غایة الوصول و إیضاح السبل في شرح مختصر منتهی السؤل و الأمل لابن الحاجب المجلد 1

هوية الكتاب

اسم الكتاب: غایة الوصول و إیضاح السبل في شرح مختصر منتهی السؤل و الأمل لابن الحاجب

الجزء: 2ج

المؤلف: العلّامة الحلّي

تقديم وإشراف: الفقيه المحقّق الشيخ جعفر السبحاني

المحقّق: الشيخ آ. مرداني پور

الطبعة: الأُولىٰ - 1432 ه

المطبعة: مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام

الكمّيّة: 1100 نسخة

الناشر: مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام

الصف والإخراج الفني: مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام - السيد محسن البطاط

تسلسل النشر: 665 تسلسل الطبعة الأُولى: 382

شماره کتابشناسی ملی:2704574

محرر الرقمي: میثم الحیدري

ص: 1

اشارة

ص: 2

تقديم وإشراف

الفقيه المحقّق الشيخ جعفر السبحاني

غاية الوصول وإيضاح السبل

في شرح مختصر منتهىٰ السؤل والأمل

لابن الحاجب

تأليف

الحسن بن يوسف بن المطهر

المعروف بالعلّامة الحلّي

(648-726 ه)

الجزء الأوّل

تحقيق وتعليق

الشيخ آ. مرداني پور

منشورات مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

ص: 3

العلامة الحلي، الحسن بن يوسف، 648-726 ق.

غاية الوصول وإيضاح السبل في شرح مختصر السؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل / لابن الحاجب؛ تأليف الحسن بن يوسف بن المطهر المعروف بالعلامة الحلي؛ تحقيق وتعليق: آ. مرداني پور؛ تقديم وإشراف جعفر السبحاني. - قم: مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام، 1430 ق. = 1387.

(دورة)... 0-343-357-964-978: ISBN

2 ج. (ج. 1)...7-344-357-964-978: ISBN

(ج. 2)...4-345-357-964-978: ISBN

أُنجزت الفهرسة طبقاً لمعلومات فيبا.

1 - ابن الحاجب، عثمان بن عمر، 570-646 ق. مختصر منتهى السؤل والأمل -- نقد وتفسير.

2. أُصول الفقه -- القرن 7 ق. الف. مرداني پور، 1340 ه. ش -. المحقق. ب. السبحاني التبريزي، جعفر، 1347 ق -. المشرف. ج. مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام. د. العنوان. ه. عنوان: مختصر منتهى السؤل والأمل. شرح.

1387 8026 م 2 الف/ 155/8 BP 311/297)

-----

اسم الكتاب:... غاية الوصول وإيضاح السبل

الجزء:... الجزء الأوّل

المؤلف:... العلّامة الحلّي

تقديم وإشراف:... الفقيه المحقّق الشيخ جعفر السبحاني

المحقّق:... الشيخ آ. مرداني پور

الطبعة:... الأُولىٰ - 1430 ه

المطبعة:... مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام

الكمّيّة:... 1100 نسخة

الناشر:... مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام

الصف والإخراج الفني:... مؤسسة الإمام الصّادق عليه السلام - السيد محسن البطاط

حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة

-----

توزيع

مكتبة التوحيد

ايران - قم؛ ساحة الشهداء

7745457-2925152

البريد الإلكتروني: imamsadeq@gmail.com

العنوان في شبكة المعلومات: www.imamsadeq.org

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 5

ص: 6

مقدمة المشرف آية اللّٰه العظمىٰ الشيخ جعفر السبحاني

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الأواصر العلمية بين علماء الشيعة والسنّة

اشارة

العلاقة بين علماء الشيعة والسنّة كانت وطيدة وراسخة عبر القرون، ولم تمنع الاختلافات الفكرية أو العقائدية من حصول الزمالة بينهم في مجالات العلم والفكر والأدب، والسبب في ذلك هو وجود مشتركات كثيرة بينهم، فكان العمل على ضوئها موجباً لنشر الثقافة الإسلامية وإرساء دعائمها، وهذا هو التاريخ يُحدّثنا عن تبادل التحديث بينهم وتتلمذ لفيف من علماء السنة لدى علماء الشيعة وبالعكس في شتىٰ مجالات المعارف الإسلامية، وسنذكر نماذج لهذه الوشائج والعلاقات الحسنة بين علماء الفريقين:

1. الشيخ الكليني: محمد بن يعقوب الرازي (المتوفّىٰ 329 ه) مؤلف «كتاب الكافي» في سبعة اجزاء وهو أحد الجوامع الحديثية للشيعة.

ترجم له الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر وذكر

ص: 7

أسانيده إليه كما أورد بعض مروياته عنه، وقال:

قدم دمشق وحدّث ببعلبك عن أبي الحسين محمد بن علي الجعفري السمرقندي، ومحمد بن أحمد الخفّاف النيسابوري.

روى عنه أبو سعد الكوفي شيخ الشريف المرتضى، وأبو عبد اللّٰه أحمد بن إبراهيم، وأبو القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي، وعبد اللّٰه بن محمد بن ذكوان.

ثم قال: أنبأنا أبو الحسن بن جعفر قال: أنا جعفر بن أحمد بن الحسين بن السراج، أنا أبو القاسم المحسن بن حمزة... الورّاق بتنيس أنا أبو علي الحسن بن علي بن جعفر الديبلي بتنيس في المحرم سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، أنا أبو القاسم علي بن محمد بن عبدوس الكوفي، أخبرني محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم إلى أن انتهى الاسناد إلى أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال: «إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله».(1)

2. الشيخ الصدوق محمد بن الحسين بن بابويه (306-381 ه) شدّ الرحال لطلب الحديث إلى ارجاء العالم الإسلامي كالريّ، واستراباد، وجرجان، ونيسابور، ومشهد الرضا عليه السلام، ومرو الروذ، وسرخس، وإيلاق، وسمرقند، وفرغانة، وبلخ من بلاد ماوراء النهر، وهمدان، وبغداد، والكوفة، وفيد، ومكة، والمدينة.

فقد اخذ في هذه البلاد الحديثَ عن مشايخها من غير فرق بين السني والشيعي، وقد بلغ عدد مشايخه إلى مائتين وستين شيخاً من أئمة الحديث، وإليك اسماء بعض مشايخه من محدثي السنة الذين أخذ الحديث عنهم:

ص: 8


1- . تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 56/297.

حدّثه بنيسابور أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد بن عبيد الضبي المرواني النيسابوري، وقد روى عنه في علل الشرائع.(1)

كما حدّثه بإيلاق، بكر بن علي بن محمد بن فضل الحنفي الشاشي(2)الحاكم.(3)

كما أخذ عنه الحديث جماعة من السنّة منهم: محمد بن طلحة النعالي البغدادي من شيوخ الخطيب البغدادي، وأبو بكر محمد بن علي بن أحمد، وآخرون.(4)

3. الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي (المتوفّىٰ: 413 ه) وهو التمليذ العبقري للشيخ الصدوق قدس سره وبدراسة حياته تتجلىٰ لنا مكانته السامية في أوساط الأُمّة، وقدرته الفائقة على اجتذاب القلوب، فقد كان يرتاد مجلسه العلماء وطلّاب المعرفة من كافة الطوائف الّتي احتشدت عند موته باكية، نادبة عالمها الفذ، ذا القلب الكبير، والإيمان الراسخ، والعطاء الثرّ.

وإليك بعض كلمات المؤرخين الّتي تصف جلالته وسمو شخصيته، والتفاف الناس حوله:

كان له مجلس بداره بدرب رباح يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف(5).

ص: 9


1- . علل الشرائع: 56.
2- . الشاش مدينة في ماوراء النهر ثم ماوراء نهر سيحون.
3- . إكمال الدين: 170.
4- . موسوعة طبقات الفقهاء: 4/434.
5- . المنتظم: 15/157؛ البداية والنهاية: 12/17.

وقال الذهبي نقلاً عن تاريخ ابن أبي طيّ: كان قوي النفس كثير البّر عظيم الخشوع عند الصلاة والصوم.(1)

كما نقل عنه ابن حجر في لسان الميزان: ما كان ينام من الليل إلّاهجعة ثم يقوم يصلي أو يطالع أو يدرس أو يتلو القرآن.(2)

توفي ببغداد سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وكان يوم وفاته يوماً مشهوداً.

وصلى عليه الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بميدان الاشْنان وضاق على الناس مع كبره(3).

وكان يوم وفاته يوماً لم يُر أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والمؤالف.(4)

4. إمام الأدب والتفسير والفقه الشريف المرتضى (355-436 ه) وصفه ابن بسام الاندلسي في اواخر كتاب الذخيرة بقوله: كان هذا الشريف إمام أئمة العراق بين الاختلاف والاتفاق، إليه فزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها، وجَمّاع شاردها وآنسها، ممن سارت أخباره وعرفت له أشعاره وحمدت في ذات اللّٰه مآثره وآثاره، إلى تواليفه في الدين وتصانيفه في أحكام المسلمين ممّا يشهد أنّه فرع تلك الأُصول ومن أهل ذلك البيت الجليل(5).

ويقول ابن خلكان في وصف كتابه الأمالي: وله الكتاب الّذي سماه «الغرر

ص: 10


1- . سير اعلام النبلاء: 17/344.
2- . لسان الميزان: 5/368.
3- . رجال النجاشي: 403، برقم 1067.
4- . الفهرست للشيخ الطوسي: 685.
5- . وفيات الأعيان: 3/313، برقم 443 نقلاً عن ابن بسّام.

والدرر» وهي مجالس أملاها تشتمل عن فنون من معالي الأدب تكلم فيها على النحو والفقه وغير ذلك، وهو كتاب ممتع يدل على فضل كثير وتوسع في الاطلاع والعلوم.(1)

5. شيخ الطائفة الطوسي محمد بن الحسن (385-460 ه)، أخذ عن مشايخ الشيعة كالمفيد والمرتضى، وفي الوقت نفسه أخذ عن غيرهم كأبي علي بن شاذان وأبي منصور السكري.(2)

يقول الذهبي: كان الشيخ الطوسي مقيماً ببغداد وكانت داره منتجعاً لروّاد العلم، وبلغ الأمر من الإكبار له أن جعل له القائم بأمر اللّٰه كرسي الكلام والإفادة(3).

ويقول الشيخ محمد أبو زهرة المصري أحد كبار علماء السنة: كان شيخ الطائفة في عصره غير منازع وكتبه موسوعات فقهية، وعلمية، وكان مع علمه بفقه الإمامية، وكونه أكبر رواته، عالما بفقه السنة، وله في هذا دراسات مقارنة، وكان عالماً في الأُصول على المنهاجين الإمامي والسنّي.(4)

6. فقيه الطائفة أبو جعفر محمد بن المنصور المعروف بابن إدريس الحلّي (543-598 ه) ذكر في كتابه صلته بفقهاء أهل عصره من الشافعية، قال: وقد كتب إليّ بعض فقهاء الشافعية، وكان بيني وبينه مؤانسة ومكاتبة: هل يقع الطلاق الثلاث عندكم؟ وما القول في ذلك عند فقهاء أهل البيت عليهم السلام؟ فأجبته: أما مذهب أهل البيت عليهم السلام فإنّهم يرون أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس واحد وحالة واحدة

ص: 11


1- . المصدر نفسه.
2- . مقدمة «التبيان»: 52-53، عند عدّ مشايخه، برقم 7-8.
3- . سير اعلام النبلاء: 18/334، برقم 155.
4- . موسوعة طبقات الفقهاء: 5/281.

دون تخلل المراجعة لا يقع منه إلّاواحدة.(1)

7. المؤرّخ الكبير عبد الكريم بن محمد الرافعي القزويني من أعلام القرن السادس أخذ الحديث من شيخ الشيعة علي بن عبيد اللّٰه المعروف بمنتجب الدين صاحب الفهرس المعروف (المتوفى سنة 600 ه)، وقال في حقه: علي بن عبيد اللّٰه بن حسن بن حسين بن بابويه، الرازي، شيخ ريّان من علم الحديث، سماعاً وضبطاً وحفظاً وجمعاً، يكتب ما يجد ويسمع ممن يجد، ويقلّ من يدانيه في هذه الأعصار في كثرة الجمع والسماع والشيوخ الذين سمع منهم وأجازوا له، وذلك على قلّة رحلته وسفره. ثم ذكر مشايخه على التفصيل، إلى أن قال: لم يزل كان يترقب بالري ويسمع من دبّ ودرج، ودخل وخرج وجمع الجموع وكان يسوّد تاريخاً كبيراً للري فلم يُقض له نقله إلى البياض، وأظن أن مسوّدته قد ضاعت بموته، ومن مجموعه كتاب الأربعين الّذي نبأه(2) على حديث سلمان الفارسي رضى الله عنه، المترجم لأربعين حديثاً وقد قرأته عليه بالريّ سنة أربع وثمانين وخمسمائة.(3)

ويظهر أيضاً أنّه قرأ عليه في سنة أُخرى أيضاً يقول: وقد قرأت عليه في شوّال سنة خمس وثمانين وخمسمائة.(4)

8. إمام اللغة والادب مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الفيروزآبادي مؤلف كتاب «القاموس» الطائر الصيت، روىٰ عن فخر المحققّين محمد بن الحسن الحلّي (682-771 ه) كتاب «التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح

ص: 12


1- . السرائر: 2/678-679.
2- . ويحتمل أنّه «بناه».
3- . التدوين في أخبار قزوين: 3/372 و 374-375.
4- . نفس المصدر: 3/377.

العربية» وذكر روايته عنه في اجازته لابن الحلواني قال: أجزت للمولى الإمام، الحبر الهمام، البحر الهلقام، زبدة فضلاء الأيام فخر علماء الأنام، عماد الملة والدين «عوض» الفلك آبادي الشهير بابن الحلواني سقاه اللّٰه تعالى من الكلم الغرّ عذاب نطافها كما رزقه من أثمار العلوم لطاف اقطافها، أن يروي عني هذا الكتاب المسمّى ب «التكملة والذيل والصلة لكتاب تاج اللغة وصحاح العربية» بحق روايتي عن شيخي ومولاي - علامة الدنيا - بحر العلوم وطود العلى فخر الدين أبي طالب محمد بن الشيخ الإمام الأعظم، برهان علماء الأُمم، جمال الدين أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهر، بحق روايته عن والده بحق روايته عن مؤلّفه الإمام الحجة برهان الأدب، ترجمان العرب ولي اللّٰه الوالي رضي الدين أبي الفضائل الحسن بن محمد الصغائي - رضي اللّٰه عنه وأرضاه وقدس مهجعه ومثواه - إلى أن قال: وكتبت هذه الأحرف في شهر ربيع الأوّل عمّت محاسنه - سنة سبع وخمسين وسبعمائة.(1)

9. أسوة الحكماء والمتكلمين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي المعروف بنصير الدين (597-672 ه) وصفه الصفدي بقوله: كان رأساً في علم الأوائل لا سيّما في الإرصاد والمجسطي، ويقول بروكلمان الألماني: هو أشهر علماء القرن السابع وأشهر مؤلفيه اطلاقاً أخذ عن علماء السنة ككمال الدين بن موسى بن يونس بن محمد الموصلي الشافعي (المتوفّىٰ 639 ه).

كما أخذ عنه العديد من كبار السنة كقطب الدين محمد بن مسعود الشيرازي، وشهاب الدين أبو بكر الكازروني، وأبو الحسن علي بن عمر القزويني الكاتبي.(2)

وقد ألف كتاباً أسماه ب «تجريد العقائد» وقد طار صيت هذا الكتاب واشتهر

ص: 13


1- . الجاسوس على القاموس: 129-130، طبعة القسطنطينة.
2- . موسوعة طبقات الفقهاء: 7/244.

في الأوساط العلمية وشرحه غير واحد من السنّة كشمس الدين محمد الاسفرائيني البيهقي، وشمس الدين محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الاصفهاني (المتوفى 984 ه)، وعلاء الدين علي بن محمد المعروف بالفاضل القوشجي (المتوفىٰ 879 ه) الّذي وصف الكتاب المذكور بقوله: تصنيف مخزون بالعجائب، وتأليف مشحون بالغرائب، فهو وإن كان صغير الحجم، وجيز النظم، لكنه كثير العلم، عظيم الإسم، جليل البيان، رفيع المكان، حسن النظام، مقبول الأئمة العظام، لم يظفر بمثله علماء الأعصار، ولم يأت بمثله الفضلاء في القرون والأدوار، مشتمل على إشارات إلى مطالب هي الأمهات، مشحون بتنبيهات على مباحث هي المهمات، مملوء بجواهر كلها كالفصوص، ومحتو على كلمات يجري أكثرها مجرى النصوص، متضمن لبيانات معجزة في عبارات موجزة.(1)

10. جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب (570 - 646 ه) الأُصولي الطائر الصيت من كبار العلماء في الأدب والفقه والأُصول حيث ألف «الشافية» في الصرف و «الكافية» في النحو وقد شرحهما إمام الأدب والعربية في عصره رضي الدين الاسترآبادي (المتوفّىٰ 686 ه) يصفه السيوطي بقوله: الرضي الإمام المشهور صاحب شرح الكافية لابن الحاجب، الّذي لم يؤلّف عليها - بل ولا في غالب كتب النّحو - مثلها، جمعاً وتحقيقاً، وحسنَ تعليل. وقد أكبّ النّاس عليه، وتداولوه واعتمده شيوخ هذا العَصْر فمَن قَبْلهم، في مصنّفاتهم ودروسهم، وله فيه أبحاث كثيرة مع النّحاة، واختيارات جَمّة، ومذاهب ينفرد بها؛ ولقبه نجم الأئمة، ولم أقف على اسمه ولا على شيء من ترجمته؛ إلّاأنّه فرغ من تأليف هذا الشرح سنة ثلاث وثمانين وستمائة.(2)

ص: 14


1- . شرح التجريد لعلاء الدين القوشجي: 1.
2- . بغية الوعاة: 1/567، برقم 1188.

وألف ابن الحاجب كتاباً في أُصول الفقه أسماه «منتهى السؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل» وهو مطبوع - ثم اختصره وسمّاه «مختصر السؤل والأمل» وهو أيضاً مطبوع ويعرف بمختصر ابن الحاجب، وكان مداراً للتدريس لقرون وقد اعتنى العلماء بشرحه، فقد ذكر محقّق كتاب «رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب» شرّاح المختصر فأنهى عددهم إلى خمسة وأربعين.(1)

وممن شرحه إمام الشيعة في الفقه والأُصول الحسن بن يوسف بن مطهر الحليّ (648-726 ه)، الّذي يصفه ابن حجر في لسان الميزان بقوله: عالم الشيعة وإمامهم ومصنفهم وكان آية في الذكاء(2).

وذكر شرحه ابن حجر في الدرر الكامنة، وقال: وشرحه على مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن في حل ألفاظه وتقريب معانيه.(3)

هذه نبذة عن الأواصر العلمية بين علماء الشيعة والسنة في مجالات الأدب والحديث والأُصول وغيرها، وهذه هي سيرة السلف الصالح، الّتي نأمل أن يقتدي بها الخلف الصالح من خلال الأخذ بالمشتركات وانتهاج الأسلوب العلمي في مناقشة المسائل المختلف فيها، بعيداّ عن التعصب والتحزّب.

وبما أن كتاب مختصر ابن الحاجب في أُصول الفقه كان كتاباً دراسياً حتّى في الاوساط الشيعية، فقد كان المحقّق الاردبيلي يدرّس شرح العضدي على المختصر

ص: 15


1- . رفع الحاجب: 1/191-224.
2- . لسان الميزان: 2/317 برقم 1295 ذكره - للأسف بعنوان الحسين بن يوسف المطهر، مع ان اسمه الحسن، كما انّه عنونه أيضاً باسم الحسين في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: 2/71.
3- . الدرر الكامنة: 2/71.

المذكور لتلميذيه المعروفين الحسن بن زين الدين المعروف بصاحب المعالم، والسيد محمد بن علي المعروف بصاحب المدارك،(1) فلذلك عمدنا إلى إحياء ذلك الميراث القيّم الّذي كاد أن يعفي عليه الدهر ولم نعثر إلّاعلى نسختين منه نشير إلى خصائصهما في آخر هذه المقدمة.

***

وقبل الحديث عن مؤلف هذا المختصر وشارحه نذكر ما الفه علماء الشيعة في أُصول الفقه إلى زمن العلّامة الحلي رحمه الله أي نهاية القرن السابع، وأما الثامن فالعلّامة الحلّي من ابطال ذلك العلم فيه وقد ألف كتباً وربّىٰ جيلاً من العلماء الأفاضل.

لم يكن علم أُصول الفقه أمراً مغفولاً عنه في عصر أئمة أهل البيت عليهم السلام، فقد أملى الإمام الباقر عليه السلام واعقبه الإمام الصادق عليه السلام قواعد كلية في الاستنباط ومشى على ضوئها أصحابهما، وقد جمع ما أملاه الإمامان المحدّث الحر العاملي (المتوفّىٰ 1104 ه) في كتاب خاص أسماه «الفصول المهمة في أُصول الأئمة».

كما جمع العلّامة السيد عبداللّٰه شبر (المتوفّىٰ 1242 ه) تلك الأحاديث في كتاب خاص اسماه «الأُصول الأصلية».

وتلاه السيد الشريف هاشم بن زين العابدين الخوانساري (المتوفّىٰ 1318 ه) فأودع تلك الأحاديث بشكل خاص في كتاب أسماه «أُصول آل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم». هذا ما يرجع إلى القرنين الأولين.

وأما في القرن الثالث فلم نقف إلّاعلى كتاب «اختلاف الحديث ومسائله» لفقيه الشيعة يونس بن عبد الرحمن (المتوفّىٰ 208 ه).(2)

ص: 16


1- . ريحانة الادب: 3/392؛ روضات الجنات: 7/48.
2- . رجال النجاشي: 211، برقم 810.

وفي القرن الرابع قام العلمان الجليلان من بيت بني نوبخت بدور رئيسي في هذا الصدد، وهما:

أ. أبو سهل النوبختي إسماعيل بن علي (237-311 ه) فقد ألّف الكتب التالية:

1. الخصوص والعموم.

2. الأسماء والأحكام.

3. إبطال القياس.

يقول النجاشي: كان شيخ المتكلمين من أصحابنا وغيرهم، له جلالة في الدنيا والدين، ثم ذكر الكتابين الأولين.(1)

ويقول ابن النديم: هو من كبار الشيعة وكان فاضلاً عالماً متكلماً وله مجلس يحضره جماعة من المتكلمين، ثم ذكر الكتاب الأخير له.(2)

ب. الحسن بن موسى النوبختي، يعرّفه النجاشي بقوله: شيخنا المتكلم المبّرز على نظرائه قبل الثلاثمائة وبعدها، ثم ذكر أن له كتاب: «خبر الواحد والعمل به».(3)

وفي القرن الخامس بلغ علم الأُصول مرحلة جديدة، وقد بسط أصحابنا فيها الكلام ونذكر منهم ما يلي:

1. محمد بن محمد بن النعمان المفيد (336-413 ه) وهو شيخ الشيعة في

ص: 17


1- . رجال النجاشي: 31، برقم 67.
2- . فهرست ابن النديم: 225.
3- . رجال النجاشي: 63، برقم 148.

عصره، صنف كتاباً باسم «التذكرة بأُصول الفقه» وقد طبع ضمن مصنفات الشيخ المفيد.

2. الشريف المرتضى (355-436 ه) عرّفه النجاشي بقوله: حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه(1)، ألّف كتاباً باسم «الذريعة» فرغ منه عام 430 ه وقد حقق وطبع مؤخراً طبعة أنيقة.(2)

3. سلّار بن عبد العزيز الديلمي الشيخ المقدم في الفقه والأدب، ألّف كتاب «التقريب في أُصول الفقه».(3)

4. الشيخ الطوسي (385-460 ه) الشيخ الجليل صاحب المؤلفات الكثيرة ألّف كتاب «العُدّة في أُصول الفقه» وهو مطبوع منتشر.

وفي القرن السادس ازدهر علم أُصول الفقه أكثر ممّا سبق ونذكر ممّا أُلّف فيه الكتابان التاليان لمؤلفين جليلين هما:

1. ابن زهرة الحلبي (511-558 ه) وكتابه باسم: «غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع» خصّ الجزء الأوّل من هذا الكتاب بعلم الكلام وأُصول الفقه، وهو مطبوع.

2. سديد الدين الحمصي الرازي، قال عنه منتجب الدين الرازي: الشيخ الإمام سديد الدين علامة زمانه في الأُصولين، ورع ثقة؛ وبعد أن ذكر مصنفاته الّتي منها:

«المصادر في أُصول الفقه»، و «التبيين والتنقيح في التحسين والتقبيح». قال:

حضرت مجلس درسه سنين.(4)

ص: 18


1- . رجال النجاشي: 270، برقم 708.
2- . حقق وطبع في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام، عام 1429 ه.
3- . الذريعة: 4/365.
4- . فهرست منتجب الدين: برقم 389.

وقد فرغ من كتابه «المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد» عام 581 ه في الحلّة الفيحاء عند منصرفه من زيارة الحرمين بالحجاز.(1)

وقد أشار إلى كتابه هذا ابن إدريس في سرائره قال: ولقد أحسن شيخنا محمود الحمصي رحمه الله فيما أورده في كتابه «المصادر في أُصول الفقه».(2)

وقد أكثر ابن إدريس المدح عليه ولا بأس بذكر ما قاله في حقه؛ قال: سألني شيخنا محمود بن علي بن الحسين الحمصي، المتكلم الرازي رحمه الله عن معنى الحديث (قول أبي جعفر عليه السلام قضى أمير المؤمنين عليه السلام بردّ الحبيس وانفاذ المواريث)، فقلت:

الحبيس: الملك المحبوس على بني آدم من بعضنا على بعض مدة حياة الحابس دون حياة المحبوس عليه، فإذا مات الحابس فإنّ الملك المحبوس يكون ميراثاً لورثة الحابس، وينحلّ حبسه على المحبوس عليه، فقضى عليه السلام برده إلى ملك الورثة... إلى أن قال: فأعجبه ذلك، وقال كنت اتطلع على المقصود فيه، وحقيقة معرفته وكان منصفاً غير مدع لما لم يكن عنده معرفة حقيقة، ولا من صنعته، وحقّاً ما أقول: لقد شاهدته على خُلقٍ قل ما يوجد في أمثاله من عودة إلى الحق وانقياده إلى ربقته وترك المراء ونصرته كائناً ما كان صاحب مقالته وفقه اللّٰه وإيّانا لمرضاته وطاعته.(3)

وفي القرن السابع ألّف نجم الدين الحلي المعروف بالمحقّق (602-676 ه) ذلك الإمام الكبير في الفقه والأُصول، كتابه: «المعارج في أُصول الفقه» وقد طبع عدة مرات، وهو مع صغر حجمه إلّاأنّه كبير المعنى.

قال صاحب اعيان الشيعة: ومن كتبه «نهج الوصول إلى معرفة علم الأُصول».(4)

ص: 19


1- . المنقذ من التقليد: 17.
2- . السرائر: 3/290.
3- . السرائر: 2/190-191.
4- . اعيان الشيعة: 4/192.

المؤلف والشارح بين يدي أصحاب التراجم

الكتاب الّذي نقدّمه إلى القرّاء الكرام هو تأليف عالمين كبيرين معروفين في الأوساط العلمية الإسلامية، وهما غنيان عن التعريف والتوصيف إلّاأننا سنذكر موجزاً من حياتهما ليكون ذلك كالتقدير لما بذلاه من جهود مضنية في إرساء وإغناء المعارف الإسلامية.

المؤلف

هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الدوني(1) ثم المصري، الفقيه المالكي المعروف بابن الحاجب، الملقب ب «جمال الدين». كان والده حاجباً للأمير عز الدين موسك الصلاحي، وكان كردياً. واشتغل ولده أبو عمرو المذكور بالقاهرة في صغره بالقرآن الكريم ثم بالفقه على مذهب الإمام مالك ثم بالعربية والقراءات وبرع في علومها واتقنها غاية الإتقان. ثم انتقل إلى دمشق ودرّس في جامعها في زاوية المالكية وكان الأغلب عليه علم العربية.(2)

ولد ابن الحاجب سنة 570 أو 571 ه، ب «إسنا» من بلاد الصعيد (3).

وقال ابن خلكان: كان من أحسن خلق اللّٰه ذهناً... وجاءني مراراً بسبب أداء شهادات وسألته عن مواضع في العربية مشكلة فأجاب أبلغ جواب بسكون كثير وتثبت تام.(3)

ص: 20


1- . ولعل الصحيح هو الدويني نسبة إلى دوين في آخر آذريبجان من جهة ايران، وبلاد الكرك. معجم البلدان: 2/558.
2- . وفيات الأعيان: 3/248، برقم 413.3. سير أعلام النبلاء: 23/265.
3- . وفيات الأعيان: 3/248، برقم 413.

ويقول السيوطي: وصنف في الفقه مختصراً، وفي الأُصول مختصراً، وفي النحو الكافية وشرحها ونظمها، والوافية وشرحها، وفي التصريف الشافية وشرحها، وفي العروض قصيدة، وشرح المفصّل سماه الإيضاح، وله الأمالي في النحو.

ثمّ أضاف: ومصنفاته في غاية الحسن وقد خالف النحاة في مواضع وأورد عليهم إشكالات وإلزامات مفحمة يعسر الجواب عنها، وكان فقيهاً مناظراً مفتياً مبّرزاً في عدة علوم متبحراً ثقة ديّناً ورعاً متواضعاً.(1) إلى غير ذلك من كلمات أصحاب التراجم الّتي تشبه بعضها بعضا.

تصانيفه

ألف ابن الحاجب تصانيف - كما قال السيوطي - في نهاية الحسن، وإليك اسماء بعضها:

1. الكافية في النحو (مطبوع).

2. الشافية في الصرف (مطبوع).

3. المقصد الجليل وهي قصيدة في العروض (مطبوع).

4. مختصر في الفقه ويسمى جامع الأمهات.

5. منتهى السُؤل(2) والأمل في علمي الأُصول والجدل (مطبوع).

6. مختصر منتهى السُؤل والأمل، ويعرف بمختصر ابن الحاجب (مطبوع).

إلى غير ذلك من التصانيف الّتي حفلت بذكرها كتب التراجم، وقد انهاها

ص: 21


1- . بغية الوعاة: 2/165 برقم 1632.
2- . طبع بعنوان «منتهى الوصول والأمل»، من قبل دار الكتب العلمية (بيروت، 1405 ه).

محقّق كتاب «رفع الحاجب» إلى أربعة وعشرين مؤلّفاً.

وفي ختام كلامنا عن المؤلف نتحف القارئ الكريم بشيء نافع وجميل وهو أن السيوطي يقول عند ذكر مؤلفاته: وله في العروض قصيدة وفي نظمه قلاقة(1)فلو صحت هذه النسخة فالمعنى ان في نظمه قلقاً واضطراباً.

ولكن المنقول في الروضات عن الذهبي: وفي نظمه بلاغة.(2)

ولعلّ الصحيح هو الثاني، لأنّه حسب الظاهر في مقام المدح لا الذم، وعلى كل تقدير فنحن نعرض هنا شيئاً من شعره الرائق في المؤنثات السماعية والّتي جمعها في ثلاثة وعشرين بيتاً، وقد سمعتها لأوّل مرة من أُستاذي الكبير ميرزا محمد علي المدرس الخياباني (1296-1373 ه) مؤلف «ريحانة الأدب».

وكنت قد عزمت على شرح هذه القصيدة وأنا في أواسط العقد الثاني من عمري ولم يُقدّر لي القيام بذلك.

قال ابن الحاجب:

نفسي الفداء لسَائل وافاني *** بمسائلٍ فاحَت كَغصن البانِ

أسماء تأنيث بغَير علامة *** هِي يا فَتى في عُرفهم ضَربان

قَد كانَ مِنها ما يؤنَث ثَمَّ ما *** هُوَ ذُوِ خيارٍ لاختلاف مَعان

أمّا الّتي لابُدّ مِن تأنيثها *** ستُّونَ مِنها العين والاُذنانِ

ص: 22


1- . بغية الوعاة: 2/135.
2- . روضات الجنات: 5/174. لم نعثر عليه في «سير أعلام النبلاء» ولا في «تاريخ الإسلام»، مع أنّ أكثر ما ذكره صاحب الروضات في ترجمته مأخوذ من هذين المصدرين. ولعله أخذ هذا الموضع من غير الذهبي دون أن يشير إلى مصدره.

والنفس، ثمّ الدّار، ثمّ الدّلو من *** أعدادها والسنّ والكَتفانِ

وجَهنّم، ثمّ السَّعير وعقرب *** والأرض، ثم الإست، والعَضُدان

ثمّ الجحيم ونارها ثمّ العصا *** والرِّيح منها وَاللَّظى وَيَدان

والغول والفردوس والفلك الّتي *** في البحر - تجري وهي في القرآن

وعروض شعر والذراع وثعلب *** والملح ثم الفاس والوركان

والقوس ثمّ المنجنيق وارنب *** والخمر ثمّ البئر والفخذان

وكذاك في ذهب وفهر حكمهم *** ابداً وفي ضرب بكلّ معانٍ

والعين والينبوع والدّرع الّتي *** هي من حديد قطُّ والقدمان

وكذاك في كبد وفي كرش وفي *** سقر ومنها الحرب والنعلان

وكذاك في فرس وكأس ثمّ في *** أفعىٰ ومنها الشمس والعقبان

والعنكبوت تدبُّ والموسى معا *** ثمّ اليمين واصبع الإنسان

والرّجل منها والسراويل التي *** في الرّجل كانت زينة العريان

وكذا الشّمال من الاناث ومثلها *** ضبع ومنها الكفُّ والسّاقان

***

أمَّا الّذي قد كنت فيه مخيّراً *** هو كان سبعة عشر في التّبيان

السّلم، ثم المسك، ثم القدر في *** لغة ومنها الحال كلّ أوان

ص: 23

والليث منها والطّريق وكالسُّرى *** ويقال في عنق كذا ولسان

وكذا السّماء والسّبيل مع الضحىٰ *** ثمّ السلاح لقاتل الطعان

والحكم هذا في القفا أبداً وفي *** رحم وفي السكين والسُّلطان

فقصيدتي تبقى واني اكتسي *** ثوب الفناء وكلّ شيء فان(1)

وما أفاده في آخر القصيدة: «وقصيدتي تبقى...» كلام حق، فقد بقيت قصيدته في الاذهان والكتب وإن بَلى جسمه.

ولعل هذا المقدار في التعرف على المصنّف كاف ولمن أراد المزيد فليرجع إلى المعاجم خصوصاً «موسوعة طبقات الفقهاء» حيث وردت فيها مصادر ترجمته.(2)

الشارح

لا عتب على اليراع إن وقف عن الإفاضة في تحديد شخصية لامعة تُعدّ من أبرز النوابغ والفطاحل الذين يضنّ بهم الزمان إلّافي فترات قليلة، فإن شارح المختصر هو من تلك الطبقة العليا ومن أعاظم الفقهاء والأُصوليين. وفي كلمة: انّه

ص: 24


1- . روضات الجنات: 5/186-187.
2- . موسوعة طبقات الفقهاء، تأليف اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام: 7/152.

شيخ الإسلام، والمجتهد الأكبر، والمتكلم الفذ، والباحث الكبير، جمال الدين أبو منصور المعروف بالعلّامة الحلي، وبآية اللّٰه على الإطلاق، و بابن المطهّر. ولد في شهر رمضان سنة 648 ه و أخذ عن والده الفقيه المتكلم البارع سديد الدين يوسف، و عن خاله شيخ الإمامية المحقّق الحلي الذي كان له بمنزلة الأب الشفيق له، فحظى باهتمامه ورعايته، ولازم الفيلسوف الكبير نصير الدين الطوسي مدة و اشتغل عليه في العلوم العقلية وبرع فيها وهو لا يزال في مقتبل عمره.

يعرّفه معاصره أبو داود الحلي، بقوله: شيخ الطائفة، وعلّامة وقته، وصاحب التحقيق و التدقيق، كثير التصانيف، انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول و المنقول.(1)

وقال الصفدي: الإمام العلاّمة ذو الفنون، عالم الشيعة وفقيههم، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته... و كان يصنف و هو راكب... و كان ريّض الأخلاق، مشتهر الذكر... وكان إماماً في الكلام والمعقولات.(2)

وقال ابن حجر في لسان الميزان: عالم الشيعة وإمامهم ومصنفهم، وكان آية في الذكاء... و كان مشتهر الذكر، حسن الأخلاق.(3)

ويقول في الدرر الكامنة: اشتغل في العلوم العقلية فمهر فيها وصنّف في الأُصول والحكمة وكان رأس الشيعة بالحلّة، واشتهرت تصانيفه وتخرج به جماعة، وشرحه على مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن في حل ألفاظه وتقريب معانيه،

ص: 25


1- . رجال أبي داود: 119، برقم 461.
2- . الوافي بالوفيات: 85/13، برقم 79.
3- . لسان الميزان: 317/2.

وصنف في فقه الإمامية وكان قيّماً بذلك داعية إليه... إلى أن قال: بلغت تصانيفه مائة وعشرين مجلداً.(1)

تصانيفه في علم الأُصول

قد تقدم تصريح ابن حجر بأن تصانيف العلّامة قد بلغت مائة وعشرين مجلداً ومن أراد أن يطلع على تصانيفه في مختلف العلوم الإسلامية من الفقه والأُصول والمنطق والكلام والفلسفة والتفسير والرجال فعليه أن يرجع إلى ما ألفه السيد عبد العزيز الطباطبائي رحمه الله في ذلك المضمار وأسماه ب «مكتبة العلّامة الحلّي».

إلّا أننا نقتصر في المقام بذكر تصانيفه في علمي المنطق والأُصول، لأنّ هذا التقديم مختص بأحد كتبه في هذين المضمارين، فنقول: إن العلّامة الحليّ قد ضرب في علمي المنطق والأُصول بسهم وافر فألّف فيهما مختصرات ومتوسطات ومطوّلات، نشير أوّلاً إلى كتبه في علم الأُصول ثم نتطرق فيما بعد إلى كتبه في المنطق، فنقول:

إن له في الأُصول سبعة كتب هي:

1. «مبادئ الوصول إلى علم الأُصول»، (مطبوع) ذكره المصنّف لنفسه في الخلاصة، وفي إجازته للسيد المهنّا.

2. «منتهىٰ الوصول إلى علمي الكلام والأُصول» ذكره المصنّف في الخلاصة، وفي إجازته للسيد المهنّا، فرغ منه يوم الجمعة السادس عشر من شهر جمادى الأُولى سنة 687 ه.

3. «نهج الوصول إلى علم الأُصول»، ذكره المصنّف في الخلاصة،

ص: 26


1- . الدرر الكامنة: 2/71.

وإجازته للسيد المهنّا. وأحال في مبحث الحقيقة الشرعيّة من هذا الكتاب إلى كتاب «نهاية الوصول».

4. «تهذيب الوصول إلى علم الأُصول»، (مطبوع) ذكره المصنّف في الخلاصة، وإجازته للسيد المهنّا، وله شروح كثيرة.

5. «نهاية الوصول إلى علم الأُصول». ذكره المصنّف في إجازته للسيد المهنّا.

وعرّفه في «الخلاصة» بقوله: كتاب جامع في أُصول الفقه لم يسبقه أحد، فيه ما ذكره المتقدّمون والمتأخّرون ألّفه بالتماس ولده فخر الدين. وقد قامت بتحقيقه اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام وطبع في خمسة اجزاء.

6. «غاية الوصول وإيضاح السبل» في شرح مختصر منتهىٰ السؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل(1) لابن الحاجب (المتوفّىٰ 646 ه) ذكره المصنّف في خلاصة الرجال، وهذا هو الكتاب الّذي بين يدي القارئ الكريم.

7. «النكت البديعة في تحرير الذريعة»، وهو في شرح «الذريعة في أُصول الفقه» تأليف السيد الشريف المرتضىٰ.

تصانيفه في المنطق:

ألّف العلّامة في هذا المضمار ما يقرب من عشرة كتب نشير إلى بعضها:

1. الأسرار الخفية في العلوم العقلية: فالجزء الأوّل منه في المنطق، وهو مطبوع.

ص: 27


1- . عبّر ابن الحاجب عن المنطق بالجدل.

2. الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد: شرح فيه قسم المنطق من كتاب التجريد لاستاذه المحقّق نصير الدين الطوسي، وهو مطبوع منتشر.

3. القواعد الجلية في شرح الشمسية: توجد نسخه في المكتبات.(1)

4. مراصد التدقيق ومقاصد التحقيق في المنطق والطبيعي والإلهي: ألفه لسعد الدين صاحب الديوان توجد نسخه في المكتبات.(2)

ثم أن البحاثة السيد عبد العزيز الطباطبائي ذكر له أربعة كتب في المنطق، وبما أنها مفقودة فقد أعرضنا عن ذكرها.(3)

منهج التحقيق

من أجل اخراج هذا الكتاب بهذه الحلّة القشيبة تم الاعتماد على نسختين قديمتين من نُسَخِه، وهما:(4)

الأُولى: وهي الموجودة صورتها في مكتبة «مجمع البحوث الإسلامية» في مشهد المقدسة. وعليها تملك الباحث المتتبع الشيخ محمد السماوي المتوفّىٰ عام 1370 ه، وقد كانت النسخة عنده مجهولة المؤلف لكنه عرف مؤلفها من خلال النقل فيها عن كتب العلّامة، حيث يحيل فيه إلى «الاسرار الخفية في العلوم العقلية» و «مناهج اليقين في أُصول الدين» وإليك نص عبارته:

ص: 28


1- . مكتبة العلّامة الحلّي: 160.
2- . نفس المصدر: 185.
3- . نفس المصدر: 52، 63، 77، 114، 135، 173، 206.
4- . ذكر السيد عبد العزيز الطباطبائي لهذا الكتاب تسع نسخ خطية وذكر مشخصاتها، إلّاأنّه لم يذكر - ضمنها - النسخة الأُولى (نسخة الشيخ السماوي رحمه الله). انظر مكتبة العلّامة الحلي: 134-135.

أقول: أحمد اللّٰه الّذي كشف لي عن هذا الكتاب العزيز واظهره على يدي بالقرائن، الّتي منها: تحويله في المنطق على كتاب «الاسرار»، وفي الكلام على كتاب «مناهج اليقين» مكرراً في المقامين، ومنها تصريحه في ابطال ما يُعترض به على الإمامية أو ينسب إليهم ممّا لا يقولون به، ومنها تصريحه مراراً بمذهب السيد المرتضىٰ والشيخ الطوسي قائلاً من أصحابنا إلى غير ذلك، ولولا أن كتاب «الاسرار الخفية» وكتاب «مناهج اليقين» للعلّامة عندي لما كشف لي، فالحمد للّٰه على ما منح والصلاة على محمد وآله وعلماء دينه الجارين على منواله كتبه محمد السماوي عفي عنه في بغداد 1349 ه.

وما اشار إليه قدس سره من الكتابين هو الّذي يذكره الشارح رحمه الله في مقدمة هذا الكتاب، فيقول: ولما لطف اللّٰه تعالى لنا بإملاء كتابي «الاسرار [الخفية]» و «المناهج [مناهج اليقين] في المباحث العقلية وتحصيل العقائد اليقينية» توجّهنا بالطلب نحو املاء شيء في هذا العلم، ولمّا كان الكتاب الموسوم بمختصر منتهى السوؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل... الخ.

ثم ان الشيخ السماوي يقول في ظهر الصفحة الأُولى من الكتاب: ثم وجدت نسخة أُخرى ناقصة أيضاً واكملتها على نسخة أُخرى ناقصة أيضاً وجدت في خزانة الرضا عليه السلام والّذي اظنه قوّياً ان جملة من هذه النسخة (الّتي تملّكها) بخط العلّامة اعلى اللّٰه مقامه نظراً لما ملكته من خطه قدس سره. وقد مدح ابن حجر هذا الكتاب في الدرر الكامنة عند ذكره للعلّامة باسم الحسين لا الحسن بن يوسف بن المطهر فانظر هناك.. محمد السماوي وحرر في سنة 1362 ه.

وجاء في آخر هذه النسخة: فهذا اخر ما اردنا ايراده على هذا الكتاب والحمد للّٰه رب العالمين وصلى اللّٰه على سيد المرسلين محمّد النبي وآله الطيبين الطاهرين،

ص: 29

وكان آخر فراغه يوم السبت الثاني والعشرين من شهر رجب سنة 697 سبع وتسعين وستماية.

ولعل ما ذكره الشيخ السماوي ونقلناه بنصه كاف في التعريف بالنسخة، غير أنّه بقي لنا كلام في تاريخ تأليفها ونسخها، وسيوافيك عن قريب.

النسخة الثانية: وهي الموجودة صورتها في مكتبة العتبة الرضوية المقدسة في مشهد الرضا عليه السلام، وأصل النسخة في مكتبة الوزيري في يزد برقم 1955، وهي تقع في 229 ورقة، وجاء في آخرها: اتفق الفراغ من تحريره ضحوة يوم الجمعة في اواخر ربيع الآخر سنة أربع عشرة وسبعمائة ببلدة السلطانية حماها اللّٰه تعالى على يد أضعف عباد اللّٰه محمد بن محمود بن محمد ملك الطبري كفّر اللّٰه عن سيئاته، وفرغ مصنفه من تسويدها في ليلة الثامن من شهر رمضان المبارك من سنة تسع وسبعين وستماية، والحمد للّٰه والصلاة على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

تنويه

جاء في آخر النسخة الأُولى العبارة التالية: «وكان آخر فراغه يوم السبت، الثاني والعشرين من شهر رجب سنة 697 ه، والظاهر أن العبارة من انشاء المؤلف لا الناسخ، وقد مرّ ان العلّامة السماوي الخبير في معرفة النسخ الخطية «ان جملة من هذه النسخة بخط المؤلّف» أو خط من أملىٰ عليه المؤلف مباشرة ويشهد على ذلك عدم وجود اسم للناسخ ولا لتاريخ الكتابة وعلى ضوء ذلك فالمعتمد في تاريخ تأليف الكتاب هو ما جاء فيها.(1)

ص: 30


1- . ذكر السيد عبد العزيز الطباطبائي رحمه الله انّه توجد مخطوطة كتبت في 5 رجب سنة 691 ه في

ولكن الظاهر من النسخة الثانية أنّه فرغ من تسويدها في ليلة الثامن شهر رمضان المبارك من سنة تسع وسبعين وستمائة، والظاهر أن ذلك من إنشاء الناسخ وحكايته، وعلى هذا يكون المعتمد هو الأوّل، وأما السبعين المذكورة فيحتمل أن تكون تسعين لوجود التشابه بين الكلمتين في الخط، وهذا كثير الاتفاق في النسخ الخطية.

على أن المؤلف قد ذكر أنّه قد ألف هذا الشرح بعد تأليفه لكتابه «الاسرار الخفية» و «مناهج اليقين» بشهادة أنّه قد فرغ من تأليف «مناهج اليقين» سادس ربيع الآخر سنة 681 ه، كما في نسخة مكتبة ملك.(1)

وأما: «الأسرار الخفية في العلوم العقلية» فهي فاقدة لتاريخ التأليف.

على أن المؤلف غار في هذا الكتاب وذكر مباحثاً عميقة يناسب أنّه كتبها في أواسط عمره لا في مقتبل شبابه. فلو كان تاريخ النسخة 679 ه لكان عمره 31 سنة، وأما لو كان التاريخ 697 ه فيكون عمره 51 سنة، وهو الأنسب.

ص: 31


1- . مكتبة العلّامة الحلي: 92.

شكر وتقدير

وفي الختام نتقدم بالشكر الجزيل إلى صديقنا العزيز حجة الإسلام والمسلمين الشيخ علي أكبر الآلهي الخراساني مسؤول مجمع البحوث الإسلامية في مشهد الرضا عليه السلام والّذي اتحفنا بمصورتي مخطوطتي الكتاب، فشكراً له، فكم له من أيادٍ بيضاء على العلم وأهله وجهود خيّرة من أجل نشر الثقافة الإسلامية.

ونتقدم بالشكر الوافر إلى محقّق الكتاب الشيخ آ. مرداني پور الّذي بذل جهوداً مشكورة في تحقيق الكتاب وأردفه بتعليقات مفيدة وهو أحد ابنائنا الفضلاء حيث حضر دروسنا في علم أُصول الفقه لأكثر من دورة حضور جد واستفادة، فشكر اللّٰه مساعيه.

ونشكر أيضاً اعضاء اللجنة العلمية في مؤسستنا وهم؛ محمد عبدالكريم، و محمد الكناني، و خليل النايفي، الذين تولوا مقابلة مخطوطتي الكتاب وتصحيح متنه على ضوء المخطوطتين وإرجاع رواياته إلى مصادرها، وترجمة أعلامه وترقيم آياته وغير ذلك من الاعمال الفنية الهامة الّتي ساهمت بأن يخرج الكتاب بهذه الصورة الرائعة، فجزاهم اللّٰه خير الجزاء والحمد للّٰه رب العالمين.

جعفرالسبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام

15 من ذي القعدة الحرام 1428 ه

ص: 32

مقدمة المحقّق

بسم الله الرحمن الرحيم

كانت رحلة شيقة وشاقة في الوقت نفسه، وذلك برفقة شيخي وأُستاذي الكريم آية اللّٰه العظمىٰ الشيخ جعفر السبحاني (دام ظله) حيث كان طوال الرحلة يسدد الخطىٰ ويعدّل الاعوجاج وينقد ما كنت اكتبه من تعليق وتحقيق نقداً واعياً ودقيقاً نتلافىٰ به بعض العثرات الحادثة.

حينما فاتحني سماحته للقيام بتحقيق هذا الكتاب كنت راغباً عن تحمل المسؤولية لما لمثل هذا العمل من تعقيد في النص وصعوبة في المضمون، وما في النسخة الخطية من تشويش ومعوقات، إلّاانني قد رأيت رغبة من سماحته لانجاز ذلك، فبدأت متوكلاً على اللّٰه سبحانه لا لرغبة في العمل بل استجابة لرغبته - حفظه اللّٰه -، ولكن كان ما كان! لأنّ النهوض بهذه المهمة الصعبة عاد عليّ شخصياً بالكثير من الفوائد العلمية حيث فتح لي آفاقاً جديدة كنت بأَمسِّ الحاجة إليها، ولذلك أشعر بأني مدين في ذلك لشيخي الأُستاذ ورعايته الأبوية اتجاهي في هذا المعترك.

ولابد هنا من الاشارة إلى ان الدخول في اجواء الكتاب والتفاعل معها، حفَّزني إلى ان تكون لي مساهمات متواضعة تمثلت في كتابة تعليقات في الهامش لايضاح بعض الآراء والأفكار والمواقف، أملي أن تكون نافعة للمتلقي في معالجة بعض الصعوبات الّتي تعترض طريقه اثناء قراءة المتن والشرح.

دونما شك، لولا متابعة وإشراف سماحته - حفظه اللّٰه ورعاه - لم اتمكَّن من

ص: 33

اكمال المهمة ابداً، فبفضل جهوده المتواصلة ظهر هذا العمل المنسي إلى النور ليكون ساقية لأهل الفكر ومصدراً معتمداً لأساتذة علم الأُصول المقارن.

وقد استوفىٰ سماحته البحث في مقدمته الشيقة الجامعة لتعريف هذا الكتاب فلم يبق باقية؛ لكني رأيت من الضروري ان اتحدث قليلاً عن تجربتي الشخصية مع هذا العمل، لأني وجدت الشارح - العلّامة الحلي قدس سره - قد برز في شرحه المتفوق هذا، موضوعياً محنكاً لا يعيقه عائق في الاسترسال فكان - وللإنصاف - ابن بجدتها وملازم ارومتها، وان اردنا تلخيص معالم منهجه في هذا الشرح الكريم فهي كالآتي:

1. الأدب الرفيع ودماثة الاخلاق ولين العريكة في التعامل مع الآراء والمذاهب.

2. الابتعاد عن السجالات المذهبية العقيمة الّتي لا تخدم العلم ولا تكون سبباً لتطويره بذريعة الدفاع عن المذهب.

3. النقد الهادئ الرصين البنّاء الّذي لا يخرج العمل عن كونه شرحاً لكتاب؛ ففي الغالب تجده يعبر عن رأيه في ما لا يرتضيه بقوله: «فيه نظر!»، وهذا إنّما يكشف عن رباطة جأش الشارح المعظم حيث يكبح جماح رغباته عند حدودها.

أجل في البحوث المنطقية توسع في نقده بعض الشيء وذلك لمبررات وجيهة لا مجال للحديث عنها.

4. اضافة افكار جديدة لاثراء الشرح، ومنها درج رأي مدرسة آل البيت عليهم السلام الأُصولية.

5. ان العلّامة قدس سره بفضل احاطته بمختلف العلوم الإسلامية، تمكن من ان يعالج موضوعات كل علم وردت في المتن حسب قواعد ذلك العلم بحنكة وطول باع وقوة عارضة فقام بالواجب على احسن ما يرام.

وبذا تمكن الشارح المفضال أن يضع منهجاً رزيناً ومتقناً لمن اراد أن يتبع

ص: 34

الطريق الأمثل في عملية الشرح والايضاح.

أن ما بين يدي القارئ المفضال هو الجزء الأوّل من جزئي كتاب «غاية الوصول والأمل...»، وقد حوىٰ بين دفتيه فصولاً وأبواباً هي كما يلي:

مبادئ علم الأُصول، علم المنطق [للصلة الوثيقة القائمة بين العلمين]، مبادئ اللغة، بحث الوضع، مباحث الاحكام، بحث الأدلة الشرعية من كتاب وسنة واجماع، عدالة الصحابة، اقسام الخبر، ومباحث الأمر.

نرجو من اللّٰه العلي القدير أن يكون في عوننا لمواصلة المشوار في الجزء الثاني من هذا الكتاب القيم الجاد.

وفي الخاتمة اتقدم بشكري وتقديري لاستاذي الجليل سماحة آية اللّٰه العظمى الشيخ جعفر السبحاني لرعايته الابوية ولشفقته وتوجيهاته القيّمة الّتي تصلح ان تكون أساساً لاعمال أُخرى لاتقل مكانة وجدّية عن هذا العمل.

كما اتقدم باعتذاري لو كان هناك تقصيراً ينشأ من العجز البشري عادة!

ولا يفوتني أن أُقدّم جزيل شكري وثنائي لزملائي في اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام الذين ساهموا في أمر التصحيح والمقابلة، كما اشكر السيد الجليل محسن البطاط الذي شاركنا في إنجاز هذا المشروع من خلال نضد حروف الكتاب واخراجه في حلة قشيبة لائقة.

والحمد للّٰه رب العالمين

آ. مرداني پور

5 ذي القعدة 1428 ه

ص: 35

ص: 36

مقدمة الشارح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدللّٰه ذي العزّة والجلال والقدرة والكمال، المنزّه عن الأشباه والنظائر والأمثال، المتقدّس عن إدراك الحسّ وارتسام الخيال، الذي خلق الإنسان في أحسن اعتدال من غير احتذاء بغيره ولا تقدّم مثال، وشرّفه بالعقل المميّز بين الحسن والقبح من الأفعال، وتمم كمال الممكن بإرساله الرسل ليتّضح له في شرعه الحرام والحلال؛ أحمده على ما أولانا من الإفضال، وأشكره على ما أعطانا من النوال، واستزيده من النعم في هذه الدنيا وفي المآل؛ وصلّى اللّٰه على سيّد المرسلين المخصوص ببلوغ أقصى نهايات الكمال، محمّدٍ المصطفىٰ وعلى آله خير آل، المعصومين من الزلل في القول والفعال.

أمّا بعد، فقد أطبقت العقلاء واتّفقت العلماء على انّ أشرف النفوس الإنسانية بتكميلها في قوتها العملية، سبب مُعد لتحصيل السعادة الأُخروية، وذلك غير ممكن إلاّ بامتثال الشرائع السمعية والاقتداء بالأوامر الإلهية فكان من لطف اللّٰه تعالى بالبريّة، نصب الأحكام الشرعية.

ولمّا توقفت الأحكام على معرفة مصدرها وكيفية صفاته، وعلى معرفة الصادع بها والنظر في معجزاته، وكان علم الكلام هو المتكفل بهذه الأشياء؛ وجب

ص: 37

تقديم العلم به على العلم بالأحكام. ثمّ لمّا كانت الأحكام متلقاة من الخطاب الإلهي، ومستفادة من الأمر النبوي وكانت ضروب الخطاب متكثرة الاعتبارات، متباينة في الدلالات؛ وجب أن يوضع لكيفية استخراج الأدلة قانون يرجع إليه ويعوّل عليه، وذلك هو الفن المرسوم(1) بأصول الفقه. ولمّا لطف اللّٰه تعالى لنا باملاء كتابيّ:

«الاسرار الخفية» و «مناهج اليقين» في المباحث العقلية وتحصيل العقائد اليقينية، توجهنا بالطلب نحو املاء شيء في هذا العلم.

ولمّا كان الكتاب الموسوم ب «مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل»(2) من مصنّفات الإمام العلاّمة جمال الدين ملك المناظرين أبي بكر عمر بن الحاجب،(3) قد احتوى من المسائل الشريفة والمباحث اللطيفة والايرادات اللائحة والأجوبة الواضحة، على ما لم يوجد في المبسوطات ولم يسطر في كثير من المطولات إلاّ انّه قد بلغ في الاختصار إلى حد الايجاز حتّى كاد يعدّ من الالغاز، فالناظر فيه لا يحصل إلاّ على قليل من معانيه؛ صرفنا الهمّة في كشف أغواره، وايضاح أسراره، وإظهار ما التبس فيه من المشكلات، وإبراز ما استتر من المعضلات، ولم نتجاوز حدّ الشرح في هذا الكتاب بذكر ما يعتمد عليه في

ص: 38


1- . في «ب»: الموسوم.
2- . إن ابن الحاجب قد اختصر «الإحكام في أُصول الأحكام» للآمدي واضاف إليه مباحث المنطق وسمّاه «منتهىٰ السؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل» ثم اختصر الأخير فأسماه «مختصر منتهىٰ السؤل والأمل في علمي الأُصول والجدل».
3- . كذا في «الف» وأمّا «ب» فقد جاء فيها «ابن بكر بن عمر بن عثمان الحاجب»، والصحيح - كمافي أكثر من مصدر - أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس المعروف ب «ابن الحاجب».

المسائل، بل اقتصرنا على تحليل معانيه(1) ووسمناه ب «غاية الوصول وإيضاح السبل(2) في شرح مختصر منتهى السؤل والأمل»، معتصمين باللّٰه تعالى ومتوكلين عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 39


1- . إنّ الشارح قدس سره لم يكتف في مطاوي الكتاب بالشرح والتحليل السطحيين، بل طفق يعالج القضايا المطروحة بدقة وعمق في المجالات الّتي تعرّض لها المصنّف في هذا المقام وبسبب المعارك الّتي احتدمت في ثنايا الكتاب، نجده قد برز ناقداً محنكاً، ومنظِّراً متميزاً في معترك مختلف الآراء.
2- . لعلّ التسجيل الصحيح لهذه المفردة هو «السَبَلْ» وذلك لأجل استقامة السجع وهي بمعنىٰ: «المطر النازل من السحاب قبل أن يصل إلى الأرض» كما في كتب اللغة.

ص: 40

قال: بسم اللّٰه الرحمن الرحيم

الحمد للّٰه ربّ العالمين، وصلّى اللّٰه على سيّدنا محمّد وسلّم.

أمّا بعد؛ فإنّي لما رأيت قصور الهمم عن الإكثار، وميلها إلى الإيجاز والإختصار؛ صنّفت مختصراً في أصول الفقه،(1) ثمّ اختصرته على وجه بديع وسبيل منيع، لا يصدّ اللبيب عن تعلّمه صاد، ولا يرد الأديب(2) عن تفهمه راد، واللّٰه اسائل(3) أن ينفع به، وهو حسبي ونعم الوكيل.

***

وينحصر في؛ المبادئ، والأدلة السمعية، والاجتهاد، والترجيح(4). *

مبادئ علم الأُصول

* أقول: النظر في أصول الفقه إنّما هو نظر في طرق الأحكام الشرعية وكيفية الاستدلال بها، والأحكام الشرعية كما تلزم(5) المجتهد، تلزم(6) غيره، ولكلّ...

ص: 41


1- . ستجد أن المصنّف قد توسع حتّى شمل بحثه علمي المنطق والكلام، وذلك لمبررات موضوعية نبه عليها.
2- . في نسخة «ب»: الأريب.
3- . في نسخة «ب»: أسألُ.
4- . هذا التقسيم الرباعي هو نفس التقسيم الّذي يتبناه الآمدي في «الإحكام» من ذي قبل وجعله مفاصل لبحوث كتابه هذا.
5- . في نسخة «الف» ونسخة «ب»: يلزم.
6- . في نسخة «ب»: يلزم.

قال: فالمبادئ: حدّه، وفائدته، واستمداده. *

واحد منهما طريق إلى تحصيل ما كلف به، فطريق المجتهد الاجتهاد وطريق غير المجتهد الاستفتاء.

والاجتهاد قد يكون بالأدلة العقلية وقد يكون بالأدلة السمعية، فيجب النظر في الأدلة السمعية في هذا العلم، وأمّا الأدلة العقلية فانّها غير دالّة على معرفة الأحكام عند المصنف فإنّه لا يقول بالوجوب العقلي وغيره من الأحكام فلهذا لم يجعل النظر في كيفية دلالتها(1) من هذا العلم على الاجتهاد وكيفيته.

ولما كانت الدلائل السمعية قد تتعارض بإن يرد عامّان أو خاصّان أو عامّ وخاصّ، أو يحصل فرع يمكن رده إلى أصلين متعارضين، وجب النظر في الترجيح.

وأمّا النظر في المبادئ، فإنّما وجب لكون كلّ علم لابدّ من مبادٍ ينبني ذلك العلم عليها فوجب النظر في المبادئ.

* أقول: المبادئ لكلّ علم قد تكون تصوّرات وقد تكون تصديقات، فالتصورات هي الحدود، والحدود:

أمّا حدود موضوع العلم.

وأمّا حدود أجزائه.

أو حدود جزئياته. أو حدود أعراضه الذاتية.

والمصنف جعل الحدّ - الذي هو المبدأ هاهنا - هو حدّ العلم، وكون

ص: 42


1- . أي: الدلالة العقلية.

قال: أمّا حدّه لقباً، فالعلم بالقواعد الّتي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية. *

العلم محدود بما حدّه المصنف، فيه نظر؛ فإنّه إنّما عرّفه بإضافته إلى المعلوم، وإضافته إلى المعلوم من الأمور الخارجة عنه، فإنّ العلم من الصفات الحقيقية التي تلزمها الإضافة فيكون هذا الذي ذكره من قبيل الرسوم.

وأمّا التصديقات، فهي المقدمات الّتي يبتني العلم عليها، وبيانها إنّما يكون في علم آخر وهو المراد من الاستمداد من ذلك العلم.

وإمّا الفائدة فهي الغرض من ذلك العلم، وفي كونه من المبادئ، نظر.

تعريف علم أُصول الفقه

* أقول: أصول الفقه لفظ مركب، كل واحد من جزئيه قد وضع في اللغة على معنى وقد استعمل أحد جزئيه في العرف على معنى آخر، ثمّ إنّ مجموع اللفظين قد جعلا علماً على علم خاص، فلهذا المركب اذن، حدّان:

احدهما: بحسب اللقب وهو الذي جعل فيه مجموع اللفظين علماً على هذا العلم.

والثاني: بحسب الاضافة والتركيب.

والفرق بينهما ظاهر، فإنّ الأوّل لا إلتفات فيه إلى الأجزاء(1) من دلالتها على ما وضعت له، وإنّما الالتفات فيه إلى الاستعمال الطارئ، والثاني على العكس.

وقدم المصنف الحد بحسب اللقب على الحد بحسب الاضافة لكونه هو

ص: 43


1- . في نسخة «ب»: حال الأجزاء.

....................

المطلوب هاهنا بالذات، وذكر في تحديده: العلم فإنّه جنس عال، وقوله:

بالقواعد، إشارة إلى الأمور الكلية الّتي يبتني عليها غيرها.

وقوله: الّتي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام... احترز به عن القواعد التي يستنبط منها العلم بالماهية والصفات، وقيّد الأحكام بالشرعية ليخرج الأحكام العقلية عنه.

وقوله: الفرعية عن أدلتها التفصيلية... ليخرج الأحكام الشرعية التي لا تكون فرعية.

وهذا الحد فيه نظر لانطباقه على علم الخلاف.(1)

ص: 44


1- . قد قيل في تعريف علم الخلاف: «هو علم تعرف به كيفية ايراد الحجج الشرعية ودفع الشبهة وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية»، وهو الجدل الّذي هو قسم من المنطق إلّاانّه خص بالمقاصد الدينية. وفي المبررات الموضوعية لظهور هذا العلم قالوا: لما انتهىٰ الأمر إلى اقتصار الناس علىٰ تقليد الأئمة الأربعة، جرىٰ الخلاف بين المتمسكين بها مجرىٰ الخلاف في النصوص الشرعية، فجرت بينهم مناظرات في تصحيح كل منهم مذهب إمامه، ولابد لصاحب هذا العلم من معرفة القواعد الّتي يتوصل بها إلى استنباط الاحكام كما يحتاج المجتهد، إلّاأن المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلاف يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل من أن يهدمها المخالف بأدلته. ينظر: كشف الظنون: 1/721؛ مقدمة ابن خلدون: 456. ويبدو أنّ مراد المؤلف من «الجدل» في عنوان كتابه: «... في علمي الأُصول والجدل»، هو علم الخلاف، واللّٰه العالم.

قال: وأمّا حدّه مضافاً، فالأُصول: الأدلة؛ والفقه: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال. *

* أقول: هذا هو الحدّ بحسب المعنى الثاني وهو الذي ينظر فيه من حيث الأجزاء وكيفية دلالتها على ما وضعت له، وهذا الحدّ إنّما يتألف من حدود الأجزاء فانّه بهذا المعنى مركب، والمركب يستحيل معرفته دون معرفة أجزائه من حيث جعلت أجزاء، فالأصول هي الأدلة، فإنّ أصل كلّ شيء ما يسند إليه والمدلول يسند إلى الدليل.

والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية بالاستدلال، فالعلم: جنس، والتقييد بالأحكام، ليخرج(1) العلم بالذوات والصفات، وتقييد الأحكام بالشرعية، لتخرج الأحكام العقلية، وتقييد الشرعية بالفرعية، ليخرج ما ليس بفرعي منها كالعلم بكون انواع الأدلة حجّة.(2)

وقوله: عن أدلتها التفصيلية... ليخرج عنه اعتقاد المقلد.

وقوله: بالاستدلال... ليخرج علم واجب الوجود وعلم الملائكة.(3)

لا يقال: الفقه من باب الظنون فكيف تجعلون جنسه العلم؟

لانّا نقول: الظنّ إنّما هو في طريقه.

ص: 45


1- . في «ب»: عنه.
2- . في «ب»: حججاً.
3- . لان العلم الحاصل بالاستدلال حصولي، وعلم واجب الوجود وعلم الملائكة حضوري في غنىً عن الاستدلال لحضور المعلوم فيه عند العالم، هذا وفي كيفية علم الباري بين العلماء خلاف.

قال: وأورد: إن كان المراد البعض، لم يطردّ(1) لدخول المقلِّد، وان كان الجميع، لم ينعكس(2) لثبوت «لا أدري». *

وهاهنا سؤال وهو أن يقال: الدليل إذا كان إحدى مقدماته ظنية كان ظنياً فكيف تجعلون الطريق ظنياً والفقه علماً؟

والجواب أن نقول: هاهنا مقدمتان يقينيتان تفيدان العلم بالأحكام الفقهية وهما:

إنّ المكلّف متى نظر في الأخبار وغيرها من الطرق، حصل عنده ظن بثبوت ذلك الحكم وهذا يقينيّ.

وكلّ من حصل له ظن بثبوت الحكم، وجب عليه ذلك الحكم بالإجماع.

وهما تنتجان القطع بوجوب الأحكام الشرعية.

* أقول: هذا سؤال يرد على حد الفقه، وتقريره: الفقه هو العلم بالأحكام، فإمّا أن يريد العلم ببعض الأحكام، أو يريد العلم بجملة الأحكام، والقسمان باطلان:

أمّا الأوّل فلعدم الإطراد، أعني وجود الحدّ بدون المحدود، فإنّ المقلِّد الّذي استفاد بعض المسائل، يكون قد وُجد فيه الحدّ دون المحدود فانّه لا يسمّى فقيهاً مع إنّه عالم.

وأمّا الثاني فلعدم الانعكاس، أعني وجود المحدود بدون الحدّ، فإنّ كثيراً من العلماء يسمّون فقهاء مع عدم علمهم بجملة الأحكام الشرعية، فانّه قد نقل

ص: 46


1- . أي لم يكن مانعاً لدخول الغير.
2- . أي لم يكن جامعاً لجميع الأفراد.

قال: وأجيب بالبعض، ويطرد لأنّ المراد بالأدلة الأمارات، وبالجميع، وينعكس لأنّ المراد تهيئته للعلم بالجميع. *

عن الإمام مالك انّه سُئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: «لا أدري»، مع أنّه كان فقيهاً، وإلى هذا أشار المصنّف بقوله: لثبوت «لا أدري».

ومن شرائط الحدّ، الاطراد والانعكاس فانّ التعريف بالأعمّ غير حاصل وكذلك بالأخص.

* أقول: المصنف أجاب عن هذا السؤال على تقدير كلّ واحد من قسمي المنفصلة:

أمّا على تقدير أن يكون المرادُ البعضَ، فالاطراد حاصل لانّ المقلِّد [لا] يدخل في هذا الحد لأنّ المراد بالأدلة إنّما هي الأمارات والمقلِّد إنّما يستفيد الحكم من الأمارة الدّالة على صدق المقلَّد، وعلى هذا التقدير [لا] يكون المقلِّد فقيهاً، ويطرّد الحد.(1)

ويحتمل أن يكون مراد المصنف: إنّ المقلِّد لا يكون فقيهاً لأنّ المقصود من الأدلة، الأمارات وهي التي يلزم من الظن فيها ظنّ وجود الشيء، والمقلِّد ليس بناظر.

لكنّ هذا الاحتمال بعيد لأنّ تعليله في خروجه عن الفقه بكون الأدلة أمارات، غير مفيد في هذا.

ص: 47


1- . حاصل كلامه: ان المقلِّد يعتمد على كبرىٰ واحدة وهي أن كلَّ ما أفتى به المفتي فهو حجة. وهذا بخلاف المجتهد فانّه يعتمد في كل مسألة على كبرى، وبالتالي يعتمد في عامة الفقه على أمارات وكبريات متوفرة.

قال: وأمّا فائدته، فالعلم بأحكام اللّٰه تعالى. *

قال: وأمّا إستمداده، فمن الكلام والعربية والأحكام. أمّا الكلام، فلتوقف الأدلة الكلية على معرفة الباري تعالى، وصدق المبلّغ، ويتوقف(1) على دلالة المعجزة. **

والأولى أن يقال: أنّ المقلِّد غير فقيه لأنّا نشترط في الفقيه كونه عالماً بالأحكام التفصيلية من طريق الاستدلال.

وأمّا على تقدير أن يكون المراد بالأحكام الجميع، فالإنعكاس ثابت لأنّ المراد من العلم ليس هو العلم بالفعل بجميع الأحكام بل هو الاستعداد التام القريب من الفعل على معنى أن يكون مقتدراً على استخراج الأحكام الجزئية من القواعد الكلية.

فائدة علم الأُصول وإستمداداته

(*) أقول: قد بيّنا أنّ أصول الفقه إنّما هو النظر في طرق الأحكام الشرعية، فالمقصود منه تحصيل الطريق الذي به يتوصل إلى معرفة الأحكام الشرعية التي وقع التكليف بها لتحصل السعادة الأخروية.

(**) أقول: العلم بأدلة الأحكام الشرعية وكونها مفيدة لها شرعاً، يتوقف:

على معرفة اللّٰه تعالى، فإنّ معرفة الوجوب الشرعي بدون معرفة

ص: 48


1- . أي: صدق المبلغ.

قال: وأمّا العربية، فلأنّ الأدلة من الكتاب والسنة عربية، وأمّا الأحكام، فالمراد تصوّرها ليمكن اثباتها ونفيها وإلّا جاء الدور. *

الموجب، محال.

وعلى معرفة صفاته من كونه قادراً عالماً.

وعلى معرفة صدق الرسول صلى الله عليه و آله المتوقف على دلالة المعجزة.

والبحث في هذه الأمور إنّما هو في علم الكلام، فمبادئ هذا العلم(1) تتبين في علم الكلام فلهذا العلم استمداد منه.

(*) أقول: الأدلة التي تستفاد منها الأحكام الشرعية مأخوذة من الكتاب والسنّة وهما عربيان، فتتوقف دلالة اللفظ على معرفة موضوعاتها اللغوية من جهة الحقيقة والمجاز والخصوص والعموم والحذف والإضمار وغير ذلك ممّا يتبين في علم العربية، فلهذا العلم إستمداد من ذلك العلم.

وامّا إستمداد هذا العلم من الأحكام، فلأنّ الناظر في هذا العلم ناظر في طرق الأحكام فلابدّ وأن يكون متصوراً لحقائق تلك الأحكام، فإنّ الشيء الذي لا يكون متصوراً، يستحيل القصد إليه بالاثبات أو بالنفي.

ولا يراد هاهنا بالعلم بالأحكام، العلم من جهة التصديق حتّى يكون هذا العلم مستمداً من العلم بوجود الأحكام، لأنّ العلم بالوجود إنّما يثبت بالأدلة فلو تتوقف الأدلة عليه لزم الدور.

ص: 49


1- . أي: علم الأُصول.

قال: الدليل لغة: المرشد، والمرشد: الناصب والذاكر وما به الارشاد. وفي الاصطلاح: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، وقيل: إلى العلم به فتخرج الأمارة، وقيل: قولان فصاعدا يكون(1) عنه قول آخر، وقيل: يستلزم لنفسه، فتخرج الأمارة. *

تعريف الدليل واقسامه

* أقول: أصول الفقه هي أدلة الفقه، فالكلام فيها يحوج إلى معرفة الدليل وانقسامه إلى ما يفيد العلم والظن ومعرفتهما ومعرفة النظر من حيث التصور، فلهذا ذكر المصنف تعريف هذه الأمور.

فالدليل في اللغة يطلق على المرشد والمرشد هو الناصب للدليل، وقد يطلق على الذاكر للدليل، ويطلق أيضاً على ما فيه دلالة وإرشاد.

وأمّا في الاصطلاح فقد يطلق في عرف الفقهاء على ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، سواء كان ذلك المطلوب علماً أو ظناً.

وإنّما قلنا: ما يمكن التوصل بصحيح النظر ولم نقل ما يتوصل بصحيح النظر فيه، لأنّ الدليل الذي لا ينظر فيه لا يخرج عن كونه دليلاً لعدم النظر فيه، وقيدنا النظر بالصحيح ليخرج النظر الفاسد. وقولنا: إلى مطلوب خبري، احتراز عن الحدّ الذي يتوصل به إلى مطلوب تصوري.

ص: 50


1- . في نسخة «ب»: حتّى يكون.

قال: ولابدّ من مستلزم للمطلوب، حاصل للمحكوم عليه، فمن ثَمَّ وجبت المقدمتان. *

وأمّا الأصوليون فانّهم يخصصون الدليل بما يفيد العلم وحينئذٍ تخرج الأمارة لانّها تفيد الظن، وقد حده الاوائل بأنّه: قول مؤلف من أقوال يلزم عنها قول آخر، فالقول كالجنس، وقولنا: مؤلف من أقوال، تخرج عنه القضية، فانّها مركبة من مفردين، وقولنا: يلزم عنه قول آخر: احتراز من مجموع أي قضيتين كانتا، فانّه يستلزم أحدىٰ تينك القضيتين وهذا يشمل الدليل والأمارة وإذا قُيِّد المستلزم بقولنا لذاته، خرجت الأمارة فانّها لا تستلزم لذاتها لأنّ الأمارة قد تحصل من دون حصول الشيء الذي عليه الأمارة فإنّ وجود الغيم الرطب، أمارة لوقوع المطر وقد ينفك عنه ولوكان الاستلزام ذاتياً، امتنع الانفكاك.

المباحث المنطقية

(*) أقول: كل مطلوب تصديقي فانّه إنّما يكتسب بمقدمتين لا أقّل ولا أكثر، فإنّ المطلوب - وهو نسبة المحمول إلى الموضوع - إذا كانت(1) مجهولة فلابدّ من واسطة تتوسط بينهما تكون مستلزمة للمطلوب وهو الحدّ الأوسط - يكون ثابتاً للموضوع ويكون المحمول ثابتاً له - فتحصل المقدمتان، كمن يجهل أن العالم حادث فيأخذ الوسط وهو التغيّر ويجعله محمولاً على العالم وموضوعاً للحدوث فتحصل مقدمتان:

ص: 51


1- . الضمير يرجع إلى المطلوب وتأنيث الفعل باعتباره تفسيره بالنسبة.

قال: والنظر، الفكر الّذي يطلب به علم أو ظن. *

أحدهما: العالم متغيّر.

والثانية: كلّ متغير حادث.

وهما يستلزمان المطلوب.

حد النظر والعلم

* أقول: لفظة النظر تطلق على النظر البصريّ وتطلق على النظر الفكري، والمطلوب هاهنا بالتعريف هو الثاني فلهذا قيده(1) المصنف بقوله: الفكر. وعرفه بانّه «الذي يطلب به علم أو ظن وهو تعريف له بحسب الغاية».

والتعريف التام أنْ يقال: «النظر هو ترتيب أمور ذهنية يتوصل بها إلى أمر ذهني» ف «الأمور الذهنية» شاملة للقياس وللحد، والأمر الذهني يتناول المطلوب الخبريّ والمحدود؛ وقولنا: «إلى أمر ذهني» أعمّ من أن يكون علماً أو ظناً.

ص: 52


1- . في «الف»: قصده.

قال: والعلم(1) لا يحد، فقال الإمام: لعسره، وقيل: لانّه ضروري من وجهين:

أحدهما: انّ غير العلم لا يعلم إلاّ بالعلم فلو علم العلم بغيره كان دوراً.

وأُجيب: بأنّ توقف تصور غير العلم على حصول العلم بغيره، لا على تصوره فلا دور.

الثاني: إنّ كلّ أحد يعلم وجوده ضرورة.

وأُجيب: بأنّه لا يلزم من حصول أمر، تصوره أو تقدم تصوره. *

* أقول: اختلف الناس في ماهية العلم اختلافاً عظيماً وأنّه هل يُحد أم لا؟ لا لخفاء حقيقتها بل لشدة وضوحها، فقال قوم لا يحد واختلفوا، فذهب إمام الحرمين(2) والغزالي(3) إلى انّه إنّما لا يحد لعسره(4) فإنّ تحديد الأشياء...

ص: 53


1- . في بعض النسخ: قيل: لا يُحَدّ.
2- . هو أبو المعالي عبدالملك بن عبداللّٰه الجويني (419-478 ه) إمام الاشاعرة، وأحد مجددي منهج أبي الحسن الأشعري، خرج من نيسابور إلى الحجاز وأقام بمكة ثم المدينة فلقب بامام الحرمين. وقد ترجم له شيخنا السبحاني وذكر آراءه ونظرياته بالتفصيل في «بحوث في الملل والنحل»: 2/416-424.
3- . هو حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي (450-505 ه)، تلمذ لإمام الحرمين، وتولىٰ التدريس في مدرسة نظام الملك ببغداد، له الكثير من التصانيف في الفلسفة والكلام والتصوف وغير ذلك. وقد ترجم له شيخنا السبحاني أيضاً وذكر نماذج من آرائه في «بحوث في الملل والنحل: 2/425-442».
4- . وللآمدي في كتاب «الإحكام» رأي آخر في تصوير ما ذهب إليه العلمان، لاحظ: الإحكام: 1/29؛ البرهان في أُصول الفقه: 1/115؛ المستصفىٰ في أُصول الفقه: 1/25.

....................

الظاهرة كالمدركات الحسية مثل رائحة المسك وطعم العسل ممّا يعسر جداً وكيف يمكن ذلك والوقوف على الفصول من أصعب الأشياء لا سيّما مع مشاركة الخاصة للفصل في كثير من الأشياء، ومشاركة العرض للجنس في أمور كثيرة، فلعلّ المذكور جنساً اشتبه بالعرض العام والمذكور فصلاً اشتبه بالخاصة، وإذا كان حال المدركات كذلك فالادراك نفسه أشد تعذراً في التحديد.(1)

ثمّ إنّهم التجأوا في تعريفه إلى المثال فقالوا: ينبغي أن يقاس الادراك بالبصيرة الباطنة بالادراك بالبصر الظاهر [والتجأوا] إلى القسمة أيضاً، وهذا ضعيف؛ فإنّ القسمة والمثال إن افادا التمييز، صلحا للتعريف الرسمي وإنْ لم يفيداه، لم يصلحا للتعريف.

وذهب جماعة من الأوائل والمتأخرين ومنهم فخر الدين الرازي(2) إلى أنّ العلم لا يحد لأنّه ضروري(3)، واستدلوا بوجهين ذكرهماالمصنف وذكر تعريفهما:

الوجه الأوّل: انّ ما عدا العلم من الأشياء إنّما يعلم بالعلم، فالعلم إمّا أن

ص: 54


1- . قال الغزالي: وإذا عجزنا عن حدّ المدركات، فنحن عن تحديد الإدراكات أعجز، يراجع: المستصفى: 1/67.
2- . هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري (543-606 ه) أصله من طبرستان، ومولده في الري وإليها نُسب، وهو من أئمة الأشاعرة في عصره، وله الكثير من التصانيف المهمة ومنها مفاتيح الغيب في تفسير القرآن الكريم. اقرأ ترجمته وآراءه في ما كتبه شيخنا جعفر السبحاني في «بحوث في الملل والنحل: 2/451-462».
3- . يلحظ بهذا الصدد: «الإحكام» للآمدي: 1/29. والرازي يُعدّ من المتأخرين، وذهب ابن سهلان الساوي (المتوفّىٰ 450 ه) إلى ذلك أيضاً. وقال السُبْكي في رفع الحاجب: 1/260: والإمام في «المحصول» ذهب إلى أنّه ضروري، لكن لم يقل انّه لا يحد...

قال: ثم نقول: لو كان ضرورياً لكان بسيطاً، إذ هو معناه، ويلزم أن يكون كلّ معنى علماً. *

يعلم بشيء منها أو بنفسه، وعلى التقدير الأوّل يلزم الدور وعلى التقدير الثاني يلزم منه تقدّم الشيء على نفسه وهما محالان.

وأجاب المصنف عن هذا الوجه بأن قال: نختار القسم الأول وهو كون العلم مكتسباً من غيره؛ قوله: يلزم الدور، قلنا: ممنوع فانّ جهة التوقف هاهنا مختلفة، بيانه: انّ غير العلم من الماهيات يتوقف تصوره على حصول العلم بالغير لا على تصور العلم، وتصور العلم يتوقف على حصول غيره لا على تصوره، فالحاصل ان العلم وغيره من الماهيات يتوقف تصور كلّ واحد منهما على حصول الاخر فالافتقار في الصفات لا في الماهيات.

الوجه الثاني: أنّ كلّ عاقل يعلم وجوده ويعلم لذّته وألمه والنار حارّة والماء بارد وأنَّ النفي والإثبات لا يجتمعان ولايرتفعان إلى غير ذلك من القضايا الضرورية وهذه علوم خاصة، وإذا كانت العلوم الخاصة ضرورية، كان مطلق العلم ضرورياً لاستلزام ضرورة العلم بالمركب ضرورة العلم بالبسائط.

وأجاب المصنف عن هذا بأنّ العلم بالخاص حاصل ولا يلزم من حصول العلم بشيء، العلم بالعلم بذلك الشيء فإنّه لا يلزم من حصول أمر، تصوره ولا تقدم تصوره.

* أقول: لما أجاب المصنف عن الدليلين المذكورين، عارض معارضة تدلّ على انّ العلم غير ضروري وهي تبتني على قاعدة ذكرها المصنف فيما بعد وهي ان التصور الضروري هو الّذي لا يتقدمه تصور يتوقف عليه لانتفاء التركيب في متعلقه كالوجود والشيء، وهذه القاعدة ممّا اصطلح عليها هو وحده....

ص: 55

قال: وأصح الحدود، صفة توجب تميّزاً(1) لا يحتمل النقيض فيدخل ادراك الحواس، كالأشعري وإلّا، زيد في الأمور المعنوية. *

وإذا عرفت هذا فنقول: لو كان العلم ضرورياً لكان بسيطاً ويكون مساوياً للوجود والشيء، لانّه لا يكون أعمّ منهما وهو ظاهر ولا أخص والاّ لكان مركباً؛ وإذا كان مساوياً للوجود والشيء، صدق على كلّ ما صدقا عليه وهما صادقان على جميع المعاني فيكون السواد والبياض وغيرهما علوماً وهو محال.

واعلم أنّ هذه المعارضة رديئة جداً:

امّا أوّلاً: فلأنّ البسيط ليس هو معنى الضروري فلا يجب أن يصدق على الضروري أنّه بسيط فإنّ من المركبات ما تكون تصوراتها ضرورية كقولنا:

النفي والاثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان.

وأمّا ثانياً: فلأنّه لو سلم أنّ الضروري يجب أن يكون بسيطاً لكن لم يلزم أن يكون مساوياً للوجود والشيء.

قوله: لو كان أخص لكان مركباً،(2) قلنا: هذا ممنوع وإنّما يلزم التركيب لو كان الخصوص، خصوص النوع تحت الجنس.

أصحّ الحدود في تعريف العلم

* أقول: لما ابطل المصنف المذهب الأوّل وهو ان يكون تصور

ص: 56


1- . في «ب»: تمييزاً.
2- . ان هذه العبارة غير واردة في المتن، ولعل الشارح المعظم قد استخلصها من لازم كلام الماتن.

....................

العلم ضرورياً واختار المذهب الثاني وهو ان يكون كسبياً، شرع في تحديده، ونقل عن قدماء المعتزلة حدود مدخوله، والذي ذكره المصنف هاهنا أنّ العلم صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، فقولنا: صفة جنس، وقولنا: توجب تمييزاً، يفصله عن سائر الصفات التي لا تقتضي التمييز كالحياة والقدرة وما شاكلهما، وقولنا: لا يحتمل النقيض، يفصله عن سائر الاعتقادات.

وأعلم أنّ هذا الحدّ كما يتناول العلم بالأمور الكلية المعقولة، يتناول الإدراك بالأمور الجزئية المحسوسة بإحدى الحواس الخمس الظاهرة، وقد نازع جماعة في أنّه هل هو نوع من العلم أم لا؟ فذهب أبوالحسن الأشعري(1) إلى أنّه من قبيل العلوم(2)، وقال قوم(3) إنّه نوع مغاير للعلم.

والمصنف ذكر الحدّ على وجه يشتمل القسمين على ما ذهب إليه الأشعري وأشار إليه بقوله: فيدخل ادراك الحواس، كالأشعري يعني كما ذهب إليه الأشعري

ص: 57


1- . هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبداللّٰه الأشعري البصري (260-324 ه) شيخ أهل السنّة والجماعة وإمام الأشاعرة من أهل البصرة، كان معتزلياً تربىٰ في بيت أبي علي الجبائي وتتلمذ عليه، وتاب من ذلك بعد أن أقام على عقيدتهم أربعين سنة. انظر: وفيات الاعيان: 1/464.
2- . وقد عرف العلم بقوله: «العلم هو ما يوجب لمن قام به كونه عالماً». المواقف للأيجي: 5/53.
3- . يلحظ: شرح المقاصد للتفتازاني: 52/313. وقال الشارح قدس سره: والجمهور قد اطلقوا العلم على الادراك الكلي ولم يطلقوه علىٰ الّذي يقع بحسب الحواس. انظر: الاسرار الخفية في العلوم العقلية: 560.

قال: واعْتُرِض بالعلوم العادية، فانّها تستلزم جواز النقيض عقلاً.

وأجيب بأنّ الجبل إذا عُلم بالعادة أنّه حجر، استحال أن يكون حينئذٍ ذهباً ضرورة وهو المراد؛ ومعنى التجويز العقلي، انّه لو قدّر، لم يلزم منه محال لنفسه، لا انّه محتمل. *

قوله: وإلّا، زيد في الأمور المعنوية، إشارة إلى المذهب الثاني وهو قول من يجعل الإدراك نوعاً مغايراً للعلم فإنّه يحد العلم بحد أخصّ ممّا ذكره(1) وهو أن يزيد فيما ذكرنا. قوله: في الأمور المعنوية، فإنّ الادراك إنّما يتناول الشيء المحسوس والأمور المعنوية إنّما يدركها العقل.(2)

* أقول: هذا إيراد يرد على حدّ العلم وهو ان يقال: هذا الحدّ غير منعكس فلا يصلح للتحديد، بيانه: أنّكم قلتم العلم صفة توجب التميز بحيث يرتفع معه احتمال النقيض وهذا الحد لا يصدق في علوم كثيرة وهي جميع العاديات، فإنّ الجبل يعلم أنّه حجر حال غيبتنا والبحر ماء، وإنّا حين خروجنا من منازلنا نعلم أنّ ما فيها من الأواني لا تنقلب أشخاصاً، مع انّ احتمال النقيض في الكل ثابت لأنّ اللّٰه تعالى قادر على جميع هذه الأُمور فلعلّ البحر ينقلب دما والحجر ذهباً حال غيبتنا(3)، ومع هذا الاحتمال لا يصدق الحدّ مع انّ المحدود ثابت وهو العلم.

وأجاب المصنف عنه انّ الاحتمال لا نسلم انّه ثابت لانّ البحر والجبل يعلما بالعادة انّهما لم ينقلبا ويستحيل عليهما الانقلاب بالضرورة ومع هذا العلم كيف يبقىٰ الاحتمال للنقيض.

ص: 58


1- . في «ب»: ذكر.
2- . يراجع كشف المراد للشارح قدس سره: 232 [المسألة السادسة عشرة].
3- . في نسخة «ب»: غبنا.

قال: اعلم أنّ ماهية(1) الذكر الحكميّ إِمّا أن يحتمل متعلقه النقيض بوجه، أو لا، والثاني: العلم، والأوّل: امّا أن يحتمل النقيض عند الذاكر لو قَدَّره أو لا، والثاني: الاعتقاد، فإن طابق فصحيح وإلّا ففاسد، والأوّل: إمّا أن يحتمل النقيض وهو راجح أو لا، والراجح: الظن والمرجوح: الوهم والمساوي: الشكّ وقدعلم بذلك حدودها. *

والتجويز العقلي الذي ذكرتموه مسلم لكن لا يقدح في الجزم الحاصل فانّ معنى التجويز هاهنا كونه في نفس الأمر ممكناً.

وتحقيق هذا ان نقول: الممكن قد يكون ممكناً في الخارج وهو الّذي يجوز وجوده ويجوز عدمه في الخارج.

وقد يكون ممكناً في الذهن على معنى انّ الذهن يجوز عنده كلّ واحد من الطرفين بدلاً عن صاحبه ولا يلزم من ثبوت أحد الإمكانين ثبوت الآخر فإنّ واجب الوجود إذا شك الذهن فيه وانّه هل هو واجب أم لا، يجوّز العقل فيه كلّ واحد من الطرفين، وإذا كان كذلك، لم يلزم من إمكان انقلاب البحر والحجر دماً وذهباً، إمكان الإنقلاب في الذهن وهذا الجواب لا يخلو من دخل.

في تعريف الذكر الحكمي

* أقول: الذكر الحكمي(2) مثل قولنا: «قام زيد» و «زيد قائم» والذي عنه ذُكر الحكمي هو قيام زيد في الذهن ومتعلقه هو قيام زيد في نفس الأمر، وهو:

ص: 59


1- . في رفع الحاجب: 1/274: ما عنه، وكذلك في «ب» من النسختين.
2- . الذكر الحكمي - كما قيل - الكلام الخبري الدال على معنى الخبر، وماهية الذكر الحكمي هومفهوم الكلام الخبري.

....................

أمّا أن يكون محتملاً للنقيض بوجه ما، كما يحتمل في نفس الأمر أو عند الذاكر بتقديره أو بتشكيك المشكك.

أو لا يكون محتملاً لشيء من هذه الوجوه.

والثاني هو العلم ويستجمع أموراً ثلاثةً: الجزم والمطابقة والثبات. والأوّل - وهو الذي يكون محتملاً للنقيض - فإنّه على قسمين:

الأوّل: أن يكون محتملاً للنقيض في نفس الأمر وليس بمحتمل للنقيض عند الحاكم(1) وهذا هو الاعتقاد، فان طابق المعتقد فهو صحيح والاّ ففاسد. وإنّما قال:

لو قدره... احترازاً عمّا يحتمل متعلقه النقيض بتشكيك المشكك لا بتقديره.

الثاني: أن يكون محتملاً للنقيض عند الذاكر كما انّه محتمل له في نفس الأمر وهذا على اقسام ثلاثة:

الأوّل: ان يكون الطرف المذكور أرجح من نقيضه وهذا يسمّى الظن.

الثاني: أن يكون نقيض المذكور أرجح من المذكور وهذا هو الوهم.

والثالث: أن يتساوى الطرفان وهذا هوالشك.

ومن هذا التقسيم ظهر حدود هذه الأُمور.

واعلم أنّ المصنّف قد جعل الاعتقاد قسيماً للعلم والظن، وفيه نظر.

ثمّ قوله في الاعتقاد: إن كان مطابقا كان صحيحاً، مع اشتراطه في الاعتقاد أن لا يكون محتملاً للنقيض عند الذاكر ويكون محتملاً في نفس الأمر، تشتمل

ص: 60


1- . في نسخة «ب»: عند الذاكر لو قدره.

قال: والعلم ضربان: علم بمفرد، ويسمى تصوّراً ومعرفة، وعلم بنسبة ويسمى تصديقاً وعلماً. *

على التناقض.(1)

والأولى أن يقال: ما عنه الذكر(2) الحكميّ إمّا أن يقارن جزماً أوْ لا، والأوّل إمّا أن يكون مطابقاً، أو لا، والأوّل إمّا أن يكون ثابتاً أو لا، والأوّل هو العلم، والثاني هو اعتقاد المقلد للحق، والثالث هو الجهل المركب.

والذي لا يقارن جزماً ان قارنه الترجيح لاحد الطرفين، فالراجح الظن والمرجوح الوهم وإلّا فهو(3) الشك.(4)

التصور والتصديق

* أقول: يريد قسمة العلم إلى التصور والتصديق فقال: المعلوم أمّا أن يكون مفرداً كزيد ويسمّى تصوراً ومعرفة، وامّا أن يكون نسبة بين مفردين ويسمى تصديقاً وعلماً كعلمنا بنسبة القيام إلى زيد.

ص: 61


1- . جاء في هامش النسخة «ب» ما يلي: [إذ الّذي يحتمل النقيض في نفس الأمر لا يكون مطابقاً فيكون اعتقاداً فاسداً فلا ينقسم الاعتقاد إلى الصحيح والفاسد].
2- . يلاحظ أنا قد رجحنا سابقاً عبارة «ماهية الذكر الحكمي» على «ما عنه الذكر الحكمي» كمافي بعض النسخ.
3- . في «ألف»: المساوي.
4- . يلاحظ: «الاسرار الخفية في العلوم العقلية»: 14.

قال: وكلاهما ضروري ومطلوب:

فالتصور الضروري ما لا يتقدمه تصور يتوقف عليه لانتفاء التركيب في متعلقه كالوجود والشيء. والمطلوب بخلافه أي تطلب مفرداته فيحد.

والتصديق الضروري ما لا يتقدمه تصور تصديق يتوقف عليه.

والمطلوب بخلافه أي يطلب بالدليل. *

واعلم أنّ هذه القسمة غير سديدة لأنّ التصور ليس علماً بمفرده لا غير، ولا التصديق هو العلم بالنسبة ذاتها فإنّ العلم بنسبة القيام إلى زيد في مثل قولنا: زيد قائم، من باب التصور، والتصديق ليس إلاّ الحكم بوقوع النسبة أو لا وقوعها، لا تصور النسبة.

* أقول: كلّ واحد من التصور والتصديق إمّا أن يكون ضرورياً وإمّا أن يكون مطلوباً أي مطلوب الاكتساب، فالتصور الضروري هو الذي لا يتقدمه تصور يتوقف هذا التصور الضروري عليه، ومثل هذا:

إمّا أن يكون في البسائط كالوجود والشيء وهو الذي انتفى التركيب عنه، وإلى هذا أشار بقوله: لانتفاء التركيب في متعلقه، يعني في متعلق التصور الضروري.

امّا المركبات فانّها لا تتصور إلاّ بعد تصور أجزائها فتصورها متوقف على تصور أجزائها ومستفاد منه فهي من قبيل ما التصور فيه يكون مكتسباً....

ص: 62

....................

واعلم انّ هذا الذي ذكره المصنف ممّا اصطلح عليه هو وحده فإنّ التصور الضروري كما يقع في المفردات قد يقع في المركبات، نعم إذا كان تصور مفردات تلك المركبات مكتسباً، كان التصور مكتسباً، وإذا كان بديهياً فقد يكون التصور بديهياً ثمّ قد يكون بعض البسائط يكتسب تصوره بالرسوم، فتعليل كون التصور ضرورياً بكون متعلقه بسيطاً، ليس بشيء.

ومن هذا ظهر ضعف قوله: والمطلوب بخلافه أي تطلب مفرداته فيحد، فإنّ المطلوب قد يكون بسيطاً.

والحق أن تصور الضروري هو الّذي لا يتوقف على طلب وكسب، فالتصور الكسبي هو الّذي يتوقف.

وأمّا التصديق الضروري فهو الذي لا يتقدمه تصديق يتوقف هذا عليه بل إنّما يتوقف على تصور مفرداته لا غير كقولنا: النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإنّ هذا تصديق بديهي لا يتوقف على تصديق سابق عليه وإنّما يتوقف علىٰ تصور النفي وتصور الاثبات وقصور الاجتماع واما التصديق المكتسب فهو الّذي يتوقف على تصديق سابق فيكون دليلاً على ثبوته كقولنا: العالم حادث، فإنّ تصور العالم وتصور الحدوث لا يكفي في التصديق بل لابدّ من واسطة بها يتبيّن المطلوب وهي التغيّر، فنقول: العالم متغير، وكلّ متغير حادث، فيستفاد العلم بالحدوث بواسطة هذين التصديقين السابقين.

ص: 63

قال: وأُورد على التصور: إن كان حاصلاً، فلا طلب وإلاّ فلا شعور به فلا طلب.

وأُجيب بانّه يشعربها وبغيرها(1) والمطلوب تخصيص بعضها بالتعيين.

وأورد ذلك على التصديق، وأُجيب بأنّه تتصور النسبة بنفي أو اثبات ثمّ يطلب تعيين أحدهما ولا يلزم من تصور النسبة حصولها وإلاّ لزم النقيضان. *

* أقول: هذا اشكال أورده بعض تلامذة إفلاطون عليه، وأجاب عنه المعلم الأوّل(2)؛ ووجه ايراده:

أنّ المطلوب من التصورات والتصديقات:

إمّا أن يكون معلوماً.

وإمّا أن يكون مجهولاً.

والأوّل محال لأنّ المعلوم حاصل والطلب لا يتوجه إلى الحاصل وإلاّ لكان تحصيل الحاصل وهو محال.

والثاني محال أيضاً لأنّ المجهول لا يقع به شعور وما لا شعور به يستحيل أن تكون النفس طالبة له.

ص: 64


1- . في نسخة «الف»: يعرفها.
2- . أي: ارسطو.

....................

وأجاب عنه بما أجاب به المصنف هاهنا ووجهه أن يقال:

هذه القسمة غير حاصرة فإنّ المطلوب يجب أن يكون معلوماً من وجه ومجهولاً من وجه:

أمّا في التصورات، فإنّ الماهية تكون متصورة من جهة عارض كمن يتصور ماهية الإنسان من حيث إنّه ضاحك، فإنّ الضاحك مفهومه أنّه شيء ذو ضحك فهو من حيث المفهوم شامل للإنسان وغيره فإذا طلب ماهية الإنسان، كان الطلب متوجهاً إلى تخصيص الإنسان من حمله ما صدق عليه الضاحك من حيث المفهوم فالمطلوب هاهنا معلوم من جهة، صادق يصدق عليه وعلى غيره من حيث المفهوم، ومجهول من حيث هو هو، فيطلب من تلك الجهة وهي جهة التعيين ولا غير.

ولا تحسبنَّ انّ مفهوم الضاحك ولو كان يستحيل وجوده الاّ في الإنسان، موضوع بازاء ما يصدر عنه الضحك من الأناسي؛ فإنّ الألفاظ المشتقة لا تدل(1)على شيء ما، صدر عنه المشتق، فأمّا ماهية ذلك الشيء في نفسه، فلا تعطيه العبارة إلّا من خارج المفهوم.

فان قلت: إذا كان المطلوب معلوماً من وجه ومجهولاً من آخر، توجَّه عليك الاشكال فإنّ المعلوم لا يطلب ولا المجهول.

قلت: نعم، إنّما يطلب الماهية التي يصدق عليها هذان الاعتباران وحينئذٍ سقط السؤال.

ص: 65


1- . في النسختين «يدل» والصحيح ما اثبتناه.

قال: ومادة المركب: مفرداته، وصورته: هيئته الحاصلة. *

وأمّا في التصديقات فإنّ المجهول فيها إنّما هو النسبة المعينة أعني نسبة الثبوت أو نسبة الانتفاء وهي معلومة من جهة التصورات ولا يلزم من

تصور نسبة الوجود أو العدم حصول النسبة وايقاعها فإنّا نتصور النقيضين كما في حالة الشكّ مثلاً ولا يلزم حصول النسبتين وإلّا لزم وجود النقيضين وهو محال.

مادة المركب

* أقول: كلّ مركّب فانّه إنّما يتركب من أجزاء مترتبة نوعاً ما من الترتيب، سواء كان التركيب خارجياً أو ذهنياً، فإنّ الأجزاء الّتي يتركب منها المركب وهي المفردات، هي الأجزاء المادية مثل قولنا: العالم مؤلف(1) وكلّ مؤلف حادث، والترتيب المعين وهو جعل العالم حداً أصغر والتأليف حداً أوسط والحدوث حداً أكبر، هو الصورة وهي الهيئة الحاصلة للمركب بعد انضمام الأجزاء وهي الجزء الذي بحصوله يحصل المركب بالفعل وامّا الأجزاء المادية، فإنّها لا تستلزم حصول المركب بالفعل بل بالقوة.

ص: 66


1- . في نسخة «الف»: وقولنا.

قال: والحد: حقيقي ورسمي ولفظي، فالحقيقي: ما أنبأ عن ذاتياته الكلية المركبة، والرسمي: ما أنبأ عن الشيء بلازم له مثل الخمر مائع يقذف بالزبد، واللفظي: ما أنبأ بلفظ أظهر مرادف، مثل العِقار: الخمر. *

مبحث التصورات

(*) أقول: الحدّ في اللغة هو المنع وهو هاهنا مأخوذ من هذا المعنى فإنّ الحدّ يمنع من دخول شيء في الماهية أو خروجه عنها، وقد قسمه المصنّف هاهنا إلى ثلاثة أقسام، والأوائل يطلقون الحد على الأوّل لا غير وان اطلقوه على الباقين(1)، فبنوع من المجاز.

والأوّل: هو الحد الحقيقي وهو الذي يتركب من ذاتياته مثل قولنا في تحديد الإنسان انّه الحيوان الناطق وينبغي ان يقيد هذا بقولنا: «حيث لا يشذ منها شيء»، فهذا الحد قد أنبأ عن ماهية الإنسان بواسطة ذكر ذاتياته وهي الحيوان والناطق وهما كليان وقد تركبّا تركباً حصل بواسطته ماهية الإنسان، واحترز بقوله: الكلية، عن المشخِّصات، فانها ذاتية للشخص من حيث هو شخص وان كانت لا تذكر في الحد لأن الشخصيات لا تحد. وهذا الحد إنّما يكون تاماً إذا ذكر فيه جميع الذاتيات.

والثاني: هو الحدّ الرسمي مثل قولنا في تعريف الخمر: إنّه مائع يقذف بالزبد، فإنّ هاتين الصفتين من عوارض الخمر لا من مقوماته، والتعريف بالعارض يطلق عليه اسم الرسم وقد أنبأ هذا التعريف عن الخمر ببعض لوازمه.

ص: 67


1- . كذا في النسختين ولعل الاصحّ: الباقيين.

قال: وشرط الجميع الاطّراد والانعكاس، أي إذا وجد وجد، وإذا انتفىٰ، انتفىٰ. *

والثالث: الحد اللفظي مثل قولنا في تفسير العقار: انّه الخمر، فإنّ هذا التعريف في الحقيقة ليس تعريفاً وإنّما هو تبديل لفظ بلفظ آخر يرادفه في المعنى.

شروط التعريف

(*) أقول: التعريف بالشيء يشترط فيه المساواة بين المعرِّفِ والمعرَّف وإلاّ لكان المعرِّف إمّا أعمّ أو أخص، وكلاهما لا يفيد(1) للتعريف.

أمّا الأعم فلأنّه لا يفيد التمييز وأقل مراتب التعريف إفادة التمييز، فإنّك لو قلت في تعريف الإنسان إنّه الحيوان، لم يحصل تمييزه عن غيره من الحيوانات فلا تحصل أقل فائدة للتعريف.

وامّا الأخص فلأنّه أخفىٰ من الأعم، فإنّ الأعم أكثر وجوداً من الأخص فهو أعرف والأعرف لا يجوز تعريفه بالأخفىٰ فوجب تحقق المساواة والمساواة إنّما تحصل إذا كان وجود أحدهما يستلزم وجود الآخر وعدمه يستلزم عدمه وهذا هو معنى الإطراد والإنعكاس، فالاطراد هو الاستلزام في جانب الوجود، والانعكاس هو الاستلزام في جانب العدم.

ص: 68


1- . في نسخة «ب»: لا يصلح.

قال: والذاتي ما لا يتصور فهم الذات قبل فهمه كاللونية للسواد والجسمية للإنسان، ومن ثمَّ لم يكن للشيء حدان ذاتيان وقد يعرَّف بأنّه غير معلل وبالترتيب العقلي. *

بيان الذاتي

(*) أقول: لما ذكر انّ الحدّ يتألف من الذاتيات، احتاج إلى تعريف الذاتي ما هو؟ وقد ذكر القدماء، له خواص ثلاث:

أحدها: ما عرَّفه المصنّف به وهو: «أنّ الذاتي هو الّذي لا يمكن تصور الماهية قبل تصوره - مثل اللونية للسواد والجسمية للإنسان -» فإنّ تصور ماهية الإنسان قبل تصور ماهية الجسم محال، فإنّ تصور ماهية الإنسان إنّما يتم بعد تصور أجزائها، فلو كان بعض(1) أجزائها متأخراً عنها في التصور لزم الدور، ويلزم من هذه الخاصية أن لا يكون للشيء حدّان ذاتيان لأنّ الحدّ هو الذي يستلزم تصوره تصور المحدود، فإذا كان أحد المعرفين حدّاً كفىٰ في تصور الماهية، فيحصل تصور الماهية، وإن لم يتصور الحد الآخر فلا يكون الحد الآخر ذاتياً لأنّ الذاتي لا يتصور سبق الماهية عليه في التصور.

الخاصية الثانية: هي أنّ الذاتي لا يفتقر في وجوده لما هو ذاتي له إلى علة مغايرة لعلة الماهية، فإنّ السواد ليس لوناً بالفاعل بل الجاعل للسواد هو الذي جعله لوناً، وإليه أشار المصنف بقوله: وقد يعرف بانّه غير معلل لا بمعنى انّه لا

ص: 69


1- . في نسخة «الف»: تصور نفس.

قال: وتمام الماهية هو المقول في جواب: ما هو، وجزؤها المشترك، الجنس؛ والمميز، الفصل؛ والمجموع منهما، النوع. *

يفتقر إلى العلة بل لا يفتقر إلى علة مغايرة.

الخاصية الثالثة: التقدم في جانب الوجود الذهني، والخارجي، والعدم الخارجي والذهني؛ فإنّ الماهية المركبة لا توجد إلاّ بعد وجود أجزائها ومتى عدم احد أجزائها عدمت؛ سواء كان الوجود أو العدم مستنداً إلى الخارج أو إلى الذهن، وليس هذا التقدم حكماً حاصلاً للجزء حالة وجوده لا غير، فإنّ الجزء لو لم يكن موجوداً لكان العقل يقضي بهذا الترتيب؛ وإلى هذه الثالثة أشار بقوله: وبالترتيب العقلي أي قد يُعرَّف الذاتي بالترتيب العقلي.

بيان تمام الماهية

(*) أقول: الطلب بما هو إنّما يتوجه إلى طلب تحقيق الحقيقة، وتحققها إنّما يكون لمجموع ذاتياتها فالجواب بغيره لا يقع على الوجه المطابق فلا يقع في جواب ما هو إلّاتمام الماهية، وتمام الماهية إنّما يكون بذكر أجزائها المشتركة والمميزة، فالجزء المشترك كالحيوان في مثل تعريف الإنسان بانّه الحيوان الناطق، هو الجنس؛ والمميز وهو الناطق، هو الفصل؛ والمجموع المركب من الجنس والفصل، هو النوع.

وأعلم أنّ كل مميز ذاتي فهو فصل وليس كلّ مشترك جنساً، فإنّ من الأجزاء ما يكون مشتركاً ولا يكون جنساً كالفصول العالية والمتوسطة.

ص: 70

قال: والجنس: ما اشتمل على مختلف بالحقيقة، وكلٌّ من المختَلف، النوع، ويطلق النوع على ذي آحاد متفقة بالحقيقة، فالجنس الوسط، نوع بالأوّل لا الثاني، والبسائط بالعكس. *

(*) أقول: الجنس كالحيوان هو الذي يشمل أشياء مختلفة بالحقائق كالإنسان والفرس وغيرهما، والاشتمال ينبغي أن يوجد هاهنا بالمعنى الأخص من مفهومه وهو اشتمال المقوَّم على ما يقومه وإلاّ انتقض بالعرض العام ومع هذا التقييد ينتقض بفصول الاجناس.

والتعريف التام للجنس هو أن يقال: أنّه الكلي المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو من حيث هو كذلك.

وامّا النوع فانّه يطلق على معنيين أحدهما اضافي والآخر حقيقي: فالاضافي:

هو الكلي الّذي يقال عليه وعلى غيره الجنس في جواب ما هو قولاً أولياً، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: وكلّ من المختلف النوع، يعني انّ النوع بهذا المعنى هو كلّ واحد من المختلفات يقع بحسب جنس الذي عرَّفه بانّه الذي يشتمل على مختلفات الحقيقة.

والحقيقي: هو الكلي الّذي يقال على كثيرين مختلفين بالعدد فقط في جواب ما هو، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: ويطلق النوع على ذي آحاد متفقة بالحقيقة، يعني من المقومات الّتي تقال في جواب ما هو، وإلّا انتقض بالخاصة والفصل الأخير.

وأشار المصنف إلى الفرق بين هذين المعنيين بأنَّ كلّ واحد منهما قد...

ص: 71

قال: والعرضي بخلافه وهو لازم وعارض، فاللازم ما لا تتصور مفارقته وهو لازم للماهية بعد فهمها كالفردية للثلاث والزوجية للأربعة، ولازم للوجود خاصة كالحدوث للجسم والظل له؛ والعارض بخلافه، وقد لا يزول كسواد الغراب والزنجي وقد يزول كصفرة الذهب. *

يوجد دون صاحبه:

أمّا وجود الاضافي بدون الحقيقي فكالجنس المتوسط كالجسم فانّه نوع اضافي لانّه كلّي يقال عليه وعلى غيره من الجواهر الجنس، وهو الجوهر في جواب ما هو قولاً أوليَّاً وليس بنوع حقيقي فإنّ أفراده مختلفة الحقيقة لا بالعدد فقط.

امّا وجود الحقيقي بدون الاضافي فكالانواع البسيطة الّتي لا تندرج تحت الجنس كالعقل عند من لا يجعل الجوهر جنساً فإنّه نوع حقيقي لكونه مقولاً على كثيرين مختلفين بالعدد لا غيره(1) في جواب ما هو وليس بنوع إضافي لامتناع اندراجه تحت جنس.

(*) أقول: العرضي ما يقال بخلاف الذاتي وهو الذي يمكن أن يتصور فهم الذات قبل فهمه وهو ينقسم إلى قسمين لازم ومفارق:

فاللازم هو الّذي لا تتصور مفارقته وهو ينقسم:

إلى لازم للماهية بعد فهمها كالفردية للثلاثة والزوجية للأربعة، فإنّ هذين الوصفين من لوازم الثلاثة والاربعة من حيث الماهية لا بالنظر إلى الوجود وحده، فإنّا لو تصورنا الثلاثة والاربعة وكانتا معدومتين، كان هذان الوصفان لاحقين بهما

ص: 72


1- . في نسخة «ب»: غير.

....................

بعد فهمهما، فهما لازمان للماهية.

وإلى لازم للوجود خاصة كالحدوث للجسم والظل له عند مسامتته للشمس(1).

فإنّ هذين الوصفين لا يلزمان ماهية الجسم من حيث هي هي، فإنّ كثيراً من الناس يتصور ماهية الجسم ولا يتصور حدوثه ولا وقوع الظل له، فهما لازمان لوجود الجسم لا لماهيته.

وأمّا العارض(2) فهو الذي تتصور مفارقته للماهية وهو ينقسم إلى أمرين:

أحدهما: أن يكون مصاحباً له لا يزول عنه كسواد الغراب وسواد الزنجي.

والثاني: أن يكون مفارقاً له كصفرة الذهب.

والفرق بين القسم الأوّل من هذين وبين القسم الثاني من قسمي اللازم، انّ لازم الوجود تستحيل مفارقته(3) وهذا وان كان لا يفارق، فإنّه يمكن مفارقته.

ص: 73


1- . المسامتة: المقارنة.
2- . المراد من العارض هنا هو العرضي المفارق.
3- . لانّه يلزم الخلف ويكون المفروض لازماً، غيرُ لازم.

قال: وصورة الحد، الجنس الاقرب ثمّ الفصل، وخلل ذلك، نقص.

وخلل المادة، خطأ ونقص. *

صورة الحدّ

* أقول: الحدّ قول مؤلف من ذاتيات الشيء ويشتمل على الجنس والفصل فهومركب وكلّ مركب فله اجزاء صورية واجزاء مادية.

فالجزء الصوري للحدّ ذكر الجنس الأقرب أولاً ثمّ الفصل ثانياً حتى تتحصل صورة مطابقة لصورة الشيء، والأجزاء المادية هي الجنس والفصل.

والخلل في الأوّل إنّما يكون بتقديم الفصل على الجنس وهذا يكون نقصاً في التحديد، فإنّ الحد التام هو الذي يشتمل على مجموع الذاتيات والناقص ما أخلّ فيه ببعضها، فإذا قدم الفصل، اختل الجزء الصوري فكان الحد ناقصاً وليس بخطاء فإنّ الحدود قد تكون تامّة وقد تكون ناقصة، والخلل في الثاني يقع على وجوه ذكرها المصنف وحصرها في أمرين؛ خطأٌ ونقصٌ.(1)

ص: 74


1- . في نسخة «ب» بزيادة: [فالخطأ ما يتعلق بالمعاني والنقص ما يتعلق بالألفاظ].

قال: فالخطأ كجعل الموجود والواحد جنساً، وكجعل العرضي الخاص بنوع فصلا، فلا ينعكس وترك(1) بعض الفصول فلا يطرد، وكتعريفه بنفسه مثل: الحركة عرض نُقْلة، والإنسان: حيوان بشر، وكجعل النوع والجزء جنساً، مثل: الشر ظلم الناس، والعشرة خمسة وخمسة. *

خلل الحدّ

(*) أقول: هذا هو الخطأ المختص بالحدود وهو يقع من جهة الجنس ويقع من جهة الفصل وقد يقع من جهتهما:

أمّا الأول: بأن يؤخذ بدل الجنس لازمه كأخذ الموجود والواحد جنساً فنقول: الإنسان موجود ناطق أو واحد ناطق؛ أو يؤخذ النوع فيجعل جنساً كما نقول: الشر ظلم الناس، فإنّ الظلم نوع من الشر جعل مكان الجنس ثم قُيّد بكونه ظلم الناس؛ أو يؤخذ الجزء فيجعل جنساً كما نقول: العشرة خمسة وخمسة، فإنّ الخمسة الأُولى جزء من العشرة ذكرت في مقام الجنس وقيدت بالخمسة الأُخرى.

وأمّا الثاني: بأن يجعل العرضي الخاص بنوع فصلاً كما نقول: الإنسان حيوان ضاحك، فالضاحك خاصة للإنسان اقيمت مقام الفصل ويلزم من التحديد بمثل هذا عدم الانعكاس فانّه لا يلزم من نفي الضحك نفي الإنسان.

وأمّا الثالث: بأن ترك بعض الفصول كما نقول: الإنسان حيوان ناطق،

ص: 75


1- . كذا في النسختين وفي نسخٍ أُخرى: كترك.

قال: ويختص الرسمي باللازم الظاهر لا بخفيٍّ مِثْلِه، ولا أخفى وبما لا(1) تتوقف عقليته عليه، مثل: الزوج عدد يزيد على الفرد بواحد وبالعكس، فإنّهما متساويان، ومثل: النار جسم كالنفس، فإنّ النفس أخفىٰ؛ ومثل: الشمس كوكب نهاري، فإنّ النهار يتوقف على الشمس. *

من غير ان نذكر المايت(2) منه(3). على رأي من يجعل الناطق مشتركاً بين الإنسان والملائكة. ويلزم من التحديد بمثل هذا، عدم الاطراد فانّه ليس كلّ حيوان ناطق إنساناً(4)؛ أو نعرف الشيء بنفسه كما نقول: الحركة عرض نُقْلة، فان النُقْلَة هي الحركة لكنّه قد يدل فيه لفظ بلفظ، أو نقول: الإنسان حيوان بشر، فانّ البشر هو الإنسان لكنّه قد بدّل فيه اللفظ؛ ولهذين المثالين مناسبة في التمثيل لما يقع الخلل فيه من جهة الفصل.

(*) أقول: هذه الاغلاط التي ذكرها، لا يمكن ان تدخل في الحدود فلهذا ذكرها في الرسوم، فالرسم يجب أن يكون أعرف من الرسوم(5) فانّ التعريف بالأخفىٰ غير مفيد والخلل في هذا أن لا يذكر الأظهر بل إمّا المساوي في المعرفة والجهالة أو الأخفىٰ أو ما تتوقف عقليته عليه:

مثال الأول أن نقول: الزوج هو العدد الذي يزيد على الفرد بواحد فانّ

ص: 76


1- . في نسخة «ب»: لا بما.
2- . المايت: اسم فاعل من باب: مات يَمِيْت مَيْتاً وهو الّذي تفارق روحه الجسد فيحل به الموت.
3- . في نسخة «ب»: فيه.
4- . باعتبار ان الملائكة من الحيوان الناطق - حسب الفرض - مع أنّها ليست من الإنسان في شيء.
5- . كذا في النسختين ويبدو ان الصحيح: المرسوم.

قال: والنقص كاستعمال الألفاظ(1) الغريبة، والمشتركة، والمجازية. *

الفرد يساوي الزوج في المعرفة والجهالة - على رأي من يقول انّ التقابل بينهما تقابل الضدين ومن يجعل التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، يكون الزوج عنده أعرف - ونذكر في مثال هذا تعريف أحد المتضايفين بصاحبه.(2)

ومثال الثاني قولنا: النار جسم يشبه النفس، فانّ النفس أخفىٰ من النار.

ومثال الثالث أن نقول: الشمس كوكب تطلع نهاراً، والنهار هو الوقت الذي تطلع فيه الشمس، فيلزم توقف كلّ واحد منهما في المعرفة على صاحبه، وهو دور.

وأعلم انّ كلّ واحد من هذه الأمور الثلاثة أشد محذوراً ممّا قبله ولهذا رتبها المصنف على هذا المثال.

(*) أقول: هذا الخلل مشترك في الحدود والرسوم فإنّ تحديد الشيء لغير اتحاد إنّما يكون بالفاظٍ يحصل منها التنصيص على المعنى فيجب أن يكون ذلك اللفظ ظاهر الدلالة على المعنى المراد منه وإلّا لاشتغل الطالب للماهية بالنظر في اللفظ، وصرفه ذلك عن الإلتفات إلى المعنى.

ص: 77


1- . فقط في نسخة «ألف».
2- . كمن يقول: «الأب هوالّذي له ابن» أو «الابن هو الّذي له أب».

قال: ولا يحصل الحد ببرهان لانّه وسط يستلزم حكماً على المحكوم عليه، فلو قُدِّر في الحد، لكان مستلزماً عين المحكوم عليه ولانّ الدليل يستلزم تعقل ما يستدل عليه، فلو دلّ عليه دليل لزم الدور. *

(*) أقول: مقصود المصنف أن يبين كيفية انتقاص الحدود فذكر أولاً انّه لا يكتسب بالبرهان - أن(1) بعض الأوائل(2) قد خالف فيه - وذكر على ذلك دليلين:

الأوّل: إنّ البرهان هووسط يستلزم حكماً على المحكوم عليه فإنّا إذا قلنا العالم حادث، لأنّه متغير فالمتغير وسط، استلزم حكماً على العالم مغايراً له وهو المراد بالبرهان؛ فلو كان الحد يستفاد من الوسط لكان مستلزماً عين المحكوم فانّ الحد هو المحدود.

والثاني: إنّ طلب الدليل إنّما يكون بعد تعقل المدلول عليه، فلو كان المدلول عليه يستفاد تعقله من الدليل المرتب تعقله على تعقله(3) لزم الدور.

واعلم انّ هذين الدليلين ضعيفان جداً.

أمّا الأوّل: فإنّ المحدود والحدّ متغايران وكيف لا يكون كذلك وأحدهما كاسب للآخر، ولأنّ المحدود هو الماهية والحدّ هو الأجزاء مفصلة ولا شك في المغايرة بين الماهية والأجزاء.

ص: 78


1- . في نسخة «ب»: فأن.
2- . يطلق وصف الأوائل والأولون في المعقول على الحكماء السبعة في الفلسفة الاغريقية، أعني: تالس الملطي وانكساغورس وأنكسيمانس وأنبادقليس وفيثاغورس وسقراط وافلاطون.
3- . في نسخة «ب»: المترتب على تعقله.

