أسرار الصلاة

هوية الکتاب

أسرار الصلاة

تأليف:

علَمُ الأعلام، حجة الإسلام، المؤيّد بتأييد

الملكُ العلام المرحوم الحاج میرزا جواد الملكي التبريزي طاب ثراه

منشورات

مؤسسة الأعلمى للطبوعات

بيروت - بستان

ص 0پ 7120

ص: 1

اشارة

أسرار الصلاة

ص: 2

أسرار الصلاة

تأليف:

علَمُ الأعلام، حجة الإسلام، المؤيّد بتأييد

الملكُ العلام المرحوم الحاج میرزا جواد الملكي التبريزي طاب ثراه

منشورات

مؤسسة الأعلمى للطبوعات

بيروت - بستان

ص 0پ 7120

ص: 3

كافة الحقوق محفوظة ومسجلة للناشر 1405 ه- 1985 م

ص: 4

المؤلف في سطور

الشيخ الميرزا جواد آقا ابن الميرزا شفيع الملكي التبريزي نزيل قم عالم فقيه واخلاقي فاضل ورع ثقة كان في النجف الاشرف اشتغل فيها على اعلام الدين فقد اخذ مراتب السلوك عن الاخلاقي الشهير(المولى حسينقلى الهمداني ) واكمل نفسه عليه وتتلمذ في الفقه والاصول على العلامة الشيخ آقا رضا الهمداني وغيره من العلماء وعاد الى ايران سنة 1320 فاستوطن دار الايمان (قم) وقام بوظائف الشرع وكان مروّجاً للدين مربياً للمؤمنين الى ان توفى يوم عيد الاضحى سنة (1343) ورثاه تلميذه الشيخ اسماعيل بن الحسين المتخلّص(بتائب) بقصيدة ارّخ في آخرها عام وفاته وسماها ب( القصيدة الجوادية).

وله تصانيف منها كتاب اسرار الصلاة طبع ( 1339 ) على الحجر وطبع ثانياً بالحروف ( 1381 ) وهو هذا الكتاب.

وله ايضاً كتاب السير الى الله المطبوع قريباً من هذه السنة في عاصمة ايران ( طهران).

وكتاب ( اعمال السنة ( لم يطبع بعد ونرجو المولى سبحانه ان يوفقنا لطبعه ونشره.

ص: 5

وأما استاذه قدس سره فهو الشيخ المولى حسينقلي بن رمضان الشوندى الدرجزيني الهمداني النجفي من اعاظم العلماء واكابر فقهاء الشيعة وخاتمة علماء الاخلاق في عصره تتلمذ على الشيخ المرتضى الانصاري في الفقه والاصول وعلى حاج المولى هادي السبزواري في العلوم العقلية وعلى رجل التقوى والمعرفة السيد علي التستري قدس سرّه في التهذيب والاخلاق وفاق فيه اعلام الفن وشملته العناية الربانية فعرج به الى اعلى مقامات الانسانية وكان رضوان الله عليه من ذراري الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الانصاري رحمه الله ومن اراد تفصيل ترجمته فليراجع » اعلام الشيعة الجزء الثاني من المجلد الأول ص 674 طبع النجف الاشرف».

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

في ذكر بعض اسرار الطهارة

أعلم أنّ الطّهارة لما كانت من مفاتيح(1) الصلاة كما هو صريح بعض الروايات فقدمنا الكلام في بعض ما فيها من الاسرار وفي ذلك أبواب وفصول:

ص: 7


1- كما في الوسائل باب الوضوء عن الكليني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: افتتاح الصلوة الوضوء «الخ» وكذا عن الصدوق عن أمير المؤمنين عليه السلام بعينه.

ص: 8

الباب [الاول:](1) في الاشارة الى ما يلزم على العاقل من التفكر

في هذا الحكم اجمالاً وهو ان يتفكر في حقيقتها وثمراتها وإذا عرف ان السعادة ظاهراً وباطناً في النظافة ، وتفكر فيما ورد فيها من الآيات القرآنية لا سيّما قوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ) ، ويضم على ذلك قوله تعالى:(1) ﴿ والله يُحبُّ المُتَطَهِّرين) ويعقل معنى حبّ الله، وأنّه أو ثمرته كشف الحجب عن قلب العبد ، فيلقى به كل نور ، وسعادة ، ثم في قوله:(2) (الطهور نصف الایمان)، فيستشعر من ذلك انّ المراد من الطهور إنّما هوالتخلّي، والتنظيف من موجبات الاكدار، والقذارات عن الظاهر والباطن، ويكون النصف الآخر من الايمان عبارة عن التحلي ، والتزين بالفواضل ، والفضائل في الظاهر ، والباطن ، مثلا طهارة البدن بالوضوء ، واجتناب المعاصي وحليته بالعطر والاعمال الصالحة ، وطهارة القلب بتزكيته عن الاخلاق الرذيلة ، وحليته بالتخلّق بالاخلاق الحسنة ، وطهارة السر بنسيان ما سوى الله ، وحليته بذكر الله ، وبعبارة اخرى نفي

ص: 9


1- التوبة: الآية 108.
2- وسائل الشيعة باب الوضوء عن ابي عبد السلام قال: الوضوء شطر الايمان.

الموهوم. وصحو المعلوم، وكشف سبحات الجمال.

فان قلت: الطهارة(1) تطلق في عرف الفقهاء بالتنظيف عن الاخباث ، والاحداث ، فمن اين يستشعر أنّ المراد منها هذا المعنى العام .

قلت: يستشعر ذلك من النقل والعقل : امّا النقل فيكفيك قوله تعالى في سورة والشمس بعد تلك الاقسام العظيمة : قد أفلح من زكيها ، وقد خاب من دسيها ) وهذا التأكيد العظيم ، إنما يدل على ان الأمر في طهارة القلب اهمّ بمراتب عن طهارة البدن ، والمناسب من الطهارة بكونها نصف الايمان هو الاهم، وسيأتي في أخبار الباب ما يدلّ على ذلك صريحاً وأمّا العقل فانت إذا تأملت في لطفه تعالى ثمّ في طلبه منك طهارة مكانك الذي هو مجاور لك ، ثمّ لباسك الذي هو ملاصق لبدنك ، ثم بدنك الذي هو قشر لحقيقتك، تعلم من تعلم من ذلك بالعلم القطعي انه لا يهمل طهارة قلبك ، وسرك من الاقذار ، والارجاس المعنوية، التي لا يقاس خبثها، ورجاستها على الارجاس الظاهريّة بوجه.

ص: 10


1- كما ذكروه في تعريف الطهارة.

الباب[الثانی](2) في التخلي

اشارة

و فیه فصول:

الفصل الأول:في آدابها الظاهرية وجوبا واستحبابا

وهی امور:

منها أن يجلس بحيث لا يرى عورته من يحرم نظره إليها ، والأولى في ذلك أن يستر من السرة إلى نصف السّاق

ومنها غسل مخرج البول بالماء ، والغايط بالاستجمار أولاً ، ثمّ بالماء.

ومنها ارتياد(1) الموضع المناسب.

ومنها تغطية الرّأس اقراراً بأنه غير مبرء نفسه من العيوب ، ولئلا تصل الرّائحة الكريهة إلى دماغه، متقنّعاً إظهاراً للحياء من الملائكة الحاضرين.

ومنها تقديم الرّجل اليسرى عند الدخول واليمنى عند الخروج.

ومنها التسمية ، والدّعاء عند الدخول يقول : «بسم الله وبالله أعوذ بالله من الرجس(2) النّجس، الخبيث المخبث الشّيطان الرجيم»، وعند

ص: 11


1- الارتياد: طلب الشيء وتفقد ما فيه من الصلاح.
2- الرجس: يطلق على القذارات الباطنية والنجس بالعكس والنجس بفتح الجيم وكسرها كلاهما صحيح. والمخبث بصيغة الفاعل هو الذي اصحابه واعوانه خبثاء.

الفعل « اللهمّ اذهب عنّي الاذى وهناني طعامي»، وعند الاستنجاء: «اللهمّ حصن فرجي واستر عورتي ، وحرّمها على النار ووفقني لما يقرب منك يا ذا الجلال والاكرام وعند القيام ، وامرار اليد على البطن : الحمد لله الذي اماط عنّي الاذى، وهناني طعامي ، وشرابي ، وعافاني من البلوى»، وعند «الخروج الحمدلله الذي عرفني لذته ، وأبقى في جسدي قوته ، واخرج عنّي اذىً يا لها نعمة ، يا لها نعمة ، يا لها نعمة ، لا يقدر القادرون قدرها » .

ومنها الاستبراء.

ومنها أن يتقي موارد المياه والطرق النافذة ، ومساقط الثمار ومواطن النزال ، ومواضع اللعن، وهي أبواب الدور ، وعلى القبر وفي افنية المساجد أربعون ذراعاً في أربعين ذراعاً ، وفي الماء الجاري، والراكد، ويتأكد في الثاني واستقبال القبلة واستدبارها بالبدن واستقبال الريح، واستدبارها واستقبال النيرين بالفرج والبول ، والبول في الصلبة ، وقائماً ومطمحاً من الشيء المرتفع، يرميه في الهواء ، وفي ثقوب الحيوانات، وطول الجلوس على الخلاء والاكل عليه ، والشّرب والسواك والتكلّم إلا لضرورة أو الذكر والاستنجاء باليمنى ، ومس الذكر بها بعد البول ، والاستنجاء باليسار، وفيها خاتم عليه اسم الله، ودخول الخلاء، وهو عليه ، كلّ ذلك للنصّ، أو شيء من أسماء النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) والأئمّة(علهم السلام) أو القرآن الحاقاً لها باسم الله.

وقيل: هو الذي ينسب الناس الى الخبث.

وقيل: هو الذي يعلمهم الخبث ويوقعهم فيه ، ذكره الزمخشري في(الفائق)

اقول: ويمكن ان يقرء بصيغة المفعول بمعنى من تأكد وتراكم فيه الخباثة فيدبر.

وهذا الدعاء ورد في كتب العامة والخاصة.

ص: 12

الفصل الثاني: في عبره بالخصوص

أوّلها أن يتفكّر في عظم لطف الله ، وانه ما رضي أن يهمل هذه الامة في الغفلة من فوائد الحكمة ، والذكر ، والدعاء ، والعبر في مثل هذه الاحوال، من جزئيات حركاته ، وسكناته فيستشهد منه على عدم اهماله في الاعمال الشامخة ، والاحوال العالية من صلاته ، وصومه ونحوهما ، ويصدق ما ورد(1) عن رسوله(صلی الله علیه وآله وسلم): انّه ما من شيء يقربكم من الله والجنّة ، ولا يبعدكم من الله ، ويقربكم إلى النار ، الا وقد بينته لكم ، حتى الارش في الخدش، ويبالغ في تفهم اعماله السابقة المؤثرة في توفيقه بمراقبة هذا الحال ، وذلك يلزمه في جميع الأعمال ، وإن في معرفة ذلك خيراً كثيراً لكل عبد مراقب ، انفتح له هذا الباب، مثلا اذ وفق الانسان لموافقة مراد الله في جميع وجوه الحكمة ، والذكر ، والتوجه والدعاء ، والعبرة في تخليته . فانه يؤثر في التوفيق في غيره حركاته ، وسكناته مما يناسبه فيأتي به على وفق مراد الله ، وهكذا ، إلا أن يمنع منه مانع ، وهو أيضاً من أثر عمل بدني ، أو قلبي سابق أو حاضر ، وإذا راقب الانسان في هذه الآثار من أعماله، يورث ذلك

ص: 13


1- كما في خطبة حجة الوداع عند نزوله في غدير خم المشهورة.

خيرات كثيرة في تصحيح أعماله ، وإذا صح العمل، وخلص من الافات ، فله صور عالية عينيّة في البرزخ والقيامة ، غير صورته التي في هذا العالم ، كصورة شاب حسن مؤانس لصاحبه حسن مؤانس لصاحبه ، وكصورة نعم الجنة والعلم بتفصيل هذا الاجمال وتصديقه يستدعي رسم امور :

منها انّ لكلّ شيء(1) سبباً حتى ينتهي إلى مسبب الاسباب وعلّة العلل.

ومنها انّ بين كلّ علّة ومعلولها مناسبة خاصة.

ومنها أنّ لكل(2). موجود في هذا العالم من الاعيان والاحوال، وجود في العوالم العالية السابقة ، بصور يناسب ذلك العالم.

ومنها انّ لها أيضا وجود أو أثراً في البرزخ ، والقيامة من العوالم المتعقبة بوجود ، وصورة تناسبها.

ومنها ان العمالة في حفظ العوالم كلّها ، أو جلها ، وربط بعضها ببعض وأفاضة خيرات الله تعالى في ممالكه تسمّى ملائكة.

ومنها ان جميع حركات الانسان ، وسكناته الاختيارية منشأه عزمه وارادته ، وحبّه وبغضه ، واستشعار السعادة والشقاوة ، وبالجملة جميع حركات الاعضاء وسكناته ناشئة من أثر أحوال القلب، وصفاته وأحوال القلب أيضاً منشأه ، أما ما يؤثر فيه من الظاهر من أعمال الجوارح، لا سيّما الحواس أو من الباطن فالخيال، والشّهوة والغضب، والاخلاق المركبة في مزاج الانسان فإنّه إذا أدرك بحواسه شيئاً ، حصل منه أثر في القلب ، ان خيراً فنور ، وصفاء ، وان شرّاً فظلمة، وكدر، وكذا إذا هاجت الشّهوة مثلا بكثرة الأكل، وبقوّة المزاج وبقوة المزاج، فانّ لها أثراً في القلب وهذه الاثار تبقى، وتؤثر في إنتقال الخيال من شيء إلى شيء ، وبح ء، وبحسب

ص: 14


1- كل ذلك مذكور في العلم الالهي ومبرهن عليها.
2- في السلسلة النزولية كما ان تاليه في السلسلة الصعودية

إنتقالها ينتقل القلب من حال إلى حال ، والقلب دائماً في التغير ، والتأثر ممّا يرد عليه من آثار الأسباب ، المذكورة ، وأخص الاثار الحاصلة فيه هي الخواطر، واعني بالخواطر ما يعرض فيه من الاخطار ، والاذكار أمّا على سبيل التجدّد ، او التذكّر ، ومنها يحصل الشوق والنفور ، ومنها ينبعث إرادة الجلب والدفع ، فانّ النية والارادة والعزم ، إنّما يحصل بتأثير الخواطر، فمبدء الافعال الخواطر ، وهي تحرّك الرّغبة والرغبة ، تحرّك النية ، والعزم ، والعزم يحرك العضلات ، وهي تحرّك الاعضاء ، فيحصل منها الافعال ثمّ الخاطر على قسمين:

قسم يدعو إلى الشر وهو ما يضر بضرر لا ينتج خيراً أقوى منه وقسم يدعو إلى خير لا ينتج ضرراً لا خير فيه أزيد من ضرره .

فالخاطر المحمود الداعي إلى الخير يفيضه الباري تعالى بوساطة الملك ويسمّى هو الهاماً ، والّذي يدعو إلى الشرّ بوساطة الشّيطان، ويسمى هو وسوسة.

واللطف الذي يتهيأ به القلب لالهام الملك ، وقبول الهامه يسمى توفيقاً.

والّذي يتهيّاً به لوسوسة الشيطان ، وقبول وسوسته يسمّى خذلاناً. فالملك خلق خلقه الله تعالى لافاضة الخيرات ، من العلم وكشف الحق ، والوعد بالمعروف.

والشيطان خلق خلقه الله ، شأنه الوعد بالشرّ، والأمر بالفحشاء، والتخويف عند الهم بالخير وبالفقر والفحشاء.

والقلب دائماً متجاذب بينهما ، فاذا عرفت ذلك بوجدانك ، تعرف قطعاً انّ للاعمال بدنيا كان أو قلبيّاً ، تأثيراً في التوفيق والخذلان ، ولهما

ص: 15

تأثيراً في الالهام وقبوله ، والوسوسة وقبولها وقبولها ، وهما منشأ وهما منشأ الأفعال والحركات المتعقبة، فاذا واظب عبد موفق قلبه . وراقب ربه يعلم من حاله الحاضر، وتهيّؤ أسباب الخير ، وأسباب الشر نور أعماله السابقة وظلمته ويستشهد منه لما يأتي عليه ، ويبتلى به من التوفيق والخذلان في أحواله الاتية ، فيؤثر هذه المراقبة والمواظبة مع هذه المعرفة ، أن يتدارك ما سبق بالاستغفار والتوبة ، ويغير ما يأتي بالاستعاذة والدعاء

. ، وهذا هو الوجه فيما وصيت به من المبالغة في تفهم آثار الاعمال ، ومن وفق لذلك الخير يجد خير المحاسبة التي فيها ورد عن الائمة(علیهم السلام): ان ليس منا من لم يحاسب نفسه.

وثالثها: ان يتذكر بتخليته لقضاء الحاجة نقصه واحتياجه وما يشتمل عليه من الاقذار وإنّه كيف يستسلم لتحمل ما يتأذى به في دفع ما أورثه أكله وشربه من القذارات ، والعفونات ولا يتوقع من الله جل جلاله أن يبدل حكمته فيما أودع مخلوقاته استعداد ذواتها من الصفات والتأثيرات ، ولا ينتظر أن يكون ريح قاذوراته طيبة ، فكذلك ليس له أن يتوقع مثل ذلك فيما أودعه في الاعمال القبيحة من التأثيرات ، وينتظر أن يكون نتيجة ظلمة مثلا نور فإنّ أثر الظلم ليس(1) إلا الظلمة ، فلا محلّ لانتظار انتاجه النور فكيف يعد الانسان من زرع حنظلا وينتظر أن يحصل سكرا منه ، ورزقاً حسناً سفيهاً فكذلك فليحذر المسكين ، أن يكون هو هذا السفيه والاحمق.

ان قلت: فعلى ما ذكرت فأين الرّجاء ؟ وأين قوله (ص) يا مبدل السيئات(2). بأضعافها من الحسنات ؟

ص: 16


1- كما في الكافي باب الظلم عن رسول الله اتقوا الظلم من ظلمات يوم القيامة.
2- كما في الدعاء والآية الشريفة : (اولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات)

قلت: هذا الايراد أيضاً من الجهل الجهل ، فان الرّجاء(1) غير الآمال

والآمال غير الأماني ، والأماني غير الحمق هذه مراتب انتظار الخير فمن زرع حنطة في أرض صالحة ، وسقى زرعه عند اقتضائه ما يقتضيه السّقي ، وواظب تعهده بما هو معمول فيه . وانتظر من وانتظر من الله أن ينبت زرعه ، ويعطيه من هذا الزرع أجود ما يحصد من أمثال هذا الزرع ، فهذا هو الرّجاء .

ومن زرع حنطة في أرض صالحة ، وسقاه بعض سقيه ، وانتظر أن يكمل سقيه بالانتظار الذي ينتظر مثلها إلا في بعض السنين فهو مؤمل وأما من زرع مثل زرعه ولم يسقه أبداً وانتظر أمطارا تسقيه ، وكان ذلك في بلد لم ير فيه مثل هذه الامطار ، لا يعدّ انتظاره للزّرع الصّالح الطيب رجاء ولا أملاً بل أمنيّة.

ومن زرع شعيراً ولم يتعاهد زرعه أبداً ، وانتظر أن يحصد حنطة فهذا هو الحمق والسّفه.

وأما قوله(علیه السلام) يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات ، فانّه ليس من قبيل ما يجري من طرق الاسباب المتعارفة ، ولكن له أيضاً سبباً لطيفاً معنوياً ، طرف منه بيد المكلّف ، وهو أن لا يرى الخير من الاسباب ، بل ولا الشرّ ، ولا يكون عنده ضار ولا نافع إلا الله ، لا في الدنيا ولا في الآخرة فيتوسل بدعائه إلى باب فضله ، ليستجلب خيره من باب العناية المحضة ولكن ذلك إنما يجري لا محالة فيمن يعتقد هذه الصفة في الله ، وهذا الانسان المعتقد لربه هذه الكريمة ، لا يتفاوت حاله فيما يرجوه من ربه من تبديل السيئات بالحسنات في الامور الدنيوية ، والأخروية كليهما وأنت إذا أشتبه عليك انك تعتقد في ربّك هذه الصفة ، وصادق في عقيدتك ، فأمتحن نفسك الغرور في شيء من

ص: 17


1- فسره قده في ذيل كلامه.

محاويجك الدُّنيوية ، هل تترك التوسل إليه من الاسباب ؟ لا سيّما الاسباب البعيدة التي زجر الشارع عن التمسك بها وتتوكل على الله ؟ ام لا فاذا تعرف أنك لست بصادق في دعويك بان الله مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات فدع الايراد لمن يعتقد ذلك صادقاً وأن يذكر ممّا يراه من تبدّل المطاعم، والمشارب بالاقدار ، والادناس سائر التغيرات الواردة عليها . وعلى سائر حطام الدنيا التي يعشق عليها ويقتل نفسه في حسراتها ويستشعر من ذلك هوان الدُّنيا وخستها وإلى مجمل ما ذكرنا وغيرها يشير، ما في مصباح الشريعة.

قال الصادق(علیه السلام): سمّى المستراح مستراحاً لاستراحة النفوس من اثقال النجاسات، وإستفراغ الكثافات والقذر فيها، والمؤمن يعتبر عندها أنّ الخالص من حطام الدُّنيا كذلك يصير عاقبته ، فيستريح بالعدول عنها فيتركها ويفرّغ نفسه وقلبه عن شغلها ويستنكف عن جمعها واخذها استنکافه من النجاسة والغايط والقذر ، ويتفكر في نفسه المكرّمة في حال، كيف تصير ذليلة في حال، ويعلم أنّ التمسك بالقناعة والتقوى يورث له راحة الدارين فانَّ الراحة في هوان الدُّنيا والفراغ من التمتع بها، وفي إزالة النَّجاسة من الحرام والشبهة، فيغلق على نفسه باب الكبر بعد معرفته أياها، ويفرّ من الذنوب ويفتح باب التواضع، والندم، والحياء ويجتهد في اداء أوامره وإجتناب نواهيه طلباً لحسن المآب، وطيب النفس ، ويسجن، ويسجن نفسه في سجن الخوف والصبر، والكف عن الشهوات إلى أن يتصل بامان الله في دار القرار، ويذوق طعم رضاه فان المعقول ذلك، ما عداه لا شيء أقول: أوّل المراد أنّ المؤمن عند ما رأى أنه إذا تلذذ قليلاً بخالص حطام الدُّنيا، فصار عاقبته إلى ما تأذى منه ، ومن آفته، ولم يسترح إلا بدفعه وأنه صار سبباً لوقوعه، في هذه الذلة فيعلم منه أنّ

ص: 18

عاقبة لذات الدُّنيا إنّما هو ذلك فيترك التلذذ بها ذلك فيترك التلذذ بها، وجمعها إلا بقدر الضّرورة ، طلباً للاستراحة القلبية والنفسية بالفراغ من ثقل تعلّقها ، في الحلال منها ، واذى حرامها، وشبهاتها ، فيتقي عنها اتقائه من النجاسات ، ويعلم عجزه ، واضطراره بالطبع إلى ذلّة التحمّل بدفع أذى ما يضطر إليه ممّا به قوامه ، وبقائه فيترك التكبر ويتواضع ويندم على ما فرّط في ذلك من قبل ، ويستحيي عن ربه في ترك إجابة وصاياه ، فيما يتعلّق بطهارته ، وراحته ويقطع بأنّ هذه اللذات الدنية الدنيوية يجب الصبر عنها لسوء عاقبتها ، وأنّ اللّذة الخالصة الحقيقية لا توجد في حطام الدّنيا ، فاللّذة بعد الوصول بامان الله في دار القرار في طعم رضاء الله جلّ جلاله.

ورابعها : أن يتفكر في لطيف صنع الله تعالى به ، في بناء أعضائه كيف وضع في تعديل صورته ، عورته في موضع مناسب لها ، ويعرف وجوه حكمة كونها في هذا المحلّ ، من تيسّر دفع الأذى ، والتطهير مع قربه عن مستقر الأقذار وكونه تحت المعدة ، وفي استر موضع من بدنه ، كما قال الصادق في توحيد المفضّل بقوله : اعتبر يا مفضّل بعظم النّعمة على الانسان في مطعمه وتسهيل خروج الاذى ، أو ليس في خلق القدير في البناء ان يكون الخلاء في استر موضع منها ، فكذلك جعل الله تعالى المنفذ المهيا للخلا من الانسان في استر المواضع ولم يجعله بارزاً من خلفه ولا ناشراً من بين يديه ، بل هو مغيب في موضع غائض من البدن مستور محجوب يلتقي عليه الفخذان ، ويحجبه الاليتان بما عليهما من اللحم فيوار يانه إذا احتاج الانسان ، وجلس مصباً مهيّأ تلك الجلسة ، القي ذلك المتقدّر منه لانحدار النقل فتبارك من تظاهرت آلاؤه ، ولا يحصى نعماؤه فعلى العبد بعد معرفة ذلك الفضل في ستر عورته ، أن يستحيي لامحالة من ظهور سوء الصفات الرذيلة منه. التي هي عورات في الحقيقة لروحه ونفسه فيسترها عن الظهور والبروز في الاعمال والافعال.

ص: 19

وخامسها: أن يتفكر في نعمة الله في خلق أسباب التطهير من الماء ، وجه الارض ، وكثر تهما ، وبذلتهما.

وسادسها: أن يتفكّر في منة الله على هذه الامة بالسمحة السهلة ، من الشريعة فلا يكفرها بتجاوز حدود الله تعالى بالوسوسة ، والتضييق على نفسه فأنّ الوسوسة من أضر الصفات ، والامراض القلبية ويتأدب من أئمة الدين حيث لم يجوزوا لنا المبالغة في الاحتياط في هذا الباب بل زجروا عنه بالقول والفعل وإذا عرف الانسان الاداب الواردة في الاخبار بالنسبة إلى التطهير ، علم أنّ الاحتياط الذي شرعوه في سائر المقامات ، زاجروا عنه في هذه المسألة بخصوصها ، وعرف وجه الفرق ، وعلم منه میزان جزئیات احكام الشرع المقدّس وإنّها في آية درجة من الحكمة.

ولا بأس أن نذكر ما سنح بخاطرنا من وجه الفرق ، وهو انّ الطهارة والنجاسة ليست لها كسائر الاحكام اهمية لقلة تعلقها بالجهات القلبية والاحتياط فيها موافقة لطباع أهل الدنيا فلا يشكل عليهم المبالغة فيها لاجل موافقة طباعهم وأمّا الاحتياط في حقوق الغير من المال والجاه ، والامور التعبدية التي يعسر للعاقل التعبد بها ، فهي من الامور المهمّة المؤثرة في الجهات القلبية والعمل بالاحتياط فيها مخالف لطباع أهل الهوى فصار لحاظ ضرر الوسواس فيها الزم من لحاظ الاحتياط والدليل على ما ذكرناه من أن الاحتياط فيها موافق لاغلب الطباع بخلاف سائر الاحكام ما تراه بالعيان انّ الوسوسة فيها مع زجر الشارع من زيادة الاحتياط أكثر ممّا منع عنه في غيرها بين الناس بمراتب الا ترى انه لا يوجد من يوسوس في اداء قروضه فيؤدّي ثلث مرّات ولكن ترى أكثر الناس يوسوس في عدم اسباغ الماء في الوضوء وتطهير الاعضاء فيغسل أكثر من ثلثين مرّة وهذا هو الوجه في الفرق ولعل له وجوها غيره.

وسابعها: أن يتفطن في حكم الشرع في التطهير من الاخباث الظاهرية هذه الدرجة لدرجة أهمية تطهير القلب عنده بل الّذي يظهر من

ص: 20

بعض الاخبار مثل ما يأتي من رواية مصباح الشريعة في أسرار السواك ومثل ما حكوا (علیهم السلام) من مواعظ عيسى (علیه السلام) وسنشير إليهما انشاء الله أن المقصود الاهم من هذه الاحكام التنبيه والايقاظ لامر الباطن وإن كانت هي في أنفسها أيضاً مطلوبات للشّارع ولها تأثيرات أيضاً في طهارة القلب كما يجده أرباب القلوب من الفرق بين حال الحدث والطهارة في قلوبهم.

ثمّ انّ للقاضي سعيد القمي كلاماً في المتخلي لا بأس بنقله ، قال لمّا كان الله دعى العبد في صلاته إلى قربه ، ومناجاته فينبغي للعبد ان يميط عن نفسه كل اذى ، ووسخ يبعده عن ربه ، فمن ذلك تطهير جوفه بتخليته عن فضلة طعامه وشرابه التي هي رجز الشيطان ، حيث لم يكن لها في تلك المدينة منفعة ، بل هي مثيرة للفتن ، والعلل ومنشأ الآلام ، والاسقام في هذا الهيكل ويغسل موضع خروجها حتى لا يبقى أثر من آثارها ، أما بالماء الذي هو أصل الحياة إذ الموضع لاقى الميت البعيد عن تصرف الروح فيه أو الاستجمار حيث كان الحجر آلة لدفع كلّ ما يقصد تبعيده فيقوي بذلك على التطهير من رؤية الاسباب، والمسببات هو فائدة الوضوء ويصير هذا عنواناً لتطهير قلبه من جميع الادناس وللبرائة من نفسه ومن الناس لنزول سلطان القرب بلا قياس.

أقول: ولقد أفاد، واجاد شكر الله سعيه، ولكن لو بدل ما ذكره في تأويل الاستجمار بقوله أو بالتواضع بمس الارض ليستعد بالفناء عن انيته لدرك الطهارة من الله ذي الجلال ، كان أولى ، إذ الاستجمار ليس منحصراً بالاحجار بل بمطلق الأرض وما يخرج منها أيضاً على اختلاف الفتاوى. ثم ان أراد العبد ان يتم مراقبته في الفكر فليتفكر في بعض آدابها

مثل التقنّع والذكر.

ص: 21

فان التقنع للحياء من الملائكة لما رواه(1) في البحار عن المجالس ، والمكارم في وصية النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) لابي ذر قال (علیه السلام) يا أبا ذر استحي من الله تعالى ، والذي نفسي بيده لاظلّ حين اذهب الى الغائط متقنعاً بثوبي استحياء من الملكين الدين معي إلى أن قال استحي من الله حق الحياء .

وإذا تفكر الانسان في هذا الحكم ، وهذه الرواية ، وعلم حقيقة الحياء، واستحى من ربه حق الحياء، يسلم بذلك عن حياء و یوم العرض على الله ومن عذابه وقد روى عن الصادق عليه السلام ما معناه:

انّه لو علم النّاس ما في حياء العرض على الله لما سكنوا العمران واختاروا رؤوس الجبال وما اكلوا وما شربوا ، الا عن اضطرار وقد نقلته بالمعنى ، ولا يحضرني لفظ الرواية وان شئت ان تعلم لم هذا الأمر، فاعلم إنّ شدّة الحياء يكون من شدّة القبح في العمل ومن كثرة العمل ، القبيح وشدّة القبح لها أسباب وجميع أسبابها موجودة بما لا يتناهي في قبائح أعمال العبد خالقه ووجه ذلك يعلم بالقياس إلى القبائح المعمولة بين الناس، فان الانسان إذا أتى بمنكر وخلاف لرجل فله قبح ما في نظر العقلاء وعليه الحياء من الرجل بقدر ذلك القبح وإذا كان الرجل من معارفه يزيد قبح هذا الخلاف والحياء وإذا كان من الاشخاص الاجلاء يزيد درجة القبح والحياء فكلما يزيد الجلالة في الرجل يزيد القبح والحياء حتى يصل إلى أجل رجل في العالم فكيف اذا فرض ذلك مع من لا نهاية لعظمته وجلاله فان قبح كل خلاف ومنكر بالنسبة إليه في درجة غير متناهية وأيضا اذا فرض لهذا الرجل ولاية له في جهة من الجهات فانّ ذلك يزيد في قبح الخلاف وفي الحياء فهي أيضاً تزاد بزيادة

ص: 22


1- كما في الوسائل باب استحباب تغطية الرأس والتقنع عند قضاء الحاجة.

الجهات ، حتى ينتهي إلى ولاية الايجاد وأيضاً إذا فرض زيادة على ذلك كونه منعما على هذا المخالف فانه أيضاً يزيد في قبح المخالفة والحياء وذلك أيضاً يزداد حتى يصل إلى ما لا يحصى من النعم وأيضاً إذا فرض للمخالف جناية غير هذا أيضاً فانّه يزيد في جهة القبح والحياء وذلك أيضاً يزاد حتى يصل إلى جنايات لا تعد ولا تحصى وبالجملة إذا جاء يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لا يحتسبون وبدا لهم سيئات أعمالهم ووجد كل امرء ما عمل محضراً فحينئذ ينكشف حقائق الامور ويعلم ميزان الحسنات والسيئات وفرضنا إنّ هذا الربّ العطوف طالب عبداً عن عباده واجب حقه من شكر نعمه وقال : يا عبدي ألم تك عدماً محضا فأوجدتك ؟ من غير ان انتفع بوجودك وايجادك بل لمحض انتفاعك مني وجعلت كلّ مملكتي وجميع ممالكي يخدمونك في محاويجك وكمالاتك من قبل وجودك ولم يمنعني معصيتك لي في جميع نعمي التي لا تحصى بالكفران ، عن ان احفظك وجميع ما أنعمت به عليك ، من رزقك واعزازك وتربيتك وكمالاتك في جميع وجوه نعمي عليك ، وادعوك باللطف وحسن الطلب حتى ارسلت إليك في كل ليلة ملكا كريماً ،

يدعوك إلى التوبة ويعدك عني قبولها ، ويخبرك اني اجيبك إذا دعوتني ، وافرح بتوبتك اشد فرح ويدعوك إلى انسي ومناجاتي وقربي ووصالي وأنت تردّ رسولي وتطيع عدوّي ومع ذلك كله لا أمنع عنك نعمتي ورحمتي وحسن صنعي بك ولا يزيد ذلك كله لك إلا اعراضاً عني وإدباراً مني ولي إلا تلطفاً لك وانعاماً عليك واصراراً في دعوتك وحسن طلبك حتى بلغ الأمر إلى أن صار الوقت الليلة الفلانية مثلا أرسلت إليك واحداً من عيالي وفقراء عبيدي وإمائي يسألك شيئاً من نعمي العظيمة الموجودة عندك وقد اخبرتك قبل ذلك إنك أن اعطيته شيئاً فقد اقرضتني وأنا الآخذ منك والمؤدي لك احوج ما تكون عليه من الحال وان رددته رددتني فكفرت بنعمتي عليك ولم تعطه شيئا ورجع من عندك خائباً ونام جائعاً يا عبدي لأي شيء رددتني وما اقرضتني اخفت لي

ص: 23

الفقر او خفت ان اخونك واكذب لك في مواعدي عبدي لاي شيء كنت تعامل عبيدي وامائي معاملة الوفاء ولم تعاملني معاملتك فكيف معهم صرت أهون عليك من جميع مخلوقاتي وعبيدي ، وما كنت تستحي من الاعراض عن اعداءك إذا أقبلوا عليك بصورهم وان علمت عداوتهم لك في قلوبهم ولا تستحي مني وقد علمت اقبالي عليك منذ خلقتك وقبل خلقك بايجاد مواد نعمي عليك وانتاج فروعها وحفظها حتى تنتفع منها حين حاجتك فتكفر لي فاني قد خلقت لأجلك سماء وأرضاً وشمساً وقمراً وماء وتراباً وملائكة قبل خلقك كلّهم يعملون لك ويخدمونك في اصول نعمي عليك من مأكلك ومشربك وملبسك ومسكنك وغيرها مما لا يعدّ ولا يحصى من النعم وكيف لا تستحي مني في اعراضك عنّي بعد هذا الاقبال التام والانعام العام والتحبّب الكامل واللطف الفاضل فتتبغض إلي بالذنوب والمعاصي وطاعة عدوّي ، وبالجملة إذا كان يوم تبلي السرائر وكشف للانسان عن حقيقة نفسه ورأى ما كسب فيها من تفاصيل هذه الاحوال وهذه المخالفات والكفران والتبغض مع هذا الرب الرؤوف والملك الجبّار المنعم العطوف حصل له ما ذكره الامام من الحياء والخجل والافتضاح وتألم منه فوق تألّمه من النار كما اشير إلى ذلك في بعض الاخبار ان الله يقول لبعض عبيده يوم القيامة أما فعلت أما فعلت حتى يحصل له من الخجل ما يستدعي يستدعي منه جل جلاله ان يأمره إلى النار ليخلص بها من شدّة الم هذا الخجل ولا يذهب عليك ان عدم حيائنا اليوم عمّا نحن فيه من مسائة الحال وقبائح الاعمال وحياتنا يوم القيامة لوجوه لا تخفى على المتأمّل اولها جهلنا في الدنيا بمبلغ نعم الله التي لا تحصى من وجوه عديدة وثانيها جهلنا بجميع مسائينا وافعالنا القبيحة ودرجة قبحها وثالثها وهو العمدة ضعف الايمان بمقامات الدين من العلم بالله وملائكته وأنبيائه ورسله وكتبه وشرائعه وأمّا في القيامة فيكون الغيب عياناً ويكون العبد حاضراً عند ربه ويكشف له عن جزئيات نعم الله الظاهريّة والباطنيّة كلها بحيث يراها ويرى أنّها من الله ويكشف لجميع

ص: 24

جزئيات سيئاته وقبائح أعماله وسيئاته التي لا تحصى أيضاً بالكشف الالهي ويكون الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله شهوداً وعياناً ويرى عباد الله المتقين المراقبين في معاملتهم مع ربّهم باحسن المراقبات فيخجل لا محالة لنظير ما يراه كلّ واحد منا في مخازي التي عند حضور الاشهاد من أعيانها فان من كان له شوهة في وجهه أو جُرح قبيح عليه أو كان مكشوف العورة أو خلق الثياب او كان مكشوف الرأس يخجل من حضور مجلس أعيان بلده او رآه أحد وهو يأكل الخبزة أو شيئاً رديا لا يأكله الناس مثل الميتة فلا محالة يستحيى عمّن رآه في ذلك الحال وليس الحياء في اختيار الانسان لانه صفة انفعالية منشأها استشعار انكشاف صفة قبح في النفس عند الغير لا سيما إذا كان ممن يعرفه ويخلف هذا التأثر في القبائح الشّرعيّة عدم الاعتقاد بقبحها أولاً فان المغتاب لا يرى الغيبة اكلا للحم الميت وان سمعه من لسان الانبياء يفرضه امراً خياليّاً من باب الامثلة مخالفاً للعيان وهكذا لا يرى غضبه مغيراً لصورته الانسانية إلى صورة الكلب ولا يرى معاصيه شوهة لوجه روحه ثم انه لا يرى حضور ربّه عياناً بل شيئاً سمعه وغفل عنه فانّه لا يورث الحياء وأمّا إذا كان يوم القيامة يرى ربّه حاضراً والانبياء والملائكة والمؤمنين شهوداً مکرّمين على هيئات حسنة عليهم ثياب النور مقدسين من كل شين وعلى رؤوسهم تاج الكرامة قد غشيهم النور وجوههم ناضرة مستبشرة ورأى نفسه اشعث أغبر عليه ثياب خلقة ممزقة بل مقذرة وعلى بدنه جراحات منكرة يسيل منها الصديد(1) بل رأى وجهه ممسوخاً على وجه الخنازير وبدنه على صورة القردة قد غشيه ظلمة الذنوب ورأى برأى العين ان اللطيف تعالى امره أن يختار زيّ الانبياء المقربين والشّهداء والصالحين وصورة هؤلاء المكرمين وهو بنفسه اختار هذه الهيئة القبيحة والصورة المنكرة فلا محالة يخجل ويستحي ممّا أوقع نفسه فيه واختاره من الزي القبيح

ص: 25


1- الصديد: بالفتح القيح المختلط بالدم.

ويتحسّر من مخالفة ربّه الكريم الرحيم .

فاذا تمهد لك ذلك فتفكر في نفسك حضورك في يوم عظيم ومحضر عظيم لامر عظيم وظهور سلطان الله الذي لا يقدر قدره القادرون ويعجز عن درك شدّته العالمون وحزنك في مثل هذا المقام الهائل وافرض أهواله وانكاله وعتابه وخطابه وحيائه وحسرته وحرارته وفزعه وجوعه وعطشه وعرقه وخصمائه وزبانيته ثم تفكر فيما أنت عليه في هذه الدنيا في عالم التكليف ، من لطفه وعزّته وشرفه ، ونعمه وتأمل في معاملة سلطان المعاد معك في هذا المقام، وتشريفك بخلع التكاليف الجميلة وإكرامك بدعوتك لك إلى مناجاته ، ومجلس انسه وقربه وجواره ، بهذه الكيفيات الجميلة ، وتأمل في قوله : أنا افرح(1) بتوبة عبدي من رجل ضلّ مركبه وزاده في سفره، ويأس منه ونام مسلّماً نفسه للهلاك ، ثمّ استيقظ ورأى مركوبه ، وزاده حاضراً عنده.

وفي قوله الكريم في الحديث القدسي: لو علم المدبرون عني كيف انتظاري بهم ، وشوقي إلى توبتهم ، لماتوا شوقاً إليّ ولتفرّقت أوصالهم من أجل محبّتي.

وقوله: يا عيسى كم اطيل النظر ، واحسن الطلب ، والقوم لا يرجون.

وقوله: عبدي بحقك عليّ إني أحبك ، فبحقي عليك احبّني.

وقوله: بلسان الملك الداعي . أنا جليس من جالسني ، أنا ذاكر من ذكرني ، أنا غافر من ، أنا غافر من استغفرني ، أنا مطيع من أطاعني ، وأمثال ذلك ، ثمّ تأمل بماذا ، وبأي لذة ولأيّ كرامة ترضى تبديل هذه التشريفات الفاخرة ، بمخازي يوم القيامة ، وانظر إلى ما روى من ذلك.

ص: 26


1- كما في أصول الكافي في باب التوبة.

في قول مالك بعد إلحاح ألف سنة : انكم(1). ماكثون.

وقول الجبار تعالى: اخسئوا(2). ولا تكلّمون ، وانظر في قيامك الصلاتك في الدنيا ، يحفّك الملائكة من قدمك إلى عنان السماء ، وينظر عليك الجبّار بنظر اللطف ، ويجيبك فيما تقوله من قليل وكثير ، ويباهي بك ملائكة المقربين ، ويقول في كلّ ما تعمله في صلاتك من استقبالك إلى سلامك: أما ترون عبدي ، أما ترون عبدي ؟ ويعد لكلّ واحد من ذلك كرامةً لك ، وقبوله وجزاءه ورضاه ومقامك يوم العرض على الله مكبلا ، مغلولاً ازرق العين ، أسود الوجه ، مصفداً مقترناً مع شيطان، يقال لك: يا غادر ، يا فاجر ، يا مرائي أما استحيت مني ؟ ثم يصدر من سلطان جلال الله خطاب خذوه(3) فغلوه، ثم الجحيم صلّوه، ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه ، كيف يتصدع قلبك من استماع هذا الخطاب ، ولعمري انّ هذا ما لا تقوم له السموات والارض ، فكيف بك يا مسكين ، فيأخذك الزبانية ، ويجرّك على وجهك إلى نار حرُّها شديد وقعرها بعيد ، ومقامعها حديد ، وشرابها الحميم والصديد، واستمع قول الإمام البصير ، ولعمري لا ينبتك مثل خبير ، حيث يقول : كيف استطيع ناراً لو قذفت بشرارة على الأرض لأحرقت نبتها ، ولو تمسّك إنسان بقلّة لا نضجته ، وهيّج النار في قلبه ؟ وانظر يا عاقل في أحوال قوم مستقرّهم الجحيم ، وطعامهم من ضريع (4) وشرابهم الحميم ، الزبانية تقمعهم ، والهاوية تجمعهم ، أمانيهم فيها الهلاك ، وما لهم منها فكاك ، قد شدّت

ص: 27


1- الزخرف: الآية 77 ، ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك . قال: انكم ماکثون.
2- المؤمنون: الآية 108.
3- الحاقة. الآية 30.

أقدامهم بالنواصي ، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي ، ينادونهم من أكنافها ، ويصيحون من نواحيها وأطرافها ، يا مالك قد حق علينا الوعيد ، يا مالك قد أثقلنا الحديد ، يا مالك قد نضجت منا الجلود ، يا مالك اخرجنا منها ، فانّا لا نعود ، فيقول: الزبانية هيهات هيهات ، لات حين مناص ، لا خروج لكم منها ، ولا خلاص فاخسوا فيها ، ولا تكلمون ، ولو اخرجتم منها لكنتم إلى ما نهيتم عنه تعيدون ، فعند ذلك يقنطون ، وعلى ما فرطوا في جنب الله يتأسفون ، ولا ينجيهم الندم ولا يغنيهم الأنين يكون على وجوههم ، مغلوبين ، وفي انفسهم معلولين ، النار من فوقهم والنار من تحتهم، والنار عن ايمانهم ، والنار عن شمائلهم ، وهم غرقى في النار طعامهم النار ، شرابهم النار ، لباسهم النار ، مهادهم النار ، وهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران ، ولثقل السلاسل يتجلجلون في مضايقها ، ويتحطّمون بمقامعها ، ويصطرخون بين غواشيها ، أو يضطربون في حواشيها تغلي بهم النار كغلي القدور ، ويهتفون بالويل والثبور ، ومهما دعوا بالعويل يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم ، يصبر به ما في بطونهم والجلود ، ولهم مقامع من حديد ، تهشم بها جباههم ، تنفجر الصديد من أفواههم ، ويتقطع من العطش أكبادهم ، وتسيل على الخدود أحداقهم ، وتسقط من الوجنات لحومه-ا ويذاب من الظهور دسومها ، ويتعمّط من الأطراف شعورها ، وجلودها ، فكلما نضجت جلودهم بدلوها جلوداً ،غيرها ، قد عريت من اللحوم عظامهم قد اسودت وجوههم واعمت أبصارهم ، وابكمت ألسنتهم و قصمت ظهورهم ، وكسرت عظامهم وج-دع-ت آذانهم ، ومزقت جلودهم ، وغلت أيديهم إلى أعناقهم ، وجمع بين نواصيهم وأقدامهم يمشون على النار بوجوههم، ويطئون حسك الحديد بأحداقهم ، والحيات يلسعهم والعقارب تلدغهم ، وهم مع ذلك يتمنون الموت ، فلا يموتون وهذا بعض ما نص عليه الكتاب والسنة من أخبارهم وأحوالهم

ص: 28

الفصل الثالث: في الوضوء، وفيه أبواب

الباب الاول:(1) في بعض آدابها الظاهرية، وجوباً واستحباباً

يستحبّ قبله السواك والتيامن(1) في غير ما يجب أيضاً من أفعاله ومقدماته، وزيادته التنظيف في مائه، وغسل الكفّين قبل ادخالهما الاناء، من حدث النوم والبول مرّة ومن الغايط مرتين، والمضمضة ، والاستنشاق، وتثليثهما، بل تقديم المضمضة على الاستنشاق ، وفتح العين عند غسل الوجه ، والدعاء بما يأتي عند أفعاله وإمرار اليد بالغسل على اعضائه ، وتخليل شعر الوجه ، وبدئة الرجل بظاهر ذراعيه ، والمرئة بباطنهما ، والاسباغ بمد والاولى وحده الغسل بغرفتين اسباغاً ، وترك في مقدماته وترك استعمال ، الأجن(2) والمشمس وسؤر الحايض غير المأمونة ، واليهودي والنصراني ، والمشرك والناصب ، وولد الزنا على القول بطهارته ، وإلا فيجب ، وما أصابته الوزغة والحيّة والعقرب ، والقليل الذي أصابته النجاسة ولم يتغير على القول بطهارته ، وماء البئر الذي أصابه ما يوجب النزح ، ولم ينزح منه المقدر بعد ، والمستعمل في رفع الحدث الأكبر على القول بالجواز كما هو الأقوى

ص: 29


1- التيامن: هو جعل الماء على اليمين وينأتي في الفصل الآتي الاشارة الى أهمية التیامن.
2- الأجن: الماء الذي تغير لونه او طعمه او ريحه وغالب استعماله في الثالث.

كل ذلك عند الاختيار.

وأمّا تفصيل الدعاء فيه ، وفي مقدّماته ، ففي الصحيح(1) عن أميرالمؤمنين(علیه السلام) انه استدعى ماء فاكفا بيده اليمنى على اليسرى ، ثم قال: بسم الله والحمد لله الذي جعل الماء طهوراً ، ولم يجعله نجساً ثمّ استنجى، وقال: اللّهمّ حصن فرجي ، وأعفه واستر عورتي ، وحرمني على النار ، ثم تمضمض وقال: اللّهمّ لقنيّ حجّتي يوم ألقاك واطلق لساني بذكرك ، ثمّ استنشق فقال: اللهم لا تحرم علي ريح الجنّة واجعلني ممّن يشم ريحها ، وروحها وريحانها(2) ثم غسل وجهه وقال: اللهمّ بيض وجهي يوم تبيض فيه الوجوه ، ولا تسود وجهي يوم تسود فيه الوجوه ثمّ غسل يده اليمنى فقال : اللهم اعطني كتابي بيميني والخلد(3) في الجنان بيساري وحاسبني حساباً يسيراً ثمّ غسل يده اليسرى فقال : اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا تجعله مغلولة إلى عنقي ، وأعوذ بك من مقطعات النيران، ثمّ مسح رأسه فقال : اللهم غشني برحمتك وبركاتك وعفوك(4) ثم مسح رجليه فقال: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل فيه الأقدام ، واجعل سعيي فيما يرضيك عنّي يا أرحم الراحمين(5).

ص: 30


1- كما في الكافي والفقيه والتهذيب عن عبد الرحمن بن كثير.
2- وفي بعض نسخ الحديث (وطيبها) بدل (وريحانها) وفي بعض كلاهما مذكوران والريح: الرائحة والروح بفتح الراء النسيم الطيبة.
3- والمراد برات الخلد أي اعطني برات خلودي في الجنان یساری وله تفسيرات اخر ايضاً.
4- وفي بعض النسخ: ليس «بعفوك » موجوداً وفي بعض « وأظلني تحت عرشك يوم لا ظل الا ظلك ».
5- وفي بعض النسخ: « يا ذا الجلال والاكرام» بدل قوله: « يا أرحم الراحمين».

ثم قال لمحمّد ابنه راوي الحديث: يا محمد من توضأ مثل وضوئي ، وقال مثل قولي ، خلق الله عزّ وجلّ من كلّ قطرة ملكاً يقدّسه ، ويسبّحه ويكبّره ، ويكتب الله له ثواب ذلك إلى يوم القيامة.

وفي تفسير الإمام من قال في آخر وضوئه وغسله «سبحانك اللّهمّ، وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك وأشهد أنّ محمّداً عبدك ورسولك ، وأشهد أن علياً وليك ، وخليفتك بعد نبيّك ، وانّ اوليائه خلفائك ، وأوصيائه أوصياءك » تحات عنه ذنوبه كورق الشجر وخلق الله بعدد كل قطرة من وضوئه أو غسله ملكا ، يسبح الله ويقدّسه ، ويهلله ويكبره ويصلّي على النبي وآله الطيبين ، وثواب ذلك لهذا المتوضّي وروي في الفقيه: انّ زكاة الوضوء ان يقول المتوضّي: اللهمّ اني أسألك تمام الوضوء ، وتمام الصلاة ، وتمام رضوانك والجنة

ص: 31

الباب الثانی:(2) في تفصيل السواك، وفضلها وفوائدها وكيفيتها وأوقاتها وغيرها

أما فضيلتها وفوائدها فورد في ذلك أخبار كثيرة ، نشير إلى بعضها تبركاً.

منها الخبر المشهور(1) المروي عن أبي جعفر (علیه السلام) عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)

قال: قال: لولا ان اشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك ، مع كل صلاة.

ومنها ما عن الخصال مرفوعاً إلى النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) قال: في السواك اثنتي عشرة خصلة، مطهرة للفم ومرضاة للربّ ، وتبيض الأسنان وتذهب الحفر(2) ويقلّ البلغم ، ويشهي الطعام ، ويضاعف الحسنات، ويصاب به السنّة وتحضره الملائكة ، ويشدّ اللثّة ، وهو يمر(3) بطريق القرآن ، وركعتين بسواك أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من سبعين ركعة بغير سواك.

ص: 32


1- كما في الوسائل عن عبدالله بن ميمون القداح عن أبي عبدالله عليه السلام.
2- الحفر: بفتح الحاء والفاء: صفرة تعلو الاسنان ، وحفر حفراً أي بتثليث الفاء فسدت اصول اسنانه.
3- لأنّ الفم طريق القرآن، كما في الوسائل عن أبي عبدالله عن النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم): نظفوا طريق القرآن: قيل: يا رسول الله وما طريق القرآن: قال: افواهكم.

ومنها ما عن ثواب الأعمال عن أبي عبدالله(علیه السلام) قال : قال أبو جعفر(علیه السلام): لو يعلم الناس ما في السواك لأباتوه معهم في لحافهم.

وأما كيفيتها وآدابها فيستحب أن يكون بالاراك فإن لم يوجد أو شق تحصيله ، فبغيره حتى الدلك بالابهام ، والمسبحة ، وإن يكون عرضاً وان يدعو عنده بقوله : ( اللهم ارزقني حلاوة نعمتك ، وارزقني برد روحك واطلق لساني بمناجاتك ، وقربني منك مجلساً ، وارفع ذكري في الأولين اللهم يا خير من سئل ، ويا أجود من اعطى ، حوّلنا مما تكره إلى ما تحب وترضى، وإن كانت القلوب قاسية، وإن كانت الاعين جامدة، وإن كنا أولى بالعذاب، فأنت أولى بالمغفرة، اللهم احيني في عافية، وأمتني في عافية وأما أوقاته فالذي وجدته في الأخبار(1) عند كل وضوء ، وعند كلّ صلاة ، وعند النوم في الليل ، وعند القيام منه ، وقبل الخروج الى صلاة الصبح ، ويحتمل قوياً كفاية ثلاث مرّات في ليلة عن حق الوضوء والصلاة .

وأمّا عبرها يكفي فيها ما في مصباح الشريعة قال الصادق(علیه السلام) : قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) : السواك مطهرة للفم ، مرضاة للربّ ، وجعلها من السنن المؤكّدة ، وفيها منافع للظاهر والباطن ، ما لا يحصى لمن عقل فكما تزيل ما تلوث من أسنانك من مطعمك ، ومشربك ، ومأكلك بالسواك ، كذلك فأزل نجاسة ذنوبك بالتضرّع ، والخشوع والتهجد ، والاستغفار بالأسحار ، وطهّر باطنك وظاهرك من كدورات المخالفات ، وركوب المناهي كلّها خالصاً الله ، فانّ النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) أراد باستعمالها مثلاً لأهل اليقظة ، وهو ان المسواك نبات لطيف نظيف ان المسواك نبات لطيف نظيف، وغصن شجر عذب مبارك ، والأسنان خلق خلقه الله في الفم آلة للأكل واداة للمضغ ، وسبباً

ص: 33


1- كل ذلك مروي في الوسائل وغيره فلا حاجة الى نقل ما ورد فيها فليراجع.

لاشتهاء الطعام واصلاح المعدة ، وهي جوهرة صافية تتلوّث بصحبة تمضيغ الطعام ، ويتغيّر بها رائحة الفم ، ويتولد منها الفساد في الدماغ ، فإذا استاك المؤمن الفطن بالنبات اللطيف، ومسحها على الجوهرة الصافية ، وأزال عنها الفساد والتغيّر ، وعادت إلى أصلها ، كذلك خلق الله القلب طاهراً صافياً ، وجعل غذائه الذكر والفكر والهيبة ، والتعظيم وإذا شيب القلب الصافي بتغذيته بالغفلة والكدر ، صقل بمصقلة التوبة ، ونظف بماء الانابة ليعود إلى حالته الاولى ، وجوهرته الاصلية الصافية ، قال الله : ( إنّ الله يحبّ التوابين ويحبّ المتطهرين) وقال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) عليكم بالسواك فانّ النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) أمرنا باستواك ظاهر الأسنان ، وأراد بهذا المعنى المثل ، ومن أناخ تفكّره على عتبة باب العبرة في استخراج مثل هذه الامثال في الأصل والفرع ، فتح الله له عيون الحكمة ، والمزيد من فضل الله ، والله لا يضيع أجر المحسنين انتهى.

أقول: على المصدّق بالنبي وآله ان يعتني بامثال هذه كلّ الاعتناء ، ولا يهملها ولا يضيعها ، ويعامل معها معاملة الاسرار ، ويغتنم ما وصل اليه من هذه المعارف ، والتأويلات الحقة بجزئيات العبادات الواردة في الشّريعة القادسة ، ومقدماتها ويشكر الله ولرسوله المبلّغ ، ولخلفائه الحافظين بل وعلى الجملة الرّاوين لها عنهم (علیهم السلام)، فيؤدّي حق شكر هذه النعم الباطنية الفاخرة ، ويفوز بانوارها ويصل الى ثمراتها وفوائدها ، والا فمن غفل عن الجملة من النّعم اللطيفة الحقيقية ، ولم يعظمها حقّ ،عظمتمها ، فلا ينتفع منها بل ويزيده خساراً من جهة تضييعها بعد اتمام الحجّة ، واما اذا آمن بها واعتقد عظمتها ، فلابدّ ان يواظب عليها ويجد في التأمل فيها ، وفي امثالها كما اشير اليه في آخر ما في مصباح الشريعة ، واذا اشتغل بهذه المراقبة ، وغاص في التفكر فيها ربّما ينكشف له عن حقائقها ، ويرى صورها المثالية ، واثراتها الباطنية ، وانقلب له الغيب عياناً ، والرّواية دراية والعلم وجدانا ، فيكثر جدّه ،

ص: 34

واهتمامه في هذا الباب ، ويستغرق اوقاته ويصير همه هما واحداً ، فينجر ذلك الى ساير المعارف ، حتى يستغرق عقله بمعرفة الله ، واذا يكون سائس اموره الدنيوية، وشؤنه الظاهرية هو الله ، فلا يبقى له شغل بمخلوق ، وهم بغير الله ، وجد في غير لقاء الله ، فيزي-د ش-وق-ه ي-وم-اً فيوما ، حتى ينسلك في سلك المشتاقين ، وحينئذ يشتاق اليه ملائكة ربه ، فيبشره ملك الموت عند قبضه ، بقوله : ابشر يا ولي الله ، انّ الله اليك لمشتاق كما يأتي تفصيله في حديث المعراج هذا ، ومن اللوازم في عبر مسئلة السواك وامثالها من الآداب الجزئية التي ورد فيها مثل ذلك ، من التأكيد والفضل . والمثوبات الجليلة ، ان لا يستبعدها وان كان بعيداً عقله، بل عليه حينئذ ان يتفكّر في حكمها، حتى يظهر له بنور الفكرة ما يزيل عنه ظلم الشكوك ، والارتياب فانّ الله موفق للصواب، مثلا اذا لاحظ في مسئلة السواك هذه الفضيلة العظيمة ، واستبعد عقله ان يكون لمثل هذا العمل البدني الجزئي، الذي هو عبارة عن دلک الاسنان ، وتطهيرها من الفضل ان يزيد ثواب صلاته بسبعين ضعفاً، واياه ان يقبل عن عقله هذا الحكم الصادر من بادی نظره ، بل عليه ان النظر ويغور في تفهم حكم هذا الامر الجزئي ، وفوائده واذا تفكر يمعن في ذلك، واجال نظره فيه ، رأى أنه سبب لدفع فساد الدماغ الذي هو مركب عقل الانسان ، واذا اختل، اختل العقل باختلاله وفساده والادلاك للانسان اعظم من فساد عقله ، صدق قول الحكيم الصادق في الحثّ عليه، وحق الحكمة الالهية في جعل هذه المثوبات الجزيلة له واذا زاد في الفكر ورأى أنه سبب بقاء الاسنان ، اذ الاسنان له دخل عظيم في تحليل الغذاء ، الذي به قوام البدن ، الذي به حياة الانسان ، وطول عمره ، الذي به يفوز الى الدرجات العالية، يزيد في تصديقه ، وايضا اذا امعن النظر يرى أنّ ميزان حسن الاعمال ، والافعال وقبحها ليس بالكثرة والقلّة، بل باللطف والدقة، فان شئت تصديق ذلك ، فانظر في خدّام السلاطين، فانّ الجندي خدمته المقاتلة التي قد ينجر الى القتل

ص: 35

والهلاك ، واجرته شيء قليل ونذر يسير ، والوزير خدمته بعض التدبيرات والفكريات ، واجرته ووظيفته يزيد على وظيفة عشرة آلاف جندي ، فالعبرة في الخدمة بلطف العمل ، لاكثرته وشدّته ، فاذا كان الأمر على ذلك ، فلم تستبعد ان يزيد مراقبة العبد لمولاه في تطهير اسنانه ، عند صلاته في عمل سبعين ضعفاًّ فيكون هذا التضعيف في قبال لطف هذه المراقبة الدقيقة ، بان لم يرض العبد ان يكون عند حضوره في محضر ربه ، ومناجاته شيء من اعضائه، لا سيّما عضوه الذي هو طريق قرائة كلام ربّه ، متلوثا باثر شيء من الدنيا المبغوضة ، فهذه مراقبة لطيفة يستحق كل نوع من المثوبات الجزيلة ، فلا استبعاد إلا في النظرة الاولى والحمقى ، والحمدلله

ص: 36

الفصل الرابع

ورد في الاخبار ما يفهم منه(1) الترغيب في التيامن في الافعال ، والاعمال الشريفة بل الوضيعة والبداءة باليمين عند الابتلاء بكليهما ، فيعتبر العاقل عنده بان ذلك كله من شؤونات الحكمة الالهية ، وبعبارة اخرى من شؤونات ترجيح يمين الله ، وان كان كلتا يديه يمينا ، ولا يهمل المراقبة في شيء من افعاله ، واعماله ، فيبتلى بترجيح المرجوح ، ثم له ان يلتفت ان اليمين عبارة عن الطرف القوي من الطرفين كعالم الغيب بالنسبة الى الشهادة ، وعالم الارواح بالنسبة الى عالم الاجسام ، فلك ان حالاتك روحك ، وسرك وتخدمه حتى تكون من تقوى في جميع الروحانيين ، والكلمة الجامعة تجمع ما جاءت به الانبياء (صلی الله علیه وآله وسلم) من الشرائع ، انما هو ذلك ، فهم يريدون ان يعمروا عالم الغيب ويخدموه ، والنّاس باغواء الشياطين ، يريدون تعمير هذا العالم المحسوس ، فالمضادّة بينهم دائمة ، ثمّ لا يخفى عليك انه قد يرى من الأنبياء ،

ص: 37


1- كما هو المشهور: واستدل عليه بما روى عن النبي صلى الله عليه وآله إنه كان يحب التيامن في طهوره وشغله وشأنه كله ، وبما ورد في بعض الاخبار ان الله يحب ما هو الايسر والاسهل ، ولكن الروايتين مرسلتان ، والعمدة في المسئلة الشهرة العظيمة والانجبار بأدله التسامح فراجع.

والأولياء في بعض الاحيان التوجّه في تعمير هذه الدنيا ، فهو أيضاً خدمة،لعالم الغيب، وتخريب لعالم الحسّ ، ووجه ذلك ان تعمير الآخرة وتحصيل المعرفة لا يكون إلا بالحياة الدنيوية ، فتعمير هذه بقدر الضرورة البقاء الحياة، وبقاء النوع ليحصلوا به المعرفة، ويعمروا فيها الدار الآخرة لازم، ولكن لا يكون ذلك أزيد من قدر الحاجة، فتعمير أهل الحق للدنيا واشتغالهم به من باب المقدَّمة بقدر الضرورة ، وتعمير أهل الدنيا من جهة انها بنفسها مطلوبة عندهم ، ومعشوقة لهم ، يريدونها ويحبونها لنفسها ، لا بشيء سواها ، ويقدرونها بجميع ما سواها ، هذا كما قد يرى من ذكر اهل الدنيا واشتغالهم بأمر الآخرة تقية من أهل الحق ، حيث يرون حفظ سعاداتهم الدنيوية في ذلك ، فذكرهم الآخرة أنما هو

للدُّنيا.

ص: 38

الفصل الخامس

ومن العبر عند ملاحظة آداب الوضوء من الدعوات ، ان يتأدب الانسان في جميع أحواله ، وأفعاله بما علمه الشارع من ذكر الله بما يناسب هذا الحال وهذا الفعل والدعاء للحفظ والبركة ولذكر ما يناسبه من امور الآخرة والدعاء لها ، ومن هذا الباب الأدعية التي أنشأها السيد ابن طاوس قدّس سرّه لبعض الأحوال ، والأفعال ، فانه وإن لم يأخذها بالخصوص من الروايات ، الا انه أخذها مما يفهم من الروايات والعمومات.

ص: 39

الفصل السادس

اشارة

والعبرة عند رؤية الماء واستعماله ، ما في مصباح الشريعة قال الصادق إذا اردت الوضوء ، فتقدّم إلى الماء يقدمك إلى رحمة الله ، فإنّ الله قد جعل الماء مفتاح قربته ومناجاته ، ودليلاً إلى بساط خدمته ، وكما انّ رحمته تطهر ذنوب العباد ، كذلك النجاسات الظاهرة يطهرها الماء لا غیره.

قال الله تعالى: (وهو(1) الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته) وقال: أنزلنا من السماء ماءاً طهوراً )(2)، وقال: وجعلنا(3) من الماء كلّ شيء حي أفلا تعقلون) فكما احيى به كلّ شيء من نعيم الدنيا، كذلك بفضله ورحمته جعل حياة القلوب بالطاعات وتفكّر في صفاء الماء ورقته(4) وبركته وطهوريته، ولطيف امتزاجه بكلّ شيء وفي كلِّ شيء ، واستعمله في تطهير الأعضاء التي أمر الله

ص: 40


1- الاعراف: الآية 48.
2- الفرقان: الآية 48.
3- الانبياء: الآية 30.
4- وتزكيته وطهوريته خ ل.

بتطهيرها ، وأت بآدابها فرایضه وسننه ، فانّ تحت كلّ واحد منها فوائد كثيرة ، إذ استعملتها بالحرمة انفجرت لك عين فوائده عن قريب ثم عاش خلق الله كامتزاج الماء بالأشياء ، يؤدّي كلّ شيء حقه ، ولا يتغير عن معناه معتبراً لقول رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) مثل المؤمن الخاص كمثل الماء ، ولتكن صفوتك مع طاعاتك كصفوة الماء ، حين أنزله من السماء وسمّاه طهوراً، وطهّر قلبك بالتقوى، واليقين عند طهارة جوارحك بالماء وعن الرضا(علیه السلام)(1) إنما أمر بالوضوء ليكون العبد طاهراً إذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إياه ، مطيعاً له فيما أمره ، نقياً من الأدن-اس والنجاسة ، مع ما فيه من ذهاب الكسل ، وطرد النعاس ، وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبّار ، وانّما وجب الوضوء على الوجه واليدين ، والرأس والرجلين ، لأنّ العبد إذا قام بين يدي الجبار فانّما يكشف من جوارحه ويظهر ما وجب الوضوء ، وذلك انه بوجهه يسجد ويخضع وبيده يسئل ويرغب ، ويرهب ويتبتل ، وبرأسه يستقبله في رك-وع-ه وسجوده ، وبرجليه يقوم ويقعد الخ ، هذا.

ويلزم على العاقل بحكم عقله أنه إذا علم من الشريعة لزوم طهارة مكانه ، الّذي هو طرفه الا بعد ثمّ ثيابه الذي هو غلافه الأقرب ، ثمّ جلده الذي هو قشره الأدنى ، فلا يسعه أن يغفل عن تطهير لبه الذي هو ذاته وهو قلبه ، فعليه أن يجتهد في تطهيره ازيد من غيره لأنه موضع نظر ربه ، وتطهيره بالتوبة النصوح ، فانّ الباطن انّما يطهر بها ، أما سمعت(2) قول الصادق(علیه السلام) وطهّر باليقين والتقوى قلبك ، فإنّ اليقين يورث التقوى ، والتقوى لا يكون إلا بالتوبة ، وإذ قد تمهد ذلك فاعلم انّ التوبة أهم من الطهارة في الصلاة فيجب أن يعلم حقيقتها فأقول :

ص: 41


1- في العيون: وعلل الشرايع للصدوق عليه الرحمة واشار اليه في الوسائل.
2- فی حدیث مصباح الشریعة الذی مر آنفاً.

حقيقتها فهو ان يرجع العبد من غير الله إلى الله وإن شئت قلت: من مكروه الله إلى رضاه ، وإن شئت قلت : من بعده إلى قربه ، وإن شئت قلت من الظلمة إلى النور ، وإن شئت قلت: من الجهل إلى العلم ، وإن شئت قلت : من الشقاوة إلى السعادة ، وإن شئت قلت من المعصية إلى الطاعة. ويكتمل من علم وحال وعمل ، ويتحقق بكلّ منها لأنّ كلّها مطلوبة مستقلاً ، واضدادها بخلافها ، فالرجوع عنها يسمى توبة. أمّا العلم فاجماله ان يعلم ان الحال الذي فيه هو ، مورث الشقاوة او مانع من السعادة ، وتفصيله ان يعلم جميع مراتب العلوم النافعة من العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر مع استشعار الحرمان من السعادات اللازمة لها ، والكائنة فيها وأما الحال فالتحسّر بالشقاء ، وقصد أن السعادة في الماضي والحال والاستقبال والرغبة بالتدارك فى الأحوال الثلاثة.

وأمّا العمل فبالرجوع والخروج عمّا كان ، والعزم لادامته فيما يكون والرجوع اجمالا ان يحصل معنا يتدارك ب-ه م-ا تحس بسببه للعاجل والأجل وهو ان كان متعلّقاً بحق من حقوق الله ، فله تداركه بالقضاء و محو الآثار ، ومنه اذابة اللحم الناشيء من المعصية ، واذاقة النفس ألم الطاعة بقدر التذاذها بالمعصية ، وصفائها بالنور بقدر تكدّرها بظلمة المعصية ، وإن كان متعلقاً بحقوق المخلوق ، فإن امكنه الاداء فباداء حقوقهم ، ولو بالاستعفاء والاسترضاء مع محو الآثار كما مضى ، وإن لم يمكنه ذلك كما إذا خان مثلاً مؤمناً في عرضه ، فانّه لا اداء له ، وقد يكون الاستعفاء والاسترضاء مورثاً للفتن فله ان يستغفر له، ويعمل له اعمالا صالحة بقدر ما يتدارك به الخيانة ، ثم محو الآثار وان كان من قبيل الحيوانات ، فإن امكنه أن يعوّضه من

ص: 42

اضراره بنحو يقابله ثمّ محو الآثار، فله ان يتداركه احتياطاً ، وهذا كلّه يفهم من التدبّر فيما روى(1) عن أمير المؤمنين علیه السلام، أنه قال، لقائل بحضرته استغفر الله ثكلتك أمك، أتدري ما الاستغفار ؟ ان الاستغفار درجة العليين، وهو إسم واقع على ستة معانٍ:

أولها: الندم على ما مضى.

والثاني: العزم على ترك العود إليه أبدا.

والثالث: ان تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم، حتى تلقى الله أملس وليس لك تبعة.

والرابع: ان تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيعتها ، تؤدي حقها.

الخامس: ان تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت، فتذيب بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم،فينبت بينهما لحم جديد.

السادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة ، كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول: استغفر الله ، وفي مصباح الشريعة قال الصادق(علیه السلام) : التوبة حبل الله، ومدد عنايته ولا بد للعبد من مداومة التوبة على كل حال.

وكل فرقة من العباد لهم توبة .

فتوبة الأنبياء من اضطراب السر.

وتوبة الأولياء من تلوين الخطرات.

وتوبة الأصفياء من النفس.

وتوبة الخاص من الاشتغال بغير الله.

وتوبة العام من الذنوب ، ولكلّ واحد منهم معرفة ، وعلم في أصل

ص: 43


1- كما في نهج البلاغة وغيره.

توبته ومنتهى أمره ، وذلك يطول شرحه هيهنا.

فأما توبة العام فان يغسل باطنه من الذنوب بماء الحسرة، والاعتراف بجنايته دائماً ، واعتقاد الندم على ما مضى ، والخوف على ما بقى من عمره، ولا يستصغر ذنوبه ، فيحمله ذلك إلى الكسل ، ويديم البكاء ، والأسف على ما فاته من طاعة الله ، ويحبس الشهوات، ويستغيث إلى الله ليحفظه على وفاء توبته ، ويعصمه من العود على ما سلف ، ويروض نفسه في ميدان الجهاد والعبادة ، ويقضي الفوائت من الفرائض ، ويردّ المظالم ، ويعتزل قرناء السوء، ويسهر ليله ، ويظمأ نهاره، ويتفكّر دائماً في عاقبته، ويستعين بالله سائلا منه الاستقامة في سرّاءه وضرائه ، ويثبت عند المحن والبلا كيلا يسقط درجة التوابين هذا ، وقد ذكر بعض السلف(1) من العرفاء للتوبة حقائق واسراراً ولطائف الاسرار، وذكر في الأوّل ثلاثة أشياء: تعظيم الجناية، واتهام التوبة، وطلب اعذار الخليقة،والمراد من الأوّل ما أشار إليه الصادق(علیه السلام) من قوله: ولا يستصغر ذنوبه، والمراد من الثاني ما أشار إليه بقوله:ويستغيث إلى الله ليحفظه على وفاء توبته والمراد من الثالث ما اشار اليه بقوله ويرد المظالم.

وذكر في السرائر تميز التقية من العزّة ، ونسيان الجناية ، والتوبة من التوبة ، والمراد من الأوّل أن يخلص توبته من الرياء ، والمراد من

ص: 44


1- وهو العارف الكامل الخواجه عبد الله الانصاري الهروي ينتهي نسبه الى أبي أيوب الانصاري الصحابي المشهور ، صاحب التأليف والحافظ للأحاديث الكثيرة المتوفى سنة 383) او (396) او (397) ، ومن تأليفه: منازل السائرين الى الحق ، والمناجات الفارسية المشهورة ، ونقل الكلام المذكور في المتن من كتابه منازل السائرين ، الذي شرحه العارف كمال الدين ، المولى عبد الرزاق بن جمال الدين اسحاق الكاشاني ، صاحب تأويل الآيات واصطلاحات العرفاء ، وشرح نصوص الحكم وشرح منازل السائرين، وغيرها المتوفى سنة 887.

الثاني أن يشتغل بذكر الله بعد التوبة ، حتى ينسى جنايته ، وتوبته من الجناية، وهو وإن كان حالا ومقاماً سنياً ، إلا أنه لا يدخل في التوبة ، والمراد من الثالث على الظاهر التوبة من التوبة لنقصها، أو التوبة من التوبة التي يراها بحوله وقوته ، وكلاهما جيّد ، ولكن عدّ ذلك في تلو الثاني لا يخلو عن شيء(1)

وذكر في الثالث أيضاً ثلاثة:

الأول: ان تنظر بين الجناية والقضيّة ، فتعرف مراد الله إذ خلاك واتيانها فانّ الله انّما يخلي بين العبد والذنب لاحد معنيين:

أحدهما: ان تعرف عزّته في قضائه ، وبره في ستره وحلمه في امهال راكبه ، وكرمه في قبول العذر عنه ، وفضله في مغفرته أقول: التفكّر في هذه الأحوال اشتغال عن جهة الذنب ، والتوبة بالله من جهة الصفات والأفعال ، وهذا من وجوه قوله (علیه السلام) في بعض الروايات: مشغولة عن الدنيا بحمدك وثنائك ، قال: والثاني، ليقيم على العبد حجّة عدله ، فيعاقبه على ذنبه بحجته: واللطيفة الثانية ان يعلم أنّ طلب البصير الصادق سيئته ، لم يبق ل-ه حسنة بحال لأنه يصير بين مشاهدة المنّة وتطلب عيب النفس والعمل ، يعني ان البصير الصادق يرى جميع سيئاته من جهة نفسه ، وخيراته من جهة الربّ فهو أولى بسيئاته . والله أولى بحسناته فلا يبقى له حسنة ، إذا طلب حقيقة الحال.

قال: واللطيفة الثالثة ان مشاهدة العبد الحكم ، لم تدع له

ص: 45


1- أي سرائر حقيقة التوبة ، حيث قال: وسرائر حقيقة التوبة ثلاثة أشياء تميز التقيه من العزة ، ونسيان الجناية ، والتوبة من التوبة والمراد من العزة الجاه بين الناس: بأن يتميز ان توبته منبعث من التقوى والرياء والجاه بين الخلق والحشمة عندهم وان شئت توضيح كلامه وتفصيل مرامه تراجع الى الكتاب المذكور وشرحه.

استحسان حسنة ، ولا استقباح سيّئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم.

قال: الشارح في شرح هذه الفقرة : مشاهدة الحكم ان لا يرى مؤثر إلا الله ، ولا حكماً ولا أثراً ، ولا فعلا إلا له ، فيتحقق العبد عياناً معنى قوله كلّ شيء هالك إلا وجهه له الحكم أقول: يحتمل أن يكون المراد من الأولى قوله تعالى:(ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك) ومن الثاني قوله:(قل كلّ من عند الله) وكلّ ناظر إلى جهة قال: فتوبة العامة لاستكثار الطاعة، فانّه يدعو إلى ثلاثة أشياء:

إلى جحود نعمة الستر والامهال، وروية الحق على الله تعالى والاستغناء الذي هو عين الجبروت والتوتب على الله، أي العامة ترى التوبة من حسناته ، فيقدم عليها من جهة تحصيلها ، ولا ينظر إلى جهة جناياته ، ونعمة ستر الله عليه وامهاله ، حتى يتوب ، وأيضاً اذا نظر اليها من جهة انها من حسناته یری له المنّة والحق على الله ، فيستغني عن الله من جهه قبولها، وعفو آثار الجنايات، قال: توبة الاوساط من استقلال المعصية ، وهو عين الجرئة والمبارزة ومحض التدين بالحمية والاسترسال للقطيعة ، والمراد من الأوساط الذين يعتقدون من بعض ما رأوا من الحالات ، بل وبعض ما سمعوا من الآيات والروايات ، ولم يصلوا إلى المراد منها: أنّهم مجبورون في أفعالهم ، وان سيئاتهم بحكم الله وقضائه وقدره، وانّ ذلك يؤثر في عدم استحقاق المذمة لأنفسهم من جهة هذه الأفعال القبيحة ، واغتروا ببعض أوائل المعارف، ووقعوا في خطر عظيم أعظم من جهل العامة ، وهو عين الجرءة والمبارزة ، وعلّة وقوعهم في هذا الجهل حمية أنفسهم من قبول نسبة القبيح ، وذلّ الاعتراف ، وهذا الحال استرسال للقطيعة.

ص: 46

قال : وتوبة الخاصّة من تضييع الوقت ، فانه يدعو إلى درك النقيصة ويطفي نور المراقبة ، ويكدّر عين الصحبة ، أي حال التوبة للخواص من جهة دركهم نقيصة الذنب ، يكدر لهم صفاء المراقبة التي يكون للمقربين ، قال : ولا يتم التوبة إلا بالانتهاء إلى التوبة مما دون الحق ، ثمّ رؤية علّة تلك التوبة من رؤية تلك العلة أي توبة أهل القرب يكون من كلّ ما يشغله عن الحق ، حتى رؤية أنّه تاب عن الاشتغال بغير الحق ، فيكمل لذة الوصال عند نسيان الغير والغفلة عن النسيان.

أقول : وللمقرّبين أيضاً درجات بعضها فوق بعض ، فيشبه أن يكون هذا ، مقام توبة الخواص في كلام الإمام الصادق (ع) في مصباح الشريعة ، حيث قال : وتوبة الخاص من الاشتغال بغير الله ، ويمكن تطبيقه بتوبة الأولياء أيضاً في كلامه، وإذ قد عرفت بعض ما فيها من الأسرار ، فاعلم أنّه لا يخلو أحد من الاحتياج إلى التوبة، حتى الأنبياء ، والشاهد على ذلك ما يرى من اختلاف أحوالهم ، فان وجود الاختلاف ، دليل على أنّ لهم أيضاً أحوالا بعضها فوق بعض ، فيكون الرجوع عن الأدنى توبة ، وقد سمعت ما في مصباح الشريعة: أن توبة الأنبياء من اضطراب السرّ ، وكان(1) رسول الله يستغفر كل يوم مائة مرّة من غير ذنب ، على ما في الرواية، وأنت إذا تأملت في معنى التوبة ، وكيفية خلق العباد وترقيهم ، علمت وجه احتياج الكلّ إلى التوبة فانّها عبارة عن الرجوع من حال ادنى ألى أعلا منه ، وليس في الوجود إلا الذات الغني بالذات، موجود وجد كاملا بحيث لا يحتاج إلى الترقي والتكميل ، وذلك يصحح معنى الحاجة إلى التوبة في الكلّ، وأما

ص: 47


1- ففي الكافي(باب الاستغفار من الذنب) عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتوب الى الله عز وجل في كل يوم سبعين مرة الحديث. وفيه «في باب نادر» في رواية: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوب الى الله، ويستغفر في كل يوم وليلة مائة مرة .

الأغلب فلأنّ العقل الذي به كمال الانسان ، وطاعة الرحمن ، لا يكمل في المخلوق إلا بعد كمال الشهوة والغضب ، وسائر الأخلاق المذمومة والعلم لا يعمل إلا بعد الجهل ، ومعلوم أنّ الجهل وسائر الصفات المذمومة أسباب المعصية ، بل هي من المعصية يجب التوبة عنها ، فإن العقل يظهر مباديه بعد سبع سنين ، وأصله عند مراهقة البلوغ ، والشهوة موجودة قبل التولّد ، والتوبة عبارة عن قبول حكم العقل في الزجر عن التوغل في الشهوات ، هذا وجه حاجة الكلّ إلى التوبة ، وأمّا وجه دوام الحاجة إليها ، فهو انّ البشر لا يخلو من معصية بجوارحه ، او الهم بالمعصية والخواطر ، والوساوس المذهلة عن ذكر الله ، أو غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته، وبآثاره بحسب الطاقة ، وكلّ ذلك نقص ولها اسباب، وتركها والإشتغال بأضدادها رجوع عن النقص إلى الكمال ،

كل بحسبه كما سمعت ان الأنبياء انما يعرض عليهم اضطراب السرّ فيتوبون عنه ، ، ثم ان قبول التوبة الصادقة من كلّ أحد ، حتى المرتد بقسميه(1) مقتضى الأدلة العقليّة ، والنقلية ، وإنّما الكلام أنّها قد يكون الذنب بحيث يعسر منه التوبة ، بل قد يعذر كما إذا انطبقت ظلمة المعاصي في القلب ، أو فعل فعلا لا يمكن تداركه كما إذا أضلَّ المسلمين ، فكفروا باضلاله ، وماتوا على الكفر ، نعوذ بالله وأما إذا امكنه التوبة بشرائطها ، فلا خلف في القبول، هذا .

وروي عن أمير المؤمنين(علیه السلام)(2): أنّه قال الذنوب ثلاثة: فذنب مغفور ، وذنب غير مغفور ، وذنب يرجى لصاحبه ، ويخاف عليه ، قيل :

ص: 48


1- من الفطري والملي.
2- كما في نهج البلاغة ورواه في الكافي عن علي بن ابراهيم عن عبد الرحمن بن حماد عن بعض اصحابه رفعه قال : صعد أمير المؤمنين بالكونة المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال: ايها الناس 51 باختلاف في بعض فقراته ، وسقط بعض جملاته ولم يذكر الذنب الثالث الذي يرجى لصاحبه ، ويخاف عليه فراجع.

يا أمير المؤمنين(علیه السلام) فبينها لنا ، قال : نعم أمّا الذنب المغفور ، فعبد عاقبه الله على ذنبه في الدنيا والله تعالى احلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين ، وأما الذنب الذي لايغفره الله ، فظلم العباد بعضهم لبعض ، إنّ الله اذا برز لخلقه ، أقسم قسماً على نفسه ، فقال : وعزتي وجلالي لايجوز في ظلم ظالم ، ولو كفّاً بكفّ ، ولا مسحة بكف، ولا نطحة ما بين القرناء والجماء فيقتص للعباد بعضهم من بعض حتى لا يبقى لأحد مظلمة ، ثمّ يبعثهم الله للحساب ، وأنت إذا تأملت في الخبر الشريف علمت أن مراده (علیه السلام) من غير المغفور ما لا يتدارك برد المظالم، أو الاسترضاء ، وهذا الذي في الخبر ابقى الظلم بحاله من الآخر ومن المرجوّ أما ما يكون التوبة فيه ناقصة من جهة محو آثاره أو الحكم لله تعالى بما وعده لعباده فهو سوء أدب لأنّه الزام بالفضل ، وأما عدم الحكم له بنفي القبيح عنه ، فهو ايضاً سوء أدب ، وان احكم في الأوّل وترجى في الثاني كان حسناً ثمّ انّ الذنب اما كبيرة أو صغيرة ، واجتناب الكبائر ، والصلوات الخمس تكفّر الصغائر، كما ورد في الكتاب والسنّة قال الله تعالى: (ان تَجتَنِبوا كبائر ما تنهون عنه ، نُكَفّر عَنكم سيّئاتِكم)(1) وقال: ﴿والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش ، إلا اللمم)(2) قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): « الصلوات الخمس ، الجمعة إلى الجمعة تكفّر ما بينهن لمن اجتنب الكبائر » ، والروايات وكذلك الأقوال تختلف في تحديد الكبيرة والصغيرة ، عن الصادق عليه السلام في تفسير الآية الأولى قال : « الكبيرة ما أوجب(3) الله عليها النار وعنه أنه سئل(4) عن الكبائر، فقال: هنّ في كتاب علي سبع : الكفر بالله ، وقتل النفس

ص: 49


1- النساء: الآية 31.
2- الشورى: الآية 37.
3- الكافي باب الكبائر عن الحلبي عن الصادق عليه السلام.
4- في الكافي ايضاً باب الكبائر عن عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السلام.

وعقوق الوالدين ، وأكل الربا بعد البينة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ، والتعرب بعد الهجرة ، قيل : فأكل درهم من مال اليتيم أكبر أم ترك الصلاة ؟ قال : ترك الصلاة ، قيل : فما عددت ترك الصلاة في الكبائر ؟ فقال : أيّ شيء أوّل ما قلت لك ؟ قال : الكفر ، قال : فان تارك الصلاة كافر أقول : الاخبار مختلفة جداً وأنا اعد كلّما ذكر في الاخبار من الكبيرة فيعلم وجه الاحتياط ، ثم اذكر ما يقوى في نظري . وقد مضى منها في الرّواية المزبورة سبع ، وذكر في(1) غيرها اليأس من روح الله ، والامن من مكر الله ، وقذف المحصنة ، والسِّحر ، والزنا ، واليمين(2) الغموس ، والغلول(3)، ومنع الزكاة المفروضة ، وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة ، وترك الصلاة متعمداً أو شيء مما فرض الله ، ونقض العهد ، وقطيعة الرحم والسرقة ، وشرب الخمر ، وأكل الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله ، من غير ضرورة ، والسحت ، والميسر ، والقمار ، والبخس في المكيال والميزان ، واللواط ، والقنوط من رحمة الله ، ومعونة الظالمين ، والرّكون اليهم وحبس الحقوق من غير عسر ، والكذب ، والكبر، والاسراف ، والتبذير ، والخيانة ، والاستخفاف بالحج ، والمحاربة لأولياء الله ، والاشتغال بالملاهي والاصرار على الذنوب ، وانكار حق اهل البيت ، وكل ما اوجب الله عليه النار.

أقول: أقل الروايات انها خمس ، وهي الشرك بالله ، وعقوق

ص: 50


1- هی روایة عبدالعظیم عبدالله الحسنی المذکورة فی الکافی فراجع.
2- الیمین الغموس: هی التی تغمس صاحبها فی الاثم، ثم فی النّار والمراد منها الیمین الکاذبة.
3- الغلول: الغل والغلل العطش اوشدته والمراد منه هنا هو الأكل من بيت المال قبل القسمة كما في الآية الشريفة : ومن يظل يأت بماغل يوم القيامة . وورد في تفسيرها اخبار كثيرة بهذا المضمون.

