أكذب الناس، وقال ابن عدي: الضعف على حديثه بيّن، وقال الدارقطني: إنّه متروك، والعجب بعد ذلك أنّهم ذكروا في حقّ هذا الكذّاب المفتري أنّه لمّا مات رفع إلى السماء الدنيا، واستبشر الملائكة بقدومه وكرّروا قولهم: قد جاء المحسن، قد جاء المحسن!!(8)

ص: 354


1- . تهذيب الكمال: 184/2 برقم 236.
2- . ميزان الاعتدال: 113/1 برقم 444.
3- . الكامل: 174/1 برقم 14.
4- . ميزان الاعتدال: 115/1 برقم 445. وفيه: أحمد بن عبد الرحمن البسري أبو الوليد.
5- . تهذيب الكمال: 466/3 برقم 609.
6- . ميزان الاعتدال: 367/1 برقم 1375.
7- . الموضوعات لابن الجوزي: 102/3.
8- . تهذيب الكمال: 32/5 برقم 940.

ومنهم: حبيب بن أبي حبيب المصري الذي ذكر أبو داود أنّه أكذب الناس.(1)

والحارث بن أبي عمير البصري(2)، وحسن بن عمارة الكوفي(3)، وحصين بن عمر الأحمسي.(4)

وحمزة بن أبي حمزة الجزري الذي روى حديث أصحابي كالنجوم، ووصفه ابن عدي بأنّ عامّة رواياته موضوعة، وابن معين بأنّه لا يساوي فلساً، والبخاري بأنّه منكر الحديث.(5)

ومنهم: خارجة بن مصعب السرخسي(6)، وخالد بن عمرو القرشي(7)، وخالد بن يزيد الدمشقي(8)، وداود الزبرقاني(9)، وداود بن المحبر بن قحذم(10)، وسري بن إسماعيل الكوفي(11)، وسعد بن طريف الحنظلي(12)، وسعيد بن سنان الحمصي(13)، وسعيد بن عبد

ص: 355


1- . تهذيب التهذيب: 158/2 برقم 326؛ الوضّاعون وأحاديثهم للأميني: 162.
2- . المغني في الضعفاء للذهبي: 225/1 برقم 1245.
3- . ميزان الاعتدال: 513/1 برقم 1918.
4- . ميزان الاعتدال: 553/1 برقم 2087؛ الجرح والتعديل: 194/3 برقم 842.
5- . الجرح والتعديل: 210/3 برقم 919؛ الوضّاعون وأحاديثهم: 176.
6- . الجرح والتعديل: 376/3 برقم 1716؛ الوضّاعون وأحاديثهم: 177.
7- . ضعفاء العقيلي: 10/2 برقم 413؛ الوضّاعون وأحاديثهم: 220.
8- . ضعفاء العقيلي: 17/2 برقم 427؛ المجروحين لابن حبّان: 284/1.
9- . ميزان الاعتدال: 7/2 برقم 2606.
10- . ميزان الاعتدال: 20/2 برقم 2646.
11- . ميزان الاعتدال: 117/2 برقم 3087.
12- . ميزان الاعتدال: 122/2 برقم 3118.
13- . ميزان الاعتدال: 143/2 برقم 3208؛ المغني في الضعفاء: 406/1 برقم 2411.

الجبار،(1) وسلم بن إبراهيم [الوراق](2)، وسلم بن عبد الرحمن [النخعي](3)، وسهل بن صقير(4)، وسيف بن محمد الكوفي(5)، وسيف بن هارون البرجمي(6)، وضرار بن صرد(7)، وطلحة بن زيد(8)، وعامر بن صالح بن عبد اللّٰه(9)، وعبد اللّٰه بن إبراهيم الغفاري.(10)

