اسم الكتاب: غایة الوصول و إیضاح السبل في شرح مختصر منتهی السؤل و الأمل لابن الحاجب
الجزء: 2ج
المؤلف: العلّامة الحلّي
تقديم وإشراف: الفقيه المحقّق الشيخ جعفر السبحاني
المحقّق: الشيخ آ. مرداني پور
الطبعة: الأُولىٰ - 1432 ه
المطبعة: مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام
الكمّيّة: 1100 نسخة
الناشر: مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام
الصف والإخراج الفني: مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام - السيد محسن البطاط
تسلسل النشر: 665 تسلسل الطبعة الأُولى: 382
شماره کتابشناسی ملی:2704574
محرر الرقمي: میثم الحیدري
ص: 1
ص: 2
تقديم وإشراف
الفقيه المحقّق الشيخ جعفر السبحاني
غاية الوصول وإيضاح السبل
في شرح مختصر منتهىٰ السؤل والأمل
لابن الحاجب
تأليف
الحسن بن يوسف بن المطهر
المعروف بالعلّامة الحلّي
(648-726 ه)
الجزء الثاني
تحقيق وتعليق
الشيخ آ. مرداني پور
ص: 3
العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، 648-726 ق.
غاية الوصول وإيضاح السبل في شرح مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل ج 2 / لابن الحاجب؛ تأليف الحسن بن يوسف بن المطهر المعروف بالعلامة الحلي؛ تحقيق وتعليق: آ. مرداني پور؛ تقديم وإشراف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام، 1432 ق. = 1390.
(دورة)... 0-343-357-964-978: ISBN
2 ج. (ج. 1)...7-344-357-964-978: ISBN
(ج. 2)...4-345-357-964-978: ISBN
أُنجزت الفهرسة طبقاً لمعلومات فيبا.
1 - ابن الحاجب، عثمان بن عمر، 570-646 ق. مختصر منتهى السؤل والأمل -- نقد وتفسير.
2. أُصول الفقه -- القرن 7 ق. الف. مرداني پور، 1340 ه. ش -. المحقق. ب. السبحاني التبريزي، جعفر، 1347 ق -. المشرف. ج. مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام. د. العنوان. ه. عنوان: مختصر منتهى السؤل والأمل. شرح.
1390 8026 م 2 الف/ 155/8 BP 311/297
-----
اسم الكتاب:...... غاية الوصول وإيضاح السبل
الجزء:...... الجزء الثاني
المؤلف:...... العلّامة الحلّي
تقديم وإشراف:...... الفقيه المحقّق الشيخ جعفر السبحاني
المحقّق:...... الشيخ آ. مرداني پور
الطبعة:...... الأُولىٰ - 1432 ه
المطبعة:...... مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام
الكمّيّة:...... 1100 نسخة
الناشر:...... مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام
الصف والإخراج الفني:...... مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام - السيد محسن البطاط
تسلسل النشر: 665 تسلسل الطبعة الأُولى: 382
حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة
-----
توزيع
مكتبة التوحيد
ايران - قم؛ ساحة الشهداء
7745457-2925152
البريد الإلكتروني: imamsadeq@gmail.com
العنوان في شبكة المعلومات: www.imamsadeq.org
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
ص: 5
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّٰه رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف بريته وخاتم رسله محمد وآله الطاهرين.
أمّا بعد:
فإنّ علم الأُصول من المبادئ الّتي تدور عليها رحى الاستنباط، فمن أنكره فإنّما ينكره بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان به.
إنّ المستنبط مالم تثبت عنده حجّية ظواهر الكتاب خصوصاً بعد تخصيصها وتقييدها، وحجّية الخبر الواحد، إلى غير ذلك من الأُمور الّتي يبحث عنها في علم الأُصول، لا يستطيع استنباط الأحكام، ولذلك قام المحقّقون من الفريقين بدراسة الأُصول الّتي لا غنى للمستنبط عنها، وتدوينها تحت اسم علم الأُصول.
ومن الكتب الّتي أُلّفت في هذا المضمار وصار محوراً لدراسة هذا العلم عبر قرون: «مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل».
وقد قام لفيف من العلماء بشرحه منهم نادرة الآفاق ونابغة العراق الشيخ حسن بن يوسف المشتهر بالعلّامة الحلي رضى الله عنه.
وقد بلغ شرحه في التحقيق والتدقيق إلى حدّ وصفه علماء الفريقين بالحسن والجودة، فهذا ابن حجر يقول في «الدرر الكامنة»: وشرحه على مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن في حلّ ألفاظه وتقريب معانيه.(1) وكان عليه أن يزيد على ما قال: وتحقيق مرامه ومختاره، إلى غير ذلك من المزايا الّتي يقف عليها من سبر الكتاب.
ص: 7
وقد كانت نسخ الكتاب من النوادر إلى أن قامت مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام بتحقيق هذا الكتاب ونشر الجزء الأوّل منه، وهذا هو الجزء الثاني تقدّمه إلى القرّاء الكرام، وبه يتم الكتاب.
ويمتاز هذا الجزء بأنّه قد استفيد في تحقيقه من نسخة ثالثة حصلت عليها المؤسسة وقد رمز لها: نسخة «ج».
وفي ختام الكلام نشكر المحقّق البارع الثبت الشيخ آ. مرداني پور النعماني، الذي بذل جهوده في تصحيح الكتاب على نسخه الثلاث وإيضاح ما أشكل من مفاهيمه ومعانيه.
والّذي تنبغي الإشارة إليه أن أكثر ما نقل في الهامش هو تعليقات ممن درّس الكتاب وحشّىٰ عليه، فأكثرها لا صلة له بالمتن وبذلك صار الكتاب يحتوي على أُمور ثلاثة:
1. المتن لابن الحاجب.
2. الشرح للعلّامة الحلّي.
3. التعليقات على الشرح لمدرسي الكتاب.
فشكر اللّٰه مساعي علمائنا الذين بذلوا جهودهم وصرفوا أعمارهم في بناء صرح الحضارة العلمية.
والحمد للّٰه رب العالمين
جعفر السبحاني
قم / مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
11 ذي القعدة الحرام يوم ميلاد
الإمام الرضا عليه السلام من شهور سنة 1432 ه
ص: 8
أحمد اللّٰه سبحانه وأشكره على توفيقه لتحقيق هذا الأثر الثمين، كما أتقدم بالشكر إلى محققي مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام حيث آزروني في تصحيح هذا الكتاب وإخراجه بهذه الحلّة الجميلة وعلى رأسهم:
1. الأُستاذ محمد بيت الشيخ.
2. الشيخ محمد الكناني.
3. السيد محسن البطاط.
وفي الختام أرى لزاماً عليّ أن اقدم شكري واعتزازي لاستاذي وشيخي العزيز آية اللّٰه جعفر السبحاني (دام ظله) الّذي كلفني بتحقيق هذا الكتاب وأعانني عليه بكل ما احتاجه من المصادر.
وللجميع مني الشكر والتقدير
والحمد للّٰه رب العالمين
محقّق الكتاب
آ. مرداني پور
ص: 9
ص: 10
قال: النهي: اقتضاء كفٍّ عن فعلٍ على جهة الاستعلاء، وما قيل في حدّ الأمرِ من مزيّفٍ وغيره، فقد قيل مقابله في حدّ النهي.
والكلام في صيغته، والخلاف في ظهور الحظر لا الكراهة وبالعكس أو مشتركةٌ أو موقوفةٌ كما تقدّم.
وحكمُها: التكرار والفور، وفي تقدّم الوجوب قرينةٌ.
نقل الأُستاذ الاجماع، وتوقّف الإمامُ، وله مسائل مختصّة. *
* أقول: لمّا فرغ من البحث في الأمر وبيان حقيقته، شرع الآن في النهي؛ وحدّه: «بأنّه اقتضاء كفٍّ عن فعلٍ على جهة الاستعلاء» وإنّما قيّد الكفَّ بكونه كفَّاً عن فعل، احترَازَاً عن الأمر على ما مضى(1)؛ ولا ينتقض بقولنا: «كفّ عن الزنا» لأنا نعني بقولنا: «عن فعل» [هو ال] مشتق من المقتضي والزنا ليس بمشتق من
ص: 11
...............
كف؛(1) ولا بقولنا: «كف» عن كف الصلاة لأنّ الكفّ غير فعل.(2)
وقيْدُ الاستعلاءِ لابد منه في النهي كالأمر؛ والحدود الّتي قيلت في الأمر فقد قيلت في النهي مقابلاتها، والتزييف على ما مضى.
والكلام في صيغته أي في أن النهي على أُصول الاشاعرة هل له صيغة تخصُّه أم لا؟ والخلاف في أنّ الصيغة تقتضي التحريم أو الكراهة أو الاشتراك او أنها موقوفة، كما في الأمر.
وحكم الصيغة في النهي التكرار والفور، ونقل الاستاذ ابوإسحاق الاسفرائني الاجماع على ان تقدُّم الوجوب على النهي قرينة لكون النهي الوارد بعده للحظر؛ وتوقف(3) إمام الحرمين في ذلك، وللنهي مسائل مختصّة به.(4)
ص: 12
قال: النهي عن الشيء بعينه يدل على الفساد شرعاً لا لغة، وقيل:
لغة.
وثالثها: في الإِجزاءِ لا السّببيّة.
لنا: أنّ فسادَهُ سلبُ أحكامِهِ، وليس في اللفظ ما يدلّ عليه لغة قطعاً.
وأمّا كونه يدل شرعاً فلأنّ العلماء لم تزل تستدل على الفساد بالنهي في الربويات والأنكحة وغيرها.
وأيضاً: لو لم يَفْسدْ، لزم من نفيه حكمةٌ للنهي، ومن ثبوته حكمةٌ للصحة، واللازم باطل لأنّهما في التساوي ومرجوحية النهي، [و] يمتنع النهي لخلوه عن الحكمة، وفي رجحان النهي تمتنع الصحة [لذلك]. *
* أقول: الفعل المنهي عنه إمّا أن يُنهىٰ عنه لعينه أو لغيره، فالأوّل كالنهي عن البيع الفاسد والصلاة الفاسدة، والثاني كالنهي عن البيع يوم الجمعة وقت النداء لأجل الصلاة.
وأمّا الثاني فالمشهور بين العلماء أنّه لا يدل على الفساد، ونقل عن مالك وأحمد بن حنبل أنّه يدل عليه، وقوّاه الشيخ أبو جعفر الطوسي أيضاً؛ وأمّا الأوّل فقد اختلف الناس فيه فذهب الجمهور إلى أنّه يدل على الفساد، وذهب آخرون إلى أنّه لا يدل عليه.
وقال أبوالحسين البصري أنّه يدل عليه في العبادات لا في المعاملات، وإلى هذا القول أشار المصنف بقوله: «وثالثها: في الإِجزاءِ لا في السببية»، فإنّ الفساد في العبادات عبارة عن عدم إِجزائها فالنهي عنها يقتضي الفساد؛ وأمّا الفساد
ص: 13
...............
في المعاملات فالمراد منه عدم ترتب أثره عليه وهو لا يدل، كما في البيع وقت النداء.
والذاهبون إلى أنّه يدل على الفساد، اختلفوا في جهة الدلالة فذهب قوم إلى أنّه يدلّ عليه شرعاً لا لغة وهو مذهب المصنف واختيار السيد المرتضى رحمه الله؛ وذهب آخرون إلى أنّه يدل عليه لغة.
واحتج المصنف على مذهبه:
إمّا على عدم الدلالة اللغوية فلأن الفساد معناه سلب احكامه عنه وليس في لفظ النهي ما يدلّ عليه بإحدى الدلالات الثلاث، فانتفت الدلالات اللغوية.
وأمّا ثبوت الدلالة الشرعية فلأنّ العلماء لم يزالوا مستدلين على فساد العقود بالنهي عنها كالاستدلال على فساد الربا والزنا والأنكحة الباطلة بالنهي عنها من غير وقوع انكار منهم لذلك، وهذا إجماع دال على الدلالة الشرعية.
وأيضاً لو لم يدل على الفساد لزم من نفي المنهي عنه - لكونه مطلوب الترك بالنهي - حكمة للنهي، ومن ثبوته - لكون الغرض جواز التصرف فيه وصحته - حكمة للصحة(1)، واللازم باطل فالملزوم مثله.
ص: 14
...............
بيان الملازمة: إنّ النهي طلب العدم فذلك الطلب إمّا أن يكون لحكمة وغرض، أو لا يكون، والثاني عبث وهو قبيح، فالأوّل حق.
وأمّا بطلان الثاني فلأنّه لا تخلو تلك الحكمة إمّا أن تكون راجحة على حكمة الصحة أو مساوية أو مرجوحة، والقسمان الأخيران باطلان والاّ لزم أنْ يكون النهي قبيحاً لأنّه غير مشتمل على الحكمة الراجحة حينئذٍ، وإلى هذا أشار بقوله: «لأنّهما» أي لأنّ الحكمين في حال التساوي والمرجوحية، والأوّل باطل أيضاً لأنّه لو كان النهي راجحاً لمنع شرعية الصحة لأنّه إخلال بالمصلحة الخالصة أعني: القدر الراجح من المصلحة المشتمل عليها النهي.(1)
ص: 15
قال: اللغة: لم تَزَلِ العلماء.
وأُجيب: لفهمهم شَرعاً، بما تقدّم.
قالوا: الأمرُ يقتضي الصحّةَ، والنهي نقيضهُ، فيقتضي نقيضها.
وأُجيب: بأنّه لا يقتضيها لُغَةً، ولو سُلِّمَ فلا يلزم اختلافُ أحكام المتقابلات، ولو سُلّم فإنّما يلزم ألّا يكون للصحة لا أن يقتضي الفساد. *
* أقول: القائل بأنّ النهي يدل على الفساد لغة احتج بوجهين:
الأوّل: أنّه لم يزل العلماء يستدلون بالنهي على الفساد فلو لم يفهموا منه الدلالة عليه وإلّا لما صحّ منهم ذلك.
والجواب: إنّما استدلوا على ذلك بالوضع الشرعي لا بالنظر إلى اللغة لما بيّنا أولاً من أنّه لا دلالة فيه من حيث اللغة.
الثاني: الأمر يقتضي الصحة إجماعاً فالنهي يقتضي الفساد، لأنّ النهي نقيض الأمر فيقتضي نقيض نقيض الأمر، ونقيض الصحة الفساد فيكون النهي مقتضياً للفساد.
والجواب: لا دلالة للأمر على الصحة من حيث اللغة وإنّما اقتضاه من حيث الشرع، سلّمنا أنّ الأمر يقتضي الصحة لكن لا نسلّم أنّ النهي المقابل له يجب أن يقتضي نقيض ما اقتضاه فإنّ المتقابلات قد تتساوى في المعلولات، سلَّمنا لكن الواجب ان النهي يقتضي نقيض ما اقتضاه الأمر - أعني عدم الصحة - لا أن يقتضي الفساد، وبينهما فرق كثير.
ص: 16
قال: النافي: لو دَلَّ، لناقَضَ تصريح الصحةِ، و «نهيتك عن الربا لعينه» و «تملّك به» يصح.
وأُجيب بالمنع بما سبق. *
* أقول: القائل بأنّه لا يدل على الفساد مطلقاً لا شرعاً ولا عقلاً، احتج بأنّ النهي لو دل على الفساد لزم التناقض بين النهي عن الشيء والحكم بصحته؛ والتالي باطل فالمقدم مثله، وبيان الشرطية ظاهر؛ وبيان بطلان التالي أنّه يصح أنْ يُقال: نهيتك عن الربا لعينه، وتملك به، وإذا صحّ ذلك لم يلزم التناقض.
والجواب: المنع من الملازمة، لما سبق في هذا الكتاب(1) من أنّ التصريح بخلاف الظاهر ولا يتناقض كقولك: «رأيت إنساناً» [رأيت إنساناً منقوشاً](2)، وهو كذلك هاهنا.
ص: 17
قال: القائل يدل على الصحة: لو لم يدل لكان المنهيُّ عنهُ غير الشرعي، والشرعي الصحيح، كصوم يوم النحر، والصلاة في الأوقات المكروهة.
وأُجيب: بأنّ الشرعي ليس معناه المعتبر؛ لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «دعي الصلاة»، وللزوم دخول الوضوء وغيره في مسمّى الصلاة.
قالوا: لو كان ممتنعاً لم يُمنع. [و] أُجيب بأن المنع للنهي.
وبالنقض بمثل: «وَ لاٰ تَنْكِحُوا» * و «دعي الصلاة».
قولهم: نحمِلُه علىٰ اللغويّ، يوقعهم في مخالفة أنّ الممتنع لا يُمنع، ثم هو متعذر في الحائض. *
* أقول: نُقل عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني أنّهما قالا:
النهي عن الشيء يدل على الصحة، ونازعهم في ذلك جماعة الاشاعرة والمعتزلة.
احتجّا بأنّ النهي من الشرع عن الصلاة والصوم والبيع إنّما هو على الأُمور الشرعية(1)، وإلّا لكان المنهيُّ عنه غير الشرعي وهو محال، ولما صحت الصلاة في الاماكن المكروهة ولكان الصائم يوم النحر بغير نية مأثوماً [وليس مأثوماً بالإجماع](2)؛ والشرعي إنّما هو الصحيح المعتبر معناه بحسب عرف الشرع
ص: 18
...............
لا الباطل كالنهي عن صوم يوم النحر وعن الصلاة في الاوقات المكروهة لأنّ الأصل تنزيل لفظ الصلاة والصوم على موضوعيهما الشرعيين، والصلاة والصوم في عرف الشرع هو الفعل المعتبر في حكمه شرعاً(1) [فإنّهما منهيّ عنهما وهما صحيحان] .(2)
والجواب: ليس الصوم الشرعي ولا الصلاة الشرعية عبارة عن الصحيح المعتبر حكمه شرعاً لوجهين:
الأوّل: قوله صلى الله عليه و آله و سلم للحائض: «دعي الصلاة أيام حيضك» فقد نهى الحائض عن الصلاة في أيام الحيض وهي بالاتفاق غير صحيحة؛ وكذلك نهيه عن بيع المضامين والملاقيح(3)، فإذَن النهي لا يدل على الصحة الشرعية.
الثاني: أنّه يلزم أنْ يكون الوضوء وغيره من شروط الصلاة داخلاً في مسمّى الصلاة، لأنّ المقصود من الصلاة إذا كان هو الصلاة الصحيحة - وهي لا تصحّ (4)بدون شرائطها - كانت الشروط لا محالة أجزاء من المسمى، وعندي في هذه الملازمة نظر.
ص: 19
...............
واحتجوا أيضاً بأنّه لو لم يكن صحيحاً لكان ممتنعاً، والممتنع يستحيل النهي عنه فإنّه لا يصحّ أن يقال للأعمى: لا تبصر، كما لا يقال له: أبصر، ولكنّه قد نهي عنه فدل على الصحة.
والجواب: المنع، أي الامتناع إنما هو للنهي لا لذات المنهيّ عنه؛ والحاصل:
إنّ المقدم إن كان المراد منه الامتناع الذاتي فالملازمة مسلّمة ولا ينفعك، وإن كان هو الامتناع مطلقاً فالملازمة ممنوعة، وأيضاً ينتقض ما ذكرتم بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «دعي الصلاة أيام أقرائك» وبقوله تعالى: «وَ لاٰ تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ»(1) وإنه بالاتفاق لا يدل على الصحة لكونهما ممتنعين.
قالوا: لا نسلم امتناعهما لكونهما محمولين على المعنى اللغوي والممتنع هو المعنى الشرعي.
قلنا: يلزمكم مخالفة مذهبكم وهو أن الممتنع لا يمنع لأنّ النكاح اللغوي هو الوطء، ممتنع أيضاً شرعاً مع كونه منهيّاً عنه؛ ثمّ إن حملهُ على اللغوي متعذّر في الحائض لأنّها غير منهيّة عن الدعاء.(2)
ص: 20
قال: مسألة: النهي عن الشيء لوصفه، كذلك، خلافاً للأكثر.
وقال الشافعي: يُضادُّ وجوبَ أصلِه يعني: ظاهراً، وإلّا وَرَدَ نهي الكراهةِ.
وقال أبو حنيفة: يدلُّ على فساد الوصف لا المنهيّ عنه.
لنا: استدلالُ العلماء على تحريم صومِ العيد بنحوه، وبما تقدّم من المعنىٰ.
قالوا: لو دلّ لناقض تصريح الصّحة، وطلاق الحائِضِ وذبح مِلكِ الغيرِ معتبرٌ.
وأُجيبَ: بأنّه ظاهرٌ فيهِ، وما خُولف فبدليل صَرفِ النهي عنه. *
* أقول: اختلفوا في النهي عن الشيء لأجل وصفه هل يدل على فساد أصله أم لا؟ فذهب المصنف إلى أنّه يدل عليه شرعاً لا لغة.
وعن الشافعي أنّه يضاد وجوب أصله ظاهراً، واحترز بذلك عن نهي الكراهة كالصلاة في الاماكن المكروهة، فإنّ النهي عن الصلاة لو كان يضاد وجوبها قطعاً لما كانت الصلاة في الأماكن المكروهة صحيحة وذلك باطل بالاتفاق، وأمّا إذا كان يدل ظاهراً فلا يلزم لجواز ترك الظاهر لدليل.
وذهب أبوحنيفة إلى أنّه يدل على فساد الوصف لا على فساد الأصل.
واحتج المصنف باستدلال العلماء على تحريم صوم يوم العيد بالنهي
ص: 21
...............
عنه، وذلك يدل على المطلوب؛ وأيضاً بما تقدم في المسألة المتقدمة(1) من أنّه لو لم يفسد لزم نفيه حكمة للنهي المنهي عنه، وقد تقرر.(2)
احتجوا(3): بأنّه لو دلّ على الفساد لناقض تصريح الصحة، وليس كذلك فإنّ الناهي لو قال: «لا تصلِّ في المكان المعيّن، وإنْ صليت صحت صلاتك» لم يعد مناقضاً؛ وأيضاً نُهي عن طلاق الحائض، وعن ذبح الحيوان المملوك للغير، وهو معتبر اتفاقاً.(4)
والجواب: بأنّ النهي ظاهر في الفساد، لا قطعي فلا ينافي ما ذكرتم من الصور لأنّ الظاهر قد يُعدل عنه لدليل من خارج.(5)
ص: 22
قال: مسألة: النهي يقتضي الدوامَ ظاهراً.
لنا: استدلالُ العلماءِ مع اختلاف الأوقات.
قالوا: نُهيت الحائضُ عن الصلاة والصوم.
قلنا: لأنّه مُقَيَّدٌ. *
* أقول: النهي عن الشيء هل يقتضي الدوام أم لا؟(1)
ذهب قوم إلى أنّه يقتضيه وهم الجمهور، وذهب آخرون إلى أنّه لا يدل، وهو مذهب فخر الدين الرازي.
واستدل المصنف على مذهبه باستدلال العلماء - على اختلافهم واختلاف أوقاتهم - على أنّ النهي يقتضي الدوام بمطلق النهي، وذلك إجماع منهم حصل من غير معارض،(2) فكان حجة.
احتجوا(3): بأنّ المنهيّ قد يرد بدون الدوام تارة، ومعه أُخرى، أمّا الثاني فظاهر، وأمّا الأوّل فكما في نهي الحائض عن الصلاة والصوم، فإنّه لا يقتضي الدوام بالاتفاق.
والجواب: إنّ التقييد بالوقت إنّما جاء من خارج النهي وهو قوله صلى الله عليه و آله و سلم:
ص: 23
قال: مسألةٌ: «العام والخاص».
أبو الحسين: العَامُّ: اللَّفظُ المُستغرِقُ لِمَا يَصلُحُ لَهُ، وليس بمانعٍ؛ لأنّ نحوَ: «عشرةٍ»، ونحوَ: «ضرَبَ زيدٌ عمراً» يدخُلُ فيه.
الغزّاليُّ: اللفظُ الواحدُ الدّالُّ من جهة واحدة على شيئين فصاعداً، وليس بجامعٍ لخروج المعدوم والمستحيل لأن مدلولهما ليس بشيء، والموصولات لأنّها ليست بلفظ واحدٍ؛ ولا بمانع لأنَّ كل مُثنَّى يدخل فيه، ولأنّ كُلَّ معهود ونكرةٍ يدخل فيه؛ وقد يلتزم هذين.
والأَولىٰ؛ ما دلّ على مسميات باعتبار أمرٍ اشتركت فيه مطلقاً ضربةً.
فقولنا: «اشتركت فيه»؛ ليخرج نحو: «عشرة»، و «مطلقاً»؛ ليخرج المعهودون، و «ضربة»؛ ليخرج نحو: «رجُلٍ».
والخاصّ بخلافه. *
«دعي الصلاة أيام أقرائِك»، وكذلك كلّ نهي لا يدل على الدوام فإنّه إنّما يكون كذلك لقرينة لفظية أو عقلية، والكلام في النهي المجرد عن القرائن.
* أقول: اختلف الناس في حدّ العام:
فالذي حدّه أبوالحسين به هو أنّه: «اللفظ المستغرق لما يصلح له،
ص: 24
...............
بخلاف النكرة فإنّها صالحة لكلّ واحدٍ واحدٍ عِلى البدل، وليست مستغرقة لما يصلح له».
واعترض عليه بما ذكره المصنف وهو أنّه غير مانع لأنّه تدخل فيه اسماء الأعداد نحو عشرة فإنّها تستغرق كل ما يصلح له؛ ويدخل فيه نحو: «ضرب زيد عمراً» فإنّه يستغرق جميع ما يصلح له، لأنّه صالح للاثنين وقد تناولهما لكن لا بلفظ واحد بل بلفظين ومع ذلك فإنّه ليس بعام بالاتفاق.
وقد حدّه الغزالي بأنّه: «للفظ الواحد الدّال من جهة واحدة على شيئين فصاعداً»، فاللفظ الواحد احترز به عن قولنا: «ضرب زيدٌ عمراً»، فإنّه قد دلّ على شيئين لكن لا بلفظ واحد؛ وبقولنا: «من جهة واحدة» عن ذلك أيضاً فإنّه يدلّ على الأثنين لكن لا من جهة واحدة بل من جهتين.
واعترض عليه بأنّه غير جامع لخروج المعدوم والمستحيل عنه فإنّهما ليسا بشيئين على مذهبه ومع ذلك فقد يوجد العموم فيهما؛ وتخرج عنه أيضاً الموصولات لأنّها لاتدل بانفرادها بل بانضمام صِلاتها إليها وهي مع صلاتها الفاظ متعددة مع أنّها عامّة بالاتفاق؛ وليس بمانع لأنّه يدخل فيه المثنىٰ والمجموع والنكرة فإنّها تدلّ على شيئين فصاعداً وهي ليست بعامة اتفاقاً؛ وكذلك ألفاظ الأعداد؛ و يدخل فيه أيضاً المعهود والنكرات فإنّها تدل على شيئين؛ وله أن يلتزم دخول هذين في العام.
ولما بطل ماذكر من الحدود، حدّه هو بأنّه: «مادل على مسميّات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقاً ضربة واحدة» فقوله: «ما دل» جنس؛ وإنّما قال: ما دل ولم
ص: 25
...............
يقل: لفظ دال، كما قال غيره، لأنّ العموم عنده كما هو عارض للفظ كذلك هو عارض للمعاني على ما يأتي؛ فلو جعل الجنس اللفظ لخرج العموم العارض للمعاني؛ وقوله: «على مسميّات» يندرج فيه المعدوم والموجود ويفصله عما دلّ على مسمى واحد؛ وقوله: «باعتبار أمر اشتركت فيه» احترز بذلك عن اسماء الأعداد فإنّها وإن دلّت على مسميّات متعددة لكن لا باعتبار أمر اشتركت فيه بل باعتبار وضع اسم العدد له؛ وقوله: «مطلقاً» احترز به عن المعهودين كقولنا: ضرب زيد عمراً؛ وقوله: «ضربة» احترز به عن النكرة فإنّها تدلّ على مسميّات كثيرة ولكن لا دفعة واحدة بل على البدل.
وإذا عرفت معنى العام فالخاص ما يقابله وهو: ما دلّ على مسمّى واحد.
وقيل في حدّه: «إنّه الذي ليس بعامّ» وهو خطأ.(1)
ص: 26
قال: مسألة: العموم من عوارض الألفاظ حقيقةٌ، وأمّا في المعاني فثالثها الصحيح كذلك.
لنا: أن العموم حقيقةٌ في شمول أمرٍ لمتعددٍ، وهو في المعاني كعموم المطر والخصْب، ولذلك قيل: عمّ المطرُ والخصبُ ونحوُهُ.
وكذلك المعنى الكليُّ، لشموله الجزئيات، ومن ثمّ قيل: العامُّ ما لا يمنع تصوُّرُهُ عن الشركة.
فإن قيل: المُرادُ: أمرٌ وَاحِدٌ شامِلٌ، وعُمومُ المطر ونحوُهُ ليس كذلك.
قلنا: ليس العموم بهذا الشرط لُغَةً.
وأيضاً: فإنَّ ذلك ثابتٌ في عموم الصوتِ والأمرِ، والنهي، والمعنى الكلّيِّ. *
* أقول: اختلف الناس في أنّ العموم هل يَعرضُ للمعاني عروضه للألفاظ؟ فقال قوم إنّه عارض لها وإليه ذهب المصنف، وقال آخرون: إنّه ليس بعارض لها حقيقةً؛ وتوقف الباقون.
احتج الأوّلون بأنّ العموم حقيقة في شمول أمر لأشياء متعددة؛ وهذا يصحّ في المعاني كما يصحّ في الألفاظ كعموم المطر والخصب، ولهذا يقال: عمَّ الناسَ المطرُ وعمّهم الخِصبُ وعمّهم الخيرُ وعمهم العطاءُ، وكذلك المعنى الكلي كالحيوان عامّ أيضاً لشموله الجزئيات المتعددة؛ ولأجل ذلك حدّوا العام بأنّه
ص: 27
...............
ما لا يمنع نفس تصوره وقوع الشركة فيه.
لا يقال: المراد من شمول العام لأفراده إنّما هو الشمول مع اتحاد النسبة واتحاد المعنى الذي قيل له أنّه عام كقولنا الرجال فإنّه لفظ قد وضع للدلالة ونسبته إلى زيد وعمرو في الدلالة واحدة فيسمى عامّاً باعتبار اتحاد نسبته إلى المدلولات الكثيرة؛ وليس كذلك المطر والخِصب فإنّ المطر الحال بهذا الموضع غير الحال بالموضع الآخر، وكذلك العطاء الحاصل لِزيد مغاير لِلْعطاءِ الحاصل لعمرو.
لأنّا نقول: ليس اشتراط الوحدة في العام من حيث الوضع اللغوي؛ سلَّمنا، لكن ذلك ثابت في عموم الصوت فإنّ الصوت الواحد في الخارج يعم السامعين وإن اتحدت نسبته إليهم، وكذلك الأمر والنهي الّذي هو الطلب النفساني فإنّه يعمّ المأمورين مع وحدته ووحدة نسبته، وكذلك المعنى الكلي كالحيوان من حيث هو غير مقيّد فإنّه يدلّ على المعنى الواحد المتكثّر افراده مع وحدة نسبته إليهم، فيلزم أن تكون هذه الأشياء عامّة لصدق حدّ العامّ عليها.
ص: 28
قال: مسألة: الشافعي والمحققون: للعموم صيغةٌ، والخلاف في عمومها وخصوصها، كما في الأمر.
وقيل: مشتركةٌ [وقيل:](1) بالوقف في الإخبار لا الأمر والنهي، والوقف إمَّا على معنى: «ما ندري» وإمَّا: نَعْلَمُ أَنّهُ وُضِعَ، وَلَا نَدري أحقيقةٌ أم مجازٌ؟
وهي أسماء الشروط والاستفهام والموصولات، والجموع المعرَّفةُ تعريف جِنسٍ، والمضافة، واسم الجنس كذلك، والنكرة في النفي.
لَنَا: القطع في: «لا تضرب أحداً»، وأيضاً: لم تزل العلماء تستدل بمثل: «وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ» ، «اَلزّٰانِيَةُ» ، «يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ» ؛ كاحتجاج عمر في قتال أبي بكر مانعي الزكاة: أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلّااللّٰه، وكذلك: «الأئمة من قريش»، «ونحن معاشرالأنبياء لا نُورِّثُ»، وشاع وذاع، ولم ينكره أحدٌ.
قولهم: «فُهِمَ بالقرائن» يؤدّي إلى ألّا يَثبُتَ للفظ مدلولٌ ظاهرٌ أبداً.
والاتفاق في: «من دخل داري، فهو حُرٌّ» أو: «طالقٌ» أنَهُ يَعُمُّ.
وأيضاً كثرة الوقائع.
واستُدِلَّ بأنّه معنى ظاهِرٌ محتاجٌ إلى التعبير عنه كغيره.
ص: 29
وأُجيب: قد يُستغنىٰ بالمجاز وبالمشترك. *
* أقول: اختلف الناس في أنّ العموم هل له لفظ يدل عليه من حيث الوضع اللغوي أم لا؟
فذهب جماعة المرجئة إلى أنّ العموم ليس له صيغة تدل عليه مختصّة به وهو مذهب السيد المرتضى.
وذهب آخرون - وهم الجمهور - إلى أنّ له صيغة تدلّ عليه.
وقيل بالوقف مطلقاً، وقيل بالوقف في الإِخبار لا في الأمر والنهي؛ والقائلون بالوقف قسمان:
منهم من يقول: إِنّا لا ندري هل هو موضوع للعموم أو للخصوص، أو أنّه مشترك بينهما؟
ومنهم من يقول: إنّا نعلم أنّه وضع لأحدهما والآخر مجاز فيه ولا نعلم المعنى الحقيقي من المجازي.
وذهب المصنف إلى أنّ العموم له صيغة تدل عليه وهي اسماء الشرط ك «من دخل داري أكرمه» و «ما يصنع اصنع»؛ واسماء الاستفهام ك «مَنْ قام» و «وَمَنْ فعل»؛ والموصولات ك «الذي يدخل الدار مكرّم»؛ والجموع المعرّفة بلام الجنس لا بلام العهد كقوله: «أَنَّ اَللّٰهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ»(1) ، والجموع المضافة كقولك:
«عبيدي احرار»؛ واسم الجنس المعرّف، كقوله: «وَ أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ» (2)؛
ص: 30
...............
والنكرة في النفي كقولك: «لا رجل في الدار».
و الدليل على أنّ النكرة المنفية للعموم، القطع بأنّ قولك: «لا تضرب أحداً» للعموم، فإنّه لو ضرب واحداً من الناس لكان مخالفاً.
وعلى أنّ اسم الجنس للعموم استدل العلماء قديماً وحديثاً على أنّ كلّ من زنى يجلد وكلّ من سرق تقطع يده لقوله تعالى: «اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي فَاجْلِدُوا...»(1) ولقوله: «وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا»(2) وذلك إجماع لا مخالف له، فيكون حجّة.
وعلى أنّ الجمع المضاف للعموم، استدلالهم أيضاً بقوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ...»(3) على أن كَلّ ولد ذكر يرث ضعف الأُنثىٰ.
وعلى أن الجمع المعرّف بلام الجنس للعموم، باحتجاج عمر على أبي بكر في قتال مانعي الزكاة بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أُمرتُ أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلّااللّٰه» تمسك عمر بالعموم ولم ينازعه أحد في ذلك، واعتمد أبوبكر على القتال بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إلّا بحقّها»(4)؛ ولو لم يكن للعموم لكان المخلص من هذا الاحتجاج أنّ هذه الصيغة ليست للعموم، وكذلك احتجاج الأنصار في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الأئمة من قريش» ولم ينازعهم المهاجرون في ذلك؛ وأيضاً احتج أبوبكر على فاطمة عليها السلام
ص: 31
...............
بما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم من قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث»(1).
ص: 32
...............
لا يقال: العموم في هذه المواضع إنّما استفيد من قرائن منضّمةً إلى اللفظ لا من الوضع.
لأنّا نقول: لا نسلم ذلك، فانّ هذا يقتضي أنْ لا يثبت للفظ ما مدلوله ظاهر؛ فإنّه حينئذٍ يقال: لم لا يكون المدلول استفيد من قرينة منضمة إلى الأصل؟
وأيضاً يدّل على أنّ صيغة «مَنْ» في المجازات للعموم، اتفاق الفقهاء على أنّ قول الانسان: «من دخل داري فهو حر أو طالق» عامّ في كلّ عبد وامرأة اتصف بالدخول(1).
ص: 33
...............
واحتج بعض القائلين بالعموم على أنّ هذه الصيغ موضوعة له، بأنّ العموم معنى معقول يسد الحاجة إلى التعبير عنه، فوجب أن توضع له لفظ في اللغة لوجود القدرة والداعي الموجبين للفعل، ولم يوضع لفظ في اللغة سوى هذه بالاتفاق فتكون هذه الالفاظ موضوعة للعموم.
اجاب المصنف بأن تمنع المقدمة الثانية(1) وذلك لأنّ التعبير عن العموم قد يحصل باللفظ المجازي و قد يحصل باللفظ المشترك فلم لا يجوز أن تكون هذه الالفاظ موضوعة للخصوص ويجوز لها في العموم، أو تكون مشتركة بين الخصوص والعموم؟! فلا إضطرار حينئذ في وضع لفظ مختص بالعموم.
ص: 34
قال: الخصوص متيقّن؛ فجَعْلُهُ له حقيقةً، أولى.
رُدّ بأنه إثبات لُغَةٍ بالترجيح، وبأن العموم أحوطُ، فكان أولى.
قالوا: لا عَامَّ إلّامُخَصَّصٌ؛ فيظهر أنها للأغلب.
رُدّ بأن احتياج تخصيصها لدليل يُشعر بأنّها للعموم.
وأيضاً: فإنّما يكون ذلك عند عدم الدليل.
الاشتراك: أُطلقت لهما، والأصلُ الحقيقة.
أُجيب: بأنّه على خلاف الأصل، وقد تقدم مثُلُهُ.
الفارق: الإجماع عَلى أنّ التكليف للعام، وذلك بالأمر والنهي.
وأُجيب: بأنّ الإجماع على الأخبار للعام. *
* أقول: احتج القائلون بأنها موضوعة للخصوص بوجهين:
الأوّل: أنّه إن كان موضوعاً للخصوص فالخاص مراد للوضع وإن كان موضوعاً للعموم كان الخاص مراداً دخوله تحت العموم، فالخاص مراد باليقين وما عداه مشكوك فيه، فيجب حمل اللفظ المطلق على المتيقّن الذي هو الخصوص لكونه أولى.
والجواب: أنّ هذا اثبات اللغة بالترجيح والأولوية، وهو غير جائز، فإنّ
ص: 35
...............
اللغة إنّما تثبت بالوضع؛ وأيضاً يُعارض هذا بكون العموم أحوط، فإنّه إذا عمل بالعموم كان الخاص داخلاً فيه ولا ينعكس.
الثاني: كل عام فهو مخصوص إلّاقوله تعالى: «وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»(1) ، فالخصوص اغلب صوراً من العموم، فيحمل اللفظ العري عن القرينة عليه لاغلبيته.
والجواب: أنّ التخصيص الوارد في مقابلة العام إنّما يثبت بدليل خارجي، وإذا كان كذلك كان التخصيص دليلاً على كونها في الوضع للعموم لأنّ اللفظ إذا كان لا يفهم منه معنى إلّابقرينة كانت دلالته على ذلك المعنى بطريق المجاز؛ وأيضاً فإنّما يجب الحمل على الأغلب إذا لم تفهم الدلالة على وجوب الحمل على الأقل، وهاهنا ليس الأمر كذلك فإنّ الدليل الذي ذكرناه قد دلّ على أنّ هذه الألفاظ وضعت للعموم فيجب المصير إليه ولا يصلح ما ذكرتم للمعارضة.
واحتج السيد المرتضى على مذهبه؛ من أنّه مشترك بين العام والخاص بأنه مستعمل في الخصوص والعموم، والأصل في الاستعمال الحقيقة فيكون اللفظ الذي يستعمل في العموم مشتركاً بينه و بين الخصوص.
والجواب: إنّ الاشتراك على خلاف الأصل(2) وقد تقدّم مثل هذا في باب الأمر.(3)
ص: 36
...............
واحتجّ من فرّق بين الأمر والنهي وبين الأخبار بأنّ الإجماع قد دلّ (1) بأنّ الأوامر والنواهي المكلف بهما للعموم فإنّ قوله: «أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ»(2) وقوله: «لاٰ تَقْرَبُوا اَلزِّنىٰ»(3) عامّاً إجماعاً؛ وأمّا الإخبارات فإنّ الإجماع لم يدلّ على عمومها فوجب التوقف إلى أن يأتي دليل من خارج يدل على أنّها للعموم.
والجواب: أنّ الإجماع قد دلّ على أنّ الإخبار للعام أيضاً كقوله: «وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»(4) ، «وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(5) إلى غير ذلك من الإخبارات [ الدالة على الوعد والوعيد وغيرها](6).
ص: 37
قال: مسألة: الجمع المنكّر ليس بعامٍّ.
لنا: القطعُ بأنّ «رجالاً» في الجموع؛ كرجلٍ في الوحدان، ولو قال:
«له عندي عبيدٌ» صح تفسيره بأقل الجمع.
قالوا: صح إطلاقه علىٰ كُلِّ جمعٍ، فحملُهُ علىٰ الجميع حَملٌ على جميع حقائقه.
ورُدّ بنحو «رَجُلٍ»، وَأنّه إنّما صحّ على البدل.
قالوا: لو لم يكن للعموم، لكان مختصّاً بالبعض.
رُدّ: ب «رجُلٍ»، وأنّه موضوع للجمع المشترك. *
* أقول: ذهب الجمهور إلى أنّ الجمع المنكّر لا يدل على العموم، وذهب الجُبَّائي إلى أنّه يدل عليه؛ واحتج الجمهور بإنّ رجالاً في الجموع كرجل في الآحاد بالاتفاق، ولمّا كان رجل في الآحاد لا يدلّ على العموم بل على رجل واحد غير معيّن، كذلك رجال يدلّ على جماعة اقلهم ثلاثة غير معينين بل هو صالح للعموم والخصوص، وأيضاً إذا قال الانسان لزيد: «عندي عبيدٌ» صحّ تفسيره بالثلاثة اتفاقاً، ولو كان للعموم لما صحّ هذا التفسير.
احتجوا بأنّه يصلح لكلّ جمع من الجموع، فحمله على الجميع حمل له على جميع حقائقه، فيكون أولى من حمله على البعض لعدم الأولوية(1).
ص: 38
...............
والجواب: ينتقض ما ذكرتم بالنكرة الشائعة في جنسها على البدل كرجل فإنّه صالح لكلّ واحد واحد و مع هذا فإنّه لا يُحمل على الجميع إجماعاً فكذلك في الجمع المنكّر [و](1) لأنّه إنّما يصحّ حمله على الجموع الكثيرة على سبيل البدل كصحة حمل رجل على كلّ رجل على البدل [فلا يحمل على الكل على الجمع](2).
قالوا: لو لم يكن للعموم لكان مختصّاً بالبعض بحيث إذا استعمل في غيره يكون مجازاً فيه وليس كذلك بالاتفاق.
والجواب: المعارضة [برجل فإنّه ليس للعموم ولا هو موضوع لرجل معيّن، وأيضاً فإنا نقول:](3) إنّ اللّفظ وضع للجمع المشترك بين الجموع الكثيرة فصدقه على كل جمع كصدق مطلق الجمع عليه، صدق رجل على كلّ رجل على البدل.(4)
ص: 39
قال: مسألة: أبنية الجمع لاثنين، تَصِحُّ، وثالثها مجاز.(1)
الإمام: ولواحدٍ.
لنا: أنّه يسبق الزائد، وهو دليل الحقيقة والصحة.
«فَإِنْ كٰانَ لَهُ إِخْوَةٌ»(2) والمراد: أَخَوَان.
واستدلال ابن عباس بها، ولم يُنكر عليه، وَعُدِل إلى التأويل.
قالوا: «فَإِنْ كٰانَ لَهُ إِخْوَةٌ» ، والأصلُ الحقيقة.
ورُدّ بقضية ابن عبّاس.
قالوا: «إِنّٰا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ»(3) .
وردّ: بأن فرعون مُرَادٌ.
ص: 40
قالوا: «الاثنان فما فوقهما جماعةٌ».
وأُجيبَ: في الفضيلةِ، لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم يُعرِّف الشرع لا اللغة.
النافون: قال ابن عباس: «ليس الأخوان إخوةً».
وعورض بقول زيدٍ: «الأَخوان إخوةٌ».
والتحقيق: أراد أحدهما حقيقة والآخر مجازاً.
قالوا: لايقال: «جاءني رجلان عاقلون»، ولا «رجالٌ عاقلان».
وأُجيب: بأنهم يُراعون صورةَ اللفظِ. *
* أقول: الجمع لفظ يطلق و يراد به المعنى الذي يفهمه أهل اللغة من اجتماع الشيء مع غيره، وقد يراد به اللفظ الذي يفهم منه الجمع كقولنا: رجال ونحوه؛ والمقصود بالبحث هاهنا هو الثاني فنقول: اختلف الناس في اللفظ الموضوع للجمع هل يتناول الواحد أو الاثنين أو لا؟
فذهب جماعة من الشافعية وزيد بن ثابت ومالك و داود والقاضي والاستاذ أبي اسحاق إلى أنّه يتناول الاثنين على سبيل الحقيقة ويقولون: أقل الجمع اثنان.
وذهب ابن عباس والشافعي وأبو حنيفة ومشايخ المعتزلة إلى أنّه لا يتناول إلّا الثلاثة فمازاد، وذهب قوم إلى أنّه يتناول الاثنين على سبيل المجاز. [وهو اختيار المصنّف على ما يظهر من سياق كلامه](1).
وذهب إمام الحرمين إلى أنّه يمكن ردّ لفظ الجمع إلى الواحد.
ص: 41
...............
واحتجّ المصنف على أنّه موضوع للثلاثة فما زاد، بوجهين:
الأوّل: سبق الفهم إليه، فان من قال: «أكرم الرجال»، يسبق فهم السامع إلى أنّه قصد مازاد على الاثنين - والعلم بذلك ضروري - وسبق الفهم دليل على الحقيقة على ما مضى في علامات الحقيقة والمجاز.
واستدل على أنّه يصحّ إطلاق الجمع على الاثنين [على سبيل المجاز(1)] بقوله تعالى: «فَإِنْ كٰانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ»(2) والمراد الأخوان.
الوجه الثاني: في كونه موضوعاً للثلاثة فما زاد، استدلال ابن عباس بهذه الآية على عثمان لما حجب الأُم عن السدس بالاخوين فقال له ابن عباس: «ليس الأخوان إخوة في لسان قومك» فقال عثمان: «إنّي لا استطيع أن انقض أمراً كان قبلي»(3) فعدل عثمان إلى التأويل وأيدّه ابن عباس على قوله، فدّل على أن الجمع يتناول بالحقيقة ما زاد على الأثنين، فقول عثمان دليل.
وقد كان أولى بالمصنّف أن يذكر هذا الوجه عقيب الوجه الأوّل إلّاأنّه ذكر بينهما الاستدلال على صحة اطلاق الجمع على الاثنين(4).
ص: 42
...............
احتجّوا بوجوه:
أحدها: قوله: «فَإِنْ كٰانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ» والأصل في الاطلاق الحقيقة، والحقيقة إنّما هو الاثنين.(1)
والجواب: يبطل ما ذكرتم بقضية ابن عباس فإنّه جعلها للثلاثة [ووافقه عثمان وعدل إلى التأويل](2).
الثاني: قوله تعالى: «إِنّٰا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» والمراد موسى وهارون عليهما السلام.
والجواب: أنّ فرعون مراد معهم أيضاً.
الثالث: قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة».
والجواب: المراد من ذلك أنّهما يدركان فضيلة الجماعة لأنّه مستفاد من الشرع لا من اللغة.(3)
واحتجّ النافون لصحة اطلاق الجمع على الاثنين بوجهين:
ص: 43
...............
الأوّل: قول ابن عباس: ليس الأخوان أُخوة.
والجواب: المعارضة بقول زيد: «الأخوان أُخوة».(1)
والتحقيق في هذا المقام أنّ ابن عباس أراد نفي الجمع عن الاثنين بطريق الحقيقة، وزيداً أراد إثباته لهما بطريق المجاز.
الثاني: لا يصحّ وصف الاثنين بالجمع ولا بالعكس فإنّه لا يقال: جاءني رجلان عاقلون، ولا جاءني رجال عاقلان، فلا يصحّ الاطلاق.
والجواب: أنّ الوصف يُراعى فيه جانب اللفظ، وصيغة الجمع مغايرة لصيغة الاثنين، وليس النزاع في ذلك.(2)
ص: 44
قال: مسألة: إذا خصّ العام، كان مجازاً في الباقي.
الحنابلة: حقيقة.
أبوالحسين: إن خصّ بما لا يستقل من شرط أو صفة أو استثناء.
الرازي: إن كان غير منحصر.
القاضي: إن خُصَّ بشرط أو استثناء.
عبدالجبار: إن خُصّ بشرط أو صفة.
وقيل: إن خُصَّ بدليل لفظيِّ.
الإمامُ: حقيقةٌ في تناولِهِ؛ مجاز في الاقتصار عليه.
لنا: لو كان حقيقة لكان مشتركاً؛ لأن الفرض أنّه حقيقة في الاستغراقِ.
وأيضاً: الخصوصُ بقرينةٍ، كسائر المجاز. *
* أقول: اختلف الناس في العام إذا خُصّ هل يكون حقيقة في الباقي أو يكون مجازاً فيه على أقوال:
أحدها: قول الجمهور أنّه يكون مجازاً فيه.
وثانيها: أنّه يكون حقيقة، وهو قول الحنابلة.
وثالثها: قول أبي الحسين: إنّ المخصص ان كان ممّا يستقلّ بنفسه سواء
ص: 45
...............
كان دليلاً عقلياً كالدليل الدالّ على أنّ غير القادر ليس بمراد في الخطاب، أو دليلاً لفظياً كقول المتكلم: لم ارد البعض الفلاني، كان مجازاً؛ وإن كان غير مستقل بنفسه كالشرط و الاستثناء والصفة كان حقيقة في الباقي.
ورابعها: قال أبوبكر الرازي - من أصحاب أبي حنيفة -: إن كان الباقي جمعاً كان العام حقيقة فيه، وإلّا كان مجازاً فيه.
وخامسها: قال القاضي أبو بكر: إن كان المخصص شرطاً أو استثناء كان العام حقيقة في الباقي، وإلّا كان مجازاً فيه.
وسادسها: قال القاضي عبدالجبار: إنَّ المخصص إن كان شرطاً أو صفة كان العام حقيقة في الباقي، وإلّا كان مجازاً فيه.
وسابعها: ذهب بعض الناس إلى أنّ المخصص إن كان دليلاً لفظياً كان العام حقيقة في الباقي، وإلّا فهو مجاز فيه.
وثامنها: ذهب إمام الحرمين إلى أنّ العام حقيقة في تناوله للباقي ومجاز في الاقتصار عليه.
واحتجّ المصنف على أنّه مجاز في الباقي كيف كان المخصص، بوجهين:
الأوّل: أنّه لو كان حقيقة فيه بعد التخصيص لكان اللفظ مشتركاً، والتالي باطل فالمقدّم مثله، بيان الشرطية: أنّ التقدير إنّ اللفظ للعموم بطريق الوضع فإذا كان للخصوص أيضاً كان اللفظ مشتركاً لوجوب المغايرة بين العموم والخصوص، وبيان بطلان التالي: أن الأصل عدم الاشتراك.
الثاني: أنّ الخصوص لا يفهم من لفظ العام إلّابقرينة وذلك دليل المجاز.
ص: 46
قال: الحنابلة: التناول باقٍ، فكان حقيقةً.
وأُجيب: بأنّه كان مع غيره.
قالوا: يَسبقُ، وهو دليل الحقيقة.
قلنا: بقرينةٍ، وهو دليل المجاز.
الرازي: إذا بقيَ غيرَ منحصرٍ، فهو معنىٰ العمومِ.
وأُجيب: بأنّه كان للجميع.
أبو الحسين: لو كان ما لايستقل يوجب تجوّزاً في نحو: «الرجال المسلمون»، و: «أكرم بني تميم إن دخلوا»، لكان نحو: «مسلمون» للجماعة مجازاً، ولكان نحو: «المسلم» للجنس أو العهد مجازاً، ونحو:
«أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّٰ خَمْسِينَ عٰاماً»(1) مجازاً.
وأُجيب: بأن الواو في «مسلمون» كألفِ «ضارب» وواو «مضروب»، والألف واللام في «المسلم» وإن كان كلمة حَرفاً أو اسماً، فالمجموع: الدّال، والاستثناءُ سيأتي.
والقاضي: مِثله، إلّاأنّ الصفة عنده كأنها مستقلةٌ.
وعبدالجبار: كذلك، إلّاأن الاستثناء عنده ليس بتخصيصٍ.
المخصِّص باللفظية: لو كانت القرائن اللفظية توجب تجوّزاً... إلى آخره، وهو أضعف».
ص: 47
الإمام: العامُّ كتكرار الآحاد؛ وإنّما انحصر، فإذا خرج بعضها، بقي الباقي حقيقة.
وأُجيب بالمنع، فإنَّ العام ظاهرٌ في الجميع، فإذا خُصَّ خرج قطعاً، والمتكرر نَصٌّ. *
* أقول: احتجت الحنابلة على مذهبهم في أنّه يكون حقيقة بعد التخصيص بأنّ لفظ العام يتناول لما عدا المخصوص قبل التخصيص على سبيل الحقيقة والتناول باق، فالحقيقة باقية.
والجواب: المنع من بقاء الحقيقة وذلك لأنّ اللفظ إنّما كان حقيقة في الباقي لانضمام غيره إليه، وبعد التخصيص فات الشرط ففات كون اللفظ حقيقة.
واحتجوا أيضاً بأنّ الباقي بعد التخصيص يسبق إلى الفهم فيكون حقيقة.
والجواب: أنّ الفهم إنّما كان بالقرينة، وذلك دليل المجاز.
واحتجّ الرازي على مذهبه بأنّ معنى العموم هو تناول اللفظ لشيئين فصاعداً من غير حصر فإذا خص العام وبقي منه عدد غير منحصر كان معنى العموم ثابتاً في الباقي، فيكون حقيقة ثابتة.
والجواب: أنّ اللفظ كان قبل التخصيص موضوعاً للجميع، وبعد التخصيص خرج عن ذلك.
واحتجّ أبو الحسين على أنّ التخصيص بالمتصل يبقي اللفظ حقيقة في الباقي معه بأنّ من قال: «من دخل داري أكرمته»، يفيد معنى، فإذا قال: «من
ص: 48
...............
دخل داري من الكرماء أكرمته»، يفيد معنى آخر وهو الإخبار بالإكرام للدّاخلين من الكرام وهذه الإفادة على سبيل الحقيقة، وكذلك لو قال: «من دخل داري إن كان مسلماً اكرمته إلّازيداً» أفاد على سبيل الحقيقة الإخبار بالإكرام لمن عدا زيدا؛ وكذلك لو قال: «من دخل داري ان كان مسلماً اكرمته».
ولو كان افادة لفظ الشرط والصفة والاستثناء لهذه المعاني ممّا يجعل اللفظ الدالّ على معناه أوّلاً دالاً على سبيل المجاز - لكونه غير مستقل بالدلالة - لكان الواو والنون للجمع يصيِّران دلالة اللفظ مجازية، وليس كذلك؛ فإنّه لا يقول أحد: إنَّ قولَنا: مسلم، يدلّ على معناه بالحقيقة وإذا دخل عليه الواو والنون فقيل مسلمون يخرج تلك الدلالة عن الحقيقة، ولكان لام الجنس والعهد في قولنا المسلم يصيِّران اللفظ دالاً على جهة المجاز لدلالتهما على معنى الجنسية والعهدية مع عدم استقلالهما، ولكان نحو قوله تعالى: «أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّٰ خَمْسِينَ عٰاماً» يدلّ على تسع مائة وخمسين على سبيل المجاز؛ وليس كذلك.
وأجاب المصنف عن واو الجمع بأنّه بمنزلة ألف «ضارب» وواو «مضروب» الدالين على الفاعلية والمفعولية(1) فإنّهما لا استقلال لهما بالدلالة، ولذلك الألف واللام في نحوالمسلم الدالان على العهد أو الجنس فإنّ المجموع من الاسم والالف واللام هو الدال، وأمّا الاستثناء فسيأتي الكلام عليه في بابه.
ص: 49
...............
وأمّا القاضي فإنّه احتجّ بما احتجّ به أبو الحسين في الاستثناء والشرط وأمّا الصفة فإنّها عنده كالمستقلة بالدلالة، ومن ثمّ استقلت الصفة بالإفادة دون الموصوف، في مثل: رأيت الكريم، بخلاف الشرط والاستثناء ففرّق بين الصفة وبين الشرط والاستثناء.
وأمّا عبد الجبار فإنّه أيضاً كأبي الحسين في الاحتجاج على الصفة والشرط وأمّا الاستثناء فإنّه عنده غير مخصص.
وأمّا من قال بأَنّ التخصيص بالدلائل اللفظية لا يوجب التجوز فاحتجّ بأنّه لو أوجبت القرينة اللفظية التجوّز لأوجبه الالف واللام والواو والنون في الجمع؛ وقد مضى تقريره والجواب عنه؛ وهذا أضعف احتجاجاً من الأول، ووجه زيادة الضعف أن المحتج الأول قد يتمسك بالقياس بجامع عدم الاستقلال بخلاف المحتج ههنا.
واحتجّ امام الحرمين بأنّ قولنا: «اكرم الرجال» بمنزلة قولنا: «اكرم زيداً وعمرواً وخالداً» وإنّما إختُصر بحذف [البعض بخلاف](1) الاسماء المتعددة واتيان حرف دال على تلك الاشخاص فإذا خرج بعض تلك الأشخاص يبقى اللفظ متناولاً للباقي على سبيل الحقيقة. والجواب: المنع من التسوية بين قولنا: «أكرم الرجال» وبين قولنا: «أكرم زيداً وخالداً»، فإنّ العام ظاهر في الجميع فإذا خُصّ العام خرج المخصوص قطعاً؛ وأمّا المتكرر فإنّه نص في الآحاد فلو اخرج لكان نقضاً.
ص: 50
قال: مسألة: العام بَعْدَ التخصيص بمبيّن، حجّةٌ.
وقال البلخي: إنْ خُصَّ بمتصل.
وقال البصريُّ: إنْ كان العمومُ منبئاً عنه؛ ك «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ»(1) وإلّا فليس بحجّة، ك «اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ» (2)فإنّه لا ينبئُ عن النصاب والحرز.
عبدالجبّار: إن كان غيرَ مفتقرٍ إلى بيانٍ؛ ك «اَلْمُشْرِكِينَ» * بخلاف: «أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ» * فإنّه مفتقر قبل إخراج الحائض.
وقيل: حُجّةٌ في أقل الجمع.
وقال أبو ثور: ليس بحجّةٍ.
لنا: ما سبق من استدلال الصحابة مع التخصيص.
وأيضاً: القطع بأنّه إذا قال: «أَكرم بني تميم، ولا تُكرم فلاناً» فَتَرك، عُدَّ عاصياً.
وأيضاً: فإن الأصل بقاؤه.
واستُدِلّ لو لم يكن حُجّة، لكانت دلالته موقوفةً على دلالته على الآخر. واللازم باطِلٌ، لأنّه إن عُكِسَ دور، وإلّا فتحكمٌ.
وأُجيب: بأنّ الدور إنّما يَلزَمُ بتوقف التقدّم، وأمّا بتوقف المعيّة، فلا.
ص: 51
قالوا: صار مجملاً؛ لتعدد مجازه فيما بقي وفي كُلٍّ مِنْهُ.
قُلْنَا: لِمَا بَقِي بِمَا تَقَدَّمَ.
أَقلُّ الجمع: هُو المتحققُ، وَمَا بقيَ مشكوكٌ.
قلنا: لا شكّ مع ما تقدّم. *
* أقول: اختلف الناس في أنّ العام بعد التخصيص هل هو حجّة أم لا؟
أمّا القائلون بأنّه يكون حقيقة في الباقي فإنّه يكون حجّة عندهم.
وأمّا القائلون بأنّه لا يبقى كذلك، فقد قال قوم إنّه إن بُيّن المخصص كقوله: «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ» فاذا قال لم أرد اليهود كان المخصوص مبيّناً، فهذا يكون حجّة في غيره، وإن لم يُبيّن لم يكن حجة لأنّه لا فرد من الافراد إلّاويجوز أنْ يكون هو المخصوص، كما إذا قال: لم ارد بعض المشركين.(1)
وقال البلخي: إنّه إن خُصّ بدليل متصل كان حجّة وذلك كالاستثناء والصفة والشرط، وإن خصّ بدليل منقطع لم يكن حجّة.
وقال أبو عبد اللّٰه البصري: إن كان العموم منبئاً عنه فإنّه يكون حجّة كما في قوله تعالى: «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ» فإنّ الدليل الدالّ على منع قتل أهل الذمة غير مانع من التمسك بعموم المشركين، وإن كان المخصص قد منع من تعلق الحكم
ص: 52
...............
بالاسم العام واقتضى تعلقه بشرط لا يُنبئ عنه العام لم يكن حجّة كما في قوله: «وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا»(1) فإنّ قيام الدليل على اعتبار النصاب والحرز منع من التمسك بعموم اللفظ حيث لم يكن في اللفظ العام ما يُنبئ عن الشرط المذكور.
وقال القاضي عبد الجبار: إن كان العام بمثابة لو تركناه وإياه لصحّ منا امتثال ما أُريد منه وفعل ما لم يُرد، كان حجّة كما في قوله: «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ» فإنّه بعد التخصيص بأهل الذمة يمكننا العمل به، ولولا ظهور المخصص لأمكننا العمل بما أُريد وما لم يرده؛ أمّا إنّ العام مفتقر إلى بيان حتى يصح الامتثال كما في قوله:
«أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ» * فإنّه قبل إخراج الحائض لا يصحّ منا العمل به لعدم الفهم بمعنى الصلاة فإنّ هذا لا يكون حجّة.
وقال قوم: إنّه يكون حجّة في أقل ما يطلق عليه اللفظ العام وهو أقل الجمع فإنّه هو المتيقن.
وقال أبو ثور وعيسى بن أبان: إنّه ليس بحجّة مطلقاً.
وذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّه حجّة مطلقاً.
واستدل المصنّف على مذهبه بثلاثة أوجه:
الأوّل: إجماع الصحابة(2) على نحو الاستدلال بالعام المخصوص من
ص: 53
...............
غير وقوع انكار بينهم.
الثاني: أنّا نعلم قطعاً أنّ من قال لعبده: «اكرم بني تميم ولا تكرم فلاناً» فترك إكرام من عدا فلاناً، عُدّ عاصياً؛ ولو لم يكن حجّة في الباقي(1) لما صح هذا.
الثالث: أنّ العام قبل التخصيص كان متناولاً لما عداه وحجّة فيه، فيبقى بعد التخصيص كذلك لأنّ الأصل بقاء ما كان على ما كان.
واستدل بعض الناس على أنّ العام المخصوص حجّة بأنّه لو لم يكن حجّة في الباقي وقد كان قبل التخصيص، لكانت دلالة العام على الباقي موقوفة على دلالته على الآخر؛ والتالي باطل فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة.
وبيان بطلان التالي أنّه لو كان دلالته على الباقي موقوفة على دلالته على الآخر فدلالته على الآخر إمّا أن تكون موقوفة على دلالته على الباقي أو لا، والأول يلزم منه الدور، والثاني تحكم لأنّه ترجيح بلا مرجح.
والجواب: إنّ هذا يتم على تقدير أن يكون التوقف توقف التقدّم والبعدية بأن تكون دلالته على الباقي متأخرة عن دلالته على الآخر ودلالته على الآخر متأخرة عن دلالته على الباقي، أمّا إذا كان التوقف توقف المعيّة كتوقف أحد المضافين على الآخر فلا.
احتج المخالف بأنّه بعد التخصيص يصير مجملاً فلا يكون حجّة
ص: 54
...............
بانفراده، إمّا الصغرى فلأنّه بعد التخصيص يحتمل أن يكون مجازاً في كل الباقي ويحتمل أن يكون مجازاً في أحد أفراده المتكثرة، ومع حصول الاحتمال يتحقق الاجمال؛ وامّا الكبرى فظاهرة.
والجواب: بل هو مجاز في كل الباقي لما مضى من أن الصحابة أجمعوا على أنّه الباقي.
واحتجّ القائلون بأنّه حجة في أقل الجمع بأنّه هو المتحقق وما عداه مشكوك فيه.
والجواب: لا شك في ماعداه لما بيّناه(1) أولاً.
ص: 55
قال: مسألة: جواب السائل: غير المستقل، دونَهُ، تابعٌ للسؤال في عمومه اتفاقاً، والعامُ على سبب خاص: بسؤال مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم لمّا سُئل عن بئر بُضاعة: «خلق اللّٰه الماء طهوراً لا يُنجسُهُ شيءٌ إلّاما غَيَّر لونَهُ، أو طعمه، أو ريحهُ» أو بغير سؤال، كما روي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم مَرَّ بشاةِ ميمونة، فقال «أيُّما إهابٍ دُبغ فقد طَهُر» معتبرٌ عمومه على الأكثر، ونُقل عن الشافعي خِلافُهُ.
لنا: استدلال الصحابة بمثله؛ كآية السرقة وهي في سرقة المِجَنِّ أو رداء صفوان، وآية الظهار في سلمة بن صخرِ، وَآية اللعان في هلال بن أُميَّةَ أو غيرِهِ.(1)
وأيضاً: فإنَّ اللفظ عامٌ، والتمسُّكُ بهِ. *
* أقول: الخطاب الوارد جواباً للسؤال إمّا أن يكون مستقلّاً بنفسه أو لا يكون بل إنّما يتم بالسؤال، والثاني اتفق العلماء على أنّه تابع للسؤال في عمومه كما [روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم إنّه](2) سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: «أينقص إذا جفّ؟» فقيل: نعم، فقال: «فلا إذاً».
وأمّا في خصوصه فقد اختلفوا فيه والأولىٰ عندي أنّه يجري مجراه إذ
ص: 56
...............
اللفظ لا عموم له وذلك كما إذا سأله صلى الله عليه و آله و سلم انسان عن الوضوء بماء البحر فقال له:
«يجزيك».
وأمّا الخطاب العام الوارد على سبب خاص سواء كان بسؤال كقوله صلى الله عليه و آله و سلم لما سُئِل عن بئر بضاعة: «خلق اللّٰه الماء طهوراً لا ينجسه شيء» أو بغير سؤال كما في قوله صلى الله عليه و آله و سلم حين مر بشاة ميمونة: «أيما إهاب(1) دُبغَ فقد طَهُرَ»، فقد اختلفوا فيه فذهب الجمهور إلى أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ونقل عن الشافعي خلاف ذلك، وهو مذهب مالك وأبي ثور والمزني.
واحتجّ المصنف على مذهب الجمهور بوجهين:
الأول: استدلال الصحابة بالعمومات الواردة على اسباب خاصّة فإنّهم استدلوا على آية السرقة وقد وردت في سرقة المِجن أو رداء صفوان، واستدلوا على الظهار مطلقاً وإن وردت الآية في سَلَمَة بن صَخرَ، وبآية اللعان وقد وردت في هلال بن أُمية، وغير ذلك من الآيات الّتي استدل بها الصحابة متمسكين بعموم الفاظها من غير التفات منهم إلى اسبابها الواردة عليها.
الثاني: أنّ اللفظ عام والتمسك إنّما هو باللفظ فلا اعتبار بخصوص السبب لأنّه لا يصلح أن يكون معارضاً فإنّه يحتمل أن يقول الشارع: تمسكوا بعموم اللفظ من غير التفات إلى خصوص سببه من غير مناقضة، وإذا عقل ذلك دلّ على عدم التعارض.
ص: 57
قال: قالوا: لو كان عامّاً، لجاز تخصيص السبب بالاجتهاد.
أُجيب: أنّه اخْتُصَّ بالمنع؛ للقطع بدخوله، عَلَىٰ أنّ أبا حنيفة أخرج الأَمَةَ المُسْتَفرشةَ من عمومِ «الولد للفراش»؛ فلم يُلحق وَلَدُها مع وروده في ولد زَمعةَ.
وقد قال عبداللّٰه بن زمعة: هوأخي وابنُ وليدة أبي؛ وُلِد على فراشه.
قالوا: لو عَمَّ لم يكن في نقل السبب فائدة.
قلنا: فائِدتُه: منعُ تخصيصه، ومعرفةُ الأسباب.
قالوا: لو قال: «تَغدَّ عندي»، فقال: «واللّٰه، لاتغديتُ»، لم يَعُمَّ.
قلنا: لِعرفٍ خاصٍّ.
قالوا: لو عَمَّ لمْ يَكُنْ مطابقاً.
قلنا: طابق، وَزادَ.
قالوا: لو عمّ، لكان حكماً بأحد المجازات بالتحكم، لفوات الظهور بالنصوصية.
قلنا: النصُّ خارجيٌّ بقرينةٍ. *
* أقول: احتجّ القائلون بأنّه مقصور على السبب بوجوه:
الأوّل: أنّه لو كان عامّاً لجاز تخصيص السبب بالاجتهاد كما يجوز تخصيص غيره به - والجامع كون كل واحد منهما داخلاً تحت لفظ عام قابل للتخصيص - والتالي باطل اتفاقاً فالمقدّم مثله.
ص: 58
...............
والجواب: المنع من الملازمة والقياس باطل لوجود الفرق وذلك أَنّ تناول اللفظ العام الوارد عقيب سبب السبب، تناول قطعيّ، وتناوله لغيره على سبيل الظاهر، وإخراج ما دلّ عليه اللفظ ظاهراً من الارادة شائع بخلاف إخراج ما دلّ عليه قطعاً.
على أنّ أبا حنيفة كان من المقدّمين في النظر وقد منع من بطلان التالي حتى أخرج الأَمّة المستفرشة عن عموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الولد للفراش» ولم يلحق ولدها بمولاها مع أنّه ورد في واقعة وليد بن زمعة(1) وقال عبد اللّٰه: هو أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه.
الثاني: لو عمّ لم يكن في نقل السبب فائدة، والتالي باطل فالمقدّم مثله والشرطية ظاهرة.
والجواب: لا نسلم أنّ الفائدة هي قصر العام على السبب بل هناك فوائد أُخر ونحن نذكرمنها فائدتين:
ص: 59
...............
- الأُولى: منع تخصيص السبب عن اللفظ العام لكونه دالاً عليه بالقطع.
- الثانية: معرفة الأسباب الموجبة لمعرفة الفوائد الّتي لأجلها شرّعت الأحكام.
الثالث: لو عمّ موضع السبب وغيره لكان المجيب بقوله: «واللّٰه لا تغدّيت» للقائل: «تغدّ عندي» عامّاً، والتالي باطل اتفاقاً فالمقدّم مثله.
والجواب: أنّ التخصيص هاهنا إنّما حصل من أمر خارج وهو العرف الخاص.
الرابع: الجواب ينبغي أن يكون مطابقاً للسؤال، والعامّ غير مطابق للخاص فلو كان عاماً لما طابق.
والجواب: المنع من الشرطية فإنّ الجواب بالعام جواب بالمطابق وزيادة.
الخامس: لو عم الخطاب مع السبب الخاص لكان حكماً بأحد المجازات بالتحكم، والتالي باطل فالمقدّم مثله. بيان الشرطية: إنّا نجزم بكون صورة السبب التي هي أحد مجازات العام - لأنّ كل صورة منه مجاز - مرادة من الخطاب العام لفوات الظهور وهو كونها محتملة للارادة منه بالنصوصية أي بسبب كون الخطاب نصاً فيها وأمّا التحكم فلتساوي نسبة العموم إلى جميع الصور الداخلة تحته وعدم أولوية كونه نصاً في البعض دون بعض. والجواب: إن اردتم بعدم الأولوية عدمها بالنظر إلى العام دون أمر خارجي عنه فهو مسلّم، لكن لانسلم أن ما نحن فيه كذلك، لأن كونه نصاً في البعض خارج بقرينة وهي ورود الخطاب بياناً لذلك البعض، وإن أردتم بعدمها العدم مطلقاً فهو ممنوع.
ص: 60
قال: مسألة: المشترك يصحّ اطلاقه على معنييه مجازاً لا حقيقة وكذلك مَدُلولا الحقيقة والمجاز.
وعن القاضي والمعتزلة: يصحُ حقيقةً إنْ صحّ الجمع.
وعن الشافعي: ظاهرٌ فيهما عند تجرد القرائن كالعام.
أبو الحسين والغزّالي: يصح ان يُرادا، لا أنّه لغة.
وقيل: لا يصح أن يُرادا.
وقيل: يجوز في النفي لا الاثبات، والأكثرُ: أَنّ جمعه باعتبار مَعنييه، مبني عليه.
لنا في المشترك: أنّه يسبق احدهما، فإذا أطلق عليهما، كان مجازاً.
النافي للصحة: لو كان المجموع حقيقة لكان مريد أحدهما خاصّة غير مريد، وهومحال.
وأجيب: بأن المراد المدلولان معاً لا بقاؤه لكلّ مفرداً.
وأمّا الحقيقة والمجاز فاستعماله لهما استعمال في غير ما وضع له أوّلاً، وهو معنى المجاز لكلٍّ مفرداً.
النافي للصحة: لو صحّ لهما لكان مريداً ما وضعت له أو لا غير مريد، وهو محال.
وأُجيب بأنّه مريد ما وضع له أوّلاً وثانياً بوضع مجازي.
الشافعي: «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ...»(1).
ص: 61
«إِنَّ اَللّٰهَ وَ مَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً»(1).
وهي من اللّٰه رحمةٌ ومن الملائكة استغفارٌ.
وَأجيب: بأنّ السجود: الخضوع، والصلاة: الاعتناء بإظهار الشرف، أو بتقدير خبرٍ أو فعلٍ حُذفِ لدلالة ما يقارنه، أو بأنّه مجاز بما تقدّم. *
* أقول: اختلف الناس(2) في اللفظ المشترك المفرد(3) فهل يصح اطلاقه على معانيه جمعاً أم لا؟ وكذلك اختلفوا في اللفظ الدالّ على شيء بالحقيقة وعلى آخر بالمجاز هل يصحّ اطلاقه عليهما معاً أم لا؟ واثبته جماعة من الاصوليين واختلفوا فقال الجمهور منهم: أن الحقيقة والمشترك والمجازيطلق عليها بطريق المجاز.
وقال القاضي والمعتزلة: انّه يطلق عليها بطريق الحقيقة إن صحّ الجمع بين إرادة المعنيين.
ونُقل عن الشافعي أنّه ظاهر في المعاني عند تجرده عن القرائن الدالّة على ارادة أحدها دون الآخر كاللفظ العام.
وذهب أبوالحسين البصري والغزّالي إلى أنّه يصح أن يستعمل في
ص: 62
...............
المعاني لا من حيث الوضع اللغوي.
وذهب آخرون إلى أنّه لا يصحّ وقيل: إنّه يصحّ في النفي دون الإثبات.
وأمّا اللفظ المشترك المجموع فقد اختلفوا فيه أيضاً، وأكثر الجمهور ذهبوا إلى أنّ حكمه حكم اللفظ المفرد.
وقد ذهب قوم من الذين قالوا إنّه لا يصحّ اطلاق اللفظ المفرد على معنييه إلى صحّة اطلاقه في المجموع.
واستدل المصنّف على أنّه ليس بحقيقة في المعاني بأنّ اللفظ موضوع لإحدها فإذا استعمل في المجموع فقد استعمل اللفظ في ما ليس بموضوع له، فيكون ذلك بطريق المجاز.
احتج المانع من الاستعمال مطلقاً بأنّ اللفظ إذا وضع للمفردين على البدل فإمّا أن يكون مع ذلك موضوعاً للمجموع أو لا يكون، فإن كان الأول كان المستعمل للفظ في المجموع مستعملاً له في بعض ما وضع له لا في جميع ما وضع له وذلك خلاف المفروض، وإن كان الثاني كان المستعمل له في المجموع مستعملاً له فيما (لم) يوضع وذلك غير جائز؛ اللهمّ إلّاأن يقال: إنّه مستعمل له في المجموع وفي الافراد وذلك محال لأنّ استعماله في المجموع يقتضي عدم الاكتفاء بدونه واستعماله في الافراد يقتضي الاكتفاء بكلّ من افراده وذلك تناقض وإليه اشار المصنف بقوله: «لكان مريد أحدهما غير مريد».(1)
ص: 63
...............
والجواب: أنّ اللفظ المشترك ليس موضوعاً للمفردين على البدل بحيث إذا أُريد أحدهما لا تصحّ إرادة الآخر، وإذا كان كذلك فنقول: المراد هو المدلولان معاً لا بقاؤه لكلٍّ مفرداً؛ وأمّا الحقيقة والمجاز فانّ اللفظ إذا اطلق عليهما كان ذلك بطريق المجاز وذلك لأنّ استعماله فيهما استعمال له فيما ليس بموضوع له وضعاً أوّلاً، لأنّه وضع لأحد المعنيين ولا شكّ في المغايرة بين كلّ واحد وبين المجموع.
واحتجّ من قال بأنّه لا يصحّ استعماله في كلا معنيي(1) الحقيقة والمجاز لأنّه لو صحّ ذلك لكان مريد ما وضع اللفظ له أوّلاً، غير مريد، أمّا إرادته فمن حيث إرادة الحقيقة، وأمّا عدم إرادته فمن حيث إرادة المجاز، وذلك تناقض.
والجواب: أنّه مريد لما وضع له في الوضع الأوّل، وفي الوضع الثاني بطريق المجاز، فالحاصل أنّه مريد من اللفظ غير ما وضع له.
واحتجّ الشافعي على أنّ اللفظ المشترك يصحّ اطلاقه على كلا معنييه، بقوله تعالى: «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبٰالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذٰابُ»(2) والسجود المستعمل في حق الناس المراد به وضع الجبهة على الأرض والمستعمل في حقّ غيرهم المراد به الخضوع، وكذلك
ص: 64
...............
قوله تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ وَ مَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ»(1) والصلاة من اللّٰه الرحمة ومن الملائكة الدعاء.
والجواب عن الآية الأُولى: أنّ السجود المراد به الخضوع وهو مشترك بين الجميع، وعن الآية الثانية أنّ الصلاة المراد بها الاعتناء بإظهار شرفه صلى الله عليه و آله و سلم، ويحتمل أن يكون الخبر في الآية الثانية محذوفاً وقد دلّ الخبر الثاني عليه لمشاركته إياه في اللفظ ويكون التقدير: «إن اللّٰه يصلي على النبي وملائكته يصلون على النبي» وأن يكون الفعل محذوفاً(2) في الآية الأُولى، ويحتمل أن يكون المجموع مراداً من حيث إنّه مجاز لا بطريق الحقيقة على ما تقدّم.(3)
ص: 65
قال: مسألة: نفي المساواة، مثل: «لاٰ يَسْتَوِي» * يقتضي العموم كغيرها.
أبو حنيفة: لا يقتضيه.
لنا: نفيٌ على نكرةٍ، كغيرهِ.
قالوا: المساواة مطلقاً أعمُّ من المساواة بوجه خاص، والأعم لا يُشعر بالأخص.
وأُجيب: بأن ذلك في الإثبات؛ وإلّا لم يَعمَّ نفيٌ أبداً.
قالوا: لو عمّ، لم يَصدُق؛ إذ لا بُدَّ من مساواة، ولو في نفي ما سواهما عنهما.
قلنا: إنّما تُنفىٰ مساواةٌ يَصِحُ انتفاؤها.
قالوا: المساواة في الاثبات للعموم، وإلّا لم يستقم إخبارٌ بمساواةٍ، لعدم الاختصاص، ونقيض الكليِّ الموجَبِ جزئيٌّ سالبٌ.
قلنا: المساواة في الاثبات للخصوص، وإلّا لم تصدق أبداً، إذ ما من شيئين إلّاوبينهما نفيُ مساواة ولو في تعيّنهما، ونقيض الجزئي الموجب كُليُّ سالب.
والتحقيق أن العموم من النفي. *
...............
أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ وَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ»(1) للعموم بمعنى أنّه يقتضي نفي المساواة من كلّ وجه عند الشافعية، وذهب أبوحنيفة إلى أنّه يصدق نفي المساواة بوجه ما.
واحتجّ القائلون بالعموم بأنّ هذه الصيغة نكرة دخل عليها حرف النفي فيكون للعموم كغيرها على ما مضىٰ.
احتجّ المانعون(2) بوجوه:
الأول: أن المساواة أعمّ من المساواة من كلّ وجه أو من بعض الوجوه، ولا دلالة للعام على الخاصِّ.
والجواب: هذا صحيح في جانب الاثبات دون النفي، فإن نفي العامّ يقتضي نفي الخاصّ وإلّا لم يَعمُّ نفي أحد أبداً، فإنّ لفظة رجل أعم من هذا الرجل بعينه، ومع ذلك فإن نفيه نفي لكل رجل.
الثاني: لو كان نفي المساواة يقتضي العموم لما صدق ذلك النفي البتَّة، فإنّه ما من شيئين إلّاوهما متساويان بوجه ما، فإنَّ كلَّ ماهيتين بسيطتين كانتا أو مركبتين، يشتركان في نفي ما عداهما عنهما.
والجواب: أنّ النفي إنّما يقصد به ما يصحّ انتفاؤه دون ما يمتنع.
الثالث: أنّ المساواة في جانب الاثبات للعموم فتكون في السلب لغيره.
أمّا المقدمة الأُولى فلأنها لو لم تكن للمساواة من كلّ وجه لامتنع
ص: 67
...............
الإخبار بمساواة الشيء لغيره، لأنّه لا اختصاص لبعض الوجوه دون البعض. وأمّا الثانية فلأنّ الموجبة الكلية نقيضها السالبة الجزئية ولماكانت المساواة كالموجبة الكلية كان(1) نفيها دالاً على الجزئية دون الكلية.
والجواب: أنّ المساواة في جانب الاثبات المخصوص،(2) لأنّه ما من شيئين إلّا وهما مختلفان ولو في تعينّهما وتشخصهما وإلّا لكانا واحداً، هذا خُلف. فنقيض المساواة للعموم لأنّ نقيض الموجبة الجزئية سالبة كلية.
والتحقيق: أن العموم مستفاد من النفي.(3)
ص: 68
قال: مسألة: المقتضي: - وهو ما احتمل أحد تقديراتٍ، لاستقامة الكلام - لا عموم له في الجميع.
أما إذا تعيّن أحدها بدليل كان كظهوره، ومثّل بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رُفع عن أُمتي الخطأ والنسيان».
لنا: لو أُضمر الجميع، لأُضمر مع الاستغناء.
قالوا: أقربُ مجاز إليهما - باعتبار رفع المنسوب إليهما - عمومُ أحكامهما.
أُجيب: بأنّ باب غير الإضمار في المجاز أكثر؛ فكان أولى، فيتعارضان، فيسلم الدليل.
قالوا: العرفُ في مثل: «ليس للبلد سلطانٌ» نفيُ الصفات.
قلنا: قياس في العرف.
قالوا: يتعيّن الجميعُ، لبطلان التحكم إن عُيِّن، ولزوم الإجمال إن أُبهم.
قلنا: ويلزم من التعميم: زيادة الإضمار، وتكثير مخالفة الدليل، فكان الإجمال أقربَ. *
* أقول: المقتضي - وهو الّذي لابدّ من إضماره ليتم الكلام إذا احتمل
ص: 69
...............
أحد تقديرات يستقيم بإضمار أحدها - هل هو عام في تلك التقديرات أم لا؟ اختلف الناس في ذلك،(1) والحقّ أنّه لا يقتضي العموم.
وأعلم أنّ المضمر أمّا أن يدلّ دليل خارجي على تعيينه وإمّا أن لا يدلّ، فإن كان الأوّل فهو كالظاهر ومثاله قوله تعالى: «وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ»(2) وتمثلوا في القسم الثاني بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان»(3) فإنّ هذا الكلام إنّما يستقيم بعد إضمار شيء آخر لوجود الخطأ والنسيان في الأُمّة قطعاً، وذلك المضمر يحتمل أشياء كثيرة.
والخلاف واقع في القسم الثاني، والدليل على أنّه لا عموم له أنَّ إضمار أحد التقديرات كاف ويكون اللفظ مع ذلك المضمر غير محتاج إلى الإضمار فلو أضمرنا معه اشياء أُخر لزم الإضمار مع الاستغناء، وهو خلاف الأصل.
احَتَجّ القائلون بالعموم بأنّ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان» دال بالحقيقة على رفع ذاتهما وبالمجاز على رفع احكامهما من حيث ان رفع الذات مستلزم لارتفاع الاحكام؛ والحقيقة هاهنا متعذرة فيجب الحمل على المجاز، والمجازات هاهنا مختلفة بالأولوية فإنَّ رفع جميع الأحكام أولى من رفع بعض الأحكام لأنّ الأوّل أقرب من حيث إنَّ رفع الخطأ والنسيان رفع لذاتهما، ورفع جميع الاحكام اقرب إلى رفع الذات من رفع بعضها فيجب الحمل عليه. وإلى هذا
ص: 70
...............
أشار المصنف بقوله: «أقرب مجاز إليهما» يعني إلى الخطأ والنسيان، وقوله: «باعتبار رفع المنسوب إليهما» إشارةٌ إلى العلّة الّتي لأجلها صحّ التجوز، وقوله: «عموم احكامهما» خبرُ قوله: «أقرب مجاز».
والجواب: أنّ المجاز بغير إضمار اكثر من المجاز بالإضمار فيكون أولى، وكلّ ما قلّ فيه الإضمار كان أولى، فتتعارض جهتا الرجحان ويبقى الدليل الأول(1) سالماً عن المعارض.
واحتجوا أيضاً بأنّ العرف قاض بالحمل على جميع الصفات فإنّه إذا قيل:
ليس للبلد سلطان، إنّما عنوا به نفي جميع الصفات لا نفي الذات.
والجواب: أنّ هذا قياس في العرف.(2)
واحتجوا أيضاً بأنّ المضمر إنْ تعيّن لزم التحكّم لأنّه ليس بعض الاحكام أولى من الباقي، وإن لم يتعين لزم الاجمال.
والجواب: أنّ تعميم الإضمار يستلزم زيادة الإضمار، وهو خلاف الأصل فيكون الإجمال أولى.
ص: 71
قال: مسألة: مثل: «لا آكُلُ» و «إن أكلتُ» عامٌ في مفعولاته، فيقبل تخصيصه.
وقال أبو حنيفة: لا يقبل تخصيصاً.
لنا: أنّ «لا آكُلُ» لنفي حقيقة الأكل بالنسبة إلى كل مأكولٍ، وهو معنى العموم، فيجب قبوله للتخصيص.
قالوا: لو كان عامّاً، لعمّ في الزمان والمكان.
وأُجيب: بالتزامه وبالفرق بأنّ «أكلتُ» لا يُعقل إلّابمأكولٍ؛ بخلاف ما ذُكر.
قالوا: «إنّ أكلتُ»، و «لا آكُلُ» مُطلقٌ؛ فلا يصحُّ تفسيرهُ بمخصصٍ؛ لأنَّه غيرُهُ.
قُلنا: المُرَادُ: المقيَّدُ المطابق للمطلق، لاستحالة وجود الكلي في الخارج، وإلّا لم يحنث بالمقيّد. *
* أقول: اختلفوا(1) في قول الإنسان: «واللّٰهِ لا أكلت» وقولهِ: «ان أكلتُ فأنتِ طالق»، وبالجملة الافعال المتعدية إلى المفعولات هل تعم جميع المفعولات أم لا؟ فذهب جماعة من الأشاعرة إلى أنّها عامّة في مفعولاتها، وعن أبي حنيفة: إنّها لا
ص: 72
...............
تعم بل تتناول الماهية من حيث هي هي.
والفائدة أنّه إذا كان عامّاً قَبِل التخصيص، وإذا أُريد به الماهية من حيث هي لا يقبل التخصيص؛ فعند الشافعي لو نوى بالأكل مأكولاً معيّناً صَحَّ ولا يحنث بالباقي وعند أبي حنيفة لا يصح. وإلى الأول(1) ذهب المصنّف واحتجّ عليه: بإنّ «لا آكل» نفي لحقيقة الأكل بالنسبة إلى كلّ مأكول ولا معنى للعموم إلّاذلك، وإذا كان عامّاً قَبِل التخصيص.
واحتج أبو حنيفة بوجهين:
الأوّل: أنّه لو كان الفعل عامّاً بالنسبة إلى المفعولات لكان عامّاً بالنسبة إلى ظرفي المكان والزمان والتالي باطل فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة لاشتراكهما في المفعولية واستلزام الفعل للجميع.
والجواب: الشرطية مسلّمة، وبطلان التالي ممنوع، فإنّا نلتزم بعموم الفعل للظرفين، ولو سلمنا بطلان التالي لكن الفرق واقع بين الظرفين والمفعول به فإنَّ الأكل لا يُعقل إلّابمأكول بخلاف الظرفين فإنّه قد يعقل الفعل مع الغفلة عنهما وإن كان قد يستلزمهما.
الثاني: أن دلالة الفعل على مطلق المأكول، والمطلق لا دلالة له على العموم ولا على الخصوص لأنّه أعمُّ منهما وإذا لم يدل على العموم لم يقبل التخصيص وهومن حيث هو مطلق لا يصحّ تفسيره بمخصص لأنّ المخصص غير المطلق.
ص: 73
...............
والجواب: أنّ المراد من التقييد إنّما هو التقييد بالمطابق للمطلق لا المخالف له لاستحالة وجود الكليّ من حيث هو كليّ في الخارج(1) وإلّا لم يحنث بأكل شيء معيّن ضرورة كونه لم يتناوله اليمين.(2)
ص: 74
قال: مسألة: الفعل المثبت لا يكون عامّاً في أقسامه؛ مثل: «صَلّىٰ داخِلَ الكعبة»؛ فلا يَعمُّ الفرض والنفل، ومثل: «صلّىٰ بعد غيبوبة الشفق» فلا يعمُّ الشفقين إلّاعلى رأيٍ.
و «كان يجمع بين الصلاتين في السفر» لا يعمُّ وقتيهما.
وأمَّا تكررُ الفعلِ، فيستفاد من قول الراوي: «كان يجمع»؛ كقولهم:
«كان حاتمُ يُكرِمُ الضيفَ».
وأما دخول أُمّته، فبدليل خارجيٍّ، من قولٍ، مثل: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلّي»(1)، و «خذوا عني مناسككُمْ»(2) أو قرينةٍ؛ كوقوعهِ بعد إجمالٍ، أو إطلاقٍ، أو عمومٍ، أو بقوله: «لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ»(3) أو بالقياس.
قالوا: قد عمّ نحو: «سها، فسجد»، و «أمَّا أنا فأُفيض الماءَ» وغيرهِ...
قلنا: بما ذكرناه أوّلاً لا بالصيغة. *
* أقول: الأفعال الواقعة إنّما تقع على وجه واحد من الجهات الّتي يحتمل أن تقع عليها، فلا تكون عامةً في تلك الجهات وذلك كما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه صلّى داخل الكعبة، فإنّ الصلاة الواقعة يحتمل أن تكون فرضاً ونفلاً لكنّها إنّما تقع على أحد الوجهين دون الآخر فلا تعمهما لامتناع وقوعها على جهتي الفرض
ص: 75
...............
والنفل.
وكذلك اللفظ المشترك بين معنيين أحدهما سابق على الآخر، ونُقل أن الفعل وقع عقيب أحد المعنيين كما نُقل عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه صلّى بعد غيبوبة الشفق، فإنّ الشفق مشترك بين الحمرة المغربية والمشرقية،(1) فمن قال لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه، قال بذلك هاهنا، ومن قال بجواز استعماله فيهما حمله هاهنا على أنّه صلّى بعد الشفقين.
وكذلك قوله: كان صلى الله عليه و آله و سلم يجمع بين الصلاتين في السفر، فإنّه يحتمل أنّه فَعَلهما في وقت الأُولىٰ ويحتمل أنّه فعلهما في وقت الثانية وليس فيه ما يعمّ وقتيهما بمعنى أنّه جمع بينهما في الوقتين وأمّا تكرر الفعل وأنّه هل وقع ذلك منه في سفر النسك وغيره فلا يستفاد من نفس وقوع الفعل وإنّما هو مستفاد من فحوى كلام الراوي لأنّه لم تجر العادة بأن يقال: «كان فلان يكرم الضيف»، إذا فعل ذلك مرة واحدة، بل مع التكرار.
وأمّا دخول الأُمة تحت هذه الأحكام فغير مستفاد من هذه الروايات بل من دليل خارجي لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «صلّوا كما رأيتموني أصلي»، و «خذوا عني مناسككم» أو من قرينة خارجية كما إذا وقع الفعل عقيب اجمال خاطبنا اللّٰه تعالى به أو وقع عقيب اطلاق أو عموم أو بقوله تعالى: «لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(2) فإنّه دال على وجوب التأسّي به أو بالقياس بفعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم.
لا يقال: إن العموم مستفاد من فعله صلى الله عليه و آله و سلم لا غير، ولهذا اتفقت الصحابة
ص: 76
...............
على وجوب السجود عقيب السهو بما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه سها فسجد(1)، وأيضاً فكان صلى الله عليه و آله و سلم إذا سئل عن حكم أجاب بفعله صلى الله عليه و آله و سلم، فمن ذلك أنّه لما سألته أُم سلمة عن الاغتسال فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «أمّا أنا فأفيض الماء على رأسي»، ومن ذلك أنّه لما سئل عن قُبلة الصائم، فقال: «أنا افعل ذلك»،(2) إلى غير ذلك من الاخبار
ص: 77
قال: مسألة: نحوُ قولِ الصحابي: نهىٰ صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الغرر، و: قضى بالشفعة للجار، يَعمُّ الغرر والجار.
لنا: عَدْلٌ عارفٌ، فالظاهِرُ الصِّدْقُ؛ فَوَجب الاتباعُ.
قالوا: يحتمِلُ: إن كان خاصّاً، أو سَمِعَ صِيغَة خاصّةً؛ فتوهَّمَ، والاحتجاجُ للمحكيّ.
قلنا: خِلاف الظّاهر. *
الواردة في هذا المعنى ولولا أن يكون حكمه صلى الله عليه و آله و سلم جارياً على الأُمة بمجرد فعله وإلّا لما جاز التأخير عن وقت الحاجة.
لأنّا نقول: إنّما استفدنا كون حكمنا مثل حكمه بما ذكرنا من الأدلة من القول أو القرينة أو القياس لا بمجرد الصيغة أي صيغة الفعل.(1)
...............
عن بيع الغرر(1) هل يتناول كل جار وكلّ غرر أم لا؟ فذهب قوم إلى أنّه للعموم، ومنع آخرون.
احتج المثبتون بأنّ الصحابي عدل عارف فالظاهر من حاله الصدق فيما يخبر به وقد أخبر بصيغة العموم الّتي هي الشفعة والجار لكونهما معرّفين بلام الجنس، فوجب الاتباع.
احتجّوا بأنّه حكاية حال ويحتمل أنّه كان خاصّاً أو أنّ الراوي سمع صيغة خاصّة فتوهمهما للعموم، والحجّة إنّما هي المحكي لا الحكاية.
والجواب: أنّ هذا خلاف الظاهر لما بيّنا أنّ الظاهر من حال الراوي أنّه لعدالته ومعرفته لا يحكي إلّاما علم ثبوته.
ص: 79
قال: مسألة: إذا علّق حكماً على علّة عمّ بالقياس شرعاً لا بالصيغة.
وقال القاضي: لا يَعُمُّ.
وقيل: بالصيغة، كما لو قال: حَرَّمت المسكر؛ لكونه حلواً.
لنا: ظاهرٌ في استقلال العلّة، فوجب الاتباع، ولو كان بالصيغة لكان قول القائل: «أعتقت غانماً؛ لسواده» يقتضي عتق سُودان عبيده؛ ولا قائل به.
القاضي: يحتمل الجزئية.
قلنا: لا يُترك الظاهر للاحتمال.
الآخر: «حَرَّمتُ المسكر لإسكاره» مثل: «حرّمت الخمر لإسكاره».
وأجيب: بالمنع. *
* أقول: اختلف الناس في الحكم إذا عُلِّق في بعض موارده على علته.
قال قوم: إنّه يعمّ في كل موارد العلّة، وقال آخرون: لا يعمّ، والقائلون بالعموم منهم من قال: إنّه يعمّ من حيث الصيغة، ومنهم من قال: إنّه يعمّ من حيث الأمر بالقياس، وهو مذهب المصنف، مثال ذلك إذا قال: حَرّمتُ المسكرَ لكونه حلواً.
واستدل المصنف على مذهبه أمّا على عمومه [فلأنّ قوله: حرمت المسكر لكونه حلواً، ظاهرٌ في تعليل التحريم بالحلاوة على سبيل الاستقلال إذ لو كان جزء العلّة لكان من الواجب ذكرها وإذا كانت الحلاوة مستقلة بالعلّية وجب
ص: 80
...............
اتباعها(1)].
وإمّا أنّه لا يدل على العموم من حيث الصيغة فلأنّه لو كانت الصيغة تدل على العموم لكان قول القائل: «اعتقت غانماً لسواده» دالاً على عموم العتق في كل اسود، وليس كذلك اتفاقاً.
واحتج القاضي: بأن قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «حرمت المسكر لكونه حلواً» يحتمل الجزئية أي يحتمل أن يقال: المراد منه: «حرمت المسكر لكونه حلواً مسكراً» لا بمجرد الحلاوة، فلا يدل على العموم.
والجواب: أن العموم ظاهر وما ذكرتموه محتمل، ولا نترك الظاهر بالمحتمل.
واحتج القائل الآخر وهو الّذي يذهب إلى أنّه يدل على العموم من حيث الصيغة: أنَّ قول القائل: «حرمت المسكر» مثل قوله: «حرمت الخمر لاسكاره» ولماكان الأول يقتضي العموم من حيث الصيغة فكذلك الثاني.
والجواب: المنع من المساواة.(2)
ص: 81
قال: مسألة: الخلاف في أنّ المفهوم: «له عموم» لا يتحقق لأنَّ مفهوميّ الموافقة والمخالفة عامٌ فيما سوى المنطوق به، ولا يختلفون فيه.
ومن نفىٰ العمومَ كالغزّاليّ، أراد أنَّ العموم لم يَثبت بالمنطوق به، ولا يختلفون فيه أيضاً. *
* أقول: المفهوم أمّا أن يكون مفهوم الموافقة وأمّا أن يكون مفهوم المخالفة، مثال الأول: الحكم بتحريم ضرب الأبوين بمفهوم تحريم التأفيف، ومثال الثاني: عدم إيجاب الزكاة في المعلوفة لإيجابها في السائمة.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلفوا في المفهوم هل له عموم أم لا؟ بعد تسليم كونه حجّة، واثبته جماعة، ونفاه الغزالي(1)، وهذا الخلاف لفظيٌ لأنّه لا خلاف في أنّ الحكم عام فيما سوى المنطوق لأتفاقهم على تحريم الضرب وغيره من أنواع الأذىٰ وعلى عدم إيجاب الزكاة في المعلوفة. نعم لا خلاف في أنّ اللفظ لم يدلّ بمنطوقه على تحريم الضرب ولا على عدم إيجاب الزكاة في المعلوفة.(2)
ص: 82
قال: مسألة: قالت الحنفية: مِثلُ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يقتل مُسلمٌ بكافرٍ ولا ذو عهد في عهده»: معناه «بكافر»؛ فيقتضي العموم إلّابدليلٍ، وهو الصحيح.
لنا: لو لم يُقدَّر شيءٌ لامتنع قتله مطلقاً، وهوباطل؛ فيجب الأوّل للقرينة.
قالوا: لو كان ذلك، لكان: «بكافرٍ» الأوَّل - للحربي فقط؛ فيفسد المعنىٰ؛ ولكان «وَ بُعُولَتُهُنَّ» للرجعية والبائِن؛ لأنّه ضمير «وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ» .
قلنا: خُصَّ الثاني بالدليل.
قالوا: لو كان، لكان نحو: «ضربت زيداً يوم الجمعة، وعَمَراً» أي:
يوم الجمعة.
وأُجيب: بالتزامه، وبالفرق بأن ضرب عمروٍ في غير يوم الجمعة لا يمتنع. *
* أقول: العطف على العام هل يقتضي عموم المعطوف أم لا؟ اختلفوا، فاوجبه الحنفية ونفاه الجماهير(1)؛ ومثاله قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ ولا ذو عهدٍ في عهده»(2) فإن ذا العهد معطوف على المسلم فيكون حكمه حكمه في
ص: 83
...............
العموم والخصوص لاشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم وصفته، فيصير التقدير: «ولا ذو عهد في عهده بكافر» ولمّا كان الكافر الثاني المراد منه الحربي ضرورة أنّ ذا العهد يُقتل بذي العهد فوجب أن يكون الأول المراد منه أيضاً الحربي، لأنّه لو كان المراد مطلق الكافر لكان الثاني كذلك.
هذا مذهب الحنفية ويظهر منه ان الكافر في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لايقتل مسلم بكافرٍ» ليس عامّاً؛ وكلام المصنّف يدل علىٰ أنهم يسلّمون أن الكافر المراد منه العموم حتّى لا يقتل المعاهد بالكافر حربياً كان أو ذمّياً إلّاإذا خُصّ بدليل، وإليه أشار بقوله:
«فيقتضي - أي: العطف - العموم» يعني(1) عموم الكافر المقدّر المعطوف على الأوّل الّذي هو عامٌّ إلّابدليل.
واحتجّ المصنف على مذهب الحنفية بأنّه إن لم يُقدَّر شيءٌ امتنع قتل ذي العهد مطلقاً، هذا خلف، وإن قُدِّر فيجب تقدير الأول لوجود القرينة الدالة عليه وهي دلالة سياق الكلام على أنّ المقدَّر هو الكافر، وإذا وجب تقدير الكافر فيعمّ إلّاإذا خُصّ بدليل.
قالوا: لو كان الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في العموم والخصوص واجباً لكان قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «بكافر» الأول المراد منه الحربي لا غير، لأنّ ذا العهد يقتل بالكافر غير الحربي، ولو كان كذلك لفسد المعنى لأنّ المسلم لا يقتل بالكافر مطلقاً سواء كان حربياً أو غير حربي. وأيضاً لو كان كذلك لكان قوله تعالى:
«وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذٰلِكَ»(2) يتناول الرجعية والبائن لأنّ الضمير
ص: 84
...............
فيه يرجع إلى المطلَّقات كما أنّ المعطوف عليه وهو المطلقات شامل لهما، ولمّا لم يكن كذلك علمنا أنّ المعطوف لا يساوي المعطوف عليه في العموم والخصوص.
والجواب: المنع من الملازمتين المذكورتين في الآية والخبر لأنّا إنّما خصصنا في الخبر والآية، المعطوفَ بما خُصص به لوجود الدليل لا من حيث الصيغة.
قالوا: لو كان كذلك لكان العطف على الفعل المتخصص في الظرف يقتضي التخصص به كما تقول: «ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً» أي يوم الجمعة، وليس كذلك.
والجواب: إنّا نلتزم ذلك، وبالفرق بين الصورتين(1) فإنَّ ضرب عمرو في غير يوم الجمعة غير ممتنع بخلاف ما ذكرناه من الصورة.
ص: 85
قال: مسألة:
مثل: «يٰا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ»(1) ، «لَئِنْ أَشْرَكْتَ» ، ليس بعامٍ للأُمّة إلّابدليلٍ من قياس أو غيره.
وقال أبو حنيفة وأحمد: عامٌ إلّابدليل.
لنا: القطع بأن خطاب المفرَد لا يتناول غيره لُغَةً.
وأيضاً: يجبُ أن يكون خُروج غيره تخصيصاً.
قالوا: إذا قيل لمن له منصب الاقتداء: «اركبْ لمناجزة العدو» وغيره، فُهِمَ لغةً: أنّه أمرٌ لأتباعِهِ مَعَهُ. ولذلك يقال: «فَتَحَ وكَسَرَ» والمرادُ:
مع أتباعه.
قلنا: ممنوعٌ، أو فُهِم، لأن المقصود متوقفٌ على المشاركة؛ بخلاف هذا. قالوا: «إِذٰا طَلَّقْتُمُ» * يدل عليه.
قلنا: ذُكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أوّلاً للتشريف، ثم خوطب الجميع.
قالوا: «فَلَمّٰا قَضىٰ» * ولو كان خاصَّاً لم يتعدّ.
قلنا: نقطع بأنّ الالحاق للقياس.
قالوا: فمثِلُ: «خٰالِصَةً لَكَ» ، «نٰافِلَةً لَكَ» لا يفيد.
ص: 86
قلنا: يُفيدُ قَطْعَ الإلحاق. *
* أقول: اختلف الناس(1) في الخطاب الّذي صُدّر بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم هل هو عام فيه وفي أُمّته أو - هو - خاص به ولا يعم أمته إلّابدليل خارجي؟ فذهب الاكثر إلى أنّه خاص بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم، والعموم إنّما يستفاد من أمرٍ خارج عن اللفظ(2). ونُقل عن أبي حنيفة وأحمد أنّهما قالا: إنّه يقتضي التعميم إلّاأن يدل دليل على أنّ المراد هو النبي صلى الله عليه و آله و سلم دون أُمّته وذلك مثل قوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ» ، «يَا أَيُّهَا النَّبي «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ»»(3).