الوالدين واكل الرباء بعد البينة ، والفرار من الزحف ، والتعرب بعد الهجرة ، وهذه الرواية صحيحة ، وفيها بعض تصريح على ان السرقة ، والزنا ليس منها ، وفي بعضها ان الملاهي التي تصدّ عن ذكر الله مكروهة ، كالغنا وضرب الاوتار أقول هيهنا امران:

الأول: رفع الاختلاف من الاخبار، وبيانه ان من المعلوم بانّ الكبير والصغير أمران اضافيان فالزنا بالنسبة الى القبلة واللمس كبيرة قطعاً ، والقبلة واللمس بالنسبة الى النظر كبيرة ، وهكذا فلعل الاخبار كل يحد الكبيرة من جهة حكم خاص ، مثلاً بعضها ناظر الى الكبيرة التي لا يكفرها الصلاة ، وبعضها ناظر إلى الكبيرة التي يكفر اجتنابها الصغائر وبعضها ناظر إلى الكبيرة التي ناقض العدالة ، وهذه ايضا اختلافها باختلاف العدالة المشروطة مثلا في الشهادات ، وغيرها من الاحكام.

والثاني: فقه المسألة ، وبيانه ان الذي صرّح باشتراط اجتنابها في قبول الشهادات ليست مطلقة ، بل اجتناب الكبيرة التي أوجب الله عليها النار ، هذا بحسب الواقع ، واما بحسب الظاهر فالاخبار متظافرة في الاكتفاء بحسن الظاهر ، إذا لم يكن متجاهراً بالفسق ، والتزم الجماعة وعرف بين الناس بالستر والعفاف ، هذا في الشهادات والولايات ، غير ولاية الفتوى.

وأمّا صلاة الجماعة فليس في اخبارها ما يشرط فيه اجتناب الكبائر ، بل ولا العدالة ، بل وقع النهي عن الصلاة بمرتكبي بعض الكبائر ، مثل قوله لا تصل خلف شارب الخمر ، وآكل لحم الخنزير ومن يقترف الذُّنوب بل الأقوى جواز الصلاة خلف مجهول الحال من الشيعة ، فليس لتعين خصوص الكبيرة اهميّة للعمل، بل الحكمة الالهية مع فضله لعلّهما يقتضيان خفائها لامرين :

ص: 51

أحدهما: أن يجتنب المنقول إليه من جميع الذنوب من جهة الاحتياط ، والآخر أن لا يكون المقترف مقترفاً عالما ، فيخفّ عقابه بجهله ، وهذا المقدار من الكلام في تحقيق الكبيرة كاف ، والأهم بمرادنا والانسب بكتابنا هو تحقيق أن الصغيرة إذا اعتقدها المقترف صغيرة ، وكان في نظره هينا كبرت بقدر اعتقاده صغرها ، كما انّ الكبيرة كلما ازداد كبرها في نظر العارف ، صغرت عند الله ، وأيضاً حكم الصغر في الصغيرة من باب الفضل ، وأما في الواقع بحكم العقل فكلّ مخالفة لامر الله كبيرة ، يجب على مرتكبها النار باستحقاق ، بل هذا حكم كل ما منع منه الشارع ، ولو بالكراهة الاصطلاحية بل وهذا حكم كل مباح يصير سبباً للغفلة عن ذكر الله ، بل الاشتغال بغير الله ولو مع عدم نسيان الذكر ، فالعقل بعد تصور حضور الله ، وعظمته ولطفه وطلبه العبد الى أنسه وذكره ، يعد كلّ ما يخالف هذا الطلب ولو بعدم الاهتمام كبيرة.

وبعبارة اخرى الادبار على الملك المنعم في حضوره ، والاشتغال بعدوّه عند العقل كبيرة ، ولكنّ الله جل كرمه ، وعظم فضله بفضله لم يجعل للصغيرة ولا المكروهات الاصطلاحية ، ولا المباحات عقاباً . وبملاحظة هذا الفضل أيضاً يشتدّ حكم العقل بقبح هذه المراتب كلّها وبالجملة كلّ المخالفات كبيرة في نظر العقل ، ولكن الفضل الالهي انما صغر بعضها ولكن ذلك فيما إذا لم يعدها العبد صغيراً .

وقد ورد عن الصادق (علیه السلام)(1) أنه قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) اتقوا المحقرات من الذنوب ، فانّها لا تغفر. قيل: وما المحقرات ؟ قال : الرّجل يذنب الذنب ، فيقول طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك ، وقال : إن الله يحب العبد ان يطلب الله في الجرم العظيم ، ويبغض العبد ان يستخف بالجرم اليسير وبالجملة ما يكبر به الصغيرة الاصرار ، وقد(2)

ص: 52


1- اصول الكافي باب استصغار الذنوب عن زيد الشحام.
2- في الكافي باب الاصرار على الذنب عن عبد الله بن سنان.

ورد لا صغيرة مع الاصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار ، والإصرار كما عن أهل اللغة الادامة للشيء ، ولكن الاستغفار يبطل حكم السابق ، فيكون الارتكاب ثانيا مع الاستغفار له ايضاً ، وعدم العزم الذي ينافيه الاستغفار ، بحكم الواحد الغير المتكرّر .

عن الباقر (علیه السلام)(1) في قوله تعالى : ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) قال الاصرار ان يذنب الذنب ، فلا يستغفر . ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الاصرار.

أقول: يحتمل أن يكون المراد من الاستغفار التوبة ، كما هو المراد في بعض الاخبار، فيكون ولا يحدث نفسه بتوبة من عطف التفسير ، ويمكن أن يكون بمعنى الدعاء بالمغفرة للذنب ، فيتحقق الاصرار حينئذ بشرطين:

أحدهما عدم الاستغفار ، والثاني التوبة ، فإذا وجد احدهما لا يكون العبد مصرّاً ، وليته كان كذلك ، ولكن جماعة افتوا بعدم كفاية الاستغفار ، وشرطوا العزم على الترك ، وان خالف عزمه الفعل ثانياً ولكن من الاستغفار والعزم على الترك يفاد من جملتها السرور بالصغيرة ، واعتداد التمكن من ذلك نعمة ، لكن مع العلم بكونه ذنباً مكروهاً ولكن إذا جهل كونه معصية ولم يكن في جهله مقصرا ، وسرّ من اجل انّه يحسبه حسنة ، ومقربة من رضا الله ، فلا أظنّ أن يكون هذا السّرور سبباً لكونها صغيرة ، بل يمكن ان لا يكون محرماً بل ويمكن في بعض الموارد ان يكون راجحاً في حقه ، ومثاباً بسروره ، وبالجملة الفرح والسّرور بالتمكن من المعصية الصغيرة ، يكبرها ، بل اللازم على المؤمن ان يتحسّر بذنوبه ، ويتأسف عليها ، ويكون في مصيبة من ابتلائه بما

ص: 53


1- ايضاً الكافي - باب الاصرار على الذنب ولكن لم يسنده الى النبي صلى الله علیه وآله وسلم.

يوجب بعده من رضاء الله جل جلاله ، ومن جملتها الاظهار لان فيه كفران لنعمة ستره تعالى ، وقد يكون تحريكاً لرغبة الغير ، بل قد يكون تهيّة لاسباب السرور ، ويتفاحش الامر بل مجرد الاظهار يلازم هتك النواميس الالهية ، وان لم يكن فيه شيء مما ذكر ، وعن(1) الرّضا (علیه السلام) ، قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): المستتر بالحسنة تعدل سبعين حسنة ، والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له.

نعم هنا شيء ، وهو انه قد يكون الاظهار في بعض الموارد معظما على النفس ، ولكن مع تأسف وتحسّر ، وتعظيم للامر ، فلا يكون حكمه حكم سابقه ، ولكن ذلك ايضا امر ذوقي لم يرد به تعبّد ، بل الوارد لنا بخلافه ، فالأحوط تركه او اذا كان العبد في مقام الاستعلاج ، والاستفتاء من عالم ، ويرى استكماله في ذلك ، أظنّ أن لا يكون ذلك مرجوحاً كما قد اتفق امثال ذلك لبعض المؤمنين في الاستعلاج من الائمة ، ومن بعض العلماء ، ولم يتعرّضوا لنهيهم ، ولا يذهب عليك ان هذا المرجوح الاظهار انّما هو مختص باظهار المعاصي بخصوصها ، وبعينها واما اظهار التقصير والذنوب بالعموم باعظام واظهار تأسف وهو غير مرجوح بل هو من دأب الاكابر حيث يظهرون من انفسهم انهم من أهل الجنايات والتقصيرات ، لاسيّما في المكاتيب ، بحيث صار المذنب والعاصي، والجاني من القاب المؤمن عند ذكر نفسه في الكتب والرسائل، هذا ايضا بالنسبة إلى الناس، وأما بالنسبة إلى الخالق باظهار التأسف والتحسّر ، والاحتراق والاسترحام، والاستغفار وذكر نعمة الامهال ، والستر والمغفرة ، بل الاقرار والاعتراف بالذنب ، وقلّة الحياء فهو من اعظم وجوه المناجات ، وله خاصية عظيمة في قبول التوبة ، وتنوير

ص: 54


1- ايضاً الكافي عن العباس مولى الرضا عليه السلام وعن اليسع بن حمزة عنه نفسه عليه السلام .

القلب بل الكمّل من الاولياء يعدون حسناتهم سيّئات بوجه من المعاريض يخرجه من الكذب الصريح ، بل كان دأب جماعة من الاعاظم التعبير من عباداته ، واعماله ومجاهداته وزراً ، والوجه في ذلك ان عظمة الامر قد يجعل المحتمل محققاً في الانظار ، بل قد يجعل غير المحقق كالمحقق ، ومعروف انّ الّذي لدغته الحيّة يخاف من الخبال ، مع علمه بانّ الحبل لا يلدغ ولعلّ من هذا الباب ما ورد في الاخبار انّ من تمام الاخلاق الحسنة أن يقطع الانسان ان كلّ أحد أتقى منه ، انا لله وانا اليه راجعون من مصيبة الغفلة ، والعجب والدّلال الذي يشهد عليه جميع احوالنا وحالاتنا ، وحركاتنا وسكناتنا ، وإلى الله الكريم المشتكى من شرور انفسنا ، وغرورها بربنا الكريم ، فانّه قد غرنا بالله الغرور ، فالمستعان من الربّ الغفور ، ومن جملتها أن يكون المذنب ممن يقتدى به كالعلماء ، وبعض المعروفين بالقدس والتقوى ، فان الصغيرة منه منهم قد يصير سبباً لكبائر الذنوب من العوام ، وذلك ما يعمله من السيئات بحيث يراه الناس ، وان كان العلم بنفسه يكبر معه قبح المخالفة من بعض الوجوه ، ولكن المراد هنا ما يكبر من جهة اقتداء العوام به ، فانّ للعالم وظيفتين:

الاولى: ترك الذنب، والثانية اخفائه إذا ابتلى هذا ومن المؤثر في محو آثار الذنوب اتباعها بالحسنات، لاسيّما الخوف والبكاء والصدقات ، وآثر من الكل التحابّ في الله لا سيّما محبة آل محمد ، ويتبعه محبّة شيعتهم ومواليهم.

والمؤمن أنّما يغفره الله ، وان لم يتشبث بهذه الاسباب وغيرها ، كان يبتليه بالمصائب ، والبلايا في نفسه واهله وماله وجاهه ، فيكون ذلك كفارة لذنوبه كما في بعض الاحاديث القدسية اهل معصيتي لم اقنطهم من رحمتي فان ماتوا فانا حبيبهم وان مرضوا فانا طبيبهم وان لم يتوبوا فبالمصائب والبلايا اطهرهم ومن هذا الباب ورد ان كل ما يصيبه الانسان

ص: 55

حتّى ضرب العرق والصداع والنكبة فهو من ذنوبه ، فالبلايا كلها رحمة للمؤمن ، فله ان يستقبلها بقبول حسن ، كما ورد انه قال الله لبعض(1) انبیائه اذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنا مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته فإذا البلايا والمصائب الدنيوية من نعم الله تعالى للصالحين ، كما ان النعم الدنيوية عقوبة من وجه هذا

وأمّا علاج الاصرار والدواء لتحصيل التوبة ، فهو بتحصيل اسبابها وهي العلم والذكر والفكر والمجاهدة بالعمل أما العلم فبأن يعلم أنّ الاخرة خير وابقى ، وانّ الذنوب موجبة للشقاوة العظيمة في الدنيا والآخرة ، والتوبة منجية منها ، ومورثة لمحبّة الله ، وموصلة الى جوار الله ولقائه ، وإن لذة اللقاء هي التي التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولها من اللذة والبهجة والسرور والحبور ، ثم لا ينفع العلم مع حتى يتذكر وعلامة الفكر النافع أن يؤثر فكره في تغيّر حاله ، كتأثير فكره فيما يتفكّر فيه من عواقب السوء ، لتفريطه في المنافع العاجلة مثلا إذا سبّ أحداً من المؤمنين فله ان يعلم ان سبه يورث في الآخرة نكالا ، وعذاباً لا يقاس بشيء من نكال الدنيا ، وهذا العلم لا ينفع مع الغفلة عنه حتى يكون ذكراً له ، والذكر لا يكثر نفعه حتى يديم فكره فيما يتذكره من سوء عاقبته ، حتى يؤثر في تغيير حاله ، مثل ما حاله إذا سبّ ملكا مثلا في غيبته وسمع انه وصله سبه فدعاه إلى محضر التنكيل ، فكيف يكون حال هذا المسكين عند الفكر فيما يحتمل أن يفعل به السلطان في مجازاته ، وعقابه وكيف ينغص عيشه ويتحسّر بتفريطه، ويذمّ على ما ارتكبه ، وكيف يشتد حزنه وخوفه ، وكيف يتصوّر حاله في محضر الملك ، وأنّه بأي عقاب يجازيه وبأية مثلة يمثله ، وكيف يكون حاله إذا أمر الجلاوزة لأخذه ، وامير الغضب لقطع لسانه مثلا ،

ص: 56


1- في كتاب ارشاد القلوب للشيخ الزاهد ابي محمد الديلمي ، ففيما أوحا الله الى موسى عليه السلام اه- .

وبالجملة لايدع شيئاً من العقوبات إلا ويتذكر وقوع نكالها عليه من السلطان ، ويتألّم به حتى انه شوهد في بعض الأوقات انه تلف الجاني المتوقع للعقوبة من كثرة خوفه ، واختل عقله من شدّة حزنه ، والفكر الكامل الصحيح قد يؤثر في القلب بما لا يؤثره وقوع ما يتفكر فيه.

وبالجملة إذا تفكر الإنسان في عظمة أمر الآخرة من الحسنة والنار وتصوّر لذات نعم الجنّة كلّها بأنواعها وأفرادها وتصوّر بهجتها وسرورها وكرامتها وتصوّر حسرة حرمانها ثمّ تصوّر ألم عذاب الآخرة بأنواعها وافرادها ، وتصوّر وقوعها على نفسه ، نظير ما يتفكر في اللذات الدنيوية ، والمولمات الدنيوية المتوقعتين ، يؤثر ذلك لا محالة أثراً يصحح توبته لا محالة والأنفع بحال المبتدى الفكر في الموت ، وشدته وسكراته ، وفزعه وحرارته وألمه ، وحسرته وفراق جميع محابه ومألوفاته ووحشة القبر وظلمته وغربته وكربته ودوده وبلاه.

وفي ذكر هول الموت والقبر والبلا(1) عن اللهو واللذات للمرء زاجر وقد رأيت بعض المستمعين حين مذاكرتي لأحوال الموت والموتى ، اختل دماغه عن الفكر في ذلك في أيام قليلة، حتى احتجت لعلاجه مما وقع به فمنعته من حضور مجلس المذاكرة ، والفكر في الموت ، وأمرته في الفكر في رحمة الله ووسعتها، وفي اخبار موت الصالحين ولذة ما يجد أولياء الله بالموت من الشوق إلى لقاء الله وكراماته حتى أفاق مما كان. وبالجملة لو تفكر بهذا الترتيب في عواقب احواله ، وافعاله فأقل ما يؤثر فيه انقلاعه عن الذنوب ، وانّما عدم التأثير في الأغلب من جهة ان الناس يتغافلون عن ذكر الموت ، والقبر والبلا وان عرضهم عارض

ص: 57


1- البلا: بفتح الباء ناقص يائي بمعنى الرت والخلق ، ومن الناقص الواوي بمعنى الامتحان والابتلاء ، والمراد في المقام هو الاول.

فذكرهم الموت ، يشتغلون عن ذكره فراراً من تنغص العيش ولكنّ الأكابر كانوا يتعاهدون قبورهم وينامون فيها ويخاطبون أنفسهم بما يخاطب به الأشقياء ، ليتأثروا بذلك أثراً يمنعهم عن الوقوع فيه بغير عدة ، وكان دأب بعضهم أنّه أعد لنفسه قبراً يأتيه وينام فيه ، ثم يقول ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحاً ، ثم يخاطب نفسه ، ويقول: يا فلان قم ارجعك ربّك ، فاعمل صالحاً من قبل أن يأتيك يوم تؤمل فيه الرجوع ، ولا تظفر به ثمّ يبالغ ويجتهد في العبادة ، وبلغني ان العلامة الاشرفي المازندراني ، كان يحرق ناراً كثيرة ، ويأمر من يشدّه بحبل ، ويجره إلى النار ويذيق نفسه بعض ألمها ، وحكى عمن رأى في البيت المقدس من العبّاد انّهم كانوا يمرون بالسلاسل من اكتافهم ، ويخرجونها من ظهرهم ، ويشدُّونها باسطوانة البيت ويشتغلون العبادة.

وبالجملة يلزم في تأثير الفكر المبالغة فيه ، مثلا يفرض في نفسه جميع سكرات الموت ، والقبر والبلاء ، وينظر إلى طراوة صورته في حاله ، ثم ينظر بعين الخيال في قبره كيف يوقعه القبر في قبح المنظر يسيل احداقه ويتخلخل لحمه ويبلى شعره فانّه يبصر من قبح المنية منظراً يهتال المرء منه ويرتاع الناظر ، ثم يتذكر مفاجات الموت ، وان استقله بعد ذكر مفاجات الامراض وتعاقبه للموت ، فكم من نفس بات حياً صحيحاً واصبح ميتاً ، وكم من نفس بات صحيحاً واصبح بعد صحته مریضاً، وبعد سلامته نقيصاً ، يعالج كرباً ويقاس تعباً في حشرجة السياق ، وتتابع الفراق وتردد الانين ، والذهول عن البنات والبنين والمرء قد اشتمل عليه شغل شاغل ، وهو هائل قد اعتقل منه اللّسان ، وتردد منه البيان وذاق وضعاً مكروهاً وفارق الدنيا مسلوباً لا يملكون له نفعاً ، ولا لما حلّ به دفعا، وليعلم الانسان انّ الناس سيارة قد حدى بهم الحادي، وحدى بخراب الدنيا حاد، وناداهم للموت مناد.

الا وانّ الدنيا غدارة مكارة ، تنكح في كل يوم بعلا ، وتقتل في

ص: 58

كلّ ليلة اهلا، وتفرق في كلّ ساعة شملا، فكم من منافس فيها، وراكن إليها من الامم السابقة قد قذفتهم في الهاوية ودمرتهم تدميراً، وتبرتهم تتبيراً، واصلتهم سعيراً أين من جمع فأوعى، وشدّ فاوكي ومنع فاکدی، واین(1) من اسكر الاساكر وعسكر العساكر، وركب المنابر، این من بنى الدور ، وشرف القصور وجمهر الالوف، قد تداولتهم أياماً.

وابتلعتهم اعواما ، وناهيك للانقلاع عن المعاصي التفكر في اقسام الموت للصّالحين والطالحين ، هذا وان وفق عبد للتوبة ، فله حينئذ ان يأخذ كتاباً لنفسه ، ويكتب فيه كلما توجّه إليه من حقوق الله من عباداته وسائر فرائضه من الافعال ، والتروك وكلّما ابتلى به من حقوق الناس في اموالهم ، واعراضهم وحقوقهم اجمالا ، ثم يكتب فصولا لاعضائه من سمعه وبصره ولسانه ومذاقه ومش-ام-ه ، ويده ورجله وبطنه، وجميع جوارحه . وقلبه ثمّ ينظر في أقسام الطاعات من صلاته ، وزكاته وخمسه وصومه وحجّه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والعهد واليمين والنذر ، والكفارات ، وردّ السلام بل التحيات كلها ، وتسمية العاطس اذا حمد وصلّى ، وصلة الارحام وبرّ الوالدين ، واداء حقوق الاخوان وهي كثيرة .

في الخبر ما عبد(2) الله بشيء افضل من اداء حق المؤمن ، ومنها نفقة الزوجة ، والمملوك ، وسائر حقوقهما ، ونفقة الاقارب مع فقرهم وغنائه ونفقة الحيوانات التي حبسها ، وتقدير المعيشة من غير سرف، ولا

ص: 59


1- هذه الجملة لعلها من اغلاط النساخ، او الطبع، وليست جارية على قانون اللغة فان السكر وهي الخمر لا تجمع على وزن الاساكر والمعنى واضح ولعله من مراعاة القافية.
2- الكافي باب حق المؤمن على أخيه ، عن مزارم عن أبي عبدالله عليه السلام.

بخل وطلب الحلال ، ودفع الضرّر عن النفس والمال ، والختان للرجال ، والتزويج مع خوف الوقوع في الحرام بدونه ، والصدق في الأقوال وقيل في الأفعال ايضا ، واداء الامانة الى البر والفاجر ، والوفاء بالعهد والوعد . وصرف نعم الله تعالى فيما خلقت لاجله ، والسجود عند تلاوة العزائم واستماعها، بل سماعها ايضا هذا كلّها من الفرائض العينية وأما الكفائية فكالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والافتاء والقضاء مع اضطرار الناس ، وتخليص المشرف على الهلاك ، ، واعانة المستغيث مع القدرة ، واطعام الجائعين على ذوي اليسار مع قصور الصدقات الواجبة ، وتحمل الشهادات مع عدم تعينه عليه ، والا فيكون عيناً ، وكذا تجهيز الموتى وتغسيلهم ، ودفنهم وسائر الولايات ، وابقاء ضروريات البقاء للنوع.

ثمّ يتأمّل في الطاعات القلبية ، وهي ايضاً اما عينية واما كفائية.

ومن الأولى معرفة العقائد الحقة الواجبة ، ولو اجمالا ومعرفة الاحكام الشرعية ، ولو تقليداً عند العمل ، ومعرفته للاخلاق ، وآفات الاعمال والنفس والتوبة والشكر والصبر ، والخوف والرجاء ، والنية ، والاخلاص وغيرها مما يجب على المكلف من الاعمال القلبية.

ومن الثانية معرفة علم الكلام للرد على المبتدعة، ومعرفة الاحكام الشرعية زايدا على الواجبة عيناً، ثمّ يتفكّر في المعاصي، وهي ايضاً على اصناف منها ما هو: حرام بأصل الشرع كشرب الخمر والزنا، وما يحرم بالقصد والنية كالأكل والبيع مثلا للتقوى، والاعانة على المعصية، ومنها معاصي الجوارح ، ومنها معاصي القلوب وكلّ منها اما كبيرة أو صغيرة، وفي تعيين الكبيرة اختلاف شديد روايةً وفتوى، ولعل الصلاح في الابهام أن يجتنب المتّقي

ص: 60

عن الاغلب ، وفي الصحيح(1) انّ الكبيرة ما وعد الله عليها النّار . وفيه(2) من أجتنب ما وعد عليه النار كفر عنه سيئاته إذا كان مؤمنا،(3) وروى أنها السبع الموجبات وهي: قتل النفس الحرام ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا، والتعرّب(4) بعد الهجرة ، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف ، وفي الحسن(5) هن في كتاب علي سبع : الكفر بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، واكل الربا بعد البينة ، وأكل مال اليتيم ظلما ، والفرار من الزّحف ، والتعرب بعد الهجرة ، وعيّنها الرّضا في كتابه إلى المأمون خمسة وثلاثين واتمها بالاصرار على الصغائر .

ثم ينظر في اصناف المحرمات وهي كثيرة : معاصي القلب ومعاصي الجوارح:

الأول : كالحسد إذا اظهره، والحقد، واضمار السوء للمؤمن والفرح بمصيبة المؤمن ، وقتله، والفرح بضعف الاسلام ، وقوة الكفر والركون الى الظالمين . وسوء الظن بالمسلمين في غير محله، وحبّ اعداء الله، وقيل حبّ الدّنيا ، ومنه حبّ الجاه والرياسة ، والعجب والرياء ، والكبر ، بمعنى تذلّل القلب لقبول الحق ، والحرص القوي والسخط على قضاء الله، والغفلة عن التكليف، والنفاق، وتعلّم العلوم المحرّمة كالكهانة، والسِّحر للعمل، والبخل والجبن، والامن من مكر

ص: 61


1- الكافي، باب الكبائر، عن الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام في رواية الكبائر التي أوجب الله عز وجل عليها النار.
2- في الخبر الثاني في ذلك الباب.
3- ايضاً الخبر الثاني من ذلك الباب.
4- التعرّب بعد الهجرة: هو ان يعود الى البادية ويقيم مع الاعراب بعد ان كان مهاجراً.
5- هو الخبر الثامن من ذلك الباب، وقد مضى شطر من الكلام في الكبائر والصغائر.

الله، واليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله ، والجهل كلّها من معاصي القلب ، نعم بعض مراتبها لا تعد كبيرة بل ولا محرّمة، بل داخلة في المكروهات والثاني كالكبائر التي ذكرناها آنفا، والبدعة ومنع مساجد الله ان يذكر فيها اسمه ، والسعي في خرابها ، والسعي في كلّ معصية، وكتمان الحق والرّشا، والوقوف في بلاد الكفر بعد التمكن من الخروج منها ، ومشاقة الرّسول . ومتابعة غير سبيل المؤمنين، والاستكبار عن الدعاء وكل عبادة ، وقطع الطريق ، وتحريف الكلم عن مواضعه وتكذيب آيات الله ، وايذاء رسول الله والمؤمنين واهانتهم ، بل وايذاء الحيوانات من غير اذن الشرع ، والأعراض عن آيات الله وابطالها ، والتخلف عن الجهاد بل بعض اقسام الدفاع ، والقعود في المساجد جنباً وحائضاً والمرور عن المسجدين ، ولبس الذهب والحرير للرّجال عدا المشروط في حال الحرب، والاكل والشرب من اواني الذهب والفضة بل واتخاذهما، وعمل آلات اللهو والقمار.

ومنها الآلات المذكورة ، وتصوير ذوات الارواح ، والاحوط ترك اتخاذها محترماً والبناء رياء وسمعة أي فضلا على ما يكفيه ، واستطالةً على الجيران ، ومباهاةً للاخوان ، والاستخفاف لفقير مسلم، وعدم اعفاء اللحية ، والقمار والرهانات إلا ما استثنى، وانشاء ما يتضمن هجاء مؤمن ، والتشبيب بإمرأة معيّنة غير محللة ، أو بغلام على الأحوط ، والنياحة بالباطل ، والاستماع اليها ، والغناء بالصوت اللهوى ، والقيادة والمساحقة ، ومباشرة المرأة مع الأخرى ليس بينهما ثوب، وتحدثها بما تخلوبه مع زوجها ، وتزيينها لغير زوجها ، وخروجها من بيتها بدون اذن زوجها ، والنظر إلى الاجنبي مع ريبة ، حتى نظر الرّجل الى الجميل من الولدان، والمصافحة مع غير الحرم من النساء ، والتزامهنّ ، ونظر الرّجل إلى عورة أخيه المسلم، والمرأة إلى عورة المأة، والتطلع على دور

ص: 62

الغير ، والجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر ، لعن(1) رسول الله الخمر، وعاصرها وغارسها وشاربها وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها ، وحاملها ، والمحمولة اليه ، وقال انّ الله لعن أكل الربا ، وموكله وكاتبه ، وشاهديه.

وعن أمير المؤمنين(علیه السلام)(2): إياك أن تكون عشارا ، أو شاعرا ، أو شرطيا ، أو صاحب عرطبة الطنبور وصاحب كرية ، وهي الطبل ومن المعاصي الاخبار بالمغيبات على البت ، لغير نبي أو وصي نبي سواء كان بالتنجيم ، أو الكهانة ، أو القيافة ، أو الرمل ، أو غير ذلك ، والشعبذة والسحر ، وفي الحديث إيّاكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في برّ أو بحر ، فانّها تدعو إلى الكهانة ، والمنجم(3) كالكاهن ، والكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار ، وفي آخر من تكهن أو تكهن له ، فقد برء من دين برء من دين محمد (صلی الله علیه وآله وسلم).

والسحر(4) هو كلام ، أو كتابة أو رقية أو اقسام ، أو عزائم ونحوها يحدث بسببها ضرر على الغير، ومنه عقد الرجل عن زوجته ، وإلقاء البغضاء بينهما ، ومنه استخدام الملائكة والجنّ ، واستنزال الشياطين في كشف الغايبات وعلاج المصاب ، واستحضارهم ، وتلبسهم ببدن صبي أو

ص: 63


1- وسائل الشيعة: كتاب التجارة لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر عشرة: غارسها ، وحارسها ، وعاصرها ، وشاربها ، وساقيها ، وحاملها ، والمحمولة اليه ، وبايعها ، ومشتريها ، وآكل ثمنها ، وما نقله قدس سره ليس متن الرواية، ولعله منقول بالمعنى ، مع اختصار.
2- كما عن نوف البكالي عن علي عليه السلام وقد نقلوه في الكتب الفقهية ایضاً.
3- كما في الوسائل عن نضر بن قابوس وغيره.
4- هو عبارة الشهيد في الدروس.

امرأة ، وكشف الغائب على ذلك ، فتعلم ذلك واشباهه حرام ، والتكسب به سحت إلا للتوقي ، ودفع المتنبي ، ويجوز حله بالقرآن ، والاقسام ، أو مطلقا ، وفي الخبر(1): حلّ ولا تعقد ، ومنها الغضب لغير الله والحمية ، والعصبية مع اعمالها ، والتكبّر ، والتجبر ، والاختيال في المشي ، والتفاخر حتى بالولايم ، والبذاء والفحش ، والبغي وتزكية النفس ، والخرق والمراء ، والنميمة والاستماع إليها واشاعة الفواحش في المؤمنين ، وتجسّس عيوبهم ، والبهتان والسعاية ، والسباب واللعن، والطعن لغير مستحقهما ، والمكر والخديعة ، والغدر والغش والتدليس إلا ما استثنى والغصب والنهب وأكل ما حرمه الشرع بل مطلق التصرّف المحرّم والذهاب بحقوق المسلمين ، والظلم والقساوة والجفاء وكلّ ما نهى الله ورسوله عنه ، وترك الآداب والسنن النبوية بالمرة ، واعانة الظالمين والاعانة بالكفر ، والإثم ، هذه اصول الطاعات والمعاصي وإذا أراد التوبة فلينظر بالتأمل في جميعها ، واحداً بعد واحد في ثلاثة أمور:

الأوَّل: في انقسام هذه الى الأعضاء ، فيكتب لكلّ عضو صحيفة لما يجب عليه، ولما يحرم، وفي كلّ صفحة جدولين طويلين ، وفي ذيل كلّ جدول أيضاً جدولين ، ثمّ يتفكر أوقاته من بلوغه إلى حين التوبة تفصيلا ، هل يجد فيها اخلالاً بالواجبات، أو ابتلاه بالمحرمات، ثمّ ينظر هل من المحرّمات ما ارتكب به او من الواجبات ما اخلّ به ، يثبت كلا منها في صحيفة ثمَّ ينظر هل هو من حقوق الله ، أو من حقوق الناس، ويكتب كلا منهما في جدول ، ثم ينظر في حقوق الله هل له قضاء، أو كفّارة أو لا ، يثبته تفصيلا في محلّه، ثمّ إذا بالغ في تجسّس حالاته ، وأوقاته أياماً بهذا المنوال ، فيثبت كلّ ذلك في محله، ثم ينظر في حقوق الناس هل له اداء ،وتبرئه أم ليس له إلا الاستغفار ، وهدية

ص: 64


1- كما عن الكافي في رواية عيسى بن السقفي عن ابي عبد الله عليه السلام.

الأعمال ثمّ يتجسّس ما جنى في صغره في أموال الناس ، وثبت في ذمته ضمان مالي لمسلم ، أو ذمّي فيثبتها في صحيفة أخرى ، ثم يشتغل باستخلاص ذمته ، ويغتسل غسل التوبة ، ويذهب إلى موضع خال ، ويعمل أولا بما رواه السيّد في الإقبال عن رسول الله للتائب ، ثم يسجد على الأرض ، ولو كان جلوسه على الرماد كان أولى ، يدعو الله باسمائه الحسنى ، ويكثر من ذكر أسمائه الجمالية ، ويختمه بيا أرحم الراحيمن سبعاً ، ثمّ يعترف بذنوبه ، ويعدها كلّما أمكنه ، ثمّ يحمد الله على امهاله ، وفتح باب التوبة ، ثمّ يصلّي على محمد وآله ويبالغ فيها ، ثمّ يصلي على جميع الأنبياء والمرسلين ، والملائكة أجمعين ، وجميع عباد الله الصالحين ، وجميع المؤمنين ، ثم يدعو لإمام زمانه حجة الله صاحب الزمان ، أرواح العالمين فداه بالفرج ، والعافية ، والنصر ، ثم يكشف عن رأسه ، ثمّ يحثّ التراب عليه ، ويتمرّغ في التراب ، ويبكي بكاء الثكلى ، ويلح في الاستغفار ، ويقول: يا من أجاب لأبغض خلقه إبليس اجب لي في قبول توبتي ، ووفقني لاتمامه ، فإنّ الخير كله بيدك ، وأنت الفاعل لما تشاء ، وكيف تشاء : ثمّ يقول يا كريم العفو ، يا مبدل السيئات بالحسنات ، صلّ على محمد وآله ، وبدل سيئاتي بأضعافها من الحسنات ، ويا قابل السحرة صلّ على محمد وآله واقبلني ثمّ يقول: اللهمّ إن كنت قبلت مثلي فاقبلني يا قابل السحرة اقبلني اللهم وإن لم تكن قبلت إلى الآن مثلي ، فمن الآن اقبلني وأمثالي ، فليكن هذه أوّل ما ظهرت من وسعة رحمتك التي لم تظهر إلى الآن في الوجود ، فإن رحمتك وسعت كل شيء وانا شيء فامتعني رحمتك يا أرحم الراحمين ، ثم يكرّر هذا التفصيل ثلاثاً ، ويختم كلّ واحد منها بالصلاة ، وقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، ثم يعزم على تركها فيما يأتي مستعيناً من الله، ومتوكلا عليه ، ويشرع في استكمالها على ما ذكرنا مبتدء بالأهم والأهم، وليحسن ظنه بقبول الله تعالى ، وان یری توبته ناقصة يراقب في الوفاء بتوبته ، وان اتفق احيانا نقضها في

ص: 65

بعض الأمور ، فليعد إلى التوبة ، ويقرء على نفسه اخبار الرجاء ، ولا ييأس من روح الله وقبوله ، فما لم يسأم العبد من التوبة لا يمنع الله المغفرة ، فإنّه هو التواب الرحيم ، ويبالغ في الالحاح والمسئلة بالمغفرة ، على قدر عظمة الجنايات وليتذكر توبة أبيه آدم ، وما روي انه بكى مأتي سنة.

وليتذكر ما روي من توبة داود(علیه السلام)، حيث روى انه سجد أربعين يوماً، لم يرفع رأسه من السجدة حتى خرقت ركبته ، وجبهته ونبت حوله من دموع عينيه نبات ، واحرقه بنار نفسه ، حيث تأوه من شدة حزنه ، وكان بعد قبول توبته ينوح على نفسه ، ويبكي على خطيئته في البراري ، وروي أنّه إذا أراد النياحة ، امر سليمان أن ينادي في الناس ، الا من أراد ان يسمع نوح داود(علیه السلام) على نفسه ، فليأت فيجتمع حوله من الناس ، والوحوش خلق كثير، فيأخذ في ثناء الله تعالى ثم ذكر الجنّة والنار ، ثمّ في أهوال يوم القيامة ، وفي النياحة على نفسه ، فيموت من الهوام والوحوش ، ومن الناس جمع كثير ، فيقول سليمان (علیه السلام): يا أبتاه قد مزقت المستمعين كلّ ممزق ، فيأخذ في الدعاء ، فبينا هو كذلك إذ نادى بعض العباد يا داود عجلت في طلب الجزاء على ربك ، فيخر داود(علیه السلام) مغشياً عليه ، فيأخذ سليمان(علیه السلام) سريراً، ويحمله عليه إلى داره ، وينادي المنادي في الناس: الا من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير، ويحمل جنازته، فإنّ الذين كانوا معه قد قتلهم ذكر الجنّة والنار ، فكانت المرأة تأتي فتحمل قريبه ، ويقول : يا من قتله ذكر النار، يا من قتله خوف النار ، ! وهكذا يكون حال من كان عارفاً بعظمة ربّه ، مع ان خطاياهم(علیه السلام) ما كانت من ذنب كذنوبنا ، فانّهم معصومون عن ارتكاب الذنوب، وخطاياهم، انما كان ترك الأولى، وليتأسّ بالشاب النباش، ويذكر قصّته على(1) ما رواه في الصافي عن المجالس

ص: 66


1- سورة آل عمران الآية 135 نقلها قدس سره باختلاف يسير.

عن عبد الرحمن بن غنيم الدوسي قال دخل معاذ على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) باكياً ، فسلّم فردّه ، ثمّ قال : ما يبكيك يا معاذ ؟ فقال : يا رسول الله ان بالباب شاباً طريّ الخد ، نقيّ اللون حسن الصورة يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها ، يريد الدخول فقال النبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) : ادخل عليّ الشاب يا معاذ ، فادخله عليه فسلّم فردّ ، ثمّ قال: ما يبكيك يا شاب ؟ قال : كيف لا أبكي ، وقد ركبت ذنوباً ان أخذني الله ببعضها ادخلني نار جهنم ، ولا أراني إلا سيأخذني بها ، ولا يغفر لي ابدا فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : هل اشرکت بالله شيئاً ؟ قال : أعوذ بالله ان اشرك بربي شيئاً ، قال : أقتلت النفس التي حرّم الله ؟ قال : لا ، فقال النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) : يغفر الله لك ذنوبك، وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ، ورمالها وأشجارها ، وما فيها من الخلق، قال: فانّها أعظم من الأرضين السبع ، وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق ، فقال النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) : يغفر الله لك وإن كانت ذنوبك مثل السموات، ونجومها، ومثل العرش والكرسي ، قال : فانّها أعظم من ذلك ، قال : فنظر النبي كهيئة الغضبان ، ثمّ قال: ويحك يا شاب ذنوبك اعظم أم ربّك فخر الشاب بوجهه وهو يقول: سبحان ربي ما من شيء أعظم من ربّي ، ربّي أعظم يا نبي الله من كل عظيم ، فقال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) : فهل يغفر الذنب العظيم إلا الربّ العظيم قال الشاب: لا والله یا رسول الله ، ثم سكت الشاب فقال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم): ويحك يا شاب الا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك ، قال: بلى اخبرك اني كنت انبش القبور سبع سنين، اخرج الأموات وانزع الأكفان ، فماتت جارية من بعض بنات الأنصار ، فلما حملت إلى قبرها ودفنت وانصرفت عنها أهلها ، وجنّ عليها الليل ، أتيت قبرها ونبشتها ثم استخرجتها ، ونزعت ما كان عليها من أكفانها ، وتركتها مجرّدة ، على شفير القبر ، فمضيت منصرفاً فأتاني الشيطان فأقبل يزيّنها لي ، ويقول : أما ترى بطنها وبياضها ، أما

ص: 67

ترى وركها ، فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها ، ولم أملك نفسي حتى جامعتها ، وتركتها مكانها فإذا أنا بصوت من ورائي يقول : يا شاب ويل لك من ديان يوم الدین ، ويوم يقضي لي ولك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى، ونزعتني من حفرتي ، وسلبتني اكفاني ، وتركتني أقوم جنباً إلى حسابي ، فويل لشبابك من النار ، فما أظنّ إنّي أشمّ رائحة الجنّة أبداً ، فما ترى لي يا رسول الله فقال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) : تنح عني يا فاسق ، إنّي أخاف أن احترق بنارك ، فما اقربك من النار ، ثمّ لم يزل يقول ويشير إليه حتى مضى من بين يديه ، فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ، ثمّ أتى بعض جبالها ، فتعبّد فيها ، ولبس مسحا ، وغلّ يديه جميعاً إلى عنقه ، ونادى يا ربّ هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول يا ربّ أنت الذي خلقتني ، وزل منّي ما تعلم سيدي ، يا رب أصبحت من النادمين ، وأتيت نبيك تائباً ، فطردني ، وزادني خوفاً ، فأسئلك باسمك وجلالك عظم سلطانك ان لا تخيب رجائي ، سيدي ولا تبطل دعائي ، ولا تقنطني من رحمتك ، فلم يزل يقول ذلك أربعين يوماً وليلة ، ورفع يديه إلى السماء وقال: « اللّهم ما فعلت في حاجتي ان كنت استجبت وغفرت خطيئتي فاوح إلى نبيّك ، فإن لم يستجب دعائي ، ولم تغفر لي خطيئتي ، وأردت عقوبتي ، فعجل بنار تحرقني ، أو عقوبة في الدنيا تهلكني ، وخلّصني من فضيحة يوم القيامة ، فأنزل الله على نبيه والذين إذا فعلوا فاحشة وظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ، اولئك جزاؤهم مغفرة من ربه ، وجنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها ونعم اجر العاملين أتاك عبدي يا محمد تائباً ، فطردته فأين يذهب ، وإلى من يقصد ، ومن يسئل أن يغفر له ذنبه، ولما نزل الآية كان يتلوها النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وتبسم فقال لأصحابه : من يدلّنا على ذلك الشاب قال معاذ: يا رسول الله بلغنا انه في موضع كذا وكذا ، فمضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى انتهوا

ص: 68

إلى ذلك الجبل فصعدوا إليه يطلبونه ، فإذا بالشاب قائم بين الصخرتين ، مغلولة يداه إلى عنقه ، قد اسود وجهه ، وتساقطت اشفاره من البكاء ، ويقول سيدي قد أحسنت خلقي ، وأحسنت صورتي ، فليت شعري ماذا تريد بي في النار ، تحرقني أو في جوارك تسكنني ، اللهم انك قد أكثرت الإحسان إليّ ، فأنعمت عليّ فليت شعري فماذا يكون آخر أمري إلى الجنّة تزفّني أم إلى النار تسوقني ، اللهم ان خطيئتي أعظم من السموات والأرض ، ومن كرسيك الواسع وعرشك العظيم فليت شعري تغفر خطيئتي ، أم تفضحني بها يوم القيامة ، فلم يزل يقول نحو هذا ، وهو يحثّ التراب على رأسه ، وقد أحاطت به السباع ، وصفت فوقه الطير ، وهم يبكون لبكائه ، فدنى رسول الله فأطلق يديه من عنقه ، ونفض التراب عن رأسه ، وقال: ابشر ، فانك عتيق الله من النار ، ثمّ قال: لاصحابه هكذا تداركوا الذنوب، كما تداركها بهلول، ثم تلا عليه ما أنزل الله عزّ وجلّ فيه ، وبشّره بالجنة.

خاتمة: اعلم ان الذي يفهم من اخبارنا ، ان الكون(1) على أنّ الطهارة مستحبّ في جميع الأوقات، لا سيما لطالبي العلم فإذا كان الأمر على ذلك فلا وجه للاحتياط في الوضوء لتحصيل الطهارة قبل الوقت ، وإن كان غرضه من هذا التحصيل ان يصلّي بهذه الطهارة صلواته في الوقت ، لأنّ الدّاعي الأوّل أمر راجح مطلوب شرعاً ، وإن كان الداعي أمراً غير قربي وظنّي ان هذه الاحتياط على اطلاقه ليس براجح حيث انه كثيراً ما يؤدّي في الأسفار إلى الصلاة بالتيمم ، وإلى ترك الكون على الطهارة ، وورد في الاخبار حثّ أكيد على الكون على الطهارة

ص: 69


1- كما في الوسائل في حديث أنس «وان استطعت ان تكون بالليل والنهار على طهارة فافعل » وكما في الحديث الآتي المروي عن ارشاد الديلمي ، ورايته مروياً في كتب العامة ايضاً : « من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني الحديث نقله ملخصاً قدس رو روحه.

مثل ما ورد: انّ من احدث ولم يتوضأ فقد جفاني ، ومن توضأ ولم يصل ركعتين فقد جفاني ، ومن صلّى هاتين الركعتين ، ولم يدع عقبيه-ا فق-د جفاني ، ومن يتوضأ وصلّى ودعى عقبيها ، ولم استجب له دعائه فقد جفوته، ولست بربّ جاف ، ثمّ أنّه كان بعض مشايخي(1) قدس الله سره ، وجزاه عني خير جزاء المعلّمين المربين ، كان يوضيني بالعمل بمضمون هذه الرواية ، ويقول اسجدوا بعد هاتين الركعتين وادعوا الله في السجدة ان يرزقكم معرفته ومحبته.

فصل: يجب الوضوء(2) للصّلاة الواجبة، والمندوبة ، والطواف الواجب، ولمس كتابة القرآن ، والأحوط تركه لمس جلده وورقه وأسماء الله ، وأسماء المعصومين ، ولكتابة القرآن ، ويستحبّ للكون على الطهارة ، وللطواف المندوب ، أو شيء مما لا يشرط فيه الطهور من مناسك الحج ولدخول المسجد، وللتأهب للصلاة الفريضة قبل دخول الوقت ، وقرائة القرآن ، ولطلب الحاجة، وللنوم ، وجماع المرئة الحامل، وللدخول على الأهل من السفر، ولصلاة الجنازة ، ولادخال الميت على قبره، وللمتطهر إذا مضى من طهارته مدة يصح بها اطلاق التحديد به، وللمحدث بالرعاف والقيء ، والتقبيل بشهوة ،ومس الفرج ، وبما خرج من الذكر بعد الاستبراء ، وإذا توضأ قبل الاستنجاء والتخليل(3) المخرج للدم مع كراهية الطبع اياه، والمذي وانشاء الشعر الباطل زيادة على أربعة أبيات ، والكذب والغيبة والظلم والاكل الجنب

ص: 70


1- وهو الآية في العرفان: والزهد والتقوى ، الاخوند المولى حسينقلي الهمداني رضوان الله عليه قدمنا ترجمته فراجع.
2- كل ذلك مذكور في كتب الفقه والروايات ، فراجع اليها ، وقد أوجب العامة الوضوء في مثل الرعاف والقيء والتقبيل ومس الفرج والذكر، والتحليل المخرج للدم بل لكل خروج الدم وغير ذلك ، ولا حاجة لاطالة الكلام ونقل الاخبار في ذلك .
3- اي تخليل الاسنان مع خروج الدم وكراهته خروجه.

ونومه وجماعه، وتغسيله الميت، ولغاسل الميت إذا أراد الجماع قبل الغسل، وللحائض إذا أرادت الذكر وقت صلاتها.

فصل: في الغسل

حكمته وجوبا وندبا حكمة الوضوء ، وعبره مثل عبره ويزاد في عبره أن يعتبر الإنسان من وجوب غسل تمام البدن فيه ، أنّ التطهير بقدر الكثافة ، فإذا يعرف تكليفه في تطهير قلبه ، وروحه، وروحه ، وسرّه عن كلّ ما يدنسها بالجملة ، يستحبّ فيها التسمية ، والدعاء بالمأثور في اثنائه بقوله : اللّهمّ طهر قلبي ، واشرح لي صدري ، واجر على لساني مدحتك ، والثناء عليك اللهم اجعله لي طهوراً وشفاء ، ونوراً انك على كلّ شيء قدير. وبعد الفراغ بقوله : اللهمّ(1) طهر قلبي وزك عملي ،وتقبل سعيي، واجعل ما عندك خيراً لي ، اللهمّ اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين.

وروي غير ذلك ، وهذه الاذكار كما ترى شاهدة على أنّ الغرض الأصلي ، والمقصود الأهم ، طهارة القلب ، وشرح، الصدر وهو على ما روي عن النبي نور يقذف في القلب ، فينشرح منه الصدر ، وعلامته التجافي عن دار الغرور ، والانابة إلى دار الخلود ، والمراد منه على ما يراه بعض أهل التحقيق نور معرفة النفس ، وهو ان يرى حقيقة نفسه، بلا صورة ولا مادة نورا ذات حياة وعلم ، وهو النور الذي اشير إليه في آخر مناجاة شهر شعبان : والحقني بنور عزّك الأبهج فأكون لك عارفاً كما ذكره بعض المشايخ ، وبالجملة إذا اعطى العبد ن-ور معرفة النفس الذي به يمكن الوصول إلى معرفة الربّ ، يرى بهذا النور ملكوت هذه العوالم المحسوسة للناس ، فيكون انساناً ملكوتياً ، ويدخل في دار الخلود لغلبة روحانيّته ، وهذا هو المراد من الانابة إلى دار الخلود ، وكيف كان وكما انّ طهارة الجوارح يرفع الموانع من دخول المسجد والصلاة ، كذلك طهارة السرّ عن مقتضيات هذا العالم المحسوس، عالم

ص: 71


1- كما في رواية علي بن الحكم رواه في الوسائل.

الطبيعة المظلمة يرفع الموانع عن الانابة الى دار الخلود ، أي الى دار السلام ، ودار الحيوان ، وجوار الله ، وبدخول هذه الدار يقرب العبد من الله ، ويحصل له المعرفة الكشفية فيكون ما عند الله خيراً مما عنده ، وعند الناس ، ويرى ، ويرى هذا العالم عالم الغرور.

ويستحبّ الغسل في مواضع يذكر في الفقه لا يهمنا ذكرها ، إلا ما ذكر بعضهم من انه يستحب لكلّ مشهد ، ومكان شريف ، ولكلّ يوم وليلة شريفة ، وعند كلّ فعل يتقرب به إلى الله ، ويلجأ فيه إليه ، ولا بأس بذلك برجاء المحبوبية ، كما يستشعر ذلك من تضاعيف الاخبار ، ومن خصوص بعضها.

مثل ما رواه في العلل عن الرضا عليه السّلام في علة غسل الجمعة والعيدين، وغير ذلك من الأغسال لما فيه ، من تعظيم العبد ربه واستقباله الكريم الجليل ، وطلب المغفرة لذنوبه ، إلى أن قال: وجعل ذلك الغسل تعظيماً لذلك اليوم على سائر الأيام ، وزيادة في النوافل والعبادة ، وهذه الرواية تشعر بل تشهد على ما ذكر ، وهذا البعض الاسكافي(1)، وكيف كان لا بأس بالاتيان به في هذه المقامات برجاء المحبوبية ، هذا ويعلم بعض ما يلزم فيه من المراقبات مما أشرنا إليه ، ونزيد في ذلك لبيان عبرة لترتيبه يأتي في الوضوء أيضاً ، وهو انّ الإنسان إذا التفت لعدم اهمال الشارع لترتيب غسل الاعضاء في الوضوء

ص: 72


1- هو محمد بن أحمدبن الجنيد ، من أكابر علماء الشيعة الامامية ، متكلم ، فقیه، محدث ، اديب ، واسع العلم صنف في الفقه والكلام ، والاصول ، والادب وغيرها تبلغ مصنفاته خمسين كتاباً ، والاسكافي منسوب الى الاسكاف من نواحي النهروان بين بغداد وواسط ، قيل مات بالري سنة 380 ويطلق الاسكافي ايضاً على الشيخ أبي علي محمد بن أبي بكر ، همام بن سهيل بن بيزان المعاصر للشيخ الكليني توفى سنة 332 ، وعلى أبي جعفر محمد بن عبد الله المعتزلي المتوفى سنة 240.

والغسل، علم من ذلك عزّة الحكمة الإلهية. وانّ لها في كلّ شيء مجرى ، وحكما في اهمية امر المراقبة في جزئيات حركاته وسكناته وإذا اهتم بذلك وعمل بما علمه من وجوه الحكمة في الافعال ، يورثه الله علم ما لا يعلم من الحكمة ، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وإذا تعمّق في ذلك، ورأى ان تقديم الرجل مثلا على الرأس خلاف الحكمة ، فيرضى بما يفعله الحكيم تعالى في جميع ما يحكم به ، ويرى ان سخطه على ما لا يوافق هواه من احكام الحكيم تعالى من نقصانه ، واعوجاجه وإلا فلا اشكال في حسن الحكمة وكمالها

فصل: في الحمام

عن(1) أمير المؤمنين(علیه السلام) أنه قال: نعم البيت الحمّام يذكر النار ، ويذهب بالدرن ، وفي الرواية مع وجازتها اشارات لطيفة إلى مطالب جليلة ، ومهمات عظيمة.

منها انه قدم ذكر النار على ذهاب الدرن، وفيه تأديب للمؤمنين في تقديم ذكر الآخرة على الدنيا ، ولو في الأمور الدنيوية، وكان هذا دابه(علیه السلام) في جميع اموره وأحواله بل وكان أمره اعلى من ذلك ، وهو ان کل امرین وردا عليه وتساوى فيهما جهة رضا الرب تعالى من جميع الجهات ، كان ينظر في أنّ أيهما اشدّ على النفس ، وعلى صاحبه ويمكن ان يكون تقديم ذكر الله في جميع الأشياء احد معاني قوله(علیه السلام) انّه ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله قبله ، وبعده ومعه ، هذا وإن كان له معنى آخر على ما قدم ، وهو الأصل ، ولكنّه لا ينافيه كون ذلك أيضاً في مرتبة من معانيه ، هذا وكان لنا شيخ(2) له أصحاب من أهل التقوى وكان من جملتهم سيّد(3) من سادة بلدة همدان ، وكان شاباً حسن

ص: 73


1- كما في رواية محمد بن اسلم ، رواه في الوسائل.
2- وهو الشيخ الجليل الاخوند ملاحسينقلي الهمداني قدس روحه، قدمنا ترجمته.
3- ولعله السيد علي الهمداني على ما ذكروه انه من تلاميذ الشيخ قده فراجع اعلام الشيعة للشيخ آقا بزرك الطهراني دام بقائه ، وذكرنا في ترجمته ايضاً.

السيرة بالفطرة ، مراقباً مجاهداً مستقيماً يشتغل لتحصيل الفقه ، وتزكية النفس في خدمة الشيخ فاتفق يوم ان شكى من أهل بلده من بعض اخوان هذا السيّد إلى الشيخ ، بأنه قصر في أمر من الامور المتعلقة بالتجارة ، وامر الشيخ السيد ان يكتب في ذلك كتاباً لأخيه ، فكتبه وجاء به إلى الشيخ لينظر كيف كتبه وإذا فتح الشيخ كتابه ، وإذاً في الكتاب ملامة لأخيه من سوء معاملته ، وان امثال ذلك يضره في اعتباره عند الناس في كسبه ، وإنّه يضره في آخرته ، ولما رأى الشيخ كتابه ، وان-ه قدم الضرر الدنيوي على الضرر الاخروي ، قال : هذا الكتاب يشبه كتاب الغافلين ، فإنّ المراقب لا يقدم ذكر الدنيا على الآخرة.

ومنها انّ الحمّام يذكر النار للمراقبين ، فمن لم يتذكر النار في الحمّام ، فهو من الغافلين ، ووجه ذلك ان المؤمن من جهة ايمانه باليوم الاخر لابدّ له ان يكون دائماً خائفاً من النار ، حتى يجوز على الصراط ويأمن منها ، والخائف من شيء هائل منتظر ، انما يتذكر بروية كل ما يشبه ما يخافه ، والحمام انّما يشبه في بعض الوجوه بجهنّم ، لأنّ النار من تحت ، والظلمة من فوق ، وهو ماء حارّ.

ومنها الاشارة إلى أنّ المؤمن انّما يلزمه ان يكون متذكراً في كلّ ما يراه ، ما يناسبه من امر آخرته ، فانّ الحمّام لا خصوصيّة له من هذه الجهة ، فالحكم عام فينبغي للمؤمن العاقل أن يكون له فيما يراه من جزئي أو كلّيّ عبرة ، وموعظة فاذا نظر الى النار ، يتذكر منها نار جهنم وإلى الظلمة ذكر ظلمة القبر ، وان استوحش من شيء ذكر وحشة القبر وإن رأى شيئاً بالياً ذكر منه بلائه، وهكذا.

ومنها ان النظافة حتى نظافة البدن امر مرغوب ، ثم انه(1) يستحب ان يقول الإنسان إذا دخل في البيت الثالث ، نعوذ بالله من النار ، ونسأله

ص: 74


1- كما في رواية محمدبن حمران رواه في الوسائل.

الجنة إلى أن يخرج منها.

فصل: في التنوير

ورد في الحثّ عليه اخبار كثيرة ، وفي الزجر(1) عن تركه وتأخيره عن شهر أمر عظيم ، وللمراقب في امره عبرة شريفة ، وهي انّ هذه الشريعة لم يهمل الانسان من العمل بالحكمة في أمر اشعار معدودة على اسافل اعضائه ، وزجر عن عدم ازالتها بالتأكيد كيف يجوز ان يهمل هذا الحكيم الانسان في اصلاح صفات قلبه ، التي بها تميزه عن سائر الحيوان وينله إلى الدرجات العلى مع العليين وتشبهه بالملائكة العالمين ، وأيضاً يجب على المؤمن باحكام هذه الشريعة ، إذا رأى ما روي في رواية التنوير انّ من تركها شهراً لم تقبل صلاته، ان يعتبر من ذلك في الجدّ للعمل بجزئيات احكام الشرع ، ولا يستحقر شيئاً من جزئياتها ، ويستحب لمن تنوّر ان يدعو بهذا(2) الدعاء : «اللهمَّ طبّب ما طهر منّي ، وطهر ما طاب مني ، وابدلني شعراً طاهراً لا يعصيك ، اللهم أني تطهرت ابتغاء سنة المرسلين، وابتغاء رضوانك ومعرفتك ، فحرّم شعري وبشري على النار ، وظهر خلقي وطيب خلقي وزك عملي واجعلني ممّن يلقاك على الحنفية السمحة ، ملّة إبراهيم ، ودين محمد حبيبك، محمّد حبيبك ، ورسولك عاملاً بشرائعك ، تابعا لسنّة نبيك(صلی الله علیه وآله وسلم) ، آخذاً به متأدباً بحسن تأديبك ، وتأديب رسولك(صلی الله علیه وآله وسلم) وتأديب أولياءك الذين ادّبتهم(3) بأدبك ، واوعت الحكمة في صدورهم . وجعلتهم معادن لعلمك ، صلواتك عليهم(فمن قرئه طهره الله من الادناس الدنيوية ، والصفات الرذيلة من الذنوب ، وبدله من كلّ شعر

ص: 75


1- كما في الوسائل«باب استحباب النورة وان قرب العهد به » وباب لا اطلاء في كل خمسة عشر يوماً.
2- كما في الوسائل عن سدير انه سمع علي بن الحسين عليهما السلام يقول:من قال اذا طلى بالنورة: اللهم طيب الدعاء.
3- في نسخة الوسائل: غذوتهم بأدبك.

أزال من بدنه شعراً لا يعصى فيه ، ويخلق بعدد كل شعرة في بدنه ملکاً يسبّح الله إلى يوم القيامة ، يسوّى كلّ واحد من تسبيحهم الف تسبيح من تسبيحات أهل الارض ويلحق بالنورة ازالة شعر الإبط، وفيه أيضاً تأكيد شديد ، ويستحبّ ازالة سائر شعور بدنه غير المنشأة منها ، ويستحب لمن تنوّر ان يتحنَّا(1) موضع التنوير كله، بل سائر جسده من الفرق إلى القدم ، كما يجب على من تخلى من الرذائل، أن يتخلّى بالفضائل.

فصل: في تقليم الأظفار

والعبرة في ذلك ان يعلم المراقب انّ ايذاء الغير ، والظلم والتشبه بالسباع ممقوت عند الله ، بحيث لم يرض بما هو من آلتها في بدن الانسان ، فأمر بتقليم الأظفار ، ويكشف عن ذلك قوله تعالى في مواعظ(2) عيسى(علیه السلام) : « قل لظلمة بني إسرائيل قلموا أظفاركم من كسب الحرام ، واصموا اسماعكم من ذكر الخناء(3) واقبلوا بقلوبكم ، فانّي لست أريد صوركم » فعلم من ذلك ان المراد الأصلي من هذه الاحكام الصورية، هو اصلاح القلوب بصفة العدل ليصلح لخلافة العدل الحكيم تعالى ، ويعلم من ذلك عناية الله في حق هذه الأمة المرحومة ببيان هذه الجزئيات ، ويعلم هذه المراتب من حكمة الظاهر والباطن، ومنّته عليه حيث جاء من الله بهذه الشريعة الكاملة التي لم يترك فيها شيء يمر ممّا يقرب(4) من الله تعالى، وما يبعد عنه حتى ارش الخدش ، ويتفطّن من ذلك أن شريعته هو الصراط المستقيم الذي هو أقرب الطرق إلى الله على التحقيق لا المجاز.

فصل: في أخذ الشارب واعفاء اللحى. للعبد المراقب ان يتفطّن من هذا الحكم عناية الله في حق عباده، بعدم رضاه ان يكون على

ص: 76


1- اي طلي الحناء والخضاب به ، كما في الوسائل عن محمد بن يعقوب ره .
2- كما في البحار ج ه في مواعظ عيسى عليه السلام نقلاً عن الكافي والأمالي.
3- الخناء: الفحش.
4- كما في خطبة حجة الوداع للنبيّ صلّی الله علیه وآله وسلم.

صورة اعدائه فانّ ذلك غاية للاعتناء بالعبد من المولى ، وأن يتفطّن بخطر مخالفة هذا السيّد البرّ الودود ، وكيف يبدّل مقام التكريم ، والتشريف والود والعطف على الذل والهوان ، والبغض والعدوان ، حتى يكون التشبه به في الصورة أيضاً حراماً ، وبالجملة ورد في الحديث القدسي(1) إنّ الله أوحى إلى بعض أنبيائه قل للمؤمنين لا تلبسوا ملابس اعدائي، ولا تطعموا مطاعم اعدائي ، ولا تسلكوا مسالك أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي.

أقول: فانظر يا مسكين ، ان سيّدك انما خصك واصطفاك لنفسه ، وميزك عن أعدائه، حتى في الصورة والهيئة ، بدناً ولباساً ، ومسكناً ونزهك عن التشبيه بهم ، حتى في الصورة والهيئة ، فان خالفته في هذا الحكم، وامتنعت عن قبول هذه العناية، وتلبست بعد ذلك بلباس اعدائه ، واخترت التشبه ماذا يحكم عقلك بهذه المخالفة من الجسارة والقبح ، هل هذه إلا اظهار العناد بربّ البلاد والعباد، وتفكر في هذه الجاهرة بالشقاق والعناد، بالنسبة إلى ملوك الدنيا وساداتها ، مثلا اذا كان للسلطان لباس خاص بجنوده ورعيّته، ولعدوّه أيضاً لباس مخصوص، وأعطى السلطان خلعته لواحد منهم ، وقال اجعله لباساً لك على هيئة ألبسة جنودي، ورعيّتي، وحذر أن يجعله على هيئة لباس اعدائه، وخالف هذا وذلك، وجعل خلعة السلطان على هيئة لباس اعدائه ، ولبسه في حضوره ماذا يقول العقلاء لهذه المخالفة ، أيعده معصية ، أم يقول انه معاندة ، واظهار شقاق وطغيان؟! فاحذر من مثله في امر ملك الملوك تعالى.

فصل: في العطر

روي في الكافي عن علي بن ابراهيم، رفعه إلى أبي عبدالله(علیه السلام) في حديث قال : صلاة متطيب افضل من سبعين

ص: 77


1- كما في الوسائل عن الكافي بإسناده عن اسماعيل بن مسلم في باب كراهة لبس السود.

صلاة بغير طيب ، وروى الصدوق باسناده عنه(علیه السلام)، قال: لمفضّل: ركعتان يصلّيهما متعطّر افضل من سبعين ركعة يصلّيهما غير متعطّر ، ورواه في الخصال أيضاً .

أقول: لا يذهب عليك انّ مثل هذه الرواية ، والفضل للطيب أنّما هو من جهة شرف العقل ، لأنّ العطر يقوّي الدماغ ، ويحفظه من الفساد وفساده يفسد العقل ، والعقل أشرف اركان حقيقة الانسان ، واشرف مراتبه ومقاماته ، بل هو أشرف اجزاء العالمين كلّها وجميع الخيرات منسوبة إليه ، كما ان جميع الشرور منشأه الجهل ، ولذا ورد الحثّ الأكيد ، والترغيب لكلّما له دخل في تقويته ، ودفع الموذيات عنه ، وأيضاً العطر مثال المتحلي الذي هو شطر مقابل للمتخلي ، الذي يعبّر عنه في الاخبار بنصف الايمان ، فيكون هذا أيضاً مثلا بنصف الايمان ، فليتفطن العاقل من أمثال هذه الأحكام، على درجة لطف الله جلّت آلائه ، واستحكام شريعة حضرت سيّد المرسلين ، انهم لم يهملوا امثال هذه الجزئيات من أسباب تقوية العقل الكاسب للايمان والتوحيد ، والكمال ، والسعادة فيستحيي بعد هذا التفطّن ، عن اهمال احكام هذا العقل ، وتضييع هذه الألطاف الثمينة ، وكفران هذه النعم الجميلة الجليلة ، فليخاطب نفسه العوّاد للكفران ، والتعرض للخذلان ، ويقول : يا جاهل يا عدوّ نفسه إلى م هذا التواني والكسل ؟ والاهمال والتضييع ، والتعرّض للهلاك ؟ أما ترى ان الربّ الودود لك في مقام هذا اللطف اللطيف ، والذكر الشريف ، بأن جعل لك شريعة ، وأحكاماً ، وتعرّض فيها لهذه الجزئيات من جزائك ، وأرسل نبيّاً وأنزل كتاباً ، وجعل لذلك ملائكة ، وحفظة وأعواناً ، وجعل بتحصيل هذه الخيرات مثوبات جزيلة وأنت تضيعها كلّها بالاهمال.

فصل: في التيمم

قال الله تعالى(1):(وإن لم تجدوا ماءً

ص: 78


1- النساء الآية 43.

فتيمموا صعيداً طياً).

أقول: ينبغي للعاقل ان يمعن النظر في أمثال هذه الأحكام التي لا سبيل للعقول العامة إليها ، فانّ عقول العامة ترى الوضوء والغسل مناسبة بل لازمة للصلاة حيث يرى فيها التنظيف ، والتطهير، ولا ترى للتيمم ذلك ، بل ترى خلافه ، ولكن إذا أمعن النظر في قوله تعالى بعد آية التيمم ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم ) انّ التراب أيضاً طهور، كما قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : جعلت لي الأرض مسجداً ، وترابها طهوراً ، ووجه كونه طهوراً لا يدرك إلا برؤية القذارات المعنوية ، وروح هذه القذارات الظاهرية ، ونور التواضع بمس التراب . ومسحها على الأعضاء الشريفة ، فانّ المقصد الأصلي من الوضوء أيضاً تطهير الأرجاس المعنوية بمس الماء، الذي هو مظهر أصل الحياة ، والعلم الَّذي به الاستخلاص من جميع الاوزار ، والأرجاس ومسه يؤثر في تطهير الظاهر والباطن ، وإذا فقد او ضرّ فبدله ما يحصل منه تطهير الباطن ، وهو مس التراب الذي هو إشارة إلى الرجوع إلى حقيقته التي هي عدم محض ، وتواضع في الظاهر الذي هو فناء عن الانيّة، فيحصل به ما يحصل بالماء والعلم من طهارة الباطن ، دون الظاهر ، ولأنّ مقصود الأهم امر الباطن ، فعند عدم الامكان اكتفى بطهارته التي هي العمدة، دفعاً للحرج ، ويمكن أن يقال ان هذا عدة الله في جميع مراتب تذكية النفس وتهذيب الأخلاق ، فإنَّ آخر المجاهدة ان يتواضع العبد من حوله وقوته ، ويرى الحول والقوَّة كله لله ولكن الخطب کلّه في صدق هذا الحال وعدم الغرور فيه ، وشاهده ان يكون هذا حاله بالنظر إلى الامور الدنيوية ، والأسباب الظاهرية ايضاً ، ولا يتمسك في جلب منافعه ، ودفع مضاره بالأسباب إلا من جهة أمر الله ، لا لاعتقاد انّه ينفعه أو يضره.

فصل: في اللباس

ويقع الكلام فيه في امور:

ص: 79

الأول: في معرفة انه تعالى انّما كرّم بني آدم به ، دون سائر أنواع الحيوانات ، وله شكر النعمة ، ولا اقل من أن لا يخالف العبد في كرامة الله من اللباس مراده، فان المخالفة بنفس الكرامة اقبح لا محالة عند

العقل ، والمخالفة في اللباس يكون من وجوه:

الاوّل: بأن تخالفه في ذاته بأن تجعله من المغصوب ، أو جنسه بأن يلبس الحرير أو الذهب مثلا.

والثاني: أن تخالفه في مقداره بالتبذير .

والثالث: أن تخالفه في هيئته بالاطالة المنهية ، ونحوها أو بالتشبه بالنسوان ، أو بالتشبه بالكفّار وظنّى انّ هذا اغلظ صور المخالفة ، وأقبحها على العاقل لأنّ التشبه بأعداء الله ، والتلبس بلباسهم في حضوره، بعد نهيه بالخصوص ، كأنه مبارزة ، ومعاندة له في حكم العقل ، لا سيما بعد ملاحظة ما ورد في الحديث القدسي(1) بهذا اللفظ : قل لعبادي: لا تلبسوا بلباس أعدائي، ولا تشبهوا بأعدائي فتكونوا اعدائي، ثم انه يزيد قبحاً، ووخامة أن يكون ذلك في بلاد المسلمين ، لأنه يكون لا محالة مبغوضاً(2) لهم ، ومنك-راً عندهم ومخالفاً لصورهم واللباس نفسه للستر ، والحفظ وكيفيته ليس إلا للتزين للغير، فالتلبس بلباس الكفّار في بلاد المسلمين ، مع كونه منكراً عندهم ، لا يكون إلا من مناسبة ذاتية ، وإلا فالعرضيات هناك تقضي بتركه ، وذلك كتلبس بعض أهل زماننا بلباس الافرنج ، فانّهم يتشبهون بالافرنج بقصد الوجه فيما يضرهم في دنياهم أيضاً ، بل وقد رأى أنّ بعضهم من جهة التشبه بهم ، يعالجون شعرهم الأسود بالدواء ليكون

ص: 80


1- كما مر في الحديث القدسي المروي في الوسائل .
2- قد صار التلبس بلباس اعداء الدين في زماننا هذا عزة وفخاراً والتلبس بلباس اهل الدين وشعار المسلمين عاراً وشنارا والى الله المشتكى.

اصفر ، ويشبه الافرنج مع ان أهل الذوق اجتمعوا ان السواد في الشعر أجمل ، نعوذ بالله من الخذلان في الدنيا والآخرة .

ثم ان الراجح في أمر اللباس، الاقتصاد لا الفاخر الأعلى، ولا الداني الأسفل بخلاف المأكل والمسكن ، وغيرهما مما يعيش به الانسان من عروض الدنيا ، لما في الأخبار في تعريف الشيعة ، التعبير بقولهم(علیهم السلام) مأكولهم القوت ، وملبسهم الاقتصاد ، فانّ الشهرة باللباس مرغوب(1) عنه ، من كلا الطرفين ، وربما يترجّح أحد الطرفين بالعرض، هذا ويكره(2) الصلاة في الثوب الذي فيه تماثيل، والخاتم الذي فيه صور ، ولو كانت مستورة خفت الكراهة ، ولو غيّرت بقطع الرأس مثلا انتفت ، وكذا في الحديد إلا إذا كان مستوراً او حال ضرورة ، وقيل بالحرمة ، وفي ثوب من لا يتوقى النجاسة ومن يستحل الميتة بالدبغ ، والثوب الذي يلاصق وبر الأرنب ، والثعالب ، والسود إلا في الخف ، والعمامة والكسا ، والمشبع اللون والرقيق الغير الحاكي وفي السراويل وحده إلا أن يجعل على عاتقه شيئاً ، ولو حبلا ، ومع الخضاب وإن كانت خرقة نظيفة ، واللثام للرجل ، وتخف حالة الركوب وقيل بالتحريم والنقاب للمرئة، وخلو جسدهنّ عن القلائد ، وفي الخلاخل المطلوبة لهنّ ، وظاهر القاضي التحريم ، وقيل لله اختصاصها بالصلاة ، واشتمال الصماء ، وهو ان يدخل الثوب من تحت جناحه، ويجعله على منكب واحد ، وقيل هو جعل وسط رداءه تحت احدى ابطيه ، وطرفيه على المنكب الآخر ، والقميص الذي ليس عليه رداء للامام ، والعمامة لاحنك

ص: 81


1- أي طرفي الخلقان والخشن، والفاخرة الثمينة ، كما في الوسائل، فعن الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ان الله يبغض شهرة اللباس ؛ وأبي سعيد عن الحسين عليه السلام قال : من لبس ثوباً يشهر كساه الله يوم القيامة ثوباً من النار.
2- كل ما ذكره قدس سره مذكور في الوسائل ومعنون في الكتب الفقهية فلا حاجة لنا الى نقل ذلك كله واطالة الكلام فمن اراد فليراجع اليها.

لها، وإن كان الظاهر من أكثر الاخبار كراهتها مطلقاً ، واستحباب التلحي، والتحنّك وهو ان يديره دوراً منها تحت الحنك ، والابتدال وهو ان يجعل أحد طرفيها بين المنكبين من خلف ، أو خلف الاذن اليمنى ، والثاني في الصدر ، والجمع أولى بأن يجعل رأسها مسدولة خلف المنكب الأيمن ، ويديرها على رأسه على ما يشاء ثم يديرها دورة تحت الحنك ، ويجعل آخرها مسدولا على الصدر من طرف الاذن الأيسر ، ويكره أيضاً فى القباء المشدود ، وظاهر المفيد التحريم ، وفيما يستر ظه-ر القدم ، ولا يستر شيئاً من الساق كالشمشك ، وعبر بعضهم بالجرموق ، وهو معرب سرموزه وقال جماعة بتحريمه ، والنعل السندي ، وحرمه بعضهم كلّها للنصّ ، إلا الثلاثة الأخيرة ، وفي استحباب لبس الفاخر في الصلاة ، لأنّ الله جميل يحبّ الجمال ، أو لبس الخشن أقوال مختلفة كظاهر الاخبار يمكن الجمع بأن يقال باستحباب كلّ منها اما الأول فلأنَّ الله يحب الجمال ، وأما الثاني فبقصد التذلّل والتواضع ، واحتمل بعض المحدثين حمل الثانية على التقية ولم يثبت ، وأما اسرارها فيكفي لمعرفتها التدبر فيما قاله الصادق في مصباح الشريعة ، ازين اللباس للمؤمن لباس التقوى وانعمه الايمان ، قال الله تعالى: ﴿ ولباس التّقوى ذلك خير) وأمّا اللباس الظاهر ، فنعمته من الله يستر بها عورات بني آدم، وهي كرامة أكرم الله بها ذرية آدم ما لم يكرم بها غيرهم ، وهي للمؤمنين الة لأداء ما افترض الله عليهم ، وخير لباسك ما لا يشغلك عن الله ، بل يقربك من شكره وذكره وطاعته ، ولا يحملك إلى العجب والرياء ، والتزين والمفاخرة ، والخيلاء فانّها من آفات الدين ، ومورثة القسوة في القلب ، وإذا لبست ثوبك فاذكر ستر الله عليك ذنوبك برحمته ، والبس باطنك بالصدق ، كما البست ظاهرك بثوبك ، وليكن باطنك في ستر الرهبة ، وظاهرك في ستر الطاعة ، واعتبر بفضل الله عزّ وجلّ ، حيث خلق اسباب اللباس يستر بها العورات الظاهرة ، وفتح باب التوبة والانابة ليستر بها عورات الباطن من الذنوب ، واخلاق السوء ولا

ص: 82

تفضح أحداً حيث ستر الله عليك أعظم منه ، واشتغل بعيب واصفح عمّا لا يعنيك حاله وأمره ، واحذر ان يفنى عمرك بعمل غيرك ويتجر برأس مالك غيرك ، وتهلك نفسك ، فانّ نسيان الذنوب من أعظم عقوبة الله في العاجل وما دام العبد مشتغلاً بطاعة الله ومعرفة عيوب نفسه وترك ما يشين في دين الله ، فهو بمعزل من الآفات ، خائض في بحر رحمة الله ، يفوز بجواهر الفوائد من الحكمة والعرفان وما دام ناسياً لذنوبه ، جاهلا لعيوبه ، راجعاً إلى حوله وقوته ، لا يفلح إذاً ابداً انتهى » وللمؤمن في التدبّر باشارات هذا البيان المقدّس الوافي مجال واسع ، ولا بأس بذكر ما يذكر ما يمكن ان يراد من بعض اشاراته الاجمالية منها قوله (ع) وخير لباسك ما لا يشغلك عن الله-اه .

أقول: هذه العبارة من جوامع الكلم ، الذي لا يبلغ على كنه ما فيه فطنة البشر ، وكلّما يتفكّر الانسان فيه يزيده المعرفة بحسنه وكماله ومن جملة ما فيه مع وجازة اللفظ اشتماله بجميع مراتب الخير في أمر اللباس ، مع اشارة إلى علّتها اشارة إلى علّتها ، لأنّ اللباس إذ كان أجود كثيراً يشغل القلب بالرياء ، والعجب والتفاخر ، وحفظه ، وإذا كان ادون أكثر من حده الشرعي ، وهو أيضاً يشغل القلب إما بالرياء أو بالخجل ، والتكلّف بستر بعض نواقصه عن الأنظار، ويلجأ الانسان إلى أن يتحفّظ من وخامة ما يؤثر في خلق العالم من حقارته ودنائته ، فانّ في ذلك أيضاً وجوهاً للحكمة لا يعقلها ، ولا يصيب حقيقتها من دون شوائب الغرور ، إلا من أعطاه الله الحكمة لفضله العظيم ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، فانّ الانسان إذا لبس الأدون من اللباس ، يعامله الناس معاملة المجانين والأراذل ، وذلك قد يصير سبباً ، وعوناً للشيطان في بعض الأحوال ، فان الجاه مقدار منه من أسباب الآخرة ، ولكن الخطب كلّه انّ الجاه من جهة أنّه غذاء للروح وموافق لهوى النفس ولذته روحانيّة فوق اللذات الجسمانية ، يعمى حبه قلب الانسان ، فيغتّر

ص: 83

في رعاية قدر الحاجة منه ، وإخلاص النية فيه ، فيحصل ما يضره ضرراً عظيماً ، فيتخيّل أنّه نافع ، ويعتقد انه يحصله الآخرة ، وهو يحصله للدنيا ، فهلك من حيث لا يشعر ، ويحسبه هيناً ، وهو عند الله عظيم والكلمة الجامعة تحفظ هذه الحدود الدالة للمريد على الصراط السوي والنمط الأوسط ، وجادة الاعتدال من طرفي التفريط والافراط ، هو ما عبّر عنه: الامام (علیه السلام) من قوله: خير لباسك ما لا يشغلك عن الله ، نفاسة أو

ردائة وأما قوله : بل يقربك إلى الآخرة ، اشارة إلى تفصيل اصول ما يستحبّ رعايته في اللباس.

وأما قوله : فلا يحملك اه ، فهو إشارة إلى وجوه الاشتغال عن الله إجمالا ، ومن أراد تفصيلها فعليه ان يعمل بما القاه (علیه السلام) في هذا الباب(1). من الأصول ، لينفجر على قلبه عيون الحكمة المودعة فيها وأما قوله : ولا تفضح أحداً حيث ستر الله عليك اعظم منه ،

واشتغل بعيب نفسك عمّا لا يعنيك حاله وأمره - اه

أقول : هذا الأصل من أعظم اصول المجاهدة، واسلمها وانفعها ، وفيه أيضاً اشارة إلى علّة الحكم ، فانّ الانسان إذا اشتغل بعيب نفسه نفسه ، وإصلاحه يكون ذلك شغلاً شاغلاً له عن الالتفات الى الغير، وتجسس عيوبهم ، فتسلم من جميع آفات ايذاء الناس إذا غلبها ، وأما إذا غفل عن نفسه ، فتراه لا يسكت عن التعرّض للغير ، والاشتغال بتتبع عثرات الناس ، ويدخل تحت قوله (علیه السلام) على ما رواه في الكافي(2)، وغيره : يا معشر من أسلم بلسانه ولم يسلم قلبه لا تتبعوا عشرات المؤمنين ، وإذا أعان الله عبداً على نفسه ، يعرفه عيوب نفسه وآفات

ص: 84


1- وهو الباب السابع من مصباح الشريعة في آداب اللباس.
2- الكافي،باب من طلب عشرات المؤمنين وعوراتهم: عن اسحاق بن عمار عن أبي عبدالله(علیه السلام)، وكذا عن أبي بصير عنه (علیه السلام).

عمله ، ومداخل الشيطان ، فيشتغل بنفسه عن غيره ، حتى ينتهي أمره إلى أن لا يرى في الناس أحداً مثله ، في سوء الأعمال والاخلاق ، بل يعتقد في كل من رأه انه اتقى منه ، وهذا الحال اسنى الحالات ، بل في بعض الأخبار انه آخر الصفات الحسنة ، وهو تمام الأمر ، فإن اشكل عليك تصوير ذلك، من جهة انّ المؤمن كيف يقطع بكل من رآه من الناس وفيهم هؤلاء الفسّاق ، والفجار المعلنون بالكبائر انه اتقى منه،بل كيف يحتمله فضلا عن القطع.

أقول: وتصويره يظهر بعد التأمل في من غلب على قلبه شيء من الخوف والحب والشوق ، بحيث ملك قلبه ، وغلب على سره ، فظهرت آثاره في جوارحه وحبّه ، فانّك تراه يحكم بخلاف الحس، أما سمعت المثل المعروف : انّ الذي لدغته الحيّة يخاف من الحبل، مع قطعه بأنّ الحبل لا يضره ، وأما سمعت ان الذين غلب عليهم الشوق ، والمحبة ربما احرقوا بالنار ، ولم يحسوا بألم الاحراق، من غلبة لذة الوصال ، فإنّ المؤمن إذا تجلّى عليه عظمة مولاه ، ومراتب عطوفته ، وعنايته وعرف موقع جناياته ، وعصيانه مع هذا الملك العظيم الرؤوف ، وعرف شيئا من حكم عدله ، وجلاله ، قد يبهر الخوف عقله ، ويؤثر في قلبه ، ويغلب على حسّه ، فيحكم بان ما هو فيه من قبح المعصية ، لا يمكن ان يوجد في العالم مثله ، وقد يؤثر من جهة الحياء والخجل بأزيد منه ، ومن جهة الشوق والمحبّة بأزيد منهما ، ففي كلّ هذه الأحوال ينتهي أمره ، بحيث يحكم بخلاف الحسّ فيقول(1) النّاس أنّه خولط، وما هو بذلك ، وقد خامرهم من عظمة ربّهم عظمة ربّهم ، وشدّة سلطانه ، فأذهبت به عقولهم، يقولون مرضى ، وما بالقوم من مرض، أم خولطوا هل شملهم الخبل، وهؤلاء الأولياء هم الذين لا يكون لهم ذكر، وفكر وشغل سوى الله، بل ولا همّ ومقصود إلا رضا محبوبهم، ولا يعتنون بشيء غيره من دنيا وآخرة

ص: 85


1- كما روى في صفات المتقين في نهج البلاغة والكافي وغيره.

آنکس که تراشناخت جان را چکند *** فرزند و عیال و خانمان را چکند.

دیوانه کنی هر دو جهانش بخشی *** دیوانه تو هر دو جهان را چکند.

اقول: فواسوأتاه إنّا لله ، وإنا إليه راجعون ، مما نحن فيه من الغفلة والعزّة في هذه الدنيا ، والاسف والحسرة في الآخرة ، فانّها مصيبة عظيم رزئها ، وجلّ عقابها ، وبالجملة إذا كان المقصود الأقصى والمهم الاسنى ان يكون العبد مشتغلا بربه عن جميع من سواه ، وإن لم يقدر على ذلك ، فيما يمكنه من ذلك الأقرب فالأقرب ، لا يكون له حدّ في لباسه، بل وفي سائر ما يتعلّق به ، إلا ما يليق بهذا المقصد ، لأنّه قد يختلف أحوال السالكين في ذلك ، بل ويختلف أحوال الاعصار والامصار ، فالكلمة الجامعة هو ما أشار إليه أوّلاً ، ثم تفصيله ما أشار إلى جملة إلى آخر كلامه ، وفي ذلك كفاية لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد.

فصل: يستحبّ(1) لمن يريد اللباس أو نزعه ، التسمية وان يبدء عند اللبس باليمين ، حتى في النعل ، وباليسار عند النزع فيه ، وان يقول عند اللبس : ولا تلبسوا الحق بالباطل ، ولا تكتموا الحق ، وأنتم تعلمون ، ويقول : اللهم البسني لباس التقوى ، وجنبني الردى، وان يقول بعده : الحمد لله الذي كساني ما اواري به عورتي ، واتجمل به في الناس.

روى في الكافي في رواية(2) أمر أمير المؤمنين(علیه السلام) لمن كساه الله ثوباً جديداً الوضوء ، وصلاة ركعتين يقرأ فيهما امّ الكتاب، وآية

ص: 86


1- كما في الوسائل باب ما يستحب ان يعمل عنه لبس الثوب الجديد.
2- كما في الكتب الفقهية والسنن وكذا البسملة عند نزع اللباس مروي وانها أمان عن تصرف الجان وأما عند لبسه لدليل عام وكذا ما أورده قده» مذكور في الوسائل وغيره ولم أجد قوله : وان يقول: لا تلبسوا الحق - اه.

الكرسي، والتوحيد، والقدر، ثمّ يحمدالله الذي ستر عورته ( وزينه خ ل ) وجمّله في الناس ، واكثار قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، فانّه لا يعصى الله فيه.

وروى(1) عن أبي عبد الله (علیه السلام) انّ من قرء القدر اثنتين وثلاثين مرة فی اناء جديد ، ورشّ ثوبه الجديد إذا لبسه ، لم يزل يأكل في سعة ما بقي منه سلك.

وروي الشيخ صلاة ركعتين في المسجد بعد لبسه، وقول الحمدلله الذي رزقني من الرياش ما اتجمل به في الناس. وروى غير ذلك أيضاً .

ثمّ أنّه قد أشرنا فيما قدّمنا انّ الأمر في اللباس من حيث الجودة . والردائة ليس مثل سائر اساس البيت ، والمأكل والمسكن ، وأمّا الذي يستنبط من كلامهم فيها ، فهو ان يتواضع بقدر الوسع ، والطاقة ، ولا يزيد ، فالاخبار الواردة في الجوع والتواضع لله في ترك لذائذ الاطعمة ، وذمّ بناء ما لا يسكن وحرمة البناء للفخر ، وترك الشرفة للبيوت ، وذمّ تشييد البناء واعلائه ، وذمّ التكاثر في اسباب الدنيا كثيرة فوق جدّ التواتر ، فمن ابتلى بمسألة التجمّل في الاسباب واساس البيت وسلك هذا الوادي قد ما يوشك الشيطان ان يوقعه في ما لا نجاة له منه ولا خلاص لان التجمّل بالاعيان ، والعروض لا حد له ، لأنّ لكلّ يوم جمالاً مخصوصاً لا يكفي له الجميل السابق من الأسباب والذي كان في السابق يخلق وينكسر ، ويتجدد وغيره ، فيصير بعد كونه جمالا محبوباً ، منفوراً عند أهله وقوّة حبّ الجاه الذي دعاه لذلك ، يستدعي في كل يوم زيادة على ما سبق ، ويقول هل مزيد والمصرّ في ذلك إنما يهلك من وجوه

ص: 87


1- كما في الوسائل عن الصدوق في الخصال وروى غير ذلك ايضاً في الوسائل وغيره لا حاجة الى نقله.