إلى غير ذلك من أشخاص كثيرين من الكذّابين والوضّاعين الذين رووا عنهم في صحاحهم ممّن يؤدّي استيفاء القول فيه وفي ما قالوا في حقّه إلى الإسهاب والإطناب(11)، ويوجب الخروج عن وضع الكتاب. هذا كلّه مع قطع النظر عمّا أشرنا إليه في الرسالة السابقة ممّا ذكروا في حقّ كثير ممّن تنتهي إليه رواياتهم من الصحابة. وأمّا ما أطال القول فيه في ضمن أوراق من تكذيب الروايات المتضمّنة لنصب الإمام للتبليغ والهداية فقد كرّرنا الجواب عنه غير مرّة،

ص: 356


1- . ميزان الاعتدال: 147/2 برقم 3223؛ ضعفاء العقيلي: 110/2 برقم 585.
2- . ميزان الاعتدال: 184/2 برقم 3366.
3- . ميزان الاعتدال: 186/2 برقم 3374.
4- . الكامل لعبد اللّٰه بن عدي الجرجاني: 441/3 برقم 858.
5- . تهذيب التهذيب: 260/4 برقم 519.
6- . ميزان الاعتدال: 258/2 برقم 3643؛ تقريب التهذيب: 408/1 برقم 2735.
7- . ميزان الاعتدال: 327/2 برقم 3951.
8- . ميزان الاعتدال: 338/2 برقم 4000.
9- . المجروحين لابن حبان: 187/2؛ المغني في الضعفاء: 510 برقم 3008.
10- . ميزان الاعتدال: 388/2 برقم 4190.
11- . للمزيد راجع: نهاية الدراية للسيد حسن الصدر: 506-510؛ استخراج المرام من استقصاء الإفحام للميلاني: 77/3-103.

وأوضحنا السبيل في هذه الرسالة، ولم نر بعد في كلماته ما يقبل التعرّض لغلطاته، فإنّها بين ما اتّضح حاله ممّا تحرّر وبين ما يتلاشى ويضمحل في أوّل النظر.

في تصحيح الاستناد إلى الإجماع في خلافة أبي بكر والردّ عليها

نعم قد بقي من الطرائف المضحكة فيها تصحيح الاستناد إلى الإجماع في الخلافة البكرية بما رأى من بعض الإمامية من الاحتجاج على حجّية الإجماع بالكشف القطعي على وجه الحدس عن رأي الرئيس، فزعم أنّه لو فسدت الأدلّة التي زعموها على حجّية الإجماع من الآية والرواية، كفت هذه الطريقة، حيث إنّ إجماع أهل السقيفة أو مَن تبعهم، كاشف عن رأي النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ومفاسد هذا الكلام أكثر من أن تحصى إلّاأنّها لتوقّف توضيحها على شرح حال السقيفة والمجمعين، وما كانوا يدعون في ذلك اليوم، وعلّة استقرار الأمر على مَن استقر، وهي مبسوطة في كتب أصحابنا - شكر اللّٰه مساعيهم الجميلة - والتعرّض لتفصيلها مع زيادات سنحت لنا في هذه المباحث يحتاج إلى إفراد كتاب مستقل؛ إلّاأنّا نغمض النظر عن الجميع ونقتصر على تزييف هذا الطريق الجديد الطريف والتخيّل الطري اللطيف فنقول:

الذي سمعه أو رآه هذا الصحفي في الكتب من الإجماع المنبئ على الحدس الكاشف عن رأي الرئيس إنّما هو الإجماع المتحقّق من جماعة علم أنّهم لا يصدرون إلّاعن رأي رئيسهم في مسألة توقيفية لم يكن للعقل والحدس والعادات فيها مدخل أصلاً لا قطعاً ولا احتمالاً، فإذا أفتى واحد

ص: 357

من مثل هؤلاء في مثل هذه المسألة بشيء فربّما يحصل ظن بأنّه وصل إليه نصّ من إمامه، فإذا تعقّبه آخر وآخر إلى أن اتّفقت آراء جماعة كثيرة مع تباين مذاقهم واختلاف مشاربهم في هذه المسألة التوقيفية، علم عادة بوجود نص معتبر فيها لو وصل إلينا لم نقل إلّابمثل ما قالوا.

