ليلة القدر معراج الصالحين

هوية الكتاب

المرجع الديني

آية الله السيد محمد تقي المدرسي

ليلة القدر معراج الصالحين

ليلة القدر معراج الصالحين

المرجع الديني آية الله السيد محمدتق المدرسي

الناشر: دار مجتى الحسين(ع)

الطبعة الأولى - 1424 ه- / 2003م /10000نسخة

مركز التوزيع :طهران - ناصر خسرو - زقاق حاج نايب - هاتف 3907181

شابك 2- 42 - 373 7- 964

ISBN 964 - 7373- 42 - 2

ص: 1

اشارة

ليلة القدر معراج الصالحين

المرجع الديني آية الله السيد محمدتق المدرسي

الناشر: دار مجتى الحسين(ع)

الطبعة الأولى - 1424 ه- / 2003م /10000نسخة

مركز التوزيع :طهران - ناصر خسرو - زقاق حاج نايب - هاتف 3907181

شابك 2- 42 - 373 7- 964

ISBN 964 - 7373- 42 - 2

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

1- المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علی سيد المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

ممة ليلة من كل سنة ليست مثل باقي الليالي، وساعاتها ليست كباقي الساعات؛ إنها ليلة يعم فيها الفضل، ويشع منها الخير وتنهمر فيها البركات.. إنها خير من ألف شهر.

فيا تری؛ أية ليلة هذه؟

إنها ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر ؛ليلة تتنزل فيها الملائكة والروح باذن ربهم من كل أمر ، ويفرق فيها كل أمر حكيم..

من هنا صار كل مؤمن يرتجيها بروح تهش إليها شوقاً، وبقلب يهتز إليها حنيناً، وبعيون ترنو بحيثها من علی مسافة..

غير أنه من الملفت للنظر، إن هذه الليلة لا يمكن لها أن تتكرر في السنة إلا مرة واحدة؛ فمن تفوته لا يقدر على إدراكها حتى تعود في وقتها من السنة القادمة.

لذا يجدر بكل واحد منا أن يشدد حيازيمه بالعزم والإرادة، وأن ينتظر ليلة القدر بفارغ الصبر استعداداً لها، حتی يغنم منها مغانم كثيرة وسعة.

ص: 3

فمن سعادة المرء أن يوفق أولاً لمعرفة وقتها متي يكون، ومن ثم ماذا يجدر به أن يعمل فيها من الصالحات وماذا يرتل فيها من القرآن آيات ،وماذا يقرأ فيها من الدعاء، وماذا يصلي فيها لربه من الصلوات..

وهنا لابد من القول بصراحة؛ أنه لا يوفق كل إنسان للاستفادة من هذه الليلة، إلا إذا وقر في نفسه مؤهلات تتماشي وشأنها ومنزلتها ،کان يصب علي نفسه ماء التوبة ليطهرها من أدران الذنوب والآثام، وأن يخلص لله رب العالمين نيته وأن يجعل فعل الخيرات سجيته، وعمل الصالحات مهنته..

عند ذاك يستطيع أن ينهل من تلك الليلة الخير الوافر، والبركة العظمي..

فالله الله في ليلة القدر، لا تفوتنكم، فان في ضياعها خسراناً عظيماً. ولأجل أن لا نغفل عن هذه الليلة وما تنطوي عليه من فرص ثمينة، بادرنا إلى تأليف هذا الكتاب حيث جمعنا فيه جملة من أحاديث آية الله السيد محمد تقي المدرسي بما يخص هذا اليوم العظيم، بالاضافة الى تفسيره السورة القدر، راجين من الله تعالي أن ينفع به القراء الكرام، وأن ينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم.

القسم الثقافي في مكتب

المرجع الديني آية الله السيد محمد تقي المدرسي

14 / رجب / 1423

ص: 4

2- ليلة القدر في القرآن الكريم

ليلة القدر في القرآن الكريم(1).

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِلَّا انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْر خيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرَ}

[1] عندما الهمر فيض الوحي على قلب الرسول صلى الله عليه وآله

في ليلة القدر في شهر رمضان وتنزلت ملائكة الرحمة و الروح بالقرآن رسالة السلام وبشير الرحمة عندئذ خلد الله هذه المناسبة المباركة التي عظمت في السماوت و الارض وجعلها ليلة مباركة خيراً من ألف شهر .إنها حقا عيد الرحمة، فمن تعرض لها فقد حظي بأجر عظيم !! فقال الله سبحانه: {إِنَّا انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقَدْرِ }

وكذلك قال ربنا سبحانه: (إنا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة إِلا كُنا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان /3-4)

كذلك نزل القرآن كله على قلب الرسول في تلك الليلة، ثم نزل بصورة تدريجية طيلة ثلاث وعشرين عاماً، لتأخذ موقعها من النفوس، وليكون

ص: 5


1- (1) هذا الفصل مأخوذ من تفسير (من هدى القرآن )للمؤلف.

کتاب تغيير يبني الرسول به أمة وحضارة، ومستقبلاً مشرقاً للإنسانية. وكذلك قال ربنا سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}

(البقرة / 185)

ومعروف أن القرآن تنزل بصورته المعهودة في أيام السنة جميعاً، فله إذا نزلة أخرى جملة واحدة .

والسؤال: لماذا سميت هذه الليلة بليلة القدر ؟

يبدو أن أهم ما في هذه الليلة المباركة تقدير شؤون الخلائق، وقد استنبط اللفظ منه، فهي ليلة الأقدار المقدرة، كما قال ربنا: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}.

وقال بعضهم: بل لأنها ليلة جليلة القدر، قد أنزل الله فيها كتاباً قديراً، ولأن الذي يحييها يكون عند الله ذا قدر عظيم.

[2] من ذا الذي يستطيع أن يدرك أبعاد تلك الليلة التي باركها الله الخلقه بالوحى، وجعلها زماناً لتقدير شؤون العالمين؟ من ذا الذي يدرك عظمة الوحي، وجلال الملائكة، ومعاني السلام الإلهي؟ إنها ليست فوق الإدراك بصورة مطلقة، ولكنها فوق استيعاب الإنسان الجميع أبعادها، وعلى الإنسان ألا يتصور أنه قد بلغ علم ليلة القدر بمجرد معرفة بعض أبعادها، بل يسعى ويسعى حتى يبلغ المزيد من معانيها، وكلما تقدم في معرفتها كلما استطاع الحصول على مغانم أكبر منها .

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر}

سبق القول من البعض: إن هذه الجملة وردت في القرآن لبيان أهمية الحقيقة التي تذكر بعدها.

ص: 6

بينما تترك الحقيقة مجملة إذا ذكرت عبارة وما يدريك .. هكذا قالوا، واعتقد أن كلتا الجملتين تفيدان تعظيم الحقيقة التي تذكر بعدها .

[3] كيف نعرف أهمية الزمان ؟ أليس عندما يختصر المسافة بيننا وبين أهدافنا، فاذا حصلت في يوم على ميلون دينار، وكنت تحصل عليه خلال عام أليس هذا اليوم خير لك من عام كامل ؟ كذلك ليلة القدر تهب للإنسان الذي يعرف قدرها ما يساوي عمراً مديداً؛ ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر. وبتعبير أبلغ ألف شهر.

{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}

أجل الواحد منا مسمى عند الله، وقد يكون قصيراً، قد لا يبلغ الواحد منا معشار أهدافه فيه، فهل يمكن تحدي هذا الواقع ؟ بلى؛ ولكن ليس بالصورة التي يتخيلها الكثير، حيث يتمنون تطويل عمرهم وقليل هم الذين يحققون هذه الأمنية، لأن عوامل الوفاة عديدة وأكثرها خارج عن إرادة الإنسان فما هو إذا السبيل الى تمديد العمر؟ إنما بتعميقه ومدى الانتفاع بكل لحظة لحظة منه. تصور لو كنت تملك قطعة صغيرة من الارض، ولا تستطيع توسيعها فكيف تصنع ؟ إنك سوف تبني طوابق فيها بعضها تحت الأرض وبعضها يضرب في الفضاء وقد تناطح السحب. كذلك عاش بعض الناس سنين معدودات في الأرض، ولكنهم صنعوا عبرها ما يعادل قروناً متطاولة؛ مثلاً عمر رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله لم يتجاوز الثلاث والستين، وأيام دعوته ثلاث وعشرون عاماً منها، ولكنها أبعد أثراً من عمر نوح المديد، بل من سني الأنبياء جميعاً. وهكذا خص الله أمته بموهبة ليلة القدر ،التي جعلها خيراً من ألف شهر، ليقدروا

ص: 7

على تمديد أعمارهم في البعد الثالث (أي بعد العمق) ولعل الخبر المأثورعن رسول الله صلى الله عليه وآله يشير الى ذلك، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمر مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر . (1)

وفي حديث آخر أنه ذكر لرسول الله رجل من بني إسرئيل أنه السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب من ذلك رسول الله عجباً شديداً، وتمنى أن يكون ذلك في أمته، فقال: يارب جعلت أمني أقصر الناس أعماراً، وأقلها أعمالاً فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: { لَيْلَة الْقَدْر خَير من ألفِ شَهر} الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك من بعدك الى يوم القيامة في كل رمضان. (2)

إنك قد تحيي ليلة القدر بالطاعة فيكتب الله اسمك في السعداء، ويحرم جسدك على نار جهنم أبداً، وذلك بما يوفقك له من إصلاح الذات إصلاحاً شاملاً. من هنا جاء في الدعاء المأثور في ليالي شهر رمضان

مجموعة من البصائر التي تتحول بتكرار تلاونها إلى أهداف وتطلعات يسعى نحوها المؤمن بجد ومثابرة، ويجتهد في طلبها من ربه.

"اللهم اعطن السعة في الرزق، والأمن في الوطن، وقرة العين في الأهلوالمال والولد والمقام في نعمك عندي، والصحة في الجسم، والقوة في ،البدن والسلامة في الدين واستعملني بطاعتك وطاعة رسولك محمّد

ص: 8


1- (1) تفسير جامع الأحكام للقرطبي، ج20، ص133.
2- (2) تفسير نور الثقلين، ج5، ص 615 .

صلى الله عليه وآله أبداً ما استعمرتني، واجعلني من أوفر عبادك عندك

نصيباً في كل خير أنزلته وتنزله في شهر رمضان في ليلة القدر". (1)

وهكذا ينبغي أن يكون هدفك في ليلة القدر تحقيق تحول جذري في نفسك، تحاسب نفسك بل تحاكمها أمام قاضي العقل، وتسجل ثغراتها السابقة ،وانحرافاتها الراهنة، وتعقد العزم على تجاوز كل ذلك بالندم من إرتكاب الأخطاء، والعزم على تركها والالتجاء الى الله ليغفر لك ما مضى ويوفقك فيما يأتي .

وقد جاء في تأويل هذه الآية :أنها نزلت في دولة الرسول التي كانت خيراً من دول الظالمين من بني أمية، حيث نقل الترمذي عن الحسن بن على عليهما السلام: أن رسول الله صلى الله عليه وآله أري بني أمية على منيره فساءه ذلك، فنزلت {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر }يعنى فراً في الجنة، ونزلت{ أنا أَنزَلْنَا في لَيلة القَدْر وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلة القَدْر * لَيْلَة القَدْر خَير مِن ألفِ شَهر} يملكها بعدك بنو أمية(2) وكانت حكومة بني أمية

ألف شهر لا تزيد ولا تنقص.

وهكذا فضيلة حكومة العدل وأثرها العظيم في مستقبل البشرية أكثرمن ألف شهر من حكومة الجور.

لماذا أمست ليلة القدر خيراً من ألف شهر ؟ لأنها ملتقى أهل السماء بأهل الأرض، حيث يجددون ذكرى الوحي، ويستعرضون ما قدر الله للناس في كل أمر .

ص: 9


1- (1) كلمات من دعاء أبي حمزة الثمالي المأثور الأسحار شهر رمضان، انظر مفاتيح الجنان، ص196.
2- (2) تفسير جامع الأحكام للقرطبي، ج20، ص133.

{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ)

والكلمة أصلها تنزل وصيغتها مضارع تدل على الاستمرار ،فنستوحي منها؛ إن ليلة القدر لم تكن ليلة واحدة في الدهر، وإنما هي في كل عام مرة واحدة ولذلك أمرنا النبى صلى الله عليه وآله بإحيائها .

فقد جاء في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه لما حضر شهر رمضان - وذلك في ثلاث بقين من شعبان - قال لبلال: "ناد في الناس" فجمع الناس، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أيها الناس؛ إن هذا الشهر قد خصكم الله به، وحضركم، وهو سيد الشهور، ليلة فيه خير من من ألف شهر" (1)

وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لابن العباس: "إن ليلة القدر في كل سنة وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله فقال ابن عباس من هم ؟ قال عليه السلام: " أنا وأحد عشر من صلبي". (2)

{وَالرُّوحُ }

ما هو الروح ؟ هل هو جبرائيل عليه السلام أم هم أشراف الملائكة ؟ أم هم صنف أعلى منهم وهم من خلق الله، أم هو ملك عظيم يؤيد به أنبياءه ؟ استفاد بعضهم من الآية التالية، أن الروح هو جبرئيل عليه السلام حيث قال {لَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }. (الشعراء/193)

ص: 10

واستظهر البعض من الآية التالية، أن الروح هي الوحي، فإن الملائكة يهبطون في ليلة القدر به قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمرنا} (الشورى52 )

وجاء في حديث شريف ما يدل على أن الروح أعظم من الملائكة، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه سئل هل الروح جبرئيل عليه

السلام؟ فقال جبرئيل من الملائكة والروح أعظم من الملائكة، أليس أن الله عز وجل يقول: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} . (1)

وقد قال ربنا سبحانه {وايدَه بِروح منهُ} مما يدل على أن الروح هو ما يؤيد الله به أنبياءه .

ويبدو أن الروح خلق نوراني عظيم الشأن عند الله، وأن الله ليس يؤيد أنبياءه عليهم السلام به فقط، وإنما حتى الملائكة ومنهم جبرائيل يؤيدهم به. وهذا نجمع بين مختلف الاحتمالات والأدلة والله العالم .

{فيهَا بِإذنِ رَبِّهِم}

عظيمة تلك الليلة التي تتنزل الملائكة فيها، وعظيمة لأن الأعظم منهم هو الروح يتنزل أيضاً، ولكن لا ينبغي أن نتوجه الى عظمة الروح بعيداً عن عظمة الخالق سبحانه، فإنهم عباد مكرمون، مخلوقون مربوبون ،وليسوا أبداً بأنصاف آلهة ،وليس لهم من الأمر أي شيء، ولذلك فإن تنزلهم ليس باختيارهم، وإنما باذن رهم.

{مِن كُلِّ أَمْرِ}

ص: 11


1- (1) تفسير نمونه، ج 26 ، ص 184 نقلاً عن تفسير البرهان، ج4، ص 418 .

قالوا معناه لأجل كل أمر ، أو بكل أمر. فالملائكة - حسب هذا التفسير - يأتون لتقدير كل ،أمر ولكن أليس الله قد قدر لكل أمر منذ خلق اللوح وأجرى عليه القلم ؟ بلى؛ إذا فما الذي تتنزّل به الملائكة في

: ليلة القدر؟ يبدو أن التقديرات الحكيمة قد تمت في شؤون الخلق، ولكن بقيت أمور لم تحسم وهي تقدر في كل ليلة قدر الأيام عام واحد فيكون التقدير خاصاً ببعض جوانب الأمور، وليس كل جوانبها بلى؟ فالتقديرات جميع الأمور، ولكن من كل أمر جانباً. وهكذا يكون حرف "من" للتبعيض وهو معناه الأصلي، وهو أيضاً ما يستفاد من النصوص المأثورة في هذا الحقل.

سأل سليمان المروزي الإمام الرضا عليه السلام وقال: ألا تخبرني عن{ إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة القَدْر} في أي شيء نزلت؟ قال: "يا سليمان؛ ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة الى السنة ،من حياة

أو موت، أو خير أو شر أو رزق. فما قدره الله في تلك الليلة، فهو من المحتوم(1)

وهكذا تختلف بصائر الوحي عن تصورات البشر، فبينما يزعم الإنسان أنه مجبور لا أثر لمشيئته في حياته يعطيه الوحي قيمة سامية، حيث يجعله قادراً على تغيير مجمل حياته من سعادة وشقاء، وخير وشر، ونفع وضر .. كل ذلك بإذن الله، وعبر الدعاء إلى الله في ليلة القدر .

إن البشرية في ضلال بعيد عن حقيقة المشيئة، فهم بين من ظن أنه صاحب القرار، وقد فوض الله الأمور إليه تفويضاً مطلقاً، فلا ثواب ولا

ص: 12


1- (1) تفسير نور الثقلين، ج5، ص 630 .

عقاب ولا مسؤولية ولا أخلاق وبين من زعم أنه مضطر تسوقه الأقدار بلا حرية منه ولا اختيار .

ولكن الحق هو أمر بين أمرين؛ فلا جبر لأننا نعلم يقيناً أن قرارنا يؤثر في حياتنا، أولست تأكل وتشرب وتروح وتأتي حسب مشيئتك وقرارك؟ وكذلك لا تفويض لأن هناك أشياء كثيرة لا صنع لنا فيها؛ كيف ولدت وأين تموت وماذا تفعل غداً، وكم حال القضاء بينك وبين ما كنت تتمناه، وكم حجزك القدر عن خططك التي عقدت العزمات على تطبيقها ؟

بلى؛ إن الله منح الإنسان قدراً من المشيئة لكي يكون مصيره بيده، إما الى الجنة وإما الى النار، ولكن ذلك لا يعني أنه سيدخل الجنة بقوته الذاتية أو النار بأقدامه، وإنما الله سبحانه هو الذي يدخله الجنة بأفعاله الصالحة، أو يدخله النار بأفعاله الطالحة.

إذا فالإنسان يختار، ولكن الله سبحانه هو الذي يحقق ما اختاره من سعادة وشقاء، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وها هنا تتركز أهمية الدعاء وبالذات في ليلة القدر التي هي ربيع الدعاء، وقد تتغير حياة الإنسان في تلك الليلة تماماً، فكم يكون الإنسان محروماً وشقياً إن مرت عليه هذه الليلة دون أن يستفيد منها شيئاً.

ويتساءل البعض: أليس هذا يعني الخبر بذاته؟ فإذا كانت ليلة تحدد مصير الإنسان فلماذا العزم والسعي والاجتهاد في سائر أيام السنة؟! كلا؛ ليس هذا من الجبر في شيء، ونعرف ذلك جيداً إذا وعينا

البصائر التالية :

ص: 13

البصيرة الأولى: يبدو أن التقدير في هذه الليلة لا يطال كل جوانب الحياة، فهناك ثلاثة أنواع من القضايا:

نوع قدر في ليلة واحدة في تاريخ الكون، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتدري ما معنى ليلة القدر ؟ فقلت: لا يا رسول الله ! فقال: إن الله تبارك وتعالى قدر فيها ما هو كائن الى يوم القيامة، فكان فيما قدر عز وجل ولايتك وولاية الأئمة من ولدك الى القيامة". (1)

والنوع الثاني : تقديرات تتم في السنة التي يعيشها الإنسان.

بينما النوع الثالث: تبقى مفتوحة تخضع لمشيئة الإنسان وهي مثلاً؟ أن الله يقدر للإنسان في ليلة القدر الثروة، أما كيف يتعامل الإنسان مع الثروة، هل ينفق منها أم يحلها ويطغى؟ فان ذلك يخضع لمشيئة

الإنسان وبه يتم الابتلاء. كذلك يقدر الله للإنسان المرض، أما المريض أو جزعه فانه يتصل بإرادته

ومع ذلك؛ فإن الله البداء، إذ لا شيء يحتم على ربنا سبحانه وقد قال سبحانه:{ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُبْتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكتاب }(الرعد /39) وقد جاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة الى السماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدم شيئاً أو يؤخره، أو ينقص أمر الملك أن يمحو ما شاء، ثم أثبت الذي أراد. قلت :وكل شيء هو عنده ومثبت في كتاب ؟ قال: "نعم" . قلت فأي

ص: 14


1- (1) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 629.

شيء يكون بعده ؟ قال : "سبحان الله ! ثم يحدث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى(1)

هكذا تبقى كلمة الله هي العليا، ومشيئته هي النافذة، ولكن الاتكال على البداء، وتفويت فرصة ليلة القدر نوع من السذاجة، بل من السفه والخسران.

البصيرة الثانية: إن الله يقدر لعباده تبعاً لحكمته البالغة ولقضائه العدل، فلا يقضي لمؤمن صالح متبتل ما يقدر لكافر طالح، وما ربك بظلام للعبيد. وهكذا يؤثر الإنسان في مصير نفسه بما فعله خلال العام الماضي، وما يفعله عند التقدير في ليلة القدر، وما يعلمه الله اختياره خلال السنة. مثلاً؟ يقدر الله لطاغوت يعلم أن لا يتوب بالعذاب في هذه السنة لأنه سوف يظلم الناس خلالها، ولو افترضنا أنه وفق للتوبة ولم يظلم الناس خلالها، فإن الله البداء في أمره، ويمحو عنه السقوط ويمد في ملكه، وقد قال ربنا سبحانه: {إِنّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد / 11)

البصيرة الثالثة: إن الناس يزعمون أن هناك أحداثاً تجري عليهم، لا صنع لهم فيها كموت عزيز والاصابة بمرض عضال، والابتلاء بسلطان جائر، أو بالتخلف أو بالجفاف، ولكن الأمر ليس كذلك إذ أن حتى هذه الظواهر التي تبدو أنها خارج إطار مشيئة الإنسان إنما تقع بإذن الله وتقديره وقضائه وأن الله لا يقضي بشيء إلا حسبما تقتضيه حكمته و عدالته و من عدله أن يكون قضاؤه وتقديره حسب ما يكسبه العباد

ص: 15


1- (1) تفسير نور الثقلين، ج5، ص 631.