مختلفة ، ايسرها والزمها الاشتغال عن ذكر الله تعالى ، ولذا ترى القرآن أكثره في مذمّة الدّنيا ، والاشتغال بها ، والحثّ على الزهد فيها ، والرغبة في أمر الآخرة ، وكفى من ذلك للمؤمن قوله تعالى: (مَن كان يُريدالحياةَ الدّنيا).

فصل: في الاوقات

اعلم ان الاوقات كالامكنة - وسائر الموجودات منها سعيد، ونحس، وشريف، وغير شريف ، بالجملة فلها احكام مختلفة تظهر فيما يوقع فيها من الأفعال بل وما يوجد فيها من الموجودات، بمناسبات ذاتية حقيقية ، يعرف من انطباق العوالم وعرضية اعتباراته يعرف من العلم بالحوادث الزمانية ، وحكم تأثير المجاورة ، وبالجملة لا يعرفها كلها إلا علام الغيوب، أو من ارتضى من رسول او ولي ، وكيف كان فقد ورد في الشرائع لها احكام ، لا سيما شريعة نبينا الخاتم (صلی الله علیه وآله وسلم) فقد ورد فيها احكام ، ووظائف مفصلة لسنيها ، وشهورها واسابيعها ، وأيامها ، ولياليها وساعاتها ، ثمّ إنّه قد ورد في أخبار كثيرة انه يؤتى بالاوقات يوم القيامة في صورة الاعيان ، بل في صورة الانسان وهكذا ورد في سائر الاعراض ، وهذا ينكره العقول الضعيفة ، ولكن على المؤمن ان لا ينكر شيئاً من امثال ذلك ، بل يقول : هم اعلم بما قالوا، ويستعين من الله الهادي ان يرزقه معرفته ، وأما تصوير امكان هذه الاخبار فيعلم ممّا اسلفناه سابقاً بانّ لكلّ موجود في كلّ عالم صورة متناسبة لذلك العالم، ويشهد له تعبيرات المنامات ، فانّ من رأى في المنام انه ينظم الدّرّ في جيد الخنازير ، قال له المعبر أنك تعلّم الحكمة للفاسق ، ومن رأى أنه يختم افواه النّاس وفروجهم ، قال : ذلك للمعبر ، واجابه المعبر بانك رجل تؤذن في شهر رمضان قبل الفجر ، وكان كما قاله ، فعلم من ذلك ان صورة الحكمة في عالم النّوم الذي هو من العوالم المثالية ، صورة الدر في هذا العالم ، وهكذا الأذان الذي قبل الوقت فيه بصورة الخاتم ، وهكذا ، بالجملة لكلّ معنى حقيقة صورةً

ص: 88

وقالباً في كلّ عالم بحسبه ، وهكذا ، ولها آثار مختلفة باختلاف العوالم فانّ هذا العالم من جهة كونه عالم الطبيعة مظلمة ضيقة ميتة ، للحقائق فيه هذه الصوّر ، وهذه الآثار التي نراها بالعيان وفي عالم المثال مثلا من جهة انه لا مادّة فيه ، بل الحقائق فيه مصوّرة ، ومقدّرة بلا مادة طبيعية آثار هذا العالم المادّي ، ولذا ترى إنّ الإنسان يطير في النوم ، يجوز عن الجدار.

وأما عالم العقلي ، من جهة انه دار الحيوان يكون جميع الحقائق فيه ذات حيات، وشعور كما ورد ان السرير في الجنة يبتهج الجنة يبتهج ، ويتحرّك من سروره إذا جلس عليه المؤمن ، وكيف كان لا وجه لاستبعاد احوال العوالم العالية في ميزان عالمنا هذا قال بعض من يدّعي الكشف: انّ كل ما في الرّوايات مما تجده بحكم هذا العالم مجازاً كان له في عالم المثال حقيقة بلا توسّع وتجوّز ، رأيناها فيها بعين هذه الصور المرويّة.

، وقد ذكروا لهذا العالم من الخواص ما لا يقبله عقول أكثر الناس، واستشهدوا لها من الأخبار الواردة في حالات الكاملين وصفاتهم ، من قبيل قولهم (علیهم السلام) كلنا محمد، وكلنا واحد ، وأنه في شرب بعض انهار الجنّة طعم كلّ مطعوم (1)، ومشروب ، يقولون : ان هذا من جهة ان موجودات هذا العالم كلها جنيبة حاضرة عند كل واحد منها ، فانّ الانسان يجد في كل لحظة جميع اللذات الموجودة في كل شيء كل واحد بطعمه المخصوص ، ولذته الخاصة من غير بطلان للخصوصية

ص: 89


1- كما في العيون بإسناده الى عبد السلام بن صالح الهروي ، قال قلت للرضا علیه السلام ، یا ابن رسول الله اخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت فقد اختلف الناس فيها ، فمنهم من يروى انها الحنطة، ومنه من يروي انها العنب ومنهم من يروي انها شجرة الحسد ، فقال(علیه السلام): كل ذلك حق قلت فما معنى هذه الوجوه على اختلافها ، فقال : يا ابا الصلت شجرة الجنة تحمل انواعاً ، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب ، ليست كشجرة الدنيا الحديث اقول : وفي هذا الحديث اشارات لطيفة لا يسعها المقام .

يقولون اشياء غير هذا ، لا سبيل لنا لردّهم ، فنذره في بقعة الامكان بل نظنّ صدقه بتقريبات وتنبيهات ذوقيّة، واشارات وتلويحات نقليّة ، حتى يرزقنا الله معرفته بالعيان من فضله وكرمه ، وبالجملة يجب على العاقل اذا عقل ، انّ للاوقات والازمنة احكاما ، واشارات ، وإن وقته في مدّة عمره بمنزلة رأس مال خطير ، بحيث يمكن ان يتجر به في كلّ نفس منافع عظيمة ، وممالك كثيرة ، بل سلطنة دائمة ، يظن ان يتلف منه شيئاً بلا فائده ، بل يجعله مكان هذه الأرباح الكثيرة الفاخرة ، سببا للشقاوة الدائمة والخلود في العذاب الأليم

ثمّ له أن يعتبر ممّا مضى من عمره ووقته ، لما يأتي في امور : منها : انّ ما مضى فنى بلداتها والامها لم يبق لذة ولا الم بل يبقى تبعة واجر .

ومنها ان الباقي منه لا يصح الرّكون اليه ، حتى الى آخر يوم وليلة ، فما لا يقدّم هم مثل هذا الامر محتمل الوجود الهين البقاء ، وسريع الزّوال على أمر قطعي الاتيان ، والدّائمي العظيم الشّأن.

ومنها ان السعادة والشقاوة ، واللذة والالم فيه انما هو بقضاء وقدر بسعي وعمل . ولا بتهيؤ اسباب ، وبين السعي والوصول ، والاسباب والمأمول عموم من وجه ، وإذا اعتبر بهذه الأمور ، وتذكّر به عند الهمّ بالامور المهمة وتفكّر فيهما ، حتى أثر في قلبه ، لا يكون هم الدنيا عنده أكبر من هم الآخرة ليبتلي بما يورثه ذلك من الامور الاربعة الموجودة لصاحبه ، كما على ما روي ان من أصبح وأكبر همه الدنيا فليس من الله فی شيء ، والزم الله قلبه أربع خصال : هما لا ينقطع عنه ابدا ، وشغلا لا يتفرّغ منه ابداً ، وفقراً لا ينال غناه ابداً ، واملا لا يبلغ منتهاه أبداً.

فصل: في الاهتمام بالاوقات الشريفة

وفيه امور: الأول: فيما يقع في كل سنة مرة .

ص: 90

والثاني: فيما يقع في كلّ شهر مرة .

والثالث: فيما يقع في كل اسبوع مرة .

والرابع: ما يقع في كل يوم وليلة ، من الاعياد الشريفة ، وأيام المواليد العزيزة ، وليالي القدر ، وايام وقع فيه امر عظيم من الله بالنسبة إلى الخلق أما الاعياد ، فاللازم ان يعرف الانسان معنى العيد في الاقبال ، ومنها ان يفهم معنى العيد الموجود انه من مقامات السعود ، وانجاز الوعود ، واقبال الله على العبيد ، واحضار هم بين يدي مقدّس سرادق ظلّه المجيد ، واطلاق خلع الحبّ على القلب ، ونشر الوية القرب من الربّ ، واشراق شموس الاقبال على وجوه الآمال ، وتباشر الاعمال والابتهال بالقبول ، واجابة السؤال ، وتقديم الممالك ، والاتكاء على الارائك ، وتسليم مفاتيح الرّضا والرّضوان ، وسطر كتب الامن والامان ، وتهيّة ما يحتاج هذا العيد المسعود إليه في المنزل الذي يقدم عليه ، وبالجملة يوم العيد يوم اطلق الله فيه الاحسان والأنعام بكلّ خاص وعام ، وهو يوم اظهار الجود والكرم ، وبذل الفضل والنعم ، ومن البين ان الجود والكرم من كل جواد بحسب جوده ويساره ، وبحسب قابلية العبد واستعداده ، وإذا كان الأمر بهذا المنوال ، ونشر الوية الأنعام والافضال من الله الكريم المتعال، فليأت كل بر وفاجر ، ومحسن ومسيء ، ولكن باعتراف وحياء ، وخجل ورجاء ، فانّه لا ردّ له البتة في مثل هذا اليوم عن جناب اللطف والاحسان ، من الملك المنّان ، ولكن ذلك كله لمن اعتقد بالله وجوده ، ووعيده ، ولكن الكافر والجاحد والآيس ، والمعاند لا حظ له بحكم العقل ، من شرب حياض الفضل ، بل مورده ومصدره من حياض العدل هذا فانظر كيف عكس الامر بين المسلمين ، فجعلوا يوم العيد عدة اللهوات ، وشرب القهوات ، واللعب واللّهو ، والغفلة والسهو ، روى رئيس المحدّثين في كتاب من لا يحضره

ص: 91

الفقيه ، قال: نظر الحسن (علیه السلام)(1) الى الناس يوم الفطر ، يضحكون ويلعبون ، فقال لاصحابه انّ الله عزّ وجلّ خلق شهر رمضان مضمارا لخلقه ، يستبقون فيه بطاعته ورضوانه ، فسبق فيه قوم ففازوا ، وتخلّف آخرون فخابوا ، فالعجب كلّ العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ، ويخسر فيه المقصرون وايم الله لو كشف الغطاء ، لشغل محسن باحسانه ، ومسيء باسائته ، وفي غيرها بزيادة عن ترجیل شعر ، وتصقيل ثوب، وكيف كان، فليكن العبد لا محالة قبيل دخول العيد، حاله كحال من ناداه منادي ملك ملوك الدنيا ، في معشر عام الى مجلس السلام ، والخلع والانعام وله جنايات عظيمة ، وسوابق امور وخيمة ، فانّه لا محالة يكون في قلق ، واضطراب بين الخوف والرجاء ، ويكون لا محالة عليه أثر الخجل والحياء ، ويتفكر في أن بعدله عدة ينفعه في هذا المجلس العظيم ، وينظر هل يُهمّه أن يكون مقامه في هذا المجلس مقام الاعزّة ، ولباسه من لباس شرفاء الحاضرين ويكون شمول الطاف هذا الملك عليه مثل الأقران ، او يرضي أن يكون رأسه مكشوفاً عن تاج کرامات الله وعورته مكشوفة عن ستر الله ، ومقامه مقام المقصرين المستحقين لاعراض الله ، ويتفكر في ذلك ساعة ، ثم يستعلج في ذلك بالعلاجات الفورية لاهل التقصير ، أوّلا بالتوبة الحقيقية ، والانابة الصادقة ، وان لم يقدر على ذلك ، ولم يعطه نفسه العوّاد للخبيثات ، الفرصة من الدخول من باب التوابين ، فلا محالة ترضيها للدخول من باب الاستغفار ، بقدر الذنب والدّعاء بالعفو ، والقبول ، وتوفيق التوبة ، ويقول إلهي ان لم تسمح الا من اجازته برائة عمله ، فانّي لممّن لم

ص: 92


1- أقول روى هذا الخبر في الكافي في كتاب الصوم في باب النوادر عن علي عليه السلام ورأيت ايضاً في غيره باختلاف في العبارة وكيف كان فحقيقة المطلب هو ما افاده قده.

تجب قبل القضاء ، واجابة المسؤول ، وان لم تسمح نفسه بذلك تعنه طاعة الرّحمان أن يبالغ في الدعاء ، والاستغفار فلا محالة ان يدخل من الباب الذي دخل منه ابليس ، وفرعون ، ولم يخيبهما ارحم الراحمين ، واجاب دعوتهما ، وهو باب عدم اليأس والقنوط ، فالاولى ان يقول يا من أجاب الأبغض خلقه ابليس ، حيث استنصره ، استجب لي كما استجبت له ، ويا من قضى حاجة فرعون اقض حاجة هذا الفرعون الثاني بل الأوّل ثمّ يحسن ظنّه على التحقيق بالاجابة ظنّه على التحقيق بالاجابة ، والقبول ، ونيل المراد والمأمون.

وتفكر فيما افاده السيّد الاجل ، معلّم أهل المراقبة السيد ابن طاوس في الاقبال ، بقوله : أيها الاخ المقبل باقبال مولاه ليعلم كيف تحضر بين يديه ارحم ضعف روحك ، ما قبل مشورة نصيحك ، وفكر في تعظيم من هو مقبل عليك ، وطهر قلبك من الشواغل التي يحول بينك وبين احسانه اليك إلى أن قال: اعلم ان المتوجّهين إلى الله في يوم الذي ، سمّاه جلّ جلاله عيداً لعبيده، وانجازاً لوعده ، وأمرهم بالخروج إليه ، والوفادة عليه ، فانّ الناس المتوجّهين فيه على اصناف : صنف خرجوا وقد شغلهم هيبة الله جلّ جلاله وجلالة عظمته ، وذهول العقول عن مقابلة حرمته ، واجابة دعوته ، حتى صاروا كما يصير من لم يحضر ابداً عند خليفته ، واستدعاء للحضور بين يدي عظمته الشريفة ، فانّه يكون متردّداً بين الحياء والخجالة للقاء تلك الجلالة ، وبين خوف سوء الأدب ، وبين أمواج العجز عن الجرئة بالخطاب ، والتماس الجواب ، وبين الفكر فيما ذا عساه يكون قد اطلع الخليفة عليه من أفعاله ، وسوء اعماله، فيشغله هذه الشواغل ، عن بسط كفّ سؤاله ، واطلاق لسان حاله.

ثم ذكر الصنف الثاني، وهم الذين تفكروا في نعمته تعالى من خلق السماوات والارضين ، وما فيهما من ابتداء خلقهما، وحفظهما،

ص: 93

وترتيبهما لاجل انعامهم، ورزقهم ، وتربيتهم ، وبالجملة لوجوه جميع خيراتهم الدنيوية والدينية ، فاخجلهم ما مضى من انعامه ، وما حضر من اكرامه عن طلب شيء آخر ، ومن شريف مقامه.

وذكر الثالث: وهم الذين تفكروا في خيانتهم لهذا الملك المنعم المنّان في نعمه ، وتضيعها بالخسران حقه ، فكساهم ذل الخيانة والامانة عار الخجل والوجل ، حتى ما بقي بينهم فراغ لرجاء وأمل.

وذكر(1).

وذکر الرابع: وهم الذين على مراكب دالة باعمالهم في لباس غفلتهم ، وجهالتهم في نعم خالقهم، ورازقهم ، ومنن مولاهم وسيّدهم ، مدّة عمرهم، وزمان حياتهم، من الانشاء والحفظ، والبقاء، ووجوه النعماء، وقال هؤلاء كالعميان، وكالمرضى.

وذكر الخامس: وهم الذين خرجوا ليطلبوا أجرة أعمالهم في شهر رمضان، ولسان حالهم طلب المحاسبة في معاملتهم مع ربّهم ، فأجابهم لسان حال عدله:

إذا كان كلّ منكم يطلب اجرة عمله ، فاذكروا افعالنا لاجلكم قبل وجودكم ، وهذه حياتكم من لدن أبيكم آدم ، وعملنا مع آبائكم وامهاتكم وجدودكم ، فافكروا في اجرة كلّ من استخدمناه في مصلحتكم الملائكة والأنبياء والمرسلين، والملوك، والسلاطين، وغيرهم من جميع عبيدنا من الماضين، والحاضرين، فانظروا مقدار الفاضل من

ص: 94


1- هذا هو الصنف الثالث في كتاب الاقبال للسيد الاجل والاصناف الذين ذكرهم السيد في الاقبال ستة على ما في النسخة التي عندي ولكن المؤلف قده عدها سبعة مستنداً اليه رضوان الله عليه ولعله من اختلاف النسخ وراجعت بعد كتابة هذا المقام الى نسخة أخرى من كتاب الاقبال ، فوجدته كما في المتن من كونهم سبعة وذكر (قده) مضمون ما سرده السيد «ره» لا عين الفاظه وربما نقل بعض عباراته وقد صححنا بعض الاغلاط الموجودة في النسخة المطبوعة ونسأل الدعاء من الناظرين والقارين.

اجرة أعمالنا، فادّوه إلينا ثم تعرضوا لسؤالنا، حيث عدلتم عن باب الاعتراف لنا بالفضل، ووقفتم على باب طلب الاجرة.

وذكر السادس : وهم الذين عرفوا انّ أعمالهم لا تقابل نعمه جلّت آلاؤه ولم يطلبوا من باب الأجر سبباً بل مدّوا كف لسان الحال الذي كان قبل الوجود أي لسان الفقر والاحتياج لطلب الكرم والجود المفضل.

وذكر السابع: وهم الذين لبسوا لباس المعرفة بقدر المنة عليه ، باقباله تعالى عليهم ، وحضورهم للاحسان إليهم ، وليس بهم خاطر ولا ناظر يتردّد منذ نشروا إلى حيث حضروا في غير طرق الاعتراف بالمنن لربّهم جلّت آلاؤه ، ويتمنّى لسان حالهم ان لو كان لهم قدرة ان يكونون موجودين في الأزل ، ولا يزال مع وجوده ، وكلّ منهم باذل غاية مجهوده في خدمة معبوده ، وشكر جوده لرأى ذلك قاصراً عن مقصوده ، ولولا خوف المخالفة لما يراه ، لتمنّى كلّ منهم الا يفارق باب الخدمة في دنياه واخراه .

أقول إنّما اكتفى «ره» بما ذكر ، واصناف الخارجين أكثر من أن تحصى ، لأنّ مقصوده الإشارة إلى بيان ما هو الغالب على المتعبدين من اصحاب اليمين من الاحوال ، والأوصاف وإلا فالسائرين الى الله من أهل التوكل والرضا والتسليم ، والشوق والمحبة والانس ايضاً لهم حالات سنية غير ما ذكر فان من الشوق والمحبَّة من يحضر هذا المجلس ، وهو سكران من وجد ما أصابه من لذَّة الدعوة والنداء ، ولا الالتفات له الى العامل والعمل والأجر . وهو يلبى داعي المجلس السروره وبهجته ، ويفديه لروحه ومهجته ثم انه ذكر السيد كلاماً ، وذكراً جميلا للمتشرف باستقبال العيد، وهو قوله: اللهم إنّ الملوك والأمراء قد وهبوا خلعاً لمماليكهم وعبيدهم ،

ص: 95

وجنودهم ولو كان مماليكهم من الانبياء ، والعبد المملوك رأسه مكشوف من عمائم المراقبة التي يليق بكم ، ومن ميازر الاخلاص التي تجب لكم ، ومن سرّ الإقبال عليكم ، ومن الخلع التي يصلح للحضور بين يديكم ، وثياب العبد المملوك خلقة بيد الغفلات ، ودنسة من وسخ الشهوات، ولباس ستر عيوبه ممزّق بید ایثاره عليكم ، ومغفر غفران ذنوبه ، مكسر بيد تهوينه بالاستغفار الذي يقربه إليكم ، وعوراته مكشوفة وعثراته مخوفة ، فهو متهتك في هذا العيد السعيد بسوء ملبوسه ، وخجلان خذلان من ثياب منحوسة ، فما انتم صانعون بمملوك يقول لسان حاله : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وأنتم علّمتم الملوك مكارم الأخلاق ، وعنكم ومنكم عرف ابتداء الخلع ، وإطلاق الأعناق ، والأرزاق وقد كان العبد المملوك لما ابتديتم بانشائه ، عرفتم ما يقع منه من سوء إيابه ووسعه حلمكم حتى خلعتم عليه خلع البقاء ، وخلع سلامة الأعضاء ، وخلع الشفاء من الادواء ، وكسوتموه لحماً وجلداً ، وبالغتم معه انعاماً ورفداً ، فبقي العبد المملوك عرياناً في حضرتكم ، فمن ذا يستره ويكسوه إذا رأوه قد ضاقت عنه سعة رحمتكم ومن يأويه اذ نودى عليه اي طريد نقمتكم فيا من خلع عليه وقد عرف ما ينتهي حاله إليه ورباه وغذاه وآواه ، فقد احاط علماً بجرأته عليه ، وما كان قد تشرف بمعرفة مولاه ، ولا ارتضاه ان يخدعه في دنياه، ارحم استغاثته ب-ك ، واستكانته لك . واستجارته بظلك ، ووسيلته بفضلك إلى عدلك ، وأكسه من خلع العفو والغفران ، والأمان والرضوان، ما يكون ذكرها ، وشكرها ، وسرها منسوباً إلى رحمتك ، وجودك فقد انكسر قلبه ، وخجل واستحيى من وقوفه عرياناً في يوم عيدك ، مع كثرة من خلع عليه من عبيدك ووفودك ، وما له باب غيرك ، وهو عاجز عن عتابك ، فكيف يقوى على حرمانك وعقابك.

فصل: قال ومن آداب العبد يوم العيد مع من يعتقد أنّه امامه

ص: 96

وصاحب هذا المقام المجيد(1)

فأقول: واعلم أنّه إذا كان يوم عيد الفطر ، فإن كان صاحب الحكم والأمر متصرّفاً في ملكه ورعاياه على الوجه الذي أعطاه مولاه فليكن مهنا له بشرف اقبال الله تعالى عليه، وتمام تمكينه من إحسانه ثمّ كن مهناً لنفسك ولمن يعزّ عليك ، وللدنيا وأهلها ، وكلّ مسعود بامامته بوجوده وسعوده ، وهدايته وفوائد دولته ، وإن كان من يعتقد وجوب طاعته ممنوعاً من التصرف في مقتضى رئاسته ، فليكن عليك أثر المساوات والمواساة في الغضب مع الله تعالى مولاك ومولاه والغضب والتأسف على ما فاتك من فضله وروى(2) قول أبي جعفرعلیه السلام للراوي يا عبدالله ما من عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلا ويتجدّد لآل محمد فيه حزن قال : قلت ولم قال لأنهم يرون حقهم في يد غيرهم .

وأقول(3) لو أنّك استحضرت كيف كانت تكون اعلام الاسلام بالعدل منشورة ، واحكام الأنام بالفضل مشهورة ، والأموال في الله إلى سائر عباده مبذولة، والامال ضاحكة مستبشرة مقبولة ، والأمن شامل للقريب والبعيد، والنصر كامل للضعيف والذليل والوحيد، والدنيا قد اشرقت بشموس سعودها ، وانبسطت يد الاقبال في اغوارها وتجودها فظهر من حكم الله جل جلاله الباهر ، وسلطانه القاهر ما يبهج العقول والقلوب سروراً، ويملأ الآفاق ظهوراً ونوراً، لكنت والله يا أخي قد تنغصت في عيدك الذي أنت مسرور باقباله ، وعرفت ما فاتك من كرم

ص: 97


1- ايضاً من كلام السيد ره.
2- أي وروى السيد بإسناده الى جعفر بن بابويه من كتاب من لا يحضره الفقيه وغيره بإسناده الى حنان بن سدير عن عبد الله بن دينار عن أبي جعفر عليه السلام انه قال:يا عبد الله ما من عيدأه.
3- أيضاً في كلام السيد ره.

الله وافضاله ، وكان البكاء والتلهف والتأسف اغلب عليك ، وأليق بك : وأبلغ في الوفاء لمن يعزّ عليك ، وقد رفعت بك الآن ، ولم اشرح ما كان يمكن فيه اطلاق اللّسان ، وهذا الذي ذكرناه على سبيل التنبيه والاشارة ، لأنّ استيفاء شرح ما نريده يضيق عنه مبسوط العبارة ، اعلم انّ الصفاء والوفاء لأصحاب الحقوق والتفريق والبعاد ، احسن من الصفاء والوفاء مع الحضور واجتماع الأجساد ، فليكن الصفاء والوفاء شعار قلبك لمولاك ، وربّك القادر على تفريج كربك.

فصل: ومن مهمّات الايام الشريفة

ان يسلم المؤمن من امة نبينا على حصر يومه وليلته من ائمة الدين، ويقول له بعد التحية والسّلام يا مولاي انت سيد كریم، امام جواد عظیم، تحب الضّيافة ، وتكرم الضيف ومأمور من الله بالاجارة فاضفني ، واجرني وأنا اليوم ضيفك ، وجارك واجعل جزائي منك ان تدخلني في همك وحزنك ، ودعائك ، وحمايتك ، وولايتك ، وشفاعتك ، وشيعتك وارغب إلى الله في ثوابي وخيري ، وهدايتي وارشادي ، وتأييدي وتسديدي ، وتوفيقي ، وكل خير لي ، وأهلي وإخواني المؤمنين لديني ودنياي وآخرتي ، وان يختم ليلتي ويومي ، وشهري ، وسنتي ، وعمري برضاه، ويرضيني عنه ، ويجعلني معكم في الدنيا والآخرة صلوات الله ، وسلامه عليكم أجمعين ، ويفعل ذلك في أوّل ليلته وآخرها ، وأوّل يومه وآخره .

وأما تفصيل حصر الايام فالسبت لرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، والاحد لامير المؤمنين(علیه السلام) والأثنين لامامين الحسنين(علیهماالسلام)، والثلاثاء للامام أبي محمد السّجاد ، والامام أبي جعفر الباقرعلیه السلام، والإمام أبي عبد الله الصادق ، والاربعاء للامام أبي ابراهيم الكاظم ، والامام أبي الحسن الرضا ، والامام أبي جعفر الجواد (علیهم السلام) والامام أبي الحسن الهادي (علیه السلام) والخميس للامام الزكي أبي محمد الحسن العسكري والجمعة للامام الهمام نور الله التامّ، فرج الله القريب ابو القاسم ، الامام المهدي القائم

ص: 98

صلوات الله ، وسلامه عليه ، وعلى آبائه الطاهرين ، واولاده المنتجبين ، روحي وارواح العالمين فداه.

ومنها ليالي القدر ، وتتبعها النصف من شعبان ورجب ، وأول رجب ، ويلزم لمدّعي الإيمان بالله ورسوله (ص) ، والقرآن العظيم ، ان يعامل معها ما يظهر منه آثار التصديق ، والايمان ، ومن لوازم الإيمان أن يكون همّ هذه الليلة في قلبه ، كهم الف ليلة ، وازيد لأنه خير من الف شهر ، ويتفكّر في عظم هذه الليلة عند الله ، بأن جعل للعبادة فيها أبواب من النور ، كنور عبادة الف ليلة ، فيكون عظمته عنده أيضاً بهذا المقدار ، وإذا كان كذلك فلا بد له ان يعمل لها عدة قبل وقتها أيام سنته بالدعاء ، والانتظار ، ودفع الموانع ورفعها ، وتهيئة الاسباب ، حتى تهيّأ غذاء مناسب ، ومكان مناسب ولباس مناسب ، ودعاء ، ومناجات وغير ذلك ، ممّا يكمل عبادته وخلوته ، ومناجاته مع الله ، ومن مهمات ذلك ما اسلفناه آنفاً من سلام حماته في حضراته في الليلة ، وان يتوسل بهم في مهمات الليلة، ويشفعهم في أن يقبله الله تعالى ، وعمله وتوفيقه برضاه، وحبه همّه في جميع حالاته، وأن يبقيه له إلى يوم يلقاه سالماً، من الآفات، ثم الاجتهاد بكلّ ما رأه أقرب إلى رضا سيده الكريم ، ويكون آنات ليله في مراقبة حضور مولاه، وأن لا يغفل عنه في آن واحد، ولو بالغذاء، ولا يأكل ، ولا يشرب ولا ينقلب في شيء من اموره، الا بقصد صحيح ونيّة مقربة صادقة ، ويكثر من الدعاء واللطف مع مولاه العطوف الرؤوف بمناجات لطيفة، مهيجة مبكية ، ويكثر السجدة على التراب والصلاة على سيّد المرسلين، وآله الطيبين الطاهرين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين، والمؤمنين والدعاء لفرج حجة العصر وحفظه ونصره، وان يرزقه الله رضاه، ويهديه بهداه، وتوفيقه لطاعته، وله أن يعمل ببعض ما حكى

ص: 99

عن المجاهدين(1) من شدّ الایدی علی الاعناق، والضّجعة فی القبور، وعرض النفس على النار ، وعدّ كثرة حلم الله عند جناياته العظيمة، وذكر حسن صنع الله به مع قبح معاملته معه ، وان يكون كل لسان ومناجات لارباب الاحوال أصلح ، واسرع في اجلاب حاله واكثر تأثيراً في رقته ، وهیجان احزانه واشواقه اثر عنده مما ليس كذلك ، وان يكون في جميع حالاته بحسن ظنه بعفو الله وحلمه وجميل صفحه ، وكرم عفوه ، وحسن تجاوزه وتبديله السيّئات باضعافها من الحسنات ، وأن يكون دخوله في مناجاته من كل باب انسب واليق بحاله ، وبما فيه من الوقت ، ويكثر من قول يا من اجاب لابغض خلقه ابلیس ، يا من قبل السحرة بعد ان اتوه معاجزين، ولرسوله مخاصمين ، ومعاندين اقبلني ويقول: يا من قبل السحرة بموسى (علیه السلام) وهارون (علیه السلام) ، اقبلني بمحمد وعلي وآلهما الطاهرين ، وان ينقلب من حال إلى حال ، ومقال إلى مقال ، تارة يتشبّه بالخائفين ، واخرى بالرّاجين بل يتشبّه بأهل الرّضا والتمكين ، بل وأهل الشوق والأنس ، ويتفوّه بمناجاتهم ومقالاتهم ولكن عليه أن يستعلج في أن لا يبتلى بكذب صريح(2) ودعوى باطلة ، ويحتال في تصحيح المقال، ولو بالتوسع والمجاز ، وأن يدعو الله عند طلب المقامات الرفيعة يا أجود الأجودين ، ويا أقدر الأقدرين ، وان يستدلّ ببعض استدلالات الأئمة (علیهم السلام) بقبول الله تعالى.

وأمّا الأيّام المواليد الشريفة ، مثل مولد رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وسائرالمعصومين، ويتبعه يوم البعثة الشريفة ، ويوم غدير خم ، ويوم دحو

ص: 100


1- مثل ما نقله قده سابقاً من الزاهد العابد ، الحاج الاشرفي ره ، وذكرنا ترجمته رضوان الله عليه هناك فراجع.
2- مثل اظهار التوكل والرجاء او الخوف من جنابه عز وجل ، مع عدم تحقق حقائق هذه الخصال في قلبه ، واظهار التوبة والانابة مع عدم الارتداع والانقلاع عن المعاصي ، وعدم الرجوع اليه تعالى.

الارض، ويوم المباهلة فإنّ المؤمن بالله تعالى ، وبآلائه العظيمة يعظم عنده هذه الاوقات ، بقدر عظمتها عند ربّه ، ويشكر ربّه بقدر عظمة انعامه في هذه المواقيت مثلا يتفكّر في ليلة المولد الشريف فوائد وجود رسول الله (ص) ، وانه مظهر رحمة الله الواسعة على الخليقة أجمعين ، وان الله تعالى بطفيل وجودهم اوجدنا ، وبهدايتهم هدانا، ووضع عنّا الاصار ، وخفّف عنا في التكاليف ، وأكرمنا بما اكرمنا وتقبل شفاعته فينا وأنّه (ع) تحمل في هدايتنا ما لم يتحمّل نبي عن امته ، ولم يدع علينا بعذاب حتى ساق الامة الى طرق الهداية في المعارف الربانية واتى من الحكم وبيّن من المعارف ما لم يظهر من جميع الأنبياء ، والمرسلين .

وبالجملة صبر في تكميل هداية الامة، ونجاتهم واوذي حتى قال صلى الله عليه وآله ما أوذي نبي مثل ما أوذيت ، حتى قتل أولاده وسبيت بناته وهتك حريمه وذبح اطفاله ، حتى أنّه ما سمع بأهل بيت نبي بل ولا أحد في العالم ، فعل بهم من القتل والاسر والسّلب مثل ما فعل بأهل بیت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ومع ذلك صبر ولم يدع على أهل الأرض بعذاب ونكال، بل دعى ربه وقال اللهم أهد قومي فانّهم لا يعلمون ، فجزاه الله تعالی عن هذه الامة ما يليق بجميل فعاله ، بل بكرم نواله .

وبالجملة إذا تفكر المؤمن في أيام مواليدهم وخلافتهم، وعظيم نعم الله تعالى في هذه الأوقات ، يرى ويعقل ما يجب علیه من شكر هذه النعمة العظيمة.

وكلّ ما ذكرناه من فوائد وجود رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) يتلوه في جميع مراتبها بل يعدله فوائد خليفته ، وأخيه أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي أخاه، وفي الشدائد واساه(1)

ص: 101


1- رواه الفريقان متواترا.

وقال من كنت مولاه فهذا عليّ (علیه السلام) مولاه ، وكذا سائر المعصومين من أولادهما، فانّ للمؤمن ان يفرح بفرحهم ويصلّي عليهم ، ويحذو حذوهم ويهتدي بهداهم، ويوالي من والاهم، ويعادي من عاداهم ويشكر الله لا سيما في مثل هذه الأيام بنعمة وجودهم بقدر القدرة والاستطاعة ، ويعلم انه لو عمر أبد الابدين ، ويسجد لشكر هذه النعمة ما أتى من حقها عشر عشیر معشارها ، وان يظهر آثار الفرح ويكثر من التحابّ مع اوليائهم ، ويتحبب إليهم بما يبلغ-ه مكنته وفطنته من واجب حقوق الموالات ، والاخوة في الولاية فانّ هذا باب عظيم من وفيه خير كثير ، ورد فيه اخبار متواترة فانّه من أعظم شعب الإيمان، بل في بعض الاخبار إنّ الإيمان ليس إلا الحب والبغض ، ولا بأس بالاشارة لبعض ما ورد في فضلها.

روى في الكافي عن أبي جعفر (علیه السلام) قال قال(1) رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) المتحابون في الله يوم القيامة على ارض زبر جدة خضراء في ظل عرشه عن يمينه وكلتا يديه يمين ، وجوههم اشدّ بياضا ، واضواء من الشمس الطالعة ، يغبطهم بمنزلتهم كلّ ملك مقرب وكلّ نبي مرسل ، يقول الناس من هؤلاء ، يقال هؤلاء المتحابون في الله ، وورد انّ(2) الحبّ في الله من أوثق عرى الإيمان ، وفي رواية قال(3) هل الإيمان إلا الحبّ والبغض ، وورد ، وورد(4) أنّهم يدخلون الجنّة بغير حساب ، وان نور اجسادهم ونور وجوههم، ونور منابرهم يضيء كلّ شيء ، وأنّهم من اصفياء الله وورد انّ التحابّ في الله أفضل من الصلاة والصيام والزكاة والحج

ص: 102


1- كما في الكافي عن أبي الجارود عن أبي عبد الله عليه السلام.
2- كما في رواية سعيد الاعرج عن أبي عبد الله عليه السلام ، من أوثق عرى الايمان ان تحب في الله وتبغض في الله الخبر.
3- كما في الكافي عن فضيل بن يسار . باب الحب في الله والبغض في الله.
4- كما في الكافي في رواية أبي بصير ورواية ابي حمزة الثمالي وغيره .

بل الذي يفهم من أخبار المصافحة(1) ان سائر الفضايل في جنب التحاب في الله وجودها كالعدم وان احد المتصافحين ان كان احب لأخيه منه كان هو أحبّ إلى الله من الآخر ، وأقرب عنده، ولعمري أنّ هذا الأمر عظيم ما اعظمه.

وليعلم ان الغدير من أجل الأعياد، وأعظمها لأنه كالجزء الأخير للعلة التامة في النجاة ، والفوز بالدرجات الرفيعة، وقد روي فضله المخالف والمؤالف، وعملوا لرواية فضله وتعظيم وقع فيه كتباً مفصلة، وعلى الشيعي ان يعظمه حق تعظيمه، ويظهر فيه الفرح والانبساط، ويتزين له، ويتودّد مع الموالين بأنواع التلطفات بالزيارة، والمصافحة والمعانقة، والدعوة والاضافة والهبة والعطاء والمباسطة في الكلام ويكثر حمد الله ويذكر من الحمد ، ما ورد(2) عند لقاء المؤمنين ويصلّي(3) ما ورد فيه من بعض الصلوات الجليلة وورد في جزائها مثوبات جزيلة ويعلم من الأعمال الواردة فيه ، ما فيه أجر عظيم ، وإن كان جميع ما يصفه المؤمن في هذا اليوم عظيماً عند الله،وإن كان حقيراً عند نفسه، ویزوره (عليه السلام)(4) بالزيارة المفصلة الواردة فيه، ويهنىء رسول الله وامام زمانه، وخفير يومه بالخصوص، والأئمة (عليهم السلام ) بالعموم، ويناجي مع إمام

عصره ببعض فقرات دعاء الندبة ويتحسّر من فقدان نعمة حضوره في مثل هذا اليوم العظيم ، ويهنىء خواص أمير المؤمنين (عليه السلام) ، والملائكة لا سيما جبرائيل الذي كان يكثر نصره في المواطن ، ويخدمه فيها ، ويتّبع

ص: 103


1- کما فی الکافی فی روایة ابی خالد القماط وروایة مالک بن عون الجهنی و غیرهما.
2- وهو قوله:الحمدلله الذی جعلنا من المتمسکین بولایة أمیرالمؤمنین علیه السلام والائمیة المعصومین(علیهم السلام).
3- کالصلوة المرویّة فی الاقبال للسید الجلیل رضی الدین این طاوس«قدس سره».
4- کزیارة أمین الله وغیرها.

ما ذكر من شكر هذه الأوقات الشريفة، شكر سائر الاوقات التي ظهرت فیها من الله المنعم ، بعض النعم الجزيلة الخاصة والعامة، فإنّ لكلّ منها مراقبة خاصة ، وفكراً مخصوصاً به، مثلا يتفكر يوم الدحو انه يوم انعم

الله فيه على أهل الأرض ببناء المسكن ، وموادّ وجوه الرزق كلّها ويقايسه بما إذا فعل به أحد من ملوك الدنيا شيئاً من هذه الوجوه وباشره بيده ، كما ورد في ذلك بسط الله الأرض ، ويتفكر في نفسه انه كيف يكون موقع هذا اللطف والاحسان عنده من هذا الملك ، فيجاهد في شكر المنعم تعالى ، الذي لا الّذي لا يحصى نعمائه الع-ادون بقدر الاستطاعة ، ثمّ انّ الذي دلّ على تعظيم أيام المواليد الشريفة ، والخلافة الظاهرية ، والفرج فيها ، انما يدلّ على تعظيم أيام وفاتهم (عليه السلام ) وشهاداتهم ، ومصيباتهم باظهار الحزن والجزع ، واقله ان يكون أيام مصيباتهم عند المؤمن ، اعزّ من أيام مصيبته ومصيبة كل من يعزّ عليه ليكون معهم في درجتهم كما ورد بذلك(1) الاخبار لا سيّما أيام العاشورا فانه يوم عظيم عند الله وأهل ملكوت السماوات والروحانيين:

در بارگاه قدس که جای ملال نیست *** سرهاي قدسیان همه بر زانوی غمست

وعظمت مصيبتك في السماوات على جميع أهل السماوات ، قد ورد في بعض الأخبار ما ينبؤ عن خطر هذا اليوم العظيم ، ! بما يبهر عنه العقول ، ويعلم من الروايات انّ ذلك لم يكن مخصوصاً بما بعد الشهادة، بل كان يعظم هذا اليوم في الأمم السالفة ، فانّ الله تعالى ذكر مصيبة هذا الامام المظلوم على الأنبياء فبكوا وجزعوا من هذه المصيبة

ص: 104


1- كما هو مذكور في كتب المقاتل، كرواية شبيب وغيرها ، ومناجات موسى ابن عمران. وقوله: يا رب لم فضلت امة محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) على ساير الامم فقال الله تعالى: فضلتهم بعشر خصال الى ان قال: والعاشورا قال موسى: وما العاشورا، قال: البكاء والتباكي على سبط محمد والمرثية والعزاء. الخبر.

العظمى ، وشاركوا بذلك رسول الله في عزائه ونالوا بذلك الأجر العظيم عند الله ، ثمّ انّ اللازم على المؤمن في هذا الأمر ان يسلم للروايات الواردة في تعظيمه وجلالة أمره ، والاجور العظيمة المتعلّقة به وإن أراد ان يصدّقه من جميع الوجوه بالبرهان، ليرفع استبعاد عقله بالحجّة يتفكّر فيما يحكى عن الشيخ العارف المحقق الكامل الشيخ حسين النجفي، حين سأله سيّد العلماء الربانيين سليل آل طه ويس بحر العلوم قدّس

سره العزيز عن حكمة عظمة هذا الأمر في هذه الدرجة وأجابه (ره) ، انّ الحسين مع انّه کان عبداً مملوکاً لله، وممکنا بذل فی سبیل محبّة الله كله من المال ، والأهل والأولاد، والعرض حتى جسده الشريف بعد

من الشهادة ، ورضى بشهادة الأهل أجمعين ، حتى عبد الله الرضيع ، وصبر فيما أصابه على بدنه الشريف من جميع وجوه المصيبات المتصوّرة وبالجملة بذل كله لله فالله تعالى أولى بأن يبذل له كلّه ، ولنعم ما أجاب ، فانّ الانسان إذا تفكر في وقعة كربلاء وخصوص شهادته ، يجدها أمراً عظيماً ، مثلا الشهيد والمقتول في العالم كثير ولكن المقتولين والشهداء يقتل كلّ منهم بقتلة واحدة ، مثل الذبح والنحر ، والعطش والهم والحزن ، والجوع والصبر ، وهو قتل بجميع ما يقتل به جميع المقتولين ، وأصابه من العطش ما لو قال قائل: ان عطشه لو قسم لأهل العالم لماتوا لم يكن لأحد نفيه ، فانّ في شدة عطشه اليوم تعبيرات وبیانات من الله الأحاديث القدسيّة ، ومن نفسه القادسة لا يقدّر العقل قدرها، وأن شئت تصديق ذلك تفكر في عبارة الحديث القدسي صغيرهم يميته العطش وكبيرهم جلده منكمش ، وتعقل عطشاً يصير مؤثراً في الجلد بالانكماش ، ثمّ تدبّر في قوله : يحول العطش بينه وبين السماء كالدّخان ، ثم تفكر في قوله:( عليه السلام) اسقوني شربة من الماء ، وقد تفتت كبدي من الظمأ ، واويلا ) ترجمة الفتت ریزه ریزه شدن است ) اي صار كبدي قطعاً صغارا ، وكيف يكون الكبد قطعاً صغاراً من العطش ، قبل أن ينضج وحتى لا يبقى فيه من الرطوبة شيء ، ويبس

ص: 105

بحيث يتقطع من اليبس ، فسبحان الله العظيم من أمر عظيم ، ثمّ انّ من قتل أهله وولده كثير ، ولكن اين من له أهل نظير اهله ، وولد نظير ولده فانّ ولده العزيز كان اشبه الناس خلقاً ، وخُلقاً ومنطقاً برسول الله وان ذلك أمر عظيم(1) يتلو درجة الامام ، أو يقارنه ويساويه ، وهكذا من اسر اهله كثير : ولكن اين من اسر له مثل الحجّة الامام زين العابدين (عليه السلام) وزينب ، وسكينة ، وأمّ كلثوم، ومن سمع جهد الاسر في أحد ، مثل ما في أهله ، وأيضاً من رفع رأسه بالقناة كثير، ولكن من سمع رأساً فعل به من الشدّة والظلم ، ما فعل برأس ابن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وبالجملة إذا تفكّر العاقل في أمره (عليه السلام) ، يجده خارقاً للعادات في تحمل المصيبات لذلك عجب من صبره ملائكة السماوات ، فانّ الأبدان ولو فرضت اقواها لا تصبر بما أصاب بدنه الشريف ، والقلوب لا تصبر بما أصاب قلبه

العزيز، بمعنى ان البدن والقلب يموت ، ويهلك من بعض ما أصابه ويستريح بالموت ولكنه بقي وصبر بامور عظيمة كلّ واحد منها من اسباب القتل فكأنّه قتل سبعين قتلة أو أزيد وبالجملة لا يقاس حكم العاشورا بغيره فعلى الموالي ان يكون حاله في هذه الأيام بحيث لا يقاس بشيء من أيام مصيباته ، ويقتدى في ذلك بأهله ، ويتشبه أما سمعت ما حكى من أحوال بعض(2) الهاشميين إلى خمس سنين من شهادته (عليه السلام) ؟ أوما سمعت مصيبة زوجته الرباب(3) ؟ واوما سمعت نوح(4) الإمام

ص: 106


1- فان الشباهة في الخلق دليل على الشباهة في الخلق « بفتح الخاء ».
2- رواه المحدث القمي ره في نفس المهموم عن الصادق عليه السلام انه قال: ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت، ولا رؤى في دارها دخان خمس حجج حتى قتل عبيد الله بن زياد لعنه الله.
3- بنت إمرء القيس وهي أم سكينة حملت فيمن حمل الى الشام ثم عادت الى المدينة تخطبها الاشراف من قريش ، فقالت: ما كنت لأتخذ هموا بعد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وبقيت سنته لم يظلها سقف بيت، حتى بليت وماتت كمداً ولها في مجلس ابن زياد قصة تحرق القلوب والاكباد.
4- كما روى السيد ره عن الصادق عليه السلام: إن زين العابدين عليه السلام السلام بكى على أبيه أربعين سنة صائماً نهاره قائماً ليله ، إلى آخر ما روى في ذلك طوينا عن ذكره اختصاراً.

السجّاد (عليه السلام) أربعين سنة ؟ وإن لم يقدر على ذلك يتأسى لا محالة ببعض الصغار الذين كانوا في زماننا من اهلنا ، وقد رأيت منهم من كان يترك اللذات في تمام أيّام العاشورا ، ولا يأكل إلا خبزاً خالياً ، بل رأيت من يستنكف من تقبيل أخيه الصغير ، شدّة محبته له ، وإن كنت أضعف من مع ذلك أيضاً . فلا محالة اجعل التاسوع والعاشور أيام مصيبتك ، تترك فيه اللذة ، وتشارك لا محالة فيهما إمام زمانك ، فانّه روحي وأرواح العالمين فداه ، لا ينسى مصيبة جدّه في شيء من الأيام ، ! بل الذي دلّ عليه بعض الكلمات انه يندب على جده في كل صباح ومساء.

ومن الثاني(1) أوّل الشهر ، وآخره ، وخميسه الآخر ، فأما الأوّل فعلى العبد المراقب أن يكون دخوله في الشهر ، كورود منزل من منازل السير إلى الله ، فله ان يذكر الله عند رؤية الهلال بما ورد ، ويدعوه السعادات المتوقعة في هذا الشهر، لا سيما السعادات المختصة به، وان يعيذ امام زمانه روحي له الفداء ونفسه ، وجميع من يعزّ عليه وإخوانه المؤمنين ، وجميع نعم ربه في هذا الشهر بالله من جميع الشرور ، بل ويتصدّق عنه (عليه السلام) ، وعن جميع من ذكر ، وأما آخره ، والخميس الآخر منه ، فقد ورد انه يعرض فيهما عمل الشهر على ربه ، فله في هذين اليومين ان يحاسب أعماله في هذا الشهر اجمالا ، ويعالج ببعض المعالجات الدينية من التوسلات ، والاستشفاعات ويكثر من التضرّع والابتهال ، والتوسل والسؤال،مع خفير يومه من ساداته في أن يستصلح أعماله، وحاله مع الله،ويدعو الله من حقه بكرم عفوه، وتبديله السيئات بالحسنات ، ويدعو بما انشأه السيّد المراقب من الدعاء لذلك في كتاب محاسبة النفس ، لاواخر النهار من اليوم ، لا سيما آخر

ص: 107


1- وهو الذي يقع في كل شهر مرة .

الشهر بما يرجى معه أن يكون كفارة لما صدر منه في الشهر كله ، ولا يترك ما ورد(1) في كلّ يوم من قوله يا من ختم النبوة بمحمّد (صلی الله علیه وآله وسلم)، اختم لي في يومي هذا بخير، وشهري بخير ، وسنتي بخير ، وعمري بخير ثمّ أنّه من أهم ما يلزم العاقل عند محاسبة نفسه ، ان يتفكر في

خجل ما يعرضه عند الحساب إذا كوشف عن قبائح معاملته مع ربّه فانّه أمر عظيم لمن كان له القلب.

وقد ورد في مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام): لو لم يكن نلحساب مهولة إلا حياء العرض على الله تعالى ، وفضيحة هتك الستر على المخفيّات ، لحق للمرء أن لا يهبط من رؤوس الجبال، ولا يأوى إلى عمران ، ولا يأكل ، ولا يشرب، ولا ينام إلا عن اضطرار متصل بالتلف، ومثل ذلك يفعل من يرى القيامة بأهوالها وشدائدها قائمة في كل نفس ، ! ويعاين بالقلب الوقوف بين يدي الجبار، وحينئذ يأخذ نفسه بالمحاسبة كأنّه إلى عرصاتها مدعوّ ، وفي غمراتها مسؤول ، قال الله: وإن كان مثقال حبة من خردل اتينا بها، وكفى بنا حاسبين - انتهى.

أقول: ويناسب المقام شرح حقيقة المحاسبة ، وكيفيتها ولكن طوينا ذكرها هيهنا لعلنا نذكره فيما سيأتي.

ومن الثالث: يوم الجمعة ومن أراد ان يعرف عظمتها ، فليراجع الاخبار الواردة في فضائلها . وأعمالها ، ووظائفها وليس مقصودنا ذلك ولكن لنا في ذلك كلمة ذلك كلمة ، وهي ان الانسان كيف لا يخلّ من خيرات العاجل والسعادات الدنيوية ، فانّها كلما ازدادت ازداد شوقه وحرصه على الاستيراد منها ، ويقول هل من مزيد ، ولكن يخلّ من خيراته الآجلة ،

ص: 108


1- وهو الذي يقع في كل اسبوع مرة.

والسعادات الاخروية ويكسل عن تحصيل كثيرها بعمل يسير ، ولا أرى إلا من اجتماع امور شتّى ، عمدتها ضعف الایمان بالآخرة ، وبعدها عدم الاطمينان بقبول أعماله وبقائها سالمة عن الآفات ، حتى يصل وقت بهجتها ولذتها وبعده الف القلب والنفس بذكر هذه الدنيا ولذاتها وعشقها بشهواتها وزينتها ، وهذا العشق منع العاقل من التعقل في عواقب الامور ، فاجتماع هذه الأسباب صار سبباً لكسل المؤمن عن الاجتهاد في تحصيل أنوار الجمعة ، وسعاداتها العالية ببعض الأعمال الجزئية ، وإلاّ فكيف يمكن ان يعتقد الإنسان مثلا ان الله يدعوه في ليالي الجمعة من أول الليل إلى آخرها ، ويقول هل من صاحب حاجة يسألني ، فأقضي حاجته ، هل من مستغفر يستغفرني فاغفر له ذنوبه ؟ ويقول ، هل من ، هل من إلى الصبح ، ويدعوه إلى الخلوة به ، ومناجاته ، والتأنس به ، ووعده ان قال العبد يا رب يا ربّ أن يقول له : لبيك عبدي ، هل يعتقد الإنسان ذلك كلّه ، ثمّ ينام إلى الصبح ، ولا يقوم وردا من ليله ليحصل فيه شيئا من هذه المراتب الجليلة ، ولعمري ان ذا لا يكون إلا من الجهات المذكورة ، وقد ورد في الحديث(1) القدسي يابن عمران كذب من زعم أنه يحبني ، فإذا جنّه الليل نام عنّي اليس كلّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه.

ثم ان الجمعة ، وإن كان جميع آناتها شريفة عزيزة ذات أنوار بهيّة ولكن معذلك فيها ساعة أشرف من جميع ساعاتها ، يقبل فيها الدعاء وهي على ما يعلم من الأخبار، ووصل إليّ من بعض الأكابر الموثوق بهم في أمثال المقام.

آخر ساعاتها التي ورد فيها دعاء السمات . ثمّ إنّي سألت بعض مشايخي(2) الأجلّة الذي لم أر مثله حكيماً ،عارفاً ، ومعلماً للخير حاذقاً

ص: 109


1- كما في الجواهر السنية لصاحب الوسائل ره عن مفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام ونقل المؤلف بعض فقراته.
2- وهو المولى آخوند ملا حسينقلي (قدس سره)» قدمنا ترجمته فراجع.

وطبيباً كاملاً ، أي عمل من اعمال الجوارح جربتم اثره في تأثر القلب ؟ قال : سجدة طويلة في كلّ يوم يديمها ، ويطيلها جدا ساعة ، أو ثلاثة ارباعها يقول فيها لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين شاهداً نفسه مسجوناً في سجن الطبيعة ، ومقيدة بقيود الاخلاق الرذيلة ، ومنزّهاً الله تعالى بأنك لم تفعله بي ظلماً ، وأنا ظلمت نفسي وأوقعتها في هذه المهلكة العظيمة.

وقراءة القدر في ليالي الجمع ، وعصرها مائة مرّة.

قال قدّس سره: ما وجدت شيئاً من الأعمال المستحبة يؤثر تأثير هذه الثلاثة ، وقد ورد في الأخبار ما حاصله انه ينزل يوم الجمعة مائة نفحة أو رحمة ، تسع وتسعين منها لمن قرئها مائة مرّة في عصرها ، وله نصيب في الواحدة أيضاً.

ومن الرابع(1) ساعات الصلاة الخمس في القسمة السادسة من النصف الاخير من الليل ، وقد ورد فيها أنّه أفضل ساعات الليل للدعاء ، وهو مجرّب فعلى العبد المراقب ان يتعقل معنى وقت الصلاة ، وإذا عقل فلا محالة يسعى في أدائها في وقتها ، فقد ورد(2). في الأخبار الكثيرة الحثّ الأكيد إلى أوّل الوقت، وفي بعضها ان أوله رضوان وآخره غفران .

وورد انّ المضيع للعصر في الجنّة موتور لا مال له، يكون ضيفاً لاهله وباصطلاحنا(كلاش الجنّة) وقيل: وما المضيع ؟ قال: يدعها حتى تصفر الشمس أو يغيب.

وورد عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) انّه قال: لا ينال شفاعتي غداً من أخّر

ص: 110


1- هو الذي يقع في كل يوم .
2- وقد ذكر ذلك كله صاحب الوسائل قده في كتاب الصلوة من الوسائل في مقدمة كتاب الصلوة فراجع .

الصلاة المفروضة بعد وقتها. وفي الصحيحين ليس لأحد ان يجعل آخر الوقتين وقتاً ، إلا من عذر وعلّة.

وورد فيه الصلاة المفروضات في أوّل وقتها إذا اقيم حدودها ، أطيب ريحاً من قضيب الآس ، حيث يؤخذ من شجرته في طيبه ، وريحه ، فعليكم بالوقت الأوّل ، وفيه فضل الوقت الأوّل على الاخير خير للرجل من ولده وماله ، واختلف الأقوال في كون آخر الوقت وقتاً للمضطر ، أو المختار ، فالأحوط ان لم يكن أقوى عدم جواز تأخيرها إلى آخر الاوقات من غير عذر وعلّة . وإن كان العذر في ذلك يشتمل بعض الاعذار الهيئة ، فالعذر الأدنى فيه كاف كما يستفاد من بعض الأخبار والظاهر ان آخر وقت الظهر الذي حضنا في عدم التأخير عنه ، هو صيرورة الفيء مثل الشاخص ، وآخر وقت العصر صيرورته مثلية ، وأمّا القدم والقدمان ، فهما من وقت فضيلة الظهر والعصر أيضاً ، كما انّ الزوال ، وصيرورة الفيء مثل الشاخص أيضاً من وقت فضيلتهما.

ثمّ ان تقرب آخر فضيلة الظهر الذي هو صيرورة الفيء، مثل الشاخص وهي تعبّر عنها بالقامة وسبعة اقدام في بلاد يكون عرضها اثنين وثلاثين درجة، كاصبهان، وما قاربها في العرض ، يمضي ثلاث ساعات فثمان وعشرين دقيقة في أوّل الحمل.

وأوّل وقت المغرب الغروب الشرعي ، وآخره ذهاب الشفق المغربي، وأوّل وقت العشاء الفراغ من المغرب إلى ثلث الليل والأحوط أو الأولى تأخير العشاء إلى ذهاب الحمرة المغربية ، وأوّل الصبح طلوع الفرج الثاني إلى اسفار الصبح.

وأمّا وقت النوافل فالاقوى ان نوافل الظهرين يجوز من أول النهار إلى آخره، وأمّا وقت فضيلتها فللظهر أوّله إلى أن يصير الفيء ذراعاً،

ص: 111

وللعصر إلى أن يصير ذراعين مقدما لها على الفريضة وللمغرب بعده إلى آخر وقت الفضيلة ، وللعشاء بعدها إلى الانتصاف ، وأوّل وقت صلاة الليل من الانتصاف الى الفجر الثاني الغير المضطر ، ويجوز تقديمها على الانتصاف للضرورة ، ولكن قضائها أفضل ، وهكذا يجوز بعد الفجر لمن لا يعتاده لبعض الصحاح ، وفاقاً للبعض إذا صلّى أربعاً قبل الفجر ، فله اتمامها بعده ، وفاقاً للمشهور ، ووقت نافلة الفجر الفراغ من صلاة الليل للمختار إلى طلوع الحمرة ، والأولى تقديمها على الفريضة ، بل يكره تأخيرها عنها ووقت صلاة الكسوفين من ابتدائه إلى انجلائه ، وللزلزلة قبل تمام العمر ، وقيل غير ذلك والاحوط عدم التأخير اختياراً عن الفور العرفي ، وهكذا لغيرها من الآيات وأمّا صلاة العيدين فالأحوط انّ أوّلها ارتفاع الشمس ، وآخرها الزوال.

فصل: في المكان أقول ومن الامكنة أيضاً شريف وغير شريف، وسعيد ونحس ، وأمره في ذلك مثل الزمان ولهذه الأمة المرحومة أن يشكروا الله تعالى، ويثنوا على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) في تسهيل امر المكان حيث جعل لهم الأرض كلها مسجداً بمعنى جواز الصلاة كلّها فيها ، ومع

ذلك فقد ورد الحث الأكيد في تعاهد المساجد، وعدم التخلّف فی الصلاة المفروضات عنها، لا سيّما لجيرانها ، حتى ورد أنه لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ، فعلى العبد المراقب ان يعقل معنى المسجد وحق ادبه وتعظيمه وقبح التخلف عن حضوره وان الله في جعل المساجد والاذن لحضورها شكراً عظيماً على العباد ، سوى ما جعل لهم من المثوبات بحضورها ، والعبادة فيها ، فان المسجد بيت الله ، والمقصود من كون الكعبة والمسجد بيت الله ، مع أنّ نسبة الارض كلّها إلى الله سواء، ليس مكان أقرب إليه من الآخر ، ان الله يعامل معها معاملة البيت أي جعله من المكان في مكانة البيت، بمعنى انه جعلها محلاً لملاقاته ، ومجلس انسه ، وزيارته أي يعامل فيها مع عباده وزوّاره

ص: 112

معاملة الحضور ، والصحبة ، وإذا اتخذ ربنا كلّ مكان أردناه باختيارنا أي ننسبه إليه ونتخذه محلا لملاقاته ، وحضوره وزيارته مسجدا ، او عالمنا فيه ما أردناه يكون معنى ذلك أنه جعل اختيار مجلس الملاقات ، والحضور إلينا ، وهذا من اجل المكارم ، ثمّ انّ الّذي يفهم من معاملات الله مع عبيده في جميع الازمان والحالات ، أنّه تعالى يعاملهم ، أوّلا بحلم وكرم واحسان ، وفضل وانعام ، ورضوان بما هو خارج عن حوصلة العقول ، وينع- ، وينعمهم قبل وجودهم ، وبعد وجودهم بنعم لا تحصى ، ويحلم عند معصيتهم ، ويغفر لهم ذنوبهم وخطاياهم ، ولا يغير عليهم نعمه ، ويتمشى معه- مشية الربّ الودود العطوف الكريم الجواد الرحيم الرؤوف، ويدعوهم كلّما اعرضوا عنه ، ويقبل إليهم كلّما ادبروا في جميع حالاتهم إلى أن يتجاوزوا في العناد والجحود، بحيث يجب في حكم الحكمة الالهية أخذهم ، فعند ذلك يظهر سلطان الجلال والقهر ، ولا يقوم له شيء .

لطف حق با تو مداراها کند *** چونکه از حد بگذرد رسواکند.

فإذاً يطالبهم بحكم العدل، ويفضحهم بقبيح فعالهم، وينتقم منهم بأشد الانتقام مثلاً، يدعو عباده في سمع عقولهم بلسان حال السماوات والارضين وما فيهنّ وما بينهنّ من جميع الموجودات. وبلسان حال أنفسهم من عقلهم وروحهم ونفسهم وقلبهم وخيالهم، وحواسهم وسائ قواهم، واعضائهم وجوارحهم كلها، وبلسان الأنبياء والاوصياء والعلماء، والحوادث الكونيّة ووجوه الحكمة المودعة في نظم العالم، وغيرها بالاقرار بتوحيده، والايمان بوجوده، وقدرته وعنايته، ويحلم عنهم إذا استكبروا عن قبول هذه كلها، حتى يؤكدها بانحاء الاعجاز بوجوه معجزات الأنبياء خلال هذه المدّة، برأفة ورحمة أشد وأكرم من رأفة الأمّ الرؤوف والأب العطوف حتى ينقضي عناده وجحوده للحق بحكم العقل والحس والعيان، فعند ذلك أخذهم بما لا يقوم له السّماوات.

ص: 113

والأرضون، ويرسل عليهم عذاباً من ريح صرصر عاتية ، أو صيحة أو نار أو ماء يهلكهم عن آخرهم ، ويسوقهم بهذه الجنود إلى عذاب الآخرة ، نار جهنّم إلى نار عذابها شديد. وحرّها صديد، ومقامعها حديد، وقعرها بعيد نعوذ بالله منها ، ومما يوقعنا فيها ، بوجود اوليائه السابقين واحبائه المقربين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وبالجملة كما أن هو الرحمن الرحيم ، ودود عطوف كريم كذلك هو شديد العقاب، ذي البطش الشديد فلا تغرر بربك الكريم ، وحسن صنيعه بك حتى تتجاوز عن الحدّ ولا يجعل الشيطان الغرور كرم هذا الرب الكريم ، سبب غرورك حتى يهويك في مكان سحيق ، فانّ من علائم الاستدراج ان يزيد الكرم والحلم في الجرئة على المعصية ، وهو ان عظمة الله في نظر العبد ، وتفكر في حسن صنع الله معك في دعوتك إلى بيوته ، وتكريمك بذلك بحسن الطلب ، والاصرار والتوفيق ، والوعد بالمثوبات والكرامات، وقبح صنيعك في الغفلة عن هذه المواهب الجزيلة والإعراض عن هذه الدعوة الكريمة الجميلة فاحذر من أن يكون حلمه عنك في اعراضك عنه استدراجاً، وطالب نفسك ان يحمد هذه النعمة العظيمة، ويشكرها، ويستقبلها بحسن القبول ، فإن من علائم عدم الاستدراج(1) التوفيق بحمد النعمة،كما ورد بذلك الرواية ، ثم عليك عند قصد المساجد واحرام حضور بيت الله ان تعرف أدب الحضور بقدر وسعك ، فانّ المعروف بقدر المعرفة، والأدب سبب للقرب، ومن احسن ادب حضور الرب الحقِّ قربه والقرب سبب القبول، بل هو نفس القبول وغاية القبول ونهاية كل مأمول، ولكن مقياسك في معرفة حق

ص: 114


1- كما في الكافي عن سماعة بن مهران قال: سألت ابا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون قال: هو العبد يذنب الذنب فيملي له، ويجدد له عندها النعم فتلهيه عن الاستغفار من الذنوب الخبر وهكذا أورد في الكافي اربع روايات ودلالتها واضحة.

أدب حضور هذا الملك العظيم ميزان ادب حضور سلاطين الدنيا ، فحق أدب حضور بساطه ما بين نسبة العبد والربّ ، فكما أنّ نسبة عظمة هؤلاء عظمة الله لا يقدر بقدر ، فكذلك نسبة حق أدب حضوره السلاطين مع مع حق ادب حضورهم.

وإذا تمهد ذلك تعرف أنك لا تقدر على حق أدب حضوره ، ولا أحد غيرك ، فليكن هذا على ذكر منك.

ثم انظر معاملتك وأدبك في حضوره، وانك على تقصيرك ، وقصورك واستحيي عن قبح فعالك ، فليكن عليك رهبة الخاشعين ، وذلّ اعتراف الخاطئين، حتى يلجأك ذلك على الالتجاء بباب كرمه في طلب توفيق من ادب الحضور ، ويقول لسان حالك : «أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، فينفتح بذلك أبواب القبول ، ويعرفك كاشف السوء بإجابة المأمول ، وأعمل بالصدق بما حكى في مصباح الشريعة في ذلك عن الامام الصادق (علیه السلام) ، حيث قال وإذا بلغت باب المسجد ، فاعلم انك قصدت ملكاً عظيماً ، لا يطاء بساطه إلا المطهرون ولا يؤذن لمجالسته إلا الصدّيقون ، وهب القدوم إلى بساط خدمة هيبة الملك فإنّك على خطر عظيم ان غفلت، واعلم أنه قادر على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك، فإن عطف عليك بفضله ورحمته قبل منك يسير الطاعة ، وأجزل لك عليها ثواباً كثيراً ، وإن طالبك باستحقاقه الصدق ، والاخلاص عدلاً بك، حجبك وردّ طاعتك وان كثرت ، وهو فعّال لما يريد، واعترف بعجزك وتقصيرك، وفقرك بين يديه، فانك قد توجهت للعبادة، والمؤانسة به، وأعرض اسرارك عليه، ولتعلم انه لا يخفى عليه اسرار الخلائق أجمعين وعلانيتهم، وكن كأفقر عباده بين يديه، وأخل قلبك عن كلِّ شاغل يحجبك عن ربِّك فانّه لا يقبل إلا الأطهر والأخلص

فانظر من أي ديوان يخرج اسمك، فإن ذقت حلاوة مناجاته ، ولذيذ مخاطباته وشربت كأس رحمته وكراماته ، من حسن اقباله عليك، واجابته،

ص: 115

فقد صلحت لخدمته ، فادخل فلك الاذن والامان ، وإلا فقف وقوف مضطر قد انقطع عنه الحيل ، وقصر عنه العمل ، وقضى الأجل ، واذا علم من قلبك صدق الالتجاء اليه ، نظر إليك بعين الرأفة والرحمة ، والعطف ، ووفقك لما يحب ويرضى ، فأنه كريم يحبّ الكرامة بعباده المضطرين إليه المحدقين على بابه لطلب مرضاته ، قال الله تعالى : ( أمّن يُجيبُ المُضطَرّ إذا دعاهُ وَيَكشِفَ السّوء).

هذا وحقّ الله انه كلام صدر من عين صافية من عيون الحكم الربّانية ، جامع الاصول عالم المراقبة ، وإذا عرف عبد مقام نكات تعبيراته ، ولطائف اشاراته ، يتعلّم منه فروع أكثر ابواب المراقبات في سائر العبادات ، والمعاملات وإذا وفق عبد للعمل بما فيه انفتح له من كلّ باب من أبواب معارفه ألف باب والله الموفق للصواب

أقول: إذا سمعت هذه المراقبة لباب المسجد ، وعلمت أدب حضور العبادات، ووظائف العبودية في الطاعات ، لا يعظم عليك بعد ذلك ما ورد في الاخبار والروايات من فضل جزاء الأعمال فهذه الفضائل إنما هي لهؤلاء العاملين، لا مثلي ومثلك من الغافلين ، ثمّ أنّك إن کسلت عن اتيان هذه الخدمة، والتأدب بهذا الأدب، فلك ان لا تتركه كل الترك وتعمل منه بقدر الميسور ، ولا تنسى حق ما عليك في عملك ، ويكون عليك خجل التقصير ، ولتقف لا محالة عند باب المسجد ، وتقرء آية أمن يجيب المضطر ، وتلتجىء اجمالا في اصلاح حال مسجدك ، وإن واظبت على ذلك أيضاً فانك تجد فيه خيراً كثيراً.

فصل: في آدابه الظاهرية اهمها تعميرها بالعبادة ومنها قراءة(1) بسم الله الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني

ص: 116


1- رواه في كتاب مفتاح الفلاح شيخنا البهائي قده من عدة الداعي مع خواص لكل آية من الآيات المذكورة فراجع وأشار اليها المؤلف قده بقوله : وقد ورد لذلك فضل عظيم الخ.

ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين ، والّذي اطمع ان يغفر لي خطيئتي يوم الدين، ربّ هب لي حكماً والحقني بالصالحين، واجعل لي لسان صدق في الآخرين ، واجعلني من ورثة جنّة النعيم ، واغفر لأبي عند المشي إليها.

وقد ورد لذلك فضل عظيم ، وأجر جسيم.

ومنها(1) تعاهد النعل عند بابه ، والتسمية والدعاء عند الدخول والخروج يقول عند الدخول والخروج ، بعد التسمية: اللهم صلِّ على محمّد وآل محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك.

وعند الخروج(2) بعد صلاة المكتوبة .

يقف على الباب ، ويقول: « اللهم دعوتني فاجبت دعوتك وصليت مكتوبتك ، وانتشرت في أرضك ، كما أمرتني ، فاسئلك من فضلك العمل بطاعتك، واجتناب سخطك ، والكفاف من الرزق برحمتك، وتقديم الرّجل اليمنى عند الدخول واليسرى عند الخروج، وكذا كلّ مشهد شريف عكس المكان الخسيس، وصلاة التحية بركعتين، ويستحب كنسها وتنويرها بالاسراج، ويكره تشريفها وتسقيفها كالعريش ، وزخرفها، وتصويرها ، وقيل بتحريمها، والاحوط الاجتناب ، والمحاريب وقيدت الداخلة، وفسّرت تارة بالداخلة في المسجد، واخرى في الحائط ، ولا نصّ على القيد من اصله ، وتطويل المنارة وجعلها في الوسط، قيل بتحريم ذلك ، وتعليقها ، واخراج

ص: 117


1- كما في الوسائل عن سماعة بعد الصلوة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي ابواب فضلك واذا خرجت فقل مثل ذلك.
2- كما في الوسائل عن أبي حفص العطار ، ثم ان المكروهات والمستحبات التي ذكرها المؤلف كلها مذكورة في الوسائل وقد عقد لكل منها بابا وكذلك مذكورة في الكتب الفقهية ، فلا حاجة لنقلها وتطويل الكلام فيها.

الخصامها ، والاحوط فيه الاجتناب ، فان فعل فيردّها إليه أو إلى مسجد آخر وانشاد الشعر الباطل ، والبيع والشراء، وتمكين المجانين والصبيان والاحوط في جميع ما ذكر الاجتناب، واقامة الحدود ورفع الصوت المتجاوز عن المعتاد، وانشاد الضالة، وحديث الدُّنيا، وهو كلّ ما لا ينفع عند الموت، وما بعده، وعمل الصنايع ، وكشف العورة، روى عن النّبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) أن كشف السّرة والفخذ والركبة في المسجد من العورة والاتكاء والنوم في المسجدين ، بل جميع المساجد ، ولكن يدفعه الحسن والدخول مع رائحة الثّوم والبصل ، والكراث، وكلّما يؤذى ولو قليلاً، والتبصق وهو فيه خطيئة ، وكفارته دفنه ، وكذا التنخم وينزوى(1) به المسجد ، والحق بها قتل القمل ، وجعلها طريقاً ، ورطان-ة الاعاجم اي التكلّم بما لا يفهمه الجمهور والوضوء من البول، والغائط، وقيل بتحريمه للرواية ، وتحريم ادخال النّجاسة فيه لظاهر بعضها، وخصص بالمتعدية منها ، وهو الاصحّ.

خاتمة: ورد في الأخبار الكثيرة عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وآله الحث الاكيد في اتيان المساجد ، بل في بعضها استحباب اختيار الصلاة منفرداً في المسجد على الجماعة في غيره ، هذا للرّجال.

وامّا النساء: روي أن مسجد المرئة بيتها، ويستحب للمؤمن أن يتخذ في بيته مسجداً لعبادته، ويعامل معه معاملة المسجد .

ص: 118


1- وينزوي به المسجد إلخ كما في الرواية عن محمد بن الحسين الرضى ره في المجازات النبوية، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: ان المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة في النار الخ رواه في الوسائل.

الباب[الثالث]: في الصلاة وفيه فصول

الأول: في معنى الصلاة

اشارة

اعلم إنّ للصلاة أربعة آلاف حدّ ، وانه تنهى عن الفحشاء والمنكر وان ما لم تنه عن الفحشاء منها عدمها خير من وجودها.

أمّا المعنى فيمكن أن يكون مأخوذاً من صلى بالفتح، من صليت العود على النار ، ومن المصلى ، ومن الوصلة ، أو بمعنى الزيارة ، كما ورد عن عليّ عليه السلام في تفسير قد قامت الصلاة ، أي حان وقت الزيارة ، أو الرحمة ، وكلّ هذه المعاني لها مناسبة مع هذا المعجون الألهي.

وأما حدودها :

فعن العيون والعلل بإسناده عن زكريا بن آدم، عن الرّضا (علیه السلام) قال: سمعته يقول: للصلاة أربعة آلاف باب، وعن المناقب لإبن شهر آشوب، عن حماد بن عيسى، عن الصَّادق(علیه السلام) قال: للصَّلاةِ أربعة آلاف حدود، وفي روايةٍ أربعة آلاف بابٍ.

ص: 119

أقول: جمع الشهيد من واجباتها ألفاً وصنف فيه الألفية ، ومن مندوباتها ثلاثة آلاف ، وصنّف فيه النفلية

أقول: يمكن أن يكون المراد من الأبواب أبواب السماء التي تعرج منها الصلاة، وروح المتصل، أو أبواب الفضل، والفيض، ومن الحدود مسائلها المتعلّقة بأجزائها ، وشرائطها في الصحة والكمال ويكون المراد منها أسباب ربطها المعنوي إلى جناب قدسه تعالى ، أو ربطه عند الصلاة.

وأما نهيها عن الفحشاء والمنكر، يكفي في الدلالة عليها قوله تعالى انّ الصّلاةَ تنهى عَنِ الفحشاء والمنكر). وأما ما لم تنه منها عن الفحشاء، فعن النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) إنّه(1) قال: من لم تنهه الصلاة عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً .

وعنه (صلی الله علیه وآله وسلم) لا صلاة لمن لم يطع الصلاة ، وإطاعة الصلاة ان تنهى عن الفحشاء والمنكر.

وروي انّ من الأنصار من كان يصلّي الصلاة مع رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، ويرتكب الفواحش يوصف ذلك له (صلی الله علیه وآله وسلم) ، فقال (صلی الله علیه وآله وسلم): إنّ صلاته تنهاه يوما ما ، فلم يلبث ان تاب.

وعن أبي عبد الله (علیه السلام)(2) قال : من أحبّ أن يعلم ان صلاته قبلت أم لم تُقبل ، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فبقدر ما منعته قبلت منه.

أقول: هذا هو الحق الذي لا محيص عنه، لأنّ القرآن ورد بثبوت

ص: 120


1- كما في تفسير البرهان في تفسير الآية الشريفة عن علي بن ابراهيم (ره).
2- كما في تفسير البرهان ايضاً.

هذه الخاصية للصلاة، فالّتي لم تكن فيه هذه الخاصية ، ووجد فيه الصورة ، فلا محالة يكون العمل من النفاق الخالص ، لأنه لو وجد فيه شيء من الروح فبقدره يؤثر في النهي عن الفحشاء ، فما لم يوجد فيه شيء من التأثير ، علم عدم وجود شيء من الروح فيه ، فعمل لم يوجد من حقيقة الصلاة فيه ، حتى جزء يسير ، فهو من النفاق الخالص والنفاق إنما هو مبعد بلا شك ، لا يتوهم ان النفاق إنما يتحقق بمجرد زيادة خشوع الجوارح على القلب ، فيجب حينئذ أن يكون جميع الصلاة حتى من المتقين أيضاً غير مقبول ، بل غير راجح ، لأنّ صلاة لم يوجد فيها غفلة ، ولو في شيء يسير من أجزائها لم يتأت ، حتى من الأوحدي من النّاس ، وهذا الجزء الذي وقع فيه الغفلة مخالف للصورة لا محالة ، فيكون من النفاق ، فيكون مرجوحاً مبعداً عن الله ، لأنا نقول إنّ المبعد القطعي ، ما يكون جميع اجزائه خالية من جميع مراتب الروح وهو قليل في المعتقدين للصلاة، حتى العوام ، فانّ صلاتهم إذا عملوا بها من جهة الاعتقاد ، لا للرياء فلا محالة يكون أوّل جزئها حين الدخول فيها واجداً للرُّوح، مع انّ جميع أجزائها أيضاً ليست فاقدة بجميع مراتب الحضور، ولو في ظاهر القلب أو باطنه ، فانّ الحضور له مراتب ، فانّ القلب قد يحضر بكلّه ، حقيقته وسرّه ، ظاهره وباطنه عند عمل ، وقد يكون بظاهره عند شيء وباطنه مشغول بشيء آخر ، وقد يكون بباطنه عند شيء وظاهره مشغول بآخر وهكذا فالفاقد بجميع مراتب الحضور، وهو عمل الساهي والنائم ، ونحوهما واما فاقدة الروح من جميع الجهات وجميع مراتب الرُّوح ، فهي التي لا تؤثر في النهي عن الفحشاء أبداً ، لا في جزئيّ ولا في كلّيّ ، واما واجدة في بعضها ، فلا محالة تؤثر بقدر ما فيها من الروح ، ولكن ليس كلّما يوجد فيها شيء من الروح مقبولة أيضاً ، ومرفوعة إلى السماء ، بل الّذي يفهم من بعض الروايات ، ان ما يكون بقدر عشرها مع الاقبال والحضور ، يرفع منها بقدر(1) ما اقبل

ص: 121


1- کما فی الوسایل فی باب استحباب المداومة علی النوافل، عن محمدبن مسلم،عن أبي جعفر عليه السلام وباب استحباب صلوة الف ركعة في كل يوم والليلة عن حمزة بن حمران.

فيها، وما نقص عن ذلك فلا يرفع ، فتحصل من جميع ما ذكر انّ الفاقدة للروح بجميع وجوهها ، من جميع الجهات ، فهي التي يورث البعد من الله،وهو كعمل المرائي والمستهزء ، ونحوهما ، وما كان فيها من الاقبال بقدر العشر ، وما فوقه يقبل منه بقدر الاقبال.

فإن قيل: هذا يخالف حكم المركبات ، فانها تنتفى بانتفاء بعض اجزائها ، ولازمها ان يبطل ، ولو بفقدان الروح في جزء منها ، لأنّ المطلوب مثلاً عشرة أجزاء ، ذات الأرواح ، فإذا تخلّف روح شيء من الأجزاء انتفى الحقيقة بحكم العقل.

قلت: هذا مقتضى القاعدة، ولكن في بعض الأخبار(1). انّ الناقص منها يتدارك نقصها بالنوافل ، فلا بأس إذا بحكم الفضل ان يقيد حكم المركب بها ، ولا يذهب عليك أنّه يمكن ان يكون المراد من النوافل،الصلاة الغير الواجبة ، لا نوافل خصوص الفريضة الناقصة ، بل ويمكن أن يكون المراد مطلق النوافل العبادية ، ولكن يشبه أن يكون هذا أيضاً مقيّد بالتجانس بمعنى أن يكون المتدارك من جنس المتدارك مثلاً يتدارك روح سجدة الصلاة بسجدة ذات روح ، واقبال، وإن لم تكن في صلاة ، أو غيرها من العبادات التي فيها روح السجدة ، وهكذا.

فصل : في الآيات الدالة على أنّ المراد من الصلاة ليست مجرد الاعمال الظاهرة، وهي عدة آيات .

منها قوله تعالى(2): (ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) .

ص: 122


1- ما في ذيل الرواية المذكورة: وإنما أمرنا بالنافلة ليتم لهم بها ما نقصوا من الفریضة.
2- سورة 107 . آية 4.

قيل: ذمّهم على الغفلة عنها ، مع كونهم مصلّين.

ومنها قوله تعالى: ( الذينَ هُم في صَلاتِهم خاشِعون)(1).

ومنها قوله تعالى: ( أقم الصّلاةَ لِذكري)(2)

ومنها قوله تعالى ﴿ ولا تَقرَبوا الصّلاةَ وأنتُم سُكارى، حتى تَعلموا ما تَقولون)(3).

قيل فيه تنبيه على سكر الدُّنيا ، إذ بين فيه العلّة یعنی انّ العلةَ في المنع عن الصلاة، مع السكر ، ان السكران لا يفهم ما يقول: وهذا يعم سكر الدنيا ، والخمر معاً .

وأمّا الأخبار فهي كثيرة متواترة في ذلك.

منها ما مضى في أوّل الكتاب.

ومنها ما مضى في الفصل المتقدّم من قولهم،عن ان ما لا تنهى عن الفحشاء لا يزداد من الله إلا بعداً.

ومنها قوله(صلی الله علیه وآله وسلم)(4) لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر الرّجل فيها قلبه مع بدنه.

ومنها قوله إنّما الصلاة(5) تمكّن وتواضع وتضرع ، وتيأس ، وتندم وتقنع، تمدّ يديك، وتقول اللهم فمن لم يفعل فهي خراج . ومنها قوله(6) إذا صليت صلاة فريضة ، فصلّ لوقتها صلاة مودع،

ص: 123


1- س 23 . ی 2.
2- س 20. ی 14.
3- س 4 . ى 46.
4- لم نجده.
5- لم نجده.
6- كما في باب استحباب صلوة الف ركعة في كل يوم وليلة في حالات السجاد عليه السلام وباب وجوب اتمام الصلوة عن ابن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام.

تخاف ان لا تعود فيها ، وبالجملة الأخبار في هذا المعنى فوق التواتر .

فصل: في بعض ما روي من صلاة المعصومين (علیه السلام) في الحقائق.

روی(1) انّ إبراهيم الخليل(علیه السلام) يسمع تأوهه على حد ميل، وكان في صلاته يسمع له أزيز كأزيز المرجل.

وكذلك كان يسمع من صدر سيدنا رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) مثل ذلك.

وقال بعض ازواجه: كان النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) يحدّثنا ونحدثه فإذا حضر الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه.

وكان أمير المؤمنين(علیه السلام)(2) إذا أخذ في الوضوء يتغير وجهه من خيفة الله.

وكان(علیه السلام) إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل، ويتلوّن، وقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين، فقال جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض، فأبين أن يحملنها واشفقن منها.

وكانت فاطمة تنهج(3) في الصلاة من خيفة الله.

وكان(4) الحسن(علیه السلام) إذا فرغ من وضوئه تغير لونه، فقيل له في

ص: 124


1- كما في عدة الداعي لابن فهد الحلي رحمه الله تعالى ورواه في البحار ايضاً في كتاب الصلوة مع الروايات تليها.
2- مشهور ومعروف رواه المخالف والمؤالف ورواه في البحار ايضاً مع الروايات التي وردت في ساير الائمة عليهم السلام في حال صلواتهم ووضوئهم وغيرها.
3- النهج بالسكون: الطريق الواضح، وبالتحريك البهر وتتابع النفس.
4- رواه الموالف والمخالف في حالاته عليه السلام ورواه ايضاً في البحار وكذا ما روى عن السجاد عليه في وضوئه وصلوته من خشية الله تبارك وتعالى وتغير حاله وكذا ما روى في ساير الأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم فلا حاجة لنا الى ايراد جميع ذلك مع تظافرها بل توترها ووضوحها.

ذلك، فقال: حق على من أراد أن يدخل على ذي العرش أن يتغيّر لونه.

وروي مثل ذلك عن السجاد(صلواة الله علیه) وعنه، إذا توضأ اصفر لونه ، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ؟ فيقول : أتدرون بين يدي من اريد ان أقوم ؟ قيل ورأيته يصلّي فسقط ردائه عن منكبه ، فلم يسوه حتى فرغ من صلاته ، فسألته عن ذلك فقال، ويحك اتدري بين يدي من العبد لا يقبل منه صلاة إلا ما اقبل فيها . فقلت : جعلت فداك هلكنا ، قال : كلا ان الله يتم ذلك بالنوافل.

وعن الصَّادق (علیه السلام) قال: كان عليّ بن الحسين (علیه السلام) إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه، وإذا سجد لم يرفع رأسه حتى ينفض عرقاً.

وعنه(علیه السلام) قال: كان أبي يقول: كان عليّ بن الحسين (علیه السلام) إذا قام إلى الصلاة كأنه ساق سجرة ، لا يتحرك منه إلا ما حركت الريح وعنه (علیه السلام) أنه سئل عن حال تخصّه في الصلاة حتى صار مغشياً عليه ، فلما أفاق قيل له في ذلك فقال: ما زلت اردد هذه الآية على قلبي، حتى سمعتها من المتكلّم بها ، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته قال لا يجتمع الرعبة والرهبة في قلبك ، إلا وجبت له الجنة ، فإذا صلّيت فاقبل بوجهك على الله ، فانّه ليس من عبد مؤمن يقبل بقلبه على الله في صلاته ، ودعائه إلا اقبل الله عليه ، بقلوب المؤمنين، وأيده مع مودتهم إياه بالجنة وعن الباقر(علیه السلام)(1) قال: ان العبد ليرفع له صلاته نصفها ، وثلثها ،

ص: 125


1- كما مر في رواية محمد بن مسلم قبيل هذا وغيرها.

وخمسها ، وربعها ، فما يرفع له ، إلا ما اقبل عليها بقلبه ، وانما امروا بالنوافل ليتم لهم ما نقصوا من الفريضة.

فصل: في الأحوال التي يكمل بها الصلاة

ويحكم العقل بلزومها، وورد بها الشرائع، وهي ستة: حضور القلب، والتفهم، والتعظيم، والهيبة، والرجاء، والحياء.

والمراد من الأوّل أن يكون القلب عند الصلاة ، لا شيء آخر ، بحيث يغفل عن الصلاة ، وإن كان حضوره عند ظاهر الأحوال ، والأقوال غير متعمق فيها ، وهذا المقدار كاف في تحقق حضور القلب ، وله أنواع شتى ، وأقسام مختلفة ، وهو أنه قد يكون القلب حاضراً في وجه من وجوهها ، ككونه في حضور الله ، ويشغله ذلك عن الحضور عند فعل بالخصوص، أو قول ، وككونه مقيداً ومشغولا بتصحيح أداء الحروف من مخارجها ، أو باللحن العربي ، وكك-ون-ه حاضراً في تصحيح صورة الافعال ، وقد يكون حاضراً ومشغولا بالفكر في معنى فعل، أو قول إلى آخرها ، كاشتغاله في معنى التكبير ، أو القيام ، أو الركوع ، أو غيرها مع بقاء الفكر إلى آخر الصلاة ، وأكمل هذه الانواع أن يكون القلب حاضراً عند كل فعل، وقول بخصوصه، راعياً حضور ربّه ، وشاعراً وملتفتاً بادائها عنده ، ولا يشغله الفكر في جزء عند الاتيان بجزء آخر ، عن هذا المأتى الفعلي ، فيشتغل عند كل عمل ، أو ذكر بفكره بالخصوص بل عند كلّ جزء انه مأمور من الله بهذا مستعيناً منه بتوفيق، كما امره.