وأمّا الإجماع الذي علم استناده إلى المقدّمات العقلية، بل ولو احتمل فيها كما إذا فرض اجتماعهم على وجوب مقدّمة الواجب أو استحالة الخرق والالتيام على الفلك فهل يدّعي أحد حصول الحدس القطعي برأي الرئيس من هذا الإجماع؟ وكذا إذا علم أو احتمل استناده إلى التشهّيات النفسية أو المناسبات الذوقية أو القياسات العامّية، فهل يكشف هذا الإجماع عن رأي الرئيس؟

والإجماع على الخلافة البكرية بعد غمض العين عن تحقّقه وعن المناقشات الكثيرة فيه إنّما كان مبنياً على القياس بنصّ رؤسائهم وعلمائهم، وقد علم عدم استناد المجمعين إلى نصّ من اللّٰه ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم.

قال الحاجبي في «مختصر الأُصول»: يجوز أن يجمع عن قياس، ومنعت الظاهرية الجواز، وبعضهم الوقوع.(1)

لنا: القطع بالجواز كغيره، والظاهر الوقوع كإمامة أبي بكر رضى الله عنه.

وقال العضدي في شرحه: قد علمت وجوب مستند للإجماع(2)، فذلك المستند هل يجوز أن يكون قياساً؟ الصحيح: جوازه، ومنعه الظاهرية،

ص: 358


1- . لاحظ: فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: 665/5.
2- . في «م»: الإجماع.

فبعضهم منع جوازه، وبعضهم جوّزه ومنع الوقوع.

لنا: القطع بجوازه؛ لأنّه لو فرض لم يلزم منه محال لذاته، وذلك كغيره من الأمارات من الخبر الواحد والمتواتر، الظنيّ الدلالة، إذ لا مانع يقدر إلّا كونه مظنوناً، والظاهر الوقوع كإمامة أبي بكر رضي اللّٰه عنه أجمع عليها بقياسها على إمامته في الصلاة فقيل: رضيك لأمر ديننا أفلا نرضاك لأمر دنيانا. انتهى.

وحيث قد أتينا بشطر من الحجج البالغة والبراهين الدامغة، واستأصلنا أعراق شبهاته، وهدمنا اطام هفواته، وطمسنا وجوه ترّهاته، وأوضحنا فساد كلماته، فلنختم الكلام حامدين للّٰه المفضال المنعام مصلّين مسلّمين على محمد أفضل رسله الكرام وآله الأطهار والأبرار العظام ما أقبل يوم وأدبر ظلام.

***

[كلمة ناسخ الرسالة:

قد فرغ من تسويد هذه الأوراق في مشهد مولانا أمير المؤمنين،

النجف الأشرف على مشرفها آلاف التحية، أقل الكتّاب

ابن محمد حسن عبد اللّٰه الهشترودي

في يوم الأربعاء سادس وعشرين

ذي حجّة الحرام من شهور

أربع وثلاثين وثلاثمائة بعد الألف

سنة 1334 ه]