والدليل على ما ذهب إليه الجمهور من وجهين:
الأول: إنّ الخطاب الأفرادي لا يتناول الجمع من حيث اللغة فلا يكون عامّاً.
الثاني: أنّه لو كان للعموم لكان إخراج غيره تخصيصاً لذلك الخطاب وهو باطل فإنّه لم يقل أحد بأنّ الدليل إذا دلّ على أنّ الأُمّة غير مرادين من قوله تعالى «يٰا أَيُّهَا اَلْمُزَّمِّلُ» يكون ذلك الإخراج تخصيصاً.(4)
احتج المخالف بوجوه:
الأوّل: أنّ العادة في الاستعمال العرفي أن السلطان إذا أمر العظيم من
ص: 87
...............
اتباعه بالسعي إلى العدو ومحاربته فإنّه أمر لاتباع ذلك العظيم، ولأجل ذلك يقال:
«فتح الوزير المدينة وكسر العدو»، وليس ذلك الفعل حاصلاً منه بانفراده.
والجواب المنع من هذه العادة(1).
سلّمنا، لكن فهم المشاركة لم تحصل هاهنا من [أمر](2) العظيم بل من حيث إنّ المقصود يحصل بالمشاركة بخلاف ما نحن فيه.
الثاني: إن قوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ»(3) صُدِّر الخطاب بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم ثمّ عممه بعد ذلك، وذلك يدل على أن كلّ خطاب صُدِّر بالرسول صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه غير منحصر فيه إلّابدليل من خارج.
والجواب: أنّ الخطاب هاهنا صُدِّر بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم تشريفاً له ثمّ خوطب الجميع.
الثالث: قوله تعالى: «فَلَمّٰا قَضىٰ زَيْدٌ مِنْهٰا وَطَراً زَوَّجْنٰاكَهٰا لِكَيْ لاٰ يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ»(4) نفي الحرج ليقتدي به الناس وكان ذلك عامّاً.
والجواب: القطع بأنّ الالحاق إنّما هو بالقياس لأَنّ قولَه: «لئلا يكون على المؤمنين حرج» ليس فيه دلالة على أنّ نفي الحرج من مدلولات قوله تعالى:
«زَوَّجْنٰاكَهٰا» بل حاصله أنّ رفع الحرج عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان لمقصود رفع الحرج عن المؤمنين، وذلك حاصل بقياسهم عليه بواسطة دفع الحاجة وحصول
ص: 88
...............
المصلحة، وعموم الخطاب غير متعيّن لذلك.
الرابع: لو لم يكن للعموم لكان التقييد في قوله تعالى: «خٰالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ»(1) وفي قوله: «وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ»(2) بتخصيصه غير مفيد.
والجواب: أنّ الفائدة في هذه التقييدات قطع الالحاق به وقياس الناس عليه.
ص: 89
قال: مسألة: خطابه لواحد ليس بعامّ، خلافاً للحنابلة.
لنا: ما تقدم مِن القطعِ ولزوم التخصيص، ومن عَدَم فائدةِ: «حُكَمي عَلَى الواحد...».
قالوا: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ» ، «بعثت إلى الأسودِ والأحمر»، يدلّ عليه.
وأجيب: بأنّ المعنى تعريف كُلّ ما يختص بِهِ، ولا يلزمُ اشتراكُ الجميع.
قالوا: «حُكمي على الواحد حُكَمي على الجماعة» يأبىٰ ذلك.
قلنا: محمول على أَنّه: «عَلَى الجماعة بالقياس، أو بهذا الدَّليل»، لٰا أنّ خِطاب الواحد للجميع.
قالوا: نقطع بأنّ الصحابة حَكَمتْ عَلىَ الأُمة بذلك، كحُكُمِهِم بحكم ماعزٍ في الزنا وغيره.
قلنا: إن كانوا حَكموا، للتَّسَاوِي في المعنى، فهو القياس، وإلّا فخلاف الاجماع. قالوا: لو كان خاصّاً، لكان: «تجزئُك، ولا تجزئ أحداً بعدك» وتخصيصُهُ عليه الصلاة والسلام خُزَيْمَةَ بقبولِ شهادتهِ وَحُدهُ، زيادةٌ من غير فائدة.(1)
ص: 90
قلنا: فائدتهُ: قطع الإلحاق، كما تقدم. *
* أقول: اختلف الناس في أنّ خطاب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لواحد هل هو بعينه خطاب لغيره من الناس أم لا؟
فذهب الجمهور إلى أنّه ليس بعامّ وإنّما يتناول من خوطب به، وذهبت الحنابلة وجماعة أخرى إلى أنّه عَامٌّ.
واستدل المصنف على أنّه ليس بعامٍّ بوجوه:
الأوّل: بما تقدم من القطع بأنّ الخطاب الّذي يتناول المفرد لا يتناول الجمع من حيث اللغة فلا يكون عامّاً.
الثاني: ومن لزوم التخصيص وهو أنّه لو كان عامّاً لكان إخراج غير مَنْ تناوله الخطاب تخصيصاً، وليس كذلك اتفاقاً.
الثالث: يلزم أن لا يكون لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» فائدةٌ، لأن التقدير أن حكمه على الواحد هو بعينه حكمه على الجماعة.(1)
ص: 91
...............
احتجوا بوجوه:(1)
أحدها: قوله تعالى: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ»(2) وقوله صلى الله عليه و آله و سلم:
«بعثت إلى الاسود والأحمر» أي: العرب والعجم أو الإنس والجن! على ما قيل، فإنّ هذين النصّين يدلان على أنّ حكمه غير مختص بواحد دون آخر.
والجواب: أَنّ المعنى من ارساله إلى كافة الناس وبعثته إليهم تعريف كلّ واحد منهم ما يختص به كالحائض والطاهر والمقيم والمسافر وغير ذلك لا أنّ كلّ وأحد من أُمته يشارك الآخر في أحكامه.
الثاني: قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة»(3) يأبىٰ تخصيص أحد من الأُمة بالحكم.
والجواب: أن الحكم هوالخطاب وقد بيّنا أنّ الخطاب الإفرادي لا يتناول الجميع فالمعنى الحاق الجميع بالواحد بالقياس أو بهذا النص لا بعموم الخطاب.
الثالث: إجماع الصحابة على عموم وقائعه صلى الله عليه و آله و سلم، في أحكام جزئية لاشخاص معدودة وذلك أنّهم حكموا بوجوب الرجم في الزنا لحكمه صلى الله عليه و آله و سلم
ص: 92
......
على ماعزٍ(1) بذلك، وضربوا الجزية على المجوس لضربه على مجوس هجر وغير ذلك من الوقائع.
والجواب: أنّ حكمهم بذلك أمّا أن يكون مع معرفتهم بالتساوي في السبب أو لا؟ والثاني خلاف الاجماع، والأول هو القياس بعينه، فالحاصل أنّ الإِلحاق إنّما كان بسبب القياس لا بعموم الخطاب.
الرابع: لو لم يكن حكمه على الواحد عامّاً في حقّ الكل لكان قوله صلى الله عليه و آله و سلم لأبي بردة(2) لمّا ضحّى بعَناق(3): «يجزيك ولا يجزي أحداً بعدك»(4) لا فائدة فيه فإنّ عدم الحاق غيره به مستفاد من الأصل،(5) وكذلك تخصيصه صلى الله عليه و آله و سلم: لخزيمة بقبول شهادته، غير مفيد.
والجواب: إن الفائدة قطع الإلحاق والقياس على من خصصه صلى الله عليه و آله و سلم كما تقدم.(6)
ص: 93
قال: مسألة: جمع المذكر السالم ك «اَلْمُسْلِمِينَ» ، ونحو «فعلوا» - ممّا يُغلَّبُ فيه المُذَكّرُ - لا يدخل فيه النساء ظاهراً؛ خلافاً للحنابلة.
لنا: «إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمٰاتِ»(1) ، ولو كان داخلاً لما حَسُن. وإن قدِّر مجيئُهُ للنصوصية، ففائدة التأسيس أولَىٰ.
وأيضاً: قالت أُمُّ سَلَمَةَ: يا رسول اللّٰه، إنَّ النساء قُلْنَ: «ما نرىٰ اللّٰه ذكرَ إلّا الرِّجال»، فأنزل اللّٰه: «إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمٰاتِ» ، ولو كُنَّ داخلاتٍ، لَمْ يَصحَّ تقريرهُ للنفي.
وأيضاً: فإجماع العربية على أنَّه جمعُ المذكّر.
قالوا: المعروف تغليب الذكور.
قلنا: صحيحٌ، إذا قُصد الجميعُ، ويكون مجازاً.
فإن قيل: الأصلُ الحقيقة.
قلنا: يلزم الاشتراك، وقد تقدّم مثله.
قالوا: لو لم يدخلنَ، لما شاركنَ المذكّرين في الأحكام.
قلنا: بدليل من خارجٍ، ولذلك لم يَدخلن في الجهاد والجمعة وغيرها.
قالوا: لو أوصى لرجالٍ ونساءٍ بشيء، ثُمَّ قال: أوصيت لهم بكذا،
ص: 94
دخل النساء بغير قرينةٍ، وهو معنى الحقيقة.
قلنا: بل بقرينة الإيصاء الأوّل. *
* أقول: الجمع قسمان؛ جمع مذكر وجمع مؤنث. واتّفق الناس(1) على أنّ جمع المؤنث لا يدخل تحته المذكّر. وجمع المذكّر على قسمين: جمع تصحيح وجمع تكسير، والثاني اتفقوا على انّ المؤنث غير داخل تحته وإنّما النزاع وقع في جمع التصحيح ك «اَلْمُسْلِمِينَ » ونحو «فَعَلُوا » من المضمرات فقال المحققون: إنّه لا يدخل فيه النساء ظاهراً وإن جاز دخولهن فيه بقرينة، وخالفت الحنابلة في ذلك.
واستدل المصنف على عدم الدخول بوجوه:
الأول: قوله تعالى: «إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمٰاتِ» ولو كانت النساء داخلات تحت لفظة المسلمين لما حسن كما أنّه لا يحسن أن يقال: إنّ المسلمين والمسلمات إشارة إلى جماعتين، لا يقال: إنّه إنّما جيء به وان كان داخلاً تحت لفظ المسلمين لأجل التنصيص كما في قوله تعالى: «وَ مَلاٰئِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكٰالَ»(2) لأنّا نقول: إن فائدة التأسيس أولى من فائدة التوكيد.
الثاني: رُوي عن أُمّ سلمة أنّها قالت: يا رسول اللّٰه إنّ النساء قلن: «إنّ اللّٰه تعالى ذكر الرجال ولم يذكر النساء» فنزل قوله تعالى: «إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ
ص: 95
...............
وَ اَلْمُسْلِمٰاتِ» فتقرير النبي صلى الله عليه و آله و سلم النساء على ذلك النفي دليل على عدم الدخول.
الثالث: إجماع أهل اللسان على أَنّ هذا جمع المذكر والجمع تكرير الواحد فالواحد من هذا الجمع مذكر.
احتجوا(1) بوجوه:
أحدها: أنّ المعهود من عادة لسان العرب أن المذكَّر والمؤنث إذا اجتمعا غلب المذكر على المؤنث.
والجواب: أنّ هذا حق إذا قصد الجميع - اعني الرجال والنساء - ويكون مجازاً، أمّا إذا أُطلق ولم يعلم القصد فإنّه إنّما يتناول الذكور.
لا يقال: الأصل الحقيقة، وإذا كان مع القصد يتناول النساء على سبيل الحقيقة، كان مطلقاً على سبيل الحقيقة.
لأنّا نقول: لو كان حقيقة في المذكّر والمؤنث مع أنّه حقيقة في المذكر إجماعاً لزم الاشتراك، والأصل عدمه، وإذا تعارض الاشتراك والمجاز كان المجاز أولى لما تقدم. وإلى رجحان المجاز على الحقيقة أشار المصنف بقوله: وقد تقدم مثله.(2)
الثاني: لو لم يدخلن لما شاركن المذكرين في الأحكام، والتالي باطل
ص: 96
قال: مسألة: مَنْ الشرطية: تشمل المؤنث، عِندَ الأكثر.
لنا: أنّه لو قال: «مَنْ دخل داري، فهو حُرٌّ»، عُتَقْنَ بالدخول. *
اتفاقاً فإنّ قوله: «وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ»(1) * يتناول الذكور والاناث.
والجواب: الدخول إنّما استفيد من خارج لا من نفس اللفظ بدلالة عدم الدخول في الجهاد مع أنّه ورد بصيغة الجمع السالم وكذلك في الجمعة وغيرها من الأحكام المختصّة بالذكور.
الثالث: أن الإنسان لو أوصى لرجال أو نساء بشيءٍ ثمّ قال: أوصيت لهم بهذا، انصرف الموصى به إلى الموصى لهم من الذكور والاناث من غير قرينة، ولا معنى للحقيقة سوى ذلك.
والجواب: لا نسلم عدم القرينة بل الإيصاء الأول قرينة دالة على الدخول.
* أقول: اختلفوا في ألفاظ العموم الّتي لا علامة فيها للتذكير والتأنيث ك «مَنْ» في الشرط هل يعمهما أم لا؟ فاثبته الاكثر ونفاه جماعة يسيرة.
واحتجّ الجمهور(2) بأنّ القائل إذا قال: من دخل داري فهو حر، فإنّه معتق بهذا القول الذكور والإناث مع الدخول، وهذا إجماع، ولولا أنّه للعموم فيهما، وإلّا لما صحّ ذلك.
ص: 97
قال: مسألة:
الخطاب ب «الناس»، و «المؤمنين»، ونحوهما: يشمل العبيد عند الأكثر.
وقال الرازي: إن كانَ لحقِّ اللّٰه.
لنا: أن العبد من الناس والمؤمنين قطعاً؛ فوجب دخُولُهُ.
قالوا: ثبت صَرْفُ منافِعِهِ إلى سيِّدهِ، فلو خُوطِبَ بصرفها إلى غيره لَتَنَاقَضَ.
رُدَّ: بأنّه في غير تضايُقِ العبادات؛ فلا تناقض.
قالوا: ثبتَ خروجه مِنْ خطاب الجهاد والحجّ والجمعة وغيرها.
قُلنا: بدليل، كخروج المريض والمسافر. *
* أقول: اختلف الناس(1) في دخول العبد تحت الخطاب بالتكاليف بألفاظ العام كلفظة الناس والمؤمنين ونحوهما، فاثبته الجمهور ونفاه جماعة يسيرة، ونقل عن أبي بكر الرازي(2) أن العبد داخل تحت الخطاب بحقوق اللّٰه تعالى دون حقوق الناس.
والدليل على ما ذهب إليه الجمهور أنّ اللفظ عام للعبيد ولم يوجد مخصّص فوجب دخولهم تحته، أمّا عموم اللفظ فظاهر لأنّا نعلم قطعاً أنّ العبد من
ص: 98
...............
الناس والمؤمنين، وأمّا أنّه لم يوجد مخصص فلأنّ البحث على هذا التقدير.(1)
وأمّا وجوب الدخول على ذلك التقدير فظاهر.
وأمّا الحمل على العموم على وجود هذا اللفظ فظاهر أيضاً.
احتجوا(2) بأنه قد ثبت صرف منافع العبد إلى السيد، فلو خوطب بصرفها إلى غيره لزم التناقض.
والجواب: أنّ السيد ليس بمالك لجميع منافع العبد في كلّ وقت، فإن وقت تضايق العبادات لا يملك السيد منافع العبد، وعلى هذا التقدير لا يلزم التناقض.
واحتجوا أيضاً بأنّ العبد غير داخل تحت الخطاب بالجهاد والحجّ والزكاة وغيرها مع عمومها.
والجواب: أنّ خروجه عن هذه العبادات بدليل خاصّ كخروج المريض والمسافر.
ص: 99
قال: مسألة: مثل: «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ»(1) ، «يٰا عِبٰادِيَ»(2) ، يشمل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عند الأكثر.
وقال الحليمي: إلّاأن يكون معه: «قل».
لنا: ما تقدّم.
وأيضاً: فهموهُ، لأنّه إذا كانَ لم يفعل صلى الله عليه و آله و سلم سألوه فيذكر التخصيص.
قالوا: لا يكون آمراً مأموراً، ومبلِّغاً مبلَّغاً بخطابِ واحدٍ، ولأن الآمر أعلى ممن دونه.
قلنا: الآمر اللّٰه سبحانه، والمبلِّغ جبريل عليه السلام.
قالوا: خُصّ بأحكامٍ، كوجوب ركعتي الفجر، والضحى، والأضحى، وتحريم الزكاة، وإباحة النكاح بغير وليِّ ولا شهودٍ ولا مهرٍ، وغيرها.
قلنا: كالمريض والمسافر وغيرهما، ولم يخرجوا بذلك من العمومات. *
* أقول: إذا ورد خطاب على لسان الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بلفظ عامّ كقوله: «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ» ، «يٰا عِبٰادِيَ» ، «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا» * هل يشمل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم
ص: 100
......
أم لا؟
ذهب الجمهور إلى الدخول، ومنعه جماعة من الفقهاء.(1)
ونقل عن الحليمي(2) وأبي بكر الصيرفي(3): انّ كلّ خطاب لم يصدَّر بالأمر بالتبليغ فهو داخل كهذه الآيات، وامّا إذا صُدِّر بالأمر بالتبليغ فلا، كقوله: «قل يا أيها الذين آمنوا».
والدليل على ما ذهب إليه الجمهور وجهان:
الأوّل: ماتقدم من كونه لفظاً عامّاً غير مخصص، فوجب دخول من هو عامّ فيه مطلقاً.
الثاني: أن الصحابة فهموا دخول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تحت هذه الأوامر، والدليل عليه أنّهم كانوا يسألونه - إذا لم يفعل - عن السبب فيذكر المخصّص.(4)
ولولا أنّهم عقلوا دخوله تحت الخطاب، وإلّا لما صحّ ذلك.
احتجوا(5): بأنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لو كان داخلاً تحت الخطاب لكان آمراً
ص: 101
...............
مأموراً ومبلِّغاً مبلَّغاً بخطاب واحد وذلك محال، ولأنّ شرط الآمر كون الآمر أعلى رتبة من المأمور، وذلك يُمنع في حقّ الواحد مع نفسه.
والجواب عن هذا: أنّ الآمر في الحقيقة هو اللّٰه تعالى والمبلغ هو جبريل عليه السلام.
قالوا: خُصّ بأحكام كوجوب ركعتي الفجر والضحى والأضحى، وتحريم الزكاة وجواز النكاح من غير ولي ولا شهود و لا مهر وغير ذلك، وذلك يدلّ على حصول مرتبة ومزية له صلى الله عليه و آله و سلم عن أُمته في الأحكام، فوجب أن لا يدخل تحت خطابهم.
والجواب: أن تخصيصه في بعض الأحكام لدليل خاصّ لا يخرجه عن عموم الخطاب، كما أنَّ خروج المريض والمسافر عن وجوب الصوم لا يخرجهما عن الدخول تحت الخطاب بغيره من الأوامر.
ص: 102
قال: مسألة: مثل: «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ» * ليس خطاباً لمن بعدهم؛ وإنّما ثبتَ الحُكمُ بدليلٍ آخر من إجماعٍ، أو نصٍّ، أو قياسٍ؛ خلافاً للحنابلة.
لنا: القطع بأنّه لا يُقال للمعدومينَ: «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ» .
وأيضاً: إذا امتنع في الصبيّ والمجنون، فالمعدوم أجدر.
قالوا: لو لم يكن مخاطباً له، لم يكن مرسلاً إليه، والثانية اتفاقٌ.
وأُجيب: بأنّه لا يتعيّن الخطاب الشفاهي، بل لبعضٍ شفاهاً، ولبعضٍ بنصب الأدلة بأنّ حُكمهم حُكم من شافههم.
قالوا: الاحتجاج به دليل التعميم.
قلنا: لأنّهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر؛ جمعاً بين الأدلة. *
* أقول: اختلفوا في مثل قوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ»(1) ، «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا» (2)- بعد اتفاقهم على تناوله الموجودين المكلفين حالة الخطاب - هل يدخل فيه من سيوجد؟ لا على معنى أنّهم مكلّفون بما كُلف به الموجودون، فإنّ ذلك متفق عليه ولكن بمعنى أنّ الخطاب متناولاً لهم كتناول الموجودين؟ فذهبت المعتزلة إلى اختصاصه بالموجودين ووافقهم على ذلك جماعة من
ص: 103
...............
الشافعية والحنفية، وهو مذهب الإمامية(1)، وأنّ المعدومين حال الخطاب غير داخلين تحته إلّابدليل خارج. وذهبت الحنابلة وجماعة من الفقهاء إلى أنّ الخطاب المذكور متناول لمن بعدهم كتناول الموجودين.
واحتج النافون(2) بوجهين:
الأوّل: العلم الضروري حاصل بأنّ المعدوم ليس بانسان ولا مؤمن فلا يدخل تحت لفظة الناس، كما أنّ الملائكة لا يدخلون تحت هذا اللفظ.
الثاني: اتّفقوا على عدم دخول الطفل والمجنون تحت هذا الخطاب وإن إتصفا بالانسانية فالمعدوم أولى بعدم الدخول.
احتجّ المثبتون بوجهين:
الأوّل: لو لم يكن المعدوم داخلاً تحت الخطاب لم يكن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مرسلاً إليه.
والتالي باطل اتفاقاً فالمقدّم مثله والشرطية ظاهرة، فإنَّ الرسول إنّما أُرسل إلى من يخاطبه ويكلفه فإذا لم يكن المرسل إليه من أهل التكليف والخطاب استحال إِرسال الرسول إليه. والجواب: أن الارسال يكفي فيه الخطاب مطلقاً وهو أعمّ من الخطاب
ص: 104
قال: مسألة: المخاطب داخل في عموم متعلّق خطابه عند الأكثر أمراً أو نهياً أو خبراً؛ مثل: «وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ» ، «مَنْ أحسن إليك فأكرمه»، أو «فلا تُهنه».
قالوا: يلزمُ: «اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ».
قُلْنَا: خُصَّ بِالعَقْلِ. *
شفاهاً ومنقولاً، ولو اشتُرط في الارسال الخطاب الشفاهي لما كان من لم يَرَ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مخاطباً ولا مرسلاً إليه، والتالي باطل اتفاقاً فالمقدّم مثله، فحينئذٍ المشترط هو مطلق الخطاب وهو يكون لبعض الناس شفاهاً ولبعضهم بالنقل وبنصب الأدلة بأنّ حكمهم حكمهم.
الثاني: قالوا احتجّت العلماء دائماً بمثل هذا الخطاب على أنّ المعدومين مخاطبين به، ولو لم يكن للعموم لما صحّ ذلك.
والجواب: أنّهم فهموا دخولهم تحته لا بهذا الخطاب بل بأدلةٍ أُخر جمعاً بين الدليلين.
* أقول: ذهب الجمهور(1) إلى أن المخاطب داخل تحت عموم خطابه سواء كان خبراً مثل قوله تعالى: «وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»(2) أو أمراً مثل قول السيد لعبده: من أحسن إليك فأكرمه، أو نهياً كقوله: من أحسن إليك فلا تهنه.
ص: 105
قال: مسألة: مثل: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً» لا يقتضي أخذ الصدقة من كلِّ نوعٍ من المالِ، خلافاً للأكثر.
لنا: أنّه بصدقةٍ واحدةٍ يصدقُ أنّه أخذ صدقةً، فيلزم الامتثال.
وأيضاً: «فإنَّ كُلَّ دينارٍ مالٌ»، ولا يجب ذلك بالإجماع.
قالوا: المعنى: «من كل مالٍ»، فيجب العموم.
قلنا: «كُلٌّ» للتفصيل؛ ولذلك فُرِّق بينَ: «للرجال عندي درهمٌ» وبين «لكلِّ رجلٍ عندي درهمٌ»، باتفاقٍ. *
والدليل عليه: أنّ اللفظ متناول له لكونه من ألفاظ العموم على ما مرّ ولم يوجد مانع يمنع من التناول فوجب المصير إليه.
وقد ذهب شذوذ إلى أنّه غير داخل فاستدلوا بقوله تعالى: «اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ»(1) فلو كان المخاطب داخلاً تحت عموم خطابه لزم أن يكون اللّٰه تعالى خالقاً لنفسه [وهو محال]،(2) هذا خلف.
والجواب: أنّ هذه الآية مخصوصة بدليل العقل فلا يلزم الاطراد.(3)
* أقول: اختلفوا(4) في قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً» (5)
ص: 106
...............
هل يقتضي أخذ الصدقة الواحدة من كلّ نوع من أنواع مال كلّ واحد أو أخذ الصدقة الواحدة من نوع واحد من أنواع المال؟ فقال جماعة بالعموم وأنكره الكرخي.
واحتج المصنف على مذهبه بأنّه إذا أخذ صدقة واحدة من نوع واحد من أنواع المال صدق أنّه أخذ منها، ضرورة أنّ النكرة لا تعم فيلزم الامتثال. وأيضاً ف [إنّ] كلَّ دينار بل كلَّ درهم يصدق عليه أنّه مال ولا يجب أخذ الصدقة منه بالاجماع فلو كان اللفظ عامّاً لوجب أخذ الصدقة منه، إلّامع وجود مانع، والأصل عدمه.
واحتج الأوّلون(1) بأنّ المعنى من كلّ مال من حيث إنّه جمع مضاف، والجمع المضاف قد ثبت أنّه للعموم.
والجواب: أنّ الفرق حاصل لأنّ كلّاً من الفاظ العموم دالَّة على التفصيل ولهذا وقع الفرق بين قول القائل: «للرجال(2) عندي درهم» وبين قوله: «لكلّ رجل عندي درهم» بالاتفاق فاوجبوا تعدد الدراهم في الصورة الثانية دون الأولى؛ وعندي في ذلك نظر.(3)
ص: 107
قال: مسألة: العام بمعنى المدح والذم؛ مثل: «إِنَّ اَلْأَبْرٰارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَ إِنَّ اَلْفُجّٰارَ لَفِي جَحِيمٍ» ، «وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ» عامٌ.
وعن الشافعي خلافه.
لنا: عامٌّ، ولا منافي؛ فعمَّ كغيره.
قالوا: سيقَ لقصدِ المبالغة في الحثّ أو الزجر، فلا يلزم التعميم.
قلنا: التعميم أبلغُ.
وأيضاً: لا تنافي بينهما. *
* أقول: العامُّ المأتي به للمدح أو الذم كقوله تعالى: «إِنَّ اَلْأَبْرٰارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَ إِنَّ اَلْفُجّٰارَ لَفِي جَحِيمٍ»(1) ، وقوله: «وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ»(2) عام عند الأكثر.
وذهب الشافعي إلى أنّه ليس بعامٍّ.(3)
واستدلّ المصنّف على مذهبه بأنّه لفظ وضع للعموم ولا منافي لإرادته، فيعمّ كغيره من الألفاظ.
أمّا كون اللفظ للعموم فلأنّا نتكلم في ذلك، وأمّا عدم المنافي فلأنّ المنافي ليس إلّاالمدح والذم، وهو غير صالح للمانعية من العموم فإنّه لا استبعاد في
ص: 108
قال: التخصيص: قصرُ العامِّ على بعض مسمياته.
أبوالحسين: إخراجُ بعض ما يتناولهُ الخطاب عَنْهُ، وأراد: ما يتناوله بتقدير عدم المخصّص، كقولهم: «خُصِّص العام».
وقيلَ: تعريف أنّ العمومَ للخصوصِ.
وأُورِدَ الدَّورُ.
وأُجيب: بأنَّ المُرَادَ في الحدِّ: التخصيصُ اللغويُّ.
ويُطلقُ التخصيص على قصر اللفظ وإن لم يكن عامّاً، كما يُطلق عليه: «عامٌّ» لتعددِهِ؛ ك «عشرةٍ»، و «المسلمين» لمعهودين، وضمائر الجمع.
ولا يستقيم تخصيصٌ إلّافيما يستقيم توكيدُهُ ب «كُلِّ». *
إرادة العموم مع إرادة أحدهما.
قال الشافعي: إن هذا اللفظ ليس المقصود منه العموم وإنّما سيق لقصد المبالغة في الحث على الطاعة أو الزجر عن المعصية فلا يلزم التعميم.
والجواب: أنّ المبالغة مع العموم أبلغ فيجب الحمل عليه، وأيضاً فقد بيّنا عدم التنافي بينهما فيجب إرادتهما معاً لوجود المقتضي.
* أقول: لما فرغ من البحث عن العموم وأحكامه شرع في البحث
ص: 109
...............
عن المخصوص، وقبل ذلك شرع في معنى التخصيص وقد حدّه المصنّف: «بأنّه قصر العام على بعض مسمياته»، وعليه مأخذان لفظيّان:
الأوّل: أنّه يخرج عنه الإخراج من اسماء العدد عمّا ثبت لها كقولك: «أكرم هؤلاء العشرة إلّازيداً» فإنّ هذا تخصيص مع أنّه ليس بقصرٍ للعام، ضرورة أنّ أسماء العدد ليست من الفاظ العموم عنده.
الثاني: قوله: «على بعض مسمياته» يشعر بأن كلّ فرد من أفراد العموم مسمى بالعموم وهو فاسدٌ.
وقد عرّفه أبو الحسين(1) بأنّه: إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه،(2) وأراد:
ما يتناوله بتقدير عدم المخصّص، وإلّا لزم التناقض(3).
ص: 110
...............
وقد عرفه قوم بأنّه: «تعريف أنّ [لفظ] العموم للخصوص»(1).
وأُورد عليهم لزوم الدور، واعتذروا عنه بأنّ المذكور في الحدّ التخصيص اللغوي، والمحدود هو الصناعي.
واعلم أنّ التخصيص يطلق على قصر اللفظ على بعض أفراد مايتناوله، وإن لم يكن عامّاً كما يطلق عليه العام لتعدده وتكثّره، كقولنا: «عشرة» وقولنا:
«المسلمون» لقوم معهودين وضمائر الجمع لمعهودين أيضاً، وهو إشارة إلى ما ذكرناه أوّلاً.
واعلم أنّ التخصيص غير صالح لكلّ عام(2) بل إنّما يصحّ فيما يدخله الشمول والعموم وهو كلّ ما يصحّ توكيده بكلّ، سواءٌ كان ذلك معنى أو لفظاً لأنّ التخصيص صرف اللفظ من العموم إلى الخصوص، وما لا شمول له فلا يُتصور فيه هذا الصرف.
ص: 111
قال: مسألة: التخصيص جائز إلّاعند شذوذٍ. *
* أقول: اتّفق القائلون(1) بالعموم على صحّة التخصيص إلّاعند شذوذٍ منهم حتى أن بعض الناس تمادى في ذلك وقال: كل عامّ قد دخله التخصيص، إلّا قوله تعالى: «وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»(2).
حجّة الجمهور الوقوع، فإن قوله تعالى: «وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»(3) مخصوص، وكذلك قوله تعالى: «وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ»(4) وغير ذلك.
احتجّ الأقلُّون بأنّ التخصيص في الخبر يوجب الكذب، وفي الأمر يوجب البَداءَ. والجواب: أنَّ مع الاحتمال للتخصيص ووجود الدليل لا إيجاب لما ذكرتم، كما في المجاز.(5)
ص: 112
قال: مسألة:
الأكثر: أنّه لابدّ في التخصيص من بقاء جمعٍ يقرب من مدلوله.
وقيل: يكفي ثلاثة. وقيل: اثنان. وقيل: واحدٌ.
والمختار: أنّه بالاستثناء والبدل، يجوز إلى واحدٍ، وبالمتصل، كالصفة، يجوز إلى اثنين، وبالمنفصل في المحصور القليل، يجوز إلى اثنين مثل: «قتلت كل زنديق»، وقد قتل اثنين، وهم ثلاثةٌ، وبالمنفصل في غير المحصور أو العدد الكثير.
المختار: المذهب الأوّل.
لنا: أنّه لو قال: «قتلتُ كلَّ مَنْ في المدينة» وقد قتل ثلاثة عُدَّ لاغياً، وخطِّئ، وكذلك: «أكلت كلَّ رمانة» وكذلك لو قال: «من دخل» أو «أكلَ»، وفسره ب «ثلاثةٍ».
القائل باثنين أو ثلاثة: ما قيل في الجمع.
وردَّ: بأنَّ الجمع ليس بعام.
القائل بالواحد: «أكرم الناسَ إلّاالجهّال».
وأجيب: بأنّه مخصوص بالاستثناء ونحوه.
ص: 113
قالوا: «وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ» ، وليس محلّ النزاع.
قالوا: لو امتنع ذلك، لكان لتخصيصه، وذلك يمنع الجميع.
وأُجيب: بأنَّ المنعَ تخصيص خاصّ بما تقدّم.
قالوا: قال اللّٰه تعالى: «اَلَّذِينَ قٰالَ لَهُمُ اَلنّٰاسُ» ، وأريد نُعَيْم بن مسعود، ولم يعد مستهجناً، للقرينة.
قلنا: «النّاس» للمعهود، فلا عموم.
قالوا: صحّ: «أكلت الخبز» و «شربت الماء»، لأقَلَّ.
قلنا: ذلك للبعض المطابق للمعهود الذهني، مثله في المعهود الوجودي، فليس من العموم والخصوص في شيءٍ. *
* أقول: اختلف الناس(1) في أنّ التخصيص هل له نهاية لا يجوز التعدّي عنها - بعد اتفاقهم على أنّه لا يجوز التخصيص بحيث لايبقى من العام شيءٌ - أم لا؟ أمّا الفاظ المجازاة(2) والاستفهام فقد اتّفقوا على جواز انتهائها في التخصيص إلى الواحد(3) وأمّا غيرهما فقد قال أبو الحسين: أنّه لابدّ في جميع ألفاظ
ص: 114
...............
العموم المخصوصة من كثرةٍ يراد منها ولا يجوز انتهاؤها إلى الواحد إلّاعلى سبيل التعظيم مجازاً، وقال القفّال(1): أَنّه يجوز إنتهاؤها إلى ثلاثة لا أقل، وقد ذهب آخرون إلى أَنّه يُكتفىٰ فيها بالاثنين، وقيل بالواحد.
واختار المصنّف أَنَّ التخصيص بالاستثناء والبدل يجوز إلى الواحد، والتخصيص بالمتصل غيرهما كالصفة يجوز إلى اثنين، وكذلك التخصيص بالمنفصل في العام المحصور كما يقول القائل: قتلت كل زنديق، وكانوا ثلاثة، وقيل اثنين.
وأمّا غير المحصور فاوجب بقاء عدد مشتمل على كثرة يقرب من مدلول العام، واحتجّ على الدعوى الأخيرة بالاستعمال فإنّ من قال: قتلت كلَّ من في المدينة، وكان قد قتل ثلاثة، عدَّه الناس لاغياً؛ وكذلك إذا قال: أكلت كل رمانة؛ وكذلك لو قال: من دخل داري، أو مَنْ أكل، وفسره بثلاثة. وإنّما عدّه الناس من قبيل اللغو لكون اللفظ الدّال على العام لا يصح استعماله فيه، فلو جاز التخصيص إلى حيث ينتهي العام إلى الثلاثة وغيرها من الاعداد الّتي لا يقرب استعمال العام منها لكان التخصيص يخرج اللفظ عن حقيقته ويوجب الغاء العام، والتالي باطل
ص: 115
...............
فالمقدم مثله.
احتجّ من قال بأَنّه يجوز التخصيص إلى الاثنين ومن قال يجوز إلى ثلاثة بما ذكرناه في الجمع أنّه يصح استعمال الجمع في الاثنين أو في الثلاثة على الخلاف.
والجواب: أنّ الجمع من هذا الباب(1) فإن صيغ الجمع المنكرة ليست عامة ولا يلزم من استعمالها في الاثنين والثلاثة استعمال صيغ العموم فيها.
واحتجّ من قال يجوز إلى الواحد بوجوه:
أحدها: أن من قال لعبده: أكرم الناس إلّاالجهال، وجب إكرام مْنَ عدا الجهال وإن كان واحداً؛ ولولا أنّ لفظ الناس يتناوله والاّ لما وجب الإكرام.
والجواب: أَنّ هذا مخصوص بالاستثناء ونحوه فإِنّا قد بيّنا أَنّه يجوز الانتهاء فيه إلى الواحد.
الثاني: قوله تعالى: «إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ»(2) ذكر صيغة العام مع أنّ المراد منها الخاص.
والجواب: أنّ هذا محمول على التعظيم، وليس ذلك محل النزاع.
الثالث: لو امتنع ذلك لكان إنّما يمتنع لكون العامّ قد خُصّ، وذلك لا يجوز لصيرورته مجازاً بعد التخصيص، لكن ذلك لو كان مانعاً في الواحد لكان مانعاً في كلّ تخصيص سواء كان الباقي عدداً أكثر أو لا؟ من حيث إنّ التخصيص يصيّر العام مجازاً، ولمّا كان ذلك باطلاً بالاتفاق فكذا ما ذكرتموه.
ص: 116
...............
والجواب: أن الممتنع إنّما هو تخصيص خاصّ، وهو التخصيص بحيث ينتهي إلى الواحد لا مطلق التخصيص، والفرق لما تقدم.(1)
الرابع: قوله تعالى: «اَلَّذِينَ قٰالَ لَهُمُ اَلنّٰاسُ»(2) وأراد بالناس نُعيم بن مسعود(3)، ولم يُعد مستهجناً لأجل القرينة.
والجواب: أنّ «الناس» ليس للعموم والقرينة، وإنّما هو للعهد فلا يَرد نقضاً.
الخامس: الإستعمال، فإنّ من قال: أكلت الخبز وشربت الماء، صحّ استعماله فيما إذا أكل أو شرب أقل مأكول ومشروب.
والجواب: أنّ المراد من الخبز والماء البعض المطابق للمعهود الذهني وهو حقيقة في الخبز والماء من حيث هما هما فليس من العموم والخصوص لأنها(4)قابلة لهما لكن لمّا تعذر وجود الماهيّة في الخارج بدون فرد من افرادها حمل على ذلك البعض لضرورة الوجود فاللازم للبعض المطابق للمعهود الذهني مثله في المعهود الخارجي، لاشتراكها في عدم الاستغراق وإن افترقا بكون العهد الخارجي شخصياً لا يقبل الشركة، والمطابق للمعهود الذهني قابل.
ص: 117
قال: المُخصص: متصلٌ ومنفصلٌ.
المتصل: الاستثناء المتصل، والشرط، والصفة، والغايةُ، وبدلُ البعض.
والاستثناء في المنقطع:
قيل: حقيقة.
وقيل: مجازٌ.
وعلى الحقيقة: قيل: متواطئٌ وقيل: مشتركٌ. ولابد لصحته من مخالفةٍ في نفي الحكم، أو في أنّ المستثنى حكمٌ آخر، له مخالفة بوجه؛ مثل: «ما زاد إلّاما نقص»، ولأن المتصل أظهر، لم يحملهُ فقهاء الأمصار على المنقطع إلّاعند تعذّره.
ومن ثمّ قالوا في: «له عندي مائة درهم إلّاثوباً» وشبهه: إلّاقيمة ثوب. *
* أقول: الدليل المخصص للعموم على قسمين(1): متصل ومنفصل.
فالمتصل أربعة، في المشهور:
أحدها: الاستثناء المتصل،(2) كقولك: قام القوم إلّازيداً.
ص: 118
...............
وثانيها: التخصيص بالشرط، كقولك: أكرم القوم إن قاموا.
وثالثها: التخصيص بالصفة، كقولك: أكرم القوم العلماء.
ورابعها: التخصيص بالغاية، كقولك: أكرم الناس إلى وقت كذا.
وزاد المصنّف قسماً خامساً وهو بدل البعض من الكل، كقولك: قام القوم ثلثهم.
وأمّا الاستثناء في المنقطع فقد قيل: إنّه حقيقة لأَنّه مستعمل فيه والأصل الحقيقة، وقد قيل: إنّه مجاز لأن الاستثناء إذا أُطلق فُهم منه المتصل ولإنَّ الاستثناء مأخوذ من الثني(1) ولا يتحقق إلّافي المتصل.
والقائل الأول ذهب قوم منهم إلى أَنّ الاستثناء مقول بالتواطئ على المتصل والمنقطع دفعاً للاشتراك وذهب آخرون إلى أنّه مشترك بينهما اشتراكاً لفظياً.
ولابدّ لصحّة الاستثناء من مخالفه في نفي الحكم وفي اثبات حكم آخر للمستثنى له مخالفه بوجه للمستثنى منه كقولك مازاد إلّاما نقص وما نفع إلّاما ضرّ.
ولا شكّ في أنّ الاستثناء المتصل أظهر من المنفصل(2) فلأجل ذلك
ص: 119
...............
ذهب فقهاء الأمصار إلى حمل الاستثناء على المتصل كما في قول القائل: له عندي مائة إلّادرهماً فان ذلك يقتضي الإقرار بتسعة وتسعين درهماً، اللهم إلّاإذا تعذّر حملة على المتصل؛ ولأجل هذا أيضاً قالوا: إنْ قال: له عندي مائة درهم إلّاثوباً، المراد منه إلّاقيمة ثوب من الدراهم؛ فتأولوا المنفصل وردّوه إلى المتصل لظهوره.
ص: 120
قال: وأمّا حدّه فعلى التواطؤ: مَا دلَّ على مخالفةٍ ب «إلّا» غير الصفة، وأخواتها، وعلى الاشتراك والمجاز: لا يجتمعان في حدٍّ؛ فيقال في المنقطع: ما يدلُّ على مخالفةٍ ب «إلّا» غير الصفة وأخواتها من غير إخراجٍ.
وأمّا المتصل فقال الغزّالي: قولٌ ذو صيّغٍ مخصوصة محصورةٍ، دالٌّ على أن المذكور به لم يُرد بالقول الأوّل.
وأُورد على طرده: التخصيصُ بالشرط، والوصف ب «الّذي» والغاية، ومثل: «قام القوم، ولم يقم زيدٌ».
ولا يرد الأوّلان.
وعلى عكسه: «جاء القوم إلّازيداً»؛ فإنَّه ليس بذي صيغٍ.
وقيل: لفظ متصل بجملةٍ، لا يستقل بنفسه، دالٌ على أن مدلوله غير مرادٍ بما اتصل به، ليس بشرطٍ ولا صفةٍ ولا غايةٍ.
وأُورد على طرده: «قام القوم إلّازيدٌ» وعلى عكسه: «ما جاء إلّا زيدٌ»؛ فإنّه لم يتصل بجملةٍ، وإنّ مدلوله كل استثناء متصل مراد بالأوّل.
والاحتراز من الشرط والصفة، وَهْمٌ، والأولىٰ: إخراجٌ ب «إلّا» وأخواتها. *
...............
على مخالفة ب «إلّا» غير الصفة واخواتها، وإنّما قيّد ب «إلّا» بكونها غير الصفة لأنّ «إلّا» قد يرد بمعنى «غير» صفة فحينئذٍ لا يكون استثناء بل يكون وصفاً، فتخصيص العام بتلك يكون تخصيص العام بالصفة لا بالاستثناء، وأمّا على تقدير الاشتراك أو المجاز فلا يجمعان في حدٍّ لأنّهما حقيقتان مختلفتان حينئذٍ والحقائق المختلفة لا تجتمع في حدٍّ واحد بل ينبغي حد كل واحد منهما:
أما المنقطع فحدّه: «أنّه ما دلّ على مخالفة بإلّا غير الصفة واخواتها من غير إخراج شيءٍ من الأول». وهذا الأخير يخرج المتصل.
وأمّا المتصل فقد حدّه الغزّالي: «بأنّه قول ذو صيغٍ مخصوصة محصورة دالٌ على أنّ المذكور به لم يرد بالقول الأوّل»(1).
وأورد على طرده التخصيص بالشرط والوصف ب «الّذي»(2)، والغاية وبقولنا «قام القومُ ولم يقم زيدٌ» لأنّ هذه الالفاظ صيغٌ مخصوصة محصورة تدل على أنّ المذكور لم يرد بالقول الأول وليس باستثناء، والأولان(3) غير واردين لأنّا اخذنا في حدّه ان المذكور به غير مراد بالأول والمخصوص في الشرط والصفة غير مذكورين فلا يدخلان تحت الحد فلا يردان نقضا.
ص: 122
...............
وأُورد على عكسه قام القوم إلّازيداً فإنّه استثناء وليس ذا صيغ مختلفة.
وقيل في حدّه «انّه لفظ متصل بجملة على أنّ مدلوله غير مراد بما اتصل به ليس بشرط ولا صفة ولا غاية» [قولنا: «متصل بجملة» احتراز عن المخصصات المنفصلة، وقولنا «لا يستقل بنفسه» احتراز عن قولنا قام القوم ولم يقم زيد، وقولنا «دال» احتراز عن المهمل، وقولنا «على أن مدلوله» اردنا به مدلول جزءه كمدلول زيد في قولنا «جاءني القوم إلّازيداً»، وقولنا «غير مراد بما اتصّل به» يعني بالقوم، احترازاً عن الاسماء المؤكدة والناعتة. كقولنا «قام القوم العلماء كلهم، وباقي الحد ظاهر](1).
ويرد على طرده «قام القوم إلّازيداً»، فانّه ليس باستثناء مع صدق الحدّ عليه، وعلى العكس «ما جاء إلّازيد» فانّه لم يتصل بجملة؛ وأورد على العكس أيضاً ان مدلول كلّ استثناء متصل مراد بالأوّل على المذهب الاصحّ في الاستثناء.
[فانّه ليس باستثناء مع صدق الحد عليه، وعلى عكسه ما جاء إلّازيد، فإنّه لم يتصل بجملة. وأورد على عكسه أيضاً أنَّ مدلوله كلَّ استثناء متصل مراد بالأوّل على المذهب الأصحّ في الاستثناء].(2)
والاحتراز عن الشرط والصفة وَهْم لما بينا من عدم دخولهما في الأول، والأَولى ان يقال في حده «انّه اخراج بإلا وأخواتها» فالأخراج جنس والتقييد بإلّا وأخواتها يميزه عن غيره.
ص: 123
قال: وقد اختلف في تقدير الدلالة في الاستثناء.
فالأكثر: المُرادُ ب «عشرة» في قولك: «عشرة إلّاثلاثةً»: سبعةٌ، وَ «إلّا»:
قَرينةٌ لذلك عالتخصيص بغيره.
وقال القاضي: «عشرةٌ إلّاثلاثةً»: بإِزاء سبعةٍ، كَاسْمين: مُرَكَّبٍ، وَمُفَردٍ.
وَقيلَ: المراد ب «عشرةٍ» عشرةٌ: باعتبار الافراد، ثمَّ أُخرجت «ثلائة»، والاسنادُ بَعدَ الإخراج، فَلَمْ يُسند إلّاإلى سبعةٍ، وهو الصحيح.
لنا: أنّ الأوّل غيرُ مستقيم؛ للقطع بأنّ من قال: «اشتريت الجارية إلّا نصفها» ونحوه، لم يُرِدِ استثناء نصفها من نصفها، ولأنّه كانَ يتسلسلُ، وَلأنا نقطع بأنّ الضمير للجارية بكمالها، ولإجماع العربية على أنّه إخراجُ بعض من كُلٍّ، وَلإبطال النصوص، وللعلم بأنّا نُسقطُ الخارج، فنعلم أنّ المُسندَ إليه ما بقي.
والثاني: كذلك؛ للعلم بأنّه خارج عن قانون اللغة، إذ لا تركيب من ثلاثة، ولا يُعرَّب الأوّل، وهو غير مضافٍ، ولامتناع إعادة الضمير على جُزءِ الاسم في: «إلّا نصفها» ولإجماع العربية... إلى آخره. *
* أقول: اختلفوا في تقدير الدلالة في الاستثناء في قولهم: له عندي
ص: 124
...............
عشرة إلّاثلاثة، بعد اتفاقهم على أنّ الّذي يلزم المقر سبعة، فقال قوم: إنّ لفظة العشرة هاهنا المراد بها سبعة و «إلّا» قرينة دالة على أنّ المتكلم استعمل لفظة العشرة في السبعة كسائر المخصّصات لا بمعنى أنّ العشرة مع الاستثناء موضوعة للسبعة.
وقال القاضي: إنّ للسبعة لفظين؛ أحدهما سبعة، والآخر عشرة إلّاثلاثة وذلك كاسْمين؛ مفرد ومركب، وقال قوم: إنّ المراد بعشرة عشرة ثمّ أخرجت ثلاثة والإسناد إنّما هو بعد الإخراج فالإسناد إلى سبعة، وإليه ذهب المصّنف واستدل بابطال القولين على صحّة مذهبه.
أمّا إبطال الأول فمن وجوه:
الأوّل: أنَّ من قال: اشتريت الجارية إلّانصفها أو إلّاثلثها ونحوه، لو كان المراد بالجارية ما بعد الاستثناء وهو النصف لكان قد استثنىٰ النصف من النصف، وهو محال.
الثاني: أَنّه كان يلزم التسلسل لأنّ منْ قال: له عندي هذه الجارية إلّانصفها، لو كان المراد بالجارية النصف لكان الاستثناء من النصف، وكأنّ تقدير الكلام: «له عندي نصف الجارية إلّانصفها» فيكون قد استثنى من نصف النصف، وهكذا إلى ما لا يتناهى.
الثالث: أنّا نقطع بأنَّ قوله: «إلّا نصفها» الضمير فيه عائد إلى الجارية بكمالها لا إلى ابعاضها.
الرابع: أجمع أهل العربية على أنَّ الإستثناء المتصل اخراج بعض من كلّ، فلو كانت الجارية موضوعة لنصفها لكان الاستثناء اخراج بعض من بعض ويؤدي ذلك إلى الاستثناء من غير الجنس.
ص: 125
...............
الخامس: يلزم ابطال نصوصية الألفاظ الناصّة، والتالي باطل اتّفاقاً.
وبيان الشرطية: حكمهم أنَّ المراد من العشرة السبعة مع كون العشرة نصّاً في مدلولها، وهذا الالزام مشترك لأنّ المصنف يحكم بأنّ المراد من المشركين بعد الحكم بالاسناد في قوله: اقتلوا المشركين إلّاأهل الذمة، هو غير أهل الذمة مع كونه نصّاً في الجميع.
السادس: أنّا نعلم قطعاً أنّا نسقط الخارج فيُعلم أَنَّ المسند إليه ما بقي فوجب أَنْ يكون اللفظ بعد الاسثتناء غير خارج عن موضوعه.(1)
وأمّا إبطال الثاني فمن وجوه:
الأول: أنّه خارج عن قانون اللغة لأنّه لم يوضع فيها لفظ مركّب من ثلاثة ألفاظ.
الثاني: أنّه لم يعهد في اللغة لفظٌ مركّب من ثلاثة ويُعرّب الأوّل منها وهو العشرة مثلاً مع عدم الاضافة.
الثالث: أنّه يمتنع إعادة الضمير على جزء الاسم في مثل قولنا: «له عندي هذه الجارية إلّانصفها» فلا يكون المراد بالجارية نصفها.(2)
الرابع: إجماع العربية(3) على أنّ الاستثناء إخراج بعضٍ من كُلّ.
ص: 126
قال: قال الأوّلون: لا يستقيم أن يُراد «عشرةٌ» بكمالها؛ للعلم بأنّه ما أقرَّ إلّاب «سبعة» فيتعيّن.
وأُجيب: بأن الحكم بالإقرار، باعتبار الإسناد، ولم يُسند إلّابعد الإخراج.
قالوا: لو كان المُرادُ عشرةً امتنع من الصادق؛ مثل قوله تعالى:
«فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّٰ خَمْسِينَ عٰاماً».
وأجيب: بما تقدَّمَ.
القاضي: إذا بَطَلَ أن يكونَ عشرةً، وبطل أن يكونَ سبعةً تعيّن أن يكون الجميع لسبعةٍ.
وأُجيب: بما تقدَّمَ.
فتبيّن أنّ الاستثناء على قول القاضي، ليس بتخصيصٍ، وعلى الأكثر، تخصيص، وعلى المختار، محتملٌ. *
* أقول: احتج الفريق الأول:
بأنّ من المعلوم أنّ المراد ليس عشرة بكمالها فإنّا نعلم أنّه ما أقر إلّابسبعة فيتعين أن يكون المراد بالعشرة السبعة(1).
والجواب: أن الحكم بالإقرار باعتبار الإسناد والمقرّ لم يسند إلّابعد
ص: 127
...............
الإخراج.
قالوا: لو كان المراد عشرة لامتنع من الصادق الاستثناء فالتالي باطل فإنّ اللّٰه تعالى قال: «فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّٰ خَمْسِينَ عٰاماً»(1) ، وبيان الشرطية: إنّ الإخراج بعد الحكم بالجميع، تناقض.
والجواب: ما تقدّم من الإسناد بعد الإخراج.
قال القاضي: إذا بطل أن يكون المراد عشرة وبطل أن يكون المراد بلفظة العشرة سبعة، تعيّن أن يكون الجميع - أعني العشرة مع الاستثناء - لسبعة.
والجواب: بما مضى، فظهر من هذا أنّ الاستثناء على قول القاضي ليس بتخصيص لأنّه جعل الاستثناء والمستثنىٰ والمستثنىٰ منه لفظاً واحداً دالّاً على ما بقي ولايراد بالعشرة شيءٌ؛ وعلى قول الأكثر أنّه تخصيصٌ لأنّه قصر العام على بعض مسمياته، وعلى ما اختاره المصنّف يحتمل الأمرين.
ووجه احتمال الأمرين: أنّ العشرة باعتبار الافراد تكون عامّة لآحادها فكان الاستثناء تخصيصاً، وباعتبار أنّ الاستثناء بعد الإخراج لا يكون عامّاً.
ص: 128
قال: مسألة: شرط الاستثناء: الاتصالُ لفظاً، أو ما في حُكمِهِ، كقطعِهِ لتَنفُّسٍ، أو سُعال ونحوهِ.
وعن ابن عباس: يصحّ وإن طال شهراً.
وقيل: يجوز بالنيّة كغيرهِ، وحُمِلَ عليه مذهب ابن عباس، لقربه.
وقيل: يصح في القرآن خاصّة.
لنا: لو صحّ لم يقل صلى الله عليه و آله و سلم: «فليكفَّر عن يمينه» مُعيَّناً، لأنّ الاستثناء أسهل، وكذلك جميع الإقرارات والطلاق والعتق، وأيضاً: فإنّه يؤدي إلى ألا يعلم صدقٌ ولا كذبٌ.
قالوا: قال صلى الله عليه و آله و سلم: «واللّٰه، لأغزونَّ قريشاً»، ثم سكت.
وقال بعده: «إن شاء اللّٰه».
قلنا: يحمل على السكوت العارض، لِمَا تقدم.
قالوا: سأله اليهود عن لبث أهل الكهف، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «غداً أجيبكم»، فتأخّر الوحيُّ بضعة عشر يوماً، ثم نزل: «وَ لاٰ تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فٰاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ»(1) .
فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إن شاء اللّٰه».
قلنا: يُحمل على أفعلُ، إن شاء اللّٰه.
ص: 129
وقول ابن عباس متاؤَّل بما تَقَدَّمَ، أو بمعنى المأمور به. *
* أقول: اتفق المحقّقون(1) على أن شرط الاستثناء الاتصال لفظاً أو حكماً كالقاطع بسعال أو بنَفَسٍ أو بشبههما. ونقل عن ابن عباس(2) جواز الانفصال إلى شهر،(3) وقيل: يجوز تأخير الاستثناء لكن مع إضمار الاستثناء متصلاً بالنية كغيره،(4) وعلى هذا حمل قول ابن عباس، وقيل: يصحّ في القرآن الاستثناء المنفصل.
واحتجّ المصنف بأنّه روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «من حلف على شيء فرأىٰ غيره خيراً منه فليكِّفر عن يمينه وليأت الّذي هو خير».(5)
ص: 130
...............
وجه الاستدلال أنّه صلى الله عليه و آله و سلم أرشد المكلفين إلى حلّ أيمانهم لمصالحهم بالتكفير، ولو جاز الاستثناء المتأخر لكان إرشاده إليه أولىٰ فإنّه أسهل الطريقين، وأيضاً كان يلزم إبطال جميع الإقرارات والطلاق والعتق فإنّ أهل اللغة لا يسمعون فيها الاستثناء المتأخر بل ولا يعدّونه استثناء، فإنّ القائل إذا قال لزيد: «عندي عشرة» ثمّ لبث شهراً فقال: «إلّا واحداً» لم يُسمع منه هذا الاستثناء.
وأيضاً يؤدِّي إلى عدم العلم بالصدق والكذب لأنَّ مَنْ أخبر بأنّ كلَّ الناس قاموا، وكان القائم بعضهم، لو كُذّب لكان له أن يقول: إنّي عازم على الاستثناء.
احتجّ المخالف بأن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: «واللّٰه لأغزون قريشاً»(1) ثم سكت، وقال: إن شاء اللّٰه تعالى.
والجواب: أن السكوت يجوز أن يكون لعارض، فلا ينفع في المطلوب.
قالوا: سأله اليهود عن لبث أهل الكهف، فقال: غدا أجيبكم فانقطع عنه الوحي بضعة عشر يوماً، ثم نزل قوله تعالى: «وَ لاٰ تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فٰاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ» فقال: إنْ شاءَ اللّٰهُ.
والجواب: أنّ الاستثناء بالمشيئة إنّما عاد إلى العزم على الفعل كأنّه قال: أفْعلُ إنْ شاء اللّٰه.(2) وأيضاً ابن عباس كان من فصحاء العرب وهو ترجمان القرآن
ص: 131
...............
وقد قال بصحة المنفصل.
والجواب: أنَّ قوله متأول بما تقدّم من جواز نيّة الاستثناء وانفصاله لفظاً أو أنّه متأول بالمأمور به ويعني «به» الاستثناء بمشيئة اللّٰه تعالى، وهذا إنّما يرد على تقدير أنْ نقول: الاستثناء بالمشيئة يجوز فيه الانفصال، والقصة الّتي ذكروها(1) قد بيّنا أَنّها غير دالة على المطلوب.
ص: 132
قال: مسألة: الإستثناء المستغرقُ: باطل بالاتفاق.
والأكثرُ: على جواز المساوي والأكثَرِ.
وقالت الحنابلة والقاضي: بمنعهما.
وقال بعضهم والقاضي أيضاً: بمنعه في الأكثر خاصَّة.
وقيل: إن كان العددُ صريحاً.
لنا: «إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ إِلاّٰ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغٰاوِينَ» ، والغاوون أكثرُ؛ بدليل: «وَ مٰا أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ» ، والمساوي أولى.
وأيضاً: «كلكم جائع إلّامن أطعمته».
وأيضاً: فإن فقهاء الأمصار: «على أنّه لو قال: عليَّ عشرةٌ إلّاتسعةً» لم يلزمه إلّادرهمٌ، ولولا ظهوره، لما اتفقوا عليه عادةً.
الأقل: مقتضى الدليل منعه.. إلى آخره.
وأُجيب: بالمنع، لأن الإسناد بعد الإخراج ولو سُلِّم فالدليل متبع.
قالوا: عشرة إلّاتسعة ونصف وثلث درهم، مستقبح ركيك.
وأُجيب: بأن استقباحه لا يمنع صحته ك «عشرةٌ إلّادانقاً ودانقاً»..
إلى عشرين. *
* أقول: إتّفق الناس على أنّ الاستثناء المستغرق للمستثنى منه باطل(1)
ص: 133
...............
كقول القائل: «عندي عشرة إلّاعشرة». واختلفوا في جواز الاستثناء من المتساوي فالأكثر على جوازه، والقاضي والحنابلة منعوهما كقوله له: عندي عشرة إلّا خمسة.(1) وقال آخرون: إنّه يمتنع استثناء الأكثر خاصّة، وجوزوه في المتساوي و هو قول القاضي أبي بكر(2) أيضاً كقوله له: عندي عشرة إلّاتسعة، وذهب آخرون من أهل اللغة إلى استقباح الاستثناء من العدد الصريح(3) فمنع من قوله: «له عندي مائة إلّاتسعة وتسعين»، وجوز: «خذ الدراهم إلّاما في الكيس الفلاني» وإن كان أكثر، وذهب قوم إلى المنع من استثناء [العقد الصحيح](4) كقوله له عندي مائة إلّاعشرة وجوز إلّاخمسة.
واستدل المصنف على جواز الاستثناء مطلقاً بوجوه:
الأوّل: قوله تعالى: «إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ إِلاّٰ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغٰاوِينَ»(5) استثنىٰ الغاوين من العباد، والغاوون أكثر بدليل قوله تعالى:
ص: 134
...............
«وَ مٰا أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ»(1) وإذا جاز استثناء الاكثر فاستثناء المساوي أولى.
الثاني: إذا قال الانسان لجماعة اطعم اكثرهم: «كلكم جائع إلّامن اطعمته»(2)، صح الاستثناء مع أنّ الاستثناء أكثر.(3)
الثالث: اتّفق الفقهاء على أنّ من قال: «له عندي عشرة إلّاتسعة» أنّه يلزمه درهم واحد، ولولا أنَّ جواز الاستثناء ظاهر والاّ لما صحّ ذلك.
احتجّ من قال باستثناء الأقل: أنَّ الدليل يمنع من جواز الاستثناء، فإنَّ من أقرّ بعشرة ثمّ استثنى يكون جاحداً لما أقرّ به فلا يكون مسموعاً؛ إلّاأنّا جوزناه في الأقل لمعنى مفقود في الأكثر وهو أن الأقل قليل الخطور بالبال فربما أقرّ المقر ثمّ استدرك ما نسيه من الأوّل فاستثنىٰ، أمّا الأكثر فليس كذلك.
والجواب: المنع من ذلك فإنّا لا نسلّم أنَّ الإسناد قبل الاستثناء إلى الجملة بأسرها، ولو سلم(4) فالدليل متبع، وأيضاً فإنّ من قال: له عندي عشرة إلّا
ص: 135
...............
تسعة ونصفاً وثلثاً، مستقبح ولا علة لذلك إلّالكونه استثناء الأكثر.(1) والجواب: الاستقباح لا يمنع من الصّحة كمن قال: له عندي عشرة إلّادانقاً ودانقاً إلى عشرين فإنّه يستقبح ومع ذلك فهو صحيح إجماعاً.
ص: 136
قال: مسألة: الاستثناءُ بَعْدَ جُمَلٍ بالواو:
قالت: الشافعية: للجميع.
والحنفية: إلى الأخيرة.
والغزاليّ والقاضي: بالوقف.
والشريفُ: بالاشتراك.
أبو الحسين: إن تبيّن الاضراب عن الأولى، فللأخيرة، مثل أن يختلفا نوعاً أو اسماً وليس الثاني ضميرهُ، أو حكماً غير مشتركين في غرض، وإلّا فللجميع.
والمختار: إنْ ظهر الانقطاع فللأخيرة، والإتِّصال للجميع، وإلّا فالوقف.
الشافعية: العطف يُصيّر المتعدد كالمُفرد.
وأُجيب: بأنّ ذلك في المفردات.
قالوا: لو قال: «واللّٰه، لا أكلتُ، ولا شربت، ولا ضربتُ؛ إن شاء اللّٰه» عاد إلى الجميع.
وأُجيبَ: بأنّه شرطٌ، فإنْ أُلحق به فقياسٌ، وإنْ سُلّم فالفرق: أنّ الشرط مُقدّر تقديمُهُ، وَإنْ سُلِّم فلقرينة الاتصال، وهي اليمين على الجميع.
قالوا: لو كُرِّرَ، لكان مستهجناً.
ص: 137
قلنا: عند قرينة الاتصال، ولو سُلِّم فللطول مع إمكان «إلّا كذا» من الجميع.
قالوا: صالِحٌ، والبعض تحكّم كالعام.
قلنا: صلاحيته لا توجب ظهوره فيه، كالجمع المُنكّر.
قالوا: لو قال: «له عليّ خمسة وخمسة إلّاستة» كان للجميع.
قلنا: مفردات.
وأيضاً: فللاستقامة. *
* أقول: اختلف الناس(1) في الاستثناء عقيب الجمل المعطوف بعضها على بعض فذهبت الشافعية إلى أَنّ الاستثناء يرجع إلى جميع الجمل المذكورة،(2)وذهبت الحنفية إلى أَنَّه يرجع إلى الجملة الأخيرة(3)، وتوقف القاضي أبو بكر(4)والغزّالي وذهب السيد الشريف المرتضى رحمه الله إلى الاشتراك.
وقال أبو الحسين: إنْ تبيَّن أنَّ المتكلم قد اضرب عن الجملة الأُولى إلى الأخيرة فالاستثناء مختصّ بالأخيرة وذلك بأن تكون الجملتان مختلفتين بالنوع والاسم كقوله: اكرم العلماء وبنو تميم كرماء إلّاالعراقيين.
أو تكون الجملتان اتحدتا نوعا واختلفتا إسما وحكماً، كقوله: أكرم بني
ص: 138
...............
تميم وجالس بني ربيعة، إلّاالجهّال.
أو تكون الجملتان اتحدتا نوعاً وحكماً واختلفتا بالاسم كقوله: أكرم بني تميم، وأكرم بني ربيعة إلّاالجهال.
ورابعها: أن يتحدا نوعاً ويشتركا إسماً ويكون الثاني غير ضمير في الأول ويختلفا حكما مع عدم اشتراكهما في الغرض، كما إذا قال: أكرم بني تميم واستأجر بني تميم إلّاالطوال.
وإن لم يكن على أحد هذه الانحاء كان الاستثناء عائداً إلى الجميع وذلك بأن تتحد الجملتان نوعاً واسماً لا حكماً إلّاأنَّ الحكمين قد اشتركا(1) في الغاية كقوله:
أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلّاالطوال، فإنّ الاستثناء عائد إلى الجملتين لانّ الغرض منهما الإعظام فاستثناء الطوال من النوع الأوّل(2) من الاعظام يؤدي بخروجهم عن النوع الثاني(3) وتتحد الجملتان بالنوع وتختلفان بالحكم واسم الأُولى مضمر في الثانية كقوله: اكرم بني تميم واستأجرهم إلّاالطوال، أو بالعكس كقوله: أكرم وجالس بني تميم إلّاالطوال.
واختار المصنف أنَّ المتكلمَ إذا ظهر منه انقطاع الجملة الأخيرة عن الأُولى كان الاستثناء راجعاً إلى الأخيرة، وإن ظهر منه اتصالهما كان الاستثناء راجعاً إليهما، وإن لم يظهر فالوقف.
واستدلت الشافعية بوجوه:
ص: 139
...............
الأوّل: العطف يصيّر المتعدد في حكم المفرد فإنّ من قال: رأيت بكر بن وائل وبكر بن سعد وبكر بن ربيعة، ثمّ قال: رأيت البكرين، كان الثاني كالأوّل في الإفادة مع إفراد الثاني وتعدد الأوّل. وإذا كان العطف يصيّر المتعدد كالمفرد ولا شك في أنّه لو استثني من الثاني إلّابكر بن ربيعة رجع الاستثناء إلى جميع المذكورين، فكذلك إذا استثني من المتعدد.
والجواب: أن العطف يصيّر المتعدد كالواحد في المفردات أمّا في الجمل فلا.
الثاني: الاستثناء بالمشيئة عائد إلى الجمل بأسرها فالاستثناء بغيرها كذلك فإنّ من قال: «واللّٰه لا أكلت ولا شربت ولا ضربت إنْ شاء اللّٰه» عاد إلى الجميع اتفاقاً، فكذلك في غيرها بالقياس؛ والجامع عدم استقلال كلّ واحد منهما.
والجواب: أنّ هذا في الحقيقة ليس باستثناء بل هو شرط فإنْ أُلحق الاستثناء به فقياس في اللغة [والقياس في اللغة] باطل. وإن سلم جوازه(1) إلّاأنّ الفرق واقع، ومع قيام الفارق لا يتم القياس.
وبيان الفرق أنّ الشرط وإن تأخّر في اللفظ إلّاأنّه متقدم في المعنى. وإن سُلّم عدم الفرق إلّاأنّ الاستثناء هاهنا إنّما عاد إلى الجمل بأسرها لأنّ الثانية متصلة بالأُولى فإنّ المفهوم من ذلك أنَّ اليمين وقعت على الجميع وليس الكلام في الجمل الّتي يفهم منها الاتصال.
الثالث(2): لو كرر الاستثناء مع كلّ جملة لَعُدَّ المتكلم مستهجناً ولم يبق
ص: 140
...............
إلّاتعقيب الكل بالواحد.
والجواب: أنّه إنّما يُعدّ مستهجناً إذا كانت هناك قرينة دالّة على الاتصال أمّا مع عدمها فلا. ولو سلم فإنّما نعدّه مستهجناً لطول الكلام مع إمكان عدم التطويل فإنّه لو قال: إلّاكذا من جميع الجمل المتقدمة لماكان طولاً.
الرابع: أن الاستثناء يصح عوده إلى الجميع فعوده إلى البعض تحكم، وذلك كالعام.
والجواب: نسلّم أنّه صالح لكن لا نسلّم أنّه ظاهر منه وذلك كالجمع المنكّر، فإنّه صالح للجميع، وليس ظاهراً فيه.
الخامس: لو قال: «عليّ خمسة وخمسة إلّاستة» كان الاستثناء عائداً إلى الجميع، وإلّا لزم استثناء الأكثر من الأقل، وإذا كان كذلك هاهنا فكذلك في كل جملة لعدم الاشتراك.
والجواب: أن الاستثناء هاهنا من مفردين لا من جملتين، وليس النزاع فيه(1).
سلّمنا لكنّا إنّما اوجبنا العود إلى الجميع ليصح الاستثناء، بخلاف ما ذكرنا من الجمل فإنّه لو عاد إلى الأخيرة لم يلزم منه فساد.
ص: 141
قال: المخصصُ: آية القذف؛ لم ترجع إلى الجلد إتفاقاً.
قلنا: لدليل وهو حق الآدمي، ولذلك عاد إلى غيره.
قالوا: عليَّ عشرة إلّاأربعةٍ إلّااثنين، للأخير.
قلنا: أين العطف؟!
وأيضاً: المفردات.
وأيضاً: للتعذُّر، فكان الأقرب أولى، ولو تعذَّر، تعيَّن الأوّل، مثلُ:
«عليَّ عشرة إلّااثنين إلّااثنين».
قالوا: الثانيةُ حائلةٌ كالسكوت.
قلنا: لو لم يكن الجميع بمثابة الجملة.
قالوا: حُكمُ الأولى يقين، والرفع مشكوك.
قلنا: لا يقين مع الجواز للجميع.
وأيضاً: فالأخيرة كذلك، للجواز بدليل.
قالوا: إنّما يرجعُ، لعدم استقلاله، فيتقيّد بالأقل، وما يليه هو المتحقّق.
قلنا: يجوز أن يكون وضعه للجميع، كما لو قام دليل.
القائل بالإشتراك، حَسَّنَ الاستفهامَ.
قلنا: للجهل بحقيقته أو لرفع الاحتمال.
قالوا: صحّ الإطلاق، والأصل الحقيقةُ.
ص: 142
قلنا: والأصل عدم الاشتراك. *
* أقول: احتجّ المخصّص برجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة، وهم الحنفية(1) بوجوه:
الأوّل: آية القذف لم يرجع فيها الاستثناء إلى جميع الجمل المتقدّمة اتفاقاً،(2) فإنّه لا يرجع إلى الجلد فإنّ التائب لا يسقط عنه بتوبته الجلد، وإذا لم يرجع فيها دلّ على أنّه غير راجع في الوضع إلى الجميع.
والجواب: أنّ الاستثناء هاهنا إنّما لم يرجع إلى الجلد لمعنى مناسب مختصّ به، فإنّ التوبة إنّما تسقط حقوق اللّٰه تعالى، والجلد من حقوق الآدميين فلا يسقط بالتوبة، فلأجل ذلك عاد إلى بعض الجمل دون الباقي، ولأجل هذا قلنا: إنّه عائد إلى غير الجلد من جميع المذكورات قبل.
الثاني: أنّه لو قال: له عليّ عشرة إلّاأربعة إلّااثنين، عاد الاستثناء الأخير إلى الاستثناء الأوّل(3) خاصّة، فكذلك في الجمل المتعاقبة.
والجواب: ليس هاهنا عطف جملة على أخرى والنزاع إنّما وقع فيه، وأيضاً الاستثناء هاهنا من مفردات لا من جمل والفرق واقع، وأيضاً إنّما وقع الاستثناء هاهنا عن الأخير لتعذّر عوده إلى الجميع لأنّه لو عاد إلى العشرة والأربعة لزم التناقض، ولا يمكن أن يُقال: إنّه عاد إلى العشرة وحدها، لأنّه يكون عائداً إلى الأبعد مع صحة عوده إلى الأقرب وهو باطل اتّفاقاً؛ ولو تعذّر عوده إلى الأقرب
ص: 143
...............
لوجب العود إلى الأوّل وحده كقوله: له عليّ عشرة إلّااثنين إلّااثنين، فإنّ الاستثناء الثاني لا يصحّ عوده إلى الاستثناء الأوّل(1) ولا إلى المستثنى منه والاستثناء الأوّل(2).
قلت: إنّما يعود إلى المستثنى منه لأجل التعذّر.
الثالث: الجملة الثانية حائلة بين الاستثناء والجملة الأُولى، فكانت مانعة من العود إلى الأُولى كالسكوت.(3)
والجواب: إنّا لا نسلّم ذلك فإنّ الجمل هاهنا بمثابة جملة واحدة.
الرابع: أنَّ حكم الجملة الأولى حاصل بيقين والرفع بعود الاستثناء إليه مشكوك فيه فلا يرفعه، فوجب عدم عوده إليه، فاختصّ بالأخيرة.
والجواب: لا يقين مع جواز العود إليه، وأيضاً فالجملة الأخيرة كذلك لأنّه يجوز أن يعود إلى الأُولىٰ بدليل، كما مثلّناه في قوله: له عليّ عشرة إلّااثنين إلّااثنين، فكان يجب أن لا يعود إليها وذلك باطل اتفاقاً.
الخامس: الاستثناء لا يتمّ بنفسه فلأجل ذلك أوجبنا عوده [إلى ماتقدّم مع مخالفته للأصل ولمّا اكتفي بالجملة الواحدة كان باقي الجمل على أصله من عدم عوده] إليها، وإذا وجب عوده إلى الواحدة عاد إلى الأخيرة، لأنّه هو المتحقق.(4)
ص: 144
...............
والجواب: لم لا يجوز أن يكون موضوعاً للعود إلى الجميع كما إذا قام دليله على ذلك فلا يلزم مخالفة الأصل.
واحتجّ الشريف المرتضى(1) بوجهين:
الأوّل: أنّه يحسن الاستفهام في أنَّ الاستثناء هل هو عائد إلى الجميع أو إلى البعض، والاستفهام إنّما يكون للاشتراك.
والجواب(2) قلنا: نعني بذلك أنّ المستفهم يطلب بالاستفهام تحقق الحقيقة لجهله بها أو رفع الاحتمال وإنْ بَعُدَ، إنْ عنيتم الأول فهو ممنوع وإنْ عنيتم الثاني فهو مسلّم.
الثاني: صحّ الاطلاق في الرجوع إلى الكل وإلى البعض، والاستعمال دليل الحقيقة.
والجواب: أنّ الأصل عدم الاشتراك وإذا تعارضا وجب القول بالمجاز لأنّه أولى، لما تقدم.(3)
ص: 145
قال: مسألة: الاستثناء من الإثبات نفيٌ، وبالعكس، خلافاً لأبي حنيفة.
لنا: النقلُ.
وأيضاً: لو لم يكن، لم يكن «لا إله إلّااللّٰه» توحيداً.
قالوا: لو كانَ، للزم من: «لا علم إلّابحياة»، و «لا صلاة إلّا بطهور»(1)، ثبوت العلم والصلاة بمجردهما.
قلنا: ليسَ مخرجاً من العلم والصلاة، فإن اختار تقدير: «إلّا صلاة بطهورٍ» يطّرد، وَإنِ اختارَ: «لا صلاة تثبتُ بوجهٍ إلّابذلك» - فلا يلزم من الشرط المشروطُ، وإنّما الإشكال في المنفي الأعم في مثله وفي مثل «ما زيدٌ إلّاقائم»، إذ لا يستقيم نفي جميع الصفات المعتبرة.
وأُجيب بأمرين:
أحدُهما: أن الغرض المبالغة بذلك.
والآخر: أنّه آكدُها، والقولُ بأنّه منقطع بعيدٌ، لأنّه مفرّغ وكل مفرّغ متصل لأنّه من تمامه. *
...............
على العكس(1) وأبوحنيفة منع من ذلك(2) وجعل هناك واسطة بين الحكم بالنفي والحكم بالاثبات وهو عدم الحكم والاستثناء من الحكم بالنفي لا يستلزم الحكم بالاثبات لأنّه أخصّ،(3) وهو في غاية من قوة.
واحتج الاكثر بالنقل(4) وبأنّه لولا ذلك لم يكن قولنا: «لا اله إلّااللّٰه» توحيداً، والتالي باطل اتفاقاً فالمقدّم مثله.
واحتج أبوحنيفة بأنّه يلزم من قولنا: لا علم إلّابحياة، ولا صلاة إلّابطهور، ثبوت العلم والصلاة بمجرد ثبوت الحياة والطهور كاستلزام قلولنا: «لا عالم إلّازيد» ثبوت العلم لزيد، وليس كذلك قطعاً.
والجواب: أَنّ الاستثناء هاهنا ليس من العلم والصلاة والاّ كان الاستثناء منقطعاً فإذن لابدّ من صرفه عن حقيقته، فأمّا أن يكون التقدير (لا صلاة) إلّاصلاة بطهور و (لا علم) إلّاعلم بحياة، فلا نزاع ولزم المطلوب وهو أنّ الاستثناء من النفي إثبات واطراد(5).
ص: 147
...............
وإن كان التقدير: لا صلاة تثبت بوجه إلّابطهور،(1) علمنا أن ذلك إنّما سيق لبيان شرطية الطهور للصلاة ولا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط.
ثمّ إنّ المصنف بعد الجواب عن اشكالهم في الاستثناء استشكل بما هو اصعب من هذا، وهو المنفي الأعم في مثل هذه الصورة(2) ومثل قولنا: ما زيد
ص: 148
...............
إلّاقائم، فإنّ التقدير إذا كان (ما زيد) على صفة معتبرة (إلّا قائم) كان ذلك خلفاً من القول، وأجاب المصنف بأمرين:
الأوّل: أنّ القصد هاهنا بتعميم النفي، المبالغة.
الثاني: أنّ القصد بالمستثنى آكد الصفات المعتبرة.
واستبعد قول من جعل الاستثناء هاهنا منقطعاً لأَنّ الاستثناء من زيد لا يصحّ، والاستثناء من الصفات لا يصحّ أيضاً، لما مرّ بأنّ الاستثناء هاهنا من المفرّغ والاستثناء من المفرّغ متصل قطعاً لأنّه من تمام الكلام، وشرط الاستثناء المنقطع أن يأتي بعد تمام الكلام.
ص: 149
قال: (التخصيص بالشرط):
الغزّالي: الشرطُ ما لا يوجد المشروطُ دونَهُ، ولا يلزم أن يوجد عندهُ.
وأُورد: أنّه دور، وعلى طرِدِه جُزءُ السبب.
وقيل: ما يتوقف تأثيرُ المؤثر عليه.
وأُورد على عكسه: الحياةُ في العِلْمِ القديمِ.
والأَولى: ما يستلزم نفيهُ نفيَ أمرٍ، على غير جهة السببية. *
* أقول: لما فرغ من التخصيص بالاستثناء شرع في بيان التخصيص بالشرط، وقبل ذلك اخذ يعرّف الشرط، وقد ذكروا في تعريفه أقوالاً:
أحدُها: قال الغزّالي: الشرطُ ما لا يوجد المشروط دونه، ولا يلزم أن يوجد عنده.(1)
والاعتراض أنّ هذا دور فإنّ المشروط لا يُعرَّف إلّابالشرط فلو عُرّف الشرط به لزم الدور. وأيضاً فإن هذا ينتقض طرداً بجزء السبب فإنّه لا يوجد المسبب إلّا عند وجوده ولا يلزم أن يوجد عنده. وثانيها: قال بعض الأشاعرة:(2) إنّه ما يقف عليه تأثير المؤثر.
ص: 150
قال: وهو عقلي، كالحياة للعلم، وشرعيٌّ، كالطهارة، ولغويٌّ، مثل «أنت طالق، إن دخلت الدار»، وهو في السببية أغلب، وإنّما استعمل في الشرط الّذي لم يبق للمسبّب سواه، فلذلك يخرج به ما لولاه لدخل لغة، مثل: «أكرم بني تميم، إن دخلوا» فيقصرُهُ الشرط على الداخلين، وقد يتحد الشرط ويتعّدد، على الجمع، وعلى البدل، فهذه ثلاثة كُلّ منها مع الجزاء كذلك، فتكون تسعة.
والشرط كالاستثناء في الإتصال وفي تعقبِهِ الجُمل.
وعن أبي حنيفة للجميع ففرقٌ.
وقولهم في مثل: «اكرمك، ان دخلت الدار» ما تقدم خبر، والجزاء محذوف، مراعاة لتقدّمه، كالأستفهام والقسم، فإن عنوا: «ليس بجزاءٍ في اللفظ»، فمسلّم، وان عنوا: «ولا في المعنى» فعنادٌ.
والحق: أنّه لمّا كان جُملة، روعيت الشائبتان. *
وهو ينتقض عكساً بالحياة لواجب الوجود فإنّها شرط في وجود علم اللّٰه تعالى مع أنّه لا تأثير هناك.
والأولىٰ أن يقال(1) في حدّه: إنّه ما يستلزم نفيه نفي أمر على غير جهة السببية بأن يكون سبباً تاماً أو جزءاً منه، فالأول كالجنس بينه و بين السبب، والثاني فصل يفصله عن السبب وجزئه ويدخل فيه شرط الحكم وشرط السبب معاً.
* أقول: الشرط على أقسام ثلاثة:
ص: 151
...............
أحدها: أن يكون عقلياً كالحياة للعلم والإرادة وغيرهما.
وثانيها: أن يكون شرعياً كالطهارة للصلاة فإنّها ليست شرطاً عقلياً وإنّما الشارع جعلها شرطاً.
وثالثها: أن يكون لغوياً، كقوله: أنت طالق إنْ دخلت الدار، فإنَّ هذا وأمثاله من الشروط الّتي وضعها أهل اللغة وهي: أنّ، وإذا و مهما، وحيثما وإذما، وغيرها من الأدوات؛ وهذا الشرط اللغوي يأتي في السبب أكثر منه في الشرط العقلي.
(وإنّما استعمل في الشرط الّذي لم يبق للمسبب شرط سواه، هذا في الأغلب وكذلك يخرج به من المشروط ما لولاه لدخل لغة مثل: اكرم بني تميم ان دخلوا، فيقصره الشرط على الداخلين ولولا الشرط لاكرم كلّ بني تميم).(1)
واعلم أنّ الشرط قد يكون واحداً و قد يكون متعدّداً والمتعدّد أمّا أن
ص: 152
...............
يكون على الجمع أو على البدل، فهذه ثلاثة أقسام بالنظر إلى الشرط، وهاهنا ثلاثة أُخرى بالنسبة إلى المشروط فالجميع تسعة:
1. مثال الشرط الواحد مع المشروط الواحد: إن دخل الدار أعطه ديناراً.
2. ومثال الشرط المتعدّد على الجمع مع وحدة المشروط: إن دخل وضرب أعطه ديناراً.
3. ومثال المتعدّد على البدل مع وحدة المشروط: إن دخل أو ضرب أعطه ديناراً، ففي هذا القسم يتوقف الإعطاء على أحدهما، وفي الّذي قبله عليهما.
4. ومثال الشرط الواحد مع تعدّد المشروط على الجمع: ان دخل فأعطه ديناراً وأكرمه.
5. ومثال الشرط الواحد مع التعدّد على البدل: إن دخل فأعطه ديناراً أو أكرمه.
6. ومثال الشرط المتعدّد على الجمع والمشروط كذلك: إن دخل وضرب أعطه ديناراً وأكرمه.
7. ومثال الشرط المتعدّد على البدل والمشروط متعدّد على الجمع: إن دخل أو ضرب أعطه وأكرمه.
8. ومثال الشرط المتعدّد على الجمع والمشروط متعدّد على البدل: إن دخل وضرب أعطه ديناراً أو أكرمه.
9. ومثال الشرط المتعدّد على البدل والمشروط كذلك: إن دخل أو ضرب أعطه ديناراً أو أكرمه.
ص: 153
...............
واعلم أنّ حكم الشرط في وجوب اتصاله بالمشروط وفي أَنَّ حالة دخوله على الجمل هل يعود إلى الجميع أو إلى الأخيرة، حكم الاستثناء إلّاأنّ أبا حنيفة في الاستثناء جعله عائداً إلى الأخيرة وفي الشرط جعله عائداً إلى الجميع ففرق بينهما، من ثَمَّ قال بعض الناس: وفي مثل قولنا: «أُكرمك إنْ دخلت» قال بعض الناس: إنَّ «أكرمك» خبر، و «الجزاء»(1) محذوف لأنّ الشرط متقدّم على المشروط و (اكرمك) متقدّم على «إن دخلت»، راعوا في ذلك تقدّم الشرط على المشروط، كما أنّ الاستفهام والقسم متقدّمان.
قال المصنف: إن عنوا بذلك أَنّه ليس بجزاء في اللفظ فهو حق وإن عنوا به أنّه ليس بجزاء في المعنى فهو عناد.
والحق أنّه لمّا كان المتقدّم جملة خبرية مستقلة من حيث اللفظ دون المعنى، روعيت الشائبتان أي شائبة الاستقلال اللفظي، فحكم بكونه خبراً، وشائبة عدم الاستقلال المعنوي، فحكم بأن الجزاء محذوف لكونه مذكوراً من حيث المعنى.
ص: 154
قال: (التخصيص بالصفة) مثلُ: أكرِم بني تميم الطوال، وهي كالاستثناء في العود على متعدّدٍ.
(التخصيص بالغاية) مثل: أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا، فتقصرهُ على الداخلين كالصفة. وقد تكون هي والمقيّد بها متحدّين ومتعددين؛ كالشرط، وهي كالاستثناء في العود على المتعدّد. *
* أقول: حكم الصفة في إخراج بعض العام الخارج عما صدقت عليه الصفة كحكم غيره من المخصّصات، وحكمها إذا وردت عقيب الجمل المتعدّدة حكم الاستثناء(1) في أنّها هل تعود إلى الجميع أو إلى الأخيرة.
وحكم ما بعد الغاية مخالف لحكم ما قبلها فهي من جملة المخصّصات مثل:
أكرم بني تميم أبداً إلى أن يدخلوا، فقد خصّصت الإكرام بهم بعدم الدخول وأخرجت ما بَعْدَهُ، وأدواتها: «إلى» و «حتّى».
وقد تكون الغاية وصاحبها متحدّين كما في هذا المثال و قد يكونان متعدّدين كقوله: «اكرم بني تميم أو أعطهم إلى أن يدخلوا أو يقوموا»، وقد يكون على التفريق.
والاقسام هاهنا - كما قلنا في الشرط - والأمثلة واضحة. وحكم الغاية في دخولها على الجمل المتعدّد كحكم الاستثناء.
ص: 155
قال: (التخصيص بالمنفصل) مسألة: يجوز التخصيص بالعقل.
لنا: «اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» ، وأيضاً: «وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ» ، في خروج الاطفال بالعقل.
قالوا: لو كان تخصيصاً لصحّت الإرادة لُغَةً.
قلنا: التخصيص للمفرد، وما نُسب إليه: مانعٌ، وهو معنى التخصيص.
قالوا: لو كان مخصّصاً، لكان متأخِّراً، لأنّه بيانٌ.
قلنا: لكان متأخراً بيانُهُ لا ذاتُهُ.
قالوا: لو جاز به، لجاز النسخُ.
قلنا: النسخ على التفسيرين محجوبٌ عن نظر العقل.
قالوا: تعارضا.
قلنا: فيجب تأويلُ المحتمل. *
* أقول: لما بحث عن المخصص المتصل شرع في بيان التخصيص بالأدلة المنفصلة(1) وبدأ بالدليل العقلي، والحق أنّه يجوز أن يكون مخصّصاً ويدلّ
ص: 156
...............
عليه قوله تعالى: «اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ»(1) فإنّ هذا تخصيص بالعقل فإنّ ذاته ليست مخلوقة لذاته. وعند المعتزلة افعال العباد ليست مخلوقة له. وأيضاً قوله تعالى: «وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(2) مخصص بالاطفال بدليل العقل فإنّه لايجوز عقلاً ورود التكليف على من لم يعقل التكليف.
واحتج المانع بوجوه:
الأوّل: أن التخصيص هو الإخراج لبعض ما يتناوله اللفظ وذلك إنّما يكون مع صحة الارادة لغة،(3) ولو كان مايخرجه العقل تخصيصاً لوجب أن يكون اللفظ صالحاً لما اخرجه العقل، وذلك باطل قطعاً لأنا نعلم بالضرورة أنَّ المتكلم لا يصح أنْ يريد لغة بلفظِهِ الدلالة على ما هو مخالف لصريح العقل.
والجواب: أن التخصيص للطفل بالعقل إنّما وقع للفظ العام أعني لفظة الناس لا بالنظر إلى أفراده عقلاً، واخرج عنه العقل بعض افراده بالنظر إلى النسبة المذكورة، كان ذلك مانعاً من إرادة الجميع من اللفظ الصالح له قبل النسبة، ولا معنى للتخصيص إلّاذلك.
الثاني: لو كان العقل مخصّصاً لكان متأخراً لأنّه بيان، والبيان متأخر عن المبيّن.
ص: 157
...............
والجواب: أنّه يكون متأخراً من حيث إنّه بيان لا من حيث الذات.(1)
الثالث: لو جاز التخصيص بالعقل لجاز النسخ به لاشتراكهما في كون كلّ واحد منهما رفعاً لبعض ما يصلح تناول اللفظ له؛ أمّا التخصيص ففي الأعيان وأمّا النسخ ففي الأزمان، والتالي باطل.
والجواب: أنّ النسخ على قول من يقول إنّه بيان: انتهاء مدة الحكم، وعلى قول من يقول: إنّه رفع حكم شرعي بطريق شرعي؛ غير حاصل بالعقل:
أمّا الأوّل: فلأنّه لا يمكن الإطلاع بالعقل على انتهاء مدة الحكم الّذي نطق فيه بالدوام.
وأمّا الثاني: فكذلك، فإنّه كيف يمكن للعقل أَنْ يرفع الحكم الّذي كان ثابتاً، على أن للمانع أن يمنع ذلك ويجوِّز النسخ بالعقل، فإنّ مقطوع اليدين منسوخ عنه غسل اليدين بالعقل.(2)
الرابع: أَنَّ الدليل العقلي والنقلي قد تعارضا فليس كون العقل مخصّصاً أولى من أن يكون الدليل العقلي مشروطاً دلالته بعدم المعارض من عموم الكتاب. والجواب: أنَّ التعارض إذا وقع بينهما وجب تأويل النقل بالمحتمل لا بما لا يحتمله لأنّه إنْ عمل بهما لزم العمل بالنقيضين، وإن تركا لزم ترك النقيضين، وإن عمل بالنقل الّذي هو فرع، وابطل الأصل، لزم إبطالهما فلم يبق إلّاتأويل النقل حتّى يكون ذلك عملاً بهما.
ص: 158
قال: مسألة: يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب.
أبوحنيفة والقاضي والإمام: إن كان الخاصُّ متأخّراً، وإلّا فالعامُّ ناسخٌ، فإن جُهِلَ تساقطا.
لنا: «وَ أُولاٰتُ اَلْأَحْمٰالِ» مخصّص لقوله: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ» ، وكذلك: «وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلَّذِينَ» ، مخصّص لقوله تعالى: «وَ لاٰ تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكٰاتِ».
وأيضاً: لا يبطل القاطع بالمحتمل.
قالوا: إذا قال: اقتلْ زيداً، ثم قال: لا تقتل المشركين، فكأنّه قال: لا تقتل زيداً، فالثاني ناسخ.
قلنا: التخصيص أولى؛ لأنّه أغلبُ، ولأنّه لا رفع فيه كما لو تأخّر الخاصّ.
قالوا: على خلاف قوله: «لِتُبَيِّنَ» .
قلنا: «تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» ، والحق أنّه المُبيّن بالكتاب وبالسنة.
قالوا: البيان يستدعي التأخّر.
قلنا: استبعادٌ.
قالوا: قال ابن عباس: كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث.
ص: 159
قُلنا: يُحمل على غير المخصّص، جمعاً بين الأدلة. *
* أقول: اختلفوا في تخصيص الكتاب بالكتاب فاثبته جماعة من المحققين، ومنع منه قوم،(1) ونقل عن أبي حنيفة والقاضي وإمام الحرمين أن الخاصّ إن كان متأخّراً فهو مخصّص، وإن كان متقدّماً فالعام ناسخ، وإن جهل تساقطا.
والدليل على جواز التخصيص وقوعه في قوله تعالى: «وَ أُولاٰتُ اَلْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» (2) فإنّه ورد مخصّصاً لقوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً»،(3) وفي قوله تعالى: «وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذٰا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» (4) فإنّه ورد مخصّصاً لقوله تعالى: «وَ لاٰ تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكٰاتِ حَتّٰى يُؤْمِنَّ» (5)، وأيضاً الخاص مقطوع به في دلالته ومتنه والعامّ مقطوع به في متنه لا في دلالته، فلا يترك المقطوع به لأجل المحتمل.
احتج المخالف بوجوه:
أحدها: أنّه إذا قال: اقتل زيداً ثمّ قال: لا تقتل المشركين، فكأنّه قال: لا تقتل زيداً، لأنّ العام متناول لكلّ فرد فرد ولا شكّ أن الثاني ناسخ، فكذا الأوّل.
والجواب(6): التخصيص أولى من النسخ لأنّه أغلب، والحمل على
ص: 160
...............
الأغلب أولى، ولأنّه لا رفع فيه بخلاف النسخ الّذي يقتضي رفع الحكم بعد ثبوته، كما لو تأخّر الخاص فإنّ التخصيص فيه أولى من النسخ.
الثاني: أَنَّ التخصيص بالكتاب يقتضي أن يكون الكتاب مبيِّناً، والتالي باطل لقوله تعالى: «لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»(1).
والجواب: المعارضة بقوله: «تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» (2) في صفة الكتاب، والحق أن المبيّن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وبيانه تارة يكون بالكتاب وتارة بالسنة.
الثالث: قالوا: البيان يستدعي التأخّر عن المبيَّن، فكيف يكون الخاصّ المتقدّم مبيِّناً.
والجواب: أن هذا استبعادٌ محض فإِنّه يمكن أن يكون المبيِّن وارداً قبل ورود المبيَّن.(3)
الرابع: قال ابن عباس: كُنّٰا نأخذ بالأَحدثِ فالأَحدثِ، فعلى تقدير أن يكون الأحدث هو العام وجب العمل به وترك الخاص.
والجواب: لا منافاة في ذلك لأنّه يمكن حمله على غير المخصّص جمعاً بين الأدلة.
ص: 161
قال: مسألة: يجوز تخصيص السنة بالسّنة.
لنا: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة»، مخصص لقوله: «فيما سقت السماء العُشر»، وهي كالتي قبلها في الخلاف. *
قال: مسألة: يجوز تخصيص السنة بالقرآن.
لنا: «تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» .
وأيضاً: لا يبطلُ القاطع بالمحتمِل.
قالوا: «لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ» ، وقد تقدّم. **
* أقول: هذه المسألة ظاهرة.(1)
** أقول: مذهب أكثر المتكلّمين والفقهاء(2) أنّه يجوز تخصيص السنة المتواترة بالقرآن، وخالف فيه جماعة، واحتج المصنف بوجهين:
الأوّل: قوله تعالى في صفة الكتاب: «تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» والمخصّص مبيّن والسنة شيء.
الثاني: أنّه إذا ورد الكتاب الخاص والسنة العامّة كان العمل بالكتاب أولى لأنّه مقطوع في متنه ودلالته بخلاف السنة العامّة وقد تقدّم هذان الوجهان.
واحتجّوا بقوله: «لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ» فلا يجوز التخصيص بالكتاب لأنّه يقتضي أن يكون الكتاب مبيِّناً، وقد مضى الجواب عنه.
ص: 162
قال: مسألة: يجوز تخصيص القرآن بخبرِ الواحد.
وقال به الأئمة الأربعة، وبالمتواتر إتفاقاً.
ابنُ أبان: إن كان خُصَّ بقطعي.
الكرخي: إن كان خُصّ بمنفصلٍ.
القاضي: بالوقف.
لنا: أنّهم خصّوا: «وَ أُحِلَّ لَكُمْ» بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تُنكح المرأةُ على عمتها ولا على خالتها»، و «يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ» بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يرث القاتل ولا الكافر من المسلم، ولا المسلم من الكافر»، و: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث».
وَأُورِدَ: إن كانوا أجمعوا، فالمخصّص الإجماع، وإلّا فلا دليل.
قلنا: اجمعوا على التخصيص بها.
قالوا: رد عُمر حديث فاطمة بنت قيس، «إنّه لم يجعل لها سُكنىٰ ولا نفقةً» لمّا كان مخصّصاً لقوله تعالى: «أَسْكِنُوهُنَّ» ولذلك قال: كيف نترك كتاب ربِّنا لقول امرأةٍ لا ندري أصدقت أم كذبت».
قلنا: لتردُّده في صدقها، ولذلك قال: لا ندري أصدقت أم كذبت.
قالوا: العامّ قطعي والخبر ظنَّي.
وزاد أبن ابان والكرخي: ولم يضعف بالتجوّز.
قلنا: التخصيص في الدلالة، وهي ظنيّة، فالجمع أولى.
ص: 163
القاضي: كلاهما قطعيٌ من وجه، فوجب التوقف.
قلنا: الجمع أولىٰ. *
.............................
* أقول: اختلف الناس(1) القائلون بالعمل بخبر الواحد هل يخصّ به عموم الكتاب أم لا؟ فذهب إليه جماعة من الأُصوليين والشافعي ومالك وأبوحنيفة وأحمد.
وقال قوم: لا يجوز أصلاً.
وقال عيسى بن أبان: إنْ كان العامّ قد خُصّ قبل ذلك بدليل قطعي جاز، وإلّا فلا.
وقال الكرخي: إن كان العام قد خصّ قبل ذلك بدليل منفصل جاز، وإلّا فلا.
والقاضي أبو بكر توقف،(2) وإنّما جوَّز ابن أبان والكرخي تخصيصه بخبر الواحد بعد ما اشترطاه لأنّه عندهما يصير مجازاً بذلك فيجوز تخصيصه لخروجه عن القطع حينئذٍ واتّفق الكل على جواز تخصيص القرآن بالسنة المتواترة.
واحتج المصنف على الوقوع باجماع الصحابة على ذلك فإنّهم خصوا قوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)(3) بقوله : لا تنكح المرأة على عمتها
ولا على خالتها» وهو خبر واحد، وخصوا قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ
ص: 164
...............
فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ»(1) بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «القاتل لا يرث»(2) و:
«الكافر لا يرث المسلم، ولا المسلم الكافر»(3) وبقوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث»(4)، وهذه أخبار آحاد.(5)
اعترضوا على ذلك بأنّ الصحابة إن كانوا قد اجمعوا على التخصيص بهذه الاخبار فالمخّصص الإجماع، وإن لم يكونوا قد أجمعوا فلا دلالة فيه.
والجواب: أَنّهم أجمعوا على التخصيص استناداً إلى هذه الاخبار لا مطلقاً فلا يكون المخصّص هو الإجماع.
واحتجّوا بأنّ عمر بن الخطاب رد حديث فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أنّه «لم يجعل لها سكنى ولا نفقة» لمّا كان ذلك الحديث مخصِّصاً لقوله تعالى:
«أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ»(6) ، و [لذلك] قال: كيف نترك كتاب ربنا بقول إمرأة لا ندري أصدقت أم كذبت.
والجواب: أنَّ عمر إنّما رد هذا الحديث لما كان شاكّاً في صدق الراوي
ص: 165
...............
ويدل عليه قوله: لا ندري اصدقت أم كذبت، والنزاع إنّما وقع في الحديث الّذي يرويه الصادق لا في مطلق الحديث.
قالوا: العام قطعيّ والخاص ظنيّ فلا يكون معارضاً له. وقال ابن ابان والكرخي: «أن العام غير المخصص بما ذكر» لأنّه قطعي غير ضعيف بسبب التجوّز، والخاص ظني فلا يعارضه.
والجواب: أنّ التخصيص إنّما هو لدلالة العام وهي ظنية فقد يعارض العام الظني في دلالته القطعي في متنه والخاص الظني في متنه القطعي في دلالته، فيجب الجمع إذا امكن وهو ممكن هاهنا بأن يُجعل العامُّ دليلاً في غير مورد الخاصّ.
قال القاضي أبو بكر: العام قطعي من وجه والخاص قطعي من وجه، وقد تعارضا وليس أحدهما أولى بالإبطال،(1) فيجب التوقف.
والجواب: أنْ (2) الجمع أولى.
ص: 166
قال: مسألة: الإجماعُ يخصّص القرآنَ والسنةَ، كتنصيف آية القذف على العبد، ولو عملوا بخلاف نصِّ، تضمن ناسخاً. *
قال: مسألة: العام يُخصُّ بالمفهوم، إن قيل به؛ ومُثِّل: «في الأنعام الزكاة»، «في الغنم السائمة زكاة»؛ للجمع بين الدليلين.
فإن قيل: العامُّ أقوى، فلا معارضة.
قلنا: الجمعُ أولى كغيره. **
* أقول: هذه المسألة(1) ممّا اتفقوا عليها(2) وذلك لأنّهم أجمعوا على أنّ آية القذف خاصّة بالأحرار، فإنَّ العبيد والإماء يُحدّون نصف حدِّهم، وأعلم أن الاجماع في الحقيقة ليس بمخصّص وإنّما هو دليلٌ عليه، وكذلك إذا عمل أهل الاجماع بخلاف نصٍّ فإِنّه لا يكون ناسخاً وإنّما يكون مخصّصاً للناسخ ودليلاً عليه.
** أقول: ذهب القائلون(3) بأنّ المفهوم حجّة إلى جواز تخصيص العموم به سواء كان المفهوم من قبيل مفهوم الموافقة كقوله: «اضرب كلّ من دخل داري» و «زيد لا تقل له أُفٍّ» فإنّ ذلك يدلّ على تحريم الضرب لأنّ الكلام سيق لتحريم الإهانة لزيد فيجب كفّ الأذى عنه.
أو كان من قبيل مفهوم المخالفة كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «في الانعام زكاة»، ثم
ص: 167
...............
قال صلى الله عليه و آله و سلم: «في سائمة الغنم الزكاة»، فإن ذلك يدل بمفهومه على المنع من وجوب الزكاة في المعلوفة.
والدليل على جواز التخصيص به أنّه دليل شرعيّ وقد يعارض هو والعامّ فيجب الجمع.
قالوا: العام أقوى من المفهوم فلا يكون معارضاً له. قلنا: الجمع أولى من السقوط كغيره مثل خبر الواحد والعموم.(1)
ص: 168
قال: فعله صلى الله عليه و آله و سلم يخصّص العموم، كما لو قال صلى الله عليه و آله و سلم: «الوصال» أو «الاستقبال»، للحاجة أو: «كشف الفخذ حرام على كل مسلم»، ثم فعل، فإن ثبت الإتباع بخاصٍّ، فنسخٌ، وإن ثبت بعامٍّ، فالمختار تخصيصه بالأوّل.
وقيل: العملُ بموافق الفعل.
وقيل: بالوقف.
لنا: التخصيص أولى؛ للجمع.
قالوا: الفعلُ أولى؛ لخصوصه.
قلنا: الكلامُ في العمومين. *
* أقول: إذا فعل النبي صلى الله عليه و آله و سلم فعلاً مخالفاً لما دل عليه العموم كما إذا قال:
«الوصال»(1) أو «استقبال القبلة عند الحاجة» أو «كشف الفخذ عند الصلاة حرام على كلّ مسلم» ثمّ فعل أحدها فلا يخلو أمّا أَنْ يثبت وجوب اتباعه صلى الله عليه و آله و سلم بدليل خاصّ لفعل معيّن كقوله: «صلوا كما رأيتموني أُصلي»(2) أو يثبت وجوب اتباعه بدليل عام كقوله - تعالى -: «لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(3)،
ص: 169
...............
فإن كان الأول كان الفعل ناسخاً(1) لما ثبت أولاً.
وإن كان الثاني كان هناك عامّان متعارضان أحدهما الدليل الدال على اتباعه والثاني الدليل الدال على الفعل، وقد اختار المصنف تخصيص الدليل الدال على اتباعه بالدليل الدال على الفعل، فحينئذٍ يكون العام ثابتاً في حقّنا على ما هوعليه وقد خصّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم منه بفعله.(2)
وقال قوم: إنّ العمل بموافق الفعل أولى من العمل بالعموم.(3)
وقال آخرون: بالوقف.
إِحتجَّ المصنف بأنّ التخصيص أولى لأنّ فيه الجمع بين الدليلين، قالوا: الفعل أولى لانّه أخصّ.
أجاب: بأنّ الكلام واقع في العمومين.(4)
ص: 170
قال: مسألة: الجمهور: إذا علم صلى الله عليه و آله و سلم بفعلِ مخالفٍ، ولم يُنكره كان مخصّصاً للفاعل، فإن تبيّن معنى، حُمِلَ عليه موافقُهُ بالقياس، أو ب «حكمي على الواحد».