وهذا الفنّ الكامل، جامع للمعنى الثاني أيضاً، وهو التفهم لأنه عبارة عن حضور القلب عند معاني الأقوال والأفعال ، وللمبتدىء فيه ان يلاحظ معنى كل فعل وقول، اجماله قبله ، ثم يبتدء به ملتفتاً وقاصداً بحقيقته ، ثم الانتقال بلحاظ معنى الجزء الآخر قبل الدخول به ، واتيانه كما ذكر ، وهكذا ولا يذهب عليك ان قصد معاني الافعال ، عند أوّل العمل تفصيلي وعند التلبس بالذكر في الاثناء اجمالي، والفكر

ص: 126

تفصيلي حينئذ في الاستغراق بتفهم حقائق الاذكار ، ولبيان كيفية تفهم حقائق الافعال والاذكار ، مقام آخر ، وهو العمدة في تكليف المصلي وبه يحصل أغلب الآثار الجلية المودعة في هذا المعجون الالهي ، لأنّ القلب يتقلب بالفكر في هذه الاسرار الجليلة ، وأحوال سنيّة من الصفات ، ومقامات رفيعة من المعارف، فيحصل له الترقي من حضيض عوالم الطبيعة إلى الملكوت الأعلى ، فيستعدّ قلبه لتلقي الحقائق القرآنية والأسرار الكونية من اهل عالم الملكوت ، أو من فوقهم ، ! وهذه الأحوال هي التي تنهى المصلّي عن الفحشاء والمنكر ، وإن كان يحصل بعض مراتبها بدون ذلك أيضاً ثمّ ان هذه الدرجة من التفهم ، لابدّ وان تكون مع الأمر الثالث ، وهو التعظيم لأنّ التعظيم حال منشأه العلم بعظمة الله العظيم ، وحضوره وقدرته على ما يفعل به ، من الردّ والقبول والاكرام والتوهين ، وإذا استشعر العبد في صلواته عظمة من يناجيه في حضوره ، وأنّه اما ان يتفضّل عليه بالقبول ، فيكرمه اكراماً جميلاً جزيلا ، او يطلبه بعدله واستحقاقه الصدق والاخلاص ، فيحجبه ويعذبه عذاباً أليماً ، فلا بدّان يخاف من خطر المقام،! وهذا الخوف الذي منشأه التعظيم عبارة عن الأمر الرابع ، وهو الرهبة، وإذا تفطن ذلك بجميل فعاله مع عبده ، وسائر الصفات الجمالية ، فيقوّي قلبه بالرجاء ، ويستحيي من سوء فعاله وتقصيره ، واستقباله الاحسان بالكفران وجميل الصنائع بقبائح الأعمال، وهذا هو تمام الأمر، وبالرجاء والحياء يتم الخصال الست، وأولها وأهمّها الهمّة ، فإنّ همّة الرجل إذا كان عند عمله يكون قلبه أيضاً حاضراً عنده، لأنّ القلب تابع للهمة ، ومهما اهتم الانسان امراً حضر قلبه عنده ، شاء أم أبى ، فبدو أسباب هذه الخصال كلّها الهمّة وسببها الايمان والتصديق بان الآخرة خير وابقى ، وان الصَّلاة ( وسيلة اليها ) فاذا وجد الايمان فهو مقتضى لحصول الهمّة

ص: 127

إن لم يمنع عنه الدنيا ، ومجرّد الايمان لا ينفع في بقاء الهمّة ما لم يقو بالنزوع عن محبّتها ، وأسبابها الشاغلة للقلب عن عن الآخرة والصلاة ، وكلّ منافر معها من الذكر، والفكر ، فانّ المحبّة والمحبوب يجذب الخواطر إليه ، لأنّ من أحبّ شيئاً أكثر ذكره ، وذكر المحبوب اهجم على القلب بالضرورة ، ولهذه الخصلة الواحدة ترى انّ صلاة سالمة عن الخواطر لا يتأتى لنا ، ولو بمجاهدة شديدة ، وأما القلوب السليمة عن حب الدنيا ، فجميع حالاتها صلاة(1)، وذكر ، بل قرّة عينها في الصلاة ، بل لا يصفو له شيء من لذايذ الدنيا أبداً، بل لا علم له بالدنيا ، ولا شغل له بها ، حتى يحتاج إلى مجاهدة دفع خواطرها ، بل لو سهى قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً إليه كما هو صريح عبارة(2) مصباح الشريعة، فاذا العمدة في استحضار هم، رفع المانع أي تبديل حبّ الدنيا بحبّ الآخرة أو محبّة الله ، نعم المانع قسمان: قسم يندفع أثره بالمسكنات، وتقوية المقتضى، ومثله فيما نحن فيه من كان حبّه للدنيا قليلا لم يملك نفسه، وحيث يصعب للقلب الغفلة عنه، وذكر شيء آخر مكانه ، ومثل هذا المؤمن إذا سدّ طرق الحواس الظاهر بأن يصلّي في الخلوة، والمكان المظلم حتى لايسمع ما يشغله عن التدبّر في صلاته، ولا يرى شيئاً كذلك يكفيه ذلك لرفع الشواغل الداخلة من الاسباب الخارجة، ومنع النفس عن التفكر فيما يحضره من طريق الملكات، ان يستعدّ له أوّلا قبل الصلاة بتجديد ما علم من الدين ، من عظمة الصلاة ، وخطر موقفها والوقوف بين يدي

ص: 128


1- خوشا آنان که دائم در صلاتند بحمد وقل هو الله کارشان بي . قوله: وقرة عينه الصلوة اشارة الى قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقرة عيني.
2- وهو قول الصادق عليه السلام: العارف شخصه مع الخلق وقلبه مع الله لو سها قلبه عن الله طرفة عين لمات شوقاً اليه ، باب الخامس والتسعون من مصباح الشريعة.

الله، وخطر قبولها وردّها، وهول المطلع، ويفرغ نفسه وقلبه عمّا يهمّه، مثلاً إذا كان به عطش يشرب الماء ، ثمّ يصلّي حتى يفرغ نفسه عن ذكر الماء في الاثناء، وهكذا حتى لا يترك لنفسه قبل التحريم شغلا يلتفت إليه قلبه، وان يتدبر في معنى كلّ فعل وقول عند الابتداء به اجمالاً، ثمّ الشروع فيه مع التدبر، والتفهم تفصيلاً ، وقسم لا ينفعه المسكنات، بل يلزمه المسهل الذي يقطع الداء والاخلاط الردية من عروق أعماق قلبه، بالنزوع عن الشهوات ، وعلائق الدنيا ، وهي كثيرة يجمعها قوله تعالى، وزيّن للنّاس حبّ الشهوات من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسومة ، والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب ) ومن كثر فيه حب الدنيا وعلائقها بحيث ملك نفسه، وشغل قلبه عن صلاته وهمها ، فانه من جند الشيطان ، والدّنيا المذمومة، وحبّها كما في الروايات رأس كلّ خطيئة، ولا ينفعه التلطف بالمسكنات التي كانت تنفعه في الشهوات الضعيفة التي لا تشغل إلا حواشي القلب، لا حقيقته وسره، لانه کلمّا أراد ان يرد القلب إلى الحضور عند صلاته والتفكر في أفعالها، وأقوالها، يردّ الشهوات إلى الفكر فيها ، وفي طرف تحصيلها ، ودفع موانعها والاشتغال بها، فلا تزال تجذب قلبك إلى صلاتك وتجذبه الشهوات إلى الفكر فيها، حتى يتم صلاتك ، وينقضي جميعها في شغل التجاذب، فيغلبك الشيطان، ومثال ذلك مثال رجل تحت شجرة ، ان يجمع يريد همه للفكر فيما أراده، فيصفو له فكره، وكانت أصوات العصافير التي على الشجرة، يشوّش عليه، فلم يزل يطردها بخشبة، ويعود يجلس إلى فكره، فيعود العصافير، ويعود هو بالخشبة، فينفردها بها، فقيل له هذا الشغل يشغلك عن قصدك ، ولا ينقطع، فان أردت الخلاص ، فاقطع الشجرة وكذلك الشهوات إذا قويت، وكثرت فروعها وأغصانها، انجذب اليها الأفكار ، والخواطر من وجوه مختلفة، كانجذاب العصافير إلى الاشجار القويّة الكثيرة والأغصان، وهذه

ص: 129

الشهوات كثيرة ، وهي مغناطيس الخواطر ، والافكار الردية وأصل شجرتها حب الدنيا ، ولذا قال الحكيم الإلهي(1) أنه رأس كل خطيئة فمن انطوى باطنه بحبّ الدنيا، واشتهى شيئاً من عروضها، وزينتها وهمّ بتحصيلها ، واشتغل بحفظها ، وتكميلها لا للضرورة ، بل للمحبّة واللذة وهذا هو المذموم من الدنيا المانع من ذكر الله ، فلا يطمعن هذا ان يجد طعم حبّ الله على ما ينبغي ، ولذة المناجات التي يجدها الزاهدون في الدنيا في صلاتهم، أو غيرها من عباداتهم،! ونسكهم ، فانّ من فرح بالدنيا ، فلا يفرح بالله وبمناجاته ، وهمة الرجل مع قرّة عينه ، فان كانت في الدنيا ، فهمه فيها وإن كانت في الصلاة فهمه فيها، هذا هو العلا الكامل ، ولكن الميسور(2) لا يترك بالمعسور ، فعلى الضعفة ، والعجزة أمثالنا ، أن لا يترك المجاهدة رأساً وينبغي له ردّ القلب بقدر الامكان إلى الصلاة ، وتقليل الأسباب الشاغلة ، وبالجملة أعمال المسكنات، فانّها وإن لم تنفع في حسم المادة أو كمال الصلاة ، إلا أنها ليست خالية عن النفع بالمرّة ، وربّما يدركه من نفحات الربّ، فيكثر فائدته، فانّ المجاهد متعرّض(3) للنفحات، فينتفع بها نفعاً عظيماً، بخلاف المأيوس والغافل ، فانّه لا ينتفع بها نفعاً كاملاً، بل ربما يصير مضيّعاً لها ، فيكثر بذلك حسرته يوم الآخرة ، فيتألّم بها عذاباً أليماً نعوذ بالله من الخذلان ، هذا ، والأمر في رفع الخواطر اصعب واشكل مما ذكرنا والداء عضال ، لأنّ الخواطر متلازمة مع علائق الدنيا ، وبعضها أيضاً ضرورية للإنسان لا يجوز له تركها، ومعذلك قد يزيد على العلائق الضرورية لحفظ النفس والنوع من الاعراض والأمراض اللازمة لعالم الطبيعة فيشتد الأمر ، فالانسان يبتلى بأسباب الخواطر ، وعللها ضرورة ،

ص: 130


1- كما في مصباح الشريعة في باب 31 وغيره .
2- كما في الرواية ويقتضيه العقل ايضاً.
3- ان الله في ايامكم نفحات الا فتعرضوا لها كما في الحديث.

فلا يخلو أحد منها لا محالة ، فيلزم في رفعها مجادهة عظيمة، واللجاء إلى الله تعالى عن حقيقة الاضطرار ، حتى يدفعها بأسباب غيبيّة واطلاع سلطان المعرفة في قلبه، حتى يشتغل قلبه بربه شغلا ينسيه ما سوى الله، حتى نفسه هذا قد انقدح مما ذكرناه ان الحضور، والتفهم منشأها الهمّة، وكمالها، والتعظيم منشأه معرفة عظمة الله وجلاله ومعرفة حقارة الدنيا والنفس وخستهما ، وكونه عبداً مسخّراً مربوباً ، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً .

وأمّا الهيبة فمنشأها العلم بعظمة الله، وجنايات نفسه ، والفكر فيما أصاب الأمم السالفة آثار قهره، وشدَّة سلطانه من العذاب والهلاك الدائم ، بل فيما أصاب الأنبياء والأولياء من المصائب الدنيوية وتحمّلهم في ذاته لهذا الرزايا الجليلة. والرجاء منشأه أيضاً معرفة لطف الله ، ورفقه وعنايته في معاملة عبيده وطول اناته وكرم عفوه ، وجميل صفحه ، وغنى ذاته ان عن يصيبه ضرر من العاصين بمعصيتهم ، وعظيم جوده وقدرته ، وأنه سبقت رحمته غضبه ، ولا يفوته أحد اذا طلبه ، وبالجملة معرفة صفاته الجمالية وحسن صنعه مع المؤمنين والموحدين.

والخجل والحياء منشأه معرفة عظمة الربّ ، والنعمة والحق والتقصير وآفات العمل وعيوب النفس ، وحضور الربّ ، فانّ ذلك يؤثر لا محالة في الحياء والخجل ، كيف إذا حضر إنسان عند ملك عظيم ، محسن إليه ومنعم عليه مدة عمره، عمره، وعرف انه عالم الساعة بتقصيره ، وسوء سريرته، ورأى أنه مع ذلك مقبل عليه بكرم وجهه ، يدعوه بحلمه إلى التوبة، ويعده جميل القبول والعافية، ورأى نفسه العوّاد للكسل متخلّفة عن القيام بحق دعوته ، فلا محالة يستحيي من قبح فعاله، وشنيع أعماله.

ثم انّ هذه الخصال الست التي ذكرناها ، انما هي لازمة في

ص: 131

الصلاة من حيث أنّها صلاة ، وإن كان لبعض اجزائها خصوصية يناسب بعض هذه الخصال ازيد من البعض الآخر ، فحال التشهد والسلام لا محالة انسب للحياء والرجاء من غيرها ، وحال القيام والركوع والسجود انسب للتعظيم والرهبة ولأجزائها من الأقوال والافعال كلّ واحد منها حال أيضاً مخصوص به ، فانّ الحمد والتنزيه صفتان للحامد والمسبح لازمان عند الحمد والتسبيح لا محالة وكذلك الاخلاص لازم لمن يقول إياك نعبد ، فانّك لو قلت الحمد الله معناه ان النعم من الله، وله جميع الحمد والثناء من أجل جميع نعمها ، وعليك ان يكون قلبك وفقا لما تظهره بلسانك ، ولا يتأتى ذلك لك عند قولك الحمد لله ، إلا بأن ترى النعمة كلّها من الله ، لا من الوسايط ، ومن يكون هذا حاله فلا يتملّق على المخلوقين لجلب النعم ، وهكذا وسيجيء تفصيل ذلك عند التعرّض لكلّ جزء من أجزائها إن شاء الله.

فصل: في الاستقبال لابدّ للمؤمن من معرفة ان جميع الأمكنة بالنسبة إلى وجوده ، وإحاطته تعالى على السواء ، وجميع الجهات في ذلك واحدة، ولكن له في كلّ عالم أيضاً وجهاً بالنسبة إلى أهلها ، واقتضى عظيم لطفه ان لا يترك أبداننا أيضاً غير متشرف بشرف التوجه نحوه ، كما لم يترك قلوبنا فعرفنا بيته في هذه الأرض ايضاً ليكون توجّهنا إليه ظاهراً ، وباطناً بابداننا وقلوبنا ، وله الحمد على عظيم لطفه، كما هو أهله، وبما هو أهله ، ولا يتوهم ان الاستقبال بالقلب لا دليل عليه لأنك ان راجعت الكتاب والسنّة والعقل ، تراها مجتمعة على لزومها، بل كونها أهم من الاستقبال بوجه البدن إلى جهة البيت، افترى ان صرف الأمر عن سائر الأمور إلى أمر الله ليس مطلوباً منك ، هيهات بل هو الاهم، بل هذه الظواهر انّما أمر بها للتحريك إلى الأمور القلبية ، والباطنية ، ولعلّ العمدة في حكمة الأمر بالاستقبال ، هو ضبط الجوارح، وتسكينها بالاثبات في جهة واحدة ، حتى لا تبغي على

ص: 132

القلب ، لأنّها إذا بغت وظلمت في حركاتها إلى الجهات ، استتبعت القلب فانقلبت به عن وجه الله، ثمّ ان جميع ما دل من النقل على ذكر الله وتقوى الله ، والتوجه إلى الله، والاقبال إليه كلّها، من أدلّة لزوم التوجّه القلبي. هذا ولتعلم أنّه كما لا يتحقق الاستقبال ظاهراً إلا بصرف التوجّه عن سائر الجهات إلى جهة بيت الله ، وكذلك القلب لا يتم اقباله إلا بالانصراف والتفرّغ عمّا سوى الله ، ونسيانه إلى الله.

وفي النبوي إذا قام العبد إلى صلاته ، وكان هواه وقلبه إلى الله انصرف كيوم ولدته امه.

وفي مصباح الشريعة:

قال الصادق (علیه السلام): إذا استقبلت القبلة ، فأيس من الدُّنيا ، وما فيه-ا والخلق ، وما هم فيه وفرّغ قلبك عن كلّ شاغل بشغلك عن الله وعاين بسرك عظمة الله ، واذكر وقوفك بين يديه قال الله تعالى هنالك تبلو كلّ نفس ما اسلفت وردوا الى الله مولاهم الحق وقف على قدم الخوف والرجاء.

أقول: لابدَّ للمؤمن من الخوف والرجاء، وهما أصل كل خير بعد الايمان ، لأن المراد لكلِّ أحد السعادة، وهي سعادة عند المؤمن كلقاء الله، والانس به ولا سبيل اليها الا بتحصيل محبته ولا تحصل إلا بالذكر ولا يتيسر الذكر والفكر إلا بالنزوع عن مشاغل الدنيا ، والالف بشهواتها ولا يمكن الا بالانقلاع عن حبّها ، وحبّ مشتهياتها، ولا تنقمع أصولها الا بالصبر عنهما ، ولا يعمل بالصبر إلا بالخوف والرجاء ، وحقيقة الخوف هو تألم القلب ، واحتراقه بسبب انتظار مكروه فيما يأتي ، سواء كان المكروه بحصول شقاوة ، أو فقدان سعادة، ولا تنافي بينه وبين الرجاء ، بل بينهما تلازم ، والذي بينهما تناف هو القنوط والرجاء والأمن والخوف

ص: 133

ثمّ انّ الخوف أمّا عن نفس المؤلم ، أو عن سببه.

الأول: كالنار وسائر أنواع ما يعذب به الانسان ، سواء كان في الدنيا او الآخرة .

والثاني: كالكفر والمعاصي ، ومنشئهما كله ويختلف خوف الخائفين في كلا القسمين؛ أمّا الأوّل فقد يكون خوف مؤمن من تعجيل العقوبة في الدنيا ، وقد يكون الموت وسكراته ، وقد يكون من القبر ووحشته وظلمته ، وضيقه وضنكه ، وقد يكون من السؤال ، وقد يكون من هول المطلع ، وقد يكون من أهوال القيامة ، ومواقفها ، وقد يكون من الحساب ، وقد يكون من الصراط ، وقد يكون من حياء العرض على الله ، وقد يكون من فضيحة هتك الستور على رؤوس الأشهاد، وقد يكون من نار جهنم ، وحياتها وعقاربها ، وزقومها وضريعها ، وغسلينها ، وحميمها ومقامعها ، وقرينها واغلالها ، وسلاسلها ، وقد يكون من حرمان الجنّة ، ودار النعيم ، والملك العظيم المقيم ، وقد يكون من نقص الدرجة ، وهي أيضاً كثيرة : خوف الوقوف ، خوف الأعراض خوف الحجاب ، خوف الغضب ، خوف المقت.

وأما الثاني فقد يكون خوف احدهم من الكبائر التي قارفها، وقد يكون من ملكاته السيئة ، من شدّة شهوته وغضبه، وقد يكون من حقوق الناس ، وطبقات العباد، وقد يكون من البطر بكثرة النعم ، او خوف الاستدراج بها، وقد يكون من الوقوع في معصيته ، أو الموت قبل التوبة ، أو نقض التوبة، أو من القساوة أو من الاعوجاج ، والميل عن الاستقامة ، أو خوف اطلاع الله على سريرته في حال معصيته، أو غفلة أو من عدم قبول عباداته أو ردّ مناجاته، كان يقال عند تلبيته: لا لبيك، ولا سعديك ، أو من ضعف القوّة عن الوفاء بتمام حقوق الله ، أو

ص: 134

من سوء الخاتمة، أو السابقة، والصالحين والطالحين والعباد والزهّاد والمتّقين والصدّيقين، والعارفين مختلفة في هذه المخاوف.

ولا يذهب عليك انّ الكاملين من العباد يخافون من جميع هذه المخاوف ومخصوصون ببعضها أيضاً ، والله تعالى يتولى رياضة قلوبهم في كل وقت ، بخوف ورجاء، وأخص ما يخافون منه خوف الوقوف ، والاعراض ، وخوف السابقة المؤدّية بسوء الخاتمة.

ثم اعلم انّ اخوف الناس من الله اعلمهم بالله.

لذا قال رسول الله: أنا أخوفكم من الله، فانهم يخافون من بجميع ما ذكر، ولا لشيء من هذه المخاوف ، بل بسر قوله تعالى: (وَيُحذِّرُكُم الله نَفسَه) ولكن قد يشغلهم الله من مقتضى خوفهم، فلا يظهر من أحدهم ، أو في بعض حالاتهم ، آثار الخوف، وقد يكون بالعكس رجائهم وخوفهم في بعض حالاتهم، فيظهر منهم ما يكاد يتقطع منه القلوب ويبهر منه العقول ، وقد يكون في بعضهم ظهور سلطان الخوف أكثر من بروز حقائق الرجاء.

فصل: في لزوم الخوف(1). وفضيلته قال الله تعالى : ﴿رضي

ص: 135


1- فاعلم ان الاخبار المذكورة في فصل الخوف من الكتاب ، مذكورة في كتب الاخبار كالكافي الشريف، والارشاد للشيخ المفيد (رحمة الله علیه)، والخصال للصدوق (رحمة الله علیه) وكتب التفاسير كالصافي للمحقق القاساني (رحمة الله علیه) وغيره ، راجعنا بعضها تصحيحاً للأغلاط الواقعة في طبع الكتاب، فانها كثيرة جداً، ولكن طوينا عن ذكرها ، والاشارة اليها، خوفاً عن الاطالة ، وحذراً عن الاطناب وتعجيلاً للطبع والنشر، هذا ولكنك ايها القارىء هل آمنت بهذه الاخبار ، واحتملت ان تكون مصداقاً للهالكين وما ورد في تفسير الآية الشريفة: (ولها سبعة أبواب» أم همك بطنك وفرجك ، وجاهك ومقامك الفاني عن قريب ، ومفارق عنك غير بعيد ، ولكن ضعف الايمان او عدمه، بما ورد عن معادن العصمة ، وخزان الوحي، الذين سمعت ،خوفهم، وحزنهم، وتغير حالهم عن ذكر النار ، والبعد عن قرب رب الارباب ، حملك على تحصيل رغيد العيش ، وحفظ المقام ، والاعراض عن تحصيل هذه السعادة ، والغفلة عن مفاجأة الموت ، وفوت الوقت وحلول الأجل وأنت مكب على الدنيا،

الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لِمَن خَشِىَ رَبّهُ).

وقال: (إنّما يَخشى الله مِن عِبادِهِ العلماء).

وقال: ( ويُحَذّرُكم الله نَفسَه).

وقال: (اتّقوا الله حقّ تُقاتِهِ).

وقال: (واخشوني).

عن النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) رأس الحكمة مخافة الله.

وروي من عرف الله خاف الله، ومن خاف الله سخت نفسه عن الدنیا.

وروي انّ من العبادة شدّة الخوف من الله.

وروي انّ حبّ الشرف، والذكر لا يكونان في قلب الخائف الهارب.

وروي انّ المؤمن بين محافتين: ذنب قد مضى، لا يدري ما صنع الله فيه، وعمر قد بقى لا يدري ما يكسب له فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلا خائفاً ولا يصلحه إلا الخوف.

وروي لايكون المؤمن مؤمناً،حتى يكون خائفاً، راجياً، ولايكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا بما يخاف،ويرجو.

وروي من خاف أخاف الله منه كلّ شيء ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء.

وقال الصادق (علیه السلام) لاسحاق بن عمار: يا إسحاق خف الله كأنّك

ص: 136

نراه، وإن كنت لا تراه فانه يراك ، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت وإن كنت تعلم انه يراك ثمّ برزت له بالمعصية ، فقد جعلته من أهون الناظرين إليك.

وقال السجاد (علیه السلام) في عائه: سبحانك عجباً لمن عرفك ، كيف لا يخافك.

وروي ان قطرة من الدمعة في خشية الله، يطفى بحاراً من النار وروي ما من مؤمن تخرج من عينيه دمعة ، وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية الله، ثمّ يصيب شيئاً من وجهه، إلا حرمه الله على النّار.

وروي إذا اقشعر قلب المؤمن من خشية الله ، تحت عنه خطاياه كما تحت من الشجر ورقها.

وعن الباقر(علیه السلام) قال صلى أمير المؤمنين(علیه السلام) بالناس الصبح بالعراق، فلمّا انصرف وعظهم ، فبكى وأبكاهم من خوف الله. ثمّ قال أما والله لقد عهدت اقواماً على عهد خليلي رسول الله وانّهم ليصبحون ويمسون شعثا غبرا، خمصا، بين اعينهم كركب البعير ، يبيتون لربهم سجداً وقياماً ، ويراوحون بين اقدامهم وجباههم، يناجون ربهم في فكاك رقابهم من النار، والله لقد رأيتهم مع خائفون - اه.

وفي بعض الروايات كان زفير النار في آذانهم، إذا ذكر الله عندهم، مادوا كما يميد الشجرة كأنما القوم باتوا غافلين.

قال فما رؤي بعد ذلك ضاحكاً، حتى قبض (علیه السلام). وفي حديث موسى(علیه السلام): وأما الخائفون، فإنّ لهم الرفيق الأعلى لا يشاركون فيه

ص: 137

وروي لا يلج النار أحدٌ بكى من خشية الله ، حتى يعود اللبن في الضرع.

وروي ما من قطرة أحبّ إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله، أو قطرة دم اهريقت في سبيل الله

وروي عن النبي،(صلی الله علیه وآله وسلم) سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله.

وذكر منهم رجلا ذكر الله خائفاً ففاضت عيناه من الدمع.

وروي ان فتى من الأنصار دخلته خشية الله ، حتى حبسه ذلک فی البيت، فجاء النبي فدخل عليه فكان يبكي، واعتنقه فخرّ ميّتاً.

وروي عن بعضهم: أنّه ما رفع رأسه الى السماء اربعين سنة، وانه رفع رأسه يوماً ففزع، فسقط فانفتق في بطنه فتق، وكان يمس بدنه في جوف الليل مخافة أن يكون قد مسخ ، وكان إذا أصاب الناس ريح أو ب-رق أو بلاء غيرها، قال هذا من اجلي يصيبهم ، لو مت لاستراح الناس من هذه البلايا.

وكان بعضهم ينظر إلى طرف انفه في خلال اوقاته ، ليطمئنّ ان لم يسود وجهه من ذنوبه.

وروي عن المجالس:

قال بينما رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) مستظل بظل شجرة في يوم شديد الحر ، إذ جاء رجل فنزع ثيابه ، ثم جعل يتمرّغ في الرمضاء ، يكوي ظهره مرّة وبطنه مرّة ، وجبهته مرّة ، ويقول يا نفس ذوقي ، فما اعظم عند الله مما صنعت بك ، ورسول الله ينظر إليه ما يصنع، ثمّ ان الرجل لبس ثيابه، ثمّ أقبل فاوماً إليه النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)بيده، ودعا فقال له: يا عبدالله لقد رأيتك صنعت شيئاً، ما رأيت أحداً من الناس صنعه، فما حملك على ما صنعت، فقال الرجل حملني على ذلك مخافة الله،

ص: 138

فقلت لنفسي يا نفس ذوقي فما عند الله أعظم مما صنعت بك ، فقال النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) : لقد خفت ربّك حق مخافته ، وانّ ربّك ليباهي بك أهل السماء ، ثمّ قال لأصحابه يا معشر من حضر ، ادنوا من صاحبكم ، حتى يدعو لكم ، فدنوا منه ، فقال : اللهم اجعل أمرنا على الهدى ، واجعل التقوى زادنا ، والجنّة مآبنا.

وحكى ان اويس القرني (ره) كان يحضر القاص ، فيبكي من كلامه ، وإذا ذكر النار صرخ اويس ، ثم يقوم منطلقا ، فيتبعه الناس يقولون: مجنون، مجنون.

وحكى أمير المؤمنين(علیه السلام) خوف شيعته في حديث الهمام، وقال: فلولا الآجال التي كتب الله لهم ، لم تستقرّ أرواحهم في أبدانهم طرفة أبداً شوقاً إلى لقاء الله والثواب ، وخوفاً من أليم العقاب ، ع-ظم

عين الخالق في أنفسهم ، وصغر ما دونه في أعينهم ، فهم والجنّة كمن قد رآها ، فهم على ارائكها متكتون وهم والنار كمن قد رآها ، وهم فيها معذبون ، صبروا أياماً قليلة فاعقبتها راحة طويلة ، أرادتهم الدنيا ، فلم يريدونها ، وما طلبتهم ، فأعجزوها ، أما الليل فصافون اقدامهم ، يتلون لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا ، يعظون أنفسهم بأمثاله ، ويستشفون لدائهم بدوائه ، تارة ، وتارة ، ويفترشون جباههم وأكفّهم، وركبهم وأطراف أقدامهم ، تجري دموعهم على خدودهم، يمجدون جباراً عظيماً ، ويجارون إليه في فكاك رقابهم ، هذا ليلهم، وأما نهارهم فعلماء صلحاء، بررة أتقياء ، برئهم خوف بارئهم، فهم كالقداح ، تحسبهم مرضى، وقد خولطوا، وما هم بذلك، بل خامرهم من عظمة ربهم ، وشدّة سلطانه ، ما طاشت له قلوبهم ، وذهبت منه عقولهم اه ، وإذا فرغ کلامه ، صاح همام صيحة ، ووقع مغشياً عليه ، فحركوه فإذا هو قد من فارق الدنيا.

وروي عن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قال: إذا جمع الله الأولين، والآخرين

ص: 139

لميقات يوم معلوم، فاذا هم بصوت يسمع ، اقصاهم كما يسمع أدناهم، فيقول: يا أيها الناس أنّي قد انصت لكم منذ خلقتكم فانصتوا إليّ اليوم ، انما هي أعمالكم ترد إليكم ، أيها الناس إنّي قد جعلت نسباً وجعلتم نسباً ، فوضعتم نسبي ، ورفعتم نسبكم ، قلت: إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، وأبيتم إلا أن يقولوا فلان بن فلان، وفلان أغنى من فلان، فاليوم اضع نسبكم، وارفع نسبي أين المتقون، فيرفع للقوم لواء فيتبع القوم لوائهم، إلى منازلهم ، فيدخلون الجنة بغير حساب ، والتقوى عبارة عن اجتناب الشبهات من مخافة الله.

وكان من مناجات الإمام السجاد(علیه السلام): يا إلهي لو بكيت إليك ينقطع صوتي ، وقمت لك حتى تنتشر قدماي ، وركعت لك حتى ينخلع صلبي، وسجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي ، وأكلت تراب الأرض طول عمري ، وشربت ماء الرماد آخر دهري ، وذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك ، ما استوجبت بذلك نحو سيئة واحدة من سيّئاتي.

روى الأصمعيّ قال: خرجت إلى الحج إلى بيت الله، وزيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم فبينما أنا أطوف حول الكعبة ، وكان ليلة مقمرة ، وإذا بصوت أنين ، وحنين ، وبكاء ، فتبعت الصوت ، وإذا بشاب حسن الوجه ، ظريف الشمايل، وعليه ذوائب ، وهو متعلّق باستار الكعبة ، وهو يقول : يا سيدي ومولاي، قد نامت العيون ، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، إلهي غلّقت الملوك أبوابها وقام عليها حجابها وحراسها ، وبابك مفتوح للسائلين، فها أنا ببابك انظر برحمتك لي يا أرحم الراحمين. ثم أنشأ يقول:

يا من يجيب دعا المضطرين في الظلم *** يا كاشف الضرّ والبلوى مع السقم

ص: 140

قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا *** وأنت يا حي يا قيوم لم تنم.

أدعوك ربّ حزيناً خائفاً قلقا *** فارحم بكائي بحق البيت والحرم.

إن كان عفوك لا يرجوه دو سرف *** فمن يجود على العاصين بالنعم.

ثمّ قال: رفع رأسه إلى السماء ، وهو ينادي إلهي أطعتك بمشيتك ، فلك الحجّة عليّ باظهار حجّتك إلا ما رحمتني ، وعفوت عني ، ولا تخيبني يا سيدي . ثم قال : إلهي وسيدي الحسنات تسرّك ، والسيئات ما تضرك

فاغفر لي فيما لا يضرك. ثم أنشأ يقول:

ألا أيها المأمول من كلّ حاجة *** شكوت إليك الضرّ فارحم شكايتي

ألا يا رجائي أنت كاشف كربتي*** فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي

فزادي قليل لا أراه مبلّغي *** على الزاد ابكي أم على بعد سفرتي

أتيت بأعمال قباح ردية *** وما في الورى عبد جنى كجنايتي

أتحرقني بالنار يا غاية المنى*** فأين رجائي منك وأين مخافتي

قال الأصمعي: كان يكرّر هذه الابيات حتى سقط مغشياً عليه، فدنوت منه لأعرفه ، فإذا هو زين العابدين بن الحسين بن علي (علیه السلام).

قال الأصمعي: فأخذت رأسه ووضعته في حجري ، وبكيت فقطرت قطرة من دموعي على خدّه ، ففتح عينيه ، وقال : من هذا الذي شغلني عن ذكر ربي ؟ قلت: عبدك ، وعبد أجدادك الأصمعي ، فما هذا الجزع والفزع والبكاء ، والأنين ، وأنت من أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، وقوله تعالى ﴿ إنّما يُريدالله ليُذهِبَ عَنكُم الرّجسَ أهلَ البيت ، وَيُطَهّركم تَطهِيراً ) ، قال: فاستوى قاعداً، وقال: هيهات هيهات يا أصمعي ، إنَّ الله خلق الجنّة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشيّاً وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشيّاً ، أما سمعت قوله تعالى :

ص: 141

(فإذا نُفِخَ في الصّورِ فلا أنساب بَينَهُم)

وروى أبو الدردا انّه رأى أمير المؤمنين ليلة تخلّى من الناس ، وهو يناجي ويبكي ويقول : إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك ، وكم من جريرة تكرّمت على كشفها بكرمك ، إلهي لإن طال في عصيانك عمري واعظم في الصفح ذنبي ، فما أنا مؤمل غير غفرانك ، ولا انا براج غير رضوانك ، إلهي افكر في عفوك ، فتهون علي خطيئتي ، ثم اذكر العظيم من اخذك ، فيعظم عليّ بليّتي آه ان أنا قرئت في الصحف سيّئة أنا ناسيها ، وأنت محصيها فتقول خذوه ، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ، ولا تنفعه قبيلته ، من نار تضجّ الأكباد والكلى ، آه من نار نزّاعة للشوى ، آه من غمرة من لهبات لظى.

ثم قال : إذا قد خمد صوته ، قلت له : نام فذهبت لأوقظه ، وحرّكته فإذا هو كالخشبة اليابسة ، قلت إنا لله وإنا إليه راجعون ، مات أمير المؤمنين وذهبت إلى أهله، وأخبرت فاطمة (علیه السلام) بذلك ، فقالت : هذه الغشية التي تعرضه كلّ ليلة ، من خشية الله ، ثم اتوه بماء فنضحوه على وجهه ، فأفاق ونظر إلي ، وأنا ابكي ، فقال : ما بكاؤك يا أبا الدردا، فقلت تما أراه تنزله بنفسك ، فقال : يا أبا الدردا فكيف، ولو رأيتني ودعي بي الى الحساب ، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكة غلاظ ، وزبانية فظاظ ، فوقفت بين يدي الملك الجبار ، قد أسلمني الحياء ، ورحمني أهل الدنيا لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفي عليه خافية ، فقال أبو الدرداء ، فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)

وروي أنه إذا نزلت من أوّل سورة الحج زلزلة الساعة ليلاً ، في غزوة بني المصطلق والناس يسيرون ، فنادى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجنّوا المطى ، حتى كانوا حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقرأها عليهم ، فلم ير أكثر

ص: 142

باكياً منه تلك الليلة ، فلما أصبحوا ، لم يحطوا السرج عن الدواب ، ولم يضربوا الخيام والناس بين باك ، وجالس حزين متفكّر الخ ، فتفكّر في أحوال قوم يسيرون إلى الجهاد، في خدمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، في هذه الدرجة من الخوف ، وقس عليه أحوالنا اليوم في هذه النعمة.

وروي أنه إذا نزلت آية، ولها سبعة أبواب ، أنه سئل النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) جبرائيل (علیه السلام) أهي كأبوابنا ؟ فقال : لا ، ولكنها مفتوحة بعضها أسفل من بعض، من باب إلى باب مسيرة سبعين سنة ، كلّ منهما أشدّ حرّاً من الذي بينه سبعين ضعفا ، يساق أعداء الله إليها ، فإذا انتهى أبوابها استقبلتهم الزبانية بالاغلال والسلاسل ، فتلك السلسلة في فيه ، ويخرج من دبره ، وتغلّ يده اليسرى إلى عنقه ، وتدخل يده اليمنى في فؤاده ويخرج من بين كتفيه ، ويشدّ السلاسل ، ويقرن كل آدمي مع شيطان في سلسلة، ويسحب على وجهه ، وتضربه الملائكة بمقامع من حديد كلما أرادوا ان يخرجوا منها أعيدوا فيها ، فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) : اخبرني من مكان هذه الأبواب ؟ قال:

فاما الباب الأوّل، ففيه المنافقين، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ، واسمها الهاوية.

والباب الثاني: ففيه المشركون واسمه الجحيم.

والباب الثالث: ففيه الصابئون ، وإسمه سقر.

والباب الرابع: ففيه إبليس، ومن تبعه ، والمجوس ، واسم لظى.

والباب الخامس: فيه اليهود، واسمه الحطمة.

والباب السادس: فيه النصارى، واسمه سقر ، ثم أمسك جبرائيل (علیه السلام) فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ألا تخبرني من مكان الباب السابع قال : يا

ص: 143

محمد لا تسألني عنه ، فقال : بلى يا جبرائيل أخبرني عن الباب السابع ، فقال : هي أهل الكبائر من أمتك ، الذين ماتوا ولم يتوبوا ، فخر النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) مغشياً عليه ، فوضع جبرائيل (علیه السلام) رأسه في حجره ، حتى أفاق فلما أفاق قال: يا جبرائیل عظمت مصيبتي واشتدّ حزني ، أو يدخل من أمتي النار ؟ قال : نعم أهل الكبائر من أمتك ، ثم بكى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وبكى جبرائيل (علیه السلام) ، ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منزله ، واحتجب عن الناس ، وكان لا يخرج إلا إلى الصلاة ، يصلّي ويدخل ولا يكلّم أحداً ، ويأخذ في الصلاة، ويبكي ويتضرع إلى الله تعالى فلمّا كان من اليوم الثالث ، أقبل أبو بكر حتى وقف بالباب ، فقال : السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة هل إلى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) من سبيل ؟ فلم يجبه أحد ، فتنحى باكياً ، فأقبل فصنع مثل ذلك ، فلم يجبه فتنحى ، وهو يبكي ، وأقبل سلمان ، فوقف بالباب ، فقال : السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة ، هل إلى مولاي رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) من سبيل ؟ فلم يجبه أحد ، فأقبل يبكي مرّة ، ويقول أخرى ، حتى أتى بيت فاطمة(علیها السلام) ، فوقف بالباب، وقال، السّلام عليكم يا أهل بيت المصطفى وكان عليّ (علیه السلام) غائباً ، فقال سلمان : يا بنت رسول الله، رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) احتجب عن الناس ، فليس يخرج إلا إلى الصلاة ولا يكلّم أحداً ولا يأذن لأحد أن يدخل عليه ، فاشتملت فاطمة (علیه السلام) بعبائة قطوانية ، وأقبلت حتى وقفت على باب رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، ثمّ سلّمت ، وقالت : يا رسول الله أنا فاطمة ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساجد يبكي ، فرفع رأسه ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما بال قرة عيني فاطمة حجبت عني ، افتحوا لها الباب ، ففتح الباب فلما نظرت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكت بكاءً شديداً ، لما رأت من حاله مصفراً ، متغيّراً لونه مذاباً لحم وجهه من البكاء ، والحزن ، فقال : يا رسول الله ما الّذي نزلت عليك ؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : جائني جبرائيل (علیه السلام) ، ووصف لي أبواب جهنّم ، وأخبرني بأنّ في أعلا بابها أهل الكبائر من اُمّتي ، فذلك الذي أبكاني ، وأحزنني ، قالت : يا رسول الله ، أو لم

ص: 144

تسأله كيف يدخلونها، قال : يسوقهم الملائكة إلى النار، لا تسود وجوههم ، ولا تزرق عيونهم، ولا تختم على أفواههم ، ولا يقرنون مع شيطان ولا يوضع عليهم السّلاسل والاغلال ، قالت (علیه السلام) : يا رسول الله كيف تقودهم الملائكة ؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : اما الرجال فباللحى ، وأمّا النساء فبالذوائب والنواصي ، فكم من ذي شيبة من امة قد قبض على شيبته ، يقاد إلى النار ، وهو ينادي واشيبتاه ، واضعفاه ، وكم من شاب من امّتي يقبض على لحيته ويقاد إلى النار ، وهو ينادي واشباباه واحسن صورتاه ، وكم من امرأة من أمتي تقبض على ناصيتها يقاد إلى النار وهي تنادي وافضيحتاه ، واهتك ستراه ، حتى ينتهى بهم إلى مالك ، فإذا نظر إليهم المالك ، قال للملائكة من هؤلاء ؟ فما ورد عليّ من الأشقياء أعجب من هؤلاء ، لم تسوّد وجوههم، ولم توضع السّلاسل والأغلال في أعناقهم ، فتقول الملائكة هكذا أمرنا ان نأتيك بهم ، فيقول لهم يا معشر الأشقياء من انتم وفي رواية لما قادتهم الملائكة ، فتنادون وامحمداه فلمّا رأوا مالك نسوا اسم محمد من هيبته ، فيقول لهم: من أنتم، فيقولون : نحن ممّن نزل عليهم القرآن ونحن ممّن نصوم شهر رمضان فيقول المالك : وما نزل القرآن إلا على محمد فإذا سمعوا اسم محمد صاحوا وقالوا نحن من أمة محمّد ، فيقول المالك : ما كان لكم في القرآن زاجراً عن معاصي الله ؟ فإذا وقف بهم على شفير جهنّم ، ونظروا إلى النار، وإلى الزبانية ، فقالوا : يا مالك ائذن لنا نبكي على أنفسنا فيبكون الدموع حتى لم يبق لهم الدموع ، فيبكون دماً ، فيقول مالك : ما أحسن هذا لو كان في الدنيا ، لو كان هذا البكاء في الدنيا من خشية الله ما مسكم النار اليوم، فيقول للزبانية . القوهم في النار ، فنادوا بأجمعهم لا إله إلا الله فرجع عنهم النار ، فيقول مالك للنار خذيهم فتقول النار كيف اخذهم؟ وهم يقولون: لا إله إلا الله ، فيقول مالك: نعم بذلك أمر ربّ العرش ، فتأخذهم فمنهم من تأخذه إلى قدميه ، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ، ومنهم من

ص: 145

تأخذه الى حلفه ، قال : فإذا أهوت النار إلى وجهه قال مالك : لا تحرقي وجوههم، فطال ما سجدوا للرحمن في الدنيا ، ولا تحرقي قلوبهم ، فطال ما عطشوا في شهر رمضان فيبقون فيها ما شاء الله ، فينادون يا أرحم الرّاحمين ، يا حنان يا منان ، فإذا أنفذ الله حكمه ، قال : يا جبرائيل ما فعل العاصون من أمة محمد ، فيقول : إلهي أنت أعلم بهم ، فيقول : انطلق فانظر ما حالهم ، فينطلق جبرائيل إلى مالك ، وهو على سرير من نار في وسط جهنم ، فإذا نظر مالك إلى جبرائيل قام تعظيماً له ، فيقول ، يا جبرائيل ما أدخلك هذا الموضع فيقول : ما فعلت العصابة العاصية من أمة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيقول : ما اسوء حالهم ، واضيق مكانهم ، قد احرقت النار أجسامهم وأكلت لحومهم ، وبقيت وجوههم، وقلوبهم يتلألأ فيها الايمان ، فيقول جبرائيل: ارفع الطبق عنهم حتى أنظر إليهم ، قال: فيأمر المالك الخزنة أن يرفعوا الطبق ، فإذا نظروا إلى جبرائيل(علیه السلام) ، وحسن خلقه علموا انه ليس من ملائكة العذاب ، فيقولون : من هذا العبد الذي لم نر قط أحسن وجهاً منه ؟ فيقول مالك ، هذا جبرائيل الكريم على الله تعالى الذي كان يأتي محمّداً بالوحي فإذا سمعوا باسم محمد صاحوا بأجمعهم ، وقالوا يا جبرائيل اقرء محمّداً (صلی الله علیه وآله وسلم) منا السلام وأخبره أنّ معاصينا فرقت بيننا وبينك ، واخبره بسوء حالنا ، فينطلق جبرائيل حتى يقوم بين يدي الله ، فيقول الله: كيف رأيت أمة محمّد ؟ فيقول : ما أشدّ حالهم ، واضيق مكانهم ، فيقول: هل سألوك شيئاً ، فيقول: يا ربّ سألوني ان اقرء على نبيهم السلام ، واخبرهم بسوء حالهم ، فيقول الله انطلق ، فأخبره فيدخل جبرائيل (علیه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو في خيمة من درّة بيضاء لها أربعة ألف باب، ولها مصراعان من ذهب، فيقول : يا محمد جئتك من عند العصابة العصاة من اُمّتك، يعذبون في النار وهم يقرأونك السلام، ويقولون ما اسوء حالنا، واضيق مكاننا فيأتي النبي عند العرش ، فيخرّ ساجداً ، ويثني على الله ثناء لم يثنه أحد

ص: 146

مثله ، فيقول الله عزّ وجلّ : ارفع رأسك ، واسأل فقط ، واشفع تشفع فيقول : الأشقياء من أمتي قد انفذت فيهم حكمك فيقول الله تعالى : قد شفعتك فيهم ، فأت النار ، فأخرج منها من قال لا إله إلا الله ، فينطلق النبي (صلی الله علیه واله وسلم) ، فإذا نظر مالك إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح الباب ، ورفع الطبق ، فإذا نظر أهل النار إلى محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) صاحوا بأجمعهم ، فيقولون : قد احرقت النار جلودنا ، واحرقت أكبادنا ، فيخرجهم جميعاً ، وقد صاروا فحماً أكلتهم النّار، فينطلق بهم إلى نهر بباب الجنة يسمّى الحيوان ، فيغسلون فيه فيخرجون منه شباباً جردا مردا، مكحلين ، وجوههم مثل القمر فيدخلون الجنّة.

هذه مخاوف المؤمنين ، والأنبياء ، والأولياء فانظر الى حالك من أيّ ديوان يخرج اسمك ، هل من ديوان المؤمنين ، أو المقربين ؟ فانّ الخوف والرجاء بقدر الايمان ، يعضّمان الجنّة والنار ، والقرب والبعد وإياك أن يكون حالك مثل حال الملحدين في الخوف والرجاء ، ويكون وجود جهنم وعدمه عندك سواء ، ولا تغتر بظواهر العقائد الحقة من الايمان بالله ، واليوم الآخر ان لم يؤثر في خوفك ورجائك ، فإنّ الموجود الغير المؤثر كالمعدوم ، فامتحن نفسك ان ادعيت الخوف ، فإنّ للخوف آثاراً ، اما في البدن فبالخول والصفار والبكاء ، واما في الجوارح فبكفّها عن المعاصي، وتقييدها بالطاعات، وتلافي ما فات ، والاستعداد لما هو آت ، وأما في القلب فبالذلول والخشوع ، والاستكانة ، ومفارقة الكبر ، والحقد والحسد ، وبالجملة شغل القلب بهم المخوف منه وخطره ، والاهتمام بالنجاة من غوائله حتى لا يبقى لساير الهموم محل فيه ، أو يكون كأحد الهموم لا محالة ، فانّ الخوف أي خوف كان إذا غلب على القلب ، واستوعبه يحرق كل شهوة ورغبة ، وميل ، ولا يبقى فيه متسع للغير للاشتغال بالغير ، وينسى كلّ شيء ، ولا يكون له هم ، ولا شغل إلا مراقبة المخوف منه ، والمجاهدة في تحصيل النجاة منه ،

ص: 147

ويضنّ بالانفاس واللحظات، فضلاً عن الأيام ، والساعات ، وأدنى درجاته يظهر في الجوارح ، بالكفّ عن المحذورات ، فيكون ورعا ، وأوسطها ان يجتنب المشتبهات فيدخل في المتقين ، واعلى منه ترك ما لا بأس به ، واذا انضم اليه التجرّد للخدمة، فلا يبنى ما لا يسكن فيه ، ولا يجمع ما لا يأكله ، ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنه يفارقه ، ولا يصرف إلى غير الله نفساً من أنفاسه ، قيل : هذا جدير بأن يسمّى صديقاً .

فصل: في علاج الخوف

أقول: الخوف علاج أصله الايمان بالله واليوم الآخر ، والثواب والعقاب ، والجنّة والنار ، سواء كان عن تقليد وسماع ، أو عن تحقيق وبرهان ، او کشف وعيان ، والخوف الناشيء عن الايمان التقليدي يشبه خوف الصبي عن الحيّة إذا سمع من امه انه يلدغ ، ويقتل ، ويقوّى إذا رأى ان أبويه يفران منه ويتزلزلان من رؤيته ، والناشيء عن الايمان التحقيقي يشبه خوف العقلاء ، عمّا يحكم العقل بضرره ، واهلاكه ، ويقوى بكون مباديه قريبة من الحس ، وبكثرة الذكر والفكر فيه ، والناشيء عن الكشفي ه-و الذي يجمع جميع فضائل الخوف ، ويحرق في القلب كل شهوة ورغبة ، وينسى كلّ شيء ، ولا يبقى للمؤمن إلا همّ المخوف منه ، والخلاص ، منه ، وله أيضاً مراتب فإنّ الذي كوشف له نار جهنم، لا يبلغ خوفه مبلغ من كوشف له عذاب البعد والحجاب عن لقاء الله ، أما تسمع أمير المؤمنين(علیه السلام) بعدما يعد شدة عذاب جهنم ، وطول مدتها ، يقول: وهبني يا إلهي وسيدي ، ومولاي وربّي ، صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك ؟ وهبني صبرت على حرّ نارك ، فكيف اصبر عن النظر إلى كرامتك ؟

وإن شئت ان تعرف الفرق ما بين عذاب نار جهنم ، وعذاب نار الفراق فقس بين العالم الحسّي والعالم العقليّ ، ودرك الحس والعقل فان نسبة الحسّ إلى العقل كنسبة القطرة إلى البحر ، بل الفرق أزيد،

ص: 148

وخوف البعد والحجاب للمقربين ، هو مهلك قطعاً الا ان الله انما يتولّى سياسة قلوب أوليائه ، فاذا هاج في قلوبهم مبادىء هذا الخوف ، وأحرق قلوبهم وقربوا من الهلاك ، يحيهم بما يلقى أليهم من نفحات رحمته ، ويمطر على موات قلوبهم من امطار رجاء رأفته ، إلى أن يقضى فيهم حكمه وحكمته ، ويقرّب اجالهم التي كتب الله عليهم ، وعند ذلك يطوى عنهم بساط الخوف والرجاء ، فيشدّ على قلوبهم شوق اللقاء ، حتى يكونوا إلى الموت آنس من الطفل إلى ثدي أمه ، ولعلّ هذه معاملته تعالى ببعض أوليائه ، ولكلّ منهم معاملة خاصة ، كلّها ناشية عن كرمه وجوده ورأفته ورحمته ، وعظيم فضله وإحسانه بما يناسب حاله في الترقي إلى ما كتبه لهم من الدرجات العالية ، بمقتضى اسمائه وصفاته ، وإذا تمهد ذلك تعرف ان اصل الخوف سببه الايمان ، وكلّ مؤمن لابدّ ان يكون فيه مقتضى الخوف في الجملة ، ولكن قد يكون الايمان ضعيفا فيضعف الخوف ، وقد يكون قوياً فيكون مقتضى الخوف أيضاً قوياً ، ولكن يمنع من فعليّته مانع ، فالعلاج اما بتقوية الايمان، أو رفع المانع.

أمّا الأوّل: فليس هنا محل ذكره.

وأمّا الثاني: فهو في المقام أمران.

أحدهما: غفلة القلب عما امن به من الجنة والنار.

وثانيها: غلبة حبّ الدنيا على القلب بحيث صار القلب مريضاً بمرض العشق.

أما الأوّل: فعلاجه الوعظ والتذكير ، وتذكّر اسباب الخوف من العذاب الدنيوي والأخروي ، وينفع كثيراً قرائة آيات العذاب ، وتكراره-ا والتفكر فيها ، وتصويرها واقعة على النفس ، في كل يوم وليلة مرتين أو مرّات، ولكن يكثر تكرارها ساعة أو ساعتين لا محالة فيؤثر أثراً كاملاً ،

ص: 149

وفي ملازمة الخائفين ، ومشاهدة حالاتهم ايضاً لفوز عظيم ، وسماع أحوالهم أيضاً بدل منه

وأمّا الثاني : فعلاجه هو تقوية باعث الدين ، وتضعيف باعث الهوى ، وحبّ الدنيا ، فانّ القلب دائماً معركة هذين الجندين ، حتى يغلب أحدهما فيملك القلب ، ويكون هو السايس والحاكم فيه ، فيجري أحكام الدين الجوارح التي هي ايضاً جند القلب.

وتفصيل تقوية باعث الدّين على باعث الهوى ، ليكون له اليد العليا المتصرّفة في مملكة البدن يعلم بمثال مثلاً إذا أردنا أن يكون العقل والشرع حاكمين في الشهوة ، فلنا أن نضعّف الشهوة ، ونقوّي العفّة.

أمّا الأوّل: فيكون بثلاثة أمور:

أحدها: قطع اسبابها الخارجة، وهي الأغذية القوية والمشهية نوعا، ومقداراً، فلابدّ من قطعها ، فلا يأكل المريد المشهية النوعية ويقلّ من المقداري، ولذا أمر الشرع في تكسير الشهوة بالصوم.

الثاني: قطع أسبابها المهيجة الفعلية ، فانها إنما تهيج بالنظر إلى مظانها ، إذ النظر يهيج القلب ، والقلب يحرّك الشهوة . وهذا أيضاً يحصل بالاعتزال، والاحتراز عن مظان رؤية الصور الجميلة والمشهيّة ، ولذا ورد في الشرع النهي عن النظر إلى النسوان ، والولدان الجميلة ، وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) : النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ، فإنّ سهمه هذا انّما هو من قوس الصور، ومن طريق البصر ، فلا يدفعه إلا غمض الاجفان ، والهرب من مظان الأبصار.

الثالث: تسلية النفس بالمباح من الجنس الذي تشتهيه، وهو النكاح.

وأمّا الثاني: وهو تقوية العفّة فبوجهين:

ص: 150

أحدهما: تذكّر فوائدها وثمراتها الدنيوية ، ومثوباتها الاخروية مما ورد في الآيات والأخبار.

وثانيهما: تعويذها بالغلبة ، فيكون بالعمل بمقتضاها تدريجاً فيقوى بذلك ، حتى ان الغلبة في المرّة الثانية اسهل منها في الاولى ، حتى ينتهي إلى أن لا يبقى للخصم قوة للمصارعة ثمّ انّ الخوف من الامور الاخروية أيضاً ينقسم: إلى مكروه، وحرام ، ومستحب ، وواجب.

ومن الأوّل: ان يشتدّ من درجة الاعتدال ، فيكف الاشتغال به عن دوام الذكر، والفكر، والفراغ لكثرة العمل.

ومن الثاني: ان يصل إلى درجة القنوط ، وهو كبيرة موبقة.

و من الثالث: كل ما يصير يصير سبباً للتقوى ، وزيادة العمل عن حدّ الوجوب الشرعي.

ومن الرابع: كلّ ما يمنع عن المحرّمات الشرعية ، ويبعث على العمل بالواجبات الشرعية.

وايضاً ينقسم بلحاظ آخر: إلى ناقص ، ومعتدل وزايد.

فالناقص: ما يكون سبباً لتألّم ما يوجع القلب ، ويبكي العين ولا يمنع من المحرّمان والشهوات ، ولا يبعث على مجاهدة العبادات، فاذا سمع آية أو رواية واردة في وصف جهنّم ، وشدّة عقابها يبكي ، وإذا غفل ينقضي أثره فلا يكفّه عن شيء، ولا يبعثه إلى امر نظير رقة النساء ، وهذا ناقص ، وجوده كالعدم، لضعف نفعه ، وهو درجة خوف العامة، والمعتدل هو ما ينبعث على العمل، والتقوى والجهاد الأكبر ، وهو على درجاتها مطلوبة نافعة جداً ولها مثوبات عظيمة.

والزائد: هو الذي يقضي إلى اليأس والقنوط ، ويكف عن

ص: 151

العمل، أو يقضي الى الموت والهلاك ، واخلال العقل ، وهذا هو المرغوب عنه بأقسامه ، والسبب فيه ان الخوف ، ليس بنفسه من الفضائل ليزداد حسنه بازدياده ، بل هو في نفسه نقص ، وصار مرغوباً لرفع نقص آخر اهم من نفسه ، فاذا يكون دائراً مدار ذلك، فاذا زاد عن الحد بحيث لم ينفع في رفع النقص الآخر، أو زاد في نقصه ، فيكون قبيحاً ، ومرغوباً عنه.

وبالجملة ما يثمر في العمل المرغوب الشرعي هو المطلوب، وما لا يثمر في ذلك ، أو يثمر في خلافه ، فهو غير مرغوب فيه قطعاً.

فصل: في الخوف عن سوء الخاتمة ، وإنّما افردنا له فصلاً لاستحقاقه لذلك ، فهو سوء حال الانسان عند موته ، سواء ختم بالكفر ، والجحود ، او بالفسق والفجور ، أو بنفس لا يرضى به فانّ الكمل من عباد الله ، إنما يبكون من ذلك ، وإن كان من جهة كونه كاشفاً من السابقة ، فالامن إنّما هو بالخلاص منه ، وبالجملة الخاتمة، اما سو بالكفر والجحود ، وهو ان يغلب على القلب عند سكرات الموت ، التي تكشف بسبب اضطراب الرُّوح عندها للمحتضر عن بعض احوال الآخرة ، بمناسبة من أحوال قلبه من العقائد والملكات ، أو أثر الأعمال السابقة بالخاصة ، ما يوجب الشك أو الجحود ، فيختم له بذلك ، فيسير سبباً للخلود في النار ، واما بالفسق والفجور ، وهو أن يحصل للمصر في الكبائر محبّة راسخة لبعضها ، بحيث يغلب على قلبه ذكرها ، فيتصوّر له عند الموت صورتها، فيميل لاقترافها ، فيقبض عليه ، ووجه روحه إلى عالم الطبيعة ، فيكون ناكساً رأسه إلى الدنيا ، فيحجب بذلك عن الله ، وإذا حجب عن ربّه نزل العذاب ، وظهرت آثار الذنوب، فانّ الإنسان يموت على ما عاش عليه ، ويحيى على ما مات عليه ، أي يكون عند موته حاله على ما غلب على قلبه من نور الأعمال ، وظلمتها اللذين يجران الثواب ، والعقاب، بل هما عين الثواب والعقاب ، ولكن على

ص: 152

غير صورتهما الجزائية ، فاذا انقلب وجه الروح إلى عالم البرزخ ، ينقلب صور آثار الاعمال إلى صورها البرزخية الجزائية ، فينقلب الظلم مثلا ظلمة ، والدّراهم والدنانير الزكوية التي بخل بها ، ناراً فتكوى بها جبهته ، وظهره، وقد أشرنا سابقاً إلى انّ لكلّ شيء في كلّ عالم صورة ، غير صورته في العالم الآخر ، وذكرت ان من هذا الباب ما يرى في المنام بعض الأحوال الآتية بصورها البرزخية ، فيعبره من يعرف حقائق الصور البرزخية ، فينطبق الأمر على ما عبّر ، مثلا رأى رجل في زمان الحجاج ان على جدار مسجد رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حمامة بيضاء جميلة ، فإذا جاء صقر فصادها ، وحكى رؤياه على ابن سيرين . قال: كان رؤياك هذا صدقاً ، يتزوّج الحجّاج ابنة عبد الله ابن جعفر ، وما مضت أيام حتى تزوّجها الحجّاج ، وسئل عن المعبر عن وجه تعبيره ، قال: انّ المسجد صورة بيت شريف ، والحمامة صورة بنات الشرفاء ، والصقر صورة الرجل القاهر الجبار ، ولم يكن اليوم في المدينة بيت اشرف من هذا البيت ، ولم يكن بها أجمل من بنت عبدالله ، ولم يكن في الرجال أقهر وأجبر من حجّاج ، ولذا عبّرته بهذا التعبير ، فاذا الحقائق لها صور بحسب العوالم ، فاذا معنى سوء الخاتمة ، ان يكون الانسان في عمره ، كسب لروحه آثاراً ظلمانيّة نارية سمية ، ويظهر عند قرب الموت على المحتضر ما هو الأغلب على قلبه ، وروحه من الآثار والأحوال ، فيميل اليه ويبقى روحه عند قبضه على حال من الأحوال على ذلك الحال ، ويبقى بصورته البرزخية ، فيكون معذباً به ، به ، حتى ينقضي ويتم الأثر ، ويظهر نور الايمان الضعيف عند انقضاء الظلمة للأعمال الراسخة ، فيأخذه روح الله ، وبرد عفوه ، هذا إذا كانت آثار الأعمال القبيحة ضعيفة ، وقد يكون قوية بحيث لا يتم في البرزخ، ويبقى ليوم البعث ، وينقلب على صورها المناسبة لعالم القيامة ، وينقضي في خلال هذه المدّة في بعض مواقفها ، أو يقوى من ذلك أيضاً ، فيدخل في جهنم فيقضي فيها

ص: 153

لا يقال: هذا الذي ذكرت انّما هو آثار الأعمال ، ومقتضيات الصفات فأين الثواب والعقاب ، ورحمة الله وقهره ، وعفوه وأخذه.

قلت: إنّ الآثار إنّما هو الثواب والعقاب ، الذين يخلقهما خالق الأشياء كلّها برحمته ، وقهره وعفوه وأخذه نظير ما ترى في الدنيا ، انك تقول رزقني الله ولداً ، أي جعل مائك الذي خلقه في صلبك في رحم زوجتك ولدا ، أي وهب لمائك في رحم زوجتك الأثر الذي اودعه فيه بحكمه ، وحكمته وعادة الله بمقتضى حكمته جارية لخلق الأشياء بالأسباب في الدنيا والآخرة ، وذلك لا ينافي نسبة الآثار إلى الله ورحمته ، وغضبه ولطفه وقهره ، ولا ينافي ان يسمّى ثواباً وعقاباً ، فانّ الثواب هو أن يكون عملك مقتضياً لأن يهبك الله ما حكم بعملك هذا من الآثار الخيرية ، من الجنان والقصور والحور ، وهكذا العقاب أن يخلق الله من عملك ناراً تعذَّب بها ، هذا كله انما هو قضيّة بعض القواعد العدلية ، وحكم ما يرى من عادة الله الجارية في عالمنا ، وبعض العوالم القريبة من عالم الحسّ ، والذي وصل إلينا حكمه من الشرائع من سائر العوالم ، ولعله لا بأس به بحكم الشرع والعقل بل والكشف أيضاً ، وبالجملة ليس سوء الخاتمة إلا أثر الأعمال السابقة ، وليست هي إلا حكم ما اقتضته الصفات الذاتية، فظهرت في الجوارح بصورة الأعمال القبيحة ، ليتم بذلك حجّة الله البالغة في حكمه ، وليست الصفات إلا بحكم ما وهبه الله بحكمته ، وعدله وجوده للذوات ، حيث سألت عن ربّها بلسان حال استعدادها ذلك، فمعنى قول المحققين انا نخاف من اليوم السابق هو هذا المعنى، يعنون بذلك إنَّا نخاف من اليوم الذي اوجدنا ربنا ، وسئل لسان حال ذواتنا من الله هذه الصفات التي تصير منشأ للأعمال القبيحة ، والميل إلى عالم الطبيعة ، والاخلاد الى الأرض ، حتى حجبنا بذلك عن لقاء ربّنا وقربه وكرامته ، وقيدنا بقيود هذه الصفات الرذيلة ، في سجن عالم الطبيعة المظلمة ، هذا والّذي

ص: 154

يتفاوت به الأمر ، ان الاصطلاح انما قيد استعمال لفظة سوء الخاتمة بما إذا كان ظهور الشقاوة عند الموت ، بخلاف ما ستر ظاهراً للعامة من حسن الحال ، وهذا الاصطلاح لا بأس به ، والفرق بين المعنى اللغوي ، والاصطلاحي بالعموم والخصوص ، فإنّ المعنى اللغوي يصدق على كلّ من ختم له بسوء حال وشقاوة ، والاصطلاح لا يصدق من هؤلاء إلا على من كان ظاهر حاله قبل الموت عند العامة حسناً ، فظهرت عند الموت أمر باطنه ، من الخبث والشقاء، وختم له به .

وبالجملة قد يقال: ان السبب لسوء الخاتمة بالكفر والجحود أمران:

أحدهما: أن يعتقد الإنسان في ذات الله ، وصفاته وأفعاله خلاف الحق ويرى عند قرب الموت حين كشف له عن بعض الحقائق ، خلاف ما اعتقده ، فيصير ذلك سبباً لشكه في سائر معارف ايمانه ، فيختم له بالشك ، والزهد والصلاح لا ينجى من هذا الخطر، كذا قيل ، ولكن ظنّي انّ الزهد والصلاح الواقعيين ينجيان منه بالخاصية ، اما من سببه أو من نفسه ، بل السبب القريب للوقوع في خلاف الواقع من العقائد ، ليس إلا اتباع الهوى والفساد ، قيل : والبله بمعزل عن هذا الخطر ، ولم اتحقق كونه بمعزل ، لأنّهم غالباً يعتقدون بعض الامور الغير الواقعية فإذا رأوا بطلانه يصير ذلك سبباً لشكّهم في غيره من عقائدهم الحق-ة نعم يمكن أن يدعي انّ ذلك يقل فيهم ، من جهة أنهم لا اعتقاد لهم راسخة في باب الصفات والأسماء ، وببالي ان المنجي من هذا الخطر بعد فضل الله ان يكون المؤمن فطناً ، قليل الوثوق بنظره وفهمه ، ولا يكون قطاعاً ، متكلا على ، متكلا على الله في نجاته من الكفر والهلاك ، وكثير الدع-اء في ذلك ، بقوله : ( اللهم ثبتني على دينك ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني)، أو يقول : (اللهم عرفني نفسك ، فانّك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك ، اللهم عرفني نبيّك ، فإنّك إن لم تعرفني نبيك ، لم أعرف

ص: 155

حجتك ، اللهم عرفني حجّتك فانك إن لم تعرفني حجتك ، ضللت عن ديني . كما ورد الرواية(1)، ويكون ثابتاً في الايمان الاجمالي ، بأنّ جميع ما جاء به محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) وأوصيائه(علیه السلام) حق، نعم ليس البحث عن الكلام(2) لأغلب الناس حسن العاقبة، لا سيّما مع الاشتغال بالجدال كما ورد النهي عنه ، فالأولى في تحصيل المعارف طريق المجاهدة في تزكية النفس ، ودوام الذكر والفكر والدعاء.

وثانيهما: هو ضعف الإيمان في ضعف الإيمان في الأصل ، ثم استيلاء حبّ الدنيا على القلب ، وإذا ضعف الايمان ضعف حبّ الله ، وقوى حب الدنيا ويغلب القوي على الضعيف ، حتى لا يبقى موضع لحبّ الله ، إلا من جهة حديث النفس ، ولا يظهر له أثر في مخالفة الهوى والشيطان ، فيورث ذلك الانهماك في اتباع الشهوات، واقتراف المعاصي ، حتى يظلم القلب ، ويقسو ، ويسود من تراكم ظلمة الذنوب ، ولا يزال يطفي نور الايمان ، حتى يصير ريناً قطعا ، وإذا جاءت سكرات الموت وأيقن فراق الدنيا المحبوبة ، واستشعر ان ذلك من الله يخشى ان يؤثر في باطنه حبّ الدنيا . وألم فراقها ، بحيث ينكر تقدير الله لذلك ، بل يتبدّل الحبّ الضعيف بالبغض ، فإن ختم له في تلك اللحظة ، مات مبغضاً الله ، وهذه الخاتمة اسوء من الأولى ، هذا وقد ورد في بعض المعاصي أيضاً كتارك الحجّ مثلا ، أن يموت(3) يهودياً، أو نصرانياً ، وهذا

ص: 156


1- كما في اكمال الدين للصدوق عليه الرحمة على ما نقل.
2- يعني البحث في علم الكلام لأغلب الناس ليس حسناً، لأن اغلب مباحثها مطالب قشرية لا واقع لها، فيظن الجاهل ان تلك المطالب حق، فاذا عاين عالم البرزخ، او غيرها من العوالم عند الموت ، فيرى خلاف ذلك فينكرها فيختم له بسوء العاقبة نعوذ بالله منه.
3- كما في الوسائل نقلا عن كتاب المعتبر للمحقق الحلي (رحمةالله علیه) عن النبيّ صلى الله عليه واله وسلم. قال صلى الله عليه وآله وسلم: من مات ولم يحج: فلا عليه ان يموت يهودیّاً او نصرانیّاً.

بالخاصية.

واما سبب سوء الخاتمة بالفسق والعصيان، فهو ان يكون ايمانه قويّاً أيضاً، ولكن يكون مع ذلك مقارفاً للذنوب ، ومنهمكاً في الشهوات ، فيصير سبباً لان يتمثل ما يشتهيه عند اضطراب الرّوح ، وضعف العقل، ويميل إليه، ويقبض عليه، وهو راغب إلى معصية الله، فيصير محجوباً عن الله الله ويصير ذلك سبباً للعذاب ، ولكن دون عذاب الأوّلين ، ويكون موقناً بقدر غلبة ظلمة المعاصي على سرّ القلب ، وهذا الذي يرجى له العفو والمغفرة ، والشفاعة ، وكثير الذكر بالله وباليوم الآخر، وكثير المواظبة على الطاعات بعيد من هذه الخطرة، لأنّ القلب عند ضعفه ، وميله إلى الباطن يتصوّر فيه ما غلب عليه ذكره سابقاً ، وارتسخ فيه محبّته، ويتمثل له ذلك فيشتغل به جوارحه.

كما حكى ان بقالاً كان يموت ، ويلقنه أهله عند موته بالشهادتين، وهو يقول: سنّة ، خمسة ، أربعة ، كلّما يذكر الملقن له الشهادتين وهو مشغول بذكر هذه الألفاظ التي أكثر التلفّظ بها في حياته ، حتى رسخ في قلبه ، قيل : وأنّما المخوف عند الموت خاطر سوء يخطر فقط، وهو الّذي قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم): انّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنّة خمسين سنة ، حتى لا يبقى بينه وبين الجنّة إلا فواق(1) ناقة ، فيختم له بما سبق به الكتاب ولهذا أعظم خوف العارفين من ذلك ، لأنّ الانسان لو أراد أن لا يرى في المنام إلا أحوال الصالحين ، وأحوال العبادات والطاعات ، مر عليه ذلك ، وإن كان للمواظبة على الصلاح والعبادات مدخلا فيه انتهى ، ولا يذهب عليك ان العمل خمسين بعمل أهل الجنّة ، ليس المراد منه العمل الخالص ، بل مطلق العمل فانّ العمل الخالص في هذه المدة ینجی قطعاً عن سوء الخاتمة، بل

ص: 157


1- الفواق بالفتح والضم: ما بين الحلبتين من الوقت. وقيل: ما بين فتح يد الحالب وقبضها ، ومنه قولهم : امهلني قدر فواق حالب.

ليس سوء الخاتمة إلا من آثار عدم الاخلاص في العبوديّة، نظير عبادة إبليس، وخوف العارفين إنّما هو من جهة الصدق ، والاخلاص باحتمال أن يكونوا مقصرين في الاخلاص مشتبهين في اعتقادهم الاخلاص.

فصل: في الرجاء وحقيقته.

أقول: حقيقة الرجاء هو ارتياح القلب لانتظار المحبوب، وله اطلاقان:

الأوّل: العام يطلق على مجرد الارتياح المذكور، سواء كان غروراً، وحماقة أو تمنياً، ورجاء خاصاً، والاطلاق الثاني في مقابل الغرور ، والحماقة والتمني ، وهو الارتياح للمحبوب ، إذا كان احتمال وجوده قريباً، وهو لا يكون إلا إذا كان الباقي من أسباب وجوده قليلا، وشيئاً قريب الحصول للأكثر ، أو شيئاً بعيد الحصول، وأما إذا كان احتمال الوجود بعيداً غاية البعد ، بحيث لا ينتظره العقلاء ، فاسم الغرور والحمق أصدق عليه من اسم الرجاء ، وأما اذا كان احتمال وجوده عند الرّجل من جهة عدم علمه بوجود الأسباب ، أو عدمها أو قربها أو بعدها، فهو التمنّي ، وميزان معرفة درجة الاحتمال، أن يكون هذا الاحتمال مؤثراً فى طلب المرجو ، ويصدقه العقلاء فانّ كلّ ما يريده الانسان ، ويطلبه لها أسباب كثيرة مختلفة ، وقد يكون بعضها في اختیاره ، وقد لا يكون ، والمطلوبات الشرعية من قبيل الأوّل ، وحينئذ نقول : الموجود الذي لم يوجد بعد ، اما ان يكون اغلب اسبابه التي خارجة عن قدرة المكلّف موجودة ، وكان الباقي قريب الحصول ، أم لا ، وأيضاً أما أن يعلم المكلّف بذلك ، أم لا وفي الصور كلّها اما ان يأخذ في تحصيل مقدماته التي بيده أم لا فحصل ثمانية معانٍ :

الأول: ما يكون اغلب الأسباب موجوداً والباقي قريب الحصول

ص: 158

والمكلّف يعلم به ، ويأخذ في تحصيل مقدماته التي بيده ، فهذا هو الراجي الصادق في رجائه.

والثاني: وهو الّذي كذلك، ولكن لا يعلم به المكلّف ، ومع ذلك يأخذ فى المقدمات ، وهو المتمنّى.

والثالث: هو الذي كذلك ، وهو يعلم، ولكن لا يأخذ في مقدّماته التي بيده ، وهو المضيع المهمل، وله رجاء كاذب ، فان من رجى شيئاً طلبه.

والرابع: ان لا يكون الأغلب موجوداً، وكان الباقي بعيد الحصول، وهو يعلم بذلك، ومع ذلك يأخذ في تحصيل المقدّمات، فهو الأحمق.

والخامس: أن يكون كذلك ، ولكن لا يعلم به ، ويأخذ في التحصيل ، وهذا أيضاً كالثاني.

والسادس: أن يكون كذلك ، وهو يعلم ، ولا يأخذ ، وهو يدعي الرجاء وهذا مغرور ، والذي لا يعلم بكيفية الأسباب ، ولا يأخذ سواء كان الباقي قريب الحصول، أو بعيده ، فإن ادّعى الرجاء فرجائه كاذب ، وهو في ادّعائه مغرور ، والسر في الحكم بكذب الرجاء في صور عدم اشتغال المكلف بتحصيل المقدّمات التي بيده ، هو ان الرجاء الصادق عبارة عن علم يصير سبباً لصفة تؤثر في فعل ، فإذا لم يؤثر العلم في الصفة ، لا يطلق عليه الرجاء اصلا ، وإذا أثر في الصفة ، ولكن الصفة لم تؤثر أثرها المتوقع منها ، يكون وجودها كعدمها ، فيطلق عليها انها كاذبة.

بيان ذلك: انّ الرجاء لا يكون إلا بانتظار الشيء المحبوب للراجي، فإذا وجد المحبّة، وجد الطلب لأنّ الانسان طالب للخير والسعادة، وإذا وجد الطلب لابدّ أن يوجد الارادة والعزم، فيتحرّك العضلات، ويتحرّك

ص: 159

الأعضاء نحو المطلوب ، وتحصيله ، ولذا ورد(1) من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه هذا وقد مثل علماء الاخلاق مثالا ، للرجاء ، واخوانه بالبذر ، فان الانسان إذا القى حنطة جيّدةً مثلا ، في أرض صالحة ذاتاً وصفة ، وكانت في بلاد كثيرة الأمطار ، ثمّ امده بالنقية ، وإصلاح الأرض ، وكلّما يحتاج إليه الزرع ، ثم جلس ينتظر ان يتفضّل خالق الأشياء من زرعه حنطة ، أضعاف ما زرعه من البذر كان هذا راجياً ، وصادقاً في الرجاء ، ولكن إذا ألقى شعيراً ، وانتظر حنطة ، أو ألقى في أرض سبخة غير صالحة وأرض لا يصل إليه الماء بالسوق ، أو بالمطر ، وجلس ينتظر ززعاً كاملاً صحيحاً ، هذا أحمق مغرور ، مثله فيما نحن فيه من ألقى حبّ الرّياء في القلب ، وانتظر ان يحصد نور العمل الخالص ، او قرء القرآن أو شيئاً من الذكر والدعاء ، والمناجات ، ولكن قلبه مستغرق في ذكر الدنيا ، ومشغول بها ، وبهمومها ، أو قرئها بلقلقة اللسان ، لا عن حضور القلب وهو ينتظر القبول ، أو أن ينفتح له ابواب أسرار القرآن او يجد لذة الذكر والمناجات ، وان القى بذره في أرض صالحة يصل إليها الماء من الأنهار ، ولكن تركها لا يتعاهد البذر ، ولا الأرض بتنقية وسوق ماء ، ونحوه جلس ينتظر الزرع الصحيح، فهو كاذب في رجائه ومغرور في انتظاره لأنّ الانتظار للمحال العادي غرور ، وإذا ألقى البذر في أرض صالحة من جميع الجهات ، وأتى وأتى بجميع ما يصلحها للزرع ، ولكن لا ماء لها إلا الأمطار، وكان البلد من البلاد التي لا يعتاد فيها كثرة الأمطار، فانتظر ان يجيء المطر في هذه السنة بخلاف السنين الماضية، یسمّی ذلك تمنّياً ، ومثاله من الشرعيات لمن يقوم أمثالنا من أبناء الدنيا

ص: 160


1- كما في نهج البلاغة لمولى الموحدين على بن أبي طالب عليه السلام، وكما في الكافي عن ابن ابي نجران عن أبي عبد الله عليه السلام ورواية علي بن محمد في باب الخوف والرجاء.

للتهجد في لياليه ، ويتضرّع ويتباكى ، ويدعو الله أن يجعل قلبه متأثراً بوجدان لذة المناجات . ويقرء القرآن ويتدبر ويتفهم معانيه ، ولكن بقلب متلوّث بحبّ الدنيا ، وهو ينتظر أن يفهم أسراره هذا أيضا تمني ، ولكن ليس ممتنعا أن يأخذه نفحة من نفحات ربّه ، فيصل إلى امنيته بسببها.

قال الغزالي: وقد علم أرباب القلوب ، إنّ الدنيا مزرعة الآخرة ، والقلب كالأرض ، والايمان كالبذور فيه ، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض ومجرى حفر الأنهار ، وسياقة الماء إليها ، والقلب المستهتر بالدنيا ، المستغرق بها كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ، ويوم القيامة يوم الحصاد ، ولا يحصد أحد إلا ما زرع ، ولا ينمو زرع إلا من بذر الايمان، وقلّما ينفع ايمان مع خبث القلب ، وسوء اخلاقه كما لا ينمو زرع في أرض سبخة.

أقول: هذا التشبيه صریح قوله تعالى: ﴿ وَمَن يُرِد حَرثَ الدّنيا نُؤتِهِ مِنها ، وَمَن يُرِد حَرثَ الآخِرَةِ نَزِد في حَرثِهِ) وقوله (صلی الله علیه وآله وسلم): (الدنيا مزرعة الآخرة) ، وأما الدليل النقلي على نفي حقيقة الرجاء لمن لم يجاهد في سبيل الله قوله تعالى : ﴿ والذين آمنوا ، وهاجروا ، وجاهدوا في سبيل الله اولئك يرجون رحمة الله حيث حصر الرجاء فيهم ، وفي سورة الشمس ، دلالة على عدم انتفاع الرجل إلا بالقلب المزكى، وقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : فيما روى عنه الفريقان : « الأحمق من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الجنّة » ، قيل(1) للصادق (علیه السلام) إنّ قوماً من مواليك يلمون بالمعاصي ، ويقولون نرجو، فقال: « كذبوا ليسوا لنا بموال أولئك قوم ترجّحت بهم الأماني ، من رجا شيئاً عمل له، ومن خاف شيئاً هرب منه » ، وقال(2) ( لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو »

ص: 161


1- كما في الكافي في رواية علي بن محمد عن الصادق عليه السلام.
2- في الكافي ايضاً عن الحسن بن أبي سارة في باب الخوف والرجاء.

وليت شعري ما بالنا لا نشك في حمق من ألقى الشعير على أرضه وانتظر الحنطة ، ولكن منتظر ان يحصد من بذر النفاق محصول الإيمان والاخلاص ، والله تعالى يقول:(ليس لِلإنسانِ إلّا ما سَعى، وَإنّ سَعيَهُ سَوفَ يَرى) .

فإن قلت: إنّ الأخبار صريحة(1) في أنّ من ظنّ بالله خيراً الله يستحيى أن يحرمه من ذلك، وان الله تعالى عند(2) حسن ظن عبده المؤمن ، فانّ من عمل بالمعاصي وحسن ظنّه بالله انه يغفره بل يعامله بكرم عفوه ، فيبدّل سيّئاته بأضعافها من الحسنات، فمقتضى هذه الأخبار أنّ الله تعالى يعامله بما ظنّه من هذه المغفرة ، والعفو والكرم.

قلت هو كذلك ، ولا منافات بينه وبين قوله تعالى: (ان ليس للانسان إلا ما سعى) لأنّ حسن الظن بالله بهذه الدرجة امر عظيم لا يمكن حصوله إلا بسعي بليغ، وهو مقام من لا يرى في الوجود ضارّاً ، ولا نافعاً الا الله ويكون وثوقه بعناية الله اكثر من اعتقاده بتأثير الأسباب ، وهذا المقام لا يبلغ بالهوينا ، نعم دعواه كثير ، ولكن حقيقته لا يوجد إلا في الاوحدي من الأولياء ومن كان هذا حاله فعليه ان لا يخاف في الدنيا أحداً ، بل شيئاً من الأشياء ، ويثق بعناية الله في الامور الدنيوية من خيراته، وسعاداته أكثر منه بالاسباب الدنيوية ، ومثل هذا المؤمن يكون وجود الاسباب وعدمه عنده سواء ، ويكون المدح والذمّ عنده سواء ، فأين هذا المقام ، فمن لا يثق بضمان الله لرزقه ، فيأكل الحرام ، ويقول الله كريم ، وأنا أقول: الله كريم ، ولكن قولك هذا كلمة حق يراد بها الباطل، وأنت لست تعتقد بكرم الله بل ولا تعتقد بصدق الله وأنّه لا يخونك ، وأنت مغرور غرك بربك الكريم عدوّك

ص: 162


1- كما في الكافي باب حسن الظن بالله عن بريد بن معاوية وسيأتي الاشارة اليها ایضاً.
2- كما في الكافي ايضاً في رواية اسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه السلام.

الغرور اللئيم ولو كنت معتقداً بصدق الله وكرمه كنت واثقاً بضمانه ووعده وقسمه ، حيث اقسم في كتابه بأن رزقك يصل إليك ، ولم تظلم أحداً في أكل ماله بالحرام وإن شئت صدق دع-واك ، فانظر حالك ، وقلبک وعملك في الوثوق بكرمه في محاويجك الدنيوية ، فاذا رأيت من قلبك وعملك تصديق هذه الدرجة من حسن الظن بربك ، فاقر عيناً، وهنيئاً لك من مقام سني يوصلك إلى منتهى آمالك في الدنيا والآخرة ، وإياك ان ترضى بدرجة دون الغاية القصوى ، من درجات المقربين فصل : في أسباب الرّجاء والأصل فيها صفاته الجمالية ، قيل: وهي أكثر من(1) صفات الجلال.

لا يقال: إن كان الأمر على ما وصفت ، فكيف يزيد عدّة الهالكين على الناجين.

لأنا نقول: لا نسلّم ذلك ، فانّ نسبة الملائكة الروحانيين بالنسبة إلى الثقلين ، الذين فيهم طبقات الهالكين كنسبة البحر إلى القطرة ، فمثل هذه العوالم المظلمة السفليّة ، مع العوالم العالية النورية ، كمثل خال في وجه تمثال لصاحب جمال. وبالجملة الاصل في الرجاء ، انّ الشرّ والغضب وجودهما انّما هو بطفيل وجود الخير والرحمة ، وهو أحد معاني سبقة الرحمة على الغضب.

ثمّ انّ الاعتبار أنّما يحكم بقوّة الرجاء ، وذلك لأن الإنسان إذا نظر في معاملة الله خلقه في هذه الدنيا ، وكثرة نعمه التي لا تحصى ، وكثرة عنايته تعالى لدعم اهمال شيء من مكملاته ، ونوافل عيشه وزينته

ص: 163


1- صفات الجمال يطلق على الصفات الثبوتية ، وصفات الجلال على السلبية سواء كانت مصرحة أم راجعة اليها لباً، مثل سبوح وقدوس فانها ليست في الظاهر سلبية ولكنها راجعة اليها لبا ، اذ معناها سلب النقايص عنه تعالى.

في بدنه ، ومتعلقاته ، وأيضاً الأغلب على أهل هذه الدنيا الضيّقة المظلمة، مع أنّها ادون العوالم، وأبعدها من الرحمة الالهية ، السلامة ، بحيث لا يتمنّى أهلها الموت، فكيف بدار الحيوان الواسعة النورية.

وقد ورد انّ الله أنزل على هذه الدنيا جزء من مائة جزء من رحمته فما يوجد في هذا العالم كلّها من هذا الجزء، وإذا كان عالم الآخرة يضم الله تعالى هذا الجزء أيضاً على أصله ، ويعامل بهذه الرحمة الكاملة مع عبيده، وكيف كان فقد ورد في الأخبار والآيات امور عظيمة لتقوية الرجاء.

اما الآيات فمنها قوله تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»(1) وقوله تعالى: ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى) فإنّه «صلی الله علیه وآله وسلم» لا يرضى بأن يعذب الله أحداً من امته.

وقوله: (ومن يغفر الذنوب إلا الله).

وقوله تعالى:( وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾.

وآية الصلاة.

وقوله تعالى: «فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى» لا يصليها إلا الأشقى الذي كذب وتولّى)

وقوله: (ذلك يخوف الله به عباده).

وقوله: (وإنّ ربّك لذو مغفرة للنّاس على ظلمهم).

وقوله: (واتّقوا النّار الّتي اعدّت للّكافرين).

ص: 164


1- الزمر، 53.

وقوله: (وذلك ظنّكم الذي بربكم ارديكم).

