ISBN 978-9933-582- 45-6 I789933582456 رقم الإيداع في دا رالكتب والوثائق العراقية ببغداد 2979 لسنة 2018 مصدر الفهرسة:
IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.08.S24 B3 2018 : LC المؤلف الشخصي: السلامي، غيداء كاظم عبد الله - مؤلف.
العنوان: بهجة الحدائق في شرح نهج البلاغة لعلاء الدين محمد بن ابي تراب الحسني / بيان المسؤولية: دراسة وتحقيق م. د. غيداء كاظم عبد الله السلامي؛ تقديم نبيل قدوري حسن الحسني.
بيانات الطبع: الطبعة الأولى.
بيانات النشر:
کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.
الوصف المادي: 6 مجلد؛ 24 سم.
سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 514).
سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 153).
سلسلة النشر: (سلسلة تحقيق المخطوطات؛ 9).
تبصرة عامة: الكتاب في الاصل رسالة ماجستير.
تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.
موضوع شخصي:
الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.
موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.
موضوع شخصي: کلستانه اصفهاني، محمد بن أبي تراب، توفي 1110 للهجرة -- بهجة الحدائق في شرح كلمات كلام الله الناطق.
موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - رسائل.
موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - كلمات قصار.
مؤلف اضافي: الحسني، نبيل قدوري، 1965 -، مقدم.
مؤلف اضافي: دراسة ل (عمل): کلستانه اصفهاني، محمد بن ابي تراب، توفي 1110 للهجرة -- بهجة الحدائق في شرح کلمات کلام الله الناطق.
اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.
عنوان اضافي: بهجة الحدائق في شرح کلمات کلام الله الناطق.
عنوان اضافي: حدائق الحقايق في شرح كلمات كلام الله الناطق تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية
ص: 1
ISBN 978-9933-582- 45-6 I789933582456 رقم الإيداع في دا رالكتب والوثائق العراقية ببغداد 2979 لسنة 2018 مصدر الفهرسة:
IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.08.S24 B3 2018 : LC المؤلف الشخصي: السلامي، غيداء كاظم عبد الله - مؤلف.
العنوان: بهجة الحدائق في شرح نهج البلاغة لعلاء الدين محمد بن ابي تراب الحسني / بيان المسؤولية: دراسة وتحقيق م. د. غيداء كاظم عبد الله السلامي؛ تقديم نبيل قدوري حسن الحسني.
بيانات الطبع: الطبعة الأولى.
بيانات النشر:
کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.
الوصف المادي: 6 مجلد؛ 24 سم.
سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 514).
سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 153).
سلسلة النشر: (سلسلة تحقيق المخطوطات؛ 9).
تبصرة عامة: الكتاب في الاصل رسالة ماجستير.
تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.
موضوع شخصي:
الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.
موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الإمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.
موضوع شخصي: کلستانه اصفهاني، محمد بن أبي تراب، توفي 1110 للهجرة -- بهجة الحدائق في شرح كلمات كلام الله الناطق.
موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - رسائل.
موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - كلمات قصار.
مؤلف اضافي: الحسني، نبيل قدوري، 1965 -، مقدم.
مؤلف اضافي: دراسة ل (عمل): کلستانه اصفهاني، محمد بن ابي تراب، توفي 1110 للهجرة -- بهجة الحدائق في شرح کلمات کلام الله الناطق.
اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.
عنوان اضافي: بهجة الحدائق في شرح کلمات کلام الله الناطق.
عنوان اضافي: حدائق الحقايق في شرح كلمات كلام الله الناطق تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية
ص: 2
سلسلة تحقيق المخطوطات وحدة تحقيق الشروحات (9) بهجة الحدائق فی شرح نهج البلاغة لِعَلَاءِ الدِّیْن مُحمَّد بْنِ أبِیْ تُرَاب الحَسَنِیْ کلستانة المُتَوَفیْ سَنَة 1110 ه الجُزءُ الثَّالِثُ دِرَاسَة وَتَحقِیْق م. د. غَيْدَاء كَاظِمْ السَّلَامِيِ اِصْدَار مُؤسَسَةُ عُلُومَ نهج البلاغة فِي العَتَبةِ الحُسَيْنيَّةُ المُقَدَسَةِ
ص: 3
جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1438 ه - 2017 م العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع الألكتروني:
www.inahj.org الإيميل:
Info@lnahj.org تنويه:
إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم «وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» صدق الله العلي العظيم سورة هود الآية 88
ص: 5
ص: 6
(قَالوُا أُخِذَ مَرْوانَ بنَ الحَکم أَسیراً یَومَ اْلجَملَ، فَاسْتَشفَعَ اْلحَسَنَ وَاْلحُسَینَ(1)اِلی أَمیرِ اْلمُؤمِنْیَن (عَلَیْهِم السّلامُ)(2)فَکَلَّماهُ فَخَلَّی(3)سَبْیلَهُ، فَقَالا لَهُ: یُبایِعُكَ یا أَمیرَ اْلمُؤمِنینَ. فَقَالَ (عَلَیْهِ السَّلاَمُ): أَو لَمْ یُبَایِعْني بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ! لاَ حَاجَة لي في بَیْعتهِ، إِنَّها کَفٌّ یَهُودیَّةٌ، لَوْ بایَعَني بِیَدِهِ لغَدَر بِسَبَّتِهِ) الحكم(4)بن أبي العاص أبو مروان هو الذي طرده رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن المدينة وسيره الى الطائف فلم يزل بها حتی ولي عثمان فردّه الى المدينة و استکتب(5)مروان ابنه وضمه إليه وفي سبب طرده أقوال، والضمير في (أنها) يعود(6)الى الكف المفهوم من البيعة لجريان العادة بأن يضع المبايع كفه في كف المبتاع والنسبة إلى اليهود لشيوع المكر، والغدر فيهم والغدر ضد الوفاء، والسَبة بالفتح (الأست)(7)وهي أخفى
ص: 7
الأعضاء أي: لو(1)بايع في الظاهر لغدر في الباطن وذكر السبة اهانة له (أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً(2)کَلَعْقَهِ الْکَلْبِ أَنْفَهُ، وَهُوَ أَبُو اَلْأَکْبُشِ اَلْأَرْبَعَةِ(3)، وَسَتَلْقَی الْأُمَّةُ مِنْهُ وَمِنْ وِلَدِهِ یَوْماً أَحْمَرَ) الإِمرة بالكسر مصدر كالإمارة، وقيل اسم، ولعقه كسمعه لعقه لحسه / و80 /، والغرض قصر مدة امارته وكانت تسعة أشهر، وقيل [ستة أشهر](4)، وقيل أربعة أشهر وعشرة أيام، والكَبش بالفتح الحمل إذا اثنی أو(5)إذا اخرجت(6)رباعيته، وكبش القوم رئيسهم، قال بعض الشارحين: كل الناس فسروا الأكبش الأربعة ببني عبد الملك(7)الوليد(8)
ص: 8
وسلیان(1)ویزید(2)وهشام(3)، ولم يل الخلافة من بني أمية ولا من غيرهم أربعة أخوة إلاَّ هؤلاء(4)، وعندي أنه يجوز أن يعني به بنو مروان لصلبه وهم عبد الملك، وعبد العزيز(5)
ص: 9
وبشر(1)ومحمد(2)أما عبد الملك فولى الخلافة، وأما بشر فولى العراق، وأما محمد فولى الجزيزة، وأما عبد العزيز فولى مصراً، ولكل منهم آثار مشهورة، والولد بالتحريك مفرد وجمع، ولعل الحمل على الثاني أولى واليوم الاحمر الشديد، ويقال للسنة المجدبة سنة حمراء، وفي بعض النسخ (موتاً أحمر)(3)وهو كناية عن القتل.
(لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّی أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَیْرِی، وَوَ اَللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ اَلْمُسْلِمِینَ؛ وَلَمْ یَکُنْ فِیهَا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَیِّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَفَضْلِهِ، وَزُهْداً فِیمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ) صيغة التفضيل(4)هاهنا على نهج
ص: 10
قوله تعالى: «قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ»(1)کما سبق مراراً، واستعمالها على هذا الوجه كثير في كلامه (عليه السّلام)، والضمير في (بها) راجع الى الخلافة السابقة في سابق الكلام، أو المعلومة بالمقام، والتسليم الانقياد، والجور الظلم، والجور عليه (عليه السّلام) خاصة غصب حقه، وفيه دلالة على أنَّ خلافة غيره جور مطلقاً فلا يدل على التفضيل(2)بل ينافيه، والتسليم على التقدير المفروض وهو سلامة أُمور المسلمين، وإن لم يتحقق مقدم الشرطية لرعاية مصالح الاسلام والتقية والتاسا مفعول له للتسليم، والالتماس هو الطلب والزهد خلاف الرغبة، والنفيس الجيد المرغوب فيه، أو المال الكثير والتنافس الرغبة فيه للانفراد به، والزُخرف بالضم (الذهب)(3)، (وكمال حسن الشيء)(4)، وزخرف الأرض (ألوان نباتها)(5)، و(الزبرج بالكسر: الزينة)(6)، والضمير المذكور راجع الى هذا الأمر وفيه دلالة على أن رغبة غيره فيه للدنيا.
اتهمه بكذا ظن فيه ما نسب إليه وأصله من الوهم (أَوَ لَمْ يَنْهَ أُمَيَّةَ(7)
ص: 11
عِلْمُهَا بِيِ عَنْ قَرْفِيِ! أَوَ مَا وَزَعَ الجُهَّالَ سَابِقَتِيِ عَنْ تُهمَتِيِ! وَ لَمَا وَعَظَهُم اَللّهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ لِسَانِيِ) قَرَفة كضَرَبه أي: أتَّهمُهُ(1)، ووزعه عنه صرفه وكفه(2)والسابقة الفضيلة والتقدم وفلان له مسابقة في هذا الأمر أي: سبق الناس إليه، والتهمة بفتح الهاء الاسم من اتهمه بكذا والمراد باللسان القَوْلُ (أَنَا حَجِيجُ المَارِقِينَ، وَخَصِيمُ المُرْتَابِينَ(3)الحجة الدليل والبرهان، والحجيج (المحاجج)(4)والمغالب(5)بإظهار الحجة، والمارقون الذين يخرقون الدين ويتعدونه كما يخرق السهم الشيء المرمي به ويخرج منه، والخصيم المخاصم، وارتاب أي: شك، وهذه المحاجة والمخاصمة أما في الآخرة أو في الدنيا والآخرة، والمارقون هم الخوارج أو كل جاحد، والمرتابون الشاكون في الدين أو [في](6)امامته (عليه السّلام) أو في الحقّ مطلقاً (عَلىَ(7)كِتَابِ اللهِ تَعَالى(8)تُعْرَضُ الْأَمثَالُ وبِما فِي الصُّدُورِ تُجَازَي الْعِبَادُ)، قال بعض الشارحين: روی مرفوعاً عن النبي (صلى الله عليه وآله) أَنه سئل عن قوله تعالى: «
ص: 12
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ»(1)، فقال: علي وحمزة وعبيدة(2)وعتبة وشيبة والوليد(3)، وكانت حادثتهم أول حادثة وقعت فيها مبارزة أهل الايمان لأهل الشرك، وكان المقتول الأول بالمبارزة الوليد بن عتبة(4)قتله علي (عليه السّلام) ضربه على رأسهِ (فبدرت)(5)عَينَاهُ عَلى وَجْنَتيه(6)فَقَال النّبي (صلى الله عليه وآله) فيه وفي أصحابه ما قال وكان علي (عليه السّلام) يكثر من قوله: (أنا حجيج المارقين)، ويشير(7)الى هذا المعنى واشار الى ذلك بقوله: (على كتاب الله تعرض الامثال)، يريد قوله تعالى: «هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ»(8)(9)، وقال بعضهم: لما كان في أقواله وأفعاله (عليه السّلام) ما يشبه الأمر بالقتل أو فعله فأوقع في نفوس الجهال شبهة القتل نحو(10)ما روى عنه (عليه السّلام): [الله](11)قتله وأنا معهُ، وکتخلفه في داره عن الخروج يوم قتل، فقال ينبغي أن يعرض ذلك على كتاب الله فإنَّه عليه تعرض الأمثال والأشباه فإن دلّ على كون شيء من ذلك قتلاً فليحكم
ص: 13
به وإلا فلا، ولن يدل أبداً(1)، فليس لهم أن يحكموا به(2)، ويحتمل أن يراد بالأمثال الحجج أو الأحاديث ذكرهما في القاموس(3)/ ظ 80 / أي: ما احتج به في مخاصمة المارقين والمرتابين، وما يحتجون به في مخاصمتي ينبغي عرضه على كتاب الله حتى يظهر صحتها وفسادهما، أو ما يسندون إليّ في أمر عثمان وما يروى [...](4)في أمري وأمر عثمان يعرض على كتاب الله، وبما في الصدور أي بالنيات والعقائد خيرها وشرها أو بما يعلمه الله من مكنون الضمائر لا على وفق ما يظهره (المتخاصمان)(5)عند الاحتجاج ويستندان(6)إليه [من الحجة](7)في صحة العقائد وحسن الاعمال (يجازي)(8)الله العباد ويكافئهم.
(رَحِمَ اَللّهُ امْرَأً سَمِعَ حُكْماً وَعَي، وَدُعِيَ إِلَي رَشَادٍ فَدَنَا، وأَخَذَ بِحُجْزَهِ هَادٍ فَنَجَا) في بعض النسخ (رَحِمَ اَللهُ عَبْداً)(9)وَالحُكم بالضم العلم والفقه والكلام الحق الذي ينتفع به ومنه: (إنّ من الشّعر لَحُكماً)(10)، ووعى أي: حفظ
ص: 14
علماً أو علماً وعملاً، والرَشاد بالفتح الاهتداء، ودنا أي: قرب الى الداعي أو الى الحق، والحُجزة(1)بالضم موضع شد الإزار(2)، ثم قيل: للإزار حجزة للمجاورة، والأخذ بالحجزة مستعار للاعتصام والالتجاء والتمسك بأحد، ونجا أي: خَلَصَ من الضّلالة وعواقبها (ورَاقَبَ(3)رَبَّهُ، وَخَافَ ذَنْبَهُ، قَدَّمَ خَالِصاً، وَعَمِلَ صَالِحاً) المراقبة الترصد والحراسة والمحافظة ومراقبة الربّ الترصد لأمره والعمل به والإقبال بالقلب إليه، والخالِص العمل الذي لا يشوبه(4)رياءٍ(5)ونحوه، وتقديمه فعله قبل: إن يخرج الأمر من اليد، وبعثه الى دار القرار قبل الخروج إليه. (اكتَسَبَ مَذخُوراً، وَاجتَنَبَ مَحذُوراً، رَمَي غَرَضاً، وَاحرَزَ عِوَضاً) كَسَبْت الشيء واكتسبته بمعنى والادخار اتخاذ الشيء وحفظه لوقت الحاجة وإنما تدخر(6)النفائس والمراد صالحات الأعمال كما أنَّ المحذور وهو ما يحترز منه سيئات الأعمال، والغرض هو الهدف والمراد برمي الغرض اصابة الحق كمن رمى الغرض في المرماة ففاز بالسبق وهو المراد باحراز العوض وهو الفوز بالثواب أو المراد ان يقصد بفعله غرضاً
ص: 15
صحيحاً ولا يكون عابثاً(1)لاهياً كمن يرمى في عمياء لا يقصد شیئا على ما قيل، وقول بعض الشارحين: أي يرمي في أغراض الدنيا عن درجة الاعتبار، ويدخر في جوهر نفسه ملكات الخير(2)بعيد (كَابَرَ هَوَاهُ، وَكَذَّبَ مُنَاهُ. جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ، وَالتَّقْوَی عُدَّةً وَفَاتِهِ) المكابرة الاستنكاف عن قبول قول أحد والانقياد له وأصلها المغالبة في الكبر بمعنى العظمة والتجبر، وروی کاثر بالثاء المثلثة أي: غالب في الكثرة والهوى إرادة النفس، والمني جمع منية بالضم فيهما وهي ما يتمناه وتریده کما مَرَّ وتكذیب المعنی وعدم إطاعة النفس في إتباع الشهوات، والمطية الدابة التي تمطو في سيرها أي: تسرع، وقيل الناقة یرکب مطاها أي: ظهرها والعدة في الأصل مَا اَعددته وهيَأتهُ لحَوادث الدهرِ من مَال وسلاح وغير ذلك (رَكِبَ الطَّرِيقَةَ الْغَرَّاءَ. وَلَزِمَا الْمَحجَّةُ(3)الْبَيْضَاءَ) الأغرّ (الابيَض من كل شيء)(4)وبياض الطريقة وضوحها والطريقة الغراء الشريعة المقدسة ولزم فلان الشيء کسمع أي لم يفارقه، والمحجة جادة الطريق ولكثرة المخاوف والمهالك في الخروج عن هذه الطريقة أمر (عليه السلام) بلزومها بعد الأمر بركوبها أي: سلوكها ولا يخفى أن الأوصاف في قوة الاَوامر (اغْتَنَمَ الْمَهَل، وَبَادَرَ الْأَجَلَ، وَتَزَوَّدَ مِنَ العَمَلِ) اغتنمه أي: اتخذه غنيمة، والمهل بالتحريك (التؤدة والرفق)(5)، وأمهله انظره والاسم المهلة،
ص: 16
والمراد اغتنام الحياة التي هي مدة العمل، والمبادرة(1) المسابقة، أي: سَابق الى العمل قَبْلَ أَنْ يَحل الأجل فَيَحُولُ بَينهُ وَبينَ العملِ، أو سابق الى الأجل کما سبق في قوله (عليه السّلام) (سَابِقُوا آجالكُم بأَعْمالِكُم) وَتَزودُ أي: اتخذ الزاد والتزود من العمل أن يعمل عملا يفوز به الى حياة الأبد والثواب لا ما يكون وبالاً عليه.
(إِنَّ بَنِي أُمَیَّةَ لَیُفَوِّقُونَنِي تُرَاثَ مُحَمَّدٍ (صَلَّی اللهُ عَلَیْهِ وآلهِ(2)) تَفْوِیقاً، وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِیتُ لَهُمْ لَأنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اَللَّحَّامِ) الوِذَام التَّرِبَةَ وَيُروَى(3)التِرَّابَ الوَذِمة وَهُو عَلى اْلقَلبْ قَولهُ(4)(عَلَيْهِ السّلَام): لَيُفَوِّقُونَني أيْ: يُعْطُونَني مِنَ اْلمالِ قليلاً قليلاً(5)كَفُواقِ النَّاقَة، وَهُوَ اْلحُلْبَةُ الواحَدةُ مِنْ لَبَنِهَا، وَالوِذَامَ(6):
ص: 17
جَمِعْ وَذّمَةٍ وَهِيَ اْلحُزَّةُ(1)مِنَ الكَرِشِ أوَ الكَبْدِ تَقَعُ في التّرُاب فَتَنْفَضُ، التراث الميراث وأصل التاء واو(2)، واللحام بائع(3)اللحم، والحُزة(4)بالضم: (هي القطعة من اللحم وغيره)(5)، وقيل: خاصة بالكبد(6)، وقيل: (قطعة من اللحم قطعت طولا)(7)، والكَرْش كَكَتْف كما في النسخ وبالكسر لكل مجتر بمنزلة المعدة / و81 / للإنسان وهي مؤنثة، ونَفَضَّ الثوب وغيره تحريكه ليسقط منه التراب وغيره، وروى أن سعيد بن العاص(8)لما كان أمير الكوفة من قبل عثمان بعث إليه (عليه السّلام) بهدية وكتب إليه كتاباً وكتب إنِّي لم أبعث الى أحد أكثر مما بعثت به إليك إلاَّ أمير المؤمنين فلما أتاه الكتاب وقرأه قال: لشد ما تحظر على (بنو)(9)أمية تُرَاثُ (مُحَمد صَلىَّ اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ) أمَا وَاللهَ لئِنَ وَلَيِتُها لَأنْفَضّنَّها نَفضُ القصّابِ التِرَاَبَ اْلوَذمة، وقال ابن الاثير في النهاية(10): التراب جمع تِرَبْ تخفيف ترب يريد اللحوم التي تعفرت بسقوطها في التراب، والوذمة المنقطعة الأوذام وهي السيور الذي يشد بها عرى الدلو،
ص: 18
قال الاصمعي سألت شعبة عن هذا الحرف(1)فقال: ليس هو هكذا إنَّما هو نفض القصاب الوذام التربة وهي التي قد سقطت(2)في التراب، وقيل(3): الكروش كلها تسمى تربة؛ لأنها يحصل(4)فيها التراب من المرتع، والوذمة التي أخمل باطنها والكروش وذمةً؛ لأنها مخملة، ويقال: لخملها الوَذِم ومعنی الحديث لئن وليتم لاطهرنهم(5)من الدنس ولا طيبنهم من الخبث(6)، وقيل أراد بالقصاب السبعُ والتراب أصل ذراع الشاة، والسبع إذا أخذ الشاة قبض على ذلك المكان ثم نفضها(7). انتهى. والظاهر أنَّ المراد من النفض(8)منعهم من غصب الأموال وأخذ ما في أيديهم من الأموال المغصوبة ودفع بغيهم وظلمهم ومجازاتهم بسيئات أعمالهم.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّی فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ لي بِالْمَغْفِرَةِ(9).
ص: 19
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا وَأَیْتُ مِنْ نَفْسِي، وَلَمْ تَجِدْ(1)لَهُ وَفَاءً عِنْدِي. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِيِ مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَیْكَ(2)ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي) الوأي: (الوعد)(3)والضمان، وما مصدرية، والمراد بعدم الوفاء بالوعد مخالفة النّذر والعهد ونحوه أو ترك الإنسان ما أضمر في نفسه من فعل الخير، ومخالفة القلب فيما يقرب(4)به إلى الله أن يقصد في عمل الخير رئاء وسمعة أو غرضاً(5)ينافي خلوصه لوجه الله تعالى أو(6)أن يقول باللسان إني أعمل صالحاً كان يعد مسلَّما بالإحسان أو غير ذلك ثم يخالفه(7)لميل القلب إلى تركه كما هو الظاهر مما في بعض النسخ (ما تقربت به إليك بلساني)(8)، والفرق بينه(9)وبين الوعد السابق بأن يحمل الأول على الوعد القلبي أو بتخصيص الثاني بما يتعلق بالعباد والأول بحقوق الله (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الْأَلْحَاظِ، وَسَقَطَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَشَهَوَاتِ الْجِنانِ(10)
ص: 20
وَهَفَوَاتِ اللِّسَانِ) الرمز الاشارة أو الایماء بالشفتين أو العينين أو الحاجبين أو الفم أو اليد أو اللّسان والمراد هاهنا الاشارة بالعين، واللحظ النظر بشق العين الذي يلي الصدغ، وهو أشد التفاتا من الشزر(1)، والملاحظة مفاعلة منه والغرض الإشارة بالعين للأغراض الخارجة عن حدود الشريعة کالاستهزاء بأحد وإيذائه والظلم عليه، والسَقطة(2)بالفتح العثرة والزلة، والشهوة الرغبة في الشيء وحبه، والجَنان بالفتح القلب وشهواته رغباته إلى الباطل، وفي بعض النسخ (سهوات الجنان)(3)بالسين(4)المهملة أي: السهوات الناشئة من التفريط وقلة المبالاة، وقال بعض الشارحين: أي الخواطر المخالفة لأمر الله التي لا يشعر القلب بتفصيلها وقد يستتبع حركة بعض الجوارح الى فعل خارج عن حدود(5)الله(6)، قال: وذلك وإن كان لا يوجب(7)أثرا في النفس ولا يؤخذ به إلا أنَّه ربما يقوى لقوة أسبابه وكثرتها فتقطع(8)العبد عن سلوك سبيل الله(9)، وفيه تأمل وهفوات اللسان زلاته، ويمكن أن يراد بالسقطات الأقوال الباطلة الناشئة عن تعمد أو يكون الهفوات كالتأكيد لها واستغفاره
ص: 21
(عليه السلام) من الأمور المذكورة مع عصمته عن الخطأ والزلل مؤول كاعتراف الأئمة (عليهم السّلام) في الأدعية بالمعاصي والآثام أما بأن يكون المطلوب في الاستغفار مغفرتها على تقدير وقوعها أي: لو صدر عني شيء منها فأغفره لي وصدق الشرطية لا يستلزم تحقق المقدم والمراد في الاعتراف الصريح لو لم تعصمني لفعلت ولا ينافيه الامتناع مع العصمة وأمَّا بأن يكون الكلام مسوقا لإنشاء الخضوع لا للإخبار بالوقوع صريحاً أو ضمنا أو بأن يحمل المعصية على ترك الأولى والاشتغال بالمُباحَات، أو بأن يكون المراد إني من جهة البشرية أهل لارتكابها أو بأن يكون الغرض تعليم الخلق، وفي بعضها نوع من الخفاء والله سبحانه يعلم مقاصد أوليائه.
کفرح أي فاز، فقال (عَلَيْهِ السَّلام): (أَتَزْعُمُ أَنَّك تَهْدِي إِلَی السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِیهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ، وَتُخَوِّفُ السَّاعَةِ(1)الَّتي مَنْ سَارَ فِیهَا حَاقَ(2)بِهِ الضُّرُّ! فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهذَا فَقَدْ کَذَّبَ الْقُرْآنَ، وَاسْتَغْنَی عَنِ اَلْاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ فِيِ نَیْلِ الَمحْبُوبِ وَدَفْعِ الْمَکْرُوهِ) يزعم کينصر أي: يقول أو هو قريب من معنی يظن(3)وأكثر ما يستعمل في الباطل والحديث الذي لا سند له، وحاق(4)به الأمر أي: لزمه ونزل به، والضُر بالضم: سوء الحال ومن صدقك بهذا أي: في هذا وكون هذا التصديق تكذيباً للقرآن لادعائه العلم الذي هو عند الله کما يظهر مما رواه الصدوق رحمه الله في الخصال(5)، ورواه الشارح عبد الحميد بن أبي الحديد(6)وفي خبر مسيره (عليه السّلام) إلى النهروان وقد انساق الكلام إلى قوله، فقال له أمير المؤمنين (عليه السّلام): تدري ما في بطن هذه الدابة أذكر أو انثى، قال إن حسبت علمت، قال له أمير المؤمنين (عليه السّلام): من صدقك على هذا القول کذّبَ بالقرآن(7)«إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ
ص: 23
الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(1)، والظاهر على ما في هذه الرواية أنَّ المشار إليه المنافي للقرآن هو ادعائه علم ما في بطن الدابة أنه ذكر أو أنثى، وأما على ما في المتن فيمكن أن يكون المشار إليه دعواه علم الساعتين المنافي لقوله عز وجل: «وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا»(2)و(3)لقوله سبحانه: «قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ»(4)، وقوله عز وجل: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ»(5)وما يفيد مثل ذلك المعنى، وأما ما ثبت من أخبار النبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين وسائر الائمة (عليهم السّلام) بما سيكون من الخمسة المذكورة في الآية الأولى وغيرها من الغائبات فإنَّما هو تعلم من ذي العلم کما صرح به أمير المؤمنين (عليه السّلام) في بعض كلماته لا يقال علم النجوم أيضاً من هذا القبيل وقد دل بعض الأخبار على أنَّ له أصلا وإنَّه مما علمه الله بعض أنبيائه فكيف يكون تصدیق المنجم تکذیباً للقرآن لأنا نقول لا يظهر مما ظفرنا(6)به من الأخبار أزيد من أن هذا العلم أصلاً وأما أن ما في أيدي الناس مما علمه الله عباده فلم نجده في الأخبار بل في بعضها ما يدل على خلافه كقول الصادق (عليه السّلام):
ص: 24
(لا يعلم ذلك إلا من علم مواليد الخلق كلهم)(1)، وقوله (عليه السّلام): (إنكم تنظرون في شيء منها كثيرة لا يدرك، وقليلة لا ينتفع به)(2)، وقوله (عليه السّلام) لما رد الله الشمس على يوشع بن نون(3)وعلى أمير المؤمنين (عليهما السّلام): (ضل فيها علماء النجوم)(4)(وإذا لم يكن ما ادعاه المنجم مطابقا لما هو الحق لم يكن من التعلم من ذي العلم بل هو دعوى الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ويمكن أن يحمل الكلام على وجه آخر، وهو أنَّ قول المنجم بأنَّ صرف السوء ولحوق الضر تابع للساعة سواء قال بأنَّ الأوضاع العلوية مؤثرة تامة في السفليات ولا يجوز أن تخلف الآثار عنها، أو قال بأنها مؤثرات ناقصة، ولكن باقي المؤثرات أمور لا يتطرق إليها التغير، أو قال بأنَّها علامات تدل على وقوع الحوادث حتما وبالجملة إذا اعتقد عدم جواز تخلف الحوادث عن الأوضاع تأثير أو دلالة أو عدم وقوع التخلف لجريان عادة الله بذلك فهو مخالف لما ثبت من الدين من أنه سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت وإنه يقبض ويبسط ويفعل ما يشاء ولم يفرغ من الأمر
ص: 25
کما قالت اليهود يد الله مغلولة والظاهر من حال المنجمين السابقين وكلماتهم جلهم أو كلهم أنَّهم لا يقولون بالتخلف وقوعاً أو امكاناً فيكون تصديقهم مخالفاً للتصدیق بالقرآن وما علم من الدين من هذا الوجه ولو كان منهم من يقول بجواز التخلف ووقوعه بقدرة الله واختياره(1)وبأنَّه يزول نحوسة(2)الساعات بالتصدق والدعاء والتوسل إليه سبحانه وينقلب السعد نحساً والنَحس سعداً كما يظهر من الاخبار، وبأنَّ الحوادث لا يعلم وقوعها بعد تحقق الأوضاع إلا إذا علم / و82 / أنَّ الله سبحانه لم يتعلق حکمته بتغيير دلالتها وتبدیل احكامها كان كلامه (عليه السّلام) مخصوصاً بمن قال بتحتم الدلالة أو التأثير كما سبق وحينئذ يكون محط الفائدة في الكلام قوله (عليه السلام): صرف عنه السوء وحاق به الضر أي: حتماً لا يقال حينئذ (تقل)(3)فائدة(4)علم النجوم بل ترتفع(5)وأي طريق إلى العلم بعدم تطرق التغيير إلى الاحكام فأي فائدة في تعليم الأنبياء والأئمة (عليهم السّلام) علم النجوم كما يظهر من بعض الاخبار لأنا نقول: لعل الله عز وجل جعل لهم سبيلاً بالوحي أو غيره إلى التخلف وعدمه، وقلة الفائدة أو عدمها في علم الناس وضعف العمل بها يستنبطونه من الأحكام لا فساد فيه على أن كثرة الوقوع لو كان إلى العلم بها سبيل للناس نوع من الفائدة، ولعله لابد من اعتبار
ص: 26
التحتم على الوجه الأول أيضاً حتى يظهر وجه الاستغناء عن(1)الاستعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه ويمكن ارجاع المضادة للقرآن على هذا الوجه أيضاً إلى العلم فإنه إذا لم يكن العلم الذي علمه الله من علمه بمجرده مفيداً للعلم الحتمي بوقوع الكائنات من الخير والشر كان زعم الناس علمهم به من ادعاء علم الغيب وما خَصَّ بهِ سُبحَانَهُ (وينبغي(2)فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَنْ یُولِیَكَ الْحَمْدُ دُونَ رَبِّهِ لِأَنَكَ - بِزَعْمِكَ - أَنْتَ هَدَیْتَهُ إِلَی السَّاعَةِ الَّتِي نَالَ فِیهَا النَّفْعَ، وَأمِنَ الضُّرَّ) في قولك أي على [قولك أي بسبب قولك(3)](4)أو هي للظرفية المجازية ويوَليك بفتح الواو وتشديد اللام أو بسكون الواو وتخفيف اللام أي: يقربك من الحمد من الولي بمعنى [القرب](5)، أو [هو](6)من قبيل قولك: ولاه الأمير عمل كذا، وولاه بيع الشيء أي قلده إياه، والمقصود أن يجعلك ولياً للحمد وأهلاً لَهُ، والضَر في بعض النسخ بالفتح، وهو ضد النفع وبالضم سوء الحال، وقيل بالفتح مصدر وبالضم اسم (ثُمَّ أَقْبلَ (عَلَیهِ السَّلام) علَی الناسِ فقال: أَیُّهَا النَّاسُ، إِیَّاکُمْ وَتَعلُّم النُّجُومِ إِلَّا مَا یُهْتَدَی بِهِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، فَإِنهَا تَدْعُو إِلَی الْکَهَانَةِ؛ المُنجِّمُ کَالْکاهِنِ، وَالْکاهِنُ کالسَّاحِرِ، والسَّاحِرُ کَالْکَافِرُ، وَالْکَافِرُ فِي النَّارِ؛ سِیرُوا عَلَی اسْمِ اللَّهِ) وفي بعض النسخ (وعونه) اشار سبحانه إلى الاهتداء بالنجوم في البر والبحر بقوله عز
ص: 27
من قائل: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ»(1)، والكَهانة بالفتح کما في النسخ مصدر قولك: کهُن بالضم أي: (صار کاهناً)(2)، و(يقال: کهن یکهن کهانة، مثل: كتب يكتب كتابة إذا تكهن)(3)، والحرفة الكِهانة بالكسر(4)، وهو(5)عمل يوجب طاعة بعض الجان له بحیث (تأتيه)(6)بالأخبار(7)الغائبة، وهو قريب من السحر، قيل: قد كان في العرب کهنه کشقٍ(8)وسطيحٍ(9)وغيرهما فمنهم من كان يزعم أن
ص: 28
له تابعاً من الجن ورئياً يلقى إليه الاخبار، ومنهم من(1)كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب [و](2)يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله وهذا يخصونه باسم العراف(3)کالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما [وفي بعض الاخبار أن الكهانة في وجوه شتی فراسة العين وذكاء القلب ووسوسة النفس وفطنة الروح مع قذف في قلبه لأن ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة وذلك(4)يعلمه الشيطان ويؤدية الى الكاهن ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراق وكان الشيطان قبل ان يمنع عن استراق السمع يسترق الكلمة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيقذفها(5)الى الكاهن فإذا زاد(6)كلمات من عنده فيختلط الحق بالباطل ومذ منعت الشياطين(7)عن استراق السمع انها يؤدي(8)إلى کُهانها(9)أخبار مما يحدث في البعد من الحوادث من سارق سرق وقاتل قتل وما يتحدث الشياطين به ويحدثونه وهم بمنزلة الناس أيضاً صدوق وكذوب](10)، ودعوة علم النجوم إلى الكهانة أما لأنَّه يخبر أمر المنجم الى الرغبة في تعلم
ص: 29
الكهانة و التكسب به أو ادعاء مايدعيه الكاهن والساحر(1)، قيل هو كلام أو كتابة أو رقية أو أقسام وعزائم ونحوها يحدث بسببها ضرر على الغير، ومنه عقد الرجل عن(2)زوجته والقاء البغضاء بين الناس، ومنه استخدام الملائكة والجن واستنزال الشياطين في كشف الغائبات وعلاج المصاب واستحضارهم وتلبسهم ببدن صبي أو امرأة وكشف الغائب على لسانه والظاهر أنه لا يختص بالضرر، ويظهر من بعض الأخبار أنَّ من السحر ما يشبه الطب(3)ومنه [...](4)[الخطفة والسرعة والمخاريق والخفة(5)ومنه ما يأخذه أولياء الشياطين عنه وان من تسبيح الملكين هاروت وماروت لو فعل الانسان كذا لكان كذا ولو عالج بكذا لصار كذا، اصناف سحر فيتعلمون منهما ما يخرج عنهما وهما موضع ابتلاء وموقف / ظ 82 / فتنة ويقولان انما نحن فتنة فلا تأخذوا عنا ما يضركم ولا ينفعكم وإن من أكبر السحر النميمة يفرق بها بين المتحابين ويسفك بها الدماء ويهدم بها الدور ويكشف بها الستور وأن أقرب أقاويل السحر من الصواب أنه بمنزلة الطب فإنَّ الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء فجاء الطبيب فعالجه بغير ذلك العلاج فأبرأ](6)ووجه الشبه في تشبيه المنجم بالكاهن إما لاشتراك في الإخبار عن الغائبات، أو في الكذب والإخبار بالظن والتخمين والاستناد إلى الإمارات
ص: 30
الضعيفة والمناسبات السخيفة، أو في العدول والانحراف عن سبيل الله وترغيب(1)الناس بالتمسك في نيل المأرب بأسباب خارجة عن حدود الشريعة وصدهم عن التوسل الى الله بالدعاء والصدقة والطاعة وتفويض الأمر إليه، أو في البعد عن رحمة الله، أو غير ذلك ولعل بعض الوجوه هو الوجه في التشبيهين(2)الأخيرين والمشبه به في التشبيهات أقوى ونتيجة المجموع دخول النار، ويمكن أن يكون قوله (عليه السّلام) والكافر في النار اشارة الى وجه الشبه والمراد إما الخلود، أو الدخول، ولعله أظهر وإن كان الكافر مخلداً، فتدبر. أقول قد ذكر السيد النبيل علي بن موسى المعروف بابن طاوس(3)(رحمه الله) هذه الرواية في رسالة النجوم وبالغ في تضعيفها وردها بالطعن في سندها ومتنها ولنذكر بعض كلماته بنوع من الاختصار وما يرد عليها تحقيقاً للمقام، قال بعد حكاية الرواية عن كتاب نهج البلاغة: رأيت فيما وقف(4)عليه في كتاب عيون الجواهر تأليف أبي جعفر محمد بن بابويه (رضوان الله عليه) حديث المنجم مسنداً قال: حدثني محمد بن علي ماجيلويه (رضی الله عنه) قال حدثني عمي محمد بن أبي القاسم عن(5)محمد بن علي القرشي عن نصر بن مزاحم المنقري عن عمر بن سعد عن يوسف بن یزید عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، قال: لما أراد أمير المؤمنين (عليه السّلام) المسير الى النهروان أتاه منجم، وذكر حديثه يعني ذكره محمد بن
ص: 31
بابويه ثم قال السيد (رحمه الله): إن في هذا الحديث عدة رجال لا يعمل علماء أهل البيت (عليهم السّلام) على روايتهم ويمنع [من](1)تجوز العمل بأخبار الآحاد من العمل بأخبارهم وشهادتهم، وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص مقاتل الحسين (صلوات الله عليه)، ولا يلتفت عارف بحاله الى ما يرويه أو يسند إليه(2)، قال: (وكان هذا الاسناد، وهذا الطعن مغنياً عن زيادة عليه ولكننا نستظهر في تفصيل الجواب)(3)، ثم قال: (واعلم أنه لو كانت هذه الرواية صحيحة على ظاهرها لكان مولانا علي (عليه السّلام) قد حكم في هذا على صاحبه الذي قد شهد مصنف نهج البلاغة أنَّه من أصحابه أيضاً بأحكام الكفار، أما بكونه مرتدا عن الفطرة فيقتله في الحال، أو برده عن غير الفطرة فيتوب، أو يمتنع من التوبة فيقتل(4)؛ لأنَّ الرواية قد تضمنت أن المنجم كالكافر، أو كان يجري عليه أحكام الكهنة، أو السحرة؛ لأنَّ الرواية تضمنت أنه كالكاهن والساحر وما عرفنا الى وقتنا هذا أنه حكم على هذا المنجم صاحبه بأحكام الكفار ولا السحرة ولا الكهنة ولا أبعده ولا غرره(5)بل قال: سيروا على اسم الله والمنجم من جملتهم؛ لأنَّه صاحبه وهذا يدلك(6)على تباعد الرواية من صحة النقل أو يكون لها تأويل غير ظاهرها موافق
ص: 32
للعقل(1). ويرد عليه أنه إن أراد بالطعن في الإسناد والحكم بضعف رواية الكتاب فلا وجه له؛ لأنَّها رواية مرسلة كسائر روايات الكتاب وأي طريق الى العلم بأنَّ في رحابها عمر بن سعد، وأي استبعاد في أن يكون كلامه (عليه السّلام) عند المسير الى الحرب وخطابه الجيش مروياً بطرق عديدة قد اطلع السيد الرضي (رضى الله) على طريق صحيح منها، وضعف سند الصدوق لا يدل على ضعف سنده مع أنَّ لفظ رواية الصدوق (رحمه الله) على ما في الخصال مخالف لرواية السيد (رضي الله عنه)، نعم هي في عداد المراسيل كالخطب وغيرها المذكورة في الكتاب وقد رواها الشارح عبد الحميد بن أبي الحديد(2)في شرح كلامه (عليه السلام) في تخويف أهل النهر عن ابن ديزيل صاحب كتاب صفين من غير اسناد ولا بأس بذكرها بلفظه لاشتماله على زيادات: قال عزم علي (عليه السّلام) على الخروج من الكوفة الى الحرورية وكان في أصحابه منجم، فقال له: يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر على ثلاث ساعات مضين من النهار فإنَّك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصحابك أذى وضر شديد وإن سرت في الساعة التي / و83 / أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت، فقال له علي (عليه السّلام): أتدري ما في بطن فرسي هذه أذكر أَم انثى، قال: إن حسبت علمت، فقال (عليه السّلام): فمن صدقك بهذا فقد كذب بالقرآن قال الله تعالى: ««إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ
ص: 33
غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(1)، ثم قال (عليه السّلام): إنَّ محمدا (صلى الله عليه وآله) ما كان يدعي(2)علم ما ادعيت علمه، أتزعم أنك تهدي الى الساعة التي تصيب(3)النفع من سار فيها، وتصرف عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها؟ فمن صدقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جل وعز في صرف المكروه عنه، وينبغي للموقن(4)بأمرك أن يوليك الحمد دون الله جل جلاله؛ لأنك بزعمك هديته الى الساعة التي يصيب(5)النفع من سار فيها، [وصرفته عن الساعة التي يحيق السوء بمن سار فيها](6)، فمن آمن بك في هذا لم امن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ضداً ونداً اللهم لا طير إلا طيرك، ولا ضير إلا ضيرك، ولا إله غيرك، ثم قال: بل نخالف(7)ونسير(8)في الساعة التي نهيتنا، ثم أقبل على الناس فقال: أيَّها الناس إياكم والتعلم للنجوم إلا ما يهتدي به في ظلمات البر والبحر، إنما المنجم كالكاهن، والكاهن كالكافر، والكافر في النار، أما والله إن بلغني إنَّك تعمل بالنجوم لأخلدنك السجن أبداً ما بقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان، ثم سار في الساعة التي نهاه عنها المنجم فظفر بأهل النهر وظهر(9)
ص: 34
عليهم، ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها(1)المنجم لقال الناس سار في الساعة التي أمر بها المنجم وظفر وظهر، أما أنه ما كان لمحمد (صلى الله عليه وآله) منجم ولا لنا من بعده حتى فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به(2)فإنّه يكفي من سواه انتهى. وإن أراد بما ذكره الطعن في رواية الصدوق (رحمه الله) فهو متوجه إلا أن ظاهر كلامه أنَّ غرضه(3)دفع الرواية رأساً، وأما ما استند به من انَّه (عليه السّلام) لم يحكم بكفر المنجم الى آخر ما قال، فضعيف فإنَّ الظاهر من التشبيه بالكافر أنه ليس بكافر وإنما يدل على الاشتراك في وجه الشبه لا على صدق عنوان الكافر على المنجم أو مساواته له في جميع الأحكام حتى يقتله في الحال أو بعد أمتناعه من التوبة على أنه (عليه السلام) لم يشبهه بالكافر بل بالمشبه بالمشبه بالكافر وحينئذ فاجراء حكم الكافر عليه أبعد، وأما قوله ولا ابعده ولا عزره(4)ففيه أنَّه قد ظهر من رواية الشارح الايعاد بالحبس المؤبد، والتحريم من العطاء، ولم يعلم أنَّه أصر المنجم على العمل بالنجوم، حتى يستحق تعزيراً أو نكالاً، وعدم اشتمال رواية الكتاب على هذه الزيادة لا يدل على عدمها، فإنَّ عادة السيد (رضي الله عنه) الاقتصار على ما اختاره من الكلام بزعمه لا استيفاء النقل والرواية مع أن عدم النقل في مثل هذا الأمر لا يدل على العدم، وأما ما يشعر به [...](5)كلامه من أنَّ الرجل لم يكن من
ص: 35
المردودين لكونه صاحبه، ففيه أنَّ الرجل على ما حكاه السيّد وغيره هو عفيف بن قيس أخو الأشعث، وهو رأس المنافقين من أصحابه، ومثير أكثر الفتن فلا [بعد](1)أن يكون صحابته كصحابة أخيه، وليس المراد من كونه من الاصحاب إلا أنَّه من الجيش(2)المشتمل على الشقي والسعيد، ثم قال: (ونحن نذكر حديث المنجم الذي عرض لمولانا علي (عليه السّلام) من دهاقين المدائن لما توجه الى الخوارج وما أظهر له مولانا (عليه السّلام) من المعرفة بعلم النجوم حتى أسلم الدهقان، وصار من أصحابه، وهي موافقة لما ذكرناه من حجج المعقول والمنقول، ومعارضة لهذه الرواية المرسلة البعيدة من كلامه (صلوات الله عليه) الباهر للعقول(3)، ويرد عليه: إنَّ رواية الدهقان التي ذكرها لا يدل على جواز تعلم النجوم او العمل بالنجوم حتى يعارض هذه الرواية، ولا يدل على أن العلم الذي في أيدي الناس هو العلم الذي له أصل بل ظاهرها خلاف ذلك، وقد قال الدهقان بعدما اشار (عليه السّلام) الى مقدمات غير معروفة في كلمات المنجمين ليس هذا العلم بما في أيدي أهل زماننا، هذا علم مادته من السماء، وقد كان غرضه (عليه السّلام) من إظهار المعرفة بهذا العلم أن يعلم الدهقان أنَّه ليس من الأمراء الجاهلين، وفي سند الرواية جهالة، وأما الحجج التي اشار اليها فلا دلالة في اكثرها على جواز العمل، والتعلم أصلا بل على أنَّ لهذا العلم(4)/ ظ 83 / أصلا، وما يدل على
ص: 36
الجواز لا يخلو عن الضعف، ثم قال: ومما نذكره من التنبيه على بطلان هذه الرواية بتحريم علم النجوم، قول الراوي فيها إن من صدقك فقد كذب القرآن واستغنى عن الاستعانة بالله، وتعلم(1)أن الطلائع للحروب يدلون على السلامة من هجوم الجيوش وكثير من النحوس، ويبشرون بالسلامة وما الزم من ذلك أن نوليهم(2)الحمد دون ربهم ومثال ذلك كثير فيكون لدلالات النجوم أسوة بما ذكرناه من الدلالات على كل معلوم(3)قال: فإين هذه الرواية الضعيفة من احتجاجات مولانا علي (صلوات الله عليه) الشريفة التي تضيق مجال الاعتراض عليها ويقصر علوم العلماء غير النبي (صلى الله عليه وآله) عن الاهتداء اليها(4)، ويرد عليه أن الفرق بين الأمرين واضح فإنَّ ما يهدي إليه الطلائع ونحوهم ليست(5)أموراً يترتب [عليها](6)صرف السوء ونيل المحبوب حتماً، [بل](7)يتوقف على اجتماع أمور كارتفاع الموانع، ووجود الشرائط التي لا يتيسر الظفر بها إلا بفضل مسبب الأسباب وليست(8)كالهداية الى(9)الساعات التي يترتب على اختيارها والتوجه الى المآرب فيها نيل كل نفع وصرف كل محذور حتماً كما زعمه المنجمون ولا يخفى أن كل منعم
ص: 37
من الخالق والخلائق يستحق من الشكر المراد بالحمد في هذا المقام على حسب الانعام کما تدل(1)عليه الأخبار، وكلما كانت النعمة أكمل وأعمّ كان استحقاق منعمها للحمد أتم، فإذا كانت الهداية الى نيل المقاصد كلها على وجه لا يتخلف عنها سواء قالوا بالتأثير أو الدلالة كانت مغنية عن الاستعانة بالله حتماً، بل لو جاز التخلف لكن على سبيل خرق العادة، وكان في غاية الندرة كما يظهر من كلام بعض المتشرعة من المنجمين كانت تلك الهداية في قوة الإغناء وليست الهداية الى وجوه المنافع العادية التي يتيسر الاهتداء إليها بالعقل أو الحس من هذا القبيل، وأما تطرق الاعتراض الذي جعله دالاً على عدم صحة الرواية فإنَّما هو في الصحيح من الاعتراض، ثم قال: ومن التنبيه المظنون على بطلان ظاهر هذه الرواية أننا وجدنا في الدعوات الكثيرة التعوذ من أهل الكهانة والسحرة(2)، فلو كان المنجم مثلهم كان كمن تضمن بعض الأدعية التعوذ منه وما عرفنا في الأدعية تعوذاً من النجوم والمنجم الى وقتنا هذا(3)، ويرد عليه بعد الاغماض عن عدم التعويل على مثل هذا الظن أن التشبيه لا يستلزم المساواة في جميع الأحكام، والمشبه به لكونه أقوى يمكن اختصاصه بمزية، ثم الفرق بين المنجم والآخيرين واضح، فإنَّ الساحر يفرق(4)بين المرء وزوجه ويترتب على أفعاله أنواع الشر، وضرر الخلائق، وكذلك الكاهن لطاعة الجن له، وأما المنجم فإنَّما يعود ضرره الى نفسه بأصل
ص: 38
فعله، وإن ترتب ضرر الغير على اتباع أمره أحياناً فعدم التعوذ منه ولو كان شراً منهما فرضاً لا يدل على مقصوده، على أنه (رحمه الله) روى في رسالته الاستخارات دعاء يتضمن البراءة الى الله من اللجأ الى العمل بالنجوم وطلب الاختيارات بها، قال (رحمه الله): ((ذكر الشيخ الفاضل محمد بن علي بن محمد في كتاب له في العمل ما هذا لفظه دعاء الاستخارة عن الصادق (عليه السّلام) تقوله(1)بعد فراغك من صلاة الاستخارة: اللهم إنك خلقت أقواماً يلجأون الى مطالع النجوم لأوقات حركاتهم وسكونهم وتصرفهم وعقدهم، وخلقتني أبرأ اليك من اللجاء اليها ومن طلب الاختيارات بها وأتيقن أنك لم تطلع أحدا على غيبك في مواقعها، ولم تسهل له السبيل الى تحصيل فاعليها، وأنك قادر على نقلها في مداراتها في سيرها عن السعود العامة والخاصة الى النحوس، ومن النحوس الشاملة والمفردة الى السعود؛ لأنَّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب(2)، ولأنهَّا خلق من خلقك وصنعة من صنيعك وما أسعدت من اعتمد على مخلوق مثله واستمد الاختيار لنفسه، وهم أولئك، ولا أشقيت من اعتمد على الخالق الذي أنت هو لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك واسألك بما تملكه وتقدر عليه وأنت به ملىء وعنه غني وإليه غير محتاج / و84 / وبه غير مكترث من الخيرة الجامعة للسلامة والعافية والغنيمة لعبدك))(3)الى آخر الدعاء، ثم قال: (ومن التنبيه المظنون
ص: 39
على بطلان ظاهر هذه الرواية أن الدعوات يتضمن كثيراً منها وغيرها من صفات النبي (صلى الله عليه وآله) أنه لم يكن كاهناً ولا ساحرا و ما وجدنا الى الآن ولا كان عالماً بالنجوم، فلو كان المنجم كالكاهن والساحر ما كان يبعد أن يتضمنه بعض الدعوات والروايات في ذكر الصفات(1)وضعفه قد ظهر مما سبق، وقد كان (صلى الله عليه وآله) عالماً من عند الله بما هو الحق من علم النجوم ولا يشك أحد في أنه (صلى الله عليه وآله) لم يكن دأبهُ العمل بالنجوم، وقد كان ذلك معلوماً عند الكفار ولم يكن يتهمه المشركون بأنَّه منجم وكانوا يتهمونه بالسحر والكهانة فورد في وصفه رداً عليهم أنه لم يكن كاهناً ولا ساحر، واذ قد خرجنا في هذا المقام عن سنن الاختصار استظهاراً للحق فلنذكر شئا من كلمات أئِمتنا (سلام الله عليهم) مما يؤيد ظاهر هذا الخبر، روى الصدوق (رضى الله عنه) في الخصال ( عن نصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول: المنجم ملعون، والكاهن ملعون، والساحر ملعون، والمغنية ملعونة، ومن أواها وأكل كسبها ملعون)(2)قال: وقال (عليه السّلام): المنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كافر، والكافر في النار(3)، وفيه عن الباقر عن آبائه (عليهم السّلام) قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن خصال(4)، وساق الحديث الى أن قال: (وعن النظر في النجوم)(5)، وفيه عن الصادق عن آبائه عن علي (عليه السّلام) قال: قال
ص: 40
رسول اله (صلى الله عليه وآله): أربعة لا تزال في أمتي الى يوم القيمة الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة.(1)، وروی أبو طالب الطبرسي في الاحتجاج عن هشام بن الحكم في خبر الزنديق الذي سأل أبا عبد الله (عليه السّلام) عن مسائل فكان فيما سأله، ما تقول في علم النجوم؟، قال (عليه السّلام): هو علم قلَّت منافعه، وكثرت مضراته؛ لأنه لا يدفع به المقدور، ولا يتقی به المحذور، إن أخبر المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز من القضاء، وأن أخبر هو بخير لم يستطع تعجيله، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه، والمنجم يضاد الله في علمه بزعمه أنه يرد قضاء الله عن خلقه(2). وروى الصدوق (رحمه الله) عن عبد الملك بن أعين قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السّلام) إني قد ابتليت بهذا العلم فأريد الحاجة، فإذا نظرت إلى الطالع ورأيت الطالع الشر جلست ولم أذهب فيها، وإذا رأيت الطالع الخير ذهبت في الحاجة، فقال لي: تقضي؟ قلت: نعم، قال: أحرق كتبك(3). قوله (عليه السلام) يقضى(4)على صيغة المجهول على الظاهر، والغرض(5)استعلام اعتقاده بقضاء الحاجة في الطالع الخير فلما ظهر أنه يعتقده أمره بإحراق الكتب، وقيل: إنه على صيغة المعلوم أي تحكم بقضاء الحاجة أو بأن للنجوم تأثيراً، وهو بعيد، وروى السيد الجليل علي بن طاووس (رحمه الله) في رسالة
ص: 41
النجوم عن محمد بن يعقوب الكليني (رحمه الله)(1)في كتاب تعبير الرؤيا بإسناده عن محمد بن سام قال: قال أبو عبد الله (عليه السّلام) قوم يقولون: النجوم أصح من الرؤيا، وذلك كانت صحيحة حين لم يرد الشمس على یوشع بن نون، وعلي أمير المؤمنين (عليهما السّلام) فلما رد الله عز وجل الشمس عليهما ضل فيها علماء النجوم(2)، وفيها(3)قال: وجدت في كتاب عتيق عن عطا قال: [...](4)قيل لعلي بن أبي طالب (عليه السّلام): هل كان للنجوم أصل؟ قال: نعم، نبي من الأنبياء، قال له قومه: إنا لا نؤمن لك حتى تعلمنا (بدء)(5)الخلق وآجاله وساق (عليه السّلام) الكلام في كيفية تعليمهم الى قوله: فدعا الله عز وجل يعني داود (عليه السلام) فحبس الشمس عليهم فزاد في النهار، واختلطت الزيادة بالليل والنهار، فلم يعرفوا قدر الزيادة فاختلط حسابهم، وقال علي (عليه السّلام): فمن ثم كره النظر في علم النجوم(6)، وروى ثقة الاسلام (رضي الله عنه) في الروضة عن هشام [بن](7)الخفاف في خبر طويل، قال: (ثم قال يعني أبا عبد الله مابال العسکرين يلتقيان في هذا حاسب وفي هذا حاسب، فيحسب هذا لصاحبه بالظفر، ويحسب هذا لصاحبه بالظفر، ثم يلتقيان فيهزم أحدهما الآخر، فأين
ص: 42
كانت النجوم؟ قال: فقلت: لا والله ما أعلم ذلك، قال: فقال: صدقت إن أصل الحساب حق، ولكن لا يعرف / ظ 84 / ذلك إلاَّ من عرف مواليد الخلق كلهم(1)، وروى السيد علي بن طاووس في رسالته النجوم من كتاب التوقيعات للحميري عن أحمد بن محمد بن عيسى بإسناده قال: کتب معقلة بن اسحق إلى علي بن جعفر رقعة يعلمه فيها أن المنجم کتب میلاده ووقت عمره وقتا، وقد قارب ذلك الوقت وخاف على نفسه فأوصل علي بن جعفر رقعته الى الكاظم (عليه السّلام) فكتب إليه رقعة طويلة أمره فيها بالصوم والصلاة والبر والصدقة والاستغفار وكتب في آخرها فقد والله ساءني أمره فوق ما أصف على أني أرجو أن يزيد الله في عمره، ويبطل قول المنجم فما اطلعه الله على الغيب، والحمد لله(2). وروى الصدوق رضي الله عنه في الفقيه (عن ابن أبي عمير أنه قال: كنت أنظر في النجوم وأعرفها، وأعرف الطالع، فيدخلني من ذلك شيء، فشكوت ذلك إلى أبي الحسن موسی بن جعفر (عليهما السّلام)، فقال: إذا وقع في نفسك شيء فتصدق على أول مسكين ثم أمض، فإنَّ الله عز وجل يدفع عنك)(3)، فهذه الروايات يظهر من بعضها حرمة النظر في هذا العلم، ومن بعضها ذمه، وإنه كان له أصل لكن لا اعتماد على ما في أيدي المنجمين وأنهم لا يعرفون أصله، ومن بعضها أنه من الغيب الذي لم يطلع الله المنجم عليه، ومن بعضها أنه يندفع التشاؤم بالصدقة ونحو ذلك فيكون من قبيل الطيرة وقد استفيد ذلك من قول أمير المؤمنين (عليه
ص: 43
السّلام) في الرواية السابقة: (اللهم لا طير إلا طيرك) وإن كان يمكن أن يكون لدفع التشاؤم من استقباله المسير بعدم الظفر حيث قال: إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصحابك أذي وضر شديد، وفي بعض الأخبار ما يدل على جواز النظر فيها وفي بعضها ما لم يخرج من التوحيد وفي بعضها انه لا يضر بالدين وكثيره لا يدرك، وقليله لا ينفع، والجمع بينهما أما يحمل ما دلَّ على الخطر على اعتقاد التأثير للنجوم أو عدم تخلف الدلالة أو بذرته وما دل على الإباحة على اعتقاد کونها أمارات(1)يجوز تخلف المدلول عنها من غير ندرة لما يرفع دلالتها من الصدقة والتوكل وغير ذلك أو بحمل أخبار جواز على التقية لشيوع عمل السلاطين والجبابرة بالنجوم وتقرب(2)المنجمين إليهم بترویج هذا العلم وفي رواية الريان بن الصلت عن الرضا (عليه السّلام) ایماء الى هذا الوجه، أو بحمل أخبار الجواز على النظر المجرد عن العمل والإذعان بصحة ما في أيدي الناس ولا ريب في أن الأحوط الاجتناب مطلقاً سيما مع احتمال التقية في اخبار الجواز ولنذكر شيئاً من فتاوى الأصحاب في هذا الباب، قال شيخنا المفيد (قدس الله روحه) في كتاب المقالات على ما حكاه السيد ابن طاووس(3)(رحمه الله) بعدما ذكر أن الشمس والقمر وسائر النجوم أجسام نارية لا حياة لها ولا موت ولا تميز، (فإما الأحكام على الكائنات بدلائلها والكلام على مدلول حركاتها فإنَّ العقل لا يمنع منه ولسنا
ص: 44
ندفع أن يكون الله سبحانه اعلمه بعض انبيائه وجعله علماً على(1)صدقه غير إنا لا نقطع عليه، ولا نعتقد استمراره في الناس الى هذه الغاية، وأما ما(2)نجده من أحكام المنجمين في هذا الوقت واصابة بعضهم فيه فإنَّه لا ينكر أن يكون ذلك بضرب من التجربة وبدليل عادة، وقد يختلف أحياناً ويخطی المعتمد عليه كثيراً، ولا يصح اصابته فيه أبداً؛ لأنَّه ليس بجار مجری دلائل العقول، ولا براهين الكتاب، [ولا](3)أخبار الرسول (صلى الله عليه وآله) وهذا مذهب جمهور متکلمي أهل العدل واليه ذهب بنو نوبخت)(4)(رحمهم الله) من الإمامية، وأبو القاسم، وأبو علي من المعتزلة.)(5)انتهى، وبالغ السيد المرتضى (رضي الله عنه) في المسائل(6)السلارية وفي الغرر والدرر في ابطال تأثير الكواكب واصابة المنجمين في أحكامهم، وقال في جملة كلامه في الغرر والدرر: (لا خلاف بين المسلمين في ارتفاع الحياة عن الفلك، وما يشتمل عليه من الكواكب وإنها مسخرة مدبرة مصرفة؛ وذلك معلوم من دین
ص: 45
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ضرورة)(1)، وقال: ((قد أجمع المسلمون قدیمًا وحديثاً على تكذيب المنجمين والشهادة بفساد مذهبهم، وبطلان أحكامهم ومعلوم من دين الرسول (صلى الله عليه وآله) ضرورة التكذيب بما يدعيه المنجمون والازراء عليهم والتعجيز لهم وفي الروايات عنه (صلى الله عليه واله) / و85 / من ذلك ما لا يحصى كثرة وكذا [عن](2)علماء أهل بيته (عليهم السّلام) وخيار أصحابه فما زالوا يبرأون من مذهب المنجمين ويعدونها ضلالاً(3)ومحالًا وما أشتهر هذه الشهرة في دين الاسلام كيف يفتي بخلافه منتسب إلى الملة ومصل الى القبلة))(4)انتهى. وعمل السيد علي بن طاووس (رحمه الله) رسالة في تحقيق العمل بالنجوم وبالغ في الانكار على من اعتقد النجوم ذوات ارادة أو فاعلة أو مؤثرة واستدل بدلائل على ذلك وایده بكلام كثير من الأفاضل إلا أنه أنكر على السيد الأجل تحريمه، وذهب الى أنه من العلوم المباحات وإنها علامات ودلالاتها على الحادثات ولكن يجوز للقادر الحكيم أن يغيرها للبر والصدقة، وغير ذلك من الأسباب والدواعي على وفق حكمته وارادته، وقال العلامة (رحمه الله) في المنتهی التنجيم حرام وكذا تعلم النجوم مع اعتقاد [أنها](5)مؤثرة أو أن لها مدخلًا
ص: 46
في التأثير بالنفّع والضّرر، وبالجملة كل من يعتقد ربط الحركات النَّفسانية والطّبيعية بالحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية كافر، وأخذ الأجرة على ذلك حرام، وأما من يتعلم النّجوم ليعرف قدر سير الكواكب وبعده وأحواله من التربيع والكسف وغيرها فإنَّه لا بأس به، ونحوه قال في التحرير والقواعد وقال الشهيد (رحمه الله) في قواعده: (كل من اعتقد في الكواكب أنها مدبرة لهذا العالم وموجدة ما فيه فلا ريب أنه كافر وأن اعتقد أنها تفعل الآثار المنسوبة إليها، والله سبحانه هو المؤثر الأعظم كما يقوله أهل العدل فهو مخطئ إذ لا حياة لهذه الكواكب ثابتة بدلیل عقلي ولا نقلي وبعض الأشعرية يكفرون هذا کما یکفرون الأوّل)(1)، وأمّا مايقال: من أنَّ استناد الأفعال إليها کاستناد الإحراق الى النار وغيرها من العاديات بمعنى أنَّ الله تعالی اجرى عادته أنَّها(2)إذا كانت على شكل مخصوص بفعل ما ينسب إليها، ويكون ربط المسبات بها(3)کربط مسببات(4)الأدوية(5)والاغذية مَجازاً باعتبار الربط العادي لا الفعل الحقيقي فهذا لا يكفر معتقده، ولكنه مخطئ أيضاً وان كان أقل خطأ من الأوَّل؛ لأنَّ وقوع هذه الآثار عندها ليس بدائم ولا أكثري، وقال في الدروس: ويحرم اعتقاد تأثير النجوم مستقلة أو بالشركة والاخبار عن الكائنات بسببها أمَّا لو أخبر بجريان العادة أنَّ الله تعالى يفعل كذا عند كذا لم يحرم وإن كره على أن العادة فيها لا تطرد إلاَّ فيما قل، وأما علم النجوم
ص: 47
فقد حرمه بعض الأصحاب، ولعله لما فيه من التعرض للمحظور من اعتقاد التأثير، أو لأن أحكامه تخمينية، واما علم هيئة الأفلاك فليست حراماً بل ربما كان مستحباً لما فيه من الاطلاع على حكمة الله تعالى وعظم قدرته(1)، وقال الشيخ علي بن عبد العالي (رحمه الله): (التنجيم الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية التي مرجعها الى القياس والتخمين)(2)، قال: (وقد ورد عن صاحب الشرع النهي عن تعلم النجوم بأبلغ وجوهه حتى قال أمير المؤمنين (صلوات الله علیه): إيّاكم وتعلّم النجوم إلاّ ما يهتدي به في بر وبحر فإنَّها تدعو الى الكهانة المنجم کالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر [لکالکافر، والكافر ](3)في النار، إذا تقرر ذلك فاعلم أن التنجيم مع اعتقاد أن للنجوم تأثيراً في الموجودات السفلية ولو على جهة المدخلية حرام، وكذا تعلم النجوم على هذا الوجه بل هذا الاعتقاد کفر في نفسه نعوذ بالله منه، أما التنجيم لا على هذا الوجه مع التحرز عن الكذب فإنَّه جائز فقد ثبت کراهية التزويج، وسفر الحج في العقرب، وذلك من هذا القبيل، نعم هو مكروه ولا ينجر إلى الاعتقاد الفاسد وقد ورد النهي عنه مطلقاً حسماً للمادة).(4)انتهى. والظاهر في نظرنا القاصر من الأخبار وغيرها أنَّ القول باستقلال النجوم في التأثير كفر، وبالتأثير الناقص کفراً، وفسق وكونها امارات محتمل، وهي أما مفيدة للعلم لكن
ص: 48
افادتها العلم العادي بوقوع الحوادث مختص ببعض الأنبياء والائمة صلوات الله عليهم ومن أخذها منهم الاختصاص الطريق الى العلم بعدم ما يرفع دلالتها من وحي، أو الهام إلهي، أو غير ذلك بهم، أو مفيدة للظن و(1)وقوع مدلولاتها مشروط بتحقق شروط وعدم موانع وما في أيدي الناس [ليس](2)بذلك العلم أصلاً أو بعضه منه لكنه غير معلوم بخصوصه ولا يفيد العلم قطعاً وافادته نوعاً من الظنّ / ظ 85 / مشكوك فيه، وإنَّ العمل بهذا الذي في أيدي الناس أما محرم، أو مكروه کراهة شديدة، ولعل الأظهر الأول، والنظر فيه وتعلمه دائر بين الكراهة الشديدة والحرمة ولا ريب في أنَّ الورع في الدين والتَّأسي بالنبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) يقتضي الاجتناب عن مثله، والتوكل على الله في المأمول والمحذور والتوصل الى الخيرة في الأمور بالتوكل والصدقة والدعاء وأعمال الخير ومن المعلوم الذي لا شك فيه أنه لم يكن من دأبهم وديدنهم استخراج الأحكام، والعمل بهذا العلم ولو كان خيراً لما بخلوا به على محبّيهم وكانوا يأمرونهم بمواظبته، وعلموهم القواعد الحقّة منه، وما ورد في السفر من الاجتناب عن حلول القمر في العقرب، وفي التزويج(3)من الاحتراز عنه وعن المحاق لا دلالة فيه على العموم مع أنه ورد أن الصدقة تدفعه، فلا ينبغي للمتورع التعدي فيه عن المأثور ومن ارتفع عن بصيرته غشاوة(4)الوسواس وَجَدَ اتباع هذا العلم واختيار الساعات
ص: 49
لمهمات الأمور في أكثر الناس من الدواعي العظيمة الى رفض التوكل والتوسل إلى الله بالبر والصدقة والدعاء ومع ما في ذلك من البعد والحرمان عن موجبات الرحمة والمغفرة ليس ظفرهم وفوزهم بمآربهم العاجلة أكثر وأظهر ممن ترکه و امثاله رأساً واستعان بالقادر العليم في أموره طراً، والحري بالمخلصين التحرز عن الالتفات إليه، والى سائر ما يتطير به مطلقاً، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) (إنَّ الطيرة على ما تجعلها، إن هونتها تهونت، وإن شددتها تشددت، وإن لم تجعلها شيئاً لم تكن شيئا)(1)، وعنه (عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال النبي (صلى الله عيه وآله): أوحى الله عز وجل الى داود (عليه السلام) یا داود کما لا تضيق الشمس على من جلس فيها، كذلك لا تضيق رحمتي على من دخل فيها، وكما لا تضر الطيرة من لا يتطير منها، كذلك لا ينجو من الفتنة المتطيرون، وكما أن أقرب الناس مني يوم القيامة المتواضعون، كذلك أبعد الناس مني يوم القيامة المتكبرون)(2)، وأما ما سبق في كلام الشهيد (رحمه الله) من استحباب النظر في علم الهيئة فإنما هو إذا ثبت مطابقة قواعده للواقع وعدم اشتماله على قاعدة مخالفة لما ظهر من الشريعة، وإلاَّ فيكون بعضها داخلاً في القول بغير علم أو فيما حرم اتباعه لمخالفة الشريعة ككثير من مسائل علم النجوم هذا ما انساق اليه الكلام في هذا المقام، ونرجو العصمة والتأييد في جميع الأمور من الله المَلك العّلام.