أو لم يقل ربنا سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} (الروم / 41)

وإن في ذلك لكرامة بالغة لمشيئة الإنسان أن يجعل الله تقديره وفق قرار ما، أليس كذلك؟

[5] السلام كلمة مضيئة تغمر الفؤاد نوراً وبهجة، لأنها تتسع لما تصبو إليه النفس ،وتتطلع نحوه الروح، ويبتغيه العقل، فلا يكون الإنسان في سلام عندما يشكو من نقص في أعضاء بدنة ،أو شروط معيشته، أو روحه. فهل للمريض سلام، أم للمسكين عافية، أم للحسود أمن؟ كلا؛ إنما السلام يتحقق بتوافر الكثير الكثير من نعم الله التي لو افتقرنا الى واحدة منها فقدنا السلام. أو لم تعلم كم مليون نعمة تتزاحم على بدنك حتى يكون في عافية، وكم مليون نعمة تحيط بمجمل حياتك وتشكلان معا سلامتها وليلة القدر ليلة السلام، حيث يقول ربنا سبحانه: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .

حينما تنسب هذه الموهبة الإلهية الى الزمن نعرف أنها تستوعبه حتى لتكاد تفيض منه . فالليل السلام كل لحظاته سلام لكل الأنام، كما اليوم السعيد كله هناء وفلاح، بينما اليوم النحس تنفجر النحوسة من أطرافه.

فماذا يجري في ليلة القدر حتى تصبح سلاماً إلى مطلع الفجر ؟

لا ریب أن الله سبحانه يغفر في تلك الليلة الفئام من المستغفرين ،وينقذهم - بذلك - من نار جهنم، وأي سلام أعظم من سلامة الإنسان من عواقب ذنوبه في الدنيا والآخرة .

ص: 16

من هنا يجتهد المؤمنون في هذه الليلة لبلوغ هذه الأمنية وهي العتق من نار جهنم، ويقولون بعد أن ينشروا المصحف أمامهم: " اللهم إني أسألك بكتابك المنزل وما فيه وفيه اسمك الأكبر، وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار".(1) مفاتيح الجنان، ص 225.

،

كذلك يقدر للإنسان العافية فيها، وإتمام نعم الله عليه وقد سأل أحدهم النبي صلى الله عليه وآله أي شيء يطلبه من الله في هذه الليلة فأجابه - "حسب الرواية "العافية". (1)

وقد تدخل على فرد هذه الليلة وهو من الأشقياء فيخرج منها سعيداً، أوليست الليلة سلاماً؟ من هنا ينبغي للإنسان أن يدعو فيها بهذه الكلمات الشريفة:

اللهم امدد لي في عمري وأوسع لي في رزقي وأصح لي جسمي وبلغني أملي، وإن كنت من الأشقياء فاتحني من الأشقياء واكتبني من السعداء، فإنك قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل صلواتك عليه وآله{ يَمْحُو الله ما يَشَاء ويُقيِّت وَعِنْدَه أم الكتاب}.(2)

وفي هذه الليلة يقدر الله الرزق لعباده، وهو جزء من السلام والأمن، وعلى الإنسان أن يطلب منه سبحانه التوسعة في رزقه.

كما يقدر الأمن والعافية والصحة والذرية، وكلها من شروط السلام

ص: 17


1- (2) المصدر، مي 226.
2- (3) المصدر، ص 235.

حقاً؛ إن المحروم هو الذي يحرم خيرها كما جاء في حديث مأثور عن فاطمة الزهراء عليها السلام أنها كانت تأمر أهلها بالاستعداد لاستقبال ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان المبارك بأن يناموا في النهار لئلا يغلب عليهم النعاس ليلا وتقول " محروم من حرم خيرها ".(1)

وقال البعض :إن معنى السلام في هذه الآية أن الملائكة يسلمون فيها على المؤمنين والمتهجدين في المساجد، وأن بعضهم يسلم على البعض. وقيل: لأنهم يسلمون على إمام العصر عليه السلام وهم يهبطون عليه.

ليلة القدر متى هي ؟

إذا كان القرآن قد نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر حسب آيتين في القرآن فإن ليلة القدر تقع في هذا الشهر الكريم، ولكن متى ؟ جاء في بعض الاحاديث: "التمسوها في العشر الأواخر" . (2)

وروى عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال في تفسير{ إلا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة } قال : "نعم ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر ، فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر" (3)

وجاء في حديث آخر تحديد واحدة من ليلتين؛ إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين فقد روى أبو حمزة الثمالي، قال: كنت عند أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام فقال له أبو بصير: جعلت فداك ! الليلة التی يرجى فيها ما يرجى ؟ فقال: "في إحدى وعشرين أو ثلاث

ص: 18


1- (1) مفاتيح الجنان، ص 236.
2- (2) حسب رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله، تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 629.
3- (3) تفسير نور الثقلين، ج5، ص 625 .

وعشرين. قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال: "ما أيسر ليلتين فيما تطلب" . قلت فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض أخرى؟ قال: "ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها". قلت: جعلت فداك ! ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني ؟ (1)فقال: "إن ذلك ليقال" ثم قال: "فاطلبها في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، وصل في كل واحدة منهما مائة ركعة واحبهما - إن استطعت - الى النور، واغتسل فيهما". قال: قلت فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟ قال: "فصل وأنت جالس". قال: قلت فإن لم استطع؟ قال: فعلى فراشك ولا عليك أن تكحل أول الليل بشيء من النوم. إن أبواب السماء تفتح في رمضان، وتصفد الشياطين، وتقبل أعمال المؤمنين. نعم الشهر رمضان كان يسمى على عهد رسوله الله المرزوق". (2)

وقد استفاضت أحاديث النبي وأهل بيته في إحياء هاتين الليلتين، إلا أن حديثاً يروي عن رسول الله يحدده في ليلة ثلاث وعشرين، حيث يرجى أن تكون هي ليلة القدر، حيث قال عبد الله بن أنيس الانصاري المعروف بالجهني لرسول الله صلى الله عليه وآله: إن منزلي ناء عن المدينة فمرفي بليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين.(3)

ويبدو من بعض الأحاديث أن ليلة القدر الحقيقية هي ليلة ثلاث وعشرين بينما ليلة التاسع عشر وواحد وعشرين هما وسيلتان إليها، من وفق للعبادة فيهما نشط في الثالثة وكان أقرب الى رحمة الله فيها .

ص: 19


1- (1) سوف نذكره إن شاء الله.
2- (2) نور الثق- الثقلين، ج5، ص 625.
3- (3) المصدر، ص 626.

هكذا روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال لمن سأله عن ليلة القدر: "أطلبها في تسع عشر، وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين".(1)

وجاء في حديث آخر، أن لكل ليلة من هذه الثلاث فضيلةقدراً، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "التقدير في ليلة القدر تسعة عشر، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين". (2)

وجاء في علامات ليلة القدر أن تطيب ريحها وإن كانت في برد دفنت وإن كانت في حر بردت فطابت". (3)

وعن النبي صلى الله عليه وآله إنها ليلة سمحة لا حارة ولا باردة تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع". (4)

نسأل الله أن يوفقنا لهذه الليلة الكريمة ويقدر لنا السعادة فيها.

ص: 20


1- (1) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 628.
2- (2) المصدر، ص 627.
3- (3) المصدر، 623 .
4- (4) المصدر.

3- ليلة القدر في الأحاديث الشريفة

/1 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان منكم ملتمساً ليلة القدر، فليلتمسها في العشر الأواخر، فإن ضعف أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقي.(1)

/2 قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان التقدير وفي ليلة إحدى وعشرين القضاء، وفي ليلة ثلاث وعشرين إبرام ما يكون في السنة الى مثلها، والله عز وجل أن يفعل ما يشاء في خلقه. (2)

/3 قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: نزلت التوراة في ست مضت من شهر رمضان، ونزل الإنجيل في اثني عشرة ليلة مضت من شهر ،رمضان ونزل الزبور في ليلة ثماني عشرة مضت من شهر رمضان، ونزل القرآن في ليلة القدر. (3)

/4 عن حمران أنه سأل أبا جعفر الإمام محمد الباقر عليه السلام عن قول الله عز وجل: {انا الزَلْنَاهُ في لَيلة مُبَارَكة} قال: نعم؛ هي ليلة

ص: 21


1- (1) مستدرك الوسائل، ج 7، ص 476 .
2- (2) من لا يحضره الفقيه، ج2، ص100-101.
3- (3) الفروع من الكافي، ج 4، ص 157.

،القدر، وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر. فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر، قال الله عز وجل: فيها يفرق كُلّ أَمْرٍ حَكيمٌ) قال: يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة الى مثلها من قابل؛ من خير أو شر أو طاعة أو معصية، أو مولود أو أجل، أو رزق؛

فما قدّر في تلك الليلة وقضي، فهو من المحتوم ولله فيه المشيّة. (1)/5 سأل رجل الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فقال: أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل عام؟ فقال: لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن (2)

/6 سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام كيف تكون ليلة القدر من ألف شهر ؟ قال : العمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.(3)

/7 قال سليمان المرزوي للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: ألا تخبرني عن{ إنا أنزلناه في ليلة القد}ر في أي شيء أنزلت؟ قال: يا سليمان؟ ليلة القدر يقدّر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة الى السنة، من حياة أو موت، أو خير أو شرّ، أو رزق. فما قدّره في تلك الليلة فهو من المحتوم.(4)

8/ سئل الإمام محمد الباقر عليه السلام عن ليلة القدر، فقال: تنزل فيها المل

ائكة والروح والكتبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما هو كائن في أمر السنة وما يصاب العباد فيها. قال: وأمر موقوف الله تعالى فيه المشية،

ص: 22


1- (1) بحار الأنوار، ج 94 ، ص 19.
2- (2) من لا يحضره الفقيه، ج2، ص101.
3- (3) المصدر، ص 102.
4- (4) بحار الأنوار، ج 94 ، ص 14 .

يقدم منه ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، وهو قوله تعالى: (يَمْحُو الله ما يَشَاء ويُتبت وعنده أم الكتاب).(1)

/9 قال الإمام على بن أبي طالب عليه السلام :قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله يا علي أتدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال: إن الله تبارك وتعالى قدر فيها ما هو كائن الى يوم فكان فيما قدر عز وجل ولايتك وولاية الأئمة من ولدك الى يوم القيامة. (2)

/10 قال المفضل بن عمر: ذكر أبو عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام إنا أنزلناه في ليلة القدر قال ما أبين فضلها على المشهود. قال: قلت وأي شيء فضلها؟ قال: نزلت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فيها. قلت في ليلة القدر التي نرتجيها في شهر رمضان؟ قال: نعم؛ هي ليلة قدرت فيها السماوات والأرض، وقدرت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فيها.(3)

/11 عن أبي جعفر الثاني( الإمام محمد الجواد عليه السلام) قال إن أمير للمؤمنين عليه السلام قال لابن عباس: إن ليلة القدر في كل سنة، وأنه يتنزل في تلك الليلة أمر السنة، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.

فقال ابن عباس: من هم؟ قال: أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون.(4)

/12 قيل لأبي جعفر (الإمام محمد الباقر )عليه السلام تعرفون ليلة القدر؟ فقال: وكيف لا نعرف والملائكة تطوفون بنا بها. (5)

ص: 23


1- (1) بحار الأنوار، ج 94 ، ص 17 .
2- (2) المصدر، ص18.
3- (3) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 617.
4- (4) بحار الأنوار، ج 94 ، ص 15 .
5- (5) المصدر، ص 14.

/13 عن أبي الهذيل، عن أبي جعفر الإمام محمد الباقر عليه السلام قال:

يا أبا الهذيل؛ أما لا يخفى علينا ليلة القدر إن الملائكة يطيفوننا فيها. (1)(1)

14/ عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: قال موسى: إلهي أريد قربك. قال: قربي لمن استيقظ ليلة القدر. قال: إلهي أريد رحمتك قال: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر. قال: إلهي أريد الجواز على الصراط قال: ذلك لمن تصدق بصدقة في ليلة القدر. قال: إلهي أريد من أشجار الجنة وثمارها. قال ذلك لمن سبِّح تسبيحة في ليلة القدر. قال: إلهي أريد النار. قال ذلك لمن استغفر في ليلة القدر. قال: إلى أريد رضاك. قال: رضاي لمن صلي ركعتين في ليلة القدر. (2)

/15 قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: إذا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، أنزلت صكاك الحاج، وكتب الآجال والأرزاق، واطلع الله الى خلقه، فغفر لكل مؤمن ما خلا شارب مسكر ولا صارم رحم مؤمنة ماسة. (3)

/16 قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام صبيحة يوم ليلة القدر مثل ليلة القدر، فاعمل واجتهد.(4) (4)

/17 قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ليلة القدر في كل سنة، ويومها مثل ليلتها. (5)

ص: 24


1- بحار الأنوار، ج 94 ، ص 23 .
2- (2) المصدر، ج 95، ص 145 .
3- (3) مستدرك الوسائل، ج 7، ص 471 .
4- بحار الأنوار، ج 94 ، ص 11 .
5- (5) وسائل الشيعة، ج 7، ص 262، كتاب الصوم، باب 32، ح 15.

4- في استقبال ليلة القدر

في شهر رمضان وخصوصاً في الليالي العشر الأخيرة منه حيث يستقبل الإنسان المسلم الصائم ليلة القدر الشريفة المباركة، لابد أن تكون الطاعات التي وفق لها، والعبادات التي أرهق نفسه في أدائها، معراجاً له إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا يردّ سائله ولا يخيب آمله.

بعد ذلك يمهد الإنسان المؤمن نفسه للدخول في ليلة القدر، واستقبال ما فيها من رحمة إلهية منشورة، وفضل رباني كبير استعداداً لتجاوز العقبات وخصوصاً عقبة تغيير النفس .

إن ليلة القدر هي بلا شك ليلة مباركة فهي الوسيلة الى تكامل الشخصية، وتغيير النفس.

فرصة التغيير

ونحن عندما ندخل هذه الليلة الشريفة نمتلك الفرصة، ونعوذ بالله من أن تتحوّل هذه الفرصة الى غصة، ونعوذ بالله من يوم لا ينفع فيه الندم. ففي خلال هذه الليلة ينتهي الجزء الأكبر من شهر رمضان ولا يبقى منه إلا القليل، فلنستعن بالله تعالى، ولنسأله التوفيق بإلحاح، ولنطلب منه أن يجعل أيامنا في هذا الشهر وما تبقى من أيامه أيام تغيير وإصلاح لأنفسنا

ص: 25

كما يقول عز وجل: {إنّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَ- بانفُسِهِمْ }(الرعد /11) وأن يجعلها أيام غفران، وأيام أمل وتطلع الى الدرجات العلى وأيام نسيان الذات والإحسان الى الآخرين، وأيام إحداث تحوّل حقيقي في نفوسنا.

فقد خلق الله سبحانه وتعالى في كل واحد منّا طاقات كبيرة علينا أن لا نغفل أهميتها، وأن لا ننظر إلى أنفسنا نظرة الآخرين إليها. فنحن قد خلقنا للبقاء لا للفناء، ولنكون عباد الله، لا لنكون عبيد الشيطان.

استراتيجية شاملة

ومن أهم الأفكار التي ينبغي أن أشير إليها فيما يتعلق بليلة القدر المباركة هي ضرورة أن يغير الإنسان رؤيته الى نفسه، وبتعبير آخر أن يضع استراتيجية شاملة لتحركه في الحياة، فالكثير من الناس -- للأسف الشديد - لا يفكرون إلا في كيفية قضاء حاجاتهم المادية، وإشباع أهوائهم وغرائزهم فيقصرون تفكيرهم على أمور هامشية تافهة ولكنّهم لا يفكرون ولو للحظة واحدة في القضايا المصيرية الحساسة التي خلقوا من أجلها ولا يعمدون إلى رسم استراتيجية عامة وواضحة لأنفسهم في الحياة. وربما يشير الحديث الشريف القائل: "تفكر ساعة خير من عبادة سنة" (1) إلى ضرورة أن یرسم الإنسان لنفسه الاستراتيجية الواضحة لحياته من خلال هذا التفكر.

إن الإنسان المؤمن ينال في هذا الشهر الكريم الأجر والثواب، والإنسان الغافل ينال العقاب .الإنسان المؤمن يصنع لنفسه وجوداً في

ص: 26


1- (1) بحار الأنوار، ج68، ص 327.

الجنّة، والإنسان الغافل يبني لها سجوناً في النار، وكلّ ذلك يعود الى طبيعة الاستراتيجية التي يرسمها لنفسه في الحياة.

ما نطلبه في الدعاء

وعلى هذا؛ فإن الهم أن يتفكر الإنسان، وأن يضع الاستراتيجية المستقيمة لنفسه، وأن يحدّد المطالب التي يريدها من الله سبحانه وتعالى :القائل: (... ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنْ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي

سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر / 60)

هناك من الناس من يبكي في ليلة القدر، ويتوسل الى الله عزّ شأنه، وتحصل عنده حالة الخشوع والخضوع، ولكن من أجل مطالب ثانوية بسيطة. وبالطبع فإنه لا بأس أن يدعو الإنسان الله تبارك وتعالى ليحقق له بعض الأمور الدنيوية، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم، حتى شسع النعل فإنه إن لم يستره يتيسر (1)ولكننا بالاضافة الى ذلك علينا أن نطلب من الخالق تحقيق الأمور المصيرية المهمة، ومن جملتها العقل. فعقل الإنسان ضعيف ومحدود، ولذلك جاء في الدعاء عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الهي نفسي معيوب، وعقلي مغلوب وهواي "غالب (2) فلنطلب منه عز وجل الكرامة للعقل. فلو فكر الإنسان في أموره وقام بها بتعقل لمنحه ربِّه خير الدنيا والآخرة، ولذلك جاء التأكيد على العقل في الكثير من الآيات القرآنية مثل:

ص: 27


1- (1) ميزان الحكمة، ج 3، ص 251.
2- (2) مفاتیح ابلتان، دعاء الصباح، ص 62.

(إِنّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد / 4)

(وَأَوْلَئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبَابِ) (الزمر / 18)

ثبات الإيمان

وبعد العقل علينا أن نطلب من الله الإيمان، فنحن ندعى الإيمان ولكن إيماننا هذا ،سطحي، والمطلوب منا أن نحوله الى إيمان راسخ يقاوم التحديات، ويبقى رغم ضغوط الحياة ويصمد أمام كل شهوة، ويتحدى كل معصية، ويبقى مع الإنسان الى الأبد كما يقول تعالى: {وَاعْبُدْ رَبِّكَ حتى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }(الحجر / 99).

إذا علينا أن نطلب هذا الثبات في الإيمان بإلحاح من الله تعالى في ليلة القدر؛ وبعد الإيمان علينا أن نطلب من الله اليقين، فإيماننا يجب أن يبلغ درجة اليقين الذي ليس فوقه درجة أخرى.

إقرأوا "مكارم الأخلاق "

وأخيراً لتطلب من الله جل وعلا الأخلاق الحسنة الرفيعة، كالصدق والوفاء وطمأنينة النفس والسكينة أو الاستقامة... وما إلى ذلك من جذور وأسس للأخلاق الحسنة. وهنا أدعو الأخوة والأخوات إلى قراءة دعاء مكارم الأخلاق في ليلة القدر، والوقوف عند فقرات هذا الدعاء الشريف الذي يتدئ بهذه العبارة: "اللهم صل على محمّد وآله وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان...".(1) فعندما نقرأ هذه الفقرة - مثلاً - علينا أن نفكّر وتتدبّر فيها ثم نطلب بعد ذلك من الله حقيقة المعاني الواردة، وحينئذ سيعطينا الله تعالى ما نريد.

ص: 28


1- (1) الصحيفة السجادية للإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام.

وقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أنه جاء في رسالة له إلى جماعة من شيعته وأصحابه: "أكثروا من الدعاء، فان الله يحب من عباده الذين يدعونه، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة".(1) وبالطبع فان الله تعالى يسمعك بمجرد ان تدعوه الدعوة الأولى، ولكنه يحب أن صوت الإنسان وهو يدعو. فهو يحب أن يتضرّع العبد إليه وأن يسأله. وبالطبع فإنّ كل شيء بحسابه، فعندما يترك الله عز وجل الإنسان يدعوه المرّات عديدة فأنّه سيعطيه في النهاية ما يريد؛ بل ويزيد عليه كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَاسْألُوا الله من فضله} (النساء/ 32)

موسم الغفران

ومن المهم في هذه الليلة المباركة أن نطلب من الله غفران الذنوب بنيّة صادقة ،وقلوب مخلصة. فمجرّد ترديد عبارات من مثل: "اللهم اغفر ذنوبي" لا يكفي، بل على الإنسان أن يحاول إحصاء ذنوبه التي ارتكبها خلال حياته لكي يستشعر الخجل والحياء من نفسه، وإلا فان سبحانه وتعالى قائمة بذنوبنا كلّها حتى تلك التي نسيناها والتي يشير إليها القرآن الكريم في قوله:{ أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} (المحادلة /6).

فمن المؤكد أننا قد نسينا وغفلنا عن الكثير من الذنوب التي ارتكبناها، ولكننا عادة ما تتذكر أعمال الخير. فتتذكّر - على سبيل المثال - كم مرّة صلينا صلاة الليل، أما عدد المرات التي لم نصل فيها صلاة الصبح -- مثلاً - فهذا ما ننساه عادة، وكذلك اغتيابنا للآخرين..

ص: 29


1- (1) بحار الأنوار، ج70، ص 294.

وفي ليلة القدر المباركة ليحاول كلّ واحد منّا أن يسجّل جميع السيئة، وإن كانت قليلة، فكلّما تذكّرنا ذنباً من ذنوبنا، وندمنا عليه، وقررنا في أنفسنا أن لا نعود إليه، فلنعرف أنه قد غفر لنا. أما إذا رددنا عبارات الاستغفار وما زالت في نفوسنا الرغبة إلى أن نعود الى ذلك الذنب فإنه لا يمكن أن يغفر.