لنا: أن سكوته دليلُ الجواز، فإنْ لَمَ يتبيّنَ، فالمختار: ألّا يتعدّىٰ، لتعذُّر دليلهِ. *
* أقول: اتّفق الاكثرون(1) على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا علم بفعل واحد من أصحابه لأمر من الأمور مخالف للعموم ولم ينكره عليه مع القدرة فإِنّه يكون مخصّصاً للعموم في حق الواحد، ثمّ أمّا أن يبين هناك معنى يوجب تخصيص ذلك الفاعل من العموم أو لا يُبيّن، فإن كان الأول فكل من شارك الفاعل في ذلك المعنى كان حكمه حكمه بالقياس، أو بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة»(2).
وإن كان الثاني: فالحق أنّه لا يتعدى ذلك الحكم عن الفاعل إلى غيره لعدم الدليل الدال على التعدي(3) مع وجود الدليل العام الدال على الفعل، والدليل على التخصيص أَنّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما سكت عن الانكار لأنّه قد كان الفعل جائزاً لذلك الفاعل والاّ لما ساغ الاهمال.
ص: 171
قال: مسألة: الجمهور: أنّ مَذهب الصحابي ليس بمخصّصٍ، ولو كان الراوي، خلافاً للحنفية والحنابلة.
لنا: ليس بحجّة.
قالوا: يستلزم دليلاً، وإلّا كان فاسقاً؛ فيجب الجمع.
قلنا: يستلزم دليلاً في ظنِّه فلا يجوز لغيره إتباعه.
قالوا: لو كان ظنيّاً، لبيّنه.
قلنا: لو كان قطعيّاً لبيّنه.
وأيضاً: لم يخف عن غيره.
وأيضاً: لم يجز لصحابي مخالفته، وهو اتفاق. *
* أقول: ذهب المحققون(1) إلى أنّ مذهب الصحابي إذا كان على خلاف العموم لا يخصّصه سواء كان الصحابي راوياً أو لم يكن.
وذهب آخرون إلى أنّه يخصّ به.
وفرق ثالث بين الراوي وغيره، فأوجب التخصّيص بقول الراوي دون غيره.
والدليل على أنّه غير مخصّص أنّه ليس بحجّة فلا يعارض العام الذي هو حجة.
ص: 172
...............
قالوا: قول الصحابي: لابد وأن يكون لدليل وإلّا كان فاسقاً لأنّ القول في الدين بمجرد التشهي حرام. وإذا كان قوله إنّما هو لدليل فذلك الدليل يكون مخصّصاً للعموم، للجمع.
والجواب: أنّا نسلم أنّه إنّما قال لدليل، لكن لدليل في ظنه أو لدليل في نفس الأمر، فالأوّل مسلّم والثاني ممنوع.
وإذا كان الدليل إنّما هو في ظنه لم يجز لغيره اتباعه.
قالوا: لو كان ظنّياً لوجب عليه أن يبيّنه لينظر غيره فيه.
والجواب: أَنّا نعارضه ونقول: لو كان قطعيّاً لوجب أن يبيّنه ليصير إليه. وأيضاً لو كان قطعيّاً [لم يخف عن غيره لأن القطعي منحصر في الكتاب والسنّة المتواترة والإجماع، وشيء منها لا يخفى عن أحد من الصحابة، ولمّا خفي دلّ علىٰ أنّه ليس بقطعي](1) لما ساغ لغيره من الصحابة مخالفته، والمخالفة سائغةٌ بالاتفاق.
ص: 173
قال: مسألة: الجمهور: إنّ العادة في تناول بعضٍ خاصٍّ ليس بمخصّصٍ خلافاً للحنفية، مثل: «حَرَّمتُ الربا في الطعام»، وعادتهم تناولُ البُرِّ.
لنا: أن اللفظ عامٌّ لُغةً وعرفاً، ولا مخصِّص.
قالوا: يتخصّص به كتخصيص الدابة بالعُرف والنقد بالغالب.
قُلنا: إن غَلَبَ الإسم عليه كالدابة أختصّ به، بخلاف غلبة تناولهِ، والفرضُ فيه.
قالوا: لو قال: اشترْ لي لحماً، والعادة تناول الضأن، لم يُفهم سواه.
قلنا: تلك قرينة في المطلق، والكلام في العموم. *
* أقول: اختلف الناس(1) في أنّ العادة هل تخصّص العموم أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنّها غير مخصّصة.
وقالت الحنفية: أنّها مخصّصة وذلك مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «حرّمت الربا في الطعام» فإنّ هذا يتناول المعتاد وغيره، وفي العادة إنّما يتناول هذا اللفظ البرّ مثلاً، فلا اعتبار بالعادة عند الجمهور.
واحتجّوا على ذلك بأنّ اللفظ عام لغة وعرفاً والحجّة فيه لا في العادة فإنّه هو الحاكم على العادة فلا يصلح للتخصيص.
قالوا: اللفظ العام يتخصّص بالبُر للعادة كتخصيص الدابة بالعرف
ص: 174
قال: مسألة: الجمهور: إذا وافق الخاصُّ حُكمَ العامِّ، فلا تخصيص، خلافاً لأبي ثور، مثل و «أيُّمَا إهابٍ دُبِغَ فقد طَهُرَ»، وقوله صلى الله عليه و آله و سلم - في شاة ميمونة -: «دباغها طهورُها».
لنا: لا تعارض، فليُعمل بهما.
قالوا: المفهوم يخصّص العموم.
قلنا: مفهوم اللقب مردود. *
بالفرس، والنقد بالغالب لكونه معتاداً.
والجواب: إنْ كان الاسم غالباً على ذلك الخاص كلفظ الدابة الغالب على الفرس اختصّ به، وليس النزاع فيه وإنّما النزاع في اللفظ العام إذا غلب تناوله له هل يُخصّ به أم لا؟(1).
قالوا: لو قال لعبده اشتر لي لحماً، وكانت العادة تناول لحم الضأن، لم يفهم سواه.
والجواب: أنّ هذا إنّما حصل لقرينة صارفة للمطلق عن اطلاقه، والكلام إنّما هو في العام، والفرق بين العام والمطلق ظاهر.(2)
* أقول: اتّفق المحققون على أنّ العام لا يخصّص بذكر أحد أفراده إذا
ص: 175
...............
كان حكم ذلك الفرد موافقاً لحكم العام، مثاله ما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «أيّما إهاب دُبغ فقد طهر»(1) ثم مرّ بشاة ميمونة فقال: «دِبَاغُها طَهُورها»(2) وقال أبو ثور(3): إن ذلك العام مخصوص بذلك الخاص بعينه حتى أنّه لا يتناول بعد ذلك غيره.
والدليل على عدم التخصيص أنّ المخصص لابد وأن يكون معارضاً للعام ولا تعارض بين العام وأحد افراده فليعمل بهما.
احتج أبو ثور: بأنّ المفهوم يخصّص العموم على ما مضىٰ.
والجواب: أن المفهوم المخصّص ليس مفهوم اللقب كما في هذه الصورة.
لا يقال: إنّه لا فائدة حينئذٍ في التخصيص كما في مفهوم الوصف لأنّا نقول:
الفائدة التنصيص الموجب لعدم التخصيص فيه، أو لشدّة الاهتمام أو لغير ذلك من الفوائد.
ص: 176
قال: مسألة: رجوع الضمير إلى البعض ليس بتخصيص.
الإمام وأبو الحسين: تخصيص.
وقيل بالوقف؛ مثل: «وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ» ، مع «وَ بُعُولَتُهُنَّ».
لنا: لفظتان؛ فلا يلزم من مجاز أحدهما مجازُ الآخر.
قالوا: يلزم مخالفة الضمير.
وأُجيب: بأنّه كإعادة الظاهر. الوقف لعدم الترجيح.
وأُجيب: بظهور العموم فيهما؛ فلو خصّصنا الأوّل، خصصنّاهما، ولو سُلِّمَ، فالظاهر أقوىٰ. *
* أقول: إذا كان الضمير عقيب لفظ عام وهو عائد إلى بعض أفراده هل يكون ذلك مخصّصاً للعموم أم لا؟ فذهب جماعة من الأشاعرة والقاضي عبد الجبار وغيره من المعتزلة إلى أنّه لا يكون مخصّصاً؛ وأبوالحسين البصري والإمام ذهبا إلى أنّه مخصّص، وذهب جماعة إلى الوقف.(1)
والمثال الكاشف عن محل النزاع قوله تعالى: «وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ»،(2) فإنّ هذا عام في البوائن والرجعيات. ثمّ قال بعد
ص: 177
...............
ذلك: «وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذٰلِكَ»(1) أعاد الضمير إلى المطلقات الّذي هو لفظ عامّ مع أنّ العود إنّما يصحّ في الرجعيات.
واستدل المصنّف على أنّه غير مخصّص بأنّ اللفظ عام والأصل جريه على عمومه، والضمير راجع إليه، فمن حقه أن يرجع إلى جميع الأفراد الّتي تناولها اللفظ الظاهر فإذا دلّ الدليل على تخصيص الضمير ببعض الأفراد وخروجه عن حقيقته - الّتي هي العموم إلى المجاز - وجب المصير إليه، ولم يكن ذلك موجباً لتخصيص اللفظ العام وخروجه عن حقيقته، فإنّه لا يلزم من المخالفة للأصل في بعض المواضع المخالفة في الجميع.
احتجّ القائلون بالتخصيص [بأنّه يلزم مخالفة ظاهر الضمير على تقدير عموم الأوّل دونه](2) بأنّ الضمير من حقه أن يرجع إلى الظاهر السابق، والظاهر السابق يمتنع عوده إلى جميع أفراده، فوجب أن يكون المراد من اللفظ العام، الخاصَّ الّذي يصحّ عود الضمير إليه.(3)
والجواب: [لا نسلم لزوم مخالفة الظاهر لأن](4) الضمير كاعادة الظاهر ولماكان الظاهر (لو أعيد) غير مستلزم للمخالفة لتخصيص الظاهر الأول إذا
ص: 178
...............
خصص فكذلك اعادة الضمير.
وامّا القائلون بالتوقف فقد قالوا: إنّه ظهر بالكلامين إمكان التخصيص وعدمه فوجب التوقف.
والجواب: العموم ظاهر في الظاهر والمضمر، [لأن ظاهره يشعر برجوعه إلى الكل](1) فلو خصّصنا الأول لزم مخالفة الظاهر وهو العموم في الموضعين، ولو خصّصنا الثاني يلزم مخالفة العموم في أحدهما فيكون هذا أرجح، ولو سلمنا عدم الرجحان من هذه الحيثية إلّاأنّ الظاهر أقوى، فالعموم المستفاد منه أقوى من التخصيص المستفاد من المضمر.
ص: 179
قال: مسألة: الأئمة الأربعة والأشعريُ، وأبو هاشم، وأبو الحسين:
جواز تخصيص العموم بالقياس.
ابنُ سريج: إن كان جليّاً.
ابنُ أبان: إن كان العامُّ مخصّصاً.
وقيل: إن كان الأصل مُخرجاً.
والجُبائي: تقدّم العام مطلقاً.
والقاضي والإمام: بالوقف.
والمختار: إن ثبتت العِلَّة بنصٍّ أو إجماعٍ، أو كان الأصل مُخصّصاً، خُصّ به وإلّا فالمعتبر القرائن في الوقائع، فإن ظهر ترجيح خاصٌ فالقياس، وإلّا فعموم الخبر.
لنا: أنها كذلك كالنصّ الخاص، فتخصّص بها للجمع بين الدليلين.
واستُدِلَّ: بأن المستنبطة: إمّا راجحة، أو مرجوحةٌ أو متساويةٌ، والمرجوح والمساوي لا يُخصّص، ووقوع احتمال من اثنين أقرب من واحد معيّن.
وأُجيب: بجريه في كلِّ تخصيصٍ، وقد رُجِّحَ بالجمع. *
* أقول: القائلون بأنّ القياس حجّة اختلفوا في أنّه هل يجوز تخصيص العام به أم لا(1)؟ فذهب الأشعري وجماعة من المعتزلة والشافعي ومالك
ص: 180
...............
وأبوحنيفة وأحمد إلى تجويز التخصيص به؛ وقال ابن سريج: يجوز التخصيص بالقياس الجلي دون الخفي، وعنوا بالجلي قياس المعنى وبالخفي قياس الشبهة.
وقال عيسى بن أبان: يجوز التخصيص إن كان العام قد خُصّص قبل ذلك.
وقال قوم: يجوز التخصيص إن كان أصل القياس من الصور التي أُخرجت من العموم، وذهب أبوعلي إلى أنّ العام يقدّم مطلقاً، والقاضي أبو بكر(1) وإمام الحرمين(2) قالا بالوقف.
والذي ذهب إليه المصنف أنَّ العلّة إنْ ثبتت عليّتها بنصّ أو إجماعٍ أو كان الأصل المقيس عليه مخصصاً مطلقاً سواء خصّ بالمتصل أو بالمنفصل فإنّه يجوز التخصيص بالقياس، وإن لم يكن كذلك اعتبر بالقرائن في الوقائع فإِن ظهر ترجيح لأصل القياس خصّ به وإلّا فالعمل بالعموم. واستدل على ذلك بأنها إذا كانت بهذه الشروط تكون كالنص الخاص فتخصص بها جمعاً بين الدليلين.
واستدل بعضهم على أنّ العلّة المستنبطة لا تخصّص العموم بأنّ تلك العلّة قد تكون راجحة على العموم وقد تكون مرجوحة وقد تكون مساوية، وعلى تقديري المساواة والمرجوحية امتنع التخصيص بها، فإذن المخصّص ليس إلاّ العلّة الراجحة، وهذه تقديرات ثلاثة يجوز التخصيص على تقدير واحد منها ولا يجوز على الباقيين، ولا شكّ أَنّ وقوع تقديرين أغلب من وقوع تقدير واحد، فيكون عدم التخصيص أغلب من وقوعه فلا يجوز حينئذٍ.
والجواب: أن هذا عائد في كلّ تخصيص وقد رجّحنا الخاص بالجمع فلو كان هذا مبطلاً للتخصيص لوجب أن لا يكون هناك مخصّص.
ص: 181
قال: الجبائي: لو خصّ به، لزم تقديم الأَضعف لما تقدّم في خَبر الواحد؛ من أنَّ الخبر يجتهد فيه في أمرين... إلى آخره.
وأُجيب: بما تقدّم؛ وبأنّ ذلك عند إبطال أحدهما وهنا إعمالٌ لهما، وبإلزام تخصيص الكتاب بالسنة والمفهوم لهما.
واستُدل: بتأخيره في حديث معاذ، وتصويبه.
وأُجيب: بأنّه أَخَّرَ السنة عن الكتاب، ولم يمنع الجمع.
واستُدل: بأن دليل القياس الإجماع، ولا إجماع عند مخالفةِ العموم.
وأُجيب: بأنَّ المؤثرةَ ومَحَلَّ التخصيص يرجعان إلى النص؛ كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «حكمي علىٰ الواحد» وما سواهما؛ وإِنْ ترجَّح الخاصُّ، وجب اعتباره، لأنّه المعتبر كما ذُكر في الإجماع الظّني، وهذه ونحوُها قطعية عند القاضي، لِمَا ثبت من القطع بالعمل بالرّاجح من الأمارات، ظنيةٌ عند قوم؛ لأنّ الدليل الخاصّ بها ظنيُّ. *
* أقول: احتجّ أبو علي الجبائي على أنّه لا يجوز تخصيص العام بالقياس بوجوه:
أحدها: أنّه لو خصّ به لزم تقديم الأضعف على الأقوى(1) لأنّ العام يجتهد فيه في أمرين: أحدهما أنّه غير مخصص، والثاني أنّ الراوي لم يكذب في نقله
ص: 182
...............
إن كان من أخبار الآحاد.
وأمّا القياس فيحمل من المطاعن أكثر من ذلك لأنّه يتوقف على حكم الأصل وعلى التعليل بالعلة المستنبطة، وعلى وجود تلك العلّة في الفرع وعلى عدم المانع وعلى حصول كلّ الشرائط، ولا شكّ (1) في أنّ ما يحتمل نوعاً من الفساد أكثر وجوداً مما يحتمل أنواعاً كثيرة والعمل بالأكثر أولى فالعام أولى من القياس.
والجواب: ما تقدّم من أنّ العام قطعي من وجه، ظني من آخر والقياس كذلك [فالجمع أولى](2) وأيضاً فما ذكرتموه إنّما يتم إذا قلنا ببطلان أحدهما، والذي ذكرناه إعمال لهما فهو أولى، وأيضاً يلزم من ذلك أن لا يخصّ الكتاب بالسنة فإنّها أضعف، وأَنْ لا يُخَص الكتاب والسنة بالمفهوم لضعفه عن المنطوق فيهما.
الثاني: أنَّ معاذاً لما أرسله النبي صلى الله عليه و آله و سلم قاضياً إلى اليمن قال له: بم تحكم؟
قال: بكتاب اللّٰه، قال: فإن لم تجد، قال: بسنّة رسول اللّٰه، قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي.(3) فصوّبه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم على ذلك وهذا يدل على تأخير القياس عن الكتاب والسنة، فكيف يكون مُخصِّصاً لهما، فإنّ ذلك يقتضي تقديمه عليهما.
والجواب: أنّ معاذاً أخّر السنة عن الكتاب وصوبه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يمنع ذلك من الجمع بين عموم الكتاب والسنة، بل خَصّ العموم بالسنة، فعلمنا أنّ التأخير غير مانع للجمع.
ص: 183
...............
الثالث: أنَّ دليل القياس إنّما هو الإجماع، والإجماع غير مقبول عند مخالفة العموم، فالقياس غير مقبول.
والجواب: أنّ العلّة المؤثرة(1) ومحل التخصيص يرجعان إلى النص أيضاً [كقوله صلى الله عليه و آله و سلم]: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة» وما [سوىٰ] هذين إِنْ يُرجَّح فيه الخاص وجب اعتباره لأنّه المعتبر كما ذكرنا في الإجماع الظني،(2) وهذه الأمارات ظنية عند قوم، والدلالة - نفياً واثباتاً - ظنية غير قطعية خلافاً للقاضي أبي بكر فإنّه قال إنّها قطعية لانّه قد ثبت بالقطع أنّ العمل إنّما يجب بالراجح، وهذه الأمارات راجحة قطعاً.(3)
ص: 184
قال: المطلق والمقيّد.
المطلق: ما دلّ علىٰ شائع في جنسه فتخرج المعارفُ، ونحو: «كل رَجْل» ونحوه وستغراقِها، والمقيّد بخلافه، ويُطلقُ المقيّد علىٰ ما أُخرج من شياعٍ بوجه ك «رقبةٍ مؤمنةٍ»، وما ذُكر في التخصيص من متفقٍ ومختلفٍ، ومختارٍ ومزيفٍ، جارٍ فيه. *
* أقول: المطلق هو اللفظ الدالّ على معنى كُلّي من حيث هو شائع في جنسه لا من حيث أنّه عام ولا من حيث أنّه خاصّ ولا من حيث هو كلّي ولا جزئي، فتخرج عنه المعارف الدالّة على الاشخاص الجزئية، ومثل: «كلّ رجل» فإنّه عام والمطلق غير دال على العموم.
وإذا عرفت المطلق فالمقيّد ما يقابله وهو الدالّ على معنى جزئي غير شائع؛ وقد يطلق المقيّد على ما أُخرج من شياع بوجه ما كرقبة مؤمنة فإنّها مخرجة من مطلق الرقبة.
والمباحث المذكورة في التخصيص فما اتّفقوا عليه أو اختلفوا فيه أو كان مزيفاً أو مختاراً فإنّها آتية هاهنا، ونزيد هاهنا مسألة.
ص: 185
قال: مسألة: إذا وَرَدَ مطلقٌ ومقيّدٌ: فإن اختلف حكمهما؛ مِثلُ:
«اكسُ، وأطعِمْ»، فلا يُحَملُ أحَدُهُمَا علىٰ الآخر بوجهٍ اتفاقاً ومثلُ: «إن ظاهرتَ، فاعتق رقبة» مع: «لا تملك رقبةً كافرةً»، واضحٌ، فإنْ لم يختلف حُكمهما؛ فإن اتحد موجبهما مثبتين، حُمل المطلق علىٰ المقيّد، لا العكس بياناً لا نسخاً.
وقيل: نسخٌ، إن تأخّر المقيّد.
لنا: أنّه جمع بينهما، فإن العمل بالمقيّد عَمَلٌ بالمطلق.
وأيضاً: يخرج بيقين وليس بنسخ، لأنّه لو كان التقييد نسخاً، لكان التخصيص نسخاً.
وأيضاً لكان تأخر المطلق نسخاً.
قالوا: لو كان تقييداً، لوجب دلالةُ «رقبةٍ» على «مؤمنةٍ» مجازاً.
وأُجيب: بأنّه لازمٌ لَهُم إذا تقدّم المقيّد، وفي التقييد بالسلامة، والتحقيق أنَّ المعنيَّ: رقبةٌ من الرقاب، فرجع إلى نوع من التخصيص سُمّيَ تقييداً. فإن كانا منفيين عُمِلَ بِهِمَا، مِثْلُ: «لا تعتق مكاتباً، لا تعتق مكاتباً كافراً»، وإن اختلف موجبهما، كالظهار والقتل.
فعن الشافعي: حملُ المطلق على المقيّد. فقيل بجامعٍ، وهو المختار، فيصير كالتخصيص بالقياس على محلِّ التخصيص، وشذّ عنه بغير جامعٍ.
ص: 186
وأبو حنيفة: لا يُحملُ. *
* أقول: إذا ورد لفظ مطلق ولفظ مقيّد فلا يخلو الحكمان إمّا أن يتحدّا أو يختلفا، فإن اختلفا فلا خلاف في أنّه لا يحمل المطلق منهما على المقيّد، مثل:
أطعم رقبة مؤمنة، وأكس رقبة،(1) لأنّه يمكن الجمع بينهما من غير تناف إلّافي صورة واحدة وهي في مثل قوله في كفارة الظهار: «اعتقوا رقبة»، ثمّ قال: «لا تملكوا رقبة كافرة»، فإن الإجماع هاهنا منعقد على أنَّ تقييد النهي بالكافرة يوجب تقييد العتق في الظهار(2) بالمُسْلِمة.
أمّا إن لم يختلف الحكمان فالسببان أمّا أن يتحدا أو يختلفا فإنْ إتَّحدا فإمّا أن يكونا مثبتين أو منفيين فإنْ كانا مثبتين حمل المطلق على المقيّد كقوله في الظهار «اعتقوا رقبة مؤمنة» «اعتقوا رقبة»، ويكون هذا الحكم(3) بياناً للرقبة المطلقة لا نسخاً للإطلاق، وقيل: إنْ تأخر المقيد فهو نسخ، والدليل على الحمل مطلقاً أنّه جمع بينهما في العمل، فإن العامل بالمقيّد عامل بهما، وليس كذلك العامل بالمطلق فيكون الأول أولى. وأيضاً فإِنّه إذا عمل بالمقيّد خرج من عسر عهدة التكليف بيقين وليس كذلك لو عمل بالمطلق؛ وإنّما لم يكن هذا الحمل نسخاً لأَنّه لو كان كذلك لكان تخصيص العام نسخاً له لأنّه مخالف له ورد متأخراً عنه، ولكان المطلق إذا
ص: 187
...............
تأخّر عن المقيّد ناسخاً(1)، وليس كذلك بالاتفاق.
احتجّوا بأنّه لو كان تقييداً لكان المراد باللفظ المطلق إنّما هو المقيّد فيكون المراد من لفظ الرقبة إنّما هو المؤمنة(2) لكن دلالة الرقبة على المؤمنة إنّما هو بالمجاز لأنّ المطلق لم يوضع للمقيّد للتنافي بينهما فإنّ المطلق هو التخيير بين أي افراد الرقاب كان والمقيد دال على المنع من ذلك، وإذا كان مجازاً والأصل عدمه كان ذلك نسخاً لا تقييداً.
والجواب: أنَّ ما ذكرتموه آتٍ فيما إذا [تقدّم المقيّد على المطلق ](3)
ص: 188
...............
ومع ذلك فإنّ المطلق هناك يحمل على المقيّد وأيضاً فينتقض بتقييد الرقبة بالمسلمة، والتحقيق في هذا أَنَّ المطلق دالّ على عتق أي رقبة كان فيكون المرجع بالمقيّد إلى التخصيص.
وأمّا إذا كان الحكمان منفيين مثل قوله: لا تعتق مكاتباً، لا تعتق مكاتباًكافراً، فإنّه يعمل بهما بمعنىٰ أَنّه لا يعتق أحدهما بلا خلاف، لإمكان الجمع من غير تعارض، وأمّا إذا اختلف السبب كقوله في كفارة الظهار: «اعتق رقبة» وفي القتل «اعتق رقبة مؤمنة» فمنهم من حمل المطلق على المقيّد بمعنى أنّ التقييد لفظاً في أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظاً،(1) وهو مذهب الشافعي(2).
ومنهم من ذهب إلى أنَّ المطلق يُحمل على المقيّد بالقياس إنْ تمَّت شرائطه وإلّا فلا(3).
ص: 189
...............
ومنهم من منع مطلقاً سواء كان هناك جامع أو لا، والمذهب الأول عندي باطل فإِنّه لا منافاة بين قوله: «اعتق رقبة في الظهار مهما كانت» وبين قوله: «اعتق رقبة مؤمنة في القتل»، وإذا لم يكن التنافي موجوداً لم يكن تقييد أحدهما مقتضياً تقييداً للآخر؛ والمذهب الأخير(1) وهو مذهب أبي حنيفة غير لائق على أصله وهو القول بالقياس، لأَنّه مهما تمّ شرائط القياس وجب العمل به، فإذا فرضنا الشرائط حاصلة في تقييد المطلق بما قيّد به المقيّد وجب التقييد عملاً بالقياس، ويكون ذلك جارياً مجرى التخصيص بالقياس على محل التخصيص.(2)
ص: 190
قال: البيان والمبيّن:
يُطلق البيان على فِعلِ المُبيِّن، وعلى الدليل، وعلى المدلول، فلذلك قال الصيرفي: إخراج الشيء من حيّز الإشكال إلى حيّز التجلّي والوضوح.
وأُورد: البيانُ ابتداءً، والتجوز بالحيّز، وتكريرُ الوضوح.
وقال القاضي والأكثرُ: الدليل.
وقال البصري: العلمُ عن الدليل.
والمبيَّن: نقيض المُجمل، ويكون في مفرَدٍ، وفي مُرَكَّبٍ، وفي فِعلٍ، وإن لم يسبق إجمالٌ. *
* أقول: البيان يطلق تارة على فعل المُبيِّن وهو العلم الحاصل به، ويطلق على الدليل الدال على ذلك العلم، ويطلق على المدلول، والسبب فيه أَنَّ البيان يتعلق بالتعريف لما ليس بمعروف بالدليل فهو لا يخلو عن هذه الثلاث فجعله كل قوم بإزاء واحد منها؛ فذهب الصيرفي(1) إلى أنّ البيان هو التعريف فلذلك
ص: 191
...............
جعله: «إخراج الشيء من حيّز الإِشكال إلى حيّز التجلّي والوضوح» وهو غير جامع فإنّه لا يدخل فيه البيان المبتدأ وهو الّذي يدل على الحكم من غير سابقة اجمال، وأيضاً فهذا الحدّ قد اشتمل على التجوّز والتكرير، أمّا التجوّز ففي لفظة الحيّز لأنّها موضوعة بالحقيقة للمكان المختصّ بالأجسام، وأمّا التكرير ففي لفظة الوضوح، فإن التجلي هو الوضوح، والتكرير زيادة لا يجوز ذكرها في الحدّ.
وقال القاضي أبو بكر والجمهور: «إنّ البيان هو الدليل».
وقال أبو عبد اللّٰه البصري: «إِنَّ البيان هو العلم الحاصل عن الدليل».
وأمّا المبيَّن فإنّه نقيض المجمّل وهو الّذي يدلّ بظاهره على المعنى المقصود منه سواء سبقه إجمال وانضاف إليه بيانه، أو لم يسبقه، وهو يقع في المفرد والمركب والفعل.(1)
ص: 192
قال: مسألة: الجمهور: إنَّ الفعل يكون بياناً.
لنا: أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بيّن الصلاة والحجّ بالفعل؛ وقوله: «خذوا عنّي» و «صلّوا كما...» يدُلّ عليه.
وأيضاً: فإنَّ المشاهدة أدلُّ، وليس الْخَبَرُ كالمعاينة.
قالوا: يطول فيتأخر البيان.
قلنا: وقد يطول بالقول.
ولو سُلِّمَ، فما تأخّرَ، للشروع فيه، ولو سُلِّمَ، فلسلوك أقوىٰ البيانين، ولو سُلِّمَ فما تأخّرَ عن وقّت الحاجة. *
* أقول: المشهور أَنَّ الفعل قد يكون بياناً للمجمل وإِنْ كان قد نازع فيه قوم، والدليل عليه أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بيّن الصلاة والحجّ بالفعل، ويدلّ عليه أن قوله: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» و «خذوا عنّي مناسككم»(1) يدل على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم بيّن هذين التعليمين(2) بفعله.
لا يقال: إِنّ البيان وقع بهذا القول، لأنّا نقول: إِنّ هذا القول دالّ على أَنّ الفعل بيان لا على أنّه بيان(3) وذلك يؤكد ما ذكرناه. وأيضاً فلا شكّ أَنّ دلالة الفعل على الصفة أظهر من دلالة القول عليها.
ص: 193
...............
قالوا: البيان بالفعل يقتضي الطول فيتأخر البيان عن وقت الحاجة، وهو لا يجوز.
قلنا: قد يكون القول أطول خصوصاً في أفعال الصلاة.
سلَّمْنا أنّ القول لا يقتضي التأخير لكن لا نسلم أَنّ الفعل يقتضيه لحصول الشروع فيه.
سلَّمْنا أَنّه يقتضي التأخير لكن التأخير لسلوك أقوى البيانين غير ممتنع.
سلَّمنا التأخير لكن التأخير عن وقت الحاجة ممتنع، أمّا التأخير لا عن وقتها فلا نسلم امتناعه [وهو هاهنا كذلك].(1)
ص: 194
قال: مسألة: إذا ورد بعد المجمل قول وفِعل؛ فإن اتفقا، وعُرف المتقدّم فهو البيان، والثاني تأكيد.
فإن جُهل فأحدهما، وقيل: يتعيّن غيرُ الأرجح للتقديم، لأنَّ المرجوح لا يكون تأكيداً.
وأُجيب: بأنَّ المستقل لا يلزم فيه ذلك.
فإن لم يتفقا كما لو طاف بعد آية الحجّ طوافين، وَأَمَرَ بطوافٍ واحدٍ فالمختار: أنّ القول بيانٌ، وفِعله ندبٌ أو واجب، متقدّماً أو متأخراً، لأن الجمع أولى.
أبو الحسينِ، المتقدّم بيانٌ؛ ويلزم نَسخُ الفِعلِ متقدّماً، مع إمكان الجمع. *
* أقول: لما بيّن أَنَّ كلّ واحد من القول والفعل صالح لأنّ يكون بياناً فَرَّع على ذلك مسألة وهي: إنّهما إذا اجتمعا هل يكون البيان بالقول أو بالفعل؟
وتقريره أنْ نقول: الفعل أمّا أن يكون موافقاً للقول أو مخالفاً له فإن كان موافقاً، فإن عرف المتقدّم منهما، فالمتقدّم بيان والمتأخّر تأكيدٌ له، إلّاأن يكون المتأخر مرجوحاً بالنسبة إلى المتقدّم فإنَّ فيه خلافاً لأنَّ المرجوح عند قوم لا يؤكد الراجح، والمصنّف جوّز ذلك لأنّ كلّ واحد منهما مستقل بالبيان فجاز التوكيد وإِنْ كان المؤكّد مرجوحاً.
وأمّا إِن جهل المتقدّم فإن أحدهما يكون بياناً والآخر تأكيداً على الجملة
ص: 195
...............
وإنْ لم يعلمه على التفصيل، إلّاأنْ يكون أحدهما أرجح فإنَّ البيان يكون هو المرجوح على ما مضى، وقد مرّ قول المصنف فيه، وأَمّا إِن اختلفا كما روي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: بعد آية الحج: «من قرن حجّاً إلى عمرة فليطف طوافاً واحداً ويسعى سعياً واحداً»(1) وروي عنه صلى الله عليه و آله و سلم: أنّه طاف طوافين وسعى سعيين؛(2) فقد اختلفوا فيه فمذهب المصنف أنَّ القول هو البيان ويحمل فعله على أَنّه ندب أو على أنّه واجب مختصٌّبه سواء كان متقدّماً أو متأخراً، لأنّ البيان لوكان هوالفعل لكان القول معطلاً إن ورد متأخّراً، أو يكون الفعل ناسخاً إنْ كان متقدّماً، ولو جعلنا البيان بالقول حصل الجمع بين مقتضى القول والفعل فيكون أولى.
وذهب أبوالحسين البصري إلىٰ أَنّ البيان هو المتقدّم من القول والفعل كما في صورة الإِتفاق، فإن كان المتقدّم هو الفعل كان الطواف الثاني واجباً، وإِنْ كان هو القول لم يكن واجباً.
والزم المصنف أبا الحسين كون الفعل منسوخاً بالقول إذا كان الفعل متقدّماً والأصل عدم النسخ فإذن الجمع أولىٰ من النسخ وقد أمكن، فيجب المصير إليه.(3)
ص: 196
قال: مسألة: المختار: أَنَّ البيان أقوىٰ.
والكرخي: يلزمُ المساواة.
أبو الحسين: بجواز الأدنىٰ.
لنا: لو كان مرجوحاً، أُلغي الأقوىٰ في العام إذا خُصِّص، والمطلق إذا قُيِّد، وفي التساوي: التحكم. *
* أقول: اختلفوا في أنَّ البيان هل يجب أن يكون مساوياً للمبيَّن أو يجوز أن يكون أضعف؟ فذهب الكرخي إلى وجوب المساواة، وذهب أبوالحسين البصري إلى أنّه يجوز أن يكون أدنى، وذهب المصنف إلى أَنّ البيان يكون أقوى من المبيَّن.(1)
وقد فصّل آخرون فقالوا: إِنْ كان البيان للمجمل، كفىٰ في تعيين أحد محتمليه أدنى ما يفيد الترجيح. وإنْ كان البيان للعام أو للمطلق فلابدّ وأنْ يكونَ أقوى.
ودليل المصنّف إنّما ينهض بهذا القول لأنّه قال: لو كان البيان مرجوحاً لزم الغاء الأقوى في العام إذا خصّص والمطلق إذا قيّد وإلّا لغا الأقوى، والعمل بالأضعف باطل، فهذا إنّما يدل على المذهب المفصَّل.
وردَّ المصنّف على الكرخي بأَنَّ البيان لو كان مساويا للمبيّن، لكان تخصيص أحدهما بكونه بياناً والآخر بكونه مبيّناً تحكماً من غير دليل.
ص: 197
قال: مسألة: تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، إلّاعند مجوّز تكليف ما لا يُطاق، وإلىٰ وقت الحاجة يجوز.
والصيرفيُّ والحنابلة: ممتنع.
والكرخي: ممتنع في غير المجمل.
وأبو الحسين: مثلُهُ في الإجمالي لا التفصيلي، مثل: «هذا العموم مخصوص»، و «المطلق مقيّدٌ»، و «الحكم سينسخ».
والجبائي: ممتنع في غير النسخ.
لنا: «فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ» إلى «... اَلْقُرْبىٰ» ، ثم بيّن صلى الله عليه و آله و سلم أنَّ السلب للقاتل: إمَّا عموماً، وإمّا برأي الإمام، وأنّ ذوي القربىٰ بنو هاشم دون بني أُميّة وبني نوفل، وَلَم يُنقل اقترانٌ إجمالي مع أن الأصل عدمُهُ.
وأيضاً: «أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ» * ثم بيّن جبريلُ والرسولُ عليهما السلام، وكذلك الزكاة، وكذلك السرقة، ثُم بيّن علىٰ تدريج.
وأيضاً: فإنّ جبرائيل عليه السلام قال: «إقرأ»، قال صلى الله عليه و آله و سلم: «وما أقرأ»، وكرّر ثلاثاً، ثم قال: «اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» .
واعتُرض: بأنّه متروكُ الظاهر، لأن الفورَ يمتنع تأخيره، والتراخي يُفيد جوازه في الزمن الثاني، فيمتنع تأخيره.
ص: 198
وأُجيب: بأن الأمَر قبل البيان لا يجبُ به شيءٌ، وذلك كثير. *
* أقول: اتّفق الجمهور من العقلاء على أَنّه يمتنع تأخير البيان عن وقت الحاجة(1)، وجوّزه القائلون بجواز تكليف ما لا يطاق، وأَمّا تأخير البيان إلى وقت الحاجة فجوّزه الجمهور من الأشعرية وجماعة من أصحاب أبي حنيفة، وذهب أبو بكر الصيرفي وأبو اسحاق(2) والحنابلة وبعض الحنفية إلى أنّه ممتنع.
وذهب الكرخي وجماعة من الفقهاء إلى أنّه يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره، وأَمّا أبوالحسين البصري فإنّه فصّل هاهنا وقال: كل ما له ظاهر استعمل في غيره فإِنّه لا يجوز تأخير بيانه الإجمالي ولم يوجب التفصيلي، وأَمَّا ما ليس له ظاهر فإنّه يجوز تأخير البيانين فيه؛ مثال الأول: العام إذا خصّص، والحكم إذا نسخ، والمطلق إذا قُيّد، فإنّ ظاهر العام أنّه غير مخصّص، وظاهر الحكم أَنّه غير منسوخ، وظاهر المطلق أَنّه غير مقيّد، فإذا أستُعمل في هذه وجب أن يُبيَّن اجمالاً وهو أنْ يقول: العام مخصوص، والحكم منسوخ، والمطلق مقيّد، ولا يجب بيان الباقي ولا مدة النسخ.
ومثال الثاني: المجمل فإِنّه لا دلالة ظاهرة له فلا يجب بيانُه إلّاوقت الحاجّة، وأمّا الجُبّائيان والقاضي عبدالجبار فقد أوجبوا البيان إلّافي النسخ.
واحتجّ المصنف على جواز التأخير مطلقاً بوجوه:
ص: 199
...............
الأول: قوله تعالى: «وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ»(1) وهذا عام في كلّ ما يغنم، ثم إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم بيّن أنَّ السلب للقاتل إمّا بالعموم المستفاد من كون الغنيمة للقاتل وإمّا برأي الإمام، وأيضاً بيّن أن ذا القربىٰ بنو هاشم دون بني أُمية وبني نوفل فلمّا سُئل عن ذلك قال: «إنّا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام ولم نزل هكذا» وشبك بين اصابعه، ولم يُنقل اقتران البيان الاجمالي.
وأيضاً فالأصل عدمه فهذا يبطل مذهب أبي الحسين.
الثاني: أنّ اللّٰه تعالى قال: «أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ» (2) وكذلك قوله تعالى: «وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا» (3) وهذه آيات مجملة وعامة ثم انّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم وجبرئيل بيّنا ذلك للمكلفين بعد نزول الخطاب على التدريج.
الثالث: أن جبرئيل في ابتداء الوحي نزل إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وقال له: إقرأ، قال: وما أقرأ، قال: إقرأ، قال: وما أقرأ كرره ثلاثاً قال: «اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ» (4)،(5) وهذا يدل على جواز تأخير البيان. لا يقال: إنَّ هذا متروك الظاهر لأَنَّ الأمر إنْ اقتضىٰ الوجوب على الفور امتنع تأخيره مع بيانه لأنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة أو الوجوب على التراخي يمتنع تأخير بيانه، لانّه يفيد جواز الفعل في الزمن الثاني والأمر لا يخلو عن الفور والتراخي،(6) لأنّا نقول: هذا بناءٌ على أَنّ الأمرَ قبل البيان يجب به شيء إمّا
ص: 200
قال: واستُدل بقوله: «أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» وكانت معيّنة، بدليل تعيّنها بسؤَالهم مؤخّراً، وبدليل أنّه لم يؤمَرُ بمُتجَدِّد، وبدليل المطابقة لِمَا ذُبح.
وأُجيب: بِمنع التعيين، فلم يتأخّر بيان، بدليل «بَقَرَةً» * وهو ظاهرٌ، وبدليل قول ابن عباس: «لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم»، وبدليل: «وَ مٰا كٰادُوا يَفْعَلُونَ».
واستُدل بقوله: «إِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ» ، فقال ابن الزِّبَعْرَىٰ: فقد عُبِدتَ الملائكة والمسيح، فنزل: «إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ».
وأُجيب بأَنَّ «ما» لِمْا لا يَعقِل، ونزول «إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ» ، زيادة بيان لِجهل المعترضِ مع كونه خَبَراً.
واستُدل بأنّه لو كان ممتنعاً، لكان لذاتهِ أو لغيرهِ بضرورةٍ أو نظرٍ، وهما منتفيان.
وعُورض لو كان جائزاً... إلى آخِره. *
على الفور أو على التراخي، ونحن نمنع ذلك بل إنّما يجب بعد البيان، وهذا كثير النظائر كقول السيد لعبده: إفعل.
* أقول: إِنّ جماعة من الأُصوليين القائلين بجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة كالغزّالي وغيره استدلوا على قولهم بوجوه استضعفها المصنّف :(1)
ص: 201
...............
الأول: قوله تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً»(1) أمرهم بذبح بقرة معيّنة ولم تكن مبيّنة، ودليل الصغرى أَنّهم لمّا سألوا عن المأمور به بيَّنها اللّٰه تعالى وقال: «إِنَّهٰا بَقَرَةٌ لاٰ فٰارِضٌ وَ لاٰ بِكْرٌ عَوٰانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ» (2) ثم سألوه زيادة البيان فقال: «إِنَّهٰا بَقَرَةٌ صَفْرٰاءُ فٰاقِعٌ لَوْنُهٰا تَسُرُّ اَلنّٰاظِرِينَ» ثمّ سألوا زيادة البيان فقال:
«إِنَّهٰا بَقَرَةٌ لاٰ ذَلُولٌ تُثِيرُ اَلْأَرْضَ» فعود الضمير في كل آية إليها دليل على تعيينها؛ وأيضاً لو لم تكن معيّنة لكان المأمور به في الآية الثانية غير المأمور به في الآية الأُولى، وذلك باطل اجماعاً، وأيضاً لَمَّا طابق الأمر ما ذبحوه دلّ على الإتحاد والتعيين، وأما الكبرىٰ فظاهرة لانها لو كانت مبيّنة لكان السؤال عبثاً.
واعترض المصنف وغيره(3) على هذه الدلالة بمنع التعيين والدليل عليه انّه أمَرَ بذبح بقرة وهي لفظة نكرة غير دالّة على التعيين(4).
وأيضاً قال ابن عباس: لو ذبحوا أيّة بقرة كانت لأجزتهم ولكنهم شدّدوا في السؤال فشدَّد اللّٰه عليهم.(5) وذلك دليل على عدم التعيين لأَنّ طلبَ زيادة البيان ليس بتشديد، وأيضاً لو كانوا مأمورين بذبح البقرة المعيّنة لما استحقوا التعنيف على طلب البيان لكن اللّٰه عَنَّفهم بقوله: «فَذَبَحُوهٰا وَ مٰا كٰادُوا يَفْعَلُونَ»(6) فيُعلم
ص: 202
...............
من ذلك أَنَّهم إِنّما أُمروا بذبح بقرة مطلقة.
ويمكن الجواب:
عن الأول: بأَنَّ البقرة وإِنْ كانت مطلقة في ظاهر اللفظ إلّاأَنّ المراد غير الظاهر وهذا لا يمنع ما ذكروه بل هو إحدىٰ مقدماتهم الّتي استدلوا بها على جواز تأخير البيان.
وعن الثاني: بأَنّه خبر واحد لا يعارض عموم الكتاب.
وعن الثالث: بأَنّه ليس فيه دلالة على التعنيف وإن كان دالّاً عليه إلّاأَنّه ليس فيه دلالة على انّهم استحقوا التعنيف لأَجل تفريطهم في أول القصة، بل يجوز أَنْ يكونوا قد استحقوا التعنيف لأجل أنّهم فرّطّوا في الفعل بعد حصول البيان التام.
الثاني: لمّا نزل قوله: «إِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهٰا وٰارِدُونَ»(1).
قال ابن الزِّبَعْرَىٰ: لأخصمنّ محمداً، ثم قال: قد عُبِدَتْ الملائكة والمسيحُ.
فتوقف الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في الجواب إلى أن نزل قوله: «إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىٰ»(2) فخصصت الآية الأُولى.
واجاب المصنف: بأنّ الآية الأولىٰ ليست عامّة في الملائكة والمسيح وغيرهم لأَنَّ «ما» موضوعة لما لا يَعقِل، والملائكة والمسيح غير داخلين
ص: 203
...............
تحتها، ونزول قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىٰ» ليس مخصّصاً لذلك العموم بل هو زيادة بيان لجهل المعترض، مع أَنّه خبر وليس(1) فيه دلالة على التخصيص.
الثالث: أنّ تأخير البيان إلى وقت الحاجة لو كان ممتنعاً لكان امتناعه إمّا أن يكون لذاته أو لغيره، وعلى كلا التقديرين فإمّا أَنْ يُعلم ذلك بالضرورة أو بالنظر، والقسمان باطلان، فلا امتناع.
والاعتراض بالمعارضة(2) فإنّا نقول لو كان جائزاً فإما أن يُعرف بضرورة العقل أو بنظره، والقسمان باطلان فلا جواز ولا أولوية.
ص: 204
قال: المانع: بيان الظاهر: لو جاز لكان إلىٰ مدَّةٍ معيّنةٍ، وهو تحكُّمٌ، ولم يقل بهِ، أو إلى الأبدِ؛ فيلزم المحذور.
وأُجيب إلى معيّنةٍ عند اللّٰه، وهو وقت التكليف.
قالوا: لو جاز لكان مُفْهِماً، لأنّه مخاطبٌ فيستلزمه، وظاهرُهُ جهالةٌ، والباطنُ متعذِّرٌ.
وأُجيب: بجريه في النسخ لظهوره في الدوام، وبأنّه يُفهم الظاهرُ مع تجويزه التخصيص عند الحاجة، فلا جهالة ولا إحالة.
قال عبدالجبّار: تأخيرُ بيان المجمل يُخلُّ بفعل العبادة في وقتها؛ للجهل بصفتها؛ بخلاف النسخ.
وأُجيب: بأن وقتها وَقْتُ بيانها.
قالوا: لو جاز تأخير بيان المُجمل، لجاز الخطاب بالمهمل، ثم يُبين مُرَادُه.
وأُجيب: بأنّه يُفيد أنّه مخاطب بأحد مدلولاته، فيُطيعُ ويَعصِي بالعَزْمِ بخلاف الآخَر.
وقال الجبّائي: تأخير بيان التخصيص يوجب الشكَّ في كل شخصٍ، بخلاف النسخ.
وأُجيب: بأنَّ ذلك علىٰ البدل، وفي النسخ يُوجب الشكَّ في
ص: 205
الجميع، فكان أجدرَ. *
* أقول: احتجّ المانع من تأخير البيان في ما له ظاهرٌ؛ بأَنَّه لو جاز التأخير لكان إمّا إلى مدّة معيّنة أو إلى الأبد، والأول باطل لأَنّه تحكّم، فإنَّ تخصيص تلك المدة بذلك المعيّن تخصيص من غير مخصّص. والثاني باطل لأنّه يلزم تكليف ما لا يطاق.
والجواب: لِمَ لا يجوز التأخير إلى مدّة معيّنة معلومة للّٰه تعالى، وهو وقت الحاجّة؟
واحتجّوا أيضاً بأَنّه لو كان التأخير جائزاً لزم المحال، لأنّ المخاطب مفهم لما يخاطب به، وإلّا لكان الخطاب عبثاً. وإذا كان الفهم لابدّ منه فنقول: الظاهر غير مراد وهو المفهوم، فالحمل عليه جهالة، وغير الظاهر غير معلوم، فالحمل عليه متعذّر.
والجواب: المعارضة بالنسخ فإنّه يفهم منه الدوام ومع ذلك فلا يجب بيان أَنَّ الحكم منسوخ، وأيضاً فإنّا نفهم الظاهر مع تجويز التخصيص عند الحاجّة، ولا يلزم الجهل فإنّ الجهل لازم من الجزم بأَنَّ المراد هو الظاهر، والأوّل غير واردٍ على أبي الحسين.
واحتجّ عبد الجبار بأنّ تأخير البيان في المجمل يخلُ بفعل العبادة في وقتها للجهل بصفتها حينئذ. وأمّا النسخ فإنّ صفة الفعل مبيّنة فجاز التأخير فيه دون الأوّل.
وأجاب المصنف: بأنّ هذا فيه مغالطة لأنّ وقت العبادة هو وقت بيانها لا وقت الأمر بها، فقوله: تأخير بيان المجمل يقتضي الإخلال بالفعل في وقته، غير صحيح.
واحتجّوا أيضاً على امتناع تأخير بيان المجمل بأنّه لو جاز تأخيره
ص: 206
...............
لجاز الخطاب بالمهمل، لأنّ المجمل لا يفهم منه شيءٌ فيكون كالمهمل، والتالي باطل اتّفاقاً فالمقدّم مثله.
وأجاب بالفرق بين الخطاب بالمجمل والخطاب بالمهمل، بأَنَّ الخطاب بالمجمل يفهم المخاطب منه الأمر بأحد محتملاته فتطمئن نفسه على الطاعة أو المعصية ويحصل الثواب بذلك،(1) وهذا من أعظم فوائد التكليف، بخلاف المهمل الّذي لا يُفهم منه شيءٌ البتة.
واحتجّوا على المنع من جواز تأخير التخصيص، بأنّ تأخيره يوجب الشكَّ في كلّ شخص شخص أنّه هل هو مأمور أم لا، بخلاف النسخ.
وأجاب: بأنّ الشكّ الحاصل من جواز تأخير التخصيص أقلّ من الشكّ الحاصل من جواز تأخير النسخ، لأنَّ الشكّ هناك إنّما هو شكٌّ في كلّ شخص على البدل، بخلاف الشكّ في النسخ، فإِنّه يقتضي الشكّ في الكل، فكان جواز تأخير التخصيص أولىٰ.
ص: 207
قال: مسألة: المختار على المنع: جوازُ تأخيرهِ صلى الله عليه و آله و سلم تبليغَ الحكمِ إلىٰ وقت الحاجة للقطع بأنّه لا يلزم منه محالٌ، ولعلّ فيه مصلحةٌ.
قالوا: «بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ».
وأُجيب بعدَ كونه للوجوب والفور: أنّه للقرآن. *
* أقول: هذه المسألة من تفاريع المسألة الأُولى فالقائلون بأنّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب اختلفوا في جواز تأخير التبليغ من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم(1).
والمصنف اختار تفريعاً على هذا القول بأنّه يجوز تأخير تبليغه صلى الله عليه و آله و سلم إلى وقت الحاجة، واستدلَّ بإنّ التأخير لا يستلزم المحال فكان ممكناً أمّا الأوّل فلأنّ الاستحالة ليست ذاتية قطعاً ولا حاصلة بالغير، لأنّ الأصل عدمه، وأمّا الثاني فظاهر، وأيضاً فإِنّه يجوز أن يكون في التأخير مصلحة لا يعلمها، وعلى هذا التقدير يجوز التأخير.
احتجّ المانع بقوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ»(2) أمره بتبليغ ما أنزل إليه، فلو أَخَرّه لم يقع الإمتثال، وأجاب المصنّف بوجوه:
أحدها: المنع من كون الأمر للوجوب. الثاني: المنع من كونه للفور.
الثالث: المراد بالمنزل هاهنا هو القرآن(3)، وذلك لا يستلزم تبليغ
ص: 208
قال: مسألة: المختار على المنع: جواز تأخير إسماع المخصّص الموجود.
لنا: أنّه أقرب من تأخيره مع العدم.
وأيضاً: فإنّ فاطمة عليها السلام سمعت: «يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ» ولم تسمع: «نحن معاشر الأنبياء».
وسمعوا: «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ» ولم يسمع الأكثرُ: «سُنّوا بهم سُنّة أهل الكتاب»، إلّابعد حين. *
جميع الأحكام.
* أقول: هذا تفريع ثان على القول بالمنع من جواز التأخير(1)، وهو أَنّه هل يجوز اسماع العامّ من دون اسماع المخصّص الموجود أم لا؟
أمّا القائلون بجواز التأخير في البيان فإنّهم يقولون بأولوية التأخير هاهنا.
ص: 209
...............
وأمّا المانعون فقد اختلفوا؛ والمصنّف اختار تفريعاً على القول بالمنع أَنّه يجوز تأخيره واستدل بأَنّ تأخير الإِسْماعِ أقرب من تأخير البيان به، وقد بيَّن جواز تأخيره.
وأيضاً فإنّ فاطمة عليها السلام سمعت «يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ»(1) ولم تسمع الخبر الّذي نقله الجمهور(2) وهو قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث». وسمع الصحابة قوله تعالى: «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ»(3) ولم يسمع أكثرهم قوله صلى الله عليه و آله و سلم عن المجوس: «سُنّوا بهم سُنّة أهل الكتاب»(4) إلّابعد زمان طويل.
ص: 210
قال: مسألة: المختار على التجويز: جوازُ بعضٍ دون بعضٍ.
لنا: أن «اَلْمُشْرِكِينَ» * بُيّن فيه الذمي، ثم العبد، ثم المرأة، بتدريج، وآية الميراث بيّن صلى الله عليه و آله و سلم القاتل والكافر، بتدريجٍ.
قالوا: يُوهِمُ الوجوبَ في الباقي؛ وهو تجهيلٌ.
قلنا: إذا جاز إيهامُ الجميعِ، فبعضُه أولىٰ. *
* أقول: هذا تفريع على القول بجواز تأخير البيان، وهو أنّه هل يجوز إسماع بعض المُخصِّص وتأخير البعض الآخر؟ ومنع منه قوم، واستدل المصنّف بأنّ [قوله تعالى في] آية «اَلْمُشْرِكِينَ»(1) بيّن النبي صلى الله عليه و آله و سلم فيه الذمي ثم العبد ثم المرأة على التدريج؛ وآية الميراث بيّن صلى الله عليه و آله و سلم القاتل والكافر بتدريج.
قالوا: تأخير البعض يوهم الوجوب في الباقي فيكون خطأً لأنّه جهالة.
والجواب: أنّ هذا التفريع إنّما هو على القول بجواز تأخير البيان، فإذا جاز تأخير إسماع كل المخصّصات، فجواز إسماع البعض وتأخير الباقي أولى.(2)
ص: 211
قال: مسألة: يُمنع العمل بالعموم قبل البحث عن المُخصص إجماعاً.
والأكثرُ: يكفي بحيث يغلبُ انتفاؤه.
القاضي: لابُدَّ من القطع بانتفائه، وكذلك كُلُّ دليلٍ مع معارضه.
لنا: لو اشتُرط لبَطَل العملُ بالأكثر.
قالوا: ما كَثُرَ البحثُ فيهِ تُفِيدُ العادَةُ القطعَ، وإلّا فبحث المجتهد يُفيدُهُ، لأنَّهُ لَوْ أُريدَ لاطّلع عليه.
ومُنِعا، وأُسند بأنَّهُ يَجِدُ مَا يَرْجِعُ بِهِ. *
* أقول: نُقل هاهنا الاجماع على أنّه لا يجوز العمل بالعام قبل البحث عن المخصّص(1)، وقد رأيت بعض الأُصوليين نقل عن أبي بكر الصيرفي جواز العمل به ابتداءً ما لم تظهر دلالة مخصّصة.
والجمهور: أَنّه يكفي في العمل بالعام البحث الموجب للظنِّ بانتفاءِ المخصّص. وقال القاضي أبو بكر(2): إِنّه لابدّ من القطع بانتفاء المخصّص، وكذلك كلّ دليل مع معارضه.
واستدلَّ المصنّف على إبطال قول القاضي بأَنّه لو اشتُرط القطع بطل
ص: 212
...............
العمل باكثر العمومات لعدم القطع بانتفاء المخصصات لها، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
قال القاضي: القطع هاهنا ممكن لأَنّ ما كَثُرَ البحث فيه بين العلماء زماناً طويلاً مع عدم اطلاعهم على المخصّص، يفيد القطع بانتفائه عادة، وإلّا فبحث المجتهد فيه مع عدمه يفيد القطع بعدمه، لأَنَّه لو أُريد المخصّص لنصب اللّٰه عليه دليلاً، ولونصب عليه دليلاً لاطّلع عليه المجتهد، فلمَّا لم يُظفر بالمخصّص دلّ على انتفائه.
والوجهان ممنوعان، وسند المنع أَنَّ المجتهد بعد مدة قد يُفتي بحكمٍ ما ثم يجد ما يرجع به عن ذلك الحكم، فلو كان البحث يوجب الانتفاء لما رجع لدليل ظهر له.
ص: 213
قال: المجمل: المجموع، وفي الاصطلاح مالم تتضح دلالته.
وقيل: اللفظ الّذي لا يُفهمُ مِنهُ عند الاطلاق شيء، ولا يطّرد، بالمهمل والمستحيل، ولا ينعكس، لجواز فهم أحد المحامل، والفعل المجمل، كالقيام من الركعة، لإحتمالِ الجواز والسهو.
أبو الحسين: ما لا يمكن معرفةُ المراد منه، ويَرِدُ، المشترك المبيّن، والمجاز المراد، بُيّن أو لم يُبيّن.
وقد يكون في مفردٍ بالأصالة، وبالإعلال، ك «المختار»، وفي مركب، مثل «أَوْ يَعْفُوَا»(1) ، وفي مرجع الضمير، وفي مرجع الصفة، كطبيب ماهر، وفي تعدّد المجاز بعد مَنْعَ الحقيقة. *
...............
وهذا الحدّ ينتقض طرداً وعكساً، أمّا الطّرد فلأنّ المهمل يصدق عليه أَنّه لا يفهم منه عند الإطلاق شيءٌ وليس بمجمل، وكذلك المستحيل فإنّه ليس بشيء، فاللفظ الدال عليه لا يفهم منه شيء مع أَنَّه ليس بمجمل.
وأمّا العكس فإنَّ المجمل قد يفهم منه أَحدُ محامله فقد صدق المحدود دون الحدّ، وكذلك الفعل المجمل كما إذا نُقل أَنَّه صلى الله عليه و آله و سلم قام من الركعة الثانية، فإِنَّ هذا الفعل مجمل لأَنَّه يحتمل أَنْ يكون القيام عن سهو(1) وعن جواز القيام وليس بلفظ فلا يصدق عليه الحد.
وقد حدّه أبو الحسين البصري بأَنَّه الّذي لا يمكن معرفة المراد منه، أي من نفسه.
واحترز بذلك عن المجمل المبين فإِنَّه يمكن معرفة المراد منه بالبيان لا من نفسه.
ويرد عليه [طرداً] المشترك المبيّن فإنّه لا يمكن معرفة المراد من نفسه بل بواسطة البيان مع أَنّه ليس بمجمل لكونه مبيّناً، وفيه نظر.
ويرد عليه [كذلك طرداً] المجاز المراد - سواء بُيّنَ أو لم يُبيّن - فإِنّه لا يمكن معرفة المراد منه مع أَنّه ليس بمجمل لكونه مبيّناً.
وقيّد المشترك بالمبيّن لأَنّه بدون البيان مجمل، بخلاف المجاز فإنّه ليس بمجمل سواء بُيّن أو لم يبيّن.
ص: 215
قال: مسألة: لا إجمال في نحو: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ»(1) ، «وَ أُمَّهٰاتُكُمُ»(2) . خلافاً للكرخي والبصري.
لنا: القطع بالاستقراء أَنّ العُرف، الفعل المقصودُ منه.
قالوا: ما وجب للضرورة يُقيّد بِقَدْرِها، فلا يُضمرُ الجميع، والبعض غَيْرُ مُتَّضِحٍ.
اُجيب: مُتَّضِحٌ بما تقدّم. *
وأعلم أنّ الإجمال قد يكون في مفرد إمّا بالأصالة كالعين المشتركة بين معانيها وأمّا بالإعلال كالمختار الصالح للفاعل والمفعول، وإنّما صلح لهما بواسطة الإعلال، وقد يكون في مركب مثل قوله تعالى: «إِلاّٰ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكٰاحِ»(3) وقد يكون في مرجع الضمير كقولنا: «كل ما يعلمه الحكيم فهو كما يعلمه»، فإِنّه تارة يرجع إلى العلم وتارة إلى العالم، وقد يكون في مرجع الصفة كقوله: «زيد طبيب ماهر» فإنّ ماهراً قد يرجع إلى الطبيب وقد يرجع إلى زيد ويتفاوت المعنى باعتبارهما، وقد يكون الاجمال في المجاز المتعدد بعد المنع من الحمل على الحقيقة.
* أقول: ذهب المحققون إلى أَنَّه لا إجمال في قوله تعالى: «حُرِّمَتْ
ص: 216
...............
عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ» ، وقوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ» ، وبالجملة لا إِجمال في إِضافة التحريم إلى الأَعيان. وذهب أبو الحسن الكرخي وأبو عبد اللّٰه البصري إلى أَنّه مجمل.
حجة الجمهور أَنَّ القطع حاصل، فيكون التحريم إذا اضيف إلى الأَعيانِ كان العرف قاضياً فيه بتحريم المعنى المقصود منه، مثلاً الفعل المقصود من الميتة هو الأَكل فالتحريم المضاف إليها يكون بالحقيقة مضافاً إلى [تناولها، والفعل المقصود من الأمهات والأخوات هو النكاح فالتحريم للمضاف إليهن يكون مضافاً إلى](1)نكاحهّن، وحينئذٍ لا إجمال.
إِحتج المخالف بأَنّ الإضمار هاهنا لابدّ منه لاستحالة إضافة التحريم إلى الأَعيان، وإذا كان الإضمار لابدّ منه، قُيِّد الإضمار بقدر الضرورة إليه ولا يتعدّى محل الحاجة، وبالبعض كفاية فلا يجوز إضمار الجميع، فتعيّن إضمار البعض، والبعض غير متضّح، فتحقق الإجمال.
والجواب: لا نسلّم عدم إيضاح البعض بل هو متضّح لما تقدّم من قضاءِ العادة.(2)
ص: 217
قال: مسألة: لا إجمال في نحو: «وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ».
لنا: إِنْ لم يثبت في مثله عرفٌ في بعض كمَالِكَ، والقاضي، وابن جنّي: فلا اجمال.
وإن ثبت؛ كالشافعي، وعبد الجبّار، وأبي الحُسين: فلا إِجمالَ.
قالوا: العرف في نحوِ: «مسحتُ بالمنديل»، البعض.
قلنا: لأنَّهُ آلَةٌ، بخلاف: مسحتُ بوجهي.
فأمّا «الباءُ» للِتَّبعيض، فَأضعفُ. *
* أقول: ذهب المحققون(1) إلى أَنّ قوله تعالى: «وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ»(2) ليس بمجمل، وذهب شذوذ إلى إجماله.
واعلم أَنَّ النّاس اختلفوا هاهنا، فذهب قوم إلى أنّ إدخال «الباء» على الفعل المتعدي بنفسه لا يقتضي التبعيض عرفاً، وهو مذهب مالك والقاضي وابن جنّي.
وذهب آخرون إلىٰ أَنّه يقتضيه وهو مذهب الشافعي وعبدالجبّار وأبي الحسين البصري والشيعة.(3)
واعْلم أَنَّ على كل واحد من هذين القولين لا إجمال، أَمّا إذا ثبت أَنَّ العرف يقتضي التبعيض فلا إجمال حينئذٍ، لأَنَّ دلالة العرف ظاهرة.
ص: 218
...............
وأَمّا إذا لم يثبت فلا إجمال أيضاً، لأَنَّ الأصل وجوب مسح جميع الرأس، ولا مُعارض له.
احتج المخالف: بأَنَّ العرف يقتضي الفرق بين قولنا: «مسحت بالمنديل» وبين قولنا: «مسحتُ المنديل»، فإنّ الأوّل يقتضي التبعيض دون الثاني.
والجواب: أنَّ المنديل آلة فيظهر فيه الفرق بخلاف: مسحت بوجهي، فإنّا لا نسلّم أَنّه يقتضي التبعيض.
واعلم أنَّ الشافعي نُقل عنه أنَّ «الباء» هاهنا للتبعيض، واستضعف المصنّف ذلك من حيث إنّه لم ينقل عن العرب.(1)
ص: 219
قال: مسألة: لا إجمال في نحو: «رُفع عن أُمتي الخطأ والنسيان»، خلافاً لأبي الحسين، والبصري.
لنا: العُرفُ في مثله قبل الشرع، المُؤَاخَذَةُ والعقابُ، ولم يَسقُط الضّمانُ: إمّا لأنّه ليس بعقاب، أو تخصيصاً لِعمُوم الخبر، فلا إجمال.
قالوا: اُجيب بما تقدَّم في الميتة. *
* أقول: اختلفوا في مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رفع عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا» فقال قوم: إِنّه مجمل وهو مذهب أبي الحسين وأبي عبداللّٰه البصريّ، وقال آخرون: إِنّه ليس بمجمل وهو الحق. والدليل عليه أَنَّ مثل هذا ظاهر في رفع المؤاخذة والعقاب باستقراء العرف قبل الشرع، فلا إجمال حينئذٍ.
لا يقال: إنَّ الخاطي والناسي يلحقهما الضمان، وهو من انواع العقاب والمؤاخذة.
لأنا نقول: لا نسلم أَنّه عقاب. سَلَّمْنا لكن وجوب الضمان يكون مخصّصاً لعموم رفع العقاب والمؤاخذة.
احتج المخالف بأَنَّ إِخْباره صلى الله عليه و آله و سلم برفع الخطأ والنسيان عن الأُمّة لا يراد منه الحقيقة لوجودهما قطعاً فلابدّ من إضمار، وليس بعض الأنواع أولى من الباقي، ولا يجوز إضمار الجميع، لأَنَّ ما وجب للضرورة بقيد، مقيّد بقدرها فتحقق الاجمال حينئذٍ.
فالجواب: لا نسلم عدم الأَولوية، وبيانه ما تقدّم في مسألة المَيِتِةِ من العرف.
ص: 220
قال: مسألة: لا إِجمال في نحو: «لا صلاة إلّابطهور» خلافاً للقاضي.
لنا: إِنْ ثبت عُرفٌ شرعيٌ في الصحيح فلا إِجمال، وإلّا فالعُرفُ في مثله نفي الفائدةِ مثلُ: لا علم إلّاما نفع، فلا إِجمال ولو قُدِّرَ انتفاؤُهما فالأَولى نفي الصحة، لأنّه يصير كالعدم، فكان أقرب إلى الحقيقة المتعذّرةِ.
فإن قيل: إثبات اللغة بالترجيح.
قلنا: إثبات المجاز بالعرفِ في مثله.
قالوا: العرف شرعاً مختلفٌ في الكمال والصحة.
قلنا: مختلفٌ، للاختلاف، ولو سُلِّم فلا استواء، لترجُّحه بما ذكرناه. *
* أقول: اختلفوا في مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا صلاة إلّابطهور» فقال القاضي أبو بكر: إِنَّه مجمل، وقال الجمهور: إِنّه ليس بمجمل، وهو الحق.
والدلّيل عليه أَنَّه نقول: العرف الشرعي قاضٍ في مثل نفي هذه الحقائق الشرعيّة بنفي صحتها. سلّمنا أَنَّه لا عرف شرعي فيه، لكن العرف المشهور بين النّاس في مثل نفي هذه الاشياء إنّما هو نفي فائدتها كقولهم: «لا علم إلّاما نفع».
سلمنا إِنتفاءِ العُرفَيْن لكنّا نقول: لابدّ هاهنا من المجاز لتحقق مسمّى الصلاة وأولى المجازات هاهنا صرف النفي إلى الصحة وبيان الأولوية، إِنّ حقيقة اللفظ
ص: 221
......
هي نفي الصلاة وعدمها، وأقرب مجاز إليها هو نفي الصحة لأنّه مساو للعدم، وعلى كل تقدير لا إجمال.
فإِنْ قيل: هذا إِثبات اللغة بالترجيح، وهو باطل لأنَّ اللغة وضعية منقولة.
قلنا: لا نسلّم أَنّه إِثبات اللغة بل هو إِثباتُ أوْلوية بعض المجازات بالعرف في مثله.
قالوا: العرف الشرعي مختلف في الكمال والصحة أي متردِّدٌ بينهما على سواء، فإِنّ العرف الشرعي في مثل هذه الاشياء يَحتَمل نفي الصحة ونفي الكمال.
والجواب: لا نسلّم تردّد اللفظ بين نفي الكمال ونفي الصحة لعرف شرعي، لأَنّ عرف الشرع في مثل هذا النفي نفي الحقيقة الشرعيّة، بل التردّد فيه إنّما هو لاختلاف الفقهاء في تقديره.
سلّمنا التردّد لكن لا نسلم الاستواء بين نفي الكمال ونفي الصحة، بل الترجيح لنفي الصحة لقربه من المعدوم على ما بيّناه.
ص: 222
قال: مسألة: لا إجمال في نحو: «وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا»(1) .
لنا: إِنَّ اليد إلى المنكب حقيقةٌ، لصحة: «بعض اليد» لما دُونَهُ، والقطع إبانةُ المتّصل، فلا اجمال.
واستدُلَّ: لو كان مشتركا في الكُوع والمرفق والمنكب، لزم الإجمال.
وأُجيب: بأَنُّه لو لم يكن، يلزم المجاز.
واستدُلّ: يُحتمل الاَشتراك والتواطُؤ وحقيقة أحدهما، ووُقوعُ واحدٍ من اثنين أَقرب من واحد مُعيَّن.
وأُجيب: بأَنّه إِثبات اللغة بالترجيح، وبإِنّهُ لا يكون مُجملٌ أبداً.
قالوا: تُطلق اليدُ على الثلاثِ، والقطعُ على الإبانةِ وعلى الجرح فثبت الإجمال.
قلنا: لا إجمال مع الظهور. *
* أقول: ذهب بعض الأُصوليين(2) إلى أَنّ آية السرقة مجملة في اليد والقطع.
والمحققون على خلافه، والدليل عليه أَنَّ اليد حقيقة في العضو المخصوص من الأَنامل إلى المنكب، ولهذا صحّ اطلاق بعض اليد على ما دون المنكب. ولو
ص: 223
...............
كانت اليد تطلق على البعض حقيقة لما صحّ اطلاق بعض اليد عليه، وأَمّا القطع فإنّه حقيقة في إبانة المتصل، وعلى هذا التقدير لا إجمال فيهما.
واستدّل بعضهم على نفي الإجمال هنا بأنَّ اليد لو كانت موضوعة للعضو من الأَنامل إلى المنكب وإلى الكوع وإلى المرفق على سبيل الحقيقة، لزم الاشتراك والأصل عدمه فلا إجمال.
والجواب: المعارضة بأَنْ نقول: لو لم يكن موضوعاً للثلاث على سبيل الاشتراك لزم المجاز، وهو خلاف الأصل.
قال هؤلاء: يحتمل أن يكون لفظ اليد موضوعاً للثلاث على سبيل الاشتراك، وأنْ يكون موضوعاً للقدر المشترك بينها، وأنْ يكون حقيقة في أحدها مجازاً في الآخر؛ وهذه احتمالات ثلاثة.
ولا شكّ في أَنَّ وقوع احتمال واحد معيّن أبعد من وقوع احتمالين، لكن الإجمال إنّما يلزم على تقدير أن يكون اللفظ مشتركاً.
والجواب: أنّ هذا اثبات اللغة - أعني كون اليد متواطياً أو حقيقة في واحد ومجازاً في آخر - بالترجيح، وهو باطل(1) بالاتفاق؛ وأيضاً فهذا الّذي ذكرتموه لو كان صحيحاً لزم إِبطال كل مجمل لإنسحاب ما ذكرتموه فيه. احتجّ المخالف: بأَنّ اليد تطلق على الثلاث، والأصل الحقيقة فيلزم
ص: 224
قال: مسألة: المختار أَنّ اللفظ لِمعنى تارة، ولِمعنيين أُخرى - من غير ظهور -: مجملٌ.
لنا: أَنّه معناه.
قالوا: يظهر في المعَنيين، لتكثير الفائدةِ.
قلنا: إثبات اللغة بالترجيح، ولو سُلِّم، عُورضَ بأَنَّ الحقائق لمعنى واحد أكثر، فكان أظهر.
قالوا: يحتمل الثلاثة، كالسارق. *
الاشتراك، وأيضاً القطع يطلق على الإِبانة وعلى الجرح فيكون الإجمال ثابتاً في اليد والقطع.
والجواب: لا نسلّم يساوي الاطلاق(1)، وبيانه ما تقدّم.
* أقول: اختلفوا في أَنَّ اللفظ الوارد من الشرع إذا أَمكن حمله على ما يفيد معنى واحداً تارة، وعلى ما يمكن حمله على معنيين، أُخرى - من غير ظهور أحد المحملين - هل يكون مجملاً أم لا؟
ذهب الأكثرون إلى أَنّه ليس بمجمل، وذهب الغزّالي وغيره إلى أَنّه مجمل، وهو اختيار المصنّف.
واحتجَّ عليه بأنّ اللفظ هاهنا يمكن حمله على معنى واحد وعلى
ص: 225
...............
معنيين، وليس هناك ظهور لأحد المحملين على الآخر فيكون مجملاً، إذ معنى المجمل هو هذا.
حجّة المخالف وجهان:
الأوّل: أنّ حمله على المعنيين أولى من حمله على المعنى الواحد، ضرورة كونه أكثر فائدةً، وحمل كلام الشارع على ما هوأكثر فائدة أولى، ومع الظهور لا إجمال.
والجواب: أنّ هذا اثبات اللغة بالترجيح، لأَنّه استدلال على ظهوره في المعنيين لكونه أكثر فائدة.
سَلَّمنا، لكن يعارضه بأَنَّ الحقائق أي الألفاظ الموضوعة على معانيها بالحقيقة إنّما وضعت لمعنى واحد في الأغلب، والحمل على الأغلب أولى، فكان ظاهراً في المعنى الواحد.
الثاني: أنّه يحتمل أنْ يكون اللفظ موضوعاً للمعنى الواحد وللمعنيين على سبيل الاشتراك، ويحتمل التواطؤ، ويحتمل أَنْ يكون حقيقة في أحدهما، مجازاً في الآخر. والاشتراك لازم على تقدير وقوع واحد من هذه الثلاث، ولا شكّ في أَنَّ وقوع واحد من اثنين أقرب، كما مرّ في السارق؛ والجواب ما تقدّم.
ص: 226
قال: مسألة: مالَهُ محمل لغوي ومحملٌ في حكم شرعي مِثلُ:
«الطواف بالبيت صلاة»، ليس بمجمل.
لنا: عُرف الشارع تعريفُ الاحكام، ولم يُبعث لتعريف اللغة.
قالوا: يصلح لهما، ولم يتَّضح.
قلنا: يتضح بما ذكرناه. *
* أقول: اختلفوا(1) في اللفظ الوارد من الشرع إذا امكن حمله على معنى لغوي وحمله على حكم شرعي متجدد، هل يكون مجملاً أم لا؟
ذهب جماعة من الأُصوليين إلى أَنّه مجمل، وهو اختيار الغزّالي وبعض الإمامية.
وذهب آخرون إلى أنّه ليس بمجمل بل هو ظاهر في الحكم الشرعي وهو اختيار المصنّف، مثاله قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «الطواف بالبيت صلاة»(2) فإِنّه يحتمل أنْ يكون المراد منه أَنَّه كالصلاة في افتقارهِ إلى الطهارة، ويحتمل أَنْ يكون المراد: إنّ الطّواف صلاة لغويّة، لاشتمالهِ على الدعاء.
واحتجّ عليه: بأنَّ المعهود من الشرع إنّما هو تعريف الاحكام، ولم يبعث لتعريف اللغة، فكان اللفظ الصادر عنه ظاهراً في الحكم الشرعي المتجدّد.
احتجّ المخالف: بأنّ هذا اللفظ صالح للمعنى اللغوي والشرعي، لأَنَّ
ص: 227
قال: مسألة: لا إجمال فيما له مسمّى لغوي ومسمّى شرعي.
وثالثها، للغزالي في الاثبات، الشرعي، وفي النهي، مجمل.
ورابعها: في النّهي: فاللغويّ فالإثبات مثل: «إنّي صائمٌ».
لنا: أنّ عُرفه يقضي بظهوره فيه.
الإجمال يصلح لهما.
الغزالي في النهي: تعذّر الشرعيّ للزوم صحَّتهِ.
وأُجيب: ليس معنى الشرعي: الصحيح، وإلّا لزم في «دعي الصلاة» الإجمال.
الرابع: في النهي، تعذَّر الشرعي، للزوم صحتهِ، كبيع الحر والخمر.
وأُجيب بما تقدّم وبأنَّ: «دعي الصلاة» للُّغوي وهو باطل. *
المعهود من الشارع استعمال الالفاظ في معانيها اللغوية في الأَغلب، وهذا مع ما ذكرناه دالّ على الإجمال وكونه غير متضّح في أحد المعنيين.
والجواب: لا نسلّم عدم الايضاح بل الحكم الشرعي أوضح، لما ذكرناه أوّلاً.
* أقول: اختلف القائلون بالاسماء الشرعية في أَنّه إذا ورد لفظ له مسمّى لغوي ومسمّى شرعي هل يكون مجملاً أم لا؟ ذهب القاضي أبو بكر تفريعاً على القول بها إلى أَنها مجملة، وذهب بعض الحنفيّة والشافعية إلى أنّه غير مجمل، وهو اختيار المصنّف. وقال الغزّالي(1): إنْ ورد في الاثبات حمل على
ص: 228
...............
الشرعي كقولهِ صلى الله عليه و آله و سلم لعائشة لما سألها: هل عندك شيء؟ فقالت لا، قال: «إنّي لصائم إذن»(1) فإنّه يحتمل الصوم الشرعي ومطلق الامساك إلّاأَنّ الأوّلَ أظهر، وإنْ ورد في النفي كنهيه عن صوم يوم النحر فهو مجمل، وذهب آخرون إلى أنّه في الاثبات ظاهر في المسمّى الشرعي وفي النفي ظاهر في اللغوي.
احتج المصنّف: بإنّ عرف الشارع يقضي بظهور اللفظ في المسمّى الشرعي لما مرّ، فلا إجمال حينئذٍ.
احتج القائلون بالإجمال: بأنّه صالح للغوي والشرعي على ما مرّ.
والجواب قد تقدّم.(2)
احتجَّ الغزّالي بأنّ اللفظ في النهي يتعذّر حمله على المعنى الشرعي، وإلّا لزم صحة الفعل وهو الصوم مثلاً، ضرورة استلزام النهي الصحة إذ الممتنع يستحيل النهي عنه.
والجواب: ليس معنى الصوم الشرعي الصوم الصحيح بل الإمساك مع الهيئات المخصوصة، ولو كان الصوم الشرعي هو الصحيح لكان النهي في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «دعي الصلاة أيّام اقرائك»(3) مجملاً لما قلتم، وليس كذلك للقطع بأنّ المراد النهي عن الهيئة المخصوصة.
ص: 229
...............
واحتج أصحاب المذهب الرابع: بإنَّ لفظ البيع في نهيه صلى الله عليه و آله و سلم عن بيع الحر والخمر(1) لو كان ظاهراً في البيع الشرعي لزم أَنْ يكون متصوراً، لاستحالة النهي عما لا يتصور، والتالي باطل إجماعاً؛ وإذا تعذر ظهوره في المعنى الشرعي - والاجمال متعذّر لما علم - ثبت ظهوره في اللغوي.
والجواب: منع استلزام النهي، الصحة على ما مضي؛ وأيضاً يلزم أن يكون:
«دعي الصلاة» للمعنى اللغوي، وهو باطل قطعاً، لأَنّ الحائض غير ممنوعة من الدّعاء.
ص: 230
قال: الظاهر والمؤوّل:
الظاهر: الواضح، وفي الاصطلاح ما دلّ دلالّة ظنيّة. إمّا بالوضع، كالأسد، أو بالعرف، كالغائط.
والتأويل: من آل، يئول، أي: رجع.
وفي الاصطلاح: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، وإن أردت الصحيح، زدت: «بدليلٍ يصيِّرهُ راجحاً».
الغزّالي: احتمالٌ يعضدهُ دليلٌ يصير به اغلب على الظنِّ من الظاهر.
وَيَرِدُ: أنَّ الاحتمال ليس بتأويل، بل شرطٌ، وعلى عكسه التأويل المقطوع به. *
* أقول: الظاهر في اللغة هو الواضح، يقال: ظهر كذا أي وَضُحَ وانكشف، وفي الاصطلاح عبارة عن: «اللفظ الدالّ دلالة ظنية إمّا بالوضع كالأسد في معناه الحقيقي، أو بالعرف كالغائط المنقول إلى قضاء الحاجة»(1).
ص: 231
...............
والتأويل في اللغة: الرجوع، وفي الاصطلاح عبارة عن: «حمل الظاهر على المحتمل المرجوح»(1) وإنْ أردتَّ حدّ التأويل الصحيح زدت على ما ذكرناه قولك:
«بدليل يصيّرهُ راجحاً».
وقد حدّه الغزّالي بانّه: احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من الظاهر.
وهذا فيه نظر من وجهين:
الأوّل: أن الاحتمال ليس بتأويل بل هو شرط له.
الثاني: يخرج عنه التأويل المقطوع به(2) بأَنّه تأويل وليس باحتمال.
ص: 232
قال: وقد يكون قريباً، وترجح بأدنىٰ مرجح، وقد يكون بعيداً؛ فيحتاج للأقوى، وقد يكون متعذراً فيُرَدُّ.
فمن البعيد: تأويل الحنفية قوله صلى الله عليه و آله و سلم لابن غيلان وقد أسلم على عشر نِسوةٍ: «أمسك أربعاً، وفارق سائرهن»، أي: ابتدئ النكاح، أو أَمسك الأوائل فإنّه يبعدُ أن يخاطب بمثله متجدد في الإسلام من غير بيان، ومَعَ أنّه لم يُنقل تجديد قط.
وأما تأويلهم قوله صلى الله عليه و آله و سلم لفَيْروز الديلمي وقد أسلم على أُختين:
«أمسك أيَّتَهما شئت» فأبعدُ؛ لقوله: «أيتهما». *
* أقول: التأويل منه ما هو قريب يترجح بأدنى مرجح، ومنه ما هو بعيد فيحتاج إلى المرجح الأقوى، ومنه ما هو متعذر فَيُردّ ولا يحمل عليه(1).
فمن البعيد تأويل الحنفية(2) قوله صلى الله عليه و آله و سلم لابن غيلان(3) وقد أسلم على عشرٍ:
«أمسك أربعاً وفارق سائرهنَّ»(4).(5) وقد تأولوه بتأويلات ثلاثٍ:
ص: 233
...............
أحدها: يحتمل أنّه أراد بالإمساك ابتداء النكاح، ويكون معنى قوله: «امسك اربعاً» أي: انكح منهن أربعاً، وقوله: «وفارق سائرهن» أي: لا تنكح سائرهن.
الثاني: يحتمل أَنّه أراد الأمر للزوج بأختيار الأوائل منهن.
الثالث: يحتمل أن يكون النكاح واقعاً في بدو الإسلام قبل تحريم مازاد على الأربع، وأَنكحة الكفار إنّما بطل منها ما كان مخالفاً لما ورد به الشرع في حال وقوعها.
وقد ذكر المصنف وجهين دالّين على بُعد هذه التأويلات:
الأوّل: أنّه يبعد عادة أَنْ يخاطب بمثل هذا الخطاب من يكون متجدد الاسلام من غير بيان سابق لشروط النكاح، مع أَنّ الحاجّة داعية إلى ذلك لقرب عهده بالإسلام.
الثاني: أنّه لم ينقل تجديد النكاح في الصورة المذكورة مع أنّ الظاهر من حال الزوج المأمور امتثال أمره صلى الله عليه و آله و سلم بالامساك.
وأمّا تأويلهم لقوله صلى الله عليه و آله و سلم لفيروز الديلمي(1) وقد أَسلم على أُختين: «امسك أيتهما شئت و فارق الأُخرى»(2)، بالتأويلات المذكورة، فأبعد من التأويلات المذكورة في الصورة الأُولى لأَنّه خيّره بإمساك أيتهما شاء، فجعل الخيرة إليه في الإمساك والفراق، ومذهبهم ليس كذلك لأنّهما غير واقعين بخيرته عندهم، لوقوع الفراق بنفس الاسلام، وتوقف النكاح على رضاء الزوجة.
ص: 234
قال: ومنها: قَوْلُهُمْ في: «فَإِطْعٰامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً»(1) ، أي إطعام طعام ستّين مسكيناً، لأن المقصود دفعُ الحاجة، وحاجَةُ ستّين كحاجة واحدٍ في ستّين يوماً؛ فجُعِلَ المعدوم مذكوراً، والمذكور عدماً مع إمكان قصده لفضل الجماعة وبركتهم، وتضافُر قلوبهم على الدعاء للمُحسنِ. *
* أقول: هذا أحد التأويلات البعيدة للحنفية، قالوا: لأنّ المقصود دفع الحاجة ولا فرق بين إطعام ستّين مسكيناً يوماً واحد وبين إطعام مسكينٍ واحدٍ، ستّين يوماً في دفع الحاجة، وإن وقع بينهما افتراق في شيء غير ذلك فلا اعتداد به في نظر الشارع، إذ المصالح إنّما هي باعتبار الحاجات، والشارع إِنّما نظره إلى المصالح، وإذا كان كذلك وجب هذا التأويل.
ووجه بُعده أمران:
أحدهما: أَنّهم جعلوا مفعول إطعام هو طعام، وهو معدوم فجعلوه موجوداً ليصح عليه أن يكون مفعولاً، وجعلوا ستّين مسكيناً في تقدير العدم مع صلوحه للمفعولية، ولا شكّ في أَنَّ هذا ضعيف فما يتفرع عليه يكون ضعيفاً.
الثاني: أَنّه يمكن في الجماعة حصول مستجاب الدعوة، وأيضاً تطابق الجماعة على الدعاء وبركتهم ليس كحال الواحد، فجاز أن يكون ذلك مطلوباً للشارع بل هو أولى.
ص: 235
قال: ومنها قولُهُم: «في أربعين شاةٍ شاةً» أي: قيمةُ شاةٍ، بما تقدّم، وهو أبعدُ إذ يلزم ألا تجب الشاةُ، وكلُ معنىٰ إذا استنبط من حكمٍ أبطله، باطلٌ. *
* أقول: ومن تأويلات الحنفية(1) البعيدة قولهم في معنى قوله صلى الله عليه و آله و سلم: « في أربعين شاة شاة»، أنّ المراد قيمة شاة بما تقدم، وهو أَنّ المقصود دفع الحاجة سواء كان بالشاة أو بقيمتها لتساويهما في هذا المعنى وافتراقهما فيما لا مصلحة فيه.
ووجه البعد أَنَّ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «في أربعين شاة شاة»(2) ظاهر في تخصيص الشاة بالوجوب عيناً لاختصاصها بالذكر، ولو حمل على ذلك التأويل بناء على أَنّ المقصود إنّما هو دفع الحاجة، رفع الحكم وهو وجوب الشاة بما استنبط من العلّة الّتي هي دفع الحاجة؛ ولا شكّ أنّ كلّ معنى استنبط من حكم وأدّىٰ ذلك الاستنباط إلى بطلان ذلك الحكم فإنّه يكون باطلاً لاستلزام بطلان الأصل بطلان الفرع.
ص: 236
قال: ومنها: حمل: «أيُّما امرأةٍ نكحَتْ نفسها بغير إذن وليّها، فنكاحها باطلٌ باطلٌ» علىٰ الصغيرةِ والأمةِ والمكاتبةِ، و «باطلٌ» أيْ: يَئُولُ إليهِ غالباً؛ لاعتراض الوليِّ، لأنّها مالكةٌ لِبُضعِها، فكان كبيع سلعةٍ.
واعتراض الأولياء: لدفع نقيصةٍ إن كانت، فأبطل ظهورَ قصدِ التعميم بتمهيد أصلٍ مع ظهورِ «أيٍّ» مؤكدةً ب «ما»، وتكرير لفظ البُطلانِ، وحملُهُ علىٰ نادرٍ بعيدٌ كاللُغز مع إمكان قصده، لمنع استقلالها فيما يليقُ بمحاسن العادات. *
* أقول: هذا أحد تأويلاتهم البعيدة،(1) وهو حمل قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أيّما امرأة نكحِت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثاً»(2) على ثلاث معان:
أحدها: أَنّه اراد بالمرأة الصغيرة.
الثاني: أَنّه إن أراد الكبيرة فلعلّه أراد الأمة والمكاتبة.
الثالث: يحتمل أَنّه أراد بالبطلان مصيره إليه في أغلب الاحوال، بتقدير اعتراض الولي عليها إذا زوجت نفسها من غير كفؤ لأَنّها مالكة لبضعها فكان كبيع سلعة، [واعتراض الأَولياء عليها فإِنَّ ذلك البيع مع تعرض الأولياء يصير باطلاً](3)
ص: 237
...............
وإنّما كانت هذه التأويلات بعيدة لأنّها مبطلة للعموم الظاهر من قصده صلى الله عليه و آله و سلم ظهوراً يقارب العلم لأَنّه اراد تمهيد أصل التعميم مع ظهور «أي» الدالة(1) عليه مع تأكيدها بلفظة «ما» وتكرير البطلان مرة بعد أُخرى، ومع حصول هذه الأُمور يعلم قطعاً أَنّ المقصود ما دلّت عليه هذه الألفاظ وهوالعموم وحمل مثل هذا العموم على نادر وهو المكاتبة بعيد، لأنّه يجري مجرى الألغاز فإن الظاهر منها شيء والمراد منها أمرٌ آخر نادر، ولا شكّ في أَنَّ المكاتبة نادرة فحملها عليه نادر، مع إمكان قصد المنع من استقلال المرأة سواء كانت حرة أو أمة أو مكاتبة وصغيرة أو كبيرة فيما يليق بالعادة المنع من استقلالها وهو البضع، فيجب المصير إليه.
والحمل على الصغيرة إنّما كان بعيداً لما ذكرناه أوّلاً؛ ولأَنّ نكاحها لنفسها عندهم صحيح موقوف على الإِجازة، والنبي صلى الله عليه و آله و سلم حكم ببطلانه، والحمل على الأمة ضعيف لما مرَّ، ولأنّه عقَّب بقوله: «فإِنْ مسّها فلها المهر بما استحلَّ من فرجها» والمهر إنّما يستحقه السيد لا هي.
ص: 238
قال: ومنها حملهم: «لا صيام لمن يُبيّت الصيام من الليل» علىٰ القضاء والنذر؛ لِما ثبت عندهم من صحة الصيام بنيةٍ من النهار، فجعلوه كاللُّغَزِ، فإنْ صحّ المانع من الظهور، [طُلب] أقرب تأويل. *
* أقول: من التأويلات البعيدة(1) لهم حمل قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل»(2) على صوم القضاء والنذر لأَنَّ مذهبهم صحة الصوم وإنْ لم تحصل النيّة من الليل إذا وجدت بالنهار، وإنّما كان هذا بعيداً لأَنَّ الصوم نكرة(3)وقد دخل عليه حرف النفي فيفيد العموم على ما سبق، ولا شكّ أَنَّ المتبادر إلىٰ الإِفهام إنّما هو الصوم الأصلي المكلف به في أصل الشرع، فالحمل على القضاء والنذر حمل للظاهر على النادر، وذلك يجري مجرى اللغز.(4)
لا يقال: لا يصح إرادة الظاهر من هذا النفي لأنّه يقتضي نفي الصوم، والأَعيان لا يصح نفيّها.
لأَنَّا نقول: مع تسليم أَنَّ النفي لا يصحّ على الأَعيان الشرعية، يجب
ص: 239
قال: ومنها: حملُهم: «وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ» * على الفقراء منهم؛ لأنَّ المقصود سَدُّ الخَلَّةِ؛ ولا خَلّة مع الغِنىٰ فعطّلوا لفظ العموم مع ظهور أَنَّ القرابةَ سَبَبُ الاستحقاق مع الغنىٰ.
وَعَدَّ بَعْضُهُمْ حَمْلَ مالك: «إِنَّمَا اَلصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ...»(1) إلى آخرها؛ على بيان المصرف من ذلك، وليس منه؛ لأَنَّ سياقَ الآية قبلَها من الردّ علىٰ لمزهم في المعطين، ورضاهم في إعطائهم، وسخطهم في منعهم، يَدّل عليه. *
تأويله بأقرب تأويل وهو نفي الصحة، لأَنَّ نفي الذات يستلزم نفي جميع الصفات ونفي الصحة كذلك، فتقاربا بخلاف غيرها من الصفات، وكان الحمل عليها أولى.
* أقول: ومن التأويلات البعيدة عندهم(2) حمل قوله تعالى: «وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ»(3) في آية الخُمس على الفقير منهم، وإنّما حملوه على أنّ المقصود من دفع الخمس هو سد الخلة، ولا خلة مع الغنى فلا يجوز الدفع.
وإنّما كان ذلك بعيداً لأنَّ دفع الخمس إنّما كان تعظيماً لشأنهم وبياناً لشرفهم ومنزلتهم، وإذا كان المقصود إنّما هو ذلك كانت القرابة علة للدفع ظاهراً، ولا اعتبار بالحاجة الخفية مع أَنّها غير مذكورة.(4)
ص: 240
وقال قوم: إِنَّ حمل مالك آية الزكاة على بيان المصرف لا على التمليك لكل صنف صنف من قبيل التأويلات البعيدة، وسبب بُعدِه أَنَّ الله تعالى أضاف إليهم الصدقة بلام التمليك وعطف بواو التشريك والحمل على بيان المصرف يوجب المنع من التشريك الذي هو ظاهر من الآية.
والمصنف لم يستبعد هذا التأويل لأن سياق الآية يدل عليه لأن الله تعالى ذكر حال قوم يلمزون في الصدقات ويقولون أنَّ محمداً صلی الله علیه و آله يعطي الصدقات م-ن أَحبَّ فإن أعطاهم رضوا وإن منعهم سخطوا، فالله تعالى أراد الرد عليهم وذكر أنَّ ما يفعله محمد صلی الله علیه و آله فهو حق لأنه يعطيها المستحقين وهم | الاصناف التي عدها الله تعالى.
ص: 241
قال: المفهوم
الدلالة: منطوق، وهو ما دّل عليه اللفظ في مَحَلّ النطقِ، وَالمفهومُ بخلافه، أي: لَافي مَحَلِّ النُّطقِ.
والأوّل صريحٌ وهو ما وضع اللفظُ لَهُ، وغيرُ الصريح بخلافِهِ، وهو ما يلزم عنه، فإنْ قُصِدَ وتوقَّفَ الصُدقُ أو الصحةُ العقلية أو الشرعية عليه، فدلالة اقتضاءٍ، مثل: «رُفِعَ عن اُمتي الخطأ والنسيان»، و «وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ»(1) و «أعتق عبدك عنِّي على ألفٍ»؛ لاستدعائه تقرير المِلْكِ، لتوقف العتق عليه.
وإنْ لم يَتَوقف واقترن بِحُكمٍ، لَوْ لم يَكن لتعليله؛ كان بعيداً فتنبيه وإيماءٌ، كما سيأتي، وإن لم يُقصد، فدلالة إشارةٍ؛ مِثلُ: «النساءُ ناقصاتُ عَقلٍ ودينٍ» قيل: وما نُقصان دينهن؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: «تمكث إحداهُنَّ شطر دهرها لا تُصلِّي» فليس المقصود بيان أَكْثَرِ الحيضِ، وأَقَلِّ الطهْرِ، ولكنَّه لَزِمَ من أَنَّ المبالغَةَ تقتضي ذكر ذلك.
وكذلك: «وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً»(2) مَعَ: «وَ فِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ»(3).
وكذلك: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيٰامِ اَلرَّفَثُ...»(4) يلزم منه جواز
ص: 242
الإصباح جُنباً.
ومِثلُهُ: «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ» إلى «حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ»(1) . *
* أقول: الدلالة اللفظية إمّا أن تكون مستفادة من منطوق اللفظ أومن مفهومه، ونعني بمنطوق اللفظ ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق كقوله: «في سائمة الغنم الزكاة»(2) فإن هذا اللفظ يدل بمنطوقه (علىٰ وجوب الزكاة في السائمة؛ والمفهوم بخلاف هذا وهو ما دلّ عليه اللفظ في غير محل النطق كدلالة الحديث المذكور)(3) على عدم الزكاة في غير السائمة، والأوّل على قسمين:
- إمّا أن يكون صريحاً.
- أو لا يكون.
فالصريح ما وضع اللفظ له، وغير الصريح بخلافه وهو ما يلزم عنه فإنْ قُصد وتوَقَّف صدق المتكلم عليه أو توقَّف عليه الصحة العقلية أو الشرعية فتسمَّىٰ تلك الدلالة: دلالة الاقتضاء كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رفع عن أُمتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه» فإِنَّ هذا يدل على رفع الخطأ، والمقصود رفع حكم الخطأ وهو مما يتوقف عليه صدق المتكلم، وكذلك قوله تعالى: «وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ» فإنّ هذا دالٌّ على
ص: 243
...............
سؤال القرية والمقصود سؤال أهلها، وهو ممّا تتوقف عليه الصحّة العقلية، وكذلك قوله: «اعتق عبدك عني على ألف» فإنَّه يستدعي التمليك لتوقف العتق عليه، وهذا ممّا تتوقف عليه الصحة الشرعية. وأمّا إنْ لم يتوقف عليه أحد هذه الثلاثة واقترن التعليل بحكم لو لم يكن لتعليله كان تعبداً، فهو تنبيه وإيماء كما سيأتي بيانُ أقسامِهِ.
وإن لم يُقْصَد لكن يتبع ما يدلُّ اللفظ عليه فيُسمىٰ دلالة الاشارة، مثاله:
تمسّك العلماء في تقدير أقّل الطهر واكثر الحيض بخمسة عشر يوماً لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:
«إنهن ناقصات عقل ودين» فقيل: ما نقصان دينهن؟ فقال: «تقعد إحداهن في قَعْر بيتها شطر دَهرها لا تصوم ولا تصلي»(1) فهذا إنّما سيق لبيان نقصان الدين وما وقع النطق قصداً إلّابه لكن حصل فيه إشارة إلى أكثر الحيض وأقل الطُهر وأَنّه لا يكون فوق شطر(2) الدهر وهو خمسة عشر من الشهر إذ لو تصور الزيادة لتعرض لها عند قصد المبالغة في نقصان دينها.
وكذلك تقدير أقل مدة الحمل بستة أشهر لقوله تعالى: «وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً» وقد قال في موضع آخر «وَ فِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ»(3).
ص: 244
...............
وكذلك القول بأَنَّ من وطئ ليلاً و اصبح جنباً لم يفسد صومه أخذاً من قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيٰامِ اَلرَّفَثُ» .(1) وبقوله: «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا مٰا كَتَبَ اَللّٰهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ»(2) فحد الغاية للجواز إلى طلوع الفجر، فلو لم يجز الإصباح على الجنابة لوجب تحريم الوطىء قبل الفجر بمقدار ما يقع فيه الغُسل.
ص: 245
قال: ثمّ المفهوم مفهوم موافقةٍ، ومفهوم مخالفةٍ:
فالأوّل: أن يكون المسكوت موافِقاً في الحكم، ويسمّى «فحوى الخطاب» و «لحن الخطاب»، كتحريم الضَّرب من قوله تعالى: «فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ»(1) ، وكالجزاء بما فوق المثقال من قوله: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ» ، وكتأدية ما دُون القنطار من قوله: «يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» ، وعدمِ الآخر من:
«لاٰ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» ، وهو تنبيهٌ بالأدنىٰ، فلذلك كان في غيره أولى.
ويُعرف بمعرفةِ المعنى، وأَنّه أشدُّ مناسبة في المسكوت، وَمِن ثم قال قوم: هو قياس جَليٌّ.
لنا: القطع بذلك لغة قبل شرع القياس.
وأيضاً: فأصْلُ هذا القياس قد يندرج في الفرع مثلُ: «لا تُعطِهِ ذرَّةً».
قالوا: لولا المعنى، لَمَا حُكِم.
وأُجيب: بأَنَّه شرطه لغة، ومن ثمَ قال به النافي للقياس.
وقد يكون قطعيّاً، كالأمثلة، وظنيّاً كقول الشافعي في كَفَّارة العمد واليمين الغَمُوس. *
* أقول: دلالة اللفظ على المفهوم(2) إمّا أن تكون موافقة لدلالته
ص: 246
...............
على المنطوق أو مخالفةً، ويسمى الأول مفهوم الموافقة وفحوى الخطاب ولحن الخطاب أي معناه، والثاني مفهوم المخالفة. مثال مفهوم الموافقة دلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب، وكدلالة قوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ»(1) على المجازاة لما فوق المثقال، وكدلالة قوله تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطٰارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينٰارٍ لاٰ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ»(2) على تأدية ما دون القنطار في الأول وعدم تأدية ما زاد على الثاني، وهذا تنبيه بالأَدنىٰ على الأَعلىٰ، ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق، وإنّما يكون كذلك إذا عرف المقصود من الحكم في محل النطق وعرف أَنَّه أشدُ مناسبة للحكم في محل السكوت للحكم في محل النطق، ولأَجلِ اعتبار هذا المشترك ووجوده في محل النطق والسكوت، سمّاه قوم قياساً، ولأجل كون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق سمّوه جليّاً، ونفىٰ الآخرون تسميته قياساً.
وإليه ذهب المصنّف واحتج عليه بوجهين:
الأوّل: إنَّ هذا معلوم قطعاً من اللغة عند قصد المبالغة قبل شروع القياس.
الثاني: إِنَّ أصلَ هذا القياس قد يشتمل عليه حكم الفرع فلا يكون قياساً.
بيان الأوّل: إنَّ من قال لغيره: «لا تعط زيداً حبّة» فإنّه يفهم منه النهي عن إعطاء ما زاد على الحبّة، مع أنّه لو أعطاه الزائد لكان قد أعطاه الحبّة المنهي عنها، فالنهي عن الحبّة يستلزم النهي عن الزائد.
ص: 247
...............
وأمّا الثاني: فظاهر.
واحتج القائلون بكونه قياساً بأَنّه لولا المعنى لما حكم في الفرع بحكم الأصل، لأَنّ المنطوق ليس إلّاالنهي عن التأفيف، لكن لمّا كان النهي إنّما وقع طلباً للإِحترام وكان ذلك المعنى موجوداً في النهي عن الضرب وجب أَنْ يكونَ الضرب منهيّاً عليه، فالحكم بكون الضرب منهيّاً عنه إنّما حصل بالقياس.
والجواب: كون المعنى في محل السكوت أولى منه في محل النطق، شرط لتحقق الفحوى من حيث اللغة، وهذا لا يدل على كونه قياساً.
وقوله: «ومن ثم، قال به النافي للقياس»، يحتمل أحد أمرين:
أحدهما: أنْ يكون المراد منه أَنَّ القائلين بنفي القياس قائلون بمثل هذا أعني:
فحوى الخطاب، فلو كان قياساً لكان النافي له نافياً لهذا القياس.
الثاني: أن يكون المراد منه ما ذكره بعض المستدلين على أَنَّ فحوى الخطاب ليس بقياس، وهو أَنَّ هذا يشترط فيه كون الحكم في محل المسكوت عنه أولى منه في محل المنطوق، والقياس لا يشترط فيه ذلك فيلزم أن لا تكون فحوى الخطاب قياساً. ويكون المراد بقوله: «ثم» الاشارة إلى ما أجاب به من كون الأولوية شرطاً له.
والاحتمال الأول أظهر.
واعْلَمْ أَنّ أولوية إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق على قسمين:
إمّا أن يكون قطعيّاً، وإمّا أن يكون ظنيّاً. مثال الأوّل: الأمثلة الّتي ذكرت هنا، فإِنّا لَمّا علمنا أَنّ التأفيف إنّما عُلم تحريمه لأجل دفع الأَذىٰ لأنَّ الضربَ أكثر أذى، كان أولى منه بالتحريم.
ص: 248
قال: مفهوم المخالفة أن يكون المسكوت عنه مخالفاً، ويسمىٰ دليل الخطاب، وهو أقسام: مفهوم الصفة ومفهوم الشرط، مثلُ: «وَ إِنْ كُنَّ أُولاٰتِ حَمْلٍ» ، والغاية مثل: «حَتّٰى تَنْكِحَ» ، والعددُ الخاصُّ مِثلُ: «ثَمٰانِينَ جَلْدَةً» ، وشرطه أن لا تظهر أولوية ولا مساواة في المسكوت، فيكون موافقة، ولا خَرجَ مخرج الأغلب مثل: «اَللاّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ» ، «فَإِنْ خِفْتُمْ» ، «أيّما امرأةٍ نكحت نفسها بغير إذن وليّها»، ولا لسؤالٍ ولا حادثةٍ، ولا تقدير جهالةٍ أو خوفٍ أو غير ذلك ممّا يقتضي تخصيصه بالذكر. *
ومثال الظني قول الشافعي في كفارة العمد: فإنّ اللّٰه تعالى أوجب الكفارة في كفارة الخطأ بقوله: «وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ»(1) فإنّ هذا وإِنْ دلّ على وجوب الكفارة في العمد لأَنّه أولى بالمؤاخذة إلّاأَنّه ليس بقطعيّ، لأنّ الكفارة لا يعلم وجوبها في الخطأ معللاً بالمؤاخذة لقوله: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» والمراد رفع المؤاخذة، بل نظراً للخاطئ بإيجاب الكفارة عليه ليسقط ذنب التقصير، وجناية العمد فوق جناية الخطأ، وحينئذٍ لا يجب من كون الكفارة في محل الخطأ والأَدنى واجبة، كونها واجبة في المحل الأعلى فإِنّها لا يلزم من إسقاطها لأدنّىٰ الديتين اسقاطها لأعلاهما، وكذلك سقوط الكفارة في اليمين الغموس.(2)
* أقول: لما فرغ من البحث عن مفهوم الموافقة شرع في بيان مفهوم المخالفة(3) والبحث عن أقسامه، أَمّا حدّه فهو: «ما يكون مدلول اللفظ في
ص: 249
...............