ص: 50
(مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ؛ إِنَّ اَلنِّسَاءَ نَوَاقِصُ اَلْإِیمَانِ؛ نَوَاقِصُ اَلْحُظُوظِ، نَوَاقِصُ اَلْعُقُولِ(1). فَأَمَّا نُقْصَانُ إِیمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ اَلصَّلاَةِ وَاَلصِّیَامِ فِي أَیَّامِ حَیْضِهِنَّ، وَأَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُاِمْرَأَتَیْنِ کَشَهَادَةِ(2)الرَّجُلٍ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوارِیثهُنَّ(3)عَلیَ الَأنْصَافِ مِنْ مَوَارِیثِ اَلرِّجَالِ. فَاتَّقُوا شِرَارَ اَلنِّسَاءِ وَکُونُوا مِنْ خِیَارِهِنَّ عَلَی حَذَرٍ، وَلَا تُطِيعُوهُنَّ فِي الْمَعرُوفِ حَتَّى لَا يَطْمَعْنَ فِي الْمُنْكَر) الغرض من الكلام ذم عائشة وتوبيخ أهل الجمل، وارشاد الناس الى ترك طاعة النساء والمعاشر الجماعات، والحظ النصيب، وظاهر نقصان الإيمان بالقعود عن الصلاة والصيام أنَّ الأعمال من أجزاء الإيمان كما يظهر من بعض الأخبار، وقعودهن وإن كان بأمر الله إلاَّ أنَّ سقوط التكليف لنوع من النقص فيهن، وكذا الحال في الشهادة والميراث واتقاء شرار النساء الهرب منهن، والحذر من خيارهن مقارنتهن(4)من غير وثوق واعتماد على قولهن وفعلهن وترك طاعتهن في المعروف أما بالعدول الى فرد آخر من المعروف كالإحسان الى فقير [غير](5)من يأمرن به، أو فعل
ص: 51
المعروف لكن على وجه يظهر منه أنه ليس اطاعة لهن بل لكونه معروفاً أو ترك بعض المستحبات، فيكون الترك حينئذ مستحباً كترك بعض المستحبات عند الملالة، وادبار القلب، أو المعروف الإحسان اليهن واكرامهن [...](1)واسعافهن بالحوائج زائداً على ما ينتظم به أمر المعاشرة ومقابلته بالمنكر للتشاكل اللفظي، أو لنوع من التخصيص في المعروف.
(أَيُّهَا النَّاسُ، الزَّهَّادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ، وَ الشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ، والْوَرَعُ(2)عِنْدَ الْمَحَارِمِ فإِنَّ عَزَبَ(3)ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلاَ يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبَرْكُمْ، وَلاَ تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ) القصر بالفتح / و86 / [...](4)كعنب (خلاف)(5)الطول، ويوجدان في النسخ، والشكر شكر الله عز وجل أو يعم المخلوق، والورع كف النفس والتحرج(6)، وعزب(7)كنصر وضرب أي: بعد وذلك اشارة الى قصر الأمل، أو مجموع الثلاثة المفسر به الزهادة [...](8)أي: إن شق عليكم استجماع الثلاثة فلا تُفارقوا الأخيرين وحينئذ يكون الصبر للورع، أو
ص: 52
المراد بغلبة الحرام على الصبر قهره ورفعه وبنسيان الشكر تركه رأساً أي: إن لم يقدروا(1)على الشكر عند كل نعمة والصبر عن كل محرم فلا يتركهما مطلقاً فلا يكون أمراً بالآخرين بل(2)بأمرين آخرين، ولعل الأول أظهر. (فَقَدْ أَعْذَرَ اللّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ؛ وكُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ) أعذر اليكم، أي: أبدى عذره أو ثبت عذره في تعذيبكم، والظرف متعلق بمعنى فعل مضمن، وقال في النهاية: ((لقد أعذر الله الى من بلغ به العمر ستين سنةٍ) أي: لم يبقِ فيه موضعاً للاعتذار حيث أمهله، وطول هذه المدة ولم يعتذر)(3)، وقال بعض الشارحين: أي: بالغ، يقال: أعذر فلان في الأمر أي: بالغ(4)، وأسفر الصبح، أي: أضاء وانكشف(5)، والحجج المسفرة: الرسل والأئمة (عليهم السلام)، أو ما يعم العقل وغيره، وكتب بارزة العذر، أي: الكتب التي بين الله فيها عذره في عقاب من عصاه، أو بين عذره بإنزال تلك الكتب والهداية الى طرق الصواب.
(مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ، أَوَّلُهَا عَنَاءٌ، وآخِرُهَا فَنَاءٌ! فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ، وَفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ. مَنْ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ، وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ) العَناء بالفتح
ص: 53
(التعب)(1)والنصب وأول العناء للإنسان حين يتكون في مضيق الرحم وظلمته، أو حين يندفع منه بالعصر ويخرج متأذياً من الحر والبرد وكل شيء مسه ثم يتبع ذلك العناء ألم الجوع والعطش والاوجاع والأسقام وسائر مكاره الدنيا والفتنة تطلق(2)على الاعجاب بالشيء والابتلاء وهما أظهر في المقام من الضلال والاثم والعذاب وغيرها من معانيها، وحزن كفرح ضد فرح (وَمَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ) ساعاها أي: سابقها مفاعلة بمعنى المغالبة في السعي كأنَّ الدنيا تسعى ذاهبة عنه وهو يسعى مجداً في طلبها فكل منهما يطلب الغلبة في السعي [و](3)واتته أي: طاوعته ووافقته وأصله الهمزة فخففت، وقيل بالواو، وأبصر بها أي: جعلها من أسباب الهداية وآلة الملاحظة قدرة الله وصنعة وجوده واعتبر بآثار الماضين، واستدل بها على فنائها وزوالها، وأبصر اليها أي: مدّ بصره اليه، متولها بحبها مشتاقاً اليها وهذا ما نهى عنه سبحانه بقوله: «وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ»(4)، واعمته أي عن طريق المقصود وادراك أنوار الله، وسبل الهداية، ويوجد في بعض النسخ(5): قال السيد (رضي الله عنه)(6)وإذا تأمل المتأمل قوله (عليه السلام):
ص: 54
من أبصر بها بصرته وجد تحته من المعنى العجيب(1)، والغرض البعيد ما لا تبلغ(2)غايته ولا يدرك غوره، ولا سيما(3)إذا قرنَ اليه قوله: «ومن أبصر إليها أعمته» فإنَّه يجد الفرق بين» أبصر بها» و» أبصر اليها» واضحاً نيراً وعجيباً باهراً.
وليس فيها في آخر الخطبة، ومن الناس من يسمي هذه الخطبة الغراء وهي البيضاء المتلألئة (الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَا(4)بِحَوْلِهِ، وَدَنَا بِطَوْلِهِ؛ مَانِحِ کُلِّ غَنِیمَةٍ وَفَضْلٍ، وَکاشِفِ کُلِّ عَظِیمَةٍ وَأَزْلٍ) الحول هو القدرة على التصرف وعلوه سبحانه كونه موجداً لكل موجود قادراً على ما يشاء قاهراً لكل ما سواه، والطول الفضل ودنوه قربه من كل مخلوق بإفاضة الوجود والخيرات على حسب استعداده ولما اشعر الحول بالبطش والانتقام كما أنَّ الطول يدل على الاكرام والانعام قابله به كما قابل العلو بالدنو، والمانح المعطي، يقال: منحه(5)كمنعه وضربه(6)، والاسم المِنحة بالكسر، والغنيمة الفيء والفوز
ص: 55
بالشيء بلا مشقَّة، والمراد النعمة كما قال سبحانه: «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ»(1)والفضل ضد النقص، والكشف رفع الشيء عما يواريه ويغطيه، والعظمية والمعظمة (النازلة الشديدة)(2)والأزل الضيق والشدة ولشمول العظمية والازل عبّر عن ازالتهما بالكشف وحسن المقابلة / ظ 86 / بين أجزاء الكلام واضح (أَحْمَدُهُ عَلَی عَوَاطِفِ کَرَمِهِ، وَسَوَابِغِ نِعَمِهِ، وَأُومِن بِهِ أَوَّلاً بَادِیاً، وَأَسْتَهْدِیهِ قَرِیباً هَادِیاً، وَأَسْتَعِینُهُ قَاهِراً قَادِراً، وَأَتَوَکَّلُ عَلَیْهِ کافِیاً نَاصِراً) الخصال العواطف من أفراد الكرم هي التي تعود مرة بعد أخرى أو النعم التي كأنَّها مشفقة لكمالها، والنعم السوابغ أو السوابغ منها التامة المتسعة، وأولاً منصوب على الحالية، أي: حال اتصافه سبحانه بصفة الأولية والتقدم على الأشياء، وقال بعض الشارحين: منصوب على الظرفية، أي قبل كل شيء(3)، وهو ضعيف، وبادياً أي: ظاهراً من بدا الأمر يبدو بُدوّاً أي: ظهر أو مبدئاً من بدأ المهموز(4)بقلب الهمزة ياء، يقال: بدا الله الخلق، وأبدأهم أي: خلقهم ابتداء من غير احتذاء مثال، ولما كان الدليل القريب أجدر بالهداية، قال: (عليه السلام) استهديه قريباً ولكون الغلبة على من استعين عليه من الأعداء ونحوها من شرائط الإعانة كما أن القدرة على ايصال المنافع وغيره من شرائطه، قال: استعينه قاهراً قادراً والتوكل اظهار العجز والاعتماد على الغير، وكفاية الرجل القيام بأمره (وأشهد أن محمداً (صلى الله عليه وآله
ص: 56
وَسَّلم)(1)عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ وَإِنَهْاءِ عُذْرِهِ وَتَقْدِیمِ نُذُرِهِ) انفاذ الأمر امضاؤه واجراؤه والأمر النافذ المطاع والإنهاء الابلاغ والمراد من العذر بيان ما يستحق به العاصي للعقاب، والنذر الانذار وهو الابلاغ ولا يكون ألا في التخويف (أُوصِيَكُمْ(2)عِبَادَ اللّهِ بِتَقْوَى اللّهِ الَّذِي ضَرَبَ لَكُمُ الْأَمْثَالَ، وَوَقَّتَ لَكُمُ الْآجَالَ، وَأَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَأَرْفع(3)لَكُمُ الْمَعَاشَ) المثل في الأصل بمعنى النظير، يقال: مثل ومَثل ومثيل كشبه وشبه وشبيهٍ ويطلق على القول السائر الممثل مضربه بمورده ولا يضرب إلاَّ ما فيه غرابة ثم استعير لكل حالٍ أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة وضرب مثلاً أي: وصف وبين قال الله عز وجل: «وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ»(4)أي: بينا لهم من كل ما يحتاجون اليه من الدلائل والعبر والأحكام وغيرها مما ينفعهم في الدين والدنيا، وتوقيت الوقت تحديده والأجل غاية الوقت المحدود، والريش والرِياش بالكسر (ما ظهر من اللباس)(5)، وقيل: الرياش جمع الريش، قال بعض الشَّارحين: (ويقال الرياش: الخِصب والغنى)(6)فيكون البسكم مجازاً، وأرفع أي: أوسع، وعيش رافع، أي: واسع والعيش الحياة، ويقال: عاش الرجل معاشاً ومعيشاً وكل منهما يكون اسماً ومصدراً.
ص: 57
(وَأَحَاطَ بِكُمُ الْإِحْصَاءَ، وَأَرْصَدَ لَکُمُ الْجَزَاءَ، وَآثَرَکُمُ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ، وَالرِّفَدِ الرَّوَافِعِ، وَأَنْذَرَکُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ؛ فَأَحْصَاکُمْ عَدَدَاً، وَوَظَّفَ لَکُمْ مُدَداً، فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ، وَدَارِ عِبْرَةٍ، أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِیهَا، وَمُحَاسَبُونَ عَلَیْهِا) العدّ والاحصاء بمعنى، والمراد احاطة علمه الشامل بهم بحيث لا يعزب(1)عنه أحد قال الله تعالى: «لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا»(2)والاحصاء منصوب على أنَّه مصدر من غير لفظ الفعل أو مفعول به من قولهم : حاط فلان كرمه، أي: جعل عليه حائطاً فالمعنى جعل الاحصاء حائطاً عليهم أي: محيطاً بهم، أو من حاطه يحوطه إذا جمعه أو مفعول له أي: للإحصاء، كذا قال بعض الشارحين(3)وفي بعض الوجوه بعد وجوز بعضهم أن يكون تمييزاً وهو مبني على قول الكوفيين في نحو: سفه نفسه، وغبن رأيه، والحسن الوجه بنصب(4)الوجه، وأرصد أي: أعدّ وهيَّأ(5)، تقول(6): رصدت فلاناً (إذا قعدت على طريقه تترقبه وأرصدت له العقوبة إذا أعددتها له)(7)كأنَّك جعلتها على طريقة مترقبة له، وآثر كم أي: أكرمكم ذكره في القاموس(8)وفيه إشارة الى قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
ص: 58
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(1)وقال بعض الشارحين: أصل الايثار أن تقدم(2)غيرك على نفسك في منفعة أنت قادر على الاختصاص بها وهو في هذا الموضع مجاز مستحسن(3)والسّوابغ التامة المتسعة كما سبق، قال الله سبحانه: «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»(4)، والرفد كعنب جمع رِفدة بالكسر وهي (العطاء والصلة)(5)، ورفع عيشة بالضّم / و87 / أي: اتسع، وعيشة رافعة(6)أي: واسعة والعدد الاسم من العدّ وهو الاحصاء، وعدداً منصوب على التمييز، والاعادة لدفع توهم أنَّ المراد بالسابق الإحاطة بالأكثر فإنَّ الوهم يستبعد الإحاطة بالكل، والوظيفة ما يقدر لك في اليوم من طعام وغيره، والتوظيف تعيينها، والمُد كصُرد جمع مدة وهي الغاية من الزمان والبرهة من الدهر(7)وهو كالإعادة لتوقيت الآجال للتذكير فإنَّه من أعظم البواعث على التقوى، وقرار الشيء ما يقر فيه أي: يثبت(8)ويسكن(9)ويكون مصدراً، والخِبرة بالكسر العلم بالشيء، ويقال: خبرته خبره إذا بلوته [واختبرته](10)والإضافة
ص: 59
من قبيل(1)إضافة الظرف الى المظروف أو الشيء الى العلة الغائية في تكوينه ووضعه والمعنى في مقام اختبار(2)الله خلقه وتكليفهم أو(3)اختبارهم الأمور(4)الموجودة فيه واهتدائهم بها الى ما يستفاد منها أو(5)تحصيلهم العلم والمعرفة بما كلفوا به وبعاقبة أمرهم [ومصيرهم](6)، والعبرة بالكسر ما يتعظ به الانسان ويعمل به ويعتبره ليستدل به على غيره، والاضافة كالسابق (فَإِنَّ اَلدُّنْیَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا، یُونِقُ مَنْظَرُهَا، وَیُوبِقُ مَخْبَرُهَا) الرنق ككتف(7)الكدر، وقال الجوهري: (ماء رنْق بالتسكين: أي كدر)(8)وعيش رنِق يعني بالكسر أي كدر(9)، قال بعض الشَّارحين: وروي (رنْق) مشربها بالتسكين والرواية المشهورة رنِق بالكسر(10)، والمشرب يحتمل المحل والمصدر(11)ويطلق على الماء وفي الاسناد على بعض الوجوه تجوز، والمشرَع بفتح الراء مورد الشاربة، والمشرَع الردِغ بكسر الدال الذي كثر فيه الوحل والطين(12)، وقول بعض
ص: 60
الشارحين: (مشرعها محل الشروع في تناولها)(1)، ضعيف، والمراد شوب لذات الدنيا وسرورها بالمصائب والأمراض والهموم والأحزان، ويونق: أي يعجب(2)وأصل الواو الهمزة، ومنظر الشيء [ما](3)نظرت إليه منه فأعجبك أو سائك ويوبق أي: يهلك،(4)، ومخبر الشيء ما يعلم من حاله، تقول: خبرته إذا بلوته وأختبرته، والمراد حسن ظاهر الدنيا مع خبث بَاطِنِها (غُرُورٌ حَائِلٌ، وَضَوْءٌ آفِلٌ، [وَظِلٌّ](5)زَائِلٌ، وسِنَادٌ مَائِلٌ) الغرور بالضَّم مصدر قولك: غره، أي: (خدعه واطمعه بالباطل فاغتر)(6)، وقال بعض الشَّارحين: ويروى غرور بفتح الغين(7)وهو ما يخدعك(8)، وفسر الغرور(9)في قوله تعالى: «وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ))(10)بالشيطان(11)، والحائل فاعل من حال بمعنی تحول وانتقل فإنَّ الدنيا تغر الخلق بزخارفها فيتوهمون بقاءها ثم تنتقل ويتحول کما
ص: 61
ذكره بعض الشارحين(1)، أو من (الحيلولة)(2)فإنَّها تحول بين المرء وما خلق له، وأفل (أي: غاب)(3)والتشبيه بالضوء لحسن منظرها في أعين الغافلين، أو لأنَّهم يهتدون بها الى مسالك تحصيلها على ما قيل، والأول أظهر، وبالظل لأنّه يأوي أهلها الى نعيمها تخلصاً من حر بؤسها، والسِناد بالكسر ما يستند إليه، أي: يعتمد [عليه](4)، وقال بعض الشارحين: (دعامة يسند بها السقف)(5)، وميل السناد اشرافه على السقوط (حَتَّی إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا، وَاطْمَأَنَّ نَاکِرُهَا، قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وَقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا، وَأَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا) الأَنس بالفتح (خلاف الوحشة)(6)يقول (أنِس به بالكسر أُنساً، وفيه لغة أخرى أنست به أُنساً، مثل كفرت به کفراً)(7)، والفعل في النسخ بالكسر، والنافر من الدواب الذي فرّ وذهب، واطمأن أي: سكن، والناكر فاعل من نكرت الشيء كعلمته أي: جهلته وانكرته، أو من نکُر الأمر كکَرُم، أي: صعب وقمصت، أي: ضربت، وأصل القمص في الفرس وغيره (أن يرفع يديه ويطرحهما معاً ويعجن برجليه)(8)، والمراد بالأرجل أما الرجلان اطلاقاً للجمع على المثنى أو هما [...](9)اليدان، وقنصت بأحبلها أي: اصطادت بحبائلها، والمراد بها
ص: 62
بؤسها وضراؤها (واقصدت الرجل إذا اطعنته أو رميته بسهم فلم تخطِ(1)مقاتله)(2)وحاصل المعنی(3)على ما ذكره بعض الشارحين: أنَّ الدنيا تغر الناس (بضوئها)(4)وظلها وبهجة منظرها الى غاية أن يستأنس بها من كان بعقله نافراً عنها، ويطمئن إليها من كان بمقتضى فطرته منکراً لها، فإذا كان ذلك منه طوعاً [لها](5)فعلت به أفعال العدو والخدوع(6)، والقمص إشارة الى امتناعها على الانسان عند حضور أجله کالدابة التي دفعت(7)برجليها مدبرة عن صاحبها، والقنص إشارة الى الشدائد والمضائق المتعلقة / ظ 87 / بالمعاش التي يتعسر المخرج منها كحبائل الصائد، أو المصائب والأمراض والآلام، أو الوبال والنكال التابع للركون(8)إليها والاقتصاد الى الهلاك الدنيوي بالموت وغيره، أو الآخروي باتباع الشهوات فيها، ويحتمل أن (تكون)(9)كلمة (حتى) للتعليل فيكون التمكن من القمص والقنص وغيرهما كالعلة الغائية لما تضمنته الجمل السابقة من غرورها، وأن یکون المراد بنافرها وناكرها ما كان مدبراً من مطالبها فيكون المراد بیان تبدلها
ص: 63
وعدم استقرار الراحة والسرور فيها(1)(وَأَعْلَقَت(2)اَلْمَرْءَ أَوْهَاقَ اَلْمَنِیَّةِ، قَائِدَةً لَهُ إِلَی ضَنْكِ اَلْمَضْجَعِ، وَوَحْشَةِ اَلْمَرْجَعِ، وَمُعَایَنَةِ اَلْمَحَلِّ وَثَوَابِ اَلْعَمَلِ) (أعلق أظفاره في الشيء أي: أنشبها)(3)وأعلقت المرء الأوهاق، أي: جعلها(4)عالقة به، والأوهاق جمع وهَقَ بالتحريك وهو الحبل تشد به الإبل والخيل لئلا تند(5)، وأوهاق الموت أسبابه، و (الضنك: الضيق)(6)، والمَضجَع بالفتح مصدر ضجع کمنع، أي وضع جنبه(7)على الأرض، أو اسم مكان منه، والمرجِع بالكسر مصدر أو اسم مكان، والمحل محل الجزاء ودار القرار والثواب هاهنا يعم جزاء السعيد والشقي (وَکَذَلِكَ اَلْخَلفُ بِعَقْبِ اَلسَّلَفِ؛ لا تُقْلِعُ اَلْمَنِیَّهُ اِخْتِرَاماً وَلَا یَرْعَوِی الْبَاقُونَ اِجْتِرَاماً) (الخلف)(8)(القرن بعد القرن)(9)وكل من بقي بعد من مضى من الآباء والاقرباء وهو السلف، والعقْب بالتسكين (بمعنی بَعْد، يقال جئت بعقب فلان أي بعده)(10)كذا قال [بعض](11)الشارحين، والموجود فيما حضرنا من كتب اللغة أن العقْب بالتسكين
ص: 64
(الجري بعد الجري)(1)، وفي بعض النسخ يعقُب(2)السلف کیَنْصُر، أي: يتبع، وأقلع عن الأمر أي: كف وترك، والاخترام الاستئصال والاهلاك(3)أي: لا تترك المنية استئصالهم ولا يرعوي أي: لا ينكف ولا ينزجر(4)، وقيل: الارعواء الندم على الشيء والانصراف عنه، وتركه(5)، و(الجرم: الذنب)(6)والاجترام اکتسابه، أي: لا يرعوي الباقون عما هم عليه من اكتساب الآثام (یَحْتَذُونَ مِثَالاً، وَیَمْضُونَ أَرْسَالاً إِلَی غَایَةِ الاِنْتِهَاءِ،وَصَیُّورِ الْفَنَاءِ) [...](7)(احتذى مثاله أي: اقتدى به)(8)وأصله من حذوته إذا قعدت بحذائه(9)، أو من (حذوت)(10)النعل بالنعل إذا قدرت كل واحدة على صاحبتها((11)، والمثال صفة الشيء ومقداره، والأَرسال بفتح الهمزة جمع رسل بالتحريك وهو (القطيع من الإبل والغنم)(12)، أي: يمضون أفواجاً وفرقاً منقطعة
ص: 65
يتبع(1)بعضهم [بعضاً](2)، وصيور الأمر آخره وما يصير إليه.
(حَتَّی إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ، وَتَقَضَّتِ(3)الدُّهُورُ، وَأَزِفَ النُّشُورُ، أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ، وَأَوْکَارِ الطُّیُورِ، وَأَوْجِرَةَ السِّبَاعِ، وَمَطَارِحِ اَلْمَهالِكِ؛ سِراعاً إِلَی أَمْرِهِ، مُهْطِعِینَ إِلَی مَعَادِهِ) تصرمت أي: تقطعت وتفرقت(4)، [ونقضت](5)أي: انقضت وفنيت، وأزف کفرح أي: قرب ودنا(6)، والنشور أحياء الميت(7)، والضريح فعيل من الضرح وهو الشق في الأرض(8)، وأوكار الطيور أعشاشها(9)، والأوجرة جمع وِجار بالكسر وهو حجر السبع(10)وطرحه أي: رماه، (والاهطاع: الاسراع في العدو)(11)، والمعاد موضع الرجوع(12)ويحتمل المصدر والكلام نص في عود الأبدان بعد تصرمها وفنائها، وما حکاه بعض الشارحين(13)من التأويلات فمبني على نوع من الشك في أمر المعاد الجسماني الثابت بنص الكتاب والسنة والضرورة من الدين المبين.
ص: 66
(رَعِیلاً صُمُوتاً، قِیَاماً صُفُوفاً، یَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَیُسْمِعُهُمُ الدَّاعِی؛ عَلَیْهِمْ لَبُوسُ الاِسْتِکَانَةِ(1)وَضَرَعُ الاِسْتِسْلاَمِ وَالذِّلَّةِ) [و](2)الرعيل القطيع من الخيل(3)واسترعلت الغنم، أي: تتابعت في السير، قال بعض الشارحين: (رعيلاً أي: مجتمعين)(4)، وقال ابن الاثير: يقال: لجماعة الفرسان رعلة، وجماعة الخيل رعيل، ومنه حديث علي (عليه السلام) [...](5)سراعاً الى أمره رعيلاً أي: رکاباً على الخيل(6)، ولا يخفى بعده عن المقام، ويمكن أن یکون اشارة الى تتابعهم(7)في السير حين تسوقهم(8)الملائكة الى المحشر لا يستطيعون التفرق والخروج من رقة السوق كالقطيع من الخيل، أو الى ذهاب العقل عنهم وتحيرهم للخوف، والصموت جمع صامت ویکون مصدراً بمعنى السكوت(9)وسكوتهم للدهشة والخوف، وقياماً / و88 / أي: قائمين على أرجلهم لعدم الرخصة في القعود، أو للخوف(10)، والصفوف القوم المصطفون أي القائمون في الصف ولا يستلزم وحدة الصف ويكون الصفوف جمع صف واختلاف الاحوال باختلاف الحالات فبعضها في السوق وبعضها
ص: 67
بعده، وينفذهم(1)البصر أي [هم](2)مع كثرتهم لا يخفى منهم أحد عن ادراکه سبحانه فالبصر بصر الرحمن أو ينفذهم بصر الناظر من الخلق لاستواء الأرض واستقامة الصف ولا يبعد ازدياد قوة ابصار الخلائق يوم القيامة ويمكن ان يكون المراد بصر الملائكة الموكلين(3)بجمع الخلائق وهم المراد بالداعي على الظاهر وقول بعض الشارحين: (هو حكم القضاء عليهم بالعود واسماعهم عموم ذلك الحكم لهم)(4)في غاية البعد، واللبوس وما يلبس، واستكان أي: (خضع وذل)(5)، وهو افتعل من المسكنة اشبعت حركة عينه، والضرع بالتحريك الخشوع والضعف والاستسلام الانقياد(6). (قَدْ ضَلَّتِ الْحِیَلُ، وَانْقَطَعَ الْأَمَلُ، وَهَوَتِ الْأَفْئِدَةُ کَاظِمَةً، وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَیْنِمَةً، وَأَلْجَمَ اَلْعَرَقُ، وَعَظُمَ الشَّفَقُ) الحيلة جودة النظر والقدرة على التصرف(7)، وضلالها عدم اهتدائها إلى المطلوب أو ضلت أي: ضاعت وخفيت(8)وغابت وذلك لغلبة اليأس من الخلاص وشدة الخوف؛ ولذلك انقطع الأمل وهو الرجاء، ويمكن أن يكون المراد حیل الدنيا وآمالها، وهوت الافئدة أي: سقطت القلوب فلا تميل الى مآربها أو خلت من السرور والطمع في النجاة أو من العقول أو من كلّ شيء فزعاً وخوفاً کما قيل في قوله
ص: 68
تعالى: «وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ»(1)[أو](2)ارتفعت عن مواضعها الى الحناجر کما اشار اليه سبحانه بقوله: «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ»(3)والكَظْم الامساك على ما في القلب(4)، ومنه كَظْمُ الغيظ وأصله كظم البعير على جرته وهو تردیده إياها في حلقه(5)، والمراد صمتهم عن آمالهم للرعب والخوف والخشوع والخضوع، وقيل الأول في الصوت والثاني في البدن(6)وفيه إشارة الى قوله تعالى: «وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا»(7)والهيمنة(8)(الكلام الخفي لا يفهم)(9)، والمهينمة(10)ذات الهينمة، والجم العرق أي: وصل الى أفواههم فصار لهم بمنزلة اللجام، أو منعهم عن الكلام لكثرته ونزوله الى الأفواه، ولعلَّ الأول أظهر لفظاً(11)، والشَفق: بالتحريك الخوف)(12). (وَأُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ، لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَی فَصْلِ الْخِطَابِ وَمُقَایَضَةِ الْجَزَاءِ، وَنَکَالِ الْعِقَابِ، وَنَوالِ الثَّوَابِ) أرْعِدَتْ الأسماع على صيغة الماضي المجهول، أي: أخذتها الرَّعدة بالكسر والفتح وهي الاسم من الارتعاد أي:
ص: 69
الاضطراب وتخصيصها بالإسماع لحدوثها من صوت الملك، وزبرة الدّاعي صوته على وجه الزجر والدفع(1)، وفصل الخطاب الفرق بين الحق والباطل واحقاق الحقوق، والمقايضة المعاوضة والمبادلة ومقايضة(2)الجزاء لا ينافي مضاعفة الحسنات تفضلاً، والنَكال بالفتح العقوبة التي تنكل الناس أي: تمنعهم عن فعل ما جعلت له جزاء(3)، والنوال العطاء، والكلام صريح في حشر الاجسام الثابت بالضرورة من دين الاسلام، وایراد التأويلات البعيدة کما وقع لبعض الشَّارحین(4)يشعر بالشك والارتياب. (عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً، وَمَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً، وَمَقْبُوضُونَ اخْتِضَاراً، وَمُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً، وَکَائِنُونَ رُفَاتاً، وَمُبْعوثُونَ أَفْرَاداً، وَمَدِینُونَ جَزاءً، ومُمَیَّزُونَ حِسَاباً) رفع كلمة عباد بالخبرية لمحذوف، والاقتدار القدرة، وقيل المقتدر أبلغ من القدير(5)وهو مبالغة في القادر، والمربوب المملوك، والاقتسار والقسر القهر والغلبة وفي الوصفين دفع لاستبعاد الحشر وزجر عن العصيان والقبض باليد الامساك والتناول والاحتضار الحضور والمراد حضور الموت أو الملائكة الموكلين يقبض الأرواح والحضور في المحشر لا يناسب الترتيب وتضمين الشيء وعاءً جعله فيه، والجَدَث بالتحريك (القبر)(6)والرُّفات بالضم (الحطام)(7)وهو
ص: 70
ما تكَسر من اليبس(1)، يقال: رفته کنصره وضربه أي: كسره ودقه ورفت الشيء أي: انكسر واندق لازم، متعد، والبعث الارسال وبعثه من منامه ايقظه، وفي أسماء الله الباعث؛ لأنه يبعث الخلق أي: يحييهم بعد الموت وكأنَّه من البعث من المنام، أو لأنَّه يرسلهم الى المحشر، والافراد جمع فرد وهو المنفرد وانفراد الخلق حين(2)البعث؛ لتفرقهم في الأرض وتباعد أكثر قبورهم فليس معهم أتباعهم وأنصارهم وأهلهم وأولادهم، أو لأنه لا يهتم أحد إلا بأمر نفسه فلا يغني مولى عن مولى شيئاً وإن صاحبه ورافقه في البعث والمحشر، أو لأنَّه لا يكون معهم أهلهم ومالهم، والدين الجزاء فجزاء مصدر انتصب من غير فعله ويمكن أن يكون الدين بمعنى القهر والغلبة والتمييز أما بمحاسبة كلّ أحد على حدّه أو بإحصائهم بحيث لا يفوت منهم أحد کما قال سبحانه: «لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا»(3)[على ](4)ما ذكره بعض الشَّارحين(5)فانتصاب حساباً بالمصدرية أو بتمييز المجرمين كما قال سبحانه: «وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ»(6)على ما ذكره بعضهم(7)/ ظ 88 / (قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ، وَهُدُوا سَبِیلَ الْمَنْهَجِ(8)،وَعُمِّرُوا مَهَلَ اَلْمُسْتَعْتَبِ،
ص: 71
وَکشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّیَبِ) الغرض(1)بیان تمام الحجة على العباد في دار الدنيا، والامهال التأخير واعطاء المهلة، والمخرج الخروج عن ربقة الذل التابع للمعصية أو محله، والمراد به التوبة وفعل الطاعات المكفرة(2)للسيئات، والمنهج (الطريق الواضح)(3)، والاضافة للمبالغة أو على التجريد أو لتنزيل أسباب الهداية الخاصة بكل أحد منزلة الطرق المتشعبة من معظم الطريق، والمهل بالتحريك السكينة والرفق والتؤدة والاسم منه المُهملة بالضّم ویکون بمعنى التقدم في الخير، والعُتبی بالضَّم الرضا والرجوع عن الذنب والاساءة(4)، والاستيعاب(5)طلب العتبی تقول(6): منه استعتبت فلاناً إذا طلبت اليه أن يرضى عنك، ويقال: استعتبته أي: أعطاه العتبی ورضي عنه(7)، ولعلَّ المعنى عمروا مدَّة لأنَ يطلبوا رضاه الله سبحانه بالرجوع عن الاساءة والتوبة، فالمستعتب مصدر بمعنى الاستعتاب وعلى هذا يمكن أن يكون المهل بمعنى التقدم في الخير، أو المستعتب من أعطى الرضا عل صيغة الماضي المجهول أي: عمرهم الله ولم يأخذهم بأعمالهم؛ لأنَّ يعطيهم الرضا ويعفو عنهم لو تابوا ورجعوا عن عصيانه وانتصاب المهل على المصدرية على الظاهر لأنَّ التعمير في المعنى الامهال، وقال بعض الشَّارحين: (المستعتب(8)
ص: 72
المسترضى)(1)ولما كان من يطلب استعتابه ويقصد رجوعه عن غيّه يمهل ويداري طويلاً كانت مهلة الله سبحانه لخلقه مدّة أعمارهم ليرجعوا الى طاعته ويعملوا صالحاً يشبه ذلك فنزلت منزلته ويرد عليه أن المستعتب على صيغة المفعول من يطلب رضاه وهو الله سبحانه لا العبد اللهم إلاَّ أنَّ يجعل المستعتب والمسترضي مصدرين، والسُّدفة من الاضداد يكون بمعنى الظلمة والضياء(2)، وقيل: (هي اختلاط الضوء والظلمة معاً كوقت ما بين طلوع الفجر الى الاسفار)(3)ولا يخلوا عن مناسبة لمعنى الريّب وهو الشك، وقيل أسوء الشك، وقال بعض الشارحين: الريَّب الشبه(4)جمع [ريبة](5)وفساده واضح، وكشف سدف الرَّيب إزالة ظلم الشكوك والأوهام عن أبصار بصائر الخلق بأرسال الرّسل وإقامة الحج-ج الواضحة. (وَخُلُّوا لِمِضْمارِ الْجِیَادِ، وَرَوِیَّةِ الاِرْتِیَادِ، وَأَنَاةِ اَلْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ، فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ، وَمُضْطَرَبِ اَلْمَهَلِ) خلاّه للأمر تركه له، والمضار مدّة تضمير الفرس وهو أن يعلف حتى يسمن ثمّ يرد الى قوته الأوّل ليخف لحمه وذلك في أربعين يوماً ويطلق على تجويعه حتّى يهزل ويخفّ لحمه(6)، ويكون المضمار بمعنى غاية الفرس في السّباق، والموضع
ص: 73
الذي يضمر فيه(1)، والجياد جمع جواد وهو الفرس الرّائع الجيد(2)، ومضمار الخلق أعمارهم التّي يتمكنون(3)فيها من الطاعة - وروّيت في الأمر بالتّشديد نظرت وفكرت، والاسم الروّية)(4)والارتياد (الطّلب)(5)والأناة كقناة التؤدة والانتظار(6)، واقتباس النَّار الأخذ من شعلتها واقتباس العلم أي: التّعلم مأخوذ منه، والاقتباس لا يكون إلاَّ بمهلة وانتظار، والمرتاد الطّالب، والأجل المدّة ويكون بمعنی غایتها، والمضطرب موضع الاضطراب وهو التّحرك والاضافة أمَّا بيانية أو لاميّة كأن المهل متّحرك في مدة العمر، ويمكن أن يجعل المضطرب مصدراً فيكون معطوفاً على(7)الأجل دون المُدّة. (فَیَالَهَا أَمْثَالاً صَائِبَةً، وَمَوَاعِظَ شَافِیَةً، لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاکِیَةً، وَأَسْمَاعاً وَاعِیَةً، وَآراءً(8)عَازِمَةً(9)، وَأَلْبَاباً حَازِمَةً!) النداء للتعجب ولما كان المتعجب منه خصّ من بين أمثاله بالاستحضار لغرابته ادخلت عليه اللام والضمير مبهُم يفسره ما بعده، والمثل بالتّحريك في الأصل الشبه والنظير(10)واستعير لكلّ حال أو قصة لها شأن وفيها غرابة، والصّائبة غير العادلة عن الصّواب، ووعظه عظةً
ص: 74
وموعظة ذكره مایلین به قلبه، ولعلّ المراد بالأمثال والمواعظ ما ظهر من الكلمات السّابقة، وصادفه وجده ولقيه(1)، والزّكاة الطّهارة والنّماء والبركة(2)وزکی الرّجل صلح، ووعيت الحديث حفظته وفهمته و(الآرْاء)(3)بفتح الهمزة وسكون الرّاء جمع رأي وهو الاعتقاد ورأيت رأياً إذا نظرت بعينك أو بقلبك، والعزم الجد في الأمر والصبر والثّبات(4)، واللّب بالضّم (العقل)(5)، والحزم ضَبْط الأمر والأخذ فيه بالثقة، والحذر من فواته، ويقال: حزمت الشيء أي: شددته. (فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِیَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ، وَاقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ، وَوَجِلَ فَعَمِلَ، وَحَاذَرَ فَبَادَرَ، وَأَیْقَنَ فَأَحْسَنَ، وَعُبِّرَ فَاعْتَبَرَ، وَحُذِّرَ فَازْدَجَرَ(6)) التقية والتُّقى بالضم الحذر(7)، (والاسم التقوى)(8)، والخشوع الخشية و(الخضوع)(9)، والاقتراف الاكتساب)(10)واقترف الذنّب أتاه وفعله أي: أن ارتكب معصية اعترف بها وأناب الى الله، والوجل (الخوف)(11)تقول(12):
ص: 75
وجل كفرح، والحذر الاحتراز، أي: حاذر(1)عقاب رّبه فبادر الى طاعته قال الله تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ»(2)وأيقن أي: بالموت ولقاء الله فأحسن عمله وعبر أي: أُرِيَ العبر وهي ما يعتبر به الانسان / و89 / ويستدّل به على غيره ويتعظ فاعتبر واتعظ، والتحذير التخويف، وازدجر [أي: قبل الزَّجر وهو المنع ويكون ازدجر بمعنى زجر کما يكون مطاوعاً له، وفي بعض الرّوايات وازدجر فازدجر وهي مطابقة لهذا الاستعمال (وَأَجَابَ فَأَنَابَ، وَرَاجَعَ فَتَابَ، وَاقْتَدَی فَاحْتَذَی وَأُرِیَ فَرَأَی) الإنابة الرجوع الى الله تعالى بالتوبة وإصلاح العمل، ويمكن أن يكون المعنى أجاب داعي الله وآمن به، فرجع إليه بباطن أمره وامتثل أوامره(3)ونواهيه، والمراجعة أما ترك المناهي والتوبة الندم والعزم على عدم ارتكاب المعاصي وفعل الطاعات، أو المراجعة محاسبة النفس والنظر الى عاقبة الأمر في الطاعة والمعصية، أو مراجعة العقل والعمل بما يقتضيه، واقتدى أي: بأنبياء الله وأوصيائهم فاحتذى أي: حذا حذوهم وتابعهم في الأعمال والأقوال(4)،وارى أي: طريق الحق فعمل بما يقتضيه الاراءة وسلكه ولم يعدل عنه. (فَأَسْرَعَ طَالِباً، وَنَجَا هَارِباً؛ فَأَفَادَ ذَخِیرَةً، وَأطاب سَرِیرَةً، وعمَّرَ مَعاداً، واسْتَظْهَرَ زَاداً، لِیَوْمِ رَحِیلِهِ، وَوَجْهِ سَبِیلِهِ، وحالِ حَاجَتِهِ، وَمَوْطِنِ فَاقَتِهِ وَقَدَّمَ أمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ) الاسراع في طلب الثواب والنجاة والخلاص في الهرب من العقاب والإفادة من الاضداد،
ص: 76
يقال: أفدت المال أي: استفدته(1)وأعطيته(2)، والذخيرة المختار النفيس، والاطابة(3)التطهير(4)والسريرة(5)مایکتم والاطابة(6)تطهير الباطن من الشرك والشك والذمائم، وعمر المكان كنصر جعله أهلا، والمعاد المرجع والمصير، واستظهره حفظه واستظهر به استعان، والرحيل اسم ارتحال القوم عن المنزل ووجه كل شيء مستقبله، والمُقام بالضم الاقامة ويكون للموضع کالمَقام بالفتح. (فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهَ جِهَةَ مَا خَلَقَکُمْ لَهُ، وَاحْذَرُوا مِنْهُ کُنْهَ مَا حَذَّرَکُمْ مِنْ نَفْسِهِ، واسْتَحِقُّوا مِنْهُ ما أعَدَّ لَکُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِیعادَهِ، والْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ) الجهة الجانب والناحية وما خلق الله العباد له العبادة كما قال عز وجل: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(7)وانتصاب الكلمة أما بفعل مقدر](8)، أي: اتقوا الله وأقصدوا جهة ما خلقكم له، والتقوى
ص: 77
ملزوم لقصد العبادة فيدل المذكور على المحذوف، وأما على الظرفية أي: اجعلوا تقواكم في تلك الجهة أي: نظراً الى تلك الجهة لا للرياء والسمعة على ما ذكره بعض الشارحين(1)وكنه الشيء حقيقته وقدره وغایته واستحقاق ما أعد الله إنما يحصل بالعبادة وامتثال الأوامر والنواهي ومرجعه الى فعل الطاعات وعمل الصالحات التي وعد الله بها الثواب، وترك المحرمات التي يستحق بها العقاب، فالأول هو التنجز لصدق الميعاد، والثاني هو الحذر من هول المعاد، وتنجز الوعد سؤال انجازه أي: الوفاء به، ويقال: فلان يتنجز(2)الحاجة أي: يستنجحها أو(3)يطلب تعجيلها(4)، والمراد بصدق میعاده
ص: 78
تحققه وخروجه من القوة الى الفعل وميعاده قوله: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا»(1)وأمثاله والحذر بالجر معطوف على التنجز.