طلبات دنيوية

وبالإضافة إلى تلك المطالب الروحيّة والمعنويّة التي يجب علينا أن نطلبها من الخالق عز وجل، لا بأس في أن ندعوه تعالى أن يحقّق لنا بعض الأمور الدنيوية التي من شأنها أن تخدم الأمور الروحية، ومنها:

1 - الصحّة؛ فعلينا أن نطلب من الله جلت قدرته دوماً الصحة والعافية، لأن العافية بتمامها وكمالها توفّر للإنسان الفرصة لأن يقوم بالكثير من الأعمال. وعلينا لكي ندرك قيمة هذه النعمة أن ننظر إلى أولئك الراقدين في المستشفيات والذين يعانون من الأمراض والآلام في أجسامهم حيث لا يستطيعون القيام بالأعمال التي يستطيع الأصحّاء القيام بها. فعلينا أن نشكر الله تعالى على تمام العافية وسلامتها، وأن نبرمج حياتنا على أن لا نقوم بالأعمال التي تضر بصحُتنا؛ أي أن ننظم حياتنا بشكل نحافظ فيه على صحتنا.

2- علينا أن نطلب من الله عز وجل أن يرزقنا الزوجة الصالحة، والأولاد الصالحين. ففي كثير من الأحيان يبتلى الإنسان بقلّة الراحة، فيكون معذُباً طيلة حياته، وحتى لو كنا متزوجين فإن من الواجب علينا أن نطلب من الله تعالى أن يصلح ما بيننا وبين أزواجنا وأولادنا.

-3 كذلك يجدر بنا أن ندعو الله تعالى ليمن علينا بالأمن والأمان، وأن يحفظنا من كل مكروه.

ص: 30

4 - وأيضاً ندعو الله تبارك وتعالى ليمنحنا الغنى دون بطر وطغيان. إن هذه صور من التطلعات المشروعة في حياتنا، فلنطلب من الله تبارك وتعالى الأمور المهمة تاركين الأمور الهامشية والجزئية، وعلينا أن نطلب ذلك بإلحاح ضمن يقين مسبق بأننا لا نتوجه الى باب مغلق، بل الى رحمة واسعة وربُ غفور كريم لا يزيده العطاء إلا جوداً وكرماً، فهو يعطينا ويزيد في عطائنا.

وعلينا أن لا ننسى في دعائنا المؤمنين والمؤمنات كما ورد التأكيد على ذلك في الأدعية الشريفة.

ولندع الله عزُ شأنه ملحين أن يوفّقنا لأن ينصر دينه بنا، وأن يجعلنا ممن ينتصر بهم لدينه الحنيف. وهذا توفيق عظيم لا يناله إلّا المخلصون في العبادة ،والدعاء فأن يكون الإنسان جندياً من جنود الله تعالى، فهو شرف عظيم ووسام رفيع.

وبعد؛ فقد ذكرت نماذج مّما ينبغي للانسان المؤمن أن يطلبه جلّت قدرته ،في ليلة القدر، وأنا أرجو أن يجعل تعالى هذه الليلة بالنسبة إلينا ليلة نقفز فيها قفزات حقيقية، وترتفع في المستويات الإيمانية.. فمن المفروض أن تجعل شهر رمضان المبارك شهر التقدّم نحو الأمام، وشهر العروج والتكامل والتغيير وأن لا ندعه يمر كما يمر أي شهر آخر، وهذا كله يرتبط بهمتنا، وإرادتنا، ومدى صدقنا في هذه الهمّة والإرادة.

ص: 31

5- في رحاب ليلة القدر

تبلغ دقائق ولحظات ونفحات ليلة القدر المباركة قمة العظمة والجلال ونحن قد تعودنا الحديث عنها بما يربطنا بحظيرة القدس المباركة من خلال حمده وتسبيحه والشكر له والثناء عليه وتهليله وتكبيره جل وعلا، ومن ثم الخضوع والتبتل والخشوع والتوسل والطلب ممّا نطمع في عطائه ورحمته ورزقه وممّا لا ينتهي من النعم والخيرات. ويظلّ هذا الطمع مادام سبحانه غنياً حميداً وعظيماً قديراً، وهو إلى الأبد كذلك، فتبقى نتوسل إليه بوسائله المتمثلة في أنبيائه ورسله، وبعميدهم وخاتمهم وسيّدهم محمد صلى الله عليه وآله الأئمة الهداة الميامين عليهم السلام فهم الوسيلة وهم الشفاعة وهذا هو حق هذه الليلة المباركة وحدودها في الحديث وما يلهج به اللسان.

الساعات المباركة تحدد مصير الإنسان

وقد يعجز الإنسان عشرين أو خمسين أو سبعين أو مائة عام أو أقل من ذلك أو أكثر، ولكن ساعة أو ربما دقائق ولحظات في حياته قد تحدّد مصيره. نعم؛ إنها ساعة واحدة قد تهديك الى سبيل الجنّة والمغفرة ،والرضوان وقد تسوقك - والعياذ بالله - إلى العذاب النار. فلا ريب أن

ص: 32

مثل هذه الساعات من هذه الليلة الربانية، ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر هي الساعات الأكثر قرباً من تلك الساعة.

فإنك حين تعد ألف شهر، وتصبّها في قالب السنين، تجد أن هذه الشهورتساوي بعدتها ما يقارب اثنين وثمانين عاماً، فليلة واحدة من العطرة المباركة بالرحمة والمغفرة تعادل كفتها في الميزان ان كفّة العمرکلّه بل وتزيد عنه خيراً، كما يقول تعالى: {خَيْرٌ من ألف شهر }(القدر /3) ولست أبالغ إذا قلت إن ساعة من هذه الليلة التي تبدأ من غروب الشمس الى طلوع خيط الفجر إذا ما نظر إليك فيها الرب الكريم الرؤوف الرحيم من فوق عرشه الذي استوى عليه نظرة ملؤها الرحمة والرأفة، فسوف تصبح حينئذ أسعد إنسان ويحق لي أن أغبطك على بلوغ هذه الدرجة، إذ ستنتقل بوثيقة الرحمة الإلهية من صف المطرودين المنبوذين الآيسين من روح الله ورحمته إلى صف أولئك المحصنين بحصن الله الذي لا حصن أقوى منه. ففي تلك الساعة تكون قد دخلت عالم رحمة الله الواسعة من الباب الذي فتحه لك سبحانه ودخلت من خلاله في حصنه المنيع.

التفكّر خير من العبادة

لقد ورد في الحديث الشريف: "تفكر ساعة خير من عبادة سنة"، (1)

فأنت قد تعمر سبعين بعين عاما تعبد الله تعبد الله فيها ولكن من غير توجّه تام أو تفكّر وتبصّر، ولكنك حين تعبد الله ساعة لا ينقطع فيها تفكيرك، وتوجهك، واتصال كيانك بالله من خلال شعورك وعقلك وبدنك، فتلك

الحقة التي ربّما تعادل سنّي عمرك السبعين التي قضيتها في العبادة.

ص: 33


1- (1) بحار الأنوار، ج 98، ص 327 .

ولا فرصة أعظم وأثمن لبلوغ هذه الساعة من ساعات ليلة القدر، وهنا أوضح لك دليلاً نهتدي به لنيل ثواب هذه الساعة العظيمة؛ توضاً من أول الليل، ثم اشرع بقراءة سورة القدر ألف مرّة، ثم قم وصل مائة ركعة، واقرأ في كلّ واحدة فيها سورة الإخلاص عشر مرات، وبعد أن تنتهي منها، عليك بدعاء الجوشن الكبير الذي إن قرأته بوعي ومن صميم الروح والقلب بحيث تذوب في معانيه عند قراءته، فإني أضمن لك عند الله الدخول في حفظه في الدنيا والتحصّن بحصنه في الآخرة.

ثم عليك بعد ذلك بالدعاء لمولانا الإمام المنتظر صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف، وعندما تفرغ من الدعاء له، توجه الى حيث سيّد الشهداء عليه السلام وأنت تعرف مقامه وعظم مصابه، فليكن توجهك مساوياً لهذه المعرفة وذلك المقام العظيم، ولتكن منكراً في قلبك لما علمته من مصابه الأليم.

وكلّ هذه الأعمال إنما هي مقدّمات ووسائل، فإن كنت قد أديت هذه الأعمال بشكل روتيني ومن غير اندماج وتفاعل، وبلا روح ولا مناعة ولا تفكّر ولا توجّه فإنّ حالك سوف لا يختلف عن حال الحجر

والصخر، وهذا هو الواقع !!

الاتصال بين القلب والخالق

ومن أجل كسب ثواب هذه الساعة العظيمة فإنّ المهم في الأمر أن يتم الاتصال بين قلبك وبين ربك والمهم أيضاً أن تزول وتسقط تلك الحواجز والحجب التي تحول بين النفس وبارئها .

ص: 34

فكم من النعم والخيرات والبركات التي أنعم الله بها علينا كما يقول تعالى: (وَان تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوهَا) (ابراهيم / 34) لو فقدنا واحدة منها لتحولت حياتنا الى ألم وفاقة لا ينقطعان، وذلك خزي محيط بنا - والعياذ بالله -.

وتعتبر نعمة البصر من تلك النعم التي لا تحصى فانظروا وتأملوا كم هي عظيمة، وكيف أن الحياة ستفقد طعمها وقيمتها إن هي فقدت، وقد قال لي أحد الذين حُرموا من هذه النعمة: لولا ان الانتحار حرام لفضّلته على هذه الحياة وأنا لا أعرف تعبيراً أبلغ من هذا يظهر قيمة هذه النعمة العظيمة وفضله الكبير - سبحانه- في منحها لنا. وأنت لو نظرت في ملامح الرجل الضرير وتقاسيم وجهه بدقّة للاحظت فيه آثاراً من الذلّة لعلّ أولى علائمها احتياجه لمن يقوده ويهديه.

التكران وقلة الشكر

و مع ذلك كله؛ ترى عظم نكراننا، وقلّة شكرنا إن كان هناك شكر، وقلّة حمدنا إن وفقنا لهذا الحمد والأنكى من ذلك جرأتنا على الله تعالى في كثير من أفعالنا وأقوالنا، والحمد لله حمداً لا ينقطع إذ عاملنا بالفضل و لم يعاملنا بالعدل، وإلا فنحن لا نستحق حتى هذا الهواء الذي تتنفسه. أفليس الأولى بنا أن ننظر الى هؤلاء الذين من حولنا من المعوقين الذين يستشعرون الذل والحاجة لمن يعيش معهم، تُرى ما الذي يجول في خاطر كسيح الرجلين واليدين وهو يرى الناس رجالاً ونساء وأطفالاً يسيرون بسهولة، ويأكلون ويشربون ويكتبون ويعملون بأيديهم بدون أي حرج أو حاجة إلى مُعين؟ لو فكرنا بما يدور في خاطر هذا المعوّق لعرفنا قيمة النعمة العظيمة التي نرفل فيها.

ص: 35

لقد أعطى الله سبحانه الواحد منا الرجلين، ولكنه لم يشكره أو يودي حق هذا الشكر ، فمن النادر أن نجد من بيننا من يصلّي وهو متوجّه الى ربّه بكامل حواسه وجوارحه، فنحن نصلّي ولكننا لا نؤدّي تلك الصلاة الكافية لأداء بعض هذا الشكر.

وبالاضافة الى ذلك فنحن الآن معافون نستطيع التمنّي والعمل والتنزّه، بينما لنا إخوة في المستشفيات يعانون ما يعانون فلنقدر قيمة نعمة العافية التي نحن غافلون عنها.

وينقل في هذا المحال عن أحد الأثرياء الأميريكيين أنه كان يعاني أمراضاً في المعدة، يبدو أنه لم يجد لها علاجاً يشفيها، فحرّم عليه الاطباء أغلب أنواع الطعام، وقد قيل إنّ هذا الغني المليونير كان ينظر الى العمّال البسطاء وهم يجلسون للغذاء ويتناولون "السندويتشات" فيقول ليتني كنت مثلهم، وإني لمستعد أن أتخلّى عن نصف أموالي شريطة أن أعثر على العلاج الذي يشفيني ويتيح لي أن أتناول هذه السندويتشة.

أمّا نحن فنجلس إلى المائدة كل يوم وتتناول الطعام ثلاث مرات أو أكثر ، ومع ذلك فإننا لا نحس بقيمة نعمة العافية، ونغفل عن عظيم فضلها.

لا مصلحة الله في شكرنا

ولننظر الى ضخامة وتشعب الأمور التربويّة والأخلاقية التي أمرنا الله سبحانه أن نلتزم بها وهي في نفعنا نحن، وليس له سبحانه مصلحة - سواء تمسكنا بها أم لم تتمسّك، لأنها ستعود علينا بالضرر إن لم نلتزم بها اجتماعياً وربّما اقتصادياً وثقافياً، وإن التزمنا بها فإن التزامنا هذا سوف لا يضره ولا ينفعه.

ص: 36

وحتّى فيما يخص العبادة والفرائض العبادية التي أمرنا تعالى بتأديتها، فائها هي الأخرى تنعكس علينا نفعاً أو ضرراً في الدنيا والآخرة في حالة التزامنا أو عصياننا، كما أشار الى ذلك تعالى في قوله:{ قُلْ مَا يَعْبُوا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} (الفرقان (77).

فهو سبحانه يأمرنا بالكثير من الالتزامات الأخلاقية كالصدق والوفاء والإخلاص والتضحية والإيثار، وينهانا عن ما يخالفها من السلبيات ،ولكنك ترانا نعمل بما يخالف إرادته سبحانه فلا نلتزم بما أمر، ونفعل الذي ينهانا عنه، فترانا نكذب ونخون ونسرق ونغتاب ونستأثر ونرتكب ما شاكل ذلك من السلبيّات الأخلاقية غافلين عن أن كل واحدة منها تشكل حجاباً يحجبنا عن رحمة الرحمن ولطفه، وقد يستمر هذا الحجاب يوم القيامة خمسمائة عام كما تؤكد على ذلك الروايات.

رحمة الله واسعة

لقد وسعت رحمة الله كل شيء. فنحن وإن ارتكبنا من المعاصي والآثام ما ارتكبناه وتجمعت في سماء قلوبنا تلك الغيوم السوداء المدلهمّة لكنُه تعالى لم يقطع الأمل منا في اللجوء الى جناح رحمته، ولم يحرمنا من الفرص التي هي واسعة تمرّ ولا يُحرم من وافرها إلا الشقي، ولا يفوز بها إلا ذو حظّ عظيم، ومن المؤكد أن هذه الفرص تقع في هذه الليلة، ليلة القدر المباركة.

وقد ذكرت الروايات أنُ دمعة واحدة تخرج بصدق من عين تائب صادقا في توبته، خاشع منكسر لائذ بربه، تكفي لتطفئ نيران وحرّ واد من وديان جهنّم، وما أدراك ما وديانها؟!

ص: 37

فالله سبحانه يحب العبد التائب المستغفر المنكسر القلب، الخاشع وهو أيضاً يحب المتطهّرين؛ وغير الآيسين من رحمته :

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسهمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ الله إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(الزمر (53).

وكثيراً ما نردّد مع أنفسنا ومع الله فنقول: "استغفر الله ربي وأتوب إليه"، ولكننا لسنا في مسيرة التوبة وفي جهتها الحقيقية، لأن التوبة الحقيقية إنما تصدر من صميم قلب الإنسان ووجدانه وتظهر علي حركاته وسكناته وأفعاله، وتظهر على علاقاته مع زملاه ومجتمعه وتعامله مع الناس، ووفائه بالحقوق وما في ذمته ثم تبرز سماتها على وجهه.

المعنى الحقيقي للتوبة

فللتوبة معنى عظيم يحمل أبعاداً واسعة لا يمكن أن تفي هذه السطور حقّها في الحديث عنها، بل تحتاج الى مجلّدات لتفصيلها، فنحن نؤمن بالتوبة وتلهجها ألسنتنا، ولكن هل هي التوبة الحقيقية التي يحبّها الله من العبد؟، فنحن نقول إنّنا تائبون ولكننا لو دققنا في واقعنا وقلوبنا لوجدنا الكبر والحسد والأنانية مازالت جائمة علينا، فلا ندع مجالاً للتوبة لكي تتجسد عملاً بعد أن أقرت لساناً، وإنه لمن الكبر والغفلة أن ترانا نقنع نفسنا بأننا مؤمنون ومستحقّون للجنّة، ولا ينقصنا من الإيمان شيء، فنأمن عذاب ،ناره بينما نحن في واقعنا مملوؤون بالخطايا والذنوب والآثام.

والمجرمون حين يعرضون على النار يوم القيامة تتلى عليهم تلك الاسئلة التي يعرض لها القرآن من مثل: ألم تأتكم آياتي ألم تأتكم ،رسلي ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم؟ وما شاكل ذلك من أسئلة يذكرون بها

ص: 38

بمهمّات الرسل والبلاغات والإنذارات والتحذيرات وما آلت إليه الأمم الكافرة، وعندما لا يجدون مفرّاً من الاعتراف فيرمون في تلك النار المستعرة، وهيهات لهم من الخلاص والخروج إلا برحمة من الله ومغفرة.

فرص ثمينة للتوبة

فتلك الساعات التي نحياها في ليلة القدر هي الفرص المتاحة لنا للتوبة النصوح والانابة الى الله، إنها الساعات التي نرجع فيها إلى ربّنا أذلاء خاضعين خاشعين، فنطهّر بذلك قلوبنا من الكبر وجنون العظمة بالبكاء والتضّرع والتذلّل والتصاغر والتحاقر الله.

فأنت مؤمن وتعرف أنّ الكبرياء والعظمة إنما هما الله سبحانه، فليس لك أن تتكّبر وتصاب بالغرور فتأمن سخط الله ومكره وعذابه، فاذرف من تلك الدموع ما شئت لتطفئ تلك الوديان وديان السعير التي أججت لعصيانك وكفرك، وتب إلى الله توبة نصوحاً، واعبده وأحسن عبادته وأكثر منها، ولا تقل صلّيتُ ما فيه الكفاية، وقرأت من الدعاء ما يكفي، فلا تستكثر إيمانك فأنت مهما عبدت وصلّيت وأخلصت بقيت محتاجاً وفقيراً في عملك الى الله وإنه لمن بقايا الكبر والغرور أن ترى نفسك قد بلغت درجة عالية من ،الإيمان، لأن المسيرة الإيمانية،مسيرة التقوى ،هي كمسيرة العلم، فأنت مهما تعلمت فإنك تبقى لا تعلم شيئاً، وهذا المنهج في التقوى علّمنا إياه أئمتنا من أهل البيت عليهم السلام في أدعيتهم وتبتلهم ومناجاتهم.

طول الأمل نوع آخر من الغرور

وقد يصاب الإنسان بنوع من الغرور هو أخطر على مستقبله الإيماني وعاقبته، ألا وهو الأمل وطول الأمل الذي قيل عنه :

ص: 39

با من بدنياه أشتغل قد غرّه طول الأمل

فالموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل

فأحدنا قد يؤمّل نفسه قائلاً: لقد فاتتني ليلة القدر لهذا العام، وسأتوب في السنة القادمة، أو قد يوفقني الله لأزور بيته الحرام فأتوب حيثذ هناك، وربّما يجد في نفسه الذنوب والانحراف عن الجادة فيتماهل في توبته وقت احساسه هذا ويقول ؛ أمامي أعوام أخرى سأتوب إلى الله فيها !

وهذه هي الوسوسة التي يحدّث الشيطان بها الإنسان، ولا أدري متى كان الشيطان يحبّ ويريد التوبة للانسان وهو عدوّ لدود له، فالأولى للإنسان المؤمن أن يحذر الشيطان حينما يسوف له التوبة.

وهناك حقيقة أخرى ذكرتها الروايات وانتبه إليها علماء النفس بتجارهم، وهي أن حالة الوثوق بالنفس تنمو لدى الإنسان كلّما مرت عليه سنّي العمر فيزداد إصراره على ما يؤمن ويعتقد به، ولذلك فمن الصعب عليه أن يبدل عاداته، ومعنى ذلك أنه لو كان في شبابه لسهلت عليه التوبة، ولكنّه حينما يتقدّم في العمر يزداد رسوخاً في كفره وعصيانه كما يشير إلى ذلك الدعاء الشريف:

" يا ويلتا كلّما كبر سنّي كثرت معاصي، فكم ذا أتوب وكم ذا أعود ما آن لي أن أستحيي من ربِّي". (1)

وكما يقول تعالى: َ{الَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ لله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}(الحديد /16).

ص: 40


1- (1) بحار الأنوار، ج 84، ص 242.

ولا أدري متى سنعود الى صوابنا ونعزم على التوبة؟ وإن كانت هذه الفرص والساعات التي نعيشها في ليلة القدر حيث المجالس والاجتماعات الروحانية والأجواء الإيمانية المعطّرة برياحين القرآن والأحاديث الشريفة والأدعية المباركة والمناجاة. أقول: إن كانت هذه الفرص لا تؤثر في نفوسنا وقلوبنا ولا تطهر أرواحنا إذن فما أقسى قلوبنا والعياذ بالله !

فلتكن لدينا الهمة والعزيمة، ولتكل على الله في ولوج أبواب رحمته سبحانه وهو أرحم الراحمين.

