كتاب القضاء

هوية الكتاب

المؤلف: ميرزا حبيب اللّه الرشتي

المحقق: السيد احمد الحسيني

الناشر: دار القرآن الكريم

المطبعة: مطبعة الخيام

الطبعة: 0

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1401 ه.ق

الصفحات: 374

المكتبة الإسلامية

كتاب القضاء

تأليف: الفقيه المحقق والأصولي المدقق

الحاج ميرزا حبيب اللّه الرشتي

(1234 - 1312)

(الجزء الأول)

تحقيق: السيد أحمد الحسيني

محرر الرقمي: محمّد علي ملك محمّد

ص: 1

المجلد 1

اشارة

من منشورات دار القرآن الكريم

(قم - ایران)

مطبعة الخيام - قم

(1401 ه)

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، محمد سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى يوم الدين.

ص: 3

ص: 4

اشارة

تقديم

الأسس القضائية في التشريع الإسلامي تتباين كثيرا عن الأسس الموضوعة للقضاء في القوانين الوضعية المستقاة من القوانين الغربية الحديثة المعمولة في أكثر البلدان الإسلامية ، فإن الإسلام قد اشترط في القاضي والمقضي فيه والمقضي له وفي المواد القضائية شروطا كثيرة تعنى بالتهذيب النفسي والتربية الروحية أكثر من العناية بالجانب المادي ، ولو أنه لم يهمل ابدا الجانب المادي أيضا بل يهتم به الى حد معقول من الاهتمام اللازم.

الإسلام يحاول في تشريعاته الفقهية وتعاليمه الأخرى ان يوجد وازعا دينيا اخلاقيا في ضمير الإنسان ودخيلة نفسه ، يدفعه في اعماله وأقواله وحتى في نياته الى الخير والسلام وحفظ المصالح العامة والخاصة ، ولا يكتفى بوضع مراقبين على أعماله وتصرفاته وسن قوانين جافة لتحد من جموح هواه وشهواته ونزواته المتغلبة في كثير من الأحيان على عقله وفكره السليم.

ص: 5

انه يربيه تربية صالحة يحس دائما في قرار نفسه انه محاسب على ما يصدر منه من قبل علام الغيوب والمطلع على الخفيات والسرائر ، وهو بهذا يرتدع بنفسه عما يخالف الشرع الحنيف والقوانين الدينية الإلهية ، وتسير الأمور في المجتمع المتدين سيرا مستقيما لا تقعيد فيه ولا انحراف ولا تعد على الحقوق ولا إجحاف.

لقد دلت التجارب على ان سن القوانين وحدها ووضع مراقبين على اعمال الناس لا يكفيان في الحد من الفجائع التي تعتري البشرية ، فان بلادا راقية في نشرياتها تعانى الويلات الأخلاقية والاجتماعية لأنها اتكأت على القانون الموضوع من قبل أناس ليس لهم طريق إلى الضمائر ولم يفتحوا لتربية الوجدان البشرى أى حساب.

ان الإنسان لو لم يحس من نفسه رادعا يحاسبه على اعماله وكل صغيرة وكبيرة تصدر منه ، لم يمنعه شي ء قط من الاقدام على ما تمليه عليه مئاربه ومصالحه الخاصة ، فهو يسعى دائما في أن يسدل الستار على اعماله المخالفة ، فربما ينكشف ويفتح ويؤاخذه القانون ولكن كثيرا ما لا تعرف خفايا اعماله وتبقى تبعاتها وبالأعلى المجتمع.

وحتى واضع القانون نفسه لو لم يحكم عليه الدين الذي يدفع وجدانه إلى الاستقامة ويحيى فيه ضميره الإنساني ، لحاد هذا المقنن عن الطريق المستقيم وأقدم على وضع قوانين تجحف بحقوق المستضعفين ، ولذا نرى الدول الاستعمارية ترتكب المآسى اللاانسانية ثمَّ تحاول في قوانينها تبرير هاتيك الاعمال وخنق الأصوات وقتل الحريات وتسمى ما تفعله باسم العدالة القانونية والدفاع عن الحقوق.

من هنا حاول الإسلام - كما قلنا - ان يوجد في الإنسان نفسه وازعا يمنعه عن ارتكاب المآثم والجرائم قبل ان يحاول وضع مراقبين على

ص: 6

اعماله ، ذلك لأنه أراد استئصال الفساد من الجذور وتربية الإنسان على حب الخير والصلاح والاستقامة في أفعاله وأقواله وخطرات قلبه.

فالقضاء الإسلامي له أسسه الخاصة التي تعنى بتربية الضمير والوجدان قبل العناية بالرقيب الظاهري ، وتوقظ فيه الشعور بالمسؤولية أمام اللّه تعالى والدين ، وتوجهه توجيها صحيحا الى واجباته تجاه الآخرين من القريب والغريب. ويكفى للتدليل على ما قلناه ما اشترطه الفقهاء في القاضي أن يكون عادلا ، فإن العدالة معناها هنا حفظ النفس عن الجور في القضاء وعدم التعدي في الأموال والأنفس وغض الطرف عن الاعراض والنواميس ... وهذا الشرط له مدلوله الروحي الخاص في الضبط عن كثير من الانحرافات التي تصيب القضاء لولاه.

* * *

وفي هذا الوقت الذي يمر بلادنا فيه بتجربة لتطبيق الإسلام ، يحس أكثر من ذي قبل بضرورة تجديد المعالم الإسلامية وإحيائها في مختلف المستويات وبشتى الاشكال العلمية ، من التدريس والتنقيب والكتابة والتأليف ونشر المؤلفات القيمة من آثار أعلامنا الماضين.

لا تتركز دعائم دولة إسلامية إلا بعد بث معارفه الصحيحة الخالصة عن الشوائب في المجتمع وبين الشعب ، فان بث المعارف الإسلامية هو الطريق الانجع لتربية مؤمنين مركزى الايمان يقفون اطوادا راسخة امام الزيغ والكفر لا تزلزلهم العواصف الهابة من وراء حدود بلاد المسلمين.

ولقد أحسن فقيه العصر المرجع الديني الورع سماحة آية اللّه العظمى السيد محمد رضا الكلپايكاني دام ظله الوارف ، إذ بدأ بتدريس القضاء على المستوي الفقهي الرفيع في الحوزة العلمية بقم لتنشئة فقهاء

ص: 7

مجتهدين في القضاء الشرعي وتدريبهم على مسائله وفروعه.

وإلى جانب تدريسه - أدام اللّه ظله - أبدى رغبته الأكيدة في إحياء بعض المؤلفات الهامة في الموضوع لإعلام الفقهاء السابقين - قدس اللّه أسرارهم - كي تتوسع آفاق طلاب العلوم الدينية ويقفوا على أكثر ما يمكن الوقوف عليه من الآراء والنظرات الفقهية.

وكان من المؤلفات المختارة بهذا الصدد « كتاب القضاء » الذي ألفه الفقيه الجليل المحقق البارع شيخنا المقدس الميرزا حبيب اللّه الرشتي - تغمده اللّه برحمته ورضوانه - وهو كتاب جليل يعتنى بالاستدلال للمسائل والفروع عناية تامة ويبحث فيها بحوثا بارعة تدرب الطالب الحوزوى على التعمق في التفكير الفقهي والخروج عن السطحية في الاستنباط والاجتهاد.

وقد أمرني سماحته بإعداد هذا الكتاب للطبع وتصحيحه وإخراجه بالشكل اللائق بالذوق العصرى ، وانا إذ امتثل امره المبارك وأقوم بهذا الجهد أرجو أن أقدم خدمة للحوزة العلمية تسد بعض ما احسه من الفراغ فيها.

واللّه تعالى المسؤول في ان يسدد خطانا ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، انه جل شأنه خير من سئل وأفضل من اعطى.

قم : أول شهر رمضان المبارك 1401 ه.

السيد أحمد الحسيني

ص: 8

ترجمة المؤلّف

ترجمة المؤلف(1)

الشيخ ميرزا حبيب اللّه الرشتي

( 1234 - 1312 )

الشيخ ميرزا حبيب اللّه بن الميرزا محمد علي خان بن إسماعيل خان بن جهانگيرخان القوچاني الرانكوئي الگيلاني الرشتي.

عالم مؤسس ومحقق مدقق ، من أكابر علماء عصره وأساتذة فقهاء أوانه المشاهير.

كان أصل أسرته من « قوچان » الا أن بعض السلاطين الصفوية ألزمهم

ص: 9


1- هذه الترجمة مقتبسة من نقباء البشر 1 / 357 - 360 وأعيان الشيعة 20 / 95 - 102. وانظر أيضا للتوسع : معارف الرجال 1 / 204، ريحانة الأدب 2 / 307 ، أحسن الوديعة 1 / 131 ، تكملة نجوم السماء 2 / 138 ، لباب الألقاب ص 112 ، معجم المؤلفين 3 / 188 ، علماء معاصرين ص 50.

بالنزول الى « رانكوى » من قرى كيلان رشت ، ودفاتر أملاكهم من لدن عصر الصفوية إلى عصرنا موجودة.

وكان والد المترجم من أعاظم الملاكين والأعيان المتمكنين ، ومن العرفاء الصلحاء وأهل الباطن والصفاء ، وقد رأى في ولده هذا منامات صادقة قبل ولادته وبعدها تشعر بأنه يصير عالما ، وقد تفرس فيه بعد نشؤه وتأكد بعض التفاؤلات فيه ، فعزله عن اخوته وأحضر له معلما في بيته يتعهد تربيته وتعليمه الى أن بلغ من العمر حدود ثمانية عشر عاما ، فبعثه الى « قزوين » لتكميل اشتغاله وهيأ له أسباب الرفاه ولوازم العيش وعين له زوجة من عشيرة « أرباب » المعروفة هناك بالشرف.

بقي في « قزوين » مشتغلا على العلامة المولى عبد الكريم الايرواني ، حتى صدرت له منه الإجازة وهو ابن خمس وعشرين سنة في الهجرة إلى « النجف الأشرف » جامعة العلم والدين الكبرى وموئل العلماء من مختلف الأقطار الإسلامية.

هاجر الى « النجف » بأهله ودخلها قبل وفاة الفقيه الأكبر الشيخ محمد حسن النجفي ( صاحب الجواهر ) بثلاث سنين ، فحضر بحثه يوما فعرضت له شبهة عرضها عليه ولم يسمع منه جوابا وتكلم فيها بعض التلاميذ ، ثمَّ قيل له : ان كشف شبهاتك عند الشيخ المرتضى الأنصاري. فقصده وعرضها عليه فأجابه الشيخ وأبان له الفرق بين « الحكومة » و « الورود ».

بهت شيخنا المترجم حيث سمع اصطلاحا جديدا لم يطرق آذانه ، فقال له الشيخ المرتضى : ان اشكالك لا يرتفع الا بالحضور عندي مدة أقلها شهرين.

ص: 10

وكان المترجم إذ ذاك عازما على الرجوع الى « قزوين » ، ولكنه أعرض عن الرجوع وحضر بحث الشيخ فرآه بحرا لا يبلغ قعره ولا ينال دركه ، فعزم على الإقامة بالنجف والاستفادة من درس الشيخ.

بقي مشتغلا في الحوزة العلمية بغاية الجد والاجتهاد في الفقه والأصول ملازما لاستاذه المذكور ومقتبسا من أنواره ومغترفا من بحار علومه ، ومما يؤثر عنه قوله : « ما فاتني بحث من أبحاث الشيخ منذ حضرت بحثه الى يوم تشييعه مع أني كنت مستغنيا عن الحضور قبل وفاته بسبع سنين ».

ولما توفي الشيخ المرتضى انتهى أمر التدريس الى المترجم له ، فكانت حوزته تعد بالمئات ، وأكثرهم من شيوخ العلماء وأفاضل الفقهاء والمجتهدين ، ولم يكن في زمانه أرقى منه تدريسا وأكثر نفعا ، حتى أن أكثر العلماء المشاهير الذين نبغوا بعده في سائر المناطق الشيعية قد تخرجوا عليه وأخذوا عنه ، وكان مجلس درسه محتويا على أصناف العلماء من العرب والعجم من المحققين في الفقه والأصول والمعقول والمنقول وغير ذلك ، لأنه كان وحيد عصره في ابتكار الأفكار الحسنة والتحقيقات المستحسنة وحلاوة التعبير ورشاقة البيان.

هذا ما كان من جهة علمه ، وأما ورعه ونسكه وزهده فهو مما لا يحده القلم ولا يصفه البيان ، فقد كان في غاية الورع والتقوى والزهد عن حطام الدنيا ، وكان سليم الذات صافي النية بسيطا للغاية أعرض عن الرئاسة كل الاعراض ، ولذا لم يقلد ولم تجب اليه الأموال ، وانما كانت المرجعية التقليدية والزعامة الروحية لمعاصره وشريكه في الدرس عند الشيخ الأنصاري ، وهو السيد الميرزا محمد حسن المجدد الشيرازي نزيل سامراء. ولم يرض أن يقلده أحد لكثرة

ص: 11

تورعه في الفتوى وشدة احتياطه فيها ، ولم يتصد للوجوه ولم يقبلها من أحد.

وقد كان معاشه يأتيه من والده أيام حياته ، وبعد وفاته استحضره اخوته لتقسيم الأموال والاملاك الكثيرة ، فلما رأى تكالبهم عليها وتفانيهم دونها أعرض عنهم وعاد الى « النجف » منصرفا عن استحقاقه ، فانقطع معاشه الى سبع سنين باع خلالها كل ما كان يملكه من الأسباب واستقرض ما وسعه القرض ، حتى لقد عجز عن شراء الماء في بعض الأيام. فتشرف أخوه الميرزا نصر اللّه خان الى الزيارة ، فرأى وضعه وقرر له معاشا يسيرا الى سبع سنين.

ويقال انه قبل شيئا ذات مرة من العلامة الشيخ جعفر التستري وأخرى من آخر ، ولما توسعت حاله صرف قدرهما على الفقراء.

وأما عبادته فقد حكي أنه ما طلع الفجر عليه وهو نائم منذ بلغ الحلم ، وقد قضى فرائض والديه ثلاث مرات ، مرة تقليدا ومرتين اجتهادا.

قال تلميذه سيدنا الحسن الصدر في « التكملة » : انه كان شديد الاحتياط دائم العبادة مواظبا على السنن كثير الصلاة والصمت دائبا في العبادة حتى في السفر ، فهو في جميع عمره حتى في أوقات خروجه الى الدرس كان مشغولا بالعبادة ، وكان من الزهد في جانب عظيم ، وكان دائم الطهارة ، تخرج على يده مئات من العلماء ، ولم يكن في زمانه أوفى تدريسا منه ، وله التدريس العالم المشتمل على أصناف العلماء.

له تصانيف كثيرة نافعة تموج بالتحقيقات ، منها :

1 - تقريرات بحث الشيخ الأنصاري فقها وأصولا.

2 - بدائع الأصول ، في أصول الفقه مطبوع.

3 - مقدمة الواجب ، رسالة مبسوطة.

ص: 12

4 - المشتق ، رسالة مطبوعة.

5 - الاجزاء.

6 - المفهوم والمنطوق.

7 - التعادل والتراجيح.

8 - اجتماع الأمر والنهي.

9 - حاشية المكاسب.

10 - شرح شرائع الإسلام ، خرج منه مجلدات في الطهارة والصلاة والزكاة وبعض كتب أخرى غير تامة.

11 - خلل الصلاة.

12 - كتاب التجارة.

13 - كتاب الغصب.

14 - كتاب القضاء والشهادات.

15 - كتاب الوقف والرهن واللقطة.

16 - كاشف الظلام في علم الكلام ، فارسي في أصول الدين.

17 - الإمامة ، رسالة مبسوطة.

18 - حاشية تفسير الجلالين.

خلف ثلاثة أولاد علماء فضلاء : أكبرهم الشيخ محمد المتوفى سنة 1316 ، ثمَّ الشيخ إسماعيل المتوفى سنة 1343 ، ثمَّ الشيخ إسحاق المتوفى سنة 1357.

توفي رحمه اللّه ليلة الخميس رابع عشر جمادى الثانية سنة 1312 ، ودفن وراء شباك الحجرة الواقعة على يسار الداخل الى الصحن العلوي الشريف من باب السوق الكبير ومرقده مزار للرواد.

ص: 13

وقد رثاه جماعة من الشعراء ، منهم الشاعر المعروف السيد جعفر الحلي ، فقال يرثيه ويعزي عنه ابن إمام الجمعة بطهران الذي قد أقام له مجلس الفاتحة :

على م دموع أعيننا تصوب *** إذا لحبيبه اشتاق الحبيب

أصابك يا حبيب اللّه حتف *** أصيب به القبائل والشعوب

أقم ، واللّه جارك ، في ضريح *** موسدة به معك القلوب

ألا لا حان يومك فهو يوم *** على دين الهدى يوم عصيب

نظرت بنور ربك كل غيب *** فكانت نصب عينيك الغيوب

ترى العلماء حشدا واحتفالا *** لتعلم كيف تسأل أو تجيب

سترت عيوب هذا الدهر حينا *** فبعدك مل ء عيبته عيوب

وكنت بقية الحسنات منه *** فبعدك كل ما فيه ذنوب

نشرت العلم في الافاق حتى *** طوى أضلاع شانئك الوجيب

تساقط حكمة فتطير فيها *** الى الناس الشمائل والجنوب

قضيت العمر في تعب وجهد *** وما نال المنى الا التعوب

فلم يرقدك عن علم شباب *** ولم يقعدك عن نفل مشيب

وتترك ما يريبك كل حين *** مجاوزة الى ما لا يريب

أرواد العلوم إلا أقيموا *** بيأس ان مرتعه جديب

فقد واللّه قشع عن سماه *** ضحوك البرق وكاف سكوب

ألا يا دهر هذا منك خطب *** علينا فيه هونت الخطوب

فبعد صنيعك ارم فلا نبالي *** أتخطئنا سهامك أم تصيب

فيا صبرا امام الناس صبرا *** فكل الناس مثلك قد أصيبوا

لقد صدق المخيلة منك بشر *** يلوح وراءه كرم وطيب

ص: 14

وبشر سواك كان له شبيها *** سراب القاع والبرق والخلوب

لقد كرمت طباعك في زمان *** به كرم الطباع هو العجيب

أقول لمن يحاول أن يباري *** علاك وغره الأمل الكذوب

نعم ستنال ما تبغي ولكن *** إذا ما عاد للضرع الحليب

وقال أيضا مؤرخا عام وفاته رحمه اللّه :

بكته الملة الغرا فأرخ *** بكى لحبيبها الشرع الشريف

ص: 15

العمل في الكتاب

لقد قابلنا هذا الكتاب وصححناه على :

1 - نسخة سماحة آية اللّه السيد مصطفى الحسيني الخونساري ، وهي بخط والده المغفور له آية اللّه السيد أحمد الحسيني الخونساري ، وكانت في مجموعة معها القسم الفقهي من كتاب « الاقتصاد الهادي إلى سبيل الرشاد » للشيخ الطوسي وجاء في آخرها :

« لقد وقع الفراغ من نسخ هذا الكتاب الشريف بتوفيق اللّه وعونه بيد العبد الإثم أقل السادة أحمد بن محمد رضا الحسيني في يوم السابع من ربيع الثاني من عام الخامس والأربعين وثلاثمائة بعد الالف. ».

وهذه النسخة تامة الا أنها لا تخلو من بعض الاغلاط والتحريفات.

2 - نسخة فضيلة العلامة الشيخ رضا الاستادي ، وهي من أول الكتاب الى

ص: 16

ما يقرب من ثلثه ، وهي مصححة مقابلة جيدة عليها تملك الشيخ إسحاق ابن المؤلف ولعله هو الذي قابلها وصححها.

* * *

هذا وقد رأينا أن نصحح الأخطاء الأدبية التي قد سبقت الى قلم المؤلف ، ولكن لم نرتكب ذلك كلما وجدنا لها مخرجا وتأويلا من قواعد العربية.

كما رأينا أن نضيف في الكتاب عناوين من عندنا تعيين القارئ على معرفة كل مقطع من الموضوع ، وقد جعلناها بين معقوفتين هكذا [ ] ليتمايز ما وضعناه نحن عما هو من أصل الكتاب.

وقد أعاننا مشكورا سماحة العلامة الجليل الشيخ محمد علي أحمديان الأصبهاني في تخريج الأحاديث ، وبعمله هذا يسر علينا بعض الوقت وزاد في قيمة الكتاب العلمية.

ص: 17

الصورة

ص: 18

الصورة

ص: 19

الصورة

ص: 20

الصورة

ص: 21

ص: 22

كتاب القضاء

اشارة

ص: 23

ص: 24

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى اللّه على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

( كتاب القضاء )

ومقاصده ثلاثة :

الأول : في القاضي وصفاته.

الثاني : في كيفية القضاء.

الثالث : في أحكام الدعاوي.

ص: 25

المقصد الأول : ( في القضاء )

اشارة

القضاء في اللغة لمعان كثيرة ، منها ما هو المراد به في المقام ، أعني الحكم والإلزام.

وفي عرف الفقهاء عبارة عن ولاية الحكم شرعا لمن له أهلية الفتوى.

ويدل على شرعيته في الجملة الأدلة الأربعة ، من الكتاب آيات كثيرة ، أوضحها دلالة قوله تعالى في سورة ص « يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ » (1) دلت صريحا على شرعية الحكم بين الناس ، بمعنى فصل الخصومات الواقعة فيما بينهم وقطع المنازعات ، لان الحكم بين الناس لا معنى له سوى الحكومة بالمعنى المبحوث عنه ، أعني فصل الخصومات ، وبه امتاز عن سائر آيات الحكم في الذكر ، لأنها انما تدل على الحكم بما أنزل اللّه ، وهو غير صريح بالمعنى

ص: 26


1- سورة ص : 25.

المقصود ، أعني الإلزام ، لأن الحكم بما أنزل اللّه عبارة عن الاخبار به ، وهو لا يستلزم شريعة الإلزام والحكومة التي هي من شعب الرئاسة. ولذا كان المرجع فيه عند الشك هو أصالة العدم ، بخلاف الحكم بمعنى الاخبار بما أنزل اللّه ، فإن الأصل فيه اما الوجوب فافهم أو الإباحة كما تأتي الإشارة الى ذلك.

[ وجوب الحكم بالحق وجوازه ]

ثمَّ مدلول الآية الشريفة يحتمل وجوب الحكم بالحق وجوازه ، على أن يكون رفعا للحظر المتوهم أو المحقق ، وعلى الأول يحتمل وجهين أيضا :

( الأول ) أن يكون الوجوب متعلقا بالمقيد خاصة ، أعني كون الحكم بالحق ، فالمعنى أن المتفرع على الخلافة والمتوقف عليها وجوب كون الحكم بالحق وعدم متابعة الجور ( الهوى ) ، فلا يدل حينئذ على وجوب أصل المقيد - أعني الحكم - بل يكون في المعنى نظير قوله تعالى « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ » (1) فيكون حال أصل الحكم في حق الخليفة وغيره من حيث الجواز والوجوب والتحريم مسكوتا عنه.

نعم يدل على جواز أصل الحكم القدر المشترك بين الوجوب وغيره مهملة لا مطلقة ، لأن وجوب القيد يقتضي جواز المقيد في الجملة.

فإن قلت : لا معنى لتفريع كون الحكم بالحق على الخلافة ، لأن الحكم بخلاف الحق لا يجوز لأحد ، فوجوب كون حكم الحاكم إذا حكم على نهج الحق ليس من خواص كون الحاكم خليفة ، لأن وجوبه عقلي ناش من قبح الجور والافتراء.

قلت : نعم لكن لما كان وجوبه في حق الخليفة آكد منه في حق غيره جعل

ص: 27


1- سورة النساء آية 57.

الاية من متفرعات الخلافة ، وهذا مثل قول القائل لإمام الجماعة : أنت إمام الناس فاخضع في صلاتك ، فان الخضوع والخشوع في الصلاة أمر مرغوب إليه في حق كل مصل الا أنه مؤكد في حق الامام ، بل في حق المقربين مطلقا على حسب مقدار قربهم.

( الثاني ) أن يكون المتفرع على الخلافة أصل وجوب الحكم المقيد ، فيدل حينئذ على عدم وجوبه لغير الخليفة ، وأما عدم الجواز فلا.

وعلى الثاني - أعني كون مدلول الآية جواز الحكم بعد الخلافة نظرا الى ورود الأمر به - مقام رفع الحظر يدل على عدم الجواز لغير من يكون خليفة من جانب اللّه ، فالاية حينئذ دليل لفظي على عدم شرعية القضاء لغير الخلفاء زيادة على الأصل المشار اليه. فاحفظ ذلك تنتفع به ، واللّه العالم.

التقاط
[ ما يعتبر في القاضي ]
اشارة

يعتبر في القاضي أمور اتفاقية وأمور خلافية :

ومن الأولى العدالة

التي هي أخص من الايمان الذي هو أخص من الإسلام.

قال في الشرائع : ويدخل فيها الامانة وفعل الواجبات.

وفي هذه العبارة شائبة إجمال ، لأنه إن أراد بالأمانة ضد الخيانة فحسن ، لكن يشبه بإيضاح الواضحات لمن عرف من مفهوم العدالة شيئا مع أن تخصيصه بالذكر بين سائر الكبائر مع كونها من الافراد الواضحة الجلية يخلو عن الفائدة.

وان أراد بها أمرا زائدا عن مفهوم العدالة في سائر المقامات مثل ترك استعمال

ص: 28

الحيل الشرعية الذي لا يوجب فسقا في غير المقام ، ففي اعتباره هنا في القاضي تأمل أو منع.

والظاهر أنه نوع تعريض على من جمع بين العدالة والامانة ، وان ذكر العدالة يغني عن ذكرها بناء على ارادة قصد الخيانة ، كما يشعر به ذكره بعد الفراغ عن ذكر ما يعتبر في العدالة.

ويمكن أن يقال أيضا بأن وجه التخصيص هو كونها أمرا وجوديا بعد الايمان من بين ما يعتبر في ماهية العدالة ، بخلاف غيرها فإنها أمور عدمية ، ولهذا أردفه بفعل الواجبات ، لأنه أيضا مثله في الوجودية - فافهم.

ومن الأمور الاتفاقية الاستقلال بالفتوى

يعني كون الحاكم صاحب ملكة الاجتهاد وقوة استنباط الاحكام كلا أو بعضا ، على الخلاف في مسألة التجزي.

وقد صرح بالاتفاق على اعتبارهما مثل صاحب المسالك ممن يعتبر منه نقل الإجماع لكمال خبرته واطلاعه.

واستدلوا عليه بما دل على اعتبار العلم في القاضي وان التقليد ليس بعلم كما لا يخفى ، لكن بعض أساطين متأخري المتأخرين - كالمحقق القمي على ما نقل عنه في جواب سؤاله ، وبعض من عاصرناه من مشايخنا اكتفى في العلم بمجرد التقليد ، فصرح بجواز قضاء المقلد.

وقبل تنقيح المسألة لا بد من تأسيس الأصل وتحرير محل النزاع ، فنقول :

أما الأصل فقد أشرنا إلى أنه يقتضي المنع ، لأن سلطنة الشخص على إلزام شخص آخر - ولو فيما يقتضيه تكليف ذلك الشخص فضلا عما لا يقتضيه تكليفه - أمر وضعي مختص بمن له السلطنة المطلقة ذاتا ، أعني المولى الحقيقي

ص: 29

جل اسمه ، أو بمن جعله سلطانا من طرفه وخليفة عن جانبه كالنبي والوصي ، فحيث شككنا في ثبوتها فالأصل المحكم فيه هو العدم كسائر الأحكام الوضعية.

ومن هنا يعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه يباح به معه مقاتلة فاعل المنكر مثلا أمر على خلاف الأصل الاولي ، ولو قيل بأنه من المستقلات العقلية ، لأن استقلال العقل بذلك لا ينافي الشك في ثبوته لآحاد الناس ، والرجوع الى الأصل في مورد الشك.

ودعوى عدم تعقل الشك في الأحكام العقلية ، مدفوعة بأن الغير المتعقل انما هو الشك في موضوع حكم العقل لا في تشخيص مصاديقه ، فان حكم العقل بقبح تناول المضر لا ينافي الشك في قبح شي ء باعتبار الشك في كونه مضرا ، فحكم العقل بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى لابدية قيام شخص بذلك لا ينافي الشك وعدم العلم بخصوص من يقوم به.

لكن الإنصاف أن الأمر بالمعروف - على تقدير حسنه العقلي لزوما أو رجحانا - ثابت في حق كل مكلف. نعم إلزام الشخص فيما لا تقتضيه تكليفه الذي ستعرف أنه المراد من القضاء المصطلح من المستقلات التي لم تثبت إلا في الجملة ، بمعنى استقلال العقل بوجود فاصل للخصومات والمنازعات حفظا للنوع عن الاختلال والحرج والضياع والفتنة والفساد. وأما أن الفاصل من هو وكم هو فليس للعقل اليه سبيل كما لا يخفى ، فيكون الجهل بخصوص القائم بالفصل مع الاستقلال بأصل وجوده كالجهل بقبح الشي ء للشك في كونه مضرا.

وأما محل النزاع فقد ظهر مما ذكرنا في تأسيس الأصل ، وحاصله : ان الإلزام قد يكون فيما يقتضيه تكليف الملزم عليه وقد يكون في غير ما يقتضيه تكليفه :

أما الأول فهو خارج عن مسألة القضاء المبحوث عنها ، بل هو يرجع الى

ص: 30

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بناء على اختصاصه بما هو معروف ومنكر في نظر الفاعل لا في نظر الأمر حتى يندرج فيه مسألة إرشاد الجاهل ، على ما صرح به بعض أجلاء المتأخرين ، وإلا فيكون دائرة الأمر بالمعروف أوسع من الإلزام فيما يقتضيه التكليف وأما هو فأخص مطلقا كما لا يخفى.

فظهر أن المقصود بالبحث فيما نحن فيه هو إلزام الشخص في غير ما يقتضيه تكليفه ، مثل أن يكون الشخص معتقدا لبطلان مقالة الشخص فيحكم عليه بخلاف المعتقد وخلاف ما يقتضيه تكليفه ، لان القضاء المبحوث عنه ليس الا ذلك.

وأكثر موارد القضاء من هذا القبيل ، حتى الحكم بالبينة التي يجب على جميع المكلفين ترتيب آثارها مدعيا ومنكرا وغيرهما ، لان العمل بها انما يجب في صورة الشك والجهل ، فإلزام المنكر المعتقد بكذب البينة مثلا إلزام بغير ما يقتضيه تكليفه.

نعم قد يقال : ان الحكم في صورة الشك - أي شك من قام عليه البينة مثلا - إلزام بحسب التكليف ، لكن يمكن منع كون ذلك من باب القضاء بل من باب الأمر بالمعروف ، نظرا الى أن مجرد قيام البينة في حق الشاك يوجب العمل بمقتضاها من غير ضم حكم الحاكم ، فحكم الحاكم يشبه الأمر بالمعروف.

الا أن يقال : ان الإلزام على وجه الأمر بالمعروف لا يستتبع على ما يترتب على القضاء من الأحكام ، فإرجاع القضاء هنا الى ذلك لا وجه له ، بل الوجه أن القضاء كما يكون بما لا يقتضيه تكليف الملزم عليه كذلك يكون بما يقتضيه تكليفه وأما انه لا بد أن يكون من قبيل الأول فلا.

وهذا يكفي في الفرق بينه وبين الأمر بالمعروف ، فإنه لا يكون إلا في الثاني ، فالقضاء أعم من وجه موردا ، ومرجعه في صورة الاجتماع اجراء حكم اللّه الكلي في حق المحكوم عليه وإلزام جزئيته عليه. واللّه العالم. وان كان مرجع

ص: 31

الأمر بالمعروف في تلك الصورة أيضا ذلك ، الا أن هذا الإلزام إذا صدر من الحاكم على وجه الحكومة تأكد به وجوب الالتزام على المحكوم عليه.

وتوضيح ذلك وحقيقة الفرق بين الأمر بالمعروف والقضاء هو أن الإلزام على وجه الأمر بالمعروف لا يزيد في تكليف الملزم عليه شيئا على ما يقتضيه أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الالتزام بخلاف الإلزام على وجه القضاء ، فإنه سبب لوجوب الالتزام بما الزم ، سواء طابق تكليفه أم خالف. وبعبارة أخرى سواء كان الملزم به لازما في حق الملزم عليه مع قطع النظر عن الإلزام أم لا ، فالملزوم والالتزام سبب للإلزام على وجه الأمر بالمعروف ومسبب عن الإلزام على وجه القضاء ، ولازمه تأكد اللزوم إذا طابق التكليف كما قلنا.

فظهر مما ذكرنا مادة الافتراق ومادة الاجتماع ، فإن الإلزام بما لا يقتضيه التكليف مادة افتراقه عن الأمر بالمعروف ، والإلزام بما يقتضيه تكليف الملزم عليه دون الحاكم الملزم مادة افتراقه من القضاء والإلزام فيما يقتضيه التكليف مورد اجتماعهما الموردي.