قال: فإن قيل: فمثله في التصديق، قلنا: دليل التصديق على ثبوت النسبة أو نفيها لا على تعقلها(1). *

وأمّا الثاني: فلأنّ الدليل يكفي فيه تعقل المدلول عليه ببعض اعتباراته، فتغايرت جهة التوقف فلا دور؛ بل الحق أن نقول لو افتقر الحد إلى وسط لكان حمل الحد(2) أمّا أن يكون حمل الحدّ به(3) فيكون الوسط والمحدود متحدين في الماهية، هذا خلف؛ أو على ما صدق عليه الوسط فيكون الحد حدّاً لأمور متغايرة فإنّ ما صدق عليه الوسط أعم من أن يكون هوالمحدود أو لوازمه وعوارضه، وأمّا أن لا يكون حمل الحدّ به(4) فلا يستفاد منه التحديد بل مطلق الحمل على المحدود.

* أقول: هذا إيراد يرد على الوجه الثاني وقد أجاب المصنف عنه.

وتقرير الإيراد أن يقال: أنكم ذكرتم أنّ الدليل يستلزم تعقل ما يستدل عليه، فإذا طلب الدليل على حدوث العالم، وجب أن يكون متعقلاً،(5) فلو استدلّ عليه لزم الدور فيلزم أن تكون التصديقات غير مكتسبة بالبراهين.

وتقرير الجواب: أنّ دليل التصديق ليس على تعقل حدوث العالم، بل على ثبوت الحدوث للعالم أو نفيه والدليل لا يتوقف على ثبوت الحدوث أو نفيه بخلاف ما دل في الحدود.(6)

ص: 79


1- . في نسخة «ألف»: تعلقها.
2- . في نسخة «ب»: على الوسط.
3- . في نسخة «الف»: على الوسط، ولكن اسقاطها انسب لاستقامة العبارة.
4- . في نسخة «الف» ونسخة «ب» والنسخة المحققة من «الاسرار الخفية» وردت كلمة: الحدِّيَّة؛ إلّاأن الصحيح على ما يبدو هو ما اثبتناه لانّه عدل لما ورد في الشق الأوّل من رد الدليل الثاني، كما أن سياق الفكرة يساعد عليه، واللّٰه العالم.
5- . في نسخة «ألف»: متعلقاً.
6- . في نسخة «الف»: ذكر في الحدوث.

قال: ومن ثَمَّ لم يُمنع الحدُ ولكن يُعارض ويبطل بخلله، أمّا إذا قيل الإنسان حيوان ناطق وقصد مدلوله لغة أو شرعاً، فدليله النقل بخلاف تعريف الماهية. *

قال: ويسمى كلّ تصديق قضية، ويسمى في البرهان مقدمات. **

(*) أقول: هذا فرع لكون الحد غير مكتسب بالبرهان، فإنّ الحدّ لما كان غير مستفاد من الدليل، لم يتوجه عليه المنع والاّ لوجب على الحادِّ إقامة الدليل على الحدّ، وقد قلنا انّه تستحيل اقامة الدليل عليه، بل طريق المنازعة فيه أن يعارضه بحد آخر حتى تلمح التفاوت من(1) الحدين من الزيادة والنقصان أو يبطل الحد بذكر(2) الخلل فيما يوجب ابطال الحد، هذا في الحدود الحقيقية.

أمّا في الحدود اللفظية كمن يقول: الإنسان في اللغة موضوع للحيوان الناطق، أو الصلاة في الشرع موضوعة للأفعال المخصوصة، وجب عليه اقامة الدليل وهو النقل عن أهل اللغة والشرع، بخلاف الماهية إذا أراد تعريفها وبيان شرح حقيقتها.

مبحث التصديقات

(**) أقول: التصديق هو الحكم إمّا بالإيجاب أو بالسلب وهو مرادف للقضية والخبر، فإنّ القضية هي قول يقال لقائلها أنّه صادق أو كاذب، فإذا جعلت القضية جزاءً من القياس، سمي مقدمة، فالمقدمة أخص من القضية والخصوص حصل لها باعتبار عارض عرض لها.

ص: 80


1- . في نسخة «ب»: بين.
2- . في نسخة «ألف»: يبطل بذكر.

قال: والمحكوم عليه فيهما إمّا جزء معين أو لا، والثاني إمّا مبيّن جزئيته أو كليته أو لا؛ صارت أربعةً: شخصية، وجزئية محصورة، وكليّة ومهملة، كل منهما موجبة وسالبة. *

تقسيمات القضية

(*) أقول: هذا تقسيم للقضية باعتبار أحد جزئيها وهو المحكوم عليه، وتحقيق القول فيه أنّ نقول:

المحكوم عليه في القضية وفي المقدمة إمّا أن يكون شخصاً معيّناً أو لا يكون،

و الأوّل: تسمى القضية فيه شخصية وهي إمّا موجبة أو سالبة، مثال الموجبة:

زيد كاتب، ومثال السالبة: زيد ليس بكاتب.

وإمّا الثاني [أي لا يكون شخصاً معيناً]: فإنّه ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: أن يكون الحكم على الأفراد التي صدق عليها الموضوع.

والثاني: أن يكون الحكم على نفس الماهية.

والأوّل [أي: على الافراد التي صدق عليها الموضوع]: إمّا أن يكون الحكم فيه على جميع الأفراد وإمّا أن يكون على بعضها وإمّا أن لا يذكر الكلّ ولا البعض، والأوّل: تسمى القضية فيه كلية وهي إمّا موجبة أو سالبة، مثال الموجبة: كلّ إنسان حيوان ومثال السالبة: لا شيء من الإنسان بحجر. والثاني: تسمىٰ القضية فيه جزئية وهي امّا موجبة أو سالبة مثال الموجبة: بعض الإنسان كاتب، ومثال السالبة:...

ص: 81

....................

بعض الإنسان ليس بكاتب. والثالث: تسمىٰ القضية فيه مهملة فهي إمّا موجبة أو سالبة، فالموجبة كقولنا: الإنسان كاتب، والسالبة كقولنا: الإنسان ليس بكاتب.

وأمّا الثاني: وهو الّذي يكون الحكم فيه على نفس الماهية فإنّه، ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: أن يكون الحكم على نفس الماهية من حيث هي هي لا باعتبار العموم ولا باعتبار الخصوص وتسمىٰ القضية الطبيعية، والمتأخرون يذكرون في مثالها:

الإنسان نوع والحيوان جنس، وهو خطأ فإنّ النوعية والجنسية إنّما عرضتا للانسان والحيوان باعتبار العموم العارض لهما.

الثاني: أن يكون الحكم على الماهية باعتبار عروض العموم لها، وهذه لم يذكرها المتقدمون ونحن نسمّيها القضية العامة.

وهاتان الأخيرتان(1) لم يذكرهما المصنف لقلة فائدتهما ونحن لمَّا تعرضنا للحصر(2)، وجب علينا ايرادهما.

ص: 82


1- . يريد قدس سره شقَّي الحكم على نفس الماهية، أي: الحكم لا باعتبار العموم والخصوص والحكم باعتبار عروض العموم.
2- . قد أوضحنا فروع القضية من خلال المخطط المشاهد في الصفحة التالية.

ص: 83

قال: والمتحقق في المهملة، الجزئية فأهملت. *

قال: ومقدمات البرهان قطعية(1)، لأنّ لازم الحقّ حقّ، وتنتهي إلى ضرورية والاّ لزم التسلسل. **

(*) أقول: المهملة في قوة الجزئية لأنّها لا تخلو إمّا أن تصدق كلّية أو جزئية، فإن كانت كلّية، صدقت وهي جزئية، وإن كانت جزئية، صدقت جزئية؛ فالمهملة يستلزم صدقها صدق الجزئية وكذلك على العكس فإنّ المحمول إذا صدق على شخص معين صدق على ما صدق(2) عليه الماهية فيستلزم صدق الجزئية صدق المهملة، فإذن كلّ واحد من الجزئية والمهملة يستلزم صدق الأُخرى وهو المراد بقولنا: المهملة في قوة الجزئية، وإذا كانت المهملة في قوة الجزئية استغنىٰ بالبحث عن الجزئية عن البحث عنها.

البرهان ومقدماته

(**) أقول: المطلوب من البرهان إنّما هو الحكم القطعي وهو لا يحصل إلّا من مقدمات قطعية، فإنّ الحقّ يستلزم الحقّ قطعاً وغيره لا يستلزم، فهو إنّما يتألف من القطعيات، ثمّ إنّ تلك القطعيات إنّ كانت مستفادة من غيرها، كان حكم غيرها، حكمها في كونها قطعية، لا كونها كسبية؛ بل يجب الانتهاء إلى مقدمات ضرورية غنية عن الاكتساب والاّ لزم التسلسل أو الدور وهما محالان.

ص: 84


1- . في نسخة «ب»: لتنتج قطعياً.
2- . كذا في النسختين والاصحّ: صدقت.

قال: وأمّا الأمارات فظنيّة أو اعتقاديّة، إن لم يمنع مانع، إذ ليس بين الظن والاعتقاد وبين أمر(1) ربطٌ عقلي، لزوالهما مع قيام موجبهما. *

قال: ووجه الدلالة في المقدمتين، إنّ الصغرى خصوص والكبرى عموم، فيجب الاندراج فيلتقي موضوع الصغرى ومحمول الكبرى. **

(*) أقول: الأمارات إمّا أن تكون ظنية أو اعتقادية يحصل بها ظن أو اعتقاد إذا لم يمنع مانع، فانّ وجود المانع هاهنا ممكن إذ ليس بين الظن والمظنون ربط عقلي ولا بين الاعتقاد والمعتقد، فيجوز زوال الظن والاعتقاد مع قيام الموجب لهما، بخلاف البرهان الّذي يفيد القطع، فانّه يستحيل زواله مع قيام موجبه.

(**) أقول: قد توهم بعض الناس أنّ الدلالة هي الدليل، وهو خطأٌ فإنّ الدلالة نسبة بين الدليل والمدلول والنسبة مغايرة للمنتسبين، وإذا ثبت التغاير بين الدلالة والدليل، فنقول:

وجه دلالة الدليل على المدلول أنّ الصغرى أخصّ من الكبرى فتندرج تحتها ويلتقي موضوع الصغرى ومحمول الكبرى، مثاله: ان [ب] قولنا الإنسان حيوان والحيوان جسم، جعلنا موضوع الصغرى هو الإنسان وهو مندرج تحت محمولها، ومحمولها وهو الحيوان جعلناه موضوعاً للكبرى، فاندرج موضوع الصغرى تحت موضوع الكبرى وكان أخصّ منه، وكلّ حكم صدق على أفراد العام صدق على الخاص بالضرورة، فيصدق الجسم على الإنسان الذي هو بعض أفراد الحيوان.

ص: 85


1- . مراد المصنّف من ال «أمر» هنا هو «المعتقد»، والظاهر أنّه من إفادات الشارح.

قال: وقد تحذف إحدى المقدمتين للعلم بها. *

* أقول: إحدى المقدمتين لا تنتج وإنّما ينتج مجموع المقدمتين على ما مر، ويرد عليه سؤال وهو أن يقال: انّه يصدق قولنا: الإنسان حيوان فهو جسم، ولما كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً.

والجواب عنه أن نقول: قولنا: الإنسان حيوان فهو جسم، قياس حذف فيه إحدى مقدمتيه للعلم بها وهي قولنا: وكلّ حيوان جسم؛ وقولنا: لما كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً، قياس حذف فيه إحدى المقدمتين لوجود ما يدلّ عليها فإنّ لفظة «لما» كما دلّت على مطلق الاتصال، دلّت مع ذلك على تسليم المقدم فكان القياس هكذا: كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكن الشمس طالعة.

واعلم أنّه قد تحذف إحدى المقدمتين للعلم بها في القياس البسيط بل في المركب وهو المسمّى بالقياس المطويّ مثل أن نقول: كلّ إنسان ناطق و كلّ ناطق حيوان وكلّ حيوان جسم وكل جسم جوهر، ينتج كلّ إنسان جوهر لكن بواسطة مقدمات محذوفة، فإن قولنا: وكلّ حيوان جسم، كبرى لصغرى محذوفة وهي قولنا:

كلّ إنسان حيوان، وينتجان كلّ إنسان جسم، ثمّ نقول: كلّ إنسان جسم وكلّ جوهر جسم وينتجان: كل إنسان جوهر، الّذي هو المطلوب، فهذه المقدمات قد حذفت للعلم بها.

ص: 86

قال: والضروريات:

منها المشاهدات الباطنة وهي ما لا تفتقر إلى عقل كالجوع والألم.

ومنها الأوليات وهي ما يحصل بمجرد العقل كعلمك بوجودك، وان النقيضين يصدق أحدهما.

ومنها المحسوسات وهي ما تحصل بالحس.

ومنها التجريبيات وهي ما تحصل بالعادة كإسهال المسهل والإسكار.

ومنها المتواترات وهي ما تحصل بالاخبار تواتراً كبغداد ومكة. *

مواد البرهان

* أقول: لما ذكر البرهان وأنّه يتألف من مقدمات امّا ضرورية ابتداءً وإمّا منتهية إلى الضروريات، وجب عليه بيان الضروريات. وتقريره أن نقول:

الحكم إمّا أن يكفي فيه مجرد تصور الطرفين ويقال له الأولى كالعلم بأنّ النقيضين لا يجتمعان، فإنّ من تصور النقيضين وتصور عدم الاجتماع كفاه هذان التصوران في الحكم بأنّ النقيضين لا يجتمعان.

وأمّا أن لا يكفي بل لابدّ من الاستعانة ببعض القوى فنقول:

تلك القوة إمّا أن تكون باطنة وهي كإدراك الجوع والألم وتسمى المشاهدات الباطنة والوجدانيات، ولا يفتقر هذا الإدراك إلى العقل فإنّه قد يحصل للبهائم....

ص: 87

قال: وصورة البرهان اقتراني واستثنائي، فالاقتراني ما لا يذكر اللازم ولا نقيضه فيه بالفعل، والاستثنائي نقيضه. *

وأمّا أن تكون ظاهرة فإمّا أن تكون وحدها كافية أو لا تكون، والأوّل هو المحسوسات كمن يحكم بأنّ النار حارة والشمس مشرقة، وهذه أيضاً لا تفتقر إلى العقل. والثاني لا يخلو إمّا أن يكون المعيِّن لها هو تكرار الأثر عقيب الملاقاة أو نقل الأخبار المتواترة، والأوّل هو التجربيات كالحكم بأنّ السقمونيا(1) مسهل للصفراء لتكرر وقوع ذلك منها عقيب ملاقاة البدن، والثاني هو المتواترات كالعلم بوجود مكة وبغداد. وهذان القسمان لابدّ فيهما من العقل فإنّ الحكم الأوّل إنّما يحصل لوجود قياس عقلي وهو أنّ هذا الأثر لو كان اتفاقياً لما كان دائمياً ولا أكثر وهذا القياس هو الفارق بين هذا الحكم والحكم المستفاد من الاستقراء، وكذلك الثاني فإنّه لابدّ فيه من قياس وهو انّه يمتنع اطباق هذا الخلق الكثير على الكذب.

صور البرهان

* أقول: لما ذكر مادة البرهان شرع في بيان الصورة حتى تحصل الاحاطة بتمام الماهية. وأعلم أنّا ذكرنا أنّ البرهان إنّما يتألف من مقدمتين فالمطلوب لا يجوز أن يكون إحدى تينك المقدمتين وإلّا كان البرهان مشتملاً على المصادرة على المطلوب الأوّل وهو من باب الأُغلوطات بل قد يكون جزءً من أحدهما أو خارجاً.

والمقدمة التي تشتمل على قضية فإنها تكون لا محالة شرطية، فالاستثنائي يشتمل على مقدمة شرطية أحد جزئيها المطلوب أو نقيضه، وعلى مقدمة هي وضع

ص: 88


1- . السَّقَمُونيا، نبتة يستخلص منها دواء مسهل للبطن تزول به دوده.

قال: فالأوّل بغير شرط ولا تقسيم، ويسمى المبتدأ فيه موضوعاً، والخبر محمولاً، وهي الحدود، والوسط الحدّ المتكرر، وموضوعه الأصغر ومحموله الأكبر، وذات الأصغر الصغرى وذات الأكبر الكبرى. *

أو رفع.(1)

وأمّا الاقتراني فإنّه الذي لا تكون النتيجة ولا نقيضها مذكوراً فيه بالفعل كما نقول: كلّ إنسان حيوان وكلّ حيوان جسم فالنتيجة وهي قولنا: كلّ إنسان جسم، غير موجودة بالفعل في القياس ولا نقيضها.

وأمّا الاستثنائي فنقيض الاقتراني وهو أنّ يكون اللازم أو نقيضه مذكوراً فيه بالفعل كما نقول: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ثم نقول: لكن الشمس طالعة ينتج فالنهار موجود، فقولنا: النهار موجود - وهو عين النتيجة - جزء من الشرطية المذكورة، أو نقول: لكن النهار ليس بموجود ينتج فالشمس ليست بطالعة وهو نقيض الموجود في القياس، وفي هذا الكلام تساهل وشكوك ذكرناها في كتاب «الاسرار».(2)

(*) أقول: القياس الاقتراني ينقسم إلى ما يتألف من الحمليات ويسمى القياس الحملي، وإلى ما يتألف من الشرطيات أو منها ومن الحمليات ويسمى القياس الشرطي.

والشرطيات أمّا أن تكون متصلات وهو المراد بقوله: بغير شرط يعني

ص: 89


1- . إن القياس الاستثنائي يتركب من مقدمة شرطية ومقدمة حمليّة، يستثنىٰ فيها عين أحد جزئي الشرطية أو نقيضه، لينتج عين الآخر أو نقيضه..
2- . يراجع كتاب «الاسرار الخفية» للشارح قدس سره، المبحث الرابع: «في القياس الاستثنائي»: 185.

قال: ولما كان الدليل قد يقوم على ابطال النقيض والمطلوب نقيضه، وقد يقوم على الشيء، والمطلوب عكسه، احتيج إلى تعريفهما، فالنقيضان كل قضيتين إذا صدقت إحداهما، كذبت الأُخرى وبالعكس. *

أن يكون القياس غير مشتمل على مقدمة متصلة.

وأمّا أن تكون منفصلات وهو المراد بقوله: ولا تقسيم، وحينئذ ينفىٰ الحملي وهو يشتمل على مقدمتين اشتركتا في بعض الحدود وتباينتا في البواقي، مثاله كل إنسان حيوان وكلّ حيوان جسم، فالإنسان وهو المبتدأ يسمىٰ الموضوع في الصغرىٰ والحيوان في الكبرى وهو المبتدأ يسمىٰ الموضوع أيضاً والحيوان المخبر به عن الإنسان في المقدمة الأُولى، يسمى المحمول وكذلك الجسم في الكبرى، فهذان حدّان هما طرفان، والحد المتوسط بينهما وهو الحيوان هو المتكرر، فإنّه قد وقع تارة محمولاً في الصغرىٰ، وتارة موضوعاً في الكبرى، وموضوع(1) هذه، المتوسط وهو الإنسان يسمى الأصغر لاندراجه تحته، ومحموله وهو الجسم يسمى الأكبر لاندراجه تحته، والمقدمة التي فيها الحد الأصغر تسمى الصغرى، والمقدمة الّتي فيها الحد الأكبر تسمى الكبرى.

(*) أقول: مثال الأول، كما يقع في الأقيسة الخلفيّة،(2) ومثال الثاني، كما...

ص: 90


1- . في نسخة «ب»: موضوعه هذا وهو الإنسان.
2- . جمع لقياس الخلف؛ وهو قياس يستعمله المستدل عند عجزه عن الاستدلال المباشر، فيأتي بالدليل على بطلان نقيض مطلوبه ليثبت صدق مطلوبه لأن النقيضين لا يكذبان معاً، وابطال النقيض لاثبات المطلوب يسمىٰ ب «قياس الخلف». يلحظ: «المنطق» للشيخ المظفر قدس سره: 2/227.

قال: فإن كانت شخصية، فشرطها أن لا يكون بينهما في المعنى إلاّ النفي والإثبات فيتحد الجزءان بالذات والإضافة والجزء والكل والقوة والفعل والزمان والمكان والشرط. *

يقع في الاشكال الثلاثة المغايرة للأول. والتعريف الذي ذكره للتناقض، تعريف ناقص والتعريف التام ان نقول: التناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب بحيث يقتضي لذاته صدق إحداهما وكذب الأُخرى؛ فالاختلاف جنس يقع فيه اختلاف المفردات واختلاف القضايا، ثمّ اختلاف القضايا قد يكون بالسّلب والايجاب وقد يكون بغيرهما.

وإنّما ذكرنا الاختلاف بالسلب والإيجاب ليخرج عنه قولنا: هذا الموجود واجب، هذا الموجود ممكن، فانّهما قضيتان يلزم من صدق احديهما كذب الأُخرى وبالعكس وليسا متناقضتين. ومثل هذه الصورة داخلة في التعريف الّذي ذكره المصنف، وإنّما ذكرنا قيد الذات ليخرج مثل قولنا: هذا إنسان، هذا ليس بناطق، فإنّهما قضيتان اختلفتا بالسلب والإيجاب، يلزم من صدق احداهما كذب الأُخرى وبالعكس، لكنهما غير متناقضتين لأنّ الاقتسام ليس لذات الاختلاف بل لأنّ الإنسان يلزمه الناطق، وبين ثبوت الشيء وسلب لازمه المساوي، معاندة في الصدق والكذب، وهذه الصورة أيضاً تدخل في الحدّ الذي ذكره المصنف، وما ذكرناه نحن هو المنطبق على حدّ التناقض وهو الذي ذكره المتقدمون.

شروط التناقض

* أقول: القضية الشخصية هي التي موضوعها شخص معيّن، وشرط...

ص: 91

....................

التناقض فيها الاتحاد في كلّ شيء إلاّ في النفي والإثبات، والأشياء الّتي تتحد القضية باعتبار اتحادها هي التي ذكرها، وهي: الذات في كلّ واحد منهما حتّى يكون الموضوع والمحمول في كلّ واحد منهما هو المذكور في الأخرى، كما تقول، زيد كاتب زيد ليس بكاتب؛ فإنّ مع اختلاف الموضوع لا يلزم التناقض فانّه قد يصدق زيد كاتب وعمر ليس بكاتب.

وكذلك إذا اختلف المحمول قد يصدقان، كما تقول: زيد كاتب، زيد ليس بنجار.

والاضافة، فإنك لو قلت: زيد أب أي لعمر وزيد ليس بأب أي لخالد، كانت الاضافة مختلفة فإنّ أبوة عمر مغايرة لأبوة خالد وجاز صدقهما.

والجزء أو الكلّ، فإنّك لو قلت: الزنجي أسود، أي بعضه، ليس الزنجي بأسود أي ليس كلّ أجزائه؛ كان الجزء والكلّ مختلفين فيهما وجاز صدقهما.

والقوة أو الفعل، فإنّك لو قلت: الخمر مسكر في الدن(1) أي بالقوة، الخمر ليس بمسكر في الدن أي بالفعل؛ اختلفت القضيتان بالقوة والفعل وجاز صدقهما.

والزمان، فإنك لو قلت: زيد موجود أي في هذا اليوم، زيد ليس بموجود أي في الأمس؛ لم يلزم التناقض لاختلاف الزمان المقتضي لاختلاف الحكم.

والمكان، فإنّك لو قلت: زيد موجود أي في الدار، زيد ليس بموجود أي في السوق؛ لم يلزم التناقض لوقوع الاختلاف في الحكم لاختلاف المكان.

والشرط، فإنّك لو قلت الأبيض مفرّق للبصر أي بشرط البياض، الأبيض ليس بمفرق للبصر أي بشرط زوال البياض، لم يقع تناقض لاختلاف الحكم بسبب

ص: 92


1- . الدّنُّ: إناء عظيم يشبه الحُبَّ غير انّه اطول وقيل: هو أصغر من الحب.

قال: وإلّا لزم اختلاف الموضوع لأنّه إن اتحدّا، جاز أن يكذبا في الكلّية، مثل: كلُّ إنسانٍ كاتبٌ؛ لأنّ الحكم بعرضيٍّ خاصٌ بنوعٍ، وَأَنْ يصدقا في الجزئية، لأنّه غير متعيّن. *

قال: فنقيضُ الكلية المثبتة، جزئية سالبة، ونقيض الجزئية المثبتة كلية سالبة. **

تغاير الشرط.

امّا إذا روعيت هذه الأمور المعدودة وجعلت واحدة منهما لزم التناقض جزماً.

(*) أقول: إذا لم تكن القضية شخصيّة، كانت محصورة وحينئذٍ يلزم اختلاف الموضوع في الكلية والجزئية حتّى يكون في إحدى القضيتين كليّاً، وفي الأخرى جزئياً، حتى يقع بينهما تناقض فإنّهما لو اتحدتا في الكلّية أو الجزئية جاز كذبهما إن كانتا كليتين مثل أن تقول: كلّ إنسان كاتب بالفعل، ولا شيء من الإنسان بكاتب بالفعل، فإنّ الكتابة بالفعل لما كانت مختصة بالإنسان، لم يصدق سلبها عنه ولما كانت من الخواص القاصرة، لم يصدق ايجابها على كلّ افراده. وإذا كانتا جزئيتين جاز صدقهما كما في هذه المادة بعينها، فإنّه يصدق فيه بعض الإنسان كاتب بالفعل وبعضه ليس بكاتب، لأنّ الموضوع هاهنا غير متعين حتّى يلزم توارد السلب والإيجاب على شيء واحد.

واعلم أنّ هذا الشرط وحده غير كاف ما لم ينضم إلى ما تقدم من الشروط المذكورة في الشخصية.

(**) أقول: لمّا بيّنا أنّ التناقض مطلقاً إنّما يكون مع المخالفة في الكيف...

ص: 93

قال: وعكس كلّ قضية، تحويل مفرديها على وجه يصدق. *

وبيّنا أنّه لا يكون في المحصورات الاّ مع المخالفة في الكم أيضاً، ظهر انّ نقيض الكلية المثبتة أعني الموجبة، جزئية سالبة حتّى يكون الجزئي مخالفاً للكلي وهو الإشارة إلى المخالفة في الكمّ، والسلب مخالفاً للإيجاب وهو الإشارة إلى المخالفة في الكيف وبالعكس. ونقيض الجزئية الموجبة، كلية سالبة؛ فنقيض قولنا:

كلّ إنسان حيوان، بعض الإنسان ليس بحيوان وبالعكس، فإنّ إحدى القضيتين إذا ناقضت أُخرى، كانت الأُخرى مناقضة للأُولى ونقيض قولنا: بعض الإنسان حيوان، لا شيء من الإنسان بحيوان وبالعكس.

والمصنف لم يذكر تناقض ذوات الجهة وفي ذكره تطويل لا يليق ايراده هاهنا وقد ذكرناه في كتاب «الأسرار» على الاستقصاء.(1)

العكس المستوي

(*) أقول: لما فرغ من ذكر التناقض شرع في بيان العكس المستوي، وحدّه بأنّه: تحويل مفردي القضية على وجه يصدق، ومثال هذا أنّا إذا عكسنا قولنا: كلّ إنسان حيوان، كان قولنا: بعض الحيوان إنسان، فقد كان الإنسان موضوعاً في الأصل والحيوان محمولاً، وفي العكس جعلنا الحيوان موضوعاً والإنسان محمولاً، فقد حولنا كلّ واحد من مفردي القضية إلى مكان صاحبه.

وقد عرّف العكس بعض القدماء بأنّه: «عبارة عن جعل الموضوع محمولاً والمحمول موضوعاً»، وهذا الحد يختص بالحمليات، والذي ذكره المصنف

ص: 94


1- . يراجع: «الأسرار الخفية»: 68. وليعلم أنّ بحث الجهات في المنطق غيرُ بحث الجهات في الحكمة.

قال: فعكس الكلية الموجبة، جزئية موجبة؛ وعكس الكلية السالبة مثلها، وعكس الجزئية الموجبة مثلها، ولا عكس للسالبة الجزئية. *

يعم الحمليات والشرطيات كما نعكس قولنا: كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، إلى قولنا: قد يكون إذا كان النهار موجوداً فالشمس طالعة، فقد جعلنا المقدم في الأصل تالياً في العكس، والتالي في الأصل مقدماً في العكس.

واعلم أنّه يشترط في العكس الموافقة في الكيف اصطلاحاً(1) ولم يذكره المصنف. وتجب أيضاً الموافقة في الصدق، لا بمعنى أنّ العكس يجب أن يكون صادقاً بل بمعنى أنّه متى صدق الأصل صدق العكس، فإنّ العكس لازم للأصل وكذب اللازم مع صدق الملزوم، محال. وهذا الشرط ذكره المصنف بقوله: على وجه يصدق، ولا يريد بالصدق هاهنا، الصدق الفعلي بل على ما فسرنا. وبعض القدماء(2) يشترطون الموافقة في الكذب أيضاً وهو خطأ فإنّ كذب الملزوم لا يوجب كذب اللازم، وأيضاً فإنّ قولنا: كلّ حيوان إنسان، كاذب، مع صدق قولنا:

بعض الإنسان حيوان.

(*) أقول: الكلية لا تخلو إمّا أن تكون موجبة أو سالبة، والجزئية لا تخلو

ص: 95


1- . وقال الشارح قدس سره في «الأسرار»: «واشتراطُ حفظ الكيف حصل بالاصطلاح وأما الصدق فواجب...». لاحظ: «الأسرار الخفية»: 81. وقال شارح الشمسية: «وأنمّا وقع الاصطلاح عليه لأنهم تتبعوا القضايا فلم يجدوها في الأكثر بعد التبديل صادقة لازمة إلّاموافقة لها في الكيف».
2- . هو أثير الدين المفضل بن عمر الأبهري (المتوفّىٰ 663 ه) في كتابه «ايساغوجي»، على ماقيل.

....................

أيضاً من إحديهما، فهذه أربعة أنواع على ما مرّ:

فالموجبة الكلّية تنعكس كنفسها في الكيف دون الكمّ فعكسها إذن موجب جزئي، أمّا المتابعة في الكيف فلما ذكرناه أوّلاً، وأمّا عدم متابعتها في الكمّ فلأنّه يصدق كلّ إنسان حيوان ولا يصدق كلّ حيوان إنسان، وحاصله: أنّ المحمول قد يكون أعمّ من الموضوع ويستحيل حمل الخاص على كلّ أفراد العام بل ينعكس جزئية، مثلاً: لو لم يصدق بعض ج ب في عكس قولنا كلّ ب ج، لصدق نقيضه وهو لا شيء من ج ب ونجعله كبرى، والأصل صغرى، هكذا: كلّ ب ج و لا شيء من ج ب ينتج لا شيء من ب ب، وهو محال.

والسالبة الكلية تنعكس كنفسها في الكمّ والكيف، لأنّه إذا صدق لا شيء من ج ب، صدق لاشيء من ب ج، وإلّا لصدق بعض ب ج ونجعله صغرى فنقول:

بعض ب ج ولا شيء من ج ب للأصل، ينتج بعض ب ليس ب، هذا خلف.

وأمّا الموجبة الجزئية فتنعكس كنفسها في الكمّ والكيف، لانّه إذا صدق بعض ج ب، يصدق بعض ب ج وإلّا فلا شيء من ب ج فنجعله كبرى للأصل ونقول:

بعض ج ب و لا شيء من ب ج و ينتج بعض ج ليس ج، هذا خلف.

وأمّا السالبة الجزئية فلا تنعكس لأنّه يصدق: ليس كلّ حيوان انساناً، وإلّا لصدق ليس كلّ إنسان بحيوان.

والشرطيات المتصلة على هذا المنهاج، فإنّه إذا صدق كلّما كان(1) - أو قد يكون - إذا كان أب ف: ج د، صدق قد يكون إذا كان ج د ف: أ ب، و إلّالصدق نقيضه وهو: ليس البتة إذا كان ج د ف: أ ب فنجعله كبرى للصغرى، وينتج ليس البتة

ص: 96


1- . في نسخة «ب»: أو.

قال: وإذا عُكِست الموجبةُ الكليةُ بنقيضِ مفرديها، صدقت؛ ومِنْ ثَمَّ انعكست السالبة سالبة جزئية. *

- أو قد لا يكون - إذا كان أب ف: أ ب وهو محال، وكذلك إذا صدق ليس البتة إذا كان أب ف: ج د، صدق ليس البتة إذا كان ج د ف: أ ب وإلّا فقد يكون إذا كان ج د ف:

أ ب وينتج مع الأصل: قد لا يكون إذا كان ج د، ف: ج د، وهو محال.

والسالبة الجزئية لا تنعكس لانّه يصدق قد لا يكون إذا كان هذا حيواناً فهو إنسان، ولا يصدق قد لا يكون إذا كان هذا إنساناً فهو حيوان.

وأعلم أنّ هذا الحكم ليس على إطلاقه بل في موجهات معيّنة في ذكرها طول، فليطلب من كتاب «الأسرار».(1)

عكس النقيض

(*) أقول: هذا نوع من العكس يقال له عكس النقيض، وهو عبارة عن جعل نقيض المحكوم عليه محكوماً به، ونقيض المحكوم به محكوماً عليه مع الموافقة في الكيف والصدق.

ولنمتحن هذا في المحصورات الأربع فنقول:

الموجبة الكلية إذا عُكست بنقيض مفرديها صدقت، مثلاً: إذا صدق كل ج ب، صدق كلّما ليس ب ليس ج، وإلّا صدق: ليس بعض ما ليس ب، ليس ج وهو يستلزم بعض ما ليس ب ج وينعكس إلى قولنا: بعض ج ليس ب، وكان كل

ص: 97


1- . ولعل مراده ما أشار إليه بقوله: «ولابد من ان نذكر هنا بعض المذاهب المخالفة لما أصّلناه، ونبيِّن خطأها ونذكر شكوكاً وحلاً لها». راجع «الأسرار الخفية»: 84.

قال: وللمقدمتين، باعتبار الوسط، أربعة أشكال:

فالأوّل: محمول لموضوع النتيجة، موضوع لمحمولها.

الثاني: محمول لهما.

الثالث: موضوع لهما.

الرابع: عكس الأوّل. *

ج ب، هذا خلف.

والموجبة الجزئية لا تنعكس لأنّه يصدق: بعض الحيوان غير إنسان، ولا يصدق بعض الإنسان غير حيوان.

والسالبة الكلية والسالبة الجزئية تنعكسان سالبة جزئية لأنّه إذا صدق: لا شيء من ج ب، أو ليس بعض ج ب، صدق: ليس بعض ما ليس ب ليس ج، وإلّا لصدق:

كلّ ما ليس ب ليس ج، وتنعكس هذه الموجبة الكلية بنقيض مفرديها هذا العكس إلى قولنا: كلّ ج ب و هو يضاد الكلي ويناقض الجزئي، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: ومن ثَمَّ انعكست السالبة سالبة، فإنّا إنما بيّنا عكس السالبتين بأن عكسنا قولنا: كلّ ما ليس ب ليس ج وهو موجبة كلية إلى قولنا: كلّ ج ب.

وكذلك البحث في عكس نقائض المتصلات.

الأشكال القياس

* أقول: الحدّ الأوسط - وهو المتكرر في المقدمتين باعتبار وضعه عند الحدّين الآخرين - يكون على ثلاثة أقسام لا غير:...

ص: 98

قال: فاذا رُكِّب كلُّ شكلٍ باعتبار الكلية والجزئية والموجبة والسالبة، كانت مقدراته ستة عشر ضرباً، الأوّل أبيّنها، لذلك يتوقف غيره على رجوعه إليه وينتج المطالب الأربعة(1). *

الأوّل: أن يكون موضوعاً في إحدى المقدمتين محمولاً في الأخرى.

الثاني: أن يكون محمولاً فيهما.

الثالث: أن يكون موضوعاً فيهما.

الأوّل ينقسم إلى قسمين لأنّه أمّا أن يكون محمولاً في الصغرى وموضوعاً في الكبرى أو بالعكس، فهذه أربعة أقسام سمَّوا كل قسم منها شكلاً:

فالأوّل: هو الذي يكون الأوسط فيه محمولاً في الصغرى موضوعاً في الكبرى.

والثاني: هو الّذي يكون الأوسط فيه محمولاً في المقدمتين.

والثالث: هو الّذي يكون الأوسط فيه موضوعاً في المقدمتين.

والرابع: هو الذي يكون الأوسط فيه موضوعاً في الصغرى محمولاً في الكبرى وهو عكس الأوّل.

(*) أقول: كلّ شكل يشتمل على مقدمتين: إحداهما صغرى والأُخرى

ص: 99


1- . يريد بالمطالب الأربعة، نتائج الضروب الأربعة من موجبة كلية وموجبة جزئية وسالبة كلية وسالبة جزئية. ولابد من التنبيه هنا على أنّ المطالب جمع مطلب، وهي تطلق على الأدوات الّتي يطلب بها المجهول التصوري أو التصديقي مثل «ما» و «هل»؛ وأمّا المطلوب وهو نتيجة القياس قبل تحصيلها، يجمع على مطاليب، وعليه يكون تعبير المتن من سهو الناسخ أو من هفوة القلم.

....................

كبرى، والصغرى لا تخلو عن أربعة أقسام: أمّا أن تكون موجبة كلية أو سالبة كلية أو موجبة جزئية أو سالبة جزئية.

وعلى هذه التقادير الأربعة فالكبرى أحدها،(1) ومضروب الأربعة في نفسها ستة عشر فكل شكل من الأشكال الأربعة إذا ركب مقدمتاه، حدث له باعتبار الكم والكيف ستة عشر ضرباً، لكنها ليست كلها منتجة بل بعضها عقيم لوجوب اشتراط مايشترط في كلّ شكل منها على ما يأتي.

وقدم الشكل الأول على باقي الأشكال لكونه أوضحها، فانّ الشكل الثاني إنّما يتبين بالردّ إليه بأن نعكس كبراه، والثالث بعكس صغراه، والرابع بعكس مقدمتيه معاً.

ولمّا كان الثاني موافقاً للأول في أشرف مقدمتيه أعني الصغرى لكونها موجبة، ومخالفاً له في الكبرى، كان تالياً للاول ثم يتلوه الثالث لموافقته إيّاه في الكبرى، وتأخر الرابع لبعده عنه في المقدمتين معاً.

والشكل الأوّل ينتج المحصورات الأربع أعني: الموجبتين والسالبتين على ما يأتي، فله(2) هذه الخصوصية أيضاً.

ص: 100


1- . للشارح قدس سره في هذا المجال عبارة أوضح أوردها في «الجوهر النضيد»: 102، فراجع.
2- . في نسخة «ب»: علة.

قال: وشرط نتاجه إيجاب الصغرى أو حكمه ليتوافق الوسط، وكلّية الكبرى ليندرج فينتج، فتبقىٰ أربعة: موجبة كلية أو جزئية وكلية موجبة أو سالبة. الأوّل: كلّ وضوء عبادة وكلّ عبادة بنيّة، الثاني: كلّ وضوء عبادة وكلّ عبادة لا تصح بدون النية، الثالث: بعض الوضوء عبادة وكلّ عبادة بنيّة، الرابع: بعض الوضوء عبادة وكلّ عبادة لا تصح بدون النية. *

(*) أقول: هذان الشرطان هما شرطا الإنتاج في الأوّل بحسب الكمّ والكيف:

الشرط الأوّل: إيجاب الصغرى أو حكمه يعني السالبة المركبة التي تنقلب من السلب إلى الإيجاب كالوجوديات والممكنات الخاصة السوالب - إن قلنا بجواز كون الصغرى ممكنة - فإنّ مثل هذه السوالب يلزم منها الإيجاب؛ وإنّما اشترطنا إيجاب الصغرى أوحكمه لحصول الاختلاف في السوالب البسيطة الموجب لعقم القرينة كما نقول: لا شيء من الإنسان بفرس وكلّ فرس صاهل؛ والحق السلب وهو لا شيء من الإنسان بصاهل، ولو قلنا في الكبرى: وكلّ فرس حيوان لكان الحقّ الايجاب وهو كلّ إنسان حيوان، وكذلك لو أضفنا إلى السالبة الصغرى كبرى سالبة فإنّا نقول (والصغرى بحالها): ولا شيء من الفرس بحجر والحق السلب، ونقول: ولا شيء من الفرس بناطق والحق الإيجاب.

وإذا حصل الاختلاف في الإيجاب والسلب لم تتعين إحداهما للإنتاج فلا تحصل النتيجة، فإنّ القياس إنّما يراد به تعيين أحد الطرفين، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: ليتوافق الوسط، يعني به: ليتوافق الوسط مع الأصغر، فإنّ الإنسان والفرس غير متوافقين فلا يتعدى الحكم الّذي على الأوسط إلى الأصغر، أمّا...

ص: 101

....................

مع وجود الإيجاب فإنّ ذات الأوسط تكون هي ذات الصغر فالحكم على الأوسط يكون حكماً على الأصغر.

الشرط الثاني: كلية الكبرى ليندرج الأصغر تحت الأوسط فيكون الحكم على الأوسط حكماً على الأصغر، ومع الجزئية لا يلزم هذا فيحصل الاختلاف كما نقول: كلّ إنسان حيوان وبعض الحيوان ناطق، والحقّ كلّ إنسان ناطق؛ ولو قلنا في الكبرى: وبعض الحيوان فرس، كان الحق السلب والسبب فيه عدم الاندراج، فإنّ الحكم على بعض الحيوان بالفرسية، ليس هو الصادق على الإنسان فلا يتعدى الحكم.

ومع حصول هذين الشرطين، يسقط من الستة عشر، اثنا عشر، ويبقى المنتج أربعة؛ فإنّ بإيجاب الصغرى تسقط السالبتان مع المحصورات الاربع وذلك ثمانية أضرب، وكلية الكبرى تسقط أربعة أخرى هي الجزئيتان مع الموجبتين، فبقيت المنتجة أربعة:

الأوّل: من موجبتين كليتين، ينتج: موجبة كلية، كقولنا: كلّ وضوء عبادة وكلّ عبادة بنيّة، ينتج: كلّ وضوء بنيّة.

الثاني: من كليتين والكبرى سالبة، ينتج: سالبة كلية، كقولنا: كلّ وضوء عبادة وكلّ عبادة لا تصحّ بدون النيّة، ينتج: كلّ وضوء لا يصحّ بدون النيّة.

الثالث: من موجبتين والصغرى جزئية، ينتج: موجبة جزئية، كقولنا: بعض الوضوء عبادة وكلّ عبادة بنيّة، ينتج: بعض الوضوء بنيّة.

الرابع: من موجبة جزئية صغرى وسالبة كلية كبرى، ينتج: سالبة...

ص: 102

قال: الشكل الثاني، شرط إنتاجه، إختلاف مقدمتيه في الإيجاب والسلب وكليّة كبراه؛ تبقىٰ أربعة، ولا ينتج إلّاسالبة. أمّا الأوّل، فلوجوب عكس إحداهما وجعلها الكبرى، فموجبتان باطل وسالبتان لا تتلاقيان. *

جزئية، كقولنا: بعض الوضوء عبادة وكلّ عبادة لا تصحّ بدون النيّة، ينتج: بعض الوضوء لا يصح بدون النيّة؛ وحينئذٍ ظهر أنّ هذا الشكل ينتج المحصورات الأربع.

(*) أقول: الشرط في الشكل الثاني - وهو الذي يكون الأوسط محمولاً فيهما - أمران:

أحدهما: إختلاف مقدمتيه في الكيف، حتى تكون إحداهما موجبة والأُخرى سالبة.

والشرط الثاني: كليّة الكبرى.

ومع اعتبار هذين الشرطين يسقط من الستة عشر، إثنا عشر ضرباً لأنّ باعتبار الشرط الأوّل يسقط الموجبتان الكليتان، والجزئيتان، والموجبة الجزئية الصغرى مع الكلية الكبرى وبالعكس، والسالبتان الكليتان، والجزئيتان، والسالبة الجزئية الصغرى مع السالبة الكلية الكبرى، وبالعكس، صار ثمانية.

وباعتبار الشرط(1) الثاني يسقط أربعة أخرى هي الموجبة الجزئية الكبرى مع السالبتين، والسالبة الجزئية الكبرى مع الموجبتين؛ تبقىٰ أربعة أضرب، وينتج سالبة إمّا جزئية أو كلية؛ ولا ينتج الإيجاب على ما يأتي.(2)...

ص: 103


1- . في نسخة «ب»: لا توجد كلمة «الشرط».
2- . باعتبار أنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدمتين كمّاً وكيفاً.

....................

ثمّ إنّ المصنف لمّا ذكر الشرطين، شرع في بيان اشتراطهما ببيان غير واضح، وأنا أوضح ما ذكرَ ثمَّ اذكرُ وجه نقصانه ثمّ أُبين الحقَ في ذلك فأقول: إنّما اشترط الشرط الأوّل - وهو الإختلاف -، لأنّ الشكل الثاني إنّما يبينُ إنتاجُه بواسطة ردِّه إلى الشكل الأوّل لكونه هو البيِّن بذاته، وغيره إنّما يبينُ بواسطته وذلك إنّما يكون بعكس إحدى مقدمتيه، أمّا الكبرى كما في الضرب الأوّل وأمّا الصغرى، ثمّ جعلها كبرى ثمّ عكس النتيجة كما في الضرب الثاني، وعلى تقدير الاتفاق في الكيف، لا يخلو امّا أن تكون المقدمتان معاً موجبتين، أو تكونا سالبتين، فإن كانتا موجبتين فإن عكست الكبرى حتى ارتدت إلى الأوّل من غير واسطة، إن كانت جزئية وهي لا تصلح كبرى للأوّل، وإن عكست الصغرى وجعلتها كبرى لزم أيضاً المحذور المذكور؛ وإن كانتا سالبتين فإن عكست الكبرى أو الصغرى وجعلتها كبرى حتى رجع القياس إلى الأوّل، لم يحصل شرط الانتاج - وهو الملاقاة بين الأوسط والأصغر - فلا يتعدى الحكم على ما مرّ في الشكلّ الأوّل.

وأمّا وجه نقصانه فهو إنّ هذا الشكل ليس انتاجه لرجوعه إلى الأوّل دائماً لرفع الاكتفاء بالأوّل عنه، بل أحد وجوه بيان إنتاجه عندنا هو الرجوع إلى الأول، ولا يلزم من عدم بيان الانتاج، عدم الانتاج.

وأيضاً هاهنا وجوه أُخر من البيانات لانتاج هذا الشكل غير الرجوع إلى الأوّل كالخُلف والإفتراض، اللهم إلّاأن يجعل الرجوع إلى الأوّل، شرطاً في انتاج هذا الشكل في نفس الأمر، فحينئذٍ يتم كلامه، لكن هذه الدعوى في غاية المنع وكيف يُصنع بالضرب الرابع من هذا الشكل؟! فإنّ انتاجه إنّما يبين بالخلف أو...

ص: 104

قال: وإمّا كلية الكبرى، فلأنّها إن كانت التي تنعكس، فواضح، وإن عكست الصغرى فلابدّ أن تكون سالبة لتتلاقيا، ويجب عكس النتيجة ولا تنعكس لأنّها تكون جزئية سالبة. *

بالافتراض، ولا يتم بالردّ إلى الأوّل على ما سيأتي.

وأمّا بيان ما هو الحقّ في ذلك، فأعلم أنّ هذا الشرط - وهو الاختلاف كيفاً - لابدّ منه لأنّ المتباينين والمتوافقين يشتركان في إيجاب أشياء لهما(1) وسلب أُخر عنهما، ولا يقتضي ذلك صدق أحد المتباينين على الآخر ولا سلب أحد المتوافقين عن صاحبه كما نقول: لا شيء من الإنسان بحجر ولا شيء من الفرس بحجر، مع أنّ الحقّ السلب؛ ولو قلنا في الكبرى: ولا شيء من الناطق بحجر، كان الحقّ الإيجاب ونقول: كلّ إنسان حيوان وكلّ فرس حيوان، مع أنّ الحقّ السلب، ولو قلنا في الكبرى: وكلّ ناطق حيوان، كان الحقّ الإيجاب.

(*) أقول: لما ذكر الدليل على اشتراط الأمر الأول، شرع في بيان اشتراط الأمر الثاني ببيان غير واضح أيضاً، ونحن نقرر ما قال أوّلاً فنقول: قد ذكرنا أنّ هذا الشكل إنّما يظهر بيان انتاجه بالرد إلى الأوّل، وذلك إنّما يكون بعكس الكبرى أو بعكس الصغرى وجعلها كبرى ثمّ عكس النتيجة، وذلك إنّما يتم إذا كانت الكبرى كليّة، لأنّ العكس:

إن كان الكبرى، فواضح وجوب كونها كلية حينئذٍ، لأنّ القياس يصير

ص: 105


1- . في نسخة «الف»: أسبابهما.

....................

من الأوّل ونحن قد اشترطنا في الأوّل كلية كبراه.

وإن كان الصغرى فيجب ان تكون سالبة ليحصل الالتقاء، لأنّها: إن كانت موجبة انعكست جزئية وجعلت كبرى والكبرى صغرى، فتكون الكبرى في الأوّل جزئية وهو محال؛ وإذا كانت سالبة كلية فإذا عكست وجعلت كبرى ثمّ جعلت الكبرى جزئية صغرى، كانت النتيجة سالبة جزئية والسالبة الجزئية لا تنعكس فلا يصدق الانتاج.

والإيراد الذي ذكرناه على بيانه الأول عائد بعينه هاهنا، والحقّ أنْ نقول: لو كانت الكبرى جزئية حصل الاختلاف الموجب للعقم، فإنّا نقول: كلّ إنسان حيوان وليس كلّ جسم بحيوان، والحق الايجاب؛ ولو قلنا في الكبرى: وليس كل حجر بحيوان، كان الحق السلب؛ وكذلك نقول: لا شيء من الإنسان بحجر وبعض الجسم حجر، والحقّ الايجاب، ولو قلنا في الكبرى: وبعض الجماد حجر، كان الحق السلب؛ ومع حصول الاختلاف لم يبق تيّقن بكيفية النتيجة(1)، فلا إنتاج.

ص: 106


1- . في نسخة «ب»: الصحة.

قال:

الأوّل: كليتان، والكبرى سالبة: الغائب مجهول الصفة، وما يصحّ بيعه ليس بمجهول الصفة؛ ويُبيَّن بعكس الكبرى.

الثاني: كليتان، والكبرى موجبة: الغائب ليس معلوم الصفة، وما يصحّ بيعه معلوم، ولازمه كالأوّل ويُبيَّن بعكس الصغرى، وجعلها الكبرى بعكس النتيجة(1).

الثالث: جزئية موجبة، وكلية سالبة: بعض الغائب مجهول، وما يصحّ بيعه ليس بمجهول؛ ولازمه: بعض الغائب لا يصحّ بيعه، ويُبيَّن بعكس الكبرى.

الرابع: جزئية سالبة وكلية موجبة: بعض الغائب ليس بمعلوم، وما يصحّ بيعه معلوم؛ ويُبيّن بعكس الكبرى بنقيض مفرديها. *

(*) أقول: إذا عكست الكبرى في الضرب الأوّل، صار القياس من الشكل الأوّل هكذا: الغائب مجهول الصفة، ولا شيء ممّا هو مجهول الصفة يصحّ بيعه، فلا شيء من الغائب يصح بيعه وهو المطلوب.

وإذا عكست الصغرى في الضرب الثاني ثمّ جُعلت كبرى، كان القياس أيضاً من الأوّل هكذا: ما يصح بيعه معلوم الصفة، ولا شيء ممّا هو معلوم الصفة بغائب، ينتج لا شيء ممّا يصحّ بيعه بغائب؛ ثمّ نعكس هذه النتيجة إلى قولنا: لا شيء

ص: 107


1- . في نسخة «ب»: وعكس النتيجة.

قال: ويبيّن فيه أيضاً وفي جميع ضروبه بالخُلف، فنأخذ نقيض النتيجة وهو: كلّ غائب يصحّ بيعه، فنجعله الصغرى فينتج نقيض الصغرى الصادقة، ولا خلل إلّامن نقيض المطلوب، فالمطلوب صَدَقَ. *

من الغائب يصحّ بيعه، وهو اللازم من الضرب الأوّل.

والضرب الثالث يبيّن بما تبيّن به الضرب الأوّل وهو عكس كبراه.

وأمّا الضرب الرابع فقد التجأ فيه إلى العكس أيضاً لكن بعكس النقيض لا بعكس المستوي، فإنّ كبرى الضرب الرابع إذا عكست بعكس النقيض صارت هكذا: كل ما ليس بمعلوم لا يصحّ بيعه، فإذا ضممناه إلى الصغرى، صار القياس من الأول هكذا: بعض الغائب ليس بمعلوم، وكل ما ليس بمعلوم لا يصحّ بيعه، فبعض الغائب لا يصح بيعه وهو المطلوب. وإلى عكس النقيض أشار المصنف بقوله:

بنقيض مفرديها. (*) أقول: هذا هوالطريق العام في بيان نتائج الأشكال الثلاثة الأخيرة وهوالمسمى ب «قياس الخلف»، وذلك بأن نأخذ نقيض المطلوب ونضمه إلى إحدى المقدمتين لينتج ما يناقض الأُخرى أو يضادّها، مثاله: لو لم تصدق نتيجة الضرب الرابع - وهي قولنا: بعض الغائب لا يصح بيعه - مع صدق المقدمتين، لصدق نقيضها وهي قولنا: كلّ الغائب يصحّ بيعه، فنجعله صغرى وكبرى القياس، كبرى؛ هكذا: كلّ الغائب يصحّ بيعه، وكلّ ما يصحّ بيعه معلوم، ينتج: كلّ الغائب معلوم، وهو يناقض صغرى القياس وهي قولنا: بعض الغائب ليس بمعلوم، وهذا خلف محال لم يلزم من الكبرى، لأنّها مفروضة الصدق ولا من القياس، لأنّه منتج لذاته ليس فيه...

ص: 108

قال: الشكل الثالث: شرطه، ايجاب الصغرى، أو في حكمه، وكلية إحداهما تبقى ستة، ولا ينتج إلّاجزئية.

أمّا الأوّل فلأنّه لابدّ من عكس إحداهما وجعلها الصغرى، فإن قدَّرت الصغرى سالبة وعكستها، لم تتلاقيا، وإن كان العكس في الكبرى وهي سالبة، لم تتلاقيا مطلقاً، وإن كانت موجبة، فلابد من عكس النتيجة، ولا تنعكس. *

خلل صوري، فهو إذن لازم من الصغرى الّتي هي نقيض المطلوب، فنقيض المطلوب محال لاستلزامه المحال، فالمطلوب حقّ لاستحالة خروج الصدق عن النقيضين.

وقوله: ويبيّن فيه، الضمير في «فيه»، يعود إلى الضرب الرابع؛ وفي قوله: وفي جميع ضروبه، إلى الشكل الثاني.

(*) أقول: الشرط في انتاج هذا الشكل أمران:

الأوّل: إيجاب الصغرى أو حكمه، بمعنى أنّها تكون سالبة مركبة يلزمها الإيجاب.

والثاني: كلية إحداهما، أمّا الصغرى أو الكبرى.

ومع هذين الشرطين يبقى الناتج ستة: الموجبة الكلية الصغرى مع المحصورات الأربع، والموجبة الجزئية الصغرىٰ مع الكليتين.

أمّا بيان اشتراط الأمر الأوّل، فلأنّ هذا الشكل إنّما يُبيَّن إنتاجه بواسطة...

ص: 109

قال: وأمّا كليّة احداهما فلتكن هي الكبرى آخراً بنفسها أو بعكسها. *

ردّه إلى الأوّل، بعكس الصغرى أو بعكس الكبرى ثمّ جَعْلها صغرى وعكس النتيجة، وعلى هذا التقدير يجب إيجاب الصغرى لأنّها لو كانت سالبة ثمّ عكستها، صارت القرينة من الشكل الأوّل والصغرى فيه سالبة، وقد بيّنا فيما مضى أنّ مثل هذه القرينة لا تنتج لعدم التلاقي بين الأوسط والأصغر، وإن كان العكس الكبرى فلا يخلو إمّا أن تكون سالبة أو موجبة، فإن كانت سالبة، لم تحصل الملاقاة مطلقاً أي مع العكس وبدونه، فإنّ [ضرب] السالبتين عقيم؛ وإن كانت موجبة وعكستها، صارت جزئية فإذا جُعلت صغرى، صارت القرينة(1) من الأوّل وانتجت جزئية سالبة وهي لا تنعكس.

وأعلم أنّ الذي أوردناه فيما مضى، آت هاهنا؛ والحقّ أنْ نقول: لو كانت سالبة لم تحصل الملاقاة، أمّا مع سلب الكبرى فلصدق قولنا: لا شيء من الإنسان بفرس ولا شيء من الإنسان بصاهل، والحق الإيجاب، ولو قلنا في الكبرى: ولا شيء من الإنسان بحجر، كان الحق السلب، وأمّا مع إيجابها فلصدق قولنا: لا شيء من الإنسان بفرس، وكلّ إنسان حيوان؛ والحقّ الإيجاب، ولو قلنا في الكبرى: وكلّ إنسان ناطق، كان الحقّ السلب.

(*) أقول: هذا بيان اشتراط الأمر الثاني، وتقريره: إنّ الشكل الأوّل -

ص: 110


1- . المراد ب «القرينة» هنا هو «الضرب» في الأشكال الأربعة، ويطلقون على تأليف المقدمتين اقتراناً.

قال: وأمّا إنتاجه جزئية، فلانّ الصغرىٰ عكس موجبةٍ أبداً، أو في حكمها. *

قد ذكرنا - أنّ من شرطه، كلية كبراه، وهذا الشكل يرجع إليه بعكس إحدى مقدمتيه فلابدّ من كلية إحداهما لتكون هي الكبرى آخر الأمر - يعني بعد العكس - أمّا بنفسها كما في الضروب التي كبرياتها كلية، أو بعكسها كما في الضروب التي تكون كبرياتها جزئية فإنّها تبيّن بعكس الكبرى وجعلها صغرىٰ، ثمّ عكس النتيجة، فكلية الكبرى الآن هاهنا إنّما حصلت بعد عكس الكبرى التي هي جزء من القياس.

والحقّ أنّ هذا تطويل ردئٌ والأوّلىٰ أنْ نقول: لو كانتا جزئيتين، لم تحصل الملاقاة لاحتمال جنسية الأوسط للأصغر والأكبر، كما نقول: بعض الحيوان إنسان وبعضه فرس، مع إمتناع الإيجاب، ولو قلنا في الكبرى: وبعضه ناطق، كان الحق الإيجاب.

(*) أقول: هذا الّذي ذكره في تعليل جزئية النتيجة، يشبه ما ذكره أوّلاً في اشتراط ما ذكر في الإنتاج، وتقرير قوله أن نقول: النتيجة إنّما وجب كونها جزئية، لأنّ هذا الشكل يرجع إلى الأوّل، بعكس صغراه الموجبة أو السالبة المركبة، وهي إنّما تنعكس جزئية فيصير الاقتران من الشكل الأوّل من صغرى جزئية وكبرى، وهو ينتج الجزئي؛ وهذا فيه نظر.

والحقّ أن يقول: قد يحتمل أن يكون الأوسط نوعاً لأحد الطرفين ويكون الآخر فصلاً له، فيكذب حمل الفصل على كلّ أفراد الجنس، مثاله: كلّ إنسان...

ص: 111

....................

حيوان وكلّ إنسان ناطق، ويُحتمل أن يكون الاوسط والأكبر نوعين للأصغر، فيمتنع سلب الأكبر عن كلّ أفراد الأصغر، مثاله: كلّ إنسان حيوان، ولا شيء من الإنسان بفرس؛ وإذا لم ينتج هذان الضربان الكلية، لم تنتجها البواقي لأنّ هذين الضربين أخصّ البواقي(1) أو لأنّا نذكر هذين المثالين جزء المقدمات.(2)

ص: 112


1- . لأن الضرب الأوّل هو أخصّ الضروب المنتجة للإيجاب، والضرب الثاني أخصّ الضروب المنتجة للسلب، وإذا كان الأخص عقيماً، يكون الأعم عقيماً بالأولى. يراجع «شرح المطالع»: 255.
2- . لعل المراد هو انّه: لو لم نقل بجزئية النتيجة في الضروب الستة من الشكل الثالث، يحتمل فيها أمّا كذب حمل الفصل على كل أفراد الجنس وذلك فيما إذا كان الأوسط نوعاً لأحد الطرفين والآخر فصلاً له، وأما امتناع سلب الأكبر عن كل أفراد الأصغر، كما تبيّن في المثالين.

قال:

الأوّل: كلتاهما كلّية موجبة: كل بُر مقتات وكل بُر ربوي، فينتج:

بعض المقتات ربوي، ويبيّن بعكس الصغرى.

الثاني: جزئية موجبة وكلية موجبة: بعض البُر مقتات وكل بُر ربوي، فينتج مثله، ويبيّن كالأول.

الثالث: كلية موجبة وجزئية موجبة: كل بُر مقتات وبعض البر ربوي، فينتج مثله، ويبيّن بعكس الكبرى وجعلها الصغرى وعكس النتيجة.

الرابع: كلية موجبة وكلية سالبة: كل بر مقتات وكل بُر لا يباع بجنسه متفاضلاً، فينتج: بعض المقتات لا يباع، ويبيّن بعكس الصغرى.

الخامس: جزئية موجبة وكلية سالبة: بعض البر مقتات وكل بُر لا يباع بجنسه متفاضلاً، فينتج ويبيّن مثله.

السادس: كلية موجبة وجزئية سالبة: كل بر مقتات وبعض البُر لا يباع [بجنسه] فينتج مثله ويبيّن بعكس الكبرى على حكم الموجبة وجعلها الصغرى وعكس النتيجة. *

(*) أقول: إذا عكست الصغرى في الضرب الأوّل، صارت هكذا:

بعض المقتات بُر، فإذا ضم إلى الكبرى، صارت القرينة من الأوّل وأنتجت ما ذُكر، وكذلك الضرب الثاني، والضرب الثالث إذا عُكست كبراه صارت: بعض الربوي بُر، فإذا جُعلت صغرى للصغرى، صار القياس هكذا: بعض الربوي بُر...

ص: 113

قال: ويبين مع جميعه بالخلف أيضاً، فيأخذ نقيض النتيجة كما تقدم، إلّاأنّك تجعله الكبرى. *

وكل بُر مقتات وأنتج من الأوّل: بعض الربوي مقتات ثمّ نعكس النتيجة إلى قولنا: بعض المقتات ربوي، والضرب السادس(1) بيّنه المصنف بعكس كبراه على حكم الموجبة وذلك بأن يردَّ هذه السالبة إلى الموجبة المعدولة المحمول فنقول:

بعض البُر هو لا يباع بجنسه، ثم نعكس هذه الموجبة إلى قولنا: بعض ما لا يباع بجنسه بُر، ونضمه إلى الكبرى لينتج: بعض ما لا يباع بجنسه مقتات، ثم نعكس هذا إلى قولنا: بعض المقتات لا يباع بجنسه، وفي هذا البيان نظر.

* أقول: الضمير في قوله: و يبين، عائد إلى هذا الضرب الأخير، وفي قوله:

جميعه، عائد إلى الشكل الثالث، وقوله: كما تقدم، حوالة على ما ذكر في الشكل الثاني؛ ثمّ فرق بينهما بأنّ النقيض يجعل هاهنا كبرى، وفي الشكل الثاني جعلناه صغرى؛ وبيان الخلف في الضرب الأخير أن نقول: لو لم يصدق بعض المقتات لا يباع، صدق نقيضه وهو كل مقتات يباع؛ فنجعله كبرى، وصغرى القياس صغرى، هكذا: كل بُر مقتات وكل مقتات يباع، ينتج: كلّ بُر يباع، وهو يناقض الكبرى، وكذلك يجري هذا البيان في جميع ضروب هذا الشكل، وهو بيان عام.

ص: 114


1- . يلاحظ أنّه في النسختين لم يشر إلى الضربين الرابع والخامس، وقد أُشير إليهما في شرح آخر. أنظر: رفع الحاجب: 1/331.

قال: الشكل الرابع، وليس تقديماً وتأخيراً للأوّل، لأنّ هذا نتيجته عكسه، والجزئية السالبة ساقطة لأنّها لا تنعكس، وإنْ بقيتا وقلبتا، فإن كانت الثانية لم يتلاقيا وإن كانت الأولى لم تصلح للكبرى، وإذا كانت الصغرى موجبة كلية، فالكبرى على السلب(1)، وإن كانت سالبة كلية فالكبرى موجبة كلية، لأنها إن كانت جزئية وبقيت، وجب جعلها الصغرى وعكس النتيجة؛ وإن عكست وبقيت، لم تصلح للكبرى؛ وإن كانت سالبة كلية، لم يتلاقيا بوجه؛ فإن كانت موجبة جزئية، فالكبرى سالبة كلية لأنّها إن كانت موجبة كلية وفَعَلْتَ الأوّل، لم تصلح للكبرى وإن فَعَلْتَ الثاني، صارت الكبرى جزئية، وإن كانت جزئية موجبة فأبعد، فينتج منه خمسة. *

* أقول: قد يتوهم أنّ الشكل الرابع، هو الشكل الأوّل لكن قد غير ترتيب المقدمتين فيه؛ فالمصنف أزال هذا الوهم لأنّ نتيجة هذا الشكل، عكس نتيجة الشكل الأول، والمنتج للعكس غير المنتج للأصل.

وأعلم انّ السالبة الجزئية لا يجوز استعمالها في هذا الشكل كما في الأوّل، ونحن نقرر ما ذكره المصنف فنقول: هذا الشكل يرجع إلى الأوّل إمّا بتغيير الترتيب وعكس النتيجة، وإمّا بعكس المقدمتين؛ ويرجع إلى الثاني بعكس الصغرى، وإلى الثالث بعكس الكبرى؛ فالسالبة الجزئية أمّا أن تكون صغرى أو كبرى: فإن «كانت صغرى» لم يمكن بيان النتيجة بالردّ إلى الأوّل، لأنّ البيان إمّا بالعكس

ص: 115


1- . كذا في النسختين وفي غيرهما: الثلاث. انظر: رفع الحاجب: 1/335.

....................

للمقدمتين وهذه لا تنعكس، وإمّا بالقلب فتكون كبرى الأوّل سالبة جزئية وهو عقيم؛ ولا بالثاني، لأنّها لا تنعكس؛ ولا بالثالث، لأنّ الكبرى إن كانت سالبة لم تحصل الملاقاة فإنّه يصدق: ليس كلّ إنسان بفرس، ولا شيء من الصاهل بإنسان، فيجب أن تكون موجبة وهي تنعكس جزئية ولا قياس عن جزئيتين.

وإن «كانت كبرى» لم يمكن بيانها: بالرد إلى الأول، لأنّ صُغرى الأول يجب ان تكون موجبة وكبراه كلية فلا يمكن بيانه بالطريقين؛ ولا بالرد إلى الثاني، لأنّ كبرى الثاني يجب أن تكون كلية؛ ولا بالثالث، لأنّها لا تنعكس.

وقول المصنّف: لأنّها لا تنعكس، إشارة إلى أنّه لا يمكن بيان النتيجة بالرد إلى الأول بواسطة عكس المقدمتين، ولا بالرد إلى الثاني إن كانت صغرى، ولا إلى الثالث إن كانت كبرى.

وقوله: وإن بقيتا وقلبتا فإن كانت الثانية لم يتلاقيا، وإن كانت الأُولى لم تصلح للكبرى، يعني به: وإذا لم يرجع في البيان إلى العكس بل إلى القلب؛ وهو تغيير الترتيب الذي هو الطريق الثاني في وجه رجوع هذا الشكل إلى الأوّل.

وقوله: فإن كانت الثانية، يريد به: إن كانت السالبة الجزئية هي الكبرى قبل القلب، لم يتلاقيا لاشتماله على قياس يكون صغراه في الأول سالبة، وقد بيّنا في الأول عدم التلاقي.

وقوله: وإن كانت الأولى، لم تصلح للكبرى، يريد به: إن كانت السالبة الجزئية هي الصغرى قبل القلب ثمّ جُعِلَت الكبرى، بإن غيَّر الترتيبَ، كانت الكبرى في الأوّل جزئية والجزئية لا تصلح لذلك. وليس فيما ذكره المصنف إبطال...

ص: 116

....................

بالرد إلى الثاني على كونها كُبرىٰ، ولا إبطال بالردّ إلى الثالث على تقدير كونها صغرى، ونحن قد ذكرناه، وفي هذا البيان نظر.

والحق أنّ السالبة الجزئية لا تصلح صغرى لصدق قولنا: ليس كل إنسان بفرس وكل ناطق إنسان، والحق السلب؛ ونقول: ليس كلّ حيوان بإنسان وكل ناطق حيوان، والحق الإيجاب؛ ومع السالبة عقيم لما ذكرناه، ولا كبرى فإنّه يصدق: كلّ إنسان حيوان وليس كلّ حساس بإنسان، مع كذب السلب؛ ولو قلت في الكبرى:

وليس كلّ حجر بإنسان، كان الحقّ السلب؛ فإذا ظهر ذلك يبيّن أنّ السالبة الجزئية لا يجوز استعمالها في هذا الشكل فتسقط منه سبعة أضرب.

وأعلم أنّ الصغرى الموجبة الكلّية يجوز استعمالها مع الكبريات الثلاث، أعني: الموجبة الكلية والجزئية والسالبة الكلية وتكون ناتجة، فهذه ثلاثة أضرب.

وإذا كانت الصغرى، سالبة كليّة فاستعمالها مع الموجبة الكلية لا غير، وهذا ضرب آخر، لأنّها لو استعملت مع غيرها فأمّا أن تكون مع الموجبة الجزئية أو مع السالبة الكلّية وهما عقيمان:

أمّا الأوّل: فلأنّ هذا القياس لا يمكن بيانه بالردّ إلى الأوّل بواسطة القلب، لأنّه حينئذٍ تكون النتيجة سالبة جزئية ويجب عكسها حينئذٍ، لكن السالبة الجزئية لا تنعكس، ولا بالعكس لأنّا إذا عكسنا المقدمتين كانت الصغرى في الأوّل سالبة والكبرى فيه جزئية. والمصنف اختار في إبطال هذا القسم إختلال الشرط الثاني لاحتمال أن تكون السالبة مركبة؛ ولا إلى الثاني بواسطة عكس الصغرى، لأنّ الكبرى حينئذٍ تكون جزئية في الثاني وهو عقيم؛ ولا إلى الثالث لأنّ الصغرى...

ص: 117

....................

حينئذٍ تكون سالبة فيه. والحق أن نقول: لأنّه يصدق لا شيء من الإنسان بفرس وبعض الحيوان إنسان، مع كذب السلب.

وأمّا الثاني: فلعدم التلاقي مطلقاً فإنّه يصدق: لا شيء من الإنسان بفرس ولا شيء من الصاهل بإنسان مع كذب السلب، ولو قلنا في الكبرى ولا شيء من الحجر بإنسان، كان الحق السلب، وإذا كانت الصغرى موجبة جزئية فالكبرى سالبة كلية لا غير، وهو ضرب واحد لأنّها لو كانت الكبرى موجبة كلية، لم يمكن بيانها بالرد إلى الأوّل بواسطة القلب لصيرورة الكبرى في الأوّل جزئية، ولا بالعكس لانعكاس الموجبة الكلية إلى الموجبة الجزئية.

وقول المصنف: فَعَلْتَ الأوّل، أشار به إلى القلب؛ والثاني أشار به إلى العكس، ولا يمكن البيان بالرد إلى الثاني لعدم انتاج الموجبتين فيه، ولا إلى الثالث لكون الكبرى جزئية حينئذٍ ولا ينتج عن جزئيتين، ولو كانت الكبرى موجبة جزئية كان المحال المذكور لازماً بغير واسطة العكس، وإليه أشار المصنف بقوله: فأبعد، والحق أنّه يصدق: بعض الحيوان إنسان وكلّ فرس حيوان، مع كذب الايجاب، فقد اتضح من هذا أنّ المنتج فيه خمسة أضرب.

والضابط في شرط الإنتاج أمران:

الأوّل: هو عدم اجتماع الحصتين أعني السلب والجزئية فيه إلّاإذا كانت الصغرى موجبة جزئية.

الثاني: كلما كانت الصغرى موجبة جزئية، كانت الكبرى سالبة كلية.

ص: 118

قال:

الأوّل: كل عبادة مفتقرة إلى نيّة، وكل وضوء عبادة، فينتج: بعض المفتقر وضوء؛ ويبين بالقلب فيهما وعكس النتيجة.

الثاني: مثله والثانية جزئية.

الثالث: كل عبادة لا تستغني، وكل وضوء عبادة، فينتج: كل مستغن ليس بوضوء؛ ويبين بالقلب وعكس النتيجة.

الرابع: كل مباح مستغن، وكل وضوء ليس بمباح، فينتج: بعض المستغني ليس بوضوء؛ ويبين بعكسهما.

الخامس: بعض المباح مستغنٍ، وكل وضوء ليس بمباح؛ وهو مثله. *

(*) أقول: الضرب الأوّل: هو المركب من الموجبتين الكليتين وينتج الموجبة الجزئية، والبيان بتغيير الترتيب حتى يصير من الأوّل وعكس النتيجة الكلية إلى الموجبة الجزئية، ولا ينتج هذا الضرب الكلية، فإنّه يصدق: كلّ إنسان حيوان و كلّ ناطق إنسان، مع كذب كلّ حيوان ناطق.

والضرب الثاني: يكون من موجبتين والكبرى جزئية، مثاله: كلّ عبادة مفتقرة إلى نية، وبعض الوضوء عبادة، ينتج: بعض المفتقر وضوء، وبيانه بالقلب أيضاً وعكس النتيجة.

والثالث: ما يتركب من الصغرى السالبة الكلية مع الكبرى الموجبة...

ص: 119

قال: والإستثنائيُّ ضربان: ضرب بالشرط ويسمى المتصل، والشرط مقدماً، والجزاء تالياً، والمقدمة الثانية إستثنائية. *

الكلية، وينتج سالبة كلية.

الرابع: ما يتركب من كليتين لكن الكبرى هي السالبة، وينتج سالبة جزئية بعكس المقدمتين، مثاله: كل مباح مستغن وكل وضوء ليس بمباح، فإنّ الصغرى تنعكس إلى قولنا: بعض المستغني مباح، والثانية تنعكس إلى قولنا: كلّ مباح ليس بوضوء، وهما ينتجان: بعض المستغني ليس بوضوء، ولا ينتج السالبة الكلية فإنّه يصدق: كل إنسان حيوان ولا شيء من الفرس بإنسان، مع كذب السلب الكلي.

والخامس: ما يتركب من الصغرى الموجبة الجزئية مع الكبرى السالبة الكلية، مثاله: بعض المباح مستغنٍ، وكلّ وضوء ليس بمباح، ينتج: بعض المستغني ليس بوضوء، البيان بعكس المقدمتين أيضاً، ويمكن البيان بالخلف والعكس والافتراض.

القياس الإستثنائي

(*) أقول: لمّا فرغ من الكلام في الإقترانيات، شرع في الإستثنائيات(1) وهي الأقيسة الّتي تكون النتيجة أو نقيضها مذكوراً فيها بالفعل، وهي على قسمين، فإنّه لمّا اشتمل على المقدمة الشرطية وكانت الشرطية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة؛ كان القياس منقسماً باعتبار هذين إلى قسمي المتصل والمنفصل، مثال المتصل: إن

ص: 120


1- . إنّ المقسم هنا هو القياس البسيط، إذاً تُعدّ الاستثنائيات قسيمة للإقترانيات.

قال: وشرط نتاجه أن يكون الاستثناء بعين المقدم، فلازمه عين التالي، أو بنقيض التالي، فلازمه نقيض المقدم؛ وهذا حكم كُلِّ لازمٍ مع ملزومه، وإلّا لم يكن لازماً، مثل: إن كان هذا إنساناً فهو حيوانٌ، وأكثر الأوّل ب «إن»، والثاني ب «لو». *

كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، وهذا فيه حرف الشرط وهي لفظة «إن» أو ما يقوم مقامها؛ والشرط هو قولنا: إن كانت الشمس طالعة، يسمىٰ المقدم، لتقدمه في الطبع. والجزاء هو قولنا: فالنهار موجود، يسمى التالي، لتأخره عن الأوّل؛ فإذا استثنينا وقلنا: لكن الشمس طالعة، كانت هذه مقدمة ثانية وهي الاستثنائية، وكذلك لواستثنيا النقيض للنقيض.

(*) أقول: شرط القياس الاستثنائي أن تكون المتصلة لزومية وهي الّتي يكون المقدم فيها موجباً للتالي أو مضايفاً له وأن يكون الاستثناءُ لعين المقدم أو لنقيض التالي:

أمّا الشرط الأوّل، فلأنّها لو كانت إتفاقية، لم يُعدُّ القياس شيئاً فإنّ المقدمة المستثناة والمستنتجة معاً يجب أن تكونا معلومتي الثبوت قبل تركيب القياس.

وأمّا الثاني فلأنّه لو استثنى نقيض المقدم أو عين التالي، لم يلزم النتيجة، فإنّ المقدّم يجوز أن يكون أخصّ(1) من التالي، وعلى هذا التقدير فلا يلزم من رفع الخاص ولا من إثبات العام شيء.

وإذا تحقق هذان الشرطان فالمنتج في هذا القياس أمران:

ص: 121


1- . في نسخة «أ»: أعمّ، وما أثبتناه هو الصحيح، ويشهد عليه ذيل كلام الشارح.

قال: ويسمى [ما] ب «لو»، قياس الخلف، وهو إثبات المطلوب بإبطال نقيضه. *

أحدهما استثناء عين المقدم لانتاج عين التالي، مثل: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان، لكنَّهُ إنسان، فإنّه يلزم منه أنّه حيوان.

الثاني استثناء نقيض التالي لانتاج نقيض المقدم، كما لو قلت: لكنّه ليس بحيوان، فإنّه يلزم منه أنّه ليس بإنسان، وإنما وجب انتاج هذين الاستثنائين لأنّ معنى اللزوم، هو وجود التالي عند وجود المقدم وعدم المقدم عند عدم التالي، فإنّ المقدّم لمّا كان واجباً، لن يكون أخص أو مساوٍ، وكان وجود الأخص أو المساوي يستلزم وجود الأعم أو المساوي؛ وعدم الأعم أو المساوي يستلزم عدم الأخص أو المساوي، كان استثناء عين المقدم ونقيض التالي منتجين، بخلاف غيرهما.

وقد يتوهم من لا تحقيق له أنّ اللزوم إذا كان من الطرفين، كانت النتائج أربعة، والحق أنّ هاهنا لزومين.

وقوله: وأكثر الأوّل ب «إن» والثاني ب «لو»، إشارة إلى إرادة استثناء عين المقدم غالباً إذا كانت المتصلة مشتملة على حرف «إن» الموجب للربط، وإرادة استثناء نقيض التالي، انما يكون غالباً إذا كانت المتصلة مشتملة على حرف «لو» الموجب للربط.

(*) أقول: الأقيسة الخُلفية بوضع مقدماتها نقائض المطلوب ويُستنتج فيها نقائض التوالي لينتج نقائض المقدمات، فهو غالباً إنّما يكون بحرف «لو» لأنها دالة على ثبوت الإمتناع(1)....

ص: 122


1- . في نسخة «ب»: الامتناع للامتناع.

قال: وضربٌ بغير الشرط، ويسمّى المنفصل، ويلزمه تعَدُّدُ اللازم مع التنافي، فإنْ تنافيا إثباتاً ونفياً، لزم من اثبات كلّ نقيضُهُ، ومن نقيضه عينهُ، فيجيءُ أربعةً، مثاله: العدد إمّا زوج أو فرد، لكنّه... إلى آخرها، وإن تنافيا إثباتاً لا نفياً، لزم الأمران، مثاله: الجسم إمّا جماد أو حيوان، وإن تنافيا نفياً لا إثباتاً لزم الأخيران، مثاله: الخنثى إمّا لا رجل أو لا امرأة. *

واعلم أنّ قياس الخلف من القياسات المركبة وهو إنمّا يتم بقياسين؛ اقتراني واستثنائي، ولابدّ فيه من مقدمتين صادقتين أو مفروضتي الصدق، مثاله: لو لم يصدق قولنا: لا شيء من ج ب، صدق بعض ج ب، وهذه مقدمة متصلة مقدمها فرض المطلوب غير حق، وتاليها ما يلزم ذلك وهو كون نقيضه حقاً، ويضمها إلى مقدمة أخرى صادقة، وهي قولنا: لا شيء من ب أ، ينتج لو لم يصدق لا شيء من ج ب، صدق ليس بعض ج أ، ثمّ نستثني نقيض هذه النتيجة، فنقول: لكن ليس بعض ج أ، أي: كلّ ج أ، ينتج: نقيض المقدم وهي صدق قولنا: لا شيء من ج ب، فهو إثبات للمطلوب بإبطال نقيضه.

(*) أقول: هذا هو القسم الثاني من اقسام الاستثنائيات وهو الذي تكون المقدمة الشرطية فيه منفصلة؛ ولابدّ فيه من قضيتين يحصل بينهما التنافي، واطلاق اللازم في قول المصنف: ويلزمه تعدد اللازم مع التنافي على القضيتين، لا يخلو من تسامح.

وأعلم أنّ التنافي من القضيتين امّا أن يكون في الوجود والعدم معا وتسمى المنفصلة المشتملة عليهما حقيقية، وإمّا أن لا يكون كذلك وتسمى القضية...

ص: 123

....................

المشتملة عليهما غير حقيقية، وهي لا تخلو:

إمّا أن تشتمل على قضيتين حكم بالتنافي عنهما في الوجود مع جواز الجمع بينهما في العدم، وهذه تسمى مانعة الجمع.

وإمّا أن تشتمل على قضيتين حكم بالتنافي بينهما في العدم مع جواز جمعهما في الوجود، وتسمى مانعة الخلو؛ والقضية الأُولى إنّما تتركب من القضية ونقيضها، أو منها و ما ساوى نقيضها، كقولنا: [العدد] إمّا زوج، أو لا زوج أو العدد إمّا زوج أو فرد، والثانية إنّما تتركب من القضية والأخص من نقيضها، كقولنا: هذا الشيء إمّا أن يكون حجراً أو شجراً، فإنّ الشجر أخصّ من اللاحجر؛ والثالثة إنّما تتركب من القضية والأعمّ من نقيضها، كقولنا: زيد إمّا أن يكون في البحر أو لا يغرق، فإنّ عدم الغرق أعمّ من عدم الكون في البحر.

إذا عرفت هذا فنقول: القضية التي جعلت مقدمة في القياس الاستثنائي أمّا أن تكون حقيقية أو مانعة الجمع أو مانعة الخلو:

فإن كان الأوّل، كانت النتائج اربعاً، فإن استثنينا عين كلّ واحدة منهما، ينتج نقيض الأُخرى لاستحالة الجمع بينهما، واستثناء نقيض كلّ واحدةٍ منها ينتج عين الأُخرى لاستحالة الخلو عنهما كقولنا: العدد إمّا زوج أو فرد لكنّه زوج فهو ليس بفرد، لكنّه فرد فهو ليس بزوج، لكنه ليس بزوج فهو فرد، لكنّه ليس بفرد فهو زوج، وإلى هذه النتائج الثلاث أشار المصنف بقوله: إلى آخرها.

وإن كان الثاني، كانت النتائج إثنتين هما الأولان، أعني الذي ينتج باستثناء العين لأنّ استثناء عين كلّ واحدة منهما ينتج نقيض الأُخرى لاستحالة الجمع؛...

ص: 124

قال: وَيُرَّدُ الاستثنائي إلى الإقتراني؛ بأن يُجْعَل الملزوم وسطاً، والإقتراني إلى المنفصل بذكر مُنافيه معه. *

ولا ينتج الأخيران لأنّ استثناء نقيض كلّ واحدة منهما، استثناءُ لوجود العام، فلا يلزم منه وجودُ الخاص، كقولنا: الجسم امّا جماد أو حيوان، لكنّه جماد فهو ليس بحيوان، لكنّه حيوان فهو ليس بجماد.

وإن كان الثالث، كانت النتائج اثنتين وهما الأخيران أعني الذي ينتج باستثناء النقيض لأنّ استثناء نقيض كل واحد منهما، ينتج عين الأُخرى لاستحالة الخلو، ولا ينتج الأولان لعدم استلزام وجود العام وجود الخاص، كقولنا: الخنثى إمّا لا رجل أو لا امرأة، لكنّه رجل فهو لا امرأة، لكنّه امرأة فهو لا رجل.

(*) أقول: إذا أردنا ردّ الاستثنائي إلى الإقتراني، جعلنا الملزوم وهوالمقدم وسطاً، مثاله: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان لكنّه إنسان فهو حيوان؛ فإذا أردنا ردَّه قلنا: هذا إنسان وكل إنسان حيوان، وينتج: هذا حيوان، فالإنسان وهو الملزوم قد صار في هذا القياس وسطاً، ومثاله في المنفصلات كقولنا: العدد إمّا زوج أو فرد لكنه زوج فليس بفرد، هذا العدد زوج وكل زوج ليس بفرد فهذا ليس بفرد.

ومثال رد الإقتراني إلى المنفصل أن تقول في هذا المثال: إمّا أن يكون هذا إنسان حيواناً أو لا يكون، ثم نستثني العين لانتاج النقيض.

ص: 125

قال: والخطأ في البرهان لمادته وصورته، فالأوّل يكون في اللفظ للاشتراك أو في حرف العطف، مثل: الخمسة زوج وفرد، ونحوهُ: حلو حامض، وعكسه: طبيب ماهر؛ ولاستعمال المتباينة كالمترادفة كالسيف والصارم. *

حصول الخطأ في البرهان

(*) أقول: الخطأ في القياس: إمّا أن يكون في المادة وإمّا أن يكون في الصورة وإمّا أن يكون فيهما معاً؛ والمصنف لم يذكر الجميع، ونحن نشرح ما قاله ونحيل بالباقي على كتاب «الأسرار»(1) فنقول: إمّا الخطأ من قبل المادة(2) فإمّا أن يكون لفظياً وإمّا أن يكون معنوياً:

فالأوّل(3): يكون في جوهر اللفظ المفرد ويكون في أحواله، أمّا الّذي يكون في جوهره فإن يكون مشتركاً بين معنيين، فإذا أُطلق على أحد المعنيين وفهم منه غير ما أُريد به، وقع الخطأ ويدخل تحت المشترك، المشترك وهو الّذي يكون اللفظ قد وضع لماهيتين على سبيل الحقيقة والمجاز، والحقيقة واشباه ذلك(4)...

ص: 126


1- . يراجع: «الأسرار الخفية في العلوم العقلية» - الطبعة المحققة - ص 219 (المقالة السادسة: في المغالطات).
2- . أي: مادة القياس و هي الّتي تقابل صورته الّتي تتمّثل في الأشكال الأربعة.
3- . يأتي القسم الثاني (وهو المعنوي) في شرح المقطع التالي.
4- . قوله: اشباه ذلك؛ مثل المنقول. وقد اشكل الشارح في الجوهر النضيد على الماتن - الخواجه - حيث استعمل المشترك بهذا المعنى أيضاً. يراجع: الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد: 10.

قال: ويكون في المعنى لالتباسها بالصادقة؛ كالحكم على الجنس بحكم النوع وجميع ما ذُكر في النقيض(1) وكجعل غير القطعي كالقطعي وكجعل العرضي كالذاتي وكجعل النتيجة مقدمة بتغيير ما، ويسمى المصادرة ومنه المتضايفة وكل قياس دوري، والثاني ان يخرج عن الأَشْكَالِ. *

والّذي يكون في أحواله لم يتعرض له المصنف.

وقد يكون الخطأ في اللفظ المركب في نفس التركيب وذلك مثل قولنا: الخمسة زوج وفرد، فإن الواو إن أُريد بها الجمع في الذوات، كان القول صادقاً، فإن الخمسة تتركب من عددين: زوج وفرد؛ وإن أُريد بها الجمع في الصفات، كان كاذباً؛ ولهذا المثال اشتباه بما يكون اللفظ فيه مشتركاً.

وقد يكون الخطأ في المركب لا في نفس التركيب بل إمّا لأنّ اللفظ مركب وفُصِّل أو بالعكس، فيكذب، إذاً نقرّب حالته، مثال الأوّل: قولنا: هذا حلو حامض، للمرِّ، فإنّه صدق عليه هذان المعنيان جميعاً ويكون عليه تفاريقه؛ ومثال الثاني:

أنّا إذا فرضنا زيدا طبيباً وخياطاً وهو غير ماهر في الطب وماهر في الخياطة، فإنّه يصدق عليه أنّه طبيب بإنفراده وأنّه ماهر بانفرداه أي في الخياطة؛ وإذا جمع، كذب لإيهامه أنّه ماهر في الطب.

وقد يكون الخطأ لوقوع الاشتباه بين لفظين أحدهما يدل على الذات والآخر على الصفة: كالسيف والصارم إذا أُخذا داليّن على الذات.

(*) أقول: هذا هو القسم الثاني من الاغلاط وهو الّذي يكون الغلط فيه

ص: 127


1- . كذا في النسختين وفي بعض النسخ: النقيضين.

....................

معنوياً وهو على أقسام نذكر منها نحن هاهنا ما ذكره المصنف وهو:

أن يكون السبب فيه الاشتباه بالصادق كالحكم على الجنس بما حكم به على النوع، مثاله: أن من رأى سيّالاً أصفر مُرَّاً كالمِرّة(1) فيظن أنّ كلّ سيّال أصفر مرَّ، وربما كان حلواً كالعسل، والسبب في هذا الغلط، هو إيهام العكس.

أو يقع الغلط بسبب الإغفال للشرائط الثمانية المذكورة في التناقض.

أو يقع الغلط بسبب جعل الأُمور المظنونة كالقطعية وهو إنَّما يستعمل كثيراً في الجدل.

أو يكون الغلط بسبب جعل العرضي كالذاتي أو بالعكس كأخذ الماشي جنساً للحيوان وأخذ الحيوان عرضياً.

وأن يكون السبب فيه جعل النتيجة مقدمة بتغيّر لفظي كما نقول الإنسان ضاحك، لأنّ الإنسان بشر والبشر ضاحك، فالكبرى هي النتيجة بعينها بُدِّل لفظ فيها بلفظ، وهذا النوع يسمى المصادرة على المطلوب.

ومن المصادرة على المطلوب؛ المتضايفات كما نقول: زيد أب لأنّ له إبناً.

ومن المصادرة على المطلوب القياسات الدورية وهي التي يثبت فيها إحدى مقدمتي قياس بقياس يتألف من نتيجة القياس الأوّل وعكس المقدمة الأُخرى عكساً كلّياً، كما تقول: كلّ إنسان ناطق و كل ناطق ضاحك، ينتج: كلّ إنسان ضاحك، ثمّ يستدل على قولنا: كلّ إنسان ناطق، بقولنا: كلّ إنسان ضاحك وكلّ ضاحك ناطق.

وقوله: والثاني أن يخرج عن الأشكال، يشير به إلى ما يقع الاختلال

ص: 128


1- . «المِرَّة» مادة صفراء في المرارة وهي الكيس اللازق بالكبد.

....................

فيه من جهة الصورة وذلك إنّما يكون لخروجه عن أحد الأَشْكالُ المنتجة:

إمّا بأن لا يكون بين القضيتين إشتراك في حد أوسط أو بكون الإشتراك حاصلاً لكن قد أهمل بعض الشرائط المعتبرة في الإنتاج كالاستنتاج من سالبة صغرى في الأوّل أو كبرى جزئية فيه وعلى هذا القياس.

ص: 129

قال: مبادئ اللغة.

ومن لطف اللّٰه تعالى إحداث الموضوعات اللغوية؛ فلنتكلم على حدّها وأقسامها، وابتداء وضعها، وطريق معرفتها. *

المباحث الأُصولية

مبادئ اللغة

اشارة

(*) أقول(1): إنّ النوع الإنساني خلق لا كغيره من الأنواع الحيوانية، فإنّه يفتقر في معاشه إلى أُمور لا يمكن بقاؤه بدونها وتلك الأُمور لابدّ فيها من المعاونة والمشاركة، والمعاونة والمشاركة إنّما تتم إذا عرف كلّ شخص ما في ضمير غيره من الأشخاص؛ وتلك المعرفة لابدّ فيها من طريق. ولما كانت الحركات والإشارات والرقوم تحتاج إلى تعسف وهي غير وافية بهذا الغرض فإنّه ليس كل ما في الضمير يمكن الإشارة إليه إشارة حسّية ولا يوضع له رقم يدل عليه وكان الهواء الخارج من النفس أمراً ضرورياً؛ وجب في عناية اللّٰه تعالى بالرعية وضع الألفاظ التي تحصل بسبب تقطيع الأصوات الحاصلة من الهواء لكونه أخف وأتم تحصيلاً للغرض.

ص: 130


1- . نسترعي انتباه القارئ الكريم إلى أنَّ البحث من بداية الكتاب إلى هنا كان في المسائل المنطقية ومن هنا إلى الخاتمة في المسائل الأُصولية فاليعلم ذلك.

قال: الحدّ: كلّ لفظ وضع لمعنى. *

وأعلم أنّ البحث عن المبادئ اللغوية لا يخلو عن أربعة أقسام:

[1] عن معرفة حدّها؛ فإنّ الطالب لماهية إنّما يتوصل إليها بتحديدها.

[2] وعن ذكر أقسامها؛ فإنّه بعد الفراغ عن البحث عن الماهية، لابدّ من البحث عن أقسام تلك الماهية.

[3] وعن ابتداء الوضع؛ فانّه بعد البحث عن ما مضى، لابدّ من البحث عن سبب تحصيل الماهية وإنّه هل هو توقيفي أواصطلاحي.

[4] وعن طريق المعرفة من أنّها ضرورية أو نظرية.

البحث الأوّل: في حدّ المبادئ

(*) أقول: اللفظ: جنس للمهمل والدال على معنى، فإذا قيل بالثاني خرج الأوّل.

وأعلم أنّ دلالة اللفظ على المعنى قد تكون بالوضع وقد تكون بالعقل وقد تكون بالطبع.

واللغة إنّما هي اللفظ الدال على معنى بالوضع، وإلى هذا أشار المصنف، بقوله: وضع، أما ما يدل بالعقل كدلالة الصوت على المصوت، وبالطبع كدلالة آخ على أذى الصدر، فليس من الألفاظ اللغوية. وفي قول المصنف: كلّ لفظ وضع لمعنى، تسامح، فإنّ لفظي الكل والبعض لا يجوز ذكرهما في تحديد الماهيات.

ص: 131

قال: أقسامها: مفرد ومركب، المفرد: اللفظ بكلمة واحدة وقيل ما وضع لمعنى ولا جزء له يدل فيه؛ والمركب بخلافه فيهما، فنحو (بعلبك) مركب على الأوّل لا الثاني، ونحو (يضرب) بالعكس. *

البحث الثاني: في أقسام الألفاظ

اشارة

(*) أقول: الألفاظ تنقسم بحسب ما تدلّ عليه، وبحسب اعتبار نسبة بعضها إلى بعض وبحسبها في أنفسها؛ وهذه القسمة التي ذكرها المصنف، هي بالاعتبار الأخير.(1)

فإنّ اللفظ إن كان كلمة واحدة، فهو مفرد كزيد، وإن كان مشتملاً على كلمتين أو أكثر، فهو مركب كغلام زيد.

هذا إذا عنى بالمفرد، التلفظ بكلمة واحدة وبالمركب ما يخالفه؛ وإن عنى بالمفرد ما وضع لمعنى لا جزء له يدل فيه وبالمركب ما يخالفه، كانت القسمة إلى المفرد وإلى المركب، قسمة بالاعتبار الأوّل، ولا شك في مغايرة هذه القسمة للأُولى(2)، لتغاير الاعتبار فيهما، والمفرد بالمعنى الأوّل مغاير له بالمعنى الثاني وبينهما عموم من وجه، فإنّهما يصدقان على زيد فإنّه كلمة واحدة فيصدق عليه الحد الأوّل للمفرد وهو لفظ وضع لمعنى، ولا جزء له يدل فيه، فيصدق عليه الحد الثاني، ويتباينان في الصدق، فإنّ المفرد بالمعنى الأول لا يصدق على مجموع (بعلبك) إذا جعل علماً على البلدة المعروفة؛ ولا على (عبد اللّٰه) إذا جعل علماً

ص: 132


1- . أي: بحسب الألفاظ في انفسها.
2- . مراده من «الأُولى» هو الألفاظ بحسب انفسها، ومن «هذه» هو الألفاظ بحسب ما تدل عليه.

قال: ويلزمهم أن نحو: ضارب و مُخرَج ممّا لا ينحصر، مُرَكّبٌ. *

على شخص، لاشتمالهما على لفظين اضيف احدهما إلى الآخر بل يكون مركباً ويصدق عليهما المفرد بالمعنى الثاني لعدم دلالة جزء كلّ واحد منهما على ماوضع له قبل التركيب والعلمية، لانتفاء القصد له والدلالة تابعة للقصد، ونحو (يضرب) وامثاله من الافعال المضارعة التي لغير الغائب، غير مفرد(1) بالمعنى الثاني لاشتمالها على جزء دال هو التاء و النون والهمزة، فإنّها تدل على الفاعلين فهي مركبة وهي مفردة بالمعنى الأوّل لأنّها لفظة واحدة.

ولقائل أن يقول: الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد فنحو (بعلبك) مفرد بالاعتبارين، إمّا بالاعتبار الثاني فظاهر وإمّا بالاعتبار الأوّل فلأنّه ليس متضمناً لكلمتين إذ لا دلالة لاجزائها حالة العلمية.

(*) أقول: أخذ(2) يعترض على المنطقيين في تعريفهم المفرد بما ذكره ثانياً وهو الذي ليس له جزء دال؛ ووجه اللزوم أمران:

الأوّل: إن نحو ضارب ومُخرج وما شاكلهما من اسماء الفاعلين والمفعولين، لها دلالة على المصدر وعلى شيء وُجد له المصدربسبب التصريف الذي هو الجزء الصوري، وكذلك الافعال الماضية فإنّها دالة على المصدر نحو أمرها وعلى الزمان بصيغها.

الثاني:(3) إن نحو ضارب المنوّن يدل على أحد الزمانين.

والجواب عن الأول: أن الجزء المذكور في تعريف المفرد، إنّما هو

ص: 133


1- . في نسخة «ب»: مفردة.
2- . أي: المصنّف.
3- . فقط في نسخة «ب».

قال: وينقسم المفرد إلى اسمٍ، وفعلٍ، وحرفٍ. *

قال: ودلالته اللفظية في كمال معناها: دلالة مطابقة، وفي جزئه دلالة تضمّن، وغير اللفظية: التزامٌ، وقيل: إذا كان ذهنياً. **

الجزء المسموع الملفوظ به [بانفراده](1) المتميّز عن سائر الاجزاء في السمع، والجزء الصوري ليس بهذه المثابة.

وعن الثاني: أنّ التنوين ليس دالاّتً على أحد الزمانين بل الدال عليه إنّما هو اسم الفاعل، والتنوين علامة على كون اسم الفاعل دالاً عليه، أو نقول: إنّه مع التنوين مركب ولا استبعاد في ذلك.

تقسيم المفرد

(*) أقول: المفرد جزء من المركب، فالعلم به متقدم على العلم بالمركب، ولذلك بدأ المصنف بالبحث عنه وقسَّمه إلى اقسام ثلاثة تشترك في جنس وهي كونها ألفاظاً دالة على معاني مفردة بالوضع، ويتميز الحرف عنهما بعدم استقلاله في الدلالة، ويشترك الفعل والاسم في ثبوت ما عُدم عن الحرف، ثم يتميز الفعل عن الاسم بالدلالة على الزمان المعيّن؛ والاسم عن الفعل بعدمه.

تقسيم دلالة المفرد

(**) أقول: الدلالة اللفظية عبارة عن فهم المعنى من اللفظ عند اطلاقه أو تخيله بالقياس إلى العالم بالوضع وهي لا تخلو من ثلاثة أقسام، لأنّها إمّا أن

ص: 134


1- . فقط في نسخة «ب».

....................

تدل على المعنى الموضوع له، أو على جزء المعنى، أو على الخارج عنه.

والأوّل: يسمى دلالة المطابقة لتطابق المعنى واللفظ، أي: توافقهما كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق.

والثاني: يسمى دلالة التضمّن لتضمّن المعنى الموضوع له اللفظ المفروض، مدلولاً عليه كدلالة الإنسان على الحيوان أو الناطق.

والثالث: يسمى دلالة الالتزام للزوم المعنى المدلول عليه الموضوع له كدلالته على قابل صنعة الكتابة.

وأعلم أنّ في ما ذكره المصنف إشكالين:

الأوّل: أنّه جعل دلالة الإلتزام غير لفظية؛ فإن كان المراد من اللفظية، الوضعية؛ فيجب عليه إن لا يجعل دلالة التضمّن أيضاً لفظية، إذ اللفظ الموضوع لكمال الحقيقة، ليس موضوعاً لاجزائها؛ وان كان المراد منها ما حصلت الدلالة بمشاركة من الوضع، فالالتزام أيضاً بهذه المثابة، فإنّه لولا وضع الإنسان لمعناه، لم يلزم من إطلاق الإنسان فهم لازمه.

والحق في هذا الباب أنّ الدلالة اللفظية صرفا إنّما هي دلالة المطابقة، والباقيتان حاصلتان بمشاركة الوضع والعقل.

والاشكال الثاني: إنّ قوله: وقيل إذا كان ذهنياً، يشعر بحصول الدلالة الالتزامية وان لم يكن اللزوم ذهنياً، وهو خطأ، فإنّ الملازمة الذهنية شرط في الدلالة الالتزامية، لأنّ اللفظ غير موضوع للمعنى والتقدير عدم لزوم انتقال الذهن من المعنى إلى الخارج، فحينئذٍ لا يكون اللفظ دالاً على الخارج أصلاً.

ص: 135

قال: والمركب جملة وغير جملة، والجملة: ما وضع لإفادة نسبة ولا يتأتى إلّافي اسمين، أو في فعل واسم، ولا يرد: حيوان ناطق، و (كاتب) في: (زيد كاتب)، لأنها لم توضع لإفادة نسبة. *

تقسيم المركب

(*) أقول: لما فرغ من الكلام في تقسيم المفرد، انتقل إلى الكلام في تقسيم المركب وهو على قسمين بحسب ما يدل عليه.

الأوّل الجملة وهو ما وضع لافادة نسبة كقولنا: «زيد كاتب» وهو المسمى عند النحويين كلاماً، وهذا المركب هو الّذي يحسن السكوت عليه.

وإنّما قسم المصنف المركب إلى الجملة وغيرها لا إلى الكلام وغيره لوجهين:

الأوّل: أنّ الكلام على مذهبه قد يطلق على الحروف المسموعة وعلى الكلام النفساني، فعدل عن اللفظ المشترك إلى ما لا اشتراك فيه.

الثاني: أنّ الكلام في اصطلاح الأُصوليين، لا يشترط فيه الإفادة ولا الإسناد.

وأعلم أنّ الجملة لا تتألف إلّامن اسمين أو من اسم وفعل يكون الاسم محكوماً عليه والفعل محكوماً به، وذلك لأنّ التركيب في هذه الثلاثة(1)، يمكن على تسعة أوجه: اثنان تامان وهما ما ذكرناه، والبواقي غير تامة لاشتمالها على

ص: 136


1- . يريد بالثلاثة، الاسم والفعل والحرف؛ والوجوه التسعة هي ما يحصل من ضرب الثلاثة في نفسها.

قال: وغير الجملة، بخلافه ويسمىٰ مفرداً أيضاً. *

فعل محكوم عليه أو حرف محكوم عليه وبه، وهو باطل. وأعلم أنّ المصنّف أورد إشكالاً على ما ذكره في حدّ الجملة، وتقريره أن نقول: هذا الحد غير مطرد، فإنّه قد وجد ما ذكرتم في مثل قولنا: «حيوان ناطق»، وفي مثل قولنا: كاتب، في قولنا:

«زيد كاتب»، فإن الأوّل قد وضع لإفادة نسبة النطق إلى الحيوان، والثاني وضع لإفادة نسبة الكاتب إلى ذات زيد، مع أنّ المحدود غير موجود فيهما، إذ لا يصدق على كلّ واحد من هذين المثالين اسم الجملة.

وأجاب بالمنع من وجود الحد إذ المراد بالنسبة، النسبة الخبرية وهي غير موجودة في المثالين، وفي هذا الجواب نظر، والأَولى تقييد الحدّ بقولنا: «يحسن السكوت عليها».

(*) أقول: غير الجملة هو الّذي لم يوضع لإفادة نسبة، ويسمى المفرد أيضاً، فيكون اسم المفرد مشتركاً بين هذا وبين ما مضى، والفرق بينهما أنّ الأوّل(1) لا يصدق على تركيب الصفة والموصوف، ولا على المركب من المهملات أو من المهمل والمستعمل؛ بخلاف هذا(2) فإنّ هذين(3) يدخلان في هذا المفرد.

ص: 137


1- . يقصد من «الأوّل»، هو الّذي عرّفه سابقاً بقوله: «فإن اللفظ إن كان كلمة واحدة فهو مفرد».
2- . أراد باسم الإشارة في قوله: «بخلاف هذا»، هو الّذي لم يوضع لإفادة نسبة.
3- . يرمي الشارح قدس سره بقوله: «هذين»، إلى ما تركب من صفة وموصوف وما تركب من المهملات أو المهمل والمستعمل.

قال: وللمفرد باعتبار وحدته ووحدة مدلوله وتعددهما أربعة أقسام. *

قال: فالأوّل: إن اشترك في مفهومه كثيرون؛ فهو الكلي، فإن تفاوت كالوجود للخالق والمخلوق، فمشكك وإلّا فمتواطئ، وإن لم يشترك فجزئي ويقال للنوع أيضاً جزئي، والكلي ذاتي وعرضي كما تقدم. **

تقسيمه بوجه آخر

(*) أقول: هذه قسمة أخرى للمفرد باعتبار نسبته إلى مفرد آخر، وهي تشتمل على أقسام أربعة:

الأوّل: أن يكون اللفظ واحد والمعنى واحد.

الثاني: أن يكون اللفظ كثيراً والمعنى كثيراً.

الثالث: أن يكون اللفظ واحداً والمعنى كثيراً.

والرابع: أن يكون اللفظ كثيراً والمعنى واحداً.

(**) أقول: هذا هو القسم الأوّل من الأربعة وهو الّذي يكون اللفظ واحداً والمعنى واحداً، وهو على قسمين:

الأوّل: أن يكون مفهومه لا يمنع من وقوع الشركة فيه كالحيوان.

والثاني: أن يكون مفهومه مانعاً من الشركة كزيد والأوّل يسمّى كلياً.

واعلم أنّ الشركة لا يشترط وجودها بالفعل، فإنّ لفظة الشمس كلية وإن لم تقع فيها شركة؛ ولا تشترط أيضاً الشركة الذهنية، فإنّ من الألفاظ ما يحكم...

ص: 138

قال: الثاني من الأربعة: مقابله، متباينة. الثالث: إن كان حقيقة للمتعدد فمشترك، وإلّا فحقيقة و مجاز. والرابع: مترادفة.

وكلها مشتق وغير مشتق، صفة وغير صفة. *

العقل بامتناع الشركة فيها كواجب الوجود مع كونه كلياً، بل احتمال الشركة.

والكلي إذا نسب إلى افراده فإن كان وجوده فيه متفاوتاً بأن يكون في أحد تلك الأفراد أولى من وجوده في الآخر كالوجود للخالق والمخلوق، فإنّه للخالق أولى منه للمخلوق؛ أو يكون في أحدها أقدم منه في الآخر كالوجود أيضاً بالنسبة إليهما. أو يكون في أحدهما أشّد منه في الآخر كالبياض على الثلج والعاج، فإنّه في الثلج أشدّ منه في العاج، فإنّه يسمى مشككاً؛ وإن كان وجوده فيها متساوياً؛ فإنّه يسمى متواطياً كالإنسان فإنّه لا يقال أنّه في زيد أشدّ منه في عمرو ولا هو في زيد أولى أو أقدم منه في عمرو.

وأمّا الثاني وهو الذي يمنع من الشركة فإنّه يسمى الجزئي كزيد. وأعلم أنّ لفظة الجزئي قد يقال على معنى آخر اعم من هذا بالاشتراك وهو أن يكون المعنى مندرجاً تحت غيره فيقال للنوع أنه جزئي بالقياس إلى الجنس بهذا المعنى.

وينقسم الكلي إلى ذاتي وهو الذي يكون متقدماً في التصور والوجود على ما هو ذاتي له، وإلى عرضي وهو الذي لا يكون كذلك؛ وقد تقدّم البحث عنهما.

(*) أقول: هذه هي الأقسام الثلاثة الباقية من الأربعة:...

ص: 139

....................

أحدها: أن يكون اللفظ كثيراً والمعنى كثيراً كالإنسان والفرس، فإنّهما لفظان دالان على معنيين مختلفين ويقال لها المتباينة، وهذا القسم مقابل للأوّل من الأربعة لأنّ اللفظ كثير والمعنى كثير، والأوّل بخلافه فيهما.

وثانيها: أن يكون اللفظ واحداً والمعنى كثيراً؛ وهو على قسمين: الأوّل: أن يكون اللفظ حقيقة في كلّ واحد من المعنيين كالقرءِ الموضوع للطهر والحيض معاً، وضعا أولاً وهوالمشترك بالنسبة إلى كلا المعنيين والمجمل بالنسبة إلى كلّ واحد منهما. الثاني: أن يكون اللفظ حقيقة في أحد المعنيين ومجازاً في الآخر كالأسد فإنّه وضع أولاً للحيوان المفترس وثانياً للرجل الشجاع.

وثالثها: أن يكون اللفظ كثيراً والمعنى واحداً وتسمّى الالفاظ المترادفة، كالإنسان والبشر.

وأعلم أنّ هذه الاربعة تنقسم إلى ما يكون مشتقاً وإلى ما لا يكون كذلك، وقد مضى أمثلة غير المشتق؛ وأمّا مثال المشتق من الأول فكالقائم، ومن الثاني كالقائم والقاعد ومن الثالث كالشاعر، فإنّه يطلق على ما له شعر وعلى ما له شعور. والأشبه أنّ الإشتراك في مثل هذه المشتقات إنّما هو للإشتراك الواقع في المشتق منه، ومن الرابع كالجالس والقاعد.

وتنقسم أيضاً هذه الاربعة إلى صفة وإلى غير صفة وهو ظاهر ممّا مر.

ص: 140

قال: مسألة: المشترك واقع عن الأصحّ.

لنا: أنّ القُرءَ للطهر والحيض معاً عن البدل من غير ترجيح. *

وقوع الاشتراك

وقوع الاشتراك(1)

(*) أقول: قد ذهب قوم إلى امتناع وقوع الاشتراك، وآخرون إلى الوجوب، وهذان باطلان وسيأتي بيان ذلك، وذهب المحققون إلى الامكان، ثمّ اختلفوا فقال بعضهم أنّه غير واقع وأنَّ كلّ ما يتوهم أنّه مشترك، فإنّه ليس كذلك بل يكون إمّا حقيقة في أحد المعنيين ومجازاً في الآخر، أو يكون متواطياً.

والمصنف ذهب إلى أنّه واقع، والاستدلال عليه استدلال على إمكان الوقوع والدليل على الوقوع أنّ القُرءَ وضع للطهر بخصوصيته وللحيض بخصوصيته من غير نقل من إحدهما إلى الآخر فيكون حقيقة فيهما فيكون مشتركاً؛ و هذا الاستدلال(2) ذكره أبو الحسين(3).

وفيه نظر لجواز أن يكون القُرء وضع لمعنى مشترك بين الطهر والحيض أو يكون حقيقة في أحد المعنيين ومجازاً في الآخر، وقد خفي ذلك؛ وهذان الاحتمالان راجحان على الاشتراك لما يأتي.(4)

وأعلم أنّ هذا وإن كان محتملاً إلّاأنّ الأغلب على الظن دفع هذا الاحتمال.

ص: 141


1- . انظر: المحصول: 1/97-102.
2- . انظر: المعتمد: 1/17 و 300.
3- . هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيّب البصري المعتزلي، المتوفّىٰ ببغداد 436 ه، صاحب كتاب المعتمد في أُصول الفقه، وله أيضاً؛ تصفح الأدلة، وغرر الأدلة، وشرح الأُصول الخمسة، وكتاب في الإمامة وأُصول الدين.
4- . يلحظ بهذا الشأن هامش ص 146.

قال: وأُستُدل: لو لم يكن، لخلت أكثر المسميات لأنها غير متناهية.

وأُجيب بمنع ذلك في المختلفة والمتضادة ولا يفيد في غيرها، ولو سلم فالمتعقَّل متناهٍ، وإن سلم فلا نسلم، أن المركب من المتناهي متناهٍ، وأُستدُل باسماء العدد، وإن سلم، منعت الثانية ويكون كأنواع الروائح. *

(*) أقول: هذا إشارة إلى استدلال بعض الأُصوليين القائلين بوجوب وقوع الاشتراك، والمصنف قد أورد عليه اشكالات، وتقرير الإستدلال أن نقول: لو لم يكن المشترك واقعاً في اللغة، لخلت أكثر المسميات عن الاسماء، والتالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية: أنّ المعاني غير متناهية، والألفاظ متناهية، فلو لم يوضع اللفظ الواحد للمعاني المتكثرة، لزم خلو ما زاد على عدد الألفاظ من المعاني عن الأسماء؛ وبيان صدق المقدمة الأُولى ظاهر، وبيان صدق الثانية: أنّ الألفاظ مركبة من الحروف وهي متناهية، والمركب من المتناهي يكون لا شك متناهياً فالألفاظ متناهية.

وأمّا بيان بطلان التالي فلأنّ تلك المعاني ممّا تدعو الحاجة إلى معرفتها والتعبير عنها فلابدّ لها من لفظ يدل عليها.

وأجاب عنه المصنف بمنع صدق المقدّمة الأُولى القائلة بأنّ المعاني غير متناهية، وبيان ذلك أن يقال: المعاني المتضادة والمختلفة لا نسلم أنّها غير متناهية، وما الدليل عليه(1)؟! وأمّا غيرها من المتماثلة، فلا يفيد عدم تناهيها في هذا الموضع، فإنّ جزئيات الإنسان غير متناهية مع أنّ لفظة الإنسان موضوعة لها.

ص: 142


1- . أي: وما الدليل على عدم التناهي؟

قال: وأُستُدِل: لو لم يكن، لكان الموجود في القديم والحادث متواطئاً لأنّه حقيقة فيهما، وأمّا الثانية فلأنّ الموجود ان كان الذات، فلا إشتراك، وإن كان الصفة فهي واجبة في القديم، فلا إشتراك. وأُجيب؛ بأن الوجوب والإمكان لا يمنع التواطؤ كالعالم والمتكلم. *

سلمنا أنّ المعاني غير متناهية لكن لا نسلم أنّها متعقلة، فإنّ الذهن لا يمكنه إستحضار ما لا يتناهىٰ، فالمتعقل يكون متناهياً والوضع إنّما يكون للمعاني المعقولة لا لغيرها؛ فهذا ما على المقدمة الأُولى.

ثمّ إنّ المصنف انتقل إلى الإيراد على الثانية فقال: لا نسلّم أنّ الألفاظ متناهية، قوله: لأنّها مركبة من الحروف المتناهية؛ قلنا: لا نسلم أنّ المركب من الأشياء المتناهية يكون متناهياً وسند هذا المنع اسماء العدد فإنّها غير متناهية مع أنّها مركبة من الحروف المتناهية، وفي هذا السند نظر.

ثمّ إنّ المصنف انتقل إلى الإيراد على المقدمة الإستثنائية بقوله: وإن سُلِّمَ، منعت الثانية؛ أي: وإن سلِّم أنّ الالفاظ متناهية، منعت الثانية، أي: المقدمة الثانية التي هي الإستثناء، وسند المنع، أنواع الروائح فإنّها لم توضع لها اسماءٌ مع كثرتها وشدة الحاجة إلى التعبير عنها، فليس خلو بعض المعاني عن وضع اسماء لها بمحال.

(*) أقول: هذا إستدلال ثان على وقوع اللفظ المشترك في اللغة، وتقريره: أن نقول: لا شك في وقوع اسم الموجود على القديم والمحدث، فلو لم يكن مشتركاً على معنى أن يكون موضوعاً لكلّ واحد منهما بخصوصيته، لكان متواطئاً على...

ص: 143

....................

معنى أنّه يكون موضوعاً لأمر مشترك بينهما، وإلّا لزم أن يكون حقيقة في أحدهما ومجازاً في الآخر، أو أن يكون حقيقة في غيرهما ومجازاً فيهما؛ وهذان باطلان وإلّا لجاز نفيه عمّا هو مجاز فيه منهما، إذ من علامات المجاز صحة النفي ولا يصحّ نفيه عن شيء منهما فليس مجازاً في أحدهما، فظهر أنّه لو لم يكن مشتركاً لكان متواطئاً، وإلى ما ذكرنا أشار المصنف بقوله: لأنّه حقيقة فيهما، والتالي باطل لأنّ الموجود إمّا أن يكون نفس ذات الشيء، أو يكون زائداً عليها؛ وعلى كلا التقديرين لا تواطؤ، أمّا على التقدير الأول فظاهر، لأنّ ذات القديم مغايرة لذات المحدث ومخالفة له فلا يكون الموجود مشتركاً فلا يكون قول الموجود عليهما بالتواطؤ، وأمّا على التقدير الثاني فلأنّ الموجود واجب في القديم تعالى وممكن فيما عداه، فتكون كلّ واحدة من الصفتين مغايرة للأُخرى لاستحالة كون الواجب لذاته، ممكناً لذاته أو مماثلاً للممكن لذاته؛ لأنّ حكم المتماثلين واحد، فيصح على الموجود الواجبي، الإمكان وبالعكس لكون الوجوب والإمكان من اللوازم المستندة إلى الذات وحينئذٍ يلزم عدم الاشتراك في الأمر المعنوي فلا تواطؤ.

وإلى بيان إبطال التالي أشار المصنف بقوله: وأمّا الثانية، يعني المقدمة الاستثنائية؛ والمصنف أجاب عن هذا الاستدلال بأنّ الوجوب والامكان من الصفات العارضة للمعنى المشترك فهي غير مانعة من التواطؤ كما أنّ العالم واجب لذاته في القديم وممكن في المحدَث، مع أنّ إطلاق لفظة العالم بالتواطؤ عليهما وكذلك لفظة المتكلم؛ ولقائل أن يقول: ليس الإمكان والوجوب من العوارض للموجودات المفارقة،(1) بل من الأُمور اللازمة فيعود المحذور....

ص: 144


1- . المفارقة صفة للعوارض.

قال: قالوا: لو وضعت، لاختلَّ المقصود من الوضع؛ قلنا: يعرف بالقرائن، وإن سلِّمَ فالتعريف الإجمالي مقصود كالاجناس. *

وما ذكرتموه من مثال العالم والمتكلم، فنحن نمنع وجوبهما في القديم تعالى لذاتيهما، وكيف يمكن القول بذلك مع إحتياجهما إلى الذات الموصوفة بهما.

(*) أقول: هذا إستدلال مَنْ مَنَعَ من وقوع المشترك في اللغة، وتقريره أن نقول: المقصود من الألفاظ ووضعها، إنّما هو التفاهم حالة التخاطب على ما مرّ، ومتى كان كذلك، استحال وضع الألفاظ المشتركة لاشتمالها على نقض الغرض من وضعها، وذلك لأنّ السامع للفظ المشترك لا يحصل له الفهم بمراد المتكلم لاستحالة تخصيص أحد المعاني المندرجة تحته دون غيره بالمعقولية من غير مرجح.

وأجاب المصنف بأمرين:

أحدهما: انّ التفاهم حاصل حالة التخاطب بانضمام القرائن، فلا يحصل نقض الغرض.

الثاني: أن نقول: المقصود من الوضع التفاهم على سبيل الإجمال أو التفصيل، وهو حاصل هاهنا، فإنّه إذا سمع اللفظ المشترك، عرف أن مراد المتكلم منه أحد الأمرين، وإن لم يعرف ذلك الأمر على التفصيل (ع)(1)، وسنده أنّ اسماء الاجناس تفيد الماهيات الموضوعة لها من دون إفادتها تفاصيل ماتحتها.

ص: 145


1- . ورد هذا الحرف بهذه الشاكلة في النسختين، ولعلّه يرمز إلى ما يلي: «عُرّفَ على الإجمال».

قال: مسألة:

ووقع في القرآن، على الأصحّ كقوله تعالى: «ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ»(1) و «عَسْعَسَ»(2) ل (أَقبَلَ) و (أَدَبَرَ). *

قال: قالوا: إنْ وقع مُبَّيناً، طال بغَيرْ فائِدَةٍ، وغير مُبيَّنٍ؛ غير مفيد.

(*) أقول: القائلون بوقوع اللفظ المشترك في اللغة اختلفوا في وقوعه في القرآن، فذهب المحققون إلى أنّه واقع، والدليل عليه أنّ لفظة «القُرْء» بإجماع أهل اللغة(3)، موضوعة للطهر والحيض على الإشتراك، ولفظة «عسعس» موضوعة للإقبال والإدبار على ما نقله صاحب الصحاح(4) وغيره من أهل اللغة، واعلم أنّ في هذا نظر.

ص: 146


1- . البقرة: 228.
2- . التكوير: 17.
3- . قال: «بإجماع أهل اللغة»، غير ان ما قاله علماء اللغة في هذا الشأن يقوض تلك الدعوى من الأساس لأنّ كلمة القرء عندهم - أو قل عند بعضهم - قد وضعت أوّلاً وبالذات للوقت؛ ولأجل التناسب الموجود بين الوقت من جانب والحيض والطهر من جانب آخر، استعملت كلمة القرء فيهما؛ وقد تحدث ابن منظور عن ذلك في «لسان العرب» بالتفصيل، وكذلك صاحب «تاج العروس»، ممّا يجعل دعوى الإجماع في غير محلها. ولعل الشارح المفضال لهذا السبب ولغيره قال: «في هذا نظر»، وقد مرّ رفضه لوضع كلمة القرء للطهر والحيض معاً فيما سبق، فلاحظ.
4- . الصحاح للجوهري: 3/949، مادة «عسس».

وأُجيبَ فائدته مثلها في الأجناس، وفي الأحكام الإستعداد للإمتثال إذا بُيِّن. *

(*) أقول: هذا إستدلال من منع من وقوعه في القرآن، وتقريره: أنّ المشترك إنْ ورد مع القرينة المبيّنة لما يراد منه من أحد المعاني الموضوعة له هذا اللفظ، لزم التطويل بغير فائدة، إذ قد كان يمكن التعبير عن ذلك المعنى باللفظ الواحد الموضوع له بخصوصيته، فيكون ذكر القرينة تطويلاً بغير فائدة فيكون قبيحاً؛ وإن ورد لا مع القرينة المبيّنة، لم يكن مفيداً فيكون الخطاب به عبثاً فيكون قبيحاً.

وأجاب المصنف بالمنع في الملازمة الثانية، وسنده أسماء الأجناس(1)؛ اللهم إلّاأن يكون المُتردد فيه، الفائدة التفصيلية وحينئذٍ لمنع الملازمة بين عدم الإفادة وبين كون الخطاب عبثاً [وجه](2).

ثمّ إنّ المصنف ذكر فائدة أُخرى في الأحكام زائدة على هذا وهي: أن يكون المخاطب مستعداً لامتثال ما أُمر به إذا بُيِّن له، فيحصل له الثواب الّذي هو أعظم الفوائد.