أما الأخبار فعن الباقر(علیه السلام) قال: وجدنا في كتاب علي (علیه السلام) رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قال وهو في منبره: والذي لا إله إلا هو، ما اعطي مؤمن قطّ خیر الدنيا والآخرة إلا بحسن

خير ظنه بالله ورجائه له ، وحسن، خلقه والكفّ عن اغتياب المؤمنين، والّذي لا إله إلا هو ، لا يعذب الله مؤمناً بعد التوبة والاستغفار ، إلا بسوء ظنه بالله ، وتقصيره من رجائه ، وسوء خلقه ، واغتيابه ، والّذي لا إله إلا هو ، لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن ، لأنّ الله كريم بيده الخيرات ، يستحيى أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به ظنّه ، ثمّ يخلف ظنّه ، ورجائه ، فأحسنوا بالله الظن وارغبوا إليه وعن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) يقول الله عزّ وجلّ: «أنا عند ظن عبدي ، فليظن

ما شاء (1) وقال: لا يموتن(2) أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله وقال(3) رسول الله (ص) : قال الله : لا يتكل العاملون لي على أعمالهم التي يعملونها لثوابي ، فانّهم لو اجتهدوا ، وأتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي كانوا مقصرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي ، فيما يطلبون عندي من كرامتي والنعيم في جناني ، ورفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فليثقوا ، وفضلي فليرجوا ، وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنوا . فإنّ رحمتي عند ذلك تدركهم ، ومنتي تبلغهم رضواني ، ومغفرتي تلبسهم عفوي، فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم ،

ص: 165


1- وهذا المضمون كثير في الروايات.
2- لما في روضة الواعظين.
3- في الكافي باب حسن الظن عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه السلام.

وبذلك تسميت.

وبالجملة الذي يفهم من الأخبار انّ العبد إذا اذنب ، فهو لا يخلو من أن يندم منه أم لا ، وإذا ندم يكون كفّارة لذنبه، وإن لم يندم فإن اتبعه بحسنة يكون كفّارة له ، وإن لم يتبعه بحسنة ، فإن لم تكن من الكبائر يكون الصلاة الخمس كفّارة لما يقع بينها ، وإن لم تكن صلاته صلاة مكفّرة ، فإن ابتلاء الله بعقابه في الدنيا باهداء بلاء ومصيبة إليه في دنیاه ، تطهره ذلك وإلا فاستغفار الملائكة من بعده ، وإلا فشفاعة المؤمنين ، وإلا فشفاعة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) والأئمة (علیهم السلام) من بعده ، وإلا فرحمة الله الواسعة ، وإن بقي بعد ذلك شيء ، وحرم من ذلك كله فيطهره الله بشدّة الموت ، وإن لم يطهر فبعذاب القبر، وإن لم يطهر فبأهوال يوم القيامة ، وإلا فبعذاب جهنّم ، هذا كلّه تفصيل ميزان الله ، وزاد في السوم على نفسه بأن جعل الثواب على الحسنة عشرة ، والعقاب للسيّئة بواحدة ، هذا أيضاً غير ما وعد من التضعيف لاعمال بعض الأزمنة الخاصة ، مثل ليلة القدر ، وغيرها ، والأمكنة الخاصة ، مثل مسجد الحرام ، ومسجد الرسول ، والمشاهد المشرّفة ، ونحوها ، وإن شئت أن تعرف قدر ما تلوت عليك في هذه الكلمات، فراجع الى ما ورد في تفصيل كلّ واحد منها في الأخبار(1).

وإذا تأملت فيها على التفصيل، تجدك تشك في نجاة إبليس، ولكن الخوف الحقيقي للاكياس من ضعف الايمان ، وسوء الأعمال المؤدّية لسوء الخاتمة ، والموت بالكفر والجحود ، لأنّ ما ذكرناه كله لمن يموت مؤمناً ، وإلا فللمؤمن عند الله قدر من القدر ينجيه ، لا محالة بشيء من هذه الأسباب العظيمة ، والحمد الله كما حمد الله لنفسه ، ربنا أنت أثنيت على نفسك ، ونحن لا نحصي ثناء عليك ويدلك على عظمة قدر المؤمن ما في حديث الأعرابي، من قول

ص: 166


1- هو رواية اسماعيل بن بزيغ الذي تقدمت الاشارة اليه قبيل ذلك عن الكافي .

النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) إنّ الله شرف الكعبة وعظمها ، ولو أنّ عبداً هدمها حجراً حجراً ، ثمّ أحرقها ما بلغ جرم من استخف بولي من أولياء الله ، قال الأعرابي : ومن أولياء الله ؟ قال : المؤمنون كلّهم أولياء الله وفيه أيضاً قال: يا رسول الله من يلي الحساب ؟ قال: الله ، قال: هو بنفسه ؟ قال : نعم فتبسّم الأعرابي ، فقال (صلی الله علیه وآله وسلم) : لم ضحكت يا أعرابي ؟ قال: إنّ الكريم إذا قدر عفى ، وإذا حاسب سامح، فقال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) : صدق الأعرابي الا لا كريم أكرم من الله ، هو أكرم الأكرمين ، ثم قال : فقه الأعرابيّ.

وبالجملة قد ورد الآيات ، والأخبار مختلفة يقوّي الرجاء ، ولكن علماء الأخلاق من جهة انّ الغالب على النّاس ، ان إذا سمعوا شيئاً منها يجعلونه سبباً لترك العمل ، وترك المب-الات في الدين ، ولا يؤثر فيهم الرّجاء الواقعي الذي هو مشوّق ومرغب في الطلب، كما سمعته يظنون بذكرها ولكن الأولى الاقتداء في ذلك بأنبياء الله (علیهم السلام) في ضبطها في الشريعة ، وعدم إخفائها كلية، ولكن قد يعاملون مع الناس في الموارد الجزئية هذه المعاملة مثلاً إذا رأوا من عليه الكسل، وعدم المبالات بأمر دینه كعامّة النّاس ، يكثرون عنده ذكر أسباب الخوف ، ليسوقوه بسوط الله الى الجادّة القويمة ، وإن رأوا أحياناً من غلب عليه الخوف ، وقلّ رجاؤه بحيث مال إلى القنوط يكثرون عليه من ذكر آيات الرحمة ، وأسباب الرجاء ، ويقودونه بذلك عن الميل إلى القنوط الذي فيه هلاكه إلى الطريقة الوسطى ، والمحجة البيضاء ، فانّ الصراط المستقيم الذي أنعم الله به على عباده ، هو أن يكون الخوف والرجاء فيهم متساويين إلى قرب موته، فالأولى ان يترك حديث الخوف، ويشتغل بأخبار الرجاء ليزيده ذلك شوق اللّقاء، ولا يكدّره الخوف وهو ليس بنفسه من الصفات الجميلة، ولكنّه مرغوب لفائدة منع النفس عن الشهوات والمعاصي.وإذا تم وقت العمل فلا يبقى فيه حسن من جهة تكديره شوق اللقاء، ولدة الانس يكون مضراً فرغب عنه، ولذلك قيل ولذلك قيل: ان العمل على

ص: 167

الرجاء اعلى منه على الخوف ، لأنّ الرجاء يزيد في الحبّ ، ويقوي لذة الانس ، نعم لأهل المحبة أيضاً خوف أشدّ من خوف سائر الأصناف ، وهو خوف الوقوف ، والاعراض ، والحجاب ، ولكنه خوف كامن لا يكدر اشعار أسبابه لذة المؤانسة ، وقلّ ما يحتاجون إليه أهله ، وقد يبليهم بذلك ما يظهر منهم من القلق ، والاضطراب على غيرهم من السالكين ، ويباهي بهم ملائكة المقرّبين.

خاتمة: قد ورد في الأخبار: انّ الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولا يؤمنهم من مكر الله فليخلط الوعاظ في وعظهم من ذكر أسباب كليهما ، ولكن من جهة أنّ الغالب على العامة الأمن من مكر الله وسخطه ، فليكثر من اسباب الخوف ، ولا يلتفت لشكوى المستمعين اكثرت من التخويف ، وليلاحظ هو بنفسه احوالهم ، لا يدرون ما الخوف والقنوط والرجاء ، والامن ، وشكواهم إنّما هو مما يجدونه من الم أوّل درجة الخوف ، فيحسبونه قنوطاً وإلا فكيف لا يرى فيهم أثر الخوف وكيف تجاوزوا الخوف، وبلغوا القنوط ولم يباشروا به ، أو جاز لهم الطفرة ، فانّ من لم يخف قط خوفاً يمنعه عن المعصية ، كيف يدّعي شدّة الخوف ، وتجاوزه عن حد الاعتدال إلى القنوط بل ليس قنوطهم ومنهم إلا من جهة انتفاء الموضوع في قلوبهم ، فانّ القنوط تجاوز الخوف عن حد الاعتدال ، وهو يستدعي ان يعتقد مخوفا ، وهو يستدعي ان يعتقد مخوفاً ، ويتذكر شدّته وبأسه ، ثمّ يغلب ألم احتراقه في القلب ، بحيث ييأس عن النجاة منه وأين لأهل الدنيا والمشعوفين بحبها ، والمنهمكين في شهواتها ، والمشغولين على التطالب بحطامها من اعتقاد صادق ، وإن وجد فأين لهم من ذكر الآخرة وشدّة عذابها ، فضلا عن غيبة ألم الخوف بحيث يتجاوز إلى حدّ القنوط ، بل ان وجد فيهم يأس من رحمة الله ، فهو من جهة عدم صدق اعتقادهم بالله ، وشدّة سخطه ، كما انّ الأمن عبارة عن تجاوز الرّجاء عن حد الاعتدال ، وهو يستدعي ان يعتقد في الله تعالى

ص: 168

عناية ورحمة واسعة ، ويغلب رجائه بحيث ينسى احتمال التخلّف عنه ، فينقلب الرجاء الى الأمن، واين لعشاق الدنيا هذا الاعتقاد الصادق ثم اين في قلوبهم محل لذكر الله ورحمته ورحمته ، فضلا عن غيبة ذلك حتى ينسى جانب الخلاف فينقلب الى الأمن، بل أمنهم ايضاً مثل يأسهم منشأه عدم صدق عقائدهم بالله، ورحمته ، وفضله وهبته ، فالسبب في شكواهم ليس إلا من جهة أنّ مذاكرة أسباب الخوف يولم القلب ، ولو في الجملة ، والالم مكروه بالذات ، والانسان مجبول بالفرار منه ، والنفس والشيطان يريدان دفع الم الخوف ، لكيلا ينغص عليه عيشه وشغله بالدنيا ، فيدلسان عليه الامر ، فيرى ان خوفه تجاوز عن الحدّ ، ونعم ما كان يقول في جواب هذه الشكوى بعض المعاصرين «ره» كان يقول : لا تخف فانك لا تخاف قطعا ، ثمّ إنّ ما ذكرنا من مرجوحيّة جانب الترجية لمن ابتلى بوعظ العامة ، انّما هو في حق من يرجيّ بالاسباب الصادقة الواردة في الشرع ، واما من يرجى الناس بالاسباب الكاذبة ، ويفتري على الله فهم شياطين الناس ، وقطاع طريق السالكين الى الله ، وهم اولياء الشياطين ، قد دلسوا الامر ، وغشوا للمسلمين في التلبيس بلباس أهل العلم والوعظ والاشتغال بصورة الوعظ ، فيحرّفون الكلم عن مواضعه ويفسّرون الآيات والاخبار من عند انفسهم، مثلا يقول الرّياء في الرثاء معفو ، ويستدلّ لذلك باخبار التباكي ، ثم يذكر ، ويرثي برثاء كاذب ، ويصرّ على المستمعين ، ويشوّقهم الى الصيحة والتباكي ثم يقسم بالأقسام العظيمة ، والايمان المؤكّدة ، انّ أهل المجلس قد غفرت لهم ذنوبهم ، وهكذا يذكر شيئاً من العبادات من صلاة وصوم ، يقول : صل مثلا في هذه الليلة هذه الصلاة ، ثم اذهب حيث شئت ، وقد غفر لك ، والعاصي المسكين يغترّ بقوله ، ويستريح قلبه من الخوف الكامن في قلبه بمقتضی ایمانه ، فيشتاق نفسه إلى حضور مجلس هذا الرجل من جهة ارتياح قلبه عن الم خوف الله، وهو يرى انه مجلس ذكر وعلم ، وله في حضور هذا المجلس مثوبات مجالس العلم مثلا، فيجلس فيه ساعة

ص: 169

ويتخيل انه اصاب أجر مائة شهيد ، والعياذ بالله من الضلال ، والاضلال ، وليكن هذا آخر ما نورده في الخوف والرجاء ، ثمّ إنّى أتقدَّم بالخوف ، واختم بالرجاء تفألا بأن يختم الله لي بزيادة الرّجاء على الخوف.

فصل: في القيام

وهو مسؤول بين يدي الله للخدمة والعبادة واظهار العبودية بالقلب والجوارح كلها ، وكمال قيام البدن أن يكون على طمأنينة وسكون وهيبة وحياء ، مطاطاً رأسه ناظراً الى موضع سجوده مقيماً

نحره وصلبه مرسلا يديه على فخذيه ، غير عابث بهما ، ولا مشتغل برفع رجليه ، ومستقبلا برؤوس اصابع رجليه إلى القبلة ، وصافا بهما إليها وفاصلا بينهما باصبع إلى شبر ، وثابتاً عليهما ، وكمال مثول القلب أن يكون ذاكراً لقوله تعالى الذي يريك حين تقوم ، وأن يكون سكون عليه تحت الاوامر الالهية وخجل واستحياء من استشعار القصور ، والتقصير ، في همّته لاداء حق العبودية بقدر الامكان ، ومشيراً ب-ارس-ال اليدين ، وصف القدمين للكون في مقام الخدمة ، واقفاً على قدم الخوف والرجاء ، وقاصداً باطراق الرأس التبري من الكبر والترأس ، وليكن ذاكر الهول المطلع ، وليقدر في نفسه لا محالة أنّه حاضر بين يدي واحد من ملوك الدنيا ، خائنا مقصراً ، فكيف يكون حاله ، ويكون بشراشر وجوده ناظرا إلى ما يصدر عنه من عتاب ، وخطاب ، وردّ وقبول ، وكيف تهدء اطرافه، وتسكن جوارحه ، وإذا لم تسمح نفسه العوّاد باللعب والعبث واللهو عن عظيم الأمور ، وحقائق العزائم بالجد في الخشوع ، والاستكانة بقدر حضور هذا الملك ، عند حضور ملك الملوك تعالى جلت عظمته فعليه ان يعاتب نفسه ، ويقول : انا استحيي يا خبيث أن يكون هو جل جلاله عندك اهون من عبد مملوك لا يقدر لنفسه نفعاً ، ولا ضرا ولا موتاً، ولا حياة ولا نشوراً ، والى ما تسلك بی مسالك المهالك، وتجعلني عند مالكي وسيدي اهون هالك ، فان لم يكن لك

ص: 170

الحياء ، ولم تنفعل من الخطاء والجفاء فعليك ان تخاف من خطر مقامك، وسوء حالك لقبيح فعالك ، وقد ورد فعالك ، وقد ورد(1) في الرواية قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم): أما يخاف من يحوّل وجهه في الصلاة، ان يحوّل الله وجهه وجه حمار.

قال بعض المحققين المراد أنه اما يخاف من يلتفت عن الله وعظمته في حال الصلاة، أن يديم الله غفلته ، فيكون وجه قلبه كوجه قلب الحمار.

فبالجملة هول المطلع أمر عظيم. روي أنّ الحسن(2) (علیه السلام) كان يبكي عند ذكر هول المطلع

روي عنه (علیه السلام)) أيضاً أنّه بكى عند وفاته ، وسأل عن بكائه قال : ابكي من هول المطّلع.

فصل: في النية ، وهي قصد العبادة لكونها محبوبة لنفسها الله أو خوفاً أو طمعاً دينياً أو دنيوياً ، والواجب أن يكون خالصة لواحد من هذه الوجوه مع التعيين او التعيّن ، والاحوط الأول إلا فيما ورد فيه النص كصوم شهر رمضان ، ولا يضرّ تخلّف بعض الصفات اذا عين من بعض الجهات الأخرى ، مثلا إذا أمر المولى بصلاة ركعتين في الوقت الفلاني ، او المكاني الفلاني ، واوجبهما فاتى بها المكلف بقصد الاستحباب اشتباها لا يضر ، وكما اذا اشتبه عليه القضاء بالاداء ، ففعل أحدهما مكان الآخر لا يضره ، وإذا وجد قصد المحبوبية فلا يضره أن يكون الداعي اليها فائدة دنيوية ، ولو من باب الخاصيّة ، والعبرة بهذا القصد ، ولو لم يخطر بالبال

ص: 171


1- نقله الشهيد (رحمةالله علیه) في شرح اللمعة وغيره في غيره ويبالى انه فسره بذلك.
2- أورده في الارشاد وغيره.

ثمّ انّ القصد في العبادة النيّة والاخلاص ، والدليل عليهما الآيات والاخبار.

كقوله تعالى:«وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ».

وقوله: (الا لله الدين الخالص)

وقوله:(من كان يرجو كان يرجو لقاء ربه ، فليعمل عملا صالحا ، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) وقول(1) النبي(صلی الله علیه وآله وسلم): إنما الاعمال بالنيات.

وقوله (علیه السلام): لكل امرء ما نوى .

وقوله (علیه السلام)(2) ومن كانت هجرته الى الله ورسوله ، فهجرته الى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ، وإنّما قال ذلك في المهاجرة الى الجهاد ، وصار اصلا في جميع العبادات.

قيل أن هذا الخبر عند أصحاب الحديث من المتواتر، وهو أوّل ما يعلمونه اولادهم ، ويقولون: انه نصف العلم

وما روي (3)عن النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم): يقول الله تعالى: من عمل عملا اشرك فيه غيري ، فهو له كلّه، وانا منه بريء وأنا اغنى الاغنياء عن الشرك

ص: 172


1- رواه في الوسائل في باب وجوب النية في العبارة وهي جزء من الرواية التي رواه في البحار عن منية المريد.
2- رواه في البحار عن كتاب منية المريد للشهيد (رحمةالله علیه) ، وهي رواية طويلة نفيسة نقلها مختصراً.
3- رواه في البحار عن مسلم في الصحيح ، ولكن العبارة هكذا : روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال الله عز وجل: انا اغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملا اشرك فيه غيري ، فأنا منه بريء ، فهو الذي اشرك.

وقول(1) الصادق (علیه السلام) : قال الله تعالى : أنا خير شريك ، من أشرك معي غيري في عمل ، لم اقبله إلا ما كان خالصاً لي.

ومجمل القول في النية انّ الصورة الواحدة لعمل واحد، لا يشرك فيها حف مختلفة، لا ميز لها الا بالمقصود.

مثلا صورة الانحناء ، إنّما يشترك فيها التعظيم ، والاستبراء والتمثيل والتعليم ، والرّياء ، وقد يكون لمجرّد أخذ شيء من السفل ، أو وضعه فيه ، ومرادنا من القصد الباعث للعمل ، فان كان الباعث للانحناء عظمة المولى ، يسمّى ذلك عبادة ، وله حكمها ، بخلاف غيرها من الاقسام المختلفة ، فلا يصدق عليها العبادة ، بل بعضها ضدّ العبادة. وهكذا القول في العبادة فانها ايضا قد يكون للصنم ، وقد يكون لملك من الملوك ، وقد يكون الله.

وهكذا العبادة الله قد يكون لرغبة أو رهبة ، أو تعظيم أو محبّة ، أو لكونه اهلاله ، والرغبة ، والرهبة ايضا ، قد يتعلّق بأمر ديني ، أو دنيوي ، وايضاً قد يشترك في الباعث للعمل عبادة الله وشيء من الامور المذكورة غير الاضداد، او غير ذلك من المباحات والمستحبات . فان كان الشريك من المستحبّات، كما إذا سلّم وقصد به افشاء السنة ، وصلة الرّحم وتعظيم المؤمن ، فهو وجميع ما ذكر من وجوه عبادة الله فهو صحيح لا محالة ، وأما أن كان الشريك من المباحات كقصد التبريد في الوضوء مثلا ، فان كان على وجه التبعية والتقوية ، لا على وجه العليّة ، فالظاهر إنّه غير مضر ، وإن كان على الوجه العليّة التامة ، أو كان جزء العلّة فهو مشكل ، ويجب فيه الاحتياط ، وأمّا إذا كان الشريك رياء او سمعة ، أو عبادة أحد دون الله ، فهو باطل مطلقاً، سواء كان في ابتداء النيَّة قبل العمل ، او في الاثناء ،

ص: 173


1- رواه في الوسائل ايضاً في باب وجوب النية في العبادة.

والمتأخر منه حرام على الظاهر ، ومحبط للاجر لما ما مضى من اخبار الشريك وآياتها ، وغيرها من اخبار الشيعة ، ولا تصغ الى قول الغزالي في هذا الباب، من كون عبادة من اشرك الغير في نيته ذات أجر ، ووزر كل بحس- بحسب فان زاد قصد القربة على قصد الغير يترجح جانب الثواب بقدر الزيادة، فانّ اخبار أهل بيت الوحي يرده ، وأهل البيت أدرى بما في البيت وهكذا قول من ذهب منا إلى بطلان عبادة من تعبد من خوف النار ، او لدخول الجنّة فأنّه أيضا خال عن التحقيق ، والعجب قائله كيف ذهب إلى هذا القول ، وهو منصوص على جوازه ، بل العبادة الخالصة من الخوف ، والرغبة الأخرويتين ، غير ممكنة لاغلب الناس ، بل جلّهم إلا من شدّ من أهل المعرفة الكاملين ، بل ربما يتعبد المقربون أيضاً من خوف النار ، كما يشهد بعض المناجات الواردة عن الأنبياء ، والاوصياء صلوات الله على نبينا ، واوصيائه وعليهم أجمعين والسرّ في ذلك إنّ ما يشاهد من أحوالهم ، ويدلّ عليه أخبارهم التي ريب فيها ، أنّ احوالهم مختلفة بحسب التجليات الاسمائية ، بمقتضى الحكمة الالهية والعناية الربّانيّة ، والّذي لا يعرضه الاحوال هو الذات المنزّه عن جميع الصفات والحالات، والدليل على اختلاف احوالهم يعرف لمن تأمل في آثارهم من ظهور الخوف الشديد ، والرجاء العظيم ، والقدرة والعجز ، والاخبار عمّا يأتي ، والتحيّر فيما حضر ، والعلم بما كان ويكون ، وعدم العلم وقوله (صلی الله علیه وآله وسلم) كلميني يا حميرا ، وظهور بعض الحالات عند نزول الوحي.

وبالجملة كان أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول تارة : انا قسيم الجنّة والنار ، وتارة يغشى عليه من ذكر النّار ، ويقول : آه من نار تنضج الاكباد والكلى آه من نار نزاعة للشوى ، ويخر مغشيا عليه.

وأيضا كان في بعض الدرجات يقترض من اليهود درهما وتارة يصير التراب فضّة وذهباً ، وكيف كان لا مجال لتوهّم أحد من النّاس لعدم

ص: 174

جواز التعبّد من خوف النّار ، ورجاء الجنّة ، فضلا عن أهل العلم . فضلا عن مثل رئيسهم وشيخهم آية الله شيخنا العلامة الحلّي القائل بهذا القول ، ولكن أمثال هذه السقطات من هؤلاء الاجلة عبرة للمعتبرين ورحمة من ربّ العالمين لعباده المؤمنين لئلا يسكن أحد بعلمه وعقله أو غيرهما من من فضائله ، ویری نفسه وجميع نعم الله عنده في قبضة خالقها ومالكها ، وهو لا يقدر لنفسه نفعاً ولا ضرا ، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولو كان ذلك غير جائز لما صح لاغلب المؤمنين ، ولا جاز لهم شيء من العبادة ، بل ولا يكون ذلك إلا بعد الوصول إلى معارج المقربين العارفين بالله ، وباسمائه وصفاته الذين يرون الجنّة والنّار صورتين لرحمته وغضبه ، نعم التعبد لخوف النار وطمع الجنّة ، أو لشيء من الاشياء عبادة العبيد والاجراء ، واما الاحرار والاولياء فلهم مع معبودهم حالات لا يلتفتون فيها إلى شيء مما سواه ، حتى أنفسهم بل ولا الى القرب والبعد ، فضلا عن الجنّة والنار هذا شيء ما ورائه شيء ولكن دونه سائر مقامات المخلصين ، ومقاصد المجاهدين في الله والمراقبة لاعمالهم ، وآفات أنفسهم على درجاتهم المتفاضلة ، فاوّل درجتها أن يكون العبادة خالصة من وجوه الفساد الشرعي المبطل للعمل ، أو المحبط للأجر ، وهو اخلاص العمل عن شوائب الرياء ، والسمعة ، والشرك الخفي ، ومهما بقي للرجل شيء من حبّ المدح ، وبغض الدّم فلا اطمئنان له بالخلاص عن جميع وجوه هذا الشرك ، وهو خفي واخفى ، وقد ورد فيه انه اخفى من اثر دبيب النمل ، في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء.

ومن كواشفها ان يزيد نشاط الرجل اذا رأه أحد للعبادة، لا اقول يزيد في عبادته اذا رآه أحد، بل اقول يزيد نشاطه الواقعي عند رؤية الناس. ومنها ان يستريح قلبه ويستلذ روحه اذا ظهرت عباداته المخفية كذا قيل.

ص: 175

وقيل: أن من كواشفها أيضاً أن يرى لنفسه الفضل على غيره ممّن لم يعمل عمله ، وأن يتوقع من النّاس الاكرام ، والمسامحة في المعاملات.

وحكى عن بعض السادات الإجلاء أنه قضى صلاة ثلاثين سنة،لأنه كان يصلّي في هذه المدة صلاته مع الجماعة في الصف الأول وتأخر يوماً ففاته الصف الأوّل ، ووجد في نفسه خجلة ، وحياء من الناظرين ، واستكشف من ذلك الخجل انه كان فيما صلاه في الصف الأوّل عند النّاس سروراً وراحة للنفس ، فقضى جميع ما صلّى في تلك المدّة.

ومن الاخلاص ان يخلص العمل عن سائر القصود المباحة ، ولو كان تبعا لقصد العبادة مثل ما يوصف من مجاوري النجف الاشرف ، انه كان في أيام العاشورا في البلدة المباركة مجالس قائمة لعزاء الامام الشهيد ارواح العالمين فداه ، وكنت أرى نفسي مائلة الى واحدة من هذه المجالس دون غيرها، ولم أفهم وجه الترجيح ، وعلمت لرغبتي لهذا المجلس ان للنفس فيه مدخلا، وتفكرت ولم ار شيئاً زائداً فيه من حظوظ النفس ليس في غيره ، ثمّ بالغت في التفكر ، فظهر لي بعد اللتيا واللتي، ان اختياري لهذا المجلس لم يكن خالصاً من جميع جهات حظوظ النفس، وكيف كان للاخلاص مراتب، لا يمكن تحصيلها الا لمن هداه الله من فضله ، واعطاه الحكمة وجعلها نورا وشفاء لصدره وبصره حيل نفسه الغرور ومداخل عدوّه الكفور الشرور، وايده بجنوده وسدّده حتى خلص عمله الآفات كلّها، وآخر درجاتها أن يكون العمل خالصاً من شوب جميع الرغبات، حتى الاخروية منها ويكون العبادة خالصة لوجه الله ، وباعثها حبّه تعالى، وكونه اهلاله، ولذا (1)

ص: 176


1- لم نعثر عليه.

ورد في حقيقته ان تقول ربّي الله ثم تستقيم كما امرت وتعمل الله لا تحبّ أن تحمد عليه.

وروى(1) عن أمير المؤمنين(علیه السلام) قال : طوبى لمن اخلص الله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ، ولم ينس ذكر الله بما يسمع اذناه.

والقول البالغ في ذلك ما في المصباح ، قال الصادق (علیه السلام): الاخلاص يجمع فواضل الاعمال ، وهو معنى مفتاحه القبول ، وتوقيعه الرّضا ، فمن تقبل الله منه ، ورضى الله عنه فهو المخلص ، وإن قلّ عمله ومن لا يتقبل الله منه ، فليس بمخلص وان كثر عمله ، اعتباراً بآدم وابليس ، وعلامة القبول وجود الاستقامة ببذل كل المحاب ، مع اصابة علم كلّ حركة وسكون ، والمخلص ذائب روحه وباذل مهجته في تقويم مابه العلم والاعمال ، والعامل والمعمول بالعمل لأنه إذا ادرك ذلك فقد ادرك الكلّ ، واذا فاته ذلك فقد فاته الكل ، وهو تصفية معاني التنزيه في التوحيد.

كما قال الاوّل(2): هلك العاملون إلا العابدون ، وهلك العابدون إلا العالمون ، وهلك العالمون إلا الصادقون ، وهلك الصادقون إلا المخلصون وهلك المخلصون إلا المتقون ، وهلك المتقون إلا الموقنون ، وإنّ الموقنين لعلى خطر عظيم.

قال الله تعالى لنبيه واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ، وادنى حد الاخلاص بذل العبد طاقته . ثم لا يجعل لعمله عند الله قدراً ، فيوجب به على ربه مكافاة بعمله ، لعلمه إنّه لو طالبه بوفاء حق العبودية لعجز

ص: 177


1- رواه في الوسائل في باب وجوب الاخلاص في العبارة والنية وآخر الحديث ولم يحزن صدره بما اعطی غیره.
2- وهذه عبارة مصباح الشريعة في باب الاخلاص.

وادنى مقام المخلص في الدنيا السلامة من جميع الاثام ، وفي الآخرة النجاة من النار والفوز بالجنّة انتهى والظاهر انّ المراد من قوله : مفتاحه القبول ، وتوقيعه الرّضا ، أنه لا سبيل الى التخلّص من شوائب الش-رك الخفي إلا بفضل خاص من الله ، وهو القبول لمن رضى له بمثل هذا المقام السني وأن يبصره حيل النفس ومداخل الشيطان ، بدقائق العلم ويوفقه ويسدّده للتحرز منها ، فيكون عمله خالصاً لوجهه الكريم ، وهذا هو العمدة، وان كان العمل قليلا ، ولا عبرة بكثرة العمل إذا لم يكن خالصاً.

كما اشير إليه في الرّواية الواردة في تفسير قوله تعالى: (لِيَبلُوَكُم اَیُّکُم اَحسَن عَمَلا)، ليس يعني أكثركم عملا بل اصوبكم عملا، والمراد من قوله وعلامة القبول ان يعرف هذا الذي تقبله ربه ، وجعله من المخلصين ، لئلا يغترّ احد بأنّه ممّن قبله الله ، ورضى عنه ، فجعل العلامة وجود الاستقامة ، وهو الذي اراده الامام (علیه السلام)) في خبر آخر في حقيقة الاخلاص بقوله : وهو ان تقول ربي الله ثم تستقيم كما امرت ،

: وتعمل الله لا تحبّ أن تحمد عليه ، ولذا قيدها بكونها يبذل كل المحاب مع اصابة علم كلّ حركة وسكون ، لأنّ السالك إذا بقي في قلبه مراد ، ومقصود غير وجه الله لا يستقيم له الاخلاص ، فلا يكون له بد من ان يراعي هذا المراد ، والمحبوب في حركاته ، فهو معنى بذل المحاب كلّها ، وهذا ايضاً لا يكفيه إذا لم يعلم وجه رضى ربه في حركته وسكونه لأنّه يمكن ان لا يكون له قصد سوى وجه الله ، ولكن يجهل وجه رضاه في اعماله ، فيكون عمله عمل جاهل متنسك ، فوجب العلم فاحتاج مريد الاخلاص بمجاهدة شديدة في تقويم علم الحركات ، والسكنات بأن يخلصها من البدع ، والابتلاء بخلاف رضى الربّ وتقويم الاعمال وتقويم نفسه وما يحصل من عمله أو حفظ عمله عن الابطال بعده كلّ ذلك يحتاج إلى المجاهدة الشديدة، والصبر العظيم لتحمّل الاعمال الشاقة في

ص: 178

تحصيل العلم النافع ، وتذكية النفس فانّ اذيال الغرور في الاعمال اوسع مما بين العرش والفرش ، ولا اظن احدا يتخلص منه إلا من عصمه الله بلطفه ، ولذا ترى النّاس يعملون عمل المقرّبين ، ولا ينتفعون منه بشيء ، وليس ذلك إلا من جهة آفات الاعمال ، وإلا فلو كان العمل عملا ، فلا بد ان يثمر نوراً ، ومعرفة في القلب ، فلا يزال يزاد نوره ، حتى يكون محسوساً لكلّ احد ، اما سمعت ما في الحديث القدسي لا يزال يتقرب العبد اليّ بالنوافل ، حتى اجعله مثلي «الخ»، ولا يزال يتقرب العبد اليّ بالنوافل حتى احبه وكنت سمعه الذي يسمع به «الخ» كيف ، يمكن ويتصوّر ان يكون الصَّلاة معراجا ، وزيارة الله ولا يزاد بها نور القلب وصفائه ، وزهده عن الدّنيا ، واقباله على الله ، اما سمعت قوله (علیه السلام) : ( من لم تنهه الصلاة عن الفحشاء والمنكر ، لا يزداد في صلاته من الله الا بعدا).

وبالجملة من اشتغل غالب أوقاته بالعبادة نظير اغلب النّاس ، لا سيّما أهل العلم فان غالب شغلهم العبادة لأنه لا عبادة اشرف من تحصيل العلوم الربانية ولا يرى في قلبه نوراً وصفاء وزيادة معرفة ، فيعلم بالقطع انّ عمله معيوب ، وهو من جملة الاخسرين اعمالا ، الّذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ، وليحذر ان يبدو له من الله ما لا يحتسب، ويبدو له سيئات اعماله ، ويرى مثلا صلاته في كفّة سيّئاته ، وتحصيله للعلم تحصيلا للجساه والشرف ، وهكذا.

وبالجملة يعمل في مدة عمره خمسين او ستين سنة عمل اهل الله في زمرة اهل القدس والتقوى ويدعى في الناس بالمقدّس ويشار إليه بالتقوى ، ويكون اسمه في الدنيا مؤمناً ومتقياً ومجاهداً في الله وفي الآخرة مرائيا وغادراً وفاجرا بل منافقاً كافراً والعياذ بالله من الغرور . والشيطان المغرور ، ولا ارى ولا اعتقد داء للقلب اضرّ للسّالك ، ولا

ص: 179

اقرب الى الهلاك من الغرور، ولا عملا يكون احشر للرّجل يوم الحسرة ، ولا اخسر من عمل المغرور ، وها نحن هذا المغرور ، انجانا الله بفضله من غوائله ، وما اقبح حالنا اذا رأينا في صحائف اعمالنا بل وجدنا في صحيفة انفسنا ما حسبناها عبادة الله أنّه كان من جملة عبادة الشيطان ، ومبعدا عن الله ، ووجدنا نورنا ظلمة ، وشفيعنا ما حلا ، انا وانا إليه راجعون ، مصيبة عظم رزئها وجل عقابها ، فوا اسفاه من خجلتي ، وافتضاحي ، ووالهفاه من سوء عملي واجتراحي كيف يكون حال من يلوم النّاس ، ويعظهم من مخالفة الله ومعصيته ، اذا واجههم یوم القيامة ، وهم مغفورون ، وفي وجوههم نضرة النعيم وهذا قد اسود وجهه من ظلمة المعاصي، ولعمري أنه مصيبة بخلاف مصائب الدنيا لان مصائبها إنّما كان لها سلوة بالمثوبات الاخروية ولصاحبها اسوة بالابرار ، ومصائب الآخرة مصائب لا سلوة منها ابدا ، ولا اسوة فيها الا للشيطان وحزبه ، وهم اعداء الله المخذولون الملعونون ، نعوذ بالله الهادي وباسمائه الحسنى كلّها عامة أن ينجينا من غوائل وجوه الغرور ، او يبدل سيئاتنا بالحسنات ، فانّه ولي الرغبات ، والمنجي من الهلكات.

وبالجملة قد اشار (علیه السلام) بقوله: وهو تصفية معاني التنزيه في التوحيد، إنّ الاخلاص لا يكون إلا بالنزوع عن جميع وجوه الشرك ولا يصح ذلك إلا لمن وحد الله في الوهيته توحيداً ، يسري في اعماله ، فيكون موحداً بشراشر وجوده واعتقاده وعمله ، ولا يرى في ملك الله مؤثراً غير المالك الحقيقي ، فلا يرى ضاراً ولا نافعاً غير الله ، ومثل هذا الرجل كيف يبقى له مراد ومقصود غير الله ، لأنّ الانسان لا يتحرك الى شيء بحركة اختيارية إلا لما يراه خيرا ، وسعادة لنفسه اما في العاجل ، وهو الغالب للعامة ، أو الآجل وهو الغالب للعقلاء ، واذا لم ير في الوجود مؤثراً غير الله ، فلا يبقى له رغبة، ولا رهبة إلا الى الله ، ومن الله ، ويدخل في عباد الله ، ولا يكون للشيطان عليه سلطان، لانّ

ص: 180

سلطانه في باب الاخلاص والشرك ، انما هو من وجوه الرغبة والرهبة واذا انسد بابهما يفتح باب التوحيد ، فقد خنس اللّعين.

ثمّ إنّ هذا كله بالنسبة إلى أصل الاخلاص ، وأما تفصيل مراتبه، فيعلم من تفصيل مراتب معارف الايمان ، فكل مؤمن بحسب معرفته له اخلاص لا يمكنه غيره ، إلا بالترقي عن معرفته إلى ما فوقها من المعارف، فانّ العمل للجنة والنار لا ينافي اخلاص بعض المؤمنين ولكن ينافي في بعض الاحيان اخلاص بعضهم ، فانّهم في بعض الاوقات لا يسعهم الالتفات إلى القرب والبعد ، فضلا الجنة والنار

هذا ويستحب للعامة ان يكون(1) صلاته صلاة مودع ، فكأنه آخر صلاته

فانّه يزيد في اقباله وخشوعه.

فصل: في الاذان والاقامة

اشارة

و فيه فصول

الأول: في فضيلتهما

عن ثواب الاعمال(2) باسناده عن رجل عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : من تولّى اذان مسجد من مساجد الله ، فاذن فيه وهو يريد وجه الله اعطاه الله عزّ وجلّ ثواب اربعين الف الف نبي ، واربعين الف الف صدّيق واربعين الف الف شهيد ، وادخل في شفاعته أربعين ألف الف امّة ، في كلّ امّة أربعون الف الف رجل وكان له في كلّ جنة من الجنان اربعون الف الف مدينة ، في كل مدينة اربعون الف الف قصر في كلّ قصر اربعون الف الف دار ، في كلّ دار اربعون الف الف بيت في كلّ بيت اربعون الف الف سرير ، على كل سرير زوجة من حور العين ، سعة كلّ بيت منها مثل الدنيا اربعون الف الف مرة ، بين يدي كلّ زوجة أربعون الف الف وصيف ، واربعون الف الف وصيفة ،

ص: 181


1- كما مر عن السجاد عليه السلام.
2- نقله في البحار وغيره.

في كل بيت أربعون الف الف مائدة ، على كلّ مائدة اربعون الف الف قصعة ، في كلّ قصعة أربعون الف الف لون من الطعام ، لو نزل به الثقلان لادخلهم في ادنى بيت من بيوتها لهم فيها ما شاؤا من الطعام والشراب ، والطيب واللباس والثمار ، والوان التحف والطرائف من الحلي والحلل ، كلّ بيت منها يكتفي بما فيه من هذه الأشياء عمّا في البيت الآخر ، فاذا اذن المؤذن فقال : اشهد ان لا إله إلا الله ، اكتنفه اربعون الف الف ملك ، كلّهم يصلون عليه ، ويستغفرون له ، وكان في ظلّ الله عزّ وجلّ حتى يفرغ ، وكتب له ثوابه اربعون الف الف ملك ثم صعدوا به الى الله عزّ وجل(1)

وفي حديث(2) بلال الطويل:اكتب بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) يقول من اذن عشر سنين اسكنه الله مع ابراهيم في قبته او في درجته والاخبار في انّ من صلّى مع اذان واقامة يصلّي معه صفّان من الملائكة فوق حدّ الاستفاضة وفي بعضها ، قلت له: وكم مقدار الصف قال الله ما بين المشرق والمغرب ، واكثره ما بين السماء والأرض ، وروى(3) عن علي(علیه السلام) أنّه قال: قال رسول الله: للمؤذن ما بين الاذان والاقامة مثل اجر الشهيد المتشحط بدمه في سبيل الله ، قال قلت: يا رسول الله انهم يجتلدون على الاذان قال كلا انّه ليأتي على النّاس زمان يطرحون الاذان على ضعفائهم ، وذلك لحوم

ص: 182


1- رواه في البحار عن مجالس الصدوق (رحمةالله علیه) وهي رواية طويلة لم ينقل صدرها ولا ذيلها ، وهي مشتملة على فضائل كثيرة ، ونقل منها المؤلف (رحمةالله علیه) فضيلة واحدة فقط.
2- كما في البحار عن ثواب الاعمال.
3- في الوسائل باب استحباب تولي الاذان رواه عن الشيخ ، ورواه في البحار عن ثواب الاعمال ، وفي بعض الالفاظ اختلاف يسير ، ففي رواية الشيخ ، يجتلدون، ورواية الصدوق: يختارون، وفي بعض النسخ : يجتازون بالجيم والزاء ، والكل واضح.

حرّمها الله على النار وعن(1) مجالس الصدوق باسناده عن الصادق (علیه السلام) عن ابائه ، قال : قال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) : الا ومن اذن محتسبا يريد بذلك وجه الله تعالى اعطاه الله ثواب اربعين الف شهيد، واربعين ألف صديق ، ويدخل في شفاعته اربعون الف مسيء من امّتي الى الجنّة ، الا وان المؤذن اذا قال اشهد ان لا اله الا الله صلى عليه تسعون الف ملك ، واستغفروا له ، وكان يوم القيامة في ظلّ العرش حتى يفرغ الله من حساب الخلائق ، ويكتب ثواب قوله اشهد ان محمداً رسول الله اربعون الف ملك.

اقول: اياك ان تقول في امثال هذه المثوبات الواردة في جزاء الاعمال انها صدرت مبالغة ، لأنّه قول طائفة من الملاحدة ، فان استعدّ عقلك الضعيف ، فلك في رفع استبعاده امران : الأول ان تعرف ان القدر المتيقن من هذه المثوبات انّما هو لمن اتى حقائق هذه الاعمال خالصة لوجه الله ، ثم تتفكّر في انّه لا يمكن ذلك الا لواحد بعد واحد من الاوحديين ، واما امثالنا العامة ، فلأن يكون بعض عباداته مبعدة عن الله، ومعصيته موجبة للنار احق من ان يكون مقرّبة اليه(صلی الله علیه وآله وسلم) وموجبة للمثوبات ، وانت اذا تأملت في معنى لا اله إلا الله، ورأيت انه كلمة توحيد، ومعناه اثبات الالوهية، والمنفرديّة له تعالى ونفيها عن غيره ثمّ تأملت في نفسك ورأيتها أنها تعامل مع الله في جميع تقلباتها معاملة من لا يعتقد فيه الوهيته ، وانما يعتقد الالوهية والمنفردية لكلّ من يعتقد فيه شيئاً من القوة ، والقدرة من المخلوقين، ولا يثبتها على الله ، ولا يفزع في حوائجه اليه بل الى الاسباب والوسائط، مثلاً ترى نفسك اذا كان له اب ذو ثروة، وذو عدّة وكفاية لمهمّاته ، يطمئنّ له بحوائجه، ويفزع اليه في مهماته ، وليس تطمئن الى الله ، ولا تفزع اليه ، ولا تسكن الى وعده

ص: 183


1- رواه في البحار.

الرزْق، والاجابة لدعائه اذا دعاه ، وهو مع ذلك يقول في لسانه : لا اله الا الله ، هل يكون هذا موحدا ، وهل يصدق عليه في قوله هذا: انّه موحد صادق في توحيده، او مشرك وكاذب او عابث، ولاغ او مستهزء ومنافق ، واذا اعتقدت ان لا اله الا الله كلمة عظيمة ، لا يقدر ان يقولها حق قولها الا العارفون بالله ، فلا يستبعد ما ورد فيه من المثوبات والامر الثاني ان يتفكر في قدرة الله ، وان جميع ما ورد في الاخبار من وصف المثوبات ، والجنّة انّما يقدر على خلقها بارادة واحدة ، وبقول كن ، ولا مؤنة له عزّ وجلّ في خلقها واضعافها الى غير النّهاية ابداً ، فانّه يفعل ما يشاء ، ويخلق ما يريد ، ولا يؤده خلقه وحفظه ، ويتفكر في عنايته وانه جواد ، لا يبخل ، وهو اكرم الاكرمين ، وارحم وارعف للمؤمن من الأم الشّفيقة ، فاذا اجتمع لكم معرفة الأمرين ، وتصديقه بحقيقة التصديق لا تستبعد شيئاً من ذلك فان استبعاد هذه المثوبات في انظار

العامة أنّما هو بوجهين: احدهما استعظام امكانها والقدرة بخلقها وتخيّل مؤنة في خلقها ، وحفظها لخالقها، وثانيهما استحتار موجبها ، وإنّما يدفعها الأمران المذكوران كما هو ظاهر.

فصل: ورد في بعض الاخبار(1) استحباب زيادة الشهادة فيهما بالولاية ، أو امرة المؤمنين لعلي(علیه السلام) مرتين بعد الشهادة بالرسالة ، واعترف به الصدوق في رواية الشيخ والعلامة قال الصدوق: كنا نعرف الغلاة بروايتها ، وذكر الشيخ انّ رواتها من المفوّضه ، ثم ذكر أنّه لا بأس بقولها ، اقول: أما كونها من اجزاء الاذان التي تبطل تركها ينفيه

ص: 184


1- كما في رواية الطبرسي في الاحتجاج ، ورواه الصدوق في الفقيه عن أبي بكر الحضرمي في مقام الطعن على الشيعة أقول: ورد في روايات عديدة ، أنه يستحب الشهادة على ولاية علي عليه السلام وامرته بعد اشهاده على رسالة نبينا صلى الله عليه وآله، كما ورد في البحار في تفسير قوله تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وأفتى به بعض أجلة فقهاء الشيعة رحمهم الله فلاحظ وتدبر.

الاخبار الكثيرة، واما استحباب ذكرها فيهما ، فلا معارض لهذه الاخبار فيها ، وان لم يصح اسنادها فلا بأس بالعمل بها من باب المسامحة ويرجى لمن قالها رجاءً للثواب ان يعطيه الله ذلك الثواب ، وان لم يكن مستحبا في الواقع ، وأما شذوذ اخبارها فهو يمنع عن العمل بها عند التعارض ، ولا تعارض فيها في مجرّد استحباب الذكر .

وامّا قول الصدوق : انّ روايتها كان عنده ميزاناً لمعرفة الغلاة ، فهو میزان مخصوص به ، ولم يثبت لنا كما هو الشّأن في بعض موازينه الآخر للرمي بالغلو فصل : في حكمهما اما الاذان فلا اشكال في عدم وجوبه لكلّ صلاة للمنفرد ، والاحوط عدم تركه في الجماعة اذا لم يجمع بين الصلاتين ، واحوط منه عدم تركه للمنفرد في الفجر والمغرب في الحضر ، ان لم يسمع اذان الغير .

هذا كلّه للرّجل وأمّا النّساء فلا يجب عليهن اذان ؛ ولا اقامة في شيء من الصلوات في حال من الحالات

واما الاقامة فالاحوط ان لم يكن أقوى عدم تركها للرّجل مطلقا نعم يسقطان في المسجد اذا صلّى فيه جماعة ، وان يصل معهم وان لم يسمع اذانهم واقامتهم ، لكن بشرط بقاء المصلين او بعضهم على هيئة

الجماعة.

فصل: يستحبّ فيهما الطهارة والاستقبال ، والقيام وتتأكد في الاقامة والاولى بل الاحوط ان لا يترك فيها والاستقبال في الشهادتين أكد منه في غيرهما وكذا يستحبّ الوقف على الفصول مع التأني في الاذان والحدر(1). في الاقامة، ورفع الصوت للرّجل في الاذان والافصاح

ص: 185


1- قوله: يستحب الوقف أه أقول: المراد من الوقف هو الوقوف على أواخر الفصول في الاذان ، والمراد من الحدر في الاقامة هو الاسراع الموجب لظهور الاعراب في أواخر الفصول وأما قوله: والافصاح بالألف والهاء ، فقد ورد في روايات كما في الوسائل وغيره: ان الاذان جزم بافصاح الالف والهاء ، والاقامة حدر فيمكن ان يكون المراد بالألف والهاء المأمور بافصاحها مطلق الالف والهاء الواقعين في الاذان : كما في لفظة «اشهد ، » و « الله » و «لا إله الا الله » ، وعرفان عدم الافصاح بالالف والهاء فيها ربما يغير المعنى تغييراً فاحشاً ، ويمكن ان يكون المراد الالف والهاء في لفظة الجلالة فقط او في لفظ « اشهد » فتدبر فلا مجال لنا في اطالة الكلام. وراجع الكتب الفقهية ، وأما ساير المستحبات التي ذكرها قدس سره: فهي مذكورة في الكتب الفقهية ، وكتب الاخبار ، ومشهورة عند الشيعة، فلا حاجة الى تطويل الكلام فيها.

بالالف والهاء ، ووضع الاصبعين في الاذنين عنده ، ويستحب الفصل بينهما بخطوة ، ودعاء ، وسجدة ، وركعتين من نوافل الظهر والعصر في اذانهما ، وفي بعض الروايات انّ من اذنّ ثم سجد ، وقال لا اله الا انت ربي سجدت لك خاضعاً خاشعاً غفر الله له ذنوبه.

وفي الآخر من سجد بين الاذان والاقامة ، وقال في سجوده ربّ لك سجدت خاضعاً خاشعاً ذليلا ، يقول الله : ملائكتي ، وعزّتي ، وجلالي لاجعلنّ محبته في قلوب عبادي المؤمنين ، وهيبته في قلوب

المنافقين.

وفيها قال ابو عبدالله (علیه السلام): من جلس بين اذان المغرب والاقامة كان كالمتشحط بدمه في سبيل الله ، ويستحبّ الدّعاء جالساً بالمأثور ، وهو اللهم اجعل قلبي بارّاً ورزقي دارًا ، واجعل لي عند قبر نبيك (صلی الله علیه وآله وسلم) قراراً ومستقرّاً ، وروى الفصل بركعتي الفجر بين اذانيها ، وبالجملة الفصل مؤكّد بينهما ، لا ينبغي تركه عمداً ، ومن السنة أن تكون في الظهر والعصر بركعتين من نافلتهما ، ويستحبّ أيضاً في الفجر بركعتيها للامام المنتظر، بل للمنفرد أيضاً وفي باقي الصلوات بسجدة ، أو

ص: 186

جلسة ، أو نفس ، أو تسبيح أو تحميد ، ويستحب في الجماعة لغير المؤذن، ان يجلس حتى يقول المقيم ، قد قامت الصلاة ، فيقوم ، ولا يجلس ، ثمّ انّ الأحوط أن يكون عند الاشتغال بفصول الاقامة قائماً

ساكناً ، مستقبلاً ، ويراعي أحوال الصلاة فيها ولا يتكلّم فيها بغير ما يتعلّق بالصلاة ، ووردت الروايات بحرمة التكلّم إذا اقيمت.

فصل: في عبرهما قال في الحقائق: وإذا سمعت نداء المؤذن ، فاحضر في قلبك نداء يوم القيامة ، وتشمّر بظاهرك ، وباطنك للاجابة والمسارعة ، فإنّ المسارعين إلى هذا النداء ، هم الذين ينادون باللطف يوم العرض الأكبر فاعرض قلبك على هذا النداء ، فإن وجدته مملوءاً . بالفرح ، والاستبشار ، مشحوناً بالرغبة إلى الابتدار ، فاعلم أنّه يأتيك النداء بالبشری والفوز يوم القضاء ، ولذلك قال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ارحنا يا بلال، ارحنا بها وبالنداء إليها ، إذ كانت قرة عينه فيها.

أقول: يعني الأذان نداء اللقاء ، وكما أن يوم القيامة ينادون الناس إلى العرض على الله ، فكذلك المؤذنون ينادون المؤمنين إلى مجلس الحضور والمعراج والزيارة، فإن كان حال الانسان في هذه الدنيا من المعرفة بحيث يلتذ بهذا النداء ، فالمعرفة في الدنيا بذر المشاهدة في الآخرة ، وإن كان من الجهالة بحيث يسوء من هذا النداء ، فهو أيضاً يورث سوء حاله من نداء يوم القيامة ، وإن كان من الغافلين ، يكون حاله ما يناسب غفلته ، فكذلك الحال في سائر مقامات الدين ، ونواميس الشرع ، فإنّ الإنسان يموت على ما يعيش ويحشر على ما يموت ويحصد ما زرعه في أرض قلبه ، فمن عرف موقع الصلاة في معاملته مع ربه ، وعرف أنّها لطف عظيم من الله الرحيم، لا بد أن يكون قرة عينه في الصلاة ، ولا بد أن ينتظرها كما ينتظر مجالس الأنس مع أحبائه ، ويجيب به نداء الأذان بما يجاب به دعاء الأحباء ، وإن شئت أن تعرف حق ذلك فانظر معاملة الله تعالى معك عند اقبالك عليه واعترف بأنّك لو بذلت

ص: 187

جميع قدرتك في تحصيل حق أدب هذا النداء، لا تأتي بجزء من عشر معشار ما يجب عليك بحكم الحكمة والعدل، وإن عرفت ذلك بحقيقة المعرفة، لا تكسل عن أداء ما يمكنك في ذلك ذلك ومع ذلك لا يخلو قلبك من حياء التقصير، وعند ذلك يدركك من قبوله تعالى ، وشكره العظيم ما لا يبلغه فطنة العلماء ، وعقول العقلاء.

وقال: واعتبر بفصول الأذان وكلماته ، كيف افتتحت بالله،واختتمت بالله، واعتبر بذلك إنّ الله هو الأوّل ، والآخر والظاهر والباطن.

أقول: كأنه أراد انّ في وضع الأذان كذلك اشارة إلى هذا.

قال ووطّن قلبك بتعظيمه عند سماع التكبير ، واستحقر الدُّنيا وما فيها ، لئلا تكون كاذباً في تكبيرك ، وأنف عن خاطرك كل معبود سواه بسماع التهليل. أقول: المراد بكل معبود سواه كلّ من يعامل معه بمعنى العبودية وإن انكر ظاهراً عبادته ، فإنّ العبادة حقيقة التواضع ، والميل والتبعية ، فيدخل فيه اهواء النفس التي هي من أبغض المعبودات التي تعبد في الأرض كما في الخبر ، ويدخل أيضاً الشيطان ، والدنيا بوجوهها

الباطلة.

وقال: واحضر النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) وتأدب بين يديه ، واشهد له بالرسالة مخلصاً.

أقول: اخلاصها عبارة عن تخلية القلب من وجوه الاعتراض في أحكام الشرع ، حتى لا يكون في نفسه وقلبه حرج مما جاء به، وقضى عليه ولو اضرّ به.

وقال: وصل عليه وآله.

ص: 188

أقول: وتفكّر في معرفة الصلوات لتكون عالماً بما تدعوه وتطلبه من الله لهم، ووفق بين قلبك ولسانك في ذلك ، ليقع عن عناية، ومعرفة لا عن جهل ومجرّد لقلقة اللّسان.

وقال: وحرّك نفسك واسع بقلبك وقالبك عند الدّعاء إلى الصلاة وما يوجب الفلاح ، وما هو خير الأعمال.

أقول: إن امكنك ان تعتقد بحقيقة قلبك، فان الصلاة معراج العبد وزيارة الربّ لتعتقد أنها موجبة للفلاح ، وإنّها خير الأعمال، ولا ترضى من اتيان أعمالها وأركانها كلّها بالصورة، وأذكارها ومخاطبتها ومناجاتها بلقلقة اللّسان، ويتأثر قلبك وروحك من افعالها ، وقرائتها ومناجاتها، وتكبيرها الذي هو المقصود الأصلي منها، بل هو روحها وحقيقتها، فعند ذلك يحصل اللذة من القراءة، والمناجات،ولطيف المخاطبات كما ورد في الأخبار.

قال: وجدّد عهدك بعد ذلك بتكبير الله ، وتعظيمه واختمه بذلك. كما افتتحت به ، واجعل مبدءك منه ، وعودك إليه ، وقوامك به ، واعتمادك على حوله وقوته ، فإنّه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

يعني إن كيفية فصول الأذان، يشعر بأنّ مبدء كلّ شيء إنما هو الله، ومصيرها إليه وقوامك به، واعتمادك على حوله وقوته، هذا.

ويستحبّ أن يدعو بعد الإقامة بدعاء التوجه، وهو أن يقول : اللهمّ إنّي أتوجه إليك بمحمّد وآله ، وأقدمهم بين يدي صلاتي ، وأتقرب بهم إليك، فصلّ عليهم، واجعلني عندك وجيهاً بهم في الدنيا والآخرة ، ومن المقرّبين ، أنت مننت علينا بمعرفتهم ، فاختم لنا بطاعتهم ، ومعرفتهم ، وولايتهم فإنّها السعادة ، فاختم لنا بالسعادة إنك على كل شيء قدير.

فصل: في نفس الصلاة

ص: 189

أقول: يكفي في معرفة ان المقصود من الصلاة حقيقتها لا صورتها المجرّدة عن الحقيقة، الآيات والأخبار.

ومن الاولى قوله تعالى: ( أقم الصلاة لذكري ﴾ ، فإنّ التعبير بالإقامة ما يلائم لحقيقة الصلاة، والتقييد بقوله: لذكري صريح في ذلك.

ومنها قوله تعالى: (ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، حتى تعلموا ما تقولون) والعلّة لا تلائم بالصورة الخالية عن الحقيقة.

ومنها قوله:(إنّ الصّلاةَ تَنهى عَن الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ) فإنّ النهي لا يوجد إلا في حقيقتها.

وأما الأخبار(1)، فمتواترة يكفي منها قوله (علیه السلام) : إن الصلاة تمكن ، وتواضع ، وتيأس ، وتندم ، وتقنع ، تمدّ يديك ، وتقول : اللّهمّ فمن لم يفعل فهي خداج .

ومنها قوله (صلی الله علیه وآله وسلم) : لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر فيها الرجل قلبه مع بدنه.

ص: 190


1- قد مرت هذه الاخبار، ولم نجد الرواية الاولى والثانية منها ، فيما بأيدينا من الكتب، والرواية الثالثة قد مرت ، والرابعة أيضاً مشهورة رواها في البحار بلا إسناد، وما ذكره (قده في معراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ايضاً مذكور في البحار وغيره في معراجه صلى الله عليه وآله، وما ورد في صلوة الانبياء ، والائمة ايضاً قد مرت الاشارة اليها، مثل ما ورد في حق إبراهيم على نبينا وآله وعليه الصلوات والسلام ، وما ورد في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفاطمة عليها السلام ، وعلي عليه السلام والحسن عليه السلام، وعلي بن الحسين عليه السلام، ومذكورة في البحار في كتاب الصلوة ، وكتاب وسائل الشيعة ، وغيره وكذا رواية ان للصلوة اربعة آلاف حدود ، او باب مروية عن المناقب وعلل الشرايع ايضاح : قوله صلى الله عليه وآله: في الرواية الاولى والا فهي الخداج الخ ، الخداج النقصان يقال خدجت الناقة اذا ألقت ولدها قبل أوان الحمل وأخدجته إذا ولدته ناقص الخلق.

قوله(صلی الله علیه وآله وسلم): إذا صليت صلاة فريضة فصل في وقتها صلاة مودع تخاف أن لا تعود فيها.

ومنها قولهم (علیه السلام) : الصلاة معراج المؤمن.

لا سيّما مع ملاحظة ما ورد من تشريعها في معراج النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)،على ما روي من أنّ معراجه كان بأجزاء الصلاة.

وما ورد في صلاة الأنبياء ، والأئمة (علیهم السلام) من الأحوال السنية. وما ورد فيما يقوله الله تعالى عند صلاة المؤمن كلّ جزء جزء من أجزائها وأفعالها ، واذكارها .

وما ورد إنّ للصلاة أربعة آلاف حدود أو باب. وما ورد أنّها عماد للدين، إن قبلت قبل ما سواها ، وإن ردّت ردّ

ما سواها .

وما وقع في السنة كتب الله ، وأنبيائه من اسمها ، وأسماء أجزائها ، فإنّ ذلك أيضاً بحكم العرف ، واللغة أدلّ دليل على أن المراد منها ليس الصورة المحضة.

وقد أشرنا إلى لفظ الصلاة في أوّل الكتاب.

وأما أسماء أجزائها من التكبير ، والقراءة ، والذكر ، والركوع، والسجود، والتشهد، والسلام كلّها، انما يطلق عرفاً ولغة على الصور مع الحقائق، ولا يطلق على الصورة المحضة ، فإن التكبير باللفظ إذا خالف القلب لا سيّما إذا كان القلب، والعمل مضاداً للتكبير، بأن يسمّى تحقيراً أولى من تسميته بالتكبير ، وهكذا السجدة ، أصل معناها التواضع ، ولا يقال لكل انحناء ، ووضع جبهة على الأرض أنّها سجدة، فإنّ الانحناء لوضع شيء على الأرض، أو مسح جبهة على الأرض لغير خضوع، لا سيّما إذا كانت الغاية مضادّة لحقيقة التواضع، لا تسمّى

ص: 191

سجدة ، وهكذا الركوع ، والتشهد ، والسلام ، وهكذا القراءة ، فإنّ اجراء لفظ القرآن على اللسان ، لا يسمّى قراءة القرآن ، حتى يكون بقصد القرآن ، وهكذا التسبيح والحمد.

وبالجملة وضع الأسماء إنّما الأسماء إنّما هي للمعاني، وإطلاقها على الصور مجاز بل قد يصير غلطاً في بعض صور الاطلاق وإذا تحقق ذلك، فالّذي يفهم عن الاخبار انّ حقيقتها إنما تكمل بستة معان:

الأوّل: حضور القلب، والمراد به فراغ القلب عن غيرها، وحضوره عند فعلها ، وقولها ، فيصدر عنه الفعل والقول مقروناً بالعلم فلا يكون الفكر جارياً في غيرها ، فيصدر عنه العمل مع الغفلة ، وإذا وقع صدورها كذلك فقد حصل الحضور.

والثاني: التفهم، والمراد منه أن يكون القلب حاضراً مع معاني الاعمال من الأقوال والأفعال، وهذا أمرٌ زائد على الحضور،لأنّه قد يتحقق بحضوره عند الألفاظ،وصور الأفعال مع الغفلة عن الحقائق والمعاني والتدبر فيها.

الثالث: التعظيم الله العلي العظيم، ولعبادته.

الرابع: الهيبة ، وهي خوف ، ووجل، من التعظيم والاخلاص.

الخامس: الرجاء إلى فضل الله ، وقبوله .

السادس: الحياء(1) وهو التثبت عند كلّ شيء ينكره التوحيد والمعرفة ومستنده استشعار التقصير وتوهم الذنب.

وأمّا أسباب تحصيل هذه الصفات.

ص: 192


1- في الارشاد الديلمي.

اما الحضور فسببه الهم، فانّ القلب تابع للهم فإذا كان همتك الصلاة فقلبك حاضر عندها، وإذا كان غيرها فقلبك عند هذا الغير، وهو غافل عن الصلاة، لأنّه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فقلبك مع همك ، فلا علاج لاحضار القلب عند الصلاة ، الا بصرف الهمة إليها ، والهمّة عند مظنة الخير ، واعتقاد السعادة فالحضور عند الصلاة تابع للإيمان بحقيقة الصّلاة وخيرتها فانّ من اعتقد ان صلاته معراجه يكون همه كله عندها لا يصرفه عنها شيء ، ومن كان همه عند الصلاة ، يكون قلبه حاضراً عندها ، غافلا عن الاشياء بقدر همه فمن آمن بالله ورأى انّ الله خير وأبقى وان الصلاة معراجه إلى الله ، وباشر ايمانه بذلك قلبه ، يكون قلبه همه عند صلاته ، ولا يمكنه الغفلة عنها.

وأمّا التفهم فهو ان يستوضح من كلّ فعل ، وقول ما يليق بهما من المقاصد ، والمعاني اذ الصلاة معجون الهي ركب فيه دواء كلّ داء، وتأثيره استجلاب كلّ السعادات الممكنة للانسان الكامل ، وتحت كلّ حركة وسكون من فعل ، وقول منها معنى مقصود لجاعلها ، من م مقدماتها واجزائها وشرائطها وتعقيباتها.

وقد ورد في الاخبار ان من لم يقصد من افعالها ما هو المقصود منه، فكأنّه لم يأت به .

اقول: سيأتي فيما بعد معاني كلّ جزء منها عند ذكر كلّ واحد منها ، حتى رفع اليد للتكبير ، والقيام على الرجل اليمنى واليسرى ، ونفس القيام وهكذا الى آخرها .

ثمّ انّ الذي نذكرها في ذلك انما عرفنا مما تعرض به به السلف من علماء الاسرار ، واكثرها استفدناها من الاخبار، وبعضها الاقل من التفهم مع ما يشهد له من الاخبار ، ونعلم علماً قطعيا ان ما خفى علينا من ذلك اضعاف ما عرفنا منها.

ص: 193

ثمّ انّ الذي اشرنا اليه من التفهم لمطلق الاجزاء ، واما خصوص قراءتها ففي تفهمها امور عظيمة خارجة من حيطة البيان ، وعلوم واسرار عظيمة تظهر في الجنان ، وقد روى عن امير المؤمنين (علیه السلام) انه ما اسر اليّ رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) شيئا كتمه عن النّاس ، الا ان يؤتى الله عبداً فهماً في كتابه وبالجملة للمصلي في تفهم القراءة خيراً كثيراً ، قد ينجلي له ما يتفهمه عند قراءته ، فيفور بذلك سعادة جليلة وقيل ان كون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر ايضاً من هذه الوجهة ، حيث ان المصلّي قد يفهم من قراءته في صلاته ، ما لم يخطر بباله قبل ذلك ، فيكون ما فهمه ناهية له عن الفحشاء ، وكيف كان فسبب التفهم، ادمان الفكر في معاني ما يفعل ، ويقول، واحضار القلب عند معاني الافعال والاقوال.

وعلاجه، علاج حضور القلب والجد في دفع الخواطر الشاغلة ولايدفع الا بقطع موادها،وهي على قسمين: الاوّل : ان تكون المادّة ضعيفة ، فيضعف اثرها ، فعلاجه باستعمال بعض المسكتات وهو ان يعدّ قبل الدخول في الصلاة عدته ، من الفكر في عظمة الصّلاة ، وخطر المحضر ، وكثرة الفوائد وعظمة السعادات ، وقرب الرّب ، وتقليل الموانع الخارجية ، والتحفّظ للقلب الاشتغال بغير الصلاة ، وان يعمد قبل كل عمل باخطار معناه الى قلبه ، ثم يشتغل به ، والعمدة ان يحفظ في جميع الحالات حضور الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وعلمه ونظره وجواباته وصنيعته به عند كل فعل وقول.

والثاني: أن تكون المادة قوية لا ينفع في دفع أثرها هذه المسكتات فلا حيلة ، ولا علاج الا من دفعها ، ولا ريب أنّ اصل موادّ جميع الخواطر الشاغلة ومرجعها حبّ الدّنيا ، والشغل بها ، اما سمعت قوله (علیه السلام): من اصبح واكبر همه الدنيا ، الزم الله قلبه شغلا لافراغ له منه ابداً ، وهماً لا ينقطع عنه ابداً ، واملاً لا يبلغ منتهاه ابداً ، وفقراً لا ينال

ص: 194

غناه ابداً ، وأنّه ليس من الله في شيء ، فمن تشعبت هم-وم-ه في اودي-ة الدنيا ، يتكثر همومه في امور مختلفة ، ولا يزال في التزايد ، والانتقال من امر الى امر ، او امور حتى يستغرق قلبه ، وجميع اوقاته في الشغل بها حتى لا يكفيه يومه ، وليلته لشغلهما ، بل لو اراد ان يصرف ذهنه منها بالفكر في أمر الآخرة ، يجاذبه هموم الدنيا الى جهات الافكار الدنيوية المألوفة له ، ولو عاد الى قهره الى طرف الآخرة ، عادت الى جذبه الى الدنيا ، حتى يستمر فيها أو يتم صلاته في الاشتغال بالتنازع والتجاذب ، فيفوته الحضور والتفهم فلا علاج لهذا المرض ، الا بالمسهل ، والاستفراغ ولا يفيده التسكيت والتلطيف ، فلا مطمع لمحبّ الدنيا ، وزينتها في ان يصفو له حلاوة مناجاة الله ، ولذة مخاطباته ، ولو بقهر نفسه على العبادات.

ففي(1) حديث المعراج : لو صلّى العبد صلاة اهل السماء والارض ، وصام صيام اهل السماوات والأرض ، وطوى من الطعام مثل الملاءكة ، ولبس لباس العاري ، ثم ارى في قلبه من حبّ الدّنيا ذرّة ، او سمعتها او رئاستها ، او صيتها ، او زينتها لا يجاورني في داري ، ولا نزعن من قلبه محبّتي ، ولا ظلمن قلبه ، حتى ينساني ، ولا اذيقه حلاوة معرفتي ، والرّواية قاضية بانّ محبّ الدّنيا يكون قلبه مظلما ، ناسياً الله ، ولا يكون فيه نور الذكر، فانّ من كان فرحه بالدنيا ، والدنيا قرة عينه ، لا يفرح بالله ، ويكون همّه مع قرّة عينه ، فتحصل من جميع ما ذكرنا ، انّ العلاج الكلّي لمن قوى في قلبه حبّ الدّنيا ، لقهر همه الى الحضور ، والتفهم في الصلاة ، لا يتم الا بالانقلاع عن محبّة هذه الدّنيا الدّنيّة، ومع ذلك في المجاهدة بتجديد ذكر الآخرة ، وخطر المناجات، والوقوف بين يدي الله نفعاً، وضراً ، وذكر هول المطلع وتفريغ القلب

ص: 195


1- رواه شيخنا البهائي ره في الكشكول عن الشهيد (رحمةالله علیه)

وتقليل الموانع الخارجية ، بغض البصر عن محل السجود ، والاجتناب عن الصلاة في الاماكن التي يكثر شواغلها ، نفعاً كثيرا في بعض مراتب الحضور، والتفهم ، واخطار معنى كل فعل وقول ، قبل الاشتغال به ، مؤثر في ذلك جداً ، مثلا اذا اراد القراءة ، اخطر معنى بسم الله الرّحمن الرّحيم ، ثمّ يقرأه ، ثمّ اخطر معنى الحمد لله ربّ العالمين ، ثم يقرئه ، وهكذا آية آية الى آخرها ، وهكذا اذا اراد رفع يديه قبل الركوع ، يتذكر لمعناه ، ثم يرفعهما ، ثم يتذكر معنى الركوع ، ثم يركع ، وهكذا الى آخر الصلاة.

فان قلت : انّ قضيّة هذه الآيات ، والاخبار ، وما ذكرته من نفي الاسم عن الصور الخالية من الحقائق ، بطلان صلاة جمهور اهل لاسلام ، بل التدقيق فيما ذكرته ، يقتضي بطلان صلاة من غفل عن

حقيقة جزء واحد من اجزائها ، ولو اتى غيره مع حضور ، وتفهم وتعظيم ، وهيبة ، ورجاء ، وحياء ، لان ذلك حكم المركب لا يمكن ذلك لاحد في جميع الصّلاة الا المعصومين (علیهم السلام).

قلت: التحقيق بحكم المركب ، وبحكم وضع الاسماء ذلك ، ولكن الّذي يفهم من الجمع بين الاخبار ، انّ الأمر ليس بهذه الصعوبة ، لانّ الله تعالى قد جعل في الصّلاة الشّاملة في اولها بالنية والحضور اثراً مخصوصاً لها وهو كونها مسقطاً للقضاء ، والفقهاء انما يطلقون الصحة بهذا المعنى ، وأمّا القبول وسائر الاثار ، فهي موقوفة على الّتي لا يكون خالية كلّها عن جميع مراتب الحضور ، بل يجب لها ان لا يكون شيء من اجزائها خالياً من الحضور ، الا ان الحضور ايضاً له مراتب ، والذي خلا عن جميع مراتبه ، فهو المردود على صاحبه ، ولكن ذلك ايضاً قليل لانّ الحركات الاختيارية للانسان ، لا بد ان يوجد فيها درجة من حضور قلبه معها ، ولو اجمالا والا لم يكن اختيارية ، وحركات الانسان ينقسم الى اقسام ، قسم منها خلو من جميع مراتب القصود وحضور القلب

ص: 196

كحركات النّائم ، وقسم يكون فيها قصد ما ، ولكن لا ينطبق القصد المقصود ، كبعض اقسام حركات الساهي ، وقسم يكون فيه هذا القصد منطبقا مع المقصود ، ولكن اجماليا في باطن القلب ، ويكون اثره بمجرد ادخالها في الاراديات ، وقسم يكون قصدها تفصيلياً ولكن بالنسبة الى الصور ، واجماليا بالنسبة الى المعاني ، وقسم يكون القصد فيه-ا تفصيليا بالنسبة الى الصوّر والمعاني ، ويكون القلب بكله حاضرا عندهما ، وهذا هو التام الكامل ، لا سيما اذا حضر المصلي بكله الله اجلال وهيبة ، ورجاء وحياء ، والذي

، مع يفهم من الاخبار انّ القسم الذي فيه قصد اجمالي منطبق مع المقصود اذا زيد عليها اقبال ، وقصد على حقيقة الاجزاء ومعانيها بقدر عشر الصلاة لا تترك هذه الصلاة ، بل يرفع منها بقدر ما اقبل فيها ، ويكون بحكم الصّورة ايضا مسقطة للقضاء، فان جبر كسرها بالنوافل ، فالمرجوان يقبل كلها، وان نقص ما اقبل فيها من الاجزاء عن العشر ، تلف ويضرب بها وجه صاحبها ، هذا ما يمكن ان يستفاد من الاخبار من حيث حكم نفس الصلاة حكما عاما لا يتخلّف غالبا ، وذلك لا ينافي ان يشمل فضل الله عبداً من جهة اخرى ، فيقبل منه غير هذاا القسم ايضا، كما ورد جزاء لبعض الاعمال المستحبة ، أو يصير عبد بسبب منه مستحقاً للخذلان ، فيرد من صلاته ما كانت واحدة للاقبال والحضور التفصيلي التام ، كما يدلّ عليه عموم قوله تعالى: (وقدمنا الى ما عملوا فجعلناه هباء منثوراً) والذي يدل على ذلك من الاخبار ما فيه تصريح بان العمل اذا لم يكن مع الولاية لا تقبل ، ولو اجتهد فيه صاحبه اجتهادا ، ثم لا يذهب عليك انّ الذي دلّ عليه الاخبار من رفع صلاة اقبل فيها العبد بقدر عشرها الى السماء ، يحتمل ان يكون من باب الفضل الكلّي الذي دلّ عليه قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر امثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها) فان كان من هذا

ص: 197

الباب يحتمل قويا ان يكون هذا القسم مقبولا كله ، من غير حاجة الى الجبر بالنوافل ، فيكون الجبر جارياً في غير هذا القسم الفاقد لقصد الحقائق إلا عند النية اجمالاً ، ولا يبعد عن فضل الله ان يتقبلها بمجرد روح النية في أوّلها ، ثم ان عمدة خير ان عمدة خير الصّلاة وفائدتها انما هو في التفهيم، لأنه سبب قريب للمعرفة ، والمعرفة كلها خير بل الخير كله في المعرفة ، كما انّ الجهل كله شرّ بل الشر كله في الجهل ، ولم ذلك انّ روح المصلّي اذا توجه الى العالم الأعلى ، وتخلّى عن ذكر العالم الاسفل ، وفكره تجرّد بذلك عن بعض القيود ، وتأثر من العوالم العالي-ة نوراً يتجلى به احيانا حقائق بعض الآيات القرآنية على قلبه ، فينتفع بهذا الكشف والتجلّي انتفاعاً لا ينتفع نظيره بعبادة سنين ، وقد يكشف للعب-د عند قراءة اسماء الله حقائق هذه الاسماء ، بحيث لا يثبت جسمه بتحمّل هذا الحال فيغشى عليه ، كما روى ذلك عن الصادق (علیه السلام) أنه لحقه في الصلاة حال فخر مغشياً عليه ، فلما افاق قيل له في ذلك ، قال ما زلت اردّد هذه الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلّم بها ، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته.

قال السيد السند في فلاح السائل: فقد روي ان مولانا جعفر بن محمد الصادق (علیه السلام) كان يتلو القرآن في صلاته، فغشي عليه فلما افاق سئل ما الّذي اوجب ما انتهى اليه حالك ، فقال : ما معناه ما زلت اكرّر آيات القرآن، حتى بلغت الى حال كانني سمعتها مشافهة ممّن انزلها علي المكاشفة والعيان ، فلم يقم القوة البشريّة لمكاشفة الجلالة الالهية ، ثم قال : واياك يا من لا تعرف حقيقة ذلك ان تستبعدها ويجعل الشَّيطان في تجوز الذي رويناه عندك شكا ، بل کن به مصدقا ، اما سمعت قول الله يقول : فلما تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا ، وخرّ موسى صعقا - انتهى كلامه قدس سره.

وقد ينكشف له حقيقة الجنّة عند قراءة آيها ، او حقيقة النّار او

ص: 198

القيامة وغير ذلك مما في القرآن من الحقائق ، والاسرار ، هذا وسنشير الى بعض مراتب التفهم عند ذكر اسرار القراءة.

واما التعظيم فهو من احوال القلب المورثة للاستكانة والخشوع والانكسار الله جل جلاله ، مولّد من معرفة عظمة الله وجلاله بقدر ما يمكن من ذلك للبشر ، والعمدة في تأثير الحضور في الصلاة ذلك ، بل العمدة في كمال جميع العبادات ، والايمان ذلك ، ومن مع-رفت-ه حق-ارة النفس ، وخسّتها ، فان العبد اذا عرف عظيم سلطان الله ، وسعة ملكه ، وجليل قدرته، وعرف ان الممكن لا شيء محض ، وأنّه ليس له من نفسه مثقال ذرة من خير ، وأنّه لا يقدر على نفسه نفعاً ولا ضرّاً ، ولا موتاً ولا حياةً ، ولا نشوراً انقهر عقله ولبه بالاستكانة ، واظهار الذلّ بالخشوع بين يديه ، واخبت قلبه عند عظيم جلاله ، وجليل سلطانه اخباتاً خارجاً عن الحدّ والوصف، ويراقب حضوره ونظره ، وما يبدو له من الرّدّ والقبول مراقبة لا يشذ عنها طرفة عين ، كيف لا يكون كذلك ، والذي يراه بعينه من عظيم سلطانه على خلق السماوات والارضين ، وجلیل قدرته على ذلك ، وعلى امساكها ورزقها وحفظها وتربيتها وما يسمعه من المخبر الصادق ، في خبر زينب العطارة بانّ هذه الارض والبحار والجبال ، مع ما فيها بالنسبة الى السماء الدنيا كحلقة في فلاة ، وهما مع ما فيهما بالنسبة الى السماء الثانية كحلقة في فلاة ، وهي بالنسبة الى ما فوقها كحلقة في فلاة ، وهكذا الى العرش ، وهذه كلها بالنسبة الى عالم المثال غير محدود النسبة ، وهذه كلها بالنسبة الى عوالم المجردات حتى ينتهي الى العقل الكلّي لا نسبة بينها محدودة، والله تعالى خلق كلّها بكلمة واحدة ، بلا مؤنة ولا كلفة ، ولا يؤده حفظهما وان شاء اعدامها فبمجرد قطع نيف الوجود ، فسبحانه من عظيم ما اعظمه، ومن جليل ما اجلّه ، ومن قدير ما أقدره، وبالجملة اذا قدر العبد هذا الملك والسلطان قدره بعقله ثم استشعر خطر جناياته، وخطير مقام مناجاة هذا السلطان العظيم، يكون بعقله ونفسه وروحه، وقلبه وبدنه

ص: 199

وشراشر وجوده كله عيناً لمراقبته ، وسمعاً لاسماع كلامه ، ولساناً لاستغفار ذنوبه ، وعرض استكانته ، واعتذارا من خطير جناياته ، ومن هذا الباب ما ورد من تغير الاحوال في الصّلاة من من الانبياء ، والائمة(علیهم السلام) مثل ما وري عن الخليل (علیه السلام) انه كان يسمع تأوّهه على حد ميل ، وكان في صلاته يسمع له ازيز كازيز المرجل له ازيز كازيز المرجل ، وكذلك يسمع من صدر سيدنا

رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) مثل ذلك ، وقال بعض ازواجه كان يحدّثنا ونحدثه فاذا حضر وقت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ، ولم نعرفه ، وكان امير المؤمنين (علیه السلام) اذا اخذ في الوضوء يتغير وجهه من خيفة الله ، وكان اذا حضر وقت الصّلاة يتزلزل ويتلون ، وقيل له في ذلك يا امير المؤمنين فيقول جاء وقت الامانة التي عرضها الله على السماوات والارض والجبال فابين ان يحملنها واشفقن منها ، وكانت فاطمة (علیها السلام) تنهج في الصلاة من خيفة الله ، وكان الحسن (علیه السلام) اذا فرغ من وضوئه تغيّر لونه ، فقيل له في ذلك ، فقال حق علي من اراد ان يدخل على ذي العرش ان يتغير لونه

وروى مثل ذلك عن السجاد (علیه السلام) ، وانه (علیه السلام) اذا توضأ اصفر لونه ، فيقول له اهله : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ؛ فيقول اتدرون بين يدي من اريد ان اقوم ، قيل : ورأيته يصلّي فسقط عن منكبه ، فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته ، فسألته عن ذلك ، فقال : ويحك اتدري بين يدي من كنت ، انّ العبد ما يقبل منه صلاة الا ما اقبل فيها ، فقلت ، جعلت فداك هلكنا ، قال : كلا انّ الله يتم ذلك بالنوافل

وعن الصادق (علیه السلام) كان عليّ بن الحسين (علیه السلام) اذا قام الى الصّلاة كانه ساق شجرة ، لا يتحرّك منه الا ما حركته الرّيح ، وعنه كان علي بن الحسين (علیه السلام) اذا قام الى الصلاة تغير لونه ، واذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقا.

وعنه (علیه السلام) قال : لا يجتمع الرّغبة والرهبة في قلب ، الا وجبت له الجنّة ، فاذا صليت فاقبل بوجهك على الله ، فانّه ليس من عبد مؤمن

ص: 200

يقبل بقلبه على الله في صلاته ، ودعائه ، الا اقبل الله عليه بقلوب المؤمنين ، وايد مع مودتهم اياه بالجنّة واما الهيبة ، فهي ايضا يتولّد من معرفة صفات الجلال ، فمن عرف من القادر المتعال، وعلم ما فعل من الاخذ والعقاب بالجاحدين والمعاندين ، من الأمم الماضية ، وعلم ابتلاء الانبياء والأولياء بالمصائب الجليلة ، وتأثرهم من خوفه بالبكاء والغشوة ، والتضرع والابتهال والانابة والاستغفار ، وعرف درجة تقصيره وكثرة ذنوبه ، وقبح افعاله لا بدّ ان يتغير حاله عند الوقوف بين يديه ، ويأخذه رعدة الخائفين فيميته الخوف ويذيبه الحياء.

وبالجملة كلّما ازداد العلم بالله، ازدادت الحسنة ، فلو اقتضت حكمته هلاك الأولين والآخرين لم يمنع منه مانع ، حتى الرقة لانه منزّه التأثر والانفعال ، وبالجملة قد يتأثر بعض الانبياء والأولياء عن التعظيم والهيبة ، بحيث ينسى غير الله تعالى ، ويغفل عن جميع ما سواه ، حتى عن بدنه ، ومن ذلك اخراج السهم عن رجله (علیه السلام) في الصلاة ، وعدم تأثره . تأثره منه ، ومن ذلك غشواته حتى يظنّ له الموت.

واما الرجاء فمنشأه معرفة فضل الله وكرمه ، ولطفه وانعامه ، وانه لم يخلق هذه الخليقة للانتفاع منهم ، بل خلقهم عناية بخلقهم ، ولا تنفعه طاعتهم ، ولا تضره معصيتهم ، ومعرفة عنايته الجميلة في الخليقة ، وطول اناته ، وكثرة علمه وصدقه في وعده بالجنّة للمصلين ومغفرته للذنوب بالندم وتبديله السيئات باضعافها من الحسنات ، وما جعل لاوليائه من الشفاعة ، وقوله في كتابه : ﴿ ولسوف يعطيك ربك فترضی ) ولكن يجب على العبد الجد في الاستخلاص من الغرور في ذلك ، فانّ النفس والهوى قد تغرّ الانسان ، ويدلس عليه عدم المبالات بالدين بالرّجاء ، فلا بد عند احتمال ذلك من الاستكشاف بملائم الامرين ، ومن آيات الرّجاء الطلب ، كما انّ من شواهد عدم المبالات

ص: 201

الكسل عن الطّلب.

واما الحياء فبمعرفة جلال الله وجماله ، ومقام عفوه وكريم صنايعه وسبوغ نعمه وعدم رضاه لعبده بنعمة دون اخرى ، وعدم غفلته عن مراقبة احواله مع معرفة قبائح اعمال نفسه وسوء معاملته مع هذا الرّبّ الودود بالشّقاق والنّفاق في حضوره ، مع علمه بذلك ، واذا اجتمع للعبد هذه المعارف ، وتثبت عندما تنكره معرفته ، فهو الحياء ومن تخطى خطوة في ساحة هيبة الله اليه بالحياء ، فهو خير له من عبادة سبعين سنة.

والحياء خمسة انواع: حياء ذنب ، وحياء تقصير ، وحياء كرامة ، وحياء حبّ وحياء هيبة ، ولكلّ واحد منها اهل ، ولاهله مرتبة على حدة، اقول: هذه الصفات والاحوال لاريب في انها فرع هذه المعارف كما نراه بالوجدان في معاملاتنا مع امثالنا فانّ انسانا اذا عرف من شخص سلطنة وقدرة مثل ذرّة من سلطنة الله جلّ سلطانه ، يعظمه ويراقبه ويها به فان عرف منه مع ذلك كونه منعما عليه مثل ذرّة من نعم الله تعالى، يفديه بنفسه واهله وماله ، ولا يغفل عن خدمته والقيام بوظائف عبوديته في آن من الآنات ، واذا زاد على هاتين المعرفتين استشعار تقصيراته ، ومخالفاته مع هذا السّلطان المنعم حين انعامه وافضاله في حضوره ، لمات من الحياء والخجل.

وأمّا ضعف تأثرات العامة بالنسبة الى الله جل جلاله مع اعتقادهم وايمانهم بعظمته التي تصغر عندها كلّ عظمة وعظيم ، وبنعمه التي لا تحصى ، وهذه الذنوب والكبائر من المعاصي من انفسهمو

فوجهه أوّلاً ضعف الإيمان بالغيب عن الشهود والعيان ، فان سلاطين الدنيا ومنعميها عندهم شهود ، وسلطنتهم ونعمهم محسوسة ، ومشهودة ، وأما الله جل جلاله ، وعظم برهانه عندهم غيب يعتقدون وجوده ، ويعترفون بعظمته ونعمه بالأدلة العقلية ، فالاعتقاد بالغيب ضعيف

ص: 202

بالنسبة ، إلى رؤية العيان ، ولذا لا يؤثر هذه المعارف في حقه التعظيم والهيبة والحياء ، مثل ما تؤثر في معاملات عظماء الدُّنيا ومنعميها.

وثانياً: أنّ الأمر في عظمة الله ونعمه ، من الجلالة بمكان لا يمكن لأحد أداء حقها ، ولا شيء من أجزاء حقوقها ، وإذا عرفوا من أنفسهم القصور بهذه المرتبة فأهملوها كلّها.

وثالثاً: يتخيلون أنّ منافع خدمة سلاطين الدنيا نقد ، ونفع عبادة الله تعالى نسية في العالم الآخرة التي أعتقدوا وجودها خلافاً لحسّهم بالادلة العقلية.