ويمكن الفرق أيضا في هذه الصورة باختلاف الجهة ، فإن الحاكم إذا ألزم بعنوان الأمر بالمعروف الذي هو مشترك بين العامي المقلد وبينه ، فهذا لا يزيد في لزوم الحكم ووجوب التزامه ، وان الزم بعنوان القضاء فهو يوجب تأكد الوجوب ، حيث أن التمرد عن الحكم حينئذ معصية من جهة مخالفته لأدلة الحكم ومن جهة رده على الحاكم - فافهم.

[ في قضاء المقلد ]

إذا تحقق ذلك فاعلم أن مسألة قضاء المقلد تشتمل على مسائل ثلاث :

( الأولى ) قضاؤه مستقلا من غير نصب المجتهد له للقضاء أو توكيل له في

ص: 32

ذلك. وغاية ما يتوهم دلالته على ذلك أمور :

الأول - إطلاق ما دل على وجوب الحكم بما أنزل اللّه من الايات والاخبار كقوله تعالى « وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ » (1) ، وقوله تعالى « وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ » (2) ، وقول الصادق عليه السلام في تعداد القضاة « ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة » وغيرها من الايات والاخبار.

ويرد : أولا بمنع الإطلاق لاهمالهما وورودهما في مقام بيان حكم آخر ، وهو كون الحكم لا بد أن يكون بما أنزل اللّه وعن علم وغير ذلك مما لا يخفى على من لاحظها مع سياقها ومصبها. وثانيا بعد تسليم الإطلاق القابل للاستدلال بأن المأمور بالحكم هو الذي كان عالما بالحق وبما أنزل اللّه تعالى في الشبهات الموضوعية التي هي محل استعمال القاضي للبينة والايمان ، مثل اختلاف المتخاصمين في دين أو بيع أو غصب أو نحوها من الشبهات الموضوعية لا تتوجه هذه الإطلاقات إلى المقلد الجاهل بالحال ، وبأن الحق فيما يقوله المدعي أو المدعى عليه ، كما لا يتوجه الى المجتهد الجاهل بالموضوع أيضا ، مع قطع النظر عن قوله عليه السلام « استخراج الحقوق بأربعة » ونحوها مما يعطي ميزانا للقضاء عند الجهل بالموضوع.

فان قلت : بعد ملاحظة أدلة البينة واليمين ونحوها من الموازين المقررة نقول : ان المقلد في الشبهات الموضوعية ليس بجاهل للحق ، وهو مؤدى البينة مثلا ، فيجب عليه الحكم به لكونه حكما بما أنزل اللّه تعالى.

قلت : هذا مبني على مجي ء أدلة البينة وسائر الموازين في حق المقلد أيضا ،

ص: 33


1- سورة المائدة : 44.
2- سورة النساء : 58.

وستعرف عدم المجي ء ، لمنع إطلاقها على وجه يشمل المقلد أيضا.

هذا في الشبهة الموضوعية ، وأما الشبهة الحكمية - بأن كان اختلاف المتخاصمين باعتبار اختلافهما في حكم المسألة مثل مسألة المنجزات ومثل مسألة تحريم عشر رضعات ونحوهما من المسائل الخلافية - فهي على قسمين : أحدهما ما كان رأي الحاكم عن تقليد موافقا لرأي المحكوم عليه في الحكم الشرعي ، بأن ترافعا الى مقلد يوافق المدعى عليه في الحكم الشرعي. والثاني ما كان رأيهما مختلفين.

ولا ريب أن إطلاق الأمر بالحكم بمعنى الإلزام بالحق وبما أنزل اللّه على فرض تسليمه قاصر عن شمول الصورة الأخيرة : اما لان منصرف الإطلاقات غير ذلك ، وهو ما كان الحكم الواقعي فيه متحدا عند الحاكم والمحكوم عليه ، فلو اختلفا كان الحكم بما يراه الحاكم وهو غير مشمول لتلك الإطلاقات. أولان مجرد الإلزام بالحكم الواقعي مع قطع النظر عن سلطنة الملزم ونصبه رئيسا غير معقول مع اختلاف المحكوم عليه للحاكم في الحكم الواقعي ، لأن الإلزام إنما يتصور على المتمردين عن الحكم الواقعي. ومن يعتقد تقليدا أو اجتهادا أن الحكم الواقعي غير ما يقوله الحاكم وان حكمه حكم الجاهلية فليس بمتمرد عن الحكم الواقعي على تقدير عدم قبوله لحكم الحاكم الذي اعتقد كونه حكم الجاهلية بل يجب عليه التجافي عن ذلك ، لأنه مأمور بأن يكفر بما ليس بحكم اللّه تعالى وبحكم الجاهلية.

توضيح هذا المقال : ان الحكم الذي أمر الناس بإلزامه على المتمردين اما أن يكون هو حكم اللّه الواقعي من غير تقييد له باعتقاد الملزم - أعني الحاكم - أو يكون مقيدا بما اعتقده الحاكم ، على معنى وجوب إلزام الحكم الذي اعتقده الحاكم أنه حكم اللّه تعالى.

ص: 34

وبعبارة أخرى : اعتقاد الملزم يؤخذ تارة طريقا الى الحكم الواقعي الذي يجب إلزامه وأخرى موضوعا وقيدا للملزم به ، وعلى الأول فالملزوم عليه لا يخلو عن أحوال ثلاث : الاولى أن يكون جاهلا بالحكم الواقعي ، والثانية أن يكون عالما به تقليدا أو اجتهادا بالعلم المطابق لعلم الحاكم ، والثالثة أن يكون عالما بالعلم المخالف. وفي الحالتين الأوليين يعقل إلزام الحاكم بالحكم الواقعي كما لا يخفى ، وفي الحالة الثالثة فالإلزام به غير معقول ، إذ المفروض أن الملزم به ليس الا الحكم الواقعي باعتقاد الملزم الذي فرض طريقا اليه ، والحكم الواقعي باعتقاد المحكوم عليه غير الذي اعتقده لحاكم. وإذا أراد الحاكم إلزامه بمعتقده فله الامتناع عن ذلك قائلا بأنك إنما أمرت بإلزام الواقع وهذا الذي تلزمني به ليس هو الواقع بل هو حكم الجاهلية الذي أمرت أنا بكفرانه.

وعلى الثاني - يعني على تقدير كون الملزم به هو الحكم الذي اعتقده الحاكم الملزم بأن يكون الملزم به الحكم الفعلي للحاكم - فالإلزام بالواقع بهذا النحو معقول في الحالات الثلاث ، لكنه تقييد في آيات الحكم أو تجوز بين ، لان الحكم المأمور به انما هو الحكم الواقعي الذي تختلف فعليته بالقياس الى الحاكم والمحكوم عليه وتقييده باعتقاد الحاكم ، وارادة الحكم الفعلي الخاص منه لا بد له من التماس دليل آخر ، كأدلة النصب والنيابة التي تعرف قصورها عن شمول المقلد.

ودعوى أن الحكم الذي أمر الناس بإلزامه لا يعقل أن يكون طريقة غير اعتقاد الملزم لا تنفع ، لان اعتبار اعتقاده طريقا غير اعتباره موضوعا وقيدا للحكم الواقعي كما لا يخفى على المتدرب.

هذه حال الصورة الأخيرة ، وأما الصورة الاولى - وهي صورة الموافقة في الطريق - فوجوب الإلزام حينئذ مسلم ، بمعنى أنه يجب على كل أحد إلزام المتمرد عن الحق والحكم الواقعي إذا كان موافقا مع الملزم في الحكم الفعلي

ص: 35

لكنه لا ينفع لان مرجعه حينئذ الى الأمر بالمعروف الذي لا ينكره أحد بشرائطه فلا يؤثر إلزامه حينئذ في تكليف الملزم عليه زيادة على ما يقتضيه تكليفه ، وقد عرفت أن الكلام في الإلزام الذي هو سبب لوجوب الالتزام لا مسبب عنه.

فان قلت : بعد تسليم إطلاق الأدلة بالنسبة إلى المقلد يثبت أن إلزامه حيثما يعقل - كما في صورة الموافقة - سبب لإلزام الملزم عليه زيادة عن الالتزام الذي كان يقتضيه تكليفه ، فيحرم عليه مخالفته من جهتين : من جهة نفس أدلة الملزم به الذي يتبعها الإلزام على وجه الأمر بالمعروف ، ومن جهة إلزام الملزم المدلول عليه بآيات الحكم الذي يرجع الى القضاء ، فاذا ثبت قضاء المقلد في هذه الصورة ثبت في صورة المخالفة لعدم القول بالفصل.

قلت : نمنع عدم القول بالفصل فيما ذكر ، لان الفصل المنفي انما هو ثبوت أحكام القضاء لا إلزام المقلد في بعض دون بعض ، فلو ثبت أن إلزام المقلد وحكمه يترتب عليه أحكام القضاء في صورة الموافقة ثبت أيضا ذلك في صورة المخالفة لا أنه إذا ثبت إلزام المقلد المعرى عن جميع الاحكام في الصورة الأولى ثبت أيضا في الصورة الثانية. كيف وقد عرفت أن الإلزام في صورة المخالفة لا يساعده دليل الخصم من أدلة الحكم.

فان قلت : إذا ثبت في صورة الموافقة أن إلزام المقلد مؤثر زيادة على ما يقتضيه الأمر بالمعروف ثبت أيضا ترتب أحكام القضاء عليه ، لأن القائل بعدم الترتب النماء يقول ان إلزام المقلد لا يرجع الا الى الأمر بالمعروف ، لا أنه إلزام موجب لتكليف زائد ومع ذلك لا تترتب عليه أحكام القضاء.

قلت : نمنع تأثير إلزام المقلد في التكليف زيادة على ما يقتضيه الأمر بالمعروف وما ذكرنا من تسليم الإطلاق لا يفيد ذلك.

نعم لو ثبت الإلزام في الصورة المخالفة أيضا لم يكن له معنى سوى اقتضائه

ص: 36

في نفسه تكليف الملزم عليه بما الزم ، وأما إذا لم يثبت ذلك أو ثبت عدم اندراج هذه الصورة تحت الإطلاقات فالإلزام الذي دلت عليه الإطلاقات لا يقصد به حينئذ سوى معنى الأمر بالمعروف. فغرضنا من تسليم الإطلاق ومنع شموله لصورة المخالفة بيان أن مفاد الإطلاقات شي ء وراء القضاء المصطلح الذي يؤثر في تكليف المقضي عليه.

وحاصل الكلام : ان إطلاق الحكم لو شمل صورة المخالفة (1) لم يكن له معنى سوى الإلزام القضائي ، لان الإلزام القدر المشترك بين هذه الصورة وغيرها من صور المخالفة لا يعقل سوى ذلك ، وأما إذا قلنا بعدم الشمول والحصر في مجاري الأمر بالمعروف لم يزد في المقتضي على ما يقتضيه الأمر بالمعروف شيئا ، فيكون من جملة أدلته - فافهم.

وثالثا - أي بعد تسليم الإطلاق مطلقا - بأن الإطلاق مقيد بما دل على اشتراط اذن الامام من الإجماع والاخبار ولم يقم دليل على أن المقلد مأذون في القضاء كالمجتهد.

فان قلت : الكلام في المقام بعد الفراغ عن اذن الامام لأنه شرط إجماعا ، لأن القائل بجواز قضاء المقلد يريد نفي شرطية الاجتهاد لا نفي شرطية الاذن ، فالاجتهاد عنده مثل الحرية المختلف فيها ، فكما أن القول بعدم اعتبار الحرية ليس نفيا لاعتبار اذن الامام فكذلك نفي اعتبار الاجتهاد ليس نفيا للاذن. والدليل على ذلك أن العملاء ذكروا شرط الاذن مستقلا مدعيا للإجماع فيه وشرط الاجتهاد أيضا مستقلا ، فرد إطلاق الأدلة بأنها مقيدة بما دل على للاذن ليس في محله.

قلنا : ان ثبت عند هذا القائل اذن الامام للمقلد فهو يكفي ، لأن إذنه دليل على عدم شرطيته ، لأن الإمام لا يأذن في غير المشروط ، وان لم يثبت عنده الاذن

ص: 37


1- « الموافقة » خ ل.

فأي فائدة له في هذه الإطلاقات.

فإن قلت : فائدته إثبات اذن الامام بذلك فإنهما متلازمان ، إذ بعد ما ثبت أن الحكم بين الناس حكم من الأحكام الواقعية الإلهية نظير سائر التكاليف التعبدية بإطلاق الاية الرافع لتوهم كونه من خصائص الامام ومنصوبيه ، فيثبت أيضا اذن الامام لأن كلا من الحكم الشرعي والاذن كاشف عن الأخر عندنا معاشر الإمامية القائلين بالعصمة والوحي دون الخطأ والاجتهاد.

قلت : ان كان الحكم بين الناس من الأحكام الشرعية كحرمة الخمر ووجوب الصلاة واباحة المسكر ونحو ذلك فلا معنى لاشتراطه بإذن الإمام ، لأن الأحكام تعم الناس الامام والمأموم على حد سواء ، فلا معنى لقوله باشتراط الاذن ، ولا معنى لإجماع العلماء على ذلك. واشتراط وجوب صلاة الميت بإذن الولي يرجع الى كونه شرطا للواجب دون الوجوب - فتأمل.

وان كان أمرا من الأمور المقررة لأهل المنصب والرئاسة فما ذكرنا من التقييد وارد عليه ، فان الإطلاق مع ثبوت شرطية اذن الامام بالأدلة اللفظية بل الإجماع لا يجدي في مطلوب الخصم ، فانا نقول حينئذ : ان الحكم بين الناس بمعنى القضاء في نفسه قابل للثبوت في حق المجتهد والمقلد ، لكنه يحتاج إلى إذن الرئيس الواقعي ونصبه ، والقدر الثابت منه في حال الغيبة انما هو الاذن للمجتهد لا المقلد.

ودعوى عموم الاذن لهما بإطلاق أدلة النصب. يعرف ضعفها إنشاء اللّه تعالى.

( الدليل الثاني ) مشهورة ابي خديجة عن الصادق عليه السلام : إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور ، ولكن انظروا الى رجل منك يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه قاضيا بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه (1).

ص: 38


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ج 5.

وجه الاستدلال : ان المراد بالعلم ما يشمل الظن الذي دل الدليل على حجيته بعلاقة المشابهة ، وهي وجوب العمل ، للإجماع على عدم اختصاص القضاوة بالعالم المستيقن ونفوذ قضاء المجتهد.

لا يقال : يبقى العلم على ظاهره وتحكم عليه الأدلة الظنية بعد قيام القاطع على اعتبارها ، فلا حاجة الى صرف اللفظ عن ظاهره بإرادة عموم المجاز.

لأنا نقول : العلم أخذ موضوعا للقضاء لا طريقا إليه ، وتحكيم الدليل الدال على الظن على ما يعتبر فيه العلم انما يتصور في العلم الطريقي لا في العلم الموضوعي ، فان التحكيم حينئذ لا بد فيه من التماس دليل آخر سوى أدلة الظنون كما تقرر في محله. مع أن ذلك لا يضر المستدل ، لأن أدلة التقليد حينئذ حاكمة على الرواية كما لا يخفى. فاذا ثبت أن المراد بالعلم ما يشمل الظن الواجب العمل دخل فيه ظن المقلد أيضا.

فإن قلت : المقلد ليس بظان بل هو متعبد بقول المجتهد.

قلت : المراد بالظن كل أمارة يجب العمل بها ولو تعبدا كما لا يخفى.

والجواب عنها :

أولا - ان إطلاق العلم على ما يشمل الظن - وان ذكره بعض في تعريف الفقه - لكنه ليس بمعهود في لغة العرب ، لان المجازات وان كانت نوعية الا أن علاقة المشابهة التي هي من أنواعها لا بد أن تكون في الصفات الظاهرة والجامع القريب لا كل جامع يمكن أن يفرض. ولا ريب أن وجوب العمل ليس من هذا الباب ، خصوصا على طريقة غير أهل الانسداد ممن يقول باعتبار الظنون الخاصة ، فإن مرجع ذلك في الحقيقة إلى التعبد الصرف ، نظرا الى كون الظنون الخاصة ظنونا نوعية غير مشروط بإفادتها الظن في مجاريها ، فليس في مقام العمل بها ظن حتى يشبه بالعلم لمشابهة وجوب العمل ، الا أن يلاحظ المشابهة حينئذ

ص: 39

بين الاحتمال الصرف أو بين ذات الأمارة النوعية وبين العلم.

وثانيا - ان إحراز صفة العلم بالحكم الواقعي في الحاكم لا بد أن يكون منوطا بنظر المحكوم عليه ، كإحراز صفة الرجولية ، لأن إحراز قيود الموضوع يستحيل أن يكون منوطا بنظر غير المخاطب الا بدليل آخر. فإذا أحرز الشخص عند نفسه شخصا جامعا بين الصفتين - أعني الرجولية والعلم بالحكم الواقعي - فعليه التحاكم إليه. ومن الواضح أن الجاهل بالحكم لا يعقل في حقه إحراز العلم به في شخص أو الظن به ، لان ما في وسعه إحراز شخص ظن بأن حكم الخمر الحرمة مثلا ، وهو غير إحراز ظنه بحكم الخمر ، والعلم بأن زيدا ظن بكون حكم الخمر هو الحرمة والعلم بأنه ظن حكم الخمر الواقعي ، بينهما فرق واضح بين.

ولعل المحقق القمي تفطن الى هذه الدقة حيث طابق الاستدلال بالرواية في محكي جواب سؤال على صورة علم المترافعين أو ظنهما بالحكم تقليدا فترافعا الى من يوافقهما في التقليد ، فان الحاكم حينئذ واجد لصفة الظن بالحكم في نظر هما جدا.

لكن نقول في الجواب حينئذ ما مر في صورة الموافقة من القول بالموجب وعدم بهوضه بالمقصود ، لان الحكم والإلزام بما يقتضيه تكليف المحكوم عليه لا يكون يقتضي أزيد مما هو قضية الأمر بالمعرف - الى آخر ما ذكرنا ثمة.

فان قلت : على ما ذكرت يسقط الاستدلال بالرواية على نفوذ القضاء مطلقا حتى في حق المجتهد ، مع أنها من أعظم ما استدلوا به على نفوذ حكم المجتهد في زمن الغيبة.

قلت : الاستدلال بها انما هو لأجل إثبات شرعية القضاء في الجملة ، وان ما ورد من نواهي الحكومة كقوله عليه السلام (1) « اتقوا الحكومة فإنما هي للإمام

ص: 40


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب صفات القاضي.

القائم العالم » الحديث ، مختص بالمخالفين.

وأما الاستدلال بها على اشتراط الاجتهاد أو أن الحاكم هو المجتهد ، فلم نجد من معتمد ، لأن العمدة في هذا الباب هو مقبولة ابن حنظلة (1) مع أن بين المجتهد والمقلد فرقا واضحا ، لان المجتهد باعتبار اتصافه بالعلم ببعض الاحكام وقوة النظر والاجتهاد في الباقي يصدق عليه عرفا العالم دون المقلد. فلو أبقى الحديث على ظاهره العرفي من دون ارتكاب ذلك التجوز الركيك ثمَّ الاستدلال به على نفوذ قضاء المجتهد أيضا - وان كان لا بد من الاستدلال بالمشهور وما يقاربها من الروايات - فليستدل بأحسن الطرق ، وهو حمل القضايا على الأحكام الفعلية الأعم من الأحكام الواقعية والظاهرية ، فإن العمل بالأحكام الفعلية يعم المجتهد والمقلد على حد سواء كما لا يخفى.

لكن نجيب حينئذ : ان هذا الحمل خلاف ظاهر الحديث ، إذ لو كان المراد ما ذكر ينبغي أن يقال شيئا من قضاياهم لا شيئا من قضايانا ، فإضافة القضايا إليهم عليهم السلام ظاهرة أو صريحة في الأحكام الواقعية المختصة - فافهم.

وثالثا - بعد الإغماض عن جميع ذلك انها مخصصة بمقبولة عمر بن حنظلة الواردة في مقام تحديد القاضي الحاكم وتشخيصه ، فإنها ظاهرة في المجتهد. قال الراوي بعد حكم الامام عليه السلام بعدم التحاكم الى المخالفين وأن التوصل كل إلى الحق الثابت بحكمهم توصل الى السحت : فكيف يصنعان - يعني الرجلين المتخاصمين المذكورين في صدر الرواية؟ قال عليه السلام : انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما - الحديث (2).

ص: 41


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ج 4.
2- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ج 4.

دلت كل واحدة من الفقرات الثلاث بملاحظة ورودها في مقام التحديد المطرد والمنعكس - كما هو الشأن في قيود الحدود - على اختصاص الحكم بالمجتهد ، لظهورهما فيه. لأن رواية الحديث سواء حملت على الرواية المصطلحة في ذلك الزمان أو على المعنى اللغوي - أعني تحمل قول المعصوم عليه السلام بمعنى فهم معناه الذي هو حكم اللّه الواقعي - بعيد الانطباق على المقلد ، لأنه ليس من أهل الرواية بأحد المعنيين كما لا يخفى.

ودعوى أن المجتهد أيضا ليس من أهلها فيختص مضمون الرواية في زمن الأئمة عليهم السلام بالرواية. مدفوعة بأن المجتهد أخص من الراوي ، فكل مجتهد رأو لا محالة.

وأما اختصاص النظر في الحلال والحرام بالمجتهد ، فهو أوضح ، إذ ليس المقلد من أهل النظر كما لا يخفى.

ودعوى أن المراد بالنظر في الاحكام عدم التجافي عنها - كما هو شأن المخالفين المتجافين عن أئمتنا وأحكامهم - فيعم المقلد الشيعي أيضا. مكابرة واضحة ، لظهوره في الرواية والتفكر المختصين بالمجتهد.

وأما معرفة الاحكام فهو أيضا واضح ، خصوصا على الأخذ بظاهر الجمع وان كان ركيكا في الغاية بل مقطوع العدم لظهوره في الاستغراق العرفي الحاصل بالعلم بجملة من الاحكام. والحاصل ان ظهورها في المجتهد ومنكره مكابر.

ودعوى عدم دلالتها على الحصر لعدم حجية مفهوم الوصف ، قد ظهر ضعفها مما أشرنا من ورودها في مقام التحديد الآبي إلا عن الحصر. والعجب كيف يتجرأ في مخالفة رؤساء الفقه المصرحين بالاتفاق على المنع ، مع عدم مصرح منهم بالجواز بمثل هذه الروايات التي خرجت ووصلت من أيديهم إلينا مع عدم ظهورها في المدعى.

ص: 42

ثمَّ ان أول من استدل بها على الجواز المحقق القمي في جواب سؤاله على الوجه الذي قررناه في تقريب الاستدلال ، وقد ذكره في طي الاستدلال كلمات لا تخلو عن النظر ، خصوصا ما ذكره في رد الإجماعات تارة بحملها على قضاؤه المقلد على وجه الإطلاق الراجع إلى رئاسة عامة ، وأخرى بأنها إجماعات منقولة لا تكافؤ ظاهر الروايات ، وهو أعلم بما قال. واللّه العالم.

( الدليل الثالث ) الأدلة الدالة على اعتبار البينة وعمومها للمجتهد والمقلد ، وهي نوعان : أحدهما ما يدل على كونها ميزانا من موازنين القضاء وفصل الخصومة ويشاركها في الحكم اليمين وسائر الموازين. والثاني ما يدل على وجوب العمل بها.

« أما الأول » - فكقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (1) ، وقوله عليه السلام « استخراج الحقوق بأربعة » الحديث.

فيرد على الاستدلال بها : أنها وردت في بيان ميزان القضاء واستخراج الحقوق ، وأما تعيين القاضي والمستخرج فموكول الى دليل خارج ، فمصبها مصب الإهمال لا مصب الإطلاق حتى ينتفع عند الشك في صفات القاضي ، ولذا لم يستدل أحد بها على نفي ما شك من صفات القاضي.

وغاية ما يتوهم في وجه الاستدلال بها أنها دلت على أن الحكم على طبق البينة في الموضوعات المشتبهة حكم اللّه الواقعي ، فيندرج تحت « ما أنزل اللّه » الذي دل ما تقدم من أدلة الحكم على وجوب الحكم به عموما ، فكما أن المجتهد له أن يحكم بين التخاصمين بمقتضى البينة أو اليمين فكذلك المقلد ، لكون الحكم حكما بما أنزل اللّه تعالى.

وفيه : ان المعلوم من أدلتها كون الحكم على طبق البينة في الجملة من

ص: 43


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

الأحكام الواقعية ، فلعل ذلك مخصوص بالمجتهد ، بمعنى كون حكم غيره بمقتضى البينة حكما بغير ما أنزل اللّه تعالى.

وبعبارة أخرى : علم من الأدلة أن فصل الخصومة بمقتضى البينة حكم من الأحكام الإلهية دون الجاهلية ، لكن على وجه الإهمال القابل للاختصاص بحكم بعض دون بعض ، على أن يكون حكم غير المجتهد بمقتضاها غير ما جاء به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلا بد من ذكر دليل عام يفيد أن فصل الخصومة بها مطلقا من أحكام اللّه ، وهو مفقود ومع وجوده يستغنى عن التمسك بأدلة الحكم.

وأيضا الحكم بمقتضى البينة حكم أنزله اللّه وليس حكما بما أنزل اللّه ، وتلك الأدلة انما تدل على وجوب الحكم بما أنزل اللّه لا على الحكم الذي أنزله اللّه ، وبينهما بون بعيد - فافهم.

« وأما الثاني » فقد ظهر جوابه مما مر من أن الأدلة الدالة على وجوب العمل بالبينة كأدلة سائر الظنون والطرق الشرعية لا تنهض في الحجية على من يعتقد بكذبها ، فلا بد في إجراء أدلتها فرض صورة علم المحكوم عليه بصدقها وصدق المدعي ، وحينئذ فيلزم بالموجب ونقول : انه يجب عليه العمل بمقتضاها ويجب على سائر الناس أيضا إلزامه عليه مع التمرد ، فيرجع الى الإلزام بما يقتضيه تكليف المحكوم عليه الذي قد عرفت أنه حينئذ لا يزيد عن الأمر بالمعروف في شي ء. واللّه العالم.

تنبيه
اشارة

( مشتمل على أمور )

( الأول ) ان ما تلونا من المقبولة من الفقرات الثلاث ظاهرة أو صريحة ولو

ص: 44

بملاحظة ما بعدها في أن العبرة في القضاء والحكومة بالحكم الواقعي هو علم القاضي وطريقه اليه ، وان كان مقتضى القاعدة - على ما أشرنا إليه - في المشهورة اناطة معرفة موضوع الحكم في الكلام بنظر المخاطب ، لأن الحوالة على أهل النظر وأهل المعرفة مع كون النظر والمعرفة من الأمور المختلف فيها باختلاف الناظرين ، بنفسه يشعر بأن المناط في تشخيص الحكم الذي لا بد أن يتراضى المتخاصمان به هو نظر الناظر.

وإذا لاحظنا مع ذلك أن نزاع المترافعين ولو بسبب الاختلاف في الحكم لا يعقل الشارع إبقاؤه البتة على حاله وإلا لكان تعريضا للنظام على الفساد ، بل لا بد من دفعه وفصله بوجود فاصل بلغ الاشعار حد الدلالة على أن ما يفصل به لا بد أن لا يكون هو الحكم الواقعي من دون تقييد له بطريق الفاصل والا لزم المحذور الذي أشرنا إليه سابقا ، وهو استحالة نفوذ الفصل والقضاء مع الاختلاف في الطريق ، لان المحكوم عليه له أن يرد القاضي الحاكم بأنك أمرت بالقضاء على حسب الواقع النفس الأمري وهذا الذي تلزمني عليه حكم الجاهلية دون الواقع ، بل هو الحكم الواقعي الذي يراه الفاضل؟؟؟ ، وإذا ضممنا الى ذلك قوله عليه السلام « فارضوا به حكما » وقوله عليه السلام « فإني قد جعلته قاضيا » تأكدت الدلالة ، لأن الحكم والقاضي إذا تعقلنا معنا هما المطابقي تعقلنا متبوعيتها في النظر وعدم جواز معارضة المحكوم عليه له بنظره أو تقليده ، وإذا أضفنا الى ذلك تفريع الامام عليه السلام على قضاوته قوله « فاذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه » تأكدت الدلالة كما لا يخفى.

وإذا لاحظنا مع ذلك كله قول الراوي فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضينا أن يكونا ناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما الى آخر المرجحات

ص: 45

صارت الرواية نصا في المطلوب ، وهو القضاء المصطلح - أعني الإلزام في غير ما يقتضيه تكليف المحكوم عليه - بأن يكون ما يفصل به هو الواقع المقيد بالطريق القاضي إليه ، إذ لو كان المفصول به هو الحكم الواقعي الغير المقيد الغير المتصور في صورة اختلاف القاضي والمقضي عليه في الطريق لم يكن العدول من مرجحات الواقع الى ذكر مرجحات الحكمين وجه ، بل لا بد حينئذ من ذكر مرجحات الواقع بقول مطلق ، ولازمه عدم نفوذ أحد الحكمين المعينين إذا كان مرجوحا بالنسبة إلى الحكم الذي التزم به المحكوم عليه.

اللّهم الا أن تنزل الرواية على صورة جهل المتخاصمين بالحكم وعدم ثبوت طريق لهما الى الواقع. ويدفعه إطلاق الرواية كما لا يخفى.

ولو حملنا المشهورة على ما استظهرناه من الاختصاص بالمجتهد بإرادة أهل العلم من قوله « يعلم شيئا » كانت في الدلالة على القضاء المصطلح - أعني اعتبار نظر القاضي ورأيه دون المحكوم عليه مثل المقبولة - كما لا يخفى على المتدرب. وان اختصت المقبولة ببعض الدلالة مثل ذكر المرجحات للحكمين ونحوها. واللّه العالم.

( الثاني ) ان الأدلة الدالة على القضاء المصطلح إذا قيست الى الظن الذي التزم به المحكوم عليه من تقليد أو اجتهاد وتكون مخصصة للدليل الدال على اعتباره ، فيجب على المقلد مثلا الالتزام بفتوى مجتهده ، إلا إذا عارضه حكم حاكم في مقام الخصومة فيجب عليه ترك الالتزام به في تلك الواقعة والالتزام بحكمه ، وهو واضح.

( الثالث ) انه لا حاجة الى قيام دليل آخر من الخارج على حرمة نقض الحكم

ص: 46

لأنه إذا وجب الالتزام بفصل الفاصل وقضاء القاضي بحكم المقبولة والمشهورة ونحو هما من أخبار القضاء وأدلته لم يكن له معنى سوى الالتزام به أبدا والمضي عليه كذلك ، فلا حاجة الى قيام دليل آخر على حرمة نقض الحكم من المحكوم عليه أو من غيره ، لان انقضاء الأمر الذي يتفرع على القضاء يلزمه عقلا بطلان كل ما هو من لوازم البقاء.

وهذا نظير ما أفدنا في رد من زعم أن الأمر بالوفاء بالعقود لا يفيد سوى حكم تكليفي ، وأما الحكم الوضعي - وهو لزوم العقد - فيستفاد من نحو « البيعان بالخيار ما لم يفترقا » (1) حيث قلنا ان وجوب الوفاء بالعقد بنفسه يتضمن لزوم أثره ، وانه إذا وجب الوفاء بمقتضى العقد في جميع الحالات حتى بعد قول البائع والمشتري « فسخت » ، كان ذلك عين اللزوم ، لان هذا الأمر الوضعي لا يزيد في الأثر سوى وجوب الوفاء به في الحالات كلها كما لا يخفى.

( الرابع ) دلالة المقبولة على القضاء في الشبهات الحكمية واضحة ، واما دلالتها عليه في الشبهات الموضوعية فلا تخلو من اشكال ، لا لان موردها الشبهة في الحكم ، لأن العبرة بعموم لفظ الامام عليه السلام لا بخصوص المورد ، بل لان الحكم بمقتضى البينة ليس الحكم بحكمهم بل حكمهم ، وظاهر التفريع تخصيص المفرع عليه كما لا يخفى. فعموم قوله « انظروا » الى قوله « فارضوا به حكما » لا يجدي مع تفريع « فاذا حكم بحكمنا » عليه غيره ، فالمستند للقضاء في الشبهات الموضوعية غير المقبولة من الروايات. ويمكن أن يكون باء « بحكمنا » باء التقوية ، أي حكم حكمنا ، فيعم الشبهات الموضوعية أيضا.

ص: 47


1- الوسائل ج 12 ب 1 من أبواب الخيار.
[ نصب المجتهد المقلد للقضاء وتوكليه ]

هذا تمام الكلام في المسألة الاولى ، وأما المسألتان الأخيرتان - أعني نصب المجتهد المقلد للقضاء والنظر في المرافعات وتوكيله في إجراء صيغة الحكم - فالحق فيهما أيضا عدم الجواز ، للأصل السالم عن معارضة الدليل.