ضمان الجنة

ومن الأعمال المستحبة الأخرى التي توصّلنا الى رحاب المغفرة والعفو وقبول التوبة قراءة سورة الروم والعنكبوت. فقد روي عن أبي بصير، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال: من قرء سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين، فهو والله يا أبا محمد من أهل الجنة، لا أستثني فيه أحداً، ولا أخاف أن يكتب الله عليَّ في يميني إثماً، وإن لهاتين السورتين من الله مكاناً (1)

وحقاً فإن هذا أمر يثير الدهشة، فأنا حين أقرأ سورة الروم وأتعمق فيها أقف متسائلاً عن السر الذي تشتمل عليه هذه السورة الكريمة والذي جعل الإمام الصادق عليه السلام يؤكّد عليها ويعتبرها مفتاحاً لدخول الجنّة، وهكذا الحال بالنسبة إلى سورة العنكبوت وأيضاً سورة الدخان التي من المستحب قراءتها في هذه الليلة. ترى ما هي أسرار هذه السور المباركة؟

ص: 41


1- (1) بحار الأنوار، ج 94، ص 19.

أما بالنسبة إلى سورة الدخان؛ فإن سرّها واضح، لأنها نزلت في ليلة القدر متحدّثة عنها وعن فضلها، ولذلك فإن تلاوتها في هذه الليلة جاءت مناسبة، وأما فيما يتعلق بسورة العنكبوت؛ فإنها - على ما يبدو - توحي بأن مثل هذه الدنيا كمثل بيت العنكبوت؛ بحضاراتها ودولها وإمكانياتها ،وقدراتها فهي لا قيمة لها ولا هدف يرجى منها في حد ذاتها بل إن الآخرة هي الهدف وهي الرجاء، وعلى العكس من ذلك فإن الدنيا واهنة زائلة: {وَإِنْ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ}(العنكبوت / 41).

مفتاح التقرب الى الله

فمادام القلب متعلقاً هذه الدنيا ولم يخرج حبها منه، فإنه لا يستطع التقرب إلى الله، فلا مناص - إذن - أن نطرد حبّ الدنيا - الذي هو رأس كل خطيئة - من قلوبنا، ونجله من أنفسنا، فلا نعيش على طول المني والآمال للحصول على المتاع والترف المادّي، ثم ما قيمة اللذّة إن كان انقضاؤها في دقائق أو ساعات؟ ترى ما الذي تبقى لأولئك الذين الدنيا وزخارفها، فكم عمّروا وبنوا ومشوا واشتروا وكم ربحوا ونالوا ولكن أين هم وأين هي دنياهم؟ لقد تركوها جميعاً ثُم رحلوا إلى الدار الآخرة يحملون أوزارها بما لم يشكروا ربّهم على نعمائه، وبما لم يعطوا حقوق الغير من حقوق الله كما يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْبَرُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتَكْوَى بِهَا جبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَتَركُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْترُونَ) (التوبة/34-35).

ص: 42

وهكذا الحال بالنسبة الى الذين ملكوا وحكموا من قبل، فما الذي وجدوه؟ فمنهم من أصبح ملکا لروسیا وآخر لامیرکا، وهاهی مذكراتهم تنطق بأحوالهم، فهذا أحدهم يقول: إن عيني لم تر النوم لستة أشهر بسبب ما عانيته من هموم ومشاكل شتّى حتى وصلت الى ما وصلت إليه من ملك ومال وجاه وعظمة، الكن هذه المظاهر المادية جمعها على حساب راحته وسعادته فقضى شبابه بالكد والسهر والتعب والهموم والمشاكل.

الشكر يوجب الزيادة

ومن الظواهر التي تكاد تمثّل سنّة إلهية أن الله تعالى حين يعطي شيئاً فإنّ هذا العطاء يكون سببا في انتقاص شيء مقابله إن لم يكن هناك الشكر ؛ فقد يعطي سبحانه نعمة المال الوفير لكن هذا المال إن لم يؤد حق الله وحق الناس فيه فيحمّس ويزكى فانّ لذة الاستمتاع به سوف تنقّص بأمر يحدث أو يساور الإنسان فعندئذ تذهب ذلك المال، فالتاجر -مثلاً- حين لا يوفي الناس حقوقهم فيحتكر ويبيع بأسعار فاحشة ويتركز همّه على جمع الأموال فإنه سيحرم وبسبب الطمع الطمع من نعمة النوم والاستقرار الفكري، فتراه يعمل نهاراً دون انقطاع، ويعيش ليله في حسابات لا طائل من ورائها، وإذا بالنوم يفرّ من عينيه، والأرق يسيطر عليه ويعكر راحته وصفوه

إنّ الإنسان - وبدافع من طمعه وجشعه - يظل يأمل ويحلم بالكثير حيث يزيّن له الشيطان سيّء أخلاقه وآماله، وحين يرجع هذا الإنسان الى نفسه ويعجب لحال الذل الذي آل إليه إذا ملك الموت يقف أماماه ليسترد منه الأمانة وحينئذ لا ينفع الندم إذ الأوان قد فات والآمال

ص: 43

تبخُرت وإذا به يصبح مصداقاً لقوله تعالى: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْحُسَرَانُ الْمُبِينُ ) (الحج / 11).

فلا عمل صالح يرفع عنه العذاب وأوزار ما حمله من دنياه تثقل ظهره ولا فرصة يكفّر فيها عن ذنبه ويتوب إلى ربِّه.

فملك الموت - مهما تأخّر عنك ولو أعطيت ألف سنة من العمر _فإنّه حينما يأتي ستستقل عمرك والفرص التي أتيحت لك في الحياة، كما قال تعالى: {وَلَتَجدَتْهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةِ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحه مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ) (البقرة / 96).

للشرك معنى واسع

فطول الأمل والحرص هما من سمات المشركين بالله والشرك ليس هو عبادة الأصنام والأوثان فحسب؛ بل إن له عشرات المذاهب والصور، والمال قد يصبح سبباً في نوع من أنواع الشرك وصوره؛ فالذي يفكّر ماذا سيريح غدا وبعد غد، وكیف ستكون تجارته في العام القادم وما بعده، وكيف سيحصل على المزيد والمزيد ليؤمن حياته هذا المال، فإنه سينسي الله ويعبد هذا المال، وهذا هو الشرك الصريح والواضح.

فكلّ ليلة قدر فرصة العمر الثمينة، فلنشدُ الرحال، رحال الإيمان والتقوى ولنسافر في رحابها وأجوائها إلى الله تعالى "والراحل إليك يا ربُ قريب المسافة منك، وأنت لا تحتجب عن خلقك إلّا أن تحجبهم الأعمال السيئة دونك". (1)

ص: 44


1- (1) بحار الأنوار، ج 91، ص 276.

فنسأل الله بحق نبيّه ورسوله محمد صلى الله عليه وآله أن يعيننا في ليلة القدر على أنفسنا ويرزقنا عزيمة التوابين والمؤمنين، ويوفّقنا للاقتراب منه، فقد من ضعف فصار هذا الضعف جزء من كياننا، فمثلنا كمثل الذين وقع في بئر فلا يستطيع الخروج منها إلاّ بوسيلة تعينه على ذلك، فنسأل الله أن يعدّنا هذا الحبل لتعتصم به ونخرج من ذلّ وشح أنفسنا ومن أحلامنا وأوهامنا ووساوسنا. وتلك هي مضامينومعاني سورة العنكبوت المباركة.

مضامين سورة (الروم) الأخلاقية

أما سورة الروم؛ فهي تحدُثنا عن أهم عبادة، والتي أشار إليها الحديث المروي عن زرارة ،عن أحدهما

(الإمام محمد الباقر أو الإمام جعفر الصادق) عليهما السلام قال: "ما عُبد الله عز وجل بشيء مثل البداء"(1)*. فهی تعنی أنّ الله إذا أراد أن ينظر إليك ويهبك مما لا تتصوره فانه سبحانه يفعل ذلك بإرادته ومشيئته وليس مهماً من تكون أنت، وعندها قد تتحوّل الى شخصية خيرة طيبة مؤمنة متقية مخلصة كشخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، أو شخصية سلمان وعمّار بن ياسر وغيرهما من الصالحين، وليس ذلك على الله بعزيز إن أنت عقدت العزم وخضت الغمار في رحاب الله وقدسه فأعطيت ليلة القدر وكلّ الليالي والأيام حق الله فيها، وسلكت فيها سبل النجاة.

ولا يغيب عنا إن الشيطان قد يكرّس اليأس في قلب الإنسان بحيث يجعله لا يفكر في التوبة ولا يمني نفسه بها، وبالتالي يمضي في غيّه وضلاله وظلمه لنفسه وللناس، فيرتكب ما يرتكبه من المحرّمات والفجور و الخطايا.

ص: 45


1- (1) بحار الأنوار، ج4، ص 107.

فعلى الواحد منّا - إن هو ارتكب ظلماً أو إثماً - أن لا ييأس من روح الله فيحسب نفسه من أهل النار وأنه لا مفرّ له منها، وأنّ الله لن يتوب عليه بل على العكس من ذلك فإن الله يحبّ العبد حين يلح عليه بالتوبة، فلابد أن تحلّ ساعة خشوع وخضوع وانكسار ورقة في القلب متناهية فيسيل على أثرها الدمع مختلطاً بنغم النحيب الذي تغرفه أوتار القلب النادم الذليل المنكسر الخاشع التائب فتطفئ ألسنة النيران في وديان السعير: "و لأصرخن إليك صراخ المستصرخين، ولأبكين عليك بكاء الفاقدين، ولأنادينك أين كنت يا وليُ المؤمنين يا غاية آمال العارفين، يا غياث المستغيثين". (1)

قصة طريفة في هذا المجال

ولا بأس هنا أن أذكر واقعة حدثت لي أثناء الحج؛ إذ كان في سفرنا الكثير من الناس الذين كانوا على تباين كبير في تقواهم وإيمانهم، ومن بينهم كان هناك رجل جاء حاجاً وهو لا يفكّر في هذه الفريضة، ولا يستشعر في وجدانه أحاسيسها ومشاعرها، فكان يهتم بما يشبع بطنه وما يجعله يؤمن نوماً ريحاً، وماذا سيشتري من الهدايا، وكأنه جاء لتحقيق هذه الأغراض المادية فحسب، فكنت أنصحه وأنبهه بقدسية الحج وقدسية مناسكه وأماكنه كعرفات ومنى والمشعر وما إلى ذلك، فكان لا يصغى لي ولا يهتم بتذكيري حتى بلغت مناسك الحج الطواف، فقد انتهى الطواف وكان قلبه ما يزال قاسياً لا يلين، أي أنه كان يطوف ويردّد التلبية ولكنّه منصرف في فكره عن ذلك كله فلا يشعر بحلاوة الطواف ولذّته.

ص: 46


1- (1) مفاتيح الجنان، ص 65، دعاء كميل بن زياد.

وعند انتهاء طواف الوداع المسمّى بطواف النساء وفي اللحظات الأخيرة لاحظت ذلك الرجل اللاأبالي قد تغيّر حاله، فراح يبكي وينتحب انتحاباً شديداً، فاجتمع الناس حوله، فحاولت أن أهدته ولكني لم استطع فبقي على حاله هذه فترة طويلة حتى هدأ شيئاً فشيئاً، ففكرت في نفسي قائلا:يا سبحانه الله ! لقد كان لحظة صعقة بنور الله أوقظت روحه وضميره وهكذا الحال بالنسبة لنا، فيجب علينا أن لا نيأس من روح الله علُ مثل تلك الصعقة الربانية أن تدركنا فتوقظ فينا الضمير والروح، وعسى أن تهبط علينا وترسل موجة من أمواج النور الالهي فتنقلب برحمة من الله على أوضاعنا التي كنا عليها بالأمس، ولا يكون ذلك إلا بالإخلاص وعقد العزم على ولوج طريق التوبة، فتبدأ - مثلاً - من هذه البصيرة، التي قالها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "أنت كما أحب فاجعلني كما تحب. (1)

فحاول أن توصل نفسك الى مرحلة العزيمة والثقة في تغيير ما في نفسك وكما يريد الله منك وهو معينك لا محالة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (العنكبوت /69).

محور سورة الروم

أمّا المحور الذي تدور حوله سورة الروم بآياتها المباركة فهو كون الأمور جميعاً بيد الله، يفعل بها ما يشاء {الله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (الروم / 4) ، فالله سبحانه هو مقلب القلوب والأحوال، وهو الذي يقرّب الإنسان منه ويدينه إليه أو يبعده عنه ويقضيه، ولعلّ أحداً منا لا يجهل

ص: 47


1- (1) بحار الأنوار، ج 91، ص 92 .

قصة ذلك البطل "الحر الرياحي" ومواقفه في كربلاء بين امسة و یومه، أفليس هو الذي حال بين الحسين عليه السلام وبين العودة الى الحجاز، فأبى إلاّ أن يسلّمه لعبيد الله أو يسلك سبيلاً لا يؤدّي إلى الكوفة أو الحجاز، لقد كان ذلك في أمس كربلاء، حيث لم يصح ضميره بعد رغم أنه قد عرف الحسين عليه السلام وعرف ابن من هون ومن التي ولدته؟ لقد كانت الغشاوة ما تزال تغطّي قلبه، حتّى بدأت الجذوة تتقد شيئاً فشيئاً في ضميره حين عرف نوايا القوم، واتضحت له أهدافهم، فقال قولته المشهورة: "إني لأخير نفسي بين الجنة والنار"، فما أعظم وأحلى وأطيب الإنسان حين يستيقظ منه الضمير والوجدان الخالصان النقيان وحين يعود الى ربّه، وقد جسد الحرّ الرياحي ذلك بقوله: "والله لا أختار على الجنّة شيئاً. فهز اللجام وراح صوب ،مولاه ووقف بين يديه قائلاً: "عذراً أبا عبد الله ! فأنا الذي فعلت بك كذا وكذا..." إلى آخر ذلك الموقف المشرّف موقف التوبة النصوح .

فالمسافة بين المعسكرين كانت قصية في الحساب المادّي، ولكن هل تعلمون أن هذه المسافة في حقيقتها وبقياس المعنويات والقيم الروحية هي أكثر وأوسع من ذلك بكثير، ولعل أدق تعبير يصف هذه المسافة أن تقول إنها الطريق بين الجنة والنار.

فكل واحد منّا يشعر أن كاهله قد ثقل من الأوزار أن يضع نصب عينيه موقف الحرّ وأمثاله فلا ييأس من رحمة الله، لأن الأمر كلّه بيد الله : {لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ }(الروم/4)، فليس هناك أمر يصعب عليه

سبحانه فهو يفعل ما يريد.

ص: 48

الاستغفار هو البداء

ليس من الصحيح أن نحكم على أحد ما بكونه من أهل جهنّم ، فما أدرانا لعلّه أن يتوب ويستغفر فيتوب الله عليه ويغفر له، وهذا هو البداء، الذي جسده تعالى بقوله: {الله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}.

والبداء هذا يتصل بفكرة الحرية الأساسية في الإسلام، ولذلك كان نفحه من نفحات الحضارة الراقية، لأنه - بالشكل الذي عرضناه - يدلّنا على انسجام المجتمع وتماسكه ،ووحدته وخلوصه شيئاً فشيئاً الله سبحانه، فيصبح عندها مجتمعاً حرّاً كريماً، وهذه هي سمة التمدّن الحضاري المنشود.

ويعتبر الدعاء من أعظم المظاهر التي يتجلّى فيها البداء، ولذلك كان الدعاء مخُ العبادة، كما جاء عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام رجلان افتتحا الصلاة في ساعة واحدة فتلا هذا من القرآن فكانت تلاوته أكثر من دعائه، ودعا هذا فكان دعاؤه أكثر من تلاوته ثمّ انصرفا في ساعة واحدة أيهما أفضل؟ فقال: كل فيه ،فضل كل حسن قال: قلت قد علمت أن كلاً وأن كلاً فيه فضل. فقال: الدُّعاء

أفضل، أما سمعت قول الله تبارك وتعالى {وَقَالَ رَبِّكُم ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}. هي والله العبادة، هي والله العبادة. أليست هي العبادة، هي والله العبادة، هي والله العبادة. أليست أشدّهن هي والله أشدّهنَّ، هي والله أشدّهنَّ، هي والله أشدهنَّ . (1)

ص: 49


1- (1) بحار الأنوار، ج 81، ص223

والقرآن الكريم يؤكد على الدعاء في الكثير من آياته كقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر / 60) وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة /186) وقوله: {قُلْ مَا يَعْبُوا بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لزاماً} (الفرقان (77).

فعلنيا أن نتوجه إلى الله بكل جوارحنا ، وبقلوب نقية، وخلوص نية فندعوا ربنا ولا نكون مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر / 60).

فلنجد في الدعاء، ولا نيأس ولا تتكبر ولا تكن غافلين عنه، فهذا هو الله سبحانه معنا أينما كنّا ولا شيء يفصل بيننا وبينه إلاّ الذنوب، ولذلك كان الوصول إليه واجتيازها عبر جسر التوبة النصوح، وطلب المغفرة، والدعاء، فلنقف بين يدي الجليل سويعات بقلوب منكسرة وعيون تفيض بالدمع، ولنعرض ونعترف بذوبنا وخطايانا وظلمنا أمام الله ، ولنتب إليه، ونعاهده على أن نردّ مظلمة كلّ من ظلمناه، وحق كلّ من بخسناه حقه فأكلناه بالحرام، ثم لنسأله سبحانه أن يغفر لنا، ويتوب علينا فهو التواب الرحيم ذو المغفرة. أسأل الله سبحانه أن يجعل في هذا الدعاء بركة لنفسي ولإخواني، وأن يعرفنا فضيلة ليلة القدر،وشرفها، ويعيننا على أنفسنا، أنفسنا، وينصرنا على عدوّنا وعدوّه الشيطان الرجيم، أنّه ولي التوفيق.

ص: 50

6- ليلة القدر خير من ألف شهر

في حديث مروي عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حدّد فيه هدف خلقة الإنسان ضمن كلمات مختصرة هي غاية في العبقرية والبلاغة إذ يقول صلوات الله عليه:

"أيها الناس إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأن يعرفهم ما لهم وما عليهم، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي، والأمر والنهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلّا بالترغيب والوعيد لا يكون إلاّ بالترهيب والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتللّه أعينهم، والترهيب لا يكون إلاّ بضد ذلك. ثم خلقهم في داره وأراهم طرفاً من اللذات ليستدلوا به على ما ورائهم من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم ألا وهي الجنة. وأراهم طرفاً من الآلام ليستدلّوا به على ما ورائهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذة ألا وهي النار. فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنها، وسرورها ممزوجاً بكدرها وغمومها. (1)

ص: 51


1- (1) بحار الأنوار، ج 5، ص 316.

الخلقة

إن هذا القول الشريف تجسيد خالص لنظرية الإسلام في سبب النظرية التي احتوتها عشرات الآيات القرآنية ومئات الروايات التي وصلتنا عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام وتناولها العلماء الاعلام قدس الله أرواحهم بالشرح والتفصيل. وعن هذا الحديث يقول الجاحظ - وهو من أشد المعاندين الحق أئمة أهل البيت - ما نصه: هو جُماع الكلام الذي دونه الناس في كتبهم، وتحاوروه بینهم". أما أبو علي الجبائي - وهو من كبار علماء الكلام - فقد قال حينما سمع كلام الجاحظ ووصفه: "لقد صدق الجاحظ هذا ما لا يحتمله الزيادة والنقصان".

وكما هو واضح فإن المفاهيم التي انطوى عليها حديث أمير المؤمنين عليه السلام مناسبة تماماً بالنسبة إلى سياق أحاديثنا في هذه الأيام الرمضانية الجليلة، لا سيما وأن هذه الأيام قد اجتمعت فيها مناسبتان عظيمتان؛ إحداهما استشهاد سيدنا وإمامنا علي بن أبي طالب عليه السلام والذي نحزن لحزنه ونفرح لفرحه ونقتدي هديه، ويشع على قلوبنا - إن شاء الله تعالى - نور ولايته والمناسبة الثانية هي ليلة القدر التي تبيّن للناس أكثر من غيرها عظمة الهيمنة الإلهية عليهم والعناية الربانية هم الليلة التي هي مهبط الملائكة الداعين بالمغفرة لبني البشر. وهذا الهبوط قد يكون رمزا

يستطيع الناس الاستلهام منه ، كلّ حسب مستوى إدراكه ووعيه..

إن الله جل جلاله وصف نفسه ب- {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} والرحمن في اللغة يعني واسع الرحمة والرحيم يعني عميم الرحمة ودائمها، فهو - عظمت

ص: 52

قدرته - تشتد عنايته بالناس في ليلة القدر، إذ جعل الله سبحانه هذا الاشتداد قريناً بما يقرر الإنسان لنفسه من مصير، لا سيما وأنه قال في القرآن الكريم في وصف ليلة القدر بأنها ک{خيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} القدر /3) أي ما يساوي معدل عمر الإنسان تقريباً. ثم قال عنها أيضاً: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ }

(القدر/ه) وقد ترتل الآيات وتتوقف بعد كلمة {سَلامُ} أو قبلها في اختيار المعاني التي تعطيها القراءة، ففي كل أمر يقضى من ربِّ العباد ،سلام، وفيها سلام وتحية للإنسان من خالقه، فينبغي له أن يرد التحية ويقول: يا ربّ وعليك السلام ومنك السلام وإليك السلام وأنت السلام، حتى يُدخله الله سبحانه وتعالى دار السلام ويهديه سبل السلام. إذ في طريق الإنسان الذي يوصله إلى رضوان الله تعالى مئات أو آلاف العثرات والسقطات والمهاوي والأخطار. ومن الممكن أن يكون السقوط والضياع والانحراف في أية واحدة من هذه العثرات وللهاوي.

فالمرء معرض بين لحظة وأخرى الى الأخطار الجسيمة، وهذه الأخطار لا تتمثل في الموت أو المرض، فهذان الأمران ليسا سوى حالتين مكتوبتين ومقدرتين على الناس كما كتبتا وقدُرتا على الأنبياء وسائر المخلوقات الحيّة الأخرى. إن الخطر الأعظم هو خطر الانحراف عن جادة التوحيد وعبادة أرباب آخرين من دون الله جل جلاله. الخطر الحقيقي يكمن في أن يصل الحال بالإنسان الى أن ينادي من قبل الرب بأن يعمل ما بدا له فهو لن يُغفر له ...