محل السكوت مخالفاً لمدلوله في محل النطق» ويُسمىٰ دليل الخطاب، وهو على أصناف عشرة:
أحدها: مفهوم الصفة وهو أنْ يكون اللفظ عامّاً وقد اقترن بصفة خاصّة، كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «في سائمة الغنم الزكاة».
الثاني: مفهوم الشرط كقوله تعالى: «وَ إِنْ كُنَّ أُولاٰتِ حَمْلٍ»(1) .
الثالث: مفهوم الغاية كقوله تعالى: «فَلاٰ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ»(2) .
الرابع: تعليق الحكم بعدد خاص مثل: «ثَمٰانِينَ جَلْدَةً» (3).
الخامس: مفهوم «إنّما» كقوله: «إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا»(4) .
السادس: التخصيص بالوصف الطارئ كقوله: «في السائمة زكاة»(5) وهو قريب من التخصيص بالوصف.
السابع: مفهوم اللقب كتخصيص الاشياء الستة في الذكر بتحريم الربا.
الثامن: مفهوم الاسم المشتق الدال على الجنس كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا
ص: 250
...............
تبيعوا الطعام بالطعام»(1)، وهو قريب من السابع.
التاسع: مفهوم الاستثناء كقولنا: لا عالمَ إلّازيدٌ.
العاشر: مفهوم حصر المبتدأ في الخبر كقولنا: العالم زيدٌ.
والمصنّف ذكر من هذه الأقسام هاهنا أربعة، وسنذكر الباقي فيما بعد، وهذه الأصناف توجد متفاوتة في القوّة والضعف.
واعلم أَنّ من شرط مفهوم المخالفة في دلالته على نفي الحكم عمّا سواه أَنْ لا تظهر أولوية ولا مساواة في المسكوت، فيكون ذلك من قبيل مفهوم الموافقة، وأنْ لا يخرج مخرج الأغلب كقوله تعالى: «وَ رَبٰائِبُكُمُ اَللاّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ»(2) فإنّ الغالب كون الربيبة في الحجر، فذكر هذا الوصف لكونه أغلب، لا لأنّ المراد منه تخصيصه بالتحريم حتى أنّهن إذا لم يكن في الحجر فيكنَّ محللات. وكقوله: «وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا»(3) وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أيّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليِّها، فنكاحها باطل»؛ ومن شرطه أَنْ لايكون التخصيص إنّما وقع للسؤال عن محل النطق أَنَّه لا يكون حادثةً وأَنْ لا يكون تقدير جهالة أو خوف أو غير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر.(4)
ص: 251
قال: فأمّا مفهوم الصفة فقال به: الشافعي، وأحمد، والأشعري، والإمامُ، وكثيرٌ.
وَنفاهُ: أبو حنيفة، والقاضي، والغزّاليُّ، والمعتزلةُ.
البصريّ: إن كان للبيان كالسائمة، أو للتعليم كالتحالف، أو كان ما عدا الصفة داخلاً تحتها كالحكم بالشاهدين.
المثبتون: قال أبو عبيد في: «ليُّ الواجد يُحلُّ عقوبته وعرضه» يدل على أن ليَّ من ليس بواجدٍ لا يُحل عقوبته وعرضهُ، وفي: «مطل الغني
ص: 252
ظلُمٌ»، مثلُهُ.
وقيل له في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «خيرٌ له من أَنْ يمتلئَ شِعراً»، المُرادُ: الهجاءُ وهجاءُ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: لو كان كذلك، لم يكن لذكر الامتلاء معنىٰ، لأنَّ قليله كذلك، فأُلزم من تقدير الصفة المفهوم.
وقال به الشافعي، وهما عالمان بلغة العرب، فالظاهر فهمّهما ذلك لغة.
قالوا: بنيا على اجتهادهما.
أُجيب: بأن اللغة تثبت بقول الأئمة من أهل اللغة، ولايقدح فيها التجويز.
وعورضا: بمذهب الأخفش.
وأُجيب: بأنّه لم يثبت كذلك، ولو سُلِّمَ فمن ذكرناه أرجح، ولو سُلّم فالمُثْبِتُ أَوْلَىٰ. *
* أقول: اختلف الناس في تخصيص العام بالوصف(1) هل يدل على نفي الحكم عما عداه أم لا؟ فذهب الشافعي ومالك و أحمد وأبوالحسن الأشعري وإمام الحرمين وجماعة من الفقهاء والمتكلّمين، ومن أهل العربية أبو عبيدة واتباعه إلى أَنّه يدلّ.(2)
ص: 253
...............
وذهب أبو حنيفة والقاضي والغزّالي والمعتزلة إلى أنّه لا يدلّ.
وذهب أبو عبد اللّٰه البصري إلى أنّه يدلّ في مواضع ثلاث:
أحدها: أن يكون الخطاب قد ورد للبيان كقوله: «في الغنم السائمة زكاة».(1)
الثاني: أَنْ يكون وروده للتعليم كما في خبر التحالف عند التحالف والسلعة قائمة.
الثالث: أن يكون ماعدا الصفة داخلاً تحتها كالحكم بالشاهدين فإنَّه يدلُّ على نفيه عن الشاهد الواحد لدخوله في الشاهدين، وأُمّا في غير هذه المواضع فلا يدلّ.
احتج المثبتون مطلقاً بوجوه:
أحدها: أَنّ أبا عبيدة بن سلام(2) كان من أئمة اللغة وقد قال بدليل الخطاب فيكون حجّةً فإنَّه روي عنه في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ليّ الواجد يحلُّ عقوبته وعرضه» أنَّ المراد أَنَّ ليَّ من ليس بواجدٍ لا يحل عقوبته ولا عرضه، وكذلك في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «مطل الغني ظلم»، وقال أيضاً في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لئن يمتلِئَ جوفُ أَحدِكُمْ قيحاً خيرٌ له من أَنْ يمتَلِيءَ شِعراً»(3) وقد قيل له أَنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم: إنّما أراد الهجاء من الشعر أو أراد
ص: 254
...............
هجاء نفسه صلى الله عليه و آله و سلم لو كان ذلك هوالمراد لم يكن لتعليق ذلك بالكثرة وذكر الامتلاء معنى لأن القليل من الهجاء كالكثير(1) فألزم من تقدير الصفة نفي الحكم عما عداها وهو المفهوم، وقد قال به الشافعي أيضاً، وهو من فضلاء أهل الأدب، فلولم يفهما ذلك لم يقولا به.
اعترضوا على ذلك بأَنّ أباعبيدة والشافعي إنْ قالا ذلك نقلاً عن أهل اللغة كان حجة، ولكنا نمنع ذلك فإنّه ليس في كلام أبي عبيدة ما يدلّ على ذلك، وإنْ كانا قالا ذلك عن نظرهما فهو ليس بحجّة.
اجاب المصنف عن ذلك بأَنَّ فضلاء اللغة يُقلدُون فيما يقولونه، وإِنْ كان هذا التجويز قائماً ولا يقدح ذلك فيما ينقلونه.
واعترض على ذلك بأنّ الأخفش كان من فضلاء الادب ولم يقل بذلك.
وأَجاب بالمنع من النقل عنه، ثمّ لو سلِّم ذلك ومنع مساواته لهما، ثمّ سلم وذكر وجه الأرجحية، فإنّ المثبت راجح على النافي.
ص: 255
قال: وأيضاً لو لم يدل على المخالفة، لم يكن لتخصيص محل النطق بالذكر فائدةٌ، وتخصيصُ آحاد البلغاء لغير فائدة ممتنع، فالشارع أجدر.
واعْتُرض: لا يثبت الوضع بما فيه من الفائدة.
وأُجيب: بأنّه يُعلم بالاستقراء إذا لم يكن للفظ فائدة سوى واحدةٍ تعيّنت، وأيضاً: ثبتت دلالة التنبيه بالاستبعاد اتفاقاً، فهذا أولى.
واعْتُرض بمفهوم اللقب.
وأُجيب: بأنّه لو أُسقط لاختلّ الكلام، فلا مقتضى للمفهوم فيه.
واعْتُرِضَ: بأنَّ فائدته تقويةُ الدلالة حتّى لا يتوهّم تخصيصٌ.
وأُجيب: بأنَّ ذلك فرع العموم، ولا قائل به، ولو سُلِّم في بعضها خرَجَ، فإنَّ الفرض أنّه لا شيء يقتضي تخصيصه سوى المخالفة.
واعْتُرض: بأنَّ فائدته ثوابُ الاجتهاد بالقياس فيه.
وأُجيب: بأنّه بتقدير المساواة يخرجُ وإلّا اندرج. *
* أقول: هذه حجة أُخرى استدل بها المصنّف(1) وهي: أَنّه لو لم يدلّ المفهوم على المخالفة لم يكن للتخصيص فائدة، ولو خصص آحاد البلغاء
ص: 256
...............
لغير فائدة عد عابثاً، فإنّه لو قال القائل: الإنسان الطويل حيوان، كان التخصيص بالطول غير مفيد لأَنّ القصير لما كان مشاركاً للطويل في ذلك لزم ما قلنا، وإذا امتنع التخصيص من آحاد الناس لغير فائدة فالشارع أولىٰ بالامتناع.
اعترض على ذلك بعض المتأخرين بأَنَّ هذا الدليل يرجع إلى إثبات الوضع لما فيه من الفائدة، لأَنْكم قلتم لا فائدة للتخصيص سوى نفي الحكم عمّا عدا ذلك الموصوف، فيكون اللفظ موضوعاً له ودالّاً عليه، ومعلوم أَنّ اثبات الوضع بذكر فائدته لا يستقيم.
أجاب المصنف عن ذلك بأَنّا لا نُثبِتُ هذا الوضع لا بذكر فائدته لا غير، بل نقول: نعلم أَنَّ اللفظ لابدّ له من فائدة ثم ظَننّا عدم الفوائد سوى النفي بالاستقراء، فنظّنُ حينئذ أَنَّ اللفظ موضوع لتلك الفائدة، ومنها أنّ دلالة التنبيه(1) تثبت بمجرد الاستبعاد(2)، كما قلنا أولاً في أقسام الدلالة إنّه إذا اقترن الحكم بمعنى لو لم يكن علة استبعد ذكره معه، فإنّه يكون ذلك المعنى علة، وهذا هو التنبيه(3) فدليل الخطاب أولى.
واعترض على دليل الخطاب بمفهوم اللقب ووجهه أن يقول: لو
ص: 257
...............
كان التخصيص للمنطوق يفتقر إلى الفائدة وأَنَّ تلك الفائدة ليست إلّاسلب الحكم عمّا عداه لوجب أَنْ يكون الأمر كذلك في مفهوم اللقب، ولمّا اجمع المحققون على عدم الدلالة، فكذلك هاهنا.
وأَجاب بالفرق بين مفهوم اللقب ومفهوم الصفة فإنّ اللقب لو أُسقِطَ من الكلام لاختل، بخلاف مفهوم الصفة، فإِنّ من حذف زيداً في قوله: ضرب زيد، إختلَّ كلامه، وليس كذلك لو حذف الطويل من قوله: ضرب زيد الطويل، ولما ظهر الفرق لم يكن التخصيص بالذكر في اللقب يوجب النفي عما عداه.
واعترض أيضاً على دليل الخطاب بأَنّ لقائل أن يقول: لِمَ لا يجوز أن تكون الفائدة هي [تقوية الدلالة حتى لا يتوهم تخصيص وتمحل الصفة بالاجتهاد.
واجاب: بأنّ ذلك فرع العموم ولا قائل به في مثل قولنا: زيد الطويل مضروب، ولو سُلّم في البعض كقوله: في الغنم السائمة زكاة، لكن لو كانت الفائدة ما ذكرتم لزم الخروج عن صورة النزاع فإنّ الفرض أَنّه لا شيء يوجب التخصيص سوى المخالفة، فلو كانت الفائدة في ذكر السائمة ليس إلّاالمنع من تخصيصها عن وجوب الزكاة لبقي الوجوب في المعلوفة بعموم قوله في الغنم، فإذا لم يجب فيها لأجل مخصّص آخر خرج البحث عن موضع النزاع].(1)
ص: 258
...............
واعترض أيضاً عليه بأَنّ فائدته حصول الثواب بالاجتهاد في قياس صورة المسكوت عنه عليه.
وأجاب: بأنّ المسكوت عنه وإِنْ كان مساوياً للمنطوق أو راجحاً في المصلحة المناسبة(1) للحكم، خرج عن محل النزاع، إذ الشرط في مفهوم المخالفة أَنَّ لا يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق ولا أولى ويصير حينئذٍ مفهوم موافقة وقد تقدّم، وإن لم يكن مساوياً، ولا أولىٰ إندرج فيما لا فائدة فيه سوى المخالفة لإستحالة القياس حينئذٍ.
ص: 259
قال: واستُدلَّ: لو لم يكن للحصر لزم الاشتراك إذ لا واسطة، وليس للاشتراك باتفاقٍ.
وأُجيب: إنْ عنىٰ السائمة فليس محل النزاع، وإن عنىٰ إيجاب الزكاة فيها فلا دلالة على واحد منهما.
الإمام: لو لم يُفد الحصر لم يُفد الاختصاص به دون غيره، لأنّه بمعناه والثانية معلومة، وهو مِثلُ ما تقدّم، فإنّه إن عنىٰ لفظ السائمة فليس محل النزاع، وإنْ عنىٰ الحكم المتعلّق بها فلا دلالة على الحصر، ويجريان معاً في اللقب، وهو باطل.
واستُدل بأنّه لو قيل: الفقهاء الحنفية أئمة فضلاءْ، لنفرت الشافعية، ولولا ذلك لما نفرت.
وأُجيب: بأنَّ النَّفْرَةَ من تركهم على الاحتمال كما يُنفر من التقديم أو لتوهم المعتقدين ذلك.
واستُدلّ بقوله: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً» ، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «لأزيدنّ على السبعين»، ففهم أنّ ما زاد بخلافه، والحديث صحيح.
وأُجيب بمنع فهم ذلك، لأنّها مبالغة فتساويا، أو لعلّه باق على أصله في الجواز، فلم يفهم منه. واستدل بقول معلىٰ بن أُميّة لِعُمر: ما بالنا نَقْصُر وقد أَمِنّا، وقد قال تعالى: «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ»(1) ، فقال عمر: تعجبت ممّا تعجبت منه
ص: 260
فسألته صلى الله عليه و آله و سلم فقال: «إنّما هي صدقة تصدق اللّٰه بها عليكم فاقبلوا صدقته»، ففهما نفي القصر حال عدم الخوف، وأقرَّ صلى الله عليه و آله و سلم.
وأُجيب بجواز أَنَّهما استصحبا وجوب الإتمام، فلا يتعيّن.
وأستُدلّ بأَنَّ فائدتَه أكثرُ فكان أولىٰ، تكثيراً للفائدة، وإنّما يلزم من جعلِ تكثيرِ الفائدة يدلُّ على الوضع.
وما قيل من أنّه دور، لأَنَّ دلالتَهُ تتوقف على تكثير الفائدة وبالعكس، يلزمُهُم في كلِّ موضع.
وجوابُه: أَنَّ دلالته تتوقف على تعقّل تكثير الفائدة عندها لا على حصول الفائدة.
واستُدلّ: لو لم يكن مخالفاً لم يكن السَّبْعُ في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «طُهُورُ إناءِ أحدِكُم إذا ولغ الكلبُ فيه أَنْ يَغْسِلَهُ سبعاً» مُطهرّةً، لأنَّ تحصيلَ الحاصلِ مُحَالٌ، وكذلك: «خَمسُ رَضَعاتٍ يُحَرِّمْنَ». *
* أقول: هذه استدلالات من قال بدليل الخطاب،(1) [و] اعترض عليها المصنف:
منها: أَنَّ التخصيص بالوصف لو لم يكن دالّاً على نفي الحكم عما عداه،
ص: 261
...............
لزم وقوع الاشتراك(1)، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية: أنَّ التخصيص قد ورد دالّاً على نفي الحكم عن غيره فيكون حقيقة فيه، لأَنّ الأصل في الاستعمال، وإذا كان حقيقة فيه فلو كان موضوعاً للأمر المطلق - وهو الدلالة على محل التخصيص مع عدم الدلالة على النفي عن غيره - لزم الاشتراك، وأمّا بطلان التالي فظاهر لأنّه متفقّ عليه.
والاعتراض(2) أَنْ يقولَ: إنْ عنيتم بوقوع الاشتراك وقوعه في السائمة، فهو غيرمحل النزاع وغير لازم أيضاً، وإنْ عنيتم وقوعه في إيجاب الزكاة فيها فلا دلالة على إيجاب الزكاة في غيرها ولا على نفيه، فإنّه قد يرد مع كلّ واحد منهما، فهو أعمّ منهما، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ.(3)
ومنها حجّة الإمام وتقريرها: أنّ التعليق بالوصف لو لم يفد الحصر لم
ص: 262
...............
يفد الاختصاص به دون غيره لأنّه في معناه والتالي باطل [والمقدّم مثله والملازمة ظاهرة لأن الاختصاص به دون غيره يعني الحصر، فما لا يفيد الحصر لا يفيد الاختصاص، وبيان بطلان التالي أن فائدة الاختصاص به دون غيره معلوم](1) قطعاً.
والاعتراض أن هذا قريب من الحجّة الأُولى، فإنّه إن عنى(2) لفظة السائمة فليس محل النزاع، وإن عنى الحكم المتعلق بها لم يفد الحصر على أنّ هذين الاستدلالين واردان على اللقب، وهو باطل.(3)
ومنها: أنّ القائل لو قال: «الفقهاء الحنفية أئمة فضلاء» لنفرت منه الشافعية، ولا موجب لنفورهم سوى فهمهم من ذلك أن تخصيص الحنفية بالفضل يوجب النفي عن غيرهم.
والاعتراض: لا نسلم أَنَّ الموجب للنفور ما ذكرتم، بل هاهنا أمران يوجبانه:
ص: 263
...............
الأول: إِنَّ تخصيص الحنفية بذلك يوجب القطع بفضلهم، وترك غيرهم يوجب الاحتمال، وذلك يوجب النفور كما ينفرون من تقديم الحنفية عليهم وإِنْ كانا مذكورين.
الثاني: إنّهم ينفرون لأَنَّهم يريدون نفي توهُّم من يتوهم أَنّ التخصيص بالصفة يدل على نفي الحكم عمّا عداه.
ومنها: قوله تعالى: «إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّٰهُ لَهُمْ»(1).
فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «واللّٰه لأَزيدنَّ على السبعين»(2) فهم صلى الله عليه و آله و سلم إنَّ ما زاد على العدد بخلافه، وذلك يؤيد ما ذكرناه.
والاعتراض من وجهين:
الأوّل: المنع من فهم ذلك، وذلك لأَنَّ المقصود من الآية نفي المغفرة لهم، لأَنَّه تعالى قال: «اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاٰ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّٰهُ لَهُمْ» ، فعلمنا أَنَّ المغفرة قد انتفت مطلقاً وإنّما مثَّلَ بالعدد المخصوص طلباً للمبالغة كما هو عادة العرب، وقد جاء في القرآن ذلك في قوله تعالى: «ذَرْعُهٰا سَبْعُونَ ذِرٰاعاً»(3) ، وإذا كان المقصود من العدد إنّما هو المبالغة استوى ذكره وعدمه، لأَنَّه لا تكون الفائدة هي نفي الحكم عمّا عداه(4).
ص: 264
...............
الثاني: لعل ما زاد على السبعين تجوز فيه المغفرة، لا أنّه موجب للمغفرة، وذلك يكفي في قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لتجويز أن تحصل لهم المغفرة وذلك لا يلزم فهم دليل الخطاب(1).
ومنها: أَنَّ يعلىٰ بن أُميّة قال لعمر: ما بالنا نقصر من الصلاة وقد أَمنّا واللّٰه تعالى قال: «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاٰةِ إِنْ خِفْتُمْ»(2) فقال عمر:
تعجَّبتُ ممّا تعجَّبتَ منه فسألته صلى الله عليه و آله و سلم فقال: «إنّما هي صدقة تصدّق اللّٰه بها عليكم، فاقبلوا صدقته»(3) ففهم عمر وابن أميّة نفي القصر حال عدم الخوف واقرهما الرسول صلى الله عليه و آله و سلم على ذلك، وذلك هو دليل الخطاب.
والجواب: المنع من فهم دليل الخطاب بذلك، وإنّما حصل لهما هذا الشكّ لأَنَّهما استصحبا وجوب الإِتمام، فلمّا نزلت آية التقصير بطل ذلك الاستصحاب مادام الشرط - وهو الخوف - حاصلاً، فلمّا زال الشرط لزم زوال التقصير، وإذا كان كذلك لم يلزم دليل الخطاب.
ص: 265
...............
ومنها: أَنَّ تعليق الحكم على الوصف لا شكّ في دلالته على ثبوت الحكم فيه، وإذا جعلناه دليلاً على نفي الحكم عن غيره كان أكثر فائدة، وجعل اللفظ دالّاً على ما هو اكثر فائدة أولى، فيكون اللفظ موضوعاً لذلك النفي أيضاً.
والاعتراض: أَنَّ هذا إنّما يلزم على من جعل تكثير الفائدة يدل على الوضع، ونحن نمنع ذلك.
واعلم أنّ بعض المتأخرين إعترض على هذه الدلالة أيضاً بلزوم الدور، قال:
لأَنَّ دلالَتَهُ علىٰ نفي الحكم عن غيره تتوقف على [تكثير الفائدة لأَنَّ دلالتَهُ تتوقف على الوضع إجماعاً، والوضع على تكثير الفائدة، لِما قلتم من كون الوضع معلّلاً بتكثير الفائدة والعلّة متقدّمة و](1) تكثير الفائدة يتوقف على الدلالة لأَنّها لا تحصل من دونها.
واعترض المصنف على هذا بأَنّه وارد على كلّ موضع(2) لأَنّ القائل إذا قال:
زيد موضوع لهذه الذات، فإنَّ (3) دلالته عليها تتوقف على حصول الفائدة المتوقفة على الدلالة.
ص: 266
...............
ثم إِنَّه أجاب عن أصل الدور وقال: إنَّ الدلالة تتوقف على الوضع والوضع على تعقّل تكثير الفائدة عند الدلالة لا على حصول الفائدة، فاندفع الدور(1).
ومنها: أنّه لو لم يكن ما عدا محل التخصيص مخالفاً له لم تكن السبع في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أَنْ يغسله سبعاً» مطهرة لأنَّ تحصيل الحاصل محال.
وبيانه: أَنَّ ما دون السبع إنْ كانت مطهّرة، كان استناد التطهير إلى السبع ملزوماً لتحصيل الحاصل وإنْ لم تكن مطهرّة لزم المطلوب وهو أنَّ التخصيص بالذكر يدل على نفي الحكم عما عدا محل التخصيص؛ وكذلك القول في قوله: «خمس رضعات يُحَرِّمْنَ»(2)، بل في كل عدد إستند إليه حكم من الأحكام.
ص: 267
قال: النافي: لو ثبت لثبت بدليلٍ، وهو عقليٌ ونقلي... إلى آخره.
وأُجيب بمنع اشتراط التواتر والقطع بقبول الآحاد، كالأصمعي أو الخليل، أو أبي عبيدة أو سيبويه.
قالوا: لو ثبت لثبت في الخبر، وهو باطل؛ ولأنَّ من قال: في الشَّام «الغنم السائمة» لم يدل على خلافِه قطعاً.
وأُجيب بالتزامه وبأَنّه قياسٌ، ولا يستقيمان.
والحق الفرقُ بأَنَّ الخبر وإنْ دَلَّ على أَنَّ المسكوت عنه غير مُخبر به، فلا يَلْزَم أَلّا يكون حاصلاً، بخلاف الحُكم، إذْ لا خارجيَّ له فيجري فيه ذلك.
قالوا: لو صحّ لما صحّ: «أدّوا زكاة السائمة والمعلوفة» كما لا يصح:
«لا تقل له أفٍّ، واضربْهُ» للتناقض ولعدم الفائدة.
وأُجيب بأَنَّ الفائدة عدمُ تخصصه ولا تناقُض في الظواهر.
قالوا: لو كان لما ثبت خلافه للتعارض، والأصل عدمه، وقد ثبت في نحو: «لاٰ تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعٰافاً مُضٰاعَفَةً».
أُجيب: بأَنَّ القاطع عارض الظاهِرَ فلم يَقوَ، وتَجِبُ مخالفة الأصل بالدليل. *
* أقول: احتجّ القائلون بعدم دليل الخطاب بوجوه:
ص: 268
...............
الأوّل: لو دلّ تقييد الحكم بالوصف على نفيه عما عداه(1) لكانت تلك الدلالة إمّا ثابتة بالعقل أو بالنقل، والأوّل باطل لأَنّ العقل لا مجال له في اللغات، والثاني باطل لأَنّ النقل إما متواتر أو آحاد، والمتواتر لا سبيل إلى الإدِّعاء به في هذا المقام، والآحاد لا يفيد القطع فلا يكون حجة.
والجواب: لم لا يثبت بالنقل الآحادي، والتواتر غير مشترط، ويجوز التمسّك بالآحاد في مثل هذه المسائل مع أَنّا نقطع بأَنَّ العلماء لم يزالوا يستدلّون على الأحكام بقول بعض الأُدباء المشهورين كالأصمعي والخليل وأبي عبيدة وسيبويه وغيرهم، فعلمنا أَنّ التواتر غير مشترط.
الثاني: لو كان تخصيص الحكم بالصفة يدل على نفيه عما عداها في الأمر، لكان تخصيصه بها يدل على نفيه عما عداه في الخبر، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
وبيان الشرطية: القياس والجامع ما اشتركا فيه من كون كلّ واحد منهما نوعاً من الكلام قد يقيّد بالوصف، وأَمّا بطلان التالي فظاهر فإنّا نعلم أَنَّ من قال: في الشام «الغنم السائمة» لم يدل على خلافه قطعاً.
والجواب: أَنّا نلتزم في الخبر ذلك، وأيضاً فهو قياس في اللغة فلا يسمع.
والمصنف أبطل كل واحد من الجوابين(2)، وذكر أَنّ الحقّ الفرق بين الخبر
ص: 269
...............
والأمر، بأَنّ الخبرَ لا يدل على أَنَّ المسكوت عنه غير مخبر به ولا يلزم من ذلك أَنْ لا يكون المسكوت عنه بخلاف ما أُخبر به في نفس الأمر بخلاف الحكم فإنّه لا خارج له، فإذا عُلِّق على صفة كان المسكوت عنه بخلافه إذْ لا حكم في الخارج.
الثالث: لو كان تعليق الحكم على صفة يستلزم نفي الحكم عن ما عداها، لزم أن لا يصحّ قولنا: «أدّوا زكاة السائمة والمعلوفة»(1) كما أَنَّه لا يصحّ أَنْ يقال: «ولا تقل لهما أفٍ واضربهما» وأيضاً يلزم التناقض لأَنّ وجوب الزكاة في السائمة إذا كان دالّاً على عدم وجوبها في المعلوفة، كان التعقيب بوجوب الزكاة في المعلوفة ينزل منزلة قوله: «لا يجب في المعلوفة ويجب فيها»، ومعلوم حصول التناقض في ذلك
ص: 270
...............
وإلّا لما حصلت الفائدة بقوله: «والمعلوفة».
والجواب: الفائدة عدم تخصيص المعلوفة بالاجتهاد.
قوله: «يلزم التناقض» قلنا: هذا ممنوع فإنّه لا تناقض بين الألفاظ الظاهرة والصريحة بل يجب الجمع بينهما.
ووجهه: أَنَّ التعليق يدلّ على النفي ما لم يكن هناك نصٌّ على المساواة.
الرابع: لو كان التعليق على الوصف يستلزم عدم الحكم عما غايره(1)، لزم التعارض في ما يكون مساوياً والأصل عدمه، وقد ثبت في نحو قوله تعالى: «لاٰ تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعٰافاً مُضٰاعَفَةً»(2).
والجواب: أَنَّ القاطع إذا عارض الظاهر لم يقو الظاهر على دفعه، ويجب مخالفة الأصل عند ظهور دليل يدل على المخالفة أقوى منه(3).
ص: 271
قال: وأَمّا مفهوم الشرط، فقال به بعضُ من لا يقولُ بالصفة.
والقاضي، وعبدالجبار، والبصري على المنع.
للقائل به ما تقدَّم، وأيضاً يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط.
وأُجيب: قد يكون سبباً.
قلنا: أجدَرُ إنْ قيل بالاتحاد، والأصلُ عدَمُهُ إنْ قِيلَ بالتعدُّدِ.
وأُورد: «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً»(1).
وأُجيب بالأغلب وبمعارضة الإجماع. *
...............
الثاني: أنّه يلزم من انتفاءِ الشرط انتفاءُ المشروط وإلّا لم يكن شرطاً وإلّا لزم أن يكون كلّ شيء شرطاً لكلّ شيء لأَنّه إذا كان لا يلزم من وجوده وجود المشروط ولا من عدمه عدمه فكلّ أمرين مختلفين يكون أحدهما شرطاً للآخر وهو باطل قطعاً، والداخل عليه حرف الشرط يسمّىٰ شرطاً لغةً.(1)
وأُجيب عن هذا بأَنّ الشرط قد يكون سبباً ولا يلزم من عدم السبب عدم المسبب لجواز قيام سبب آخر يقتضي وجود المسبب(2).
والاعتراض عليه: أنَّ كونه سبباً أجدر في مطلوبه لأَنّه أبلغ من الشرط ويلزم من عدمه عدم المسبب إنْ كان واحداً والتعدد معدوم بالأصل.
قال القاضي وأبوعبد اللّٰه:
إنّ الشرط لا يلزم من نفيه نفي المشروط لما في قوله تعالى: «وَ لاٰ
ص: 273
قال: مفهوم الغاية: قال به بعضُ من لا يقول بالشرط، كالقاضي وعبدالجبار.
للقائل به ما تقدّم، وبأنّ معنى: «صوموا إلى أن تغيب الشمسُ» آخرُهُ غيبوبةُ الشمسِ، فَلَو قُدِّر وجوبٌ بعدَه لم يكن آخِراً. *
تُكْرِهُوا فَتَيٰاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً»(1) فإِنّه لو كان انتفاء الشرط ملزوماً لانتفاء المشروط لجاز الاكراه إذا لم يُردن التحصّن.
والجواب: أَنّ الإِكراه إنّما يكون حالة ارادة التحصّن(2) لا حالة إرادة عدمه، ولو سُلِّم فهو معارض بالاجماع.
قال: وأمّا مفهوم اللقب فقال به الدقّاق، وبعضُ الحنابلة، وقد تقدّم، وأيضاً فإنّه كان يلزم من: «محمد رسول اللّٰه» و «زيدٌ موجودٌ» وأشباهه، ظهورُ الكفر.
واستُدِلَّ بأَنّه يَلزمُ منه إبطالُ القياس، لظهور الأصل في المخالفة.
وأُجيب: بأنَّ القياس يستلزم التساوي في المتفق عليه، فلا مفهوم، فكيف به هاهنا.
قالوا: لو قال لمن يخاصمه: ليست أُمّي بزانية، ولا أُختي، تبادرت نسبةُ الزنا إلى أُمِّ خصمه وأُخته، وَوَجب الحدُّ عند مالك وأحمد.
قلنا: من القرآئن، لا مِمَّا نحن فيه. *
بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم إلى أَنّه يدلّ.
وخالف في ذلك جماعة من الحنفية والفقهاء والمتكلّمين.
احتج القائلون بأنّه يدل بمثل ماتقدم في الوصف، وأيضاً بقوله: «صوموا إلى أن تغيب الشمس» معناه صوموا صوماً آخره غيبوبة الشمس، فلو قُدِّر وجوبٌ بعد الغاية، لم تكن الغاية غايةً بل وسطاً، وهو محال.
...............
عمّا عداه أم لا؟ فذهب المحققون إلىٰ أَنّه لا يدلّ، وذهب الدقّاق(1) وبعض الحنابلة إلى أَنّه يدلّ.
والدليل على أَنّه لا يدلّ [ما تقدّم من أنّ مفهوم اللقب مردود، وأيضاً فإنَّ](2)قول القائل: «عيسى رسول اللّٰه» و «زيد موجود» لو دلّ على نفي الرسالة عن غير عيسى ونفي الوجود عن غير زيد لزم أَنْ لا يكون محمد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وأنَّ لا يكون الإله موجوداً، وذلك كفرٌ ظاهر.
واستدل بعض النافين لمفهوم اللقب بأنّه لو كان تعليق الحكم على الاسم يدل على نفيه عما عداه بطل القياس والتالي باطل فالمقدّم مثله، وبيان الشرطية انّ القياس إنّما يكون حجّة على تقدير نفي النص في الفرع، فإذا كان النص الدالّ في الأصل دالّاً على نفي الحكم عن الفرع كان العمل به متعيّناً، فيبطل القياس.(3)
والجواب: أنّ القياس المتفق عليه يستلزم تساوي الفرع(4) والأصل فيه
ص: 276
قال: وأمّا الحصر ب «إنّما» فقيل: لا يفيد، وقيل: منطوقٌ.
وقيلَ: مفهومٌ.
الأوّل: إنّما زيدٌ قائم، مثل: إنَّ زيداً قائم، والزائدُ كالعَدَم.
الثاني: «إِنَّمٰا إِلٰهُكُمُ اَللّٰهُ» بمعنى: ما إلهكم إلّااللّٰه سبحانه، وهو المدَّعي، وأمّا مثلُ: «إنّما الأعمال بالنيّات» و «إنّما الولاءُ لمن أعتق» فضعيفٌ، لإنّ العموم فيه لغيره، فلا يستقيم لغير المعتق ولاءٌ ظاهراً. *
كما في كثير من الأقيسة الّتي أُصولها الاحكام المعلقة على الصفات فلا يفهم هناك، فكيف به هاهنا مع كونه معلقاً على اللقب.
احتجّ المخالف بالعرف فإنّ من قال لغيره المخاصم له: ليست أُمي بزانية ولا أُختي، تبادر إلى الفهم نسبة الزنا إلى أُمّ المخاطب وأُخته، ووجب الحدّ عند مالك وأحمد، وذلك يدل على المفهوم.
والجواب: لو سُلِّم ذلك لكان إنّما تعرف المخالفة من القرائن، لا ممّا نحن فيه.
* أقول: اختلف الناس في «إنّما» هل تفيد الحصر أم لا؟ فذهب
ص: 277
...............
الأكثرون إلى أَنّها تفيده، وقال آخرون: إنّها لا تفيده، واختلف الأولون: فقال قوم: إنّ الإِفادةَ إنّما حصلت بمنطوق اللفظ، وقال آخرون: إنّها حصلت بمفهومه.
احتجّ النافون للإِفادة: بأَنَّ قولنا: إنّما زيد قائم، في معنى: أَنّ زيداً قائم، والزائد - وهو لفظة ما - كالمعدوم لا فائدة له، وهذا ممنوع إذ هو نفس الدعوى.
واحتجّ المثبتون: بأَنَّ معنى قوله تعالى: «إِنَّمٰا إِلٰهُكُمُ اَللّٰهُ»(1) : ما إِلٰهكم إلّا اللّٰه سبحانه، وهو المراد من الحصر.
لا يقال: لو دلّ لفظ «إنّما» على الحصر بمنطوقه لما صحّ عمل بغير نيّة، ولا الولاء لغير المعتق عملاً بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّما الولاء لمن اعتق»،(2) و «إنّما الأعمال بالنيّات»(3)، والتالي باطل لعموم صحة العمل في المنويّ وغيره، والولاء للمعتق وغيره، لمن كاتب أو باع العبد من نفسه.
لأَنّا نقول: العموم مستفاد من غير الحديث كالإجماع مثلاً، أَمّا نظراً إلى نفس الحديث فلا يستقيم لغير المعتق ولاءٌ ظاهراً، ولا عمل بغير نيّة.
ص: 278
قال: وأمّا مفهوم الحصر.
فمِثلُ: صديقي زيدٌ، والعالم زيدٌ، ولا قرينَةَ عهد.
فقيلَ: لا يُفيد.
وقيل: منطوقٌ.
وقيل: مفهومُ.
الأوّل: لو أفادهُ لأفاد العكس، لأنّهُ فيهما لا يصلح للجنس، ولالمعهود مُعيَّن، لعدم القرينة، وهو دليلهم، وأيضاً: لو كان لكان التقدّمُ يُغيِّرُ مَدلول الكلمة.
القائل به: لو لم يُفدهُ لأخبر عن الأعمّ بالأخصّ، لتعذُّر الجنس والعهد، فوجب جَعَلهُ لمعهود ذهني بمعنى الكامل والمنتهي.
قلنا: صحيح واللام للمبالغة، فأين الحصر؟
وأُجيب: بل جعله لمعهود ذهنيٍ مثل: «أكلت الخبز» ومثل: «زيد العالم» هو المعروف.
وأيضاً يلزمه: زيد العالم، بعين ما ذكر.
وهو الّذي نصَّ عليه سيبويه في: «زيد الرجل».
فإنْ زَعَم أنّه يُخبر بالأعم فغلط، لأَنَّ شرطه التنكيرُ.
فإِنْ زُعِم أَنَّ اللام لزيد فغلط لوجوب استقلالهِ بالتعريف منقطعاً عن زيد، كالموصول. *
* أقول: اختلفوا في مثل قولنا: «العالم زيد» و «صديقي عمرو» هل
ص: 279
...............
يفيد حصر العلم في زيد والصداقة في عمرو أم لا؟ فذهبت جماعة الحنفية والقاضي إلى أنّه(1) لا يدلّ. وقال الغزالي: إنّه يدل بمفهومه وقال آخرون: إنّه يدلّ بالمنطوق.
واحتجّ الأوّلون بأَنّ هذا اللفظ لو أفاد الحصر لأَفاده مع العكس والتالي باطل اتفاقاً فالمقدم مثله، وبيان الشرطية: أَنَّ اللام في الأصل والعكس لا تصلح للجنس ولا للعهد لعدم القرينة، فليس لها دلالة حينئذٍ إلّاالحصر فوجب(2) أَنْ يكونَ مراداً، وإلّا لخرج اللفظ عن الدلالة(3).
وهذا هو بعينه دليلهم على الحصر.
ص: 280
...............
وأيضاً لو كان يفيد الحصر لكان التقديم بغير مدلول الكلمة، والتالي باطل فالمقدّم مثله، والشرطية ظاهرة لأَنّ قولنا: «زيد صديقي» لا شكّ في أَنَّه لا يفيده؛ وأَمّا بطلان التالي فظاهر أيضاً، لأَنَّ التقديم والتأخير إنّما هو تصرف في الألفاظ قد يغيّر بعض معانيها الحاصلة بالتركيب، ولا يغير المعاني الإفرادية.
احتجّ الآخرون: بأَنَّ قولنا: «العالم زيد» لو لم يكن للحصر لكان قد اخبر بالخاصّ عن العام، والتالي باطل لكذب قولنا: «الحيوان انسان» والمقدّم مثله، والشرطية ظاهرة لأَنَّ العالم ليس للعهد ولا للجنس لتعذرهما - على ما مرّ - فوجب جعله لمعهود ذهني وهو معنى الكامل المنتهي وذلك يستلزم ما قلناه.
والجواب: أَنّه لمعهود(1) ذهني مثل قولنا: «أكلت الخبز» و «زيد العالم»، وهذا هو المعروف، وإنْ كنّا لا نريد به الإستغراق؛ وأيضاً يلزمه قولنا: «زيد العالم» لعين ما ذكر فإنَّ المراد بالعالم ليس هو الجنس ولا العهد لتعذرهما بل: المعهود الذهني، ويلزم ما ذكره، اللّهم إلّاأنْ يجوز الإخبار بالاعم عن الاخص وهو خطأ لأنَّ شرط الخبر(2) التنكير وأَن جعل اللام في قولنا: «زيد العالم»، لزيد، كان خطأ أيضاً لأنّ اللام معرّفة بالاستقلال وإن لم(3) يمكن كسر(4) زيد، كالموصول.
ص: 281
قال: النسخ: الإزالةُ، نسخت الشمسُ الظلّ، والنقل: نسخت الكتاب، ونسختْ النحلُ، ومنه المناسخات.
فقيل: مشترك. وقيل: للأوّل. وقيل: للثاني.
وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعيٍّ متأخرٍ، فيخرج المباحُ بحكم الأصل، والرفع بالنوم والغفلة، وبنحو: صلِّ إلى آخِر الشهر.
ونعني بالحكم ما يحصُلُ على المكلف بعد أن لم يكن، فإنّ الوجوب المشروط بالعقل لم يكن عند انتفائه قطعاً، فلا يَردُ: الحكمُ قديمٌ، فلا يرتفع؛ لأنّا لم نعنه، والقطع بأنّه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفىٰ الوجوب، وهو المعنيُّ بالرفع.
الإمام: اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأوّل، فيردُ أنَّ اللفظ دليلُ النسخ ولايطرد، فإن لفظ العدل: «نُسِخَ حكم كذا» ليس بنسخٍ، ولا ينعكس؛ لأنّه قد يكون بفعله صلى الله عليه و آله و سلم. ثُم حاصلُهُ اللفظ الدّال على النسخ، لأنّه فسّرَ الشرطَ بانتفاء النسخ، وانتفاءُ انتفائهِ حُصُولُهُ.
وقال الغزاليُّ: الخطابُ الدّال على إِرتفاع الحُكم الثابت بالخطاب المتقدّم على وجهٍ لولاه لكان ثابتاً مع تراخيهِ عنهُ.
وأُورد: الثلاثة الأُوَلُ، وأنَّ قولهَ: على وجهٍ... إلى آخرهِ زيادةٌ.
وقالت الفقهاء: النصُ الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخر عن مورده.
وأُورد: الثلاثة الأُول، فإنْ فرُّوا من الرفع لكون الحكم قديماً والتعلق قديماً، فانتهاءُ أمد الوجوب يُنافي بقاءه عليه، وهو معنى الرفع،
ص: 282
وإنْ فّروا لأَنَّه لا يَرْتَفِعُ تعلّقُ بمستقبلٍ لَزِمَهم منعُ النسخ قبل الفعل كالمعتزلة وإنْ كان لأنّه بيانُ أمدِ التعلّق بالمستقبل المظنون إِستمرارهُ، فلابدَّ من زوالِهِ.
المعتزلة: اللفظُ الدال على أَنَّ مثلَ الحكم الثابت بالنصِّ المتقدّم زائلٌ على وجهٍ لولاه لكان ثابتاً، فيردُ ما على الغزّالي، والمقيّد بالمَّرة بفعلٍ. *
* أقول: النسخ(1) يطلق في اللغة على معنيين:
أحدهما: الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظلَّ.
والثاني: النقل، يقال: نسخت الكتاب أي نقلته، ونسخت النحلُ العسلَ، أي نقلته، ومن بابهِ المناسخات وهو انتقال الإرث من واحد إلى آخر.
واختلف الناس هاهنا فقال القاضي والغزّالي: إنّه مشترك بين الإزالة والنقل، وقال أبوالحسين: إنّه موضوع للإزالة، وقال القفّال: إِنّه موضوع للنقل.
وأمّا في الاصطلاح فقد اختلفوا في معناه فحدَّه قوم: «بأَنّه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر»، فرفع الحكم جنس، والتقييد بالشرعي، فصل له يخرج به رفع الحكم في الأصل من الإباحة المرفوعة بالحكم الشرعي، وقولنا: بدليل شرعي فصل له آخر يخرج به رفع الحكم بالنوم والغفلة، فإنّه ليس رفعاً بدليل شرعي،
ص: 283
...............
وقولنا: متأخر فصل آخر يخرج به المخصصات المتصلة كالشروط والغايات والاستثناءات؛ وحينئذٍ ينطبق الحدّ على النسخ.
واعترض على هذا بعض الأُصوليين بأَنّ الحكم خطاب اللّٰه المتعلّق بافعال المكلفين بالاقتضاءِ أو التنجيز أو بالوضع عند الأشاعرة، وخطاب اللّٰه تعالى قديم فكيف يصحّ عدمه؟
وأجاب المصنف عن هذا: بأَنّ المراد بالحكم هاهنا ما يحصل على العبد بعد أَنْ لم يكن(1) فإنّ المشروط بالفعل غير ثابت عند انتفائه، ولا شكّ في أَنَّ الفعل حادث فيكون الوجوب حادثاً، ولا نعني بالحكم هاهنا ما ذكرتموه، وأيضاً فإنَّنا نقطع بأَنّه إذا ثبت تحريم شيء بعد أَنْ كان واجباً انتفىٰ ذلك الوجوب وهو المعني من الرفع(2).
وحدّة الإمامُ (3) بأنّه اللفظ الدال على ظهور انتفاء شرط دوام [الحكم] الأول. والاعتراض عليه من وجوهٍ:
أحدها: أَنّ اللفظ ليس بنسخ وإنّما هو دليل النسخ.
الثاني: أَنَّ هذا الحدّ لا يطَّرِد فإنّ العدل إذا قال: نُسخ الحكم الفلاني، كان
ص: 284
...............
ذلك لفظاً ظاهراً في الدلالة على انتفاء شرط دوام [الحكم] الأول(1) وليس بنسخ إجماعاً.
الثالث: أَنّه لا ينعكس لأنَّ النسخ قد يكون بالفعل كما يكون بالقول.(2)
الرابع: أَنَّ حاصل هذا الحدّ أنَّ النسخَ هو اللفظ الدالّ على النسخ لأَنّه قال:
اللفظ الدال على انتفاء شرط دوام الأول.(3)
وفيه شرط دوام الأول بانتفاء النسخ وانتفاء الغاية حصوله، ويلزم من ذلك الدور المحال.
وحدّه الغزّالي: بأَنّه الخطاب الدالّ على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدّم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه، وهذا الحدّ أخذه الغزالي من القاضي أبي بكر.
وقصد ب «الخطاب» كلّ خطاب سواء دل بمفهومه أو بمنطوقه وخرج عنه الموت واشباهه، فإنَّ به يرتفع الحكم وليس بنسخ لما لم يكن خطاباً، وقيَّد:
«بالخطاب المتقدّم» لأَنّ رفع الأحكام العقلية ليس بنسخ، وقيد بقوله: «على وجه لولاه لكان ثابتاً» لتخرج عنه الاحكام المقيّدة بالمدّة، فإنَّ ذلك الحكم يرتفع عند إنتهاء المدّة لذاته، وقيد «بالتراخي» لتخرج عنه المخصّصات المتصلة.
ص: 285
...............
وترد على هذا الحدّ الثلاثة الأُولىٰ المورودة على الحدّ الأوّل، لأَنَّ الخطاب دليل النسخ وليس به، وأيضاً فالعدل إذا قال: هذا الحكم منسوخ، فإِنّه خطاب دالٌّ على ارتفاع الحكم،(1) وأيضاً فالنسخ قد يكون بالفعل فكيف يصحّ منه تخصيصه بالخطاب؟ ويرد على ذلك أَنَّ هذا(2) قد اشتمل على زيادة لا فائدة فيها، وهو قوله:
«على وجه لولاه لكان ثابتاً» لأَنّه إنّما ذكر احترازاً عن الأَحكام المقيّدة بالمدة، وهذا يخرج بقولنا: رفع الخطاب الثاني لأنَّ هذه الصورة، الحكم فيها يرتفع لا بالخطاب بل بانتهاء مدة الحكم، وقوله أيضاً: «مع تراخيه عنه» لا فائدة فيه لأنّه وقع احترازاً عن الاستثناء والشرط والصفة، وهذه الأمور تخرج بالرفع، لأَنّ هذه مثبتات للخطاب فإنَّ تقييد الحكم بالوصف ليس برافع لذلك الحكم بل هو مبيّن لأنّ بعض الصور لم يتناولها الخطاب وكذلك الشرط والاستثناء.
وحدَّه الفقهاء: بأنّه النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخّر عن مورده.
وترد عليه الثلاثة الأُول المورودة على الحدّين الأولين، وهؤلاء القوم إن طلبوا الفرار من التحديد بالرفع لأَنّ الحكم عندهم قديم والتعلق قديم(3) فلا يصح رفعهما، ورد عليهم ذلك بعينه لأنَّ انتهاء مدّة الوجوب ينافي بقاء الوجوب وإلّا لم تكن تلك نهاية المدّة، وإذا لم ينف الوجوب حصل رفعه؛ مع أَنّهم قد أَخذوا في حدِّهم انتهاءَ مدّة الحكم.
ص: 286
...............
وإِنْ فرّوا من الرفع لأجل أَنَّ التعلق بفعل المستقبل لا يرتفع،(1) لزمهم المنع من النسخ قبل الفعل كما هو مذهب المعتزلة لأَنَّ نسخ الفعل قبل حضور وقته نسخ للتعلق بالفعل المستقبل، وإِنْ كان(2) لأَنَّه عندهم بيان أمد التعلق المستقبل(3)المظنون استمراره(4) وليس برفع، فلابدّ معه الإزالة الّتي هي معنى الرفع.
وحدّه المعتزلة: بأنّه اللفظ الدالّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنصّ المتقدّم زائل على وجه لولاه لكان ثابتاً.
وإنّما قالوا: «مثل الحكم» لأَنَّ الحكمَ إمّا أَنْ يكون ثابتاً أو لا، فإنْ كان ثابتاً استحال رفعه، وإِنْ لم يكن استحال رفعه، فالمرفوع إذن ليس إلّامساوي الثابت.
ويرد على هذا الحدّ ما أُورد على حدّ الغزّالي، ويرد عليه النص المقيّد بالمرة الواحدة(5) فإنّه مستحيل نسخه حينئذٍ، والمعتزلة يلتزمونه.(6)
ص: 287
قال: والإجماع على الجواز والوقوع. وخالفت اليهود [في الجواز] وأبو مسلم الأصفهاني في الوقوع.
لنا: القطع بالجواز، وإنْ اعتبرت المصالح فالقطع أَنَّ المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات.
وفي التوراة: أَنَّه أَمَرَ آدم عليه السلام بتزويج بناته من بنيه، وقد حُرِّم ذلك باتفاق.
واستُدلَّ بإباحة السبت ثم تحريمه، وبجواز الختان ثُمّ إيجابه يوم الولادة عندهم، وبجواز الأُختين ثم التحريم.
وأُجيب: بأَنَّ رفعَ مُباح الأصلِ ليس بنسخٍ.
قالوا: لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر: هذه شريعةٌ مؤبدةٌ.
قلنا: مختلقٌ.
قيل: من ابن الراوندي، والقطعُ أَنّهُ لو كان عندهم صحيحاً لقضت العادة بقوله صلى الله عليه و آله و سلم.
قالوا: إنْ نَسَخَ لحكمةٍ ظهرت له لم تكن ظاهرةً له فهو البَدَاء، وإلّا فعبثٌ.
وأُجيب: بَعدَ اعتبارِ المصالح أَنَّها تختلف باختلاف الأَزمان
ص: 288
والأحوال، كمنفعة شرب دواءٍ في وقت أو حالٍ وضرره في آخَرَ، فلم يتجدَّد ظهور بما لم يكن.
قالوا: إِنْ كان مقيّداً فليس بنسخٍ، وإنْ دلّ على التأبيد لم يُقبَل، للتناقض بأنّه مؤبَّد ليس بمؤبدٍ، ولأَنّه يؤدِّي إلىٰ تعذُّر الإِخبار بالتأبيد، وإلى نفي الوثوق بتأبيد حكمِ ما، وإلى جواز نسخ شريعتِكم.
وأُجيب: بأنّ تقييد الفعل الواجب بالتأبيد لا يمنع النسخ كما لو كان معيّناً، مثل: «صُمْ رمضانَ» ثم ينسخ قبله، فهذا أجدر.
وقوله: «صَم رمضان أبداً» بالنص يوجب أَنَّ الجميع متعلَّقُ الوجوب، ولا يلزم الاستمرار، فلا تناقض كالموت، وإنَّما الممتنع أنْ يُخْبِر بأنَّ الوجوب باقٍ أبداً، ثم ينسخ.
قالوا: لو جاز لكان قبل وجوده، أو بعده، أو معه، وارتفاعُهُ قبل وجوده أو بعده باطل ومعه أجدر، لاستحالة النفي والإِثبات.
قلنا: المراد أَنَّ التكليف الّذي كان زال كالموت لا أَنَّ الفعل يرتفعُ.
قالوا: إمّا أنَّ يكونَ الباري سبحانه عَلِمَ استمراره أبداً، فلا نسخ أو إلى وقت معيّنٍ، فليس بنسخٍ.
قلنا: إلىٰ الوقت المعيّن الّذي علم أَنّه ينسخه فيه، وعِلْمُهُ بارتفاعه بالنسخ لا يمنع النسخ.
وعلى الاصفهانيّ: الاجماعْ علىٰ أَنَّ شريعتَنا ناسخة لما يخالفها،
ص: 289
ونسخ التوجُّهِ والوصيُّةِ للاقربين بالمواريث، وذلك كثيرٌ. *
* أقول: اتّفق المسلمون على جواز النسخ خلافاً لبعض اليهود(1)، واتّفقوا أيضاً على الوقوع وخالف في ذلك أبومسلم بن بحر الاصفهاني.
واستدل المصنف على الجواز بأنّا نقطع بذلك قطعاً لا شكّ فيه، فإنّه ليس بمستحيل أنْ يكلِّف اللّٰه تعالى عبيده في وقتٍ فعلاً ثمّ يرفعه عنهم.
وأمّا إِنْ اعتبرت المصالح في التكليف كما هو مذهب المعتزلة فالجواز ثابت أيضاً، لأَنّا نعلم أَنّ المصالح تتغير بتغير الأوقات.
ويرد على اليهود وقوع النسخ فإنّه قد ورد في التوراة أَنّه أُمرِ آدم عليه السلام بتزويج بناته من بنيه وقد حُرّم ذلك بالاتفاق، وأيضاً فإِنَّ اللّٰه تعالى قال لنوح وقت خروجه من الفلك: «أني جعلت لك كلّ دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه»، وقد حرم كثيراً من الدواب على من بعده من أرباب الشرائع، وغير ذلك من الوقائع الكثيرة في التوراة، وذلك يدلّ على وقوع النسخ.
وقد استدلّ بعضهم على الجواز بأُمور:
منها: إِباحة العمل يوم السبت، قد كان حاصلاً ثم نُسخ ذلك وحرِّم.
ومنها: جواز الختان قد كان ثابتاً في شرع إبراهيم عليه السلام بعد الكبر، ثمّ صار واجباً يوم الولادة عندهم، لأنّ موسى عليه السلام أوجبه.
ومنها: أن الأُختين قد كانتا مباحتين جمعاً في شرع يعقوب عليه السلام ثمّ حُرِّمتا.
واعترض المصنف على هذه الإِلزامات بأَنّ هذه الأحكام المتجددة
ص: 290
...............
غيرُ ناسخة لما تقدمها، لأَنَّ المتقدّم إنَّما هو الإباحة الثابتة بالعقل، ورفع الحكم العقلي ليس بنسخ على ما مضى.
واحتجّ اليهود على مقالتهم بوجوه:
أَحدَها: أَنّ موسى عليه السلام نُقِل عنه نقلاً متواتراً أنّ شريعته مؤبدة فلو جاز نسخها لبطل هذا القول ويلزم تكذيب موسى عليه السلام.
والجواب: هذا الحديث مختلق، وقيل إنّه من ابن الراوندي(1)، والقطع حاصل بأَنّه لو كان هذا الحديث عندهم صحيحاً لعارضوا به النبي صلى الله عليه و آله و سلم لقضاء العادة بذلك، فلمّا لم يعارضوه به دلّ على كذبه فيه.
الثاني: إِنَّ الحكم المنسوخ إِمّا أَنْ يُنسخ لحكمة ظهرت له تعالىٰ لم تكن ظاهرة، وإِمّا أن لا يكون، والأول يلزم منه البداء(2) وهو محال، والثاني يلزم
ص: 291
ص: 292
...............
منه العبث.
والجواب هذا مبنيّ علىٰ أنَّ الأحكامَ مشروطةٌ بالمصالح وليس كذلك، ولو سُلِّم فنقول هذا إنّما يتمّ على تقدير استمرار المصلحة، أَمّا على تقدير اختلافها باختلاف الاوقات والاحوال فلا، وذلك كالدَّواءِ فإِنّه قد ينفع في وقت ويضر في آخر، وعلى هذا التقدير لا يلزم ظهور أمر خفي.
والثالث: الحكم المنسوخ إمّا أَنْ يكون مقيّداً بوقت وإمّا أَنْ يكون مؤبَّداً، فإن كان مقيّداً بوقت لم يكن زوال الحكم حينئذٍ نسخاً بل إنّما زال لإِنتهاء مدّتِهِ، وإنْ كانَ دالَّاً على التأبيد لم يقبل النسخ وإلّا لزم التناقض لأَنَّ الحكم دال على التأبيد والنسخ دال على عدمه، ولأَنَّه لو جاز نسخ الحكم المؤبد تعذر الإخبارُ عن التأبيد، فإِنَّه ما من حكم أُخبر عنه بالتأبيد إلّاويجوز أن يكون منسوخاً، وأيضاً لو وقع النسخ
ص: 293
...............
في الحكم المؤبَّد لم يبق وثوق بتأبيد حكم أصلّاً(1)، فإنّه يلزم من ذلك جواز نسخ شريعة محمد صلى الله عليه و آله و سلم وإن قُيّدت بالتأبيد.
والجواب أنْ نقول: تقييد الفعل بالتأبيد لا يمنع النسخ، وكيف لا يكون ذلك وهو شرطه، وأبلغ من هذا ما ذهب إليه الأشاعرة من جواز نسخ الفعل قبل حضور وقته؛ وقولهم: «يلزم التناقض للإخبار بأنّه مؤبّد وليس بمؤبّد»، ممنوع لأَنَّ الأمرَ بشيء في المستقبل - وإِنْ كان بصيغة التأبيد كقولهم: «صم رمضان أبداً» - يوجب بدلالة النص أَنَّ الجميع متعلق الوجوب، ولا يلزم من ذلك استمرار الوجوب فلا يتناقض كالموت(2)، نعم الممتنع: الإخبار ببقاء الوجوب أبداً ثم النسخ.(3)
الرابع: لو جاز النسخ لكان إِمّا قبل الفعل أو بعده أو معه، والكلّ باطل، أمّا الأوّل فلأَنّ ارتفاع الشيء مسبوق بوجوده، وأمّا الثاني فلأَنّ ارتفاع الفعل الّذي وجد وانقضىٰ محال، وأَمّا الثالث فلأَنّه يلزم منه ارتفاع الشيء حال وجوده، وذلك يستلزم اجتماع النقيضين وهو أبلغ في الاستحالة.
والجواب: المراد من النسخ إنّما هو رفع التكليف الّذي كان ثابتاً على المكلف، كما تقول في الموت(4) ولا نعني بذلك أنَّ الفعل يرتفع.
ص: 294
...............
الخامس: إمّا أنّ يكون اللّٰه تعالى علم استمرار الحكم أبداً أو إلىٰ وقت معيّن، وعلى التقديرين لا نسخ، أَمّا الأول فلأنّ علم اللّٰه تعالى يستحيل انقلابه جهلاً. وأَمّا الثاني فلأنّ ارتفاع الحكم المقيّد بالغاية عند وجود الغاية ليس بنسخ.
والجواب: أَنّ اللّٰه تعالى يعلمه مستمراً إلى وقت الارتفاع بالنسخ، وعلمه بارتفاعه بالنسخ لا يمنع من النسخ بل يقويه ويحققه.
وأَمّا الرد على الاصفهاني فالإجماع على أَنَّ شريعتنا ناسخة لما يخالفها، على أَنَّ التوجه إلى القبلة ناسخ للتوجه إلى بيت المقدس، وآية المواريث عندهم ناسخة لآية الوصية للأقربين، وأمثال ذلك كثيرة.
ص: 295
قال: مسألة: المختار: جواز النسخ قبل وقت الفعل، مثل:
حُجّوا هذه السنة، ثم يقول قبله: لا تحُجّوا. ومنع المعتزلة
والصيرفيُّ.
لنا: ثبت التكليف قبل وقت الفعل، فوجب جوازُ رفعه، كالموت.
وأيضاً، فكُلُ نسخٍ كذلك، لأنّ الفعل بعد الوقت ومعه يمتنع نسخه.
واستُدلَّ بأَنَّ ابراهيم عليه السلام أُمِرَ بالذبح بدليل: «اِفْعَلْ مٰا تُؤْمَرُ»(1) وبالإقدام وبترويع الولد، ونُسخ قبل التمكّن.
واعْتُرض: بجواز أنْ يكون موسعاً.
وأُجيب بأَنَّ ذلك لا يمنع رفع تعلّقِ الوجوب بالمستقبَل، لأَنَّ الأمرَ باقٍ عليه، وهوالمانع عندهم، وبأنّه لو كان موسّعاً لقضت العادة بتأخيره رجاءَ نسخِهِ أو موته، لِعِظَمِهِ.
وأَمّا دَفْعُهُم بمثل: لم يُؤمر، وإنّما تَوَهَّم، أو أُمِرَ بمقدماتِ الذبح، فليس بشيء، أو ذَبَحَ وكان يلتحم عَقِيْبَهُ، أو جُعِل صفيحة نُحَاسٍ أو حديدٍ، فلا يُسمع، ويكون نسخاً قبل التمكّن. قالوا: إنْ كان مأموراً به ذلك الوقت توارد النفي والإثبات، وإن لم يكن فلا نسخ.
ص: 296
وأُجيب: بأنَّه لم يكن بَل قَبْله، وانقطع التكليف عندَهَ كالموت. *
* أقول: اختلفوا في جواز النسخ قبل دخول وقت الامتثال(1)، مثل:
«حجّوا في هذه السنة» ثمّ يقول قبل الوقت: «لا تحجّوا في هذه السنة» فذهب الأشاعرة إلى جوازه، وذهبت المعتزلة إلى المنع منه، وهو مذهب أبي بكر الصيرفي وبعض أصحاب أحمد بن حنبل.
احتجّ المجوزون بوجوه:
الأوّل: أنّ التكليف قبل وقت الفعل واقع اتفاقاً فوجب جواز رفعه حينئذٍ كالموت.(2)
الثاني: لو منع من النسخ قبل الفعل لزم إبطال النسخ أصلاً، فإنَّ كلَّ نسخ إنّما هو رفع الحكم قبل وجود وقته، لأنَّ الفعل بعد الوقت ومعه يمتنع نسخه، وإلّا لزم نسخ المرتفع واجتماع النقيضين، فلم يبق النسخ وارداً إلّاعلى الفعل قبل حضور وقته.
وهذان الوجهان ارتضاهما المصنف، وهما ضعيفان؛ أَمّا الأول فلأَنّا لا نسلم جواز رفع التكليف الثابت قبل الفعل، وإلّا لم يحصل منه فائدة التكليف
ص: 297
...............
فيكون التكليف عبثاً(1)، وأَمَّا الموت فيُمنع كون مَنْ علم اللّٰه تعالى أَنَّه يموت قبل الفعل(2) مكلّفاً، وأمّا الثاني: فالفرق حاصل لأَنَّ التكليف الّذي فُعل في بعض الأوقات جاز رفعه في البعض الآخر لحصول الفائدة منه ولجواز تغيّر المصلحة فيه بحسب تغيّر الوقت، أَمّا التكليف الّذي لم يُفعل البتة ولا حضر وقت فعله، لو رفع لفُقِدت الفائدة منه واستحال تغيّر المصلحة فيه بحسب تغيّر الوقت.
الثالث: أنَّ إبراهيم عليه السلام أُمر بذبح ولده ونُسخ ذلك قبل التمكّن، وأَمّا الصغرى فبدليل قوله: «اِفْعَلْ مٰا تُؤْمَرُ»(3) يعني في قوله: «إِنِّي أَرىٰ فِي اَلْمَنٰامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ»(4).(5) وبالإِقدامِ على الذبح وترويع الولد وتخويفه(6)، وأمّا الكبرى فظاهرة.(7)
ص: 298
...............
واعترض بعض الأُصوليين على هذا بأنّه إنّما يلزم ذلك على تقدير أن يكون النسخ وقع قبل التمكّن من الإمتثال، ونحن نمنع ذلك بل إنّما وقع بعد التمكن من الامتثال، والخلاف وقع في ذلك لا في جواز النسخ قبل التمكّن، ولا يتم ذلك إلّا ببيان أَنَّ الأمرَ على الفور، وأَنَّ وقت الأمر كان مضيّقاً لا موسّعاً ثمّ ينسخ، ولكن ذلك ممنوع.
وأجاب المصنف عن هذا الاعتراض من وجهين:
أحدهما: أَنَّ كونه موسّعاً لا يمنع رفع تعلّق الوجوب بالمستقبل،(1) لأنّ الأمر باق،(2) وهو المانع عندهم من نسخ الشيء قبل فعله.
الثاني: إِنَّ هذا الأمرَ لو كان موسّعاً لوقع التأخير من إبراهيم عليه السلام بقضاء العادة بذلك رجاءً لنسخه أو موته(3) فيزول عنه التكليف بذلك لعظم هذا الأمر.
ص: 299
...............
واعْلم أَنّ جماعةً من الاصوليين دفعوا اصل الاستدلال من وجوه:
أَحدها: أَنّه عليه السلام لم يُؤمر بالذبح وإنّما تَوهَّم ذلك، أو أَنَّه أُمِرَ بمقدمات الذَبْح وهذا ليس بشيء لأَنّ قوله: «إِنِّي أَرىٰ فِي اَلْمَنٰامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ»(1) - مع أَنّ منامات الأنبياء عليهم السلام لا يتطرق إِليها الغلط لكونها وحياً - يدفع ذلك، وأيضاً فلو لم يكن مأموراً بالذبح لم يكن محتاجاً إلى الفِداء.
الثاني: أَنّه امتثل وذبح وكان كُلَّما قطع جزءً لحمهُ اللّٰه تعالى.
الثالث: أنّه جعل على حلقه (خلفه) صفيحة نحاس أو من حديد وكان يمتنع من الذبح.
وهذان العذران ضعيفان، أمّا الأول فلانّه لو كان كذلك لما أُحتيج إلى الفداء.
وأمّا الثاني فلأنّه تكليف ما لا يطاق فهو باطل عند المعتزلة، وأيضاً فلأنّه قد ينسخ الفعل قبل التمكّن منه، وذلك عين المطلوب.
واحتجّ المانعون بأنّ التكليف في وقت الفعل إِنْ كان مأموراً به مع رفعه عنه لزم توارد النفي والاثبات، وهو التكليف وعدمه وهو محال، وإنْ لم يكن مأموراً به في ذلك الوقت لم يكن نسخ. وأجاب المصنف بأَنّه في ذلك الوقت ليس بمكلَّف لوجود الناسخ وقد كان مأموراً قبل ذلك الوقت بالفعل فيه، ولولا النسخ لاستمرَّ الأمرُ إلى ذلك الوقت بل انقطع التكليف عند ذلك الوقت للناسخ كالموت.
ص: 300
قال: مسألة: الجمهور [على] جواز النسخ مثل: صوموا أبداً، بخلاف: الصومُ واجبٌ مستمرٌ أبداً.
لنا: لا يزيد على: صُمْ غدّاً ثم ينسخ قبله.
قالوا: متناقض.
قلنا: لا منافاة بين إيجاب صوم غدٍ وانقطاع التكليف قبله، كالموت. *
* أقول: اتّفق الجمهور على أنّ الحكم إذا قارنه لفظ التأبيد قبِل النسخ إذا كان أمراً(1)، واختلفوا في الخبر.
واستدلّ المصنّف بأَنّ قوله: «صوموا أبداً» لا يزيد على قوله: «صوموا غداً» مع قبول الأخير النسخ قبل الفعل على ما مضى فيكون الأول قابلاً له، وأيضاً شرط النسخ وروده على أمر أريد منه الدوام، والتأبيد هو الدوام، فكيف يكون شرط الشيء منافياً له؟
احتجّوا: بأنَّ الأمرَ به على التأبيد مع رفعه ممّا يتناقضان.
والجواب: أَنّه لا منافاة بين إيجاب صوم غد، وانقطاع التكليف بالناسخ قبله، كما في الموت وقد مضى.
ص: 301
قال: مسألة: جواز النسخ من غير بدل.
لنا: أنَّ مصلحة التكليف قد تكون في ذلك، وأيضاً فإنّه قد وقع كنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر، وتحريم إدّخار لحوم الأَضاحي.
قالوا: «نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهٰا أَوْ مِثْلِهٰا».
وأُجيب بأَنَّ الخلاف في الحكم لا في اللفظ. سلمّنا لكن خُصِّصَ.
سلمنا ويكون نسخه بغير بدل خيراً لمصلحة عُلِمت، ولو سُلِّم أنّه لم يقع، فمن أينَ لم يَجُز. *
* أقول: إِتّفق الجمهور(1) على جواز النسخ لا إلى بدل، وخالف في ذلك بعض الناس، والدليل على جوازه أَنَّ مصلحة التكليف قد تكون في عدمه في وقت والشكّ في أنّ التكليف تابع للمصلحة عند المعتزلة، فكان في ذلك الوقت ساقطاً. وعند الأشاعرة الأمر فيه ظاهر فإِنّهم لا يعللون بالمصالح. وأيضاً فإنّ النسخ لا إلى بدل قد وقع وهو دليل على الجواز وبيان وقوعه نسخ وجوب الإِمساك بعد الفطر في الليل، وتحريم إِدِّخار لحوم الأضاحي، وتقديم الصدقة عند المناجاة، وغير ذلك.
احتج المخالف بقوله تعالى: «مٰا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهٰا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهٰا أَوْ مِثْلِهٰا»(2) .
والجواب من وجوه:
ص: 302
......
أحدها: أَنّ الخلاف إنّما وقع في وجوب الاتيان بحكم آخر لا في الاتيان بآية أخرى.
الثاني: أَنّ هذا عام ويجوز تخصيصه وقد خُصِّص بما ذكرناه أوّلاً.
الثالث: لِمَ لا يجوز أَنْ يكون عدم الحكم خير من وجوده لمصلحة علمها اللّٰه تعالى، فإذا رفعه يكون قد أَتىٰ بالخير.
الرابع: أَنَّ هذا يدل على عدم الوقوع لا على عدم الجواز.
ص: 303
قال: مسألة: الجمهور على جواز النسخ بأَثْقل.
لنا: ما تقدّم، وبأَنَّه نُسخ التخيير في الصوم والفدية، وصوم عاشوراء برمضان، والحبس في البيوت بالحدِّ.
قالوا: أبعدُ في المصلحة.
قلنا: يَلزمُكم في إِبتداءِ التكليفِ، وأيضاً، فقد يكون عَلِمَ الأَصلَحَ في الأَثْقل كما يُسْقِمُهم بعد الصِّحَّة ويُضعِفَهم بعد القوّةِ.
قالوا: «يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ» ، «يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ».
قلنا: إِنْ سُلِّم عمومٌ فسياقُها للمآلِ في تخفيف الحساب وتكثير الثواب، أو تسميةٌ للشيء بعاقِبَتِهِ مثلُ:
لِدُوا للموت وابْنُوا للخرابِ
وَإِنْ سُلِّم الفورُ فمخصوص بما ذكرناهُ كما خُصَّتْ ثِقَاُل التكاليفِ والإِبتِلَاءُ باتِّفاقٍ.
قالوا: «نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهٰا أَوْ مِثْلِهٰا» والأشقُّ ليس بخير للمكلّف.
وأجيب: بأنّه خيرٌ باعتبار الثواب. *
...............
في ذلك بعض أهل الظاهر، والدليل على جوازه ما قدّمناه من كون التكليف منوطاً بالمصلحة وجاز مقارنة المصلحة للأَثقل.
وأيضاً فإِنّه قد وقع وذلك لأَنَّ اللّٰه تعالى أَوْجب في إِبتداءِ الإسلام صوم رمضان أو الصدقة عنه ثمّ نسخ ذلك بتعين الصوم، ولا شكّ أَنّ تعيين الصوم أَثقل من التخيير بينه و بين الفداء، وأيضاً نسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وهو أثقل، ونسخ الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم وهو أثقل.
احتجّوا(1) بوجوه:
أحدها: أَنّ التكليف بالأَثقل أبعد في المصلحة،(2) فيكون غير واقع.
والجواب: أَنّ هذا لازم في التكليف المُبتدأ(3)، وأيضاً فقد يكون الأَصلح في الأَثقل(4) في علمه، كما أَنّه يمرّض الصحيح لمصلحة ويضعّف القوي لمصلحة.
الثاني: قوله تعالى: «يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ»(5) وقوله:
«يُرِيدُ
ص: 305
...............
اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ»(1) وذلك يقتضي المنع من النسخ بالأثقل.
والجواب: لا نسلِّم العموم في كلّ تكليف، ولو سُلِّم ذلك فالمراد منها(2)أَحوال الآخرة في تخفيف الحساب وتكثير الثواب، أو يكون المراد منه العاقبة مثل قوله: «لِدُوا للموت وابنوا للخراب»(3)، ولو سلمنا أنَّ المراد به الأحوال الدنيوية لكنّه مخصوص بما ذكرناه من الأحكام كما خُصَّت ثقال التكاليف، والابتلاء منه بالإتفاق.
الثالث: قوله تعالى: «مٰا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهٰا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهٰا أَوْ مِثْلِهٰا»(4) والأشق ليس بخير ولا مماثل. والجواب: أنّ الأشق خير باعتبار الثواب.
ص: 306
قال: مسألة: الجمهور على جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس؛ ونسخهما معاً. وخالف بعض المعتزلة.
لنا: القطع بالجواز، وأيضاً: الوقوع عن عمر: كان فيما أُنزل: «الشيخ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتَّة»، ونُسِخَ الاعْتِدادُ بالحول.
وعن عائشة: كان فيما أُنزل: «عشر رضعاتٍ مُحرِّمات».
والأَشبه جواز مس المحدث للمنسوخ لفظه.
قالوا: التلاوة مع حكمها كالعلم مع العالمية، والمنطوق مع المفهوم، فلا ينفكّان.
واُجيب: بمنع العالمية والمفهوم، ولو سُلّم فالتلاوة أمارة الحكم ابتداءً لا دواماً فإذا نُسخَ لم ينتف المدلول، وكذلك العكس.
قالوا: بقاء التلاوة توهم بقاء الحكم فيوقع في الجهل.
وأيضاً فتزول فائدة القرآن.
قلنا: مبنيُّ على التحسين، ولو سُلّم فلا جهل مع الدليل لأَنَّ المجتهد يعلم، والمقلد يرجع إليه، وفائدته كونه معجزاً وقرآناً يُتلىٰ. *
...............
جواز نسخ كلّ واحدة منهما مع بقاء الأُخرى ونسخهما معاً، وخالف بعض المعتزلة في ذلك.
والدليل على الجواز؛ أَنّه لا يلزم منه محال قطعاً، وأيضاً الوقوع دالّ عليه، رُوي عن عمر أَنَّه قال:
«كان فيما أنزل اللّٰه تعالى: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة».(1)
وقد نسخت التلاوة دون الحكم.
وروي عن عائشة: «كان فيما أُنزِل عشر رضعات محرِّمات، فنسخت بخمس» وليس في المصحف عشر رضعات محرِّمات ولا حكمها، فهما منسوخان.
ونسخ الاعتداد بالحول(2) مع بقاء التلاوة.(3)
والأولى على هذا البحث جواز مس المحدث للمنسوخ لفظه لخروجه عن كونه قرآناً، وعدم جواز مسه للمنسوخ حكمه مع بقاء تلاوته لبقائه قرآناً.
احتجّوا(4): بأَنّ منزلة التلاوة من الحكم كمنزلة العلم من العالمية، والحركة من المتحركية، والمفهوم من المنطوق، ووجه المشابهة بينهما أَنّ العالمية لا تتحقق من دون العلم، والمتحركية لا تتحقق من دون الحركة، والمفهوم لا يتحقق من
ص: 308
...............
دون المنطوق، والحكم لا يتحقق من دون التلاوة فقد وقعت المشابهة بينهما في الاستلزام، ولَمَّا امتنع هناك انفكاك العلم عن العالمية فكذا هاهنا.
والجواب: المنع من مغايرة الحركة للمتحركية والعلم للعالمية(1)، ولو سُلِّم ذلك فالتلاوة أمارة للحكم ابتداءً لا دواماً فلا يلزم من نسخها نسخ المدلول ولا العكس(2).
واحتجّوا أيضاً: بأنَّ بقاء التلاوة من دون الحكم يوهم بقاؤه فيلزم الوقوع في الجهل وتزول فائدة القرآن(3)، وهي التبيان والإيضاح.
والجواب: هذا مبنيٌ على قاعدة الحسن والقبح وهي ممنوعة عند الأشاعرة؛ ولو سُلِّم فالجهل إنّما يلزم لو لم يوجد دليل على النسخ، أمّا مع وجوده فلا، والدليل يفهمه المجتهد، والمقلد يرجع إلى المجتهد، وفائدة بقاء التلاوة إِعجاز المتلو وكونه قرآناً يُتلىٰ فتحصل منه فائدة الثواب.
ص: 309
قال: مسألة: المختار: جواز نسخ التكليف بالإخبار بنقيضه، خلافاً للمعتزلة.
وأما نسخ مدلول خبر لا يتغيّر، فباطلٌ. والمتغيّر كإيمان زيدٍ، وكفرهِ مثلُهُ؛ خلافاً لبعض المعتزلة. واستدلالهم بمثل: «أنتم مأمورون بصوم كذا» ثم يُنسخ برفع الخلاف. *
* أقول: إِتّفق الناس على جواز نسخ تلاوة الخبر، وعلى جواز نسخ التكليف به بأَنْ يكون قد كُلِّفنا الإخبار بشيء، ثمّ ينسخ عَنَّا التكليف بالإخبار عنه، سواء كان ذلك الخبر مما يتغيّر مدلوله كوجود زيد أو لا يتغير كوجود اللّٰه تعالى.
واتّفقوا على امتناع نسخ مدلول الخبر إذا كان لا يتغير، وإنّما الخلاف وقع في مقامين:
الأول: هل يجوز نسخ الإخبار بشيء بالإخبار بنقيضه إذا كان مدلول الخبر لا يتغير؟
اتفقت المعتزلة على امتناعه لأنّه كذب، والتكليف بالكذب قبيح غير واقع من اللّٰه تعالى، والاشاعرة لَمّا بطل عندهم هذا الأصل جوزوا ذلك.
الثاني: هل يجوز نسخ مدلول الخبر إذا كان متغيّراً كالإخبار بإيمان زيد؟ هل يجوز رفعه؟
ذهب القاضي أبو بكر والجبّائي وأبو هاشم وغيرهم إلى امتناعه، وذهب
ص: 310
...............
أبو عبد اللّٰه البصري والقاضي عبد الجبار وأبوالحسين البصري(1) إلى جوازه، وفصّل آخرون فقالوا: الخبر إنْ كان ماضياً استحال نسخه وإِنْ كان مستقبلاً كان جائزاً.
واحتجّ المانع: بأنّه يكون كذباً، كما لو قال: أهلك اللّٰه زيداً، ثمّ قال: ما أهلك اللّٰه زيداً.
وأجاب المجوزون: بأَنَّ الإخبار هاهنا عن أمر متحدّ، فيستحيل رفعه بخلاف الإِخبار عن المتكرر فإِنَّه لمّا كان عامّاً جاز رفع بعضه، ويكون الناسخ معرِّفاً لإخراج بعض ما تناوله اللفظ، كما في الأوامر والنواهي.
واستدلالهم - يعني استدلال المجوزين - بجواز نسخ الخبر الّذي يكون مدلوله حكماً شرعياً تكليفياً نحو: «أنتم مأمورون بصوم كلّ رمضان» يرفع الخلاف بينهم وبين المانعين لأنَّهم أيضاً يجوزون نسخه، قالوا: لأَنَّ الخبر إذا كان على ما وصفنا كان في معنى الأمر، فيجوز نسخ حكمه كما جاز نسخ حكم الأمر والنهي.
ص: 311
قال: مسألة: يجوز نسخ القرآن بالقرآن كالعدّتين، والمتواتر بالمتواترِ، والآحاد بالآحاد، والآحاد بالمتواتر، وأَمَّا نسخُ المتواتر بالآحاد فنفاه الأكثرون، بخلاف تخصيص العامِّ، كما تقدَّم.
لنا: قاطعٌ فلا يقابله المظنون.
قالوا: وَقَعَ بأَنَّ أهلَ قُبٰاءَ سمعوا مناديه صلى الله عليه و آله و سلم: ألٰا إنَّ القبلة قد حُوِّلت، فاستداروا، ولم يُنْكر عليهم.
أُجيب: عَلِموا بالقرائن، لما ذكرناه.
قالوا: كان يرسل الآحاد بتبليغ الأَحْكامِ مبتدأةً وناسخةً.
أُجِيبَ: إلّاَ أَنْ يكون ممّا ذكرناه، فيعلم بالقرائن، لما ذكرناه.
قالوا: «قُلْ لاٰ أَجِدُ»(1) نسخ بِنَهْيِهِ عن أكلِ «كُلِّ ذي ناب من السباع» فالخبرُ أجدرُ.
أُجيب: إمَّا بمنعهِ، وإمَّا بأنَّ المعنى: لا أجدُ الآن. وتحريم حلال الأصل ليس بنسخٍ. *
...............
في الاعتداد بالحول المنسوخ بالاعتداد بأربعة أشهر وعشر، أو في وجوب تقديم الصدقة بقوله: «أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقٰاتٍ»(1) الآية، ووجوب ثبات الواحد للعشرة بقوله: «اَلْآنَ خَفَّفَ اَللّٰهُ عَنْكُمْ» (2). واتفقوا أيضاً على جواز نسخ السُنَّة المتواترة بالسنة المتواترة، ونسخ الآحاد من السنة بالمتواتر منها، ونسخ الآحاد بالآحاد كتحريم زيارة القبور وإباحتها؛ واختلفوا في نسخ المتواتر منها بالآحاد بعد اتفاقهم على جوازه عقلاً، فمنعه الجمهور واثبته أهل الظاهر.
واحتجّ الجمهور: بأَنّ المتواتر قاطع والآحاد مظنون فلا يقابله بل يعمل بالمتواتر ويطرح المظنون.
احتجّ الظاهريون بوجوه:
أحدها: أَنّ وجوب التوجّه إلى بيت المقدس كان ثابتاً بالسُنَّة المتواترة وأهل قُباءَ كانوا يصلّون إليه، فلمّا نسخ جاءهم منادي رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فقال لهم: «إِنَّ القبلة قد حُوِّلت» فاستداروا في الصلاة بمجرد خبره،(3) والرسول صلى الله عليه و آله و سلم لم يُنكر عليهم ذلك.
والجواب: يُحتمل أَنَّهم إنّما رجعوا للقرائن المنضمّة إلى ذلك الخبر كإعلان الناس بذلك وقربهم من مسجده صلى الله عليه و آله و سلم(4)، والقرائن قد تفيد العلم ومثل هذا
ص: 313
...............
الخبر يجوز النسخ به.
الثاني: أنَّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم كان يُنفذ آحاد الناس إلى اقطار الأَرض ليبلِّغوهم الاحكام المبتدأة والناسخة من غير فرق بينهما، ولولا قبول الآحاد في ذلك وإلّا لما وجب القبول ولَما ساغ للرسول صلى الله عليه و آله و سلم الإِنفاذ.
والجواب:(1) إنّما كان يفعل ذلك إذا انضم إلى ذلك الخبر من القرائن ما يوجب.
الثالث: أَنّه قد نُسخ قوله تعالى: «لاٰ أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ»(2) «الآية» بتحريم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كلّ ذي ناب من السباع(3)، مع أَنّه من الآحاد، وإذا نُسخ(4)بالنهي فنسخه بالخبر أولى. والجواب: المنع من أَنَّ هذا منسوخ بهذا الحديث(5)، وأيضاً فلأنّ
ص: 314
قال: ويَتَعَّينُ الناسخ بِعلم تأخُرِهِ أو بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: هذا ناسخٌ، أو ما في معناهُ مثلُ: «كنت نهيتكم»، أو بالإجماع، ولا يثبتُ بتعيين الصحابيِّ، إذ قد يكون عن اجتهادٍ؛ وفي تعيين أحد المتواترين نظرٌ.
ولا يثبت بقبليّته في المصحف، ولا بحداثة الصحابيِّ، ولا بتأخُّر اسلامه، ولا بموافقةِ الأصل، وإذا لم يُعلم ذلك فالوجهُ الوقفُ لا التخييرُ. *
مدلول الآية عدم الوجدان حالة الإِخبار، فتحريم ذي ناب من السباع إنّما يكون رافعاً لحكم الأصل وهو الاباحة،(1) فلا يكون نسخاً.
* أقول: الحكمان المتنافيان(2) إذا كانا معلومين أو مظنونين وعُلم تأخر أحدهما عن الآخر فالمتأخّر ناسخ للمتقدّم، وقد يعرف كون أحدهما ناسخاً للآخر بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: هذا ناسخ لذلك أو يقول ما هو في معناه كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها»،(3) فإنَّ هذا دالٌ على نسخ النهي.
ص: 315
...............
وقد يعرف النسخ بالاجماع كما إذا أجمعت الأُمّة على أَنَّ هذا الحكم ناسخ لذاك، وقد يعرف ذلك بقول الراوي: «كان هذا الحكم ثابتاً في السنة الفلانية وهذا في السنة الفلانية»، فإنَّ المتأخّر يكون ناسخاً للمتقدّم.
وهاهنا طُرُق أُخرى ذهب المحققون إلى أنّها غير صالحة لذلك:
منها: قول الصحابي: «كان الحكم كذا ثم نسخ»، وإنّما لم يكن صالحاً لجواز أَنْ يكون قد قال هذا عن اجتهاد.
ومنها: أَنْ يقول في أحد الخبرين المتواترين: «أَنَّه كان قبل الآخر» لأَنّ ذلك يتضمن نسخ المتواتر بالواحد. والمصنف يشكّك هاهنا(1) من حيث أَنَّ النسخ ليس قول الواحد، وإنّما هو بالمتواتر الآخر، والخبر إِنَّما هو معيّن لذلك، فإنّا كنّا عالمين بأَنَّ أحدهما ناسخ للآخر.
والقاضي عبد الجبار جعل هذا الطريق صالحاً للعلم بالناسخ، ويُمثِّل في ذلك بقبول قول القابلةِ في أَنَّ هذا الولد من إحدىٰ المرأَتَينِ، فإِنَّ هذا القول يتضمن ثبوت النسب من صاحب الفراش وإِنْ كان النسبُ لا يثبتُ بقولها، ومع ذلك فلا يضر وكذلك هاهنا.
ومنها: أَنْ يكونَ أَحدُهما مثبتاً في المصحف قبلَ الآخر، فإنّ ترتيب
ص: 316
...............
الآيات في المصحف ليس على ترتيبها في النزول كما في الاعتداد.
ومنها: أَنْ يكونَ الصحابي حدثاً، فإِنّه يجوز أَنْ يكونَ من تقدَّمت صحبته متأخر النقل.
ومنها: أَنْ يكون الصحابي متأخر الاسلام، فإِنّه لا يقتضي كون ما نَقَله ناسخاً لقول من تقدّم اسلامُه.
ومنها: أَنْ يكون أحدهما قد وافق الأصل، فإِنَّه لا يدلُّ على كونه ناسخاً.
وإذا لم يُعرَفُ الناسخ من المنسوخ فالوجه الوقف لا التخيير.
وأَمّا إذا كان أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً فالعمل بالمعلوم متعيّن، لأَنَّه إنْ كان متأخّراً فهو ناسخ، وإِنْ كان متقدّماً استحال نسخه بالمظنون.
ص: 317
قال: مسألة: الجمهور على جواز نسخ السنة بالقرآن، وللشافعي قولان.
لنا: لو أمتنع لكان لغيرهِ، والأصل عدمُهُ، وأيضاً: التوجُّهُ إلى البيت المقدس بالسنَّةِ، ونُسخَ بالقرآن، والمباشَرَةُ باللَّيْل كذلك، وصوم يوم عاشوراء.
وأجيب: بجواز نسخهِ بالسنَّة، ووافق القرآن.
وأُجيب: بأنَّ ذلك يَمْنَعُ تعيينَ ناسخٍ أبداً.
قالوا: «لِتُبَيِّنَ»(1) ، والنسخ رفعٌ لا بيانٌ.
قلنا: المعنى: لِتُبَلِّغَ، ولو سُلِّم فَالنَّسخُ أيضاً بيانٌ، ولو سُلِّم فَأَيْن نَفْيُ النسخِ؟
قالوا: منفّرٌ.
قلنا: إذا علم أنّه مبلغٌ فلا نفرةَ. *
* أقول: اتّفق المحققون(2) على جواز نسخ السنَّة بالقرآن، وللشافعي في ذلك قولان:
أحدهما: أَنّه يجوز.
ص: 318
...............
والآخر: أَنّه يمتنع.
والدليل على الجواز وجهان:
أحدهما: أنّه لو امتنع لكان امتناعه إمّا أن يكون لذاته أو لغيره، والأَوّل باطل قطعاً والثاني يخالف أيضاً، لأنّ الأصل عدم ذلك الغير.
الثاني: الوقوع فإنّ التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتاً بالسُّنة - لأَنَّه ليس في القرآن ما يدلّ عليه - ثمّ نسخ بالقرآن، وأيضاً المباشرة بالليل قد كانت محرّمة على الصائم بالسُنَّة، وقد نُسخت بالقرآن.(1)
وأيضاً صوم عاشوراء قد كان واجباً بالسُنّة ثمّ نسخ بالقرآن بقوله: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»(2).
اعترضوا على هذا من وجهين:
أَحدهما: أَنَّه يجوز أَنْ يكونَ النسخ إنّما وقع بالسُنَّة ووافق القرآن، واستغني به عن نقل السنة.
الثاني: يَجوزُ أَنْ تكونَ تلك الأَحكام ثابتة بالقرآن، وقد نُسخت بهذا القرآن ونسخت تلاوتها أيضاً.
وأجاب المصنف عن الأول بوجه يمكن الجواب به عن الثاني، وهو أَنَّ تجويزَ ذلك يمنع من تعيين الناسخ فإِنَّه ما من آية يُدَّعىٰ أَنّها ناسخة لأُخرى إلّا ولقائل أَنْ يقول: لم لا يجوز أن تكون هذه الآية منسوخة بغيرها؟ أو أَنْ يكون
ص: 319
...............
حكم هذه الآية قد كان ثابتاً بغيرها؟ ولمّا كان ذلك باطلاً عَلِمْنا اَنَّ النسخ إنّما هو بالمخالف الظاهر.
ولقائل أن يقولَ: إنَّ تعيين الناسخ قد ذكرتم له طرقاً، والّذي ذكرناه إنّما يرفع أحدَها لا جميعها، فقول المصنف تجويز هذا يقتضي أَنْ لا يتعين ناسخ، ممنوع.
إحتَجَّ الشافعي بقوله تعالى: «لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ» ،(1) والنسخ ليس ببيان بل هو رفع للمُنزل.
والجواب: المعنىٰ من البيان هاهنا التبليغ، لأَنّا لو حَمْلناه على الإِيضاح لم يكنْ عامّاً، ولو سُلّم فالنسخ بيان(2)، ولو سُلِّم أَنَّ النسخ ليس ببيان لكن قوله:
«لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ» ليس فيه دلالة على أَنّه لا يكون ناسخاً.
واحتجُّوا أيضاً: بأنّ السنّة لو نُسخت بالقرآن لزم التنفير عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأنّ في ذلك إِيهام الخلق بأنّ اللّٰه تعالى لم يرضَ بسنَّةِ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وذلك يخلّ بالمقصود من البعثة.
ص: 320
قال: مسألة: الجمهور على جوازِ نسخِ القرآن بالخبر المتواتر، ومَنَع الشافعي.
لنا: ما تقدّم.
واسْتُدِلَّ بأَنّ: «لا وصيَّة لوارثٍ» نَسَخ الوصيَّةَ للوالدين والأقربين، والرجمُ للمحصنِ نَسَخ الجلد.
وأُجيب: بأنّه يلزم نسخُ المعلوم بالمظنون، وهو خلاف الفرض.
قالوا: «نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهٰا أَوْ مِثْلِهٰا»(1) ، والسُنَّة ليست كذلك، ولأنّه قال:
«نأتِ» والضمير للّٰه تعالى.
وأُجيب: بأَنّ المراد الحُكمُ، لأَنَّ القرآن لا تفاضل فيه، فيكون أصلحُ للمكلَّف أو مساوياً، وصحَّ «نأتِ» لأَنَّ الجميع من عنده.
قالوا: «قُلْ مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ» (2).
قلنا: ظاهرٌ في الوحي، ولو سُلِّم فالسنَّة بالوحي. *
* أقول: ذهب جمهور المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة(3) إلى جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة، وهو مذهب مالك وأصحاب أبي حنيفة وإحدىٰ الروايتين عن أحمد، وذهب الشافعي والظاهريون إلى المنع.
والدليل على الجواز ما تقدّم بأَنّه لو امتنع لكان لغيره، والأصل عدم ذلك
ص: 321
...............
الغير، وقد مضى في المسألة المتقدّمة.
واسْتَدلَّ المجوزون على(1) ذلك بأَنَّ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا وصية لوارث»(2) ناسخ لقوله تعالى: «اَلْوَصِيَّةُ لِلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ»،(3) وأيضاً فالرجم للمحصن ثابت بالسُنة وقد نسخ آية الجلد.
والجواب: أَنَّ هذا يقتضي نسخ المعلوم، بخبر الواحد(4) وهو ممتنع.
احتج المانعون بوجهين:
الأول: قوله تعالى: «مٰا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهٰا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهٰا أَوْ مِثْلِهٰا» ،(5) والسُنَّة ليست خيراً من القرآن ولا مساوية له، ولأَنَّه تعالى قال: «نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهٰا» فجعل الضمير عائداً إليه تعالى. والجواب: المراد من المأتي إنّما هو الحكم لأَنَّ القرآن لا تفاضل فيه فيكون المراد بالخير هاهنا ما هو الأصلح للمكلف أو المساوي في الصلاح للأوّل(6)
ص: 322
قال: مسألة: الجمهور: الاجماع لا يُنْسَخ.
لنا: لو نُسخ بنصٍّ قاطعٍ، أو باجماع قاطعٍ كان الأوّل خطأً، وهو باطلٌ، ولو نُسخ بغيرهما فأبعد للعلم بتَقْديم القاطع.
قالوا: لو أجمعت الأُمَّةُ على قولين فإِجماعٌ على أَنّها اجتهادية، فلو اتُّفق [على] أحدُهما كان نسخاً.
قلنا: لا نسخ بعد تسليم جوازه، وقد تقدِّمت. *
والضمير صح إِعادَتُهُ إلى اللّٰه تعالى وإِنْ كان النسخ بالسنَّة، لأَنَّحكم السنة والقرآن من عنده تعالى.
الثاني: قوله تعالى: «قُلْ مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقٰاءِ نَفْسِي»(1) نفى التبديل من عنده فوجب أَنْ يكونَ المبدل هواللّٰه تعالى.
والجواب: المقصود هاهنا تبديل الوحي،(2) ولو سَلَّمْنا ذلك فالتبديل بالسُنة ليس تبديلاً من عنده بل بالوحي من اللّٰه تعالى أيضاً.
* أقول: اتَّفق الجمهور على أَنَّ الإجماع لا ينسخ حكمه(3) وجوَّزه
ص: 323
...............
الأقل، والدَّليل على المنع أَنّه لو نُسخ فإِمّا أَنْ يكون بنص قاطع أو بإجماع قاطع أو بغيرهما، وعلى التقديرين الأوّلين يلزم منه أَنْ يكون الاجماع الأَوَّل خطأ لأَنَّه يكون قد انعَقَد مخالفاً للقاطع، وعلى التقدير الأخير وهو أَنْ يكون قد نُسِخ بطريق مظنون، يلزم نسخ المعلوم بالمظنون، وهو محال.
احتجّوا(1) بأَنّ الأُمَّة إذا اختلفت في المسألة على قولين فقد أَجْمَعَتْ على أَنَّ المسألة إِجْتهاديةٌ، فإِذا اتفقوا بعد ذلك على أَحدِ القولين فقد أَجمعوا على أَنّها غير إجتهادية، فيكون هذا الثاني ناسخاً للأوّل. فالجواب: أنّ هذا الإجماع الثاني غير مسلّم بل يمتنع حصوله، وقد تقدّم هذا، ولو سلَّمنا جوازه لكنه ليس بنسخ لأَنَّ الإجماع الأول مشروط بأَنْ لا يحصل الإِتفاق على أحد القولين، فإِذا حصل الإِتِّفاق على أحدِهما فقد زال شرط الإِجماع الأول، فيزول لزوال شرطه لا للناسخ.
ص: 324
قال: مسألة: الجمهور على أَنَّ الإجماع لا يُنسخ به، لأَنَّه إنْ كان عن نصٍّ فالنصُّ الناسخُ، وأِنْ كان عن غير نصٍّ والأوّل قطعيّ فالأجماع خطأٌ، أو ظنّيٌّ فقد زال شرط العمل به، وهو رجحانُهُ.
قالوا: قال أَبنُ عباس لعثمان: كيف تحجبُ الأُمَّ بالأَخوين وقد قال اللّٰه تعالى: «فَإِنْ كٰانَ لَهُ إِخْوَةٌ»،(1) والأخوان ليسا إخوةً؛ فقال: حجبها قومّك يا غلامُ.
قلنا: إِنَّما يكون نسخاً بثبوت المفهوم قطعاً، وأَنَّ الأَخوين ليسا إخوة قطعاً، فيجب تقدير النصّ، وإلّا كان الأجماع خطأ. *
* أقول: اتّفق الجمهور على أَنَّ الإجماع لا يُنسخ به(2)، وخالف في ذلك جماعةٌ يسيرةٌ.
والدليل على المنع أنَّ الإجماع الثاني إمّا أن يكون عن نص أو لا يكون، فإنْ كان الأول كان الناسخ في الحقيقة إنّما هو النص لا الإجماع، وإنْ كان الثاني فإمّا أنْ يكون الأول(3) قطعيّاً أو لا يكون، فإنْ كان قطعيّاً كان الاجماع الثاني خطأٌ لأَنَّه إجماع عن دليل ظنيٍّ مخالف للدليل القطعي، وإِنْ كان ظنيِّاً لم يكن الثاني ناسخاً له بل زال الدليل الأول لزوال شرطه وهو رجحانه.
ص: 325
...............
احتجَّ المخالف بقول ابن عباس لعثمان: كيف تحجب الأُمَّ عن الثلث بالأَخوين واللّٰه تعالى قال: «فَإِنْ كٰانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ»(1) والأخوان ليسا إخوة. فقال عثمان: حجبها قومك يا غلام. وذلك دليل النسخ بالإجماع.
والجواب من وجوه:(2)
أحدها: إِنَّ كون هذا ناسخاً إنّما يتمّ بعد بيان كون المفهوم حجةً قطعاً لأَنَّ اللّٰه تعالى لمّا حجب بالأُخوة فالمفهوم يقتضي أَنَّ غير الأُخوة لا يحُجبون، فعثمان لمّا احتجَّ على ابن عباس بالإجماع على أَنَّ الأَخوين يحجبان كان ذلك رافعاً للمفهوم.
الثاني: أَنَّ هذا إنّما يكون ناسخاً على تقدير أَنْ يكون الأَخوان ليسا اخوةً ونحن نمنع ذلك، وقد مضى البحث فيه في باب العموم. الثالث: لو سلَّمنا هذين المقامين لكنْ يجبُ تقدير نص يكون رافعاً لذلك الحكم، وإلّا كان الإجماع خطأ.
ص: 326
قال: مسألة: المختارُ: أنّ القياس المظنُونُ لايكون ناسخاً ولا منسوخاً.
أمّا الأوّل: فلأنّ ما قبلَهُ إِنْ كان قطعيّاً لم ينُسخَ بالمظنون، وإنْ كان ظنيّاً تبيَّنَ زوال شرط العمل به، وهو رجحانه؛ لأنّه ثبت الظنّي مقيّداً كان المصيبُ واحداً أو لا.
وأمّا الثاني: فلأَنَّ ما بعدهُ قطعيّاً أو ظنيّاً يبيّن زوال شرط العمل به، وأَمَّا المقطوع فيُنسخَ بالمقطوع في حياتهِ، وأمَّا بعدهُ فيتبيَّن أَنَّه كان منسوخاً.
قالوا: صحَّ التخصيصُ، فيصحُّ.
قلنا: منقوضٌ بالإجماع، والعقلِ، وخبر الواحد. *
* أقول: القياس إمّا أن يكون ظنيّاً أو قطعيّاً، أمّا الظني فمنهم من منع من كونه ناسخاً ومنهم من جوّزه(1)، واختار المصنف المنع واستدلّ عليه بأَنَّ المنسوخ إِمّا أَنْ يكون قطعيّاً أو ظنيّاً فإِن كان الأول استحال أن يكون منسوخاً بالظنيّ،(2) وإِنْ كان الثاني فالقياس الثاني لابدَّ وأَنْ يكون راجحاً عليه، فالدليل الأول حينئذٍ لا يبقىٰ دليلاً لزوال شرطه وهو الرجحان بحصول الرجحان الثاني، لأَنَّه إنّما كان دليلاً مقيّداً بإِنْ لا يُرجَّح عليه غيره سواء قلنا أَنَّ المصيب واحد أو أكثر.
ص: 327
...............
واختلفوا أيضاً في أَنَّ القياس الظني هل يكون منسوخاً أم لا؟ فذهب القاضي عبد الجبار في أحد قوليه والحنابلة إلى المنع من ذلك، وجوَّزه أبو الحسين البصري في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم(1)، واختار المصنف المنع لأَنَّ الناسخ له سواء كان قطعيّاً أو ظنيّاً لا يكون ناسخاً بل يكون الأول زائلاً لزوال شرطه وهو الرجحان.
وأَمّا القياس القطعيّ فيجوز نسخه بالقطعي في حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فإِنّه لا استبعاد في أَنْ يحرّم التفاضل في البُرِّ(2) وتبعه بالقياس فيقيس عليه الأُرز لكونه مطعوماً، ثم ينسخ التحريم في الأُرز بنص دالٍّ على جواز التفاضل فيه، أو بقياس آخر بأَنْ ينصّ على جواز التفاضل في بعض الأشياء المشاركة للأُرز ويسقط الجامع بينه و بين الأُرز فيُنسخ ذلك بالحكم، وأَمّا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فإنّ القياس الأول يبيّن أَنّه كان منسوخاً لاستحالة حدوث نص آخر بعد وفاته.
احتجّ المجوّز مطلقاً بأنّه يجوز التخصيص بالقياس فيجوز النسخ به. والجواب: ينتقض هذا القياس بالإجماع والعقل وخبر الواحد، فإِنَّ كلّ واحد منها يصح أَنْ يكون مخصّصاً ويمتنع أن يكون ناسخاً.
ص: 328
قال: مسألة: المختار: جوازُ نسخ أصل الفحوى دُونهُ، وامتناعُ نسخ الفحوىٰ دُونَ أصلهِ، ومنهم من جوزهما، ومنهم من منعهما.
لنا: أَنَّ جواز التأفيف بعد تحريمه لا يستلزمُ جواز الضَّرب؛ وبقاءُ تحريمه يستلزم تحريم الضّرب، وإلّا لم يكن معلوماً منه.
المجُوِّزُ دلالتان، فجاز رفعُ كُلٍّ منهما.
قلنا: إذا لم يكن استلزامٌ.
المانع: الفحوىٰ تابع، فيرتفعُ بارتفاعَ متبوعهِ.
قلنا: تابعٌ للدلالةِ لا للحكم، والدلالة باقيةٌ. *
* أقول: اتّفق الناس(1) على جواز النسخ بفحوى الخطاب، وعلى جواز نسخ حكمه مع حكم الأصل، وإنّما اختلفوا في أنّه هل يجوز نسخ أصل الفحوى دون الفحوى أم لا؟ وفي أَنَّه هل يجوز نسخ الفحوى دون الأصل؟ فقال المصنف إِنّه يجوز نسخ الأصل دون الفحوى ويمتنع نسخ الفحوى دون الأصل.
وجماعة من الأصوليين جوزوهما وجماعة أخرى منعوهما.
واحتجّ المصنف على جواز الأول بأَنَّ جواز التأفيف بعد تحريمه لا يستلزم جواز الضرب فجاز ثبوته دونه وذلك يوجب جواز نسخ الأصل وبقاء الفحوى.
واستُدّل على امتناع الثاني بأَنَّ تحريم الضرب معلوم من تحريم
ص: 329
...............
التأفيف، للعلم بأَنَّ القصد الإعظام فبقاء تحريم التأفيف يستلزم بقاء تحريم الضرب وإلّا لم يكن معلوماً منه.