[منها](2)أي: من هذه الخطبة والظاهر أن الفصل للحذف(جَعَلَ لَکُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِي ما عَنَاهَا، وَأَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشاها، وَأَشْلَاءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا(3)) وعاه يعيه حفظه وجمعه وعناه الأمر [يعنيه](4)ويعنوه أهمه، والعشى بالفتح والقصر سوء البصر بالليل والنهار أو بالليل أو العمى، وتجلو أي: تكشف ولعله أقيم المجلو مقام [المجلو](5)عنه والتقدير لتجلو عن قواها عشاها كذا قال بعض الشارحين(6)، وقال بعضهم: كلمة (عن) زائدة أو بمعنى(بعد)(7)والمفعول محذوف والتقدير لتجلو الأذى بعد عشاها(8)وفيه بعد، والمراد جلا العشا عن البصر الظاهر بأن ينظر الى ما يعتبر به، أو عن بصر البصيرة والقلب بأن يفرق بين النافع والضار، والاشلاء جمع شِلو بالكسر وهو (العضو)(9)وفسره في القاموس ب(الجسد)(10)أيضا، وجمعها
ص: 79
للأعضاء على الثاني واضح، وعلى الأول يمكن حملها على الأعضاء الظاهرة الجامعة للباطنة كما قال بعض الشارحين(1). (مُلاَئِمةً لأِحْنَائِهَا فِي تَرْکِیبِ صُوَرِهَا وَمُدَدِ عُمُرِهَا، بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِها، وَقُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا، في مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ، وَمُوجِبَاتِ مِنَنِهِ، وَحَوَاجِزِ عَافِیَتِهِ) الملائمة الموافقة والاحناء جمع حِنو بالكسر وهو الجانب، وقال في النهاية: (ملائمة لأحنائها أي: معاطفها)(2)والغرض الاشارة الى الحكم والمصالح المرعية في تركيب الأعضاء وترتيبها وجعل كل منها في موضع يليق بها كما بين بعضها في / ظ 89 / علم التشريح، والظرف متعلق بالملائمة، وقال بعض الشارحين: كأنَّه قال: مركبة أو مصورة، فأتی بلفظه (في) کما تقول(3): ركب في سلاحه وبسلاحه أي متسلحا(4)، والأرفاق جمع رفق بالكسر وهو المنفعة(5)وفي القاموس هو (ما استعين به)(6)والأرفاق على هذا عبارة عن الأعضاء وسائر ما يستعين به الانسان، والباء للاستعانة، أو السبية بخلاف الأول، وروی (بأرماقها) والرمق (بقية الروح)(7)، والظرف أعني بأبدان متعلق [](8)والرود کالارتياد الطلب، ومنه ((الرّائد لا يكذب أهله))(9)أي: الذي يبعثه القوم أمامهم ليرود
ص: 80
لهم الكلاء والماء، ومجالات النعم على صيغة الفاعل هي التي تجلل الناس تغطيهم وتلبسهم الروح والراحة كما يتجلل الرجل بالثوب الشامل، ومنه السحاب المجلل أي: الذي يجلل الأرض بمائه أو بنباته کما يجلل الفرس(1)، وقيل: مجللات النعم التي تجلل الناس أي تعمهم من قولهم: سحاب مجلل أي الذي يطبق(2)الأرض(3)وفيه تأمل، وقال بعض الشارحين: من مجللات نعمه ستره عليهم قبائح أعمالهم أن يظهر وهو أحبس خواطرهم بعضهم لبعض بحيث لو اطلع كل على ما [ في ](4)ضمير صاحبه من الغل والحسد لأفنى بعضهم بعضاً، وخرب نظام وجودهم(5)، والظرف متعلق بمحذوف والموضع نصب على الحال، والمنن جمع منة وهي تستعمل بمعنى النعمة(6)، وتستعمل(7)كثيرا في التي تفسد الصنيعة(8)أي التي يعتد بها صاحبه ويظهرها للناس، أو يطلب الجزاء عليها، ويستعمل المن أيضا في هذا المعنی کما قال سبحانه: «لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى»(9)، والمراد بموجبات المنن على
ص: 81
صيغة الفاعل أما النعم التي توجب الشكر، أو التي لعظمها يستحق أن يعتد بها المعطى وإن لم يعتد(1)سبحانه بها، ولا يبعد أن يكون ذلك الاعتداد غیر مذموم في حقه سبحانه وإن كان مذموماً في حق غيره کالعظمة والكبرياء، وقال بعض الشارحين: من روی (موجَبات مننه) بفتح الجيم فالمراد ماسقط من نعمه وأفيض على العباد(2)وهو من الوجوب بمعنى السقوط، ويمكن أن يكون بمعنى النعم التي أوجبها الله سبحانه على نفسه لكونه الجواد المطلق، والحواجز الموانع، وحواجز العافية: ماتمنع(3)المضار وتدفعها(4)، وقال بعض الشارحين: قد فسر حواجز العافية بما يحجزها ويمنعها عن الزوال والعدم(5)، والأظهر أنها كالسابقتين صفة مضافة الى موصوفها أو یروی حواجز بلیته أي: ما يمنعها ويدفعها (وقَدَّرَ لَکُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْکُمْ، وَخَلَّفَ لَکُمْ عِبَراً مِنَ آثَارِ الْمَاضِینَ قَبْلَکُمْ، مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ، وَمُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ) قدر الأعمار أي جعل لها قدرا مخصوصا، أو حكم بانتهائها إلى حد معين والامتنان بستر الأعمار لكون الاطلاع عليها واشتغال الخاطر بخوف الموت مما يبطل نظام الدنيا والتعيش فيها ويمكن أن يكون الغرض بیان حقيقة الحال وتنبيه الغافل عن انقضاء العمر لستر حده وانتهائه، وخلف العبر أي: ابقاها بعد ارتحال الماضين كأنَّها خليفة لهم، والعبرة ما يعتبره
ص: 82
الانسان ويتعظ به، وآثر الشيء بقيته(1)، والمتاع المنفعة، والمستمتع على صيغة المفعول ما ينتفع به(2)، يقال: استمتعت بكذا، وتمتعت به بمعنی، والخلاق بالفتح (النصيب)(3)، قال الله تعالى(4): «فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ»(5)، والفُسحة بالضم (السعة)(6)وخنقه إذا عصر حلقه، والخِناق بالكسر ما يخنق به [من حبل](7)أو وتر ونحوهما(8)، ومستفسح خناقهم مدة إمهالهم في الدنيا. (أَرْهَقَتْهُمُ(9)الْمَنَایَا دُونَ الآمَالِ، وَشَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرَّمُ الآجَالِ، لَمْ یَمْهَدُوا في سَلَامَةِ الأبْدَانِ، وَلَمْ یَعْتَبِرُوا في أُنُفِ الاْوَانِ) المرهق على صيغة المفعول من باب الأفعال الذي أدرك ليقتل، وأرهقتهم المنايا أي: أدركتهم مسرعة، والمنايا جمع منية وهي الموت سمی بها لأنَّها مقدرة من قولهم: منی له كذا أي: قدر، وهذا دون ذاك أي:، اقرب منه، والمعنى: قبل وصولهم الى آمالهم، وشد بهم أي: طردهم وقطعهم وفرقهم وتخرمتهم(10)المنية أي: قطعتهم واستأصلتهم وأخذتهم، وتمهيد الأمر تسويته وإصلاحه، والأنف والأُنُف بضمتين أول
ص: 83
الأمر(1)، يقال: روضةٌ أنُف، إذا لم يرعها أحد(2)، (وكأس أنف إذا لم يشرب بها قبل ذلك، كأنَّه استؤنف شربها)(3)(والأوان: الحين والزمان)(4)، والمعنى قصروا في إصلاح معادهم حيث أمكنهم ذلك في سلامة الأبدان وامتداد الزمان. (فَهَلْ یَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ / و90 / إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ، وَأَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ، وَأَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ) البَضاضة بفتح الباء الموحد (رقة اللون وصفاؤه الذي يؤثر فيه أدنى شيء)(5)وليست من البياض خاصته بل من رخوصة(6)الجسد وكونه ناعما ممتلياً، والشَباب بفتح الشين الحداثة، وكذلك جمع شاب، والحواني جمع حانية وهي العلة التي تحني(7)الظهر وغيره وتميله عن الاستقامة(8)، والهرم بالتحريك (كبر السن)(9)، وقيل: أقصى الكبر، والغَضارة بالفتح: طيب العيش والسعة والنعمة والخصب(10)، والنازلة الشديدة من شدائد الدهر تنزل بالناس، والآونة جمع أوان وهو الحين والزمان والانتظار في المواضع عبارة عن الانتهاء وكون اللواحق غايات للسوابق (مَعَ قُرْبِ الزِّیَالِ، وَأُزُوفِ الاِنْتِقَالِ، وَعَلَزِ
ص: 84
الْقَلَقِ، وأَلَمِ الْمَضَضِ، وغُصَصِ الْجَرَضِ، وَتَلَفُّتِ الِاسْتِغَاثَةِ(1)بِنُصَرْةِ الْحَفَدَةِ وَالْأَقْرِبَاء، والْأَعِزَّة وَالْقُرَنَاءِ) الزِّيال(2)بالکسر المزايلة(3)وهي (المفارقة)(4)، والأُزوف القرب والدنوّ(5)، والظرف متعلق بالانتظار أي: بضاضة الشباب مع أنها تنتهي الى حواني الهرم ليست لها مدة طويلة تطيب بها النفس ولا عيش رغيد خال عن الآلام، وكذلك الصحة والبقاء والعلز بالتحريك خفة وهلع يصيب المريض والمحتضر والاسير والحريص(6)، والقلق الانزعاج وعدم الاستقرار، والمضض بالتحريك وجع المصيبة ومضة الشيء وامضه بلغ من قلبه الحزن به وغَصصت بالماء بالفتح والكسر(7)غصصاً بالتحريك إذا شرقت به ووقف في حلقك(8)فلم تكد تسيغه، وجرض بریقه کفرح، ابتلعه بالجهد على هم وحزن(9)، وقال ابن الاثير في النهاية في شرح قوله (عليه السلام): (الجَرض بالتحريك أن تبلغ الروح الحلق)(10)، والتلفت أبلغ من الالتفات، والباء في (بنصرة الحفدة) متعلق بالاستغاثة، أو بالتلفت(11)
ص: 85
فيكون بمعنى (الى) [...](1)[و](2)اضافة التلفت تفيد الملابسة والحفدة الأعوان والخدم، وقيل: أولاد الأولاد، وقيل: البنات وأولاد الأولاد والاصهار، والعز خلاف الذل، وعززت عليه كضربت أي: کرمت. (فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ، أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ، وَقَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأمْوَاتِ رَهِیناً، وَفِي ضِیقِ الْمَضْجَعِ وَحِیداً) مفعول الدفع محذوف أي: هل دفعت الأقارب شيئاً من المضار والمحذورات، والنواحب جمع ناحية، والنحب والنحيب (أشد البكاء)(3)، وفي بعض الروايات (النوادب) والنُدبة بالضم اسم من ندب الميت أي: (بکاه وعدد محاسنه)(4)، والمغادرة الترك وغودر، أي: ترك والمحلة منزل القوم، والرهين المرهون والجملة في موضع الحال عن الدفع والنفع والمراد بكونه مرهوناً اما اقامته في محلة الاموات بحيث لا يمكن له الخلاص والخروج منها وأما كونه موثوقاً بذنوبه کالرهن الذي لا يمكن استيفاؤه الاّ بأداء الدين والمَضجع [بالفتح](5)موضع الضجع والاضطجاع أي وضع الجنب على الأرض أو النوم [...](6)الوحيد المنفرد (قَدْ هَتَکَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ، وَأَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ، وَعَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثارَهُ، وَمَحَا الْحَدثَانُ مَعالِمَهُ) هتك الستر وغيره جذبه فقطعه [من](7)موضعه أو شق منه جزءا فبدا ما وراءه والمراد
ص: 86
الخرق، والهامة كل ما يدب من الحيوان كالحشرات، وقيل: هي كل ذات سم يقتل، فأما مايسم ولا يقتل فهو السامة كالعقرب والزنبور(1)، والجِلدة بالكسر، وبلي الثوب أي: خلق وأبلته اخلقته، والنهك (المبالغة في كل شيء)(2)، ونهك الطعام أي: بالغ في أكله، ونهك الضرع(3)استوفي [جميع](4)ما فيه(5)وجد الشيء جِدة بالكسر أي: صار جديدا، وعفت الريح المنزل درسته، وعفا المنزل يعفو درس يتعدى ولا يتعدى(6)، وعصفت الريح: اشتدت، والمحو: ازالة الأثر والحدثان(7)[بالتحريك مصدر بمعنى الحادثة على ما ذكره بعض الافاضل قال وليس تثنية الحدث بمعنى الليل والنهار کما يتوهم ولذا يقال: طوارق الحدثان دون الحدثين، نعم قد يطلق عليهما انتهى ولم نجده فيما حضرنا من كتب اللغة](8)ومعالم الشيء اثاره، وما جعل علامة له ويستدل به عليه (وَصَارَتِ الْأجْسَادُ شَجِبَةً(9)بَعْدَ بَضَّتِهَا، وَالْعِظامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا، وَالْأرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبائِها، مُوقِنَةً بِغَیْبِ أَنْبائِهَا، لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ
ص: 87
عَمَلِهَا، وَلَا یُسْتَعْتَبُ مِنْ سَیيِّءِ(1)زَلَلِها(2)) الشجبة(3)الهالكة(4)، يقال: شجب الرجل كفرح ونصر وشجبه الله يتعدى ولا يتعدى، وبضتها / ظ 90 / دقة لونها وصفاؤها [وامتلاؤها](5)والنخرة (البالية)(6)وارتهن الشيء أخذه رهناً وكل ما احتبس به شيء فرهين ومرتهن، والأعباء(7)جمع عِبء بالكسر وهو (الحمل)(8)بالكسر والثقل، وأعباء الأرواح ذنوبها وآثامها، والمراد بغيب أنبائها ما صارت اليه من جنة أو نار أي: أيقنت بما كان غائباً عنها قبل موتها على ما ذكره بعض الشارحين(9)أو المراد غيبة أحوالها وما صارت اليه عن أهل الدنيا، أو غيبة أخبار ما خلفته في الدنيا من الأولاد وغيرها عنها لانقطاعها عن الدنيا على ما ذكره بعضهم(10)، وعدم استزادتها من صالح العمل لأنَّ الآخرة ليست بدار تکلیف فلا يكلف أحد بعمل صالح كما أنه لا يطلب من أحد التوبة من عمل قبیح وهو المراد بالاستعتاب وقد مر تفسيره في شرح هذه الخطبة، وزللت كمللت زللاً بالتحريك أي: زلقت في
ص: 88
طين أو منطق وسيء الزلل قبائح الذنوب (أَوَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ(1)الْقَوْمِ والْآبَاءَ، وَإِخْوَانَهُمْ الْأقْرِبَاءَ، تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ، وَتَرْکَبُونَ قِدذَّتَهُمْ وَتَطَأوُنَ جَادَّتَهُمْ) أقرِباء الرجل بكسر الراء عشيرته الأدنون(2)، والأمثلة جمع مِثال بالکسر وهو شبيه الشيء ومقداره، واحتذى مثاله أي: اقتدى به، والقِدة بالكسر والدال المهملة (الطريقة)(3)کما في بعض النسخ(4)وفي بعضها (القُذة) بالضم والذال المعجمة [ المشددة](5)الواحدة من قذذ السهم، يقال: (حذو القذة بالقذة)(6)أي يقتفون آثارهم ويصيبكم ما أصابهم من مفارقة الدنيا ومقاساة شدائد الموت وما بعده مما سبق وليس المراد ما في كلام بعض الشارحين(7)أنكم تقتدون بهم في أفعالهم وتسلكون مسالكهم في غرورهم كما قال تعالى: «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ»(8)والجادة معظم الطريق وفيها دلالة على كثرة المارة. (فَالْقُلُوبُ قَاسِیَةٌ عَنْ حَظِّهَا، لَاهِیَةٌ عَنْ رُشْدِهَا، سَالِکَةٌ فِي غَیْرِ مِضْمَارِهَا کَأَنَّ الْمَعْنِیَّ سِوَاهَا، وَکَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْیَاهَا) قسی القلب غلظ وصلب والتعدية بعن على تضمين الاعراض ونحوه، ولهيت عن الشيء کرضيت أي: تركت ذكره وأعرضت عنه وسلوت
ص: 89
عنه، والرُشد بالضم الاهتداء خلاف الغي(1)، وقيل: هو حسن التصرف في الأمر واجراؤه على حسن العاقبة، والمضمار مدة تضمير الفرس ومکانه(2)وغاية السباق کما سبق وفسر بالميدان وهو الأنسب هاهنا، والمعني بالتشديد كما في النسخ المراد والمقصود کالمعنيی بالتخفيف أي: كأن المأمور والمنهيُّ في أوامر الله ونواهيه والمخاطب بالمواعظ والزواجر والوعد والوعيد غير تلك القلوب وهذا الكلام مثل قوله (عليه السلام) (كَأَنَّ الْمَوْتَ فْيِهَا عَلى غَيْرِنا كُتِبَ وكأَنّ الْحق فِيهَا عَلى غَيْرِنَا وَجَبَ) وسيجئ هذا الكلام في آواخر الكتاب ونسبه بعض الشارحين(3)الى النبي (صلى الله عليه واله) والرشد الاهتداء خلاف الغي والإحراز الجمع وحرزه (حفظه)(4)، وقيل: (هو ابدال والأصل حرسه)(5)، (وَأعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلىَ الصرِّاطِ وَمَزَالِقِ دَحْضِهِ(6)، وَأَهَاوِيلِ زللهِ(7)، وَتَارَاتِ أَهْوَالِهِ) المجاز مصدر کالجواز أي: السير والسلوك(8)، والصراط جسر جهنم [یمر](9)عليه(10)جميع الخلق وبهذا المرور فسر الورود
ص: 90
في قوله [سبحانه](1): «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا»(2)، والأخبار به عن النبي (صلى الله عليه واله) والأئمة (عليهم السلام) متواترة وقد ورد أنه أدق من الشعر وأحد من السيف وإن من الناس من يمر عليه كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر(3)کالریح الهابه، ومنهم من يمر كالجواد، ومنهم من يجر(4)رجليه ويتعلق بيديه، ومنهم من يخر في جهنم على وجهه وروي أن النبي (صلى الله عليه واله) قال لعلي (عليه السلام): ((يا علي إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرائیل (عليه السلام) على الصراط فلا يجوز على الصراط إلاَّ من كانت معه براءة بولايتك))(5)وعبر عن الحجج (عليهم السلام) بالصراط؛ لأن من عرفهم في الدنيا وأطاعهم أعطاه الله جوازا على الصراط الممدود على متن جهنم وما حكاه بعض الشارحين(6)عن الحكماء ومال اليه من تأويل الصراط بالوسط بين طرفي التفريط والافراط کالسخاوة بين التبذير والبخل والشجاعة بين التهور والجبن الى غير ذلك ففي معنى الانكار لما علم من الدين ضرورة فإنَّ الإيمان ليس مجرد الإذعان بالألفاظ وإنما / و91 / هو التصديق بالمعاني، وهذا التأويل من فروع انکار المعاد الجسماني، والمزلق
ص: 91
المكان الذي تزل فيه القدم ولا تثبت، والدحض (الزلق)(1)ومكان دحض ودحْض بالتسكين والتحريك أي: زلق والأهاويل جمع أهوال جمع هول وهي الأمور المفزعة وتارات الأهوال دفعاتها يقال: فعل ذلك تارة بعد تارة أي: مرة بعد مرة والجمع تارات وتيراً، ولعل تعددها لتعدد ما يشاهد من الأمور المفزعة في الجحيم شيئا بعد شيء (فَاتَّقُوا الله(2)تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ، وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ، وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ، وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ) التقية الحذر كالتُقاة بالضم، واللب العقل، والتفكر الشاغل عن الدنيا هو التفكر في المرجع والمعاد وأنصب أي: أتعب(3)، وسهِر کفرح لم ينم لیلًا، وأسهره منعه من النوم، والتهجد الاستيقاظ والنوم وهو من الاضداد(4)والتهجد لا يكون إلا بعد النوم بخلاف السهر، وقيل المتهجد الذي ينفي الهجود أي: النوم عن(5)نفسه كالمتحرج والمتأثم، وقال المبرد: التهجد السهر للصلاة أو لذكر الله، والغِرار بالكسر قلة النوم أو قليلة(6)، وغرار الصلاة نقصان ركوعها وسجودها(7)، ولعل المعنى لم يترك العبادة له نوما قليلاً فكيف بالكثير والظمأ العطش أو أشدّ العطش، والهواجر جمع هاجرة وهي نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو من عند زوالها إلى العصر؛ لأن
ص: 92
الناس يستكنون في بيوتهم كأنَّهم قد تهاجروا لشدة الحر وفي اسناد الانصاب والإظماء الى الخوف والرجاء دلالة على عدم بطلان العبادة لرجاء الثواب والخلاص من العقاب کما يدل عليه الخبر الصحيح المروي عنهم (عليهم السلام) من بلغه ثواب من الله على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحدیث کما بلغه وغير ذلك من الأخبار، ولعل الدلالة في هذا الكلام أظهر منها في قوله تعالى: «وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا»(1)، وقوله تعالى: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا»(2)ولاريب في أنَّ العبادة المجردة عن الغرضين أكمل وأعلى درجات العبادة وهي التي اشار اليها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (ما عبدتك طمعاً في جنتك، ولا خوفاً من نارك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)، وقال الشهيد (رحمه الله) في قواعده: (وأما غاية الثواب والعقاب فقد قطع الاصحاب بكون العبادة فاسدة بقصدها)(3)وقد(4)قطع به السّيد رضي الدين [بن](5)طاووس(6)(رحمه الله) ولا يخفى أن تجريد النية عن تلك الغاية في غاية الصعوبة على كثير من الخواص فضلاً عن عوام الناس، ولعل أمره (عليه السلام) بالاتقاء على هذا الوجه تخفیف ورحمة على من توجه اليه الخطاب وإن كان تجريد النية أعلى مراتب الإخلاص، والله تعالى يعلم ويحول في فکري الفاتر تفصيل للمقام وهو أنَّ الحامل على
ص: 93
الفعل والداعي إليه سواء تقدم في الوجود على الفعل أو تأخر عنه أما أن يكون أمراً مفرداً أو مركباً، وعلى الثاني فلا ريب في استناد الفعل إلى مجموع الأمرين أو الأمور لكن قد يكون كل من الجزئين أو الأجزاء بحيث ينتفي الفعل ويتركه الفاعل على تقدير انتفائه [...](1)ولا يكون الباقي کافياً في حصول الفعل منفردا وقد يستقل كل من الجزئين أو الاجزاء على تقدير الانفراد وإن استندت العلية إلى المجموع في صورة الانضمام وقد يستقل البعض كذلك دون غيره إذا تمهد هذا فيقول: لو تجردت النية عن غايتي الثواب والعقاب بل كان الداعي الى العبادة وجدان المعبود أهلا للعبادة ومستحقاً لها من غير أن ينضم اليه أمر آخر من نيل الثواب والخلاص من العقاب أو حصول القرب المعنوي ونحو ذلك من الأمور العائدة الى المكلف، فالعلة الغائية حينئذ أمر مفرد يستند اليه ایجاب الفعل ولا يبعد أن (تكون)(2)تلك المرتبة أعلى مراتب الإخلاص وهي التي اشير اليها في الكلام المروی عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ولو تجردت النية عن تلك الغاية رأساً وكان الداعي / ظ 91 / للعبد الى العمل مجرد الخوف والرجاء فيحتمل أن يكون العبادة المقارنة لمثلها باطلة ويكون مراد الأصحاب على ما نقله الشهيد (رحمه الله)، وذهب اليه السيد الجليل (رضي الله عنه) هذا النوع من العبادة، لكن صحة هذا النقل حيث لم نظفر(3)به من كلام أحد من الأصحاب محل نظر وبطلان العبادة على هذا الوجه مخالف لظاهر آیات الترغيب والترهيب
ص: 94
وأخبار الخوف والرجاء وصريح بعض ما سبق من كلماته (عليهم السلام) وغيرها وينفيه الظواهر الواردة في نفي الحرج والبعث بالشريعة السمحة السهلة البيضاء ولو تركت النية من الأمرين بحيث تكون(1)الغاية مجموع الأمرين ولا يكون كل واحد من الجزئين كافياً في حصول الفعل باعثاً للعبد على العمل فيمكن ادخاله فيما حكى الحكم ببطلانه، والصحة فيه أظهر من السابق، وأظهر من هذا القسم أيضا ما لو كانت الغاية الباعثة على العمل كلا الأمرين بحيث يكفي كل واحد منهما في وجود الفعل لو فرض انتفاء الآخر بل الأظهر بعد التأمل في مجموع أدلة المقام ادخاله في القسم المثبت في الكلام المروي عنه (عليه السلام) وإن يكون المراد بالقسم المنفي بقوله (صلوات الله علیه): ((ما عبدتك طمعاً في جنتك، ولا خوفاً من نارك))، العبادة المقارنة للنية المجردة عن ملاحظة كون المعبود أهلا للعبادة أو المعللة بالمجموع على أول الوجهين هذا غاية ما خطر بالبال في مقام الجمع وتوجيه الكلام المنقول عن الأصحاب، وأما فساد العبادة بمدخلية غايتي الخوف والرجاء وعلى(2)[أي](3)وجه كان ويكلف(4)سائر الناس بالتجريد عنهما رأساً فلعله مما يقطع بفساده والله يعلم. (وَظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ، وَأَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ، وَقَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَبانِهِ) ظلف کضرب أي: منع وكف(5)، قال
ص: 95
بعض الشارحين: استعار [(عليه السلام)](1)لفظ الاطفاء للزهد وهو من أوصاف الماء ونسبته الى النار نسبة الزهد إلى الشهوات(2)، وكأنَّه توهم أن(3)الظلف بمعنى الاطفاء أو كان في نسخته اطفاء بدل قوله: (عليه السلام) ظلف، والزهد خلاف الرغبة، وأوجف دابته أي: حركها مسرعاً وحثها على السير والذكر منزَّل منزلة الدابة، واللسان منزلة السوط، وفي بعض النسخ الصحيحة (الذكر) بالرفع فالباء زائدة، وإِبان الشيء بكسر الهمزة وتشديد الباء الموحدة (حينه ووقته)(4)، ووقت الخوف معاينة الأهوال، وفي بعض النسخ (لأمانه)(5)أي: خاف ربه في الدنيا فعمل الصالحات ليكون أمناً في الآخرة. (وَتَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ، وَسَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَى النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ؛ وَلَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلاَتُ الْغُرُورِ، وَلَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ) تنکّب أي: (تنحي وأعرض)(6)، وخلج أي: جذب وشغل(7)، والمخالج (الطرق المتشعبة عن الطريق الأعظم)(8)كأنهَّا يجذب الانسان اليها، أو لأنهَّا تشغله عن السير لتوهم انتهائها الى المقصود فتلحقه الحيرة والوضح بالتحريك محجة الطريق أي جادته وأقصد المسالك أقومها، والنَهْج بسكون
ص: 96
الهاء الطريق الواضح، ولعله كناية عن الجهة أو المراد بالمسالك الأعمال الصالحة المفضية الى مضاء وهو طريق الجنة والتقرب اليه سبحانه، وفتله(1)کضربه صرفه عن وجهه(2)، وغره(3)غرور أخدعه(4)وأطعمه بالباطل، وفاتلات الغرور وساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وعُمي عليه الأمر كرضي إذا التبس قال الله تعالى : «فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ»(5)(ظَافِرا بَفَرْحَةِ الْبُشَرْى، وَرَاحَةِ النُّعْمَى، فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ وَآمَنِ يَوْمِهِ) ظَفر الرجل [کفرح](6)فاز بالمطلوب، والفَرحة بالفتح والضم(7)المسرة، وفي النسخ بالفتح، والبُشرى بالضم البشارة أو البشري مصدر والبشارة اسم، والنُّعمي بالضم الخفض والدعة وما أنعم به عليك، وأنعم النوم أطيبه والمراد بالنوم أما الراحة في الجنة اطلاقاً لاسم الملزوم على لازمة على ما ذكره بعض الشارحين(8)أو الراحة في البرزخ لنحو ما ذكره، أو لأنَّ مکث الجسد في القبر يشبه النوم قال الله تعالى: «مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا»(9)، وورد في بعض الأخبار (نم نومة العروس)، ولا ينافيه اطلاق الانتباه على الموت لاستلزامه زيادة المعرفة وزوال الغفلة كما يومیٔ اليه قوله (عليه
ص: 97
السلام): (الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا)(1)وآمن يومه أي آمن، أوقاته وأزمانه لأنَّه زال عنه الخوف من سوء العاقبة ونكال الآخرة. (قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً، وَقَدَّمَ زَادَ الآجِلَةِ سَعِيداً، وَبَادَرَ من وَجَلٍ، وَأَكْمَشَ فِي مَهَلٍ، وَرَغِبَ فِي طَلَبٍ، وَذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ) المَعبر بفتح الميم و92 / کما في بعض النسخ الموضع المهيأ للعبور، وبالكسر ما یعبر به من سفينة ونحوها ووجه الشبه على الوجهين ظاهر، والحميد المحمود وزاد الآجلة التقوى، قال الله تعالى: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى»(2)، والمبادرة المعاجلة والمسارعة أي : سارع إلى الأعمال الصالحة من خوف الله وعقاب الآخرة، وأكمش أي: (أسرع)(3)، والمهل بالتحريك التؤدة والرفق والسكينة، والاسم المهلة وأمهله رفق به ومهله تمهيلاً أجله، ولعل المراد أسرع الى طاعة ربه في أيام المهلة وهي الحياة الدنيا، أو اسرع الى الطاعة في سكينة ورفق لا في خرف وعجلة، ورغب في طلب أي: رغب فيما يطلب مثله وذهب عن هرب أي: فَرَّ مما يهرب من مثله على ما ذكره بعض الشارحين(4)، كان طلبه لله وما عنده عن رغبة وشوق لا عن كسل وترك ما يبعده عن الله عن هرب وتنفر لامع بقية ميل (وَرَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ، وَنَظَرَ(5)قُدُماً أَمَامَهُ. فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَنَوَالًا، وَكَفَى
ص: 98
بِالنَّارِ عِقَاباً وَوَبَالاً! وَكَفَى بِاللّهِ مُنْتَقِماً وَنَصِيراً! وَكَفَىِ بِالْكِتَابِ حَجيجاً(1)وَخَصِيماً) الرقيب الحافظ والمنتظر وراقب الشيء حرسه أي: حرس أخرته عما يفسدها عليه، أو انتظره لعدم ركونه الى الدنيا، أو لعدم وثوقه ببقاء يومه ولحظة، ونظر قدماً أمامه أي [لم](2)ينثنِ ولم ينعطف في نظره الى ما بين يديه ولم يلتفت الى غيره، قال بعض الشارحين: (الدال مضمومة)(3)، ومن رواه بالتسكين جاز أن يعني به هذا ويكون قد خفف کما قالوا حُلْم وحُلُم. وجاز أن يجعله مصدرا من قَدم الرجل بالفتح، يقدَم قَدْماً، أي تقدم، قال الله تعالى: «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(4)أي يتقدمهم الى ورود النار كأنَّه قال: «ونظر بين يديه متقدما لغيره وسابقا إياه الى ذلك»)(5)، والباء في كفى بالله زائدة، وفيه تنبيه على علة الحكم في الكلمات السابقة، والنوال (العطاء)(6)ونصب المنصوبات على التميز والمراد بالكتاب القرآن أو صحيفة الأعمال والحجيج المغالب بإظهار الحجة(7)وهي (الدليل والبرهان، يقال: حاججته فأنا محاج وحجيج)(8)، والخصيم المخاصم. (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ، وَاحْتَجَّ بِمَا نَهَجَ) أوصاه ووصاه توصية عهد اليه، والاسم الوصية والتقوى الاسم من أتقيته إذا حذرته، وأصله تقيا قلبوا الياء واواً للفرق بين
ص: 99
الاسم والصفة(1)، واعذر [أي: أبدا عذرا](2)، وأحدث وثبت له عذر وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف، والانذار في الأصل الإعلام ويخص بمن يعلم القوم ويخبرهم بما يخاف هجومه عليهم من عدو وغيره والمعنى بين عذره في عقاب من يعصيه ولا يطيعه بإرسال الرسل وانزال الكتب واحتج أي: أقام الحجة ونهج أي: أوضح وأبان ویکون لازما يقال: نهج الطريق إذا وضح واستبان كأنهج والمقام يحتملها وإن كان الأول أظهر. (وَحَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً، وَنَفَثَ فِي الآذَانِ نَجِيّاً؛ فَأَضَلَّ وَأَرْدَى، وَوَعَدَ فَمَنَّى، وَزَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ، وَهَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ) العدو هو الشيطان وقد مرَّ في الخطبة الأولى في(3)وصف آدم (عليه السلام) قوله (صلوات الله عليه) وحذره إبليس وعداوته والنفوذ في الأصل (مخالطة السهم جوف الرمية وخروج طرفه من الشق الآخر وسائره فيه)(4)، والمراد دخوله في الصدور، وقد ورد في الحديث: ((إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم))(5)وخفاء(6)نفوذه واضح، ونصب خفياً على الحالية، أو على أنَّها صفة لمصدر محذوف، وتفسير بعض الشارحين(7)إياه بالنفس الامارة
ص: 100
مبني على انكاره وجود الشيطان وكذلك الملك كما هو مسلك أكثر المتفلسفة وهؤلاء لما لم يسعهم انكار القرآن والإخبار صريحاً أولوا الشيطان بالنفس الأمارة والقوة الوهمية، كما أولوا الملائكة بالنفوس الفلكية والعقول التي زعموها، وهذا النوع من التأويل في المعنى رد لما ثبت من الدين ضرورة، والنفث في الأصل شبه النفح وأقل من التفل(1)(2)؛ لأنَّ التفل لا يكون إلَّا ومعه شيء من الريق، ونفث الشيطان القاؤه، وفي الحديث: ((إنَّ روح القدس نفث (3)في روعي))(4)أي: أوحى والقى في نفسي وخلدي، والنجي فعيل من ناجاه مناجاة أي: حدثه سراً، وقيل: النجي والنجوى / ظ 92 / بمعنى السر فيحتمل أن ينتصب على الحالية بتجوز، أو على الوصفية لمحذوف، وأردى أي: أهلك ومنى أي: حمل الانسان ع-لى التمني وهو تشهي حصول الأمر المرغوب فيه وحديث النفس بما يكون وما لا يكون، والمعنى: منى بالآمال الكاذبة قال الله تعالى: «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا»(5)والجريمة الجرم(6)والموبقات المهلكات (حَتَّى إِذا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ، وَاسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ؛ أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ، وَاسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ، وَحَذَّرَ مَا أَمَّنَ) استدرجه أي: خدعه أو أخذه قليلاً قليلاً، وقرينته النفس الانسانية المطيعة له قال الله تعالى:
ص: 101
«وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا»(1) والرهينة الرهن يقال: هور هن بكذا ورهينة بكذا، وغلق الرهن إذا بقى في يد المرتهن لا يقدر راهنه على تحصيله بالفك، واستغلقه أي: جعله كذلك والمراد وقعه في المعاصي حتى حقت عليه كلمة العذاب واستعظمه أي: عده عظيماً، وأمَّن أفعل من الأمان(1)، والأمن ضد الخوف وهو يتعدى الى مفعولين ويشير الى الافعال الثلاثة قوله عز وجل: «كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ»(2).
[منها](3)في صفة خلق الإنسان: (أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأرْحَامِ، وَشُغُفِ الْأسْتَارِ؛ نُطْفَةً دِهَاقاً، وَعَلَقَةً محَاقاً، وَجَنِيناً وَرَاضِعاً وَوَلِيداً وَيَافِعاً) قال بعض الشارحين: أم هاهنا إمَّا استفهامية على حقيقتها(4)كأنَّه قال: أعِظكم واذكركم بحال الشيطان وإغوائه، أم بحال الإنسان منذ ابتداء وجوده الى حين مماته، وإمَّا أن (تكون)(5)منقطعة بمعنى بل كأنَّه قال عادلًا وتاركا لما وعظهم به بل اتلو عليكم نبأ(6)هذا الإنسان الذي حاله كذا(7)، وقال بعضهم: أم معادلة لهمزة الاستفهام قبلها، والتقدير: اليس فيما أظهر
ص: 102
الله لكم في عجائب مصنوعاته عبرة أم هذا الانسان وتقلبه في أطوار خلقته وحالاته الى يوم نشوره(1)، ولا يذهب على العارف بعادة السيد (رضي الله عنه) أنَّ فصله(2)بين الخطبة بقوله: (منها) علامة الحذف، فالتفسير على الوجه الصحيح فرع العلم بالمحذوف وبدونه من قبيل الرجم بالغيب، والشُغُف(3)بضمتين جمع شغاف(4)بالفتح وهو في الأصل غلاف القلب وحجابه استعير لموضع الولد، والنطفة ماء الرجل والمرأة أو ماء الرجل من نطف الماء إذا سال، والدِهاق بكسر الدال الذي أدهق أي: أفرغ إفراغاً شديداً(5)، وقال بعض الشارحين: (الدهاق: المملوءة)(6)من قولهم: (دهق الكأس، كجعله: ملأها)(7)ويروى دفاقاً من دفقت الماء أي: صببته، والعَلَقَة محركة القطعة من الدم الغليظ، أو الشديد الحمرة، أو الجامد، أو مطلقاً(8)، والمَحْقُ: المحو والابطال والنقص(9)، وسميت ثلاث ليال من آخر الشهر مُحاقاً لأنَّ القمر يقرب من الشمس فَتَمْحَقْهُ وتُبطل ضوءه(10)، واستعير للعلقة لأنَّها لم تتصور بعد فأشبهت ما ابطلت صورته، وفي الأوصاف تحقير للإنسان
ص: 103
كما اشير إليه بالإشارة، والجنين الولد في البطن؛ لأنَّه مستتر في الرحم، والراضع الطفل يرضع أمه كيسمع والأم مرضعة والوليد المولود، ولعل المراد به الفطيم، واليافع الغلام الذي شارف الاحتلام ولما يحتلم، يقال: (أيفع الغلام فهو يافع)(1)وهو من النوادر(2)، قال في سر الادب في ترتيب أحوال الانسان: هو ما دام في الرحم جنين، فإذا ولد فوليد، ثم ما دام يرضع فرضيع، ثم إذا قطع عنه اللبن فهو فطيم، ثم إذا دب(3)ونما فهو دارج، فإذا بلغ طوله خمسة أشبار فهو خماسي، فإذا سقطت رواضعه فهو مثغور، فإذا نبت(4)أسنانه بعد السقوط فهو متغر، فإذا تجاوز العشر أو جاوزها فهو مترعرع وناشئ، فإذا كان يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق، فإذا احتلم واجتمعت قوته فهو حزور، واسمه في جميع هذه الأحوال غلام، فإذا اخضر شاربه قيل قد بقل وجهه، فإذا صار ذا فتاءٍ فهو فتى وشارخ، فإذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه فهو مجتمع، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم هو كهل الى أن يستوفي الستين / و93 /، وقيل إذا جاوز أربعاً وثلاثين الى احدى وخمسين، وإذا جاوزها فهو شيخ(5). (ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً، وَلِسَاناً لَافِظاً وَبَصَراً لَاحِظاً، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِرَاً، وَيُقَصِّرَ مُزْدَجِراً) منحه كمنعه وضربه أعطاه، والاسم المِنحة بالكسر، الحفظ الحراسة وقلة الغفلة، ولفظ بالكلام نطق كتلفظ، ولحظ إذا نظر بمؤخر عينه، وهو أشد التفاتا من الشزر
ص: 104
والملاحظة مفاعلة منه، ولعل المراد مطلق النظر، والعِبرة في الأصل (العجب)(1)، واعتبر أي: تعجب ويستعمل العبرة فيما يتعظ به الإنسان ويعتبره ليستدل(2)به على غيره(3)ويقصر على صيغة الأفعال أي: ينتهي، وزجره فازدجر وانزجر، أي: منعه فامتنع، والمعنى: أعطاه القوى الثلاثة ليعتبر بحال الماضين وما نزل بساحة العاصين وينتهي عما يفضيه(4)الى أليم النكال، وشديد الوبال، أو ليفهم دلائل الصنع والقدرة ويستدل بشواهد الربوبية على وجوب الطاعة والانتهاء عن المعصية فينزجر عن الخلاف والعصيان ويتخلص عن الخيبة والخسران. (حَتَّي إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ، وَاسْتَوَی مِثَالُهُ، نَفَرَ مُسْتَكْبِراً، وَخَبَطَ سَادِراً(5)مَاتِحاً(6)فِي غَرْبِ(7)هَوَاهُ، كَادِحَاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ) الاعتدال التناسب والاستقامة والتوسط بين حالين في كم أو كيف وقيام الاعتدال تمام الخلقة والصورة وتناسب الأعضاء وخلوها عن النقص والزيادة وكمال القوى المحتاج إليها في تحصيل المآرب، واستوى أي: اعتدل، والمِثال بالكسر المقدار وصفة الشيء، ويقال: استوى الرجل إذا بلغ اشده أي: قوته وهو ما بين ثماني عشرة الى ثلاثين، ونفرت الدابة كضرب، أي: فر وذهب، وخبط البعير كضرب إذا(8)ضرب بيديه الأرض ومشى لا يتوقى
ص: 105
شيئاً وسدر(1)كفرح (تحير)(2)، والسادر(3)[أيضاً](4)[الذي](5)لا يهتم ولا يبالى ما صنع)(6)، ولعل الأخير أنسب، والماتح بالتاء المثناة من فوق الذي يستقي الماء بالدلو من أعلى البئر والذي ينزل البئر ليملأ الدلو هو المائح، وسُئِلَ أبو علي عنهما، (فقال: هما كأعجامها)(7)، والغرب(8)بالمعجمة ثم المهملة الساكنة (الدلو العظيمة التي تتخذ(9)من جلد ثور)(10)شبه بها الهوى لسعة الأماني وما تشتهيه النفس الامارة بالسوء، وفي الكلام اشعار بالمشقة التي لا تخلو منها متابعة الهوى، وكدح في العمل كدّ وسعى وسعياً منصوب على أنَّه مفعول للكدح، كما قيل أو على المصدرية والغرض أنه لم يعمل بما أمر به ولم يحصل منه الغرض الذي خلق لأجله. (فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ، وَبَدَوَاتِ أَرَبِهِ لَا يَحْتَسِبُ(11)رَزِيَّةً، وَلَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً؛ فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيزاً(12)، وَعَاشَ فِي
ص: 106
هَفْوَتِهِ يَسِيراً، لَمْ يُفِدْ عِوَضاً، وَلَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً(1)) الطَرب بالتحريك الحركة والشوق وخفة (تلحق)(2)الإنسان لحزن أو سرور، والمراد النوع الثاني بقرينه إضافة اللذة، والأرب بالتحريك (الحاجة)(3)ويراد به الفرح كالِإرب(4)بالكسر، ولعل المراد ببدوات الارب ما يخطر بباله ويبدو له، أي: يظهر من آرائه المختلفة باختلاف دواعيه وميله، والرَزِيْة فَعِيْلَة من الرزء بالهمزة بمعنى النقص(5)، وتسمى المصيبة رزية لما فيها [من انتقاص](6)أمر محبوب(7)و(تقلب)(8)همزتها ياء واحتساب الرزية الاعتداد بها افتعال من الحسب بمعنى العد كالاعتداد منه، والمراد أنه لا يبالي بما ينزل به من المصائب ولا ينتبه بها لكثرة خوضه في الملاهي أولا يطلب بها الأجر بالصبر والتسليم والقيام بها على الوجه المرسوم والخشوع والخضوع والتذلل(9)، وقد يخص الخشوع بالصوت والبصر والخضوع بالبدن، والتقية مصدر تقيت الشيء كرميته أي: حذرته وخفته(10)ولعل انتصاب اللفظ على أنه [مفعول له](11)و
ص: 107
الفتنة يراد بها الضلال والاثم والكفر والجنون، والغرير(1)المغرور، يقال: غره(2)أي: خدعه وأطعمه بالباطل فهو غرير(3)ومغرور، والغار الشيطان والدنيا أو الفتنة، أي: مات في أيام الفتنة مخدوعاً بها غير عالم بما يراد به، وقال بعض الشارحين: (مات غريراً(4)، أي شاباً، ويمكن أن يراد به أنه غير مجرب للأمور)(5)، وفيه ما فيه، والهفوة (الزلة)(6)، (وهفا الشيء يهفو إذا ذهب)(7)، ومنه الهوافي للإبل الضوال(8)، (وهفا الطائر إذا طار والريح إذا هبت)(9)، والمراد عاش في ضلاله وغفلته عيشاً يسيراً / ظ 93 / أو(10)زماناً(11)يسيراً، ويروى أسيراً، فانتصابه على الحالية، والعاصي يقوده هواه والشيطان والنفس الأمارة الى الهلاك، ولم يفد أي: لم يستفد، يقال: أفاد(12)المال أي: استفاده وأعطاه وضمد أي: لم يكتسب عوضاً مما فاته من درجات الآخرة وعمره أو من نفسه التي أرادها واوقعها في المهالك ولم يقض أي: لم يؤدِ، قال
ص: 108
الله تعالى: «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ»(1)وقال سبحانه: «فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ»(2)، والمفترض على صيغة المفعول ما أوجبه الله على العبد. (دَهْمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ(3)جَمَاحِهِ، وَسَنَنِ مَرَاحِهِ (4)، فَضَلَّ سَادِراً، وَبَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الآلاَمِ، وَطَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَالْأَسْقَامِ) دهمه الأمر كسمع فجأة وغشيه، والفجعة الوجع(5)، أو أن يوجع(6)الإنسان بشيء يكرم(7)عليه فيعدمه(8)، وفجعات المنية أسباب الموت الموجعة للشخص، أو السالبة أهله وماله، والغُبّر بضم الغين المعجمة وتشديد الباء الموحدة المفتوحة جمع غابر بمعنى (الباقي)(9)، وجِمح الفرس جمِاحاً بالكسر استعصى راكبه فغلبه، وركب الفرس رأسه فلا يثنيه شيء، ويقال: جمح إذا كان فيه نشاط وسرعة(10)، والجماح من الأولين مذموم، ومن الثالث محمود، والمقام يحتمل الوجهين، والمراد بغير جماحه(11)بقايا هواه وشهواته وعتوه التي ذهب كثير منها، والسنن بالتحريك النهج والطريقة، والمراح ككتاب اسم من مرح الرجل كفرح إذا أشر بطر
ص: 109
ونشط وتبختر، والمعنى هجمت عليه الأمراض والأوجاع وأسباب الموت في أثناء غفلته وعتوه واغتراره وظل سادراً أي، كان في جميع النهار متحيراً(1)، أو كالسكران(2)لشدة ما نزل به، والسدر بالتحريك كالدوار وكثيراً ما يعرض لراكب البحر، وقال بعض الشارحين(3): السادر هاهنا غير السادر الأول لأنه هاهنا المغمى عليه كأنَّه سكران من سدر البعير من شدة الحر وكثرة الطلا(4)بالقطران(5)، وسَهِرَ كَفَرِحَ أي: لم ينم ليلاً وبات ساهراً أي: كان في جميع أوقات(6)الليل كذلك وغمرة الشيء(7)التي شدته ومزدحمة وطوارق الاوجاع ما يأتي منها ليلاً قيل: سمي الآتي بالليل طارقا لحاجته الى دق الباب وكثيراً ما يشتد الاوجاع والاسقام ليلاً. (بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ، وَوَالِدٍ شَفِيقٍ، وَدَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً، وَلَادِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً) الشقيق(8)كأمير الأخ كأنَّه شق نسبه من نسبه، وكل ما أنشق نصفين فكل منهما شقيق والشفقة بالفاء حرص الناصح على اصلاح المنصوح وخوفه عليه من أن يصيبه ألم، وفي بعض النسخ ولد شفيق ولعله أنسب من (حيث)(9)أنَّ الأكثر في العادة موت الأب قبل الابن إلا أن الاشفاق في الأب أتم والدعاء بالويل، قول النادب وا ويلاه ونحو
ص: 110
ذلك، والويل الحزن والهلاك والمشقة من العذاب، ومعنى النداء یا حزني أو ياعذابي أحضر فهذا وقتك وأوانك، والجزع الخوف والحزن، واللدم والالتدام ضرب النساء وجوههن وصدورهن في النياحة(1)، والقلق بالتحريك الانزعاج والاضطراب والداعية واللادمة الام والبنت والزوجة والأقارب، والغرض أن كون الرجل بين هؤلاء لم يدفع عنه هجوم الفجعات أو السدر والسهر مع اشفاقهم وحبهم (وَالْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِیَة(2)، وَغَمْرَةٍ كَارِثَةٍ، وَأَنَّةٍ مُوجِعَةٍ، وَجَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ، وَسَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ) سكرة الموت شدته الذاهبة بالعقل ولها عنه غفل وترك ذكره والسكرة ملهية؛ لأنَّها تشغل الإنسان لشدتها عن الالتفات الى الأهل والمال، وفي بعض النسخ (ملهثه)(3)بالثاء المثلثة من لهث الكلب إذا أخرج لسانه من شدة العطش والحر، قال في النهاية: منه حديث علي (عليه السلام) في سكرة ملهثة)(4)أي: موقعة في اللهث، (والغمرة الشدة)(5)، والماء الذي يغمر الإنسان ويغطيه(6)، والكارثة الشديدة الشاقة(7)، وأن يئن [اناً](8)وأنيناً تأوه وموجعة أي: مؤلمة للسامعين، وجذب الشيء حوله عن موضعه والمراد جذب الملائكة الروح من البدن، قال الله تعالى:
ص: 111
«وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ»(1)أو اجتذاب الإنسان من الدنيا الى الآخرة، وأكرب أي: أسرع و(2)المكربة المورثة للكرب وهو الحزن يأخذ بالنفس، وساق(3)المريض سوقاً شرع في نزع الروح، / و94 / ويمكن أن يكون السوقه مصدر ساق الماشية تشبيها لإخراج الإنسان من الدنيا بسوق الماشية، والتعب الإعياء وضد الاستراحة، ويقال: أتعب القوم إذا تعبت ماشيتهم. (ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً، وَجُذِبَ مُنْقَاداً سَلساً) ادرجت الثوب والكتاب طويته وأدرجته فيه أي : لففته(4)به(5)ومبلساً، أي: أيساً من أهله وماله أو من الرجوع الى الدنيا والاستعتاب(6)من الزلل، ومنه سمى إبليس؛ لأنَّه يأس من رحمة الله، أو منكسراً حزيناً، أو ساكنا من الحزن أو الخوف، وجذب أي: من مكانه الى مغتسله وقبره، والسلس ككتف السهل اللين والاسم السلس محركة، وسلسه وانقياده عدم القدرة على الامتناع. (ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ المرض، وَنِضِنْوَ(7)سَقَمٍ، [...](8)تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ، وَحَشَدَةُ الإخْوَانِ، إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ، وَمُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ) العود بالضم الخشب، والجمع أعواد وعيدان وفي الإلقاء اشارة الى الحقارة لسوء الحال، (والرجيع
ص: 112
من الدواب ما رجعته من سفر الى سفر)(1)، وهو الكال وكل شيء يرد فهو رجيع، والوصب(2)بالتحريك (المرض)(3)أو دوام الوجع ولزومه(4)، والنِضو بالكسر البعير المهزول، والسهم الذي فسد من كثرة ما رمى به(5)، ونصب الرجيع والنضو على الحالية، وحفد في العمل إذا خف وأسرع(6)، والمحفود (الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسرعون في طاعته)(7)، وحَفَدَ وحفدة جمع حافد كخدمٍ وكفرةٍ، وحشد القوم خفوا في التعاون أودعوا فأجابوا مسرعين أو اجتمعوا لأمر واحد، ومنقطع الزورة موضع انقطاع الزيارة والزيارة في الأصل القصد وخص بقصد المزور إكراما له واستيناساً به، ولعل الاستعمال في الأموات توسع تنزيلا لقصدهم منزله قصد الأحياء تعظيماً، أو لأنَّ الكرام كالأحياء يعلمون بمن يزورهم ويستأنسون(8)به، وحينئذ فوجه كون القبر منقطع الزورة واضح ولو كان المعنى الحقيقي أعم أمكن تنزيل الزورة بعد الموت منزلة العدم لقلتها في حق أكثر الأموات وارادة الخاص من العام وكون الاضافة الى الضمير من قبيل الاضافة الى لفاعل بعيد. (حَتَّي إِذَا انْصَرَفَ المُشَيِّعُ(9)، وَرَجَعَ المُتَفَجِّعُ، أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ
ص: 113
نَجِيّاً، لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ، وَعَثْرَةِ الْاِمْتِحَانِ) شیّع فلاناً أي خرج معه ليودعه ويبلغه منزله أو مشي وراءه، وتفجع توجع للمصيبة، والنجی فعيل من ناجاه مناجاة أي: حدثه سراً، وقيل: النجي (السر)(1)، فيمكن أن ينتصب على أنَّه صفة لمصدر محذوف، والبهتة الدهشة والتحير(2)، وهي من لوازم مثل هذا السؤال، ويقال: بهته إذا أخذه بغتة، والعثرة في الأصل السقوط والكبوة، ويقال: للزلة(3)عثرة، وهي أيضاً من اللوازم العادية لمثل هذا الامتحان، وهذا الكلام صريح في إحياء الميت في القبر والسؤال کما نطقت به الأخبار المتواترة، ولبعض الشارحين(4)في هذا المقام کلمات في غاية السخافة (وَأَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُلُ الْحَمِيمِ، وَتَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ، وَفَوْرَاتُ السَّعِيِرِ) الظاهر أنَّ المشار إليه القبر فالإشارة الى عذاب القبر وعالم البرزخ وقد تضافرت به الأخبار، وبلية في بعض النسخ منصوب على التمييز، ونزل الحميم مرفوع على الخبرية وفي بعضها مرفوع على الخبرية مضافة الى النزل وهي(5)قری الضيف، قال الله سبحانه: «فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ»(6)أي: ما أعد لهم من الطعام والشراب من حميم جهنم، والحميم في الأصل (الماء الحار)(7)، وتصلية اللحم إحراقه، تقول: صليت اللحم بالتخفيف إذا شويته، فإذا أحرقته قلت صلّيته
ص: 114
بالتشديد وأصليته(1)والجحيم النار الشديدة التأجج)(2)، (وكل نار بعضها فوق بعض)(3)، (وكل نار عظيمة في مهواة)(4)و(المكان الشديد الحر)(5)، وفارت القدر (جاشت)(6)(وفورة الحر: شدته)(7)، والسعير (النار)(8)و(لهبها)(9). (لاَ فَتَرْةٌ مُرِیحَةٌ(10)، وَلَادَعَةٌ مُزِیحَةٌ، وَلَا قُوَّةٌ [حَاجِزَةٌ](11)، وَلَا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ، وَلَا سِنَةٌ مُسْلِیةٌ؛ بَیْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ؛ وَعَذَابِ السَّاعَاتِ؛ إِنَّا بِاللَّهِ عَائِذُونَ) الفترة السكون بعد حدة واللين بعد شدة(12)، والراحة ضد التعب واراحه الله فاستراح، / ظ 94 / والدعة (الخفض والسعة في العيش)(13)، ومنه ودع(14)الرجل [ككرم](15)فهو وديع أي: ساكن وزاح الشيء أي: بعد وذهب، وازاحه غيره، وفي بعض النسخ (مريحه) بالمهملة في الثاني وبالمعجمة في الأول،
ص: 115
والمعنى ليس للمعذبين راحه(1)وفصل بين تارات العذاب، قال الله: «لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ»(2)، وقال سبحانه: «لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ»(3)، وحجزه كضربه ونصره أي: منعه وكفه، والناجزة الحاضرة المعجلة(4)، أي: ليس لهم قوة يدفعون بها الألم والعذاب عن أنفسهم ولا يموتون حتى يفزعوا، والسنة (أول النوم)(5)أو (النعاس)(6)أو فتور يتقدم النوموالمسلية الكاشفة للهم(7)، تقول: سلاني من همي تسلية، وأسلاني أي: كشفه عني، والأطوار (التارات)(8)، قال الأخفش في قوله تعالى: «خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا»(9)أي: (طوراً علقة، وطورا مضغة)(10)، والموتات المرات من الموت، والمراد الآلام العظيمة الشاقة التي لا تقتصر(11)عن الموت والظرف(12)في موضع الخبر عن السوابق أي: ليس لهم بين تلك الأطوار، أو بينها وبين عذاب الساعات فترة ولا دعة أو عن محذوف، أي: هو دائر بين الأطوار أو في موضع الحال وعذاب الساعات أفراد العذاب الواقعة كل منها
ص: 116
في ساعة، أو العذاب المتصل الممتد في الساعات غير المحصورة(1)، وعاذ بفلان واستعاذ به، أي: لجا إليه وهو العياذ أي: الملجأ. (عِبَادَ اللَّهِ الذِینَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا، وَعُلِّمُوا فَفَهِمُوا، وَأُنْظِرُوا فَلَهَوْا، وَسُلِّمُوا فَنَسُوا) الموصول صفة للمنادی والغرض التنبيه والتقريع بكفران النعم وتمام الحجة، وفي بعض النسخ ([أين الذين](2)عمرّوا)(3)فالغرض حث المخاطبين على الاتعاظ والاعتبار بحال الماضين، وعمر الرجل كعلم عَمْرا و(عِمْراً وعُمراً على غير قياس؛ لأنَّ قياس مصدره التحريك، أي: عاش زماناً)(4)، كذا قال الجوهري، وعمّره الله تعميراً أي: طوّل عمره، ونعم فلان کسمع أي: تنعم وترفه، والاسم منه النَعمة بالفتح، وانظروا أي: أمهلوا، ولِهيت عن الشيء بالكسر إذا تركت ذكره وأضربت عنه، ويقال: لهي عنه بالكسر أيضاً إذا غفل عنه واشتغل بغيره، فالمراد الغفلة المستندة الى التقصير والتهاون، وسلموا بالتخفيف أي: كانوا في عافية وصحة، وفي بعض النسخ (سُلِّمُوا)(5)على صيغة المجهول من باب التفعيل، والنسيان [...](6)خلاف الحفظ، قيل: وأصله (الترك)(7)ويراد به غير ما أريد باللهو رعاية للتفنن، والغرض بما
ص: 117
عطف بالفاء بيان تمام النعمة في بعض القرائن وكفرانها في بعضها (أُمْهِلُوا طَوِیلاً، وَمُنِحُوا جَمِیلاً، وَحُذِّرُوا أَلِیماً، وَوُعِدُوا جَسِیماً) الامهال الرفق والانظار(1)، والاسم المُهلة بالضم، وطويلُا صفة ظرف أو مصدر محذوف، أي: زماناً أو امهالاً على التوسع، ومنحه أعطاه، والجمال الحسن ويقع على الصور والمعاني والمراد نعم الله التي لا تحصى في الدنيا، والأليم المحذر منه، والجسيم الموعود نكال الآخرة ونوالها، وجَسُم كَكَرُمَ (أي: عظم فهو جسيم)(2). (احْذَرُوا الذُّنُوب الْمُوَرّطَهَ، وَالْعُیُوبَ الْمُسْخِطَةَ) الورطة (الهواة العميقة)(3)و(أرض مطمئنة لا طريق فيها)(4)، وكل غامض واستعير للبلية التي يعسر(5)المخرج منها، وأورطه وورطه أي: أوقعه في الورطة، وفي بعض النسخ (المورطة) على صيغة التفعيل، والمراد بالورطة عقاب الآخرة أو ما يعم الخزي في الدنيا والعيوب تفسير للذنوب أو عللها والدواعي إليها التي ركبت في الانسان وإن كان ركوبها باختياره وسخط كفرح غضب وأسخطه اغضبه. (أُولِی الْأَبْصَارِ والْأَسْمَاعِ، وَالْعَافِیَةِ وَالْمَتَاعِ، هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ، أَوْ مَعَاذٍ، أَوْ مَلَاذٍ، أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ) الظاهر أنَّه نداء بعد الأول وكونه صفة بعد صفة يأباه الفصل، وعلى ما في بعض النسخ المذكور سابقاً ابتداء كلام بعد التذكير بما يوجب العبرة من حال السالفين، والمتاع المنفعة واسم للتمتع
ص: 118
والانتفاع، وناص ينوص / و95 / مناصاً فرَّ وذهب(1)، والمناص أيضاً (الملجأ والمفر)(2)، و(المحار: المرجع)(3)، قال سبحانه: «إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ»(4)وتخصيص أولي الأبصار والإسماع والعافية لكونهم أهل التكاليف التامة والعقول داخلة في الاشارة أمَّا بالأبصار والاسماع مجازاً، أو بالعافية وللتنبيه على وجوب الشكر والطاعة مقابل-ة لتلك العطايا الجزيلة وتخصيص أولي المتاع لكونهم مصروفين عن سلوك سبيل الله بمتاع الدنيا مع أن التمتع بالدنيا من أسباب وجوب الشكر، ويحتمل أن يراد بالمتاع ما يتمتع به من الأموال ونحوها التي يمكن صرفها في أبواب(5)الطاعة فيكون [في](6)ذكر المتاع أيضاً تنبيها على تمام الحجة وكمال شرائط التكليف، ويحتمل أن يكون الغرض في الجميع مجرد التنبيه على وجوب الشكر والتوبيخ بتركه الموجب لاستحقاق العقاب [الذي](7)لا مناص ولا خلاص منه، وفي العدول عن ذكر العقل الى السمع والبصر تنبيه على أنَّ وجوب الحذر لشدة ظهوره كالأمور المحسوسة. (أَمْ لا(8)فَأَنَّی تُؤْفَکُونَ، أَمْ أَیْنَ تُصَرُفُونَ، أَمْ بِمَاذَا تَغْتَرُّونَ! وَإِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الأرْضِ، ذَاتِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ، قِيدُ قَدِّهِ، منعفِراً عَلَى خَدِّهِ) كلمة أم معادلة لهل الاستفهامية السابقة، وأفكه قلبه وصرفه، ومنه قوله عز وجل: «أَجِئْتَنَا
ص: 119
لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا»(1)والمؤتفكات المدن المقلوبة(2)والاغترار بالشيء الانخداع به(3)، والحظ النصيب، ويقال بيني وبينه قيد رمح وقاد رمح أي قدر رمح(4)، (والقد: القامة)(5)، و(العفر بالتحريك التراب)(6)، وعفره في التراب تعفيراً أي: مرغه(7)، (وانعفر الشيء أي: تترب)(8)، وفي الانعفار على الخد الذي هو من محاسن الأعضاء وکرائمها تنبيه على سوء الحال بعد قلة النصيب (الْآنَ عِبَادَ اللهِ، وَالْخِنَاقُ مُهْمَلٌ، وَالرُّوحُ مُرْسَلٌ، فِي فَيْنَةِ(9)الِإِرْشَادِ، وَرَاحَةِ الْأَجْسَادِ(10)، وَمَهَلِ الْبَقِيَّةِ، وَأُنْفِ الْمَشِيَّةِ، وَإِنْظَارِ التَّوْبَةِ، وَانْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ) الآن اسم للوقت الذي أنت فيه وهو ظرف غیر متمکن(11)وقع معرفة ولم تدخل عليه الالف واللام للتعريف؛ لأنَّه ليس له ما يشركه، وهو ظرف لفعل محذوف أي: اعملوا الآن، والحال أنكم متمكنون مستكملون للشرائط أو ظرف للأفعال السابقة أي: تؤفكون وتصرفون وتغترون ويحتمل أن يكون مفعولاً به لفعل محذوف أي: أدركوا الآن، ولا تضيعوا الفرصة،
ص: 120
وعباد الله منادى حذف عنه حرف النداء، وخنقه إذا عصر حلقه، والخِناق بالكسر ما يخنق به من حبل أو وتراً ونحو ذلك، وأهملت الشيء خليت(1)بينه وبين نفسه، واهمال الخناق الكف عن الأخذ به وهو كناية عن وجود الفرصة وعدم حضور ما يمنع من العمل وأرسله اطلقه واهمله، وارسال الروح عدم قبضه بعد والفَينة بالفتح (الساعة والحين)(2)، يقال: لقيته الفينة(3)بعد الفينة أي الساعة بعد الساعة(4)، والارشاد الهداية ويروى في فينة الارتياد أي: الطلب وراحة الأجساد عدم ابتلائها بموانع العبادة من الأمراض والآسقام والآلام وحضور الموت، والمهل بالتحريك المهلة وهي التباطئ والتأخير والرفق(5)، والبقية ما بقي من الأعمار، وأمرٌ أُنُف بضمتين أي مستأنف لم يسبق بقضاء وتقدير(6)وإنما هو على اختيارك، وروضة أنف أي: جديدة النبت لم ترع(7)، والمشية الإرادة وأصلها الهمزة، يقال: شاءه مشيئة أي: أراده والغرض بيان الاختيار ونفى المانع عن الطاعات بأنَّهم خلّى بينهم وبين ارادتهم ولم تسبق ارادتهم بإرادة تضادها وتمنعهم عما شاؤا، وقال بعض الشارحين: وأنف المشية أي: أول الإرادات للنفوس / ظ 95 / وذلك أنه ينبغي أن يكون أول زمان الإنسان وأوائل ميول قلبه الى طاعة الله ليكون ما يرد
ص: 121
على لوح نفسه من الكمالات وارداً على لوح صافٍ عن كدر الباطل(1)وانظار التوبة الامهال لأجلها، والفُسحة بالضم (السعة)(2)، وفسح المكان ككرم وانفسح فهو فسيح(3)أي اتسع، والحوبة (الحاجة)(4)، [والحالة](5)وانفساح الحوبة سعة وقت الحاجة أي: العمل الذي يحتاج(6)إليه العبد لآخرته أو سعة الحالة لعدم نزول الموت وحلول العقاب، وفي بعض النسخ (الجوبة) بالجيم وهي(الفرجة في السحاب والجبال)(7)و(الحفرة)(8)أيضاً فيكون كناية عن عدم نزول القبر (قَبْلَ الضَّنْكِ وَالْمَضِيقِ، وَالرَّوْعِ وَالزُّهُوقِ، وَقَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ المُنتَظَرِ، وَأَخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ) الضنك (الضيق)(9)والظاهر أنَّ المضيق مصدر يفسر الضنك، ويحتمل أنْ يراد بالضنك ضيق الحال، وبالمضيق القبر، والروع الفزع والزهوق الاضمحلال والهلاك(10)وخروج النفس، والغائب المنتظر الموت، والعزيز الغالب القوى الذي لا يغلب والمقتدر والقادر والقدير بمعنى أو المقتدر أبلغ من القدير وهو من القادر، والمراد قبض الروح أو التعذيب (وفي الخبر أنه (عليه السلام) لمَّا خطب بهذه الخطبة أقشعرت لها
ص: 122
الجلود، وبكت العيون، ورجفت القلوب) اقشعر جلده أي اخذته قشعريرة أي: رعدة(1)ورجفت تحركت واضطربت شديداً، ومن الناس من يسمى هذه الخطبة الغرّاء هذه الفقرة موجودة في النسخ التي لم يوجد فيها [في](2)عنوان الخطبة قوله تسمى الغرّاء وهي البيضاء المتلألئة كما سبق.
العاص بن وائل(3)هذا كان من المستهزئين برسول الله (صلى الله عليه واله)، والكاشفين له بالعداوة والأذى وفيه، وفي أصحابه نزل «إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ»(4)، ولقب في الاسلام بالأبتر لقوله: سيموت هذا الابتر غدا، فينقطع ذكره يعني رسول الله (صلى الله عليه واله)، وكان يَشْتُمُ رسول الله (صلى الله عليه واله) ويضع في طريقه الحجارة ليعثر بها إذا خرج ليلاً للطواف، وهو أحد القوم الذين روعوا زينب ابنة رسول الله (صلى الله عليه واله) في هودجها حتى أجهضت جنيناً ميتاً فلما بلغه (صلى الله عليه واله) لعنهم، وعمر وهجا(5)رسول الله (صلى الله عليه واله) هجاء كثيراً وكان يعلمه صبيان مكة فينشدونه ويصيحون(6)برسول(7)الله (صلى الله عليه واله)
ص: 123
إذا مرّ بهم رافعين أصواتهم بالهجاء في وجهه، فقال رسول الله (صلى الله عليه واله) وهو يصلّى بالحِجْر: ((اللهم إنَّ عمرو بن العاص هجاني، ولست بشاعر، فالعنه بعدد ما هجاني)) رواه الشارح عبد الحميد بن أبي الحديد(1)عن الواقدي، وغيره من أهل الحديث، قال: وروى أهل الحديث أنَّ النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص، عمدوا الى سلا(2)جمل فرفعوه بينهم ووضعوه على رأس رسول الله (صلى الله عليه واله) وهو ساجد بفناء الكعبة، فسال عليه، فصبر ولم يرفع رأسه، وبكى في سجوده ودعا عليهم، فجاءت ابنته فاطمة (عليها السلام) وهي باكية، فرفعته عنه وألقته وقامت على رأسه باكية فرفع (صلى الله عليه واله رأسه وقال: ((اللهم عليك بقريش))، قالها ثلاثاً ثم قال رافعاً صوته: ((إنِّي مظلوم(3)فانتصر(4))) قالها ثلاثاً، ثم قام(5)فدخل منزله وذلك بعد وفات عمه أبي طالب بشهرين.، قال: ولشدة عداوته أرسله أهل مكة الى النجاشي ليطرد أصحاب رسول الله (صلى الله عليه واله) عن بلاده مهاجرة حبشة وليقتل جعفر بن أبي طالب عنده إن أمكنه فكان منه في أمر جعفر هناك ما هو مشهور في السير، وروى الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج(6)، وحكاه الشارح (6) .
ص: 124
عن الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات من كلام الحسن (عليه السلام) في جملة ما خاطب به / و96 / معاوية وعمرو بن العاص والوليد بن عقبة وعتبة بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة بعد كلامه لمعاوية وهو طويل وأما أنت يا ابن العاص فإنَّ أمرك سرك وضعتك أمك مجهولا من سفاح فتحاكم فيك أربعة من قريش فغلب عليك جزارها الأَمُهُم حسباً، وأخسهم منصباً، ثم قام أبوك فقال: إن محمداً الابتر فأنزل الله فيه ما أنزل وقاتلت رسول الله (صلى الله عليه واله) في جميع المشاهد وهجوته وأذيته بمكة، وكدته كيدك كلة، وكنت من أشد الناس له تكذيباً وعداوة. ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة لتأتي بجعفر وأصحابه الى أهل مكة، فلا أخطاك ما رجوت ورجعك الله خائباً وأكذبك واشياً، جعلت حدَّك على صاحبك(1)عمارة بن الوليد، فوشيت به الى النجاشي حسداً لما ارتكب من خليليك، ففضحك الله وفضح صاحبك. فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والاسلام. ثم إنك تعلم وكل هؤلاء الرّهط يعلمون أنّك هجوت رسول الله (صلى الله عليه واله) بسبعين بيتاً من الشعر، فقال (صلى الله عليه واله): اللهم إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي، اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة، فعليك إذا من الله ما لا يحصى من اللعن(2). (عَجَباً لابْنِ النَّابِغَةِ) نبغ الشيء أي: ظهره(3)، قال بعض الشارحين: (وسميت أم عمرو النابغة لشهرتها بالفجور وتظاهرها
ص: 125
به)(1)، وقال الشارح عبد الحميد بن أبي الحديد: ذكر الزمخشري في كتاب» ربيع الابرار(2) قال: كانت النابغة أم عمر و بن العاص أمة لرجل من عنزة، فسبيت فاشتراها عبد الله بن جذعان التميمي بمكة، فكانت بغياً ثم اعتقها، فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطلب، وأمية بن خلف الجمحي، وهشام بن المغيرة المخزومي، وأبو سفيان بن حرب، والعاص بن وائل السهمي في طُهرٍ واحد، فولدت عمراً فادَّعاه كلهم فحُكِّمت أمه فيه، فقالت: هو من العاص بن وائل وذلك؛ لأنَّ العاص بن وائل كان ينفق عليها كثيراً، قالوا: وكان أشبه بأبي سفيان، قال: وروى أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب «الانساب» أن عمراً اختصم فيه يوم ولادته رجلان: أبو سفيان بن حرب، والعاص بن وائل، فقيل: لتحكم أمُّه، فقالت: أمّه من العاص بن وائل، فقال أبو سفيان: أما إني لا أشك أني وضعته في رَحِم أمه، فأبت إلاَّ العاص. فقيل لها: أبو سفيان أشرف نسباً، فقالت: إن العاص بن وائل كثير النفقة عليَّ، وأبو سفيان شَحِيح. ففي ذلك يقول حسان بن ثابت لعمر و بن العاص حيث هجاه مكافئاً(3) له عن هجاء رسول الله (صلى الله عليه واله):
أبوك أبو سفيان لاشكَّ قد بدت *** لنا فيك منه بينات الدلائلِ ففاخر به إما فخرت ولاتكن *** تفاخر بالعاص الهجين بن وائل وإن التي في ذاك يا عمر و حُكمَتْ *** فقالت رجاءً عند ذاك لنائل مِنَ العاص عمرو تخبر الناس *** كلما تجمعت الأقوام عند المحافِلِ(4)
ص: 126
(يَزْعُمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً، وَأَنّي(1) امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ، أُعَافِسُ وَأُمَارِسُ! لَقَدْ قَالَ بَاطِلاً، وَنَطَقَ آثماً. أَمَا - وَشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ -) زعم كنصر زعماً مثلثة(2)، أي: قال حقاً أو(3) باطلًا، وكذب أيضاً وأكثر ما يستعمل في الباطل وما يشك فيه، والدُعابة بالضم (المزاح)(4)، والمراد الدعابة الكثيرة أو العظيمة الخارجة عن حد الاعتدال، روي أنه كان يقول لأهل الشام إنما أخرنا عَليّناً لأنَّ فيه هزلاً لاجدّ معه وقد نسجه على مثال عمر بن الخطاب حيث قال يوم الشوري لما أراد صرف الأمر عنه (عليه السلام): الله أنت لو لا أنَّ فيك دعابة، ورجل تِلعابة بالكسر أي كثير اللعب، والمعافسة والعِفاس بالكسر المعالجة(5)، والملاعبة والممارسة المزاولة قال في النهاية: ويطلق على الملاعبة، ومنه حديث علي (عليه السلام) زعم أني كنت أعافس وأمارس، أي: ألاعب النساء(6)، والكذب على زنة كنف(7) في النسخ ويجوز/ ظ96 / بالكسر (إنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ، وَیَعِدُ(8) فَيُخْلِفُ، وَيَسْأَلُ فَيُلْحِفُ، وَيُسْأَلُ فَيَبْخَلُ(9)، وَيَخُونُ
ص: 127
الْعَهْدَ، وَيَقْطَعُ الْإلَّ) ألحف أي: (الحّ)(1)، والإل بالكسر: العهد والقرابة والحلف والجار ذكره(2) في القاموس(3) ولعل المراد بقطع الال قطع الرحم أو تضييع الحليف والجار، وزعم بعض الشارحين أنه لا يطلق إلاَّ على العهد(4)، وقال: (لما اختلف اللفظان حسُن التقسيم بهما، وإن كان المعنى واحداً)(5)، (فَإِذَا كانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وَآمِرٍ هُوَ! مَا لَمْ تَأخُذِ السُّيوفُ مَآخِذَهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكِيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَوْمَ سَبَّتَهُ) المآخذ على لفظ الجمع، وفي بعض النسخ على صيغة الإفراد، وكلمة كان الأولى تامة والاشارة الى أخذ السيوف مأخذها وهو التحام الحرب ومخالطة السيوف الرؤوس وأكبر(6) بالباء(7) الموحدة وهو أولى مما في بعض النسخ بالثاء المثلثة، والمكيدة والكيد المكر والحيلة، ويمنح كيمنع أي: يعطي، والسبة الأست أي: العجز أو حلقة الدبر، أو المراد بإعطاء القوم سبته ما ذكره أرباب السير(8) وصار يضرب به المثل من كشفه سوءته شاغراً برجليه لما لقيه علي (عليه السلام) في بعض أيام صفين وقد اختلطت الصفوف واشتعل(9) نار الحرب فحمل (عليه السلام) عليه فألقى نفسه عن فرسه رافعاً رجليه كاشفاً عورته فانصرف
ص: 128
(عليه السلام) عنه لافتاً وجهه، وفي ذلك قال أبو فراس:
ولا خير في دفع الأذى بمذلة *** کما ردها يوماً بسوءته عمرو(1) وروى ابن عبد البر [...](2) في الاستيعاب(3) عن ابن الكلبي في كتابه في أخبار(4) صفين أن بسر بن أرطاه بارز علياً (عليه السلام) يوم صفين فطعنه علي (عليه السلام) فانكشف له فكف عنه کما عرض له مثل ذلك مع عمرو بن العاص، قال: ولهم فيها أشعار مذكورة في موضعها من ذلك الكتاب منها فيما ذكر ابن الكلبي و المدائني قول الحارث بن النضر السهمي:
أفي كل يوم فارس ليس ينتهي *** وعورته وسط العجاجة بادية يكف لها عنه على سنانه *** ويضحك منه في الخلاء معاوية بدت أمس من عمرو فقنع رأسه ***وعورة بسر مثلها حذو(5) حاذية فقولا لعمرو ثم بسر ألا (انظرا)(6) *** سبيلكما لا تلقيا الليث ثانية ولا تحمدا(7) إلا الحيا وخصاكما(8) *** هما كانتا والله للنفس واقية ولولاهما لم تنجوا من سنانه *** وتلك بما فيها عن العود ناهیة متى تلقيا الخيل المشيحة صبحة *** وفيها علي فاتركا الخيل ناحية وكونا بعيداً حيث لا يبلغ القنا *** نحوركما إن التجارب كافية(9) وروي أن معاوية قال لبسر بعد ذلك وكان يضحك: لا عليك يا بسر
ص: 129
أرفع طرفك ولا (تستحي)(1) فلك بعمرو أسوة، وقد أراك الله منه وأراه منك فصاح فتى من أهل الكوفة ويلكم يا(2) أهل الشام أما تستحيون لقد علمكم عمر و كشف الأستاه(3)، ثم أنشد الأبيات، وروى أنه قال معاوية لعمرو يوماً بعد استقرار خلافته: يا(4) (أبا)(5) عبد الله لا أراك إلا ويغلبني قال: بماذا؟ قال: أذكر يوم حمل عليك أبو تراب في صفين فأرزيت(6) نفسك فرقاً من شبا سنانه، وكشفت(7) سوءتك له، فقال عمرو: وأنا منك أشد ضحكاً، إني لأذكر يوم دعاك الى البراز فانتفخ سحرك، وربا لسانك في فمك، وغصصت بريقك، وارتعدت فرائصك، وبدا منك ما أكره، فقال معاوية بعد ماجرى بينهما: الجبن والفرار من علي لا عار على أحد فيهما(8)، وكان بسر ممن يضحك من عمر و فلما اعلم أنه لا محيص حذا حذوه وصار مضحكة له أيضاً. (أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَيَمْنَعُني مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، وَإِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحقِّ نِسْيَانُ الآخِرَةِ إِنَّهُ(9) لْمَ يُبَايِعُ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ لَهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً، وَيَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً) في بعض النسخ (إنه ليمنعني) على أن يكون
ص: 130
الضمير للشأن، والايتاء الاعطاء والاتية العطية، والرضخ العطاء القليل،(1)، والمراد بالآتية و الرضيخة مصر، ولعل التعبير [عنها](2) بالرضيخة لقلتها / و 97 / بالنسبة إلى ترك الدين وقد تقدمت الاشارة الى كيفية المبايعة والشرط.
(وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الأَوَّلُ لَا شَيْءَ قَبْلَهُ، وَالْآخِرُ لَا غَايَةَ لَهُ، لَا تَقَعُ الْأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ، وَلَا تُعْقَدُ [...](3) الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلىَ كَيْفِيَّةٍ؛ وَلَا تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَالتَّبْعِيضُ، وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ وَالْقُلُوبُ.) الأول ضد الآخر، وأصله أوعل على صيغة أفعل لقولهم: هذا أول منك، ويجمع على أوائل(4)، وقيل: أصله ووءل على فوعل قلبت الواو الأولى همزة ولم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع واوین بينهما الف الجمع(5)، وأوليته سبحانه لكونه موجد الأشياء و محدثها ونفي القبلية تأكيد لرفع توهم الأولية الاضافية، ويدل على القدم والا لتقدم محدثه عليه، والآخر صفة على زنة فاعل، يقول: جاء آخراً أي: أخيرا و آخريته سبحانه لبقائه بعد فناء الأشياء أو لفنائها
ص: 131
بالنظر الى ذاتها أو لانتهاء المسبات إليه كما انه الأول الذي يبتدئ(1) منه الأسباب أو لآخريته ذهناً كما أنه الأول خارجاً والغاية المدى ونفيها کنفي القبلية والوقوع السقوط ونفي وقوع الأوهام على صفة له كناية عن عدم ادراكها إياها لأنَّها لا تدركه لعدم كونه محسوساً(2)، فكيف تدرك صفة له لو كانت ولتنزهه سبحانه عنها ولا يدل الكلام على وجودها وقد سبق في الخطبة الأولى قوله (عليه السلام): (وکمال توحيده) نفي الصفات عنه وأصل العقد عقد الحبل، أي شدّه، يقول: عقدته كضربته فانعقد واعتقدت كذا أي: عقدت عليه القلب، وَجَزّأْتُ الشيء قسمته وجعلته أجزاء، والتبعيض التجزئة، ولعل المراد بأحد اللفظين القسمة العقلية وبالآخر الخارجية، أو المراد بأحدهما التركيب و بالآخر الكمية واحاطة الأبصار الرؤية واحاطة القلوب الإدراك بالکنه.
[...](3) [منها](4): (فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللهِ بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ، وَاعْتَبِرُوا بِالآیِ السَّوَاطِعِ، وَازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ، وَانْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَالْمَوَاعِظِ) (الوعظ: النصح والتذكير بالعواقب)(5) (تقول)(6) وعظته کوعدته فاتعظ أي قبل
ص: 132
الموعظة(1)، والعبر جمع عبرة وهي ما يتعظ به الإنسان ويعتبره ليستدل به على غيره وهي اسم من الاعتبار، وقال الخليل: العبرة: و الاعتبار بما مضى(2) أي: الاتعاظ والتذكر، والآي جمع آية وهي (العلامة)، والمراد آيات القرآن أو آيات الله في خلقه من دلائل وجوده وصنعه، وسطع الصبح والشعاع وغيرهما ارتفع، وقال بعض الشارحين: (السواطع: المشرقة المنيرة)(3)، و الازدجار افتعال من الزجر، وهو المنع والنهي، وانذره بالأمر انذاراً ونذرا بضم وبضمتين أعلمه وخوفه وحذره في إبلاغه(4)، وقيل: النذر اسم من الإنذار، وقال بعض الشارحين: النذر جمع نذير، وهو المخوِّف، والأحسن أن يكون النُّذر هاهنا هي الإنذارات(5) نفسها، لأن البوالغ(6) لا (تكون)(7) في الأكثر إلاَّ صفة للمؤنث(8)، والبالغة الواصلة، (وشيء بالغ أي: جيد)، والذكر خلاف النسيان فالانتفاع بالذكر العمل بمقتضى العلم، ويمكن أن يراد بالذكر القرآن، قال الله تعالى: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ»(9)، قيل:
ص: 133
وسمي القرآن ذكراً من الذكر بمعنى الشرف(1)، والقرآن ذكر فتذكروه أي: جلیل نبيه(2) خطير فأجلّوُه واعرفوا له ذلك ولا يبعد حينئذ أن يراد بالمواعظ الاخبار (فَكأَنْ قَدْ عَلِقَتْکُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ، وَانْقَطَعَتْ مِنْکُمْ عَلَائِقُ الْأُمْنِيَّةِ) كاَّنَّ أما مخففة من كأن اسمها ضمير الشأن، أو مركبة من أن الناصبة للفعل وكاف التشبيه على ما ذكره بعض الشارحين(3)، وعلقه كعلمه وعلق به أي: تعلق ونشب واستمسك، والمخالب جمع مخِلب(4) بكسر الميم وهو للطائر، والسبع كالظفر للإنسان سمي به لأنَّ الحيوان يخلب / ظ 97 / به الجلد، أي: يقطعه ويمزقه(5)، وقيل: المخلب لما يصيد، والظفر لما [لا](6) يصيد، و منی له أي: قدّر ومنه المنية للموت لأنَّه مقدّر، والأمنية بالضم وكذلك المنية المراد، والعلاقة بالفتح والكسر (الحبّ اللازم للقلب)(7)، وقيل: (بالفتح: في المحبة ونحوها، وبالكسر في السوط ونحوه)(8) و انقطاع علائق الُأمنية اليأس من التمتع بالمال و متاع الدنيا لحضور الموت (وَدَهَمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ، وَالسِّيَاقَةُ إِلَى الْوِرْدِ الْمَوْرُودِ) دهمه الأمر كسمع غشیه وفاجأه واقطع الأمر إذا اشتدت شناعته وجاوز الحد في القبح، والمراد بمفظعات الأمور سکرات الموت وما يتبعه من عذاب القبر وأهوال الآخرة، وساق الماشية وغيرها سوقاً وسياقة
ص: 134
بالكسر، (قال الخليل: السوق أن یکون خلف الدابة، والقود أن يكون أمامها آخذاً بقيادها)(1)، ووردت الماء إذا حضرته لتشرب، والوِرد بالكسر الماء الذي ترد عليه، والمراد الموت أو المحشر أو مصير الأمر في الآخرة، قال الله سبحانه: «فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ»(2)، ولعل الوصف بالمورود للدلالة على أنَّه لابد من وروده. (وَکُلُّ(3) نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ؛ سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا؛ وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا) الشهيد الشاهد كما يظهر من الكلام قيل(4) السائق والشاهد ملكان أحدهما يسوق الإنسان والآخر يشهد بعمله، وقيل: ملك جامع للوصفين، وقيل: السائق كاتب السيئات، والشهيد(5) کاتب(6) الحسنات، وقيل السائق نفسه أو قرينه، والشهيد جوارحه وظاهر الكلام التعدد والمغايرة فاندفع الثاني والأخير والشهادة عليها بأبي الثالث فبقى الأول.
[وَمِنْهَا فِي صِفَة الجَنة](7): (دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلاَتٌ، وَمَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ، لاَ يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا، وَلَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا، وَلَا يَهْرَمُ خَالِدُهَا، وَلَا یَبْأَسُ(8) سَاکِنُهَا)
ص: 135
الدرجات المراتب والطبقات وهي في النار دركات، والنعيم النعمة، والظعن(1) السير(2) خلاف الاقامة، وهرم كفرح أي: بلغ أقصى الكبر والغرض نفي الضعف والفتور اللازمين لطول المكث على حسب العادة في الدنيا، ولا يبأس بالباء الموحدة أي: لا يصيبه بؤس وهو الشدة والعسر، يقول: بئس الرجل كعلم وفي بعض النسخ (لا ييأس) بالياء [المشددة](3) المثناة من تحت من اليأس ضد الرجاء وقطع الأمل والأول أظهر.
(قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ، وَخَبَرَ الضَّمَائِرَ، لَهُ الْإحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَالْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) السريرة ما يكتم كالسر، وخبر الشيء كنصر علمه فهو خبير، صرح به في المصباح المنير(4)، وقال بعض الشارحين: (خبر الضمائر بفتح الباء: امتحنها واختبرها، ومن رواه بكسر الباء أراد علمها(5) وهو الذي يظهر من كلام الجوهري(6)، والضمير اسم من أضمرت في نفسي شيئاً أي: أخفيته، والظاهر أن المراد بالإحاطة العلم، والقوة ضد الضعف، والمراد القدرة على كل شيء واختصاص الأمور الثلاثة به سبحانه واضح.
ص: 136
(فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ، قَبْلَ إِرهَاقِ(1) أَجَلِهِ، وَفيِ فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغْلِهِ، وَفِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِکَظَمِهِ، وَلْيَمَهِّدْ لِنَفْسهِ وَقَدَمِهِ، وَلْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ) المهل بالتحريك المهلة، وأرهقته أي: داینته وقربت منه، ومنه غلام مراهق أي: مقارب للحلم(2)، و(المرهق: الذي أدرك ليقتل)(3) ويحتمل أن يكون الإرهاق بمعنى الإعسار، (يقال: لا ترهقني لا أرهقك الله أي: لا تعسرني لا أعسرك الله)(4)، والأول أظهر، وأوان الشغل كناية عن الزمان الذي لا يتمكن فيه المكلف من العمل، والمتنفس زمان التنفس أو مکانه، وقال بعض الشارحين: في متنفسه أي سعة وقته، يقال: أنت في نفس من أمرك، أي في سعة(5) والكَظم بالتحريك مخرج النفس أو الفم(6)، والأخذ بالكظم ضيق الحال أو المراد قبض الروح ومهد الفراش مهداً کمنع بسطه ومهده تمهيداً بمعناه(7)، ويكون مهد بالتخفيف بمعنی کسب وعمل، وفي بعض النسخ (وليمَهِّدْ)(8) بالتشديد / و 98 / والقدم واحدة الأقدام والغرض
ص: 137
تهيئة موضع يمكن طيه ولا يتعسر وضع القدم عليه للحزونة والخشونة عند الخروج من الدنيا أو يثبت(1) عليه القدم عند العبور على الصراط، والتزود أخذ الزاد، والظعن(2) السير.
(فَاللهَ اللهَ أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ، وَاسْتَوْدَعَکُمْ مِنْ حُقُوقِهِ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً، وَلَمْ يَتْرُکْکُمْ سُدًی؛ وَلَمْ يَدَعَکُمْ فِي جَهَالَةٍ وَلَا عَمىً) انتصاب اللفظة الجليلة بالفعل المقدر أي اتقوا ونحوه، ويجعل التكرير دليلاً على التقدير و استحفظكم أي: أمركم بحفظه، وإنَّ لا تضيعوه بترك العمل بما تضمنه أو المراد أعمّ منه، و[من] الصيانة عن الاندراس وتطرق التحريف ونحوهما، واستودعه أي: جعله موضعاً للوديعة، وأمره بحفظها وأسداه أهمله وابل سدیً أي: مهملة لا راعي لها (قَدْ سَمَّی آثَارَکُمْ، وَعَلِمَ أَعْمَالَكُمْ، وَكَتَبَ آجَالَكُمْ، وَأَنْزَلَ عَلَیْکُمُ الكِتَابَ تِبْیَاناً لِکُلِّ شَيْءٍ، وَعَمَّرَ فِيکُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً؛ حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَلَكُمْ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي رَضِىَ لِنَفْسِهِ) أثر الشيء بالتحريك بقيته وعلامته ومنه أثر القدم عند المشي، قال بعض الشارحين: هذا الكلام يفسر بتفسيرين: أحدهما: قد بين لكم أعمالكم خيرها وشرها كقوله تعالى: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»(3)، وثانيهما(4) قد أعلى مآثركم، أي رفع منازلكم إن أطعتم، ويكون سمّى بمعنی اسمی کما كان في الوجه الأول
ص: 138
بمعنى أبان وأوضح. والتِبيان بكسر التاء مصدر وهو أبلغ من البيان ولم يجيء بالكسر إلاَّ التبيان والتلقاء وإكمال الدين ببيان فرض الولاية أو به وبسائر ما يوجب النجاة من النار والفوز بالجنة قال الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(1) ورضاه سبحانه لهم في معنى رضاه له، وفي بعض النسخ لا توجد كلمة (دينه) فيكون سهواً من قلم النّساخ، أو الموصول عبارة عنه، أو محذوف والموصول صفة للكتاب. (وَأَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَكَارِهَهُ، وَنَوَاهِيَهُ وَأَوَامِرهُ، فَأَلْقَى إِلَيْكُمْ المَعْذِرَةَ، وَاتَّخَذَ عَلَيْكُمْ الْحُجَّةَ، وَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ، وَأَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) الإنهاء الإبلاغ(2)، وأنهيت الأمر الى الحاكم أعلمته به، والمعذرة الاسم من قولك: عذرته فيما صنع، والقاء المعذرة الى العصاة في عقابهم إعلامهم بالعقاب على تقدير العصيان على ألسنة الرسل، وبيان المنجيات والمهلكات وأنذركم، أي حذركم وأعلمكم، وبين يدي العذاب قدامه وأمامه، أي قدّم الوعيد والإنذار [على](3) العقاب. (فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَةَ أَيَّامِكُمْ، وَاصْبِرُوا لَها أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ الْأَيَّامِ اِلَّتي تَكُونُ مِنْكُمْ [...](4) فِيهَا الْغَفْلَةُ، وَالتَّشَاغُلُ عَنِ المَوْعِظَةِ) استدرك الشيء وتداركه حاول ادراكه واستدراك البقية العمل فيه-ا بطاعة الله وصرفها فيما يبقى ثمرته، واصبروا أي احبسوا، قال الله تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
ص: 139
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ»(1)، ومنه القتل صبراً وهو أن يحبس ویرمی حتی يموت والحكم بقلة البقية في جنب الأيام التي مضت بالغفلة أما لأنَّ أكثر المخاطبين الكهول والمشائخ، أو لأنَّ ما لا يتيقن ادراكه لاحتمال هجوم الموت في كل ساعة وإن قبله في حكم العدم فبالحرى أن يعد قليلاً، أو لأنَّ ما يستدرك من البقية ليس إلاَّ ما فضل عما يمضي بالنوم والأكل والشرب ونحوها، والاشتغال بالمباحات(2) التي لا يخلو الإنسان منها، وقلته واضحة، ويحتمل أن تعم كلمة يكون الماضي والآتي، وحينئذ فالقلة أوضح، والتشاغل على صيغة التفاعل من قبيل(3) التغافل والتجاهل لأنَّ الإنسان يظهر الشغل(4) وليس مشغولاً وكونه على الأصل كأنَّه يشغل نفسه ونفسه يشغله لا يخلو عن بعد (وَلَا تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِکُمْ؛ فَتَذْهَبَ بِکُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الظَّلَمَةَ، / ظ98 / وَلَا تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الْإِدْهَانُ عَلَى المِعْصِيَةِ) الرخصة في الأمر خلاف التشديد والاستقصاء فيه، أي لا تساهلوا ولا تسامحوا أنفسكم في الصغائر، وما (تستحقره)(5) النفس من الذنوب فتتدرج بکم الى الكبائر والذنوب الموبقة، فالمراد بالرخص رخص النفس إلاَّ الرخص الشرعية، أو المراد بها مشتبهات الأمور فإنها حمي المحرمات ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه أو الأعم منها ومن المباحات على وجه الخوض، أو المراد بالرخصة ترك السنن والطاعات وارتكاب المكروهات وحمل الرخص على تقليد كل مجتهد
ص: 140
فيما خفت وسهل على النفس کما جوزه بعض الشارحین(1) فاسد. والمداهنة والإدمان المصانعة والغش(2) واظهار خلاف ما يضمره الإنسان(3)، وهجم علیه کنصر دخل أو بغير أذن أو بغتة(4) بغير علم، والباء للتعدية وقد یکون متعدياً بنفسه، وكون المصانعة ومرافقة الناس فيما يشتهون داعياً الى معاونة الظلمة وترك النهي عن المنكر، وأصناف المعصية واضح، وكذلك الغش ومخادعة الناس، ولو حمل الإدهان على مصانعة النفس فينبغي أن يحمل على بعض الوجوه الأخيرة التي سبقت في الترخيص ويحمل الترخيص على الوجه الأول (عِبَادَ اللهِ: إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ، وَإِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفٍسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ) أصل النصح الخلوص(5)، والنصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له، قالوا: ولا يمكن التعبير عن هذا المعنى بكلمة غيرها، والغش ضد النصح وكون الرجلين أنصح واغش لأنَّ المنفعة والمضرة في الأمرين، أي الثواب والعقاب الدائمان أعظم المنافع والمضار، (وَالْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفٍسَهُ وَالْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ) غبنه كضربه خدعه في بيع أو رأي، غبناً بالتسكين والتحريك، أو الأول في الأول، والثاني في الثاني، فهو غبين ومغبون کما صرح [به](6) في القاموس(7) أو الأول في الثاني، والثاني في الأول
ص: 141
کما ذكره بعض الشارحين(1) ويظهر من كلام الجوهري(2)، وفي بعض النسخ الفعل على صيغة المجهول والاسم بعده مرفوع، ولعل المعنى على ما في الأصل أحقّ الناس بأن يسمي مغبوناً من غبن نفسه بأن يعمل عملاً يستحق به العقاب لا من غبنه غيره بأن يخدعه في مال ونحوه فينخدع کما يزعم الناس لعود الضرر بالظلم إلى الخادع واستحقاق الثواب إلى المنخدع، أو لأنَّ اللوم والحسرة عند نفسه إذا كان هو الخادع أشد مما إذا غبنه غيره لشيوع الاضرار من الأعداء، وعلى ما في بعض النسخ المغبون من أصابه الغبن في نفسه بهلاك الآخرة لا من غبن بضياع مال ونحوه کما یزعمه الناس وجعل النفس حينئذ مغبوناً توسع، ويمكن حمل ما في الأصل أيضاً على هذا الوجه إلاَّ أنَّ ذكر الفاعل لا يظهر له فائدة يعتد بها إلاَّ بتكلف، وغبطه كضربه وسمعه منی نعمته على أن لا يتحول عنه، والمعنى أحقّ الناس بأن يغبط(3) من سلم له دينه لا من سلم له الأهل والمال وتمتع من الدنيا بأنواع التمتع کما یزعم الناس (وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لَهِوَاهُ وَغُرُورِهِ) وعظته فوعظ واتعظ، أي قبل الموعظة، وخدعه أراد به المكروه من حيث لا يعلم فانخدع، واللام للتعليل، والخادع الشيطان والنفس، وكونها صلة بعيد والهوى ارادة النفس وغرّه(4) غروراً أطمعه(5) بالباطل والاضافة إلى المفعول، والمعنى السعيد من رأى حسن عاقبة المحسنين وابتلاء المسيئين في الدنيا وعلم
ص: 142
ثواب العباد وعقابهم في الآخرة فأحسن وأطاع واحترز(1) عما يتبع السيئة والإساءة من العقاب وسوء العاقبة من قبل أن يبتلى فعیت بر به غيره ولا حاجة الى التخصيص بسعادة الآخرة كما زعمه بعض الشارحين(2) (وَاعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاء شِرْكٌ، وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلْإِيمَانِ؛ وَمَحٍضَرَةٌ لِلشَّيٍطَانٍ) الرئاء اسم من أريته فرأه، وهو اظهار العمل للناس ليروه ويظنوا به خيراً، / و 99 / والشرك اسم [من](3) أشرك بالله، أي: کفر وكون الرئاء شركاً لأنَّ الغير يصير معبوداً للمرائي ولو في الجملة كما في صورة الضم، ولا يخلص(4) العمل لله سبحانه، وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل رئاء شرك أنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس، ومن عمل لله كان ثوابه على الله(5)، وفي بعض الأخبار أنَّ ذكر العمل الخالص بجعله من الرئاء، روى عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: (الابقاء على العمل أشد من العمل، قيل(6) وما الابقاء على العمل؟ قال: يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فكتبت له سراً ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانية، ثم يذكرها فتمحي وتكتب له ریاء(7))(8) وأهل الهوى التابعون لإرادات النفس وشهواتها
ص: 143
ومنساة للإیمان، أي موضع نسيان الإيمان أي: تركه أو الغفلة عنه، ومحضرة الشيطان أي موضع حضوره والتاء تفيد(1) الكثرة كمسبعة للأرض التي يكثر فيها السباع (جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ. الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَكَرَامَةِ، وَالْکَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَمَهَانَةٍ) المجانية المباعدة، والشفا طرف (الشيء)(2) وشفيره(3) قال الله تعالى: «وَكُنْتُمْ [عَلَى](4) شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا»(5) والمنجاة النجاة، أي الخلاص أو موضعها، والشرف بالتحريك المكان المشرف المرتفع، والمهواة (الحفرة)(6)، وقيل: ما بين الجبلين ونحوه(7)، والمهانة اسم من أهانه أي: (استخف به)(8)، و(يقال: رجل فيه مهانة، أي: ذل وضعف)(9)، والغرض اشراف الصادق على النجاة والكرامة في الدنيا والآخرة والكاذب على سقوط الدرجة والمذلة (وَلَا تَحَاسَدُوا، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْإِيمَانَ کَمَا تِأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ، وَلَا تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الحَالِقَةُ) التباغض المعاداة(10)، والحالقة الخصلة التي تهلك وتستأصل کما یزیل الموسى
ص: 144
الشعر من أصله(1)، وروي عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه واله): ما کاد جبرئيل يأتيني إلاَّ قال: يا محمد اتق شحناء الرجال وعداوتهم(2) (وَاعْلَمُوا أَنَّ الأمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ، وَیُنْسِي الذِّكْرَ. فَأَکْذِبُوا الْأَمَلَ؛ فَإِنَّهُ غَرُورٌ، وَصَاحِبُهُ مَغْرُورٌ)، قال الجوهري(3) وغيره(4) الأمل هو الرجاء، وقال في المصباح المنير: (أملته أملًا من باب طلب)(5)، وهو ضد اليأس وأكثر ما يستعمل الأمل فيما يستبعد حصوله ومن عزم على سفر إلى بلد بعيد يقول: أملت الوصول ولا يقول طمعت إلا إذا قرب منه، وقد يكون الأمل بمعنى الطمع، (والرجاء بين الأمل والطمع فإنَّ الراجي قد يخاف أن لا يحصل مأموله)(6)، ولهذا يستعمل بمعنى الخوف، فإنَّ قوي الخوف استعمل استعمال الأمل، وإلا استعمل استعمال الطمع، وأملته تأميلاً مبالغة وتكثير وهو أكثر استعمالاً من المخفف، ويقال لما في القلب مما ينال من الخير أمل، ومن الخوف ايجاس ولما لا يكون لصاحبه ولا عليه خطر، ومن الشر وما لا خير فيه وسواس ويسهی وینسي على صيغة الأفعال، أي: يورث السهو والنسيان، وفي بعض النسخ على صيغة التفعيل بمعناها، والسهو الغفلة والنسيان بمعناه، وقيل: أصله الترك(7) وهما ضد
ص: 145
الحفظ، وفرقوا بين الساهي والناسي (بأنَّ الناس إذا ذكرته تذكر، والساهي بخلافه) ذكره في المصباح المنير(1) والظاهر أنَّ الذكر ذكر الله عز وجل وأحوال الآخرة وعلل اسهاء العقل بأنَّ الأمل أبداً مشغول الفكر بما يأمله ويرجوه وكيفية تحصيله وما يعمل به بعد حصوله، وذلك يستلزم الغفلة عما يعنيه ويهمه إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وأكذبه أي كذبه أو وجده كاذباً أو بين(2) كذبه، وأكذاب الأمل رده بذكر الموت والمعاد والإعراض عنه بالاشتغال بما خلق الإنسان له، و(الغَرور) بالفتح مبالغة في الغار(3)، وفي بعض النسخ(4) بالضم فالحمل للمبالغة، (وصاحبه مغرور)، أي يعود الضرر إليه.
(عِبَادَ اللهِ؛ إِنَّ مِنْ أَحَبَّ عِبَادِ اللهِ / ظ99 / إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ، وَتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ) (العون: الظهير على الأمر)(5)، وأعانه عليه أي قوّاه وظاهره حتى غلب، وأعانه الإنسان على نفسه توفيقه وتسديده بالطافه حتى يعمل بمقتضى عقله، ويقهر النفس الأمارة بالسوء واستشعر الحزن، أي اتخذه شعار وهو بالكسر الثوب الذي يلي الجسد سمی به لقربه
ص: 146
من الشعر(1) والذي فوقه هو(2) الدثار(3) و تجلبب الخوف، أي اتخذه جلباباً وهو الإزار والرداء، وقيل: الملحفة، وقيل: هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها، والحزن على ما فاته(4) من الطاعة واكتسب من الإثم والخوف من البعد عن الله وعقابه (فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهَدَى فِي قَلْبِهِ، وَأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازلِ بهِ، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ، وَهَوَّنَ الشَّدِيدَ) زهر الشيء كمنع أي أضاء وصفا لونه، والمصباح (السراج)(5)، وقريت الضيف کرمیت قِری بالكسر والقصر اضفته أو أحسنت اليه(6)، والاسم القَراء بالفتح والمد، وقيل: قريته قرىً وقراءً، ويومه الذي سينزل به يوم القيامة، أو الموت، والمراد بالبعيد الأمل وتقريبه قصره بذكر الموت والاعراض عنه بالالتفات إلى النعيم الباقي أو الموت وتقريبه أن(7) يمثله بين عينيه صباحاً ومساءً ويعدّه قريباً من نفسه بالاستعداد له، وقيل: المراد رحمة الله فإنَّها بعيد من غير مستحقها وتقريبه الاشتغال بالطاعة واصلاح العمل كما قال سبحانه: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ»(8) والمراد بالشديد المشاق من الطاعات ومجاهدة النفس وتهوينه الاشتغال به بشوق واقبال من النفس ليفوز بما أعد الله للمطيعين من الثواب أو شدائد الدنيا من المصائب والفقر ونحوه، وتهوينه تسهيله على
ص: 147
الخاطر واستحقاره في جنب الثواب الموعود للصابرين أو عذاب الآخرة وتهوينه بالتوبة والطاعة الصادقة إياه (نَظَرَ فَأَبْصَرَ، وَذَکَرَ فَاسْتَكْثَرَ، وَارْتَوَی مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهَّلَتْ لَهُ مَوَارِدَهُ، فَشَرِبَ نَهَلاً وَسَلَك سَبِيلاً جَدَداً) نظر الى الشيء، أي تأمله بعينه والمعني توجه الى المصنوعات و آثار القدرة والدلائل فعلم بالمدلول أو رآه مجازا أو إلى العبر، وآثار الماضين فاعتبر واتعظ، ويقال: نظر في الأمر إذا تدبر فيه بعقله، وتفكر فالمعنی تدبر فأبصر(1) نور الحق أو علم به ويراد بالبصر الحاسة وبصر القلب وذكر أي ربه فاستكثر منه أو لم يغفل عن الموت ومايصير اليه، وروى من الماء كرضى فارتوی وتروّى أي صار ریان ضد عطشان، وعذُب الماء بالضم ساغ مشربه(2)، والفرات كغراب الماء العذب جداً [...](3) والوصف للتأكيد والموارد الطرق الى الماء من الورود وهو الحضور للشرب، ونهل البعير كتعب نهلاً بالتحريك (شرب الشرب الأول حتی روی)(4)، والجدد بالتحريك المستوى من الأرض والصلب الذي لا وعث فيه ولا غبار(5)، ولعل المعنى أرتوى من حب الله أو من المعارف الحقة التي سهلت له موارده بالهداية الالهية فسبق على أقرانه في أخذ نصيبه وسلك صراطاً مستوياً يؤديه الى مقصده (قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّى من الْهُمُومِ(6)، إِلاَّ هَمَّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ) خلعه کمنعه نزعه، إلّا أنَّ في الخلع
ص: 148
مهلة والسربال (القميص أو الدرع أو كل ما لبس)(1)، وتخلى منه وعنه ترکه، والهَمّ بالفتح الحزن وما همّ به الإنسان أي عزم عليه وانفرد به أي لم يشرك أحداً في همه ولم يظهره لأحبائه وفي كلامه (عليه السلام) في صفة المؤمن بُشْرُه في وجهه وحزنه في قلبه، أو انفرد واعتزل عن الناس ملابساً لهمه أو بسببه كقولهم: ظبية منفردة عن القطيع أو انفرد وامتاز عن امثاله بالحزن لغفلتهم وكونه تأكيداً للوحدة(2) بعيد والمعنى اعراضه عن هموم الدنيا واشتغاله بحزن الآخرة أو بما يعزم عليه(3) ويهتم به من التقرب إلى الله جل وعز (فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى وَمُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى، وَصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى، وَمَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَی) العمى عمى القلب أي الجهل والضلال قال الله تعالى: «فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(4)، ومشاركة أهل الهوى [و](5) متابعة الشهوات، والمغلاق والغلق بالتحريك ما يغلق به الباب ضد المفتاح، والرَدى بالفتح (الهلاك)(6)، يقول: (ردی کرضی ردیً)(7) (قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ، وَسَلَكَ سَبِيلَهُ، وَعَرَفَ مَنَارَهُ، وَقَطَعَ غِمَارَهُ، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا، وَمِنَ (الْجِبَالِ)(8) بِأَمْتَنِهَا) المراد بطريقه التي أمر بسلوكها وتوصله إلى مقصودة، وكذلك سبيله، والمَنار بالفتح: موضع
ص: 149
النور خص بعلم الطريق، وأول من ضرب المنار على طريقه ليهتدي إذا رجع من مغازيه أبرهة(1) بن الحارث ملك من ملوك اليمن وبه سمي ذا المنار، والغِمار بالكسر جمع غمر بالفتح، وهو معظم البحر، والماء الكثير(2)، ولعل المراد بقطع الغمار خروجه عن فتن الدنيا ومضلاتها بسفن النجاة والهدايات الخاصة، وقال بعض الشارحين: (اشار بالغمار الى ما كان مغمورا فيه من مشاق الدنيا وهمومها والتألم بسبب فقدها ومجاذبة(3) أهلها لها فإنَّ العارف بمعزل عن ذلك والتألم بسببه)(4)، والعُروة بالضم من الكوز، والدلو المقبض(5)، وعروة الأحمال ما تشدبها ويستعار بكل ما يوثق به ويعول عليه، قال الله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا»(6) والوثيق المحكم والحبل في الأصل (الرسن)(7)، وجمعه حبال كسهم وسهام ويستعار لكل ما يستمسك به، قال الله تعالى:
ص: 150
«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا»(1)، والمتانة الشدة والقوة وورد في الأدعية المأثورة (ياذا الحبل الشدید) ولعل المراد بأوثق العرى الإيمان، وبأمتن الحبال(2) اتباع أوامر الله ومتابعة سبيل الهدی. (فَهُوَ مِنَ الْيَقِيِن عَلىَ مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ، قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ للهِ سُبْحَانَه فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ؛ مِنْ إِصْدَارِ کُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ، وَتَصْيِيِر کُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ). نصب الشيء أي أقامه، وأرفع الأمور أشرفها وأعلاها، وصدر كنصر صدوراً وصدراً بالتحريك رجع من الماء. ریّان ضد الورود وهو الحضور للشرب، والمراد بالوارد السائل عن المعضلات واصداره بیان الجواب له بوجه شاف، أو المسألة نفسها وإصدارها بيانها، ويمكن أن يراد بإصدار الوارد نحو الانتصاف للمظلوم وردع المفسد وتنبيه الغافل والقيام بكل ما يوجب الفوز الى السعادة في الدنيا والآخرة، وتصيير الفرع الى الأصل استنباط الجزئيات من الكليات في الأحكام الشرعية والعقلية واستخراج النتائج من الدلائل، ولا يدل على حجية القياس فإنَّه لا أصل له. (مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ، کَشَّافُ عَشَوَاتٍ، مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ، دَفَّاعُ مُعْضِلَاتٍ، دَلِیلُ فَلَوَاتٍ) رفع الكلمات بالخبرية، والعشوة بالحركات الثلاث (الأمر الملتبس)(3) مأخوذ من عشوة الليل وهي (ظلمته)(4)، وقيل: (هي من أوله إلى ربعه)(5)، وروى بعض الشارحين: (غشوات) بالغين المعجمة، والغشوة
ص: 151
بالحركات الثلاث أيضاً، والغشاوة (الغطاء)(1) ولعلها بالكشف أنسب، وأبهمت الباب، أغلقته وأمر مبهم أي لا مأتی له، (وأصل العضل: المنع والشدة)(2)، تقول(3) أعضل [بي](4) الأمر إذا ضاقت عليك فيه الحيل، ومنه قول عمر: (أعوذ بالله من كل معضلة ليس لها أبو الحسن)(5)، قال في النهاية: أراد المسألة الصعبة أو الخطة الضيقة المخارج، ويريد بأبي الحسن علي بن أبي طالب، ومنه قول معاوية وقد جاءته مسألة مشكلة معضلة ولا أبا حسن(6)، وهو من وضع المعرفة موضع النكرة لأنَّ (لا) لا تدخل على المعارف و المسألة معضلة على صيغة اسم الفاعل والفلاة: المفازة)(7)، وقال في سر الأدب: إذا كانت الأرض مع الاتساع والاستواء بعيدة الأكناف والأطراف فهي السَّهب، والخرق ثم السبسب و السملق فإذا كانت مع هذه الأوصاف لا ماء فيها فهي الفلاة والمهمة، ولعل المعنی کونه هادياً في ظلمات الضلال کشافا للشبهات مفتاحاً لصعاب(8) المسائل دفاعاً للحجج الباطلة، دليلًا في فلوات
ص: 152
الحيرة والجهالة. (يَقُولُ فَيُفْهَمُ، وَیَسْکُتُ فَيَسْلَمُ. قَدْ أَخْلَصَ للهِ فَاسْتَخْلَصَهُ، فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ، وَأَوْتَادِ أَرْضِهِ) افهام القول لوضوح البيان و مناسبته الفهم المخاطب والسلامة في السكوت إذا كان في القول ضرر، وأخلص لله أي لم يشرك بعبادة ربه أحداً ولم يعمل رئاء ولا سمعه، بل أسقط غير الله عن ظ 100 / درجة الاعتبار واستخلصه أي استخصه(1)، واستخلاص الحق العبد تخصیصه من أمثاله بالرضا عنه، وافاضة الكمال وادنائه إلى حضرة القدس، والمعدن کمجلس منبت الجواهر والنفائس من الذهب وغيره سمي به لإقامة أهله فيه، أو لإثبات الله عز وجل إياها فيه من عدن بالبلد أي أقام، وقال في مختصر العين: (معدن كل شيء حيث يكون أصله فيه)(2)، وكونه معدناً للدين لخروج نفائس العلوم وغيرها منه، أو لأنَّه موضع اقامة الدين أو أهله الاقتباس الأنوار واستفادة العلوم، وأوتاد الأرض الذين لولاهم لمادت بأهلها وفسدت. (قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَكَانَ أوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ. يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ، لَا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلاَّ أَمَّهَا، وَلَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا) الزمته الشيء أي جعلته غير مفارق عنه والعدل ضد الجور، وملكة تبعث على الأفعال الفاضلة خلقاً لا تخلقاً وعدداً من أصول الحكمة والشجاعة والعفة وما عداها من الفضائل من فروعه والهوى إرادة النفس کما مرّ، وفي بعض النسخ (أولَ)(3) منصوب والاسم نفي الهوى، وغاية كل شيء مداه و منتهاه، وأَمَة قصده أي لا يقنع ببعض الخير بل يستقصي غاياته ومظِنة الشيء بکسر
ص: 153
الظاء موضع يظن وجوده فيه. (قَدْ أَمْکَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمامِهِ(1)، فَهُوَ قَائِدُهُ وَإِمَامُهُ، يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ، وَيَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ) أمكنه من الشيء مكنه فتمكن، وزمام البعير ککتاب مقوده، وقيل أصله الخيط الذي يشد في البرة أو الخشاش ثم يشد اليه المقود ثم سمي به المقود نفسه(2)، والبرة حلقه تجعل(3) في أنف البعير من صفر ونحوه(4)، والخِشاش بالكسر خشب يدخل عضم أنفه(5)، وتمكين الكتاب أي القرآن من نفسه تخليته ونفسه في الدلالة ثم اتباع أثره والعمل بمقتضاه لا تأويله على حسب الآراء والأهواء فيصير بمنزلة القائد والإمام، ويحل کيمد أي ينزل، وثقل المسافر بالتحريك متاعه وحشمه، قال بعض الشارحين: هذا الكلام ماله ظاهر و باطن، فظاهره شرح حال العارف وباطنه أن يشرح حال نفسه (عليه السلام) کما يدل عليه آخر الخطبة(6)، وحينئذ فالمراد بالآخر الذي يصفه بعض من تقدم عليه کما يدل عليه قوله (عليه السلام) بعد ذلك (كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم) إلى آخر الخطبة، (وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ، وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ) آخر في بعض النسخ منصوب عطفاً على اللفظ وصيغة تسمّى أما للمطاوعة أي سماه الناس عالماً فتسمى أو للاتخاذ نحو تقمص
ص: 154
وتردي أي اتخذه اسما، والضمير المجرور راجع إلى العالم، واقتبس [النار](1) أخذها من معظمها ويقال: اقتبس العلم إذا تعلمه، واقتباس الجهل أما على التهكم أو لأنَ الجاهل يزعمه علماً أو لأنَّه يأخذه كما يؤخذ العلم، والجهائل جمع جهالة كعلاقة، وعلائق على ما ذكره بعض الشارحين(2)، والمراد الجهل المركب وأما أضاليل فلم أجد مفرده صريحاً في كلامهم، وأردف الزمخشري في الأساس الأضاليل بالأباطيل(3) قال: ومن المجاز واقع في أضاليل وأباطيل وقد تمادى في أضاليل الهوى(4) وأباطيل جمع باطل على غير القياس کما صرحوا به، وقال الجوهري: (كأنَّهم جمعوا ابطيلا)(5)، ويحتمل أن يكون جمع الجمع فإنَّ كثيراً من الصيغ(6) تجمع(7) [...](8) على أفعال، ويجمع أفعال على أفاعیل کار جاف وأراجيف وأن يكون جمع أضلولة وهي ضد الهدى والمراد به(9) الأباطيل المضلة للناس الضالة عن الفهم السليم، (وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وَقَوْلِ زُورِ) الاشراك حبائل الصائد وما ينصب للطير، والحبائل جمع حبالة وهي (المصيدة)(10) وفي بعض النسخ (حبال
ص: 155
غرور) جمع حبل وهو الرسن، ولعله أنسب والغرور مصدر غره أي خدعه وما اغتر به من متاع الدنيا وغيره، والزُور بالضم الكذب والباطل وقول زور على الاضافة. (قَدْ حَمَلَ الْكِتَاَب عَلَى آرَائِهِ، وَعَطفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوائِهِ، يؤمِّنُ مِنَ(1) الْعَظَائِمِ، وَيَهُوِّنُ كَبِيَر الْجَرَائِمِ) / و101 / الأرءاء بالهمزات على الأصل جمع رأي وهو الاعتقاد، وعطفت الشيء فانعطف أي أملته فمال، وعطفت العود فانعطف، والغرض جعل الكتاب والحق تابعاً للعقائد وارادات النفس بالتأويلات والشبه، والأمن ضد الخوف وامنته على صيغة الأفعال أي جعلته أمنا وأزلت خوفه والعظائم الذنوب العظيمة(2) وهوّنه أي سهله وخففه والجريمة والجرم الذنب ولعل تهوين كبائر الجرائم وكذلك الايران من العظائم بالإفراط في ذكر البشائر المطلقة نحو قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»(3) والإعراض عن التذكير بالعقاب وما يوجب الخوف کما هو شأن الجهال من الواعظين (يَقُولُ: أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ - وَفِيهَا وَقَعَ - وَيَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ - وَبَیْنَهَا اضْطَجَعَ -) لعل المراد بالشبهات ما لم يظهر حله وحرمته أو لم يكن في غاية الظهور والوقوع السقوط والاعتزال التنحي عن الشيء والإعراض عنه والبدع مستحدثات الأمور والمراد مالم يدل على حله وشرعيته دلیل خاص أو عام واضطجع أي وضع جنبه على الأرض والغرض أنه يظهر للناس من نفسه الورع والتحرز عن الشبهات والبدع
ص: 156
على وجه الرئاء وقد وقع في الشبهات لجهله بها وزعمه أنها من الحلال البين کما هو الأنسب بلفظ الوقوع، أو ليل طبعه اليها مع علمه بها كما هو شأن المرائين والمخادعين، ويحتمل أن يكون المعنى: أنه يقول في نفسه ذلك وحاله على خلاف مايضمر في نفسه لجهالته، والأول أظهر وأنسب بلفظ الاضطجاع الدلالته على ركون الطبع وسكون النفس الى البدع ومن لطيف النكتة في هذا الكلام التعبير عن تورعه في الشبهات بالوقوف عندها وفي البدع باعتزالها فإنَّ الوقوف عند الشيء لا يدل على التنفر والاعراض الذي يدل عليه الاعتزال ثم التعبير عن كذبه بوقوعه فيما أظهر التورع عنه في الشبهات وبالاضطجاع بينها في البدع فإنَّ الوقوع في شيء لا يدل على الميل الذي يدل عليه الاضطجاع فروعي في حكاية القول ما يناسب حال (الرئاء)(1)، وفي حكاية الحال ما يلائم ظهور الكذب فلا تغفل (فَالصُّورَة صُورَةُ إِنْسَانٍ، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوانٍ، لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدى فَيَتَّبِعَهُ، وَلَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ، فَذَلِكَ مَیِّتُ(2) الَأْحْيَاءِ) الحيوان بالتحريك كل ذي روح ناطقاً كان أو غيره يستوي فيه الواحد والجمع لأنَّه مصدر في الأصل، وأصله حييان والمراد غير الناطق منه، وصَدَّ عنه کمد أي أعرض وصَدَّ فلاناً عن كذا أي منعه وصرفه فيحتمل أن يكون المعنى يمنع نفسه أو غيره عنه و ميت الأحياء أي میت لجهله وعرائه(3) عن الكمال والآثار المطلوبة من الحياة وإن كان يعد(4)
ص: 157
من الأحياء في الظاهر . (فَأَیْنَ تَذْهَبُونَ! وَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(1)، وَالَأْعْلاَمُ قَائِمَةٌ، وَالْآيَاتُ وَاضِحَةٌ، وَالْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ!) تؤفكون على صيغة المجهول أي تصرفون وتقلبون(2) والعلم ما بيهتدی به من منار وجبل(3)، والمراد الدلائل الدالة على الحق من المعجزات والنصوص ونحو ذلك، والآية العلامة، ويمكن أن يكون المراد بالآيات آيات القرآن الدالة على وجوب اتباع العترة وفضائلهم والمنار موضع النور خص بعلم الطريق كما تقدم، ولعل المراد به الإمام من أهل البيت (عليهم السلام) (فَأَيْنَ يُتَاهُ بِکُمْ! بَل کَیْفَ(4) تَعْمَهُونَ وَبَیْنَکُمْ عِتْرَةُ نَبیِّکُمْ؛ وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ(5)!) التِيه بالكسر المفازة التي لا علامة فيها يهتدي بها وتاه فلان إذا تحير وتاه به وتيههُ وتوههُ أي حيرهُ(6)، والعمه التردد على وجه التحير(7) تقول(8): عمه کسمع، وأرض عمهاء أي ليس فيها إمارة تدل على النجاة(9)، والواو للحال والعامل الفعل أو الفعلان المتقدمان وعترة الرجل نسله ورهطه الأدنون وقد فسر رسول الله (صلى الله
ص: 158
عليه واله) عترته في الحديث المتفق عليه بين الفريقين: ((إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي))(1) وبين أهل البيت لما نزلت آية التطهير کما روته العامة والخاصة وقد فصلناها في شرح / ظ101 / الخطبة الشقشقية من حدائق الحقائق(2)، قال الشارح عبد الحميد بن أبي الحديد: ولیس بصحيح قول من قال: إنهم رهطه وإن بعدوا، وإنما قال أبو بكر يوم السقيفة أو بعده: (نحن عترة رسول الله وبيضته التي تفقأت عنه على طريق المجاز لأنَّهم بالنسبة إلى الانصار عترة له لا في الحقيقة ألا ترى أن العدناني يفاخر القحطاني، فيقول: أنا ابن عم رسول الله (صلى الله عليه واله) ليس يعني أنه ابن عمه على الحقيقة بل بالإضافة(3)، والأزمة جمع زمام وهو المقود أو الخيط المخصوص کما تقدم(4)، والمراد أنهم القادة للحق يدور معهم حيث ما داروا وألسنة الصدق أي هم كاللسان للصدق لا يتكلم إلاَّ بهم، أو هم المتكلمون به(5) ولا يظهر إلاَّ منهم كما يدل عليه وفي الكلام تصريح بعصمتهم (عليهم السلام) وتلويح إلى نفيها عن غيرهم [وإن غيرهم](6) ليس أهلًا للإمامة والمتابعة (فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ) قال بعض الشارحين: منازل القرآن منزلة الاكرام والتعظيم، ومنزلة التصور من دون تعظيم، ومنزلة الوجود اللساني بالتلاوة، ومنزلة الثبت في الدفاتر
ص: 159
والكتب، وأحسن منازله الأولى(1)، فالمراد إذن الوصية بإكرامهم ومحبتهم کما يكرم القرآن بالمحبة والتعظيم، وقال بعضهم: المراد أن يجروا العترة في إجلالها وإعظامها والانقياد لها والطاعة لأوامرها مجرى القرآن، ويمكن أن يكون المراد بمنازل القرآن منازل العترة التي يدل(2) عليها القرآن والاضافة لكون القرآن مظهراً لها ودليلاً عليها، ولما كانت المراتب التي تظهر(3) من آیات القرآن متفاوتة، بعضها أجل وأرفع أمرهم (عليه السلام) بالإجلال الكامل وأن لا يقتصروا على ما دون تلك المرتبة، فإنَّ مرتبة فضلهم هي الأعلى وإن لم يكشف عنها قناع البيان في بعض المقامات المصلحة يعلمها الله، أو لأنَّ ما يظهر من صفات الكمال عن بعض الآيات أعلى وأجل مما يظهر من بعض وردوهم أمر من الورود وهو حضور الماء للشرب، (والهُيام بالضم: أشد العطش)(4) يقال ناقة هيمی، والجمع هِیمٌ بالكسر(5)، وذكر العطاش تأكيد والعرض الحث و(التحريض)(6) على الاستفاضة من علومهم وبرکاتهم والاقتباس من أنوارهم لأنَّهم ينابيع العلم ومعادن الكمال. (أَيُّهَا النَّاسُ: خُذُوهَا عَنْ خَاتمِ النَّبِيِّینَ (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلَّم(7))، إِنَّه يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَلَیْسَ بِمَيِّتٍ، وَیَبْلَی مِنَّا وَلَيْسَ بِبَالٍ) الضمير في خذوها راجع الى
ص: 160
مايفهم من المقام من الفائدة ونحوها التي تعلق غرضه (عليه السلام) بذكرها واختلف كلام الشارحين في الموت المنفى عنهم (عليهم السلام) فقيل: المراد أنهم أحياء عند ربهم منعمون مکرمون كما قال عز وجل: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ»(1) وكذلك المراد بنفي البلى بقاء الروح منعما مكرماً وإن عرض البلى للجسد ولا يخفى أن الظاهر من المقام اثبات مرتبة أعلى من هذه المرتبة العامة للشهداء من سائر الخلق وغير الشهداء أيضاً فإنَّ الجميع محفوفون بالكرامة والنعيم في البرزخ وبعده کما يدل عليه الأخبار، [وقد روى القطب الراوندي (رحمه الله)] في الخرائج باسناده عن الصفار قال: سُؤل الحسن بن علي (عليهما السلام) بعد مضي أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أشياء فقال لأصحابه تعرفون أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا رأيتموه قالوا نعم قال فارفعوا هذا الستر فرفعوه فإذا هم بأمير المؤمنين (عليه السلام) لا ينكرونه فقال لهم علي (عليه السلام) إنه يموت من مات منا وليس بمیت ويبقى من بقي منا حجة عليكم](2) وقيل: المراد حياتهم بأبدانهم لأنَّ الله تعالى يرفعها بأعيانها إلى ملكوت السماوات حتى لو فرضنا أن محتفراً احتفر
ص: 161
الأجداث الطاهرة لم يجد الأبدان في الأرض وقد ورد في الخبر عن النبي (صلى الله عليه واله) ((إنَّ الأرض لم تسلط عليّ وإنها لا تأكل ليّ لحماً ولا تشرب ليّ دماً))(1)، / و 102 / وأما اثبات البلى في قوله (عليه السلام) يبلی من بلی منا فيجوز أن يراد به بلى الكفن لأنَّه کالجزء من الميت ومجاور له مشتمل عليه، ولا يخفى أنَّ هذا الوجه في حديث الموت ينطبق على ما ورد في أخبارنا من أن أجساد [الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)](2) لا تبقى(3) في الأرض أكثر من ثلاثة أيام وإنما تزار مواضع آثارهم وإن كان ينافيه ظاهر أما [ما](4) ورد في نقل عظام يوسف (عليه السلام) ونحو ذلك ويمكن الجمع بالتخصيص وغيره، ولا حاجة إلى نفي الموت عنهم (عليهم السلام) کما زعمه بعض الغلاة وهو واضح، وأما حمل البلى على أنه بلى الكفن فلا يخلو من بعد، ويمكن أن يحمل على البلى بزعم الناس أو على الغيبة عن أعين الناس، والفقدان من محاضرهم وخفاء ذكرهم بين العامة وإن كانوا حاضرين في قلوب أحبائهم وأوليائهم يذكرونهم في شهودهم ومغيبهم، ولعل الظاهر على تقدیر رفع الأبدان الطاهرة إلى السماء تعلّق الأرواح بها في عالم البرزخ ولو فرض أن الرفع لنوع من الاحترام وجوّز عروض البلى للأجساد الطاهرة فأثبات البلى محمول على الظاهر وأما نفيه في قوله (عليه السلام) وليس ببال فيحمل على نفي البلى في القبر، أو نوع البلى العارض لسائر الأبدان في الأرض،
ص: 162
ولعل ما يعرض لأبدانهم المطهرة مخالف بالنوع لذلك، وكذلك يؤول نفي الموت بما يناسب هذا المعنى، ولا بعد في أن يكون لأرواحهم المقدسة تعلق خاص بالأبدان لا يكون لغيرهم، وقيل المراد بنفي البلى بقاء الأجزاء الأصلية التي هي متعلّق التكليف عند أكثر المتكلمين، ويحمل اثباته على بلى الأجزاء الفاضلة، وأما أبدان سائر الناس فيبلى أجزاؤها الأصلية وغيرها بأسرها فلو فرض أن محتقراً احتفر الأجداث الطاهرة لوجد الأبدان المقدسة فيها، وإن لم يعلم أن أصولها قد انتزعت منها ونقلت إلى الرفيع الأعلى وحينئذ فيحمل نفي الموت على تعلق خاص للأرواح بالأجزاء الأصلية واثباته على انقطاع تعلقها بالمجموع منها، ومن الأجزاء الزائدة، وقيل المراد بنفي الموت والبلى بقاء ذكرهم الجميل بين الناس الى يوم القيامة ووجوب التمسك باذيال مودتهم ومتابعتهم واقتباس الأنوار من أخبارهم(1) واستفاضة العلوم من ينابيع آثارهم ونحو ذلك لكن قوله (عليه السلام) (إن أكثر الحق فيما تنکرون)، وقوله (عليه السلام): (لا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر) إلى آخره، ربما يشعر بأنَّ المراد اثبات مرتبة أجل من ذلك، والله يعلم ويمكن أن يكون المراد أن موتهم (کحياتهم)(2) في الاطلاع على ما يحدث في الدنيا وعرض أعمال العباد عليهم، وأفاضة الأنوار على محبيهم ومواليهم والاستغفار للمذنبين منهم، ودفع البلايا عنهم وسماع السلام وما يناجيهم به زوارهم والوافدون إلى مشاهدهم ونحو ذلك ويمكن أن يكون المراد ما يستفاد من بعض الأخبار من رجعة أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام)
ص: 163
وسلطانهم وتمكنهم في الأرض والله تعالى يعلم مقاصد أوليائه. (فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرِفُونَ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيمَا تُنْکِرُونَ)، لعل المراد بما لا يعرفون(1) ما كانوا يزعمونه في شأن العترة من المراتب الناقصة لقصور افهامهم وعدم اطلاعهم على الدرجات الرفيعة والفضائل السنية التي أعطاهم الله من فضله والمراد بالإنكار الجحود فالغرض توبيخهم بجحود الحق في كثير من الأمور أو الجهل فيكون نهياً لهم عن التسرع إلى اعتقاد ما يفهمونه بآرائهم الناقصة (وَأَعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ - وَأَنَا هُوَ -(2) عَذرته فيما - صنع(3)) عذراً كضربته ضرباً رفعت عنه اللوم فهو معذور أي غير ملوم، والاسم العُذر بالضم، وفي بعض النسخ (اعذروا) على صيغة الأفعال والمعنى واحد، أي لا تلوموا فيما يلحقكم من عذاب الله بتقصيركم من لا حجة لكم عليه حيث لم يقصر / ظ102 / في انذار کم وارشادکم بل حذر وانذر وهداكم إلى الصراط المستقيم، وأنا الذي لا حجة لكم عليه، وقد فصل ذلك وبينه بقوله (عليه السلام): (أَلَمْ أَعْمَلْ فِيکُمْ بِالثّقَلِ الْأَكْبَرِ وَأَتْرُكْ فِيكُمْ الثَّقلَ الْأَصْغَرَ! وركزت فيكم راية الإيمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام)، المراد بالثقل الأكبر القرآن، وبالأصغر بقية العترة وإن كان نفسه (عليه السلام) داخلاً فيه في الحديث النبوي والقرآن أكبر؛ لأنَّ العترة يتّبعونه وقد روت العامة والخاصة بطرق متكثرة عن النبي (صلى الله عليه واله): ((إني تارك فيكم الثقلین کتاب
ص: 164
الله وعترتي أهل بيتي))(1)، قال بعض الشارحين: إنما سماهما بالثقلين؛ لأنَّ الثقل في اللغة متاع المسافر، وحشمه فكأن (صلى الله عليه واله)؛ لما شارف الانتقال إلى جوار ربه تعالى جعل نفسه كالمسافر والكتاب والعترة كمتاعه وحشمه لأنهما أخص الأشياء به(2)، وقال في النهاية: بعد ذكر الرواية سماهما ثقلين؛ لأنَّ الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل، ويقال لكل خطير نفیس ثقل، فسماهما ثقلين إعظاماً لقدرهما، وتفخيماً لشأنهما(3)، ثم فسر الثقلين في حديث سؤال القبر بالجن والإنس (لأنَّهما قطان الأرض)(4) أي سكانها، ثم قال: (والثقل في غير هذا متاع المسافر)(5) والظاهر أنه لم (يجوز)(6) حمله على هذا المعنى ووجه غير ظاهر، وقال في القاموس : (الثَّقَل مُحرَّكة مَتاعُ المُسافر، وحَشَمَه وُكلُّ شيءٍ نَفیسٍ مصُونٍ، ومنه الحديث: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله، وعترتي»(7)) والاحتجاج بالعمل فيهم بالثقل الأكبر؛ لأنَّ العمل به ملازم للعدل في الأحكام ونحوها وفي آراءهم(8) العمل به في العبادات وغيرها نوع من الهداية وبترك الثقل الأصغر؛ لأنَّ بقية العترة هم الهداة بعده والدعاة إلى الجنة وركزت الرمح غرزته في الأرض ونصبته، والراية العلم، والمراد ایضاح معالم الایان لهم لأنَّ الراية مما يهتدي بها العسكر في الحرب
ص: 165
ويعلمون بموقف الأمير أو نظم أمور الإيمان و جمع كلمة المسلمين بالجهاد وغيره؛ لأنَّ ركز الراية سبب(1) لثبات العسكر وعدم تفرقهم، ووقف کوعد يكون متعدياً کما یکون لازماً، تقول(2): وقفت الدابة أي دامت قائمة ووقفتها أنا كما تقول(3): وقفتّها بالتشديد، والحد الحاجز بين الشيئين وحد الشيء منتهاه، والتوقيف والوقف على الحدود الحفظ عن تجاوزها أو(4) أراءتها وتعليمها؛ لأنَّ الوقوف على الشيء يوجب الاطلاع عليه (وَأَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْليِ، وَفَرَشْتُکُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْليِ وَفِعْلي، وَأَرَيْتُکُمْ کَرَائِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْ نَفْسِي) الباس العافية جعلها شاملاً لهم محيطاً بهم كالثوب للشخص وفرشه كذا متعدياً إلى مفعولين أي أوسعه إياه، والمعنى جعلت المعروف لكم فراشاً مبسوطاً وهو اسم جامع لكل ماعرف من الخير والرفق والإحسان سمي به؛ لأنَّ الناس إذا رأوه لا ينكرونه، وفي آراءهم کرائم الأخلاق من نفسه (عليه السلام) اتمام الحجة في المتابعة فإنَّ المتخلق بها حري بالاقتداء والاتباع وهداية لهم إليها فإنَّ العمل أبلغ في الهداية من القول (فَلَا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْي فِيمَا لاَيُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ، وَلَا يَتَغَلْغَلُ(5) إِلَيْهِ الفِکَرُ) الرأي العقل والتدبير ذكره في المصباح المنير(6) وهو أنسب مما في أكثر كتب اللغة من الاعتقاد
ص: 166
ونحوه، و قعر البئر عمقها، والمراد بالبصر بصر القلب أي نظره و خاطره، أو(1) حس العين على تشبيه المعقول بالمحسوس، وتغلغل الماء في أصول الشجر أي دخل و(الی) بمعنى (في) كما قيل في قوله تعالى: «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(2) أو على نوع من التضمين، والفِكرة والفِكر بالكسر فيهما الاسم من التفكر التأمل، والمصدر الفَكر بالفتح والغرض التنبيه على جلالة العترة الطاهرة وإن أمرهم صعب مستصعب لا تحتمله // و103 / العقول القاصرة لئلا يتسرعوا الى انکار مالا مبلغ اليه أكثر الأفهام من فضائلهم، وقال بعض الشارحين: (هذا الكلام نهي لهم عن الاشتغال بالخوض في صفات الله والبحث عن ذاته على غير قانون و اسناد(3) مرشد بل(4) بحسب الرأي والتخمين)(5). وبعده عن المقام واضح.
[منها](6): (حَّتى يَظُنُّ الظَّانَّ أَنَّ الدَّنْيَا مَعْقُولَةُ عَلىَ بَنِي أُمَيَّةَ؛ تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا؛ وَتُورِدُهُمْ صَفْوَهَا؛ وَلاَ یُرْفَعَ عَنْ هذِهِ الْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَلَا سَيْفُهَا) الناقة المعقولة المشدودة بالعقال أي يظن الظان أنَّ الدنيا مسخرة لهم كالناقة المحبوسة بالعقال وتمنحهم أي تعطيهم والدر اللبن ويستعمل في كل خير، والايراد من الورود وهو حضور الماء للشرب، والصفو خلاف الكدر وصفو الدنيا
ص: 167
عافيتها ولذاتها، والسوط المقرعة التي يضرب بها سميت [به](1)؛ لأنهَّا تخلط اللحم بالدم [و](2) من السوط بمعنى الخلطوعدم رفع السوط دوام السلطان والحكم (وَکَذَبَ الظَّانُّ لِذَلِكَ؛ بَلْ هِي مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً، ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً) المجة مرة من مج الشراب من فيه إذا قذفه ورمی به(3)، والعيش الحياة وما یعاش به ويتطعمونها أي يذوقونها، والبُرهة بالضم مدة من الزمان فيها طول(4)، وقيل: أعم، ولفظه کضرب رماه والجملة جماعة الشيء أي دولتهم المذكورة فيما حذفه السيد من الكلام أو المفهوم من المقام يتمتعون بها مدة ثم تخرج عنهم بحيث لا يبقى معهم شيء.
(أَمَّا بَعْدُ فإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ(5) لْمَ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَرَخَاءٍ؛ وَلَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ الْأَمَمِ إِلاَّ بَعْدَ أَزْلٍ وَبَلاءٍ) القصم بالقاف کسر الشيء وابانته(6)، والفصم بالفاء كسره من غير ابانة(7)، والجبار المستكبر العاتي، وقَطُّ بفتح القاف وضم الطاء المشددة بمعنى الوقت الماضي عموماً(8)، تقول
ص: 168
ما فعلته قَطُّ، أي أبداً، مشتق من القط بمعنى القطع كما تقول لا أفعله البته، والتمهيل التأخير، وروي الابعد إرجاء ورخاء والإرجاء أيضاً التأخير، والرخاء سعة العيش، والجبر اصلاح الكسر، والمراد بجبر العظم دفع الجبابرة والظالمين وتقوية الأمة بعد الضعف وتوفيق ملوكهم للعدل والأزل بالفتح (الضيق والشدة)(1)، (وَفيِ دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ خَطْبٍ(2) وَاسْتَدْبَرْتُمْ(3) مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ. وَمَا کُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ، [ولا كل ذي سمعٍ بسميع](4) وَلاَ كُلُّ ذِي نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ) يقال: هذا دون كذا أي أقرب منه، ودون النهر جماعة أي قبل الوصول اليه، والخطب الأمر الشديد ينزل، وقيل: الشأن والأمر صغر أو عظم(5) وفي نسخ الشارحين (ما استقبلتم من عتب)(6) وهو بالفتح الموجدة، والغضب قال بعضهم: سمي المشقة التي لاقوها(7) في مستقبل زمانهم من الشيب وولاة السوء وتنكر الوقت عتباً؛ لأن الزمان كأنَّه الواجد عليهم القائم في انزال مشاقه بهم مقام الإنسان ذي الموجدة يعتب على صاحبه(8)،
ص: 169
قال: (وروي من عَتب بفتح التاء جمع عتبة يقال: لقد حُمِلَ فلان على عتبةٍ، أي على أمر كريه من البلاء، وفي المثل: ((ما في هذا الأمر رتبٌ ولا عتبٌ)) أي شدة)(1)، وقال بعضهم: (ما استقبلتم من عتب) بالتحريك أي عتابي لكم(2)، والخطب الذي استدبروه ماتصرم عنهم من الحروب والوقائع وما أصابهم من المشركين فيما مضى وقد كانوا مأمورين بأن يثبت(3) واحد منهم العشرة، ثم خفف الله عنهم وأيدهم بنصره، والمراد بالمعتبر موضع الاعتبار والاتعاظ والاستدلال بالشيء على مثله أو(4) هو مصدر، وروي (واستدبرتم من خِصْب) بكسر الخاء المعجمة وسكون الصاد المهملة (وهو كثرة العشب ورفاعة العيش)(5) خلاف الجدب وحينئذ يمكن أن يراد بالأمور المستقبلة والمستديرة جميعاً المواضي باعتبارين أي لكم / ظ 103 / فيما جرى عليكم من الشدة والرخاء کليها موضع العبرة والاتعاظ، ولعل الغرض من الكلام حثهم على الصبر والثقة على الله وإن لا يتزلزلوا لطول مدة الجبارين وسلطانهم ولا تتفرق(6) كلمتهم في الجهاد حتی یکشف الله عنهم البلاء ويقصم الجبابرة کما صبروا في أول الإسلام على البلايا، فكشفها الله عنهم ومنحهم بالظفر والنصرة على الأعداء، ولما كان الاغترار بالعقول والآراء من موانع الاعتبار،
ص: 170
قال: (وما كل ذي قلب بلبيب) أي بعاقل ينتفع بعقله بل كثير من الناس کما قال عز وجل: «لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ»(1).