الخطر الأول والأخير أن تكون حالة الإنسان كحالة ذاك الذي قصّ الإمام الصادق عليه السلام قصته حيث قال: أقعد رجل من الأخيار في قبره

ص: 53

فقيل له: إنا جالدوك مائة جلدة من عذاب الله. فقال: لا أُطيقها. فلم يزالوا به حتى انتهوا إلى جلدة واحدة فقالوا ليس منها بد .فقال: فيما تجلدونيها؟ قالوا: نجلدك لأنك صلّيت يوماً بغير وضوء، ومررت على ضعيف فلم تنصره. قال: فجلدوه جلدة من عذاب الله عز وجلّ، فامتلأ قبره ناراً". (1) أقول: إن ليلة القدر فيها من العظمة مالا يعدّ أو يوصف حيث حبي فيها الرب عبده الإنسان، فكان من الواجب عليه أن يطلب العبد إلى سيده الهداية الى سبل السلام وإلى الورع والتقوى، فمن دونها يصبح هذا العبد عرضة لعواصف السقوط والانحراف والضياع الأبدي، ويكون كما الجسد الفاقد المناعة فما أن يدخله الداء حتى ينتشر في أوصاله ويقضي عليه. كذلك الإنسان لابد له من الطلب إلى بأن يزوده بالتقوى واليقين وأن يتزوّد كما ،فهما خير زاد وخير لبوس ودرع وحصن.

إن الإنسان ينبغي عليه أن يعرف بأن الله سبحانه وتعالى إذ يأمره وينهاه إنما لحبّه له وحنوه عليه. وهذا الحب لابد وأن يقابل بحبّ متقابل، ولو كلّف ذلك تضحية وصبراً وصعبة. فمهما يبذل الإنسان في هذه الدنيا من تضخیة فهو لا يعدو كونه قد ضحىّ برخيص في مقابل الوعد الذي قطعه الله سبحانه على نفسه بأن ينصر من ينصره وأن الجنة قد أُعدّت للمتقين..

أقول؛ إن الناس مدعوون في هذه الليلة بشكل مباشر إلى التعمق والتدبر والتبصر في حكمة وجود الإنسان وسرخلقه أساساً.

ويؤكد القرآن العظيم عن لسان الله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }(الذاريات / 56) ويفسر الإمام الحسين بن علي

ص: 54


1- (1) بحار الأنوار، ج77، ص233.

عليهما السلام هذا المنطوق: ب: "إنَّ الله جل ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه. فقال له رجل: يابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته . (1)

إن العلاقة بين مناسبة حلول ليلة القدر وحلول ذكرى استشهاد الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي هو أبو الأئمة في تشابك بليغ. فالملائكة حين تتنزُل في هذه الليلة إنما تتنزُل على حجة الله ووليه عليه السلام، ولهذا فإن من الأهمية بمكان أن يسعى الإنسان المسلم الى تحديد قراره المصيري بشأن عقائده وسلوكياته في هذه الدنيا بدقة متناهية، فإن كان يطلب النجاة إلى الجنّة فعليه أن يعرف سادة الجنة، وهم رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل البيت المعصومين عليهم السلام. وليحاول الواحد منا في هذه المناسبة الجليلة أن يكون إيمانه بالمفاهيم الدينية إيماناً مستقراً عميقاً لا إيماناً مستودعاً سطحياً. وهذا الإيمان لا يستقر في قلب المرء ما لم يتبصر موقعه في الدنيا ومن الدنيا وما لم يتعرف أو يحاول التعرّف الى الدار الآخرة، فهي خلقت من أجل الإنسان وبإرادته.. إذ لو لم ينتخب الناس أو بعضهم طريق السعادة لما خلقت الجنة، ولو لم ينتخب الباقون الذنوب لما خلق الله النار .

وهذه النعم القائمة بين أيدينا إنما هي دلائل النعم الأبدية التي سينالها المؤمنون في جنّات الله أما الآلام البدنية والنفسية فهي الأخرى أمارات غضب الله الأخروي وما أعده للمذنبين المسرفين.

ص: 55


1- (1) بحار الأنوار، ج5، ص312.

في الحياة الأولى؛ حينما يصل الألم الى درجة معينة يغمى على المريض فيفقد الاحساس بالألم، وإذا بلغ مرتبة أشد سيموت؛ وهذا من رحمة الله بعباده أن جعل حداً محدوداً لألمهم. لكن آلام يوم القيامة ليست على هذه الصورة وهذه البساطة، فالله عز وجل يقول: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بدلْنَاهُم جُلُودا}النساء /56) فالألم في جهنم لا تحده الضوابط ولا تتعرض له الرحمة. {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم ماكتُونَ }(الزخرف (77).

فلا تحديد في القضاء والحكم، ولا نهاية للألم، بل هناك نار سجّرها جبّارها لغضبه. أتعلم أيها الإنسان الغافل ماذا يفعل العطش بأهل النار؟ إنه يشتد عليهم الى درجة يؤتى اليهم بالماء وهو يغلي بمعدن مذاب أو بصديد لا توصف رائحته، وعندما يشربونه يتساقط لحم وجوههم فيه، ولكن مع ذلك فهم يشربون لشدة العطش. وهذه صورة مبسطة من صور جهنم - أعاذنا الله وإياكم من دخولها -.

أما الجنة؛ ففيها من النعيم الأبدي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. النعيم الخالد الذي يتوجب على الناس أن يهرعوا إليه ويطلبوه من الله سبحانه بکل حماس و اصرار .فمن أکثر طرق الباب أوشك أن يسمع الجواب، ومن تج ولج. وهذا الإلحاح المتواصل والمطلوب هو لإسقاط الحجب المتراكمة على قلب الإنسان حجابا بعد حجاب، فيومئذ لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم ليصل إلى معدن النور. ومن صفات الجنّة ما جاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه

وآله أنه قال في خطبة طويلة:

ص: 56

من تولّى أذان مسجد من مساجد الله فأذن فيه وهو يريد وجه الله أعطاه الله عزّ وجل ثواب أربعين ألف ألف نبي، وأربعين ألف ألف صديق، وأربعين ألف ألف شهيد وأدخل في شفاعته أربعين ألف ألف أمّة، في كل أمة أربعين ألف ألف رجل وكان له في كل جنة الجنان أربعين ألف ألف مدينة، في كل مدينة أربعون

من ألف ألف قصر في كل قصر أربعون ألف ألف دار في كل دار أربعون ألف ألف بيت في كل بيت أربعون ألف ألف سرير، في كل سرير زوجة من الحور العين؛ سعة كل بيت منها مثل الدنيا أربعون ألف ألف مرة بين يدي كل زوجة أربعون ألف ألف وصيف وأربعون ألف ألف جارية وأربعون ألف ألف وصيفة في كل بيت أربعون ألف ألف مائدة على كل مائدة أربعون ألف ألف قصعة في كل قصعة أربعون ألف ألف لون من الطعان لو نزل به الثقلان لأدخلهم أدني بيت من بيوتها، لهم فيها ما شاؤوا من الطعام والشراب والطيب والثمار وألوان التحف والطرائف من الحلي ،والحلل كل بيت منها يكتفي بما فيه من هذه الأشياء عمّا في البيت الآخر. فإذا أذن المؤذن فقال أشهد أن لا إله إلا الله اكتنفه أربعون ألف ألف ملك كلهم يصلّون عليه ويستغفرون له وكان في ظل الله عزّ وجل حتى يفرغ وكتب له ثوابه أربعون ألف ألف ملك ثم صعدوا به الى الله عز وجل"(1)

---------------------------

(1) بحار الأنوار، ج 81، ص123.

ص: 57


1- (1) بحار الأنوار، ج 81، ص123.

هل اشتقت الى الجنة أم لا؟ إنك ستدخل الجنة - وما تقدم وصف واحد من أوصافها فقط - بشرط وحيد و هو {فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُسْلَمُونَ }(البقرة / 132).

ولقد جاء في الحديث أن في صحف موسى بن عمران: "يا عبادي إني أخلق الخلق لأستكثر بهم من قلة ولا لأنس بهم من ،وحشة ولا الأستعين بهم على شيء عجزت عنه، ولا لجرّ منفعة ولا لدفع مضرة. ولو أن جميع خلقي من أهل السماوات والأرض اجتمعوا على طاعني وعبادتي لا يفترون عن ذلك ليلاً ولا نهاراً مازاد ذلك في ملكي شيئاً سبحاني وتعاليت عن ذلك". (1)

وقد سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام: لم خلق الله الخلق؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركه سدى، بل خلقهم لإظهار قدرته وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك ،رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة، ولا ليدفع بهم مضرة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم الى نعيم الأبد". (2)

ان الله سبحانه وتعالى غني عن العباد على الإطلاق، إلا أنه أحب أن يدخلنا جنّاته وأن يصيبنا رضوانه؛ فلماذا نبخل على أنفسنا بالجنّة ونغفل عن هذا الكرم والحب والرأفة بنا؟ ولماذا نضيع من بين أيدينا

عمیم الفائدة التي تكتنزها ليلة القدر المباركة؟

و لا يغيب عنا إن عهد المؤمنين الصادقين بالله في الدنيا هو عهدهم به

ص: 58


1- (1) الجواهر السنية للمحر العاملي، ص 63.
2- (2) بحار الأنوار، ج5، ص313

في الآخرة، إنهم على يقين من أمر ربهم وأمرهم، وإنهم ليرون بعين القلب الحكمة من وراء خلقهم ووجودهم في الدنيا، ويطلعون اطلاع الخبير على ما أعد الله تبارك وتعالى لهم في الآخرة. لذلك فإنه لم يكن من الغريب على شخصية فذّة كشخصية أمير المؤمنين عليه السلام أن يؤكد لنفسه والمسلمين أنه قد فاز مقسماً يرب الكعبة، إذ قال عندما ضربه ابن ملجم على أم رأسه بسيفه القاتل: "فزت ورب الكعبة".

نسأل الله بحق محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة المعصومين من أولاد الحسين وبحق كل نبي وصدّيق وشهيد ومؤمن أن یجعلنا من عباده المرحومين ولا يجعلنا من المحرومين، وأن يحيينا بالإيمان ويميتنا عليه وأن يحسن عاقبتنا بفضله، وأن يجعلنا من المهتدين ويلحقنا بالصالحين بحق محمد وآله الهداة الميامين.

ص: 59

7- ليلة تنزّل الملائكة والروح

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمُ

{إِنَّا َانزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلَّ أَمْرٍ* " سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر }(القدر / 1-5)

توقف المفسّرون التابعون لمذهب أهل البيت عليهم السلام طويلاً عند كلمة (تنزّل) التي هي في الأصل (تنزّل). فهي كلمة تدلّ على الاستمرار، لأن صيغة المستقبل والمضارع لا تدلّ على المستقبل فحسب،

وإنما تدلّ على حالة الاستمرار والتداوم والتواصل.

وعند هذه الكلمة تتبيّن ميزة عظيمة يتميّز بها مذهب أهل البيت عليهم السلام عن كلّ المذاهب. فبينما ترى الديانات القائمة اليوم والمذاهب المعاصرة أن الاتصال بين ربّ العباد وأهل الأرض قد تم في فترات محددة تأريخياً ثم انقطع؛ وعلى سبيل المثال فإن هناك أناساً یزعمون ان الاتصال بين السماء والأرض قد انقطع بعد مقتل عيسى عليه السلام _حسب زعمهم - وهكذا الحال بالنسبة الى اليهود الذين يرون أن هذا الاتصال قد انقطع منذ أربعة آلاف سنة.

هذا في حين أن مذهب أهل البيت عليهم السلام الذي يمثل جوهر الإسلام نراه يتميّز بأنّه يؤمن أن هذا الاتصال ما يزال قائماً وسيظلّ قائماً

ص: 60

إلى يوم الدين فهناك في كل عام ليلة هي ليلة القدر، تتنّزل فيها الملائكة على حجة الله فوق الأرض، والذي هو الإمام المهدي الحجة الحسن عجل الله فرجه. فمذهبنا يؤمن أن الأرض لا يمكن أن تتخلو من حجّة، وأنّ الله تبارك وتعالى لا يترك الأرض سدى، فهو أرحم بعباده من أن يتركهم. صحيح أن الإمام عليه السلام مغيّب، ولكنُ حجاب الغيبة لا يمنع آثار الخير والبركة. فأثر الرسول صلى الله عليه وآله في أمته لم يكن أثراً مادياً فحسب، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَلتَ فيهم} (الانفال/33) فمجرد وجود الرسول صلى الله عليه وآله بين أمته هو رحمة وتبليغه للدعوة هو إضافة لهذه الرحمة. ونحن نعلم أن الله عزّ وجل لم ينزل العذاب على قوم إلّا بعد أن أمر رسوله أن يترك قومه .فوجود الإمام الحجة عليه السلام في هذه الأرض يمنع عنها النكبات والنقمات وعذاب الاستئصال وهذا هو واحد من واحد من أبعاد أثره، وهناك أبعاد أخرى لا ندركها رغم أنها موجودة وملموسة الآثار.

وأهل البيت عليهم السلام يأمروننا ان نستدل بسورة القدر على استمرار التواصل بين الأرض والسماء فحجّة الله تعالى في هذه السورة بالغة علينا، فهو عز وجل يصرّح بان الملائكة تتنزّل في ليلة القدر. ومعنى التنزّل الإنزال على شكل مراحل، وفي نهاية الآية تفسير وبيان لما تتنّزل به الملائكة وهو الذي يشير إليه تعالى في قوله: {مِن كُلِّ أَمْرٍ }.

ما هو الروح؟ وقبل أن نقف قليلاً عند هذه الكلمة لابد من وقفة أخرى عند قوله عز من قائل: {الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ}. فالظاهر من هذه الآية أن الملائكة شيء، والروح شيء آخر، لأن الشيء لا يمكن أن يُعطف على نفسه.

ص: 61

وعلى هذا؛ فإن الروح غير الملائكة، فمن هم ولماذا ينسزلون في ليلة ،القدر، وهل يمثلون شخصاً واحداً أم أشخاصاً متعدّدين؟

لقد اختلف المفسرون كثيراً في تفسير هذه الآية، فمنهم من قال إنّ الروح يمثل إشراف الملائكة، وقال بعضهم بل إن الروح هوشخص جبرائيل عليه السلام؛ أي الروح الأمين، ولأنه يتنزّل في هذه الليلة فقد

خصّه الله عز وجل بالذكر للإشارة الى ميزته وخصوصيّته.

الآثار العملية للإيمان بالملائكة

ومما يجب على كل واحد منّا الإيمان بالملائكة، فهم وسائل رحمة الله وسبل مواهبه. كما أنُ من الواجب علينا أن نحب جبرائيل عليه السلام كما نحبُ رسول الله صلى الله عليه وآله لأن حب الملائكة يدفعك الى أن تتشبه بصفاتهم، وتقترب من أعمالهم وأفعالهم. فالآيات القرآنية التي تذكّرنا بالملائكة، لا تذكّرنا عبثاً، بل لكي يجري في داخلنا تحوّل باتجاههم.

ولأننا ينبغي أن نضمر الحب للملائكة، فأنه من الواجب علينا أن نصلح أنفسنا وواقعنا لكي تتنزّل الملائكة على بيوتنا. فالبيت الذي يقرأ فيه القرآن، ويذكر فيه الله ويتدارس العلم والبيت الذي يعمُه الخير والفضيلة

والحب وكان منبعاً للإحسان الى الناس هذا البيت تتنّزل فيه الملائكة.

أما البيت الذي يمتلئ غيبة ونميمة وتهمة وسوء ظن ورياء وغناء وطرياً.. فإنّ الملائكة لا تقترب منه، وعندما تبتعد الملائكة تحلّ الشياطين. فلنعش مع الملائكة ولنكن الاحترام والتقدير لهم دائماً، ولنحاول أن نكرّس في أنفسنا حبهم.

(الروح) غير الملائكة

ها هي أحاديث أهل البيت عليهم السلام تصرّح أن الروح هو صنف

ص: 62

آخر غير الملائكة، بل هم خلق أعظم من الملائكة ومن جبرائيل نفسه وميكائيل وإسرافيل ويظهر من بعض الروايات أن إسرافيل هو أقرب الملائكة إلى الله سبحانه وتعالى، وهناك روايات أخرى تفيد أن جبرائيل هو الأقرب. ولكن الذي يبدو من مجمل الروايات أن إسرافيل هو أقرب الملائكة، لأنه آخر ملك يبقى بعد قيام الساعة. ومع ذلك فإن إسرافيل ليس بأعظم من الروح، وهذا الروح على عظمته يتنزل على الإمام الحجة عليه السلام، وهنا يمكننا أن نعرف جانباً من عظمة الإمام المهدي عجل الله فرجه بل جانباً من عظمة الإنسان عندما يعبد الله عز وجل حق عبادته بحيث يصل الى درجة يتنزّل فيها الروح عليه. فالإنسان المخلوق من لحم ودم يصبح بفضل الله في مستوى ينزل فيه الروح عليه. وعلى هذا الأساس؛ فانّ الروح هو خلق من خلق الله جل ثناؤه، وأنه يؤيد به ملائكته. فإذا ما سمعنا أن جبرائيل يسمى ب-

(الروح) فلأنّ الله يؤيده به كما يؤيد نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله وسائر الأنبياء، ويؤيد

كذلك المؤمن الصالح من روحه وأقصد بالروح هنا (النور)؛ أي أنه يؤيده تأييداً عينياً بالروح. فالروح فين النور من الله جل وعلا، ومنه ينبعث إلى الملائكة؛ أي أن الله يؤيد كلاً من الملائكة والرسل بالروح. وفي الحيقيقة؛ فان هذه هي الروح التي سألوا النبي صلى الله عليه وآله عنها، وأشار إليها تعالى في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ }(الاسراء / 85) فجاءهم الجواب:{ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العلم إلا قَليلاً} (الاسراء/85). وهي نفسها الروح التي قال عنها عز من قائل: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (البقرة / 87). وأخيراً هي الروح التي أشار إليها القرآن الكريم في سورة القدر قائلاً: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}.

ص: 63

(فروح القدس) هو خلق أعظم من الملائكة، وبواسطته تؤيد الملائكة والأنبياء والصالحون، ومن خلالها أيضاً تؤيد أرواحنا الموجودة في أجسامنا.

الخط الفاصل بين الشرك والتوحيد

وفي قوله تعالى {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم} فكرة دقيقة، وأشارة لطيفة الى الخط الفاصل بين الشرك والتوحيد؛ فالمشركون كانوا يزعمون أن في الكون قوى فاعلة غير الله سبحانه وتعالى؛ أي أنهم كانوا يزعمون أنّ هناك حالة من الانفصام والتناقض بين الملائكة، وبين الله تعالى شأنه، ولذلك فإن فكرة الشفاعةعندهم کانت تنبع من هذه الزاوية. فكانوا يتوهمون أنّ الملائكة تحتم على الله تقدست أسماؤه

الشفاعة، فإذا اذنبوا ذنباً لا يرضى الخالق عنه، فإن الملائکة تفرض علی الله تعالى أن يغفر لهم ذنوبهم! أما الإسلام؛ فيرى أنّ الملائكة عباد الله لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون - كما قال القرآن - وهذه هي عقيدتنا في الأنبياء عليهم السلامأيضاً ، فهم عظماء ولكنهم عبيد الله أمام الله. وهذه العقيدة هي الحد الفاصل بين الشرك والتوحيد. فلنا الحق في أن نعتقد بالإنسان أنه مؤمن وعالم .. مجاهد.. ولكن ليس لنا الحق مطلقاً في أن نعتقد أنه متصل اتصالاً مباشراً بالله سبحانه وتعالى فالعبد مهما ارتفع، ومهما تقرب الى الله، فانه لا يستطيع أن يصل إليه، لان الله خالق وهو مخلوق، والمسافة بين الخالق والمخلوق تبقى موجودة دائماً. ولذلك فإن القرآن الكريم لم يطرح مطلقاً مفهوم( الاتصال المباشر بالله)، بل طرح مفهوم (التقرب) لكي يبقى الخالق خالقاً، والمخلوق مخلوقاً.

ويقول تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم }فعلينا أن

ص: 64

نتوقف عند مثل هذا التعبير {بِاِذن رَبُهم}، فالملائكة لا تسبق ربِّها بالقول، بل هي وسائل. فالتوجه الأوّل يجب أن يكون الى ربِّ هذه الملائكة، لا إلى الملائكة نفسها.

أما بالنسبة إلى عبارة {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر}ِ. فالسلام يعمّ أرجاء هذه الليلة، وأي سلام أعظم من إرسال الله عز وجل ملائكته إلى الانسان هذا العبد المحدود ،الموجود الضعيف ،المخلوق من عجل ،الهلوع ... يبعث الله له سلاماً، ويرسل له الملائكة والروح، ولكنّ الشقي يحوّل هذا السلام الى عذاب فيسلّم عليه ربّه ولا يجيبه، ويدعوه الى ضیافته فلا يقبل دعوته 11

كلمة الى الشباب

وهنا أوجه حديث الى الشباب بالخصوص، وأطلب منهم أن يعودوا أنفسهم على الممارسات العبادية من تعبد وتهجّد وخضوع؛ وعلى سبيل المثال فإن قراءة دعاء (أبي حمزة الثمالي) جنّة من الخطايا والتعلّق بالدنيا. فمن المفروض في الشاب المسلم أن يتقرب إلى الله سبحانه ويشعر انه يتحدّث مع الخالق، وأنّ الخالق يتحدّث معه، وفي هذا المجال يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: "وأنّ الراحل إليك قريب المسافة، وأنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك، وقد قصدت إليك بطلبتي، وتوجهت إليك بحاجتي، وجعلت بك استغاثتي وبدعائك توسلي من غير استحقاق لاستماعك منى" (1)

إن شهر رمضان يمثل فترة زمانية محدودة لا تلبث أن تنتهي، وفي السنين القادمة لا تعرف هل سنكون من الأحياء أم الأموات. فعلينا أن

(1) مفاتيح الجنان، دعاء أبو حمزة الثمالي المروي عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام.