قال المجوزون للنسخين أَنَّ دلالة الأصل مغايرة لدلالة الفحوى فجاز رفع كلّ واحدة منهما وبقاء الأُخرى ورفعهما معاً.
والجواب: لا شكّ في تغايرهما ولكن لا يلزم جواز نسخ أحدهما وبقاء الأُخرى،(1) إلّاأنّ ينتفي الإستلزام، لكن الإستلزام موجود في أَحدِهما للآخر وكان نسخ اللازم مع بقاء الملزوم محالاً.
احتجّ المانعون(2) منهما بأَنّ الفحوى تابع للأصل ويستحيل بقاء التابع مع ارتفاع المتبوع.
والجواب: أَنّ التابع إنّما هو تابع للدلالة لا للحكم، والدلالة لاشكّ في بقائها.(3)
ص: 330
قال: مسألة: المختار: أنّ نسخَ حُكمِ أصلِ القياسِ لا يبقىٰ معه حُكمُ الفرع.
لنا: خرجت العلَّة عن الإعتبار، فلا فرع.
قالوا: الفرعُ تابعٌ للدلالة لا للحُكم، كالفحوىٰ.
قلنا: يلزم من زوال الحكم زوال الحكمة المعتبرة، فيزول الحكم مطلقاً، لانتفاء الحكمة.
قالوا: حكمتم بالقياس على انتفاء الحُكم بغير علّة.
قلنا: حكمنا بانتفاء الحُكم لانتفاء علَّته. *
* أقول: ذهبت الحنفية إلى أنّ نسخ أصل القياس يبقى معه حكم الفرع، والباقون أنكروا ذلك، وهو الحقّ، والدليل على ذلك أن ثبوت الحكم في الفرع إنّما كان للعلّة المعتبرة في نظر الشرع بحكم الأصل، فإذا بطل حكم الأصل خرجت العلّة المستنبطة عن الاعتبار في نظر الشرع فلا يكون التابع لها - وهو الحكم في الفرع - موجوداً.
قالت الحنفية: الفرع تابع [للدلالة في الأصل](1) ولا شكّ في بقائها، وليس فرعاً للحكم فيه كما في الفحوى.(2)
قلنا: يلزم من زوال الحكم في الأصل زوال الحكمة المعتبرة، لأَنّها لو
ص: 331
قال: مسألة: المختار: أنّ الناسخ قبل تبليغه صلى الله عليه و آله و سلم لا يثْبُتُ حُكمُه.
لنا: لو ثبتَ لأدَّى إلى وجوبٍ وتحريم، للقطع بأنَّه لو تَرَك الأوّل أثمَ.
وأيضاً، فإنّهُ لو عَمِلَ بالثاني عصى اتفاقاً.
وأيضاً: يلزم قبلَ تبليغ جبريل عليه السلام، وهو اتِّفاقٌ.
قالوا: حُكمٌ، فلا يُعتبرُ عِلْمُ المُكلّفِ.
قلنا: لابد من اعتبار التمكن، وهو منتفٍ.
كانت باقية لكان الحكم باقياً، وإذا انتفت الحكمة انتفىٰ الحكم مطلقاً لانتفاءِ حكمته .
قالوا: حكمتم بانتفاء الحكم في الفرع لإِنتفائه في الأصل ولم تذكروا الجامع فيكون قياساً فاسداً.
قلنا: إنّما حكمنا بانتفاء الحكم عن الفرع لإِنتفاءِ سببه وهو الحكمة لا بالقياس على الأصل.
* أقول: اختلف الناس(1) فيما إذا ورد النسخ إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ولم يبلِّغ الأُمّة، هل يتحقق بذلك النسخ في حقهم أم لا؟ فذهب بعض الشافعية إلىٰ أنّه يثبت حكم الناسخ في حقهم، ونفاه بعضهم وبعض أصحاب أبي حنيفة وأحمد، وهو اختيار المصنّف.
واستدلّ عليه بوجوه ثلاثة:
ص: 332
...............
الأوّل: أنّه لو ثبت حكم النسخ لزم اجتماع الأحكام المتضادّة على المكلف، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية: أنّ المكلّف إذا كان مكلَّفاً بوجوب الفعل فإنّه يثاب على فعله ويعاقب على تركه ما لم يبلغْه النسخ إجماعاً، ولأجل هذا اعْتَدَّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لأهل قباء بالركعات الّتي فعلوها لمّا استداروا إلى القبلة حين سماعهم النسخ، وإذا كان كذلك فلو كان النسخ ثابتاً وإن لم يبلغهم،(1) لزم القول بتحريم الفعل فيلزم ما ذكرنا من المحذور.
الثاني: أنَّ المكلف لو عمل بما ورد به النسخ قبل سماعه النسخ لكان عاصياً بالإِتفاق، ولو كان حكم النسخ ثابتاً عليه لماكان عاصياً بل كان مطيعاً.
الثالث: يلزم ما ذكروا في جبرئيل عليه السلام وإنّه قبل تبليغه الناسخ يكون حكمه ثابتاً، وهو باطل بالاتفاق.
احتجّوا(2) بأنّ النسخ حكم فلا يعتبر فيه علم المكلّف [كما لو عزل الوكيل عن التصرف فإنّه لا ينعقد تصرفه بعد ذلك وإن لم يعلم بعزله].(3)
والجواب: لابدّ في الحكم من اعتبار التمكّن، وإلّا لزم تكليف مالا يطاق، ولا يمكن مع عدم العلم ونحن نمنع انعزال الوكيل قبل العلم بالعزل.
ص: 333
قال: مسألة: العبادات المستقلَّةُ ليست نسخاً، وعن بعضهم: صلاةٌ سادسةٌ نسخٌ.
وأمّا زيادة جزء مشترطٍ، أو زيادةُ شرط، أو زيادةٌ ترفع مفهوم المخالفة، فالشافعية والحنابلة: ليس بنسخ، والحنفيّةُ: نسخ.
وقيل: الثالثُ نسخٌ.
عبدالجبار: إنْ غيَّرتَهُ حتّىٰ صار وجودهُ كالعدم شرعاً، كزيادة ركعةٍ في الفجر، وكعشرين على القذف، وكتخيير في ثالثٍ، بعد اثنين، فنسخ.
وقال الغزّالي: إن اتحدت كركعةٍ في الفجر فنسخٌ، بخلاف عشرين في القذف.
والمختار: إنْ رَفَعت حُكماً شرعيّاً بعد ثبوته بدليل شرعيٍّ، فنسخٌ، لأنّهُ حقيقتهُ، وما خالفه ليس بنسخ.
فلو قال: «في السائمة الزَّكاة» ثم قال: «في المعلوفة الزَّكاة» فلا نسخ، فإنْ تُحُقَّق أنَّ المفهوم مرادٌ فنسخٌ، وإلّا فلا، ولو زِيد ركعةٌ في الصبح فنسخٌ، لتحريم الزيادة ثم وجوبِها.
والتغريب على الحدَّ كذلك.
فإن قيل: منفيٌ بحكم الأصل.
قلنا: هذا لو لم يثبت تحريمه.
فلو خُيَّر في المسح بعد وجوب الغَسْل فَنَسخٌ، للتخيير بعد
ص: 334
الوجوب.
ولو قال: «وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ»(1) ، ثم ثبت الحكم بشاهد ويمين فليس بنسخ إذ لا رفع لشيء، ولو ثبت مفهومه ومفهوم «فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ» (2) إذ ليس فيه منع الحكم بغيره.
ولو زِيد في الوضوءِ اشْتُرِاط غسل عضوٍ فليس بنسخٍ، لأَنَّه إنَّما حصل وجوبُ مباح الأصل.
قالوا: لو كانت مُجزِئة ثُمَّ صارت غيرَ مجزئة.
قلنا: معنى «مجزئة» امتثالُ الأمر بفعلِها، ولم يَرْتَفِع، وارْتَفَع عدمُ توقّفها على شرطٍ آخر، وذلك مستندٌ إلى حكم الأصل.
وكذلك لو زيد في الصلاة ما لم يكن محرَّماً. *
* أقول: اتّفق الناس على أنّ الزيادة إذا كانت عبادة مستقلة بنفسها لا يكون نسخاً لحكم المزيد عليه كوجوب صلاة على الصلوات، أو حجّ أو غير ذلك، إلّا ما نُقِل عن بعض الحنفية أنَّ زيادة صلاة سادسة يكون نسخاً نظراً إلى خروج الوسطىٰ المأمور في القرآن بالمحافظة عليها عن كونها وسطىٰ، وإنّما اختلفوا في نحو زيادة جزء مشترط كزيادة ركعة في الصلاة أو زيادة شرط كزيادة صفة في الكفارة كالإيمان في العتق، أو زيادة ترفع مفهوم المخالفة كما إذا قال: «في السائمة زكاة» ثمّ قال: «في المعلوفة الزكاة» فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنَّ ذلك ليس بنسخ وذهبت
ص: 335
...............
الحنفية إلى أَنّه نسخ(1).
وقال القاضي عبد الجبار إنْ كانت الزيادة مغيّرة لحكم المزيد عليه حتى يكون وجودها كالعدم لو لم يفعل،(2) فهو نسخ كزيادة ركعة على ركعتي الفجر،(3)وكالتخيير في ثالث(4) بعد التخيير في اثنين وإلّا فلا.
وقال الغزّالي إنْ كانت الزيادة مع المزيد عليه في حكم الشيء الواحد فنسخ، كزيادة ركعة على ركعتين وإلّا فلا، كزيادة عشرين في الحدّ.
واختار المصنّف أنَّ الزيادة إِنْ ثبتت بحكم شرعي ورفعت حكماً آخر شرعيّاً متراخياً(5) عن الأوّل، فهو نسخ وإلّا فلا.
وهذا هو مذهب أبي الحسين البصري وقد فرّع أبوالحسين على مذهبه من المسائل الفقهية عدة أحكام:
منها: أنّ إيجاب الزكاة في المعلوفة هل يوجب النسخ لقوله صلى الله عليه و آله و سلم
ص: 336
...............
في سائمة الغنم الزكاة أم لا؟
والحق فيه أنْ يقول: إنْ كان في دليل الخطاب حجّة في الشرع(1) كان ذلك نسخاً لأَنَّ وجوب الزكاة في السائمة دالٌّ على عدم وجوبها في المعلوفة، فرفع ذلك العدم يكون رفعاً لحكم شرعيٍّ وإنْ لم يكن حجّة لم تكن نسخاً لأنَّ إيجابها في المعلوفة يكون رفعاً لحكم عقلي وهو البراءة الأصلية.
ومنها: أنَّ زيادة ركعة في الصبح هل يكون نسخاً أم لا؟ فقال أبوالحسين أَنَّها غير نسخ لحكم الدليل الدالّ على وجوب صلاة الصبح لأَنّ زيادة الركعة إمّا أن يكون نسخاً للركعتين، أو نسخاً لأَجزائهما ووجوبهما، أو نسخاً لوجوب التشهد عقيب الركعتين، والأوّل باطل لأنّ النسخ لا يتعلق بالأفعال. وأيضاً فالركعات لم يرتفعا ولا يجوز أن يكون نسخاً للأجزاء لأنهما مجزيتان، وإنّما كانتا مجزئتين من دون ركعة أُخرى، والآنَ لا يجزيان إلّامع الركعة وذلك تابع لوجوب ضم ركعة أخرى، ووجوب ركعة أخرى لا يرفع إلّانفي وجوبها، ونفي وجوبها حصل بالعقل ولا يجوز أن يكون نسخاً لوجوبهما لأَنّهما الآن واجبتان ولا يجوز أن يكون نسخاً لوجوب التشهد عقيب الركعتين لأَنّه إنّما كان واجباً آخر الصلاة، وذلك غير مرتفع ولا تتغير، وإنّما المتغيّر آخر الصلاة.
وعندي في ذلك نظر فإنّ الزيادة رفعت وجوب الجلوس في التشهد عقيب الركعتين وهو حكم شرعي فيكون نسخاً لهذا الوجوب.
وذهب المصنف إلى أَنّ هذه الزيادة تكون نسخاً لأَنّها رفعت تحريم
ص: 337
...............
الزيادة على الركعتين، وقد رد به بعض الاصوليين على أبي الحسين وهو غير صحيح فإنّ تحريم الزيادة جاز أن يكون مستفاداً من دليل آخر، والدليل الدالّ على وجوب الركعتين لا نسلم أَنّه يدل على تحريمها حتى تكون الزيادة نسخاً لذلك الدليل، نعم أَنّه يكون نسخاً للدليل الدالّ على الزيادة.
ومنها: أَنَّ زيادة التغريب على الحدّ هل هي نسخ أم لا؟ ذهب المصنف إلى أَنَّها تكون نسخاً بمثل ما مرّ. وقال أبو الحسين أنّها غير نسخ لأنّها لا ترفع إلّاالنفي الأصلي، ورفعه ليس بنسخ. وقال المصنّف إنّما لا يكون نسخاً لو لم يثبت النفي بالشرع، وقد ثبت فيكون هذا الرفع نسخاً.(1)
ومنها: أَنَّ التخيير بين الغسل والمسح بعد وجوب الغسل بعلمه(2) هل يكون نسخاً أم لا؟ ذهب المصنّف إلى أنّه نسخ لأنّه تخيير بعد الوجوب(3) فيكون رافعاً(4) للوجوب فيكون نسخاً.
قال أبو الحسين: إنّه ليس بنسخ لأَنَّ هذا التخيير يكون مزيلاً لتحريم
ص: 338
...............
ترك ما أُوجب علينا، وتحريم تركه كان معلوماً بالبقاء على حكم العقل لأنَّ قوله:
«أوجبت هذا الفعل» يقتضي أَنَّ الإخلال به مُدخِلاً في استحقاق الذم، وهذا لا يمنع من أَنْ يقوم مقامه واجب آخر وإنّما يُعلم أنَّ غيره لا يقوم مقامه، لأَنَّ الأصلَ عدم وجوبه، ولو وجب بالشرع لدلّ عليه بدليل شرعي، فصار علمنا بنفي وجوبه موقوفاً على أنَّ الأصلَ نفي وجوبه، فالمُثبِتُ لوجوبِه إنّما رَفَعَ حكماً عقليّاً، أَمّا إذا قال اللّٰه:
«هذا الفعل واجب وحده» أو «لا يقوم غيره مقامه» فإنَّ التخيير بعد ذلك يكون نسخاً، وهذا عندي هو الحق.
ومنها: إذا جوَّزنا الحكم بشاهد ويمين هل هو نسخ لقوله تعالى:
«وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتٰانِ»(1) .
والحق فيه أَنّه ليس بنسخ لأَنَّ مقتضى الآية جواز الحكم بالشاهدين وأنَّ شهادتهما حجّة وليس في ذلك دلالة على عدم حجّة أخرى إلّامن حيث المفهوم.
وذهب المصنّف إلى أَنَّه ليس بنسخ مطلقاً(2) لأَنّ دلالة المفهومين أعني مفهوم قوله: «وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ» وقوله: «فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتٰانِ» غير الدالين على المنع من الحكم بشيء آخر.
ومنها: أَنّ زيادة اشتراط غسل عضو آخر غير الأعضاء الستة في الوضوء
ص: 339
...............
هل هو نسخ أم لا؟
فالحق أَنّه ليس بنسخ لوجوب الأَعضاءِ المتقدّمة لثبوته معها ولا لاجزائها عند الاقتصار عليها لأَنَّ معنى الإجزاء امتثال الأمر بفعلها وقد حصل.(1)
نعم المرتفع عدم توقف الإِجزاءِ على شرط آخر لأَنّ الإِجزاءَ قد كان حاصلاً قبل الزيادة غير متوقف على شرط والآن إنّما حصل متوقفاً على شرط الزيادة ورفع ذلك العدم ليس بنسخ لأَنّه رَفْعٌ للعدم الأصلي، وكذلك إذا زيد في الصلاة شرط آخر لم يكن محرَّماً بل كان مباحاً في الأصل لا بدليل شرعي.
ومنها: أَنّ قوله تعالى: «ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيٰامَ إِلَى اَللَّيْلِ»(2) جعل أوّل الليل غايةً للصوم فيكون ذلك بمنزلة قوله: آخر الصيام الليل، فإِيجابُ الصوم إلى غيبوبة الشفق يُخرِجُ الأول من كونه غاية وطرفاً مع أَنَّ الخطاب دالّ عليه فيكون نسخاً، أمّا لو قال: «صوموا النهار» ثمّ أوجب الصيام إلى الغيبوبة، لم يكن ذلك نسخاً بل هو رافع للحكم العقلي أعني: العدم الأصلي.
ومنها: لو قال اللّٰه تعالى: «صلّوا إن كنتم متطهرين» فيه إثبات لشرط الصلاة وليس فيه دلالة على أَنّه ليس له بدل، فجاز إثبات بدلٍ آخر، ولا يكون نسخاً لأَنَّ إثبات بدل للشرط لا يخرج عن كونه شرطاً. وهذان الأَخيران لم يذكرهما المصنّف.
ص: 340
قال: مسألة: إذا نقص جزءُ العبادة أو شرْطُها، فنسخٌ للجزء والشرط لا للعبادة.
وقيل: نسخٌ للعبادة.
عبدالجبّار: إنْ كان جُزءاً لا شرطاً.
لنا: لو كان نسخاً لوجوبها افتقرت إلى دليل ثانٍ، وهو خلاف الإجماع.
قالوا: ثبت تحريمها بغير طهارةٍ وبغير الرَّكعتين ثم ثَبَت جوازُها أو وجوبها بغيرهما.
قلنا: الفرضُ لم يتجدَّد وجوبٌ. *
* أقول: اتّفق الناس على أَنّ نسخ سُنَّة من سنن العبادة لا يكون نسخاً لها كنسخ ستر الرأس، وإنّما اختلفوا في نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة من جزء أو شرط هل هو نسخ للعبادة بعد اتفاقهم على أَنّه يكون نسخاً للجزء والشرط؟ فذهب أبو الحسن الكرخي وأبو الحسين البصري إلى أَنّه ليس بنسخ لها، وجماعة من المتكلّمين ذهبوا إلى أَنّه نسخ لها وهو مذهب الغزّالي.
وذهب القاضي عبد الجبار الى أَنّ نسخ جزء العبادة نسخ لها دون نسخ الشرط.
واستدل المصنف على مذهبه بأَنَّ نسخ الجزء والشرط لو كان نسخاً للعبادة لزم افتقار إِيجاب الباقي من العبادة إلى دليل آخر، وهو باطل إجماعاً.
ص: 341
قال: مسألة: المختار: جواز نسخ وجوب معرفتهِ وتحريم الكفر وغيره، خلافاً للمعتزلة، وهي فرع التحسين والتقبيح.
والمختار: جواز نسخ جميع التكاليف، خلافاً للغزّالي.
لنا: أحكامٌ كغيرها.
قالوا: لا ينفكّ عن وجوب معرفةِ النسخ والنّاسخ.
وأجيب بأنّه يعلمهما، وينقطع التكليف بهما وبغيرهما، واللّٰه أعلم. *
احتجّوا(1) بأَنّ الصلاة قد كانت محرّمة - يعني محرّمة بغير طهارة وبغير الركعتين - ثم ثبت جوازها أو وجوبها بغيرهما، وذلك عين(2) النسخ.
والجواب:(3) أنّ التقدير عدم تحدد وجوب آخر، بل التقدير رفع الجزء(4)والشرط.
* أقول: اتّفقت المعتزلة على امتناع نسخ وجوب معرفة اللّٰه تعالى وامتناع نسخ تحريم الكفر والظلم وغيره من الواجبات والقبائح العقلية،(5)وذهب
ص: 342
...............
الأشاعرة إلى جوازه.
وهذه المسألة فرع التحسين والتقبيح العقليين لأنَّ المقتضي للوجوب والقبح إنّما هي صفات وأحكام لا تتغير بتغير الشرائع والأديان عند المعتزلة فامتنع التقبيح(1) عليها لاستحالة الأمر بالقبح والنهي عن الحسن، والأشاعرة جعلوا الاحكام مستندة إلى الأوامر والنواهي، ولا حسن ولا قبح فجاز تغيُّرها بأسرها.
ثم اختلفوا أيضاً في أنَّه هل يجوز نسخ جميع التكاليف أم لا؟
فاختار الغزّالي المنع، وذهب غيره من الأشاعرة إلى الجواز.
احتجّ المجوزوِّن بأَنّ هذه أحكام فجاز نسخها كغيرها. واحتجّ الغزّالي بأَنَّ المنسوخ لا ينفك عن وجوب معرفة النسخ والناسخ وهو اللّٰه تعالى(2)، وذلك تكليف.
والجواب(3): أَنَّه فعلهما وانقطع التكليف بعد معرفتهما بهما وبغيرهما.
ص: 343
قال: القياس: التقدير والمساواة.
وفي الإصطلاح: مساواة فرع الأصل في علَّة حكمهِ.
ويلزم المصوِّبة زيادةٌ «في نظر المجتهد»، لأنّه صحيحٌ، وإنْ تبيَّن الغلط والرجوع، بخلاف المخطِّئةِ، وإن أريد الفاسد معه قيل: تشبيه.
وأُورد: قياس الدَّلالة، فإنّه لا يُذكر فيه علّةٌ.
وأُجيب: إمّا بأَنَّه غير مرادٍ، وإمّا بأنَّه يتضمن المساواة فيها.
وأُورد: قياس العكس، مثل: لَمَّا وجب الصيّام في الاعتكاف بالنذر، وجب بغير نذرٍ.
عكسه: الصلاة لَمَّا لم تجب فيه بالنذر، لم تجب بغير نذرٍ.
وأُجيب: بالأوّل، أو بأنّ المقصود مساواةُ الاعتكاف بغير نذرٍ في اشتراط الصوم له بالنذر بمعنى: «لا فارق»، أو بالسَّبر، وذكرت الصلاة لبيان الإلغاء، أو قياس الصوم بالنذر على الصلاة بالنذّر.
وقولهم: بذل الجهد في استخراج الحقِّ، وقولهم: الدليل المُوَصِّل إلى الحق، وقولهم: العلمُ عن نَظَر، مردودٌ بالنص والإجماع، وبأَنّ البذل حال القائس، والعلم ثمرةُ القياس.
أبو هاشم: حمل الشيء على غيره باجراءِ حكمه عليه، ويحتاج:
«بجامع».
وقول القاضي: «حمل معلومٍ على معلوم في اثبات حكم لهما أو
ص: 344
نفيه عنهما بأمرٍ جامع بينهما من اثبات حكمٍ أو صفةٍ أو نفيهما» حسنٌ إلّا أنَّ حمل ثمرتهِ، وإثبات الحُكم فيهما معاً، ليس به، بل هو في الأصل بدليل غيره، وبجامع كافٍ.
وقولهم: ثبوت حكم الفرع - فرع القياس، فتعريفه به دور.
وأُجيب: بأنَّ المحدود القياس الذهني، وثبوت حكم الفرع الذهني والخارجي ليس فرعاً له. *
* أقول: لما فرغ من البحث عن الطرق النقلية وكيفية الاستدلال بها من الكتاب والسنة والإجماع، شرع الآن في الطريق العقلي وهو القياس وهو أحد الطرق المفيدة للأحكام عند الجمهور خلافاً للشيعة، وسيأتي الخلاف فيه.
واعْلم أَنّ القياس له حدّ لغوي واصطلاحي:
أَمّا حدّه في اللغة فهو التقدير والمساواة، يقال: قاس القذة بالقذة، أي حاذاها بها وساواها.
وأَمّا حدّه في الاصطلاح فقد اختلفوا في تعريفه، وقد عرّفه المصنف بأَنّه «مساواة فرع لأصل في علة حكم».(1) ويلزم المصوِّبة أن يزيدوا في هذا الحدّ
ص: 345
...............
قولنا: «في نظر المجتهد» لأنّ القياس حينئذٍ يكون صحيحاً وإِنْ تبيَّن الغلط(1)والرجوع عنه على مذهبهم ولا يشترط المساواة في نفس الأمر بخلاف المخطِّئة فإن القياس الفاسد في نفس الأمر لا يكون عندهم صحيحاً سواء غلب على ظن المجتهد صحته أو لا، وإِنْ أُريد تحديد القياس الشامل للصحيح والفاسد قيل تشبيه فرع بأصل في علة حكمه(2).
وأُوردِ على حد القياس بأَنّه ينتقض بقياس الدلالة وهو القياس الّذي ذُكر فيه الجامع وليس هو العلّة بل هو دليل عليها كالجمع بين النبيذ والخمر بالرائحة.
ووجه إيراده ظاهر فإنّ النبيذ(3) أخذ في حدّ القياس [لكن علة الحكم](4)وقياس الدلالة لم تُذكر فيه العلّة بل دليلُها.
والجواب من وجهين:
أحدهما: أَنّ قياس الدلالة غير مراد من هذا الحدّ.
الثاني: أَنَّ الإستواء في دليل العلّة يتضمن الإِستواءِ في العلّة [وأُورد على
ص: 346
...............
حدّ القياس أيضاً أنّه ينتقض بقياس العكس وهو تحصيل نقيض حكم الشيء في غيره لإفتقارهما بالعلّة](1) كما نقول: الصوم شرط في الاعتكاف لأَنّه لَمّا كان واجباً فيه بالنذر كان واجباً بغيره، وعكسه الصلاة(2) فإنّها لَمَّا لم تكن واجبة في الاعتكاف بالنذر لم تكن واجبة بغيره.(3)
والجواب: أَنَّ قياس العكس لا يسمّى في الحقيقة قياساً، لأَنّه ليس عبارة عن تسوية الفرع بالاصل في الحكم بل هو عبارة عن وجود نقيض الحكم في الفرع وإنْ سُمّي به لكن يكون وقوع لفظ القياس عليه وعلى قياس الطرد بالاشتراك اللفظي والمحدود أحد المسمين به فلا ينتقض الحدّ بخروج الآخر منه لأنّه غير مراد، أو نقول: المقصود من القياس(4) تسوية الصوم بالنذر له بغير نذر ينفي الفارق بينهما، أو بالسبر وذكرت الصلاة لبيان الغاء الفارق(5) فنقول المقصود من القياس
ص: 347
...............
هاهنا قياس الصيام بالنذر على الصلاة بالنذر، وذلك بأن نقول لو لم يكن الصوم شرطاً للاعتكاف لم يُصِر شرطاً له بالنذر، لكنَّ الصوم شرط له بالنذر.
ثمّ إنّا نثبت المقدمة الشرطية بالقياس على الصلاة، فإنّ الصلاة لَمَّا لم تكن في نفسها شرطاً لم تُصِر شرطاً بالنذر، وهذا في الحقيقة من باب قياس الطرد.
وقد حدّ بعض الناس القياس بأَنَّه: «بذل الجهد في استخراج الحق».
وحدّه آخرون بأنّه: «الدليل الموصل إلى الحق».
وحدّه آخرون بانّه: «العلم الحاصل عن نظر».
وهذه الحدود مردودة لانتقاضها بالنص والإجماع، والحدّ الأخير ضعيف أيضاً لأَنَّ النظر حال للقايس، والعلم ثمرة القياس وفائدته، فلا يجوز التحديد به.
وحدّه أبوهاشم بانّه: «حمل الشيء على غيره بإجراء حكمه عليه».
وهذا الحدّ ناقص لإِخلاله بذكر الجامع، ولابدّ منه.(1)
وحدَّه القاضي أبوبكر وارتضاه الجمهور بأَنّه: «حمل معلوم على معلوم في اثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من اثبات حكم أو صفة أو نفيهما».
واستحسنه المصنف ومع ذلك فقد أورد عليه بأمور:
أحدها: أَنَّ حمل معلوم على معلوم ثمرة القياس،(2) فكيف يصحّ
ص: 348
...............
التحديد به.
وثانيها: أنَّ قوله في اثبات حكم لهما يشعر بأَنَّ اثبات الحكم في الأصل والفرع معاً بالقياس، وليس كذلك.
وثالثها: أَنَّ قوله: «بأمر جامع بينهما» كاف عن قوله: «من اثبات حكم أو صفة أو نفيهما» فإِنَّ هذا ذكر أقسام الجامع والمأخوذ في الحدّ إنّما هو مطلق الجامع.
واعترض بعض المتأخرين على هذا الحدّ بأن ثبوت حكم الفرع إنّما حصل بالقياس، فأخذه في التعريف يكون دوراً لأَنّه يكون ركنه مع أَنّه ثمرته.
وأجاب المصنف: بأنّ المحدود إنّما هو القياس الذهني [وثبوت حكم الفرع الذهني والخارجي معاً ليس فرعاً للقياس الذهني، فالحاصل أَنّه قد اختلفت الجهتان، فلا دور](1).
ص: 349
قال: وأَركانه: الأَصلُ، والفرعُ، وحُكُم الأصل، والوصف الجامعُ.
الأَصل:
الأكثر: محلُّ الحُكمِ المُشبَّه به.
وقيل: دليلُهُ.
وقيلَ: حُكمُهُ.
والفرعُ: المَحَلُّ المشُبَّهُ.
وقيل: حُكمُهُ.
والأَصل: ما ينبني عليه غيره، فلا بُعد في الجميع، ولذلك كان الجامعُ فرعاً للأصل، أصلاً للفرع. *
* أقول: لَمَّا كان القياس هو التسوية بين الأصل والفرع في علة الحكم وجب أَنْ تكون أركانه الّتي لا تتم ماهيته ولا تتحصل حقيقته إلّابها، هذه الأربعة(1)أعني:
الأصل، والفرع، والحكم الحاصل في الأصل، والجامع بين الأصل والفرع وهو العلّة.
أَمّا الأصل: فقد اختلفوا في تفسيره فذهب جماعة الفقهاء إلى أنَّ الأصل هو محل الحكم المشبَّه به، كما إذا قسنا النبيذ على الخمر في التحريم لعلَّة الإِسكار فالخمر هومحل الحكم المشبَّه به.
قالوا: لأَنَّ الأصلَ ماكان حكم الفرع مستفاداً منه ومردود إليه وهذا متحقق في نفس الخمر.
ص: 350
...............
وذهب جماعة من المتكلمين إلى أَنّ الأصل(1) هو النص الدالّ على الحكم الأصل وهو قوله: «حرمت عليكم الخمر».
قالوا: لأَنّ الأصل ما بُني عليه غيره والتحريم إنّما بُني على هذا النص(2) فكان هو الأصل.
وذهب جماعة أخرى إلى أنَّ الأصل هو الحكم الثابت في الخمر(3) والفرع هو المحل المشبَّه وهو النبيذ وقيل التحريم في النبيذ.
والمصنف قال: إنَّ كلّ واحد من هذه الأقوال غير مستبعد لأَنَّ الأصلَ ما بُني عليه غيرُه وهو صادق على الجميع.
وفي هذا بحث ولأجل ذلك كان الوصف الجامع وهو الإِسكار - مثلاً - فرعاً للأصل، أصلاً للفرع، وذلك لأَنَّ التحريم ثابت في الخمر بالنصّ.
ثمّ إِنّا استنبطنا العلّة بعد ثبوت هذا النص فوجدناها الإسكار فكأنّ كون الإسكار علّة فرع على ثبوت التحريم في الخمر، ثمّ إنّا وجدنا الإسكار ثابتاً في النبيذ فاستفدنا منه ثبوت التحريم فيه، فكان ذلك فرعاً له.
ص: 351
قال: ومن شرط حكُم الأصل أَنْ يكون شرعيَّاً، وأَنْ لا يكون منسوخاً، لِزوال اعتبار الجامع، وأَنْ يكون غير فرعٍ، خلافاً للحنابلة والبصريّ.
لنا: إن اتَّحدت، فذكرُ الوسط ضائعٌ، كالشافعيَّة في السفرجل:
«مطعومٌ» فيكون ربويّاً، كالتُفَّاح، ثم نقيسُ التفاحَ على البُرَّ، وإن لم تتَّحد فسد، لأنّ الأُولىٰ لم يثبت اعتبارها، والثانية ليست في الفرع، كقوله في الجُذام: عيبٌ يُفسخ به البيع، فيفسحُ به النكاحُ، «كالقرنِ والرَّتق» ثم يقيسُ القَرَن على الجَبِّ، لفوات الإستمتاع.
فإن كان فرعاً يخالفه المستدلُ، كقول الحنفيِّ في الصوم بنيَّة النَّفل:
«أَتىٰ بما أُمر به» فيصحُّ، كفريضة الحجِّ ففاسد، لأنَّهُ يتضمنٌ اعترافهُ بالخطأ في الأصل. *
* أقول: لَمّا فرغ من تعريف الأصل والفرع شرع في بيان شروطهما، أَمّا الأصل فشرطه أُمور:
الأوّل: أنْ يكون الحكم في الأصل شرعيّاً لأنّه إِنْ كان عقليّاً فالمتعدي إلى الفرع إنّما هو ذلك الحكم العقلي فيكون القياس عقليّاً، والغرض هاهنا من القياس إنّما هو القياس الشرعي.
الثاني: أنْ لا يكون الحكم في الأصل منسوخاً لأَنّ الحكم إنّما يتعدى
ص: 352
...............
من الأصل إلى الفرع بناء على الجامع وهو متوقف على اعتبار الشارع له فإذا لم يكن الحكم المرتب عليه ثابتاً في الأصل لم يكن معتبراً.
الثالث: أَنْ لا يكون حكم الأصل متفرعاً عن أصل آخر، وهذا ممّا ذهب إليه أكثر الأشاعرة وأبوالحسين الكرخي وخالف فيه الحنابلة وأبوعبد اللّٰه البصري.
إِحتجّ الأوّلون بأَنَّ العلّة بين الأصل والفرع إنْ إِتَّحدت مع العلّة بين الأصلين فذكر الثاني يكون ضائعاً، وهذا مثل قياس الشافعية في السفرجل أَنّه ربوي بالقياس على التفاح لأنّه مطعوم، ثمّ قاسوا التفاح على البُر بجامع الطُعم وإنْ تغايرت العلتان كان فاسداً كما نقول في الجذام أَنّه عيب يُفسخ به البيع فيفسخ به النكاح قياساً على القرن والرتق،(1) ثم يقيس القرن والرتق على الجَبْ (2) بجامع فوات الاستمتاع، وقد كانت العلّة الأُولى الجامعة بين الجذام والرتق كونه عيباً يفسخ به البيع.
ووجه فساده أَنّ العلّة الأُولى [- وهي فوات الاستمتاع - لم يثبت اعتبارها في نظر الشارع والعلّة الثانية - وهي كونه عيباً - يفسخ به البيع، غير ثابت في الفرع](3)هذا إذا كان حكم الأصل له فرعاً مقبولاً عند المستدل ممنوعاً عند المعترض،
ص: 353
...............
وأَمّا إذا كان مقبولاً عند المعترض ممنوعاً عند المستدل فهو فاسد كما لو قال الحنفي في مسألة تعيين النيّة عندما إذا نوى النَفْل في الصوم أنّه أتىٰ بما أُمر به فيصح كالحج إذا نوى الفرض فيه بنية النفل(1) فإِنَّ الحكم في الأصل مما لا يقول به الحنفي ويقول به الشافعي، ووجه فساده لأَنَّ هذا القياس يتضمن إعترافه بالخطأ في الأصل(2) وأمّا إذا قال المستدل: هذا هو عندك علة الحكم في الأصل وهو موجود في محل النزاع فيلزمك الاعتراف بحكمه وإلّا فيلزم ابطال المعنى وانتقاضه لتخلف الحكم عنه من غير مانع، ويلزم من ابطال التعليل به امتناع اثبات الحكم به في الأصل، فهو أيضاً كالأول في الفساد، لأنَّ للخصم أَنْ يقول: الحكم في الأصل ليس عندي ثابتاً بناءً على هذا الوصف، وأيضاً فإِنَّ حاصل ما ذُكر يرجع إلى إلزام المعترض بالتخطئة في الفرع ضرورة تصويبه في اعتقاده كون الوصف الجامع علة للحكم في الأصل المقيس عليه، وهو غير لازم إذْ ليس بتخطئته في الفرع وتصويبه في التعليل بأولىٰ من العكس، وحينئذٍ لا يتمّ (3) الإلتزام.
ص: 354
قال: ومنها: ألَّا يكون معدولاً به عن سنن القياس، كشهادة خزيمة، وأعدادِ الركعاتِ، ومقادير الحدود والكفَّارات.
ومنهُ: ما لا نظير له، كان له معنى ظاهرٌ، كترخّص المسافر، أو غير ظاهر كالقسامة. *
* أقول: هذا أحد شروط الأصل وهو أنْ لا يكون حكمه معدولاً به عن سنن القياس لتعذر التعدية، وهو على قسمين:
الأوّل: ما لا يعقل معناه، وهو إِمّا يُستثنى عن قاعدة كلية ثبت استقرارها في الشرع، كشهادة خزيمة فإِنّه غير معقول المعنى ومع ذلك فهو مستثنىٰ عن قاعدة الشهادة الّتي استقرت في الشرع، وإمّا غير مستثنى كأعداد الركعات ومقادير نصب الزكوات، فإنّها غير معقولة المعنى لكنّها غير مستثناة عن قاعدة سابقة.
الثاني: ما شُرِّع ابتداء ولا نظير له سواء كان له معنى ظاهراً كترخص المسافر من حيث دفع المشقة، أو لم يكن كاليمين في القسامة وضرب الدية على العاقلة، فهذه الأنواع كلّها لا يرى(1) فيها القياس.
ص: 355
قال: ومنها: ألّا يكون ذا قياس مُرَكّب.
وهو أنْ يستغني بموافقة الخصم في الأصل، مع منعه علَّة الأصل، أو منعه وجودها في الأصل، فالأوّل: مركَّب الأصل، مثل: «عبدٌ»، فلا يقتل به الحُرُّ، كالمُكاتب، فيقول الحنفي: العلَّة جهالة المستحقِّ من السيد والورثة، فإِن صحَّت، بطل الإِلحاق، وإن بَطَلَت، مُنع حكم الأصل، فما ينفكُّ عن عدم العلّة في الفرع أو منع الأصل.
الثاني: مُركَّبُ الوصف، مثل: تعليقٍ للطَّلاق. فلا يصحُّ قبل النكاح، كما لو قال: «زينب الّتي أتزوَّجها طالقٌ»، فيقول الحنفيّ: العلّة عندي مفقودةٌ في الأصل، فإنّ صحَّ بطل الإلحاق، وإلّا مُنعَ حُكم الأصل، فما ينفكّ عن عدم العلّة في الأصل أو منع الأصل.
فلو سَلَّم أَنّها العلّة وأَنّها موجودةٌ، أو أثبتَ أَنّها موجودةٌ انْتهض الدليل عليه، لاعترافهِ كما لو كان مجتهداً، وكذلك لو أثبت الأصل بنصٍّ، ثمَّ أثبت العلَّة بطريقها، على الأصحِّ، لأنَّه لو لم يُقْبل لم تُقْبل مقدَّمةٌ تَقْبل المنع.
ومنها: ألَّا يكون دليل حكم الأَصل شاملاً لحُكم الفرع. *
* أقول: إذا كان الأصل متفقاً على حكمه بين الأُمّة جاز القياس عليه عند القائلين به، وإذا كان مُتَّفقاً عليه بين الخصمين مَنَع قوم من القياس عليه وجوّزه آخرون؛ والمصنّف ذهب إلى الأول، ومثل هذا القياس يسمّى القياس المركب، وهو الّذي يكون الحكم في أصله غير منصوص عليه ولامجمع عليه وهو قسمان :
ص: 356
...............
الأوّل: مركب الأصل وهو ما اتّفق فيه الخصمان على حكم الأصل [واختلفا في العلّة.
الثاني: مركب الوصف وهو ما إذا اختلف الخصمّان في وصف المستدل هل له وجود في الأصل](1) أم لا؟
مثال الأوّل: كما إذا قال الشافعي(2) في مسألة [قتل] الحرّ بالعبد: «عبد فلا يقتل به الحرّ كالمكاتب» فالمقيس عليه وهو المكاتب غير متفق عليه ولا منصوص وإنّما اتّفق الشافعي وابوحنيفة على عدم وجوب القصاص على قاتله، فللحنفي أنْ يقول: «العلّة من عدم وجوب القصاص في المكاتب ليست العبودية، إنّما هي جهالة المستحق للقصاص، من السيد أو الورثة». فإنْ سُلِّمت العلّة بطل إلحاق العبد به، وإنْ بطلت منعت الحكم في الأصل، لأَنَّ الحكم فيه إنّما ثبت بناءً على هذه العلّة وقلت بوجوب القصاص في المكاتب، فالقياس يكون ممتنعاً حينئذٍ لأَنّه لا ينفكّ عن عدم العلّة في الفرع، أو منع الحكم في الأصل.
مثال الثاني: كما إذا قال المستدل في مسألة تعليق الطلاق بالنكاح(3):
«تعليق»، فلا يصحّ قبل النكاح كما لو قال: «زينب الّتي اتزوجها طالق»، وللحنفي أَنْ يقول: لا نسلم وجود التعليق في الأصل بل هو تنجيز، فإِنْ صحّ هذا المنع(4)
ص: 357
...............
بطل الإِلحاق لعدم وجود العلّة، وإنْ بطل(1) صح الإلحاق ومَنْعتَ الحكم في الأصل وقُلتَ: إنّه صحيح كما في الفرع، فالقياس يكون ممتنعاً لأَنّه لا ينفكّ عن منع حكم الأصل أو منع العلّة فيه، فلو سلَّم الخصمُ أَنَّ العلّةَ هو الوصف المذكور(2) وأَنّها موجودة في الأصل بنص، ثم أَثبت العلّة بأحد طرائقها، إِنْتَهَضَ أيضاً الدليل عليه على المذهب الحقّ، لأَنّه لو لم يقبل ذلك لم تُقبل مقدّمة تقبل المنع، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
ومن الشرائط أَنْ لا يكون الدليل الدال على إِثبات حكم الأصل دالّاً على إِثبات حكم الفرع وإلّا فليس أحدهما أولى بالأصالة من الآخر بالفرعية.
ص: 358
قال: ومن شروط علّة الأصل: أن تكون بمعنى الباعث، أي:
مشتملة على حكمةٍ مقصودةٍ للشارع من شرع الحكمِ، لأنّها إذا كانت مجرّدَ أمارةٍ، وهي مستنبطة من حُكم الأصلِ كان دوراً. *
* أقول: لما فرغ من شرائط الأصل شرع الآن في بيان شرائط علّة الأصل، وهي أُمور:
الأوّل: ذهب الجمهور إلى أَنّه لابدّ وأَنْ تكون العلّة في الأصل للحكم بمعنى الباعث، أي تكون مشتملة على حكمة مقصودة للشارع من شرع الحكم.
قالوا: لأَنَّها لو كانت وصفاً طردياً لا حكمة فيه بل مجرد أَمارة، لزم الدور المحال لأَنّ علّة الأصل(1) مستنبطة من حكم الأصل ومتفرّعة عليه،(2) فلو كانت معرِّفة لحكم الأصل لزم توقف كلّ واحد منهما على الآخر.
ص: 359
قال: ومنها: أن يكون وصفاً ضابطاً لحكمةٍ لا حكمةً مجرّدةً؛ لخفائها، أو لعدم انضباطها، ولو أمكن اعتبارها، جاز على الأصحّ. *
* أقول [الثاني]: اختلف الناس في جواز التعليل بالحِكَمِ المجرّدة عن الأوصاف الضابطة لها، فذهب الجمهور إلى المنع من ذلك، وخالف فيه جماعة يسيرة؛ وذهب آخرون إلى التفصيل فجوّزوا التعليل بالحِكَمِ المنضبطة دون المضطربة الخفيّة.
احْتجَّ المانعون بأَنّ الحكمة من الأمور الخفية الّتي لا يمكن ضبطها ومعرفتها، وإِنْ أَمكن ذلك في بعض المصالح فتكليف العبد الإِطلاع عليها في كلّ حكم، وأَنّه هل يصحّ التعليل بها أم لا؟ نوع مشقّة، وهي منتفية لقوله تعالى: «مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(1).
واحْتجَّ المجوزون بأَنَّ الحكمة علّة لعلّة الحكم، فتعليل الحكم بها أولى من تعليله بالوصف، وأمّا الذين فصّلوا فقالوا: إنَّ التعليل بالوصف إنَّما كان لاشتماله على نوع من الحكمة، فإِذا كانت الحكمة معلومة ظاهرة كان التعليل بها أولى من التعليل بالوصف المساوي له في الظهور، وأَمّا إذا كانت الحكمة خفيّة فالتعليل لها متعذر لاختلافها باختلاف الأشخاص والأزمان.
ص: 360
قال: ومنها: ألّا تكون عدَماً في الحُكم الثبوتيِّ.
لنا: لو كان عدماً لكان مناسباً أو مَظِنَّتَهُ.
وتقرير الثانية: أنّ العدم المطلق باطلٌ، والمخصّص بأمر إن كان وجودُهُ منشأ مصلحةٍ فباطلٌ، وإن كان منشأ مفسدة فمانعٌ، وعدم المانع ليس علَّةً، وإن كان وجوده ينافي وجود المناسب، لم يصلُح عدمُهُ مظنَّة لنقيضه، لأَنّه إِنْ كان ظاهراً تعيَّن بنفسه، وإن كان خفيّاً فنقيضُهُ خفيٌ، ولا يصلُحُ الخفيُّ مظنَّةً للخفي، وإنْ لم يكن فوجودُهُ كعدمه.
وأيضاً: لم يسمع أحدٌ يقول: العلَّة كذا أو عدمُ كذا.
واسْتُدِلَّ: بأنّ لا علّة عدمٌ، فنقيضهُ وجود، وفيه مصادرةٌ، وقد تقدّم مثلهُ.
قالوا: صحَّ تعليلُ الضرب بانتفاء الإمتثال.
قلنا: بالكفِّ، وألّا يكون العدمُ جزءاً منها لذلك.
وألّا تكون المتعدّية المحلّ ولاجزءاً منه، لإِمتناع الإلحاق، بخلاف القاصرة.
قالوا: انتفاءُ معارضة المعجزة جُزءٌ من المعرِّفِ لها، وكذلك الدوران، وجزؤُهُ عدمٌ.
قلنا: شرط لاجُزْء. *
* أقول: اختلف الناس في جواز التعليل للحكم الثبوتي بالعلّة العدمية،
ص: 361
...............
فاثبته قوم ونفاه آخرون، وإليه ذهب المصنف، وقد اسْتدلَّ الباقون بوجوه ثلاثة:
الأوّل: العلّة لو كانت عدمية لكانت مناسبة أو مظنّة المناسبة، والتالي بقسميه باطل فالمقدّم مثله، والشرطيّة قد مضى بيانها.(1)
وبيان بطلان التالي وهو الّذي أشار إليه المصنف بالثانية - فإِنّه يسمي المقدمة الإِستثنائية بالثانية - إنَّ التعليلَ إمّا أَنْ يكون بالعدم المطلق أو المخصّص، والأول باطل قطعاً لعدم اشْتماله على الحكمة(2)، والثاني كذلك لأَنّه إِنْ كان وجود ذلك الأمر [الّذي يخصص به العدم](3) منشأً للمصلحة،(4) لم يكن عدمه منشأً
ص: 362
...............
لها، فاستحال التعليل به، وإِنْ كان منشأ المفسدة كان مانعاً، وعدمه يكون عدماً للمانع وعدم المانع ليس علّة وإِنْ كان وجوده - يعني وجود الأمر المخصّص به العدم - ينافي وجود المناسب لم يصلح عدمه مظنّة لنقيضه - أعني لوجود المناسب - لأَنّ وجود المناسب إنْ كان ظاهراً استغنىٰ عن هذا العدم، وإِنْ كان خفيّاً فنقيضه خفي، ن ولا يصلح الخفي مظنة للخفي، وإنْ لم يكن الوجود على أحد هذه الأَنحاء كان وجود العدم وعدمه بمثابة واحدة فلا يصلح التعليل به.
الثاني: أَنّه لم يُسمع أحد من العلماء الماضين يقول: العلّة كذا أو عدم كذا، ولو كان العدم صالحاً للعلية لوجب أن يصير إليه بعض الفضلاء في بعض الأوقات.
الثالث: أنَّ «لا علّة» عدم، فنقيضه وجود، فيستحيل اتصاف الأمر العدمي به.
واعْترض المصنف على هذا الأخير بأَنّه مصادرة على المطلوب فإنَّ من يجوّز التعليل بالعدمي يقول: «لا علّة» ليس أمراً عدمياً.(1)
وقد احتج المجوزون بأَنّه يصح أنْ يقال: إنّما ضرب السيد عبده لأَنه
ص: 363
قال: وأَنْ لا تكون المتعدّية المحَلَّ ولا جزءاً منه، لامتناع الإلحاق بخلاف القاصرة. *
لم يمتثل أوامره، فقد عللوا الوصف الوجودي بالعدمي.
والجواب: أَنّ التعليل هاهنا إنّما هو بالكف والترك، والكف أمر ثبوتي لا عدمي.
قالوا: إنّما تكون المعجزة دالة على التصديق إذا انتفىٰ المعارض لها وإنّما يكون الدوران مقيّداً،(1) إذا كان العدم مقارناً للعدم فقد صار العدم في هذين الموضعين جزءاً.
قلنا: لا نسلم أنّه جزء بل هو شرط، وفرق بينهما.
* أقول: اختلف الناس في التعليل بمحل الحكم الأصلي أو بجزئه فاثبته قوم ونفاه آخرون، والحق أَنْ نقول: إنْ كانت العلّة متعدّية استحال التعليل بمحل الحكم الأصلي لاستحالة وجوده بخصوصيته في الفرع، وإِنْ كانت قاصرة أمكن التعليل به لأَنّه لا استبعاد في استلزام ذلك المحل حكمة باعثة على شرع الحكم.
وهل يجوزالتعليل بجزءالمحل؟ الحق عندي - بناء على القبول بالقياس - الجواز في المتعدّية والقاصرة، ومنع المصنّف في المتعدّية، ولا أَعْرف هذا التخصيص، وليس حكم الجزء حكم الكل، فإِنّ الجزء يجوز كونه متعدّياً بخلاف الكلّ، [اللهم إلّاأن يعني بالجزء الجزء المختص(2)].
ص: 364
قال: والقاصرة بنصٍّ أو إجماعٍ صحيحةٌ باتفاقٍ، والأكثر على صحتها بغيرهما، كتعليل الربا في النقدين بجوهريتهما، خلافاً لأبي حنيفة.
لنا: أنَّ الظَّنَّ حاصلٌ بأنَّ الحكم لأجلها، وهو المعنيُّ بالصحة، بدليل صحَّة المنصوص عليها.
واسْتُدلَّ: لو كانت صحّتها موقوفةً على تعديتها، لم تنعكس، للدّور، والثانيّة اتفاق.
وأُجيب: بأنَّه وقف معيَّةٍ.
قالوا: لو كانت صحيحة، لكانت مفيدةً، والحُكم في الأصل بغيرها، ولا فرع.
ورُدَّ بجريانه في القاصرة بنصٍّ، وبأَنَّ النَّص دليل الدليل، وبأنَّ الفائدة معرفةُ الباعث المناسب، فيكون أَدْعىٰ إلى القبول، أو إذا قُدّر وصفٌ آخر متعدٍّ؛ لم يتعدّ إلّابدليلٍ على استقلالهِ. *
* أقول: اختلف الناس في التعليل بالعلّة القاصرة(1) بالإِستنباط بعد اتفاقهم على جواز التعليل بها بنص أو إجماع وعلى اشتراط التعدية في القياس وذلك كتعليل الشافعي تحريم الربا في النقدين بجوهر الثمنية، فذهب الجمهور كالشافعي وأحمد والقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وجماعة
ص: 365
...............
من الفقهاء والمتكلّمين إلى الجواز، ومنع من ذلك أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبد اللّٰه البصري.
احتجّ المجوّزون بوجهين:
الأوّل: أَنَّ الناظر إذا اجتهد في طلب العلّة وأَدَّىٰ ظنُه إلى أَنَّ العلّة هي محل الحكم أو ما(1) يختصّ به، فقد حصل له ظنُّ أَنَّ الحكمَ إنّما هو لأجلها، ولا معنى لصحة التعليل إلّاذلك كما في صحة المنصوص عليها، فإنّه إذا غلب على الظنّ النصّ على التعليل بالقاصرة كان ذلك هو معنىٰ المنصوص عليها.
الثاني: لو كانت صحة العلّة موقوفة على تعديتها لم تكن التعدّية موقوفة على الصحة، وإلّا لزم الدور والتالي باطل اتفاقاً، فالمقدّم مثله.
وأجاب المصنّف عن هذا الوجه بأنّ توقّف الصحة على التعدّية لا ينافي توقف التعدّية على الصحة، ولايلزم الدور، لأنّ الدور إنّما يلزم لو كان التوقّف توقّف تقدّم، أمّا إذا كان توقّف معيّة فلا.
أحتج المانعون:
بأنّ التعليل بالقاصرة لو كان صحيحاً لكان مفيداً، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، وبيان الشرطية ظاهر، وبيان بطلان التالي أَنَّ الفائدة إمّا حصول الحكم في الأصل أو في الفرع، والأوّل باطل لحصوله بالنصّ، والثاني كذلك لعدم الفرع، لقصورها وعدم تعديتها.
والجواب عنه من وجوه:
ص: 366
...............
أَحدُها: أَنَّ ما ذكرتموه وارد فيما إذا ثبت التعليل بالنصّ أو الإجماع، ولمّا صحّ التعليل هناك فكذا هاهنا.
الثاني: لا نسلّم أَنّ الحكم إنّما ثبت في الأصل بالنصّ فإِنَّ لقائل أَنْ يقول: إنّ النصّ دليل على الدليل على ثبوت الحكم، يعني أنَّ النصّ دالٌّ على الحكمة الدّالة على الحكم.
الثالث: لا نسلّم انحصار الفوائد فيما ذكرتم من التعدّية.
وهاهنا فوائد أُخرى:
أَحدها: معرفة الوصف الباعث على الحكم وشرعيّته لتكون النفس مطمئنة ويكون أَدْعىٰ إلى القبول.
وثانيها: المنع من التعليل بوصف متعدّ من غير دليل دالّ على استقلاله راجح على هذا الدّليل.
وثالثها: امتناع وجود الحكم في الفرع بسببها.
ص: 367
قال: وفي النقض، وهو وجود المدَّعىٰ علَّة مع تخلِّف الحُكم.
ثالثها: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة.
ورابعها: عكسُهُ.
وخامسها: يجوز في المستنبطة، وإنْ لم يكن بمانعٍ، ولا عدم شرطٍ.
والمختار: إن كانت مستنبطة، لم يَجُز إلّابمانعٍ أو عدم شرطٍ، لأنّها لا تثبت علِّيَّتُها إلّاببيان أحَدِهِما، لأنّ انتفاءَ الحكم، إذا لم يكن ذلك فلعدم المقتضي، وإن كانت منصوصة بظاهرٍ عامٍّ، فيجب تخصيصُه كعامٍّ وخاصٍّ، ويجب تقدير المانع.
لنا: لو بطلت لبطل المخصِّص.
وأيضاً: جمعٌ بين الدليلين.
ولبطلت القاطعةُ، كعلل القِصاصَ والجَلد وغيرهما.
أبو الحسين: النقض يلزم فيه مانعٌ أو إنتفاء شرطٍ، فيتبين أنّ نقيضهُ من الأُولى.
قلنا: ليس ذلك من الباعث، ويرجع النزاع لفظيّاً.
قالوا: لو صحت، للزم الحكمُ.
وأُجيب: بأنّ صحتها كونُها باعثةً، لا للزومُ الحكمِ، فإنه مشروطٌ. قالوا: تعارض دليلُ الإعتبار ودليل الإهدار.
قلنا: الانتفاء للمعارض لا ينافي الشهادة.
قالوا: تفسد كالعقلية.
ص: 368
وأُجيب: بأنَّ العقليّة بالذات، وهذه بالوضع. *
* أقول: النقض هو وجود الوصف المُدّعىٰ كونُه علّة في صورةٍ ما مع تخلّف الحكم المُدّعىٰ كونه معللاً في تلك الصورة وسمّي تخصيص العلّة؛ وقد اختلف الناس فيه:
فمنع منه جماعة من أصحاب الشافعي وهو منقول عنه، وجوَّزه جماعة من أصحاب أبي حنيفة. وقال قوم: إنَّه يجوز التخصيص في العلّة المنصوصة لا المستنبطة. وقال آخرون بالعكس فجوَّزوه في المستنبطة دون المنصوصة، وذهبت طائفة أُخرى إلىٰ أَنّه يجوز التخصيص بالعلّة المستنبطة وإنْ لم يكن هناك مانع ولا فقد شرط.
وذهب المصنّف إلى أَنّ العلّة إِنْ كانت مستنبطة لم يجز تخصيصها - أي تخلّف الحكم عنها - إلّالمانع أو عدم شرط، لأنّ المستنبطة لاتثبت عليَّتها إلّاببيان أحدهما - أعني وجود المانع أو عدم الشرط -، لأنّ إِنتفاءَ الحكم إذا لم يكن ذلك - أي وجود المانع أو عدم الشرط - يكون لعدم المقتضي لأنّ العلّة المستنبطة إنّما عُرفت عليّتها باعتبار الشارع لها بثبوت الحكم على وفقها وهو إنْ دلّ على اعتبارها(1)، غير أنّ تخلف الحكم مع عدم ظهور ما يستند إليه يدّل على إِلغائها.
وإن كانت منصوصة جاز تخصيصها إذا كانت منصوصة بظاهر عامّ، فيجب تخصيصه - أي بالنّص النافي لحكمها في صورة التخلّف كما في العامّ والخاصّ إذا اختلفا - فإِنّه تقدّم الخاصّ على العام ويجب تقدير المانع في صورة التخلّف.
واسْتدلّ (2) على أنّ تخلف الحكمِ عن المنصوصة بظاهر عامّ لا يبطل عليّتها بأَنَّ إبطال العلّة يستلزم إِبطال المخصص - أي العام المخصوص فيما عدا
ص: 369
...............
صورة التخصيص - والتالي باطل لما مرّ من أنّ العامّ المخصوص حجّة، وبيان الشرطيّة أنّهما اشتركا في كونهما عامّين لأَنّ المنصوص في معنى النصّ، وفي أَنَّ التخلّف فيهما لمعارضٍ.
وأيضاً لاشكّ في أَنّ العمل بكونها علّة في غير صورة التخصيص، والحكم بعدم عليّتها في صورة التخصيص يكون عملاً بالدّليلين، وهو النصّ الدّال على العليّة والتخلف الدّال على عدمها، ومهما أمكن العمل بهما كان أَولى من العمل بأحدهما، والغاء الآخر أصلاً.
وأيضاً لو كان تخلف الحكم عن العلّة يخرجها عن كونها علّة لبطلت العلل المعلوم كونها عللاً قطعاً، وذلك لأنّا نحكم قطعاً أَنّ القتل العمد العدوان علّة في وجوب القصاص مع انتفاء الحكم في حقّ الأَب، ويُعلم قطعاً أَنّ الزِّنا علّة في وجوب الحدّ وقد يتخلّف عنه كما في زنا الأَب بجارية الإِبن، ولمّا كان ذلك باطلاً علمنا أَنّ التخلّف غير دالّ على بطلان العلّة.
قال أبو الحسين: تخصيص العلّة لابد فيه من مانعٍ أو انتفاء شرط، لأَنّا إذا علمنا [أنّ] علّة تحريم بيع الذهب بالذهب متفاضلاً كونه موزوناً، وعلمنا إِباحة بيع الرصاص بمثله متفاضلاً مع أنّه موزون، فلا يخلو إِمّا أَنْ يُعلم إِباحة ذلك بعلّة أُخرى أو بنصّ، فإِنْ علمنا إِباحته بعلّة يقاس بها الرّصاص على أصلٍّ مباح ككونه أبيض، فإنّا عند ذلك لا نعلم تحريم بيع الحديد بالحديد متفاضلاً إلّابكونه موزوناً غير أبيض، فلو شككنا في كونه أبيض لم يعلم قبح بيعه متفاضلاً، كما لو شككنا في كونه موزوناً، فعُلم أَنّه بعد التخصيص لا يعلم تحريم شيء لكونه موزوناً فقط فلا يكون علّة بل العلّة كونه موزوناً مع كونه غير أبيض، وكذلك إذا دلّ النصّ على إباحة
ص: 370
...............
بيع الرصاص سواء عُلمت علّة الإباحة أو لم تُعلم، فإِذن يكون عدم المانع أو وجود الشرط جزءاً من العلّة الأُولى.(1)
والجواب: أَنّ انتفاء ذلك المعارض شرط في إثبات حكم الأَمارة، وليس هو من جملة الأمارة للحكم، لأنَّ المقصود من الأَمارة إنّما هو الباعث على الحكم، ويصير البحث لفظيّاً.
قال بعض الأَشاعرة: لو كانت العلّة المخصوصة صحيحة لزم ثبوت الحكم معها دائماً، والتالي باطل فالمقدّم مثله. وبيان الشرطية أنّ اقْتضاء العلّة للحكم إِمّا أَنْ يعتبر فيه انتفاء المعارض أو لا، فإِنْ كان الأوّل لم تكن العلّة وحدها علّة بل جزء العلّة، وإن كان الثاني لزم ما قلناه.
والجواب: صحة العلّة معناها كونها باعثة على الحكم لا لزوم الحكم عنها، فإِنّه مشروط بحصول الشرط وانتفاء المانع.
والحاصل: أنّ انتفاء المعارض شرط في لزوم الحكم لا في كون العلّة علّة.
قالوا: تَعارضَ دليل الإِعتبار - وهو وجود الحكم مع العلّة في فرع ما - ودليل الإهدار - وهو عدم الحكم في فرع ما مع وجود العلّة - فلا أَولوية.
والجواب: أنَّ الإِنتفاءِ إذا كان لمعارض لا يقدح في عليّة العلّة.
قالوا: تخصيص العلّة يوجب فسادها كالعلّة العقليّة.
والجواب: الفرق؛ فإِنَّ العلّة العقليّة علّة لذاتها، فاستحال تخلّف الحكم عنها، وهذه علّة بوضع الشارع، فافترقا.
ص: 371
قال: المجوّز في المنصوصة: لو صحَّت المستنبطة مع النقض، لكان لتحقُّق المانع، ولا يتحقُّق إلّابعد صحتها، فكان دوراً.
واُجيب: بأنّه دور معيّة، والصَّواب: أنّ استمرار الظنّ بصحَّتِها عند التخلُّف يتوقف على المانع، وتَحَقّق المانع يتوقّف على ظهور الصحة، فلا دور، كإعطاء الفقير بظنّ أنّه لفقرهِ، فإن لم يعط آخر، توقّف الظنّ، فإنّ تبيّن مانعٌ، عاد، وإلّا زالَ.
قالوا: دليلها: اقترانٌ، فقد تساقطا، وقد تقدَّم.
المجوِّزُ في المستنبطة: المنصوصة دليلُها نصٌّ عامٌّ، فلا تُقبل.
واُجيب: إن كان قطعيّاً، فمسلَّمٌ، وإن كان ظاهراً، وجب قبوله.
الخامس: المستنبطة علَّةٌ بدليلٍ ظاهرٍ، وتخلّف الحكم مشكَّك، فلا يعارض الظاهر.
واُجيب: تخلّف الحكم ظاهرٌ أنَّه ليس بعلّة، والمناسبة والإستنباط مشكَّك.
والتحقيق: أنّ الشكّ في أحد المتقابلين يوجب الشكّ في الآخر.
قالوا: لو توقف كونُها أَمارة على ثبوت الحكم في محل آخر لانْعكس، وكان دوراً أو تحكُمّاً.
واُجيب: بأنّه دور معيّة.
والحقّ: أَنَّ استمرار الظنِّ بكونها أمارةً يتوقّف على المانع أو ثبوت
ص: 372
الحكم، وهما على ظهورِ كونها أمارةً. *
* أقول: إِحتجَّ القائلون بالمنع من التخصيص في العلّة المستنبطة بأنّه لو صحت العلّة مع النقض لكانت تلك الصحّة متوقفة على وجود المانع، لأنّه لولا وجود المانع لم تكن تلك العلّة علّة، ضرورة وجودها مع عدم الحكم خالية عن المانع حينئذٍ لكن وجود المانع يتوقّف على صحّة العلّة، لأَنّه لولا صحة العلّة لكان عدم الحكم مستنداً إلى عدم العلّة لا إلى وجود المانع، وذلك يستلزم الدّور المحال.
والجواب: أَنَّ الدور هاهنا هو دور معيّة لا دور تقدّم وتأخّر.
والتحقيق: أَنْ يقالَ: استمرار الظنّ بصحَّتها عند التخلف يتوقّف على وجود المانع، وتحقق المانع يتوقّف على ظهور صحّتها، ولا دور حينئذٍ لأنّ المتوقّف على المانع إنّما هو استمرار الظنّ، والمتوقّف عليه المانع إنّما هو ظهور الصحّة، وذلك كإِعطاء الفقير، فإِنّه يظنّ أَنّه إنّما أَعطاه لفقره، فإِنْ لم يعط آخر توقّف الظنّ ولم يستمر، فإِنْ تبيّن مانع كالفسوق عاد الظنّ بكون العلّة هي الفقر وإلّا زال، فظهر أَنّ استمرار الظنّ بالتعليل في الإعطاء متوقّفٌ على وجود مانع هو الفسق مثلاً، ليس مطلق الظنّ.
قالوا: دليل العليّة اقتران الحكم بها وقد زال، فتزول العلّية.
والجواب عنه ما تقدّم في قولهم: تعارض دليل الاهدار والاعتبار.
واحتجّ المانعون من التخصيص في العلّة المنصوصة: بأن دليل العلّة نصّ عامّ فلا يقبل التخصيص، إمّا كونه نصّاً فظاهر، وإمّا كونه عامّاً فلأنّه لو كان خاصّاً لما تصوّر تخلف الحكم عنه، مع أَنَّ الكلام فيه، وإمّا أَنّه لا يقبل التخصيص فلأنَّ الأصل تنزيل الالفاظ العامّة على عمومها، وإذا لم يقبل النصّ التخصيص فلا تقبله العلّة، وهو ظاهر.
ص: 373
...............
والجواب: إنْ كان النص العامّ قطعيّاً في دلالته فهو مسلّمٌ، وإن كان ظنّياً وجب قبوله للتخصيص جمعاً بين الأدلة.
وأحتجّ القائلون بجواز التخصيص في المستنبطة من غير مانع ولا فوات شرط، بأَنَّ المستنبطة علّة بدليل ظاهر وهو المناسبة مع الاقتران، وتخلّف الحكم مشكّك، ولا يعارض الشكُّ الظاهر.
والجواب: المعارضة بالمثل فإِنَّ تخلف الحكم عن الوصف ظاهر في الدلالة على عدم العليّة، والمناسبة والاستنباط مشكّك فلا يعارضان الظاهر. والتحقيق فيه أَنَّ الشكّ في أحد المتقابلين يوجب الشكّ في الآخر.
وهؤلاء لما قالوا: «إِنّ تخلّف الحكم ليس بظاهر في الدلّالة على عدم العليّة، ولكنّه مشكّك»، فقد اعترفوا بحصول الشكّ في العلّية أيضاً، فيبقىٰ قولهم: «الشكّ لا يعارض الظاهر» ساقطاً.
قالوا: ثبوت الحكم في إِحدىٰ الصورتين إذا لم يكن دالّا على العلّة إلّامع ثبوته في الصورة الأُخرى، فالعكس إِنْ كان حقاً لزم الدور والاّ كان تحكماً.
والجواب: أَنّه دور معيّة لا دور تقدّم وتأخّر. والحق أَنَّ استمرار الظن بكون الوصف أمارة يتوقف على المانع أو ثبوت الحكم في الصورة الأُخرى، وهما يتوقفان على ظهور [الوصف أمارة وقد مضى مثل ذلك].(1)
ص: 374
قال: وفي الكسر، وهو وجود الحكمة المقصودة مع تخلف الحكم.
المختار: لا يبطل، كقول الحنفي في العاصي بسفره: مسافر فيترَخّص كغير العاصي، ثم يُبَيِّنُ (1) المناسبة بالمشقة، فيُعتَرضُ بصنعة شاقةٍ في الحضر.
لنا: أن العلّة في(2) السفر، لِعُسر انضباط المشقّة ولم يَرد النقض عليه.
قالوا: الحكمة هي المعتبرة قطعاً، فالنقض وارد.
قلنا: قدرُ الحكمة المساوية في محلّ النقض مظنونٌ، ولعلّه لمعارض، والعلّة في الأصل موجودة قطعاً، فلا يعارض الظن القطع حتّى لو قَدَّرْنا وجود قَدْر الحكمة أو أكثر قطعاً وإن بَعُدَ أُبطل، إلّاأن يثبت حُكمٌ آخر أليق بها، كما لو عُلِّل القطع بحكمةِ الزجر، فيُعترض بالقتل العمد العدوان، فإنّ الحكمةَ أزيدُ لو قُطِع، فيقول: ثبت حكمٌ أليق بها يحصل به، وزيادةٌ، وهو القتل. *
* أقول: الكسر(3) هو وجود الحكمة المقصودة مع عدم الحكم،
ص: 375
...............
واختلفوا في أَنّه هل يُبطل العلّة أم لا؟ فذهب الأكثرون إلى أَنّه غير مبطل، مثاله قول الحنفي في مسألة العاصي بسفره: مسافر، فوجب أَنْ يَتَرَخَّص في سفره كغير العاصي، ثم يبين المناسبة في السفر بما فيه من المشقة، فيقول المعترض: ما ذكرته من الحكمة - وهي المشقة - منتقضة فإنّها موجودة في حق الحمّال وأرباب الصنائع الشاقّة في الحضر ولا رخصة.
والدليل على عدم الإِبطال إنَّ الكلامَ مفروض في الحكمة الّتي ليست منضبطة بنفسها بل بضابطها كالسفر، وحيئنذ لا يخفىٰ أنَّ تلك الحكمة إذا كانت غير مضبوطة فهي مما تختلف باختلاف الأَشخاص والأزمان والأحوال، ومثل هذا يرد الشارع الناس فيه إلى المظان الظاهرة الجلية دفعاً للعسر والتخبط في الاحكام، فحينئذٍ تكون العلّة هاهنا هو السفر لا غير؛ والنقض غير وارد عليه.
قالوا: الحكمة هي المعتبرة قطعاً فإِنَّ الوصف لولم يشتمل عليها لم تكن علّة، وإذا كان كذلك ورد النقض.
والجواب: أَنَّ وجود قدر الحكمة المساوية في محل النقض مظنون وليس بمقطوع، لكون الحكمة غير مضبوطة بل إنّما تُضبط بالوصف الّذي ليس موجوداً في صورة النقض، وإذا كان مظنوناً فيُحتمل أَنْ لا يكون موجوداً وإلّا لكان مقطوعاً به، وعلى تقدير أَنْ يكون موجوداً فلعلَّ تخلف الحكم لمعارض.
وأيضاً النقض من قبيل المعارض لدليل كون الحكمة معللاً بها فانتفاء الحكم مع وجود الحكمة في دلالته على ابطال التعليل بالحكمة مرجوح بالنظر إلى دليل التعليل بها، لأنّه من المحتمل أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لمعارض. ومع هذا الاحتمال لا يدلّ على ابطالها لأَنّ العلّة في الأصل موجودة
ص: 376
قال: وفي النقضِ المكسورِ، وهو نقضُ بعض الأوصاف.
المختار: لا يبطلُ كقول الشافعي في بيع الغائب: مبيعٌ مجهولُ الصفة عند العاقد حال العقد، فلا يصحُّ، مثلُ: «بعتك عبداً»، فيُعترض بما لو تزوّج أمرأةً لمْ يرها.
لنا: أنّ العلّة المجموعُ: فلا نقض، فإنْ بيّن عدم تأثير كونه مبيعاً، كان كالعدم، فيصحُّ النقضُ، ولا يُفيد مجرّد ذكره دفعَ النقضِ. *
قطعاً، فلا يعارض الظنُ القطعَ حتى إِنّا لو فرضنا وجود قدر الحكمة أو اكثر قطعاً في صورة النقض، وإِنْ كان بعيداً كان ذلك مبطلاً للتعليل بها وإِنْ كان قد نازع فيه قومٌ.
اللّهمّ إلّاأن يثبت في صورة النقض حكم آخر أليق بالحكمة، مثاله: إِنّا لو عللنا القطع بحكمة الزجر فاعترض المعترض بالقتل العمد العدوان، فإنَّ حكمة القطع فيه أزيد، فكان يجب القطع، فيقول: ثبت فيه حكم أليق به تحصل به تلك الحكمة، والزيادة المفروضة وهو القتل.
* أقول: اختلفوا في النقض المكسور وهو نقض بعض أوصاف العلّة، فذهب الجمهور إلى أنّه غير مبطل للعلّة، مثاله قول الشافعي في مسألة بيع الغائب مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد فلا يصحّ بيعه، كما لو قال: بعتك عبداً، فيقول المعترض: هذا ينتقض بما لو تزوج [أحد] امرأة لم يرها، فإنّها مجهولة عند العاقد حالة العقد، ومع ذلك فالنكاح صحيحٌ.
ووجه بطلانه أَنّ التعليل إنّما هو لمجموع كونه مبيعاً مجهول الصفة لا بمجرد الجهالة فلا نقض. اللهمّ إلّاأنْ يبيّن المعترض عدم تأثير كونه مبيعاً فيكون
ص: 377
قال: وأمّا العكس، وهو انتفاءُ الحُكم لإنتفاء العلّة، فاشْتراطه مبنيٌ على منع تعليل الحكم بعلَّتين، لإنتفاء الحُكم عند انتفاء دليله.
ونعني انتفاءِ العلم أو الظنِّ، لأنَّه لا يلزم من انتفاء الدليل على الصانع انتفاؤه. *
ذكره كالعدم فيصحّ النقض ولا يفيد مجرد ذكره في دفع النقض، لأَنّ المستدل إِمّا أنْ يبقىٰ على اعتقاد كون المجموع علّة أو لا، فإِنْ بقيَ فقد بَطَل التعليل بما عُلِّل به لعدم التأثير لا للنقض، وإِنْ لم يبق فقد بطل التعليل بالنقض لكونه وارداً على كلّ العلّة.
* أقول: اختلف الناس في اشتراط العكس في العلل الشرعية، فأَثْبته جماعة من الأُصوليين ونفاه جمهور الأشاعرة والمعتزلة، والمراد من العكس هاهنا انتفاء الحكم لانتفاء العلّة.
واعلم أَنّا إنْ منعنا من تعليل الحكم الواحد بعلتين لزم العكس، لأَنَّ العلّة دليل على ثبوت الحكم ويلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا مطلقاً، وإلّا لزم من انتفاء العالم في الأزل انتفاء الصانع تعالى، وهو محال، بل يلزم انتفاؤه عند اعتقاد المعتقدين.(1)
ص: 378
قال: وفي تعليل الحكم بعلّتين أو عللٍ كلٌّ مستقلٌ:
ثالثها للقاضي: يجوز في المنصوصة لا المستنبطة.
ورابعها: عكسه.
ومختار الإمام: يجوز، ولكن لم يقع.
لنا: لو لم يجز لم يقع، وقد وقع، فإنّ اللَّمس، والبول، والغائط والمذي يثبتُ بكلِّ واحدٍ منها الحدثُ، والقصاصُ والردَّةُ يثبتُ بكلِّ منهما القتل.
قولهم: الأحكام متعدَّدةٌ ولذلك ينتفي قتل القصاص، ويبقى الآخر، وبالعكس.
قلنا: إضافة الشيء إلى أحد دليليه لا يوجب تعدُّداً، وإلَّا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط.
وأيضاً: لو امتنع لامتنع تعدُّد الأدلَّة، لأنّها أدلَّةٌ. *
...............
صورتين واختلفوا في جواز تعليله في صورة واحدة بعلتين، فمنع إمام الحرمين من ذلك مطلقاً، وجوّزه آخرون مطلقاً، والقاضي جوّز ذلك في العلل المنصوصة لا المستنبطة، وقد نقل بعضهم عنه المنع مطلقاً، وذهب آخرون إلى الجواز في المستنبطة والمنع في المنصوصة، والإمام اختار الجوازمطلقاً لكنه قال: إنّه لم يقع.
واستدل المصنّف: على الجواز بأَنّه لو لم يجز لم يقع، والتالي باطل فالمقدّم مثله، والشرطية ظاهرة، وبيان بطلان التالي أنَّ اللمس والبول والغائط يثبت بكلّ واحد منها الحدث، والقصاص والردَّة يثبت بكلّ واحد منهما وجوب القتل، فهذه علل مختلفة والحكم واحد.
أجابوا عن ذلك بأَنّ الاحكام مختلفة بالشخص وإِنْ إِتَّحدت بالنوع فإِنَّ القتل المُوجب عن القصاص غير القتل المُوجب عن الردَّة، ولأَجل ذلك إذا عُفي مستحق القصاص عن القتل ثبت الوجوب الآخر المستند إلى الردّة وبالعكس.
وأَجاب المصنف عن ذلك: بأَنّ إِضافة القتل إلى القصاص وإضافته إلى الردّة إضافة المدلول إلى الدليل، والإِضافة إلى الأدلة المتغايرة لايستلزم تغاير المدلولات وإلّا لزم مغايرة حدث البول لحدث الغائط وهو باطل إِتفاقاً، وأيضاً لو امتنع تعدّد العلل لامتنع تعدد الأَدلة لأَنّ العلل أدلة.
ص: 380
قال: المانع: لو جاز لكانت كُلُّ واحدةٍ مستقلةً غيرَ مستقلَّةٍ، لأنَّ معنى استقلالها ثبوتُ الحكم بها، فإذا انفردت ثبت الحُكُم بها، فإذا تعددَّت تناقضت.
واُجيب بأنّ معنى استقلالها أنّها إذا انفردت استقلَّت، فلا تناقض في التعدُّدِ.
قالوا: لو جاز لاجتمع المثلان فيستلزم النقيضين، لأنّ المحلَّ يكون مستغنياً غير مستغن، وفي الترتيب تحصيلُ الحاصل.
قلنا: في العلل العقليَّة، فأَمّا مدلولُ الدليلين فلا.
قالوا: لو جاز لما تعلَّق الأئمةُ في علَّة الربّا بالتَّرجيح، لأنَّ من ضرورته صحّة الإستقلال.
وأُجيب: بأنّهم تعرَّضوا للإبطال لا للترجيح، ولو سُلِّم فللاجماع على اتحاد العلّة هنا، وإلَّا لزم جعلها أجزاء.
القاضي: لابعد في المنصوصة، وأمَّا المستنبطة فتستلزم الجزئيّة، لرفع التَّحكّم، فإنْ عُيِّنت بالنصّ رجعت منصوصةً.
وأُجيب: بأنّه يثبتُ الحكمُ في محال أفرادها، فتستنبط.
العاكس: المنصوصةُ قطعيّةٌ والمستنبطة وهميَّةٌ، فيتساوى الإمكان.
وجوابهُ واضحٌ.
وقال الإمام: إنّه النهايةُ القصوىٰ وفَلَقُ الصُّبح في الوضوح: لو لم
ص: 381
يكن ممتنعاً شرعاً، لوقع عادة ولو نادراً، لأنّ إمكانهُ واضحٌ، ولو وقع لعُلم، ثم ادَّعىٰ تعدُّدَ الأحكام فيما تقدَّم. *
* أقول: احتجّ المانعون من تعليل الواحد بعلتين بوجوه:
الأوّل: أَنّه لو جاز تعليل الحكم بعلتين لكانت كلّ واحدة مستقلة غير مستقلة، وذلك باطل فما أدّى إليه باطل، بيان الملازمة أَنّ معنى استقلال العلّة ثبوت الحكم بها بانفرادها فإذا تعدّدت يلزم أن لا يثبت الحكم بها بانفرادها، وذلك يناقض الاستقلال.
والجواب: أنَّ معنى استقلال العلّة أَنّها إذا انفردت استقلّت(1)، فلا يلزم التناقض لأَنَّها مع التعدّد لا تكون منفردة بل تكون بحيث أَنَّها لو انفردت لاستقلّت، فلا يخرج عن هذا الوصف مع التعدّد.
الثاني: لو جاز لاجتمع المثلان، وذلك يستلزم النقيضين لأنّ المحل يكون مستغنياً غير مستغني إنْ تقاربا في العليَّة أو تحصل الحاصل إنْ تقدمت إحداهما.
والجواب: أنَّ هذا لازم في العلل العقلية، أَمّا العلل الشرعية فلا، لأَنَّها معرِّفات ودلائل، ولا استبعاد في دلالة دليلين على مدلول واحد.
الثالث: لو جاز التعليل بعلتين لما التجأَ الفقهاء قديماً وحديثاً إلى الترجيح في علّة الربا أَنّه الطّعم أو الكيل، لأَنّ ضرورة الترجيح صحة الاستقلال وإلّا
ص: 382
...............
لكان الحكم مستنداً إليهما، فلا ترجيح.
والجواب: لا نسلّم أَنّهم إنّما تعرضوا لإبطال [التعليل بأحدى العلتين لا للترجيح](1) سلَّمنا أنّهم تعرضوا للترجيح لكن إنّما فعلوا ذلك للإجماع على أَنّ العلّة هاهنا هي شيء واحد لا مجموع أمرين،(2) وإلّا لزم جعل كلّ واحدة من العلتين جزءاً من العلّة.
قال القاضي: لا بُعد في تعليل الحكم الواحد بعلّتين شرعيتين لأَنَّها معرّفات وأَمّا العلّة المستنبطة فإنّها تستلزم الجزئية، وبيانه: أَنّ المستنبطِ للعلّة إذا استنبط في الأصل مجموع أمرين كلٍّ منهما صالح للتعليل، فإنْ أَسند الحكم إلى أحدهما كان ذلك تحكْماً محضاً، إِلّا أَنْ يتعيّن بالنص فتكون العلّة منصوصة لا مستنبطة، وإنْ أَسند إليهما معّاً، كانت كلّ واحدة منهما جزءَ العلّة.
والجواب:(3) أنَّ الحكم يثبت في محالِّ أَفرادها غير [أفراد] الأُخرىٰ فيستنبط [أنّها] هي للتعليل، فلا تحكّم.
ص: 383
...............
قال من ذهب إلى الجواز في المستنبطة دون المنصوصة: إنَّ المنصوصة قطعية والمستنبطة وهمية، فلا يجوز التعدّد في الأُولى كالعقلية، ويجوز في الثانية لتساوي إمكان التعليل بالنسبة إليهما(1).
والجواب عن هذا ظاهر(2).
قال إمام الحرمين: إنّه لو لم يكن تعليل الحكم بعلّتين ممتنعاً شرعاً، لوقع عادّة ولو نادراً لأَنّه ممكن، ولو وقع لعُلِمَ، ولكنّه لم يعلم فلا يكون واقعاً.
وزعم أنَّ هذا برهان قاطع واضح لكلّ أحد! وهو في غاية الضعف، ثمّ إنّه ادّعىٰ تعدد الأحكام فيما تقدّم من القتل المعلل بالردّة والقصاص، والوضوء المعلّل بحدث البول والنوم، ولا شكّ في ضعفه.
ص: 384
قال: القائلون بالوقوع إذا اجتمعتُ فالمختار: كلُّ واحدةٍ علَّةٌ.
وقيل: جزءٌ.
وقيل: العلَّة واحدةٌ لا بعينها.
لنا: لو لم تكن كُلُّ واحدةٍ علّة، لكانت جزءاً أو كانت العلّة واحدةً.
والأوّلُ باطلٌ، لثبوت الإستقلال.
والثاني: للتحكُّم.
وأيضاً: لامْتنع اجتماع الأدِلَّة.
القائلُ بالجزءٍ: لو كانت كُلٌ مستقلَّةً، لاجتمع المثلان، وقد تقدَّم.
وأيضاً: لزم التحكُّمُ، لأنَّه إنْ ثَبَتَ بالجميع فهو المُدَّعىٰ، وإلَّا لزم التحكّم.
وأُجيب: ثبت بالجميع كالأدلة العقليَّة والسمعيَّة.
القائلُ لا بعينها: لو لم يكن كذلك، لزم التحكُّم أو الجُزئيَّة فيتعَّين. *
* أقول: القائلون بأَنّ تعليل الحكم الواحد بعلتين واقع، اختلفوا [فيما إذا اجتمعت دفعة كاللمس والبول](1) فذهب قوم إلى أَنَّ كلّ واحدة منهما علة مستقلة حالة الاجتماع كما لو انفردت، وقال آخرون أنّها جزءُ العلّة، وذهبت طائفة أخرى إلى أَنَّ العلّة هي واحدة لا بعينها.
إِسْتدل المصنف على المذهب الأول بأَنّه لو لم تكن كُلُّ واحدة منهما
ص: 385
...............
علة فإِمّا أن تكون العلّة هي المجموع أو واحدة منهما لا بعينها أو واحدة معيّنة، والأقسام باطلة فالمقدّم باطل، أَمّا الشرطية فظاهرة، وأَمّا بطلان الأقسام:
أمّا الأول فلأَنّ التقدير أَنَّ كلّ واحدة منهما مستقلة فكيف تكون جزءَ العلّة فإنَّه يلزم التناقض، وأَمّا الثاني والثالث فلأنّه تحكّم محض، وأيضاً لو امْتنع كون كلّ واحدة علة مستقلة لامتنع اجتماع الأدلة لأَنّ العلل أدلة.
وأَمّا القائلون بالجزئية فقد احتجّوا بأنّه لو كانت كلّ واحدة منهما علّة مستقلّة لزم اجتماع المثلين، فإنَّ كلّ واحدة منهما تستلزم حكماً مساوياً لما تستلزمه الأُخرى.
والجواب قد تقدّم.(1)
قالوا يلزم التحكّم لأَنّ الحكم إنْ ثبت بالجميع لزم المطلوب، وإنْ ثبت بواحدة يلزم التحكّم.
والجواب: يثبت بالجميع(2) كما في الأدلة العقلية والسمعية. قال الفريق الآخرون أَنّه لو لم تكن العلّة واحدة لا بعينها لزم أَنْ تكون العلّة واحدة معيّنة وهو تحكّم، أو أنْ تكونَ العلّة هي المجموع وذلك باطل لأَنّه يلزم كون كلّ واحدة جزءاً من العلّة.(3)
ص: 386
قال: والمختار جواز تعليل حُكمين بعلَّة بمعنى الباعث، وأمّا الأمارة فاتِّفاقٌ.
لنا: لا بعد في مناسبة وصفٍ واحدٍ لحكمين مختلفين.
قالوا: يلزم تحصيل الحاصل، لأنَّ أَحدهما حَصَّلَهما.
وأُجيب: بأنّه إمَّا أنْ تَحْصُل أُخرى أو لا يحْصُلَ إلّابِهِما. *
* أقول: اتّفقوا على أَنّه يجوز أَنْ تكون العلّة الواحدة علةً لحكمين مختلفين إذا كانت العلّة بمعنى الأمارة، فإِنّه لا إمتناع في أَنْ يجعل الشارع طلوع الهلال أمارة لوجوب الصلاة والصوم، وإنّما اختلفوا في العلّة بمعنى الباعث، والمختار جوازه أيضاً، فإنّه لا استبعاد في أن يكون الوصف الواحد مناسباً لحكمين مختلفين(1) كالشرب فإِنّه علة للتحريم والجلد بمعنى أَنّه باعث للشرع عليهما.
احتجّ المخالف بأَنّه يلزم منه تحصيل الحاصل، لأَنّ الحكمة المقصودة من الوصف إنْ حصلت بالحكم الأول كان تحصيلها من الحكم الثاني تحصيلاً للحاصل، وإنْ لم يكن محصِّلاً لها لم يكن مناسباً لأَنّ معنىٰ المناسب أَنّه لو رُتِّب الحكم عليه لحصل المقصود.
والجواب: أَنَّ ذلك الوصف يجوز أَنْ يكون محصِّلاً لحكمة أخرى
ص: 387
قال: ومنها أَنْ لا تتأخَّر عن حُكم الأصل.
لنا: لو تأخَّرت لثبت الحُكم بغير باعثٍ، وإنْ قُدِّرَتْ أَمٰارَةً فتعريف الْمُعَرَّفِ. *
غير الأُولىٰ، أو نقول أنَّ الحكمة المقصودة إنّما حصلت بالحكمين،(1)وتفسيرهم المناسب ليس علىٰ ما ينبغي بل الوصف المناسب هو الّذي يتوقف حصول مقصوده عليه.
* أقول: هذا أحد شرائط العلّة، فقد اختلفوا فيه فذهب قوم إلى أَنّه يستحيل أَنْ يكون الحكم في الأصل متقدّماً على العلّة، كتعليل إِثباتِ الولايةِ على الصغير الّذي عَرَض له الجنون بالجنون، فإِنَّ الولاية ثابتة قبل عروضه.
والدليل على ذلك أَنَّ العلّة إنْ كانت باعثة كان الحكم مثلها(2) بغير باعث وهو محال، وإِنْ كانت بمعنى الأمارة لزم تعريف المُعرَّف، وهو محال.
ص: 388
قال: ومنها ألَّا يرجع على الأصل بالإبطال، وألَّا تكون المستنبطة لمعارض في الأصل.
وقيل: ولا في الفرع.
وقيل: مع ترجيح المعارض.
وألَّا تخالف نصَّاً أو إجماعاً.
وألّا تتضمن المستنبطة زيادةً على النَّصِّ.
وقيل: إنْ نافت مقتضاهُ.
وأَنْ يكون دليلها شرعيَّاً.
وألَّا يكون دليلها متناولاً حُكم الفرع بعمومه، أو بخصوصهِ مثْلُ: «لا تبيعوا الطَّعام بالطَّعام» أو «من قاءَ أو رَعَف».
لنا: تطويلٌ بلا فائدةٍ، ورجوعٌ.
قالوا: مناقشةٌ جدليَّة. *
* أقول: هذه شرائط أُخر للعلة:
منها: أن لا تكون العلّة المستنبطة من الحكم المعلل بها ليرجع إلى الحكم الّذي استنبطت منه بالإبطال(1)، كتعليل وجوب الشاة في الزكاة بدفع
ص: 389
...............
حاجة الفقير، فإِنّ هذه العلّة تقتضي رفع وجوب الشاة.
ومنها: أَنْ تكون العلّة المستنبطة خالية عن المعارض في الأصل، قيل: ولا في الفرع، وقيل: الشرط أَنْ تكون خالية عن المعارض الراجح، وهذا على رأي القائلين بجواز تخصيص العلّة. وإنّما اشترطوا ذلك لأَنّ التعليل مع وجود المعارض يستلزم اسناد الحكم إلى دليل مع قيام المنافي للدلالة ولا شكّ في بطلانه.
ومنها: أَنْ لا تكون مخالفة لنص خاصّ ولا لإجماع خاصّ، وهذا متّفق عليه.
ومنها: أنْ لا تتضمن زيادة على النص. قيل: وإِنَّما يجب هذا الشرط إذا كانت الزيادة منافية لمقتضىٰ النص، أمّا إذا لم تكن فلا.
ومنها: أنْ يكون دليل العلّة شرعياً وهذا متّفق عليه، فإِنَّ نصب الأوصاف الشرعية أسباباً وعللاً إنّما هو من الشارع فالدليل عليه لابد و أن يكون شرعيّاً.(1)
ومنها: أَنْ لا يكون الدليل الدالّ على العلّة الجامعة في القياس متناولاً لاثبات الحكم في الفرع بعمومه أو بخصوصه.
مثال الأول: قول الشافعي في مسألة الفواكه: «مطعوم» فيجري فيه الربا قياساً على البُرّ، ثمّ اسْتدل على كون الطُعم علة بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلّا مثلاً بمثل»(2) فإنّه وإن دلّ بايمائه على كون الطعم علة، فهو دليل على تحريم
ص: 390
...............
الربا في الفواكه بعمومه.
ومثال الثاني: قول الحنفي في مسألة الخارج من غير السبيلين: خارج نجس فينقض الوضوء كالخارج من السبيلين، ثم دلّ على كون الخارج النجس علة للنقض لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من قاءَ أو رعف أو أمذى فليتوضأ وضوء الصلاة»،(1) فإنّ القيُ والرعاف والمذي من حيث هو خارج نجس مناسب لنقض الوضوء، فترتب الحكم عليه في كلام الشارع يدل على التعليل به، ولكنّه مع ذلك متناول لاثبات حكم الفرع بخصوصه دون حكم الأصل.
واستدلوا على هذا الشرط بأَنّه إذا كان دليل العلّة يستقل بالدلالة على الحكم المتنازع فيه، فتوسيط العلّة يكون تطويلاً من غير فائدة.(2)
قالوا هذا وإِنْ أَفضىٰ إلى التطويل إلّاأَنّ حاصله يرجع إلى مناقشة جدليِّة وليس ذلك بقادح في صحة القياس.
ص: 391
قال: والمختار: جواز كونها حُكماً شرعيَّاً إن كان باعثاً على حُكم الأصل، لتحصيل مصلحةٍ لا لدفع مفسدةٍ، كالنَّجاسةِ في علَّة بطلان البيع. *
* أقول: اختلفوا في جواز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي(1)فأَثبته قوم ونفاه آخرون.
واحتج المثبتون بأَنّ أحد الحكمين قد يكون دائراً مع الآخر وجوداً وعدماً، والدوران يقتضي العلّية.
واحتج النافون بأَنَّ الحكم المعلل إِمّا أن يكون متقدّماً أو متأخراً أو مقارناً للحكم الآخر، وعلى التقدير الأول يلزم تقدّم المعلول على العلّة، وعلى الثاني يلزم انفكاك العلّة عن المعلول، وعلى الثالث يلزم الترجّيح من غير مرجّح فإنّه لا أولوية في تعليل أحدهما بالآخر(2).
والمصنف فصّل هاهنا فقال: إنْ كانت العلّة بمعنى الأمارة أمكن أن يكون الحكم الشرعي علة للحكم الشرعي لا في [الأصل](3) بل في محل آخر فإِنّه لا امتناع في أَنْ يقول الشارع: «مهما رأيتموني قد أبحت فاعلموا أني قد أبحت كذا»(4)
ص: 392
...............
[وان كانت العلّة بمعنى الباعث جاز أنْ تكون باعثاً على تحصيل مصلحة فلا استبعاد في أَنْ يكون ترتيب أحد الحكمين على الآخر يستلزم حصول مصلحة لا يستقل بها أحدهما، وذلك كالنجاسة في علة بطلان البيع، ولا يجوز أن تكون العلّة الباعثة لدفع المفسدة اللازمة من المعلل لأَنّ تلك المفسدة إذا كانت مطلوبة الأنتفاء بشرع الحكم الّذي هو العلّة امتنع شرع الحكم الّذي هو المعلول، لأنّه يلزم من شريعته(1) وجود مفسدة مطلوبة الانتفاء](2).
ص: 393
قال: والمختار: جواز تعدد الوصف ووقوعه، كالقتل العمد العدوان.
لنا: أنّ الوجه الّذي ثبت به الواحد ثبت به المتعدِّد من نصٍّ، أو مناسبةٍ، أو شبهٍ، أو سبرٍ، أو استنباطٍ.
قالوا: لو صحَّ تركيبها لكانت العلّيّة صفةٌ زائدةٌ، لأنّا نعقل المجموع، ونجهل كونها علّة، والمجهول غير المعلوم.
وتقرير الثانية أنَّها إن قامت بكلِّ جزء، فكلُّ جزءٍ علّةٌ، وإن قامت بجزءٍ فهو العلّة.
وأُجيب: بجريانه في المتعدِّد بأنّه خبرٌ أو استخبارٌ.
والتحقيق: أنَّ معنى العلّة: ما قضى الشارع بالحكم عندهُ للحكمة، لا أنّها صفة زائدة، ولو سلِّم فليست وجوديّة لاستحالة قيام المعنى بالمعنى.
قالوا: يلزم أن يكون عدمُ كلِّ جزءٍ علّة لعدم صفة العلّيّة، لانتفائها بعدمهِ، ويلزم نقضها بعدمٍ ثانٍ بعد أوَّلٍ لاستحالة تجدّد عدم الْعدم.
وأجيب: بأنَّ عدم الجزء عدمُ شرط العلَّة، ولو سُلِّم فهو كالبول مع اللمس، وعكسه، ووجهه: أنَّها علامات، فلابعد في اجتماعها ضربةً ومترتِّبة، فيجب ذلك. *
* أقول: اختلف الناس في جواز التعليل بالعلة المركبة(1) من
ص: 394
...............
أوصاف متعددة فأَثبته قوم ونفاه آخرون، واخْتار المصنف الأوّل واسْتدل عليه بأَنّ الدليل الدالّ على كون الوصف الواحد علّة قد يدل على كون المتعدد علّة، وذلك لأَنّ الأدلة إمّا النص أو المناسبة أو الشبه أو السَّبْر أو الإستنباط على ما يأتي، وقد يتأتىٰ ذلك في المتعدد كالقتل العمد العدوان فإنّه مناسب لوجوب القصاص، وإذا كان كذلك أمكن التعليل بالمجموع كما أمكن بالمفرد.
احتجّ المانعون بأَنّه لو صحّ تركيب العلّة لكانت العلية صفة زائدة على المجموع، والتالي باطل فالمقدّم مثله. بيان الشرطية أنّا قد نعقل المجموع ونغفل عن كونه علّة، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم. وأَمّا بطلان التالي فلأنّ العليّة إنْ قامت بكلّ جزء من المجموع، وكلّ جزء علّة هذا خلف، وإن قامت بجزء واحد فذلك الجزء هو العلّة، هذا خلف.
والجواب عنه من وجوه:
الأوّل: أنَّ هذا ينتقض بكون الكلام خبراً أو استخباراً ونهياً وأمراً، فإنَّ هذه صفات قائمة بمجموع الحروف.
الثاني: أنّ العلّية ليست صفة زائدة على المجموع، بل معنى كونه علّة أَنَّ الشارع قضىٰ بثبوت الحكم عنده للحكمة المنوطة به.(1)
الثالث: لو سلَّمنا أَنّ العلّية صفة زائدة على المجموع لكنّها ليست
ص: 395
...............
صفة وجودية وإلّا لقامت بالصفات الّتي عُلِّل بها ويلزم من ذلك قيام المعنى بالمعنى.(1)
واحتجوا أيضاً بأنّ العلة لو كانت مركبة لزم النقض في العلل، والتالي باطل فالمقدم مثله، وبيان الشرطية أنَّ تلك العلة المركبة يكون عدم كل جزء منها علة لعدم (وصف) العلية،(2) .
فإذا عدم جزء منها اقتضى ذلك عدم ذلك الوصف، فإذا عدم جزء ثان لم يكن علة لأنّ العدم قد حصل بالأول فيستحيل تجدد عدم قد ثبت، فإذا خرج ذلك الجزء عن الإقتضاء لزم النقض، وأما بطلان التالي فظاهر .
والجواب:(3) أَنَّ كُل واحد من أجزاء المجموع شرط للعلة فعدمه يكون عدماً لشرط العلة، سلَّمنا لكن عدم كلّ جزء من اجزاء العلة ينزل منزلة البول مع اللمس، وبالعكس في كون كل واحد منهما مسبباً لوجوب الوضوء .
والتحقيق فى هذا أن يقال أَنَّ هذه علامات وليست موجبات ولا إستبعاد في اجتماع العلامات دفعة واحدة ومرتبة ؛ وهذا جواب حسن يتأتى ع-ل-ى أُصول الأشاعرة في العلل الشرعية ولا يتأتى على أصول المعتزلة ولا على أصول الفريقين
في العلل العقلية، والجواب الأول فيه ضعف.
ص: 396
قال: ولا يُشترطُ القطع بالأصلِ، ولا انْتفاءُ مُخالفةِ مذهب صحابي، ولا القطع بها في الفرع على المختار في الثلاثة، ولا نفي المعارض في الأصل والفرع، وإذا كانت وجود مانعٍ، أو انتفاء شرط؛ لم يلزمُ وجودُ المقتضي.
لنا: أنَّه إذا انتفىٰ الحُكمُ مع المقتضي كان مع عدمهِ أجدر.
قالوا: إنْ لم يكن فانتفاءُ الحكم لانتفائهِ.
قلنا: أدلّة متعددةٌ. *
* أقول: هذه شرائط اشترطها قوم غير محققين:
منها: أنْ تكون العلّة منتزعة من أصل مقطوع بحكمه، والأولىٰ عدم اشتراطه لأنّه يجوز القياس على ما أصله مظنون.
ومنها: أنْ لا يخالف مذهب صحابي، والأولى عدم اشتراطه لجواز استناد الصحابي إلى علّة مستنبطة لا إلى نص مستفاد من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.
ومنها: أن يكون وجود العلّة في الفرع مقطوعاً به وهو باطل أيضاً لأنّ وجود العلّة في الفرع أحد أركان القياس فاكتُفِي فيه بالظن.
وهذه الأحكام الثلاثة اختار المصنف عدم اشتراطها؛ ولا يشترط أيضاً نفي المعارض في الأصل والفرع، وهذا الشرط عند المصنف في محل الاجتهاد.
وإذا كانت العلّة [في انتفاء الحكم](1) وجود المانع أو انتفاء الشرط
ص: 397
قال: مسألة:
الشافعيّة: حُكُم الأَصل ثابتٌ بالعلّةِ، والمَعْنى: أنَّها الباعثةُ على حُكمِ الأصلِ.
والحنفيَّةُ: بالنَّصِّ، والمعنى: أنّ النَّصَّ عَرَّف الحُكمَ، فلا خلاف في المعنىٰ. *
هل يتوقف على وجود المقتضي أم لا؟ ذهب قوم إلى التوقّف والأولى عدمه، والدليل عليه أنّ الحكم إذا انتفىٰ مع المقتضي بالمانع أو بانتفاء الشرط فعدمه مع [ عدم](1) المتقضي أولىٰ لأَنّ العلّة حينئذٍ تكون خالية عن المعارض.
احتجّوا: بأَنَّ العدم عند انتفاء المقتضي يستند إليه لا إلى وجود المانع.
والجواب: أَنّ (2) هذه أدلة فجاز تعددها.
* أقول: ذهبت الشافعية إلى أَنَّ حكم أصل القياس المنصوص عليه إنّما يثبت بالعلّة، وذهبت الحنفية إلى أنّه ثابت بالنص واستدلوا بأنَّ الحكم المنصوص مقطوع به والعلّة المستنبطة مظنونة فلا يعلل بها المقطوع، وأيضاً العلّة مستنبطة من الحكم فهي تابعة له.
وذهب المحققون إلى أنّ الخلاف في هذه المسألة راجع إلى اللفظ
ص: 398
...............
لأنّ الشافعية عنوا بقولهم: «الحكم ثابت بالعلّة» أنّها الباعثة للشارع على إثبات الحكم في الأصل وأنّها الّتي لأجلها ثبت الحكم لا أنّها معرِّفة(1) لنا(2) لأَنّها إنّما تعرف بعد معرفة الحكم والحنفية عنوا بذلك أَنّ العلّة ليست معرِّفة لنا وإِنْ كانت باعثة للشارع على اثبات الحكم فلا خلاف بينهم في المعنىٰ.
ص: 399
قال: شروط الفرع: منها أن يساوي في العلّة علَّة الأصل، فيما يقصد من عين أو جنسٍ، كالشِّدَّة في النبيذ، وكالجناية في قصاص الأطراف على النفس.
وأن يساوي حُكمُهُ حُكُمَ الأَصل فيما يقصد من عين أو جنسٍ، كالقصاص في النّفس في المُثقَّل على المُحدَّد، وكالولاية في النكاح في الصغيرة على المُوَلَّى عليها في المال.
وألّا يكون منصوصاً عليه ولا متقدَّماً على حُكم الأصل، كقياس الوضوء على التيمُّم في النية، لما يلزم من حُكمِ الفرع قبل ثبوت العلّةِ، لتأخّر الأصل.
نعم: يكون إلزاماً.
وقيل: وأن يكون الفرع ثابتاً بالنصّ في الجملة لا التفصيل.
وردَّ بأنّهم قاسوا: «أنت عليَّ حرامٌ» على الطّلاق واليمين والظِّهار. *
* أقول: هذه شرائط الفرع:(1)
منها: أنْ تكون العلّة الموجودة في الفرع مشاركة لعلة الأصل فيما هو مقصود إمّا مشاركة في عينها أو جنسها، مثال الأول: تعليل تحريم شرب النبيذ
ص: 400
...............
بالشدَّة المطربة المشتركة بينه و بين الخمر، ومثال الثاني: تعليل وجوب القِصاص في الأطراف بالجناية المشتركة بين القطع والقتل.
وذلك لأَنّ القياس إنّما هو التعدِيَة بواسطة علّة الأصل، فإذا لم يشارك الفرع الأصل في عين العلّة ولا في عمومها لم يمكن التعدية(1) إليه.
ومنها: أن يكون حكم الفرع مساوياً لحكم الأصل إمّا في عينه أو جنسه، مثال الأوّل: وجوب القصاص في النفس المشترك بين المثقَّل والمحدّد. ومثال الثاني:
اثبات الولاية على الصغيرة في نكاحها قياساً على اثبات الولاية في مالها فإنّ المشترك إنّما هو مطلق الولاية.(2)
ومنها: أَنْ لا يكون منصوصاً عليه وإلّا لكان حكمه مستفاداً من النص لا من القياس.
ومنها: أَنْ لا يكون حكمه متقدماً على حكم الأصل كقياس إيجاب النية في الوضوء على إيجابها في التيمم لأَنّه يلزم ثبوت حكم الفرع قبل ثبوت العلّة لأَنّ العلّة متأخرة عن حكم الأصل المتأخر عن حكم الفرع وذلك محال، اللّهم إلّاأن يذكر ذلك في معرض الإِلزام.