(فيا عَجَبي(2)! وَمَا لَيِ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَأِ هَذِهِ الْفِرَقِ عَلىَ اخْتِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا؛ لَا يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍ، وَلَا يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ، وَلَا يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ) في بعض النسخ (یا عجباً)(3) بقلب ياء المتكلم الفاً؛ لأنَّ الألف والفتح أخف من الياء والكسر(4) كأنَّ المتكلم ينادي عجبه فيقول: احضر فهذا أوان حضورك، و(الخطأ) مهموزاً(5) بدون المد كما في النسخ(6) ضد الصواب وقد يمد، واقتص اثره وقص وتقصص أي اتبعه(7)، وأثر الشيء بقيته وعلامته، واقتصاص أثر النبي العمل بسنته، وفسر الغيب بالخفي الذي لا يدركه الحس ولا يقتضيه بديهة العقل وهو قسمان: قسم لا دليل عليه وهو المشار اليه بقوله عز وجل: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا
ص: 171
إِلاَّ هُوَ»(1)، وقسم من نصب عليه دليل وهو الذي أشير اليه بقوله سبحانه: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»(2)، وفسروه بوجوه، فقيل: إنه ما جاء من عند الله، وقيل: هو الدار الآخرة والثواب والعقاب والحساب، وقيل: هو الله، وقيل: ماغاب عن الإفهام من متشابهات القرآن، وقيل: كل ما غاب عن الحواس مما يعلم بالدليل، وقيل: يؤمنون بالغيب أي بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وقيل: أي يظهر الغيب(3)، كقوله تعالى: «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ»(4) أي يحفظون شرائط الإيمان في غيبة بعضهم والوجوه، وإن كانت محتملة في المقام أيضاً إلاَّ أنَّ بعضها بعيد، (ولا يعِفُّون) بكسر العين وتشديد الفاء من العفة أي لا يكفون، وفي بعض النسخ (لا يعْفون) بسكون العين والتخفيف، أي لا يصفحون، والعيب على الأول عيوب أنفسهم وعلى الثاني عيوب غيرهم، ويحتمل أن يكون المراد على الأول أنهم يغتابون الناس ولا يكفون عن عيوبهم کما ذكره بعض الشارحين(5) إلاَّ أنه بعيد (يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ وَیَسِیرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ) كلمة في أما بمعنى الباء کما قيل في قوله: بصيرون في طعن الأباهر والكلى(6) أو للظرفية المجازية كأن الشبهات ظرف
ص: 172
للعمل، والمراد بالشبهة أما الباطل الذي يشبه الحق، أو ما كان وجه الحق فيه ملتبساً ولم يكن حلالاً بيناً ولا حراماً بیناً وهو حمى المحرمات کما ورد في الخبر، ويمكن أن يكون الالتباس لغير العامل وتشبيه الشهوات بالطريق توسع لكثرة اتباعها (المَعْرُوفُ فِيهمْ مَا عَرَفُوا، وَالمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْکَرُوا، مَفْزَعُهُمْ فِي المُعْضِلاَتِ(1) إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَعْوِيلُهُمْ فِي المُبهَماتِ عَلىَ آرَائِهِمْ) المعروف الطاعة والخير سمي به؛ لأنَّ الشارع يعرفه بالحسن ولا ينكره ضد المنكر، أي جعلوا حسن المعروف و قبح المنكر تابعاً لأهوائهم، وفزعت(2) اليه کفرحت، أي لجأت، والمفزع هاهنا مصدر بقرينة الجارة وعطف التعويل، والمعضلات المسائل التي ضاق المخرج منها كما سبق وعول عليه أي اعتمد وآتَّکل، والمبهمات الأمور التي لا مأتي لها و(آرائهم) في بعض النسخ بقلب الهمزة الفاً، والمعنى لا يرجعون في المشكلات إلى أهل العلم بل يعملون بما يقتضيه عقولهم الناقصة (کَأَنَّ کُلُّ امْرئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ، قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا یَرَی بِعُرًی ثِقَاتٍ، وَأَسْبَابٍ مُحْکَمَاتٍ) روی (كل امرئ) بالرفع بدون كلمة كأن والضمير في (منها) راجع الى النفس أو إلى المبهمات والمعضلات على بعد، و(یری) على صيغة المعلوم أي فيما يراه ويزعمه، وفي بعض النسخ على صيغة المجهول، والأول أظهر وكون / و104 / المعنى فيما يظهر من حاله بعيد، والعرى جمع عروة وهي مقبض الدلو والكوز ویستعار لكل ما يتمسك به
ص: 173
کما مرّ(1) والثقة في الأصل مصدر وثِقت به أثِق بكسرهما أي ائتمنته، قال في المصباح المنير: (وهو وهي وهم ثقة، لأنَّه مصدر وقد يجمع في الذكور والإناث فيقال: (ثقات) کما قیل: (عدات))(2)، وفي بعض النسخ وثيقات، والوثيق المحكم والسبب الحبل ويستعار لكل ما يتوصل به الى أمر لأنَّ الحبل يتوصل به إلى الاستعلاء، وأحكمت الشيء [أي](3) أتقنته(4).
(أَرْسَلَهُ عَلَى حِين فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَاعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ؛ وَانْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُور، وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ) الضمير المنصوب راجع الى النبي (صلى الله عليه واله) والفَترة بالفتح انقطاع الوحي بين الرسولين ويسمى الزمان بينهما فترة(5)، والمراد أنه أرسله (صلى الله عليه واله) بعد مضي زمان يعتد به من الرسل السابقة وهو يوجب(6) وقوع الناس في الضلالة والفتنة، والهَجعة بالفتح النومة من الليل أو من أوله(7)، والمراد نوم غفلة الأُمم، واعتزمت على كذا وعزمت بمعنى أي أردت فعله وقطعت عليه والاعتزام لزوم القصد في المشي كأنَّه (عليه السلام) جعل الفتن على الأول
ص: 174
مریدة للشعث والهرج، وعلى الثاني مقتصدة في مشيها لاطمئنانها وأمنها مما يزيلها، وروي (واعترام) بالراء المهملة، قال في النهاية: (العُرام بالضم الشدة والقوة والشراسة)(1)، ومنه حديث علي (عليه السلام) على حين فترة من الرسل واعترام من الفتن أي اشتدادها(2)، وروي واعتراض(3) من اعترض الفرس إذا مشى عرضاً کما ذكره بعض الشارحين(4)، أو من اعترض البناء ونحوه في الطريق فمنع المار من سلوكه، أو من اعترض في الخيل إذا دخل بينهم، والتلظي التلهب والاضطرام واللظى من أسماء النار أو هو لهبها (وَالدُّنْيَّا کَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ؛ عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وَإِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، وَاِغورارٍ مِنْ مَائِهَا) كسفت الشمس کضرب وكذلك القمر إذا احتجبا، و ذهب ضوؤهما وكسفهما الله، يتعدى ولا يتعدى والاضافة إلى النور توسع والغرور الخدعة والاطماع بالباطل، واصفرار ورق الدنيا كناية عن تغيرها وتنكرها والإياس القنوط واغورار الماء ذهابه في الأرض(5)، وقال عز وجل «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا»(6) وروى بعض الشارحين
ص: 175
(اعورار)(1) بالعين المهملة من عورت عين(2) الركية(3) إذا كبستها(4) حتی نضب الماء، ولعل المراد بكسف النور عموم الجهالة وشيوع الضلالة وبظهور الغرور تسلط الشياطين وتمكن الهوى والميل إلى الدنيا في القلوب و باصفرار ورق الدنيا وما بعده شمول الذلة وقلة التمتع بالمكاسب لكثرة الظلم والتخاصم الشائع بين القبائل في الجاهلية (قَدْ دَرَسَتْ أعلامُ الْهُدَى، وَظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَی؛ فَهِيَ مُتَجَهِّمَةُ(5) لَأِهْلِهَا، عَابِسَةُ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا) درس الرسم كنصر عفا، ودرسته الريح يتعدى ولا يتعدى، والعلم مايهتدى به من حيل(6) ونحوه، وأعلام الهدى أئمة الدين والكتب وأدلة الأحكام، وفي بعض النسخ (درست منار الهدى) وهي جمع منارة أي علم الطريق والعلامة تجعل بين الحدين ومنه أعلام الحرم، والردى الهلاك وتجهمه وتجهم له أي استقبله بوجه کریه و عبس وجهه كضرب أي كلح(7). (ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ، وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ) الفتنة تطلق على الضلال
ص: 176
والإثم والكفر والفضيحة والعذاب والمراد بالجيفة ما كانوا يتناولونه في الجاهلية بالنهب والغارة والسرقة والقمار، أو ما كانوا يأكلونه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله أي ذبح على غير اسم الله، وكانوا يذبحون باسم اللات والعزى، والمنخنقة وهي التي ماتت بالخنق، والموقوذة وهي المضروبة بحجر أو خشب حتى تموت، والمتردية وهي التي سقطت من علو أو في بئر فماتت، والنطيحة وهي التي نطحتها أخرى، أي دفعتها بقرنها حتى ماتت، وما أكل السبع / ظ104 / إلاَّ ذكي قبل الموت، وما ذبح على النصب وهي الأصنام، أو الأحجار المنصوبة حول البيت كانوا يذبحون عليها و يعدون ذلك قربة، وما استقسم بالأزلام وهي القمار المعروف بينهم وكانوا ينحرون جزوراً و يستقسمونه بالأزلام وقد سبق شرحه ومن أطعمتهم الردية في الجاهلية وقد ذكرها أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض خطبه العِلهز والهَبيد والأول طعام من الدم والوبر، والثاني الحنظل یکسر ويستخرج حبه وينقع لتذهب مرارته ويتخذ منه طبيخ، وروی (وطعامها الخيفة) بالخاء المعجمة وهو الخوف وهو مناسب لكون الثمر الفتنة، والشِعار بالكسر الثوب الملاصق للبدن وهو يلي الشعر، والدِثار بالكسر أيضاً ما يلبس فوقه، قال بعض الشارحين: لما كان الخوف يتقدم السيف والسيف يتلوه، جعل الخوف شعاراً لأنَّه الأقرب إلى الجسد، والسيف دِثاراً تالياً له(1)، وقال بعضهم: الخوف وإن كان من العوارض العقلية إلاَّ أنه كثيراً ما يستتبع(2)
ص: 177
اضطراب البدن وانفعاله بالرعدة فيكون شاملاً كالشعار للبدن الدثار والسيف يشتركان(1) في مباشرة المدثر والمضروب من فوقهما(2)، ويمكن أن يقال لما كان الخوف من الأمور الباطنة الحالة في القلب أشبه الشعار الملبوس تحت الدثار الملاصق للبدن والسيف وجرحه لما كان ظاهراً أشبه الدثار الذي يلبس فوق الشعار (فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللهِ، وَاذْکُرُوا تِیِكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ وإِخْوَانِكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ، وَعَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ) الاعتبار الاتعاظ والاستدلال بالشيء على مثله، وتيك اشارة الى المؤنث الغائبة(3) والارتهان الاحتباس، وكل ما احتبس به شيء فرهينة ومرتهنة، والمشار اليها الدنيا التي تقدم ذكرها على ما ذكره بعض الشارحين(4) أو قبائح الأعمال التي اكتسبوها في الفترة وزمان الدعوة على ما ذكره بعضهم(5)، قال الله عز وجل: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ»(6)، وقال بعضهم يمكن أن يعني به الأمانة التي عرضت على الإنسان فحملها وهي العبادة، وهو مع بعده مبني على التفسير المذكور، نعم يمكن أن يكون المشار اليها الطاعة فلا يتوقف عليه. (وَلَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِکُمْ وَلَا بِهِمُ الْعُهُودُ، وَلَا خَلَتْ فِيمَا بَيِنَکُمْ وَبَيْنَهُمُ الْأَحْقَابُ وَالْقُرُونُ، وَمَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْمٍ كُنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ بِبَعِيدٍ) العَمر والعُمر بالفتح والضم مصدران لقولك: عمر الرجل كعلم، أي عاش زماناً إلاَّ أنّه لا يستعمل في
ص: 178
القسم إلاَّ العَمر بالفتح والكلمة مرفوعة بالابتداء، واللام لتوكيد الابتداء والخبر محذوف، أي لعمري قسمي، وتقادم الشيء بمعنی قدم ککرم فهو قدیم، ويطلق القديم على ما لا أول لوجوده بل لم يزل موجوداً، ومنه قوله (عليه السلام) في الخطبة الجامعة لأصول العلم: ولو كان قدیماً لكان الهاً ثانياً، أي كلامه سبحانه وعلى ما سبق وجوده بزمان طويل وإن كان حادثاً بالمعنى المقابل للأول وهو المراد بتقادم العهد، وقال في المصباح المنير: أصل القديم في اللسان العربي: السابق؛ لأن القديم هو القادم، فيقال الله تعالى قدیم بمعنى أنه سابق الموجودات كلها(1) والعهد يكون بمعنى الحال والعلم(2) واللقاء، يقال فلان قريب العهد بكذا، أي قريب الحال والأمر كما عهدت، أي كما عرفت و عهدته بمكان كذا أي لقيته وكلمته، (لا) في قوله: (ولا بهم) مزيدة لتأكيد النفي كقوله تعالى: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ»(3) فإنَّ [بعد العهد](4) أمراً اضافي يستلزم انتفاؤه عن أحد الطرفين، انتفاؤه عن الآخر [ويحتمل أن يكون المراد انه لم يبعد العهد بينكم وبين الاسلاف و كذلك بين الأسلاف وسلاف الاسلاف، أي ذلك سنة جارية في الاعصار والدهور، فبالحري(5) أن لا يذهل عنه أحد](6)، وخلت أي: مضت، والأحقاب جمع
ص: 179
حُقُب بالضم وبضمتين، قيل: هو ثمانون سنة أو أكثر(1). [وقيل: (الدهر)(2)، وقيل: سنة(3)](4)، وقيل: ستون، والقُرون جمع قَرن بالفتح وفسر بعشرة سنين وعشرين وثلاثين إلى مائة و / و105 / عشرين، وقال بعض الشارحين: (القرون: الأُمم من الناس)(5)، وتفسيره بالزمان أولى، ويوم بالفتح على البناء وفي بعض النسخ بالجر من غير تنوین، ولعل الغرض أنه إذا لم تكونوا بعيداً من يوم كنتم في أصلابهم فكيف بعد عهدكم بهم حتى نسيتم شأنهم ولم تعتبروا(6) بما جرى عليهم (وَاللهِ مَا أَسَمَعَهُمْ(7) الرَّسُولُ (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ) شَيْئاً إِلاَّ وَهَا أَنَا ذَا الْيوم مُسْمِعُکُمُوهُ، وَمَا أَسْمَاعُکُمُ الْيَوْمَ بِدُونِ أَسماعهم(8) بَالْأَمْسِ، وَلَا شُقَّتْ لَهُمُ الْأَبْصَارُ، وَ جُعِلَتْ(9) لَهُمُ الَأْفْئِدَةُ فِي ذَلِكَ الأوانِ(10) إِلَّا
ص: 180
وَقَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ) في بعض النسخ (أسمعكم)(1) على صيغة الخطاب موضع أسمعهم، وكذلك أسماعكم بالأمس موضع أسماعهم؛ فالخطاب للصحابة من أصحابه (عليه السلام) دون التابعين وما في الأصل أنسب بالسوق، والمعنى أنه لم يكن لهداية لهم أكمل من جهة الفاعل ولا القابل فلا عذر لكم من هذه الجهة، ثم لما احتمل المقام أن يدّعي مدع من المخاطبين العلم بأمر يقتضي العدول عن المتابعة لم يعلم به آباؤهم دفع (عليه السلام) ذلك التوهم بقوله: (وَاللهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئاً جَهِلُوهُ، وَلَا أُصْفِيتُمْ بِهِ وَحُرِمُوهُ) بُصّرتم على صيغة المجهول من باب التفعيل من البصر بمعنی العلم بقرينة الجهل، وأصفيتم به على صيغة المجهول، أي جعل لكم خاصة کما جعل الصفايا من المغنم لأمير الجيش وهي ما يصطفيه لنفسه من فرس وسيف ونحو ذلك قبل القسمة، وحرموه أيضاً على صيغة المجهول أي منعوا إياه، والحرمان كالإعطاء يتعدى إلى مفعولين، والغرض من مجموع الكلام الحث على العبرة بحال العاصين من السابقين والاقتداء بالمطيعين (وَلَقَدْ(2) نَزَلَتْ بِکُمُ الْبَلِيَّهُ جَائِلًا خِطَامُهَا، رِخْواً بِطَانْهُا) لعل المراد بالبلية استيلاء معاوية وبني أمية والحجاج، وجال فلان في البلاد إذا طاف غير مستقر(3)، وجال بسيفه إذا أداره على جوانبه(4)، والخطام ککتاب ما جعل في
ص: 181
أنف البعير لينقاد به سمي بذلك؛ لأن الخطم من كل دابة مقدم الأنف(1) ولعل المراد (بجولان)(2) خطامها كونها مالكة لنفسها، فإنَّ البعير إذا لم يكن له [من](3) يجذب(4) زمامه(5) ويقوده بل يسير ويرعی کما بیهوی يجول خطامه وقال بعض الشارحين: ([الناقة](6) اذا اضطرب خطامها استصعبت على راكبها)(7)، وبِطان البعير بالكسر الحزام الذي يجعل تحت بطنه(8) واذا استرخی البطان كان الراكب في معرض أنسب بالسوق، والمعنى أنه لم يكن لهداية لهم أكمل من جهة الفاعل ولا القابل فلا عذر لكم من هذه الجهة، ثم لما احتمل المقام أن يدّعي السقوط، ولعل الغرض من التشبيه كون تلك الدّولة جارية على حسب الأهواء خارجة عن نظام الشريعة، والراكن(9) اليها في معرض الهلاك في الآخرة وفي الدّنيا لقصر مدتها وعدم انتظامها. (فَلَا یَغُرَّنَّکُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلَ الْغُرُورِ، فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ إِلى أَجَلٍ مَعْدُودٍ) أهل الغرور المنخدعون بالباطل وما أصبحُوا فيه زخارف الدّنيا وزينتها والتشبيه بالظّل لعدم تأصّله في الوجود ولكونه ساكناً في بادي الرأي غير مستقر في الحقيقة
ص: 182
وعند التأمل ولكونه زائلاً بسرعه لا يبقى مَدة يعتد بها العاقل، والأجل يكون بمعنی غاية الوقت ومدة الشيء، ولعل المراد الثاني والوصف [بالمعدود](1) باعتبار أجزائه من الأيام والشهور والسّنين وكونه منتهى غاية المدّ على تقدير مضاف أي ممدود الى انقضاء أجل معدود.
(الْمَعْرُوفُ(2) مِنْ غَيِرْ رُؤْيَةٍ، وَالْخَالِقُ مِنْ غَيِرْ رَوِیَّةٍ) الروية الاسم من قولك: رَؤَاْتُ في الأمر تروئةً(3) وتَرويئاً(4) إذا نظرت فيه(5) ولم تعجل بجواب، وأصلها الهمزة إلا أنها (جرت في كلامهم غير مهموزة(6))(7) کالبرية من برأ أي خلق، وقيل (مأخوذة)(8) من بری(9) وهو التراب فغير مهموزة(10)، (والذُرِّية من ذرأ الله الخلق أي خلَقهُم)(11) والذرية وهي البعير أو غيره
ص: 183
يستتر به الصائد فإذا أمكنه الرّمي رمی، وقيل مهمُوزة، وتنزّهه سبحانه عن الرؤية؛ لأنَّها (تستلزم)(1) نوعاً من الجهل و احتمال حصول رأي وعلم لم يكن في أول الأمر؛ ولأنَّها حركة القوة المفكّرة في تحصيل المبادئ والانتقال منها الى المطالب، وَاللهُ سبحانه بريء عن القوى والآلات (الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً؛ إِذْ لا سَمَاءً ذَاتُ أَبْراجٍ، وَلَا حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ، وَلَا لَيْلٌ داجٍ، وَلَا بَحْرٌ / وظ 105 / سَاجٍ) قد فسروا القائم بوجوه، قال ابن عباس (قیامه)(2) سبحانه علمه بالخلق وضبطه لأحوالهم أينما كانوا، وقیل (قیامه)(3) توكيله الحفظة عليهم، قال الله تعالى: «أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ»(4)، وقيل: حفظه للخلق وتدبيره لأمورهم، وقيل: مجازاته بالأعمال، وقيل: قهره لعباده واقتداره عليهم، وقيل: ثباته وعدم زواله، وقيل: براءته عن الاعياء والفتور والانتقال من حال إلى حالٍ(5)، والدائم في اللّغة الذي طال زمانه والثابت على حال(6) ووصفه سبحانه بالقائم بأي معنی کان قبل ايجاد الخلق؛ لأنَّه لا يحتاج في الاتصاف به إلى غيره ومنشأ الاتصاف ذاته وإن كانت فعلية الصّفة على بعض التّفاسير متوقفه على وجود الخلق، وكذلك وصفه بالدّائم من (ذاته)(7) مترتب على وجوب وجوده، والأبراج والبروج جمع بُرج بالضم
ص: 184
وهو من الحصن(1) ركنه(2)، ومن السّماء قيل: منزل القمر(3)، وقيل: باب السّماء(4)، وقيل: الكوكب العظيم سمّي برجاً لظهوره(5)، وقيل: واحد البروج الأثني عشر التي اصطلح عليها المنجمون(6)، وقد ورد الاحتراز عن السّفر والتزويج، والقمر في العقرب وهو يناسب المعنى الأخير إلَّا أنَّ الكلام في أنَّ المراد بمعنی بالعقرب مثلاً في الأخبار وفي كلام العرب الصّورة المتوهمة من أوضاع الكواكب المعينة أو الموضع المعين من الفلك الأعظم الذّي كان محاذياً لها حين رصدوا الكواكب، أولا ثم زالت الكواكب عنه بحركة الفلك الثامن کما يزعمونه، ولعّل الأظهر الأوّل، وحجبه کنصر أي منعه، ومنه قيل للستر(7) حجاب؛ لأنَّه يمنع المشاهدة، وقيل: للبواب حاجب لأنّه يمنع من الدخول(8)، والأصل في الحجاب الجسم الحائل ويستعمل في المعاني توسعاً کما يقال: العجز حجاب بين الرجل وما یرید وفسر الحجب بالأنوار الحاجبة المضروبة بين العرش وبين الملائكة كما يظهر من بعض الأخبار، وقيل: المراد بها السّموات عبّر عنها بلفظين والأرِتاج في بعض النّسخ بكسر الهمزة، وهو مصدر ارتج الباب أي (أغلقه)(9)، وفي بعضها بالفتح جمع رَتج بالتّحريك
ص: 185
أو رِتاج بالكسر، والأوّل (الباب العظيم)(1)، والثاني (الباب المغلق)(2) أو الذّي عليه باب صغير(3)، قال بعض الشّارحين: يُبعِد(4) رواية من رواه أرْتَاجَ بالفتح؛ لأنَّ فعالاً بالكسر قَلَّ أن يجمع على أفعال(5) ويمكن أن يكون جمع رتج بالتّحريك كما ذكرنا، واللّيل الدّاجي المظلم(6)، والبحر السّاجي (السّاكن)(7). (وَلاَ جَبَلٌ ذُو فِجَاجٍ، وَلاَ فَجٌّ ذُو اعْوِجَاجٍ، وَلاَ أَرْضٌ ذَاتُ مُهَادٍ، وَلَا خَلْقٌ ذُو اعْتِمَادٍ) الفَّج بالفتح الطّريق الواسع بين جبلين والمِهاد بالكسر الفراش واعتمدتُ على الشيء اتكأت عليه، وكل حيّ يعتمد على رجله في المشي وعلى غيرها ويمكن أن يراد به القوّة والتصرف (ذَلِكَ(8) مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ وَوَارِثُهُ، وَإِلهُ الْخَلْقِ وَرَازِقُهُ؛ والشَّمْسُ اْلَقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِهِ، يُبْلِیَانِ کُلَّ جِدِيدٍ، وَيُقَرِّبَانِ کُلَّ بَعِيدٍ).
ابدعت الشيء وابتدعته أي استخرجته واحدثته، والله سبحانه مبتدع الخلق أي مخترعه على غير مثال ووارثه؛ لأنَّه يفني(9) من في السموات ومن في الأرض ويبقى هو سبحانه مالكاً للموجودات لا مالك لها سواه، وإن كان
ص: 186
الملك له حين وجودهم ودأب في عمله إذا جدّ وتعب، ومرضاته أي رضاه ودوب الشّمس والقمر في رضاه سبحانه استمرار تحركهما على وفق ارادته وحكمته، وبلى الثوب کرضى أي خلق وأبلاه أخلقه وابلاء هما كلّ جديد أنه يبلي بمضي الأيام والشّهور وكذلك تقربهما كلّ بعيد (قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ، وَأَحْصَى آثَارَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ وَعَدَدَ أَنَفَاسَهُم(1) وَخَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ) الإحصاء هو العد وأثر الشيء بقيته وعلامته ويمكن أن يكون المراد آثار أقدامهم في الأرض عند المشي والأنفاس جمع نفس بالتّحريك، وفي بعض النّسخ (عَدَدَ) على صيغة الاسم واضافته إلى أنفاسهم، وخائنة الأعين مايسارق من النظر إلى ما لا يحل أو أن ينظر بريبة (وَمَا تُخْفِی صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ، وَمُسْتَقَرَّهُمْ وَمُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الْأَرْحَامِ وَالظُهُورِ، إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ) الضّمير اسم من قولك: أضمرت في نفسي شيئاً أي أخفيته، ويكون بمعنى القلب والباطن، والمستقَر والمستودع مكان الاستقرار والاستيداع(2) / و106 / والجار في قوله (عليه السلام): (من الارحام) بيان للمستقر والمستودع على سبيل اللّف والنّشر المرتب فإنَّ الكمال و حلول الرّوح إنّما هو في الرّحم دون الصّلب، ويحتمل العكس لطول المكث في الأصلاب وحينئذ فالظّرف أعني قوله [(عليه السّلام)](3): (إلى أن تتناهی) متعلق بقسم واحصى وعدّد، أو بالمستّقر والمستودع وتناهي الغايات بهم على الأول الموت، وعلى الثاني الولادة ويحتمل أن يكون المستقر مأواهم على وجه الأرض فإنَّ القرار على
ص: 187
الأرض مقصود الخالق للتكليف والعبادة، والمستودع مرقدهم في الأرض بعد الموت فإنّ الانسان يودع(1) في القبر للحشر والحساب و كلمة (من) بمعنی (مذ) أي من زمان كونهم في الأرحام والظّهور الى انتهاء الغايات وهو الحشر في القيامة والقرار في الجنة أو النار، ويحتمل العكس في المُستقّر و المستودع لطول المكث والسّكون في القبر فهو المستقّر والإنسان مخلُوق للفناء والدّنيا دار ممرّ(2) لاَ دَار مقّر فوجه الأرض هو المستودع (هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَاتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي شِدَّةِ نِقْمَتِهِ) النقمة ككلمته اسم من نقمت منه كضربت وانتقمت، أي عاقبت(3) وتجمع على نقمات ککلات، ويجوز نقل حركة القاف الى النون وعلى الوجهين موجود في النسخ في الموضعين، وكلمة (في) أمّا بمعنی (مع) کما قيل في قوله تعالى: «فَادْخُلِي فِي عِبَادِي»(4) أو للظرفية المجازية، والغرض أنّه لا يمنعه سعة الرّحمة عن العقاب ولا العقاب فيجمع على نِقَم كنعمة ونِعَم عن الرّحمة بل هو جامع للوصفين على ما ذكره بعض الشّارحين(5)، أو أن کِلاّ من الأمرين في حال الآخر لا کالمخلوق الذّي(6) لا يرحم إذا غضب، ولا ينقم إذا عطف فهو سبحانه يعاقب أعداءه ويشتد نقمته عليهم في الآخرة مع أنّه يشملهم نعمه في الدنيا فسعة الرحمة بالنّسبة اليهم أو مع شمول نعمته لأوليائه، وكذلك
ص: 188
تتسع رحمته لأوليائه في الآخرة وفي الدنيا في بعض الأحوال مع شدة نقّمته عليهم في الدّنيا حيث يبتليهم بالشدائد والفقر والأمراض، فالنقمة أيضاً بالنّسبة اليهم أو مع شدّة نقمته(1) على أعدائه، ولا يخفى أن اطلاق النّقمة على ابتلاء الأولياء لمصلحتهم لا يخلو عن بعد فلعل حملها على معاقبة الأعداء أولى، وعلى تقدير التّسامح فيه يمكن أن يكون المراد اشتداد النّقمة على الأعداء في الإمداد بالأموال والبنين وبهجة الدّنيا وَزخارفها على وجه الاستدراج وهو المراد بسعة الرّحمة، وقد قال عزّ وجل: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * «نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ»(2) فالرحمة على الأعداء في المعنى عين النقمة والغضب، وكذلك اشتداد النقمة في الدنيا على أوليائه بالابتلاء بالمصائب عين العطف والرّحمة حيث يستعدّون به للفوز بالنعيم وسعادة الآخرة، ويمكن أن يكون المعنى اشتداد النقمة على الأعداء [في الآخرة](3) إذا وسعت رحمته لأوليائه ففازوا بنعيم الجنة وشاهدهم أهل النار وايقنوا بالخيبة والحرمَان واتّساع الرّحمة للأولياء إذا اشتدّت نقمته على الأعداء فألقاهم في الجحيم وشاهدهم أهل الجنة وايقنوا بالنّجاة والسّعادة الأبدية فإنَّ ذلك من عظائم لذّاتهم كما يدّل عليه بعض الأخبار، ويحتمل بعيداً أن يكون المعنى اشتدت نقمته على الأعداء بالمعاقبة في الآخرة مع سعة رحمته إياهم في الدّنيا بالرّزق والمعافاة واتّسعت رحمته للأولياء بالعفو، مع شدّة نقمته عليهم بارتكاب الذّنوب والآثام، ولا يخفی
ص: 189
أنَّ في كلّ من الوجوه رجحان(1) من بعض الوجوه، والله سبحانه يعلم مقصد ولیّه وصفيه (صلوات الله و تحياته) (قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ، وَمُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ؛ وَمُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ وَغَالِبُ مَنْ عَادَاهُ، مَنْ تَوَکَّل عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَمَنْ سَألَهُ أَعْطَاهُ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ ومن شكرهُ جزاهُ) وفي بعض النسخ قاهر بالتنوين لا الاضافة وكذلك الثلاثة بعده، والعزّة(2) القوّة والغلبة](3) وعازنّي فعزّني أي غالبني فغلبني، والتّدمير الاهلاك والمشاقة والشقاق الخلاف والعداوة، وناوأه أي باعده وعَاداه، قيل: وأصله من ناء إليك ونؤت(4) اليه إذا / ظ106 / نهضتهما، وأصل الواو الهمزة ومعازة الله ومعاداته التجبر والتّكبر والخروج عن طاعته بعد ظهور الحقّ والتوكلّ اظهار العجز عن الأمر والاعتماد على الغير، قال الله تعالى في كفاية المتوكّلين «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(5)، وفي اعطاء السائلين «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»(6) وفي قضاء المقرضين «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً»(7) وفي جزاء الشاکرین «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»(8) (عِبَادَ اللهِ زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَتَفَّسُوا قَبْلَ ضِيْقِ الْخِنَاقِ، وَانْقَادُوا
ص: 190
قَبْلَ عُنْفِ(1) السِّيَاقِ) زنة النّفس اعتبار عملها حتى يعلم مقدارها من حيث السّعادة [والشّقاوة](2) عند ربّها، ومحاسبتها ضبط عملها للرّدع عن القبائح والحثّ على الصّالحات، وفي بعض النّسخ (حاسبُوا قَبلَ أنْ تحاسبوا) بدون حرف الجرّ، والخناق ككتاب الحبل ونحوه الذّي يعصر به الحلق(3)، ويقال: أخذه بخناقه أي بحلقه، والتنّفس(4) قبل ضيق الخناق تحصيل راحة الجّنة وبهجتها بالأعمال الصالحة في الدّنيا قبل حلول الموت وفوت الفرصة وقَود(5) الفرس ضد سوقه وسيَاقه والأول جذبه من أمامه، والثاني حثّه على السّير وإذا استصعب ولم يطع القائد يقدمّه ويسوقه بعنف وشدة، والسّياق أيضا نزع الرّوح كأن الرّوح تساق لتخرج من البدن، والمعنى انقادوا لأوامر الله قبل أن يسوقكم ملك الموت الى الآخرة، أو يقبض روحكم أو ملائكة العذاب الى النَار (وَاعْلمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَزَاجِرٌ؛ لَمْ یَکُنْ لَهُ مِنْ غَيرهَا زَاجِرٌ(6) وَلاَ وَاعِظٌ) إعانة الله الإنسان على نفسه أن يوفقه بفضله، ويؤيده بلطفه حتى يقهر نفسه الأمارة بالسوء ولا يتبع(7) هواها ويختار طريق الخير ولا يبلغ الإعانة حد الاجبار كما هو ظاهر ينافي الاختيار والوعظ ذكر ما يلين القلب من الثواب والعقاب
ص: 191
وفناء الدّنيا ونحو ذلك.
الشَبح بالتحريك وقد يسكن الشخص ويجمع على الشّبوح أيضاً والمراد الملائكة لتضمن الخْطبة ذكرهم ووصفهم وَمِن جَلَائل خَطَبةِ وكان سَألهُ سَائل أن يَصِفَ الله لَهُ حَتّى كَأنَّهُ يَراهُ عِيَاناً فَغَضِبَ لِذَلِكَ. العِيان بالكسر المعاينة، وفي بعض النسخ موضع هذا الكلام، وهي من جلائل الخطب روى مَسْعَدةُ بن صَدَقة عَن الصّادق جعفر بن محمد (عليهما السّلام) قال: خَطَبَ أمِيرُ المُؤمنْينَ (عليه السَّلام وَالصّلاةُ) بِهذِه الخُطبَة على منبرِ الكُوفة وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلاً أتَاهُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمَير المؤْمنين صِفْ لَنَا رَّبَّنَا لِنَزدادَ لَهُ حُبّاً، وبِه مَعْرِفَةً فَغَضِبَ (عليه السّلامُ) وَنادي الصلاةُ جامِعَةً فَاجْتَمِع النَّاسُ عَلَيهَ حتّى غَصَّ المَسْجِدُ بأهْلِه فصَعَد المِنَبَر وَهُوَ مُغْضَبٌ مُتَغِيرُ(1) اللَّوِن فَحَمِدَ الله سُبْحَانَهُ وَصَلَىّ عَلَى النّبي (صَلَىّ الله علَيهِ وآله)، ثم قال: لعل(2) (غضبه)(3) (عليه السّلام) لعلمه بأنَّ غرض(4) السائل وصفه سبحانه بصفات الأجسام کما يزعم أكثر العوام ويناسبه بعض كلمات الخطبة، أو لأنَّه سأل بيان كنه حقيقته سبحانه، أو وصفه بصفات [أبلغ و](5) أرفع مما نطق به
ص: 192
الكتاب والآثار لزعمه أنَّه لا يكفي في معرفة الله ويشعر بذلك بعض الفاظ الخطبة وجامعة في كلمة النّداء منصوب على الحاليّة أي عليكم الصّلاة على رفع الصّلاة كما حكى أو احضروا الصّلاة على نصبها جامعة لكلّ النّاس، وهذا النّداء للخطوب وعظائم السّوانح، وغصّ المسجد أي أمتلأ، ومغضب على صيغة المفعول أي فعل به ما يوجب غضبه. (الحَمْدُ للهِ الذي لَا يَفِرُهُ المَنْعُ(1)، وَلاَ يُكْديهِ الِأْعْطَاءُ وَالجُودُ؛ إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقَصٌ سِوَاهُ، وَكُلُّ مانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ) وَفَرَّ الشيء كَوَعدَّ وفوراً أي تمّ وكمل(2)، ووفرته وفرا أي اتممته وأكملته(3) يتعدى ولا يتعدى ولذلك يقال للتام: وافر وموفور والمنع ضد الإعطاء وكدت الأرض تكدوا كدواً إذا أبطأ (نباتها)(4)، وكدا(5) الزّرع أي (ساءت)(6) نبتته ويعدى / و107 / بالهمزة، يقال: اکدى فلان الأرض أي جعلها كادية، فمعنى لا يكديه الإعطاء لا يجعله قليل الخير مبطئاً فيه؛ لأنَّه لا ينقص من خزائنه(7) شيء، وقال الجوهري: (أكديت الرجل عن الشيء، أي رددته عنه)(8)، فالمعنى لا يرده الإعطاء عن شأنه وعادته لأنه لا ينفد ما
ص: 193
عنده، وانتقص يكون متعدياً ولازماً كنقص والمنتقص(1) في النسخ على صيغة المفعول أي المنقوص والتعليل بالجملة الثالثة سواء كانت علّة للأولى ليكون(2) النشر على ترتيب اللف، أو للثّانية رعاية لمطابقة الإعطاء، والمنع في اللف والنشر واضح، وأمّا بالرّابعة ففيه خفاء ويمكن أن يكون من قبيل الاستدلال بنفي المعلول على عدم العلّة فإنّ الوفور بالمنع أو(3) أكداء الإعطاء علة للبخل التابع للخوف من الفاقة وهو علّة لترتب الذّم من حيث أنّه نقص أو لاقتضائه المنع وردّ السائل فنفي الذّم يدّل على عدم الوفور أو الأكداء المدّعى في الجملتين المتقدّمتين، ويحتمل أن تكون(4) جملة مستقّلة غير داخلة تحت التعليل مسوقة لدفع توهّم ينشأ من التعليل بعدم الانتقاص بالإعطاء فإنَّ للمتوّهم أن يقول: إذا لم ينقص من خزائنه شيء بالإعطاء فيجب أن لا يتصّف بالمنع أصلاً ولو اتصّف به لكان مذموماً مع أنّ من أسمائه المانع، فرد ذلك الوهم بأنَّ منعه سبحانه ليس للانتقاص بالإعطاء بل لقبح الإعطاء وعدم اقتضاء المصلحة إيّاه ومثل ذلك المنع لا يستتبع الذم أو استحقاقه ثم أنّه بقى في نفس الجملة كلام وهو أنه أن أريد بالمانع الذّي هو موضوع القضية من كان منعه في غير موقعه فكيف يستقيم الاستثناء وإن أريد الأعم فكيف يصح الحكم بكونه مذموماً، ويمكن الجواب باختيار الثّاني، ويراد بالمحمول من أمكن أن يلحقه الذّم ولا ريب أن نفى إمكان الذّم عنه سبحانه
ص: 194
أبلغ من نفي فعليّته، أو يقال: المانع لا يصدق على غيره سبحانه إلَّا إذا بخل بما افترض الله عليه وإذا أطلق عليه سبحانه يراد به مقابل المعطى فالمراد بالعنوان المعنى الّذي [...](1) يمكن تحققه في كلّ من الموردين ويدلّ عليه ما روى عن علي بن موسى الرّضا (عليه السّلام) أنه سئل عن الجواد فقال: ((إنَّ لكلامك وجهین فإنَّ كنت تسأل عن المخلوق فإنَّ الجواد هو الذي يؤدي ما افترض الله عليه و(البخيل)(2) هو الذي (يبخل)(3) بما افترض الله عليه وإن اردت الخالق فهو الجواد إن أعطى وهو الجواد إن منع؛ لأنَّه إن أعطى عبدا أعطاه ما ليس له، وإن منعه منعه ما ليس له))، ويحتمل أن يكون ما بعد إذ علّة لاختصاص الحمد على الإعطاء به سبحانه أو(4) الفرد الكامل منه كما يفهم من اللّام ويناسبه تقديم اثبات الانتقاص والذّم للغير، بل مجرّد التّعرّض للغير، ولا يستبعد وقوع تحريف في الكلام من الروّاة أو النّساخ(5) وإن يكون لفظ كلامه (عليه السّلام) كل مانع موفور ما خلاه فأبدل الموفور بالمذموم أو مَدموم بالدّال المهملة وهو في الأصل السّمين الممتلئ شحماً كناية عن الموفور كما أنَّ الكد وفي السّابقة كناية عن الفقر والانتقاص وحينئذ فأمر التعليل فيها واضح كالقرينة السابقة، والتعليل في قوة التأكيد مع تضمنه لإثبات تفرده سبحانه بالصفة (هُوَ(6) المَّنانُ بِفَوائِدِ
ص: 195
النِّعَمِ، وَعَوائِدِ المَزِيدِ وَالْقِسَمِ، عِيَالُهُ الخَلِقْ(1)، ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ، وَقَدَّرَ أَقْوَاتُهَمْ) المنّ يكون بمعنى الإنعام والإعطاء(2)، وبه فسرّ المنّان في أسمائه سبحانه، وبمعنى تعديد النعم، والصنائع وهو الذي يفسد الصنيعة(3) ويبطل الصدقة، وعليه حمل بعض الشّارحين كلامه (عليه السلام) قال: وهو صفة مدح للحق سُبحانه، وإن كانت صفة ذم لخلقه لاحتمال توقع الجزاء واستفادة الكمال في الخلق وتضّمنه التّطاول والكبر [و](4) هما(5) إنّما يلتقيان بالغنى عن ثمرة ما تطاول به لا بالمفتقر الى الجزاء، والله سبحانه لا يتوقع جزاء لإنعامه ولا يستفيد به كمالاً، بل يعدّ نعمه على عباده تذكيراً للشّكر كما قال سبحانه: «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ»(6) (7)، ولعلّ الحمل على المعنى / ظ107 / الأول أوضح والفائدة الزّيادة تحصل(8) للإنسان من مَالٍ وغيره والعائدة المعروف والعطف، وقال بعض الشّارحين: (عوائد المزيد والقسم معتادهما)(9)، والمزيد الزّيادة، ولعل المراد به مالا يشوبه
ص: 196
استحقاق العبد والقسم جمع قسمة [وهي الاسم من قسمه](1) كضربه وقسمه بالتّشديد أي جزّأهْ، وقيل: هو يقسم أمره قسماً أي يقدر وينظر فيه كيف يفعل، وعيال الرجّل بالكسر أهل بيته ومن يمونهم جمع عيِّل(2) وجمعه عيائل، كجيّد وجياد وجيائد، وضمن أرزاقهم كعلم أي كفّلها والتزمها وقدر أي جعل لكل منهم من القوت وهو مايقوم به البدن أو يمسك به الرّمق من المطعم على قدر ما يقتضیه الحكمة والمصلحة (وَنَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ، وَالطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ، وَلَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجَوْدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسأِلْ) نَهَجْتُ الطّريق إذا أبنته(3) وَأوْضَحْتَهُ يقال: أعمل على ما نهجَته لَكَ ونهج السَّبِيلِ لصلاح المعاد كما أنَّ ضمان الأرزاق لصلاح المعاش وعدم الفرق بين ما سئل وبين ما لم يسئل بالنظر الى الجود لا ينافي في الحثّ على السؤال لكونه معدّات السّائل وعلل استحقاقه للإنعام والجود؛ لأن(4) نسبته(5) سبحانه الى الخلق على السّواء وإن استحقّ السّائل ما لم يستحقّه غيره بخلاف المخلوقين فإنَّ السّؤال يهتج(6) جودهم بالطّبع مع قطع النظر عن الاستعداد ويعطون السّائل حذراً من أن يذمهم الناس أو طمعاً في مدحهم دون غيره، وإن كان الاستعداد فيه أكد. (الأوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَالآخِرُ
ص: 197
الذّي لَيْسَ لَهُ بَعْدٌ(1) فَيَكُونَ شْيَءٌ بَعْدَهُ)، قَالَ بعض الشارحين: وجوده تعالى ليس بزماني فلا يطلق عليه القبلية و البعدية كما يطلق على الزّمانيات(2)، فمعنى الكلام الأوّل الذّي لا يصدق عليه القبلية ليمكن أن يكون شيء ما قبله، والآخر الذي لا يصدق عليه البعدية الزّمانية ليمكن أن يكون شيء ما بعده، وقد يحمل على وجه آخر وهو أنّه لم يكن قد سبقه عدم، فيقال إنَّه مسبوق بشيء من الأشياء، أمّا المؤثر فيه أو الزّمان المقدّم عليه، وإنه ليس بذات يمكن فناؤها وعدمها فيكون بعده شيء من الأشياء أمّا الزّمان أو غيره(3)، ويمكن أن يكون المراد بالقبل الزّمان المتقدم سواء كان أمراً موجوداً أو موهوماً، وبالشيء موجود من الموجودات أي ليس قبله زمان حتّى يتصوّر تقدّم موجود عليه، وكذلك بقاء موجود بعده، وسيجي عن قريب(4) إن شاء الله تعالى تتمّة الكلام في أوّليته وآخريته سبحانه (وَالرَّادِعُ أنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ) الأناسيّ بالتّشديد جمع انسان، (وإنسان العين: المثال الذّي يرى في السّواد(5))(6) ولا يجمع على أناس كما يجمع الإنسان بمعنى البشر عليه، وقيل: الأناسي جمع انسان العين مشدد والآخر يشدد ويخفف وقرئ «وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا»(7) بالتخفيف(8)، وقد سبق اشتقاق الإنسان من النّسيان أو
ص: 198
الإنس(1) في شرح الخطبة الأولى وردع أناسي الأبصار، أي منعه وردّه كناية عن عدم امکان احساسهَا لأنَّه(2) سبحانه ليس بجسم و لا في جهة، ونلت الشيء اصبته وادركته أي تبعته فلحقته، والمراد بالنيل الادراك التام و بالإدراك(3) غيره ويحتمل العكس وإن يكون العطف لتغاير اللفظين (مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ(4) فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الحالُ، وَلاَ كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْه الانتِقالُ) الدّهر الزّمان الطويل أو أعّم منه، وظاهر الكلام أنَّه سبحانه لم يمر عليه دهر؛ لأنَّه ليس بزماني كما أنّهَ ليس بمكاني فلا يلحقه اختلاف الأحوال اللازم للزّمانيّات، وما ليس بزماني لا يختلف حاله كما أنّ ما ليس بمكاني لا يجوز عليه الحركة، واللّام في الحال عوض عن المضاف اليه أي حاله، ويحتمل الجنس ويمكن أن يراد باختلاف الدّهر عليه جريانه على خلاف مراده أحياناً وعلى وفق إرادته أحياناً حتى يلحقه ما يلحق الخلق من الشّدة والرّخاء والنّعم والبؤس والصّحة والسّقم ونحو ذلك بل هو القادر المطلق / و108 / الذّي لا يجري الدّهر إلاَّ بأمره وارادته (وَلَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَت عَنْهُ مَعادِنُ الْجِبالِ؛ وَضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدافُ الْبِحَارِ؛ مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَالْعِقْيَانِ، وَنُثَارَةِ الدُّرِّ وَحَصِيدِ المَرْجَانِ، مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ، وَلَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ) التنّفس(5) عن الشي استعارة لإبرازه واخراجه كالحيوان يتنفس فيخرج من صدره ص: 199
الهواء والتعبير بالتنّفس يناسب تكوّن المعدنيات من بخار الأرض كما قيل، والمعدن كمجلس منبت الجواهر من ذهب وغيره، وضحكت عنه أي تفتّحت وانشقت حتّى ظهر ويقال: للطلع حين ينشق الضحك بفتح الضّاد(1)، ويسمّى الضّاحك لأنَّه يفتح فاه ولطف تشبيه الصّدف بالفم والدّر بالسن واللّحمة التّي في الصّدف في دقّة طرفها ولطافتها باللّسان واضح، وقالوا: الصّدف حيوان ذو حسّ وحركة له شبه بالنبات حيث أنّ له عرقاً(2) يغرزه(3) في الأرض يعتذي(4) به، والفِلِزّ بكسر الفاء واللاّم وتشديد الزّاي الجواهر المعدنّية كالذّهب والفضّة والنّحاس(5)، وقيل: ما ينفيه الكير [أي ينحيه](6) من كل ما يذاب منها، واللجين مصغّر الفضّة(7)، والعقيان بالكسر (الذّهب الخالص)(8)، وقيل: (هو ذهب ينبت نباتاً وليس هو ممّا يحصل من الحجارة)(9)، ولا يناسب المقام إلا أن يكون ينبت في الجبال ومع ذلك الأنسب بالمقام الفرد الكثير الشّائع، ونثرت الشيء كنصرت رميته متفرّقاً، ونثارة الدّر بالضّم ما تناثر منه، والدّر جمع دّرة وهي (اللّؤلؤة العظيمة)(10)، وقيل:
ص: 200
(اللؤلؤة)(1) وحصد الزّرع قطعه بالمنجل والحصيد المحصود، قال بعض الشّارحين: كان المراد المتبدد من المرجان کا يتبدّد الحب المحصود، ويجوز أن يعني المحكم من قولهم: شيء مستحصد أي مستحكم، قال ويروى: (وَحَصْباءِ المَرْجانِ) وَالحَصْباءِ: الحَصى والمرجان، صغار اللّؤلؤ(2)، قال الجوهريّ(3): وقال قوم هو البُسد يعني الحجر الأحمر، ومنه قول الشّاعر [يرثي امرأه](4).
أدْمَى لَها الْمَرْجانَ صَفْحَةَ خَدِّهِ *** وَبَكى عَلَيْهَا اللّؤلؤ المكنون(5) وانفده أي أفناه (وَلَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ، مَا لَا تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الْأَنَامِ، لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ، وَلَا يُبخِّلُهُ(6) إِلْحَاحُ المُلِحِّينَ) دَخائر الأنعام ما بقي عنده من نعمه الجسام بعد العطاء المفروض، والمطلب مصدر، و يغيضه أي ينقصه جاء متعدياً کما جاء لازماً، يقال: غاض الماء، أي قل و(نضب)(7) وغاضه الله(8)، ولا يُبْخِّله على صيغة التفعيل(9)، أي لا يجعله بخيلاً، ويقال: بَخَلَهُ تَبْخِيلاً إذا رَماه بِهِ، وروي: (لا يُبخله) على صيغة الأفعال أي لا يجده بخيلاً، وألحّ في السؤال أي الحَفَ، والتّعليل أمّا
ص: 201
للجملة الشرطية بتواليها فالوجة في التعليل بنفي التبخیل ظاهر إذ لو أثر العطاء المفروض في جوده لبخله الإلحاح فإنّه في الحقيقة معنى التأثير في الجود فنفيه(1) يدل على نفيه، وأمّا البقاء مالا ينفده المطالب من ذخائر(2) الأنعام فوجه التّعليل أنّ العادة قد جرت بلحوق البخل لمن ينفد ماعنده بالطلب وإن أمكن عقلاً عدمه بأن يسمح بكلّ ماعنده فنفي(3) التبخيل(4) يدّل على نفي الانفاد (فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صَفَتِهِ فَائَتمَّ بِهِ، وَاسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَایَتِهِ، وَمَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمُهُ، مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ، وَلَا فِي سُنَّةِ النَّبيّ (صَلّى الله عَلَیْه وَآلهِ)(5) وَأَئمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ، فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ، فَإنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَی حَقِّ اللهِ عَلَيْكَ) الإتمام(6) الاقتداء، والموتمّ المقتدى، والموتم به الذّي يقتدى به، والأثر بالتّحريك نقل الحديث وروايته(7)، ووكل الأمر اليه وکلا و وکولًا سّلمه وتركه، والكلام صريح في المنع من الخوض في صفاته سبحانه والبحث عمّا لم يرد منها في الكتاب والسّنة وما ذكره بعض الشّارحين(8) من أنّه انکار على من يقول: لم فرض الله على العباد خمس صَلوات وهلا كانت
ص: 202
سّتاً أو أربعاً، / ظ108 / ولمَ جعل الظهر أربع ركعات والصبح ركعتين وهلا عکس الحال، ففساده واضح، ثم أنه لاريب في أنّ اثبات صفة له سبحانه لم يرد في الكتاب والسّنة أصلا والبحث عنها داخل في المنهي(1) عنه وإن كان من البحث مرجعه إلى تفسير ألفاظ الكتاب والسّنة وايضاح المعاني ودفع الشّبه لیس داخلاً فيه، وأما ما كان حاصله تفصيل اجمال وبيان معنی محتمل لوجوه واثبات بعضها ونفي البعض بالوجوه العقلّية و(2) المستنبطة من الأخبار على وجه يحتمل الصّحة والفّساد لخفاء الطّرق ووجوه الدّلالة کما هو الغالب في الأبحاث المسطورة في أساطير القوم فالظّاهر دخوله فيما نهی عنه ولاشك في أنَّ الكّف عنه والاقتصار على القدر المأثور أولى وأسلم. (وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ(3) اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضرْوُبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ الْإِقْرَارُ بجُمْلَةِ(4) مَا جَهِلُوا تَفْسِيَرهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ، فَمَدَحَ اللهُ تَعالى(5) اِعْترِافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوِلِ مَا لْمَ يُحِيطُوا بِهِ عِلْمًاَ، وَسَمَّى تَرْكَهُمْ التَّعَمُّقَ فِيْمَا يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كنهِهِ رُسُوخاً، فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا تقَدِّرْ(6) عَظَمَةَ اللهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِك فَتَكُونَ مِنْ الهَالِكينَ). الرّاسخ في الأمر الثّابت فيه(7)، واقتحم المنزل أي دخله بغته ومن غير روية(8)، والسّدد جمع
ص: 203
سّدة كغرف وغرفة، وهي (باب الدّار)(1) وضرب الباب نصبه ودون الشيء أقرب منه، وقبل(2) الوصول اليه والمتعمق(3) في الأمر الذّي يبالغ فيه ويطلب أقصى غايته، وقدر الشيء مبلغه وتقدير الشيء أن تجعل له قدراً وتقيسه(4) بشيء، أي لا تجعل مقدار عظمة الله مَا يبلغ إليه عقلك فإضافة القدر الى العقل لأنَّه هو الحاكم فيه، أو لا تجعل لعظمة الله مقداراً قليلاً كمقدار عقلك ولا تقسها بعقلك والظّاهر أنّ المراد بإقرار الرّاسخين في العلم ومدحهم ما تضمنه قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»(5) فإقرارهم قولهم: «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»(6) ومدح الله تعالى إيّاهم ذکر کلامهم المتضمّن للإیمان والتّسليم في مقام المدح أو تسمية ترك تعمقهم رسوخاً في العلم فیکون العطف في قوله (عليه السّلام) و سمی ترکهم التعمق للتفسير أو الإشارة إلى أنهم أولوا الألباب بقوله: «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»(7) وحينئذ فالمراد بالمتشابه ما يشمل صفة الله سبحانه ونحو ذلك مما استأثر الله عزّ وجل بعلمه وعلى هذا فمحل الوقف في الآية إلاَّ الله حتّى يستفاد اختصاص العلم
ص: 204
المخصوص به سبحانه، والرّاسخون مبتدأ وخبره جملة (يقولون)، وهو بظاهره مناف لما يدّل عليه الأخبار من أنّهم (عليهم السّلام) يعلمون تأويل [ما](1) تشابه من القرآن ففي الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: ((نَحنُ الرّاسِخون في العِلم، ونَحن نعلَم تأويله))(2) وعن یزید(3) بن معوية عن أحدهما (عليهما السّلام) في قول الله عَزّ وجّل: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»(4) فَرسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله) أفضل الرّاسخين في العلم قد علمّه الله عزّ وجل جميع ما أنزل عليه من التّنزيل والتأويل، وَما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله، وأوصياءه من بعده يعلمونه كلّه الحديث(5)، وعلى هذا فالوقف على العلم وهو المشهور بين المفسّرين، ويكون قوله: (يقولون) حالاً من الرّاسخين أو استئنافاً موضحاً لحالهم ويمكن الجمع بأن يحمل حكاية قول الرّاسخين على اعترافهم وتسليمهم قبل أن يعلّمهم الله تأويل ما تشابَه من القرآن فكأنَّه سبحانه بين أنَّهم لما آمنوا بجملة(6) ما أنزل من المحكمات والمتشابهات ولم يتبعوا ما تشابه منه كالذّين في قلوبهم زيغ بالتّعلق بالظاهر أو بتأويل باطل فأتاهم الله علم التأويل وضمّهم إلى نفسه في الاستثناء والاستئناف في / و 109 / قوة دفع
ص: 205
الاستبعاد عن مشاركتهم لله عز وجل في ذلك العلم وبيان أنَّهم إنّما استحقوا إفاضة ذلك العلم باعترافهم بالجهل و قصورهم عن الاحاطة بالمتشابهات من تلقاء أنفسهم وإن علموا التأويل بتعليم إلهي وسيجيء في كلامه (عليه السّلام) أنّه لما أخبر ببعض المغيّبات، قال له رجل: أعُطِيْتَ يا أمير المؤمنين علم الغيب، فقال (عليه السّلام) للرّجل وكان كلبياً: يا أخا کَلْبٍ ليس هو بعلم غیبٍ وإنّما هو تعلّم من ذي علمٍ، ويمكن أن يكون اقرارهم وتسليمهم بعد علمهم بالمتشابهات للتّعليم الالهي نظراً إلى عجزهم عن ادراكها من دون التعليم وما هو شأنهم لو خلاهم الله وأنفسهم وإن سمّى الله عزّ وجّل رأفة هم ذلك المستفاد من التّعليم علماً أو يمكن أن يقال: إنَّ للآية ظهراً وبطناً أحدهما: أن يكون المراد بالمتشابه مثل العلم بكنه الواجب وما استأثر الله عزّ وجل بعلمه من صفته وغيرها والوقف حينئذٍ على الله وإليه يشير ظاهر الخطبة، وثانيهما: أنَّ يراد به ما علم الرّاسخون في العلم تأويله وإليه الاشارة في الأخبار والوقف حينئذ على العلم ویکون القارئ مخيراً في الوقف على أحد الموضعين ويمكن أنَّ لا يكون الإقرار والمدح في الخطبة اشارة الى ما تضمّنته(1) الآية بل الى اقرارهم بالعجز عن معرفة صفته والغيب المحجوب فيما بينهم وبين الله عزّ وجل ومدح الله سبحانه إيّاهم في الملأ الأعلى ونحوه ويكون المراد بالمتشابه ما علموا تأويله ويكون موضع الوقف في الآية العلم والوجوه وإن كان بعضها لا يخلو عن بعد إلاَّ أنَّها غاية ما خطر لي في مقام الجمع والله سبحانه يعلم حقيقة الحال ولبعض الشارحین(2) في تحقيق معنی
ص: 206
حجب الغيوب وبيان الرّسوخ في العلم كلمات اعرضنا عن ذكرها لسخافتها (هُوَ الْقَادِرُ الذِي(1) إِذَا ارْتَمَتِ الَأْوهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدَرِتهِ، وَحَاوَلَ الْفِكْرُ المُبَرَّأُ مِنْ خَطْرِ الوَسَاوِسِ [...](2) أَنْ يقَعَ عَلَیْهِ في(3) عَمِيقَاتِ غیُوبِ(4)، مَلَكُوتِهِ، وَتَوّلَهَّتِ الْقُلوُبُ إِليْهِ لِتَجْرِي(5) فيِ كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ، وَغَمَضَتْ مُدَاخِلُ الْعُقُولِ فيِ حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَالَ(6) عِلْمِ ذَاتِهِ) ارتمى القوم، أي تراموا بالنبال والأوهام خطرات القلب وفي اصطلاح المتكّلمين إحدى القوى الباطنة شبه(7) (عليه السّلام) جولان الأفكار وتعارضها بالترامي، والمنقطع موضع الانقطاع ويحتمل المصدر، وحاولت الشيء ارَدتَه، والخطر بالتسكين مصدر خطر له خاطر أي عرض في قلبه(8)، وروی من خطرات الوساوس والوسوسة(9): حديث النفسو الشيّطان بما لا خير فيه ولا نفع(10)، والاسم
ص: 207
الوسَواس، والملكوت (العزّ والسّلطان)(1) وهو اسم مبني من الملك کالجبروت (والرهبوت من الجبر والرهبة)(2)، وتولهّت إليه أي اشتد عشقها وحنتْ(3) إليه(4)، والولَه بالتحريك التّحير وذهاب العقل من حزن(5) أو من فرح أو حُزن ولتجري في كيفية صفاته أي ليجد(6) مجری ومسلكاً في ذلك، وغَمض الشيء بفتح الغين(7) کما في بعض النّسخ وبضمّها كما في بعضها، أي (خفي)(8) مأخذه، والغامض من الكلام خلاف الواضح ومداخل العقل طرق الفكر وفاعل تنال ضمير العقول أي إذا دقت و (غمضت)(9) طرق العقول ووصلت إلى حدّ لا تبلغه الصّفات لدّقة تلك الطّرق وخفائها، أو إذا دقت وانتهت العقول الى أنّها لا تعتبر مع ملاحظة ذات الحقّ صفة من صفاته على ما ذكره بعض الشّارحين(10) طالبة(11) بذلك أن تصل إلى علم ذاته، وفي بعض النسخ (لتنال علم ذلك) وما في الأصل أظهر. (رَدَعَها وَهي تجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ، مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبَحْانَهُ، فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً بأَنَّهُ
ص: 208
لَا یُنَالُ بجَوْرِ الاعْتِسَافِ کُنْهُ مَعِرفَتِهِ، وَلَا تَخْطُرُ بِبَالِ أَولِى الرِّوِیَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِهِ) الردّع الردّ(1) والكفّ(2)، والجملة جزاء للشرط(3) السابق والضمير المنصوب راجع إلى الأوهام وغيرها ممّا سبق، وردع الجميع ردع العقل والواو للحال، وتجوب أي يقطع و المهاوي جمع مهواة وهي الحفرة(4)، أو (ما بين الجبلين)(5)، ويراد بها المملكة، والسّدف جمع سدفة وهي القّطعة من الليل المظلم وهي من الأضداد تطلق على الضياء والظلمة، // ظ109 / وخلصّته تخليصاً نحيّته فتخلّصَ ومتخلصّه(6) إليه أي متوجهة إليه بكليتها متنحية عن غيرها و جهة كمنعه أي ضرب جبهته(7) وردّه، والجور العدول عن الطّريق(8)، والاعتساف قطع المسافة على غير جادة معلومة(9) والمراد بجور اعتسافها شدّة جولانها في ذلك المسلك الذي لا جَادة له ولا يفضي إلى المقصود والخاطرة المنفية هي المطابقة للواقع وتقدير الشيء أن تجعل له قدراً أو أن تقيسه بشيء (الَّذِي ابْتَدَعَ الخلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ، وَلَا مِقْدَارٍ احْتَذَی عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ کَانَ قَبْلَهُ) الابتداع الانشاء والاحداث، ومثال الشيء بالكسر صورته وصفته ومقداره، وامتثله أي تبعه ولم يتجاوز عنه، واحتذى
ص: 209
عليه أي اقتدي به والجار في قوله (عليه السّلام): (من خالق) متعلق بمحذوف هو صفة لمقدار أو لمثال(1) و(2) مقدار کنا شيء مثلًا والمراد بنفي امتثال المثال انّه لم يمثل لنفسه مثالاً قبل شروعه في خلق العالم ليخلق العالم على هيئته کالبناء يخط خطوطاً في الأرض، ويفرض رسوماً ثم يبني بحسبها(3) وبنفي(4) احتذاء المقدار انه لم يقتدِ بخالق کان قبله كالتلميذ يعمل(5) على حذو ما صوّر له (الاستاذ)(6)، ويحتمل أن يكون الثاني كالتأكيد للأوّل فيكون الظرف صفة للمثال والمقدار معاً ويكون المراد بالأوّل نفي الاقتداء بالغير في التّصوير، وبالثاني في التقدير، ويحتمل أن يكون المراد بالمثال ما يرتسم في الخيال من صورة المصنوع وهيأته وإن لم يكن على حذو فعل فاعل آخر التنزهه عن الصّور والخواطر والآلات (فالظرف)(7) صفه لمقدار کما في الوجه الاوّل، ووصف الخالق بالمعبود(8)؛ لأنَّه من لوازمه، أو لأنَّه لو كان كذلك لكان هو المعبود فنفي(9) معبود غيره يدل على نفي خالق کان قبله. (وَ أَرَانَا مِنْ مَلَکُوتِ قُدْرَتِهِ، وَعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثارُ حِكْمَتِهِ وَاعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنْ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ؛ مَا دَلَّنا باضْطِرَارِ قِيامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ)
ص: 210
الملكوت العزّ والسّلطان کما سبق، والمِساك بالكسر ما يمسك به(1)، وفيه دلالة على احتياج الباقي في بقائه إلى المؤثر والموصول مفعول [ثاني](2) لأرانا واضطرار قيام الحجة عبارة عن افادتها العلم القطعي بعد تحقق الشّروط وارتفاع الموانع کالتّعصب والعناد والتّعلق بالشبه والجار في قوله (عليه السّلام) (على معرفته متعلّق (بدّلنا) (وَظَهَرَتْ(3) فيِ(4) الْبَدَائِعِ الَّتِي أَحْدَثَها آثارُ صَنْعَتِهِ وَأَعْلَامُ حِكْمَتِهِ، فَصَارَ کُلُّ مَا خَلَقَ لَهُ حُجَّةً(5)، وَدَلِيلًا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً؛ فَحُجَّتُهُ بِالتَدْبِيرِ نَاطِقَةٌ، وَدَلالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قائِمَةٌ) البديع يكون بمعن المُبتدع والمحدث كقوله تعالى: «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(6)، وبمعنى المبتدع أيضاً كما في هذا المقام وأعلام الحكمة ما يدل عليها ويهدي إليها كالجبل يهتدي به، والضمير في قوله (عليه السّلام) (فحجته) يحتمل أن يعود الى الخلق الصّامت كالضمير في دلالته ويحتمل أن يعود الى الله سبحانه (فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ، وَتَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ المُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ، لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ(7) ضَمِیِرْهِ عَلىَ مَعْرِفَتِكَ، وَلْمَ يُبَاشْرِ
ص: 211
قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ، وَكَأنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ(1) الْمَتْبُوعِيَن؛ إِذْ يَقُولُونَ: «تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ»(2) في بعض النّسخ (وأُشهد) بالواو والمشبّه به في الحقيقة هو الخلق وادخال الباء على التّباين تنبيه على وجه الخطأ لأنَّ التباين والتّلاحم [منافیان(3) وجوب الوجود لعدم انفکاکهما(4) عن التركيب، والتّلاحم](5) التّلاصق، والحِقاق بالكسر جمع حُقَة بالضّم وهي في الأصل وعاء من خشب(6)، وحقاق المفاصل النُّقر التي(7) يرتكز فيها العظام واحتجابها استتارهَا بالجلد واللحم، والجار في قوله (عليه السلام): (لتدبير حکمتك) متعلق بالمحتجبة أي المستورة للتّدبير الذّي اقتضته الحكمة، قيل ومن حكمة(8) احتجابها أنها لو خلقت ظاهرة ليست رباطاتها فيتعذر(9) / و110 / تصرف الحيوان وكانت معرضة للآفات أو بالتباين والتّلاحم، وقال بعض الشارحين: ومن روی ((المحتجّة)) أراد أنّها كالمستدلة على التّدبير الحكمي من لدنه سبحانه(10)، والعقد الشّد، وفاعل الفعل الموصول أي المشبّه و(غيب) منصوب على
ص: 212
المفعولية وهو كل ماغاب، والضمير اسم من أضمرت في نفسي شيئاً واضافة [الغيب إلى الضمير من اضافة](1) الصفة إلى الموصوف أو المراد (بغيب)(2) الضمير حقيقة عقيدته وباطنها لا ما يظهرها من عقيدته لغيره أو يظهر له بحسب توهمه، وفي بعض النسخ (لم يُعقد) على صيغة المجهول وغيبُ بالرفع، والمباشرة لمس البشرة والفاعل اليقين وفي بعض النسخ قلبه بالرفع على أنّه الفاعل وما في الأصل أظهر، والند المثل وإن في الآية (مخففة)(3) من المثقلة (ویدل)(4) الكلام على أن التسوية في الآية يشمل هذا التّشبيه ولا يخص التّسوية في استحقاق العبادة (کَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ، إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَنَحَلُوكَ حِلْيَةَ المَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ، وَجَزَّؤُك تَجْزِئَةَ المُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ، وَقَدَّرُوكَ عَلَى الْخَلِقْ(5) المُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحٍ عُقُولهِمْ) عدل فلاناً بفلان أي سوّى بينهما وجعله عديلاً له، ونحلوك أي أعطوكَ(6)، وحلية المخلوقين صفات الممكنات والأجسام والتعبير بالنحلة والحلية لزعم هؤلاء أنها كمال له عزّ وجّل، و جزؤك أي اثبتوا لك أجزاء وخواطرهم ما يخطر ببالهم من الأوهام الفاسدة، ولعل التقدير على الخلق(7) أن يجعل له سبحانه قدراً كقدر الخلق بإثبات صفات الخلق له تشبيهاً بفعل من يقطع ثوباً على قدر ثوب أو
ص: 213
يضع شيئا مساوياً لشيء فيطبقه(1) عليه ويجعله بقدره و(قرائح عقولهم) ما يستنبطونه بآرائهم والقريحة في الأصل (أول ما يستنبط من البئر)(2). (فَأَشْهَدُ(3) أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بكَ وَالْعادِلُ بِكَ کَافِرٌ بِما تَنَزَّلَتْ بهِ مَحْکَماتُ آیاتِكَ، وَنَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُحَجِ بَیِّناتِكَ) في بعض النّسخ واشهد بالواو وساواه به وساوى بينهما أي سوی وعَدل بك أي جعل لك عديلاً وشريكاً، ومحكمات الآیات نصوص الكتاب وشواهد الحجج الأدّلة العقلية ونطقها دلالتها القطعية أو الشواهد الانبیاء الهُداة المبينّون(4) للحجج التي هي الأدلة واضافة الحجج الى البينات للمبالغة (وَإنِّكَ(5) أنَتَ اللهُ الذي لْم تَتَناهَ في العُقُولِ فَتَكوُنَ في مَهَبِّ فِكَرِهَا مُكيّفاً(6)، ولَا فِي روِيّات خَواطِرِهَا مَحدُوداً مُصَرفاً)(7) التناهي في العقول أن تحيط بالمعقولِ(8) بأن تدركه بالكنه أو بحيث لا يكون له صفة وراء ما ادركته ولعل ادراك العقل على أحد الوجهين لا يتصور إلاَّ فيما تعرضه الكيفيات أو التناهي في العقل أن يدرك الشيء مرتسماً في القوى الجزئية وهي مهب الفكر التّي يرتسم فيها التّصور وتزول کالريّح الهابّة تمر بشيء ويحتمل أن يكون المهب مصدراً أي في هبوب الفكر، وقال
ص: 214
بعض الشارحين: (مهاب الفكر جهاتها)(1)، والرّوية اسم من رويت في الأمر إذا نظرت وفكّرت، وروّيات الخواطر ما يخطر بالبال بالنظّر والفكر والمحدود المحاط بالحدود، والمراد بالحدود ما يلزم(2) الإحاطة(3) التّامة(4) أو الصفات والكيفيات التّي لا يتعداها المعلوم والمصرّف القابل للتّغير والحركة على ما ذكره بعض الشارحين(5) أو المحكوم عليه بالتجزئة والتّحليل والترّكيب. (قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأحكَمَ تَقديرهُ، وَدَبَّرهُ فَألطَفَ تَدبيَرهُ، وَوَجَّهَهُ لوِجَهتِهِ فَلَمْ یَتَعَدَّ حُدُودَ مَنزلَتِهِ، وَلَمْ يقصرْ دوُنَ الانتِهاءِ الى غَايَتهِ، وَلَمْ يَسْتَصْعبْ إذْ أمَرَ بِالمَضيّ علَى إرادَتِهِ، وَكيَفَ(6) وَإنَّما صَدَرَتِ الأمُوْرُ عَنْ مَشِيئّتهِ!) قدّر ما خلق أي جعل لكل شيء مقداراً مخصوصاً على حسب ما اقتضته الحكمة، أو هّيأ كل شيء لما أراد منه من الخصائص والأفعال، / ظ110 / أو قدّره للبقاء إلى أجل معلوم وأحكم أي أتقن، والتدبير في الأمر النظر الى ما تؤول اليه عاقبته وفسّر اللّطيف في أسمائه سبحانه بالذّي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدّرها له من خلقه يقال: لطف به وله بالفتح إذا رفق به، ويقال: لطُف الشيء بالضّم إذا صغر ودق، ولعلّ ألطاف التّدبير جعله لطيفا دقيقاً أي دبّر الأمور بتدبيرات دقيقة أو لمّا دبّر أمور الخلق
ص: 215
على وجه الرّفق فكأنه جعل التّدبير ذا رفق، والضّمير في (تقديره وتدبيره) راجع الى الله سبحانه أو الى ما خلق وكذلك الضميران في (غايته ومنزلته)، وجّهه أي أرسله، والوِجْهة بالكسر الناحية أو كلّ مکان استقبلته، وقصر السهم عن الهدف إذا لم يبلغه، وقصُرت عن الشيء أي عجزت عنه(1)، ودون الشيء أي [أمر](2) قريباً منه وقبل الوصول اليه، والمعنى وقف كل شيء في الحدّ الذّي قدّره له بحكمته غير قاصر ولا مجاوز عنه، واستصعب الأمر علينا أي صعب والصعب غير المنقاد ومضى الشيء کرمی مضيّاً ومضّوا أي نفذ ولم يمتنع(3)، وصدر كقعد أي رجع وانصرف کرجوع الشاربة عن الماء، والمسافر عن مقصده ولمّا كانت الأمور لإمكانها محتاجة في الوجود الى مشيئته(4) فكأنهّا توجهت اليها فرجعت فائزة بمقصدها، والمشيئة(5) الإرادة وأصلها المشيئة بالهمزة (المنشئُ أَصْنَافَ الأشَياءِ بِلَا رَوِيَّةِ فكرٍ آلَ إِلِيهَا، وَلَا قَرِيحَةِ غريزَةٍ أضَمَرَ عَلَيْهَا، ولَا تَجرِبةٍ أفَادَها مِنْ حَوادثِ الدّهُوُرِ، ولَا شَريكٍ أعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجائِبِ الأمُوُرِ) إن شاء الله أي ابتدأ خلقه، والروّيّة اسم من روّيت في الأمر اذا نظرت وفكرت کما مرّ(6) وآل إلى الشيء أي رجع، والقريحة في الأصل أوّل ما يستنبط من البئر کما مرّ(7) وقولهم لفلان: قريحة
ص: 216
جيّدة(1) يراد بها (استنباط العلم بجودة الطّبع)(2)، ويطلق على الطّبع والغريزة الطّبيعة وقريحة الغريزة ما يستنبطه الذّهن، وقيل قوة الفكر للعقل، واضمر عليها أي اخفاه في نفسه محتوياً عليها، والتجربة الاسم من جرّبت الأمر أي اختبرته مرّة بعد أخرى، وافدته مالا أعطيته وأفدَتْ منه مالاً أخدت، وحکی الجوهري عن أبي زيد: (أَفَدْتُ المال أعطيته غيري وأفدته استفدته)(3)، و تنزهه سبحانه عن الروّية والقريحة والتجربة لعدم انفكاكها عن الجهل السّابق وظهور أمر بعد الخفاء(4) والحاجة وابتداع العجائب أحداثها (فَتَمَّ خَلقُهُ(5) وَأَذْعَنَ لِطاعَتِهَ، وأجابَ الى دَعْوَتِهِ، لَمْ يَعْترَضُ دُونَهُ ريثُ المُبْطِئِ، ولَا أَنَاةُ المُتَلِکَئِ) يمكن أن يراد بالخلق المعنى المصدريّ ويكون الضّمير راجعاً اليه سبحانه کالضّمير في طاعته ودعوته أو إلى ما خلق المذكور سابقاً وحينئذ يكون الضّمير في (أذعن وأجاب) راجعاً إلى الخلق على الاستخدام أو إلى ما خلق ويمكن أن يراد به المخلوق و تمام مخلوقاته بإفاضته عليها ما يليق بها وتستعد له، وإذعان ما خلق لطاعته واجابته الى دعوته أما بمعنی دخوله في رق الحاجة والإمكان وتصريف القدرة أو بمعناه الظّاهر بأن يكون لكلّ مخلوق شعور يذعن به ولسان يحب(6) به کما هو ظاهر قوله عزّ
ص: 217
وجّل: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(1) وقد اشار سبحانه إلى هذه الطّاعة والاجابة بقوله: «فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(2) واعترض الشيء صار عارضاً كالخشبة المعترضة في النّهر وعرض لي في الطّريق عارض من جبل ونحوه أي مانع يمنع من المضي واعترض بمعناه ومنه اعتراضات العلماء، لأنها تمنع من التمسك بالدّليل، واعترض الشيء [دون](3) الشيء أي [...](4) حال بينه [وبينه](5)، ودونه قريب منه وقبل الوصول اليه، والريث: (البطؤ)(6) في المثل: (رُبّ عجلة وهبت ريثاً)(7)، والأناة كقناة اسم من تأنّي في الأمر أي تمكث ولم يعجل(8)، وتلكّأ توقف وإبطاء، والمعنى نفي الرّيث والأناة عن الأشياء في اجابة الدّعوة والأذعان للطّاعة أو عنه سبحانه من جهة الفاعليّة.