أما الاولى - أعني النصب - فلان إثبات جوازه يتوقف على أمرين أحدهما بمنزلة الصغرى والأخرى بمنزلة الكبرى : أحدهما أن يكون النصب جائزا في حق الامام عليه السلام ، والثاني أن يجوز للمجتهد كلما يجوز للإمام عليه السلام. وكلاهما ممنوعان :

( أما الأول ) فلان جواز نصبه «عليه السلام» موقوف على شرعية قضاء المقلد ، بمعنى عدم كون الاجتهاد من شرائط القضاوة عند اللّه تعالى ، إذ لو لا ذلك لم يجز للإمام عليه السلام نصبه للقضاء ، لأنه لا يأذن في غير المشروع ، ولذا يستدل بأذنه «عليه السلام» في شي ء على شرعيته وكونه من الأحكام الإلهية استدلال « ان » لا استدلال « لم » ، فلو لا اختصاص الاذن بالمشروع انسد الاستدلال.

ومن هنا يعلم أن القول بأن الامام علي عليه السلام له ان يطلق نساء المؤمنين مع القول بأن الطلاق بيد من أخذ بالساق وانه مشروط عند اللّه تعالى برضاء الزوج ، غلط فاحش وان كان النبي وخلفاؤه صلوات اللّه عليهم أجمعين أولى بالمؤمنين من أنفسهم في جميع الأمور بنص الآية الشريفة « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ » (1) الاية.

وبالجملة إذا كان الاجتهاد - كالرجولية مثلا - معتبرا في القاضي كان نصب المقلد للقضاء كنصب المرأة أمرا غير مشروع ، فجواز نصب الامام له موقوف

ص: 48


1- سورة الأحزاب : 35.

على عدم كون الاجتهاد من الشرائط الإلهية ، ولذا ذكر الفقهاء شرائط القضاوة فردا فردا مضافا الى شرائط الإذن يريدون بيان الحكم الشرعي وأن القضاء المشروع في الشرع الذي هو للإمام أولا ثمَّ لمأذونه لمن هو متصف بالشرائط المزبورة.

فإذا توقف جواز نصبه «عليه السلام» على عدم اشتراط الاجتهاد كان لنا منع الجواز لوجهين :

أحدهما - الأصل الذي أشرنا إليه ، فإن مقتضى الأصل فيما هو من قبيل المعاملات بالمعنى الأعم الاشتراط عند عدم الإطلاق ، لأصالة عدم ترتب الأثر على فاقد الشرط. ودعوى إطلاق آيات الحكم والقضاء ، قد عرفت ما فيه ولا نعيد.

والثاني - الإجماع المستفيض ، حيث صرح غير واحد بالاتفاق على اعتبار الاجتهاد في القاضي ، كما لا يخفى على أهل التتبع والخبرة.

( وأما الثاني ) أعني ثبوت الولاية العامة للمجتهد بحيث يجوز له كل ما يجوز للإمام ، فمبني على النظر في أدلة ولاية الحاكم. وقد أورد الأستاد شيد اللّه أركان افادته في باب المتاجر على عموم تلك الأدلة بما لا محيص عنه ولا ذاب ، ومن أراد كمال الاطلاع فليرجع اليه.

ونقول هنا إجمالا : ان هذه الأدلة كقوله صلى اللّه عليه وآله « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » (1) وقول الحجة صلوات اللّه عليه في التوقيع « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللّه » (2) وقوله عليه السلام « مجاري الأمور بيد الحكام » ونحوها مما يدعى دلالته على عموم ولاية الفقيه العالم الجامع للشرائط لكل شي ء كان للنبي والوصي عليهما السلام وانه نائب منابهم في جميع الأمور إلا ما خرج ، لا يجدي عند الشك ،

ص: 49


1- بحار الأنوار 2 / 22 بلفظ « علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل ».
2- الوسائل ج 18 ب 11 من أبواب صفات القاضي ح 9.

لوجوه على سبيل منع الخلو :

( الأول ) ان الظاهر المستفاد من النظر في مجموع تلك الأدلة هو قيام الرواة والعلماء والفقهاء والحكام مقام النبي والوصي صلوات اللّه عليهما في الأمور الثابتة لهم «ع» من حيث النبوة والرسالة لا مطلق الأمور الثابتة لهم ولو من حيثية أخرى راجعة إلى خصائصهم.

توضيح ذلك : ان تعليق الحكم بالوصف يشعر - خصوصا في مثل المقام المحفوف بقرائن عقلية ونقلية شتى - بالعلية ، فتشبيه العالم بالنبي أو تشبيه الراوي بحجة اللّه لا يفيد الا التنزيل والتشبيه في خصوص جهة النبوة التي هي وساطة بين اللّه تعالى وعباده ، أو جهة الإمامة التي هي وساطة بين النبي والرعية ، فكل ما هو ثابت للنبي من حيث كونه واسطة بين اللّه وخلقه - وهي حيثية تبليغ الاحكام - فهو ثابت لمن ناب منابه وقام مقامه.

وأما الأمور الثابتة له من حيثية أخرى غير حيثية الرسالة - كخصائص النبي من الأمور الشرعية والعادية - فالتشبيه والتنزيل المزبورين لا يعطي المشاركة فيها أيضا. ولا ريب أن ما نحن فيه وأشباهه خارج عن الحيثية المشار إليها ، بل الداخل فيها ليس إلا جهة بيان الاحكام وتبليغ الحلال والحرام ، حتى أنه لو لا أدلة القضاء وحكم العقل بوجوب اقامته لكان إثبات شرعيته بتلك الأدلة ، دونه خرط القتاد ، فضلا عن إثبات نصب القاضي غيره.

( والثاني ) ان هذه الأدلة وردت في تشخيص من تكون بيده مجاري الأمور من المصالح العامة التي دل العقل أو النقل على وجوب إجرائها ، كمباشرة القضاء ومحافظة مال الصغار وحفظ بيضة الإسلام ونحوها مما ثبت وجوب إجرائها ما دامت الشرعية باقية لا في تشخيص الأمور الجارية ، فلو شك في أمر أنه مشروع جار في المسلمين أم لا ، فلا بد في إثباته من التماس دليل آخر.

ص: 50

والتمسك بعموم المنزلة في بعض الروايات لا ثبات شرعية اجراء كل ما كان للحجة إجراؤه. يدفعه بعد عدم مجيئه فيما شك في شرعيته للحجة كما فيما نحن فيه ، ما عرفت من قصور التنزيل في الحجية والنبوة عن شمول ما هو خارج عن جهة النبوة والرسالة والحجية ، مضافا الى ما فيه افادة التنزيل والتشبيه للعموم إلا في الصفات الظاهرة الجلية التي هي في النبوة والحجية في تبليغ الاحكام.

فمفاد ما دل على قيام الفقيه مقام الإمام في مجاري الأمور ، إيكال النظر في الأمور العامة اليه ، على معنى وقوعها في الخارج على حسب ما يراه فيتبع نظره فيما يتعلق بتجهيز الموتى ومحافظة النفوس والأموال الضائعة ، ولا يجوز لا حد معارضته بل لا ينفذ لو عارضه ، لا أنه يباشر كل ما يباشره الامام.

( والثالث ) انها على تقدير تسليم عمومها لا بد من تنزيلها على أمور معهودة لكثرة ما يرد عليها من التخصيص التي تشمئز النفس من ارتكابها.

توضيح ذلك : ان كثرة التخصيص بعد ما بلغ حد الاستهجان يتعين معها حمل العام على المعهود ، ولذا حكموا في كلمة الناس في قوله تعالى « الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ » (1) الاية : بأن المراد به في الأول نعيم بن مسعود وفي الثاني أبو سفيان وأصحابه على طريق العهد دون التخصيص ، حذرا من استهجان تخصيص الأكثر. نعم لو لم يبلغ كثرة التخصيص الى حد الاستهجان كان حينئذ سببا لوهن العام ، بحيث لا تطمئن النفس في العمل بعمومه الا بعد الاطمئنان بعدم كون المورد من الافراد الخارجية ، ولذا قلنا في « لا ضرر » وأشباهها كلا حرج وآيات القصاص أنه لا يعمل بعمومها لكثرة ما خرج عن تحتها ، الا بعد مشاهدة عمل جملة من الأساطين بها.

ص: 51


1- سورة آل عمران : 173.
[ حكم التوكيل في القضاء ]

( وأما المسألة الثانية ) أعني مسألة التوكيل فالحق فيها أيضا عدم الجواز وفاقا للكل أو الجل ، لان التوكيل مشروط بعدم اشتراط المباشرة في تأثير الحكم والا لم يعقل فيه التوكيل ، واشتراطها هنا اما معلوم أو مشكوك ، والتمسك بأدلة الوكالة غير مجد في المقام.

وتوضيح المرام : ان الافعال التي يترتب عليها أثر وغرض شرعي على ثلاثة أقسام :

منها - ما يكون ذلك الغرض والأثر لازم ذات الفعل من غير مدخلية إضافته الى بعض دون بعض ، نظير الطهارة الخبثية التي هي أثر الغسل المطلق ، من غير اعتبار محل خاص في التأثير حتى لو صدر من الحيوانات لأثر أيضا أثره.

ومنها - ما يكون الأثر المقصود مترتبا على صدور الفعل من الشخص ولا يكون الأثر أثرا لذاته ، وهذا أيضا على قسمين :

أحد هما : ما كان مطلق الفعل الشامل لنوعي المباشرة والتسبيب كافيا في التأثير على أن يكون المعتبر في حصول ذلك الأثر ذلك الفعل مباشرة أو تسبيبا ، كالثواب المترتب على بناء المسجد ، فان ذلك غير مشروط بالمباشرة بل يترتب على البناء الحاصل من فعل الأجير أيضا.

وثانيهما : ما كان حصول الأثر فيه موقوفا على المباشرة ، بأن يكون ذلك الأثر ثابتا للفعل المتقوم بمحل خاص على وجه يكون للإضافة الى ذلك المحل مدخلية في التأثير ، كالعبادات التي لا يحصل منها الغرض المقصود إلا بالمباشرة.

ومن البديهيات أن التوكيل انما يتصور في أحد القسمين الأولين ، وأما القسم الثاني فالتوكيل فيه من المستحيلات. نعم يتصور التوكيل حينئذ في

ص: 52

ذات الفعل مع قطع النظر عن كونه ذا أثر لا الفعل من حيث كونه مؤثرا ، فالفعل الذي يترتب عليه الأثر لا يتصور فيه التوكيل ، والذي يتصور فيه التوكيل لا يترتب عليه الأثر.

فلو أحرزنا كون الفعل من أحد القسمين الأولين فلا إشكال في حصوله أصالة ووكالة من غير فرق بينهما ، الا أن ترتب الأثر في القسم الأول لا يتوقف على التسبيب فضلا عن التوكيل والاستنابة أو قصد الوكيل النيابة عن الموكل ، بل يحصل ولو قصد الخلاف والاستقلال.

بخلاف القسم الثاني فإنه على أقسام :

منها : مالا يتوقف حصول الأثر فيه على الاستنابة والتوكيل بل يحصل بمجرد التسبيب ولو من غير استنابة وان حصل أيضا مع التوكيل والاستنابة.

ومن هذا القبيل بناء المسجد لتحصيل الثواب بالاستيجار وتوضي العاجز بفعل الغير بجعله آلة للوضوء فهو المتوضي حقيقة بجوارح الغير الراجع الى التسبيب الصرف. وفي هذا القسم لا يعتبر في محل الفعل شي ء من شرائط التكليف ، حتى لو فرض التسبيب الى فعل الحيوانات لأثر أيضا.

ومنها : ما يحتاج إلى الاستنابة والتوكيل ، إما مع عدم اعتبار قصد النائب النيابة أو مع اعتباره.

ومن قبيل الأول العقود والإيقاعات ، فإن الأثر المقصود منها يترتب على فعلها مباشرة وتسبيبا بالتوكيل لا بغيره ، من غير اعتبار قصد الوكيل النيابة.

ومن الثاني الاستنابة في الأعمال العبادية بالمعنى الأخص.

والغرض الإشارة الإجمالية إلى أقسام القسم الثاني لا إعطاء الضابط ، فان تميز الاقسام مطلوب من ملاحظة أدلة كل باب.

وان شك في كون الفعل من أحدهما أو من القسم الأخير كان ذلك شكا في

ص: 53

صدق الوكالة لا في صحتها ، فان دل دليل عام أو خاص على كون الفعل من أحد الأولين لم يحتج في إثبات الوكالة حينئذ إلى دليل آخر ، كما أنه إذا دل دليل كذلك على جواز الوكالة في المشكوك كان ذلك دليلا على كونه منهما.

إذا تحقق ذلك فنقول : ان ما ورد في باب الوكالة من الأدلة لا يتكفل شي ء منها لبيان هذا المهم ، أعني قبول كل فعل من الأفعال الشرعية للنيابة إلا ما خرج بالدليل ، لان ما ورد فيها كلها مسوق لبيان أحكام الوكالة وشرائطها مثل ما ورد في استمرارها الى بلوغ العزل.

ولا ريب أن الدليل المسوق لبيان أحكام الشي ء كلا أو بعضا لا يدل على تعيين مجاري ذلك الشي ء ومصاديقه ، كما أن الدليل على جواز الوكالة عموما أو خصوصا لا يدل على حكمها وشرائطها ، فهنا مقامان : أحدهما إثبات قبول المشكوك للوكالة ، والثاني بيان حكم الوكالة من حيث كفاية الفعل وعدم اعتبار اللفظ ونحوها من الاحكام. والدليل المتكفل لبيان المقام الأول لا يجدي في المقام الثاني ، كما أن الدليل الوارد في المقام الثاني غير مجد في المقام الأول.

ومن هنا يظهر سقوط الاستدلال بعمومات العقد ، كقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (1) عند الشك في القابلية ، لأن الشك فيها شك في صدق الاسم ، كما إذا شك في أن الشي ء الفلاني من المملوكات القابلة للنقل أم لا ، أو أنه من الحقوق القابلة للصلح والتجاوز أم من الاحكام ، فمن تمسك ببعض ما ورد في باب الصلح على جوازه في كل شي ء مشكوك في قابليته باعتبار الشك في كونه من الأحكام أم من الحقوق أو بعموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » لا ثبات صحة الصلح حينئذ أو لصحة الوكالة فيما شك في قبوله النيابة ، فقد سهى سهوا بينا.

ص: 54


1- سورة المائدة : 1.

ولأجل ذلك ترى الأصحاب يصرحون في باب الوكالة بجميع ما يقبل الوكالة وما لا يقبل من أول الطهارة إلى آخر الديات ويذكرونها فردا فردا بعد الإشارة إلى شرعية أصل الوكالة.

فظهر أن الشك في قابلية الشي ء للوكالة لا رافع له الا بملاحظة أدلة ذلك الشي ء ، فان دلت على اعتبار المباشرة فيه فهو ، وكذا لو دلت على عدم اعتبارها وان كانت مجملة ، فالمرجع في كل باب الى الأصل المقرر في ذلك الباب. واللّه العالم.

تتمة
[ قضاء المقلد في حال الاضطرار ]

ما ذكرناه من عدم جواز قضاء المقلد كان مختصا بحال الاختيار ، وأما حال الاضطرار - يعني عدم وجود مجتهد في البلد وتعسر الترافع اليه أو تعذره - فيظهر الحال فيه بعد ذكر مقدمة أشرنا إليها إجمالا ، وهي :

ان وجوب القضاء وفصل الخصومات ورفع المنازعات من المستقلات العقلية التي يستقل بها العقل بعد حكمه بوجوب بقاء النظام ، ولذا احتملنا قويا في الآية الشريفة « يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ » (1) أن يكون المتفرع على الخلافة القيد ، أعني كون الحكم على نحو الحق ، بأن تكون شرعية أصل الحكم له معلومة بالعقل المستقل ويكون الغرض من التفريع آكدية الحكم بالحق في حق الخلفاء. لكن ذلك الحكم من العقل على وجه الإيجاب الجزئي ، بمعنى حكمه بوجوب وجود القاضي والفاصل في الجملة ، وأما حكمه بوجوب القضاوة على الجميع أو على البعض المعين فلا.

ص: 55


1- سورة ص : 25.

ولا يرد عليه : أن الإجمال في حكم العقل غير معقول ، لأن الإجمال ليس في موضوع حكم العقل ولا في محموله بل في مصاديق الموضوع. نظير استقلاله بقبح تناول المضر ، فإنه لا ينافي شكه في قبح تناول شي ء باعتبار الشك في اندراجه تحت مفهوم المضر.

فالذي يقضي به العقل أن يكون شخص قاضيا بين الناس مع عدم ترتب المفسدة على قضاوته ، ولما لم يتشخص عنده هذا الشخص ولا يدرك مصاديقه فتعيينه موكول الى الشارع العالم بخفيات الأمور ، فتعيين الشرع شخصا للقضاء تشخيص لموضوع حكم العقل ، كما أن حكم الشرع بأصل القضاء تأكيد لحكم العقل ، فان تعين من قبل الشارع القاضي فهو المتبع ، وإلا فإن كان في المكلفين شخص متفق عليه وقدر متيقن وجب الاقتصار عليه ، لأن الضرورة تتقدر بقدرها ، والأوجب على المكلفين جميعا وجوبا عقليا كفائيا ، لاستحالة التعيين المستلزم للترجيح بلا مرجح.

وهذا أصل عقلي مطرد في جميع الأمور الحسبية القاضي بإقامتها العقل المستقل ، كاغاثة الملهوف ومحافظة النفوس والأموال الضائعة ونحوها من الأمور الحسبية ، فإن الضابط فيها ما ذكرنا من اتباع التعيين الشرعي للمقيم بها ، ومع عدم التعيين الشرعي فالاقتصار على الشخص المتفق عليه والقدر المتيقن ، ومع التساوي فالوجوب الكفائي.

إذا تحقق ذلك فاعلم : أن حكم النزاع في الموضوعات غير حكمه في الحكم الشرعي ، فهنا مسألتان :

( الأولى ) الشبهات الموضوعية

فالذي يقتضيه النظر أن في حال الاضطرار - بمعنى تعذر الرجوع والرفع الى المجتهد أو تعسره تعسر ألا يرضى الشارع بمثله - لا يشترط في القاضي الاجتهاد ،

ص: 56

فيجوز للمقلد حينئذ بل يجب وجوبا عقليا ناشئا من استقلال العقل بمقدماته ولو بملاحظة حال الشارع :

« أحدها » وجوب حسم مادة النزاع والدعوى وعدم جواز الحكم ببقاء الدعاوي غير مفصولة في المنازعات التي هي مجاري البينات والايمان. وهو واضح والإلزام اختلال النظام وتضييع الحقوق والأموال المعلوم من الشرع وجوب حفظها كالنفوس حسبة ، بل ربما يؤدي الى ضياع النفوس المحترمة جدا.

« وثانيها » - عدم جواز الرجوع الى سلطان البلد وتبعته ، لكون الترافع إلى الجائرين رجوعا الى الجبت والطاغوت المحرم بنص الكتاب العزيز والسنة والإجماع المحقق.

فان قلت : حرمة المراجعة إليهم حال الاضطرار غير مسلمة ، لان الضرورات تبيح المحظورات ، وأي ضرورة أعظم من محافظة النظام والحقوق والنفوس ، فلا يزاحمه شي ء من المحرمات.

قلت : المقدمة المحرمة يجوز ارتكابها لبعض الواجبات المهملة إذا انحصرت المقدمات فيها ، وأما مع عدم الانحصار - كما فيما نحن فيه لا مكان وجوب الحفظ المشار اليه بالمرافعة الى غير الجبت والطاغوت - فهي باقية على حرمتها.

فان قلت : ليس في المقام مقدمة مسلمة غيره الا بعد معلومية شرعية قضاء غير المجتهد ، وهو أول الكلام.

قلنا : كونه أول الكلام لا يلحقه بالرجوع الى الجبت والطاغوت في التحريم لأن غاية ما ثبت من الأدلة عدم شرعية قضاء المقلد في حال الاختيار من جهة عدم الدليل لا من جهة حرمته ذاتا كالرجوع الى الجبت. ولو سلم حرمته الذاتية فالقدر المسلم منه حال الاختيار لا مطلقا ، وأما الرجوع الى الطاغوت فحرمته

ص: 57

تعم الأحوال كلها جدا.

« وثالثها » - عدم وجوب الرجوع الى المجتهد الذي فرض كون الرجوع اليه لبعده عن بلد المخاصمة متعذرا أو متعسرا لا يرضى الشارع بمثله ، وهو أيضا واضح. ضرورة أن ما يقع في البلد في كل يوم أو شهر من الدعاوي لو قيل بأنه يجب فيها الرجوع الى المجتهد النائي. وأنه لا بد للمتخاصمين من شد الرحال إليه في قليل من الدعوى أو كثيرة ، كان أمرا مضحكا لا ينبغي نسبته الى عاقل فضلا عن حكيم. وبعد ملاحظة هذه المقدمات فالعقل يستقل بأنه يجب أن يكون في ذلك البلد رافعا للمخاصمات في الشبهات الموضوعية على وجه تأتي إليه الإشارة.

( المسألة الثانية ) ما إذا كان المتنازع فيه من المسائل الخلافية.

مثل منجزات المريض وثبوت الشفعة إذا كان الشركاء أزيد من ثلاثة وتحريم عشر رضعات وأمثالها.

والتحقيق عدم استقلال العقل فيها بوجوب رفع المخاصمات من مقلدي البلد ، لأنه لا يلزم من عدم فصله مخالفة قطعية أو احتمالية للواقع أزيد مما يلزم من الفصل. وليس فيه أيضا اختلال النظام. بل يجب عليهم الرفع الى المجتهد النأي. وليس فيه مشقة أصلا ، مثل ما كان في الشبهات الموضوعية ، إذ لا يحتاج الفصل فيها إلى إقامة بينة وجرحها وتعديلها ، لان الحكم في المسائل الخلافية انما يحصل بمجرد الفتوى ، فيجب على المدعي ترك الدعوى الى أن يستفتي حال المسألة عن المجتهد النائي. وهذا أمر سهل ، لا غاية ما في ذلك استدعاء الاستفتاء زمانا قليلا أو كثيرا ، وترك الدعوى في المسائل الخلافية برهة من الزمان ليس فيه من المحذور شي ء.

ومما ذكرنا ظهر الحال في صورة التداعي أيضا ، فإن تكليف المتداعيين

ص: 58

ترك الخصومة الى أن يظهر الحال ، وعلى المؤمنين كفاية يجب منعهما عن الدعوى ، كمنع المدعي في صورة عدم التداعي.

كما ظهر أيضا أنه لا يرد علينا لزوم تعطيل المال في بعض المسائل الخلافية ، لأنه إنما يقبح لو كان مستداما ، وأما مع تمكن الاستفتاء من المجتهد ولو في عرض سنة أو سنتين فلا ضير فيه.

وأما القول بأن متاركة الدعوى أو ترك المدعي للدعوى وعدم فصلها يستلزم العلم بالمخالفة القطعية ، نظرا الى حصول العلم عادة بأن الدعاوي إذا كثرت - ولو في المسائل الخلافية - حصل العلم بحقية بعضها ، فيلزم من منع الكل مخالفة علمية.

ففيه بعد ما مر من أن الترك ليس مستداما بل في برهة من الزمان : المنع الواضح لان فصل الدعاوي إذا كان الحق في طرف المدعى عليه عند المجتهد الذي يقضي بينهما يتضمن هذا المحذور أيضا ، فإن كان في منع المدعي عن الدعوى في الدعاوي الكثيرة قبحا لاستلزامه المخالفة العلمية - كان قضاء مثل هذا الحاكم أيضا كذلك.

وبالجملة فرق وضاح بين الشبهات الموضوعية والحكمية ، فإنه لا علاج عقلا في الأول الا بمباشرة شخص من أهل البلد للخصومات ، لان تكليف المترافعين على شد الرحال الى المجتهد عسر منفي وأمرهما بترك الدعوى تضييع للحقوق وابقاءهما متعاركين ومتنازعين يستلزم الفساد والفتنة المستلزمين لاختلال النظام ، والرجوع الى حكام الجور ركون الى الجبت والطاغوت.

فيتعين أن يكون من المؤمنين من يقوم بموازين القضاء ، فان غرض الشارع متعلق بإقامتها جدا ، وتعيين المقيم كالنبي والوصي ومأذونهما غرض في غرض ، وحيث يتعذر أحد الغرضين لا يجوز إهمال الغرض الأخر. بخلاف الشبهة

ص: 59

الحكمية ، فإنه لو أمر المتخاصمين بترك النزاع الى أن يظهر الحال من المجتهد فلا يلزم شي ء من المحذورات. وليس لك أن تقول كذلك في الأول ، لأن الاستفتاء لا ينفع.

هذا كله إذا أمكن الرفع الى المجتهد ، وان تعذر اما لعدم وجوده في العالم - العياذ باللّه - أو مع وجوده وعدم إمكان الرجوع اليه فالحكم في الشبهات الحكمية كما ذكرنا ، فيتوقع زمان الاختيار بوجود مجتهد رافع وفاصل للدعاوي.

نعم في بعض المسائل الخلافية يلزم حينئذ تعطيل المال الأبدي ، وحينئذ لا بد من سلوك طريق سالم عن هذا المحذور ، الا أنه لو قيل بمتاركة الدعوى حينئذ وإبقاء المال في حكم مال مالك له ظاهرا ان كان المورد من التداعي والا في يد المدعى عليه لم يلزم أيضا محذور ولا يجوّزه العقل أزيد مما يلزم من حكم الحاكم وقضاء القاضي بمجرد الفتوى كما أشرنا.

وأما الشبهات الموضوعية فالحكم فيها أيضا كما ذكر من وجوب وجود رافع للخصومات من مقلدي البلد ، لكن بينه وبين إمكان الرجوع الى المجتهد مع التعسر في الاستيذان ، فرق يظهر في ضمن بعض التنبيهات.

[ ما يختص بأحكام المقلد المنصوب للقضاء ]

وينبغي التنبيه على أمور :

( الأول ) ان ما سمعت من سقوط شرط الاجتهاد حال التعسر ليس المراد به استبداد أهل البلد في نصب المقلد للقضاء ، بل يجب عليهم الاستنصاب من المجتهد ، فنصب المجتهد بعض أهل البلد للقضاوة ، وذلك للقاعدة المشار إليها من الاقتصار على القدر المتيقن ، لان احتمال مدخلية نصب المجتهد في تلك الحالة قائم ومعه لا يجوّز العقل - أي لا يستقل - باستبدادهم من دون نصب

ص: 60

المجتهد.

فالمراد من كون الاجتهاد شرطا اختياريا أنه مع التعذر يجوز قضاؤه المقلد بنصب المجتهد ، بخلاف حال الاختيار فإنه لا يجوز مطلقا حتى مع النصب.

( الثاني ) انه لو قيل باستبداد أهل البلد وأنه لا مدخلية لنصب الحاكم في حال الاضطرار لا يجوز لهم الاستبداد أيضا. نظير مسائل التقليد ، فان القول بجواز تقليد المفضول مثلا لا ينفع بحال العامي المقلد ، إذ يجب عليه على كل حال الرجوع الى الأعلم.

فالجواز وعدم الجواز في هذه المسائل انما هو حكم المسألة التي يجري على طبقها المجتهد لا المقلد ، بل المقلد يجب عليه سلوك القدر المتيقن ، لأن الأخذ بغيره من المسائل النظرية يحتاج الى اجتهاد صحيح ليس المقلد من أهله ، والقدر المتيقن في كل مسألة شي ء كالرجوع إلى الأعلم في مسألة التقليد والاستنصاب من المجتهد فيما نحن فيه ، ثمَّ المجتهد يرى رأيه فيفتي بمقتضى رأيه. فالبحث في أمثال هذه المسائل إنما ينفع للمجتهد دون المقلد ، وهو واضح ومتضح في محله.

( الثالث ) إذا نصب المجتهد مقلدا للقضاء ، ففي جواز قضائه مطلقا أو في خصوص ما لو رفع الى المجتهد لكان حرجا. وجهان مبنيان على أن العسر والحرج المنفيين في الشرع هل هما منوطان بالحرج والعسر الغالبين أو الشخصيين.

وقد مضى في باب الغصب في إتقان قاعدة لا ضرر بعض الكلام في ذلك ، فعلى الأول يقضي مطلقا وعلى الثاني لا يقضي الا في الموارد العسرية والحرجية.

وفي غيرها - كما إذا لم يكن على المدعي والمنكر المسير الى المجتهد مع البينة والجارح والمعدل عسرا أصلا ، أو كان الفاصل لدعواهما هو اليمين خاصة مع

ص: 61

سهولة المسافرة إلى المجتهد في غاية السهولة ، يرجع الى المجتهد.

ويمكن أن يقال : انه لو قيل بأن المناط هو الحرج الشخصي لم يلاحظ فيما نحن فيه خصوصيات الموارد أيضا ، لأن تميز موارد الحرج عن غيرها ينجر الى الاحتياط في الموارد المشتبهة وهو بالرجوع الى المجتهد ، فيلزم الحرج والعسر أيضا. نظير ما قيل في نتيجة دليل الانسداد من بطلان الاحتياط ولو في مجاريه ، لان تميز موارد الاحتياط لعسره ينجر الى الاحتياط في كثير من الشبهات الذي هو عسر ، خصوصا في حق المقلد العامي الذي لا يتمكن من تميز موارده الجلية فضلا عن الخفية.

لكنه قياس مع الفارق ، لأن المسافرة إلى المجتهد ليست من الأمور التي لا يعرف سهولتها وصعوبتها كما لا يخفى.

( الرابع ) هل يجب على المقلد المنصوب القضاء بحسب ما يقتضيه تقليده في موازين القضاء أو يجب عليه الأخذ بالطريق الأرجح والأقوى ، كموافقة المشهور ان كان من أهل معرفة ذلك ، ونحوه من الأمور المقررة المترتبة للتقليد عند عدم المجتهد.

وبعبارة أخرى : حال القضاء بعد فرض نصب المجتهد كحال التقليد في الرجوع الى كتب الأصحاب والأخذ بالمشهور ثمَّ الأكثر قائلا وهكذا ، أو يجب على المنصوب القضاوة على حسب التقليد؟ وجهان أقواهما الثاني ، لأن ترجيحات المقلد لا عبرة بها في نظر الشارع ، والأخذ بأقوى الطريقين انما هو تكليف من كلف بالنظر ، وأما من منع عنه وأمر بأمر تعبدي كالتقليد فما يلوح له من الظنون الموافقة لذلك الأمر التعبدي أو المخالفة له مثل الحجر الموضوع في جنب الشجر ، فالتقليد والقضاء حيث يجوز يصدران من مصدر واحد.

ونظير هذا التوهم ما توهم في رد الاستدلال على وجوب تقليد الأعلم ،

ص: 62

بأنه الأقرب الى الواقع ، من أن قول المفضول قد يكون هو الأقرب لموافقة الشهرة ونحوها. وفساده يظهر مما أشرنا إليه هنا وبسطناه في محله.

( الخامس ) هل يجب على المقلد القضاء بحسب تقليد مجتهده أو بحسب رأي المجتهد الناصب له أو يتخير ، والمقصود بيان تكليف المجتهد وأنه بأي شي ء يفتي لا تكليف المقلد ، فإنه يجب استظهار الحال من السؤال عن المجتهد الناصب على أي حال كما مر.

والظاهر أن المرجع فيه نظر الناصب أيضا ، ولو للقاعدة المشار إليها من الأخذ بالقدر المتيقن أو لأن الطرق المخالفة لرأيه غير فاصل للقضاء ، كما هو الشأن في جميع الأمور المختلفة.

( السادس ) يجب على الناصب نصب أعلم أهل البلد تقليدا وأورعهم ، إلى آخر ما يرجح به في المجتهدين من المرجحات ، وهو واضح لأنه القدر المتيقن.

( السابع ) يجب على أهل البلد في الصورة الأخيرة - يعني حال تعذر الاستنصاب أيضا - نصب أعلم أهل البلد للقضاء ، وميزان القاضي حينئذ هو ميزان التقليد عند تعذر المجتهد ، وهو مذكور في محله على نحو من الترتيب.

هذا إذا لم يكن المقلد القاضي ملتزما بتقليد ، والا فيقضي حسبما يقتضيه تقليده.

( الثامن ) قضاء المقلد في جميع الفروض المزبورة فائدته رفع الفتنة والفساد ومحافظة الحقوق خاصة ، وأما سائر ما يترتب على قضاء المجتهد من الأحكام - كحرمة النقض وعدم جواز تجديد المرافعة - فلا لان العقل انما يستقل بما ذكرنا ، وأما هذه الأحكام فهي أمور ثابتة من الأدلة الشرعية.

وما ذكرنا سابقا من عدم الاحتياج في إثبات حرمة النقض الى غير أدلة

ص: 63

القضاء فإنما هو في الأدلة الشرعية ، فإن لفظ « القضاء » يستفاد منه حرمة النقض أيضا على ما مر إليه الإشارة ، ومن الواضح أن حكم العقل أمر لبي معرى عن جميع المفاهيم التي تستفاد من الأدلة اللفظية.

ثمَّ ان المحقق القمي قد سمعت أنه تعرض لبعض هذه الفروع في جواب سؤاله ، وعلى صاحب المجال المراجعة إليه لا بد. واللّه العالم بحقائق الأمور.

التقاط [ عدم جواز الترافع الى حكام الجور ]

لا يجوز الترافع والتحاكم الى حكام الجور في حال الاختيار ، أي مع إمكان الرجوع الى حكامنا بالأدلة الأربعة :

( فمن الكتاب ) قوله تعالى « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » (1).