وشرط قوم أن يكون حكم الفرع منصوصاً عليه اجمالاً لا تفصيلاً.
ص: 401
قال: مسالك العلّة:
الأوّل: الإجماع.
الثاني: النَّصَّ.
وهو مراتب: الأوّل: صريح، مثل: لعلَّة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجل، أو من أجل، أو كي، أو إذن، ومثل: «لكذا، أو أن كان كذا، أو بكذا».
أو مثل: «فإنّهم يحشرون» «فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا» ومثل قول الرّاويّ:
«سها فسجد» و «زنى ماعزٌ، فرُجم»، سواءٌ الفقيه وغيرُه، لأنَّ الظاهر أنّه لو لم يَفْهمْه لم يقلهُ. *
وردّ الجمهور عليهم بأَنَّ الصحابة قاسوا: «أَنْتِ عليَّ حرامٌ» على الطلاق واليمين والظهار ولم يوجد في الشرع نص دالّ على حكم التحريم لا اجمالاً ولا تفصيلاً.
* أقول: هذا إشارة إلى بيان طرق الدلالة على العلّة:
الأوّل: الإجماع وهو أَنْ يذكر ما يدلّ على إجماع الأُمّة في وقت ما على كون الوصف الجامع علة كإجماعهم على كون الصِّغر علّة لثبوت الولاية على الصغير في قياس ولاية النكاح على ولاية المال.
الثاني: النص وهو على مراتب:
منها، الصريح وهو أَنْ يذكر دليلاً من الكتاب أو السنة على التعليل
ص: 402
...............
بالوصف بلفظ موضوع له لغة،(1) كما لو قال: لعلة كذا أو لسبب كذا، أو لأجل كذا، أو من أجل كذا،(2) أو كما أو إذنْ (3) أو لكذا أو أَنْ كان كذا أو بكذا أو أن، مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم في حق محرم وقصت به ناقتهه: «لا تقربوه طيباً فإنّه يحشر يوم القيامة ملبيّاً»(4) وكقوله في حق قتلىٰ أحد(5): «زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنّهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخبٍ دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك» أو مثل «وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا»(6)،(7) ومثل قول الراوي: «سها رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فسجد»، و «زنا(8) ماعز فرجم»، وسواء كان الراوي فقيهاً أو غيره لأَنّ الظاهر من حاله أَنّه لو لم يفهم لم ينقله.
ص: 403
قال: وتنبيه وإيماءٌ، وهو الإقتران بحكم لو لم يكن، أو نظيره للتعليل كان بعيداً، مثل: «واقعتُ أهلي في نهارِ رمضان»، فقال: «أعتقُ رقبة» كأنَّه قيل: «إذا واقعتَ، فكفِّر» فإنْ حُذف بعضُ الأوصاف فتنقيحٌ، ومثل: «أينقص الرطبُ إذا يبس»؟ قالوا: نعم، فقال: «فلا، إذن».
ومثال النظير: لمَّا سألته الخثعميةُ: إنْ أبي أدركته الوفاةُ وعليه فريضةُ الحجِّ، أينفعه، إن حججُت عنه؟ فقال: «أرأيت لو كان على أبيك دينٌ فقضيتهِ، أكان ينفعهُ؟» فقالت: نعم، فنظيرهُ في السؤال كذلك، وفيه تنبيهٌ على الأَصل والفرع والعلَّة.
وقيل: إنَّ قولهُ صلى الله عليه و آله و سلم لمَّا سأَله عمر عن قُبلةِ الصَّائم: «أرأيت لو تمضمضت أكان ذلك مفسداً؟». فقال: «لا» من ذلك.
وقيل: إنَّما هو نقض لما توهمه عمر من إفساد مقدمة الإفساد، لا تعليلٌ لمنع الإفساد، إذ ليس فيه ما يتخيل مانعاً، بل غايتهُ ألَّا يفسد.
ومنها: أن يَفْرُق بين حُكمين بصفةٍ مع ذكرهما، مثل: «للرَّاجل سهم، وللفارس سهمان»، أو مع ذكر أحدهما، مثل: «القاتلُ لا يرثُ» أو بغاية أو استثناءٍ مثل: «حَتّٰى يَطْهُرْنَ» و «إِلاّٰ أَنْ يَعْفُونَ» ومثل ذكر وصف مناسب مع الحكم مثل: «لا يقضي القاضي وهو غضبان». *
* أقول: هذه مرتبة ثانية للنص وهو أنْ يدل على التعليل لا بمنطوقه بل بإِيمائه ويُسمّىٰ التنبيه، والإيماء و هو الإِقتران بحكم لو لم يكن أو [هو]
ص: 404
...............
نظيره للتعليل، كان بعيداً(1) وهو على وجوه:
أحدها: أَنْ يحكم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بحكم عقيب حدوث واقعة فإِنّه يدلّ على كون الواقعة علة لذلك الحكم كما روي أَنَّ أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: هلكت! فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «ماذا صنعت؟» فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان عامداً؛ فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «أَعتق رقبة»(2) فإِنّه يدلّ على كون الوقاع علة للعتق وإلّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة لأَنّه صلى الله عليه و آله و سلم لو ذكره غير جواب، لزم ذلك وإِنْ ذكره جواباً يضمن السؤال وكأنّه يصير «واقعت فكفّر» وترتيب الحكم على الوصف الصالح للعلّية مشعر بالتعليل، فإنَّ حذف بعض الأوصاف الّتي لا مدخل لها في التأثير ككونه ذلك الأعرابي بعينه أو ذلك اليوم أو تلك الموطؤة حتى عمل به في حق اعرابي آخر أو ترك يوم آخر أو موطؤة أُخرى إتساع للحكم أو لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «حكمي علىٰ الواحد حكمي على الجماعة»،(3) [فإنّه] سمِّي تنقيح المناط أي تنقيح ما ناط الشارع الحكم به.
الثاني: أَنْ يذكر الشارع مع الحكم وصفاً لو لم يكن للتعليل لم تكن فيه فائدة ويكون عقيب سؤال في محله كما رُوي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أَنّه سُئل عن جواز بيع
ص: 405
...............
الرُّطب بالتمر فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «أينْقص الرُّطَبُ إذا يبس»؟ فقالوا: نعم. فقال: «فلا اذن».(1)
وقد يكون عقيب سؤال في غير محله كما روي عنه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا سألته الجارية الخثعمية وقالت: يا رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم إِنَّ أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج فإنْ حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «أرأيتِ لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك» فقالت: نعم، فقال: «دَين اللّٰه أحق بأن يُقضىٰ»(2) فالخثعمية إنَّما سألته عن الحج والنبي صلى الله عليه و آله و سلم أَجابها عن دين الآدمي، والحج من حيث هو دَين نظير لدين الآدمي، فذكره لنظير المسؤول عنه مع ترتيب الحكم عليه يدل على التعليل به وإلّا كان ذكره عبثاً، ويلزم من كون النظير علة للحكم كون المسؤول عنه كذلك ضرورة المماثلة، ومثل هذا يسميه الاصوليون التنبيه على أصل القياس وكأنّه صلى الله عليه و آله و سلم نبَّه على الأصل وعلى العلّة وعلى صحة إِلحاق المسؤول عنه به بواسطة العلّة المومىٰ إليها.
قال بعض الأُصوليين: إِنَّ من هذا القبيل ما رُوي عن عمر أنّه سأل النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن قُبلة الصائم هل تُفسد الصوم؟ فقال: «أرأيت لو تمضمضت بماءٍ ثم مججته أكنت شارباً؟» فقال: لا.(3) وقيل أَنّه ليس من هذا القبيل لأَنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم إنّما ذكر ذلك بطريق النقض لما توهمه عمر من كون القبلة مفسدة للصوم لكونها مقدمة
ص: 406
...............
للوقاع المفسد، فنقض النبي صلى الله عليه و آله و سلم ذلك بالمضمضة فإِنها مقدمة للشرب المفسد وليست مفسدة ولم يذكر ذلك صلى الله عليه و آله و سلم تنبيهاً على تعليل عدم الإِفساد لكون المضمضة مقدمة للفساد لأَنّ كون القبلة والمضمضة مقدمة لإِفساد الصوم ليس فيه ما يُتخيل أن يكون مانعاً من الإِفطار بل غايته أَنْ لا يكون مفطراً فكان الأَشبه ممّا ذكره صلى الله عليه و آله و سلم أن يكون نقضاً لا تعليلاً.
الثالث: أَنْ يَفْرُق الشارع بين حكمين بذكر صفة فإِنّه مشعر بكون تلك الصفة علة للفرق وهو على أقسام:
منها: أنْ يُذكر الحكمين معاً كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «فللراجل سهم وللفارس سهمان».
ومنها: أَنْ يذكر أحدهما لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «القاتل لا يرث» فإِنَّ تخصيص القاتل بالمنع من الإِرث مع سابقية الميراث للوارث مشعر باسناد المنع إلى القتل.
ومنها: أَنْ يفرق بين حكمين بغاية أو إِستثناء، مثال الغاية قوله تعالى: «وَ لاٰ تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ»(1) و مثال الاستثناء قوله تعالى: «إِلاّٰ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكٰاحِ»(2).
الرابع: أَنْ يذكر الشارع مع الحكم وصفاً مناسباً كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» فإِنَّ هذا مشعر بكون الغضب علة في المنع من القضاء لما فيه من تشويش الفكر.
ص: 407
قال: فإن ذُكِرَ الوصف صريحاً والحكم مستنبطٌ مثل: «وَ أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا» أو بالعكس.
فثالثها: الأوّل إيماءٌ لا الثاني، فالأوّلُ على أنَّ الإيماءَ اقترانُ الوصف بالحكم، وإنْ قُدِّر أحدهما.
والثاني على أنَّهُ لابدَّ من ذكرهما.
والثالث على أنَّ ذكر المستلزم له كذكره، والْحِلُّ يستلزمُ الصحَّة. *
* أقول: اتّفق الناس على صحة الإيماء إذا كان حكم الوصف المومىٰ إليه مع الوصف مدلولاً عليه بصريح اللفظ كالأمثلة السابقة، واختلفوا فيما إذا كان اللفظ يدلّ على الوصف بصريحه والحكم مستنبط منه غير مصرح به مثاله قوله تعالى: «وَ أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا»(1) فإنّ هذا اللفظ بصريحه يدلّ على الحلّ، والصحة مستنبطة منه لأنّه لو لم يكن البيع صحيحاً لم يكن مفيداً إذ هو معنى الصحة وإذا لم يكن مفيداً كان تعاطيه عبثاً والعبث حرام فيلزم من الحل الصحة، أو بالعكس كما إذا دلّ اللفظ بوضعه على الحكم والوصف مستنبط منه كما في قوله صلى الله عليه و آله و سلم:
«حُرِّمت الخمر لعينها»(2) فإنّه يدل على تحريم الخمر وضعاً، والشدة المطربة علة مستنبطة منه؛ فذهب قوم إلى أَنّه(3) ليس بايماء فيهما وآخرون إلى أَنّه إِيماء في الأول
ص: 408
...............
دون الثاني.
إِحتج الأولون: بأَنّ الإيماء إنّما يتحقق إذا دل اللفظ بوصفه على الوصف والحكم كما سبق في الأمثلة، أَمّا إذا دلّ على الوصف بلفظه وكان الحكم مستنبطاً منه أو بالعكس فلا يدل ذلك على كونه مومياً إليه.
واحتج القائلون بالإيماء: بأَنَّ الإيماء عبارة عن اقتران الوصف بالحكم سواء كانا مذكورين أو كان أحدهما مقدَّراً والآخر ملفوظاً به.
والمحققون قالوا: أنّ الأول إيماء لأَنّه إذا كان اللفظ الصريح يدلّ على الوصف وهو الحِلْ والصحة لازمة له فإِثبات الحل وضعاً يستلزم إرادة ثبوت الصحة وإِثبات الشارع للحكم مقترناً بالوصف دليل على الإيماء كما لو ذكر معه الحكم بلفظ يدل عليه وضعاً - والثاني ليس بإيماء لأنّ الوصف - أعني الشدة المستنبطة من الحكم المصرح به لو لم يكن المستنبط من الحكم الصريح لم يكن - وجوده لازماً من الحكم المصرح به - أعني التحريم - ولا مناسبة لثبوت الشدة قبل شرع
ص: 409
قال: وفي اشتراط المناسبة في صحّة علل الإيماء ثالثها المختار إن كان التعليل فُهم من المناسبة، اشترطت. *
الحكم بخلاف الصحة مع الحل.
والمعتبر في الإِيماء أَنْ يكون مذكوراً في كلام الشارع مع الحكم أو لازماً من مدلول كلامه، والأمران مفقودان في الوصف المستنبط فلذلك لم يعدّوه من الإيماء.
* أقول: اختلف الناس في اشتراط مناسبة الوصف المومى إليه في صحة التعليل فاثبته جماعة ونفاه الغزالي.
والمصنف اختار مذهباً آخر ذهب إليه قوم أيضاً وهو أنّ الّذي فهم التعليل فيه من(1) الإيماء مستنداً إلى ذكر الحكم مع الوصف المناسب - وهو القسم الرابع من أقسام الإِيماء الّتي اشرنا إليه - ولا يتصورفهم التعليل فيه دون فهم المناسبة لأَنّ عدم المناسبة في مثل هذا القسم - أعني الّذي اشترط فيه المناسبة - ممّا يتناقض وأمّا ما سواه فلا يشترط.
ص: 410
قال: الثالث: السَّبر والتقسيم، وهو حصر الأوصاف في الأصل، وإبطالُ بعضها بدليله، فيتعيَّن الباقي، ويكفي: «بحثتُ فلم أجد»، أو الأصل عدم ما سواها، فإنْ بيَّن المعترض وصفاً آخر، لزم إبطالُهُ لا انْقِطاعُه والمجتهد يرجع إلى ظنِّه، ومتى كان الحصر والإبطال قطعيّاً فقطعيٌّ، وإلّا فظنّي.
وطرقُ الحذف منها: الإلغاء، وهو بيان إثبات الحكم بالمستبقىٰ فقط، ويشبه نفي العكس الّذي لا يفيد وليس به، لأنَّه لم يُقْصَد: لو كان المحذوف علَّةً لا تبقى عند انتفائه، وإنّما قُصِد: لو كان المستبقىٰ جُزءَ علّةٍ، لَمَا اسْتقل، ولكن يقال: لابدَّ من أصل لذلك، فيُستغنىٰ عن الأوّل.
ومنها: طردُهُ مطلقاً، كالطول والقِصَر، أو بالنسبة إلى ذلك الحكم، كالذكوريَّة في أحكام العتق.
ومنها: ألَّا تظهر مناسبتُهُ، ويكفي المناظر: بحثت، فإنِ ادّعىٰ أنَّ المستبقىٰ كذلك، ويُرجَّح به سَبْرُ المْستَدِل بموافقته للتَّعدية. *
* أقول: هذا هو المسلك الثالث من مسالك العلّة وهي طريقة السَبْر والتقسيم، وهو حصر الاوصاف في الأصل وإِبطال بعضها بطرائقه فيبقى الباقي علة، مثاله أَنْ يقال: الحكم الثابت في الأصل إِمّا أنْ يكون لعلة كذا أو لعلة كذا أولعلة كذا، والأَخيران باطلان فتعيّن الأوّل، ويكفي في حصر الأوصاف أن يقول المستدل:
بحثت فلم أجد وصفاً آخر، وعدم الوجدان دليل ظني على عدم الوجود، أو
ص: 411
...............
يقول: الأصل عدم الزائد، فإنْ بيّن المعترض وصفاً آخر وجب على المستدل إِبطاله بما أبطل الأوّل، وإلّا لزم انقطاعه وإبطال حصره(1).
وأمّا المجتهد فيرجع إلى ظنه في الحصر، ومتى كان الحصر والإِبطال قطعيين كان التعليل بالباقي قطعيّاً وإلّا فلا.
وطرق الحذف:
منها: الإلغاء وهو أَنْ يبين المستدل أَنَّ الوصف الّذي استثناه ثبت بها الحكم في صورة بدون الوصف المحذوف، وهذا يشبه نفي العكس الّذي لا يفيد التعليل فليس هوهو وسيأتي(2)؛ وإنّما كان هذا مشبهاً لنفي العكس في عدم الإِفادة لأَنّ المستدل إنْ قصد دعوى استقلال الوصف الباقي في صورة الإِلغاء بالتعليل من مجرد اثبات الحكم معه وانتفاء الوصف المحذوف - بأن قال: لو كان المحذوف علة لانتفى الحكم عند انتفائه في صورة الالغاء - فغير صحيح فإنَّه لو كان مجرد ثبوت الحكم مع الوصف في صورة الالغاء كافياً في ثبوت التعليل بدون الاستدلال بأحد الطرائق الدالة على التعليل لكان ذلك كافياً في أصل القياس ولا حاجة إلى البحث والسبر، فحيئنذٍ لا يبقى قصده متوجهاً إلّاإلى نفي كون الباقي جزء العلّة بأَنْ يقول:
لو كان الباقي جزء علة لما استقل لكنّه قد استقل في صورة الإِلغاء فإِنَّ بيّن الاستقلال فيها بالبحث والسبر كما أثبت ذلك في أصله الأول للقياس فقد استقلت صورة الالغاء بالاعتبار وأمكن أن تكون أصلّاً لعلته فلا حاجة إلى الأصل الأوّل، وإِنْ
ص: 412
...............
بيّنه بطريق آخر كان ذلك انتقالاً من طريق إلى طريق وهو قبيح عند أهل النظر(1).
ومنها: طرد المحذوف إمّا مطلقاً وهو أن يكون ما يحذفه من جنس ما عهد من الشارع عدم الالتفات إليه في الأحكام كالطول والقصر وأمّا بالنسبة إلى ذلك الحكم وهو أن يكون ما حذفه من جنس ما ألف من الشارع عدم الالتفات إليه في جنس ذلك الحكم كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من اعتق شريكاً له من عبد قوّم عليه نصيب شريكه»(2)فإِنّه وإنْ أمكن تقرير مناسبة بين وصف الذكورة وسراية العتق غير أنّا لمّا عهدنا من الشارع عدم الفرق بين الذكورية والانوثية في أحكام العتق، الغينا صفة الذكورة فيها(3) دون بقية الأحكام.
ومنها: أَنْ لا تظهر في الوصف المحذوف مناسبة للحكم المعلل [ويكفي المستدل أَنْ يقول: بحثت فلم أجد فيه مناسبة، وعدم الوجدان مع البحث التام ممّا يوجب الظن بعدمه، فإِنْ قال المعترض: بحثت في الوصف الباقي فلم أجد مناسبة، فيلزم إلغاؤه](4) لأنّ المستدل إِنْ بيّن المناسبة فيه فقد انتقل في اثبات العلّة
ص: 413
قال: ودليل العمل بالسَّبر وتخريج المناط وغيرهما، أنّه لابدَّ من علّةٍ، لإجماع الفقهاء على ذلك.
ولقولهِ: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ» والظاهر التعميم، ولو سلَّمنا، فهو الغالب، لأنّ التعقل أقرب إلى الإنقياد، فليحمل عليه، وقد ثبت ظهورها، في المناسبة.
ولو سلِّم، فقد ثبت ظهورها بالمناسبة، فيجب اعتبارها في الجميع، للإجماع على وجوب العمل بالظنِّ في علل الأحكام. *
من طريق السبر إلى المناسبة، وإِنْ لم يبين لم يكن وصف المعترض بالحذف أولىٰ، فوجه تخليص المستدل أَنْ يقول: إِنْ كان المعترض سلَّم مناسبة كل واحد من الوصفين لم يسمع منه بعد بيان المستدل نفي المناسبة في الوصف المحذوف، منع [المناسبة في المستبقي لكونه مانعاً لما سلمه](1) وإن لم يكن سلم أوّلاً فللمستدل ان يقول: سبري راجح على سبرك، بموافقته للتعدية وموافقة سبر المعترض للقصور، والتعدية أولى من القصور.
* أقول: الدليل على كون السبر وتخريج المناط(2) وغيرهما طرقاً إلى اثبات العلّة أَنّه لابدّ في الحكم المعيّن من علة لاجماع الفقهاء على ذلك، ولأنّ الغرض من الحكم إِمّا النفع أو الضرر، والتالي باطل اتفاقاً لكونه تعالىٰ حكيماً غنياً،
ص: 414
...............
والأول المطلوب ولقوله تعالى: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ»(1) ؛ فعلمنا أَنَّ القصد من الأحكام إنّما هو تعريف المصالح للانقياد إليها، والظاهر التعميم في كلّ تكليف [ولو سلم عدم العموم إلّاأَنّ الغالب ذلك لأَنّ الحكم المتعقل فائدته أقرب إلى الإِنقياد من الحكم الّذي يخفىٰ وجه حكمته، والأغلب يُحمل عليه الأقل عملاً بالظن؛ هذا في الطرق الّتي تغاير المناسبة؛ وأَمّا المناسبة فإِنّا نقول فيها ذلك ويزيد عليه أَنْ يقول: ظهر من الحكمة من الحكم في الوصف المناسب فيكون هو العلّة وإذا كان علة كان كل حكم معللاً للإجماع الحاصل على وجوب العمل بالظن في علل الأحكام].(2)
ص: 415
قال: الرابع: المناسبة والإخالة، ويسمىٰ تخريج المناطِ، وهو تعيين العلّة بمجرد إبداء المناسبة من ذاته لا بنصٍّ ولا غيره كالإسكار في التحريم، والقتل العمد العدوان في القصاص.
والمناسب: وصف ظاهرٌ منضبطٌ يحصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً من حصول مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ.
فإِنْ كان خفيّاً أو غير منضبط، اعْتُبر ملازمه وهو المَظِنَّةُ، لأنَّ الغيب لا يُعرِّف الغيب كالسفر للمشقة، والفعل المقضي عرفاً عليه بالعمد في العمدية. *
* أقول: هذا المسلك الرابع من مسالك العلّة وهو المناسبة والإحالة(1)ويسمى تخريج المناط(2) وهو تعيين العلّة في الأصل بمجرد إبداء المناسبة من [ذاته لا من النص ولا من غيره كالاسكار]،(3) فإنّه إنّما كان علّة لما فيه من المناسبة وكالقتل العمد العدوان؛ والمناسب وهو الوصف الظاهر المنضبط الحاصل عقلاً من ترتيب الحكم عليه ما يصلح أَن يكون مقصوداً من حصول مصلحة أو دفع مفسدة، فإِنْ كان المناسب أمراً خفيّاً أو مضطرباً أعتبر ملازمه وهو المظنة لأَنّ الغيب
ص: 416
قال: وقال أبو زيد: المناسب: ما لو عرض على العقول تلقتهُ بالقبول، وقد يحصل المقصود من شرع الحكم يقيناً وظناً، كالبيع والقصاص، وقد يكون الحصول ونفيه متساويين، كحدّ الخمر.
وقد يكون نفيه أرجح، كنكاح الآيسة لمصلحة التوالد.
وقد يُنكَرُ الثاني والثالث.
لنا: أنّ البيع مَظِنَّةُ الحاجة إلى التعاوض، وقد اعْتُبِر وإن انتفىٰ الظنُّ في بعض الصور، والسفر مظنَّةُ المشقَّة، وقد اعتبر، وإنْ انتفى الظنَّ به في حق الملك المترفه.
أَمّا لو كان فائتاً قطعاً، كلحوق نسب المشرقي بتزوج مغربيةٍ، وكاستبراء جارية يشتريها بائعها في المجلس، فلا يُعتبر، خلافاً للحنفيّة. *
يعني الخفاء، وغير المنضبط لا يعرف الغيب يعني الحكم وذلك مثل المشقة فإنّها وصف غير منضبط فاعتبر لازمها وهوالسفر فإِنّهُ مظنة المشقة، فكان مناسباً للتقصير، وكالفعل الّذي مضىٰ في العرف أَنّه عمد في قتل العمد.(1)
* أقول: حدَّ أبو زيد المناسب(2) بأنّه عبارة: «عما لو عرض على العقول تلقته بالقبول»، وهو غير خارج عن وضع اللغة فإِنّهم يقولون: هذا الوصف
ص: 417
...............
مناسب أي ملائم لكن ليس للمناظر أَنْ يثبت على خصمه مناسباً بهذا المعنى فإنّه لا وصف يدعيه المستدل ويزعم أنّه مناسب إلّاويمكن أَنْ يعارضه المعترض ويقول:
«هذا ليس ما يلائم عقلي» فينقطع، فإذن الأولى في الحدّ ما نقلناه أوّلاً عن المصنف.
واعْلم أَنّ المقصودَ إِمّا أن يكون حاصلاً من شرع الحكم يقيناً أو ظناً أو يتساوى الحصول وعدمه، أو يكون عدم الحصول أرجح أو يكون عدم الحصول قطعيّاً:
مثال الأوّل: إِفضاء الحكم بصحة التصرف بالبيع إلى اثبات الملك.
ومثال الثاني: شرع القصاص المترتب على القتل العمد العدوان صيانة للنفس عن الفوات(1).
مثال الثالث: تفريعاً(2) كشرع الحدِّ على شرب الخمر لحفظ العقل فإِنَّ إِفضاؤه إلى ذلك وعدمه متساويان حيث نجد كثرة الممتنعين مقاومة لكثرة المُقدمين عليه.
مثال الرابع: الحكم بصحة نكاح الآيسة لإِفضائه إلى مصلحة التوالد فإنّه وإِنْ كان ممكناً إلّاأنّه مستبعد في الواقع.
وقد أنكر قوم القسم الثالث والرابع، والمصنف ذهب إلى صحة
ص: 418
...............
التعليل بهما(1) لأَنّ البيع مظنة الحاجّة إلى التعاوض وقد اعْتُبر، وإِنْ انتفىٰ الظن في بعض الصور؛ والسفر مظنة المشقة وإِنْ انتفىٰ الظن في حق الملك المسافر على الترفه والراحة؛ وهذا مما قد اتفق الناس عليه فإِنّ الانفاق حاصل في صحّة التعليل بالقسم الثالث والرابع إذا كان في آحاد الصور الشاذة وكان المقصود ظاهراً من الوصف في غالب صور الجنس، وأَمّا إِنْ لم يكن كذلك فلا.
ومثال القسم الخامس: [ك] لحوق نسب المشرقي للمغربية وشرع الاستبراء في شراء الجارية الّتي يشتريها بائعها في المجلس مع علمه بفراغ الرحم فإن هذا وان كان ظاهراً في غالب صور الجنس إلّاأنّه في مثل هذه الصور يعلم قطعاً عدم إِقتضائه(2) إلى المقصود(3) فلا يكون معتبراً خلافاً للحنفية فإِنّهم اعتبروا هذه الأَوصاف حيث كانت معتبرة في غالب الصور.
ص: 419
قال: والمقاصد ضربان: ضروريّ في أصلهِ، وهوأعلى المراتب، كالخمسة الّتي روعيت في كلِّ ملَّةٍ: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنَّسل، والمال، كقتل الكفّأر، والقصاص، وحدِّ المُسكر وحدّ الزِّاني، وحدَّ السارق والمحارب.
ومكمل للضروريّ، كحدّ قليل المسكر.
وغير ضروري: حاجيُّ، كالبيع، والإجارة، والقراض، والمساقاة، وبعضها آكد من بعضٍ، وقد يكون ضروريّ كالإجارة على تربية الطفل، وشِراء المطعوم والملبوس له ولغيره.
ومكمَّل له، كرعاية الكفَاءَة، ومَهرِ المثل في الصَّغِيرَة، فإنّه أفضى إلى دوام النكاح.
وغير حاجيٍّ، ولكنَّه تحسينيٌّ، كسلب العبد أهليَّة الشهادة لِنَقْصه عن المناصب الشريفة، جرياً على ما أُلِفَ من محاسن العادات. *
* أقول: المقاصد الّتي شرع الحكم لها قسمان: إِمّا أَنْ تكون ضرورية أو لا تكون؛ فالضرورية إِمّا أَنْ تكون أصلاً أو لا تكون فالأوّل المقاصد الخمسة الثابتة في كلّ ملة من الملل وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال؛ فالأوّل ثبت بشرع الجهاد وقتل الكفّار، والثاني بشرع القصاص، والثالث بشرع الحدّ على
ص: 420
...............
شرب المسكر، والرابع بشرع الحدّ على الزنا، والخامس بشرع حدّ السارق والمحارب، وأمّا إن لم يكن أصلاً فهو التابع المكمل للضروري كالمبالغة في حفظ العقل بتحريم شرب القليل من المسكر والحدّ عليه.
وأَمّا إِنْ لم يكن أحد المقاصد الضرورية فلا يخلوا إِمّا أَنْ يكون ممّا تدعو الحاجة إليه أو لا؟ فالأول إِمّا أَنْ يكون أصلاً أو لا يكون، فالأول كشرع البيع والإِجارة والقراض والمساقاة وغيرها من انواع المعاملات وبعضها آكد من بعض وقد يكون بعضها ضرورياً كالاجارة على تربية الطفل وشراء المطعوم والملبوس له ولغيره، وهذا القسم دون القسم الأول من أقسام الضروري. وإِمّا إِنْ لم يكن أصلاً فهو التابع المكمّل كرعاية الكفاءة ومهر المثل في تزويج الصغيرة فإِنّه أَفضىٰ إلى دوام النكاح.
وأَمّا إِنْ لم يكن من قبيل الحاجات فهو ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية أحسن الطرق في المعاملات والعادات كسلب العبد أهلية الشهادة لنقصه عن المناصب الشريفة.
ص: 421
قال: مسألة: المختار انخرام المناسبة، لمفسدةٍ تلزم راجحةً أو مساويةً.
لنا: أَنَّ العقلَ قاضٍ بأَنَّ لا مصلحة مع مفسدةٍ مثلها.
قالوا: الصلاة في الدّار المغصوبة تلزم مصلحةً ومفسدةً تساويها أو تزيد، وقد صحَّت.
قلنا: مفسدةُ الغصبِ ليست عين الصلاة، وبالعكس، ولو نشئا معاً عن الصلاة، لم تصحَّ، والترجيح يختلف باختلاف المسائل، ويرجَّحُ بطريق إجماليَّ، وهو أنَّه لو لم يُقدَّر رجحان المصلحة، لزم التعبّد بالحكم. *
* أقول: اختلف الناس في أَنّه إذا ثبت الحكم لوصف مصلحي على وجه يستلزم مفسدة راجحة أو مساوية هل تنخرم مناسبته أو لا؟ فذهب قوم إلى أَنّه ينخرم وهو مذهب المصنف، وآخرون منعوا.
احتج المثبتون: بأَنَّ العقل قاض بأَنّه لا مصلحة مع مفسدة تساويها أو تترجح عليها.
واحتج النافون: بأَنّ الصلاة في الدار المغصوبة قد ورد الشرع بها نظراً إلى ما اشتملت عليه من المصلحة، ونهىٰ عنها نظراً إلى ما اشتملت عليه من المفسدة فلو كان ترجيح المصلحة شرطاً لما ثبتت الصحة ولا التحريم بتقدير المساواة بين مصلحة الصحة ومفسدة التحريم، ولا حكم بالصحة على تقدير
ص: 422
...............
مرجوحية مصلحتها، ولا شكّ في أَنَّ الصلاة صحيحة عندكم.
والجواب: أَنَّ مفسدة الغصب - وهي شغلُ ملك الغير - غير حاصلة من مصلحة الصلاة فإنّا لو قلنا ببطلان الصلاة لم تختل مفسدة الغصب - أعني شغل ملك الغير - بل هي ثابتة على حالها، وكذلك مصلحة الصلاة أعني صحتها ليست ثابتة من مفسدة الغصب؛ وليس كلامنا في هذا بل في إِثبات حكم لمصلحة يلزم من اثباته تحصيلاً لتلك المصلحة مفسدة مساوية أو راجحة ولو نشأت المصلحة والمفسدة معاً عن الصلاة لم نقل بصحتها وإذا ثبت أَنّه لابدّ في الوصف المناسب من الترجيح فللمستدل أَنْ يرجِّح المصالح على المفاسد بطرق تفصيلية تختلف باختلاف المسائل وله أَنْ يُرجِّح بطريق اجمالي مطَّرد في الجميع وهو أَنْ يقول: لو لم يثبت رجحان المصلحة على ما عارضها من المفسدة مع البحث والنظر لزم أَنْ يكون الحكم ثابتاً تعبُّداً وهو خلاف الأصل؛ فإنّ الأحكام غالباً إنّما تثبت بالتعليل لا بالتعبِّد، وأيضاً فلأنّ الحكم إذا كان معقول المعنى كان أقرب إلى الإِنقياد ممّا إذا لم يكن، وإضافة القليل إلى الأكثر أغلب.
ص: 423
قال: والمناسب: مؤثرٌ، وملائمٌ، وغريبٌ، ومرسلٌ، لأنَّه إمّا معتبرٌ أو لا، فالمعتبر بنصٍّ أو إجماعٍ هو المؤثِّر، والمعتبر بترتيب الحكم على وفقه فقط إن ثبت بنصٍّ أو إجماع: اعتبارُ عينه في جنس الحكم أو بالعكس، أو جنسه في جنس الحكم فهو الملائم، وإلّا فهو الغريب، وغير المعتبر: هو المرسلُ.
فإنْ كان غريباً أو ثبت إلغاؤه، فمردودٌ إِتِّفاقاً، وإنْ كان ملائماً، فقد صرَّح الإمام والغزالي بقبولهِ، وذُكِر عن مالكٍ والشافعي.
والمختار ردُّه، وشرط الغزالي فيه أَنْ تكون المصلحة ضروريّة قطعيَّةً كلِّيَّة:
فالأوّل: كالتعليل بالصغر في حمل النكاح على المال في الولاية، فإنَّ عين الصغر معتبرٌ في جنس حكم الولاية بالإجماع.
والثاني: كالتعليل بعذرِ الحرج في حمل الحضر بالمَطَر على السفر في الجمع، فإنَّ جنس الحرج معتبرٌ في عين رخصة الجمع.
والثالث: كالتعليل بجناية القتل العمد العدوان في حمل المثقل على المحدّد في القصاص، فإنَّ جنس الجناية معتبر في جنس القصاص، كالأطراف وغيرها.
والغريب: كالتعليل بالفعل المحرَّم لغرضٍ فاسدٍ في حمل الثلث في المرض على القاتل في الحكم بالمعارضة بنقيض المقصود، حتّى صار توريث المبتوتةِ كحرمان القاتل.
ص: 424
وكالتعليل بالإسكار في حمل النبيذ على الخمر، على تقدير عدم النصّ بالتعليل به.
والمرسلُ: الّذي ثبت إلغاؤه، كإيجاب شهرين ابتداء في الظهار. *
* أقول: المناسب على أربعة أقسام: مؤثر، وملائم، وغريب، ومرسل.(1)
ووجه الحصر أنْ نقول: الوصف المناسب إمّا أَنْ يكون معتبراً في نظر الشارع أو لا يكون، فإِنْ كان معتبراً فاعتباره إمّا أنْ يكون بنصٍ أو اجماعٍ أو لا، فإنْ كان معتبراً بنص أو إجماع فإِنّه يسمَّىٰ المؤثر وإِنْ لم يكنْ فاعتباره يكون بترتيب الحكم على وفقه في صورة، فإِنْ ثبت بنص أو إِجماع اعتبار عينه في جنس الحكم أو بالعكس أو يكون معتبراً جنسه في جنس الحكم فإِنّه يُسمَّىٰ الملائم،(2) وإِنْ لم يثبت بالإجماع ولا النص إِعتبار عينه في جنس الحكم ولا العكس ولا جنسه في جنس الحكم ولا دل على كونه علّةً نصٌ ولا إجماعٌ بل يكون قد ثبت اعتبار خصوص الوصف في خصوص الحكم فإِنّه يُسمَّىٰ المناسب الغريب، وإِنْ كان المناسب لم يشهد له أصل من الأُصول بالاعتبار بطريق من الطرق ولاظهر إِلغاؤه في صورة ما فهو المرسل، وهذا المرسل إِنْ (3) كان المرسل غريباً أو ثبت إِلغاؤه فهو
ص: 425
...............
مردود بالاتفاق، وإنْ كان ملائماً فقد اختلفوا فيه: فقبله إمامُ الحرمين والغزّالي وهو منقول عن الشافعي ومالك، وذهب آخرون إلى ردّه وهو مذهب المصنف(1)، وشرط الغزّالي في هذا النوع أَنْ تكون المصلحة ضرورية قطعية كلية.(2)
مثال الأوّل [من الملائم] وهو، الّذي ثبت بالإِجماع أو بالنص اعتبار عينه في جنس الحكم، كالتعليل بالصغر في حمل النكاح على المال في الولاية فإنّ عين الصغر معتبر في جنس حكم الولاية بالإجماع.
ومثال الثاني وهو: الّذي يثبت اعتبار جنسه في عين الحكم كالتعليل بعذر الحرج في حمل الحضر بالمطر على السفر في الجمع،(3) فإِنَّ جنس الحرج
ص: 426
...............
معتبر في عين رخصة الجمع.
مثال الثالث وهو: الّذي اعتبر جنسه(1) في جنس الحكم كالتعليل بجناية القتل العمد العدوان في حمل المثقّل على المُحَدّد في القِصاص فإنّ جنس الجناية معتبر في جنس القصاص كالأطراف(2) وغيرها.(3)
مثال الغريب كالتعليل بالفعل المحرم(4) لغرض فاسد في حمل الطلقات الثلاث في المرض على القاتل في الحكم بالمعارضة بنقيض المقصود(5) حتى صار توريث المبتوتة كحرمان القاتل.(6)
ص: 427
...............
و [مثال الغريب غير المرسل] كالتعليل بالاسكار في حمل النبيذ على الخمر(1) على تقدير عدم النص بالتعليل به(2).
والمرسل الّذي ثبت الغاؤه كقول بعض العلماء(3) لبعض الملوك وقد سأله لما جامع في نهار رمضان: «يجب عليك صوم شهرين متتابعين» فلما أُنكر عليه حيث لم يأمره بالعتق، قال: «لو أَمرتُه بذلك لسهل عليه فكانت المصلحة في إيجاب الصوم مبالغة في زجره» فهذا وإِنْ كان مناسباً إلّاأَنّه يثبت الغاؤه بالنص كايجاب شهرين ابتداء في الظهار.
ص: 428
قال: وتثبت عليَّةُ الشبه بجميع المسالك، وفي إِثباته بتخريج المناط نظرٌ، ومن ثّمَّ قيل: هو الذي لا تثبتُ مناسبته إلّابدليلٍ منفصل.
ومنهم من قال: ما يوهم المناسبة، ويتميَّز عن الطرديِّ بأنّ وجوده كالعدم، وعن المناسب الذاتي بأنَّ مناسبتهُ عقليَّةٌ وإنْ لم يرد شرعٌ، كالإسكار في التحريم.
مثاله: طهارةٌ ترادُ للصلاة، فيتعيَّنُ لها الماء، كطهارةِ الحدث، فالمناسبة غير ظاهرةٍ، واعتبارها في مسِّ المصحف والصلاة توهم.
وقول الرّادِّ له: إمّا أَنْ يكون مناسباً أو لا يكون، والأوّل: مجمعٌ عليه، فليس به.
والثاني: طُرِدَ: فَيُلغىٰ.
أُجيب: مُناسِبٌ، والمجمع عليه المناسب لذاتهِ، أوْ لا واحدٌ منهما. *
* أقول: من جملة المسالك للعلّية الشبه [وقد اختلفوا في تفسيره، ففسره قوم بأَنّه الّذي لا يثبت مناسبته إلّابدليل منفصل].(1)
ومنهم من فسره بأَنّه ما يوهم المناسبة من غير اطلاع عليها لأَنّ الوصف إِمّا أنْ تظهر مناسبته أو لا، والأوّل المناسب؛ والثاني إِمّا أَنْ يكون قد أُلِف من الشرع
ص: 429
...............
عدم الالتفات إليه أو أُلِف منه الالتفات في بعض الأحكام، والأوّل الطردي كما لو قال الشافعي في إزالة النجاسة بالخل: «مائع لاتبنى القنطرة على جنسه» فلا يجوز إزالة النجاسة به كالدهن؛ والثاني الشبه فامتاز عن الطردي بأنَّ الطردي وجوده كالعدم، وعن المناسب الذاتي بانّ مناسبته عقلية وإِنْ لم يُثبِتْ الشرع كالاسكار في التحريم، ومثال الشبه قول الشافعي في ازالة النجاسة: «طهارة تُرَاد للصلاة» فلا يجوز بغير الماء كطهارة الحدث فإِنَّ الجامع هوالطهارة ومناسبتها لتعيين الماء فيها غير ظاهرة وبالنظر إلى اعتبار الشارع لها في بعض الاحكام كمس المصحف والصلاة والطواف توهم اشتمالها على المناسبة.
وقد اختلفوا في قبوله فاثبته جماعة ونفاه آخرون:
احتجَّ المثبتون: بأَنَّ الحكم إِذا ثبت فلابدّ له من علَّة، ولَمّا بحثنا عن الاوصاف وجدنا بعضها طرديَّاً وبعضها شبهياً، فاسندنا الحكم إلى الشبهي لأنّه أولى من الطردي. قال النفاة: هذا الشبهي إِمّا أنْ يكون مناسباً أو لا، فإِن كان مناسباً فهو مقبول بالإِجماع وإِن كان طردياً فهو مردود بالإِجماع ولا واسطة بينهما.
والجواب أَنّه مناسب وليس مجمعاً على قبوله لأَنّ المجمع عليه(1) إِمّا المناسب الذاتي أو لا المناسب الذاتي ولا الشبهي بل غيرهما.
ص: 430
قال: الطرد والعكس.
ثالثها: لا يفيد بمجرده قطعاً ولا ظنَّاً.
لنا: أنّ الوصف المتصف بذلك، إذا خلا عن السّبر أو عن أنّ الأصل عدم غيره أو غير ذلك، جاز أن يكون ملازماً للعلَّة، كرائحة المسكر، فلا قطع ولا ظنَّ.
واستدلَّ الغزالي بأنّ الإطراد سلامتهُ من النقض، وسلامته من مفسدٍ واحدٍ لا توجب انتفاء كلِّ مفسدٍ، ولو سلّم فلا صحَّة إلّابمصحِّح، والعكس ليس شرطاً فيها، فلا يؤثر.
واُجيب: قد يكون للإجتماع تأثيرٌ، كأجزاء العلَّة.
واستدلَّ: بأنّ الدوران في المتضايفين، ولا علّة.
واُجيب: انتفت بدليلٍ خاص مانعٍ.
قالوا: إذا حصل الدَّوران ولا مانع من العلّة - حصل العلمُ أو الظنُّ عادة، كما لو دعي إنسانٌ، فغضب، ثمَّ ترك، فلم يغضب، وتكرَّر ذلك - علم أنُّه سببُ الغضب، حتّى أنّ الأطفال يعلمون ذلك.
قلنا: لولا ظهور انتفاء غير ذلك ببحثٍ أو بأنّه الأصل - لم يُظنَّ، وهو طريق مستقلٌ، ويقوىٰ بذلك. *
* أقول: هذا أحد المسالك الدالة على العلّة وهو الطرد والعكس
ص: 431
...............
أعني الدوران.(1) واختلفوا في دلالته على العلية فذهب جماعة من المعتزلة إلى أَنّه يدلّ على العليَّة قطعاً، وذهب جماعة أخرى كالقاضي أبي بكر وغيره إلى أَنّه يدلّ عليها ظنّا، وذهب الجمهور إلى أَنّه(2) لايدل عليها لا قطعاً ولا ظنّاً(3) مثاله أَنْ نقول:
«النبيذ مسكر فكان حراماً كالخمر»، والدليل على كون الإسكار علة دورانه معه وجوداً وعدماً.
واستدل المصنف على أنّه لا يدل على العلّية بأَن الوصف المتصف بالدوران جاز أن يكون ملازماً للعلّة وليس هو بالعلّة كالرائحة الفائحة فإِذن لا يمكن الإِستدلال بمجرد الدوران إلّابعد طريقة السَبْر وهو أَنْ يقال: «بحثنا عن الأَوصاف فلم نجد فيها وصفاً صالحاً للعلّية، أو بعد طريقة عدم الوجدان أو غير ذلك من الطرق، وحينئذٍ تكون طريقة الدوران غير مفيدة أصلاً لانّ طريقة السَبْر كافية في التعليل على ما مضىٰ.
واحتجّ الغزالي على أَن الدوران غير مفيد للعلّية بأَنَّ الطرد يرجع حاصله إلى سلامة العلّة عن النقض، وسلامة العلّة عن هذا الوجه من وجوه المفاسد [لا يقتضي سلامتها عن الجميع ولو سلمنا سلامتها عن وجوه المفاسد لكن صحة الشيء لا تكون لسلامته عن المفاسد](4) بل بوجود المصحح والعكس ليس شرطاً في
ص: 432
...............
العلّة الشرعية فلا يؤثر(1).
وهذا الاحتجاج ضعيف لأنّه لا يلزم من انتفاء التعليل عن كلّ واحد من الطرد والعكس بانفراده، انتفاء اتصاف المجموع بذلك فإنّ العلّة المركبة، كلّ جزء منها ليس بعلّة والمجموع علّة.
واحتجّ نفاة الدوران أيضاً بوجه آخر وهو أَنّ الدوران قد يوجد في المتضايفين من دون العلّة فإنّ الإبوة والبنوّة كلّ واحدة منهما دائرة مع الأُخرى مع أَنّه لا علّية والاّ لزم تقدم إِحداهما على الأُخرى؛ والمتضايفان يوجدان معاً، هذا خلف.
والجواب: أَنَّ انتفاء العلّية هاهنا إنّما حصل بدليلٍ خاصٍّ مانع من التعليل وهو وجوب مصاحبة كلّ واحد من المتضايفين صاحبه.
واحتج القائلون بالدوران بأَنّ الوصف إذا دار مع الحكم وجوداً وعدماً وكان صالحاً للتعليل فإِنّه يغلب على الظن حصول العلّية، أو يحصل العلم بذلك وهذا حكم مركوز في العقول حتى الصبيان فإِنّهم إذا عرفوا أَنّ إِنساناً إذا دُعي باسم غضب، عرفوا أَنَّ الغضب معلول الدعاء بذلك الاسم.
والجواب: أَنَّ الدوران وحده غير كاف في ذلك بل لابدّ معه من طريقة السبر أو طريقة عدم الوجدان وهذه طرق مستقلة في التعليل، نعم أَنها تقوىٰ بالدوران.
ص: 433
قال: والقياس: جليٌّ وخفيٌّ: فالجليُّ ما قطع بنفي الفارق فيه كالأَمة والعبد في العتق.
وينقسم إلى قياس علَّةٍ، وقياس دلالةٍ، وقياس في معنى الأصل.
فالأوّلُ: ما صرِّح فيه بالعلَّة.
والثاني: ما يجتمع فيه بما يلازمها، كما لو جمع بأحد موجبي العلّة في الأصل، لملازمة الآخر كقياس قطع الجماعة بالواحد على قتلها بالواحد بواسطة الإِشتراك في وجوب الديّة عليهم.
والثالثُ: الجمع بنفي الفارق. *
* أقول: ذكر هاهنا للقياس قسمتين(1):
القسمة الأُولىٰ قسمته إلى الجلي والخفي فالجلي ما كانت العلّة فيه إِمّا منصوصة أو غير منصوصة غير أَنّ الفارق بين الأصل والفرع غير مؤثر قطعاً كإلحاق تحريم ضرب الوالدين بتحريم التأفيف بعلة كف الأذى وإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب لمن اعتق حيث عرفنا أنّه لا فارق سوى الذكورة والأُنوثة، وعرفنا عدم التفات الشارع إليها في احكام العتق.
والخفي ما كانت العلّة فيه مستنبطة من حكم الأصل،(2) كقياس القتل
ص: 434
...............
بالمثقّل على القتل بالمحدّد.
والقسمة الثانية قسمته إلى قياس علّة وقياس دلالة وقياس في معنى الأصل، فقياس العلّة ما صرح فيه بالعلة كالجمع بين النبيذ والخمر في تحريم الشرب بعلّة الشدة [المطربة]، وقياس الدلالة هو الّذي صرح فيه بالجامع إلّاأَنّه ليس هو العلّة الباعثة على الحكم بل هو الملازم لها كالجمع بين الأصل والفرع بأحد موجبي العلّة في الأصل استدلالاً به على ثبوت الموجب الآخر كما في الجمع بين قطع الجماعة ليد الواحد وقتل الجماعة للواحد في وجوب القصاص عليهم بواسطة الاشتراك في وجوب الدية عليهم(1).
والقياس في معنى الأصل هو الّذي لم يصرح بالوصف الجامع فيه بل جمع بين الأصل والفرع بنفي الفارق كالحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب بنفي الفارق وهذا يسميّه الغزالي بتنقيح المناط.
وأمّا تخريج المناط فإنّه عنده عبارة عن اثبات انّ الحكم في الأصل معلل بالوصف المعيّن، وتحقيق المناط عبارة عن اثبات وجود ذلك المعنىٰ في الفرع.(2)
ص: 435
قال: مسألة: يجوز التعبّدُ بالقياس، خلافاً للشيعة والنظَّام وبعض المعتزلة.
وقال القفَّالُ، وأبو الحسين: يجب عقلاً.
لنا: القطع بالجواز، وأنَّه لو لم يجز لم يقع، وسيأتي.
قالوا: العقل يمنع ممّا لا يُؤمن فيه الخطأ.
ورُدَّ بأنّ منعه هنا ليس إحالةً، ولو سُلَّم فإذا ظَنَّ الصواب لا يمنع.
قالوا: قد علم الأمر بمخالفة الظنِّ، كالشاهد الواحد، والعبيد، ورضيعةٍ في عشر أجنبياتٍ.
قلنا: بل عُلم خلافُه، كخبر الواحد، وظاهر الكتاب والشهادات، وغيرها، وإنّما منع لمانع خاصٍّ. *
* أقول: اختلف الناس في أنّه هل يجوز التعبّد بالقياس عقلاً أم لا؟(1)فذهب الجمهور إلى الجواز العقلي وهو مذهب بعض الإمامية، وذهب جماعة من المعتزلة وطائفة من الإمامية والنظّام إلى المنع من ذلك عقلاً.
ص: 436
...............
وقال القفّال من أصحاب الشافعي وأبوالحسين البصري أن العقل يقتضي وجوب التعبّد به.
واحتجَّ المصنف بأَنّه لا استبعاد في العقل من جواز ذلك فإِنّه يمكن أن يقول الشارع: «حرّمت الخمر للإسكار وقيسوا عليه كلّ مشارك له في الإسكار»، وجواز هذا من الشرع معلوم قطعاً، وأيضاً لو لم يجز لم يقع، وسيأتي بطلان التالي.
واحتجّ المانعون بوجوه:
أحدها: أَنّ العمل بالقياس يقتضي العمل بما لا يُؤمن معه الخطأ مع سلوك طريق تُعرف(1) معه فيكون قبيحاً:
أمّا الأول فلأنّ القياس دليل ظني لا قطعي، والظن لا يُؤمن معه الخطأ.
وأمّا التالي فلأنّ من سلك طريقاً مخوفاً مع وجود طريق آمن عدّه العقلاء سفيهاً.
والجواب: أَنّ هذا الّذي ذكرتموه لا يقتضي استحالة التعبّد بالقياس، أقصىٰ ما في الباب أَنّه يصحّ لأجل اشتماله على جواز المفسدة.
سلمنا لكن هذا إنّما يمتنع على تقدير أَنْ لا يظنَّ المكلف الصواب، أَمّا إذا ظنَّه فلا يمتنع.
الثاني: أنَّ الأمر قد ورد بالمنع من العمل بالظن وذلك في صور:
منها: أَنَّ القاضي ربما يغلب على ظنِّه صدق الشاهد الواحد وقد أُمر
ص: 437
قال: النظّام: إذا ثبت ورود الشرع بالفرق بين المتماثلات، كإيجاب الغسل وغيره بالمني دون البول، وغسل بول الصبية، ونضح بول الصبيِّ، وقطع سارق القليل دون غاصب الكثير، والجلد بنسبة الزنا دون نسبة الكفر، والقتل بشاهدين دون الزنا، وكعدتي الموت والطلاق، والجمع بين المختلفات، كقتل الصيد، عمداً أو خطأ، والردّة والزنا، والقاتل، والواطئ في الصوم، والمظاهر في الكفّارة، استحال تعبَّدُه بالقياس.
وردَّ بأَن ذلك لا يمنع الجواز، لجواز انتفاء صلاحيّة ما توهم جامعاً أو وجود المعارض في الأصل أو في الفرع، ولاشتراك المختلفات في معنى جامعٍ، أو لاختصاص كلِّ بعلَّة لحكم خلافه. *
بالمنع من العمل بقوله.
ومنها: أَنَّ العبيد ربما ظن القاضي صدق شهادتهم وقد أُمر بترك العمل بها.
ومنها: أَنَّ من اشتبهت عليه رضيعة في عشر اجنبيات اجتنب الجميع مع أَنّه قد يحصل الظن بواحدة منها.
والجواب: أَنَّ العمل بالظنِّ قد أُمر به كما في خبر الواحد وظاهر عمومات الكتاب وقول الشهادات وغيرها، وإنّما منع من العمل فيما ذكرتموه من الصور لأدلة خاصّة.
* أقول: هذا أحد الوجوه الدالة على المنع من العمل بالقياس وهو احتجاج النظّام،(1) ووجهه أَنَّ شرعنا مبني على افتراق المتماثلات واجتماع المختلفات
ص: 438
...............
في الأحكام، ومتى كان كذلك امتنع القياس.
وبيان الأوّل ظاهر، أمّا الفرق بين المتماثلات فلأنّ المني والبول متساويان ويجب الغُسل في الأوّل دون الثاني، وبول الصبي والصبيّة متماثلان ويجب غَسل الثاني دون الأوّل، والسارق للقليل والغاصب للكثير متساويان بل فعل الثاني أقبح ويجب القطع على الأول دون الثاني، ويُجلد القاذف بالزنا ولا يُجلد القاذف بالكفر، ويقبل في القتل شاهدان ولا يقبل في الزنا إلّاالاربع، والموت والطلاق متساويان في الفرقة ويُعتدّ في الأول بأربعة أشهر وعشرة أيام وفي الثاني بثلاثة أشهر.
وأمّا الجمع بين المختلفات فكقتل الصيد عمداً وخطأ في وجوب الكفارة، ومن أرتدَّ وزنا وقَتَل يجب عليه القتل وهذه أحكام مختلفة، وكذلك من ظاهر وجب عليه الكفارة و من جامع في نهار رمضان وجبت عليه وهما أمران مختلفان، وإذا ثبت ذلك استحال التعبّد بالقياس قطعاً.
والجواب أَنّ ما ذكرتموه(1) لا يقتضي المنع من الجواز لأَنّه يجوز أن لا يكون ما ذكرته من الجامع صالحاً للتعليل أو أنّه وجد في الأصل مانع أو في الفرع، أو أن المختلفات قد اشتركت في معنى جامع باعتباره تساوت في الأحكام، أو نقول أنّها إنّما اشتركت في الأحكام لاختصاص كلّ واحد من تلك الصور بعلة توجب حكم المخالف الآخر لأنّه لا امتناع في تعليل الحكم المتفق بالعلل المختلفة.
ص: 439
قال: قالوا: يقضي إلى الإختلاف، ورُدَّ، لقوله: «وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ»(1) . وردَّ بالعمل بالظواهر، وبأنّ المراد التناقض، أو ما يخلُّ بالبلاغة، فأمّا الأحكام فمقطوعٌ بالاختلاف فيها.
قالوا: إن كان كلُّ مجتهدٍ مصيباً، فيكون الشيء ونقيضه حقّاً، [وهو] محالٌ، وإن كان المصيب واحداً، فتصويب أحد الظنين مع الاستواء محال.
وردَّ بالظواهر، وبأنّ النقيضين شرطهما الاتحاد، وبأنَّ تصويب أحد الظنين لا بعينه جائزٌ.
قالوا: إن كان القياس كالنفي الأصليَّ، فمستغنىٰ عنه، وإن كان مخالفاً، فالظنُّ لا يعارضُ اليقين.
وردَّ بالظواهر، وبجواز مخالفةِ النفي الأصلي بالظنَّ.
قالوا: حكم اللّٰه يستلزمُ خبره عنه، ويستحيلُ بغير التوقيف.
قلنا: القياس نوعٌ من التوقيف.
قالوا: يتناقض عند تعارض علتين.
وردَّ: بالظواهر، وبأنّه إن كان واحداً أرجح، فإن تعذر وُقِف على قولٍ، وتُخيِّر عند الشافعي وأحمد، وإن تعدَّد فواضحٌ. *
* أقول: هذه أوجه أُخر دالة على المنع من العمل بالقياس(2):
ص: 440
...............
منها: أنَّ التعبّد به يفضي إلى الاختلاف فيكون مردوداً، أمّا الأول فظاهر فإنّ كلّ واحد من المجتهدين قد يستنبط علة تردُّ الفرع إلى الأصل مغاير للأصل الّذي يرد المجتهد الآخر إليه وعلة مغايرة للعلّة الأُولىٰ.
وأمّا الثاني فلقوله تعالى: «وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً»(1) .(2)
والجواب: أَنَّ هذا معارض بالظواهر الدالة على الأحكام مع أَنّه قد يحصل فيها الاختلاف. وأيضاً فالمراد من عدم الاختلاف عدم التناقض والاختلاف المخلّ بالبلاغة، فأمّا اختلاف الأَحكام فإنّه حاصل قطعاً.
ومنها: أنْ يقول: إِمّا أن يكون كلّ مجتهد مصيباً وإمّا أَنْ يكون المصيب واحداً لا غير، فإنْ كان الأول لزم القول بكون النقيضين حقاً على تقدير صيرورة كلّ واحد من المجتهدين إلى كلّ واحد من طرفي النقيض وهذا محال، وإِنْ كان الثاني لزم الترجيح من غير مرجح لأَنّ كلّ واحد من المجتهدين يغلب على ظنه أَنَّ الحكم كذا، بخلاف ظن صاحبه مع قيام الأَمارة وهي القياس وهو أيضاً محال.
والجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: المعارضة بالظواهر الّتي وقع الاختلاف فيها كالعمومات وغيرها ممّا لا يفيد اليقين.(3)
ص: 441
...............
وثانيها: أَنّ من شرط التناقض الاتحاد من كلّ وجه عدا السلب والإيجاب وهذا الشرط مفقود هاهنا فإِنّه لا استحالة في أن يكون اللّٰه تعالى قد تعبّد كلّ واحد من المجتهدين بما أدى إليه اجتهاده كالراكب في البحر إذا غلب على ظنه السلامة فإنّه يكون سائغاً له والآخر إذا غلب على ظنه العطب فإنّه يكون حراماً عليه.
وثالثها: لم لا يجوز أن يكون المصيب واحداً لا بعينه.
ومنها: أَنّ القياس إِمّا أن يكون على وفق النفي الأصلي أو يكون مخالفاً فإِنْ كان موافقاً فلا حاجة إليه وإِنْ كان مخالفاً استحال أن يكون معارضاً للنفي الأصلي لأَنّ النفي الأصلي طريق قطعي والقياس ظني والظني لا يعارض القطعي.
والجواب: المعارضة بالظواهر الظنية وبأنَّ رفع النفي الأصلي بالظني جائز اتفاقاً.
ومنها: أن القائس إذا حكم بالحكم المعيّن مستنداً إلى القياس فإنّه يكون مخبراً عن اللّٰه تعالى والإخبار عن اللّٰه تعالى بدون التوقيف افتراء عليه وهو غير سائغ.
والجواب: أَنَّ القياس نوع من التوقيف.
ومنها: أنّه إذا تعارضت علّتان متنافيتان كعلّة الطعم وعلّة الكيل في الربا فأمّا أَنْ يسند الحكم إليهما وهو محال، أو لا إلى واحد منهما، وهو المطلوب أو إلى إحداهما دون الأُخرى وهو ترجيح من غير مرجح.
والجواب: المعارضة بالظواهر المتعارضة؛ وأيضاً فإنّه يُعمل بالترجيح
ص: 442
قال: الموجب: النص لا يفي بالأحكام، فقضى العقل بالوجوب، وُردَّ بأنَّ العمومات يجوز أن تفي، مثل: «كلُّ مُسكرٍ حرامٌ». *
فإِنَّ تعذر، توقف المجتهد إلى أَنْ يظهر له دليل آخر مغاير للقياس أو يظهر له وجه الترجيح؛ وعند الشافعي يتخيّر في العمل وإن تعدد المجتهد فلا اشكال.(1)
* أقول: هذه حجّة القائلين بوجوب التعبّد بالقياس وهي ظاهرة، والجواب عنها ما ذكره المصنف.
ص: 443
قال: مسألة: القائلون بالجواز قائلون بالوقوع، إلّاداود، وابنه، والقاشاني، والنهروانيَّ، والأكثر: بدليل السمع، والأكثر: قطعيٌّ خلافاً لأبي الحسين.
لنا: ثبت بالتواتر عن جمعٍ كثير من الصحابة العمل به عندعدم النصِّ وإن كانت التفاصيل آحاداً، والعادةُ تقضي بأنَّ مثل ذلك لا يكون إلّا بقاطع، وأيضاً: تكرر وشاع، ولم يُنكر، والعادة تقضي بأنّ السكوت في مثله وفاقٌ.
فمن ذلك: رجوعهم إلى أبي بكر في قتال بني حنيفة على الزكاة.
ومن ذلك: قول بعض الأنصار في أُمَّ الأب: تركت الّتي لو كانت هي الميتة، وَرِثَ الجميعُ؟! فشرّك بينهما، وتوريث عمر المبتوتة بالرأي، وقول علي عليه السلام لعمر - لما شكَّ في قتل الجماعة بالواحد -: أرأيت لو اشترك نفر في سرقةٍ؟!
ومن ذلك: إلحاق بعضهم الجدَّ بالأخ، وبعضهم بالأب، وذلك كثير. *
* أقول: القائلون بجواز التعبّد بالقياس اختلفوا في الوقوع،(1) فذهب الجمهور منهم إلى أنّه واقع وهو مذهب ابن الجنيد من الشيعة وذهب الآخرون إلى المنع؛ واختلف القائلون بالوقوع فذهب الجمهور إلى أَنَّ الدليل الدال على
ص: 444
...............
الوقوع إنّما هو السمع، وذهب آخرون إلى أنّه العقل؛ واختلف القائلون بالدليل السمعي فذهب الجميع(1) إلىٰ أَنّه قطعي، وذهب أبوالحسين البصري إلى أنّه ظني.
واحتجّ المصنف على الوقوع بوجوه:
أحدها: التواتر المنقول عن الصحابة في العمل به عند عدم النص وإنْ كانت التفاصيل المنقولة عن ذلك واحد واحد آحاداً، والعادة تقضي بأنْ مثل هذا الاجتماع في مثل هذه الوقائع لا يكون إلّابدليل قطعي.
وثانيها: تكرر وشاع بين الصحابة العمل بالقياس من غير نكير، والعادة قاضية بأنّ السكوت في مثله دليل على الوفاق، فمن ذلك رجوع الصحابة إلى اجتهاد أبي بكر في أخذ الزكاة من بني حنيفة وقتالهم على ذلك،(2) ومن ذلك أن أبا بكر ورَّث أم الأُم ولم يورِّث أم الأب فقال له بعض الأنصار: «لقد ورَّثت امرأةً من ميِّت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأةً لو كانت هي الميتة ورّثت جميع ما تركت» فرجع عن قوله وشرّك بينهما في السدس.
ومن ذلك أَنَّ عمر ورّث المبتوتة بالرأي، ومن ذلك أَنّ عمر كان يشك في قود القتيل الّذي اشترك في قتله سبعةٌ، فقال له علي عليه السلام: «أرأيت لو أَنَّ نفراً اشتركوا في سرقة أكنت تقطعهم؟» فقال: نعم، قال: «فكذلك هاهنا»، وهذا قياس للقتل على السرقة.
ص: 445
قال: فإن قيل: أخبارُ آحادٍ في قطعي، سلّمنا: لكن يجوز أنْ يكون عملهم بغيرها، سلَّمنا: لكنَّهم بعض الصحابةِ، سلَّمنا أنّ ذلك من غير نكير دليلٌ ولا نسلَّم نفي الإنكار، سلمنا لكنَّه لا يدلُّ على الموافقة، سلّمنا لكنَّها أقيسةٌ مخصوصةٌ.
والجواب عن الأوّل: أنَّها متواترةٌ في المعنى كشجاعة عليّ عليه السلام.
وعن الثاني: القطع من سياقها بأنّ العمل بها.
وعن الثالث: شياعهُ وتكريرهُ قاطعٌ عادةً بالموافقة.
وعن الرابع: أنّ العادة تقضي بنقل مثله.
وعن الخامس: ما سبق في الثالث.
وعن السادس: القطع بأنّ العمل لظهورها لا بخصوصها كالظّواهر. *
ومن ذلك اختلافهم في الجَدِّ فألحقه بعضهم بالأب وبعضهم بالأخ، إلى غير ذلك من الوقائع الدالة على اختلافهم ورجوعهم إلى الرأي والاجتهاد.
* أقول: هذه اعتراضات واردة على الحجج المتقدمة مع الجواب عنها وهي ستة:
الأوّل: أن هذه أخبار آحاد، فلا تكون حجّة في هذا الباب لأنّه قطعي.
الثاني: لا نسلم أنّ الصحابة إنّما عملوا في تلك الوقائع بالقياس، ولم لا يجوز أن يكون قد عملوا بظواهر النصوص.
ص: 446
...............
الثالث: أَنَّ هؤلاء الذين نقلتم عنهم آحاد من الصحابة ليس الجميع، وعمل البعض لا يكون حجّة.
الرابع: لا نسلم أنّ البعض الآخر لم ينكر عليهم العمل بالقياس فإنّه روي عن أبي بكر أنّه قال: أي سماء تظلني وأي أرضٍ تقلني إذا قلت في كتاب اللّٰه برأيي(1).
وعن عمر أَنّه قال: إيَّاكم وأصحاب الرأي فإنّهم اعداء السنن أعيتهم الأحاديث أَن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا.(2)
وعن علي عليه السلام أنّه قال: لو كان الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخُفُّ أولى من ظاهره.
وعن ابن عباس أَنّه قال: إِنّ اللّٰه تعالى قال لنبيه صلى الله عليه و آله و سلم: «وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ»(3) ولم يقل: بما رأيت، ولو جعل لأحدكم أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم.
وقال: إياكم والمقاييس فإنّما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس،(4)والأحاديث المنقولة في ذلك أكثرمن أن تحصى.
الخامس: لا نسلم أَنّ عدم الإِنكار يدل علىٰ الموافقة فإنّه قد يكون لأُمور:
ص: 447
...............
منها: أَنَّ الساكت يجوز أَنْ يكون قد أَنكر قبل ذلك.
ومنها: أَنّه يجوز أن يكون ترك الإنكار اعتماداً على غيره فيه.
ومنها: أَنّه يجوز أَنْ يكون في مهلة النظر.
ومنها: أَنّه يجوز أنْ يكون خائفاً.
ومنها: أنّه يجوز أن يكون قد أَقدم على المعصية لكونها من الصغائر.
السادس: أَنَّ هذه الأَقيسة المنقولة أقيسة خاصّة فيجوز أَنْ يكون قد اقترن معها دليل أو قرائن أوجبت المصير إليها، وتلك القرائن مجهولة لنا فلا يجوز لنا العمل بالقياس لكون القياس الخاصّ مجهولاً عندنا.
والجواب:
عن الأوّل: بأَنّ هذه وإِنْ كانت أَخباراً آحاداً إلّاأنّها متواترة المعنى كشجاعة علي عليه السلام، وللمانع أَنْ يمنع ذلك.
وعن الثاني: بأَنّ تلك الوقائع علم من سياقها إنّما عمل فيها بالقياس والاجتهاد وللمانع أَنْ يمنع ذلك أيضاً، وإنْ سُلِّم في واقعة فليس بحجّة.
وعن الثالث: أَنّه وإِنْ عمل به بعض الصحابة إلّاأَنّه قد شاع ذلك وتكررمن غير انكار وذلك معلوم منه الاتفاق عادة، وللمانع أَنْ يمنع ذلك أيضاً والإِنكار قد وجد.
وعن الرابع: أَنَّ الإِنكار لو كان ثابتاً لنقل فإنَّ العادة تقتضي بنقل مثل هذا الأصل العظيم؛ وللمانع أنْ يمنع الملازمة أوّلاً فإِنّه قد وقعت وقائع في زمن
ص: 448
قال: واستدلَّ: بما تواتر معناه من ذكر العلل ليبتني عليها، مثل: «أرأيتِ لو كان على أبيكِ دين؟»، «أينقصُ الرطَّبُ إذا جفَّ»، وليس بالبيّن.
واستُدِلَّ: بإلحاق كُلِّ زان بماعزٍ.
ورُدَّ: بأنَّ ذلك لقوله: «حكمي على الواحد» أو للإجماع.
واستُدِلَّ: بمثلِ: «فَاعْتَبِرُوا» وهو ظاهرٌ في الإِتِّعاظ، أو في الأُمور العقليَّة مع أنَّ صيغة «افْعل» محتملةٌ.
واستُدِلَّ بحديث معاذٍ وغايتهُ الظَّنُّ. *
الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أشهر من ذلك ولم تنقل كالإمامة ولو سُلِّم وجوب النقل، فقد نقل والدليل عليه ما ذكرناه من الاحاديث الدالة على الانكار وغيرها.
وعن الخامس: أَنّ شياع العمل من بعض وتكريره مرّة بعد أُخرى من غير انكار دال على الموافقة، وللمانع أَنْ يمنع ذلك للوجوه الّتي ذكرناها أوّلاً، ولو سلم فالانكار قد ثبت.
وعن السادس: أَنّا نقطع بأَنَّ العمل إنّما كان بمجرد كونها أَقيسة لا بخصوصيات تلك الأقيسة كالظواهر؛ وللمانع أَنْ يمنع ذلك فإِنَّ القطع بذلك جهالة لعدم ما يوجبه.
* أقول: هذه استدلالات أُخر استدل بها القائلون بوقوع العمل بالقياس،(1)
ص: 449
...............
اعْترضَ عليها المصنف:
منها: أَنّه قد نُقل نقلاً متواتر المعنىٰ أَنَّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كان يذكر العلل لتبتني عليها الأحكام وذلك هو القياس كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أرأيتِ لو كان على أبيكِ دين..» الحق دين اللّٰه بدين الآدمي في وجوب القضاء وذلك غير القياس، وقوله: «أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته» وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ينقص الرطب إذا جفّ؟».
والجواب: أَنّ هذا ليس بظاهر في(1) التعليل.
ومنها: أَنَّ الزنا موجبة للجلد بالآية، ورجم النبي صلى الله عليه و آله و سلم ماعزاً وأَجمع الصحابة على أَنَّ كلّ زان يرُجم لأَجل ذلك، وهذا إجماع على العمل بالقياس.
والجواب: لا نسلم أَنّ رجم غير ماعز إنّما كان لأجل معنى مشترك بينه و بين ماعز وهو الزنا بل الرجم إنّما ثبت بعموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة»، أو نقول: إنّما استفدنا وجوب الرجم على كل زان بالإجماع.
ومنها: قوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي اَلْأَبْصٰارِ»،(2) وجه الاستدلال منه أَنّه تعالىٰ أمر بالاعتبار الّذي هو المجاوزة والقياس عبور من حكم الأصل إلى حكم الفرع، فيكون مأموراً به.
ص: 450
...............
والجواب: أَنَّ هذا ظاهر في الإِتِّعاظ لأَنَّ سياق الآية يدل على ذلك، أو نقول:
أَنّه ظاهر في الأُمور العقلية لا في الأَقيسة الشرعية.
على أَنّا نقول أَنَّ صيغة إفعل محتملة للأمر وغيره، وعلى تقدير إِرادة الأمر قد يرد للوجوب وغيره، وعلى تقدير إرادة الوجوب ليست دالة على عموم كل اعتبار، والأمر بالماهية الكلية يكفي في الامتثال الاتيان بواحد من جزئياتها.
ومنها: أَنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لمّا أَنفذ معاذ إلىٰ اليمن قال: «بم تحكم؟» قال:
بكتاب اللّٰه، قال: «وإِنْ لم تجد؟» قال: «بسنة رسول اللّٰه» قال: «فإن لم تجد؟» قال:
أَجتهد رأيي، فصوبه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.(1)
والجواب: أنّ هذا خبر واحد لا يفيد القطع، ولو سُلِّم فلا نسلم أَنَّ الإِجتهاد المذكور هاهنا المراد به القياس بل هذا استفراغ الجهد في استنباط الأحكام من النصوص العامة.
ص: 451
قال: مسألة: النَّصُّ على العلّة لا يكفي في التعدِّي دون التعبُّد بالقياس.
وقال أحمد، والقاشاني، وأبو بكر الرازيُّ، والكرخي: يكفي.
وقال البصريُّ: يكفي في علّة التحريم لا غيرها.
لنا: القطع بأنَّ من قال: «أعتقتُ غانماً، لحسن خُلُقهِ»، لا يقتضي عتق غيره من حَسَنِي الخُلق.
قالوا: «حرَّمت الخمر لإسكاره» مثل: «حرَّمتُ كلَّ مسكر».
ورُدَّ: بأنّه لو كان مثله، عتق من تقدّم.
قالوا: لم يعتق، لأنّه غير صريح، والحقُّ لآدمي.
قلنا: يعتق بالصريح، وبالظاهر.
قالوا: لو قال الأَب: «لا تأكل هذا، لأنَّه مسمومٌ» فهم عرفاً المنع من كلِّ مسمومٍ.
قلنا: لقرينة شفقة الأب بخلاف الأحكام، فإنُّه قد تُخصُّ لأمرٍ لا يدرك.
قالوا: لو لم يكن للتعميم لعُرِّي عن الفائدة.
واُجيب: بتعقل المعنى فيه، ولا يكون التعميم إلَّابدليل.
قالوا: لو قال: الإسكار علَّةُ التحريم، لعمَّ، فكذلك هاهنا.
قلنا: حُكمَ بالعلَّة على كلِّ إسكارٍ، فالخمر والنبيذ سواءٌ.
ص: 452
البصريُّ: من ترك أكل شيءٍ لأذاهُ، دلَّ على تركهِ كلَّ مؤذٍ، بخلاف من تصدَّق على فقيرٍ.
قلنا: إِنْ سُلِّم فلقرينة التأذِّي، بخلاف الأحكام. *
* أقول: اختلف الناس في أَنَّ الشارع إذا نصّ على علّة حكمٍ، هل يكفي ذلك في التعدِّي من الأصل المنصوص عليه إلى كلّ ما يشاركه في تلك العلّة دون التعبّد بالقياس أم لا؟ فذهب أحمد بن حنبل والقاشاني وأبو بكر الرازي وأبوالحسن الكرخي والنظّام إلى أَنَّ ذلك يكفي.
وقال أبو إسحاق الاسفرائيني وأكثر الشافعية وجماعة من معتزلة بغداد كجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وجماعة من أهل الظاهر: أنّه لا يكفي.
وقال أبو عبد اللّٰه البصري: إِنْ كانت العلّة المنصوص عليها علّة للتحريم وترك الفعل، كان التنصيص عليها كافياً، وإلّا فلا.(1)
واحتجّ المصنف على أَنّه لا يكفي بأَنّا نعلم قطعاً أَنَّ من قال: اعتقت غانماً لحسن خلقه، لا يقتضي ذلك عتق كلّ من كان له من العبيد المشاركين له في حُسن الخلق، ولو كان التنصيص على العلّة كافياً لوجب العتق، كما لو قال: اعتقت كلّ حَسِن الخُلق.
واحتجّ المخالف بوجوه:
أحدها: أَنّ قول القائل: حرمت الخمر لاسكاره، ينزل منزلة: حرمت كل مسكر، وكما أَنَّ الثاني متعدّ في كلّ صورة وُجد فيها الإسكار فكذلك الأوّل .
ص: 453
...............
والجواب: المنع من المساواة وإلّا لوجب عتق من ذكرناه أوّلاً.
قالوا: إنّما لم يُعتق كُلّ حسن الخلق لأَنّه غير ظاهر في العتق والحق للآدمي وحقوق الناس مضيّقة لا يكفي فيها إلّاالقطع.
قلنا: لو كانا على السوية لكان ظاهراً في العتق وإِنْ لم يكن صريحاً والعتق يحصل بالنص والظاهر.
الثاني: لو قال الأب لولده لا تأكل هذا الطعام فإنّه مسموم كان ذلك نهياً له عن كلّ مسموم.
والجواب: أَنَّ هاهنا قرينة فهم منها المنع من كلّ مسموم وهي شفقة الأَب على ولده بخلاف الأَحكام الّتي لا اطلاع على الحكمة فيها فقد تخصّ قوماً دون قوم وصورة دون صورة لأُمور خفيَّة.
الثالث: لو لم يكن التنصيص على العلّة كافياً في التعدية لكان غير مفيد.
والجواب: المنع من الملازمة، والفائدة هي المعرفة بالحكمة الّتي لأجلها شُرِّع الحكم.
الرابع: لو قال الإِسكار علة التحريم لوجب العموم فكذلك هاهنا.
والجواب: أَنَّ التنصيص على العلّة في هذه الصورة لا يقتضي أصالة الخمر وفرعيّة النبيذ، بل هما سواء في العلّة بخلاف ما ذكرنا. احتجّ ابوعبد اللّٰه: بأَنَّ من ترك شيئاً لكونه مؤذياً كان ذلك كافياً في معرفتنا بتركه لكلّ مؤذ بخلاف من أَعطىٰ فقيراً لفقره فإنّه لا يدل ذلك على اعطائه
ص: 454
قال: مسألة: القياسُ يجري في الحدود والكفّارات، خلافاً للحنفيَّة.
لنا: أَنّ الدَّليل غيرُ مختصٍ، وقد حُدَّ في الخمر بالقياس.
وأيضاً: الحُكمُ للظَّنّ، وهو حاصل كغيره.
قالوا: فيه تقديرٌ لا يعقل، كأعداد الركعات.
قلنا: إذا فُهمت العلَّة، وجب، كالقتل بالمثقَّل، وقطع النباش.
قالوا: «ادرءوا الحدود بالشبهات».
وردَّ: بخبر الواحد، والشهادة. *
لكلّ فقير.
والجواب: لو سلَّمنا ذلك لكان الفرق ظاهراً فإنَّ الأذىٰ يجتنب عنه عند كلّ عاقل، فترك كلّ نوع منه يستلزم ترك كلّ أنواعه بخلاف الأحكام الخفيّة.
* أقول: اختلف القائلون بالقياس فذهبت الشافعية والحنابلة وغيرهم(1) إلى أَنَّه يجوز العمل بالقياس في الحدود والكفارات خلافاً للحنفية.
واستدل المصنف على الجواز: بأَنَّ الدليل الّذي استدللنا به على وجوب العمل بالقياس غير خاصٍّ بحكم دون حكم بل هو عام، وأيضاً رجعوا إلى حكم علي عليه السلام في حدّ شارب الخمر بقوله عليه السلام: «إِنّه إذا شرب سكر وإذا سكر هَذِي وإذا هَذِيَ افترى، فحدوه حدّ المفتري»،(2) وأيضاً الحكم إنّما هو للظن وهو
ص: 455
...............
حاصل في الحدود والكفارات فيكون حجّة كغيره.
احتجّوا(1): بأَنّ الحدود والكفارات من باب التقديرات الّتي لا يعقل المعنىٰ الموجب لتقديرها كاعداد الركعات فلا يجوز اثباتها بالقياس لأنّ القياس فرع تعقل علّة الحكم.
والجواب: أَنَّ التقدير: أَنَّ العلّة قد فُهمت كالقتل بالمثقل قياساً على القتل بالمحدّد، وكقياس النبَّاش على السارق في القطع.
قالوا: قال صلى الله عليه و آله و سلم: «ادرؤا الحدود بالشبهات»(2) والقياس لا يفيد القطع.
والجواب: المعارضة بخبر الواحد وبالشهادة فإِنّ الحدود تثبت بهما إجماعاً.
ص: 456
قال: مسألة: لا يصحُّ القياس في الأسباب.
لنا: أنَّهُ مرسلٌ، لأنَّ الفرض تغاير الوصفين، فلا أصل لوصف الفرع.
وأيضاً علّةُ الأصل منتفيةٌ عن الفرع، فلا جمع.
وأيضاً: إنْ كان الجمع بين الوصفين حكمةً، على القول بصحتها، أو ضابطاً لها اتَّحدَ السَّبب والحكم، وإن لم يكن جامع، ففاسدٌ.
قالوا: ثبت المُثَقَّلُ على المحدَّد، واللِّواط على الزنا.
قلنا: ليس محلَّ النزاع، لأنّه سببٌ واحدٌ ثبت لهما بعلّةٍ واحدةٍ، وهو القتل العمد العدوان، وإيلاج فرج في فرج. *
* أقول: ذهبت جماعة من الشافعية إلى جواز القياس في الأسباب،(1)مثاله: اثْبات كون اللواط سبباً للحدّ بالقياس على الزنا. ومنع من ذلك جماعة من الحنفية وإليه ذهب المصنف.
واحتج المانعون بوجوه:
الأوّل: أَنّ القياس في الاسباب قياس مرسل فلا يكون مقبولاً(2) لأن
ص: 457
...............
الجامع بين الوصفين لم يثبت اعتباره في نظر الشرع.
الثاني: أَنّا فرضنا تغاير الوصفين فلا أصل لوصف الفرع، لأَنّ الأصل لوصف الفرع ينبغي أن يساوي وصف الفرع كالتحريم في الخمر والنبيذ.
الثالث: أَنَّ علة الأصل منتفية عن الفرع فلا جمع بينهما، لأَنّ علة الأصل هي الزنا وهي منتفية عن اللواط.
الرابع: الجامع بين الوصفين إمّا أن يكون حكمة على القول بصحة التعليل بها أووصفاً ضابطاً لها على القول بالمنع،(1) وعلى كلا التقديرين يكون السبب
ص: 458
...............
واحداً أعني تلك الحكمة أو ذلك الوصف ولا اعتبار بخصوصية كلّ واحد من الوصفين، وإن لم يكن بين الوصفين جامع فسد القياس.
وهذه الوجوه ضعيفة لا يخفىٰ وجه ضعفها.
واحتجَّ المجوزون: بأَنّه قد ثبت وجوب القصاص بالمثقّل قياساً على وجوب القصاص بالمحدّد فيكون المحدّد أصلاً للمثقّل [و] هو القياس في السببية، وكذلك ثبت كون اللواط موجباً للحدّ بالقياس على الزنا.
والجواب: ليس هذا محل النزاع لأَنَّ السبب في الحدّ ليس هو الزنا بخصوصيته وإنّما هو ايلاج الفرج في الفرج المحرّم، وكذلك المحدّد ليس سبباً لخصوصيته بل لكونه قتلا عمداً عدواناً، فالسبب واحد ولا اعتبار بالجزئيات.
ص: 459
قال: مسألة: لا يجري القياس في جميع الأحكام.
لنا: ثبت ما لا يُعقل معناه، كالدِّية، والقياس فرع المعنى.
وأيضاً: قد تبيَّن امتناعهُ في الأسباب والشروط.
قالوا: متماثلةٌ، فيجب تساويها في الجائز.
قلنا: قد يمتنع أو يجوز في بعض النوع لأمرٍ، بخلاف المشترك بينهما. *
* أقول: اختلفوا في أَنّه هل يجري القياس في جميع الأَحكام أم لا؟ فذهب جماعة إلى ذلك ونفاه آخرون.
واحتجَّ المصنف بأنّ من الأَحكام ما لا يُعقل معناه كضرب الدية على العاقلة وإذا لم يعقل المعنى استحال القياس فيه، وأيضاً فإنّا قد بيّنا أَنّ الأَسباب والشروط لا يصحّ القياس فيها وهي من جملة الأحكام.
قالوا: الأحكام متساوية من حيث إنّها داخلة تحت الحكم الشرعي فيجب تساويها في جواز القياس عليها.
قلنا: قد يمتنع في البعض أو يجوز في البعض لأمر، بخلاف المشترك بينها وهو مطلق الحكم فإِنّها قد اشتركت في الحكم وامتازت بخصوصياتها فامكن استناد المنع أو الجواز إلى الخصوصيات.
ص: 460
قال: الاعتراضات راجعةٌ إلى منعٍ أو معارضةٍ، وإلّا لم تُسمع، وهي خمسة وعشرون.
[الأوّل]: الاستفسار، وهو: طلب معنى اللفظ لإجمال أو غرابةٍ، وبيانهُ على المعترض بصحته على متعدِّدٍ، ولا يكلّفُ بيان التساوي لعسره.
ولو قال: التفاوت يستدعي ترجيحاً بأمرٍ، والأصل عدمهُ، لكان جيداً.
وجوابه: بظهوره في مقصودهِ بالنقل، أو بالعرف، أو بقرائن معه، أو بتفسيره، وإذا قال: يلزم ظهوره في أَحدهما، دفعاً للاجمال، أو قال: يلزم ظهوره فيما قصدتُ، لأنُّه غير ظاهرٍ في الآخر اتفاقاً، فقد صوَّبه بعضهم.
وأمّا تفسيرهُ بما لا يحتملهُ لغةً فمن جنس اللعب. *
* أقول: لما فرغ من القياس وأقسامه شرع في الاعتراضات الواردة عليه(1) مع وجه الانفصال عنها، وهي الطرائق الّتي يستعملها الجدليون وهي بأسرها ترجع إلى منع في المقدمات أو معارضة في الحكم؛ وهي خمسة وعشرون نوعاً:
النوع الأوّل: الاستفسار وهو طلب شرح دلالة اللفظ المذكور [و] هو
ص: 461
...............
لا يحسن إلّاإذا كان اللفظ مجملاً بين معان متردداً بينها أو يكون غريباً لا تظهر دلالته، فإنَّ اللفظ لو كان ظاهراً لكان المُستفسر عنه لاغياً معانداً؛ وإذا كان شرط سماع هذا الاعتراض إجمال اللفظ أو غرابته وجب على المعترض بيان ذلك ليصح اعتراضه بأَنْ يقول اللفظ قد صح استعماله في معان متعددة فيكون مجملاً ولا يجب عليه أَن يبيّن تساوي استعماله في تلك المعاني لكونه عسراً(1) ولو استند في التساوي إلى الطريق الاجمالي وهو أَن التفاوت يستدعي ترجيحاً والأصل عدمه لكان مسموعاً. وللمستدل في الجواب عن هذا السؤال طريقان تفصيلي وإجمالي، أما التفصيلي فإن يقول: اللفظ ظاهر فيما قصدته بالنقل عن أهل اللغة أو بالعرف أو بالقرائن الموجودة معه(2) أو باشتهاره، والشهرة والظهور دليل الحقيقة. وأمّا الاجمالي فإن يقول اللفظ ظاهر في أحدهما والاّ لزم الاجمال(3) أو يقول يلزم ظهوره فيما قصدت لأَنَّه غير ظاهر في المعنى الآخر اتفاقاً، وهذا الطريق الأَخير صوَّبه بعضهم وهو طريق حسن، أمّا إذا فسر المستدل اللفظ بمالا يحتمله لغة فإِنّه يكون من جنس اللعب.
ص: 462
قال: فساد الاعتبار، وهو: مخالفة القياس للنص.
وجوابه: الطعن أو منع الظهور، أو التأويل، أو القول بالموجب، أو المعارضة بمثله، فيسلم القياس، أو يبيّن ترجيحه على النصَّ بما تقدَّم، مثل ذبحٌ من أهله في محلّه، كذبح ناسي التسمية، فيورد: «وَ لاٰ تَأْكُلُوا» * فيقول: مؤوَّلٌ بذبح عبدةِ الأوثان بدليل: «ذكر اللّٰه على قلب المؤمن، سمَّىٰ أو لم يسمِّ»(1) أو بترجيحهِ لكونه مقيساً على الناسي المخصَّص باتَّفاقٍ، فإن أبدى فارقاً فهو من المعارضة. *
* أقول: هذا هو النوع الثاني من الاعتراضات وهو الملّقب ب «فساد الاعتبار» وهو مخالفة القياس للنص، ومعناه أَنَّ ما ذكرته من القياس لا يمكن اعتباره في بناء الحكم عليه لمخالفته النص.
وجوابه: إمّا بالطعن في سند النص إنْ أمكن، أو منع الظهور،(2) أو التأويل، أو القول بالموجب،(3) أو المعارضة بنص آخر مثله فيسلم القياس الأول أو يبين ترجيحه على النص بما تقدم(4).
ص: 463
...............
مثاله:(1) ذَبْحٌ من أَهْلِهِ في مَحَلِّهِ فيحلُ كناسي التسمية، فيورد: «وَ لاٰ تَأْكُلُوا مِمّٰا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّٰهِ عَلَيْهِ»،(2) فيقول المستدل: هو مأوَّلٌ بذبح الكفار بدليل جري «ذكر اللّٰه على قلب المؤمن وإن لم يسم»، أو بترجيحه(3) من حيث إنّه مقيس على الناسي المخصوص بالاتفاق(4) فإن أَبدىٰ المعترض فارقاً بين الأصل والفرع كان ذلك سؤالاً آخر وهو من قبيل المعارضة،(5) وسيأتي البحث فيه.
ص: 464
قال: فساد الوضع، وهو: كون الجامع ثبتَ اعتبارُهُ بنصٍّ أو إجماع في نقيض الحكم، مثل: مسحٌ فيُسنُّ فيه التكرار، كالاستطابة فَيَرِدُ أنَّ المسح معتبرٌ في كراهة التكرار على الْخُفِّ.
وجوابه: ببيان المانع، لتعرضه للتَّلف وهو نقضٌ إلّاأنّه يثبت النقيض، فإنْ ذكره بأصله فهو القلب، فإنْ بيَّنَ مناسبتهُ للنقيض من غير أصلٍ من الوجه المدَّعىٰ، فهو القدحُ في المناسبة، ومن غيره لا يقدحُ، إذْ قد يكون للوصف جهتان، ككون المحلِّ مشتهىً يُناسِبُ الإباحة لإراحةِ الخاطر، والتحريمَ لِقطعِ أطماعِ النفسِ. *
* أقول: هذا هو النوع الثالث من الاعتراضات ويلقب ب «فساد الوضع» وهو كون الجامع قد ثبت اعتباره بنص أو اجماع في نقيض الحكم مثل ما يقول(1)«مسح فيسنُّ فيه التكرار كالاستطابة» فيقول المعترض: المسح معتبر بالنص في كراهة التكرار على الخف، فالمسح الّذي جعله المستدل علّة أَثبت المعترض مناسبته لنقيض الحكم.
وجوابه: ببيان المانع في الصورة الّتي ذكرها المعترض كتعرضه للتلف وهذا السؤال في الحقيقة نقض لوجود المدعي علّة مع تخلف الحكم عنه في
ص: 465
...............
صورة الخف، إلّاأَنّه(1) يثبت النقيض(2) فإِنْ ذكره باصل المستدل فهو سؤال القلب وسيأتي بيانه، وإنْ بيّن المعترض مناسبة الوصف لنقيض الحكم من غير أصل فإمّا أن يبين ذلك من الوجه الّذي ادَّعىٰ المستدل مناسبته للحكم، وإِمّا أنْ يكون من غيره، فإنْ كان الأول لزم منه أن يكون وصف المستدل غير مناسب لحكمه ضرورة كون الوصف الواحد لا يناسب الحكم ونقيضه، ويرجع هذا الاعتراض إلى القدح في المناسبة وعدم التأثير لا أَنّه سؤال آخر.
وإن كان الثاني لم يقدح في استدلال المستدل فإِنّه لا استبعاد في كون الوصف الواحد ذا جهتين يناسب الإباحة بأحدهما، والتحريم بالأُخرى ككون المحل مُشتهىٰ فإِنّه يناسب الإباحة لإراحة الخاطر والتحريم لقطع اطماع النفس.
ص: 466
قال: [الرابع]: منع حكم الأصل، والصحيح ليس قطعاً للمستدلِّ بمجردهِ، لأنّهُ كمنع مقدمةٍ، كمنع العلّة في العلَّيَّة ووجودها، فيُثبتُها باتفاقٍ.
وقيل: ينقطع لانْتِقَالِهِ.
واختار الغزاليُّ اتِّبَاعَ عرف المكان.
وقال الشيرازيُّ: لايسمع، فلا يلزمه دلالة عليه، وهو بعيدٌ، إذ لا تقوم الحُجَّةُ على خصمه مع منع أصله.
والمختار: لا ينقطع المعترضُ بمجرَّدِ الدَّلالةِ، بل له أنْ يعترض، إذ لا يلزم من صورة دليلٍ صحته.
قالوا: خارجٌ عن المقصود الأصليّ.
قلنا: ليس بخارجٍ. *
* أقول: هذا النوع الرابع من الاعتراضات ويسمى «منع حكم الأصل» مثاله قول الشافعي في إزاحة النجاسة بالخل: مائع لا يرفع الحدث، فلا يزيل حكم النجاسة كالدهن؛ فيقول الحنفي: لا أُسلِّم الحكم في الأصل فإنَّ الدهن عندي مزيل لحكم النجاسة.
وقد اختلف الناس في انقطاع المستدل بتوجه منع حكم الأصل عليه فقال قوم: إنّه ينقطع لأَنّ المستدل إنّما أَنشأ كلامه للاستدلال على حكم الفرع لا على حكم الأصل، فإذا منع المعترض حكم الأصل فإمّا أنْ يشرع في الاستدلال عليه أو لا، والأوّل يكون تركاً لما هو بصدده من الدلالة على الفرع وعدول عنه
ص: 467
...............
إلى الاستدلال على صورة أخرى وهذا هو الانقطاع.
والثاني يلزم منه أن لا يتم مقصوده وهو الحكم في الفرع وهو انقطاع أيضاً.
وذهب آخرون إلى أَنّه ليس انقطاعاً بمجرده، وإليه ذهب المصنّف.
قالوا: إِنّ المستدل إنّما تصدّى للاستدلال على حكم الفرع والمحاولة على تقريره وتمشيته، وبالدلالة على حكم الأصل يحصل هذا المقصود لأنّه تارك لما شرع فيه أولاً، فإِنَّ الحكم في الفرع يتوقف على وجود العلّة في الأصل وعلى اثبات علّيتها وعلى وجودها في الفرع، ويتوقف أيضاً على وجود حكم الأصل فهو أحد أركان القياس ومقدماته فالمنع منه كمنع بعض مقدماته، واتفق الجدليون على سماع المنع في وجود العلّة وعليّة العلّة ووجودها في الفرع وصحّة الاستدلال عليها ولا يُعد المستدل منقطعاً، فكذلك في حكم الأصل لكونه أحد المقدمات الّتي يتوقف القياس عليها. والغزالي اختار وجوب اتباع عرف المكان الّذي هو فيه ومصطلح أهله، وقال أبو إسحاق الشيرازي: هذا المنع لا يسمع(1) فلا تجب الدلالة عليه، وهذا بعيد فإِنّ الحجَّة(2) لا تقوم على الخصم مع منع الأصل، وإذا استدل المستدل على موقع المنع(3) فقد اختلفوا.
ص: 468
قال: [الخامس]: التقسيم، وهو: كون اللفظ متردِّداً بين أمرين أحدهما ممنوع، والمختار وروده، مِثَالهُ في الصحيح الحاضر: وجد السَّببُ بتعذُّر الماء، فساغ التيُّمم، فيقول: السَّبب تعذُّر الماء أو تعذُّرُ الماء في السفر أو المرض.
الأوّل ممنوعٌ، وحاصلُهُ منعٌ يأتي، ولكنهُ بعد تقسيمٍ، وأمّا نحو قولهم في (الملتجيء إلى الحرم): وُجِد سببُ استيفاء القِصاص، فيجب، متى: مع مانع الاِلتجاء إلى الحَرَمِ أو عَدَمِهِ فحاصله طلبُ نفي المانع، ولا يلزم. *
فالمحقّقون قالوا: إِنّ المعترض لا يعد منقطعاً لمجرد الاستدلال ولا يمنع من المنع لأنّه لا يلزم من وجود صورة الدليل صحته.
وذهب آخرون إلىٰ انقطاعه لتبين فساد المنع، ويمنع من الاعتراض على دليل المستدل لاقتضائه التطويل في غير المقصود الأصلي أعني ثبوت الحكم في الفرع.
والحق أَنّه ليس خروجاً عن المقصود لأنّ حكم الأصل إحدىٰ المقدمات الّتي يبتني عليها المقصود الأصلي.
* أقول: هذا الاعتراض الخامس وهو: «التقسيم» وهو في عرف الفقهاء عبارة عن: «ترديد اللفظ بين احتمالين أحدهما ممنوع والآخر مسلم» مثاله قولهم في تيمم الصحيح الحاضر: وُجِدَ السبب(1) بتعذر الماء فساغ التيمم، فيقول
ص: 469
قال: [السادس]: منع وجود المدّعي علّة في الأصل، مثل: حيوان يُغْسَلُ من ولوغه سبعاً، فلا يَطْهرُ بالدِّباغِ كالخنزير، فَيُمنَعُ.
وجوابه: بإِثباته بدليلهِ من عقلٍ، أو حسٍ، أو شرعٍ. *
المعترض: السبب تعذر الماء مطلقاً أو تعذر الماء في السفر أو المرض؟ الأوّل ممنوع.(1) وحاصل هذا السؤال يرجع إلى منع وجود العلّة في الأصل ولكنّه سميّ تقسيماً.(2)
ولو ذكر المعترض احتمالين لا دلالة للفظ المستدل عليهما وأورد الاعتراض عليهما كما لو قال المستدل في مسألة الملتجيء إلى الحرم: وُجد سَبب استيفاء القصاص - وهو القتل العمد العدوان - فيجب استيفاؤه، فيقول المعترض: متى يجب؟ إذا وجد المانع أو إذا لم يوجد؟ الأوّل ممنوع والثاني مسلم، ولكن لم قلتم:
أَنّه لم يوجد المانع وهو الحرم، فإنَّ هذا غير مسموع لأَنّ حاصله يرجع إلى طلب نفي المانع، ولا يجب على المستدل ذلك. * أقول: هذا النوع السادس من الاعتراضات، وهو: «منع وجود العلّة في الأصل»، مثاله قول الشافعي في مسألة جِلْد الكلب: «حيوان يُغسل الإناء من ولوغه سبعاً فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير»، فيقول المعترض: لا نسلم وجوب غَسل الإناء من ولوغ الخنزير سبعاً، وجوابه: ما يدلّ على وجوده من العقل أو الحس أو الشرع على حسب حال الوصف.(3)
ص: 470
قال: [السابع]: منع كونه علّةً، وهو من أعظم الأسئلة، لعمومهِ وتشعب مسالكه، والمختار قبوله، وإلّا أدَّىٰ إلى اللَّعب في التمسّك بكلِّ طردٍ.
قالوا: القياس ردُّ فرعٍ إلى أصلٍ بجامعٍ، وقد حصل.
قلنا: بجامع يُظنُّ صحته.
قالوا: عجز المعارض دليل صحته، فلا يُسمع المنعُ.
قلنا: يلزم أنْ تصحَّ كلُّ صورة دليلٍ، لعجز المُعترِضِ، وجوابُهُ:
بإثباته بأحد مسالكهِ، فَيِردُ على كلٍّ منها ما هو شرطٌ فعلىٰ ظاهر الكتاب:
الإجمال والتأويل والمعارضة والقول بالمُوجِبِ، وعلى السُّنَّة: ذلك فالطَّعْنُ بأَنَّهُ مُرْسلٌ أو مَوْقُوفٌ: وفي روايةٍ ضعيفةٍ، أو قول شيخهِ: لم يَرْوِه عنّي، وعلى تخريج المناط ما يأتي، وما تقدّم. *
* أقول: هذا هو النوع السابع من انواع الاعتراضات وهو: «منع كون الوصف علّة»، وهو من أعظم الأسئلة الواردة على القياس لعموم وروده على كلّ ما يُدّعىٰ كونه علّة واتساع طرق اثباته وتشعب مسالكه، وقد اختلفوا في قبوله؛ وذهب المصنف إلى قبوله لأَنّ الحكم في الفرع لا يثبت لمجرد ثبوت الحكم في الأُصول بل لابدّ من جامع وذلك الجامع لابد وأَنْ يكون باعثاً على الحكم على ما تقدّم والوصف الطردي لا يصلح أَنْ يكون باعثاً فيمتنع التمسّك به في القياس، فلو لم يُسمع منع تأثير الوصف والمطالبة بتأثيره لزم من ذلك التمسّك بالأوصاف الطردية،(1) وذلك ظاهر الفساد.
ص: 471
...............
احتج من منع من سماعه: بأَنّ القياس عبارة عن رد فرع إلى أصل بجامع بينهما وقد أتىٰ (1) بالقياس على هذه الصورة فيكون قد أتىٰ بالحجّة.
والجواب: أَنَّ مطلق الجامع ليس بكاف بل الجامع الّذي ظُنَّ كونه حجّة.
قالوا: عجزُ المعترض عن الاعتراض على الوصف المذكور دليل صحته كالمعجزة فلا يُسمع المنع.(2)
والجواب: يلزم أَنْ يكون كلّ دليل عجز المعترض فيه عن الاعتراض صحيحاً وليس كذلك.
وجواب هذا السؤال(3) بأحد الطرق الّتي بيَّناها ويرد على كلّ واحد من تلك الطرق ما هو شرط في دلالتها على كون الوصف علة فلو استدل على العلّة بظاهر الكتاب أورد عليه المعترض كونه محتملاً بين معان أو مؤولاً أو عارضه بمثله أو قال بموجبه(4). وإِنْ استدل بالسنَّة أورد عليه هذه مع أسئلة أخرى كالطعن في الحديث وكونه مرسلاً أو موقوفاً أو في رواية ضعيفة أو قول شيخ الراوي: بأَنّه لم يروه عني.
وإنْ استدل بتخريج المناط ورد عليه ما مضىٰ،(5) و ما يأتي.(6)
ص: 472
قال: [الثامن]: عدم التأثير، وقُسم أربعة أقسامٍ: [الأوّل]: عدم التأثير في الوصف، مثاله: صلاة لا تقصر، فلا يقدم أذانُها كالمغرب، لأنَّ عدم القصر في نفي التقديم طرديٌ، فيرجع إلىٰ سؤال المطالبة.
الثاني: عدمُ التأثير في الأصل، مثالُهُ في بيع الغائب: مبيعٌ غير مرئيٍ، فلا يصحُّ كالطير في الهواء، فإنَّ العجز عن التسليم مستقلٌ، وحاصله معارضة في الأصل.
الثالث: عدمُ التأثير في الحكم، مثاله في المرتدين: مشركون أتلفوا مالاً في دار الحرب، فلا ضمان كالحربيِّ، ودار الحرب عندهم طرديّ، فيرجع إلى الأوّل.
الرابع: عدم التأثير في الفرع مثاله: زوَّجت نفسها، فلا يصحّ، كما لو زوّجت من غير كُفءٍ، وحاصله كالثّاني.
وكلُّ فرضٍ جُعل وصفاً في العلّة مع اعترافه بطرده مردودٌ، بخلاف غيره على المختار فيهما. *
* أقول: هذا النوع الثامن من الاعتراضات وهو سؤال عدم التأثير وهو عبارة عن: «إبداء وصف في الدليل مستغني عنه في اثبات الحكم أو نفيه» وهو على أربعة أقسام:
الأوّل: عدم التأثير في الوصف وذلك أنْ يكون الوصف المأخوذ في الدليل طردياً لا مناسبة فيه ولا شبه وذلك مثل ما يقال في صلاة الصبح: صلاة لا
ص: 473
...............
يجوز قصرها، فلا تقدّم في الأَداء على وقتها كالمغرب؛ فإنَّ عدم القصر في نفي التقديم وصف طردي فيرجع حاصل هذا السؤال إلىٰ بيان انتفاء مناسبة الوصف، وهو سؤال المطالبة وجوابه جوابه.
الثاني: عدم التأثير في الأصل وهو أَنْ يكون الوصف قد استغني عنه في اثبات الحكم في المقيس عليه بغيره، مثاله [في مسألة بيع الغائب]:(1) مبيع غير مرئي فلا يصحّ كالطير في الهواء والسمك في الماء، فإنَّ ما وجد في الأصل من العجز عن التسليم مستقل بالحكم، وحاصله يرجع إلى معارضة في الأصل.
وقد اختلفوا في قبوله: فردَّه أبواسحاق لأَنّ ذلك إشارة إلى ذكر علّة أخرى في الأصل ولا يمتنع تعليل الحكم الواحد بعلّتين؛ وقبله آخرون لامتناع تعليل الحكم الواحد بعلّتين عندهم.
الثالث: عدم التأثير في الحكم وهو أن يذكر في الدليل وصفاً لا تأثير له في الحكم المعلل، مثاله في المرتدّين: مشركون أَتلفوا مالاً في دار الحرب فلا ضمان كالحربي إذا اتلف مالاً في دار الحرب فإن الاتلاف في دار الحرب(2) لا تأثير له في نفي الضمان للاستواء في الحكم بين دار الحرب ودار الاسلام عندهم، وهذا القسم يرجع إلى عدم التأثير في الوصف بالنسبة إلى الحكم إِنْ كان طردياً.(3)
ص: 474
...............
الرابع: عدم التأثير في الفرع وهو أَنَّ الوصف المذكور في الدليل لا يطَّرِد في جميع صور النزاع(1) مثاله في مسألة ولاية المرأة: زوجت نفسها فلا يصح كما لو زُوجت من غير كفؤ،(2) لأَنّ النزاع واقع فيما إذا زوجت نفسها من الكفؤ وغير الكفؤ.