(فأقامَ منَ الأشَياءِ أوَدَهَا، ونَهَجَ حُدوُدَهَا ولاءَمَ بِقُدرَتِهِ / و111 / بَینَ مُتَضَادِّهَا، وَوَصَلَ أسبابَ قرائنهَا وَفَّرقَهَا أجْناساً، مُختَلِفاتٍ في الحُدُودِ وَ الأقدارِ، وَالغَرائِزِ والهَيئاتِ) الأوَّد بالتّحريك الاعوَجاج(9)، واقامة الأوَّد إعداد
ص: 218
كل شيء لما ينبغي له أو ايجاد الموانع عن الفساد الذّي يقتضيه الأشياء لو خليّت وطباعها، ونهج أي اوضح ويكون بمعنى وضح، وحدّ الشيء منتهاه وأصل الحدّ المنع والفصل بين الشيئين، ونهج الحدود ایضاحه لكل شيء غايته وتسيرها له أو المعنى جعل لكل شخص ونوع مشخصاً ومميزا واضحاً [...](1) يمتاز به عن غيره فإنّ من أعظَم المصالح وأغربها امتياز الأنواع والأشخاص بعضها عن بعضٍ کامتیاز کل فرد من أفراد الإنسان عن غيره في الهيئة والصّوت والحركات والصّفات وكذلك كلّ صنف من الأصناف کما اشار اليه سبحانه بقوله: «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»(2) ولَاءَمَ بين الشيئين على صيغة المفاعلة(3) أي جمع وكذلك لَامَ کَمَنَعَ وجَمَعَ المتضادة كجمع العناصر المتباينة في الكيفيّات لحصول المزاج، والسّبب في الأصل الحبل، ويقال لكل ما يتوصّل به إلى شيء، والقرينة فعيله(4) بمعنى مفعولةُ قرائن الأشياء ما اقترن منها بعضها ببعضٍ ووصل أسبابها ملزوم لاتّصالها، وقال بعض الشّارحين: (القرائن النفوس المقرونة بالأبدان، واعتدال المزاج سبب بقاء الرّوح أي وصل أسباب أنفسها بتعديل أمزجتها))(5)، والجنس(6) الضّرب من الشيء وهو أعّم من النّوع، والظّاهر إنّه ليس المراد بالأجناس
ص: 219
والحدُود مصطلح المنطقيين(1) وغيرهم وإن كان المقام لا يأباه و الغرائز الطّبائع والقوى النّفسانية (بَدایَا خَلَائَقَ أَحَكَمَ صُنْعَها وَفَطَرهَا عَلى ما أرادَ وَابْتَدَعَهَا) البدايا جمع بدية وهي الحالة العجيبة، يقال: أبدأ الرجل إذا جاء بالأمر المعجب(2)، والبدية أيضاً الحالة المبتدأة المبتكرة، ومنه قولهم: فعله بادئَ بَدئ على فعيل أي أوّل كلّ شيء(3) والمبتدأ محذوف أي هي عجائب مخلوقات [أو مخلوقات](4) مبتدأة بلا انتقاء مثال، وأحكم صنعها أي أتقن بحيث يترتب عليها الآثار المرادة منهَا والفطر (الابتداء والاختراع)(5) والابتداع كالتّفسير له.
مِنْهَا في صِفَةِ السَّماء: (وَنَظَمَ بِلَا تَعلِيْقٍ رَهَواتِ فُرَجِهَا، وَلاحَمَ صُدُوعَ انفِراجِهَا، وَوَشَجَ بَينَهَا وَبَيْنَ أزْواجِهَا) نظم اللؤلؤ كضرب أي جمعه في سلك وألفّه، والرّهوة (المكان المرتفع والمنخفض أيضاً)(6)، وبه فسرّها بعض الشّارحین(7) فنظمها تسويتها، وقال ابن الأثير في النّهاية في حديث علّي (عليه السّلام): (ونظم رهَوات فُرَجها، أي المواضع المتفتحة(8) منها(9))(10) وهو
ص: 220
مأخوذ من قولهم : رها رجليه رهوً أي فتح، وفي الكلام دلالة على أنّ السّماء كانت ذات فُرَج وصُدوع فنظمها سبحانه من غير أن يعلق(1) بعضها ببعض بخيط ونحوه كما يفعل الإنسان، وقد مرّ في الخطبة الأولى(2) أنّه سبحانه رفع الزبد الحاصل من تلاطم الماء (فخلق)(3) منه السّماء، ودلت الآية والأخبار على أنَّ مادة السّماء هي الدّخان وهو المرفُوع من الزّبد (والظاهر)(4) أنَّ قطع الدّخان تكون ذات فرُج وصُدوع، وما ذكره بعض الشّارحين حيث أول الفرج بتباين أجزاء المركبّ لولا التركيب والتأليف أو بالفواصل بين السّموات لولا أنّ الصّانع خلقها أكراً متماسة(5)، فلا وجه له وقد تظافرت الأخبار بوجود الفواصل بين السّموات ولا عبرة بكلمات الفلاسفة في ذلك من غير دليل، ولاحمت الشّيء بالشيء إذا الصقته به وملاحمه الصّدوع الصاق الأجزاء ذوات الصّدوع بعضها ببعض واضافة الصدوع الى الانفراج من اضافة الخاص الى العامّ، ووشّج بالتشديد أي شبّك(6)، والضّمير في (بينها) راجع الى ما يرِجع اليه الضّمائر السّابقة كما يفهم من كلام الشّارحين، قال بعضهم: (أراد بأزواجها نفوسها التّي هي الملائكة السّماوية بمعنى قرائنها وكلّ قرين زوج : / / ظ 111 / أي ربط ما بينها وبين نفوسَها بقبول كل جُرم
ص: 221
سماويّ (لنفسه)(1) التّي لا يقبلها غيره)(2)، ولا يخفي أنّ تفسير الأزواج بالنفوس مبني على مذهب الفلاسفة، وقد نقل السّيد الأجل علم الهدى (قدسّ الله روحه) اجماع المُسلمين على أنّ الأفلاك لاشعور لها ولا ارادة، بل هي أجسام جمادية يحّركها خالقها، ويمكن أن يراد بالأزواج الملائكة الموكّلوُن بها والقانطون فيها(3)، وقال بعضهم: (والمراد بأزواجها: أقرانها وأشباهها)(4) فالمعّبر عنها بالأزواج [بعضها](5) ولا يخلو عن بعد، ويمكن أن يراد بالأزواج الكواكب، ويحتمل أن يرجع الضّمير في (بينها) الى الصّدوع ويكون المراد أزواجّها ما قرن بها وشبّكَ فيها وَالله تعالى يعلم. (وَذَلَّلَ للهابطِينَ بِأمِرهِ، وَالصًّاعِدينَ بِأعَمالِ خلقهِ حزُوُنَةَ مِعراجَهَا، وَنَاداهَا بَعدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ فَالتَحَمتْ عُرى أشْراجِهَا) ذَللَ البعير جعله ذَلولاً وهو ضد الصّعب الذّي لا ينقاد منَ الذِّل بالكسر وهو اللّين، والحزونة خلاف السّهولة(6) والمِعراج [والمعرج](7) السّلم و(المصعد)(8)، وقد أوّل بعض الشّارحين صعود الملائكة بأعمال الخلق بكونها منقوشة في النّفوس الفلكيّة التي هي عبارة عن الملائكة السّماويّة بزعمه وهبوطها بتوسّطها بين الخلق ومبدعهم في افاضة الكمالات اللّائقة
ص: 222
بهم(1)، ولا يخفي أنّ ارتكاب أمثال هذه التأويلات في المعنى انكار للأمور الثابتة بالضرورة من الدّين ونداء السّماء ما أشار اليه سبحانه بقوله: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(2) و الظّاهر أنّ هذا النّداء عبارة عن الانشاء والابداع من غير كلفة وتعذر كما تقول للمأمور: أفعل فيفعله من غير توقّف وتلبث، ومثله قوله تعالى لما يبدعه: «كُنْ فَيَكُونُ»(3) وقيل: إنّ الله سبحانه خاطبهما على الحقيقة واقدرهما على الجواب، قال بعض الشّارحين(4): روي (بعد إذ هي دخان) بإضافة (بعد) [الى](5) (إذ)، وروي بضم (بعد) أي وناداها بعد ذلك إذ هي دخان، والأوّل أحسن وأصوب؛ لأنّها على الضم تكون دخاناً بعد نظم رهوات فرجها ملائمة صدوعَها، والحال يقتضي أن دخانيتها قبل ذلك لا بعده، والتحمت أيالتزقت والتأمَتْ، والعروة في الأصل مقبض الكوز والدلو وغيرهما، وعرى العيبة(6) التي يضّم(7) بعضها الى بعض وتشدّ وتقفل (والشَرَج)(8) بفتحتين عرى العيبة، والجمع أشراج كسبَب وأسباب وأشرجت العيبة أي داخلت بين أشراجها، وقال بعض الشّارحين: قد يطلق الأشراج
ص: 223
على حروف العيبة التي تحاط به، وهذا الالتحام عبارة عن تمام خلقها وفيضان الصّورة السّماوية(1) (وَفَتقَ بَعدَ الإرتتاقِ صَوامِتَ أَبْوابَهِا) فتقت(2) الثوب فتقاً من باب قتل نقضت خياطته حتّى انفصل بعضه عن بعضٍ، ورتقت الفتق رتقاً من باب قَتَلَ أيضاً سددته فارتتق والأبواب الصامتة والمصمتة المغلقة منها وفتق صوامت(3) الأبواب إمّا ايجاد الأبواب فيها وخرقها بعد ما كانت رتقاً لا باب فيها بل كانت جسماً متصلاً، وإمّا فتح الأبواب المخلوقة فيها حين ايجادها وإفاضة الصّورة السّماوية عليها وهذه الأبواب هي التي تعرج فيها الملائكة وتهبط وتصعد الأعمال والأدعيّة والأرواح فيها وهي التي اشِار اليها بقوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ»(4) أو التي تنزل منها الأمطار كما اشار اليه سبحانه بقوله: «فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ»(5) أي منصب ولا يخفى أنّ هذا الكلام كغيره من النّصوصِ صريح في أنّ للسّماء أبواباً وتأويلات بعض الشّارحين(6) اقتداء بالفلاسفة ناشئة من وهن الإيمان ونقص الإذعان بما جاء به سيّد المرسلين (صلى الله عليه وآله الطّاهرين) (وَأَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثّواقِبِ / و112 / عَلى نِقَابِهَا) الرصد بالتّحريك جمع راصد كخادم وخدم أو اسم جمع كما قيل ویكون مصدراً كالرّصد
ص: 224
بالفتح، والرّاصد القاعد على الطريق منتظراً لأحد للاستلاب أو المنع والمرصَاد (الطّريق)(1) والمكان يرصد فيها العدو، وأرصَدْت له أي أعدَدت(2)، والثواقب التي تثقب(3) الشياطين أو الهواء أو يثقب الجوّ بضوءه، ويقال: استثقبت النّار إذا استوقدت، والنِقاب بالكسر جمع نَقب بالفتح وهو الثقب والخرق(4) والمراد اقامة الشهب الثواقب لطرد الشياطين عن استراق السّمع کما اشار اليه سبحانه بقوله: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا»(5) وتأويل بعض الشّارحين الشياطين بالأوهام والنقاب بكون السّماء بحيث لا يمنع تعلّق العلوم بما وراها من الأجسَام والمجّردات(6)، فمن الأوهام الفاسدة وليس الكلام صريحاً في كون ذلك المنع مقارناً لإيجاد السّماء حتّى يُنافي ما يدل على حدوثه ويحتمل تخلّل الرّخصة بين المنعين، ووجود الشّهب في الزمان السّابق لا ينافي في حدوث المنع بها فلا تغفل. (وَاَمسَكَها مِنْ أنْ تَمُورَ في خرقِ الهَواءِ بِأيَدِهِ، وَأمَرهَا أنْ تَقِفَ مُستَسْلَمِةً لأمِرْهِ) مَارا الشيء موراً (تحّرك)(7) أو بسرعة أو تردّد في عرض أو ماج واضطرب، والخرق يكون بمعنى(8) الثقب في الحائط، والشق في الثوب
ص: 225
وغيره وهو مصدر في الأصل من خرقته إذا قطعته ومزقته وشققته ويكون بمعنى القفر والأرض الواسعة تخرق فيها الرّياح أي تهب وتشتّد(1) والهواء يقال للجسم الذي هو أحد العناصر، ويقال لكلّ خال هواء ومنه قوله تعالى: «وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ»(2) أي خالية من العقل أو الخَيرْ والمراد بالمور في خرق الهواء أمّا الحركة الطّبيعية أو القسرية في الفواصل التّي تحدث بحركتها في الجسم الذّي هو أحد العناصر اذ لا دليل على انحصاره في الذّي بين السّماء والأرض أو حركتها في المكان الخالي الموهوم أو الموجود طبعاً أو قسراً، والأَيد بالفتح (القّوة)(3)، والظّرف متعلّق بالإمساك والاستسلام والانقياد والمراد بالأمرين الارادة أو بالأوّل نوع من الخطاب (وَجَعَلَ شَمْسَها آيةً مُبْصَرِةً لِنَهارِهَا، وَقَمَرَهَا آيةً مَمْحوَّةً مِنْ لَيْلِهَا، فَاجَراهُمَا(4) في مَنَاقِلِ مجُريهُمَا، وَقَدَّرَ سَيَرهُمَا في مَدَارِجِ درجيهمَا(5)، ليُمَيّزَ بَيَنْ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بهِمَا، وَلِيَعلَمَ عَدَدُ السّنْينَ والحسابُ بِمَقَادِيِرهمَا). الآية العلامة، والمبصر(6) في الأصل المُدرك بالبصر وفسرت المبصرة في قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً»(7) بالبينة
ص: 226
الواضحة وبالمضيئة التي يبصر بها وبالمبصرة للنّاس(1) من أبَصرْته فبصرُ وبالمُبصر أهله كقولهم: أجبن الرّجل إذا كان أهلهُ جُبَنَاءَ، والمحو اذهاب الأثر وطمس النّور، وفسّر محو القمر بكونه مظلماً في نفسه غير مضيء بذاته كالشمس وبنقصان نوره بالنّظر الى الشمس؛ لأنَّه لا يبصُرْ به كما لا يبصر ما الكتاب وينقص نوره شيئاً فشيئاً الى المحاق، وروى أن ابن (الكوّاء)(2) سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن اللّطحة(3) التّي في وجه القمر، فقال: ذاك محو آية اللّيل، ويمكن أن يكون لها مدخل في نقصان ضوء القمر(4) كما هو الأنسَبْ بسَوق الكلام، وبعض الوجوه أظهر في المقام، وقال بعض الشّارحين: كلمة (من) في قوله (عليه السلام): من ليلَها لابتداء الغاية أو لبيان الجنس ويتعلق بممحوة أو يجعل، وقيل: أراد من آيات ليلها(5)، وفيه تأمل. والمنقل في الأصل الطّريق في الجبل، والمدرج المسلك ودرج أي مشى، والدّرج بالتّحريك الطّريق ودرجَيْهما في بعض النّسخ على لفظ التثنية، وفي البعض مفرد ومناقلهما ومدارجهما منازلهما والظّاهر أن التّميز والعلم غايتان للأفعال السّابقة لا [للأخير](6)، أو الآخرين حسب كما يستفاد من مجموع الآيتين فيكون الكلام إشارة اليهما جميعاً قال الله سُبحانه: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ
ص: 227
وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ»(1) وقال عزّ وجلّ: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ»(2) ويحتمل أن يكون التَّميز غاية للأوّل والعلم غاية للأخير أو الأخيرين فيكون نشراً على ترتيب اللّف ولا (يخفى)(3) أنَّ كلامه (عليه السّلام) يؤيد تفسير الآيتين المفردتين في الآية الأولى بالشّمس والقمر لا باللّيل والنّهار وإن كان المراد بالآيتين أوّلا اللّيل والنّهار، وقيل المراد جعلناهما ذوي آيتين فيكون عبارة عن الشّمس والقمر في الموضعين، و(الحساب) بالرّفع حساب الأعمار والآجال التّي تحتاج اليها النّاس في معاملاتهم وأمور دينهم ودنياهم ومقاديرهما مقادير سيرهما و تفاوت أحوالهما، (ثَمَّ عَلَقَ فِي جَوهَا فَلَكَهَا، وَنَاطَ بِهَا زينتهَا، مِنْ خَفِّياتِ دراريهَا، وَمَصَابيحِ كَواكِبِهَا)، لعل كلمة (ثم) هاهنا للتّرتيب الذكري وعلق الشّوك بالثوب كعلم وتعلّق إذا نشب به واستمسك، وعلّقت الشيء بغيره فتعلّق، ولعلّ المراد أقر فلكها في مكانه من الجوّ بقدرته ولا ينافي نفي التعليق في نظم الأجزاء كما سبق في قوله (عليه السلام) (ونَظَمَ بلَا تَعليقٍ رَهواتِ فَرجها) ولا وجه لوجه الجمع الذّي(4) ذكره بعض الشّارحين(5) والجوّ الفضاء الواسع أو ما بين السّماء والأرض، والفلك بالتّحريك مدار النّجوم، قال بعض الشّارحين: أراد بالفلك دائرة معدل
ص: 228
النّهار وهي الدّائرة العُظمى في الفلك الأعظم وهي في الاصطلاح النظري تسمى فلكاً(1)، وقال بعضهم: (أراد بالفلك اسم الجنس وهو أجسامها المستديرة التّي يصدق عليها هذا الاسم)(2) وهما كما ترى ويمكن أن يكون الفلك عبارة عن السّماء الدّنيا ووجه كونها مدار النّجوم على ما هو الظّاهر من قوله عزّ وجلّ: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ»(3) واضح وكذلك تعليقها في الجوّ وقد سبق في شرح الخُطبة الأولى أنّه لا دليل لأهل الهيئة على النظام المخصوص الذّي زعموه في الكواكب والأفلاك وفصّلنا القول في ذلك في حدائق الحقائق(4)، ولو أريد بتزيين السّماء الدّنيا بالكواكب رؤيتها فيها وإن كان بعضها أوْ جميعها بناء على عدم شمولها للقمر مركوزة فيها فوقها ويناسبه اضافة الزّينة في تتمة الكلام الى مطلق السّماء أمكن أن يراد بالفلك ما ارتكز فيه من السّموات كوكب يتّحرك بحركته وبالجوّ الفضاء الواسع الموهوم أو الموجُود الذّي هو مكان الفلك ووجه اضافته اليها واضح فإنَّ الفلك من جملتها وكذلك اضافة الفلك الیها ويحتمل [...](5) حينئذ على بعد أن يراد بفلكها المُحيط بها المحّرك لجملتها فإنَّ مدار الحركة المخصُوصة عليه، فتأمل. ويمكن على نوع من الاستخدام أو بدونه أن يراد بضمير السّماء الذّي أحاط بجميع ما ارتكزت فيه الكواكب المدير(6) لها وحينئذ كون فلكها
ص: 229
في جوَّها ظاهر والله تعالى يعلم، وفي بعض النسخ (علّق في جوّها فلكاً) بدون الضّمير وهو يناسب كون الكواكب في فلك واحد وناط أي علّق، والدراري جمع دّري وهو المضيء كأنَّه نسب الى الدّر تشبيهاً بصفائه، و(قال الفّراء: الكوكب الدرّي عند العرب هو العظيم المقدار، وقيل هو أحد الكواكب الخمسة السّيارة)(1)، ولا يخفى أنّ وصف الدّراري بالخفيات ينافي القولين ظاهر أو الكواكب النّجوم (وَرَمى مُستَرقِي السَّمعِ بِثَواقِبِ شُهبِهَا) الاستراق افتعال من السّرقة، واستراق السّمع الاستماع مختفياً(2)، والشهاب ككتاب الذّي ينقض في اللّيل(3)، وهو في الأصل (شعله)(4) نار ساطعة(5) ووصف الشّهب بالثواقب لأنّها تثقب(6) الشياطين أو الهواء بحركتها أو الظّلمة بنُورها أو لإضاءتها من قولهم: استثقبت النّار إذا استوقدت كما سبق، ومنه قولهم حسب ثاقب أي مضيء شريف، وفي الكلام اشارة الى قوله عزّ وجلّ: «إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ»(7)، وقوله عزّ وجلّ: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا»(8)، وقوله سبحانه «إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ»(9)، وتفصيل القول في الشهب
ص: 230
مذكور في شرح الخطبة الأولى من حدائق الحقائق(1) (وأجراهَا على أذلالِ تسخيرَها، من ثباتِ ثَابِتِهَا، وَمسَيْرِ سَائِرِهَا، وَهُبُوطِهَا وَصُعُودِهَا، وَنُحُوُسِهَا وَسُعُوْدِهَا) الإِذلال جمع ذِّل بالكسر، يقال: / و 113 / أمور الله جاريةٌ اذلالها بالنّصب وعلى اذلالها أي مجاريها، ويقال: دعه على اذلاله أي على حاله بلا واحد وثبات الثوابت بالنّسبة إلى سير السَّيارَات، والمراد بالهُبوط أمّا مقابل الشّرف على ما فصله المنجّمون في السّبعة السّيارة، أو التوجّه الى حضيض الحامل، أو التدوير أو التوّجهُ إلى الغرُوب فإنَّه الهُبوط حسّاً ويقابله الصّعود، والنّحوس ضدّ السّعودِ، يقال: سعد يومنا کنفع سعداً وسُعوداً بالضّم أي يمن والاسم السّعادة، وهذا الكلام يدل على أنَّ لعلم النّجوم أصلاً لكنْ لا دلالة فيه على صحّة ما في أيدي المنجّمين، وعلى جواز النّظر في هذا العلم والعمل بما استفيد منها، وقد سبق تفصيل القول في ذلك في شرح قوله (عليه السلام) لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج.
[منها في صفَة الملائكة (عليهُم السّلام)](2): (ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لإسْکَانِ سَمَاواتِهِ، وَعِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ، خَلْقاً بَدِیعاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ، مَلأَ(3) بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا، وَحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ(4) أَجْوَائِهَا) الظّاهِر أنَّ كلمة (ثُمَّ) هاهنا للترّتيب الحقيقي، فيكون خلق السماوات قبل خلق الملائكة، وفي رواية
ص: 231
الهروي عن الرضا (عليه السلام) أنَّ الملائكة خُلقت قبل السماوات(1) ويمكن الجمع بالتخصّيص في هذا الكلام بالقاطنين في السّماوات غير المفارقين عنها وعمارة المنزل جعله أهِلاً ضدّ الخراب الذي لا أهل له، والصّفيح السّطح على ما ذكره بعض الشّارحين(2) ووجه كلّ شيء عريض، والصّفيح أيضاً (من أسماء السّماء)(3)، ولذلك توهّم بعض الشّارحين(4) أنّ الصّفيح(5) الأعلى عبارة عن سطح الفلك الأعظم مع أن تتمّة الكلام واضحة(6) الدّلالة على اسكان الملائكة في فتوق أجواء السّماوات وقد سبق في الخطبة الأولى قوله (عليه السلام): (ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَاواتِ العُلى فَمَلأهُنَّ أَطْواراً مِنْ مَلَائكَتهِ)، وَالظاهر أنَّ الصّفيح الأعلى جنس شامل للسّماوات، ويقابله الصّفيح الأسفل وهو الأرض والّذي يظهر من مجموع الرّوايات أنَّ السّماوات ليست متلاصقة على ما ذهبت اليه الفلاسفة من غير دليل يعتمد عليه، وإنّ السّطِح المحدب(7) من كل سماء أرض للقبّة الّتي هي فوقه، وبذلك يتّضح معنى قوله عز وجل:
ص: 232
«اللَّهُ الَّذِي [خَلَقَ](1) سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ»(2)، وقد بيّن ذلك أبو الحسن (عليه السلام) فيما رواه العيّاشي باسناده عن أبي الحسن (عليه السلام) أنّه (بسط كفّه، ثم وضع اليمني عليها، فقال: هذه الأرض الدّنيا، والسّماء الدّنيا عليها قبّة، والأرض الثّانية فوق السماء الدنيا، والسماء الثّانية فوقها قبّة، والأرض الثّالثة فوق السماء الثّانية، والسماء الثّالثة فوقها، حتّى ذكر الرّابعة والخامسة والسّادسة، فقال: والأرض السّابعة فوق السّماء السّادسة، والسّماء السّابعة فوقها قبّة، وعرش الرّحمن فوق السّماء السّابعة، وهو قوله: «سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ»(3) وإنّما صّاحب الأمر النّبي وهو على وجه الأرض وإنّما ينزلُ الأمر من فوق بين السّماواتِ والأرضين)(4) ويظهر أنَّ السّطوح المحدّبة للسّماوات السّبع مساكن الملائكة ومعابدهم يعبدُون الله فيها بأنواع العبَادة منهم سُجُود لا يركعون، ورکوعٌ لا ينتصبون، وصافّوُنَ لا يتزايلَون، ومسبّحون لايفترون، ولا ريب أنَّ بعد وجود الفواصل بینها یشكل القول بأنَّ الحركة اليومّية لسائر الأفلاك بتبعية الفلك الأعظم بل مع قطع النّظر عنه مع مَا زعمُوا من أنّها كرات حقيقة ليست في سُطوحها خشونة وتضريس وانها عارية عن الميل المستقيم كما يظهر لمن تأمل وأمعن النظر، وقد صرح أبو علي بن سينا(5) في رسالة
ص: 233
المبدأ(1) والمعاد(2) وعلى تقدير الاضطرار إلى القول باستناد الحركة اليومية إلى كرة غير الحوامل للكواكب وأفلاكها الجزئية لا حرج في اثبات کرات متعددة بعدد الأفلاك المكوكبة تكون(3) محركة لها بالحركة اليومية ولا يخفى على الفطن أنَّ الجمع بين كلمات الفلاسفة وما يظهر من الشريعة المقدسة بل وسائر الأديان في كثير من المواضع (أعز من بيض الأنوق)(4) ودونه خرط (القتاد)(5) (6)، ومن رام ذلك فقد تجشم تأويلات واهية تشمئز منه العقول السّليمة والافهام المستقيمة، / / ص 222 وليت شعري ما الحامل لصاحب الشّريعة على السّتر على تلك الحقائق التي يزعمها هؤلاء حكمة من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، ولماذا بخلوا بالكشف عن هذه العلوم التّي بينها هؤلاءِ
ص: 234
لكل ذكي وغبي(1) ومن الله العصمة والتأييد، والملكوت كرهبوت(2) العزّ والسّلطان، وفلان بدع(3) في هذا الأمر أي هو أول من فعله والبديع بمعنى المفعول ما أحدث وفيه معنى التعجب، (والفروج الأماكن الخالية)(4)، والفَج الطريق الواسع بين (جبلين)(5) وحشوتُ الوسادة بالقطن جعلتها محشوة به مملوة منه، والفتق الشق والجو الفضاء الواسع وما بين السماء والأرض، وقد عرفت أنَّ السطح المحدب من كل سماء أرض للتي فوقها، وهذا الكلام صريح في تجسم الملائكة وإن ما بين السماوات مملؤة منها، وقال بعض الشارحين: استعار لفظ الفروج، والفجاج والفتوق لما يتصور بين أجزاء الفلك من التباين لولا الملائكة الذين هم أرواح الافلاك وبها قام وجودها وبقاء جواهرها محفوظة بها، ووجه المشابهة ظاهر(6)، وأما فجاجها وفروجها فإشارة(7) الى ما يعقل بين أجزائها وأجوائها المنتظمة من التباين لولا الناظم لها بوجود الملائكة فيكون حشو تلك الفروج بالملائكة كناية عن نظامها بوجودها، وجعلها مدبرة لها وهذا من التأويلات الباردة التي اشرنا اليها، وقد تقدم دعوى السيد الأجل (قدس الله روحه) اجماع المُسلمين على أنّ
ص: 235
الأفلاك لاشعور لها ولا ارادة بل هي أجسام جمادية يحركها خالقها(1) (وَبَيَنْ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ المُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدْسِ، وَسُتُرَاتِ الْحُجُبِ وَسُرَادِقَاتِ المَجْدِ، وَ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا) الفجوة الفُرجة والموضع المُتَّسِع بين الشّيئين، وزجل المسبّحين صوتهم الرّفيع العالي، والحظيرة بالحاء المهملة والظّاء(2) المعجمة في الأصل الموضع الّذي يحاط عليه لتأوي إليه الغنم والإبل يقيها البرد والريح، والقُدس بالضم وبضمتين (الطُهر)(3) اسم ومصدر، والسُترُات بضمتين جمع سُترة بالضم وهي [ما](4) يُستر به کالستارة(5) والحِجاب ما احتجب به، والسرادق (الذي يمد فوق صحن البيت)(6)، والبيت من الكرسف(7)، والمجد الشرف والعظمة، والرجيج(8) الزلزلة والاضطراب، ومنه رجیج(9) البحر وتستك منه الاسماع أي تصم(10)، وفسروا السبحات بالنور والبهاء والجلال والعظمة، وقيل: سبحات الوجه محاسنه؛ لأنَّك إذا رأيت الوجه الحسن قلت سبحان الله،
ص: 236
ولعل المراد بها الأنوار التي تحجب الأبصار ويعبر عنها بالحجب وردعه کمنعه كفه ورده، والخاسئ من الكلاب والخنازير المبعد لا يترك أن يدنو من الناس، وقيل الخاسئ الصاغر القمي، ويقال: خسأتُ الكلب أي طردته وابعدته والضمير في حدودها راجع إلى السبحات، وقال بعض الشارحين: أي تقف الأبصار حيث تنتهي(1) قوتها؛ لأنَّ قوتها متناهية، فإذا بلغت حدودها وقفت(2) والظاهر من الكلام أن حظائر(3) القدس وسترات الحجب وسرادقات المجد بين أطباق السماوات وهي المواضع المعدة للملائكة المسبحين وإن أصواتهم الرفيعة العالية ملأت أطباق السماوات، فيكون المراد بها غير الحجب والاستار التي يظهر من بعض الأخبار وفي رواية صحيحة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن (الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزء من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزء من نور الستر)(4)، ولعل المراد من سبحات النور في هذه الخطبة الحجب والاستار التي تظهر(5) من هذه الرواية وغيرها وفي بعض الروايات أن بين الله وبين خلقه تسعين ألف حجاب، والله تعالى هو المحيط بعوالم ملکوته، ولبعض
ص: 237
الشارحين(1) في معنى الزجل والرجيج(2) والحجب وغيرها تأويلات سخيفة يظهر حالها ما ذكر من أمثالها (([...](3) أَنْشَأهُمْ(4) عَلَى صُوَرٍ مُختَلِفَاتٍ، وَأَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ / و114 / أُوليِ أَجْنِحَةٍ تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ)) اثبات الصّور والأقدار والأجنحة لهم واضح الدّلالة على تجسمهم وفيه اشارة الى قوله تعالى: «أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ»(5)، وقال بعض الشّارحين بناء على زعمه الفاسد: باختلاف صورهم كناية عن اختلافهم بالحقائق وتفاوت أقدارهم تفاوت مراتبهم في الكمال والقرب منه، ولفظ الأجنحة مستعار لقواهم(6) التي بها جبلوا على المعارف الالهية وتفاوتها بالزّيادة والنّقصان(7) کما قال تعالى: «أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ»(8) وتسبّح بالتّشديد من التّسبيح وهو التّنزيه والتّقديس والتّبرئة من النّقائص، والجلال العظمة، والعزّة القوة والشدة والغلبة والجملة صفة لأولي الاجنحة لا للأجنحة كما توهّم بعض الشّارحين(9)، وفي بعض النّسخ (تّسْبَحُ خِلال(10) عِزّته) بتخفيف
ص: 238
الباء في تسبح من السّباحة في الماء، وخِلال بكسر الخاء المعجمة وهو وسط الشيء، أو جمع خلل بالتحريك (كجبل)(1) وجبال(2)، والخلل (الفرجة بين الشّيئين)(3) وفي بعضها (تَسْبَحُ خلال بحار عزّته) بزيادة لفظ (البحار)، ولعلّ المراد بسباحتهم على تقدير الصّحة سيرهم في أطباق السماوات أو عروجهم ونزولهم لإداء الرّسالة وإمضاء أوامرهُ سبحانه، أو سيرهم في مراتب القرب بالعبادة والتّسبيح والتّقديس ((لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنعِهِ، ولَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ؛ «بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ]»(4) انتحل الشيء وتنحّله إذا ادّعاه لنفسه وهو لغيرهِ، ولعلّ المعنى أنّهم لا يدّعُون الالهية كما يدّعيه بعض البشر لهم أو لأنفسهم فيكون نفياً لادّعَاء الاستبداد، والجملة التالية نفياً لدعوى المشاركة أو الأولى نفي لادعائهم الخالقيّة فيها لهم مدخل في وجوده بأمر الله، والثّانية فيما خلقهُ الله بمجرّد أمره وارادته، ومكرمون بالتخفيف من الإكرام، وقُرِئَ بالتّشديد(5) من التكّريم واللاّم في بالقول عوض عن المضاف إليه، أي لا يسبقون الله عزّ وجلّ بقولهم بل هو تابع لقوله عزّ وجلّ كما أنَّ عملهم تابع الأمره، والغرض تنزيههم عن النّقائص التي تكون(6) في البشر وكذلك بعض
ص: 239
الكلمات الآتية (جَعَلَهُمُ فِيمَا(1) هُنَالِكَ أَهْلَ الَأْمَانَةِ عَلىَ وَحْیِهِ، وَحَمَّلَهُمْ إِلىَ المُرْسَلِینَ وَدَائِعَ [...](2) وَنْهَیِهِ) الظاهر أنَّ هذا الوصف مخصوص ببعض الملائكة كما قال الله عزّ وجلّ: «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا»(3)، وفي الكلام نوع من التّجوز أو الاستخدام(4)، و(ما هنالك) عبارة عن مراتب الملائكة أو الأشغال والأمور المفوضة اليهم، أو عن أربابها و أصحابها والوحي في الأصل أن يلقي أحداً إلى غيره شيئاً بالاستتار والإخفاء ويكون بمعنی الكتابة والاشارة والرّسالة والإلهام، وفي قوله (عليه السّلام) حمّلهم إلى المرسلين تضمين معنى البعث(5) أو الإرسال أو التوّجه، وللمتفلسفة في توجيه الوحي والإرسال إلى البشر تأویلات سخيفة لا ينبغي ذكرها والإصغاء اليها (وَعَصَمَهمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ، فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ. وَأَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ المَعُونَةِ، وَأَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِینَةِ) الضمّير أمّا راجع الى مطلق الملائكة فيدل(6) على عصمة الجميع، أو إلى سكّان السّماواتِ، أو المؤتمنين على الوحي والرّسالة فيستفاد عصمة غيرهم مِنْ غيره، والرّيب الشكّ و(7) التّهمة، أو الشّك مع التّهمة، والزِيّغ العدول عن الحقّ، والمرضاة ضدّ
ص: 240
السّخط مصدر وأمددته بمدد أي أعنته وقوّيته به والفائدة ما استفدته من طريقة مال أو علم، والمعونة اسم من استعان به فأعانه، وهي مفعلة بضّم العين، وقيل: الميم أصلية مأخوذة من الماعون فيكون فعولة(1)، والماعون المعروف، وقيل: (الطّاعة)(2)، وقيل: ما يتعاور في العادة وأصله أثاث البيت كقدر وقصعة وفاس(3)، ولعلّ المراد تأييدهم بأسباب الطاعات والقربات والمعارف و الشعار من اللّباسِ / ظ114 / ما يلبس تحت الّدثار، وهو يلي شعر الجسد، و استشعره(4) [لبسه وأشعره](5) غَيرهُ البسه إيّاه وكّل ما الزقَتهُ بشيء ء فقد أشعرته به، وجوز بعض الشّارحين: أن يكون من الشعور بمعنى الادراك، يقال: أشعرة الأمر وبه أي أعلمه، والتّواضع التّخاشعُ والتّذلل، وأخبت الرّجل إذا خضعَ الله وخشع قلبُه(6)، والسّكينة الطّمأنينة والوقار والرّزانة والمَهابة، ولعل المراد على الأخير مَهابته سبحانه، والغرض عدم انفكاكهم عن الخوف والخشوع (وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلاً إِلَى تَمَاجِيدِهِ، ونَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ) الذُلل بضمتين جمع ذلول وهو ضدّ الصّعب كرسل ورسول صرّح به في المصباح المنير(7)، ومجّده أي عظّمه وأثنى عليه، وفتح الأبواب المذكورة كناية عن سهولة التمجيد لعدم معارضة
ص: 241
شيطان أو نفس أمّارة بالسّوء والجمع للدلالة على الأنواع بخلاف التّوحيد والمنار، جمع منارة بالفتح فيهما، (وهي العلامة)(1)، ومنار الحرم أعلامه المضروبة على أقطاره(2)، وأصلها النّور ولذلك تجمع على مناور، وأما (المنابر)(3) فعلى تشبيه الأصلي بالزائد(4) ووجه التأنيث الواضحة واضح، والأعلام جمع علم بالتحريك وهو الجبل الطّويل أو عام ونصب المنار لهم على الأعلام عبارة عن غاية ظهورها لهم لعدم معارضة الشكوك والشبهات كما يكون للبشر، (لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الآثَامِ، وَلَمْ تَرْتَحِلْهمْ عُقَبُ اللَّياليِ وَالأَيَّامِ) الإصر بالكسر: (الثقل)(5)، والموصرات المثقلات وعدم الاثقال للعصمة، ورحل البعير وارتحله حطّ عليه الرحل(6) وهو مركب للبعير، وفي الحديث: أنَّ النَبي (صّلى الله عليه واله) سجد فركبه الحسن (عليه السلام)، فأبطأ في سجوده، فلّما فرغ سئل عنه، فقال: إنّ ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله، أي جعلني كرّاحلة، فركب على ظهري، ذكره في النّهاية(7) والارتحال أيضاً الإزعاج والاشخاص، والعُقبة بالضّم (النوبةّ)(8) والجمع عُقَب مثل
ص: 242
غُرفة وغُرَف، والعقبة(اللّيل والنّهار)(1) لأنهّما يتعاقبان، قال بعض الشّارحين: أي لم يؤثر فيهم ارتحال اللّيالي والايّام، كما يؤثر ارتحال الإنسان البعير في ظهره(2)، وهذا على الوجه الأوّل، وعلى الوجه الثاني، فالمعنى: لم يزعجهم تعاقب الليل والنّهار، ولم يوجب رحيلهم عن الوجود والغرض تنزيهَهُم عمّا يعرض البشر من ضعف القوى أو القرب من الموت بكرور الأزمنة، (وَلَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ، وَلَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ) النّوازع في بعض النسخ بالعين المهملة من نزع في القوس إذا جذبها ومدّها، ونوازع الشّكوك (الشبهات)(3)، وقال بعض الشّارحين: (أي شهواتها، والنازعة المحرّكة)(4)، وبعده واضح، وفي بعض النسخ بالغين المُعجمة كما في النّهاية(5) من نزغ الشيطان بين القوم أي أفسد ويقال: نزغه الشيطان، أي وسوس إليه، والعزيمة ما وكدت رأيك وعزمك عليه، والعزم الجدّ(6) والصّبر، والمعترك: موضع العراك والمعاركة، أي: القتال، واعتركوا في المعركة اعتلجوا، والابل في الورد: ازدحمت(7)، والظن يكون بمعنى الاعتقاد الراجح غير الجازم وبمعنى الشك، وقيل: هو خلاف(8) اليقين فيشملهما والمقام
ص: 243
يحتمل الكل، ومَعْقِدُ الشيء مثل مجلِس موضع عقده وهو الشدّ يقال: عقدت الحبل(1) والبيع والعهد ويكون مصدراً والغرض(2) نفي تطرق الشبه، والشكوك الى عقائدهم اليقينية (وَلَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَا سَلَبَتْهُمُ(3) الْحَيَرْةُ مَا لاَقَ مِنْ مَعْرفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ، وَسَكَنَ مِنْ عَظَمِتِهِ وَهَيْبَةِ جَلَالتهِ(4) فِي أَثْناءِ صُدُورِهِمْ) قَدَحَ بالزند(5) کَمَنَعَ رام الايراء به وهو استخراج النار، والمِقْدح والمِقْدحة بكسر الميم الحديدة، والقداح والقداحة الحجر، ويحتمل أن يكون من القدح بمعنى الطّعن(6) لكنه بعيد، والإحِّن جمع أحِنة کسدر وسدرة، وهي (الحقد والغضب)(7) أي لا يثير الغَضْب واضمار العداوة فتنة فيما بينهم لبرأتهم / و 115 / عن القوة الغضبية، والحيرة عدم الاهتداء الى وجه الصواب، وأصله أن ينظر الإنسان الى شيء فيغشاه(8) ضوءه فيصرف بصره عنه، ولاق الشيء بغيره لزق ومنه ليقه الدواة لأنه يلصق المداد بها(9)، والغرض نفي الحيرة عنهم (كالأحنة)(10) لأنهَّا لا تكون إلا عن الشبه
ص: 244
والوساوس، ويحتمل أن يكون المراد بالحيرة الوله لشدة الحب وكمال المعرفة وسيجيء اثبات الوله لهم في الكلمات الآتية وفي دعاء سيد الساجدين (عليه السلام) (ولا يغَفُلوُنَ عن الوَله اليك)(1) والمعنى أنَّ شدة ولههم لا يوجب نقصاً في معرفتهم وغفلة عن ملاحظة العظمة والجلال كما يورث الوله في البشر نوعاً من الغفلة، وأثناء [الشّيء](2) تضاعيفه وجاء في أثناء الأمر أي في خلاله جمع ثنى بالكسر (وَلَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعُ بِرَيْنِها عَلَى فِكْرِهِمْ) في بعض النسخ (فَتَقَترَعَ) بالقاف من الاقتراع بمعنى ضرب القرعة والاختيار، والغرض نفي تناوب الوساوس وتواردها عليهم، [وفي بعضها](3) فتفترع بالفاء وهو افتعال من فرعه أي علاه، والأول أنسب بالطمع، والرين بالنون كما في بعض النسخ (الطبع والدنس)(4) والتغطية(5)، ورَان ذنبه(6) على قلبه ريناً، أي غلب ورانت النفس أي خبثت(7)، وقيل: أصل الرين الغلبة، ثم أطلق المصدر على الغطاء، وفي بعض النسخ برينها بالباء الموحدة، والرَيب الشك والتّهمة، أو الشك مع التّهمة كما سبق(8) والفكر والفكرة إعمال النظر
ص: 245
في الشيء. (مِنْهُمْ(1) مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمامِ الدُّلَّحِ، وَفِي عِظَمِ الْجِبالِ الشُمَّخِ، وَفِي قَتْرَةِ الظَّلَامِ الْأَيْهَمِ(2)) الضمير راجع الى مطلق الملائكة والغمام كما في بعض النسخ جمع غمامة أو(3) هي السّحابة أو هي في الأصل (السّحابة البيضاء)(4) وتطلق على غيرها، وبعض النسخ الغمائم وهي أيضاً جمع غمامة، والدّلح جمع دالح وهو الثّقيل من السّحاب لكثرة مائه(5)، والدلح أن يمشي البعير بالحمل وقد أثقله(6)، والشّامخ من الجبال المرتفع العالي، ومنه قيل للمتكبرّ قد شمخ بأنفه، والقُترة بالضم (بيت)(7) الصّائد الذي يتستر به عند تصيده من خص ونحوه ويجمع على قتر مثل غرفة وغرف، ويطلق على حلقة الدرع(8)، والكوّة النافذة، والظّلام ذهاب النّور، والأيهم الذي لا يهتدي فيه(9) ومنه فلاة يهماء(10)، وهذا النوع من الملائكة خزان المطر وزواجر السحاب و لعله شامل لمشيعي الثّلج والبرد والهابطين مع قطر المطر إذا نزل وان كان السحاب
ص: 246
مكانهم قبل النزول والموكلون بالجبال للحفظ وسائر المصالح و الساكنون في الظلمات لهداية الخلق وحفظهم أو غير ذلك. (وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى؛ فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ، وَتَحْتَها رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ المُتَنَاهِيَةِ) تُخُوم الأرض بضم التاء معالمها و(حدودها)(1) وهي جمع تخوم بالضم أيضاً، وقيل: واحدها تخُم بالضّم، وتَخم بالفتح، وقيل: التخم(2) حدّ الأرض والجمع تخوم مثل فَلس وفُلُوسِ(3)، وقال ابن الاعرابي وابن السَكيت الواحد تُخَوم والجمع تُخُم مثل رَسُول ورُسُل(4)، وفي النُسخ بضم التاء، و(الرَاية علم الجيش)(5)، قيل: (أصلها الهمز لكن العرب آثرت تركه تخفيفاً)(6)، وانكره بعضهم وقال: (لم يسمع الهمز)(7)، ومخارق الهواء المواضع التي تمكنت فيها تلك الرايات بخرق الهواء والرَيح الهفافة الطيَبة(8) السَاكنة، قال بعض الشَارحين: أي ليست مُضْطَربة فتموج تلك الرَايات، بل هي ساكنة تحبسها حيث انتهت)(9) (قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغالُ عِبادَتِهِ، وَوَصَّلَتْ حَقائِقُ الْإیِمانِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ،
ص: 247
وَقَطَعَهُمُ الْإِيقانُ بِهِ إِلَى الْوَلَه إِلَيْهِ، وَلَمْ تُجاوِزْ رَغَباتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ) الاشغال جمع شُغُل بالضم وبضمتين وبالفتح وبفتحتين وهو ضد الفراغ واستفراغها إيّاهم جعلهم فارغين إلا منها، وحقائق الإيمان الاعتقادات اليقينية ووصلها / 115 / بينهم وبين المعرفة جعلهم (متصلين)(1) بها، وفي بعض النسخ (وسّلت) بالسّين المشددة، يقال: وسّل الى الله توسيلاً وتوسّل أي عمَل عملاً تقرب(2) [به](3) اليه، ولعل المراد بحقائق الإيمان شواهد الصنع والعلم والقدرة، وبمعرفته المعرفة الكاملة أو اللائقة به سبحانه وقطعهم الإيقان الى الوله أي صرفهم (عما)(4) سوى الوله ووجههم اليه، وهو في الأصل التحير من شدة الوجد(5) أو(6) ذهاب العقل(7)، والمراد عدم الالتفات الى غيره سبحانه والرغبة الارادة والسؤال والطلب والحرص على الشيء والطمع فيه وعدم تجاوز رغباتهم كونها مقصورة على الله عز وجل والظاهر أن هذه الأوصاف لا يختص بالقسم السابق من الملائكة فالضمائر راجعة الى الملائكة مطلقاً كالضمائر(8) الآتية. (قَدْ ذَاقُوا حَلاَوَةَ مَعْرِفَتِهِ، وَشِرَبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَتَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ(9) قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ،
ص: 248
فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ(1) ظُهُورِهِمْ، وَلْمَ يَنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِليْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ، وَلَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمْ الزُّلْفَةِ رَبِقَ خُشُوعِهِمْ) الباء في بالكأس أما للاستعانة وليست زائدة لأنَّ الكأس لا يشرب وإنّما يشرب ماؤها أو بمعنى من لأنَّ الشرب مبتدأ منها أو بمعناها على تضمين الالتذاذ، والكأس الإناء يشرب فيه أو ما دام الشّراب فيه، وهي مؤنثة(2)، والرّوية المروية التّي تزيل العطش رأساً، وسويداء القلب وسوداؤه (حبّته)(3)، و(الوشيجة)(4) في الأصل(عرق الشجرة)(5)، ويقال: وشجت العروق والأغصان، أي اشتبكت(6)، وحنيت الشيء أي عطفته وعوّجته، وأنفد(7) الشيء أفناه(8)، ومادة التضرّع الداعي اليه وأطلق (على)(9) الأسير إذا حل أسره، والرِّبقة بالكسر في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها(10)، وعدم نفاد مادّة التضّرع فيهم لعدم تطرّق النّقص الى علمهم بعظمة الله وحاجتهم، وعدم انتهاء مراتب المعرفة والقرب الداعيين لهم الى التضرع والعبادة ومع ذلك لا يتطرق الضعف الى قواهم فبقدر صعودهم في مدارج
ص: 249
الطّاعة يزداد قربهم وكلّما ازداد قربهم ازداد علمهم بعظمة الله فلذلك لا ينقص تضرّعهم وخشوعهم، بل يزداد على طول الطّاعة كما اشار اليه (عليه السلام) في آخر الفصل (وَلَمْ يَتَوَلهمُ الْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ، وَلَا تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الْإِجْلَالِ نَصِيبَاً فِي تَعْظِيْمِ حَسَناتِهمْ) تولّاه أي اتّخذه وليّاً، وتولّى الأمر أي تقلّده وعدم تولّي الإعجاب كناية عن عدم الاستيلاء والإعجاب استعظام ما يعدّه الإنسان فضيله لنفسه، ويقال: أعجب زيد بنفسه على البناء للمفعول إذا ترفّع وسر(1) بفضائله، وأعجبني حسن زيد إذا عجبت منه واستكثره عدة كثيراً وما سلف منهم طاعتهم السّابقة والاستكانة الذل والخشوع(2)، قيل: افتعال من المسكنة، وقيل من السكون اشبعت حركة عينه(3)، يقال: استَكَن زید واستكان، وقيل استفعال من الكينة وهي الحالة السّيئة، ويقال: كان مكين إذا خضع وذكره في القاموس(4) في الكون أيضاً، وقيل: في توجيهه أن المستكين بخضوعه يتغير من كون الى كون كالمستحيل يتغير من حال الى حال، وقال أبو علي الفارسي: عندي إنه استفعال لا افتعال، واستكانة الإجلال خضوعهم الناشئ عن ملاحظة جلال الله وعظمته (وَلَمْ تُجْرِ الّفَتراَتُ فِيهِمْ عَلى طُولِ دُؤُوبِهِمْ، وَلَمْ تَغِضْ رَغَباتُهُمْ فَيُخُالِفُوا عَنْ رَجاءِ رَبِهمْ) الفترة مرة من الفتور وَهَوَ السُّكوُن بعَدَ حِدَّةٍ، واللين بعد شدة(5)، ودأب في أمره كمنع دؤباً جد وتعب، وغاض الماء غيّضا
ص: 250
و مغاضاً قلٌ ونقص (وَلَمْ تَجِفَّ لِطُولِ المُنَاجاةِ أسَلَاتُ أَلسِنَتِهِمْ، ولَا مَلكَتْهُمُ الأشَغَالُ فَتَنقَطِعَ بِهَمِسِ الجُوُّارِ(1) إلَيِهِ أصّواتُهِمْ) المناجات المخاطبة سراً، وأسلة اللّسان ظرفه ومستدقه، والهمس الصّوت الخفي، والجّؤار(2) كغراب رفع الصّوت بالدعاء والتضرع والاستغاثة(3)، قال بعض الشارحين: أي ليس لهم اشغال(4) / و116 / خارجة عن العبادة، فيكون لأجلها أصواتهم المرتفعة خافية ساكنة(5)، وفي بعض النسخ بهمس الخبر، وفي بعضها بهمس الحنين، وتوجيههما يحتاجٌ إلى تكلف (وَلَم تَختَلِفُ(6) فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبهُمْ، وَلْمَ یَثْنُوا إِلَی رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ) مَقَاوِمَ الطَّاعَةِ صفوف العبادة جمع مقام، والمنكب کمجلس مجتمع رأس الكتف والعضد(7)، وعدم اختلاف المناكب عدم تقدم بعضهم على بعض في الصف أو عدم انحرافهم وقد ورد في الحديث: ((سَوّوُا صفوفكم ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم))(8) وكان في نسخة بعض الشارحين(9) مقادم بالدال المهملة موضع الواو قال استعار لفظ المقادم
ص: 251
من ريش الطائر وهي عشر في كل جناح لما سبق وجوبه من طاعة الله وكان أهم عباداته كمعرفته والتوجه اليه ولفظ المناكب وهي أربع ريشات بعد المقادم في كل جناح لذواتهم وفيه مع (غاية)(1) البعدان المذكور في كتب اللغة بالمعنى الذي ذكره إنما هو القوادم لا المقادم، وثنيت الشيء ثنياً عطفته، وثناه أي كفه وثنيته أيضاً صرفته إلى حاجته، وراحة التقصير الراحة الحاصلة باقلال العبادة أو ترکها بعد التعب. (لاَ(2) تَعْدُوا عَلىَ عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلاَدَةُ الْغَفَلَاتِ، ولَا تَنْتَضِلُ فِي هَمِهِهِمْ(3) خَدائِعُ الشَهَواتِ.) عدا عليه أي قهره وظلمه، والعزيمة ما وكدت رأيك وعزمك عليه، والتبلد ضد التجلد والتحير، وبلُد الرجل بالضم بلاده فهو بليد أي غير ذكي ولا فطن(4)، وانتضل القوم وتناضلوا إذا رموا للسبق(5)، والهمة ما هم به من أمر ليفُعَل وخدائع الشهوات وساوسها الصارفة عن العبادة و انتضاها تواردها وتتابعها (قَدِ اتَخَذُوُا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ، وَيَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى المَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ) ذو العرش هو الله عز وجل، قال سبحانه: «إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا»(6)، والفاقة الحاجة والفقر، ويوم فاقتهم يوم يَقبِض أرواحهم كما يظهر من بعض الأخبار ولا يبعد أن يكون لهم نوع من الثواب
ص: 252
على طاعتهم بازدياد القرب وافاضة المعارف وذكره سبحانه وتعظيمه(1) إياهم وغير ذلك فالإشارة إلى يوم جزائهم، ويمموه أي قصدوه، والانقطاع إلى أحد صرف الوجه عن غيره والتوجه إليه وعند انقطاع الخلق [أي](2) کما ينقطع الخلق والضمير في رغبتهم كالضمير في فاقتهم، أو راجع الى الخلق، أو إليهما على التنازع. (لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِم الاِسْتِهْتَارُ بِلزُومِ طَاعَتهِ، إِلاَّ إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرَ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَمَخَافَتِهِ) الأمد(3) المنتهى، ويرجع فعل متعد ولازم، تقول: رجع زيد ورجعته أنا، واهتر فلان بكذا واستهتر فهو مهتر به، ومُستهترٌ على صيغة المفعول، أي مولع به لا يتحدث بغيره، ولا يفعل غيره(4)، [ولزوم الشيء عدم مفارقته والانفكاك عنه والمادة مشتقة من مد البحر وغيره](5) إذا زاد(6) وكل ما اعنت به قوماً في حرب وغيره فهو مادة لهم، والمراد بالمادة المعين والمقوي، وكلمة (من) في قوله (عليه السلام): (من قلوبهم) ابتدائية أي إلى مواد ناشئة من قلوبهم غير منقطعة، وفي قوله عليه وسلام): (من رجائه) بيانية، فتكون المواد عبارة عن الرجاء والخوف الباعثين لهم على لزوم الطاعة، ويحتمل أن (تكون)(7) الأولى بيانية والثانية صلة للانقطاع كما في الكلام الآتي، والغرض اثبات دوام
ص: 253
خوفهم ورجائهم الموجب لعدم انفكاكهم عن الطاعة بل لزيادتها كما يشعر به لفظ المواد. (لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ فَیَنَوا(1) فِي جِدِّهِمْ، وَلْمَ تَأْسْرِ هُمُ الْأَطْماعُ فَيُؤثِرُوا وَشِيْكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ) (السّبب)(2) في الأصل الحبل الذي يتوصل به الى الماء، وثم استعير لكل ما يتّوصّل به إلى غيره، والشفقة: الخوف، والونی: (الضعف والفتور)(3)، / ظ116 / قال الله تعالى: «وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي»(4)، وحذف نون الجمع لجواب ما فيه معنى النفي بالفاء، ولم تأسرهم أي لم تجعلهم أسيرا وهو المشدود والمقيد والمسجون، والإيثار الاختيار، والوشيك القريب والسريع والمعنى: ليسوا مأسورين في (ربقه)(5) الطمع حتى يختار، والسّعي القريب في تحصيل المطمُوع الدنياوي الفاني على اجتهادهم الطّويل في تحصيل السّعادة الباقية كما يفعلهُ البشر (وَلَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضى مِنْ أَعْمَالِهمْ، وَلَوِ اِسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقاتِ وَجَلِهِمْ) استعظم الشيء إذا رآه عظيماً، واستعظام العمل العجب المنهي عنه، ونسخ الشيء ازالته وابطاله وتغيره، والمراد بالرجاء ما تجاوز الحد المطلوب منه ويعبر عنه بالاغترار وشفقات الوجل تارات الخوف ومراته. (وَلَمْ(6) يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاستِحْواذِ الشِّيْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ یُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقاطُعِ، وَلاَ تَوَلَّاهُمْ غِلُّ
ص: 254
التَّحَاسُدِ) الاختلاف في الرّب أمّا في الاثبات والنّفي، أو في التّعيين، أو في الصّفات كالتّجرد والتّجسُم وكيفية العلم وغير ذلك، أو في استحقاقه کمال العبادة على ما زعمه بعض الشّارحين(1) و(اسْتَحْوَذَ عليهُم الشّيطانُ) أي استولى، وهو ما جاء على الأصل من غير اعلال، والتّقاطع ضدّ التّواصُل أي التعادي وترك البرّ والاِحسان وَتَوَلّيْتُ الأمر أي قمت به، وتولّيت فلاناً اتّخذته وليّاُ أي ناصراً ومحبّاً، والغّل الحقد والشحناء(2)، وفي اسناد التولي الى الغلّ بيان للشناعة بأبلغ وجه (ولَا شَعبتَهُمْ(3) مَصَارِفُ الرَّيْبِ، وَلاَ أقْتَسَمْتَهُمْ أَخيافُ الْهِمَمِ) الشّعبة من كل شيء الطائفة منه(4)، وشعبَهُم أي فرّقهم، ومنه سُمي الموت شَعوباً بالفتح لأنَّه يفرق الخلائق(5)، وفي بعض النّسخ (تَشعّبتّهُم) على صيغة التفعل، والأظهر ما في الأصل، والرّيب جمع رِيبة بالكسر وهو [الشك أو](6) هو مع التّهمة ومصارفها وجوهها وطرقها من الأمور الباطلة التّي ينصرف إليها الأذهان عن الشبّه کما ذكره بعض الشارحين(7) أو وجوه انصراف الأذهان عن الحقّ بالشبه أو الشّكوك والشبه أنفسها، واقتَسَمُوا المال بينهم أي تقاسموه، والاسم القسمة وأخياف الهمم أي الهمم المختلفة، وأصله من الخيف بالتحريك، وهو زرْقُه إحدى العينين وسواد الأخرى في الفرس
ص: 255
وغيرها(1)، ومنه قيل لإخوة الأم أخياف لأنَّ آبائهم شتی(2)، والهِمّة بالكسر ما عزمُت عليه لتفعله(3) وقيل: أول العزم، والغرض نفي الاختلاف بينهم والتعادي والتفرق بعروض الرّيب واختلاف الهمم أو نفي الاختلاف عنهم وبيان أنهم فرقة واحدة لبرأتهم عن الرّيبة واختلاف الهمم (فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمانٍ لَمْ یَفَكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَیْغٌ وَلَا عُدُولٌ، وَلَا وَناً وَلَا فُتُورٌ) الربقة في الأصل عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها لتمسكها، والزيغ الجور والعدول عن الحق، والوني الضعف، وفي التّفريع دلالة على أنَّ الصّفات السّابقة من فروع الإيمان أو لوازمه والظاهر أنَّ المراد به الفرد الكامل، فظهر الوجه في كون الفتور والضّعف من أسباب الفك من ربقته (وَليْسَ فِي أَطْباقِ السَّماواتِ(4) مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ، يَزْدَادُوْنَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً، وَتَزْدَادُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً) الطّبق محركة في الأصل الشيء على مقدار الشيء مطبقاً له من جميع جوانبه کالغطاء له، ومنه يقال: أطبقوا على الأمر إذا اجتمعوا عليه متوافقين غير متخالفين وأطبقت عليه الحمّی فهي مطبِقة بالكسر، وأطبق عليه الجنون فهَو مطبِق بالكسر أيضاً والسماوات أطباق لأنَّ كل سماء طبق لما تحتها، والإهاب ككتاب (الجلد)(5)،
ص: 256
وقيل: إنما يقال له قبل أن يدبغ ويجمع على أُهُبٍ ککُتُبٍ، وأَهَبٍ بفتحتين(1) وليس في كلامهم نظيره الأعماد وعمدَ، والحافد المسرع والخفيف في العمل ويجمع [على](2) حفد بالتحريك، ويطلق على الخدم لإسراعهم في الخدمة والعزّة القوّة والغلبة، والعِظم بکسر العين خلاف / و 117 / الصغر مصدر عظم(3) كصغر وفي بعض النسخ (عُظمًا) بالضّم وهو اسم من تعظّم أي تكبرّ وما في الأصل أظهر، قال بعض الشّارحين(4): اعلم أنّ للسّماء ملائكة مباشرة لتحريكها، وملائكة أعلى رتبه من أولئك هم الآمرون لهم بالتحريك، فيشبه أن يكون الاشارة بالسّاجدين منهم إلى الأمرين، والسّجود كناية عن کمال عبادتهم کناية بالمستعار، ويكون الاشارة بالسّاعين المسرعين إلى المتولين للتّحريك، فإمّا زیادتهم بطول الطّاعة علماً بربهم فلمّا ثبت أن حركاتهم إنّما هي شوقيه للتشبه بملائكة أعلى رتبةً منهم في كمالهِم بالمعارف الالهية وظهور ما في ذواتهم بالخروج من القوّة إلى الفعل انتهى. [ولا يذهب على المستبصر المستمسك بأذيال العترة الطاهرة (عليهم السلام) أن تجشم أمثال هذه التأويلات السخيفة الواهية إنما ينشأ من الميل إلى الاصول الفاسدة المأخوذة من الفلاسفة والركون إلى عقائدهم الباطلة ولا فرق في المعنى بين الانکار الصريح للاصول الثابتة من الدين القويم وبين تحريفها وتأويلها إلى أمثال هذه الوجوه المموهة التي يقطع كل عارف باللسان بأنها ليست مرادة في كلام
ص: 257
الله(1) عز وجل ولا في كلام حججه (صوات الله عليهم أجمعين) ومن الله نستمد العصمة والتأييد، إنه هو الولي الحميد](2).