ص: 359

ص: 360

فهرس المحتويات

مقدّمة المشرف: المستقبل المشرق للصالحين 7

1. حديث خروج المهدي عليه السلام في كتب أهل السنّة 10

نقد كلام صاحب المنار 16

2. تصاريح علماء أهل السنّة بولادة الإمام المهدي عليه السلام 18

3. مَن رأى المهدي عليه السلام قبل غيبته 32

4. القصيدة البغدادية وما حولها من الردود 36

مَن هو ناظمها؟ 40

ختامه مسك 44

5. الاعتراض على المهدي عليه السلام ذريعة لإنكار النص في الإمامة 45

1. الفراغ الهائل في جانب العقائد والمعارف 46

2. الفراغ الهائل في بيان الأحكام الإسلامية 49

التفسير الصحيح لإكمال الدين 51

3. الفراغ الهائل في تفسير الذكر الحكيم 52

ص: 361

4. الفراغ الحاصل في صيانة السنّة النبوية عن عمل الكذّابين والوضّاعين 55

5. الأُمّة الإسلامية والخطر الثلاثي 58

6. العشائريات تمنع من نصب قائد متّفق عليه 59

الآن حصحص الحقّ 63

ترجمة شيخ الشريعة الإصفهاني قدس سره 67

ترجمة محمود شكري الآلوسي 69

المناظرات بين شيخ الشريعة والسيد الآلوسي 70

شكر وتقدير 71

النسخ المعتمدة 72

منهج التحقيق 73

***

1. الرسالة الأُولى للسيد الآلوسي 81

2. جواب شيخ الشريعة قدس سره على رسالة السيد الآلوسي الأُولى 83

اللازم على الإمام بيان الأحكام بالطرق المتعارفة 85

إجابة نقضية عن السؤال 86

عدم إحاطة العقول لحِكَمِ الأحكام ومصالحها 90

تضافر حديث الأئمّة الاثني عشر 91

التعرّف على الأحكام من إحدى الحِكَم 99

جواب آخر عن السؤال 100

ص: 362

3. الرسالة الثانية للآلوسي جواباً عن رسالة شيخ الشريعة 104

نسخة الجواب الواصل من بغداد 104

تعليقات العلّامة السبحاني على رسالة الآلوسي الثانية 132

4. جواب شيخ الشريعة عن رسالة الآلوسي الثانية 148

الآلوسي يُنكر وجود الإمام الثاني عشر (عج) والردّ عليه 148

الإشكال على قاعدة اللطف لا يبطل مذهب الشيعة 153

الآلوسي وادّعاء عدم وجود خبر جامع لشرائط الصحّة في الوسائل ورجال الكشّي!! 154

ادّعاء الآلوسي بأنّ جميع الروايات المتعلّقة بالإمامة موضوعة 156

5. رسالة الآلوسي الثالثة 159

المطلب الأوّل: في بطلان قاعدة اللطف 159

المطلب الثاني: لا طريق لمعرفة الأحكام من غير الإمام 165

المطلب الثالث: ادّعاء الشيعة بأن عدم نصب الإمام ينافي الرحمة والرأفة بالعباد 169

المطلب الرابع: أدلّة وجوب العصمة عند الشيعة ونقدها 171

المطلب الخامس: ادّعاء الآلوسي عدم وجود إمام منصوب من اللّٰه في هذه 178

الأزمنة 178

الرد على أدلّة الشيعة في إمامة الإمام الثاني عشر (عج)، وفيه أُمور 179

الأوّل: الإجماع 179

ص: 363

الأمر الثاني: ما هي فائدة الإمام المنصوب في هذا الزمان؟ 180

الثالث: عدم الدليل على وجود الإمام الثاني عشر عليه السلام 183

في إبطال الروايات الدالّة على إمامة الغائب عليه السلام 183

تعليقات العلّامة السبحاني على رسالة الآلوسي الثالثة 200

6. جواب شيخ الشريعة عن رسالة الآلوسي الثالثة، وفيه فصول 217

الفصل الأوّل: خلاف الشيعة مع السنّة لا يتعدّى الخلاف بين المذاهب الأربعة 218

الفصل الثاني: قلّة بضاعة الآلوسي في العلم والأُصول 223

ادّعاء الآلوسي بأن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بلّغ شرطاً من الأحكام!! 224