ص: 147


1- . أي: شأن المشترك شأن أسماء الأجناس حيث إن المعرفة فيها إجمالية، فكما تقصد المعرفة التفصيلية فكذلك تقصد المعرفة الاجمالية فلا يكون عديم الفائدة.
2- . لابد من هذه الإضافة لكي تستقيم العبارة.

قال: مسألة: المترادف واقع، على الأصحّ كأسد وسبع، وجلوس وقعود. قالوا: لو وقع، لَعَرِيَ عن الفائدة، قلنا: فائدته التوسعة وتيسير النظم والنثر والروي أو الروية(1)، وتيسيرُ التجنيس والمطابقة. قالوا:

تعريف للمعرَّف(2)، قلنا: علامة ثانية. *

المترادف

(*) أقول: قد نقل عن جماعة من شذوذ الناس إنكار المترادف،(3) والحق أنّه ليس كذلك والدليل عليه أنّ لفظي الأسد والسَبُع وضعا لمعنى واحد، وكذلك الجلوس والقعود، والحنطة والبر، وغير ذلك من الألفاظ، ولا يعنى بالمترادف إلّا هذا.

واستدل المنكرون بوجهين:

الأوّل: أنّه يلزم من وقوع الترادف نقض الغرض من وضع الألفاظ وذلك لأنّا قد بيّنا أنّ الغرض منها إنّما هو تحصيل الفائدة بالمراد عند السماع، وهذه الفائدة تحصل بوضع أحد اللفظين فيكون وضع اللفظ الآخر خالياً عن الفائدة.

والجواب: أنّ الفائدة غير منحصرة فيما ذكرتم، فإنّ من جملة الفوائد توسيع العبارة وتسهيل النظم والسجع وغير ذلك، ومثل هذا قد يحصل باستعمال احد اللفظين دون الآخر.

ص: 148


1- . كذا في نسخة «ب» وفي نسخة أُخرى: للروي أو الوزن. انظر: رفع الحاجب: 368.
2- . كذا في نسخة «ب» وفي نسخ أُخرى: المعرَّف. انظر: رفع الحاجب: 1/369.
3- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/22؛ والمحصول: 1/95.

قال: الحد والمحدود، ونحو: «عطشان بطشان»(1)، غير مترادفين، على الأصحّ لأنّ الحد يدل على المفردات وبطشان لا يفرد. *

الثاني: إنّ الغرض من اللفظ إنّما هو تعريف المراد وهذا يحصل بسماع أحد اللفظين فيكون عند الآخر تعريفاً للمعرَّف.

والجواب: أنّ توارد العلامات على شيء واحد، ممكن.

(*) أقول: قد ظُن في كثير من الأشياء أنّها مترادفة وليست كذلك، فإنّ جماعة ظنّوا أنّ الحد والمحدود من قبيل المترادفات لدلالتهما على الذات المحدودة، وكذلك التابع والمتبوع نحو: «عطشان بطشان»؛ والحق خلاف هذا، فإنّ الحدّ يدل بالتفصيل على ما يدل عليه الاسم بالإجمال، فله دلالة على المفردات كقولنا في تحديد الإنسان: «إنّه الحيوان الناطق» فإنّه دال على المفردات بالمطابقة؛ وأمّا الإنسان فأنّه يدل عليها بالتضمن، فأحدهما غير الآخر وكيف لا يكون كذلك والحد يدل على الأجزاء التي هي علل المحدود، والمحدود يدلُّ على الماهية الحاصلة عقيب الأجزاء.

ص: 149


1- . وفي نسخ أُخرى «نطشان» بدل «بطشان». إن كلمة نطشان محوَّرة عن كملة عطشان والسر في ذلك - كما قيل - هو أنّه ربّما أرادوا توكيد الصفة فاستوحشوا من إعادتها ثانية لأنّها كلمة واحدة فغيّروا منها حرفاً ثم اتبعوها الأُولى. وأمّا بالنسبة إلى كلمة بطشان، فما ورد في المصادر اللغوية هو كلمة نطشان والّذي ورد في كتب الأُصول من أمثال كتاب «زبدة الأُصول» للشيخ بهاء الدين العاملي و «هداية المسترشدين» للشيخ محمد تقي الرازي هو كلمة بطشان، والأمر سهل وذلك لأنّ القانون الّذي سمح بتبديل كلمة عطشان إلى نطشان، يسمح بتبديلها إلى بطشان أيضاً، وإن لم ترد الكلمة في المصادر اللغوية.

قال: مسألة: يقع كل من المترادفين مكان الآخر لأنّه بمعناه ولا حَجْرَ في التركيب. *

قال: لو صح لصحّ (خداي أكبر)، وأُجيب بالتزامه، وبالفرق بإختلاط اللغتين. **

وأمّا التابع فإنّه قد اختلف فيه، فذهب قوم إلى أنّه لا يدل على شيء أصلاً ؛ وآخرون ذهبوا إلى أنّه دالّ على ماهية المتبوع.

وعلى القول الأول لا إشكال وأمّا على القول الثاني فالفرق بينه وبين المترادف ان التابع لا يجوز إفراده عن المتبوع فإنّه لا يجوز أن نقول «بطشان» من غير تقدم ذكر عطشان، بخلاف المترادف.

(*) أقول: اختلف الناس في ذلك، فذهب الأكثرون إلى أنّه يجوز إقامة كلّ واحد من الألفاظ المترادفة مكان صاحبه، وذهب آخرون إلى المنع.

واستدلّ الاوّلون(1) بأنّ كلّ واحد من المترادفين، يفيد عين فائدة الآخر؛ فإذا صحّ انضمام المعنى إلى معنى آخر باستعمال أحد اللفظين، صحّ انضمامه إلى ذلك المعنى باستعمال اللفظ للآخر لأنّ الإنضمام من عوارض المعاني فلا حَجْرَ في التركيب في الألفاظ. (**) أقول: هذا إشارة إلى إستدلال المانعين، وتقريره: أنّه لا فرق في كون اللفظة موضوعاً للمعنى باصطلاح لغة واحدة أو لغتين، فإن كلّاً منهما يطلق

ص: 150


1- . ليس المراد من «الأولون» هم الذين مرت الإشارة إليهم في صفحات سابقة، بل المراد هم الفريق الأوّل من الفريقين وهو القائل بجواز إقامة كل لفظ مكان صاحبه في الألفاظ المترادفة.

قال: مسألة: الحقيقة اللفظ المستعمل في وضعٍ أولٍ. *

عليه لفظ المترادف، وإذا جاز إقامة كلّ من المترادفين مقام الآخر، جاز (خداي أكبر)، والتالي باطل؛ فالمقدم مثله.

وأجاب المصنف:

أوّلاً: بالمنع في بطلان التالي والتزم صحة (خداي أكبر).

وثانياً: بالمنع في الملازمة بوجود الفارق بين أن يكون المترادف من لغة أو من لغتين، فإنّه يلزم من هذا اختلاط اللغات بخلاف الأوّل؛ وإذا كان هذا الفرق ثابتاً جاز أن يكون المنع مستنداً إلى هذا الفارق.

الحقيقة والمجاز

(*) أقول: ممّا تنقسم إليه الألفاظ، الحقيقة والمجاز،(1) وقد حُدّت الحقيقة بحدود مدخولة لا حاجة إلى ذكرها، وقبل الخوض في التحديد نقول: الحقيقة فعيلة من الحق، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية؛ والحق يعني به الثابت وهو هاهنا مجاز.

والمجاز مفعل من الجواز، وهو حقيقة في الأجسام؛ وقد أُستعمل هاهنا مجازاً، فلفظا الحقيقة والمجاز، مجاز في استعمال الأُصوليين.

إذا عرفت ذلك، فأعلم أنّ الحقيقة هي اللفظ المستعمل في وضعٍ أوّلٍ في اللغة الّتي وقع فيها التخاطب وذلك لأنّ من الالفاظ ما يستعمل في ما وضعت له أوّلاً كالأسد المستعمل في الحيوان المفترس، ومنها ما يستعمل لا فيما وضع له

ص: 151


1- . انظر: الاحكام للآمدي: 1/25؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/243.

قال: وهي لُغويَّة وعرفية وشرعية كالأسد والدابة والصلاة. *

أولاً كالأسد في الرجل الشجاع؛ والأوّل يقال له الحقيقة، والثاني يقال له المجاز. والقيد الأخير(1) وإن لم يذكره المصنف، فإنّه لابد منه لتدخل الحقيقة الشرعية والعرفية في الحدّ.

وأعلم أنّ في هذا الحدّ نظر وذلك لأنّ الأوّل(2) من الأُمور الإضافية الّتي لا تعقل إلّابين شيئين، وحينئذٍ يكون حدّ الحقيقة مستلزماً للمحال(3). وأولى الحدود ما ذكره أبو الحسين البصري وهو: أنّ الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الإصطلاح الّذي وقع التخاطب به(4).

(*) أقول: لما كانت الحقيقة عبارة عن اللفظة المستعملة فيما وضعت له، وكان الواضع؛ تارة أهل اللغة، وتارة الشرع، وتارة العرف؛ انقسمت الحقيقة بانقسام الواضع:

فاللغوية كالأسد فإنّ لفظة الأسد موضوعة في اللغة للحيوان المفترس في أصل الإصطلاح.

والحقيقة العرفية كالدّابة، فإنّ لفظة الدابة وضعت في اللغة لكلّ مايدبّ، وخصصت في العرف بالفرس والحمار. والحقيقة الشرعية كالصلاة فإنّها في أصل اللغة عبارة عن الدعاء، وفي

ص: 152


1- . يقصد بالقيد الأخير، قوله: «وقع فيها التخاطب».
2- . «الأوّل»، هو الّذي ورد في قوله: «في وضعٍ أوّل».
3- . في نسخة «ب»: للمجاز.
4- . انظر: المعتمد: 1/28.

قال: والمجاز المستعمل في غير وضع أوّلٍ على وجه يصحّ. *

الشرع وضعت للأفعال المخصوصة.

تعريف المجاز

* أقول: لما كان المجاز مقابلاً للحقيقة، كان حدّه مقابلاً لحدّها، فالمجاز هو اللفظ المستعمل في غير وضع أوّل كالأسد في الرجل الشجاع؛ وقوله: على وجه يصحّ، إشارة إلى ثبوت العلاقة بين الحقيقة والمجاز فإنّه لا يجوز استعمال التجوّز مطلقاً، بل لابدّ من علاقة بين موضع الحقيقة والمجاز.

ويمكن أن يكون قوله: على وجه يصحّ، إشارة إلى صحّة استعماله فيما وضع له مع أنّه لم يستعمل فيه(1)؛ وتكون الفائدة في هذا القيد، الإحتراز عن أسماء الأعلام كزيد وعمر فإنّها ليست حقيقة ولا مجازاً مع أنّها استعملت في غير وضعٍ أول، إلّاأنّه لا يصح إستعمالها في وضع الأوّل؛ لا يقال: استعمال اسم الدابة في الفرس خارج عن هذا الحدّ، إذ هو استعمال اللفظ في ما وضع له مع أنّه مجاز ولأنّ الكاف في قوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» ، من باب المجاز مع إنّه ليس يدل على شيء؛ لأنّا نقول:

أمّا الأوّل: فجوابه أنّ الخاص مغاير للعام فاللفظ الموضوع للعام غير موضوع للخاص بخصوصيته فكان استعماله فيه على سبيل المجاز.

وأمّا الثاني: فقد أُجيب عنه بأنّ الكاف غير مستعملة فيما وضعت له

ص: 153


1- . الضمير يعود على «ما وضع له».

قال: ولابدّ من العلاقة، وقد تكون بالشكل كالإنسان للصورة، أو في صفة ظاهرة كالأسد على الشجاع، لا على الأَبْخرَ لخفائها، أو لأنّه كان عليها كالعبد، أو آيلٌ كالخمر، أو للمجاورة مثل جرى الميزاب. *

وإلّا لزم نفي مثل المثل وهو إثبات للمثل، ونفي للّٰه تعالى وهو كفر وشرك؛ فلفظة كمثله، مستعملة في نفي المثل على سبيل المجاز؛ وفي هذا الجواب نظر.

والحقّ أنّ نفي مثل المثل لا يستلزم ثبوت المثل لأنّ نفيه قد يكون لثبوت المثل ونفي مماثل المثل، وقد يكون لنفي المثل أصلاً؛ فإنّ السالبة قد تصدق عند عدم الموضوع، وعلى هذا التقدير يكون الكاف مستعملاً على سبيل الحقيقة في نفي المثل ولا يلزم أيضاً نفي اللّٰه تعالى.

(*) أقول: أنّه لابدّ في التجوز من العلاقة بين موضع الحقيقة وموضع المجاز، وإلّا لجاز التجوز عن كلّ معنى بكل لفظ وهو باطل؛ ولأنّه يلزم أن يكون اطلاق اللفظ عليه من باب الاشتراك لامن باب المجاز.

وقد اشترط قوم بينهما الملازمة الذهنية، وهو خطأٌ، فإنّ أكثر التجوزات عارية عن الملازمة الذهنية، والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي قد تكون بالشكل كما تقول للصورة المنقوشة على الحائط في هيئة الإنسان، أنها إنسان لاشتراكهما في الشكل. وقد تكون العلاقة للاشتراك في صفة ظاهرة بينهما كما تطلق لفظة الأسد على الرجل الشجاع لاشتراكهما في الشجاعة وهي ظاهرة في الأسد لا في البَخَرِ(1)...

ص: 154


1- . «البخر» رائحة نتنة تخرج من فم الأسد.

قال: ولا يشترط النقل في الآحاد على الاصحّ.

لنا(1): لو كان نقلياً لتوقف أهل العربية عليه، ولا يتوقفون. *

الّذي هو صفة خفية، فعلى هذا لايجوز استعمال لفظة الاسد في الأَبْخَرِ.

وقد تكون العلاقة بينهما لأجل اتصاف المحل بالمعنى أوّلاً كالعبد إذا أُعتِق فإنّه يطلق عليه بعد العتق لفظة العبد لكونه قد كان عليها.

وقد تكون لصيرورته إلى المعنى في ثان الحال، وإن لم يكن في الحال متصفا به كالعصير إذا اطلق عليه لفظة الخمر.

وقد تكون العلاقة هي المجاورة كما تقول: جرى الميزاب، والجاري إنّما هو الماء، فاستعمال لفظة الميزاب في الماء، تجوزاً لأجل المجاورة؛ فهذا ما ذكره المصنف.

وقد ذكر غيره وجوهاً أُخر منها: اطلاق اسم السبب على المسبب، ومنها:

العكس، ومنها: اطلاق اسم الشيء على ضده، ومنها: اطلاق اسم الكلّ على الجزء وبالعكس، ومنها: تسمية المتعلِّق باسم المتعلَّق كتسمية المعلوم علماً.

شروط المجاز

(*) أقول: اختلف الناس في ذلك فذهب قوم إلى أنّه لا يشترط في اطلاق الاسم على مسماه المجازي في كلّ صورة النقل عن أهل اللغة، بل تكفي فيه العلاقة المذكورة؛ وذهب آخرون إلى الاشتراط مع العلاقة، والمصنف اختار

ص: 155


1- . كلمة: «لنا» ترمز إلى كلمة «دليلنا» دائماً فليلحظ ذلك.

قال: وأُسْتُدلَّ: لو كان نقلياً، لما افتقر إلى النظر في العلاقة، وأُجيب بأن النظر للواضع، وان سُلِّمَ؛ فللاطلاع على الحكمة. *

المذهب الأوّل.

وقد احتج الذاهبون إليه(1) بوجوه:

أحدها ما ذكره المصنف وهو أنّ النقل لو كان مشترطاً، لتوقف أهل العربية في تجوزاتهم على النقل، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ وبيان الشرطية ظاهر، وبيان بطلان التالي أنّهم يستعملون كثيراً من المجازات مع عدم النقل، كاستعمال الفاعل والمفعول وانواع الإعراب والبناء إلى غير ذلك مما اصطلحوا عليه فيما وضعوه له مع أنّه غير منقول عنهم.

(*) أقول: هذه إشارة إلى إستدلال ثان على ما ذهب إليه المصنف، نقله عمَّن تقدّمه من الأُصوليين وهو غير مرضي عنده، وتقريره أن نقول: لو توقف المجاز على النقل لما افتقرنا إلى النظر في العلاقة بين مواضع الحقيقة والمجاز، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الملازمة: أنّ المجاز إذا كان باستعمال أهل اللغة لا غير فالذي ينصُّون عليه ينبغي أن يُتَّبع استعمالهم فيه وإن لم تعلم العلاقة بينه و بين المعنى الحقيقي فيكون البحث عن العلاقة غير مفيد؛ وبيان بطلان التالي ظاهر، فإنّا لا نجد لفظاً مجازياً إلّاويُجتهد في استخراج وجه العلاقة بينه و بين المعنى الحقيقي.

وأجاب المصنف:

أوّلاً: بمنع بطلان التالي وذلك لأنّ الناظر في العلاقة إنّما هو الواضع، أمّا

ص: 156


1- . أي: عدم اشتراط النقل في المجاز.

قال: قالوا: لو لم يكن، لجاز «نخلة» لطويلٍ غير إنسانٍ، و «شبكة» للصيد، و «ابن» للأب وبالعكس، وأُجيب بالمانع. *

قال: قالوا: لو جاز لكان قياساً أو اختراعاً، وأُجيب باستقراء أنَّ العلاقة مصِّححة كرفع الفاعل. **

نحن فلا.

وثانياً: تسليمه ومنع الملازمة، قوله: وإلّا لم تكن فيه فائدة؛ قلنا: ممنوع، بل فيه فائدة وهي الاطلاع على حكمة الواضع.

(*) أقول: هذا استدلال المشترطين للنقل، وتقريره: أن نقول لولم يتوقف المجاز على النقل لجاز التجوّز لنا في كلّ اسم وجدنا بين معناه الحقيقي ومايريد أن يتجوز فيه، اشتراكاً ما - فيما ذكرتم - والتالي باطل، فالمقدّم مثله، والملازمة ظاهرة؛ وبيان بطلان التالي أنّه: لا يجوز استعمال «نخلة» لما فيه طول غير الإنسان، فلا يقال للحبل: «نخلة»، مع الاشتراك في الطول الّذي هو سبب في التجوّز بالنخلة عن الإنسان؛ ولا يجوز «شبكة» للصيد، ولا «الابن» للأب وبالعكس؛ مع أنّ العلاقة وهي السببية موجودة فيها.

وأجاب المصنف بأنّ العلاقة مجوزة مطلقاً، وما ذكرتموه إنّما كان لتحقق المانع من أهل اللغة، فإنّهم نصُّوا على أنّه لا يجوز استعمال هذه الأسامي فيما ذكرتم من المعاني، فعدم الاستعمال إنّما هو لوجود المانع لا لعدم المقتضي.

(**) أقول: هذا استدلال ثانٍ على أنّ المجاز متوقف على النقل، وتقريره...

ص: 157

....................

أن نقول: لو لم يكن نقل أهل اللغة معتبراً في محل التجوز، فتسميته باسم الحقيقة إمّا بالقياس عليه وإمّا بالاختراع من الواضع المتأخر، والتالي بقسميه باطل فالمقدم مثله، بيان الملازمة: أنّ استعمال الاسم الحقيقي في المعنى المجازي إن كان لأجل وجود الاشتراك في أمر معنوي، كان هو القياس كما نقول: النبيذ يسمى خمراً، لأنّ الخمر إنّما سمي بذلك لمخامرة العقل؛ وهذا المعنى موجود في النبيذ فيجب اطلاقه عليه؛ وإن لم يكن لأجل مشترك،(1) كان هو الاختراع.

وأمّا بطلان القسمين:

أمّا الأوّل: فلما يأتي في أنّ اللغة لا تثبت بالقياس.

وأمّا الثاني: فلأنّه يكون خارجاً عن اللغة.

والجواب: يجوز أن يكون أهل اللغة نصّوا نصاً جلّياً على جواز إطلاق الاسم الحقيقي على ما كان بينه و بين معناه علاقة ما تكون منصوصة من قبلهم، فلا يلزم القياس ولا الاختراع؛ كما إنّا لما استقرأنا لغة العرب في رفع الفاعل حكمنا برفعه مطلقاً ولم نكن بذلك خارجين عن قانون اللغة، مخترعين لرفع الفاعل الّذي نتلفظ به نحن ولا نكون قائسين من غير نص منهم؛ كذلك هاهنا استقرأنا جميع الألفاظ المجازية فوجدناها مشتملة على العلاقة فحكمنا حكماً مطلقاً بأنّ العلاقة مصححة للتجوّز، وفي هذا الجواب نظر.

ص: 158


1- . كذا في النسختين والصحيح: «لأجل الاشتراك» بقرينة عدلها.

قال: وقالوا: يعرف المجاز بوجوه: بصحة النفي كقولك للبليد:

ليس بحمارٍ، عكس الحقيقة، لامتناع (ليس بإِنسان)، وهو دور. *

قال: وبأن يتبادر غيره - لولا القرينة - عكسَ الحقيقة، وأُورد المشترك، فإن أُجيب بأنّه متبادر غير معيّن، لزم أن يكون المعيّن مجازاً. **

علامات الحقيقة والمجاز

(*) أقول: إنّ جماعة الأُصوليين يفرقون بين الحقيقة والمجاز بأُمور(1):

أحدها ما ذكره المصنف وهو صحّة النفي، فإذا أُطلق اللفظ على المعنى وصح نفيه عنه علم أنّه مجاز وإلّا فهو حقيقة كما يطلق على البليد لفظة الحمار مع أنّه يصحّ سلبها عنه فيقال: إنّه ليس بحمار، ويكون هذا السلب صادقاً، فيعرف بأنّه مجاز عكس الحقيقة، فإنّه لا يصحّ سلب الإنسان لما كان لفظة الإنسان حقيقة فيه؛ وألزمهم المصنّف: في هذا، الدَّور؛ ووجه اللزوم أنّ إطلاق اللفظ على المعنى دال على صدقه عليه، وإنّما يصحّ سلبه إذا عرف انّ ذلك الاطلاق مجاز؛ فحينئذٍ تتوقف صحّة السلب على معرفة المجاز، فلو كان صحّة السلب علامة معرفة المجاز لزم الدور.

(**) أقول: هذه علامة ثانية منقولة عنهم للمجاز وهي أن يكون المدلول لا يتبادر إلى الفهم من إطلاق اللفظ بل يتبادر غيره، إلّامع القرينة فيعلم أنّه مجاز فيه وحقيقة في المتبادر إليه.

ص: 159


1- . ذكر بعضها الآمدي في الإحكام: 1/27-30.

....................

وأُورد عليهم باللفظ المشترك والمنقول، وتقريره: أنّ اللفظ المشترك لا يسبق إلى الذهن كلّ واحد من معنييه فيكون مجازاً في كل واحد منهما، والمنقول يسبق الذهن إليه دون غيره مع أنّه مجاز فيه.(1)

وأُجيب عن المشترك بأن المتبادر إلى الذهن واحد غير معيّن.

واعترض المصنف على هذا الجواب بأنّه: يلزم منه أن يكون مجازاً في المعيّن لعدم تبادر الذهن إليه.

وقد أجاب بعضهم عن المنقول بأنّ المتبادر إليه الذهن إن عُلِم أنّه مجاز، إندفع الإلزام؛ وإن لم يُعلم كان حقيقة، إذ الغالب في الحقيقة التبادر، فيلحق هذا بالغالب.

وعن المشترك أمّا عام في جميع محامله، فلا إشكال وإلّا هو لواحد من مدلوليه على البدل، فهو حقيقة في الواحد على البدل لا في المعيّن والّذي هو حقيقة فيه فهو متبادر إلى الفهم عند إطلاقه وهو الواحد على البدل والذي يتبادر إلى الفهم وهو الواحد المعيّن، غير حقيقة فيه.

وهذان الجوابان رديئان.

أمّا الأوّل: فلأنّه يدخل في الحقيقة ما ليس منها، فإنّ المنقول ليس من

ص: 160


1- . وفي حاشية نسخة «الف» ورد ما يلي: ويمكن أن يقال: إن تبادر المعنى إلى الذهن، يدل على كون اللفظ حقيقة فيه؛ وانتقال التبادر إلى معنى آخر وقت الإستعمال يدل على أن اللفظ حقيقة في المتبادر إليه؛ واما إنتفاء التبادر أصلّاً، لا يدل على الغالب كونه مجازاً فيهما أو في أحدهما وإنّما هو علامة الاشتراك ويكون دليلاً على كونه حقيقة في المعنيين.

قال: وبعدم إطراده ولا عكس، وأُورد: السخي، والفاضل لغير اللّٰه، والقارورة للزجاجة، فإن أُجيب بالمانع، فدورٌ. *

باب الحقيقة، على أنّه إذا جوز مبادرة الذهن في المجاز ولو في موضع ما، لم تكن المبادرة دليلاً على الحقيقة وكيف يستندر المنقول وهو كثير لا يحصى.

وأمّا الثاني: فلأنّه يجعل المشترك من باب المتواطئ وذلك لأنّ اللفظ لم يوضع لواحد لا بعينه بل وضع لواحد بعينه فمبادرة الذهن إلى الواحد لا بعينه، دليل على المبادرة فيما ليس بحقيقة.

(*) أقول: هذه علامة ثالثة للمجاز وهي عدم الإطراد، فإنّ الرجل الطويل يقال له «نخلة» ولا يقال لغيره من الطوال، فيعلم أنّه مجاز فيه؛ وهذه العلامة غير منعكسة أي لا يلزم أن يكون كلّ ما يطرد حقيقة، فإنّ بعض المجازات قد تطرّد؛ فالحاصل:

إنّ عدم الإطراد دليل المجاز، وليس الإطراد دليلاً على الحقيقة، وهو المراد بقوله:

ولا عكس، وأُورد على هذا لفظة السخي فإنّها موضوعة للكريم، والفاضل للعالم، واللّٰه تعالى كريم وعالم، ولا يقال له: سخي ولا فاضل؛ ويقالان لغيره فهاتان اللفظتان غير مطردتين مع كونهما حقيقتين في الكريم والعالم، وكذلك القارورة حقيقة في الزجاجة المخصوصة لكونها مقرّاً للمائعات، وهذا المعنى موجود في الكوز ولا يسمىٰ قارورة، فهذه الحقيقة غير مطرّدة.

أجابوا بأنّ المنع الشرعي حصل في تسمية اللّٰه تعالى بالسخي والفاضل، والمنع اللغوي حاصل في تسمية الكوز بالقارورة، وإذا كان عدم الاطراد لمانع، لا يخرج اللفظ عن كونه حقيقة ويصيّره مجازاً؛ وألزمهم المصنّف [ب](1) الدور...

ص: 161


1- . ينبغي زيادة حرف الباء لسلاسة العبارة.

قال: وبجمعه على خلاف جمع الحقيقة كأُمور جمع أمر للفعل، وامتناع أوامر، ولا عكس. *

وذلك لأنّ عدم الإطراد.(1)

[إذا كان للمانع لم يلزم المجاز، فحينئذٍ إنّما يعلم أنّ اللفظ مجاز، فإذا عُلم أنّ عدم الاطراد لا لمانع ولكن إنّما يعلم أنّ عدم الاطراد لا للمانع إذا عرف انّه مجاز حينئذٍ يلزم الدور].

(*) أقول: هذه علامة رابعة للمجاز ذهب إليها الغزّالي(2) وهي الخلاف في الجمعين وذلك لأنّه إذا كان الاسم قد اتفق على كونه حقيقة في غير المسمّى المذكور ثمّ وجد جمعه بخلاف جمع هذا المسمى علم أنّه مجاز فيه، كما أنّه قد وقع الاتفاق على أنّ لفظة الأمر حقيقة في القول وهو يجمع فيه بأوامر فنقول إنّه مجاز في الفعل لمخالفته في الجمع، فإنّ الأمر إذا استعمل بمعنى الفعل فإنّما يُجمع على أُمور لا على أوامر.

وفي هذا نظر، فإنّ اختلاف الجمع ليس فيه شعور بكون اللفظ حقيقة فيما أُستعمل فيه أو مجازاً، وقوله: ولا عكس، إشارة إلى أنّه ليس يجب أن يكون

ص: 162


1- . ورد في هامش نسخة «ألف» تصويراً للدور بما يلي: لابدّ له من سبب هو المانع من الإطراد، لأن العلاقة المصححة موجودة، والمانع من الإطراد إمّا أن يكون هو العلم بكون اللفظ مجازاً وإمّا أن يكون الشرع أو اللغة، والأخيران باطلان لأنّ التقدير عدمهما، فالمانع هو الأوّل لا غير؛ فظهر أن عدم الاطراد إنّما يكون دليلاً على المجاز إذا عرف كونه مجازاً، وذلك دور ظاهر.
2- . انظر: المستصفىٰ: 2/25.

قال: وبإلزام تقييده مثل: «جَنٰاحَ اَلذُّلِّ»(1) و «نار الحرب». وبتوقفه على المسمّى الآخر مثل: «وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّٰهُ»(2). *

قال: واللفظ قبل الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز. **

كلّ مجاز يخالف جمعه جمع الحقيقة، فإنّ الحمار للحيوان المخصوص يجمع على حمر وكذلك للبليد.

(*) أقول: هاتان علامتان أُخريان في الفرق بين الحقيقة والمجاز:

أولاهما: التقييد مثل «جَنٰاحَ اَلذُّلِّ» فإنّ لفظة الجناح مجاز هاهنا ويلزم تقييدها لتشعر بالمجاز ولا كذلك في إستعمالها في المعنى الحقيقي، وكذلك: نار الحرب.

وثانيتهما: توقفه على المسمّى الآخر كقولنا «وَ مَكَرَ اَللّٰهُ» فإنّه مجاز لا حقيقة لتوقفه على المسمى الآخر وهو المكر منهم.

(**) أقول: الحقيقة هي استعمال اللفظ فيما وضع له أولّاً، والمجاز هو استعماله لا فيما وضع له؛ فشرط تحقيق الحقيقة والمجاز هو الاستعمال، فقبله لا يكون اللفظ حقيقة ولا مجازاً وهو حين الوضع لانتفاء الشرط.

ص: 163


1- . الاسراء: 24.
2- . آل عمران: 54.

قال: وفي استلزام المجاز الحقيقة خلاف، بخلاف العكس.

المُلزم: لولم يستلزم لَعَري الوضع عن الفائدة.

النافي: لو استلزم لكان لنحو: «قامت الحرب على ساق» و «شابت لِمَّةُ الليل»، حقيقة. *

(*) أقول: إختلف الأُصوليون في استلزام المجاز للحقيقة، فذهب إليه قوم حتى جعلوا كلّ مجاز مسبوقاً بحقيقة.

والمحققون على خلاف هذا، فإنهم جوّزوا وجود لفظ مجازيّ من دون الحقيقة.

وقد وقع الاتفاق على أنّ الحقيقة لا تستلزم مجازاً فإنّه يجوز إستعمال اللفظ فيما وضع له ولا ينتقل من ذلك المعنى إلى غيره.

واحتج الأوّلون(1) بإنّ فائدة الوضع إنّما هي الاستعمال فيما وضع له فلولم يوجد هذا الاستعمال، كان الوضع عبثاً؛ فإذاً وجود استعمال اللفظ فيماوضع له واجب وهو المعنى بالحقيقة.

وهو ضعيف لأنّ بعض فوائده، استعمال اللفظ في المعنى المجازي المناسب للمعنى الأصل فإنّه لولا الوضع لمّا صحّ التجوّز، وأيضاً يجوز أن تكون الفائدة هي الاستعمال ثانياً.

واحتجّ الآخرون(2) بأنّه قد وجدت مجازات خالية عن الحقائق...

ص: 164


1- . أي: الذين جعلوا كل مجاز مسبوقاً بحقيقة.
2- . أي: الذين جوزوا وجود لفظ مجازي من دون أن يكون مسبوقاً بحقيقة.

قال: وهو مشترك الإلزام، للزوم الوضعِ. *

قال: والحقّ أنّ المجاز في المفرد ولا مجاز في التركيب، وقول عبد القاهر في نحو: احياني بطلعتك(1) أن المجاز في الإسناد بعيد، لاتحاد جهته. **

كقولنا: قامت الحرب على ساق، وشابت لِمَّة الليل؛ فإنّها ليست حقائق في شيء إذ لم توضع لشيءٍ أصلاً.

(*) أقول: أخذ يعترض على الجمهور في استدلالهم بما ذكروه فقال: إنّه لازم عليكم أيضاً كما الزمتموه على الخصم، ووجه لزومه أن يقول الجمهور: وإن لم يشترطوا في المجاز الحقيقة لكنّهم اشترطوا الوضع؛ فلقائل أن يقول: لو كان الوضع مشترطاً لكان لقولنا: قامت الحرب على ساق وشابت لِمَّةُ الليل وامثالهما، معاني وضع هذا اللفظ بازائها أوّلاً ثمّ استعملت في غيرها، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ وحينئذٍ يكون هذا الإلزام مشتركاً.

ووجه الجواب واحد، اللهم إلّاأن ينقلوا الوضع دون الاستعمال وهو متعذر.

(**) أقول: ذكر عبدالقاهر(2) أنّ المجاز على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يقع على المفردات كالاسد والحمار.

ص: 165


1- . في نسخ أُخرى: أحياني إكتحالي بطلعتك.
2- . هو أبو بكر عبد القاهر بن عبدالرحمن بن محمد الجرجاني النحوي واضع أُصول البلاغة، كان من أئمّة اللّغة، من كتبه «أسرار البلاغة» و «دلائل الإعجاز» و «إعجاز القرآن»، توفّي سنة 471 ه. لاحظ الأعلام: 4/48.

....................

وثانيها: أن يقع في التركيب والإسناد كقولنا: «طلعت الشمس»، «ومات زيد» فإنّ مفردات هذه الالفاظ قد استعملت فيما وضعت له، والمجاز قد وقع في التركيب إذْ اسناد الطلوع والموت إلى الشمس وإلى زيد على سبيل المجاز.

وثالثها: أن يقع فيهما كما في قولنا: «أحياني إكتحالي بطلعتك»، فإن اسناد الإحياء إلى الإكتحال غير حقيقي وكذلك الإكتحال نفسه.

إذا عرفت هذا فنقول:

لمّا ذكر المصنف أنّ الإلزام مشترك، ذكر وجه التخلّص منه، وهو منع الملازمة الّتي نقلها عن الجمهور في قولهم: «لو استلزم المجاز الحقيقة لكان كقولنا: قامت الحرب على ساق، حقيقة»، فإنا نقول: إنّما يجب أن تكون له حقيقة، لو كان مجازاً، ونحن نمنع من كونه مجازاً إذْ المجاز إنّما يقع في المفردات لا في المركبات، وإذا كان كذلك كانت المفردات هي المستعملة مجازاً ولها حقائق قد استعملت فيها، أمّا المركبات، فلا.

ثم أخذ يردُّ على عبد القاهر في قوله: إنّ المجاز قد يقع في الاسناد، بأنّ جهة الإسناد واحدة فلا يتصور فيه المجاز.

وعندي في هذا نظر، فإنّ المجاز في مثل قولنا: طلعت الشمس، ظاهر أنّه ليس في المفردات؛ وقوله: جهة الاسناد متحدة؛ ممنوع، فإنّ الاسم إذا كان بحيث يصح اسناده إلى لفظ آخر اسناد الفاعلية؛ كان اسناده إليه اسناد المفعولية على سبيل المجاز.

ص: 166

قال: ولو قيل: لو استلزم، لكان لِلَفْظ «الرَّحمٰن» حقيقة ولنحو «عسى»؛ لكان قويّاً. *

قال: مسألة: إذا دار اللفظ بين المجاز والاشتراك، فالمجاز أقرب، لأن الاشتراك يُخلُّ بالتفاهم ويؤدي إلى مُستبعد من ضد أو نقيض؛ ويحتاج إلى قرينتين ولأن المجاز أغلب ويكون أبلغ وأوجز وأوفق ويتوصل به إلى السجع والمقابلة والمطابقة والمجانسة والروي. **

(*) أقول: أَخذَ ينقض على من يدعي استلزام المجاز الحقيقة، بوجود المجاز من دون الحقيقة وذلك كما في لفظة «الرحمٰن»، ولفظة «عسى» واشباهها؛ فإنّ الأُولى موضوعة للانعطاف، والثانية موضوعة للتصرف لكونها فعلاً، والأفعال موضوعة للزمان والحدث، ولم يستعمل الرحمٰن إلّافي اللّٰه تعالى، وعسى إلّافي غير المتصرف من غير دلالة على الزمان.

دوران اللفظ بين الاشتراك والمجاز

(**) أقول: الأحوال اللفظية المانعة من الافادة تكون على خمسة أقسام هي:

الاشتراك، والنقل، والمجاز، والاضمار، والتخصيص؛ لأنّ مع زوال الاشتراك والنقل، يكون اللَّفظ حقيقة واحدة، ومع زوال المجاز والاضمار يكون المراد تلك الحقيقة، ومع زوال التخصيص يكون المراد كلتيهما؛ فانحصرت في خمسة.

والتعارض بينهما على عشرة أوجه، ذكر المصنف منها نوعاً واحداً لكثرته...

ص: 167

....................

وهو التعارض بين الاشتراك والمجاز.

وقد ذهب المحققون إلى أنّ المجاز أولى لوجوه:

أحدها: أنّ الاشتراك يخلُّ بالتفاهم إذا خلا عن القرائن لأنّه ليس بعض الحقائق أولى من بعض في إفادة اللفظ إياها وليس كذلك في المجاز لأنّه إن وجد مع القرينة، حمل على المجاز والاّ فعلى الحقيقة فهو دائماً مفيد بخلاف الاشتراك.

الثاني: أنّ الاشتراك يؤدي إلى ارتكاب أمرمستبعد وهو افادة اللفظ للنقيضين أو للضدين في حالين مختلفين، وذلك بأن يكون اللفظ موضوعاً للشيء ولنقيضه، أو له ولضده، بخلاف المجاز فإنّه لا يجوز إلّافيما يكون بينه و بين المعنى الحقيقي مناسبة ما أو ملازمة، على ما ذهب إليه بعضهم؛ وفي هذا الآخر نظر، فإنّ الحقّ(1)أنّه لا يجوز أن يكون اللفظ موضوعاً للنقيضين على سبيل الاشتراك [وليس بجيد لجواز إسناده إلى قبيلتين](2)، وأما الضدّ فإنّه كما يكون اللفظ موضوعاً للضدين، كذلك يتجوّز في أحد الضدين وهو مشهور.

الثالث: إنّ الاشتراك يحتاج إلى قرينتين لا دفعة واحدة ولكن في وقتين، يكون المراد في أحدهما إحدى الحقيقتين وفي الآخر الأُخرى؛ بخلاف المجاز فإنّه لا يفتقر إلّاإلى قرينة واحدة تصرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه.

الرابع: أنّ المجاز أغلب وأكثر من الإشتراك، والأكثرية دليل الأولوية فإن حمل اللفظ على الأغلب أولى.

ص: 168


1- . في نسخة «ب»: فان بعضهم قال.
2- . في نسخة «ب»: فقط.

قال: وعورض بترجيح الاشتراك باطراده فلا يضطرب، وبالاشتقاق فيتسع، وبصحة المجاز فيهما فتكثر الفائدة؛ ولاستغنائه عن العلاقة، وعن الحقيقة، وعن مخالفة ظاهرٍ، وعن الغلط؛ عند عدم القرينة.

وما ذكر من أنّه أبلغ، فمشترك فيهما؛ والحق أنّه لا يقابل الأغلب شيء ممّا ذكر. *

الخامس: الفوائد الحاصلة من المجاز أكثر من الفوائد الحاصلة من الاشتراك، فإن من جملة فوائد المجاز، البلاغة والوجازة والتوصل إلى السجع والمقابلة والمطابقة والمجانسة ولزوم الروي في النثر والنظم؛ وشيء من هذه لا يحصل بالاشتراك، فيكون حمل اللفظ على ما يحصِّل أكثر الفائدتين، أولى.

(*) أقول: هذه معارضات لما ذكره أوّلاً من الأدلة المرجحة للمجاز:

أحدها: أنّ الاشتراك مطرد بخلاف المجاز، وذلك لأنّا قد بيّنا فيما تقدم أنّ من علامات المجازعدم الاطراد، ولا شكّ أنّ استعمال اللفظ في المعنى استعمالاً مطرداً، أولى من استعماله غير مطرد لحصول الاضطراب من الثاني دون الأوّل.

وثانيها: أنّ الاشتراك يحصل معه الاشتقاق من المعنيين بخلاف المجاز، ومع حصول الاشتقاق يحصل الاتساع، وهي فائدة مفقودة مع المجاز.

وثالثها: أنّ الاشتراك يحصل معه التجوّز فيما يناسب كلّ واحد من المعنيين دون المجاز، فإنّه قد تحصل المناسبة بين أمرين آخرين ولا تحصل المناسبة بين أحد الأمرين وبين كلّ واحد من الآخرين، فيكون المجاز في الأوّل دون الثاني فتكثر الفائدة....

ص: 169

....................

ورابعها: أنّ الإشتراك لا يفتقر إلى العلاقة المصححة لاستعمال اللفظ في أحد مدلوليه بخلاف المجاز.

وخامسها: أنّ الاشتراك يستغني عن مسبوقية الحقيقة بخلاف المجاز.

وسادسها: أنّ مع الاشتراك لا تقع مخالفة الظاهر، بخلاف المجاز فإنّه إذا اريد باللفظ معناه المجازي، يلزم مخالفة الظاهر وهواستعمال اللفظ في معناه الحقيقي.

وسابعها: أنّ الاشتراك لا يلزم منه الغلط بخلاف المجاز، وذلك لأنّ السامع للفظ المشترك إن وجد قرينة دالة على أحد المعنيين، علم أنّ المراد ذلك المعنى وإلّا فلا يلزم الجهل، بخلاف المجاز فإنّه إذا لم توجد القرينة، صرفه السامع إلى الحقيقة؛ ويجوز أن يكون خطأً لإحتمال إرادة اللفظ المجاز.

وقوله: وما ذكر من أنّه أبلغ، فمشترك فيهما، إشارة إلى المساواة بين المجاز والاشتراك في البلاغة، فإنّها قد تحصل بهما فلا يمكن الاستدلال بها على أولوية المجاز.

ثمّ إنّ المصنف بعدما ذكر هذه المعارضات أشار إلى الجواب عنها بوجه إجمالي وهو أنّ الحقّ أنّ المجاز أولى لكونه أغلب، وهذا لا يقابله شيء ممّا ذكر من المعارضات.

ص: 170

قال: مسألة: الشرعية واقعة خلافاً للقاضي، واثبت المعتزلة الدينية أيضاً.

لنا: القطع بالاستقراء؛ إن الصلاة للركعات والزكاة، والصيام، والحج كذلك؛ وهي في اللغة؛ للدعاء، والنماء، والإمساك مطلقاً، والقصد مطلقاً. *

الاسماء الشرعية

(*) أقول: اختلف الناس في الأسماء الشرعية لا بمعنى أنّها ممكنة الوقوع أو، لا؛ فإنّ الإِمكان لا منازعة فيه إذ لا يستبعد أن يضع الشارع لفظاً من ألفاظ اللغة أو غيرها على معنى من المعاني لم يسبقه على ذلك الوضع أحد، بل الخلاف في الوقوع والمنازعة مفروضة فيما يستعمله الشارع من ألفاظ اللغة في معنى من المعاني لم يسبقه أهل اللغة في الاستعمال، هل يخرج به عن وضعهم أم لا؟

فذهب القاضي أبو بكر(1) إلى المنع من ذلك؛ وأطبقت المعتزلة والخوارج على جوازه(2)، والمعتزلة فصّلوا هاهنا فقالوا: اسماء الأفعال كالزكاة والصلاة تسمّىٰ شرعية وأسماء الذوات كالمؤمن والفاسق تسمىٰ دينية.

ص: 171


1- . هو أبو بكر محمد بن الطيب المعروف بابن الباقلاني المتوفّىٰ 403 ه. وليد البصرة وساكن بغداد، المتكلم على مذهب الأشعري؛ انتهت إليه الرئاسة في مذهبه، ذكر في فهرس تآليفه أن له 52 كتاباً غير أنّه لم يصل إلينا منها إلّاما طبع وهي: إعجاز القرآن، التمهيد، الإنصاف. انظر ترجمته في «بحوث في الملل والنحل»: 2/404-409.
2- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/31.

قال: قولهم: «باقية، والزيادات شروط»، رُدّ بأنّه في الصلاة؛ وهو غير داع ولا متَّبعٍ. *

واستدل المصنف بأنّ القطع حاصل بعد الإستقراء بأنّ الصلاة مستعملة في الأفعال المخصوصة، والزكاة مستعملة في إخراج المال، والصيام في الإمساك المخصوص، والحجّ في قصد البيت استعمالاً على سبيل الحقيقة، ضرورة سبق فهم هذه المعاني عند إطلاق هذه الألفاظ دون غيرها؛ وهي في اللغة موضوعة لغير هذه الحقائق فإنّ الصلاة موضوعة في اللغة للدعاء، والزكاة للنمو، والصوم للإمساك مطلقاً، والحجّ للقصد مطلقاً.

(*) أقول: هذا إشارة إلى إيراد(1) المانعين من وقوع الأسماء الشرعية [على هذا الدليل](2) مع الجواب، وتقريره: أنّ هذه الألفاظ لم تخرج عن موضوعاتها اللغوية، بل استعملت فيها، والقيود المذكورة إنّما هي شروط لصحَّة وقوع الفعل على الوجه المطلوب شرعاً؛ فإنّ الصلاة وضعت في اللغة للدعاء واستعملت في الشرع للدعاء أيضاً لكن الدعاء مطلقاً غير كاف ما لم تنضم إليه شروط هي: الركوع، والسجود، وغير ذلك. وكذلك باقي الأسماء.

أجاب المصنف عن هذا بأنّ لفظة الصلاة في الوضع اللغوي إنّما للدعاء أو للإتِّباع، وهذان المعنيان غير حاصلين في صلاة الأخرس المنفرد، فإنّه غير داع ولا مُتَّبع، ويقال للفعل الصادرعنه أنّه صلاة بالمعنى الشرعي.

ص: 172


1- . في نسخة «ألف»: حجة.
2- . في نسخة «ب»: فقط.

قال: قولهم: مجاز، إن أُريد استعمال الشارع لها، فهو المدعى، وإن أُريد به أهل اللغة، فخلاف الظاهر؛ لأنّه لم يعرفوها، ولأنَّها تفهم بغير قرينة. *

قال: القاضي: لو كانت كذلك، لفهمها المكلَّفَ، ولو فهمها، لنقل؛ لأنّا مكلفون مثلهم؛ والآحاد لا تفيد ولا تواتر؛ والجواب: أنها فُهِمَت بالتفهيم بالقرائن كالأطفال. **

(*) أقول: هذا إيراد آخر على دليل القائلين بالوقوع وهو أن يقال: استعمال الشارع لتلك الألفاظ ليس دليلاً على الحقيقة، فإنّ الاستعمال قد يكون على سبيل المجاز وهو هاهنا كذلك، فإنّ المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له أوّلاً سواء كان المستعمِل الشرع أو غيره؛ وأجاب المصنف بأمرين:

أحدهما: أن يقول: إن عنيتم بالمجاز، المستند إلى استعمال الشارع؛ فإنّه هو المتجوز فهو المطلوب، وإن عنيتم به المستند إلى أهل اللغة؛ فهو ممنوع وهو ظاهر، فإنّ أهل اللغة لم ينتبهوا لهذه المعاني فكيف يستعملون بأزائها ألفاظاً.

الثاني: إن نمنع كونها مجازاً وذلك لأنّا قد بيّنا أنّ من علامات الحقيقة السبق إلى الفهم، ولا شكّ أنّ هذه الالفاظ متى أُطلقت فهمت هذه المعاني الشرعية من غير احتياج إلى قرينة فهي إذن حقائق فيها.

(**) أقول: هذه حجّة القاضي أبي بكر على نفي الحقيقة الشرعية، وتقريرها أن نقول: لو كان وضع هذه الألفاظ لمعانيها مستفاداً من الشرع لوجب أن يفهمه المكلف قبل المخاطبة [بالتوقيف من الشرع](1) وإلّا لكان التكليف بالفهم...

ص: 173


1- . في نسخة «ب» فقط.

قال: قالوا: لو كانت، لكانت غير عربية لأنّهم لم يضعوها، وأمّا الثانية فلأنّه يلزم أنْ لا يكون القرآن عربياً. *

من دون مسبوقية المعرفة بالوضع تكليفاً بما لا يطاق وهو محال.

[والفهم إنّما يكون بعد التفهيم، والتفهيم إنّما يكون بالنقل](1) والنقل أمّا أن يكون متواتراً أو آحاداً، والأوّل، ليس بحاصل؛ والثاني، ليس بحجة.

والجواب أن نقول: لا نسلم أنّ [لزوم تكليف ما لا يطاق لأن ذلك إنّما يلزم لو قلنا أنّه كلفه بالفهم قبل](2) التفهيم [لكنا لا نقول بذلك](3)، إنّما يكون بالنقل بل بالقرائن المتعاقبة مرّة بعد أخرى(4) وبالتكرير كما إذا قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: «كنت أصلّي» عند مشاهدتهم له، فإنّ الحكم حينئذ بأنّ الصلاة موضوعة لذلك الفعل، حاصل؛ كما أنّ الطفل إذا قيل له: «هات الشيء الفلاني» وكرر عليه مراراً، حَكَم بأنّه اسم له.

(*) أقول: هذه حجّة ثانية للقاضي، وتقريرها أن نقول: لو كانت هذه الألفاظ حقائق شرعية، لكانت غير عربية، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: إنّ معنى كون اللفظ عربياً هو أنّه وضع لما فهم منه في طريق العرب؛ لا لأنّ

ص: 174


1- . لا توجد في نسخة «ب» وبدلها الموجود هو ما يلي: ولو عرّفه الشرع ذلك لنقل إلينا لأنّا مكلفون مثلهم.
2- . في نسخة «ب» فقط.
3- . في نسخة «ب» فقط.
4- . في نسخة «ب» بدل العبارة الّتي تبدأ ب «لا نسلم» وتنتهي ب «المتعاقبة مرة بعد أُخرى»، صورة الجواب كما يلي: [قوله: التفهيم إنّما يكون بالنقل؛ قلنا: ممنوع، بل قد يحصل بالقرائن المتعاقبة...] وهو أوضح ممّا ورد في المتن.

قال: وأُجيب بأنّها عربية بوضع الشارع لها مجازاً، أو «أَنْزَلْنٰاهُ» ضمير السورة، ويصح اطلاق اسم القرآن عليها كالماء والغسل بخلاف نحو:

المِائَةِ والرغيف، ولو سُلِّم، فيصح اطلاق العربي على ما غالبه عَرَبي، كشِعْرٍ فيه فارسيةٌ وعربيةٌ. *

اللفظ منطوق العرب، والتقرير: أنّ هذه الألفاظ لن يضعها العرب، وبيان بطلان التالي أن نقول: لاشكّ أنّ القرآن قد اشتمل على هذه الألفاظ، والقرآن عربي فهذه الألفاظ عربية، والمقدمة الأُولى ظاهرة.

وبيان صدق المقدمة الثانية قوله تعالى: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا»(1) ؛ وإلى بيان الملازمة أشار المصنّف بقوله: لانّهم لم يضعوها، وإلى بيان بطلان التالي أشار بقوله:

لأنّه يلزم ألَّا يكون القرآن عربياً، والثانية هي المقدمة الاستثنائية.

(*) أقول: لما قرر حجة القاضي أخذ في الايردات عليها من وجوه:

أحدها: المنع في الشرطية، قوله: لأنّ معنى كون اللفظ عربياًكونه موضوعاً من طريق العرب، قلنا: لا نسلم بل يجوز أن يكون اللفظ قد وضعه غير العرب لمعنى لمناسبة بينه وبين ما وضعته العرب فيكون مجازاً عربياً، نعم لا يكون حقيقة عربية، وفرق بين نفي مطلق العربية وبين نفي الحقيقة العربية.

الثاني: سلَّمنا الملازمة لكن نمنع بطلان التالي، قوله: القرآن عربي وقد اشتمل على مثل هذه الالفاظ؛ قلنا: لا نسلم أنّ القرآن عربي؛ وقوله تعالى: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» ، يجوز أن يكون الضمير فيه عائداً على السِّور؛ لا يقال

ص: 175


1- . يوسف: 2.

قال: المعتزلة: الإيمان التصديق، وفي الشرع العبادات، لأنها الدِّين المعتبر، والدين الإسلام، والإسلام الايمان، بدليل: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلاٰمِ دِيناً»(1) فثبت أن الإيمان العبادة؛ وقال: «فَأَخْرَجْنٰا مَنْ كٰانَ فِيهٰا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ» (2)، وعورض بقوله تعالى:

«قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا»(3). *

القرآن اسم لمجموع السور فإطلاقه على بعضها لا يجوز، وأيضاً فإنّه يكون مجازاً والاصل عدمه؛ لأنّا نقول: لا نسلم أنّ القرآن اسم للمجموع بل هو اسم لكلام اللّٰه تعالى ولو كان آية واحدة، والاشتقاق يساعد عليه؛ وإذا كان اسماً لكلام اللّٰه تعالى، صحّ إطلاقه على المجموع وعلى الآحاد على سبيل الحقيقة كاطلاق الماء على الكثير وعلى الجرّة(4)، وكذلك الغسل؛ بخلاف الرغيف والمائة فإنّ مثل هذه الألفاظ إنّما وضعت للمجموع الّذي لا تتساوىٰ اجزاؤه، فلا يصحّ اطلاقها عليها.

الثالث: سلمَّنا أنّ القرآن اسم للمجموع لكن نقول: وجود مثل هذه الألفاظ في القرآن لا تخرجه عن العربية كالقصيدة العربية إذا وجدت فيها ألفاظ يسيرة فارسية، فإنّه يصدق عليها أنّها عربية وكذلك الفارسية إذا وجدت فيها ألفاظ عربية، كما أنّ الثوب الأسود يصدق عليه اسم الأسود وإن وجدت فيه شعرات بيض.

(*) أقول: هذا إشارة إلى حجة المعتزلة على ثبوت الأسماء الشرعية -

ص: 176


1- . آل عمران: 85.
2- . الذاريات: 35.
3- . الحجرات: 14.
4- . الجرّة: إناء فخّاري ذو فم واسع وعروتان وجوف كبير.

....................

الدينية، وتقريره أن نقول: الإيمان في اللغة وضع للتصديق(1)، ونقل في الشرع إلى العبادات لأنّ العبادات هي الدين المعتبر، لقوله تعالى: «وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ اَلْقَيِّمَةِ» (2) و هو إشارة إلى ما سبق من العبادات، فقد ثبت أنّ العبادات هي الدين والدين هو الإسلام لقوله تعالى: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلْإِسْلاٰمُ»(3) والإسلام هو الإيمان لأنّه لو كان غيره لما كان مقبولاً من فاعله لقوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلاٰمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» (4) لكن كلّ من صدر عنه الايمان قُبل منه، فيكون الإسلام هو الايمان.

فقد ظهرمن هذا أنّ العبادة هي الدين والدين هو الإسلام والإسلام هو الايمان، فينتج أنّ العبادة هي الإيمان، وهو المطلوب.

وقوله: قال: «فَأَخْرَجْنٰا مَنْ كٰانَ فِيهٰا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ»(5) إشارة إلى دليل ثان على أنّ الإسلام هو الإيمان، وتقريره: أنّ الاستثناء على ما يأتي هو إخراج جزءٍ ما لولاه لكان داخلاً، وإنّما يكون بهذه المثابة لو كان المستثنى من جنس المستثنى منه، وقد استثنى اللّٰه تعالى المسلمين من المؤمنين في قوله: «فَمٰا وَجَدْنٰا فِيهٰا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ» (6) فوجب أن يكون الإسلام من جنس الإيمان.

ص: 177


1- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/35.
2- . البيّنة: 5.
3- . آل عمران: 19.
4- . آل عمران: 85.
5- . الذاريات: 35.
6- . الذاريات: 36.

قال: وقالوا: لو لم يكن لكان قاطع الطريق مؤمناً، وليس بمؤمن لأنّه مُخزى بدليل: «مَنْ تُدْخِلِ اَلنّٰارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ»(1) ، والمؤمن لا يخزى بدليل: «يَوْمَ لاٰ يُخْزِي اَللّٰهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا» (2)، وأُجيب بأنّه للصحابة، أو مستأنف. *

ثمّ إنّ المصنف عارض الآيتين الدالتين على أنّ الإسلام هو الإيمان بقوله تعالى: «قٰالَتِ اَلْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا»(3) ، وجه الاستدلال أنّه تعالى نفى إيمانهم وأثبت إسلامهم فيتغايران.

(*) أقول: هذا إشارة إلى دليل آخر للمعتزلة على أنّ الإيمان ليس هو التصديق وإنّما هو فعل العبادات، وتقريره أن نقول: لو لم يكن الإيمان عبارة عن فعل العبادات لكان قاطع الطريق مؤمناً، والتالي باطل فالمقدّم مثله؛ والشرطية ظاهرة لأنّه حينئذٍ مصدِّق، وبيان بطلان التالي: أن قاطع الطريق يُخزىٰ والمؤمن لا يُخزىٰ؛ أمّا الصغرى فلأنّه يدخل النار لقوله: «وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ» (4) وكل من يدخل النار فإنّه يخزىٰ لقوله: «رَبَّنٰا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّٰارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ»(5) ، وأمّا الكبرى فلقوله تعالى: «يَوْمَ لاٰ يُخْزِي اَللّٰهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» (6).

وأجاب المصنّف عن الكبرى بوجهين:

ص: 178


1- . آل عمران: 192.
2- . التحريم: 8.
3- . الحجرات: 14.
4- . البقرة: 7.
5- . آل عمران: 192.
6- . التحريم: 8.

قال: مسألة: المجاز واقع، خلافاً للاستاذ بدليل؛ الأسد للشجاع، والحمار للبليد، وشابت لمة الليل. *

الأوّل: أنّها ليست عامّة في كلّ المؤمنين، وظاهر أنّه كذلك لأنّه تعالى خصّهم بالمعية والصحبة ولا يلزم من كون المؤمنين المصاحبين غير مخزيين أن يكون غيرهم بهذه الصفة.

الوجه الثاني: أنّ الواو ليست للعطف وإنّما هي للاستئناف.

وقوع المجاز

وقوع المجاز(1)

(*) أقول: قد وقع الخلاف بين الأُصوليين في وقوع المجاز في اللغة، فأثبته المحققون ونفاه الأُستاذ أبوإسحاق(2)، واحتجّ المحققون بأنَّ أهل اللغة اطلقوا الأسد على الرجل الشجاع، والحمار على البليد، وشابت لمّة الليل، على المفهوم منه، فلا يخلو إمّا أن يكون ذلك الإطلاق بطريق الحقيقة، أو بطريق المجاز؛ والأوّل باطل وإلّا لزم الاشتراك ضرورة كون هذه الألفاظ حقائق فيما سوى هذه المعاني، والإشتراك على خلاف الأصل؛ فتعيّن القسم الثاني.

لا يقال: المجاز على خلاف الأصل أيضاً، لأنّا نقول أنّه: وإن كان على

ص: 179


1- . أنظر: الإحكام للآمدي: 1/37؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول للعلّامة: 1/253.
2- . أبو اسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الاسفراييني المعروف بالأُستاذ الملقب بركن الدين ولد في اسفرايين - بين نيسابور وجرجان - ثم خرج إلى نيسابور وبنيت له فيها مدرسة عظيمة فدرّس فيها، له رسالة في أُصول الفقه، توفي سنة 418 ه. لاحظ: الاعلام للزركلي: 1/61.

قال: المخالف: يُخل بالتفاهم، وهو استبعاد. *

قال: مسألة: وهو في القرآن، خلافاً للظاهرية، بدليل: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ»(1) ، «وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ» (2)، «جِدٰاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» (3)، «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ»(4) ، «سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا» (5) وهو كثير. **

خلاف الأصل لكنّه أولى عند التعارض لما مرّ.(6)

(*) أقول: احتجّ أبواسحاق على قوله: بأنّ المجاز يُخل بالتفاهم؛ لأنّه إذا أُطلق اللفظ تبادرت الحقيقة إلى الذهن، وعلى تقدير إرادة المجاز لا يكون المعنى المقصود من اللفظة مفهوماً، والإخلال بالفهم لا يقصده الحكيم.

والجواب: إنّ مع القرينة تزول هذه المفسدة أيضاً، فإنّ هذا إستبعاد محض.

(**) أقول: نُقل عن أهل الظاهر: أنّ القرآن غير مشتمل على شيء من المجازات، وهو مكابرة، فإنّ قوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» ، موضوع لنفي مثل المثل على سبيل الحقيقة وهو غير مراد هاهنا وإلّا لزم نفيه تعالى وإثبات مثل له، هكذا قيل؛ وفيه نظر، فإذا المراد منه نفي المثل فيكون قد أُريد باللفظ غير ما وضع له وهو المعنى بالمجاز.

ص: 180


1- . الشورى: 11.
2- . يوسف: 82.
3- . الكهف: 77.
4- . البقرة: 194.
5- . الشورى: 40.
6- . اورد السُبكي على الشارح في هذا المقام وقال: المجاز إلى الآن لم يثبت فكيف يفزع إليه. رفع الحاجب: 1/410. يلاحظ عليه: ان الشارح بصدد ترجيح احد الاحتمالين على الآخر وهو لا يتوقف على ثبوت المحتمل قطعاً وإلّا خرج عن محط البحث.

قال: قالوا: المجاز كذب بأنّه ينتفي، فيصدق؛ قلنا: إنّما يكذب إذا كانا معاً للحقيقة.

قالوا: يلزم أن يكون الباري تعالى متجوزاً، قلنا: مثله يتوقف على الإذن. *

وكذلك قوله تعالى: «وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ» فإنّه موضوع لسؤال القرية، والمراد منه سؤال أهلها؛ والمجاز الأول إنّما بسبب الزيادة والثاني بسبب النقصان.

وكذلك قوله تعالى: «يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» فانّ الجدار يستحيل استناد الإرادة إليه، وهذا مجاز في التركيب.

وقوله تعالى: «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ» من باب المجاز أيضاً لأنّ الجزاء على الاعتداء ليس باعتداء وهو مجاز بسبب النقل.

وكذلك قوله: «سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا» وأمثال هذه كثيرة لا تحصى.

(*) أقول: هذان دليلان استدل بهما أهل الظاهر على نفي المجاز في القرآن مع الجواب عنهما:

أحدهما: أنّ المجاز كذب ولا شيء من القرآن بكذب، أمّا الصغرى فلصدق انتفائه كما تقول للبليد أنّه ليس بحمار فتكون صادقاً، وإذا كان النفي صادقاً كان الايجاب كاذباً لاستحالة اجتماع الصدق في السلب والإيجاب، وأمّا الكبرى فظاهرة.

والجواب: أن الكذب إنّما يلزم لو توارد السلب والإيجاب على المعنى الحقيقي، أمّا إذا كان المراد في أحدهما المعنى الحقيقي وفي الآخر المجازي،...

ص: 181

قال: مسألة: في القرآن مُعرَّب، وهو عن ابن عباس وعكرمة، ونفاه الأكثرون.

لنا: (المشكاة) هندية، و (استبرق)، و (سجّيل) فارسية، و (قسطاس) روميّة.

قولهم: ممّا اتفق فيه اللغتان كالصابون والتنور، بعيد؛ وإجماع العربية على أنّ نحو (إبراهيم) منع من الصرف للعجمة والتعريف، يوضحه. *

لم يلزم الكذب؛ فأمّا على تقدير أن يريد بالحمار البليد، لا يلزم كذبه على تقدير نفي الحمار الحقيقي عن البليد.

الثاني: لو كان القرآن مشتملاً على المجاز لكان اللّٰه متجوزاً، والتالي باطل إتفاقاً فالأوّل مثله؛ وبيان الملازمة أنّ وجود اسم المعنى ليس يستدعي الإشتقاق، وبيان بطلان التالي ظاهر.

والجواب: المنع من الملازمة، وما ذكروه ينتقض بانواع الروائح القائمة بمحالها مع عدم الاشتقاق، وأيضاً لو سلمنا وجوب الاشتقاق لكنّا نقول: أنّ أسماء اللّٰه تعالى توقيفية فلا يجوز الاطلاق عليه إلّامع الإذن وهو غير ثابت هاهنا.

المعرَّب في القرآن

(*) أقول: اختلف الناس في اشتمال القرآن على كلمة غير عربية، فذهب...

ص: 182

....................

ابن عباس(1) وعِكْرِمة(2) إلى وقوعه ونفاه الباقون؛ والمصّنف إختار الأوّل واحتج عليه بأمرين:

الأوّل: أنّ القرآن قد اشتمل على لفظة «المشكاة» وهي هندية، وعلى لفظة «استبرق» و «سجّيل» وهما فارسيتان، وعلى لفظة «قسطاس» وهي رومية، وعلى لفظة «طه» وهي بالنبطية.

أجاب الباقون عن هذا بأنّ: هذه الألفاظ لا يلزم من كونها من لغات غير العرب، أن لا تكون لغة للعرب؛ فإنّه يجوز اتفاق اللغات على لفظة واحدة ك «الصابون» و «التنُّور» فإنّه قد قيل انّهما مما اتفق فيهما جميع اللغات، فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك في هذه الالفاظ، والمصنف استبعد ذلك الوجه.

الثاني: أن النحاة اتفقوا على أنّ إبراهيم وإسماعيل إنّما لم يُصرفا للعجمة والتعريف، وذلك يدلّ على اشتمال القرآن على كلمات غير عربية.(3)

ص: 183


1- . هو عبداللّٰه بن العباس بن عبدالمطلب القرشي الهاشمي أبو العباس المدني (المتوفىٰ: 68 ه)، ابن عم رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، كان محبّاً لعلي عليه السلام وملازماً لطاعته في حياته وبعد مماته. انظر في ترجمته: أعيان الشيعة: 8/55-57.
2- . وهو أبو عبداللّٰه القرشي البربري الأصل، مولىٰ ابن عباس مات 104 ه، انظر في ترجمته: الخلاصة: 383 برقم 13؛ ومعجم رجال الحديث: 2/178، برقم 7765.
3- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/40؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/259.

قال: [احتجّ] المخالف(1) بما ذكر في الشرعية وبقوله: «ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ»(2) ، فنفى أن يكون متنوعاً، وأُجيب بأنّ المعنيَّ من السياق: أكلام أعجمي ومخاطب عربي لا يفهم وهم يفهمونها؟! ولو سلم نفي التنوع، فالمعنى: أعجمي لا يفهم. *

* أقول: هذان دليلان على عدم اشتمال القرآن على كلمة غير عربية:

أولهما: ما مضى في الحقيقة الشرعية من أنّها لو كانت ثابتة لما كان القرآن كلّه عربياً، والتالي باطل؛ وقد تقدّم الكلام في هذه الحجة فيما مضى.(3)

الثاني: قوله تعالى: «ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ» ؛ ونفي التنوع الموجب لسقوط اعتراضهم بتنوعه بين أعجمي وعربي، ولا ينتفي التنوع وفيه أعجمي.

وأجاب المصنف بالمنع من نفي التنوع:

أوّلاً، فإنّ المعنيّ من سياق الآية: أكلام عجمي ومخاطب عربي لا يفهم؟ وبتسليم نفي التنوع لكن لا مطلقاً بل بين أعجمي غير مفهوم وبين عربي، ولا يلزم من نفي التنوع المقيد، نفي مطلق التنوع، ولا يندرج أيضاً في الانكار لفهمهم إياه.

ص: 184


1- . في جميع النسخ «المخالف» فقط، وزدنا كلمة «احتجَّ» لكي يتم المعنىٰ ويستقيم.
2- . فصلت: 44.
3- . لاحظ كلام الشارح قدس سره (ص 168) عند تقريره لحجة القاضي أبي بكر الثانية لنفي «الحقيقة الشرعية».

قال: مسألة: المشتق ما وافق أصلاً بحروفه الأصول ومعناه، وقد يُزادُ بتغيير ما، وقد يَطّرد كاسم الفاعل وغيره، وقد يختص كالقارورة والدَّبَرَان. *

المشتق

(*) أقول: يشترط في الاشتقاق بقاء الحروف الأُصول والمعنى،(1) أمّا بقاء المعنى فلأنّ المراد من الاشتقاق إنّما هو حصول الزيادة في المعنى، وأمّا بقاء الحروف الأُصول فلأنّها لو لم تكن باقية، لم يكن ذلك اشتقاقاً بل وضع لفظة جديدة؛ اللّهم إلّاأن يمنع مانع من بقاء الحروف كخف من الخوف، فإنّ المانع من التقاء الساكنين أوجب حذف بعض الحروف وإن كان ثابتاً في الأصل فهو كأنّه موجود بالفعل في الفرع.

واعلم أنّ جماعة من الأُدباء اشترطوا في الاشتقاق التغيّر إمّا بالزيادة أو النقصان أو بهما، في الحركة أو في الحروف أو في المجموع، فالأقسام خمسة عشر.

ويرد على هؤلاء مثل طَلَبَ من الطلب وغَلَبَ من الغلب وحَلَبَ من الحلب، فإنّ هذه الأفعال مشتقات من هذه المصادر مع عدم التغير لبقاء الحركات على ما هي عليه في المصادر.

أجابوا عن هذا بأنّ حركة الإعراب لمّا كانت غير لازمة لتبدلها، لم يعتد بها في الأبنية؛ ولمّا كانت حركة البناء لازمة أُعتدّ بها فيها.

إذا تقرر هذا فنقول: هذه الأفعال متحركة الأواخر حركة البناء، ومصادرها متحركة حركة الإعراب، والأُولىٰ كالجزء من الكلمة لبنائها والثانية عارضة

ص: 185


1- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/43.

....................

لتبدلها بغيرها فكانَ التغيير حاصلاً وهو من باب الزيادة.

ولنا في هذا نظر فانّا نقول: ما تعني بحركة الإعراب؟ إن عنيت بها الحركة الشخصية من الرفع أو الجر أو النصب، سلمنا أنّها غير لازمة ولكن لم قلت أن مطلق حركة الاعراب غير لازمة؟ ونظر الإشتقاقي ليس في حركة معيّنة بل في مطلق الحركة؛ وإن عنيت بها مطلق الحركة، منعنا عدم اللزوم.

فإن قلت: الإعراب طارئ على الاسم، حاصل بعد كمال حروفه للاصول فأصله السكون، وقول النحويين أنّ أصل الأسماء الإعراب، لا ينافي هذا لأنّ نظر النحوي في الاسم من حيث عروض التركيب له ولا شك أن الإعراب من هذه الحيثية أصلٌ للأسماء؛ ونظر الإشتقاقي في الإسم من حيث الوضع الأفرادي [لازم، لكن](1).

قلت: فالفعل أيضاً اصله الوقف نظرا إلى الوضع على أنّ النحويين نصّوا على أنّ أصل الأفعال البناء وإنّ البناء أصله الوقف، فكيف تجعل حركته العارضة البنائيّة اصلاً يعتدّ بها.

وأعلم أنّ الاشتقاق قد يطَّرد كما في اسماء الفاعلين والمفعولين المشتقة من الافعال، وقد يختص ببعض الأسامي كالقارورة(2) والدَّبَرَانِ(3) المأخوذان من الاستقرار والدُّبوُر، وليس كلّما يستقر فيه الشيء أو يحصل له الدبور يصدق عليه هذان الإسمان.

ص: 186


1- . ليس في نسخة «ب».
2- . القارورة: إناء صغير يتخذ للطيب والدواء ونحوهما، تجمع على قوارير وهي مفردة قرآنية.
3- . الدَّبران: أحد منازل القمر يشتمل على خمسة كواكب، قيل إنّما سمّي بذلك لأنّه يتبع الثريا، والمراد من الدُّبُور هو الانصرام والمضي كما تقول دَبَرَ الليل دُبُوراً.

قال: مسألة: اشتراط بقاء المعنى في كون المشتق حقيقة، ثالثها: إن كان ممكناً، اشترط.

المشترط: لو كان حقيقة وقد انقضى، لم يصح نفيه.

أُجيب: بأنّ المنفي الأخصُّ، فلا يستلزم نفي الأعمّ، قالوا: لو صحّ بعده لصح قبله.

أُجيب: إذا كان الضارب من ثبت له الضرب، لم يلزم. *

* أقول: اختلف الناس في أنّ بقاء المعنى المشتق منه، هل يشترط في إطلاق الاسم المشتق حقيقة أم لا؟ على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنّه مشترط مطلقاً.

وثانيها: أنّه غير مشترط مطلقاً.

وثالثها: إن كان البقاء ممكناً، اشترط وإلّا فلا.

والمصنف نبه على القولين الأوّلين بذكر الثالث.

إحتج المشترطون بأمرين:

الأوّل: لو كان إطلاق الضارب على من حصل منه الضرب وانقضى، على سبيل الحقيقة؛ لما صحّ نفيه عنه؛ والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية ما مضى من أن علامة الحقيقة كذب النفي، وبيان بطلان التالي أنّه يصحّ نفيه في الحال، فإذا صحّ نفيه في الحال، صحّ نفيه مطلقاً؛ أمّا المقدمة الأُولى فلأنّا نعلم بالضرورة أنّه يصدق على من انقضى الضرب منه أنّه ليس بضارب الآن. وأمّا صدق المقدمة...

ص: 187

....................

الثانية فظاهر، ضرورة استلزام صدق المركب صدق أجزائه.

والمصنف أجاب عن هذا الوجه بأنّ الضرب في الحال أخصّ من مطلق الضرب والمنفي إنّما هو الأخص ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم.

وتحرير هذا الجواب أن نقول: قولكم: والتالي باطل، ممنوع، وقولكم في بيانه أنّه يصحّ نفيه في الحال فيصدق نفيه؛ قلنا: لا نزاع في صحّة النفي الحالي ولكن قولكم: فيصدق نفيه، إن عنيتم به أنّه يصدق نفيه في كلّ وقت حتى يصدق انّه ليس بضارب في كلّ وقت، فهو ممنوع، والملازمة غير واضحة بل هي كاذبة؛ وإن عنيتم أنّه يصدق نفيه مطلقاً، فهو مسلّم ولكن لا يلزم من النفي المطلق نفي الضرب في الماضي.

الوجه الثاني:(1) قياس العكس، وهو أن نقول: لو صدق على من انقضى الضرب منه أنّه ضارب، لصدق عليه قبل وجود الضرب منه، والمشترك بينهما هو وجود الضرب منهما في أحد الوقتين أعني الماضي أو المستقبل، والتالي باطل اتفاقاً، فإنّ الذي لم يوجد منه الضرب أصلاً مع صحة وجوده منه، لا يصدق عليه أنّه ضارب.

وأجاب المصنف بالفرق بين المقيس والمقيس عليه بالنظر إلى موضوع اللفظة، وذلك لأنّ اللفظة وضعت لمن ثبت له الضرب، والذي وجد منه الضرب وانقضىٰ يصدق عليه أنّه ثبت له الضرب، بخلاف الذي لم يوجد منه الضرب أصلاً، ومع قيام الفرق لا يلزم القياس.

ص: 188


1- . في النسختين «الف» و «ب»: «الوجه الثاني»، وهو ثاني الأمرين الذين أشار لهما الشارح عندإيضاح كلام المصنّف لبيان رأي القائل باشتراط بقاء المعنى المشتق منه ليكون المشتق حقيقة، وهو الّذي يعنون اليوم بالتلبس بالمبدء وانقضاء التلبس به.

قال: النافي: أجمع أهل العربية على صحة «ضارب أمس» وأنّه اسم فاعل. أُجيب: مجاز كما في المستقبل باتفاق؛ قالوا: صحّ «مؤمن وعالم».

أُجيب: مجاز لامتناع «كافر»، لكفر متقدم.

قالوا: يتعذر في مثل: «متكلم» و «مخبر»؛ أُجيب ب: أن اللغة لن تبن على المشاحة في مثله بدليل صحة الحال، وأيضاً: فإنّه يجب أن لا يكون كذلك. *

* أقول: هذه حجج النافين للاشتراط، وهي ثلاث:

الأُولى: قالوا اجمعت النحاة على صحة قولنا: زيد ضارب أمس، وهو اسم فاعل.

والجواب: لِمَ لا يجوز أن يقال: إنّ هذا الصدق على سبيل المجاز، كما أنهم يجوزون في مثل قولهم: زيد ضارب غدا، وهو اسم فاعل، واتفقوا على أنّه ليس بحقيقة.

الثانية: قالوا: يصدق على النائم انّه عالم ومؤمن وهما غير حاصلين له في حالة النوم.

والجواب: انّ هذا الصدق على سبيل المجاز، وإلّا لصدق على المسلم بعد كفرانّه كافر، لكفر تقدم.

ولقائل أن يقول: الأصل عدم المجاز، والتمثيل بضارب في الجواب الأوّل غير مفيد لما بيَّنا من وقوع الفرق بين ما كان منه بمعنى الماضي والمستقبل؛ والتمثيل بكافر في الثاني ضعيف لانّا نقول: انّه يصدق عليه انّه كافر ولكن الشرع...

ص: 189

قال: مسألة: لا يشتق اسم الفاعل لشيء والفعل قائم بغيره خلافاً للمعتزلة.

لنا: الاستقراء. *

منع من اطلاق هذا اللفظ عليه.

الثالثة: إنّ الافعال التي لا توجد إلّافي زمان التكلم والخبر(1) تشتق منها اسماء الفاعلين ويطلق على ما تصدر عنه تلك الأفعال على سبيل الحقيقة، مع استحالة بقاء تلك الافعال.

والجواب أن يقول المشترط: هو وجود المعنى بتمامه إن أمكن أو وجود آخر جزء منه إن لم يمكن؛ فان قلت: كيف يصحّ اطلاق الاسم حقيقة على شيء لم يوجد منه إلّاجزؤه؟

قلت: إن اللغة لم تبن على المشاحة في مثل هذه الأُمور، فإنّه قد اطلق الحال على زمان الحال أو فعله حقيقة مع أنّ الموجود منها ليس الاّ جزء واحد؛ وأيضاً فإنّه يجب أن لا يكون وجود ما منه الاشتقاق بتمامه شرطاً فيما يجب فيه من المعاني الّتي لا توجد إلّافي زمان لأنّه إنّما يشترط البقاء إذا امكن وجوده بتمامه [وأيضاً لو امتنع إطلاق اسم حقيقة على المدلول إذا كان عرفاً، لكان الواجب أن لا يكون اطلاق الحال على زمان الحال وفعله حقيقة وهو خلاف الاجماع] (2).

(*) أقول: اختلف الناس في جواز إطلاق المشتق [أي في أنّه يجوز إطلاق المشتق](2) على ذاتٍ مع أنّ ما منه الاشتقاق قائم بغيره أو لا؟ فأجازه...

ص: 190


1- . وفي نسخة «الف»: المتكلم والمخبر. 2. ليست في نسخة «ب».
2- . ليست في نسخة «ب».

قال: قالوا: ثبت قاتل وضارب والقتل للمفعول؛ قلنا: القتل التأثير وهو للفاعل. *

قال: قالوا: أُطلق الخالق على اللّٰه باعتبار المخلوق وهو الأثر لأن الخلق المخلوق، وإلّا لزم قدم العالم أو التسلسل.

وأُجيب: أولاً: بأنّه ليس بفعل قائم بغيره؛ وثانياً: أنَّه للتعلق الحاصل بين المخلوق والقدرة حال الإيجاد، فلما نسب إلى الباري صحّ الاشتقاق جمعاً بين الادلة. **

المعتزلة وقالوا: لأنّ اللّٰه تعالى متكلم بكلام قائم بغيره من الاجسام لاستحالة قيام الحادث بذاته تعالى، وقيام العرض لا في محل.

والأشاعرة منعوا من ذلك وقالوا أنّه تعالى متكلم بكلام قائم بالنفس، وأثبتوا كلاماً آخر غير الحروف والأصوات. وتحقيق هذه المسألة ذكرناه في كتاب «المناهج»(1)، واحتج المصنف بالاستقراء.

(*) أقول: هذه حجّة المعتزلة على أنّ اسم الفاعل قد يصدق على شيء، والمصدر على غيره، فإنّ القاتل والضارب اشتُقّا من القتل والضرب وهما فعلان صدرا منه في ذات المفعول.

أجاب المصنف: بأنّ القتل ليس هو الاثر الحاصل في ذات المفعول بل هو التأثير وهو حاصل في الفاعل، وفيه نظر: لأن التأثير عندهم هو الأثر والالزم التسلسل.

(**) أقول: هذه حجّة ثانية للمعتزلة على أنّه لا يشترط قيام ما منه

ص: 191


1- . يراجع: «مناهج اليقين في أُصول الدين»: 60، البحث الثالث في العدم.

....................

الاشتقاق بما صدق عليه الاسم المشتق، وتقريرها أن نقول: قد أُطلق الخالق على اللّٰه تعالى وهو اسمُ فاعلٍ مشتقٌ من الخلق، والخلق هو الأثر الذي هو المخلوق ليس صفة قائمة بذات اللّٰه تعالى كالعلم وذلك لأنّ الخلق لو كان أمراً مغايراً للمخلوق، لكان إمّا أن يكون قديماً أو حادثاً، والقسمان باطلان.

فكونه مغايراً باطل، إمّا أنّه لا يجوز أن يكون قديماً؛ فلأنّه نسبة بين الخالق والمخلوق والنسبة بين المنتسبين(1) متأخرة عنهما، والقديم إذا كان متأخراً عن شيء كان ذلك الشيء قديماً بالضرورة فيلزم قدم العالم.

وإمّا أنّه لا يجوز أن يكون محدثاً فلأنّه لو كان كذلك لكان مخلوقاً و يكون نسبة الخالقية إليه مغايرة لنسبتها إلى العالم لوجوب تغاير النسب عند تغاير المنتسب إليه، وإذا كانت مغايرة فإن كانت قديمة، لزم قدم العالم؛ وان كانت محدثة فافتقرت إلى خالقية أُخرى وتسلسل.

وأجاب المصنف بوجهين:

الأوّل: أنّ النزاع إنّما وقع في جواز الاشتقاق من فعل قائم بالغير، وما ذكرتموه من الخالقية فليس محل النزاع لأنّ الخلق ليس بفعل قائم بالغير بل هو ذات الغير فلا يلزم مطلوبكم الّذي هو جواز الاشتقاق من العقل القائم بالغير.

الثاني: إنّ الخلق عبارة عن التعلّق الحاصل بين المخلوق والقدرة حال الإيجاد، فلمّا نسب هذا التعلق إلى الباري، صحّ الاشتقاق وإنّما أُطلق الخلق

ص: 192


1- . في نسخة «ب»: الشيئين.

قال: مسألة: الأسود ونحوه من المشتق يدل على ذات متصفة بسواد لا على خصوص من جسم وغيره بدليل صحة: الأسود جسم. *

على هذا المعنى المجازي الّذي هو من باب إطلاق اسم الملزوم - أعني الخلق الحقيقي على اللازم - أعني التعلّق - جمعاً بين الأدلة.

وهذان الوجهان ضعيفان:

أمّا الأوّل: فلأنّ المخلوق عند جمهور المعتزلة إنّما هو الوجود وهو قائم بالذات الموجودة، وليس الفاعل فاعلاً في الذوات؛ وعند آخرين منهم أنّ الفاعل إنّما فعله في جعل الذات موجودة ليس في الذات ولا في الوجود.

وأمّا الثاني: فلانّ ذلك التعلق ليس تقديم، لكونه نسبة بين المخلوق والقدرة والنسبة متأخرة فهو حادث وغير قائم بذاته تعالى لاستحالة قيام الحوادث به وهو عرض فهو إذن قائم بالغير، وفي هذا بحث.

* أقول: المشتقات ليس فيها إشعار بخصوصية الذات التي يصدق عليها المشتق فإنّ الأسود ليس إلّاشيء وجد له السواد من غير دلالة على كون ذلك الشيء جسماً أو عرضاً والدليل عليه أنّ قولنا: الأسود جسم، صادق ومفيد؛ ولو كان الأسود معناه جسم أسود لكان تكريراً، ولو كان غيره كان نقصاً.

ص: 193

قال: مسألة: لا تثبت اللغة قياساً، خلافاً للقاضي، وابن سُريج، وليس الخلاف في نحوِ: «رجُلٍ»، ورفع الفاعل، أي: لا يسمّى مسكوت عنه إلحاقاً بتسمية لمعيّن لمعنىً يستلزمه وجوداً وعدماً، كالخمر للنبيذ للتخمير، والسارق للنبَّاش للآخذ خفية، والزاني للّائطِ للأيلاج المحرّم، إلّا بنقل، أو استقراء التعميم. *

ثبوت اللغة

(*) أقول: الثابت باللغة(1) إمّا أن يكون لفظاً وإمّا أن يكون حكماً من أحكامه، والثاني: كرفع الفاعل ونصب المفعول؛ وهذا ممّا يجوز القياس فيه لأنّ أهل اللغة نصوّا على جواز القياس فيه. والأوّل: لا يخلو إمّا أن يكون صفة وإمّا أن يكون علماً وإمّا أن يكون اسم جنس؛ والأوّل والثاني(2)، اتفقوا على امتناع القياس فيهما:

إمّا في الصفات فلأنّ اسماءها وضعت للفرق بينهما كالعالم والقادر فهي واجبة الإطراد نظراً إلى تحقق معنى الاسم، فإنّ مسمّى العالِم مَن قام به العلم وهوثابت في كلّ من قام به العلم وكان ذلك الإطلاق ثابتاً بالوضع.

وأمّا اسماء الاعلام فلأنّها غير موضوعة لمعان موجبة لها، والقياس لابدّ فيه من جامع يكون معنى موجباً للوضع.

والثالث: وهو أن يكون اللفظ اسم جنس فهو اللفظ الموضوع للماهية

ص: 194


1- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/44.
2- . يريد بالأوّل والثاني: الصفة والعلم، والثالث: اسم الجنس.

قال: لنا: اثبات اللغة بالمحتمل. *

بقيد الوحدة كرجل وخمر، فلا يخلو إمّا إن يكون معناه مقارناً لمعنى يستلزمه وجوداً وعدماً ويكون صالحاً للعليَّة في الوضع ويكون متعدياً إلى غير صورة الوضع، أو لا يكون؛ والثاني(1) كالرجل، وليس النزاع واقعاً فيه بل في القسم الأوّل وهو كاسم الخمر فإنّه أُطلق على النبيذ وهو معنى مسكوت عنه أي لم يضعه اللغوي له إلحاقاً له بتسمية معنى الخمر المعيّن لأجل معنى يستلزمه وجوداً وعدماً هو التخمير، وكذلك اطلق السارق على النباش(2) بواسطة مشاركته للسارق من الأحياء في الأخذ خفية، وأُطلق الزاني على اللائط لمشاركته للزاني في إيلاج الفرج في الفرج المحرّم، فمثل هذا أثبته القاضي أبوبكر وابن سريج(3) من الأشعرية، وجماعة من الفقهاء وأهل الادب، ونفاه جمهور الحنفية وجماعة من أهل الأدب وإليه مال المصنف.

(*) أقول: تقريره أن نقول: لا يخلو إمّا أن يكون أهل اللغة نصّوا على وضع الخمر لكلّ مسكر، أو للمعتصر من العنب لا غير، أو لا ينقل شيء من الأمرين؛ وعلى التقدير الأوّل: تكون التعدية مستفادةً من اللغة لا من القياس، وعلى التقدير الثاني: يكون المعدِّي للفظ إلى النبيذ خارجاً عن قانون اللغة، وعلى التقدير الثالث:

يحتمل أن يكون الوصف الجامع دليلاً على التعدّية ويحتمل أنْ لا يكون،

ص: 195


1- . أي: الّذي لا يكون صالحاً للعليَّة، ولا متعدّياً إلى غير صورة الوضع، وهو الّذي لا يقع النزاع فيه كما أشار إليه الشارح قدس سره.
2- . النبّاش: الّذي ينبش القبور ليسرق ما فيها.
3- . أحمد بن عمر بن سريج، القاضي أبو العباس البغدادي أحد فقهاء الشافعية، مات سنة 306 ه انظر الأعلام للزركلي: 1/185.

قال: قالوا: دار الاسم معه وجوداً وعدماً.

قلنا: ودار مع كونه من العِنب، وكونه مال الحيِّ، وقُبلاً. *

قال: قالوا: ثبت شرعاً، والمعنى واحد.

قلنا: لولا الاجماع لما ثبت، وقطع النباش وحدّ النبيذ إما لثبوت التعميم واما بالقياس، لا لأنه سارق أو خمر [بالقياس(1)]. **

ومع الاحتمال تمتنع التعدّية.

(*) أقول: احتج المثبتون بالدوران وهو أنّ الوصف وهو الإسكار، دار مع الاسم - وهو لفظة الخمر - وجوداً وعدماً؛ أمّا وجوداً ففي صورة الخمر وأمّا عدماً ففي الماء مثلاً، ودوران الشيء مع الوصف دليل على العلّية وكذلك الحال في السرقة، فإنّها دارت مع الأخذ خفية وجوداً وعدماً، أمّا وجوداً ففي أخذ مال الحي وأمّا عدماً فظاهر؛ كذلك لفظة الزنا دارت مع الإيلاج المحرم وجوداً في صورة النكاح في القبل وعدماً في كثيرمن الصور.

والجواب: أنّ دلالة الدوران ضعيفة، ومع تسليمها نقول: اللفظ دار مع المخصوص وجوداً وعدماً، فإن لفظة الخمر دارت مع الاسكار المستفاد من عصير العنب وجوداً وعدماً أمّا وجوداً ففي تلك الصورة وأمّا عدماً فظاهر؛ ولفظة السرقة دارت مع أخذ مال الحي خُفية أمّا وجوداً ففي تلك الصفة وأمّا عدماً فظاهر؛ ولفظ الزنا دار مع الإيلاج في القبل المحرّم وجوداً في تلك الصورة وعدماً ظاهر، وإذا كانت هذه الاشياء مدارات وجوداً وعدماً لا يمكن أن يكون ما ذكرتم مداراً.

(**) أقول: هذه حجّة ثانية للمثبتين وهو أنهم قالوا: ثبت العمل بالقياس...

ص: 196


1- . كذا في بعض النسخ، يلاحظ: رفع الحاجب: 1/428.

....................

في الشرعيات لما يأتي وهو عام في كلّ قياس، إذ معناه واحد وهو حمل فرع على اصل لمعنى مشترك بينهما؛ فيجب العمل بالقياس هاهنا لأنّه أحد أفراد ما دلّ الدليل على جوازه.

والجواب: أنّ الاجماع قد دلّ على إلحاق الفرع بالأصل عند ظن الاشتراك في علّة الحكم، بخلاف هذا، ولولا الاجماع لما ثبت ذلك وهو مفقود هاهنا.

واعلم أنّ مذهب الشافعي ومذهبنا: قطع النبَّاش وحد شارب النبيذ؛ فتوهَّم قوم أنّ الشافعي إنّما صار إلى ذلك لأجل القياس في اللغة وهو أن الدليل قد دل على أن شارب الخمر يحد، وأنّ السارق يقطع؛ ولم يدل على أن شارب النبيذ يحد ولا على أن النبَّاش يقطع؛ وإنّما صار إلى ذلك لأنّ النبيذ يسمى خمراً والنبش يسمى سرقة.

فذكر المصنف لمذهب الشافعي محملاً وهو: أنّ الحكم إنّما ثبت في النبيذ لتعميم الاسم، لأنّه نقل عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّ من التمر خمراً»؛ فتسمية النبيذ خمراً تكون بالتوقيف لا بالقياس، وإنّما ثبت القطع في النبَّاش لا لأنّه سارق بل بالقياس عليه؛ والمشترك بينهما المفسدة الحاصلة منهما المناسبة للحد المعتبر شرعاً.

ص: 197

قال: الحروف:

معنى قولهم: الحرف لا يستقل بالمفهومية؛ أن نحو «من» و «إلى» مشروط في دلالتها على معناها الإفرادي، ذكر متعلقها؛ ونحو «الابتداء» و «الانتهاء» و «ابتدأ» و «انتهى»، غير مشروط فيها ذلك. *

قال: وأمّا نحو «ذو» و «فوق» و «تحت» و «إن»، لم تذكر إلّا بمتعلقها لأمر، فغير مشروط فيها ذلك لما علم من أنّ وَضْعَ «ذو» بمعنى صاحب؛ ليتوصل به إلى الوصف باسماء الاجناس، اقتضى ذكر المضاف إليه. وإنّ وَضْع «فوق» بمعنى مكان ليتوصل به إلى علوّ خاصّ اقتضى ذلك، وكذلك البواقي. **

اوضاع الحروف

(*) أقول: الحروف لا تدل على معانيها الموضوعة لها إلّامع انضمام لفظ آخر إليها، فإنّ قولنا: «زيد في» غير مفيد فائدة قولك: «زيد في الدار»، وكذلك «سرت من وإلى» لا يفيدان البداية والنهاية ما لم ينضم إليهما لفظ آخر؛ أمّا الابتداء والانتهاء، فإنّهما يدّلان على معانيهما من غير افتقار إلى ضميمة.

(**) أقول: إنّه ربما يتوهم متوهم انتقاض الخاصيَّة المذكورة للحرف بهذه الأسامي؛ فإنّ «ذو» لا تفيد فائدة ما لم تنضّم إلى غيرها من القرائن، وكذلك لفظة «تحت» لابدّ لها من ضميمة ولفظة «فوق» وما شابه هذه الالفاظ ممّا يتضمن الدلالة على النسبة؛ فأشار المصنف إلى وجه الخلاص عن هذا الوهم، وذلك لأنّ...

ص: 198

قال: مسألة: الواو للجمع المطلق، لا لترتيب، ولا معيّة، عند المحققين. لنا: النقل عن الأئمة انها كذلك. *

هذه الالفاظ في أصل وضعها إنّما كانت لمعان قائمة بنفسها لا تفتقر في الدلالة على تلك المعاني إلى قرينة لكنّها بالنظر إلى غاياتها المتضمنة للدلالة على النسب، افتقرت إلى القرائن؛ فإنّ لفظة «ذو»، وضعت في الأصل لما وضعت له لفظة «صاحب» لكن لما كان الغرض من وضعها إنّما هو التوصل إلى وصف الاسماء باسماء الأجناس، وجب اقترانها باسم جنس لتتم بذلك غايتها لا دلالتها؛ وكذلك لفظة «فوق» وضعت لمكان عال وأُتي بها ليتوصل بها إلى خصوصية العلو المستفاد من الضميمة، فوجب لذلك ذكر الضميمة، فإن قولنا: «زيد فوق السطح» إنّما يخصص العلو باقتران السطح، وكذلك ما شابه هذه الالفاظ.

(*) أقول: اختلف الناس في ال «واو»، فقال المحققون أنّها لمطلق الجمع لا تفيد الترتيب والمعية،(1) قال أبو علي الفارسي(2): «اتّفق اللغويون والنحويون - البصريون والكوفيون - على أنّها للجمع المطلق من غير ترتيب»(3) ونقل عن الفرَّاء(4) أنّها تفيد الترتيب فيما يستحيل الجمع فيه، كقوله تعالى: «اِرْكَعُوا ...

ص: 199


1- . انظر: البرهان في أُصول الفقه: 1/136.
2- . هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الأصل أحد الأئمة في علم اللغة، وُلد في «فسا» من أعمال فارس سنة 288 ه وتوفي سنة 377 ه، ومن تأليفاته «الإيضاح» في قواعد العربية. انظر: الاعلام للزركلي: 2/179.
3- . انظر: البحر المحيط: 2/257.
4- . الفراء هو أبو عمر محمد بن عبدالواحد بن أبي هاشم البغدادي (261 ه - 345 ه)، من علماء

قال: واستُدّل: لو كان للترتيب لتناقض: «وَ اُدْخُلُوا اَلْبٰابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ» مع الأُخرى؛ ولن يصح (تقابل زيد وعمرو)، ولكان: (جاء زيد وعمرو بعده) تكريراً، و (قبله) تناقضاً.

وأُجيب بأنّه مجاز لما سنذكره. *

وَ اُسْجُدُوا»(1) وهو منقول عن الشافعي مطلقاً، والدليل على إفادتها لمطلق الجمع النقل عن أئمة اللغة.(2)

(*) أقول: هذا إشارة إلى أدلة القائلين بأنّها تفيد الجمع من غير ترتيب؛ والمصنف استضعفها:

الوجه الأوّل: لو كانت الواو تفيد الترتيب لتناقض قوله تعالى: «وَ اُدْخُلُوا اَلْبٰابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ»(3) مع قوله تعالى: «وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ اُدْخُلُوا ...

ص: 200


1- . الحج: 77.
2- . ورد في حاشية نسخة «ب» ما يلي: [هكذا ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في «شرح اللمع في أُصول الفقه» له، وهو في النقل اثبت من غيره انظر: شرح اللمع: 1/537.] أقول: عنىٰ به ابا اسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي (المتوفّىٰ سنة 476 ه)، صاحب التبصرة في أُصول الفقه.
3- . الاعراف: 161.

قال: قالوا: «اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا» ، قلنا: الترتيب مستفاد من غيره، قالوا: «إِنَّ اَلصَّفٰا وَ اَلْمَرْوَةَ»(1) ، وقال صلى الله عليه و آله و سلم: «ابدؤوا بما بدأ اللّٰه به»(2)، قلنا: لو كان له لما احتيج إلى (ابدؤوا)، قال: ردّ صلى الله عليه و آله و سلم على قائل: (ومن عصاهما فقد غوى) وقال: «قل ومن عصا اللّٰه ورسوله»، قلنا: لِترْك افراد اسمه بالتعظيم، بدليل ان معصيتهما لا ترتيب فيها، قالوا: إذا قال لغير المدخول بها انت طالق وطالق وطالق، وقعت واحدة بخلاف: أنتِ طالق ثلاثاً، وأُجيب بالمنع، وهو الصحيح.

وقول مالك: والأظهر أنها مثل «ثم»، إنّما قاله في المدخول بها، نعني تقع الثلاث ولا ينوي في التأكيد. *

اَلْبٰابَ سُجَّداً»(3) والقصة واحدة.

الثاني: أنّها لو كانت للترتيب، لما صدق قولنا: (تقابل زيد وعمر)، فإنّ المقابلة إنّما تصدق عند وجود فعلين دفعة واحدة.

الثالث: أنّها لوكانت للترتيب، لكان قولنا: (جاء زيد وعمرو بعده) تكريراً، و (جاء زيد وعمرو قبله) تناقضاً.

والجواب: جاز أن تكون هذه قرائن دالّة على التجوز، والكلام في الحقيقة.

(*) أقول: هذه حجج القائلين بأنها للترتيب مع وجه ضعفها:

ص: 201


1- . البقرة: 158.
2- . مسند أحمد: 3/320، ونقله.
3- . الاعراف: 161.

....................

الأُولى: أنّها أفادت الترتيب في قوله: «اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا» ، بدليل أنّه لا يجوز تقديم السجود على الركوع فيفيد في غيره دفعاً للاشتراك والمجاز. والجواب: أنّ الآية إنّما دلت على ايجابهما جمعاً لا على الترتيب، والترتيب إنّما أُستفيد من خارج .

الثانية: أنّه لما نزل قوله تعالى: «إِنَّ اَلصَّفٰا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعٰائِرِ اَللّٰهِ» ، قالت الصحابة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم: بم نبدأ؟ قال: «ابدؤوا بما بدأ اللّٰه تعالى به»، وذلك يدل على أنّها للترتيب إذ لو لم تفده، لم يكن احدهما مبتدأ.

والجواب: أنّ هذه الحجة تنقلب عليكم لأنّها لو أفادت الترتيب، لما احتاجوا إلى السؤال عن البداية.

الثالثة: أنّ واحداً قام بين يدي رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: من أطاع اللّٰه ورسوله فقد اهتدى و من عصاهما فقد غوى؛ فقال له رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «بئس خطيب القوم انت، قل: ومن عصى اللّٰه ورسوله فقد غوى»(1)، ولولم يكن للترتيب، لم يكن فرق بين ما امره صلى الله عليه و آله و سلم به وما نهاه عنه.

والجواب: لا نسلم أنّ النهي إنّما حصل لحصول الترتيب، بدليل أنّ معصية اللّٰه تعالى ومعصية رسوله صلى الله عليه و آله و سلم لا ترتيب بينهما، بل كل منهما تستلزم الأُخرى، بل النهي إنّما كان لترك ذكر اسم اللّٰه تعالى بالتفصيل، ولا شك أنّ الإفراد بالذكر أنسب بالتعظيم.

الرابعة: قالوا: لو قال لغير المدخول بها أنت طالق وطالق وطالق، فإنها

ص: 202


1- . صحيح مسلم: 3/12؛ سنن أبي داود: 4/295 برقم 4981.

....................

تطلق واحدة لا غير، ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً؛ فإنّها تطلق ثلاثاً، ولو كانت الواو للجمع من غير ترتيب لما افترقت الصورتان.

والجواب: المنع من عدم وقوع الثلاث، وقد ذهب إليه جماعة، منهم: أحمد بن حنبل، وبعض أصحاب مالك، والليث بن سعد(1)، وفي بعض أقوال الشافعي.

وهو الصحيح عند المصنف.

ثمّ إنّه يُأوَّل ما نقل عن مالك من أنّ الواو بمنزلة ثمّ، وثمّ للترتيب فكذلك الواو، إنّما جعلها بمنزلة ثمّ في المدخول بها، بمعنى أنّها تقع بها الطلقات الثلاث ولا تقبل نيته في إرادة التأكيد كما لا تقبل في ثم [هذا على هذه الرواية أعني تشديد الواو وبناء الفعل للمفعول ويروى بتخفيف الواو وبناء الفعل للفاعل ومعناه على هذه الرواية أن تقع الثلاث في المدخول بها في حال عدم نية التأكيد فيكون قوله:

ولا ينوي في التأكيد، حالاً. وهذه الرواية أولى لوقوع الاتفاق على قبول نية التأكيد](2).

وأمّا من يمنع من وقوع الطلقات الثلاث مع أنّ الواو غير دالّة على الترتيب عنده، فوجه الجواب عنه أن نقول: قوله: أنت طالق ثلاثاً، كلام واحد لأنّ الثلاث وقعت تفسيراً للأوّل، والكلام إنّما يتم بآخره، بخلاف العطف، فإنَّ الطلاق الثاني ليس تفسيراً للأوّل، فيكون الأوّل قد وقع تامّاً وحصلت به البينونة، فلا يلحق به الطلاق الثاني.

ص: 203


1- . هو شيخ الديار المصرية وعالمها وهو اصبهاني الأصل ومصري السكن، كان الشافعي يراه أفقه من مالك ويتأسف على وفاته، توفي في 175 ه عن 81 سنة. انظر: تذكرة الحفاظ: 1/224 برقم 210.
2- . ما بين المعقوفتين في نسخة «ب» فقط.

قال: البحث الثالث(1):

في ابتداء الوضع: ليس بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية.

لنا: القطع بصحة وضع اللفظ للشيء ونقيضه وضده، وبوقوعه كالقرءِ والجون.

قالوا: لو تساوت، لم يختص؛ قلنا: يختص بإرادة الواضع المُختار. *

البحث الثالث: في ابتداء الوضع

اشارة

(*) أقول: إفادة اللفظ للمعنى امّا أن تكون لذات اللفظ أو لا لذاته، أمّا الأوّل فهو مذهب عبّاد بن سليمان(2)، وقد أطبق المحققون على إبطاله بأنّا نعلم قطعاً

ص: 204


1- . «ابتداء الوضع»، هو عنوان المبحث الثالث من المباحث الّتي عنونها المصنّف في مستهل بحثه لهذا الفصل ب «مبادئ اللغة»، وهو يشير بذلك إلى موضوعات لغوية: الأوّل: في حدّها، الثاني: في أقسامها، الثالث: في ابتداء وضعها، الرابع: في طرق معرفتها. ولا بأس هنا بإلقاء الضوء على خارطة البحث فيما مضى وفيما يأتي، قد اشرنا في هامش سابق بأن مختصر ابن الحاجب هو تلخيص لتلخيص كتاب «الإحكام» للآمدي وهوقد قسم مباحث الجزء الأوّل من كتابه إلى: المبادئ الكلامية، المبادئ اللغوية، المبادئ الفقهية والأحكام الشرعية؛ وابن الحاجب قد اتبع اثره في هذا التقسيم الثلاثي إلّاأنّه غيَّر العنوان الأوّل إلى: «مبادئ الأُصول» وادرج تحته بحوثاً منطقية تبعاً للغزالي في «المستصفى»، على ما يبدو.
2- . هو أبو سهل عبّاد بن سليمان الصيمري البصري المعتزلي المتوفّىٰ حدود سنة 250 ه، من أصحاب هشام الغوطي، صنف كتاب «إنكار ان يخلق الناس أفعالهم» و «إثبات الجزء الّذي لا يتجزأ». أنظر: سير اعلام النبلاء: 10/551.

....................

أنّه كما قد وضع لفظة الأَسود لهذه الهيئة المخصوصة، فقد كان يصحّ وضعها للهيئة المحسوسة من الأبيض؛ وكذلك قد كان يصحّ وضعها لعدم السواد ولا يكون بين الشيء وبين النقيضين علاقة طبيعية.

ودليل الصحة، الوقوع، فإنّهم قد اتفقوا(1) على أنّ لفظة القُرء وضعت للحيض والطهر وهما متناقضان، والجون وضع للسواد والبياض وهما الضدان.

واستدل عبّاد على مذهبه بأنّه لولا المناسبة الطبيعية بين اللفظ والمعنى الموضوع له، لكانت نسبة ذلك المعنى إلى ذلك اللفظ كنسبته إلى غيره، فتخصيص وضع اللفظ له دون ما عداه من المعاني وما عدا اللفظ من الالفاظ يكون ترجيحاً من غير مرجح(2).

والجواب: المخصص إرادة الواضع المختار الّذي يرجحّ بإرادته أحد الطرفين من غير مرجّح، هذا إن قلنا بالتوقيف، وإن قلنا بالاصطلاح فكذلك، أو يكون المخصص هو مسبوقية المعنى دون غيره حال حضور اللفظ المعيّن.

ص: 205


1- . قد مرت الإشارة إلى زيف دعوى الاجماع في هذا الشأن على ضوء ما أفاده الشارح قدس سره وذلك في هامش صفحة 141، فراجع.
2- . ذكر الرازي هذا الاستدلال عن عباد، في محصوله: 1/58.

قال: مسألة: قال الأشعري: علّمها اللّٰه بالوحي، أو بخلق الأصوات، أو بعلم ضروري.

البهشمية: وضعها البشر واحد أو جماعة؛ وحصل التعريف بالاشارة والقرائن كالأطفال.

الأُستاذ: القدر المحتاج إليه في التعريف توقيف وغيره محتمل.

وقال القاضي: الجميع ممكن. *

دلالة الألفاظ

(*) أقول: لما أبطل مذهب عبّاد، شرع في تفصيل أقوال الأُصوليين فيه، وتحقيقه أن نقول: إفادة اللفظ للمعنى إمّا أن تكون بالتوقيف أو بالوضع أو بهما أو نتوقف:

والأوّل: مذهب أبي الحسن الأشعري وأصحابه فإنهم قالوا: إنّ اللّٰه أوحى إلى بعض الأنبياء بالأسماء، أو خلق أصواتاً في بعض الأجسام، أو خلق علماً ضرورياً لبعض الناس بإفادة اللفظ لمعناه.

والثاني: مذهب أبي هاشم(1) واصحابه فإنّهم قالوا: إنّ دلالة هذه الألفاظ إنّما حصل بالوضع من واحد أو من جماعة وقع بينهم الاصطلاح عليها؛ ثمّ إنّ غيرهم عرفوا وضع اللفظ للمعنى بواسطة الإشارات والقرائن كما في حق

ص: 206


1- . هو عبدالسلام بن محمد بن عبدالوهاب الجبّائي، أبو هاشم (277-321 ه)، من كبارمتكلمي المعتزلة، له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سميّت «البهشمية»، له مصنفات منها: الشامل في الفقه، وتذكرة العالم، والعدّة في الأُصول.

قال: ثمّ الظاهر قول الأشعري.

قال: «وَ عَلَّمَ آدَمَ»(1) ؛ قالوا: ألهمه أو علمّه ما سبق.

قلنا: خلاف الظاهر.

قالوا: الحقائق، بدليل: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ» (2).

قلنا: «أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ» (2) يبين أن التعليم لها والضمير للمسميات. *

الأطفال.

والثالث: ينقسم إلى قسمين: الأوّل: أن يكون التوقيف سابقاً على الوضع وهو مذهب الاستاذ أبي إسحاق وغيره؛ والثاني: أن يكون الوضع هو السابق، وقد ذهب إليه جماعة من الأُصوليين.

والرابع: مذهب القاضي أبي بكر وجماعة من الأُصوليين.(3)

(*) أقول: هذا اشارة إلى استدلال الأشعري مع ما يرد عليه والجواب عنه، وتقريره: أنّ اللّٰه تعالى ذكر أنّ الأسماء توقيفية بقوله: «وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ» ، فوجب أن تكون الحروف والأفعال كذلك لأنّه لا قائل بالفرق؛ ولأنّ الإسم إنّما

ص: 207


1- . البقرة: 31.
2- . البقرة: 31.
3- . إن مذهب القاضي أبي بكر ومن لَفَّ لِفَّه - على ما في (الإحكام للآمدي: 1/57-59) - هو: أن كل واحد من هذه المذاهب ممكن بحيث لو فرض وقوعه لم يلزم عنه محال لذاته؛ وأمّاوقوع البعض دون البعض، فليس عليه دليل قاطع؛ و [أمّا] الظنون فمتعارضة يمتنع معها المصير إلى التعيين.

قال: واستُدِلَّ بقوله: «وَ اِخْتِلاٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ»(1) ، والمراد اللغات باتفاق.

قلنا: التوقيف والإقدار؛ في كونه آية، سواء. *

سمّي بذلك لكونه علامة على المسمّى، والأفعال والحروف كذلك فهي أسماء أيضاً.

اعترضوا عليه بأن قالوا: المقصود من التعليم يحتمل أنّه ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ وأعطاه ما لأجله قدر على الوضع.

سلّمنا أنّ المقصود ليس هو الإلهام فلم لا يجوز أن يقال: أنّه علمه إياها بمعنى أنّه عرَّفه ما اصطلح عليه غيره ممّن سبق.

والجواب: أن هذا خلاف الظاهر، فلا يصار إليه الاّ لدليل.

قالوا: المراد إنّما هو تعليم الحقائق لا الأسماء، بدليل قوله تعالى: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ» (2) ولو كان المراد الأسماء لقال ثم عرضها، والجواب: ليس المقصود هو الحقائق بل الأسماء بدليل قوله تعالى: «أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ» فإنّه يدلّ على أنّ التعليم إنّما كان للأسماء إذ القصد إنّما هو تعجيزهم، والضمير في قوله «ثُمَّ عَرَضَهُمْ» للمسميات، ولا منافاة في ذلك.

(*) أقول: هذا اشارة إلى دليل على أنّ اللغات توقيفية وهو مذهب المصنف إلّا أنّه استضعف هذا الدليل، ومن عادته أنّه إذا أستضعف دليلاً على ما يذهب إليه يصدره بقوله: واستُدلَّ!

ص: 208


1- . الروم: 22.
2- . البقرة: 31.

قال: البهشمِيَّة: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ»(1) ، دلّ على سبق اللغات وإلّا لزم الدور.

قلنا: إذا كان آدم عليه السلام هو الّذي علمها، اندفع الدور. وأمّا جواز أن يكون التوقيف بخلق أصوات أو بعلم ضروري، فخلاف المعتاد. *

وتقريره أن نقول: اللّٰه تعالى قال: «وَ مِنْ آيٰاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ» (2) وليس المراد منه الحقيقة لاتفاق الألسنة اللحمانية، فإذن المراد هو اللفظ الحاصل من الألسنة استعمالاً للسبب في المسبَّب وهو من أحسن وجوه المجاز، ويصير التقدير: ومن آياته توقيف(3) لغاتكم المختلفة أي تعليمها، وإذا كانت الالفاظ مستندة إلى اللّٰه تعالى بطل الاصطلاح.

ووجه ضعفه أن نقول: استعمال اللسان في التوقيف مجاز واستعماله في الإقدار على اللفظ مجاز آخر وليس أحدهما أولى من الاخر، وهما مستويان في كون كلّ واحد منهما آية فلا يجوز الحمل على أحدهما إلّالدليل.

ولقائل أن يقول: المجاز الأوّل أولىٰ، لوجهين:

الأوّل: إنّه استعمال لفظ السبب في المسبب.

الثاني: إنّ اختلاف القدرة كما وقع في النطق وقع في غيرها فتخصيصه بالذكر ليس بأولى من غيره.

(*) أقول: استدل أبوهاشم على أنّ اللغات إصطلاحية بقوله تعالى: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ» ، دلّ على مسبوقية الرسالة باللغات فلو

ص: 209


1- . إبراهيم: 4.
2- . الروم: 22.
3- . يقال: وقَّفَ فلاناً علىٰ الشيء، أي: اطلعه عليه.

قال: الأُستاذ: إن لم يكن المحتاج إليه توقيفياً، لزم الدورُ لتوقُّفِهِ على اصطلاح سابق.

قلنا: يعرف بالترديد والقرائن كالأطفال. *

كانت توقيفية لزم الدور.

والجواب: أن الدور مندفع على تقدير أن يكون اللّٰه تعالى علمّها آدم ثمّ إنّه عليه السلام عرّفها غيره [لأن الآية دلّت على مسبوقية البعثة إلى القوم، وآدم عليه السلام لم يكن له قوم ابتداءً](1).

وأعلم أنّ بعض الناس(2) أجاب عن هذا أيضاً بأنّ التوقيف لا ينحصر في ما يأتي به الرسول بل قد يكون بخلق اصوات في الجمادات أو بخلق علم ضروري فينا، وعلى هذا التقدير يندفع الدور؛ والمصنّف استبعد هذا بانّه خلاف العادة.

(*) أقول: استدل الأُستاذ على كون بعض اللغة توقيفياً بإن الإصطلاح على أنّ اللفظ الموضوع لمعنى ما من المعاني مسبوق بألفاظ دالّة على معرفة الاصطلاح فتلك الألفاظ إن أُستفيد دلالتها من الوضع لزم الدور و إن كان من التوقيف فهو المطلوب.

وأجاب المصنف بإنّ معرفة الاصطلاح تحصل من القرائن كما في حق الأطفال.

ص: 210


1- . في نسخة «ب» فقط.
2- . انظر: التقريب والارشاد للباقلاني: 1/320-326.

قال: البحث الرابع: طريق معرفتها بالتواتر فيما لا يقبل التشكيك كالأرض والسماء والحر والبرد؛ وبأخبار الآحاد في غيره. *

البحث الرابع: في معرفة طرق اللغات

(*) أقول: هذا آخر الأبحاث الاربعة، وهو البحث عن معرفة طرق اللغات، وهو ينقسم إلى ما يعلم بالضرورة وضعه للمعنى، وإلى ما لا يكون كذلك:

والأوّل: إنّما يحصل بالتواتر إذ سائر ما عداه من الضروريات غير حاصل هنا وذلك كالسماء، والأرض، والحر، والبرد، والماء، والنار، وغير ذلك من الألفاظ المتداولة بين الناس كافة.

والثاني: إنّما يحصل بالنقل الّذي لا يبلغ حد التواتر وهو الآحاد كالألفاظ الّتي ليست مشهورة عند الناس كافّة.

ص: 211

قال: الأحكام:

لا يحكم العقلُ بأَنَّ الفعلَ حسنٌ أو قبيحٌ في حكم اللّٰه تعالى، ويطلق لثلاثة أُمور اضافية: لموافقة الغرض ومخالفته، ولما أُمِرْنا بالثناء عليه والذم، ولما لا حرج فيه ومقابله؛ وفعل اللّٰه - تعالى - حسن بالاعتبارين الأخيرين.

وقالت المعتزلة والكرّامية والبراهمة: الأفعال حَسَنةٌ وقبيحة لذاتها.

فالقدماء: من غير صفة. وقوم بصفة، في القبيح.

والجبائية بوجوه و اعتبارات*

....................

* أقول: اختلف الناس في التحسين والتقبيح(1) ، فذهبت الأشعرية إلى أن الافعال لا توصف بحسن ولا قبح ،لذواتها، وأن العقل لا يقضي بحسن ولاقبح في أحكام الله تعالى، وإنّ اسم الحسن والقبح يطلق على ثلاثة أمور إضافية: أحدها: إطلاق الحسن على ما يوافق الغرض، والقبيح على ما يخالفه؛ وليس ذلك ذاتياً للفعل لتبدله بتبديل الاغراض .

وثانيها: إطلاق الحسن على ما أمرنا الشارع بالثناء على فاعله، والقبيح على ما أمرنا بالذم عليه.ة.

ص: 212


1- . إن لشيخنا الأستاذ السبحاني - دامت تأييداته _ دراسة مستوعبة ودقيقة في مقولة «الحسن والقبح يقل نظيرها، فقد عالج المقولة معالجة شاملة تعرض فيها لآراء المفكرين في المسألة قديماً وحديثاً، وفي نهاية المعترك خلص إلى نتيجة تقترب في مضمونه_ا م_ما خلص إليه العلامة الطباطبائي من قبل في أكثر موضع من بحوثه الفلسفية.

....................

وثالثها: إطلاق الحسن على ما لا حرج فيه، والقبيح على ما يقابله.

والحسن بالمعنى الثالث أعمّ منه بالمعنى الثاني لدخول المباح فيه وعدم دخوله في الثاني.

وأعلم أنّ الحسن بالإعتبار الأوّل غير صادق في حقّ اللّٰه تعالى عندهم(1) لأنّ أفعاله غير معللّة بالأغراض؛ ويصدق عليها بالإعتبارين الأخيرين؛ أمّا أفعالنا فإنّه يصدق عليها الحسن والقبح بالإعتبارات الثلاثة.

وقالت المعتزلة والكرّامية(2) والبراهمة(3) والخوارج(4) والثنوية(5)وغيرهم أنّ الأفعال حسنة وقبيحة لذاتها:

فمنها ما يدرك بالعقل إمّا بالضرورة كحسن رد الوديعة، وشكر المنعم، وقبح الظلم، وكفران النعمة؛ وامّا بالنظر والاستدلال كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع.

ص: 213


1- . أي: عند الأشاعرة.
2- . الكرّامية: هم أتباع أبي عبداللّٰه محمد بن كرّام المتوفّىٰ سنة 255 ه.
3- . البراهمة: قوم من أهل الهند، ينتسبون إلى رجل منهم يقال له «براهم» وقد مهّد لهم نفي النبوات أصلاً، وقرّر استحالة ذلك في العقول. وهم على أصناف، ومنهم (أصحاب التناسخ) الذين يقولون بتناسخ الأرواح. انظر: الملل والنحل: 2/250-255.
4- . الخوارج: وهم الذين فارقوا علياً عليه السلام في صفين بعد قبول التحكيم، وهم يكفرون علياً وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين ومن صوبهما أوصوب أحدهما أو رضي بالتحكيم، ويكفرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة، حقاً وواجباً؛ وقالوا بجواز الإمامة في غير قريش. انظر: معجم الفرق الإسلامية: 112.
5- . الثنوية: فرقة من القدرية (المعتزلة) وهي الّتي قالت: إن الخير من اللّٰه والشر من إبليس. انظر: معجم الفرق الإسلامية: 75.

قال: لنا: لو كان ذاتياً لما اختلف، وقد وجب الكَذِب، إذا كان فيه عصمة نبيٍّ من القتل والضرب وغيرهما.

وأيضاً: لو كان ذاتياً لاجتمع النقيضان في صِدِقِ من قال: «لأكذبن غداً» وكَذِبِهِ(1). *

ومنها ما يدرك بالسمع كحسن الصلاة، وقبح الزنا؛ وليس الشارع هو الموجب للتحسين والتقبيح بل كاشف وموضِّح.(2)

ثمّ اختلفوا، فذهب أوائل المعتزلة إلى أنّ الحسن والقبح غير مختصّين بصفة موجبة للحسن والقبح؛ وذهب آخرون إلى أنّ اختصاص بعض الأفعال بالحسن وبعضها بالقبح إنّما هو بصفات زائدة عليها؛ وقال قوم أنّها مختصة بصفة في القبيح دون الحسن؛ وذهب الجُبّائيان إلى أنّ سبب الاختصاص هي الوجوه والاعتبارات كما أنّ منها لطم اليتيم فإنّ اللطمة إن كانت باعتبار التأديب فهي حسنة، وإن كانت باعتبار الظلم فهي قبيحة.

* أقول: تقرير الوجه الأوّل أن نقول: لو كان الكذب قبيحاً لذاته لوجب وجود القبح كلما وجد الكذب، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ وبيان الشرطية: إنّ

ص: 214


1- . أصل هذه المقولة ينسب إلى سقراط وإفلاطون حيث يقال إن سقراط قال يوماً عن إفلاطون: كل ما يقوله إفلاطون فهو كَذِبٌ! وقد اجاب إفلاطون: سقراط صادق فيما يقول! وهذا هو الّذي اصطلح عليه في القاموس الفلسفي المعاصر، بالإشكالية.
2- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/61.

....................

العلل الذاتية يستحيل تخلف معلولاتها عنها وإلّا لما كانت علة لذاتها، فإن قلت:

إِنّ العلل الذاتية قد تتخلف عنها معلولاتها عند وجود الموانع؛ قلت: فالعلة الثانية إذن الماهية مع انتفاء المانع وليس الكلام فيه؛ وبيان بطلان التالي: أنّ الكذب قد يستحسن عند اشتماله على مصلحة كتخليص نبي أو ولي.

وأمّا الوجه الثاني(1)، فتقريره: إنّ الكذب لو كان قبيحاً لذاته والصدق حسناً لذاته، لكان قول القائل لأكذبنّ غداً، مشتملاً على القبح والحسن الذاتيين؛ لأنّه إن صدق قوله، لزم منه إيجاد القبيح والفعل المستلزم للقبيح يكون قبيحاً، فالصدق إذن قبيح؛ وإن لم يصدق قوله، لزم منه إيجاد القبيح أيضاً؛ فعلى التقديرين يلزم منه حصول القبح وذلك يلزم منه إجتماع الحسن والقبح فيه.(2)

وللمعتزلة أن يقولوا: أمّا الأوّل(3)، ففاسد لأنّ تخليص النبي قد يحصل من غير حصول الكذب وذلك بأن يأتي بصورة الإخبار من غير قصد إليه أو مع قصد إليه لكن مع التعريض؛ ولو قُدِّر أنّه لا يحصل إلّامع الكذب فلا نسلم أنّ الكذب حسن هاهنا، وكون التخليص حسناً لا يستلزم حسن الكذب المؤدي إليه.

وأمّا الثاني(4): فالجواب عنه: أنّ الأفعال القبيحة أو الحسنة قد تصحبها أفعال منافية لها، ولا يلزم من حسن تلك الأفعال أو قبحها حسن ما يصحبها أو قبحه؛ فهذا الخبر من حيث انّه اشتمل على القبيح يكون قبيحاً ومطلق الصدق

ص: 215


1- . وهو لزوم التناقض إذا ما قلنا إن الحسن والقبح ذاتيان.
2- . انظر: نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/129.
3- . أي: الوجه الأوّل وهو دوران القبح مدار الكذب.
4- . أي: الوجه الثاني وهو لزوم التناقض المشار إليه آنفاً.