وحاصل هذا القسم كالثاني، والصحيح أَنَّ حاصله كالثالث وهو عدم التأثير في الحكم لأَنّ تزويجها نفسها مستقل بعدم الصحة لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا نكاح إلّا بولي»(3) لا كالثاني وهو عدم التأثير في الأصل لأَنّ التزويج من غير كفؤ مؤثر في الأصل.
وقد اختلفوا في قبول هذا النوع فردّه قوم بناء منهم على منع جواز الفرض في الدليل مطلقاً، وقَبِله من لم يمنع ذلك، والمصنف اختار أَنَّ كلّ فرض جعله المستدل وصفاً في العلّة مع اعترافه بطرده فهو مردود وإِنْ لم يكن كذلك فهو مقبول.
ص: 475
قال: [التاسع]: القدحُ في المناسبة بما يلزم من مفسدةٍ راجحةٍ أو مساوية، وجوابه بالترجيح تفصيلاً أو إجمالاً كما سبق. *
* أقول: هذا النوع التاسع وهو: «القدح في مناسبة الوصف المعلل به» وذلك لما يلزم من ترتيب الحكم على وفقه تحصيلاً للمصلحة، وجود مفسدة مساوية أو راجحة [لها]، وقد بيّنا الجواب عنه بترجيح المصلحة على المفسدة وأَنّه يكون ذلك بالاجمال، والتفصيل على ما سلف.(1)
ص: 476
قال: [العاشر]: القدح في إفضاء الحكم إلى المقصود، كما لو علَّل حرمة المصاهرة على التأبيد بالحاجة إلى ارتفاع الحجاب المؤدِّي إلى الفُجُور، فإذا تأبَّد انسدَّ باب الطمع المفضي إلى مقدَّمات الْهَمِّ والنظر المفضية إلى ذلك، فيقول المعترض: بل سَدُّ بابِ النِّكاحِ أَفْضىٰ إلى الفُجُورِ، والنَّفسُ مائلةٌ إلى المَمنُوع.
وجوابهُ: أنّ التأبيد يَمنعُ عادة بما ذكرناهُ، فيصير كالطَّبيعيِّ، كالأمَّهات. *
* أقول: هذا النوع العاشر وهو «القدح في إفضاء الحكم إلى المقصود» مثاله: إذا علَّلتَ حرمة المصاهرة على التأبيد في حق المحارم بالحاجة إلىٰ إرتفاع الحجاب بين الرجال والنساء المفضي إلى الفجور، فإذا كان مؤبَّداً انسدَّ باب الطمع في مقدمات الهمِّ بها والنظر إليها المفضية إلى ذلك الفجور، فإنَّ للمعترض أنْ يقول:
هذا الحكم غير صالح لافضاءِه إلى هذا المقصود من حيث إنّ سد باب النكاح أفضىٰ (1)إلى الفجور لكون النفس مائلة إلى ما منعت منه.
وجوابه: أنّ الحرمة المؤبدة مما يمنع من النظر إلى المرأة بشهوة عادة، والأمر العادي المتطاول يصير كالطبيعي كالأمهات.
ص: 477
قال: [الحادي عشر]: كون الوصف خفيَّاً كالرضا والقصد، والخفيُّ لا يعرِّف الخفيّ.
وجوابهُ: ضبطهُ بما يدلُّ عليه من الصيغ والأفعال. *
* أقول: هذا النوع الحادي عشر وهو: «أَنْ يكون الوصف المعلل به باطناً خفيّاً» كما لو عَلَّل بالرضا والقصد فإنّه قد يقال: إنَّ القصد والرضا من الأوصاف الباطنة الخفية فلا يصحّ تعليل الحكم الشرعي بها، فإنَّ الخفي لا يعرّف الخفي.
وجوابه: أَنْ يبيّن ضبط الرضا بما يدل عليه من الصيغ الظاهرة كالإيجاب والقبول وضبط القصد بما يدل من الافعال الظاهرة.
ص: 478
قال: [الثاني عشر]: كونه غيرَ منضبطٍ، كالتعليل بالحِكَمِ والمقاصد كالحرج والمشقَّة والزَّجرِ، فإنَّها تَختلِفُ باختلافِ الأشخاص والأزمان والأحوال.
وجوابهُ: إمَّا أنّه منضبطٌ بنفسه، أو بضابطٍ، كضَبْطِ الحَرَجِ بالسَّفر ونحوه. *
* أقول: هذا الثاني عشر وهو: «كون الوصف المعلل به مضطرباً غير منضبط» كالتعليل بالحِكَمِ والمقاصد كالتعليل بالحرج والمشقة والزجر والردع [ فيقول المعترض إن هذه الأوصاف مضطربة](1) قد تختلف باختلاف الاشخاص والأزمان والأحوال، وما هذا شأنه فعادة الشارع فيه ردُّ الناس إلى الأُمور الظاهرة والمظانِّ المنضبطة الجليّة دفعاً للعسر والمشقَّة.
وجوابه: إمّا ببيان كون الوصف المعلل به منضبطاً بنفسه أو بضابطة كضبط المشقّة والحرج بالسفر ونحوه.
ص: 479
قال: [الثالث عشر]: النقض كما تقدّم.
وفي تمكين المعترض من الدَّلالة على وجود العلّة إذا منع، ثالثها:
يمكَّن ما لم يكن حكماً شرعيّاً.
ورابعها: ما لم يكن طريقٌ أولى بالقدح.
ص: 480
كان التعليل بظاهرٍ عامٍ، حكم بتخصيصه وبتقدير المانع كما تقدم. *
* أقول: هذا النوع الثالث عشر من الاعتراضات وهو: «سؤال النقض» وهو عبارة عن: «تخلف الحكم مع وجود ما أدُّعي كونه علّة له» وقد مضىٰ ذلك في مسألة تخصيص العلّة وأَنّه هل يدلّ على ابطالها أم لا؟ مثاله: قول الشافعي في مسألة زكاة الحُلي: «مال غير نام فلا تجب فيه الزكاة كثياب البذلة»، فيقول المعترض:
ينتقض بالحلي المحظور فإنّه غير نام وتجب فيه الزكاة؛ فإذا منع المستدل وجود العلّة في صورة النقض وقال: لا أسلِّم أَنَّ الحلي المحظور غير نام، فهل للمعترض أَنْ يدلَّ على وجود العلّة منها أم لا؟
قال قوم: ليس للمعترض ذلك لأَنّه يلزم انقلاب المستدل معترضاً وبالعكس.
وقال آخرون: نعم له ذلك إذْ بذلك يتحقق انتقاض العلّة وينهدم كلام المستدل، فيسوغ له ذلك كغيره من الاعتراضات.
ومنهم من قال: إِنَّه يمكّن من المنع ما لم يكن حكماً شرعياً(1).
وقال آخرون: إِنْ لم يكن للمعترض طريق آخر أولىٰ بالقدح من هذا، كان له سلوك هذه الطريق والاّ انسدَّ فائدة المناظرة، وإِنْ كان له طريق آخر فلا.
ص: 481
...............
وقال هؤلاء(1): إذا استدل المستدل على وجود العلّة في حمل التعليل بدليل هو موجود في صورة النقض فاذا منع المستدل بعد ذلك وجود العلّة في صورة النقض وقال المعترض: ينتقض الدليل الّذي ذكرته؛ لم يُسمع هذا السؤال لأَنَّه انتقال من النقض على نفس العلّة إلى النقض على دليلها، مثاله: قول الحنفي في مسألة تبييت النية: أَتىٰ بمُسمَّىٰ الصوم فيصح كما في محل الوفاق، واستدل على وجود الصوم بقوله: إنّ الصوم عبارة عن الإمساك مع النية وهو موجود فيما نحن فيه. فيقول المعترض: ينتقض بما إذا نوى بعد الزوال.
والمصنف توقف في ذلك،(2) ولو قال المعترض أوّلاً: يلزمك إمّا انتقاض العلّة أو انتقاض الدليل،(3) وأمّا إذا منع المستدل تخلف الحكم في صورة النقض فهل للمعترض أن يستدل على التخلف أم لا؟ اختلفوا فيه كما اختلفوا فيما إذا منع المستدل من وجود العلّة في صورة النقض وقد مضى، مثاله قول: الشافعي في مسألة الثيّب الصغيرة: ثيب فلا تجبر كالثيب الكبيرة، فيقول المعترض: ينتقض بالثيّب المجنونة، فيقول المستدل: لا نسلّم جواز إجبار المجنونة.
واختلفوا في أَنّه هل يجب على المستدل الاحتراز في دليله من النقض
ص: 482
...............
أم لا؟ فذهب قوم إلىٰ أَنّه يجب ذلك لقربه من الضبط ولأَنّ الوصف إذا كان منتقضاً فتخلّف الحكم في صورة النقض إِنْ كان المانع كان لانتفاء المقتضي فلا يكون الوصف المذكور علّة، وإنْ كان لمانع فقد ثبت أنَّ للعلّة معارضاً متفقاً عليه فلابدّ من نفيه.
ومنهم من لم يوجبه وإليه ذهب المصنف، فقال آخرون يجب إلّافي المستثنيات، واستدل المصنف بأَنّ المستدل إنّما سئل عن الدليل الدال على الحكم، وانتفاء المعارض ليس من جملة العلل المؤثرة الدالة عليه، وأيضاً فإِنّ النقض وارد وإِنْ احترز عنه اتفاقاً لأَنّ الّذي وقع به الاحتراز عن النقض إِمّا أَنْ يكون جزء العلّة أو خارجاً عنها، فإِنْ كان الأول فلا خلاف في وجوبه، وإِنْ كان الثاني فلا يخلو إِمّا أن يُشار بهِ إلى نفي المعارض أو لا، فإن كان الأول فقد تعرض في الاستدلال بما لم يطلب منه لأنّه طلب منه بعد الفتوى الدليل المقتضي للحكم، وانتفاء المعارض ليس من الدليل، ولأَنّ التقدير أنّ المذكور ليس جزء العلّة؛ وإِنْ كان الثاني كان النقض متجهاً ولا يندفع به لأنّ النقض عبارة عن وجود العلّة من دون الحكم، فإذا كان المذكور خارجاً عن العلّة ولا فيه إشارة إلى نفي المعارض، فالعلّة شيءٌ آخر وراءه وقد وجدت في صورة النقض ولا معارض فكان النقض متجهاً.(1)
وجواب سؤال النقض ببيان معارض يقتضي نقيض الحكم أو خلافه(2)
ص: 483
قال: [الرابع عشر]: الكسر.
وهو نقض المعنىٰ والكلام فيه كالنقض. *
كالعرايا وضرب الدية على العاقلة. أو يقول: انتفىٰ الحكم في النقض لدفع مفسدة آكد من المصلحة كحل الميتة للمضطر(1) فإن كان التعليل بظاهر عامّ حكم بأنّه مخصّص وبأنّ المانع ثابت، وطريقه كما تقدّم بيانه.(2)
* أقول: هذا السؤال(3) الرابع عشر وهو سؤال الكسر وهو نقض المعنى وقد ذكرنا طرق إيراده والجواب عنه، والبحث فيه كما في النقض.(4)
ص: 484
قال: [الخامس عشر]: المعارضة في الأصل بمعنى آخر: إمّا مستقلٌ كمعارضة الطَّعم بالكيل، أو القوت، أو غير مستقلٍّ، كمعارضةِ القتل العمد العدوان بالجارح، والمختار قبولها.
لنا: لو لم تكن مقبولةً، لم يمتنع التَّحكم، لأنَّ المدَّعىٰ علّةً ليس بأَوْلىٰ بالجزئية أو بالاستقلال من وصف المعارضة.
فإنْ رُجِّح بالتَّوسِعَةِ، مَنَعَ الدلالة، ولو سُلِّم، عُورض بأنَّ الأصل انتفاء الأحكام وباعتبارهما معاً.
وأيضاً، فَلَّما ثَبَتَ أَنَّ مباحِثَ الصحابة، كانت جمعاً وفرقاً.
قالوا: استقلالهما بالمناسبة يستلزم التعدد.
قلنا: تحكمٌ باطل، كما لو أَعْطىٰ قريباً عَالِماً. *
* أقول: هذا النوع الخامس عشر من الاعتراضات وهو: «المعارضة في الأصل» بمعنى آخر غير ما علل به المستدل، وهو إمّا مستقل بالتعليل كمعارضة من علل لتحريم الربا في البُر بالطعم بالكيل أو بالقوت، وإِمّا غير مستقل كمعارضة من علل وجوب القصاص في القتل بالمُثقَّل بالقتل العمد العدوان بالجارح في الأصل.(1)
واختلف الجدليون في قبول هذا النوع فقبله قوم ومنعه آخرون
ص: 485
...............
واختار المصنف الأول، والدليل عليه:(1) أَنّ الأصل إذا وجد فيه وصفان فإِمّا أَنَّ كلّ واحد منهما علّة وهو محال، أو يكون أحدهما علّة أو المجموع.
فإن كان الأول فإِمّا أَنْ تكون العلّة هو ما ذكره المستدل أو ما ذكره المعترض، والقسمان باطلان لأَنّه يكون تحكماً محضاً وأَنَّ العلّة هو المجموع، امتنع تعدّي الحكم من الأصل إلى الفرع.
فإنْ رَجّح المستدل استقلال وصفه بالتوسعة في الأحكام عند القياس به مُنِع من الدلالة(2) فإِنَّ كون اللفظ إذا استعمل في المعنى الفلاني يكثر فائدته غير موجب لدلالة عليه؛ ولو سُلِّم ذلك عُورِض بأَنَّ الأصل انتفاءِ الحكم وباعتبارهما معاً فإنَّ كلّ واحد من الوصفين مناسب، وأيضاً فَلمَّا يثبت من أَنَّ الصحابة في مباحثهم الجمع والفرق وكان مسموعاً.
قالوا(3): استقلالهما بالمناسبة يستلزم تعدد العلل، والتالي باطل
ص: 486
قال: وفي لزوم بيان نفي الوصف عن الفرع:
ثالثها: إن صرَّح به، لزم.
لنا: أَنَّه إذا لم يُصرِّح فقد أَتىٰ بما ليس ينتهضُ معه الدَّليل، فإن صرَّح، لزمه الوفاءُ بما صرَّح. *
فالمقدّم مثله.
والجواب: أَنَّ إسناد الحكم إلى أحد الوصفين المناسبين دون المجموع يكون تحكّماً كما لو أُعطي إنسان غيره وكان قريباً عالماً فإن اسناد العطاء إلى القرب أو إلى العلم ترجيح من غير مرجح.
* أقول: اختلفوا في أَنّه هل يجب على المعترض نفي ما ابداه معارضاً في الأصل عن الفرع؟ فمنهم من قال: لا يجب عليه ذلك، فإنّه إنْ كان موجوداً في الفرع افتقر المستدل إلى بيان وجوده فيه ليصح الإلحاق، وإلّا لم يصح، وإن لم يبيّن فقد انقطع الجمع.
ومنهم من قال: لابدّ له من نفيه عن الفرع لأَنّ مقصوده الفرق وذلك لا يتمّ إلّا بالنفي.
واختار المصنف التفصيل وهو أَنّ المعترض إنْ صرّح(1) به لزم البيان
ص: 487
قال: والمختار: أنّه لا يحتاجُ إلى أصلٍ، لأنَّ حاصله نفي الحكم، لعدم العلَّة أو صدُّ المستدل عن التعليل بذلك.
وأيضاً، فأصلُ المستدل أصله. *
لأنّ المعترض إنْ لم يصرح بالمنفي فقد أتىٰ بما لا ينتهض معه الدليل الّذي ذكره المستدل - وهو ذكر الوصف المعارض لما ذكره المستدل - وإِنْ صرح لزمه الوفاء بما صرح به.
* أقول: الأَولىٰ أَنَّ المعترض هاهنا لا يفتقر إلىٰ أصل للوصف الّذي عارض به لأنّ حاصل هذه المعارضة إِمّا نفي الحكم لعدم العلّة(1) الّتي ذكرها المعترض أو صدّ المستدل عن التعليل بذلك الوصف الّذي ذكره المستدل، وعلى كلا التقديرين لا يفتقر إلىٰ أصل آخر، وأيضاً فأصل المعترض هو أصل المستدل(2)من غير حاجة إلى أصل آخر.
ص: 488
قال: وجواب المعارضة: إمّا بمنع وجود الوصف.
أو المطالبة بتأثيره إنْ كان مُثْبِتاً بالمُناسَبةِ أو الشبهِ، لا بالسَّبرِ.
أو بخفائه، أو عدم انضباطه، أو منع ظهوره، أو انضباطه، أو بيان أنّه عدم معارض في الفرع، مثل المكره على المختار بجامع القتل، فيعترض بالطواعية، فيجيب: بأنّه عدم الإكراه المناسب نقيض الحكم، وذلك طردٌ، أو يبين كونه ملغىً، أو يبين استقلال ما عداه في صورةٍ بظاهر أو إجماعٍ، مثل: «لا تبيعوا الطعام بالطعام» في معارضة المطعوم بالكيل، ومثلُ: «مَنْ بدَّل دينه» في معارضة التبديل بالكفر بعد الإيمان غير متعرِّض للتعميم.
ولا يكفي إثبات الحُكم في صورةٍ دونه لجواز علّةٍ أُخرى.
ولذلك لو أبدىٰ أمراً آخر يخلف ما ألغىٰ فسد الالغاء ويسّمّىٰ تعدُّد الوضع لتعدّد أصلهما، مثل: أمانٌ من مسلم عاقلٍ، فيصح كالحُرِّ، لأنهما مظنتان لإظهار مصالح الإيمان، فيعترض بالحرية، فإنّها مظنة الفراغ للنظر، فيكون أكمل، فيلغيها بالمأذون له في القتال.
فيقول: خَلَفَ الإذن الحريّة فإنها مظنَّةٌ لبذل الوسع، أو لعلم السيد بصلاحيته.
وجوابه: الإِلغاء إلّاأَنْ يقف أحدهما، ولا يفيد الإلغاء لضعف المعنى مع تسليم المظنَّة، كما لو اعترض في الرِّدَّة بالرجولية؛ فإنها مظنةً الإقدام على القتال، فيلغيها بالمقطوع اليدين، ولا يكفي رجحان المعيّن
ص: 489
ولا كونه متعدّياً، لاحتمال الجزئية فيجي التحكُّم، والصحيح: جواز تعدد الأُصول لقوة الظن به، وفي جواز اقتصار المعارضة على أصل واحد قولان، وعلى الجميع في جواز اقتصار المستدلّ على أصل واحد قولان. *
* أقول: جواب المعارضة المذكور يكون من وجوه:
أحدها: منع وجود الوصف المعارض به في الأصل.
وثانيها: المطالبة بتأثير الوصف إِنْ كان طريق اثبات العلّة من جانب المستدل، المناسبة أو الشبه دون السبر والتقسيم لأَنّ المستدل يجب عليه أَنْ يبيِّن أَنّ الوصف الّذي أبداه المعترض غير صالح للتعليل في طريقة السبر دون الطريقين السابقين.
وثالثها: أَنَّ عنوان الوصف من الأُمور الخفية الّتي لا تناط بها الأحكام.
ورابعها: أَنَّ يبين أنّه غير منضبط.(1)
وخامسها: أَنْ يمنع ظهور الوصف أو يمنع انضباطه.
وسادسها: أَنْ يُبيِّن أَنّه عدمُ معارضٍ في الفرع، مثاله: قياس المكره على المختار في القصاص بجامع القتل، فيُعترض بالطواعية فإِنّها في الأصل مناسبة لوجوب القصاص فلا يكون القتل هو العلّة، فيُجِيبُ:(2) بأَنّه عدم الإكراه المناسب نقيض الحكم وعدم الإكراه لكونه عدم المعارضة طرد لا يصلح للعلّية.
ص: 490
...............
وسابعها: أَنْ يبين كون الوصف المعارض به ملغي في جنس الأحكام كالطول والقصر.(1)
وثامنها: أن يبين استقلال ماعداه في صورة دونه إِمّا بظاهر من النصوص أو بإجماع، وحينئذٍ يمتنع أَنْ يكون علّة مستقلة في محل التعليل وإلّا لزم الغاء المستقل واعتبار غير المستقل، هذا خلف، مثاله من علل الربا بالطعم وعورض بالكيل فيقول:
الطعم علة مستقلة بظاهر قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تبيعوا الطعام بالطعام إلّامثلا بمثل» فإن تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وكذلك من علل وجوب القتل على المرتد بالتنزيل(2) فعورض بأنّ العلّة إنّما هي التبديل بالكفر بعد الإيمان لا مطلق التبديل فيقول: التبديل مطلقاً هو العلّة بظاهر قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من بدل دينه فاقتلوه» ولا يجب على المستدل التعرّض لعموم الصور،(3) ولا يكفي في الجواب إثبات الحكم في صورة دون الوصف المعارض به لجواز اثبات الحكم بعلّة أخرى؛ وكذلك لو أبدىٰ المعترض في صورة الإلغاء وصفاً آخر يخلف ما ألغىٰ المستدل(4) فسد
ص: 491
...............
الإِلغاء ويسمى تعدد الوضع لتعدد أصل العلّة مثاله [في امان العبد]: «أمان يصحّ من مسلم عاقل» فيصح، كالحرّ(1) لأنّهما مظنتان لإِظهار مصالح الايمان، فيَعترض بالحرية فإنّها مظنة للفراغ في النظر فيكون أَكمل فلا يجوز الإلحاق فيلغها بالمأذون له في القتال فيقول المعترض خَلَفَ الإذن الحرّية فإنّه(2) مظنة لبذل الوسع والفراغ في النظر أو لعلم السيد بصلاحيته.
وجوابه: الغاء الوصف الّذي ذكره المعترض خَلَفاً للإلغاء، فإنْ ابدىٰ وصفاً آخر كان جوابه الإلغاء أيضاً، إلى أن يقف أمّا المعترض أو المستدل، ولا يكفي إلغاء الوصف بضعف المعنى مع تسليم مظنّة الحكم كما لو(3) اعترض في الردة بالرجولية فإنّها مظنة الإقدام على القتال(4) فيلغها بمقطوع اليدين(5) ولا يكفي رجحان الوصف المعيّن (الّذي عينه المستدل على ما يعارضه) ولا كونه
ص: 492
...............
متعدياً لاحتمال كونه جزءاً من العلّة(1) وإلّا لجاءَ التحكّم واختلفوا في أنّه هل يجوز تعدد الأُصول المقيس عليها أم لا؟ فمنع منه قوم لأنّه يلزم منه التشريع مع إمكان حصول المقصود بواحد منها، ومنهم من جوّز ذلك لأنّه أقوى في إفادة الظن، والقائلون بالجواز اختلفوا في أنّه هل يجوز الاقتصار في المعارضة في الأصل على أصل واحد أم لا؟ فمنع قوم منه لأنّه إذا عارضه المعترض في أصل واحد يبقىٰ قياس المستدل صحيحاً في الأصل الّذي لم يعارضه وبه يتم المقصود.
ومنهم من جوّزه لأنّ المستدَل قصد إلحاق الفرع بجميع الأُصول، فإذا فرّق المعترض بين الفرع وبعضها(2) فقد تم مقصوده.
وعلى القول بوجوب المعارضة في الجميع اختلف القائلون به فمنهم من جوّز للمستدل الاقتصار في الجواب على أصل واحد لأنّه يحصل مقصوده به، ومنهم من لم يجوّز ذلك لأنّ المستدّل التزم صحة القياس على الجميع.
ص: 493
قال: [السادس عشر] التركيب، تقدَّم.
[السابع عشر]: التَّعدية، وتمثيلها في إجبار البكر البالغة: بكرٌ، فجاز إجبارها كالبكر الصَّغيرة، فيعارض بالصِّغر، ويعدِّيه إلى الثيّب الصغيرة، [و] يرجع به إلى المعارضة في الأصل. *
* أقول: سؤال التركيب هو أحد الإيرادات الواردة على القياس وهو الوارد على القياس المركّب وقد تقدّم بيانه والجواب عنه في القياس المركب(1).
وأمّا سؤال التعدّية(2)، فهو أن يعين المعترض في الأصل معنى ويعارض به ثم يقول للمستدل: ما عللت به وإن تعدى إلى فرع مختلف فيه فالّذي عللت به أيضاً قد تعدى إلى فرع مختلف فيه وليس أحدهما أولى من الآخر، مثاله قول الشافعي في إجبار البكر البالغ: بكرُ، فجاز إجبارها كالبكر الصغيرة. وقال الحنفي: العلّة الصغر والبكارة وإن تعدّت إلى البالغة، فالصغر متعدّ إلى الثيّب الصغيرة.
وهذا السؤال يرجع إلى سؤال المعارضة في الأصل مع زيادة التسوية به في التعدّية، وجوابه جوابه.(3)
ص: 494
قال: [الثامن عشر]: منع وجودهِ في الفرع مثلُ: «أمانٌ صدر من أهلهِ في محلّه» كالمأذون، فيمنع الأهليَّة.
وجوابه: ببيان وجود ما عناه بالأهليَّة كجواب منعه في الأصل، والصحيح منع السائل من تقريره، لأنّ المستدلَّ مدَّعٍ، فعليه اثباتهُ، لئلّا ينتشر. *
* أقول: هذا أحد الاسئلة(1) وهو منع وجود الوصف المدعىٰ علّيته في الفرع، مثاله: قولهم في أمان العبد: أمان صدر من أهله في محلِّه، فيصحّ كالمأذون فيمنع المعترض الأهليّة في الفرع وهو العبد الغير المأذون له في الحرب.
وجوابه ببيان وجود ما أراد من الأهليّة في الفرع، وهو كجواب منع وجود الوصف في الأصل.
واختلفوا في أنّه هل للسائل أن يثبت هذا السؤال أم لا؟ فمنع منه المصنف لأنّ المستدل مدّعٍ (لوجوده في الفرع)، فعليه إِثباته لا على المعترض نفيه، وإلّا لانتشر الكلام.
ص: 495
قال: [التاسع عشر]: المعارضة في الفرعِ بما يقتضي نقيض الحكم على نحوِ طرق اثبات العلّة.
والمختار: قبوله، لئلَّا تختلَّ فائدة المناظرة.
قالوا: فيه قلب التناظر.
ورُدَّ: بأنّ القصد الهدم.
وجوابُه: بما يعترض به على المستدلِّ، والمختار، قبول الترجيح أيضاً: فيتعيَّن العمل، وهو المقصود.
والمختار: لا يجب الإيماء إلى الترجيح في الدليل، لأنّه خارج عنه، وتوقف العمل عليه من توابع ورودِ المعارضة لدفعها، لا أنّه منه. *
* أقول: هذا النوع التاسع عشر من الاعتراضات وهو: المعارضة في الفرع بما يقتضي نقيض حكم المستدل إِمّا بنص أو إجماع ظاهرٍأو غير ذلك من الطرق، فلابدّ من بيان تحققه وطريق كونه مانعاً أو شرطاً على أحد الطرق التي اثبت المستدل بها كون الوصف الّذي علل به علّة.
وقد اختلفوا في قبول هذا السؤال فقبله قوم وردّه آخرون، واختار المصنف الأوّل لأَنّ قصد المعترض هدم ما بناه المستدل، وهو حاصل هاهنا إذ دليله مقاوم لدليله ولا منع عليه في سلوك طريق الهدم دون طريق، ولو منع لزم سد باب فائدة البحث والاجتهاد والمناظرة.
واحتجّ الأولون بأن شأن المعترض الهدم، وذكر الدليل المعارض
ص: 496
...............
يكون استدلالاً وبياناً لا هدماً، ويلزم منه العكس.(1)
والجواب: أَنَّ القصد الهدم وإن اختلف طرائقه.
وجواب هذا السؤال أَنْ يقدح فيه المستدل بكلّ ما للمعترض أَنْ يقدح به فيه أَنْ لو كان المستدل متسمكاً به.
وإِنْ عجز المستدل عن ذلك كان له أن يدفع السؤال بالترجيح على رأي قوم لأنّه مهما ترجّح ما ذكره المستدل بوجه من وجوه الترجيحات كان العمل به متعيّناً، وهو المقصود.
ومنع قوم من ذلك لأنّ ما ذكره المعترض وإن كان مرجوحاً فهو اعتراض.
واختلفوا في أنّه هل يجب على المستدل أنْ يذكر في دليله الإيماء إلى الترجيح؟ فاثبته قوم لتوقّف العمل بالدليل عليه فكان من اجزاءِ الدليل، ولو لم يذكره لم يكن ذاكراً للدليل. ونفاه آخرون لأنّه مسؤول عن الدليل وقد اتىٰ به والترجيح خارج عن مسمّى الدليل فلا يجب ذكره، وتوقف العمل بالدليل على الترجيح من توابع ورود المعارضة لدفعها لا أنّه جزء من الدليل.
ص: 497
قال: [العشرون] الفرق وهو راجع إلى إحدىٰ المعارضتين، وإليهما معاً على قول. *
* أقول: سؤال الفرق(1) عند قوم عبارة عن المعارضة في الأصل والفرع إلّاأَنَّ بعض المتقدمين ذهب إلى أَنّه عبارة عن مجموع معارضتين؛ وعند المتأخرين أنّه عبارة عن أحدهما، وقال آخرون(2): سؤال الفرق عبارة عن بيان معنى في الأصل له مدخل في التعليل ولا وجود له في الفرع، فيرجع حاصله حينئذٍ إلى بيان انتفاء علّة الأصل في الفرع وبه ينقطع الجمع، والجواب ما تقدّم.(3)
ص: 498
قال: [الحادي والعشرون]: اختلاف الضابط في الأصل والفرع، مثل: تسبَّبوا بالشهادة فوجب القصاص كالمكره.
فيقال: الضابط في الفرع الشهادة، وفي الأصل الإكراه، فلا يتحقق التساوي.
وجوابه: أنّ الجامع: ما اشتركا فيه من التسبُّب المضبوط عرفاً، أو بأنّ افضاؤه في الفرع مثله، أو أرجح كما لو كان أصلهُ المغري للحيوان، فإنَّ انبعاث الأولياء على القتل طلباً للتشفي أغلب من انبعاث الحيوان بالإغراء بسبب نفرتِهِ، وعدم علمِهِ، فلا يضرُّ اختلاف أصلي التَّسبُّب، فإنّه اختلاف فرعٍ وأصلٍ، كما يقاس الإرث في طلاق المريض على القاتل في منع الإرث، ولا يفيد أنّ التفاوت فيهما ملغىً لحفظ النَّفس، كما أُلغي التفاوت بين قطع الأنملة وقطع الرقبة، فإنّه لم يلزم من إلغاء العالم إلغاءُ الحُرّ. *
* أقول: هذا النوع الحادي والعشرون من الاعتراضات وهو المسمّى سؤال الاختلاف الضابط في الأصل والفرع مع اتحاد حكمهما،(1) كما لو قيل في مسألة شهود القصاص: تسببوا بالشهادة إلى القتل فوجب عليهم القصاص زجراً لهم عن التسبب كالمكره، فيقول المعترض: الضابط في الفرع الشهادة وفي الأصل الإِكراه، والمقصود منهما وإنْ كان واحداً وهو الزجر فلا يمكن تعدية الحكم به لأَنَّ
ص: 499
...............
الضابط في الأصل غير موجود في الفرع، والضابط في الفرع يحتمل أن يكون مساوياً لضابط الأصل في الإفضاء إلى المقصود. وجوابه: أنّ الجامع ما اشتركا فيه من التسبب المضبوط عُرفاً أو تبيّن أَنَّ الضابط في الفرع مفض إلى المقصود(1) أكثر من إفضاء ضابط الأصل إليه أو مساو له كما لو كان أصله «المغري للحيوان» من حيث إنَّ انبعاث الولي للتشفّي والانتقام في الفرع أغلب من انبعاث الحيوان بالإغراء بسبب [غلبة] نفرته من الآدمي وعدم علمه فلا يضر اختلاف أصلّي التسبب(2) لأنّه اختلاف في فرع وأصل كما يقاس الإرث في طلاق المريض على [حرمان] القاتل في منع الإرث،(3) ولا يفيد المستدل أن يقول التفاوت بينهما ملغىٰ (4) لحفظ النفس كما أنّه ألغى التفاوت بين قطع الأَنْمُلَة وقطع الرقبة، فإنّه يلزم من إلغاء العالم إلغاء الحرّ.(5)
ص: 500
قال: [الثاني والعشرون]: اختلاف جنس المصلحة، كقول الشافعيّة: أولج فرجاً في فرجٍ مشتهىً طبعاً محرَّمٍ شرعاً، فيحدُّ كالزَّاني، فيقالُ: حكمةُ الفرع الصيانة عن رذيلة اللِّواط، وفي الأصل دفع محذور اختلاط الأنساب، فقد يتفاوتان في نظر الشَّرع، وحاصله معارضةٌ.
وجوابه كجوابه بحذف خصوص الأصل. *
* أقول: إذا اتحد الضابط بين الأصل والفرع واختلف جنس المصلحة،(1) كقول الشافعي في مسألة اللواط: أولج فرجاً في فرج مشتهى طبعاً محرّم شرعاً، فيجب الحدّ كالزاني. فللمعترض أن يقول: الضابط وإن اتحد إلّاأنَّ جنس المصلحة مختلف لأنّ الحكمة في الفرع هي صيانة النفس عن رذيلة اللواط وفي الأصل دفع محذور اختلاط الانساب وقد يتفاوتان في نظر الشارع فيناط الحكم بإحدىٰ الحكمتين دون الأُخرى، وحاصل هذا السؤال يرجع إلى المعارضة.
وجوابه كجوابه وهو أَنْ التعليل إنّما وقع بالضابط المشترك المستلزم لدفع المحذور اللازم من عموم الجماع، والتعرّض لحذف ما اختصّ به الأصل بأحد الطرائق الموجبة للحذف كالسبر والتقسيم وغير ذلك.
ص: 501
قال: [الثالث والعشرون]: مخالفة حكم الفرع لحكم الأصل، كالبيع على النّكاح وعكسه.
وجوابهُ، ببيان أنّ الأختلاف راجعٌ إلى المحلِّ الّذي اختلافه شرطٌ لا في حكم وبيان. *
* أقول: هذا الثالث والعشرون من الاعتراضات وهو أن يقال: حكم الفرع مخالف لحكم الأصل،(1) فلا قياس لأنّ القياس عبارة عن تعدية حكم الأصل إلى الفرع بواسطة الجامع بينهما، ومع اختلاف الحكم فلا تعدية، مثالهُ: قياس صحة البيع على صحة النكاح أو بالعكس، وقياس وجوب الصلاة على الصوم وبالعكس.
وجوابه ببيان أَنَّ جنس الحكم واحد والاختلاف راجع إلى المحل الّذي هو شرط في صحة القياس، فإنّ القياس لابدّ فيه من تعدد المحل وليس الاختلاف في الحكم.
ص: 502
قال: [الرابع والعشرون] القلب: قلبٌ لتصحيح مذهبه، وقلبٌ لإبطال مذهب المستدلِّ صريحاً، وقلب بالإلتزام.
الأوّلُ: لبثٌ، فلا يكون قربةً بنفسه، كالوقوف ب «عرفةَ»، فيقول الشافعيُّ: فلا يشترطُ فيه الصُّوم، كالوقوف ب «عرفة».
الثاني: عضو وضوءٍ، فلا يُكتفىٰ فيه بأقلِّ ما ينطلقُ كغيره، فيقول الشافعي: فلا يتقدر بالربع.
الثالث: عقد معاوضةٍ فيصحُّ مع الجهل بالمعوّض، كالنكاح، فيقول الشافعيُّ: فلا يشترط فيه خيار الرُّؤية، لأنّ من قال بالصحّة، قال بخيار الرؤية، فإذا انتفى اللاّزمُ، انتفى الملزوم.
والحقُّ أنّه نوع معارضةٍ اشترك فيه الأصل والجامع، فكان أولى بالقبول. *
* أقول: هذا الرابع والعشرون من الاعتراضات وهو المسمى بالقلب(1)وهو على ثلاثة أقسام:
الأوّل: قلب لتصحيح مذهب المعترض.
الثاني: قلب لابطال مذهب المستدل صريحاً.
الثالث: قلب لابطال مذهب المستدل بالالتزام.
ص: 503
...............
مثال الأوّل: قول الحنفي في مسألة الاعتكاف: لبْثٌ، فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة.
فيقول الشافعي فلا يشترط فيه الصوم كالوقوف بعرفة، فكلّ من المستدل والمعترض قد تعرض في دليله لتصحيح مذهبه إلّاأَنَّ المستدل أشار لعلته إلى اشتراط الصوم بالالتزام والمعترض أشار إلى نفي اشتراطه صريحاً وقد يكون كلّ واحد منهما يشير في دليله إلى تصحيح مذهبه صريحاً كقول الشافعي في إزالة النجاسة: طهارةُ تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث، فيقول المعترض: طهارة تراد لأجل الصلاة فتصح بغير الماء كطهارة الحدث.
مثال الثاني: قول الحنفي في مسح الرأس: عضو من اعضاء الوضوء فلا يكفي فيه بأقلّ ما ينطلق عليه الإسم كسائر الأعضاء؛ فيقول الشافعي: عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر بالربع كغيره من الأعضاء؛ فكلّ منهما قد أشار في دليله إلى إبطال مذهب خصمه وليس في ذلك ما يدلّ على تصحيح مذهب أحدهما لجواز أن يكون الحق غيرهما كمذهب مالك في وجوب الاستيعاب إلّاإذا كان في المسألة قولان لا غير، فإنّه يلزم من إبطال أحدهما صحة الآخر.
مثال الثالث: قول الحنفي في مسألة [بيع] الغائب: عقد معاوضة فيصح مع الجهل بالعوض كالنكاح. فيقول الشافعي: عقد معاوضة فلا يشترط فيه خيار الرؤية كالنكاح؛ فالمعترض هاهنا تعرض لابطال مذهب الخصم بالالتزام لأَنَّ من قال بالصحة فقد قال بخيار الرؤية، فالخيار لازم الصحة، فإذا انتفىٰ انتفت الصحة.
واختلف الناس في قبول هذا السؤال فقبله قوم من حيث إنّه يشير إلى
ص: 504
...............
ضعف الدليل لدلالته على نقيض مذهب المستدل. وردّه آخرون لأَنّ المعترض إمّا أن يعترض في دليله لنقيض حكم المستدل أو لغيره، فإن كان الأوّل [فقد] تعذّر عليه القياس على أصل المستدل لأنّه يستحيل اجتماع حكمين متنافيين مجمع عليهما في أصل واحد، وإِنْ كان الثاني لم يكن ذلك اعتراضاً على الدليل.
والحق القبول لأَنّ المعترض وإن تعرّض في الدليل لحكم يقابل حكم المستدل صريحاً فقد يمكن اجتماعهما في أصل واحد كما في إِزالة النجاسة على ما ذكرناه،(1) وإِنْ تعرّض لغيره فقد يصح القلب إذا كان ذلك لازماً عما ذكره المعترض كما في مسألة بيع الغائب، علىٰ أنَّ القلب نوع من المعارضة اشترك فيه الأصل والجامع فكان أولى بالقبول من غيره من المعارضات.
ص: 505
قال: [الخامس والعشرون] القول بالموجب، وحقيقته: تسليم الدَّليل مع بقاء النِّزاع، وهو ثلاثةٌ:
الأوّل: أن يستنتجه ما يتوهَّم أنّه محلُّ النّزاع، أو ملازمُهُ، مثل: قتل بما يقتلُ غالباً، فلا ينافي وجوب القصاص، كحرقه، فيردُّ: بأنَّ عدم المنافاة ليس محل النّزاع، ولا يقتضيه.
الثاني: أن يستنتجه إبطال ما يتوهَّمُ أنُّه مأخذُ الخصم، مثل: التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالمتوسَّل إليه، فيردُّ: إذ لا يلزم من إبطال مانعٍ انتفاءُ الموانعِ، ووجود الشرائط، والمقتضي.
والصحيح: أنّه مصدَّق في مذهبه، وأكثرُ القول بالموجب كذلك، لخفاء المأخذ، بخلاف محالِّ الخلاف.
الثالث: أن يسكت عن الصغرىٰ، وهي غير مشهورةٍ مثل: ما ثبت قربةً فشرطه النيّة كالصّلاة، ويسكت عن: «والوضوء قربةٌ» فيردُ، ولو ذكرها لم يرد إلّاالمنع.
وقولهم: «فيه انقطاع أحدهما» بعيدٌ في الثالث، لاختلاف المرادين.
وجواب الأوّل: بأنّه محلُّ النزاع، أو مستلزم، كما لو قال: لا يجوز قتلُ المسلم بالذِّمي، فيقال بالموجب، لأنّه يجب، فيقول: المعنيُّ ب «لا يجوز» تحريمه، ويلزم نفي الوجوب.
وعن الثاني: أنّه المأخذُ.
ص: 506
وعن الثالث: بأن الحذف سائغٌ. *
* أقول: هذا الخامس والعشرون من الاعتراضات وهو القول بالموجب،(1) وهو يرجع إلى تسليم ما اتخذه المستدل حكماً لدليله على وجه لا يلزم منه تسليم الحكم المتنازع فيه وهو على ثلاثة أقسام:
الأوّل: أن يكون المستدل استنتج من دليله ما يتوهم أنّه محل النزاع أو ملازمه، مثل ما إذا قال: «قتل بما يقتل غالباً» فلا ينافي وجوب القصاص كحرقه، فيقول المعترض: أقول بموجب ما ذكرت من الدليل ولا يلزم المطلوب، فإِنَّ عدم المنافاة لا يلزم منها(2) وجوب القصاص ولا نقيضه.
الثاني: أن يكون المستدل يستنتج من دليله إبطال مأخذ الخصم كما يقول:
التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص كالتوسل(3) إليه فيقول المعترض: لا يلزم من ابطال مانع إِنتفاء الموانع ووجود جميع الشرائط والمقتضي.
واختلف الجدليون(4):
فقال قوم: إنَّه يجب على المعترض ذكر مستند القول بالموجب في هذا النوع لاحتمال أن يكون هذا المأخذ عنده، فإذا علم أنّه لا يكلف بإظهار المأخذ عند إيراد القول بالموجب فقد يقول بذلك عناداً وإيقافاً لكلام المستدل.
ص: 507
...............
وقال آخرون: لا يجب ذلك لأنّه عاقل وهو أعرف بمأخذ إمامه فكان الظاهر من حاله الصدق؛ وهذا النوع من القول بالموجب أكثر من النوع الأول وأشهر بين المناظرين لأن خفاء المدارك أغلب من خفاء الأحكام فإِنّه قد يشترك الخواصّ والعوام في نقل الأحكام دون مداركها.
الثالث: أن يسكت المستدل عن الصغرى الّتي هي مشهورة مثل ما ثبت قربةً، فشرطه النيّة كالصلاة، ويهمل قوله: والوضوء قربة، فيقول المعترض: أقول بالموجب وامنع من إيجاب النيّة في الوضوء؟ ولو ذكرها المستدل لم يكن للمعترض إلّاالمنع.
وقول الجدليين في القلب انقطاع أحدهما، صحيح في الأوّلين لما ذكرنا من توجههما عليه، وبعيد في الثالث لاختلاف المرادين، فلا يرد النفي والاثبات على محل واحد لأنّ أحدهما أراد بالقربة غيرما أراد به الآخر، وحينئذٍ يصير النزاع لفظياً فلا يلزم الانقطاع.
وجواب الأول أن المستنتج إنّما هو محل النزاع أو ملازمه كما لو قال: لا يجوز قتل المسلم بالذمي فيقال بالموجب لأنّه يجب، والواجب ليس بجائز فيقول المستدل: عنيتُ بقولي «لا يجوز»، التحريمَ، ويلزم نفي الوجوب حينئذٍ.
وعن الثاني: أَنَّْ المستنتح المأخذ.(1) وعن الثالث: بأَنَّ الحذف لإحدى المقدمتين سائغ والدليل عبارة عن مجموعهما.
ص: 508
قال: والإعتراضات من جنس واحدٍ تتعدَّدُ اتفاقاً، ومن أجناسٍ، كالمنع، والمطالبة، والنقض، والمعارضة، منع أهل «سمرقند» التعدَّد، للخبط، والمترتبة منع الأكثرُ، لما فيه من التَّسليم للمتقدِّم فيتعيّن الآخر.
والمختار: جوازهُ، لأنّ التَّسليم تقديريٌّ فلتترتَّب، وإلّا كان منعاً بعد تسليمٍ فيقدَّم ما يتعلَّق بالأصل، ثمّ العلّةُ، لاستنباطها منه، ثمّ الفرع لبنائه عليهما، وتقدم النقض على معارضة الأصل، لأنّه يورد لإبطاله العلّة، والمعارضة لإبطال استقلالها. *
* أقول: الاعتراضات إمّا أن تكون من جنس واحد كالنقوض أو المعارضات في أحدى ركنّي القياس أَمّا الأصل أو الفرع، وأمّا أن تكون من أجناس متعددةٍ كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة، فإن كان الأول فقد اتفق الجدليون على جواز إيرادها معّاً لأنّه لا يلزم منها تناقض ولا خروج من سؤال إلى غيره، وإن كان الثاني فتلك الأسئلة لا تخلو إِمّا أَنْ تكون مترتبة أو غير مترتبة فإِن كانت غير مترتبة فقد جوز الجمهور الجمع بينها ومنع منه أهل «سمرقند» وأوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط وبعده عن الخبط.
وإِنْ كانت مترتبة فقد اختلفوا في جواز إيرادها معاً، فمنع الأكثر منه لأنّ المناظر إذا طالب بتأثير الوصف بعد أَنْ منع وجوده فقد نزل عن المنع وأشعر بتسليم وجوده لأنّه لو بقي على منع وجود الوصف لَمَا طالب بتأثيره لأَنّ تأثير ما لا وجود له محال، وحينئذٍ فلا يستحق المعترض جواباً إلّاعن السؤال الأخير.
وجوّزه آخرون بأنَّ يطلب تأثير الوصف بعد منع وجوده على تقدير
ص: 509
...............
التسليم لوجوده بأَنْ نقول: لو سلَّمنا وجوده تقديراً فلا نسلّم تأثيره، وإذا كان كذلك فلنرتب الأسئلة وإلّا كان منعاً لتسليم ما ثبت تسليمه. فأُولىٰ ما تُقدم سؤال الاستفسار لأَنَّ من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يتجه عليه، ثم سؤال فساد الاعتبار لأَنّه نظر في فساده من حيث الإِجمال، ثمّ فساد الوضع،(1) ثم منع الحكم في الأصل، ثم منع وجود العلّة فيه لأَنَّ العلّة مستنبطة من حكم الأصل فتأخر السؤال عنها عن السؤال عنه، ثم ما يتعلق بعلّية الوصف كالمطالبة، وعدم التأثير، والقدح في المناسبة، والتقسيم، وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط، وكون الحكم غير صالح لإفضائه إلى المقصود، ثم النقض والكسر لكونه معارضاً لدليل العلّية، ثمّ المعارضة في الأصل لأنّه متعارض لنفس العلّة فهو متأخر عن النقض(2)، ثم التعدية والتركيب لأَنَّهما في الحقيقة معارضة في الأصل، ثم منع وجود العلّة في الفرع ومخالفة حكمه لحكم الأصل ومخالفته للأصل في الضابط والمعارضة في الفرع، وسؤال القلب، والقول بالموجب.(3)
ص: 510
قال: والاستدلال يطلق على ذكر الدليل، ويطلق على نوع خاصٍّ، وهو المقصود، فقيل: ما ليس بنصٍّ، ولا إجماعٍ، ولا قياسٍ، وقيل: ولا قياس علَّةٍ، فيدخلُ نفي الفارق والتلازم.
وأمّا نحو: وُجِدَ السَّببُ أو المانع، أو: فقد الشَّرط، فقيل: دعوى دليلٌ، وقيل: دليلٌ، وعلى أنَّه دليلٌ قيل: اسْتدلالٌ وقيل: إنْ أُثْبِتَ بِغَيْرِ الثَّلاثة.
والمختار: أنّه ثلاثةٌ: تلازمٌ بين حُكمينِ من غيرِ تعيينِ علّةٍ، وإستصحابٌ، وشرع مَنْ قبلنا. *
* أقول: لمَّا فرغ من البحث في القياس شرع في الاستدلال،(1) وهو أحد الطرق المفيدة للأحكام وهو لفظ مشترك بين معان:
فيطلق على ذكر الدليل سواء كان نصاً أو إجماعاً أو قياساً، ويطلق على معنى آخر أخصَّ منه وهو المعني به هاهنا وهو دليل لا يكون نصاً ولا إجماعاً ولا قياساً، وقيل دليل لا يكون نصاً ولا إجماعاً ولا قياس علة، فيدخل تحته قياس نفي الفارق، وهو القياس في معنى الأصل على ما مرّ وقياس التلازم، وهو قياس الدلالة.
واختلفوا في مثل قولنا: وجد السبب فيوجد المسبب، أو وجد المانع أو
ص: 511
...............
انتفىٰ الشرط فينتفي الحكم هل هو دليل أم لا؟ فقال قوم أَنّه دليل، وقيل إنّه دعوى دليل، والقائلون بأَنّه دليل قال بعضهم: إنّه استدلال لأَنّه ليس بنص ولا إجماع ولا قياس، وقيل(1): إِنْ أُثبت بغير الثلاثة فهو استدلال وإلّا فلا، واختار المصنف أنَّ أنواع الدليل ثلاثة: الأوّل: التلازم بين الحكمين من غير تعيين العلّة الجامعة وإلّا كان قياساً، والثاني: الاستصحاب، والثالث: شرع من قبلنا.
ص: 512
قال: الأول: تلازم بين ثبوتين أو نفيين، أو ثبوتٍ ونفيٍ، أو نفيٍ وثبوتٍ، والمتلازمان: إن كانا طرداً وعكساً كالجسم والتأليف، جرى فيهما الأَولان طرداً وعكساً.
وإنْ كانا طرداً لا عكساً، كالجسم والحدوث، جرىٰ فيهما الأوّل طرداً، والثاني عكساً.
والمتنافيان إنْ كانا طرداً وعكساً، كالحدوث ووجوب البقاء، جرى فيهما الآخران طرداً وعكساً: فإنْ تنافيا إثباتاً، كالتّأليف والقدم، جرى فيهما الثالث طرداً وعكساً، وإن تنافيا نفياً، كالأساس والخلل، جرى فيهما الرابع طرداً وعكساً.
الأوّل: في الأحكام: من صحَّ طلاقه، صحَّ ظهاره، ويثبت بالطرد ويقوى بالعكس، ويقرّر بثبوت أحد الأثرين، فيلزم الآخر للزوم المؤثِّر وبثبوت المؤثِّر ولا يُعيّن المؤثَّر، فيكون انتقالاً إلى قياس العلّة.
الثَّاني: لو صحَّ الوضوء بغير نيَّةٍ، لصحَّ التيمُّم، ويثبت بالطرد كما تقدَّم، ويُقَرَّرُ بانتفاءِ أحد الأثرين فينتفي الآخر، للزوم انتفاءِ المؤَثِّرِ وبانتفاء المؤثَّر.
الثالث: ما كان مباحاً لا يكون حراماً.
الرابع: ما لا يكون جائزاً يكون حراماً، ويقرَّران بثبوت التنافي بينهما
ص: 513
أو من لوازمهما. *
* أقول: المتلازمان(1) إِمّا أَنْ يكونا ثبوتيين(2) أو نفيين أو يكون الملزوم ثبوتياً واللازم نفياً أو بالعكس، والمتلازمان إمّا أَنْ يتلازما طرداً وعكساً أو طرداً لا عكساً فإنْ تلازما طرداً و عكساً جرى فيهما الأَولان أعني أَنْ يكونا ثبوتيين ونفيين كالجسم والتأليف فإِنّه لمّا كان الجسم ملزوماً للتأليف وبالعكس طرداً وعكساً كان الجسم الثبوتي ملزوماً للتأليف الثبوتي طرداً و عكساً وعدم الجسم السلبي ملزوماً لعدم تأليف السلبي طرداً وعكساً.
وإنْ تلازما طرداً لا عكساً كالجسم والحدوث، فإِنَّ الجسم مستلزم للحدوث ولا ينعكس، فإنّه ليس الحدوث مستلزماً للجسم وهما ثبوتيّان تلازما طرداً و لم يتلازما عكساً فيجري فيهما:
الأوّل: أعني التلازم الثبوتي طرداً فإنّ كلّ جسم محدث، ويجري فيهما.
الثاني: عكساً أعني التلازم السلبي فإنّ عدم [الجسم وعدم الحدوث متلازمان عكساً لا طرداً فإِنّه يمكن جعلوا الأمر عن الجسم والحدوث وإنّما سلبهما يتلازمان عكساً أي يتلازم الجسم والحدوث]،(3) والمتنافيان إِنْ كانا طرداً وعكساً، (4)
ص: 514
...............
فإن كلّ محدث ليس بواجب و كلّ ما ليس بمحدث فهو واجب، فقد حصل تلازم بين ثبوت ونفي وبين نفي وثبوت كلّ واحد منهما طرداً وعكساً [لا كلّ واحد منهما عكس الآخر](1) وإِنْ تنافيا اثباتاً كالتأليف والقدم فإِنّهما متنافيان اثباتاً ويجوز رفعهما، جرى فيهما [الثبوت].
الثالث: وهو استلزام الثبوت للنفي طرداً وعكساً فإِنّ التأليف مستلزم لعدم القِدَم، هذا في الطرد؛ وفي العكس القِدَمُ مستلزم لعدم التأليف، وإِنْ تنافيا نفياً كالأساس و الخلل جرى فيهما [النفي].
الرابع: أعني التلازم بين نفي وثبوت طرداً لاستلزام عدم الأساس الخلل، وعكساً لاستلزام عدم الخلل، الأساس.
مثال الأول - وهو التلازم من بين ثبوتين في الأحكام - قولنا: من صح طلاقه صح ظهاره، وتثبت هذه الملازمة بالطرد وتقوى بالعكس،(2) وتقرر اللزوم
ص: 515
...............
بثبوت أحد الأمرين يثبت الآخر لثبوت المؤثر فإِنَّ وجود أحد الأثرين دليل على وجود المؤثر وهو دليل على وجود الأمر الآخر، وتقرر أيضاً بثبوت المؤثر من غير تعيين للمؤثر وإلّا كان انتقالاً إلى قياس العلّة ولم يكن استدلالاً.
مثال الثاني - وهو التلازم بين النفيين - قولنا: لو صحّ الوضوء بغير نيّة لصح التيمم، ويثبت بالطرد كما تقدّم في جانب الثبوت، ويقرر بانتفاء أحد الأثرين، فينتفي المؤثر فينتفي الأثر الآخر، فإنَّ الأثرَ إذا انتفىٰ انتفىٰ المؤثر أوّلاً، ويقرر أيضاً بانتفاء المؤثر.
مثال الثالث - وهو أَنْ يكون الملزوم ثبوتاً واللازم نفياً - قولنا: ما كان حلالاً لا يكون حراماً.
مثال الرابع - عكسه - وهو قولنا: ما لا يكون مباحاً يكون حراماً، ويقرر هنا بأَنّ الملازمتان بثبوت التنافي بين الحكمين أو بين لوازمهما، فإذا تقرر ذلك وثبت أحدهما، لزم انتفاء الآخر.
ص: 516
قال: ويَرِدُ على الجميع: منعهما ومنع أحدهما، ويَرِدُ من الأسئلة ما عدا أسئلة نفس الوصف الجامع.
ويختص بسؤالٍ، مثل قولهم في قصاص الأيدي باليد: أحد مُوجبي الأصل، وهو النفس، فيجب بدليلٍ الموجب الثاني، وهي الدية، وقُرِّرَ بأَنَّ الدية أحد الموجبين، فيستلزم الآخر، لأنَّ العلَّة إنْ كانت واحدةً، فواضحٌ، وإِنْ كانت متعدّدةً، فَتَلاُزمُ الحكمين دليلُ تلازم العِلَّتَيْن.
فيعترضُ: بجواز أَنْ يكون في الفرع بأُخرىٰ لا تقتضي الآخر، ويرجِّحُهُ باتساع المدارك، فلا يلزم الآخر.
وجوابُهُ: أَنَّ الأصلَ عدمُ أُخْرَىٰ، وترجيحه بأولوية الاتحاد، لما فيه من العكس.
فإنْ قال: فالأصل عدم علّة الأصل في الفرع، قال: والمتعدِّية أولىٰ. *
* أقول: لما فرغ من أنواع التلازم والتنافي شرع في الاعتراض عليها، وقوله: ويَرِدُ على الجميع منعهما، يعني به أَنَّ انواع التلازم يرد عليها المنع في(1)اللازم والملزوم أو في أحدهما إمّا في اللازم أو في الملزوم ويرد هاهنا من الأسئلة ما
ص: 517
...............
ذكر في فصل القياس ماعدا أسئلة نفس الوصف الجامع فإِنّها مختصّة بالقياس لعدم تعيين العلّة هاهنا، ويختصّ التلازم المذكور بسؤال آخر غير ما ذكرنا في قياس العلّة، وذلك إذا كان الجامع من الأصل والفرع أحد موجبي الأصل أي علّته، مثاله:
قولهم في قصاص الأيدي باليد الواحدة: إِنَّ قصاص الأيدي باليد الواحدة أحد موجبي علّة الأصل وهو تفويت النفس، وإذا كان كذلك فيجب في الفرع بدليل وجود الموجب الثاني لعلّة الأصل وهو الدية على تقدير وجودها في الفرع.
وقرَّروا وجوبها في القصاص في الفرع بأنّ الدّية أحد الموجبين فيستلزم الموجب الآخر لأنَّ علّة الموجبين في الأصل - إنْ اتحدت - فواضح لزوم المطلوب لاستلزام وجود أحد موجبيها في الفرع وجودها المستلزم لوجود الموجب الآخر وهو القصاص على الكل، وإِنْ تعددت فتلازم الحكمين في الأصل دليل تلازم العلتين، فيعترض المعترض بما ذكرنا من السؤال وهو المختص بقياس الدلالة.
وتقرير الاعتراض والجواب عنه قد تقدّم فيما مضى.
ص: 518
قال: الاستصحاب: الأكثر، كالمزني، والصيرفي، والغزالي: على صحته، وأكثر الحنفية: على بطلانه كان نفياً أصليّاً، أو حكما شرعيّاً، مثل قول الشافعية في الخارج: الإجماع على أنَّه قبله متطهرٌ، والأصل البقاء حتّى يثبت معارضٌ، والأصل عدمه.
لنا: أنّ ما تحقَّق ولم يظنَّ معارضٌ يستلزم ظنَّ البقاء.
وأيضاً: لو لم يكن الظنَّ حاصلاً، لكان الشك في الزوجيّة ابتداءً كالشك في بقائها في التحريم أو الجواز، وهو باطلٌ، وقد استصحب الأصل فيهما.
قالوا: الحكم بالطهارة ونحوها حكم شرعي، والدليل نصٌ أو إجماعٌ، أو قياس.
واُجيب: بأنّ الحكم البقاء، ويكفي فيه ذلك ولو سلَّم فالدليل الأستصحاب.
قالوا: لو كان الأصل البقاء، لكانت بيّنة النفي أولى، وهو باطل بالإجماع.
واُجيب: بأنّ المثبت يبعد غلطه، فيحصل الظنّ.
قالوا: لا ظنَّ مع جواز الأقيسة.
قلنا: الفرض بعد بحث العالم. *
...............
فذهب جماعة من الاشاعرة كالمزني والصيرفي والغزّالي و جماعة الإمامية الى صحّته، وذهب جماعة من المعتزلة كأبي الحسين البصري وأكثر الحنفية إلى بطلانه، وزعم هؤلاء أَنّه يفيد الترجيح لا غير.
واختار المصنف الأول سواء كان الاستصحاب للنفي الأصلي أو للحكم الشرعي، مثاله قول الشافعية في الخارج من غير السبيلين: متطهر قبل الخروج، فيكون كذلك بعد الخروج، لأنّ الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت دليل معارض يقتضي عدمه، والأصل عدم ذلك الدليل.
واستدل المصنف بوجهين:
الأوّل: أنَّ الاستصحاب يفيد الظن فيجب العمل به أمّا الأُولىٰ فلأنّا نعلم قطعاً أنّا متىٰ تحققنا ثبوت أمر ولم يحصل لنا ظن بوجود معارض له، فإنّا نظن قطعاً ثبوت ذلك الأمر على ما كان عليه، وأمّا الثانية فظاهرة.
الثاني: أَنّ الاجماع واقع على أنّ من شكّ في حصول الزوجية لامرأة فإنّها تكون محرّمة عليه، ومن شك في بقاء الزوجية بعد حصولها فإنّها لا تكون محرّمة عليه، فنقول: لو لم يكن الأصل البقاء لكان الأصل أمّا العدم أو يتساويا، والأول باطل وإلّا لزم تحريم الزوجة، والتالي باطل أيضاً وإلّا لزم عدم الفرق.(1)
ص: 520
...............
واحتجّ المخالف بوجوه:
أحدها: أَنَّ حصول الطهارة - لو كان - شرعي فلابُدَّ له من دليل، والدليل إمّا أَنْ يكون نصّاً أو إجماعاً أو قياساً فلا يكون الاستصحاب حجّة.
والجواب: ليس الحكم المستنبط من الاستصحاب الطهارة بل بقاء الطهارة ويكفي فيه الاستصحاب، ولو سلَّمنا لكن الدليل هو الاستصحاب ويُمنع انحصار الأدلة فيما ذكرتم فإِنْ هذا نفس النزاع هاهنا.
وثانيها: أَنَّه لو كان الأصل بقاء ما كان على ما كان لزم ترجيح بينة النفي على الاثبات، والتالي باطل اجماعاً، فالمقدّم مثله.
والجواب: أنّ بيّنة الإِثبات إنّما ترجَّحت من حيث إِنَّ الظنّ بها أقوى لأنّها بعيدة عن الغلط بخلاف بيّنة النفي.
وثالثها: إنّا بعد حصول الشرع يغلب على ظنِّنا كون كلّ صورة إمّا أَنْ تكون قد شرع فيها الحكم بالنص أو بالقياس وعلى هذا التقدير كيف يبقى الظن بالاستمرار باقياً.
والجواب: إنّا إنّما نتمسّك بالاستصحاب بعد بحث العالِم عن الأَقيسة والنصوص.
ص: 521
قال: شرع من قبلنا: المختار: أَنّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل البعث متعبِّدٌ بشرع، قيل:
نوحٍ. وقيل: إبراهيم. وقيل: موسى. وقيل: عيسى عليهم السلام. وقيل: ما ثبت أنّه شرعٌ.
ومنهم من منع، وتوقف الغزاليُّ.
لنا: الأحاديث متضافرة: كان يتعبَّد، كان يتحنثُ، كان يصلِّي، كان يطوفُ.
واستدل: بأنَّ من قبله لجميع المكلفين.
وأُجيب: بالمنع.
قالوا: لو كان، لقضت العادة بالمخالطة أو لزمتهُ.
قلنا: التواتر لا يحتاج، وغيره لا يفيد.
وقد تمتنع المخالطة لموانع؛ فيحمل عليها جمعاً بين الأدلة.
* أقول: اختلف الناس في أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم هل كان متعبّداً بشرع أحد من الانبياء قبله قبل النبوة أم لا؟ فذهب جماعة إلى أنّه كان متعبّداً، ونفاه آخرون كأبي الحسين البصري وغيره، وتوقف الغزّالي و القاضي عبدالجبار.
والمثبتون اختلفوا: فذهب بعضهم إلى أنّه كان متعبّداً بشرع نوح، وآخرون قالوا بشرع إبراهيم، وآخرون بشرع موسى، وآخرون بشرع عيسى، وآخرون
ص: 522
...............
قالوا: إنّه ما ثبت أنّه شرع.
واستدل المصنف على أَنّه كان متعبّداً بشرع من قبله بما نُقل نقلاً يقارب المتواتر أَنّه كان يصلِّي، ويحجّ، ويعتمر، ويطوف بالبيت، ويجتنب الميتة، ويذكِّي ويأكل اللحم، ويركب الحمار، وهذه أمور لا يدركها العقل فلا مصير إليها إلّامن الشرع.
واستدلَّ آخرون على هذا المذهب أيضاً بأنَّ عيسى كان مبعوثاً إلى جميع المكلَّفين والنبي صلى الله عليه و آله و سلم كان من جملة المكلفين فيكون عيسى مبعوثاً إليه.
والجواب: لا نسلم عموم دعوة من تقدّمه.
واحتجّ المخالف: بأنّه لو كان متعبّداً بشرع من قبله لكان مخالطاً لأهل تلك الشريعة للعادة الجارية بذلك أو لزمته المخالطة لارباب تلك الشريعة بحيث يستفيد منهم الأَحكام، ولمَّا كان التالي باطلاً اجماعاً فكذلك المقدّم.
والجواب: لا نسلم وجوب المخالطة لأنَّ الشرع المنقول إليه عمَّن تقدمه إنْ كان تواتراً فلا يحتاج إلىٰ المخالطة والمناظرة، وإنْ كان آحاداً فهو غير مقبول خصوصاً مع اعتقاده بأَنَّ أهل زمانه صلى الله عليه و آله و سلم كانوا في غاية الإلحاد، سلَّمنا أَنّه كان تحصل المخالطة [ولكن] قد لا تحصل لموانع تمنع منها، فيحمل ترك المخالطة لمن يقاربه من أرباب الشرائع المتقدّمة على تلك الموانع جمعاً بين الأدلة.
ص: 523
قال: المختار: أنّه بعد البعث متعبَّدٌ بما لم ينسخ.
لنا: ما تقدم، والأصل بقاؤهُ.
وأيضاً: الاتفاق على الاستدلال بقوله: «اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ»(1) .
وأيضاً: ثبت أنَّه قال: «من نام عن صلاةٍ أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها»؛ وتلا: «وَ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِذِكْرِي» (2)، وهي لموسى عليه السلام؛ وسياقه يدلُّ على الاستدلال به.
قالوا: لم يذكر في حديث معاذ وصوَّبَه.
وأُجيب: بأنّه تركه: إمَّا لأنَّ الكتاب يشمله، أو لقلّته؛ جمعاً بين الأدلَّة.
قالوا: لو كان، لوجب تعلمها والبحث عنها.
قلنا: المعتبر المتواتر، فلا يحتاجُ.
قالوا: الإجماع على أنَّ شريعته صلى الله عليه و آله و سلم ناسخةٌ.
قلنا: لِمَا خَالَفَهٰا، وإلَّا وجب نَسخُ وجوب الإيمان وتحريم الكفر.
* أقول: اختلف الناس في أنَّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بعد البعثة هل هو متعبد بما لم يُنسخ من شرع الانبياء أم لا؟ فنفاه قوم وأَثبته آخرون.
واستدل المصنف علىٰ الاثبات بوجوه:
أحدها: ما تقدّم من أنّه كان متعبّداً قبل النبوة والأصل بقاء ذلك التعبّد عملاً بالاستصحاب إلى [أن] يرد الناسخ، والتقدير أنّه لم ينسخ.
ص: 524
...............
وثانيها: أَنّه قد وقع اتفاق العلماء على وجوب القصاص بقوله تعالى:
«وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ» وهو إشارة إلى ما ورد في التوراة.
وثالثها: ما نقل عنه صلى الله عليه و آله و سلم مِنْ أَنّه قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها، ثم قرأ «وَ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِذِكْرِي».(1) وهي أمر لموسىٰ، وسياق هذه القراءة عقيب ذلك الحكم مشعر بكون المتلو دليلاً على الحكم.
احتجّ المخالف بوجوه:
أحدها: أَنّه لما بعث معاذاً إلى اليمن لم يذكر معاذ شريعة المتقدّمين مع أنّه صلى الله عليه و آله و سلم صوَّبه، ولو كان شرع من قبلنا أحد المدارك للأحكام لوجب على النبي صلى الله عليه و آله و سلم إظهاره لمعاذ حين تركه.
والجواب: أنّه ترك معاذ شرع من تقدمنا لكونه داخلاً تحت الكتاب بوجه ما، أو أنّه تركه لعلّة لا نعرفها الآن جمعاً بين الأدلة.
وثانيها: لو كانت الكتب السالفة حجّة لنا لوجب علينا تعلمها والبحث عنها كوجوب تعلم القرآن والسنة، ولمّا لم يكن كذلك ثبت أَنّا لسنا متعبّدين بها.
والجواب: أَنّ المتواتر منها هو المعتبر وهو غير محتاج إلى البحث.
وثالثها: اجمعت الأُمّة على أَنَّ شريعته صلى الله عليه و آله و سلم ناسخة لجميع الشرائع الماضية فكيف نتعبَّد نحن بها مع نسخها.
والجواب: أَنّ المنسوخ من الشرائع السابقة ليس إلّاما خالف شريعتنا، وإلّا لوجب نسخ وجوب الإيمان وتحريم الكفر لكونه من الشرائع السابقة.
ص: 525
قال: مذهب الصحابي ليس حجّةً على صحابي إتفاقاً.
والمختار: ولا على غيرهم.
وللشافعيّ، ولأحمد قولان في أنَّه حجَّةٌ متقدِّمة على القياس.
وقال قوم: إنْ خالف القياس.
وقيل: الحجّةُ قول أبي بكر وعمر.
لنا: لا دليل عليه، فوجب تركه.
وأيضاً: لو كان حجّة على غيرهم، لكان قول الأعلم الأفضل حجَّةً على غيره، إذ لا يُقدَّرُ فيهم أكثر.
واستدلَّ: لو كان حجّة لتناقضت الحُجج.
واُجيب: بأنّ الترجيح أو الوقف أو التخيير يدفعه كغيره.
واسْتُدلَّ لو كان حجَّةً، لوجب التقليد مع إمكان الاجتهاد.
واُجيب: إذا كان حجّة فلا تقليد. قالوا: «أصحابي كالنجوم»، «اقتدوا باللذين من بعدي».
واُجيب: بأنّ المراد المقلِّدون، لأنّ خطابه للصَّحابة.
قالوا: ولَّىٰ عبدالرحمن عليَّاً عليه السلام، بشرط الاقتداء بالشيخين، فلم يقبل، وولَّى عثمان، فقبل، ولم ينكر، فدلَّ على أنّه إجماعٌ.
قلنا: المراد متابعتهم في السيرة والسياسة، وإلّا وجب على
ص: 526
الصحابي التقليد.
قالوا: إذا خالف القياس، فلابدّ من حجَّةٍ نقليّةٍ.
واُجيب: بأن ذلك يلزم الصحابي، ويجري في التابعين مع غيرهم. *
* أقول: اتّفق الناس على أَنَّ مذهب الصحابي ليس حجّة في حق صحابي آخر،(1) وإنّما الخلاف في أنّه هل هو حجّة على غير الصحابي أم لا؟ فذهبت الأشاعرة والمعتزلة والشافعي في أحد القولين عنه وأحمد في إحدىٰ الروايتين إلى أَنّه ليس بحجّة، وذهب مالك والرازي وبعض أصحاب أبي حنيفة إلى أنّه حجّة مقدّمة على القياس؛ وذهب قوم إلى أَنّه حجّة إِنْ كان مخالفاً للقياس وإلّا فلا، قال آخرون أَنَّ الحجّة من اقوال الصحابة إنّما هي قول أبي بكر وعمر.
والدليل على أنّ قول الصحابي ليس حجة مطلقاً أَنّه لا دليل على كونه حجة فوجب نفيه، وأيضاً لو كان قول الصحابي حجة لكان قول الأَعلم حجة على غيره، والتالي باطل فالمقدم مثله، وبيان الشرطية أَنَّ الصحابة لا يُقدَّر فيهم أكثر من العلم والدين فلو كان بلوغ النصيب الوافر من هذين مقتضياً لتقليد الغير لكان كلّ من اتصف بهما، كذلك؛ وأَمّا بطلان التالي فبالاتفاق.
وقد احتجّ القائلون بأَنَّ قول الصحابي ليس بحجة بوجوه ضعيفة استدرك عليها المصنف:
ص: 527
...............
منها: أَنّه لو كان قول الصحابي حجة لتناقضت الحجج، والتالي باطل فالمقدم مثله، وبيان الشرطية أَنّ الصحابة كثيراً ما اختلفوا في المسائل وليس قول البعض أولىٰ من قول البعض الآخر حتى يكون أحدهما حجة والآخر ليس بحجة؛ وبطلان التالي ظاهر.
والجواب: المنع من الملازمة بناءً على أنَّ المكلّف يرجِّح أحد القولين على الآخر أو على القول بالوقف أو التخيير كما في غيره من الأدلة المتعارضة.
ومنها: أَنّ قول الصحابي لو كان حجة لوجب التقليد مع التمكّن من النظر والاجتهاد، والتالي باطل فالمقدم [مثله].
بيان الشرطية أَنّ المجتهد إذا رأى قول الصحابي قاضياً بحكم وكان قول الصحابي حجّة وجب عليه الانقياد إليه والقبول منه، وبطلان التالي ظاهر بالإجماع.
والجواب: لا نسلِّم الملازمة، وبيان المنع: أَنَّ قول الصحابي إذا كان حجة فالمتبِّع له متبِّع للحجة وليس بمقلّد.
واحتجَّ القائلون بأَنَّه حجة بوجوه:
أحدها: قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»،(1) جعل الاهتداء لازماً للاقتداء و لا يعني بكونه حجة سوى هذا.
وثانيها: قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» أمر باتباعهما فيكون قولهما حجة.
ص: 528
...............
والجواب عنهما بعد تسليم النقل: أَنّه صلى الله عليه و آله و سلم خاطب بهذا المقلدين لا المجتهدين، وبيانه: أَنّه خطاب للصحابة، وبالإجماع لا يجوز للصحابي المجتهد تقليد صحابي آخر.
وثالثها: أَنّ عبد الرحمن بن عوف ولَّىٰ علياً عليه السلام بشرط الاقتداء بالشيخين فأبىٰ، ووَلّىٰ عثمان فقبل، فحصل الاتفاق على ذلك من غير انكار فكان إجماعاً.
والجواب: المراد بالاقتداء بالشيخين سيرتهما وسياستهما لا اتباعهما في المسائل الاجتهادية، وإلّا وجب على الصحابي اتّباعُ غيره من الصحابة، وذلك باطل بالإجماع.
واحتجّ من قال بأَنّه حجّة إذا خالف القياس: بأَنّ قول الصحابي إذا كان مخالفاً للقياس فلابد وأَنْ يكون لدليل نقلي وإلّا كان فسقاً والصحابي منزّه عن ذلك، وإذا كان لدليل نقلي كان حجّة.
والجواب: بأَّن ذلك يلزم الصحابي دون غيره حتى يظهر الدليل، وينتقض بالتابعي فإِنّه إذا قال قولاً بخلاف القياس فلابد وأَنْ يكون لدليل نقلي وإلّا كان فاسقاً وهو منزه عن ذلك، فإذا كان لدليل نقلي وجب على غير التابعي اتباعه، ولمّا كان ذلك باطلاً فكذا ما قلتموه.
ص: 529
قال: الاستحسانُ: قال به الحنفيّة والحنابلة، وأنكره غيرُهم حتّى قال الشافعي: من استحسن فقد شرَّع، ولا يتحقّق استحسانٌ مختلفٌ فيه فقيل:
دليلٌ ينقدح في نفس المجتهد تعسُر عبارته عنه.
قلنا: إنْ شكَّ فيه فمردودٌ، وإنْ تحقّق، فمعمولٌ به اتفاقاً.
وقيل: هو العدول عن قياس إلىٰ قياس أقوى، ولا نزاع فيه.
وقيل: تخصيص قياسٍ بأقوى منه، ولا نزاع فيه.
وقيل: [هو] العدول إلى خلاف النظير، لدليل أقوى، ولا نزاع فيه.
وقيل العدول عن حكم الدليل إلى العادة، لمصلحة الناس، كدخول الحمام، وشرب الماء من السقاء.
قلنا: مستندهُ جريانُه في زمانهِ أو زمانهم، مع علمهم من غير انكارٍ أو غير ذلك، وإلّا فهو مردودٌ، فإنْ تحقّق استحسانٌ مختلف فيه، قلنا: لا دليل يدل عليه، فوجب تركه.
قالوا: «وَ اِتَّبِعُوا أَحْسَنَ»(1) .
قلنا: أي: الأظهر والأَولى، وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند اللّٰه حسنٌ» يعني: الإجماع، وإلّا لَزِمَ العَوَامّ. *
...............
وجماعة من الحنابلة، وانكره الشافعي والإمامية حتى أَنَّ الشافعي قال: «من استحسن فقد شرَّع».
ولا يتحقق استحسان مختلف فيه لأَنَّ الخلاف لم يقع في اطلاق لفظه بل اختلفوا في المعنى، وفي التحقيق كلّ من فسر(1) بشيء فذلك الشيء متفق على العمل به، فقال بعض الحنفية في تحديده أَنّه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه فلا يقدر على اظهاره، والتحقيق مع هؤلاء أَنْ نقول: إنْ شكّ المجتهد في كونه دليلاً فهو مردود اتفاقاً، وإنْ تحقق أَنّه دليل فهو معمول به اتفاقاً فلا اختلاف حينئذٍ في الاستحسان على هذا التفسير.
وقال آخرون: إنَّ الإِستحسان هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى منه.
ولا نزاع أيضاً في العمل بمثل هذا عند القائلين بالقياس، فلا اختلاف في العمل بالاستحسان على هذا التفسير أيضاً.
وقال آخرون: إِنّه تخصيص قياس بأقوى منه، ولا نزاع فيه أيضاً.
وقال أبو الحسن الكرخي: الإستحسان هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى، ولا نزاع في هذا أيضاً.
وقيل: العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس كدخول الحمّام من غير تقدير مدة السكون، وشرب الماء من السقاء من غير تقدير له ولعوضه.
والتحقيق فيه أَنْ نقول: العادة إنْ عُلِم أَنّها جرت في زمانه صلى الله عليه و آله و سلم من غير انكار أو في زمن الصحابة من غير انكار فهي حجّة اتفاقاً، وإلّا فهي مردودة.
ص: 531
قال: المصالح المرسلة: تقدّمت.
لنا: لا دليل، فوجب الردُّ.
قالوا: لو لم تعتبر، لأدَّى إلى خلوّ وقائع.
قلنا: بعد تسليم أنّها لا تخلو، العمومات والأقيسة تأخذها. *
واعلم أَنَّ المصنف رد على القائلين بالاستحسان بتقدير أَنْ يفسر بتفسير يقع فيه الخلاف، بأَنْ قال: لا دليل على العمل به فيجب تركه لأنّ الأدلة المستفاد منها الأحكام معدودة، وليس الاستحسان واحداً منها.
واحتج القائلون بالاستحسان بقوله تعالى: «وَ اِتَّبِعُوا أَحْسَنَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ»(1).
والجواب: أَنَّ المراد بالأحسن هاهنا ليس الأَولى والأظهر، وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّٰه حسن»(2) عنىٰ به ما اجمع عليه أهل الحل والعقد، وإلّا لزم أن يكون العوام إذا استحسنوا شيئاً أنْ يكون حجّة، وليس كذلك بالاتفاق.
* أقول: قد بيَّنا أنّ المصلحة إذا لم يعتبرها الشارع بالاعتبار والإِلغاء تسمّى بالمناسب المرسل.(3) وقد اتّفق الجمهور على ردِّه، ونُقل عن مالك قبوله؛ واستدل المصنف
ص: 532
قال: الاجتهاد: في الاصطلاح: استفراغُ الفقيه الوسع لتحصيل ظنٍّ بحكمٍ شرعيّ، والفقيه تقدّم، وقد علم المجتهد والمجتهد فيه. *
على الأول بأنّه لا دليل عليه فيجب ردُّه. واحتجَّ المخالف بأَنّه لو لم يُعتبر لأدّىٰ إلى خلو وقائع عن الأحكام،(1) والتالي باطل فالمقدّم مثله.
والجواب: بعد المنع من بطلان التالي إنّا نقول: إنّها لا يخلو فإِنَّ العمومات والأقيسة(2) تتناول جميع الوقائع.
* أقول: الاجتهاد(3) في اصطلاح الناس عبارة عن: «استفراغ الوسع في أمر من الأُمور مستلزم للمشقة» كما يقال: اجتهد في نقل الحجر العظيم، ولا يقال في حمل الصغير أَنّه اجتهد فيه.
وفي اصطلاح الفقهاء: «عبارة عن استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي»،(4) فالفقيه قد عُرِّف فيما تقدّم،(5) وما في الرسم تقييد
ص: 533
قال: مسألة: اختلفوا في تجزؤ الاجتهاد:
المثبت: لو لم يتجزأ، لعلم الجميع، وقد سئل مالك عن أربعين مسألة، فقال في ستٍّ وثلاثين منها: لا أدري.
واُجيب: بتعارض الأدلَّة، وبالعجز عن المبالغة في الحال.
قالوا: إذا اطّلع علىٰ أمارات مسألةٍ، فهو وغيره سواءٌ.
وأُجيب: بأنّه قد يكون مالم يعلمه متعلِّقاً.
النافي: كلُّ ما يُقدَّر جهله يجوز تعلُّقه بالحُكم المفروض.
واُجيب: الفرض حصول الجميع في ظنّه عن مجتهدٍ، أو بعد تحرير الأئمة للأمارات. *
للاستفراغ بالاجتهاد، والمجتهد قد عُرِّف وهو الفقيه، والمُجْتَهَد فيه قد عُرِّف وهو الأحكام الشرعية.
* أقول: اختلف الناس في أَنّه هل يتجزأ الاجتهاد أم لا؟
فذهب جماعة إلى أَنَّ الإجتهاد يتجزأ فيجوز أَنْ نقول: العالم نال(1) منصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون البعض، فمن نظر في القياس فله أَنْ يفتي في
ص: 534
...............
مسألة قياسية وإِنْ لم يكن ماهراً في الحديث، ومن عرف مسألة الشركة في المواريث فهو فقيه في علم الفرائض وإِنْ لم يكن قد حصَّل الاخبار الّتي وردت في تحريم المسكرات.
وقال آخرون: أَنّ الاجتهاد منصب لا يتجزأ.
احتجّ الأوّلون: بأَنّ مالكاً كان فقيهاً بالاتفاق مع أَنّه قد سُئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين منها: «لا أدري!» فلو اشْتُرط في الفقيه العلم بكلّ الفتاوى لما جاز لمالك أنْ يفتي، وقد أَجاب في هذه المسائل بلا أدري.
وأجاب المصنف عن هذا: بأَنّ مالكاً إنّما أجاب بذلك في تلك المسائل لكثرة نظره وتعارض الأدلة عنده، لا لعدم تمهرِّه في تلك المسائل أو أَنّه قد عجز في تلك الحال عن المبالغة في النظر، وإِنْ كان في وقت آخر ناظراً.
واحتجُّوا أيضاً: بأنّه إذا اطَّلع علىٰ دليل مسألة على الإِستقصاء استوىٰ هو والعالم بكلّ المسائل في العلم بتلك المسألة، فكما جاز للثاني الإفتاء فكذا الأوّل.
وأجاب: بأنّه يجوز أن يكون في بعض المسائل الّتي لا يعلمها، تعلق بهذه المسألة.
احتجّ الباقون(1): بأَنّ كلّ مجهول يجوز أَنْ يكون له تعلق بالمسائل المعلومة، فلا يجوز الإفتاء في حكم معيّن لجواز تعلق ذلك المجهول به.
وأجاب: بأنّ التقدير أَنْ المجتهد يغلب على ظنِّه حصول جميع الأمارات له إمّا عن مجتهد أوبعد تحرير الائمة المتقدمين للأمارات.
ص: 535
قال: مسألة: المختار: أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان متعبَّداً بالاجتهاد.
لنا: مثل: «عَفَا اَللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» «ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرت لَمَا سقتُ الهدي» و لا يستقيم ذلك فيما كان بالوحي.
واستدلَّ أبو يوسف: بقوله: «لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اَللّٰهُ» وقرَّره الفارسيّ.
واستدلَّ: بأنّه أكثر ثواباً، للمشقة فيه، فكان أولى.
وأُجيب: بأنّ سقوطه لدرجة أعلىٰ.
قالوا: «وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ».
واُجيب: بأنَّ الظاهر ردُّ قولِهِم: افتراه، ولو سُلِّم، فإذا تعبّد بالاجتهاد بالوحي، لم ينطق إلّاعن وحي.
قالوا: لو كان لجاز مخالفته، لأنَّها من أحكام الاجتهاد.
واُجيب: بالمنع كالإجماع عن اجتهادٍ.
قالوا: لو كان، لما تأخَّر في جوابٍ.
قلنا: لجواز الوحي أو لاستفراغ الوسع.
قالوا: القادر على اليقين يحرم عليه الظنُّ.
قلنا: لا يُعْلم إلَّابعد الوحي، فكان كالحكم بالشهادة. *
* أقول: اختلف الناس في أَنَّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم هل كان متعبّداً بالاجتهاد أم لا؟(1)
ص: 536
...............
فذهب أحمد بن حنبل وأبو يوسف إلى أنّه كان متعبّداً، وقال أبو علي الجُبّائي وأبو هاشم أنّه لم يكن متعبّداً به، وهو مذهب الإمامية كافّة.
وذهب آخرون منهم القاضي عبد الجبار وأبوالحسين البصري إلى أَنّه يجوز ذلك من غير قطع به.
وقال آخرون: إنّه كان متعبّداً بالاجتهاد في أمور الحرب دون الأحكام.
واختار المصنف الأول واستدل بقوله تعالى: «عَفَا اَللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ»(1) عاتبه على ذلك فلا يكون بالوحي، وروي عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال - حين أمر الصحابة بالتمتع وتخلّفه عنهم -: «لو استَقْبَلتُ من أمري ما استدبرت لَمَا سقت الهدي»(2) وهذا لا يصحّ إلّاعلى تقدير أن يكون قد فعل ذلك بالاجتهاد.
واستدل أبو يوسف على ذلك أيضاً بقوله تعالى: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اَللّٰهُ»(3) وهو عام في المنصوص والمستنبط لأَنّ كلّ واحد منهما يصدق عليه أَنّه مما أراه اللّٰه له؛ وقرر أبو علي الفارسي هذا الدليل فقال: لا يجوز أَنْ يكون المراد بالإراءة هاهنا إراءة العين لاستحالتها في الأحكام والإِعلام وإلّا لوجب ذكر المفعول الثالث لوجود المفعول الثاني وهو الضمير الراجع إلى ما قارب(4) المعنى ليحكم بين الناس بما جعله اللّٰه لك
ص: 537
...............
رأياً.
ولقائل أَنْ يقول: يجوز أنْ تكون «ما» مصدرّية فلا ضمير يرجع إليها فانتفىٰ الدليل الدال على فساد إراءة الاعلام.
واستدل آخرون: بأَنَّ الحكم بالاجتهاد سلوك لأشق الطريقين فيكون ثوابه أعظم فلا يجوز خلوّ منصب النبوة منه.
والجواب: أَنَّ الاجتهاد إنّما سقط عنه صلى الله عليه و آله و سلم لحصول درجة هي أعلى وهي حصول الحكم بالقطع لا بالظن.
واحتجَّ القائلون بأنّه لم يكن متعبّداً بالاجتهاد بقوله تعالى: «وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ»(1) اخبر اللّٰه تعالى بأَنَّ جميع ما يحكم به فإنّه إنّما يكون بوحي يوحى إليه.
وأجاب المصنف بوجهين:
الأوّل: أَنَّ الظاهر من سياق هذه الآية إنّما هو ردّ قولهم أَنّه مفتر.(2)
الثاني: أَنّه إذا كان متعبّداً بالاجتهاد وتعبده به مستفاداً من الوحي لم ينطق إلّا عن وحي.
وهذان الوجهان ضعيفان:
أَمّا الأوّل: فلأنّه ليس في ذكر الآيات المتقدّمة ذكر الإفتراء حتى يكون
ص: 538
...............
ذلك ردّاً لقولهم.
وأَمّا الثاني: فضعيف أيضاً والّا لزم أَنْ يكون المستنبط لحكم بالقياس قد حكم بالنصّ، لأنّ العمل بالقياس مستفاد عندهم من النص، ولا شكّ في ضعف ذلك.
واحتجّ المانعون بوجه آخر فقالوا: لو جاز أَنْ يكون متعبّداً بالاجتهاد لجاز لنا مخالفته، والتالي باطل فالمقدّم مثله، بيان الشرطية: أنّ الحكم المجتهد فيه يجوز للمجتهد مخالفة غيره من المجتهدين إجماعاً، وبيان بطلان التالي ظاهر.
والجواب: لا نسلم الشرطية وينتقض ما ذكرتم بالإجماع الّذي حصل عن اجتهاد فإنّه لا يجوز مخالفته.
واحتجّوا أيضاً: بأنّه لو جاز أَنْ يكون متعبّداً بالاجتهاد لما توقف في الأحكام وتأخير جوابه.
وأجاب المصنف: بأَنّ التأخير يجوز أن يكون لتجويزه الوحي أو أَنْ يكون لاستفراغ الوسع في الاجتهاد.
واحتجّوا أيضاً: بأَنّ القادر على معرفة الحكم بالقطع يحرم عليه الظن فيه لأَنّه يكون سلوكاً لأضعف الطريقين الّذي لا يؤمن معه الخطأ مع وجود أقواهما المأمون معه الخطأ.
وأجاب المصنف: بأَنّ الحكم إنّمايكون معلوماً بعد الوحي أَمّا قبله فلا، فجاز فيه استعمال الظن كالحكم بالشهادة.
ص: 539
قال: مسألة: المختار: وقوع الاجتهاد ممَّن عاصره ظنّاً.
وثالثها: الوقف.
ورابعها: الوقف فيمن حضره.
لنا: قول أبي بكر: لاهَا اللّٰه، إذنْ لا يعمد إلى أسدٍ من أُسد اللّٰه يقاتلُ عن اللّٰه ورسولهِ، فيعطيك سَلَبَهُ فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «صَدَقَ».
وحكَّم سعد بن معاذ في بني قُريظة، فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «لقد حكمت بحكم اللّٰه مِنْ فوقِ سبعةِ أَرْقِعَةٍ».
قالوا: القدرة على العلم تمنعه الاجتهاد.
قلنا: تثبت الخِيَرَةُ بالدليل.
قالوا: كانوا يرجعون إليه.
قلنا: صحيح، فأين مَنْعُهُم؟ *
* أقول: اختلف الناس في أَنّه هل يجوز الاجتهاد لمعاصريه صلى الله عليه و آله و سلم أم لا؟ فمنع منه قوم وجوّزه آخرون، والمجوزون منهم من قصر ذلك على القضاة والولاة الغائبين ومنهم من اطلق الجواز، وأبو علي الجبّائي توقف في أَنّه هل وقع التعبّد به سمعاً أم لا؟ والقاضي عبد الجبار توقف في أَنّه هل وقع التعبّد به سمعاً للحاضرين دون الغُيّب.
واختار المصنف الوقوع لا قطعاً بل ظناً.
واستدل بقول أبي بكر في حق أبي قَتَادَةَ - لما قتل مشركاً وأخذ سَلَبَه
ص: 540
...............
غيره -: لاها اللّٰه إذاً لا يَعمدُ إلى أسدٍ من أُسد اللّٰه يقاتل عن اللّٰه ورسوله فيعطيك سَلَبَه،(1) فقال له رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم «صدق» وكان قول أبي بكر عن الاجتهاد.
وأيضاً رُوي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه حكّم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتلهم وسبي ذراريهم فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «حكمت بحكم اللّٰه من فوق سبعة أَرْقِعَةٍ»(2)وذلك يدلّ على تصويبه في الاجتهاد وتجويزه.
واحتجّ المانع بوجهين:
الأوّل: أَنَّ المعاصرين متمكنون من معرفة الحكم قطعاً فلا يكتفىٰ بالظن الّذي هو ثمرة الاجتهاد.
والجواب: أَنّ (3) الخيرة(4) نفس العمل بالقطع وثبت العمل بالاجتهاد(5)بالدليل الّذي تقدّم في حق النبي صلى الله عليه و آله و سلم.
الثاني: أَنَّ الصحابة كانوا يرجعون إليه في الأحكام ولو كان الاجتهاد
ص: 541
قال: مسألة: الإجماع على أنَّ المصيب في العقليات واحدٌ، وأنَّ النافي ملَّة الإسلام مخطئٌ آثم كافرٌ، اجتهد، أو لم يجتهد.
وقال الجاحظ: لا إثم على المجتهد، بخلاف المعاند، وزاد العنبري:
كلُّ مجتهدٍ في العقليات مصيبٌ.
لنا: إجماع المسلمين على أَنَّهم من أهل النّار، ولو كانوا غير آثمين لَمَا ساغ ذلك.
واستُدل: بالظواهر.
واُجيب: باحتمال التخصيص.
قالوا: تكليفهم بنقيض اجتهادهم ممتنع عقلاً وسمعاً لأنَّه ممّا لا يطاق.
واُجيب: بأنّه كلَّفهم الإسلامَ، وهو من المتأتَىٰ، المعتاد، فليس من المستحيل في شيء. *
سائغاً لما رجعوا إليه دائماً.
والجواب: أَنَّ رجوعهم إليه لا يمنع من الاجتهاد لجواز أَنْ يكونوا قد سلكوا أحد الطريقين الدالّين على الحكم أو أَنّهم اجتهدوا ولم يقفوا على الحكم؛ وبالجملة فالرجوع إليه ليس فيه منع لهم من الحكم بالاجتهاد.
* أقول: أجمع المسلمون على أنّه ليس كلّ مجتهد في العقليات مصيباً بل المصيب واحد، وأَنَّ ما عداه مخطىء آثم كافر فيما ينافي الملّة سواء اجتهد
ص: 542
...............
ولم يصل إلى الحق أو لم يجتهد، ونقل عن الجاحظ خلاف هذا الإجماع فإنّه قال:
المجتهد إذا بلغ واستقصىٰ في إِجتهاده ولم يظفر بالحق فإِنّه غير مأثوم، ومذهب عبيد اللّٰه بن الحسن العنبري من المعتزلة وزاد فيه: أَنّ كلّ مجتهد في العقليات مصيب؛ وهذه الزيادة فاسدة لأَنّ الإِصابة إنْ عنىٰ بها هاهنا الوصول إلى الحق فهو محال وإلّا لزم حقيّة اعتقادي الضدّين وإِنْ عنى بها سقوط العقاب فهو مذهب الجاحظ.
واستدلَّ الجمهور باجماع المسلمين على أنّ المخطئُ في الإِعتقاد سواء كان عن اجتهاد أو لا عن اجتهاد، من أهل النار فلو كان غير مأثوم لما ساغ هذا الإجماع.
واستدلوا أيضاً بالظواهر الواردة في القرآن كقوله تعالى: «ذٰلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّٰارِ»(1) وقوله: «وَ ذٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدٰاكُمْ»(2) وغير ذلك من الآيات الدالّة على توعّد المخطئين في الاعتقاد.
والمصنف لم يسلك هذه الطريقة لأنَّ الأَلفاظ محتملة للتخصيص فلا تبقىٰ الحجّة قطعية.
واحتجّ المخالف بأَنّه لو كانوا مخطئين لزم تكليف ما لا يطاق والتالي باطل فالمقدّم مثله، بيان الشرطية: أَنّهم لو كُلِّفوا بنقيض ما أدّىٰ إليه اجتهادهم لزم ما ذكرنا وأمّا بطلان التالي فبالعقل والسمع.
والجواب: أنَّهم كُلِّفوا بالإسلام وهو ممكن غير مستحيل، فاندفع ما ذكره.
ص: 543
قال: مسألة: القطعُ: لا إثم على مجتهدٍ في حُكمٍ شرعي اجتهادي، وذهب بشرُ المريسي والأصمّ إلى تأثيم المخطئ.
لنا: العلمُ بالتواتر باختلاف الصحابة المتكرّر الشائع من غير نكيرٍ، ولا تأثيمٍ لمعيَّنٍ ولا مبهمٍ، والقطع: أنّه لو كان إثمٌ، لَقَضَتِ العادة بذكره.
واعتُرِضَ: كالْقِيَاس. *
* أقول: ذهب الجمهور إلى أَنَّ المخطئ في المسائل الاجتهادية الفرعية في الأحكام الشرعية غير آثم،(1) وذهب بشر المريسي(2) والأصمّ (3) إلى تأثيم المخطئ فيه وهو منقول عن الإماميّة.(4)
واستدل المصنف بالعلم الحاصل بالتواتر بأَنّ الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة لا تحصىٰ، وساغ ذلك بينهم من غير إنكار ولا تأثيم لواحد من الصحابة
ص: 544
...............
بعينه ولا لواحد منهم لا بعينه، ومن المعلوم قطعاً أَنّه لو كان أحدهم آثماً لقضت العادة بذكره.
واعْتُرض على هذا المخالف بمنع عدم الانكار من الصحابة(1) وكيف يصحّ ذلك مع أنّه قد اشتهر انكار بعضهم على بعض في العمل بالقياس.
ص: 545
قال: مسألة: المسألة الّتي لا قاطع فيها، قال القاضي والجبَّائي: كلُّ مجتهدٍ فيها مصيبٌ، وحكم اللّٰه فيها تابع لظنِّ المجتهد.
وقيل: المصيب واحدٌ، ثمَّ منهم من قال: لا دليل عليه كدفين يصاب.
وقال الأُستاذ: إنّ دليله ظنيٌّ، فمن ظفر به فهو المصيب.
المريسيُّ والأصمُّ: دليلُهُ قطعيٌّ، والمخطئ آثم.
ونقل عن الأئمة الأربعة التخطئة والتصويب، فإن كان فيها قاطعٌ فقصّر، فمخطئ آثم، وإن لم يقصّر، فالمختار مخطئ غير آثمٍ.
لنا: لا دليل على التصويب، والأصل عدمه.
وصوّب غير معيَّنٍ، للإجماع.
وأيضاً: لو كان كلٌّ مصيباً، لاجتمع النقيضان، لأنَّ استمرار قطعه مشروطٌ ببقاء ظنِّه، للاجماع على أنّه لو ظنَّ غيره، وجب الرجوع، فيكون ظانَّاً عالما بشيءٍ واحد. *
* أقول: المسألة الظنية من الفقه إذا لم يوجد فيها نص اختلف الناس فيها، فقال القاضي أبو بكر والجبائيان وأبو الهذيل: إنّ كلّ مجتهد فيها مصيب وليس للّٰه تعالىٰ فيها حكم معين بل حكم اللّٰه تابع لظن المجتهد فإذا اجتهد واحد وغلب على ظنه التحريم كان الحكم في حقّه التحريم، وإذا اجتهد آخر وغلب على ظنه الحلّ كان الحكم في حقه الحلّ.
ص: 546
...............
وقال آخرون: إنّ المصيب واحد، وهو مذهب جماعة من الأشاعرة والمعتزلة وكافّة الإمامية، ثمّ اختلف هؤلاء فقال بعضهم: إنّ ذلك الواحد ليس عليه دليل بل هو كدفين يظفر به اتفاقاً بعد الاجتهاد فمن ظفر بذلك الدليل فهو مصيب ومن اخطأه فهو مخطئ.
وقال الأُستاذ:(1) إِنَّ عليه دليلاً ظنياً فمن ظفر به فهو المصيب.
وقال بشر المريسي والأصمّ: إِنَّ عليه دليلاً قطعياً فمن ظفر به فهو المصيب ومن اخطأه فهو آثم.
ونُقل عن الشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة والأشعري، التخطئة والتصويب معاً.
وإِنْ كان في المسألة نصّ قاطع فقصّر المجتهد في اجتهاده ولم يظفر بالحق فهو مخطئ آثم، وإِنْ لم يقصّر ولم يظفر بالحق فهو مخطئ غير آثم عند المصنف.
واسْتُدِلَّ علىٰ أَنّ المصيب واحد بأَنّه لا دلالة على تصويب الجميع مع أَنّ الأصل عدمه فيجب تركه وتصويب واحد غير معيّن، للاجماع وإلّا لزم تخطئة الجميع، وهو محال.
وأيضاً لو كان كلّ مجتهد مصيباً لزم اجتماع النقيضين لأَنّ المجتهد إذا غلب على ظنّه أَنّ الحكم هو الحِلَّ، فلو قطع بأنّه مصيب لزم منه القطع بالمظنون لأَنّ القطع الحاصل له مستمر باستمرار ظنه للاجماع على أنّه إذا تغير ظنه وجب الرجوع إلى ما تغير إليه ظنه وذلك يستلزم العلم بالمظنون حال كونه مظنوناً، هذا خلف.
ص: 547
قال: لا يقال: الظنُّ ينتفي بالعلم، لأنّا نقطع ببقائه، ولأنّه كان يستحيل ظنُّ النقيض مع ذكره.
فإن قيل: مشترك الإلزام، لأنَّ الإجماع على وجوب اتباع الظنِّ، فيجب الفعل أو يحرم قطعاً.
قلنا: الظنَّ متعلِّقٌ بأنّه الحكم المطلوب والعلم بتحريم المخالفة، فاختلف المتعلقان، فإذا تبدَّل الظنُّ زال شرط تحريم المخالفة.
فإن قيل: فالظنّ متعلِّق بكونه دليلاً، والعلم بثبوت مدلوله، فإذا تبدل الظن زال شرط ثبوت الحكم.
قلنا: كونه دليلاً حكمٌ أيضاً، فإذا ظنُّه علمه، وإلّا جاز أن يكون المتعبَّد به غيره، فلا يكون كلُّ مجتهدٍ مصيباً. *
* أقول: هذا إيراد على الوجه الثاني مع الجواب عنه وتقريره أَنْ نقول:
إنّ الظن بالحكم ينتفي عند حصول القطع به، فلا يرد الظنُ والعلمُ على شيءٍ واحد.
والجواب من وجهين:
الأوّل: أَنّا نقطع ببقاء الظن عند القطع بأنّ كلّ مجتهد مصيب.
الثاني: أَنّه لو انتفىٰ الظن وحصل القطع بالحكم لاستحال ظن النقيض الآخر مع ذكره وإقامة دليل عليه، ولمّا كان التالي باطلاً فإن كثيراًمن الناس يظنون الحكم المعيّن ثم يتغير ظنهم عند حصول الذكر لنقيضه.(1)
ص: 548
...............
فإِنَّ قيل هذا الوجه الثاني مشترك الالزام فإنّه كما يرد على القائلين بأنّ كلّ مجتهد مصيب يرد على القائلين بأنّ المصيب واحد، وبيانه أَنَّ الإِجماع حاصل على وجوب اتباع الظن فيجب الفعل أو يحرم قطعاً، وإِنْ كان الحل أو الحرمة ظنيين قلنا ليس الظن والعلم هاهنا متواردين على محل واحد فإِنَّ الظن متعلق(1) بأَنَّ الحكم المطلوب هو الحلّ مثلاً والعلم متعلق بتحريم مخالفة هذا الظن فإِنَّ أحد المتعلقين [مختلف] عن الآخر، وإذا اختلف المتعلقان لم تبق استحالة،(2) فإذا تبدل الظن زال شرط تحريم المخالفة، لأَنّ الإجماع إنّما وقع على تحريم المخالفة للمظنون، وبعد زوال الظن لا تحريم.
فإِن قيل هاهنا أيضاً اختلف المتعلق لأَنّ الظنَّ متعلق(3) بكون الدليل الّذي اقامه المجتهد دليلاً، والعلم تعلّق بثبوت المدلول، فإذا تبدل الظن زال شرط ثبوت الحكم، لأَنَّ شرط ثبوت الحكم هو ظن الدليل.
قلنا: كون الدليل دليلاًحكم أيضاً وإذا ظنّه لزم أَنْ يكون معلوماً، وإلّا جاز أن يكون المتعبَّد به غير الدليل، فلا يكون كل مجتهد مصيباً، وحينئذٍ يرد الاشكال على دلالة الدليل كما أوردناه على الحكم.
ص: 549
قال: وأيضاً أطلق الصحابة الخطأ في الاجتهاد كثيراً، وشاع وتكرَّر، ولم يُنْكر عن علي عليه السلام وزيدٍ وغيرهما أنَّهم خَطَّئوا ابن عباسٍ في ترك العَوْل، وخَطَّأهم، وقال: من باهَلَنِي بَاهَلْتُهُ إِنَّ اللّٰهَ لم يجعل في مال واحدٍ نصفاً ونصفاً وثلثاً. *
* أقول: هذه حجّة أُخرى(1) استدل بها المتقدمون على أَنّ المصيب واحد وهو أَنَّ الاجماع واقع من الصحابة على اطلاق لفظ الخطأ في الاجتهاد، رُوي عن أبي بكر أَنّه قال: «في الكلالة أقول فيها برأيي فإِنْ كان صواباً فمن اللّٰه وإِنْ كان خطأ فمني ومن الشيطان، واللّٰهُ ورسولهُ بريئان من ذلك»(2)، ورُوي عن عمر أَنّه قال لكاتبه اكتب: «هذا ما رأى عمر فإِنْ كان خطأ فمنه وإِنْ كان صواباً فمن اللّٰه»،(3) وقوله في جواب المرأة الّتي ردّت عليه في نهيه عن المبالغة في المهر: «اصابت امرأة واخطأ عمر»(4).
ورد جماعة من الصحابة على ابن عباس في العول، وانكر عليهم ابن عباس وخطأهم وقال: «من باهلني باهلته، إنّ اللّٰه لم يجعل في مال واحد نصفاً ونصفاً وثلثاً، هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث»(5) وبالجملة فالوقائع المأثورة عنهم أكثر من أن تحصى.
ص: 550
قال: وأستُدلَّ: إن كانا بدليلين: فإن كان أحدهما راجحاً، تعيَّن، وإلّا تساقطا.