[وَمِنْهَا](3) في صِفَةِ الأرض وَدَحْوِهَا عَلىَ الماءِ: (كَبَسَ الَأْرْضَ عَلىَ مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ، وَلَجُجِ(4) بِحَارٍ زَاخِرَۃٍ) دحو الأرض بسطها على الماء، يقال: دحا یدحو ویدحي أي بسط ووسع وقد ورد في أخبارنا أنّ الأرض دحیت من تحت الكعبة ليلة خمسة وعشرين من ذي القعدة، وإنّ صيّام ذلك اليوم يعدُل صيام ستين شهراً وما حكاهُ بعض الشّارحين عمّن زعمهُ من [العارفين](5) من أنّ (الاشارة بالكعبة إلى كعبة وجود واجب الوجود التّي هي مقصد وجوه المخلصين التّي جعلت هذه الكعبة في عالم الشّهادة مثالاً لها ودَحوهَا من تحتها عبارة عن وجودها عن ذلك المبدأ)(6)، فمن التأويلات الواهية الناشئة عن عدم الاذعان بظواهر الشّريعة من غير دليل صارف، وكبسَ الرّجل رأسه في قميصه إذا أدخله فيه، وكبس البئر والنّهر إذا طمّهما بالترّاب وملأهما، قال بعض الشّارحين: كبس الأرض، أي أدخلها [في](7) الماء بقوة، واعتماد شديد(8)، ومور الأمواج تحركها، أو بسرعة، أو تردّدها في
ص: 258
عرض(1) أو اضطرابها، وَ(استفحل الأمر: أي تفاقم واشتدّ)(2)، وقال بعض الشّارحين: (أمواج مستفحلة: أي هائجة هيجان الفحول)(3)، وقال بعضهم: (أي صائلة)(4)، واللُجّة بالضم (معظم الماء)(5)، ومنه بحر لجي، وزخر البحر إذا مدّ و (كثر ماؤه وارتفعت أمواجه)(6) (تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِها، وَتَصْطَفِقُ مُتَقاذِفاتُ أَثْباجِهَا، وَتَرْغُو زَبَداً کَالْفُحُول عِنْدَ هِيجِهَا) اللَّطم ضرب الخدّ بالكفّ مفتوحة، ومنه المثل: (لو ذات سِوَار لَطَمتْنَي) قالته امرأة لطمتها امرأة غير كفوها، والتطمت الأمواج(7) ضرب بعضها بعضاً، والأذي بالمدّ والتّشديد الموج الشّديد والجمع أواذي(8)، والصّفق الضرب يسمع له صوت، والصّرف والرّد واصطفقت الأمواج أي ضرب بعضها بعضاً وردّها، واصطفقت الأشجار إذا اهتزت بالرّيح، والتّقاذف التّرامي بقوّة، وثج البحر بالتّحريك معظمه ووسطه(9)، وقيل أصله: (ما بين الكاهل الى الظّهر)(10)، والمراد أعالي الأمواج، والرُّغاء بالضم صوت الإبل، ورغى اللبن صارت له
ص: 259
رغوة أي زبد وهو(1) بالتحريك الذّي يظهر فوق السّيل والبحر المتلاطم، قال بعض الشّارحين: زبداً منصوب بمقدر أي ترغو قاذفةً زبداً(2)، والفحل الذّكر من كل حيوان وأكثر ما يستعمل في الإبل، وهاج الفحل ثار واشتهى الضّراب (فَخَضَعَ جِماحُ المَاءِ المُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِها، وَسَکَنَ هَيْجُ ارْتِمائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِها، وَذَلَّ مُسْتَخْذِياً إِذْ تَمَعَّکَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا) خضع أي ذلّ، وجماح الماء غليانه من جمح الفرس إذا غلب فارسه ولم يملکه(3)، / ظ 117 / و تلاطم الأمواج أن يضرب بعضها بعضاً، وهيج الماء ثورانه وفورته، والارتماء التّرامي والتّقاذف وارتماء الماء تلاطمه وأصل الوطأ الدوْس بالقدم، والکْلَکْل (الصّدر)(4) کالكِلْکَال، وذلّ أي هان وصار ذليلًا ويحتمل أن يكون بمعنى صار ذلولاً، وهو ضدّ الصعب، وفي بعض النّسخ كلّ موضع ذلّ أي عرض له الكلال من کَلَّ السَّيْف إذا لم يقطع، والمستخذي مليناً كما في النسخ الخاضع والمنقاد(5) وقد يهمز على الأصل، وقيل لأعرابي في مجلس أبي زيد: كيف تقول استخذات؟ ليتعرف منه الهمزة، فقال: مستعار من تمعكت الدّابة أي تمرغت في التّراب(6)، والمعك الدّلك في التراب(7)، والكاهل ما العرب لا
ص: 260
تستخذئ(1) بالهمزة(2)، وقيل: أصله من خذا يخذو أي (استرخى) ويجوز خذي كرضي، وتمعكت بين الكتفين(3) (فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخابِ أَمْوَاجِهِ سَاجِياً مَقْهُوراً، وَفِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقاداً أَسِيْراً) الاصطخاب افتعال من الصخب وهو كثرة الصّياح واضطراب الأصوات(4)، والساجي الساكن(5) والحكمة محرّكة حديدة في اللّجام تكون على حنك الفرس تمنعه عن مخالفة راكبه(6)، قال بعض الشّارحين(7): في هذا الموضع اشكال وهو أنَّ لقائل أن يقول: كلامه (عليه السلام) يشعر بأن هيجان الماء وغليانه وموجه سكن بوضع الأرض عليه وهذا خلاف ما نشاهده و يقتضيه(8) العقل؛ لأن الماء السّاكن إذا جعل فيه جسم ثقيل اضطرب وتموّج، وصعد علوا، فكيف الماء المتموج يسكن بطرح الجسم الثّقيل فيه؟ والجواب أنّ الماء إذا كان تموّجه من قبل ريح هائجة جاز أن يسكن هيجانه بجسم يحول بينه وبين تلك الرّيح ولذلك اذا جعلن في الإناء ماء وروحناه بمروحة فإنَّه يتحرك، فإن جعلنا على سطح الماء جسماً يملأ حافات الإناء، وروحناه بالمروحة فإن الماء لا يتحرك؛ لأنَّ ذلك الجسم قد حال بين الهواء المجتلب بالمروحة وبين سطح
ص: 261
الماء، فمن الجائز أن يكون الماء في الأوّل هائجاً لأجل ريح محرّكة له، فإذا وضعت الأرض عليه حال بين سطح الماء وبين تلك الرّيح، وقد مرّ في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ذكر هذه الرّيح فقال: ريحاً اعتَقَمَ مَهَبّهَا، وَأدَامَ مرّبَها فَمخَضَتهُ مَخَض السِّقاءِ وَعَصِفَتْ بِهِ عَصْفَها بالفضاء انتهى. وأقول ما ذكره السّائل من تموّج الماء وصعوده إذا وضع فيه جسم ثقيل فليس غرضه (عليه السلام) نفيه ولا نفي تموّج الماء مطلقاً وإنما الغرض نفي التموّج الشّديد الذي كان للماء إذ حمله سبحانه على متن الرّيح العاصفة، والزّعزع العاصفة بقدرته الكاملة وأنشأ ريحاً لمخضه مَخضْ السّقاء فكانت كرة الماء تندفق من جميع الجوانب وترد الريح أوله على آخره وساجيه على مائرة كما أشار إليه (عليه السلام) في الخطبة الأولى(1) ولاريب أنّ في مثل تلك الحال يكون التموّج في غاية الشدّة، ثمّ لما كبس الأرض بحيث لم يحط الماء بكرة الأرض من جميع جوانبها فلا ريب في انقطاع الهبوب والتموّج من ذلك الجانب المماسّ(2) للأرض من الماء وهذا ما ذكره المجيب، وأيضاً لما منعت الأرض سيلان الماء من ذلك الجانب إذ ليس الأرض كالهواء المتفق المتحرّك الّذي كان ينتهي اليه ذلك الحدّ من الماء كان ذلك أيضاً من أسباب ضعف التموّج وقلّة التّلاطم، وأيضاً لما تفّرقت كرة الماء في أطراف الأرض ومال الماء بطبعه الى المواضع المنخفضة من الأرض وصار البحر الواحد المجتمّع بحاراً عديدة، وإن اتّصل بعضها ببعض وأحاطت السّواحِل بأطراف البحار بحيث منعت الهبوب إلاّ من جهة السطح الظاهر سكنت الفورة الشديدة
ص: 262
بذلك التفرّق وقلّة العمق وانقطاع الهبوب، فكلّ ذلك من أسباب السكون لا الذّي اشار إليه (عليه السّلام) هذا ما يقتضيه الجري على قواعد الطّبيعيين، ويمكن أن يكون لخلق الأرض وكبسها في الماء نوع آخر من التأثير في سكون الماء لا تصل إليه عقولنا والله تعالى يعلم، وقال بعض الشّارحين(1): مقتضى الكلام / و118 / أنّه تعالى خلق الماء قبل الأرض وسكن بها مستفحل أمواجه، وهذا ما شهد به البرهان العقلي، فإن الماء لما كان حاوياً لأكثر الأرض كان سطحه الباطن الماس لسطحه الظّاهر مكاناً لها وظاهر أنّ للمكان تقدّما طبيعياً باعتبار ما على المتمكّن فيه وإن كان اللّفظ يعطي تقدّم خلق الماء على خلق الأرض تقدماً زمانياً كما هو المقبول عند السامعين انتهى. أقول حمل [مثل](2) هذا الكلام على التّقدم الذّاتي وارتكاب أمثال هذه التأويلات من الأوهام الفاسدة التي يقطع ببطلانها كلّ من له أدنى معرفة لكن المقتفين(3) لآثار ابن سينا(4) والمتبعين لسنّته وسنّة أمثاله من الفلاسفة
ص: 263
العادلين عن اتباع الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) لمّا لم يمكنهم الإنكار الصريح لما ورد في الشّريعة مخالفاً لآرائهم الفاسدة للخوف من القتل والتّكفير التجأوا الى التأويل، فأوّلوا الأرض بالسّماء والسماء بالأرض(1)، وأضلّوا كثيرا من النّاس عن سواء السّبيل والحامل لهذا الرّجل على التأويل العليل انكار الحدوث الزّماني الّذي أجمع عليه المليّون قاطبة، ثم أنّ البحار مطلقاً لما كانت مستقرة في المواضع الغائرة المنخفضة من الأرض وكان سطح الماء أخفض من سطح الأرض الأبعاض الظّاهرة من الأرض وكانت احاطة الماء بالأرض غير تامّة وليست كإحاطة كرة الهواء بمجموع الأرض والماء کانت الأرض للماء بمنزلة الإناء والمعتبر في التمكن لاسيّما في العرف هو الاستقرار والاعتماد ولاريب في أنّ الماء لميله الى المركز مستقر على الأرض ولمواضع الماء باعتبار الغور والانخفاض نوع من الإحاطة بالماء، فلو اعتبر التقدم باعتبار التمكن مع ضعفه كانت الأرض أقدم م-ن هذا الوجه، والأمر في مثل ذلك هيّن فتدبّر واعلم أنّ الخارج من الأرض عن الماء على زعم بعض أهل الهيئة قريب من النّصف وعلى ما ذكره بعضهم يزيد على الرّبع تقريباً، ولعل مراد الأولين ما خرج عن المحيط، ومراد هؤلاء ما خرج عن الماء مطلقاً، وزعم طائفة من المتأخرين أنّهم ظفروا بقطعة مكشوفة في وسط البحر المحيط توازي ثلثي القطعة المكشوفة المشهورة وإنّ المحيط كالمنطقة للأرض، وعلى هذا فالأرض أولى بأن يعتبر مكانا كما لا يخفى ثمّ أنّ الظّاهر على ما ذهب إليه الطّبيعيّون من أنّ العلّة في سكون الأرض وغوصه في الماء قوة ثقله وانطباق مركز ثقله على مركز العالم عدم تساوي جانبي الأرض في الثقل
ص: 264
لكثرة الجبال(1) في الجانب المغمور في الماء أو لغير ذلك و إلاَّ لأحاطت كثرة(2) الماء بمجموع الأرض أو كانت الخارجة من الماء رؤوس(3) الجبال(4) والمواضع المرتفعة فقط في جميع الجوانب على نسبة واحدة، ولا بد من القول بحركة الأرض إذ دب(5) على وجههَا ذرّة فضلًا عن غيرها من أنواع الحيوان ولا ضير فيه بعد(6) قيام البرهان لكن الكلام فيه وقد فصلّنا القول في ذلك شرح الخطبة الاولى من حدائق الحقائق(7) (وَسَكَنَتِ الَأْرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لَجَّةِ تَيَّارِهِ، وَرَدَّتْ مِن نَخْوَةِ بَأْوِةِ وَاعْتِلَائِهِ، وَشُمُوخِ أَنْفِه وَسُمُوِّ غُلَوَائِهِ) دحو الأرض بسَطها وتوسيعها كما سبق قال الله تعالى: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا»(8)، والكرويّة لا تنافي(9) في البسط کما توهمه بعض الشّارحين(10) ويحتمل أن يكون مدحوّة هاهنا من الدّحي بمعنى القذف والرّمي كما جوزه بعض الشّارحين(11) واللُّجة معظم الماء، والتيّار الموج، وقيل التيار أعظم الموج ولجّته أعمقه، والنخوة الافتخار والتّعظم والأنفة والحميّة(12) والباء والرفعة والتعظم والكبر
ص: 265
والاعتلاء التّيه والترّفع وشمخ بأنفه أي تكبر، ومن شمخ الجبل إذا ارتفع والسّمو العلوّ والغُلَوا بضّم الغين وفتح اللّام النشاط وتجاوز الحدّ(1) وغلواء الشباب أوّله وثرته، والغرض بيان سكون الأرض في الماء المتلاطم ومنعها إيّاه عن تموجّه وهيجانه (وَكَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جِرْيَتِهِ، فَهَمَدَ(2) بَعْدَ نَزَقاتِهِ، وَبَعْدَ(3) زَيَفَانِ(4) وَثَبَاتِهِ) كعمت البعير أي شددت / ظ 118 / فإذا هَاجَ بالكعَام ككتاب وهو شيء يجعل في فيه، والكِظّة بالكسر ما يعتري المُمتلئ من الطعام، والجِريّة بالكسر حالة الجريان أو مصدر، وكظة الجِريّة ما يشاهِد من الماء الكثير في جريانه من الثقل، وهمدت الرّيح سكنت قال الله تعالى: «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍب»(5) وهمود النار ما يتبعه خمودَها، ونزق الفرس كسمع ونصر وضرب نزقاً ونُزوقاً نزا، ووثب والنزقات دفعاته، ونزق الغدير امتلأ الى رأسه، وعلى هذا فالهمود بمعنى الغور، ولعلّ [الأوّل](6) أظهر(7)، والزَيفان بالتحريك التبختر في المشي من زاف البعير نزيف(8) إذا تبختر(9)، وفي بعض النّسخ (ولبَد
ص: 266
بَعُد زيفان وثباته) يقال: لَبَدَ بالأرض كَنَصَرَ إذا لزمها واقام، ومنه اللّبد ككتف لمن لا يبرح منزله ولا يطلب معاشاً(1)، وذكر بعض الشارحين أنه روی (ولبّد بعد زَفَيان وثباتِهِ)(2) بتقديم الفاء على الياء وهو شدّة هبُوب الرّيح(3)، يقال: زفت الرّيح السّحاب اذا طردته(4)، والزّفيان بالفتح (القوس السّريعة الارسال للسّهم)(5)، والوثبة الطّفرة(6) والقيام.
(فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ المَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا، وَحَمَلَ شَواهِقَ الْجِبَالِ الْبُذَّخِ(7) عَلَى أَكْتَافِهَا، فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أنُوفِهَا(8)) هيج الماء وثورانه وفورته، وأكنافها أي جوانبَها ونواحِيها، وشَواهق الجبال عَواليها وَالباذخ العالي ومنه شرف باذخ، والينبُوع ما انفجر من الأرض عن الماء من نبع الماء أي خرج من العين، ولعله اعتبر فيه الجريان بالفعل فيكون من اضافة الخاص الى العام أو التكرير للتخصيص بالعيون الكثيرة الماء لأنَّ أثر القدرة فيْها أظهر، وقيل: (الينبوع الجدول الكثير الماء)(9)، فالوجه واضح، وعرنين
ص: 267
الأنف أوّله (تحت مجتمع الحاجبين)(1)، والظّاهر أنَّ الضمير راجع الى الأرض كالضمائر السّابقة واللاحقة والتخصيص لأن العيون في العوالي أكثر وأثر القدرة فيها أظهر ونفعها أتمّ (وَفَرَقَها في سِهُوُبِ بيدها وأخادِيدِهَا، وعدَّلَ حَركاتِهَا(2) بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلاَمِيدِهَا، وَذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ(3) الشُمِّ(4) مِنْ صَيَاخِيدِها) السّهب (الفلاة)(5) البعيدة الأكناف والأطراف، والبِيد بالكسر جمع بيداء، وهي الفلاة التي يبيد سالكها أي يهلك، والأَخاديد جمع أخدود وهو الشق في الأرض(6)، والمراد بأخاديدها مجاري الأنهار، وقد ورد في الحديث: ((أنهار الجنة تجري في غير أخدُود))(7) أي في غير شق في الأرض بل على سطح جمع شُنخوب(8) بالضم أي (رؤوس (الجبال)(9) العالية)(10)، والشمّ المرتفعة العالية(11)، والصّياخيد جمع صيخود وهي الصخرة الشّديدة(12)
ص: 268
(فَسَكَنتْ(1) مِنَ المَيَدَانِ بِرُسُوبِ(2) الْجِبَالِ فِي قِطَع أَدِيمِهَا، وَتَغَلْغُلِهَا مُتَسِّرَبَةً فِي جَوْبَاتِ(3) خَيَاشِيمِهَا، وَرُكُوبَهِا أَعْنَاقَ سُهُولِ الَأْرَضِيَن وَجَرَاثِیمِهَا) الميدان بالتحريك التحرك والاضطرابوهو المستفاد من الأرض ولا يسيل في الأطراف، ولعل تعديل الحركات بالرّاسيَات أي الثّابتاتِ وهي (الجبال)(4) جعلها عديلاً للحركات بحيث لا يغلبها القوة المحركة فيستفاد سكونها فالباء صلة لا سببية(5)، أو المعنى سوّى الحركات في الجهات أي جعل الميول متساوية بالجبال فسكنت لعدم المرجح، فالباء سببية، والجلاميد جمع جلمد(6) و جلمود أي الصخور(7)، والشناخيب أكثر المصادر على هذا الوزن كالجولان والخفقان والضربان، ورسب في الماء كنصر وكرم رسوباً ذهب سفلاً، وجبل راسب أي ثابت، والقِطَع كَعِنَبَ جمع قطعة بالكسر (وهي الطّائفة من الشيء)(8) قال بعض الشارحين: (ويروي في (قُطْع أديمها))(9) بسكون الطاء، والقِطَع طِنْفِسَة الرّحل(10) كأنه جعل الأرض ناقة وجعل لها قطعاً وجعل الجبال في ذلك القِطع، والأديم الجلد المدبُوغ، وأديم السّماء والأرض ما ظهر
ص: 269
منهما، ورسوب الجبال في قطع أديمها دخولها في أعماقها، والتغلغل الدخول يقال: تغلغل الماء في الشجر أي / و119 / تخلّل في(1) أصوله وعروقه، والسّرب بالتّحريك (بيت في الأرض) لا منفذ له فإنَّ كان له منفذ فهو النّفق، يقال: تسرب الوحشي وانسرب في حجره أي دخل(2)، والجوبة: الحفرة، والفرجة و(الخيشوم: أقصى الأنف)(3)، والسّهل من الارض ضد الحزن، وجرثومة الشيء بالضم (أصله)(4)، وقيل التراب المجتمع في أصول الشجر(5)، ولعلّه أنسب، ولعل المراد بجراثيمها المواضع المرتفعة منها، ومفاد الكلام أن الأرض كانت متحركة مضطربة قبل خلق الجبال فسكنت بِها وقد فصلنا الوجوه التي ذكرها لكون الجبال علّة لسكون الأرض في شرح الخطبة الأولى من حدائق الحقايق لكن الظاهر من الريح(6) وفائدة التنسم ترويح(7) القلب حتى لا يتأذى بغلبة الحرارة وفيه بقاء الحياة(8) ومرافق الدار ما يستعين به أهلها ويحتاج اليه في التعيش واخراج أهل الأرض على تمام مرافقها ايجادهم واسكانهم في الأرض بعد تهيئة ما يصلحهم لمعاشهم والتزود الى معادهم ومن جملة تلك المرافق سكون الأرض وكونها خارج عن الماء
ص: 270
على حد خاص من الصلابة والرخاوة غير صقيل يتأذى(1) أهلها بانعکاس الأشعة قابلة لانفجار العيون وحفر الآبار ونزول الأمطار وتكون المعادن وتولد أنواع الحيوان والحياة بعد الموت حتى يتحدد(2) فيها الحبوب والثمار والأعشاب ونحو ذلك مما لا يحصيه إلا الله عز وجل ((ثُمَّ لَمْ يَدَع جُرُزَ الْأَرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا، ولَا تَجَدُ جَدَاوِلُ الأنْهَارِ ذَرِیعَةً إِلَى بُلُوغِهَا، حَتَّى أَنْشَأَ لَها(3) نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْیِی مَوَاتَهَا، وَتَسْتَخْرِجُ نَبَاتهَا)) الجُرُز بضمتين ((الأرض التي لا نبات بها ولا ماء))(4)، والرابية (ما ارتفع من الأرض)(5)، وكذلك الرُبوة بالضم، والجَدول كجعفر النهر الصغير، والذَريعة الوسيلة، وناشئة السحاب أول ما ينشأ منه(6) أي يبتدئ ظهوره، ويقال: نشأت السحابة إذا ارتفعت، والمَوات بفتح الميم (الأرض التي لم تحي بعد)(7) واستخراج نباتها احياؤها ([...](8) أَلَّفَ(9) غَمامَها بَعْدَ افْتراقِ لِمُعِهِ، وَتَبَایُنِ قَزَعِهِ(10) / ظ 119 / حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لَجُةُ الْمُزْنِ فِيهِ، وَالْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِه، وَلَمْ یَنَمْ وَمیضُهُ
ص: 271
فِي كَنَهْورِ رَبابِهِ، وَمُتَرَاكِمَ سَحابِهِ، أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً، قَدْ أَسَفَّ هَیْدَبُهُ، تَمْرِیهِ(1) الْجُنُوبُ(2) دِرَرَ أَهَاضِيِبهِ، وَدُفَعَ شَآبِيبِهِ.) الغَمام جمع غَمامة بالفتح فيهما وهي السحابة البيضاء، واللُمع كصرد جمع لمُعة بالضم وهي في الأصل قطعة من النبت(3) إذا أخذت في اليبس كأنها تلمع وتضئ من بين سائر البقاع، والقَزَعُ جمع قَزَعَة بالتحريك فيهما وهي القِطْعَة مِنْ الغَيْمِ(4) وتباين القزع تباعدها، والمَخض بالفتح تحريك السقاء الذي فيه ليخرج زبده، وتمخضت أي تحركت، واللّجة معظم الماء(5)، والمُزْنُ جمع مُزْنَة بالضم فيهما وهي الغَيْمِ(6)، وقيِل: (السَّحَابَة البيضاء)(7) والضمير راجع الى المزن أي تحركت فيه اللّجة المستودعة فيه واستعدت للنزول، والتمع البرق ولمع أي أضاء، وكففه حواشيه [وجوانبه](8)، وطرف كل شيء كفّة بالضّم لأنَّ الشيء إذا انتهى إلى ذلك كفّ عن الزيادة(9)، وعن الأصمعي كل ما استطال كحاشية الثوب والرمل فهو کُفة بالضم وكل ما استدار کكفة الميزان فهو کِفة بالكسر(10)
ص: 272
ويجوز فيه الفتح، ووميض البرق لمعانه ولم ينم أي لم ينقطع ولم يفتر، والكنهور کسفرجل قطع من السحاب كالجبال، وقيل المتراكم منه(1)، والرباب کسحاب الأبيض منه(2)، وقيل السحاب الذي تراه كأنه دون السحاب، وقد يكون أبيض وقد يكون أسود جمع ربابة، والمتراكم والمرتكم المجتمع، وقيل الميم بدل من الباء كأنه ركب بعضه بعضاً، و (السح الصب، والسيلان من فوق)(3) والمتدارك من الدرك بالتحريك وهو اللحاق، يقال: تدارك القوم إذا لحق آخرهم أولهم، وأسف الطائر إذا دنا من الأرض، ومنه قوله (عليه السلام) في الشقشقية(4): (ولكني أسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا) وهيد به ما تهدب منه أي تدلی کما يتدلى هدب العين و مرى الناقة يمرّ بها أي مسح ضرعها حتی درّ لبنها، وعدّى هاهنا الى مفعولين، وروی تمرّي بدون الضمير والجنوب [بالفتح](5) الريح مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا وهي أدرّ للمطر، والدرّر کعنب جمع درة بالكسر أي الصب والاندفاق(6)، وقيل الدرر الدار كقوله تعالى: «دِينًا قِيَمًا»(7) أي قائمًا، والهضب المطر ويجمع على أهضاب ثم على أهاضيب كقول وأقوال وأقاويل، والدفعة والدفقة بالضم فيهما من المطر ما أنصب بمرة وكذلك الدفعة من السقاء والإناء، والشآبيب
ص: 273
جمع شؤبوب وهو ما ينزل من المطر دفعة بشدة (فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحابُ بَرْكَ بِوَانَیْهَا، وَبَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ(1) المَحْمُولِ عَلَيْهَا، أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرضِ النَّباتَ، وَمِنْ زعْرِ الْجِبَالِ الأعشابَ) البرك (الصدر)(2)، (والبواني: قوائم الناقة)(3) وأركان البينة وقال بعض الشارحين(4): بَوانيها بفتح النون تثنية بِوان على (فِعال) بكسر الفاء وهو عمود الخيمة، والجمع بُون، ومن روی بوانيها أراد لواصقها من قولهم: قوس بانية إذا التصقت بالوتر. والرواية الأولى أصحّ انتهى. وفي النسخ الصحيحة التي عندنا على صيغة الجمع واضح کما ذكرنا وذكر هذا الكلام في النهاية، وفسّر البواني ب(أركان البيّنة)(5)، وفسر في القاموس ب(قوائم الناقة)(6) والاضافة على التقادير الأدنى ملابسة وبناء الكلام على تشبيه السحاب بالناقة المحمول عليها أو الخيمة التي جر عمودها، والبعاع كسحاب (ثقل السحاب من المطر)(7) واستقلت أي نهضت وارتفعت واستقلت به حمله ورفعه، والعبء(8) الحمل والثقل بالكسر في الجميع والحوامد من الأرض التي لا نبات بها، والزعر بالتحريك (قلة الشعر في الرأس)(9)، ورجل أزعر والازعر الموضع القليل
ص: 274
النبات(1) والجمع زُعُر كأحمر وحمر(2)، والمراد القليلة النبات من (الجبال)(3) تشبيهاً بالرؤوس القليلة الشعر والعُشب(4) بالضم الكلاء الرطب. (فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِياضِها، وَتَزْدهِي بِما أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطَ(5) أَزَاهِيرِها، وَحِلْيَةِ ما سُمِطَتْ بِهِ مِنْ ناضِرِ أَنْوَارِها، وَجَعَلَ ذَلِكَ بَلَاغَاً للأَنام ورزقاً(6) لِلأَنْعام) بهج(7) کمنع سّر، وافرح قال بعض الشارحين: (من رواه بضم الهاء أراد يحسن، ويملح من البهجة)(8) (أي الحسن)(9) والروضة / و120 / من العشب الموضع الذي يستنقع فيه الماء واستراض الماء أي استنقع وتزدهي أي تتكبر وتفتخر افتعال من الزهو وهو الكبر والفخر، والرَيْط جمع رَيطَة بالفتح فيهما وهي كل ملاءة ليست بلفقين(10) أي قطعتين كلها نسج واحد وقطعة واحدة(11)، وقيل: كل ثوب رقيق [ليّن](12)، والملاءة (الازار)(13) ونحوه،
ص: 275
وقيل ما كانت ذات لفقين(1)، والازاهیر جمع أزهار جمع زَهرة بالفتح فيهما وهي النبات ونوره، وقيل الأصفر منه، وأصل الزهرة الحسن والبهجة، والجلية بالكسر ما يتزين به من مصوغ الذهب والفضة والمعدنیات و سمطت به أي علقت(2) على صيغة التفعيل المجهول فيهما، وفي بعض النسخ الصحيحة شمطت بالشين المعجمة، والشميط من النبات ما خالط سواده النَّورَ الأبيض وأصله الشَمط بالتحريك، وهو بياض الرأس يخالط سواده(3) والنَضارة الحسن والطراوة، والنَّورَ بالفتح (الزهر)(4) أو (الأبيض منه)(5)، والبَلاغ بالفتح ما يتبلغ به ويتوسل إلى الشيء المطلوب (وَخَرَقَ الْفِجاجَ فِي آفاقِها، وَأَقامَ المَنارِ لِلسَّالِکِینَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِها) الفج الطريق الواسع بين جبلين وخرق الفجاج خلقها على الهيئة المخصوصة، والآفاق (النواحي)(6) والمنار جمع منارة وهي العلامة و أصلها النور، ولذلك يجمع على مناور وأما منائر فعلى تشبيه الأصلي بالزائد، والمراد بالمنار مايهتدى به السالكون من الجبال(7) والتلال ويحتمل أن يكون المراد النجوم كما قال عز وجل: «وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»(8) وقد مرّ في كلامه (عليه السلام) عند مسيره الى
ص: 276
الخوارج: (إياكم وتعلم(1) النجوم إلا ما يهتدى به في برٍ أو بحرٍ)، والجادة وسط الطريق ومعظمه.
(فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ، وَأَنْفَذَ أَمْرَهُ، اخْتَارَ آدَمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ وَأَسْکَنَهُ جَنَّتَهُ، وَأَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ) مهد الشيء وسعه و بسطه ومهد الأمر سواه و أصلحه(2)، ولعل المراد في المقام اتمام خلق الأرض على ما تقتضيه المصلحة في نظام أمور سكانها، ويحتمل أن يراد بتمهيد الأرض جعلها مهاداً أي فراشاً كما قال عز وجل «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا»(3) و(4) جعلها مهدا أي مستقرا کالمهد للصبي، كما قال عز وجل: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا»(5) وقريء في الأول مهداً، وفي الثاني مهاداً، وانفاذ الأمر امضاؤه واجراؤه، والخيرة(6) کعنبه قيل اسم من اختار الرجل من القوم وعليهم وكذلك الخِيرة بالكسر، وقيل: مصدر بمعنى الاختيار وبالكسر اسم مثل الفدية والافتداء(7) ويكونان مصدرين بمعنى واحد، تقول: خار الرجل على غيره خيرة وخيرة أي فضله، وقال الأصمعي: (الخَيْرة بالفتح والاسكان ليس بمختار)(8) وخيرة أما منصوب على الحالية، أو المصدرية،
ص: 277
والجِبِلَّة بكسر الجيم والباء وتشديد اللام الحلقة والطبيعة، وقيل في قوله تعالى: «وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ»(1) والجبلَّة الأولين أي ذوي الجبلة ويحتمل أن يكون من قبيل الخلق بمعنى المخلوق وقيل: الجبلة الجماعة من الناس والمراد بأول الجبلة أول شخص من نوع الإنسان، والجنة الحديقة ذات النخل والشجر وقد فصلنا القول في جنة آدم (عليه السلام) في حدائق الحقائق(2) والرغيد من العيش الواسع الطيب، وارغد الله عيشه أي جعل عيشه واسعاً طيباً، والأُكُل بضمتين الرزق والحظ قال الله تعالى: «وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا»(3)، (وَأَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيماً نَهَاهُ عَنْهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الِإْقْدَامِ عَلَیْهِ التَّعَرَّضَ لِمَعْصِيَتِهِ، وَالمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ) أوعزت(4) إلى فلان في فعل أو ترك أي تقدمت وأمرت والمراد النهي عن أكل الشجرة بقوله عز وجل: «وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ»(5) وتعرض له أي تصدى وخاطر بنفسه وماله أي أشفاهما على خطر، والقاهما في المملكة، والضمير في منزلته راجع إلى آدم (عليه السلام) وإن عاد الضمير في معصيته اليه سبحانه على ما هو الظاهر، ويحتمل أن يعود إليه سبحانه والملابسة واضحة، (فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهاهُ عَنْهُ مُوَافَاةً لِسَابِقِ عَلْمِهِ. فَأَهْبَطَهَ / ظ 120 / بَعْدَ التَّوْبَةِ؛ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسلِهِ، وَلِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ)، قال بعض الشارحين: يجب(6) أن ينصب
ص: 278
موافاة على المصدرية المحضة كأنَّه قال: فوافي بالمعصية موافاة، وطابق بها ((سابق العلم)) مطابقة(1)، والكلام صريح في أنَّ الإحباط كان بعد التوبة وهو الظاهر من قوله (عليه السلام) في الخطبة الاولى ثم بسط الله سبحانه له في توبته ولقاه كلمة رحمته ووعده المرد الى جنته، فأهبطه الى دار البلية وتناسل الذرية ويؤيده ترتيب الكلام في (سورة طه) وغيرها والذي يظهر من كثير من الأخبار وإليه ذهب أكثر المفسرين ويدل عليه ظاهر الكلام في (سورة البقرة) تقدم الأهباط، وقد مرّ في شرح الخطبة الأولى(2) أنه يمكن أن يراد بالاحباط الابقاء في الأرض للتكليف والتناسل والإخبار بأنَّها دار المقر لا الأمر بالنزول حين تزلزل الحال واقامة الحجة به على عباده بالبعث والرسالة أو ليعرف العباد أنه سبحانه يعاقبهم بالخطايا كما أخرج أبويهم بمعصية واحدة من الجنة كما ذكره بعض الشارحين، وقد فصلنا القول في خطيئة(3) آدم (عليه السلام) وإنها لا تنافي العصمة في شرح الخطبة الأولى من حدائق الحقائق(4) (وَلْمَ یَخْلِهِم بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ مِمَّا يُؤَکِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ، وَيَصِلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، وَمْتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ، قَرْناً فَقَرْناً؛ حَتَّى تَمَّت بِنَبِیِّنَا مُحَمَّدٍ (صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله)(5) حُجَّتُهُ، وَبَلَغَ المَقْطَعَ عُذُرُهُ وَنذُرُهُ) کون حجج الأنبياء مؤكدة يدل على تمام الحجة قبل بعثهم (عليهم السلام) أما لكون معرفة الرب فطرية، أو
ص: 279
لوضوح آیات الصنع في الدلالة على الخالق جل ذكره أو للأمرين، والتعاهد والتعهد الإتيان والاصلاح، قال في المغرب(1) تعهد الصنيعة وتعاهدها اتاها وأصلحها وحقيقته جدد العهد بها، وقال ابن فارس: تعهدته حفظته؛ ولا يقال تعاهدته لأن التفاعل لا يكون إلا بين اثنين(2)، ورد بمنع الحصر، وفسحة مجال التجوز والتشبيه، وقال الفارابي: تعهدته اصلح(3) من تعاهدته)(4)، وفي بعض النسخ الصحيحة (تعدهم)، و الخيرة اسم من الاختيار والمراد المختار جنس استعمال موضع الجمع بقرينه المضاف وقد سبق الاختلاف في تفسيره، والقرن أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه(5) المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل أربعون سنة، وقيل ثمانون، وقيل مائة، (وقال الزجاج: الذي عندي والله أعلم أن القرن أهل كل مدة كان فيها نبي أو طبقة من أهل العلم سواء قلت السنون أو كثرت)(6)، وقيل:
كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد)(7)، وقيل غير ذلك، ومقطع الشيء آخره كأنَّه قطع من هناك، وعذر الله (ما بين للمكلفين من الأعذار في عقوبته لهم أن عصوه (وندره)(8) ما أنذرهم به من الحوادث ومن انذرهم على لسانه من
ص: 280
الرسل)(1) على ما ذكره بعض الشارحين، وفيه تأمل، وقيل: العذر والنذر مصدران بمعنى الأعذار والانذار، وعذر الله محوه للإساءة أو اعلام العاصي قبل المعصية بأنَّه يعاقبه، ونذره تخويفه بعقاب الآخرة والهلاك في الدنيا کما جرى على الأمم السالفة، والمراد ختم الرسالة وتمام التكليف بنبينا محمد (صلى الله عليه واله).
(وَقَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَکَثَّرهَا وَقَلَّلَهَا، وَقَسَّمَهَا، عَلَى الضِّيقِ وَالسَّعَةِ، فَعَدَّلَ فِيهَا لِيَیْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَیْسُورِها وَمَعْسُورِهَا، وَلِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَالصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَفَقِيرِهَّا) تقدير الأرزاق قسمتها ولما كان المتبادر من القسمة البسط على التساوي بيَّن (عليه السلام) ما أراده بذكر التكثير والتقليل، ثم لما كان ذلك موهماً للجور دفع الوهم بذكر العدل ونبه على وجه الحكمة بذكر الابتلاء والاختبار، وقال بعض الشارحين: (وروی فعدل بالتشديد)(2)، والتعديل التقويم والمآل واحد والابتلاء الامتحان، والميسور و / و121 / المعسور مصدران بمعنى العسر واليسر كالمفتون بمعنى الفتنة، والمجلود بمعنی الجلادة، ويمتنّع(3) عند سيبويه مجيء المصدر على مفعول، قال: الميسور الزمان الذي يوسر فيه، والاختبار الامتحان والمراد به في حقه سبحانه صورة الاختبار لأنه العالم بالأسرار لاستعلام أمر مخفي، وذكر الغني والفقير نشر على ترتيب اللف على الظاهر والضمير فيهما الى الأرزاق والاضافة الملابسة يسيره ويحتمل العود الى الاشخاص المفهوم من المقام أو إلى الدنيا أو إلى الأرض
ص: 281
وقد سبق ذكرها، ولعل أحداهما(1) أنسب ببعض الضائر الآتية (ثُّمَ قَرَنَ بِسَعتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا، وَبِسلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفاتِهَا، وَبِفُرَجِ(2) أَفْرَاحِهَا(3) غُصَصَ أَتْرَاحِهَا) العقابيل [جمع عُقبول وعُقبولة بالضم وهي](4) قروح(5) صغار تخرج بالشفة غب الحمى وبقايا(6) المرض(7) والفاقة [...](8) الفقر والحاجة وفي تشبيه الفاقة أو آثارها بالعقابيل لطف لكونها مما يقبح(9) في المنظر ويخرج في العضو الذي لا يتيسر ستره عن الناس ويشتمل على فوائد خفية، وكذلك الفقر وما يتبعه، وطوارق الآفات متجددات المصائب وما يأتي منها بغتة من الطروق وهي الإتيان بالليل، وقيل أصل الطروق من الطرق وهو الدق رسمي الآتي بالليل طارقاً لحاجته الى دق الباب، والفرج جمع فرجة وهي (التَّفَصِّي من الهَمّ)(10) وفرجة الحائط أيضاً، والفرح(11) السرور والنشاط، والغُصة بالضم ما اعترض في الحلق(12)، وتقول(13): غَصِّصِتُ بالماء بالكسر إذا
ص: 282
وقف في حلقك فلم(1) تكد تسيغه، والتَرَح بالتحريك الهم والهلاك والانقطاع أيضاً (وَخَلَقَ الْآجَالَ فَأَطالَها وَقَصَّرَها، وَقَدَّمَهَا وَأَخَّرَها، وَوَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَها، وَجَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشطانِها، وَقاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِها) الأَجَل محركة مدة الشيء وغاية الوقت في الموت وحلول الدين وتعليق الإطالة والتقصير على الأول واضح، وأما التقديم والتأخير فيمكن أن يكون باعتبار أن لكل مدة غاية وحينئذ يرجع التقديم الى التقصير والإطالة الى التأخير ويكون العطف للتفسير تأكيداً، ويحتمل أن يكون المراد بالتقديم جعل بعض الأعمار سابقاً على بعضٍ وتقديم بعض الأمم على بعض مثلاً فيكون تأسيساً، ويمكن أن يراد بتقديم الآجال قطع بعض الأعمار لبعض الأسباب كقطع الرحم مثلاً، كما ورد في الأخبار، وبتأخيرها مدها لبعض الأسباب فيعود الضمير في قدمها وآخرها الى الآجال بالمعنى الثاني على وجه الاستخدام، أو نوع من التجوز في التعليق كما اشرنا(2) إليه، ويحتمل وجهاً آخر لا يخلو عن بعد، فتأمل، والسبب في الأصل الحبل يتوصل به الى الماء ونحوه ثم توسعوا فيه واتصال أسباب الآجال أي أسباب انقضائها، أو أسباب نفسها على المعنى الثاني بالموت واضح، ويحتمل أن يكون الأسباب عبارة عن الآجال بالمعنى الأول وخالجاً أي جاذباً، والشَطَّن(3) بالتحريك (الحبل)(4)، وأشطان الآجال التي يجذبها الموت هي الأعمار وشبهت بالأشطان لطولها وامتدادها، والمرائر
ص: 283
مرير ومريرة (وهي الحبال المفتولة على أكثر من طاق)(1) ذكره في النهاية، وقيل: الحبال(2) الشديدة الفتل(3)، وقيل(4): الطوال الدقاق منها(5)، والَأقْرَان جمع قَرَن بالتحريك وهو في الأصل حبل يجمع به البعيران(6) ولعل المراد بالمرائر أقران الآجال الأعمار التي يرجى(7) امتدادها لقوة المزاج والبينة ونحو ذلك (عَالِمُ السِّرَّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِینَ وَنَجْوَى الْمُتَخافتينَ، وَخَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ، وَعَقْدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ، وَمَسَارِقِ إِيمَاض الْجُفونِ) كلمة (من) بيانية، والضمائر الصور الذهنية المكنونة في المدارك، والنجوی اسم يقام [مقام](8) المصدر، يقال: نجاه نجواً ونجوىً إذا ساره(9)، قال في النهاية ومنه حديث علي (عليه السلام) دعاه رسول الله (صلى الله عليه واله) یوم الطائف فانتجاه، / ظ 121 / فقال الناس: طال نجواه، فقال: ما انتجيته ولكن الله انتجاه(10)، والتخافت(11) والمخافته(12) (اسرار المنطق)(13)، والخواطر ما يخطر في
ص: 284
القلب من تدبير أمر ونحو ذلك، يقال: خطر ببالي وعلى بالي خطراً و خطوراً من باب ضرب وقعد، ورجم الظنون كل ما يسبق إليه الظن من غير برهان أو مسارعته وتفسيره بالقول بالظن كما في بعض الشروح(1) كما ترى والحديث المرجم الذي لا يدري أحق هو أم باطل وعُقدة كل شيء بالضم الموضع الذي عقد منه وأحكم، والعزيمة ما عقدت قلبك و وكدت رأيك عليه، ومسارق العيون النظرات الخفية كأنَّها تسترق النظر لإخفائها، وأومضت المرأة إذا سارقت النظر(2) وأومض البرق إذا لمع لمعاً خفيفاً ولم يعترض في نواحي الغيم، والجَفْنُ بالفتح غِطاء(3) العين من أعلى وأسفل وجمعه جُفُون وأجْفُن وأجْفَان، والغرض احاطة علمه سبحانه بكل معلوم كليّ وجزئي رداً على من قصر علمه على البعض كالكليات، وقد قال عز من قائل: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(4)، ((وَمَا ضَمِنْتَهُ(5) أَكْنانُ الْقُلُوبِ، وَغَيابَاتُ الْغيُوبِ، وَمَا أَصْفَتْ لِاسْتَرِاقِهِ مَصائِخُ الْأَسْمَاعِ، وَمَصَائِفِ الذَّرِّ، وَمَشاتِي الْهَوَامِّ)) الکِن بالكسر [اسم](6) لكل ما يستتر فيه الإنسان لدفع الحر والبرد من الابنية ونحوها(7) وستر كل شيء
ص: 285
ووقاؤه والجمع أكنة وأكنان، قال الله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا»(1) قال بعض الشارحين: (ويروى أكنة القلوب)(2) وأكنان القلوب وأكنتها غُلَفها وأغطيتها قال الله تعالى: «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ»(3) وغيابة كل شيء ما يسترك منه وغيابة البر قعره، قال الله تعالى: «وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ»(4)، وأصغى أي استمع وأصغى إليه أي مال بسمعه نحوه، واستراق السمع الاستماع في خفيه و صاخ وأصاخ له أي استمع، ومصائخ الاسماع خروقها التي تستمع بها، و(الذر(5): صغار النمل)(6) ومصائفها المواضع التي يصيف فيها [أي يقيم فيها](7) بالصيف(8) ومشاتي(9) الهوام مواضع إقامتها بالشتاء، تقول: شتوت بالمكان والهامة كل ذات سم يقتل، فأما ما يسم ولا يقتل فهو السامة كالعقرب والزنبور وقد يقع الهوام على ما يدب من الحيوان كالحشرات. (وَرَجَعِ الْحَنينِ مِنَ الْمَولَهاتِ، وَهَمْسِ الْأَقْدَامِ، وَمُنْفَسَح الثَّمَرَة مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَکْمَامِ) الحنين شده البكاء وصوت الطرب من(10) حزن أو فرح ورجع الحنين ترجيعه وترديده، وقيل: أصل الحنين
ص: 286
ترجيع الناقه صوتها أثر ولدها، والموهات النوق(1) كل أنثى حيل بينها وبين أولادها، وفي الحديث: (لا توله والدة بولدها)(2) أي لا تفرق بينهما بالبيع، وفي بعض النسخ (الوالهات) يقال: ولهت توله، وولهت تله فهي واله وواهه وولهتها أنا، وأصل الوله زوال العقل والتحير من شده الوجد، والهمس أخفي ما یکون من صوت القدم أو كل صوت خفي، والفُسحة بالضم السعة، وانفسح المكان اتسع، والمنفسح موضع السعة، ومنفسح الثمرة موضع نموها في الاكام، قال بعض الشارحين(3): و يروی متفسّخ(4) الثمرة بالخاء المعجمة، وتشديد السين وبناء بعد الميم، مصدراً من تفسخت الثمرة إذا انقطعت، والوليجة الدخيلة والبطانة(5) وقال بعض الشارحين: ((الولائج: المواضع الساترة والواحدة ولجة، وهو كالكهف يستتر(6) فيه المارة من مطر أو غيره))(7) والغُلُف بضمتين وبضمه جمع غلاف ککتاب ويوجد في بعض النسخ على الوجهين، والکِم بالكسر وعاء الطلع وغطاء النور وجمعه أكمام وأكمه و کمام و كلمه (من) على ما في الأصل للبيان أو التبعيض وعلى الرواية المحكية صلة أو بيانية (وَمُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبالِ وَأْوْدِيَتِها، وَمُخْتَبئِ الْبَعُوضِ بَیْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَأَلْحِيَتِها) انقمع الرجل إذا دخل البيت مستخفياً
ص: 287
و المنقمع على زنة المفعول موضع / و122 / الاختفاء وفي بعض النسخ الصحيحة متقمع(1) الوحوش على زنة المفعول من باب التفعل والمعنى واحد، والغِيران جمع غار وهو ما ينحت في الجبل شبه المغارة [فإذا اتسع](2) قيل: كهف، وقيل: الغار الحجر يأوي إليه الوحشي(3) أو كل (مطمئن من الأرض)(4)، أو المنخفض(5) من الجبل(6)، والبعوض البق، وقيل: صغاره واحدته بهاء ومختبئ البعوض موضع استتاره واختفائه، والسوق جمع ساق قال الله عز وجل: «فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ»(7)، و(اللِحاء ككِساء: قشر الشجر)(8) (وَمَغْرِزِ الْأوْراقِ مِنَ الْأَفْنانِ، وَمَحَطَ الْأَمْشاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ) غرزه في الأرض كضربه إذا أدخله وثبته ومغرز الأوراق موضع وصلها كأنَّه غرز أصولها في الأفنان وهي جمع فَنَن بالتحريك أي الغصن، وجمع الجمع أفانين، والحط الحدر من علو الى أسفل، والأمشاج قيل: مفرد كأعشار وأكباش(9)، وقيل: جمع مشج بالفتح أو مشج بالتحريك أو مشيج [على](10) فعيل أي المختلط(11) قيل في قوله تعالى:
ص: 288
«إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ»(1) أي أخلاط من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة [والبرودة](2) والرطوبة واليبوسة وقيل من الاجزاء المختلفة في الاستعداد ولذلك يتصور کل جزء منها بصورة عضو، وقيل: أمشاج أي أطوار طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة، وقيل: أمشاج أي أخلاطٍ من ماء الرجل وماء المرأة(3) وهما مختلفان في الطبع والمزاج والرقة والغلظ أو في اللون فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة خضراء وحمراء تختلط(4) بدم الحيض ولا يخفى أنّ الوجوه الأخيرة لا (تخلو)(5) عن البعد في كلامه (عليه السلام) فإنَّ المناسب اتصافها بالوصف في الأصلاب لابعد الانحطاط الى الأرحام وهو مرجح للوجوه المتقدمة في تفسير الآية الشريفة، والمسارب المواضع التي ينسرب(6) منها المني أي يسيل على ما ذكره بعض الشارحين(7) أو المواضع التي ينسرب فيها المنى أي يختفي(8) من قولهم: انسرب الوحشي إذا دخل في حجره واختفى على ما يظهر من كلام بعضهم، أو مجارى المنى من الشرب بالفتح بمعنى الطريق، و المراد اوعيتها من الاصلاب أو مجاريها وتفسير المسارب بالاخلاط التي يتولد منها كما زعمه بعض الشارحين(9)
ص: 289
بعيد والمراد بمحط الأمشاج مقر النطفة من الرحم أو من الأصلاب على بعض الوجوه في المسارب [(فتكون)(1) کلمة (من) تبعیضیه](2)، ولعل الأول أظهر. (وَناشِئَةِ الْغُيُومِ ومُتَلَاحِمِها، وَدُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاکِمِها) الناشئة من السحاب، أو ما ينشأ منه ولم يتكامل اجتماعه، أو المترفع منه من قولهم: نشأ السحاب إذا(3) ارتفع، والغيم السحاب ومتلاحم الغيوم ما التصق منها بعضها ببعض، والدرور السيلان، والقطر بالفتح المَطُر و الواحدة قَطْرة مثل تمر و تمرة والجمع قطرات بالتحريك، والسَحاب جمع سحابة كسُحب بالضم وبضمتين وسحائب و متراكمها المجتمع، المتكاثف(4) منها من ركمت الشيء اركمه بالضم إذا جمعته والقيت بعضه على بعضٍ وفي بعض النسخ (ومتراكمها) بالواو العاطفة موضع حرف الجرْ (ومَا تَسْفِي(5) الَأْعَاصِيُر بِذُیُولِهَا، وَتَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُیُولِها) سفت الريح التراب تسفيه أي ذرته(6) ورمت به أو حملته، والإِعصار بالكسر الريح التي تهب صاعداً من الأرض نحو السماء كالعمود، وقيل : التي فيها نار، وقيل: التي فيها العصار وهو الغبار الشديد، وذيولها(7) أطرافها التي تجرها على الأرض وعفت الريح الأثر إذا طمسته و محته وعفى الأثر إذا انمحي واندرس يتعدى ولا يتعدی. (وَعَوْمِ
ص: 290
بَناتِ الْأَرْضِ فِي كُثْبانِ الرِّمَالِ، ومُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَى شَناخِيبِ الْجِبَالِ) العوم السباحة وسير السفينة، والإبل بنات الأرض بتقديم (الباء)(1) على ما في أكثر النسخ الحشرات والهوام التي تكون(2) في الرمال وغيرها كاللحكة / ظ 122 / والغطاية(3) وغيرهما وحركتها في الرمال لعدم استقرارها تشبه السباحة، وفي بعض النسخ نبات(4) الأرض بتقديم النون فالمراد حركة عروقها في الرمال كأرجل السابحين وأيديهم في الماء والكثيب (التل من الرمل) والجمع أكثبة وكثب وكثبان(5) وأصل الكثب (الجمع والاجتماع)(6) والمستقر موضع الاستقرار ويحتمل المصدر وذُروة الشيء بالضم والكسر أعلاه، والشُنخوب والشُنخوبة بالضم رأس الحبل (وَتَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ وَمَا أَوعَتْهُ(7) الَأْصْدَافُ، وَ(حَضَنَتْ)(8) عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ، وَمَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ، أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهارٍ) غرد الطائر كفرح وغرد تغريداً رفع صوته وطرب به ذوات المنطق من الطيور ما [له](9) صوت وغناء كان
ص: 291
غيره أبكم لا يقدر على النطق، والدياجير جمع ديجور وهو(الظلام)(1) والمظلم والاضافة على الثاني من اضافة الخاص الى العام، والوكر بالفتح (عش الطائر)(2) وما أوعته الاصداف أي ما حفظته وجمعته من اللآلئ، والحِضن(3) بالكسر ما دون الابط الى الكشح أو الصدر والعضدان وما بينهما، وحضن(4) الصبي كنصر جعله في حضنه(5) وما حضنته(6) الأمواج العنبر والمسك(7) وغيرهما وغشيته أي غطته وسترته، والسُدفة بالضم الظلمة، وذرت الشمس أي طلعت وشرقت الشمس واشرقت أي اضاءت (وَمَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ، وَسُبُحَاتُ النُّورِ) اعتقبت أي تعاقبت وجاءت واحدة بعد واحدة، والأطباق جمع طَبق بالتحريك وهو غطاء كل شيء، والديجور الظلام كما تقدم(8) و[الدياجير](9) وتارات الظلمة تستر(10) الاشياء كالأغطية، وسبحات النور مرآته وسبحات(11) وجه الله أنواره، وقال بعض الشارحين: ليس يعني بالسبحات هاهنا ما يعني به في قوله: (سبحات وجه ربنا) لأنه هناك بمعنى
ص: 292
الجلالة وهاهنا بمعنى ما يسبح عليه النور، أي يجري من سبح الفرس وهو جريه(1)، والمتعاقبان النور والظلمة أي ما تغطيه ظلمة بعد نورونور بعد ظلمة، ويحتمل أن يراد تعاقب أفراد كل منهما والأول أظهر (وَأَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ، وَحِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ، وَرَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ، وَتَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ، وَمِسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ، وَمِثْقالِ كُلِّ ذَرَّةٍ، وَهَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسِ هَامَّةٍ) الأثر بالتحريك بقية كل شيء وأثر القدم علامته التي تبقى في الأرض، وخطا يخو خطوا مشى والمرة خطوة ويجمع على خطوات كشهوة وشهوات، وأما الخُطوة بالضم فهو ما بين القدمين والجمع خطوات كغرفة وغرفات، والحس والحسيس الصوت الخفي، ورجع الكلمة (ما ترجع به من الكلام الى نفسك وتردده في فكرك)(2) على ما ذكره بعض الشارحين، أو جواب الكلمة على ما ذكره بعضهم(3) أو ترديد الصوت وترجيعه عند التلفظ بالكلمة على قياس ما فسر البعض قوله (عليه السلام) ورجع الحنين من المولهات كما سبق وارجاع النفس للتلفظ بكلمة بعد الوقف على كلمة والرجع يكون لازماً ومتعدياً تقول(4): رجع هو ورجعته أنا والمستقر موضع الاستقرار والنسمة محركة الإنسان أو كل دابة فيها روح ومستقر النسمة أما الصلب أو الرحم أو القبر أو مكانه في الدنيا أو في الآخرة أو الأعم، ومثقال الذرة وزنها ويطلق المثقال على واحد مثاقيل الذهب وهو مقدار درهم وثلاثة اسباع درهم ذكره الفيروز آبادي(5)، وقال
ص: 293
بعض الشارحين: ومما يخطئ فيه العامة قولهم للدينار: مثقال، وإنما المثقال وزن [...](1) كل شيء، قال الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ»(2) (3) والهمهمة (الصوت الخفي)(4) أو ترديد الصوت في الحلق أو تردد الصوت في الصدر من الهم وكل نفس هامة أي ذات همة وتعزم على أمر والوصف للتعميم، (وَمَا عَلَيْها مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ، أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ، أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ، أَوْ نُقاعَةِ دَمٍ وَمُضْغَةٍ، أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ / و 123 / سُلَالَةٍ) الضمير راجع الى الأرض وإن لم يسبق ذكرها ويعتمد في مثله على فهم المخاطب كقوله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ»(5) أي على الأرض، وقوله عزّ وجل: «حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ»(6) أي الشمس وقوله عز وجل: «كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ»(7) أي النفس أو الروح [والروح يؤنث](8)، والنطفة ماء الرجل و الماء الصافي قل أو كثر وقد عبر (عليه السلام) عن النهر بالنطفة في قوله (عليه السلام): مصارعهم دون النطفة ويطلق على (قليل ماء يبقى(9) في دلو أو قربة)(10) والأول أظهر في
ص: 294
المقام، و(قرارتها)(1) موضعها الذي تستقر فيه وأصل القرارة المطمئن من الأرض يستقر فيه ماء المطر وجمعها القرار(2)، ونُقاعة كل شيء بالضم (الماء الذي ينقع فيه)(3) وفي كلام الشارحين (النقاعة (نقرة)(4) يجتمع فيها الدم)(5) وهو المناسب للمقام، والمُضغة بالضم القطعة من اللحم(6) قدر ما يمضغ وناشئة الخلق الصورة التي ينشئها(7) سبحانه في البدن أو الروح التي ينفخها فيه، والسُلالة بالضم ما استل واستخرج من شيء وفي الكلام اشارة الى قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(8) (لْمَ تَلْحَقْهُ(9) فِي ذَلِكَ كَلْفَةٌ، وَلاَ اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَاِرضَةٌ، وَلاَ اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَتَدَابِيِر المَخْلُوقِينَ مَلَالَةٌ وَلَا فَتْرَةٌ) المشار إليه بكلمة ذلك أما العلم بالجزئيات المذكورة وأما خلق الأشياء المذكور قبل تفصيل
ص: 295
المعلومات والكلفة المشقة [والمشقة](1) من فروع العجز المنزه عنه سبحانه واعترضته أي منعته وأصل الاعتراض أن تسير فتعرض لك في الطريق عارض كالجبل ونحوه يمنعك عن المسير ويصير كالخشبة المنصوبة في عرض النهر بمنع الماء عن الجريان ومنه اعتراضات الفقهاء المانعة عن الوصول الى المطلوب والعارضة ما يستقبلك من شيء يمنعك عن مسيرك والمراد نفي(2) الخصلة أو الحالة المانعة عن الحفظ واعتوروا الشيء إذا تداولوه وتناوبوه، وقال بع-ض الشارحين: اعتورته أي: احاطت به(3) والنافذ الماضي في أموره وتنفيذ الأمور اجراؤها وامضاؤها والتدبير النظر في عاقبة الأمر أو الفعل عن روية وفكر والمراد امضاء الأمور على وفق المصلحة والعلم بالعواقب، ومللته وملِلت منه بالكسر أي سئمت وضجرت و فتر عن العمل فتوراً كقعد انكسرت حدته ولان بعد شدته (بَلْ نَفذَ فِيهُم(4) عِلْمُهُ، وَأَحْصَاهُمْ عَدَّهُ(5)، وَوَسِعَهُمْ عَدْلُهُ، وَغَمَرَهُمْ فَضْلُهُ، مَعَ تَقْصِيرهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ) نفذ السهم نفوذاً إذا خرق الرمية وخرج طرفه من الشق الآخر وسائره فيه، والرمية ما يرمى من الحيوان ذكراً كان أو أنثى وأصلها فعيلة بمعنى مفعولة(6)، والمراد أحاطه العلم بظواهر الأشياء وبواطنها، وفي بعض النسخ
ص: 296
(نفذهم علمه) على الحذف والايصال، والعد مصدر عددته، والاسم العدد، وفي بعض النسخ (عدده) فالإضافة لأدنى ملابسة واحصاء العد أو العدد الاحاطة بالمعدود وغمرهم أي غطاهم وسترهم كما يغمر البحر ما غاص فيه، وكنه الشيء نهايته وحقيقته وما هو أهله أن يعبد حق عبادته ويعرف حق معرفته وتقصيرهم غير قصورهم عن كنه العبادة والمعرفة (اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ، وَالتَّعْدَادِ الْكَثِيرِ إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ، وَإِنْ تُرْجَ فَأکرَمُ(1) مَرْجُوٍّ) التَعداد بالفتح مصدر للمبالغة والتكثير وقال الكوفيون(2) أصله التفعيل الذي يفيد المبالغة قلبت ياؤه الفاً، والتِفْعال بالکسر شاذ ولم يجيء غير التلقاء والتبيان(3)، والمراد تعداد النعم والفواضل / ظ 123 / والوصف الجميل ذكر الفضائل فيفيد اختصاص الحمد والشكر به سبحانه، والأمل ضد اليأس وأكثر ما يستعمل فيها يستبعد حصوله، (ومن عزم على سفر الى بلد بعید يقول: أملت الوصول، ولا يقول: طمعت إلاَّ إذا قرب)(4)، (والرجا بين الأمل والطمع)(5) وقد يكون الأمل بمعنى الطمع، [...](6) ذكر
ص: 297
ذلك في المصباح المنير(1) وكثير من أهل اللغة فسروا الأمل بالرجاء(2) وخير خبر مبتدأ محذوف وكذلك أكرم أي فأنت خير مأمول وأنت أكرم مرجو وفي بعض النسخ (فخير مرجو) (اللُّهُم وَقَدْ(3) بَسَطْتَ ليِ فِيماَ لاَ أَمْدَحُ بِهِ غَيِرْكَ، وَلَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ، وَلَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعادِنِ الْخَيْبَةِ وَمَوَاضِعِ الرِّيَبةِ، وَعَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ (مَدَائحِ)(4) الآْدَمِيَّيَن؛ وَ الثَّناءِ عَلىَ الْمَرْبُوبِيَن الْمَخْلُوقِيَن) البسط النشر والتوسيع، وكلمة (في) أما زائدة أو للظرفية المجازية والمفعول محذوف أي بسطت لي القدرة أو الكلام فيها لا أمدح به غيرك، والغرض(5) شكره سبحانه على فضيلة البلاغة والتوفيق على قصر المدح على الله جل شأنه، والخيبة الحرمان والخسران ومعادن الخيبة المخلوقون؛ لأنَّ عطاياهم قليلة فانية أو لأنَّهم لا يعطون غالباً، وإن أعطوا أعطوا قليلاً نكداً ومنوا طويلاً، وذموا كثيراً، وهم مواضع الريبة أي التهمة والشك لعدم الوثوق بإعطائهم والله سبحانه لا يمنع إلاَّ لمصلحة تعود الى السائل ويدخر مع ذلك له أضعاف ما سأل في الدار الباقية والمربوب من له مرب أو مالكٍ أو مدبرٍ أو سيدٍ أو منعمٍ (اللَّهُمَّ وَلِكُلِّ مُثْنٍ عَلىَ مَنْ أَثنَى عَلَيْهِ مَثوبَةٌ مَنْ جَزَاءٍ، أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ(6)؛ وَقَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلاً عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَكُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ) والمثوبة
ص: 298
الثواب والجزاء المكافاة على الشيء والعارفة الإحسان ودليلاً على ذخائر الرحمة [أي هادياً إلى أسباب الرحمة](1) بالتوفيق والتأييد(2) وذخائر(3) الرحمة عظائم العطايا، وأصل الذخيرة المختار من كل شيء، أو ما يعده الرجل ليوم حاجته(4) (اللَّهُمَّ، وَهَذَا مَقامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ، وَلْمَ يَرَ مُسْتَحِقاً لَهِذِهِ الْمَحَامِدِ وَالْمَمَادِحِ غَيْرَكَ، وَبي فاقَةُ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَها إِلَّا فَضْلُكَ، وَلَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِها إِلَّا منَّكَ وَجُودُكَ فَهَبْ لَنا فِي هَذَا الْمَقامِ رِضَاكَ، وَأَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ) المقام مكان القيام والمصدر لا يبعد عن المقام، والمَحمَدة بفتح العين وكسرها مصدر حمده كسمعه، والفاقة الحاجة والفقر، والجبر في الأصل إصلاح العظم المكسور، المسكنة الخضوع والذلة وقلة المال وسوء الحال، وقيل: المسكين من أسكنه الفقر أي قلل حركته والخلاف في أن الفقير والمسكين أيها أسوء حالاً معروف، ونعشه رفعه ومنه النعش لسرير الميت لأنه يرفع والخَلة(5) بالفتح الفقر والحاجة(6) والمن والعطاء ومد الأيدي كناية عن الطلب واظهار الحاجة، والقدير مبالغة في القادر والمقتدر أبلغ من منه.