قال: واسْتُدِلَّ: لو كان ذاتياً لزم قيام المعنى بالمعنى لأن حسن الفعل زائد على مفهومه؛ وإلّا، لزم من تعقلّ الفعل تعقلّه؛ ويلزم وجوده، لأنَّ نقيضه: «لا حسن» وهو سلب، وإلّا استلزم حصولُهُ محلّاً موجوداً، ولم يكن ذاتياً، وقد وصف الفعل به فيلزم قيامه به، واعتُرِضَ باجرائه في الممكن؛ وبأن الاستدلال بصورة النفي على الوجود دور، لأنّه قد يكون ثبوتياً أو منقسماً فلا يُفيدُ ذلك. *

حسن فيكون الصدق المشتمل عليه هذا الخبر حسناً أيضاً، ولا يلزم من قبح الكذب المصاحب له، قبحه؛ وبالجملة فلهم أن يقولوا: إنّا إنّما نحكم بالحسن والقبح في الافعال الخالية عن المعارض، أمّا مع وجود المعارض فلا.

(*) أقول: هذه حجّة بعض الأشاعرة على أنّ الحسن والقبح ليسا ذاتيين للفعل، مع بيان ضعفه، وتقريره أن نقول: لو كان الحسن ذاتياً للفعل لزم قيام العرض بالعرض، والتالي باطل فالمقدّم مثله، بيان الشرطية: أن حسن الفعل زائد على الفعل، لأنّه لو كان نفس الفعل لزم من تعقل الفعل تعقله، والتالي باطل - فإنّا قد نعقل أفعالاً كثيرة مع الجهل والغفلة عن حسنها وقبحها - فالمقدم مثله.

وإذا ثبت أنّ الحسن زائد على الفعل، فنقول: إنّه وجوديّ لأنّه نقيض لا حسن وهو أمر سلبي - لأنّه لو كان ثبوتياً لاستلزم محلّاً موجوداً و هو باطل، فإنّ كثيراً من المعدومات توصف بأنّها غير حسنة - وإذا كان أمراً سلبياً وجب أن يكون نقيضه ثبوتياً؛ وأيضاً لو كان الحسن سلبياً لم يكن ذاتياً أي غير مستند إلى ذات الفعل لأنّ العدمات ليست ثابتة وما ليس بثابت استحال إسناده إلى علّة [وذلك ينافي...

ص: 216

....................

مذهبهم](1)، وإذا ثبت أنّه موجود وهو وصف للفعل، لزم قيام العرض - وهو الحسن - بالعرض، وهو الفعل.

وأعلم أنّه قد يمكن حمل قوله: ولم يكن ذاتياً، على أنّه لم يكن جزءاً من الفعل وليس دليلاً آخر على أنّ الحسن ثبوتي إلّاأنّ هذا مرجوح إذ قد بيَّن فيما مضى أنّ الحسن زائد على الفعل وإذا كان زائداً، لم يكن ذاتياً.

وأمّا بيان بطلان التالي(2) فلأنّ معنى قيام الشيء بالشيء هو حصوله في الحيز تبعاً لحصول محله فيه، فالعرض الحال في العرض الحاصل في الحيز تبع لحصول جوهر فيه، فكان بالحقيقة قائماً بالجوهر لا بالعرض.

واعترض المصنف بأنّ الدليل الدالّ على وجود الحسن يمكن اجراؤه في «الإمكان»(3) فنقول: إنّه ثبوتي لأنّه نقيض «لا إمكان» العدمي ونقيض العدمي، ثبوتي فالإمكان ثبوتي ويلزم منه التسلسل أو وجوب الممكن.

وأيضاً الاستدلال بصورة السلب على الوجود دور لأنّا إنّما نعلم أنّ لا حسن عدمي إذا علمنا أنّه نقيض الحسن وأنّ الحسن أمر وجودي وأنّ نقيض الوجودي سلبي، فلو أخذنا نستدل على أنّ الحسن وجودي لأنّ نقيضه عدمي، لزم

ص: 217


1- . فقط في نسخة «ب».
2- . يريد الشارح قدس سره تفنيد إبطال التالي وحاصله: إن قيام العرض بالعرض غير ممتنع إذا انتهى القيام إلى الجوهر، فالحسن في المقام قائم بالفعل وهو قائم بالجوهر.
3- . فيقتضي أن يقوم العرض بالعرض أيضاً.

قال: واسْتُّدِلَّ: فعل العبد غير مختار، فلا يكون حسناً ولا قبيحاً لذاته، اجماعاً لأنّه إن كان لازماً، فواضح، وإن كان جائزاً، فإن افتقر إلى مرجّح، عاد التقسيم، وإلّا فهو اتفاقي، وهو ضعيف، فإنّا نفرّق بين الضرورية والاختيارية؛ ضرورةً ويلزم عليه فعل الباري، وأن لا يوصف بحسن ولا قبح شرعاً؛ والتحقيق إنّه يترجح بالاختيار. *

الدور،(1) وهذا لأنّه قد يمكن أن يكون «لا حسن» ثبوتي أو منقسم إلى ثبوتي وعدمي وعلى هذا التقدير فلا فائدة في الاستدلال بصورة السلب.

(*) أقول: هذا استدلال ثان(2) على أنّ الحسن والقبح ليسا ذاتيين، وتقريره:

أنّ أفعال العباد غير إختيارية فلا تكون حسنة ولا قبيحة، والكبرى متفق عليها، وبيان الصغرى: أنّ فعل العبد إمّا أن يكون واجباً أو جائزاً، فإن كان واجباً لزم الجبر فلا يكون مختاراً، وهو المطلوب، وإن كان جائزاً فإمّا أن يفتقر إلى مرجّح في ترجيح أحد طرفيه على الآخر أو لا يفتقر، فإن كان الأوّل، فمع ذلك المرجح إمّا أن يكون الفعل واجباً أو جائزاً؛ ويعود التقسيم إلى أن ينتهي إلى الوجوب وهو قول بالجبر؛ وإن لم يفتقر، كان صدور الفعل ممكناً دائماً مع أنّه يقع في وقت دون وقت لا لمرجح فيكون وقوعه في ذلك الوقت على سبيل الاتفاق لا على سبيل

ص: 218


1- . إنّما يستلزم الدور على بعض الصور لأنّه قد يكون السلب ثبوتياً - كما قيل - مثل اللامعدوم أو منقسماً إلى الوجودي والعدمي كاللاممكن حيث إنّه ينقسم إلى الواجب الوجودي والممتنع العدمي، وحينئذ الثبوتي يتوقف على نفسه؛ وعلى أية حال، القضية الكلية تنتقض في هذا المورد فلا تصلح دليلاً لنقض دعوى الخصم القائل بذاتية الحسن والقبح للافعال.
2- . الاستدلال الأوّل كان لزوم قيام العرض بالعرض.

....................

الوجوب، والفعل الاتفاقي لا يصدر عن الاختيار.

والجواب: أن هذا استدلال على ما يعلم بطلانه بالضرورة، وذلك لأنّا نعلم قطعاً الفرق من الأفعال الضرورية والاختيارية، فإنّ حركة الحجر إلى اسفل ليست متساوية لحركة الحيوان عند اندفاعه الارادي إلى جهة من الجهات، ومستند هذا الفرق، الضرورة.

ولإنْ سلمنا سلامته عن هذا لكنّه ينتقض بالباري تعالى فإن هذا التقسيم وارد فيه، وذلك لأنّ صدور الفعل عنه أمّا أن يكون واجباً أو جائزاً، ويعود التقسيم، مع أنّه باطل وإلّا لزم القِدَم.

ولإنْ(1) سلَّمنا ذلك لكنّه كما أنّ هذا الدليل منع من وصف الفعل بالحسن والقبح لذاته، فإنّه يمنع من وصفه بالحسن والقبح الشرعي، مع أنّه باطل بالإجماع.

ثمّ إنّ المصنف بعد أن ذكر هذه المناقضات، ذكر التحقيق في الجواب عن هذه الشبهة وهو أنّ فعل العبد يترجّح على تركه بالاختيار، فإن قلت: التقسيم وارد لأنّ مع الاختيار إن وجب الفعل لزم الجبر والاّ لزم الاتفاق.

قلت: عنه جوابان:

أحدهما: وهو الحق، أنّ الفعل مع الاختيار يكون واجباً ولا يلزم من وجوبه الجبر إذ هو وجوب لاحق حصل بعد فرض وجود العلة التامّة الّتي هي القدرة والداعي، ولا يلزم من حصول هذا الوجوب حصول الوجوب السابق

ص: 219


1- . أي: لو سلمنا أن دليل الجبر تام لتزييف القول بذاتية الحسن والقبح، لكنه يستلزم تزييف القول بشرعية الحسن والقبح أيضاً فالإشكال عام.

قال: وعلى الجُبَّائيَّة: لو حَسُن الفعلُ أو قَبُحَ لغير الطلب، لم يكن تعلق الطلب لنفسه، لتوقفه على أمر زائد.

وأيضاً لو حَسُن الفعلُ أو قَبحُ لذاته أو لصفته، لم يكن الباري مختاراً في الحكم، لأنّ الحكم بالمرجوح على خلاف المعقول، فيلزم الآخر، فلا اختيار. *

والموجب للجبر إنّما هو الوجوب بالمعنى الثاني لا الأوّل.

الثاني: أن المختار يرجح أحد طرفي مقدوره لا لمرجح؛ وتحقيق هذا قد ذكرناه في كتاب «المناهج»(1) في علم الكلام إذ هو الموضع المختص به.(2)

(*) أقول: هذان وجهان ردّ بهما المصنّف قول أبي علي(3)، وابنه أبي هاشم من كون الفعل حسنا أو قبيحاً لجهات واعتبارات(4):...

ص: 220


1- . لاحظ: مناهج اليقين: 371، الجواب الأوّل في الرد على الأشعري.
2- . يبحث هذا الموضوع في علم الأُصول المعاصر بعنوان: «الطلب والارادة»، وقد افردت رسائل لبحثه، إلّاأن الحق الحقيق هو ما اشار إليه الشارح المفضال قدس سره بأنّه من اختصاصات علم الكلام، الأمر الّذي دفع ببعض الأُصوليين إلى اقصائه من البحث الأُصولي، كما صنع العلّامة المظفر قدس سره، ودفع ببعض آخر إلى تقليصه كما صنع المحقّق العراقي حيث لخصه في نصف صفحة؛ ونعم ما صنعوا! ولا بأس بالتنبيه على أن مصطلح «الطلب والارادة» قد ورد في مبحث: «هل المندوب مأمور به؟»، الآتي في هذا الكتاب.
3- . أبو علي الجبّائي وهو محمد بن عبدالوهاب بن سلام (235-303 ه) من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره، وإليه نسبت الطائفة الجبّائية، نسبته إلى (جَبا) من قرىٰ البصرة، له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب، وله تفسير مطوّل. انظر: الاعلام: 6/256.
4- . انظر: نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/127 و 133.

....................

الأوّل: أن الفعل لو كان حسناً أو قبيحاً لغير الأمر والنهي الّذي هو عبارة عن الطلب، لم يكن تعلق الطلب لنفس الفعل، والتالي باطل فالمقدّم مثله؛ بيان الشرطية: أنّ الفعل إذا كان حسنه مستنداً إلى وجه واعتبار، كان متوقفاً في حسنه على ذلك الوجه والاعتبار الزائد على ذات الفعل؛ والبارئ إنّما يأمر بالفعل لأجل الحسن فيكون الطلب متوقفاً على ذلك الوجه الّذي باعتباره يكون الفعل حسناً؛ وبيان بطلان التالي: أنّه خلاف المفروض، فإنّا نفرض الكلام في فعل تعلق الطلب به [ولأن تعلق الطلب بالمطلوب، تعلق عقلي لا يتوقف على شيءٍ زائدٍ على المطلوب](1).

الثاني: أن الافعال لو كانت حسنة أو قبيحة لذاتها أو لصفات، لم يكن البارئ تعالى مختاراً في الحكم؛ والتالي باطل فالمقدّم مثله؛ بيان الشرطية: أنّ الفعل الحسن راجح على القبيح، فلو حكم اللّٰه تعالى علينا بالقبيح لكان يأمرنا بفعل المرجوح وهو ضد الحكمة وخلاف المعقول، فيتعين الأمر بالآخر وهو الحسن؛ وإذا كان تعلق الأمر بطرف الحسن واجباً وتعلقه بطرف القبيح ممتنعاً، لزم نفي الإختيار.

وهذان الوجهان ضعيفان: أمّا الأوّل: فلأنّ قولكم: لو كان الحسن لغير الطلب، لما تعلق الطلب بنفس الفعل؛ ان عنيتم بأنّه لا يكون أمراً بالفعل من حيث هوهو، فهو مسلّم؛ ولِمَ قلتم أنّه محال؟! وقولكم: أنّه على خلاف الفرض، ممنوع [والتعلق العقلي لا يتوقف على شرط](2)؛ وإن عنيتم به أنّه لا يكون أمراً بالفعل من حيث هو فعل مشتمل على ذلك النوع من المصلحة، فهو ممنوع.

وأمّا الثاني: فلأنّ حسن الفعل وقبحه لا يؤثِّران في الاختيار؛ وكون

ص: 221


1- . في نسخة «ب» فقط.
2- . في نسخة «ب» فقط.

قال: ومن السمع: «وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً»(1) ، لاستلزام مذهبه خلافه. *

الحسن واجب للاختيار نظراً إلى الحكمة، لا يلزم منه أن يكون واجباً مطلقاً.

والوجه الثاني إنّما يرد على قدماء المعتزلة لا على أبي علي وأبي هاشم القائلين بالوجوه.

(*) أقول: هذا استدلال على نفي الحسن والقبح العقلي من حيث السمع، ووجهه: أنّ اللّٰه تعالى نفى التعذيب إلّاببعثة الرسل فلو كان الفعل حسناً أو قبيحاً بالفعل، للزم وقوع التعذيب وإن لم توجد الرسل - لأنّ مذهبهم(2) أنّ الحسن هو الّذي يستحق فاعله المدح والثواب والقبيح هو الّذي يستحق فاعله الذم والعقاب - وذلك يستلزم خلاف الآية.

والمعتزلة اعتذروا عن هذا بوجهين:

الأوّل: يجوز أنْ يكون المقصود من الرسول هو العقل.

الثاني: يجوز أنْ يكون المقصود: «وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ» بالأوامر الشرعية (حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً» ، توفيقاً بين الأدلّة.

ص: 222


1- . الاسراء: 15.
2- . أي: الأشاعرة، لأنهم القائلون بالحسن والقبح الفاعليين.

قال: قالوا: حسن الصدق النافع والإيمان، وقُبح الكذب الضار والكفران، معلومٌ بالضرورة من غير نَظرٍ إلى عرفٍ أو شرعٍ أو غيرهما.

والجواب المنع بل بما ذُكر.

قالوا: إذا استويا في المقصود مع قطع النظر عن كل مقدار، آثر العقل الصدق.

وأُجيب: بأنّه تقدير مستحيل، فلذلك يُستبعد منع إيثار الصدق، ولو سُلّم، فلا يلزم في الغائب، للقطع بأنّه لا يقبُحُ من اللّٰه تمكين العبد من المعاصي ويقبح منّا. *

(*) أقول: هذان دليلان للمعتزلة على أنّ الحسن والقبح عقليان(1):

الأوّل: أنّ العاقل يحكم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار من غير نظر ولا شرع، فإنّ البراهمة المنكرين للشرائع، يُعرفون بهما.

وأجاب المصنف بالمنع بل إنّما يحكم بالحسن والقبح بما ذكر من العرف أو الشرع؛ والمعتزلة قالوا لو فرضنا انفسنا خالية عن موجبات الشرع و عن الأُمور العادية، لقضينا بالحسن في رد الوديعة والقبح في الظلم وغير ذلك.

الثاني: أنّ الإنسان لو خير بين الصدق والكذب مع تساويهما في جميع المصالح المطلوبة، لاختار الصدق، وهذا ضروري، وإنّما يختار الصدق لأنّه

ص: 223


1- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/64.

....................

حسن في العقل.

وأجاب المصنف بأنّ: هذا الفرض مستحيل الوقوع؛ فلذلك استبعد منع اختيار الصدق، وهذا لأنّ المحال جاز أن يستلزم المحال.

وأيضاً لو سلّم هذا في حقنا لم يلزم مثله في حقّ اللّٰه تعالى، فإنّا نقطع بأنّه لا يقبح من اللّٰه تعالى تمكين الظالم من الظلم ويقبح منّا ذلك، وإذا جاز أن يكون في افعال اللّٰه تعالى ما هو حسن ويكون قبيحاً لو فعلناه، لم يطَّرد القياس.

وأعلم أنّ [المنع من](1) إمكان وجود هذا الفرض يجري مجرى المكابرة، فإنّا نفرضه في شخص خيّره السلطان في الصدق والكذب مع تحصيل المصلحة معهما.

وأمّا الفرق بين فعلنا وفعله تعالى في تمكين الظالم وكون أحدهما حسناً والآخر قبيحاً، فممنوع، وعلى تقدير تسليمه نقول: إنّما حسن من اللّٰه تعالى ذلك لأنّه مكلِّف، فلو منعه من الظلم ففيه يبطل التكليف؛ بخلاف العبد.(2)

ص: 224


1- . في نسخة «ب» فقط.
2- . إن البحث في «الحسن والقبح»، في غاية الأهمية إلّاأن محله هو علم الكلام؛ ولهذا السبب تجد أن علم الأُصول المعاصر قد رحَّل هذه المقولة إلى مواضعها، وعند الحاجة يعاملها بوصفها من «الأُصول الموضوعة»، أي الّتي تبحث في محلها وتتم البرهنة عليها هناك.

قال: قالوا: لو كان شرعيَّاً، لزم إفحامُ الأنبياء، فيقول: لا أنظر في معجزتك حتّى يجب النظر، وبالعكس، أو لا يجب حتّى يثبت الشرع ويُعكس.

والجواب: أن الوجوب عندهم نظريٌ فنقوله بعينه، على أن النظر لا يتوقف على وجوبه، ولو سُلّم فالوجوب بالشرع، نظر أو لم ينظر، ثبت أو لم يثبت. *

* أقول: هذا استدلال آخر(1) على أنّ الوجوب لا يثبت بالشرع، وتقريره:

أنّه لو لم يثبت الوجوب إلّابالشرع لزم إفحام الأنبياء، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: أنّ النبي عليه السلام إذا أتى إلى الإنسان وقال: اتبعني؛ فيقول له: لا اتبعك حتى انظر في معجزتك، ولا أنظر في معجزتك حتى أعرف وجوب النظر، ولا أعرف وجوب النظر إلّابقولك؛ فينقطع النبي.

أو يقول: لا يجب عليّ النظر حتى يثبت الشرع، ولا يثبت الشرع حتى أنظر؛ فيلزم الإفحام.

وبيان التالي ظاهرٌ.

ص: 225


1- . هذا استدلال آخر للقائلين بأن الوجوب ثبت بالعقل، وحاصل الاستدلال هو: لو لم يثبت الوجوب إلّابالشرع، لزم افحام الأنبياء وذلك بالبيان الّذي ورد في المتن والشرح. ثم أن الشارح تبعاً للماتن أجاب عنه - كما سيوافيك - والأَولىٰ بأن يجاب أن الحسن ليس من مقولة العرض بل هو ادراك عقلي ينتقل إليه الإنسان من موافقة الفعل مع الفطرة الإنسانية العليا؛ والتفصيل يطلب من كتاب «التحسين والتقبيح العقلييان» لشيخنا الاستاذ المحقّق السبحاني» - دامت تأييداته -.

....................

وأجاب المصنف عن هذه المعارضة وَحَلَّ [الإشكال](1)، أمّا المعارضة فهي أن نقول: عندكم وجوب النظر وإن كان بالعقل، لكنه ليس بضروري بل هو نظريٌ فللمدعوّ أن يقول: لا أنظر حتّى أعرف وجوب النظر، ولا أعرف وجوب النظر إلّاإذا نظرت، فيلزم الإفحام.

وأمّا الحل: فنقول: لا نسلم أنّ النظر يتوقف على وجوبه، فإنّه قد يحصل النظر لمن لم يعرف وجوبه؛ ولو سلم توقفه عليه، لكن لا نسلم أنّه يتوقف على معرفة وجوبه بل يتوقف على وجوبه في نفس الأمر وهو مستفاد من الشرع سواء نظر أو لم ينظر، ثبت أو لم يثبت؛ وذلك بأن يقول متى ظهرت المعجزة وكان صدق النبيّ ممكناً وكان المدعوّ عاقلاً متمكناً من النظر، فقد استقر الشرع وثبت، والمدعوّ مفرط في حق نفسه.

وللمعتزلة أن يقولوا:

أمّا المعارضة فالجواب عنها أنّ النظر وإن كان واجباً بالنظر لكن للأُمور النظرية:

منها ما هي واضحة جلية للكل وهي الّتي تسمى فطرية القياس.

ومنها ماهي خفيّة تحتاج إلى بحث وكسب.

ووجوب النظر من قبيل القسم الأوّل فإنّ النظر يحصل به دفع الضرر وما يحصل به دفع الضرر فهو واجب، وهاتان المقدمتان قطعيتان وانسباق الذهن منهما إلى النتيجة انسباق طبيعي فهو واضح جلي للكل فهو يجري مجرى

ص: 226


1- . ما بين المعقوفتين اضيف للإيضاح.

قال: قالوا: لو كان ذلك، لجازت من الكاذب، ولامتنع الحكم بقبح نسبة الكذب على اللّٰه قبل السمع، والتثليث وانواع الكفر من العالم.

واجيب بان الأوّل إن امتنع فَلِمَدْرَكٍ آخر، والثاني يلزم إن أُريد التحريم الشرعي. *

الضروريات؛ ولهذا عدّ الأوائل(1) ما كان من هذا القبيل من النظريات، في المبادئ.

وأمّا الحل، فقولكم: إنّ النظر لا يتوقف على وجوبه؛ فنقول: لم ندَّع أنّ وجود النظر من الإنسان يتوقف على وجوبه، بل للمكلَّف أن يمتنع من النظر إلّابعد معرفة الوجوب.

وأمّا قولكم: الشرع يثبت بظهور المعجزة سواء حصل النظر أم لا، فضعيف؛ لأن إمكان صدق النبي لا يُوجب ايجاب اتباعه بل إنّما يجب على المكلف اتِّباع من علم صدقه، ويعود المحذور لأنّ الإنسان ما لم يعرف وجوب النظر عليه لا يجب عليه وإن كان الشرع قد ثبَّت [التكّليف](2)، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.

(*) أقول: هذا دليل للمعتزلة على أنّ الحسن مستفاد من العقل، وذلك لأنّه لو لم يكن القبح والحسن ذاتيين لجاز اظهار المعجزة على يد الكاذب لانتفاء قبحه، ولجاز الكذب على اللّٰه تعالى قبل ورود الشرع بصدقه، ولجاز للعالم أن يصدر...

ص: 227


1- . أي: الفلاسفة الأوائل الذين مرّت الإشارة إليهم.
2- . ادرجنا ما بين المعقوفتين لتكميل العبارة، وما في النسخة في موضعه لم يقرأ. علماً بأن ما بعد: «لأن الإنسان»، إلى نهاية العبارة لا يوجد في نسخة «ب».

قال: مسألتان على التنزّل:

الأُولى: شُكر المنعم ليس بواجبٍ عقلاً، لأنّه لو وجب، لوجب لفائدةٍ؛ وإلّا لكان عبثاً وهو قبيح؛ ولا فائدة للّٰه تعالى لتعاليه عنها؛ ولا للعبد في الدنيا، لأنّه مشقةٌ ولا حظّ للنفس فيه، ولا في الآخرة؛ إذ لا مجال للعقل في ذلك. *

عنه انواع الكفر من التثليث وغيره(1)؛ والتوالي باطلة فالمقدم باطل، والشرطية ظاهرة.

وبيان بطلان التوالي أنّه لا ينفي إمكان الفرق بين النبي الصادق والكاذب على تقدير المُلازمة الأُولى، ولارتفع الوثوق بالوعد والوعيد على تقدير الملازمة الثانية، ولزم خرق الاجماع على تقدير الملازمة الثالثة.

وأجاب المصنّف: عن الأوّل بأنّ الحكم بالامتناع ليس لأن إظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح لذاته، بل الحكم بالامتناع قد يكون لمدرك آخر سوى العلم بالقبح، وذلك لأنّا نعلم الصدق عند اظهار المعجزة على سبيل العادة وإن جوّزنا ظهورها على يد الكاذب و هذا هو الجواب(2) عن الملازمة الثانية، وعن الثالثة أنّا نلتزم بعدم التحريم إن أُريد به التحريم الشرعي.

مسألتان فرعيتان

اشارة

(*) أقول: هاتان المسألتان يبحث عنهما الأشاعرة على تقدير تسليم

ص: 228


1- . قبل بيان الشرع.
2- . لا توجد في نسخة «ب».

....................

أصل المعتزلة وهو الحسن والقبح العقليان، ولهذا قال المصنف على سبيل التنزّل أي: على تقدير تسليم الأصل المذكور فانّه لولا الأصل لسقط البحث عنهما.

الأُولى: مسألة شكر المنعم

المسألة الأُولى: في أنّ المنعم، لا يجب شكره عقلاً. قالوا(1): والدليل عليه أنّه لو وجب لوجب إمّا لفائدة أو لا لفائدة، والتالي بقسميه باطل فالمقدّم مثله، والملازمة ظاهرة.

وبيان بطلان القسم الثاني: أنّه يكون الوجوب عبثاً.

وبيان بطلان الأوّل: أنّ الفائدة الحاصلة من الوجوب إمّا أن تكون راجعة إلى اللّٰه تعالى، وهو باطل لاستغنائه عن الفوائد؛ وإمّا أن تكون راجعة إلى العبد وهو باطل لأنّ تلك الفائدة امّا عاجلية أو آجلية، والأوّل باطل لأنّ الشكر في الدنيا تعجيل للمشقة لا للفائدة ولاحظ للنفس فيه؛ والتالي باطل لأنّ الثواب الأُخروي لا مجال للعقل فيه.

وللمعتزلة أن يقولوا: لم لا يجب الشكر لا لفائدة؟!

قوله: لأنّه يكون عبثاً، قلنا: لا نسلم، فإنّه يجوز أن يكون واجباً لكونه شكراً، والافعال المستندة إلى غيرها لذواتها لا يلزم أن تكون عبثاً إذ لا يستتبع غيرها من الفوائد؛ سلمنا(2)، لكن لم لا يجوز أن تكون الفائدة هي تحصيل الثواب في الآخرة؟!

ص: 229


1- . أي: الأشاعرة المنكرون للحسن والقبح العقليين.
2- . أي: سلمنا أن وجوب الشكر لفائدة.

قال: قولهم: الفائدة الأَمن من احتمال العقاب في الترك، وذلك لازم الخطُور، مردود بمنع الخطور في الأكثر، وإن سُلم فمعارض باحتمال العقاب على الشكر؛ لأنّه تصرف في ملك غيره، أو لأنّه كالإستهزاء، كمنْ شكر ملكاً على لقمة، بل اللقمة بالنسبة إلى الملك أكبر. *

قوله: لا مجال للعقل فيه، قلنا: لا نسلم. وأعلم أنّ هذا المنع إنّما يظهر عندما يتبيّن أنّ الثواب أو العقاب هل هو عقلي أو سمعي والبحث فيه ذكرناه في كتاب «المناهج».(1)

(*) أقول: هذا جواب المعتزلة عما أورده عليهم، وهو أنّهم قالوا: لم لا يجوز أن تكون الفائدة الأمن من احتمال العقاب بتقدير عدم الشكر إذ هو محتمل، والعاقل لا يخلو عن إخطار هذا المعنى بباله، ولا شكّ أنّ دفع الخوف عن النفس من أعظم الفوائد العاجليَّة.

ورده المصنف بأنّ:

منع الخطور أوّلاً، والخوف إنّما يحصل على تقدير الخطور.

ص: 230


1- . انظر: «مناهج اليقين في أُصول الدين»: 506، وقد ورد فيه: اتفق أهل العدل على استحقاق العاصي العقاب بمعصيته، وخالفهم في ذلك الأشاعرة. ثم اختلف العدلية: فقالت المعتزلة والزيدية والقائلون بالوعيد: إن العلم به عقلي، وقالت المرجئة ومن وافقها من الإمامية: إن العلم به سمعي.

قال: الثانية: لا حكم فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح.

وثالثها: لهم الوقف على الحظر و الإباحة. و أما غيرها فانقسم عندهم إلى الخمسة، لأنها لو كانت محظورة و فرضنا ضدين، لكلف بالمحال. *

وثانياً: بالمعارضة بالمثل وذلك لأنّ الخوف من العقاب وإن كان حاصلاً على تقدير ترك الشكر لكنّه حاصل على تقدير فعله لأنّه تصرف في ملك الغير بغير اذنه وهو قبيح عندهم، أو لأنّ الشكر على هذه النعم يجري مجرى الاستهزاء بالمنعم وذلك لأنّ نعم اللّٰه تعالى علينا بالنسبة إلى ملكه أقلّ من نعمة الملك على بعض خدمه بلقمة بالنسبة إلى ملكه، فلو أخذ ذلك العبد بشكر مولاه في المحافل على ما أنعم عليه من اللقمة لعدّه العقلاء مستهزئاً.

وهذا الكلام لا يخلو من ضعف ظاهر.

الثانية: حكم الأشياء قبل الشرع

(*) أقول: هذه المسألة الثانية المتفرعة على الحسن والقبح العقليين وهي أن الاشياء قبل ورود الشرع فيها، هل فيها حكم أم لا؟ فذهب الأشاعرة إلى نفيه، والمعتزلة قالوا: المنتفع به إمّا أن يكون إضطرارياً كالتنفس في الهواء أو إختيارياً كأكل الفاكهة:

والأوّل: لابدّ من القول بإباحته والاّ لزم تكليف مالا يطاق.

والثاني: على ثلاثة أقسام:...

ص: 231

....................

أحدها: أن يكون ذلك الفعل المنتفع به حسنا، فإن استوى فعله وتركه فمباح، وإن ترجح تركه فمكروه، وإن ترجّح الفعل ترجيحاً يستتبع الذم بتركه، فهو الوَاجب وإلّا فهو المندوب.

والثاني: أن يكون قبيحاً وهوالحرام.

وثالثها: أن لا يكون للعقل فيه قضاء بحسن ولا قبح، فقد اختلفوا: فذهب معتزلة البصرة وطائفة من فقهاء الشافعية والحنفية إلى أنّها على الإباحة؛ وذهب معتزلة بغداد وبعض الشافعية إلى أنّها على الحظر؛ وأبوالحسن الأشعري وغيره قالوا: أنّها على الوقف، وفسّروه إمّا بعدم الحكم وهو قول الأشعري، وإمّا بوجوده وعدم العلم بتعيينه وهو قول بعضهم.

واستدل المصنف على نفي الحكم بأنّها(1) لو كانت محظورة وفرضنا ضدين كالحركة والسكون، لزم التكليف بالمحال.

وأعلم أنّ الضدين هاهنا يجب أن يُحملا على معنى أخص ممّا نفهم منهما وهو أن يقال فيه:

فرضنا ضدين يستحيل خلو المحل عنهما، لأنّا لو جوزّنا خلوّ المحل عنهما، لم يلزم التكليف بالمحال [وإذا حمل على هذا، لم تكن صورة النزاع، إذ الكلام مفروض فيما لا يكون إضطرارياً](2) وإذا انتفي الحظر والإباحة بمعنى الحكم الشرعي بالإذن، فلا حكم أصلّاً.

ص: 232


1- . مرجع الضمير «الاشياء» المتقدم ذكرها.
2- . في نسخة «الف» فقط.

قال: الاستاذ: إذا ملك جواد بحراً لا ينزف، وأحبّ مملوكه قطرة، فكيف يدرك تحريمها عقلاً؟ *

قال: قالوا: تصرف في ملك الغير.

قُلنا: ينبني على السمع، ولو سُلِّم ففي مَنْ يلحقه ضررٌ ما، ولو نسلِّم، فمُعَارضٌ بالضرر الناجز. **

(*) أقول: هذا دليل أبي اسحاق على نفي التحريم وهو أنّ الجواد إذا كان مالكاً بحراً لا ينزف بطلب مملوكه قطرة، فإنّه يقبح(1) القول بأنّه ممنوع منها مع أنّه لا ضرر على ذلك الجواد؛ فكذلك اللّٰه تعالى الجواد لذاته المالك للأشياء، وإذا طلب عبد من عبيده تناول غذاء خلقه كيف أنّه محرم عليه؟! وهذا إقناعي(2).

(**) أقول: هذا دليل القائلين بالحظر وهو أنّ تناول الغذاء، تصرف في ملك الغير بغير اذنه فيكون قبيحاً؛ والمصنف أجاب عن هذا بأنّ القبح منفي إذ هو مبني على السمع ولا سمع، ولو سلم أنّ القبح حاصل من دون السمع لكن لا نسلم أنّ التصرف في ملك الغير مطلقاً قبيح بل التصرف في ملك من يلحقه الضرر، وأمّا من لا يلحقه الضرر فلا يحكم فيه بالقبح؛ ولهذا يحسن منا الإستظلال بحائط الغير، والنظر في مرآته لحصول النفع الخالي من الضرر وإن كان تصرّفاً في ملك الغير؛ ولو سلم ذلك كله لكنّا نعارضه بحصول الضرر بترك اللذة العاجلة.

ص: 233


1- . في نسخة «ب»: يصح.
2- . أي: جدلي ولم يكن برهانياً.

قال: وان أراد المبيح أن لا حرج، فمسلّمٌ، وإن أراد خِطاب الشارع، فلا شَرْعَ، وإن أراد حكم العقل بالتخيير، فالفرض أنّه لا مجال للعقل فيه.

قالوا: خَلَقهُ وخَلَقَ المنتفع به، فالحكمة تقتضي الإباحة. قلنا:

معارضٌ بأنّه ملِكُ غيره، وخَلَقه ليَصْبِرَ فَيُثابُ.

وإن أراد الواقف أنّه وَقَفَ لِتعارُض الأدلةِ، ففاسدٌ. *

(*) أقول: القائلون بالإباحة من الأشاعرة افترقوا إلى فِرقتين:

أحدهما: القائلون بأنّها ما لاحرج فيها أي لا يستتبع ذماً و لاعقاباً.

والثانية: القائلون بأنّها ما أُذن في فعلها وتركها إذناً على السواء.

وأمّا المعتزلة فإنهم قالوا: الإباحة هي ما حكم العقل فيها [ب] التخيير(1) بين الفعل والترك؛ فالمصنف قال: إن أردتم بالإباحة التفسير الأوّل فهو مسلّم إذ الذم والعقاب إنّما يحصل بالشرع ولا شرع؛ وإن أردتم بها التفسير الثاني فلا إباحة إذ الكلام فيما قبل الشرع؛ وإن أردتم التفسير الثالث، فلا حكم عقلي إذ الكلام فيما لا حكم للعقل فيه.

ثمّ إن القائلين بالإباحة بالمعنى الأخير(2)، قالوا: إنّ اللّٰه تعالى خلق المنافع مع إمكان أن لا يخلقها، وخلق المنتفِع بها؛ فلابدّ من غرض وإلّا كان عابثاً؛ وذلك الغرض يستحيل عوده إليه تعالى لاستغنائه عن المنافع، ويستحيل ان يكون الغرض هو الاضرار لانّه غير مطلوب للحكيم؛ فإذن الغرض هو النفع وذلك يدلّ على الإباحة وإلّا لزم نقض الغرض.

ص: 234


1- . زيدت «الباء» للمناسبة.
2- . أي: قول الفرقة الثانية القائلة بأن الإباحة هي ما أُذن في فعلها وتركها إذناً على السواء.

قال: الحكم، قيل: خطابُ اللّٰه تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين، فورد مِثلُ:

«وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ»(1) فزيد بالاقتضاء أو التخيير، فورد كون الشيء دليلاً وسبباً وشرطاً، فزيدَ: أو الوضع [فاستقام](2). وقيلَ: بل هو راجع إلى الاقتضاء والتخيير. وقيل: ليس بحكم. *

والمصنف أجاب عن هذا المعارضة وحلّ(3): أمّا المعارضة؛ فما ذكرها من جانب القائلين بالحظر؛ وأمّا الحل، فقوله: لم لا يجوز أن يكون خَلَقه ليصبر المكلف على ترك التناول فتحصل له المشقّة بذلك الترك وهو يستلزم حصول الثواب. ثمّ ذكر أن الواقف إن أراد به الوقف لتعارض الأدلة، ففاسد إذ قد بينا فسادها فلا تعارض؛ وإن أراد به أنّه وقف لتوقف الحكم بهذه على ورود السمع فهو حق.

تعريف الحكم الشرعي

(*) أقول: اختلف الأشاعرة في تفسير الحكم،(4) فقال الغزّالي: «إنّه خطاب اللّٰه تعالى المتعلّق بأفعال المكلفين»(5)، والخطاب: «هو اللفظ المتواضع عليه...

ص: 235


1- . الصافات: 96.
2- . في بعض النسخ فقط.
3- . هكذا في النسختين والافضل ان يقال: [... بمعارضة وحل] فيرتفع التعثر عن الصياغة حينئذٍ.
4- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/70؛ المحصول في علم الأُصول: 1/15، الكاشف عن المحصول: 1/225؛ الذريعة إلى أُصول الشريعة: 1/9-10؛ نهاية الأُصول إلى علم الأُصول: 1/85.
5- . وما ورد في المستصفى للغزّالي في تعريف الحكم، هو ما يلي: إن الحكم عندنا عبارة عن:

....................

المقصود به الإفهام»، وربما زيد فقيل: «لمن هو منتهي لفهمه»، واحترزوا بهذه الزيادة عن النائم؛ والأولى سقوطها.

وقد أُورد على هذا الحدّ للحكم بأنّه غير مانع لدخول قوله تعالى: «وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ» فيه فإن هذا خطاباً للّٰه تعالى متعلق بأفعال المكلفين مع أنّه ليس بحكم اتفاقاً.

ثمّ جاء بعض المتأخرين(1) فزاد في الحد المذكور زيادة فقال:

«الحكم: خطاب اللّٰه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير»، فخرج عنه قوله تعالى: «وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ» .

وقد أُورد على هذا الحدِّ بأنّه غير جامع لخروج بعض الأحكام عنه كحكم اللّٰه تعالى بأنّ الشيء دليل، وحكمه بأن الدلوك سبب لوجوب الصلاة، وحكمه بأن الوضوء شرط للصلاة؛ فإنّ هذه أحكام شرعية وليست خطاباً متعلقاً بالاقتضاء أو التخيير؛ فزاد فيه بعض المتأخرين(2): أو الوضع، فإنّ اللّٰه تعالى لما جَعَلَ الدلوك سبباً لوجوب الصلاة، كان ذلك بوضعه تعالى.

ص: 236


1- . نسب هذا التعريف إلى أبي الخير عبداللّٰه بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي، وأختاره فخر الدين الرازي والعلّامة الزركشي وغيرهما، على ما قيل.
2- . وقد قيل بأن هذا التعريف قد ارتضاه جمهور الأُصوليين.

قال: وقيل: الحكم خطاب الشرع بفائدة شرعية تختصّ به، أي: لا تُفهم إلّامنه لأنّه إنشاءٌ فلا خارج له. *

وذهب جماعة إلى أنّ هذه الأشياء عائدة إلى الاقتضاء أو التخيير وذلك لأنّ الإنسان مكلّف بالصلاة عند الدلوك وهذا هو معنى السببية، وكذلك أمثالها.

وذهب آخرون إلى أنّ مثل هذه الأشياء ليست بأحكام(1)؛ والنزاع في هذا ليس فيه كثير فائدة.

(*) أقول: هذا تفسير بعض الأشاعرة للحكم وهو أنّه خطاب الشارع بفائدة شرعية واحترز بالفائدة الشرعية، عن الإخبار عن المعقولات والمحسوسات.

واعترض عليه بأنّ الفائدة إن أردت بها الحكم، لزم الدور؛ وإن أردت الفائدة الّتي لا تكون عقلية ولا محسوسة، بطل طرد الحدّ بإخبار الشارع عن المغيّبات كقوله تعالى: «وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ»(2) فإن هذا خطاب الشارع بفائدة غير عقلية ولا محسوسة، ومع ذلك فليست حكماً شرعياً إتفاقاً؛ ولمّا كان بطلان الحدّ بإبطال طرده بالإخبار، قيّد الخطاب بقيد يكون معه إنشائياً فقيل: تختص به.

فقوله: خطاب الشارع، كالجنس ويخرج عنه خطاب غيره، وباقي الحدّ، احتراز عن الإخبار بالمحسوسات والمعقولات ونحوها.

[وقولنا: يختص به، أي: يكون إنشاءً لا إخباراً، وفسّر الاختصاص بعدم

ص: 237


1- . أي: لا يرى بأنها أحكام شرعية بل هي أحكام عقلية صاغها العقل الإنساني فهي خارجة عن محل النزاع.
2- . الروم: 3.

....................

فهم الفائدة إلّامن ذلك الخطاب، وعلل ذلك بكونه إنشاء وإشارة إلى العلة في كون الإنشاء كذلك بقوله: فلا خارج له، وذلك لأن الإخبار عن الشيء يستدعي كونه سابقاً على الإخبار، فكل خبر يستدعي أمراً خارجياً سابقاً عليه تحقيقاً أو تقديراً؛ ولمّا كان لكل خبر أمرٌ خارجي دون الإنشائي، اعتقدوا أنَّ الإنشائي ما لا يمكن أن يفهم مدلوله إلّامنه إذ لا خارجي له يفهم منه، بخلاف الخبر، فإنّه يمكن أن يفهم مدلوله من الخارجي، فتلخص من هذا أن حدّالحكم هو الخطاب الإنشائي من الشارع بفائدة غير عقلية ولا حسية.

ويرد عليه مع هذه التطويلات، قوله تعالى: «فَنِعْمَ اَلْمٰاهِدُونَ»(1) وقوله: «نِعْمَ اَلْعَبْدُ»(2) ، فإنّه خطاب إنشائي عن الشارع بفائدة غير عقلية ولا حسيّة](3).

وقوله: لا تفهم إلّامنه، تفسير لمعنى الاختصاص، فإنّ الفائدة الحاصلة من الخطاب لو كانت حاصلة منه ومن غيره، لما كان الخطاب حكماً شرعياً؛ وعلل عدم الفهم من غيره بكون الخطاب انشاء لا خارج له، فإنّه لو كان إخباراً لجازحصوله من غير الخطاب.

ص: 238


1- . الذاريات: 48.
2- . سورة ص: 30.
3- . ما بين المعقوفتين في نسخة «ب» فقط.

قال: فإن كان طلباً لفعل غير كفٍّ، ينتهض تركه في جميع وقته سبباً للعقاب، فوجوبٌ؛ وإن انتهض فعلُهُ خاصّة للثواب، فندبٌ؛ وإن كان طلباً لكفٍّ عن فعل، ينتهض فعله سبباً للعقاب، فتحريم. ومن يُسقط «غير كَفٍّ» في الوجوب، يقول: طلباً لنفي فعلٍ في التحريم.

وإن انتهض الكفُّ خاصة للثواب، فكراهة؛ وإن كان تخييراً فإباحةٌ؛ وإلا فوضعي. وفي تسمية الكلام في الأزل خطاباً، خلافٌ. *

أقسام الحكم الشرعي

(*) أقول: هذا تقسيم للحكم(1) وهو ظاهر قوله: ومن يُسقط «غير كف» في الوجوب؛ يقول: طلباً لنفي فعل في التحريم، أشار إلى الخلاف الواقع بين الأُصوليين من أنّ المراد بالنهي هل هو نفي الفعل أو فعل الضد؛ فقال أبو هاشم بالأول وقالت الأشاعرة بالثاني، فعلى رأي الأشعرية يجب أن يفسروا(2) التحريم بانّه طلب الكلف.

وامّا على رأي أبي هاشم فإنّه لا يحتاج إلى ذلك بل الوجوب هوطلب الفعل والتحريم هو طلب نفي الفعل، وباقي الكلام ظاهر.

والخلاف الواقع في تسمية الكلام أولا، خطاباً؛ إنّما نشأ من قبل اللفظ،

ص: 239


1- . انظر: التقريب والارشاد: 1/293؛ المستصفىٰ: 1/127؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 92/1.
2- . في نسخة «ب» وردت العبارة بعد: «... يجب أن يفسروا...» كالآتي: [الوجوب بأنّه طلب لفعل غير كف لأنّهم قالوا: طلب فعل مطلقاً فدخل تحتها التحريم فإنّه طلب فعل لكنه فعل وكف، وأن يفسروا التحريم بأنّه طلب لكف عن فعل].

قال: الوجوب: الثبوت والسقوط، وفي الاصطلاح ما تقدّم.

والواجب: الفعل المتعلق للوجوب كما تقدّم، وما يعاقب تاركه مردودٌ بجواز العفو، وما أوعد بالعقاب على تركه مردود لصدق إيعاد اللّٰه، وما يخاف مردود بما يُشك فيه.

القاضي: ما يُذمُّ تاركه شرعاً بوجهٍ ما؛ وقال: «بوجه ما» ليدخل الواجب الموسّع والكفاية، حافظ على عكسه؛ فأخلّ بطرده؛ إذ يردُ الناسي والنائمُ والمسافرُ، فإن قال: يسقط الوجوب بذلك؛ قلنا: ويسقط بفعل البعض.

والفرض والواجب مترادفان؛ الحنفية: الفرض المقطوع به، والواجب: المظنون. *

لأن من يقول: الخطاب هو الكلام الّذي نعلم منه انه يقصد به إفهام من هو متهيّئ لفهمه، فهو ليس بخطاب؛ ومن قال: الخطاب هو الكلام نعلم منه أنّه يقصد به الإفهام، فهو خطاب.

(*) أقول: الوجوب في اللغة عبارة عن الثبوت والاستقرار، وقد يطلق على السقوط؛ قال اللّٰه تعالى: «فَإِذٰا وَجَبَتْ جُنُوبُهٰا»(1) أي: سقطت.

وأمّا في عرف الفقهاء فعبارة عمّا تقدم وهو: «الطلب للفعل الذي لا

ص: 240


1- . الحج: 36.

....................

يكون كفَّاً إذا انتهض تركه في جميع الوقت سبباً للعقاب».

وأمّا الواجب فالصحيح أنّه الفعل الّذي تعلق الوجوب به.

وقد ذكر في تعريفه أشياء رديَّة:

أحدها: أنّه ما يعاقب تاركه، فقيل عليه: أنّه قد يحصل العفو، فعندما توعد بالعقاب على تركه، فقيل عليه أنّ وقوع ما أوعد اللّٰه تعالى به واجب لوجوب صدقه، والعقاب ليس بواجب.(1)

وقيل: ما يخاف العقاب على تركه، فورد عليه: المشكوك في وجوبه، فإنّ الشاك يخاف من العقاب لاحتمال أن يكون واجباً.

فقال القاضي أبو بكر: الواجب هو ما يذم تاركه شرعاً بوجه ما(2)، وقوله:

شرعاً بناءً على مذهبه من أن مدرك الوجوب هوالشرع، قال: وقولي «بوجه ما»، أردت به المعنى الشامل للواجب الموسع، فإنّ تاركه يذم شرعاً لا مطلقاً ولكن إذا تركه في جميع أجزاء الوقت؛ والواجب على الكفاية لأنّه يلام على تركه إذا ترك الجميع؛ والواجب المخيّر فإنّه يذم شرعاً على تركه إذا ترك معه بدله [وهو العزم](3).

وجمهور الأُصوليين ارتضوا هذا التعريف، والمصنف اعترض عليه بأنّه لا يطرّد، فإنّ الساهي والنائم والمسافر - وغيرهم من أصحاب الأعذار - لا يجب

ص: 241


1- . لأن التوعد بالعقاب على الترك خبر كما قيل.
2- . يراجع الاحكام للآمدي: 1/139.
3- . في نسخة «أ» فقط.

....................

عليهم الصوم مثلاً، لقوله تعالى: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»(1) ، ولا يذمون على تركه على وجه، [إذ بتقدير انتفاء الأعذار لو تركوا لذُمُّوا ما قيم الذم على وجه، وليس واجباً، فأنتفى الاطراد؛ كما أن الواجب على الكفاية بتقدير ترك الجميع يذم، فإن أجاب: بأن الوجوب ثابت على ذلك التقدير وإنما يسقط بالنوم والسهو والسفر، قلنا: فالواجب على الكفاية يسقط بفعل البعض ولا حاجة إلى القيد في الكفاية كما لم يحتج في المسافر وغيره؛ كذلك الواجب الموسّع والمخيّر.](2) أصلاً؛ فإن أجاب بأنّ: الوجوب ساقط بالنوم والسهو والسفر وإذا كان الوجوب ساقطاً عنهم فإنّما لم يذّموا على تركه لعدم الوجوب عليهم قلنا فالواجب المخير يسقط بفعل البعض فإنّما لم يذّموا على تركه حال الإتيان بذلك البعض لسقوط الوجوب لا لفعل ذلك البعض وكذلك على الكفاية والواجب الموسع؛ وفي هذا نظر.

وأعلم أنّ الحقّ أنّ الواجب والفرض اسمان مترادفان لما ذكرنا من قبل؛ وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنّ الفرض ما كان من ذلك مقطوعاً به، والواجب ما كان منه مظنوناً، قالوا: لأنّ الفرض هو التقدير والمظنون لم يعلم كونه مقدراً؛ وهو خطأ، فإنّ الإختلاف وقع في طريق اثبات الحكم فلا يلزم اختلاف ما ثبت به؛ على أنّ أهل اللغة قالوا: الفرض هوالتقدير مطلقاً سواء كان مقطوعاً به أو مظنوناً، والبحث في هذا قليل الفائدة.

ص: 242


1- . البقرة: 145.
2- . ما بين المعقوفتين في نسخة «ب» والشبه واضح بينه وبين ما بعده.

قال: الأداء: ما فعل في وقته المقدّر له أوّلاً شرعاً، والقضاء: ما فُعِلَ بعد وقت الأداء استدراكاً لما سبق له وجوب مطلقاً، أخّرَه عمداً أو سهواً، تمكّن من فعله كالمسافر، أو لم يتمكّن لمانع من الوجوب شرعاً كالحائض، أو عقلاً كالنائم، وقيل: لما سَبقَ وجوبُه على المستدرك، ففعل الحائض والنائم قضاءٌ على الأول لا الثاني، إلّافي قولٍ ضعيف. والإعادة:

ما فُعل في وقت الأداء ثانياً، لخلل، وقيل: لعذر. *

الأداء والقضاء والإعادة

الأداء والقضاء والإعادة(1)

(*) أقول: قيّد الفعل المأتيّ به في الأداء بالأولية احترازاً من الإعادة وهو يشمل الواجب المضيّق والموسع؛ وأمّا القضاء فقد اختُلف في حدّه، فقال قوم: أنّه ما فعل بعد وقت الأداء استدراكاً لما سبق له [انعقاد سبب](2) وجوب مطلقاً وقال آخرون: أنّه ما فعل بعد وقت الأداء استدراكاً لما سبق وجوبه على المسَتْدرِكِ.

ويتفرع على الحدّين: صوم الحائض هل هو قضاءٌ أم لا؟

فعلى الحدّ الأوّل يكون قضاء لأنّه فعل لما سبق له [سبب](3) وجوب مطلقاً؛ وعلى الثاني، فيه خلاف، فإنّ المحققين من الحادّين بالمعنى الثاني قالوا: أنّ الحائض لا يجب عليها الصوم وإنّما وجب عليها القضاء بأمر مجدد، وذهب

ص: 243


1- . انظر: نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/109؛ المستصفىٰ: 1/179؛ المحصول: 1/27؛ الكاشف عن المحصول: 1/288.
2- . في نسخة «ب» فقط.
3- . في نسخة «ب» فقط.

قال: مسألة: الواجب على الكفاية على الجميع، ويسقط بالبعض.

لنا: إثمُ الجميع بالترك باتفاق.

قالوا: يسقط بالبعض. قلنا: استبعاد.

قالوا: كما أُمِرَ بواحد مُبْهَم أمرُ بعضٍ مُبْهم. قلنا: إثمُ واحدٍ مبهم لا يعقل، قالوا: «فَلَوْ لاٰ نَفَرَ»(1) . قلنا: يجبُ تأويلُهُ على المسقط، جمعاً بين الأدلّة. *

آخرون منهم إلى أنّه واجب عليها ولكنّها ممنوعة عنه شرعاً.

فعلى مذهب المحققين من هؤلاء لا يكون قضاء لأنّه لم يجب عليها سابقاً، وعلى مذهب الآخرين يكون قضاء، ولهذا قال المصنف: إلاّ في قول ضعيف، والباقي ظاهر.

الواجب على الكفاية

(*) أقول: مذهب المحققين من الأُصوليين أنّ الواجب على الكفاية واجب على الجميع لابمعنى أنّه لو لم يفعل كلّ واحد منهم لاستحق العقاب، بل بمعنى أنّه لو لم يفعله واحد منهم أصلاً استحقوا بأجمعهم العقاب، ولو فعله واحد سقط عنهم بأسرهم العقابُ وذلك فيما يكون الغرض منه تحصيل ذلك الفعل(2)؛ فإن حصل بالبعض كالجهاد المطلوب منه حراسة المسلمين، سقط عن الباقين وإلّا فلا.

ص: 244


1- . التوبة: 122.
2- . قيل ان هذا هو مذهب جمهور فقهاء السنّة.

....................

وهذا التكليف منوط بالظن فإن حصل ظن أنّ أحداً فعله سقط عن الظان وإن لم يفعله أحد حينئذ، وإن حصل ظن أن أحداً لم يفعله، تعيّن عليه فعله ولحقه العقاب بتركه.

وذهب آخرون إلى أنّه واجب على واحد غير معيّن.(1)

والدليل على الأوّل أنّه لو لم يكن واجباً على الكلّ لما استحقوا العقاب على تركه والتالي باطل بالإجماع فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة.

قالوا: لو كان واجباً على الكل لما سقط بفعل البعض، والتالي باطل بالاجماع فالمقدم مثله، بيان الشرطية: أن الشيء كيف يكون واجباً على زيد ويسقط بفعل عمرو؟(2) والجواب: المنازعة في الشرطية، وما ذكرتموه مجرد استبعاد.

قالوا: يصح الإيجاب بواحد مبهم غير معيّن كخصال الكفّارة فليصح الايجاب على واحد غير معيّن، والجواب: الإثم بترك واحد غير معين ممكن بخلاف الإثم على واحد غير معيّن لأنّه غير موجود وما لا يكون موجوداً كيف يتوجه عليه الإثم.(3)

قالوا: قوله تعالى: «فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ» ، أوجب على كل فرقة أن يخرج منهم طائفة وذلك غير معيّن فيكون هذا إيجاباً على واحد غير معيّن.

ص: 245


1- . هذا التعريف الثاني للواجب الكفائي وينسب إلى بعض السنّة.
2- . هذا دليل الرأي الثاني في تعريف الواجب الكفائي.
3- . وبعبارة اوضح: في توجيه التكليف لابد من تعيّن خارجي.

قال: مسألة: الأمر بواحد من الأشياء كخصال الكفارة مستقيم.

وقال بعض المعتزلة: الجميع واجب. وبعضهم: الواجب ما يُفعل.

وبعضهم: الواجب واحدٌ معيّن، ويسقط به وبالآخر.

لنا: القطعُ بالجواز؛ والنصُّ دلّ عليه، وأيضاً وجوب تزويج أحد الخاطبين، وإعتاق واحدٍ من الجنس، فلو كان التخيير يوجب الجميع، لوَجَبَ تزويج الجميع، ولو كان معيّناً لخصوص أحدهما، امتنع التخيير. *

قلنا: المراد من هذا الإيجاب من يسقط الواجب بتعلمه جمعاً بين الأدلة، [فإن الدليل الّذي ذكرناه قد دلّ على الوجوب على الجميع وهذا يعطي الوجوب على البعض فإذا ما أولناه بالمسقط أي بمن يسقط بالمباشرة منه الوجوب على الجميع كان ذلك جمعاً بين الدليلين من غير بعد](1).

الواجب المخيّر

(*) أقول: اختلف الناس في الواجب المخيّر(2):

فذهب الأشعرية إلى أن الواجب منها واحد غير معيّن وإليه صارت الفقهاء.

وذهب الجبّائيان ومن تابعهما إلى أنّ الجميع واجب على التخيير.

وقال بعض المعتزلة: إنّ الواجب ما يفعله المكلّف.

ص: 246


1- . ما بين المعقوفتين في نسخة (ب) فقط، وهو توضيح للرد الّذي سبقه وبه تنتهي أدلة الرأي الثاني واجوبتها.
2- . المعتمد: 1/77؛ الاحكام للآمدي: 1/74؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/488.

....................

وآخرون: إنّ الواجب واحد معيّن ويسقط التكليف بفعله أو بفعل الآخر والظاهر أنّه لا خلاف بين الجبائيين والأشعرية في المعنى وذلك لأنّهما لم يحكما بوجوب الجميع على معنى أن ترك الجميع موجب لوجوب العقاب عليها بأسرها؛ بل بمعنى أن أي واحد منها فعل، فعله بنيّة الوجوب ويسقط التكليف به لأنّه فعل الواجب، وإذا أخلّ بها أجمع استحق العقاب على ترك الواجب من أُمور كان احدها واجباً.

والمصنّف استدل على مذهبه وهو القول بوجوب واحد لا بعينه:

إمّا جوازاً فظاهر، فإنّه يجوز أن يقول السيد لعبده إفعل أحد هذين الفعلين ولا أُوجبهما معاً عليك وإن تركتهما معاً عاقبتك وأنت مخيّر في إتيان أيّهما كان، فإنّ هذا لا يمكن أن يقال: إنّه أوجبهما معاً، ولا أن يقال: إنّه لم يوجب عليه شيئاً، ولا أن يقال:

إنّه أوجب عليه واحداً معيّناً؛ فلم يبق إلّاأنّه أوجب عليه واحداً لا بعينه.

وأمّا وقوعاً، فالنص دال عليه كإيجاب الكفّارات المخيّرة؛ وأيضاً إذا وكلته في تزويجها بأحد الخاطبين وإعتاق أحد العبدين، فإنّه لا يصحّ أن يزوجها بهما معاً ولا يعتق العبدين معاً؛ ولو كان التخيير يوجب الجمع لوجب تزويج الاثنين، ولو كان التخيير يوجب التعيين لكان التخيير ممتنعاً إذ يستحيل أن يخيّر بين فعل الواجب وما ليس بواجب.

ص: 247

قال: المعتزلة: غير المعيّن مجهول، ويستحيل وقوعه، فلا يكلّف به.

والجواب أنّه معيّن من حيثُ إنَّهُ واجبٌ، وهوواحدٌ من الثلاثة،

فينتفي الخصوص، فيصح إطلاق غير المعيّن عليه. *

(*) أقول: هذا دليل المعتزلة على أنّ الكل واجب، قالوا: لأنّ الواجب لو كان واحداً غير معيّن لزم تكليف ما لا يطاق، والتالي باطل إجماعاً إمّا عندنا فبالعقل وأمّا عند الأشاعرة فبالسمع؛ وبيان الشرطية: أنّ الوجود إنّما يصير موجوداً بعد تشخصّه وتعيّنه فإنّ غير المعيّن لا وجود له إلّافي الذهن فهو محال الوجود، فلو كُلّف بالإتيان به لزم التكليف بالمحال.

وأجاب المصنف: بأنّ الواجب معيّن وذلك لأنّ الواجب هو أحد الثلاث وهو أمر كلّي صادق على الثلاث فتعيّن ومغاير لماعداه من الكليّات ويمكن الإتيان به وذلك بأن يأتي المكلف بواحد من جزئياته، وإذا كان الواجب هو أحد الثلاثة الذي هو الكلي، لم يكن لقيد التشخّص مدخل في الإيجاب فينتفي الخصوص فيصحّ اطلاق غير المعيّن على الواجب بهذا المعنى.

ص: 248

قال: قالوا: لو كان الواجب واحداً من حيث هو أحدُها لا بعينه مبهماً، لوجب أن يكون المخيّر فيه واحداً لا بعينه من حيث هو أحدُها.

فإن تعدّدا، لزم التخيير بين واجب وغير واجبٍ، وإن اتحدا لزم اجتماع التخيير والوجوب.

وأجيب بلزومه في الجنس وفي الخاطبين. والحق أن الّذي وجب لم يخيّر فيه، والمخيّر فيه لم يجب لعدم التعيين. والتعدد يأبى كونَ المتعلّقينِ واحداً، كما لو حرّم واحداً، وأوجب واحداً. *

(*) أقول: هذا دليل ثان للمعتزلة على أن الكل واجب، قالوا: لو لم يكن الكلّ واجباً لكان واحد منها واجباً، وإلّا لم يكن شيء منها واجباً؛ فذلك الواحد إمّا أن يكون معيّناً أو لا يكون، والقسمان باطلان، فالقول بعدم وجوب الكلّ باطل:

أمّا أنّه لا يجوز أن يكون الواجب واحداً معيّناً فلأنّه يلزم أمّا عدم التخيير أو وقوع التخيير بين الواجب وما ليس بواجب وهما باطلان.

وإمّا أنّه لا يجوز أن يكون الواجب واحداً لا بعينه فلإنّه حينئذٍ يلزم أن يكون واحداً من الثلاثة غير واجب وإلّا لكان الكلّ واجباً وهو المطلوب.

وإذا كان واحد منها غير واجب فلا يخلو إمّا أن يكون ذلك الواحد مغايراً لذلك الواجب أو يكون هو هو بعينه، ويلزم من الأوّل وقوع التخيير بين الواجب وبين ما ليس بواجب؛ ومن الثاني اجتماع الوجوب وعدمه في شيء واحد، وهو باطل.

وأجاب المصنف بالمعارضة بالأمر بإعتاق واحد من العبيد والتزويج...

ص: 249

قال: قالوا: يَعمّ ويَسْقط وإن كان بلفظ التخيير كالكفاية.

قلنا: الإجماع ثَمَّ على تأثيم الجميع، وهنا: بترك واحدٍ [لا بعينه](1)، وأيضاً: فتأثيم واحدٍ لا بعينه غير معقول بخلاف التأثيم على ترك واحد من ثلاثةٍ. *

بواحد من الخاطبين، ثمّ ذكر الحق في ذلك وهو أنّ الواجب غير مخيّر فيه والمخيّر فيه غير واجب:

أمّا الأوّل: فلأنّ الواجب هو واحد غير معيّن وهو مخيّر فيه بينه و بين غيره.، [وقولهم: إنّه واجب مخيّر فيه مجازٌ والمراد مخيرٌ في أفراده] (2).

وأمّا الثاني: فلأنّ المخيّر فيه هو التعيّنات وهو غير واجب، إذ الكلام فيما إذا لم يعيّن المكلّف أحد الأفعال الثلاثة، وتعدد المتعلَّق يستلزم تعدد المتعلِّق، وهاهنا قد تعدد المتعلَّق إلى الواجب والتخيير فيتعدد متعلّقهما كما إذا أوجب واحداً وحرّم واحداً.

(*) أقول: هذا دليل ثالث للمعتزلة وهو القياس على الواجب على الكفاية؛ قالوا: الواجب على الكفاية واجب على الكل مع سقوط التكليف بفعل واحدٍ منهم، فكذلك الواجب المخيّر واجب بأنواعه وإن سقط بفعل واحد منها، والجامع بينهما كون كلّ واحد يسقط بفعل الآخر.

وأجاب المصنف بالفرق:

أمّا أوّلاً: فلأنّ الإجماع منعقد على أنّ الواجب على الكفاية يأثم الجميعُ

ص: 250


1- . في بعض النسخ. 2. ما بين المعقوفتين في نسخة «ب» فقط.

قال: قالوا: يجب أن يعلم الآمر الواجب، قلنا: يعلمُهُ حَسَبما أوجبه، فإذا أوجبه غيرَ مَعيّنٍ، وَجَبَ أن يعلمه غيرَ معيّن. *

قال: قالوا: علم ما يفعل فكان الواجب. قلنا: فكان الواجب؛ لكونه واحداً منها لا بخصوصه، للقطع بأن الخلق فيه سواءٌ. **

بتركه؛ وهاهنا إنّما يقع الأثمُ بترك واحد منها، فلذلك قلنا: أنّ الواجب على الكفاية واجب على الجميع، ولم نقل بإيجاب الجميع في الواجب المخيّر.

وأمّا ثانياً: فلأنّا إنّما أوجبنا على الجميع ثَمَّة، لأنّ تأثيم واحد غير معيّن غير معقول، وهاهنا التأثيم بترك واحد غير معيّن معقول، وإذا وقع الفرق امتنع القياس.

(*) أقول: هذا دليل رابع للمعتزلة، وهو: أن الواجب هو الذي تعلّق به الإيجاب، وإذا كان الواجب واحداً من الخصال الثلاث، علم اللّٰه تعالى بما تعلق به الإيجاب فيتميز ذلك في علم الآمر وكان هو الواجب.

وأجاب المصنف: بأنّ العلم إنّما يتعلق بالشيء على ما هو به فإذا كان واجباً غير معيّن علمه كذلك، وإلّا، لما تعلق العلم به كما هو.

(**) أقول: هذا دليل خامس للمعتزلة، وهو أنّ الواجب إذا كان واحداً لا بعينه ويتعين بفعل المكلف، فاللّٰه تعالى يعلم ما سيعينه العبد فيكون الواجب معيّناً عند اللّٰه، وإن لم يكن معيناً عند العبد قبل الفعل، ويلزم منه التخيير بين الواجب وما ليس بواجب وهو محال فإذن الجميع واجب.

وأجاب: بأنّ ذلك الشيء إنّما يكون واجباً لا لخصوصه بل لكونه واحداًمن الثلاث، فإنّا نقطع بأنّ الخلق في الواجب المخيّر سواء، فلو اختار أحد...

ص: 251

قال: الموسّع:

الجمهور: إنّ جميع وقت الظهر ونحوه وقت لأدائه.

القاضي: الواجب الفعل أو العزم ويتعيّن، وقيل: وَقْتُهُ أوَّلُهُ، فإن أخَّرَه فقضاءٌ.

بعض الحنفية: آخَرُهُ، فإن قدّمه، فنفلٌ يُسقِط الفرض.

الكرخيُّ: إلّاأن يبقى بصفة التكليف، فما قدّمه واجب.

لنا: أن الأمر قُيّد بجميع الوقت، فالتخييرُ تحكّمٌ والتعيين تحكّمٌ، وأيضاً لو كان معيّناً لكان المصلّيّ في غيره مقدّماً، فلا يصحُّ، أو قاضياً فيعصي، وهو خلاف الإجماع. *

المكلفين نوعاً واختار آخر نوعاً آخر، لزم ان يكون الواجب على أحدهما غير الواجب على الآخر وهو ينافي القول بالتسوية.

الواجب الموسّع

(*) أقول: اختلف الناس في الواجب الموسّع(1)، فأنكره قوم زعموا أنّ التوسع يناقض الوجوب وزعموا أنّ الوقت لا يزيد على الفعل، وذهب المحقّقون إلى جوازه.

ص: 252


1- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/77؛ ونهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/503-505.

....................

واختلف الأوّلون على ثلاثة أقوال:

الأوّل: ما ذهب إليه بعض الأشاعرة وهو أنّ الوجوب مختص بأوّل الوقت فإن أخرّه إلى ثانيه كان قضاء.

الثاني: ما ذهب إليه بعض الحنفية وهو أنّ الوجوب مختص بآخر الوقت فإن قدّمه كان نفلّاً يسقط به الواجب كما في تقديم الزكاة.

الثالث: ما نقل عن الكرخيّ أنّ الصلاة المأتي بها في أوّل الوقت واجبة إن بقي المكلف على صفات التكليف وإلّا كانت نفلاً.

واختلف الآخِرون(1) على قولين:

الأوّل: ما ذهب إليه أكثر المتكلمين وهو مذهب الأشاعرة والجبّائيين من أنّ الوجوب متعلق بجميع أجزاء الوقت إلّاأنّ الترك في أوّل الوقت إنّما يجوز لو أتى المكلف بالبدل وهو العزم.(2)

الثاني: ما ذهب إليه أبو الحسين البصري ومن تابعه إلى أنّ الوجوب متعلق باجزاء الوقت ولا حاجة إلى البدل ويكون هذا الواجب في الحقيقة كالواجب المخيّر فإنّ حاصله يرجع إلى أنّ المكلّف مخيّر بين أن يأتي بالفعل في أوّل الوقت أو وسطه أو آخره، ويتعيّن عند الآخر الفعل.

وهذا مذهب المصنف واستدل عليه بوجهين:

الأوّل: أنّ اللّٰه تعالى أوجب علينا الصلاة من الزوال إلى الغروب فالتخيير

ص: 253


1- . لابد من كسر الخاء لتكون عدلاً ل (الأولون).
2- . انظر: المعتمد: 1/124-126؛ والمحصول للرازي: 1/281.

قال: القاضي: ثبت في الفعل والعزم حُكمُ خِصالَ الكفارة.

وأُجيب بأن الفاعل مُمتثلٌ لكونها صلاةً قطعاً لا لأحد الأمرين، ووجوب العزم في كلّ واجب من أحكام الإيمان.

الحنفية: لو كان واجباً أوّلاً عصى بتأخيره لأنّه تركٌ.

قلنا: التأخير والتعجيل فيه كخصال الكفارة. *

بين الفعل والعزم تحكّم، وتعيّن الوقت الأوّل أو الآخر تحكّم أيضاً من غير دليل، فوجب سقوطه.

الثاني: أن الوجوب لو كان معيّناً بوقت لكان ايقاعه في غيره مقدّماً فلا يجزيه، أو يكون قضاء فيكون عاصياً بتأخيره عن وقته؛ والقسمان باطلان لأنّه خلاف الإجماع.

(*) أقول: لما استدل على مذهبه، أراد إبطال مذهب القاضي والحنفية فذكر أوّلاً ما استدلوا به:

أمّا القاضي فقال: لا معنى للواجب المخيّر إلّاالذي يستحق العقاب بترك أنواعه وأي نوع فعل خرج عن العهدة، وهذا المعنى متحقق في الفعل والعزم لأنّ المكلّف لا يجوز له ترك الفعل في أوّل الوقت وترك العزم عليه لأنّ العزم على ترك الفعل عزم على الحرام والعزم على الحرام حرام فالعزم على ترك الفعل حرام، فالعزم على الفعل واجب لأنّ المكلّف لا ينفك عن أحدهما إلّاإذا كان غافلاً وهو غير مكلّف حينئذٍ.

وأجاب المصنف بأنّ الفاعل إنّما يكون ممتثلاً في أوّل الوقت بفعل...

ص: 254

قال: مسألة: من أخّر مع ظن الموت قبل الفعل عصىٰ إتفاقّاً، فإن لم يمُتْ ثمَّ فعله في وقته، فالجمهور: أداءٌ؛ وقال القاضي: قضاءٌ، فإن أراد وجوبَ نيّة القضاء فبعيد، ويلزمُهُ لو اعتقد انقضاء الوقت قبل الوقت، فيعصي بالتأخير. وَمَنْ أخّر مع ظنّ السلامةِ، فماتَ فجأةً فالتحقيق لا يعصي، بخلاف ما وقْتُهُ العمرُ. *

الصلاة لكونها صلاة لا لكونها أحد الأمرين اللذين هما الصلاة والعزم، وإيجاب العزم لا يدّل على التخيير لأنّ العزم واجب في كلّ حكم واجب، من أحكام الإيمان بعين ما ذكرتم.

وأمّا الحنفية فقالوا: لو كان الفعل واجباً في أوّل الوقت لعُصي بتركه إذ هو لازم للواجب، والتالي باطل بالإجماع فالمقدّم مثله.

وأجاب المصنف بأنّ التأخير والتقديم كخصال الكفارة فكما أنّ ترك أحد الخصال لا يكون عصياناً إلّاعلى تقدير ترك الباقي كذلك بترك التقديم إنّما يكون عصياناً على عزم(1) ترك الفعل المؤخر فكما أنّ النوع المعيّن من خصال الكفارة لا يوصف بالندبية كذلك الفعل المقدّم لا يوصف بالندبيّة أيضاً.

تأخير الواجب الموسّع

تأخير الواجب الموسّع(2)

(*) أقول: الواجب الموسّع قد يتضيّق في بعض الأوقات وذلك منوط

ص: 255


1- . في نسخة «ب» بدل «ترك» ورد: تقدير.
2- . انظر: نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/502؛ الإحكام للآمدي: 1/79.

....................

بالظن، فإنّ المكلّف إن ظن الموت قبل آخر الوقت فإنّه لا يجوز له التأخير إلى آخر الوقت إجماعاً فلو أخّر عاصياً ثمّ ظهر فساد ظنه هل يصير الفعل قضاء أم لا؟

قال الجمهور أنّه يكون أداءً لا قضاءً لأنّ ذلك الظن قد انكشف بطلانه وفساده فلا أثر له في الأحكام الشرعية الثابتة.

وقال القاضي أنّه يكون قضاء لأنّه حال الظن كان الوقت قد تضيّق عليه وتعيّن الفعل وقد خرج ذلك الوقت فيكون الفعل بعده قضاء.

قال المصنف: إن أراد القاضي بالقضاء أنّه يجب عليه نية القضاء، فهو بعيد، ووجه بعده أنّه قد كان قبل الظن وقتاً للأداء والأصل بقاؤه على ما كان، ولا يلزم من عصيانه بالتأخير وجوب نية القضاء وصيرورة الأداء قضاءً.

ثمّ ألزم المصنف القاضي إلزاماً وهو أنّ المكلّف لو اعتقد قبل وجود الوقت أن الوقت قد انقضى فإنّه يكون عاصياً بتأخيره ولا يلزم منه الإتيان بذلك الفعل بنية القضاء.

وأمّا من أخّر مع ظن السلامة فمات فجأة(1)، فقال قوم أنّه يعصي لأنّه ترك الواجب مع القدرة على الإتيان به.

وقال المحققون من الأُصوليين أنّه لا يعصي، وذلك لأنّه إذا أخّر الصلاة عن أولها مع عدم علمه بالعاقبة فإنّه فعل فعلاً جائزاً له إذ لا يجوز أن يقال إنّه لا يحلّ له التأخير مع العزم على الفعل وإلّا لما كان واجباً موسّعاً؛ وإذا كان جائزاً كيف يعصي بفعله؟!

وقوله: بخلاف ما وقته العمر؛ يشعر بإنّ ما يكون وقته العمر

ص: 256


1- . هذا عدل لقوله: [... ان ظن الموت قبل آخر الوقت...].

قال: مسألة: ما لا يتم الواجبُ إلّابه، وكان مقدوراً شرْطاً، واجب.

والأكثر: وغيرَ شرطٍ، كترك الأضداد في الواجب، وفعلِ ضدٍّ في المحرّم، وغسل جزءٍ من الرأس. وقيل: لا، فيهما.

لنا: لو لم يجب الشرط، لم يكن شرطاً. *

كالمنذورات وقضاء الواجبات فإنّه بخلاف هذا؛ والحقّ أنّهما سواء إلّاأنّ في الواجب الموسّع غاية معلومة لا يجوز التأخير عنها وهو آخر الوقت وها هنا ليست الغاية معلومة، فنقول:

إن جوزنا له التأخير أبداً مع أنّه لا يعصي بالترك لم يكن ذلك الفعل واجباً؛ وإن جوزنا له التأخير إلى غاية فتلك الغاية إن كانت غير معيّنة، لزم تكليف ما لا يطاق فإنّه يكون مكلفاً بأن لا يؤخر الفعل عن تلك الغاية المجهولة وهذا هو عين تكليف ما لا يطاق؛ وإن كانت معيّنة، فتلك الغاية ليست إلّاوقت غلبة ظنه بالموت.

ويمكن أن يكون قولُه: بخلاف ما وقته العمر، إشارةً إلى الحج، فإنّه يعصي بتأخيره من سنة إلى أُخرى عند الشافعي لأنّه لا يغلب على الظن البقاء إلى سنة أُخرى، خلافاً لأبي حنيفة.

مقدمة الواجب

(*) أقول(1): الأمر إمّا أن يكون مطلقاً كالصلاة، أو مشروطاً كالزكاة، فإنّها مشروطة بتحصيل المال:

ص: 257


1- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/81؛ المعتمد: 1/93؛ المستصفىٰ: 1/138-139؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/518.

....................

ففي القسم الثاني اتفق الناس على أنّ الشرط ليس بواجب التحصيل.

وأمّا القسم الأوّل، فإن كان متوقفاً على شيء لا يتم ذلك الشيء إلّابه فهو على قسمين بالنظر إلى ذلك الشيء، فإنّه إمّا أن يكون مقدوراً للمكلّف كالوضوء أو لا يكون كالقدرة واليد في حصول(1) أعضاء الوضوء؛ ففي القسم الثاني(2) لا يكون المتوقف عليه واجباً بالإجماع.

وأمّا القسم الأوّل(3) فقد اختلف الناس فيه:

فذهبت الواقفية(4) إلى أنّ ذلك الشيء إن كان سبباً لتحصيل الواجب، كان واجباً وذلك لأنّ عند حصول السبب يكون المسبب واجباً؛ وإن كان غير سبب لم يكن واجباً فإنّه لا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط، وإلى هذا ذهب السيد المرتضى، وذهب جماعة إلى أنّه يكون واجباً سواء كان شرطاً أو كان سبباً.

أمّا إذا لم يكن شرطاً كترك ضد الواجب الذي لا يتم الواجب إلّابه، وفعل ضد المحرّم الذي لا يتم ترك المحرم إلّابه؛ هل يكون واجباً أم لا؟

ذهب الأكثرون إلى أنّه يكون واجباً، وذهب آخرون إلى أنّه لا يكون واجباً وإليه ذهب المصنف.(5)...

ص: 258


1- . في نسخة «أ»: وغيرها من اعضاء الوضوء.
2- . أي: الّذي لا يكون مقدوراً.
3- . أي: ان يكون مقدوراً للمكلف.
4- . الواقفية هنا: فرقةٌ من المعتزلة وهم القائلون بالوقف في خلق القرآن. لاحظ: معجم الفرق الإسلامية: 269.
5- . كأنَّ السبكي يشير إلى ما افاده الشارح قدس سره في قوله: «وإليه ذهب المصنّف»، عندما قال:

قال: وفي غيره، لو استلزم الواجب وجوبه، لزم تعقّل الموجب له ولم يكن تعلق الوجوب لنفسه ولامتنع التصريح بغيره ولعصىٰ بتركه، ولصحّ قول الكعبي في نفي المباح، ولوجبت نيتهُ. *

وقال قومٌ إنّه لا يكون واجباً في الجميع.

واستدلّ المصنّف على إيجاب الشرط بأنّه لو لم يكن واجباً لما كان شرطاً، والتالي باطل لكونه خلاف التقدير فالمقدّم مثله، وبيان الشرطية أنّه لو لم يكن واجباً لكان تاركه غير عاص فعلى تقدير تركه إمّا أن يبقى مأموراً بالفعل المشروط أو لا يبقىٰ، والثاني باطل وإلّا لم يكن الأمر مطلقاً وقد فرض كذلك، هذا خُلفٌ؛ والأوّل باطل لأنّه إمّا أن يكون مكلَّفاً بالفعل مع الإتيان بشرطه أو بدونه، والأوّل يلزم منه تكليف ما لا يطاق - وهو الإتيان بالشرط حالة عدمه -، والثاني يقتضي خروج الشرط عن كونه شرطاً.

(*) أقول: يريد بغيره،(1) غير الشرط الشرعي وذلك كالاسباب والشروط الحسّية كصوم أوّل جزء من الليل وغسل جزء من الرأس، إذ لا يمكن غسل الوجه الاّ بغسل جزء من الرأس ولا الإتيان بالصوم إلى الليل الاّ بصوم جزء منه؛

ص: 259


1- . إذاً أراد الماتنّ ب «وفي غيره» الإشارة إلى عدم وجوب غير الشرط الشرعي.

....................

وكفعل الأضداد في المحرّمات وترك الاضداد في الواجبات، فإنّ فيها خلافاً:

والمحققون على أنّها واجبة كالشروط الشرعية، والمصنف ذهب إلى انّها غير واجبة؛ والفرق بين هذه الشروط وتلك(1)، إنّ تلك الشروط كالاجزاء من المسميات بخلاف هذه فإنّ الصلاة الشرعية لا تطلق الاّ على ما حصل معها الوضوء فكان الأمر لتحصيل الصلاة الشرعية أمراً بتحصيل اجزائها؛ وأمّا هاهنا فليس الأمر بالصوم أمراً بصوم أوّل جزء من الليل، فإنّه لو فرض الإتيان بالصوم من غير الإتيان بصوم جزءٍ من الليل لكان الآتي بالصوم آتياً بالصوم الشرعي بخلاف الصلاة.

واستدل المصنف على عدم وجوب أمثال هذه بأنّه لو كان إيجاب الفعل مقتضياً لإيجاب ما يتوقف عليه مما ليس بشرط شرعي، لوجب أن يكون الموجب للفعل متعقلاً لذلك الشيء الذي توقف عليه الواجب دائماً، والتالي باطل، فإنّ الموجب للشيء قد يغفل عن ما يتوقف عليه.

وأيضاً لوجب قيام ما يدل على وجوبه والعقل ليس دالاً على إيجاب الشيء، والنص ليس فيه إشعار إلّابوجوب صوم النهار مثلاً، امّا بصوم جزء من الليل فلا، وحيث لم يوجد ما يدلّ على وجوبه لم يكن واجباً.

ولأنّ الثواب والعقاب إنّما يحصلان عند الإتيان بصوم النهار أو بتركه لا بصوم جزء مِنْ الليل وبتركه، وإذا كان الثواب والعقاب إنّما يحصلان على فعل

ص: 260


1- . يريد ب «هذه الشروط»، الشروط الحسية؛ وب «تلك الشروط»، الشروط الشرعية.

....................

الغير لم يكن تعلق الوجوب لنفس فعل الصوم بالليل.(1) ولأنّه لو كان الصوم أول الليل واجباً لامتنع التصريح بعدم وجوبه لكنه قد يصرح المكلِّف بعدم وجوب الشرط الحسّي كما أنّ الشرع دلّ على عدم وجوب الصوم بالليل.

ولأنّه لو كان الصوم أول الليل واجباً لعصى المكلّف بتركه، ولا يعصي بتركه إجماعاً فلا يكون صوم أوّل الليل واجباً.

ولأنّه لو كان فعل الضد واجباً في ترك المحرم، لزم قول الكعبي(2) في نفي المباح بأن فعل المباح به يحصل ترك الحرام.

ولأنّه لو كان واجباً لوجبت نيته لأنّه عبادة شرعية فيجب فيه النية ولما لم يجب بنية إجماعاً لم يكن واجباً.

ص: 261


1- . وقد ورد في نسخة «ب» بعد عبارة: «... فعل الصوم بالليل». ما يلي: [ويمكن أن يفهم منه أن الواجب لو استلزم وجوب غير الشرط الشرعي لم يكن تعلق الأمر الّذي هو الطلب لنفس الطلب بل لشيء آخر والتالي باطل لأن الطلب لا يعقل إلّامتعلقاً، وقد مضىٰ مثل ذلك في الحسن والقبح العقلي].
2- . هو عبداللّٰه بن أحمد بن محمود الكعبي، أبو القاسم البلخي الخراساني، أحد أئمة المعتزلة وكان رأس طائفة منهم تسمّى «الكعبية»، وله آراء ومقالات انفرد بها، أقام ببغداد مدة طويلة، ولد سنة 273 ه وتوفّى في بلخ سنة 319 ه. له تصانيف، منها: التفسير، السنّة، مقالات الإسلاميين، وأدب الجدل، وغيرها. انظر: الأعلام: 4/65؛ وريحانة الأدب: 5/65.

قال: قالوا: لو لم يجب لصح دونه، ولما وجَبَ التوصُّلُ إلى الواجب، والتوصّلُ واجبٌ بالإجماع.

وأُجيب: إن أُريد ب «لا يصح وواجبٌ» لابُدَّ مِنْهُ، فَمُسَلَّمٌ، وإن أُريد:

مأمورٌ به، فأين دليلهُ، إن سُلِّمَ الإجماع ففي الاسباب بدليل خارجيّ. *

(*) أقول: هذه حجة القائلين بوجوب الاسباب والشروط الحسيّة وتقريرها أنها:

لو لم تكن واجبة لصح الفعل دونها لأنّه لو لم يكن الفعل صحيحاً دونها لزم تكليف مالا يطاق على تقدير عدمها، ولما كان التكليف بالمحال باطلاً لاجرم كان القول بعدم صحة الفعل دونها باطلاً؛ وإذا كان الفعل صحيحاً دونها لم تكن شروطاً حسية ولا أسباباً للفعل فيكون غير الفرض؛ ولأنّها لو لم تكن واجبة لما وجب التوصل إلى الواجب لأن دونها يحصل التوصل إلى الواجب والتوصل واجب بالاجماع.

وأجاب المصنف بأنّ قولكم لو لم تكن واجبة لصحّ الفعل دونها ولا يصحّ الفعل دونها فهي واجبة؛ إن أردتم [بقولكم: لا يصح دونه، أنّه لابدّ منه في تحصيل الفعل؛ فهو مسلّم ولكن لا نسلم أن يكون واجباً، فإنّه نفس المتنازع فيه، وإن أردتم](1) [بالوجوب عدم صحّة وجود الفعل بدونه، فهو مسلم لكنه لا يبقى فرق بين المقدم والتالي وان اردتم بالوجوب](2) إنّه يكون مأموراً به فأين الدليل على هذا؟ ولذلك قولكم: «لو لم يجب لما وجب التوصل إلى الواجب، والتوصل

ص: 262


1- . ما بين المعقوفتين فقط في نسخة «ب».
2- . ما بين المعقوفتين في نسخة «أ» فقط.

....................

إلى الواجب واجب بالاجماع»، إن عنيتم بوجوب التوصل أنّه لابد منه فهو مسلم؛ وإن عنيتم به الأمر، فهو ممنوع لعدم الدليل.

ثمّ إن سُلِّم الإجماع(1) على ان التوصل إلى الواجب واجب لكنّه إنّما يصحّ في الاسباب لدليل خارجي لا لنفس الأمر بالفعل بخلاف غير الأسباب من الشروط الحسية، وذلك الدليل(2) هو أن نفرق بين السبب وغيره بما ذكره السيد المرتضى وهو أنّ عند وجود السبب يكون المسبب واجباً فمحال أن يكلف بالفعل بشرط وجود السبب وذلك لأنّه ينفي كأنّه كلّفه بالفعل بشرط وجود الفعل وهو محال بخلاف [غير](3) الأسباب فإنّه لا استبعاد في أن يكلفنا بالصلاة بشرط كوننا متطهرين.

وأعلم أنّ ما ذكره المصنف ضعيف جداً، والدليل الذي ذكرناه على وجوب الشرط الشرعي أنّه في كل مايتوقف عليه الواجب والفرق الذي ذكرناه من جانب المصنف؛ في غاية الضعف.

ص: 263


1- . هذا هو الإجماع الّذي مرت الاشارة إليه في كلام السُبكي [الهامش، ص 250]، وقد اعادالكرة هنا عند قوله: «وهذا يعرّفك أن المصنّف يختار وجوب السبب، بل يسلم قيام الإجماع عليه». انظر: رفع الحاجب: 1/534. على أن الإنصاف إن الاجماع المزعوم هذا، غير مسلّم عند المصنّف كما يفيده صريح عبارته، فلا يصح اسناد اختيار وجوب السبب إليه بموجبه.
2- . أي: الدليل الخارجي الآنف الذكر، ويمكن القول بان مراد المصنّف من «الدليل الخارجي» هو الإجماع الّذي قال عنه: «إن سُلّم».
3- . في نسخة «ب» فقط.

قال: مسألة: يجوز أن يحرّم واحداً لا بعينه، خلافاً للمعتزلة، وهي كالمخيّر. *

قال: مسألة: يستحيل أن يكون الشيءُ واجباً حراماً من جهة واحدة إلّا عند بعض من يجوِّزُ تكليف المُحال. وأمّا الشيءُ الواحِدُ، لَهُ جهتان؛ كالصلاة في الدار المغصوبة، فالجمهور: تصح، والقاضي: لا تصح، ويَسقُطُ الطلبُ عِنْدَها. وأحمدُ وأكثرُ المتكلّمين: لا تصح، وَلَا يسقط.

لنا: القطع بطاعة العبد وعصيانه، بأمره بالخياطة، ونهيه عن مكان مخصوص، للجهتين. **

تحريم واحد لا بعينه

(*) أقول(1): لا استبعاد في أن يقول السيد لعبده لا تكلّم زيداً أو عمراً فقد حرّمت عليك كلام أحدهما لا بعينه ولا أُحرّم عليك كلام الجميع جمعاً ولا كلام واحد بعينه فلم يبق المحرّم إلّاواحداً لا بعينه وقد مضى مثل هذا في الواجب المخيّر.

اجتماع الأمر والنهي بعنوانين

(**) أقول (2): اختلف الناس في ذلك، وتحقيق القول فيه أن نقول: الشيء الواحد أمّا أن تكون وحدته بالنوع أو بالشخص:

أمّا الأوّل فالمحققون على أنّه يمكن ورود النهي والأمر إليه كالسجود

ص: 264


1- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/83.2. انظر: المحصول في علم الأُصول: 1/340.

....................

للصنم واللّٰه تعالى؛ ونقل عن بعض المعتزلة المنع من ذلك وقال: إنّ السجود ماهية واحدة لا يصحّ تعلق الأمر والنهي بها وأمّا النهي عن السجود للصنم فليس نهيّاً عن السجود في الحقيقة بل عن الطاعة للصنم وهو غير السجود، وهذا ضعيف كما ترى.

وأمّا الثاني فلا يخلو إمّا أن يكون ذا جهتين متعددتين أو لا يكون، أمّا الثاني فقد اتفق المحققون على أنّه لا يجوز ورود الأمر به والنهي عنه، وإنّما خالف في ذلك القائلون بجواز تكليف ما لا يطاق؛ وأمّا الأوّل فالجهتان لا تخلوان أما ان تكونا متلازمتين أو لا، ففي الثاني يجوز ورود الأمر والنهي به(1) كما إذا قال السيد لعبده:

«خِطَّ الثوب ولا تدخل الدار» فإنّه لو خاط الثوب في الدار لكان الفعل هاهنا منهياً عنه من حيث دخول الدار ومأموراً به من حيث خياطة الثوب، ويكون بالحقيقة هاهنا فعلان متغايران؛ أمّا إذا كانتا متلازمتين فالحقّ استحالته(2)، وإلّا لزم وقوع الأمر والنهي على ذات واحدة معينة من جهة واحدة لأنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتم ذلك الشيء إلّابه.

إذا عرفت هذا فنقول: اختلفوا في الصلاة في الدّار المغصوبة، فذهب جمهور الأشاعرة وأكثر الفقهاء إلى جوازها؛ وذهب الجبّائيان وأحمد بن حنبل وأهل الظاهر والإمامية والزيدية إلى المنع، وهو الحقّ عندي.

واستدل المصنف على جواز تعلق الأمر والنهي بشيء واحد من جهتين بأنّ العبد يعد طائعاً وعاصياً إذا خاط الثوب المأمور به ودخل الدار المنهي عنها.

ص: 265


1- . أي: بالواحد عندما تكون وحدته شخصية.
2- . أي: استحالة ورود الأمر والنهي في شيء واحد.

قال: وأيضاً لو لم يصح لكان لاتحاد المتعلقين؛ إذ لا مانع سِوَاهُ اتفاقاً، وَلا اتّحادَ؛ لأن الأمرَ للصلاةِ، والنهي للغصب. واختيار المكلّف جمعهما لا يخرجهما عن حقيقتهما. *

(*) أقول: هذا دليل ثان على ما ذهب إليه، وتقريره أن نقول: لو لم يصح تعلق الأمر بالصلاة في الدار المغصوبة والنهي عنها، لكان المانع من صحّة تعلقهما إنّما هو اتحاد المتعلق إجماعاً إذ لا مانع سواه لكن الاتحاد هاهنا منفي لأنّ الصلاة في الدار المغصوبة قد اشتمل على جهتين: أحدهما كونها صلاة والأُخرى كونها في الدار المغصوبة وهما متغايرتان ويصح انفكاك إحداهما عن الأُخرى إذ توجد صلاة في غير مكان مغصوب والدخول في المكان المغصوب من غير صلاة، واختيار المكلف الإتيان بالصلاة في الدارالمغصوبة لايخرجهما عن حقيقتهما وهو التغاير وعدم التلازم؛ وإذا تغايرت الجهتان ولم يتلازما لم يكن متعلق الأمر والنهي واحداً وإذا لم يكن واحداً صحّ تعلقهما معّاً به.

وفي هذا نظر، وذلك لأنّ الصلاة في الدار المغصوبة أحد أجزائها الكون - الذي هو الحركة والسكون - وهذا الكون منهي عنه، فأحد أجزاء هذه الصلاة منهي عنه مع الأمر بأجزائها أجمع، هذا خلف؛ والصلاة مطلقاً وإن انفكت عن الكون المعيّن لكن الصلاة المعيّنة غير منفكة عنه والكلام إنّما هو في أمر واحد بالشخص؛ وبهذا الاعتبار ظهر الفرق بين الصلاة في الدار المغصوبة والخياطة في المكان المنهي عنه.(1)

ص: 266


1- . لأن «الكون» من الأجزاء المؤسسة للصلاة وهو منهي عنه في المقام فلا يتأتى قصد القربة

قال: واستُدِلَّ: لو لم يصح لما ثبتت صلاة مكروهة، ولا صيامٌ مكروهٌ، لتضادِّ الأحكام.

وأُجيب: بأنّه إنِ اتّحَدَ الكونُ، مُنِعَ، وإلّا لم يفسد لرجوع النهي إلى وصفٍ مُنْفَكٍّ. *

(*) أقول: هذا استدلال من ذهب إلى مذهب المصنّف إلّاأنّ المصنف لم يرتضه، وتقريره أن نقول: لا فرق بين استحالة اجتماع التحريم والوجوب في فعل واحد وجوازه وبين استحالة اجتماع الكراهة والإيجاب أو الندب في فعل واحد وجوازه فإنّه كما يتضاد الوجوب والتحريم، يتضاد الوجوب والكراهة والندب والكراهة؛ إذا عرفت هذا فنقول: لو استحال اجتماع التحريم والوجوب في فعل واحد، لاستحال اجتماع الكراهة والوجوب في فعل واحد، والتالي باطل فالمقدّم مثله؛ وبيان الشرطية قد ظهر(1)، وبيان بطلان التالي أنّه يكره الصلاة في الأمكنة الّتي نص الشارع على كراهية الصلاة فيها كمعاطن(2) الإبل والأودية وغيرها، وكذلك قد كُره الصوم في أيّام معيّنة، ولا شك انّ الصلاة مطلقاً واجبة والصوم مطلقاً واجب ولقد اجتمع الوجوب والكراهة [هاهنا](3)....

ص: 267


1- . قد ورد في حاشية نسخة «أ» ما يلي: [أي بقوله: فإنّه كما تضاد الوجوب إلى آخره...].
2- . مَعَاطِن جمعٌ، مفرده مَعْطَنْ وهو محل بروك الإبل عند الماء.
3- . في نسخة «ب» فقط.

قال: واسْتُدِلَّ: لو لم يصح لما سقط التكليف. قال القاضي: وقد سقط بالإجماع، لأنهم لم يأمروهم بقضاء الصلوات؛ وَرُدَّ بمنع الإجماع مع مخالفة أحمد، وهو أقعد(1) بمعرفة الإجماع. *

أجاب المصنف بأنّه إن كان الكون متحداً، منعنا صحة الصلاة والصوم في الاماكن المذكورة والاوقات المعيّنة [للنهي، وبالجملة نمنع اجتماع الحكمين](2)؛ وإن تغايرا، لم يُفد لأنّه يكون متعلق النهي هو الكون في ذلك المكان ومتعلق الأمر هو الصلاة مطلقاً وهما وصفان متغايران ينفك أحدهما عن الآخر فجاز تعلقهما به كما مر؛ ويريد ب «الكون» في قوله: «إن اتحد الكون»، متعلق الاحكام فأنّه كالمحل لها.

ويحتمل أن يكون المراد بالكون هو المفهوم المتعارف ويكون الجواب خاصّاً بالصلاة، وتقريره: أنّ الصلاة في الدار المغصوبة كونٌ واحدٌ - أي: فعل واحد - واطلق عليها «الكون»، لكون «الكون» لازماً لها وذلك الكون «غصب» و «صلاة»، فالصلاة المكروهة إن كانت كذلك منعنا صحتها؛ وإن لم تكن كذلك كان متعلق الكراهة شيئاً خارجاً عن الصلاة ووصفها اللازم، كالتعرض لخطر السيل في بطن الوادي ونِفارِ الإبل في معاطنها، منعنا الملازمة حينئذٍ.

(*) أقول: هذا استدلال ثان(3)، وتقريره: أنّ الصلاة في الدار المغصوبة لو

ص: 268


1- . أقعد، أي: أقرب؛ يقال: هو أقعد الآباء، أي: اقربهم إلى الجد الأعلى.
2- . في نسخة «ب» فقط؛ علماً بأن ما قبل كلمة «النهي» لم يقرأ والأنسب ما اثبتناه.
3- . يقوم الدليل الأوّل على عدم استحالة اجتماع الوجوب والحرمة، والثاني على سقوطالتكليف. وقد نبه الشارح قدس سره على أنّه كلما أتىٰ المصنّف بكلمة «إسْتُدلَّ» يعني عدم ارتضائه الإستدلال.

قال: [قال] القاضي والمتكلمون: لو صحّت، لاتحدَ المتعلقان؛ لأنّ الكونَ واحدٌ وهو غصبٌ. وأُجيبِ باعتبار الجهتين كما سبق. *

لم تكن صحيحة لما سقط التكليف بفعلها، وقد سقط بالإجماع، فإنّهم لم يأمروا الظلمة(1) بالقضاء للصلوات المأتي بها في المواضع المغصوبة فالصلاة صحيحة، وبيان الشرطية ظاهر [فإن الأصل بقاء ما كان على ما كان ولا يسقط التكليف إلّابفعل المأمور به](2) والقاضي لما سلم الاجماع احتاج إلى التمحل في الجواب عن هذا الاستدلال فقال: إنّ التكليف يسقط عند الإتيان بهذه الصلاة ولا تكون هذه الصلاة علّة في الإسقاط.

والمصنف منع الإجماع وهو الحق فإنّ أحمد نازع في صحة الصلاة وسقوط التكليف بها، وهو أيضاً مذهب الشيعة؛ ومع هذا الخلاف كيف يصحّ ادعاء الاجماع.

(*) أقول: هذه حجة القاضي أبي بكر والمتكلمين على أنّ الصلاة في الدار المغصوبة لا تكون صحيحة، قالوا: لأنّها لو كانت صحيحة لزم اتحاد متعلق الأمر والنهي، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: إنّ الكون في الدّار المغصوبة أمر واحد شخصي غير متعدد وهو منهي عنه، فلو كانت الصلاة مأموراً بها لكان الكون الذي هو جزء منها مأموراً به، ضرورة استلزام الأمر بالمركب الأمر باجزائه؛ وامّا بطلان التالي فظاهر.

وأجاب بالمنع في اتحاد الكون اتحاداً شخصياً بل هو وإن كان واحداً لكن له جهتان هما جهتا غصب وصلاة فيكون متغايراً فيجوز تعلق الأمر والنهي بهذا

ص: 269


1- . أي: الآتون بالصلاة في المكان المغصوب.
2- . في نسخة «ب» فقط.

قال: قالوا: لو صحت، لصح صومُ يوم النحر بالجهتين. وأُجيب بأنّ صومَ يومِ النحر غير مُنفكٍّ عن الصوم بوجه، فلا تتحقق جهتان، أو بأن نهي التحريم لا يعتبر فيه تعددٌ إلّابدليل خاصٍّ فيه. *

الواحد من هاتين الجهتين كما مرّ تقريره.

(*) أقول: هذا استدلال ثان(1) على بطلان الصلاة، وهو أنّها لو كانت صحيحة لصح صوم يوم النحر، لأنّ فيه جهة كونه صوماً وهو مأمور به وجهة كونه صوماً واقعاً في يوم النحر وهو منهي عنه، وإذا تعددت الجهتان جاز التكليف بالفعل ؛ ولكن صوم يوم النحر ليس بصحيح، فلا تكون الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة.

أجاب عنه: بأنّ الفرق واقع بين الصلاة والصوم في يوم النحر [لأنّ الصوم هاهنا لازم لصوم يوم النحر، والصوم في يوم النحر منهيٌ عنه وهو ملزوم للصوم المطلق على معنى أنّ الصوم في يوم النحر منهي عنه](2) لا أنّ ايقاع الصوم في يوم النحر منهي عنه؛ فالحاصل أنّ المنهي عنه هو الواقع لا الوقوع(3)، خلافاً لأبي حنيفة.

وإذا كان الصوم الواقع هو المنهي عنه وهو ملزوم للصوم المطلق، لم يكن ثَمّ تعدد جهات تنفكّ أحدهما عن الأُخرى؛ بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة

ص: 270


1- . كان الدليل الأوّل يعتمد على وحدة متعلق الحرمة والوجوب، والثاني يعتمد النقض بالصوم في يوم النحر.
2- . ما بين المعقوفتين ليس في نسخة «ب».
3- . قال الآمدي: «وأبو حنيفة اعتقد أن المحرّم نفس الوقوع لا الواقع وهما غيران فلا تضاد...». الإحكام في أُصول الأحكام: 1/162.

قال: وأمّا منْ توسّط أرضاً مغصوبة، فحظُ الأُصولي فيه بيان استحالة تعلق الأمر والنهي معاً بالخروج، وخطأ أبي هاشم، وإذا تعيّن الخروج للأمر، قُطع بنفي المعصية (به) بشرطه. وقولُ الإمام: باستصحاب حكم المعصية مع الخروج، ولا نهي، بعيد ولا جهتين لتعذر الامتثال. *

فإنّ النهي فيها تعلق بالغصب والأمر بالصلاة، وكل واحد منفكّ عن الآخر؛ وأيضاً النهي المقتضي للتحريم لا يعتبر فيه تعدد جهات الاّ بدليل خاص لأن نهي التحريم يقتضي الانتهاء عن المنهي عنه واعتبار الجهتين يقتضي جواز الاتيان به وهما متنافيان، ولما دل الدليل على صحّة الصلاة في الدار المغصوبة وجب(1)ووجد نهي الغصب، وكان ذلك دليلاً على تعدد الجهات؛ أمّا هاهنا فلا، وفي هذا الكلام نظر.

(*) أقول: يريد ان يفرق بين الخروج من الدار المغصوبة وبين الصلاة فيها، والفرق أنّ الصلاة في الدار المغصوبة ذا جهتين يصح تعلق الأمر والنهي بهما؛ أمّا الخروج من الدار المغصوبة فليس له جهتان يتعلق الأمر والنهي بهما بل الخروج واجب مأمور به ويستحيل تعلق النهي به؛ وبالجملة، الجواب على الأُصولي بيان استحالة تعلق الأمر والنهي بالخروج بل يتعلق به أحدهما ولا يجب عليه التعيين، إنّما ذلك على الفقيه.

وقوله: وخطأ أبي هاشم، عطف على قوله: استحالة، فإنّ أبا هاشم

ص: 271


1- . أي: وجب فعل الصلاة.

....................

يذهب إلى أنّه يكون عاصياً بالخروج والمقام معاً، وإنّما كان هذا القول خطأ لأدائه إلى التكليف بالمحال، فإنّ الخروج متعيّن للأمر فلا يكون الخارج عاصياً بالخروج،.(1)

وإمام الحرمين قال إنّه قد كان عاصياً فيكون هذا الحكم مستصحباً مع الخروج(2)؛ وهذا القول بعيد لأنّه ليس ثمَّ نهيٌّ يدل على العصيان بالخروج؛ لا يقال: لم لا يجوز أن تكون هناك جهتان يتعلق الأمر والنهي بهما؟ لأنّا نقول: لو كان الخروج منهيّاً عنه بوجه ما، لزم تعذر الامتثال للأمر بالخروج مع النهي عنه وذلك جمع بين الحركة والسكون.

[ولا جهتان متعددتان يصح تعلق الأمر والنهي بهما. وهذا القول بعيد، ووجه بعده أنّه مأمور بالخروج فلو كان عاصياً به لزم بعد الامتثال.](3)

ص: 272


1- . ورد في نسخة «ب» بعد كلمة «بالخروج» ما يلي: [(والقطع بعدم المعصية عند الخروج إنّما يكون شرطاً أن يقع الخروج على جهة التوبة؛ فإنّه لو قصد بالخروج التصرف في ملك الغير لم تنتف المعصية عنه]. والأولى ان يقال: «والقطع بعدم المعصية عند الخروج إنّما يتحقق إذا وقع الخروج على جهة التوبة...».
2- . راجع البرهان: ج 1، المقدمة: 203.
3- . فقط في نسخة «أ».

قال: مسألة: المندوب مأمور به خلافاً للكرخيِّ والرازيِّ.

لنا: إنّه طاعةٌ وأنهم قسّموا الأَمرَ إلى إيجاب وَندبٍ.

قالوا: لو كان، لكان تركُهُ معصية؛ لأنها مخالفةُ الأمر، وَلَمَا صَحَّ:

«لأمرتهُمُ بالسواك».

قلنا: المعيّن الأمرُ للإيجاب فيهما. *

هل المندوب مأمور به؟

هل المندوب مأمور به؟(1)

(*) أقول: ذهب الكرخي(2) وابوبكر الرازي(3) من أصحاب أبي حنيفة إلى أنّ المندوب غير مأمور به؛ وذهب الجمهور إلى أنّه مأمور به.

أدلّة المثبتين

احتج المثبتون(4) بوجهين:...

ص: 273


1- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/86.
2- . هو أبو الحسن عبيد اللّٰه بن الحسين الكرخي (المتوفّىٰ 340 ه) كان معتزلياً، أخذ الكلام عن أبي عبداللّٰه البصري، وله رسالة في الأُصول، عليها مدار فروع الحنفية. انظر: الاعلام: 4/193؛ موسوعة طبقات الفقهاء: 4/257.
3- . هو أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصّاص من أهل الري، انتهت إليه رئاسة الحنفية، وألف كتاب «أحكام القرآن» وكتاباً في أُصول الفقه، سكن بغداد ومات فيها سنة 370 ه. انظر: الاعلام للزركلي: 1/171.
4- . المثبتون هم جمهور الفقهاء الذين اثبتوا أن المندوب مأمور به؛ ويأتي بعد ذلك قول المانعين.

....................

الأوّل: أن فعل المندوب يسمى طاعة بالاتفاق، وليس هذا الوصف حاصلاً له لذاته وإلّا لكان طاعة على تقدير كونه منهياً عنه، ولا لكونه موجوداً وحادثاً وغير ذلك من الصفات التي شاركه فيها غيره من الحادثات وإلّا لكان كلّ حادث طاعة، ولا لكونه مراداً للّٰه تعالى وإلّا لكان كل مراد الوقوع طاعة وليس كذلك فإن القبائح الصادرة عن العباد مرادة للّٰه تعالى عندهم(1) ولا تكون طاعة، ولا لكونه مثاباً فإنّ المأمور به الآتي بما أُمِرَ به يسمّىٰ طائعاً وإن لم يُثب ولم يُعاقب، ولا لكونه موعوداً بالثواب والاّ لزم تحققه لأنّ الخلف في خبر اللّٰه تعالى محال؛ لكن الثواب غير لازم للمندوب إجماعاً منهم فلم تبق العلّة في كونه طاعة سوى كونه امتثال الأمر.

فهذا تقرير الوجه الأوّل، وهو ضعيف لأنّا نقول:

لا نسلّم أوّلاً أنّ الآتي بالمندوب يكون طائعاً وكيف يكون كذلك ومذهب جماعة من الأشاعرة أنّ الأمر للوجوب، فالآتي بالمندوب لا يسمّى طائعاً

ص: 274


1- . قال الآمدي في الأبكار: ... أن اللّٰه - تعالى - مريد لجميع الجائزات والكفر والفساد من جملتها، فيكون مريداً له... أبكار الافكار في أُصول الدين: 1/220. وهو معارض لما ورد في الكتاب العزيز لأنّه: أوّلاً - الظلم من جملة الممكنات واللّٰه سبحانه يقول: «وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ» غافر: 31. «وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعٰالَمِينَ» آل عمران: 108. ثانياً: انّه - جل وعلا - وصف الكفر بالظلم وذلك في قوله: «وَ اَلْكٰافِرُونَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ» البقرة: 254. فكيف يريد اللّٰه سبحانه ما هو مصداق للظلم الّذي نفاه عن نفسه في الآيتين؟ سبحانه وتعالى عما يصفون!

....................

عندهم.

وأيضاً يمتنع كون الطاعة هي موافقة الأمر وحصرهم فيما ذكروه غير مستند إلى دليل وعلى تقدير الحصر فلم لا يجوز أن يكون طاعة لكونه مراداً للّٰه تعالى.

وقولهم القبائح مرادة وغير مأمور بها مبني على أنّ الطلب غير الإرادة وهو ممنوع(1).

سلمنا لكن لم لا يجوز أن يقال إنّما يسمى طائعا لكونه آتياً بما يوافق الطلب ومطلق الطلب ليس أمراً بل الطلب الجازم.

الوجه الثاني(2): إن أهل الإثبات اتفقوا على صحة انقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب، ومورد القسمة مشترك بين القسمين.

ص: 275


1- . وقد عالج شيخنا الأُستاذ السبحاني مسألة «الطلب والارادة» في مجلس درسه العامر ببراعة وقوة وكفاءة عالية بحيث لم يُبق لها ما يعتمد عليه - للّٰه دره - وفي هذه العجالة لا يسع المجال للتطرق إلى معالجاته فإلى مجال آخر بإذن اللّٰه. والشارح المفضال في كتابه «مناهج اليقين» رد على القول بانفكاك الارادة عن الطلب بعد نعته بأنّه سخيف، وفي ما يلي نأتي بما افاده قدس سره في بيان منا: أوّلاً: لاعلم لنا بصفة زائدة على الإرادة في حقه تعالى. ثانياً: برغم المغايرة مفهوماً بين الطلب والأرادة لا يعقل انفكاكهما بتاتاً لأنّه يستحيل أن تكره شيئاً ثم تريده، والمريد للقبيح - في قولهم انّه يريد الفساد والكفر ولايطلبهما - ناقص في حين انّه - سبحانه - غني، حكيم، عزيز؛ فله صارف عن ارتكابه؛ والكتاب العزيز لا يصف الباري بالطالب ولا مرة مع انّه يصفه بالمريد دوماً وأبداً. انظر: مناهج اليقين في أُصول الدين: 176.
2- . أي: الوجه الثاني للمثبتين.

....................

أدلة المانعين

والمانعون يمنعون هذا التقسيم، ويحتج المانعون بوجهين:

الأوّل: أنّ المندوب لو كان مأموراً به لكان تاركه عاصياً لأنّ العصيان هو المخالفة للأمر ولا يكون عاصياً وإلّا لاستحق العقاب فيكون واجباً، هذا خلف.

الثاني: لو كان المندوب مأموراً به لما صح قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لولا أن أشق على أمّتي لأمرتهم بالسواك».

وجه الاستدلال: أن «لولا» حرف دال على امتناع الشيء لوجود غيره، فهذا يدل على أن الأمر بالسواك قد امتنع لوجود المشقة مع أنّ السواك مندوب بالاتفاق؛ فالمندوب ليس مأموراً به.

أجاب المصنف عن الوجهين بوجه واحد وهو أنّ المعصية عبارة عن الإتيان بمخالفة الأمر الدال على الإيجاب ولذلك قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لأمرتهم بالسواك» أشار به إلى أمر الإيجاب.

وأعلم أنّ التحقيق في هذه المسألة أن نقول المراد من كون المندوب مأموراً به إمّا أن يكون هو أن المندوب يصدق عليه لفظ المأمور، أو أنّ المندوب هل هو مطلوب، أم لا؟ أمّا الأوّل: فالبحث عنه إنّما يكون ببيان أنّ الأمر هل هو للوجوب أم لا؟

وأمّا الثاني: فالحق أنّه مطلوب قطعاً.

ص: 276

قال: مسألة: المندوب ليس بتكليفٍ، خلافاً للأُستاذ، وهي لفظيّةٌ. *

قال: مسألة: المكروه منهيٌ عنه غير مكلف به، كالمندوب، ويُطلقُ أيضاً على الحرام، أو على ترك الأَولىٰ. **

(*) أقول: ذهب جماعة من الأُصوليين إلى أنّ المندوب ليس من أحكام التكليف، وخالفهم في ذلك ابواسحاق الاسفرائيني وهذه المسألة لفظية،(1) فإنّهم إن عنوا بالتكليف ما أُمر به أو ما يحصل الثواب بفعله، فالمندوب من التكاليف؛ وإن عنوا به ما هو مطلوب طلباً مانعاً من النقيض فالمندوب ليس كذلك.

في معاني المكرو

(**) أقول: المكروه بالاشتراك على ثلاثة معان:

أحدها: ما نُهيَ عنه نهي تنزيه لا تحريم كالصلاة في الاماكن المخصوصة والاوقات المخصوصة ويُحد هذا المعنى بأنّه المنهي الّذي لا ذمّ على فعله وهو غير مكلف به، على قياس ما مرّ في المندوب.

الثاني: الحرام.

الثالث: ترك ما مصلحته راجحة كترك المندوب ويحدّ هذا المعنى بترك الأولى.(2)

ص: 277


1- . أي: أن النزاع بينهم لفظي.
2- . إنّ السبكي في «رفع الحاجب» غيّرَ التقسيم الثلاثي المدرج آنفاً في محتواه فقال: المكروه فيه مباحث: أحدها: «منهي عنه». والثاني: أنّه «غير مكلف به»... والثالث: أنّه «يطلق أيضاً على الحرام»... «وعلى ترك الأَولى».. إلّا أن محقّق الكتاب جاء في الهامش بالتقسيم الثلاثي المذكور أعلاه في ثنايا الشرح، ولعل ما جاء به كان لتلافي التشويش الحاصل في تقسيم السُبكي غير أنّه لم يُشر إلى شرح العلّامة ابن المطّهر أصلاً. انظر: رفع الحاجب: 1/562-563.

قال: مسألة: يطلق الجائز على المُباح، وعلى ما لا يمتنع شرعاً أو عقلاً، وعلى ما استوى الأمران فيه، وعلى المشكوك فيه فيهما بالإعتبارين. *

قال: مسألة: الإباحة حكم شرعي، خلافاً لبعض المعتزلة.

لنا: أنها خطاب الشارع.

قالوا: انتفاء الحَرَجِ، وهو قَبْلَ الشرع. **

ماهية الجائز

(*) أقول: يطلق الجائز على المباح وهو الذي لا يتعلق بفعله ولا بتركه مدح ولا ذم؛ وعلى ما لا يمتنع وجوده شرعاً وهو بهذا المعنى أعمّ من الأوّل؛ وعلى ما لا يمتنع وجوده عقلاً وهو أعمّ من الثاني؛ وعلى ما لا يمتنع وجوده ولا عدمه وهو أخص من الثالث؛ وعلى المشكوك في وجوده وعدمه في الشرع أو العقل باعتبار ما لا يمتنع وباعتبار استواء الطرفين.

الاباحة حكم شرعي

(**) أقول: هذه المسألة أيضاً لفظية وذلك لأنّ الإباحة إن أُريد بها ما...

ص: 278

قال: مسألة:

المباح غير مأمورٍ به، خِلافاً للكعبي.

لنا: أن الأمر طلب يستلزم الترجيح ولا ترجيح. *

انتفىٰ الحرج عن فعله وتركه فليست حكماً شرعياً لأنّه قبل الشرع لا حرج، وإن أُريد الخطاب الوارد من الشرع بانتفاء الحرج عن الطرفين فهي من الأحكام الشرعية، بناءً منهم على أنّ الحكم هو خطاب الشرع.

(*) أقول: ذهب الكعبي وأتباعُه من المعتزلة إلى نفي المباح وأن كلّ فعل يفرض فإنه واجب مأمورُ به؛ والمحققون على خلاف هذا، وذلك لأن الأمر طلب الفعل وذلك يستدعي ترجيح الفعل على الترك والمباح لا ترجيح فيه(1).

ص: 279


1- . تضاربت الآراء في تبيين مراد الكعبي في نفي المباح في الشريعة، والمصنف ذهب إلى الرأي القائل بأن مراده هو أنّ كل ما ظنناه مباحاً فهو مأمور به وواجب، وذلك من ناحية انّه به يترك الحرام. وقد اجاب المصنّف على ذلك بأن الأمر هو طلب الفعل وهو يقتضي ترجيح الفعل على الترك والمباح لا ترك فيه. وهذا الكلام محجوج لا يصدق على اطلاقه لأن المباح قد يكون مقدمة لترك الحرام - كما مرت الاشارة إليه - فيكون راجحاً؛ إلّاأن يقال أن موضع النزاع هو الإقتضاء الذاتي، والمباح في ذاته عديم الترجيح. ينظر: الإحكام للآمدي: 1/88؛ المستصفىٰ: 1/142؛ رفع الحاجب: 2/6-8.

قال: قال: كلّ مباح تُرِكَ حرامٌ وتركُ الحرام واجب، وما لا يتم الواجب إلّابه فهو واجب، وتأول الإجماع على ذات الفعل لا بالنظر إلى ما يستلزم جمعاً بين الأدلة.

وأجيب بجوابين:

أحدهما: أنّه غير معيّن لذلك، فليس بواجبٍ، وفيه تسليمُ أنَّ الواجبَ وَاحِدٌ، فما فَعَلَهُ، فَهُوَ واجبٌ قطعاً.

الثاني: إلزامهُ أن الصلاة حرامٌ، إذا تُرِك به واجبٌ، وهو يلتزمه باعتبار جهتين.

ولا مُخَلِّصَ إلّابأنّ ما لا يتم الواجب إلّابه من عقلي أو عادي، فليس بواجب.

وقول الأُستاذ: «الإباحة تكليف» بعيدٌ. *

(*) أقول: هذه حجة الكعبي مع الجواب عنها، وتقريرها: أنّ كلّ مباح فإنّه ترك حرام وكلّ ما يحصل به ترك الحرام فإنّه يكون واجباً.

أمّا المقدمة الأُولى فلأنّ كلّ فاعل للمباح فإنّه بفعله ذلك يكون تاركاً للحرام، وأمّا الكبرى فلأنّ ترك الحرام واجب ولا يتم إلّابضد من أضداده وما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب ففعل الضد واجب لكن الضد هو المباح فقد تبيّن أنّ المباح واجب....

ص: 280

....................

ثمّ إنّ الجمهور أورد عليه أنّ هذا القول خلاف الإجماع فيكون باطلاً.

وبيان أنّه خلاف الإجماع أنّ الاجماع قد انعقد على أنّ الأحكام تنقسم إلى وجوب وندب وإباحة وكراهة وتحريم، فالقول بنفي المباح يكون قولاً بخرق هذا الإجماع.

فتأول الكعبي هذا الاجماع بأنّه يجب حمله على ذات الفعل مع قطع النظر عن تعلق الأمر به بسبب توقف الحرام عليه فإنّه حينئذٍ لا يكون مأموراً به، أمّا إذا اعتبر كون المباح يتوقف عليه ترك الحرام وكان ترك الحرام واجباً فإنّه يكون واجباً؛ وإنّما إلتجأ إلى هذا التأويل جمعاً بين الأدلة.

ثمّ إنّ الجمهور أجابوا عن هذه الحجة بجوابين:

الأوّل: إن ترك الحرام وإن كان واجباً وأن هذا الواجب يحصل بفعل الضد لكن لا يلزم من ذلك أن يكون ذلك الضد واجباً لأنّه إنّما يكون واجباً إذا لم يكن للفعل إلّاضدٌ واحدٌ، أمّا إذا تعددت الأضداد فلا يلزم وجوب أحدها على التعيين لأنّه قد يحصل المطلوب بفعل غير ذلك الضد.

واعترض عليهم بعض المتأخرين بأنّ هذا تسليم أنّ الواجب واحد لا بعينه، لأنّه إذا كان ترك الحرام واجباً وأنّه لا يتم الاّ بفعل أحد الأضداد وإن ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهوواجب، لزم الجزم بوجوب أحد الأضداد لا بعينه لكن ذلك يتعيّن بفعل المكلف فإنّه إذا فعل يكون واجباً إجماعاً، فعلى تقدير أن يختار المكلف فعل المباح يكون ذلك واجباً.

الوجه الثاني: الإلزام وهو أنّ المندوب يلزم أن يكون واجباً، بل المحرّم...

ص: 281

قال: مسألة: المباح ليس بجنس للواجب، بل هما نوعان للحكم.

لنا: لو كان جنسَهُ، لاستلزم النوعُ التخييرَ.

قالوا: مأذون فيهما، واختُصَّ الواجب، قلنا: تركتم فصلَ المُباحِ. *

إذا ترك به محرم آخر يلزم أن يكون واجباً بل الصلاة تكون حراماً إذا ترك بها واجبٌ آخر، وهذا باطل بالإجماع فكذا ما ذهبتم إليه.

وأجاب عنه بعض الأُصوليين بما ذكره المصنف وهو أنّ له أن يلتزم بذلك فإنّه لا استبعاد في أن يكون الشيء واجباً حراماً، أو مندوباً واجباً من جهتين كما مثلّوا به في الصلاة في الدار المغصوبة.

ثمّ قال المجيب إنّه لا جواب عن هذا إلّابالتزام أن ما لا يتم الواجب إلّابه فإنّه لا يكون واجباً ولكن ذلك على خلاف القاعدة المشهورة بينهم، والمصنف لما كان عنده أنّ ما لا يتم الواجب إلّابه فإنّه لا يكون واجباً إذا كان شرطاً شرعياً دون ماعداه، خصص بقوله: من عقلي أو عادي.

وأعلم أنّ الأُستاذ أبا اسحاق الاسفرائيني ذهب إلى أنّ المباح تكليف وهذا في غاية البعد إذ التكليف مأخوذ مما فيه كلفة ومشقة، ولا مشقة مع التخيير.

هل أنّ المباح جنس للواجب؟

(*) أقول: ذهب جماعة من الأُصوليين إلى أنّ المباح جنس للواجب والجائز بالمعنى الأخص، والمصنف منع هذا وجعلهما نوعين للحكم متباينين....

ص: 282

....................

وفائدة المسألة تظهر في نسخ الواجب هل يبقى معه الجواز قطعاً أم لا؟ فالقائلون بأنّ الجائز جنس للواجب ذهبوا إلى بقائه.

والمانعون قالوا أنّ الحكم بعد النسخ يبقى كما كان قبل الوجوب.