ورد على ما قيل في حق بعض المنافقين الذي وقع بينه وبين بعض اليهود منازعة حيث رضي اليهودي بحكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وامتنع عن ذلك ورضي بحكم بعض اليهود.

ودلالته على حرمة المرافعة إلى الطاغوت المراد به حكام الجور واضحة من احدى الجهتين :

( إحداهما ) أن يقال : ان التعجب المدلول عليه بقوله « أَلَمْ تَرَ » متوجه ومتعلق بالجمع بين زعم الايمان وارادة التحاكم الى الطاغوت ، فيدل على أن زعم الايمان لا يجامع تلك الإرادة فضلا عن المزعوم به - أعني الايمان - والمراد - أعني التحاكم - فيكون الكلام في أعلى درجة البلاغة والمبالغة في

ص: 64


1- سورة النساء : 59.

بيان حرمة الترافع إليهم.

( وثانيتهما ) كما هو ظاهر ما يقتضيه قاعدة اللفظ أن يقال : ان محل التعجب ليس هذا الجمع بين الأمرين بل هو ارادة التحاكم الى الطاغوت مع كونهم مأمورين بكفرانه ، فيكون حينئذ أيضا دليلا صريحا على حرمته كما لا يخفى.

لكن الأول أبلغ وآكد في المطلوب كما قلنا ، لكن يكون العدول من الايمان الى الزعم حينئذ حيث لم يقل « الى الذين آمنوا » بل قال « يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا » لنكتتين : إحداهما التنبيه على نفاقهم وأنهم يزعمون أنهم مؤمنون وليسوا منهم واقعا ، والثانية التنبيه على أن ارادة التحاكم الى الطاغوت ناش من نفاقهم أعني الايمان الزعمي ، بناء على اشعار التعليق على الوصف بعليته.

( ومن السنة ) مقبولة عمر بن حنظلة وفيها : من تحاكم الى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذه سحتا وان كان حقه ثابتا لأنه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به (1).

وكلمة « سحتا » حال مفسرة للموصوف.

وقد استشكل صاحب الكفاية في كونه سحتا مع كونه حقا فيما إذا كان المتنازع فيه عينا. وفيه ان ظاهر لفظ « السحت » الدين ، لأنه عبارة عن مال الغير ، فلا ينطبق على ما إذا كان المأخوذ بحكم الطاغوت عينا إذا كان حقا ، بأن يكون المأخوذ ماله في الواقع.

ولعله توهم أن السحت مطلق المال الحرام ولو كان مال نفسه إذا حرم لعارض. وهو فاسد. بل السحت لغة معناه مال الغير المحرم. فلا دلالة في الحديث حينئذ على حرمة المأخوذ إذا كان عينا.

ص: 65


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ح 4.

ولا إشكال ، لأن الدين لا يتشخص بدفع المدعى عليه كرها ناشئا من حكم الحاكم ، فيكون سحتا لكونه باقيا في ملك الدافع ، الا أن يتوصل الى حله بنحو آخر خارج عن مفروض الحديث كالمقاصة ونحوها ، وهو خارج عن مدلول الرواية ، ضرورة عدم سوق الحديث لا ثبات حرمة المأخوذ بحيث لا يقبل سببا محللا.

والحاصل ان مقتضى الإجبار الجوري على الدفع أنه لا يتشخص ما في ذمة الدافع في المدفوع ، ومعه لا شبهة في كونه سحتا حراما. وإمكان عروض سبب الحل بعد ذلك لمقاصة ونحوها لا ينافي الحكم بحرمته وبكونه سحتا قبل طرو السبب - فافهم.

هذا إذا كانت المقاصة جائزة مع وجود الحاكم وإمكان التوصل إلى الحق بحكمه ، والا فلا إشكال في الحديث أصلا ، لأن مفروض الحديث صورة إمكان الرجوع والترافع الى حكام العدل ، فيكون المأخوذ سحتا غير جار فيه التقاص أيضا.

هذا حكم حال الاختيار ، وأما حال الاضطرار - بمعنى عدم إمكان التوصل إلى الحق الا بالتحاكم الى حكام الجور - فالظاهر الجواز. وما يقال من أنه اعانة على الإثم فيحرم ، مدفوع :

أولا - بالمنع لاختلاف الحيثيتين ، فان التحاكم حينئذ توصل إلى الحق ، فمن هذه الحيثية لا يندرج تحت الإعانة ، فإن بعض الافعال يتنوع بحسب القصد كما لا يخفى. مع أنه لا اعانة فيه للحاكم المرجوع إليه أصلا.

وثانيا - ان أدلة نفي الضرر حاكم على ما دل على حرمة الإعانة ، نظير حكومتها على سائر التكاليف الشرعية. واللّه العالم.

ص: 66

التقاط [ لم يجبر واجد شرائط القضاء على القضاء مع وجود مثله ]

قال في الشرائع : لو وجد من هو بالشرائط فامتنع لم يجبر مع وجود مثله ، ولو ألزمه الإمام قال في الخلاف لم يكن له الامتناع ، لان ما يلزم به الامام واجب ، ونحن نمنع الإلزام ، إذ الإمام لم يلزم بما ليس لازما - انتهى كلامه رفع مقامه.

وما ذكره من عدم الجبر مشكل مع كون القضاء كفائيا ، لان الكفائية عند الأكثر تتضمن التعيين الحتمي وان كان فعل البعض مسقطا ، ومع فرض الوجوب التعييني اتجه الإجبار. الا أن يقال : انه بالامتناع يخرج عن القابلية لكونه فسقا.

وهو جيد ، لكن يلزمه عدم الإجبار في صورة الانحصار أيضا ، مع أنه صرح فيها بالإجبار ووجوب الإجابة.

ويمكن أن يقال : ان القضاء انما يكون كفائيا بعد اذن الامام ، وكلامهم في بيان الحال قبل حصول الاذن ، فهو قبل تحقق الاذن ليس بواجب على أحد ، حتى يكون كفائيا أو غيره.

ويدفعه : أولا ان لازم ذلك عدم الإجبار في صورة الانحصار أيضا. وثانيا ان القضاء واجب كفائي ، واذن الامام شرط الصحة نظير اذن الولي في صلاة الميت - فتأمل.

ثمَّ ان ما ذكره المحقق في رد الشيخ لا يخلو عن غموض واشكال ، وتوضيح المقام ان أمر الامام وإلزامه على أنحاء : منها ما يتعلق بالواجبات العينية ، ومنها ما يتعلق بالسياسات ، ومنها ما يتعلق بالأمور العادية الراجعة إلى حوائج الإمام عليه السلام كشراء اللحم وتزويج المرأة وما شابههما.

ص: 67

لا إشكال في وجوب طاعة الإمام عليه السلام في الأول ، لأن أمره حينئذ أمر اللّه تعالى ، بلا تحقيق أن تسمية ذلك الطاعة للإمام مسامحة ، لأن الأمر بالواجبات المجهولة لا جهة له الا الكشف عن أمر اللّه تعالى وبالواجبات المعلومة لا جهة له سوى الأمر بالمعروف المساوي فيه كل الناس.

وكذا لا إشكال في وجوب إطاعته في القسم الثاني الراجع الى السياسات المدنية ، لأن التدبير المدني في الرعية أمر مأمور به من قبل اللّه تعالى ، فهو راجع الى القسم الأول حقيقة.

وأما الثالث الذي هو مصداق اطاعة الامام عليه السلام ليس الا ، فوجوبها أيضا ثابتة بالأدلة الأربعة ، قال اللّه تعالى « أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ » (1) دل على استقلال الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم في الإطاعة ، وهو لا يكون إلا في الأوامر الراجع مصالحها اليه «صلی الله علیه و آله و سلم» .

إذا تحقق ذلك فالأمر بالواجبات الكفائية إذا فرض كونه على وجه الحتم والإلزام لا بد أن يرجع الى أحد القسمين الأخيرين ، فاما أن يكون تعيين الملزم عليه له خصوصية راجعة إلى السياسات أو إلى الامام عليه السلام. وعلى التقديرين اتجه ما في الخلاف ولا يظهر وجه لما ذكره المحقق.

ولعل مراد المحقق أن الأمر بالواجبات الكفائية من حيث أنه واجب كفائي لا يجب إجابته ، لأن هذه الحيثية غير ملزمة ، والأمر بها لا يزيد عن هذه الحيثية ، فلو وجدنا إلزامه «عليه السلام» لواجب كفائي حملناه على الإلزام من الحيثية المشار إليها ، فلا يجب الإجابة لا أنه إذا علمنا الإلزام زائدا على ما يقتضيه الكفائية لم يجب الإجابة أيضا ، وهو واضح. واللّه أعلم.

ص: 68


1- سورة النساء : 59.
التقاط [ حكم ما يعود إلى القاضي من الأموال ]

فوائد القضاوة وما يصل الى القضاوة من جهة القضاوة على أقسام بين حلال وحرام :

( منها ) ارتزاق القاضي من بيت المال ، وهو البيت المجتمع فيه مال المسلمين ، أعني ما أعد لمصالحهم ، كسهم سبيل اللّه من الزكاة والأجور المحصلة من الأراضي الخراجية والأوقاف العامة لكل المسلمين ، فان هذه الأموال فالمسلمون فيها شرع سواء. وليس المراد به مطلق الزكاة أو ما يرجع الى الفقراء ، فيجوز لوالي البلد أن يرزق القاضي من بيت المال إذا امتنع من مباشرة القضاوة إلا به.

أما على القول بجواز أخذ الأجرة في الواجبات الكفائية فواضح ، فيدل على جواز الارتزاق حينئذ فحوى ما دل على جواز أخذ الأجرة ، لأن الارتزاق ليس بأجرة حقيقة وان كان يرجع إليها بحسب المعنى.

وأما على القول بعدم جواز أخذ الأجرة فلان الارتزاق لا يصدق عليه الأجرة حقيقة كما عرفت فلا مانع منه. نعم مع وجود المتبرع بالقضاوة ففي جواز الرزق للوالي وجهان : من كون نصب القاضي من المصالح العامة ، ومن أن مصلحة المسلمين مع وجود المتبرع نصبه لا نصب المرتزق ، الا أن يكون في نصبه مزية راجعة إلى المسلمين.

ولا فرق فيما ذكرنا بين صورة الانحصار وعدمه ولا بين احتياج المنصوب وعدمه ، لكن في الشرائع الفرق بين الصور ، فاشترط في جواز الارتزاق أحد الأمرين اما الحاجة أو عدم الانحصار ، فلو لم ينحصر جاز مطلقا ومع كون الأفضل عدم الارتزاق عند عدم الحاجة ، وان كان محتاجا جاز مطلقا أيضا.

ولعل الوجه في ذلك صدق الرشوة المنهي عنها للقاضي عليه. ولا بعد فيه ،

ص: 69

الا أن قضية ذلك عدم الفرق أيضا بين الصور ، كما أن قضية ما ذكرنا أيضا عدم الفرق.

فظهر أن الحق الارتزاق مطلقا ، للإجماع ظاهرا على جوازه في الجملة ، فلو كان رشوة حرم جدا ، كما أنه لو كان أجرة كان حاله حال أخذ الأجرة في سائر الواجبات الكفائية ، مع أن جواز الارتزاق في الجملة لا اشكال فيه ولا خلاف ، وهذا يدل على مغايرة حقيقته لحقيقتهما.

( ومنها ) أخذ الأجرة.

وجوازه مبني على أخذها في الواجبات الكفائية ، وقد بسط الأستاد دامت إفاداته المقال في هذا المجال في المتاجر مع زيادة توضيح وتحقيق.

وجملة القول فيه : ان مقتضى القاعدة أن ما دل على صحة الإجارة وما في حكمها لا مانع من العمل به في الواجبات حتى العينية فضلا عن الكفائية من حيث أنها واجبات ، بل المانع من العمل به أحد أمور إذا وجد أحدها حرمت الأجرة مطلقا واجبا كان المتعلق أو غيره :

أحدها - أن يكون المتعلق مما لا ينتفع به المستأجر ، فالأدلة الدالة على الإجارة غير شاملة لمثل ذلك ، بل الدليل على فسادها حينئذ موجود ، لكونه أكلا للمال بالباطل ، لان العمل إذا لم يكن يصل نفعه إلى المستأجر لم يصلح للعوضية ، فيكون شبيه البيع بلا ثمن.

ويتفرع على هذا الشرط فساد استيجار الشخص لما يجب عليه من العمل كصلاة الظهر مثلا ، فإن عبادة كل شخص لا تنفع إلا بحاله ، وفرض بعض الفوائد على مثله - كتحصيل الثواب بتعويد الشخص على العبادة وما أشبهها - فوائد راجعة إلى الاستيجار والتعويد وليست راجعة إلى نفس العمل كما لا يخفى. مع أن فرض بعض الفوائد إذا لم يكن معهودا في نوع العمل المستأجر عليه لا عبرة

ص: 70

به في أحكام العقود المعاوضية كما لا يخفى.

وقد يتوهم أن الواجب من حيث كونه واجبا ينافي أخذ الأجرة بإزائه ، وهو ممنوع الا أن يرجع الى الشرط الثالث.

وثانيها - أن لا يكون الأثر المتعلق مشروطا بأمر ينافيه إيقاعه للغير.

[ الكلام في الاستيجار على بعض العبادات ]

ويتفرع على ذلك عدم صحة الاستيجار على بعض العبادات الغير واجبة ، كالصلاة المعادة وكغسل الجمعة ، فإن أثر العبادة مشروط بقصد القربة ، وينافيها إيقاع العبادة وفاء للمستأجر.

وقد يتوهم أن الأمر بوفاء العقد يؤكد جهة التقرب فضلا عن أن يكون مانعا.

وهو سهو ، لأن الأمر بالوفاء انما يعقل امتثاله وترتب الثواب عليه بعد إمكان تسليم العمل الذي هو محقق عنوان الوفاء. والعمل الذي وقع عليه الإجارة انما هو التعبد بالصلاة لا نفسها ، والتعبد بها - مع كون الداعي والمحرك إليها هو تملك الأجرة - غير معقول.

فان قلت : يمكن أن يأتي بالصلاة لغير هذا الداعي ، بل لداعي الأمر بالوفاء بمقتضى الإجارة ، فإن هذا أمر ممكن ، فاذا تمكن من ذلك صحت الإجارة ووجب الإتيان لأجل هذا الداعي المحصل للتقرب مقدمة للوفاء المأمور به ، إذ الصلاة حينئذ عبادة لكونها مصداقا للوفاء المأمور به ، ولا يشترط في كون الشي ء عبادة إمكان التقرب بها من جميع الجهات والعناوين.

قلت : هذه التقرب انما حصل بقصد امتثال الأمر بالوفاء ومقدمة الوفاء التي يحتاج إليها هو التقرب الذي يتعلق به الأمر بالوفاء ، أعني التعبد بالصلاة والتقرب بها مع قطع النظر عن هذا الأمر ، إذ المفروض اعتبار التقرب فيما يتحقق به

ص: 71

الوفاء ، أعني ما يوفى به.

ومن الواضح عدم صلاحية التقرب الحاصل من امتثال الأمر أن يكون مجزيا عن التقرب المعتبر في المأمور به. نعم لو أمكن التقرب بالصلاة مثلا مع قطع النظر عن كونه وفاء مأمورا به أمكن حصول تقرب آخر فيه بملاحظة كون هذا المتقرب به امتثالا لأمر آخر وهو الأمر بالوفاء - فافهم.

فان قلت : يمكن التقرب بالصلاة باعتبار كونها راجحة في نفسها مع قطع النظر عن كونها متعلقا للإجارة ، فيصح الاستيجار لها حينئذ ويجب على المؤجر إتيانها بداعي رجحانها الذاتي.

قلت : رجحانها الذاتي إنما يعقل ان يكون منشأ للتقرب إذا كان هو الداعي ، وكون داعيا انما يعقل إذا كان لغير الإجارة ، والا فيؤول الأمر إلى كون الأجرة داعيا إلى الداعي الذي هو الرجحان ، وهو ينافي التقرب ، كما إذا كان الداعي هو نفس الأجرة ابتداء. فلا فرق بين أن يكون الداعي إلى الصلاة مثلا ابتداء غير رجحانها الذاتي أو يكون الداعي إليها منتهيا الى الغير.

فان قلت : قد ورد بعض العبادات لبعض الغايات كسعة الرزق وحصول الولد ، وهذا يبطل ما قلت ، فلا ينافي القربة المعتبرة في الصلاة كون الداعي إلى التقرب بها التوصل الى بعض المنافع المباحة.

قلت : فرق واضح بين كون المنفعة المباحة الداعية إلى التقرب - أعني فعل الصلاة مثلا - اللّه من الخالق وبين كونها من المخلوق ، فإن الثاني ينافي القربة دون الأول - فافهم.

هذا ، وربما يتوهم أن ما ذكرناه من منافاة قصد القربة للاستيجار فيما يعتبر فيه التقرب يستلزم القول بعدم صحة استيجار الولي للقضاء عن الميت وان صح التبرع بالقضاء عنه ، وكذا الاستيجار بسائر العبادات المشروع فيها التبرع بها عن الغير

ص: 72

كتلاوة القرآن وزيارة الأئمة وصلاة الهدية وأمثالها ، نظرا الى عدم منافاة التبرع لقصد القربة فيها ، بخلاف قصد أخذ الأجرة.

وعلى ذلك يبنى قول جماعة بالمنع عن الاستيجار للصوم والصلاة عن الميت مع القول بصحة التبرع بهما عنه. وهو خطأ لأن الإجارة فيما ذكر انما يقع على النيابة لا على متعلقها - أعني نفس العبادة. والنيابة نفسها ليست من العبادات المتوقف صحتها على قصد القربة حتى ينافيه الاستيجار ، بل هي من المعاملات التي يؤثر أثرها بلا قربة ، سواء كان متعلقها من المعاملات أيضا أم من العبادات ، فالاجير النائب ينزل نفسه بمنزلة المستنيب ، تنزيلا جعليا وفاء لعقد الإجارة ، وبعد هذا التنزيل يكون بمنزلة المستنيب ، فيتوجه إليه الأمر المتوجه الى المستنيب ، فيكون فعله وتقربه تقربه. وهذا - أعني صيرورة فعله فعله - هو المراد بأثر النيابة.

[ حقيقة النيابة وآثارها ]

وتوضيح المقام يستدعي كشف القناع عن حقيقة النيابة وذكر بعض ما يترتب عليها من الاثار ، فنقول :

ان النيابة عبارة عن تنزيل الشخص نفسه بمنزلة شخص آخر فيما يكون له أولا وبالذات من الافعال ، ثمَّ إتيان المنوب فيه بقصد النيابة. وهو أمر من الأمور الواقعية الخارجية المتعارفة بين الناس ، ولا يقدح في كونها من الأمور الواقعية كونها أمرا اعتباريا كسائر الأمور الاعتبارية المتعارفة بين الناس ، مثل الذمة وتملك المعدوم ونحو هما من الأمور الاعتبارية ، بل التحقيق أن أكثر ما يجري بين الناس من المعاملات التي أمضاها الشارع لا حقيقة لها سوى الاعتبار ، كالوكالة والضمانة والكفالة والوصاية وأمثالها من المعاملات.

والفرق بينها وبين الوكالة أن الوكالة صفة قائمة بالوكيل حاصلة من التوكيل ،

ص: 73

بخلاف النيابة فإنها عبارة عن فعل النائب وتنزيله نفسه منزلة المنوب عنه من غير حاجة الى الاستنابة. نعم ربما بتوقف ترتب أثرها التي يأتي ذكره عليها على الاستنابة بحيث لا يترتب شي ء على التبرع بها ، كما في النيابات المتعارفة في الأمور العادية ، فان النيابة في تلك الأمور لا تجدي شيئا إلا بعد تحقق الاستنابة ، فمن قبّل يد زيد نيابة عن عمرو مثلا فتقبيله لا يكون بمنزلة تقبيل عمرو الا بعد استنابة عمرو له في التقبيل. وكذلك في أكثر الشرعيات ، فان النيابة فيها أيضا غير مؤثرة إلا بعد الاستنابة.

نعم في بعض العبادات حصل من الشارع إمضاء الشارع النيابة التبرعية كالزيارة مثلا ، لكنه يقتصر فيه على مورد الإمضاء ، كما أنه يقتصر في تأثير النيابة مطلقا حتى مع الاستنابة على الإمضاء الشرعي والرخصة الشرعية ، فالوكالة نظير الوصاية صفة من الصفات.

والنيابة فعل نفساني يعرض الفعل الخارجي ، فيكون عنوانا له ، كالتواضع والإكرام العارضين للقيام ، كما أن الضمانة فعل يفعل بالجوارح.

والغرض ان النيابة حيثما تصح تجري مجرى البيع والصلح ونحوهما من المعاملات في كونها فعلا اختياريا سببا لبعض الاحكام على حد سببية المبيع مثلا للملكية ، وأما أثر النيابة وفائدة ذلك التنزيل التي تجري مجرى فائدة البيع - أعني الملك - فهو صيرورة النائب بمنزلة المنوب عنه وصيرورة فعله بمنزلة فعله ، كما أن فائدة الضمانة صيرورة الضامن كالمضمون عنه وصيرورة ما في ذمته من الدين في ذمة الضامن.

ويتفرع على ذلك أنه إذا كان المنوب فيه من العبادات توجه التكليف المتوجه الى المنوب عنه وجوبا أو ندبا إلى النائب كذلك بعد فرض صحة النيابة ، لأن النائب إذا صار بحكم العرف بعد إمضاء الشارع بمنزلة المنوب

ص: 74

عنه فلا معنى للمنزلة حينئذ إلا ثبوت ما كان ثابتا في حق المنوب عنه من الأحكام الشرعية ولوازمها في حق النائب.

هذا ما يساعده بعض الانظار القاصرة التي منها نظري الفاتر.

وأما الذي تلقيناه من الأستاذ فهو أن النيابة عنوان يلحق للفعل المنوب فيه وبه يصير متعلقا للإجارة وهو كون الصلاة مثلا عن فلان ، فالصلاة من حيث ذاتها عبادة ومن حيث وصفها - أعني تقيدها بكونها عن الغير - معاملة محضة ، نظير الصلاة والصلاة في البيت ، فكما أن اعتبار القربة في الصلاة لا ينافي عدمها في وقوعها في البيت حتى أنه يجوز أخذ الأجرة على إيقاع الصلاة في البيت مثلا ، كذلك لا ينافي القربة في فعلها ذاتا عدم القربة في فعلها نيابة.

وقد انكشف مما حققنا أمور لا بأس بالإشارة إليها قبل التكلم في أصل المسألة استكثارا لتوضيح الحال :

( أحدها ) عدم الفرق بين النيابة في المعاملات كالتزويج والبيع والصلح وبينها في العبادات في كون كل منهما من قبيل المعاملات الغير المشروطة في تأثيراتها بقصد القربة ، وان الفرق انما هو بين الفعل المنوب فيه ، فكما أن النيابة في الفعل تؤثر أثرها المشار إليها - أعني صيرورة بيع النائب بمنزلة بيع المنوب عنه - من غير اشتراطها بقصد القربة كنفس المنوب فيه - أعني البيع - كذلك النيابة في الزيارة أو الصلاة مثلا تؤثر الأثر المذكور وتجعل زيارة النائب بمنزلة زيارة المنوب عنه من غير اشتراط نفسها بالقربة ، على خلاف المنوب فيه الذي هو الزيارة مثلا.

نعم يحتاج في صحة النيابة في الأول إلى استنابته من المنوب عنه سابقا أو لا حقا ، بخلاف صحتها في الثاني فإنها غير محتاجة إلى شي ء منها ، لا لإمضاء الشارع وحكمه بصحة التبرع بها في العبادات المعهودة كما أشرنا إليها آنفا.

ص: 75

( وثانيها ) عدم توقف تأثير النيابة في الحكم الوضعي المشار اليه على استحبابها ، بل يؤثر ولو لم يكن مستحبا ، بل ولو كانت بلا حكم أصلا حتى الإباحة ، كما لو فرض غفلة النائب عن حكم النيابة التكليفي ، فإنها حينئذ لا حكم لها جدا ويقتضي ثبوت الحكم الوضعي قطعا ، نظير سائر المعاملات. فعلى القول بعدم اقتضاء النهي فيها للفساد يكون صحتها غير منافية لحرمتها أيضا.

وبالجملة أفرض النيابة كالبيع وقل فيها ما تقول فيه. ومنه يظهر أنه يجوز أن يكون حكم النيابة وحكم المنوب عنه فيه متخالفين ، فيجوز أن يكون المنوب فيه مستحبا أو واجبا على المنوب عنه عباديا أو غيره والنيابة جائزة أو مكروهة أو حراما ، لان متعلق النهي انما هي النيابة ، فلو عصى النائب وناب النيابة المنهي عنها كان كمن غصب المبيع وباع بالبيع المنهي عنه. فعلى القول بعدم فساد البيع حينئذ وحصول الملك به تكون النيابة المحرمة أيضا صحيحة ويترتب عليها ما يترتب على النيابة المباحة أو المستحبة.

ولكن هذا مجرد فرض لا واقعية له في الشرعيات ، لان النيابات المشروعة كلها مباحة أو مستحبة وليست منهيا عنها ، لان مشروعيتها ثبتت بدليل خاص لا بدليل عام ، كالأمر بوفاء العقد حتى يتعلق النهي ببعض أقسامها مع الحكم بصحتها نظرا الى ذلك الدليل العام ، وان تحريم السبب من حيث هو لا ينافي ترتب المسبب - فافهم.

لكن جواز كون النيابة حراما مع كون المنوب فيه عبادة مبني على التصوير الأول في معنى النيابة من كونها عبارة عن التنزيل النفساني ، فعلى التصوير الأخير لا بد أن لا يكون حراما. نظير الفرق بين الإباحة والحرمة في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فافهم كما أن أكثر ما نبهنا عليه من الأمور مبني أيضا على ذلك التصوير - فافهم.

ص: 76

( وثالثها ) ان النائب في العبادات ينوي النيابة أولا ، وهو التنزيل الاقتراحي المتعارف الذي أمضاه الشارع من دون اشتراطه بقصد التقرب ، ثمَّ يأتي بالفعل العبادي متقربا الى اللّه ، بأن يقصد امتثال أمر المنوب عنه. فالنائب في الزيارة مثلا يتقرب بالزيارة الى اللّه تعالى نيابة عن المنوب عنه لا بالنيابة به ، ومعناه عند التحليل أن هناك فعلين متغايرين :

أحدهما - فعل قلبي معاملي مستتبع لأثر وضعي ، وذلك الفعل هو النيابة والأثر هو صيرورة النائب بمنزلة المنوب عنه. وهذا الفعل غير مشروط بقصد القربة ، بل عرفت أنه يمكن أن تكون محرمة فضلا عن أن تكون مستحبة أو مباحة.

والأخر - فعل ظاهري صادر من الجوارح ، عبادي مشروط صحته وترتب الأثر المقصود عليه بقصد القربة ، والتقرب بأحد الفعلين غير متوقف على التقرب بالآخر ، فيمكن أن يتقرب بالنيابة دون الفعل المنوب فيه ، كما إذا كان الفعل من المعاملات كالبيع مثلا وعرض للنيابة رجحان عرضي مثل عنوان الإجابة ونحوه ، فالنائب له أن يتقرب حينئذ بما يفعله نيابة ، لكن التقرب حينئذ انما هو بفعله القلبي أعني النيابة دون الفعل الظاهري أعني الإيجاب والقبول. ويمكن العكس أيضا ، بأن يكون المنوب فيه من العبادات الراجحة ، فان التقرب حينئذ يحصل بالفعل العبادي خاصة مع قطع النظر عن النيابة.

وأما النيابة فيمكن فرض التقرب بها أيضا إذا كان الداعي إليها رجحانها الشرعي على ما ينطق باستحبابها في بعض العبادات كالزيارة وتلاوة القرآن جملة من الاخبار. ويمكن وقوعها بلا قربة اما لغفلة النائب عن رجحانها الشرعي أو للجهل به ، كما في أكثر نيابات العوام عن إخوانهم المؤمنين في الزيارات وغيرها من العبادات ، فإنها في هذه الصورة لا يعقل التقرب بها ، بل التقرب حينئذ مختص

ص: 77

بذلك الفعل العبادي المنوب فيه أو لعدم قصد القربة مع الالتفات الى حكمها التكليفي باعتبار كون الداعي إليها أمرا خارجا عن الرجحان الشرعي كأخذ الأجرة أو ملاحظة الصداقة أو نحو ذلك.

والحاصل ان وقوع القربة لا ينافي وقوع الفعل المنوب فيه متقربا به ، فينوي النائب في الصلاة مثلا أنه يصلي متقربا الى اللّه تعالى نيابة عن زيد مثلا.

لا يقال : ليس القربة إلا كون الداعي إلى الصلاة أمر اللّه تعالى ، وكون الداعي أمر اللّه كيف يجامع كون النيابة في فعل الصلاة لأخذ الأجرة أو ملاحظة الصداقة مثلا.

لأنا نقول : ان توهم المنافاة بينهما نشأ من الغفلة عما بينا من معنى النيابة ، لأنك إذا فرضت النيابة فعلا والمنوب فيه فعلا آخر اندفع التوهم جدا ، لان اختلاف الدواعي إنما يمتنع مع اتحاد الفعل لا مع تعدده. وكون الفعل الخارجي لا تعدد فيه ، قد عرفت أنه غير قادح ، لأن أحد الفعلين - وهو النيابة - فعل قلبي يعبر عنه بالتنزيل في النفس وليس بفعل خارجي ، وانما الخارجي المنوب فيه.

وبالجملة إذا حصلت النيابة صار النائب بمنزلة المنوب عنه ، فيتوجه إليه الأمر الذي كان متوجها الى المنوب عنه ، فان كان المنوب فيه من تكليفات المنوب عنه خاصة كالصلاة عن الميت فتوجه الأمر إلى النائب حينئذ واضح ، وأما إذا كان مشتركا بينه وبين النائب في المطلوبية - كالزيارة وتلاوة القرآن حيث أن النائب مأمور بالأمر الندبي بهما نحو مأمورية المندوب عنه - فاذا قصد النيابة توجه إليه أمر المنوب عنه أيضا.

فخاصية النيابة في العبادات إثبات أمر المنوب عنه في حق النائب ، وبعد ذلك يتقرب بذلك الأمر كأنه يتقرب به المنوب عنه ، ففعله فعله وتقربه تقربه ،

ص: 78

كما أن أمره أمره ، وقضية ذلك أنه لا يصل اليه من ثواب العمل شي ء بل الى المنوب عنه خاصة. نعم إذا نوى القربة في أصل النيابة كان له ثواب امتثال الأمر الندبي المتعلق بالنيابة.

( ورابعها ) ان النيابة كسائر المعاملات أمر توقيفي لا بد من ثبوت شرعيتها شرعا ولو امضاء كما أشرنا اليه ، ولذا لا تصح النيابة في بعض العبادات كالطهارة والأغسال المندوبة لعدم ثبوتها فيها ، بخلاف البعض الأخر كالزيارة والصلاة والتلاوة وطريق الإمضاء بنحو القول بأن من ناب في عمل كذا عن آخر وصل اليه ثوابه ، وهو واضح.

ومن طريق الإمضاء الأمر بها والتصريح باستحبابها ، لان استحباب النيابة ليس الا لكونها صلة وإحسانا ، وكونها كذلك يتوقف على صحتها والألم تكن كذلك. وإذا دل دليل على استحبابها في شي ء دل دلالة عقلية التزامية على صحتها وترتب الأثر عليها ، وهو وصول ثواب العمل ان كان عبادة أو فائدته ان كان غيرها الى المنوب عنه ، بخلاف استحباب سائر المعاملات ، كاستحباب البيع مثلا ، فإنه لا يدل عقلا على صحته الا من جهة أخرى خارجة عما ذكرنا ، وهي دعوى أن الشارع لا يحكم بصحة معاملة فاسدة - فافهم.

( وخامسها ) ان التبرع شرط في استحباب النيابة للعبادات التي ثبت شرعيتها فيها ، لقصور الأدلة عن الدلالة على استحبابها مطلقا ولو مع أخذ الأجرة ، لو لم تكن صريحة أو ظاهرة على اشتراط التبرع وليس شرطا لصحة النيابة بل لا يعقل أن يكون شرطا لها ، لأن النيابة قبل اتصافها بالصحة لا تتصف بالتبرع ولا يصدق عليها جدا ، لأن النيابة المجردة عن ملاحظة صحتها وترتب أثرها - أعني إيصال النفع والثواب الى المنوب عنه - ليس عطاء لشي ء على الغير بل هو لغو صرف.

ص: 79

والتبرع مأخوذ في حقيقة العطاء المجاني ، ويشبه الهبة المجانية والهدية ومعناه الفارسية پيش كش ، وإذا كان كذلك امتنع ثبوت الصحة للنيابة التبرعية بل لا بد من ثبوتها للنيابة من حيث هي.

وهذا أصل مطرد ، وهو أن القيد إذا كان متأخرا في الرتبة عن المحمول امتنع اعتباره في الموضوع ثمَّ إثبات المحمول على مجموع القيد والمقيد.

( وسادسها ) ان العبادة إذا شرع فيها النيابة جاز الاستيجار عليها وإذا لم يثبت لم يجز ، لان الاستيجار في الأول استئجار على غير العبادة حقيقة وفي الثاني عليها نفسها ، فيمتنع كما أوضحناه كمال الإيضاح.