ص: 299
هكذا في النسخ التي عندنا، قال بعض الشارحين: في أكثر النسخ (لما أراده الناس على البيعة) ووجدت في بعضها (أداره الناس على البيعة) يعني بتقديم الدال فمن روى الأول جعل (على) متعلقة بمحذوف، تقديره (موافقاً)، ومن روى الثاني(1) جعلها متعلقة بالفعل الظاهر [نفسه](2)، (تقول)(3) أدرت فلانا على كذا، أي عالجته(4) (دَعُونيِ والْتَمِسُوا غَيِرْي؛ فإِنّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ؛ لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلَا تَثْبُتْ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الْآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ) الالتماس هو الطلب، والتلمس الطلب مرة بعد أخرى ولا تقوم له القلوب أي لا تقاومه(5)، ولا طاقة لها به وهو المراد بعدم ثبات العقول عليه كأنّها تزلق أقدامها ولا تستقر(6) عليه، وأغامت / و 124 / السماء وغامت وأغيمت وتغيمت وغيمت(7) تغيمًا(8) بمعنى، والمحجة جادة الطريق
ص: 300
وتنكرت أي صارت مجهولة، ويقال: تنكر الأمر إذا تغير عن حال تسرك(1) الى حال تكرهها، والمخاطبون بهذا الخطاب الطالبون للبيعة بعد قتل عثمان وقد كانوا خرجوا عليه ونقموا سيرته لما استبد بالأموال ومنعهم ما كان يعطيهم عمر بن الخطاب وكان يفضل الرؤساء وأكابر كل قوم جلباً لقلوبهم(2) ولا يسوي بينهم في القسم والعطاء كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسوي بينهم ولا يفضل عربياً على عجمي ولا شريفاً على وضيع، والقوم لما اعتادوا التفضيل في أيام عمر بن الخطاب ولا ريب أن الطبائع (مجبولة)(3) على حب المال فالممنوعون عن حقهم في أيام عثمان نقموا عليه وحاصروه وقتلوه وكان الرؤساء والأشراف منهم طالبين لمثل ما كان يعطي عثمان بني أمية واضرابهم وأما بنو أمية فقد اعتادوا التفضيل والاستبداد بالأموال فالوجوه والأشراف رغبوا في بيعته (عليه السلام) طامعين أن يفضلهم في العطاء، ولذلك نكث طلحة والزبير ونقموا التسوية في العطاء في اليوم الثاني من بيعته (عليه السلام) وقالا: آسيت بيننا وبين الأعاجم، وكذلك عبد الله بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، ورجال من قريش وغيرها، وتخلف هؤلاء عن القسم ولم يأخذوا ما كان (عليه السلام) يعطيهم، وقال سهل بن حنيف الأنصاري(4): يا أمير المؤمنين هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم، فقال
ص: 301
(عليه السلام) نعطيه كما نعطيك، وجرى بعد ذلك ما جرى من الكلام بينه (عليه السلام) وبين طلحة والزبير وخرجا عن المدينة وقامت [...](1) فتنة الجمل كما هو مذكور في كتب السير وحكى بعض ما جرى في ذلك الشارح عبد الحميد بن ابي الحديد في شرح هذا الكلام(2) عن أبي جعفر الاسكافي(3) فهؤلاء القوم لما طلبوا البيعة بعد قتل عثمان قال لهم (عليه السلام): دعوني والتمسوا غيري اتماماً للحجة عليهم وأعلمهم باستقبال أمر له وجوه وألوان لا يصبرون(4) عليه وإنه بعد البيعة لا يجيبهم(5) الى ما طمعوا فيه ولا يصغي الى قول القائل وعتب(6) العاتب بل يقيمهم على المحجة البيضاء ويسير فيهم بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) دون ما طلبوا حين البيعة بقولهم: نبايعك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، وقال لطلحة والزبير لما(7) قالا له وقت البيعة: نبايعك على إنا شركاؤك في هذا الأمر ولكنكما شريكان في الفيء لا استأثر عليكما ولا على عبد حبشي مجدع بدرهم، فما دونه لا أنا ولا ولداي هذان فإن أبيتم إلاَّ لفظ الشركة فأنتا عونان لي عند العجز والفاقة، لا
ص: 302
عند القوة والاستقامة والأمر المستقبل الذي لا تقوم(1) له القلوب ولا تثبت(2) عليه العقول الرضا بالحق وتصديقه والعمل به و وجوهه وألوانه فروعه من المشاق و الشبه والشكوك وأسباب الفتن والغيم المحيطة(3) بالآفاق حركة الاطماع والأهواء وغفلة الناس عن الحق ونسيانهم سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما عودهم الخلفاء وعروض الشبه بتمادي الأيام والمحجة [...](4) المتنكرة(5) طريقة الحق وسنة الرسول (صلى الله عليه وآله). (وَاعْلَمُوا أنيِّ إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ، وَعَتْبِ الْعَاتِبِ) ركبت بکم أي جعلتكم راكبين والإصغاء الاستماع وأصغي إليه مال بسمعه نحوه، والعتب اللوم ومذاكرة الموجدة، وفي بعض النسخ (وعيب(6) العايب) بالياء المثناة من تحت، ولا ريب أن القائل مخالفٌ له (عليه السلام) والعایب(7) عليه مخالف لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) فلا يصغي إلى قوله و عتبه (وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ، وَلَعَلِّي أَسْمَعُکُمْ وَأَطْوَعُکُمْ لَمِنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيراً؛ خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً تركهم إياه (عليه السلام) عدم طاعتهم له واختيار غيره للبيعة حتى لا يتم شرائط الخلافة لعدم الناصر وهذا مثل قوله (عليه السلام) في الشقشقية: / ظ 124 / ((لولا حضور الحاضر، وقيام
ص: 303
الحجة بوجود الناصر، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها))، وليس الغرض ردعهم عن البيعة الواجبة، بل اتمام للحجة، وابطال لما علمه (عليه السلام) من دعوى الإكراه في البيعة كما ادعاه طلحة والزبير بعد النكث فأراد (عليه السلام) بمثل هذا الكلام في الملأ من الناس أن يظهر أنه لم يبايع من بايع إلا عن طوع وشدة رغبة استظهاراً للحق مع أن المرء حريص على ما منع، والطبع نافر عما سورع الى اجابته، ووليتموه أمركم أي جعلتموه ولياً للخلافة والياً عليكم، والوزير من يحمل عن الملك ثقل التدبير من الوزر بمعنى (الثقل)(1)، ويسمى السلاح وزراً لثقلة على لابسه، قال الشارح عبد الحميد بن أبي حديد: (هذا الكلام يحمله أصحابنا على ظاهره، ويقولون إنه (عليه السلام) لم يكن منصوصاً(2) عليه بالإمامة من جهة الرسول (صلى الله عليه وآله) وإن كان أولى الناس بها وأحقهم بمنزلتها، لأنه لو كان منصوصاً عليه بالإمامة من جهة الرسول (صلى الله عليه وآله) لما جاز أن يقول: (دعوني والتمسوا غيري)(3) إلى آخر الكلام، ثم ذكر تأويل الإمامية بأن الخطاب للطالبين منه (عليه السلام) أن يسير فيهم بسيرة الخلفاء، ويفضل بعضهم على بعض في العطاء، أو بأنَّ الكلام خرج مخرج التضجر والتسخط لأفعال الذين(4) عدلوا عنه (عليه السلام) قبل ذلك للأغراض الدنياوية والأطماع الفاسدة، أو بأنَّه خرج مخرج التهكم كقوله
ص: 304
تعالى: «ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ»(1) أي بزعمك، [ثم قال](2): وأعلم أن ما ذكروه ليس ببعيد لو دل عليه دليل فإما إذا لم [...](3) يدل عليه دليل فلا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره وإلاَّ لم يبق وثوق بكلام الله عز وجل ولا بكلام رسوله (صلى الله عليه وآله)(4) ولا يخفى على الفطن أنه بعد(5) الاغماض عن الأدلة القاطعة الدالة على أنه (عليه السلام) كان منصوصاً عليه بالإمامة من الله ومن رسوله (صلى الله عليه وآله) لا فرق بين المذهبين في وجوب التأويل ولا يستقيم الحمل على ما زعمه ظاهراً من اللفظ إلاَّ على القول بأنَّ امامته كان مرجوحاً، وإن كونه وزيراً أولى من كونه أميراً وظاهر أنه ينافي القول بالتفضيل الذي ذهب إليه الشارح وأصحابه من المعتزلة فإنَّه (عليه السلام) إذا كان أحق بالإمامة وأولى بمنزلتها كما اعترف به وبطل تفضيل المفضول على ما هو الحق، وذهب إليه الشارح وأصحابه كيف يجوز للناس أن يعدلوا عنه (عليه السلام) الى غيره، وكيف يجوز له (عليه السلام) أن يأمر الناس بأن يدعوه وأن يلتمسوا غيره وأن يكون أسمع وأطوع منهم لكل من ولوه أمرهم وأن يقول: إني لكم وزيراً خيراً مني لكم أميراً، مع عدم ضرورة تدعو الى ترك الإمامة والإعراض عنها من بقية وخوف وعدم الأعوان ونحو ذلك ومع وجود الضرورة كما جاز ترك الإمامة الواجبة بالدليل المذكور جاز ترك المنصوص عليها، فالتأويل واجب على التقديرين ولا نعلم أحداً قال بتفضيل
ص: 305
الغير عليه (عليه السلام) ورجحان العدول إلى أحد سواه في ذلك الزمان وإن قال قوم من العامة بتفضيل أبي بكر يوم السقيفة فوجب التأويل ولم يجز(1) اجراء الكلام على الظاهر الذي زعمه على شيء من المذاهب المعروفة على أنَّ الظاهر للمتأمل في أجزاء الكلام حيث علل (عليه السلام) الأمر بالتماس الغير باستقبال أمر لا تقوم له القلوب وتنكر المحجة، وإنه إن أجابهم حملهم على محض الحق هو أن السبب في ذلك الأمر وجود المانع دون عدم النص وإنَّه لم يكن متعيناً للإمامة، أو لم يكن أحق و أولى به ونحو ذلك، ولعل الوجه في قوله: لعلي أسمعكم و أطوعكم هو أنه إذا تولى الغير أمر الإمامة ولم تتم(2) الشرائط في خلافته (عليه السلام) لم يكن (عليه السلام) ليعدل عن مقتضى التقية بخلاف سائر الناس حيث يجوز الخطأ عليهم، وأما قوله (عليه السلام): (فأنا لكم وزيراً خيراً مني لكم أميراً) فلعل المراد بالخيرية فيه موافقة الغرض أو سهولة الحال في الدنيا فإنه (عليه السلام) على تقدير الإمامة وبسط / و125 / اليد ونفاذ الحكم وجب عليه اجراء الحق المحض وحملهم على المشاق فلا يحصل للطامعين شيء من آمالهم ويصعب عليهم الحال بخلاف صورة الوزارة فإنَّ الوزير يشير بالرأي مع امكان التأثير في الأمير وعدم الخوف ونحوه من شرائط الأمر بالمعروف، ولعل الأمير(3) الذي يولونه الأمر يرى في كثير من الأمور ما يطابق آمال القوم ويوافق أطماعهم
ص: 306
ولا يعمل با يراه أو يشير به الوزير (فتكون)(1) وزارته (عليه السلام) أوفق بمقصود القوم وما زعموه فائدة لطلب البيعة وأملوه منها ويسهل عليهم الخطب فيكون حاصل الكلام إنَّ ما قصدتموه من بيعتي لا يتم لكم ووزارتي أوفق بغرضكم، والغرض منه اتمام الحجة أو بعض الوجوه المذكورة سابقاً، والله سبحانه يعلم حقيقة الحال.
قال الشارح عبد الحميد بن أبي الحديد هذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السيرة وهي متداولة منقولة مستفيضة خطب بها علي (عليه السلام) بعد انقضاء أمر النهروان وفيها ألفاظ لم يوردها الرضي رحمه الله، ثم ذكر بعض الألفاظ المتروكة ومنها (فَأنْظُرُوا أهْل بَيتُ نبيكُم(2) فَإنَّ لبِدوا فألبدوا وإن أسْتَنصَرُوكُم فَأنصُرُوهُم، فَليَفُرِجَنَّ اللهُ بِرَجُلٍ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ يأتي بابن خيرة الإماءِ(3) لا يعطْيهُم إلاَّ السَّيف هرجاً هرجاً موضوعاً على عاتقه يمانية حتى تقول: قريش: لو كان هذا من ولد فاطمة لَرحِمَنا يُغريه اللهُ ببني أُمَيَةَ حَتْىَ يَجعَلَهُم حُطَاماً وَرُفاتاً «مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا»(4)، ثم قال: فإن قيل: من هذا الرجل المدعو به والذي قال (عليه السلام) عنه بأبي ابن
ص: 307
خيرة الاماء؟ قيل: أما الإمامية فيزعمون أنه إمامهم الثاني عشر وإنه ابن أمةٍ اسمها نرجس، وأما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي يولد في مستقبل الزمان لام ولد وليس بموجود الآن وذكر كلمات أخرى من الخطبة وتفصيلها في حدائق الحقائق(1) إن شاء الله تعالى.
(أمَّا بَعدَ(2)، أَيهُّا النَّاسُ فَأنَا(3) فَقَأْتُ عَيْن الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرئ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا، وَاشْتَدَّ كَلبُهَا) فقأت العين أي شقشقتها أو قلعتها بشحمها أو ادخلت الإصبع فيها، وفقأ عين الفتنة اطفاء نارها، ويحتمل حذف المضاف أي فقأت عين أهلها والأول أظهر، والمراد بالفتنة فتنة الجمل والنهروان على ما يظهر من الكلام الذي حكاه الشارح في جملة الكلمات التي حذفها السيد (رضي الله عنه) من الخطبة وهو قوله (عليه السلام): (وَ[لَو](4) لمَ أك فيكُم مَا قوتِلَ أصحاب الجَمَلِ و النَهْرَوانِ، وَأيم الله لَو لاَ أَنَّ تَتَكَلْوا فَتَدعُواْ العَمَلَ لَحَدَّثتکُم بِما قَضَى اللهُ عَزَّ وَجَلّ عَلى لِسان نَبِيَكُم (صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَآلهِ) لمِن قَاتَلهُم مُبُصِراً لِضَلالهِم عَارِفاً بالهدى) الذي نحن عليه) وعدم اجتراء أحد غيره (عليه السلام(5)) على اطفاء تلك الفتنة لأنَّ الناس كانوا يهابون قتال أهل القبلة، ويقولون كيف نقاتل من يؤذن
ص: 308
كآذاننا ويصلي بصلواتنا وكانوا يستعظمون حرب عائشة وطلحة والزبير لما زعموا أنَّ لهم مكاناً في الإسلام وحرب أهل النهروان لأنَّ كثيراً منهم كانوا من القراء(1) والزهاد وأهل العبادة في الظاهر وقد كانت اشتدت شوكة أهل الجمل واتفقت كلمة أهل النهروان في القتال، ويحتمل أن تعم(2) الفتنة كل من خالفهُ (عليه السلام) من الناكثين والقاسطين والمارقين وغيرهم كما يظهر من بعض الكلمات التي نحكيها إن شاء الله تعالى في شرح قوله (عليه السلام) لرجل قام إليه فسأله عن الفتنة، وقال: هل سألت عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ وعدم اجتراء الناس لقوة الشبهات في البعض وشدة / ظ 125 / الشوكة في البعض واجتماع الأمرين في البعض، و(الغيهب: الظلمة)(3) وموج الظلمة عمومها وشمولها تشبيهاً لها بالبحر، والكلَب بالتحريك داء يعرض الانسان من عض الكلب الكلب فلا يعض انسانا إلاَّ كلب وجنون الكلاب المعتري من أكل لحم الإنسان والعطش والمراد شرها واذاها، ولَعل موج غيهبها اشارة الى عموم الضلال وكثرة الشبهة وقوتها واشتداد كلبها إلى شدة شوكة أهلها وشمول شرهم وظلمهم لأهل الحقّ (فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونَني عَنْ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ، وَلَا عَنْ فِئَةٍ تَهدِّي مائَةً وَتُضِلُّ مائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا وَمُنَاخِ رِكَابِهَا وَمَحَطِّ رِحَالِهَا(4) وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا وَیَموُتُ(5) مِنْهُمْ مَوْتاً.) فقده
ص: 309
كضربه أي عدمه ولم يجده، والفئة الطائفة والجماعة(1) ولا واحد لها من لفظها وجمعها فئات، وقد تجمع بالواو والنون والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطها، وأنبأتكم أي أخبرتكم، وفي بعض النسخ (نبأتكم(2)) على صيغة التفعيل وناعقها الداعي لها أو(3) إليها، يقال: نعق بغنمه كمنع وضرب أي صاح بها لتعود إليه وزجرها، ونعق الغراب أي(4) صاح، [و](5) القود ضّد السوق فهو من أمام وذاك من خلف، والمُناخ بضم الميم موضع الاناخة اسم مكان من أناخ الرجل الجمل اناخة، قالوا: ولا يقال في المطاوع: فناخ، بل يقال: فرك وتنوخ، وقد يقال استناخ، وفي الحديث في صفة المؤمن: ((إن قيد انقاد، وإن أنيخ عى الصخرة استناخ))(6)، والركاب الإبل التي يسارع عليها، والواحدة راحلة ولا واحد لها من لفظها والجمع الركب مثل الكتب، ويقال: زيت(7) ركابي لأنه يحمل من الشام عى الإبل، والرَحل بالفتح كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعر و حلس(8) ورسنٍ(9)
ص: 310
والجمع أرحل ورحال مثل أسهم وسهام ومن قولهم في القذف: هو ابن ملقى أرحِل الركبان، ورحلت البعير أي شددت عليه رحله، وحططت الرحل انزلته عن الإبل، وجوز بعض الشارحين(1) أن يكون المحط مصدراً کالمرد في قوله تعالى: «وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ»(2)، وكذلك المناخ، ولعل المكان أظهر، وفي بعض النسخ (من يموت منهم) بزيادة اسم الموصول ودعوى التعرض لكل سؤال والجواب عن كل معضلة(3) مع الخروج عن العهدة من خصائصه (عليه السلام) وروى الزمخشري(4) أن قتادة دخل الكوفة والتف عليه الناس، فقال: سلوا عَّما شئتم، وكان أبو حنيفة حاضراً وهو غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى؟ فسألوه، فأفحَم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثي بدليل قوله تعالى: «قَالَتْ نَمْلَةٌ»(5)، وذلك أنَّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعهما على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وقال ابن الحاجب في بعض تصانيفه: إن مثل الشاة والنملة والحامة من الحيوانات تأنيث لفظي ولذلك كان قول من زعم أن النملة في قوله تعالى: «قَالَتْ نَمْلَةٌ»(6) أنثى لورود تاء التأنيث في قالت وهماً لجواز أن يكون مذكراً في الحقيقة و ورود تاء التأنيث کورُودَها في فعل المؤنث اللفظي ولذلك قيل إن افحام قتادة خير من جواب أبي حنيفة،
ص: 311
وذكر الشيخ الرضي (رضي الله عنه) للتاء أربعة عشر معنى(1) منها (الفصل بين الآحاد المخلوقة)(2)، كنخل ونخلة، ونمل ونملة، و(آحاد المصادر)(3) کضرب وضربة واخراج واخراجه من [أجناسهما](4)، قال: (وهو قياس في كل واحد من الجنسين المذكورين)(5)، وجاءت قليلًا للفرق بين الأحاد المصنوعة كلبن(6) ولبنة وأجناسها، وقال: ففي قوله: «قَالَتْ نَمْلَةٌ»(7) يجوز أن (تكون)(8) النملة مذكراً والتاء للوحدة، فتكون(9) تاء قالَتْ لتاء الوحدة في نملة لا لكونها مؤنثاً حقيقياً وقد فصل الشارح عبدالحميد بن أبي الحديد نبذة من أخباره(10) (عليه السلام) كإخباره عن الضربة التي تخضب منها لحيته (عليه السلام)، وإخباره عن موضع قتل الحسين (عليه السلام) لمَّا مرَّ بكربلاء، وأخباره بملك معاوية الأمر بعده وعن الحجاج وعن يوسف بن عمر وما أخبر به من أمر الخوارج / و 126 / بالنهروان وما قدمه إلى أصحابه من قتل من يقتل منهم وصلب من يصلب منهم، وأخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وأخباره بعدة الجيش الوارد
ص: 312
عليه من الكوفة لما شخص (عليه السلام) الى البصرة، وأخباره عن عبد الله بن الزبير، وعن هلاك البصرة بالغرق والزنج، وعن بني بويه وقوله فيهم ويخرج من ديلمان بني(1) الصياد وكان أبوهم صياد السمك وعن ملك بني العباس ونحو ذلك، والتفصيل بوجه أبسط في حدائق الحقائق إن شاء الله عز وجل (وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُموُنِي وَنَزَلَتْ(2) کَرَائِهُ الُأْمُورِ، وَحَوَازِبُ الخُطُوبِ، لأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ، وَفَشِلَ کَثِیرٌ مِنَ الْمَسْؤولِينَ) الكريهة (النازلة)(3)، ويكون بمعنی: (الشدة في الحرب)(4)، و کرائة الأمور المصائب التي تكرهها النفوس، والحوازب (جمع حازب وهو الأمر الشديد)(5) وحزبه أمر إذا اشتد عليه ودهمه وضغطه، والخَطب بالفتح الشأن والحال والأمر الذي يقع فيه المخاطبة، والإطراق السكوت والاقبال بالبصر إلى الصدر(6)، واطراق السائل لصعوبة الأمر وشدته حتى إنه يبهته عن السؤال ويتحير كيف يسأل، والفشل الجبن والفزع والضعف، (وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُکُمْ، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ؛ وَضَاقتِ(7) الدُّنْيَا عَلَيْکُمْ ضِيقاً، تَسْتَطِیلُونَ أَيَّامَ(8) الْبَلَاءِ عَلَيْکُمْ، حَتَّى، يَفْتَحَ اللهُ لِبَقِيَّةِ الأبْرَارِ مِنْکُمْ.) الاشارة الى النزول والاطراق والفشل، وقلصت
ص: 313
بالتشدید کما في النسخ التي عندنا أي اجتمعت وانضمت والحرب إذا كانت في موضع واحد تکون(1) أشد وأصعب، ويكون التشديد للمبالغة وهي بالتخفيف بمعنی ارتفعت، يقال: قلص ماء البئر إذا ارتفع وكثر(2) فالمراد شدة الحرب و كثرتها، ويقال: قلصت بالتشديد بمعنی استمرت في المضي، ويقال: قلص قميصه فقلص تقليصاً، أي شمره لازم متعدّ، وحينئذ يكون المعطوف کالتفسير، وفي بعض النسخ (قلصت حربكم عن ساق) بدون كلمة شمرت، وقال بعض الشارحين: و روي (إذا قلصت عن حربكم) بالتخفيف أي إذا انكشفت کرائة الأمور، وحوزاب الخطوب عن حربكم(3)، وشمرت عن ساق أي كشفت عن شدة ومشقة كما قيل في قوله تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ»(4)، وقيل: في قوله تعالى: «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ»(5)، أي آخر شدة الدنيا بأول شدة الآخرة، وقيل: کشف الساق مثل في اشتداد الأمر وصعوبة الخطب، وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب، قال حاتم(6):
أخو الحرب إن عضّت بهِ الحربُ عضّها *** وإنْ شمرَّتْ عن ساقِها الحربُ شمّرا(7) وقيل: يكشف عن الساق أي عن أصل الأمر وحقيقته بحيث يصير عياناً
ص: 314
مستعاراً من ساق الشجر، وساق الإنسان، ويحتمل أن يكون المراد تشبیه الحرب بالمجد في أمر فإنَّ الإنسان إذا جدّ في السعي شمر عن ساقه ورفع ثوبه لئلا يمنعه، والضِيق بالکسر کما في بعض النسخ مصدر ضاق كالضَيق بالفتح و في بعض النسخ (وكانت الدنيا عليكم ضيقةً) بدل قوله: (وضاقت الدنيا علیکم ضيقاً) واستطالة الأيام عدها طويلة، ويوم البؤس والشدة يطول على الأنسان کما قيل: فأيام الهموم مقصصات، وأيام السرور تطير طيراً، والبقية اسم من قولك: بقي من الشيء كذا، والمراد ببقية(1) الأبرار الذين يسلمون من بني أمية في دينهم وأعمارهم ويفتح الله لهم بهلاكهم وزوال دولتهم على ما ذكره بعض الشارحین(2) وزعم أن المراد ببقية الأبرار بنوا العباس الذين أزالوا ملك بني أمية، ولابد حينئذ من ارتكاب تجوز في اطلاق بقية الأبرار فإنَّ بني العباس لم يكونوا من الأبرار وإن كانت بني أمية شراً منهم فيحمل كونهم براً على الاضافي أو على أنّهم من أولاد الأبرار وإن لم يكونوا أبراراً [في](3) أنفسهم على أنَّ الفتح لبقية الأبرار لا يستلزم أن يكون على أيديهم وقد ورد في الخبر أن الله / ظ 126 / لا يزال يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق(4) لهم فيحتمل أن يكون المراد من بقي من أهل البيت (عليهم السلام) أو الأعم منهم ومن خُلّص المؤمنين، ولعل الأظهر أن صاحب الأمر (عليه السلام) (إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ
ص: 315
شَبَّهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ؛ یُنْکَرْنَ مُقْبِلاتٍ، وَیُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْن(1) حَوْمَ(2) الرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً، وَیُخْطِئْنَ بَلَداً) في بعض النسخ (شُبِهَت) على صيغة المجهول من التفعيل أي أشكل أمرها والتبس على الناس، يقال: أمر مشبه كمعظم أي مشکل و في بعضها شبهت على صيغة المعلوم، ولعل المعنى جعلت نفسها أو الأمور الباطلة شبيهة بالحق ونهبت أي أعلمت بالبطلان كأنها أيقظت القوم من النوم والغرض أنَّ الفتن في أول الأمر تلتبس وتجعل الباطل شبيهاً بالحق حتى يضل الناس وفي آخر الأمر يظهر حالها وينكشف للناس أنهم كانوا على الباطل وقد توقف كثير في فتنة الجمل والنهروان وقعدوا عن الحرب ثم بان لهم الضلال بعد أن وضعت الحرب أوزارها و(3) ندموا حين لم ينفعه الندم وأيقن الكثير في فتنة صفين بأنَّ معاوية على الباطل بعد قتل عمار بن یاسر والفقرة التالية كالبيان للسابقة، وينكرن أي لا يعرف حالهن، وحام الطائر حول الماء إذا طاف ودار لینزل عليه، وحوم الرياح أي کحوم الرياح وفي الكلام تشبیه بهبوب الريح بحوم الطائر واصابة البلد دون آخر، بیان لذلك الحوم. (أَلَا إِنَّ(4) أَخْوَفِ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْکُمْ فِتْنَةُ بنيِ أُمَيَّةَ، فَإِنَهَّا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا، وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ الْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْها.) كلمة أخوف من صيغ التفضيل الواردة لتفضيل المفعول نحو اعذر وألوم واشهر، وقياس (أفعل) أن يكون للفاعل وتشبيه الفتنة
ص: 316
بالأعمى لكونها سالكة غير سبيل الحق كالأعمى الخارج عن الجادة في مشيه، والخُطة بالضم شبه القصة والأمر والخطب (و(خص) الشيء (خصوصاً) من باب قعد خلاف عم فهو (خاص) و (اختص) مثله و(الخاصة) خلاف العامة والهاء للتأكيد، وعن الكسائي: الخاص والخاصة واحد)(1) وخصصته بالشيء من باب قعد أيضاً واختصصته به لازم متعد و عموم خطة تلك الفتنة لكونها رئاسة عامة وسلطنة شاملة وخصوص البلية لكون خط أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم منها أوفر وقد هتكوا حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقتلوا الحسين (عليه السلام) وسبوا ذراريه وأصاب الشيعة منهم ما أصابَ واصابه البلاء من أبصر فيها الحزن المبصر من مشاهدة أفعالهم الشنيعة وقصدهم إياه بأنواع الأذى بخلاف الجاهل المنقاد لهم. (وَأَيْمُ الله لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَیَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ الضَّرُوسِ، تَعْذِمُ بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَتَمْنَعُ دُرَّهَا) اليمين القسم مؤنث(2) لأنهم(3) كانوا يتماسحون بأيمانهم فيتحالفون، وایمُن بضم الميم اسم استعمل في القسم والتزم(4) رفعه کما التزم رفع لعمر الله، و همزته همزة وصل عند البصريين قالوا: أولم يأت في الأسماء همزة وصل مفتوحة غيرها، وعند الكوفيين قطع لأنَّه جمع مين عندهم قالوا: وكانت العرب (تحلف)(5) باليمين فقالوا: يمين الله لا أفعل واليمن يجمع علی ایمن، ثم حلفوا به فقالوا ایمن الله، وقد يختصر، فيقال ایمُ
ص: 317
الله، وثانياً فيقال مُ الله بضم الميم وكسرها، وفيه لغات والأَرباب جمع رب، وهو يطلق على المالك والسيد والمدبر والمربي والمتمم والمنعم ولا يطلق غير مضاف إلاَّ على الله عزّ وجلّ، قالوا ولا يجوز استعماله بالألف واللام للمخلوق بمعنى المالك؛ لأنَّ اللام للعموم والمخلوق لا يملك جميع المخلوقات وفيه شيء، وبعضهم يمنع أن يقال: هذا ربّ العّبدْ وفي الخبر وكذا في هذه الخطبة ما فيه حجة عليهم والسَوء بالفتح مصدر ساءه يسوءه إذا فعل به(1) ما يكره فاستاء(2) هو والسُوء بالضم الاسم منه وهو رجل سوء بالفتح والاضافة، و(الناب: الناقة / و127 / المسنة)(3)، والضروس السيئة الخلق تعض(4) حالبها(5)، وعدم الفرس كضرب إذا أكل بجفاء أو عضَّ، وخبط البعير إذا ضرب بيده الأرض شديداً(6) ووطئ(7) الشيء شديداً، والخبط باليدين كالرمح بالرجلين (والزبن: الدفع)(8)، ومنه الزبانية، وزبنت الناقة إذا ضربت بثنات رجلها عند الحلب(9)، فالزبن بالثنات، والركض بالرجل والناقة زبون إذا كان ذلك من عادتها، والدر اللبن ويقال: لكل خير على التوسيع. (لَا يَزَالُونَ بِکُمْ
ص: 318
حَتَّى لَا يَتْرُکُوا مِنْکُمْ إِلَّا نَافِعاً لَهُمْ؛ أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهُمْ. وَلَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمُ حَتَّى(1) لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلَّا کَانتِصارِ(2) الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ؛ وَالصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ) ما زلت بزيدٍ(3) أي ما زلت أفعل، و المعنى لا يزالون يؤذونكم بأنواع الأذى حتى لا يبقى منكم إلا من ينفعهم في مقاصدهم ويساعدهم في مآربهم أو لا يضرهم في دنياهم بإنكار المنكرات عليهم وهدم دولتهم، والضائر المضر، يقال: ضاره الأمر يضوره ويضيره إذا اضره، وكلمة (بهم) غير موجودة في بعض النسخ، والانتصار الانتقام، والصاحب التابع(4) و المستصحب المتبوع، والغرض نفي إمكان الانتصار على ما جوزه بعض الشارحين(5)، والأظهر أن المراد إثبات انتصار الأذلاء والمقهورين كالغيبة والذم مع الأمن من الوصول إلى المغتاب مع اظهار الانقياد والطاعة في الحضور كما يظهر من قوله (عليه السلام) في كلام له سيجيء (عن قریب)(6) و حتی یکون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه، وهذا الاثبات في الحقيقة يؤول الى النفي (تَرِدُ عَلَیْکُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوهاءَ مَخْشِيَّةً، وَقِطَعاً جَاهِليَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدَىً، وَلَا عَلَمٌ یُرَی، نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْهَا بِمنجاةٍ(7)، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاۃٍ) شاهت الوجوه أي قبحت (وشوهه الله فهو مشوه وهي
ص: 319
شوهاء(1) ولا يقال للمذكر أشوه)(2) كذا قال بعض الشارحين أخذ من كلام الجوهري(3)، وفي النهاية (رجل أشوه وامرأة شوهاء)(4) وكذا في القاموس(5) والشوهاء العابسة ويكون بمعنى الجميلة ضّد(6) وفي بعض النسخ (فتنتهم شوهاً بلفظ الجمع في الكلمتين، والمخشية المخوفة المرعبة(7) والقطع كعنب جمع قِطعة بالكسر وهي الطائفة من الشيء، ولعل الغرض الاشارة إلى اختلاف أنواعها ووردوها دفعات كقطع السحاب ونحوه، والجاهلية الحالة التي كانت العرب عليها قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر والتعصب والاخلاق الذميمة، وتتمة الكلام بیان الوجه الشبه، والمنار في الأصل موضع النور، ويقال للعلم، والحد الموضوع بين الشيئين(8)، والعلم الجبل أو الطويل منه يهتدي به والوصف للإشعار بوجود الحجة وهو الإمام من أهل البيت (عليهم السلام) وأهل البيت منصوب على الاختصاص نحو قولهم: نحن [معشر](9) العرب بالنّصب، وفي بعض النسخ بالرفع، والمنجاة موضوع النجاة أي الخلاص أو مصدر، وفي بعض النسخ
ص: 320
(بنجاة)(1) و (الغرض)(2) الخلاص من لحوق الآثام وشمول الضلال والتابعة في الدعوة إلى الباطل کما يظهر في الفقرة التالية لا الخلاص من القتل وأنواع الأذى بشهادة قصة الحسين والعترة الطاهرة (عليهم السلام)، (ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللهُ عَنْکُمْ کَتَفْريجِ الْأَدِيمِ، بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً، وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ، وَلَا يُحْلِسُهُمْ(3) إِلاَّ الْخَوْفَ) فرج الله الغم أي کشفه، والأديم [الجلد](4) وتفريج الأديم كشفه عن اللحم حتى يظهر ويخرج من تحته، ولعل تشبيه الفتنة بالأديم للصوقها وشمولها ويحتمل أن يكون المراد بالأديم الجلد الذي يلف الانسان فيه للتعذيب؛ لأنه يضغط شديداً إذا جف، وفي تفريجه استراحة كاملة، ويسومهم أي يكلفهم ويلزمهم، والخسف النقصان والذل والهوان، وأصله أن يحبس الدابة على غير علف(5)، والعُنف بالضم ضد الرفق وكذلك بالفتح کما في بعض النسح، والمصبرة الممزوجة بالصبر المر، وجوز بعض الشارحين(6) أن (تكون)(7) المصبرة بمعنى المملؤة الى أصبارها(8) أي جوانبها جمع صُبر بالضم وفي المثل/ ظ 127 / (أخذها بأصبارها)(9) أي
ص: 321
تامة، والحِلس بالکسر کساء رقيق يکسي على ظهر البعير تحت البرذعة، وأحلس البعير أي ألبسه الحلس، والحلس أيضا ما يبسط في البيت تحت حر الثياب(1)، والغرض أنهم يجعلون الخوف شعاراً لهم لاصقاً بهم، وهذا الكلام أخبار عن ظهور دولة بني العباس وانقراض مُلك بني أمية، وقد أذاقوهم كأس العذاب طعوماً مختلفة وأروهم الموت ألواناً شتی کما هو مذكور في كتب السير (فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَیْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ(2) جزُورٍ(3)؛ لَأِقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونَني(4)) الباء للبدل، ولو بمعنى أن المصدرية لوقوعها بعد فعل دالٍ على معنى التمني، ومقاماً أي في مقام، والجزور من الإبل خاصة يقع على الذكر والأنثى(5)، ولفظ الجزور أنثى، فيقال: رعت الجزور، قاله ابن الانباري(6)، وقيل: الجزور الناقة التي تجزر وجزرت الجزور من باب قتل(7) أي نحرتها، وما أطلب اليوم بعضه أي الطاعة، والانقياد يعني يتمنون أن يروني فيطيعوني(8) اطاعة [كاملة، وقد رضيت منهم اليوم بأن يطيعوني اطاعة](9) ناقصة فلم يقبلوا، وقد ذكر أرباب
ص: 322
السير إن مروان بن محمد وهو آخر ملوك بني أمية، قال يوم الزاب(1) لما شاهد عبد الله بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بإزائه في صف خراسان لوددت أنّ علي بن أبي طالب تحت هذه الراية بدلاً من هذا العي، ويحتمل أن يكون هذا التمني عند قيام القائم (عليه السلام)(2)، قال الشارح عبد الحميد بن أبي الحديد(3) بعد حكاية ما يدل على قيام القائم (عليه السلام) من هذه الخطبة وقد ذكرناه في أول شرح الخطبة: فإن قيل: فمن یکون من بني أمية موجوداً في ذلك الوقت حتى يقول (عليه السلام) في أمرهم ما قال من انتقام هذا الرجل [منهم](4) حتی يودوا لو أن علياً (عليه السلام) كان المتولي الأمورهم عوضاً عنه، قيل: أما الإمامية(5)، فتقول(6) بالرجعة، ويزعمون أنَّه سيعاد قوم بأعيانهم من بني أمية وغيرهم، وينتقم القائم من أعداء آل محمد [(صلى الله عليه وآله)](7) المتقدمين والمتأخرين. وأما أصحابنا فيزعمون أنه سيخلف الله في آخر الزمان رجلاً من ولد فاطمة (عليها السلام) و ليس موجوداً الآن، وإنه ينتقم ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وإنه إنما
ص: 323
يظهر بعد أن يستولي على كثير من بلاد الإسلام ملك من أعقاب بني أمية، وهو السفياني الموعود به في الصحيح من ولد أبي سفيان بن حرب بن أمية، وأنَّ الإمام الفاطمي يقتله ويقتل(1) أشياعه وغيرهم، وحينئذ ينزل(2) المسيح (عليه السلام) من السماء، وتبدو أشراط الساعة، و(تظهر)(3) دابة الأرض، ويبطل التكليف، ويتحقق(4) قيام الأجساد عندنفخ الصور، کما نطق به الكتاب العزيز أنتهى. ولا يخفى أنَّ القول بالرجعة التي يقول بها أصحابنا الإمامية لا ينافي القول بالسفياني الذي حكاه عن أصحابه وظهور بني أمية وأخبارنا ناطقة به وعلى هذا تكون(5) الاشارة في الكلام السابق إلى ظهور(6) القائم (عليه السلام) لا ملوك بني العباس والله تعالى يعلم.
يقال: برك البعير إذا ناخ في موضع فلزمه(1)، وبروك الطير على الماء لزومه له، ومنه البركة لدوام الماء فيها فيكون اشارة الى عظمته تعالى باعتبار دوام بقائه، وقيل: من البركة وهي كثرة الخير وزيادته، يقال: بارك الله لزيد وعلى زید وبارك الله زيداً متعدياً بنفسه، ومنه قوله تعالى «أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا»(2) فمعنی تبارك تكاثر خيره وزادت نعمته واحسانه على وجه الإخبار والتمجيد وجعله بعض الشارحين(3) بمعنى الدعاء، ولا يخلو عن بعد، وقيل: معناه تزاید وتعالى في ذاته وصفاته / و 128/ وأفعاله عن أن يقاس بأحدٍ فیکون اشارة الى فضله واحسانه وتعاليه في ذاته وصفاته، ولا يستعمل إلاَّ الله تعالى والهمة أول العزم أو العزم القوي، ويقال: فلان عالي الهمة، وبعيد الهمة على اختلاف الاعتبار في جهة التشبيه إذا كانت إرادته تتعلق(4) بالأمور العالية البعيدة التناول، ونيل الشيء اصابته والوصول إليه، والحِس بالكسر الادراك والشعور، يقال: احسست الشيء وحسست به، ويكون بمعنى (الحركة)(5)، والفطنة (الحذق)(6)، يقال: رجل فطن بخصومته إذا كان عالماً بوجوهها، وفي بعض النسخ (حدس الفطن) وهو السرعة في السير والمضي على طريقة مستمرة، ويكون بمعنى الظن والتخمين والتوهم، في الأمور وغاية الشيء مداه ونهايته و الظاهر أن المراد نفي المبدأ، وهو
ص: 325
غايته باعتبار حركة الفكر الى جهة الأزل(1) [والفعلان](2) منصوبان بتقدير أن الناصبة، ووجه بعض الشارحين التغاير بين مدخول الفاء وما قبله بأنَّ المراد لا أول له بالإمكان فيكون مسبوقاً بالعدم بالفعل، ولا آخر له بالفعل فينقضي بالفعل، وفيه تأمل لعدم الترتب إذا لم يعتبر الامكان في مدخول الفاء وعود الاشكال على اعتباره [ويمكن أن يقال إنَّ الانتهاء اصرح في الدلالة على العدم من ثبوت الغاية وكذلك الانقضاء من وجود الاخر فادخل الفاء على ما هو أوضح فساداً فتدبر](3) (فاستودعهمْ فِي أفضلِ مستودعٍ، وأقرهُمْ فِي خيرٍ مستقرٍّ، تناسختهمْ کرائمُ الأصلابِ إلى مطهراتِ الأرحامِ) المستودع على صيغة المفعول المكان الذي يجعل فيه الوديعة، يقال: استودعته وديعة إذا استحفظته إياها، والمستقر موضع الاستقرار، والكلام في وصف الأنبياء (عليهم السلام)، والمستودع حظائر(4) القدس ومحال كرامة الله التي اسكنهم الله فيها قبل حلول الأبدان، والمستقر أبدانهم الزكية، أو منازل الآخرة، أو المستودع الأصلاب والمستقر الأرحام لكون الأصلاب بمنزلة المنازل للمسافر بالنسبة إلى الأرحام، أو بالعكس لطول مدة الاستقرار في الأصلاب بالنسبة إلى الأرحام، والنسخ النقل، يقال: نسخت الكتاب وانتسخته إذا نقلته، والمنقول منه النُسخة بالضم، والتناسخ التناقل ومنه التناسخية(5) لزعمهم انتقال
ص: 326
الأرواح من بدن الى بدن، وقيل من تناسخ الأزمان أي تداولها وانقراض قرن بعد آخر، والكلام دليل على طهارة آباء الأنبياء وأمهاتهم (عليهم السلام) من السفاح والكفر کما ذهب إليه أصحابنا (رضوان الله عليهم). (كلَّمَا مَضى سلفٌ(1)، قامَ منهمْ بدينِ اللهِ خلفٌ، حتَّى أفضتْ کرامةُ اللهِ سبحانهُ(2) إلى محمدٍ (صلى الله عليه وآله)) السَلف بالتحريك كل من مضى وتقدم من الآباء والقرابات وغيرها، يقال: سلف الشيء سالفاً أي مضى وقيل: السلف جمع سالف، ثم جمع على أسلاف، والخلف بالتحريك العوض والبدل وكل من يجيئ(3) بعد من مضى، إلاَّ أنه بالتحريك في الخير وبالتسكين في الشر، يقال: خَلفُ صِدْق و خلف سوءٍ، والدین مايتعبد الله عز وجل به وأصله واحد، وإنما (تختلف)(4) بعض الأحكام باختلاف المصالح في الأزمان، وأفضت أي انتهت، والكرامة والكرم ضد اللوم، والمراد بكرامة الله النبوة، واصطفاء محمد (صلى الله عليه وآله) من بين الأنام لتبليغ الأحكام. (فأخرجهُ منْ أفضلِ المعادنِ منبتاً، وأعزِ الأروماتِ(5) مغرساً، منَ الشجرةِ التي صدعَ منهَا أنبياءهُ، وانتجب منهَا أمناءهُ) العدن الإقامة، يقال: عدن بالمكان بعدن
ص: 327
کیضرب إذا قام به ولزمه، ومعدن كل شيء مركزه، ومنه جنة عدن [...](1) لأنَّها جنة اقامة، والمنبت کمجلس موضع [هكذا في النسخ التي عندنا وقال بعض الشارحين في أكثر النسخ، لما اراده الناس على البيعة ووجدتها في بعضها ادارة الناس على البيعة، يعني بتقديم الدال فمن روى الاول جعل على متعلقه بمحذوف تقديره موفقاً، ومن روى الثاني جعلها متعلقه بالفعل الظاهر نفسه، يقول: ادرت فلاناً على كذا أي عالجته، دعوني والتمسوا غيري فانا مستقبلون امراً له وجوه والوان](2) النبت(3) ويكون مصدراً كالمقام وهو شاذ، والقياس فتح العين، والأرومة كالاكولة (الأصل)(4) وغرس الشجر کضرب اثبته في الأرض، والمغرس بالكسر موضع [و](5) مصدر، والصدع في الأصل / ظ 128/ شق الشيء الصلب وهو يستلزم ظهور شيء تحته، وانتجب أي اختار، قيل: المراد بأفضل المعادن طينة النبوة، وقيل: مكة، شرفها الله عز وجل، وقيل قبيلته وعشيرته، وروى عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال إنَّ الله اصطفى من العرب معداً، واصطفى من معد بني النضر بن كنانة،
ص: 328
وإنه اصطفی هاشمآً من بني النضر، واصطفاني من بني هاشم(1)، ولعل المراد من الشجرة طينة النبوة ومن المعدن و الأرومة البيت والعشيرة، أو الصنف الأشرف من أصناف الأنبياء فيكونان أخص من الشجرة أو المعدن مكة، والأرومة أحد الأمرين، ويمكن أن يجعل الشجرة(2) أخص، ويراد بها إبراهيم (عليه السلام) إلا إنَّه يستلزم التخصيص في الأنبياء والأمناء والله تعالى يعلم أمناؤه من أئتمنه على تبليغ الرسالة، أو الأوصياء والأئمة عليهم (عليهم السلام) لاتحاد أصل الطينة أو الأعم فيكون من ذكر العام بعد الخاص، (عترتهُ خيرُ العترِ، وأسرتُهُ خيرُ الأُسرِ، وشجرتُهُ خيرُ الشجرِ، نبتتْ في حرمٍ، وبسقتْ(3) في كرمٍ، لها فروعٌ طوالٌ، وثمرةٌ لا تنال(4)) عترة الرجل أخص أقاربه و (عن ابن الإعرابي أنَّ (العترة) ولد الرجل وذریته وعقبه من صلبه ولا تعرف العرب غير ذلك)(5)، وقال ابن الأثير: المشهور المعروف أن عترة النبي (صلى الله عليه وآله) أهل بيته الذين حرمت عليهم الزكاة(6)، والصحيح ما حكاه عن البعض من أنَّ المراد أولاده، وعلي وأولاده (عليهم السلام) والأسرة العشيرة وأهل البيت لأنَّ الرجل يتقوى بهم من الأسر
ص: 329
بمعنی: (القوة)(1) والعترة أخص من الأسرة، والظاهر أن المراد بالشجرة أما إبراهيم (عليه السلام)، أو هاشم، أو نفسه (صلى الله عليه وآله) على الاضافة البيانية، والحرم مكة، وجوز بعض الشارحين(2) أن يراد به حرم العزّ والمنعة، والباسق المرتفع في علوه، ويقال: بسق النخل بسوقاً إذا طال(3) والمراد بالفروع والثمر أهل البيت والأئمة (عليهم السلام) الذين لا يتيسر الأحد أن ينال مآثرهم و(مفاخرهم)(4) ويصل إلى درجاتهم أو إلى معرفة شأنهم وحقيقة أسرارهم، أو المراد بالفروع الآباء والأقارب وبالثمر الرسول (صلی الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) على بعض الوجوه في الشجرة (فهو إمامُ منْ اتقَى، وبصيرةُ منْ اهتدَى، سراجٌ لَمعَ ضوْءهُ، وشهابٌ سطعَ نورهُ، وزندٌ برقَ لمعهُ) الإمام من يؤتم به أي يقتدي به، والبصيرة العلم والخبرة، وسطع(5) الصبح والغبار والبرق والرائحة أي ارتفع، والزَند بالفتح العود الذي تقدح به النار أي يوري(6)، والسفلى زندة فيها ثقب وهي الأنثى، وإذا اجتمعا قيل: زندان ولا يقال: زندتان تغليباً للتذكير، وبرق الشيء كقتل برقاً وبريقاً وبروقاً أي لمع (سيرتهُ القصدُ، وسنتهُ الرُّشدُ، و کلامهُ الفصلُ، وحكمهُ العدلُ، أرسلهُ على حينِ فترةٍ منَ الرسلِ، وهفوةٍ عنْ العملِ، وغباوةٍ منَ الأممَ) السيرة الطريقة، والقصد استقامة الطريقة وضد الافراط، والسنة
ص: 330
الطريقة، والسيرة والرشد خلاف الغي، والفصل الفاصل بين الحق والباطل قال الله تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ»(1)، وقيل: الفصل الحق من القول، والفترة ما بين الرسولين من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة والهفوة الزلة والاسراع، وهفا(2) الطائر إذا طار، وهفت الريح إذا هبت، والغباوة(3) الجهل وقلة الفطنة (اعملوا - رحمكمُ اللهُ - على أعلامٍ بينةٍ، فالطَّريقُ نهجٌ يدعو إلى دارِ السلام، وأنتمْ فِي دارِ مستعتبٍ علَى مهلٍ وفراغٍ، والصحفُ منشورةٌ، والأقلامُ جاريةٌ، والأبدانُ صحيحةٌ، والألسنُ مطلقةٌ، والتوبةُ مسموعةٌ، والأعمالُ مقبولةٌ) العلم بالتحريك مايهتدي به من (جبل)(4) ونحوه والمراد ما يهتدي به الى طرق النجاة واعملوا على أعلام أي ملتزمين بها كأنَّها مرکب يحملكم(5) إلى مقاصدكم، والفاء للتعليل وكان في نسخ الشارحين، والطريق نهج بالواو الحالية، والنَهج بالفتح الواضح، والسَّلام(6) في الأصل السَّلامة، تقول(7): سلم كعلم سلاماً وسلامة، ومنه قيل للجنة دار السَّلام؛ لأنهَّا دار / و 129 / السَّلامة من الآفات، والاستعتاب طلب العتبی أي الرضا بالرجوع عن الأساءة، والظاهر أنَّ المستعتب مصدر، ويحتمل المكان، والمهل بالتحريك السكينة والرفق، وأمهله إذا رفق به ومهله إذا أجله، والمراد بالفراغ الفراغ(8)
ص: 331
عن(1) عوائق الموت وما بعده، و موانع العمل، والصحف صحف الأعمال، ونشرها ضد طيّها، والمراد کونها لم تطو بعد بانقضاء وقت العمل، والأقلام أقلام كتبه الأعمال، واطلاق الألسن عدم خرسها بثقل المرض وسكره الموت ومعاينة الأهوال.
ص: 332
المحتويات
ص: 333
ص: 334
[وَمِنْ كَلاَمٍ لُه (عَلَيْهِ السّلاَم)] قَالهُ لِمَروانِ بِن الحَكَم بِالْبَصرَة...7
[وَمِنْ كَلاَمٍ لَهُ (عَلَيْهِ السّلاَمُ) لمّا عَزَمُوا عَلى بِيعَة عُثمْانَ...10
[وَمِنْ کَلامٍ لَهُ (عَلَيْهِ السّلاَمُ) لَمّا بَلَغهُ اِتّهامُ بَني أُميَةَ لَهُ بِالمُشارَكةَ فِي دَمِ عُثمانَ...11
[وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ (عَلَيْهِ السَّلام)]...14
[وَمِنْ کَلاَمٍ لَهُ (عَلَیْهِ السَّلام)]...17
[وَمِنْ کَلِماتٍ کَانَ يَدعُو بِها (عَلَيْهِ السَّلام)]...19
[وَمِنْ كَلاَمٍ لَهُ (عَلَيْهِ السَّلام)] قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج...22
[وَمِنْ كَلاَمٍ لهُ (عَليهِ السَّلام)] بَعْدَ حَربِ الجَمل في ذمّ النِساء...51
[وَمِنْ کَلَامٍ لَهُ (عَلَيهِ السَّلام)]...52
[وَمِنْ كَلَامٍ لَهُ (عَلَيهِ السَّلام)] في صِفَةِ الدُّنيَا...53
[وَمِنْ خُطبَةٍ لَهُ (عَلَيهِ السَّلام)] عجيبة وفي بعض النسخ (تسمى الغراء)...55
[وَمِنْ كَلَام لَهُ (عَلَيهِ السَّلام) في ذكر عَمُرو بن العاص...123
[وَمِنْ خُطبَةِ لَهُ (عليهِ السَّلام)]...131
ص: 335
[وَمِنْ خُطبَةٍ لَهُ (عَليْهِ السَّلام)]...136
[وَمِنْ خُطبَةٍ لَهُ (عَليهِ السَّلام)]...146
[وَمِنْ خُطبَةٍ لَهُ (عَلَيْهِ السَّلام)]...168
[وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ (عَلَيْهِ السَّلام)]...174
[وَمِنْ خُطبةٍ لَهُ (عَلَيْهِ السَّلام)]...183
[وَمِنْ خَطْبةٍ لَهُ (عَلَيهِ السَّلام)] (تُعْرَف) بِخْطبةِ الأشْباحِ...192
[ومن كلام له (عليه السلام)] لمَّا أريد على البيعة بعد قتل عثمان...300
[ومن خطبة له (عليه السلام)]...307
[و من خطبة له (عليه السلام)]...324
ص: 336