واحتج المصنف على ذلك بأن المباح لو كان جنساً للواجب لكان الواجب الذي هو النوع مستلزماً للتخيير والتالي باطل فالمقدم مثله، وبيان الملازمة أنّ الواجب ملزوم للجائز حينئذ لاستلزام النوعِ الجنسَ، والجائز مستلزم للتخيير إذ هو معناه فيكون الواجب مستلزماً للتخيير ضرورة أنّ المستلزم للمستلزم للشيء مستلزم لذلك الشيء؛ وأمّا بطلان التالي فظاهر إذ يلزم منه خروج الواجب عن كونه واجباً.

احتج القائلون بالجنسية بأنّ المباح هو المأذون فيه، والواجب هو المأذون فيه مع المنع من الترك، فالمأذون فيه هاهنا الذي هو حقيقة المباح جزء للواجب مشترك بينه و بين غيره فيكون جنساً له.

والجواب: أنّكم قد اغفلتم فصل المباح وذلك لأنّ المباح هو المأذون في فعله الذي لا يذم بتركه، ولا شكّ في أنّ المباح بهذا الاعتبار ليس جنساً.

والحق أنّ هذه المسألة لفظية فإنّ المباح إن عُني به المأذون في فعله مطلقاً، فلا شكّ في جنسيته للواجب والمباح بالمعنى الأخصّ والمندوب؛ وإن عُني به المأذون في فعله الذي لا يُذم على تركه فلا شكّ في أنّه لا يكون جنساً، ولعلّ وقوع الخلاف إنّما هو نشأ من قبل الغلط بسبب الاشتراك اللفظي.

ص: 283

قال: مسألة: خطاب الوضع(1)، كالحكم على الوصف بالسببية الوقتية كالزوال، والمعنوية كالإسكار والملك والضمان والعقوبات. *

خطاب الوضع

(*) أقول: لما فرغ من الكلام في خطاب اللّٰه تعالى المتعلّق بأفعال المكلف بالإقتضاء أو التخيير؛ شرع في خطابه تعالى المتعلق بالوضع(2) وهو على أنواع:

أحدها: الحكم على الوصف المعيّن بكونه سبباً، ويعني به الوصف الظاهر المنضبط الذي دل الدليل السمعي على كونه معرفاً للحكم الشرعي.

وإنّما اشترط في السبب كونه ظاهراً وكونه منضبطاً لأنّ الاسباب إنّما وضعت معرّفات للأحكام المستفادة من الخطاب المتعسّر على الخلق معرّفته خصوصاً بعد انقطاع الوحي، فكان من لطف اللّٰه تعالى نصب أُمور تكون معرّفةً للأحكام النازلة بالمكلفين فيجب أن تكون تلك الأُمور مضبوطة ظاهرة وإلّا لكان نصبها مناقضاً للغرض، ولكان المكلّف بالفعل تزداد مشقته إذ يجب عليه فهم الحكم وفهم الوصف الخفيّ، وذلك ممّا ينافي العناية.

إذا عرفت هذا فنقول: السبب ينقسم إلى وقتي وإلى معنوي:

أمّا الأوّل فكالزوال فإنّه سبب لوجوب الظهر بمعنى أنّه معرِّف لوجوبها لا أنّه علة للوجوب.

ص: 284


1- . وهو الّذي نسميه في مصطلح اليوم بالحكم الوضعي.
2- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/91؛ المحصول في علم الأُصول: 1/24.

قال: وبالمانع للحكم لحكمةٍ تقتضي نقيض الحكم، كالأبُوّة في القصاص، وللسبب بالحكمة تُخِلَّ بحكمة السبب، كالدّين في الزكاة. *

قال: فإن كان المستلزم عدمه، فهو شرط فيهما، كالقدرة على التسليم والطهارة. **

وأمّا الثاني فكالإسكار فإنّه أمر معنوي معرّف للتحريم، وكالمُلك فإنّه سبب لإباحة المنفعة، وكالإتلاف فإنّه سبب للضمان، وكالزنا فإنّه سبب موجب للعقوبة؛ فهذه أسباب معنوية وضعها الشارع معرّفات للأحكام الشرعية.

(*) أقول: هذا هو النوع الثاني من أنواع خطاب الوضع، وهو الحكم على الوصف بأنّه مانعٌ.

وأعلم أنّ المانع قد يكون مانعاً للحكم وقد يكون مانعاً للسبب.

أمّا مانع الحكم فرسموه بأنّه «الوصف الوجودي الظاهر المنضبط المستلزم لحكمة مقتضاها نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب» وذلك كالأُبوة المانعة من القصاص مع القتل العمد العدواني، وما اشتملت عليه هو كون الوالد سبب وجود الولد فلا يكون الولد سبباً معدماً له.

وأمّا مانع السبب فرسموه بأنه الوصف المخل وجوده بحكمة السبب كالدّين في باب الزكاة مع ملك النصاب، فالفارق بين مانع الحكم ومانع السبب هو وجود حكمة السبب وعدمها.

(**) أقول: هذا هو النوع الثالث من أنواع خطاب الوضع وهو الحكم على الوصف بأنّه شرط....

ص: 285

قال: وأمّا الصحّة والبطلان أو الحكم بهما، فأمرٌ عقليٌ، لأنها إمّا كون الفعل مسقطاً للقضاء، وإمَّا مُوافَقَةُ أمر الشارع، والبطلان والفساد نقيضُها.

الحنفية: الفاسدُ المشروع بأصله، الممنوع بوصفه. *

وأعلم أنّا قد ذكرنا أنّ الوصف المانع للسبب هو المستلزم وجوده لإخلال حكمة السبب، وأنّ الوصف المانع للحكم هو المستلزم وجوده لحكمة تقتضي نقيض حكم السبب؛ فإن كان الوصف يستلزم عدم ذلك لا وجوده سُميَّ شرطاً، فشرط السبب ما كان عدمه مستلزماً للإخلال بحكمة السبب كالقدرة على التسليم في باب البيع.(1)

وشرط الحكم ما كان عدمه مستلزماً لحكمة تقتضي نقيض حكم السبب مع بقاء حكمة السبب كعدم الطهارة في الصلاة مع الاتيان بمسمى الصلاة(2).

الصحة والبطلان

(*) أقول: هذان نوعان آخران من أنواع خطاب الوضع وهو الحكم على

ص: 286


1- . في نسخة «ب» وردت العبارة التالية بين كلمتي «باب البيع وشرط الحكم»: [الّذي هو سبب لثبوت الملك، إذ حكمة البيع حلّ الانتفاع بالمبيع، المتوقف على القدرة على الانتفاع، المتوقف على القدرة على التسليم، فعدمها مخلّ لحكمة السبب]. والظاهر أنّ العبارة من غير المؤلِّف اُضيفت لأجل التوضيح ثم أُدرجت في نسخة «ب» في المتن.
2- . ورد المقطع التالي في هامش نسخة «أ» وفي نسخة «ب» أُدرج في المتن، ونحن ارتأينا درجه في الهامش كما في نسخة «أ»: [لاشتمال عدم الطهارة مع ثبوت الصلاة على ما يقتضي نقيض حكم السبب، أعني عدم الثواب لكونه نقيض الثواب الّذي هو حكم المسبب مع بقاء حكم السبب وهو التوجه إلى اللّٰه تعالى.]

قال: وأمّا الرخصة، فالمشروعُ لعُذرٍ مع قيام المحرّم لولا العذر، كأكل الميتة للمُضطر، والقصر والفِطرِ في السفر واجباً ومندوباً ومُباحاً. *

الفعل بالصحة والبطلان وهما عقليان، وذلك لأنّ الصحة إمّا أن تكون في العبادات أو في المعاملات:

أمّا العبادات فلها تفسيران: احدهما، ما ذهب إليه الفقهاء، وهو أنّها عبارة عن سقوط القضاء بالفعل، والثاني: ما ذهب إليه المتكلّمون وهو أنّها عبارة عن موافقة أمر الشارع فمن صلّى مع ظن الطهارة ثمّ تبيّن خلاف ظنه، كانت صلاته غير صحيحة بالتفسير الأوّل لأنّها غير مسقطة للقضاء، وصحيحة بالتفسير الثاني لكونها موافقة لأمر الشارع.

وأمّا المعاملات فالصحة في العقد عبارة عن ترتب أحكامه المطلوبة منه عليه، وأمّا البطلان فإنّه يقال لما يقابل هذه المعاني،(1) والفساد مرادف للبطلان.

والحنفية ذهبوا إلى أنّ الفساد غير البطلان وذلك لأنّ الفساد عندهم هو ما كان مشروعاً بأصله ممنوعاً بحسب وصفه كالربا فإنّه مشروع من حيث إنّه بيع ممنوع من حيث اشتماله على الزيادة؛ والباطل ما كان ممنوعاً بحسب أصله ووصفه معاً.

(*) أقول: الفعل الذي يجوز للمكلف الإتيان به إن كان مع قيام المقتضي للمنع فهو الرخصة والاّ فهو العزيمة.

ص: 287


1- . ورد في هامش النسختين: [ولا شك في أن هذه المعاني عقلية لأن الصلاة إذا اشتملت على شرائطها حكم العقل بصحتها بكل واحدٍ من التقديرين، سواء حكم الشارعُ بها أو لا. وفيه نظر، فإن كون الفعل موافقاً لأمر الشارع يتوقف على ثبوت الأمر.]

....................

وقد حدّ المتقدمون الرخصة بحدود مدخولة كقول بعضهم: «الرخصة ما رُخّص فيه مع كونه حراماً».

وهو مع اشتماله على الدور، مشتمل على التناقض.

وقال آخرون: «الرخصة ما أُبيح فعله مع كونه حراماً».

وهو غير سليم عن الإشكال الثاني وإن كان سليماً عن الأول.

وقال بعض الأشعرية: «الرخصة ما جاز فعله لعذر مع قيام السبب المحرم».

وهو فاسد لأنّ الرخصة كما تكون في الأفعال تكون في التروك.

وقال آخرون: «انّ الرخصة هوالمشروع فعله لعذر مع قيام المحرم لولا العذر».

وهو الذي ذكره المصنف، وهو قريب؛ فما أباحه اللّٰه تعالى في الأصل من الأكل والشرب لا يسمى رخصة ويسمي تناول الميتة رخصة، وكذلك سقوط الصوم عن المسافر، والتيمم مع وجود الماء إذا لم يتمكن من الاستعمال للمرض؛ أو البيع بأكثر من ثمن المثل يسمى رخصة، أما إذا لم يوجد الماء فإنّه لا يسمى رخصة لعدم ورود التكليف بالوضوء لاستحالة التكليف بالمحال.

وأعلم أنّ الرخصة قد تكون واجبة كتناول الميتة استحفاظاً بالنفس، وقد لا تكون كالقصر.

ص: 288

قال: (مسألة): المحكوم فيه الأفعالُ. شرطُ المطلوب الإمكان ونُسِبَ خلافه إلى الأشعري، والإجماع على صحة التكليف بما عَلِمَ اللّٰه أنّه لا يقع.

لنا: لو صحّ التكليف بالمستحيل لكان يستدعي الحصول لأنّه معنى الطلب، ولا يصح لأنّه لا يُتصور وقوعُهُ، واستدعاء حصوله فرعه لأنّه لو تصور مثبتاً، لزم تصورُ الأمرِ على خلاف ماهيته، وهو محال. *

التكليف بما لا يطاق

(*) أقول: اختلف الناس في التكليف بما لا يطاق(1) فذهب الأشعري إلى جوازه، والمحققون إلى امتناعه، مع وقوع الاجماع على أنّ التكليف بما علم اللّٰه عدمه واقعٌ، فإنَّ أبا جهل كُلّف بالإيمان مع علم اللّٰه تعالى بعدمه منه.

والغزّالي ذهب إلى امتناع وقوع التكليف بالمحال لذاته دون ما كان مستحيلاً باعتبار غيره، وإليه ذهب المصنفُ، واستدلّ الغزّالي بما ذكره المصنف، وتقريره أنّه لو كان التكليف بالمحال جائزاً لكان المحال يستدعي الحصول والتالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية: أنّ التكليف طلب ما فيه كلفة، والطلب عبارة عن استدعاء الحصول.

ص: 289


1- . انظر: المنخول: 79 و 85؛ الإحكام للآمدي: 1/96؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/545.

قال: فإن قيل: لو لم يُتصور، لم يُعلم إحالة الجمع بين الضدّين؛ لأن العلم بصفة الشيء فرعُ تصوره.

قلنا: الجمع المتصوّر جمع المختلفات، وهو المحكوم بنفيه، ولا يلزم من تصوره منفيّاً عن الضدين تصورُهُ مثبتاً.

فإن قيل: يتصور ذهناً للحكم عليه، لا في الخارج.

قلنا: فيكون الخارجُ مستحيلاً، (والذهني بخلافه)، وأيضاً يكونُ الحكمُ بالاستحالة على ما ليس بمستحيل، وأيضاً الحكم على الخارج يستدعي (تصوره في) الخارج. *

وبيان بطلان التالي: أن المحال لا يتصور وقوعه، ومستدعي الحصول متصور وقوعه فالمحال لا يكون مستدعي الحصول، أمّا الصغرى فلأنّه لو كان متصور الوقوع لزم تصور الشيء على خلاف ما هو عليه وهو محال.

وأمّا الكبرى فلأنّ استدعاء الحصول فرع على تصور المطلوب، فإذا لم يكن الأصل ثابتاً لا يكون الفرع موجوداً.

(*) أقول: هذا اشكال على صغرىٰ القياس المبطل للتالي المذكور، وتقريره أنّ الجمع بين الضدين لو لم يتصور لم يعلم كونه محالاً والتالي باطل فالمقدّم مثله، بيان الشرطية: إنّ العلم بكون الجمع بينهما محالاً علمٌ بصفة الشيء والعلم بالصفة مسبوق بالعلم بالموصوف، فالعلم بكون الجمع محالاً مسبوق بالعلم بالجمع، فلو لم يكن العلم بالجمع حاصلاً لم يكن العلم بالصفة حاصلاً؛ وبيان بطلان...

ص: 290

....................

التالي ظاهر.

وأجاب المصنف بأنّ العلم لم يتعلق بالجمع بين الضدين الذي هو محال بل تعلّق بالجمع الذي يقع بين المختلفات وهو المحكوم بنفيه، فالحاصل انّا نحكم على الضدين بأنهما لا يقع بينهما الاجتماع الذي يقع بين المختلفين، ولا يلزم من تصور نفي الاجتماع بينهما تصور ثبوت الجمع بينهما.

لا يقال: لم لا يجوز أن يتصور في الذهن وإن كان محالاً في الخارج؟

لأنّا نقول: الثابت في الذهن ثابت في الخارج، لأنّ الذهن ثابت في الخارج، فالثابت فيه يكون ثابتاً فيما هو ثابت في الخارج، وكلّ ما هو ثابت فيما هو ثابت في الخارج فهو ثابت في الخارج فيكون المستحيل موجوداً في الخارج [ولا يستحيل في الخارج](1) فلا يستحيل في الذهن، وقوله: ولا في الخارج أي: ولا مستحيل في الخارج.

وأيضاً، الثابت في الذهن موجود فيه والموجود في الذهن يستحيل أن يكون محالاً في الذهن فلا يكون الحكم بالاستحالة على ما في الذهن وإلّا لكان الحكم بالاستحالة على ما ليس بمستحيل.

وأيضاً، الحكم في الخارج بالاستحالة يستدعي المطابقة وإلّا لكان جهلاً فيكون في الخارج شيء مستحيل وهذا غير متصور.

وأعلم أنّ لنا في هذه الكلمات نظراً.

ص: 291


1- . في نسخة «أ» فقط.

قال: المخالف: لو لم يصح، لم يقع؛ لأنَّ العاصي مأمورٌ، وَقَدْ عَلِمَ اللّٰهُ أنّه لا يقعُ، وأخبرَ أنّه لا يؤمن؛ وكذلك من علم بموته وَمَنْ نُسِخَ عنه قبل تمكنه، ولأن المكلّف لا قدرة له إلّاحال الفعل، وهو حينئذ غير مكلف، فقد كُلِّف غير مستطيع، ولأن الافعال مخلوقة للّٰه تعالى، ومن هذين نُسبَ تكليفُ المحال إلى الأشعري.

وأُجيب بأن ذلك لا يمنع تصوّر الوقوع لجوازه منه فهو غير محل النزاع، وبأنّ ذلك يستلزم أنَّ التكاليف كلها تكليف بالمستحيل، وهو باطل بالاجماع. *

القول بجواز التكليف بالمحال

(*) أقول: هذه حجة القائلين بجواز التكليف بالمحال، وتقريرها أن نقول:

لو لم يصح التكليف بالمحال لم يقع، والتالي باطل فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة.

وبيان بطلان التالي من وجوه:

أحدها: أنّ العاصي غير قادر على الطاعة وهو مأمورٌ بها، وذلك تكليف بما لا يطاق.

أمّا المقدمة الاولى فلأنّ اللّٰه تعالى علم بأنّه لا يطيع، وأخبر عنه بأنّه لا يؤمن بقوله: «إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ...

ص: 292

....................

لاٰ يُؤْمِنُونَ»(1) ، وإلى غير ذلك من الآيات.

ويلزم من تعلق علم اللّٰه تعالى ومن إخباره بعدم إيمانهم عدم تمكنهم منه إذ لو كانوا قادرين لصح منهم وقوع الايمان ويلزم من ذلك انقلاب علم اللّٰه تعالى جهلاً وكذب خبره تعالى اللّٰه عن ذلك، وأمّا المقدمة الثانية فبالاجماع.

الثاني: أن اللّٰه تعالى كلف من علم بموته ومن ينسخ عنه الفعل قبل تمكنه؛ وذلك هو بعينه تكليف ما لا يطاق.

الثالث: أن القدرة غير متقدمة على الفعل ومتى كان كذلك لزم تكليف ما لا يطاق، أمّا المقدمة الاولى فقد بيّناها في كتاب: «المناهج في اصول الدين»(2)، وأمّا المقدمة الثانية فلأنّ التكليف أمّا أن يقع قبل وجود القدرة أو معها أو بعدها، والكلّ يلزم منه التكليف بالمحال؛ أمّا على التقدير الأوّل فظاهر فإن من لا قدرة له على الفعل إذا كُلف به كان مكلفاً بما لا يقدر عليه، وأمّا على التقدير الثاني فإنّ القدرة لا وجود لها إلّامع وجود الفعل والفعل حينئذٍ يكون واجباً لاستحالة الجمع بين النقيضين؛ وأمّا على التقدير الثالث فكذلك.

ص: 293


1- . البقرة: 6.
2- . جاء الشارح في كتابه «مناهج اليقين» بدليلين للأشاعرة لأجل البرهنة على أن القدرة غيرمتقدمة على الفعل ثم فندهما، نكتفي هنا بايراد أحد الدليلين ونحيل القارئ الكريم للإطلاع على الدليل الآخر وردِّ المؤلف على كلا الدليلين إلى كتاب «المناهج» ذاته وهو من باكورة اعمال الشارح المفضال، فقال قدس سره: «احتجت الأشاعرة بأن القدرة عرض، والعرض لا يبقىٰ، فالقدرة لاتبقىٰ؛ أمّا الصغرىٰ فظاهرة، وأما الكبرىٰ فسيأتي بيانها، وإذا لم تكن باقية فلو تقدمت الفعل لم يكن الفعل واقعاً بها...» لاحظ: مناهج اليقين في أُصول الدين: 151.

....................

الرابع: أنّ الافعال مخلوقة للّٰه تعالى ومتى كان كذلك لزم التكليف بالمحال.

أمّا المقدمة الأُولى فلأنّ قدرة العبد لو كانت موجدة لكان إمّا مع وجوب أن يوجد(1) أو مع جوازه، ويلزم من الأوّل المطلوب لأنّ الفعل لمّا كان واجباً مع القدرة والقدرة من خلق اللّٰه تعالى كان الفعل مستنداً إليه؛ وأمّا الثاني(2) فلا يخلو إمّا أن يترجح أحد طرفي الفعل على الآخر أو لا يترجح والثاني محال، والأوّل لا يخلو إمّا أن يكون الفعل واجباً مع ذلك المرجح أو لا، والتالي باطل وإلّا لزم التسلسل أو الانتهاء إلى عدم الترجيح وهما محالان، والأوّل لا يخلو إمّا أن يكون ذلك المرجح من فعل اللّٰه تعالى أو من فعل العبد، والأوّل يلزم منه أن تكون الأفعال مخلوقة له تعالى، والثاني يلزم منه التسلسل.

وأمّا المقدمة الثانية فظاهرة.

وأعلم أنّ هذين المذهبين - أعني عدم تقدم القدرة على الفعل وكون الافعال مخلوقة للّٰه تعالى - ذهب إليهما أبوالحسن الأشعري فلزمه القول بوقوع التكليف بالمحال(3).

ص: 294


1- . أي: مع وجوب أن يوجد الفعل.
2- . أي: مع جواز أن يوجد الفعل.
3- . ورد في نسخة «ب» بعد كلمة «بالمحال»، ما يلي: [على ما بيّنا وجهه، فلأجل ذلك نسب إليه القول بوقوع التكليف بالمحال.]

قال: قالوا: كَلَّف أبا جهل تصديق رسولهِ في جميع ما جاء به، وَمِنْهُ أنّه لا يصدقّه، فقد كلفه بأن يصدقَه في أن لا يُصَدِّقَهُ، وهو مستلزم ألّا يُصَدِّقَهُ. والجواب: أنّهُمْ كُلِّفوا بتصديقه، وإخبارُ رَسُولِهِ كإخبار نوحٍ عليه السلام، ولا يُخرج الممكن عن الإمكان بخبر أو علم، نعم لو كُلِّفوا بعد علمهم لانتفت فائدةُ التكليفِ، ومِثْلُهُ غيرُ واقعٍ. *

رد المصنّف على الاشعري

وأجاب المصنف بوجهين:

الأوّل: أنّ هذا الذي فرضتموه مانعاً من الفعل لا يقتضي امتناع الفعل لذاته فإنّ الإيمان من الكافر جائز وإنّما امتنع لتعلق علم اللّٰه تعالى به وهو أمر خارج.

فالاستحالة ليست ذاتية، والكلام إنّما هو في المحال لذاته.

الوجه الثاني: إنّ هذا الذي ذكرتموه يقتضي أن تكون التكاليف بأسرها تكليفاً بالمحال وهو خلاف الإجماع فيكون باطلاً.

وأعلم أنّ الجواب التفصيلي ذكرناه في كتاب «المناهج»(1).

دليل آخر للتكليف بالمحال

(*) أقول: هذه حجة أخرى للقائلين بوقوع التكليف بالمحال وهو أنّ أبا جهل قد كُلِّف بتصديق الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في جميع ما جاء به مع أنّ الرسول أخبر بأنّه لا يؤمن فيكون مكلفاً بتصديق هذا الخبر فيكون مكلّفاً بتصديقه في عدم تصديقه، وهو

ص: 295


1- . مناهج اليقين في أُصول الدين: 151.

قال: مسألة: حصول الشرط الشرعي ليس شرطاً في التكليف قطعاً، خلافاً لأصحاب الرأي، وهي مفروضةٌ في تكليف الكفّار بالعبادات، والظاهر الوقوع.

لنا: لو كان شرطاً، لم تجب صلاةٌ على محدث وجنب، ولا قبل النيّة، ولا «اللّٰه أكبر» قبل النيّة، ولا اللام قبل الهمزة، وذلك باطل قطعاً. *

جمع بين الضدّين.

وأجاب بأنهم كلفوا بتصديقه فيما جاء به من التوحيد والرسالة، والأدلة قائمة والعقل حاضر فلم يخرجوا عن الإمكان بسبب علم اللّٰه تعالى أو إخباره بعدم إيمانهم لأنّ العلم والخبر تابعان للمخبر عنه فلا يغيران حكمَه.

وإخبار الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عن أبي جهل بعدم الإيمان منه كإخبار نوح في قوله تعالى: «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّٰ مَنْ قَدْ آمَنَ»(1) فليس مطلق الاخبار مانعاً من التمكن غير أنّهم لو علموا بأنّهم لا يؤمنون كان التكليف بإيمانهم قبيحاً لعدم فائدته لأنّ فائدته هو الاختبار والابتلاء، وهو لا يتحقق مع علم المكلف بعدم اتباع الفعل ومثل هذا التكليف غير واقع وإن جاز وقوعه.

التكليف والشرط الشرعي

(*) أقول: اختلف الناس في أنّ حصول الشرط الشرعي(2) هل هو شرط

ص: 296


1- . هود: 36.
2- . انظر: المحصول في علم الأُصول: 1/316؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/570.

قال: قالوا: لو كلف بها، لصحّت منه.

قُلنا: غير محل النزاع. قالوا: لو صَحَّ، لأمكنَ الامتثالُ، وفي الكفر لا يمكنُ وبعدَهُ يسقط. قلنا: يُسْلِمُ، ويفعل كالمُحدِث. *

في التكليف بالمشروط أم لا؟ فذهب الحنفية وأبو حامد(1) من الشافعية إلى أنّه شرط، وذهب الجمهور من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّه غير شرط، مثالهُ العبادات كالصلاة والزكاة والحج، هل التكليف بها مشروط بالإسلام حتى يكون الكافر غير مأمور بها أم لا؟

والحق أنّ الكفّار مأمورون وأن حصول الشرط ليس شرطاً في التكليف، والدليل على ذلك أن الوضوء شرط للصلاة وليس شرطاً في التكليف بها وكذلك النية والتكبير وحروف التكبير، كلّ واحد منها شرط في المتأخّر مع أنّه ليس شرطاً في التكليف اجماعاً.(2)

(*) أقول: هذان وجهان استدل بهما الحنفية على أنّهم غير مأمورين بالفروع:

الأوّل: أن الكافر لو كان مكلفاً بالعبادات لصحّ وقوعها منه والاّ لزم التكليف بالمحال، والتالي باطل إجماعاً فالمقدم مثله.

الثاني: لو كان مكلفاً بالعبادات لأمكن الامتثال، والتالي باطل فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة؛ وبيان بطلان التالي: أنّ الإمتثال إمّا أن يكون قبل الإيمان أو

ص: 297


1- . أبو حامد أحمد بن محمد بن طاهر الإسفراييني، ولد بالعراق سنة 344 ه، كان يقال له: الشافعي الثاني، له كتاب في أُصول الفقه، توفي سنة 406 ه. انظر: الأعلام: 1/203.
2- . وبحسب المصطلح الأُصولي المعاصر: انّه شرط الواجب وليس شرط الوجوب.

....................

بعده، والأوّل باطل لاستحالة ادائها حال الكفر(1)، والثاني باطل إجماعاً لسقوطها عنه.

والجواب عن الأول أنّه غير محل النزاع فإنّ النزاع إنّما وقع في أنّه حالة كفره هل يكون مكلفاً؟ بمعنى أنّه يستحق عقاب الآخرة على الكفر الأصلي أو على ترك العبادة أم يستحق العقاب على الكفر لا غير؟(2)

وعن الثاني: أنّا لا نسلم عدم الإمكان فإنّه يمكنه أن يسلم ويوقع الفعل، وهذا كالمُحدِث(3) فانّ جميع ما ذكرتموه في حق الكافر يرد مثله في المحدث.(4)

ص: 298


1- . وردت العبارة التالية في هامش نسخة «أ»: قال إمام الحرمين في كتاب البرهان: «وهذا منقوض أوّلاً باعتقاد النبوات، واعتقاد صدق الأنبياء عليهم السلام؛ فإن ذلك غير ممكن فيمن لا يعتقد الصانع المختار، ولا خلاف أن الكفار أجمعين مخاطبون بتصديق الأنبياء عليهم السلام...» راجع بهذا الشأن: البرهان للجويني: 1/92.
2- . وفي هامش «أ»: أو يقول النزاع وقع في أنّه حالة كفره هل يكون متعبداً بالفعل بأن يأتي به بعد اتيانه بالإيمان أم لا؟
3- . وقد ورد في هامش نسخة «أ» أيضاً: ... البرهان قد نقل عن أبي هاشم انّه قال: «ليس المحدث مخاطباً بالصلوات، ولو استمر على حدثه دهره لقى اللّٰه تعالى غيرمخاطب بالصلاة...». وما في البرهان هو: «وقد نُقل عن أبي هاشم الجبائي أنّه قال... الخ» (البرهان: 1/93).
4- . المحدث هو المرتد الّذي احدث بدعة في الدين.

قال: الوقوع: «وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ»(1) ، و «لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ»(2) .

قالوا: لو وقع، لوجب القضاء، قُلنا: القضاء بأمر جديدٍ، وليس بينه وبين وقوع التكليف ولا صحته ربط عقلي. *

(*) أقول: لما استدل على الجواز، شرع في الاستدلال على وقوع هذا الجائز بالنص وهو قوله تعالى: «وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً»(3) ، وقوله تعالى: «لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ» ؛ وجه الاستدلال بالآية الأُولى، أنّ اللّٰه تعالى لما عدّد المحرمات الّتي هي الشرك وقتل النفس والزنا، عقّب بقوله: «وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً» ، واشار بلفظة «ذلك» إلى ما تقدم، فيكون هذا العقاب في مقابلة جميع المحرمات.

لا يقال: لم لا يجوز عود الاشارة إلى الشرك؟ لا سيّما وقد أتى بلفظة ذلك الدالّة على البعد وعلى التوحيد.

لأنّا نقول: لو لم يكن للباقي مدخل في العقاب، لكان ذكره معه قبيحاً.

ووجه الاستدلال بالآية الثانية، أنّ اللّٰه تعالى حكى عن الكفار سبب دخولهم النار بقوله: «قٰالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ» إلى قوله: «وَ كُنّٰا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ» (4)؛ وهذا يدل على انّهم استحقوا العقاب بسبب ترك الصلاة؛ وقول من قال انّ التقدير: (لم نك من المعتقدين للصلاة)، مجاز من غير دليل ولا حاجة وكان الأصل عدمه فوجب القول بنفيه.

ص: 299


1- . النساء: 30.
2- . المدثر: 43.
3- . الفرقان: 68.
4- . المدثر: 46.

قال: مسألة: لا يكلف إلّابفعل؛ فالمكلّف به في النهي كفّ النفس عن الفعل، وعن أبي هاشم وكثيرٍ: نفيُ الفعل.

لنا: لو كان، لكان مستدعي حصوله منه، ولا يتصور لأنّه غير مقدور له.

وأجيب: بمنع أنّه غير مقدور له، كأحد قولي القاضي، وَرُدّ بأنّه كان معدوماً واستمر، والقدرة تقتضي أثراً عقلاً، وفيه نظر. *

احتجت الحنفية بأنّ تكليف الكافر لو كان واقعاً لوجب عليه القضاء، والتالي باطل إجماعاً فالمقدّم مثله؛ والشرطية تظهر ببيان أنّ فوات الأمر يقتضي وجوب القضاء.

والجواب: الحقّ أنّ القضاء إنّما يجب بأمر جديد وليس بين وجوب القضاء ووقوع التكليف ولا صحة التكليف ربط عقلي بحيث يلزم من وجود التكليف أو صحته، وجوب القضاء؛ وإذا انتفت الدلالة اللفظية والمعنوية على وجوب القضاء بطلت الملازمة التي ذكروها.

هل أن المنهي عنه فعل؟

(*) أقول: اختلف الناس في متعلق النهي، فقال أبوهاشم وأتباعه إنّه عدم الفعل؛ وعند الأشعرية إنّه فعل لضد المنهي عنه، واحتجّوا(1) على ذلك بأنّه لو...

ص: 300


1- . أي: أبو هاشم واتباعه.

....................

كان مكلفاً بنفي الفعل لكان مستدعي الحصول من المكلف، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ والشرطية ظاهرة، وبيان بطلان التالي أنّ المكلف غير قادر على نفي الفعل وإذا لم يكن قادراً لا يكون مطلوباً منه الفعل وإلّا لزم تكليفٌ بما لا يطاق.

أجابوا(1) عن هذا بالمنع من كون العدم غير مقدور، فإنّ القادر على الزنا قادر على تركه أعني عدمه قطعاً؛ وهذا أحد قولي القاضي أبي بكر.

وأُجيب عن هذا المنع بالاستدلال على أنّ العدم غير مقدور وذلك من وجهين:

الأوّل: أنّ العدم نفي الأثر، والنفي لا يتعلق بالفاعل لأنّ الفاعل من له الفعل، والعدم ليس بفعل.

الثاني: أنّ المعدوم مستمر والمستمر مستغن عن السبب الجديد.

ثم إن المصنف تردد في هذا وذكر أنّ فيه نظراً، وذلك لأنّا نمنع كون الفاعل من له الفعل فإنّه نفس المتنازع؛ ونمنع كون العدم المستمر لا يتعلق بالفاعل فإنا نعني بتعلقه به أن لا يخرج الفعل إلى الوجود لا أن يؤثر العدم.

ص: 301


1- . أي: الأشاعرة.

قال: مسألة: قال الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوثه، ومنعه الإمامُ والمعتزلة، فإن أراد الشيخُ أنّ تعلقه لنفسه فلا ينقطع بعده أيضاً، وإن أراد أنَّ تنجيز التكليف باقٍ، فتكليفٌ بإيجاد الموجود، وهو محالٌ، ولعدم صحة الإبتلاء، فتنتفي فائدة التكليف.

قالوا: مقدورٌ حينئذ باتفاق، فيصح التكليف به.

قلنا: بل يمتنع بما ذكرناه. *

انقطاع التكليف بالفعل عند حدوثه

(*) أقول: اختلف الناس(1) في أنّ التكليف هل يتوجه على العبد حال شروعه في الفعل أم لا؟ مع اتفاقهم على جواز توجهه نحوه قبله إلّامن شذّ - وعلى امتناع توجهه نحوه بعد الفعل - فقالت الأشعرية به، ونفاه المعتزلة وإمام الحرمين.

والمصنف ذهب إلى ما ذهب إليه المعتزلة أيضاً ثمّ(2) استفسر عن الحقّ في معنى تعلق التكليف(3) بالمكلّف حال الفعل فقال:

إن عنيت به أنّ التكليف يتعلق بالمكلف لذات التكليف بمعنى أنّ

ص: 302


1- . عندما ترد كلمة «الناس» في اخبار أئمة آل البيت عليهم السلام يراد بها اتباع مدرسة الخلافة، والظاهر ان الشارح - طاب ثراه - سار على هذا المسار.
2- . ورد في هامش نسخة «أ»: [رُد قول أبي الحسن بانّه إن اراد بعدم الانقطاع لا يعتد به].
3- . جاءت العبارة في نسخة «أ» كما يلي: [ثم استفسر أن الحق عن معنى تعلق التكليف...] ونرى أنّ الصحيح ما اثبتناه.

....................

التكليف لا يفعل إلّامع وجود المكلف فهذا المعنى قائم بعد وقوع الفعل لأنّ بعد وقوعه يصدق على التكليف أنّه لو وجد لاقتضى(1) وجود المكلف وذلك يستلزم بقاء التعلق بعد انقضاء الفعل، وإن عنيت به أن الطلب الجازم بإيقاع الفعل في الحال حاصل حال الحدوث فهو باطل لأنّه يكون أمراً بايجاد الموجود وتحصيل الحاصل؛ وأيضاً فإنّه لا فائدة في التكليف حينئذٍ لأنّ فائدته هو الاختبار وهو منتف حال الفعل.

واحتجت الأشعرية بأنّه مقدور حال الفعل اتفاقاً - سواء قلنا بتقديم القدرة أو لم نقل - وإذا كان مقدوراً صحّ التكليف به.

وأجاب المصنف بالمنع من ذلك(2) ومستند المنع ما ذكره أوّلاً.

ص: 303


1- . ما اوردناه في المتن في نسخة «أ»، وفي نسخة «ب» وردت العبارة كالآتي: «ردّ قول أبي الحسن بأنّه إن أراد بعدم الانقطاع أن التكليف لنفسه يتعلق بالفعل والمتعلق لنفسه بالشيء لا ينقطع عنه وإلّا لما كان متعلقاً لنفسه، لزم أن لا ينقطع بعد حدوث الفعل بعين ما ذكره وهو خلاف الإجماع؛ وإن إراد بتأخير التكليف - أي: كونه مكلفاً بالاتيان بالمأمور به - باق، لزم التكليف المحال لكونه تكليفاً بايجاد المُوجَد».
2- . في نسخة «ب»: صحة التكليف.

قال: المحكوم عليه المكلف.

مسألة:

الفهم شرط التكليف. وقال به بعضُ من جوّز المستحيل؛ لعدم الابتلاء.

لنا: لو صحّ لكان مستدعى حصولُه منه طاعة، كما تقدّم، ولصحّ تكليف البهيمة؛ لأنهما سواء في عدم الفهم. *

شرط الفهم في التكليف

شرط الفهم في التكليف(1)

(*) أقول: اطبق المحققون من الأُصوليين على أنّ الفهم شرط التكليف وإليه ذهب بعض القائلين بجواز التكليف بالمستحيل، وفرق بين هذا التكليف وبين التكليف بالمستحيل لأنّ في التكليف بالمستحيل تحصيل فائدة التكليف وهو الاختبار دون هذا التكليف؛ وذهب الباقون منهم إلى جوازه.

والدليل على امتناعه أنّه لو كان الغافل مكلفاً لاستُدعي الفعل منه على وجه الطاعة إذ هو معنى التكليف، والتالي باطل لعدم تصوره لكونه من المستحيلات فالمقدم مثله.

وأيضاً لو جاز تكليف غير الفاهم كالصبي غير المميز والمجنون، لجاز تكليف البهيمة لاستوائهما في عدم الفهم؛ ولمّا كان التالي باطلاً قطعاً كان المقدم كذلك.

ص: 304


1- . انظر: نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/600؛ الإحكام للآمدي: 1/107.

قال: قالوا: لو لم يصح لم يقع، وقد أُعتِبر طلاق السكران وَقَتْلُهُ وإتلافُه.

وأُجيب: بأن ذلك غير تكليف، بل من قبيل الأسباب؛ كقتل الطفل وإتلافه.

قالوا: «لاٰ تَقْرَبُوا اَلصَّلاٰةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ»(1) ، قلنا: يجب تأويلُهُ، إما بِمثلِ: لا تمت، وأنت ظالم، وإمَّا علَى أنَّ المُرَادَ الثمل؛ لمنعه التثبت كالغضب. *

(*) أقول: استدل القائلون بالجواز بوجهين:

الأوّل: أنّه لو لم يصح تكليف غير الفاهم لم يقع، والتالي باطل، فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة، وبيان بطلان التالي أنّه قد اعتبر طلاق السكران وقتله وإتلافه وترتيب احكام عليها مع أنّها صادرة عن غير الفاهم.

والجواب: أنّ هذا غير تكليف، بل هو من قبيل الأسباب الذي هو أحد أنواع خطاب الوضع، كأن اللّٰه تعالى جعل طلاق السكران سبباً لترتب حكمه عليه وكذلك باقي أفعاله كما في قتل الطفل فإنّه سبب لوجوب الديّة، وكذلك الإتلاف سبب لوجوب الضمان على الولي.

الوجه الثاني: قالوا: قال اللّٰه تعالى: «لاٰ تَقْرَبُوا اَلصَّلاٰةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ» وهذا الخطاب بالنهي متوجه حالة السكر فيكون تكليفاً للغافل.

وأجاب: بأنّ هذا لا يحمل على حقيقته بل لابدّ من التأويل لما بيّنا من

ص: 305


1- . النساء: 43.

قال: مسألة: قولهم: الأمر يتعلق بالمعدوم، ولم يُرَد تنجيز التكليف، وإنما أُريد التعلق العقلي.

لنا: لو لم يتعلق به، لم يكن أزلياً؛ لأن من حقيقته التعلُّق، وهو أزلي. *

الدليل، والتأويل من وجهين:

الأوّل: النهي عن السكر حالة إرادة الصلاة كما يقال: «لا تمت وأنت ظالم» أي: لا تظلم وقت الموت.

الثاني: المراد من السكران هو الثّمِل(1) وهو المنتشي(2) الذي ظهر فيه مبادئ النشاط والطرب ولم يزل عقله؛ وسمّي سكراناً لما يؤول إليه غالباً على سبيل المجاز، وإنّما تعلق النهي عن الصلاة في هذه الحالة؛ وإن أمكنه إيقاعها لعدم التثبت كما في حق الغضبان.

الحكم على المعدوم

(*) أقول: اختلف الناس في أمر المعدوم فذهب الأشعرية إلى جوازه، والمعتزلة إلى امتناعه.

ص: 306


1- . ثمِل يثمَل ثمَلاً: أخذ به الشراب فهو ثَمِلٌ أي: سكران.
2- . نشىٰ ينشىٰ نشواً فهو نشوان، أي: سكران، وأنتشىٰ ينتشي فهو منتشي، قال الشاعر: يا من غدىٰ قلبي كنرجس طرفها في الحب لاصاح ولا هو منتشي والنشوة: السكر أو أوله.

قال: قالوا: أمر ونهي وخبر من غير متعلق موجود، محال. قُلنا: محلُّ النزاع، وهو استبعادٌ.

ومن ثمّةَ قال ابن سعيد: إنما يتصف بذلك فيما لا يزال، وقال:

القديمُ الأمرُ المشترك، وأُورد أنَّها أنواعُهُ، فيستحيل وجوده.

قالوا: يلزم التعدّد. قلنا: التعدد باعتبار المتعلقات لا يوجب تعدداً وجودياً. *

وأعلم أنّ مراد الأشعرية بأمر المعدوم(1) ليس هو الطلب المنجّز فإنّ المجنون والصبي عندهم غير مأمورين فكيف يكون المعدوم مأموراً؟! وإنّما عنوا بذلك قيام الطلب القديم بذات اللّٰه تعالى للفعل من المعدوم على تقدير وجوده واستعداده لفهم الخطاب، فإذا وجد واستعد للفهم كان مكلفاً بذلك الطلب القديم من غير تجدد طلب آخر.

واستدل المصنف على ذلك بأنّ الأمر لو لم يتعلق بالمعدوم على هذا الوجه لم يكن الأمر أزلياً، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، بيان الشرطية: أنّ من حقيقة الأمر التعلق بالغير، فإذا لم يكن التعلق أزلياً لم يكن الأمر أزلياً؛ وبيان بطلان التالي ما يظهر في علم الكلام من قدم كلامه على مذهبه، وقد أوضحنا الحق في «مناهج اليقين».(2)

(*) أقول: قالت المعتزلة وجود أمر ونهي وإخبار لغير مأمور ولا منهي

ص: 307


1- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/108؛ المحصول: 1/328؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/594.
2- . راجع البحث في «مناهج اليقين»: ص 287 (في انّه متكلم)، و ص 305 (مسألة: ذهبت الأشاعرة...).

....................

ولا مخبر، محال فإنّه ينزل منزلة الجالس في البيت وحده وهو يقول: يا غانماً قمْ، و يا سالماً لا تذهب، ولما كان هذا قبيحاً والقائل له يُعد سفيهاً كان وقوع ذلك من اللّٰه تعالى محالاً.

أجاب المصنف بأنّ استحالة هذا هو نفس النزاع، وما ذكرتموه مجرد استبعاد فلا يلزم منه الامتناع.

ثمّ إنّ عبد اللّٰه بن سعيد(1) - لقوة كلام المعتزلة وقوة مذهب أصحابه عنده من قدم الكلام - رام الجمع بين المذهبين فاعترف بقدم الكلام النفساني وبحدوث الأمر والنهي والإخبار وغيرها من التراكيب وجعل هذه الأُمور اعراضاً للكلام حادثة، والكلام الذي هو القديم هو الأمر المشترك.

والأشاعرة لم يرتضوا هذا المذهب لأنّ هذه الأُمور انواع للكلام فيستحيل وجوده أزلاً بدون وجود نوع منها فيلزم قدمها أو قدم بعضها؛ ولعبد اللّٰه أن يمنع ذلك.

ثمّ قالت المعتزلة: وجود الأمر والنهي والاخبار إذ لا يستدعي وجود التعدد في اشخاص الناس، والتعدد من لواحق الوجود، فيلزم قدم المأمورين والمنهيين. وأجاب المصنف: بأنّ التعدد باعتبار المتعلق - وهو الأمر والنهي - لا

ص: 308


1- . عبد اللّٰه بن سعيد بن كلّاٰب أبو محمد القطان، متكلّم من العلماء توفّي سنة 245 ه يقال له: «ابن كُلاب» وكلاب بضم الكاف وتشديد اللام، قيل لُقِّب بها، لأنّه كان يجتذب الناس إلى معتقده إذا ناظر عليه، كما يجتذب الكلاب الشيء له كتب منها: الصفات، خلق الأفعال، والرد على المعتزلة، لاحظ: الأعلام للزركلي: 4/90.

قال: مسألة: يصحّ التكليف بما عَلِمَ الآمرُ انتفاء شرط وقوعِهِ عِندَ وَقتِهِ، فلذلك يُعلم قَبلَ الوقت، وخالف الإمامُ والمعتزلة، ويصحُّ مع جهل الآمر اتفاقاً.

لنا: لو لم يصح لم يَعص أحدٌ أبداً، لأنه لم يحصل شرطُ وقوعه من إرادة قديمة أو حادثة. *

يستدعي تعدداً موجوداً، وينزّل ذلك منزلة تعدد المعلومات فإنّها متعددة باعتبار تعلق العلم بها لا أنّها موجودة في نفس الأمر متعددة(1).

(*) أقول: اختلف الناس في صحّة التكليف المشروط بشرط غير واقع عند وقت الفعل إذا كان الآمر عالماً بعدم وقوعه، فجوّزه جماعة من الاشعرية وذهبوا إلى أنّ المأمور يكون عالماً بأنّه مكلف(2).

ص: 309


1- . ورد المقطع التالي في هامش «أ»، وفي «ب» ادرج في المتن: [ويحتمل أن يكون هذا اعتراضاً على ما أجاب به عن الأوّل وهو تسليم أن الأمر والنهي والخبر أُمور قديمة. وتقريره: أنّه لو كانت قديمة لزم أن يكون كلامه تعالى متعدداً والاتفاق واقع على أن كلامه في الأزل واحد. والجواب: إن أُريد بالتعدد التعدد الوجودي لا التعدد بحسب المتعلقات مع وحدة الذات، منعنا الملازمة؛ وان أُريد به التعدد باعتبار المتعلقات مع وحدة الذات، فنفي التالي ممنوع لأنّ الاتفاق واقع على أن التعدد الوجودي غير حاصل، اما إذا قلنا أنّ الكلام الأزلي (خبر) ويختلف اعتباره فتارة يكون أمراً وتارة يكون نهياً وهو في نفسه واحد، فإنّه ممكن.]
2- . وقد ورد في نسخة «ب» بعد كلمة «المكلف» ما يلي: [وقول المصنّف «فلذلك يعلم قبل الوقت» إشارة إلى هذا، أي: لأجل صحة التكليف بما علم الآمر انتفاء الشرط وقوعه بعلم المأمور قبل الوقت أنّه مكلّف.]

قال: وأيضاً، لو لم يصحّ لم يُعلَمْ تكليفٌ، لأنّه بعده، ومعه ينقطع، وقبله لا يُعْلَمُ، فإن فرضه مُتسعاً، فرضناه زمناً زمناً، فلا يُعلم أبداً. وذلك باطل، وأيضاً لو لم يصح، لم يَعلمْ إبراهيم عليه السلام وجوب الذبح، والمنكر معاند. *

وخالفهم الامام(1) والمعتزلة واتفق الجميع على أنّ الآمر لو كان جاهلاً بعدم الشرط جاز التكليف منه، مثال الأوّل: أنّ اللّٰه تعالى لو علم أنّ زيداً سيموت غداً هل يصحّ أن يكلفه اليوم بالصوم في غد؟ ومثال الثاني: أنّ السيد لو أمر عبده بخياطة الثوب في غدٍ فإنّه مشروط ببقائه إلى الغد مع أنّ السيد ليس بعالم بهذا الشرط.

احتج المصنف على مذهبه بثلاثة أوجه:

الأوّل: أنّه لو لم يصحّ التكليف بما علم عدم شرطه لم يعص أحد، والتالي باطل إجماعاً(2)، فالمقدّم مثله.

وبيان الشرطية: أنّ شرط الفعل هو وجود الإرادة القديمة - عند الأشعرية والمحدثة - التي للعبد - عند المعتزلة - فالعاصي غير مريد للطاعة عند المعتزلة واللّٰه تعالى ليس بمريد لها منه عند الأشعرية وقد علم اللّٰه تعالى بعدم الإرادتين فيكون عالماً بعدم الشرط ولو لم يكن مأموراً بالطاعة حال عدم الشرط لم يكن عاصياً في حال عدم الارادة وهي حال لا ينفك منها عاصٍ أصلاً فلا يوجد عاصٍ.

(*) أقول: هذان الوجهان الباقيان:

ص: 310


1- . إمام الحرمين الجويني.
2- . أي: بإجماع الأشعرية والمعتزلة.

....................

الأوّل: أنّه لو لم يصحّ التكليف مع العلم بعدم الشرط لم يعلم وجود تكليف أصلاً والتالي باطل فالمقدم مثله، لأنّ اللّٰه تعالى إذا أمر زيداً بالصوم في هذا اليوم فإنّ صومه حينئذٍ موقوف على بقائه وهو غير معلوم له قبل اليوم فيكون شاكّاً في شرط التكليف فيلزم الشك في المشروط فلا يعلم التكليف بالصوم قبل وقت الفعل؛ وكذلك حال الوقت لأنّها حالة الفعل والتكليف منقطع فيها بعد الوقت، لذلك، فإن فرضوا زمان التكليف متسعاً بحيث إذا مضى أحد جزئيه علم المكلف أنّه متمكن - بخلاف المضيق - فإنّه لا يعلم أنّه متمكن إلّابعد انقضاء الوقت؛ نقلنا الكلام إلى اجزاء ذلك الزمان وذلك لأنّ التكليف لم يعلم قبل أوّل الزمان الموسّع ولا في أول الزمان ولا بعده لانقطاع التكليف فيهما وكذلك في باقي الاجزاء.

الثاني: أنّه لو لم يصح لم يكن ابراهيم عليه السلام مأموراً بالذبح لأنّه قد انتسخ عنه الفعل قبل وقوعه لقوله تعالى: «وَ فَدَيْنٰاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»(1) لكنه عليه السلام كان مأموراً به؛ والمنازع في ذلك مكابر، وسيأتي تمام البحث ان شاء اللّٰه تعالى.

ص: 311


1- . الصافات: 107.

قال: وقال القاضي: الإجماع على تحقق الوجوب والتحريم قبل التمكّن.

المعتزلة: لو صحّ، لم يكن الإمكان شرطاً فيه.

وأُجيب: بأن الإمكان المشروط أن يكون ممّا يتأتّىٰ فعِلُهُ عادةً عند وقته واستجماع شرائطه، والإمكان الّذي هو شرط الوقوع محل النزاع، وبأنّه يلزم ألا يصحَّ مع جهل الآمر.

قالوا: لو صَحّ لصَحّ مع علم المأمور.

وأُجيب: بانتفاء فائدة التكليف، ولهذا يطيع ويعصي بالعزم والبِشْر والكراهة. *

(*) أقول: احتج القاضي على مذهبه - وهو صحّة التكليف - بالاجماع، فقال:

إنّه قد تحقق الإجماع من السلف قبل ظهور المخالف(1) على أنّ كلّ بالغ عاقل مأمور بالطاعات منهي عن المعاصي قبل التمكن ممّا أُمر به ونُهي عنه، وإذا كان الاجماع بذلك ثابتاً كان القول به لازماً.

واحتج المعتزلة على مذهبهم بوجهين:

الأوّل: قالوا: لو صحّ التكليف بما علم الآمر بانتفاء شرطه، لم يكن الإمكان شرطاً في الفعل، والتالي باطل فالمقدم مثله. بيان الشرطية: إنّ الفعل بدون شرطه محال وإلّا لم يكن الشرط شرطاً، وإذا كان محالاً فلو كلف مع عدمه لزم

ص: 312


1- . أي: المعتزلة.

....................

التكليف بالمحال، وأمّا بطلان التالي(1) فبالإجماع(2) أمّا عندنا فبالعقل وأمّا عندكم فبالسمع.

وأجاب المصنف بأنّ الإمكان المشروط تحققه في صحة التكليف أن يكون الفعل مما يتأتّىٰ فعله عادة عند حضور وقته واستجماع شرائطه والإمكان الذي هو شرط الوقوع مغاير لهذا الإمكان وهو الذي [يعني به كون المكلف متمكناً من الفعل وهذا هو الّذي](3) وقع فيه النزاع(4).

ثمّ عارضهم(5) بالآمر الجاهل فإنّه غير عالم بوجود الشرط فيلزم أن لا يصحّ منه التكليف.

الوجه الثاني(6): قالوا: لو صحّ التكليف بما علم الآمر عدم شرطه، لصح التكليف إذا علم المأمور عدم الشرط، والتالي باطل فالمقدم مثله.

وأجاب المصنف بأنّ فائدة التكليف منتفية هاهنا بخلاف الأوّل، فإن الأوّل قد يطيع بالعزم والبِشْر وقد يعصي بالعزم على الترك والكراهة، أمّا إذا كان عالماً

ص: 313


1- . المراد من «التالي» هو: «عدم كون الامكان شرطاً في الفعل».
2- . معقد الاجماع هو: «أن الامكان شرط الفعل»، إلّاأن كلاً من المعتزلي والاشعري سلك طريقه، فالمعتزلي سلك طريق العقل والاشعري سلك طريق النقل، وبذا قد قرع المعتزلي الاجماع الّذي ادعاه القاضي بالاجماع الّذي ادعاه هو.
3- . ما بين المعقوفتين في نسخة «ب» فقط.
4- . قد وردت العبارة التالية في هامش نسخة «أ» وادرجت في نسخة «ب» في المتن بعد كلمة «النزاع»: [فإنَّ عندنا أن هذا الامكان شرط في الامتثال لا شرط في التكليف، فإن التكليف قد يقع لا ليحصل امتثال بل ليقع به الاختبار.]
5- . أي: عارض المصنّف المعتزلة.
6- . أي: الوجه الثاني في احتجاج المعتزلة على مذهبهم.

قال: الأدلة الشرعية: الكتابُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ، والقياس والاستدلال، وهي راجعة إلى الكلامِ النفسي، وهي نسبةٌ بين مفردين، قائمةٌ بالمتكلمِ والعلم بالنسبة ضروريٌ، ولو لم تقُم به، لكانتِ النسبة الخارجية، إذ لا غيرهُما والخارجيةُ لا يتوقفُ حُصُولها على تَعقَّل المفردين وهذه متوقفةٌ. *

بعدم الشرط فإنّه يكون عالماً بامتناع الفعل، فلا توجد فائدة التكليف فيه.

تعريف الادلة الشرعية

(*) أقول: لما فرغ عن الكلام في الأحكام وما يتعلق بها، شرع في الكلام في مداركها(1)، وهي على خمسة أقسام:

ووجهه أنّ الدليل أمّا أن يستفاد نقلاً عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أو لا، والأوّل أمّا أن يكون متلواً - وهو الكتاب - أو لا يكون وهو السنة، والثاني أمّا أن يستفاد من جماعة لا يجوز عليهم التواطؤ ولا الكذب وهو الاجماع، وامّا أن لا يكون كذلك، وهو امّا أن يكون حمل معلوم على معلوم لجامع وهو القياس، أو لا يكون وهو الاستدلال.

وهذه الخمسة وإن كانت أدلة أُصولاً لظهور الحكم بها لكن أصلها هو الكتاب لأنّه قول اللّٰه المشروع للأحكام، والسنة اخبار عنه، والاجماع أصله احدهما، وكل من القياس والاستدلال مبني على استفادة حكم من معقول بالنص.

فقد تبين أنّ أصلها هو الكتاب والكتاب هو كلام اللّٰه تعالى، ولمّا كان كلام اللّٰه تعالى في الحقيقة إنّما هو الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته - عند

ص: 314


1- . انظر: المستصفىٰ: 1/190.

....................

المصنف - لا جرم صارت الأدلة في الحقيقة راجعة إليه.

وهذه الصفة عبارة عن نسبة بين مفردين قائمة بذات المتكلم(1) لأنّها لو لم تكن قائمة بذاته كانت أمراً خارجاً عنه، والأمور الخارجية لا يتوقف ثبوتها على ثبوت أمر ذهني يغايرها، وهذه النسبة تتوقف على ثبوت المنتسبين في الذهن فلا ثبوت لها خارج الذهن؛ وفي هذا كلّه نظر.(2)

ص: 315


1- . في «ب» وردت العبارة التالية: [فإن قلنا: العالم حادث لابد فيه من نسبة هي الكلام النفسي وهي قائمة بذات المتكلم].
2- . لعل فكرة «الحديث النفساني» كانت الانطلاقة الأُولى في مباحث علم الكلام، وقد دارت عليها رُحىٰ البحث نفياً واثباتاً، بل احتدمت حولها معارك فكرية وفعلية ضارية بين المناصرين والمعارضين لها حتىٰ أُريقت الدماء وأزهقت النفوس وأُهدرت الكرامات، فكانت فتنة طخياء كلفت المسلمين ثمناً باهضاً. وقد أشبع شيخنا الأُستاذ السبحاني - أطال اللّٰه عمره الشريف في صحة وعافية - المسألة بحثاً وتمحيصاً في موسوعته الفخيمة البهيِّة: «بحوث في الملل والنحل» فدرسها تاريخياً وموضوعياً مع مناقشة كافة الآراء الرئيسة فيها. وقد انتهىٰ به البحث إلى أن المسألة قد تغيرت عبر الزمان وتطورت فلم تبق على ما كانت عليه حتّى اتخذت طابعاً عقلانياً مرضياً، فبعد اتيانه برأي العضدي في المواقف، قال: [فقد أحسن العضدي وأنصف، وستوافيك البرهنة على أن ما يسمونه «كلاماً نفسياً» أمر صحيح، لكنه ليس خارجاً عن اطار العلم والارادة وليس وصفاً ثالثاً وراءهما.] بحوث في الملل والنحل: 2/319. ومن السلف الصالح الّذي عالج مسألة «الكلام النفساني» في أكثر من كتاب له هو الشارح المبجل - وهو خرّيت هذا الفن الجليل بلا منازع - فأماط الغطاء عما هو حق حقيق في المسألة وقد قال في كتابه «نهاية الوصول إلى علم الأُصول»: «وهذه الدّعاوي كلّها مع غرابتها

قال: الكتاب: القرآن، وهو الكلام المنزَّل للإعجاز بسورةٍ مِنهُ، وقولهم: ما نقل بين دفتي المصحف تواتراً، حدٌّ للشيء بما يتوقف عليه، لأنّ وجود المصحف ونقله، فرعُ تصور القرآن. *

مبحث الكتاب العزيز

(*) أقول: بحث الأُصولي إنّما يتعلق بالكلام الذي هو الحروف والأصوات، أمّا النفساني فإنّما يبحث عنه المتكلم، ولأجل ذلك أهمل المصنف الكلام في النفساني وبحث عن الكلام بالمعنى المشهور فقيّد في تعريف «الكتاب(1)» الكلام بالمُنزّل ليخرج النفساني، وقيّد المنزّل بالاعجاز ليخرج الكلام المنزّل الذي أوحاه اللّٰه إلى رسوله مما ليس بقرآن، وقوله: المنزّل للإعجاز بسورة منه، احتراز عن السورة والآية، فصار هذا التعريف منطبقاً على الكتاب العزيز.

وقد عرفه الغزّالي بأنّه الذي نقل بين دفتي المصحف نقلاً متواتراً.

واعترض عليه المصنفُ بلزوم الدور، فإنّ وجود المصحف ونقله مسبوق بتصور القرآن، لما عرف من أنّ التصديق مسبوق بالتصور فلو عرف القرآن بهما لزم الدور.

ص: 316


1- . انظر: الإحكام للآمدي: 1/113؛ المستصفىٰ: 1/193.

قال: مسألة: ما نقل آحاداً فليس بقرآن؛ للقطع بأنْ العادةَ تقضي بالتواتر في تفاصيل مِثْلِهِ. وقوَّة الشُبهة في: «بسم اللّٰه الرحمن الرحيم» منعت من التكفير من الجانبين.

والقطع أنها لم تتواتر في أوائل السُّور قرآناً، فليست بقرآن فيها قطعاً كغيرها، وتواترت بعضُ آيةٍ في «النمل» فلا مخالف. *

(*) أقول: الحق أنّ القرآن لابد وأن يكون متواتراً في جملته وتفاصيله، فإن العادة قاضية بأنّ مثل هذا المعجز يستحيل أن يخفىٰ بحيث لا ينقله إلّاالآحاد كما نقل عن ابن مسعود أنّه قرأ: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات»، فإذن ما ينقل بالآحاد فليس بقرآن، وقد وقع الخلاف في أنّه هل هو حجّة أو لا؟

وأمّا البسملة فقد وقع الخلاف في أنّها هل هي من القرآن أو لا؟ فذهب الإمامية إلى أنّها آية من كلّ سورة وهو أحد قولي الشافعي؛ وذهب جماعة من الأُصوليين منهم القاضي أبو بكر إلى أنّها ليست من القرآن في غير سورة النمل، فالشبهة قوية فيها، فلأجل ذلك منعت من التكفير في الجانبين(1) فإذنّ من ينكر بعض القرآن المتواتر كافر، وكذلك من يزيد في القرآن ما هو متواتر فقدانه منه.

ثمّ إنّ المصنف قطع بأنّها لم تتواتر في أوائل السور قرآناً، ثم استنتج من ذلك أنّها ليست قرآناً فيها قطعاً لما مهدّه من القاعدة الأُولى أنّ ما ينقل آحاداً فليس من القرآن.

ثمّ ذكر أنّها قد تواترت في أوائل كلّ سورة وتكرارها غير موجب لعدم

ص: 317


1- . أي: الإمامية ومن وافقهم، والأُصوليين ومن تبنىٰ فكرتهم، وقيل هو رأي المالكية أيضاً.

قال: قولهم: مكتوبةٌ بخطِّ المُصحَفِ، وقول ابن عباس: «سرق الشيطانُ من الناس آيةً» لا يُفيد، لأنّ القاطع يقابِلُهُ. *

كونها من القرآن كغيرها من الآيات.(1)

(*) أقول: هذا استدلال من يقول أنّها من القرآن مع الجواب، وتقريره:

أنّها مكتوبة بخط المصحف فتكون من القرآن، أمّا الأُولىٰ فظاهرة وأمّا الثانية فلأنّ الصحابة كانت تتشدّد فيما هو دون ذلك من صيانة القرآن عما ليس منه، كإنكارهم على من يكتب أوائل السور(2)، والتعشير(3)،...

ص: 318


1- . وقد وردت العبارة في نسخة «ب» كما يلي: [ثم ذكر أنها قد تواتر من بعض آية في سورة «النمل» من غير مخالف فهي من القرآن فيها ونحن نقول بأنها تواترت في أوائل كل سورة، وتكرارها غير موجب لعدم كونها من القرآن كغيرها من الآيات].
2- . ليس المراد من أوائل السور هو الحروف المقطعة الّتي تسمىٰ ب «فواتح السور»؛ بل المراد ماكان يكتب في بداية كل سورة مثل قولهم فاتحة سورة كذا وخاتمة سورة كذا. قال يحيى بن أبي كثير: «كان القرآن مجرداً في المصاحف، فأوّل ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء والثاء، وقالوا: لا بأس به، هو نور له، ثم أحدثوا نقطاً عند منتهىٰ الآية، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم». الجامع لأحكام القرآن: 1/63. وأول من نقَّط هو أبو الأسود الدؤلي بتوجيه من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؛ وأوّل من أمر بالتعشير - على ما قيل - هو المأمون العباسي؛ وأول من ادخل الحركات الاعرابية في المصحف الشريف هو أحمد بن خليل الفراهيدي، وهو أيضاً من اتباع آل البيت عليهم السلام.
3- . كان القرّاءُ يُقسِّمون آيات السور إلى عشرات لأجل التسهيل في التعليم ولذلك اخذوا يُزيِّنون آخر الآية العاشرة بالذهب وسمي هذا الفعل بالتعشير، وقد إسُتكره ذلك لأنهم عدُّوه تصرفاً غير مأذون به في بنية نص الكتاب العزيز.

....................

والنقط(1)؛ فلما لم ينكروا في كتابة البسملة بخط القرآن، عُلم أنّها منه؛ وأيضاً نقل عن ابن عباس أنّه قال: «سرق الشيطان من الناس آية من القرآن» - إلى أن ترك بعضهم قراءة التسمية في أول كلّ سورة ولم ينكر عليه -(2) فدل على كونها من القرآن.

وتقرير الجواب [أن التسّمية لو كانت من القرآن في أوّل كلّ سورة لم يخلُ إمّا أن يشترط القطع في اثباتها أو لا يشترط، فإن كان الأوّل بطل استدلالكم، ضرورة كونه مفيداً للظن لا للقطع؛ وإن كان الثاني لزم اثبات التتابع في صوم اليمين كما قلناه أوّلاً. وإلى هذا الجواب أشار المصنف بقوله: لأنّ القاطع يقابله، يعني يقابل هذا الاستدلال](3).

ص: 319


1- . نَقَطَ يَنْقُطُ نَقْطاً الحروف، جعل لها نُقَطاً فهو نقّاط والحروف مُنقَّطة. من المعروف المتسالم عليه هو أنّ الحروف في عصر التنزيل كانت خالية من التنقيط، والتنقيط إنّما حدث في وقت متأخر لتفادي الأخطاء الّتي كانت ترتكب أثناء تلاوة الكتاب الكريم؛ فمع أن التنقيط كان من وحي الحاجة الماسّة، أثارت ردود فعل معارضة عنيفة حرصاً من أهلها على حماية الكتاب العزيز من أدنىٰ تصرف قد يعرِّض النص القرآني إلى تشويش وإرباك محتمل؛ فعبارة الشارح قدس سره: «كانكارهم»، تلمح - فيما تلمح إليه - إلى هذا الحدث في مسار تاريخ القرآن المجيد.
2- . يبدو أن هذه الجملة اعتراضية ولذلك ميزناها عن السياق.
3- . في نسخة «ب» بدل ما بين المعقوفتين، العبارة التالية: [وأجاب المصنّف: «بأن القاطع يقابله»، يعني أن القاطع وهو عدم التواتر في المحل يقابل ما ذكرتم].

قال: قولهم: لا يشترط التواتر في المحل بعد ثبوت مثله، ضعيف، يستلزم جواز سقوط كثير من القرآن المكرر، وجواز اثبات ما ليس بقرآن منه مثل «وَيْلٌ»(1) و «فَبِأَيِّ» (2). *

(*) أقول: هذا ايراد على الجواب مع التخلص منه، وتقريره أن يقال:

الاختلاف لم يقع في كون التسمية من القرآن في الجملة حتى يشترط القطع في نقلها، وإنّما وقع(2) في وضعها آية في أوّل السور بعد ثبوت مثله، فإنّ البسملة متواتر أنّها من القرآن وأمّا كونها أوائل السور فذلك لا يشترط فيه القطع فلا يلزم المحذور الذي ذكرتم.(3)

والجواب: بأنّ ذلك يستلزم جواز سقوط كثير من القرآن المكرر، وجواز اثبات ما ليس من القرآن منه، مثل: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ»(4) ، ومثل: «فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ»(5) * فإنّ لقائل أن يقول: إنّها متواترة ولكنّها غير...

ص: 320


1- . المرسلات: 19.2. الرحمن: 16.
2- . أي: الاختلاف.
3- . ورد في نسخة «ب» بعد كلمة «ذكرتم»، ما يلي: [والحاصل: ان القرآن يجب أن يكون متواتراً على ما دلت العادة عليه، اما كل واحد واحد منه فلا، لأن التواتر في المحل غير مشترط].
4- . تكررت «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» * في القرآن الكريم عشر مرات و «فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ» * واحداً وثلاثين مرة.
5- . وقد ورد في نسخة «ب» بعد الآية: «فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ» * ما يلي: [ووجه الملازمة: أما جواز إسقاط كثير من القرآن، فلجواز توافق الطائفة - الّتي كلف النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالقائه ما اُنزل عليه من القرآن عليهم - على عدم نقل بعض ما سمعوه منه من المكررات لعدم وجوب النقل والاظهار عليهم حينئذ إذ الاظهار والنقل إنّما أُوجب عليهم بناء على وجوب التواتر في المحل وإذا انتفىٰ انتفىٰ؛ وأمّا بيان جواز إثبات ماليس من القرآن منه، فلجواز أن يكون الثابت من افراد المكرّرات بعضها ويكون ثبوت البعض الآخر بالآحاد بناء على عدم اشتراط التواتر في المحل بعد ثبوت مثله].

قال: لا يقال: يجوز ولكنّه اتفق تواتر ذلك؛ لأنا نقول: لو قُطع النظر عن ذلك الأصل، لم يُقطع بانتفاء السقوط، ونحنُ نقطع بأنّه لا يجوز، والدليل ناهضٌ؛ ولأنّه يلزم جواز ذلك في المستقبل، وهو باطل. *

متواترة المحال فلا تكون متكررة بالتواتر فيجوز اسقاطها؛ ولما كان ذلك باطل فكذا ما ذكروه.

(*) أقول: هذا إيراد على الجواب مع الجواب عنه، وطريق الايراد هو تسليم التالي الّذي ادّعىٰ المصنف بطلانه وذلك لأنّ المصنف قال: لو لم يشترط التواتر في المحل لجاز سقوط كثير من القرآن المكرر، والتالي باطل.

قال المعترض: لا نسلم بطلان التالي بل يجوز الاسقاط بالنظر إلى الأصل لكنّه قد اتفق أنّ تواتر التكرار في «وَيْلٌ» * و «فَبِأَيِّ» * بخلاف التسمية الّتي لم يتواتر تكرُّرها، فالحاصل أن الفارق بين التسمية والمتكرر من القرآن إنّما هو تواتر التكرار في المكرر بخلاف التسمية.

الجواب: فانا مع قطع النظر عن ذلك الأصل، نقطع بأنّ السقوط لا يجوز وكذا الإثبات؛ والدليل ناهض على عدم الجواز وهو ما سبق في وجوب...

ص: 321

قال: مسألة: القراءات السبع متواترة.

لنا: لو لم تكن كذلك لكان بعض القراءات غير متواتر كملك ومالك ونحوهما وتخصيص أحدهما بحكم باطل لاستوائهما. *

اشتراط التواتر فيما هو قرآن، وأيضاً يلزم مما ذهبتم إليه جواز السقوط والاثبات في المستقبل من الزمان وهو باطل قطعاً.(1)

(*) أقول: القراءات السبع(2) متواترة، واستدل [المصنّف] بأنها لو لم تكن كذلك لكان بعض القرآن غير متواتر، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: أنّ القرآن قد اشتمل على مثل: «مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ» و «مٰالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» وقد قرأ بأحدهما بعض القرآء وبالآخر البعض الآخر، فأمّا أن نقول بتواترهما وهو

ص: 322


1- . ما يفي بالغرض هو ما اثبتناه، وقد ورد ما يلي قبل المقطع المثبت في المتن وهو لا يخلو من اضطراب وتشويش: [انّا لو قطعنا النظر عن ذلك الاصل وهو اتفاق تواتر المكرر فانقطع بانتفاء الشرط ولا بانتفاء الاثبات أيضاً لكون القطع بهما مستفاداً من المكرر بل يجوزهما وهو باطل].
2- . القراءات جمع للقراءة وهي مصدر، تقول: قرأ يَقْرؤُ قِراءَة، وفي علم القراءات هي مذهب كل واحد من القراء؛ والقراء السبعة هم: 1. عبداللّٰه بن عامر اليحصبي (ت 118 ه). 2. عبداللّٰه بن كثير الداري (ت 120 ه). 3. عاصم بن النجود الأسدي (ت 127 ه). 4. حمزة بن حبيب الزيات التميمي (ت 156 ه). 5. نافع بن عبدالرحمن الليثي (ت 169 ه). 6. حفص بن سليمان البزار الأسدي (ت 180 ه). 7. علي بن حمزة الكسائي (ت 189 ه).

قال: مسألة: العمل بالشاذّ غير جائز مثل «فصيام ثلاثة أيّام متتابعات» واحتجّ به أبو حنيفة.

لنا: ليس بقرآن ولا خبر يصحّ العمل به.

قالوا: يتعيّن أحدهما فيجب.

قلنا: يجوز أن يكون مذهباً، وان سُلّم فالخبرُ المقطوعُ بخطئه لا يعمل به ونقله قرآناً خطأ. *

المطلوب؛ أو بتواتر أحدهما وهو تحكّم باطل لاستوائهما في النقل فلا أولوية، فلا يبقىٰ إلّاأنهما غير متواترين وأمّا بطلان التالي فظاهر.

ولقائل أن يقول: المعلوم بالتواتر أن أحدهما من القرآن وأما تعيين أحدهما أو هما معاً فلا؛ وكيف والذي يستند إليه القرّاء سبعة نفر لا يحصل العلم بقولهم فضلاً عما اختلفوا فيه.

حكم الشاذّ من القراءات

(*) أقول: اختلف الناس في [العمل] بالقراءات الشاذّة(1) كقيد الأيام في صوم الكفّارة بالتتابع، فذهب الشافعي إلى نفيه ولهذا لم يوجب التتابع؛ وأوجبه أبوحنيفة بذلك. احتج الشافعي بأنّه لو كان قرآناً لوجب على الرسول صلى الله عليه و آله و سلم تبليغه إلى من تقوم الحجة بقوله وهو الخبر المتواتر الذي لا يتطرق عليه الكذب،

ص: 323


1- . انظر: المستصفىٰ: 1/194.

قال: المحكم: المتضح المعنى، والمتشابه: مقابُلهُ، أمّا لإشتراك أو لإجمال أو ظهور تشبيه. *

فلما لم يبلغه إلى أهل التواتر دل على أنّه ليس من القرآن وليس بخبر يصح العمل به، فإنّ القارئ لم يذكره على أنّه خبر منقول عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

احتج أبوحنيفة بأنّه متردد بين أن يكون قرآناً و بين أن يكون خبراً، وعلى التقديرين فهو حجّة؛ والجواب: يجوز أن يكون مذهباً وتفسيراً للآية فلا تبقىٰ حجّة، وإن سُلِّم أنّه بمذهب ولكن الخبر إنّما يصحّ العمل به على تقدير ان لا يُقطع بخطائه وهذا مقطوع بكونه خطأً فإنّه نَقْلُه قرآناً فهو خطأ وإلّا لتواتر، وإذا كان خطأ لم يكن حجة.

المحكم والمتشابه

(*) أقول: لمّا كان القرآن مشتملاً على المحكم والمتشابه وجب عليه(1)تعريفهما، وقد عُرِّفا بأُمور مدخولة كقولهم: «المحكم هو ما عرفه الراسخون في العلم والمتشابه هو ما علمه اللّٰه تعالى»، وقولهم: «المتشابه هو الحروف المقطوعة والمحكم ما عداه»، وقولهم: «المحكم هو الحلال والحرام والوعد والوعيد والمتشابه هوالقصص والأمثال»، وغير ذلك.

والأولى في تعريفهما ما ذكره المصنف، وهو: «أنّ المحكم هو المتضّح المعنى والمتشابه ما يقابله»، وهو(2) يكون لتطرق الاحتمال كما في الألفاظ

ص: 324


1- . أي: على المصنّف.
2- . أي المتشابه.

قال: والظاهر: الوقف على «وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ»(1) لأنّ الخطاب بما لا يفهم، بعيد. *

المشتركة كقوله: «ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ» (2) والمجازية، أو المجملة، أو كان ظاهره التشبيه، كقوله تعالى: «تَجْرِي بِأَعْيُنِنٰا»(3) ، «وَ اَلسَّمٰاءَ بَنَيْنٰاهٰا بِأَيْدٍ» (4)؛ إلى غير ذلك من الآيات الدالة على التشبيه.

(*) أقول: اختلف الناس في جواز الخطاب بما لا يفهم، فذهب المحققون إلى امتناعه؛ وذهب قوم غير محققين إلى جوازه والدليل على امتناعه كونه نقصاً واللّٰه تعالى حكيم يتعالى عن ذلك.

احتج المجوزون بأمرين:

أحدهما: أنّ الحروف المقطّعة غير معلومة وقد خوطبنا بها.

والثاني: أن الواو في قوله تعالىٰ: «وَ اَلرّٰاسِخُونَ» ، للإبتداء لا للعطف والاّ لوجب عود الضمير في قوله: «يَقُولُونَ» إلى المذكورين قبل، فيكون اللّٰه تعالى داخلاً، فيه وهو محال.

والجواب: عن الأوّل: أنّ الناس اختلفوا في تفسيرها والظاهر أنّها أسامي السور.

وعن الثاني: إنّ الواو للعطف وإلّا لزم الخطاب بما لا يعلم وهو قبيح، ولا

ص: 325


1- . آل عمران: 7.
2- . البقرة: 228.
3- . القمر: 14.
4- . الذاريات: 47.

قال: مسألة:

والأكثر على أنّه لا تمتنع عقلاً على الأنبياء معصيةٌ، وخالف الروافضِ، وخالف المعتزلةُ إلّافي الصغائر، ومعتمدهم التقبيح العقلي والإجماع على عصمتهم بعد الرّسالة من تعمد الكذب في الأحكام لدلالة المعجزة على الصدق وجوّزه القاضي غلطاً.

وقال: دلّت على الصدق اعتقاداً. وأمّا غيرُه من المعاصي، فالإجماع على عصمتهم من الكبائر وصغائر الخسّة، والأكثر على جواز غيرهما. *

استبعاد في عود الضمير في «يقولون» إلى بعض المذكورين قبل المخصص.

السنة الشريفة

(*) أقول: لما فرغ من البحث عن الكلام في الكتاب، انتقل إلى البحث عن السنّة،(1) ولما كانت السنّة متلقاة من أقوال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وأفعاله، وجب أن يبحث أوّلاً عن الأقوال والأفعال وأنها هل هي حقّة أو لا؟ وذلك إنّما يكون ببيان عصمتهم فنقول:

مذهب الإمامية أنّ الأنبياء معصومون قبل الرسالة وبعدها عن صغائر الذنوب وكبارها لأن جواز المعصية ممّا يناقض مقتضى الحكمة، فإنّ ارسال من لم

ص: 326


1- . انظر: المحصول: 1/501؛ الاحكام للآمدي: 1/119؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 2/525.

....................

يكن بهذه الصفة يقتضي التنفير المنافي للإرسال.

وذهب أكثر المعتزلة والقاضي أبوبكر وأكثر الأشاعرة إلى أنّه لا يمتنع صدور المعصية عنهم كبيرة وصغيرة قبل الرسالة، بل جوزوا ارسال من أسلم عقيب كفره.

أمّا بعد الرسالة فقد وقع الاتفاق على امتناع كذبهم في الاحكام وما دلت المعجزة على صدقهم كالتبليغ عن اللّٰه تعالى بطريق التعمد واختلفوا في ذلك على سبيل السهو فذهب إليه القاضي ومنع منه الباقون، وقال: المعجزات إنّما دلت على صدق الصادر عن الاعتقاد ولم تمنع من الكذب الصادر عن الغلط؛ وهو خطأ وإلّا لزم عدم الوثوق بالتبليغ على تقدير السهو.

وأمّا ماعداها دلت المعجزة على صدقهم فيها، فهل يجوز عليهم المعصية فيها أم لا؟ فالإجماع منعقد على امتناع الكبائر والصغائر الدالّة على نقص المروءة كسرقة شيء يسير. ونقل عن الفضيلية(1) جواز صدور الكفر منهم لأنهم يجوزون صدور الذنب عنهم والذنب عندهم كفر.

وأمّا غير الكبائر والصغائر الدالة على الخسّة والضِّعة فالأكثر على جوازها، والحق ينافيه.(2)

ص: 327


1- . هي طائفة من الخوارج، وقيل إنهم شريحة من الأزارقة - أتباع نافع بن هلال الأزرق - إلّاأن المصادر الرئيسية في «الفرق والمذاهب» لم تأت لهم بذكر ممّا يكشف عن أنها لم تكن جماعة تستحق الاهتمام والتمحيص للتعرف عليها.
2- . هذا البحث برمّته بحث كلامي لا يصلح للتطرق إليه في هذا المقام، ولهذا السبب اقصاه الأُصوليون المتأخرون عن بحوثهم إلى مواضعه في علم الكلام.

قال: مسألة: فعلُهُ صلى الله عليه و آله و سلم: ما وضح فيه أمر الجبلّية كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، أو تخصيصُهُ: كالضُحى، والوتر، والتهجّد والمشاورة والتخيير والوصال والزيادة على أربع - فواضحٌ، وما سواهما إنَ وضَحَ أنّه بيان بقول، أو قرينةٍ مثل: «صلّوا» أو «خذوا»، وكالقطع من الكوع، والغسل إلى المرافق - اعتُبرِ اتفاقاً، وما سواه إن عُلِمتْ صفتهُ فأُمتُهُ مثله، وقيل في العبادات، وقيل كما لم تُعلم. وإن لم تعلم فالوجوب، والندب، والإباحةُ، والوقفُ؛ والمختار: إن ظهر قصد القربة فندبٌ، وإلّا فمباحٌ. *

(*) أقول: اختلف الناس في أفعال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم هل هي حجة في شرع مثل ذلك الحكم في حق أُمته أم لا؟ وتقرير الخلاف أن نقول:

الافعال التي ترجع إلى الجبلّية كالقيام والقعود والأكل والشرب وغير ذلك، أو التي ثبت اختصاصه صلى الله عليه و آله و سلم بها كوجوب الضّحىٰ(1)، ووجوب الوتر، ووجوب...

ص: 328


1- . إن الآمدي في (الإحكام: 1/228)؛ والماتن في (منتهىٰ الوصول والأمل: 48) حينما عدّا مختصات النبي صلى الله عليه و آله و سلم، ذكرا في جملتها: «الضّحىٰ» و «الأضحىٰ». الأضحىٰ جمع لمفردة الأضحاة المرادفة لمفردة الأضحية، وتجمع على أضاحي أيضاً وهي شاة ونحوها يضحّىٰ بها في عيد الأضحىٰ. وقيل إنّه ممّا اختص به النبي صلى الله عليه و آله و سلم هو أن يذْبح الاضحية خارج منىٰ. وأما مفردة الضّحىٰ فالمراد بها صلاة نافلة يبدأُ وقتها من ارتفاع الشمس إلى الزوال وعدد ركعاتها بين ركعتين إلى ثمان ركعات، وقد نسب إلى الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم: «ثلاث عليّ واجب وعليكم سنة: الضحىٰ والأضحىٰ والوتر». شرح الأزهار: 1/318. وقيل: «خُص النبي بوجوب الأضحىٰ والضحىٰ والتهجد والوتر». مواهب الجليل: 5/3.

....................

التهجد والمشاورة والتخيير لنسائه، وصوم الوصال، والزيادة على أربع حرائر، فلا خلاف في أنّها مختصة به ولسنا متعبدون بها.

وامّا ما عدا ذلك فان كان فعله بياناً لنا فلا خلاف في كونه حجة، وكونه بياناً قد يكون بالقول مثل قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «صلّوا كما رأيتموني أُصلي»(1) فإنّه دلّ على أن فعله صلى الله عليه و آله و سلم بيان لقوله تعالى: «أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ» * وكذلك قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «خذوا عنيّ مناسككم»(2)؛ وقد يكون بالقرينة كما إذا أُورد لفظ مجّمل ولم يبيّنه حتّى وقعت الحاجة إليه ففعل فعلاً صالحاً للبيان، فإنّه يكون بياناً كقطع يد السارق من الكوع المبيّن لآية السرقة، وكذلك الغَسل إلى المرافق المبيّن لآية الغسل.

وأمّا إذا لم يكن بياناً فلا يخلو إمّا أن يعلم صفة الفعل من وجوب أو ندب أو لا يعلم، فإن علم انّه صلى الله عليه و آله و سلم فعله واجباً أو ندباً، فقد اختلف الناس فيه، فذهب

ص: 329


1- . عوالي اللئالي: 1/198؛ صحيح البخاري: 1/155؛ السنن الكبرى: 2/245.
2- . عوالي اللئالي: 1/215؛ السنن الكبرى: 5/125.

قال: لنا: القطع بأنّ الصحابة كانوا يرجعون إلى فعله صلى الله عليه و آله و سلم المعلوم صفته. وقوله تعالى: «فَلَمّٰا قَضىٰ» إلى آخرها، وإذا لم يعلم وظهر قصد القربة ثبت الرجحان فلزم الوقوف عندَهُ، والوجوبُ زيادةٌ لم تثبت، وإذا لم يظهر فالجواز والوجوب، والندب زيادة لم تثبت، وأيضاً لمّا نفى الحرج بعد قوله تعالى: «زَوَّجْنٰاكَهٰا» فُهمت الاباحةُ مع احتمال الوجوب والندب. *

قوم إلى أنّ حكم أُمتّهِ حكمه صلى الله عليه و آله و سلم، وذهب آخرون إلى أنَّ أُمتَهُ مثله في العبادات دون غيرها، وذهب آخرون إلى أن حكمه حكم ما لم يعلم صفته.

وأمّا إذا لم يعلم صفته فقد اختلفوا على أقوال: قال قوم: إنّها على الوجوب، وقال آخرون على الندب، وقال آخرون على الإباحة، وتوقف قوم في الجميع(1)، وقال آخرون إن ظهر قصد التقرب بالفعل فهو ندب وإلّا فهو مباح، وهو اختيار المصنف، وبعض من جوّز المعاصي على الأنبياء عليهم السلام، قال: إنّها على الحظر.

(*) أقول: هذا استدلال المصنف على مذهبيه:

امّا الأوّل: وهو وجوب التأسي به صلى الله عليه و آله و سلم في ما عُلمت صفته فقد استدل عليه بوجهين:

ص: 330


1- . في هامش نسخة «أ» ورد ما يلي: [وفي البرهان وذهبت الواقفة إلى الوقف]. وقد وردت العبارة في البرهان كما يلي: [وذهب الواقفة إلى الوقف، فإنهم في ظواهر الأقوال سبّاقون إليه]. انظر: البرهان في أُصول الفقه لإمام الحرمين الجويني: 1/322.

....................

الأوّل: الإجماع وهو رجوع الصحابة إلى أفعاله وإتباعه فيها كتقبيل الحجر، والقبلة للصائم، ووجوب الغسل من إلتقاء الختانين، وغير ذلك من الوقائع الشهيرة مع عدم الإنكار من أحد منهم وذلك يدلّ على اتفاقهم على وجوب متابعته.

الثاني: القرآن وهو قوله تعالى: «فَلَمّٰا قَضىٰ زَيْدٌ مِنْهٰا وَطَراً زَوَّجْنٰاكَهٰا لِكَيْ لاٰ يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوٰاجِ أَدْعِيٰائِهِمْ إِذٰا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً»(1) ولولا وجوب اتباعه والتأسي به في فعله لم يكن للآية معنى.

وأمّا الثاني: وهو ما إذا لم تُعلم صفة الفعل فإنّه على وجهين:

الأوّل: أن نعلم قصد القربة من فعله صلى الله عليه و آله و سلم وهو يدل على القدر المشترك بين الوجوب والندب في حقه وحق أُمته لأن قصد التقرب قدر مشترك بين الوجوب والندب، والقدر المشترك ليس فيه إشعار بأحد جزئياته فيكون المعلوم هو القدر المشترك، وخصوصيتا الوجوب والندب مشكوك فيهما، غير أنّ خصوصية الندب معلومة بالعقل لأن الأصل براءة الذمة من قيد الوجوب.

الثاني: أن لا نعلم قصد التقرّب منه وذلك يحتمل الوجوب والندب والاباحة وهو قدر مشترك بين هذه الانواع وليس فيه إشعار بأحدها غير أنّ الإباحة هو الأصل والوجوب والندب زيادتان لم يثبتا، وأيضاً قوله تعالى:

«فَلَمّٰا قَضىٰ زَيْدٌ مِنْهٰا وَطَراً زَوَّجْنٰاكَهٰا لِكَيْ لاٰ يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ» يدلّ من حيث المفهوم على الإباحة فإن نفي الحرج يفهم منه ذلك، مع احتمال الوجوب والندب.

ص: 331


1- . الاحزاب: 37.

قال: الموجب: «وَ مٰا آتٰاكُمُ اَلرَّسُولُ»(1) .

أُجيب: بأنّ المعنى: «ما أمركم» لمقابلة. [«وَ مٰا نَهٰاكُمْ»] (2)

قالوا: «فَاتَّبِعُوهُ»(3) .

أُجيب: في الفعل على الوجه الّذي فعله أو في القول، أو فيهما.

قالوا: «لَقَدْ كٰانَ» (4) إلى آخرها، أي: مَنْ كان يؤمن فله فيه أُسوة حسنة.

قلنا: معنىٰ التأسي: إيقاع الفعل على الوجه الّذي فعله.

قالوا: خلع نعله فخلعوا، فأقرّهم على استدلالهم وبيَّن العلة.

قلنا: لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «صلّوا» أو لفهم القربة.

قالوا: لما أمرهم بالتمتع تمسَّكوا بفعله.

قلنا: لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «خذوا» أو لفهم القربة.

قالوا: لما اختلف في الغُسلِ بغير إنزال سأل عمرُ عائشة فقالت:

فعلته أنا ورسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فاغتسلنا.

قلنا: إنّما استفيد من «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل»، أوْ لأنّه بيان: «وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً» (5) أو لأنّه شرط الصلاة أو لفهم الوجوب.

ص: 332


1- . الحشر: 7.
2- . ما بين المعقوفتين ورد في نسخ أُخرى.
3- . الأنعام: 153.
4- . الأحزاب: 21.
5- . المائدة: 6.

قالوا: أُحوط، كصلاةٍ، ومطلقةٍ لم تتعيّنا. والحق أنّ الاحتياط فيما ثبت وجوبه، أو كان الأصل كالثلاثين، فأمّا ما احتمل بغير ذلك فلا. *

(*) أقول: هذه حجج القائلين بوجوب التأسي به صلى الله عليه و آله و سلم مطلقاً مع الجواب عنها:

الأوّل: قوله تعالى: «وَ مٰا آتٰاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ» أمر بالأخذ لِما أَتىٰ به، والأخذ هاهنا مجاز في الامتثال والفعل الذي فعله مأتيٌ به فوجب علينا اتباعه فيه.

والجواب: أن الإتيان هاهنا المعنيُّ به الأمر القولي لا الفعلي، والدليل عليه ذكر مقابله وهو قوله: «وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» ، فإنّ مقابل النهي ليس إلّاالأمر القولي.(1)

ولقائل أن يقول: الإِتيان أعم من الفعل والقول فيجب اتباعه فيه مطلقاً للأمر، وقوله: «وَ مٰا نَهٰاكُمْ» وإن كان مقابلاً للأمر القولي لكنّه لا استبعاد في الأمر بالإمتثال في الفعل والقول، والإمتثال في النهي بما نهى عنه.

الثاني: قوله: «فَاتَّبِعُوهُ» و «اتقوا» أمر باتباعه واتباعه امتثال قوله واتيان مثل فعله، والأمر للوجوب.

والجواب: إنّ اتباع شخص الرسول صلى الله عليه و آله و سلم غير مراد، فلابدّ من إضمارٍ وهو إمّا اتباع أقواله أو أفعاله، واضمارهما معاً غير جائز لأنّه كلما قلَّ الإضمار كان

ص: 333


1- . في هامش نسخة «أ» ورد ما يلي: [قال إمام الحرمين: الآية محتملة، وغاية المستمسك بها أن يسلم له ظهورها في غرضه، والظهور مع تطرق فنون الظنون لا يقنع في القطعيات]. راجع بهذا الصدد: البرهان في أُصول الفقه لإمام الحرمين الجويني: 1/323.

....................

أولى فيضمر هاهنا القول لكونه متفقاً عليه. وان وجب اضمار الفعل لكن الاتباع إنّما يكون في فعل عُلمت صفته أمّا فيما لا تعلم صفته فلا، فالحاصل أنّ المضمر إمّا القول أو الفعل الّذي علمت صفته أو هما معاً لا الفعل الّذي لا تعلم صفته.

الثالث: قوله: «لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اَللّٰهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ»(1) أي: من كان يرجو اللّٰه واليوم الآخر فله فيه صلى الله عليه و آله و سلم اُسوةٌ؛ فمن لم يكن له فيه اسوة - أي: إتباع - لم يكن واجباً، بعكس النقيض؛ وذلك يدلّ على وجوب الاتباع.

والجواب: إنّ معنى التأسي هو الإتيان بمثل فعل الغير على الوجه الّذي فعله، فلابدّ من العلم بوجه الفعل حتى يقع التأسي، وإذا كان مجهولاً امتنع التأسي به.

الرابع: إن الصحابة خلعوا نعالهم لمّا خلع، ففهموا وجوب المتابعة وأقرّهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم على ذلك، وبيّن لهم العلة التي اختص بها حتى حصل الفرق في تلك الواقعة فقال صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ أخي جبرئيل أخبرني أنّها قذرة».

والجواب: أنّه لما سبق قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «صلوا كما رأيتموني أُصلي» فُهم وجوب المتابعة لذلك الأمر، أو لأنّهم فهموا القربة بقوله تعالى: «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» (2).

الخامس: انّه أمرهم بالتمتع ولم يتمتع، فقالوا له: «ما بالك تأمرنا بالتمتع ولا تتمتع» ففهموا من فعله وجوب متابعته.

والجواب: إنّهم إنّما فهموا ذلك من قوله: «خذوا عني مناسككم»(2)، أو...

ص: 334


1- . الاحزاب: 21.2. الاعراف: 31.
2- . صحيح مسلم (كتاب الحج) برقم 310؛ سنن أبي داود: 1970؛ سنن الترمذي: 1/168، وغيرها.

....................

انهم فهموا القربة من فعله فطلبوا الإتيان بمثله.

السادس: إن الصحابة اختلفوا في وجوب الغُسل من غير انزال، فسألَ عمرُ عائشة فقالت: «فعلته أنا ورسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فاغتسلنا»، فتابعوا فعله وعملوا عليه.

والجواب: إنّما تابعوا في ذلك لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا التقىٰ الختانان فقد وجب الغسل»؛ أو لأنّه بيان لقوله تعالى: «وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً»(1) ، والبيان يجب متابعته فيه على ما سلف؛ أو لأنّه شرط للصلاة فإنّه نوع من الطهارة، ففهموا اتباعه بقوله: «صلّوا»؛ أو لأنّهم فهموا الوجوب من فعله فتابعوه.

السابع: دليل الاحتياط، وذلك لأنّ الفعل يحتمل الوجوب والندب والاباحة؛ فعلى تقدير الاتيان به تتخلص النفس من العقاب، إن كان واجباً يتعين؛ وعلى تقدير عدم الاتيان به يحتمل أن يكون واجباً فيكون الإخلال به موجباً للعقاب، وذلك مثل صلاة شخص فائتة نسي تعيينها، فإنّه يجب عليه الإتيان بالصلوات الخمس حتى تبرأ ذمته بيقين؛ وكما إذا طلق الإنسان زوجة من زوجاته ثمّ نسيها فإنهن يحرمن عليه تغليباً للاحتياط.

والجواب: أنّ الاحتياط إنّما يكون في شيء ثبت وجوبه كالصلاة المنسية [وترك الحرام في المطلقة](2) أو كان الأصل فيه الوجوب كصوم الثلاثين من رمضان إذا غمّ الهلال، فإنّه يجب صومه لأنّ الأصل وجوب صوم ثلاثين؛ أمّا ما يحتمل ان يكون واجباً، فغير واجب فلا [يجوز فيه الاحتياط لاحتمال التحريم مع عدم اعتضاده بالأصل الّذي هو أحد الأمرين المذكورين، و](3) هاهنا كذلك،...

ص: 335


1- . المائدة: 6.
2- . في نسخة «ب» فقط.
3- . في نسخة «ب» فقط.

قال: الندبُ: الوجوبُ يستلزمُ التبليغَ، والإباحة منتفية بقوله تعالى:

«لَقَدْ كٰانَ» وهو ضعيفٌ. الإباحة: هو المتحقق لوجوب الوقوف عنده.

وأُجيب: إذا لم يظهر قصد القربة. *

فإنّ الفعل لم يثبت وجوبه ولا الأصل وجوبه.

وبعض الناس قال أنّ الاحتياط إنّما يقال به إذا خلا الفعل عن احتمال الضرر قطعا وفيما نحن فيه يحتمل ان يكون الفعل حراماً قطعاً.

وهذا غير صحيح لأنّه لو غم الهلال ليلة الثلاثين احتمل أن يكون الصوم حراماً وأن يكون واجباً ومع ذلك فالاحتياط القول بوجوبه وإن احتمل أن يكون حراماً، وإلى بطلان هذا المذهب أشار المصنف بقوله: والحق أنّ الاحتياط إنّما يكون فيما ثبت وجوبه أو كان الأصل.

آراء أُخرى في التأسّي

(*) أقول: لمّا أبطل أدلة من قال بالوجوب في التأسي فيما لم يعلم صفة الفعل مطلقاً، شرع في ابطال حجة الآخرين: أمّا القائل بالندب فاستدَّل بأنّ الفعل راجح على الترك بقوله: «لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(1) والوجوب منتفٍ لأنّه يستلزم التبليغ وإلّا وقع التكليف بالمجهول، والجواب عن الآية ما مر.

ص: 336


1- . الأحزاب: 21.

قال: مسألة: إذا علم بفعل ولم ينكره قادراً، فإن كان كمُضيّ كافر إلى كنيسة فلا أَثَرَ للسكوتِ اتفاقاً، وإلّا دلّ على الجواز، وإن سبق تحريمهُ، فنسخ، وإلّا لزم ارتكاب محرم، وهو باطلٌ، فإن استبشر به فأوضح، وتمسك الشافعي في القيافة بالاستبشار، وترك الإنكار لقول المُدلجيِّ وقد بدت له أقدام زيد وأسامة: إنّ هذه الاقدام بعضها من بعض. *

وقوله: الوجوب يستلزم التبليغ، قلنا: نعني التبيلغ القولي أو المطلق الشامل للفعل وللقول عملاً بالعموم، وأيضاً فكما أنّ الوجوب يستلزم التبليغ فكذلك الندب لأنّه تكليف.

وأمّا القائل بالإباحة فقال إنّه معلوم قطعاً والأصل عدم الزيادة فوجب القول به.

والجواب: إذا ظهر قصد القربة دلّ على الترجيح المنافي للإباحة.

دلالة سكوته صلى الله عليه و آله و سلم عن فعل الغير

(*) أقول: إذا فعل أحد في زمن النبي صلى الله عليه و آله و سلم فعلاً وعلم به الرسول ولم ينكره مع القدرة على الإنكار فلا يخلو:

إمّا أنّ يكون النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد بيّن قبحه قبل ذلك، أوْ لا؛ فإن كان الأوّل فلا يخلو إمّا أن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على الفعل وعلم تكرار تقبيح...

ص: 337

قال: وأورد: إن ترك الانكار لموافقة الحق، والاستبشار بما يلزم الخصم على أصله لأنّ المنافقين تعرضوا لذلك.

وأجيب: بأنّ موافقة الحق لا تمنع إذا كان الطريق منكراً، وإلزام الخصم حصل بالقيافة فلا يصلحُ مانعاً. *

النبي صلى الله عليه و آله و سلم لذلك الفعل، أوْ لا؛ فإن كان الأوّل، لم يدل السكوت على الجواز اتفاقاً وذلك كما في حق ترك الإنكار على اليهود في المضيّ إلى الكنيسة لما علموا من تكرار التقبيح عليهم من النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وإن كان الثاني، دل على الجواز ويكون ذلك نسخاً لما سبق من التحريم.

وأمّا إذا لم يبيّن قبحه قبل ذلك فإنّه يدل على الجواز أيضاً وإلّا لزم ارتكاب محرّم، فإن ترك الارتكاب مع القدرة معصية لا يجوز عندنا على الأنبياء.

وعند المصنّف وغيره من الجمهور وإن كان يجوز لكنه مستبعد، فإن الغالب على الظن عدم صدور المعصية منه وبالخصوص إذا وقع الاستبشار بذلك الفعل فإنّه أوضح في باب الاستدلال على جواز الفعل؛ كما تمسك الشافعي بما نقله عنه صلى الله عليه و آله و سلم من ترك الانكار والاستبشار(1) في باب القيافة لما قال مُجزَّز المدلجيّ(2) - وقد ظهرت أقدام زيد وأُسامة من تحت الملحفة -: إنّ هذه الأقدام بعضها من بعض. (*) أقول: هذا إيراد أورده القاضي أبو بكر على الشافعي، وتقريره أن

ص: 338


1- . وقد ورد في هامش نسخة «ب»: [ولولا أن القيافة حق يجوز اثبات الانساب بها لأنكرها ولما استبشر بها].
2- . في أسد الغابة: مجزِّز المُدْلجي القائف، وإنّما قيل له: مجزّز، لأنّه كان كلّما أسر أسيراً جزّناصيته. لاحظ أُسد الغابة: 4/48، برقم 4680.

قال: مسألة: الفعلان لا يتعارضان ك «صوم» و «أكل» لجواز الأمر في وقت، والاباحة في وقت آخر. إلّاأن يدل دليل على وجوب تكرير الأوّل له، أو لأُمتّه، فيكون الثاني ناسخاً. فإن كان معه قول، ولا دليل على تكرر ولا تأسٍ به، والقول خاصٌ به وتأخر فلا تعارض. فإن تقدم فالفعل ناسخ قبل التمكن عندنا، فإن كان خاصّاً بنا فلا تعارض، تقدم أو تأخّر. *

نقول: ترك الإنكار إنّما كان لأنّ فعل المدلجيّ كان موافقاً للحق، وكان المنافقون يغمزون في نسب زيد وأُسامة طلباً لأذى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، وكان الشرع حاكماً بالتحاق أُسامة بزيد وكان قول المدلجيّ موافقاً لقول الشارع، فكان ترك الانكار لذلك من حيث إنّه الزام المنافقين على أصلهم الّذي هو القيافة ومكذّب لهم لأنّ المنافقين تعرضّوا للغمز وكان أصلهم الذي هو القيافة مكذباً لهم، فاستبشر لذلك؛ ولا يدل ذلك على صحة الطريق؛ ألا ترىٰ أنّ الفاسق لو شهد بالحق ولم ينكر عليه [ لم يدل](1) على قبول قول الفاسق.

وأجاب المصنف عن هذا بأنّ موافقة الحق لم تمنع من الانكار إذا كان الطريق منكراً وإلّا لكان ترك الإنكار موهماً حقيّة الطريق، وإلزام الخصم الّذي حصل بالقيافة لا يصلح أن يكون مانعاً من الانكار.

صلة أفعال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بافعاله وبأقواله

(*) أقول: أفعال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لا تتعارض لأنّها إمّا متماثلة فلا تعارض كصلاة الظهر في وقتين، أو مختلفة: أمّا غير متضادة كصوم وصلاة فلا تعارض

ص: 339


1- . في نسخة «ب»: [... لكان ذلك دليلاً...].

....................

أيضاً أومتضادة كصوم يوم وأكل في آخر، ولا تعارض هاهنا أيضاً لجواز أحد الأمرين أعني الواجب أوالندب في وقت والجواز في وقت آخر إذ الافعال لا عموم لها فلا يكون أحد الفعلين رافعاً للآخر؛ اللهم إلّاأن يدل دليل خارجي غير الفعل على وجوب تكرير الأوّل له أو لأُمّتِهِ فيكون الفعل الثاني ناسخاً للحكم الأوّل.

فهذا حكم الأفعال المتضادة. وأمّا إذا كان المعارض للفعل قولاً فلا يخلو:

[1]: إمّا أن لا يكون هناك دليل يدل على تكرار الفعل ولا على تأسي الأُمّة به.

[2]: أو يكون هناك دليل يدل عليهما.

[3]: أو يكون هناك دليل يدلّ على تكرار الفعل دون التأسي.

[4]: أو يكون هناك دليل دالّ على التأسي دون التكرار.

فإن كان الأوّل(1) فلا يخلو إمّا أن يكون القول خاصّاً به أو بنا أو عام له ولنا:

[الف]: فإن كان خاصّاً به فلا يخلو إمّا أن يكون القول متأخراً أو متقدماً

ص: 340


1- . أي: حينما لا يكون دليل على التكرار والتأسي، وهذا مخططه:

قال: فإن كان عامّاً لنا وله فتقدم الفعل والقول له وللأُمّة كما تقدّم، إلّا أن يكون العامُ ظاهراً فيه، فالفعل يخصص على ما سيأتي. *

أو يُجهل الأمران:

[*] فإن كان القول متأخراً فلا تعارض أيضاً لأنّه يجوز ان يفعل الفعل في وقت ثمّ يقول بعد وقت آخر - إمّا مع التراخي أو بدونه - لا يجوز لي مثل هذا الفعل، ولا يكون هذا القول رافعاً لحكم الفعل الماضي قطعاً ولا للمستقبل لعدم عمومية الفعل.

[*] وإمّا أن يكون القول متقدماً مثل أن يقول يجب عليّ في الوقت الفلاني الفعل الفلاني ثمّ تلبّس بضد ذلك الفعل في ذلك الوقت، فهذا الفعل يكون ناسخاً لذلك القول. وهذا الفرض غير جائز عند المعتزلة - الاّ عند من يجوّز عليه المعاصي - فإنّهم لا يجوزون نسخ الفعل قبل التمكن من الامتثال، وعند الاشاعرة يجوز ذلك. وهذا البحث سيأتي.

[ب] وإمّا إذا كان القول خاصّاً بنا فلا تعارض سواء تقدّم الفعل أو تأخر لعدم اجتماع الفعل والقول في محل واحد.

(*) أقول: [ج] هذا هو الفرض الثالث(1) وهو أن يكون القول عامّاً لنا وله، مثل أن يقول: يجب عليّ وعلى أُمتي كذا، فلا يخلو إمّا أن يكون المتقدم هوالقول أو الفعل:

[*] فإن كان هو الفعل فلا تعارض، أمّا بالنسبة إليه فلعدم عمومية الفعل وأمّا بالنسبة إلينا فلأنّ الفرض أنّ الفعل لم يدل دليل على تأسي الأُمّة به فيه.

ص: 341


1- . الفرض الثالث من القسم الأوّل.

قال: فإن دلّ دليلٌ على تكرير وتأسٍ، والقول خاصّ به، فلا معارضة في الأُمّة، وفي حقّه المتأخّرُ ناسخ، وإن جُهِل فثالثها المختارُ الوقف «للتحكم». *

[*] وأمّا إن كان القول هوالمتقدم فلا تعارض أيضاً أمّا بالنسبة إليه فكما تقدم وكذلك بالنسبة إلينا؛ فحينئذٍ حكم هذا القسم وهو ما إذا كان القول عامّاً لنا وله، حكم ما تقدم إلّافي شيء واحد وهو أنّ القول إذا كان ظاهر العموم له صلى الله عليه و آله و سلم (مثل أن يقول: «يجب علينا» لا صريحاً مثل أن يقول: «يجب عليّ وعلى أُمتي» كما مرّ، وهو متقدم، فإن الفعل تخصيص لذلك العموم وقد كان في الأوّل نسخاً.

(*) أقول: هذا هو القسم الثاني(1): وهو أن يكون هناك دليل يدل على تكرار الفعل وعلى تأسي الأُمّة به، فأما أن يكون القول خاصاً به أو بنا أو عاماً له ولنا:

[الف] فإن كان الأوّل فلا معارضة في حق الأُمّة لجواز اختصاصه بما

ص: 342


1- . القسم الثاني من الأقسام الأربعة الّتي مر ذكرها، وهذا مخططه:

....................

دلّ عليه القول دون الفعل، وأمّا في حقّه فلا يخلو إمّا أن يكون القول متقدماً أو الفعل، أو لا يُعلم:

[*] فإن كان الأوّل، بفعله يكون ناسخاً للقول في حقّه إن كان بعد التمكّن من الامتثال عندنا أو مطلقاً عند الاشاعرة.

[*] وإن كان الثاني، فالقول يكون ناسخاً للفعل في حقه دون أُمتهِ لاختصاص القول به.

[*] وإن كان الثالث، فلا معارضة بين الفعل والقول بالنسبة إلى أُمته لعدم تناول القول لهم، وأمّا بالنسبة إليه ففيه ثلاثة مذاهب:

الأوّل: إنّه يجب العمل بالقول.

الثاني: إنّه يجب العمل بالفعل.

الثالث: الوقف حتى يقوم دليل التاريخ، وهو الّذي اختاره المصنف لأنّه يُحتمل أن يكون القول متقدماً وأن يكون متأخّراً ولا ترجيح، فالقول بالعمل بالقول أو بالفعل يكون تحكّماً محضاً من غير دليل وهو باطل.

والمصنف أشار إلى المذهبين بقوله: فثالثها.

احتج القائلون بالأول بأن القول أبين في الدلالة من الفعل، ولأنّ العمل بالقول يفضي إلى نسخ الفعل في حقّه صلى الله عليه و آله و سلم دون أُمته، والعمل بالفعل يفضي إلى ابطال القول بالكلية.

وهذان الوجهان عندي ضعيفان:...

ص: 343

قال: وان كان خاصّاً بنا فلا معارضة فيه، وفي الأُمّة المتأخر ناسخٌ، فإن جُهِلَ فثالثها المختار يُعملُ بالقول لأنّه أقوىٰ لوضعه لذلك، ولخصوص الفعل بالمحسوس؛ وللخلاف فيه، ولإبطال القول به جملةً والجمع ولو بوجه أولىٰ.

قالوا: الفعل أقوىٰ لأنّه بُيّن به القول مثل: «صلّوا» و «خذوا عنّي» وكخطوط الهندسة وغيرها.

قلنا: القول أكثر، ولو سُلِّمَ التساوي رجح بما ذكرناه، والوقف ضعيف للتعبّد بخلاف القول الأوّل. *

أمّا الأوّل فلأنّ الفعل قد يكون أبين، وأيضاً فكون القول أبيّن لا يقتضي تأخره زماناً ولا أولوية تأخره فلا يقتضي أولوية العمل بالقول.

وأمّا الثاني فلأنّ الفعل والقول أيّهما تأخر كان ناسخاً للآخر في حقه وحكم أُمته مستفاد من الفعل سواء تقدّم أو تأخر فلا أولوية أيضاً.

واحتج القائلون بالثاني بأنّ الفعل أدّلُ فيكون أولى، وقد مر ضعفه.

(*) أقول: [ب] هذا هو الفرض الثاني(1) وهو أن يكون القول خاصّاً بنا ولا تعارض بالنسبة إليه، وأمّا بالنسبة إلى الأُمّة فلا يخلو إمّا أن يكون القول متأخراً أو متقدماً أو يُجهل التاريخ:

[*] وعلى التقديرين الأولين يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم وهو ظاهر.

ص: 344


1- . الفرض الثاني من القسم الثاني.

....................

[*] وعلى التقدير الثالث الخلاف هنا كالخلاف في الفرض الأوّل، واختار المصنف هنا العمل بالقول لوجوه:

الأوّل: أن القول أقوى لأنّ فعله صلى الله عليه و آله و سلم لم يوضع أمراً لنا: وقوله وضع امراً لنا.

الثاني: أن القول شامل للأُمور المحسوسة كالصلاة والصوم، وللمعقولة كالمعارف والاعتقادات، والفعل يختص بالأُمور المحسوسة فيكون الأوّل أكثر فائدة فيكون أولى.

الثالث: إنّ الناس اختلفوا في الأمر الفعلي ولم يختلفوا في الأمر القولي والمُجمع عليه أولى من المختلف فيه.

الرابع: أنّ العمل بالفعل يقتضي إبطال القول بالكلية أمّا في حقه فلعدم شموله له، وأمّا في حقنا فظاهر والعمل بالقول يقتضي ابطال الفعل في حقنا دونه، والعمل بما(1) يحصل معه الجمع بين الدليلين - ولو بوجه ما - أولى من العمل بما يُلغي أحدهما بالكلية.

احتجّ القائلون بأولوية الفعل بأنّ الفعل أقوى من القول، فإنّ القول قد يتبين به الفعل كما في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي» فإنّه بيَّنه بفعل الصلاة؛ وكذلك: «خذوا عني مناسككم» بيّن بأفعاله له صلى الله عليه و آله و سلم في الحجّ، وكذلك خطوط الهندسة فإن بالعمل تظهر الدعوى.

والجواب: إن القول أكثر من الفعل والأكثرية دليل الأرجحية، ولو سُلم التساوي كان القول(2) أرجح بما ذكرناه أوّلاً، والقول بالوقف في هذا...

ص: 345


1- . وفي نسخة «أ» بدل «بما» وردت لفظة «لا».
2- . في نسخة «أ» بدل «القول» وردت كلمة «الفعل».

قال: فإن كان عامّاً فالمتأخّر ناسخ فإن جُهِلَ فالثلاثة. *

قال: فإن دلّ دليل على تكرير في حقّه لا تأسٍ، والقول به خاصٌّ أو عامٌّ فلا معارضة في الأُمة، والمتأخر ناسخ في حقه، فإن جُهل فالثلاثة، فإن كان خاصّاً بالأُمّة فلا معارضة. **

الفرض ضعيف لوقوع التعبّد بالقول هنا بخلاف الأوّل [وهو ما إذا كان القول خاصّاً به] فإنّ الوقف فيه هو أولى.

(*) أقول: [ج] هذا هوالفرض الثالث(1) وهو أن يكون القول عامّاً لنا وله فلا يخلو إما أن يكون التاريخ معلوماً أو لا يكون:

[*] وعلى التقدير الأوّل يكون المتأخر ناسخاً.

[*] وعلى التقدير الثاني يقع الخلاف كما مضى.

(**) أقول: هذا هو القسم الثالث(2) وهو أن يكون هناك دليل يدل على تكرر الفعل في حقه وليس هناك ما يدل على تأسّي الأُمّة به، فإنّه على ثلاثة أقسام:

ص: 346


1- . الفرض الثالث من القسم الثاني.
2- . القسم الثالث من الأقسام الأربعة وهذا مخططه:

قال: فإن دلّ دليل على تأسّي الأُمّة به دون تكرّره في حقّه، والقول خاصٌ به، وتأخّر، فلا معارضة. فإن تقدّم فالفعل ناسخ في حقّه، فإن جُهِلَ فالثلاثة، فإن كان خاصّاً بالأُمّة فلا معارضة في حقه، والمتأخر ناسخ في الأُمة، فإن جُهل فالثلاثة، فإن كان القول عامّاً فكما تقدم. *

أحدها: أن يكون القول خاصّاً به.

الثاني: أن يكون القول عامّاً لنا وله.

وفي هذين القسمين لا معارضة في حقّ الأُمة لعدم تعبدّهم بالفعل، وأمّا بالنسبة إليه صلى الله عليه و آله و سلم فإن عُلم التاريخ كان المتأخر ناسخاً وإن جُهل فالخلاف كما مضى.

الثالث: أن يكون القول خاصّاً بالأُمة فلا معارضة، أمّا بالنسبة إليه فلعدم تناول القول له، وأمّا بالنسبة إلينا فلعدم تعبدّنا بالفعل.

(*) أقول: هذا هو القسم الرابع(1) وهو أن يكون هناك دليل يدلّ على تأسي الأُمّة به لا على تكرر الفعل، فاقسامه ثلاثة أيضاً:

ص: 347


1- . القسم الرابع من الأقسام الأربعة، وهذا مخططه:

قال: الإجماع: العزمُ والاتفاق، وفي الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من هذه الأُمّة في عصرٍ على أمرٍ. ومَنْ يرىٰ انقراض العصر يزيد: «إلى انقراض العصر».

ومن يرى أنّ الإجماع لا ينعقد مع سبق خلافٍ مستقرٍ من ميّت أو حيّ وجوّز وقوعه، يزيد: «لم يسبقهُ خلاف مستقر».

الغزّالي: «اتفاق أُمّة محمد صلى الله عليه و آله و سلم على أمر من الأُمور الدينية» ويرد عليه أنّه لا يوجَدُ ولا يطرّد بتقدير عدم المجتهدين، ولا ينعكس بتقدير اتفاقهم على عقلّي أو عرفيّ. *

أحدها: أن يكون القول خاصّاً به؛ فان كان متأخراً فلا معارضة:

أمّا في حقنا فلإختصاصه بالقول، وأمّا في حقه فلعدم تكرار الفعل.

وإن كان متقدماً فالفعل ناسخ في حقه لا في حقنا.

وإن جُهل التاريخ فالخلاف كما مضى.

الثاني: أن يكون القول خاصّاً بالأُمّة فلا معارضة في حقه، وفي حق الأُمّة المتأخرُ ناسخٌ، ومع الجهل الخلاف كما مر.

[الثالث:] وإن كان القول عامّاً لنا وله فحكمه أيضاً كما مضى.

مباحث الاجماع

* أقول: هذا هو الأصل الثالث من أُصول الأدلة وهو الإجماع(1) وهو...

ص: 348


1- . انظر: المنخول: 399؛ المحصول: 2/3-98؛ العدة في أُصول الفقه: 1/601؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 3/125-282.

....................

في اللغة يقال بالاشتراك على معنيين للاعزام ومنه قوله تعالى «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ»(1) ، والاتفاق ومنه: «أجمعوا على كذا»، أي: اتفقوا عليه، وفي الاصطلاح عبارة عن «اتفاق المجتهدين من هذه الأُمّة في عصر على أمر من الأُمور» فالاتفاق كالجنس، والفصل بقولنا: «المجتهدين» على اتفاق العامة فانّه لا اعتداد به؛ وبقولنا: «من هذه الأُمّة» عن اتفاق للأُممّ السالفة، فإنّه ليس بحجّة علينا؛ وقولنا: «في عصر» المعني به عصرٍ ما، حتّى يكون إجماع أهل كلّ عصر حجّة، فإنّه لا يشترط في الإجماع اتفاق المجتهدين في جميع الأعصار؛ وقولنا: «على أمر» يعم النفي والإثبات معا.

ومن يشترط في الاجماع انقراض أهل العصر زاد في الحدّ: «إلى انقراض العصر» يعني يستمر الاتفاق إلى وقت الانقراض.

ومَنْ يشترط في الإجماع عدم سبق الخلاف المستقر، زاد في الحد: «مع عدم استقرار الخلاف».

وقد حدّ الغزّالي الإجماعَ بأنّه عبارة عن: «اتفاق أُمّة محمد صلى الله عليه و آله و سلم على أمر من الأُمور الدينية»، وهو باطل من ثلاثة أوجه:

الأوّل: أنّ الإجماع على هذا التقدير لا يتحقق، فإنّه لا يمكن المعرفة باتفاقٍ للأُمّة بأسرهم من زمان النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى يوم القيامة.

الثاني: أن هذا الحد لا يطّرد فإنّه إذا فرض والعياذ باللّٰه - عدم المجتهدين، يكون الاجماع ثابتاً وليس كذلك؛ فإنّ قول العوام لا اعتداد به.

ص: 349


1- . يونس: 71.

قال: وخالف النظّام وبعض الروافض في ثبوته.

قالوا: انتشارهم يمنع نقل الحكم إليهم عادة.

وأُجيب: بالمنع لجدهم وبحثهم.

قالوا: ان كان غير قاطعٍ، فالعادة تُحيل عَدَمَ نقلِهِ، والظني يمتنع الاتفاق فيه عادة لاختلاف القرائح.

وأُجيب بالمنع فيهما فقد يستغني عن نقل القاطع وقد يكون الظني جلياً.

قالوا: يستحيل ثبوته عنهم عادة، لخفاء بعضهم أو انقطاعه، أو أسرِه، أو خموله، أو كذبه، أو رجوعه قبل قول الآخر، ولو سُلّم فنقلُه مستحيلٌ عادةً، لأن الآحاد لا تفيد، والتواتر بعيدٌ.

وأُجيب عنهما بالوقوع، فإنا قاطعون بتواتر النقل بتقديم النص القاطع على المظنون. *

الثالث: أنّه لا ينعكس فإنّه لو اتفق المجتهدون على أمر عقلي أو عرفي لكان إجماعاً، وإن لم يكن على أمرمن الأُمور الدينية.

(*) أقول: نُقل عن النظّام وبعض الإمامية أنّ الإجماع لا يتحقق، واستدلوا بوجوه:

الأوّل: أنّ الأُمة منتشرون في البلاد المتباعدة وذلك ممّا تقضي العادة...

ص: 350

....................

فيه بامتناع نقل الحكم اليهم فلا يحصل الاتفاق.

والجواب: المنع من العادة بل العادة توجب نقل الحكم إليهم، فإن من جدّ وبحث لابدّ وأن يصل إلى معرفة الحكم.

الثاني: إمّا أن يكون اجماعُهم عن دليل أو لا عن دليل، والقسمان باطلان فالإجماع باطل.

أمّا الأوّل: فلأنّ ذلك الدليل إمّا أن يكون مقطوعاً به أو مظنوناً؛ فالأوّل باطل لأنّ العادة قاضية بنقل الأدلة القاطعة، ولكن دليل الحكم الّذي أجمعوا عليه غير منقول فلا يكون قاطعاً، والثاني: باطل لامتناع اتفاق الجمع الكثير على الأمارة الموجبة للظن كما يمتنع اتفاقهم على أكل طعام معين في وقت معين وكيف لا يكون كذلك وبعض المجتهدين لا يجوّز ثبوت الحكم عن الأمارة، فالقرائح عليه غير متوافقة كعدم توافقها على الأكل المعيّن.

وأمّا الثاني(1): فلأنّه يستلزم الخطأ فلا يكون الاجماع حقّاً.

والجواب: المنع من ابطال قسمي القسم الأوّل:

أمّا المتواتر فلأنّه قد يستغنى عن نقله وهو هاهنا كذلك فإن بحصول الاجماع حصل الاستغناء عنه فلم يجب نقله.

وأمّا الظني فانّه قد يكون جليّاً وحينئذٍ يكون حاصلاً عند كل مجتهد فيحكم بما سبق إليه ذلك الدليل، ويحصل الاتفاق.

الثالث: أن معرفة الإجماع متوقفة على معرفة أقوال المجتهدين

ص: 351


1- . الثاني من الوجوه لعدم تحقق الإجماع.

....................

ومعرفة أقوالهم متوقفة على معرفة كلّ واحد واحد منهم وذلك ممّا تقضي العادة بامتناعه، فإنّه قد يكون هاهنا مجتهد [لا يُعلم حاله](1) ولو سلم معرفة كلّ واحد منهم، لكنّه يحتمل أن يفتي بعضهم بذلك الحكم ظاهراً وإن كان في اعتقاده يفتي بخلافه، والكذب على واحد واكثر جائز. ولو سُلّم أنّه أفتى عمّا يعتقده لكنه من المحتمل أن يفتي أحدهم بحكم وقبل أن يفتي الآخر بذلك يرجع الأوّل عن ما أفتى به فلا يحصل الاتفاق.

ولو سلم، فنقله يستحيل عادةً لأنّ نقل الإجماع إمّا أن يحصل بالتواتر وهو باطل لبعده فإنّه يلزم أن يتواتر جماعة لا يجوز عليهم الكذب على أن كلّ واحد قد أفتى بذلك الحكم، وإمّا أن يحصل بالآحاد وهو غير مفيد.

والجواب: أن وقوع الإجماع دافع لهذه الشبهة وهو حاصل، فإنّا نقطع بتواتر النقل بتقديم النص القاطع على المظنون عند كلّ مجتهد.