[ جواز النيابة عن الأموات ]

إذا عرفت هذه الأمور اتضح لك مسألة جواز الاستيجار للصلاة ، وتحرير المسألة : أن جماعة منعوا الاستيجار على العبادات للغير وجوزوا التبرع بها عنه في المواضع المعهودة التي ثبت شرعية النيابة فيها ، كالصلاة عن الميت والزيارة ونحوهما ، استدلالا بأن الاستيجار ينافي قصد القربة المعتبرة في العبادات ، وبأن أدلة النيابة انما اقتضت شرعيتها في حق الولي أو المتبرع ، فالاستئجار عليها استيجار على ما لم يبلغ صحته.

وكلا هما قد ظهر فسادهما بما لا مزيد عليه :

فان الأول مردود بما مر من أن الأجرة انما هي في مقابل النيابة لا في مقابل العبادة حتى ينافي قصد القربة ، وقد عرفت أن عدم قصد التقرب في النيابة لا ينافي قصده في المنوب عنه وبالعكس ، والإلزام فساد النيابات الشرعية أيضا إذا كان المتبرع غافلا عن رجحان النيابة ناويا لغرض آخر كمحافظة الصداقة غير الرجحان.

وكذا الثاني مردود بما أشرنا إليه في الأمر الخامس من أن اشتراط صحة

ص: 80

النيابة بالتبرع بها غير معقول فضلا عن كونه تقييدا لما دل على الصحة بلا دليل مضافا الى أن التبرع مسكوت عنه في القسم الأول من طريق الإمضاء ، إذ ما دل على شرعية النيابة في مثل الصلاة والزيارة وأنها سبب لوصول الثواب المندوب فيه الى المنوب عنه مطلقة غير مقيدة بالتبرع.

نعم لا يبعد أن يقال : ان ما دل على استحباب النيابة فيها وأنه يكتب للنائب مثل ما يصل الى المنوب عنه أو ضعفه ظاهر في التبرع ، فيكون الاستحباب مقيدا به بحيث ينافيه الأجرة كما أشرنا إليه أيضا ، مع أن ما ثبت في الحج من الاستنابة عند العجز والاستيجار للنيابة فيه نقض على الاستدلال الأول.

وبالجملة جواز الإجارة في العبادات يتوقف على ثبوت شرعية النيابة فيها ولو تبرعا ، وإذا ثبت شرعيتها وأنها تصير سببا لسقوط الأمر عن المنوب عنه ووصول ثواب العمل بكليته اليه صح الاستيجار على النيابة حينئذ لعموم أدلة الإجارة.

ومن هنا قال الشهيد في محكي الذكرى : هذه المسألة - أعني الاستيجار على فعل الصلاة الواجبة - مبنية على مقدمتين : إحداهما جواز الصلاة للميت وهذه اجماعية والاخبار الصحيحة ناطقة بها كما تلوناها. والثانية أنه كلما جازت الصلاة عن الميت جاز الاستيجار عنه ، وهذه المقدمة داخلة في عموم الاستيجار على الأعمال المباحة التي يمكن أن تقع للمستأجر عنه ، ولا يخالف فيها أحد من الإمامية ولا غيرهم ، لان المخالف من العامة إنما منع لزعمه أنه لا يمكن وقوعها للمستأجر عنه ، أما من يقول بإمكان وقوعها له - وهم جميع الإمامية - فلا يمكنه القول بمنع الاستيجار الا أن يخرق الإجماع في إحدى المقدمتين - انتهى كلامه رفع مقامه وقد بلغ في المتانة وحسن الاستدلال أقصاه.

والظاهر أنه أراد بالعمل المستأجر عليه فيما نحن فيه النيابة دون الصلاة المنوب فيها ، كما يشعر به التمسك بعموم الاستيجار على الأعمال المباحة - فافهم وتأمل.

ص: 81

وهو عين ما فصلناه وحققناه كما هو الشأن في كثير من تحقيقاتنا في الأصول والفقه حيث أنها شرح وتوضيح وكشف قناع عن مراد الأساطين السابقين. بل وإليها يرجع أيضا ما عن ابن طاوس في البشرى من الاستدلال على صلاة النيابة بإجارة تبرعا أو بوصية نافذة بما ورد في قضاء الصلاة عن الميت من الاخبار ، فإن هذه الاخبار مع عدم نهوضها بالتصريح على الإجارة تكفي في المدعى بعد ملاحظة عمومات الإجارة كما عرفت في كلام الشهيد.

ومن جميع ما ذكرنا سقط ما ذكره بعض أهل النظر من محشي الروضة في مقام الرد على السيد وعلى الشهيد حيث قال في المقام الأول : انه ليس في الاخبار تصريح بجواز فعل الأجنبي والاستيجار بل وردت على وجه الإطلاق ، مع أن بعضها مقيد بالولي ، والموافق للأصول وجوب حمل المطلق منها لو أريد ما فاته الميت على المقيد وإيجابه على الولي.

وفيه : انه لا حاجة الى التصريح كما عرفت ، بل يكفي في صحة الاستيجار مجرد ثبوت شرعية القضاء عن الميت ، مع أن ما ادعاه من أن الموافق للأصول تقييد المطلق منها بالمقيد مخالف للأصول ، لأن الشيئين لا يحمل أحدهما على الأخر في الأحكام الوضعية التي منها المقام ، أعني صحة القضاء عن الميت ، مع أن قضية المطلقات جواز القضاء عن الميت وقضية المقيد وجوبه على الولي وفي مثله لا يحمل المطلق على المقيد أيضا.

وقال في المقام الثاني ما لا يخلو عن إجمال واشكال فلنذكره بعباراته ، قال بعد نقل كلام الشهيد المتقدم : ولا يخفى أن ما ذكره من الإجماع على جواز الصلاة عن الميت ان أراد به ما يفعل الولي فمسلم بل يجب عليه ان كان مما فاته وان أراد غيره فلا الا مع التبرع تطوعا ، وما قال بدخولها في عموم الاستيجار على الأعمال المباحة التي يمكن وقوعها للمستأجر عنه ، فامكانها ممنوع مع أن

ص: 82

الإباحة في العبادات غير متصورة بل انها راجحة الفعل ، ولا سيما مع توجه التكليف بها في حياته وإلى الولي بعد وفاته ، ويكون حينئذ نيابة الحي ممتنعة كما صرحوا به. ومنه يعلم حال الإجماع ، بل المفهوم من الروايات التبرع على وجه التطوع ، وبعضهم جوز الإجارة فيه كالأجير في الذبح وهو في محل النظر أيضا. نعم كل راجح إذا خوطب به مع الاذن في الاستنابة يمكن الأجرة فيه إذا لم يجد المتبرع ، لكن المخاطب هنا ليس الميت حتى يجوز الاستنابة للعذر ، والتبرع عند التحقيق لا يرد على وجه الخطاب وانما هو كالإهداء إليه كما لا يخفى على من تأمل في تلك الروايات. فالقول بالاستيجار مطلقا لا يخلو عن ضعف ، والعمل بالوصية إنما يتصور في المشروع ، ومشروعية الاستيجار ممنوع كما عرفت - انتهى كلامه رفع اللّه مقامه.

ولا يخفى ما فيه من اشتباه المراد ، فإن أراد ما ذكرنا في تقرير الاستدلال الثاني من الفرق بين التبرع والاستيجار بحسب المستفاد من الأدلة ففيه ما عرفت وان أراد إنكار النيابة رأسا وان القدر الثابت من الروايات أنه يجب على الولي صلاة ما فات عن الميت وان الأجنبي له أن يتطوع الصلاة هدية للميت لا النيابة - كما لعله المظنون الظاهر من مجامع كلماته - ففيه أنه مكابرة واضحة. كيف وقضاء الولي لا معنى له الا نيابة عن الميت ، وكذا تبرع الأجنبي عبارة عن نيابته عنه تبرعا.

وأما ما ذكره من أنه لا معنى للإباحة في العبادة. فقد عرفت ما به يندفع ذلك في شرح مراد الشهيد حيث قلنا ان مراده من العمل المستأجر عليه هي النيابة دون الصلاة.

وأما تضعيف إطلاق القول بالاستيجار ، فالمراد به غير واضح. فإن أراد به صحة الاستيجار مع الاذن في الاستنابة. ففيه أنه غير محتاج اليه بل يكفي شرعية

ص: 83

النيابة ، وبعد ثبوتها ثبت الاذن بعمومات الإجارة. وان أراد به الفرق بين استئجار الولي وغيره بالتزامه صحة الأول دون الثاني على أبعد الاحتمالين ، فهو تحكم والتأمل في سائر كلماته يقضي ببعض التشويش.

[ إهداء ثواب العبادات للأموات أو الإحياء ]

هذا تمام الكلام في مسألة النيابة ، بقي الكلام في مسألة أخرى قريبة منها في الثمرة وأدق منها في النظر ، أعني صلاة الهدية للأموات بل الإحياء أيضا ، على ما وردت به بعض الروايات ، فنقول :

ان هاهنا مطلبين : أحدهما إهداء ثواب العمل بعد وقوعه وبذله على الغير والثاني الاستيجار على صلاة الهدية ، ويندرج تحته الاستيجار على صلاة الوحشة ليلة دفن الميت.

( أما الأول ) فالظاهر المصرح به في الاخبار عدم الإشكال في جوازه وأنه بعد الإهداء يصل الى المهدى اليه ثواب ذلك العمل. نعم في المعاوضة عليه وجعله عوضا في مثل البيع والصلح وسائر العقود العوضية نوع تأمل ، لأن ثواب اللّه في الآخرة - وان كان أمرا مملوكا له مستحقا عليه - الا أنه لا سنخية له مع الأموال والأعمال الدنيوية ، ولم تجر عادة الشرع ولا العرف على احتسابه من الماليات والا لم يبق فقير في الدنيا ، لأنه يتمكن حينئذ أن يبيع أو يصالح شيئا من مثوباته الأخروية بشي ء من الأموال الدنيوية وربما يصير بذلك الشخص مستطيعا ، وهو غير مأنوس وغير معهود بين المتشرعة جدا.

وبالجملة ثواب الآخرة مملوك جدا على نحو آخر من المملوكية بين قابل للإهداء وممتنع لقبول المعاوضة عليه.

( وأما الثاني ) أعني الاستيجار على صلاة الهدية - ففيه غموض وإشكال ،

ص: 84

لأنه ليس في المقام عنوان عملي غير نفس العبادة الخارجية حتى يجعل متعلق الإجارة ذلك العمل ويبقى قصد القربة في نفس العمل العبادي سليما عن المنافي بل عنوان الهدية بالنسبة إلى صلاة الهدية مثلا مثل عنوان الإعادة بالنسبة إلى الصلاة المعادة ، أمر اعتباري انتزاعي بعد الفعل بملاحظة بعض عوارضه كالإهداء فحالها حال المعادة في عدم قبول الاستيجار على التطويل الذي ارتكبناه في توضيح الحال.

اللّهم الا أن يفرض هنا فعلان وعنوانان أيضا ، ويجعل متعلق الإجارة الفعل الغير العبادي كالنيابة ، بأن يقال إهداء الشي ء أمر مغاير لذلك الشي ء المهدى عرفا سواء كان المهدى عينا خارجيا كاهداء العبد والثوب أو عملا من الأعمال أيضا ، إذ الإهداء فعل واحد يعرفه أهل العرف ولا تتفاوت حقيقته باختلاف المهدي ، فكما الاستيجار على إهداء الثوب ليس معاوضة على نفس الثوب بل داخل في المعاوضة على الاعمال ، كذلك الاستيجار على إهداء الصلاة أمر لا يرجع الى المعاوضة والاستيجار على المهدى - أعني الصلاة.

لا يقال : الإهداء مأخوذ في حقيقته التبرع ، فاذا اشترط الأجرة على إهداء الثوب - فضلا عن إهداء الصلاة - خرج الفعل المستأجر عليه عن كونه إهداء.

لأنا نقول : انما نمنع الخروج والتوهم إنما ينشأ من ملاحظة المستأجر والمهدى اليه شخصا واحدا ، فليفرض مغايرتهما ، بأن وقع الإجارة على إهداء الثوب مثلا لأجنبي غير المستأجر فإنه بالنسبة الى ذلك الأجنبي المهدى اليه إهداء لأنه بالنسبة إليه تبرع ، إذ الأجرة انما أخذها المهدى بصيغة الفاعل من غير المهدى اليه ، وهذا يشهد بأن أخذ الأجرة على الإهداء لا يخرجه عن كونه إهداء.

وهذا مثل أخذ الأجرة على ضيافة العلماء مثلا ، فان عنوان الضيافة في نفسه خال عن الأجرة ، وأخذ الأجرة انما هو لهذا العمل الخالي عن الأجرة. ولو

ص: 85

سلم خروجه عن حقيقة الهدية والتبرع فلا يقدح فيما نحن بصدد تصحيحه من الاستيجار على فعل الصلاة المتقرب بها هدية أو شبه هدية.

فان قلت : العبادة مشروطة بالتقرب ، والتقرب انما هو للمهدي ، وليس مثل مسألة النيابة ، حيث أن تقرب النائب يقوم مقام تقرب المنوب عنه باعتبار كون الممثل - أعني الأمر - أمر المنوب عنه ، ولا يعقل أن يتجاوز تقرب الشخص الى شخص آخر ، فكيف يعقل الإهداء في العبادات نفسها ، مع أن شرط الإهداء انتقال المهدي الى المهدى اليه.

قلت : العمل المتقرب به إذا وقع هدية رجع جميع آثاره الى المهدى اليه ، وهذا هو معنى إهداء الأعمال ، وإلا فنفس العمل ولو لم يكن عباديا يمتنع انتقاله من عامله الى غيره ، فمعنى إهداء العمل - كتمليك العمل بالإجارة - إدخال حاصله ومنفعته وأثره ، إلى كيس الأخر وهذا المعنى لا ينافي اختصاص التقرب في العبادات بالعامل ، لان المقصود بالإهداء إدخال أثر هذا العمل المتقرب به في كيس الأخر. وبالجملة العمدة تصوير عنوان عمل آخر غير عنوان العبادة وبعد ذلك فسائر الإشكالات هينة الاندفاع ، والمسألة غامضة لا بد فيها من التأمل الصائب. واللّه الهادي.

( الأمر الثالث ) من الأمور التي وجودها مانع من أخذ الأجرة وعدمها شرط لحليتها أن لا يكون العمل حقا لغير المستأجر أوله قبل الإجارة ، فإنه لو كان كذلك كانت الأجرة سحتا لكونه أكلا للمال بالباطل ، مثل البيع بلا ثمن والإجارة بلا منفعة في مقابل الأجرة.

ويتفرع عليه حرمة الأجرة المأخوذة كما في مقابل ما يتعلق بالموتى من الواجبات الكفائية حتى التوصليات منها كالكفن والدفن ، فان ظاهر أدلتها أنها من حقوق الميت الواجبة على الاحياء وانه مستحق له ، فأخذ الأجرة في مقابل

ص: 86

شي ء منها كأخذ الأجرة في عمل مستحق لاخر ، مثل البناء المستحق عليه بنذر أو إجارة أو نحو هما ، فإنه لا يجوز أخذ الأجرة بإزائه ثانيا من آخر.

وقد ظهر مما ذكرنا أن بعض الواجبات مما يحرم أخذ الأجرة في مقابله لاختلال الشرطين الأخيرين ، مثل بعض العبادات التي فهمنا من دليله أنه حق لادمي ، ويمكن أن يكون من هذا القبيل الصلاة عن الميت. كما أنه قد ظهر أيضا أن الشرطين الأخيرين يمكن إرجاعهما إلى الشرط الأول ، فإن العمل إذا كان بحيث يشترط في ترتب أثره أمر ينافي أخذ الأجرة كالقربة أو كان حقا لا حد كان من موارد اختلال الشرط الأول أيضا ، وهو أن يكون له أثر ونفع يصل الى المستأجر.

[ الواجب الكفائي لا مانع من الاستيجار عليه ]

إذا تحقق الشروط الثلاثة فلنرجع إلى مسألة جواز أخذ الأجرة في الواجبات الكفائية ، والظاهر أن من جوز الإجارة عليها ادعى وجود الشرائط الثلاثة ومن منع ادعى اختلال أحدها. والظاهر أن كلمات المحققين من المانعين والمجوزين راجعة الى ما ذكرنا ، فمن سلك مسلكا آخر في تصحيح الإجارة عليها أو المنع فقد اشتبهت عليه المسألة كمال الاشتباه ، فنقول :

ان الواجب الكفائي لا مانع من الاستيجار عليه من حيث الشرطين الأولين :

أما الشرط الأول - وهو كون العمل مما يصل نفعه إلى المستأجر ، فلان فائدة فعل الواجب الكفائي سقوطه عن المستأجر ، وهذا من الفوائد التي يمكن بذل المال بإزائها ، مع أن الواجب الكفائي قد يكون فيه منفعة دنيوية وأصله إلى المستأجر كالصناعات ، فباعتبار مراعاة الشرط الأول لا يمكن المنع عن الاستيجار على الواجبات الكفائية مطلقا ، بل ينفى حينئذ التفصيل لو لم يكن سقوط التكليف من المنافع المصححة للإجارة.

ص: 87

وأما الشرط الثاني - فلان الوجوب الكفائي قد لا يكون تعبديا ينافيه أخذ الأجرة كما هو الأكثر ، فيبقى اناطة الصحة والفساد على مراعاة الشرط الثالث ، والى ذلك ينظر كلام المحقق وغيره من المعتبرين من تعليل المنع بأنه - أي الأجير - يؤدي فرضا.

وتوضيحه : ان المانع يدعي أن العمل المستأجر عليه لا بد أن لا يكون مستحقا على الأجير بمقتضى الشرط الثالث ، لأنه إذا كان كذلك امتنع على الأجير تمليكه الغير ثانيا لأنه كتمليك مال الغير ، ومن الواضح أن فعل الواجب الكفائي مستحق على الأجير لله تعالى ، فيكون حقا لغير المستأجر.

ودعوى : ان متعلق حق اللّه انما هو كلي الفعل كالدفن الكلي مثلا ، والكلي لا يتعين في الخارج الا بتعين من هو في ذمته ، وتعينه انما يكون بالقصد كسائر الأعمال والأقوال المشتركة - بأن يوجد الفعل بقصد أنه واجب عليه كفاية - فلو فعل لا بهذا القصد بل بقصد أنه واجب على المستأجر أيضا أو مجردا عن القصد رأسا ، كان ذلك غير العمل المستحق عليه وكان تمليك مثل هذا العمل تمليكا لأمر غير مملوك.

مدفوعة : بأن القصد انما يحتاج إليه في التميز إذا كان العمل معنونا بعنوانين وكان متعلق الطلب أحدهما ، كاشتراك « بسم اللّه » بين الفاتحة وغيرها مثلا. وأما إذا كان متعلق التكليف هو كلي العمل والفعل وكان من التوصليات التي لا يفتقر في حصولها في الخارج الى قصد ، فما يوجد من العمل في الخارج ينطبق على ذلك الكلي الذي تعلق به التكليف ويكون عينه ، وبذلك يسقط التكليف.

ولذا ذكرنا في الأصول أنه إذا أمر بطبيعة تارة على وجه الوجوب وأخرى على وجه الندب اتصف الفرد الموجود منها في الخارج أولا بالوجوب ليس إلا وامتنع عروض الندب له ولو نوى ذلك ، غاية الأمر انه إذا كان عباديا يقع لاغيا

ص: 88

فلا يحتسب من الواجب أيضا. على خلاف التدقيق الذي ادعينا في بعض تنبيهات مقدمة الواجب حيث رجحنا هناك الصحة واحتسابه من الواجب نظرا إلى كفاية رجحانه الذاتي في قصد القربة ، كالوضوء المستحبي في وقت الفريضة.

هذا ويمكن الجواب عن ذلك بأن العمل من حيث صدوره من شخص خاص غير مستحق عليه لله تعالى بل من حيث صدوره عن الجميع. ومتعلق الإجارة انما هو العمل من الحيثية الاولى لا الثانية ، مع أن كون العمل مستحقا لله غير كونه مستحقا للناس ، فان استحقاق اللّه تعالى على نحو آخر من الاستحقاق ، فلا نسلم بطلان تمليك المملوك مطلقا ، بل الباطل انما هو تمليك مملوك الناس.

والحاصل ان الوجوب الكفائي لم يثبت مانعيته عن الاستيجار. نعم في صورة التعيين والانحصار أمكن القول بالبطلان ، لما ذكرنا من انطباق ما يوجد من الكلي المأمور به أولا عليه ، فيكون أخذ الأجرة بإزائه أخذا لها بلا مقابل بل يدخل في ملك المستأجر.

[ الفرق بين ماله اجرة وما ليس له اجرة عرفا ]

هذا كله في مثل الكفن والدفن مما لا أجرة له عرفا ولا حاجة لهم اليه مع قطع النظر عن عروض الوجوب الكفائي. وأما مثل الصناعات مما كان له الأجرة قبل عروض الوجوب ، أي مع قطع النظر عنه باعتبار مساس حوائجهم إليه - فأخذ الأجرة فيه أظهر. بيان ذلك :

ان الواجبات الكفائية على قسمين :

« أحدهما » - ما لا قيمة له ولا أجرة عليه عرفا مع قطع النظر عن كونه واجبا كفائيا ، بحيث يكون تموله العرفي وتأهله للاستيجار عليه باعتبار عروض الواجب الكفائي له عليه ، وذلك كاستقبال الميت مثلا ، فإنه مع قطع النظر عن عروض الوجوب له ليس شيئا ذا أجرة في العرف لعدم مساس ذلك بحوائج الناس معادا ومعاشا.

ص: 89

والظاهر أن وجوب التعليم في الأمور التي يجب تعلمها كذلك - خصوصا بعد ما ورد أن اللّه تعالى لم يكلف الجاهل بالتعلم الا بعد إيجابه التعليم على العالم (1) - فان تعليم العالم إذا كان في الرتبة قبل احتياج الناس اليه كما هو قضية المقدمية كان من الأمور الغير المرغوب إليه الذي لا تمول له عرفا في تلك المرتبة ، ونحوها الدفن والكفن الشرعيين.

« والثاني » - ما له أجرة عرفا مع قطع النظر عن الوجوب أيضا كالصناعات ، وما ذكرنا من الإشكال في جواز الأجرة انما يتجه في القسم الأول ، وأما القسم الثاني فيمكن القول فيه بأن الوجوب الكفائي لم يلحق أحدا إلا بالعمل على وجه الأجرة دون التبرع أو الأعم.

والفرق هو أن القسم الأول لما لم يكن قبل عروض الوجوب أمرا متقوما لم يكن محترما وامتنع اتصافه بالتبرع كالاتصاف بكونه في مقابل الأجرة ، لأن التبرع عدم أخذ العوض في مقابل ماله شأنية العوض لا كل ما لا يؤخذ عوضه ، وإذا امتنع ذلك الممتنع القول بعروض الوجوب من أول الأمر للعمل مع الأجرة ، نحو امتناع عروض الطلب للفعل المقرون بالقربة كما أومأنا اليه آنفا وقلنا ان القيود المتحصلة والمتصورة بعد فرض المحمول يستحيل اعتبارها في الموضوع.

بخلاف القسم الثاني ، فإنه لا مانع من القول بأن متعلق الوجوب في هذا القسم انما هو التكسب دون التبرع ، فيقال : ان اللّه تعالى أوجب التكسب بالخياطة مثلا لا نفسها ، ووجوب التكسب لا ينافي أخذ الأجرة بل تحققه كما لا ينافيه أيضا التبرع.

وان شئت قلت : أن الواجب انما هو بذل العمل المحترم ، والمقوم ، ووجوب بذل المال المحترم أو العمل المحترم لا يوجب سلب الاحترام حتى يمتنع

ص: 90


1- الكافي ، الأصول 1 / 41.

أخذ الأجرة. مثل الإنفاق في حال المخمصة ، فإن وجوبه لا يقتضي المجانية بل يجب عليه الإنفاق وعلى المنفق بذل العوض فان امتنع استقر في ذمته.

والدليل على ذلك : ان الدليل على وجوب الصناعات دليل عقلي ينشأ من استقلال العقل بوجوب محافظة النظام ، وهذا لا يقتضي التبرع بالعمل فيبقى احترام العمل بحاله. ويترتب عليه انه لو تعين الصنعة في شخص تعين العمل عليه وعلى المعمول له دفع الأجرة لذلك الدليل العقلي المشار إليه ، إذ لو وجب التبرع لزم اختلال النظام أيضا ، مثل ما يلزم على تقدير عدم الوجوب أو أشد كما لا يخفى.

وفائدة الوجوب تظهر فيما لو امتنع حتى مع الأجرة عند التعيين ، فلا يرد أن العمل مع الأجرة إيجابه سفه ، لأن الأجرة هي بنفسها داعية اليه ، فطلبه مع ذلك الداعي يشبه طلب الحاصل ، ومع عدم التعيين فلا يجب بذل الأجرة إلا مع الاشتراط ، فليس للصانع العمل وأخذ الأجرة قهرا.

ويترتب على ذلك أن الطبيب مثلا لو عالج قبل تضييق زمان العلاج لم يكن له شي ء في ذمة المريض ، ولو نوى الأجرة ان عالج في صورة الانحصار أو مع تضييق الأمر وعدم اقدام الغير وجب على المريض أجرة المثل حينئذ مع عدم التبرع ، ومع الامتناع يستقر في ذمته.

ومن هنا يظهر أنه لا فرق بين الواجب العيني والكفائي في هذا القسم ، وانما الفرق بينهما في القسم الأول.

وقد تلخص مما ذكرنا في أخذ الأجرة على الواجبات الكفائية أنه مع اجتماع الشرائط الثلاثة المتقدمة يجوز أخذ الأجرة سواء كان عينيا أو كفائيا ، وان الاشكال كله في تشخيص صغرى الشروط ومعرفة وجودها أو اختلالها ، فنقول :

ص: 91

ان الواجب إذا لم يكن تعبديا فلينظر فان كان له أجرة في العادة مع قطع النظر عن الحكم الشرعي كالصناعات جاز أخذ الأجرة مطلقا سواء كان عينيا أو كفائيا ، لأن متعلق الوجوب في مثله انما هو العمل المحترم المقوم ، ووجوب مثله لا يقتضي المجانية وسلب الاحترام كما عرفت. وان لم يكن له أجرة كذلك فان كان كفائيا فالظاهر عدم المانع من أخذ الأجرة عليه ، أما من جهة الشرطين الأولين فواضح ، وأما من جهة الشرط الثالث فلما عرفت من أن متعلق حق اللّه انما هو العمل من حيث صدوره عن الجميع ، ومتعلق الإجارة هو العمل من حيث صدوره عن الشخص ، وفيه تأمل. وان كان عينيا أو كفائيا معينا فالظاهر بناء على مراعاة الشرط الثالث حرمة أخذ الأجرة.

هذا كله في الواجبات الكفائية ، وأما المستحبات الكفائية - مثل ما يتعلق بدفن الموتى وكفنهم وصلاتهم وغسلهم من الزيادة على المقدار الواجب على القول باستحباب الغسل أيضا بعد حصول الواجب - فالظاهر عدم الاشكال ، والخلاف في التوصليات منها دون التعبديات ، ذلا مانع من أخذ الأجرة عليها حتى من جهة مراعاة الشرط الثالث أيضا ، ضرورة عدم كونها مستحقة على الأجير.

والعجب ممن منع الاستيجار على الواجبات الكفائية من جهة قصد القربة ، مع أنه لا فرق من هذه الجهة بين الواجبات والمستحبات.

[ عود إلى أخذ الأجرة على القضاء ]

هذه خلاصة ما اقتضاه المجال في تحقيق الحال في مسألة جواز أخذ الأجرة على الواجبات ، فلنعد الى ما كنا فيه وذكرنا هذه المسألة لأجله - أعني أخذ الأجرة على القضاوة - فنقول :

لا بد أن ينظر أولا في أن القضاء هل هو من القسم الثاني - أعني ماله منفعة

ص: 92

محترمة مع قطع النظر عن شرعيته كالصناعات - أو من الأول كما هو الأظهر :

فإن كان من الثاني جاز أخذ الأجرة عليه حتى مع التعيين ، وعدم الاحتياج الى أن يستظهر من أدلته وجوب التبرع به كوجوب التعليم ، حيث أن الظاهر من أدلته أيضا التبرع وعدم الأجرة خصوصا بعد ملاحظة حرمة الرشوة على القاضي ، فإنه لو لم تشمل مثل الجعل فلا أقل من تقويته لذلك الاستظهار ، وان كان من الأول فلا بد أيضا من النظر في انه كوجوب التعليم أو كأداء الشهادة ، بأن يكون القضاء حقا من حقوق المسلمين على القضاة. وعلى الثاني فقد عرفت عدم جواز أخذ الأجرة عليه بمقتضى الشرط الأول ، وأما على الأول فقضية ما ذكرنا الفرق بين صورتي الانحصار وعدمه ، لكن عرفت استظهار التبرعية من أدلة القضاوة مطلقاً

التقاط [ ما يثبت به ولاية القاضي ]

تثبت ولاية القاضي بالبينة العادلة كما هو الأصل في الموضوعات كلها الا ما ثبت فيه الاحتياج إلى الأكثر أو الأقل ، وكذا تثبت بالاستفاضة على ما صرح به غير واحد من الأصحاب منهم المحقق والشهيدان ، وذكروا استطرادا أمورا أخر تثبت بها كالنسب والملك المطلق والموت والنكاح والوقف والعتق ، ولا بد أولا من بيان المراد بالاستفاضة في المقام :

اعلم أن « الاستفاضة » استفعال من « الفيض » وقد أطلق مجردا ومزيدا على معان متقاربة ، قوله تعالى « أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ » (1) أي ادفعوا من حيث دفع الناس ، ومنه الإفاضة من العرفات ، أي الدفع بكثرة ، ويقال أفاض السيل فيضا إذا كثر وسال ، وفاض الإناء فيضا امتلأ.

ص: 93


1- سورة البقرة : 199.

وفي مجمع البحرين بعد ذكر جملة من إطلاقات فاض : وأفاض واستفاض الحديث شاع في الناس واشتهر ، فهو مستفيض اسم فاعل ، ومنه « أثر مستفيض » أي مشهور.

لكن الظاهر أن هذه الإطلاقات مع ما بها من التفاوت والمغايرة الضعيفة صادرة من مصدر واحد ، ومعنى جامع بين الكل ، لأنا ذكرنا أن دأب العرب التعدي من المعنى الأصلي الى ما يقاربه ويناسبه في الجملة بنحو من التوسع ، من غير استناد إلى القرائن ليكون تجوزا أو وضعا آخر ليكون مشتركا أو منقولا. ولعل الجامع هو التراكم والتكاثر ، فإنهما يمكن انطباقهما على جميع هذه الاستعمالات ولو بضرب من التوسع والتسامح كما لا يخفى على المتدرب.

وفي اصطلاح الأصوليين عبارة عن خبر جماعة تزيد على الثلاثة وتقصر عن حد التواتر.

وأما في اصطلاح الفقهاء فقد صرح في الروضة بأنه لا حد له ، الا أنه يعتبر أن يزيد عن عدد البينة العادلة ، ليحصل الفرق بين العدول وغيره.

وأيضا المستفيض في الأصول معدود من الاحاد التي لا تفيد العلم ، وأما عند الفقهاء ففيه إجمال واشتباه ، لان ظاهر المحقق على ما استظهره ثاني الشهيدين اعتبار حصول العلم بالاستفاضة ، ونقل عن بعض الاكتفاء بالظن المتقارب المتاخم وعن بعض الاكتفاء بمطلق الظن ، بل ظاهر بعض مشايخنا أن خبر جماعة من المسلمين بنفسه حجة في هذه الأمور ، بل في غيرها أيضا تعبدا محضا مجردا عن الظن مستظهرا بظاهر بعض الروايات.

وتحقيق المسألة : هو أن غرض الأصحاب بها ان كان هو الخبر المفيد للعلم فيرد عليهم أنه لا وجه للتخصيص بالاستفاضة ولا بهذه الأمور السبعة ، لأن العلم في مثل المقام متبع من أي شي ء حصل وفي أي مقام يفرض ، لان مفروض كلام

ص: 94

الأصحاب مقام عمل الشخص نفسه كما هو صريح قولهم وتثبت ولاية القاضي ، والعلم في مقام العمل طريق محض بحكم العقل الذي لا يقبل التخصيص والتخصص كما تقرر في محله.

نعم في مقام حكم الحاكم أو في مقام الشهادة فالعلم بالموضوعات علم موضوعي ، فيمكن أن يكون للعلم الحاصل بالاستفاضة خصوصية من بين سائر أسباب العلم أوجبت اعتبار الشارع له في مقام الحكم ، بناء على عدم جواز حكم الحاكم بعلمه مطلقا أو في مقام الشهادة بمقتضى العلم مطلقا.

ولكن الذي يرى جواز الحكم بالعلم مطلقا أو جواز الشهادة كذلك - كأكثر من تعرض للمسألة - لا يحسن منه أيضا تخصيص الحكم بالاستفاضة ولا بهذه الأمور.