ص: 65

نحذر من التسويف في استغلال هذا الشهر المبارك العظيم، وأن نترك المارسات التي لا طائل من ورائها من مثل الحضور في المجالس التي ترتكب فيها الذنوب والمعاصي، والأحاديث التي تشغل الإنسان عن ذكر عز وجل. فعلينا أن نحذر من أن نفسد صيامنا بمثل هذه الأعمال التي ترين على القلب، وتجعل الإنسان قاسياً لا يخشع عند الدعاء لقوله تعالى :

{كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين 14).

فلنطهّر قلوبنا، ولنحذر من أن نخرج من شهر رمضان كما دخلنا فيه. فلقلقة اللسان لا يمكن أن تنفع، بل علينا أن نستشعر الندم الحقيقي على ذنوبنا، وأن نعزم عزماً راسخاً على تركها، وأن لا نعمد إلى تبرير ذنوبنا فنضاعفها، ويحرمنا الله جل وعلا من المغفرة.

شهر رمضان ولادة جديدة

وهناك من الناس من يدخلون في شهر رمضان وهم مليئون بالذنوب ولكنهم يخرجون منه وكأنهم ولدوا من جديد، فتصبح قلوبهم وأنفسهم طاهرة نقية. ولكن هناك آخرين لا يغتنمون حتى ليالي الجمع، فما بالك بليلة القدر ؟!

إن مثل هذه الأوقات - وفي طليعتها ليلة القدر قد خصّصت أساساً لأن ينشغل الإنسان في العبادة والتهجّد والدعاء وذكر الله وتصحيح مسار النفس، وتحديد الذنوب والتفكير في المستقبل والتخطيط له فالله سبحانه وتعالى لم يخلقنا ليدخلنا نار جهنم، بل لكي يستضيفنا في الجنة، ويغدق علينا من فضله، ويوفّقنا الى رضوانه الذي هو غاية ما يجب أن يطمح إليه الإنسان المؤمن في حياته.

ص: 66

8- ليلة العلم والعزم

خیرالأحاديث الحديث الذي يتمخض عن علم أو عزم؛ الأحاديث ما يمنحك العلم، ويزيد في معارفك، ومنها ما يعطيك عزيمة جديدة، وارادة قوية. وقد يستفيد الإنسان من حديث ما علماً دون أن يريد ذلك، في حين أنه لا يستطيع أن يستفيد من هذا الحديث عزماً دون أن يريد ذلك وينفتح قلبه عليه، ولذلك يقول تعالى: {وَتَعيَهَا اذن وَاعيَةً}(الحاقة /12). فاذا لم تكن أذن الإنسان واعية، فليس من السهل عليه أن يستوعب الحقائق الكبرى ويتذكّر ويتبصّر .

وحديث ليلة القدر حديث يعطينا قدراً كبيراً من العزم، بل إن هذه الليلة قد تشكل - عند استيعابها ووعيها - منعطفاً أساسياً في حياة الإنسان يحدث انقلاباً جذرياً في حياته.

ليلة القدر صفوة الصفوة

وكما تدل على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة فإن شهر رمضان إنما اكتسب عظمته من ليلة واحدة فيه هي ليلة القدر. فلقد اختار الله تعالى من الشهور ،شهراً، واصطفى من الليالي ليلة تقع في هذا الشهر هي صفوة الصفوة. فهذه الليلة هي المحور الأساسي لهذا الشهر الكريم، ومن خسرها فإنه الشقيّ حقاً كما روي عن أمير المؤمنين عليه

ص: 67

السلام قال ان رسول الله صلى الله عليه وآله خطبنا ذات يوم فقال:" .... فإن الشقى من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم" .(1)

إن الليالي والأيام وبالتالي أيّ زمن من الأزمنة إنما يكتسب ميزته من الحدث الذي يقع فيه، وقد وقع في ليلة القدر أهم ما حدث في تأريخ البشرية على الاطلاق، إلا وهو نزول القرآن الكريم كما قال سبحانه:{ إِنَّا الزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر /1)

والسبب الذي جعل نزول القرآن الكريم يعطي هذه الليلة العظمة الكبرى هو ان القرآن كلام الله القرآن كلام الله ونزول القرآن يعني أن أهل السماء اتصلوا بأهل الأرض، ويعني التفاتة رحيمة شاملة من قبل الله جلّ وعلا الى الأرض، كما ويعني أنّ المسافة بين الخالق والمخلوق قد تقلّصت، فنزلت السعادة الأبدية على الإنسان الذي هو أكرم ما خلق الله.

وعلى هذا؛ فإنّ ليلة القدر هي ليلة عظيمة، بل إنها تعتبر بالنسبة الى الإنسان المؤمن بداية السنة ، ونهايتها كما قال الإمام الصادق عليه السلام "ليلة القدر هي أول السنة وهي آخرها " . (2) وأن الله عز وجل يقدّر فيها للإنسان خيره وشرّه، ونفعه وضرّه، وسعادته وشقاءه، حتى ليلة القدر من العام القادم.

موهبة إلهية عظيمة

والقرآن الكريم يشير بوضوح الى هذه الحقيقة قائلاً: {لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}(القدر /3) بمعنى أن هذه الليلة تعادل ثلاثاً وثمانين

ص: 68


1- (1) بحار الأنوار، ج 93، ص 356.
2- (2) الفروع من الكافي، ج 4 ، ص 160 .

سنة وأربعة أشهر، فأن يصل الإنسان الى هذا العمر فهذا شيء مهمّ جداً، وقد روي أنه (صلى الله عليه وآله )لما غزا تبوك ورجع استبشر الناس ،وقالوا: ما فعل مثل هذا أحد. فقال النبي صلى وآله: "كان في بني اسرائيل رجل ،يقال له ابن نانين، وكان له ألف ابن ،فغزاهم عدوّ فحاربوه ألف شهر، كلّ ابن شهراً، حتى قتلوا جميعاً، وأبوهم يصلي ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً، ثم قاتل بنفسه حتى قتل" فتمنى المسلمون منزلته، فأنزل الله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يعني لذلك الرجل. (1)

وبهذا حصلت الأمة الإسلامية على موهبة عظيمة تميزت ما عن سائر الأمم.

ومع ذلك؛ فإن الإنسان الخاسر بكل ألوان الخسارة، والشقي بكلّ أبعاد الشقاء، هو ذلك الذي تمرّ عليه هذه الليلة الشريفة دون أن يستغلها وينتفع بها فالتوفيق الإلهي في هذه الليلة لا يمكن أن يكون من النصب الإنسان الغافل الساهي عن فضيلة شهر رمضان. فالذي يبدأ اعتباراً من اليوم الأول من شهر رمضان المبارك بالطاعة والعبادة والتبتل وقراءة القرآن، فإنّ الله جلّت قدرته سيمنحه درجة من التوفيق، وهكذا الحال بالنسبة الى اليوم الثاني والثالث... حيث يتدرّج في معارج التوفيق حتّى يصل الى مستوى الاستفادة والانتفاع من ليلة القدر .

وفي المقابل؛ فإن الإنسان المسلم الذي لا يحاول استغلال ليالي رمضان سيفوت بطبيعة الحال ليلة القدر نفسها من دون الاستفادة منها

ص: 69


1- (1) مستدرك الوسائل، ج 7، ص 458

الى درجة أنه قد لا يعرف من تصادف هذه الليلة، وحتى إذا عرف ليلة القدر وأراد التعبد فيها، فإنه لا يوفق الى ذلك. وعلى هذا الأساس؛ فإن علينا منذ الآن أن نعدّ أنفسنا لهذه الليلة لكي يكون حظنا فيها وافراً بإذن الله تعالى، وأن نطلب منه أن يوفقنا لليلة القدر التي تؤكّد عليها الأدعية منذ بداية شهر رمضان ومن ضمنها الدعاء الذي نقرأه في كل يوم من أيام الشهر المبارك والذي يقول: "..وجعلت فيه ليلة القدر وجعلتها خيراً من ألف شهر "(1)

وما أدراك ما ليلة القدر!

وقد عرفنا من خلال الروايات؛ إنّ ليلة القدر تقع في الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان والقرآن الكريم يحدثنا عن هذه الليلة العظيمة متسائلاً ومشيراً إلى خطرها وعظمتها: {إِنَّا انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر}؛ أي أنّ علمك يا رسول الله بليلة القدر ضئيل بسيط إلا أن يكشف لك الخالق عن حقيقتها. وكلمة {مَا أَدْرَاكَ}في القرآن تمنحنا مفهوماً عظيماً عن المعنى الذي يريد أن يطرحه الله سبحانه وتعالى. فالبعض يمرّ على بعض المعاني مروراً سريعاً خاطفاً، وينظر إليها نظرة سطحية ، في حين أننا لابدّ في مثل هذه الحالات أن نتوجه إلى العمق، وأن نتصوّر المعنى تصوّراً دقيقاً.

فالقرآن الكريم عندما يقول: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} أو {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة /3) أو {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِق}(الطارق (2)، فانه يستهدف أن يفهمنا أن جبل الإيمان والرسالة الذي نريد ان نتسلّقه

ص: 70


1- (1) مفاتیح الجنان اعمال شهر رمضان العامة.

حتّى نصل الى قمته هو جبل عال صعب العبور، وعر المسالك مليء بالعقبات، فعلينا أن نستعدّ منذ الآن له فالعلم الذي نريد الحصول عليه - وهو علم ليلة القدر - ليس علماً سهلاً أو بسيطاً، فنحن ما الذي فهمناه من هذه الليلة؟ إننا نتبادل الكلمات فحسب، أما المعاني؛ فهي بعيدة عن متناولنا فليلة القدر ليست كلمة تقال ،ولا لقلقة لسان، بل هي ليلة عظيمة خير من ألف شهر لا نستطيع أن تتصوّر أبعاد معناها بسهولة

الليلة الوحيدة في التاريخ

وقبل أن أوضح - قدر مستطاعي - مفهوم (القدر) وما جاء في القرآن الكريم حول هذا المفهوم، أحب أن أطرح هنا فكرة لعلّها جديدة بالنسبة لنا ... و هی كما هو المفهوم من الرواية التالية أن ليلة القدر هي ليلة واحدة التاريخ؛ أي أن في تأريخ الكون الذي يبلغ عمره - حسب تقديرات العلم الحديث_ خمسة عشر ألف مليون سنة ليلة واحدة اسمها "ليلة القدر"، وما يتكرّر في كل عام هو ذكرى هذه الليلة كما هو الحال في أية ذكرى أخرى بالإضافة إلى ان الله سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء في كل ليلة من ليالي القدر المتكررة كل عام.

وفي هذه الليلة قدّر الله سبحانه وتعالى كلّ ما كان ويكون الى يوم القيامة. عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: يا علي أندري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال: "إن الله تبارك وتعالى قدر فيها ما هو كائن الى يوم القيامة، فكان فيما قدر عزَّ وجل ولايتك

ص: 71

وولاية الأئمة من ولدك الى يوم القيامة". (1)

إنّ ليلة القدر هي ليلة التقدير والليلة التي جرى فيها القلم على اللوح بكلّ شيء بالمنايا والبلايا، بما يحدث وبما حدث، وبما كان وما يكون ... وفي كلّ سنة تأتي ليلة تحاكي ليلة القدر الأصلية وتوازيها وتذكّر بها. وحتى ليلة نزول القرآن والوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله - ولعلّها ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان - فإنها حكاية عن الليلة التي كانت عند الله تبارك وتعالى.

ليلة نزول القرآن

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه إذا كان القرآن قد نزل في ثلاثة وعشرين عاماً فكيف يقول تعالى: {إِنَّا انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة الْقَدْر }؟

وللجواب على هذا السؤال نقول: إنَّنا نعرف - تأريخياً - أن القرآن الكريم قد نزل منجماً على ثلاثة وعشرين عاماً، فهناك عاماً، فهناك - مثلاً - معارك كثيرة وقعت في غير شهر رمضان ومع ذلك فقد نزلت آيات قرآنية بشأنها. والفقهاء يجيبون على ذلك قائلين: إنّ القرآن نزل مرتين؛ مرة على قلب الرسول صلى الله عليه وآله جملة واحدة وذلك في ليلة القدر، ومن ثم كان جبرئيل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وآله في كلّ مناسبة ليبلغه أمر رب العالمين بقراءة هذه الآية أو تلك.

وهكذا؟ فإنّ القرآن كان موجوداً، ولكن النبي صلى الله عليه وآله كان مأموراً بأن لا يقرأه على الناس إلّا عندما تقتضي الظروف. وتأسيساً على ما سبق فإنّ ليلة القدر هي ليلة واحدة تأريخياً، وليلة

ص: 72


1- (1) بحار الأنوار، ج 94 ، ص 18.

نزول القرآن بجملته على قلب النبي صلى الله عليه وآله، وبعد ذلك بدأ

القرآن ينزل بصورة تدريجية.

يعني معنى (القدر)

و (القدر) يعني - حسب ما أرى - التقدير، وهناك من يقول إنّ القدربعنی العظمة على اعتبار أن هذه الليلة عظيمة . وقيل أيضا إن ليلة القدر هي ليلة الضيقة لأن الأرض ضاقت بالملائكة عندما نزلت في هذه اللیلة .ولكن الأنسب أّنّ نقول إنّ ليلة القدر هي ليلة التقدير، ففي هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم كما أشار إلى ذلك جلّ شأنه في سورة الدخان. وكما يبدو لي؛ فإنّ هناك ثلاثة تقديرات للإنسان؛ أي أنّ الله سبحانه وتعالى يقدّر للإنسان أموره في ثلاث مراحل؛ فالتقدير الأول كان في اللوح في بدء الخلق وهذا تقدير كلّي؛ وهناك تقدير آخر في ليلة القدر وهو أن أمور السنة تقدّر فيها، في خلال كلّ سنة يقدّر ما سيحدث للإنسان، هذا ما ذكره الإمام جعفر الصادق عليه السلام، إذ قال: "ليلة ثلاث وعشرين الليلة التي فيها يفرق كل أمر حكيم، وفيها يكتب وقد الحاج وما يكون من السنة الى "السنة". (1)

وفي ليلة القدر يشعر الإنسان بحالة روحانية، إذ الشياطين مغلولة فيها، وفرص السمو والكمال متوفّرة للإنسان. وعلى هذا فليس من الصحيح أن يغفل الإنسان المؤمن عن هذه الليلة، أو أن يسوّف فيها بأن يقول إنّي سأحببها في العام القادم. فما أدراه أنه سيعيش في السنة القادمة، وما أدراه أنه سيكون من الأحياء أم الأموات وهل يستطيع أحد أن يضمن أنه سيعيش حتى السنة القادمة؟

ص: 73


1- (1) بحار الأنوار، ج 94، ص 9.

وعليه؛ الواجب على الإنسان أن يجتهد في مثل هذه الليلة، فلعلّ اسمه أن يكون في ديوان الأشقياء - لا سمح الله - والفرصة الوحيدة لأن يجعل اسمه في ديوان السعداء هي ليلة القدر.

تغيير النفس أعلى القيم

إن عقد الإنسان العزم على أن يغير نفسه، ويعرج بما في مدارج الكمال، هو أعلى قيمة يمتلكها في شهر رمضان وأفضل زاد فيه. ففي هذا الشهر يرتقي الإنسان مدارج الكمال، ويحصل على درجاته في الآخرة، ووقوده فيه العزم والهمّة على أن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يوفقه الى إحداث تغيير حقيقي في نفسه، وتحول جذري فيها، وأن يدعو الخالق الى أن ينيله السعادة والفلاح .

ومن المهمّ في هذا الشهر أن لا يلهي الإنسان نفسه بالأمور الثانويّة وخصوصاً في ليلة القدر المباركة، بل عليه أن يهتم بنفسه اهتماماً جديّاً، ويقرّر أن يجعل من هذا الشهر منعطفاً حقيقياً ومصيرياً في حياته، خصوصاً وأن أعمارنا لاتلبت أن تنتهی وتنفذ، فما أسرع السنين في العمر !!

فلنحاول أن نغيّر أنفسنا، وأن نضيف في كلّ سنة تمر علينا إلى إيماننا وقيمنا الروحية، بدلاً من أن تتدهور وتتراجع. فلنقرر من هذه اللحظة أن نختنم ليلة القدر، وأن نجعلها نقطة الانطلاق في صعود درجات الإيمان وتسنّم مدارج الكمال. فإذا ما توفّرت النية الحقيقية الصادقة في التغيير، فإن الله تبارك وتعالى سيوفقنا - ولا شك - إلى هذا التغيير، بل إنّه سيزيدنا هدي، وتوفيقاً بإذنه تعالى.

ص: 74

9- فرصة تغيير الذات

لا شك أنّ معرفة الإنسان لذاته هي مفتاح لمعرفة الحقائق العظمى التي تحيط به فالإنسان – على صغر حجمه -- - يمثل عالماً كبيراً وواسعاً، وهو مكلّف بمعرفة نفسه، كما أنه مكلّف بمعرفة ربّه. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من عرف نفسه فقد عرف ربه" (1)

إن أكبر المشاكل تحدث لدى الإنسان عندما يغترب عن ذاته، رغم أن ذاته هي أقرب شيء إليه، ولكنّه مع ذلك لا يوليها اهتماماً فهو يرى كل شيء ولكنّه ينسي نفسه كما يقول ربنا عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَانسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أَوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر/19) وهو ينسى نفسه من خلال انجذابه الى ما حوله من المظاهر المادية مثل المال والشهوات والسلطة ولكنّه في المقابل يفقد نفسه.

ونحن إذا لم نستفد من الأحاديث التي تلقى في ليالي شهر رمضان وخصوصاً في ليالي القدر، وإذا لم تتزود منها زاداً ينفعنا في يوم المعاد، فإننا سنكون ،خاسرين، لأن حالنا سيكون كحال الإنسان الذي يموت عطشاً وهو يقف بمحاذاة نهر عذب زلال.

ص: 75


1- (1) بحار الأنوار، ج2، ص32.

إنا الآن بأمس الحاجة الى التزوّد كما يول جل وعلا:{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنْ غَيْرَ الزّاد التَّقْوَى} (البقرة / 197).

ذا الجانب الهام، وذلك من خلال فتح نافذة، فلنحاول أن ننظر عبرها لكي نستطيع أن نستوعب

ونذهب في آفاق العلم بعيداً.

ضرورة معرفة الإنسان لقدره

وهذه النافذة التي أريد أن أفتحها أمامك - عزيزي القارئ - لكي تعرف نفسك، وتعرف أنّ الله سبحانه وتعالى قد خلق من هو أعظم من ناحية الضخامة الجسدية كالفيل والحوت وغيرهما، ولكن هذه الحيوانات على ضخامتها وهيبتها سوف تتحوّل في يوم القيامة الى تراب دون أن

يكون أمامها حساب أو كتاب ودون أن تدخل جنّة، أو ترد ناراً. أمّا الإنسان؛ فحالته تختلف ،فهو يأتي الى هذه الدنيا ليعيش مرارتها، ويعاني من الهموم والمشاكل، كما يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} (الانشقاق/6)، وكما يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } (البلد /4) ثم بعد ذلك ينزل في ساحة الموت

ص: 76

الذي يبلغ من العسر والصعوبة بحيث أنّ البعض من الناس يعيشون مرارته ،وذكراه المؤلمة الى يوم القيامة.

جوانب من عذاب يوم القيامة

وبعد الموت تأتي مرحلة البرزخ ويقال انّ بعض الناس يعيشون في هذه المرحلة لملايين السنين إمّا في عذاب أو في نعمة، ثم يعيشون خمسين - ألف عام يوم القيامة، ثم يخلدون في نار جهنّم – إن كانوا من المسيئين- هذه النار التي لا يستطيع خيال الإنسان أن يتصوّرها، وقد جاء في بعض الروايات أن السلسلة التي يسلك فيها المحرم في جهنّم يبلغ طولها ذراع الملائكة، وهناك روايات أخرى تصرّح بأنّ الحلقة الواحدة لو وضعت على جبال الأرض لذابت من حرارتها.

ولقد قرأتُ في هذا المجال حديثاً عن قوله عزّ من قائل: {عَذَاباً صعداً}(الجن /17) أن العذاب الصعد يعني أنّ في نار جهنّم جبلاً يؤمر الكافر بأن يتسلّقه وهو يرسف في الأغلال، وأنّ هناك تلالاً من العقارب والحيّات والنيران وعلى الإنسان الكافر أن يصعد هذه التلال، علماً ان الأوامر لا يمكن تعصى، ويظلّ هذا الكافر يصعد حتّى يستغرق صعوده أربعين سنة لكي يصل الى القمة وعندما يصل إليها يرمونه الى أسفل

الجبل ليصعد من جديد، ويظلّ على هذه الحالة إلى أبد الآبدين

وبعد فهذا جانب من العذاب في يوم القيامة، ومن الألوان المختلفة منه التي لا يكاد العقل يتصوّرها. وكلّ ذلك يدل على أنك أيها الإنسان قد خلقت لأمر عظيم، وأنك ينبغي أن لا تنظر الى نفسك

ص: 77

نظرة احتقار واستصغار. فمصيرك أما أن يكون العذاب المقيم، أو النعيم الأبدي الدائم.