وإذا كان كذلك فقد اندفعت الاستحالتان أعني استحالة الثبوت عنهم واستحالة الفعل عادة، وإليه أشار المصنّف بقوله: وأُجيب عنهما أي عن الاستحالتين.

ص: 352


1- . وردت العبارة في نسخة «ب» كما يلي: [لا يُعلم وجودُه البتة، أو يعلم وجوده أوّلاً لكن أنقطع عن الناس بحيث لا يعلم حاله أو أَمره بحيث لا يمكن استعلام حاله أو يكون خامل الذكر يعني أنّه لا يُعرف كونه مجتهداً مع أنّه كذلك].

قال: وهو حجة عند الجميع، ولا يُعتَدُّ بالنظّام وَبَعض الخوارج والشيعة.(1)

وقول أَحمد: من ادّعىٰ الإجماع فهو كاذبٌ، استبعادٌ لوجودهِ.

الأدلةُ: منها:

ص: 353


1- . ينبغي أن يكون البحث العلمي نزيهاً حيادياً بعيداً كل البعد عن لغة الاستفزاز والتجريح والتهكم ولكن نجد - وللأسف - أن كتاب «رفع الحاجب» لم يلتزم بهذا المبدأ الاخلاقي في عمله فتهكم وهزأ برأي الشيعة في الاجماع [ج 2، ص 144]، ولدفع الشبهة الّتي عساها كانت مثاراً لهذا السلوك، نوضح رأيهم في المقام فنقول: إن الحجة لدى الشيعة إنّما تختص بالوحي المتمثل بالكتاب والسنة؛ وأمّا العقل، فلأجل كونه كاشفاً عن حكم الشرع في مجالات خاصّة محرّرة في موضوعها واما الاجماع، فمع قطع النظر عن الوحي؛ ليس بحجة لعدم حجية قول غير المعصوم كائناً من كان. هذا هو الأصل الّذي اعتمدته الإمامية في أُصولها وفروعها المذهبية. نعم إذا توفرفي الاجماع احد ملاكين، يحتج به حينذاك دونما كلام وهما: *. ان يكون الاجماع كاشفاً عن موافقة الإمام المعصوم للمجمعين كما إذا اتفق فقهاء المدينة - على سبيل المثال - في عصر أئمة أهل البيت عليهم السلام على حكم شرعي يستكشف من خلاله دخول المعصوم فيهم؛ وهذا يقتصر على عصر الظهور الّذي انتهى بغيبة الإمام المنتظر (عج) - بامر من اللّٰه سبحانه - عام 260 ه. **. أن يكون الاجماع كاشفاً عن وجود دليل شرعي معتمد لدىٰ المجمعين وصلهم ولم يصلنا، فهذا يكشف عن وجود نص روائيّ كان متوفراً آنذاك لديهم. وما لم يتوفر فيه احد هذين الملاكين، لا حجّية للاجماع بتاتاً لأن المجمعين ليسوا أنبياء ولا أوصياء وشريعتنا الغراء قد ختمت برحيل نبينا الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم. أجل، هذا هو الأصل الّذي اعتمدوه وساروا عليه، ومن الواضح ان تصديق ذلك وتبنيه يتطلب دراسة اولياتٍ وأُصولٍ حُققت في مصادرهم؛ ولعل النائي عنها يستصعب استيعابها ولكن لا يحق له بحال ان يتهكّم بها ويسخر منها، واللّٰه من وراء القصد.

أجمعوا على القطع بتخطئة المخالفِ، والعادةُ تحيل إجماع هذا العدد الكثير من العُلَمَاءِ المحقِّقين على قطعٍ في شرعيّ من غَيْرِ قاطعٍ فَوَجَبَ تَقديرُ نَصٍّ فيه.

وإجتماع الفلاسفة، وإجتماع اليهودِ، واجتماع النصارىٰ غيرُ واردٍ.

لا يُقال: أثبتم الإجماع بالإجماع أو أثبتم الإجماع بنص يتوقف عليه؛ لأنّ المُثْبَتَ كونُهُ حُجَّةً، ثبوتُ نصٍّ عن وجود صورةٍ مِنْهُ بطريقٍ عاديٍّ لا يتوقّفُ وجودُها ولا دلالتها على ثبوتِ كونِهِ حُجَّةً، فلا دور. *

أدلة الإجماع

(*) أقول: اتفق الاكثرون على أن الإجماع حجة، ونقل عن النظّام خلاف ذلك ورأيت بعض المحققين يذكر أنّ النظّام إنّما منع من تحقق الإجماع، إمّا على تقدير تحققه فإنّه يكون حجّة عنده. ونقل عن بعض الخوارج المنع من كونه حجّة.

وأمّا الشيعة فقد نقل المصنف عنهم إنكار كونه حجّة وليس هذا النقل بصحيح.

ونقل عن أحمد انكار الإجماع لمجرد الاستبعاد الذي ذكرناه أولاً، والاستبعاد ليس بحجّة.

ثمّ إنّ المصنف بعد ذكر الخلاف استدل على كونه حجّة بأوجه:...

ص: 354

....................

الأوّل: أنّ المجتهدين اجمعوا على تخطئة مخالف الاجماع فيكون مخطئاً.

أمّا المقدمة الأولى فظاهرة، وأمّا الثانية فلأنّ العادة تحيل إجماع هذا العدد الكبير على حكم من غير قطع فإنّ الاتفاق من غير دليل أو على أمارة، مستبعد جداً(1) فإذن لابدّ من نصِّ قاطع دالّ على ذلك الحكم.

لا يقال ينتقض هذا بإجماع الفلاسفة واليهود والنصارى على الباطل،(2) لأنّا نقول: العادة تحيل تعمّد الكذب على الجمع الكثير وليس، بمستبعد تخيلهم ما ليس بقاطع قاطعاً، فالفلاسفة واليهود والنصارى لم يجتمعوا على تعمّد الكذب وإنّما اجتمعوا على تخيّل ما ليس بقاطع قاطعاً؛ ولأجل هذا شرطنا في التواتر الاستناد إلى محسوس، ولمّا كان هذا الحكم شرعياً والحكم الشرعي لا يحصل إلّاعن دليل أو أمارة، والأمارة تحيل العادة اتفاقهم عليها فإذن هذا الحكم إنّما يحصل بالدليل

ص: 355


1- . ورد المقطع التالي في هامش نسخة «أ»: [استضعف الغزالي الدليل فقال: اجاز القطع على ما ليس بقاطع بانّه قاطع لقطع اليهود على بطلان نبوة عيسى ومحمد وهم أكثر من عدد التواتر، وكذا المنكرون لحدوث العالم والنبوات وساير انواع البدع والضلالات، عددهم بالغ مبلغ التواتر ويحصل الصدق باخبارهم ولكنهم اخطأوا بالقطع في غير محل القطع فيلزمه أن يجعل اجماع اليهود والنصارىٰ حجة ولا يخصَّص هذه الأُمّة لاتحاد العلّة]. وما في الطبعة المحققة يختلف بعض الشيء عما ورد آنفاً، راجع المستصفىٰ: 1/338.
2- . ويلاحظ على ذلك: أنّه لا معنىٰ محصل للإجماع في القضايا العقلية من رأس، لأن مصبّ الإجماع الأُمور الحسّية أو ما هو قريب منها، فلا عبرة للإجماع في المسائل العقلية المحضة.

قال: ومنها: أجمعوا على تقديمه على القاطع فدلّ على أنّه قاطع، وإلّا تعارض الاجماعان لأن القاطع مقدّم؛ فإن قيل يلزم أن يكون المحتج عليه عدد التواتر لتضمنُّ الدليلين ذلك. قلنا: إن سُلّم فلا يَضرّ. *

أعني النص - فيكون الاجماع هنا قد استند إلى أمر محسوس، فافترق البابان.

لا يقال: انّكم اثبتم الاجماع بالاجماع، أو أنّكم أثبتم الاجماع بنص يتوقف على الاجماع لانّكم قلتم الاجماع الثاني الدال على تخطئة مخالف الاجماع لا يقع إلّا عن نص فيكون ثبوت النص مستفاداً من كون الاجماع الثاني حجة الذي هو دليل على كون مطلق الاجماع حجة، وكلاهما دور.

لأنّا نقول: الذي ثبت به كون الاجماع مطلقاً حجّة إنّما هو ثبوت نص دالّ عليه وثبوت ذلك النص مستفاد من وجود صورة من صور الإجماع لا مطلقاً.(1)

(*) أقول: هذه حجّة ثانية على كون الإجماع حجّة وهو: أنّ الامة أجمعت

ص: 356


1- . وردت العبارة التالية في نسخة «ب» فقط: [وهو الإجماع الثاني وإنّما كان هذا الإجماع مفيداً، بوجود النص للعادة على ما قلناه؛ ووجود تلك الصورة - أعني الإجماع الثاني - ودلالتها على ثبوت ذلك النص، لا يتوقفان على كون الاجماع مطلقاً حجّة فلا دور؛ أما عدم توقف وجود تلك الصورة عليه، فلأن وجدانها مستفاد من التواتر لا من كون الاجماع حجّة وأما عدم توقف دلالتها، فلأن دلالتها مستفادة من العادة].

قال: الشافعي «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ»(1) وليس بقاطع لاحتمال في متابعته، أو مناصرته، أو الاقتداء به، أو في الإيمان فيصير دوراً؛ بخلاف التمسك بالظاهر إنما يثبتُ بالاجماع بمثله في القياس. *

على تقديم الإجماع على قواطع الأدلة، فوجب أن يكون الإجماع قاطعاً لأنّ غير القاطع لا يقدّم على القاطع بالإجماع فلو لم يكن الإجماع قاطعاً لتعارض الإجماعان.

وقد ألزم بعض الأُصوليين من سلك هذين الطريقين المعنويين أن لا ينعقد الاجماع عنده الاّ إذا بلغ المجمعون عدد التواتر حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب(2). والمصنف التزم هذا وجعله غير ضار له فيما يرويه.

(*) أقول: لما ذكر الحجّة عنده على كون الإجماع حجّة، شرع في حجج المتقدمين على ذلك وبيان ضعفها.

ومن تلك الحجج ما استدل به الشافعي وهو قوله تعالى: «وَ مَنْ يُشٰاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدىٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ

ص: 357


1- . النساء: 115.
2- . ورد في حاشية النسخة «ب»: بعد عبارة «التواطؤ على الكذب»، ما يلي: [لأن العادة إنّما تحيل الكذب على مثل هؤلاء. والمصنّف أجاب عن هذا بالمنع أوّلاً: من الإلزام لأن المحققين لا يحكمون في شرعيّ بأنّه قاطع إلّاإذا كان قاطعاً بالعادة، ثم (ثانياً:) التزم هذا وجعله غير ضار له فيما لو وجد لأنّه لا يدّعي كون كلّ إجماع حجة قاطعة بل البعض بهذا الدّليل والباقي كذلك لعدم الفصل].

....................

مٰا تَوَلّٰى» (1) .(2)

ص: 358


1- . النساء: 115.
2- . قد استند علماء أُصول الفقه في بحوثهم الأُصولية للبرهنة على حجية الاجماع بالكتاب، إلى الآية المشار إليها آنفاً، وقد دار النقاش بينهم حول مدى دلالتها على المدعىٰ؛ وقد ذهب شيخنا المفضال السبحاني - وهوالموهوب حقاً في فهم الخطابات القرآنية - إلى عدم دلالة الآية على شيء من المدعىٰ. ولمعرفة ما ذهب إليه نأتي بتصويره للاستدلال بالآية أوّلاً، ثم بتفنيده لذلك فحاصل ما افاده: إن الآية تتكون من جملتين: - «وَ مَنْ يُشٰاقِقِ اَلرَّسُولَ». - «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ». ومن الجزاء لهما أعني: «نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى»؛ وبشهادة وحدة الجزاء تكون مشاقة الرسول حراماً مثل اتباع غير سبيل المؤمنين، وبناءً على ذلك يصبح اتباع سبيل المؤمنين واجباً إذ لا واسطة بين الحرمة والوجوب وهذا يقتضي أن يكون الاجماع حجة. وقد رد على ذلك - دامت تأييداته - بما هذا حاصله: لا يمكن الذهاب إلى ما ذهب إليه المستدل لأنّه سبحانه عطف سلوك غير سبيل المؤمنين على معاداة الرسول ب «واو» الجمع؛ كما جعل الجزاء: «نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى» جزاء للجملتين وهذا يكشف عن أن المعطوف عبارة أُخرى عن المعطوف عليه وذلك لأن معاداة الرسول وحدها كافية في الجزاء وبحسب هذا يكون المراد من اتباع غير سبيل المؤمنين، هو شقاق الرسول بعينه. اضف إلى ذلك أن اعتبار سبيل المؤمنين وحجيته ينشأ من وجود المعصوم بين ظهرانيهم وموافقته لسبيلهم، وهذا لا يدل في شيء منه على حجية مطلق سبيل المؤمنين وان لم يكن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بينهم؛ وباختصار أن الآية لا تدل على حجية الاجماع بتاتاً. وللمزيد من الاطلاع في هذا الخصوص راجع كتاب «الوسيط في أُصول الفقه» لشيخنا الأُستاذ الّذي يقدر فريداً في صنفه.

قال: الغزّالي بقوله لا «تجتمع أُمتي...» من وجهين:

احدهما: تواتُر المعنىٰ، لكثرتها كشجاعة عليّ، وَجُودِ حَاتِمٍ، وهو حَسَنٌ.

والثاني: تلقي الأُمّة لها بالقبول، وذلك لا يخرجها عن الآحاد. *

وتقرير الاستدلال أن يقول: اللّٰه تعالى جمع بين مشاقّة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم واتباع غير سبيل المؤمنين في التوعيد، فيجب أن يكون كل واحد منهما له هذا الحكم فإنّه يستحيل الجمع بين محرّم ومحلّل في التوعيد، وإذا ثبت تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين كان اتباع سبيل المؤمنين واجباً؛ والحكم المجمع عليه هو سبيل المؤمنين، فيجب اتباعهم فيه.

والاعتراض أنّه: يحتمل أن يكون المراد: «وَ مَنْ يُشٰاقِقِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ»(1) ويقابله «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ» ؛ في متابعته ونصرته ودفع الاعداء عنه أو الاقتداء به.

وإذا [احتمل ذلك و](2) أُحتمل ما ذكرتم، لم تبق دلالته قاطعة على الإجماع؛ أقصى ما في الباب أنّه يدل ظاهراً وحينئذٍ يلزم منه الدور، لأنّ التمسك بوجوب العمل بالظاهر إنّما يثبت بالإجماع، فلو ثبت الإجماع بدليل ظاهر لزم الدور، وهذا بخلاف التمسّك بالظاهر في كون القياس حجة كما تمسكوا بقوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا» لأنّ التمسك بالظاهر ما ثبت بالقياس، فافترق البابان.

(*) أقول: هذه حجة استدل بها الغزالي وهو التمسّك بالسنة، فإنّه روىٰ

ص: 359


1- . الانفال: 13.
2- . في نسخة «ب» فقط.

قال: واستُدّل: إجماعُهم يدلُ على قاطعٍ في الحكم، لأنّ العادة امتناع اجتماع مثلهم علىٰ مظنون. وأُجيب: بمنعه في القياس الجليّ؛ وأخبار الآحاد، بعد العلم بوجوب العمل بالظاهر. *

عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «لاتجتمع أُمّتي على خطأ»(1) و وجه الاستدلال به من وجهين:

الأوّل: أن نقول إنّ معنى هذا الخبر قد ورد وروداً متواتراً بالفاظ نقلت آحاداً كما في شجاعة علي عليه السلام وسخاء حاتم، فإنّه وإن كانت الوقائع الدالة على الشجاعة والسخاء نقلت آحاداً إلّاأنّ المعنى الحاصل من تلك الوقائع نقل نقلاً متواتراً، واستحسنه المصنف.

الثاني: أن الأُمّة تلقّت هذا الخبر بالقبول، فبعض احتجّ به وبعض تأوله من غير طعن فيه.

وأورد عليه المصنف بأنّ تلقيّه بالقبول لا يخرجه عن الآحاد، فكيف يجوز الاستدلال به في مثل هذه المسألة العلمية؟!

وهو ضعيف، فإنّه لا استبعاد في الاستدلال بالظن على مثل هذه المسائل.

(*) أقول: هذه حجة إمام الحرمين، وتقريرها انّ اجماع الخلق الكثير على الحكم إمّا أن يكون لدلالة أو أمارة، أو لا لهما؛ والأخيران باطلان بالعادة، فالأوّل حق.

والجواب: لِمَ لا يجتمعون على الحكم معوّلين علىٰ قياس جلي أو على خبر واحد بعد علمهم وجوب العمل بالظاهر؟ فلا يلزم أن يكون دليل الحكم مقطوعاً به.

ص: 360


1- . روى الحديث بعبارات وطرق مختلفة وضعيفة في الغالب؛ وقرره بن ماجة والحاكم في مستدركه.

قال: المخالف: «تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» ، «فَرُدُّوهُ» ، ونحوه، وغايته الظهور، وبحديث معاذ حيث لم يذكره. وأُجيب بأنّه لم يكن حينئذٍ حجّة. *

أدلة المخالفين

(*) أقول: هذه حجج المخالف على كون الاجماع حجة وهي الكتاب والسنة والمعقول:

أمّا الكتاب فقوله تعالى: «وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ»(1) ذكر أنّ الكتاب هو المبيّن للأحكام فلا يكون الاجماع مدركاً، وقوله تعالى: «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ» (2)، ولم يذكر الاجماع فوجب أن لا يكون حجة.

والجواب: أنّ غاية ما ذكرتم، الظهور؛ فلا يعارض ما تقدم(3)، على أنّ كون الإجماع حجّة لا يخرج الكتاب عن كونه تبياناً، فإنّ فيه بيان كون الاجماع حجة إذ لا يجوز أن يكون المراد أنّ الكتاب مبيّن لتفاصيل الأحكام الجزئية؛ وقوله: «فَرُدُّوهُ» إنّما يكون عقيب تنازع الحكم المجمع عليه، بخلاف ذلك.

وأمّا السنّة فما رُويَ عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم على أنّه لما بَعثَ معاذاً إلى اليمن قال له:

بمّ تحكم؟ قال: بكتاب اللّٰه، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول اللّٰه، قال: فإن

ص: 361


1- . النحل: 89.
2- . النساء: 59.
3- . في نسخة «ب: [ما تقدم من الدلائل القطعية].

قال: مسألة:

وفاق من سَيُوجد لا يعتبر اتفاقاً، والمختار أنّ المقُلّد كذلك، وميل القاضي إلى إعتباره، وقيل: يُعتبر الأُصوليّ، وَقيل: الفروعيّ.

لنا: لو اُعتبر لم يتصوّر. وأيضاً المخالفة عليه حرام فغايته مجتهد خالفَ وَعُلم عصيانُه. *

لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي؛ ولم يذكر الإجماع.

والجواب: إنّ الاجماع ليس بحجّة في زمن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إذ العبرة بقوله صلى الله عليه و آله و سلم.(1)

وأمّا المعقول فما تقدم من امتناع اجتماع الخلق على الحكم الواحد، وقد تقدّم الجواب عنه.

حكم دخول مَنْ سيوجد والمقلّد في الإجماع

* أقول: اتّفق القائلون بكون الاجماع حجة على أنّ الاجماع ينعقد وإن لَمْ يُعلم قول من سيوجد؛ واختلفوا في المقلّد الموجود هل يعتبر قوله في الاجماع أم لا؟ فذهب المحققون إلى عدم اعتباره؟ وذهب آخرون إلى اعتبار قوله، وقد مال إليه القاضي أبوبكر؛ وقال آخرون: يعتبر قول الأُصولي في الفروع لأنّ له أهلية

ص: 362


1- . في نسخة «ب»: [فلذلك لم يذكره].

....................

الإجتهاد؛ وقال آخرون: يعتبر قول الفروعي في الأُصول.

واَستَدلَ المصنّف(1) بوجهين:

الأوّل: أن قول العامي لو اعتبر لم يتصور تحقق الإجماع، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: أنّ العوام كثيرون منتشرون في البلاد، غير معروفين ولا يمكن الاطلاع على أقاويلهم(2) فلو كان قولهم مشترطاً في الاجماع يلزم من الجهل بالشرط الجهل بالمشروط، فحينئذ لا يتصور انعقاد الإجماع؛ وأمّا بطلان التالي فظاهر.

الثاني(3): أنَّ المخالفة الحاصلة من المقلد للمجتهد حرام، وإذا كان قولهم حراماً لم يعتد به؛ وليس حاله أعظم من حال المجتهد إذا خالف في الحكم وعلم عصيانه في تلك المخالفة، فإنّه لا اعتداد بقوله إجماعاً فكيف حال العامي؟

ص: 363


1- . استدلال المصنّف على عدم اعتبار قول المقلد في الاجماع.
2- . اقاويل، جمع للقول، ويراد به الكلام والرأي والمعتقد، فقولهم: هذا قول فلان، أي: ما يراه ويعتقد به.
3- . أي: الثاني من الوجهين في الاستدلال على عدم اعتبار قول المقلد في الاجماع.

قال: مسألة:

المبتدع، بما يتضمن كفراً كالكافر عند المُكَفِّر(1) وإلّا فَكَغَيْرهِ وبغيره.

ثالثها: يعتبر في حق نفسه فقط.

لنا: أن الأَدلَّةَ لا تنهض دونه.

قالوا: فاسق فَيرُّدُّ قوله: كالكافر والصبيّ.

واُجيب: بإنّ الكافر ليس من الأُمّة، والصبيّ لقصوره، ولو سُلّم

ص: 364


1- . قال محقّقا كتاب «رفع الحاجب» عن عبارة الماتن: «المبتدع بما يتضمن كفراً كافر...». قال: «كالمجسمة، فإن قلنا بتكفيره فهو كالكافر لا تعتبر موافقته ولا مخالفته، وإن لم نقل بتكفيره فهو كغيره من أصحاب البدع الظاهرة كالخوارج والروافض، وهؤلاء قد اختلف العلماء فيهم». [رفع الحاجب: 2/176]. كان هذا التوجه المتطرف ومازال محنة على الإسلام وأهله، فاصحابه يكَفِّرون بما يشتهون ويوحدون بما يهوون وبذلك يشقون عصا المسلمين بلا هوادة، فهم في نزعتهم هذه لا يقتصرون على أحد دون أحد، ومذهب دون مذهب! وهنا نأتي - على سبيل المثال لا الحصر - بكلام لعبداللّٰه بن أحمد بن حنبل في حكمه على أبي حنيفة ومن اتبعه حيث يقول: «كافر، زنديق، مات جهمياً... وإن المسلم يؤجر على بغض أبي حنيفة وأصحابه...». [كتاب السنة: 1/184-210، حسب ما ورد في الحوار الرائع لشيخنا الأُستاذ السبحاني مع الشيخ الدرويش حول كتابه: «تأملات في نهج البلاغة»]. إن هذا المنطق التحريضي الهدّام لا يتفق في شيءٍ مع كتاب اللّٰه سبحانه في قوله: «اُدْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» النحل: 125. هذا الأُسلوب ليس من الدعوة بالحكمة ولا من الموعظة الحسنة لا من الجدال بالتي هي أحسن؟!

فيقبل على نفسه. *

في حكم المبتدع

(*) أقول: المجتهد المبتدع لا يخلو إمّا أن يكفَّر ببدعته كالمجسّمة والمشبهة وغيرهم، أو لا يكفَّر؛ فإن لم يكفَّر فهل ينعقد الاجماع مع مخالفته؟ أمّا من كفَّره فإنّه يجريه مجرى الكافر، وأمّا من لا يعتقد كفره فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنّ خلافه لا يعتبر إذ هو فاسق.

الثاني: أنّه يعتدّ به مطلقاً حتى انّه لا ينعقد الاجماع مع مخالفته، وإليه مال المصنف.

الثالث: أنّه يعتبر في حق نفسه لا في حق غيره بمعنى أنّه يجوز له مخالفة الاجماع المنعقد دونه، ولا يجوز لغيره ذلك.

واستدل المصنف بأنّ أدلة الإجماع ناهضة بالاعتداد، بقوله: «ولا تنهض دونه»(1)؛ كقوله تعالى: «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ»(2) وكقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أمتي لا تجتمع على الخطأ»(3).

احتج المخالف بأنّه فاسق فلا يقبل قوله قياساً على الكافر والصبي، والجامع عدم التحرز من الكذب.

والجواب: الكافر ليس مِنْ الأُمة، والصبي قاصر عن استنباط الأحكام من

ص: 365


1- . أي: لا تنهض الأدلة مع عدم ادخال المجتهد المبتدع في المجمعين.
2- . النساء: 115.
3- . هذه هي الأدلة الّتي استند إليها المصنّف أو يمكن أن يستند إليها في مذهبه.

قال: مسألة:

لا يختص الإجماع بالصحابة، وعن أحمد قولان.

لنا: الأدلة السمعية.

قالوا: إجماع الصحابة قبل مجيء التابعين وغيرهم على أنّ ما لا قطع فيه سائغ فيه للاجتهاد، فلو اعْتُبر غيرهم خولف إجماعهم وتعارض الإجماعان.

واُجيب: بأنّه لازم في الصحابة قل تحقق إجماعهم، فوجب أن يكون ذلك مشروطاً بعدم الإجماع.

قالوا: لو اُعتبر لأعتُبر مع مخالفة بعض الصحابة.

واُجيب: بفقد الإجماع مع تقدم المخالفة عند معتبرها. *

مداركها بخلاف هذا، ولو سُلّم(1) فيقبل قوله على نفسه.(2)

هل يختص الإجماع بالصحابة

(*) أقول: ذهب المحققون إلى أن الاجماع غير مختص بالصحابة بل هو حجّة في كلّ عصر؛ وخالف في ذلك داود وأصحابه من أهل الظاهر، وعن أحمد

ص: 366


1- . جاء في نسخة «ب» بعد كلمة «ولو سُلّم» ما يلي: [عدم قبول قوله في حق الغير].
2- . وقد ورد في نسخة «ب» أيضاً بعد كلمة «على نفسه»: [لأن الظاهر أنهم إذا أجمعوا على ما يكون بخلاف قوله فعدم موافقته لا تعتبر للتهمة، بخلاف ما إذا أجمعوا على ما يوافقه لبعده عن التهمة].

....................

روايتان أحدهما مثل هذه والأُخرى كمذهب المحققين.

والحق ما ذهب إليه المحققون، فإنّ الأدلة السمعية عامّة في كلّ عصر ولا مخصص.

إحتج المخالف بوجهين:

الأوّل: إن التابعين لو كان اجماعهم حجّة لزم تعارض الإجماعين والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أنّ الصحابة قد أجمعوا قبل مجيء التابعين وغيرهم على أنّ المسائل الاجتهادية يجوز فيها الاجتهاد فلو اجمع التابعون على مثل هذه المسائل لكانوا قد اجمعوا على تحريم المخالفة، فيتعارض اجماع الصحابة واجماع التابعين، وأمّا بطلان التالي فظاهر لاستلزامه بطلان أحد الاجماعين.

والجواب: أنّ هذا الالزام عائد في الصحابة فإنهم قبل اتفاقهم على الحكم اجمعوا على جواز الاجتهاد والمخالفة وبعد الاجماع اجمعوا على تحريم الاجتهاد، فما هو جوابكم هنا فهو جوابنا هناك. وطريق الجواب في البابين أن نقول الاجماع الأوّل وقع مشروطاً بعدم اجماع على الحكم، فمتى حصل الاجماع زال شرط الاجماع الأوّل فزال لزوال شرطه.

الثاني: لو اعتُبر اجماع التابعين لاعُتبر مع مخالفة بعض الصحابة، والتالي باطل فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة.

والجواب: أنّ الاجماع هنا غير حاصل لتقدم الخلاف، هذا عند من يعتبر في الاجماع عدم سبق الخلاف أمّا من لا يعتبره فإنّه يطعن في إبطال التالي.

ص: 367

قال: مسألة: لو ندر المخالف مع كثرة المجمعين كإجماع غير ابن عباس على العول، وغير أبي موسىٰ على أنّ النوم ينقض الوضوء، لم يكن إجماعاً قطعيّاً لأنّ الأدلة لا تتناوله. والظاهر انّه حجّة لبعد ان يكون الرّاجح متمسك المخالف. *

معارضة البعض لإجماع الأكثر

(*) أقول: اختلف الناس في إجماع الإكثر هل يكون إجماعاً حجة أم لا؟ كإجماع غير ابن عباس على العول وغير أبي موسى على أنّ «النوم ناقض للوضوء»؟

فذهب الاكثر إلى أنّه ليس بحجّة، ونقل عن ابن جرير الطبري(1) وأبي بكر الرازي في إحدى الروايتين عن أحمد أنّه إجماع.

وأختار المصنف الأوّل وذلك لأنّ الأدلة السمعية لا تتناول مثل هذه الصورة ضرورة كون المجمعين هم بعض المؤمنين، وجاز أن يكون الحق في البعض الآخر.

وربما احتج المخالف بالأُمة، كما تطلق على الجميع فقد تطلق على الأكثر فتكون الأدلة عامّة للقسمين.

والجواب: المنع من الاطلاق الحقيقي.

ثمّ اختلف القائلون بأنّه لا يكون إجماعاً هل يكون حجة أم لا؟ فذهب قوم إلى الأوّل وإليه مال المصنف، وآخرون إلى الثاني؛ واستدل المصنف بأنّ أحد

ص: 368


1- . هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، المفسر والمقرىء والمؤرخ والفقيه، أُصولاًوفروعاً وخلافاً ولد في طبرستان سنة 224 ه وتوفي سنة 310 ه.

قال: مسألة: التابعي المجتهد معتبر مع الصحابة، فإن نشأ بعد إجماعهم فعلىٰ انقراض العصر.

لنا: ما تقدّم.

واستُدل: لو لم يُعتبر لم يسوغوا اجتهاده معهم كسعيد بن المُسيّب وشريح والحسن ومسروق وأبي وائل والشعبي وابن جبير وغيرهم.

وعن أبي سلمة: تذاكرت مع إبن عباس وأبي هريرة في عدّة الحامل للوفاة، فقال ابن عبّاس: أبعد الأجلين، وقلت أنا بالوضع، فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي.

وأُجيب: بأنّهم إنّما سوغوه مع اختلافهم. *

القولين لابدّ وإن يكون حقاً ولايجوز ان يقال: أن قول الأقل راجح فإنّه من المستبعد إجماع الخلق الكثير سوى من شذ، على الخطأ؛ ويكون الحق هو متمسك ذلك الشاذ.

مكانة التابعي في الاجتماع

(*) أقول: اختلفوا في التابعي إذا كان مجتهداً في عصر الصحابة هل ينعقد إجماع الصحابة مع خلافه أم لا؟ فذهب أصحاب الشافعي وأكثر المتكلمين وأصحاب أبي حنيفة إلى عدم الانعقاد، وذهب الآخرون إلى الانعقاد دونه، هذا...

ص: 369

....................

إذا كان مجتهداً حالة الخلاف؛ وأمّا إذا شاء(1) بعد اجماعهم على الحكم فمن اشترط انقراض العصر في الاجماع اعتدّ بخلافه هاهنا، ومن لم يشترط لم يعتد به.

والدليل على ما اختاره المصنف، وهو عدم انعقاد الاجماع في الصورة الأُولى: أن الصحابة حينئذٍ بعض المؤمنين وبعض الأُمّة، فلا يكون اتفاقهم على الحكم اتفاق كلّ الأُمة فلا يكون الإجماع حاصلاً.

واستدل القائلون بهذا القول(2) بأنّ الصحابة سوغت الاجتهاد للتابعين كسعيد بن المُسيّب(3) وشريح والحسن ومسروق(4) وأبي وائل(5)...

ص: 370


1- . أي: إن بلغ رتبة الاجتهاد بعد اجماع الصحابة.
2- . أي الصورة الأُولى وهي عدم انعقاد الاجماع دونه إذا كان مجتهدا في عصر الصحابة.
3- . هو سعيد بن المسيب بن فرن القرشي المخزومي المدني، تابعي ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر ومات سنة ثلاث وتسعين. انظر: تهذيب الكمال: 1/66، برقم 2358.
4- . هو مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الوادعي، أبو عائشة، تابعي من أهل اليمن، قدم المدينة في أيام أبو بكر وسكن الكوفة، جرح في القادسية وشلّت يده وأصابته آمّة، ولم يشهد مع الإمام علي عليه السلام صفين، وقيل: شهدها فوعظ وخوّف ولم يقاتل، ثم شهد قتال الخوارج مع الإمام علي عليه السلام واستغفر اللّٰه من تأخّره عن علي عليه السلام، كان أعلم بالفتيا من شريح. توفّي سنة ثلاث وستين وقيل: اثنتين وستين، ويقال أنّ قبره بالسلسلة بواسط. انظر: الأعلام: 7/215؛ موسوعة طبقات الفقهاء: 1/526، برقم 257.
5- . هو عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد السّهمي أسلم عند النجاشي وقدم مهاجراً في صفر سنة ثمان. مات سنة ثلاث وأربعين. انظر: طبقات ابن سعد: 9/140؛ البداية والنهاية: 8/25.

....................

والشعبي(1) وابن جبير(2) حتى نقل أنّه سُئِلَ ابن عباس عن نذر ذبح الولد، فقال: اسألوا مسروقاً؛ فلما اتاه السائل بجوابه اتبعه(3)، وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف انّه قال تذاكرت انا وابن عباس وأبو هريرة في عدة الحامل للوفاة فقال ابن عباس: أبعد الأجلين، وقلت انا بالوضع؛ فقال أبو هريرة: «أنا مع أبن أخي»(4) وكان تابعياً، فلو كان قول التابعي غير معتّد به لما سوغ لهم الاجتهاد زمن الصحابة.

والجواب أن هذه الصورة الّتي نقلتموها إنّما هي صور وقع الخلاف فيها بين الصحابة ونحن نجوّز اجتهاد التابعي في تلك الصور أمّا في صور الاتفاق فلا، فإذن الأولى الاعتماد على الدليل الأوّل.

ص: 371


1- . هو أبو عمرو عامر بن شرحبيل الفقيه العامّي المعروف بالشعبي، وهو من المعلنين بعدائه لأمير المؤمنين عليه السلام. معجم رجال الحديث: 10/210 برقم 6095.
2- . هو سعيد بن جبير، أبو محمد، مولى بني والبة، أصله كوفي، نزل مكة، تابعي، كان يأتم بعلي بن الحسين زين العابدين عليه السلام، وكان يثني عليه، وما كان سبب قتل الحجاج له إلّاهذا الأمر، وكان مستقيماً. لاحظ: رجال الطوسي: 114 برقم 1132؛ رجال ابن داود: 102 برقم 687.
3- . أي: اتبع ابنُ عباس جواب مسروق. (ورد الحديث في خلاصة عبقات الأنوار: 3/233).
4- . صحيح البخاري: 6/67 تفسير سورة الطلاق؛ صحيح مسلم: 4/201 (كتاب الطلاق).

قال: مسألة: اجماع «المدينة» من الصحابة والتابعين حجّة عند مالك. وقيل: محمول على أنَّ روايتهم متقدمة. وقيل: علىٰ المنقولات المستمرة كالأذان والإقامة، والصحيح التعميمُ.

لنا: أنّ العادة تقضي بأنّ مثل هذا الجمع المنحصر من العلماء اللاحقين بالاجتهاد لا يجمعون إلّاعن راجح.

فإن قيل: يجوز أن يكون متمسّك غيرهم أرجح، ولم يطلع عليه بعضهم.

قلنا: العادة تقضي باطلاع الأكثر كاف كما تقدّم.

واستُدل بنحو: «أنّ المدينة تنفي خبثها» وهو بعيد، وبتشبيه عملهم بروايتهم، ورُدّ بأنّه تمثيل لا دليلٌ، مع أنّ الرواية ترجّح بالكثرة بخلاف الاجتهاد. *

إجماع أهل المدينة

* أقول: نقل عن مالك أنّه قال اجماع أهل المدينة حجة والأكثرون على خلاف ذلك، وقيل انّه عنى بذلك أنّ روايتهم متقدمة على رواية غيرهم، وقيل أنّه عنى بذلك قبول اجماعهم على المنقولات المستمرة كالاذان والاقامة لحصول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عندهم فهم اعرف بالثابت.

والمصنف عمّم الحكم واستدل بأنّ العادة تقضي بأن مثل هذا...

ص: 372

....................

الجمع المنحصر من العلماء اللاحقين بالاجتهاد لا يجتمعون إلّاعن راجح وذلك مما يوجب رجحان قولهم(1) لا يقال يجوز أن يكون متمسّك غيرهم أرجح ولم يطلع بعضهم على ذلك المتمسك؛ لأنّا نقول: العادة توجب اطلاع الأكثر على ذلك المتمسك، فإنّ أهل المدينة لمصاحبتهم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم يبعد عدم اطلاعهم على متمسّك(2) تلك الحجة والأكثر كان على ما تقدّم.

والحقّ أنّه لا اعتبار بذلك، فإن العادة كما تقضي باستبعاد تمسّك أهل المدينة عن غير حجة كذلك تقضي باستبعاد تمسّك غير اهل المدينة بغير حجة مع كثرة المجتهدين وانتشارهم؛ فالعبرة إذن إنّما هو بقول الجميع ولا اعتبار بالمواضع.

واستدل من نصر مذهب مالك بوجهين:

الأوّل: قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أنّ المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكِير(3) خبث الحديد» والخطأ من الخبث فيكون منفياً.

وهذا الاستدلال بعيد لأنّ النقل ممنوع، وان سَلُم فليس يدل على أنّ إجماع غيرهم ليس بحجة ولا على أنّ إجماع «المدينة» دون قول غيرهم حجة؛ وأيضاً فإنّ الخبث ليس بعامّ قطعاً فإنّا نعلم اشتمال قول بعض أهل المدينة على الخطأ وإذا لم يكن عاماً لم يكن حجة.

ص: 373


1- . جاء في نسخة «ب» بعد «قولهم» ما يلي: [وإنّما قال بنقل هذا الجمع احترازاً من إجماع اليهود والنصارىٰ على ما سلف، وقال المنحصر احترازاً عن قول النظّام ان الاجماع لا يتحقق لانتشار الأُمة].
2- . وفي نسخة «ب»: نقل.
3- . كِيْر، جمعه أكيار وكِيَرة: وعاءٌ من جلد يستعمله الحدّاد للنفخ على النار لتأجيجها.

قال: مسألة: لا ينعقد الاجماع بأهل البيت وحدهم خلافاً للشيعة،(1) ولا بالأئمة الأربعة عند الأكثرين خلافاً لأحمد، ولا بأبي بكر وعمر عند الأكثرين؛ قالوا: «عليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي»، «اقتدوا باللذين من بعدي».

قلنا: يدل على أهلية اتِّباعِ المُقلّد ومعارضٌ بمثل: «أصحابي كالنجوم» و «خذوا شطر دينكم من الحميراء» * .

الثاني: إنّ روايتهم متقدمة على رواية غيرهم فيكون عملهم متقدماً، بيان الشرطية: أنّ روايتهم إنّما كانت مقدمة لما أنّ اطلاعهم على قول رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم أكثر من اطلاع غيرهم عليه وهذا المعنى موجود في العمل فيكون عملهم متقدماً.

وأمّا بيان المقدم فظاهر.

والجواب: أن تشبيه عملهم بروايتهم تمثيل، لا دليل على الجمع مع قيام الفارق وذلك أن الرواية ترجح بالكثرة بخلاف الاجتهاد؛ وإذا قام الفرق بين الرواية والاجتهاد لم يكن القياس صحيحاً؛ وأيضاً الرواية مستندة إلى السماع ولما كان أهل المدينة أقرب إلى السماع من غيرهم، كان قولهم أرجح من قول غيرهم بخلاف الاجتهاد الذي طريقه واحد.

(*) أقول: ذهبت الشيعة إلى أنّ اجماع أهل البيت عليهم السلام حجة، وذهب

ص: 374


1- . جاء في هامش كتاب رفع الحاجب: 2/196: [الجمهور على أنّه لا ينعقد الاجماع بأهل البيت وحدهم؛ خلافاً للزيدية والإمامية من الشيعة، وأهل البيت: علي وفاطمة والحسنان؛ والخلفاء كذلك].

....................

آخرون إلى أن إجماع الأئمة الأربعة حجة وهو منقول عن أحمد، وذهب آخرون إلى أنّ اجماع الشيخين حجة وخالف الاكثر في هذه المسائل.

أمّا الشيعة فقد استدلوا بقوله تعالى: «إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»(1) ، والخطأ رجس فيجب أن يكون منفياً عنهم.(2)

واما من قال بكون اجماع الأربعة حجة فاستدل بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ».

واحتج من جعل قول الشيخين حجة بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر».

والجواب عن هذين الخبرين أنّهما يدلان على أهلية إتّباع المقلِّد للاربعة وللشيخين لا على أن قولهم حجة، وأيضاً هو معارض بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» مع أنّ قول الواحد منهم ليس بحجة اجماعاً، وبقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «خذوا شطر دينكم من الحميراء»(3) مع أن قولها ليس بحجة.

ص: 375


1- . الأحزاب: 33.
2- . وعلى ذلك فقول كل واحد منهم حجة فضلاً عن اجماعهم؛ وقد انجز شيخنا الأُستاذ السبحاني - دام عِزّه - دراسة موسعة ومستوعبة لفكرة «أهل البيت» تحمل عنوان «أهل البيت عليهم السلام سماتهم وحقوقهم في القرآن الكريم»؛ من شأن هذه الدراسة أن تبدد الشكوك الّتي لعلّها تحوم حول فكرة آل البيت عليهم السلام من منظور شيعي، فراجع واغتنم.
3- . قال عبدالوهاب السُبكي في شرحه على «مختصر ابن الحاجب»: [وكان شيخنا أبو الحجاج المزّي رحمه الله يقول: كل حديث فيه لفظ «الحميراء» لا أصل له إلَّاحديثاً واحداً في «النَّسَائي»] لاحظ: رفع الحاجب: 2/201.

قال: لا يشترط عدد التواتر عند الأكثر.

لنا: دليل السمع، فلو لم يبق إلّاواحد، فقيل: حجّة، لمضمون السمعي، وقيل: لا لمعنى الاجتماع. *

الكلام في عدد التواتر

(*) أقول: اختلف الناس في اشتراط عدد التواتر في المجمعين.

فمن استدل بالعقل وهو عدم تصور الخطأ على المجمعين كإمام الحرمين وغيره يلزمه ذلك.(1)

ومن استدل بالسمع، اختلفوا فمنهم من اشترط، والأكثر على خلافه والدليل عليه أنّ دليل السمع عام ليس فيه اشعار باشتراط عدد التواتر فيجري على عمومه الاّ بعد ظهور المخصص.

واختلف الناس فيما إذا لم يبق - والعياذ باللّٰه - من أُمة محمد صلى الله عليه و آله و سلم سوى واحد، هل يكون حجة أم لا؟ فذهب قوم إلى انّه يكون حجّة لدخوله تحت الأُمّة فان الواحد يطلق عليه لفظة الأُمّة كما في قوله تعالى: «إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ كٰانَ أُمَّةً» (2) والأصل الحقيقة ؛ ومنهم من منع لأنّ الاجماع لا يعقل من الواحد فإنّ معناه لا يعقل إلّابين الأثنين فصاعداً.

ص: 376


1- . أي: عدم اشتراط عدد التواتر.
2- . النحل: 120.

قال: مسألة:

إذا افتى واحد وعرفوا به ولم ينكره أحد قبل استقرار المذاهب، فإجماع أو حجة؛ وعن الشافعي أنّه ليس إجماعاً ولا حجّة، وعنه خلافه.

وقال الجُبّائي: إجماعٌ بشرط انقراض العصر.

ابن أبي هريرة: إن كان فُتيا لا حكماً.

لنا: سكوتهم ظاهر في موافقتهم فكان كقولهم: «الظاهر منتهض» فينتهض دليل السمع.

المخالف: يحتمل انّه لم يجتهد، أو وقف، أو خالف فتروَّىٰ، أو وَقَّرَ، أو هَابَ؛ فلا إجماع ولا حجّة.

قلنا: خلاف الظاهر، لأنّ عادتهم ترك السكوت.

الآخرُ: دليل ظاهر لما ذكرناه.

الجبائي: انقراض العصر يُضعِف الاحتمال.

ابن أبي هريرة: العادة في الفتيا لا في الحكم.

واُجيب: بأنّ الفرض قبل استقرار المذاهب وأمّا إذا لم ينتشر فليس

ص: 377

بحجة عند الأكثر. *(1)

(*) أقول: اختلف في أنّه إذا أفتى واحد من أهل الاجتهاد بحكم وعرفه الباقون قبل استقرار المذاهب ولم ينكروه:

فقال قوم إنّه يكون إجماعاً وهو مذهب بعض أصحاب الشافعي

ص: 378


1- . إن تاج الدين عبد الوهاب السُبكي في بحثه عن «الإجماع السكوتي» سجَّل موقفاً منصفاً وواقعياً في الحكم على الطاغية المجرم عبدالرحمن بن ملجم فقال: [الثاني: - وهو المعتمد - أن ابن ملجم إنّما قُتل لكفره، ولايرتاب المنصف في ذلك فأقل ما فيه استحلاله قتل علي رضى الله عنه، ولو استحل قَتلَ واحد من المسلمين لَكفر، فضلاً عن أمير المؤمنين علي - كرم اللّٰه وجهه -]. لاحظ: رفع الحاجب في مختصر ابن الحاجب: 2/218. إلّاأن المُحقِّقَين لكتاب السُبكي لم يرق لهما هذا الموقف المشرف فأخذا - في هامش نفس الصفحة - يطعنان به وذلك بطريقة غير مباشرة، لكنّها مكشوفة المعنى والمبنىٰ، فقالا في وصف ابن ملجم المرادي: [... فاتك ثائر، من أشداء الفرسان، أدرك الجاهلية، وهاجر في خلافة عمر، وقرأ على معاذ بن جبل فكان من القرّاء وأهل الفقه والعبادة، ثم شهد فتح مصر وسكنها، فكان فيها فارس بني تدؤل، وكان من شيعة علي بن أبي طالب، وشهد معه صفين، ثم خرج عليه فاتفق مع البرك على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فقتل هو عليّاً بضربة اصابت مقدم رأسه توفي على اثرها، فلما مات علي أحضر ابن ملجم إلى الحسين ثم قطعوا يديه ورجليه ولسانه، ثم اجهزوا عليه...]. هذا هو النصب الخفي المتجّلي في وصف قاتل الإمام علي عليه السلام الّذي قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم في حقه «يا عليّ حربك حربي»! ولا ينتهي أسفي من هذا السلوك اللااخلاقي الّذي ألحق أكبر الضرر بالإسلام قديماً وحديثاً؛ فإلى اللّٰه المشتكى وكفىٰ به حسيباً في قوم لم يرعوا حرمة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في أهل بيته عليهم السلام ولم يحفظوا حرمته في رسالته ففرطوا بالإسلام مبدأً ومنهجاً في تبنيّهم لنموذج سيء الصيت مثل عبدالرحمن بن ملجم ومن سار على نهجه الإجرامي الغادر.

....................

وأكثر اصحاب أبي حنيفة، وهو إحدى الروايتين عن الشافعي، ونقل عنه خلاف هذا وهو أنّه لا يكون إجماعاً ولا حجّة.

وقال أبوعلي الجبائي إنّه يكون إجماعاً بشرط انقراض أهل العصر.

وقال أبوهاشم إنّه يكون حجة لا إجماعاً، وهو مذهب بعض الحنفية.

وقال ابن أُبي من أصحاب الشافعي إنّه يكون إجماعاً إن كان فتيا، وإن كان حكماً من حاكم لا يكون إجماعاً.

والمصنّف اختار أنّه يكون إجماعاً أو حجة لأن أحدهما ثابت لما يأتي.

احتج القائلون بكونه إجماعاً بأنّ سكوتهم وترك الانكار دال على الموافقة والاّ لزم الذنب وهو منفي بالأصل، فإذن لا فرق بين ترك الانكار وبين القول بالحكم فى اعتقاد الحكم؛ فالأدلة السمعية الدالة على حقية الإجماع كما تناولت صورة القول تتناول صورة السكوت.

إحتج المخالف بأنّ سكوتهم يحتمل وجوهاً:

أحدها: أنّه لم يجتهد في ذلك الحكم فلا يجوز له الإنكار.

وثانيها: ان يكون قد اجتهد ولم يصل إلى الحكم بل توقف فلا يجوز له الانكار.

وثالثها: ان يكون قد خالف ما افتى به المفتي غير أنّه تروّىٰ وتفكر حالة السكوت في تحصيل وقت يتمكن من اظهاره.

ورابعها: ان يكون قد وقّر القائل أو هابه وخشيَ ثوران الفتنة كما نقل عن ابن عباس انّه وافق عمر في مسألة العول، واظهر الخلاف بعده وقال هبته وكان مهيبا.

وخامسها: أن يكون ترك الانكار لانّه يرى انّ كل مجتهد مصيب....

ص: 379

....................

وسادسها: انّ ترك الانكار بناءً على أن غيره قد انكر عليه وكفاه مؤنة الانكار وهو مخطئ فيه.

ومع هذه الاحتمالات كيف يحزم القول بأنّه سكت عن الرضا.

واجاب المصنف بأنّه خلاف الظاهر فإنّ عادتهم إظهار الإنكار على المخالف.

واعلم أن هذا الجواب عندي ضعيف لأنّ الإنكار إنّما يجب إذا كانوا قائلين بخلاف ما أفتى، أمّا مع هذه الاحتمالات فلا؛ ولا شك في حصول الاحتمالات.

واحتجّ من قال بأنّه يكون حجّة لا إجماعاً بأنّه دليل ظاهر إذ من العادة أنّه لو كان على الخطأ لأنكروا عليه لكن لا يكون إجماعاً للاحتمالات.

واحتج الجبّائي بأنّ هذه الاحتمالات وإن كانت قوية لكن عند انقراض المخالف تضعف هذه الاحتمالات فيكون الإجماع ظاهراً.

واحتج ابن أبي هريرة(1) بإنّ العادة تحيل الانكار في الخطأ في الفتيا دون الحكم، فإنّ الفقهاء يحضرون مجالس الحكّام مشاهدين خطأهم ويتركون الانكار عليهم إمّا لمهابتهم أو لغير ذلك.

والجواب: أن صورة الفرض إنّما هي ترك الانكار قبل استقرار المذاهب، وفي تلك الحالة(2) يبعد ما ذكرتم من الاحتمالات.

واعلم أنّ الناس اختلفوا فيما إذا ذهب أحد من أهل الاجتهاد إلى حكم

ص: 380


1- . هو أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة البغدادي الشافعي، فقيه درس ببغداد وتخرّج عليه كثير من أمثال علي الطبري والدارقطني، تولىٰ القضاء وتوفي ببغداد سنة 345 ه.
2- . قد ورد في نسخة «ب» بعد «وفي تلك الحالة» ما يلي: [يجوز إنكار حكم الحاكم كما يجوز إنكار قول المفتي ظاهراً فلايتحقق الفرق].

قال: مسألة: انقراض العصر غير مشروط عند المحققين، وقال أحمد وابن فورك: يشترط، وقيل: في السكوتي. وقال الإمام: ان كان عن قياس.

لنا: دليل السمع. واستُدّل: بأنّه يؤدّي إلى عدم الإجماع للتلاحق.

وَاُجيب: بأنّ المراد عصر المجمعين الأولين أو لا مدخل للاحق.

قالوا: يستلزم الغاء الخبر الصحيح بتقدير الاطلاع عليه.

قلنا: بعيد، وبتقديره، فلا اثر له مع القاطع كما لو انقرضوا.

قالوا: لو لم يشترط لمُنِعَ المجتهد من الرجوع عن اجتهاده.

قلنا: واجب، لقيام الإجماع.

قالوا: لو لم تعتبر مخالفته لم تعتبر مخالفة مَنْ مات، لأنّ الباقي كُلّ الأُمة.

قلنا: قد التزمهُ بعضٌ، والفرق انّ هذا قولُ مَنْ وُجِدَ من الأُمة فلا اجماع. *

ولم ينشر بين أهل عصره ذلك المذهب هل يكون إجماعاً أم لا؟ فذهب المحققون إلى إنّه لا يكون إجماعاً لأنّ شرط الاجماع علم أهل الحل والعقد بالحكم والافتاء به والتقدير عدم علمهم بذلك.

انقراض عصر المجمعين

(*) أقول: ذهب المحقّقون إلى انّ انقراض العصر غير شرط في الاجماع...

ص: 381

....................

يعني انّهم إذا اتفق أهل العصر على حكم كان حجة وان لم ينقرضوا.

وذهب أحمد بن حنبل(1) وأبوبكر بن فورك(2) إلى اشتراطه.

وذهب بعض الناس إلى التفصيل وذكروا فيه وجهين:

الأوّل: قال قوم إن كان الاجماع هو السكوتي كان الانقراض مشترطاً وإلّا فلا.

الثاني: قال إمام الحرمين إن كان الاجماع حصل عن قياس كان مشترطاً و الاّ فلا.

واستُدِلَّ على عدم الاشتراط مطلقاً بالادلة السمعية فإنّها عامة غير متوقفة على الانقراض.

واستدل بعض القائلين بهذا القول بأنّه لو كان مشترطاً لم يتحقق الاجماع، والتالي باطل اتفاقاً لأنّا نبحث على تقدير تحققه فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية انّه: ما من عصر من الاعصار يتفق اهله على قول الاّ ويوجد قوم آخرون قبل انقراضهم ويحصل تلاحق كلّ عصر بأهل عصر آخر، فلو جوزنا للاحقين، المخالفة

ص: 382


1- . أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني المروزي نزيل بغداد، أبو عبداللّٰه أحد أئمة المذاهب الأربعة عند السنة، وهو رأس الطبقة العاشرة، مات سنة مائتين وإحدى وأربعين وله سبع وسبعون سنة. له مصنّفات أشهرها: المسند، والناسخ والمنسوخ، والمعرفة والتعليل، والجرح والتعديل. انظر: تقريب التهذيب: 1/44 برقم 96؛ معجم المؤلّفين: 2/96.
2- . محمد بن الحسين بن فورك، أبو بكر الاصفهاني الأُصولي، أخذ طريقة أبي الحسن الأشعري عن أبي الحسين الباهلي، بلغت مصنفاته الشيء الكثير، وجرت له مناظرات عظيمة. توفي سنة 406 ه. انظر: الاعلام 6/313؛ طبقات السبكي: 3/52.

....................

لم يحصل الاجماع أصلاً.

وأجاب المصنف عن هذا الدليل بأنّ المراد انقراض عصر المجمعين الأولين عند حدوث الواقعة واعتبار موافقة من ادرك ذلك الوقت من المجتهدين لا من ادرك عصر غيرهم، أو ان يقول: لا مدخل للاحق في الاجماع، فإن كان الانقراض مشترطاً وتكون فائدة الاشتراط ظهور فكر أو تحصيل اجتهاد المجمعين الأولين فيكون الخلاف منهم سابقاً بخلاف التابعي.

واحتج من اشترط انقراض العصر بأنّه لو لم يجز الخلاف قبل الانقراض لجاز لهم الغاء الخبر الصحيح الدال على خلاف ما أجمعوا عليه إذا ظهر له بعد الاجماع، والتالي باطل فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة.

والجواب: أنّ هذا الفرض بعيد، فإن علماء العصر من المستبعد إجماعهم واتفاقهم الاّ بعد البحث والاجتهاد، وعدم الاطلاع على الخبر الصحيح بعد البحث مستبعد جدّا؛ ولو سُلّم وجود الخبر، لكنّه لا اثر له مع الإجماع القاطع كما لا اثر له بعد الانقراض.

واحتجّوا أيضاً بأنّه لو لم يشترط الانقراض لكان المجتهد ممنوعاً من الرجوع عن اجتهاده، والتالي باطل اتفاقاً فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: انّهم إذا اجمعوا عن اجتهاد حتى اراد بعضهم الرجوع عن اجتهاده فلو لم يجز لزم ما ذكرنا.

والجواب: الطعن في التالي فإنّه قد يجب ترك الرجوع عن الاجتهاد إذا حصل الاجماع....

ص: 383

قال: مسألة: لا إجماع إلّاعن مستند لأنّه يستلزم الخطأ، ولأنّه مستحيلٌ عادةً.

قالوا: لو كان عن دليل لم تكن له فائدة.

قلنا: فائدته سقوط البحث وحرمة المخالفة، وأيضاً فإنّه يوجب أن يكون عن غير دليل ولا قائل بهِ. *

قال: مسألة: يجوز أن يجمع عن قياسٍ، ومنعتْ الظاهرية الجوازَ، وبعضهم الوقوع.

واحتجّوا أيضاً بأنّه لولم يعتبر مخالفة اللاحق بأهل العصر المتفقين، لم يعتبر مخالفة من مات، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: أنّ اللاحق لو لم يعتبر خلافه لكان ذلك إنّما هو لأنّ المجمعين كانوا هم كلّ الأُمة فلم يعتد بخلاف اللاحق، وهذا المعنى موجود في صورة الموت فإنهم بعد الموت يصدق عليهم أنّهم كلّ الأُمة وقد افتوا بشيء فيكون إجماعاً، وامّا بطلان التالي فسيأتي.

وأجاب المصنف: بأنّ التالي قد التزم به بعض الناس، وباظهار الفرق بين الصورتين وذلك لأنّ في صورة الموت، الخلاف: قول من وجد من الأُمة فلا يكون الاجماع متحققاً، وفي صورة اللاحق لا يكون هذا الحكم ثابتاً ومع الافتراق يبطل القياس.

مستند الإجماع

(*) أقول: ذهب المحققون إلى أنّ الإجماع لا يحصل إلّاعن دليل...

ص: 384

لنا: القطع بالجواز كغيره، والظاهرُ الوقوعُ كإمامة أبي بكر، وتحريم شحم الخنزير وإراقةِ نحو الشيرج. *

وحجّة؛ وذهب آخرون إلى أنّه يجوز الاجماع لا عن دليل بأن يوفقهم اللّٰه تعالى لاختيار الصواب من غير مستند.

والدليل على المذهب الأوّل وجهان:

الأوّل: انّ الاجماع من غير دليل خطأ والخطأ منفي عن الأُمة، فالاجماع من غير دليل منفي.

الثاني: انّه يستحيل عادة اجماع الخلق الكثير على الحكم من غير دليل.

واحتجّ المخالف بأنّ إجماعهم لو كان عن دليل لما كان للاجماع فائدة، والتالي باطل اتفاقاً فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: انّ الاجماع إذا كان عن دليل كان التمسك بأصل الاجماع أولى من التمسك بالاجماع لانّ احتمال الخطأ في الأوّل أبعد من الثاني لاشتماله عليه وعلى زيادة.

والجواب: لا نسلم عدم الفائدة بل هاهنا فوائد من جملتها سقوط البحث والاجتهاد عن المجتهد؛ ومنها تحريم المخالفة بعد الاجماع، وقبله قد كان يجوز له مخالفة ذلك الدليل. ثمّ نقول إن هذا القول يوجب أن يكون الاجماع دائماً عن غير دليل، وهو باطل بالاتفاق.

حكم الإجماع عن قياس

(*) أقول: اختلف الناس في جواز وقوع إلاجماع عن قياس:...

ص: 385

....................

فذهبت الشيعة وداود(1) واصحابه إلى المنع من ذلك.

وذهب آخرون إلى جوازه ثمّ اختلفوا في الوقوع فمنع منه البعض واثبته الآخرون، وجوّز بعضهم الاجماع عن القياس الجلّي دون الخفي.

واستدل المصنف بأنّا نقطع بالجواز كغيره من الاجماعات فإنّه لو فرض موجوداً لم يلزم منه محال، وهذا هو معنى الجائز.

واستدل على الوقوع بإجماع الصحابة على إمامة أبي بكر فإنّها وقعت عن القياس حتى قال بعضهم: «رضيه رسول اللّٰه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا»، قاسوا الإمامة العامّة على إمامة الصلاة، وأيضاً أجمعوا على تحريم شحم الخنزير بالقياس على تحريم لحمه، واجمعوا على إراقة الشيرج والدبس السيّال إذا ماتت فيه فأرةٌ بالقياس على السمن؛ وغير ذلك من الوقائع المأثورة عنهم، وإذا اجمعوا على وقوع الاجماع عن الاجتهاد واجماعهم حجة، كان مثل هذا الإجماع حقاً.(2)

ص: 386


1- . هو داود بن علي بن خلف الإصبهاني البغدادي المعروف بالظاهري (المتوفّىٰ 270 ه)، سُمّي بذلك لأخذه بظاهر الكتاب والسنة. انظر: بحوث في الملل والنحل: 3/157.
2- . وقد ورد في نسخة «ب» ما يشبه التعليق على عبارة: «.. كان مثل هذا الاجماع» وهو كما يلي: [ولقائل أن يمنع حصول الإجماع فيما ذكر ولو سُلّم، لكن لم لا يجوز أن يكون إجماعهم مستندٌ لا إلى القياس].

قال: مسألة: إذا اُجمع على قولين. وأُحدث قول ثالث، مَنَعهُ الاكثرُ كوطء البكر.

قيل: يمنع الرد، وقيل: مع الأرش، فالردُّ مجاناً ثالث، وكالجد مع الاخ.

قيل: المال كلُّه، وقيل: المقاسمة، فالحرمان ثالثٌ، وكالنيّة في الطهارات، وقيل: تُعتبر، وقيل: في البعض، فالتعميم بالنفي ثالثٌ، وكالفسخ بالعيوب الخمسة، قيل: يُفسخ بها، وقيل: لا، فالفرق ثالث، وكأمّ مع زوج أو زوجة وأبٍ، قيل: ثلث، وقيل: ثلث ما بقي، فالفرق ثالثٌ، والصحيحُ التفصيلُ إن كان الثالث يرفع ما اتفقا عليه فممنوع كالبكر والجدّ والطهارات، وإلّا فجاز كفسخ النكاح ببعض، وكالأُمّ فإنّه يوافق في كلِّ صورة مذهباً.

لنا: أنّ الأوّل مخالف للإجماع فمُنع بخلاف الثاني، كما لو قيل: «لا يقتل مُسلمٌ بذمّي» و «لا يصحُ بيعُ الغائب»، وقيل: يقُتل، ويصحُّ، لم يُمنع:

يقتل ولا يصحُّ، وعكسهِ باتفاقٍ. *

الاجماع على قولين وحكمه

(*) أقول: اختلف الناس في الأُمة إذا افترقوا إلى فرقتين احدهما قالت بقول والأُخرى قالت بقول آخر، هل يجوز إحداث قولٍ ثالثٍ أم لا؟ فذهب الجمهور...

ص: 387

....................

إلى المنع وهو قول الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه الله من الشيعة؛ مثال ذلك انّهم اختلفوا في وطء البكر فقال بعضهم انّه يمنع الرد من المشتري إذا وجد بها عيباً؛ وقال آخرون انّه يجوز للمشتري الرد مع الأرش؛ فالقول بالرد مجاناً من غير أرش قول لم يقل به أحدٌ.

وأيضاً اختلفوا في الجدَّ مع الأخ فقال بعضهم المال كلّه للجد وقال آخرون بأنّ المال لهما، فالقول بأنّ الجدَّ ليس له شيء، قول لم يقل به أحدٌ.

وأيضاً اختلفوا في اشتراط النية في الطهارة فقال قوم انّها شرط في الجميع وقال آخرون انّها شرط في التيّمم، فالقول بكونها غير شرط في شيء من الطهارات قول لم يقل به أحدٌ.

وأيضاً اختلفوا في فسخ النكاح بالعيوب الخمسة(1) فقال بعضهم بالفسخ بها أجمع، وقال آخرون بعدم الفسخ بها أجمع؛ فالقول بكون البعض موجباً للفسخ دون البعض قولٌ لم يقل به أحدٌ.

وأيضاً اختلفوا في الأبوين مع الزوج فقال بعضهم للزوج حصة من الأصل وللأم ثلث الأصل وللأب الباقي، وقال آخرون للزوج حصة وللأم ثلث الباقي وللأب الثلثان، ثمّ جعلوا حكم الزوج فمن أعطى الأُم ثلث الأصل في مسألة الزوج أعطاها الثلث هنا، ومن أعطاها في الأولى ثلث الباقي أعطاها هنا ثلث الباقي؛ فالقول بإعطاء الأُم ثلث الأصل في أحدىٰ المسألتين وثلث الباقي في الأُخرى قول ثالث، وذهب الآخرون إلى الجواز مطلقاً....

ص: 388


1- . ورد في نسخة «ب»: [وهي: الجذام والجنون والبرص مع الرتق والقرن في الزوجة، والجبّوالعنة في الزوج].

....................

والحقّ في ذلك التفصيل وهو ان نقول ان كان القول الثالث يلزم منه ابطال ما أجمعوا عليه لم يجز احداثه والاّ فانّه جائز مثال الأوّل، رد الموطؤة البكر المسرّاة، فان البعض منع من الرد مطلقاً، والبعض منع منه الاّ مع الارش فقد اتفقوا على امتناع الرد من غير أرش فلو جوزنا الرد مجاناً لزم إبطال ما أجمعوا عليه.

وكالجدِّ فإنّ الفريقين اتفقوا على أن له حظاً من المال فالقول بحرمانه خارق لهذا الإجماع فكان باطلاً.

وكالنيّة فإن الفريقين على اشتراطها في البعض وهو التيمم فالقول بتعميم نفي الاشتراط خارق لهذا الإجماع.

ومثال الثاني اختلافهم في فسخ النكاح بالعيوب الخمسة فإنّ من قال بفسخ النكاح ببعضها دون البعض يكون موافقاً لكلّ واحد من الفريقين في صورة ولا يلزم منه خرق الإجماع.

وكمسألة الأُم فإنّ من قال بان الأُم تعطى ثلث الاصل مع الزوج وثلث الباقي مع الزوجة لم يكن خرق الإجماع، وقال في كلّ صورة بمذهب.

والدليل على هذا التفصيل ان الأوّل خارق للإجماع كما صورناه فيكون باطلاً بخلاف الثاني فإنّه لا يلزم منه خرق الاجماع، وأيضاً فإنّه يلزمُ مَنْ وافق مذهب أبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما في مسألة، وجب عليه موافقته في كلّ مسألة وذلك باطل اتفاقاً؛ فإنّ أبا حنيفة(1) لما قال: لا يقتل مسلم بذمي وقال انّه لا يصحّ بيع الغائب، وقال الشافعي(2) انّه يقتل، ويصحّ بيع الغائب فلو أن قائلاً

ص: 389


1- . في نسخة «ب» الشافعي.
2- . في نسخة «ب» أبو حنيفة.

قال: قالوا: فصّل، ولم يُفصّل أحدٌ فقد خالف الإجماع.

قلنا: عدم القول به ليس قولاً بنفيه وإلّا امتنع القولُ في واقعة تتجدد، ويتحقق بمسألتي الذّمي والغائب.

قالوا: يستلزم تخطئة كلِّ فريق وهم كلّ الأُمّة.

قلنا: الممتنع تخطئة كلِّ الأُمةِ فيما اتفقوا عليه. الآخر اختلافهم دليل انّها اجتهادية.

قلنا: ما منعناه لم يختلفوا فيه، ولم سلِّم فهو دليل قبل تقرر إجماع مانعٍ منه.

قالوا: لو كان لأُنكر لمَّا وَقَع، وقال ابن سيرين في مسألة الأم مع زوجة وأب بقول ابن عبّاس وعكس آخرٌ.

قلنا: لأنّها كالعيوب الخمسة فلا مخالفة للاجماع. *

ذهب إلى المسألة الأُولى موافقاً لأبي حنيفة(1) وإلى الثانية موافقاًللشافعي (2) أو بالعكس لم يكن ممنوعاً عنه [إجماعاً] (3).

المانعون لاحداث قول ثالث

(*) أقول: لما ذكر الحق عنده وهوالتفصيل شرع في كلام المخالفين فاستدل من قال لا يجوز: «الفصل فيما لم يفصل الامة فيه بانّه يكون خارقاً للاجماع»

ص: 390


1- . في نسخة «ب» الشافعي. 2. في نسخة «ب» أبي حنيفة.... 3. في نسخة «أ» فقط.

....................

والتالي باطل فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة.

والجواب: المنع من الشرطية، فانّ عدم القول بالفصل ليس قولاً بعدم الفصل فانّ عدم القول بالنفي لو كان قولاً بعدم النفي لما جاز احداث قول في واقعة متجددة لم يكن لأهل العصر الأول فيها قول؛ إذ عدم القول قول بالعدم على هذا التقدير، ولما كان التالي باطلاً قطعاً فكذلك المقدم وهو عدم الفرق و يتحقق هذا البحث(1)بمسألتي الذمي والغائب على ما اوضحناه أوّلاً.(2)

قالوا: القول بالفصل لو كان حقاً لزم اجتماع كلّ الأُمة على الخطأ والتالي باطل فالمقدم مثله. بيان الشرطية: أنّ من قال بالتحريم في المسألتين يكون مصيباً في احداهما دون الأُخرى، ومن قال بالتحليل فيهما يكون مصيباً في إحدىٰ المسألتين دون الأُخرى؛ فيكون كلّ قوم قد اخطأوا وإن تعددت الاسباب.

والجواب: ان الممتنع إنّما تخطئة الأُمة فيما اتفقت عليه، وإلّا لزم أنّ من افتى بصواب في حكم أن يكون مصيباً في كلِّ الأحكام، وهو باطل قطعاً.

المجوزون لاحداث قول ثالث

واحتجّ الآخرون القائلون بالجواز بأنّ اختلافهم في الحكم دليل على أنّه حصل عن الاجتهاد فيكون الاجتهاد سائغاً والقول الثالث حدث عن اجتهاد فيكون سائغاً.

ص: 391


1- . في نسخة «ب» ورد بعد كلمة «هذا البحث» ما يلي: [يعني ما ذكر من أن عدم القول بالتفصيل ليس قولاً بعدمه].
2- . ورد في نسخة «ب» بعد كلمة «أولاً» ما يلي: [حيث جوزنا فيها التفصيل وإن لم يقل به أحد].

....................

والجواب من وجهين:

الأوّل: إن الّذي منع المصنف من احداثه إنّما هو قول يستلزم ابطال ما اتفقوا عليه كالجد وأمثاله ممّا مضى، وما اتفقوا عليه ليس من صور الخلاف فلا يجوز فيه الاجتهاد.

الثاني: وهو عام، انّ الاختلاف دليل على تسويغ الاجتهاد لا مطلقاً، بل قيل تقرر اجماع مانع منه؛ والأُمة لما اتفقت على القولين، حصل الاجماع المانع من احداث الثالث فمنعت من الاجتهاد.

واحتجوا أيضاً بأنّه لو لم يجز احداث القول الثالث لما وقع من الصحابة، مع عدم الانكار؛ والتالي باطل فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة. وبيان بطلان التالي الوقائع المشهورة بينهم و منها انّهم اختلفوا في مسألة زوج وأبوين وزوجة وأبوين، فقال ابن عباس للام ثلث الأصل، وقال الباقون للام ثلث الباقي، وأحدث ابن سيرين(1) قولاً ثالثاً فقال في صورة الزوج بقول ابن عباس دون الزوجة، وقال بعض التابعين ينعكس هذا القول.

والجواب: أنّ الاختلاف في مثل هذه الصور لا يرفع حكماً مجمعاً عليه فيكون كالعيوب الخمسة الموجبة لفسخ النكاح لو قيل بالفرق فيها على ما سلف، ولا يكون الفارق خارقاً للاجماع.

ص: 392


1- . هو محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء، أبو بكر، تابعي، ولد في البصرة سنة 33 ه، نشأ بزازاً في أُذنه صمم، وتفقّه وروى الحديث واشتهر بتعبير الرؤيا، وينسب له كتاب «تعبير الرؤيا» - المطبوع - كما ذكره ابن النديم، توفّي في البصرة سنة 110 ه. انظر: الأعلام: 6/154.

قال: مسألة: يجوز احداث دليل آخر أو تأويل آخر عند الأكثر.

لنا: لا مخالفة لهم فجاز، وأيضاً لو لم يَجُزْ لاُنكرَ، ولم يزل المتأخرون يستخرجون الأدلة والتأويلات.

قالوا: «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ»(1).

قلنا: مؤوّلٌ فيما اتفقوا، وإلّا لزم المنع في كلّ متجدد.

قالوا: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ»(2) .

قلنا: معارضٌ بقولهِ: «تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ»(3) ، فلو كان منكراً لنُهوا عنه. *

حكم احداث دليل أو تأويل

(*) أقول: اختلف الناس فيما إذا استدلت الأُمّة بدليل أو تأولت تأويلاً، هل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل آخر أو تأويل آخر على ذلك الحكم؟ فالمحققون جوزوه ونفاه الأقل؛ ونقل المرتضى من أصحابنا أنّ بعضهم جوّز إحداث دليل ثان ولم يُجز احداث تأويل ثان لأنّه يجري مجرى المذهب، ولا يجوز إحداث مذهب ثان إتفاقاً، والسند فرق بين المذهب والتأويل بأن التأويل يجري مجرى الأدلة فإن من تأول: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ * إِلىٰ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ» (4) بأنّ «إلى» واحد الآلاء، جاز لمن بعدهم التأويل بحذف المضاف، ويبقى التقدير «إلى نِعم ربّها

ص: 393


1- . النساء: 115.
2- . آل عمران: 110.
3- . آل عمران: 110.
4- . القيامة: 22-23.

....................

ناظرة» ويكون قد اشترك التأويلان في دفع الرؤية عنه تعالى.

واحتج المصنف بأنّ احداث الدليل أو التأويل الثاني لا يخالف ما اجمعوا عليه من الحكم، فجاز إحداثه. وأيضاً لو لم يجز إحداث دليل، وتأويل لم يكن سائغاً لانكر الوقوع والتالي باطل؛ فإنّ المتأخرين دائماً يستخرجون الأدلة والتأويلات من غير إنكار.

واستدل المخالف بوجهين:

الأوّل: قوله تعالى: «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ» وهو عام في الحكم والدليل والتأويل .

والجواب: التوعد على مخالفة ما اتفقوا عليه، وبقي الدليل التالي لم يتفقوا عليه إذ الفرض هذا؛ ولو لم يجريه على هذا التاويل لزم المنع في كلّ قول متجدد لم يتعرض له الأوائل.

الثاني: قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ» مقتضى هذا الأمر كلّ معروف، فلو كان الدليل الثاني من المعروف لوجب أن يكون مأموراً به.

والجواب: المعارضة بقوله: «يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» مقتضاه النهي عن كلّ منكر ولو كان الدليل الثاني منكراً لنهوا عنه.

وأعلم انّه لا خلاف في أنّهم لو أجمعوا على إنكار الدليل الثاني أو التأويل الثاني لما جاز إحداثه.

ص: 394

قال: اتفاق العصر الثاني على احد قولي العصر الأوّل بعد إن استقر خلافهم.

قال الأشعريّ وأحمد والإمام والغزالي: ممتنع.

وقال بعض المجوزّين: حجّة، والحق أنّه بعيد إلّافي القليل كالاختلاف في أمّ الولد، ثم زال.

وفي الصحيح: أنّ عثمان كان ينهىٰ عن المُتعة.

قال البغوي(1): ثمّ صار إجماعاً.(2)

الأشعريّ: العادة تقضي بامتناعه. وَاُجيب بمنع العادة وبالوقوع.

قالوا: لو وقع لكان حُجّةً فيتعارض الإجماعان، لأن استقرار اختلافهم دليلُ إجماعهم على تسويغ كلّ منهما.

اُجيب بمنع الإجماع الأوّل، ولو سُلِّم فمشروط بانتفاء القاطعِ كما لو لم يستقّر خلافهم. *

حكم ما لو اتفق العصر الثاني

(*) أقول: إذا افترق أهل العصر الأوّل إلى قائلين بالحكم وإلى قائلين

ص: 395


1- . هو الحسين بن مسعود بن محمد، أبو محمد البغوي، ولد في 433 ه ومات سنة 516 ه، من تصانيفه؛ التهذيب، وشرح السنة ومصابيح السنة؛ وتفسير معالم التنزيل. انظر: الاعلام: 2/284.
2- . انظر: شرح السنة: 5/78، ط. بيروت 1412 ه.

....................

بخلافه هل يجوز اتفاق اهل العصر الثاني على أحد القولين أم لا؟

قال الأشعري وأحمد وإمام الحرمين والغزالي: إن ذلك ممتنع، وقال جماعة من المعتزلة ومن أصحاب الشافعي وأبي حنيفة: إنّ ذلك جائز، وهو مذهب السيد المرتضى رحمه الله.

والمجوزون اختلفوا: فمنهم من قال انّه حجة، ومنهم من لم يقل بذلك.

وقال المصنف: إنّ هذا بعيد لم يقع إلّافي القليل كما اختلفوا في بيع أُمّ الولد ثمّ زال ذلك الخلاف بين التابعين واتفقوا على عدم الجواز بعد ذلك، وكذلك نقل عن عثمان أنّه كان يمنع عن المتعة(1) ثم صار إجماعاً عندهم، كذا ذكره...

ص: 396


1- . قد اجتمعت كلمة الأُمّة على أن «النكاح المؤقت» أو ما يسمىٰ ب «المتعة» كان حلالاً على عهد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم وإنّما جرى الخلاف على أن الحكم في هذه القضية قد نُسخ أو مازال قائماً؟ انبرىٰ بعضٌ لاثبات أن الحلال تحوّل إلى حرام! غير أنّه واضح وبيّن أنّ تبديل الحلال إلى حرام يفتقر إلى دلائل حاسّمة لا يعتريها شك بحال، الشيء الّذي لم يتحقق في المحصّلة النهائية في بحث ذلك. إن المحقِّقين لكتاب «رفع الحاجب» قد خاضا غمار البحث [في ست صفحات من الهامش ج 2 / ص 242 إلى 248] عن «متعة النكاح» اعتماداً على ما خلّفه اسلافهم من برهان لاثبات انها حرمت تحريماً باتاً إلى قيام الساعة. إلّا أن الادلة الّتي ساقوها لاثبات المدعىٰ لا تقوى على الصمود امام النقد والتفنيد؛ وللأسف لا يسعنا المجال لعرضها ومناقشتها ليكون القارئ الحصيف على بيّنة من الأمر؛ ومع ذلك نحيله للدراسة الجادة الّتي أنجزها شيخنا الأُستاذ السبحاني عن «نكاح المتعة» في كتابه القيم «الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف»؛ فإنّه - دامت افاضاته - قد درس المسألة بحُنكة وقوة عارضة على ضوء الكتاب والسنة وآراء الصحابة ومعطيات التاريخ، وختمها بالرد على الشبهات الّتي تثار في المقام.

....................

البغوي.

واحتج الاشعري على الامتناع بوجهين:

الأوّل: العادة فإنّها قاضيةٌ بامتناع مثل هذا الإجماع.

والجواب: المنع من العادة، وأيضاً كيف يُدعّىٰ قضاء العادة بالمنع مع وقوعه على ما نقلناه في أُمّ الولد وغيرها؟!

الثاني: لو أجمعوا بعد الاختلاف المستقّر لتعارض الاجماعان والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: أنّ الأُمة إذا اختلفت على قولين واستقر اختلافهم فقد اجمعوا على تسويغ الأخذ بكل واحد من القولين والتخيير، فلو اجمعوا بعد ذلك على أحد الإجماعين لحرمت مخالفته ولم يجز التخيير وذلك يستلزم التعارض؛ وأمّا بطلان التالي(1) فإنّه ظاهر لاستلزامه إجماع الأُمّة على الخطأ.

والجواب من وجهين:

أحدهما: لا نسلّم أنّ اختلافهم يستلزم الإجماع على الأخذ بكل واحد من القولين والتخيير بينهما.

الثاني: لو سُلَّم وجود الإجماع الأوّل لكنّا نقول إنّه مشروط بانتفاء الاجماع الثاني، فإذا وجد الاجماع الثاني فقد زال شرط الإجماع الأوّل فزال لزوال شرطه كما في حالة عدم استقرار الخلاف.

لا يقال: لو جوزتم هذا لجاز في كلّ اجماع أن يكون مشروطاً بعدم

ص: 397


1- . أي: تعارض الاجماعين.

قال: [قال] المجوز [حجة](1) وليس بحجة، لو كان حجة لتعارض الإجماعان وقد تقدم.

قالوا: لم يحصل الاتفاقُ.

وأُجيب بانّه يلزم إذا لم يستقر خلافُهُم.

قالوا: لو كان حجّة لكان موت الصحابي المخالف يوجب ذلك، لأنّ الباقي كلّ الأُمة الأحياء. وأُجيب بالإلتزام، والأكثر على خلافه.

الآخر لو لم يكن حجّة لأدّى إلى ان تجتمع الأُمّة الأحياء على الخطأ، والسمعي يأباه.

وأُجيب بالمنع، والماضي ظاهر الدخول لتحقق قوله بخلاف مَنْ لم يأتِ. *

اجماع ناسخ له وحينئذٍ لا يستقر الاجماع.

لانّا نقول: الإجماع فرَّق بين الصورتين، وفي هذا الجواب نظر.

(*) أقول:(2) استدل المجوزون لحدوث الاجماع بعد الخلاف [و] القائلون بأنّه ليس بحجة [استدلوا] بثلاثة أوجه:

ص: 398


1- . يلزم اضافة كلمتي [قال] و [حجة] في المتن وفقاً لما في «منتهى الوصول والأمل في علمي الأُصول والجدل» وهو الأصل لهذا المختصر كما أسلفنا، وذلك لأجل ان تستقيم العبارة.
2- . في نسخة «ب» بعد «أقول» ما يلي: [لما كان الجواز ظاهراً لم يذكر الاستدلال عليه بل ذكرالاستدلال على أنّه ليس بحجة، فيقول:].

....................

الأوّل: لو كان حجة، لتعارض الاجماعان، والتالي باطل فالمقدم مثله.

وقد مضى تقريره،(1) والجواب عن هذا قد سلف.

الثاني: إن مثل هذا الاتفاق لا يكون إجماعاً لخروج العصر الأوّل عنه، والجواب أنّه يلزم على ذلك أنّه لا يجوز حدوث الإجماع عقيب الخلاف الّذي لم يستقر لخروج العصر الأوّل عنه، والتالي باطل اتفاقاً.

الثالث: إن قول التابعين لو كان حجة لكان موت الصحابي المخالف يوجب ذلك إذا لم يبق مخالف غيره، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: إنّ قول التابعين إنّما يكون حجّة بعد حصول الخلاف لكونهم كل الأُمّة الأحياء، وهذا المعنى موجود في الصورة الّتي ذكرناها فيجب أن يكون الموت موجباً لصحة القول بتقدير أن يكون القول بعد الموت باطلاً وهو باطل.

والجواب: نحن نلزم بأنّ قول الباقي حجة وإن كان اكثر الأُصوليين على خلاف ذلك. واحتج من جوز حدوث الاجماع عقيب الخلاف وجعله حجة، بأنّه لو لم يكن حجة لأدى إلى اجتماع الأُمّة الأحياء على الخطأ والتالي باطل، فالمقدم مثله؛ والشرطية ظاهرة، وبطلان التالي بالأدلة السمعية.

والجواب: ممتنع تناول الأدلة السمعية له، فإنّ الأحياء بعض الأُمة لكون الماضي داخل تحت الأُمة ظاهراً لتحقق قوله؛ بخلاف من لم يأت(2) فإنه...

ص: 399


1- . لاحظ الوجه الأوّل من وجهي احتجاج المخالفين لعدم اختصاص الاجماع بالصحابة، وذلك في ص 256 من هذا الكتاب.
2- . هذا جواب لسؤال مقدر وهو: لم لا يدخل من لم يأت كما دخل من مضىٰ؟ فأجاب بقوله: «بخلاف من لم يأت...».

قال: مسألة: اتفاق العصر عقيب الاختلاف، إجماعٌ وحجّةٌ، وليس ببعيدٍ، وأمّا بعد استقرّاره فقيل: ممتنعٌ.

وقال بعض المجوّزين: حجةٌ.

وكلّ من اشترط انقراض العصر قال: إجماعٌ وهي كالتي قبلها إلّاأنّ كونه حجة أظهرُ، (لأنّه) لا قول لغيرهم على خلافه. *

ليس بداخل لعدم قوله وقت الإجماع، وهذا الفرق يبطل القياس الدال على مساواة من لم يوجد بمن مضى.

حكم ما لو اتفق أهل العصر باعيانهم

(*) أقول: الفرق بين هذه المسألة والتيّ قبلها أنّ تلك كان المُجْمِعون غير المختلفين وفي هذه المجمعون هم المختلفون؛ وقد اختلف الناس في ذلك.

فمن اشترط انقراض العصر جوّز ذلك ومن لم يشترط انقراض العصر اختلفوا فمنهم من جوزه وهو قول السيد المرتضى رحمه الله ومنهم من منع وهو مذهب الشيخ أبي جعفر من الشيعة، هذا إذا حدث الاجماع بعد استقرار الخلاف؛ أمّا إذا لم يستقر الخلاف فإنّه يجوز قطعاً ويكون إجماعاً وحجّة ولا يعرف في ذلك مخالفاً.

وأعلم انّ الحجج المذكورة في المسألة المتقدمة آتية هاهنا مع أن الجواز هنا اظهر لأنّه لا قول لغيرهم على خلاف الإجماع بخلاف المسألة المتقدمة.

ص: 400

قال: مسألة: اختلفوا في جواز عدم علم الأُمّة بخبرٍ، أو دليلٍ راجحٍ إذا عُمِل على وفقه.

المجوّز: ليس اجماعاً كما لو لم يحكموا في واقعةٍ.

النافي: «وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ»(1). *

قال: مسألة: المختار امتناع إرتداد [كل] الأُمّةِ سمعاً.

لنا: دليل السمع، وأعتُرض بأن الارتداد يخرجهم.

ورُدَّ بأنّه يصدُقُ أن الأُمّة ارتدت وهو أعظم الخطأ. **

الاختلاف في جواز عدم علم الأُمة بخبر أو دليل راجح

(*) أقول: اختلف الناس في أنّه هل يجوز وجود دليل راجح على ما يعارضه، أو وجود خبر وتعمل الأُمّة على وفقه مع عدم علمهم بذلك الدليل، أو الخبر على قولين: منهم مَنْ جوز ومنهم من منع.

احتج المجوزون بأنّ عدم علمهم بذلك الدليل أو الخبر لا يكون اجماعاً بترك العمل، كما لو لم يحكموا في الواقعة بحكم فانّه لا يكون حكماً بالعدم. واحتج النفاة بأنّ العمل بذلك الدليل يكون اتباعاً لغير سبيل المؤمنين فيكون منفياً.

حكم ارتداد الأُمة نقلاً

(**) أقول: اختلف الناس في تصور ارتداد الأُمّة، أمّا عند الإمامية فذلك

ص: 401


1- . النساء: 115.

قال: مسألة: مثل قول الشافعي: «إنّ دية اليهودي الثلث»، لا يصح التمسك بالإجماع فيه.

قالوا: اشتمل الكامل والنصف عليه.

قلنا: فأين نفي الزيادة، فإن أُبدي مانِعٌ أو نفيُ شرطٍ أو استصحابٌ فليس من الإجماع في شيء. *

غير جائز، وأمّا الجمهور فقد اختلفوا فذهب قوم إلى جوازه وآخرون منعوا وإن كان التصور العقلي عندهم جائز.

أمّا الإمامية فلأنّ المعصوم عندهم لما كان بعض الأُمة بل هو سندهم ويستحيل عليه ذلك الحكم، لم يكن الحكم الكلي صادقاً.

وأمّا المانعون من الجمهور فقد استدّلوا بالسمع وهو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تجتمع أُمّتي على الخطأ»(1) والإرتداد من أعظم الخطأ.

أجاب المجوزون بإنّ الإرتداد يخرجهم عن كونهم أمّة له صلى الله عليه و آله و سلم فلا يصدق ثبوت الخطأ على أُمته.

والجواب: أنّه حال الارتداد يصدق على مجموع الأُمة أنّها قد ارتدت وكانت الأُمة قبل الإرتداد أُمته فيكونون قد ارتكبوا الخطأ.

(*) أقول: اختلف الجمهور في دِية اليهودي على ثلاثة أقوال:

ص: 402


1- . انظر: سنن ابن ماجة: 2/1303، برقم 3950؛ سنن الترمذي: 4/405، برقم 287.

....................

قال قوم أنّها مثل دية المسلم وهو أحد الروايات عندنا.

وقال الآخرون على النصف.

وقال آخرون كالشافعي وغيره انّها على الثلث.

وظن بعض الفقهاء أنّه يجوز أن يتمسك الشافعي في هذه الصورة بالاجماع، فإن القائل بوجوب الدية قائل بوجوب الثلث، والقائل بالنصف قائل به؛ فقد حصل الاتفاق على الثلث.

ومنع منه قوم قالوا: لأنّ وجوب الثلث لا غير قد اشتمل على حكمين أحدهما وجوب الثلث والثاني نفي الزائد عن الثلث ولا شكّ في أنّ القولين الآخرين لم يشتملا على الحكم الثاني(1)، فإن استُفيد الحكم الثاني من حصول المانع؛ فما يقال أن الكفر مانع من مساواته للمسلم في الدية، أو فوات شرط مثل أن يقال الإسلام شرط في الدية الكاملة، أو استصحاب حال كما يقال الاصل عدم الدية؛ فالقول بالثلث مع هذا الاصل يستلزم ثبوت الحكمين معاً.

أجاب المصنف بأن هذا امور خارجة عن الإجماع.

ص: 403


1- . المراد بالحكم الثاني هو نفي الزائد عن الثلث.

قال: مسألة: يجب العمل بالاجماع المنقول بنقل الواحد، وأنكره الغزّالي.

لنا: نقل الظني موجِبٌ، والقطعي أولىٰ، وأيضاً نحن نحكم بالظاهر.

قالوا: إثبات الأصل بالظاهر.

قلنا: المتمسك الأوّل قاطع والثاني يُبتنىٰ علىٰ إشتراط القطع، والمعترض مستظهر من الجانبين. *

العمل بالاجماع بنقل الواحد

(*) أقول: اختلف الناس في الاجماع المنقول بخبر الواحد هل يجب العمل به أم لا؟ أمّا من لم يعمل بخبر الواحد فانّه يمنع من العمل به.

وامّا من جوزه فقد اختلفوا أيضاً فذهب جماعة من الاشاعرة إلى الجواز، وذهب آخرون منهم الغزالي إلى المنع.

احتج المصنف على الجواز بأنّ خبر الواحد حجّة على ما يأتي إذا كان المنقول ظنياً، فيكون حجة فيما يكون قطعياً فإنّه يكون أولى؛ وأيضاً قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«نحن نحكم بالظاهر، واللّٰه يتولى السرائر»(1) أتىٰ بالألف واللام الّتي ليست للعهد(2) - متقدم على الكتاب والسنة - فيكون يصح اثباته بالظاهر الّذي لا...

ص: 404


1- . وقد قيل لا أصل لهذا الحديث، نعم ورد عن عمر بن الخطاب ما يشبه ذلك مضموناً كما في صحيح البخاري. انظر: كشف الخفاء للعجلوني: 1/192.
2- . قال الآمدي في طريقة الاستدلال بهذا الخبر ما يلي: [ذكر «الظاهر» بالألف واللام

قال: مسألة: انكار حكم الاجماع القطعي، ثالثها: المختار أن نحو العبادات الخمس يُكفَّرُ. *

يفيد القطع.

واجاب المصنف بأن الحجة الأُولى قطعية؛ والثانية ظنية تبتني على اشتراط القطع وعدم اشتراطه، فمن اشترط القطع لم يُجز كون خبر الواحد مفيداً فى نقل الاجماع بهذه الحجة ومن لم يشترط جوّز ذلك؛ وبالجملة فالظهور في هذه المسألة للمعترض من الجانبين.(1)

في إنكار الاجماع القطعي وحكمه

* أقول: اختلف الناس في منكر الاجماع القطعي هل يكون كافراً أم لا؟ فذهب قوم إلى تكفيره، وآخرون إلى أنّه ليس بكافر، وفصّل المصنّف(2)، قال: إن كان الحكم المجمع عليه مما له مدخل في اسم الإسلام كالعبادات

ص: 405


1- . أي: سواء كنت مستدلاً في هذه المسألة على النفي أو على الاثبات؛ للمعترض أن يأخذ عليك! فإذا اشترطت القطع فالمعترض يستطيع أن يحتمي بما استدل به من قال بالجواز؛ وإذا لم تشترط القطع، يمكن ان يحتمي بما استدل به من قال بعدم الجواز؛ ومهما يكن من أمر، إنَّ ما جاء به المصنّف في ذيل كلامه يصلح - كما نبَّه البعض - لمن لم يختر احد الطرفين لا المصنّف الّذي اختار الجواز.
2- . وليكن واضحاً لدىٰ القارئ النبيه أن حديث المصنّف ليس عن حجّية الإجماع بل عن مؤداه فحسب.

....................

الخمس والتوحيد، فإنّه يكفر جاحده؛ وإن لم يكن كالاتفاق على جواز البيع والقرض والرهن فانّه لا يُكَفَّرُ.(1)

ص: 406


1- . جاء في هامش حديث السبكي عن منكر حكم الإجماع في الكلام عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ما هذا ملخصه: إن الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ذهبوا إلى القول بحرمة الجمع بينهن فلو وقع عقد النكاح - والحال هذه - يقع فاسداً فيجب فسخه مطلقاً؛ وذهب الرافضة والخوارج وبعض الشيعة وعثمان البتِّي، إلى الجواز استناداً إلى قوله تعالى: «وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ»؛ كما أن الجمهور قد استند في دعواه إلى السنة والمعقول فقال إن الأحاديث مخصصة لعموم الآية. [رفع الحاجب: 2/270 و 271]. هذا ملخص ما ورد في هامش الكتاب، غير أن الرأي السديد هو رأي القائل بالصحة وذلك لأن: 1. الآية تأبىٰ التخصيص بالمرة من جهة أنها في مقام الحصر فلا تصلح الأحاديث بحال أن تكون مخصصة لعمومها. 2. يمكن حمل الأحاديث الّتي افادت النهي على الكراهة - لو لم نقل بطرحها من الأساس - وهذا الحمل ليس غريباً على الفقه في مثل هذا المقام. 3. لم ترد أحاديث في النهي عن طريق مدرسة آل البيت عليهم السلام فلا يصح الزامهم بما لم يرد من طرقهم الخاصة. 4. مدرسة آل البيت وان قالت بالجواز إلّاأنها اشترطت في حال ورود بنت الاخت أو الاخ على الخالة أو العمة - دون العكس - اشترطت رضى العمة أو الخالة وهذا الشرط لا يتعارض مع أصل الجواز المستفاد من سياق الآية. تأسيساً على ما تقدم: إن عموم الآية مع القول؛ بالصحة وان شككنا فالأصل هو الجواز كما ذهب إليه صاحب الجواهر.

قال: مسألة: التمسك بالاجماع فيما لا تتوقف صحته عليه صحيح، كرؤية الباري تعالى، ونفي الشريك، ولعبد الجبار في الدنيوية قولان.

لنا: دليل السمع. *

حُكمُ الإجماع فيما لا تتوقف عليه صحة الإجماع

(*) أقول: كلّ ما يتوقف عليه الاجماع لا يجوز إتيانه به والاّ لزم الدور، وذلك مثل التوحيد، وأمّا ما لا يتوقف الاجماع عليه كرؤية الباري ونفي الشريك وغير ذلك من الاحكام الشرعية، فإنّه يجوز التمسك فيها بالإجماع.

واختلف الناس في المصالح الدنيوية كاتفاقهم من الآراء في الحروب، فنقل عن القاضي عبد الجبار(1) قولان: أحدهما جواز المخالفة والثاني المنع، وقد صار إلى كلّ واحد من القولين قوم؛ وذهب المصنف إلى الأخير لأنّ دليل السمع عامّ في كلّ سبيل.(2)

ص: 407


1- . هو عبدالجبار بن أحمد بن عبدالجبار الهمذاني الأسدآبادي أبو الحسين. معتزلي في الأُصول شافعي في الفروع، ولد حوالي 325 ه في بغداد، وتوفي في الري سنة 415 ه، له شرح الأُصول الخمسة وطبقات المعتزلة.
2- . وبذا ينتهي البحث في الاجماع.

قال: ويشترك الكتاب والسنة والاجماع في السند والمتن.

فالسند الإخبار عن طريق المتن.

والخبر قول مخصوص للصيغة والمعنىٰ.

فقيل: لا يُحدُّ لعسره.

وقيل: لانّه ضروري من وجهين:

أحدهما: أن كل واحد يعلم أنّه موجود ضرورةً، فالمطلق أولىٰ، والاستدلال على أن العلم ضروريٌ لاينافي كونه ضرورياً بخلاف الاستدلال على حصوله ضرورة.

ورُدَّ بأنّه يجوز أن يحصل ضرورة ولا نتصوره، أو تقدَّمَ تصوره، والمعلوم ضرورة ثبوتها أو نفيها، وثبوتُها غيرُ تصورها.

الثاني: التفرقة بينه وبين غيره ضرورةً، وقد تقدّم مِثلُه. *

فيما يشترك فيه الأُصول الثلاثة

(*) أقول: لما فرغ من البحث عن المختص بكلّ واحد من الاصول الثلاثة، شرع في البحث عما يشترك فيه وهو أمران: السند والمتن، فالسند المُعنىٰ به هنا الاخبار عن طريق المتن(1) ولما كان البحث عن ذلك مسبوقاً بالبحث عن...

ص: 408


1- . وقد ورد في نسخة «ب»: [والمراد بالاخبار عن طريق المتن ان يبيّن أنّ متن كلّ واحد من الثلاثة ثبت تواتراً أو آحاداً].

....................

اصل الخبر وجب تقديم العلم به وهو قول مخصوص مشترك بين معنيين(1):

الصيغة كقولنا زيد قائم، والمعنى وهو مدلول هذا الخبر القائم بالنفس عند الأشاعرة.(2)

وقد يطلق على الاشارات الدالة على المعاني دلالة الالفاظ عليها، بالمجاز كقوله:

تجري العينان ما القلب كاتمه. وقوله:

وكم لظلام الليل عندك من يد *** تخبر أن المانوية تكذب

ص: 409


1- . كذا في نسخة «أ» وفي نسخة «ب»: [لفظ مشترك بين معنيين على سبيل الحقيقة، احدهماالصيغة.. والثاني المعنىٰ...].
2- . قد استشهد صاحب «رفع الحاجب» في معرض حديثه عن ان «القول حقيقة في المعنى القائم في النفس» بما يلي: «وقال عمر يوم السقيفة: كنت زوَّرت في نفسي كلاماً». رفع الحاجب: 2/279. لأجل هذه الإشارة العرضية العابرة، تناول المحققان «قضية السقيفة» بالبحث والتدقيق والنفي والاثبات في هامش مطول شغل أكثر من صفحتين من الكتاب فقالا فيما قالا: «وخرجت [الخلافة] على خلاف المنتظر أو المظنون بتراث رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم من حوزة الأعزاء الكرام من آل بيته الأطهار إلى حوزة رفيق الغار!...». إن القارئ النبيه يجد بوضوح ان الانتقال انتقالة فاشلة ولم تعد موفقة بحال لأنَّ موضوع بحث الكتاب هو «علم الأُصول» فجرُّ البحث باعتساف وتعنِّت إلى بحث كلامي تاريخي، أقام الدنيا ولم يقعدها، لا يكون إلّازيغاً عن مسيرة البحث. على أن ما جاءا به من تحليل ومواقف بهذا الشأن هو وفقاً لقراءة مدرسة الخلافة للحدث وإلّا فلمدرسة آل البيت عليهم السلام تحليلات ومواقف أُخرى مغايرة جملة وتفصيلاً لما ذهبت إليه تلك المدرسة غير اننا لا نتعرض إليها تفادياً من الوقوع في الخطأ المنهجي الّذي انزلق إليه المحققان ليعلما ان البحث العلمي ليس منبراً للدعاية المذهبية؟!

....................

واختلف الناس في أنّه هل يحد أم لا؟

فذهب قوم إلى أنّه لا يحد، واختلفوا في تعليله فقال قوم لعسره وقال آخرون لأنّه ضروري واستدلوا على ذلك بوجهين:

الأوّل: ان كلّ عاقل يعلم انّه موجود ضرورة وهذا خبر خاص والخبر المطلق جزء من الخبر الخاص وإذا كان الخاص ضرورياً كان المطلق السابق عليه أولى أن يكون ضرورياً؛ لا يقال: كيف يستقيم هذا الاستدلال مع أنّه استدلال على الضروريات؟ لأنا نقول: لا نسلم انّه استدلال على الضروريات، وبيانه: انّ الضروري هو حصول هذا الخبر وامّا كونه ضرورياً فهو وصف زائد عليه معلوم نظرا، ولهذا وقع فيه الاختلاف؛ فالاستدلال على ثبوت هذا الوصف استدلال على أمر نظري لا ضروري.

واعترض المصنف على هذا الوجه بأنّ الخبر المطلق(1) يجوز ان يحصل ضرورة ولا يكون متصوراً أو لا يكون تصوره متقدماً(2) والمعلوم بالضرورة إنّما هو ثبوت النسبة أو نفيها لا تصورها وهما متغايران.

(والمصنف أشار إلى الجواب واعترض عن السؤال)(3).

الوجه الثاني: إنّا نفرق بين الأمر والنهي والخبر بالضرورة، وذلك

ص: 410


1- . وردت في نسخة «أ» بدل كلمة «الخبر الخاص» كلمة «الخبر المطلق» والصحيح ما اثبتناه.
2- . ورد في نسخة «ب» عقيب قوله: «... لا يكون تصوره متقدماً». سؤال مقدر كما يلي: [لا يقال: إذا سلّمت أنّ كل احد يعلم بالضرورة هذا الخبر الخاص ولا يعلم بالضرورة تصوره على ما ذكرت في الّذي يعلم من هذا الخبر؟ لأنّا نقول:].
3- . في نسخة «ب» فقط.

قال: قال القاضي والمعتزلة: الخبر: الكلام الّذي يدخله الصدق والكذب، واعتُرض بأنّه يستلزم اجتماعهما وهو محال لا سيّما في خبر اللّٰه تعالى. أجاب القاضي بصحة دخوله لغة، فورد أنّ الصدق الموافق للخبر والكذب نقيضهُ فتعريفه دور ولا جواب عنه.

وقيل التصديق أو التكذيب فيرد الدور وبأن الحد يأبى «أو».

واُجيب بأن المراد قبول أحدهما. وأقربهما قول أبي الحسين: كلام يفيد بنفسه نسبة.

قال: «بنفسه» ليخرُج نحو: «قائم»، لأن الكلمة عنده: كلامٌ، وهي تفيد نسبةً مع الموضوع. ويرد عليه بابُ «قُم» ونحوه، فإنّه كلامٌ يفيد بنفسه نسبةً. إمّا لأنّ القيام منسوب، وإمّا لأنّ الطلب منسوب. *

يستدعي تصورها قطعاً وتقدم الجواب عن مثل هذا الوجه.(1)

(*) أقول: لما أبطل كون الخبر غنياً عن التحديد، شرع في الحدود المنقولة عن الأُصوليين، فحدّه المعتزلة كالجبائي وأبيه والقاضي عبدالجبار بأنّه الكلام الّذي يدخله الصدق والكذب.

واعترض على هذا التعريف بأنّ المحدود يلزم من وجوده وجود الحد والا لم يكن الحد حداً، وإذا كان كذلك فيجب ان يستلزم وجود الخبر وجود

ص: 411


1- . وقيل: لم يتقدم منه إلّافي المنتهىٰ الّذي أُختصر هذا المختصر منه. راجع منتهىٰ الوصول والأمل: 65.

....................

الصدق والكذب معاً وهو محال لاستلزامه الجمع بين المتقابلين خصوصاً في خبر اللّٰه تعالى وخبر رسوله فإنّها أخبارٌ صادقةٌ قطعاً، لا يمكن وجود الكذب فيها.

أجاب القاضي عبد الجبار عن هذا الاشكال فقال: المراد صحة دخول احدهما بالقياس إلى اللغة، بمعنى انّ اللغة تجوّز لقائل الخبر ان يقال له: «صدقت أو كذبت» وان امتنع احدهما لدليل خارجي.

وأُورد على هذا الجواب بأنَّ حاصل هذا الكلام أنّ الخبر هو الّذي يحتمل الصدق أو الكذب، وهذا تعريف دوري فإنّ الصدق هو الخبر المطابق للمخبر والكذب هوالخبر الذي لا يطابق المخبر عنه، فيكون تعريف الخبر متوقفاً على معرفة خبر الخاص ومعرفة خبر الخاص متوقف على معرفة خبر المطلق لكونه خبراً منه وذلك يستلزم الدور ولا جواب عن هذا الاشكال.

كذا ذكره المصنف وقد أجاب عن هذا بعض المحققين بجواب ليس هذا موضع ذكره.

وقيل حد الخبر انّه ما يدخله التصديق أو التكذيب، والاعتراض من وجهين:

الأوّل: أنّ الدور اللازم على الحد الأوّل آتٍ هاهنا فإنّ التصديق هو الإخبار بكون الخبر صدقاً والتكذيب هو الإخبار بكونه كذباً فتكون معرفة التصديق والتكذيب مسبوقة بتصور الخبر فلو كان تصور الخبر متوقفاً على معرفتهما لزم الدور.

الثاني: أن المقصود من الحدّ الكشف والإيضاح وادخال «أو» الترديد المنافي للايضاح في الحد، ممّا ينافيه....

ص: 412

....................

واُجيب عن الاشكال الثاني(1) بأنّ المقصود انّ الخبر ما يحتمل أحدهما لا بعينه.

وقال ابوالحسين البصري: «الخبر، كلام يفيد بنفسه إضافة أمر إلى أمر نفياً أو اثباتاً»، واحترز بقوله: «بنفسه» عن الأمر نحو: «قم» الدال على وجوب الفعل لكن لا بنفسه بل بواسطة ما استدعاه الأمر من الطلب للفعل الصادر من الحكيم، ولأنّه كلام ولكنه لا يفيد بنفسه النسبة ما لم ينضم إلى الموضوع فهو يفتقر في افادته النسبة إلى الموضوع، بخلاف قولنا: «قام زيد» فإنّه بنفسه يفيد النسبة؛ واتى بالأمر(2) ليعم الإخبار بالموجود والمعدوم عن الموجود والمعدوم.

وقد اورد على هذا الحد وجوه من الاعتراضات:

احدها: ان «قم» وامثاله يفيد بنفسه إضافة أمر إلى أمر لأنّه يفيد إضافة القيام إلى المأمور أو الطلب إلى الأمر.

الثاني: أن الأسنادات التقييدية كقولنا: «الحيوان الناطق» يفيد اضافة أمر إلى أمر وليس بخبر.

الثالث: إن قوله «نفياً أو اثباتاً» يلزم منه الدور لكونهما أخص من مطلق الخبر لأنّ الإثبات هو الإخبار بالوجود والنفي هو الإخبار بالعدم.

ص: 413


1- . يعني اشكال [أن ادخال «أو» الترديد ينافي الحد]، واما الاشكال الأوّل فقد قال في المتن انّه لا جواب عنه.
2- . لا يفوتن القارئ الكريم أن كلمة «الأمر» وإن لم ترد في عبارة الماتن إلّاأنها وردت في الأصل وهي كالآتي بحسب رواية الآمدي في «الإحكام» حيث قال: [وقال أبو الحسين البصري: الخبر كلام يفيد بنفسه اضافة أمر إلى أمر نفياً أو اثباتاً]. لاحظ: الإحكام: 2/15.

قال: والأَولى الكلام المحكوم بنسبة خارجية، [ونعني: الخارج عن كلام النفس، فنحو طلبت القيام حكم بنسبة لها خارجيّ] بخلاف «قم» ويسمى غير الخبر انشاءً وتنبيهاً؛ ومنه: الأمرُ والنهيُ والاستفهام والتمني والترجّي والقسَمُ والنداءُ.

والصحيح أنّ «بعت» و «اشتريت» و «طلّقت» الّتي يُقصَدُ بها الوقوع؛ إنشاءٌ لأنها لا خارج لها، ولأنها لا تقبل صدقاً ولا كذباً، ولو كان خبراً لكان ماضياً ولم يقبل التعليق، ولأنّا نقطع بالفرق بينهما، ولذلك لو قال للرجعية: «طلقتكِ»، سُئل. *

(*) أقول: لما أبطل ما ذكره من الحدود المنقولة عن السابقين ذكرما هو الأولى في تحديده عنده فقال: «إنّه الكلام المحكوم فيه بنسبة خارجية»، فالكلام جنس للمفيد وغيره؛ وقولنا: «المحكوم فيه بنسبة» فصل له عن الذي لم يحكم فيه بحكم [أو بحكم(1)] غير النسبة.

وقيد النسبة بالخارجية ليخرج عنه باب الأمر فإنّه كلام محكوم فيه بنسبة لكن ليست خارجية، والمُعنىٰ بالخارجي هاهنا ليس المفهوم منه أعني الذي يقال في مقابله الذهني بل المراد به هاهنا أنّ هناك نسبة ثابتة في نفس الأمر إمّا ذهنية وإمّا خارجية حتى يطابقها الخبر إن كان صدقاً أو لا يطابقها إن كان كذباً، وهذا الحدّ لا يخلو من نظر.

وأمّا غير الخبر من الكلام التامّ فإنّه يسمى إنشاءً وتنبيهاً ويندرج فيه:

ص: 414


1- . كذا في نسخة «ب».

....................

الأمرُ والنهيُ والاستفهامُ والتمني والترجي والقسم والبداء، فإن هذه كلها ليست بإخبارات.

واختلفوا في مثل بعت واشتريت وطلّقت واعتقت وغير ذلك من الألفاظ المطلوب منها تحصيل الاحكام، فذهب قوم إلى أنّها إخبارات؛ والحق يأباه وأنّها إنشاءات ويدل عليه وجوه:

أحدها: أنّها لا خارج لها، فإنّه لم يوجد البيع قبل قول القائل: بعت.

الثاني: أنّها لا تحتمل الصدق والكذب فلا تكون إخباراً.

الثالث: لو كانت إخبارا لكانت إخباراً إمّا عمّا وجد أو عمّا سيوجد، والتالي باطل لعدم اعتباره، فإنّ القائل لو قال: «سأبيع»، لم يتعلق به حكم البيع؛ والأوّل باطل وإلا لم يقبل التعليق في مثل قول القائل: «طلقت امرأتي إن دخلت الدار»، لأنّ التعليق عبارة عن توقيف وجود المعلق على وجود المتعلق به، ولما كان التالي باطلاً إجماعاً فكذلك المقدّم.

الرابع: حصول القطع بالفرق بين الانشاء والاخبار ولهذا إذا طلق الرجعية ثمّ قال لها ثانياً طلقتك سُئِلَ: هل أراد بهذا الإخبار أو الانشاء؛ ولولا العلم بالفرق لما صحّ الاستفهام عن تعيين المراد منه.

ص: 415

قال: الخبر صدق وكذب، لأنّ الحكم إمّا مطابق للخارجي، أو لا.

الجاحظ: إمّا مطابق مع الاعتقاد ونفيه [أو لا] فالثاني فيهما ليس بصدق ولا كذبٍ، لقوله: «أَفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ»(1) والمرادُ الحصرُ، فلا يكون صدقاً، لأنهم لا يعتقدونه.

وأُجيب: بأنّ المعنى افترى أم لم يفتر، فيكون مجنوناً، لأنّ المجنون لا افتراء له، أو أقصد أو لم يقصد للجنون. قالوا: قالت عائشة: ما كذب ولكنّه وهم.

واُجيب بتأويل: (ما كذب) عمداً.

وقيل: إن كان معتقداً فصدقٌ وإلّا فكذبٌ، لقوله تعالى: «إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ» (2).

وأُجيب: الكاذبون في شهادتهم. *

اقسام الخبر

(*) أقول: اتفق أكثر المحققين على أنّ الخبر إمّا أن يكون صدقاً أو كذباً لأنّ الحكم إمّا أن يكون مطابقاً لما في الخارج أو لا يكون، والثاني الكذب والأوّل الصدق.(2)...

ص: 416


1- . سبأ: 8.2. المنافقون: 1.
2- . انظر: المعتمد: 2/74-81؛ المنخول: 323؛ العدّة: 1/63؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/283.

....................

وقال الجاحظ: إنّ بين الصدق والكذب واسطة، قال: لأنّ الخبر إمّا أن يكون مطابقاً مع اعتقاد كونه مطابقاً أو مع نفي الاعتقاد أو لا يكون مطابقاً مع الاعتقاد بعدم المطابقة ونفيه، فالثاني فيهما - أعني المطابق الّذي لا يكون مع الاعتقاد أو الّذي لا يكون مطابقاً مع عدم الاعتقاد - ليس بصدق ولا كذب. والأوّل منهما هو الصدق - أعني الّذي يكون مطابقاً مع الاعتقاد - والثاني فيهما الكذب - أعني الّذي لا يكون مطابقاً مع اعتقاد عدم المطابقة - والدليل على ذلك قوله تعالى: «أَفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ» ، والمراد من ذلك حصر احواله في هذين ضرورة عدم اعترافهم بصدقه فبين الجنة والكذب مغايرة وبينهما وبين الصدق مغايرة فتثبت الواسطة.

والجواب: المراد (افترى على اللّٰه كذباً أو لم يفتر فيكون مجنوناً) ولا يكون ما ذكره إخباراً وإن كان بصيغة الإخبار، ويجري مجرى الساهي والنائم؛ أو يكون المراد أقصد الاخبار أو لم يقصد للمجنون فلا يكون خبراً، فإنّ الكلام إذا تجرّد عن القصد لم يكن خبراً وإن كانت الصيغة صيغة إخبار.

واستدلوا أيضاً بقول عائشة: (واللّٰه ما كذب ولكنّه وهم) نفت الكذب مع انتفاء الصدق واثبتت واسطة هي الوهم.

والجواب: ليس المراد نفي الكذب العام بل الكذب الصادر عن التعمد.

وأعلم أنّ بعض القائلين بانتفاء الواسطة بين الصدق والكذب، قال: إن المخبر إن كان معتقداً لما يخبر به فهو الصادق، وإن لم يكن معتقداً - وان كان مطابقاً - فهو الكاذب؛ والدليل عليه قوله تعالى: «وَ اَللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ» ...

ص: 417

قال: وينقسم إلى ما يعلم صدقه (وإلى ما يُعلم كذبه) وإلى ما لا يُعلم واحدٌ منهما:

فالأوّل: ضروري بنفسه كالمتواتر وبغيره كالموافق للضروري؛ ونظري كخبر اللّٰه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم والإجماع والموافقة للنظر.

الثاني: المخالف لما عُلم صدقه.

والثالث: قد يُظن صدقه كخبر العدل وقد يظن كذبه كخبر الكذاب، وقد يُشك؛ كالمجهول. *

مع أن خبرهم وهو إدعاء الرسالة مطابق.

والجواب: إنّ الشهادة اخص من مطلق الخبر وذلك لأن الشهادة هي الإخبار بالمعتقد والمنافقون لمّا لم يعتقدوا، كذبهم في الشهادة لا في الإخبار؛ وبالجلمة فهذه المسألة لفظية.(1)

(*) أقول: هذه قسمة حاصرة للخبر بالنظر إلى علم الصدق وعدمه، وهي ثلاثة لا غير: احدها: ان يعلم صدق الخبر. والثاني: ان يعلم كذبه.

والثالث: أن يجهل الأمران.

أمّا الأوّل: فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ضرورياً بنفسه من حيث هوهو من غير إلتفات إلى شيء آخر كالمتواتر. والثاني: أن يكون ضرورياً باعتبار النظر إلى الغير - وهو ما كان وراء الخبر - كالخبر الموافق للضروري والثالث: أن يعلم صدقه بالنظر والإستدلال. وهو أقسام: احدها: خبر اللّٰه تعالى صدق،(2) والدليل عليه انّه حكيم لا يصدر عنه القبيح؛ هذا استدلال المعتزلة وقد بيّناه في كتاب

ص: 418


1- . أي: أن النزاع لفظي لا موضوعي.
2- . أي: القسم الثالث.

قال: ومن قال: «كلُ خبرٍ لم يعلم صدقه فكذب قطعاً؛ لأنّه لو كان صادقاً لنُصب عليه دليلٌ كخبر مدعيّ الرسالة»، فاسدٌ بمثله في النقيض، ولزوم كذب كُلِ شاهدٍ، وكُفر كلِ مسلمٍ، وإنّما كُذّب المدعّي للعادة. *

«المناهج»(1).

واستدل الغزالي بأنّ كلام اللّٰه تعالى قائم بذاته، ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يمتنع عليه الجهل. واعترض عليه بأنّ البحث هاهنا في الكلام بمعنى الحروف والاصوات لا بالمعنى النفساني. الثاني: خبر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم صدق لأنّه ظهرت المعجزة على يده وهي مستلزمة للصدق بالضرورة وتقريرها بين المقدمتين مذكور في الكلام. الثالث: الاجماع وقد مضى الكلام في أنّه صدق، والخبر الموافق للنظر [كالخبر الموافق للخبر] الصادق.

وأمّا الثاني: وما علم كذبه فهو الخبر المخالف لما علم صدقه.

وأمّا الثالث: وهو الذي لا يعلم صدقه ولا كذبه فهو على ثلاثة أقسام:

أحدها: ممّا يظن صدقه وهو خبر الواحد العدل، وثانيها: ما يظن كذبه وهو خبر الواحد الكذاب، الثالث: ما يُشكُ فيه وهوالخبر المجهول صدقه وكذبه.

(*) أقول: نقل عن قوم أنّهم قالوا: كلّ خبر لا نعلم صدقه فإنّه يكون كذباً وإلّا لوجب على اللّٰه تعالى ان ينصب عليه دليلاً يدلنا على صدقه كخبر مدعي الرسالة، ولما كان التالي كاذباً كان المقدم كذلك.

والجواب من ثلاثة أوجه:

ص: 419


1- . راجع: «مناهج اليقين»: 375 - البحث الثالث: «في أنّه لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب». والكتاب من باكورة اعمال الشارح: العلّامة الحلي قدس سره.

قال: وينقسم إلى متواترٍ وآحاد، فالمتواتر: خبر جماعة مفيدٌ بنفسه العلم بصدقه. وقيل بنفسه ليخرج ما عُلِم صدقهم فيه بالقرائن الزائدة على ما لا ينفك عنه عادة وغيرها. وخالفت السُمنيّة في إفادة المتواتر وهو بُهتٌ، فإنّا نجد العلمَ ضرورةً بالبلاد النائية، والأُمم الخالية، والأنبياء والخلفاء، بمجرد الإخبار. وما يوردونه من «أنّهُ كأكلِ طعامٍ واحدٍ، وأن الجملة مركبة من الواحد، ويؤدي إلى تناقض المعلومين، وإلى تصديق اليهود والنصارىٰ، في «لا نبي بعدي» وبأنّا نفرُق بين الضروري وبينه ضرورة، وبأنّ الضروري يستلزم الوفاق» مردودٌ. *

أحدها: القلب وهو أن يقول خبرمن لم يعلم كذبه صدق قطعاً وإلّا لوجب على اللّٰه تعالى أن ينصب على كذبه دليلاً.

الثاني: يلزم من ذلك كذب كل شاهد لا يعلم بصدقه وكفر كلّ مسلم لا يعلم ايمانه، ولما كان التالي باطلاً كان المقدم كذلك.

الثالث: الفرق بين هذا الخبر وبين مدعيّ الرسالة وهو أن المدعي للرسالة إذا لم يظهر المعجزة الدالّة على صدقه إنّما يحكم بكذبه لقضاء العادة بذلك بخلاف المخبر بالذي لم تجر العادة باظهاره المعجز عند الصدق فيه.

الخبر المتواتر

(*) أقول: اعلم انّ الخبر ينقسم إلى المتواتر وإلى الآحاد، فالمتواتر: «هو خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه» وإنّما قُيّد بنفسه ليخرج ماعلم صدقهم فيه...

ص: 420

....................

بالقرائن الزائدة على ما لا ينفك عنه في مجرى العادة وغيرها، فإنّ القرائن إذا انضمت إلى الخبر فقد تفيد الخبر وذلك كمن يخبر بالمرض مع ظهور اثره عليه، أو بالموت مع ظهور الجزع عليه اظهار التخيب؛ فإن هذه القرائن زائدة على الخبر مع دلالتها على الصدق ولا يكون الخبر متواتراً.

واعلم أنّ الناس اختلفوا في أنّ الخبر المتواتر هل يفيد العلم أم لا؟ فذهب الجمهور من العقلاء إلى افادته العلم، وذهبت السُّمَنِيَّةُ(1) إلى الإنكار وهو مباهتة؛ فإنا نجد من انفسنا ضرورة العلم بوجود البلاد النائية كمصر ومكة، ووجود الأُممّ الخالية كجالينوس وأقليدِس، ووجود الأنبياء والخلفاء المتقدمين بمجرد الإخبار، ومن أنكر ذلك فهو مكابر.

واحتجّوا على أنّه لا يفيد العلم بوجوه:

احدها: أنّ اجتماع الخلق الكبير الذي لا يجوز عليهم التواطؤ والكذب [غير مسلم]، فالمراسلة على الخبر بشيء معيّن يجري مجرى اجتماعهم على أكلّ طعام معيّن ولما كان ذلك مستحيلاً عادة فكذا اجتماعهم على الإخبار بشيء واحدٍ مع اختلافهم في الأمزجة والأغراض وإخبار الصدق والكذب.

الثاني: إن الجملة مركبة من الآحاد وكلّ واحد من المخبرين يجوز عليه الكذب حالة الانفراد فيستمر على ذلك الجواز حالة الاجتماع، وإلا لانقلب ذلك الجائز حالة الإنفراد ممتنعاً حالة الإجتماع.

الثالث: إنّه يلزم التناقض في العلوم بتقدير أن تُخبرنا جماعةٌ يفيد

ص: 421


1- . السمنية: قوم من أهل الهند دهريون، من عبدة الأصنام، يقولون بالتناسخ، وتنكر وقوع العلم بالاخبار. انظر: لسان العرب: 13/22، مادة «سمن».

....................

قولهم العلم بأمر من الأُمور ثمّ تخبرُنا جماعةٌ أُخرى يفيد قولهم العلم بنقيض ذلك الأمر، ولما كان اللازم باطلاً كان الملزوم كذلك.

الرابع: إنّ اليهود تواتروا وكذلك النصارى على قول موسى وعيسى عليهما السلام: «لا نبي بعدي» فلو أفاد التواتر العلمَ مع أن إخبار موسى وعيسى عليهما السلام صدق، لزم دوام شرعهما؛ والتالي باطل فالمقدم مثله.

الخامس: إنّا نفرق في اعتقاد وجود البلاد النائية وفي اعتقاد كون الكلّ أعظم من الجزء، والتفاوت في الضروريات باطل؛ ولمّا كان الاعتقاد الثاني ضرورياً كان الأوّل غير ضروري.