وهذه الوجوه التي منشأها كلاً غرور وجهل ، إنّما سارت أسباب مسامحة العامّة، وتفريطهم في طاعة الله والعياذ بالله من يوم يصير فيه الغيب عياناً ، فينادون واحسرتاه على ما فرطنا في جنب الله

وهذه الأمور الستة إنما روح الصلاة بها ، وكمالها بكمالها ، والعمدة فيها التعظيم ، وهو من لوازم الإيمان فمن كمل إيمانه وباشر قلبه ، ولم يمنع عن تأثيره محبّة الدُّنيا ، والإستهتار بذكرها ، وفكرها وشغلها ، لا بد ان يكمل صلاته من أوّلها إلى آخرها بجميع أجزائها على هذا التفصيل أمّا تكبيرها ففيه مطالب:

الأوّل في رفع اليدين وفيه أمور:

الأوّل: في كيفيته ، وهو أن يبدء به بأوّل التكبير ، ويكون آخره أيضاً مطابقاً لآخره ، حتى يكون تمام الرّفع بتمام التكبير ، وأن يجعل في الرفع باطن كفّيه إلى القبلة.

والثاني: في مقداره ، والأولى في ذلك أن يصل أصابعه إلى شحمة اذنه.

ص: 203

والثالث : فيما يقصد به ، وهو التبري من الاشراك ، وممّا يقوله المشركون ، وثمرته أن يبرء الى الله

من آثامه وذنوبه ، ومن عذاب جهنم ونيرانها كذا ورد في تفسير الإمام (علیه السلام).

والثاني في نفس التكبير ، وفيه أيضاً مطالب:

الأوّل أن الواجب منه تكبيرة الإحرام، ويستحب بعدها علی الاقوى ست تكبيرات.

والثاني في الدُّعاء المأثور عندها وهو أن يقول بعد الثالثة اللّهم أنت الملك الحقِّ، لا إله إلا أنت سبحانك إنّي عملت سوء ، وظلمت نفسي فأغفر لي ، فانّه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

وبعد الخامسة: لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشّر ليس إليك ، والمهدي من هديت ، سبحانك منك عبدك وابن عبدك ، وبك ولك وإليك ، ولا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، سبحانك وحنانيك، تباركت وتعاليت ، سبحانك ربّ البيت الحرام، ويقول بعد السادسة، يا محسن قد أتاك المسيء ، أنت المحسن ونحن المسيئون ، فتجاوز يا ربّ عن قبيح ما عندنا بجميل ما عندك.

و يقول بعد السابعة: وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ، حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين ، على ملة إبراهيم ودين محمّد(صلی الله علیه وآله وسلم)، وهدى أمير المؤمنين والأئمة المعصومين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن، ان صلاتي ونسكي ومحياي، ومماتي لله ربّ العالمين، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين.

ثمّ يستحبّ أن يكبر بعدد تكبيرات الصلوات ليكون عند نسيانه بدلاً عنه.

والثالث أن يكون في تكبيره، ودعواته قاصداً حقايقها ، وصادقاً في ذلك.

ص: 204

وقد روى عن الصادق عليه السلام قال إذا كبرت فاستصغر ما بين العلى والثّرى ، دون كبريائه ، فانّ الله تعالى إذا اطلع على قلب العبد ، وهو يكبر وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبیره ، قال : يا كاذب اتخدعني ، وعزتي وجلالي لأحرمنك حلاوة ذكري ، ولأحجبنك عن قربي ، والمسرة بمناجاتي ، فأعتبر أنت قلبك حين صلاتك ، فان كنت تجد حلاوتها وفي نفسك سرورها، وبهجتها وقلبك مسروراً بمناجاته وملتذاً بمخاطباته ، فأعلم أنّه قد صدقك في تكبيرك ، وإلا فقد عرفت من سلب لذة للمناجات وحرمان حلاوة العبادة ، أنه دليل على تكذيب الله لك ، وطردك عن بابه.

أقول: هذا كاف في التنبيه على لزوم التحقق بحقيقة التكبير وآية تصديقه ، وان شئت ان تعرف حقيقته فارجع الى عرفك والى نفسك فانظر اذا تريد انت من تكبير ولدك وخدمك لك ، وأعلم أنّ كلّ كبير وعظيم تقدر أن يتخيّله أعظم وأكبر من كلّ شيء فهو أيضاً صغير حقير في جنب كبريائه ، فيجب بحكم العقل أن يكون تكبيرك لربك بقدر قدرتك ، وإستطاعتك ويبذل كل مجهودك ، ثم تعترف بقصورك ، لأنّ حق تكبيره خارج عن قدرتك هذا.

والاولى أن يقصد به أنه تعالى أكبر من أن يوصف ، هذا في التكبير.

وأمّا الدّعاء الأوّل ، فيجب بحكم الصدق أن يعامل العبد مع الله تعالى معاملة من يقول بان الله تعالى هو الملك الحق ، أي المالك بالاستحقاق لجميع العوالم ، وجميع العالمين ولا ينقص ذلك بأن يتصرّف في ملكه تعالى بغير رضاه ، وبأن لا يرضى لان يفعل الله في ملكه ما يشاء وإذا استشعر من نفسه قصوراً في القيام بمقتضى ذلك فيستغفره

ص: 205

وأمّا الدّعاء الثاني: فليحضر نفسه ، وحقيقته وقلبه وقالبه وكله لاجابة دعوة الرّبّ بالقيام بوظائف هذا المحضر الجليل ، ويعلم أنه قريب یجیب ندائه ويسمع دعائه وان بيده الخيرات والسّعادات كلّها ، ولا يرى الخير في يد غيره ، ولا يتوقعه من غيره ، وان ينزّهه من الظلم والشّر ويعتقد أن الظلم منه على نفسه ، والشرّ من جهته ، ثمّ يستدرك ذلك بأنّ وجوده وبدئه ومعاده، وقوامه منه، وبه وإليه وأنّ الشّر وإن كان منّي لكن خالقه أيضاً هو الله ، ولا ضارّ ولا نافع في الوجود إلا الله ولا ملجأ ولا منجا إلا إليه ، ثمّ ليعلم أنّ من كان مؤمناً بأن الخير كله بيده الله ، لا يرغب إلى أحد إلا الله ومن كان مؤمناً بأن لا ضارّ إلا الله لا يرهب أحداً غير الله ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، والحمدلله.

وأما القيام فحقيقة القيام هو المثول بين يدي الله لاداء حق العبوديّة واستجلاب خيرات الربوبية ، والاستيناس به جلّ جلاله ، والالتذاذ بمخاطباته في كلامه ، وبمناجاته في دعائه ، والعلاج لطول مقام يوم القيامة، ودفع هول المطلع ويستشعر بالوقوف على الرّجلين الوقوف في مقام الخوف والرّجاء ، وباطراق الرأس على إلزام القلب التذلّل والتواضع والتبري عن الترأس والرياسة ، والتكبر ، وليعلم ان له مقاماً بين يدي الله القيامة ، وخطره إنّما يناسخ بكمال هذا القيام ، فليجد كلّ جدّه في

يوم تصحيح قيامه في صلاته ، وليعلم أن سريرته وضمايره مكشوفة عند ربّه ، يعلم من سرايره ما لا يعلم هو ، فليراقب أن لا يخالف سريرته رضا ربه ، فلا محالة يكون تواضعه في هذا المقام الخطير ، مثل تواضعه عن-د القيام في محضر سلطان من سلاطين الدُّنيا ، كيف يراقب في مكالمته ومشافهته أن لا يخالف رضاه ، ولا يسهو عن قصد معاني ما يخاطبه وإشارات مخاطبات السلطان ، ولا يكون الله جل جلاله ملك الملوك ، جبار الجبابرة أهون عليه من بشر مثله.

وأما القراءة فيستحبّ قبلها الاستعاذة بالله السميع العليم من

ص: 206

الشّيطان الرجيم، فهي الالتجاء إلى حفظ الله في دفع ما يضلّ من وساوسه ومكائده بالقلب ، والعمل واللسان ، فانّه عدوّ للبشر مترصد ليصرف قلبه عن الله ، وبدنه عن الطاعة ، ولسانه عن الذكر ، فانّ من ذلك كله باللسان أن يقرء لفظ الاستعاذة ، وبالجوارح أن يتحوّل عن محابه ، وطاعته إلى مراضي الله جلّ جلاله ، وطاعته وبالقلب أن يصرفه في الاشتغال بالله ، وبلذّة مناجاته.

وأمّا الاكتفاء بمجرّد القول باللسان ، فلا فايدة فيه ، إلا قليلاً بل قد يكون لغوا محضاً ، وقد يكون مضراً فانّ التحصن عن العدو بالحصن ، إنّما هو بالتحوّل إلى الحصن من محل إختطافه وميدانه ، وأما قول: أعوذ بهذا الحصن الحصين ، فلا فايدة فيه ، وحصن الله لا إله إلا الله ، وحصن الله ولاية أولياء الله.

كما ورد في الأخبار: لا إله إلا الله حصني ، وولاية عليّ حصني، والمتحصن بلا إله إلا الله من لا معبود له معبود له سوى الله ، والمتحصن بولاية أمير المؤمنين من يشيعه ، ويقتدي به في اطواره ، وأوصافه وأفعاله ، وأما من أتخذ إلهه هواه ، وشيع اعداء الله ، وأعداء أمير المؤمنين، وتسنّن بسنتهم، فهو بأن يقال أنه متحصن بحصن الشّيطان ، اولى من أن يقال متحصن بحصن الله ، وبالجملة المستعيذ بالاستعاذة الحقيقية في صلاته ، من أتى بمقدوره من الاوصاف الستة التي ذكرناها في أوّل اسرار نفس الصّلاة ، وأقبل بكله على الصلاة حتى بلسانه ، بقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ويلتجأ إلى سلطان الله جل جلاله من مكائد الخبيث ، برده عن التوجه إلى الله ، وإلى صلاته بما يوسوس في قلبه ، ويلقي في روعه من الخطرات الشاغلة عن الله والصلاة ، فحينئذ يعيذه الله فلا يجعل للشيطان عليه سلطاناً فيخنس الخبيث.

ثمّ إنّ للقرائة حقاً خاصاً من بين أجزاء الصلاة في المراقبة ، لأنّ

ص: 207

القرآن أمر عظيم، وله شأن عند الله ، فإنه شافع مشفع ماحل مصدق وقد اطلق الله عليه النور في مواضع ، والنور إنما يساوق معنى الوجود وهو موجود شريف ، حكيم ذو حياة ، ونطق ، وله في كلّ عالم صورة وجمال ويتجلى يوم القيامة في أحسن صورة ، يمرّ بالمسلمين ، يقولون: هو منا ويمر بالنبيين ، فيقولون : هو منا فيجاوزهم إلى الملائكة المقربين ، فيقولون : هو منا حتى ينتهي إلى ربّ العزّة ، عزّ وجلّ ، فيشفع للقراء ، حتى يبلغ كلا منهم إلى منزلته التي هي به ، وببالي ان في بعض الأخبار ، أنّه يكون أبهى وأنور من كلّ من يمرّ عليه ، حتى يمرّ برسول الله ، فيكون مساوياً له هذا ولا تضع إلى من لا يقول انّ للقرآن حقيقة غير اللفظ المسموع عن جبرائيل (علیه السلام) ، وغير هذه النقوش التي بايدينا ، قال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم): أنا أوّل وافد على العزيز الجبار ، وكتابه وأهل بيتي ، وبالجملة أن للقرآن حقيقة ، وروحاً وحياتاً ، وهو تجلّي من تجلّيات الله جلّ جلاله الأوّليّة ، نعم له في عالم الألفاظ صورة لفظية ، وفي عالم النقوش صورة نقشيّة ، وكيف كان يلزم على العبد المراقب ان يراعي حرمة قرائته وأن يعرف عظمته على حسب عظمة المتكلّم به، ويعلم أنه لولا استتار نوره بصورة الحروف ، والكلمات لما ثبت لتجليه عرش ، ولا ثرى ، ولتلاشت اجزاء العالم من عظمة سلطانه ، وسبحات نوره ، ولو لم يثبت الله كليمه ما اطاق كلامه ، كما لم يطق الجبل مبادي تجليه ، فصار دكّاً ، وخرّ موسى صعقا ، ويتدبر في قرائته ، ويتخلّي عن موانع الفهم ، فانّ أكثر القارين منعهم عن فهم حقايق القرآن و عجایب احکامه، وبدایع اشاراته ، و دقایق اسراره، حجب واستار سترها الشيطان على قلوبهم، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم، لنظروا إلى الملكوت.

ومن جملة اسداله سدل وسواس القراءة فيوكل إليه من أبنائه من يسرق كل همه لإقامة حروفه ، فيدخله بذلك في إضاعة حدوده ، ويأمره

ص: 208

بالتكرار والترديد ليتحقق عنده بحكمه استقامة الحروف ، وخروجها ، عن مخارجها ، فمن كان همه مقصوراً على مخارج الحروف ، فاين له التفكّر في فهم معناه.

قيل وأعظم ضحكة للشّيطان من أطاعه في مثل ذلك.

ومن جملتها سدل التقليد، وهو أن يقلد القاري من يخالف حقاً من الآباء والأمهات ، أو غيرهم ، ويتعصب فيما قلّده ، فان بداله من حقايق القرآن ما ينافيه ، أو لمع له لامع من أنواره حمل عليه شيطان التقليد ويقول له : أكفرت بعد الإيمان وخالفت مذهبك ؟ وهذا الذي تخيّله إنّما هو من الوجوه التي هي من التأويل في بطن القرآن ، فيمنعه عن الوصل ألى الواقع ويؤكد وسوسته بما سمعه من منع الأخبار عن التفسير بالرأي والمسكين جاهل بمعنى التفسير بالرأي ، فيغتر من تلبيس الخبيث ، فيضيع نور القرآن ، وبركته وهدايته بالتّقليد.

ومنها سدل الذّنوب، فانّ منها ما له تأثير خاص في صداء القلب، وظلمته كالكبر، وترك الأمر بالمعروف .

وبالجملة لكلّ ذنب ظلمة ، وصداةٌ في القلب ينافي فهم حقايق القرآن ولبعضها أثر خاص في ذلك يظلم القلب، فيعمي فلا يبصر بنور شمس القرآن أعيان حقايق المعقولات ، كما إذا أعمى بصر ، كما إذا أعمى بصر الظاهر فلا يفيد نور الشمس في رؤية صور المحسوسات، فاذا تخلى العبد من موانع الفهم ، وخضع قلبه وفرغ عن الاشغال وقرء القرآن في موضع خال استنار بأنوار القرآن.

وفي مصباح الشريعة عن الصادق (علیه السلام) ، من قرء القرآن ولم يخضع له، ولم يرق قلبه، ولم ينشىء حزنا ووجلاً في قلبه ، فقد إستهان لعظيم شأن الله. وخسر خسراناً مبيناً فقارىء القرآن يحتاج إلى ثلاثة اشياء: قلب خاشع، وبدن فارغ ،

ص: 209

وموضع خال فإذا خشع قلبه ، فرّ منه الشيطان الرجيم ، قال الله تعالى : وإذا قرءت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، فإذا تفرغ نفسه من الأسباب تجرّد قلبه للقراءة ، فلا يعترضه عارض فيحرمه نور القرآن ، وفوايده وإذا أتخذ مجلساً خالياً ، وأعتزل عن الخلق بعد ان أتى بالخصلتين الأوليتين، استأنس روحه وسره بالله ، ووجد حلاوة مخاطبات الله عباده الصالحين ، وعلم لطفه بهم ، ومقام إختصاص لهم يفنون كراماته وبدايع إشاراته فإذا شرب كأساً من هذا المشرب ، فحينئذ لا يختار على هذا الحال حالا ، ولا على ذلك الوقت وقتاً ، بل يؤثره على كلّ طاعة وعبادة ، لأنّ فيه المناجات مع الرّبّ ، بلا واسطة ، فأنظر كيف تقرء كتاب ربّك ، ومنشور ولايتك وكيف تجيب أوامره ونواهيه ، وكيف تمتثل حدوده ، فانّه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه،! ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد، فرتله ترتيلا ، وقف عند وعده ووعيده ، وفكر في أمثاله ومواعظه، واحذر من أن تقع من إقامتك حروفه في اضاعة حدوده إنتهى، فقد أشار(علیه السلام) في هذه الكلمات باصول جميع مراتب القراءة باشارات لطيفة بديعة ، منها ما ذكرنا من التعظيم للكلام والمتكلم، والتّدبّر والتخلّي عن موانع الفهم، والتفهم والتخصيص، والتأثر والترقّي، وقد عرفت بعض القول في التفهم وما قبله عند ذكر مراقبات نفس الصلاة .

ونزيد هيهنا على ما ذكرنا امثلة جزئيّة للتفكر ، والتفهم ليكون دستوراً لمن أراد ذلك.

فنقول مستمداً من الله الهادي إذا قرئت مثلاً في سورة الواقعة ، أفرأيتم الماء الذي تشربون ، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ) فلك أن لا تقصر نظرك في آثار الماء بمجرد رفع العطش ، أو مثله من آثاره الواضحة بل تدبر وتفكر في تكوّن الاشياء منه ، من النبات والجماد ، والحيوان فتفكر في ماء واحد كيف يصير غذاء للحب ،

ص: 210

فيكون نباتا ، ثمّ يصير غذاء للحيوان، ثم يصير غذاء للانسان ، ويكون له عظماً ، ولحماً ودماً ، وشعراً ومخاً ، ثمّ كيف يصير سمعاً، وبصراً، وغيرهما من القوى، ثم انظر كيف يصير روحاً، وحياةً، وشعوراً، وفكراً وعقلا. ثم تفكر في حقيقة العقل، وعظمته، ثمّ تفكّر في مراتب العقول، ثم تفكر في مبدء الماء ، واقرء قوله تعالى : وانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الارض بعد موتها ) ثم تفكر ، في صفة الرّحمة وتفكّر في قيام الرحمة بالرّحمن وتفطّن من ذلك كله الى بعض وجوه قيوميته تعالى للعالم ، ثم اعطف النظر في اتحاد الرّحمة مع المرحوم في الخارج ، وهكذا إلى ان تفوز إلى حظ وافر من اسرار الكون ، وإذا قرأت مثلا: لا إله إلا هو الحي القيوم ، فتفكر في معنى القيوم واقسامه فترى انه يطلق إلى وجوه من المعاني.

ومنها قيّومية الاعمدة للسقوف.

ومنها قيّومية الاجسام للاعراض ، ومنها قيومية النور للشعاع.

ومنها قيّومية العلم لا لصور العلميّة ، واعلم ان قيّوميّته تعالى اجل واعلى في معنى القيومية من جميع هذه الاقسام ، وبعض هذه اقرب من بعض إلى قيّوميّته بوجه من الوجوه. ثم اقرء قوله تعالى: ( ونحن اقرب إليه من حبل الوريد فتفكر في اقسام القرب م تفكر في معيّته تعالى للاشياء، وتفكر في اقسام المعيّة فنزّه قيّوميّته ، ومعيته ، من كل قيّومية وقرب ومعية في غيره.

وإذا قرأت قوله تعالى: ﴿ وان من شيء إلا وعندنا خزائنه ، وما ننزّله إلا بقدر معلوم) فتفكر أوّلاً في معنى عند الله ، هل هو عبارة عن مكان مخصوص بعيد عن مكان الاشياء ، فتكون في المكان البعيد

ص: 211

الخارج من العالم ، مثلاً بعد السَّماء السابعة ، أو في باطن هذه العوالم ، وليس فيها بعد مكانيّ ، ثم تفكر في الخزائن أهي نظير خزائن الدنيا ، كخزائن المياه، والذَّهب، والفضَّة مثلاً ، وليس كذلك ، بل كإختزان الثّمار في اصول الشجر والشَّجر في الحبّ ، أو كإختزان المعلومات في العلوم ، والمعقولات في عالم العقل ، ثمَّ تفكّر في كيفية وجود كلّ شيء في هذه الخزائن ، أهي بصورة ما في هذه العوالم ، أم بغيرها ثمَّ تفكر في كيفية تنزيلها ، فاذا تفكرت في أمثال هذه المطالب ، يرجى ان ينفتح لك باب فيه من اصول العلم ، ما يفتح به ابواباً كثيرة من أسرار لكون.

ثمّ إذا تفكرت في اسماء الله في القرآن ، مثل الربّ ، والرّحمن، والرّحيم ، والقيوم ، وغيرها ، ثم نظرت في آثارها في العالم ، فرأيت كلّ اجزاء العالم قائمة بها ، فانظر إلى ربوبيت ، ورحمانيته ، فهل ترى شيئاً في العالم خارجاً من حيطتهما ؟ وإذا تأملت بدقيق التأمل ، رأيت رحمانيته في شراشر وجودك ، وفي جيمع العالم ، وهكذا ربوبيته ، فانّ الرحمانية عبارة عن الرّحمة العامة المساوقة للايجاد، والابقا ، والايجاد يعم كلّ شيء فكل شيء وجوده من رحمته ، وبقائه برحمته ، ففي الخارج ليس الا رحمته ، فالعالم من حيث الموجودية رحمته وإذا نسبت الايجاد الى الموجود ، قلت هو فعله ، وإذا نسبته إلى الموجد قلت مفعوله ، ففي الخارج شيء واحد وهي رحمته ، والتخصيص ه-و أن يقدرانّ المقصود من خطابات القرآن هو فاذا قرء فيه امراً او نهياً قدر انه هو المأمور والمنهي ، وكذلك في الوعد والوعيد وغيرهما فان القرآن أنما نزل لهداية جميع الأمّة، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إلى صراط مستقيم ، وهذا بصائر للنّاس وهدى ورحمة للمتقين ، فاذا نزل كذلك فليقدر كلّ قادر انّه المقصود.

ص: 212

واما التّأثّر ، فهو ان يتأثر حاله باختلاف الآيات ، بحسب ما يقرء منها عند قرائتها.

فاذا قرء آيات العذاب يحزن ، ويخاف منها ويبكي. وإذا قرء آيات الرحمة يستبشر منها .

وبالجملة يتلوّن عند الآية المقروءة.

فيتضائل عند قرائة قوله:«خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ صَلّوه» من خيفته كانه يكاد يموت ، ويستبشر عند قرائة (لا تقنطوا من رحمة الله)، و فانّ الله يغفر الذنوب جميعاً ) كانه يكاد يطير من فرحه ، ويتطأطأ عن-د قرائة اسماء الله وصفاته ، لا سيّما الجلالية منها ، مثل شديد العقاب خضوعاً لجلال أسمائه جلّ جلاله ، ويغضّ صوته ، ويظهر الانكسار عند ذكر الكافرين بعض ما يستحيل على الله ، مثل ذكر الولد ، والصاحبة ، والشّريك له جلّ جلاله ، كانه يكادان يموت من خطر هذه النسبة.

ويظهر الشوق فالانبساط عند ذكر الجنّة واوصافها والخوف والانقباض عند ذكر النار،وانواع عذابها.

ويظهر الملق عند ذكر أهل القرب والزلفى كانه يكاد يطمع ، ويؤمل ان يمنّ بذلك عليه ، والاستغفار عند ذكر المعاصي ، كانه يخاف أن يكون قد عمل بها ، وهكذا. والاولى أن يناجي ربه بمقتضى هذه الاحوال ، عند قرائة هذه الايات بلسانه ايضا ، لانّ الذكر باللسان يؤكد ما في الجنان. والمقصود الاصلي من قرائة القرآن ، استجلاب هذه الاحوال الى القلب والنفس والروح ، وإلا فمن قرئه باللسان ، ولم يرق قلبه من هذه الاحوال ولم يؤثر في جوارحه بالاعمال ، وقد سمعت في كلام الصادق(علیه السلام) ، انّه ممن استهان لعظم شأن الله ، ولعلّه يدخل في المراد من قوله

ص: 213

تعالى(وَمَن اَعرَضَ عَن ذِكرِى ، فَاِنّ لَهُ مَعيشَةً ضَنكاً) فليكن اللّسان عند قرائة القرآن واعظاً والعقل مترجماً ، والقلب وسائر الجوارح متعظا.

وقد حكى تأثرات عجيبة عن بعض القارين من التوبة ، والغشوة ، والهلاك ، وقد يورث التأثر مثلا من خوف جهنّم ، أن ينكشف له عن حقيقتها فيراها بالعيان وهكذا من الاستبشار بالجنَّة ، أن ينكشف له عن حقيقتها فيراها بالعيان فيكون من الموقنين بالثواب والعقاب وهكذا والتبرى عبارة عن التبري وعن حوله وقوته ، وعن النظر إلى نفسه بعين الرّضا ، وإلى عمله بالاعجاب ، فعند قرائة ما فيه ذكر الصالحين والمقربين يقدر نفسه منهم ، بل يؤمل ان يكون منهم بعد من الله وفضله ، ويشتاق إلى لقائهم.

وإذ تلى آية فيها ذمّ ومقت لعاص ، شهد نفسه هنالك ، وقدّر وقوع المقت به.

وهذا ما اشار إليه أمير المؤمنين(علیه السلام) عند وصفه للمتقين وإذا مروا بآية فيها تخويف اصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنوا أن زفير جهنم في آذانهم وإذا كان حاله ذلك ورأى نفسه مقصرا في جميع الاحوال ، صارت هذه الرؤية سبباً لقربه من رضا ربه ، فمن شهد البعد في القرب لطف له بالخوف ، حتى يسوقه إلى درجة اخر من القرب ، ومن شهد القرب في البعد ، مكر به بالامن حتى يفضيه إلى درجة أخرى في البعد ، والترقي عبارة من أن يترقى في قرائته إلى حال يسمع الكلام من الآيات عالى ، كما سمعته في قرائة الصادق (علیه السلام) حيث قال: حتى سمعتها المتكلّم بها، فإن درجات القرائة مختلفة فأدناها ثلاث درجات ، ادنى الثلاثة، ان يقدر القارى كانه واقف بين يدي الله جلّ جلاله، يقرئه عليه، وهو ناظر إليه ومستمع منه ، فيؤثر ذلك فيه السؤال والملق والضّراعة والابتهال ، وارفع من ذلك ان يشاهد بقلب-ه كانّ الله يخاطبه ويناجيه بكلامه ، فيؤثر ذلك الاصغاء والفهم ، والتعظيم والحياء،

ص: 214

والهيبة والرّجاء ، واعلى من ذلك كله ان يرى في الكلام المتكلّم ، وفي الكلمات الصفات ، فيشغله ذلك عن النظر إلى قرائته ، وإلى نفسه وبالجملة كلّ شيء سوى ربّه المتكلّم بالقرآن ، فيكون مقصوده الهم به ، حتى عن انعامه واحسانه كانه مستغرق في مقام الشهود ، وعن مثل ذلك اخبر الصادق حيث قال : والله لقد تجلّى الله لخلق-ه ف-ي ك-لام-ه ولكن لا يبصرون ، وغشى عليه عند تكرار القرائة في الصلاة ، وهذه الدّرجة انما يختص بها المقربين ، وما قبلها درجة اصحاب اليمين ، وغيرها لسائر الناس من الغافلين ، واللذة الكاملة إنّما هي في الدرجة الاخيرة ، وصاحبها هو الذي لا يختار على هذا الحال حالا، وحكى عن بعض الحكماء ، انّه قال : كنت اقرء القرآن ، فلا أجد له حلاوة حتى تلوته كاني اسمعه من رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ثم تلوته ثم تلوته كاني اسمعه عن جبرائيل ، ثم قال الله علي بمنزلة اخرى ، فانا الآن اسمعه من المتكلّم به ، فعند ذلك وجدت لذة ، ونعيماً لا اصبر عنه.

هذا والذي ذكرناه في التفكّر ، والتفهم المفصل ، إنما هو لا يتأتى في قرائة الصلاة اما التفهم في قرائة الصلاة ولابدّ أن تكون بحيث لا تخل بصورة الصلاة ، ثم أنّه لا بأس بأن نشير اجمالا إلى ما ورد في تفسير سورة الفاتحة، وسورة القدر ، وسورة التوحيد بمناسبة أنّها تقرء غالبا في الصلوات الخمس.

فأقول مستعينا ببسم الله الرحمن الرّحيم. في الخبر عن الباقر لا تدعها ولو كان بعدها شعر.

وعنه من تركها من شيعتنا امتحنه الله بمكروه لينبهه على الشكر والثناء، ويمحق عنه وصمة تقصيره.

وورد أيضاً انّ بعض الشيعة نسيه عند جلوسه بحضرة امير المؤمنين(علیه السلام) فوقع وشجّ رأسه ، فاخبره(علیه السلام) بانّ ذلك من جهة تركه

ص: 215

للتسمية ، وورد غير ذلك ايضاً في اخبارنا ، وأخبار العامة.

وورد في اخبارنا بالباء ظهر الوجود ، وبالنقطة تحت الباء تميز العابد عن المعبود ، وورد في الكتاب لا رطب ولا يابس إلا في كتاب ، روى عن أمير المؤمنين (علیه السلام) انّ كلّ ما في القرآن في الفاتحة ، وكلّ ما الله الرّحمن الرّحيم ، وكلّ ما فيه في الباء ، وكلّ ما في الفاتحة في بسم في الباء في النقطة وان النقطة تحت الباء. وورد الباء ، بهاء الله، والسين سناء الله. روى في الكافي والتوحيد والمعاني عن العياشي، عن أبي عبدالله (علیه السلام) الباء بهاء الله ، والسين سناء الله ، والميم مجدالله.

والقمي عن الباقر (علیه السلام) ، والصادق (علیه السلام) ، والرّضا (علیه السلام) باسانيد جملة

منها معتمدة ، مثله ، ولكن بدل مجد الله ملك الله. وراءه كذلك في التوحيد ثانيا.

وروى في التوحيد باسناده عن الرّضا (علیه السلام) ، ان اوّل ما خلق الله ليعرّف خلقه الكتابة ، حروف المعجم، إلى أن قال : حدثني أبي عن أبيه عن جده أمير المؤمنين (علیه السلام) في ا ب ت ث ، أنّه قال : الالف آلاء الله والباء بهجة الله، إلى ان قال: س ش، فالسين سناء الله، إلى ان قال: م ن الميم ملك الله يوم الدين الحديث.

وروى فيه أيضا عن الكاظم (علیه السلام) رواية، في تفسير الميم بملك الله، ورواية عن علي(علیه السلام) في تفسير ابجد، واخرى عن الباقر (علیه السلام) في تفسير الصمد، انّ الميم دليل على ملكه.

وروى في حروف لفظ الجلالة، الالف الاء الله، وفي بعضها تقييد الالاء بنعمة الولاية، واللام الزام الله الخلق بالولاية،والهاء هو المخالفين لمحمد وآل محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) وفي بعضها هول جهنّم،وفي

ص: 216

بعضها الهاوية، فالمراد منها واحد كما هو ظاهر.

أقول: روى عن الطبرسي، عن تفسير الثعلبي بإسناده إلى مولانا أبي الحسن الرّضا (علیه السلام) .

انّه قال في الالف ست صفات من صفات الله ، الابتداء ، فانّ الله ابتداء جميع الخلق ، والالف ابتداء جميع الحروف ، والاستواء فهو عادل غير جائر ، والالف مستوفي ذاته ، والانفراد ، وهو فرد ، والالف فرد ، واتصال الخلق بالله ، والله لا يتصل بالخلق ، وكلّهم محتاجون إلى الله ، والله غني عنهم ، والالف كذلك لا يتصل بالحروف ، والحروف متصلة به ، وهو منقطع عن غيره ، والله بائن بجميع صفاته عن خلقه، ومعناه من الالفة ، وكان الله سبب الفة الخلق، رواه في كنز الدقائق عنه أيضا مثله.

أقول: ويعرف من هذه الاخبار، وغيرها مما روي في الابواب المختلفة انّ عالم الحروف عالم في قبال العوالم كلّها وترتيبها أيضاً مطابق مع ترتيبها ، فالالف كانه يدل على واجب الوجود ، والباء على المخلوق الأوّل ، وهو العقل الأوّل ، والنور الاوّل ، وهو بعينه نور نبينا (صلی الله علیه وآله وسلم) ، ولذا عبّر عنه ببهاء الله ، لانّ البهاء بمعنى الحسن والجمال ، والمخلوق الأوّل إنّما هو ظهور جمال الحق ، بل التدقيق في معنى البهاء ، أنّه عبارة عن النور مع هيبة ووقار، فهو المساوق المجامع للجمال والجلال ، والمرتبة الثانية ، مرتبة السّين المفسر بسناء الله ،

الذي هو في اللّغة بمعنى ضوء البرق، وبمعني الرّفعة ، ودالّ على مرتبة النفس الكلية ، والثالث الميم المستديرة الحاكي عن دائرة الامكان ، المفسّر بالملك ، فالعوالم ثلاثة: عالم العقل، وعالم النفس وعالم الملك والشّهادة، وان شئت قلت: الجبروت والملكوت ، والناسوت.هذا ما ورد في حروف البسملة

ص: 217

وأما ما ورد في تفسير كلماته.

منها ما رواه في التوحيد ، عن أمير المؤمنين ، (علیه السلام) ، انّ رجلا ق-ام إليه ، فقال يا أمير المؤمنين ، اخبرني عن بسم الله الرّحمن الرّحيم ما معناه ؟ فقال : انّ قولك : : الله اعظم اسم من : الله اعظم اسم من اسماء الله ، وهو الاسم الذي لا ينبغي ان يسمّى به غير الله ، ولم يتسم به مخلوق ، فقال الرّجل فما تفسير قوله : الله قال هو الذي يتأله إليه عند الحوائج والشّدائد ، كلّ مخلوق عند انقطاع الرّجاء عما دونه ، ويقطع الاسباب من كلّ من سواه ، وما رواه فيه أيضاً عنه (علیه السلام) في حديث ، قال : معناه المعبود الذي يؤله فيه الخلق ، ويؤلّه إليه ، والله هو المستور عن درك الابصار ، المحجوب عن الاوهام، والخطرات ، ثمّ قال قال الباقر (علیه السلام) : معناه المعبود الّذي اله الخلق عن درك ماهيته ، والاحاطة بكيفيته ويقول العرب : اله الرّجل إذا تحير في الشّيء ، فلم يحط به علماً ، ووله إذا فزع إلى الشيء ، كما يحذره ويخافه ، والاله هو المستور عن حواس الخلق.

واما تفسير الرّحمن الرّحيم ، ففي التوحيد الرّحمن الذي يرحم ببسط الرّزق علينا ، الرّحيم بنا في ادياننا ، ودنيانا ، وآخرتنا ، خفّف علينا الدّين وجعله سهلا خفيفا ، وهو يرحمنا بتميزنا عن اعاديه.

وفي رواية معتمدة : الرّحمن بجميع خلقه ، والرحيم بالمؤمنين خاصة. وفي التوحيد ايضاً في حديث قلت له: الرحمن قال: بجميع العالم، قلت: الرّحمن، قال: بالمؤمنين خاصة.

وفي رواية أخرى تفسير الرّحمن بالعاطف على خلقه بالرّزق، لا يقطع عنهم موادّ رزقه، وان انقطعوا عن طاعته. وعن المجمع عن عيسى بن مريم (علیه السلام) : الرّحمن رحمن الدنيا

ص: 218

والرحيم رحيم الآخرة.

وفي بعض ادعية الصحيفة السجادية ، يا رحمن الدنيا والاخرة ، ورحيمهما ، وعن الصادق، الرحمن إسم خاص لصفة عامة ، والرّحيم إسم عام لصفة خاصّة.

أقول : أصل الرّحمة العطوفة ، وقد يوجد في الرّحيم منا ثلثة أشياء : الرّقة ، والانكسار من ملاحظة حال المرحوم ، ثمّ العطف والشفقة ، ثمّ ما يفعل به من ما يقتضيه حال العطف من الاحسان والانعام ، ويشبه أن يكون الموضوع له اللفظ هو الثاني ، والأوّل من مبادئه ، والثالث نتائجه ، فعلى هذا لا نلتزم في إطلاقها على الله تجوّزاً من باثبات الغاية كما ذكروه ، لتخيّل دخول الرّقة في حقيقته ، فراراً عن القول باتصافه تعالى بها ، فليس اطلاق الرّحيم على الله مقصوراً على إعتبار أخذ الغاية ، والغاء حقيقة الرّفة ، بل للرّحمة ، وكذا سائر افعال الله مبادى وجودية غنية عن التحقيق ، هي حقيقة معاني الالفاظ ، فحقيقه الرّحمة هو المعني الذي باعتباره يرحم الممكنات ، وهو حقيقة إسم الرّحيم من أسمائه المخلوقة العينية ، كما ورد عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ان الله تعالى مائة رحمة ، أنزل منها واحدة إلى الأرض ، فقسمها بين فيها يتعاطفون ، ويتراحمون ، وأخر تسعاً وتسعين يرحم بها عباده يوم القيامة ، فاطلاق الرّحمن والرّحيم على الله تعالى باعتبار خلقه الرّحمة الرّحمانية والرّحيميّة باعتبار قيامها به ، قیام صدور ، لاقيام حلول، فرحمته الرّحمانية افاضة الوجود المنبسط على جميع المخلوقات فایجاده رحمانيته ، والموجودون رحمته ، ورحمته الرحيمية افاضة الهداية والكمال لعباده المؤمنين في الدُّنيا ، ومنه بالجزاء والثواب في الآخرة ، فايجاده عام للبر والفاجر ، وهدايته مخصوصة للمؤمنين ، والرّحمن من جهة دلالته على الرّحمة المطلقة العامة لا يطلق على رحمة المخلوقين فهو من خصائصه تعالى ، والرّحمة الرّحيميّة من جهة أخذ الخصوصيّة

ص: 219

والتقيد فيها لا مانع من إطلاقه على ما بينهم من الرّحمة المقيدة ، فمن نظر إلى العالم من حيث قيامه بايجاد الحق تعالى ، فكأنه نظر إلى رحمانيته ، وكأنّه لم ير في الخارج إلا الرّحمن ، ورحمته ، ومن نظر إليه باعتبار إيجاده فكأنّه لم ينظر إلى الرحمن.

وبقى هنا وجه اطلاق الرّحمان ، واضافته إلى الدنيا ، والرّحيم إلى الآخرة تارة ، وإطلاقهما واضافتهما إلى الدُّنيا والآخرة في الدُّعاء ، بقوله (علیه السلام) : يا رحمان الدُّنيا والآخرة ورحيمهما ، اما الأوّل فللاشارة إلى الرحمة المطلقة التي لا يختص بها المؤمن ، والرّحمة الخاصة التي يختص بها المؤمن بغلبة ظهور الأولى في الدُّنيا ، والثانية في الآخرة ، أما الثاني فللاشارة إلى وجودهما في الدارين، وعدم منع الكفّار من جميع وجوه الرّحمة الرّحيميّة ، فانّ دعوتهم إلى الايمان ، يبعث الأنبياء ، وانزال الكتب ايضاً حظهم من الرّحمة الرحيمية ، فهم لسوء إختيارهم منعوها عن أنفسهم ، وضيّعوها.

ثم انّه يصح أن يدّعي مدّع انّ الرّحمة كلّها من الرحمن الرّحيم ، لانّ ما يتراىء في العالم من الرّحمة، فهي أيضاً من اشعة رحمته ، وآثارها ، فنسبتها إليه تعالى اصدق من نسبتها إلى غيره ، ونسبتها للغير ، إنما هو بنحو من التأويل ، كنسبة نور المصباح إلى الزجاجة بمجرد وساطتها في ايصال النور ، بل كنسبة الاشراق إلى ضوء الشمس ونسبتها إلى الله كنسبة الاشراق إلى الشّمس.

ثمّ أنّه قد يستشكل الخبيث في قلب المؤمن ، بمنافاة وجود الآلام والاسقام ، والاحتياج والمكاره في العالم ، لا سيما في المؤمن والولي مع كمال الرّحمة والقدرة ، فيجيبه المؤمن بان هذا الشرّور والاسواء ، ليست إلا للرّحمة بنتائج عواقبها الخيرية ، ويرده الخبيث بالقدرة على ايصال الخيرات بغير توسيط الآلام ، فيتحير المسكين عن جوابه ، والذي يسنح ببالي في جوابه ، ان الوجه في تقدير الفيض كمّاً

ص: 220

وكيفاً ، كما يفهم من قوله تعالى : وما ننزله إلا بقدر معلوم ، إنّما هو قضية تقييد مقتضيات سائر الصفات بصفة الحكمة ، فالحكيم لا يخلق ولا يعمل ، ولا يجود ، ولا يرحم بما ينافيه الحكمة.

ثمّ ان حظّ العبد من صفة الرحمان ، ان لا يدع لذي فاقة فاقة إلا يسدّها بقدر طاقته ، ولا يترك فقيرا في جواره وبلده إلا ويقوم في تعهده ، ودفع فقره اما بماله او جاهه او السعي في حقه بالشفاعة إلى غيره ، فان عجز عن ذلك كلّه فيعينه بالدُّعاء ، وإظهار الحزن من حاجته وضره رقة وعطفاً عليه ، كالسهيم في الضرّ ، والحاجة واما حظّه من رحمة الرّحيميّة، أن يرحم عباد الله الغافلين ، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله بالوعظ والارشاد بطريق اللطف، لا العنف، وأن ينظر إلى العاصين بعين الرّحمة ، لا الازراء ، وأن يفرض كلّ معصيته من العاصين كانها معصيته ويجتهد في ازالتها بقدر طاقته ووسعه ، فيصرف بذلك العصاة عن التعرّض لسخط الله ، او لبعده عن جواره والابتلاء بعقابه.

هذا ، والمهم ان يعرف الانسان في الخارج إسم الله الرّحمن الرّحيم ، ويتوجّه به إلى الله في الاستغاثة في أموره كلّها ، معرفة جزئية شخصية ، فانّ لكلّ شيء جهتان: جهة من الله ، وهي جهة إسم الله الذي به أوجده الله ، وجهة نفسه ، وحق الاستعانة باسم الله أن يعرف الانسان هذه الجهة في الخارج فيتوجّه بها إلى الله ولا بأس للاشارة برد بعض ما حدث بين أهل العلم من الاشكال في ق-رائ-ة بسملة السور من دون تعيين السورة ، وقرائتها بقصد سورة اخرى غير السورة المقرّوة ، بلحاظ انّ البسملة في كلّ سورة آية منها، غير البسملة في السورة الأخرى ، لما ثبت أنّها نزلت في أوّل كلّ سورة إلا سورة برائة ، فتعيين قرآنية هذه الالفاظ ، إنّما هو بقصد حكاية ما قرئه جبرائيل (علیه السلام) على رسول الله ، وإلا فلا حقيقة لها غير ذلك ، وعلى ذلك يلزم في قرآنية الآيات ان يقصد منها ما قرئه جبرائيل (علیه السلام) ، وما قرء جبرائيل (علیه السلام) في

ص: 221

الفاتحة حقيقة بسملة الفاتحة ، وهكذا بسملة كلّ سورة لا يكون آية منها إلا بقصد بسملة هذه السورة ، فاذا لم يقصد التعين ، فلا يكون آية من هذه السورة ، بل ولا يكون قرآناً ، والجواب عن ذلك كله أنّ للقرآن كله حقائق في العوالم ، ولها تأثيرات مخصوصة ، وليست حقيقتها ، مجرّد مقرويتها من جبرائيل (ع) ، بل المقروية لجبريل لا ربط لها في الماهية ، والبسملة ايضاً آية واحدة ، نزلت في أوّل كلّ سورة ، فلا يختلف بنزولها كلّ سورة حقيقتها ، وليست بسملة الحم-د مثلا إلا بسملة الاخلاص ،

ولا يلزم ان يقصد في كلّ سورة خصوص بسملتها بمجرد نزولها مرّات ، وإلا يجب ان يقصد في الفاتحة ايضاً تعيّن ما نزل أوّلاً ، أو ثانياً ، لأنّها أيضاً نزلت مرتين ، فلا ضير أن لا يقصد بالبسملة خصوصية السورة ، بل لا يضر قصد سورة ، وقرائة البسملة بهذا القصد ، ثم قرائة سورة اخرى وليس هذا الاختلاف إلا كاختلاف القصد الخارج عن تعيين الماهيات مثلا إذا فرضنا أنّ الصلاة في المسجد افضل ، وغفل المصلّي عند الصلوة عن كون الصلاة في المسجد ، بل اشتبه عليه الأمر وفرض نفسه في غير المسجد وصلى هذا لا يضره في صلاته ، وفي كون صلاته في المسجد ، نعم لا يستحق ثواب قصد الصلاة في المسجد ، بل الّذي دلّ عليه بعض الاخبار ، انّ الأمر في النية اوسع مما ذكرنا ، مثل ما ورد في احتساب صوم من غفل عن دخول شهر رمضان ، بنية غير صوم شهر رمضان ، عن شهر رمضان ، هذا .

ولنذكر الآن ما أخرنا ذكره من القول في تفسير الاسم.

اقول: تفسير الاسم في الأخبار بالسّمة بمعني العلامة معروف والاخبار في حدوث اسماء الله تعالى متواترة وفي اثبات الاسماء العينية له تعالى كثيرة ، وفي كونهم (علیه السلام) اسماء الله الحسنى مستفيضة ، ويفهم منها انّ جمیع افعال الله في العالم من الابداع والخلق والرّزق والحفظ وغيرها انّما هي قضيّة اسمائه ، وان الله تعالى إنما جعل بعض مخلوقاته واسطة

ص: 222

لخلق بعضها الآخر وسمّاه اسماً لنفسه كما في مضامين بعض الادعية اسئلك باسمك الذي خلقت به البحر ، وباسمك الذي خلقت ب-ه الجبال ، وهكذا ، وانّ لاسمائه تعالى مراتب بعضها فوق بعض ، فيكون اعظم اسمائه مخلوقه الأوّل ، والواسطة بينه وبين الكلّ ، فينطبق بمعونة بعض الاخبار بحقيقة نور نبينا ، وآله المتحدين معه في النّورانيّة.

ولا بأس أن نذكر من تضاعيف هذه الجملة ما فيه كفاية لإثبات ما ذكر.

منها ما رواه في التوحيد عن الرضا عليه السلام ، حين سئل عن تفسير البسملة ، قال معني قول القائل : بسم الله ، اي أسم على نفسي سمة من سماة الله، وهي العبادة، قال الرّاوي فقلت له: ما السّمة ؟

قال: العلامة.

أقول: المتحقق بحقيقة التسمية ، متحقق بمقام العبوديّة، التي كنهها الربوبية ، وهي علامة الربوبية ، ومظهرها لأنّ العبودية فناء ، وتبعية وقابلية ، وسؤال والتجاء ، واعتصام ، والربوبية كمال وجود ، واعطاء وإيجاد وامداد وتأثير، والأوّلة مظاهر للآخرة فمن يسمّى نفسه بهذه السمات ، أي بجهات الفقر والفناء ، فقد ناله بما يريد من تأثير الربوبية، ومن يسمّى بسمات نفسه ، أي رأى لنفسه قدرة وحولا وقوة،

إحتجب بنفسه عن ربه ، وذلك لانّ كلّ ممكن موجود، زوج تركيبي له وجود وماهيّة ، أي لوجوده الخاص جهتان : جهة من ربه ، وهو ايجاده له ، وجهة من نفسه وهو انانيته وماهيّته ، وهذه الجهة فناء وعدم مع قطع النظر عن جهة إيجاده تعالى له ، والفاعل عند فعله إذا التفت ان ليس له من جهة نفسه إلا الفقر ، وانّ الحول والقوّة كلّها من جهة إيجاد الربّ ، فهو متسم نفسه بسمة من سمات الله ، وهو فقره وفنائه، وذلك علامة الله ، فكأنّه إذا رأى نفسه فقيراً ،فانياً ، بل فقراً وفناء ، توجه في تحصيل مرامه من فعله، إلى الله وإلى اسمائه.

ص: 223

ومنها نها ما رواه في الكافي ، والتوحيد ، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: انّ الله خلق اسماً بالحروف غير متصوّت ، وباللفظ غير منطق وبالشخص غير مجسّد ، وبالتشبيه غير موصوف ، وباللون غير مصبوغ ، منفّي عنه الاقطار ، مبعد عنه الحدود ، محجوب عنه حس كل متوهم مستتر غیر مستور ، فجعله كلمة تامة على أربعة اجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر ، فأظهر منها ثلاثة اسماء لفاقة الخلق إليها ، وحجب واحداً منها ، وهو الاسم المكنون المخزون فهذه الاسماء التي ظهرت ، فالظاهر هو الله تعالى : وسخّر سبحانه لكلّ اسم من هذه الاسماء أربعة اركان، فذلك اثنى عشر ركناً ثمّ خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسماً فعلاً منسوباً إليها، فهو الرّحمن الرّحيم، الملك القدوس الخالق، البارء المصوّر، الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، العليم الخبير، السميع البصير، الحكيم العزيز، الجبار المتكبر، العلي العظيم،المقتدر القادر، السّلام المؤمن المهيمن ، الباري المنشيء، البديع الرفيع الجليل الكريم، الرّازق المحيي المميت، الباعث الوارث، فهذه الاسماء، وما كان من الاسماء الحسنى، حتى تتم ثلثمائة وستين اسماً، فهي نسبة لهذه الاسماء الثلثة، وهذه الاسماء الثلثه أركان وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الاسماء الثلثة، وذلك قوله تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرّحمن، أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى.

أقول: يشبه أن يكون المراد من هذا الاسم العيني، هو أول خلق الله النور المحمدي ، وبجزئه المخزون المكنون ، جهته الإلهية وباجزائه الثّلثة الظاهرة ، عوالمه الثّلاثة ، عالم روحه المجرّدة ، وعالم مثاله المقيّد بالصورة ، وعالم جسمه المقيد بالمادّة ، والصورة ، وباركانها الاربعة ، الاملاك الاربعة ، إسرافيل ، وميكائيل ، وجبرائيل، وعزرائيل الموكلين بالحياة، والموت ، والعلم، والرزق، أو نفس الموت والحيات ، والعلم ، والرّزق، وان يكون المراد من الثلث مائة ، والستين ، جملة الاسماء التي هي فعل منسوب إلى الاركان الاثنى عشر

ص: 224

من

ما يفيضه الله تعالى بوساطة الاملاك الأربعة ، في العوالم الثلثة تفاضل آثار أفعالهم ، مثلا كلّما يوجد في عالم الارواح ، والمثال والاجسام من فعل الرّزق، فهو ما يفيضه باسم الرّزق بواسطة ميكائيل ، وهكذا ما يوجد فيها من العلم ، والهداية ، فهو ما يفيضه بوساطة جبرائيل باسم العلم ، وهكذا جملة التأثيرات الواقعة في العوالم الثلاثة بايجاد الله تعالى : بوساطة هؤلاء الاملاك الموكلين بالاحياء ، والاماتة والرزق ، والعلم ، ويجمعها ثلثمائة وستين نوعاً من المؤثرات المسمات العينية ويمكن أن يكون تحت كلّ واحد من هذه الانواع ، اصناف عديدة ، وافراد غير محصورة ، ويعد أيضاً من عالم الاسماء ، وبهذا اللحاظ قيل : ان اسماء الله غير محصورة ولا بد أن يكون بعضها فوق بعض ، ومحيطاً ببعض ، وبعضها في عرض بعض ، والمحيط بالكل هو الواحد الاحد ، ولعلّه المراد بقول امير المؤمنين(علیه السلام) في خطبته : لكل شيء منها حافظ ورقيب ، وكلّ شيء منها بشيء محيط ، والمحيط بما احاط منها ، الواحد ، الاحد ، الصمد.

ومنها ما رواه في الكافي باسناده ، عن أبي عبد الله عليه السّلام ، في قول الله تعالى: والله الاسماء الحسنى ، فادعوه بها ، قال : نحن والله الاسماء الحسنى - اه.

ومنها ما رواه في الوافي، قال : قال نبينا (صلی الله علیه وآله وسلم) أوّل ما خلق الله نورى، وفي رواية أخرى، روحى.

وفي بعض دعوات شهر رمضان ، انه (صلی الله علیه وآله وسلم) الحجاب الاقرب ، فيكون طرف الممكن ، وواسطة بين الواجب وسائر الممكنات، متصلة بحقيقته ، ومستمدة منها ، وعلى هذا فمن قدران يخلي نفسه ، وفكره من جميع الاكدار، وظلم المعاصي ، وانواع الخيالات، والاوصاف الطّارية عليها ، وكشف عن وجه روحه هذه الاغشية وسائر الحجب، يمكن له أن يعرف نورهم صلوات الله عليهم، ويتصل روحه بارواحهم

ص: 225

ويستمد من نورانيتهم ، فيكون حينئذ من شيعتهم المقرّبين ، واوليائهم السابقين ، رزقنا الله ذلك ، وجميع أوليائه المؤمنين ، ويحتمل أن يكون هذا هو المراد بمعرفة الاسم الاعظم ، فاذا عرفه ولي من الأولياء معرفة شخصيّة ، وتوجّه به إلى الله في دعائه ، اجابه الله بالقبول ونيل المسؤول.

وأما قوله: الحمدلله، أي جنس الحمد، أو جميع افراده، ملك الله ، او مختصة به جلّ جلاله، لأنّ الحمد هو التّناء في مقابل الجميل ، سواء كان من الفضائل ، ام الفواضل ، والحامد معترف بنعمة الله ، ومظهر شكره ورضاه ، من منّة الله عليه بلسانه ، ومن زاد على ذلك وأعتقد ان جميع النعم والخير والفضل من الله ، یزید شكره ورضاه لا محالة ، ثمّ انّ في ذكر لفظ الجلالة في مقام الحمد ، إشارة لعلّة اختصاص الحمد لله تعالى ، لان معنى لفظ الجلالة إنّما يشير إلى الذات المستحق لجميع صفات الكمال.

ومنها غناه عن الكل في جميع الجهات ، واحتياج الكل اليه في جمیع الجهات ، وهذا يقتضى استحقاقه باختصاص الحمد له ، فمن رأى الخير كله من الله ، لا يطمع في احد غيره ، ويتخلّص من رعونات الرياء ، والسمعة ، بل النّفاق ، وغيرها من الاخلاق الرذيلة التي تنشأ من الرغبة ، والرهبة ، وبالجملة حال الحمد معرفة النّعمة والرّضا عن المنعم ، فمن لم يصدق قلبه حمده ، وكان قلبه غير راض ، وغير متشكّر ، فحمده باللسان من شعب النفاق.

(برزبان الحمد واكراه ازدرون *** از زبان تلبیس باشد بافسون).

هذا حال مطلق الحمد ، فكيف اذا اعتقد ان جميع النعم الغير المحصورة من الله.

ص: 226

هذا ومن اللازم في المقام ، ان نذكر بعض ما ورد في البسملة ليتم به المقصود .

في الكافي عن الباقر (علیه السلام) اوّل كل كتاب نزل من السماء بسم الله الرّحمن الرّحيم، فاذا قرئتها فلا تبال ان لا تستعيذ ، واذا قرئتها ستربك ما بين السماء والارض.

وعن القمي عن الصادق (علیه السلام)، أنّها احق ما يجهر به ، وهي الآية التي قال الله عزّ وجلّ : ( واذا ذكرت ربّك في القرآن وحده ، ولوا على ادبار هم نفورا.

قيل : لعل الوجه في رجحان الاجهار به أن يكون موجباً لظهور فيوضاته في العالم.

روى الشيخ في الصحيح ما هو صريح في كونها افضل آيات الفاتحة.

وفي رواية انه اعظم آية من كتاب الله.

وفي اخرى انه اكرم آية في كتاب الله.

وفي رواية أنه اذا لم يجهر به الامام ، ركب الشّيطان كتفه، ويكون هو اماماً للناس حتى ينصرفوا.

وعن النيسابورى، مرسلا عن أمير المؤمنين (علیه السلام) انه قال: لمّا نزلت بسم الله الرّحمن الرّحيم ، قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) اوّل ما نزلت هذه الاية على آدم (علیه السلام) ، قال: امن ذريتي من العذاب ما داموا على قرائتها ، ثم رفعت فانزلت على ابراهيم (علیه السلام) فتلاها وهو في كفة المنجنيق، فجعل الله عليه النار برداً وسلاما ، ثم رفعت بعده فما انزلت الا على سليمان (علیه السلام) ، عندها قالت الملائكة تم والله ملكك ، ثم رفعت الله فانزل الله تعالى عليّ ، ثم يأتى امتي يوم القيامة وهم يقولون : بسم

ص: 227

الرّحمن الرّحيم ، فاذا وضعت اعمالهم في الميزان ترجحت ، اقول : يستشعر من قوله (علیه السلام) : ثم رفعت ان انزالها ليس بمجرد قرائة الملك لفظها على الانبياء ، وإلا فلا معنى لرفعها ، فيمكن ان يكون انزالها ورفعها ، انزال حقيقتها وآثارها في العالم ، كما يشعر به ما ورد على ما ببالي ، انه بعد ما انزل اهدنا الصراط المستقيم ، ارتفع التنصر والتهود من امة محمد (صلی الله علیه وآله وسلم).

روى في الكافي والعلل بأسانيد معتبرة ، عن الصادق في ذكر صلاة ليلة المعراج بطوله : ثمّ انّ الله عزّ وجل قال : يا محمد استقبل الحجر الاسود ، وكبرني بعدد حجبي ، فمن اجل ذلك صار التكبير سبعا ، لانّ الحجب سبعة ، وافتتح القرائة عند انقطاع الحجب ، الى ان قال : فلمّا فرغ من التكبير والافتتاح ، قال الله : الان وصلت الي فسم باسمى فقال: بسم الله الرحمن الرّحيم الحديث ، اقول : هذا الحديث بهذا الاعتبار ، انما يفتح منه لاهله ابواب من اصول المعارف ، ومن ادنى ما يعلم منه ، أنّ التسمية له حقيقة عالية ، وليس يحصل ذلك بمجرد التلفظ ببسم الله الرّحمن الرّحيم ، وهكذا سائر اجزاء الصلاة والقرائة ، ويشبه ان يكون وجه تعليق الاذن في التسمية بالوصول ، انّ الوصول لا يتحقق إلا بفناء العبد وارتفاع الحجب الظلمانية والنورانية كلها بينه وبين الله ، ولا تيسر ذلك إلا بتخلّي العبد عن جميع عوالمه واسمائه ، واوصافه ، وحينئذ يصير اهلا لظهور اسماء الحق التي في حيطة لفظ الجلالة عموماً ، وظه-ور الاسماء التي تحت حيطة الرّحمن والرّحيم خصوصاً ، وعند ذلك يتحقق العبد بحقائق هذه الاسماء ، ويكون لوحاً جامعاً لاسماء الله تعالى، ومظهراً لها كما ورد انه «ص» رحمة للعالمين ووجه الله وخليفة الله ومعلّم الملائكة والانبياء ، هذه كلّها من آثار مظهرية الأسماء الثلاثة ، ومظهراً لبهاء الحق وسنائه وملكه، ولعل هذه حقيقة نزول التسمية وروحه فمن اراد التسمية فله ان يتشبه به (صلی الله علیه وآله وسلم) بما يمكنه بقدر مقامه ،

ص: 228

وادنى مراتبه لا محالة ان يتوجّه بقلبه وروحه الى حقائق هذه الاسماء بعد ،معرفتها ، وذلك لا تيسر إلا ان يحصل لنفسه حظاً من هذه الاسماء، ولكنّه بالنسبة الى حقيقة لفظ الجلالة لاحظ له إلا بالتأله وليس يمكن، لاحد من الممكن ان يعرف حقيقة الالوهية بوجه من الوجوه ، نظير انه لا يمكن لفاقد قوة البصر ان يعرف معنى البصر ، بل الأمر أجلّ من ذلك ، لأنه لا يمتنع عليه ذلك بأن يخلق الله فيه قوة البصر ، ثم يعرفه معنى البصير ، ولكن صيرورة الممكن بالذات واجباً بالذات محال ، لا يتعلّق به القدرة ، وفرضه تناقض ، فحطّ العبد من ذلك التاثر بمعنى ان يكمل حقيقة العبودية واما خاصيّته الالوهية ، وه-و الغناء الذاتي ، والوجوب الذاتي فلا حطّ له من ذلك ابدا ، ومن هذا الباب قول اقرب المخلوقات واعلمهم بالله : انا لا احصي ثناء عليك ، وقوله : ما عرفناك حق معرفتك ، ما ينحصر حطّ العبد حظ العبد من هذه الاسم ، في ان يكون مستغرق الهم بالله ، ولا يلتفت الى غيره ويعرف حقيقة فقره ، وفقر ما سواه في جميع الجهات ، ولا يرى في الوجود الا الله واسماءه ، وافعاله ، فحقائق ما سوى ، اما الاسماء واما الافعال ، وفي الأخبار المستفيضة ، انّ بسم الله الرّحمن الرّحيم، الى الاسم الاعظم أقرب من سواد العين الى بياضه ، او من بياض العين الى سواده ، على اختلاف الروايات ، وظنّي انّ المقصود ان المراد ان حقيقة هذه الاسماء من جهة وجود لفظ الجلالة فيها، وكونه جامعاً لسائر الاسماء ، هو الاسم الأعظم ، والتعبير بالاقربيّة من المحيط والمحاط ، اشارة الى الاتحاد بطريق التكنّي ، او يقال : من جهة أنّ المذكور لفظ بسم الله الرّحمن الرّحيم ، والاسم الاعظم حقيقته والحقيقة ليست متحدة مع اللفظ ، ولكنها اقرب اليه من المحيط والمحاط المسمّين ، لانّ قرب الأوّلين قرب المداخلة ، والاخرين قرب الملاصقة.

وروى في الاخبار ايضاً تأكيد في التسمية ، ولو لانشاد شعر.

ص: 229

وفيها ولربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح امره بسم الله الرّحمن الرّحيم ، فيمتحنه الله بمكروه ، لينبهه على شكر الله والثناء عليه ، ويمحق عنه التقصير عند تركه بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الى ان قال : فقال الله جل جلاله لعباده : أيها الفقراء لرحمتي ، اني قد الزمتكم الحاجة الي في كلّ حال ، وذلّة العبودية في كل وقت ، فالي فافزعوا في كلّ امر تأخذون فيه وترجون تمامه ، وبلوغ غايته ، فأنّي ان اردت ان اعطيكم لم يقدر غيري على منعكم ، وان اردت ان امنعكم لم يقدر غيري على اعطائكم ، فانا احق من سئل ، واولى من تضرّع الي- اليه فقولوا عند افتتاح كلّ امر صغير او عظيم : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الى ان قال قال رسول الله : من حزنه امر تعاطاه ، فقال : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، وهو مخلص لله ، ومقبل بقلبه اليه ، لم ينفك من احدى اثنتين ، اما بلوغ حاجته في الدنيا ، واما تعدّله عند ربّه ، ويدّخر لديه ، وما عند الله خير وابقى.

اقول: ومن هذه الرّواية يعلم أنّ التسمية ليس بمجرد ذكر اللفظ باللسان . واخطار معناه على القلب ، بل باتصاف القلب والجوارح بالفزع الى الله ، وأنه لا يضيع من قال بهذه الصفة : بسم الله الرّحمن الرّحيم تسميته ، ويناله ثمرة التسمية اما في الدّنيا ، واما في الآخرة ، وما ينال في الآخرة خير وابقى.

واما قوله : الحمد لله . اي جنس الحمد ، وهو الثناء باللسان على الجميل الاختياري لله ، لانّ كلّ جمال يوجد فهو اثر من آثار جماله ، وكلّ خير في العالم فهو من آثار فيضه ، وذكر اسم الله في

كأنّه اشارة الى اشارة الى علة إختصاص الحمد الله تعالى ، لان الله اسم للذات المستجمع لجميع صفات الكمالات ، ومن جملتها انحصار الجمال والخير فيه ، فهو في قوة ان يقال: كل الحمد لمن هو مستجمع الجميع الكمالات والخيرات ، لانّ كل كمال وخير منه وله ، والظاهر انّ

ص: 230

المراد منه إنشاء الثّناء بهذا اللفظ فيكون معناه اثنى على الله بجمیع الثنايا واحمده بجميع المحامد كلها ، والاخبار بمحموديته تعالى واقعاً في جميع المحامد ، وان لم يشعر الحامد به، لانّ قصد حامد زيد مثلا في قبال احسانه حمده،من جهة أنّه منعم عليه ، والمنعم الحقيقي في جميع النّعم هو الله،كما في دعاء الصحيفة : وانت من دونهم وليّ الاعطاء فيرجع الحمد كلّه الى الله.

واما ما ورد من ترجيح شكر المنعم من الناس ، فلكونه واسطة ومظهراً لنعمة المنعم تعالى ، فلاينا في انحصار حقيقة الحمد في الله، فظهر انّ وجود المظهر، والصّورة منتسب الى من ظهر وتصوّر فيه ، فكذلك محموديته وجميع شئونه الثبوتية منتسبة اليه اولا وحقيقة ، ثم الى المظهر ثانياً ومجازاً ، فمن عرف ذلك ، ورأى الخير كله من الله لا يطمع في غيره، ويخلّص من رعونات الرياء والسمعة والنفاق، ويخلص عباداته من هذه الجهة، وهكذا يخلص من اكثر الاخلاق الرذيلة التي منشئها الرّغبة والرهبة من النّاس، وبالجملة حال الحمد معرفة النعمة، وإظهارها، والرّضا من المنعم، فمن صدق قلبه وعمله حمده باللسان فهو الحامد ومن لم يصدّق قلبه عمله ولسانه، فهو منافق ومدلّس:

برزبان الحمدو إكراه از درون *** از زبان تلبیس باشد یا فسون»

ثمّ إنّما قلناه من كون الحمد هو الثناء باللسان الثناء باللسان ، انما يعم لسان الحال والقال ، والا وما من شيء الا يسبح بحمده ، كما نطق به القرآن.

رب العالمين: اي مبلغ كلّشيء من العقل الأوّل الى مرتبة الجمادات ، بجميع اجزائها وجزئياتها ، وافرادها وجهاتها الى كماله الّذي حکم به حکمته، واقتضته اسمائه بتدبير اموره ، وتغذيته ، وتنميته وحفظه

و امساكه ، وجميع لوازمه ، فان الربّ صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل

ص: 231

والتربية يتبع المربي في كماله ، والعالمين جمع العالم ، والربّ مضاف الى الجمع المحلّى باللام ، فيفيدأنّ ربوبيته تعالى شاملة لكلّ ما في الوجود بجميع جهاتها ، وهو متوحد في هذه الربوبية ، ووجه الشمول انّ لفظ العالم إنما يطلق على جملة ما سوى الله ، وعلى كل نوع من أنواعها ، فكأنه اعتبر في اطلاقه اجتماع امور مع نحو اتّحاد بينها، مثلاً يقال : عالم الافلاك عالم الملكوت ، ويجمع ويقال عوالم الافلاك ، وعوالم الملكوت من جهة انّ الافلاك ، وكذا الملكوت مشتملة على عدة امور مجتمعات بین افراد كلّ منها متحد في جهة ، ويقال: عالم العقول ، عالم الأرواح ، عالم الانسان ، وعالم زيد ، بل يقال عوالم زيد ، لان كل فرد من افراد الانسان كانه نسخة مختصرة من العوالم كلّها بالقوة فباعتبار هذه القوّة ، هو مركب من العوالم الغير المحصورة.

وبالجملة العوالم كثيرة جداً ، وفي بعض الأخبار إن في عالم المثال ثمانية عشر الف عالماً.

وروى الصدوق في آخر الخصال عن الباقر(علیه السلام) ، ان الله خلق الف الف عالم ، والف الف آدم ، ونحن في آخر العوالم ، وآخر الآدميين. وبالجملة ان الله بحكم هذه الآية ، رب جميع هذه العوالم حتى الجنّة والشياطين كما صرح بذلك في دعاء ليلة العرفة ، بقوله : وربّ الشياطين ، وما أضلّت.

وبالجملة مفيض وجود جميع الاشياء الى ابد الآباد ، بعد إيجادها اوّلا، إنّما هو الله ربّ العالمين ، فجميع العوالم مع اجزائها وجهاتها ، قائمة بتربيته ، وربوبيته ، فمن امعن نظره في العالم، رأى العوالم كلّها قائمة بالربّ تعالى ، ورأى إنّ ربوبيته تعالى ، وتربيته ليس كتربية الملاك للأملاك ، ولا كتربية الآباء للاولاد ، ولا كتربية النفس للاعضاء ، ولا كتربية النّفس للقوي، ولكن تربية النّفس للقوي اشبه بتربيته تعالى من

ص: 232

غيرها ، من حيث انها محصّلة للقوي ومقوّية لها ، وحافظة ، ومبلّغة لها الى كمالاتها الأولية ، والثانوية.

وبالجملة العوالم كثيرة بعضها محيط بالبعض ، كاحاطة الماء بالأرض ، والهواء بالماء ، وهكذا الافلاك الباقية ، حتى ينتهي الى فلك الافلاك ، ومحدّد الجهات الذي هو منتهى الاشارات الحسية المحيطة بجميع الاجسام ، وهو اصفاها ، وهو اصفاها، والطفها بحيث يشبه طرفه الاعلى بعوالم المثال، وهي محيطة به، وبما دونه احاطة لطيفة لا يساوق احاطة الاجسام الماديّة بعضها ببعض ، وهي عوالم كثيرة بعضها فوق بعض ومحيط به، حتى ينتهي الى الطف عوالمها الذي يشبه في اللطف الى عوالم النّفوس المجرّدة ، عن المادة والمقدار، وهكذا الى ان ينتهي الى العقل الأوّل ، والنّور الأوّل ، وهو اقرب الخلايق كلّها من الله الجليل ومحيط بالكلّ احاطة عقلية ، والمحيط به هو الله ، ولكن باحاطة غير مساوقة لاحاطة غيره من المراتب، نعم احاطة العقل الأوّل اشبه باحاطته من احاطة غيره بما دونه.

ويدلّ على هذا الترتيب الكلّي اجمالا ، كلمات المعصومين(علیهم السلام)،لا يحافي مطاوي بعض الادعية والخطب ومن جملة ذلك ، قول امير المؤمنين في خطبته التي قال ثقة الإسلام : أنّها من مشهورات خطبه عند ذكر العوالم ، وكلّ شيء منها لشيء محيط ، والمحيط بما احاط منها الله الواحد الأحد، بل الذي يقوله اهل التحقيق : انّ كلّما في هذا العالم عالمنا الحسي من الجواهر والاعراض ، فله حقيقة في عالم المثال ، ولكن صفاته وآثاره انما يناسب بعالمه ، بل لكلّ محسوس وجود في كلّ عالم من عوالم المثال على حده، ولكلّ شيء فيها حقايق في العوالم التي فوقها، ولكن يختلف آثار تلك الحقايق وصفاتها، وصورها باختلاف العوالم، ففي كلّ عالم الحقيقة واحدة آثار وصفات على حدة تناسبها مثلا حقيقة العلم في عالمنا.

ص: 233

هذا كما نرى ، وفي بعض عوالم المثال له صورة كصورة اللّبن. ومن الأخبار التي يمكن الاستدلال ، والاستيناس لما ذكرنا ، ما دلّ على انّ الاشياء تنزل من السماء الى الارض ، وتعرج منها الى الله في یوم مقداره خمسين الف سنة

وفي القرآن المجيد : وان من شيء الا وعندنا خزائنه ، وما ننزّله وفيه: وفي السماء رزقكم وما توعدون.

وفي الأخبار انّ الله خلق ملكاً في صورة الإنسان، يسترزق للادميين وملكاً في صورة الثّور، يسترزق للبهائم، وهكذا. وفيها: خلق جوهراً فخلق منه الماء، وخلق من زبد الماء الارض، ومن دخانه السموات، وخلق من التراب الإنسان.

وفيها: كما مر خلق من اسمه المكنون، اثنى عشر اسماً، وخلق من كلّ منها ثلثين اسماً ، فعلا منسوباً اليه

وفيها: أنّ الله تعالى خلق الف الف عالم ، والف الف آدم. وعن امير المؤمنين(علیه السلام): قد دورتم دورتم دورات، وكورّتم کورات.

وهذا محمول على ما دلّ على التنزّلات الوجودية ، ويمكن ان يستدلّ لذلك بكلّ ما دلّ على ان الملائكة وسايط فيض الاله في العالم ، لان عوالم الملائكة مختلفة ، بعضهم من عوالم المثال ، وبعضهم من عوالم النّفوس ، وبعضهم من عوالم العقول . وبالجملة كما ان العوالم في قوس النزول مترتبة ، فكذلك فی قوس الصعود .

ومما يدلّ على ذلك في قوس الصعود ، الاخبار التي دلّت على

ص: 234

تجسّم الاعمال في البرزخ، والقيامة واختلاف صور الآدميين في البرزخ، والقيامة، حتى في بعضها ان الاعمال والاوقات يجيء يوم القیامه مجتمعة في وقت واحد ، ويجيء يوم الجمعة كالعروس! والصلوة يجيء في صورة شاب حسن الوجه ، بل وفي بعضها أنّ حقايق الجمادات ايضاً في الآخرة ذوات حياة ، ونطق وشعور ، وانّ عالم الاخرة هي دار الحيوان ، وكلشيء فيها حيّ ناطق شاعر ، وللاعراض فيها احكام جواهر هذا العالم ، ويفهم منها انّ الله تعالى انّما جعل الصورة الانسانية انموذجاً لكل ما في جميع العوالم ، ونسخة مختصرة من اللوح المحفوظ.

كما يشير اليه الابيات المنسوبة الى امير المؤمنين : اتزعم انك جرم صغير آه.

وقوله(صلی الله علیه وآله وسلم) : اوّل ما خلق الله نوري.

وقولهم: وخلق من نورنا انوار شيعتنا ، قبل ان يخلق الملائكة ، فسبّحنا ، وسبّحت شيعتنا ، وسبّحت الملائكة ويدلّ عليه تعالى قوله تعالى: و(علّم آدم الاسماء كلّها - اه)

وبالجملة كلمة اهل التحقيق من علمائنا مجتمعة على ان الصورة الانسانية صورة جامعة لجميع ما في العوالم كلّها بالقوّة ، فكما انّ الله تعالى اودع فيها من جميع انواع ما في هذا العالم الحسّي ، من جواهره واعراضه ، فكذلك جعلها معجوناً مركباً من جميع ما في العوالم العالية فوق هذا العالم ولكن بالقوة ، وفي معراج السعادة ، عن الصادق (ع) : الصورة الانسانية اكبر حجة الله على خلقه ، وهو الكتاب الذي كتبه بيده ، وهو الهيكل الذي بناه بحكمته ، وهي مجموع صور العالمين ، وهي المختصر من العلوم في اللوح المحفوظ ، وهي الشاهد على كلّ غائب ، والحجّة على كلّ جاحد وهي الطريق المستقيم على كلّ خير،

ص: 235

وهي الصراط الممدود بين الجنّة والنار.

اقول: فعلى هذا ما يمنع العاقل ان يتدبّر في كتاب نفسه ، ليظهر منه ما خفي عليه من اسرار عالم الكون ، بكلمات نفسه ، وحروفها ، اما سمعت ما في ابيات امير المؤمنين (علیه السلام) : باحرفه يظهر المضمر ، والله تعالى يقول: سنريهم آياتنا في الافاق وفي انفسهم ، وكيف كان يجب على العبد بحكم العقل بعد التفطن بانّ ربّه يربيه في جميع عوالمه من جميع جهاته التي لا يحصيها هو نفسه في جميع آفاته ، بل لا يشعر منها الا الاقل ، ان يحب هذا الربّ الودود ، ويخدمه بما يمكنه من عباداته ويخلص في عباداته ، ويوحده في ربوبيته ، ويترقى عن مراقبة غيره في حركاته وسكناته كلها فضلا عن عباداته ويستحي منه عن قصوره وغفلته مع فقره اليه من وجوه غير محصورة ، وذكره تعالى له مع غناه عنه في جميع هذه الجهات ، وغيرها.

ثم ان توحيد الرب تعالى في ربوبيّة عزيز المنال ، علماً واعتقاداً صعب الاشكال حالا وعملا ! والمتخلّق بهذا العلم والحال والعمل هم العارفون الكاملون ، المتخلّصون من اكثر رعونات العامة في اعمالهم واحوالهم وافعالهم لا سيّما هموم الدنيا والرّياء في العبادات ، ومراقبات العباد في الحركات والسكنات، لا سيما اذا صارت هذه الأوصاف ملكة للعبد ، فيورث له تعظيم الربّ تعالى والانكسار ، والحياء والخشوع والاخبات ، والانقطاع والوقوف على حدود الفقر الاتم ، والاحتراز عن ارتداء شيء من مراتب جلال الربوبيّة فان انكشف له حقيقة معنى ربوبيته ، ورأى جميع اجزاء العوالم من جهات كثيرة تحت تربيته تعالى ، وتحت مراقبته ورأى نفسه بجميع عوالمه مستغرقةً في نعمه في افاضة وجوده ، وحفظه ورزقه واصلاحه، وتدبير اموره وتبليغه الى كماله اللايق به ، يفيض عليه بجوده ، ويرزقه من فضله ، ويحفظه في كنفه ، ويحميه في ظلّ عنايته ، ويصلح جميع شؤونه بمنّه حتى يبلغه كماله في جميع

ص: 236

هذه الصفات والشّؤون، على اتم الوجوه ، واكمل السعادات و انه لا يرضى له في ذلك بنعمة دون اخرى ، حتى يتم له جميع النعم . وصنوف المنن بحيث لا يهمل له تصفية لونه ، وتزيين صورته وترتيب جفونه وتمريض عينيه ، وتقويس حاجبه ، وتأمل في مراقبته تعالى في مراتب حفظه من اصناف هذه المهلكات ، والموذيات والمولمات ومنغصات العيش والسّعادة ، والكمال في جزء جزء من اجزاء بدنه واجزاء عوالم خياله وسایر قواه وقلبه وروحه ، وسره في جميع تقلباتها فيذعن لا محالة ان يشكر له لبعض هذه النعم بقدر الامكان ، ولا يعارضه لا محالة بالتعرّض لمراسم كبريائه في حدود عوالم الربوبية ، فان حكم المربوب المطلق من جميع الوجوه ، بالنسبة الى الربّ المطلق من كل الجهات ليس الا الاخلاص الصادق في جميع حدود العبوديّة .

والمخلص كما عن مصباح الشريعة ذائب روحه ، وباذل بهجته في تقويم ما به العلم والعمل ، والعالم والمعمول بالعمل ، وهو تصفية معاني التنزيه في التوحيد.

اقول: من جملة لوازم هذا التوحيد ، ان لا يرى غيره تعالى ضاراً ولا نافعاً ، بل ولا مؤثراً في الوجود ، والعمل على ذلك مع ما يتراءى في هذا العالم بمقتضى كونه دار غرور من وجود الأسباب ، وتخيل تأثيراتها صعب المنال لا ينال الا بمعرفة كاملة ، وكشف عوالم الغيب ، وغلبة السرّ ، ولعلّ العمل على ذلك هو المراد بالاستقامة التي في قوله تعالى : واستقم كما أمرت ، في سورة هود التي، قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) فيها شيبتني سورة هود ، وقيل قاله : لمكان هذه الآية ، ولا يذهب عليك ان في تصوّر ربوبيته تعالى بجميع هذه العوالم ، بعد تشريح جزء من اجزائها ما يبهر العقول ، مثلا اذا عقل الانسان ان نسبة هذا العالم المحسوس ، الى عوالم الجبروت ماذا ، لأنّها او بعضها عوالم غير متناهية ، ونسبة المتناهي الى غير المتناهي معلوم ، ثم يتفكر في هذا

ص: 237

العالم المحسوس الذي فرضنا انه اصغر العوالم ، واضيقها ، واحقرها ، وراجع تارة الى علم الهيئة وقدر في نفسه ما ثبت في هذا العلم ، من وجود الافلاك ، ونجومها وكواكبها مثلا ، ذكروا ان للكواكب الثابته كلّها شمس كشمسنا هذه في فضاء غير متناه ، ولكلّ منها اراضي ، وذكروا في سعة مقدار هذا الشّمس، أنّها تزيد على كبر ارضنا هذه باثني عشر الف مليون ، فانظر انت ايها الانسان الحسي، بعين حسّك نسبة كبرها الى الفلك الرابع ، الذي هي فيها ، كيف نسبتها اليه في الكبر والصغر ، ثمّ تفكر فيما ورد انّ الفلك الرابع، بالنسبة الى الخامس ، كحلقة في فلاة ، وهكذا الى الفلك السابع ، والى الكرسي ، والى العرش، ثمّ راجع الى ارضنا هذه، وتأمل في سعتها ، وانسب سعة جثتك الى تمامها ، ثمّ اترك الكلّ ، وخذ من بدنك هذا ما في عينك من الاجزاء ، والخواص، والتدابير ، وشرايط الصحة ، وراجع عكوس تش-ري-ح طبقاتها ، واستارها ، وعروقها ، وتقدير غذائها، والتدابير التي استعملت لكلّ واحد من اجزائها ، واندفاع ما بقي من فضلة غذائها، والتدابير التي استعملت في اشكال استارها والوانها ، ورقتها وسخنها ، والتدابير التي استعملت في وضع كلّ واحد منها على ترتيبها وتفكر في آفاتها واسقامها وأدويتها ، وما استعمل في خواص ادويتها ، وعلوم علاجها ، وراجع الى اطبائها ، ومعالجتها ، فان عمر انسان واحد لا يكفي لتحصيل تكميل علوم علاجها ، ثم انظر ماذا ترى من عظمة أمر الربوبية بالنسبة الى جميع بدنك ، ثم الى ابدان جميع الاناسي ، ثم ساير الحيوانات ، ثم عوالم النبات وجمادات هذه الارض ، ثم ثم ثم ثم ، حتى ينتهي الى آخر ذرّات المحسوسات من الافلاك والكواكب والكرات ، ومخلوقاتها، ثمّ في عوالم المجرّدات من المادة، من عوالم المثال ، ثمّ في عوالم النفوس والارواح، ثمّ في عوالم العقول وقل عن حقيقة قلبك وسرك وروحك وشراشر وجودك: سبحان ربي العظيم وبحمده ، حتى تؤدّى حق ادب ربّك العظيم ، وتصير اهلا لقربه ، والفناء بفناء ربّك الاعلى.

ص: 238

الرحمن الرحيم قد مضى الاشارة الى تفسيرها ، ولكن يلزم في المقام الاشارة الى وجه تكرار هذين الاسمين في سورة الفاتحة ، في خبر المعراج ، فقال : الحمد لله ربّ العالمين ، وقال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) في نفسه : شكراً : فقال الله : يا محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم) قطعت حمدي ، فسم باسمي ، فمن اجل ذلك جعل الرّحمن الرّحيم في الحمد ، وفي بسم الله الرّحمن الرّحيم مرتين ، ولعلّ المراد ان قوله (صلی الله علیه وآله وسلم) شكراً في نفسه ، من جهة انّه ليس بعنوان قرائة كلام ربّه قطع لقرائة الحمد الذي هو كلام الله وحمد الله لنفسه ، فلزم لابتدائه ثانياً ذكر اسمه تعالى ، فذكره بالرحمن الرحيم لان المقام مقام الحمد ، فاقتضى ذكر الرحمن الرّحيم ، أو لانّ اسم الله قد تكرّر فاختيارهما للتّسوية في التكرار بين هذه الاسماء.

وقيل: اصل التكرار من جهة انّ الأوّل اشارة الى توصيف اسم الله بهما ، والثاني اشارة الى توصيف الذات، وتقديم الأوّل على الثاني لعله للتنبيه على مقام العبد القاري، فيكون مقامه اولا النظر الى مقام الاسماء ثم الى مقام الذات. وقيل: يحتمل ان يكون المراد من ذكرهما في التسمية ، نفس الصفتين من حيث انفسهما ، وفي مقام الحمد من حيث ظهورهما في العالم. (مالك يوم الدين) وقرء ملك ، وغيرهما ، والاصل فيهما واحد ، وهو الاستيلاء والقدرة ، والافتراق من الصيغ ، وكيف كان ليس مالكيته تعالى كمالكية الملاك لاملاكهم ، ولا كمالكية الملوك لممالكهم ، ولا كمالكية النّفوس ، للاعضاء ، ولا كمالكيتها للقوى والصور العلمية ، بل هي اجل واعلى من هذه كلها ، إلا أنّ مالكيّة النّفوس للصّور العلميّة اشبه لمالكيّته تعالى من غيرها ، لقيامها بالنفوس، وايجادها بمجرد الالتفات ، وافنائها مجرد الاعراض.

یوم الدين: يوم الحساب والجزاء، أو الشّرع وكلّها منطبقة ليوم

ص: 239

القيمة ، لها اسماء كثيرة منتزعة من صفاتها ، ووقائعها كيوم الحشر والنشر، ويوم الندامة الحسرة،،ويوم الطامة، وغيرها مما عبر بها في كلمات المعصومين ، اخبارهم وادعيتهم ، وطوله على ما في القرآن خمسون الف سنة ، فعن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) أنّه تلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.

ثم قال : كيف بكم اذا جمعكم الله ، كما يجمع النبل في الكنانة، خمسين الف سنة، لا ينظر اليكم ، وقال تعالى في جزاء الاعمال والمظالم ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظَّالمون ) انّما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار ، مهطعين مقنعي رؤوسهم ، لا يرتد اليهم طرفهم وافئدتهم هواء.

روي في الكافي باسناده ، عن سيّد العابدين(علیه السلام) قال : حدثني ابي (علیه السلام) أنه سمع اباه امير المؤمنين (علیه السلام) ، يحدث الناس ، قال : اذا کان يوم القيمة ، بعث الله النّاس من حفرهم بهما جرداً مرداً في صعيد واحد ، ليسوقهم النور ، ويجمعهم الظلمة ، حتى يقفوا على عقبة في المحشر ، فيركب بعضهم بعضاً فيزدحموا ، دونها ، فيمنعون من المضي ، فيشتد انفاسهم فيشتد انفاسهم ، وبكثر عروقهم ويضيق بهم أمورهم ، ويشتد ضجيجهم ويرتفع اصواتهم ، فقال ، هو اوّل هول من اهوال القيمة ، قال: فيشرف الجبار تعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة ، فيأمر ملكاً من الملائكة ، فينادي فيهم: يا معشر الخلايق انصتوا ، واستمعوا منادي الجبّار ، قال فيسمع آخرهم كما كما يسمع أوّلهم، قال: فيسكن اصواتهم عند ذلك ، وتخشع ابصارهم وتضطرب فرائصهم ، وتفزع قلوبهم ، ويرفعون رؤوسهم الى ناحية الصوت ، مهطعين الى الدّاعي، قال : فعند ذلك يقول الكافر ، هذا یوم عسير ، قال ، فيشرف الجبار تعالى ذكره الحكم العدل عليهم ، فيقول : انا الله الذي لا إله الا انا الحكم العدل . الذي لا يجور اليوم ، احكم

ص: 240

بينكم بعدلي ، وقسطي ، ولا يظلم اليوم عندي احد ، اليوم آخذ للضّعيف من القوي حقه ، ولصاحب المظلمة بالمظلمة ، بالقصاص من الحسنات والسيئات وانتسب على الهبات ، ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالم ، ولاحد عليه مظلمة الا مظلمة وهبها صاحبها ، وانتسبه عليها ، واخذله بها عند الحساب تلازموا ايها الخلايق ، واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا ، وانا شاهد لكم بها عليهم ، وكفى بالله شهيدا قال : فيتعارفون ، ويتلازمون ، فلا يبقى احد له عند احد مظلمة او حق الا لزمه بها، فيمكثون ما شاء الله ، فيشتد حالهم ، ويتكثّر عرقهم ، ويرتفع اصواتهم بضجيج شديد، فيتمنون المخلص منه بترك مظالمهم لاهلها ، قال : فيطلع الله تعالى على جهدهم ، فينادي مناد عند الله تعالى يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم : يا معشر الخلايق انصتوا لداعي الله ، واسمعوا ان الله تعالى يقول : انا الوهّاب ان احببتم ان تواهبوا فتواهبوا ، وان لم تواهبوا اخذت لكم بمظالمكم ، قال : فيفرحون بذلك لشدّة جهدهم ، وضيق مسلكهم ، وتزاحمهم ، قال : فيهب بعضهم مظالمهم رجاء ان يتخلّصوا مما هم فيه ، ويبقى بعضهم فيقول : ربنا مظالمنا اعظم من ان نهبها ، قال فينادي مناد من تلقاء العرش : این رضوان خازن الجنان، جنان الفردوس ، فيأمره الله تعالى ان يطلع من الفردوس قصراً من فضة بما فيه من الانية والخدّام ، قال : فيطلعه عليهم فی حفّافة القصر الوصايف والخدام ، قال : فينادي مناد من عند الله تعالى : يا معشر الخلايق ارفعوا رؤوسكم ، فانظروا الى هذا القصر ، قال : فيرفعون رؤوسهم، فكلهم يتمناه ، قال : فينادي مناد عند الله من هذا لكلّ من عفى عن مؤمن ، فيعفون كلّهم الا القليل ، قال: فيقول تعالى لا يجوز جنتي اليوم ظالم ، ولا يجوز الى ناري اليوم الا ظالم ولا احد من المسلمين عنده مظلمة ، حتى يأخذها منه عند الحساب ، أيها الخلايق استعدوا للحساب ، قال : ثم يخلى سبيلهم ، فينطلقون الى العقبة ، فينكرون بعضهم بعضاً ، حتى ينتهوا الى العرصة ، والجبّار

ص: 241

تعالى على العرش قال قد نشرت الدواوين ، ونصبت الموازين ، واحضر النبيون ، والشهداء ، وهم الائمة ، يشهد كلّ امام على اهل عالمه بأنّه قد قام فيهم بامر الله تعالى ، ودعاهم الى سبيل الله.