وكيف كان فإن أرادوا بالاستفاضة ما يفيد العلم عادة بنفسه أو بملاحظة القرائن على أبعد الاحتمالات فما ذكروه من الثبوت

جيد متين ، لكن يبقى الكلام في وجه التخصيص بالاستفاضة بهذه الأمور ، وان أرادوا بها ما يفيد الظن المتاخم الاطمئناني أو مطلقا فثبوت هذه الأمور خاصة بهادون غيرها يحتاج الى دليل يدل على حجية الاستفاضة على وجه لا يتناول ما عداه.

وأما ما قيل من أن الاستفاضة لا اختصاص لها بهذه الأمور وان ذكر الأصحاب لها بالخصوص انما هو لأجل كونها غالبا مجرى لها دون غيرها مما يغلب فيه جريان البينة. فليس في محله ، لبعده عن ظاهر التخصيص كما لا يخفى ، خصوصا مع ملاحظة تقييدهم الملك بالمطلق ، فان تقييد الموضوع بقيد يشاركه غيره في الحكم ، ركيك في الغاية إلا لنكتة كغلبة القيد في الوجود الخارجي ، مثل غلبة كون الربا في الحجر والملك المطلق ليس بأغلب من الملك المسبب عن مثل البيع.

ص: 95

[ الأدلة على اعتبار الاستفاضة الظنية ]

ودعوى أن غلبة جريان الاستفاضة في المطلق أوجبت أيضا التقييد به.

فاسدة ، لأن غلبة ارتباط أحد متعلقات الحكم بشي ء لا يقتضي تقييد الحكم به مع عمومه لما سواه كما لا يخفى ، فلا بد حينئذ من اقامة الدليل على اعتبار الاستفاضة الظنية على وجه يختص بهذه الأمور. ويمكن أن يستدل عليه بوجوه :

( الأول ) السيرة القطعية الجارية بين المسلمين ، فان طريقة السلف والخلف مستقرة على المراجعة الى من اشتهر ولايته وقضاوته بين الناس بحيث يكشف عن إمضاء المعصوم ، وهكذا على ترتب آثار النسب والملك المطلق الى آخر السبعة بمجرد الشياع والاشتهار وان كان بعضها كالموت دون بعض في ذلك.

( الثاني ) عسر إقامة البينة كما لا يخفى على من عاشر أهل الابتلاء بهذه الأمور ، لان توقيف أمور الناس في حوائجهم إلى القضاة والولاة حتى يثبت عندهم بالبينة العادلة الجامعة للشرائط التي لا يعرفها الا العلماء ، ولاية القاضي عسر بين بل حرج واضح.

وكذا التوقف في ترتب آثار النسب ، خصوصا فيما يتعلق بالبطون السابقة حتى يشهد عدلان على النسب من غير أن يكون مستند الشهود أيضا هو الاستفاضة والا فالظاهر مساواة مقام الشهادة لمقام العمل ، بل الثاني أولى كما لا يخفى.

هذا ، ولكن دليل العسر إنما ينفي التوقف على البينة ويثبت حجية شي ء آخر ، وأما كونه الاستفاضة فموكول إلى قرينة الإجماع. توضيحه : ان عسر إقامة البينة قد يوجب سقوطها رأسا كما في موارد قبول قول المدعي بمجرد دعواه مثل ما لا يعلم الا من قبله ، وقد يوجب سقوط بعض شرائطه مثل ما لا يستطيع الرجال على الاطلاع به ، فان جميع شرائط البينة لا بد من إحرازها فيه إلا ما

ص: 96

يستلزم منه العسر وهو الذكورية. وبالجملة عسر إقامة البينة يوجب سقوط شرائطها كلا أو بعضا.

وأما الاكتفاء بقول المدعي أو بخبر واحد أو بإخبار جماعة بالغ حد الاستفاضة لا بد في تعيينها من التماس دليل ، فكان العسر قرينة صارفة لا تغني عن القرينة المعينة ، فلا بد في الحكم بالاستفاضة من التمسك بالإجماع بعد فرض عدم اشتراط البينة.

( الثالث ) بعض الروايات ، كمرسلة يونس عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أيحق للقاضي أن يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال : فقال عليه السلام : خمسة يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم الولايات والمناكح والذبائح والشهادة والمواريث ، فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته لا يسأل عن باطنه (1).

وعن الفقيه « الأنصاب » مكان « المواريث » كما أن عن بعض نسخ التهذيب « ظاهر الحال » مكان « ظاهر الحكم ».

استدل به في محكي كشف اللثام. تقريب الاستدلال : أن المراد بالحكم هو الحكم اللغوي ، أعني مضمون القضية ، وظاهره يراد به ما يظهر منها بين الناس ويشيع فيما بينهم ، فالمراد ما كان من هذه الأمور معروفا شائعا يجب الأخذ به ولا يسأل عن باطنها. وهكذا التقريب لو كان « ظاهر الحال » مكان « ظاهر الحكم » بل التقريب حينئذ أظهر.

والتحقيق عدم دلالتها على شي ء من المقصود ، لان الظاهر اما أن يراد به ما يقابل الواقع أو يراد به الواضح. وعلى الأول فلا دخل له بالمقام ، لان الظاهر المقابل للواقع عبارة عما يستفاد من الامارات المفيدة للظن نوعا ، مثل سوق المسلمين ويد

ص: 97


1- الوسائل 18 ب 22 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

المسلم وفعل المسلم والفراش وحسن الظاهر ونحوها ، لان الظاهر يقول مطلق من غير التقييد يكون عند جماعة أو عند الكل المقابل للواقع يتبادر منه ذلك ، كما لا يخفى على ذي وجدان سليم. وعلى الثاني فهو أبعد من الأول بالنسبة إلى المقصود ، لان الواضح بقول مطلق يعني من دون إضافته إلى شخص دون شخص لا ينطبق الا على البديهيات ، وهذا مع بعده عن ظاهر الرواية أو صريحها مخالف للإجماع مناف للغرض.

وكان المستدل حمل الظاهر على المعنى الأخير ، مقيدا بكونه عند جماعة ، حتى يكون المفاد أنه يجب الأخذ بهذه الخمسة لوضوح الحكم والحال عند جماعة ، وهو كما ترى.

ومما يؤيد المعنى الأول بل يدل عليه تصريح الامام عليه السلام بقوله « فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا » الى آخره ، لأن الأخذ بالظاهر المأمون جزئي من جزئيات اعتبار ظاهر الأمارات الظنية وفرع من فروعه لأمن جزئيات اشتهار المطلب وشيوعه بين الناس كما رام المستدل.

فان قلت : على المعنى الأول يندرج فيه الخبر المستفيض أيضا ، لأنه من الظواهر والأمارات المفيدة للظن مثل اليد والسوق ونحو هما فينهض بإثبات المقصود.

قلت : الاستفاضة ليست من الامارات المفيدة للظن نوعا بل شخصا ، إذ ليس لها حد سوى كونها مقرونة بإفادة الظن ، ومثل هذه لا تعد من الظواهر بقول مطلق التي هي عبارة أخرى عن الامارات النوعية. والحاصل ان من تأمل في الرواية أدنى تأمل يجدها بالدلالة على إمضاء الأمارات الشرعية في هذه الأمور أولى من الدلالة على اعتبار الاستفاضة.

ومما استدل به من الروايات أيضا رواية حريز الواردة في إسماعيل بن

ص: 98

ابن عبد اللّه الطويلة ، وموضع الاستشهاد منها قوله عليه السلام : إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم (1). حيث تدل على وجوب تصديق المؤمنين ، فيجب قبول اخبار جماعة بالغ حد الاستفاضة.

وفيه ما لا يخفى ، إذا المراد بالمؤمنين في الرواية هو الجنس ، لأنه المتعين بعد تعذر الاستغراق ، وتصديق جنس المؤمن المأمور به في الروايات والممدوح في الكتاب المعني بقوله تعالى « يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ » ، يراد به معنى غير قبول الشهادة ، ضرورة قيام الضرورة على عدم فبول شهادة بعض المؤمنين من غير اعتبار شي ء من الصفات ، وهو التصديق مع عدم ترتيب الاثار الذي هو مفاد قوله تعالى « قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ » (2).

مضافا الى كون الأمر بالتصديق في هذه الرواية أمرا إرشاديا ، لمعلومية عدم حرمة استيداع الفاسق شرعا. ومن الواضح أن مجرد الاتهام يكفي في الأمر الإرشادي ولا حاجة الى كون قول المؤمنين حجة شرعية حتى يتفرع عليه ثبوت فسق الرجال شرعا ، بل لو جعلنا الأمر بالتصديق شرعيا لوجب إخراج المورد كما لا يخفى.

والحاصل ان اخبار المؤمنين عن فسق شخص موجب للنهي الإرشادي عن استيمانه ، من غير أن يكون حجة شرعية ، فلعل نظر الإمام في الأمر بتصديقهم المراد به ترك عدم الاعتناء المبالاة بقولهم الى كون قولهم منشأ للتهمة المانعة عن الاستيمان لا الى كون قولهم حجة شرعية.

نعم في صحيحة أبي يعفور (3) الواردة في العدالة دلالة على ثبوتها بالاشتهار ، وكذا

ص: 99


1- الوسائل ب 6 من كتاب الوديعة وأحكامها.
2- سورة التوبة : 60.
3- الوسائل ج 18 ب 41 من أبواب الشهادات.

في النبوي : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إذا تخاصما اليه رجلان قال للمدعي ألك حجة ، فان أقام بينة يرضى بها ويعرفها نفذ الحكم على المدعى عليه - الى أن قال - وان جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شر بعث رجلين من خيار أصحابه يسأل كل منهما من حيث لا يشعر الأخر عن حال الشهود في قبائلهم ومحالهم ، فاذا أثنوا عليه قضى على المدعي عليه وإذا رجعا بخبر شي ء قبيح لم يفضحهم - الحديث (1). لكنهما منزلان على الغالب ، وهو حصول العلم من الفحص في قبائل الشهود ، ومع ذلك فموردهما خصوص العدالة.

ومثلهما ما ورد في تنازع الزوجين في متاع البيت من أنه لو سألت من بين لابتيها - أي جبلي منى - لأخبروك أن الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الزوج فتعطى التي جاءت به (2). فان ظاهر الاعتداد بقول من بين اللابيتين لكنه منزل أيضا على الغالب في إفادة العلم ، ومع ذلك فلا دخل له بهذه الأمور السبعة.

والحاصل ان مثل هذه الروايات وان وردت في بعض آحاد المسائل لكنها لا تنهض للفقيه دليلا على اعتبار الاستفاضة مطلقا ولا في مجاريها أيضا كما عرفت.

( الرابع ) الدليل الانسدادى ، فان باب العلم في هذه الأمور غالبا منسد ، والرجوع الى الأصل يوجب الوقوع في خلاف الواقع كثيرا ، فلا بد من الاعتماد على الظن.

وهذا جيد ، لكنه يفيد العمل بكل ظن ، فيبطل تخصيص الحكم بالاستفاضة وبالأمور السبعة ، بل كل أمر من الموضوعات يكون حاله كذلك يتبع فيه الظن

ص: 100


1- الوسائل ج 18 ب 6 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 8 من أبواب ميراث الأزواج ح 1.

كما ذكرناه مرارا.

( الخامس ) الأولوية ، لأن الظن الحاصل من الشياع أقوى من الظن الحاصل من بعض أفراد البينة. استدل به في المسالك ، وهو كما ترى لا ينفعنا ، لأن الأولوية القطعية واضحة المنع والظنية غير مجدية الا أن تكون لفظية بالفحوى ، ولا مجال له في المقام. واللّه العالم.

التقاط [ هل ينعزل القضاة بموت الإمام؟ ]

إذا مات الامام فعن الشيخ تارة ان الذي يقتضيه مذهبنا انعزال القضاة أجمع وأخرى عدم الانعزال ، كما أن الأصحاب أيضا اختلفوا في ذلك على ما في المسالك.

وجه الأول أمران :

( الأول ) ان ولاية القضاء متقومة بإذن الامام ونصبه ، والاذن مما لا بقاء له بعد موت الاذن ، ومن هنا أطبقوا على انعزال الوكيل بموت الموكل. وبالجملة لا معنى لبقاء حكم الاذن بعد زواله بموت أو عزل ، وبقاء الوكالة إلى زمان بلوغ العزل أمر ثابت على خلاف القاعدة ، لأنها تقتضي الانعزال بمجرد العزل الواقعي وان لم يعلم به الوكيل كما في موت الموكل. والحاصل ان صفة الاذن بديهي الزوال بموت الاذن ، فلا يبقى أثره جدا.

( الثاني ) ان متعلق ولاية القاضي انما هو في الافعال والأمور التي كان ولايتها للإمام عليه السلام ، فالقاضي إنما يتولى أفعال الإمام بإذنه ، فاذا مات فات متعلق الاذن كفوت متعلق الوكالة في شي ء بفواته.

وهذا معنى قول من استدل على الانعزال بأن ولايتهم فرع ولايته ، فاذا زال

ص: 101

الأصل زال الفرع.

ومن زعم أن المراد عدم ثبوت ولاية للإمام على الأعصار المستقبلة وان ولاية امام كل عصر مختصة بعصره. فقد سها سهوا بينا ، لان كل نبي أو وصي مسلط على كل تصرف يرى فيه مصلحة سواء اختص بزمانه أو عم الأزمنة كلها ، حتى ان آدم على نبينا وآله وعليه السلام كان له من التصرفات ما يدوم أثره إلى يوم قيام القيامة.

وهو واضح ، لأن ولاية أولياء اللّه ولاية إلهية تامة عامة كاملة - فافهم حتى لا يشتبه عليك الفرق بين اختصاص ولاية الإمام بعصره وبين ما قلنا من فوات متعلق الاذن بموت الاذن.

وجه الثاني أيضا أمران :

أحد هما - حسبان أن نصب القاضي فعل من أفعال الامام وجعل من مجعولاته كسائر أفعاله وتصرفاته ، مثل الإعطاء والمنع والبيع والشراء وأمثالها ، وهو ماض مطلقا كما ستعرف في نصب الفقيه والقضاة العامة ، وليس من قبيل إنشاء الاذن في شي ء حتى يزول بموت ونحوه.

والثاني - الاستصحاب.

وكلاهما ضعيفان ، لأن الأول غير ثابت والثاني ليس بحجة في مثل المقام ، على ما هو المختار من عدم الاعتبار بالاستصحاب في الشك باعتبار المقتضي.

ثمَّ ان أدلة الطرفين جارية في المنصوب العام ، مثل قول الصادق عليه السلام في مقبولة ابن حنظلة : انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا - انتهى ونحوه (1).

لكن الظاهر المصرح به في المسالك الإطباق على عدم الانعزال ، ولعله لأجل ظهور مثل قوله عليه السلام « انظروا » في جعل المنصب لا في الاذن في القضاوة خاصة ، فلا يزول بموت الامام وان كان الخطاب الشفاهي مختصا

ص: 102


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ح 4.

بالمخاطب ، لان المفروض موت المخاطب - بالكسر - دون المخاطب.

وربما يعلل أيضا - كما في المسالك - بأن التولية العامة اعلام بالحكم الشرعي وانه من أهل الولاية ، كالاعلام بحجية قول العدل ، والحكم الشرعي لا يختلف باختلاف موت الامام ، وهو حسن وان كان مشروطا بإذن الإمام عليه السلام ، نظير وجوب الصلاة على الميت مشروطا بإذن الولي ، وقد أشرنا الى ما في ذلك فيما سبق - فتأمل.

وهكذا الكلام في الفقيه حال الغيبة ، بل الحكم هنا أولى ، لأنهم قائمون مقام الحجة المنتظر صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الكرام ، فيخرج من جزئيات مسألة عزل القضاة بموت الامام ، بل هو خارج عما نحن فيه مطلقا ، لأنهم منصوبون في حال الغيبة بحكم الأدلة العامة ، مثل مقبولة عمر بن حنظلة (1) ونحوها ، ولا معنى لانعزالهم بموت أحد الأئمة السابقين كما لا يخفى.

فما في المسالك من اجراء البحث في الفقيه حال الغيبة وجعل نصبهم من باب الاعلام كما بينا غير صحيح. ولعل تقييد الفقيه بحال الغيبة سهو من قلمه ، والصواب ما حررنا من جعل محل الكلام النواب العامة الذين نصبهم الصادق عليه السلام بمثل قوله « انظروا الى من كان منكم » إلخ. واللّه العالم.

بقي الكلام في منصوبي الفقهاء والمجتهدين في حال الغيبة ، والظاهر أن الحكم أيضا كما ذكر من الانعزال ، بل هنا أولى ، لأن بقاء ولاية المنصوبين - كما يقوم على الأطفال مثلا - مبني على كون ولايتهم تصرفا من تصرفا الفقيه ونصبا منه ، وقدرته على مثل ذلك النصب وشرعيته غير معلومة ، والتمسك بعمومات أدلة الولاية قد عرفت ضعفه فيما سبق عند البحث عن جواز قضاء المقلد فارجع وتأمل.

ص: 103


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب صفات القاضي ح 4.

ومما ذكرنا يظهر ضعف أحد الوجهين المذكورين في المسالك ، أعني وجه عدم الانعزال في المتصرفين في شغل عام كقوام الأطفال والوقوف. وما علله به من ترتب الضرر بولايتهم الى أن يتجدد الولاية. واضح المنع. واللّه العالم.

التقاط [ علم القاضي هل يكون بينة للقضاء ]

اختلفوا في قضاء القاضي غير الامام عليه السلام بعلمه على أقوال ، ثالثها القضاء في حقوق الناس لا في حقوق اللّه ، ورابعها العكس. والأكثر على جواز القضاء مطلقا ، وهو الأظهر.

واعلم أن أصل القضاء بالمعنى المبحوث عنه أمر على خلاف القاعدة ، أشرنا إلى وجهه في صدر الباب عند البحث عن جواز قضاء المقلد ، وحاصله : ان القضاء سلطنة إلزام شرعي للشخص على ما لا يقتضيه تكليفه ، سواء كان القضاء بمقتضى العلم أو بمقتضى البينة ، والأصل عدم الإلزام في الحكم الوضعي التكليفي.

وهذا هو المراد مما ذكرنا في الالتقاط المتقدم من كون العلم في مسألة القضاء موضوعا قابلا للإثبات والنفي ، والأصل عدم الإلزام في الحكم الوضعي التكليفي في مقام الحجية ، لكن إذا فرض وجوب القضاء لا محالة فلا معنى لعدم اعتبار العلم ولا لاعتبار سائر الموازين في مقابله. مثلا إذا علم القاضي بحقية الدعوى فالإعراض عن مقتضى العلم والرجوع الى اليمين لا معنى له ، أو علم مثلا أن قاتل زيد هو عمرو وأقيمت البينة على كونه خالدا فان الحكم بالقصاص عن خالد وعدم الحكم بالقصاص عن عمرو مع العلم بأن خالدا ليس بقاتل ، يوجب التخصيص في أدلة الأحكام الواقعية ، مع أن القاضي إنما أمر بالقضاء حسب الحق الواقعي.

ص: 104

وقد أجاد في المسالك في مقام الاستدلال على المدعي حيث تمسك في اعتبار العلم بمثل قوله تعالى « السّارِقُ وَالسّارِقَةُ » ، فإن الخطاب بقطع السارق وغيره من الخطابات لا يحتاج في تنجيزها سوى العلم القاطع للعذر.

ومن هنا ظهر أن التمسك بأدلة البينة أو ببعض ما ورد في باب القضاء من حصر الموازين في الأربعة أو نحو ذلك. فاسد جدا ، للقطع بأن الموازين الشرعية كلها أمارات على الواقع ، ومن شأن الامارة اختصاصها بالجاهل.

والحاصل ان القول بعدم حجية العلم للقاضي وانه انما يقضي حسب البينة مثلا ولو علم بكذبها تصويب محض أما في الموضوعات ، فهو باطل بالضرورة والإجماع ، لأن القاتل والزاني والمديون ونحوها من موضوعات الاحكام ليس مما يعم الموضوع الواقعي وما يقام عليه البينة إجماعا وضرورة من العامة والخاصة ، أو تصويب في الموضوعات بملاحظة تعلق الاحكام ، بمعنى ثبوتها للأمرين الموضوع الواقعي والظاهري الذي أقيم عليه البينة.

وهذا وان لم يكن ضروري البطلان كالأول - بل ربما قال به بعض - ولكنه بديهي السقوط عن الانظار ، فالحق ما عليه الأكثر من القضاء بالعلم مطلقا.

وأما الامام عليه السلام فقد نقل الاتفاق على قضائه بعلمه ، فالأمر فيه أوضح بعد دعوى غير واحد الاتفاق عليه.

وأما ظاهر بعض الروايات الدالة على اغضائهم عليهم السلام عن علومهم في المعاملة مع الناس ، بقول مطلق أو في خصوص فصل الخصومات. فروايات متشابهة قابلة لضروب من التأويل والتوجيه التي : منها عدم التفتيش والسؤال لا عدم العمل بالعلم مع حصوله ، ومنها اقتضاء المصلحة في خصوص المقام للاعراض عن الواقع ، ومنها غير ذلك مما لا يحد تحت حد ، مضافا الى عدم وضوحها سندا ودلالة.

ص: 105

وبالجملة لم يثبت لنا إهمال الامام لعلمه في مورد ، وعلى تقدير الثبوت فهو قضية في واقعة محتملة لكثير من التأويلات والتوجيهات التي ذكر السيد قدس سره جملة منها. واللّه العالم.

التقاط [ حبس المدعى عليه لو كانت بينة المدعى غير تامة ]

قال الشيخ في محكي المبسوط : إذا أقام المدعي بينة ولم يعرف الحاكم عدالتها فالتمس المدعي حبس المنكر ليعدلها جاز للحاكم حبسه لتقام البينة على ما ادعاه.

واستشكل فيه المحقق « قده » من حيث أنه لم يثبت الحق بتلك البينة بعد حق يوجب عقوبة الحبس.

ومبنى الخلاف - على ما ذكره في المسالك - على أن العدالة شرط أو أن الفسق مانع ، فالشيخ بنى على الثاني والمشهور على الأول.

أقول : بناء الشيخ على كون الفسق مانعا لا يجديه أيضا في تعجيل الحبس إذ لا بد من رفع المانع في اقتضاء العلة التامة أثره.

ولعله مبنى - مضافا الى ما ذكر - على شي ء آخر أيضا ، وهو أن المانع يكفي للحكم بعدمه الشك في وجوده ولو لم يقتضيه شي ء من الامارات ، ولا يلزم في نفي المانع من الاستناد إلى شي ء بعد الأصل ، إذ لو لا ذلك لوجب أيضا عدم الحكم حتى يعلم أن البينة غير فاسقة اما بالوجدان أو بالأصل ، بأن كان الشاهدان غير فاسقين في السابق.

ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين كون العدالة شرطا أو الفسق مانعا الا على الاكتفاء بالشك في رفع المانع أو دعوى ان الفسق مطلقا مجرى للأصل باعتبار

ص: 106

كونه أمرا حادثا لا محالة. والأول غير ثابت بل المظنون خلافه كما ذكرنا في الأصول ، والثاني مبني على كون الفسق مجرد صدور بعض الأفعال القبيحة ، بأن يكون بينه وبين العدالة واسطة ، وهو غير بعيد.

ويمكن ابتناء الخلاف على كون العدالة هي ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو الملكة أو حسن الظاهر ، وهو أحسن.

وفي عبارة المسالك هنا نوع مؤاخذة ، لأنه جعل البنائين بناء واحدا على ما يظهر من ظاهر التفريع في قوله « فالشيخ بنى في جواز الحبس على أصله من ثبوت العدالة الى أن يظهر خلافها » ، مع احتمال كون المراد من هذا الأصل كون الإسلام طريقا للعدالة لا نفسها ، فتصير المباني ثلاثة والمؤاخذة أيضا باقية كما لا يخفى.

ثمَّ ان إطلاق البينة على ذات الشاهدين - كما في عبارة الشرائع - اما مبني على المسامحة على أن البينة في الاصطلاح اسم لذات العدلين لأنها مقيدة بالعدالة. واللّه العالم.

التقاط ( في نقض الحكم )

اعلم أن حرمة نقض الحكم في الجملة مما لا خلاف فيه ولا اشكال ، وقد أشرنا في صدر الباب الى أن حرمة النقض لا يحتاج في إثباتها إلى دليل آخر غير ما دل على وجوب الرضا بحكم الحاكم بعد تصور حقيقة الحكم ، فان الحكم المبحوث عنه - على ما سبق مرارا - عبارة عن فصل الخصومة وقطع المنازعة بإلزام أحد المتخاصمين على غير ما يقتضيه تكليفه.

ومن الواضح أن النزاع يستحيل أن يطرأ عليه فصلان متماثلان أو متضادان ،

ص: 107

نحو استحالة فصل أمر متصل مرتين ، فاذا تحقق مرة عند حاكم جامع لشرائط صحة القضاء فصل الخصومة فلم يبق أمر قابل للفصل شرعا بعد ، سواء رضي الخصمان بتجديد المرافعة أم لا ، لان رضاء هما يقع لا غيا بعد فرض عدم خصومة بينهما شرعا ، وان جواب المنكر منهما بالنفي غير مسموع ومطالبة المدعي منهما بالحق غير مقبولة في الإسلام ، فلا حاجة حينئذ إلى إقامة دليل من نص أو إجماع على حرمة النقض وان كانا موجودين في المسألة كما لا يخفى.

فما مال اليه بعض مشايخنا قدس سره من عدم المانع من تجديد المرافعة على تقدير رضاء المحكوم عليه. ليس في محله بعد ما عرفت من عدم بقاء محل قابل للفصل بعد الحكم الأول.

[ ما يجوز فيه نقض الحكم ]

نعم يجوز النقض في مواضع ثلاثة ، وهي المواضع التي يقع فيها الحكم الأول من أصله لاغيا غير مؤثر لا أنه حقيقة نقض للحكم بعد صحته :

( أحدها ) ما لو علم الحاكم أو غيره مخالفة حكم الحاكم الأول للحكم الإلهي الواقعي علما قطعيا ، سواء كان ذلك بنظر الحاكم الثاني في الحكم الأول حيثما يجوز له النظر أو بظهور المخالفة من غير نظر ، فإنه يجوز النقض حينئذ حتى يتجدد المرافعة ، لأنه الحكم على حد غيره من الامارات فلا يكون حجة إلا مع الجهل بالواقع ، وأما مع العلم به فلا حكومة له ولغيرها من الامارات على الواقع أبدا ، بل لا يعقل ذلك الأعلى التصويب الباطل.

نعم حكم الحاكم حاكم على سائر الأمارات كائنا ما كان ، بمعنى وجوب متابعة الحكم على الوجه الذي أمرنا بمتابعته لا تنزيل المحكوم به بمنزلة الواقع وتحكيمه على ما ينافيه من الامارات القائمة في مورد الحكم من تقليد أو اجتهاد

ص: 108

كما يأتي. ومنه يعلم أن التمسك بإطلاق أدلة حرمة الرد هنا ليس في محله مع إمكان دعوى الإجماع عليه.

( وثانيها ) ما لو علم مخالفة الحكم لدليل معتبر عند الكل ، كالخبر الصحيح المعمول به الثابت في الكتب المعتبرة مع عدم المعارض ، فان نقض الحكم حينئذ جائز على ما صرح به غير واحد ، لان العلم بالواقع الاولى والواقع الثانوي مع وحدته بين الكل سيان في عدم جواز المخالفة ، ولذا جعلوا الإجماع من الأدلة القطعية التي لا يجوز مخالفتها ، مع أنه قد لا يكشف بها عن الواقع بل عن وجود دليل معتبر عند الكل ، بحيث لو فرض مراعاة المجتهد لشرائط الاجتهاد لم يفت الا بمضمونه.

والحاصل ان المناط على كون المحكوم به مخالفا للتكليف الفعلي المتبع عند الكل ، سواء كان واقعيا أو ظاهريا ، كمدلول ظاهر كتاب سالم عن المعارض أو ظاهر سنة متواترة أو إجماع كاشف عن دليل ظني معتبر أو خبر واحد صحيح عند الكل على القول به مثلا.

وأما مخالفة الحكم الثانوي مطلقا فليس محل النقض ، لأن الأحكام الثانوية متعددة حسب تعدد الآراء ، فليس لمجتهد ابطال ما زعم الأخر حكما إلهيا والا لم يبق للحكم مورد لا ينتقض فيه الا نادرا.

وأدلة حرمة الرد يتعين الشمول للمسائل الاجتهادية الخلافية ، بل مورد مقبولة عمر بن حنظلة التي هي من أمتن أدلة حرمة الرد هي صورة الاختلاف في الحكم.

والحاصل ان المخالفة في الرأي لا يوجب جواز النقض مطلقا ، بل تتوقف على كونها بحيث لا تخفى على أحد يراعى لوظائف الاجتهاد.

( وثالثها ) ما لو ظهر خطأ الحاكم في الاجتهاد قصورا أو تقصير ، مثل الاستناد في الحكم الى كتاب فيه ترك أو خبر معارض أقوى مع ترك الفحص أو على

ص: 109

بعض كتب الاخبار من غير المراجعة إلى غيره أو غير ذلك مما ينافي الاجتهاد الصحيح.

ولا فرق في هذا القسم بين أن يكون الحكم موافقا للواقع أو مخالفا. لان سبب جواز النقض هنا فساد الاجتهاد لا مخالفة الواقع. والسر في ذلك أن الاجتهاد في مقام الحكم موضوعي لا طريق صرف الى الواقع ، فلا يجدي مصادفته للواقع مع اختلال شرائط صحته ، ولذا لا ينفذ حكم المقلد ولو مع مطابقته للواقع.

ومن هنا يعلم الفرق بين هذا وسابقة ، لان سبب النقض في الثاني مخالفة الحكم للواقع الثانوي المعتبر عند الكل ولو كان صادرا عن اجتهاد صحيح وهنا مجرد فساد الاجتهاد ، سواء صادف الواقع الأولى أو الثانوي أم لا. ولو عممت الخطأ في الاجتهاد بحيث يندرج فيه الثاني كان الفرق بينهما بالعموم والخصوص المطلقين كما لا يخفى.

هذا كله في المسائل الخلافية ، وأما الحكم في الموضوعات فالظاهر عدم الفرق بينهما الا على بعض الوجوه ، وحاصله ان العلم بخطإ الحاكم في الموضوع أو قصوره أو تقصيره في استعمال موازين القضاء يصحح نقضه في الباطن جدا ، بمعنى عدم وجوب الالتزام بآثار الحكم في الواقع كما يجب على الجاهل الشاك ، فيجوز المقاصة الباطنية في غير اليمين مثلا ، وأما النقض جهارا - بمعنى تجديد المرافعة من رأس - فلعل فيه بعض المحذور المانع من النقض ، بل الأمر كذلك في المسائل الخلافية ، فلو أوجب تجديد المرافعة فتنة أو إهانة محرمة على الحاكم الأول لم يجز على احتمال.

ثمَّ المراد بالنقض ليس ما يتبادر منه ، أعني ابطال الأمر المستمر ، بل المراد هو الحكم بفساد حكم به الأول من حين صدوره ، ففي لفظ « النقض » هنا

ص: 110

مسامحة.

ومن هنا يعلم أنه لو شك في جواز النقض وعدمه لم يجز التمسك بالاستصحاب لإثبات العدم ، لان الشك في النقض شك في وقوع الحكم الأول صحيحا حين صدوره ، بل المحكم فيه هو التمسك بأصالة عدم ترتب الأثر على حكم الحاكم الثاني على اشكال فيه - فتأمل.

التقاط [ ما ذا يراد من حرمة نقض الحكم؟ ]

هل المراد بحرمة النقض في مواردها الالتزام بآثار المحكوم به مطلقا في نوعه أو في شخصه ، أو بآثاره من حيث انفصال الخصومة.

مثلا إذا اختلف المتبايعان في نجاسة المبيع كالعصير الذاهب ثلثاه بالشمس وطهارته فحكم الحاكم بالطهارة ، ففي وجوب ترتيب جميع آثار الطهارة على نوع العصير أو على شخصه المتنازع فيه - سواء وافق اجتهاد المرتب أو تقليده أم خالف - أو خصوص الأثر الذي بسببه وقعت الخصومة - أعني صحة البيع وتملك البائع الثمن من غير ترتيب المشتري أو غيره سائر آثار الطهارة كإباحة الأكل والصلاة ونحوهما إذا لم يساعد تكليفه - وجوه ، أقربها الأخير ، لقصور الأدلة عن الدلالة على تحكيم الحكم على تكليف الشخص الأمن حيث انفصال الخصومة.

بل الظاهر من بعض الأدلة كقوله « فارضوا به حكما » (1) مجرد ارتفاع الخصومة لأنه الذي يقبل الحكم بمعنى الإلزام وأما غيره من الاثار فليس مما يقبل ذلك ، بل الحكم بالنسبة إلى الاثار الأخر بمنزلة الفتوى أو الشهادة التي

ص: 111


1- الوسائل ج 18 ب 11 من أبواب صفات القاضي ح 1.

لا تنفذ في حق حاكم آخر ومقلديه.