السادس: إن الضروريات يجب اشتراك الناسِ فيها واتفاقهم عليها ونحن نخالف في ذلك، فدل على أنّه ليس بضروري.

وهذه الوجوه مردودة من حيث الاجمال ومن حيث التفصيل:

أمّا الاجمال فلأنّ هذه استدلالات في مقابلة الضروري فتكون مدفوعة.

وأمّا التفصيل فالجواب:

عن الأوّل: المنع من عدم اتفاقهم وما ذكره استبعاد مجرد.

وعن الثاني: المنع من مساواة الواحد للجملة فإنّه كما فهم حصول الهيئة الاجتماعية عند الاجتماع فليعقل وجود حكم لها لم يكن حالة الانفراد.

وعن الثالث: أنّ هذا الفرض ممتنع لا يُعقل وجوده.

وعن الرابع: ما قيل من أن تواتر اليهود انقطع في زمن بختنصّر وإن النصارى كانوا قليلين لا يبلغ قولهم العلم في زمن عيسى عليه السلام....

ص: 422

قال: والجمهور على أنّه ضروري، والكعبي والبصريّ: نظريّ.

وقيل: بالوقف.

لنا: لو كان نظريّاً لافتقر إلى توسط المقدمتين، ولساغ الخلافُ فيه عقلاً.

أبوالحسين: لو كان ضرورياً لما افتقر ولا يحصل إلّابعد علم أنّه من المحسوسات وأنّهم عدد لا حامل لهم، وإنّ ما كان كذلك ليس بكذب فيلزم النقيض.

واُجيب: بالمنع بل إذا حصل عُلِمَ أنّهم لا حامل لهم، لا أنّه مفتقر إلى سبق علم ذلك، فالعلم بالصدق ضروري، وصورةُ الترتيب ممكنة في كلّ ضروري.

قالوا: لو كان ضرورياً، لعُلِمَ أنّه ضروري ضرورةً.

قلنا: معارض بمثله، ولا يلزم من الشعور بالعلم ضرورة الشعور بصفته. *

وعن الخامس: بالمنع من الفرق في الاعتقاد، ومع التسليم لا نسلم كون احدهما غير علم فإنّ العلوم تتفاوت بالشدة والضعف.

وعن السادس: المنع من وجوب اشتراك الناس في الضروريات.

(*) أقول: اختلف الناس في العلم الحاصل عقيب خبر التواتر هل هو...

ص: 423

....................

ضروري أو نظري؟ فذهب جمهور الأُصوليين إلى أنّه ضروري، وذهب أبوالقاسم الكعبي وأبوالحسين البصري إلى انّه نظري، والسيد المرتضى توقف(1)في ذلك.

واستدل المصنف على أنّه ضروري بوجهين:

الأوّل: أنّه لو كان نظرياً لتوقف على حصول المقدمتين المستلزمتين له، والتالي باطل فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة؛ وبيان بطلان التالي: ان العلم بوجود البلدان والأُممّ الماضية حاصل للعوام والاطفال مع عدم المقدمتين.

الثاني: أنّه لو كان نظرياً لجاز وقوع المخالفة فيه عقلاً - فإن العلوم النظرية يجوز فيها الخلاف - والتالي باطل فالمقدم مثله.

واحتج ابوالحسين على كونه نظرياً بأنّه لو كان ضرورياً لما توقف على غيره من العلوم، والتالي باطل فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة.

وبيان بطلان التالي، إنّ هذا العلم لا يحصل الاّ بعد العلم بأُمور:

منها، العلم بأنّ المُخْبَر من المحسوسات فإن أهل الشرق والغرب لو

ص: 424


1- . قال سيد الطائفة الشريف المرتضىٰ بهذا الصدد: «قد بيّنا أنّه لا طريق إلى القطع على أن العلم الضروري يقع عند شيء من مُخْبَر الأخبار». ثم قال قدس سره: «فالصحيح ما أشار إليه أبو هاشم من التوقف على ذلك وترك القطع على حصول العلم الضروري لا محالة». انظر: الذريعة إلى أُصول الشريعة: 1/31. وقال الآمدي - بعد الإشارة إلى توقف الشريف المرتضى -: «... وإذا عرفت ضعف المأخذ من الجانبين وتقاوم الكلام بين الطرفين، فقد ظهر أن الواجب إنّما هو الوقف عن الجزم بأحد الأمرين». انظر: الإحكام للآمدي: 2/35.

....................

اخبروا عن ما ليس بمحسوس كإخبارهم بوجود الصانع وحدوث العالم لما افاد العلم.

ومنها، العلم بأنه عدد لا يحملهم حامل من غرض ديني أو دنيوي علىٰ الإخبار.

ومنها، أن يعلم أن الخبر الذي يحصل من مثل هؤلاء المخبرين لا يكون كذباً حتى يلزم اعتقاد كونه صدقاً؛ فيكون العلم بكونه صدقاً متوقفاً على هذه العلوم، فيكون كسبياً.

والجواب: المنع من توقف العلم بخبر التواتر على هذه العلوم؛ نعم، إذا حصل العلم بالمُخْبَر، عُلم أن لا حامل للمخبرين على الكذب، لا أنّ العلم بخبر التواتر متوقف على ذلك.

والعلم بالصدق ضروري وصورة الترتيب ممكنة في كلّ ضروري ولا يستلزم ذلك كونها نظرية كما نقول الاثنان نصف الأربعة لانقسامها إليهما وإلى مساويهما، وكلّ عدد قسم إلى عدد آخر وإلى ما يساويه فهو نصف ذلك الآخر؛ وكما يقول النار محرقة لأنّا أحسسنا بها كذلك مع سلامة الحاسة وكل محسوس أحس به مع سلامة الحاسة فهو في نفس الأمر على ما أحس به فتكون النار محرقة، وكذلك بواقي العلوم الضرورية؛ ولا يستلزم ذلك كونها نظرية.

واحتجوا أيضاً بأنّه لو كان ضرورياً لعلم أنّه ضروري بالضرورة فلا يقع فيه الخلاف.

والجواب من حيث المعارضة ومن جهة الحل: أمّا المعارضة فإنّا نقول لو كان نظرياً لعلم بالضرورة أنّه نظري، ولما كان التالي باطلاً كان المقدم مثله....

ص: 425

قال: وشرط المتواتر تعدد المخبرين، تعدداً يمنع الاتفاق [على الكذب] والتواطؤ، مستندين إلى الحس، مستوين في الطرفين والوسط أو «عالمين»، غير محتاج إليه، لأنّه إن أُريد الجميع فباطل، وإن أريد بعضٌ فلازم ممّا قيل.

وضابط العلم بحصولها حصول العلم لا أنّ ضابط حصول العلم سَبقُ العلم بها. *

وأمّا الحل فلأنّ كون العلم ضرورياً صفة له، والعلم الضروري بالذات(1)لا يستلزم العلم الضروري بالصفة.(2)

شروط الخبر المتواتر

(*) أقول: يشترط في خبر التواتر أُمور، منها ما قد وقع الاتفاق فيها ومنها ما وقع فيه الخلاف؛ ونحن نذكر ما أشار إليه المصنف وقد شرط:

[1] أن يكون المخبرون بالغين في العدد إلى حد يمتنع عليهم الاتفاق والتواطؤ على الكذب.

[2] وأن يستندوا فيما اخبروا عنه إلى الحس.

وهذان الشرطان عامّان في كلّ خبر متواتر.

[3] ويشترط في المتواتر الذي يتباعد عهده أن يكون الأطراف

ص: 426


1- . أي: بنفس الشيء.
2- . أي: صفة العلم، فالعلم بالشيء لا يستلزم العلم بصفة العلم من انها ضرورية أو نظرية.

قال: وقطع القاضي بنقص الأربعة وتردد في الخمسة وقيل: اثنا عشر. وقيل: عشرون. وقيل: أربعون. وقيل سبعون. والصحيح يختلف.

وضابطه ما حصل العلم عنده لأنّا نقطع بالعلم من غير علم بعدد مخصوص لا متقدّماً ولا متأخراً ويختلف باختلاف قرائن التعريف، وأحوال المخبرين، والاطلاع عليهما، وادراك المستمعين والوقائع. *

والأوساط على هذين الشرطين.

[4] وقد شرط قوم أن يكون المخبرون عالمين بما اخبروا به غير ظانين.

قال المصنف وهذا غير محتاج إليه، وذلك لأنّهم:

إن عنوا به أيَّ علم كان من أنواع العلوم فهو باطل؛ فإنّ جماعة كثيرة لو اخبرونا عن علمهم بوجود الصانع وحدوث العالم لما أفاد قولهم العلم، كما أنهم لو أخبرونا بوجود شخص ظنوه زيداً لما أفاد قولهم العلم.

وإن عنوا به العلم المستند إلى الحس فهو لازم فيما قيّدناه بحس في شروط التواتر. وضابط العلم بحصول هذه الشروط هو حصول العلم بخبر المتواترين فإن حصل علمنا أنّ هذه الشروط كانت حاصلة وإن لم يحصل علمنا أنّه قد اختل بعضها؛ لا أن ضابط حصول العلم بخبر المتواترين سبق العلم بهذه الشروط.

عدد التواتر

(*) أقول: هذا إشارة إلى مذاهب من حصر مبلغ المتواترين في عدد معين،

فقال القاضي أبو بكر: إن الأربعة تنقص عن افادة اليقين والاّ لوجب...

ص: 427

....................

على القاضي ان لا يبحث عن شهود الزنا ويطلب التزكية، ولأنّ قولهم إن افاد العلم علم صدقهم والا علم كذبهم قطعاً، قال: وأتوقف في الخمسة.(1)

وقال قوم: إنّه قد يحصل العلم بقولهم.

وذهب آخرون إلى أن أقل عدد يحصل بقولهم العلم، اثنا عشر نفساً عدد نقباء بني اسرائيل كما قال تعالى: «وَ بَعَثْنٰا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً»(2) خصصهم بذلك لحصول العلم عند خبرهم.

وقال آخرون: أقلهُ عشروناً وتمسكوا بقوله تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صٰابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» (3) خصهم بذلك لحصول العلم بخبرهم.

وذهب آخر إلى ان أقلهُ أربعون أخذاً من عدد أهل الجمعة عندهم.

وقال آخرون أقلهُ سبعون لقوله تعالى: «وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ» (4) خصهم بذلك لحصول العلم بقولهم.

وقيل: أقله ثلاثمائة وثلاثة عشر نظراً إلى عدد أهل بدرٍ.

والصحيح أنّ العلم يختلف، فقد يحصل تارة بقول عدد قليل وتارة بقول عدد كثير؛ وضابط العدد إذن ما حصل العلم عنده لأنّا نقطع بالعلم من غير أن نعلم عدداً معيّناً - لا علماً متقدماً على العلم بالمخبر ولا متأخراً عنه - ولو كان شرطاً لم يحصل العلم إلّابعد العلم به، بل يختلف باختلاف قرائن الحال واحوال المخبرين والاطلاع عليهما اطلاعاً كاملاً أو ناقصاً وادراك المستمعين والوقائع فإن

ص: 428


1- . وقيل انّه نص على ذلك في «مختصر التقريب»، وللمزيد راجع الاحكام: 2/37-39.
2- . المائدة: 12.
3- . الانفال: 65.
4- . الاعراف: 155.

قال: وشرط قوم الإسلام والعدالة لإخبار النصارى بقتل المسيح.

وجوابه اختلالٌ في الأصل والوسط.

وشرط قوم أن لا يحويهم بلدٌ.

وقومٌ: اختلافَ النسب والدين والوطن.

والشيعة: المعصومَ، دفعاً للكذب. واليهودُ: أهلَ الذلة فيهم دفعاً للتواطؤ لخوفهم، وَهوُ فاسدٌ. *

عشرة أنفس لو أخبروا بموت ميّتٍ لهم ورُويت القرائن الملائمة لذلك لحصل العلم بقولهم؛ ولو اخبروا عن وقوع المؤذن من المنارة مع حضور غيرهم، لما لزم افادة العلم فللوقائع مدخل في حصول العلم بعدد دون عدده.

شروط أُخرى في التواتر

(*) أقول: شرط قوم في المتواترين الإسلام والعدالة لأنّ الكفر مظنّة الكذب، والإسلام والعدالة(1) ضابطان للصدق ولهذا لا يفيد تواتر النصارى بقتل...

ص: 429


1- . نقل السُبكي عن قوم في تصوير شرط العدالة في التواتر قولهم: «وكذلك [لم يحصل العلم ب] إخبار الإمامية عن نصِّ علي رضى الله عنه، وما ذلك إلّالِفسقْهِمِ، والفسق عُرْضَة الكذب أيضاً». لاحظ: رفع الحاجب: 2/305. وهل في موازين الدين والاخلاق والشيم مكان لهذه البذاءة ولهذا التهريج في وصف طائفة من المسلمين لها شأنها وتاريخها وموقعها في الملأ الإسلامي؟ لا لذنب إلّالأنهم اختلفوا في الرأي مع غيرهم! وهل في ميزان النصفة تفسيق أُمة تعد ربع المسلمين ولهم مواقف مشكورة في إعلاء كلمة الحق وإزدهار الحضارة الإسلامية أمر مستساغ؟

قال: وقول القاضي وأبي الحسين: كلّ عدد أفاد خبرهم علماً بواقعة لشخص فمثله يفيد بغيرها لشخص صحيح بشرط أن يتساويا من كل وجه، وذلك بعيد عادةً. *

المسيح.

والجواب: إنّما لم يحصل العلم بتواتر النصارى لاختلال شرط [التواتر] امّا في الطرف أو في الوسط، فانّ أهل بلدة إذا كانوا كفاراً واخبروا بقتل ملكهم فقد يفيد خبرهم العلم.

وشرط قوم ان لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد، والمحققون على خلاف ذلك فقد يخبر الحاج بخبر يفيد قولهم العلم. وشرط آخرون أن لا يكونوا من دين واحد ولا نسبٍ واحدٍ ولا وطن واحد لأنّ التساوي في هذه الأُمور مظنة للتحامل والتساعد على الكذب، وهو باطل.

ونُقِل عن الشيعة أنّهم يشترطون في العلم قول الامام المعصوم دفعاً للكذب.

وفي هذا النقل نظر. وشرطت اليهود في التواتر أن يكون المتواترون أهل ذلةٍ ومسكنة لأن ذلتهم تمنعهم عن الإقدام على الكذب خوف المؤاخذة.

وكل هذه الشروط فاسدة لا اعتبار بها.

(*) أقول: ذهب القاضي وأبوالحسين إلى أن كل عدد يفيد العلم بواقعة لشخص فإن مثل ذلك العدد يفيد العلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص.

والتحقيق في هذا ان نقول: العلم عقيب الخبر قد يقع لمجرد الإخبار وقد يقع بالقرائن وقد يقع بالمجموع؛ وقول القاضي وأبي الحسين صحيح على تقدير أن يحصل العلم بالخبر لا غير أمّا على التقديرين الآخرين فلا، ولأجل ذلك شرط التساوي في الخبرين مطلقاً واستبعده المصنّف ولا شكّ في بُعده.

ص: 430

قال: مسألة: إذا اختلف المتواتر في الوقائع، فالمعلوم ما اتفقوا عليه بتضمنٍ أو التزامٍ، كوقائع حاتمٍ، وعليٍ عليه السلام. *

قال: خبر الواحد: ما لم ينته إلى التواتر. وقيل: ما أفاد الظنّ ويبطل عكسُه بخبر لا يفيد الظنّ.

والمستفيض ما زاد نقلته على ثلاثةٍ. **

اختلاف التواتر في الوقائع

(*) أقول: اعلم أن التواتر على قسمين منه ما يقع فيه الإتفاق وذلك ظاهر؛ ومنه ما يقع فيه الاختلاف لكنّه يستلزم الاتفاق إمّا على سبيل التضّمن أو الالتزام ويكون ذلك الاتفاق متواتراً أيضاً بالمعنى كما [لو] اخبر جماعة لا يفيد قولهم العلم أن حاتم أعطى شيئاً ثم أخبر جماعةٌ أُخرى بتلك الصفة أن حاتم أعطىٰ شيئاً آخر، وهكذا إلى أن بلغوا حدّاً يفيد قولهم العلم فإنّه يحصل العلم بسخاء حاتم، وكذلك اخبروا عن علي عليه السلام أنّه حارب في واقعة من الوقائع ثم اخبر جماعة أخرى يفيد قولهم العلم أنّه حارب في واقعة أُخرى وهكذا إلى أن بلغوا عدد التواتر فإنّه يحصل العلم بشجاعة علي عليه السلام.(1)

خبر الواحد

(**) أقول: لا نعني بخبر الواحد خبر شخص واحد بل نعني به ما لم يبلغ حد التواتر ولو كان المخبر مائةً إذا لم يُفد قولهم العلم، فإنّه يسمّى خبر واحد.

ص: 431


1- . وبذا ينتهي مبحث التواتر.

قال: مسألة: قد يحصل العلم بخبر الواحد العدل بالقرائن لغير التعريف.

وقيل: بغير قرينة، وقال أحمدُ: ويطرّدُ، والأكثر: لا بقرينة ولا بغيرها.

لنا: لو حصل بغير قرينة لكان عاديّاً فيطردُ، ولأدّىٰ إلى تناقض المعلومين ولوجب تخطئة المخالف. *

وقد عرّفه قوم بأنّه ما أفاد الظن؛ وهذا يبطل عكسه فإنّا لو فرضنا أنّ زيداً أخبر بالخبر ولم يفد الظن فإنّه يسمّى خبر واحد وإن لم يحصل الظن ومن شرط الحد الاطراد والانعكاس، والخبر المستفيض يعني به ما زاد رواته على ثلاثة أنفس.

(*) أقول: اختلف الناس في إفادة خبر الواحد العلم، فذهب الجمهور إلى أن ذّلك يمتنع مطلقاً؛ وذهب آخرون إلى أنّه قد يحصل العلم عقيبه إذا انظم إليه من القرائن ما يفيد العلم إذا كانت تلك القرائن حاصلة لغير التعريف وهي الأمارات الدالة على الصدق كالبكاء ونشر الشعر في الموت، لا القرائن التي للتعريف كموافقة دليل العقل أو قول الصادق فإنّه لا خلاف في أنّ هذه القرائن يحصل معها اليقين.

وقال قوم: إنّه لا يفتقر إلى قرينة في إفادته العلم، ثم اختلفوا فقال قوم: إنّه لا يطرد العلم عقيب الخبر؛ وقال أحمد: إنّه يطرّد.

واستدل المصنف على أنّه لا يفيد بمجرده العلم بوجوه:

الأوّل: أنّه لو كان موجباً للعلم بمجرده لوجب حصول العلم عقيب خبر كلّ عدل والتالي باطل فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة لأن العلم عقيب الخبر يكون بمجرى العادة كالعلم عقيب التواتر، ولمّا كانت العادة يجب اطرادها كان...

ص: 432

قال: وأمّا حصوله لقرينة، فلو أخبر مَلِكٌ بموت ولدٍ مشرف مع صُراخ وجنازةٍ وانْهتَاك حريمٍ ونحوه لقطعنا بصحته.

واعتُرض بأنّه حصل بالقرائن وَرُدّ بأنّه لولا الخبر لجوّزنا موت آخر.

قالوا: أدلتكم تأباه.

قلنا: انتفىٰ الأوّل لأنّه يطرّد في مثله، وانتفىٰ الثاني لأنّه مستحيل حصول مثله في النقيض، وانتفىٰ الثالثُ؛ لأنا نخطّئُ المخالف لو وقع. *

العلم واجب الاطراد، وأمّا بطلان التالي فظاهر فإنّه كان يجب أن يحصل العلم عقيب خبر من اخبرنا بأنّه نبي من غير إظهار معجزةٍ.

الثاني: أنّه لوكان الخبر بمجرده يفيد العلم لأدّىٰ إلى تناقض المعلومين، والتالي باطل فالمقدّم مثله، وبيان الشرطية أنّه إذا أخبرنا عدل بخبر فافادنا العلم ثم أخبرنا غيره بنقيض ما اخبرنا به الأوّل وجب أنْ يكون مفيداً للعلم أيضاً، ويلزم من ذلك ما ذكرنا؛ وأمّا بطلان التالي فظاهر.

الثالث: لو أفاد خبر الواحد العلم لوجب أن نخطئ مخالفه، والتالي باطل؛ فإنّ كثيراً من الصحابة كانوا يعملون على خلاف ما يخبرهم به العدول لوجود أدلة عندهم أقوى منه من غير تخطئة.

ص: 433

قال: قالوا: [قال اللّٰه تعالى:] «وَ لاٰ تَقْفُ» ، و «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ» * فنهىٰ وذمّ فدلّ أنّه ممنوع.

وأُجيب: بأن المتبعَ الاجماع، وبأنّه مؤوّل فيما المطلوب منه العلم من الدين. *

المفيد للعلم إنّما هو مجرد الخبر مع القرائن، قالوا: أدلتكم تأبى ذلك؛ قلنا: لا نسلم.

امّا الأوّل: فلانّا قلنا لو افاد الخبر العلم لاطرد والتالي باطل بالوجدان فالمقدم مثله، وقد لا يتأتّى هاهنا فإنّ دعوى عدم الاطراد ممنوعة هاهنا فإنّا نقول: إنّ كلّ خبر احتفته القرائن فإنّه يفيد العلم ويطرد.

وأمّا الثاني: فلانّا قلنا لو أفاد العلم لتناقض المعلوم على تقدير تناقض الإخبارات وهاهنا لا يتأتّىٰ ذلك لأنّا نقول انّه يستحيل حصول مثل ذلك الخبر مع تلك القرائن في نقيض المخبر.

وأمّا الثالث: فلأنّا قلنا لو أفاد العلم لخطأ مخالفه والتالي باطل وهو لا يتأتى هاهنا لأنّا نخطئ المخالف لكونه يخالف المعلوم.

(*) أقول: هاتان حجّتان احتج بهما من أوجب العلم عقيب خبر الواحد:

الأُولى: إنّ اللّٰه تعالى نهى عن اتباع ما لا يوجب العلم، فقال: «وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(1) فلو كان خبر الواحد غير موجب للعلم لما جاز اتباعه؛...

ص: 434


1- . الاسراء: 36.

قال: مسألة: إذا اخبر واحد بحضرته صلى الله عليه و آله و سلم ولم ينكر، لم يَدُلَّ على صدقه قطعاً.

لنا: يحتمل أنّه ما سمعه، أو ما فهمه، أو كان بيّنه، أو رأىٰ تأخيره، أو ما علمه، أو صغّره. *

ولما كان الاجماع واقعاً على انّ خبر الواحد مقبول دل على أنّه يفيد العلم.

الثانية: إنِّ اللّٰه تعالى ذم ونهى عن اتباع الظن فقال: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ»(1) و «وَ مٰا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّٰ ظَنًّا» (2) إلى غير ذلك، فلو كان خبر الواحد يوجب الظن لكان متبعه مذموماً، ولما كان الاجماع قد انعقد على اتباعه، دل على أنّ متّبعه غير متّبع لما يوجب الظن بل العلم.

والجواب من وجهين:

الأوّل: أنّ المتبع ليس هو الخبر بل الإجماع الدال على وجوب العمل بالخبر، وحينئذٍ المتَّبع هاهنا أمر معلوم هو الاجماع لا المظنون.

الثاني: أن المنهي عنه أو المذموم إنّما هو الظن في معرض الأُمور القطعية من الدين كالتوحيد وغير ذلك لا الأُمور الشرعية.

الأخبار بحضرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم

(*) أقول: اختلف الناس في الراوي إذا اخبر بخبر بحضرة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 435


1- . النجم: 23.
2- . يونس: 36.

قال: مسألة:

إذا اخبر واحد بحضرته خلق كثير ولم يكذبوه وعُلم انّه لو كان كَذِباً لعلموه ولا حامل على السكوت فهو صادق قطعاً للعادة. *

ولم ينكره عليه؛ فقال قوم: إنّ ذلك دليل على صدقه وإلّا لوجب عليه المسارعة إلى الانكار.

وقال آخرون: إنّ ذلك غير واجب لانّه يحتمل أنّه ما سمعه، أو ما فهم ما قاله، أو كان قد بيّنه قبل ذلك فلا يجب عليه تكرير البيان، أو أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم رأى من المصلحة تأخير الانكار، أو ما علم الكذب فيما إذا كان الخبر يرجع إلى الأمر الدنيوي، أو أنّه ترك الإنكار تعمداً وذلك جائز عندهم لأنّه من الصغائر.

(*) أقول: اختلفوا في هذه أيضاً فقال قوم أنّه يدل على صدقه وقال آخرون لا يدل، وعوّل الأوائل على قطع العادة بأن شخصاً إذا أخبر بخبر بين يدي خلق كثير وعُلم أنّه لو كان كذباً لعلموا كذبه ولا حامل لهم على السكوت، يكون ذلك صادقاً، وهو ظاهر.

ص: 436

قال: مسألة:

إذا انفرد واحدٌ فيما تتوافر الدّواعي علىٰ نقله وقد شاركه خلقٌ كثيرٌ، كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة، فهو كاذب قطعاً خلافاً للشيعة.

لنا: العلم عادة ولذلك نقطع بكذب من ادّعىٰ ان القرآن عورض.

قالوا: الحوامل المقدّرة كثيرةٌ، ولذلك لم ينقل النصارىٰ كلام المسيح في المهد. ونُقلَ انشقاقُ القمر، وتسبيح الحصىٰ، وحنين الجذع، وتسليم الغزالة، وإفراد الإقامة، وإفراد الحجّ، وترك البسملة آحاداً.

وأُجيب: بأن كلام عيسى عليه السلام إن كان بحضرة خلقٍ فقد نُقل قطعاً، وكذلك غيرهُ ممّا ذُكر واستغني عن الاستمرار بالقرآن الّذي هو أشهرها.

وأمّا الفروع فليس من ذلك وان سلم فاستغنىٰ لكونه مستمراً أو كان الأمران سائغين. *

(*) أقول: اختلف الناس فيما إذا اخبر واحد بخبر تتوفر الدواعي على نقله مع حضور خلق كثير، فقال قوم انّه يدل على كذبه قطعاً وخالفت الشيعة في ذلك؛ امّا الأولون فاستدلوا بالعادة فانّه تحيل العادة صدق من أخبر بأن الخطيب قُتِل على المنبر بمشهد من الخلق مع عدم موافقة الخلق له، لتوفر دواعيهم على نقل مثل هذه الاخبار؛ ولأجل ذلك قطعنا بكذب من نقل أنّ القرآن قد عورض وذلك لأنّه خبر واحد لا يخفى مثله على الخلق مع توفر دواعيهم على نقله....

ص: 437

....................

أمّا الشيعة فإنهم قالوا: يحتمل أن يكون الكلّ قد اخفوا مثل ذلك لمصلحة عامة تتعلق بالجميع، أو لرهبة، أو رغبة أو لأغراض متعددة - كلّ شخص له غرض غير غرض الآخر - وإذا كانت هذه المحامل موجودة كيف يجزم بكذب هذا الخبر؟ ولذلك لم ينقل النصارى كلام المسيح في المهد مع أنّه من أعجب الاشياء، وكذلك المسلمون نقلوا ما تتوفر الدواعي على نقله آحاداً ولم يبلغ نقلهم إلى التواتر وذلك كمعجزات الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ووقائعه وأفعاله مع أنّ ناقلها صادق.

وأجابوا عن صورة عيسى بأنّه إن كان تكلم بين يدي خلق عظيم فقد نقل قطعاً لما ذكرناه من إحالة العادة، وكذلك غيره من الوقائع التي صوّروها في زمن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم من معجزاته وإنّما لم يستمر النقل للاستغناء بالقرائن وإلّا فإنّ لقائل أن يقول: إنّ عيسى عليه السلام إنّما تكلم بذلك بين يدي نفر يسير قبل أن يظهر أمره ويسمع حاله، بخلاف إبراء الأكمه والأبرص لأنّه وقع وقت اشتهار حاله، وكذلك معجزات الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أكثرها صدرت مع نفر قليل.

وأمّا الفروع كإفراد الإقامة وتثنيتها، وإفراد الحج عن العمرة والجهر بالبسملة وعدمه، فإن لقائل أن يقول أنّها لم تقع بين يدي خلق عظيم أو إن وقعت لكنها ليست مما تتوفر الدواعي على نقلها لما فيها من الكلفة والمشقة، أو إن كان مشهوراً لكن استغنى عن نقله لاستمراره فخفي بعد ذلك، أو أن يقال الأمران كانا مشهورين من إفراد الإقامة وتثنيتها وغير ذلك من الصور.

ص: 438

قال: مسألة: التعبد بخبر الواحد العدل جائزٌ عقلاً، خلافاً للجبّائي.

لنا: القطع بذلك.

قالوا: يؤدّي إلى تحليل الحرام وعكسه.

قلنا: إن كان المصيب واحداً فالمخالف ساقط كالتعبد بالمفتي والشهادة وإلّا فلا يرد وإن تساويا فالوقفُ أو التخيير يدفعه.

قالوا: لو جاز لجاز التعبدّ به في الإخبار عن الباري سبحانه.

قلنا: للعلم بالعادة أنّه كاذب. *

التعبّد بخبر الواحد

(*) أقول: اختلف الناس في جواز التعبّد بخبر الواحد العدل عقلاً، فذهب قوم إلى المنع وهو منقول عن الجبّائي وجماعة من المتكلّمين؛ وذهب المحققون إلى جواز ذلك وهو مذهب المرتضى وجماعة الإمامية.

والدليل على جواز ذلك عقلاً أنّا نعلم بالضرورة أنّه لا إستبعاد في أنّ يكلفنا اللّٰه تعالى بذلك ويقول متى اخبركم العدل بخبر فاعملوا بقوله وهذا أمر قطعي.

واحتج المخالف بأنّ التعبّد بخبر الواحد يؤدي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال فيكون ممتنعاً.

وبيان ذلك: لأن الأخبار مختلفة مضطربة فعلى تقرير أن يُفتي واحد بخبر راجح وحجة بالتحليل وافتى آخر بالتحريم لزم ما ذكر من المحذور....

ص: 439

....................

والجواب: إنْ قلنا أنّ المصيب واحد فالمخالف لما عليه المصيب لا اعتداد به ولا يكون التعارض موجوداً وذلك كالتعبد بالشهادة والفتوى فإنّهما يوجبان الظن؛ فإن قلنا أنّ كلّ مجتهد مصيب اندفع الإيراد لأنّ المحذور إنّما يلزم على تقدير استحالة اجتماع الحل والحرمة بالنظر إلى شخصين، فإذا قلنا أنّ كلّ مجتهد مصيب فلو فرضنا أنّ مجتهدين حكم أحدهما بالحرمة والآخر بالحل لم يلزم المحذور.

هذا إذا كان أحد الخبرين راجحاً على الآخر بوجوه الترجيحات الآتية أمّا إذا فرض تساويهما فطريق العمل إمّا الوقف كما هو مذهب قوم، أو التخيير؛ وعلى كلا التقديرين يندفع المحذور.

واحتجّوا أيضاً بأنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد عقلاً إذا نقل عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، لجاز وقوع التعبد به إذا نقل عن اللّٰه تعالى؛ والجامع بينهما اشتمال كل منهما على المصلحة المحتملة، والتالي باطل؛ فإن نقل الأحكام عن اللّٰه تعالى بدون المعجزة غير مقبول.

والجواب بالفرق فإن العادة قاضية بكذب من نقل عن اللّٰه تعالى من دون المعجزة ولم تقض بكذب من نقل عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

ص: 440

قال: مسألة:

يجب العملُ بخبر الواحد خلافاً للقاساني وابن داود والرافضة.

والجمهور: بالسمع.

وقال أحمد والقفّال وابن سُريج(1) والبصريّ بالعقل.

لنا: تكرر العملُ كثيراً في الصحابة والتابعين سابقاً من غير نكير وذلك يقضي بالاتفاق عادة كالقول قطعاً.

قولهم: لعل العمل بغيرها.

قلنا: عُلم قطعاً من سياقها ان العمل بها.

قولهم: فقد أنكر أبو بكر خبر المغيرة حتّى رواه محمد بن مَسْلمة، وانكر عمر خبر أبي موسى في الاستئذان حتّى رواه أبو سعيد، وانكر خبر فاطمة بنت قيس وانكرت عائشة خبر ابن عمر.

واُجيب: إنّما انكروا عند الارتياب.

قالوا: لعلها أخبار مخصوصة.

قلنا: نقطع بأنّهم عملوا لظهورها لا لخصوصها وأيضاً المتواتر إن

ص: 441


1- . ورد في النسختين: ابن شريح والصحيح ما أثبتناه. وهو أحمد بن عمر بن سريج القاضي أبو العباس البغدادي، فقيه الشافعية في عصره ومتكلمهم، وكان يلقب بالباز الأشهب، ولي القضاء بشيراز، له تصانيف كثيرة ومناظرات مع محمد بن داود الظاهري. ولد في بغداد سنة 249 ه وتوفّي بها سنة 306 ه. انظر: الأعلام للزركلي: 1/185؛ سير أعلام النبلاء: 14/172.

كان ينفذ الآحاد إلى التراخي لتبليغ الأحكام. *

وجوب العمل بخبر الواحد

(*) أقول: اختلف الناس في وجوب العمل بخبر الواحد، فذهب الجمهور إلى ذلك وهو مذهب الشيخ أبي جعفر من الإمامية، ومنع منه القاساني(1) وابن داود والسيد المرتضى رحمه الله واتباعه من الإمامية.

ثمّ اختلف القائلون بالوجوب في مدركه فقال احمد بن حنبل، والقفال، وابن سريج، وأبوالحسين البصري انّه العقل.

وذهب الباقون إلى انّه السمع والدليل على وجوب العمل بخبر الواحد أنّه قد اجمع عليه الصحابة والتابعون، وكلّ ما أجمع عليه الصحابة والتابعون يجب اتباعه فالعمل بخبر الواحد واجب؛ أمّا الصغرى فنقلية لأنّ الأخبار تواترت بعمل الصحابة والتابعين بالاخبار المروية بالآحاد وتكرار العمل به تواتراً شائعاً ذائعاً من غير مناكرة من أحد وإذا تكرر العمل به كان إجماعاً كالقول قطعاً، وأمّا الكبرى فقد مضى بيانها في باب الإجماع.

اعترض المانعون من ذلك بأنّ عمل الصحابة جاز أن يكون مستنداً إلى غير الخبر الواحد وتوافق الخبر والعمل لا يقتضي أن يكون العمل إنّما كان لأجل الخبر.

والجواب: أنّه لو كان العمل بغير الخبر مع كثرته لامتنع عادة خفاؤه

ص: 442


1- . القاساني وهو محمد بن إسحاق، أبو بكر، وكان داودياً ثم انتقل إلى مذهب الشافعي وصاررأساً فيه ومتقدماً، له من الكتب: الرد على داود في إبطال القياس، الفتيا الكبير، أُصول الفتيا. انظر: فهرست ابن النديم: 267.

....................

عنا وان لا يظهروه لنا؛ وأيضاً فإن عمر قال: «لو لم نسمع بهذا لقضينا فيه بغير هذا»(1) وقول ابن عمر: «حتى روى لنا رافع بن خديج أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن ذلك فانتهينا»(2) إلى غير ذلك من الأحاديث المروية عن الصحابة الدالّة على أن العمل بخبر الواحد سائغٌ. وقالوا كيف يصح دعوى إجماع الصحابة على ذلك مع أنّ الإنكار قد وجد منهم؟ فإن أبا بكر رد خبر المغيرة(3) في ميراث الجّدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة(4)، ورد أبوبكر وعمر خبر عثمان في اذن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في رد الحكم ابن أبي العاص، ورد عمر خبر أبي موسى الأشعري(5) في...

ص: 443


1- . وهو خبر حمل بن مالك في الجنين، لاحظ: السنن الكبرى: 8/114؛ سنن أبي داود: 2/256، باب دية الجنين،؛ سنن النسائي: 8/47.
2- . يعني نهي الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عن المخابرة. والمراد بالمخابرة هو ان يتم الاتفاق بين الفلاح ومالك الأرض على المحصول كالثلث أو النصف.
3- . المغيرة بن شعبة من أصحاب رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، ولّاه عمر الكوفة فلم يزل عليها إلى أن قتل، فأقرّه عثمان عليها ثم عزله، واعتزل صفين، ولحق بمعاوية عند التحكيم، وولّاه الكوفة بعد صلحه مع الحسن عليه السلام إلى أن توفّي سنة خمسين وقيل: سنة إحدى وخمسين. انظر: معجم رجال الحديث: 19/303، برقم 12589.
4- . وهو محمد بن مسلمة بن سلمة بن حريش بن خالد بن عدي بن مجدعة بن الحارثة بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الحارثي المدني، صحابي شهد بدراً وما بعدها مع رسول اللّٰه إلّاتبوك، روى عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وروى عنه: جابر بن عبداللّٰه والحسن البصري والمغيرة بن شعبة وغيرهم، لم يشهد الجمل ولا صفين وأقام بالربذة، أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير، توفّي بالمدينة سنة اثنتين وأربعين وقيل: ثلاث وأربعين وقيل ست وأربعين. انظر: الاستيعاب: 3/1377، برقم 2344؛ الثقات لابن حبان: 3/362.
5- . هو عبداللّٰه بن قيس بن سليم بن حضّار التميمي، أبو موسى الأشعري، صحابي أسلم بعد فتح

....................

الاستيذان وهو «سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: إذا استأذن احدكم على صاحبه ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف» حتى رواه أبوسعيد الخدري، وأنكر خبر فاطمة بنت قيس(1) في السكنى وقال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، وانكرت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميّت ببكاء أهله عليه؛ وغير ذلك من الوقائع المشهورة.

فليس الاستدلال بالعمل على وفق الخبر على وجوب العمل بخبر الواحد أولى من الاستدلال بالانكار على تحريم العمل به بل الثاني أولى.

والجواب: أن نقول قد بيّنا أنّ بعض الصحابة عمل بالخبر ووافقه على ذلك الباقي؛ ورويتم انتم هذا الانكار فلابد من التوفيق، وطريقه ان نقول يحتمل الانكار أنهم إنّما انكروا ذلك لارتيابهم بالراوي فحينئذٍ لا يجب الانكار عند عدم الارتياب.

قالوا: عمل الصحابة بالخبر لا يدل على أنّ الخبر حجة يجب اتباعه لأنّ

ص: 444


1- . هي فاطمة بنت قيس بن خالد بن وهب بن ثعلبة بن وائل بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر الفهرية؛ أُخت الضحاك بن قيس، وكانت أكبر منه بعشر سنين، لها صحبة، روت عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وروى عنها: سعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسار، وعامر الشعبي، وغيرهم كثير. انظر: الثقات: 3/336؛ وتهذيب الكمال: 35/264.

قال: واستدل بظواهر مثل: «فَلَوْ لاٰ نَفَرَ» إلى قوله: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(1) ، و: «لاٰ تَقْفُ» (2)، «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ» (3)، «إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ»(4) ، «إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ»(5) ، وفيه بُعدٌ. *

ذلك الخبر خاص ولا يجب من العمل بواحد معين العمل بمطلق الخبر لاحتمال أن يكون قد اقترن بذلك الخبر من القرائن الموجبة للعلم ما أوجب العمل، بخلاف هذه الاخبار الخالية عنه، ولا شك أن ذلك الخبر المعيّن غير معلوم فما من خبر إلّاويجوز أن يكون خالياً عن شريطة العمل عندهم فلا يجوز العمل بأسرها.

وأجاب بأنا نقطع بأنّ الصحابة والتابعين انما عملوا على وفق الخبر لظهور مدلول الخبر لا لخصوصية الخبر.

الدليل الثاني(6) على انّ خبر الواحد يجب العمل به: أنّه قد تواتر عنه صلى الله عليه و آله و سلم أنّه كان ينفذ الرسل إلى البلدان لتبليغ الأحكام إليهم ولا شك أنّه ما كان ينفذ من لم يفد قوله العلم بل الظن، فلو لم يكن الظن كافياً في وجوب العمل لكان الإنفاذ عبثاً وهو محال.

واعترض ابوالحسين هاهنا باعتراض وارد وهو أنّه يحتمل أنّه إنّما كان ينفذهم للفُتيا لا للإخبار.

(*) أقول: استدل من قال بأنّ خبر الواحد يجب العمل به بأدلة سمعية استضعفها المصنف.

ص: 445


1- . التوبة: 122.
2- . الاسراء: 36.
3- . الانعام: 116.
4- . البقرة: 159.
5- . الحجرات: 6.
6- . الدليل الأوّل هو قوله: «قد اجمع عليه الصحابة والتابعون».

....................

منها: قوله تعالى: «فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» . وجه الاستدلال أنّه تعالى أمر بالإنذار وهو الخبر المخوف، وإنّما أمر بالإنذار طلباً للحذر لأنّه تعالى لا يصحّ عليه الترجّي فحينئذٍ يحمل قوله: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» على طلب الحذر فكان الحذر واجباً إذ الأمر للوجوب فيكون إخبار كل طائفة يوجب الحذر من العقاب، والطائفة من لا يفيد قولهم العلم لأنّها تطلق على الإثنين والثلاثة، وعلى المخبرين بالتواتر فيكون اللفظ حقيقة في القدرالمشترك وهو مطلق الخبر الزائد على الواحد دفعاً للاشتراك والمجاز؛ وإذا كان قول الاثنين يستلزم ترك الحذر كان العمل واجباً بقولهما، وكلّ من قال بأنّ الاثنين يجب العمل بقولهما أوجب العمل بقول الواحد لاشتراكهما في إفادة الظن.

وهذا الاستدلال بعيد لأنّ ظاهر الآية يقتضي الحذر عقيب الإنذار الحاصل بسبب التفقه في الدين، والإنذار هو الإخبار على ما مر، ولا شكّ أنّ الخبر الحاصل بعد التفقه في الدين ظاهراً إنّما هو الفتوى، ونحن نقول بموجبه، فإن الفتوىٰ وإن أفادت الظن لكن يجب العمل بها بخلاف خبر الواحد.

ومنها: قوله تعالى: «وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» وقوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ» * فنهاه عن اتباع الظن وذم أُولئك على اتباعه، مع الاتفاق بأنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كان ينفذ الرسل لتبليغ الأحكام إلى البلاد المتباعدة؛ فإذن خبر الواحد يفيد العلم فيجب العمل به، والكلام على هذا قد مضى....

ص: 446

....................

ومنها: قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلْبَيِّنٰاتِ وَ اَلْهُدىٰ» ذمهم على كتمان الهدى، والواحد إذا سمع من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم حكماً كان هدى وكان كتمانه متوعداً عليه فوجب عليه إظهاره فلو لم يجب علينا قبوله، لما كان لإظهاره فائدة، ويبقى إظهاره كاخفائه.

وهذا أيضاً ضعيف لاحتمال أن يكون الذم إنّما توجّه على جمع تقوم الحجّة بقولهم، ولو سلّم أنّ الذم متوجه على الواحد لكن يحتمل أن يكون المراد من الهدى الكتاب العزيز وهوالظاهر لوصفه بالإنزال وإن كانت السّنة منزلة أيضاً؛ فلا نسلم أنّه يلزم من وجوب الإظهار وجوب القبول منه فإن الآية تتناول الفاسق مع أنّه لا يجب علينا القبول منه.

ومنها: قوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا»(1) أمرنا بالتثبت عند مجيء الفاسق، فوجب أن يكون التثبت عدما عند عدم الفسق؛ فأمّا أن نقطع بصحة قوله وهو المطلوب أو ببطلانه ويلزم من ذلك أن يكون خبر الفاسق أعظم درجة من خبر العدل، وهو محال.

قالوا: وهذا ضعيف لأنّه استدلال بالمفهوم، وسيأتي بيان ضعفه.

ولقائل أن يقول: الاستدلال بالمفهوم إنّما يكون ضعيفاً على تقدير عدم الاشارة إلى العلة، أمّا على عدم ذلك(2) التقدير فلا؛ والاشارة إلى العلة حاصلة هاهنا لأنّ خبر الواحد الفاسق يقال له أنّه خبر واحد وهو أمر ذاتي له، ويقال له

ص: 447


1- . الحجرات: 6.
2- . يعني: أمّا على الإشارة إلى العلة فلا يكون ضعيفاً.

قال: قالوا: «لاٰ تَقْفُ» ، «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ» . وقد تقدّمَ، ويلزمُهُم ألّا يمنعوه إلّا بقاطع.

قالوا: توقف صلى الله عليه و آله و سلم في خبر ذي اليدين حتّى اخبره أبو بكر وعمر.

قلنا: غيرُ ما نحن فيه، وان سُلِّم فإنّما توقف للريبة بالانفراد فإنّه ظاهر في الغلطِ، ويجب التوقفُ في مثله. *

أنّه خبر فاسق و هو أمرٌ عرضي له؛ وإذا صح استناد الحكم إلى الأمر الذاتي كان استناده إليه أولى من استناده إلى الأمر العرضي.

فإذا تقرر هذا فنقول: خبر الواحد مطلقاً لا يصلح علة للتثبت وإلّا لكان استناد التثبّت إلى الفسق هاهنا استناد الشيء إلى غير علته، وهو محال.

(*) أقول: هذا استدلال من منع من العمل بخبر الواحد، وتقريره: انّه تعالى نهاه عن اقتفاء ما ليس بعلم، والظن ليس بعلم؛ وأيضاً اللّٰه تعالى ذم من اتبّع الظن فوجب أن لا يسوّغ اتباعه، والعمل بخبر الواحد اتباع الظن فوجب أن لا يسوّغ.

وقد تقدم الجواب عن هذا وأن المراد المنع من العمل بخبر الواحد فيما يوجب العمل جمعاً بينه و بين الدليل العقلي الدال على جواز التعبّد بخبر الواحد على ما مضى.

ثمّ إنّ المصنف ألزم هؤلاء القوم إلزاماً صعباً وهو لا يمنعوا من العمل بخبر الواحد إلّابدليل قطعي يفيد المنع لأنّ المفيد للمنع لو كان ظنياً لما جاز اتباعه والاّ لكان المتبع له مخالفاً للنهي عن اتباع الظن ولا شك أنّ أدلتهم الدالة على...

ص: 448

....................

المنع من الاتباع إنّما هي ظنيّة وفي ذلك إبطال الشيء نفسه، قالوا: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم توقّف في خبر ذي اليدين وهو قوله: «أقصرت الصلاة أم نسيت»(1) لمّا سَلّم الرسول صلى الله عليه و آله و سلم عن اثنتين حتى انضم إليه خبر أبي بكر وعمر؛ فلو كان خبر الواحد مقبولاً لما اقتصر إلى انضمام قول أبي بكر وعمر.

والجواب: إن هذا عين ما قلناه، فإنّ مع انضمام قول أبي بكر وعمر لا يخرج خبر ذي اليدين إلى حد التواتر بل يكون خبر واحد فهو دليل لنا على أنّا نقول إنّما توقف النبي صلى الله عليه و آله و سلم في خبر ذي اليدين لا لمطلق كونه خبر واحد بل لأنّه خبر عن واقعة شهدها جماعة كثيرة فانفراده بالإخبار مما تتطرق إليه التهمة فلما انضم إليه قول أبي بكر وعمر حصل ظن صدقه لإخبار من كان معه، ولا يلزم من كون الخبر مردوداً إذا حصلت معه تهمة ان يكون مردوداً مطلقاً.

ص: 449


1- . الموطأ لمالك: 1/94؛ صحيح البخاري: 3/166، برقم 1227؛ صحيح مسلم: 9/573.

قال: أبو الحسين: العمل بالظن في تفاصيل المعلوم الأصل واجبٌ عقلاً كالعدل في مضرة شيءٍ وضعف حائطٍ. وخبر الواحد كذلك لأنْ الرسول بُعِثَ للمصالح فَخَبرُ الواحدِ تفصيلٌ لها وهو مبنيٌّ على التحسين.

سلمنا لكنّه لم يجب في العقليات بل أولى.

سلمنا ولا نسلّمه في الشرعيات.

سلّمنا وغايته قياس ظنّي في الأُصول.

قالوا: صِدقُهُ ممكنٌ فيجبُ احتياطاً.

قلنا: إن كان أصله التواتر فضعيف، وإن كان المفتي فالمفتىٰ خاصٌ، وهذا عامٌ.

سلمنا لكنّه قياس شرعي.

قالوا: لو لم يجب لخلت وقائع.

رُدّ بمنع الثانية.

سلمّنا لكن الحكم النفي وهو مدرك شرعي بعد الشرع. *

الوجوه العقلية في لزوم العمل بخبر الواحد

(*) أقول: هذه الأوجه الثلاثة استدل بها من قال إنّ خبر الواحد يجب العمل به عقلاً:

الأوّل: ما ذكره أبوالحسين، وتقريره: إنّ العقلاء أوجبوا العمل بخبر...

ص: 450

....................

الواحد في العقليات ولا علة لذلك سوى أنّهم ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل، أمّا الصغرى فلأنّ العقلاء يجزمون بوجوب دفع المضرة والقيام من تحت حائط مستهدمٍ جزماً قطعياً، فإذا أخبر العدل بأنّ فى الفعل الفلاني مضرة وأن الحائط المشاهد مستهدم؛ حصل لنا ظن بذلك ومع حصول هذا الظن يحصل لنا ظن بتفصيل ما علمناه اجمالاً من وجوب دفع المضرة والقيام من تحت الحائط المستهدم.

وأمّا الكبرى فبالدوران.(1)

وهذا المعنى موجود في خبر الواحد العدل الناقل عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لأنّا نعلم قطعاً أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بعث للمصالح وتعريفها علماً اجمالياً، فإذا أخبر واحد بوجوب التعبّد بشيء معيّن نكون قد ظننا تفصيل ما اجمله العلم الأوّل فيجب العمل بهذا الظن قضية لما ثبت في العقل من وجوب وجود المعلول عند وجود العلة.

واعترض المصنف بوجوه:

الأوّل: أن هذا الدليل مبني على التحسين والتقبيح العقليين ونحن قد ابطلناهما.

الثاني: لا نسلّم انّ خبر الواحد يجب العمل به في العقليات، نعم لا شك في ثبوت الأولوية؛ أمّا الوجوب فلا.

الثالث: لا نسلم أن خبر الواحد لمَّا وجب العمل به في العقليات وجب العمل به في الشرعيات.

ولا نسلم أن علة العمل به في العقليات ما ذكرتم والدوران ضعيف.

ص: 451


1- . دوران الوجوب مدار العلّة.

....................

الرابع: سلمنا صحة القياس المذكور لكنّه لا يفيد إلّاالظن فلا يجوز التمسك به في مسائل الأُصول.

الوجه الثاني(1) في وجوب العمل بالخبر الواحد: إن صدقه ممكن فلو لم يعمل به لكنا قد تركنا أمرَ اللّٰه تعالى وأمرَ رسوله صلى الله عليه و آله و سلم وهو خلاف ما يوجبه الاحتياط.

أُعترُض عليهم بأن صدق الخبر وإن كان ممكناً لكن لا نسلم وجوب العمل به، والاحتياط بالأخذ بقوله وإن كان مناسباً لوجوب العمل به لكن المناسبة لا تكفي في العمل شرعاً ما لم ينضمّ إليها شاهد بالاعتبار على ما يأتي، ولا شاهد له سوىٰ خبر التواتر أو خبر المفتي وكلاهما لا يجوز القياس عليهما:

أمّا الأوّل: فلأنّ الخبر إذا كان معلوماً لم يجب من العمل به العمل بالخبر المظنون.

وأمّا الثاني: فلأنّ شرع المفتي خاص لانّه إنّما يجب على المستفتي والشرع المستفاد من خبر الواحد عام في حق المكلفين بأسرهم، ولا يلزم من العمل بالظن في حقّ شخص واحد العمل به في حقّ الجميع لاستلزام كثرة الفساد هاهنا بخلاف الأوّل، سلمنا ذلك لكنّه قياس يفيد الظن فلا يجوز اثبات المسائل الأُصولية به.

الوجه الثالث في وجوب العمل بالخبر: أنّه لو لم يجب العمل بالخبر الواحد لخلت أكثر الوقائع عن حكم اللّٰه تعالى، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ وأمّا الملازمة فلأنّا نعلم بالضرورة أن القرآن والتواتر والإجماع لا تفي بضبط الأحكام، ولا طريق يفيد القطع سوى هذه، فلو لم يوجب العمل بالخبر لخلت أكثر الوقائع عن الأحكام، وأمّا بطلان التالي فلأنّ الاحكام الخمسة تنحصر فيها جميع الوقائع

ص: 452


1- . الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة التي استدل بها القائل بوجوب العمل بخبر الواحد.

قال: مسألة: الشرائط؛ منها: البلوغ لاحتمال كذبه لعلمه بعدم التكليف، وإجماع المدينة على قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الدماء قبل تفرُّقِهِم، مستثنىٰ، لكثرة الجناية بينهم منفردين، والرواية بعده والسماع قبله مقبولةٌ كالشهادة، ولقبول ابن عباس وابن الزبير وغيرهما في مثلهِ، لإسماع الصبيان. *

لامتناع خلو بعضها عنها.

أُعترَض بِأنْ مَنَع الثانية - وهي المقدمة الاستثنائية - وجوّز أن يكون بعض الوقائع خالية من الاحكام، فإن الفقيه قد لا يجد مدركاً قطعياً ولا خبراً واحداً في واقعة فتكون تلك الواقعة قد خلت عن الاحكام.

سلمنا امتناع خلو بعض الوقائع من الاحكام لكن لا نسلم أنّ القول بعدم العمل بخبر الواحد يوجب خلو البعض، لأنّا نقول: كلّ واقعة ليس فيها مدرك قطعي فإنّ الحكم فيها بالنفي، ومدركه شرعي وهو وجوب العمل بالبراءة الأصلية المستفادة من الشرع.

شروط العمل بخبر الواحد

(*) أقول: لما فرغ من الاستدلال على وجوب العمل بخبر الواحد شرع في بيان شروط الخبر(1) الذي يجب العمل به، فمنها:...

ص: 453


1- . انظر: نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 3/416.

....................

البلوغ وهو مُشترَطٌ اتفاقاً، وذلك لأنّ الصبي أمّا أن لا يكون مميزاً أو يكون، والأوّل لا تقبل روايته قطعاً لاحتمال كذبه احتمالاً مساوياً لصدقه، والثاني لا تقبل روايته أيضاً لأنّه إذا كان مميّزاً علم أنّه غير مكلفٍ، وحينئذٍ يحصل له علمٌ بأنّه غير ممنوع من الكذب شرعاً، ومن علم أنّه غير ممنوع من الكذب لا يمتنع إقدامه عليه لعدم الصارف في حقه وذلك ممّا يوجب احتمال كذبه احتمالاً مساوياً لصدقه.

لا يقال: قد وقع الاجماع من أهل المدينة على أنّ شهادة الصبيان مقبولة في الجراح، وإجماعهم حجة(1) فتكون شهادتهم مقبولة فيكون خبرهم مقبولاً.

لأنّا نقول: إنّما قبلنا شهادتهم في الجناية لمعنى غير موجود في الخبر وذلك لأن اجتماعهم سبب لوقوع الأذى في غالب الأحوال، فلأجل ذلك قبلنا قولهم دفعاً لمحذور الأذى الحاصل منهم دائماً؛ بخلاف الخبر، ومع وقوع الفرق يمتنع القياس.

أمّا إذا كانوا وقت التحمّل غير بالغين ووقت الأداء بالغين فإن روايتهم تكون مقبولة بالقياس على الشهادة فإنّهم إذا تحمّلوا في حال الطفولية وأدوا الشهادة حالة البلوغ كانت مقبولة، فكذلك الرواية؛ وأيضاً فإنّ الصحابة قبلوا أحاديث ابن عباس وابن الزبير وغيرهم وإن كانوا قد تحمّلوها وقت الصبوة؛ وأيضاً فالإجماع حاصل بأنّ الصبيان يحضرون مجالس الحديث فلو لم يكن لاستماعهم واحضارهم فائدة، وإلّا لكان عبثاً يستحيل صدوره من أكثر الناس، ولا فائدة سوى قبول روايتهم وقت البلوغ.

ص: 454


1- . قال السُبكي في تعليقه على عبارة الماتن ما هذا نصه: «وما يقال من اجماع أهل المدينة، لا أصل له». كما أنّه نقل عن ابن حزم قوله: «... ولو سلّم اجماع المدينة، فهو عندنا غير حجّة». انظر: رفع الحاجب: 2/353 و 354.

قال: ومنها: الإسلام، للاجماع، وأبو حنيفة وإن قبل شهادة بعضهم على بعض لم يقبل روايتهم، ولقوله: «إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ» وهو فاسق بالعرف المتقدم.

واستدُلّ بأنّه لا يوثق به كالفاسق، وضُعِّف بانّه قد يُوثَقُ ببعضهم لتدّينه في ذلك. *

(*) أقول: هذا شرط ثان للعمل بخبر الواحد وهو أن يكون الراوي مسلماً، وهو شرط متفق عليه والدليل على اشتراطه الاجماع؛ فإنّه لا خلاف في أن الكافر لا تقبل روايته لأنّ منصب الرواية من اشرف المناصب فلا يقبل هاهنا قول الكافر لخسته واهانته.

لا يقال: كيف تصح دعوى الاجماع على ذلك وأبوحنيفة قد قبل شهادة بعضهم على بعض؟ لأنّا نقول: لا يلزم من قبول شهادتهم قبول روايتهم، والفرق أن قبول الرواية أعظم من قبول الشهادة، فإنّ الرواية حكم على كلّ المكلفين المسلم والكافر؛ بخلاف الشهادة ولا يلزم من القبول في أضعف المنصبين القبول في أتمّهما على أنّ أبا حنيفة صرّح بعدم قبول الرواية، فلا يكون ذلك خارقاً للإجماع، أقصى ما في الباب انّه يلزم النقص لكن مع حصول الفرق يندفع.

الدليل الثاني(1) على الاشتراط قوله تعالى: «إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» أمرنا بالتثبت عقيب اخبار الفاسق، والكافر فاسق بعرف الشرع في أوّل الوضع؛ وإن كان المتأخرون من الفقهاء لا يطلقونه إلّاعلى المسلم فإنّه لا اعتداد به.

ص: 455


1- . الدليل الأوّل هو الإجماع.

قال: والمبتدع بما يتضمن التكفير كالكافر عند المكفّر، وإمّا غير المكفِّر فكالبِدَع الواضحة، وما لا يتضمّن التكفير إن كان واضحاً كفسق الخوارج ونحوه، فرده قوم وقبله قوم.

الراد: «إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ» وهو فاسق.

القابل: نحن نحكم بالظاهر، والآية أولى لتواترها وخصوصها بالفاسق، وعدم تخصيصها وهذا مخصص بالكافر والفاسق المظنون صدقهما باتفاق.

قالوا: أجمعوا على قبول قتلة عثمان.

ورُدّ بالمنع أو بأنّه مذهبُ بعضٍ.

وأمّا نحو خلاف البسملة وبعض الأُصولِ وإن ادُّعي القطعُ فليس من ذلك لقوّة الشبهة من الجانبين. *

وبعض القائلين بأنّ خبر الكافر غير مقبول؛ استدل على ذلك بأنّه لا يُوثق به فلا يكون مقبول الرواية قياساً على الفاسق، والجامع هو الخروج عن الأوامر الشرعية.

واستضعف المصنف هذا الدليل لابتنائه على أن الكافر غير موثوق به، وهو باطل فإنّه قد يوثق بقوله ويغلب على الظن صدقه إذا علم تدينه وإن من شرعه تحريم الكذب؛ فإنّ مع هذين الإعتقادين يغلب على الظن صدقه بخلاف الفاسق المشارك له في أحد الاعتقادين دون الاخر.

(*) أقول: لما ذكر اشتراط الإسلام وبيّن حال الكافر في قبوله وعدم...

ص: 456

....................

قبوله؛ شرع في أحوال المنتمي إلى الملّة الإسلامية، فإن كان مبتدعاً فلا يخلو أمّا ان تتضمن بدعته التكفير أو لا.

أمّا الأوّل فكالمجسمة فاختلف الناس في ذلك فمن ذهب إلى التكفير فإنّه كالكافر عنده، وأمّا غير المكفر فإنّه يجريه مجرى المبتدع ببدعة واضحة، وسيأتي حكمها.

وأمّا ما لا تتضمن التكفير فلا تخلو بدعته أمّا أن تكون واضحة أو لا.

فإن كانت واضحة كفسق الخوارج ونحوه فقد اختلفوا فيه فذهب قوم إلى أنّه مردود الرواية، وذهب آخرون إلى أنّه مقبولها.

إحتجّ الأولون بقوله تعالى: «إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» أَمرَنا بالتثبت عند مجيء الفاسق، والمبتدع فاسق، فوجب التثبت عند قوله.

واحتج الآخرون بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «نحن نحكم بالظاهر»(1) أوجب الحكم بالظاهر مطلقاً، والمبتدع إذا كان مظنون الصدق كان قوله ظاهراً، فوجب الحكم به؛ والاستدلال بالآية أولى لثلاثة أوجه:

الأوّل: أنّ الآية مقطوع بها والحديث مظنون فلا يعارضها.

الثاني: ان الآية مخصوصة بالفاسق وقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «نحن نحكم بالظاهر» عامٌّ في كلّ ظاهر فالآية مانعة من قبول الفاسق بالتنصيص عليه والحديث مقتض لتجويز العمل بقوله لدخوله تحت ما دلّ عليه الحديث والخاص مقدم على العام.

الثالث: أنّ الحديث مخصوص بالكافر والفاسق إذا ظن صدقهما فإنّ

ص: 457


1- . مرت الاشارة لهذا الحديث في صفحة: 404 فراجع.

قال: وأمّا مَنْ يَشربُ النبيذَ ويلعبُ بالشطرنج ونحوه من مجتهدٍ ومقلدٍ فالقطعُ أنّه ليس بفاسقٍ وإن قلنا: إنّ المصيب واحد، لأنّه يؤدّي إلى تفسيق بواجب. وإيجاب الشافعي الحدّ لظهورِ أمر التحريم عنده. *

قولهما ظاهر ومع ذلك فهما غير مقبولين إجماعاً، والآية غير مخصوصة؛ ولا شكّ في أن الاستدلال بالعام الّذي لم يلحقه التخصيص أولى من الاستدلال بالعامّ المخصوص.

واحتج الآخرون أيضاً بإجماعٍ الصحابة على قبول أخبار قتلة عثمان مع ظهور فسقهم عند جميعهم.

والجواب: المنع من الإجماع.

سلّمنا لكن لا نسلّم وضوح فسقهم عند جميعهم، فإنّ بعض الصحابة كعمار بن ياسر والاشتر وغيرهما لا يعتقد فسق قتلة عثمان، بل بعضهم.

وأمّا الخلاف في البسملة وبعض الأُصول الّتي اختلف فيها، وإن ادعى قوم القطع بأنّه من الفسق الواضح أو من قبيل ما يكفر به؛ فليس من ذلك لقوة الشبهة الحاصلة من الجانبين، وهذا قد سلف.

(*) أقول: هذا هو القسم الثالث(1) وهو المبتدع الّذي لا تتضمن بدعته...

ص: 458


1- . من انواع التعريف في المنطق، التعريف بالقسمة، وهي تتم بطريقتين: القسمة الثنائية والقسمة التفصيلية، والتفصيلية بدورها تنقسم إلى عقلية واستقرائية. والطريقة المعتمدة هنا هي القسمة الثنائية وحاصلها:

قال: ومنها رجحان ضبطه على سهوه لعدم حصول الظنّ. *

كفراً وهي تتضمن فسقاً غير مقطوع به - بل هو مظنون - كالقائل بشرب النبيذ وجواز لعب الشطرنج وما ماثلها من المسائل الفروعية الّتي وقع فيها الخلاف؛ فالمصنّف قطع بأنّه ليس بفاسق سواء قلنا إنّ المصيب واحدٌ أو أكثر من واحد، أمّا إذا قلنا المصيب أكثر من واحد فظاهر وأمّا إن قلنا المصيب واحد فلأنّا لو فسَّقناه مع غلبة ظنه بالحكم الخطأ لوجب أنّ يفسق بالواجب والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: انّ المجتهد إذا غلب على ظنه أحد طرفي الحكم، وجب عليه العمل به - وان كان مخطئاً في نفس الأمر - فلو فسق بخطابه لزم بفسقه بالواجب. وأمّا بطلان التالي فظاهر.

قال الشافعي: أحدُّ الحنفي على شرب النبيذ وأقبل شهادته، لظهور التحريم عنده.

(*) أقول: هذا شرط ثالث(1) للعمل بخبر الواحد وهو مما لا خلاف فيه.

وتحقيقه أنّه لو تساوىٰ ضبطه لما يرويه، أو سمعه، وسهوه، أو يترجح سهوه؛ لما حصل الظن بصدقه قطعاً، ومتى لم يحصل الظن لم يجز العمل.

ص: 459


1- . كان الشرط الأوّل البلوغ، والشرط الثاني الإسلام.

قال: ومنها العدالة وهي حافظة دينية تَحمِلُ على ملازمة التقوى والمروءَةٍ ليس معها بدعة، وتتحقق باجتناب الكبائر وترك الاصرار على الصغائر، وبعض الصغائر وبعض المباح.

وقد اضطُربَ في الكبائر، فروى ابن عمر: «الشرك باللّٰه، وقتل النفس، وقذف المحصنة، والزنا، والفرارُ من الزحف، والسحرُ، وأكلُ مال اليتيم، وعقوقُ الوالدين المسلمين، والالحادُ في الحرم».

وزاد أبو هريرة: «وأكل الربّا».

وزاد عليّ عليه السلام: «السرقة وشرب الخمر».

وقيل: ما توعّد الشارع عليه بخصوصه.

وأما بعض الصغائر فما يدلُ على الخسّة كسرقة لُقْمَةٍ والتطفيف بحبة.

وبعض المباح كاللعب بالحَمَام والاجتماع مع الأراذل والحِرف الدنيّة ممن لا تليق به ولا ضرورة.

وأمّا الحريّة والذكورة وعدم القرابة والعداوة فمختص بالشهادة. *

(*) أقول: هذا هو الشرط الرابع لقبول الرواية وهو متفق عليه وهو العدالة، ومعناها: «كيفية راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروّة، وليس معها بدعة حتى تحصل غلبة الظن بصدقه».

وهذه الصفة إنّما تحصل باجتناب الكبائر وترك ملازمة الصغائر...

ص: 460

....................

واجتناب بعض الصغائر وبعض المباحات.

أمّا الكبائر، فاختلفوا في تفسيرها؛ فروى ابن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «الكبائر تسع؛ الشرك باللّٰه تعالى، وقتل النفس، وقذف المحصنة، والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين المسلمين، والإلحاد في بيت اللّٰه الحرام - أي الظلم فيه -».(1)

وروى هذا أبوهريرة وزاد عليه: «أكل الربا».

وروي عن علي عليه السلام زيادة على ذلك: «شرب الخمر، والسرقة».

وقال قوم: «الكبائر ما توعد الشارع عليه بخصوصه» وهو تفسير الشيخ أبي جعفر الطوسي.

وأمّا بعض الصغائر المشترط سقوطها في العدالة فهي الصغائر الدالة على الخسّة ودناءة النفس كسرقة لقمة والتطفيف(2) بحبّة.

وأمّا بعض المباح فهو الدال على نقص المروة كاللعب بالحمام والاجتماع مع الاراذل، والإفراط في المزاح، والحِرَف الدنيّة ممن لا تليق به مع عدم ضرورته اليها.

ويشترط في الشهادة عند الجمهور زيادة على ذلك؛ الحرية، والذكورة، وعدم القرابة، وعدم العداوة؛ وهذه الأشياء لا تشترط في الرواية على الأظهر وان كان بعضها غير مشترط [في الشهادة](3) عند الإمامية.

ص: 461


1- . نقل هنا الحديث باختلاف في: السنن الكبرى: 10/186؛ كنز العمال: 3/540، برقم 7800.
2- . التطفيف هو النقص والبخس في المكيال.
3- . في نسخة «ب» فقط.

قال: مسألة:

مجهول الحال لا يُقَبلُ. وعن أبي حنيفة قبولُهُ.

لنا: الأدلةُ تمنع من الظن فخولِفِ في العدل فيبقىٰ ما عداه.

وأيضاً الفسقُ مانعٌ فوجب تحقُقُ ظَنَّ عدِمِهِ كالصِّبا والكُفْر. *

حكم خبر مجهول الحال

(*) أقول: اختلف الناس في رواية مجهول الحال، فرده أكثرُ الأُصوليين وهو مذهب الشافعي وأحمد والإمامية وغيرهم وأوجبوا في قبول الرواية، الخبرة الباطنة بالراوي.

وقال أبوحنيفة: يُكتفى في قبول روايته بظهور الإسلام منه.

والدليل على المذهب الأوّل وجهان:

الأوّل: أن نقول الأدلة تمنع من العمل بالظن وهي العمومات الدالة على المنع من اتباع الظن، خالفناها في العدل لزيادة الظن عند قوله فيبقى ماعداه على الأصل؛ ولا يلزم من العمل بأقوى الظنين العمل بأضعفهما.

الثاني: أنّ الفسق مانع من قبول الرواية فوجب العمل بعدمه عند العمل بالرواية.

أمّا المقدمة الأُولى: فلقوله تعالى: «إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» أوجب التثبّت عند مجيء الفاسق لأجل فسقه....

ص: 462

قال: قالوا: الفسق سبب التثبّت، فإذا انتفى انتفى.

قلنا: لا ينتفي إلّابالخبر أو التزكية.

قالوا: نحن نحكم بالظاهر.

ورُدَّ بمنع الظاهر، وبنحو: «وَ لاٰ تَقْفُ» .

قالوا: ظاهر الصدق كإخباره بالزكاة، وطهارة الماء ونجاسته، ورق جاريته.

ورُدَّ بأنّ ذلك مقبول مع الفسق، والرواية أعلىٰ رتبة. *

وأمّا الثانية: فلانّ شرط العمل بالرواية زوال المانع، فإنّ مع وجود المانع لا يتحقق الأثر، والمانع هاهنا هو الفسق؛ فوجب تحقق عدمه عند العمل بالرواية لأنّ الشكّ في حصول الشرط يستلزم الشك في حصول الأثر، كما أنّا لا نقبل الراوي إلّا إذا علمنا انتفاء صباه وكفره لمّا كانا مانعين.

(*) أقول: هذه أدلة أبي حنيفة على قبول رواية مجهول الحال:

الأوّل: الاستدلال بقوله تعالى: «إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» ، رتب الحكم بالتثبت على حصول وصف الفسق الصالح للعلّية فوجب كونه علة، خصوصاً مع ذكر «الفاء» الدالّة على السببية؛ وإذا كان الفسق سبباً للتثبت وجب عدم التثبت عند عدم الفسق.

والجواب: الحكم بعدم الفسق إنّما يصحّ بالخبرة والمصاحبة المتأكدة أو بالتزكية من العدل....

ص: 463

....................

الثاني: قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «نحن نحكم بالظاهر واللّٰه يتولى السرائر»، ولا شك أنّ الظاهر من حال المسلم العدالة فوجب الحكم بخبره.

والجواب: المنع من كونه ظاهراً بل إنّما يكون ظاهراً مع العلم بصدق الراوي، ولو سُلِّم انّه ظاهر لكنّه مدفوع بقوله تعالى: «وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(1) ، «إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً»(2) إلى غير ذلك من الآيات المانعة من الظن بما ليس بعلم خص بها خبر العدل، فلا يلزم تخصيصه بخبر المجهول للفرق في غلبة الظن.

الثالث: أنّه ظاهر الصدق فوجب قبوله كالعدل، أمّا المقدمة الأُولى فلأنّا نصدقه في زكاة اللحم، وطهارة الماء، ونجاسته، ورقّ جاريته والاعتراف بولده إلى غير ذلك؛ وإنّما قُبِل قولُه فيها لظهور صدقه على كذبه، فيجب أن يكون كذلك في سائر إخباراته. وأمّا الثانية فظاهرة.

والجواب: إنّ هذه الاخبارات مقبولة وإن عُلِم فسقُ المخبر بها؛ وأيضاً الرواية أعلى منصباً من هذه الإخبارات فلا يقاس عليها للفرق.

ص: 464


1- . الاسراء: 36.
2- . يونس: 36.

قال: مسألة:

الأكثر أن الجَرح والتعديل يثبتُ بالواحد في الرواية دون الشهادة، وقيل: لا فيهما.

نعم فيهما، الأوّل شرطٌ فلا يزيد على مشروطه كغيره.

قالوا: شهادة فيتعدّد.

واُجيبَ بأنّه خبرٌ.

قالوا: أحوط.

واُجيب بأنّ الآخر أحوطُ، والثالث ظاهر. *

الجرح والتعديل

(*) أقول: لما بيّن أنّ الفاسق لا يقبل قوله وجب عليه البحث عن معرفة طريق العدالة والفسق أعني الجرح والتعديل، واختلف الناس في قبول قول الواحد فيهما فذهب الأكثر إلى أنّ قول الواحد مقبول في الجرح والتعديل في الرواية دون الشهادة.

وقال آخرون: إنّه لا يقبل في الرواية والشهادة، وذهب قوم إلى أنّه مقبول في الرواية والشهادة.

احتج الأولون بإنّ التزكية شرط في قبول خبر الواحد فلا يزيد على...

ص: 465

....................

مشروطه(1) كالتزكية في الشهادة فإنّ الحكم إنّما يثبت بشاهدين وكذلك التزكية(2). وأيضاً الإحصان الّذي هو شرط الرجم يثبت بشاهدين وان كان المشروط يثبت بأربعة فالشرط هاهنا أدون من المشروط؛ ولمّا كان قول الواحد مقبولاً في الرواية وجب أن تكون تزكية الراوي يُكتفىٰ فيه بالواحد.

احتج مَنْ منع، بأنّ التزكية والجرح شهادتان فلا يقبل قول الواحد فيهما كسائر الشهادات.

والجواب: إنّهما خبر وليس بشهادة، فلا يفتقر إلى التعدد وليس ذلك القول أولى من هذا.(3)

قالوا: بل الأوّل(4) أولىٰ لكونه أحوط.

قلنا: بل الثاني أولى لانّه حينئذٍ أحوط، فإنّه يستلزم المحافظة والإتباع لأوامر اللّٰه تعالى، وأمّا القول الثالث فظاهر(5).

ص: 466


1- . فالتزكية تثبت بقول الواحد أيضاً.
2- . أي: أن التزكية تثبت بشاهدين كذلك.
3- . يعني: ليس القول بأنها شهادة أولىٰ من القول بأنها خبر.
4- . أي: القول بأنها شهادة أولىٰ.
5- . يعني انّه ظاهر من خلال أدلة طرفي النزاع.

قال: مسألة:

قال القاضي: يكفي الإطلاق فيهما.

وقيل: الشافعي: في التعديل.

وقيل: بالعكس.

وقال الإمام: إن كان عالماً كفى فيهما، وإلّا لم يكف.

القاضي: إن شهد من غير بصيرة لم يكن عدلاً وفي محلّ الخلاف مُدَلِّسٌ.

وَاُجيب بأنّه قد يبني علىٰ اعتقاده أو لا يعرِف الخلاف.

الثاني: لو اكتفى لاثبت مع الشك به للالتباس فيهما.

اُجيب بأنّه لاشك مع اخبار العدل.

الشافعيةُ: لو اكتفى في الجرح لأدّى إلى التقليد للاختلاف فيه العكسُ: العدالة ملتبسة لكثرة التصنّعِ بخلاف الجَرح.

الإمامُ: غير العالم يُوجب الشكّ. *

(*) أقول: اختلف الناس في المعدِّل والجارح إذا اطلقا العدالة والجرح من غير ذكر سببهما هل يفيدان أم لا؟

فذهب القاضي أبوبكر وغيره إلى الاكتفاء بالاطلاق من غير ذكر السبب، وقال قوم انّه لا يكفي الاطلاق فيهما، وذهب الشافعي إلى أنّه لابدّ من ذكر السبب...

ص: 467

....................

في الجَرحِ دون التعديل، ومنهم من عكس ذلك، وقال الإمام(1): إن كان المزكّي والجارح عالماً بأسباب العدالة والجرح كفى الاطلاق وإلّا لم يكفي.

احتج القاضي بأنّ الجارح والمزكي إن شهد بالعدالة والجرح من غير بصيرة لم يكن عدلاً، فإنّ العدل لا يشهد إلّاعن بصيرة وعلم؛ وإن شهد عن بصيرةٍ وعلمٍ مع صدقه وجب أن يكون ما أخبر به من العدالة والجرح حقاً.

لا يقال: سبب الجرح والتعديل مختلف فيه فلعله جَرح من لا يكون مجروحاً عند غيره، فلابد من ذكر السبب وكذلك في العدالة؛ لأنّا نقول: الظاهر من حال العدل العالم بمواقع الخلاف في الجرح والتعديل، إنّه لا يطلقهما إلّامع حصول الوفاق على أحدهما، فإن إطلاقه مع الخلاف تلبيس وتدليس.

والجواب: لِمَ لا يجوز أن يكون قد بنى الأمر على اعتقاده؟! قوله: يكون مدلساً.

قلنا: لا نسلم، فإنّ من يخبر ويشهد إنّما يخبر باعتقاده فلا يلزم التدليس.

سلَّمنا، لكن إنّما يتم ذلك على تقدير أن يكون عارفاً بالخلاف فيما يوجب الجرح؛ أمّا إذا لم يعلم الخلاف بل ظَنّ أنّ ذلك السبب مما يوجب الجرح من غير مخالفة، فإنّه يطلق حينئذٍ ظاناً حصول الاجماع، وليس كذلك.

احتج من قال بعدم الاكتفاء بالاطلاق فيهما بانّه لو اُكتفي بالاطلاق لا تثبت العدالة والجرح مع الشك، والتالي باطل فالمقدم مثله. بيان الشرطية: إنّ الناس اختلفوا في الأسباب الموجبة للجرح وذلك مما يوجب الالتباس في الجرح

ص: 468


1- . أي: إمام الحرمين الجويني، انظر: البرهان: 1/400.

....................

والتعديل، وإذا جوزنا الالتباس المسبب على الجارح والمزكي حصل الشك ومع الشك لا يصح الاكتفاء.

والجواب: لا نسلم وقوع الشك مع إخبار العدل البصير بمواقع الخلاف.

واحتج الشافعي بأنّ اسباب الجرح مختلف فيها، فالجارح إذا اطلق جاز ان يكون قد جرح بما لا يوجب الجرح عند المجتهد فلو كان قوله مقبولاً لكان المجتهد مقلداً للراوي في كون ذلك السبب موجباً للجرح، والتالي باطل لما يأتي؛ فالمقدم مثله.

واحتج من قال بانّ العدالة لابدّ من ذكر سببها بأنَّ العدالة ملتبسة بغيرها لكثرة التصنع ومسارعة الناس إلى الاطلاق بالعدالة بناءً على الظاهر، وذلك لا يكون محصلاً للثقة، وأمّا الجرح فإنّه متى حصل لم تبق الثقة بقول المجروح حاصلة فلا يجوز العمل بروايته.

وأمّا إمام الحرمين فإنّه قال: التعديل والجرح من غير العالم يوجب الشك فلا يكون مقبولاً بدون ذكر سببهما لجواز أن يجرح ويعدل بناء على ما يعتقده سبباً لهما وليس بسبب، وأمّا العالم فإنّه لعلمه لا يطلقهما إلّامع علمه بهما وذلك إنّما يكون في موضع الوفاق، إذ لو كان السبب الموجب للجرح أو التعديل مختلفا فيه لعلم الخلاف فيه ولو علمه لنقله مفصلاً.

ص: 469

قال: مسألة:

الجرح مقدّم. وقيل: الترجيحُ.

لنا: أنّه جمعٌ بينهما فوَجَبَ، أمّا عند إثبات معيّن، ونفيهِ باليقين فالترجيح. *

التعارض بين الجرح والتعديل

(*) أقول: اختلف الناس في الجرح والتعديل إذا تعارضا، فقال قوم إنّ الجرح مقدم؛ وقال آخرون بالترجيح بينهما.

واعلم أنّ الجارح إمّا أن لا يعيّن السبب الموجب للجرح أو يعيّن، فإن كان الأوّل فقوله مقدم على المعدّل لجواز إطلاعه على ما لم يطلع عليه المعدّل فحينئذ لا يتنافيان فيجب الجمع بينهما، أمّا إذا رجحنا المعدلّ سقط قول الجارح مع عدم المنافاة وهو محال؛ وامّا إذا عيّن السبب الموجب للجَرح ونفاه المعدِّل باليقين، فهاهنا يقع التعارض بينهما ويجب الترجيح.

ص: 470

قال: مسألة:

حكم الحاكم المشترط العدالة بالشهادة: تعديل باتفاقٍ، وعملُ العالم مثلهُ. ورواية العدل: ثالثها.

المختار تعديلٌ إن كانت عادته أنّه لا يروي إلّاعن عدل، وليس من الجرح وترك العمل في شهادةٍ ولا رواية، لجواز معارضٍ ولا الحدُّ في شهادة الزنا لعدم النصاب، ولا بمسائل الاجتهاد ونحوها ممّا تقدّم، ولا بالتدليس على الأصحّ كقول مَنْ لَحِقَ الزهريُ، قال الزهري موهماً أنّه سمعه. ومثل وراء النهر يعني غير نهر «جيحان». *

طرق الجرح والتعديل

(*) أقول: أعلى مراتب التعديل(1) أن يقول المزكي هذا عدل ويذكر السبب، وتساويه في المرتبة، الحكم بشهادته إذا كان الحاكم لا يرى قبول شهادة الفاسق وإلّا لكان الحاكم فاسقاً؛ وإنّما تساويا وكانا أعلى المراتب، لوقوع الاتفاق عليهما بخلاف البواقي فإنّها مختلفة فيها. وعمل العالم بروايته داخل تحت الحكم بالشهادة فإنّه أيضاً متفق عليه إذا كان العالم لا يرى قبول قول الفاسق؛ وتتلو هذه المرتبة رواية العدل عنه.

ص: 471


1- . انظر: البرهان: 1/624؛ المحصول: 2/1/590؛ الإحكام للآمدي: 2/79؛ المستصفىٰ: 1/163.

....................

واختلف الأُصوليون فيه فقال قوم إنّه تعديل وإلّا لكان رواية العدل عنه تلبيساً؛ وقال آخرون إنّه لا يكون تعديلاً لأنّ العدل كما له أن يروي عن العدل [و] له أن يروي عن الفاسق.

واختار المصنف التفصيل(1) وهو الأولى، فقال: إن كان العدل من عادته أنّه لا يروي إلّاعن العدل فروايته عنه تعديل وإلّا فلا.

وأمّا ترك العمل بالشهادة والرواية فإنّه لا يكون جرحاً لجواز ان يكون الترك حصل لعارض أو لنسيان في الشهادة أو غير ذلك، وكذلك الحد في الشهادة بالزنا لعدم النصاب الذي هو كمال الشهود لأنّه لم يأت بصريح القذف وإنّما هو في معرض الشهادة، ولا يلزم الفسق بالخطأ في مسائل الاجتهاد.

واختلفوا في التدليس هل يدل على التفسيق؟ فذهب قوم إلى المنع وهو الذي ذهب إليه المصنف، وذلك كقول من لم يلق الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: (قال الرسول صلى الله عليه و آله و سلم)، موهماً أنّه سمعه؛ وكقول القائل: حدّثني فقيه من وراء النهر، ويريد به غير نهر جيحان. وذهب قوم إلى أنّه دالّ على الفسوق لأنّه غاشٌ.

ص: 472


1- . وهو مختار الآمدي في الإحكام، ينظر: الإحكام: 2/100.

قال: مسألة: الأكثرُ: على عدالة الصحابة وقيل: كغيرهم.

وقيل: إلى حين الفتن، فلا يقبل الداخلون؛ لأنّ الفاسق غير معيّن.

وقالت المعتزلةُ: عدولٌ إلّامَنْ قاتل علياً عليه السلام.

لنا: «وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ»(1) ، «أصحابي كالنجوم»، وما تحقق بالتواتر عنهم من الجدّ في الامتثال.

وأمّا الفتن فتحمل على اجتهادهم، ولا إشكال بعد ذلك على قولّي المصوِّبةِ وغيرهم. *

عدالة الصحابة

(*) أقول: اختلف الناس(2) في الصحابة فذهب الأكثر إلى عدالتهم،(3) وقال آخرون أنّهم كغيرهم من الرواة يجب البحث عن عدالتهم، وذهب قوم إلى عدالتهم إلى حين ظهور الفتن وبعد ذلك يعلم أن منهم فاسقاً قطعاً وهو غير معيّن فلا واحد منهم إلّاويجوز أن يكون هوالفاسق فلا يقبل قولهم، وقالت المعتزلة: كلّ من قاتل علياً عليه السلام فهو فاسق وماعداه عدل.

واستدل المصنف على عدالة الصحابة بقوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ» اشارة إلى اصحابه، وبقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «أصحابي كالنجوم، بايّهم اقتديتم اهتديتم»، ولأنّه نقل عنهم نقلاً متواتراً أنّهم كانوا يجدّون في الامتثال للأوامر الصادرة عن

ص: 473


1- . الاعراف: 64.
2- . مر منا أن كلمة «الناس» في الروايات تعني أهل السنة.
3- . انظر: الإحكام للآمدي: 2/81؛ المنخول للغزالي: 266؛ البرهان لإمام الحرمين: 1/626.

قال: مسألة: الصحابي مَنْ رآه صلى الله عليه و آله و سلم وإن لم يرو، وإنِ لم تَطُلْ؛ وقيل: إن طالت.

وقيل: إنْ اجتمعا.

وهي لفظيةٌ وإنْ ابتنىٰ عليها ما تقدم.

لنا: يقبل التقييد بالقليل والكثير فكان للمشترك كالزيارة والحديث، ولو حَلَفَ ألا يَصحَبَهُ حنث بلحظة.

قالوا: «أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ»(1) ، «أصحاب الحديث» للتلازم.

قُلنا: عُرفٌ في ذلك.

قالوا: يصحُ نفيُهُ على الوافِد والرائي.

قلنا: نفيُ الأخصّ لا يستلزم نفيَّ الأعمِّ. *

الرسول صلى الله عليه و آله و سلم؛ وأمّا الفتن فإنّها محمولة على أنّها صدرت عن اجتهاد ولا اشكال حينئذٍ في ذلك ولا يلزم التفسيق على قول المصوبّة وغيرهم، أمّا المصوبة فظاهر وأمّا غيرهم فلأنهم وإن كانوا مخطئين عندهم لكن المخطئ في الاجتهاد بعد الاستقصاء ليس بفاسق.

في تعريف الصحابي

(*) أقول: لما بحث عن حال الصحابة من عدالتهم وفسقهم، أخذ في بيان(2)الصحابي ما هو؟ فقال الجمهور: «إنّه من رآه صلى الله عليه و آله و سلم سواء طالت مدة صحبته أو

ص: 474


1- . يونس: 26.
2- . انظر: الإحكام للآمدي: 2/82؛ المستصفىٰ: 2/65؛ المعتمد: 2/666.

....................

لم تطل وسواء روى عنه أو لم يرو»، و هذا مذهب أحمد بن حنبل؛ وذهب آخرون إلى «أنّ الصحابي هو الّذي تطول مدة صحبته»؛ وقال قوم: «إنّ الصحابي من طالت صحبته مع الرواية عنه صلى الله عليه و آله و سلم»؛ وهذه المسألة لفظية وإن ابتنى عليها ما قبلها من تعديل الصحابة وتفسيقهم.(1)

واستدل المصنف على مذهبه بأنّ الصحبة تُقيّد بالقليل والكثير، فيقال:

«صحبه زماناً طويلاً وقصيراً»، والصادق على الشيئين مشترك بينهما كالزيارة والحديث القابلة للكثرة والقلّة؛ وأيضاً لو حلف الإنسان ألّا يصحب غيره فإنّه يحنث بصحبته ولو لحظة واحدة.

احتجّ المخالف بأنّ العرف لا يطلق لفظة الصحبة إلّامع طول المعاشرة، ولهذا يقال: «أصحاب الجنة» و «أصحاب الحديث» لمن طالت صحبتهما أو تطول، لا لمن يلبث في الجنة لحظة واحدة، ولا لمن يسمع حديثاً واحداً.

والجواب: أنّ هذا عرف طارئ في هذين المعنيين دون غيرهما.

قالوا: يصحّ أن تنفىٰ الصحبة عن الوافد والرائي.

قلنا: قد بيَّنا أنَّ الصحبة بالنظر إلى العرف اللغوي تطلق على من قلّت صحبته وكثرت، وتطلق بالعرف الاستعمالي على المتطاول الصحبة؛ والنفي إنّما هو للمعنى العرفي بحسب الاستعمال لا بحسب اللغة ولا يلزم من نفي الخاص وهو الصحبة الدائمة، نفي الصحبة مطلقاً.

ص: 475


1- . قال السُبكي: «وفي كونها لفظية مع ابتناء ما مضىٰ عليها، نظر ظاهر» رفع الحاجب: 2/404.

قال: مسألة:

لو قال المعاصر العدل: أنا صحابيٌّ، احتملَ الخلاف. *

قال: مسألة:

العدد ليس بشرط، خلافاً للجُبّائي فإنّه اشترط خبراً آخر، أو ظاهراً، أو انتشارَهُ في الصحابة، أو عَمَلَ بعضهم، وفي الخبر: «الزنا أربعةً».

والدليل والجواب ما تقدّم في خبر الواحد.

ولا الذكورة، ولا البصرُ؛ ولاعدم القرابةِ، ولا عدمُ العداوةِ، ولا الإكثار، ولا معرفة نسبه، ولا العلمُ بفقهٍ أو عربيةٍ، أو معنى الحديث لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «نضّر اللّٰهُ امرءً...»، ولا موافقة القياس خلافاً لأبي حنيفة. **

(*) أقول: إذا قال العدل المعاصر للرسول صلى الله عليه و آله و سلم: «أنا صحابي» يحتمل أن يقال أنّه صادق لأن العدالة تنفي إقدامه على الكذب، ويحتمل أن يقال أنّه يثبت لنفسه مرتبة شريفة هي الصحبة فيكون متهماً كالعدل المدعي.

(**) أقول: هذه شروط اختلف الناس فيها:

الأوّل: العدد؛ فالمشهور أنّه يقبل خبر الواحد العدل من غير انضمام غيره إليه وهو قول أبي جعفر الطوسي من أصحابنا. ونقل عن الجبّائي أنّه لا يقبل خبر العدل إلّاإذا انضم إليه خبر عدل آخر، أو كان الخبر موافقاً لظاهر، أو يكون الخبر منتشراً فيما بين الصحابة، أو ان يعمل به بعض الصحابة؛ ونقل عنه انّه لا يقبل في خبر الزنا إلّاأربعة.(1) والدليل على وجوب العمل بخبر الواحد العدل...

ص: 476


1- . انظر: المستصفىٰ: 1/165؛ المعتمد: 2/667.

قال: مسألة: إذا قال الصحابي: «قال صلى الله عليه و آله و سلم»، حُمِلَ على أنّه سَمِعَهُ مِنْهُ.

وقال القاضي: مَتردِّدٌ فيُبنىٰ على عدالة الصحابةِ. *

مطلقاً ما تقدم.

الثاني: لا تشترط الذكورة لما اشتهر من الصحابة قبول خبر النساء كخبر عائشة وام سلمة.

الثالث: البصر ليس بشرط لأنّهم كانوا يروون عن عائشة من غير إبصار لها.

الرابع: عدم القرابة ليس بشرط ولا عدم العداوة لاتفاق الصحابة على ذلك؛ ولا الإكثار من سماع الأحاديث لما اشتهر من الصحابة قبول الخبر وإن لم يكثر رواية؛ وكذلك لا يشترط أن يكون معروف النسب إذا اجتمع فيه شروط القبول؛ ولا يشترط فيه العلم بالفقه والعربية ومعنى الحديث لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «نضّر اللّٰه امرءً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه».

الخامس: لا يشترط في القبول موافقة القياس خلافاً لأبي حنيفة، فإنّه لا يقبل رواية غير الفقيه فيما يخالف القياس، لأنّ القياس لا يصحّ إلّامع عدم النص.(1)

إذا قال الصحابي: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم

(*) أقول: ذهب الأكثر(2) إلى أنّه إذا قال الصحابي: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 477


1- . هذا وجه عدم صحة ما ذهب إليه أبو حنيفة.
2- . انظر: الإحكام للآمدي: 2/86؛ المستصفىٰ: 1/129؛ المحصول: 2/1/638.

قال: مسألة: إذا قال: سمعتُهُ أَمَرَ أو نهىٰ، فالأكثر حُجّةٌ؛ لظهوره في تحققه لذلك.

قالوا: يحتمل أنّه اعتقدَ، وليس كذلك عند غيره.

قلنا: بعيد. *

كذا»، كان محمولاً على أنّه قد سمِعَه منه لأنّ الغالب من الصحابي أنّه لا يطلق القول الاّ إذا كان قد سَمِعَه منه.

وقال القاضي أبو بكر إنّه لا يدل على ذلك بل يحتمل أن يكون قد سَمِعَهُ من رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، ويحتمل قد سمعه من غيره فيتردد بينهما.

وإذا احتمل أن يكون قد سمعه من غيره، فإن قلنا إنّ الصحابة بأسرهم عدول كان بمنزلة ما لو سمعه من الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وإن لم نقل بذلك بل لابد من البحث عنهم، وجب البحث عن الراوي؛ ويكون حكم هذا الحديث حكم مراسيل التابعين وتابعي التابعين.

(*) أقول: اختلف الناس فيما إذا قال الصحابي سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يأمر بكذا وينهىٰ عن كذا - وهذه المرتبة دون المرتبة الأُولى(1) - فقال الاكثرون إنّه حجة لأنّ الظاهر من الصحابي العدل أنّه لا يطلق الأمرَ والنهيَ إلّامع تحققهما في موضع الوفاق، وذلك يقتضي كونه حجّة؛ وذهب آخرون إلى أنّه ليس بحجة لأنّ الحجة إنّما هي في لفظ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، فلعله اعتقد ما ليس بأمر أمراً وما ليس بنهي نهيّاً لاختلاف الناس في صيغة الأوامر والنواهي ولعله اعتقد أن الأمر بالشيء نهيٌ

ص: 478


1- . أي: مرتبة «سمعته أمر أو نهىٰ»، دون مرتبة «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم».

قال: مسألة: إذا قال: أُمرنا، و [أو] نُهِينا، أو أُوجبَ، أو حُرِّم، فالأكثر: حجة، لظهوره في أنّهُ الآمر.

قالوا: يحتملُ ذلك، وأنّه أمرُ الكتاب، أو بعض الأئمةِ، أو عن استنباط.

قلنا: بعيدٌ. *

عن جميع اضدادها والنهي عن الشيء أمرٌ بأحد أضداده، وغيره لا يعتقد ذلك فلا يكون حجة عنده.

والجواب: إن هذا بعيد ووجه بعده أنّ عدالة الراوي ومعرفته بمواضعات اللغة يقتضيان عدم اطلاقه الأمر والنهي إلّافي موضع الوفاق.

(*) أقول: هذه المرتبة دون المرتبتين الأوليين؛ وقد اختلف فيها مذهب الشافعي إلى أنَّ قول الصحابي: أمرنا بكذا أو نُهينا أو اُبيح لنا أو أُوجب علينا؛ مضاف إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، وتبعه على ذلك جماعة؛ وذهبت طائفة أُخرى منهم الكرخي إلى أنّه لا يجب إضافة ذلك إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

احتج الشافعي بأنّ العادة قاضية بأنّ المتمسك بخدمة غيره كالوزير إذا خرج إلى الرعية وقال: «أُمرنا بكذا»، فإنّ العادة تقضي بأنّ الآمر هو السلطان؛ فكذلك الصحابي الملتزم بخدمة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم الظاهر من حال قوله: «أُمرنا ونهينا» أنَّ الآمر والناهي إنّما هو الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

واحتج غيره بأنّه يحتمل إضافة الآمر إلى الكتاب، أو بعض الأئمة، أو الاستنباط؛ ومع هذه الاحتمالات لا يحكم بالاضافة إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم....

ص: 479

قال: مسألة: إذا قال: من السنة كذا، فالأكثرُ: حجّة لظهوره في تحققها عنه، خلافاً للكرخي. *

قال: مسألة: إذا قال: كنّا نفعل أو كانوا، فالأكثرُ: حجّة، لظهوره في عمل الجماعة.

قالوا: لو كان، لما ساغت المخالفة.

قُلنا: لأنّ الطريق ظنّي كخبر الواحد النصّ. **

والجواب عنه أنّه بعيد كالأوّل.

(*) أقول: هذه مرتبة دون المراتب المتقدمة؛ وقد اختلفوا فيها، فذهب الأكثر إلى أنّه حجة لأنّ العادة قاضية بأنّ الصحابي لا يقول من السنّة كذا إلّاويكون مريداً به سنة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

وذهب أبو الحسن الكرخي(1) إلى أنّه يحتمل أن يكون من السنة المضافة إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وأن يكون من السنة المضافة إلى الصحابة(2) لقوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي...».

والجواب: أن سنة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم هي الظاهرة عند الاطلاق فتحمل عليها.

(**) أقول: اختلف الناس في هذه المرتبة وهي دون ما تقدم؛ فقال

ص: 480


1- . أبو الحسن الكرخي عبيد اللّٰه بن الحسين المتوفى سنة 340 ه كان معتزليّاً أخذ الكلام عن أبي عبد اللّٰه البصري المعتزلي، وله رسالة في الأُصول، عليها مدار فروع الحنفيّة. انظر الأعلام للزركلي: 4/193، وطبقات الفقهاء: 4/257.
2- . انظر البرهان: 1/649.

قال: ومستند غير الصحابي قراءةُ الشيخ، أو قراءتُهُ عليه، أو قراءة غيره عليه، أو إجازته أو مُناولتهُ أو كتابته بما يرويه، فالأوّل اعلاها على الأصحّ إلّاأنّه إذا لم يقصد إسماعَهُ، قال: «قال»، «وحدّث»، «وأخبر»، «وسمعته». *

الجمهور إنّه حجّة لأنّ الظاهر أنّ قول الصحابي «كنا نفعل»، أو «كانوا يفعلون» إنّما هو إشارة إلى عمل الجماعة وعمل الجماعة حجّة؛ وذهب آخرون إلى أنّه ليس بحجّة والاّ لما ساغ مخالفته لأنّه يكون مخالفاً للاجماع؛ وهذه الملازمة باطلة لأنّ كون ذلك إجماعاً ليس معلوماً بل مظنوناً، والأدلة الظنّية يجوز مخالفتها كخبر الواحد إذا كان منه نصاً قاطعاً لايحتمل التأويل، فإنّه يجوز فيه الاجتهاد من حيث وقوع الظن في الطريق.

مستند غير الصحابي

(*) أقول: لما ذكر مراتب رواية الصحابي، شرع في بيان مراتب رواية غير الصحابي وهي متفاوتة؛ فأعلاها قراءة الشيخ فإنّها أقوى من قراءة الراوي عليه لاحتمال الغفلة والسهو و هذا الاحتمال وان يطرق في قراءة الشيخ إلّاأنّه أبعد، ثمّ إنّ الشيخ إن قصد إسماع الراوي جاز أن يقول: «حدثني وأخبرني» وإن لم يقصد اسماعه قال: «قال كذا» أو «حدث» أو «اخبر» أو «سمعته يقول كذا».

واعلم أنّه فرق بين حدّث وأخبر، فإن الأوّل لا يطلق إلّاعلى الإخبار باللفظ، والثاني قد يقال للمكتوب.

ص: 481

قال: وقراءته عليه من غير نكيرٍ ولا ما يوجب سكوتاً من إكراهٍ أو غفلة أو غيرها، معمولٌ به خلافاً لبعض الظاهرية؛ لأن العرف تقريرُهُ، ولأنّ فيه إبهام الصحة فيقول: «حدّثنا» أو «أخبرنا» مُقيَّداً أو مطلقاً على الأصحّ.

ونقله الحاكم غير الأئمة الأربعة، وقراءة غيرهِ كقراءته. *

(*) أقول: هذه المرتبة دون الأُولى وهي قراءته على الشيخ وسكوت الشيخ عن الإنكار من غير سبب للسكوت من إكراه أو غفلة وغير ذلك، واتفق الأكثر على العمل به خلافاً للظاهرية؛ والدليل عليه وجهان:

الأوّل: إنّ العرف يقضي بأن قراءته عليه من غير نكير تقرير له على ذلك فيجوز له الرواية عنه.

الثاني: إنْ كان خطأ لوجب على الشيخ اشعاره به فسكوته مع القدرة على الإنكار يكون فسقاً، إذ فيه ابهام كونه صحيحاً.

واختلفوا في العبارة عن هذه الرواية فأجازوا أن يقول: «حدثنا فلان وأخبرنا قراءة عليه»، واختلفوا في أنّه هل يجوز أن يقول حدثنا مطلقاً أو اخبرنا مطلقاً؟ فأجازه قوم لأنّ سكوته إخبار، وهذا المذهب منقول عن الأربعة، وقال آخرون لا يجوز لأنّه يتضمن كذباً، فان الشيخ لم يخبر ولم يحدث؛ وكذلك قراءة غير الراوي على الشيخ وسماعه منه فإنّه بحكم الأوّل.

ص: 482

قال: وأمّا الاجازة للموجود المعيّن، فالأكثر على تجويزها، والأكثر على منع «حدّثني» و «أخبرني» مطلقاً. وبعضهم: ومقيّداً، وأنبأني اتفاقٌ للعرف، ومنعها أبو حنيفة، وأبو يوسف؛ ولجميع الأُمّة الموجودين الظاهِرُ قبولُها لأنّها مثلها، وفي نسل فلانٍ، أو من يوجد من بني فلانٍ ونحوه خلافٌ واحضٌ.

لنا: أنّ الظاهر أنّ العدلَ لا يروي إلّابعد علم أو ظنٍّ. وقد أُذن له، وأيضاً فإنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يرسل كُتبَهُ مع الآحاد وان لم يعلموا ما فيها.

قالوا: كَذِب لأنّه لم يُحدِّثهُ.

قلنا: حدثّه ضمناً كما لو قرأ عليه.

قالوا: ظنٌ فلا يجوز الحكم به كالشهادة.

قلنا: الشهادة آكدُ. *

(*) أقول: هذه مرتبة ثالثة وهي مرتبة الاجازة وهي على قسمين لأنّها إمّا أن تكون الإجازة للموجود أو للمعدوم والأوّل إمّا أن تكون منحصرة في شخص بعينه أو غير منحصرة:

فالأوّل:(1) وهو الإجازة لشخص معيّن بأن يقول الشيخ: «أجزت لك ان تروي عني الكتاب المعين»، هل هي جائزة أم لا؟

اتفق الأكثر على جوازها خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف، واتفق الأكثر

ص: 483


1- . الأوّل من فرعي الاجازة للموجود.

....................

من الفريق الأوّل على أنّ للراوي أن يقول: «حدثني» أو «اخبرني إجازة عليه» ومنع بعضهم من ذلك، واتفق الكل على امتناع أن يقول حدثني أو اخبرني مطلقاً(1)لاشتماله على الكذب.

والثاني(2): وهو الاجازة لجميع الموجودين، اختلفوا في قبولها، والاظهر القبول لانّ هذه الاجازة بمنزلة الأولى.

الثالث(3): الاجازة للمعدوم كقول الشيخ اجزت لمن يولد لفلان، فهذا فيه خلاف أيضاً.

إذا عرفت هذا فنقول: الظاهر قبول الاجازة، لأنّ العدل الظاهر من حاله أنّه لا يخبر إلّاما علم صحته أو غلب على ظنه صحته وقد اذن في الرواية فتكون سائغة؛ وأيضاً فإنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم كان يرسل إلى البلاد الكتب مع من لا يعرف ما فيها فلو لم تكن الاجازة بالرواية مقبولة لكان ذلك البعث خالياً عن الفائدة.

احتجوا بأنّه لو أخبر عنه لكان كاذباً لأنّه لم يُحدِّثه بشيء.

قلنا: لا نسلم إنّه لم يحدِّثه، وهذا كما لو قرأ الراوي على الشيخ فإن الشيخ لم يحدثه قطعاً بل ضمناً؛ كذلك هاهنا، فساغ له الرواية بالإجازة كما ساغ له الرواية بالقراءة عليه لاشتراكهما في الإخبار على سبيل التضمّن.

ص: 484


1- . أي: من دون أن يقيد التحديث والإخبار بأنّه من طريق إجازة الشيخ له.
2- . أي: الثاني من فرعي الاجازة للموجود.
3- . وهو قسيم «الاجازة للموجود» ولم يكن فرعاً له كما يوهم الترقيم.

قال: مسألة: الأكثرُ: على جَوازِ نقل الحديث بالمعنى للعارف.

وقيل: بلفظ مرادفٍ.

وعن ابن سيرين: منعه.

وعن مالك: أنّه كان يُشدِّدُ في «الباء» و «التاء»، وحُمِلَ على المبالغة في الأَولىٰ.

لنا: القطع بأنّهم نقلوا عنه أحاديث في وقائع متَّحدَةٍ بألفاظٍ مختلفة شائعةٍ وذائعة ولم ينكره أحدٌ. *

واحتجوا أيضاً بأنّ الإجازة تفيد الظن فلا يجوز الرواية بها كالشهادة.

والجواب: الفرق بين الشهادة والرواية ظاهر، فإنّ الشهادة آكد لما اشتملت عليه من الشروط الّتي خلت عن اكثرها الرواية.

حكم نقل الحديث بالمعنىٰ

(*) أقول: اختلف الناس في أنّه هل يجوز نقل الحديث بالمعنى(1) إذا كان الراوي عالماً؟ فذهب الشافعي وابوحنيفة والحسن البصري(2) وغيرهم إلى جوازه؛ وذهب ابن سيرين وطائفة من المحدثين إلى المنع منه؛ وذهب آخرون إلى الجواز لكن بشرط أن يكون اللفظ الّذي أتى به الراوي مرادفاً للفظ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم؛

ص: 485


1- . انظر: الإحكام للآمدي: 2/93؛ المعتمد: 2/141؛ البرهان لإمام الحرمين: 1/655.
2- . هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، من أئمة التابعين ولد لسنتين بقيا من خلافة عمر وتوفي سنة 110 ه، إمام أهل البصرة في كل فن، من أشهر كتبه تفسير القرآن.

قال: وأيضاً: ما روي عن ابن مسعود وغيره أنّه قال: قال صلى الله عليه و آله و سلم كذا أو نحوه، ولم ينكره أحدٌ.

وأيضاً: أجمع على تفسيره بالعجميّة، والعربيةُ أولى.

وأيضاً: فإن المقصود المعنى قطعاً وهو حاصلٌ. *

والّذي نقل عن مالك من التشديد في الباء والتاء بمعنى أنّه كان يمنع من ابدال الباء بالتاء في قولنا باللّٰه وتاللّٰه؛ فهو محمول على مبالغته في الأَولى لوقوع الاتفاق بين الناس على أنّ الأَولى الإتيان بلفظ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مهما أمكن لا على المبالغة في وجوب الإتيان بلفظه فإنّه كان يجوز النقل بالمعنى بشرط الاتيان بالمرادف.

والدليل على ما ذهب إليه الجمهور وجوه:

الأوّل: إنّا نعلم قطعاً أنّ الصحابة نقلوا أحاديث عنه صلى الله عليه و آله و سلم في وقائع كثيرة بالفاظٍ مختلفة والواقعة واحدة مع عدم الانكار فيكون ذلك من الاجماع السكوتي.

(*) أقول: هذه هي الأوجه الباقية الدالة على جواز نقل الحديث بالمعنى وتقريرها ان نقول:

[الثاني:] اجمع الصحابة على ترك الانكار على قول ابن مسعود وغيره في قولهم عند الرواية أنّه «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم كذا أو نحوه» مع قدرتهم على الانكار، وذلك يدل على حصول الإجماع بجواز نقل الحديث بالمعنى.

الثالث: أنّه قد أجمع الناس على جوازتفسيره بالعجمية، ولأجل ذلك كان الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ينفذ الرسل إلى غير لسانهم، فيكون التعبير عن المعنى بلفظ آخر عربي أولى.

الرابع: إنّ القصد إنّما هو المعنى وذلك حاصل سواء نقله بذلك...

ص: 486

قال: قالوا: قال صلى الله عليه و آله و سلم: «نضّر اللّٰه امرءً».

قلنا: دعا له لأنّه الأولى، ولم يمنعه.

قالوا: يُؤدّي إلى الإخلالِ، لاختلاف العلماء في المعاني وتفاوتهم، فإذا قُدِّر ذلك مرّتين أو ثلاثاً، اختلّ بالكُليّة.

وأُجيب: بأنّ الكلام فيمن نقل بالمعنىٰ سواء. *

اللفظ أو بغيره، والصغرى ظاهرة والكبرى مفروضة.

(*) أقول: احتج المخالف بالنص والمعقول:

أمّا النص فقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «رحم اللّٰه امرءً سمع مقالتي فوعاها ثمّ أدّاها كما سَمِعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» وأداء ما سمعه كما سمعه إنّما هو بنقل اللفظ بعينه؛ وقوله: «فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» أشار بذلك إلى أن السامع قد يكون أعلم من الراوي فيستفيد بذلك اللفظ المنقول ما لا يستفيده الراوي، فوجب على الراوي نقل اللفظ بعينه.

وأمّا المعقول فهو انّه لو جاز للراوي نقل الحديث عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بالمعنى لجاز ذلك للراوي عن الراوي بل هو أولى، إذ تبديل لفظ الراوي أولى من تبديل لفظ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم؛ وعلى هذا التقدير يلزم الاختلال لأنّ الراوي الأوّل قد يغفل عن بعض فوائد اللفظ، والراوي الثاني قد يغفل عن بعض آخر، وهكذا إلى أن يختل المعنى بالكلية.

والجواب عن الأوّل ان نقول: إنّه صلى الله عليه و آله و سلم دعا لمن أدّى المقالة كما سمع، وليس فيه منع عن النقل بالمعنى، وأيضاً فإنّ الناقل للمعنى يقال أنّه قد نقل كما...

ص: 487

قال: مسألة: إذا كذّبَ الأصلُ الفرعَ سَقَطَ، لكذب واحد غير معيّن، ولا يقدح في عدالتهما. فإنْ قال: لا أدري فالأكثرُ يُعمَلُ خلافاً لبعض الحنفية، ولأحمد روايتان.

لنا: عدلٌ غير مكذَّبٍ كالموت والجنون.

واستُدلَّ بأنّ سهيل بن أبي صالح روى عن أبيه عن أبي هريرة أنّه قضىٰ باليمين مع الشاهد ثمّ قال لربيعة: لا أدري، فكان يقول: حدّثني ربيعةُ عنّي.

قلنا: صحيحٌ، فأين وجوب العمل؟

قالوا: لو جاز لجاز في الشهادة.

قلنا: الشهادة أضيق.

قالوا: لو عُمِلَ به لعمل الحاكم بحكمه إذا شهد شاهدان ونسي.

قلنا: يجب ذلك عند مالك، وأحمد، وأبي يوسف، وإنّما يلزمُ الشافعيةَ. *

سمع ولذلك يقال للترجمان إنّه أدّى كما سمع، فكذا هاهنا.

وعن الثاني، إن هذا الفرض مندفع لأنّا فرضنا نقل المعنى كما هو.

تكذيب الأصلِ الفرع

(*) أقول: إذا انكر الراوي الأصل رواية الفرع عنه فلا يخلو إمّا أن يكون...

ص: 488

....................

انكار تكذيب أو انكار توقف:

فإن كان الأوّل، فلا يعرف خلافاً في أنّ الرواية غير مقبولة لأنّ الأصل والفرع مختلفان فلابد وأن يكون أحدهما صادقاً والآخر كاذباً، فإن كان الكاذب هو الفرع لم تقبل روايته، وإن كان هو الأصل لم تقبل رواية الفرع أيضاً، ولا يكون أحدهما فاسقاً لأنّا نعلم عدالتهما وكلّ واحد يجوز أن يكون هو الفاسق فلا يترك المقطوع به لأجل الشك.(1)

وإن كان الثاني،(2) فقد اختلفوا في أنّه هل تقبل رواية الفرع أم لا؟ فذهب أكثر المتكلّمين إلى القبول وهو مذهب الشافعي، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه؛ وذهب الكرخي وغيره من الحنفية وفي رواية أُخرى لأحمد إلى المنع.

والدليل على المذهب الأوّل أنّ نقول: الفرع عدلٌ روى حديثاً من غير تكذيب فيكون مقبولاً، أمّا الصغرى فلأنّ الأصل وإن انكر الرواية إلّاأنّه لا يكون مكذباً له فيكون كالميت والمجنون؛ وأمّا الكبرى فظاهرة. واستدل بعض من ذهب إلى القبول، بالإجماع؛ وتقريره: أنّ ربيعة بن أبي عبد الرحمن(3) روى عن...

ص: 489


1- . وفيه نظر، للعلم الاجمالي بكذب احدهما لا على التعيين وذلك مثل سقوط الدم في أحد الانائين لا على التعيين؛ فلا يصح الحكم ببقاء عدالتهما.
2- . أي: كان الانكار انكار توقف.
3- . هو أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، واسم أبي عبد الرحمن: فروخ، مولى التيميين تيم قريش، مفتي المدينة، المعروف بربيعة الرأي، روىٰ عن أنس والسائب بن يزيد، وروىٰ عنه سفيان وشعبة ومالك وسهيل. يلحظ: الجرح والتعديل: 3/475، برقم 2131؛ سير أعلام النبلاء: 6/89، برقم 23.

....................

سهيل بن أبي صالح(1) عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم انّه قضى باليمين مع الشاهد ثمّ أن سهيلاً نسبه وكان يقول: حدثني ربيعة عنّي أنّي حدثته بكذا عن أبي هريرة [عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم](2)؛ ولم ينكر عليه أحدٌ فكان إجماعاً.

والجواب: أنّ هذا صحيح ولكن ليس في الحديث دلالة على وجوب العمل.

واستدل المخالف بوجهين.

الأوّل: أنّه لو جاز للفرع الرواية مع نسيان الاصل، لجاز مثل ذلك في الشهادة، وكان يقبل قول الشاهد مع نسيان الأصل، ولما كان التالي باطلاً كان المقدم مثله.

والجواب: أن الشهادة أضيق من الرواية ولذلك يشترط فيها ما لا يشترط في الرواية.

الثاني: انّه لو جاز قبول رواية الفرع مع نسيان الأصل لجاز للحاكم أن ينفذ بما حكم به أولاً إذا نسي ذلك وشهد عليه شاهدان.

و الجواب: الالتزام بصدق التالي و هو مذهب مالك و أحمد و أبي يوسف(3)خلافاً للشافعي.

ص: 490


1- . سهيل بن أبي صالح، واسمه ذكوان السمان، أبو يزيد المدني، مولى جويرية بنت الأحمس امرأة من غطفان، روىٰ عن أبيه والحارث بن مخلد الأنصاري الزرقي وحبيب بن حسان وغيرهم، وروىٰ عنه ربيعة بن أبي عبد الرحمن وإبراهيم بن محمد الفزاري، وإسماعيل بن جعفر وغيرهم. انظر: تهذيب الكمال: 12/224، برقم 2629.
2- . الاحكام: 2/119.
3- . هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، صاحب أبي حنيفة وتلميذه، أوّل من نشر مذهبه، واستقلّبرئاسة أصحاب أبي حنيفة بعد وفاته، وهو أوّل من وضع الكتب في أُصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، مات سنة 182 ه. لاحظ: الأعلام للزركلي: 8/193؛ طبقات الفقهاء: 2/640، برقم 729.

قال: مسألة:

إذا انفرد العدلُ بزيادة والمجلسُ واحدٌ؛ فإن كان غيره لا يغفلُ مثلهم عن مثلها عادةً، لم يُقبل، وإلّا فالجمهور: تُقبَل.

وعن أحمد روايتان.

لنا: عدلٌ جازمٌ فوجب قبولُه.

قالوا: ظاهرُ الوهمِ، فوجب ردُّه.

قلنا: سهوُ الإنسانِ بأنّه سَمِعَ ولَمْ يسمع بعيدٌ بخلاف سهوه كمّا سمع فإنّه كثيرٌ، فإنّ تعدد المجلس قبل باتفاقٍ، فإن جُهل فأولىٰ بالقبول.

ولو رواها مرّة وتركها مرّة فكروايتين، وإذا أسنَدَ وأرسلوه أو رفعه ووقفوه، أو وصله وقطعوه فكالزيادة. *

انفراد العدل بالزيادة

(*) أقول: إذا روى الراوي حديثاً ورواه غيره مع زيادة فلا يخلو إمّا أن يكون المجلس واحداً أو متكثراً؛ فإن اتّحد المجلس فالراوي للأصل إن كان يغلب على الظن أنّه لا يغفل عن مثل هذه الزيادة كما لو كانوا جماعة كثيرة، لم تقبل هذه الزيادة وحملت رواية الراوي العدل على أنّه سمعها من غير الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وسها في نسبتها إليه....

ص: 491

....................

وان لم تكن كذلك(1) فلا يخلو الراوي للأصل:

إمّا أن يجزم بنفي الزيادة مثل أن يقول: «قال: رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم كذا» وسكت ثمّ انتظرته فلم يقل شيئا، وحينئذٍ يعارض الراوي للزيادة ويرجع إلى الترجيح.

وإمّا أن لا يجزم بذلك فلا يخلو إما أن تكون الزيادة مغيّرة للإعراب الّذي رواه الأوّل أو لا، فإن كانت مغيّرة مثل أن قال الراوي قال صلى الله عليه و آله و سلم: «أدّوا عن كلّ ذكر صاعاً من بر» وقال الآخر: «قال: أدّوا عن ذكر نصف صاعٍ من بر» فهاهنا يتعارضان أيضاً، وإن لم يغيّر الاعراب فالجمهور على أنّ الزيادة مقبولة، وخالف في ذلك بعض المحدِّثين وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

والدليل على القبول إنّا نقول أنّه وجد المقتضي للقبول من غير معارض فوجب القبول، أمّا المقتضي فرواية العدل الجازم؛ وأمّا عدم المعارض فلأنّ المعارض ليس إلّاترك رواية الاخر للزيادة وليس بمعارض، لاحتمال أن يكون قد سها أو غفل أو خرج عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أو دخل بعد مضي قطعةٍ من الكلام، ومع هذه الاحتمالات اندفعت المعارضة.

قالوا: إنّ الظاهر أنّه قد وهم في نقل الزيادة فإن غفلة غيرِه أبعد من غفلته.

قلنا: بل الأمر بالعكس، فإنّ سهو الإنسان عن ترك ما سمعه غير مستبعد وسهوه عن ما لم يسمعه أنّه سمعه مستبعد، هذا إذا اتحد المجلس؛ وإن تعدد فلا خلاف في قبول الزيادة.

وأمّا إذا جُهل الحال في أنّ الرواية وقعت مع الرواية الأُخرى في مجلس

ص: 492


1- . أي: لم يغلب على الظن أنّه لا يغفل عن الزيادة.

....................

واحد أو أكثر فالحكم فيه كما مضىٰ فيما إذا اتحد المجلس، وقبول الزيادة هاهنا أولى لاحتمال اختلاف المجلس؛ وإلى هذا أشار المصنف بقوله: «فإن جُهل فأولى بالقبول» ولم يزد: «ان مع الجهالة يكون قبول الزيادة أولى مما إذا يكثر المجلس»، فإنّه يكون غلطاً.

هذا إذا تعدد الراوي؛ أمّا إذا كان الراوي للزيادة هو الراوي للأصل،(1)فالحكم فيه كذلك.(2)

والحكم في الاسناد والارسال والوقف والرفع والاتصال والقطع كالحكم في الزيادة، فإنَّ أحد الراويين إذا اسند الحديث بأن يذكره عن الرواة ويسميهم؛ ويرسله الآخر بأن يقول: «قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم» مع أنّه لم يره، يكون المسند قد انفرد بزيادة الاسناد؛ وكذلك إذا رفعه أحد الراويين إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم ووقّفه الآخر على بعض الصحابة يكون الأوّل قد انفرد بزيادة؛ وكذلك إذا وصله أحد الراويين إلى الراوي الأعلى وقطعه الآخر، بإن يخلّي(3) بين الراويين رواة أُخرى لم يعرف حالهم فالواصل قد انفرد بزيادة.

ص: 493


1- . هذا عطف على قوله: «إذا روى الراوي حديثاً ورواه غيره مع زيادة...». في بداية المسألة.
2- . أي: حكمه حكم حال تعدد الرواة فيحصل التعارض ويرجع إلى الترجيح مثلاً.
3- . خَلّىٰ الأمر: تركه... وخلَّىٰ بينهما، تركهما مجتمعين؛ والّذي يخلّي بين الراويين الأعلى والأدنى هو الواصل وليس القاطع.

قال: مسألة: حذف بعض الخبر جائز عند الأكثر إلّافي الغاية والاستثناء ونحوه، مثلُ: «.. حَتّى تُزْهِي» و «إلّا سواءً بسواءٍ» فإنَّه مُمتنعٌ. *

حكم حذف بعض الخبر

(*) أقول: اختلف الناس في أنّه هل يجوز نقل بعض الخبر واهمال الباقي؟

فجوزه الجمهور ولكن بشرط أن لا يكون حذف الباقي مغيّراً للحكم المروي(1) وذلك كما في الغاية، لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تبيعوا الثمرة حتى تزهي»،...

ص: 494


1- . في معرض البحث عن «جواز حذف بعض الخبر» وبعد الاشارة إلى حديث للإمام الصادق عليه السلام في الحج حيث رواه مسلم ولم يروه البخاري، قال عبد الوهاب السُبكي: «... وهو جعفر الصادق الإمام الجليل، والبخاري لم يَروِ له. وللكلام في هذا موضع غير هذا العلم، وإن كنا نصغي إلى كلام من تكلّم في حفظ جعفر. والّذي نقطع به أنّه من سادات المسلمين علماً وديناً وإتقاناً». رفع الحاجب: 2/441. لابد هنا من وقفة! وهي ان عدم نقل البخاري حديث الإمام الصادق عليه السلام لو لم يكن نقصاً في صحيحه، لا يعد كمالاً له وهناك عتاب: إن الذهبي قد اثبت اسم البخاري في كتابه «المغني في الضعفاء» (2/268، رقم 5312) كما أنّه صرح في كتابه «سير أعلام النبلاء» (12/462) أن ابن أبي حاتم الرازي قد أورد اسم البخاري في كتابه: «الجرح والتعديل»، وأنَّه «قد ذكر كبار الحفاظ امتناع الإمامين الجليلين أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين عن الرواية عن محمد بن اسماعيل لأجل انحرافه في العقيدة في نظرهما». هذا؛ وقد قيل أن السُبكي قد عنىٰ الذهبي عندما استشاط غضباً في مقالته: «فياللّٰه والمسلمين! ايجوز لأحد أن يقول: البخاري متروك؟! وهوحامل لواء الصناعة ومقدم أهل السنة والجماعة... ثم ياللّٰه والمسلمين...» طبقات الشافعية: 2/12 و 13. تجد انّه قامت قيامة السُبكي امتعاضاً على من ذكر البخاري بسوءٍ فاستصرخ مستغيثاً: «ياللّٰه والمسلمين.. ثم ياللّٰه والمسلمين...»؛ ولكن عندما يساءُ لابن رسول اللّٰه واحد ابرز أئمة أهل البيت عليهم السلام، يتحدث بلغة هادئة ودم بارد وكأنّه لم يحدث شيء! وحتّى انّه يعتذر: «للكلام في هذا موضع غير هذا العلم»؟! ولكن اين؟ لا نعلم! إنها لمفارقة مؤسفة حقاً! يجدر أن يقال عنها: «تلك إذاً قسمة ضيزى» يندى لها الجبين! قال عمرو بن أبي المقدام: «كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنّه من سلالة النبيين، قد رأيته واقفاً عند الجمرة يقول: سلوني، سلوني». (سير اعلام النبلاء: 6/440). وعندما كان سفيان الثوري يسأله، كان يخاطبه: «يابن رسول اللّٰه». (المصدر نفسه: 6/443 و 445). ولعله لمثل الظُلامة المارة الذكر انبرىٰ عبداللّٰه بن المبارك وهو من زهّاد القرن الثاني وقد أخذ الفقه من سفيان الثوري ومالك بن أنس، انبرىٰ ينشد: انت يا جعفر فوق المد ح والمدحُ عناءُ إنّما الاشراف أرض ولهم انت سماءُ جازَ حدَّ المدحِ من قد ولدتهُ الأنبياء! نعم، ولدته الأنبياء، أكرم به حسباً ونسباً وكفىٰ!