العتق من النار

وعلنيا أن نسأل الله جل شأنه أن يجعلنا من السعداء في ليلة القدر، و من عتقائه من النار ،و من الفائزين بالجنة، فنحن في الليلة المذكورة

تحلّ ضيوفاً على خالقنا وبارتنا، فلنطلب منه أن يقربّنا ويكرّمنا. فلكل ضيف قرىّ، فنلدعوه تعالى أن يجعل قرانا الجنّة، والله كريم بالتأكيد فلعلّه - بدعوة واحدة - يحث في نفسك تغييراً جذرياً، وانقلاباً شاملاً. فلنطلب ذلك من الله جل وعلا جميعاً، ولندعُ لأنفسنا ولإخواننا ولكافّة المؤمنين والمؤمنات بحسن العاقبة والخلاص من النار ، هذه النار التي وصفتها بعض الروايات بأنّ قعرها بعيد الى درجة أن البعض يرمون فيها فيستغرق سقوطهم فيها حتّى يصلوا الى قعرها سبعين خريفا

الجنة نعم لا تحصى

ونحن إذا أمعنا النظر في نعم الله تعالى التي هياها للإنسان في الجنّة من زاوية معرفة الإنسان ومدى تكريم الله له، وسبب خلقه، فإنّنا سنكتشف أنّ نعسم الجنة كثيرة لا يحدّها حصر. ومن أهم هذه النعم (الخلود). فالإنسان لا يعتريه في الجنّة الخوف من الفناء بسبب انعدام وجود عوامل الفناء من مثل المرض والمصائب .. كذلك في الجنة نعمخالدة لا تحصى.

ص: 78

إنّ الإنسان المؤمن سيمتلك في الجنة استعدادات وطاقات هائلة فهو يمتلك أرضاً خاصّة به، وداراً للضيافة واسعاً يستطيع أن يضيف على

مائدة أهل الجنة كلّهم في يوم واحد.

الإرادة تحدد مصيرنا

فمن خلال هذه النافذة علينا أن نعرف قيمتنا، فهذه الجنّة وتلك النار لا ندخل إحداهما إلّا بارادتنا، فالله سبحانه وتعالى أعطانا من مفتاح الجنّة

،كما أعطانا مفتاح النار ، ومن السهل على الإنسان - إذا أراد - أن يوقع نفسه في النيران عندما يترك نفسه. فالنار بانها مفتوح للإنسان الكافر كما يقول عزّ من قائل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} (الاعراف / 179).

ومن هنا يعرف الإنسان قيمته، وهذه القيمة تكمن في ارادته، ومشيئته. فيهما يختار الجنّة بما فيها من نعم أبدية، أو النار بما تمتلئ به من أنواع العذاب .ومن خلال هذه النافذة علينا التعرف إلى أنفسنا، والإنسان إنّما يعرف نفسه عبر نهايتها، وبالمصير الذي ستؤول إليه.

وهنا نصل إلى الموضوع الأساسي؛ وهو الإجابة على التساؤل القائل: ما هو الإنسان؟ فاذا أنت لم تعرف نفسك فإنك سوف تصبح هلوعاً وإذا مسّك الشر جزوعاً، وإذا مسّك الخير منوعاً كما أشار إلى ذلك سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم.

أي أن الإنسان يتحوّل إلى كائن بسيط ساذج لا يهتم إلا بإشباع غرائزه الجسدية. وهذه الحياة التي يعيشها فينسى أساساً قضاياه الكبرى ومستقبله البعيد، لأنه في هذه الحالة سيحجم نفسه ويصغرها، أضف الى

ص: 79

ذلك أن الشيطان أيضاً يسعى من أجل أن يدفعه إلى ذلك فيلهيه ويجعل تفكيره منصباً على الأمور الجزئية التافهة الهامشية التي لا تمتلك أية قيمة. هذا في حين أنّ الله جل وعلا يريد من الإنسان أن ينظر بعيداً إلى الآفاق، ويصل إلى مستوى الإنسانية، والاختيار بيد الإنسان في الوصول إلى هذه القمة السامقة، أو السقوط في ذلك الحضيض.

بين التفويض والجبر

ولقد ذهب الإنسان في هذا المجال مذهبين متناقضين في الظاهر ،ولكنّهما يؤدّيان به إلى استصغار نفسه وتحقيرها المذاهب الأول هو مذهب التفويض الذي يقول إنّ الله تبارك وتعالى ليست له آية إرادة على ،الإنسان فقد تركه وشأنه،وخلقه عبثاً وسدى، فلا يجازيه ولا يحاسبه

ولا يعاقبه . فالله تعالى عمّا يصفون محايد في معركة الخير والشر، وقد ترك الدنيا تحكمها شريعة الغاب. وهذه هي نظرية التفويض التي تحتقر الإنسان، وتحطّ من شأنه، ذلك لأنّ الإنسان في هذه الحالة سوف لا يجد من يتوكل عليه أو يلجأ إليه عندما يواجه الضغوط الاجتماعية والثقافية والإعلامية ومشاكل الحياة المختلفة. ومن المعلوم أنّ من لم يتوكّل على الله سبحانه وتعالى فإنه سرعان ما ينهار.

أمّا النظرية الثانية، فتقول إنّ الإنسان ليس بيده من الأمر شيء، فكلّ شيء مرتبط بالله، فالإنسان لا يقدّر لنفسه. العجيب انّ بعض المفسّرين يفسّرون القرآن على ضوء هذه النظرية (نظرية الجبر)، ونحن نسأل مثل هؤلاء: إذا كان الإنسان مسلوب الإرادة فلماذا يقرّر ولماذا

يشاء ولماذا يسعى ويتحرّك؟

ص: 80

اعتدال وتوازن بين الخير والشر

وهذا الإنسان عندما يفقد الإحساس بتسلّطه على نفسه، وامتلاكه الزمامها فإنّه سوف يفقد في الحقيقة كلّ شيء.

وقد أكدت الروايات على أن هناك ثلاثة وثلاثين ملكاً، ونفس العدو من الشياطين يحيطون بقلب الإنسان، وبينهما إرادة الإنسان، فهناك_ اذن _اعتدال و توازن بين القوتين والإرادة تقوم بدور اختيار أحد الجانبين. فالشيطان يقبل عليك ليبرّر لك الاستسلام والاسترسال والاستمرار في طريق المعاصي، وهو يبرّر لك واقعك ويوحي لك بأنه أفضل واقع، فيمنعك من استغلال شهر رمضان المبارك، فتدخل فيه وتخرج منه دون أن تضيف سلوكاً حسناً إلى سلوكك، ودون أن تعمد الى تغيير واقعك الفاسد. إنّ علينا - على الأقل - أن نقلع من ذنب من ذنوبنا، أو تغير عادة سيئة من العادات التي ألفناها ونبدلها بعادة حسنة، ولنحاول في هذا الشهر الكريم أن نزرع في أنفسنا حبّ القرآن، والصلاة، والتبتّل ..

صلاة مفروضة

وقد روي في هذا المجال أنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وآله في السنين العشر الأوائل من نزول الوحي كانوا يقومون الليل تطبيقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* : قُمِ الْيَلَ إِلا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ القُصْ مِنْهُ قَلِيلاً*. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً }(المزمل/1-4)، فكانوا يقومون الليل، وينهمكون في التعبّد وهم يشعرون أنّ هذه الصلاة مفروضة عليهم. ولصعوبة الصلاة وغلبة النعاس، فقد كانوا رضي الله عنهم يشدون

ص: 81

أنفسهم بالحبال على الاشجار أو جدران بيوتهم لكي لا يسقطوا أرضاً من فرط التعب والنعاس ويظلّون على هذه الحالة حتّى الصباح. فلنحاول العودة أنفسنا في هذا الشهر الفضيل على أداء صلاة الليل وقراءة القرآن الكريم، وحبّه ولنحذر من أن يحلّ علينا شهر رمضان المبارك ثم ينقضي عنّا دون أن يتغيّر شيء من نفوسنا. فالشيطان يسوّل لنا الإستمرار في الواقع الذي نعيش فيه، في حين أن على الإنسان أن يتجاوز هذه العقبة، فبمجّرد أن يعترف في داخلك أنه قادر على التغيير وعلى الوصول الى الكمال، فإنّ هذا الاعتراف سوف يغير حياته رأساً على عقب ويضعه في طريق العروج إلى الكمال. فآفاق الكمال لا نهاية لها، وليلة القدر تكرّس هذه الناحية في النفوس، فهي ليلة سلام كمال قال تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، والسلام يعني أنّ الشيطان مغلول في هذه الليلة، وأنّ إرادتك حرّة، وقلبك نظيف طاهر.

برنامج التغيير في ليلة القدر

وفي هذه الليلة يحصل لدى الإنسان توجه إلهي وروحاني عليه استغلاله ويقرّر التغيير الشامل فيها. فالله سبحانه وتعالى يمنحنا الفرصة ولكن

البعض لا يستغلّها، في حين أن عليهم أن يغتنموها ويرسموا من الآن صورة لمستقبلهم الجديد، ويضعوا برنامجاً لحياتهم الآنية.

والبرنامج هذا موجود في الأدعية؛ وخصوصاً في دعاء أبي حمزة الثمالي الذي نجد في نهايته برنامجاً متكاملاً الحياة الإنسان. فنحن نقرأ في هذا الدعاء الشريف عبارات من مثل: اللهم" حُصني منك بخاصة ذكرك ولا تجعل شيئاً مما أتقرّب به في آناء الليل وأطراف النهار رياء ولا سمعة ولا

ص: 82

شراً ولا يطراً، واجعلني لك من الخاشعين، اللهم أعطني السعة في الرزق والأمن في الوطن وقرة العين في الأهل والمال والولد والمقام في نعمك عندي والصحة في الجسم والقوة في البدن والسلامة في الدين واستعملني بطاعتك وطاعة رسولك محمد صلى الله عليه وآله أبداً ما استعمرتني..."(1)

وبعد؛ فهذا برنامج حياة، ومجموعة تطلعّات وهذه هي الحياة والسعادة الحقيقيّتان. فلنضع هذا البرنامج اماما ولنطلب من الله عز وجل بشكل جدّي أن يوفّقنا الى تطبيقه في ليلة القدر. فالله يستجيب لا محالة للدعاء الصادر من قلب مخلص ونفس لا يشوبها الرياء، وقد ضمن لنا هذه الإجابة في محكم كتابه الكريم عندما قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عبادی عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بي} (البقرة/186)

وإذا كان هذا الوعد صادراً من الله ؛ وهو العادل الصادق الكامل، فانه سيكون بمثابة بشرى يزفها الى المؤمنين الصادقين الذين عقدوا العزم على تغيير نفوسهم، ونفّذوه من خلال استغلال المناسبات الروحيّة في تزكية أنفسهم، وتطهيرها من الرواسب السيئة، وخصوصاً في ليلة

ص: 83


1- (1) مفاتیح الختان، دعاء أبي حمزة الثمالي.

10- محطة المسؤولية

قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم حول ليلة القدر وعظمتها وشرفها:

{حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِلَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة إِنَّا كُنا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً من عندنا إِنَّا كُنَّا مُرْسَلينَ * رَحْمَةٌ من رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الدخان/ 1-6) وقال عز وجل أيضاً: {إِنَّا انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلَّ أَمْرٍ " سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرَ)}(القدر / 1-5)

وفيما يتعلق بليلة القدر سنتحدث عن ثلاثة أمور هي:-

-1 معنى هذه الليلة ،وأهميتها، وما يمكننا أن ننتفع به فيها.

-2- ارتباط ليلة القدر بالمسؤولية ودعم الإرادة البشرية.

-3- علاقتنا بالإمام الحجة عجل الله فرجه وعلاقته هو بليلة القدر وبالتالي العلاقة الروحيّة والمادية التي تربطنا أو التي يجب أنّ تربطنا بالإمام

الحجة.

أنّ الله القدر تحدثنا عن (القدر) الذي يعني التقدیر، بمعنی أنّ الله سبحانه وتعالى قدّر الأشياء، وجعل فيها سننا ،وقوانين وأجرى هذه

السنن والقوانين على الإنسان.

ص: 84

ما هي ليلة القدر ؟

ولكن ترى ما هي ليلة القدر ؟

نحن نعلم أن هذه الليلة مرتبطة بنزول القرآن الكريم، ولأنا نؤمن بالقرآن ونعرف أنه ميلاد حضارتنا وأمتنا وشخصيتنا، وأنه منقذنا وقوام حياتنا وسلوكنا وبصائرنا في هذه الحياة، فإنّ من الواجب أن تخصص ليال في العام تحتفل فيها بذكرى نزول القرآن الكريم.

ولأنّ الدين الذي شرعه الله سبحانه وتعالى وبعث به محمداً صلى الله عليه وآله لم يكن دين أشخاص ولا مادّيات بل كان دين قيم وأخلاق فإنه أولى لليلة القدر أهمية تفوق أهمية سائر المناسبات الإسلامية الأخرى كيوم الجمعة، والعيدين الشريفين..

ومن جهة ثانية؛ لأن ليلة القدر هي عبد القرآن وعيد القيم والمقدّسات.. والإسلام هو دين المعنويات والروحيات، دين يربطنا بالسماء وإذا ما ربطنا بالأرض فأنّه يربطنا بحيث لا تخلد إليها، ولا نتعلّق بها .فهو يعلّمنا أن نقول: "اللهم ارزقني التجافي عن دار الغرور ."(1)فيجب أن تكون هناك مسافة بيننا وبين الأرض والتراب، وبالتالي بيننا ويين كل ما يبعدنا عن الإسلام وقيمه. ولذلك يقول القرآن الكريم عن ليلة القدر:

{إناالزَلْنَاهُ }ولانا أنزلنا القرآن الكريم في هذه الليلة، فلذلك أصبحت هذه الليلة ليلة شريفة هي خير من ألف شهر؛ وبعبارة أخرى

خير من الثمانين سنة بما فيها من مناسبات دينية عظيمة.

بالحق يعرف الرجال

و نحن نرى أن المسلمين يحتفلون بالأعياد الأخرى، ولكنهم - للأسف

ص: 85


1- (1) بحار الأنوار، ج 95، ص 63

لا يحتفلون بليلة القدر التي يجب أن يكون الاهتمام بها أكثر. والسبب في هذه الظاهرة المؤسفة أننا - نحن المسلمين - تعرف الرسالة من الأشخاص، فنعرف القرآن من خلال نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله ومن خلال الإمام علي عليه السلام ونعرف الجهاد عبر الإمام الحسين عليه السلام، وبالتالي فإنهم يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق خلال المبادئ والقيم والفطرة الإنسانية.

ومن هنا ندرك سبب تحوّل الأمة، وسبب تغييرها لوحهتها الحقیقة، وعدم اهتمامها ببعض الأمور التي يجب أن تهتم بها، ومن جملة هذه الأمور "ليلة القدر".

إن بعض المؤمنين قد يجدون وسيلة للدعاء، ولكنهم لا يجدون وسيلة للقرآن الكريم، وللتعرف عليه من جديد، لأنّ فلسفة الاحتفال بمثل هذه المناسبات أن يعيد الإنسان النظر في حياته وواقعه، ونحن عندما نحتفل بعيد ميلاد القرآن مرة واحدة كلّ عام فإننا يجب أن نعيد النظر في علاقتنا بالقرآن ومستوى فهمنا له ولكننا لا نفعل عادة ذلك للأسف الشديد.

ليلة القدر عيد

وهنا يبقى سؤال آخر،وهو أننا قد تعوّدنا على أن تكون الأعياد أياماً، فكيف يمكن أن تكون في الليالي كما هو الحال في ليلة القدر ؟

وللجواب على هذا التساؤل نقول إن الإنسان يرتبط في نهاره بالحياة المادية، إذ أنه قد جعل معاشاً للإنسان، أما الليل فهو الوقت المناسب لعلاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى. ولأن الليل كذلك، ولأنّ العيد الحقيقى للاسلام هو عبد القيم والعلاقات الروحيّة التي تربط بين الإنسان

ص: 86

وخالقه، فقد كان وقت عيد مولد القرآن ليلاً لا نهاراً، ولذلك يقول القرآن الكريم: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةً} (الدخان/3).

وإذا أردنا أن نتعرف على هذه الحقيقة فلابد ان نرجع الى سورة (المزمّل) حيث يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِّلُ " قَمِ الْيْلَ إِلا قَلِيلاً}(المزمل /1-)، والسبب في ذلك يوضحه القرآن الكريم عندما يقول: {إلا ستلقي عَلَيْكَ قَوْلاً فَقِيلاً * إِنْ ناشِئَةَ الّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطاً وَأَقْوَمُ قيلاً} (المزمل / 5-6) فلان الرسول صلى الله عليه وآله كان يريد أن يتلقّى الوحي فقد كان عليه أن يقوم الليل، لأن هذا الوقت هو ميلاد الإنسان المتمسّك بالقيم الروحيّة والمعنوية، وهو أيضاً ميلاد القرآن وطريق توجيه الإنسان من الناحية الروحيّة.

علاقة الأمة بليلة القدر

وللإجابة على السؤال الثاني وهو: ما هي علاقة الأمة الإسلامية اليوم بليلة القدر؟ نقول: إن القرآن الكريم يتحدث في سورة (الدخان) عن ليلة القدر مستعملاً كلمة (الحكيم): {... فِيهَا يُفْرَقُ كُلِّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}(الدخان / 4) وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى يعطي للناس هذه الليلة بعد أن تفرّق حقوقهم عن بعضهم البعض بحكمة، وبمقدار جهادهم وعملهم وتحمّلهم للمسؤولية والصعوبة التي يلاقونها في الدنيا كما قال الإمام علي عليه السلام ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: "حفت الجنّة بالمكاره وحقت النار بالشهوات". (1)

وفي هذا المجال يقول الله جل وعلا: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن

ص: 87


1- (1) بحار الأنوار، ج 67، ص 78 .

يُترَكُوا أَن يَقُولُوا عَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَتُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم .... }(العنكبوت / 2-3) )

فحينما نفهم حقيقة ليلة القدر، وندرك أنّ هذه الليلة هي الليلة التي يفرق فيها الله تبارك وتعالى بين عباده وأمورهم بالحكمة، فإنّ هذه الحکمة قتضي منا أن نخطّط لحياتنا في هذه الليلة وفق المنهاج الإلهي وهداه ووفق ما تأمرنا به عقولنا وفطرتنا وتجاربنا المكتسبة، ثم علينا بعد ذلك أن نسأل الله في هذه الليلة التوفيق والبركة، والإعانة على سد ثغراتنا، وهذه هي حقيقة علاقة ليلة القدر بنا كأفراد.

محطة التزود بالوقود الروحي

فليلة القدر هي محطّة للتزود بالوقود الروحي. والإنسان يحتاج إلى محطّات في حياته، ويحتاج الى منابع، وهذه المنابع موجودة ومتوفّرة في ليلة القدر كما أن الإنسان تلزمه إعادة النظر في حياته الروحية في ليلة القدر ولعظمة هذه الليلة وأهميتها لما أكد عليها الخالق عز وحل كلّ هذا التأكيد الذي يفوق أي تأكيد آخر على أية مناسبة أخرى، لأنها - أي هذه الليلة - مفعمة بالمعاني والدلالات الروحيّة ولذلك جاء التأكيد على أداء الممارسات العباديّة فيها، ومنها الصلاة المندوبة التي على الإنسان المسلم أن يؤدّيها فرادى لكي لا يختلط عمله بالرياء. فصلاة الليل الصلاة التي سنّت وشرعت لتكريس العلاقة الروحية، هذا التكريس الذي لا يمكن أن يحدث إلا إذا أدّى الإنسان العبادات بعيداً عن الناس. ترى من منّا فكر أن يخلو الى نفسه في زاوية من الزوايا ليلة أو ليلتين ليعيد النظر في علاقته مع الله عز وجل، وفي سلوكه وتصرفاته؟ ومن منّا

ص: 88

فكر في أنه هل هو من أهل الجنة أم من أهل النار، وهل أن أعماله قرآنية أم لا؟

وإذا ما مات الإنسان فإنّ فرصته لا يمكن أن تعود، فلماذا يستمر في خداع ذاته، ولماذا لا يتنبه من غفلته وقد ورد "الناس نيام فإذا ماتوا

انتبهوا ".(1)

وأنا أتصور إنّ الإنسان يشبه إلى حد كبير الرجل الذي ابتلع مجموعة ضخمةمن الحبوب المنومة وهو يعرف أن علاجه أن يستيقظ من النوم

ليداوي ويعالج نفسه بقوة إرادته، ثم هو يوقظ نفسه ولكن لعدة دقائق تضعف إرادته بعدها ليتغلّب عليه النوم مرة أخرى، ثم ينتبه مرة أخرى من خلال عامل إيقاظ ذاتي أو خارجي ثم إذا به ينام مرة أخرى وهكذا. وحتى ينتبه الانتباه المطلوب فانه بحاجة الى المزيد من الوقت.

وقد أثبت علم النفس الحديث ان الإنسان إذا تعود - مثلاً - أن يطالع في غرفة معينة ووفق شروط خاصة خلال ساعة محدّدة، فعندما يحين الوقت يجد نفسه مشدوداً الى المطالعة دون إرادته، وهذه عادة النفس البشرية.

النقد الذاتي

ولو أننا خصّصنا في كلّ عام ليلة القدر لإعادة النظر في حياتنا، وفي علاقتنا بالله جل وعلا، وفي مجمل سلوكنا ومناهجنا وطرق تفكيرنا، لتعودت أنفسنا على أن تفعل ذلك في كلّ عام بمجرّد أن ندخل في ليلة القدر. أمّا إذا تركنا هذه الأمور للصدف، واشتركنا - مثلاً - في مجلس روحي وكان الخطيب بارعاً واستطاع أن يوقظنا من نومنا، وأن يجعلنا نفكّر في أن نغيّر

وفي هذا المجال يقول الله جل وعلا: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن

ص: 89


1- (1) بحار الأنوار، ج 66 ، ص 306.

حياتنا لفترة موقّتة، فنقول سنحاول أن نغير أنفسنا إن شاء الله. فانّ مثل هذا التفكير غير منطقي، وغير مقبول شرعاً. فالإنسان يجب أن يكون هو واعظ نفسه بالدرجة الأولى، وأن لا ينتظر من الآخرين أن يفعلوا له ذلك، لأنّ ذلك مشروط بأن يبادر الإنسان نفسه الى تغيير ذاته وخصوصاً في ليالي القدر المباركة التي هي بمثابة الوقود الذي تزوّد به لتحصين أنفسنا ضد الأهواء.