اقول: في اهوال القيمة ،واحوالها ، وشدايدها وكيفياتها تفاصيل كثيرة في الاخبار ، تركناها لعدم احتمال المقام كلّها ، وانما ذكرنا هذه الرّواية لما فيها من الاشارة الى بعض الجهات التي ترد على اهل الايمان في اهم الحقوق ، من الرّفق ، واللطف ، بعثاً للقلوب للرجاء والحياء ، ثمّ انّ لهذه الاسماء الخمسة تأثيراً لاصحاب اليمين من المتقين في استجلاب بعض الصفات الحسنة لقلب القارى من الخضوع ، والتذلل لله تعالى ومن الحياء والخدمة والذكر الدائم ، وقطع الطمع عن غير الله ، فما يرغب ويرهب الا لربّ العالمين ، والرّجاء الى رحمة الرّحمن الرّحيم، والطلب من فضله ، والاطمينان بمواعيده ، وعدم الالتفات الى وعدم خير الغير وشرّه ثمّ الخوف من عقوبة يوم الدين وشدايده واهواله ، وحياء العرض على مالكه، فانّ ذلك امر عظيم كما سمعته فيما نقلناه مصباح الشريعة ، والافتضاح على رؤوس الاشهاد ، هذه كلها لاصحاب اليمين، واما العارفون فلهم عندذ كرها تأثرات ، وتنقلات فاخرة عند انكشاف حقيقة هذه الاسماء، وتجلّيها على اسرارهم وارواحهم، وقلوبهم بالتّرقّي عن علم اليقين الى عين اليقين ، وعنه الى حق اليقين ومن ذلك ما روي من غشوة الصادق(علیه السلام) ، عند تكرار مالك يوم الدين.

وما روي عن السجاد انه اذا قرئه يكرّره ، حتى يكاد ان يموت ، وبالجملة للعارفين عند ذكر اسماء الله الحسنى حالات سنية ولذات فاخرة ، وتفرّجات عالية في متنزهات دار الجلال ، وتأنسات ناعمة من تجليات انوار صفات الجمال في دار الوصال. وبالجملة يسير في هذه الاسماء في جميع العوالم من مبدئها الى

ص: 242

منتهيها ، بل يرى المبدء والعالم ، والمنتهى ، ويتفرج بالتدبر في الاسم الاخير ، في تفاصيل عوالم القيمة ، كما صرّح به في خبر المعراج ، ثمّ انّ ترتيب هذه الاسماء بهذا المنوال انّما هو مطابق للترتيب الواقعي ، فانّ مقام لفظ الجلال مقدّم على مقام الربوبية ، ومقام الربوبية مقدّم على الرّحمة الرّحمانية وهو مقدّم على مقام الرّحيميّة ، ومقام الرّحيمية مقدّم على مقام الاسم الاخير ، لانّ الرّحمة الرّحيمية ظهورها التفصيلي انما هو يوم الجزاء ، ويوم الجزاء اصله الرّحمة وما تظهر فيه من العقوبة والنّار انّما مبناه ايضاً على الرّحمة على المظلوم ، واهل الدين لانّ الغضب عرضي خلق ايضاً للرّحمة.

ثمّ انّ اضافة الملك الى يوم الدين من اضافة الصفة المشبهة الى غیر معمولها ، كقولك : ملك الزّمان ، فيكون منعوته وإضافة مالك اليه باجراء الظرف مجرى المظروف مجازاً ، أو يجعل اليوم عبارة عن النشأة الآخرة ، وعلى اي حال تخصيص المالكية او الملك، ليوم الدّين من جهة اختصاص ظهورهما التام التمام لذلك اليوم ، فانّ ذلك اليوم اي النشأة الدّنياويّة من جهة كونها دار غرور قد يتراى فيها مالك غيره تعالى من عباده ، ولكن يوم القيمة يوم لمن الملك اليوم ، فيظهر فيه سلطان الله، ويضمحل فيه سلطان العباد ، وملكهم من رأسه ، وينكشف توحيد الحق في مالكيته بجميع العالمين العالمين، بخلاف دار الدنيا فانّ توحيد هاتين الصفتين ، وكذا ساير الصفات فيها غير ظاهرة على العامة وغيب بالنسبة اليهم، وان كان منكشفاً على اهل المعرفة ، ولكنّه من جهة ندرته لاحكم له فاختص ظهور اختصاص المالكية بيوم الدين ثمّ انّ في ذكر الاسماء الخمسة في المقام اشعاراً بانحصار جهات الحمد فيها ، فكانه يقال للعبد: ان كان حمدك لاحد لكماله وجماله، وجلاله ، فيجب، ان ينحصر في الله ، لانّ ذلك كله له ، ولا كمال لاحد الا وهو منه ، وله وبه ، وان كان لكونه محسنا : فجميع الاحسان من ربّ العالمين ، وان

ص: 243

كان لرجاء فضل ، ونعمة ورحمة ديني او دنيوي ، فمالك جميع النعم ومعطيها الرّحمن الرّحيم وان كان لخوف من سطوة سلطان فالسلطان القاهر انّما هو مالك يوم الدين فلا ينبغي الحمد الا لله ربّ العالمين الرّحمن الرّحيم مالك يوم الدّين.

ايّاك نعبد وإيّاك نستعين اي لا نعبد سواك ، ولا نخضع لغيرك ، او لا نريد من عبادتنا مطلوباً غيرك ، كما ورد كلاهما في الاخبار، والحصر يعرف من تقديم اياك ، ولا سيما بملاحظة انفصال الضمير . مع، امکان اتصاله ، هذا انّما هو في المعنى الاوّل ، واما المعنى الثاني فبتقريب انّ التشريك في المطلوبيّة انّما ينافي توحيده في كون الخير منه ، وانّ الكمال والجمال له، وان الوجود الحقيقي له ، فيكون حق العبودية ان لا يرى غيره شريكا له في ذلك كلّه ، فينحصر المطلوبية ايضاً فيه، وايضاً ان من استحق لحصر جميع وجوه العبودية له، استحق جميع وجوه المطلوبيّة.

قال بعض المحققين: يمكن ان يكون في تقديم الضمير على الفعل ايضاً اشارة لطيفة الى ذلك ، فكانه بتقديمه يشير الى ان المعبود احق بالتقديم في كل اللحظات ، فيجب ان يكون نظر العبد في جميع تقلباته اوّلا اليه ، ثمّ به الى غيره من حيث نسبته اليه ، لا من نفسه ، فيكون في لحاظ المطلوبيّة ايضاً كذلك ، بل لا يمكن التوحيد الكامل في العبادة، الا بأن لا يكون للعبد هوى في غيره لان النفس لا بدَّ له من الخضوع والميل الى ما يهواه ، فلا يخلص التوحيد في العبادة.

ثم ان في ايراد الفعل بصيغة المتكلّم مع الغير ، تأدباً عن عدّ نفسه لايقاً لمقام العبودية صفة مشتركة في جميع ما سواه ، فلا وجه للانفراد والاختصاص ، وتشرّفاً بضم عبادته بعبادة عباد الله الصالحين واستعطافا بذكرهم مع نفسه ، واحترازاً عن الدعوى الكاذبة ، بطريق

ص: 244

تغليب عبادات المخلصين على عبادته في دعوى الاخلاص ، فيكون في دعوى الاخلاص من جهة عبادتهم صادقا

ثم ان الالتفات في هذه الاية من الغيبة الى الخطاب، فكانه اشارة الى انه ينبغي للقاري ان يكون بذكر هذه الاسماء مترقيا من عالم البعد الى القرب، ومن الغيبة الى الحضور ، فكانه يرى بقلبه الله جل جلاله ، ويخاطبه عن حضور بقوله : إياك نعبد وإياك نستعين.

في الحديث القدسي: انا جليس من ذكرني. ثم أنّ للعبودية ظهوراً في جميع عوالم العبد ، وشؤونه من عالم عقله ، وروحه ونفسه وقلبه واجزاء بدنه من رأسه الى قدمه ، وفي حركاته وسكناته كلّها وإلى بعض مراتبها اشير في حديث(1) عنوان البصري ، وهو ان لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ،ملكا ، لان العبيد لا يكون لهم ملك ، بل يرون المال مال الله ، يضعونه حيث امر الله ، وان لا يدبر لنفسه ، وان يكون جملة اشتغاله بما امره الله تعالى ونهاه عنه ، فاذا لم ير العبد فيما خوّله الله ،ملكا، هان عليه الانفاق ، واذا فوّض العبد تدبير نفسه الى مدبّرها هانت عليه مصائب الدنيا ، واذا اشتغل العبد فيما، امره الله ونهاه ، لا يتفرّغ منهما الى المراء والمباهات فاذا اكرم الله العبد بهذه الثلاث هانت عليه الدنيا والرياسة والخلق ، ولا يطلب الدنيا تفاخراً ولا تكاثراً ، ولا يطلب عند النّاس عزّا وعلوّاً ولا يدع ايامه باطلة فهذا اوّل درجة المتقين، أقول : القول الجامع في مراتب العبودية ان يرى العبد نفسه ، وجميع العالمين من جميع الجهات ، فقراء الى الله الغني عن الكلّ من كل الجهات والمغنى لكلّ غنيّ كذلك ويعمل بمقتضى فی ذلك ، والنّاس ذلك على مراتب لا تحصى ، فالكامل في العبودية التامة من جميع

ص: 245


1- رواه شيخنا البهائي (رحمةالله علیه) في الكشكول عن الشهيد.

الوجوه في جميع الانات ان وجد فهو اعرف الخلايق كلهم ، واقربهم الى الله ، وهو سيّد الانبياء ، خاتم النبيين ، وخلفائه الاثنى عشر المتحدين معه في المعرفة ، وهم الكاملون في مراتب التوحيد في جميع وجوهه ومراتبه ، وبعدهم الاعرف فالاعرف ، وهكذا الى ان ينتهي الى آخر عوالم اصحاب اليمين ، وادنى مراتب المسلمين الموحدين ، وهو الذي يوحد الله في الخالقية ، ولا يستكبر بتشريكه في نصب النبوّة والخليفة ، وهذا ينفعه توحيده بالاخرة في انجائه من الخلود في العذاب الدائم ، ويكون عاقبة أمره الى رحمة الله والجنّة ، ولو بعد حين ، والمراتب الثّلاث المذكورة في الرواية ، منشأها توحيده تعالى في المالكية ، والربوبيّة والمعبوديّة التي هي من شؤون الالوهية ، فانّ العبد اذا رأى الملك كلّه الله ، لا يرى لنفسه ولا لغيره ملكا ، واذا رأى انّ الله هو الرّبّ المطلق ، أي لم ير لاحد تأثيراً في التربية والايصال الى الكمال في شيء من الامور ، يرى التدبير كله لله ، وانّ غيره لا يقدرون لانفسهم نفعا ولا ضرا ، ولا موتاً ولا حيوةً ، ولا نشوراً ، واذا رأى ان لا اله الا الله ، وأنّه لا يستحق احد شيئاً من وجوه المعبوديّة ، اشتغل بالعبودية والطاعة في جميع شؤونه وحالاته ، فلا يتفرغ الى شيء عن ذلك.

(واياك نستعين) على طاعتك ، وعبادتك ، وعلى دفع شرور اعداءك، وردّ مكائدهم ، والقيام على ما امرت.

والظاهر انّ المراد من دفع شرور الاعداء ، ومكائدهم ما يكون من جهة مناقضتها لاصل العبادة أو تكميلها لتكون الاستعانة خالصة فی مراتب العبادة ورجّح بعض المحققين ارادة الاطلاق في متعلّق الاستعانة ، من جهة حذف المتعلّق ، لانّ مناسبة المقام قرينة الاختصاص ، ويبالي ان في الاخبار ايضاً نهياً عن الاستعانة في غير جهة العبادة.

وبالجملة حصر الاستعانة من فروع توحيد الربوبية ، فمن اعتقد ان

ص: 246

لا ربّ الا الله، يرى النفع والضّرّ كله منه، فلا يرجو الا خيره، الاخيره، وذلك لا يلايم الاستعانة بالغير، فلا يستعين ، ولا يستغيث ، ولا يفزع ، ولا يلتجى الا به ، به ، وهذا التوحيد امر صعب علماً وحالا وعملا علماً وحالا وعملا ، فمن وفّق له فله حظ من عوالم العبودية ، بل من مراتب المعرفة ، بل من درجات القرب ، رزقنا الله وجميع الطالبين الترقّي الى مدارج مراتب المعرفة والزلفى.

ثمّ انّ ما اخترناه من الاستعانة في الاية انما هي في العبادة بعين وجه الترتيب بينهما ، لأنّ القارى بعد ذكر الآيات الثلاثة ، يفزع الى عرض الاخلاص في العبودية ، بعد الاظهار ، تعين له اظهار انّ العبادة لا يمكن لنا الا بعونك وقيل انّ الاية بشطريها ينفي الجبر والتفويض بنسبة العبادة الى العباد ، ولكن بعون الله ، فالله تعالى معين له لا قاهر له بغير ارادته ، بل موجد لافعاله بعد ارادته ، كما انه خالق لارادته ايضاً على ما يقتضيه ذاته ، فلا جبر لكون الفعل بارادته ، ولا تفويض لكون ارادته موجوداً بارادة الله.

وبالجملة اراد ان يوجد الاشياء بارادة العبد واختياره ، فالعبد من جهة كونه مختاراً في افعاله ، لم يجبر على الفعل ، ومن جهة كونه مجبوراً في مختاريته، لم يفوّض اليه الامر ، فلا جبر ولا تفويض.

ثمّ انّ كمال الاستعانة لا يتم الا بعلوم ، من جهة المستعين والمستعان منه ، العلم بفقر نفسه، وعلى عدم قدرته على انجاح مطلبه ، والعلم بغناء المستعان ، وقدرته على اعانته وعنايته على المستعين، وعدم بخله عن اجراء عنايته وعلمه بحال المستعين من فقره ، وكونه صلاحاً له، فاذا تمّ للعبد هذه العلوم من احوال نفسه وربه تمّ له حال يقتضي الاستعانة، ويستدعيه لسان حاله قبل لسان قاله وكلّما كمّل اعتقاد هذه الصفات في نفس المستعين وفي المستعان منه،

ص: 247

كمل حال الاستعانة ، واذا كمل ذلك ثارت فيوض الرّب للاعانة والاجابة ، مثلا اذا انكشف للعبد حقيقة فقره ذاتاً ، ووجوداً وصفةً وفعلاً من جميع الوجوه في جميع الاوقات والاحوال ، ورأى نفسه محتاجاً بل احتياجاً وفقراً في كلّ أن من آناته من جميع الجهات ، حتى أنّه لا يكفيه ايجاده في الآن السابق لوجوده في الحال، بل يحتاج في وجوده الفعلي الى ايجاد آخر جديد على ما هو الحق في احتياج الاكوان في الان الثاني الى علّة محدثة ، وكذا في وجود صفاته يحتاج في كلّ آن الى فيض جدید و ایجاد آخر.

وبالجملة رأى نفسه وصفاته وجميع ما يحتاج اليه في جميع آناته فقيراً من جميع وجوه الحيثيات الى ربه ، ورأى ربه غنياً مطلقاً في جميع هذه الوجوه ، ومنعماً عليه في كلّما هو واجده من وجوه النّعم ، اي لا يحيط بها علمه ، ولا يقدر على احصائها انعم الله عليه بذلك كلّه قبل وجوده ، ووجود فقره ، ومع جهله لوجوه نعمه ، وهو موجود بايجاده ، وحي باحيائه ومرزوق ب-رزقه ، وساكن في ملكه، يتقلب بقوته في معصيته ، وهو لا يأخذه بمعصيته ، ويؤاخذ من يغتر بمعصيته ، من دون ان يسئله شيئاً من ذلك ، فكمل عند ذلك رجاءه بعنايته ، ويقوي حال الاستعانة في قلبه، فاذا استعان بعد هذا الحال فيما لا يضره ، فدعائه مستجاب ، وحاجته بالباب ، وان كان دعائه دعاء الشّر بدعاء الخير ، يعطيه الخير بدل ما دعاه من الشَّرِّ في الدنيا او الاخرة ، وما في الاخرة خير وابقى ، فالأولى للداعي ان يستثنى في دعائه غير الاصلح ، او يشترط الصلاح والعافية ، اذا لم يكن ممّن يرضي ببلاء الدنيا مع خير الاخرة.

ولا يذهب عليك انّ ما ذكرنا من شرايط كمال الاستعانة من العقايد في صفات الحق تعالى كلّها من لوازم الاسماء الخسمة، بل كلّ ذلك مندرجة في لفظ الجلالة اجمالا ، وفي الباقي تفصيلا

ص: 248

اهدنا الصراط المستقيم ) عن تفسير الامام(علیه السلام)، وعن المعاني يعني ارشدنا للزوم الطريق المودي لمحبتك ، والمبلغ الى جنتك ، والمانع من ان نتبع اهوائنا فنعطب او ان نتخذ بآرائنا فنهلك.

وفي بعض الاخبار، أنّه الطريق الى معرفة الله ، وفيها أنّه صراطان : صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، امّا الصّراط في الدنيا ، فهو الامام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا ، واقتدى بهداه مرّ على الصّراط الذي هو جسر جهنّم في الاخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة ، فتردي في نار جهنم.

وفيها انّ الصّراط امير المؤمنين (علیه السلام) .

وفيها انه معرفة الامام.

وفيها نحن الصراط المستقيم.

وفيها انه امير المؤمنين (علیه السلام) ، ومعرفته ، والدليل على انه امير المؤمنين (علیه السلام) ، قوله تعالى : وانه لدنيا لعلّي حكيم ، وهو امير المؤمنين (علیه السلام) في امّ الكتاب ، في قوله : الصراط المستقيم.

وفيها انه (صلی الله علیه وآله وسلم) وصف الصراط ، فقال : الف سنة صعود، سنة هبوط ، والف سنة و الف خذال.

وفيها انه أدقّ من الشعر ، واحد من السّيف فمنهم من يمرّ عليه مثل البرق ، ومنهم من يمرّ عليه مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمر عليه ماشياً ، ومنهم من يمرّ عليه حبواً ، ومنهم من يمرّ عليه متعلّقاً ، فتأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً. وفيها أنّه مظلم يسعى الناس عليه بقدر انوارهم.

أقول: هذه الاخبار غير متناقضة، بل كلّها مؤتلفة في بيان معنى الصّراط ، وكلّ منها ناظر الى فرد من افراده، لأنّ الصّراط وكذلك ساير

ص: 249

المعاني له حقيقة ، وروح ، وله صورة وقالب ، وقد يتعدّد الصور والقوالب لحقيقة واحدة ، بل لا يكاد يوجد حقيقة الا ويتعدّد صورتها ، وانما وضعت الالفاظ للارواح والحقايق ، ولوجودهما في القوالب يستعمل الالفاظ على الحقيقة لاتحاد ما بينهما ، مثلا لفظ القلم روحه عبارة عن آلة نقش الصور في الالواح ، من دون ان يعتبر فيها كونها من قصب او حديد ، او غير ذلك ، بل ولا ان يكون جسماً ، ولا كون النقش محسوساً ، وهكذا لفظ الصراط وضع لحقيقة يؤدّي سلوكه الى المقصود ، وهذا روح لفظ الصراط ، وله قوالب: منها الطرق في البوادي والبلاد المعدّة للسلوك من بعضها الى بعض ، وكذا طرق ساير المقاصد ومن هذه الافراد الطريق الى معرفة الله ، وقربه وجواره في الجنة وهو العمل بالدين والشريعة ، ومعرفة الامام وطاعته ، ومعرفة خصوص امير المؤمنين علیه السلام، والصّورة الانسانية اي اوصافه ، واخلاقه وحدوده في الدنيا ، ومنها جسر جهنّم ، فمن الطرق الموصلة الى ذلك في الدنيا ، ما هو مستقيم ، وهو الطريق الذي لا يتصوّر ان يوجد بين مقام القاصد والمقصد طريق اقرب منه ، ومنها ما ليس كذلك ، والأوّل واحد ، والثاني يتعدّد الى ما شاء الله من الطرق المعوجة ، بحسب انفاس الخلايق غير الاكمل منهم ، ولكن بعض هذه قريب من الاستقامة وبعضها اقرب ، وهكذا بعضها بعيد وبعضها ابعد ، حتى ينتهي الى طريق ابغض الخلايق ، وابعدهم من الله ، وهو ابليس واخوانه في المبغوضية ، والاكمل طريقه الى الله اقرب من الكلّ ، وهو الذي يكون معرفته بالله تعالى وباسمائه وصفاته وافعاله ، اكمل المعارف ، واخلاقه احسن الأخلاق ، ومزاجه اعدل الامزجة، هذا بالنسبة الى الأقرب الواقعي من بين الطرق كلّها ، وأما بالنسبة الى كل فرد فرد فأقرب طرقه يلاحظ الى حاله الفعلي ، وتفصيل هذا الاجال : ان كل انسان له قوس نزول من عالم الغيب الى هذا العالم ، وقوس صعود منه الى عالم الغيب، والانسان من حين تولّده، بل من اوّل خلق نطفته ، بل تربته

ص: 250

في هذا العالم ، ساير الى عالم الغيب ، نعم ما دام لم يلج فيه الروح ، فسيره في هذا العالم، ومن بعد ما ولج فيه الروح ، سيره في عوالم الغيب بروحه ، ، اما سير تربته الى عالم الغيب من جهة ترقيه من عالم الجماد الى النبات ، حتى يصير غذاء للانسان ، فيصير الغذاء جزء بدن انسان ثم يصير نطفة ، ثمّ علقة ، ثمّ عظماً ، فكسونا العظام لحماً فخلقناه خلقاً آخر ، فتبارك الله احسن الخالقين ، وهكذا يترقى بعد ولادته بكمال شعوره حتى يصل الى اوان البلوغ ، وعند ذلك يكمل عقله ، بحيث يشرف بتشريف التكليف ، وعند ذلك يتعين له ان يختار السير في عوالم الغيب الى طريق السعادة . والقرب والمعرفة والجنّة ، او الى طريق الشّقاوة والبعد ، والجهل ومهوى دركات السجين ، بارادته لانه يكشف له بطريق العقل والشرع عن النجدين ، اي طريقي السعادة والشّقاوة ، والجنّة والنار ، والقرب والبعد ، فيختار السعادة بتحصيل اخلاق الرّوحانيين ، وتكميل ملكات المقربين ، ومعارف اهل اليقين من الايمان بالله ، وملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر حتى يلحق بالعليين ، أو الشّقاوة بالاشتغال بالشهوات ، وسلوك طريقة الشياطين في اعمال الحيل ، والخداع في تحصيل اسباب الالتذاذ ، والانهماك في شهوات هذه الدنيا الدنيّة وزخارفها بالكفر بالله ، وملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر وجحده ، والخلود الى الأرض حتى يلحق بحزب الشياطين ، في مهوى دركات السجين ، وكلّ حركاته الاختيارية ، مؤثرة في روحه ، وحقيقته ، وقلبه اثراً مقرباً له من الله الله ، ومن الروحانية ، او مبعداً حتى المباحات، وكلّ اثر يحصل في الرّوح والقلب بمنزلة قدم في السير الى الجنّة او النّار، فان كانت هذه الحركة ازيد الحركات المفروضة في هذا الان له في حصول القرب، والروحانية ، واسرع في الايصال ، فهو سير في اقرب الطرق، والا فبقدر نقص الحركة في حصول القرب ، وبطئه ، يكون الطريق بعيداً وبطئه ، يكون الطريق بعيداً ، ومن الحكمة الالهية انّه جعل لكلّ عمل مؤثر في القلب قرباً ، أو بعداً تأثيراً في التوفيق،

ص: 251

والخذلان ، فانّ عمل الخير يجعل القلب صالحاً ، ومستعداً لانتشاء اعمال الخير ويسمى ذلك توفيقاً وعمل الشر يجعله يستعد لانتشاء اعمال الشر ويسمّى خذلاناً ، وعند التوفيق يظهر غلبة الملائكة الموكلين لالهام الخير في القلب ، على الشياطين الموسوسة فيه بالشر ، وعند الخذلان يظهر غلبتهم على الملائكة ، فقلب المؤمن الملائكة ، فقلب المؤمن دائماً بين أصبعي الرّحمن، يقلبها على طبق اثرات اعمالها الماضية ، ويحصل من هذه التقلبات السّير ، امّا الى جنّة او نار ، فالسائر هو الرّوح الانساني، وسيره حركاته المائلة الى الخير ، أو الشر في نفسه، يضع قدمه على رأسه ، ورأسه على قدمه ، وحاصل سيره حصول الاوصاف الروحانية او الطبيعية ، واثر الحاصل حصول القرب ، أو البعد ، ثمّ انّ منشأ هذه الحركات المؤثرة في القلب، ايضاً صفات القلب السابقة على الحركات ، من مراتب المعرفة ، والعلم ، والكفر ، والجهل اللازمة لا لاوصاف الذاتية المقتضية لها ، وبعبارة اخرى الصفات التي اقتضتها ذات الانسان، وتعيّن لها بحكم الحكيم تعالى عند تعيّن انيته ، وايجاد ماهيته في الخارج ، فانّ لسان حال كلّ ماهية ، سائل من الجواد الحكيم ، ان يهب له ما يناسبها من الصفات ، وسؤال لسان الحال لا يرد ابداً ، وهذه الصفات الذاتية ، اقتضت صفات أخرى مؤثرة في اعمال الجوارح المؤثرة ايضاً في تقلب القلب ، وتأثيره بالأثرات النورية الروحية او الظلمانية الطبيعية ، وكلّ اعمال الجوارح انما يوجد بحكم الحكيم تعالى بواسطة ارادة العامل ، والاوصاف المؤثرة في ارادة الخير والشر ، وانّما هي مسألة انيته ، وما هيته عن الجواد الحكيم، أن يهبها له فهو باقتضاء ماهيّته سئل ربِّه ان يؤتيه توفيق سلوك طريق السعادة، والجنّة والقرب والزلفى، او خذلان سلوك طريق الشّقاء والنار والبعد ، وهذا احد وجوه قولهم: لا جبر ولا تفويض، بل امر بين الأمرين، وجه نسبة الخير الى الله والشر الى العبد ، ونسبة خلقهما معاً الى الله، واذا تمهدت هذه المقدّمات، تبين منها صحة اطلاق الصّراط على الصورة الانسانيّة،اي

ص: 252

صفاتها ، واطلاقه على الامام ، وعلى هداه ، وعلى الشريعة ، وعلى جسر جهنّم ، فانّ كلّها طريق الى الجنّة ، والى عالم النور والزلفى ، ثمّ انّ الطّريق المستقيم المطلق ، ليس الا لمن كان معارفه بالله، وباسمائه وصفاته ، وافعاله، وملائكته وكتبه ورسله وشرايعه ، حتى علم كلّ حركة وسكون مطابقاً لما في الواقع ، مما حكم به وبكمه وكيفه، حكمة الحكيم تعالى، واخلاقه كلّها معتدلة بين الافراط والتفريط، لا تميل عن الاعتدال مقدار ذرّة الى الطّرفين ، ومزاجه اعدل الأمزجة ، لانّ للمزاج ايضاً تأثيراً فى الافعال والأعمال، نظير تأثير الاخلاق فيها، ومع ذلك يساعده التوفيق والعصمة من الله ، حتى يكون سلوكه في اقرب الطرق حقيقة ، وانما شرطنا مع ما ذكر التوفيق والعصمة ، لان للحوادث الكونية ايضاً تأثيراً في ذلك ، وهو لا يستقيم الا بهما ، ولذلك أيد الله المعصومين بالرّوح القدس ، بل تولّى الله بلطفه رياضة قلوبهم بالخوف والرجاء ، كما اشير اليه في بعض الزيارات والطريق المستقيم لكلّ مكلّف هو اقرب ما يمكن له بلحاظ خصوص صفاته الذاتيّة من الطرق المؤدية الى مقام قربه الممكن له في حقه ، وهو ان يكون ج، وهو ان يكون جميع حركاته الاختيارية انفع له في مرتبته من ايصاله الى رضا ربه ، حتى أنه لو فرض ان اشتغاله بصلاة ليالي رجب، انفع له من اشتغاله بمطالعة الكتب العلمية ، او بالعكس ، او افطاره مع قوّة العبادات انفع له من صومه ، من جهة الضعف ، كان اقرب طرقه الانفع، بل ويمكن ان يكون في بعض الاحيان له ترك الأعمال الخيرية انفع ، كما ورد في ذلك ، انّ العبد قد يحرم ليلة اوليلتين من التهجد ، لئلا يدخله العجب ، بل وروى أنّه قد يبتلى باللّهم لحفظه من العجب الذي هو اخسر منه ، وبالجملة الصّراط المستقيم لكلّ نفس في كلّ يوم، بل في كل نفس وحركة وسكون ما يكون انفع له بالنسبة الى حاله الحاضر وما بعده في سلوك طريق الخير والسعادة ، فمن وفق لذلك: فهداية خاصة من الله تعالى والا فهذه العلوم الاكتسابية لا يحيط بجهات هذا المراد، ولعلّ لذلك

ص: 253

ورد أنه: ادق من الشّعر ، ولصعوبة العمل بعد الهداية ، وردانه احد من السّيف ، ثمّ انّ الّذي في رواية امير المؤمنين (علیه السلام) ان المراد في طلب الهداية في هذه السورة ، انما هو الثبات على الهداية السابقة ، واذا يمكن ان يكون المقصود من الصراط ، الايمان كما يشير اليه بعض الرّوايات ، أو يكون هذا المراد مختصاً به، وبامثاله من المعصومين فانّهم لا يتفاوت احوالهم في الهداية بانواعها ، وجهاتها ، فيكون مطلوبهم ، ومسئولهم ان يهديهم الله في اللاحق مثل ما يهديهم في السابق ، وهذا معنى الثّبات ، واما امثالنا فالمطلوب ان يزيدنا ربنا هدايتنا في الاتية على السالفة ، حتى نهتدي الى السير في حظائر القدس والسلوك في مقامات الانس بانطماس آثار العلايق الجسمانية والطبيعية ، وظهور انوار التجلّيات الالهيّة الجماليّة والجلاليّة ، وانكشاف الاسرار الغيبيّة.

هذا ولا يذهب عليك ، انّ كلّ جماد ونبات ، وحيوان ما لم يصل الى حدّ الانسان المكلّف ، انما سيره وحركته من اوّل تكوّنه بحركته الكميّة والكيفية ، بل الصور الجوهرية على صراط مستقيم ، بمعنى خروجه تدريجاً من القوّة الى الفعل، حتى ينتهي الى كماله اللايق بنوعه ، وشخصه في الفعليّات اللايقة به ، ان لم يمنعه مانع واما الانسان بعد الوصول الى اوان الاختيار المعتبر في التكليف ، فقد يخرج في سيره النفساني من القوى الى الفعليات اللايقة بنوع الانسان ، من دون تخلّل فعليّة مخالفة لنوعه ، بين تلك الفعليّات حتى يصل الى اقصى درجات المراتب من الفعلية اللايقة بالانسان الكامل ، وهذا نادر ، وهذا هو السائر في الصراط المستقيم الانساني والاغلب انما يخرج بع-د وج-ود الحركة الاختيارية فيه من القوى الى الفعليات ، مع تخلّل الفعليات الغير اللايقة ، فيكون سيره لا على الصراط المستقيم الانساني ، بل قد يكون سیره بسوء اختياره في الاعوجاج، بحيث ينتهي به الى اخس مراتب من

ص: 254

الفعليّات اللايقة للبهايم والسباع ، بل الشّياطين ، وقد يقف فيمسخ بصورته الفعلية التي هو عليها ، نعوذ بالله من خزى الدنيا والاخرة ، ثمّ انك سمعت في الاخبار ، انّ الصورة الانسانية هو الصراط المستقيم الى كلّ خير ، وذلك أنّ حركة الانسان نحو كمالاته التي فيها كل خير وسعادة ، انما هو بالحركة الكيفية والحركة الجوهرية ، فالطريق في ذلك هي مراتب الكيف والصور المتعاقبة على الجوهر الانساني من الملكات الشريفة ، وانوار المعارف الربانية ، فالسّالك جوهر الانسان ، والمقصد کماله ، والطريق تحصيل هذه الملكات ، وانوار المعارف والمعلوم ، ففي هذه الحركة يوجد الطريق بنفس السير، لا قبله ولا بعده ، ثمّ ان نور المعرفة عبارة عن ظهور مراتب النفس والروح، والعقل، فالنور بلحاظ طريق، وبلحاظ مقصد، وبلحاظ سالك ، ثمّ انّ حقيقة علي(علیه السلام) وحقيقة الائمة (علیهم السلام) من جهة أنّها نور الانوار ، واصل كل نور، وهو نور الله في العالمين، فهو في الحقيقة صراط الله المستقيم، بلا تجوز، وهو وجه الله الذي اليه يتوجّه الاولياء وهو جنب الله الّذي اليه مصير العباد ، كما في الزيارة الجامعة واياب الخلق اليكم .

صراط الذين انعمت عليهم هذا تفصيل للمراد من الصراط المستقيم وهم شيعة امير المؤمنين من الامة وصراطهم بعينه اخلاقهم واوصافهم واعمالهم التي اشار الى جملتها هو (علیه السلام) حين سئله الهمام عن ذلك ، فقال : هم العارفون بالله، العاملون بامر الله ، اهل الفضائل ، الناطقون بالصّواب مأكلهم القوت وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع ، ثمّ انّ وصف الصراط المستقيم بذلك، يمكن ان يكون للارشاد الى حقيقته الذي هو عبارة عمّا بين الافراط والتفريط في حق الولي وما بين الغالي والقالي ، والاقتصاد في الاخلاق او في حق الغير لدفع توهم ان یراد به صراط کلّ نفس الى كماله اللايق بشخصه الذي يقتضيه ذاته ولوازم ذاته بحكم اقتضاء اسماء الله تعالى له ، مثلاً الصِّراط المستقيم

ص: 255

ليس من جهة ماهيّته وصفاته الذاتية وما يوصله إلى اسفل الدركات فكانّه يقول: اهدنا الصراط المستقيم الذي استقامته واقعية ، موصلة الى رضاك وجوارك ، وهو صراط الذین انعمت عليهم ، من شيعة امير المؤمنين ، لا الى صراطي الذي استقامته موصلة الى ما يقتضيه ذاتي وصفاتي ، وبعبارة اخرى اهدني الى الصراط الذي يقتضيه فضلك ، وانعامك لا الى ما يقتضيه عدلك ، وهو صراط الذين انعمت عليهم بولاية امير المؤمنين.

غير المغضوب عليهم من الضالين والمنكرين.

(ولا الضالين) فيه بالغلو ، ثمّ ان تغيير الاسلوب في غير المغضوب عليهم ولا الضالين، مع ما قبلها حيث، قال في الأوّل: الذين انعمت لعله للاشارة الى عليهم، ولم يقل في الثاني : غير الذين غضبت عليهم انّ النعمة نسبتها اليه تعالى اصلي ابتدائي والغضب تبعي من جهة اقتضاء صفات العبد ذلك ، كما اليه الاشارة في قوله تعالى : ما اصابك من حسنة فمن الله ، وما اصابك من سيّئة فمن نفسك . هذا، وفي ثواب الاعمال باسناده عن ابي عبدالله(علیه السلام) انّه قال: اسم الله الاعظم ، يقطع في ام الكتاب. عن العياشي عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) انّ امّ الكتاب افضل سورة انزلها الله في كتابه ، وهي شفاء من كل داء الا السّام اي الموت.

اقول: اطلاق امّ الكتاب لعلّه لاشتماله لكلّ ما في الكتاب ، كما ورد التصريح ، به فيما روى عن امير المؤمنين(علیه السلام) انه قال: كلّ ما في القرآن في الحمد ، وكلّ ما في الحمد في البسملة، وكلّ ما في البسملة في الباء ، وكلّ ما في الباء في النقطة ، وانا النقطة تحت الباء. وروي ايضاً بالباء ظهر الوجود، وبالنقطة تميز العابد من المعبود.

اقول: مقام العبوديّة المطلقة ، مقام الولاية ، لانه درجة الفقر

ص: 256

المطلق وبعدها مقام الالوهيّة .

كما روي عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) الفقر فخري ، ولعله المراد من قول القائل: اذا تم الفقر، فهو الله، بلحاظ دلالة الفاء على التعقيب ، بل لعله المراد من قول الصادق(علیه السلام) في مصباح الشريعة : العبودية جوهرة كنهها الربوبية .

وهذا كله من شؤون ما ذكرناه سابقاً عند ذكرنا لهذا الخبرانه يعرف من بعض الاخبار: ان الله تعالى خلق عالم الحروف في قبال ساير العوالم ، فالالف كما في بعضها للاشارة الى مقام الالوهية ، والباء اشارة الى مرتبة المخلوق الأوّل ، والنقطة اشارة الى جهة انيته وماهيته.

وعن العيون عن الصادق(علیه السلام) عن آبائه عن امير المؤمنين (علیه السلام) ،

قال: لقد سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) يقول : قال الله عزّ وجل: فاتحة الكتاب بيني ، وبين عبدي فنصفها لي ، ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل اذا قال العبد ، بسم الله الرّحمن الرّحيم، قال جل جلاله : بدء عبدي ، باسمي وحق عليّ ان اتمّم اموره ، وابارك له في احواله ، واذا قال: الحمد لله ربّ العالمين ، قال جلّ جلاله : حمدني عبدي ، وعلم أنّ النعم التي له من عندي ، وانّ البلايا التي اندفعت عنه فبتطوّلي اشهدكم اني اضيف له الى نعم الدنيا نعم الآخرة ، وأدفع عنه بلايا الآخرة ، كما دفعت عنه بلايا الدنيا وإذا قال : الرّحمن الرحيم قال جلَّ جلاله: شهد بأنّي الرَّحمن الرّحيم اشهدكم لأوفرن من نعمتي حظه ولأجزلنَّ من عطائي نصيبه ، فاذا قال : مالك يوم الدين: قال الله تعالى: اشهدكم كما اعترف باني الملك يوم الدين لاسهلنّ يوم الحساب حسابه، ولاقبلنّ حسناته، ولاجاوزن عن سيئاته فاذا قال العبد: اياك نعبد، قال الله: صدق عبدي اياي يعبد، اشهدكم

ص: 257

لاثيبنّه على عبادته ثواباً يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي ، فاذا قال: واياك نستعين، قال الله تعالى: بي استعان ، والي التجأ ، اشهدكم لا عينته على امره، ولاغيثته في شدايده ولاغيثته في شدايده، ولآخذن بيده يوم نوائبه ، فاذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، الى آخر السورة ، قال الله : هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل ، فقد استجبت لعبدي ، واعطيته ما امل وامنته ممّا منه وجل .

اقول: سبحانه من كريم، ما اكرمه، این الغافلون ، اين العالمون ، ليقدروا موقع هذا الكرم ، ويوحدّوه سبحانه في هذه الجهة من عطية كرمه ايضا ، كما وحدوه في ساير صفاته العليا ، ويحكموا عقولهم فيما يجب عليهم في شكر هذه الكرامة العظمى ، ويعترفوا بأنهم لو صرفوا تمام عمرهم في شكرها لما ادّوا شيئاً من حقه الواجب ، كيف والهنا جلّ جلاله من لطفه وعنايته اوجب لعبيده هؤلاء الاذلاء ، الصلوة ، واذن لهم في ذكره وعبادته ، وجعل عبادتهم سبباً لمغفرة ذنوبهم ، واصلاح عيوبهم، وترقياتهم الى الدرجات العلى ، وشرفهم في تكليفهم بالصلوة ، بهذا التشريف ، ثمّ يرضى لهم ان يناجوه في صلوتهم ، ويترك جوابهم ، ويقنع بجزائهم عن جوابهم، بل ولا يرضى جوابهم بمقدار سؤالهم، ويزيد في اكرامهم بالجواب عن المساوات.

وفي بعض الأخبار ان الله تبارك وتعالى يقول بعد القرائة: انّ له بكلّ حرف درجة من فلان وفلان ، يعد الجواهر ، ودرجة من نوري على ما ببالي من لفظ الخبر.

قل هو الله احد عن الباقر(علیه السلام): قل، اي(1) اظهر ما اوحينا اليك، وبعثناك به بتأليف الحروف التي قرأناها لك ، ليهتدي بها من القى السمع وهو شهيد ، وهو اسم

ص: 258


1- رواه في تفسير البرهان.

مكنّى مشاربه الى الغايب ، فالهاء تنبيه على معنى ثابت ، والواو إشارة الى الغائب عن الحواس الخ ) .

اقول: لفظة : هو اسم للذات في مرتبة غيب الغيوب ، ولفظة الجلالة ايضاً اسم للذات ، ولكن من حيث جامعيته لجميع الصفات الكمالية .

الاحد: اي الفرد المتفرّد الذي، لا ينبعث من شيء، اي احدي المعنى ، لا ينقسم في عقل، ولا وهم، ولا وجود الله الصمد: اي السّيّد المصمود اليه، والذي لا جوف له ، والذي لا يأكل ولا يشرب ، والذي لا ينام ، والدائم الذي لم يزل ولا يزال ، والفرد بالهيّته ، المتعالي عن صفات الخلق. وعن الصادق (علیه السلام) ، عن ابيه أنّه كتب اهل البصرة الى الحسين (علیه السلام) ابن علي (علیه السلام) ، يسئلونه عن الصمد ، فقال: كتب اليهم : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، امّا بعد فلا تخوضوا في القرآن ولا تجادلوا فيه ولا تتكلّموا فيه بغير علم فقد سمعت جدي رسول الله (ص) يقول من قال في القرآن بغير علم ، فليتبو مقعده فليتبو مقعده من النار ، وان الله فسّر الصّمد ، فقال : قل هو الله احد ، الله الصمد ، ثمّ فسّره ، فقال : لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا احد.

لم يلد: لم يخرج منه شيء كثيف كالولد ، وساير الاشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنفس ، ولا تنشعب منه البدوات كالسنة والنّوم، والخطرة ، والهم والحزن ، والضحك . والبكاء ، والخوف ، والرّجاء ، والرغبة ، والسامة ، والجوع ، والشّبع تعالى عن ان يخرج منه شيء ، وان يتولّد منه شيء ، كثيف او لطيف

ولم يولد : لم يتولّد من شيء ، ولم يخرج من شيء كما يخرج الاشياء ، الكثيفة من عناصرها ، كالشيء من الشيء ، والدّابّة من

ص: 259

الدّابّة ، والنّبات من الأرض ، والماء من الينابيع ، والثّمار من الاشجار ولا كما يخرج الاشياء اللطيفة من مراكزها ، كالبصر من العين ، والسّمع من الاذن ، والسم من الانف ، والذوق من الفم ، والكلام من اللسان والمعرفة والتمييز من القلب ، وكالنّار من الحجر ، لا بل هو لا بل هو الله الصمد الذي لا من شيء ، ولا في شيء ، ولا على شيء ، مبدع الاشياء ، وخالقها ، ومنشىء الأشياء بقدرته ، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيته ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه ، فذالكم الله الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.

ولم يكن له كفوا احد) عن الصادق(علیه السلام) أنه ورد وفد من فلسطين على الباقر(علیه السلام) ، فسئلوه عن مسائل ، فاجابهم ، ثم سئلوه عن تفسير الصمد: فقال: في الصمد خمسة احرف فالالف دليل على انيته، وهو قوله : شهد الله انه لا اله الا هو ، وذلك تنبيه واشارة الى الغائب عن درك الحواس. واللام دليل على الهيته ، بأنه هو الله ، والالف واللام يدغمان ، ولا يظهران على الحواس ، ولا يقعان في السمع ، ويظهران في الكتابة ، دليلان على انّ الهيته بلطفه ، خافية لا تدرك بالحواس ، ولا يقع في لسان واصف ، ولا في اذن سامع لانّ تفسير الاله ، هو الذي اله الخلق عن درك ماهيته، وكيفيته بحس او بوهم، لا بل هو مبدع الاوهام ، وخالق الحواس ، وانما يظهر ذلك عند الكتابة ، فهو دليل على ان الله أظهر ربوبيته في ابداع الخلق ، وتركيب ارواحهم اللطيفة في اجسادهم الكثيفة ، ، فاذا نظر العبد إلى نفسه ، لم ير روحه ، كما ان لام الصمد لا يتبين، ولا يدخل في حاسة من حواسه الخمس ، فاذا نظر الى الكتابة ظهر له ما خفى ، ولطف فمتى تفكّر العبد في ماهية الباري ، وكيفيته، اله فيه ، وتحير ، ولم تحط فكرته بشيء يتصوّر له لانه عزّ وجلّ خالق

ص: 260

الصور، فاذا نظر الى خلقه ثبت له انه خالقهم ، ومركب ارواحهم في اجسادهم.

واما الصّاد: فدليل على انه عزّ وجل صادق ، وقوله صدق وكلامه صدق ودعى عباده على اتباع الصدق بالصدق، ووعد بالصدق دار الصدق.

واما الميم: فدليل على دوام ملكه، وأنّه عزّ وجلّ دائم تعالى عن الكون والزّوال، بل هو عزّ وجلّ مكوّن الكائنات الذي كان بتكوينه كائن.

ثم قال (علیه السلام) قال: لو وجدت لعلمي الذي اتاني الله عزّ وجلّ حملة ، لنشرت التوحيد والاسلام والايمان ، والدين والشّرايع من الصمد، وكيف لي بذلك ، ولم يجد جدي امير المؤمنين عليه السّلام حملة لعلمه ، حتى كان يتنفّس الصعداء ، ويقول، على المنبر: سلوني قبل ان تفقدوني فانّ بين الجوانح مني لعلماً جماً آه آه ، الا لا أجد من يحمله، واني عليكم من الله الحجّة البالغة.

اقول: هذه جملة ما تيسر لي الى الان من اخبارهم في تفسير السورة ، ولعلّ ما لم اذكر أزيد مما ذكرت ولكن في ذلك كفاية لمن عقل ، وتفكّر فيها بنور من الله، فلفظة هو اشارة الى مرتبة غيث الغيوب، ولفظة الله الى مرتبة ظهور الاسماء اجمالا ، ولفظة الاحد الى تفرّده ، واصالته ، وان مبدئيّته للاشياء ليس كمبدئية ساير الاشياء بعضها البعض، وان الوجود الحقيقي مختص به، والاشياء كلّها قائمة بقيوميته وقدرته وليست احاطته للأشياء كاحاطة بعضها ببعض، حتى العقل بالمعقولات ، فانّ احاطة كلّ منها الى غيره يشبه باحاطة المجوّف لما في جوفه الا الله المحيط الصمد الذي، لم يلد ، ولم يولد ولم يكن له كفواً احد، هذا.

والأخبار في فضلها ، وفضل قرائتها كثيرة .

ص: 261

وفيها ، أن من قرئها ثلاث مرات، فكانه قرء القرآن كله .

وفيها انّ من مضت عليه جمعة، ولم يقرء بقل هو الله احد، ثمّ مات مات على دين ابي لهب.

وفيها : ان من اصابه مرض، او شدّة فلم يقرء في مرضه او شدّته الله احد، ثم مات في مرضه وفي تلك الشدّة التي نزلت به فهو من اهل النار.

وفيها أنّه جاء رجل الى النبيّ(صلی الله علیه وآله وسلم) فشكي اليه الفقر ، وضيق المعاش فقال له رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) اذا دخلت بيتك فسلّم ان كان فيه احد ، وان لم يكن فيه احد فسلّم ، واقرء قل هو الله احد مرّة واحدة ، ففعل الرّجل فافاض الله عليه رزقا ، حتى افاض على جيرانه.

وفيها أنّ من يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدع ان يقرء في دبر الفريضة بقل هو الله احد، فانّه من قرئها جمع له خير له خير الدنيا والاخرة وغفر الله له ، ولوالديه وما ولدا.

اقول:اجمال ما دلّت عليه هذه الاخبار من معاني الفاظ هذه السورة،ان هو اشارة الى الذات الغائبة عن الحواس والاوهام، والله اي المعبود المفزع الذي تحير الخلق عن درك ماهيته.

الاحد اي الفرد الحقيقي الواقعي معنى وخارجاً، الاحدي المعنى لا ينقسم في وهم، ولا عقل ولا وجود، الصمد اي السيد المصمود الذي لا جوف له، والذي لم يخرج من شيء، ولا يخرج منه شيء منشىء الاشياء،وخالقها.

ولم يكن له كفوا احد، هذا كفى للقرائة.

واما تكبير الركوع ، ولعلّ المناسب ان يقصد به تكبيره تعالى من تجويز ان يقدر احد ان يقوم بعبادته ، ويكون قصده من رفع اليد ايضاً ،

ص: 262

التبرّي من هذا الاعتقاد، فينحط عن حال القيام للرّكوع ، والتواضع عن قوته وقدرته ، وارادته ويتأدب الله بهذا الخضوع ، ويذكر ذكر الركوع ، ويريد من تسبيحه تنزيه ربه عن الشريك في الارادة.

ثم ان تسبيحه تعالى أنما هو قضية صفاته الجلالية السلبية وأصل صفاته الجلالية السلبية راجع الى سلب ،الحدود، وسلب الحدود راجع الى سلب السّلوب، ومصداق سلب السّلوب فيه تعالى ليس الا سعة الوجود، هذا بخلاف تنزيه الممكنات ، فإنّ السّلوب الرّاجعة اليها ، انما هو بسلب الوجودات التي هي منتزعة من حدود وجوداتها ، لا من وجوداتها ، فتسبيحه تعالى ، انما هو بما يحمد به ، فلذلك يقرن تسبيحه في الاغلب بحمده ، كما في تسبيح الركوع والسجود ، ومن ذلك قوله تعالى: فسبح بحمد ربك هذا وحقيقة تنزيهه تعالى ان يعتقد العبد بسلب النقائص بجميع وجوهها عن الله جلّ جلاله ، بقلبه ويعمل بمقتضى ذلك بجوارحه ، وهو يقتضي كمال اغلب الصفات الحسنة في العبد ، من الاخلاص ، والصدّق ، والتوكل ، والتسليم ، والرّضا، والتوحيد ، لان العبد اذا اعتقد كماله

تعالى من جميع الوجوه ، لابدّ ان يعتقد كمال قدرته ، وعنايته وعلمه وتوحيده تعالى في ذلك كلّه ، فلا مناص له الّا من هذه الصفات المذكورة، لأنّه ان لم يعتقد الضّر والنفع من غيره، لا يراقبه في اعماله ، وافعاله ابداً ، وذلك يتم به الاخلاص ، والصدق ، واذا عرف علمه تعالى بصلاح نفسه وكمال عنايته في حقه وقدرته الكاملة على اصلاحه ، يتم له الثلاثة الاخيرة ، واذا اعتقد كمال-ه من حيث انتفاء الشريك ، ومن حيث انتفاء الانقسام والتجزية في الوهم ، والعقل والوجود لتمّ له التوحيد بمعنييه اللذين ، يجوزان عليه تعالى ، كما وجد في كلام امير المؤمنين ، وسيّد الموحدين(علیه السلام) في تفسير الوحدة ، التي تجوز على الله ، واجماله ان ما يليق ان يراد من معنى الواحد عليه تعالى ، اثنان .

ص: 263

احدهما انه لا شريك له.

وثانيهما أنّه احديّ المعنى ، وكلا المعنيين قضية سلب النقايص الَّتِي هي، اضداد الكمال ، فحال التسبيح في العبد، ان يكون قلبه معتقداً في ربّه الكمال من جميع الوجوه، ويكون جميع حركاته وسكناته ناشئة من هذه المعرفة ، هذا في التسبيح الكامل المطلق ، واما التسبيح المقيد، فهو ايضاً بحسب القيود، مثلا التسبيح الركوعي يشبه ان يكون تنزيهاً من نقص الشركة في الحول ، والقوة والارادة ، كما يشعر بذلك :

ما في مصباح الشريعة ، قال الصادق (علیه السلام) لا يركع عبد الله تعالى ركوعاً على الحقيقة ، الا زيّنه الله بنور بهائه واظله في ظلال كبريائه ، وكساه كسوة اصفيائه ، والركوع اوّل والسجود ثان ، ومن اتى بالأوّل صلح للثاني ، وفي الركوع ادب، وفي السجود قرب، ومن لا يحسن الادب لا يصلح للقرب ، فاركع ركوع خاضع الله عزّ وجلّ بقلبه ، متذلّل وجل تحت سلطانه ، خافض لله بجوارحه ، خفض خائف حزين على ما يفوته من فوائد الراكعين

وحكي ان ربيع بن خثيم كان يسهر بالليل الى الفجر في ركوع واحد ، فاذا اصبح يزفر ، فيقول : اوه سبق المخلصون ، وقطع بنا ، واستوف ركوعك باستواء ظهرك ، وانحط عن همتك في القيام بخدمته ، الا بعونه وفرّ بالقلب عن وسوسة الشيطان ، وخدايعه ومكايده ، فانّ الله رفع عباده بقدر تواضعهم له ، ويهديهم الى اصول التواضع ، والخضوع والخشوع بقدر اطلاع عظمته على سرايرهم - انتهى

اقول : تأمل في هذه الكلمات، وتحقق بما فيها يكفيك في هذا المقام فان تأملت في قوله الركوع اوّل ، والسّجود ثان ، وفي الركوع ادب، وفي السجود قرب، عرفت وجه ما ذكرته من الاستشعار، فانّ التبري عن الحول والقوة والتوكل والتسليم، التي هي قضية التنزيه عن الشريك في الحول والقوة والارادة من الادب ومقام الفناء الذي لازمه.

ص: 264

القرب ، الّذي هو عبارة عن التنزيه السّجودي من القرب ، وايضاً قوله : وانحط عن همتك في القيام بخدمته الا بعونه ، كالصريح في ان المراد من الركوع هو الاشارة بالتبري عمّا ذكر ، وتنزيه الرب عن الشريك فيها، وايضاً الجزاء الذي ذكر اولا لمن اتى بحقيقة الركوع ، انّما يناسب ما ذكرنا من التبري ، لأنّه المناسب بنور البهاء، والاستظلال في ظلال الكبرياء.

وبالجملة فمن كان مراعياً للاسباب وناظراً في الامور بتدبيره وحوله وقوته، ومعتمداً عليها فهو لم يركع بحقيقة الركوع ، ولم ينزه الله بتنزيه الركوعي ، وان اطال الركوع وسبّح مائة مرّة.

وبالجملة حقيقة الركوع وروحه ان يكون قلب العبد على صفة التوكل وعمله عمل المتوكلين ، ولا يرى مدبرا ، بل ولا فاعلا بالاستقلال الا الله، ويتبرّى عن الحول والقوّة ، ويكون كسبه وتشبثه للاسباب من جهة الامر ، ولا يمكن لمثل هذا ان يكون في كسبه حريصاً، ولا اخذاً للحرام ولا الشبهات بل ولا يمسك ولا ينفق الا لله ، وبامر الله،بل يكون الانفاق والامساك عنده على السواء، بل ويسوى عنده الوجود والعدم، والفقر والغنا، وعند ذلك يتولّى الله تدبير اموراته بنفسه ، ولا يكله الى غيره.

واما القيام عن الركوع فليكن النية فيه الارتفاع بالله على اعدائه بعد التواضع له. وبرفع اليد لتكبيره التبرّي عن التواضع لاعدائه ثم انه يستحب الاستيفاء بالركوع باستواء الظهر ، وان يمدّ عنقه ، ناوياً باني آمنت لك وان ضربت عنقي ، ثمّ برفع راسك راجيا لقبول خضوعك ، وتسبيحك وحمدك ، وناوياً الارتفاع على اعدائه بحوله وقوته ، ومؤكداً لرجائك بقول سمع الله لمن حمده، اي أجاب الله لمن حمده، من دفاً ذلك بالحمد

ص: 265

والشكر بقول الحمد لله ربّ العالمين ، ثمَّ تزيد في الخشوع والتذلّل الى ربِّك بعد الارتفاع على اعدائه بقول اهل الكبرياء والعظمة ، والجود والجبروت ، كانك بعدما قمت للعبودية ، اقتضى ذلك ، ان تتبرى من حولك وقوتك ، في القيام بعبوديته بالركوع ، وتنزّهه تعالى عن الشريك في الحول والقوة ، واقتضى ذلك ان تظهر أنّك مع ذلك ترتفع على اعدائه ، واعداء اولیائه بحوله وقوته ، واقتضى ذلك ايضاً ان تذكر بعد الارتفاع ذلك ، وكبريائه وعظمته في ذلك الارتفاع ، فيتم لك آداب العبوديّة علماً وعملاً ، ثم تترقى عن رؤية اداء حق ادب العبودية ، فتشرف بمقام القرب ، فكبر ربك عن الشّريك ، فكأنّه اذا حصل لك القرب، تجلّى لك انوار جمال الاحدية، واضمحلت عنده وجودات جميع الخلايق ، فكبّرت ربّك عن ان يكون له شريك في الكمال وخررت ساجداً لعظمته، محتجبا عن جميع الاشياء ، ومنزّها له عن كلّ ما يتوهم من النّقايص المضادّة للكمال ، حتى الشريك في الوجود الحقيقي ، فكانك لا ترى في الوجود الا الله ، وان وجودات جميع الممكنات كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وترى ان وجود العالم وجود العالم كانه وجود خيالي ، والوجود الحقيقي العيني الخارجي هو وجوده تعالى،بل ولا تلتفت الى غيره ابدا.

في مصباح الشّريعة قال الصادق (علیه السلام): ما خسر والله تعالى قط من اتى بحقيقة السجود ، ولو كان في العمر مرّة واحدة ، وما افلح من خلا بربه في مثل ذلك الحال تشبهاً بمخادع نفسه ، غافل لاه عن ما اعد الله للساجدين ، من البشر ( الانس خ ل » العاجل ، وراحة الاجل ، ولا بعد عن الله ابداً من احسن تق-رب-ه في السجود ولا قرب اليه أبداً من اساء ادبه ، وضيّع حرمته بتعلق قلبه بسواه في حال سجوده، فاسجد سجود متواضع لله ، ذليل علم انه خلق من تراب يطؤه الخلق ، وانه ركب من نطفة يستقذرها كلّ احد، وقد جعل الله معنى السجود سبب التقرب اليه

ص: 266

بالقلب، والسّر والرّوح ، فمن قرب منه بعد عن غيره ، الا ترى في الظاهر، أنّه لا يستوي حال السجود ، الا بالتواري عن جميع الاشياء ، والاحتجاب عن كل ما تراه العيون ، كذلك أمر الباطن، فمن كان قلبه متعلّقا في صلوته بشيء دون الله فهو قريب من ذلك الشيء ، بعيد عن حقيقة ما اراد الله منه في صلوته ، قال الله : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، وقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : لا اطلع على قلب عبدي ، فاعلم فيه حبّ الاخلاص لطاعتي لوجهي ، وابتغاء مرضاتي ، الا تولّيت تقويمه ، وسياسته وتقربت منه ، ومن اشتغل في صلوته بغيري ، فهو من المستهزئين بنفسه ، مكتوب اسمه في ديوان الخاسرين انتهى.

اقول: تأمل في الفاظ الرّواية ، لعلك تجدها دالّة على ما ذكرنا من معنى حقيقة السجود ، فانّ المعنى الذي من اتى به ، ولو في عمره مرة واحدة لم يخسر ، لا يناسب الا بما ذكرنا كما يشير اليه قوله من انس العاجل، والانس لا يكون الا بتجلّي المطلوب ووصاله ، وكذا قوله: خلا بربّه، وكذا قوله: وقد جعل الله معنى السجود سبب التقرب اليه بالقلب ، والسرّ والروح وليس في غير ما ذكرنا من المعنى هذه الخاصة فان التقرّب بالسرّ والرّوح ، لا يكون الا بما ذكرنا ، وان كان ظاهر قوله: ممن كان قلبه متعلّقا في صلوته بشي دون الله ، فهو قريب بذلك الشيء اه - ، ان المراد حضور القلب الذي يلزم في جميع احوال الصلوة ، من افعالها واقوالها ولكن الذي يعطيه حق التأمّل ، انّ هذا الذي ذكر اخيراً ، كانه صيغ لبيان امر عام لجميع اجزاء الصلوة ، وهو الحضور ، وذلك ايضاً يقتضي ان يكون حال السجود كما ذكرنا ، لأنّ حضور القلب في القيام مثلا يقتضي الالتفات الى مقام العبودية والربوبية، وفي الركوع يقتضي الالتفات الى الغير، والى ان الحول والقوة الحقيقية منفيّة عنهم، والحضور المناسب للسجود، هو بالغناء عن الكلّ، والحضور عند الرّبّ تعالى ، وهذا عين ما ذكرنا من المعنى.

ص: 267

وبالجملة التواري، والاحتجاب عن الكلّ بالبدن بهيئة السّجود الظاهريّة، والتواري بالقلب والسر والرّوح ، لا يكون الا بما ذكرنا.

هذا ولا يذهب عليك ، ما في الرّواية الاخيرة ، من وعد الله لمحبّ الاخلاص ، فضلا عن المخلصين ، وان كنت تعجز عن نفس الاخلاص ، فاحذر لا محالة عن التواني من حبّ الاخلاص ، فتحرم من كرامة تولّى الله جل جلاله تدبیر امورك ، فتكون في صلوتك من المستهزئين بنفسك ، وتلحق بالخاسرين.

ثمّ انّ السّجود من افضل الاعمال البدنية واجابها للنور. كما روي عن الصادق (علیه السلام) : وجدت النور في البكاء والسجدة وروي ايضاً أنّه اقرب حالات العبد إلى الله ، لا سيما اذا كان جايعاً وباكيا.

وورد فيه فضايل جمّة.

منها أنّه سئل جماعة عن رسول الله (صلی الله علیه واله وسلم) ان يضمن لهم على ربِّه الجنّه ، فقال : على ان تعينوني بطول السجود ، قالوا : نعم فضمن لهم الجنة.

ومنها ما روي ، أنّه قيل للصادق(علیه السلام) لم اتخذ الله ابراهيم خليلا، قال: لكثرة سجوده على الأرض. وروي ايضاً في الصحيح ، انّ العبد اذا صلّى ثم سجد سجدة الشكر ، فتح الرّب تعالى الحجاب بين العبد ، وبين الملائكة ، فيقول : يا ملائكتي انظروا الى عبدي ، أدى فريضتي ، واتم عهدي ، ثم سجد، لي شكراً على ما انعمت به عليه ، ملائكتي ماذا له قال : فيقول الملائكة: يا ربّنا رحمتك ، ثم يقول الرب تبارك وتعالى: ثم ماذا ؟ فيقول الملائكة كفاية مهماته ، فيقول الرّب ثم ماذا ؟ قال : فلا يبقى من

ص: 268

الخير شيء الا قالته الملائكة ، فيقول الله تبارك وتعالى : ثم ماذا ؟ فيقول الملائكة : يا ربّنا لا علم لنا ، قال : فيقول الله تبارك وتعالى اشكر له كما شكر لي ، واقبل اليه واريه وجهي.

اقول: في هذه الرّواية كفاية لمن كان له قلب ، او القى السمع وهو شهيد.

اقول: روي عن اصحاب الائمة من طول السجود ، امر عظيم هنيئاً لهم، ولمن تبعهم.

مثل ما روي عن الكشي انه وجد في كتاب ابي عبدالله الشّاذاني، بخظّه سمعت ابا محمد الفضل بن شاذان يقول : دخلت العراق فرأيت واحدا يعاتب صاحبه، ويقول له: انت رجل عليك عيال، تحتاج ان تكتسب عليهم ، وما آمن ان يذهب عيناك من طول السجود، قال: فلما اكثر عليه، قال: اكثرت عليّ ويحك لو ذهب عين احد من طول السجود ، لذهبت عين ابن أبي عمير، ما ظنك برجل سجد سجدة الشكر بعد صلاة الفجر ، فما رفع رأسه الا عند الزوال.

وروي ايضاً عنه.

قال: وذكر ابو القاسم نضر بن الصباح عن الفضل بن قال: دخلت على محمد بن ابي عمير ، وهو ساجد فاطال السجود فلما رفع رأسه ، وذكر له طول سجوده ، قال: كيف لو رأيت جميل بن دراج ، ثم حدثه انه دخل على جميل بن درّاج فوجده ساجداً فاطال السجود جدا، فلما رفع رأسه، قال له محمد بن ابي عمير : اطلت السجود ، فقال : كيف لو رأيت معروف بن خرّبوز.

هذا وطول سجود السجّاد ، والكاظم معروف. اقول: كان لي شيخ جليل عامل عارف كامل قدس الله تربته، ما

ص: 269

رايت له نظيراً في المراتب المذكورة ، سئلته عن عمل مجرب يؤثر في اصلاح القلب، وجلب المعارف ، فقال قدّس سرّه العزيز ، ما رأيت عملا مؤثراً في ذلك مثل المداومة على سجدة طويلة في كلّ يوم وليلة مرّة واحدة ، يقال فيها: لا إله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين ، يقول : وهو يرى نفسه مسجونة في سجن الطبيعة ، ومقيدة بقيود الاخلاق الرذيلة ، مقرّاً بانّك لم تفعل ذلك بي ، ولم تظلمني ، وانا الّذي ظلمت نفسي واوقعتها في هذا الحال ، وقرائة سورة القدر في ليلة الجمعة ، وفي عصرها مائة مرّة ، وكان اصحابه عاملين بذلك ، كلّ منهم على حسب مجاهدته.

وسمع عن بعضهم، أنّه كان يقوله : ثلاثة الاف مرّة .

وبالجملة هذه السّجدة ، وبركاتها معروفة عند العاملين بها ، ولكن بشرط المداومة وكيف كان سئل امير المؤمنين(علیه السلام) عن معنى السجدة الأولى ، قال : تأويلها اللهم انك منها خلقتنا ، يعني من الأرض ، وتأويل رفع رأسك ، ومنها اخرجتنا ، والسجدة الثانية ، واليها تعيدنا ، ورفع راسك ، ومنها تخرجنا تارة اخرى.

اقول : والذي يفهم من تفسير الامام ، ان النية من رفع الرأس في السجدة الأولى ، قصد الارتفاع على اعداء الله ، واعداء اوليائه ويمكن الجمع، بانّ الأوّل اشارة الى مطلق الخروج الى الدنيا والثاني اشارة الى حكمه ، وهو الايمان بالله ، وباوليائه، ثمّ انّ السّجود من جهة أنّه صورة مقام الفناء ، الذي هو اقصى درجات الاستكانة ، ولذا ناسب ان يوضع فيه اعزّ الاعضاء على ارذل الأشياء ، ووجب ان يذكر الله عند تسبيحه باسمه الاعلى ، فاذا اتى العبد بذلك ، فرق قلبه ، وطهر لبه بردّ الفرع على اصله ، ووضع نفسه موضعه ، شملته العناية الربانية لانّ عنايته تتسارع الى مواضع الذل

ص: 270

ومراكز الاضطرار ، واي ذل اذلّ من مقام الفناء ، واي اضطرار اشدّ من اضطرار وجه العبودية ، ثم انه اذا اتم سنن العبودية بالفناء عن نفسه ، ثمّ الارتفاع بربّه ، كبر وسأل ربه مغفرة ذنوبه ، وتقصيره وقصوره في درجات احوال الارتفاع ، فانّه غامض علماً وعملا ، لكونه موافقاً لهوى النفس، ثم يؤكّد ذلّه بعد الارتفاع بالسّجدة الثانية ، وتسبيح ربه الأعلى بحمده ، فكانه اتم اتم فنائه عن نفسه ، بالفناء عن جميع آثاره ، فاستحق بذلك اقصى مقامات العبودية ، ومقام الشهود ، والبقاء الابدي ، فيرفع رأسه ، تأدباً للقيام بالعبودية ، والبقاء بالله في مقام الشهود ، فيتشهد فيه بالتوحيد . ويقرنه بالشهادة بالرّسالة ، فيصلي على النبي وآله ، شكر النعمة هدايتهم بذلك المقام الاسنى ، أو يقصد بها التحية بحضار مجلس الحضرة ، فيخصّ بها مقر بي ملك الحضرة.

ثمّ يقوم للرّكعة الثانية ، ويزيد فيها القنوت بعد السورة ، ويطيل في-ه جدا ، ويختار من الدعوات الواردة فيه ، وفي غيره الزمها واجلها ، وما يؤثر في رقة القلب، ويراعي في ذلك شرائط الدعاء ما يمكنه ، فمن اطال قنوته ، واحسن دعائه فيه ، فقد احرز حظه من كل السعادات ، فانّ الدّعاء من اوسع ابواب الرّحمة ، وهو طريق مستقل قبال طرق الخير كلها الى جميع السّعادات، وانا اخترت لقنوت الصبح والمغرب دعوات من ادعية ائمتنا (علیه السلام) ، ولو في غير القنوت ، ولا بأس به.

واذا جلست للتشهد بعد هذه الافعال الدقيقة ، والاسرار العميقة المشتملة على الاخطار الجسيمة ، فاستشعر الخوف التام ، والرهبة والحياء ، والوجل، من ان يكون جميع ما سلف منك غير واقع على وجهه ، فاجعل يدك صفراً من فوائدها ، الا ان يتدارك الله برحمته، ويقبل عملك الناقص بفضله ، وارجع الى مبدء الامر ، واصل الدين واستمسك بكلمة التوحيد ، وحصن الله الذي من دخله كان آمناً ، ان لم يكن حصل في يدك غيره ، واشهد له بالوحدانية ، واحضر رسوله

ص: 271

الكريم ، ونبيّه العظيم ببالك ، واشهد له بالعبودية ، والرسالة ، وصلّ عليه وعلى آله مجدداً عهد الله باعادة كلمتي الشهادة ، متعرضاً بها لتأسيس مراتب العبادة ، فأنّها أوّل الوسائل ، واساس الفواضل ، مترقبا لاجابته(علیه السلام) بصلاتك عشراً من صلاته ، اذا قسمت بحقيقة صلاتك عليه ، التي لو وصل اليك واحد منها ، افلحت ابداً

وفي مصباح الشريعة ، التشهد ثناء على الله ، فكن عبداً الله في السّر ، خاضعاً له فى الفعل، كما أنّك عبد له في القول ، والدعوى ، واوصل صدق لسانك بصفاء صدر سرك ، فانّه خلقك عبداً، وامرك ان تعبده بقلبك ، ولسانك وجوارحك ، وأن تحقق عبوديتك له ، بربوبيته وتعلم أن نواصي الخلق بيده ، فليس لهم نفس ، ولا لحظة إلا بقدرته ، ومشيته ، وأنّهم عاجزون عن اتيان اقل شيء في مملكته ، إلا بإذنه وارادته.

اقول: ولا تغفل عمّا في هذه الكلمات الشريفة من الاشارات، لا سيّما قوله وتحقق عبوديتك له بربوبيته ، فان تحقق العبودية بالربوبية ، انّما يتمّ بالتفويض الكامل ، والتسليم المطلق من جميع الجهات، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يعلم العبد ان لا نفس ، ولا لحظة إلا بقدرته ومشيته وإذا علم ذلك ، واعتقد به اعتقاداً مباشراً لقلبه ، وعلماً صادقاً مؤثراً في افعاله وأعماله، لا يرى في الوجود مؤثراً إلا الله ، ولا في الكون فاعلا غيره ، وحينئذ ينقطع إلى ربّه ، ويقطع طمعه عن الناس وعن حوله وقوته ، فيتم له التوحيد العلمي ، فيكون في شهادته بالتوحيد صادقاً ، وأما من لا يرى الخير إلا في المال مثلا ولا يرى معطياً ، ولا مانعاً إلا النّاس ، فهو مضادّ لتوحيد الله ، ومنافق في شهادته بأن لا اله إلا الله، والله يشهد انّ المنافقين لكاذبون، فانا لله وانا اليه راجعون ، مصيبة عظم رزئها ، وجلّ عقابها.أقول: ومن هذا الباب:

ص: 272

ما روى عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ، أنّه لا يجد عبد طعم الايمان حتى يعلم أن الضار والنافع هو الله ، ومثل هذا العبد لا يكون بما في یده اوثق منه بما عند الله ، ويسوّى عنده الوجود والعدم، والغنى والفقر ، واما من يرى الاسباب ، ولم ير مسبّب الاسباب ، ولا يطمئن على ضمان الله ، فهو حقيق بان يعد عابداً لها ، لا الله اللهم إلا ان يكون إيمانه اعتقاداً جازما ، ويكون عدم تأثير إيمانه في عمله من جهة مرض قلبه ، وضعفه ، واستيلاء الجبن عليه ، وانزعاجه بسبب الأوهام الغالبة عليه ، فانّ القلب قد ينزعج تبعاً للوهم ، وطاعة له من غير نقصان في الاعتقاد ، كانز عليه من ان يبيت مع ميت في بيت ، أو في قبر مع قطعه بانّ الميت مثل ساير الجمادات ، لا يقدر على شيء هذا ، ولا تغفل عمّا اشير اليه في امر الصلاة ، وهي امور : منها ان صلاتك للنبي(صلی الله علیه وآله وسلم) من قبيل صلاتك الله ، كما يفهم ذلك ، من قوله : أوصل - اه .

وهذا كذلك ، لانّ الصلاة خدمة ، وعبودية ، وميل ورغبة من العبد إلى الله ، وذلك بالنسبة إلى الله ، انما هو بالصّلاة ، وهكذا صلاة النّبيّ (صلی الله علیه وآله وسلم) خدمة ، وتواضع ، وميل ورغبة الى حضرة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) وصورة ذلك كلّه واحدة ، انّما هو بالصّلاة المسنونة له من الله.

ومنها لزوم وصل صلاته بصلاة الله، وطاعته بطاعته ، لأنه بعد الله جلّ جلاله وليّ نعم الله على عباده وواسطة فيضه الاقدس ، وخليفة الله وبابه ، ووجهه الذي يتوجّه إليه الاولياء ، وبعده خلفائه الله، وجنب المعصومون: أمير المؤمنين، والاحد عشر من اولاده.

ومنها ان في معرفة حرمته بركات، وفوائد ، وان من لم يعرفه فاته فوائد صلاته، فانّ معرفتهم (علیه السلام) من مهمات الأمور .

وقد روى في ذلك اخبار جليلة، فارجع إلى ما روى في معرفتهم بالنورانيّة، بل صح قول من قال: انّ الخير كله في كمال معرفتهم لانه لا سيبل الى معرفة كنه الذات عزّ وجل فالمعرفة الممكنة في حقّنا الّتي

ص: 273

اسعد السعادات وأفضل مقامات الدين كلّها ، بل لا فضيلة مثلها انّما هي معرفة الاسماء ، وهم اسماء الله الحسنى ، بل الاسم الاعظم ليس إلا حقيقتهم ، فمن عرف حقيقتهم بالمعرفة الشخصية ، فقد فازو نال ، ولم ذلك : انّ المعرفة انّما هي بالوصول إلى المعروف ، والقرب منه ، وهذا هو المقصد الاسنى والكرامة العظمى ، التي لا مرتقى فوقها ، لا في الدُّنيا ، ولا في الآخرة .

ثمّ انّ في فضيلة صلاته صلّى الله عليه وآله ، وردت أخبار متواترة ، ويكفى منها خبر واحد مستفيض ، وهو انه (صلی الله علیه وآله وسلم) وعد لمن صلّى عليه واحداً أن يصلّي عليه عشراً ، بل في رواية الكافي ، باسناده عن أبي عبدالله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، قال : إذا ذكر النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) فأكثر الصلاة عليه ، فانّه من صلى على النبي صلاة واحدة، صلّى الله عليه الف صلاة ، في الف صفٌ من الملاءكة ، ولم يبق شيء مما خلقه الله إلا صلّى على العبد ، لصلاة الله عليه ، وصلاة ملائكته ، فمن لم يرغب في هذا ، فهو جاهل مغرور ، فقد برء ء الله منه ، ورسوله ، وأهل بيته.

وروى فيه في حديث ، عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) من ذكرت عنده ، فلم يصلّ علي فدخل النار فأبعده الله.

أقول: من كان مصليّاً على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، ويسلّم لا محالة يراقب ان لا يضاد في ذلك بعمله ، فانّ روح الصلاة التحية والاكرام . وروح السّلام ما يحكى لك في مصباح الشريعة ، وهذان المعنيان انما يخالفان بالايذاء والشّقاق ، وإذا صليت عليه وآله ، وسلمت بلسانك فراقب ، ان لا تؤذيه بعملك ، فيخالف قولك في لسانك ، لعملك بلسانك ، وغيره من جوارحك ، فانّ الأخبار وردت بعرض اعمالك على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) والائمة (علیهم السلام)، فما ظنك بهم، إذا راوا منك القبائح والمعصية ، وإذا رأوا في عملك الظلم على شيعتهم ، وعترتهم ، أما سبیل یومهم ذلك ؟ وليس مضادّاً ومخالفاً مع الصلاة والسلام عليهم ، وإذا

ص: 274

كان لسانك مخالفاً لعملك ، وقلبك ، كان نفاقاً نستجير سر من ذلك إلى الله.

وقد حكى من بعض أهل المراقبة: أنّه كان يدعو لجماعة من اخوانه المؤمنين مدّة ، واتفق له أنّه مات ابوه فورث منه مالا ، قال : أما كنت اواسي أخواني بالدّعاء بالنعم الباقية : كيف ابخل عنهم من عروض الدُّنيا الفانية ، فقسم ارثه من أبيه بين من كان يدعو لهم.

أقول: من يحسد اخاه ببعض زخارف هذه الدُّنيا ، كيف يمكن له ان يرغب ان يعطيه الله كرامات عوالم الاخرة، ومن لا يقدر أن يرى في أخيه شيئاً من النعم الخسيسة ، كيف يشتاق الى ان يصل إليه النعم الجليلة الفاخرة ؟ وهل يكون هذا إلا خلفا ، والذي يتراى من بذل النّاس الدّعاء بالجنّة ، وبخلهم وحسدهم في غير ذلك ، إما من جهة عدم اعتقادهم في تأثير دعائهم ، وإما من جهة عدم اطمئنانهم بوجود النعم الاخروية.

وكيف كان في مصباح الشريعة: معنى التسليم في دبر كل صلاة معني الامان، اي من اتى بأمر الله تعالى، وسنّة نبيه خاضعاً له، وخاشعاً فيه، فله الأمان من بلاء الدُّنيا ، والبرائة من عذاب الآخرة ، والسّلام اسم من اسماء الله تعالى، أودعه خلقه ليستعملوا معناه في المعاملات ، والأمانات ، والألصاقات ، وتصديق مصاحبتهم ومجالستهم فيما بينهم ، وصحة معاشرتهم ، فأن اردت أن تضع السّلام موضعه ، وتؤدي معناه ، فاتق الله وليسلم منك دينك ، وقلبك وعقلك ، لا تدنّسها بظلم المعاصي ، ولتسلم منك حفظتك ، لا تبرمهم ، ولا تملهم ، ولا توحشهم منك بسوء معاملتك معهم، ثمّ مع صديقك، ثم مع عدوّك فانّ من لم يسلم منه من هو أقرب اليه ، فالا بعد اولى، ومن لا يضع السّلام. وضعه هذا، فلا سلام ولا تسليم، وكان كاذباً في سلامه، وان افشاه في خلقه

ص: 275

أقول: تفطن يا عاقل من هذه الكلمات بحكم تسليمك على النّاس ، وقلبك لا يحب له سلامة جميع النّعم ، او بعضها ، هل هذا الانفاق ؟ وهل للمسلم ان يتوقع لمثل هذا السلام ، ما اع-د الله للمسلم من الكرامات ، وهكذا تقول في لسانك : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، وتؤذيه بعملك وفعلك فتفطّن من ذلك على موقع سلامك لنبيك ، وائمتك (ع) في صلاتك ، او في زيارتك ، فانّ من ظلم الناس وشيعتهم وذريتهم ، واخذ منهم مالا وزارهم بذلك المال ، لا سيّما اذا كان ملابساً بعين هذا المال ، عند التسليم ، او بقوته لاداء التسليم ، فما حكم سلامه ، لاسيما اذا كان مع مخالفته في الباطن، مخالفاً لرضاه في الزّي والهيئة أيضا ، بأن يكون لبس لباس اع-دائ-ه ، وتشبّه باعدائه في اللباس والهيئة ، وروّج بذلك اعداء الدين ، وخلاف احكام الله ، فهل سلامه في هذا الحال سلام وتحيّة ، او هو مستهزىء بنفسه ؟ بل يمكن ان يكون بعض هذه التسليمات ، والزيارات بمثابة السّهام على قلوبهم الزّكية ، والعياذ بالله ، واللجاء اليه من امثال هذه الفضائح في الزيارات ، التي هي من أفضل القربات ، قل : هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا.

هذا ولا تقنع في تشهدك بقدر الواجب تبعاً للمتعارف ، واعمل فيه لا محالة بعض فقرات التشهد الكبير ، وكذا لا تدع في سلامك التسليم على الائمة ، بما ورد ، وعلى الانبياء والملاءكة ، فان تبعية السلف صارداء عضالا لا ينجو منها إلا الأوحدى ، واتسع مجراها حتى في العبادات ، والقربات ، مثلا ارى الشّيعة مولعين لذكر الشهادة بالولاية في اذانهم ، مع اعتقادهم انه لم يرد به رواية ، وان كان هذا الاعتقاد باطلا ويتركون السّلام على الأئمة في صلاتهم ، مع اعتقادهم باستحبابه ، وهل هذا إلا من جهة التعارف ، وعدمه

ص: 276

هذا وقد لزمني بعد ما سطرت هذه الجملة ، ان اذكر ما ورد في هذا المعنى من الرّوايات ، في تفسير الامام (علیه السلام) قال إذا توجه المؤمن في مصلاه ليصلّي ، قال الله عز وجلّ لملاءكته: يا ملائكتي اما ترون الى عبدي هذا ، قد انقطع عن جميع الخلائق إليّ ، وامل رحمتى وجودي ورأفتي ، اشهدكم اني اخصه برحمتي ، وكراماتي ، وإذا رفع يده ، وقال : الله اكبر ، أثنى على الله ، قال الله لملاء كته : يا عبادي اما ترونه كيف كبرني ، وعظمني ، ونزّهني عن ان يكون لي شريك ، او شبيه ، او نظير ، ورفع يده ، وتبرء عمّا يقوله اعدائي. من الاشراك بي ؟ أشهدكم اني ساكبره واعظمه في دار جلالي ، وأنزهه في تنزهات دار كرامتي، وأبرئه من آثامه ومن ذنوبه ، ومن عذاب جهنّم ومن نيرانها ، وإذا قال: بسم الله الرّحمن الرّحيم ، وقرء فاتحة الكتاب وسورة، قال الله،

لملاءكته: اما ترون عبدى ؟ كيف تلذذ بقرائة كلامي أشهدكم ملاءكتي لاقولنّ له يوم القيامة أقرّ في جناني ، وارق درجاتي ، ولا يزال يقرء ويرقى بعدد كلّ حرف درجة من ذهب ، ودرجة من فضة ، ودرجة من لؤلؤ ، ودرجة من جوهر ، ودرجة من زبرجد اخضر ، ودرجة من زمرد أخضر ، ودرجة من نور ربّ العزّة ، فاذا ركع قال الله تعالى لملاءكته ، يا ملاءكتي كيف تواضع لجلال عظمتي ؟ أشهدكم لاعظمته في دار كبريائي وجلالي ، فاذا رفع رأسه من الركوع ، قال الله تعالى لملاءكته : يا ملاءكتي اما ترون كيف يقول ؟ ارتفع من أعدائك كما اتواضع لأولياءك ،

وأنتصب لخدمتك ، اشهدكم يا ملاءكتي لأجعلن جميل العاقبة له، ولاصيّرنّه إلى جناني ، فاذا سجد قال الله تعالى لملاءكته : يا ملاءكتي أما ترون كيف تواضع بعد ارتفاعه ، وقال انّي ، وان كنت جليلا مكيناً في دنياك ، فانا ذليل عند الحق إذا ظهر لي ، سوف ارفعه ، وما دفع ب-ه الباطل ، فاذا رفع رأسه من السجدة الأولى ، قال الله تعالى يا ملاءكتي اما ترونه كيف قال : اني وان تواضعت لك فسوف اخلط الانتصاب في طاعتك بالذلّ بين يديك ، فإذا سجد ثانية ، قال الله تعالى لملاءكته: أما

ص: 277

ترون عبدي ؟ هذا كيف اعاد التواضع ، لي لاعيدن اليه رحمتي ، فاذا رفع رأسه قائماً ، قال الله تعالى : يا ملاءكتي لارفعنه بتواضعه ، كما ارتفع إلي صلاته ، ثم لا يزال يقول الله تعالى لملاءكته هكذا في كلّ ركعة ، حتى إذا قعد في التشهد الأول ، والتشهد الثاني ، قال الله تعالى : يا ملاءكتي ، قد قضى خدمتي وعبادتي ، وقعد يثني عليّ ويصلّي على محمد نبيي ، لأثنين عليه في ملكوت السموات والأرض ، ولاصلين على روحه في الارواح ، فاذا صلّى على أمير المؤمنين في صلاته ، قال الله : يا عبدى لاصلين عليك ، كما صليت عليه ، ولا جعلته شفيعك ، كما استشفعت به ، فاذا سلّم من صلاته، سلّم الله عليه وملاءكته.

أقول: سبحان هذا الربّ الودود ، العطوف الرّحيم الرّؤوف، وسبحانه من كريم ما الطفه ، ومن لطيف ما أكرمه

ومنها ما في كتاب اللئالي ، فقد روى أنه سئل ما الحكمة في انّه جعل للصلوات الاذان ، ولم يكن لسائر العبادات أذان ولا اقامة ؟ قال (علیه السلام) : لانّ الصّلاة شبيهة بأحوال يوم القيامة ، لان الاذان شبيه بالنفخة الاولى لموت الخلائق ، والاقامة شبيه بالنّفخة الثانية ، كما قال الله تعالى : واستمع يوم ينادى المنادى من مكان قريب والقيام الى الصلاة شبيه بقيام الخلائق ، كما قال الله: يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، ورفع الايدي والتكبيرة الاولى شبيه برفع الايدي لأخذ الكتاب يوم القيامة ، وقرائة الكتب بين يدي ربّ العالمين.

كما قال تعالى: أقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، والركوع شبيه بخضوع الخلائق لربّ العالمين ، كما قال تعالى:

ص: 278

وعنت الوجوه للحي القيوم، والسجود شبيه بالسجود لرب العالمين ، كما قال عزّ ذكره.

يوم يكشف عن ساق ويدعون الى السجود ، والتشهد شبيه بالجثوبين يدى ربّ العالمين ، كما قال تعالى :

فريق في الجنة وفريق في السعير.