ومما ذكرنا ظهر ضعف ما قد يتوهم هنا من التفصيل بين ما إذا كان متعلق الحكم طهارة العصير مثلا بأن يقول الحاكم حكمت بطهارته فالأول أو الثاني أو أداء الثمن بأن يقول للمشتري حكمت عليك برد الثمن فالثالث ، لأن الطهارة من حيث هي مع قطع النظر عن استلزامها أداء الثمن لا تحتمل الحكم بل الفتوى ، ومع هذه الحيثية ترجع الى الثاني.

ثمَّ انه لو قيل بأحد الأولين امتنع الحكم بنجاسة ذلك العصير الجزئي أبدا حتى في مخاصمة أخرى بين اثنين آخرين ، بخلاف الثالث ، فإنه غير مانع عن الحكم بنجاسته في منازعة أخرى. فلو باع المشتري ذلك العصير بتقليد أو اجتهاد فيه ووقع النزاع بينه وبين البائع في الطهارة والنجاسة فترافعا الى حاكم آخر يرى نجاسته نفذ حكمه بالنجاسة.

ولو قيل بالثاني في الملازمة بينه وبين الأول بعدم القول بالفصل بين جزئيات العصير الخارجية وجهان : وجه الثاني إمكان القول بجواز خرق الإجماع المركب في الأحكام الظاهرية كما تقرر ذلك في الأصول. الا أن يقال بالفرق بين خرقه بحسب الأصول أو بحسب التقليد وغيره من الامارات المجعولة ، فيجوز الأول دون الثاني ، وهو تحكم. نعم لو أوجب التفكيك مخالفة قطعية عملية لم يجز ، كما لا يجوز ذلك بحسب الأصول أيضا.

[ نقض الفتوى بالحكم وبالعكس ]

هذا هو الكلام إجمالا في نقض الحكم بالحكم ، وأما نقض الفتوى بالحكم وبالعكس فقد ظهر أيضا مما ذكر ، وهو جواز الأول دون الثاني ، لأن حكم الحاكم حاكم على جميع الطرق والامارات. ومقتضى الحكومة أن لا يمنع

ص: 112

الفتوى السابقة من نفوذه ولا يرفع المتأخرة لأثره.

وأما نقض الفتوى بالفتوى - أي رفع اليد عن آثار الفتوى السابقة ماضيا ومستقبلا بالفتوى المتأخرة - فالكلام فيهما محرر في الأصول تعرضنا لجملة القول فيه في مسألة الاجزاء ، وإجمال القول هنا هو : ان الفتويين تارة تكونان من مجتهد واحد وأخرى من مجتهدين :

( أما الأول ) فقد ذكرنا في الأصول أن الحق فيه النقض ، بمعنى وجوب رفع اليد عن آثار الفتوى المعدول عنها في الماضي والمستقبل ، نظرا الى عدم كون الأمر للاجزاء ، من غير فرق بين العبادات والمعاملات والإيقاعات والاحكام ، على خلاف ضعيف في بعضها كالعبادات وبعض أقسام المعاملات.

نعم استثنينا من صورة النقض قضاء العبادات على احتمال قوي للعسر والحرج في مظان جريانهما ، وذكرنا أيضا أن قيام السيرة على عدم النقض مطلقا - وان ادعاه بعض - أمر غير ثابت.

وكذا دعوى لزوم العسر والحرج ، خصوصا بعد ملاحظة الاتفاق على النقض في صورة العدول بدليل علمي ، فان الطرق الشرعية تجري مجرى العلم في الحكاية عن الواقع أولا وآخرا. ودعوى أن الحرج والعسر المترتبين على العدول العلمي غير قادحين لشذوذه. مدفوعة بأن العدول مطلقا ظنيا كان أو قطعيا شاذ خصوصا في المسائل المبتلى بها.

ونحن لم نجد في عصرنا مجتهدا عدل في شي ء من تلك المسائل ، بل هو محض فرض لو وقع لكان نادرا. واختلاف فتاوى العلامة في كتبه الاستدلالية لا ينافي دعوى الشذوذ ، لان حال كتب الاستدلال غير حال رسائل الفتوى.

نعم هنا كلام آخر ، وهو الفرق بين المجتهد ومقلديه ودعوى عدم النقض في حقهم ، لأن أدلة التقليد باعتبار كونها أدلة لبية محصلة من مجموع الكتاب

ص: 113

والسنة والإجماع يمكن دعوى اختصاصها بالجاهل الغير المتعبد بشي ء من الطرق ، ولذا لا يتناول المجتهد جدا والمقلد إذا قلد مجتهده في المسألة أمكن إلحاقه بالمجتهد من حيث كونه متعبدا في مقام التكليف بطريق شرعي وهو التقليد ، فلا تتناوله تلك الأدلة اللبية.

لكن قوينا في الأصول النقض في حقه وإلا لزم القول باستمرارهم على تقليدهم في المستقبل أيضا ، وهو خلاف الإجماع ظاهرا ، فكما أن رفع اليد عن الفتوى المعدول عنها وجب عليهم في المستقبل فكذا في الماضي.

وما ذكرنا من قصور شمول الأدلة لا تفاوت فيه بين الماضي والمستقبل ، مع أن الشك في تناول الأدلة للعامي المقلد في الماضي معارض بالشك في حجية الفتوى القديمة في حقهم بعد العدول ، بمعنى أن أدلة التقليد لا إطلاق فيها كما أوضحناه في محله. والقدر المعلوم من حجية تلك الفتوى في حقهم هو إذا لم يعدل المجتهد ، وأما بعده فيرجع الى الأصل القاضي بالقدر المتيقن ، وهو الأخذ باللاحقة. وكيف كان فهذا الكلام لا كرامة فيه.

( وأما الثاني ) أعني نقض المجتهد فتوى غيره - بمعنى عدم ترتب آثاره في الماضي والمستقبل والحال - فالكلام فيه بمقتضى القواعد مثل ما مر من النقض ، لكن الخلاف فيه لعله أكثر وآكد ، وان نقل عن العميدي والعلامة وغيرهما دعوى الإجماع على النقض.

ومدرك المسألة في الموضعين شي ء ذكرناه أيضا في الأصول من أن الطرق والأمارات الشرعية هل هي محدثة للمصلحة كما يقوله أهل التصويب المحال أو مغيرة لها أو طريق محض مشتمل على المصلحة الطريقية أو غير مشتمل. فان قلنا بالأولين لم يعقل النقض ، وان قلنا بأحد الأخيرين وجب.

وقد رجحنا في الأصول الثالث صونا لأمر الشارع بالتعبد عن خلو المصلحة

ص: 114

وقلنا ان حال الأدلة الشرعية حال الأمارات في الموضوعات ، فكما أن كل شخص مكلف بما عنده من الامارة على حياة زيد أو موته أو طهارة شي ء أو نجاسته ، كذلك المجتهد مكلف بما عنده من الأدلة طابق دليل الغير أم خالف ، فلا يجب بل لا يجوز له ترتيب آثار الزوجية بين اثنين فيما لا يساعده اجتهاده وان ساعده اجتهاد الغير أو اجتهاد الزوجين ، وكذا سائر المعاملات والعبادات والطهارات.

والحاصل ان مقتضى القاعدة النقض الا فيما قام فيه السيرة أو الحرج.

وربما قيل بأن الأمور الإضافية - كالزوجية والملكية ونظائر هما - لا يجوز فيها النقض مطلقا لأنها أمورات عرفية لا واقعية لها سوى ما عهدوه والتزموه فيما بينهم ، من غير نظر الى شي ء من الأسباب الشرعية ، وان كانت هي أيضا من أسباب تحقق عناوين هذه الأمور.

ويؤيده أن العرف إذا فهموا حرمة التصرف في أموال الكفار وأزواجهم لم يتوقفوا على ترتيب حكم الزوجية والملكية على أزواجهم وأموالهم في طريقتهم ولو مع قطع النظر عما ورد في الشرع من الأمر بإقرارهم على طريقتهم وأخذهم بمعتقدهم الذي لا يعرفه إلا علماء المتشرعة. فالمدار في هذه الأمور ليس على حقائقها الواقعية الثابتة عند الشارع حتى يجري فيها التخطئة ويترتب عليه النقض. بل على الإضافات الحاصلة من الأسباب الظاهرية المستعملة فيما بينهم طابقت الأسباب الواقعية أم خالفت ، بل سواء كانت أسبابا شرعية أو من مجعولاتهم ، مثل ما يجري بين الكفار من أسباب هذه الأمور.

وهذا وان ذهب اليه بعض أهل النظر من المتأخرين ، لكن الحكم به أيضا لا يخلو عن اشكال. فكيف كان فتحقيق هذه المسألة مطالب من الأصول. واللّه العالم.

ص: 115

التقاط [ تتبع الحاكم حكم من قبله ]

ذكر في الشرائع أنه ليس على الحاكم من قبله ، لكن لو زعم المحكوم عليه أن الأول حكم عليه بالجور لزمه النظر فيه. وذكر قبله ما ينافي ذلك ، وجمع بينهما في المسالك بما لا بعد فيه معنى لا لفظا.

وظاهر العبارة أن النظر يجوز للحاكم ولو لم يزعم المحكوم عليه الجور ، حيث أن قوله « ليس عليه » نفي الوجوب لا الجواز ، ولعله كذلك قبل صدور الحكم من الأول بعد الثبوت ، إذ لا مانع منه ، لأنه ليس بالتجسس المنهي عنه ، الا أن يكون غرضه الاطلاع على عيوب الحاكم الأول فيحرم ، وأما بعد الحكم فالظاهر أيضا كذلك لما ذكرنا.

ثمَّ ان الظاهر من وجوب النظر على الحاكم اختصاص الكلام بالحكم في الشبهات الحكمية ، خصوصا بملاحظة ادعاء المحكوم عليه الحكم الجوري ، لان دعوى الجور ليس مما ينفع فيه البينة ، إذ هو من قبيل الشهادة على الرضاع المحرم ونحوه مما يتضمن الاخبار بحكم اللّه.

ويمكن تنزيل دعوى الجور على ذكر شي ء من أسبابه ، كالحكم بالبينة الفاسقة عنده أو مطالبة اليمين من المدعي ونحوه مما يسمع فيه البينة ، وحينئذ فيكون المراد بنظر الحاكم تجديد المرافعة.

التقاط [ ترجمة مترجم الدعوى شهادة أو رواية؟ ]

إذا افتقر الحاكم الى من يترجم مراد الخصمين أو الشاهدين مثلا ، جاز له أخذ

ص: 116

المترجم والمشي بمقتضى الترجمة.

والاشكال المذكور في دلالة آية النبإ على حجية الاخبار مع الواسطة ، يجري في المقام أيضا كالإقرار بالإقرار. لكن الظاهر عدم الخلاف في سماع قول المترجم ، وإنما الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار العدالة فيه في اعتبار العدد.

ومبنى المسألة على كون الترجمة شهادة أو رواية مثلا ، وذكروا في تميز الشهادة عن غيرها أمرا مذكورة في محلها لا يخلو جلها أو كلها عن النظر.

والذي تلقيناه من الأستاد الأنصاري دام ظله هو أن الشهادة عبارة عن كل خبر صدر في مقام التوقع والانتظار ، فكل خبر كان مسبوقا بسؤال محقق أو مقدر بمعنى وقوعه في مقام انتظار شخص له كالاخبار ابتدائية غير مسبوقة بسؤال عن مضامينها تحقيقا أو تقديرا.

ومن هنا يظهر اندراج الترجمة تحت الشهادة ، فيعتبر فيها التعدد ، للإجماع على اعتباره فيها.

ثمَّ لو شك في كون شي ء شهادة أو رواية يرجع الى إطلاق ما دل على اعتبار قول العدل مطلقا ، سواء انضم معه عدل آخر أم لا ، بناء على حجية قول العدل كذلك ، اقتصارا فيما خرج عن تحت العام - وهي الشهادة - على القدر المعلوم كونه من أفردها ، كما هو الشأن في كل مخصص مجمل بحسب المفهوم مردد بين الأقل والأكثر ، فإن المرجع في الفرد المشكوك الاندراج هو العام. ولو منع عن عموم حجية قول العدل كان المرجع في الموارد المشكوكة أصالة عدم الحجية كما لا يخفى. واللّه العالم.

ص: 117

التقاط [ هل يكفي إظهار الإسلام في الشهادة ] [ أو لا بد من العلم بالعدالة ]

إذا عرف إسلام الشاهدين وجهل عدالتهما ، توقف الحاكم حتى يتحقق ما يبنى عليه من عدالة أو فسق عند المشهور ، خلافا للمحكي عن الخلاف ، فذهب إلى أنه يحكم بمجرد ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق. وهذا هو الأصل عند الشيخ في كل موضع يشترط فيه العدالة ، فيترتب أثرها بمجرد الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، وتبعه بعض القدماء أيضا من الشيعة. والمشهور بين الأصحاب سيما المتأخرين هو الأول.

وهاهنا قول ثالث صرح به بعض رؤساء المتأخرين (1) وفاقا لما استظهره من كلام بعض القدماء ، وهو عدم الاكتفاء بالإسلام واعتبار حسن الظاهر.

والمراد بالاكتفاء بالإسلام أو بحسن الظاهر كونهما طريقين جعليين من الشارع إلى العدالة التي هي ملكة من الملكات وصفة من الصفات ، نظير سائر الطرق الشرعية كالبينة وفعل المسلم وأصالة الطهارة ، لا أن العدالة عبارة عنهما كما تو همه جملة من المتأخرين حيث زعموا أن الاختلافات في المقام راجعة إلى حقيقة العدالة وأنها الملكة أو الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر.

ولكنه سهو واضح ، لان القول بأن العدالة هي نفس الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر ، غير معقول عقلا ونقلا. فهنا مقامان : الأول عدم كون العدالة عبارة عن الإسلام مع عدم ظهور الفسق عند أحد من العلماء ، والثاني عدم اعتبار هما في مقام الكشف عنها.

( لنا على الأول ) ان العدالة والفسق أمران متضادان بالبداهة والوجدان ،

ص: 118


1- قائله الوحيد البهبهاني « قده ».

فلا يجتمعان في مورد واحد ضرورة ، ولو كان الإسلام مع عدم ظهور الفسق نفس العدالة جاز اجتماعها مع الفسق النفس الأمري ، لعدم المنافاة بين الجهل به وثبوته واقعا. والسر في ذلك أنه إذا اعتبر في أحد الشيئين عدم العلم بالآخر جاز اجتماعهما واقعا وخرجا عن الضدية.

وأما عدم ثبوته فعلا فلان بناء الشيخ على العدالة بمجرد الإسلام ، وعدم ظهور الفسق ليس فيه دلالة على كونه هو العدالة ، بل فيه الدلالة على الخلاف كما أوضحنا. مضافا الى ظهور ما في محكي الخلاف على المدعي بأن الأصل في الإسلام هو العدالة ، لأن القول بكون الإسلام مع عدم ظهور الفسق هو العدالة ينافي جعل العدالة في المسلمين من الأصول.

ومن شواهد ما ذكرنا عبارة الشرائع حين نقل الخلاف عن الشيخ ، حيث أرسل وجوب البحث عن العدالة مع الجهل بها إرسال المسلمات ثمَّ قال : وكذا لو عرف إسلامهما وجهل عدالتهما. ثمَّ ذكر خلاف الشيخ في وجوب البحث.

ووجه الشهادة : ان الغرض من قوله « وكذا ذكر خلاف الشيخ » في بعض أقسام المسألة الاولى ، وهذا ينافي كون العدالة هو ظهور الإسلام ، إذ العدالة حينئذ مجهولة عند الشيخ حتى يبحث عنها ، مع أن ظاهر العبارة اختلاف الشيخ في وجوب البحث حينئذ لا في تحقق العدالة.

مع أن إرسال الأولى إرسال المسلمات يقتضي فرض صورة تكون العدالة فيها مجهولة غير مبحوث عنها عند الكل حتى الشيخ ، وعلى تقدير كون الإسلام نفس العدالة لم يتصور ذلك الفرض.

وأيضا فرض عنوان المسألة الخلافية بما إذا عرف الإسلام وجهل العدالة ، لا يجامع القول بأن العدالة هي نفس الإسلام مع عدم ظهور الفسق عند الشيخ كما لا يخفى. نعم ربما أطلق عليه العدالة في كلام الشيخ وفي كلام غيره المتعرضين

ص: 119

لنقل قوله ، لكنه مسامحة في التعبير وتنزيل لا يجري مجرى العدالة عند الشيخ منزلتها.

وهذا صاحب المسالك لما دخل في المسألة حرر الخلاف في وجوب البحث عن العدالة والاعتماد على ظاهر الإسلام. وهو كما ترى صريح في كون الخلاف في طريقها ، ثمَّ بعد نقل أدلة الأول قال : وفي هذه الأدلة نظر :

أما الآية - يعني قوله تعالى « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ » (1) - فليس فيها أن المراد منها ما ذا. ومدعي الاكتفاء بظهور الإسلام إذا لم يظهر الفسق يقول :

ان ذلك هو العدالة وانها الأصل في المسلم. بمعنى أن حاله يحتمل على القيام بالواجبات وترك المحرمات ، ومن ثمَّ جرى عليه هذا الحكم حتى لا يجوز رميه بفعل محرم ولا ترك واجب أخذا بظاهر الحال ، واتفق الكل على بناء عقده على الصحيح - انتهى كلامه رفع مقامه.

فإنه وان نسب الى الشيخ أنه يقول بأن العدالة هو ظهور الإسلام لكن جعل ذلك عبارة أخرى عن الأصل والأخذ بظاهر حال المسلم. وحمله على عدم فعل القبائح وترك الواجبات قرينة على مسامحته في العبارة الأولى.

نعم ظاهر ما ذكره ثانيا بقوله : ثانيا سلمنا ان العدالة أمر آخر غير الإسلام وهي الملكة الاتية لكن لا يشترط العلم بوجودها بل يكفي عدم العلم بانتفائها - إلخ ، بقرينة المقابلة يوهم خلاف المقصود.

لكن الأمر في ذلك كله سهل بعد وضوح الأمر وبداهته ومعلومية كونها مسامحات في العبارة ، كما يصرح بذلك قول صاحب المسالك أيضا في شرح قول المصنف « ولا يجوز التعويل على حسن الظاهر » حيث قال : ومن اكتفى بالإسلام وجعله دليلا على العدالة اكتفي بحسن الظاهر بطريق أولى.

ص: 120


1- سورة الطلاق : 2.

مع أن الاخبار التي استند إليها الشيخ كلها ظاهرة في كون الإسلام مع عدم ظهور الفسق طريقا إلى العدالة لا نفسها ، مضافا الى شهادة غير واحد من الاخبار تصريحا وتلويحا ، بأن العدالة حالة من حالات الشخص وصفة من أوصافه توجب الطمأنينة في أقواله ، مثل ما اشتمل على الوثاقة والعفة والصيانة كما في صحيحة ابن ابي يعفور (1) وغيرها مما يقاربها في الدلالة على كون العدالة حالة رادعة.

بل يمكن الاستدلال عليه بآية النبإ أيضا ، نظرا الى عدم الفرق بين العدالة بمعنى ظهور الإسلام والفسق في الردع عن التعمد في الكذب الذي صار احتماله سببا لوجوب التبين الرافع للندم وقباحة تعليل الحكم الخاص ، أعني التبين في خبر الفاسق خاصة بعلة مشتركة بينه وبين ضده.

ومن هنا لو ادعي تطابق الاخبار وكلمات الأخيار على كون العدالة هي الحالة وأنها مطابقة لمعناها العرفي أعني الاستقامة ، لوضوح عدم اتصاف الشخص بالاستقامة في نظر الشرع والعرف الا باعتبار ما به من الملكات والحالات الباعثة على ارتكاب حسان الافعال والأخلاق وانزجار قبائحهما ، كان دعوى مع البينة والبرهان.

وكذا الكلام في حسن الظاهر بالمعنى المقابل للباطن ، فان مثل ذلك أيضا يجامع الفسق الباطني ، فلا يكونان متضادين ، وأيضا على تقدير كونه نفس العدالة استحال تبين فسق الشهود أبدا ، مع أن الشيخ والمكتفين بحسن الظاهر يوافقون الأصحاب في عنوان مسألة تبين فسق الشهود.

نعم يمكن بناء على ظهور الإسلام جعل التبين عبارة عن ظهور كفرهم ، وهو كما ترى من المضحكات ، لان الشيخ ولا غيره من الأصحاب لا يرضون بذلك.

أترى أنه لو تبين فسق من ظاهره الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو ظاهره الاتصاف

ص: 121


1- الوسائل ج 18 ب 41 من أبواب الشهادات ح 1.

بالحسن بفعل كبيرة قبل الشهادة ، فهل الشيخ أو أحد من المسلمين يرى نفوذ شهادته وجواز الحكم على طبقه إذا كان التبين بعد إقامة الشهادة وقبل صدور الحكم ، كما هو لازم جعل نفس الإسلام مع عدم ظهور الفسق العدالة ، فإنه من قبيل صدور الكبيرة من ذي الملكة بعد تمام الشهادة الذي لا يمنع عن الحكم بلا اشكال.

[ ما هي حقيقة العدالة؟ ]

هذا ، ثمَّ ان العدالة عند الشيخ بعد معلومية كونها ما ذكر يحتمل أن يكون أحد أمور ثلاثة :

( الأول ) الملكة على ما هو الظاهر الموافق للعرف والشرع.

( والثاني ) الإسلام مع عدم الفسق الواقعي ، لا عدم ظهوره الذي يجامع الفسق الباطني ، على أن يكون عدم الظهور دليلا تعبديا شرعيا أو ظنيا نوعيا على الجزء الأخير الذي يعتبر في العدالة بمعنى الملكة أيضا.

( والثالث ) خصوص عدم الفسق الواقعي ، بأن يكون الإسلام مقسما للعدالة والفسق لا معتبرا في المفهوم الأول ، فالمسلم العادل هو من لا يفسق بإخلال واجب أو ارتكاب محرم ، والمسلم الفاسق من كان لا يبالي عن القبائح ويرتكبها ، فتنطبق العدالة حينئذ عند الشيخ على ما يعطي ظاهر عبارة جمع كثير من القدماء ، حيث يفسرون العدالة بمجرد ارتكاب الواجبات والانتهاء المحرمات ، لو لم نرجع هذا التفسير أيضا الى الملكة كما هو الظاهر من قولهم « فلان لا يفعل كذا » أي له حالة رادعة عنه.

مضافا الى عدم معقولية كون الفعل والترك الاتفاقيين الغير الصادرين من حالة نفسانية مناطا للعدالة ، لأنه غير داخل تحت ضابط حتى يجعل المدار عليه فيقال مثلا : ان المدار على عدم ارتكاب في آن الشهادة أو قبله بيوم أو يومين

ص: 122

أو سنة أو سنتين أو في جميع السنين الماضية أو غير ذلك من المضحكات.

بخلاف المقرونين بالملكة والحالة ، فإن المناط حينئذ على تلك الحالة بشرط عدم فعل الكبيرة أو التوبة على تقدير الفعل.

ولعل ظاهر قوله « الأصل في الإسلام العدالة » غير الثاني ، لأن الإسلام بناء عليه معتبر في العدالة جزءا لا أمارة عليها ، وقد عرفت أن هذه العبارة ظاهرة في كون الإسلام طريقا إليها. وكذا غير الثالث ، لأن الإسلام بناء عليه غير معتبر في العدالة أصلا لا طريقا ولا موضوعا. وظاهر العبارة المزبورة مدخليتهما في العدالة لا في المقسم كما احتملنا.

( ولنا على المقام الثاني ) أن الاكتفاء بعدم ظهور الفسق وعدم البحث عن الباطن وان ورد بها أخبار متكاثرة واضحة الدلالة لكنها شاذة معارضة بأقوى منها دلالة وعملا. نعم الاكتفاء بحسن الظاهر له وجه لشهادة جملة من الاخبار ، بل يدل عليه قوله عليه السلام بعد ذكر أن العدالة هي العفاف في صحيحة ابن ابي يعفور « والدليل على ذلك كله أن يكون ساترا لعيوبه حتى يحرم على الناس تفتيش ما وراء ذلك » (1) ، فإنه صريح في أن ملكة التستر - أعني حفظ ظاهره من القبائح - دليل على العدالة.

لكن في الاعتماد على حسن الظاهر أي ملكته تعبدا محضا مثل الأصول التعبدية حتى فيما لو علم كون التستر حياء من الناس لا خوفا من اللّه مع الشك في الفسق الواقعي ، أو مشروطا بإفادته العلم كما نقل عن ظاهر الشهيد الثاني في كتاب الصلاة ، وهو ظاهر المحقق هنا حيث أوجب البحث ولم يجوز الاعتماد على حسن الظاهر ، أو الظن المطلق نوعا أو شخصا ، أو الظن الاطمئناني الشخصي.

ص: 123


1- الوسائل ج 18 ب 41 من أبواب الشهادات ح 1.

وجوه أو أقوال ، أقربها الأخير ، يدل عليه قوله عليه السلام في مرسلة يونس « فاذا كان ظاهره - أي الشاهد - ظاهرا مأمونا جازت شهادته » (1) ، فان حسن الظاهر انما يكون مأمونا إذا كان بحيث يظن معه عدم الخيانة ظنا فعليا.

[ أمور تتعلق بالملكة ]

وينبغي التنبيه على أمور :

( الأول ) ان المراد بالملكة ملكة التجافي عن جميع الكبائر ، فلا عبرة بملكة البعض دون البعض والا لكان جميع الناس عادلين الا من شذ ، إذ مأمن أحد الا وفيه حالة رادعة عن بعض المعاصي لا محالة ، الا أن يقال : ان المراد بالملكة هي الحالة الناشئة عن خوف اللّه تعالى ، ومثل ذلك لا يقبل التشكيك. وفيه نظر.

( والثاني ) ان الملكة لا تنافي فعلية المعصية الكبيرة ، لان الملكات قد تغلب.

ومن العجب اعتقاد بعض امتناع ذلك حتى نفوا ثبوت الملكة في مثل سلمان.

نعم صدور المعصية ينافي العدالة ، لأنها عبارة عن الملكة المقيدة بعدم المعصية لا عن مجرد الملكة ، فصدور المعصية يوجب زوال أحد الجزئين.

( والثالث ) ان معيد العدالة التوبة مع العزم على عدم المعاودة. فإذا علم ذلك من مرتكب الكبيرة مع إحراز ملكته عادت عدالته.

( والرابع ) ان كل معصية تنافي المكلة ، فالتجري بها ظاهرا كذلك وان لم نقل بحرمته شرعا ، لأن التجري في مقام الكشف عن عدم الاكتراث في الدين وعدم المبالات عن النواميس الشرعية لا يقصر عن نفس المعصية - فافهم. واللّه العالم.

ص: 124


1- الوسائل ج 18 ب 23 من أبواب كيفية الحكم.
التقاط [ نقض حكم الحاكم إذا عرف فسق الشهود ]

إذا حكم الحاكم بعد إحراز العدالة كل على مذهبه ثمَّ ظهر للحاكم فسق الشهود قبل الحكم ، فهل يجب عليه نقض الحكم كما صرح به غير واحد أم لا.

وعلى تقدير النقض ففي وجوب النقض على كل من كان عالما بفسقهم من مجتهد أو مقلد ، أو التفصيل بين علم الحكام فالنقض وعلم المقلد فالعدم. وجوه واحتمالات تنشأ من التأمل في أن عدالة الشهود شرط علمي للحاكم أو واقعي ، وعلى الأول فهل العبرة بعلم الحاكم الذي حكم أو نوع الحكام ، وعلى الثاني يجب على كل من علم بفسقهم نقض الحكم كما لو علم الحاكم نفسه سواء كان مجتهدا أو مقلدا.

لا يقال : إذا كانت العدالة شرطا واقعيا لم ينفذ الحكم إلا في حق من علم بعد التهم ، فيجوز للشاك النقض أيضا كالعالم بالفسق.

لأنا نقول : علم الحاكم يقوم مقام علم غيره في صورة الشك خاصة لا مطلقا ، وعلى الأول من شقي الأول لا يجوز النقض مطلقا حتى من الحاكم وعلى الثاني يجوز لغير الحاكم من سائر الحكام النقض دون المقلد ، فكل حاكم يتبع علمه بالعدالة والفسق وأما صورة الجهل فمثل ما ذكر من قيام علم الحاكم الذي حكم مقام علم غيره.

وهذه الوجوه آتية في عدالة شهود الطلاق أيضا بالنسبة إلى المطلق أو الشهود أو غيرهم من سائر المكلفين.

والتحقيق أن حكم الحاكم بمقتضى البينة نظير فتوى المجتهد بمؤدى الرواية ، وان الفتوى والحكم كليهما ناظران الى مدلول الامارة الشرعية من حيث كونه مدلولا لها لا من حيث كونه مطابقا للواقع ، فوظيفة الحاكم الإلزام بما تقوله البينة العادلة من حيث كونه قول البينة لا من حيث كونه صدقا أو كذبا ، كما أن وظيفة

ص: 125

المفتي الإفتاء بمدلول الرواية من حيث كونه مدلولها.

وقضية تلك الحيثية أنه إذا تبين فسق الشهود تبين فساد الحكم ، وانه لا حكم هنا واقعا بل ظاهرا. كما لو تبين فسق الراوي للمقلد على مذهب مجتهده الذي يعتبر العدالة في الراوي ، فإنه لا شبهة في وجوب نقض الفتوى ماضيا ومستقبلا.

والحاصل ان فساد المستند في الحكم والفتوى بمثل اختلال هذا الشرط - أعني العدالة - يستلزم فساد الحكم وان شك في الخطأ الواقعي ، إذا ليس المفتي به والمحكوم به هو مدلول الامارة من حيث كونه مطابقا للواقع حتى يشك مع اختلال بعض شرائط القبول في صحة الحكم أو الفتوى ، بل هو من حيث كونه مدلولها.

وهذه الحيثية تنتفي عند بعض شرائط تلك الامارة ، فالحكم المستند إلى شهادة الزور أو شهادة الفاسق ليس بحكم متبع وإلزام نافذ في الواقع كالفتوى بمؤدي قول الفاسق مثلا عند مشترطي العدالة في الراوي ، بل الأمر في الشهادة أيضا كذلك ، إذا الشاهد لو علم مستند شهادته وفساده يجب متابعته مطلقا وان احتمل مطابقته للواقع ، فمن شهد بالفجر أو الهلال مستندا إلى شي ء علم عدم صلاحيته للشهادة لم يجب قبول قوله.

والحاصل ان التعبد بمقتضى الامارات والأدلة الشرعية يرجع الى وجوب العمل بمؤدياتها من حيث كونها مستفادة منها لا من حيث المطابقة للواقع وعدمها ، فلا يعقل مع فسادها باختلال بعض شرائط العمل موضوع للتعبد الشرعي.

فظهر أن مقتضى القاعدة هو الاحتمال الثاني - أعني كون العدالة شرطا واقعيا - لان وجود الموضوع شرط واقعي لحكمه ، ولا يعقل أن يكون شرطا علميا الا بعد فرض عدم كونه هو الموضوع ، فمن حكم أو أفتى أو عمل بمؤدى البراءة المشروطة بعدم الناقل مع وجوده في الواقع وخطائه في الفحص خطأ

ص: 126

غير معذور كان الحكم صوريا ظاهريا في مرحلة الظاهر أيضا.

وأما شهود الطلاق فالظاهر من أدلته أيضا اعتبار العدالة الواقعية فيهم ، فلو كان الشاهدان فاسقين حرم عليهما تزويج المرأة المطلقة بمحضرهما وهكذا غيرهم. لكن في القواعد أنه يجوز لهما نكاحها على اشكال. وعلى الأول فإحراز العدالة منوط بنظر المطلق ، فيكفي إحرازه على إحراز غيره في صورة الشك لا مطلقا.

هذا ، وقد يقال ان كون العدالة شرطا واقعيا في حق جميع المكلفين مشكل ، لما يترتب عليه من المفاسد التي لا يظن بالتزام أحد إياها ، مثل سماع قول كل من يتمرد من قبول حكم الحاكم مدعيا لفسق الشهود ولزوم الهرج والمرج ، فلا يبعد القول بأن علم غير الحكام بفسق الشهود غير مؤثر في جواز النقض ، وأما الحكام فلا ضير في القول بجواز النقض في حقهم ، بمعنى عدم وجوب إنفاذ الحكم المستند إلى البينة الفاسقة عليهم إذا كانوا عالمين بها.

وعبارة الشرائع في هذه المسألة لا تخلو عن إجمال ، قال : ولو حكم بالظاهر ثمَّ تبين فسقهما وقت الحكم نقض حكمه. لاحتمال البناء على المعلوم والمجهول في الفعلين ، أعني حكم ونقض ، فعلى الأول اختص النقض بالحاكم ، وعلى الثاني عم كل من تبين عنده فسق الشهود. واللّه العالم.

التقاط [ كيفية تعديل الشهود أو جرحهم ]

اختلفوا في قبول التعديل والجرح مطلقين أو مفصلين أو مختلفين على أقول ، وقبل الخوض في المسألة فلتقدم مقدمتين :

( الاولى ) ان متعلق الاخبار قد يكون حكما شرعيا صرفا ، وقد يكون موضع

ص: 127

الحكم الصرف ، وقد يكون ملفقا منهما.