معنى الروح في القرآن

وأما فيما يتعلق بالموضوع الثالث الذي أريد معالجته في هذا الفصل؛ فهو أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن ليلة القدر وعن هبوط الملائكة والروح فيها، وقد جاء ذكر (الروح) في القرآن في عدّة مناسبات من مثل مناسبة (ليلة القدر)، وسؤال اليهود ومشركي مكّة، وعند الحديث عن النبي

والنبي عيسى بن مريم عليهم السلام، ويوم القيامة.

و في أحد هذه المواضع يقول القرآن الكريم عن (الروح): {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}(الاسراء / 85).

وهنا أود التذكير بأنه ليس من الصحيح مطلقاً تفسير (الروح) بما هو شائع عندنا من أنها تعني النفس؛ أي ذلك الكائن اللطيف الموجود في أجسامنا، فالروح في هذه الآية وغيرها من الآيات تعني "روح القدس" التي كانت تنزل على الأنبياء عليهم السلام وبغض النظر عن البحوث الفلسفيّة الطويلة التي وردت بشأن تفسير هذه الكلمة، نقول إنّ( روح القدس) هي التي كان من المقرّر أن يسأل عنها اليهود ليعرفوا هل أنّ نبوّة الرسول حقّة أم لا؟

ص: 90

والآية الأخري التي ذكرت فيها كلمة (الروح) تلك التي نزلت في خلق آدم عليه السلام والتي يقول فيها تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَحْتُ فيه مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر / 29).

فهذه الآية تدلّ على أنّ الروح التي نفخت في آدم لم تكن تلك الروح التي نريد منها النفس ، وإنما هي نوع من النبوّة التي جعلت الملائكة يسجدون لآدم وإلا فإنّ الإنسان ليس بأفضل من الملائكة إلاّ بالإيمان؛ والإيمان لا يتأتى إلاّ بالنبوّة. ولذلك فإن الروح التي هبطت على آدم وربط الله سبحانه وتعالى بينها وبين سجود الملائكة لم تكن إلاّ روح القدس التي هي النبوة. وهكذا عندما يتحدّث القرآن الكريم عن النبي عيسى قائلاً: {فَنَفَحْنَا فيه من رُوحِنَا}(التحريم / 12) إذ المعلوم أن عيسى لم يكن يمتلك الروح الموجودة في جسده، كما أنّ هذه الروح لم تكن روح الله تبارك وتعالى. وإذا كان الأمر كذلك، فإن جميع أرواحنا لابد ان تتشابه مع تلك الروح.

وفي آية أخرى يقول القرآن الكريم: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} (البقرة / 253) فمن الملاحظ أن الله عز وجل يقول في الآية السابقة {روحنا}، وفي هذه الآية يقول: {رُوح القُدس} ومن هنا نستنتج انّ المراد من كلمة (رُوحنا) هو {رُوح القدس} أيضاً. وهذه الآيات كلّها تدلّ على أنّ معنى الروح هو {روح القدس }التي هي الواسطة بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى؛ بين النبي وبين الخالق والمتمثّلة في جبرائيل عليه السلام. والمهمّ في سورة القدر المباركة أنّ الله عز وجل يشير فيها إلى الملائكة . التی هی _كماجاء في بعض الروايات - مخلوقات مرتبطة بالإشراف على الظواهر الطبيعية كالمطر والرياح والسحاب... ونحن نعلم أن روح)

ص: 91

(القدس) كان يهبط على الأنبياء عليهم السلام لغرض النبوّة كما يقول تعالى: و{َأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ }(البقرة/253) و {فَإِذَا سَوَيْتُهُ وَنَفَحْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}\(الحجر / 29 ) .

الروح يهبط على الإمام الحجة

وقد جاء في تفاسيرنا أنّ الروح كان يهبط أيضاً في ليلة القدر على الأئمة عليهم السلام كل في العصر الذي كان يعيش فيه. وأنّه يهبط الآن على إمام العصر المتمثّل في الحجة بن الحسن عجل الله فرجه. فإلى ماذا أنّ الروح تتنزل في هذه الليلة على الإمام الحجة وما علاقة ذلك بنا؟ للإجابة على هذا السؤال المهم نقول: إنّ التشيع هو المذهب الوحيد الذي يؤمن أنّ العلاقة بين الإنسان الذي اختاره الله تعالى مبلغاً لرسالته، وبين الخالق ما تزال قائمة ،ومستمرّة وهي من نوع تلك العلاقة التي كانت موجودة في أيام عيسى وموسى ونبيّنا محمد صلى الله عليه وآله لكي لا يقول الإنسان في القرن العشرين إنّ الله تبارك وتعالى قد بعث الأنبياء الى الأمم السابقة في حين حرمنا منهم في هذا العصر. إنّ النبوة موجودة ومستمرّة ولا يمكن لها الّا إن تستمر متمثلة في الإمامة. وإذا كانت هذه العلاقة موجودة فلماذا - إذن - لا نستطيع رؤية الإمام الحجة عجل الله فرجه ومقابلته؟ أنا _شخصياً - أرى أنه عليه السلام يتحمّل الآن واجبات ومسؤوليات عليه أن يؤديها خفية كما كان حال جميع الأنبياء والأوصياء في بداية .دعواتهم. فالعمل السّري ضروري، ومن الواجب الاستمرار فيه حتى

ص: 92

تتكشّف قدرات الناس وإمكاناتهم، وبعد ذلك يجوز لنا أن نعمل بشكل علني، وهذا ما تؤكّد عليه الأحاديث الواردة عن الأئمة عليهم السلام ،

حيث اتفقت هذه الروايات على انه لابد للإمام الثاني عشر من غيبة.

لماذا الغيبة والانتظار

ومن التساؤلات المهمّة المطروحة في هذا المجال هو : لماذا هذه الغيبة ولماذا الانتظار، ولماذا أمرنا في الأدعية بأن نطلب من الله تعالى التعجيل في ظهور الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولماذا نطلب منه بين الحين والآخر أن يتدخل، وأن يقوم بعمل مباشر في سبيل إنقاذنا من المآسي المحيطة بنا؟

إنّ مثل هذه التساؤلات، ومثل هذه الأدعية التي أمرنا أن نقرأها بشأن الإمام المهدي عليه السلام تدلّ دلالة واضحة على أنه عليه السلام بإمكانه أن يتدخّل بشكل مادي ملموس في سبيل الحيلولة دون وقوع بعض الأحداث التي من شأنها أن تجر الويل والدمار على البشرية ومن يدري لعلّه عليه السلام قد تدخّل لحد الآن في الكثير من الأحداث فحال دون وقوعها، وأنقذ البشرية المرات عديدة من أخطار محدقة كادت تؤدي بها. ولذلك فقد جاء التأكيد في الروايات على أنه: "لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها".

حكمة وجود الإمام المهدي عليه السلام (1)

ونحن نعلم أنّ الطغيان المادي المتسزايد في الكون هو نتيجة لبعد الإنسان عن مبدأ التشريع وعن نهج الأنبياء والأئمة عليهم السلام.

ص: 93


1- (1) بحار الأنوار، ج 36 ص 259.

فالبشرية لم يكن بمستطاعها أن تقفز قفزات روحيّة وأخلاقية إلّا من خلال الأنبياء عليهم السلام. وفي هذا المحال يقول القرآن الكريم :{ كَانَ النَّاسُ امّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ} (البقرة/213)، وقد جاء في التفسير: أنّ المراد من أنّ الناس كانوا أمة واحدة أنهم كانوا على باطل بأجمعهم، فلم يكن بإمكانهم أن يهتدوا إلّا من خلال الأنبياء الذين كانوا يضمنون تحقّق حالة التوازن والتعادل بين الخير والشر، بحيث لا يطغى الفساد على الإصلاح والشرّ على الخير. وهذه هي حكمة وجود الإمام الحجة عجل الله فرجه في الأرض رغم أنه مغيب عن شيعته.

فليلة القدر بالإضافة إلى كونها الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم - هي ليلة تجديد العهد والميثاق مع الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه. وقد جاء في الروايات التأكيد على أنه عليه السلام يطلع في هذه الليلة على أعمال شيعته فيفرح إن كانت متّجهة الى الصلاح، ويحزن إن كان الجانب الدنيوي هو الطاغي عليها.

فلنحاول أن نجعل من ليلة القدر منطلقاً لتغيير أنفسنا، وإعدادها لليوم الموعود وذلك من خلال الالتزام بالبرامج الأخلاقية والتربوية التي ترفعنا في مدارج الكمال، وتصفي أنفسنا من الصفات الأخلاقية السلبيّة، وتجعلنا بالتالي مهيئين وجديرين لأن نكون جنوداً أوفياء، وأنصاراً مخلصين لإمام العصر في يوم ظهوره الأعظم.

ص: 94

11- اعمال لیله القدر

1-احیاوها

عن الامام محمدالباقرعلیة اسلام ، عن آبائه:ان رسول الله صلی الله علیه وآله نهی ان یغفل عن لیله احدی وعشرین ، أو ینام

حدتلک الیلة (1)

قال الامام محمد الباقر علیة اسلام :من أحیی لیله القدر غفرت له ذنوبه ،عدد النجوم السماء ،ومثاقیل الجبال ،ومکائیل البحار.(2)

قال الامام محمدالباقرعلیة السلام :من وافق لیله القدر فقامها غفراللهله ماتقدم من ذنبه وما تاخر (3)

قال الامام علی بن ابی طالب علیة السلام:ان رسول الله صلی علی علیة و آله کان یطوی فراشه ،ویشد مئزره ،فی العشر الاواخر من شهر رمضان ،و کان یوقظ اهله لیلة ثلاث وعشرین ،وکان یرش وجوه النیام بالماء ،فی تلک لیله ،وکانت فاطمه علیه السلام ،لاتدع أحدأمن أهلها

ص: 95


1- (1)مستدرک الوسائل ،ج7،ص468.
2- (2)بحار النوار، ج95، ص146.
3- (3)بحارالنوار ، ج94، ص9.

ينام تلك الليلة، وتداويهم بقلّة الطعام، وتتأهب لها من النهار، وتقول:

محروم من حرم خيرها.(1)

وجاء في كتاب "فقه الرضا "عليه السلام: وإن استطعت أن تحيي هاتين الليلتين الى الصبح {فافعل}، فإن فيها فضلاً كثيراً، والنجاة من النار، وليس سهر ليلتين يكبر فيها أنت تؤمل. وقد روي أن السهر في شهر ،رمضان في ثلاث ليال ليلة تسع عشرة، في تسبيح ودعاء بغير صلاة،وفي هاتين الليلتين، أكثروا من ذكر الله جل وعز.(2)

قال الإمام محمد الباقر عليه السلام :من أجى ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان وصلّى فيها مأة ركعة وسع الله عليه معيشته (3)

عن علي بن أبي حمزة الثمالي قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فقال له أبو بصير: جعلت فداك الليلة التي يرجى فيها ما يرجى؟ فقال: في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين قال فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال: ما أيسر ليلتين فيما تطلب قلت :فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض أخرى فقال: ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها، قلت: جعلت فداك ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني، فقال: إن ذلك ليقال قلت: جعلت فداك إن سليمان بن خالد روى في تسع عشرة يكتب وفد الحاج، فقال لي: يا أبا محمد وفد الحاج يكتب في ليلة القدر والمنايا والبلايا والأرزاق وما يكون الى مثلها في قابل فاطلبها في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وصل في كلّ واحدة منهما مائة ركعة وأحيهما إن

ص: 96


1- (1) مستدرك الوسائل، ج 7، ص 470 .
2- (2) مستدرك الوسائل، ج 7، ص 466.
3- (3) وسائل الشيعة، ج 7، ص 262 - كتاب الصوم من باب 32، ح 13.

استطعت الى النور واغتسل فيهما قال قلت فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟ قال: فصل وأنت جالس، قلت: فإن لم أستطع؟ قال: فعلى فراشك، لا عليك أن تكتحل أول الليل بشيء من النوم، إنّ أبواب السماء تفتح في رمضان وتصفّد الشياطين وتقبل أعمال المؤمنين؛ نعم الشهر رمضان كان يسمّى على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله المرزوق. (1)

2 - الغسل

قال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام :من اغتسل ليلة القدر وأحياها إلى طلوع الفجر خرج من ذنوبه. (2)

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام اغتسل ليلة تسع عشرة من شهر رمضان ، وإحدى وعشرين ،وثلاث وعشرين، واجتهد أن تحييهما.(3)عن ابن بكير قال: سألت أبا عبد الله (الإمام جعفر الصادق )عليه السلام عن الغسل في رمضان وأي الليل أغتسل؟ قال: تسع عشرة

وإحدى وعشرين وثلاثة وعشرين. (4)

-3- صلاة ركعتين

عن النبي صلى الله عليه وآله قال من صلّى ركعتين في ليلة القدر فيقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وقل هو الله أحد سبع مرات، فإذا فرغ يستغفر سبعين مرة؛ فما دام لا يقوم من مقامه حتى يغفر الله له ،ولأبويه، وبعث الله ملائكة يكتبون له الحسنات إلى سنة أخرى، وبعث

ص: 97


1- (1) الفروع من الكافي، ج 4، ص 156-157.
2- (2) وسائل الشيعة، ج 7، ص 262 - كتاب الصوم، باب 32 ح 11.
3- (3) بحار الأنوار، ج 94، ص8.
4- (4) بحار الأنوار، ج 94 ، ص 12 .

الله ملائكة الى الجنان يغرسون له الأشجار ويبنون له القصور ويجرون له الأنهار، ولا يخرج من الدنيا حتى يرى ذلك كله. (1)

4 - افتح القرآن واقرأ الدعاء التالي:

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام تأخذ المصحف في ثلاث ليالي من شهر رمضان فتنشره وتضعه بين يديك وتقول: "اللهم إني بكتابك المنزل وما فيه، وفيه اسمك الأكبر، وأسماؤك الحسنى، وما يخاف ويرحي، أن تجعلني من عتقائك من النار". وتدعو بما بدا لك من حاجة. (2)

5- ضع القرآن على رأسك واقرأ الدعاء التالي:

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: خذ المصحف فدعه على رأسك وقل: "اللهم بحق هذا القرآن وبحق من أرسلته به وبحقّ كلّ ، مؤمن مدحته فيه، وبحقك عليهم فلا أحد أعرف يحقك منك، بك يا الله -عشر مرات _ثم تقول :محمد - عشر مرات - بعلي - عشر مرات - بفاطمة - عشر مرات - بالحسن - عشر مرات - بالحسن - عشر مرات - بالحسين _عشر مرات - بعلي بن الحسين - عشر مرات - محمد بن علي - عشر مرات - بجعفر بن محمد - عشر مرات_ بموسى بن جعفر - عشر مرات - بعلي بن موسى - عشر مرات - محمد بن علي - عشر مرات - بعلي بن محمد - عشر مرات - بالحسن بن علي _عشر مرات - بالحجة - عشر مرات _وتسأل حاجتك". (3)

ص: 98


1- (1) بحار الأنوار، ج 95، ص 145
2- (2) بحار الأنوار، ج 94، ص 4.
3- (3) بحار الأنوار، ج 95، ص 146 .

-6- قراءة سورة العنكبوت والروم

عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق عليه السلام :قال: من قرأ سورة العنكبوت والروم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين فهو والله يا أبا محمد من أهل الجنة، ولا أستثني فيه أحداً، ولا أخاف أن يكتب الله على في يميني إثماً، وإن لهاتين السورتين من الله مكاناً.(1)

-7- زيارة الإمام الحسين عليه السلام

عن عبد العظيم الحسني، عن أبي جعفر الثاني (الإمام عليه السلام) في حديث قال من زار الحسين عليه السلام ليلة ثلاث وعشرين من شهر ،رمضان وهي الليلة التي يرجى أن تكون ليلة القدر وفيها يفرق كل أمر حکیم صافحه روح أربعة وعشرين روح أربعة وعشرين ألف ملك وني، كلهم يستأذن الله في زيارة الحسين عليه السلام في تلك الليلة.(2)

عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله (الإمام جعفر الصادق )عليه السلام، قال: إذا كان ليلة القدر يفرق الله عز وجل كل أمر حكيم نادى مناد من السماء السابعة من بطنان العرش أن الله عز وجل قد غفر لمن أتى قبر الحسين عليه السلام. (3)

8- قراءة سورة القدر ألف مرة

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام لو قرأ رجل ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان إنا أنزلناه في ليلة القدر ألف مرة، لأصبح

ص: 99


1- (1) بحار الأنوار، ج 94 ، ص 19.
2- (2) بحار الأنوار، ج 95، ص 166.
3- (3) بحار الأنوار، ج 95، ص 166.

وهو شديد اليقين بالاعتراف بما يختص فينا، وما ذاك إلّا لشيء عانيه في نومه. (1)

9- اطلب الحج

قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: سلوا الله الحج في ليلة سبع عشرة من شهر رمضان وفي تسع عشرة، وفي إحدى وعشرين، وفي ثلاث وعشرين، فإنه يكتب الوفد في كل عام ليلة القدر، وفيها {يَفرق كُل أمر حَكيم}. (2)

10 - صلاة مائة ركعة

قال الإمام محمد الباقر عليه السلام من أجى ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان وصلى فيه مائة ركعة وسع الله عليه معيشته في الدنيا، وكفاه أمر من يعاديه وأعاذه من الغرق والهدم والسرق ومن شرّ السباع ودفع عنه هو منكر ونكير، وخرج من قبره نور يتلالاً لأهل الجمع، ويعطى كتابه بيمينه ويكتب له براءة من النار وجواز على الصراط وأمان العذاب، ويدخل الجنة بغير حساب ويجعل فيها من رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. (3)

عن سليمان الجعفري قال: قال أبو الحسن عليه السلام، صل ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين مائة ركعة تقرأ في كل ركعة الحمد الله مرة، وقل هو الله أحد عشر مرة. (4)

ص: 100


1- (1) بحار الأنوار، ج 95، ص 165.
2- (2) مستدرك الوسائل، ج 7، ص 468
3- (3) بحار الأنوار، ج 95، ص 168.
4- (4) بحار الأنوار، ج 94، ص 16.

11 - أدعية مأثورة

وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه أمر بدعاء مفرد في كل ليلة من

،لياليه فقال: "ادعوا في الليلة الثالثة من العشر الأواخر من شهر رمضان وقولوا: يا ربِّ ليلة القدر، وجاعلها خيراً من ألف شهر؛ وربّ الليل والنهار، والجبال والبحار والظلم والأنوار، لك الأسماء الحسنى أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تجعل اسمي في هذه الليلة في ،السعداء وروحي مع الشهداء، وارزقني فيها ذكرك وشكرك". (1) دعاء آخر في هذه الليلة مروي عن النبي صلى الله عليه وآله: "سبحان لا يموت سبحان من لا يزول ،ملكه سبحان من لا يخفى عليه خافية، سبحان من لا تسقط ورقة إلّا بعلمه، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين إلاّ بعلمه وبقدرته، فسبحانه سبحانه سبحانه سبحانه سبحانه سبحانه ما أعظم شأنه، وأجل سلطانه، اللهم صل على محمد وآله، واجعلنا من عتقائك، وسعداء خلقك بمغفرتك، إنك أنت الغفور الرحيم".(2)

روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه كان يدعو به في ليالي الافراد قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً :

"اللهم إني أمسيت لك عبداً داخراً، لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً ،ولا أصرف لها سوءاً، أشهد بذلك على نفسي، واعترف لك بضعف قوتي وقلة حيلتي، فصل على محمد وآل محمد، وأنجز لي ما وعدتني وجميع

ص: 101


1- (1) مستدرك الوسائل، ج 7، ص 467.
2- (2) بحار الأنوار، ج 95، ص 148.

المؤمنين والمؤمنات من المغفرة في هذه الليلة، وأتمم علي ما آتيتني فإني عبدك المسكين المستكين الضعيف الفقير المهين. اللهم لا تجعلني ناسياً لذكرك فيما أوليتني، ولا لإحسانك فيما أعطيتني، ولا آيساً من إجابتك وإن أبطأت عني في سراء كنت أو ضراء، أو في شدة أو رخاء، أو عافية أو بلاء، أو بؤس أو نعماء، إنك سميع الدعاء". (1)

دعاء الإمام علي بن الحسين عليهما السلام في ليلة القدر:

يا" باطناً في ظهوره ويا ظاهراً في بطونه يا باطناً ليس يخفى، يا ظاهراً ليس يرى ،يا موصوفاً لا يبلغ بكينونيته موصوف، ولا حد محدود يا غائباً غير مفقود، ويا شاهداً غير مشهود، يطلب فيصاب ولم تخلُ منه السماوات والأرض وما بينهما طرفة عين، لا يدرك بكيف، ولا يؤيّن بأين ولا بحيث، أنت نور النور ، ورب الأرباب، أحطت بجميع الأمور ،سبحانه من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، سبحانه من هو هكذا ولا هكذا غيره". (2)

قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: تقول في العشر الأواخر من شهر رمضان في كل ليلة: "أعوذ بجلال وجهك الكريم أن ينقضي عتي شهر رمضان أو يطلع الفجر من ليلتي هذه ولك قبلي ذنب أو تبعة تعذبني عليها". (3)

ص: 102


1- (1) بحار الأنوار، ج 95، ص 121-123.
2- (2) بحار الأنوار، ج 95، ص 165 .
3- (3) الفروع من الكافي، ج 4 ، ص 160 .

الفهرست

المقدمة ...3

ليلة القدر في القرآن الكريم...5

ليلة القدر في الأحاديث الشريفة ...21

في استقبال ليلة القدر ...25

في رحاب ليلة القدر...32

ليلة القدر خير من ألف شهر ...51

ليلة تنسزل الملائكة والروح ...60

ليلة العلم والعزم ...67

فرصة تغيير الذات ...75

محطة المسؤولية ...84

أعمال ليلة القدر ...95

ص: 103

ص: 104

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.