....................

فلو نقل الراوي الحكم من غير ذكر الغاية لأختل الشرع؛ وكذلك الاستثناء لقوله: «لا تبيعوا البر إلّاسواءً بسواءٍ» فلو حذف الاستثناء لاختل الحكم؛ وكذلك الشرط كقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من قتل فاقتلوه» لو حذف الشرط لاختل الحكم؛ وأمّا ما عدا ذلك ممّا لا يختل الحكم بحذفه كقوله صلى الله عليه و آله و سلم عن ماء البحر: «هو الطهور ماؤه والحل ميتته»، لو حذف الباقي لكان الأوّل باقياً على حاله فهذا يجوز، لكون الحكمين في معنى الحديثين فكما جاز رواية احد الحديثين دون الآخر كذلك يجوز رواية أحد الحكمين دون الآخر.

ص: 495

قال: مسألة: خبر الواحد فيما تعم به البلوى، كإبن مسعود في مسّ الذّكر، وأبي هريرة في غسل اليدين، ورفع اليدين؛ مقبول عند الأكثر خلافاً لبعض الحنفية.

لنا: قبول الأُمّة في تفاصيل الصلاة؛ وفي نحو الفصد، والحجامة، وقبول القياس وهو أضعف.

قالوا: العادة تقضي بنقله متواتراً.

ردّ بالمنع، وتواتر البيع والنكاح والطلاق والعتق إتّفاقٌ، أو كان مكلَّفاً بإشاعته. *

(*) أقول: اختلف الناس في خبر الواحد إذا ورد فيما تعمّ به البلوى كخبر ابن مسعود في نقض الوضوء بمس الذَّكر، وخبر أبي هريرة في غسل اليدين عند الانتباه من النوم، وخبره أيضاً في رفع اليدين من الركوع؛ هل يكون مقبولاً أم لا؟ فذهب الشافعي، ومالك، وأبو جعفر الطوسي، وغيرهم إلى القبول؛ وخالف في ذلك الكرخي وبعض الحنفية؛ والدليل على قبوله الإجماع، فإنّه لا خلاف في أنّ مستند تفاصيل الصلاة وفروعها إنّما بقول خبر الواحد مع أنّه ممّا يعم به البلوى؛ وأيضاً فإن الخصم عوّل في حكم الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة والغسل على من مس ميتاً وغير ذلك على الخبر مع انّه ممّا يعم به البلوى؛ وأيضاً فإنّهم قد قبلوا القياس فيما تعم به البلوى وهو أضعف من خبر الواحد؛ قالوا إن العادة تقضي بأن ما يعم به البلوىٰ مقبول بالتواتر كما في النكاح والطلاق والعتق وغير ذلك، ولمّا لم ينقل بالتواتر دلّ على كذبه....

ص: 496

قال: مسألة: خبر الواحد في الحدّ مقبول خلافاً للكرخي والبصري.

لنا: ما تقدّم.

قالوا: ادرءوا الحدود بالشبهات، والإحتمال شبهة.

قلنا: لا شبهة كالشهادة وظاهر الكتاب. *

والجواب لا نسلم الملازمة ونقل النكاح والطلاق والعتق اتفاقي، أو أنّه صلى الله عليه و آله و سلم كان مكلفاً بإشاعة مثل هذه الاحكام إلى عدد التواتر، ولا يجب في كلّ حكم أن يكون كذلك بل أن يوصله إلى المكلفين بأسرهم إمّا بالتواتر أو بالآحاد.

(*) أقول: اختلف الناس في خبر الواحد هل يقبل في الحدود أم لا؟ فذهب الجمهور إلى ذلك ومنع منه أبوالحسن الكرخي وأبوعبد اللّٰه البصري.(1)

حجّة الجمهور ما تقدم من أنّه يفيد الظن به فيجب العمل به؛ احتج المخالف بأنّ خبر الواحد يحتمل الكذب فاحتمال الكذب شبهة موجبة لسقوط الحدّ لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: «ادرؤوا الحدود بالشبهات».(2)

والجواب: أن احتمال الكذب ليس بشبهة والاّ لما سُمِعت فيه الشهادة لأنّها توجب الظن ويجوز كذب الشهود، ولمّا كان التالي باطلاً كذلك المقدّم، وأيضاً فإنّما تثبت الحدود بظاهر الكتاب مع أنّه غير قاطع الدلالة فيكون الاحتمال شبهة وليس كذلك، فكذا هاهنا.

ص: 497


1- . انظر: المعتمد: 1/570، و 622؛ الإحكام للآمدي: 2/106.
2- . السنن الكبرى للبيهقي: 8/238؛ جامع المسانيد: 2/83.

قال: مسألة: إذا حمل الصحابي ما رواه على أحد محَملَيْه فالظاهر حمله عليه بقرينة، فإن حمله على غير ظاهره فالأكثر على الظهور، وفيه قال الشافعي: كيف اترك الحديث بقول من لو عاصرته لَحَجَجْتُهُ، ولو كان [نصاً] فيتعين نسخه بهذه، وفي العمل نظر؛ وإن عمل بخلاف خبره أكثر الأئمة فالعمل بالخبر إلّااجماع أهل المدينة. *

حكمُ حمل الصحابي مرويّه علىٰ أحد محمليه

(*) أقول: اللفظ الوارد عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم إمّا أن يكون مجملاً نسبته إلى المعاني بالسوية وإمّا أن لا يكون كذلك، وهو إمّا أن يكون ظاهراً في أحد تلك المعاني أو نصّاً قاطعاً فيه:

فالأوّل(1): إذا حمل الصحابي القول على بعض تلك المعاني، فالأولى حمله عليه لأنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لا يخاطب بالمجمل إلّابعد البيان بقرينة مقالية أو حاليّة والصحابي أعرف بمواقع الأحاديث، فلو لم يعلم إرادة الرسول لذلك المعنى لامتنع حمله عليه؛ وقيل بل يجب على المجتهد النظر في الترجيح، فإن لم يحصل كان قبول الصحابي مرجحاً.

والثاني(2): إذا حمله على غير ظاهره كحمله له على المعنى المجازي، فهاهنا الأكثر على مخالفة الصحابي وحمل اللفظ على المعنى الظاهر منه

ص: 498


1- . أي: ما كان مجملا، نسبته إلى المعاني بالسوية.
2- . أي: إذا كان ظاهراً في أحد تلك المعاني.

....................

وهو مذهب الشافعي والكرخي واكثر الفقهاء؛ وهاهنا قال الشافعي:

«كيف اترك الحديث بقول من لو عاصرته لحججته في الحديث».

وذهب بعض الحنفية إلى الاتِّباع لما حمله الراوي، وقال عبد الجبار:

«ان لم يكن لذلك التأويل وجه سوى أنّه علمه من قصد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وجب اتباعه وإلّا(1) وجب النظر، وهو مذهب أبوالحسين البصري(2) وهو عندي قوي».

والثالث(3): إذا كان نصاً وخالفه الراوي، وجب أن يكون منسوخاً عنده، وفي العمل به خلاف؛ والحق أنّه لا يترك العمل بقوله(4) لأنّه إنّما عمل بخلافه لاعتقاده وجود الناسخ في ظنه ولعل ما ظنه غير مطابق للأمر نفسه؛ وأمّا إذا عمل أكثر الأُمة بخلاف خبره فالاتباع إنّما هو للخبر لا للأكثر، لأنّ الاكثر ليس هم كلّ الأُمة فلا يكون إجماعاً ولا يكون عملهم معارضاً للخبر ألّاإجماع أهل المدينة فانهم إذا عملوا بخلاف الخبر وجب اتباعهم عند المصنف لأنّه يرى أنّ اجماع أهل المدينة حجة وهو مذهب مالك.

ص: 499


1- . أي: وإن لم يدر أنَّ علمه نشأ من معرفته بقصد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بل احتمل أن يكون المنشأ لما ذهب إليه نصاً أو قياساً مثلاً، يلزم النظر في ذلك النص أو القياس.
2- . المعتمد: 2/655.
3- . أي: إذا كان نصاً في أحد تلك المعاني.
4- . وهو الحديث الّذي رواه.

قال: مسألة:

الأكثر على أنَّ الخبر المخالف للقياس من كلّ وجه مقدّم.

وقيل بالعكس.

أبو الحسين: إن كانت العلّة بقطعي فالقياسُ، وإن كان الأصل مقطوعاً به فالاجتهاد.

والمختار: إن كانت العلّة بنصّ راجح على الخبر ووجودها في الفرع قطعي فالقياسُ، فإن كان وجودها ظنياً فالوقف، وإلّا فالخبر.

لنا: إنّ عُمَرَ تَركَ القياس في الجنين للخبر، وقال: لولا هذا لقضينا فيه برأينا، وفي ديّة الأصابع باعتبار منافعها بقوله: (في كلّ اصبع عشرٌ)، وفي ميراث الزوجة من ديته(1) وغير ذلك، وشاع وذاع ولم ينكره [أحد]. *

حكم مخالفة الخبر للقياس

(*) أقول: الخبر والقياس إذا تعارضا(2)؛ فإمّا(3) أن يتعارضا من كل...

ص: 500


1- . وفي نسخة أُخرى: «الدية».
2- . انظر: الإحكام للآمدي: 2/130؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 3/446.
3- . لم ينقح البحث هنا بصورة موضوعية سليمة وذلك لدمج مباحث متعارضة متضاربة في سياق واحد فجاء نسيجاً غير متناغم في ترتيباته وتدرجه ومكوناته.

....................

وجه،(1) أو من وجه دون وجه بأن يكون أحدهما عامّاً والآخر خاصّاً؛ فإن كان الأوّل فمذهب الشافعي وأحمد وجماعة من الفقهاء أنّ خبر الواحد مقدّم على القياس، وعند مالك أن القياس مقدّم.

وقال أبوالحسين البصري: إنّ علّة القياس إن كانت منصوصة على سبيل القطع فالقياس مقدّم -؛ وإن كان النص غير مقطوع به ولا حكم الأصل مقطوعاً به، فالخبر مقدم لاستواء النص الدال على حكم الأصل والخبر في الظن مع زيادة ظن في الخبر وهي كون دلالته بغير واسطة ودلالة القياس بواسطة؛ وإن كان الأصل مقطوعاً به والعلة غير منصوصة فهو موضع الاجتهاد؛ وإن كان الاصل ثابتاً بخبر الواحد والعلة منصوصة فخبر الواحد أولى.

وقال عيسى بن أبان(2): إن كان الراوي عالماً ضابطاً قُدّم خبره على القياس وإلّا فهو موضع اجتهاد.

وهذه المسألة ساقطة عند الإمامية.(3)...

ص: 501


1- . التعارض المصطلح في علم الأُصول هو التعارض بين الدليلين من كلّ وجه، ولو كانت العبارة كالآتي لكانت أقرب إلى لغة الأُصول: «... إذا تنافيا فإمّا التنافي من كلّ وجه أو...». راجع بهذا الصدد: «الوسيط في علم الأُصول» لشيخنا العلّامة السبحاني لتجد بحثاً شيّقاً، ممتعاً وضّاءً في بحث التعارض، وقد وضعه - دامت بركاته - للمرحلة المتوسطة في الدراسات الحوزوية.
2- . هو عيسى بن ابان بن صدقة بن مران شاه قاضٍ من كبراء فقهاء الحنفيّة، كان من أصحاب الحديث ثمّ غلب عليه الرأي، تولّى القضاء بالبصرة عشر سنين، كان سريع الإنفاذ للحكم، مات سنة 221 ه. لاحظ: الأعلام للزركلي: 5/100.
3- . لوضوح أن التعارض يحدث بين الحجتين والقياس لم يقم الدليل على حجّيته، بل قام الدليل على عدم حجيته، ولا تعارض بين الحجة واللاحجة فتسقط المسألة من الأساس.

....................

واختار المصنف أن العلة إنْ ثبتت عليتها بنص راجح على الخبر وكان وجودها في الفرع مقطوعاً به كان القياس راجحاً، وإن كان وجودها في الفرع ظنيّاً فالوقف؛ وإن لم يكن الخبر الدال على العلّية راجحاً على الخبر الدال على الحكم فالخبر مقدم.(1)

واستدل المصنف بوجوه:

أحدها: إنّ الصحابة تركوا اجتهادهم عند ورود الخبر، فإن عمر ترك القياس في الجنين بخبر حمل بن مالك وقال: «لولا هذا لقضينا فيه برأينا»، وترك القياس فى تفريق دية الأصابع على قلة منافعها بالخبر الدال على أنّ في كلّ إصبع عشر من الإبل، وترك الاجتهاد في المنع من توريث المرأة من دية زوجها، وأبوبكر نقض حكماً حكم به برأيه لحديث سمعه من بلال؛ وغير ذلك من الوقائع الكثيرة

ص: 502


1- . وقد كانت التفاتة كريمة من شيخنا الأُستاذ السبحاني حينما نبّه على أن هناك قياساً آخر غير الّذي عهدناه بين المتأخرين، ولعلّ الأمر قد التبس على البعض حيث ظن أن القياس السائد بين القوم وهو «تعميم حكم جزئي على جزئي آخر لتوفر علّة ظنية مشتركة بينهما» هو الّذي كان سائداً بين اسلافهم. وهذا خطأ فادح لأن القياس المتعارف بين المتأخرين لم يكن متبلوراً ومحدداً آنذاك مثلما هو عليه الآن، ويمكن القول بانّه قد أخذ طابعه الفعلي في نهاية القرن الثاني الهجري أو بداية القرن الثالث. في حين أن القياس الّذي كان عليه الأوائل والّذي شنَّ عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام هجوماً كاسحاً وبلا هوادة للقضاء على قواعده، هو الّذي عُرِّف ب «التماس العلل لأجل عرض النصوص عليها وتصحيحها»، وهذا هو الّذي قصده الإمام الصادق عليه السلام في رده على أبان: «يا أبان أخذتني بالقياس، والسنّة إذا قيست مُحق الدين»، راجع بهذا الصدد: «أُصول الفقه المقارن فيما لا نص فيه» لسماحة شيخنا الأُستاذ السبحاني - دامت افاضاته -.

قال: وأمّا مخالفة ابن عباس خبر أبي هريرة في الوضوء ممّا مسّت النار، فاستبعاد لظهوره وكذلك هو، وعائشة في «إذا استيقظ...»، ولذلك قالا: «وكيف نصنع بالمهراس». *

الدالة على الإجماع على ترك الإجتهاد مع خبر الواحد.(1)

(*) أقول: لمّا احتج بالاجماع على ترك الاجتهاد مع الخبر، ورد عليه المنع؛ وتقريره أن نقول: ان ابن عباس كان أحد الصحابة وقد رد الخبر بالقياس، فانّه رد خبر أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في التوضؤ بما مسته النار وقال: «ألسنا نتوضأ بماء الحميم»، وأيضاً فإن ابن عباس وعائشة ردا خبر أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في قوله: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً»(2)، لكونه مخالفاً للقياس.

والجواب عن الأوّل: إنّه استبعاد، فإن ذلك الماء طاهر فلا وجه للمنع؛

ص: 503


1- . لعمري إنّه لالتباس بمعنى الكلمة حيث لم يُميَّز بين قياس المتقدمين وقياس المتأخرين فإن الماتن قد جاء بشواهد من قياس الأولين لاثبات دعوى ترتبط بقياس الآخرين: «إنَّ هذا لشيء عجاب!». وزد أن قياس الأولين لم يقتصر على ما لا نص فيه كي يقال أنّهم تراجعوا بعد العثور على نص في مورده، لأن هناك قياسات رُجِّحت على النص نظمها السيد شرف الدين العاملي في كتابه الرّزين «النص والاجتهاد» في قرابة ستين مورداً، وقد عرّف العلّامة الحكيم في مقدمة «النص والاجتهاد» القياس هنا ب: «إعمال الرأي في التماس الحكم الشرعي، مع اغفال النص القائم على خلافه». وبذا وغيره ينجلي الخلط الّذي وقع بين موضوعات هذا المقطع من البدء إلى الخاتمة!
2- . صحيح البخاري: 1/49، كتاب الوضوء؛ صحيح مسلم: 1/160؛ مسند أحمد: 2/241 و 265، وغيرها.

قال: وأيضاً: أخّر معاذٌ العملَ بالقياسِ، وأقرّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وأيضاً: لو قُدّم لقُّدم الأضعف.

والثاني: إجماعٌ(1)؛ لأنّ الخبر يجتهد فيه في العدالة والدلالة، والقياس في سبب حكم الأصل، وتعليله، ووصف التعليل، ووجوده في الفرع، ونفي المعارض فيهما، وإلى الأمرين أيضاً إن كان الأصلُ خبراً. *

فليس الرد باعتبار مخالفة القياس.

وعن الثاني: إنّه استبعاد أيضاً، ولذلك قالا: «فكيف نصنع بالمهراس؟» وهو الحجر العظيم يُصبُّ فيه الماء لأجل الوضوء، فاستبعدا الخبر لأجل تعذر صب الماء على اليد من المهراس.

(*) أقول:

الوجه الثاني: في أنّ الخبر مقدم: أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال صلى الله عليه و آله و سلم: «بمَ تحكم؟ قال: بكتاب اللّٰه تعالى، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد برأيي، فقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: الحمد للّٰه الّذي وفق رسول رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لما يرضاه اللّٰه ورسوله» فقد أَخَّر معاذ القياس عن الخبر، والرسول صلى الله عليه و آله و سلم أقرّه على ذلك فوجب ان يكون متأخراً عنه.

الوجه الثالث: أنّ القياس لو قُدّم على الخبر لزم تقديم الأضعف على الأقوى، والتالي باطل اتفاقاً فالمقدّم مثله؛ بيان الشرطية: أنّ الخبر يتوقف

ص: 504


1- . الشارح قدس سره لم يشر إلى ما ورد في المتن من انعقاد الاجماع على تقديم الخبر على القياس، وما جاء في المتن بعد كلمة الإجماع يوهم التعليل في بادئ النظر.

قال: قالوا: خبر يحتمل الكذب والكفر والفسق والخطأ والتجوّز والنسخ.

واُجيب بأنّه بعيدٌ، وأيضاً فمُتَطرِّق إذا كان الأصل خبراً.

وأمّا تقديم ما تقدّم فلأنّه يرجع إلى تعارض خبرين عمل بالرّاجح منهما.

والوقفُ لتعارض الترجيحين، فإن كان احدهما أعمّ خُصّ بالآخر، وسيأتي. *

على البحث عن العدالة وكيفية الدلالة لا غير؛ وأمّا القياس فإنّه يتوقف على النظر في سبب حكم الأصل، وعلى النظر في أنّه هل هو معلَّلٌ أم لا، وعلى النظر عن الوصف الصالح للعلية وعلى الدلالة على وجود ذلك الوصف في الفرع، وعلى نفي المعارض عن الاصل، وعلى نفي المعارض عن الفرع، وعلى الأمرين اللذين توقف الخبر عليهما إن كان حكم الاصل ثبت بالخبر؛ ولا شك في أن ما يتوقف على مقدمات أقل، اقوى مما يتوقف على مقدمات تشتمل على الأقل وزيادة.

(*) أقول: احتج من قدّم القياس على الخبر بأنّ الخبر يحتمل مفاسد منفية عن القياس، فيكون القياس أولى.

بيان الأولى: أن الخبر يتطرق إليه كذب الراوي، وفسقه، وكفره، وخطاؤه؛ وأن يكون الخبر أريد منه مجازه، أو أنّه قد نُسِخ.

والجواب من وجهين:...

ص: 505

....................

الأوّل: بأن هذه الوجوه وان كانت ممكنة إلّاأنّها بعيدة لا يلتفت إليها في حصول الظن.

الثاني: أنّ هذه الاحتمالات عائدة في القياس إذا كان أصله خبراً، هذا إذا لم يكن الخبر الدال على العلّية راجحاً على الخبر الدال على الحكم، وأمّا إذا كان راجحاً وكان وجود العلة في الفرع مقطوعاً به فإن القياس راجح على الخبر، لأنّ حاصل هذا التعارض يرجع إلى تعارض الخبرين الدال أحدهما على العلة والآخر على الحكم إذ العلّة موجودة في الفرع قطعاً فيجب العمل بالراجح منهما وهو الدال على العلّة؛ وأمّا إذا كان وجود العلة في الفرع ظنيّاً فهاهنا تحصل المعارضة ويجب التوقف، فإنّ القياس وإن كان أقوى من الخبر من حيث أنّ الدال على العلة راجح على الدال على الحكم إلّاأنّه أضعف من حيث وجود العلة في الفرع(1)، فقد تعارض الترجيحان.

وامّا إذا كان أحدهما - أعني: القياس أو الخبر - أخص من الآخر، كان الخاص مخصصّاً للعام؛ وسيأتي بيان ذلك.

ص: 506


1- . يريد: أن القياس يدل على الحكم من طريق العلّة واما الخبر فيدل عليه مباشرة فيتعادلان في المرجّح، فيجب التوقف.

قال: مسألة: المُرسل، وهو أن يقول عدل ليس بصحابي(1):

قال صلى الله عليه و آله و سلم.

ثالثها: قال الشافعي ان اسنده غيره أو أرسله وشيوخهما مختلفة، أو عضدهَ قولُ صحابيٍّ أو أكثرِ العلماء أو عرف أنّه لا يرسل إلّاعن عدل، قُبِلَ.

ورابعها: إن كان من أئمة النقل، قُبل، وإلّا فلا وهو المختار.

لنا: أن إرسال الأئمة من التابعين كان مشهوراً مقبولاً ولم ينكره كابن المُسيّب والشعبي والنخعي والحسن وغيرهم.

فإن قيل: يلزم أن يكون التخالف خارقاً.

قلنا: خرق الإجماع الاستدلالي أو الظني لا يقدح، وأيضاً لو لم يكن عدلاً عنده لكان مدلّساً في الحديث. *

الآراء في المرسل والمنقطع

(*) أقول: اختلف الناس في المرسل هل هو مقبول أو لا؟(2) ومعنى المرسل هو إخبار من لم يلق الرسول عن الرسول من غير ذكر الواسطة، فذهب الجمهور

ص: 507


1- . وفي نسخة «ب» جاء ما يلي: أقوى عن الصحابي، قال صلى الله عليه و آله و سلم.
2- . انظر: الإحكام للآمدي: 2/136؛ المحصول: 2/228؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 3/459.

....................

من المعتزلة وأبوحنيفة ومالك إلى أنّه مقبول؛ وذهب آخرون إلى أنّه غير مقبول ؛ وقال الشافعي: إن كان الحديث أسنده غير الراوي أو أرسله وكانت الشيوخ مختلفة أو عضده قول بعض الصحابة أو أكثر العلماء أو عرف أن الراوي لا يرسل إلّاعن عدل، قُبل وإلّا فلا؛ وقال آخرون: إن كان الراوي من أئمة النقل(1) فهو مقبول وإلّا فلا، وهو اختيار المصنف.

واسْتدُلَّ على ذلك بالإجماع، فإن الصحابة والتابعين اجمعوا على قبول الحديث من العدل واشتهر ذلك فيما بينهم من غير إنكار من أحد منهم، فإنّ الصحابة قبلوا خبر عبد اللّٰه بن العباس مع أنّه لم يرو عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم(2) إلّاأربعة أحاديث، فلما روى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «إنّما الربا في النسيئة» رُجع إليه فقال:

أخبرني به أُسامة بن زيد؛ وروى: «أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم لم يزل يلبِّي حتى رمى جمرة العقبة»، فسُئل عنه فقال: أخبرني به أخي الفضل.(3)

وروى ابن عمر عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: «من صلى على جنازة فله قيراط من الأجر»، واسنده بعد ذلك إلى أبي هريرة.

وأمّا التابعون فإنّهم لم يزل مشهوراً عنهم مراسيل سعيد بن المسيب(4)، والشعبي(5)، والنخعي، والحسن البصري، وغيرهم؛ وذلك إجماع منهم على...

ص: 508


1- . وأئمة النقل، هم الذين لهم صلاحية الجرح والتعديل.
2- . أي أنّه لم يرو مباشرة لصغر سنه لأنّه ولد في السنة الثالثة قبل الهجرة.
3- . السنن الكبرى: 2/177، برقم 2977 و 180، برقم 2936.
4- . هو سعيد بن المسيب بن حزن المقرني المخزومي المدني، تابعي ولد لسنتين مضيتا من خلافة عمر مات سنة ثلاث وتسعين، انظر: تهذيب الكمال: 11/66، برقم 2358.
5- . هو أبو عمرو عامر بن شرحبيل الفقيه العاميّ، وهو من المعلنين بعدائه لأمير المؤمنين عليه السلام، انظر: معجم رجال الحديث: 10/210، برقم 6095.

قال: قالوا: لو قُبِل لقُبل مع الشّك، لأنّه لو سئل لجاز أن لا يعدل.

قلنا: في غير الأئمة.

قالوا: لو قُبل لقبل في عصرنا.

قلنا: لغلبة الخلاف فيه أمّا إن كان من أئمة النقل ولا ريبة تمنعُ، قُبِلَ.

قالوا: لا يكون للإسناد معنى.

قلنا: فائدته في أئمة النقل تفاوتهم ورفع الخلاف. *

قبول المرسل.

لا يقال: يلزم ان يكون تارك العمل بالمرسل خارقاً للاجماع، وهو باطل لكون خارق الاجماع عاصياً؛ لأنّا نقول: إنّ الإجماع إذا كان ظنيّاً أو استدلالياً لا يلزم خروج المخالف له عن العدالة.(1)

الوجه الثاني(2): في قبول المرسل.

إنّ الّذي أُسند عنه، عدل فيكون خبره مقبولاً، أمّا الصغرى فلأنّه لو لم يكن كذلك لكان الراوي فاسقاً من حيث أنّه قد دلس، والتالي باطل لأنّ الفرض عدالة الراوي، وأمّا الكبرى فظاهرة.(3)

(*) أقول: احتج القائلون بأنّ المرسل غير مقبول بوجوه:

ص: 509


1- . وبذا يرفض الاستدلال بالإجماع هنا.
2- . الوجه الثاني في الاستدلال على قبول المرسل وقد كان الوجه الأوّل هو الإجماع.
3- . سيأتي رد المصنّف على هذا الاستدلال.

....................

أحدها: انّ المرسل لو قُبل لقُبل مع الشك في كونه عدلاً، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الملازمة أنّه لو سُئل الراوي عن المسند عنه لجاز أن لا يعدله، وبيان بطلان التالي أن من شرط الرواية ثبوت العدالة فإذا كانت العدالة مشكوكة لم يثبت العمل بالرواية.

والجواب: إنّ هذا إنّما يكون في غير الائمة المشهورين، أمّا في حقهم فلا.

الثاني: قالوا: لو قُبل المرسل لقُبل في عصرنا حتى يكون قول الواحد منا: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم كذا، حجّة؛ والتالي باطل اتفاقاً فالمقدم مثله.

والجواب انّه:

إنّما لم يقبل في عصرنا لغلبة الخلاف فيه فأكثرهم ردّ المرسل، واختلفوا في أنّه هل يجوز إرسال الراوي العدل عمن ليس بعدل أو لا تعرف منه العدالة؟ فجوزه جماعة؛ وعلى هذا التقدير يظهر الفرق بين عصرنا وعصر المتقدمين الذين هم ائمة النقل فلا ريبة تمنع من قبول روايتهم المرسلة، فلذلك قُبل المرسل منهم دوننا.(1)

الثالث: إنّه لو قبل المرسل لم يكن للاسناد فائدة، والتالي باطل فالمقدم مثله.

والجواب: منع الشرطية(2) والفائدة العلم بتفاوت الناقلين في العدالة(3)، وأيضاً رفع الخلاف الحاصل من قبول المرسل وعدم قبوله.(4)

ص: 510


1- . يريد أهل العصر الذين غلب الخلاف بينهم في المرسل وأكثرهم يردّونه.
2- . يعني: توقف فائدة الاسناد على عدم قبول المرسل.
3- . أي: تعرف مراتب درجاتهم عند ذكر الاسناد.
4- . أي: يُذكر الاسناد ليرتفع الخلاف في المرسل.

قال: القائل مطلقاً: تمسكوا بمراسيل التابعين ولا يفيدهم تعميماً.

قالوا: إرسال العدل يدلّ على تعديله.

قلنا: نقطع أن الجاهل يُرسِلُ ولا يدري مَنْ رواه.

وقد أُخِذَ على الشافعي، فقيل: إن أُسنِدَ، فالعمل بالمسند وهو وارد، وإن لم يسند فقد انضمَّ غيرُ مقبولٍ إلى مثلهِ ولا يَرِدُ، فإنّ الظنّ قد يحصل أو يقوىٰ بالإنضمام.

والمنقطع: أن يكون بينهما رجل، وفيه نظر.

والموقوف: أن يكون قول صحابي أو مَنْ دُونَهُ. *

(*) أقول: احتج القائل بكون المرسل مقبولاً مطلقاً بالاجماع الّذي ذكرناه أولاً.

وأجاب المصنف عنه بأنّه لا يفيد العمومية لاحتمال أن يكون إنّما قبل لكون الراوي من أئمّة النقل لا ينقل إلّاعن عدل كما أجزناه أوّلاً، أو يكون قد انضم إليه غيره ممّا ذكرنا أوّلاً كما هو مذهب الشافعي.

الثاني(1): أن العدل لا يرسل إلّاإذا كان الراوي عدلاً عنده والاّ لكان مدلساً، فإرساله دليل على تعديله.

والجواب: ان هذا يتأتَّى إذا كان الراوي من أئمة النقل عالماً بمن يرسل عنه، أمّا إذا كان جاهلاً فلا، لأنّا نعلم أنّ الجاهل يرسل ولا يدري من رواه.

ص: 511


1- . أي: الثاني ممّا احتج به القائل بكون المرسل مقبولاً مطلقاً.

....................

وأعلم أنّ الحنفية أخذوا على الشافعي في قوله:

«المرسل مقبول بشرط أن يسنده غيره، أو يرسله ويختلف الشيوخ، أو عضده قول صحابي، أو فتوى أكثر العلماء؛ وقالوا: إنّ قوله: اقبل المرسل إذا اسنده غيره».

ضعيف لأنّ الحجة حينئذٍ بالحديث المسند، وقوله: اقبله إذا ارسله غيره، ضعيف أيضاً، لأنّ المرسل وحده غير حجّة، فاذا انضم إليه مرسل غيره فقد انضم ما ليس بحجة إلى ما ليس بحجة فلا تحصل منهما حجة.(1)

والمصنف اعترف بإلزام الأوّل، وأجاب عن الثاني بأنّه قد تحصل عند اجتماع الظن أو تقوية الظن، فتحصل الحجة من المجموع.(2)

وأمّا الخبر المنقطع فهو ان يكون احد الراويين عدلاً ويروي عن آخر عدل بواسطة رجل غير معروف.

وفيه نظر: فإن لقائل ان يقول بانّه ليس بحجة لأنّ الراوي المتوسط مجهول الحال فلا تكون روايته حجة، ويمكن أن يقال انّه حجة لأنّ الراوي الأوّل لو لم يعلم عدالته لكان مدلّساً، والتالي باطل فالمقدم مثله.

وأمّا الخبر الموقوف فهو أن يكون الراوي يروي عن غيره ويقف فلا ينتهي إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وسواء كان ذلك الغير صحابياً أو لم يكن؛ وليس بحجة.(3)

ص: 512


1- . هذا الاشكال أورده الآمدي وأجاب عنه، راجع: الإحكام: 2/142.
2- . وفي نسخ أُخرى: «إنَّ الظن قد يحصل أو يقوىٰ بالانضمام».
3- . على مذهب الشارح قدس سره.

قال: الأمر (أ - م - ر): حقيقة في القول المخصوص اتفاقاً، وفي الفعل مجازً.

وقيل: مشترك. وقيل: متواطئ.

لنا: سبقُهُ إلى الفهم ولو كان متواطئاً لم يفهم منه الأخصّ، كحيوان في «إنسان».

واستُدِلَّ: لو كان حقيقة لزم الاشتراك فيخل بالتفاهم. فعورض بأن المجاز خلافُ الأصل فيخل بالتفاهم، وقد تقدّم مثله. *

الكلام في الأمر

(*) أقول: لما ذكر انواع الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع وذكر السنة، شَرع الآن في البحث عن المتن المشتمل عليه أحد هذه الأنواع(1)، وبدأ بما تشترك فيه الأنواع الثلاثة من الأمر والنهي؛ وذكر الأمر أوّلاً وبيّن اطلاقه على أي شيء كان هو بحسب الحقيقة أو المجاز.

وأعلم أنّ الناس قد اتفقوا على أن الأمر يطلق بطريق الحقيقة على المخصوص(2) وهو نوع من أنواع الكلام؛ وقد ذهب بعض الفقهاء إلى انّه حقيقة في الفعل أيضاً؛ وذهب قوم إلى أنّه مشترك بين القول والفعل؛ وآخرون قالوا

ص: 513


1- . بعد الفراغ من البحث عن السند وهو النوع الأوّل في تقسيمات الأحكام، بدأ بالنوع الثاني وهو البحث عن المتن؛ والعنوان الرئيس للنوعين هو: «ما يشترك فيه الكتاب، والسنة، والإجماع».
2- . يعني به صيغة «أفعل».

....................

إنّه متواطئ.(1)

وقال أبوالحسين أنّه مشترك بين القول المخصوص والشيء والصفة، والشأن والطريق(2)؛ ويذهب المصنف إلى أنّه حقيقة في القول مجاز في غيره، وهو الحقّ عندي.

واستدل المصنف بأنّا نطلق لفظة الأمر فيسبق إلى الافهام القول فيكون حقيقة فيه، إذ هو دلالة الحقيقة وغير مشترك والاّ لما حصل السبق؛ ولكونه غير مشترك ذكر هذا الدليل لانّه لا خلاف في أنّه حقيقة في القول، وقوله: «ولو كان متواطئاً»، دعوى أُخرى مناقضة لدعوى من ادعى التواطؤ؛(3) واستدل عليها بأنّه لو كان متواطئاً لما فهمنا منه القول دون الفعل، لأنّ العامّ لا يستلزم الخاص وليس اللفظ موضوعاً له ولا لمعنى هو جزؤه؛ فانتفت الدلالات الثلاث.(4)

واستدل بعضهم على أنّ الأمر حقيقة في القول دون الفعل، بأنّه لو كان حقيقة في الفعل لزم منه الاشتراك وهو مخل بالتفاهم فيكون على خلاف الأصل، وعارضهم المصنف بأنّه لو لم يكن حقيقة في الفعل لزم منه المجاز وهو

ص: 514


1- . أي: إنّه يصدق على الفعل كما يصدق على القول المخصوص سواء بسواء، وهو مذهب الآمدي.
2- . وفي الإحكام (ج 2، ص 148): «انّه مشترك بين الشيء والصفة، وبين جملة الشأن والطرائق..».
3- . لأن الّذي ادّعىٰ التواطؤ - وهو الآمِدي - كانت دعواه بإن الأمر يصدق على القول المخصوص والفعل بالسوية.
4- . أي: دلالات المطابقة والتضمن والالتزام.

قال: والتواطؤ: مشتركان في عامٍّ، فيُجعل اللفظ له دفعاً للمحذورين.

وأُجيب: بأنّه يؤدي إلى رفعهما أبداً، فإنّ مثله لا يتعذّر، وإلى صحة دلالة الأعمّ للأخَصِّ. وأيضاً: فإنّه قول حادث هنا. *

مخل بالتفاهم، ولا دليل ان تقولوا إنَّ المجاز أولى من الاشتراك، على ما مر.

(*) أقول: هذه حجة القائل بالتواطؤ مع الجواب عنها، وتقريره: أنّ الفعل والقول قد اشتركا في معنى عام وهو مطلق الطلب، فيكون اللفظ موضوعاً له وإلّا لزم المجاز في الفعل أو الاشتراك وكلاهما باطل.

والجواب من وجوه:

الأوّل: أن هذا باطل لأنّه يلزم رفع المجاز والاشتراك مطلقاً في كلّ موضع، فإنّ مثل هذا التمحل قد يتأتىٰ في كلّ ما يُدّعى فيه المجاز والاشتراك.

وفي هذا نظر: فإنّ الاشتراك إنّما يكون بنص أهل اللغة عليه، ومع نص أهل اللغة لا يمكن التمحل لذلك، وأمّا المجاز فإنّه في المشهور إنّما يكون بنص أهل اللغة أيضاً؛ وعلى هذا التقدير يندفع المحذور أيضاً.

الثاني: أنّه يؤدي إلى صحة دلالة الأعم وهو مطلق الأمر على الأخص وهو القول، لأنا إذا اطلقنا لفظة الأمر يفهم منها القول ولا دلالة للعامّ على الخاصّ.

الثالث: إن هذا قول حادث فيكون مبطلاً للإجماع المتقدم فيكون باطلاً.

ص: 515

قال: حدّ الأمرِ: اقتضاء فعلٍ غير كفٍّ على جهة الاستعلاء. وقال القاضي والإمام: القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به.

ورُدّ: بأن المأمور مشتق منه، وإنّ الطاعة موافقة الأمر فيجيء الدور فيهما.

وقيل: خبرٌ عن الثواب على الفعل.

وقيل: عن استحقاق الثواب.

ورُدّ: بأنّ الخبر يستلزم الصدق أو الكذب، والأمر يأباهما.

المعتزلة لمّا انكروا كلام النفس قالوا: قول القائل لمن دونه «أفعل» ونحوه.

ويرد التهديد وغيره والمبلّغ والحاكي والأدنىٰ.

وقال قوم: صيغة أفعل بتجردها عن القرائن الصارفة عن الأمر، وفيه تعريف الأمر بالأمر وان اسقطه بقيت صيغة أفعل مجردة.

وقال قوم: صيغة «أفعل». بإرادات ثلاث: وجود اللفظ، ودلالته على الأمر، والامتثال؛ فالأوّل عن النائم، والثاني عن التهديد ونحوه، و

الثالث عن المبلغ، وفيه تهافت، لأنّ المراد إن كان اللفظ فسد، لقوله: «وارادة دلالتها على الأمر»، وإن كان المعنىٰ فَسَدَ، لقوله: «الأمر صيغة أفعل».

وقال قوم: الأمرُ إرادة الفعل.

ورُدّ بأنّ السلطان لو انكر - متوعدا بالإهلاك - ضرب سيدٍ لعبده، فادّعىٰ مخالفته، فطلب تمهيد عذره بمشاهدته، فإنّه يأمر ولا يريد، لأنّ

ص: 516

العاقل لا يريد هلاك نفسه، وأُورد مثله على الطلب لأنّ العاقل لا يطلب هلاك نفسه وهو لازم.

والأَولى لو كان إرادة لوقعت المأمورات كُلَّها، لأنّ معنى الإرادة تخصيصه بحال حدوثه، فإذا لم يوجد لم يتخصص. *

ما هو حد الأمر؟

(*) أقول: اختلفوا في حدّ الأمر،(1) فحدّه المصنف بأنّه: «اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء»، فالاقتضاء جنس الأمر وغيره، وقوله: «اقتضاء فعل»، يخرج عنه اقتضاء الترك، وقوله: «غير كف»، احتراز به عن النهي على مذهب قوم، فإنّه اقتضاء فعل لكنّه كف؛ وقوله: «على جهة الاستعلاء»، احتراز عن السؤال والدعاء.

وقال القاضي أبوبكر وإمام الحرمين(2) وغيرهما: «أنّ الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به».

وهذا التعريف فاسد من وجهين:

الأوّل: أن المأمور مشتق من الأمر، ومعرفة المشتق مسبوقة بمعرفة المشتق منه، فمعرفة المأمور مسبوقة بمعرفة الأمر، فلو عرّفنا الأمر بالمأمور لزم الدور.

الثاني: إنّ الطاعة عبارة عن موافقة الأمر، فأخذها في تعريف الأمر، أخذ الشيء الّذي لا يعرّف إلّابالآخر في تعريف ذلك الآخر، وهو أيضاً دور.

وقال قوم من الاشاعرة: «إنّ الأمر عبارة عن الخبر بحصول الثواب على

ص: 517


1- . انظر: المحصول: 1/184؛ الإحكام للآمدي: 2/286؛ المعتمد: 1/37؛ نهاية الوصول: 1/367.
2- . البرهان في أُصول الفقه: 1/151.

....................

الفعل، أو بالعقاب عليه». فورد عليهم جواز العفو والشفاعة والاحباط، فزاد بعضهم في الحدّ الاستحقاق وجعل الأمر هو الإخبار باستحقاق الثواب على الفعل أو استحقاق العقاب على الترك. ويرد عليه وعلى التعريف الأوّل: أنّ الخبر هو الّذي يستلزم الصدق أو الكذب، ولا شيء من الأمر كذلك، فلا شيء من الأمر بخبر.

وقالت المعتزلة - بناء على أصلهم من انكار الكلام النفساني -: «إن الأمر قول القائل لمن دونه إفعل ونحوه». وهذا الحد ينتقض طرداً وعكساً، امّا الطرد فبالتهديد وغيره - كالتقريع والتوبيخ - وبالمبلغ والحاكي، فإنّه قد وجد لفظة إفعل من الاعلى في مثل هذه المواضع ولا يسمى امراً؛ وإمّا العكس فبالادنى فإنّه إذا قال للاعلى إفعل على جهة الإستعلاء عليه قيل إنّه قد أمره، ولهذا يستقبحونه مع أنّه لم يَصدُق فيه الحد.

وقال قوم: «الأمر صيغة افعل متجردة عن القرائن الصارفة لتلك الصيغة عن الأمر». وهو دور فإنّه تعريف للأمر بالأمر، وان اسقطوا لفظة الأمر بقي الحد؛ هكذا:

«الأمر صيغة افعل مجردة»، [ويرد الساهي والنائم وغيرهما].(1)

وقال آخرون: «الأمر صيغة افعل بإرادات ثلاث(2): إرادة وجود اللفظ، وارادة دلالته على الأمر، وإرادة الامتثال؛ واحترزنا بالإرادة الأولى عن الساهي والنائم، فإنّهما لما لم يوجد منهما إرادة وجود اللفظ الّذي ينطقان به لا جرم لم يكن ذلك اللفظ أمراً؛ وبالإرادة الثانية عن التهديد، فإنّ المُهدِّد وإن أراد وجود اللفظ إلّاأنّه لم يرد دلالته على الأمر؛ وبالثالثة عن المبلغ عن غيره، فإنّ المبلغ وان إراد وجود

ص: 518


1- . لعلّ هذه العبارة وردت سهواً وهي ترتبط بالقول الّذي يلي هذا القول.
2- . وقد جاء هذا المقطع بفروعه في نسخة «ب» مقتضباً.

....................

اللفظ وأراد دلالته على الأمر إلّاأنّه لم يرد الامتثال فلا يكون أمراً». وهذا التعريف فاسد من وجهين:

الأوّل، لزوم الدور؛ والثاني، إنّكم شرطتم في الصيغة إرادة دلالتها على الأمر فنقول ما تعنون بالأمر المدلول عليه هنا بالصيغة؟ إن عنيتم به نفس الصيغة كان الشيء دالاً على نفسه، هذا خلف؛ وإن عنيتم به المعنى، فكيف يصحّ منكم أن تقولوا إن الأمر هو صيغة أفعل؟

وقال بعض المعتزلة: «إن الأمر إرادة الفعل»؛ وأبطله الاشاعرة بإنَّ الأمر قد يوجد بدون الإرادة، فإن السيد إذا ضرب عبده وانكر عليه السلطان ذلك، واعتذر إليه السيد بإنّه لا يطيع أمره وأراد إظهار ذلك العذر للسلطان فأمر عبده بالفعل؛ فإنّه حينئذٍ لا يريد من العبد الفعل ليظهر للسلطان تمرده، فإن العاقل لا يريد هلاك نفسه.

فلما أوردوا ذلك عليه، أوردت المعتزلة هذا بعينه في الطلب؛ فإنّ العاقل كما لا يريد هلاك نفسه كذلك لا يطلب هلاك نفسه فلا يجوز حد الأمر بالطلب لهذه الصورة المفروضة، وهذا الايراد لازم على الأشاعرة.

ثمّ إنّ المصنف لما اعترف بالتزام هذا الإيراد سلك نهجاً آخر في أنّ الأمر ليس هو إرادة الفعل فقال: لو كان الأمر هو الإرادة لوقع جميع مأمورات اللّٰه تعالى، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ بيان الشرطية: إن الأمر إذا كان هو الإرادة والإرادة هي المخصصة لحدوث الفعل في وقت دون وقت فلو لم يكن الفعل حادثاً لم يكن مراداً البتة، وإذا لم يكن مراداً لم يكن مأموراً؛ وأمّا بطلان التالي فلأنّ الاجماع واقع على أنّ اللّٰه تعالى أمر الكافر بالإيمان مع أنّه يموت على كفره؛ وهذا الكلام عندي ضعيف، فإنّ إرادة الفعل من اللّٰه تعالى غير ارادته من العبد، والإرادة الأولى هي المخصصة للحدوث أمّا الثانية فلا، فالغلط نشأ من باب الاشتراك اللفظي.

ص: 519

قال: القائلون بالنفسي اختلفوا في كون الأمر له صيغة تخصّه، والخلاف عند المحققين في «أفعل».

والجمهور: حقيقة في الوجوب.

أبو هاشم: في الندب.

وقيل: للطلب المشترك.

وقيل: مشترك.

الأشعريّ والقاضي: بالوقف فيهما.

وقيل: مشترك فيهما وفي الاباحة.

وقيل: للإذن المشترك في الثلاثة.

الشيعة: مشترك في الثلاثة والتهديد.

لنا: ثبوت الاستدلال بمطلقها على الوجوب شائعاً متكرّراً مِنْ غير نكير كالعمل بالأخبار.

واعتُرضَ: بأنّه ظنٌ.

وأُجيب: بالمنع، ولو سُلّم فيكفي الظهور في مدلول اللفظ، وإلّا تعذّر العمل بأكثر الظواهر. *

صيغة الأمر حقيقة في الوجوب

(*) أقول: اختلف القائلون بالكلام النفساني في أنّ الأمر هل له صيغة...

ص: 520

....................

تخصّه في اللغة أم لا؟ فنقل عن أبي الحسن الاشعري أنّه ليس له ذلك، واثبته آخرون. قال الجويني والغزالي: إنّ الخلاف إنّما هو في صيغة افعل هل هي مخصوصة بالأمر أم لا؟ وليس الخلاف في مطلق الصيغة، فانّه قد وقع في اللغة ألفاظٌ مخصوصة بالامر كقولنا أمرتك بكذا، وأنت مأمور بكذا.

إذا عرفت هذا فنقول: ذهب الجمهور إلى أنّ صيغة إفعل حقيقة في الوجوب؛ وذهب أبو هاشم إلى أنّها حقيقة في الندب وهو مأثور عن الشافعي؛ وقيل أنّها حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب وهو مطلق الطلب؛ وقيل انّها مشتركة بين الوجوب والندب؛ والاشعري والقاضي وجماعة قالوا بالوقف في كونها حقيقة في كلّ واحد منهما أو في أحدهما. وذهب جماعة إلى أنّها مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة. وقال قوم: انّها موضوعة للقدر المشترك بين الثلاثة وهو الاذن في الفعل.

و ذهبت الشيعة إلى أنّها مشتركة بين الوجوب والندب والاباحة والتهديد.(1)...

ص: 521


1- . قال الآمدي بهذا الشأن: «فمنهم من قال: إنّه مشترك بين الكل [الوجوب، والندب، والاباحة] وهو مذهب الشيعة». انظر: الإحكام: 2/162. وقال ابن الحاجب كما في المتن ومثله السبكي [راجع: رفع الحاجب: 2/499]. ولكن يبدو أن هذه النسبة غير صائبة، والوحيد الّذي اقترب بعض الشيء من هذا الرأي المزعوم هو الشريف المرتضى قدس سره حيث ذهب إلى الاشتراك بين الوجوب والندب، الأمر الّذي سرعان ما تراجع عنه قائلاً: «ونحن وان ذهبنا إلى أن هذه اللفظة مشتركة في اللغة بين الندب والايجاب، فنحن نذهب إلى أن العرف الشرعي المتفق المستمر قد اوجب ان يحمل مطلق هذه اللفظة على الوجوب». انظر: الذريعة: 1/53. هذا، وشيخ الطائفة الطوسي بعد نقل تراجع السيد المرتضىٰ النسبي، صرح: «الّذي يقوىٰ في نفسي أن الأمر يقتضي الايجاب لغة وشرعاً». انظر: عدّة الأُصول: 1/172. وفي مراجعتنا العجلىٰ لم نجد أحداً من فقهاء مدرسة آل البيت عليهم السلام ذهب إلى ما ادّعاه الآمدي وصاحباه بهذا الشأن، في حين أن الأمانة العلمية تقتضي أن لا يُنسب لاحدٍ ما لا يرتضيه؛ ناهيك عن أنّ علم الأُصول لدى الشيعة في نمو وتطور مطرد حيث إنّه قطع شوطاً بعيداً في تطوره، فلا يمكن إلزامهم بما ذهب إليه هذا أو ذاك من الاعلام ثم التفوّه بأن هذا هو مذهب الشيعة! لأنّها - والحال هذه - دعوى تجافي الواقع.

....................

واستدل المصنف على أنّها حقيقة في الوجوب بوجوه:

الأوّل: استدلال الفقهاء بأسرهم على وجوب الشيء بمطلق الأمر به استدلالاً شائعاً ذائعاً من غير إنكار من أحدهم، وذلك يدل على وقوع الاجماع على ذلك كالعمل بأخبار الآحاد فإنّه لما اشتهر بين الناس العمل بها كان ذلك اجماعاً؛ واعترض على هذا بأنّه ظن.

وأُجيب بالمنع من ذلك بل هو قطعي، ولو سلم إلّاانّه لا شك في ظهوره؛ والظهور كاف في هذا الباب، وإلّا سقط الاستدلال بأكثر الظواهر المفيدة للظن.

ص: 522

قال: وأيضاً: «مٰا مَنَعَكَ أَلاّٰ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»(1) والمراد قوله: «اُسْجُدُوا» .

وأيضاً: «وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اِرْكَعُوا» (2) ذمّ على مخالفة أمره.

وأيضاً: تارك المأمور عاص بدليل: «أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي»(3).

وأيضاً: «فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» (4)، والتهديد دليل الوجوب.

واعتُرض بأَنَّ المخالفَةَ حَمْلُهُ على مُخالفةٍ من إيجابٍ، وندبٍ، وَهُوَ بعيدٌ.

قولهم: مطلق.

قلنا: بل عامٌّ.

وأيضاً: نقطع بأنّ السيد إذا قال لعبده: خِطْ هذا الثوب ولو بكتابةٍ أو إشارةٍ فلم يفعل؛ يُعدّ عاصياً. *

(*) أقول: تقرير الوجه الثاني من الوجوه التي استدل بها المصنف على أنّ الأمر للوجوب: إن اللّٰه تعالى ذمّ ابليس على ترك السجود عقيب الأمر بقوله: «مٰا مَنَعَكَ أَلاّٰ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» فلو كان للندب لما استحق الذم.

ص: 523


1- . الاعراف: 12.
2- . المرسلات: 48.
3- . طه: 93.
4- . النور: 63.

....................

الثالث: قوله تعالى: «وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اِرْكَعُوا لاٰ يَرْكَعُونَ» ذمهم على ترك الركوع عقيب الأمر، ولو كان للندب لما استحق الذم.

الرابع: إن تارك المأمور عاص والعاصي يستحق العقاب.

امّا الصغرى فلقوله تعالى: «أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي» ، وأمّا الكبرى فلقوله: «وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً»(1) ، وإذا ثبت انّه يستحق العقاب كان الأمر للوجوب.

الخامس: قوله تعالى: «فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ» أمر مخالف للأمر بالحذر، والأمر بالحذر إنّما يحسن عند وجود السبب المقتضي للخوف من العقاب، والخوف إنّما يحصل عند حصول سبب العقاب ولا سبب إلّاالمخالفة؛ فوجب ان تكون المخالفة مستلزمة للعقاب فتكون الموافقة واجبة، فيكون الأمر للوجوب.

اعترضوا على هذا بأنّ مخالفة الأمر ليس عبارة عن ترك مقتضى الأمر بل عن حمل الأمر على ما يخالفه، ان كان للوجوب فعلى الندب، وان كان للندب فعلى الوجوب.

والجواب: إنّ هذا بعيد، فإن المعقول من المخالفة ليس إلّاترك مقتضى الأمر.

قالوا: أمر المخالف بالحذر مطلق ونحن نقول به، فإن مخالف أمر الواجب يستحق العقاب؛ قلنا: إنّه عام في كلّ مخالف لأنّه صيغة عموم.(2)...

ص: 524


1- . النساء: 14.
2- . لأنّه مصدر مضاف وهو يفيد العموم؛ والاشكالان للآمدي في الإحكام: 2/169.

قال: واستُدِلّ بأنّ الاشتراك خلاف الأصل، فثبت ظهورُه في أحد الأربعة، والتهديد والإباحة بعيدٌ، والقطع بالفرق بين: «ندبتك إلى أن تستقِينَي» وبين: «اسقِنِي»، ولا فرق إلّااللومُ، وهو ضعيف، لأنّهم إن سَلَّموا الفرقَ، فلأنّ «ندبتك» نصٌ، و «اسقني» محتمل. *

السادس: إنّ السيد إذا أمر عبده بخياطة الثوب في وقت معيّن ولم يفعل العبد فإنّه يُعدَّ عاصياً ويستحق الذم، وإنّما يتم ذلك على تقدير أن يكون الأمر للوجوب.

لا يقال: إنّ العقلاء لايذمونه إلّاإذا عرفوا بقرينة أن الأمر للوجوب؛ لأنّا نقول:

إن السيد قد يأمر عبده بالكتابة، أو بالاشارة المجردتين عن القرائن اللفظية والحالية؛ مع أنّ العقلاء يعدونه عاصياً إذا لم يفعل.

حجّة أُخرى للقائلين بالوجوب

* أقول: هذه حجة القائلين بالوجوب وهي أن صيغة إفعل وردت في الوجوب والندب والإباحة والتهديد، والاشتراك على خلاف الاصل فيجب ان يكون حقيقة في أحد هذه المعاني ومجازاً في الباقي؛ ولا يجوز أن يكون حقيقة في التهديد والاباحة ومجازاً في الوجوب والندب لأنّه بعيد، ووجه بعده أنّه خلاف ما عليه الجمهور.

وأيضاً المفهوم عند الاطلاق من قوله: «قم» ليس الاباحة ولا التهديد....

ص: 525

....................

ولا يجوز أن يكون حقيقة في الندب وإلّا لما بقي فرق بين قول السيد لعبده اسقني ماءً، وبين قوله: ندبتك إلى أن تسقني ماءً، والتالي باطل لأنّهم يلومون العبد على ترك الفعل في الأوّل دون الثاني، فوجب أن يكون الأوّل للوجوب.

واعترض عليها المصنف:

أوّلاً: بالمنع من الفرق، فإنّ القائل بأنّ الأمر للندب لا فرق بين قوله: اسقني، وبين قوله: ندبتك إلى ان تسقني.

وثانياً: بتسليم الفرق، ولكن ليس وجه الفرق ما ذكرتم بل إن قوله:

ندبتك، صريح في الندب، وقوله: اسقني، محتمل فيه، ولا يلزم أن يكون للوجوب.

ص: 526

قال: الندب: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، فردّه إلى مشيئتنا.

وردّ: بأنّه إنّما ردّه إلى استطاعتنا، وهو معنى الوجوب.

مطلقُ الطلب يثبت الرجحان، ولا دليل مقيّد، فوجب جعله للمشترك دفعاً للاشتراك.

قلنا: بل ثبت التقيّد، ثم فيه اثبات اللغة بلوازم الماهيّات.

الاشتراك: ثبت الاطلاق، والأصل الحقيقة.

القاضي: لو ثبت لثبت بدليل إلى آخره.

قلنا: بالاستقراءات المتقدمة.

الإذْنُ: المشتركُ، كمطلق الطلب. *

دليل وضع الأمر لغير الوجوب

(*) أقول: احتج أبو هاشم على أنّ الأمر للندب بقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا امرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» فوض الفعل إلى مشيّتنا، فوجب أن يكون الأمر للندب إذ ليس الواجب كذلك.

وهذا ضعيف لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّما قال: فاتوا منه ما استطعتم، ولم يقل ما شئتم؛ والاتيان بالمقدور من المأمورات من خواص الواجب.

واحتج القائلون بأنّ الصيغة موضوعة للطلب مطلقاً بإنّ رجحان الفعل حاصل من الصيغة قطعاً، وأمّا كون ذلك الرجحان مانعاً من النقيض أو غير مانع منه فليس هناك فيه دليل يدل على تقييد الرجحان بأحدهما، فيجب جعله حقيقة في...

ص: 527

....................

القدر المشترك دفعاً للاشتراك والمجاز.

واعترض المصنف بأمرين:

الأوّل: إن التقييد الزائد على الرجحان قد ثبت وهو ما ذكرناه من الأدلة الدالة على أن الصيغة للوجوب.

الثاني: إنّ هذا اثبات اللغة بلوازم الماهيات لأنّا إذا اردنا الوجوب تارة والندب أخرى ووجدنا مشتركاً بينهما وجعلناه حقيقة فيه، كان ذلك جعلاً للصيغة موضوعاً للقدر المشترك من حيث أنّه لازم لكلّ واحد من المعنيين.

واحتج القائلون بأنّه مشترك بأنّا نطلق الصيغة تارة على الوجوب، وأُخرى على الندب، وتارة على الإباحة والأصل في الإطلاق الحقيقة.

واحتج القاضي على مذهبه وهو الوقف بأنّه لو ثبت كونه حقيقة في أحدهما لثبت بدليل والتالي باطل(1) لما بيّنا من الاعتراض على القائلين بالوجوب والندب والمشترك فوجب الوقف.

والجواب: إن الاستقراء دال على أحد هذه المعاني، فإنّا إذا(2)...

ص: 528


1- . ملخص الدليل الّذي ساقه القاضي أبو بكر الباقلاني في «التقريب والارشاد» لمواجهة من لم يذهب مذهبه - وهو الوقف - ما يلي: «إن كان ما ادعاه في «افعل» ان كان قد استفاده من العقل، فإن العقل لا مجال له في مقتضيات العبارات، وإن كان قد استفاده من النقل فإن كان بالاستنباط من مآخذ اللغة فهو مباهت، ثم إن النقل إما آحاد فلا يحتفل به لأنّه لا يوجب العلم، وإمّا متواتر فإنّه يوجب العلم لكنه يتضمن استواء جميع طبقات العقلاء، وهو غير حاصل هنا لمعارضة الواقفية له من دون نكير على مر الآباد». راجع بهذا الصدد: البرهان لإمام الحرمين الجويني: 1/159.
2- . وفي نسخة «ب» بدل «إذا»: لمّا.

قال: مسألة: صيغة الأمرِ لا يدل على تكرار ولا على مرّة وهو مختار الإمام.

الاستاذ: للتكرار مدة العمر مع الإمكان.

وقال كثير: للمرّة ولا يحتمل التكرار.

وقيل: بالوقف.

لنا: إنّ المدلول طَلبُ حقيقة الفعل، والمرّة والتكرار خارجي، ولذلك يبرأُ بالمرّة.

وأيضاً: فإنّا قاطعون بأنّ المرّة والتكرار من صفات الفعل كالقليل والكثير، ولا دلالة للموصوف بالصفة. *

استقرينا وجدنا الصيغة مستعملة في الوجوب غالباً.

واحتج القائل بأنّه موضوع للقدر المشترك بين الوجوب والندب والاباحة بمثل احتجاج القائل بأنّه موضوع للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وقد سبق الكلام فيه.

دلالة صيغة الأمر على المرّة والتكرار

(*) أقول: اختلف الناس في أنّ صيغة الأمر هل تقتضي التكرار أم لا؟ فذهب جماعة المحققين(1) إلى أنّه يفيد التكرار مدة العمر مع الامكان، وذهب...

ص: 529


1- . وفي نسخة «ب» بعد كلمة «المحققين» ورد ما يلي:

....................

آخرون إلى انّه يفيد المرة الواحدة وضعاً ولايحتمل التكرار، وقال قوم بالوقف، وفسره بعضهم بأنّه مشترك بين الوحدة والتكرار، وآخرون بمعنى عدم العلم.

واستدل المصنف على المذهب الأوّل بوجهين:

الأوّل: إن مدلول قولنا (قم) طلب القيام، والمرة والتكرار من الأُمور الخارجية عن هذا المعنى وليس أحدهما لازماً له فانتفت الدلالات الثلاث، ولكون التكرار غير مدلول عليه بالأمر، يبرأ المكلف بالفعل مرة واحدة.

الثاني: إنّا نعلم أن الوحدة والكثرة من صفات الفعل(1) الذي هو المصدر كالقليل والكثير ولا دلالة للموصوف على الصفة فلا دلالة للصيغة على الوحدة ولا على التكرار - كما انّه ليس فيه دلالة على القلة والكثرة - لانها تدل على ما يدل عليه المصدر والزمان لا غير.

ص: 530


1- . المراد بالفعل هنا هو الحدث المجرد، ولو عبر «طاب ثراه» بالحدث لكان أولى واوضح.

قال: الاستاذ: تكرار الصوم والصلاة.

[و] ردّ بأنّ التكرار من غيره.

[و] عورض بالحجّ.

قالوا: ثبت في «لا تَصُمْ» فوجب في «صُمْ» لأنّه طلبٌ.

رُدّ: بإنّه قياسٌ، وبالفرق بأن النهي يقتضي النفي، وبأنّ التكرار في الأمر مانع من غيره بخلاف النهي.

قالوا: الأمر نهيٌ عن ضدّه، والنهيُ يعمّ؛ فيلزم التكرار.

ورُدّ بالمنع، وبأنّ اقتضاء النهي للأضداد دائماً، فرعٌ على تكرار الأمر.

المرةُ القطعُ انّه إذا قال: ادخل فدخل مرّة، امتثّل.

قلنا: امتثل، لفعل ما أمر به لأنّها من ضروراته إلّاأنّ الأمر ظاهر فيها ولا في التكرار. الوقف لو ثبت... إلى آخره. *

(*) أقول: احتج أبواسحاق(1) على أنّ الأمر يقتضي التكرار بوجوه ثلاثة:

الأوّل: أنّه قد ثبت في الصلاة والصوم، فيجب أن يكون في كلّ موضع كذلك والاّ لزم الاشتراك.

وهذا ضعيف فإنّ تكرار الصلاة والصوم لم يستفد من الأمر بهما وإنّما

ص: 531


1- . هو أبو إسحاق الأسفرائيني، ويلقب ب «الأُستاذ» و «الشيخ»، وقد مرت ترجمته.

....................

اُستفيد بطريق آخر، وأيضاً فهذا معارض بالحجّ فإنّه مأمور به ولا يفيد التكرار، فوجب في كلّ موضع أن يكون كذلك والاّ لزم الاشتراك.

الثاني: إن النهي يقتضي التكرار فوجب أن يكون الأمر كذلك، ولأن النهي طلب الترك والأمر طلب الفعل فقد اشتركا في مطلق الطلب، وإذا كان أحد الطلبين للتكرار كان الثاني كذلك.

وهذا ضعيف من وجهين:

الأوّل: أنّه قياس في اللغة وهو غير صحيح.

الثاني: الفرق وهو من وجهين:

الأوّل: أي النهي، يقتضي النفي والأمر يقتضي الاثبات ولا يجوز قياس احد المتناقضين على الاخر لما بينهما من المباينة المنافية للقياس.

الثاني: إن التكرار في الأمر مانع من فعل غيره فإنّه إذا قال صل دائماً فلو كلفه بعد ذلك بشيء آخر لكان ناسخاً للأوّل وهو على خلاف التقدير، وامّا تكرار النهي فليس كذلك ومع حصول هذا الفرق لا يتم القياس.

الثالث: إن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده والنهي يقتضي العموم فيلزم أن يكون الأمر للتكرار.

وهذا ضعيف من وجهين:

الأوّل: المنع من أن الأمر بالشيء نهي عن ضده....

ص: 532

....................

الثاني: لا نسلم أنّ النهي هاهنا عن الأضداد يكون دائماً فانّه مبني على أنّ الأمر للتكرار فلو استفيد منه لزم الدور وذلك لأنّ النهي قد يكون صريحاً فيقتضي التكرار وقد يكون تضمناً كما في هذه المسألة، مثل قولنا: (قم) معناه لا تقعد دائماً ولا شك ان هذا النهي إنّما يكون دائماً على تقدير أن يكون الأمر للتكرار.

واحتج من قال بأنّه يفيد المرة الواحدة بأنّا نقطع بأنّ من قال لغيره ادخل الدار فدخل مرة واحدة فإنّه يكون ممتثلاً.

والجواب عنه أنّه قد امتثل بفعل ما أمر به وهو المرة الواحدة لأنّها من ضرورات الأمر، لا أنّ الأمر موضوع لها ولا للتكرار.

واحتج القائلون بالوقف بأنّه لو كان للمرة أو التكرار فلابدّ له من دليل، والتالي باطل لأنّ الدليل إمّا عقلي وهو محال لأنّ العقل لا مجال له في اللغة، أو نقلي متواتر وهو مفقود، أو آحاد وهو لا يفيد القطع في المسألة العلمية؛ ولمّا بينّا ضعف أدلة الفريقين وجب القول بالوقف.(1)

ص: 533


1- . قد اسلفنا أن هذا الدليل للقاضي أبو بكر الباقلّاني، وقد حاول الآمدي تفنيده؛ ولكن يسعنا القول بأن ذلك يصلح دليلاً إذا ما اردنا أن نستخلص المرة والتكرار من نفس الصيغة بالبحث اللغوي، بيد أنه إذا اردنا معالجة ذلك من طريق التحليل العقلي لأوامر المولى فلا يرد لأن أمر المولى بأي طريق حصل لا ينضح منه سوى طلب الماهية الصرفة من غير تقييد لها بالمرة أو التكرار، والماهيّة تخرج من العدم إلى مسرح الوجود بأتيانها مرة واحدة؛ وربّ قائل يقول: لا مجال للتحليل العقلي هنا بتاتاً! إلّاأنّ هذا الاعتراض تحكم محض لا مبرر له.

قال: مسألة: الأمر إذا عُلّق على علّة ثابتة وجب تكرره بتكررها اتفاقاً للإجماع على اتباع العلّة لا للأمر، فإن علّق على غير علّة فالمختار:

لا يقتضي.

لنا: القطع بأنّه إذا قال: (إن دخلت السوق فاشتر كذا) يُعد ممتثلاً بالمرة مقتصراً.

قالوا: ثبت ذلك في أوامر الشرع: «إِذٰا قُمْتُمْ»(1) ، «اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي»(2) و «إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً»(3) .

قلنا: في غير العلّة بدليل خاصِّ.

قالوا: لو تكرر الحكم بتكرر العلّة فالشرط أولى لانتفاء المشروط بانتفائه.

قلنا: العلّة مقتضية معلولها. *

الأمر عند التعليق يدل على التكرار؟

(*) أقول: الأمر المعلق على شرط أو صفة هل يتكرر الأمر بتكررهما أم لا؟

أمّا القائلون بأن الأمر يفيد التكرار فإنّهم يقولون بأولوية التكرار هاهنا(4)، والآخرون اختلفوا. وتحقيق المذهب أن نقول ذلك الشرط أوتلك الصفة إمّا أن يكونا علة للأمر أو لا، فالأوّل كقوله: إن زنا فإرجمه، والزاني يرجم، فهذا قد

ص: 534


1- . المائدة: 6.
2- . النور: 2.
3- . المائدة: 6.
4- . والفرق بين المقامين أنّه في مقالة المرة والتكرار، كان البحث يدور حول مدى دلالة الصيغة على التكرار؛ وأمّا هنا فيدورحول مدى دلالة الشرط والصفة عليه؛ فليتفطن لذلك.

....................

اتفق العلماء على أنّه يفيد التكرار لا من حيث الأمر بل حيث إنّه معلق على علّة فإنّ عند حصول العلة يحصل المعلول.

والثاني: كقوله إن كان محصناً فارجمه؛ فالإحصان ليس بعلّة؛ فهذا قد اختلف الأُصوليون فيه فذهب قوم انّه يفيد التكرار وآخرون منعوا من ذلك.

احتج المانعون بأنّ السيد إذا قال لعبده ان دخلت السوق فاشتر اللحم، ثمّ دخل واشترى مرة واحدة فإنّه يخرج عن العهدة ويعدّه العقلاء ممتثلاً.

واحتج المثبتون بوجهين:

الأوّل: انّ التكرار قد يثبت في أوامر الشرع فوجب أن يكون الأمر الشرعي المقرون بالشرط موضوعاً للتكرار؛ أما الصغرى فكقوله: «إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا»(1) فإنّ هذا يقتضي التكرار عند كلّ قيام، وقوله:

«اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي فَاجْلِدُوا»(2) فإنّ هذا يقتضي تكرار الجلد عند تكرار الزنا، وقوله: «وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا»(3) «فإنّ هذا يفيد التكرار عند تكرار الجنابة؛ وأما الكبرى فظاهرة.

والجواب: إنّ التكرار المستفاد من هذه الأوامر إن كان الشرط علة كالزنا، كان(4) مستفاداً من تكرار العلة لا من الأمر؛ وإن كان غير علة كان مستفاداً من دليل آخر لا من الشرط.

الثاني: قالوا إنّ الحكم يتكرر بتكرر العلة إجماعاً فيتكرر بالشرط لأنّه أولى، فإنّ الشرط إذا انتفى ينتفي المشروط، وليس ينتفي الحكم لانتفاء العلّة.(5)

ص: 535


1- . المائدة: 6.
2- . النور: 2.
3- . المائدة: 6.
4- . الضمير في كان يعود للتكرار.
5- . لأنّه حسب رأي المستدل قد تحل علّة مكان علة أُخرى فيبقىٰ الحكم على ما كان عليه. والجواب: إنّ العلة أولى لأنّها تقتضي وجود المعلول وليس الشرط يقتضي وجود المشروط.

قال: مسألة:

القائلون بالتكرار قائلون بالفور، ومن قال المرة تبرئُ. قال: بعضهم للفور.

وقال القاضي: إما للفور أو العزم.

وقال الإمام: بالوقف لغة فإن بادر امتثل.

وقيل: بالوقف وإن بادر.

وعن الشافعي: ما اختير في التكرار وهو الصحيح.

لنا: ما تقدّم.

الفور: لو قال: «اسقني» وأخّر، عُدّ عاصياً.

قلنا: للقرينة.

قالوا: كلّ مُخيّرٍ أو منشيءٍ فقصده الحاضر، مثل: «زيد قائم» و «أنت طالق». ردّ، بأنّه قياسٌ، وبالفرق بأن في هذا استقبالاً قطعاً.

قالوا: طلب كالنهي، والأمر نهي عن ضده، وقد تقدّما.

قالوا: «مٰا مَنَعَكَ أَلاّٰ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»(1) فذمّ على ترك البدار.

قلنا: لقوله: «فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ» (2).

قالوا: لو كان التأخير مشروعاً لوجب أن يكون إلى وقت معيّن.

ص: 536


1- . الاعراف: 12.2. الحجر: 29.

وردّ: بأنّه يلزم لو صُرّحَ بالجواز، وبأنّه إنّما يلزم أن لو كان التأخير معيّناً. وأمّا في الجواز فلا، لأنّه متمكن من الإمتثال.

قالوا: قال: «سٰارِعُوا» ، «فَاسْتَبِقُوا» ، قلنا: محمول على الأفضلية، وإلّا لم يكن مسارعاً.

القاضي: ما تقدّم في الموسّع.

الإمام: الطلبُ متحققٌ، والتأخير مشكوكٌ، فوجب البدار.

وأُجيب: بأنّه غير مشكوك. *

في اقتضاء الأمر للفور وعدمه

(*) أقول: اختلف الناس في الأمر هل يقتضي الفور أم لا؟

فذهب القائلون بإفادة الأمر للتكرار إلى أنّه يقتضي الفور.

والقائلون بأنّه لا يقتضي التكرار اختلفوا، فذهبت الحنفية إلى أنّه يفيد الفور؛ وقال القاضي أبوبكر: الواجب إمّا الفعل في أوّل أوقات الامكان وإمّا العزم على الفعل؛ والجويني توقف من حيث اللغة وقال إنّه يحتمل الفور ويحتمل التراخي، لكن المكلف إن بادر الفعل في أوّل أوقات الإمكان كان ممتثلاً قطعاً؛ وقال قوم بالوقف وان بادر المكلف؛ وعن الشافعي أنّه لا يقتضي الفور وان احتمله وهو الّذي ذهب إليه المصنف واستدل عليه بمثل ما تقدم من أن الأمر لا يقتضي التكرار.

وتقرير الوجه الأوّل أن نقول: مدلول «قم» مطلق طلب القيام، والفور والتراخي زائدان على هذا المفهوم فلا يكون لقولنا «قم» إشعارٌ بأحدهما....

ص: 537

....................

وتقرير الثاني: أن الفور والتراخي من صفات الأمر ولا دلالة للموصوف على الصفة.

واحتج القائلون بالفور بوجوه:

الأوّل: انّ السيد إذا قال لعبده اسقني ماءً فلبث العبد يومين أو أكثر ثم أتىٰ بالماء إلى السيد وقال إنك أمرتني منذ يومين بالاتيان بالماء، عدّه العقلاء سفيهاً وذموه على ذلك؛ ولولا أنّ الأمر يقتضي الفور والاّ لما ساغ لهم ذمه.

والجواب عن هذا: إنّ الفور هاهنا مستفاد من القرينة الحالية الدالة على تعجيل الفعل.

الثاني: إنَّ المخبر والمنشئ إنّما يقصدان الحاضر، فان القائل إذا قال: «زيد قائم» أو «أنتِ طالق» فإنّما يقصد بهذين النوعين من الكلام الحاضر، فكذا الآمر ينبغي أن يتعلق أمره بالحاضر فلا يجوز التأخير.

والجواب من وجهين:

الأوّل: إن هذا قياس للأمر على الخبر والانشاء، والقياس في اللغة باطل(1).

الثاني: إنَّ الفرق واقع، فإنّ الاخبار والانشاء لا يجب فيهما الاستقبال فصح تعلقهما بالزمان الحاضر بخلاف الأمر فإنّه يجب فيه الاستقبال؛ ضرورة أنّ الأمر بايجاد الحاضر أو الماضي أمر بايجاد الموجود، وإذا وجب في الأمر الاستقبال وليس فيه دلالة على التعجيل لم يكن مقتضياً للفور.(2)...

ص: 538


1- . الظاهر يريد بالانشاء هنا العقود والايقاعات، وإلّا فالأمر من مصاديق الانشاء لانّه انشاء البعث من قبل الآمر؛ فلا يكون قياساً وإنّما هو ضم مصداق إلى مصداق.
2- . ولكن قد يقال إن العرف يَعدُّ أوّل لحظة من لحظات المستقبل من الحال وذلك يقتضي الفورية ولزوم المبادرة.

....................

الثالث: إنّ النهي إن كان يقتضي الفور فكذلك الأمر لكن المقدم حقاً اجماعاً فالتالي حق لاشتراكهما في مطلق الطلب.

الرابع: الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الأضداد يقتضي الفور فالأمر بالفعل يقتضي الفور.

والجواب عن هذين الوجهين ماتقدّم في باب أن الأمر لا يقتضي التكرار.

الخامس: إنّ اللّٰه تعالى ذم ابليس على ترك السجود عقيب الأمر في قوله: «مٰا مَنَعَكَ أَلاّٰ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»(1) فلو لم يكن الأمر مقتضياً للفور لكان لابليس أن يجيب بأنّ:

«الأمر لا يقتضي الفور، ولي فعل السجود متى شئت» فكان يقبح الذم.

والجواب: أن الفور هاهنا معلوم من قوله تعالى: «فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ» (2) فإنّ هذا أمرٌ بالسجود عقيب الخلق.(3)

السادس: ان التأخير لو جاز لكان إمّا إلى وقت معيّن أو لا إلى وقت معين، والتالي باطل والاّ لزم تكليف ما لا يطاق؛ لأنّ اللّٰه تعالى إذا كلف العبد الفعل وأوجب عليه أن لا يؤخره عن ذلك الوقت مع أنّ المكلّف لا يعلم بذلك الوقت الذي قد كلف بالمنع من التأخير عنه، فإنّه يكون تكليفاً بما لا يعلم وذلك عين تكليف ما لا يطاق؛ وإن كان إلى وقت معيّن فذلك الوقت ليس إلّاما يغلب على ظن المكلف أنّه لا يعيش بعده، ضرورة أن كلّ من قال بالتراخي قال بهذا؛ ولكن غلبة ظن

ص: 539


1- . الاعراف: 12.
2- . الحجر: 29.
3- . فهنا قرينة لفظية هي «الفاء»، فرتّب سبحانه السجود على هذه الاوصاف بفاء التعقيب وهي تقتضي السجود في الحال؛ إلّاأن البعض لا يرى أن الفاء تفيد التعقيب.

....................

المكلف لابدّ لها من سبب وليس إلّاالكبر أو المرض، لكن كثيرمن الناس يموتون في وقت شبابهم من غير مرض فيلزم أن لا يكون ذلك الفعل واجباً عليهم؛ فهذا محال.

والجواب من وجهين:

الأوّل: أنّ هذا منقوض بما لو صرح الآمر بجواز التأخير كما إذا قال: «صل متى شئت»، فان التقسيم آت فيه.

الثاني: انّ هذا إنّما يتم لو قلنا إنّ التراخي متعيّن، أمّا إذا قلنا بجواز التراخي لا إلى غاية معيّنة لم يلزم تكليف ما لا يطاق لأنّه متمكن من الامتثال بالإتيان بالفعل في الحال.

السابع: قوله تعالى: «وَ سٰارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ»(1) وقوله تعالى: «فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرٰاتِ » (2).

الجواب: إن المراد هاهنا للأفضلية لا الوجوب لأنّه لا يأمر بالمسارعة للغير في الوجوب بل في الندب.

واحتج القاضي على وجوب الفعل في أوّل وقت الإمكان أو العزم بمثل ما مرّ في الواجب الموسّع، فإنّه يذهب إلى أن الوقت الأوّل من الواجب الموسّع يجب فيه الفعل أو العزم؛ وقد مضى تقرير كلامه.

واحتج الجويني بانّ الطلب متحقق وهو وإن احتمل التأخير لكن التأخير

ص: 540


1- . آل عمران: 133.
2- . البقرة: 148.

قال: مسألة: اختيار الإمام والغزّالي: إنّ الأمر بشيءٍ معيّن ليس نهياً عن ضدّه، ثمّ قال: لا يتضمنه ولا يقتضيه عقلاً.

وقال القاضي ومتابعوه: نهيٌ عن ضدّه، ثم قال يتضمّنه، ثم اقتصر قوم.

وقال القاضي: والنهيُ كذلك فيهما، ثم منهم من خصّ الوجوب دون الندب.

لنا: لو كان الأمر نهياً عن الضدّ، أو يتضمّنه، لم يحصل بدون تعقّل الضدّ والكفّ عنه، لأنّه مطلوبُ النهي، ونحن نقطع بالطلب مع الذهول عنهما.

واعتُرض: بأنّ المراد الضدّ العام، وتعقله حاصلٌ لأنّه لو كان عليه لم يطلبه.

واُجيب: بأنّ طلبه في المستقبل، ولو سلم فالكفّ واضحٌ. *

مشكوك فيه فوجب البدار لتحصيل القطع بالبراءة.

وأُجيب بأنّ جواز التراخي غير مشكوك بل معلوم.

الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه

(*) أقول: اختلف الناس(1) في أنّ الأمر بالشيء المعيّن هل هو نهي عن...

ص: 541


1- . انظر: البرهان: 1/180؛ المستصفى: 1/155؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/528.

....................

ضدّه أم لا؟ وإنّما قلنا المعيّن احترازاً عن الأمر بالضدين على سبيل البدل فإنّه في تلك الصورة ليس الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده.

فقال الجويني والغزالي: إنّ الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضدّه ولا يتضمنه ولا يستلزمه.

وقال القاضي أبوبكر: إنّ الأمر بالشيء نهي عن ضده، ثمّ قال بعد ذلك: إنّ الأمر ليس هو عين النهي عن الضد بل يتضمنه.

واقتصر قوم فقالوا: انّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه، واقتصروا على الأمر دون النهي.

والقاضي قال: ان النهي عن الشيء في أمر للايجاب والندب نفس الأمر بالضد أو يتضمن فيه، على ما سلف من قوله.

وبعض المعتزلة فرّق و قال: إنّ الأمر بالشيء نهي عن ضده في الواجب دون الندب.

وقد اختار المصنف مذهب الغزالي واستدل عليه بانّه لو كان الأمر بالشيء نهياً عن ضده أو متضمناً له لم يحصل الأمر إلّابعد تعقّل الضد والكف عنه، والتالي باطل فالمقدم مثله؛ والمصنف أشار إلى الشرطية بأنّ الضد مطلوب النهي، وإلى بطلان التالي بالوجدان فإنّا نقطع بأنّا نأمر بالشيء مع الذهول عن ضده وعن الكف عنه.

واعتُرض على هذا بالمنع من بطلان التالي، فانّ ذلك إنّما يلزم لو قلنا...

ص: 542

....................

إنّ الأمر بالشيء نهي عن ضده على سبيل التفصيل، وليس كذلك بل إنّما نعني به الضد العام وهومطلق الترك وهو يُتعقل حالة الأمرٍ، لانّ الآمر لو لم يعلم أنّ المكلف تارك للفعل لما أمره به، فإنّه إذا كان متلبساً بالفعل استحال امره به وإلّا لزم ايجاد الموجود.

والجواب: إن الآمر طلبه ايقاع الفعل في المستقبل وإن كان في الحال متلبساً به، ولا يلزم تحصيل الحاصل وهو غافل عما عليه المكلف في المستقبل؛ وأيضاً لو سلمنا أن تعقل الضد العام حاصل(1) لكن الكف وهو عدم الاشتغال بالفعل وضده، واضح.(2)

ص: 543


1- . في نسخة «ب» بعد كلمة «حاصل» ورد ما يلي: [على تقدير اشتغال المأمور بالفعل اوتركه في المستقبل].
2- . في نسخة «ب» بعد كلمة «واضح» جاء: [فجاز ان يكون المأمور خالياً عن الفعل وضده، فلا يكون الأمر متعقلاً للضد العام].

قال: القاضي: لو لم يكن إيّاهُ لكان ضدّاً أو مثلاً أو خلافاً، لأنّهما إمّا ان يتساويا في صفات النفس أو لا.

الثاني: إمّا أن يتنافيا بأنفسهما أو لا.

فلو كان مثلين أو ضديّن لم يجتمعا.

ولو كانا خلافين لجاز أحدهما مع ضدّ الآخر وخلافهُ، لأنّه حكم الخلافين، ويستحيل الأمر مع ضدّ النهي عن ضدِّه وهو الأمر بضدّه؛ لأنهما نقيضان أو تكليف بغير الممكن.

وأُجيب: إنْ أراد بطلب ترك ضدّه طلبَ الكفِّ مُنع لازمهما عنده، فقد يتلازم الخلافان، فيستحيل ذلك، وقد يكون كلٌّ منهما ضدّ ضدّ الآخر كالظنّ والشك فانّهما معاً ضدّا العلم.

وان أراد بترك ضدّه عين الفعل المأمور به رجع النزاع لفظياً في تسميته تركاً، ثم في تسمية طلبه نهيّاً.

القاضي: أيضاً السكونُ عينُ ترك الحركةِ، فطلبُ السكونِ طلبُ ترك الحركة. واُجيب بما تقدّم. *

(*) أقول: احتج القاضي أبوبكر على مذهبه بأنّ الأمر بالشيء لو كان مغايراً للنهي عن ضده لكان إمّا مثلاً وإمّا ضداً وإمّا مخالفاً؛ ووجه الحصر ظاهر فإنّ الشيئين إمّا أن يتساويا في الماهية وصفاتها اللازمة لها، وإمّا أن لا يتساويا، والأوّل،...

ص: 544

....................

المثلان؛ والثاني، فإمّا ان يتباينا بذاتيهما أو لا؛ والأوّل الضدّان، والثاني المختلفان.

إذا عرفت هذا فنقول: الأمر بالشيء لا يجوز أن يكون مثل النهي عن ضده(1)، ولا ضد النهي عن ضده(2)، وإلّا لما جاز اجتماعهما؛ ولا يجوز ان يكون مخالفاً،(3)لأنّ الواحد من المتخالفين يجوز اجتماعه مع ضد الآخر وخلافه كالعلم المخالف للإرادة فإنّه يجوز اجتماعه معها ومع ضدها ومع مخالفها؛ لكن الأمر بالشيء لا يجوز أن يجامع ضد النهي عن ضده لأنّ ضد النهي عن ضده هو الأمر بضده، وذلك الضد(4) إن كان نقيضاً لزم الأمر بالنقيضين وهو محال، وإن كان أخصّ كان ضداً وذلك يستلزم التكليف بالضدين وهو تكليف ما لايطاق، ولا يجوز أن يجامع مخالف النهي عن ضده أعني الأمر بالضد الآخر.

والجواب: إن أراد القاضي بقوله الأمر بالشيء طلب ترك ضده أنَّ الأمر بالشيء طلب الكف عن ضدّه فما ذكره من الدليل ممنوع، ونختار من الاقسام الّتي ذكرها قسم المخالف، قوله: «لو كان مخالفاً لجاز وجوده مع ضد الآخر أو خلافه لأنّه حكم المخالفين»، قلنا: نمنع الملازمة، فإنّه ليس كل مخالف يجوز

ص: 545


1- . ليكونا مثلين.
2- . ليكونا ضدين.
3- . ليكونا مختلفين.
4- . المراد بالتضاد هنا هو التضاد في علم الأُصول وهو التنافي المطلق الشامل لما كان الضد فيه وجودياً والّذي يطلق عليه: «الضد الخاص»، أو عدمياً وهو الّذي يعبر عنه: «الضد العام» أو «الترك»، اذن التضاد في علم الأُصول اعم من التضاد في علم المنطق. وما ورد في كلام الشارح قدس سره هو التضاد الأُصولي، فلا ينبغي الأخذ عليه بان هذا المعنىٰ للتضاد لا يتماشىٰ مع ما عليه صناعة المنطق.

قال: التضمن: أمر الايجاب: طلب فعل يُذمُّ على تركه اتفاقاً، ولا يُذَمُّ إلّاعلى فعلٍ وهو الكفُّ أو الضدّ، فيستلزم النهي.

وأجيب: بأنّه مبنيٌ على أنّه من معقوله لا بدليل خارجي.

وإن سُلّم فالذمُّ على أنّه «لم يفعل» لا على «فعل».

وإن سُلّم فالنهيُ: طلب كفّ عن فِعل لا عن كفِّ، وإلّا أدّى إلى وجوب تصوُّر الكفِّ عن الكفِّ لكُلِّ أمرٍ، وهو باطل قطعاً.

قالوا: لا يتم الواجب إلّابترك ضدّه وهو الكفّ عن ضدّه، أو نفيه، فيكون مطلوباً وهو معنى النهي، وقد تقدّم. *

اجتماعه مع ضد مخالفه ولا كلّ مخالف يجوز اجتماعه مع مخالف مخالفه؛ فإنّ المتضايفين متخالفان مع التلازم بينهما، وإذا جاز تلازم المخالفين استحال مجامعة أحدهما لضد الآخر أو لمخالفه؛ وقد يكون كل واحد من المتخالفين ضد الضد الآخر كالظن والشك فإنّ الظن ضد العلم والعلم ضد الشك، وإذا كان كذلك فكيف تصحّ هذه الملازمة دائماً.

وإن أراد بقوله: «الأمر بالشيءطلب ترك ضده»، طلب عين الفعل المأمور به، رجع النزاع لفظياً في تسمية الفعل تركاً للضد وفي تسمية الطلب نهياً.

واحتج القاضي أيضاً بإنّ «السكون عين ترك الحركة فطلب السكون طلب ترك الحركة»؛ والجواب ما تقدم في الوجه الأوّل من كون النزاع لفظياً.

(*) أقول: القائلون بأنّ الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده، استدلوا بأنّ...

ص: 546

....................

الأمر الّذي يقتضي الوجوب هو طلب فعل يذم على تركه اتفاقاً لأنّه لو كان مجرد الطلب لكان المندوب واجباً، هذا خلف؛ فإنّ الذم على الترك جزء من حد الواجب ولا يذم إلّاعلى فعلٍ إذ العدم غير مقدور والفعل إنّما هو الكف الّذي هو الامتناع عن فعل المأمور به وهو وجودي، أو فعل الضد فيستلزم الأمر النهي عن الكف أو عن فعل الضد وهو المطلوب.

والجواب: إنّ ما ذكرتم مبني على أنّ الذم على الترك من معقول الواجب ونحن نمنع ذلك، بل إنّما استفيد من دليل خارجي فإنّ جماعة لم يشترطوا في أمر الايجاب الذم على الترك وإنّما استفيد من دليل شرعي.

سلمنا، لكن الذم على عدم الفعل لا على فعل الضد؛ قولكم العدم غير مقدور، قلنا: ممنوع.

سلمنا، لكن النهي طلب كف عن فعل، فإن السيد إذا قال لعبده: «لا تقم» فقد طلب منه الكفّ عن القيام وليس النهي عبارة عن طلب كف عن كف وإلّا لزم ان يكون كل أمر متصوراً للكف عن الكف حتّى يطلبه ويكون ذلك الأمر مستلزماً له، وليس كذلك؛ ولانّه يؤدي إلى التسلسل بأن طلب الكف عن الكف أمر بالكف عن الكف وهو يستلزم طلب الكف عن الكف ويتسلسل.

واستدلوا أيضاً بأنّ الواجب لا يتم الاّ بترك ضده وهو الكف عن ضد الواجب أو نفيه وما لا يتم الواجب إلّابه يكون واجباً والاّ لزم تكليف ما لا يطاق، فيكون مطلوباً وهو معنى النهي عن الضد.

وقد تقدم الجواب عنه في أوّل الكتاب حيث بيّنا أنّ ما لا يتم الواجب إلّابه من عقلي أو عادي لا نسلم وجوبه.

ص: 547

قال: الطاردون: مُتمسّكا القاضي المتقدمان.

وأيضاً: النهي: طلب ترك فعلٍ، والترك: فعل الضدّ، فيكون أمراً بالضدّ.

قلنا: فيكون الزنا واجباً من حيث هو ترك لواطٍ، أو بالعكس، وهو باطل قطعاً، وبأنّ لا مباح، وبأنّ النهي طلب الكفّ لا الضدّ المراد.

فإن قُلتم: فالكفّ فِعلٌ، فيكون أمراً، رجع النزاع لفظياً، ولزم أن يكون النّهي نوعاً من الأمر، ومن ثم قيل الأمر طلب فعلٍ لا كَفٍّ. *

أدلة القول بالضد في النهي

(*) أقول: الذين ذهبوا إلى أنّ النهي عن الشيء أمر بضده - وهم الذين طردوا الباب - احتجوا بوجوه:

الأوّل، والثاني: ما تمسّك به القاضي أبو بكر وقد سلف بيانهما، وبيان ذلك في النهي ان نقول: النهي عن الشيء لو كان غير الأمر بضده لكان إمّا مثلاً أو مخالفاً أو ضداً. ونسوق الكلام؛ وتقرير الثاني أن نقول: السكون غير ترك الحركة فالنهي عنه طلب الحركة.

الثالث: النهي عن الشيء طلب تركه، والترك عبارة عن ضد الفعل لا عن عدمه والاّ لما كان مقدوراً، فطلب الترك أعني النهي هو طلب فعل الضد وطلب الفعل أمر فالنهي عن الشيء أمر بضده....

ص: 548

....................

والجواب عن الأوّلين ما سبق، وعن الثالث: أنّه يلزم أن يكون الزنا واجباً لانّه ترك لواط، وترك اللواط واجب.

لا يقال: إن ترك الزنا قد يكون باللواط وغيره، ولا يلزم أن يكون اللواط واجباً.

لأنّا نقول: إن اللواط وغيره يترك به الزنا فيكون اللواط أحد أمور منها ترك الزنا، وترك الزنا واجب فيكون اللواط واجباً، وكذلك يكون الزنا واجباً لأنّه ترك اللواط فيكون الشيء واجباً حراماً هذا خلف.

وأيضاً يلزم عدم المباح وقد مر تقريره.

وأيضاً النهي طلب الكف لا طلب الضد المراد في كلامكم، ونعني بالمراد أحد الأضداد.

لا يقال: الكف فعل فطلبه يكون أمراً.

لأنّا نقول: المُعنى من الأمر أنّه طلب فعل غير كف، فإن سمّيتم طلب الفعل الذي هو الكف أمراً تمّ مطلوبُكم ويعود النزاع لفظيّاً؛ ويلزم أن يكون النهي نوعاً من الأمر، فإن الأمر حينئذٍ يكون قد انقسم إلى طلب فعل غير كف وإلى طلب فعل هو كف والثاني النهي، ولمّا كان ذلك باطلاً أخذنا في حدّ الأمر سلب الكف.

ص: 549

قال: الطاردون في التضمّن: لا يتم المطلوب بالنهي إلّابأحد أضداده كالأمر.

واُجيب بالالتزام الفظيع وبأن لامباح.

والفارّ من الطرد، إمّا لأن النهي طلب نفي، وإمّا الإلزام الفظيع، وإمّا لأنّ أمر الايجاب يستلزم الذمّ على الترك، وهو فعل، فاستلزم كما تقدّم.

والنهي: طلب كفّ عن فعلٍ فلم يستلزم الأمرَ، لأنّه طلبُ فعلٍ لا كفٍّ، وأمّا لإبطال المباح، والمخصّص الوجوبُ للأمرين الآخرين. *

(*) أقول: الطاردون في أنّ الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده وانّ النهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده، احتجوا على قولهم بإنّ المطلوب بالنهي لا يتم إلّا بأحد أضداده وما لا يتم به الواجب إلّابه فهو واجب فيكون أحد أضداده واجباً؛ وهذا كما قلنا في الأمر بعينه.

والجواب عن هذا بإنّا نلزمهم أمراً قطعيّاً وهو كون الزنا واجباً وكون اللواط واجباً مع تحريمهما، وبأنّه لا مباح حينئذٍ.

وأمّا الذين فرّوا من الطرد وجعلوا الأمر بالشيء نهياً عن ضده ولم يجعلوا النهي عن الشيء أمراً بضده، إنّما التزموا بذلك لأحد أُمور:

إمّا لأنّ النهي طلب نفي الفعل وعدمه نفيٌ، والأمر طلب فعل وكان الأمر بالشيء نهياً عن ضده ولم يكن النهي عن الشيء أمراً بضده.

وإمّا الإلتزام القطعي وهو أنّهم لو قالوا النهي عن الشيء أمر بضده، ولزمهم وجوب الزنا من حيث إنّه ضد اللواط المنهي عنه، وإمّا لأنّ أمر الايجاب...

ص: 550

....................

يستلزم الذم على الترك والترك فعل فاستلزام الأمر بالشيء النهي عن الضد الذي هو الترك، وأمّا النهي فإنّه عبارة عن طلب كف عن فعل فلم يستلزم الأمر لانّ الأمر طلب فعل لا كف، وأمّا لابطال المباح على ما مر.

وأمّا الذين خصصوا بكون الأمر بالشيء نهياً عن ضده في الأمر الّذي للوجوب فإنّما خصصوا ذلك للأمرين الأخيرين من هذه الأُمور:

الأوّل منهما أن أمر الإيجاب يستلزم الذم على الترك الّذي هو الفعل فكان الأمر يستلزم النهي عن الضد ولا يتأتىٰ ذلك في المندوب فإنّه لا يستلزم الذم على الترك.

والثاني منهما ابطال المباح.

وفيه نظر لأنّ أمر الايجاب لو كان مستلزماً للنهي عن الضد للزم منه نفي المباح وكذلك أمر الندب فإنّه إذا استلزم النهي عن الضد نهي كراهة، لزم نفي المباح أيضاً فلا وجه للتخصيص حينئذٍ.

ويمكن أن يقال في الاعتذار أن القائل بهذا لما قال أمر الايجاب يستلزم النهي عن الضد فيلزم نفي المباح، لو قال أيضاً بأنّ أمر الندب يستلزم نهي الضد على الكراهية لزم نفي المباح أيضاً فيكون نفي المباح هاهنا أكثر مما إذا لم يقل بأنّ أمر الندب يستلزم النهي عن الضد.

بقي أن يقال: إذا كان أمر الوجوب والندب قد اشتركا في ذلك فَلِمَ جُعل أمراً لوجوبٍ يستلزم النهي عن الضد دون أمر الندب مع انّهما يستلزمان نفي المباح.

فالجواب أنّ أكثر الأوامر الشرعية للندب دون الوجوب فلذلك قلنا إنّ أمر الوجوب يستلزم نفي المباح لقلته ولم نقل في أمر الندب ذلك لكثرته،...

ص: 551

قال: الإجزاء: الإمتثال؛ فالإتيان بالمأمور به على وجهه يُحققه اتفاقاً.

وقيل: الإجزاء إسقاط القضاء فيستلزمه.

وقال عبد الجبار: لا يستلزمه.

لنا: لو لم يستلزمه لم يُعلم إمتثالٌ، وأيضاً فإنَّ القضاء استدراك لما فات من الأداء، فيكون تحصيلاً للحاصل.

قالوا: لو كان لكان المصلّي بظنّ الطهارة آثماً، أو ساقطاً عنه القضاء إذا تبيّن الحدث.

واُجيب: بالسقوط للخلاف، وبأنّ الواجبَ مِثْلُهُ بأمرٍ آخر عند التبيّن، وإتمام الحجّ الفاسدِ واضح. *

وهذه تكلفات ردية فالأَولى الاعتماد على الأوّل.

مسألة الإجزاء

(*) أقول: الفعل إمّا أن يكون ذا جهة واحدة أو ذا جهتين، والأوّل كمعرفة اللّٰه تعالى، يستحيل وصفه بالإجزاء وعدمه؛ والثاني هو الّذي يوصف بهما.

واعلم أنّ الناس اختلفوا في تفسير الإجزاء، فعند المتكلّمين أنّه عبارة عن امتثال الأمر؛ وعند جماعة اخرى أنّه عبارة عما اسقط القضاء....

ص: 552

....................

وعلى التعريف الأوّل لو أتى بالفعل المأمور به لخرج عن العهدة وحصل الاجزاء اتفاقاً وهو المراد بقوله «يحققه» أي يحصل الإجزاء.

وعلى التعريف الثاني لو أتى بالفعل لا يستلزم الاجزاء بمعنى سقوط القضاء عند أبي هاشم والقاضي عبد الجبار، والحق أنّه يستلزمه.

والدليل عليه وجهان:

الأوّل: إنّه لو لم يستلزم سقوط القضاء لما تحقق امتثال الأمر فإنّ الامتثال إنّما يكون بفعل المأمور به على وجه يخرج به عن العهدة وإذا فعل المأمور ولم يخرج عن العهدة لم يحصل الامتثال، والتالي باطل اتّفاقاً فالمقدم مثله.

الثاني: إنّ القضاء عبارة عن استدراك ما فات من الاداء وإذا كان الاداء متحققاً فلو لم يسقط القضاء لوجب على المكلف الاتيان بالفعل المأمور به أولا وذلك تحصيل الحاصل وهو تكليف ما لا يطاق.

احتج الخصم بأنّ الأمر لو دل على الإجزاء لكان المكلف إذا ظن الطهارة وصلى آثماً ويسقط عنه القضاء إذا ذكر، والتالي بقسميه باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية إنّه امّا أن تجب عليه الصلاة مع علم الطهارة أو مع ظنها، فإن كان الأوّل لم تحصل الصلاة مع العلم بتحقق الإثم، وإن كان الثاني وقد اتى بما أُمر به سقط القضاء ولما لم يسقط علمنا أنّه لا يدل على الإجزاء، وأمّا بيان بطلان القسمين بالاتفاق.

والجواب من وجهين:...

ص: 553

قال: مسألة: صيغة الأمر بعد الحظر، للاباحة على الأكثر.

لنا: غلبتها شرعاً: «وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا»(1) ، «فَإِذٰا قُضِيَتِ اَلصَّلاٰةُ»(2) .

قالوا: لو كان مانعاً لمنع من التصريح.

واُجيب بأنّ التصريح قد يكون بخلاف الظاهر. *

الأوّل: نمنع عدم سقوط القضاء بل القضاء ساقط على قول بعض الشافعية.

الثاني: إن الواجب ليس القضاء الذي هو عبارة عن الإتيان بالمأمور به أوَّلاً بل الاتيان بمثل المأمور به لدليل مغاير للأمر.

لا يقال: إنّه مأمور باتمام الحج الفاسد وهو مجزئ عنه، لأنّا نقول: اتمام الحج الفاسد وان كان واجباً إلّاأنّ القضاء ليس عما أُمر به لأنّه قد أتى به، بل لتحصيل مصلحة الأمر الأوّل أعني الاتيان بالحج الخالي عن وجه الفساد.

مدلول صيغة الأمر بعد الحظر

(*) أقول: اختلف القائلون بأنّ الأمر للوجوب في الأمر إذا ورد عقيب الحظر هل يقتضي الوجوب أو الاباحة؟ فذهب قوم إلى الأوّل، وآخرون إلى الثاني

ص: 554


1- . المائدة: 2.
2- . الجمعة: 10.

....................

وهو مذهب المصنف؛ واحتج عليه بالاكثرية، فانّ الغالب في استعمال الشرع صيغة الأمر عقيب الحظر إنّما هو الاباحة كقوله تعالى: «وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا» عقيب قوله:

«لاٰ تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ»(1) ، وكقوله: «فَإِذٰا قُضِيَتِ اَلصَّلاٰةُ فَانْتَشِرُوا» عقيب قوله: «إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ»(2).

واحتج الفريق الأوّل بأنّه لو كان الورود بعد الحظر مانعاً من الوجوب لمنع من التصريح، لأنّه إنّما امتنع في تلك الصورة لكون الصيغة ظاهرة في الإباحة حينئذٍ وإذا كان كذلك، امتنع التصريح بالوجوب لأنّه خلاف الظاهر.

والجواب: التصريح قد يدل دلالة لا يدل عليها الظاهر وتكون مانعة من دلالة الظاهر على ما يدل عليه كالمخصص للعموم.

ص: 555


1- . المائدة: 95.
2- . الجمعة: 9.

قال: مسألة:

القضاء بأمر جديد، وبعض الفقهاء بالأوّل.

لنا: لو وجب به لاقتضاه، وصوم يوم الخميس لا يقتضي صوم يوم الجمعة.

وأيضاً: لو اقتضاه لكان أداءً أو لكانا سواءً.

قالوا: الزمان ظرفٌ، فاختلاله لا يؤثر في السقوط.

ردّ بأن الكلام في مقيد لو قُدّم، لم يصحّ.

قالوا: كأجل الدّين.

رُدَّ: بالمنع، وبما يقدم.

قالوا: فيكون أداءً.

قلنا: سُمّيّ قضاءً لأنّه يجب استدراكاً لما فات. *

هل القضاء بأمرٍ جديد؟

(*) أقول: إذا ورد الأمر بشيء فأمّا أن يقيد بالزمان أو يكون مطلقاً:

فإن كان الأوّل فقد اختلف الناس في المأمور إذا لم يفعله في ذلك الوقت: هل يجب عليه القضاء بنفس الأمر الأوّل أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأوّل، وذهب الباقون إلى الثاني وهو الحق....

ص: 556

....................

وأمّا إذا كان الأمر مطلقاً فمن قال الأمر للفور ولم يفعله المكلف في

أوّل أوقات الإمكان كان البحث فيه كالبحث في المقيّد، وأمّا من لم يقل الأمر للفور فإنّه لا يوجبه في وقت دون وقت بل يكون الفعل واجباً عليه حتى يأتي به، ويدلّ على ما اخترناه وجوه:

أحدها: انّه لو وجب القضاء بالأمر الأوّل لاقتضاه الأمر، والتالي باطل فالمقدم مثله، وبيان الشرطية ظاهر، وبيان بطلان التالي أن الأمر لو اقتضاه لكان إمّا أن يكون بطريق المطابقة أو التضمّن أو الالتزام والأقسام الثلاثة باطلة، فإنّ الأمر [بصوم] يوم الخميس لا يدل بالمطابقة على صوم يوم الجمعة، ولا بطريق التضمن لأنّ اللفظ لم يوضع له ولا لشيء هو جزؤه، ولا بطريق الإلتزام لأنّ الآمر بصوم يوم الخميس قد يكون غافلاً عن يوم الجمعة، وشرط الالتزام اللزوم الذهني.

الثاني: أن صوم يوم الخميس لو اقتضى صوم الجمعة لكان صوم الجمعة أداءً لا قضاءً.

الثالث: لو كان صوم الخميس مقتضياً لصوم الجمعة لكان صوم يوم الجمعة مساوياً لصوم يوم الخميس من كل وجه، والتالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الشرطية: انّ صوم يوم الخميس اقتضى صوم أحد اليومين لا بعينه من غير اشعار بتفضيل أحدهما على الآخر لأنّ الشارع يستحيل أن يخيّرنا بأمر واحد بين راجح ومرجوح لكونه على خلاف الحكمة، نعم قد يخير بينهما بأمرين كالصلاة منفرداً ومع الجماعة بأمرين؛ وبيان بطلان التالي أنّ القاضي آثم بالترك مع المكنة فدل على أولوية الأداء....

ص: 557

....................

الرابع: إنّ الأمر قد يستعقب القضاء كالصلاة الفائتة و قد لا يستعقبه كالجمعة، فالأمر مطلقاً أعمّ من كلّ واحد منهما ولا دلالة للعامّ على الخاص، احتجوا بوجوه:

أحدها: انّ الزمان ظرف للواجب لا يؤثر فيه قدرة العبد فلا يكون مطلوباً فلا يؤثر عدمه في سقوط الواجب.

والجواب: الكلام في أمر مقيّد بوقت معين لو قدمه على ذلك الوقت لم يصح فذلك الأمر لا شك في أنّ للوقت مدخلاً في سقوطه وعدمه.

الثاني: أن الأمر بالفعل في وقت معين ينزله منزلة الدين المؤجل فإذا فات الأجل لم يسقط الدين، كذلك الأمر.

والجواب: منع التساوي بين الدين والأمر المقيّد لأنّ تارك الصلاة عن وقتها مأثوم بخلاف الدين؛ وأيضاً بما تقدم وهو كون الوقت له مدخل في الأمر دون الدّين.

الثالث: لو وجب القضاء بأمر متجدد لكان ذلك الفعل أداءً لا قضاءً.

والجواب: إنّما سميناه قضاء من حيث إنّه إنّما أمر به استدراكاً لمصلحة الواجب الفائت.

ص: 558

قال: مسألة:

الأمرُ بالأمر بالشيء ليس أمراً بالشيء.

لنا: لو كان لكانَ «مُرْ عبدك بكذا» تعدّياً، ولكان يُناقضُ قولك للعبد:

«لا تفعل».

قالوا: فهم ذلك من أمر رسول اللّٰه، ومن قول الملك لوزيره: «قل لفلان: أفعل».

قلنا: للعلم بأنّه مبلّغ. *

الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً

(*) أقول: إذا أمر الآمر غيره بأن يأمر آخر بشيء هل يكون ذلك الآمر آمراً لذلك الآخر أم لا؟ ذهب قوم إلى الأوّل، وآخرون إلى الثاني وهو مذهب المصنف واحتج عليه بوجهين:

الأوّل: إنّه يلزم أن يكون القائل إذا قال لغيره مر عبدك بكذا، متعدياً من حيث انّه تصرف في عبد غيره بغير اذنه وذلك باطل قطعاً.

الثاني: انّه لو قال لغيره مر عبدك بكذا ثمّ قال للعبد لا تفعل لا يكون مناقضاً، ولو كان الأمر بالامر بالشيء آمراً به لكان مناقضاً.

احتجوا بأنّ اللّٰه تعالى إذا أمر رسوله بأن يامر عباده بشيء كان ذلك أمراً من اللّٰه للعباد، وكذلك إذا أمر الرسول غيره بأمر آخر كان ذلك الآخر مأموراً بأمر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم؛ وأيضاً الملك إذا قال لوزيره مر الناس بكذا كان الناس مأمورين...

ص: 559

قال: مسألة:

إذا أمر بفعل مطلق فالمطلوب النظر [الفعل] الممكن المطابق للماهية لا الماهية.

لنا: أن الماهية يستحيل وجودها في الأعيان، لما يلزم من تعددها، فيكون كلّياً جزئياً، وهو محال.

قالوا: المطلوب مطلقٌ، والجزئي مقيّدٌ، فالمشترك هو المطلوب.

قلنا: يستحيلُ بما ذكرناه. *

بأمر الملك.

والجواب: لمّا علمنا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مبلّغ، حكمنا بذلك فلا يلزم الاطراد فكذلك الوزير.

ما هو المطلوب بأمر فعلٍ مطلق

(*) أقول: المعنى على قسمين: كلي وجزئي؛ والأوّل لا يوجد في الخارج من حيث هو كلي، فإن كان له وجود فإنّما يوجد من حيث هو يفيد الشخصية؛ وإنّما يوجد في الذهن لا غير فإنّه لو كان موجوداً في الخارج مع كلّ شخص شخص لم يكن معنى واحداً بل كان أموراً كثيرة كلّ واحد منها لا يصدق على الآخر فلا يكون كليّاً....

ص: 560

....................

إذا تقرر هذا فنقول: إذا ورد الأمر بالفعل مطلقاً، قال قوم: إنّ المطلوب منه هو نفس الماهية من حيث هي هي، ولهذا كان الوكيل بالبيع غير مالك للبيع بالثمن المساوي والأزيد والأنقص ولا تعرُّض للأمر بشخص شخص.

وقال آخرون: إنّ المأمور به إنّما هو الأمر الجزئي المطابق للماهية الكلية لا نفس الماهية، وإليه ذهب المصنف واحتج عليه بإنّ الماهية يستحيل وجودها في الأعيان، يفيد الكلية لِمَا بيَّنا وإنّما توجد إذا شخصت، فهي من حيث هي هي يستحيل أن تكون مأموراً بها وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.

واحتجوا بأن قالوا: المطلوب هو مطلق الفعل والجزئي مقيّد لا مطلق فلا يكون مطلوباً فيكون المطلوب هو المشترك.

والجواب: إن الكلي يستحيل وجوده لما بيَّنا أولاً.

ص: 561

قال: مسألة:

الأمرانِ المتعاقبان بمتماثلين، ولا مانع عادة من التكرار من تعريف أو غيره، والثاني غيرُ معطوفٍ مثل: صلّ ركعتين، صلّ ركعتين.

قيل: معمول بهما.

وقيل: تأكيد.

وقيل: بالوقف.

الأوّل: فائدة التأسيس أظهر، فكان أولىٰ.

الثاني: كَثُرَ في التأكيد، ويلزم من العمل مخالفةُ براءة الذمّة، وفي المعطوف: العملُ أرجحُ، فإنْ رُجِّحَ التأكيدُ بعاديٍّ، قُدِّم الأرجح، وإلّا فالوقف. *

الأمران المتعاقبان بمتماثلين

(*) أقول: إذا ورد أمر عقيب آخر فإمّا أن يكون مماثلاً له أو مخالفاً،(1) فإن كان الثاني فإمّا أن يمكن اجتماعهما أو لا يمكن، والثاني غير جائز إلّاعلى قول من يجوّز تكليف ما لا يطاق، والأوّل يجب العمل به.

وأمّا إن يكون مماثلاً فلا يخلو إمّا أن يكون الفعل يمتنع فيه التكرار

ص: 562


1- . انظر: المعتمد: 1/161؛ المحصول: 1/271؛ نهاية الوصول إلى علم الأُصول: 1/484.

....................

أو لا يمتنع، فإن كان يمتنع فيه التكرار كان فائدة الثاني التأكيد كقوله أُقتلْ زيداً، أُقتل زيداً؛ وإن لم يمتنع فيه التكرار لا يخلو إمّا أن يكون الثاني معرّفاً أو لا، فإن كان الأوّل كانت فائدة الثاني التأكيد أيضاً، كقوله: صلِّ ركعتين، صلّ الركعتين؛ وإن كان الثاني(1) فلا يخلو إمّا أن يكون مع الثاني حرف عطف أو لا:

فإن لم يكن معه حرف عطف كقوله: صل ركعتين، صلّ ركعتين؛ فقد اختلف الناس فيه؛ فذهب قوم إلى أن الثاني يفيد عين ما أفاده الأوّل وإنّ الفائدة في ذكره التأكيد، وقال آخرون إنّه يفيد غير ما يفيده الأوّل وهو مذهب السيد المرتضى وتوقف آخرون.

واحتج من قال بالتغاير(2) إنّ حمل الأمر الثاني على غير ما حمل عليه الأوّل يقتضي تأسيس شرع لم يكن، وحمله على الأوّل يقتضي التأكيد، والأوّل أكثر فائدة من الثاني وحمل أوامر الشرع على ما هو أكثر فائدة أولى.

واحتج من قال بالاتحاد(3) انّه قد كثر في الأوامر التأكيد فيجب الحمل عليه لوجهين: امّا أوّلاً فللكثرة وامّا ثانياً فلانّ الاصل براءة الذمة، فلو حملناه على التأسيس لزم عدم هذا الأصل.

وامّا إذا كان الثاني(4) معطوفاً على الأوّل فانّه وإن احتمل التأكيد لكن...

ص: 563


1- . أي: لم يكن معرفاً.
2- . أي: انّه يفيد غير ما يفيده الأوّل.
3- . أي: انّه يفيد عين ما يفيده الأوّل.
4- . عدل ل «لا» في قوله: [... اما ان يكون مع الثاني حرف عطف أو لا...].

....................

حمله على التغاير أولى، فإنّ الشيء لا يعطف على نفسه اللهمّ إلّاأن يكون التغاير مرجوحاً ويكون التأكيد راجحاً لأجل أمر عادي كقوله: اسقني ماء واسقني ماء، فإنّه يعمل بالارجح من العطف ومن العادة المانعة من التغاير، فإن لم يكن هناك ترجيح لزم الوقف.

***

تم الجزء الأوّل حسب تجزئتنا بعون اللّٰه وحسن توفيقه وذلك في

الثالث من رجب المرجب من عام 1429 ه

ويليه ان شاء اللّٰه الجزء الثاني مبتدأ

بالبحث عن النهي وملحقاته

المحقّق

ص: 564

فهرس المحتويات

الموضوع... الصفحة

مقدمة المشرف... 7

شكر وتقدير... 32

مقدمة المحقّق... 33

مقدمة الشارح... 37

مبادئ علم الأُصول... 41

تعريف علم أُصول الفقه... 43

فائدة علم الأُصول وإستمداداته... 48

تعريف الدليل واقسامه... 50

المباحث المنطقية... 51

حد النظر والعلم... 52

أصحّ الحدود في تعريف العلم... 56

ص: 565

الموضوع... الصفحة

في تعريف الذكر الحكمي... 59

التصور والتصديق... 61

مادة المركب... 66

مبحث التصورات... 67

شروط التعريف... 68

بيان الذاتي... 69

بيان تمام الماهية... 70

صورة الحدّ... 74

خلل الحدّ... 75

مبحث التصديقات... 80

تقسيمات القضية... 81

البرهان ومقدماته... 84

مواد البرهان... 87

صور البرهان... 88

شروط التناقض... 91

العكس المستوي... 94

عكس النقيض... 97

ص: 566

الموضوع... الصفحة

الأشكال القياس... 98

القياس الإستثنائي... 120

حصول الخطأ في البرهان... 126

المباحث الأُصولية... 130

مبادئ اللغة... 130

البحث الأوّل: في حدّ المبادئ... 131

البحث الثاني: في أقسام الألفاظ... 132

تقسيم المفرد... 134

تقسيم دلالة المفرد... 134

تقسيم المركب... 136

تقسيمه بوجه آخر... 138

وقوع الاشتراك... 141

المترادف... 148

الحقيقة والمجاز... 151

تعريف المجاز... 153

شروط المجاز... 155

علامات الحقيقة والمجاز... 159

ص: 567

الموضوع... الصفحة

دوران اللفظ بين الاشتراك والمجاز... 167

الاسماء الشرعية... 171

وقوع المجاز... 179

المعرَّب في القرآن... 182

المشتق... 185

ثبوت اللغة... 194

اوضاع الحروف... 198

البحث الثالث: في ابتداء الوضع... 204

دلالة الألفاظ... 206

البحث الرابع: في معرفة طرق اللغات... 211

مسألتان فرعيتان... 228

الأُولى: مسألة شكر المنعم... 229

الثانية: حكم الأشياء قبل الشرع... 231

تعريف الحكم الشرعي... 235

أقسام الحكم الشرعي... 239

الأداء والقضاء والإعادة... 243

الواجب على الكفاية... 244

ص: 568

الموضوع... الصفحة

الواجب المخيّر... 246

الواجب الموسّع... 252

تأخير الواجب الموسّع... 255

مقدمة الواجب... 257

تحريم واحد لا بعينه... 264

اجتماع الأمر والنهي بعنوانين... 264

هل المندوب مأمور به؟... 273

أدلّة المثبتين... 273

أدلة المانعين... 276

في معاني المكرو... 277

ماهية الجائز... 278

الاباحة حكم شرعي... 278

هل أنّ المباح جنس للواجب؟... 282

خطاب الوضع... 284

الصحة والبطلان... 286

التكليف بما لا يطاق... 289

القول بجواز التكليف بالمحال... 292

ص: 569

الموضوع... الصفحة

رد المصنّف على الاشعري... 295

دليل آخر للتكليف بالمحال... 295

التكليف والشرط الشرعي... 296

هل أن المنهي عنه فعل؟... 300

انقطاع التكليف بالفعل عند حدوثه... 302

شرط الفهم في التكليف... 304

الحكم على المعدوم... 306

تعريف الادلة الشرعية... 314

مبحث الكتاب العزيز... 316

حكم الشاذّ من القراءات... 323

المحكم والمتشابه... 324

السنة الشريفة... 326

آراء أُخرى في التأسّي... 336

دلالة سكوته صلى الله عليه و آله و سلم عن فعل الغير... 337

صلة أفعال الرسول 6 بافعاله وبأقواله... 339

مباحث الاجماع... 348

أدلة الإجماع... 354

ص: 570

الموضوع... الصفحة

أدلة المخالفين... 361

حكم دخول مَنْ سيوجد والمقلّد في الإجماع... 362

في حكم المبتدع... 365

هل يختص الإجماع بالصحابة... 366

معارضة البعض لإجماع الأكثر... 368

مكانة التابعي في الاجتماع... 369

إجماع أهل المدينة... 372

الكلام في عدد التواتر... 376

انقراض عصر المجمعين... 381

مستند الإجماع... 384

حكم الإجماع عن قياس... 385

الاجماع على قولين وحكمه... 387

المانعون لاحداث قول ثالث... 390

المجوزون لاحداث قول ثالث... 391

حكم احداث دليل أو تأويل... 393

حكم ما لو اتفق العصر الثاني... 395

حكم ما لو اتفق أهل العصر باعيانهم... 400

ص: 571

الموضوع... الصفحة

الاختلاف في جواز عدم علم الأُمة بخبر أو دليل راجح... 401

حكم ارتداد الأُمة نقلاً... 401

العمل بالاجماع بنقل الواحد... 404

في إنكار الاجماع القطعي وحكمه... 405

حُكمُ الإجماع فيما لا تتوقف عليه صحة الإجماع... 407

فيما يشترك فيه الأُصول الثلاثة... 408

اقسام الخبر... 416

الخبر المتواتر... 420

شروط الخبر المتواتر... 426

عدد التواتر... 427

شروط أُخرى في التواتر... 429

اختلاف التواتر في الوقائع... 431

خبر الواحد... 431

الأخبار بحضرة النبي صلى الله عليه و آله و سلم... 435

التعبّد بخبر الواحد... 439

وجوب العمل بخبر الواحد... 442

الوجوه العقلية في لزوم العمل بخبر الواحد... 450

ص: 572

الموضوع... الصفحة

شروط العمل بخبر الواحد... 453

حكم خبر مجهول الحال... 462

الجرح والتعديل... 465

التعارض بين الجرح والتعديل... 470

طرق الجرح والتعديل... 471

عدالة الصحابة... 473

في تعريف الصحابي... 474

إذا قال الصحابي: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم... 477

مستند غير الصحابي... 481

حكم نقل الحديث بالمعنىٰ... 485

تكذيب الأصلِ الفرع... 488

انفراد العدل بالزيادة... 491

حكم حذف بعض الخبر... 494

حكمُ حمل الصحابي مرويّه علىٰ أحد محمليه... 498

حكم مخالفة الخبر للقياس... 500

الآراء في المرسل والمنقطع... 507

الكلام في الأمر... 513

ص: 573

الموضوع... الصفحة

ما هو حد الأمر؟... 517

صيغة الأمر حقيقة في الوجوب... 520

حجّة أُخرى للقائلين بالوجوب... 525

دليل وضع الأمر لغير الوجوب... 527

دلالة صيغة الأمر على المرّة والتكرار... 529

الأمر عند التعليق يدل على التكرار؟... 534

في اقتضاء الأمر للفور وعدمه... 537

الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه... 541

أدلة القول بالضد في النهي... 548

مسألة الإجزاء... 552

مدلول صيغة الأمر بعد الحظر... 554

هل القضاء بأمرٍ جديد؟... 556

الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً... 559

ما هو المطلوب بأمر فعلٍ مطلق... 560

الأمران المتعاقبان بمتماثلين... 562

فهرس المحتويات... 565

ص: 574

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.