واُجيب: بأنَّ الأَمارات تترجَّح بالنسب، فكلٌّ راجحٌ.
واسْتُدلُّ: بالإجماع على شرع المناظرة، فلولا تبين الصَّواب، لم تكن فائدة.
واُجيب: بتبين الترجيح، أو التساوي أو التمرين.
واستدُلَّ: بأنّ المجتهد طالبٌ.
وطالبٌ ولا مطلوب محال، فمن أخطأ، فهو مخطئ قطعاً.
واُجيب: مطلوبه ما يغلب على ظنِّه، فيحصل وإنْ كان مختلفاً.
واستُدِلَّ بأَنّه يلزم حلُّ الشيء وتحريمه لو قال مجتهد شافعيٌّ لمجتهدةٍ حنفيةٍ: أنت بائنٌ، ثم قال: راجعتك.
وكذا: لو تزوَّج مجتهدٌ امرأةً بغير وليٍّ، ثمَّ تزوجها بعده مجتهد بوليٍّ.
واُجيب: بأنّه مشترك الإلزام، إذ لا خلاف في لزوم اتباع ظنَّه.
وجوابه: أَنْ يُرفع إلى الحاكم، فيُتَّبع حكمه. *
* أقول: هذه أوجه ذكرها المصنف دالة على أنّ المصيب واحد مع الاعتراض عليها:
فمنها: أنَّ المجتهدين إمّا أنْ يحكما بدليلين أوْ لا، فإنْ كان الثاني فهو
ص: 551
...............
باطل قطعاً وإنْ كان الأول فلا يخلو إِمّا أنْ يكون أحد الدليلين راجحاً على الآخر أو لا، فإن كان أحدهما راجحاً تعيّن العمل به فلا يكون العامل بالمرجوح مصيباً، وإِنْ لم يكن تساقطا فلا يكون كلّ واحد منهما مصيباً أيضاً.
والجواب: أَنَّ الراجح في نفس الأمر غير الراجح عند المجتهدين، والأَمارات تترجح عند المجتهدين بالنسبة، فإِن كلّ إمارة راجحة عند شخص وإِنْ كانت مرجوحة عند غيره.
ومنها: أَنّ الإجماع واقع على تسويغ المناظرة والمباحثة فلولا يُبيَّن الصواب من المناظرة وإلّا لم تكن فيها فائدة(1).
والجواب: الفائدة تبين الترجيح في الدليلين والتساوي بينهما عند المجتهد حتّى يجزم مع الترجيح ويتوقف أو يتخير مع التساوي أو تكون الفائدة هي التمرين فإِنّه ممّا يفيد النفس استعداداً تامّاً لادراك الأحكام.
ومنها: أَنَّ المجتهد طالب فلا يخلو إمّا أَنْ يكون له مطلوب أو لا، والثاني محال قطعاً، وإذا كان كلّ طالب له مطلوب فمن أخطأه فهو مخطئ قطعاً فالمصيب واحد. والجواب: المطلوب هو ما يغلب على الظن ليس هو الحكم المعيّن وغلبة الظن حاصلة لكلّ مجتهد وإِنْ اختلفت المتعلقات.
ومنها: أَنّه لو كان كلّ مجتهد مصيباً لزم توارد الحل والحرمة على شيء واحد، واللازم محال فالملزوم مثله، بيان الملازمة أَنّا لو فرضنا مجتهداً شافعياً قال
ص: 552
قال: المُصَوِّبَةُ قالوا: لو كان المصيب واحداً، لوجب النقيضان إنْ كان المحلّ باقياً، أو وجب الخطأ إنْ سقط الحكم المطلوب.
واُجيب: بثبوت الثاني، بدليل أنَّه لو كان فيها نصٌّ، أو إجماعٌ ولم يطلع عليه بعد الاجتهاد، وجب مخالفته، وهو خطأٌ، فهذا أجدر.
قالوا: قال: «بأيهم اقتديتم اهتديتم»، فلو كان أحدهما مخطئاً، لم يكن هدىٰ.
واُجيب: بأنّه هدىٰ، لأنّه فعل ما يجب عليه من مجتهدٍ أو مقلِّدٍ. *
لزوجته المجتهدة الحنفية: أنت بائن، ثمّ يقول: راجعتك، فإِنّها بالنظر إلى الزوج تجوز له المراجعة وبالنظر إليها تحرم(1). وكذا لو تزوج مجتهد امرأة بغير وليٍّ ثمّ تزوجها بعده آخر بوليٍّ.
والجواب: أَنَّ هذه الفروض مشتركة الإِلزام فإنَّها كما ترد على المصوبة ترد على من يقول المصيب واحد، لأنّا وإنْ جعلنا المصيب واحداً إلّاأَنَّ كل واحد من المجتهدين مأمور بإتباع ظنِّه، فلا يجوز له خلافه فالشافعي مأمور بإِتباع ظنّه بجواز المراجعة، والحنفية مأمورة باتباع ظنها بتحريمها، وحينئذٍ يعود الاشكال فما اجبتم به فهو جواب المصوبة.
والجواب في مثل هذه الوقائع إنّما هو الترافع إلى الحاكم فمهما حكم به اتبع.
* أقول: احتجّ المصوبة بوجهين:
ص: 553
...............
الأوّل: أَنّه لو كان المصيب واحداً لزم اجتماع النقيضين أو وجوب اتباع الخطأ والتالي بقسميه باطل فالمقدّم مثله، بيان الشرطية، أَنَّ المكلف مأمور باتباع ظنِّه إجماعاً فإذا فرضنا المكلف غلب على ظنِّه أَنَّ الحكم الوجوب مع أَنّه في نفس الأمر ليس كذلك، فلا يخلو إمّا أَنْ يبقىٰ الحكم في نفس الأمر على ما هو عليه أو لا، والأول يلزم منه الوجوب والتحريم وذلك قول باجتماع النقيضين، والثاني يلزم منه وجوب الخطأ. والجواب: أَنْ نختار القسم الثاني قوله: يلزم منه وجوب الخطأ، قلنا ممنوع فإِنّه على تقدير سقوط الحكم الثابت في نفس الأمرلا يبقىٰ ما ظنه المكلف خطأ، وهذا كما لو فرضنا أَنّه كان في المسألة نص أو إجماع ولم يطلّع عليه المكلف إلّابعد الاجتهاد فإِنّه يجب مخالفته واتباع ظنه وهو خطأ فهذا أولى.
الثاني: أَنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»(1) ولو كان أحدهما مخطْئاً لما كان الاقتداء به هُدى.
والجواب أَنْ نقول: الاقتداء المراد به هاهنا فعل ما يجب على المكلف ولا شكّ في أَنَّ الصحابة فعلوا الواجب من الاجتهاد أو التقليد فكان الاقتداء بهم اهتداء.
ص: 554
قال: مسألة: تقابل الدليلين العقليَّين محالٌ، لاستلزامهما النقيضين، وأمَّا تقابلُ الأمارات الظنية وتعادلها، فالجمهور: جائزٌ، خلافاً لأحمد والكرخي.
لنا: لو امتنع لكان لدليلٍ، والأصل عدمه.
قالوا: لو تعادلا: فإمّا أَنْ يعمل بهما أو بأحدهما معيّناً أو مخيّراً أو لا، والأوّل: باطلٌ، والثاني: تحكمٌ، والثالث: حرامٌ لزيدٍ حلالٌ لعمروٍ من مجتهدٍ واحدٍ، والرابع: كذبٌ، لأنّه يقول: لا حرام ولا حلال، وهو أحدهما.
واُجيب: يُعمل بهما لأنّهما وقفا فيقف، أو بأحدهما مخيّراً، أو لا يعمل بهما، ولا تناقض إلّامن اعتقاد نفي الأمرين لا في ترك العمل. *
* أقول: اتّفقوا على أَنَّ الأدلة العقلية يمتنع تقابلها لأَنَّ الدليل العقلي ملزوم للعلم فلو كان كل واحد من الدليلين المتقابلين مستلزماً للعلم لزم اجتماع النقيضين وهو العلم بالشيء مع العلم بعدمه وسواء كان ذلك لشخص واحد أو لشخصين فإِنَّ العلم لابدّ فيه من المطابقة وهذا ظاهر؛ وإنّما الخلاف في تعادل الأَمارات المفيدة للظن فجوَّزه الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة ومنعه أحمد بن حنبل و [عبيد اللّٰه] بن الحسين الكرخي.
استدل المجوزون: بأَنَّه لو امتنع تعادلها لكان ذلك إِمّا أَنْ يكون ضرورياً أو نظرياً، والأوّل باطل قطعاً والثاني باطل لأَنّه لابدّ له من دليل حينئذٍ والأصل عدمه.
ص: 555
...............
واحتجّ المانعون: بأَنّه لو جاز تعادلهما فلا يخلو إِمّا أَنْ يُعمل بهما معاً أو بواحدة منهما معيّنة أو بواحدة منهما على سبيل التخيير بمعنى أَنَّ للمكلف أَنْ يعمل بأيِّهما شاء أو لا يعمل بواحدة منهما، والكلّ باطل، أَمّا الأول فلأنّه يلزم منه العمل بالنقيضين فإِنَّ أَمارة التحريم مناقضة لأمارة التحليل.
وأمّا الثاني: فلأنّه تحكم محض لأَنَّهما لمَّا تعادلا ولم يكن أحدهما أرجح من الآخر كان العمل بواحد منهما ترجيحاً للمساوي، وهو محال.
وأمّا الثالث: فلأَنّه يلزم منه جواز إفتاء المجتهد الواحد لزيد بالتحليل ولعمرو بالتحريم، وذلك باطل لأنّه يلزم منه تعدد الحق.
وأمّا الرابع: فلأنّه يلزم منه الكذب فإنّ المجتهد حينئذٍ يُفتي بعدم التحليل والتحريم مع ثبوت أحدهما.
والجواب: لم لا يُعمل بهما معاً ويكون مجموعهما كدليل واحد مقتضاه الوقف فيقف، أو لم لا يعمل بأحدهما على التخيير ولا استبعاد في التحليل لزيد والتحريم لعمرو كما لو تغيّر اجتهاده، أو نقول: لم لا يجوز أَنْ لا يعمل بهما.
قوله: يلزم منه النقيضان، قلنا: ممنوع فإِنّ التناقض إنّما يلزم من اعتقاد نفي التحليل والتحريم لا من ترك العمل بالأَمارتين.
ص: 556
قال: مسألة: لا يستقيم لمجتهدٍ قولان متناقضان في وقتٍ واحدٍ، بخلاف وقتين أو شخصين على قول التخيير، فإن ترتَّبا، فالظاهر رجوعٌ، وكذلك المتناظران، ولم يظهر فرقٌ.
وقول الشافعي في سبع عشرة مسألةٍ: فيها قولان، إمّا للعلماء، وإمّا فيها ما يقتضي للعلماء قولين، لتعادل الدليلين عندهُ، وإمّا لي قولان على التخيير عند التعادل، وإمّا تقدَّم لي فيها قولان. *
* أقول: الجمهور على أَنّه لا يجوز أَنْ يكون للمجتهد في مسألة واحدة قولان متناقضان في وقت واحد، وإِنْ كان جائزاً بالنسبة إلىٰ وقتين أو إلى الشخصين(1) كما(2) قلنا في المسألة المتقدمة، فإِنْ تقدّم أحد القولين على الآخر كان الثاني رجوعاً، وكذلك المتناظران في وقت واحد ولم يظهر فرق.
وتأول أصحاب الشافعي قوله: في المسألة قولان أو ثلاثة، بوجوه:(3)
أحدها: أَنّه يحتمل أَنْ يكونَ حاكياً لقول السلف.
وثانيها: يحتمل أَنّه أَراد أَنَّ في هذه المسألة ما يقتضي للعلماء قولين
ص: 557
قال: مسألة: لا ينقض الحكم في الاجتهاديات منه، ولا من غيره باتفاقٍ، للتسلسل، فتفوت مصلحة نصب الحاكم، وينتقضُ إذا خالف قاطعاً.
ولو حكم على خلاف اجتهاده، كان باطلاً وإن قلَّد غيره اتّفاقاً، فلو تزوَّج امرأةً بغير وليٍّ، ثمَّ تغيَّر اجتهاده، فالمختار التَّحريم.
وقيل: إنْ لم يتصل به حكمٌ، وكذلك المقلِّد يتغيَّر اجتهاد مقلده، فلو حكم مقلِّد بخلاف اجتهاد إمامه، جرى على جواز تقليده غيره. *
لتعادل الدليلين عنده.
وثالثها: يحتمل أَنّه أشار بذلك إلى نفسه ويكون القول فيها التخيير.
ورابعها: أَنَّه يكون حاكياً لقول له سالف.
* أقول: اتّفق الجمهور على أَنَّه لا ينقض الحكم في المسائل الاجتهادية(1) إِمّا يتغير اجتهاده أو يَحكم حاكم آخر فإِنّه لو جاز نقض حكمه إِمّا له أو لغيره لجاز نقض ذلك النقض وذلك يفضي إلى التسلسل وهو محال ومخالف للغرض الّذي لأجله تنصّب الحكام فإنّهم إنّما نُصِّبوا لقطع المنازعة.
أَمّا إذا كان حكم القاضي مخالفاً لنص قاطع فإِنّه يُنقض بلا خلاف وإذا اجتهد وحكم بخلاف ما أدَّىٰ إليه اجتهاده تقليداً لغيره فهو حكم باطل اجماعاً فلو اجتهد وتزوج امرأة بغير وليّ ثمّ تغيّر اجتهاده إلى التحريم فالأَولىٰ القول بالتحريم
ص: 558
...............
تبعاً لاجتهاده وإلّا لكان في استدامته التحليل مخالفاً لاجتهاده، وهو خلاف الإجماع على ما تقدّم.
وقيل يجوز تغيّر الحكم إلّاأنْ يتصل بالاجتهاد الأوّل حكم حاكم آخر محافظة على حكم الحاكم وكذلك المقلد إذا تغيّر اجتهاد مقلَّده فإِنّه يتغير الحكم في حقه لإِنّه إنّما اتبع الحكم الأول للاجتهاد، فلمَّا زال ذلك الاجتهاد زال جواز التقليد.
ولو كان الحاكم مقلد الإمام ثم حكم بخلاف قول إمامه اتباعاً لامام آخر هل يجوز حكمه ولا ينتقض أم لا؟ تُبنىٰ على القول بجواز مخالفة المقلد لإمامه فمن جوّز اتباع المقلد لغير إمامه جوّز هذا الحكم ومنع من نقيضه وإلّا فلا.
ص: 559
قال: مسألة: المجتهد قبل أن يجتهد ممنوعٌ من التَّقليد.
وقيل: فيما لا يخصّه.
وقيل: فيما لا يفوت وقته.
وقيل: إلَّاأنْ يكون أعلم منه.
وقال الشافعي: إلَّاأن يكون صحابيّاً.
وقيل أرجح، فإن استووا تخيَّر.
وقيل: أو تابعيّاً.
وقيل: غير ممنوعٍ، وبعد الاجتهاد اتفاقٌ.
لنا: حكم شرعي، فلابدَّ من دليلٍ، والأصل عدمه، بخلاف النَّفي، فإنَّه يكفي فيه انتفاء دليل الثبوت، وأيضاً يتمكن من الأصل، فلا يجوز البدل كغيره.
واسْتُدلَّ: لو جاز قبله، لجاز بعده.
واُجيب: بأنّه بعده حصل الظنُّ الأقوىٰ.
والمجوز: «فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ»(1) .
قلنا: للمقلّدين، بدليلٍ: «إِنْ كُنْتُمْ» ولأنَّ المجتهد من أهل الذكر.
الصحابة، «أصحابي كالنجوم» وقد سبق.
ص: 560
قالوا: المعتبر الظنُّ، وهو حاصلٌ.
اُجيب: بأنّ ظنَّ اجتهاده أقوى. *
* أقول: اختلفوا في أَنَّه هل يجوز للمجتهد التقليد في مسألة قبل اجتهاده فيها أم لا؟ فذهب أكثر الفقهاء والقاضي أبو بكر إلى المنع من ذلك مطلقاً، وذهب بعض أهل العراق(1) إلى أَنّه يجوز للعالم تقليد غيره فيما يخصه دون ما يُفتي به، ومن هؤلاء من خصص الجواز بما يفوت وقته ومنع من التقليد فيما لا يفوت.
وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه لا من هو مثله ولا من هو دونه.
وقال الشافعي: إنَّ المجتهد ممنوع من التقليد لغيره إلّاأَن يكون ذلك الغير صحابياً.
وقال أبو علي الجُبّائي: يجوز له تقليد الصحابي إذا كان أرجح من غيره، فإِنْ استووا تخيّر في تقليد من شاء منهم.
وقال آخرون بجواز تقليد الصحابة والتابعين دون من عداهم.
وقال أحمد بن حنبل: يجوز تقليد العالم للعالم مطلقاً، هذا إذا لم يجتهد المجتهد في المسألة أمّا إذا اجتهد فيها فقد اتفّقوا على أَنّه لا يجوز له تقليد غيره فيما يخالف ذلك الحكم الّذي أدى إليه اجتهاده.
واستدل المصنف على المنع مطلقاً بأَنَّ القول بجواز التقليد قول بثبوت
ص: 561
...............
حكم شرعي فلابدّ له من دليل والأصل عدمه فمن ادعاه فعليه اظهاره.
لا يقال: القول بعدم الجواز قول بحكم شرعي فلابدّ له أيضاً من دليل والأصل عدمه فإِنْ ادعيتموه فعليكم الإِظهار إلّاأنْ تجعلوا عدم دليل الثبوت دليل العدم، فحينئذٍ نجعل نحن عدم دليل العدم دليلاً على الثبوت.
لأَنّا نقول: الفرق حاصل فإِنَّ العدم يكفي فيه عدم دليل الثبوت بخلاف الثبوت.
وأيضاً فالمجتهد متمكن من الاتيان بالأصل وهو الاجتهاد فلا يجوز له البدل أعني التقليد كغيره من الواجبات الّتي لها بدل كالوضوء والتيمم.
واستدل بعضهم على المنع بأَنّه لو جاز التقليد قبل الاجتهاد لجاز بعده، والتالي باطل اتفاقاً فالمقدم مثله، والجامع بينهما المصلحة الناشئة من تمكن المكلّف من السلوك لأحد الطريقين مع ثبوت الآخر.
والجواب: الفرق حاصل فإِنّه بعد الاجتهاد حصل له الظن الأقوى فلا يجوز له سلوك الطريق الاضعف مع حصول الأقوى.
قال المجوزون: الدليل على الجوازمطلقاً قوله: «فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ»(1) والمجتهد قبل اجتهاده غير عالم فجاز له السؤال.
واجاب المصنف: بأَنّ هذا خطاب للمقلد بدليل قوله: «إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ» فإِنَ هذا مخصوص بمن ليس بعالم وهو المقلد، وأيضاً فإِنَّ المجتهد
ص: 562
...............
من أهل الذكر لأَنّه لا يجوز أنْ يكون المراد من أهل الذكر المقلدين.
قال المجوزون لتقليد الصحابة: الدليل عليه قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» جعل الاهتداء لازماً للاقتداء مطلقاً سواء كان من العامّي أو من المجتهد.
والجواب عنه ما مضى في مسألة أَنَّ مذهب الصحابي ليس بحجّة.
قالوا: المعتبر حصول الظن وهو حاصل على تقدير التقليد فيجب القول بالخروج عن العهدة.
والجواب: أَنَّ مع حصول ظن اجتهاده لا يجوز اتباع ظن التقليد لأَنّه تركٌ لأقوى الطريقين واتباعٌ لأضعفهما.
ص: 563
قال: مسألة: يجوز أن يقال للمجتهد: احكم بما شئت، فهو صوابٌ، وتردَّد الشافعي، ثم المختار: لم يقع.
لنا: لو امتنع لكان لغيره، والأصل عدمه.
قالوا: يؤدّي إلى انتفاء المصالح، لجهل العبد.
واُجيب: بأنّ الكلام في الجواز، ولو سُلِّم لَزِمتَّ المصالحُ، وإنْ جَهِلها.
(الوقوع)، قالوا: «إِلاّٰ مٰا حَرَّمَ إِسْرٰائِيلُ عَلىٰ نَفْسِهِ»(1) .
واُجيب: بأنّه يجوز أن يكون بدليل ظنّي.
قالوا: «لا يُختلىٰ خلاها، ولا يعضد شجرها»، فقال العبَّاس: إلَّا الإذخر، فقال: «إلَّا الإذخر».
واُجيب: بأنّ الإذخر ليس من الخلا، فدليله الاستصحابُ، أو منه، ولم يُرِدْه، وصحَّ استثناؤهُ بتقدير تكريره، لفهم ذلك، أو منهُ واُريد ونسخ، بتقدير تكريره بوحيٍ سريعٍ.
قالوا: قال: «لولا أن أشقَّ»، «أحجُّنا هذا لعامنا، أو للأبد» فقال: للأبد، ولو قلت نعم لوجب.
ولمَّا قَتَل النضر بن الحارث، ثمَّ أنشدتهُ انبتهُ:
ما كان ضرَّك لو مننتَ وربَّما *** مَنَّ الفتىٰ، وهو المغيظ المُحنق
ص: 564
قال عليه السلام: «لو سمعتهُ، ما قتلتهُ».
واُجيب: بجواز أنْ يكون خُيِّرَ فيه معيَّناً، ويجوز أن يكون بوحي. *
* أقول: ذهب جماعة إلى أَنّه يجوز أَنْ يقال للمجتهد: احكم بما شئت فإِنّك لا تحكم إلّابالصواب، ثم اختلف هؤلاء فقال قوم: يجوز مطلقاً للنبي صلى الله عليه و آله و سلم وغيره من العلماء، وعن أبي علي الجُبَّائي في أحد قوليه أَنّه يجوز للنبي صلى الله عليه و آله و سلم خاصّة، قال قوم: لا يجوز ذلك مطلقاً، وتردد الشافعي، واختلفوا في الوقوع.
واختار المصنف الجواز وعدم الوقوع، أمّا الجواز فلأنَّه لو امتنع ذلك لكان الامتناع إمّا أَنْ يكون لذاته أو لغيره، والأول باطل لأنّا لو قدَّرناه واقعاً لم يلزم منه محال.
والثاني أيضاً باطل لأَنَّ الأصل عدم ذلك الغير.
احتجّ المانع من الجواز بأَنَّ الشرائع إنّما شُرِّعت لمصالح المكلفين والعبد جاهل بالمصلحة ولا يأمن الإِقدام على المفسدة فلو كان حينئذٍ مكلفاً بذلك النوع من المفسدة لزم نقض الغرض من الشرائع، وهو باطل.
والجواب: أَنَّ هذا يلزم من الوقوع لا من تجويز الوقوع، وأيضاً لو سلَّمنا لكن المصالح لازمة وإنْ جهلها المكلف لأَنّ اللّٰه تعالى إذا قال له: إِنّك لا تختار إلّا الأصلح، انحصر اختياره في الأصلح واندفع ما ذكرتموه من المحذور.
واحتجّ القائلون بالوقوع بوجوه:
أحدها: قوله تعالى: «كُلُّ اَلطَّعٰامِ كٰانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ إِلاّٰ مٰا
ص: 565
...............
حَرَّمَ إِسْرٰائِيلُ عَلىٰ نَفْسِهِ»(1) فاستثناء ما حرّم اسرائيل على نفسه من الطعام المحلل دليل على أَنّ الحكم قد يستند إلى اجتهاد المكلف واختياره.
والجواب: يجوز أن يكون اسرائيل إنّما حرم على نفسه ما حرمه بالاجتهاد مستنداً في ذلك إلى دليل ظني، أو نقول: يجوز أن يستند التحريم إلى نفسه على سبيل المجاز كما يُقال للناذر: أَنّه قد أوجب على نفسه وإِنْ كان الموجب في الحقيقة هو اللّٰه تعالى والنذر سبب في الوجوب منه تعالى.
وثانيها: قوله صلى الله عليه و آله و سلم في مكة أنّه: «لا يُختلىٰ خلاها ولا يُعضد شجرها»، فقال العباس: إلّاالإِذخر يا رسول اللّٰه، فقال: «إلّا الإِذخر».(2) فهذا الإستثناء من النبي صلى الله عليه و آله و سلم إنّما كان من تلقاء نفسه لعلمنا بأَنَّه في تلك الحالة لم ينزل عليه وحيٌ، فدّل ذلك على تفويض الحكم إليه.
والجواب من وجوه:
الأوّل: انّ الإذخر ليس من الشجر فإباحته ثابتة بحكم الاستصحاب واستثناء النبي صلى الله عليه و آله و سلم له إنّما كان للتأكيد.
الثاني: لو سلّمنا أَنَّ الإِذخر من الشجر فيحتمل أنّه لم يكن مراداً من قوله: «لا يختلاخلاها ولا يعضد شجرها»، وكان صلى الله عليه و آله و سلم قد بيّن ذلك والتكرير للفهم.
الثالث: سلمنا أنّه مراد منه لكن نسخ بوحي سريع نزل عليه في تلك
ص: 566
...............
الحال لقوله تعالى: «وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ»(1).
ثالثها: قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لولا أَنْ أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك»(2) أَضاف الأمر إلى نفسه. وقوله صلى الله عليه و آله و سلم لمّا قيل له: أحجّنا لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: «للأبد ولو قلت نعم لوجب»(3) أضاف الوجوب إلى نفسه.
ولمّا قتل النضر بن الحرث انشدته ابنته:
ما كان ضرُك لو مننت وربما *** مَنَ الفتى، وهو المغيظُ المحنق
فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «لو سمعته ما قتلته»(4) وهذا يدل على أَن القتل كان مفوضاً إليه.
والجواب عن هذه الأحاديث أنّه يجوز أن يكون قد خيّر في هذه الأُمور،(5)أو يكون ذلك مستنداً إلى الوحي.
ص: 567
قال: مسألة: المختار: أنَّه صلى الله عليه و آله و سلم لا يُقرُّ على خطأ في اجتهاده.
وقيل: بنفي الخطأ.
لنا: لو امتنع لكان لمانعٍ، والأصل عدمُهُ، وأيضاً: «لِمَ أَذِنْتَ» ، «مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ» * حتّى قال: لو نزل من السماء عذابٌ، ما نجا منه غير عمر، لأنَّه أشار بقتلهم.
وأيضاً: «إنّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ أحدكم ألحن بحجَّته، فمن قضيت له بشيءٍ من مال أخيه، فلا يأْخُذْهُ، فإنّما أَقْطَعُ له قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» وقال: «إنّما أحكم بالظّاهر».
واُجيب: بأنَّ الكلام في الأحكام لا في فصل الخصومات.
وردَّ: بأنّه مستلزم للحكم الشرعيّ المحتمل.
قالوا: لو جاز، لجاز أمرنا بالخطأ.
واُجيب: بثبوته للعوامّ.
قالوا: الإجماع معصومٌ فالرسول أَوْلىٰ.
قلنا: اختصاصه بالرُّتبْةِ واتِّباعِ الإجماع له، يَدْفَعُ الأولويَّة، فيتَّبعُ الدليل.
قالوا: الشكُّ في حكمه مخِلٌ بمقصود البعثة.
واُجيب: بأنّ الاحتمال في الاجتهاد لا يخلُّ، بخلاف الرسالة
ص: 568
والوحي. *
* أقول: الذاهبون إلى أَنّه يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه و آله و سلم اختلفوا(1): فذهب قوم من الأشاعرة إلى أَنّه لا يجوز الخطأ عليه أصلاً، وذهب جماعة منهم والحنابلة وأبو علي الجُبَّائي وطائفة من المعتزلة إلى أَنّه يجوز ذلك لكن بشرط أنْ لا يُقر عليه؛ وهواختيار المصنف واستدل عليه بوجوه:
الأوّل: أنّه لو امتنع وقوع الخطأ منه فلا يخلو إِمّا أن يكون ذلك الامتناع لذاته أو لدليل، والأوّل باطل لأنّا لو فرضنا وقوعه لا يلزم منه محال لذاته والثاني باطل لأَنّ الأصل عدمه.
الثاني: قوله تعالى: «عَفَا اَللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ»(2) والعفو إنّما يكون مع ارتكاب الذنب، وقوله تعالى: «مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيٰا(3) وَ اَللّٰهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْ لاٰ كِتٰابٌ مِنَ اَللّٰهِ سَبَقَ (4) لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ»(5)
ص: 569
...............
حتى قال صلى الله عليه و آله و سلم: «لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلّاعمر»(1) لأنّه اشار بقتل أهل بدر وترك مفاداتهم.
الثالث: قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إِنكم تختصمون إليّ ولعل أحدكم ألحن بحجته فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنّما أَقْطعُ له قطعة من نار»(2)، وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّما أحكم بالظاهر واللّٰه يتولى السرائر».
واجيب عن الثالث: بأنَّ الكلام إنّما هو في الاحكام لا في القضاء وفصل الحكومات.
واجاب عنه المصنف: بأَنّ القضاء يستلزم الحكم الشرعي المحتمل للخطأ.
ولقائل أنْ يقول: أمّا الآية الأُولىٰ فلا تدلّ على الذنب لأَنَّ العفو كما يكون عن الذنب فقد يكون على ترك الأولى خصوصاً في حق الأنبياء عليهم السلام، وأَمّا الآية الثانية فلا تدلّ على أَنّه هو الآمر بالمفاداة فجاز أَنْ يكون ذلك خطاباً مع أصحابه، وأَمّا الخبران فلا يدّلان على الخطأ لأَن مستند الحكم إِمّا الاقرار أو الشهادة فإذا حصلا وجب الحكم بمقتضاهما، وإِنْ كانا باطلين فالحكم صحيح ومستنده باطل
ص: 570
...............
وذلك لا يدلّ على الخطأ.
واحتجّ المانعون بوجوه:
أحدها: أنَّه لو جاز الخطأ على الأنبياء في اجتهادهم لجاز أمرنا بالخطأ لأنَّا مأمورون باتباعه، والأمر بالخطأ قبيح فلا يصدر عن الحكيم.
واجاب المصنف: بأَنّه معارض بأمر العامي تقليد المفتي مع جواز خطائه.
وثانيها: أَنَّ إِجماع الأُمة لا يجوز عليه الخطأ، فالرسول صلى الله عليه و آله و سلم أولى وإِلّا لكانت الأمة أعلىٰ رتبة منه.
وأجاب المصنف: بأنّ اختصاص الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالرسالة وكون الإجماع تابع له ومستند إلى قوله وكون الأمة مأمورين باتباعه يدفع هذه الأولوية،(1) فيتبع الدليل.
وثالثها: أَنّه لو جاز الخطأ في حكمه لوقع الشكّ فيما يحكم به أنّه خطأ أو صواب، وذلك يخلّ بمقصود البعثة لأَنّ المقصود منها اتباعه.
وأجاب: بأَنَّ احتمال الخطأ في الاجتهاد لا يخلّ بالمقصود بخلاف احتمال الخطأ في الرسالة والوحي فإنّه هو المخل بالمقصود من البعثة.
ص: 571
قال: مسألة:
المختار: أنّ النافي مطالبٌ بدليل. وقيل: في العقليِّ، لا الشرعيّ.
لنا: لو لم يكن لكان ضرورياً نظريّاً، وهو مُحالٌ.
وأيضاً الإجماع على ذلك في دعوى الوحدانية والقِدَم، وهو نفي الشريك، ونفي الحدوث.
النافي: لو لزم للزم منكر مدِّعي النبوَّة، وصلاة سادسةٍ، ومنكر الدعوى.
وأُجيب: بأن الدليل يكون استصحاباً مع عدم الرافع، وقد يكون انتفاء لازم، ويستدلُّ بالقياس الشرعيِّ بالمانع، وانتفاء الشرط على النفي، بخلاف مَنْ لا يخصِّص العلّة. *
* أقول: اختلف الناس في أَنّ النافي هل عليه دليل أم لا؟ فقال قوم: إنَّه لا دليل عليه سواء كان نافياً لقضية عقلية أو لحكم شرعي، وقال آخرون إنّه لابدّ له من دليل فيهما، وأوجب طائفة الدليل على النافي في العقليات دون الشرعيات.
واستدل المصنف على أنّه لابدّ له من دليل: بأنّه لو لم يكن عليه دليل لكان النفي ضرورياً لكنه نظريٌ قطعاً لأَنَّ الكلام فيه، وذلك يستلزم اجتماع الضدين وهو محال، وأيضاً الاجماع حاصل على أَنَّ النافي لابدّ له من دليل فإِنَّ القائل بالقدم والوحدانية يطالب بالدليل قطعاً مع أَنّه في الحقيقة إنّما يدعي النفي لأَنَّ القدم عبارة عن نفي الحدوث وليس صفة زائدة على الماهية، والوحدانية عبارة عن
ص: 572
...............
نفي الشريك.
احتجّ القائلون بعدم إيجاب الدليل على النافي: بأَنَّ الاجماع واقع على أَنَّ من ادَّعىٰ النبوة وانكرها غيرُه لا يجب على المنكر الدليل، وكذلك من أنكر وجوب صلاة سادسة أوأنكر دعوى إدعاها عليه غيرُه.
والجواب: أَنّ ما ذكرتموه من هذه الصور لا ينفكُّ عن الأَدلة فإِنَّ الدليل قد يكون استصحاباً مع عدم الرافع له، وقد يكون إنتفاء لازم يستدل منه على نفي ملزومه.
وقد يستدل على النفي بالقياس الشرعي ويكون الجامع فيه هو المانع أو انتفاء الشرط، هذا عند من يجوّز تخصيص العلّة، أَمّا عند من لا يجوّز ذلك، فلا.
ص: 573
قال: التقليد، والمُفتي، والمفتىٰ، وما يستفتىٰ فيه:
فالتقليد: العمل بقول غيرِك من غير حُجّةٍ، وليس الرجوع إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم [و] إلى الإجماع، والعامّيّ إلى المفتي، والقاضي إلى العدول، بتقليد؛ لقيام الحُجّة، ولا مشاحّة في التسمّية.
والمُفتي: الفقيه، وقد تقدّم.
والمُفتىٰ [المستفتي]: خلافه.
فإن قُلنا بالتجزؤ، فواضح.
والمستفتىٰ فيه: المسائل الاجتهادية لا العقلية، على الصحيح. *
* أقول: قد ذكرنا في صدر الكتاب أَنَّ اصول الفقه باحثة عن الطرق المفيدة للأحكام، وذكرنا هناك أَنَّ الطرق منها ما يكون للمجتهد ومنها ما يكون للمقلد، ولما بحث عن المعنىٰ الأوّل انتقل إلى البحث عن الثاني.
وقد عرّف التقليد بأَنّه: العمل بقول الغير من غير حجة، ويندرج فيه أمران:
أحدهما: الأخذ بقول العامي.
والثاني: أخذ المجتهد بقول مثله من غير دليل، ويخرج عنه الأَخذ بقول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم والرجوع إلى الإجماع. وأخذ العامي في الحكم بقول المجتهد المفتى وتعويل القاضي على العدول فإِنَّ هذه كلّها لا يطلق عليها بالنظر إلى هذا الحدّ
ص: 574
...............
اسم التقليد، فإِنَّ كلّ واحد من هذه لا يخلو عن الحجّة.
أمّا الأخذ بقول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فالحجّة عليه ظاهرة، وأَمّا الباقي فالحجّة عليه قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وقد يطلق في الاستعمال اسم التقليد على هذه، ولا مشاحّة في الاسماء.
وأمّا المفتي فهو الفقيه وقد تقدّم تعريفه في صدر الكتاب، والمستفتي خلافه؛ واعلم أَنَّ المستفتي إِمّا أَنْ يكون قد بلغ رتبة الاجتهاد أو لا، فإنْ كان الأول فما أدّى إليه اجتهاده لا تجوز مخالفته ولا التقليد فيه، وإِنْ لم يكن قد اجتهد فقد ذهب قومٌ إلى أَنّه لا يجوز اتباع غيره.
وإِنْ كان الثاني(1) فإن كان عاميّاً صِرفا فقد اختلفوا في جواز التقليد له، وكذلك اختلفوا فيما إذا بلغ دون رتبة الاجتهاد. والصحيح أَنَّ من لم يبلغ رتبة الاجتهاد يجوز له التقليد، فلأَجل ذلك ذكر المصنف أَنَّ الاجتهاد إِنْ كان متجزئاً فواضح(2). وأَمّا ما فيه الاستفتاء فهو المسائل الاجتهادية من الشرعيات لا المسائل العقلية، فإنَّ تلك إنّما يكتفىٰ فيها بالقطع.
ص: 575
قال: مسألة: لا تقليد في العقليات؛ كوجود الباري تعالى.
وقال العنبري بجوازه.
وقيل: النظر فيها حرامٌ.
لنا: الاجماعُ على وجوب المعرفة، والتقليد لا يحصِّل؛ لجواز الكذب، ولأنّه كان يحصل بحدوث العالم قدمه.
ولأنّه لو حصل لكان نظراً ولا دليل.
قالوا: لو كان واجباً، لكانت الصحابة أولى، ولو كان، لنُقل كالفروع.
وأُجيب: بأنّه كذلك وإلّا لزم نسبتهم إلى الجهل باللّٰه، وهو باطلٌ، وإنّما لم ينقل لوضوحه ولعدم المُحْوِجِ إلى الإكثار.
قالوا: لو كان لألزم الصحابة العوامَّ بذلك.
قلنا: نعم، وليس المراد تحرير الأدلّة، والجواب عن الشُّبه والدليل يحصل بأيسر نظرٍ.
قالوا: وجوب النظر دورٌ عقلي، وقد تقدّم.
قالوا: مظنَّةُ الوقوع في الشبهة والضلالة، بخلاف التقليد.
قلنا: فيحرم على المقلِّد، ويتسلسل. *
...............
بالاعتقاد كوجود الباري تعالى وما يجوز عليه من الصفات ولا يجوز.
فمذهب الجمهور إلى المنع من ذلك، وقال عبيد اللّٰه بن الحسن العنبري والحشوية والتعليمية: يجوز ذلك، وقال آخرون بتحريم النظر فيها وأَنَّ الواجب في مثل هذا التقليد.
والدليل على وجوب المعرفة أَنَّ الاجماع حاصل على وجوب المعرفة باللّٰه تعالى، والتقليد غير مفيد لها لوجوه:
الأوّل: أَنَّ المقلَّد ليس بمعصوم فيجوز كذبه، فحينئذٍ لا تحصل المعرفة.
الثاني: أَن من قلّد في أنّ العالم محدث لو أَفاده العلم لكان من قلد في قدمه مستحصلاً للعلم ويلزم من ذلك حصول العلم بالقدم والحدوث وهو باطل قطعاً.
الثالث: أَنَّ العلم لو حصل بالتقليد لكان نظريّاً، والتالي باطل فالمقدّم مثله، بيان الشرطية: أَنَّ العلم الضروري منتف قطعاً وإِلا لوجب الاشتراك فيه، ولأنّه لو خُلِّي الإنسان ونفسه متجرداً عن الدواعي الحاصلة بسبب نشئه لما حكم بشيءٍ من الاعتقادات التقليدية، وأَمّا بطلان التالي فلأنّ النظري لا يحصل إِلّا عن دليل والأصل عدمه فمن ادعاه فعليه إِظهاره.
فثبت بهذه الوجوه أَنَّ التقليد غير مفيد للعلم فلا يخرج المكلف به عن عهدة وجوب المعرفة.
احتجّ المخالف بوجوه:
أحدها: أنّ النظر لو كان واجباً لكانت الصحابة أولىٰ بالنظر، ولو كان
ص: 577
...............
كذلك لنقل عنهم لاشتهاره فيما بينهم، مع أَنّ الحاجة داعية إليه كما نقل عنهم المسائل الشرعية الّتي هي فروع الاعتقادات العقلية.
والجواب: بأَن النظر كان واجباً على الصحابة وإلّا لزم نسبتهم إلى الجهل باللّٰه تعالى، وذلك باطل قطعاً، وإنّما لم ينقل عنهم ذلك لوضوحه وعدم المحوج إلى الإِكثار.(1)
والثاني: لو كان النظر واجباً لكانت الصحابة قد الزمت العوام بذلك، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
والجواب: التزام الزام الصحابة ذلك، وليس المراد من الأَدّلة المجردة عن القوانين الناتجة، والجواب عن الشبهات ولا شكّ في أَنَّ الدليل يحصل بايسر شيء من النظر.
الثالث: وهو دليل الموجبين للتقليد، قالوا: لو وجب النظر في معرفة اللّٰه تعالى لزم الدور المحال لأنّ معرفة الايجاب متوقفة على معرفة الموجب والجواب عنه قد تقدّم.(2) الرابع: قالوا: أَنَّ النظر مظنة للشبهة والضلالة بخلاف التقليد الّذي يحصل الظن بحصول السلامة معه.
ص: 578
قال: مسألة:
غيرُ المجتهد يلزمهُ التقليد، وإن كان عالماً.
وقيل: بشرط أن يتبيّن له صحةُ اجتهاده بدليله.
لنا: «فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ» وهو عامُّ فيمن لا يعلم.
وأيضاً: لم يزل المستفتون يتَّبعُون من غير إبداء المستند لهم من غير نكيرٍ.
قالوا: يُؤدي إلى وجوب اتباع الخطأ.
قلنا: وكذلك لو أبدىٰ له مستنده، وكذلك المفتي نفسُه. *
والجواب:(1) أَنّ الاعتقاد الحاصل للمقلد إمّا أَنْ يكون بالتقليد أو بالنظر، فإِنْ كان الثاني لزم تحريم التقليد، لأَنّه لا يخلو عن النظر الحاصل عمّن قلّده، وإِنْ كان الأوّل لزم التسلسل.
* أقول: اختلفوا في العامي(2) ومن عرف بعض العلوم المشترطة في الاجتهاد، هل يجوز لهم التقليد أم لا؟ فذهب قوم إلى أنّه يلزمهم التقليد والأخذ بقول المفتي.
وقال بعض معتزلة بغداد: لا يجوز لهم التقليد إلّابعد أَنْ يُبيَّن لهم
ص: 579
...............
صحة اجتهاد المجتهد بدليله.
وقال الجُبّائي: يجوز ذلك.
والدليل على وجوب التقليد قوله تعالى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ»(1) وهو عامّ في كل من ليس بعالم سواء كان عامّياً محضاً أو عالماً ببعض العلوم.
وأيضاً: الإجماع حاصل على اتباع المُقلَّدِين من غير أَنْ يكشفوا لهم عن وجه اجتهادهم ولا يذكرون لهم الأدلة الّتي استندوا إليها مع أَنّه لم يقع انكار في ذلك من قديم الوقت وحديثه.
احتجّ المانع: بأَنَّ التقليد لا يؤمن معه من الخطأ فلو وجب التقليد لأدَّىٰ ذلك إلى وجوب اتباع الخطأ، وهو محال.
والجواب: يلزم ذلك فيما لو اظهر له المستند، بأَنّه لا يلزم من إظهار المستند العلم، بل اقصىٰ ما في الباب حصول الظن وهو غير موجب لانتفاء الخطأ.
وأيضاً يرد هذا في المفتي نفسه فإنّه إذا ظن الحكم بدليل وجب عليه اتباعه وإِنْ كان يجوز أَنْ يكون خطأً.
ص: 580
قال: مسألة: الاتفاق على استفتاء من عُرف بالعلم والعدالة، أو رآه منتصباً، والناس مستفتون مُعظِّمون له، وعلى امتناعه في ضدِّه.
والمختار: امتناعُهُ في المجهول.
لنا: أنّ الأصل عدمُ العلم.
وأيضاً: الأكثر الجُهّال، فالظاهر أَنّه من الغالب كالشاهد والراوي.
قالوا: لو امتنع لذلك، لامتنع فيمن عُلم علمه دون عدالته.
قلنا: ممتنعٌ، ولو سلِّم، فالفرق أنّ الغالب في المجتهدين العدالةُ، بخلاف الاجتهاد. *
* أقول: قدَّمنا أَنَّ المقلد يجب عليه اتباع المفتي من غير أَنْ يشترط اظهار دليل له، ولا خلاف في أَنّه لا يجوز تقليد من اتفق حتى العوام فحينئذ، لابدّ من تمييز العالم العادل من غيره حتى يتبع، وقد وقع الاتفاق على جواز استفتاء مَنْ اشتهر بين الناس بالعلم والعدالة أو كان منتصباً للحكم والناس معظِّمون له مُقبِلون على استفتائه. واتفقوا على المنع من تقليد من كان بضدّ ذلك، واختلفوا في مجهول الحال هل يجوز تقليده أم لا؟ فالأولى أنّه لا يجوز لوجهين:
الأوّل: أن الأصل عدم العلم.
الثاني: أَنَّ أكثر الناس الغالب عليهم الجهل فالظاهر أَنَّ هذا المجهول من قبيل الغالب، وذلك كالشاهد والراوي فإنّه لابدّ من معرفة عدالتهما ولا يكفي فيه الجهل بفسوقهما وعدالتهما فكذا هاهنا.
ص: 581
قال: مسألة: إذا تكررت الواقعة، لم يلزم تكرير النظر، وقيل: يلزم.
لنا: اجتهدَ، والأصل عدمُ أمرٍ آخر.
قالوا: يحتمل أَنْ يتغيّر اجتهادهُ.
قلنا: فيجب تكريره أبداً. *
احتجّ المخالف: بأنّه لو امتنع تقليد من جُهل حاله في العلم والعدالة، لامتنع تقليد من عرف منه العلم وجهلت عدالته.
والجواب: يلتزم بالامتناع ولو سلم، فالفرق أَنَّ الغالب في المجتهدين العدالة بخلاف الاجتهاد، فإنّه ليس الغالب في الناس حصول الاجتهاد.
* أقول: اختلفوا(1) في المجتهد إذا اجتهد وأداه نظره إلى حكم معيّن ثم تكررت الواقعة، هل يجب عليه تكرير النظر أم لا؟ فقال قوم: يجب عليه ذلك ومنع منه آخرون.
احتجّ المانعون: بأنّ المكلف مأمور بالاجتهاد وقد حصل فيخرج عن العهدة لأنّ الأصل عدم أمر آخر.
قال الموجبون: محتمل أَنْ يكون المجتهد قد تغيّر اجتهاده، فتجب عليه المعاودة. قلنا: هذا مدفوع، وإلّا وجب عليه تكرير الفكر دائماً في الحكم الواحد المعيّن، لجواز التغيّر.
ص: 582
قال: مسألة: يجوز خلو الزمان عن مجتهدٍ، خلافاً للحنابلة.
لنا: لو امتنع لكان لغيره، والأصل عدمه.
وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إِنَّ اللّٰه لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه، ولكن يقبض العلماء حتّى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فافتوا بغير علمٍ، فضلوا وأضلوا».
قالوا: قال: «لا تزال طائفةٌ من أُمتي ظاهرين على الحق حتّى يأتي أمرُ اللّٰه، وحتّى يظهر الدجال».
قلنا: فأين نفيُ الجواز، ولو سُلِّم، فدليلنا أَظْهَر ولو سُلِّم، فيتعارضان، ويَسْلُم الأوَّل.
قالوا: فرض كفايةٍ، فيستلزم انتفاؤه اتِّفاق المسلمين على الباطل.
قلنا: إذا فرض موت العلماء لم يمكن. *
* أقول: اختلفوا(1) في أَنّه هل يجوز خلو الزمان عن مجتهد أم لا؟ فذهب الجمهور إلى جوازه ومنع منه الحنابلة.
احتجّ الجمهور بوجهين:
الأوّل: أَنّه لو امتنع خلو الزمان عن المجتهد لكان ذلك الامتناع إِمّا أَنْ يكون لذاته وهو محال، لأَنّه لا يلزم من فرضه محال وإِمّا أنْ يكون لغيره، والأصل عدمه.
ص: 583
...............
الثاني: أَنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «إِنَّ اللّٰه لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساءً جهّالاً فسئلوا فافتوا بغير علم فضلوا واضلوا»(1) حكم صلى الله عليه و آله و سلم بفقد العلماء وخلوّ الزمان من مجتهد في الاحكام.
احتجّ المخالف بوجهين:
الأوّل: قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمرُ اللّٰه وحتى يظهر الدجال» حكم صلى الله عليه و آله و سلم بعدم الخلو في وقت من الاوقات من مجتهد.
والجواب: ليس في هذا الحديث دلالة على موضع النزاع لأَنّ البحث إنّما وقع في الجواز، سلَّمنا لكن دليلنا أظهر في الخلو من دليلكم.
سلَّمنا لكن يحصل التعارض فيتساقطان ويبقىٰ الدليل العقلي الأوّل سالماً.
الثاني: أَنَّ الاجتهاد فرض كفاية فيستلزم انتفاؤه اتفاق المسلمين على الباطل وهو ترك الاجتهاد.
والجواب: أَنّا إذا فرضنا موت العلماء لم يكن الاجتهاد واجباً فلا يستلزم تركه اتّفاق المسلمين علىٰ الخطأ.
ص: 584
قال: مسألة: إفتاءُ من ليس بمجتهدٍ، بمذهب مجتهدٍ إن كان مطّلعاً على المآخذ، أهلاً للنظر، جائزٌ.
وقيل: عند عدم المجتهد.
وقيل: يجوز مطلقاً.
وقيل: لا يجوز.
لنا: وقوع ذلك، ولم يُنكر، وأُنكر من غيره.
المجوّز: ناقلٌ كالأحاديث.
وأُجيب: بأنَّ الخلاف في غير النقل.
المانع: لو جاز لجاز للعامّيّ.
وأُجيب: بالدليل، وبالفرق. *
* أقول: اختلف الناس(1) في غير المجتهد من أهل النظر هل يجوز له أَنْ يفتي بمقول مجتهد آخر أم لا؟ فذهب قوم إلى جواز ذلك مطلقاً ومنع منه أبو الحسين البصري مطلقاً، وقال آخرون: يجوز عند عدم المجتهد.
وذهب آخرون إلى أنَّ المفتي إنْ كان من أهل النظر مطِّلعاً على مآخذ المجتهد الّذي قلَّده قادراً على التفريع على ما قلده فيه متمكناً من النظر والمناظرة جاز، وإلّا فلا، وهو مذهب المصنف.
ص: 585
...............
واستدل على ذلك بالإجماع فإِنّ المجتهد في هذا الزمان نادر بل مفقود، ومع ذلك فالفقهاء يفتون تعويلاً على أئمتهم الذين قلدوهم من غير أَنْ يقع إنكار في ذلك فكان إجماعاً على الجواز، وانكروا في غيره فإِنَّ العامي لو جعل نفسه في مقام الإفتاء أُنكر عليه ذلك.
قال المجوِّزون: المفتي المقلّد ناقل عمن قلَّده وكان جائزاً لأَنّه يتنزل منزلة الأحاديث المنقولة عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.
والجواب: هذا ليس صورة النزاع لأَنَّ المفتي يجوز له النقل عمن تقدمه من المجتهدين إجماعاً، وإنّما الخلاف في أنّه هل يفتي تعويلاً على قوله أم لا؟
واحتجّ المانعون: بأَنّه لو جاز له أَنْ يفتي مقلداً عن غيره لجاز للعامي ذلك، والتالي باطل إجماعاً فالمقدّم مثله.
والجواب: الملازمة ممنوعة لما بيّنا من الدليل الدّال على الجواز في حقّ من له أهلية النظر وعلى المنع في حق العامي، على أنَّ الفرق ظاهر فإن مَنْ له أهلية النظر متمكن من الاطلاع على سند المُقلَّد بخلاف العامي، فكان الخطأ عن ذلك ابعد.
ص: 586
قال: مسألة: للمقلد أن يُقلِّد المفضول، وعن أحمد، وابن سُرَيْج:
الأرجحُ متعيِّنٌ.
لنا: القطع بأنّهم كانوا يفتون مع الاشتهار والتكرُّر، ولم يُنكر.
وأيضاً: قال: «أصحابي كالنجوم».
واستُدِلَّ: بأنّ العامّيّ لا يمكنه الترجيح، لقصوره.
وأُجيب: بأنّه يظهر بالتسامع، وبرجوع العلماء إليه، وغير ذلك.
قالوا: أَقوالهم كالأدلة، فيجب الترجيحُ.
قلنا: لا يقاوم ما ذكرناه، ولو سلِّم فلعسرِ ترجيح العوامِّ.
قالوا: الظن بقول الأعلم أقوىٰ.
قلنا: تقرير ما قدمتموهُ. *
* أقول: المقلد إذا وجد في البلد مفتياً واحداً وجب الرجوع إليه، وإِنْ تعدد فإن تساووا في العلم والدين تخيّر المقلد، وإنْ ترجّح أحدُهم فقد اختلفوا:(1)
فقال القاضي أبو بكر وجماعة من الاصوليين والفقهاء: يجوز له تقليد مَنْ شاء منهم سواء كان فاضلاً أو مفضولاً.
ومنع أحمدُ وابن سُريج والقفّال من أصحاب الشافعي وجماعة من الأُصوليين والفقهاء ذلك، وأوجبوا الأخذ بقول الأفضل.
ص: 587
...............
واحتجّ المصنف على مذهبه وهو الأوّل: بإنّ الإجماع واقع على أَنّ المرجوح كان يفتي مع وجود الراجح ولم ينكر ذلك مع اشتهاره وتكرره في كلّ وقت، وأيضاً قال صلى الله عليه و آله و سلم: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديم»، ومعلوم أَنّ الصحابة تفاوتوا في العلم والدين.
واستدل بعضهم على هذا المذهب: بأنَّ العامّيّ لو وجب عليه الأخذ بقول الأرجح لزم تكليف مالا يطاق لأَنّه غير متمكن من الترجيح لقصوره.
والجواب: المنع من عدم تمكنّه فإنَّ معرفة الأرجح قد تحصل بالسماع والاشتهار ورجوع العلماء إليه وغير ذلك من إقبال الناس عليه في الاستفتاء ونحوه.
واحتج المخالف: بإنَّ أقوال المفتين كالأدلة ومع كثرة الأدلة يجب الترجيح، فكذا في المفتين.
والجواب: هذا الّذي ذكرتموه من القياس لا يعارض ما ذكرناه من الإجماع، لأن الإجماع مقدّم على القياس إجماعاً، سلَّمنا مساواة الدليلين لكنَّا نقول الفرق بين الأدلة والمفتين أَنَّ المرجّح في الأدلة متمكّن من ذلك، بخلاف العامي فإنّه يعسر عليه معرفة الراجح من العلماء.
قالوا: الظن بقول الأرجح أقوى، فتعيّن العمل به.
والجواب: أَنّ هذا تقرير لما قدمتوه من الدليل الأول لكونه في الحقيقة بياناً للجامع وليس دليلاً برأسه، وقد اجبنا عنه.
ص: 588
قال: مسألة: ولا يَرجِعْ عنه بعد تقليده اتفاقّاً، وفي حكمٍ آخر:
المختار: جوازه.
لنا: القطع بوقوعه، ولم يُنكر، فلو التزم مذهباً معيّناً، كمالك والشافعي، وغيرهما، فثالثها كالأوَّل. *
* أقول: العاميُّ إذا استفتىٰ مجتهداً فقد اتفقوا على أَنّه لا يجوز له العدول عنه إلى غيره في تلك الواقعة، واختلفوا في غيرها(1) فذهب قوم إلى أَنّه يجوز له العدول إلى مجتهد آخر في مسألة أُخرى ومنع منه آخرون.
واحتج المصنف على الأوّل بحصول الاجماع عليه فإِنّا نقطع بأَنَّ العوام في زمان الصحابة يقلدون من شاؤوا من المفتين ثم يستفتون غيرهم من غير انكار منهم.
وإنّما إذا عيّنَ العاميُّ مذهباً كمذهب الشافعي مثلاً أو أبي حنيفة وقال إني متبع له وملتزم به، فهل له الرجوع إلى غيره والأخذ بقوله في مسألة من المسائل؟ ذهب قوم إلى الجواز لأَنّ التزامه بذلك لا يكون ملزماً له، وذهب آخرون إلى المنع لأنّه بالتزامه مذهباً معيّناً يصير لازماً له، وفصّل آخرون فقالوا: إنَّ كلّ مسألة من مذهب الأول عمل بها المستفتي فلا يجوز له تقليد الغير فيها وما لم يتصل بها عمله فلا مانع له من اتباع غيره، وهذا كالأوّل(2) وهو الّذي عبر عنه المصنف بقوله: فثالثها، أي ثالث الأقوال.
ص: 589
قال: الترجيح: وهو اقتران الأمارة بما يقوى به على معارضها، فيجب تقديمها للقطع عنهم بذلك.
وأورد شهادة أربعة مع اثنين، واُجيب: بالتزامه، وبالفرق، ولا تعارض في قطعيَّين، ولا في قطعّيٍ وظنّيٍ، لانتفاء الظنِّ والترجيح في ظنّيين منقولين، أو معقولين، أو منقولٍ ومعقولٍ. *
* أقول: لما فرغ عن البحث في هذا الكتاب عن الطرق المفيدة للأحكام على سبيل الإجمال وكيفية استشعار الاحكام منها، ختمه بالبحث عن الترجيح فإِنَّ الأدلة قد تتعارض.
واعلم أَنَّ الترجيح عبارة عن: «اقتران الأمارة بما يقوى به على ما يعارضها» فالإقتران كالجنس، وقُيّد بالأمارة المفيدة للظن لتخصيصه، وقُيّد بقولنا: بما يقوى به على ما يعارضها، فإن الأمارة ما لم يكن لها معارض لا يكون هناك ترجيح وإذا ترجحت الأمارة على ما يعارضها وجب العمل بها للاجماع الحاصل من الصحابة على العمل بالراجح من الأمارتين.
وأُورد على ذلك شهادة الأربعة فإنّها راجحة على شهادة الإِثنين إذا تعارضتا ومع ذلك فلا يتعين العمل بالأربعة.
والجواب: بالتزام وجوب العمل بشهادة الأربعة على بعض الأقوال، أو يقول الفرق أَنّ الصحابة إنّما اعتبروا الترجيح في باب الأدلة دون الشهادات، والمعتبر
ص: 590
...............
إنّما هو عمل الصحابة.
واعلم أنَّ الأدلة القطعية لا يمكن فيها التعارض لأَنَّ القطع بالثبوت لابدّ فيه من المطابقة، وكذلك القطع بالانتفاء فلو حصل دليلان قطعيان متعارضان لزم اجتماع النقيضين، وهو محال. وإذا لم يمكن التعارض لم يمكن الترجيح، ولا يعقل الترجيح بين قطعي وظني لأَنّ الظني يمتنع أَنْ يترجح على القطعي فإذن الترجيح ليس إلّافيما يفيد الظن؛ والدليلين الظنيان إمّا أَنْ يكونا منقولين أو معقولين، أو يكون أحدهما منقولاً والآخر معقولاً.
ص: 591
قال: مسألة: الأوّل في السند، والمتن، والمدلول، وفي الخارج.
الأوّل: بكثرة الرُّواة لقوَّة الظنِّ، خلافاً للكرخي، وبزيادة الثقة، وبالفطنة، والورع، والعلم، والضَّبط، والنّحو، وبأنَّهُ أشهر بأحدها، وباعتماده على حفظه لا نسخته، وعلى ذكرٍ لاخطٍّ، وبموافقته عَمَلَهُ، وبأنّهُ عُرِف أنَّه لا يُرسِلُ إلّاعن عدلٍ في المرسلين.
وبأنْ يكون المباشر، كرواية أبي رافع: نكح ميمونة وهو حلالٌ، وكان السَّفير بينهما، على رواية ابن عباس: نكح ميمونة وهو حرامٌ.
وبأنْ يكون صاحب القصَّة، كرواية ميمونة: تزوَّجني صلى الله عليه و آله و سلم ونحن حلالان.
وبأن يكون مشافهاً، كرواية القاسم عن عائشة: أنّ بَرِيرَة عتَقت، وكان زوجها عبداً، على من روىٰ أنَّه كان حرّاً، لأنَّها عمّةُ القاسم.
أو يكون أقرب عند سماعهِ، كرواية ابن عمر: أفرد صلى الله عليه و آله و سلم وكان تحت ناقته حين لبَّىٰ.
وبكونه من أكابر الصحابة لقربه غالباً، أو متقدم الإسلام، أو مشهور النَّسب، أو غير ملتبسٍ مضعفٍ، وبتحملها بالغاً، وبكثرة المزكِّين أو أعدليَّتهم، أو أوثقيتهم، وبالصَّريح على الحكم، والحكم على العمل، وبالمتواتر على المسند، والمسند على المرسل، ومرسل التابعي على غيره، وبالأعلى إسناداً، والمسند على كتابٍ معروفٍ، وعلى المشهور، والكتاب على المشهور، وبمثل البخاري ومسلم على غيره. والمسند
ص: 592
باتفاقٍ على مختلفٍ فيه. وبقراءة الشَّيخ، وبكونه غير مختلفٍ فيه.
وبالسماع على محتمل. ولسكوته مع الحضور على الغيبة، وبورود صيغةٍ فيه على ما فهم. وبما لا تعمُّ به البلوى على الآخر في الآحاد.
وبما لم يثبت إنكارٌ لرواته على الآخر. *
* أقول: لما ذكر أَنَّ التعارض إنّما يقع في الأدلة الظنيّة وقسمها إلى ثلاثة أقسام انقسم التعارض إليها أيضاً، بدأ بالتعارض الواقع بين المنقولين.
واعلم أَنَّ الترجيح لأحد المنقولين على الآخر لايخلو إمّا أنْ يكون باعتبار الناقلين أو باعتبار المنقول أو باعتبار ما يفهم من المنقول أو باعتبار أمر آخر خارج عن الخبر، فالذي يكون باعتبار الناقلين(1) هو الترجيح بحسب السند والثاني بحسب المتن والثالث بحسب الدلالة، وبدأ بالأول لأنّه الأصل، والترجيح يقع في ذلك على وجوه:
الأوّل: كثرة الرواة فإنَّ أحد الخبرين إذا كان رواته أكثر كان راجحاً على ما كان رواته أقل، لأنّ الظن هناك اكثر واحتمال الخطأ وتعمد الكذب فيه أقل وهذا قد خالف فيه الكرخي.
الثاني: أَنْ يكون أحد الراويين مشهوراً بالعلم والضبط والورع والثقة والنحو.
الثالث: أَنْ يكون أحدهما اشهر من الآخر في ذلك.
الرابع: أَنْ يكون أحد الراويين حافظاً للرواية غير معول في ذلك على
ص: 593
...............
خط يجده ذاكراً لها غير مستند إلى نسخة كتاب.
الخامس: أَنْ يكون أحد الراويين عاملاً بروايته فإِنَّ العمل يعضد الرواية وإِنْ كان غير حجّة.
السادس: أَنْ يكون أحد الراويين لا يرسل إلّاعن عدل وقد عُرف منه ذلك فإنّه أولىٰ ممن أَرسل ولا يعرف منه هذا، وهذا الترجيح يختصّ بالخبر المرسل.
السابع: أَنْ يكون أحد الراويين مباشراً لما رواه فإِنّه أولى من رواية من ليس بمباشر وذلك كرواية أبي رافع: «أَنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم نكَحَ ميمونة وهو حلال»، فإِنّها راجحة على رواية ابن عباس: «أَنّه صلى الله عليه و آله و سلم نكحها وهو حرام» لأَنَّ أَبا رافع كان هو السفير بينهما والقابل لنكاح ميمونة، فكانت روايته أولىٰ.(1)
الثامن: أَنْ يكون أحدهما صاحب القصة كرواية ميمونة: «تزوجني رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم ونحن حلالان» فإِنّها راجحة على رواية ابن عباس.(2)
التاسع: أَنْ يكون أحدهما مشافهاً كرواية القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة: «أَنَّ بَرِيرَةَ عتَقَتْ وكان زوجُها عبداً» فإنَّها راجحة على رواية من روىٰ أَنّه كان حرّاً لأَنَّها عمّة القاسم(3).(4)
ص: 594
...............
العاشر: أَنْ يكون أحدهما أقرب إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم عند سماعه، كرواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «أفرد وكان تحت ناقته فلبّىٰ».
الحادي عشر: أَنْ يكون أحدهما من أكابر الصحابة لقربه في اغلب الأحوال.
الثاني عشر: أَنْ يكون أحدهما أقدم إسلاماً من الآخر.
الثالث عشر: أَنْ يكون أحدهما مشهور النسب فإنّه راجح على رواية من ليس كذلك.
الرابع عشر: أَنْ يكون أحدهما غير مُلْتَبِس بضعيف في الاسم فإِنّه راجح على الملتبِس.
الخامس عشر: أَنْ يكون أحدهما تحمّل الرواية بالغاً فإنّه راجح على من تحمل الرواية طفلاً لجواز الخطأ عليه غالباً.
السادس عشر: أَنْ يكون أحدهما قد زكاه جماعة أكثر من مزكّي الآخر.
السابع عشر: أَنْ يكون المزكي لأحدهما أعدل وأوثق من مزكّي الآخر.
الثامن عشر: أَنْ يكون أحدهما قد زُكّيَّ بصريح القول والآخر زُكيّ بالحكم بشهادته.
التاسع عشر: أَنْ يكون أحدهما قد زُكي بالحكم بالشهادة فإِنّه راجح على تزكية من حصلت تزكيته بالعمل بروايته.
ص: 595
...............
العشرون: أَنْ يكون أحد الخبرين متواتراً والآخر آحاداً، وهذا ليس من هذا الباب لأنّ المتواتر يفيد القطع، وقد قلنا: إنّه لا ترجيح بين القطعي والظني.
الحادي والعشرون: أَنْ يكون أحد الخبرين مسنداً فإنّه راجح على المرسل.
الثاني والعشرون: أَنْ يكون أحدهما قد أرسله التابعي فإنّه راجح على إرسال غيره.
الثالث والعشرون: أَنْ يكون أحد الخبرين أعلى اسناداً من صاحبه فإِنّه راجح عليه.
الرابع والعشرون: أَنْ يكون أحد الخبرين مسنداً فإنّه راجح على الّذي يحال به على كتاب معروف أو على الشهرة.
الخامس والعشرون: أَنْ يكون أحد الخبرين قد اشتمل عليه كتاب معروف فإنَّه راجح على الّذي يُعوّل فيه على الشهرة.
[السادس والعشرون: أَنْ يكون أحد الخبرين قد اشتمل عليه كتابا مسلم والبخاري فإنّه راجحٌ على الّذي لا يوجد فيهما ويوجد في غيرهما](1).
السابع والعشرون: أَنْ يكون أحد الخبرين مسنداً باتفاق فإنّه راجحٌ على المختلف في اسناده.
ص: 596
...............
الثامن والعشرون: أَنْ يكون أحد الخبرين قد قرأه الشيخ عليه فإِنّه راجح على الخبر الّذي قرأه على الشيخ أو اجازه له.
التاسع والعشرون: أَنْ يكون أحد الخبرين قد اتُفِقَ على رفعه إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه راجح على الّذي اختُلف فيه.
الثلاثون: أَنْ يكون أحد الخبرين غير مختلف فيه فإنّه راجح على ما فيه اختلاف لبعده عن الاضطراب.
الحادي والثلاثون: أَنْ تكون أحدى الروايتين عن سماع متيقن من النبي صلى الله عليه و آله و سلم فإنها راجحة على ما يحصل فيه السماع ويتطرق إليه الاحتمال كالسماع من وراء الحجاب.
الثاني والثلاثون: أَنْ تكون إحداهما حصلت عن سكوت مع الحضور فإنّها راجحة على السكوت مع الغيبة.
الثالث والثلاثون: أَنْ يكون أحدهما قد نَقَل صيغة لفظ النبي صلى الله عليه و آله و سلم والآخر نقل المعنىٰ بالمفهوم فالأوّل راجح على الثاني.
الرابع والثلاثون: أَنْ يكون أحدهما مما لا تعمُ به البلوىٰ فإِنّه راجح على الآخر لأَنَّ احتمال الكذب فيما لا تعمُّ به البلوى أقل.
الخامس والثلاثون: أنْ لا يكون الراوي قد روىٰ عمن انكر روايته فإِن هذا أرجح مما إذا انكر المنقول عنه الرواية.
ص: 597
قال: المتن: النهي على الأمر، والأمر على الإباحة على الصحيح والنَّهي بمثله على الإباحة، والأقلُّ احتمالاً على الأكثر، والحقيقة على المجاز، والمجاز على المجاز بشهرةٍ مصححةٍ أو قوتهِ أو قرب جهته، أو رجحان دليله، أو شهرة استعماله، والمجاز على المشترك على الصحيح كما تقدَّم، والأشهر مطلقاً، واللغويُّ المستعمل شرعاً على الشرعيّ، بخلاف المنفرد.
وبتأكيد الدَّلالة.
ويرجَّح في الاقتضاء بضرورة الصدق على ضرورة وقوعه شرعاً، وفي الإيماء بانتفاء العبث، أو الحشو على غيرهِ، وبمفهوم الموافقة على المخالفة على الصحيح، والاقتضاء على الإشارة وعلى الإيماء، وعلى المفهوم، وتخصيص العامِّ على تأويل الخاصِّ لكثرته، والخاصُّ ولو من وجهٍ والعامُّ الّذي لم يخصَّص على ما خصَّ، والتقييد كالتَّخصيص.
والعامُّ الشرطيُّ على النكرة المنفيَّة وغيرها، والمجموع باللَّام و «من» و «ما» على الجنس باللَّام، والإجماعُ على النَّصّ، والإجماع على ما بعده في الظنَّيّ.(1)*
* أقول: لما فرغ من الترجيحات العائدة إلى السند شرع في
ص: 598
...............
الترجيحات العائدة إلى المتن وهي من وجوه:(1)
الأوّل: إذا كان أحدهما أمراً والآخر نهياً فالنهي راجح على الأمر لإنّ النهي يطلب فيه دفع المفسدة والأمر يُطلب فيه تحصيل المصلحة، واعتناء العقلاء بدفع المفاسد أشدُ من اعتنائهم بتحصيل المصالح، ولأنَّ الاحتمالات في النهي أقل من الأمر فإن النهي يحتمل أَنْ يكون نهيَ تحريم ويحتمل أَنْ يكون نهيَ تنزيه، والأمر يحتمل أَنْ يكون أمر إباحةٍ وأمر وجوبٍ وأمر ندبٍ وأمر تهديدٍ إلى غير ذلك.
الثاني: أَنْ يكون أحدهما أمراً والآخر إباحةً، فالأمر راجح على الإباحة لأنّ الأمر إذا عُمل به لا يلزم منه ضرر في مخالفة الإباحة وليس كذلك في طرف الإباحة.
وقد رجح الآخرون الإِباحة لأَنَّ المدلول في الإباحة واحد والمدلول في الأمر متعدد كالوجوب والندب وغير ذلك.
الثالث: أَنْ يكون أحدهما إباحة والآخر نهياً فالإباحة راجحة على النهي لما تقدم في باب الأمر.
ولقائل أنْ يقول: أنت تقول: أَنَّ النهي راجح على الأمر والأمر راجح على الإباحة، ويلزم من هاتين المقدمتين أَنَّ النهي راجح على الإباحة فكيف حصلت الإِباحة راجحة على النهي؟
[وله أن يقول: المحال يلزم لو اتحدت جهات الترجيح وليس كذلك، فإنّ ما يترجح به الأمر على الإباحة غير ما يترجح به الإباحة على النهي].(2)
الرابع: أَنْ يكون أحدهما اقل احتمالاً من الآخر فإنّه أرجح وذلك بأَنْ
ص: 599
...............
يكون معناه واحداً والآخر معناه مشترك.
الخامس: أَنْ يكون أحدهما دالاً على معناه بالحقيقة والآخر بالمجاز فالأول أولى لأنّ الأصل هوالحقيقة.
السادس: أَنْ يكون كلّ واحد منهما مجازاً إلّاأنَّ أحدهما يكون راجحاً على الآخر إمّا لشهرته كالغائط، أو لكونه أقوى من المجاز الآخر، أو تكون جهته إلى الحقيقة أقرب من جهة الآخر، أو يكون دليله راجحاً على دليل الآخر، أو يكون أحدهما اشهر استعمالاً من الآخر.
السابع: المجاز راجح على المشترك على المذهب الحق وقد تقدم.(1)
الثامن: أَنْ يكون كلّ واحد منهما قد اشتمل على الحقيقة، إلّاأنَّ حقيقة أحدهما اشهر من حقيقة الآخر، فإِنّها أرجح.
التاسع: أَنْ يكون أحدهما قد اشتمل على لفظ موضوع في اللغة بمعنى والشارع استعمله في ذلك المعنى والآخر قد اشتمل على لفظة قد وضعها الشارع لمعنى من غير وضع أهل اللغة له، فالأول راجح لأنَّ الأصل موافقة الشرع للغة، وهذا بخلاف ما إذا كان اللفظ واحداً منفرداً واستعمل في اللغة بمعنى وفي الشرع لآخر، فإِنَّ المعهود من الشرع أَنَّه إذا اطلق اللفظ فإنما يريد به معناه الّذي وضعه هو بإزائه.
العاشر: أَنْ يكون أحدهما مؤُكداً والآخر غير مؤكد فالأوّل أولىٰ كقوله صلى الله عليه و آله و سلم:
«واللّٰه لأغزون قريشاً واللّٰه لأغزون قريشاً واللّٰه لأغزون قريشاً».(2)
ص: 600
...............
الحادي عشر: أَنْ يكونا دالين بجهة الإقتضاء إلّاأَنَّ العمل بأحدهما في مدلوله ضرورة صدق المتكلم أو لضرورة وقوع الملفوظ به عقلاً والآخر لضرورة وقوع الملفوظ به شرعاً فالأوّل أولىٰ فإنّ الخلف في كلام الشارع ومخالفة المعقول ممتنعان بخلاف المخالفة في المشروع.
الثاني عشر: أَنْ يكونا دالين بجهة التنبيه والإيماء إلّاأَنَّ أحدهما لو لم يفد كون المذكور علة للحكم لكان ذكره عبثاً وحشواً فإنّه راجح على الإيماء بما رتب فيه الحكم بفاء التعقيب.
الثالث عشر: أنَّ يكونا دالين بالمفهوم إلّاأنّ أحدهما دال بمفهوم الموافقة والآخر بمفهوم المخالفة فالأوّل أرجح لأنّه متفق عليه بخلاف الآخر؛ وقد رجح بعضُّهم الثاني لأَنَّ فائدة مفهوم الموافقة التأكيد وفائدة مفهوم المخالفة شرع الحكم ابتداء، ولا شك في أَنَّ هذا أولىٰ من التأكيد.
الرابع عشر: أَنْ تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالات الاقتضاء والآخر من قبيل دلالات الإشارة، فالأول أولى لترجيحها بقصد المتكلم لها بخلاف الثاني.
الخامس عشر: أَنْ يكون أحدهما دالاً بالاقتضاء والآخر دالاً بالإيماء فالأول أولى لتوقف صدق المتكلم أو مدلول منطوقه عليه بخلاف الثاني.
السادس عشر: أَنْ يكون أحدهما دالاً بالاقتضاء والآخر بالمفهوم، فالأوّل أولى لوقوع الاتفاق على دلالة الاقتضاء ووقوع الخلاف في دلالة المفهوم.
السابع عشر: أَنْ يكون العمل بأحدهما يقتضي تخصيص العام والعمل بالآخر يقتضي تأويل الخاص، فالأول أولى لكثرته بخلاف الثاني.
الثامن عشر: الخاصّ ولو من وجه أولىٰ من العامّ لأَنَّ العمل بالخاص
ص: 601
...............
غير مبطل للعام بل مخصّص له، والعمل بالعامّ مبطل للخاصّ بالكلية.
التاسع عشر: العامّ الّذي لم يدخله التخصيص أولى من العامّ المخصوص لوقوع الاتفاق على التمسّك بالأول بخلاف الثاني، وكذلك المطلق والمقيّد.
العشرون: أَنْ يكونا عاميّن إلّاأَنَّ عموم أحدهما من قبيل الشرط والجزاء والآخر من قبيل النكرة المنفيّة وغيرها، فالأوّل أولىٰ لأنّ الشرط كالعلة والحكم المعلل أولىٰ من غير المعلل.
الحادي والعشرون: أَنْ يكون أحدهما جمعاً يفيد العموم أو يكون قد اشتمل على (من) و (ما) فإنّه أرجح على الجنس باللام لوقوع الاتفاق من القائلين بالعموم على إفادة الأوّل للعموم ووقوع الخلاف في الثاني.(1)
الثاني والعشرون: أن يكون أحدهما إجماعاً والآخر نصّاً، فالأول أولى من الثاني لإنّ الاجماع يؤمن فيه [من] النسخ بخلاف الثاني.
الثالث والعشرون: الإجماع راجح على ما بعده من القياس والاستصحاب والاستحسان وغيرها من الأدلة المظنونة.(2)
ص: 602
قال: المدلول: الحظر على الإباحة.
وقيل: بالعكس وعلى الندَّب، لأنّ دفع المفاسد أهم، وعلى الكراهة، والوجوب على الندَّب، والمثبت على النافي، كخبر بلال: دخل البيت وصلَّى، وقال أسامة: دخل ولم يصَّل، وقيل: سواءٌ، والدَّارئُ على الموجب، والموجب للطلاق والعتق، لموافقته النَّفي، وقد يعكس، لموافقته التأسيس، والتكليفي على الوضعي بالثَّواب، وقد يعكس لموافقته، والأخفُّ على الأثقل وقد يعكس. *
* أقول: الترجيح العائد إلى المدلول يقع من وجوه:
الأوّل: الحظر راجح على الإباحة لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، ولقوله: «ما اجتمع الحلال والحرام إِلّا غلب الحرام الحلال» ولإنَّ العملَ بالحظر يوجب الاحتراز عن الضرر بخلاف الإباحة، هذا مذهب أكثر الأشاعرة وأحمد والكرخي والرازي وبعض الإمامية.
وذهب أبو هاشم وعيسى بن أبان إلى أنّهما متساويان فيتساقطان وذهب الآخرون إلى أنّ الإباحة أرجح لموافقتها الأصلَ.
الثاني: الحظر راجح على الندب لأَنَّ دفع المفسدة أهم في نظر العقلاء من جلب المصلحة ولما بيّنا.
الثالث: الحظر راجح على الكراهة لما ذكرنا في ترجيح الحظر على الإباحة.
ص: 603
...............
الرابع: الوجوب راجح على الندب لأَنَّ مع اعتبار الوجوب يحترز المكلف من الترك المجوّز معه الخطأ بخلاف الندب.
الخامس: المثبت راجح على النافي وذلك كخبر بلال: «أَنّه صلى الله عليه و آله و سلم دخل البيت وصلَّىٰ» فإِنّه راجح على خبر أُسامة: «أنّه دخل ولم يصل» لانّ المُثبت قد اشتمل على أمر يجوز أنْ تقع الغفلة عنه للنافي وأيضاً النافي ناقل للحكم الأصلي فيكون فائدته التأكيد والمثبت ناقل عنه فيكون فائدته ابتداء الشرع فهو أولىٰ، وقيل أَنَّ النافي مساوٍ للمثبت.(1)
السادس: أَنْ يكون أحدهما موجباً للحد، والآخر دارئ له والدارئ أولى لأَنَّ الخطأ في عدم العقوبة أولىٰ من الخطأ في تحققها.
السابع: أَنْ يكون أحدهما موجباً للطلاق أو العتق، والآخر مزيل لهما، فالأول راجح لموافقته النفي الأصلي، وقال آخرون بالعكس لأنَّ القول بترجيح المزيل للطلاق والعتاق أقرب إلى التأسيس من الموجب.
الثامن: أَنْ يكون أحدهما تكليفياً والآخر وضعياً، فالأول أولىٰ لاشتماله على زيادة الثواب، وقيل بالعكس لأَنَّ الخطاب التكليفي يُشترط فيه فهم المخاطب وتمكنه من الفعل والوضعي ليس كذلك، فكان الوضعي أولىٰ.
التاسع: الأخفّ راجح على الأثقل لأنّ الشريعة مبنيّة على التخفيف، وقيل بالعكس لأنَّ الشرع المطلوب منه مصلحة المكلفين والمصلحة في التكليف بالأشق أتم.
ص: 604
قال: الخارج: يُرجّح الموافق لدليلٍ آخر، أو لأهل «المدينة»، أو للخلفاء، أو للأعلم.
وَبِرُجْحَانِ أحَدِ دليلي التأويلين.
وبالتعرُّض للعلَّة.
والعامُّ على سببٍ خاصٍّ في السَّبب، والعامُّ على علته في غيره.
والخطاب شفاهاً مع العامِّ لذلك، والعامُّ لم يُعْمَل في صورةٍ على غيره، وقيل: بالعكس، والعامُّ بأنَّهُ أمسُّ بالمقصود، مثل: «وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ»(1) على «أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ»،(2) وبتفسير الراوي بفعله أو قوله.
وبذكر السَّبب، وبقرائن تأخُّره، كتأخير الإسلام أو تاريخٍ مضيَّقٍ، أو تشديده لتأخُّر التَّشديدات. *
* أقول: الترجيح بالنظر إلىٰ أمر خارج عن المنقول يقع من وجوه:(3)
الأوّل: إذا كان أحد الخبرين موافق لدليل آخر راجح على ما ليس كذلك.
ص: 605
...............
الثاني: أَنْ يكون موافقاً لاهل المدينة والآخر ليس كذلك.
الثالث: أَنْ يكون موافقاً للخلفاء والآخر ليس كذلك.
الرابع: أَنْ يكون موافقاً للأعلم والآخر ليس كذلك.
الخامس: أَنْ يكونا مأوّلين إلّاأَنَّ تأويل أحدهما دليله أرجح من دليل تأويل الآخر، فالأوّل أولىٰ لأنّه أغلب على الظن.
السادس: أَنْ يكون أحدهما قد دَلَّ على الحكم والعلّة، والآخر على الحكم فما يعرض فيه بالعلة أولىٰ.
السابع: أَنْ يكونا عامّين إلّاأَنَّ أحدهما ورد على سبب خاص فالعام الوارد على السبب أولىٰ من العام مطلقاً في صورة ما إذا تعارضا في السبب لإنَّ ترك الجواب مع الحاجة ممّا يقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة والعام مطلقاً أولىٰ من العام الوارد على سبب في غير صورة السبب لأنّ العام مطلقاً أقوى دلالة من العام بالسبب.
الثامن: الخطاب إذا ورد على سبيل الإخبار كقوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ»(1) أو في معرض الشرط كقوله تعالى: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً»(2) وورد الخطاب الآخر شفاهاً كقوله: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا»(3) فالخطاب الشفاهي أولىٰ من المطلق في حقّ من ورد الخطاب عليه، والآخر أولىٰ في
ص: 606
...............
حقّ الغائبين لأَنّ الخطاب الشفاهي إنّما يعم من ليس بحاضر، لدليل منفصل.
التاسع: أَنْ يكونا عاميّن إلّاأنّ أحدهما لم يعمل به في صورة متفق عليها والآخر قد عمل به في صورة متفق عليها، والعمل بما لم يعمل به [في صورة متفق عليها] أولىٰ لأَنَّ العمل به لا يفضي إلى تعطيل ماعمل به لكونه معمولاً به في صورة المتفق، والعمل بما قد عمل يفضي إلى تعطيل الآخر لأنّه إذا عمل به في صورة المتفق والمختلف لزم تعطيل الآخر قطعاً ولا شكّ في أَنّ التأويل وقصر العام على أحد محتملاته أولى من تعطيل العام بالكلية [وقيل](1) بل بما عمل به أولى لكونه متفقاً على العمل به ولا شكّ في أنّ ذلك اعتباراً زائداً في العمل.
العاشر: أَنْ يكون أحدهما أمس من الآخر في الحاجة وذلك بأَنْ يكون أحدهما قد قُصد به بيان الحكم المختلف فيه فهو أولى من الّذي لم يقصد به ذلك، مثاله قوله تعالى: «وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ»(2) فإِنَّ هذا قد ورد في بيان تحريم الجمع بين الأُختين فهو أولىٰ من قوله: «أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ»(3) فإنّه لم يقصد به [نفي](4) تحريم الجمع بين الاختين.
الحادي عشر: أَنْ يكون أحد الحديثين مقترناً بتفسير الراوي إمّا بقوله أو بفعله فإنّه راجحٌ على ما ليس كذلك لأنّ الراوي للخبر يكون أعرف من غيره بما رواه.
ص: 607
...............
الثاني عشر: أَنْ يكون أحد الحديثين قد ذكر فيه الراوي السبب في الرواية والآخر لم يذكر السبب، فالأول أولى لأَنَّ اهتمامه بالرواية يكون أكثر من الآخر.
الثالث عشر: أَنْ يكون أحد الخبرين قد اقترن به ما يدل على تأخر عن معنى الآخر فإِنّه أولى وذلك بأَنْ يكون أحد الراويين متأخر الاسلام عن الآخر فالغالب على الظن أن روايته عنه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما كانت بعد اسلامه ورواية الآخر يحتمل أَنْ تكون متقدمة على اسلام هذا وأَنْ تكون متأخرة، وكذلك إذا كانت رواية أحدهما مؤرخة بتاريخ مضيّق دون الآخر، فاحتمال تأخير الأوّل أكثر من الثاني، وكذلك إذا كان أحدهما يدل على التشديد والآخر على التخفيف، فالأول أولىٰ لأَنَّ التشديدات مؤخّرة لأَنَّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما شدّد بعد ظهور شوكته.
ص: 608
قال: المعقولان: قياسان أو استدلالان، فالأوَّل: أصلهُ، وفرعه، ومدلوله، وخارجٌ، الأوّل: بالقطع. وبقوَّة دليله، وبكونه لم ينسخ بإتّفاقٍ، وبأنَّه على سنن القياس، وبدليلٍ خاصٍّ على تعليله.
وبالقطع بالعلّة، أو بالظَّنِّ الأغلب، وبأَنَّ مسلكها قطعيّ، أو أغلب ظنَّاً.
والسَّبر على المناسبة، لتضمنه انتفاء المعارض، ويرجُّح بطرق نفي الفارق في القياسين، والوصف الحقيقي على غيره.
والثبوتي على العدمي.
والباعثة على الأمارة، والمنضبطة، والظاهرة، والمتحدة، على خلافها.
والأكثر تعدَّياً، والمطَّردة، على المنقوضة، والمنعكسة، على خلافها، والمطَّردة فقط على المنعكسة فقط، وبكونه جامعاً للحكمة مانعاً لها على خلافه، والمناسبة على الشبهيَّة.
والضرورية الخمسة على غيرها، والحاجيّة على التحسينية، والتكميلية من الخمسة على الحاجيَّة، والدَّينيَّة على الأربعة، وقيل:
بالعكس.
ثم مصلحة النفس، ثم النَّسب، ثمَّ العقل، ثم المال، وبقوَّة موجب النقض من مانعٍ أو فوات شرط على الضعف، والإحتمال.
وبانتفاء المزاحم لها في الأصل، وبرجحانها على مزاحمها
ص: 609
والمقتضية للنفي على الثبوت، وقيل: بالعكس وبقوَّة المناسبة، والعامَّة في المكلَّفين على الخاصّة. *
* أقول: لما فرغ من الترجيحات في الأدلة المنقولة شرع في الأدلة المعقولة، والدليل العقلي قسمان: القياس والاستدلال، أمّا القياس فيشمل على الأصل والفرع والمدلول والخارج، وأمّا الترجيح بالنظر إلى الأصل فيقع على وجوه:(1)
الأوّل: أَنْ يكون حكم أحد الأصلين قطعياً وحكم الآخر ظنياً، فالأول أولى لأنّ ما يتطرق إليه من الخلل أقل من الآخر.
الثاني: أَنْ يكون حكم كل واحد من الأصلين ظنيّاً إلّاأَنَّ دليل أحدهما أقوى من دليل الآخر، فما دليله أقوى أولى من الآخر.
الثالث: أَنْ يكون حكم أحد الأصلين لم ينسخ اتفاقاً وحكم الآخر قد اختلف في نسخه، فالأول أولىٰ لبعده عن الخلل.
الرابع: أن يكون حكم أحد الأصلين غير معدول به عن سنن القياس والآخر قد عدل به عنه، فالأول أولىٰ لأَنّه أقرب إلىٰ المعقول وموافقة الدليل.
الخامس: أَنْ يكون حكم أحدهما قد قام عليه دليل خاص على تعليله وجواز القياس عليه بخلاف الآخر، فالأوّل أَولىٰ لحصول الأمن معه من الخطأ.
السادس: أَنْ يكون حكم أحدهما قد وقع الاتفاق علىٰ تعليله بخلاف
ص: 610
...............
الآخر، فالأول أولىٰ.
السابع: أَنْ يكون الظن بالعلّية في أحدهما أغلب من ظن العلّية في الآخر، فالأول أولى.
الثامن: أَنْ يكون طريق إحدى العلتين قطعياً بخلاف الأُخرى، فالأول أولى.
التاسع: أَنْ يكون أحد الطريقين أغلب في الظن من الآخر.
العاشر: أَنْ يكون طريق علّية أحد الاصلين السَبر والتقسيم وطريق علّية الآخر المناسبة، فالأوّل أَولى لأنّ في طريق السبر والتقسيم تعرضاً بانتفاء المعارض وذكر البيان المقتضي وأمّا المناسبة فليس فيها إلّاذكر بيان المقتضي، والحكم كما يتوقف على ثبوت المقتضي يتوقف على انتفاء المعارض، فكان القياس الأول أولىٰ لاشتماله على ذكر كلّ العلّة بخلاف الثاني.
الحادي عشر: أَنْ يكون نفي الفارق في أصل أحد القياسين مقطوعاً به وفي الآخر مظنوناً، فالأوّل أولىٰ.
الثاني عشر: أَنْ تكون العلّة في أحد الأصلين وصفاً حقيقياً وفي الآخر تقديرياً أو حكماً شرعياً، فالأول أولى لوقوع الاتفاق عليه بين القايسين بخلاف الثاني.
الثالث عشر: أَنْ يكون الوصف في أحدهما ثبوتياً والآخر عدمياً، فالأول أولىٰ للاتفاق.
الرابع عشر: أَنْ تكون العلّة في أحدهما بمعنى الباعث وفي الآخر بمعنىٰ الأمارة، فالأوّل أولىٰ.
ص: 611
...............
الخامس عشر: أَنْ تكون العلّة في أحدهما وصفاً منضبطاً والآخر وصفاً ظاهراً، فالأول أولى.
السادس عشر: أن تكون العلّة في أحدهما واحدة والأُخرىٰ مركبة، فالأول أولى.
السابع عشر: العلّة المطِّردة فقط أولى من العلّة المنعكسة فقط لما مرّ من اشتراط الاطراد في العلل دون الانعكاس.
الثامن عشر: أَنْ تكون علة أحد القياسين وصفاً جامعاً للحكمة مانعاً وعلة الأُخرى ليست كذلك، فالأوّل أولىٰ.
التاسع عشر: أَنْ تكون علة أحدهما مناسبة وعلة الآخر شبهية فما علته مناسبة أَولى، لزيادة غلبة الظن بها، والسبب في الأَولوية ما ذكرناه قلّة الخلاف فيه أو عدمه عند القايسين بخلاف الآخر.
العشرون: بأَنْ يكون المقصود من إحدىٰ العلتين الأُمور الخمسة الضرورية والمقصود من الأُخرى غيرها، فالأول أولىٰ لزيادة المصلحة فيه ولأجله لم تخل عنه شريعة من الشرائع.
الحادي والعشرون: أَنْ يكون المقصود من إحدى العلتين زيادة الحاجة فالمقصود من الأُخرى التحسين والتزيين، فالأول أولىٰ لتعلق الحاجة بها.
الثاني والعشرون: أَنْ يكون المقصود من إحدى العلتين التكميل للمصالح الضرورية والمقصود من الأُخرىٰ أصل الحاجة الزائدة، فالأول أولىٰ وإِنْ كان تابعاً والآخر أصلياً لأنّه اعطىٰ المكمل حكم الأصل الّذي يستند إليه فوجب في
ص: 612
...............
شرب قليل الخمر ما وجب في شرب كثيره.
الثالث والعشرون: أَنْ يكون مقصود إحدى العلتين حفظ الدين من الأُمور الخمسة ومقصود الأُخرى إحدى الأربع، فالأول أولىٰ لأنَّ ثمرته نيل السعادة الأُخروية بخلاف الآخر، وقال آخرون بالعكس لأَنَّ حفظ النفس الّتي هي الأصل أولىٰ من حفظ الدين الّذي هو الفرع وأيضاً حفظ الدين حفظ حق اللّٰه [وحق اللّٰه على المساهلة](1) وحفظ النفس حفظ حق الآدمي فيكون الثاني أولىٰ.
الرابع والعشرون: أَنْ يكون مقصود أحدهما حفظ النفس والآخر حفظ النسب، فالأوّل أولى لأنَّ حفظ النسب إنّما قُصد لأجل حفظ الولد حتّىٰ لا يختلط نسبه فيبقىٰ ضائعاً لا مربيّ له فليس مطلوباً لذاته.
الخامس والعشرون: أَنْ يكون المقصود من أحديهما حفظ النسب ومقصود الأُخرىٰ حفظ العقل، فالأول أولى لكونه عائداً إلى حفظ النفس.
السادس والعشرون: أَنْ يكون المقصود من أحديهما حفظ العقل ومقصود الأُخرىٰ حفظ المال، فالأول أولى.
السابع والعشرون: أَنْ تكون علة أحد الأصلين منقوضة قد ظهر في صورة نقضها ما يمكن إحالة النقض عليه إمّا من وجود مانع أو فوات شرط، وعلة الأُخرى منقوضة لم يظهر في صورة نقضها بذلك، فالأول أولىٰ لأنّها اغلب علىٰ الظن لأنَّ الخلاف في إبطال العلّة لانتقاضها في بعض الصور لأجل وجود مانع أو فوات شرط أقل من الخلاف في ابطالها لانتقاضها لا لذلك.
ص: 613
...............
الثامن والعشرون: أَنْ تكون علة أحد الأصلين ليس لها مزاحم في الأصل بخلاف الأُخرىٰ، فالأوّل أولىٰ لانّها أغلب على الظن وأقرب إلىٰ التعدية وبهذا ظهر أَنَّ ما يكون رجحانها على مزاحمها اكثر أولىٰ من الأُخرىٰ.
التاسع والعشرون: أَنْ تكون علة أحد القياسين تقتضي الثبوت والأُخرىٰ تقتضي النفي فالثانية أولىٰ لأَنَّ مقتضاها ثابت على تقدير رجحانها على الأول وعلى تقدير مساواتها، والأُولىٰ لا يتمّ مقتضاها إلّاعلى تقدير رجحانها وما يتمّ على تقديرين أكثر وجوداً مما يتمّ على تقدير واحد، والأكثرية في الوجود موجبة لغلبة الظن بالأولوية، قيل بل المثبتة أولىٰ لأَنَّ مقتضاها حكم شرعي بخلاف النافية.
الثلاثون: أَنْ تكون مناسبة إحدى العلتين أكثر من مناسبة الآخرى، فالأُولى أولىٰ لانّها افضىٰ إلى المقصود.
الحادي والثلاثون: أَنْ يكون علة أحد القياسين تتضمن مقصوداً يعم جميع المكلفين ومقصود الأُخرى مقصور على بعضهم، فالعامّة أولىٰ لعموم فائدتها.
ص: 614
قال: الفرع: يُرجَّح بالمشاركة في عين الحكم، وعين العلَّة، على الثلاثة، وعين أحدهما على الجنسين، وعين العلّة خاصَّة على عكسه، وبالقطع بها فيه، وبكون الفرع بالنَّصّ جملةً لا تفصيلاً. *
* أقول: الترجيحات العائدة إلى الفرع تقع من وجوه:
الأوّل: أَنْ يكون الفرع في أحد القياسين يشارك أصله في عين الحكم وعين العلّة، والآخر يشارك أصله في جنس الحكم وجنس العلّة أو جنس الحكم وعين العلّة أو في عين الحكم وجنس العلّة، فالأوّل أولى لأنّه أغلب على الظن في الاعتبار.
الثاني: أَنْ يكون الفرع مشاركاً للأصل في عين العلّة وجنس الحكم أو عين الحكم وجنس العلّة والآخر مشاركاً لأصله في جنس العلّة وجنس الحكم، فالأول أولى لما مرّ.
الثالث: أَنْ يكون الفرع في أحدهما قد شارك أصله في عين العلّة وجنس الحكم والآخر شارك أصله في عين الحكم وجنس العلّة، فالأوّل أولىٰ.
الرابع: أَنْ يكون ثبوت العلّة في أحد الفرعين مقطوعاً به وثبوتها في الآخر غير مقطوع فالأول أولىٰ.
الخامس: أَنْ يكون الفرع داخلاً تحت النص بالاجمال لا بالتفصيل والآخر غير داخل في النص، فالأوّل أولىٰ، وإنّما قيّدنا بالاجمال لأنّه لو دلّ عليه بالتفصيل لم يكن الحكم ثابتاً في الفرع بالقياس بل بالنص.
ص: 615
قال: المنقول والمعقول: يرجَّح الخاصُّ بمنطوقه، والخاصُّ لا بمنطوقه درجاتٌ، والترجيح فيه حيث لم يقع للناظر، والعامُّ مع القياس تقدَّم، وأمَّا الحدود السمعيَّة، فترجح بالألفاظ الصريحة على غيرها، ويكون المعرف أعرف، وبالذاتي على العرضي، وبعمومه على الآخر، لفائدته.
وقيل: بالعكس، للاتَّفاق عليه، وبموافقته النقل السمعي أو اللغوي، أو قربه، وبرجحان طريق اكتسابه، وبعمل «المدينة» أو الخلفاء الأربعة، أو العلماء، ولو واحداً، وبتقرير حكم الحظر وحكم النَّفي، وبدرء الحدّ، ويتركب من الترجيحات في المركبات، والحدود أُمور لا تنحصر، وفيما ذكر إرشاد لذلك. *
* أقول: لما فرغ من الترجيحات في العقليات شرع في الترجيحات الواقعة بين المنقول والمعقول(1)، وهي تقع على وجهين:
أ. الخاصّ إذا دلّ بمنطوقه على الحكم فهو أولىٰ من القياس لقلة تطرق الخلل إليه بخلاف القياس، وأمّا إذا دل الخاصّ على الحكم لا بمنطوقه فله درجات منها ما هو ضعيف جدّاً، ومنها ما هو قوي جدّاً، وبين هاتين المرتبتين درجات متفاوتة في القوة والضعف غير محصورة لا يمكن الإشارة إليها، بل ذلك موكول إلى
ص: 616
...............
الباحثين في آحاد الصور.
ب. النص العامّ يتقدّم على القياس الخاصّ، لأنَّ العموم أصل والقياس فرع، وقيل بالعكس لأنَّ العمل بالعامّ يقتضي إبطال الخاصّ الّذي هو القياس وليس كذلك في العكس، ومهما أمكن الجمع بين الدليلين كان أولىٰ.
وأمّا الترجيحات الواقعة في الحدود فتقع على وجوه، والحدود إِمّا أَنْتكون عقلية أو سمعية والنظر الآن إنّما هو في الثاني: إذ لا تعارض في الحدود العقلية بل في الظنية.
الأوّل: إذا كان أحد الحدّين مشتملاً على إلفاظ ظاهرة دالة على المطلوب من غير تجوز ولا اشتراك ولا نقل، كان أولىٰ من المخالف.
الثاني: المعرِّف إذا كان اعرف من الآخر كان التعريف به أولى و هذا التفاوت إنّمايقع في الرّسوم.
الثالث: التعريف بالذاتي أولى من التعريف بالعرضي لأن في الأول تحصيل معرفة حقيقة المحدود بخلاف الثاني.
الرابع: إذا كان أحد الحدين أعم من الآخر كان أولىٰ منه لتناوله محدود الآخر وزيادة فهو أكثر فائدة، وقال آخرون بل الأخص أولىٰ لأن مدلوله متفق عليه ومدلول الآخر من الزيادة مختلف فيه.
الخامس: أَنْ يكون أحد الحدّين موافقاً للنقل السمعي والآخر غيرُ موافق، فالأول أولى لأنّه أغلب على الظن.
السادس: أَنْ يكون أحدهما موافقاً للوضع اللغوي بخلاف الآخر أو
ص: 617
...............
يكون أقرب إلى الاستعمال من الآخر فهو أولى، لأنّه أغلب على الظن.
السابع: أَنْ يكون طريق اكتساب أحدهما أرجح من طريق اكتساب الآخر فهوأولى لأنّه أغلب على الظن.
الثامن: أَنْ يكون أحدهما قد ذهب إلىٰ العمل به أهل المدينة أو الخلفاء أو العلماء ولو كان واحداً بخلاف الآخر، فالأول أولىٰ.
التاسع: أَنْ يكون أحدهما مقرر لحكم الحظر والآخر للأباحة أو يكون مقرراً للنفي والآخر للاثبات أو يكون أحدهما قد اشتمل على درأ الحد والآخر على ثبوته فالأوّل أولىٰ لموافقته للأصل.
وقد تركبت من هذه الترجيحات الواقعة في المركبات و في الحدود ترجيحات كثيرة لا تنحصر واصولها ما ذكرناه.
فهذا آخر ما أردنا إيراده على هذا الكتاب.
والحمد للّٰه ربّ العالمين وصلّى اللّٰه على سيد المرسلين محمّد النبي وآله الطيبين الطاهرين(1) أجمعين.
ص: 618
...............
وكان آخر فراغه يوم السبت الثاني والعشرين من الشهر رجب سنة 697 سبع وسبعين وستمائة.
***
وقد انتهىٰ من تحقيق الكتاب والتعليق عليه بفضل اللّٰه وكرمه
وعنايته العبد الفقير إلىٰ رحمة ربه، آ. مرداني پور
(أكرم النعماني) وباشراف من شيخي الأُستاذ
آية اللّٰه العظمى جعفر السبحاني في ليلة الثلاثاء
الثاني من ربيع الأوّل من عام 1432 ه.
نفعنا اللّٰه به يوم لا ينفع مال ولا بنون
إلّا من أتىٰ اللّٰه بقلب سليم،
والحمد للّٰه أوّلاً وآخراً
وظاهراً وباطناً.
ص: 619
ص: 620
الموضوع... الصفحة
مقدمة المشرف... 7
شكر وتقدير... 9
مبحث النهي... 11
دليل أن النهي يدل على الصحة وردّه... 18
بحث العام والخاص... 24
دليل القائل بأن صيغة العموم موضوعة للخصوص... 35
دلالة الجمع المنكَّر على العموم... 38
استدلال المصنّف في المقام... 42
استدلال المثبتين... 43
استدلال النافين... 43
هل العام بعد التخصيص حقيقة أو مجاز؟... 45
حجّية العام بعد التخصيص... 52
هل إن الجواب تابع للسؤال في عمومه؟... 56
في نفي المساواة... 66
في أن المقتضي لا عموم له... 69
ص: 621
الموضوع... الصفحة
هل أنّ الأفعال المتعدّية تعم مفعولاتها؟... 72
في رواية الراوي... 78
في الخطاب المصدَّر بالنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم... 87
دلالة خطاب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لواحد... 91
دخول النساء في الجمع المذكّر... 95
هل أن الخطابات العامّة تشمل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم... 100
تكليف المعدوم... 103
التخصيص... 109
في غاية التخصيص... 114
تعريف الاستثناء... 121
تقدير دلالة الاستثناء... 124
الاتصال في الاستثناء... 130
حكم استثناء كل أفراد المستثنىٰ منه... 133
حجّة الحنفية على مذهبهم... 143
الاستثناء من الاثبات نفي... 146
التخصيص بالشرط... 150
التخصيص بالصفة... 155
التخصيص بالأدلّة المنفصلة... 156
تخصيص الكتاب بالكتاب... 160
تخصيص السنة بالسنة... 162
المطلق والمقيّد... 185
مبحث البيان والمبيَّن... 191
المجمل والمبيّن... 214
ص: 622
الموضوع... الصفحة
مبحث الظاهر والمؤول... 231
مبحث المفهوم والمنطوق... 243
أدلة المثبتين لدليل الخطاب... 261
أدلة النافين لدليل الخطاب... 268
مفهوم الشرط... 272
مفهوم الغاية... 274
مفهوم اللقب... 275
الحصر... 277
مفهوم الحصر... 279
مبحث النسخ... 283
جواز النسخ قبل وقت العمل... 297
جواز النسخ بالأثقل... 304
جواز نسخ التلاوة... 307
جواز نسخ التكليف بالإخبار بنقيضه... 310
نسخ القرآن بالقرآن... 312
القياس... 345
شروط حكم الأصل... 352
شروط علّة الأصل... 359
تعليل الحكم بعلّتين... 379
شروط الفرع، وهو الّذي يراد ثبوت الحكم فيه... 400
شروط الفرع الّذي يثبت الحكم فيه... 400
مسالك اثبات العلّة... 402
السَّبْر والتقسيم... 411
ص: 623
الموضوع... الصفحة
المقاصد عند الشرع الأغر... 420
الطرد والعكس... 431
أقسام القياس... 434
ما ورد من اعتراضات على القياس... 461
الاستدلال... 511
الاستصحاب... 519
شرع النبي قبل البعثة... 522
حجّية قول الصحابي... 527
حجّية الاستحسان... 530
حجّية المصالح المرسلة... 532
الاجتهاد... 533
مبحث التقليد... 574
لا تقليد في العقليات... 576
مبحث التعادل والترجيح... 590
الترجيح باعتبار المنقول... 596
الترجيح بحسب المتن... 598
الترجيح بحسب الدلالة... 603
الترجيح بأمر خارجي... 605
الأدلّة المعقولة... 610
تراجيح المنقول والمعقول... 616
فهرس المحتويات... 621
ص: 624