ومنها ما في اخبار المعراج ، من كون كيفية معراجه (صلی الله علیه وآله وسلم) منطبقة مع كيفيّة الصّلاة ، من الاذان ، والوضوء إلى آخر الصلوة ، وفيما رواه في الكافي ، بعد ذكر تشريع الاذان والاقامة باجزائهما إلى السماء الرّابعة ، ثم قيل لي : ارفع رأسك يا محمد ، فرفعت رأسي ، فإذا اطباق السماء قد خرقت ، والحجب قد رفعت ، ثمّ قال لي : طأطأ رأسك أنظر ماذا ترى ؟ فطأطأت راسي فنظرت إلى بيت مثل بيتكم هذا ، وحرم مثل حرم هذا البيت ، لو القيت شيئاً من يدي لم يقع الا عليه ، فقيل : يا محمد هذا الحرم ، وانت الحرام ولكلّ مثل مثال ، ثم أوحى الله إلي : يا محمد ادن من صاد واغسل مساجدك وطهرها ، وصل لربك، فدنی رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) من صاد ، وهو ماء يسيل من ساق العرش الايمن ، فتلقى رسول الله الماء بيده اليمنى ، ومن اجل ذلك صار الوضوء باليمين ، ثم أوحى الله اليه ان اغسل وجهك ، فانك تنظر الى عظمتي ، ثمّ اغسل ذراعيك اليمنى واليسرى، فانك تلقي بيدك كلامي ، ثم امسح رأسك بفضل ما بقى في يدك من الماء ، ورجليك

إلى كعبيك ، فانّي ابارك عليك واوطئك موطئاً لم يطائه احد غيرك فهذا علّة الاذان والوضوء ، ثم أوحى الله تعالى إليه : يا محمد استقبل الحجر الاسود ، وكبر على عدد حجبي ، فمن أجل ذلك صار التكبير سبعاً باً ، لأن الحجب سبع فافتتح عند افتتاح الحجب،فمن أجل ذلك صار الافتتاح ستة ، والحجب متطابقة بينهنّ بحار النور ، وذلك النور النور الذي أنزله الله تعالى على محمّد (صلی الله علیه وآله وسلم)

ص: 279

فمن أجل ذلك صار الافتتاح ثلث مرّات، لافتتاح الحجب ثلاث مرّات ، فصار التكبير سبعاً ، والافتتاح ثلاثاً ، فلما فرغ من التكبير والافتتاح ، اوحى الله إليه سم باسمي ، فمن أجل ذلك جعل بسم الله الرّحمن الرّحيم في أوّل السورة ، ثم أوحى الله إليه ان أحمدني ، فلما قال : الحمد لله ربّ العالمين ، قال النبي في نفسه شكراً ، فاوحى الله إليه : قطعت ذكرى قسم باسمي فمن أجل ذلك جعل في الحمد لله الرّحمن الرّحيم مرتين فلما بلغ ولا الضالين ، قال : الحمد لله رب العالمين شكراً ، فاوحى الله إليه قطعت ذكري، فسم باسمي ، فمن اجل ذلك جعل بسم الله الرّحمن الرّحيم ، ثم أوحى الله إليه ان اقرء يا ، ان الله تعالى هو الله احد ، الله الصمد ، لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، ثم امسك عنه فقال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) كذلك الله ربي ، كذلك الله ربّنا ، فلما قال : ذلك أوحى الله إليه اركع لربك يا محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) ، فركع فاوحى الله إليه وهو راكع ، قل: سبحان ربي العظيم وبحمده ، ففعل ذلك ثلثاً ، ثم أوحى الله اليه ان ارفع رأسك يا محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) ، ففعل رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وقام منتصباً ، فاوحى الله عزّ وجلّ إليه ان اسجد لربك يا محمد فخر رسول الله «ص» ساجداً فأوحى الله عزّ وجلَّ إليه قل سبحان ربي الأعلى وبحمده ، يفعل ذلك ثلاثاً، ثم أوحى الله اليه استو جالساً يا محمد ، ففعل ، فلما رفع رأسه من السجود ، واستوى جالساً نظر إلى عظمته تجلت له ، فخر ساجداً من تلقاء نفسه ، لا لامر امر به، فسبح ايضاً ثلاثاً ، ثم أوحى الله إليه ارفع رأسك ، انتصب قائماً ففعل فلم ير ما كان ما كان من العظمة إلى ان قال بعد الركعة الثانية: ارفع رأسك يا محمّد ثبتك ربك، فلما ذهب ليقوم قيل: اجلس ، فجلس ، فاوحى الله إليه : يا محمد اذا ما انعمت عليك ، فسم باسمي، فالهم بان قال بسم الله ، وبالله ، ولا إله إلا الله ، والأسماء الحسنى كلّها الله تعالى ، ثم أوحى الله إليه، يا محمّد

ص: 280

صلّ على نفسك ، وعلى أهل بيتك ، فقال، صلّى الله عليّ وعلى اهل بيتي، ثمّ التفت ، فإذا بصفوف من الملاءكة والمرسلين ، فقيل : يا محمد سلّم عليهم ، فقال : السلام عليكم ورحمة الله : وبركاته وبركاته ، فاوحی الله إليه: انما السلام والتحيّة ، والرّحمة والبركات لك ولذريتك.

أقول: كفى بهذه الاخبار للعاقل في الاطمينان، بان تشريع الصّلاة انّما هو لامر عظيم ، وهو حقيقة معراج المؤمن، ومطابق لاحوال یوم القيمة ، بل مطابق لأحوال المبدء.

كما بدءكم تعودون ، وإذا عرف العبد ذلك ، فله أن يعظم امرها غاية جدّه ، ويتشمر في تكميلها بكل ميسوره ، ويلتجأ في ذلك إلى الله تعالى حق الالتجاء، ويقطع بعجزه وقصوره ، وتقصيره واضطراره إلى عنايته: فإنه تعالى قادر على ما يشاء من الفضل ، والعدل معه وبه، فانّ طالبه باستحقاق الصدق والاخلاص حجبه ، وردّ صلاته وان عطف عليه بفضله ورحمته قبل منه عمله، وان كان قليلا ناقصا ، واجزل عليه ثواباً عظيما، وان علم الله من قلبه صدق الالتجاء اكرمه ، بتوفيقه وتاييده، واعانه في توفية مراده، فانّه كريم يحبّ الكرامة لعباده المضطرين إليه ، المحترفين إلى بابه ، وقد قال في كتابه: أمن يجيب المضطر إذا دعاه.

فصل: في التعقيب

وهو من المهمات، ومن مكملات الصلاة ، وقد ورد فيه اشياء كثيرة، من القرآن والاذكار، والادعية والصلاة، وقد تعرض لجمعها جماعة من علمائنا، وتصانيفهم في ذلك كثيرة معمولة، ولكني انتخبت من ذلك بعضها لأهل العلم، الذين اوقاتهم مشغولة للعلم، افادة واستفادة، بعضها واردة بخصوص التعقيب، وبعضها لا خصوصية لها بذلك.

منها: الصلوات بعد التكبيرات الثلاث ، وصورتها: اللهم صلّ

ص: 281

على محمد وآل محمد.

حتى لا يبقى من صلاتك شيء ، وارحم على محمّد وآل محمّد ، حتى لا يبقى من رحمتك شيء ، وبارك على محمد وآل محمد ، حتى لا يبقى من البركات شيء وسلّم على محمد وآل محمد ، حتى لا يبقى من السّلام شيء. والدّعاء على حجّة الله، امام الزمان عجل الله تعالى فرجه وصورته : وعجل لوليك الفرج ، وارنا فيه ، وفي اهل بيته وشيعته ، ورعيته ، وعامته ، وخاصته ، ما يأمل ، وفي اعداءه ما يحذر.

واتبعته بدعاء شيخي ووالدي ، وجماعة من خاصتي من الارحام واخوان الصفا ، و ، وعموم المؤمنين.

ثمّ بما ورد عن الباقر(علیه السلام) : اللهم اني اسألك من كل خير احاط به علمك ، وأعوذ بك من كل سوء احاط به علمك ، اللهم اني اسألك عافيتك في اموري كلّها ، واعوذ بك من خزى الدُّنيا وعذاب الآخرة.

واتبعته بما ورد من قولهم : اللهم اني اسألك الجنّة ، والحور العين، برحمتك يا أرحم الرّاحمين.

فاتبعته بما ورد: الّلهم اهدنى من عندك وافض عليّ من فضلك، وانشر عليّ من رحمتك، وأنزل عليّ من بركاتك وكرره ثلاثاً. ثمّ تسبيح الزهراء (علیها السلام) ، والاخبار الواردة في فضله كثيرة، لا بأس بالاشارة إلى خبر واحد ، وهو ما روى عن الصادق (علیه السلام) قال : تسبيح فاطمة في كل يوم في دبر كل صلاة ، احبّ الى الله من صلاة الف ركعة في كلّ يوم. واتبعته بقرائة الفاتحة، وآية الكرسي، وآية شهد الله، وآية الملك إلى قوله بغير حساب فعن(1) النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) أنّه قال : لما اراد الله ان ينزل

ص: 282


1- رواه في الكافي باختلاف كثير.

فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، وشهد الله ، وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب ، تعلّقن بالعرش، ليس بينهن وبين الله حجاب ، فقلن يا ربّ تهبطنا إلى دار الذنوب ، وإلى من يعصيك ، ونحن متعلقات بالطّهور والقدس ، فقال سبحانه: وعزتي وجلالي ما من عبد قرءكن في دبر كل صلوة إلا اسكنته حظيرة القدس، على ما كان فيه ، وإلا نظرت إليه بعينى المكنونة في كل يوم سبعين مرّة وإلا قضيت له في كلّ يوم سبعين حاجة ، ادناها المغفرة ، وإلا اعذته من كلّ عدُّو ، ونصرته عليه ، ولا يمنعه من دخول الجنة إلا الموت.

ثم اتبعتها بقول : سبحان الله كلما سبّح الله شيء وكما يحبّ الله ان يسبح وكما هو اهله ، وكما ينبغي لكرم وجهه ، وعزّ جلاله، والحمد لله كلّما حمد الله شيء ، وكما يحبّ الله ان يحمد ، وكما هو اهله ، وكما ينبغى لكرم وجهه ، وعزّ جلاله ، ولا إله إلا الله كلّما هلل الله شي شيء ء، وكما يحبّ الله ان يهلل ، وكما ينبغي لكرم وجهه ، وعزّ جلاله، والله أكبر كلّما كبر الله شيء، وكما يحبّ الله ان يكبر، وكما ينبغي لكرم وجهه ، وعزّ جلاله، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا اله إلا الله ، والله أكبر ، على كل نعمة انعم بها عليّ، وعلى كلّ احد ممّن كان أو يكون إلى يوم القيمة، اللهم اني اسألك ان تصلي على محمد وآل محمد ، واسألك خير ما ارجو ، وخير ما لا ارجو ، واعوذ بك من شرّ ما احذر ومن شرّ ما لا احذر.

واتبعته بقرائة سورة التوحيد، ثلاث مرّات، هدية إلى صاحب الزمان(عجّل الله تعالی فرجه الشریف)

واتبعتها بقول اللهم عرفني نفسك ، فانّك أن لم تعرفني نفسك لم اعرف رسولك ، اللهم عرفني رسولك، فانّك ان لم تعرفني رسولك لم اعرف حجتك ، اللهم عرّفني حُجّتك ، فانّك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني.

ص: 283

وهذا التفصيل اخترته من جملة ما ورد خصوصاً ، وعموماً لتعقيب الصلوات الخمس ، وقد وردت في الاخبار لها فضل عظيم ، طوينا تفصيلها للإختصار. ولكن لصلاة الصبح زيادة في المروي ، والمختار .

وهو دعاء العهد ، وعشر مرات اشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له ، الهاً واحداً أحداً فرداً صمداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً . وعشر مرّات ، اللهم ما اصبحت لي من نعمة او عافية في دين او دنيا ، فمنك وحدك لا شريك لك ، لك الحمد ، ولك الشكر بها عليّ يا ربِّ حتى ترضى ، وبعد الرّضا.

واثنى عشر مرةً ، سورة التوحيد ، وسبع مرّات بسم الله الرّحمن الرّحيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وابتدء كل يوم بين يدي عجلتي ونسياني بسم الله وبالله ، ما شاء الله لا قوة إلا بالله

وعشر مرّات سبحان الله العظيم وبحمده ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وثلث مرّات ، سبحان الله ملأ الميزان، ومنتهى العلم ، ومبلغ الرّضا، وزنة العرش.

وثلث مرّات اللهم أنت ربي لا شريك لك ، اصبحنا واصبح الملك لله سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم، واستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، ذو الجلال والاكرام ، واسئله ان يصلّي على محمّد وآل محمّد ، وان يتوب علي توبة عبد ذليل خائف فقير، بائس مسكين مستكين مستجير، لا يملك لنفسه نفعاً، ولا ضراً، ولا موتاً، ولا حياتاً ولا نشوراً.

ص: 284

واستغفر الله الذي لا إله إلا هو الرّحمن الرّحيم، بديع السموات والارض من جميع جرمي وظلمي، واسرافي على نفسي واتوب اليه وسبعون مرّة ، استغفر الله ربي ، واتوب اليه.

وعشر مرات أعوذ بالله السميع العليم، من همزات الشياطين واعوذ بك ربّ انّ يحضرون، انّ الله هو السميع العليم . ومائة مرة ، لا إله إلا الله ، وازيد عليها عشراً .

واتبعتها بدعاء الصباح المروي عن أمير المؤمنين (علیه السلام) .

وهذه كلها في الادعية ، والاذكار .

وأفضل منها التفكر، لا سيّما بعد صلاة الصبح ، والمغرب ، وهو على وجوه:

منها الفكر في محاسبة النفس ، فيما سبق من تقصيراته ، وترتيب وظائف يومه الحاضر، والتدبير لدفع الصوارف ، والعوائق الشّاغلة عی الخير، واحضار النيات الصالحة في أعمال يومه ، في نفسه ، ومعاملته للمسلمين ، والتفكر في نعم الله ، وآلائه الظاهرة ، والباطنة ، لتزيد معرفته بها، وشكره عليها وفي عقوباته ونقماته لتزيد معرفته بقدرة الله وخوفه من التعرُّض لموجباتها ، والفكر في الموت على التفصيل الّذي اشير إليه في محلّه ، أو معرفة النفس ، واسرار الكون ، وفي صفات الله واسمائه ، ان كان من اهل هذا التفكر ، وانّ التفكر في هذه الأمور له شعب كثيرة ، ولكلّ أهل مخصوص به.

وفي الخبر تفكر ساعة خير من عبادة سنة.

وفيه خير من عبادة سبعين سنة ، ولعل اختلاف المثوبة من جهة اختلاف انواعه ، والسِّرّ في كونه خيراً من العبادة بالاعمال، ان فيه معنى الذكر، وحقيقته مع زيادة أمرين اعظمين وهما زيادة المعرفة والمحبة اذ

ص: 285

الفكر مفتاح المعرفة وهو سبب انكشاف المعروف وشهوده ، وهو موجب للمحبّة إذ لا يحبّ القلب إلا من يعتقد جماله وجلاله ، وخيره ، ولا يمكن ذلك الا بمعرفة صفاته الجميلة والجليلة ، ومفتاحها الفكر ، والذكر أيضا يورث المحبة ، ولكن فرق ما بين الحبّين فرق الخبر والعيان فانّ الفكر مفتاح الكشف والشهود ، ولا يتأتى من الذكر ذلك ، وان كان يورث حبّ الانس بكثرة الذكر ومن المهمات بعد التعقيب ، سجدة الشكر لتوفيق اداء الصلاة ، وورد فيها من الفضل العظيم ما مضى.

ومن المهمّات أيضاً النوافل، وبها يتم ما نقص في الفرض من الاقبال ، وقد ورد فيها تأكيد شديد ، وينبغى ان لا يتركها ، ولو كان بأقل ما يحبّ من الاجزاء ولو كان في حال المشي إلى الحوائج ، ووقت نوافل الظهرين تمام اليوم على الاقوى. وبالجملة ورد الحثّ الاكيد للنوافل حتى عبر في بعضها عن تركها بالمعصية ، وفي بعضها عدّ فعلها من علائم الشيعة ، وللعب-د المراقب المراسم العبودية في حق النوافل جدّ عظيم ، لسّر لطيف ، وهو ان اداء الحقوق الواجبة من جهة ان في تركها عقاباً كانه طاعة اجبارية ، واداء النوافل كانّه طاعة اختيارية ، وهي في نظر المراقب اهم من هذه الجهة بل المواظبة ، والاهتمام على النوافل يكشف عن كمال نية العبد في الواجبات أيضاً ، فكأنَّ المواظب على النوافل ليشهد حاله بأنّه انما قصد باداء الواجبات امتثال الامر ، ووجه الرّبّ تعالى ، ولم يفعلها بمجرّد خوف العقوبة .

ومن النوافل المؤكدة ، صلاة الليل، وما ادريك ما صلاة الليل ، وهي نور من الظلمة ، وانس من الوحشة ، وخلة من الكثرة. وعن الصادق(علیه السلام) انها مرضات للرّبّ ، وحبّ الملائكة ، وسنّة الانبياء ، ونور المعرفة ، واصل الايمان ، وراحة الابدان، وكراهة

ص: 286

الشّيطان وسلاح على الاعداء واجابة الدعاء وقبول الاعمال ، وبركة في الرّزق ، وشفيع بين صاحبها وبين ملك الموت ، وسراج في قبره ، وفراش تحت جنبه ، وجواب على منكر ونكير ، ومؤنس وزائر في قبره إلى يوم القيامة ، وإذا كان يوم القيامة كان ظلا فوقه ، وتاجاً على رأسه ، ولباساً على بدنه ، ونوراً يسعى بين يديه . وستراً بينه وبين النّار ، وحجّة بينه وبين الله تعالى ، وثقلا في الميزان ، وجوازاً على الصراط ، ومفتاحاً للجنة.

وفي رواية ان الله تعالى أوحى إلى بعض الصدّيقين ، انّ لي عباداً من عبادى يحبوني ، فاحبهم ، ويشتاقون الي فاشتاق إليهم ، ويذكروني وأذكرهم ، وينظرون الي ، وأنظر إليهم ، فان حذوت طريقتهم احببتك ، وان عدلت عنه- مقتك ، قال: يا ربّ وما علامتهم ؟ قال : يراعون الظَّلال بالنّهار، كما يراعى الراعي الشفيق غنمه ، ويحنون الى غروب الشَّمس، كما يحنّ الطّير إلى وكره عند الغروب فاذا جنّهم الليل واختلط الظلام ، وفرشت الفرش ، ونصبت الاسرة وخلى كلّ حبيب مع حبيبه ، ونصبوا إلى اقدامهم، وفرشوا وجوههم . وناجوني بكلامي ، وتملّقوا إليّ بأنعامي ، فبين صارخ وباك ، ومتأوّه وشاك ، وبين قائم وقاعد ، وراكع وساجد ، بعيني ما يتحملون من اجلى ، وبسمعي ما يشتكون من حبّي ، اول ما اعطيهم ثلاث اقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عنّي ، كما أخبر عنهم ، والثانية لو كانت السموات والارض وما فيها في موازينهم لاستقللتها لهم.

والثالثة أقبل بوجهي اليهم ، افيرى من اقبلت بوجهي عليه ، يعلم احد ما اريد ان اعطيه.

وفيها ان البيوت التي يصلّي فيها بالليل،ويتلى فيها القرآن تضيء لأهل السماء،كما تضيء الكواكب لأهل الأرض.

وقال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) في وصيته لأمير المؤمنين (علیه السلام): وعليك

ص: 287

بصلاة الليل ، وعليك بصلاة الليل ، وعليك بصلاة الليل.

وقال: الا ترون إلى المصلين بالليل ، فأنهم احسن النّاس وجوهاً، لانهم صلّوا بالليل الله سبحانه، فكساهم من نوره أقول: الأخبار في فضيلتها متواترة، سوى ما نزل فيها من الآيات.

ولو لم يكن منها إلا قوله تعالى: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى ربّك ان يبعثك مقاماً محموداً لكفى فسبحان الله ما اعظم شأنها وأجلَّ خطرها ، حيث جزائها المقام المحمود وانا أكتفي من ذكر أخبار فضيلتها بهذه الجملة ، ومن اراد التفصيل فليراجع الى ما فصّلتها.

في كتاب السّير إلى الله.

وأشير مما ورد في خزى من استخف بها وتركها ، إلى ما رواه في البلد الأمين من قول الصادق (علیه السلام) : ليس من شيعتنا من لم يصل صلاة الليل ، وإلى ما ورد عنه (علیه السلام) قوله (علیه السلام): ابغض الخلق إلى الله جيفة بالليل ، وبطال بالنهار . وما ورد عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) قال: وما نام احدا الليل كله الا بال الشّيطان في اذنه ، وجاء يوم القيامة مفلساً ، وما من احد الا وله ملك يوقظه من نومه كل ليل مرتين ، يا عبد الله اقعد لتذكر ربك ، ففي الثالثة ان لم يتنبه يبول الشّيطان في أذنه.

أقول : لا تكن كافراً بهذه الأخبار وآمن بها واني اشهد الله: أنّي أعرف من المتهجدين من كان يسمع من يوقظه ، ويناديه وقت تهجده في اوائل أمره ، بلفظة آقا. فيقوم لورده. وان كان لك قلب ربّما استشعر بسائر ما ورد في اثراتها ، وبالجملة

ص: 288

ان كنت مؤمناً بهذه الفضائل لصلاة الليل ، لا تتركها ، ولا تضيعها قطعاً فانّ الانسان لحبّ الخير لشديد ، أما سمعت قوله في الحديث القدسي : ويحنون إلى غروب الشمس ، كما يحنّ الطّير إلى وكره وقت الغروب ، فانّ من آمن بصلاة الليل ببعض هذه الفضائل ، كيف لا يحنّ إلى مجيء وقتها، اليس هذا الانسان من يبذل في التقرب إلى سلاطين الدُّنيا، واشرافها ، والخلوة معهم، ماله وأهله ، بل يتنافس في ذلك ببذل روحه، وحياته.

والله تعالى يقول: والمؤمنون اشد حبا لله، ولا تصغ الى من يعتذر عن تركها بغلبة النوم ، وعدم الانتباه ، لأنَّ هذا العذر مردود بوجوه :

منها قول أمير المؤمنين (علیه السلام) لمن قال له : إنّي نمت البارحة من وردي قال(صلی الله علیه وآله وسلم) : انت رجل قيدتك ذنوبك.

ومنها: أَنَّ النّوم عن مثل هذا الامر العظيم غير ممكن ، غالباً الا ترى هذا الخلق الطالبين الى الدُّنيا ، لو دعى احدهم سلطان زمانه الى خلوته في جوف الليل ، لا ينام عن وقت دعوته ، بل لا ينام في أوّل الوقت ايضاً ، ويشتغل بفكر مجلسه ، وصحبته مع السلطان ، وأنت اذا تأملت في أحوال نفسك، تقطع بأنّك اذا استيقنت بأنه يأتيك في جوف الليل من يعطيك بألف دينار ، لا تقدر أن تنام من شوقك الى هذا المال، ومن خوف فوته بنومك.

ومنها: أنك قادر لا محالة على أن تنام عند من يوقظك ، الى ان تعتاد ذلك فلست بمعذور ، وبالجملة النوم عن مثل هذا الخبر خزي ، لا يقاس به خزي في الدنيا ابداً.

والنائمون عن صلاة الليل طوائف : طائفة منهم يشتغلون اوّل الليل الى قريب الانتصاف في مجالسهم ، بالخوض فيما لا يعنى ، بل الخوض فيما ينهى عنه ، بل الخوض باغتياب المسلمين، وبل وبل ، ويأكلون ، ويشربون حتى اذا بلغت الحلقوم ، ثمَّ ينامون في انعم فراش ، وأروح مكان ، وهذا النائم لا بد ان ينام

ص: 289

من صلاة الليل، لأنَّه من أول الليل انما هيا اسباب النوم باختياره، بل يمكن ان يقال انه لم ينم بعزم الانتباه . بل ولا برجائه ، لأن زيادة الاكل والشرب يسير سبباً لبخار المعدة ، وسكر الدماغ ، وذلك موجب لكثرة النوم ، والاستيقاظ في أول الليل من أسباب النَّوم في آخره ، وهكذا معصية أول الليل من أسباب النوم في آخره ، وهكذا الفراش النّاعم ، والمكان المروح ، يورث زيادة النوم ، وثقل الانتباه ، ومثل هذا الشخص اذا اعتذر بعدم الانتباه،مثله من شرب دواء يزيل عقله في وقت الصلاة ثم اعتذر بأني لم اعقل وقت الصلاة.

نعم قد ينام من تهيأ لا لانتباه بالتخلي من هذه الاسباب، بل بالتوسل بما ورد في الأخبار في الاستيقاظ ، والانتباه لطفاً الله اللطيف عليه في سياسته أمر عبوديته ، حفظاً له من العجب ، أو تعريضاً له بزيادة الاجر من كثرة اسف فوت التهجد ، وقضاء لما فات عنه وزيادة ، ولكن الّذي يستفاد من الاخبار، انّ ذلك لا يكون إلا قليلاً ، ليلة أو ليلتين.

أمّا من نام عنها لمرض ، او لعذر سماوي ، فهو أيضاً على وجهين:

أحدهما: من جهة اللّطف الالهي كما مرّ ، فابتلاه بالمرض ، او غيره من الاعذار ، ونومه بهذا الحال ، والابتلاء أفضل عنده من صلاته وتهجده.

وقد ورد في الاخبار انّ لمثل هذا العبد، يكتب مثل الذي كان يعمل سابقاً قبل إبتلائه به ، وفي بعضها ان محرابه ومصلاه، وأبواب السّماء التي كان يرفع منها عمله ، إنما تبكى عليه.

وثانيهما: من باب الخزى والنكال بسبب كثرة ذنوبه التي صارت سبباً لسلب توفيقه.

ص: 290

ثمّ انّ من النّاس من اتاه الخبيث من جهة اليمين ، فغرّه بترك التهجد بتخيل إن إشتغاله بالمطالعة في العلوم أفضل ، وربما اشتغل من اوّل الليل إلى آخره، ونام عن فريضة الصبح متخيّلا إن مطالعته أفضل من صلوته ، والأغلب في ذلك الاغترار. لان تحصيل العلوم ، وإن كان أفضل بمراتب من العبادات البدنية ، ولكن له شروط:

منها كونها من العلوم النّافعة.

ومنها كون التحصيل على الترتيب الشرعي ، ولا يكون على خلافه كتحصيل العلم الذي وجوبه كفائي ، وترك الذي وجوبه عيني، مثلا إذا امكن للانسان العلم بالمسائل بطريق التقليد ، والعلم بتزكية النفس ايضاً بطريق التقليد ، او الاجتهاد ، ترك علم تزكية النفس رأساً ، وأشتغل بتحصيل المسائل بطريق الاجتهاد ، فان ذلك غير جايز ، وهكذا إذا فرغ من تحصيل العلوم اللازمة عيناً ، واراد الاشتغال بالعلوم الواجبة كفاية ، فليكن ما يشتغل به من ذلك اهمها ، فان اشتغل بغير الاهم ، وترك الاهم ، لا سيما إذا كان ذلك الاختيار من جهة المي-ل النفساني ، لا يكون ذلك عبادة الله ، وايضاً قد يشتغل الانسان بعد مقدمات هذا ملاحظة هذه الوجوه في الاهم ، وليكن اكثر إشتغاله من الاهم في غير الاهم منها ، بل في غير اللازم مما يعد عند العامة من الفضائل.

ومنها كون تحصيلها قربة إلى الله ، وهذا من أشكل الشّرائط وأغمضها ، فيها هلك من هلك ، وبالجملة كون تحصيل العلوم مرضياً لله ، وعبادة خالصة لله لا يوجد في الخارج الا نادراً ، وظنّي انه لا يوجد في مائة الف واحد وكان بعض اخواني المحصلين من الاتقياء ، يقول : انا بعدما امكنني ان اشرك الله جلّ جلاله في تحصيلي العلوم ، فضلا

ص: 291

عن ان يكون خالصاً لوجهه الكريم ، ولعمري ان هذا حال اغلب المتقين من المحصّلين ، وان لم يشعروا به ، وكيف لغير المتقين الذين لهم في تحصيل العلوم اغراض فاسدة ، من التمكّن والاستيلاء بالعلوم على الحكم في الاموال ، والاعراض ، والنفوس بالاهواء ، والعياذ بالله واللجاء إليه من هذه المهالك ، ثم الاغترار، وخيال انّ هذا التحصيل أفضل من التهجد ، وصلاة الليل ، وصلاة الليل ، كيف والمتقون إنما يعالجون تصحيح نياتهم في تحصيل علومهم بصلاة الليل ، والتهجد ، والتضرع في جوف الليل ، ولعمري ان هذا الطريق في تصحيح النيات الواجبة العينية لسدّ الطرق ، وأنّه العروة الوثقى التي لا انفصام لها.

وحكى لي شيخي وسنادي في العلوم الحقة ، أنه ما وصل احد من طلاب الآخرة إلى شيء من المقامات الدينية ، إلا من المتهجدين وظنّي اني بعد ما سمعته ، منه وجدته في رواية ايضا ، هذا وما رويناه عن الصادق(علیه السلام) من قوله (علیه السلام) ، ليس من شيعتنا بل وفي غير هذه الرواية ، ليس منا من لم يصل بصلاة الليل ، كاف في دفع هذه الوسوسة ، ولقد اجاد شيخنا العلامة الانصاري (رحمةالله علیه) في جواب من سئله عن ترجيح المطالعة، وصلاة الليل، قال في جوابه: يا هذا هل تشرب القرشة؟ قال نعم قال: صل صلاة الليل مكان ،قرشتين هذا جواب متين فيه تعريض على فساد هذا التخيّل ، وأنّه من الغرور بوجه مليح ، فكأنه قال : أنك إذا كنت بهذا المثابة من المراقبة في الأحوال ، والاخلاص في الاعمال ، حتى استشكل عليك الامر في صلوة الليل من جهة أنّها مرجوحة بالنسبة إلى المطالعة ، وتحصيل العلوم، كيف خفى عليك انك تشتغل بشرب القرشة التي أختلفت الاقوال في أنّه حرام، او مكروه ، او مباح ، كيف لاحظت المعارضة بين المندوبين من جهة ضيق الوقت عنهما معا وانت مشتغل بما هو حرام ، أو مكروه ، او مباح ، فيا الله من هذا الخطب الفظيع ، ان يدلس الخبيث على العلماء ، انّ اشتغاله بمطالعة هذه

ص: 292

العلوم المعلومة المرسومة ، التي اغلبها لا يمكن تصحيح قصد لها شرعي بوجه من الوجوه الصحيحة ، أفضل من الاستغفار في الاسحار ، والخلوة مع العزيز الغفّار ، كيف والعلم الذي لا يبعث الانسان على ، هو علم لا نور فيه ، ولا ثمرة له ، ولا خير ، والعلم على ما قاله الصادق(علیه السلام) ، ملازم مع الخشية ، وصاحب الخشية لا يمكنه ترك التهجّد ويفزع إليها من خشيته.

وايضا المؤمن أنّما یری صلاة الليل ازيد اثرا في تحصيل العلم من المطالعة وقد كان شيخنا (رحمةالله علیه) اوصى لنا ان نلتجىء الى الله ، ونتضرع إليه عند تحيّرنا في المطالب العلمية ، وقد جرّ بنا ذلك والسر في كون التهجّد ، والدّعاء من أسباب تحصيل العلم ، ان العلم كما صرح به في بعض الروايات ، ليس بكثرة التعلّم ، بل نور يقذفه الله في قلب من يشاء ، والتهجد أنّما ينوّر القلب ، ويثبت النور في قلب المؤمن ، وهكذا المناجات في الليل ، كما روى عن الصادق (علیه السلام) انّه إذا تخلّى العبد بسيده في جوف الليل المظلم ، وناجاه اثبت الله النور في قلبه فاذا قال يا ربّ يا ربّ ناداه الجليل جلّ جلاله : لبيك عبدي سلني اعطك وتوكل علي اكفك الحديث ، وكيف كان من كان له تتبع ما في أخبار أهل البيت (علیه السلام) وأحوال السلف من مشائخنا العظام (رحمةالله علیه ) لا يشك في ان صلوة الليل ليس ضد تحصيل العلم ، بل من أسبابه القريبة القوية ، وكثيراً ما عرفنا من المحصلين من کان من المتهجدين، وصار ذلك سبباً لاستقامة فهمه، وجودة ذهنه في الوصول إلى المطالب الحقة في المسائل العلمية، وارتقى إلى المراتب العالية من العلم ، بخلاف الطالبين منهم المجدين في مطالعة الكتب العلمية ، وقلّما خرج منهم صاحب ملكة مستقيمة ، نعم ربّما يوجد فيهم ايضاً مدقق مشكك ، ولكن لا يكون محققاً ، ولا يكون في علمه بركة كاملة ، بل يقل خيره ونوره ، ولا يوفّق لفوائد العلم هذا.

ص: 293

وقد خرجنا في هذا المقام عمّا أردنا من الايجاز لعقدة كان في قلبي من قديم الايام ، على الله عن القول بالاهواء ، وعن طغيان القلم.

ثمّ انّ المؤمن لابدّ ان يكون في أوّل يومه واول ليله في فكر تهجده وتهيئة أسبابه بالنوم في النّهار ، واوّل الليل ، وتهيئة اسبابه من المكان المناسب، وكتب الدّعوات، وماء الوضوء والسواك، والسراج وقرائة آية قل انّما انا بشر - اه .

أقول: هذا من المجربات عند المتهجدين ، وورد ايضاً عن النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) من اراد قيام الليل ، واعد مضجعه فليقل اللهم لا تؤمني مكرك ، ولا تنسنى ذكرك ، ولا تجعلني من الغافلين ، اقوم ساعة كذا وكذا فانّه يوكل الله به ملكاً ينبهه في تلك السّاعة.

وبالجملة من جهة ان الحال في أوّل الليل ، مؤثرة في توفيق آخر الليل ، لا بد لطالب التهجد الجد في القيام على وظائف آداب النوم على مرضات الرّبّ تعالى ، ليوفقه على مرضاته في آداب القيام والتهجد ، ومن الوظائف المهمة ان يحاسب نفسه عند نومه من أول قيامه في الليلة الماضية ، إلى حاله الحاضر محاسبة كاملة ، كما قرّر في محلّه ، ثم ليعلم ان النّوم اخ الموت ، وانّ عند النوم يقبض الله روحه ، ويتوفاه كما يتوفى روح الميت، ويذكر بل ويقرء قوله تعالى : «الله يتوفى الانفس حين موتها ، والتي لم تمت في منامها » فيأخذ عند النوم عدّة الموت الصغير ، ويعلم أنّه ان لم يعد الله روحه إلى بدنه ، فهو ميت لا يقوم أبداً ، وان اعاده فبفضل جديد ، فيقول عن قلبه ولسانه: ربّ ارجعون لعليّ اعمل صالحا ، ويتذكّر إنّ النائمين كلهم يقولون ذلك بلسان حالهم وكثيراً منهم يردّ عليه ، بقوله تعالى : كلا انّها كلمة هو قائلها، ومن ورائه برزخ إلى يوم يبعثون ، وينام على طهارة وذكر ، ويعمل باهم ما ورد في هذا الحال ، من الادعية والاذكار مسلّماً روحه ،

ص: 294

ونفسه وقلبه ،وقالبه ، واموره كلّها الله ، ويقول بلسان حاله ، روح إلى الله.

وأما الوظائف المرويّة.

فمنها التسمية في أوّل الدخول إلى الفراش ، وقرائة آية آمن الرسول أه ، عن ظهر القلب ، ملتفتاً إلى ما فيها من الاشارة إلى تفضّلاته جلّت آلاؤه إلى هذه الامة بشفاعة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) ، ومتشكّراً بقلبه نعمة ربه وشفاعة نبيه (صلی الله علیه وآله وسلم) ثمّ تسبيح الزهراء (علیها السلام) ، ثمّ قرائة الفاتحة ، وقرائة سورة التوحيد ثلاث مرّات، أو أحد عشر مرّة ، ويقول : يفعل الله ما يشاء بقدرته ، ويحكم يريد بعزته ثلاث مرّات ، ثمّ يقرء آية الكرسي ، وآية شهد الله ، ثمّ يستغفر بما ورد ، ثمّ يقرء التسبيحات الاربع ، ثمّ يصلّي على النبيّ صلی الله علیه وآله وسلم وآله(علیهم السلام)، وعلى الانبياء الماضين صلوات الله عليهم اجمعين وقد ورد لذلك كله فضائل لا تحصى ، وينام على طرفه الايمن مستقبل القبلة ، كما ينام الميت في قبره ، ويذكر الله بعد ذلك ، ويتوجه إليه حتى يغلب عليه النوم في حال الذكر، وإذا نام هكذا فهو في عبادة، بل روحه عند الله ، وفي كنفه ، وظلّ عطوفته ، بل هذا النّوم اعلى واشمخ من يقظة الغافلين ، وإذا نام هكذا يرجى ان يمن عليه جلّ جلاله ببعض الكرامات البشارات الخاصة بالرّؤيا ، وغيرها كما ورد في الآية الشريفة «ولهم البشرى في الحياة الدُّنيا ، وفي الآخرة»وفسرت في الاخبار بالرّؤيا الصالحة ، واشهد بالله اني اعرف من زار بعض الائمة (علیه السلام) في الرّؤيا ، وسئله عن بعض المعارف الجليلة ، والاسرار الخفية واجيب بما قرّت به عينه ، ومن انكشف له في الرؤيا عن حقيقة نفسه ورأى كأنه قد تلاشت العوالم ، وطلع مكانها روحه ونفسه ورأى كأنّ نفسه متحدة بحقيقة ملك الموت. وانتبه من نومته، وهو على هذا الحال، ورأى بعد الانتباه أنّ روحه كأنّها تجذب بدنها اليها،وهاله

ص: 295

ذلك ، ونادى ضجيعته : يا فلانة يا فلانة حتى ذهب عنه هذا الحال ، وهذا الحال هو عبارة عن معرفة النفس التي هي طريقة إلى معرفة الرّب كما في الاخبار المستفيضة ، وغير ذلك من امثاله ، وبالجملة يمكن للمجاهدان يكتسب في نومه مالا يكتسب في اليقظة من العوالم الرّوحانية ، ثمّ انّه إذا نام على ذلك فله ان يتذكر كلما انتبه قبل وقت قيامه ، بما ورد وغيره ويقول عند تقلبه على فراشه : التسبيحات الاربع او الثلاث باسقاط اوّلها، وعن الباقر (علیه السلام) في قوله تعالى : وقليلا من الليل ما يهجعون ، قال: كان القوم ينامون ، ولكن كلّما انقلب احدهم ، قال : الحمد لله ، ولا اله إلا الله ، والله اكبر ، وإذا استيقظ للقيام ، فله ان يتذكر بذلك فضل الله عليه بحياة جديدة ، ويخر قبل ان يجلسن ساجداً ، ويقول في سجوده: بعض ما ورد ، وايسرها ان يقول: الحمد لله الذي ردّ عليّ روحي لا عبده وأشكره او يقوله : قبل السجدة بمجرد الانتباه على فراشه ، ثمّ يسجد ، ويقرء فيه قوله (صلی الله علیه وآله وسلم) : الحمد لله الذي بعثني من مرقدي هذا ، ولو شاء لجعله ساكناً الى يوم القيامة ، الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر ، او اراد شكوراً ، الحمد لله الذي جعل الليل لباسا ، والنّوم سابتاً، وجعل الليل والنهار نشوراً ، لا اله إلا انت سبحانك اني كنت من الظالمين ، الحمد لله الذي لا يخبؤ منه النجوم، ولا تكن منه الستور ، ولا يخفى عليه ما في الصدور ، ثمّ يجلس من السّجدة ويقول: حسبی الرّب من العباد، حسبي الذي هو حسبي منذ کنت حسبی، حسبي الله ونعم الوكيل، واذا التفت العبد على نعمة هذه الحياة الجديدة ، وحمد الله عليها ، فليغتنم الفرصة ، ويكون جده ورجائه في ان يحصل في حياته هذه حياتاً باقية ، لا موت بعدها ابداً ، وليعلم أن حياته هذه بمنزلة رأس مال اعطاه الله تعالى ليتجر به ، وان امكنه ان ينتفع به انفس الامتعة ، فعليه ان لا يتسامح في ذلك ، وليعلم

ص: 296

ايضاً انه ليس في الوجود ولا في الوهم موجود انفع وانفس، واكمل وابهى واشرف واجود من الله، ولا نظير له، بل ولا نفع ولا نفاسة ، ولا جمال ولا بهاء، ولا شرف، ولا جود، بل ولا وجود إلا في الله ومن الله، وبالله، فاذا لا يليق للمطلوبيّة بالذات عند العاقل إلا الله ، وكلّ مطلوب سواء مطلوبيته منه، سواء في الدنيا، أو في الآخرة ، ولا شرف

ولا كمال ولا لذة إلا منه وبه ، وألذ الاشياء ، وألذ الاشياء ، وابهجها قربه ، ومعرفته واذ لا يهتم العاقل إلا لطلبه ، ويترك غيره ، ويصرف همه ، وهمته عن جميع الاشياء اليه ، ثم الى مرضاته ، قل الله ثم ذرهم ، وبالجملة يجعل همّه الاهم ، بل جميع همه في الله ، ولا يصرف عمره في طلب شيء غيره من المشتهيات النفسانية وامور المواشي ، اما الأولى ، فلان الاشتغال بها من جهة كدرها ، وعدم بقائها ومضادتها باللذات الروحانية الواقعية خسران عظيم، وأمّا الثانية فلان همّها، والشغل بها مع ما فيه من هلاك القلب، وتفرّق الحواس، ومضادته بالذكر، والفكر قذى في عين العبودية ، ونقيض للتوكل ، لا فائدة فيه ، لانّ المقدّر كائن ، والهم فضول وخسران ، وإذا عرف الانسان ذلك معرفة شخصية حقيقية ، وصار وجدانيّاً له كما عرف اهل الدنيا لذاتها، يكون قلبه وروحه وسرّه كلّها مستغرقة في محبة الله ، ويسرى ذلك على أعضائه وجوارحه ، ويكون جميع ما سواه عنده احقر، وادون ممّا يطئه برجله ، بل قد يكون مستغرق الهم، والقلب في حضرته حتى يتعطّل قلبه عن ذكر ما سواه، وعن الالتفات الى غيره، وعقله عن التدبير في اموره ، ويحصل له شبه الهيمان كما روى ذلك في بعض حالات امير المؤمنين (علیه السلام)، واشير اليه في حديث المعراج بقوله: واستغرقن عقله بمعرفتي، ثمّ لأقومنَّ له مقام عقله.

وبالجملة مفتاح خير الخير، واسعد السعد، معرفة الله، ومحبة الله، والذ اللذات، وابهج البهجات في الانس بالله.

ص: 297

هذا وقد خرجنا من وظيفة الكتاب بذكر هذه الجملة ، فلنعد على وظيفتنا.

ونقول: قد ورد في تفصيل كيفية صلاة الليل، والتهجد عن ائمة الدين، آداب ووظائف مفصّلة ، وادعية ومناجات عالية المضامين مناسبة الشؤون الاحوال الحاضرة ، ملائمة لا حوال جميع السالكين الى الله، من ذوي المقامات المختلفة ، فمن ارادها فليراجع الى كتاب صلاة البحار.

ولنا في هذا المقام كلمة ، وهي ان يراقب العبد حاله ، ويختار ما يناسبه ويؤثر فيه من تلك الوظائف ، وقد كان السلف من اهل الله يجدون في تحصيل الرّقة ، وسائر الاحوال السنية ببعض الحالات ، من لبس المسوح ، وشدّ الايدى الى الاعناق ، والتمرغ في التراب ، وتقريب انفسهم واعضاء بدنهم الى النار ، وحثّ التراب على رؤوسهم، والدخول في القبور ، ونداء الاموات والتكلّم مع انفسهم ، والخطاب لها بعتابات القرآن ، واختيار الدعوات والمناجات المؤثرة المحرقة للقلوب ، كلّ ذلك لاستجلاب الاحوال المطلوبة التي هي من اهم ما يجب مراعاته ، وان يحترز عن مخالفة الحال ، مع ما يناجي به الربّ تعالى ، والكذب في مثل هذا الوقت ، وذلك الحال ، مثلا اذا قرء بعض مناجات السيد السجّاد (علیه السلام) ، وقرء فيه قد ترى يا الهي فيض دمعي من خيفتك ، ووجيب قلبي من خشيتك ، وانتقاض جوارحي من هيبتك ، كل ذلك حياء مني لسوء عملي ، ولذلك خمد صوتي عن الجهر اليك اه.

وعينه جامدة من البكاء ، وقلبه ساكن من الخوف ، وخال من الخشية وعار من الهيبة وجوارحه على ما كان من الاستقامة ، ولم يؤثر الحياء فيه شيئاً ولم يخمد صوته. اليس هذا كذباً صريحا عن مشافهة وحضور الا يخاف العبدان يجيبه الله تعالى يا كاذب؟ اما تستحيى من هذا الكذب الصريح ؟ والدّعاوى

ص: 298

الباطلة اتتوّهم اني لا ارى ظاهرك او خفى علي قلبك ، او ترى ان مخالفتي والكذب في حضوري ، يجوز عليك ؟ اما وجدت اهون عليك منّي ؟ اما كنت تستحيي من الناس ان يعلم كذبك عندهم ، وتخالف رضاهم في حضورهم ؟ ولا تحتشم عن مخالفتي والكذب في حضوري في مقام مناجاتي اتستهزئني ولا تهاب مني ، ولا تخاف قهري وبطشي واخذي ؟ وكيف بك اذا ظهر لك اثار قهري ، واخذي التي لا يقوم لها السموات السبع والارض ؟ وهكذا الى غير ذلك من مضامين المناجات والدعوات التي ليس قلب الداعي متصفا بما يصف فيها من نفسه حتى:

لفظة استغفر الله.

روى عن أمير المؤمنين (علیه السلام) ، انه قال لقائل بحضرته استغفر الله : ثكلتك امك اتدري ما الاستغفار ؟ انّ الاستغفار درجة العليين ، وهو اسم واقع على ستّة معان.

اولها: الندم على ما مضى.

والثاني: العزم على ترك العود عليه ابدا .

والثالث: ان تؤدّي الى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله املس، ليس عليك تبعة.

والرابع: ان تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها تؤدّي حقها .

والخامس: ان تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت، فتذيب بالاحزان حتى يلصق الجلد بالعظم ، وينشأ بينهما لحم جديد.

السادس: ان تذيق الجسم الم الطاعة ، كما اذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: استغفر الله،

اقول: إذا كان الامر بهذه الدقة ، فليعالج المناجي دعواته ومناجاته بقصد المعنى الذي يناسب حاله، وبالتّجوّز، أو بغيره بما يجوز

ص: 299

له قوله ، مثلاً إذا اراد في وتره أن يقول : استغفر الله واتوب إليه ، يقصد من الاستغفار طلب المغفرة ، أي السِّتر بالرّحمة . ومن التّوبة الرّجوع إلى الله، اي إلى ذكره وطلب مغفرته من الغفلة، ولا يقصد معنى التوبة المطلقة ، ويفعل ذلك في جميع اذکاره ، ودعواته لانّ لكلّ ذكر حقيقة واقعية ، يجب ان يكون قائله على صفته ، مثلاً للتهليل والحمد والتسبيح والتكبير ، وغير ذلك حقائق يوصف بها ،قائلها، مثلاً موحداً حامداً مسبحاً مكبّراً ، فاذا خالف حقيقة قلب المهللّ التوحيد المطلق الكامل وهكذا لم يكن بقلبه، وحقيقته حامدا ومكبرا ، ومسبحا فليقصد عند ذكرها المعنى الخاص الذي يناسب حاله ، لا مطلقه الّذي لا يتصف به ، وان كان لا ينطبق حاله وصفته بما يقوله ، إلا بالتجوّز مثلا يقصد بتوحيد الله ما يقابل قول المشركين والكافرين ، القائلين بعبادة الأوثان ، واليزدان والأهريمن ، لا التوحيد الذي ينقض، التوكل ، مثلا ، وهكذا يقصد بتكبيره ما يقابل قول القائلين بالجسم والقائلين بالتعطيل مثلا ، لا حقيقة التكبير العملي الذي اشير اليه في رواية مصباح الشريعة ، حتى ينافيه عدم الالتذاذ بالمناجات ، فان حقيقة التكبير انّما ينافي واقعاً مع عدم الالتذاذ بمناجاة الكبير ، لان الانسان مجبول في نفسه من الميل والرّغبة الى الكبراء ، والمعاملة معهم ومجالستهم ومناجاتهم وانسهم فاذا كان الله في قلبه اكبر من كلّ شيء ، أو اكبر مما يوصف، فلابدّ ان يلتذ بمناجاته ، ويرغب الى ذكره ، والانس به والخلوة معه ، وإذا لم يوجد في قلبه اللذة والرغبة ، يكشف ذلك عن عارض عن حقيقة تكبيره في قلبه، وبالجملة :

قولك: اشهد ان لا اله الا الله ليس توحيداً حتى يشهد له قلبك ، وإذا شهد القلب بالتوحيد ، لا بد ان يترشّح من توحيده على اعمالك واذا خالف القلب اللسان ، او العمل القلب ، لا تعد بهذه الشهادة موحدا ، بل منافقاً ، وان اتصف قلبك ببعض مراتب التوحيد ووجد في

ص: 300

عملك آثاره بقدره ، خرجت بذلك من النّفاق المطلق ، ولكن لا تكون بذلك موحدا على الاطلاق ، فان ادعيت ذلك بقصد منك على ذلك حين قولك: اشهد ان لا اله الا الله ، لا يقبل منك الدعوى بلا حقيقة، فتدخل بذلك في بعض مراتب النّفاق فالاولى ان تلتفت عند قولك ودعائك ، الى ما تقصد بها ممّا يناسب حالك ، ولا يكذبك في قصده قلبك وعملك ، ولو بنحو من التجوّز والاتساع ، فالاولى للمتهجد ان يكثر فكره في هذه المعارف ، ويحبس نفسه على التفكّر عن الذكر ، حتى يلجاه الحال الى الذكر والدعاء ، وهذا يقل فيه مخالفة اللسان مع القلب ، لا سيما اذا كان عارفاً بمداخل الكذب ، والنفاق على اقواله وافعاله.

ثمّ انّ الذي ذكرنا من استجلاب بعض الافعال ، الاحوال المرغوبة، من، من شدّ الايدي الى الاعناق، وغيره لابدّ ان يراعى في ذلك ايضاً موافقته مع الحال فاذا خالف الحال الصّورة ، وذلك ايضا من شعب النفاق ، نعم لا يجب ان يكون الاقدام على هذه الافعال عند الابتداء بها عن حقيقة كاملة ، لمن يريد ان يعالج بها استكمال الحال ، واستجلاب الكمال ، ولكن لا بد ان يكون واجدة لبعض مراتب الحقيقة ، ومريداً بها كمال الحقيقة ، مثلا اذا قام عن نومته التي كانت على ما وصفناها من الوظائف ، وفعل عند انتباهه ما ذكرنا، وتفكر فيما ذكرناه ، لابدّ ان تؤثر ذلك في قلبه من الحسرة ، والخشية ، والمذلة ما تهيئه للجلوس على التّراب، وشدّ يديه الى عنقه مثلا ، حتى يستجلب بذلك كمال هذه الاحوال ، والا فمن كان عند قيامه ايضاً نائماً ، بل ميتا عن روح ذكر الله ، ومستهتراً في ذكر الدنيا ، فلا فلا ينبغي له ان يقدم على بعض الافعال الناشية عن الاحوال السنية ، ولا ينتفع مثل صاحب هذا القلب منها ،بل قد يتضرّر، وقد يكون مضحكاً ايضا، والاولى والافضل في ذلك ايضاً ان ينتشأ ذلك عن احوال القلب، بعد كمالها،

ص: 301

وبعد امساك ما، حتى يغلبه الحال في الاقدام عليه ، ولا بأس ان يفعله عن حال ما ، بقصد استكمال الحال به

روى في الانوار عن ابي قدامة الشّامي ، حكاية شاب استشهد في الجهاد ، وفيه انّ الشّابّ اوصى اليه حين اصيب ان يوصل خرجه الى امه ، فمات واذا دفنوا جثته ، رأوها وقد خرجت من القبر ، فاذا بطيور بيض ، وقعوا عند جنازته على الارض ، واكلوا لحمه ، وبقيت عظامه فدفنوها ، فاذا جاء ابو قدامة بخرجه الى امه ، ليدفع اليها الخرج ، سألته عن خبره ، فاخبرها بقصة الطّيور ، فحمدت الله ففتحت الخرج ، واخرجت منها مسحاً وغلا من حديد ، وقالت كان ابني اذا جنّه الليل لبس هذا المسح ، وغلّ نفسه بهذا الغل ، وناجي مولاه ، ويقول في مناجاته : الهي احشرني من حواصل الطيور ، فاستجاب الله دعائه، اقول: اذا كان حال العبد مثل حال هذا الشاب ، يليق به هذا العمل ، ويؤثر فيه ذلك الأثر ، رزقنا الله مثل هذه الاحوال من فضله وكرمه ، بحق المتهجدين من اوليائه ، واهل خلوته ، وانسه، وبالجملة عمل العاملين ، سواء كان من الأقوال او الافعال على وجوه ثلاثة :

الاوّل: ان يتنسى القول والفعل، عن حال وصفة في القلب ، فانّ القلب اذا احترق من الم موت الولد مثلا ، لا بدّ ولا حيلة من النوح والبكاء، واظهار الاحزان والاشجان ، وذلك كلّها تغلي من قلب التكلى من غير تعمل ، وهكذا اذا احترق من الم الفراق ، لابدّ من بثّ الشكوى ، واظهار الشوق والعشق ، ويقول لسان حاله:

«جون شب آمد همه را دیده بیار آمد و من *** گوئی اندر بن مویم سرنشتر میشد».

وهكذا اذا استشعر تطلع الحبيب عليه ، وعلى احواله فلا محالة يظهر التضرّع ، والاستكانة والابتهال، والملق بالسجود على التراب ،

ص: 302

والخرور على الاذقان ، ونحوها على قدر عظمة المحبوب ، واستشعار الجناية ، والتقصير والقصور ، من نفس المحب وفي ذلك قيل بالفارسية:

بسیرا زبونیها بر خویش روا دارد *** درویش که بازارش با محتشمی باشد.

فكلّما صدر قول ، او عمل من المتهجد من صفة القلب ، سواء كان توحيداً او عملا ، او تسبيحا او تكبيراً أو ركوعاً أو سجوداً ، أو دعوى الشوق ، او اظهار الانس ، او غير ذلك ، فهو المطلوب الاول والمقصد الاسنى من التهجد ، والقيام ، والصلاة والعبادات كلّها.

والثاني: ان يخالف القلب العمل ، مخالفة تامة كصلاة المنافقين ، وهم كسالى ، وكدعوى اكثر العامة مثلا التوكل ، وكدعوى الفارغ من جميع مراتب المحبّة الحبّ ، واظهار الشوق ، وشكواه من الم الفراق فانّ ذلك هو الذي لا ينتفع به صاحبه ، بل ويتضرر به.

والثالث: ان يكون في القلب صفة من هذه المراتب ، ولكن لا على حد يبعث من غير تعمل على العمل المخصوص ، من قول وفعل، وحينئذ ينبغي للعامل ان يعمل العمل قولا، وفعلا مع قصد مقدار حاله وصفة قلبه ، ولو لم يصح دعواه الأ بالتجوّز ، ويستكمل بذلك حاله، وقلبه ، ويستجلب بالعمل كمال الحال ، واياه ان يقصد من فعله ، وقوله ازيد عمّا في قلبه ، فيكون كاذباً ومنافقاً ويسير سبباً للخذلان والخسران، هذا.

فليكن قيام العبد إلى تهجده عن الشّوق ، فاذاً لا يرضى بالقليل، والافضل ان يجعل ذلك مقدار ما بينه كتاب الله لنبيه (صلّی الله علیه وآله وسلم) ، وطائفة من المؤمنين الذين كانوا معه ، وان لم يوفّق بهذا المقدار لاعذار عامة ، او خاصة فلا محالة ان يكون ذلك في الشّتاء ، اربع ساعات او خمس ساعات ، وفي الصيف من الثلاث الى ساعتين ، وان امكنه ان يقوم عند

ص: 303

الانتصاف الذي هو مخصوص لاهل الخلوة، حتى يصلّي اربع ركعات من صلوات الليل، ويدعو الله تعالى في الله تعالى في الساعة الاولى من النّصف الثاني، في مهماته، ثمّ ان غلبه النوم نام ساعة، ثم يقوم ثانياً الى اتمام ورده، فانّ هذه الساعة، ساعة مخصوصة لاجابة الدعاء، وللخلوة سيار الله تعالى.

كما ورد ذلك في خبر(1) ابن اذينه عن الصادق(علیه السلام) ، قال: ان، في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم ، يصلّي ، ويدعو الله فيها الا استجاب له ، قال الرّاوي: قلت له: اصلحك الله ، واية ساعة هي من الليل ، قال : اذا مضى نصف الليل ، في السّدس الاوّل، من النصف الثاني.

وقد روى النوم بعد اربع ركعات منها ، عن رسول الله في بعض الليالي ، ثمّ القيام ثانياً ، ثمّ انّ من مهمات اهل المحبة ، اكرام رسول الحبيب.

ولذلك انشأ قدوة اهل المراقبة سيّدنا الاوحد، جزاه الله عن امة جدّه، جزاء المعلّمين المنبهين ، لجواب منادي الله تعالى في الليالي كلاماً لطيفاً جامعاً لمراسم هذا المقام ، مناسباً لاداء حق المنادي والنداء .

وهو قوله: اللهم اني قد صدقت بربوبيتك ، وبمحمد خاتم رسالتك ، وبهذا المنادي عن جوارك ، وان لم تسمعه اذني ، فقد سمعه عقلي المصدّق بالاخبار المتضمنة لوعودك ، فانا اقول: مرحباً بك ايها الملك الوارد علينا من مالكنا الحكيم الكريم الجواد المحسن الينا ، قد سمعنا بلسان حال عقولنا قولك ، عن معدن انجاح مسؤولنا، هل من سائل فاعطيه سؤله ، وانا سائل لكلّ ما احتاج اليه مما يقتضي دوام اقباله

ص: 304


1- رواه في الكافي.

عليّ، ودوام توفيقي للاقبال عليه ، وتمام احسانه الي ، وكمال ادبي بين يديه ، وان يحفظني ويحفظ عليّ كلّ ما احسن به الي ، وسمعنا أيها الملك قولك ، عن مولينا الذي هو اهل لبلوغ مأمولنا ، هل من تائب فأتوب اليه ؟ وانا تائب اختياراً واضطراراً ، لاني عاجز ضعيف عن غضبه ، وعقابه ، ومضطر الى رضاه وثوابه ، فان صدقت نفسي في التوبة على التحقيق ، والا فلسان حالي وعقلي تائب اليه ، بكل طريق من طرق التوفيق ، وسمعنا قولك ايها الملك عن سيّدنا وسلطاننا ، الذي هو اهل لرحمتنا ، وقبولنا : هل من مستغفر ، فاغفر له ؟ وانا مملوكنه المستغفر من كلّ ما يكرهه منّي المستجير ب-ه في العفو عني ، فان صدق قلبي ولساني في الاستغفار ، والا فلسان حال عقلي ، وما انا عليه من الاضطرار ، والاعسار ، والانكسار يستغفر عنّي بين يدي جلالته ، وعفوه ورحمته ، وانا ذليل حقير بين يدي عزّته ، ورأفته ، وقد جعلت ايها الملك ما قد ذكرته من سؤالي ، وتوبتي واستغفاري ، وافتقاري ، وذلّي وانكساري امانة مسلّمة اليك ، تعرّضها من باب الحلم والرحمة ، والكرم والجود ، على من انعم بك علينا ، وبعثك الينا ، وفتح بين يدينا ابواب التوسل اليه فيما تعرضه عليه.

وقال: وإن لم تحفظ ما ذكرناه ، ولا تهيّأ لك ان تتلوه فاكتبه في رقعة . وتكون معك تحفظها ، كما تحفظ عزيزك ، واذا كان في ثلث الاخير من كلّ ليلة ، تخرجها بين يديك ، وتقول : أيها الملك المنادي عن ارحم الراحمين ، واكرم الاكرمين ، هذه قصتي قد سلّمتها اليك مالي لسان ولا جنان ، يصلح لكلام اعرضه عليك.

اقول: التعرض بجواب هذا المنادى ايضاً من قسط هذا السيد الجليل ره ، ولقد اجاد واتى بما هو فوق المراد ولكن ظنّي انه سقط منه بعد قوله ومحمد خاتم رسالتك ذكر التصديق باوصيائه.

فالاولى ان يقال، بعده، وباوصيائه المعصومين الاثنى عشر،

ص: 305

حججك ، وخلفاءك ، عليهم افضل صلاتك وسلامك.

ثم يعقبه بقوله: وبهذا المنادى ، وانا اقول : وان شاء ان يجمع بين الامرين، فليقل في ليلة الجمعة من أوّل الليل ، وفي سائر الليالي في أوّل الثلث الاخير.

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، بأفضل صلواتك ، وصل على هذا الملك الكريم الوارد علينا، يندبنا الى رحمتك ، ودعاءك ومغفرتك ، وقبولك ، ووفقنا لاجابته على وفق رضاك ، ومره ومره ان يعرض استغفارنا ، ودعائنا ، وتوبتنا الى حضرت جمالك ، من باب حلمك وكرم عفوك ، وجودك ومنك ، وعطفك وحنانك ، يا حنان ، يا منان ، یا ارحم الراحمين ، وصلّ على محمد وآله ، والحقنا بهم ، واعطنا افضل ما وعدته لاوليائهم ، صلواتك وسلامك عليهم اجمعين

ثمّ انّ الّذي يجب بحكم العقل على العبد المراقب ، في وظائف جهات العبودية ، في تهجده خصوصاً، وغيره من اوراده عموماً، ان يأتم بائمّة الدّين ، من اهل بيت النبوة (صلّی الله علیه وآله وسلم) ، ويجعل ما روي عنهم في ذلك اسوة لنفسه، ومثالا بين عينيه ، بل يقيس في ذلك حاله مع احوالهم ويستكشف من ذلك حق ما يجب عليه من التمكّن، والتذلّل والتضرع ، والابتهال ، وأنّه اذا ثبت هذه التضرعات ، والتمكن والاعتراف منهم ، مع كونهم مقربين عنده، ومطيعين ل-ه لم يعصوا الله طرفة عين ابداً، ولم يسهوا عنه لحظة ابداً ، فما يكون حقنا مع سوء حالنا وذلّ مقامنا وتورّطنا في سوئة ذنوبنا واتصافنا بهذه الاخلاق الرذيلة مثلا اذا تأمل فى مناجات الائمة، لسان ضراعتهم، واعترافهم مع طهارتهم، وعصمتهم فليحكم على نفسه من حق الزّراعة والاعتراف، بما يجب عليه بحكم القياس.

وانا اذكر ما كان يناجي به الامام السجاد(علیه السلام) في السجدة ، بين كلّ ركعتين من صلاة الليل فليكن عبرة لامثالنا، فيما يجب من اداه حق

ص: 306

جهات العبودية ، روي(1) انّه كان يسجد بين كلّ ركعتين سجدتي الشكر ، ويقول فيها ، الهي وعزّتك وجلالك ، وعظمتك ، لو اني منذ بدعت فطرتي من أوّل الدهر ، عبدتك دوام خلود ربوبيتك ، بكل شعرة في كلّ طرفة عين، سرمداً ابداً بحمد الخلائق ، وشكرهم اجمعين ، لكنت مقصراً في بلوغ اداء شكر خفّي نعمة من نعمك علي، ولو اني كربت معادن حديد الدنيا بانيابي ، وحرثت ارضها باشفار عيني وبكيت من خشيتك مثل بحور السموات والارضين دماً وصديداً ، لكان ذلك قليلا من كثير ما يجب من حقك عليّ ، ولو انك الهي عذبتني بعد ذلك ، بعذاب الخلائق اجمعين ، وعظمت للنار خلقي ، وجسمي ، وملأت طبقات جهنّم منّي ، حتى لا يكون في النار معذب غيري ، ولا يكون بجهنّم حطب سواي ، لكان ذلك بعدلك عليّ ، قليلا من كثير ما استوجبه من عقوبتك، تأمل يا اخي في هذه الحال، ممّن رأى من حق شكر الله عليه مثل ما رآه (علیه السلام) وذكره في هذا الدعاء ، بعد القسم بعزة الله وجلاله ، ورای من استحقاق العقوبة ما ذكره (علیه السلام) ، كيف يكون حاله في حضور مولاه ، واذا كان هذا حاله (علیه السلام) مع طهارته وعبادته ، وزهده في الدنيا ومعرفته ، ومحبّته على مولاه ، وقربه منه ، فكيف يجب ان يكون حالنا مع ما نحن عليه من هذه الاحوال ؟ فواسواتاه ، وواحسرتاه على ما فرطنا في جنب الله ، وقد كنا من الساخرين على انفسنا ، وبالجملة اصل كلّ خسران الجهل ، والغرور، والّذي اراه في نفسي ، وفي امثالي من الجاهلين ، أنّه لو يبكي ساعة من خوف الله ، وجرى من عينه عشرة مشاقيل من الدموع ، يجد من نفسه حالا او طمأنينة كأنّه أدّى حق شكر الله ، وازيد ، بل اذا انضم اليه احياء ليلة يتراءى من حاله شبه دلال في اعماله ، ودعواته كأنه يرى حقاً لنفسه ، على الله ، وقس يا مغرور هذا

ص: 307


1- رواه شيخنا البهائي في مفتاح الفلاح.

الحال من عباداته وزهده، ومثل ما له (علیه السلام) ، وبكى اربعين سنة ، وهو يرى جناياته ، وقصوره في اداء حق العبودية ، بحيث لو عذبه الله بعذاب الخلائق اجمعين ، وملأ طبقات جهنّم منه ، كان ذلك قليلا بالنسبة الى كثير ما يستوجبه من عقوبة الله ، فسبحان خالق النور ، والحمد لله حمداً ينبغي لكرم وجهه ، وعز جلاله في خلق هؤلاء الانوار الساطعة من اوليائه ، ومنه بهم ، وبمعرفتهم ، وولايتهم علينا، وصلّى الله عليهم صلاة ينبغي لكرم وجهه، ونور جماله، وفيض جوده ، وكماله، ونستغفرالله برحمته، وبشفاعتهم، ان يغفر لنا عظائم اوزار الجهل ، والغرور، واخرجنا بهم من الظُّلمات الى النور باذنه ، وهدانا الى الصراط المستقيم، والحمدلله رب العالمين.

ثمّ انّه ينبغي ان يكون همّ الرّجل في تلطيف المراقبة ، ويعالج في ذلك بكلّ ما يقدر عليه من الضّراعة ، والابتهال ، والتبتل، والتبصبص والبكاء ، والدعاء ، ونداء الله باسمائه الجمالية ، والسكوت ، والنظر الى السّماء ، واطراق الرأس، واحضار النفس الى مجلس القود، وتكرار القول: بيا الهي، وسيدي كيف نظرك الي بين سكان الثرى، ام كيف منعك علي في دار الوحشة والبلا، الهي يا مولاي ليت شعري ماذا تقول بدعائي، ويكرر ذلك كثيراً، ثمّ يفرض نفسه حاضراً بين يدي الله تعالى، ويقول: مخاطباً عن الحضور اتقول: لا؟ ويكون التلفظ بلفظة لا، اثقل عليه من الجبال، ثم يقول: فان قلت: لا، فيا ويلي يا ويلي ، ويا غوثي ويا غوثي ، ثمّ يتفكر في خزي ردّه تعالى في جميع عوالمه ، وآثاره في عقله، وروحه، وقلبه وبدنه، ثم ينوح على ذلك كله واحداً بعد واحد، ويقول: فيا ويل عقلي ان حجبه ربّي ، وسيدي كيف يكون حاله ، اذا اختلس عن مقام النور ، وشرف الحضور ، وعن درجة التمكين ، مطاع ثمّ امين ، وصار عابداً للهوى ، ومطيعاً لخنزير الشهوة،

ص: 308

وخادماً لكلب الغضب ، وحجب عن مجاورة الاطيبين ، وقرب ربّ العالمين ، فمسخ عن حقيقته ، فصار شيطاناً مفتناً ، وابليساً مدلّساً ، يذكر ما يصل الى روحه من النّكال من ردّ الملك المتعال، ويقول: فيا ويل روحي ، ان منع عن جوار الله ، والتعلّق بعزّ القدس ، وطرد عن مجلس الانس ، وحجب عن العليين ، وصار في مهوى دركات السجين ، وقرن مع الشّياطين، ثمّ يذكر قلبه، ويقول: ايا ويح قلب من به مثل ما بيا ، اذا منع عن ذكر الرّحمن ، ومحبة الحنان المنّان ومال الى الشّيطان وعشق هذه الدنيا الدنية واستهتر في حبّها ، ووقع في جبها ، واخلد الى الارض ، فمثله كمثل الكلب ، ان تحمل عليه يلهث ، واسود من ظلم المعاصي، واعتاض من ذكر الله بالتناسي ، ومن العلوم بالوسواس ، فطبع عليه ، ولم يبق له طريق الى الخلاص ، ثمّ ينوح على اجزاء بدنه واحداً بعد واحد ، ويخاطب رأسه ، ويقول : يا رأسي كيف بك من غضب الرّحمن ، ان عذبك في الدنيا ، ومسخك برأس القردة والخنازير ، او سوّد وجهك ، وفضحك بين العالمين، او اعمى بصرك ، او اصم سمعك ، او اخرس لسانك، او شوه خلقك ، اما رأيت وسمعت، رؤساً كثيرة من العصاة ، غضب عليهم الرّحمن ، وعذبهم بذلك ، او بغيرها من المخازي ، او ارسل اليهم نارا فاحرقها في الدنيا ، وساقها بعده الى نار الآخرة ، او اخر اخذك بما بعد الموت ، وما بعد الموت اخزى وادهى ، فياذا العقل والتعريف، والرأي والتصريف ، اما تذكر احوال القبر والبلى، والدّود والبلوى؟ اذ اغنيت في الثّرى، سيأكل التراب لحمك ، ويدخل الدود في انفك ، ويجري حدقتك على خدّك، وتبدّل من المنظر النظيف ، والجمال اللطيف، الى الحطب الكثيف، فيزيل وجهك في الثّرى ، ويغبر في الغبراء، فيرهقه قتر وذلّة وبؤس ومذلّة ، وكبر ومثلة ، فانظر في مرآة عقلك جمال صورتك وتأمل في قبح منظرك، وشوهتك، وخذ من هذه السوانح موعظتك، ثم اعطف عنان فكرك الى عذاب الآخرة ، والجحيم وتدبّر في الحميم،

ص: 309

الذي يصبّ على رأسك ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ، ولهم مقامع من حديد ، والقى في نار حرّها شديد، وقعرها بعيد، وحليتها حديد ، وشرابها الحميم والصديد.

وبالجملة ينوح على اجزائه واحداً بعد واحد ، ويذكر ما يفعل بها ، ان كان من اهل العذاب ، وان شاء ان يجعل نوحه كل ليلة بواحد منها ، وان شاء يقرء في بعض الليالي ما رواه الزّهري من نوح السّجاد على نفسه ، بالنثر والشعر ، ويجعل ليلة من لياليه ايضا ينوح فيها على حيائه ، فيذكر أوّلا من جميل صنع الله عليه، وطول اناته، وحسن طلبه ، ولطفه في دعوته الى خلوته ، وقربه ومجلس انسه، ثم يذكر معاملته مع هذا الرب الجليل ويتأمل فيما يجب عليه في قبال هذه الكرامات العظيمة ، يندب ، وينوح على مرونته وحيائه ، ووفائه ، ويقول : فواسوأتاه وواخجلاه من افتضاحي ، وقلّة حيائي، هذا ربي ، وسيدي ، ومنعمي ، ملك الملوك ، جبار الجبابرة ، اكرم الاكرمين ، هو يدعوني الى ذكره ، ومجالسته، والانس معه ، وهو ملك الملوك ، اغنى الاغنياء اله الارض والسّماء ، وانا استثقل عن قبول هذه الكرامات العظيمة، وانا اذل الاذلاء، فقير من كل الجهات، بل فقر محض، ولا شيء مفلس مرهون نعمه ، موجود بعنايته ، حي بحيوته ، مرزوق بنعمه ، مقصر جان في خدمته ، كيف لولا حلمه عني ؟ وقد امهلني ، وشملني بستره ، واكرمني بمعرفته ، وهداني السبيل الى طاعته ، وسهل لي المسلك الى كرامته ، واحضر في سبيل قربته ، وتحبب الي بنعمه ، وارسل لدعوتي الى مجلس كرامته، والاستيناس بمناجاته ، اکرم خلقه عنده واحب عباده اليه ، ولم يقنع في اكرامي بنعمة دون اخرى ، وكرامة فوق كرامة ، حتى اعزّني بارسال ملك في كلّ ليلة الى دعوتي ، فكان جزائه مني ، ان كافأته عن الاحسان بالاسائة ، وقبح المعاملة ، حريصاً على ما

ص: 310

اسخطه سريعاً الى ما ابعد عن رضاه ، مستبطأ لمزيده ، مستحظًا لميسور رزقه ، مستقضياً بجوائزه بعمل الفجار ، كالمراصد رحمته بعمل الابرار ، اتمنى عليه العظائم كالمدلّ الآمن من قصاص الجرائم ، فانّا لله وانا اليه راجعون ، مصيبة عظم رزئها وجل عقابها ، فما اقبحني والأمني ، وافضحني ، واشنعني ، وما اقل حيائي ، واعدم وفائي ، حين ج-اه-رت-ه بالكبائر ، مستخفياً عن اصاغر خلقه ، فلا راقبته ، وهو معي ، ولا راعيت حرمة ستره علي ، آه واسوء صباحاه، باي وجه القاه ، ام باي لسان اناجيه؟ وقد نقضت العهود ، والايمان بعد توكيدها ودعوته حين دعوته ، وانا مقتحم بالخطايا ، فاجابني وهو غنيّ عنّي ، وسكت عنه ، فابتدأني ، ودعاني ، ولم اجب ، واقبل اليّ ، واعرضت عنه ، فواسوأتاه ، وقبح صنيعاه ، اية جرئة تجرءت ، واي تعزير عزرت بنفسي ؟ فيالله من هذه العظائم الفظيعة ، والاحوال الشنيعة الفضيحة ، فوعزّتك وجلالك يا سيدي ومولاي ، ويا ملجيء ومنجاي، لو كان لي جلد على عذابك ، وقوة على انتقامك ، ما سالتك العفو عنّي ، بل دعوتك الى عذابي ، وعقابي سخطاً على نفسي ، ولؤمها ، كيف عصيتك بعد هذه الكرامات الجليلة ، واقبلت اليها ، واعرضت مديرة عنك ، بعد هذه الالطاف الجميلة ، ويا سبحان هذا الرّب الودود ، ويا سبحان هذا الحلم العظيم ، ويا سبحان هذا اللطف الالطف ؟ ! فقد فتح لامثالي من العصاة اللئام ، والطغاة الملائيم ، باب التوبة ، ولم يمنع عن الاوبة ، ووعد للتائب القبول ، وعفى عن السيئات ، وبدلها باضعافها من الحسنات، وبالجملة يكون جدّه في اظهار حقيقة جناياته ، وما يعرفه من كرامات ربّه ، ليكثر حسراته ، وجده وبكائه ، فيؤثر في نزول الرّحمة ، وشمول الكرامة.

ثمّ أنّه من اهم المهمات، ان يتوسل في آخر كل ليلة بخفراء الليلة ، وحماة الامة من المعصومين ، ويسلّم عليهم ويسئلهم ان يشفعوا

ص: 311

له عند ربّه بالقبول ، وتبديل السيّئات بالحسنات، ويجعلوه من شيعتهم وحزبهم ودعاتهم، ويرغبوا الى الله في ان يرضى عنه ، ان يرضى عنه ، ويقبله ويلحقه بهم ، ويجعله من شيعتهم المقربين ، واوليائهم السابقين.

هذا، ومن مهمات امر الصّلاة الجماعة ، وورد فيها ، وفي الترغيب عليها ، والزجر عن تركها ، امر عظيم في اخبار المعصومين ، وهكذا في فضلها ، وعقوبة تركها ، فمن اراد تفصيلها ، فليراجع كتب الاخبار، وانا اشير الى بعض ما ورد فيها ، بعد الاشارة الى سرّ تشريعها.

فأقول الحكمة العظمى في تشريعها اتحاد قلوب المؤمنين في امر الله ولذلك فوائد لا تحصى من قوّة امر الاسلام وغيرها ، وله تأثير في تكميل النفوس ، وقوّتها في السير الى الله ، واستجلاب الفيض الاقدس، فانّ رحمة الله اذا نزلت لواحد من المجتمعين ، لا سيما اذا كان اجتماعهم واتحادهم لله ، وفي الله ، يعم جميعهم ، وان لم يكن

، غيره مستحقاً له ، ومثل اجتماع القلوب ، اتصال المياه القليلة المتعدّدة اذا صارت بالاتصال كرّاً ، لا يقبل النّجاسة ، ولا ينجسه شيء ، وله سرّ شريف ، ووجه لطيف في علم المعرفة ، وايضاً صلاة الجماعة كالصلاة الواحدة ، فاذا فرض كون بعض المصلين واجداً لبعض شرائط الفضيلة ، والكمال ، والاخر واجداً للبعض الآخر ، فالكريم يعطي الفاقد ايضاً فضيلة صاحبه الواجد ، والعمدة في حكمة فضيلتها الأمران الأوّلان . واذاً يجب على العبد بحكم المراقبة، ان يجد في تقوية امر اتحاد القلوب ، مع اخوانه المؤمنين ، وصفائها فكلما زاد الاتحاد والصفا ، زاد تأثر كلّ واحد منهم من نور صحبه ، وزادت الروحانية ، فانظر في مبالغة الشّرع في هذا الامر ، وما ورد في مدح المواسين والموثرين على انفسهم ، ولو كان ولو كان بهم خصاصة خصاصة ، في القرآن والامر بصلة القاطع ، ووصل الهاجر ، وان يقول المحق لغير المحق انت

ص: 312

المحقِّ، وانا غير المحق، وجعل الكذب في الاصلاح بين الاخوين مستحبّاً، وندب المؤمنين في امر الصفا، بأن لا يخفى احدهم اموره من اخيه الثقة لانّ في ذلك نوع اختلاف بين القلوب ، ويضادّ كمال الصفا وانظر الى ما ورد في فضيلة التحابّ في الله من الامر العظيم ، الذي يتحير العقول ، ويعجبني ان اشير الى عدّة ممّا ورد فيها:

منها ما رواه في الكافي عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: ان المؤمنين اذا التقيا ، فتصافحا ، ادخل الله عزّ وجلّ يده بين ايديهما ، واقبل بوجهه على اشدّهما حبّاً لصاحبه.

اقول: تأمل في هذه الرواية، فانّ فيها لبلاغاً لانّ المتصافحين ، قد يكون احدهما من اهل الفضائل العظيمة ، والآخر من اهل المعصية ، واذا فرض انّ هذا العاصي ، احب المتقي اكثر من حبّه للعاصي ، واقبل الله عليه بوجهه ، دون المتقي كأنه يكشف ذلك عن كون المحبة في الله ، اشدّ تاثيراً عند الله من جميع الفضائل ، بل يكشف عن كون غيرها بالنسبة اليها كالعدم، ولعمري ان هذا امر عظيم، لا يقدر قدرها القادرون.

وروي فيه ايضاً في حديث ، عن ابي عبدالله(علیه السلام) قال: اما بلغك الحديث، انّ رسول الله (صلّی الله علیه وآله وسلم) كان يقول: ان الله خلقاً عن يمين العرش، بين يدي، بين يدي الله، وعن يمين الله، وجوههم ابيض من الثلج واضوء من الشمس الضاحية ، يسئل السائل ما هؤلاء ؟ فيقال: هؤلاء الذين تحابوا في جلال الله

وروي فيه ايضاً عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: قال رسول الله ، المتحابون فی الله ، يوم القيامة على ارض زبرجدة خضراء ، في ظل عرشه عن يمينه ، وكلتا يديه يمين ، وجوههم اشد بياضاً ، واض-وء من الشمس الطالعة ، يغبطهم بمنزلتهم كلّ ملك مقرب ، وكل نبي مرسل ، ويقول النّاس: من هؤلاء ؟ فيقال : هؤلاء المتحابون في الله

ص: 313

وروي في المستدرك عن مجموعة الشهيد (قدس سره) ، نقلا من كتاب الانوار لأبي علي ، محمد بن همام، باسناده الى معروف بن معروف ، صاحب ابي طفيل الذي كان صاحب النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) ، وامير المؤمنين ، عن ابي جعفر (علیه السلام) عن ابيه ، عن أبيه ، عن ابيه ، قال قال النبي (صلّی الله علیه وآله وسلم) : من زار اخاه في الله ، باهى الله الله ، باهي الله به ملائكته ، ملائكته ، حتى اذا لقيه ناداه ملك من السماء ، طبت وطاب ممشاك ، حتى اذا حدثه قال الله للملكين: له عمل سبعين نبيّاً كلّهم مجتهد في طاعتي ، قد اهريق دمه في سبيلي ، حتى اذا ضاحكه قال الله للملائكة: اشهدكم عبادي ، انّي اضحكه يوم تبيض وجوه ، وتسود وجوه ، حتى اذا أكله قال الله عزّ وجلّ بخزّان جنّته ، وسكانها من كرائم ملائكته : اشهدكم عبادي ، وخزنتي من خلقي ، وملائكتي ، انّي اكرمه بالنظر الى نوري ، وجلالي وكبريائي يوم القيامة ، واشهدكم اني ممّن ازكّيه ، واطهره واثيبه ، وارضيه ، واشفعه.

تدبّر في هذه الرّواية ، وهذا الجزاء جدا ، وإذ قد تمهد لك ذلك فراقب أن يكون قلبك في صلاة الجماعة صافياً مع امامك والمأمومين، لا سيّما امامك الذي ورد فيه : أنه شفيعك ، فانظر من مع تشفعه ، ولذا قال الشهيد في شرح النّفلية في معنى العالم الذي في رواية من صلى مع امام عالم : ان المراد من العالم من كان عالماً بالله وبكتابه وسنّة نبيه ، وما يتوقف عليه من المقدّمات ، وعالماً بكيفية تطهير القلب ، وتزكية النفس ، مع استعمالها ، وقال في آخر كلامه ، وإنما العلم الموجب للقرب والجنّة ، هو الاخير ، وذلك لان الامام الذي طهر قلبه ، وزكى نفسه يحبّه لا محالة من يعرفه ، وهو أيضاً يحبّ المؤمنين بحبّ الله ، أشدّ من حبهم له، فيكون قلبه صافياً مع المؤمنين الذين يأتمون به وهكذا يكون قلوب . المأمون معه في كمال الصفابل ويكون أصحابه أيضاً غالباً من أهل الصفا ، فيكون اجتماعهم في صلاتهم على مراد الله ، وأما من كان اجتماعه في صلاته بمجرد الصورة ، وكانت

ص: 314

6

القلوب مخالفة ، بل يكون بينها عداوة ، يريد كل واحد شرّ اخيه ويحاسده في نعم الله ، لا سيّما إذا كان ذلك بين المأموم والامام ، لا اظنّ أن يكون في هذه الجماعة نور ، ولهذا الاجتماع فضل عند الله ، فالعمدة في العبادات كونها مثاراً لصفات القلوب، وتأثراتها، وتنويرها، والعبادة إذا لم تؤثر في القلب ، لا يثمر إلا شيئاً قليلا ملحقاً بالعدم.

روى في الاحتجاج في جملة ما كتبه امامنا ارواحنا فداه ، إلى الشيخ الجليل الشيخ المفيد ره ، ولو ان اشياعنا وفقهم الله لطاعته ، على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم ، لما تأخر عنهم اليمن بلقائنا.

وقال عيسى: يا عبيد الدنيا ، تحلقون رؤسكم وتقصرون قميصكم ، وتنكسون رؤوسكم ولا تنزعون الغلّ من قلوبكم وروى أيضاً ، انّ من بعض ما وعظ الله تعالى عيسى ، وان قلّموا اظفاركم عن كسب الحرام ، واصمّوا اسماعكم من ذكر الخناء واقبلوا بقلوبكم فانّي لست أريد صوركم.

وبالجملة الاهم اجتماع القلوب ، فمن وفّق لصلاة الجماعة مع قوم يكون قلوبهم مجتمعة في الله ، فليرج من كرم الله كل ما ورد في فضل الجماعة ، ومن كان اجتماعه مع قوم بينهم تباغض وتحاسد ، ويرجو ان يجزيه الله هذه المثوبات التي وردت في الاخبار الصلوة الجماعة ، فهو مغرور وليس رجائه رجاء ، بل امنية وغرور ، هذا.

وقد ورد في تفضيل امام الجماعة على المأموم،ما يكشف عن حقيقة ما ذكرناه من لزوم القلب مع الامام، وهو ما رواه في المستدرك عن كتاب تحف العقول، في حديث طويل قال: وأما حق امامك في صلاتك، أن تعلم انه قد تقلد السفارة فيما بينك وبين الله، والوفادة إلى ربِّك ، وتكلّم عنك ، ولم نتكلم عنه ، ودعا لك ، ولم تدع له،

ص: 315

وطلب فيك ، ولم تطلب فيه ، وكفاك هم المقام بين يدي الله والمسائلة فيك، ولم تكفه ذلك، فان كان في شيء من ذلك تقصير ذلك تقصير كان به دونك، وإن كان اثماً لم تكن شريكه فيه، ولم يكن عليه فضل فوقى نفسك بنفسه ، وصلاتك بصلاته ، فتشكر له ، على ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أقول: لا يخفى على العاقل ، ان من وضع امام صلاته بهذا الموضع ، وعامله ، معاملة السفير الوافد المتكلّم

عنه، مع الله بذل له كل الدنيا وروحه ويرى ذلك قليلا في جنب الله جل جلاله فضلا عن الصفاء والوفاء...

ص: 316

الفهرس

المؤلف في سطور...5

في ذكر بعض اسرار الطهارة ...7

في الاشارة الى ما يلزم على العاقل من التفكر...9

في التخلي في آدابها الظاهرية...11

الفصل الثاني: في عبره بالخصوص...13

في الوضوء وبعض آدابها الظاهرية...29

في السواك وفضلها وفوائدها وكيفيتها وأوقاتها...32

في التوبة من الذنوب...43

فصل : في الغسل...71

فصل: في الحمام ...73

فصل: في التنوير...75

فصل: في تقليم الاظفار...76

فصل: في اخذ الشارب واعفاء اللحى...76

فصل: في العطر...77

فصل: في التيمم...78

فصل: في اللباس...79

ص: 317

فصل: في الاوقات...88

فصل: في الاهتمام بالاوقات الشريفة...90

فصل: في آداب العبد يوم العيد...96

فصل: في المكان...112

في الصلاة وفيه فصول في معنى الصلوة...119

في الآيات الدالة على ان المراد من الصلوة ليست مجرد الاعمال الظاهرية...122

في بعض ما روي من صلاة المعصومين «ع» في الحقائق...124

في الاحوال التي يكمل بها الصلاة...126

فصل: في الاستقبال...132

فصل: في لزوم الخوف وفضيلته...135

فصل: في علاج الخوف...148

فصل: في الخوف عن سور الخاتمة...152

فصل: في الرجاء وحقيقته...158

فصل: في اسباب الرجاء...163

فصل: في القيام...170

فصل: في النية...171

فصل: في الآذان والاقامة...181

في التكبير...203

في تفسير: بسم الله الرحمن الرحيم...215

في تفسير: الحمد لله...226

في تفسير: رب العالمين...231

في تفسير: الرحمن الرحيم...239

في تفسير: مالك يوم الدین...239

في تفسير: اياك نعبد واياك نستعين...244

في تفسير: اهدنا الصراط المستقيم...249

في تفسير: صراط الذین انعمت عليهم...255

ص: 318

في تفسير: غير المغضوب عليهم ولا الضالين...256

في تفسير: قل هو الله أحد...258

في تفسير: الله الصمد لم يلد ولم يولد...259

في تفسير: ولم يكن له كفوا أحد...260

فصل في التعقيب...281

في صلوة الليل...292

ص: 319

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.