الشيعة ليس عندهم خبر جامع لشرائط الصحّة!! 227

الآلوسي يكذّب جميع الأخبار الدالّة على وجوب وجود الإمام 227

الفصل الثالث: مسألة الإمامة عند الشيعة 229

كلام في قاعدة اللطف 230

ما هو المراد من قاعدة اللطف؟ 231

إشكالات أُخرى للآلوسي على قاعدة اللطف 233

الفصل الرابع: افتراءات الآلوسي على الشيعة 238

الآلوسي يكذب على الشيعة في سطرين خمس كذبات!! 238

في ردّ افتراء الآلوسي على صاحب «منار الهدى» 239

الفصل الخامس: فيما يتعلّق بكلامه في وجوب العصمة 244

في تعريف العصمة 244

ص: 364

في ردّ الآلوسي على أدّلة الشيعة في وجوب العصمة والرد عليها 245

دلالة قوله: «أَطِيعُوا اللّٰهَ...» على عصمة المطاع 248

الرازي يقرّ بدلالة الآية على عصمة المطاع 249

مَن هم أُولي الأمر عند الرازي 251

في إنكار الرازي قول الشيعة حول الآية والجواب عنه 253

الفصل السادس: شبهة الآلوسي في عدم وجود إمام منصوب والرد عليها 258

أدلة الآلوسي على عدم وجود إمام منصوب 258

أوّلها: الإجماع المركّب 258

نصب الإمام بلا فائدة عبث ينزّه اللّٰه تعالى عنه 261

الثالث من أدلّته: عدم الدليل على وجوده 262

الفصل السابع: في أقسام التبليغ 266

أحدهما: ما كان من قبيل الواجب المطلق 266

وثانيهما: ما كان من قبيل الواجب المشروط 266

الفصل الثامن: هل الغرض من نصب الإمام الغائب هو التبليغ؟ 277

الفصل التاسع: في الخلافة والخلفاء بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم 284

كلام طريف لصاحب التحفة 286

عبداللّٰه بن عمر وحديث الاثني عشر 287

الفصل العاشر: في طعن علماء السنّة بصحيحي: البخاري ومسلم!! 289

صحيح البخاري ومسلم أصحّ الكتب بعد القرآن الكريم 289

ص: 365

بعض علماء السنّة يطعنون بأحاديث الصحيحين عند مناظرة الشيعة!! 299

الآلوسي يطعن في أحاديث الصحيحين على خلاف المشهور عند السنّة!! 300

أصل خلافة أبي بكر وأساسها كان على خبر الواحد 301

الفصل الحادي عشر: في بعض الكلام في حديث الثقلين 304

حديث الثقلين متواتر وطرقه كثيرة 305

حديث الثقلين دليل على عصمة أهل البيت عليهم السلام 307

إقرار صاحب التحفة ووالده بعصمة أهل البيت عليهم السلام 308

في معنى العصمة 309

في معنى الحكمة 310

في معنى الوجاهة 310

في معنى القطبية الباطنية 311

الفصل الثاني عشر: في شطر من القول في حديث الاثني عشر 314

البخاري ومسلم أخرجا حديث الاثني عشر في صحيحيهما 314

أحمد يروي حديث الاثنى عشر في مسنده 314

ادّعاء الآلوسي أنّ حديث الاثني عشر ينتهي إلى صحابيّين فقط!! والرد عليه 315

حديث الاثني عشر من غير طريق ابن مسعود وابن سمرة 317

شبهة الآلوسي بأن حديث الاثني عشر لا ينطبق على أئمة الشيعة!! 323

كلام شريف للسيد المرتضى حول مكانة الأئمة عليهم السلام عند عامّة المسلمين 324

الفصل الثالث عشر: في حديث: «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه» 329

ص: 366

حديث: «من مات ولم يعرف...» في كتب السنّة 330

حديث: «مَن مات ولم يعرف...» في كتب الشيعة من غير كتاب سليم 331

الروايات الدالّة على أنّ لكلّ أُناس في كلّ زمان إماماً 335

الفصل الرابع عشر: الشبهات الواردة على وجود الإمام المنتظر (عج) وغيبته والرد عليها 342

ادّعاء الآلوسي بأنّ الشيعة يقولون بنقيصة القرآن!! والرد عليه 344

وجود أهل البدع والكذّابين والضعفاء في صحاح أهل السنّة 350

البخاري يروي عن المجاهيل والخوارج في صحيحه 350

البخاري ومسلم يرويان عن جماعة من القدرية في صحيحيهما 351

البخاري ومسلم يرويان عن جماعة من المرجئة 352

البخاري ومسلم وأصحاب السنن يروون عن الضعفاء والكذّابين 353

في تصحيح الاستناد إلى الإجماع في خلافة أبي بكر والردّ عليها 357

فهرس المحتويات 361

ص: 367

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.