لا إشكال في أن الأول يرجع الى الاجتهاد والفتوى ، كما أن الثاني إلى الشهادة. ومثل الأول الاخبار بحدود الموضوعات المستنبطة. فإنه أيضا يرجع الى الفتوى دون الشهادة. وأما الثالث فالتحقيق فيه انه أيضا ملحق بالفتوى وان كان بينهما بعض الفرق ، مثاله الشهادة بالمملك لا بالملك ، إذا الشهادة على حصول المملك ترجع إلى الشهادة بوجود شي ء خارجي والفتوى بأنه مملك ، ومثل الاخبار بالرضاع فان مرجعه أيضا الى نحو من الفتوى ، بل هو مندرج تحت الاخبار بوجود الموضوع المستنبط من حيث وصفه العنواني الراجع الى نحو الاجتهاد ، ولذا ذهب الأكثر الى عدم قبول الشهادة على الرضاع الا مفصلا بذكر مرات الرضعة.

وأما الشهادة على أمر مبين متحد مفهوما بين الكل مختلف بحسب الأسباب فخارج عما نحن فيه ، فان المشهود به إذا لم يكن متضمنا للفتوى بل كان من الموضوعات الصرفة الخارجية فالشهادة به مقبولة وان كان له أسباب مختلفة بين صحيح وفاسد ، كالملكية والزوجية والحرية ونحوها ، فان عموم حجية قول العدل يشملها إلا إذا علم الاستناد فيها إلى الأسباب الفاسدة ، والا لما بقي للمسلمين شهادة ، إذ ما من خبر الا ويمكن الاستناد فيه الى سبب حدسي فاسد.

ومن هذا القبيل الشهادة على البيع ، فإنها مقبولة من غير استفصال عن صيغته وشرائطه ، لأن النقل أمر عرفي لا تعدد فيه ولا اختلاف بحسب الانظار ، وانما الخلاف في أسبابه.

وقد يقال : ان قبول الشهادة على البيع مطلقا أما باعتبار حمل الفعل على الصحيح الواقعي ، واما باعتبار حمل الحاكم أو حمل الشهود اتكالا على أصالة الصحة التي جعلها الشارع دليلا على الصحيح الواقعي ، ولو مع العلم باختلاف رأي البائع مع

ص: 128

رأى الحامل فضلا عن الشك فيه ، والأول أولى. فتأمل.

( والثانية ) ان مناط العدالة والفسق على الاقتحام في المعصية الاعتقادية دون الواقعية ، فمن تناول كل قبيح باعتقاد معذور من اجتهاد أو تقليد أو قصور بحليته لم يكن فاسقا ، بل يتصف بالعدالة إذا كان معه الحالة الرادعة عن ارتكاب ما يراه فسقا.

وأما تناول المباحات معتقدا لحرمتها جهلا مركبا من اجتهاد أو تقليد فخروجه عن العدالة مبني على القول بأن التجري مثل المعصية ، وستأتي الإشارة اليه.

ومقتضى ذلك التوقف في الحكم بعدالة شخص أو فسقه إذا فعل فعلا وشك في اعتقاده الحل أو الحرمة وان كان في نظر الحاكم حراما.

[ شرطية التفصيل في الجرح ]

إذا تحقق ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في قبول الجرح مطلقا أو مفصلا ، والمشهور الثاني استنادا الى أن الحاكم قد يخالف رأيه لرأي المزكي ، فيبني في التفسيق على مذهبه مع مخالفته رأي الحاكم ، حتى انهم صرحوا باختصاص القبول مطلقا بما إذا كان الحاكم والمزكي متوافقين في أسباب الفسق ومفهوم الكبيرة وأشخاصها.

وهذا الكلام بظاهره غير مستقيم ، لما ظهر في المقدمة الأخيرة من أن الفسق لا يحصل الا بعد اعتقاد الفاعل معصية الفعل ، ومقتضى ذلك عدم العبرة برأي الحاكم أو المزكي بل برأي المزكى.

ويمكن توجيه كلامهم بأن ملاحظة رأي الحاكم أو المزكي انما هو لأجل الاختلاف في مفهوم الكبيرة ومصاديقها لا في عدد المعاصي ، وهو مما يوجب الاستفصال.

ص: 129

توضيحه : ان الفسق يحصل بالمعصية الكبيرة ، ولا بد فيما يحصل به من إحراز أمرين : أحدهما كونه معصية ، والثاني كونها كبيرة. والأول هو الذي قلنا باناطته على رأي الفاعل في الحل أو الحرمة ، وأما الثاني فالمناط فيه هو نظر من يريد ترتيب آثار العدالة من تزكية أو حكم أو غير هما ، وذلك لان المعصية تخرج عن كونها معصية بالجهل ، وأما الكبر والصغر فلا يؤثر فيهما الجهل.

مثلا : إذا قيل ان الكبيرة ما أوعد اللّه عليه النار ، فهذا المعنى لا يتغير بعلم الفاعل ولا بجهله بإيعاده تعالى ، فلو فعل فعلا معتقدا بكونه معصية غافلا عن كونه كبيرة أو جاهلا به أو معتقدا بكونه صغيرة فيجري عليه حكم فاعل الكبيرة من الاثار الوضعية عند العالم بالحال ، ولو انعكس ، انعكس.

فلو اعتقد الفاعل كونه كبيرة دون الحاكم أو المزكي أو غير هما ممن يريد ترتيب آثار الفسق والعدالة اما باعتبار الاختلاف في مفهوم الكبيرة - كما إذا كان رأي الفاعل أن كل ما أوعد اللّه عليه فهو كبيرة - وارتكب شيئا منها وكان رأي الحاكم أنها أخص من ذلك وانها خصوص ما أوعد اللّه عليه النار ، أو في مصداقها من جهة بعض الاشتباهات في الأدلة كما إذا اتفقا على أن الكبيرة ما أوعد اللّه عليه النار واختلفا في إيعاد النار على بعض المعاصي - كالغناء في غير مقام اللّهو باعتبار دعوى النافي أن آية اللّهو (1) التي استدل بها الامام عليه السلام على كونه من الكبائر (2) لا تعم ما كان منه في غير مقام اللّهو - أو في مصداقها من جهة الشبهة الموضوعية الخارجية كما إذا كان معتقد الفاعل أنه يشرب خمرا ومعتقد الحاكم أو المزكي أنه شرب عصيرا محرما ، لم يحكم بفسقه في الصور الثلاث.

نعم يمكن التفسيق في الصورتين الأخير تين ، بناء على أن التجري في

ص: 130


1- وهي قوله تعالى « وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ... » [ سورة لقمان : 6 ].
2- الوسائل ج 12 ب 15 من أبواب ما يكتسب به ح 1.

المعصية مثلها في أصلها ووصفها ، دون الصورة الأولى التي هي محط نظر الأصحاب خاصة أو مع الصورة الثانية أيضا ، لعدم تحقق التجري فيها بالنسبة الى ما اعتقده كبيرة ، لأن التجري بها مرجعه الى اعتقاده صدق ما ظن أنه كبيرة على ما يأتي من الصغيرة الواقعية في نظره.

والأمر فيها ليس كذلك ، لان المفروض فيها أن مرتبة المعصية محفوظة عند الفاعل ، وليس مخطئا في اعتقاد تحقق تلك المرتبة فيما يأتي به من المعصية وانما هو مخطئ في ظن وسعة دائرة الكبيرة حيث اعتقد شمولها لتلك المرتبة.

والحاصل ان خطأ الشخص في كون ما يأتي به من المعصية كبيرة ، تارة يكون من جهة الصغير وأخرى من جهة الكبرى. والأول مثل ما إذا أصاب في كون شرب الخمر كبيرة وأخطأ في اعتقاد كون ما يأتي به من الشرب شرب خمر ، والثاني مثل ما إذا أخطأ في كون النظر إلى الأجنبية كبيرة وأصاب في اعتقاد كون ما يأتي به من أفراد النظر.

والتجري بالكبيرة انما يتحقق بالأول دون الثاني ، لأن الناظر إلى الأجنبية مثلا مع علمه بمرتبة معصيته وكونها أخف من الزنا التي هي كبيرة لم يتجر على المولى بشي ء.

ولو اعتقد جهلا أن هذه المرتبة الخفيفة تشارك المرتبة الأكيدة من العصيان في عنوان الكبيرة الذي ترتب عليه في الاخبار وكلمات الأخيار بعض الاثار الوضعية كالتفسيق وعدم التكفير إلا بالتوبة. أترى أن من يرى أن كل معصية كبيرة فهو عاص بنفس المعصية ومتجري بوصفها عند من يخطئه.

وكذلك يمكن منع اجراء حكم فاعل الكبيرة في المسألة الأولى في الشبهة الموضوعية ، مثل ما إذا شرب الخمر باعتقاد أنه العصير ، لان شرب الخمر إذا كان مغفولا عنه لم يتحقق حينئذ معصية شرب الخمر أصلا حتى يجري عليه حكم

ص: 131

فاعل الكبيرة.

وما قلنا من عدم تأثير العلم والجهل في الكبر والصغر ، انما هو بعد تحقق العصيان بذات الكبيرة ، وأما مع فرض عدم تحقق المعصية بالنسبة إلى ذاتها فلا معنى لجريان حكم المعصية الكبيرة عليها. الا أن يقال : ان الغفلة عن عنوان شرب الخمر انما يخرجه عن المعصية إذا لم يتصف بالمعصية بعنوان آخر كشرب العصير ، مثل ما إذا شرب الخمر باعتقاد كونه ماء. وأما مع الاتصاف فنمنع عدم تحقق المعصية بالنسبة إلى شرب الخمر حينئذ.

نعم في الشبهة الحكمية يتجه الحكم بالفسق ، لما أشرنا من أن الجهل بكون المعصية كبيرة مع الالتفات إلى أصل العصيان لا يمنع عن ترتيب آثار الكبيرة.

وكيف كان فقد ظهر مما ذكرنا وجه غير بعيد لصحة القول المشهور من لزوم الاستفصال ، لأنا إذا قلنا ان مناط الفسق والعدالة على ارتكاب الكبيرة الواقعية وعدم الارتكاب فلا جرم يسقط نظر المزكي والفاعل عن الاعتبار في كبر المعصية وصغرها ، لان طريق الواقع لكل شخص اعتقاده لا اعتقاد غيره ، فالمزكي لا بد أن يكون موافقا مع الحاكم في أسباب الفسق حتى تقبل شهادته ، فمع شك الحاكم في الموافقة لا بد له من الاستفصال.

لكن هذا الوجه لا يجري في قول من يرى ان المعاصي كلها كبيرة كابن إدريس ، فإنه يقتضي الاعتماد على رأي الفاعل دون الحاكم أو المزكي.

[ حمل كلام المخبر على الصدق الخبري ]

هذا ، وفي المقام شي ء آخر لو تم لزم قبول الجرح مطلقا ، وهو حمل كلام المخبر على الصدق الخبري ، ولو مع الاختلاف في أسباب المخبر به كما أشرنا

ص: 132

إليه في ذيل المقدمة الأولى ، فإذا أخبر بالفسق الواقعي باعتقاده وجب على السامع تصديقه في ذلك الاعتقاد والحكم بمطابقته للواقع ، كما إذا أخبر بالملكية والزوجية ، لأن أدلة الشهادة وأدلة تصديق العادل انما تدل على تصديق الخبر دون المخبر ، فان الفاسق والعادل سيان في التصديق المخبري الراجع الى حمل اخباره على وجه مباح دون مطابقة الواقع. والاختلاف في أسباب المخبر به لا يقدح إذا كان متعلق الاخبار هو الواقع.

وفيه نظر ، لأن أدلة صحة قول العدل لا تساعد على قبول اخباره الناشئ عن الاجتهاد إجماعا وعن الحدس على الأقوى ، ولذا لا يعتبر قول المجتهد وفتواه ولو على سبيل الجزم واليقين الا على مقلديه ، وإذا فرضنا كون المخبر به من الأمور المختلف فيها بحسب الأسباب انتهى الإخبار به إلى شهادة وفتوى.

مثلا : إذا أخبر بالملكية مستندا فيها إلى المعاطاة فهذا الاخبار ينحل الى قضيتين :

إحداهما الشهادة على وقوع المعاطاة ، والثانية الفتوى بإفادتها الملكية. وبعد فرض الإجماع مثلا على عدم حجية الفتوى يسقط اخباره بالملكية عن الاعتبار عند السامع ، سواء كان عالما بفساد المعاطاة أو شاكا في صحتها.

وما ذكرت من دلالة الأدلة على التصديق الخبري لا يقتضي تصديق المخبر في اجتهاده بالاتفاق ، كما إذا أخبر بنجاسة عرق الجنب مثلا ، ولازم ذلك عدم حجية الشهادة المتضمنة للاجتهاد والفتوى أيضا كما في الأمثلة المشار إليها ، لأن المشهود به إذا كان مختلفا فيه بحسب الحقيقة كالرضاع أو بحسب الأسباب كالملكية تضمنت نحوا من الإفتاء.

ودعوى أن قضية تصديق العادل في القسم الأخير حمل الخبر على ما يطابق الواقع في اعتقاد السامع دون المتكلم. فاسدة ، لأن تصديق العادل في خبره عبارة عن الحكم بثبوت مضمونه واقعا في اعتقاده لا في اعتقاد السامع.

ص: 133

توضيح المقام : انه إذا أخبر شخص فهاهنا أمور قابلة للتصديق : أحدها مطابقة الخبر لاعتقاده ، ومقابله تعمد الكذب. والثاني ثبوت مضمونه الذي قصده من الكلام واقعا في اعتقاده ، ومقابله السهو والخطأ في الاعتقاد. وثالثها ثبوت مضمونه واقعا بقول مطلق.

والأول لا كلام لنافيه. والثاني هو الذي يجب الحكم به ، ويسمى بالصدق الخبري ، لان الصدق ليس إلا مطابقة ما أراده المتكلم من الألفاظ للواقع لا مطابقة ما لم يقصد به. مثلا إذا قال « هذا ملك لزيد » فلا بد أولا من تحصيل مراده من هذا الكلام ثمَّ الحكم بمطابقته للواقع ، فلو علمنا أنه أراد بالملك ما وقع عليه المعاطاة وجب تصديقه في ذلك لا فيما لم يقصده ، أعني ما وقع عليه القصد مثلا ، فاذا كان البائع يرى عدم حصول الملك بالمعاطاة فكيف يحكم بحصول الملك الواقعي بمجرد اخباره بالملك. والثالث هو الذي ينفع في المقام.

ولا دليل عليهم كما عرفت ، لان دليل تصديق خبر العادل مركب من أمور لا يثبت المقصود في المقام :

( أحدها ) الحكم بعدم تعمده بالكذب ، وهو أمر ثابت بالكتاب والسنة بل الإجماع أيضا في الجملة.

( والثاني ) الحكم بعدم ارادته خلاف ظاهر كلامه ، لأنه من مقدمات الصدق الخبري أيضا وان لم يكن من مقدمات الصدق المخبرى ، وهذا يدل عليه أصالة الحقيقية.

( والثالث ) عدم اشتباهه وخطأه فيما يستند فيه الى الحسن دون الحدس والاجتهاد ، ولا ريب هنا أن السامع إذا حمل شهادته بالملك على ما يحصل بعد المعاطاة التي يرى المخبر سببيتها دون السامع مثلا لم يكن فيه مخالفة للمقدمة الأولى كما هو واضح ولا للمقدمة الثانية لعدم تجوز في أطراف الكلام حينئذ

ص: 134

كما لا يخفى ولا للمقدمة الثالثة لعدم استناده في الاخبار الى الحس بل الى الاجتهاد الغير القائم على تصديقه دليل إلى الآن بل الدليل على خلافه.

فظهر مما ذكرناه أنه كما لا يجب تصديق الشاهد في أمثال المقام إذا علم استناده الى السبب الفاسد عند السامع كذلك لا يجب إذا شك في الاستناد اليه والى السبب الصحيح من حدس أو اجتهاد ، فالمخبر بالملك وان احتمل في حقه الاستناد الى العقد الصحيح الجامع لشرائط الصحة عند الكل فلا يقبل قوله أيضا لدورانه بين ما يقبل وما لا يقبل ، والشك في الشرط يستلزم الشك في المشروط كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر أيضا بطلان ما أشير إليه في المقدمة الاولى من قبول الشهادة إذا كان المشهود به مفهوما متحدا مختلفا فيه بحسب الأسباب.

فإن قلت : لم يتوقف أحد في قبول الشهادة على الملك والزوجية مع اختلاف العماء في أسباب الملكية والزوجية ، وكذا في قبول الشهادة على سائر الموضوعات الصرفة ، كالهلال ودخول الوقت ونحو هما مع قيام احتمال استناد الشاهد الى بعض الأسباب الحدسية في الكل. وعلى ما ذكرنا من عدم تصديق العادل فيما يحتمل فيه الاجتهاد أو الحدس لزم التوقف في هذه الصورة رأسا ، ولعل فساده بديهي.

قلت : وجه قبول الشهادة بهذه الأمور مع الشك في الاستناد الى السبب الفاسد أو الحدس الباطل أحد أمور لا يجري شي ء منها في الاخبار عن الفسق :

( أحدها ) دعوى قيام السيرة المستمرة الكاشفة عن دليل آخر غير أدلة تصديق العادل من حيث أنه عادل ، فيكون الأصل في الاخبار بهذه الأمور الصحة الواقعية ، نظير أصالة الصحة في الأفعال على القول بكونها دليلا على الصحة الواقعية وان لم يقتضها ظاهر حال المسلم.

ص: 135

( وثانيها ) إجراء أصالة الصحة في أسباب الملكية والزوجية مثلا التي أخبر بها العادل بناء على القول المزبور ، وهذا هو الذي أشرنا إليه في ذيل المقدمة الأولى ، حيث قلنا ان الشاهد إذا أخبر بالبيع مثلا فيقبل ذلك الاخبار ثمَّ يحمل هذا البيع الثابت بالبينة على البيع الصحيح الواقعي لا الصحيح عند الفاعل ، وهكذا إذا أخبر بالملكية ، فإن الاخبار بها اخبار بسببها التزاما ، فيقبل ذلك الاخبار ثمَّ يعمل أصالة الصحة في ذلك المدلول الالتزامي ، أعني السبب.

( وثالثها ) ندرة السبب المختلف فيه لهذه الأمور وجودا ، فإن أسبابها المختلف فيها وان كانت كثيرة في نفسها لكن الغالب استنادها في الخارج الى السبب المتفق فيه لكونها من الموارد المطلوب فيها شرعا وعرفا الاحتياط التام.

هذا في مثل الملكية والزوجية مما يكون له سبب في الشرع ، وأما سائر الموضوعات العرفية الصرفة - كالهلال ودخول الوقت وموت زيد - فالغالب أيضا فيها استناد علم الشاهد بها الى الأمور الحسية أو الحدسية المنتهية إلى الحس.

وهذه الغلبة مما جرى على متابعتها بناء العقلاء ولحقه إمضاء الشارع أيضا ، بل يمكن نفي هذه الاحتمال النادر ، أعني احتمال الاستناد الى السبب المختلف فيه أو الحدس الباطل بالأصل فيهما ، لأن أصالة عدم الخطأ في الاجتهاد أو الحدس انما يمنع جريانه عكس احتمال الخطأ في الحس باعتبار عدم افادته الظن النوعي عند العقلاء ، والا فلا مانع منه جدا.

ومن الواضح أن أصالة عدم الاستناد الى السبب الفاسد أو الحدس الباطل في الأمور الحسية لا يبعد القول بإفادته الظن النوعي ومتابعته عند العقلاء.

ولا ريب أن شيئا من هذه الأمور لا يجري في الاخبار بالفسق ، إذ ليس على قبول الاخبار به مطلقا سيرة تكشف عن دليل آخر غير أدلة التصديق. كيف والمشهور

ص: 136

بين العلماء قولا وفعلا الاستفصال عن سبب الفسق ، وكذا لم يتحصل فيه الغلبة المشار إليها.

وأما أصالة الصحة فعدم جريانها في الاخبار بالفسق - أي في مدلوله الالتزامي أعني السبب - واضح ، لأن أسباب الفسق ليست مما تقبل الصحة والفساد.

كل ذلك مضافا الى عدم كون الاخبار بالفسق مثل الأخبار بالملكية من الأمور الواقعية المتحدة بحسب المفهوم عند الكل ، بل مثل الاخبار بالرضاع والملك الذي يختلف حقيقته بحسب اختلاف الأنظار.

[ كيفية تعديل الشهود ]

كل ذلك في الفسق ، وأما العدالة فقد تبين الحال فيها أيضا مما ذكرنا ، لأنه إن جعلناها من المفهومات المتحدة عند الكل جرى فيها ما قويناه من حمل الاخبار بمثلها على الواقع باعتقاد السامع والا لم ينفع خبر حسي أو ما في حكمه أصلا ، لقيام احتمال الحدس في الكل الا ما شذ. وعلى هذا يكون أصالة الصحة من جزئيات هذه القاعدة ، أعني قاعدة حمل الاخبار على الصحة ، بمعنى اندراجهما معا تحت قاعدة أخرى.

وهو ما قواه بعض مشايخ متأخري المتأخرين في كشف الغطاء من أن الأصل في كل شي ء مردد بين صحيح نافع وفاسد غير نافع الصحة فعلا كان أو قولا أو عينا خارجيا. فمدعي العيب يطالب بالبينة ، لأن الأصل السلامة مثلا.

وان قيل بتعدد مفهومها وتردده بين الملكة وحسن الظاهر وظهور الإسلام ، جرى فيه ما قلنا في مثل الشهادة بالرضاع من عدم الإشكال في الاستفصال. لكن قد يقال بوجوب الاستفصال على التقدير الأول أيضا ، لأن العدالة وان كانت هي الملكة عند الكل الا أن تقييدها بعدم الفسق الواقعي يجعلها مثل الفسق في

ص: 137

الاستفصال ، لأن الملكة المقيدة بعدم صدور الكبيرة الواقعية تختلف بحسب الانظار على حد اختلافها في مفهوم الكبيرة ومصاديقها ، فاذا جعلنا المدار في الكبيرة على اعتقاد الحاكم كان مدار العدالة أيضا عليه ، وهو واضح.

فيجب على الحاكم حينئذ الاستفصال عن ملكة اجتناب جزئيات ما رآه كبيرة ، بأن يقول إله ملكة الكف عن الزنا وشرب الخمر وشرب العصير لو زعمه كبيرة ، الى آخر ما يراه كبيرة حذرا من مخالفة رأى الشاهد لرأيه في الكبيرة ، فإذا شهد بملكة الكل سئل ثانيا عن بقاء العدالة لعدم صدور شي ء من تلك الكبائر ، ولو شهد الشاهد بملكة الكف عن جميع المعاصي وعدم صدور شي ء منها كفى من غير استفصال.

تذنيب [ اعتبار العلم في مستند التعديل ]

مستند الشاهد في الجرح لا بد أن يكون علميا ، فلا يكتفى بالظن بالفسق قطعا ، ولعله لا خلاف فيه أيضا. وأما مستنده في التعديل فمقتضى القاعدة أيضا اعتبار العلم بها في الشهادة وان قلنا بكفاية الظن لترتيب سائر آثار العدالة ، إذ لا ملازمة بينهما جدا ، بل الأمر بالعكس نظرا الى ما دل على اعتبار العلم في الشهادة زيادة على ما هو الأصل في كل شي ء.

لكن يمكن الاستدلال على كفاية الظن بأن الاقتصار على العلم في الشهادة بالعدالة حرج شديد موجب لاختلال أمور المسلمين لانسداد طريق العلم إليها غالبا ، فلا بد من الاكتفاء بالظن كسائر ما يغلب فيه انسداد باب العلم ، مضافا الى ظاهر الاخبار البالغة حد الاستفاضة أو التواتر الواردة في الباب ، فإن أقل ما تدل عليه هو الاتكال والاعتماد في ترتيب آثار العدالة على الصلاح الظاهري

ص: 138

المفيد للظن.

ودعوى التفكيك بين جواز الشهادة وسائر الاثار. مدفوعة بإطلاق ما يستفاد منها من كون صلاح الظاهر طريقا على العدالة ودليلا عليها كما نطق به قوله عليه السلام في مرسلة يونس « فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته » (1) وقوله عليه السلام في صحيحة ابن ابي يعفور « والدال على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه » (2) ، مضافا الى قوله عليه السلام في هذه الصحيحة بعد ذلك « حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وغيبته ويجب عليهم توليته وإظهار عدالته » لان التعديل إظهار للعدالة كما لا يخفى ، والى ما في رواية أخرى أيضا من الدلالة على أن « من حسن ظاهره كملت مروته وظهرت عدالته » ، فإنها تدل بدلالة الإيماء والتنبيه على كبرى محذوفة صغراه قوله « كملت مروته » والا لغي الكلام كما لا يخفى. وهي أن كل من ظهرت عدالته وجب الالتزام بآثار العدالة في حقه التي من جملتها الشهادة.

ثمَّ ان في الاكتفاء بمطلق الظن أو اعتبار الظن الاطمئناني مطلقا أو خصوص ما يحصل منه من حسن الظاهر وصلاح ظاهر الحال. وجوه أظهرها وأحوطها الأخير ، بل لا يبعد دلالة ما في المرسلة على ذلك ، لان مأمونية الظاهر لا تنفك عن اطمينان الخاطر وطمأنينة القلب ، فيقيد به إطلاق الباقي لو كان فيها دلالة على الاكتفاء بمطلق الظن بناء على التقييد في الأحكام الوضعية حتى في المثبتين مطلقا - فافهم. واللّه العالم.

ص: 139


1- الوسائل ج 18 ب 22 من أبواب كيفية الحكم.
2- الوسائل ج 18 ب 41 من أبواب الشهادات.
التقاط [ العمل بقول الجارح عند اختلاف الشهود ]

إذا اختلف الشهود في الجرح والتعديل ولم يرجع الى التكاذب - بأن اكتفيا بالجرح والتعديل المطلقين - كأن أخبر أحد بأنه فاسق والأخر بأنه عادل - فمقتضى القاعدة العمل بقول الجارح ، لأن الأخبار بالعدالة من حيث هو مع قطع النظر عن فرض بعض الخصوصيات إخبار بأمر وجودي هو الملكة وعدمي هو عدم صدور الكبيرة مثلا. ولا ريب أن الاخبار بالأمر العدمي مستنده عدم العلم أو الأصل ، فلا يعارض به ما هو بمنزلة الدليل بالنسبة إليه ، أعني أخبار الجارح بالوجود.

والحاصل ان الجرح والتعديل لو خليا وأنفسهما فالجارح مقدم ، لعدم المعارضة بينهما كعدم معارضة الأصل والدليل ، فان مرجع التعديل الى الاخبار بالملكة وعدم وجدان المعصية ومرجع الجرح الى وجدانها ، فلو عمل بقول الجارح لم يكذب المعدول باعتبار عدم منافاة قول الجارح لقوله ، بخلاف ما لو عمل بقول المعدل فإنه تكذيب لقول الجارح بوجدان المعصية. ومقتضى وجوب تصديق العادل أن يجمع بين قوليهما بما ذكر.

واستشكل فيه المحقق الكاظمي في المحصول بأن التعديل والجرح اخباران بأمرين لا يجتمعان في الواقع لا بمجرد حسن ظاهر أو صدور معصية حتى يجمع بينهما.

وفيه : انا لا نقول بأن المخبر به في الجرح والتعديل ليس هو الأمر الواقعي ، بل نقول ان طريق اخبار المعدل به هو الأصل الذي لا يعارض حسن الجارح بالفسق - فافهم.

ص: 140

فان قلت : فرق بين الاخبار بالعدالة الواقعية اعتمادا على الظن الحاصل من الأصل وعدم الوجدان بعد الفحص وبين الاخبار بالعدالة الظاهرية أعني الملكة مع عدم العلم بالفسق ، فإن الأول يعارض اخبار الجارح بالفسق قطعا غاية الأمر كون المقام من قبيل تعارض الظني والقطعي ، والثاني لا يعارضه جدا.

ضرورة عدم المنافاة بين عدم العلم بالمعصية والعلم بها ، وظاهر الاخبار بالعدالة هو الأول ، ولذا استدل في المسالك على تقديم الجرح بأنه مستند الى الحس والتعديل مستند الى عدم المعاينة والأصل ، وهما ظنيان فكان الأول أولى. فإذا ثبت التعارض فالعمل بالجرح طرح لقول المعدل لا جمع بينهما ، فينبغي ملاحظة المرجحات كما ذكره المحقق المشار اليه.

قلت : لو سلمنا ان ظاهر الاخبار بالعدالة اخبار بالعدالة الواقعية اتكالا على الظن الحاصل من عدم الوجدان ، فليس بينه وبين الجرح أيضا معارضة أصلا.

[ الكلام في الامارة وكيفية قبولها ]

والنكتة في ذلك أن الامارة إذا كانت بحيث تزول ذاتا بالعلم بخلافها كانت نسبتها الى كل أمارة إلى خلافها كنسبة الأصل إلى الدليل في عدم المعارضة ، وانما تقبل الامارة للمعارضة إذا لم يكن العلم بالخلاف رافعا لموضوعها بل لحكمها ، كالخبر مثلا فان العلم بكذبه لا يرفع ذاته بل اعتباره ، لان الخبر خبر في صورة العلم بالكذب أيضا بخلاف عدم الوجدان وعدم الدليل وعدم البيان ونحوها من الامارات العدمية بعد الفحص والتتبع ، كأصل البراءة أيضا على القول باعتبارها من باب الظن ، فان العلم بالوجود أو الدليل أو البيان يضاد أنفسها ويوجب زوال ذواتها لا أنه يوجب عدم اعتبارها.

فعدم وجدان الدليل مثلا - وان كان أمارة ظنية على عدم الحكم الواقعي

ص: 141

والظاهري بعد الفحص - الا أنه لا يعقل أن يكون معارضا للدليل بعد العلم. فحينئذ لا تفاوت بين القول بكون التعديل اخبارا بالعدالة الواقعية اتكالا على الظن الحاصل من عدم معاينة الفسق أو كونه إخبارا بالعدالة الظاهرية - أعني الملكة وعدم العلم بالفسق - في أن الاخبار بالجرح غير معارض له جدا ، فالعمل بالجرح - كما قالوا - من كونه جمعا بين الخبرين لا طرحا لخبر العدالة.

[ معنى تصديق المخبر بالعدالة والفسق ]

نعم هنا اشكال آخر يجري فيما لو كان التعديل اخبارا بالعدالة الظاهرية أيضا ، وهو أن الاخبار بالعدالة الظاهرية وان كان يجتمع مع الاخبار بالفسق الواقعي مع الفسق النفس الأمري ، لكن الالتزام بهما معا غير ممكن.

ومعنى تصديق الخبر وجوب الالتزام بمضمونه سواء كان حكما ظاهريا أو واقعيا ، فمعنى تصديق المخبر بالعدالة الظاهرية الالتزام بآثارها ولو في مرحلة الظاهر ، ومعنى تصديق المخبر بالفسق الواقعي أيضا الالتزام بآثار الفسق.

وقضية الجمع بينهما الالتزام بالأمرين معا ، وهو محال ، فالعمل بخبر الجارح ترجيح له على الخبر المعدل لا أن فيه جمعا بينهما.

ويمكن دفعه بأن معنى تصديق الخبر أن يجعل الشخص نفسه بمنزلة المخبر لا الالتزام بما يلتزم به المخبر ، فقبول العدالة الظاهرية معناه الالتزام بها ما لم يقم دليل على الواقع ، فان المخبر غير ملتزم بما أخبر به الا كذلك ، حتى لو ظفر على ما يدل على الواقع وجب عليه الأخذ به. نعم لو كان معنى تصديق الاخبار بالحكم الظاهري الالتزام به واقعا تعارض الجرح والتعديل جدا.

توضيحه : انه إذا أخبر شخص بأمر ظاهري كالعدالة وانحصار الوارث والطهارة وكل ما يشتمل على أمر عدمي ، ففي تصديقه يتصور مفهومان : أحدهما

ص: 142

الالتزام الواقعي بالحكم الظاهري ، والثاني الالتزام الظاهري بالحكم الواقعي على حد التزام المخبر. وعلى الأول يعارض الاخبار به مع الاخبار بضده دون الثاني. ونحن ندعي الثاني ، لأن الحكم الظاهري ليس أمرا منضبطا بل يختلف باختلاف الأشخاص ، فالمخبر به انما يخبر عن حكمه الظاهري لا عن حكم غيره ، فالالتزام به لا يزيد عما قلنا.

وقد يقال : ان الاخبار بالحكم الظاهري من حيث هو غير قابل للتصديق ، لان السامع ان كان شاكا في حكم الواقعي فهو ملتزم بالظاهري من غير حاجة الى تصديق الغير وان كان عالما بالواقع ، فيجب عليه العمل بعلمه لا بالأخبار بالحكم الظاهري - فافهم.

ومن هنا يظهر أن مورد التصديق بالأخبار بالحكم الظاهري لا بد أن يكون غير ما يكفي مجرد الشك في الحكم به ، مثل ما لا يجري فيه الأصل بمجرد الشك الابتدائي كانحصار الوارث ، فان الحكم به بمجرد الشك من دون فحص يستلزم مخالفات كثيرة ، فإذا شهد به عند الحاكم صدقه في الفحص الذي امتاز الشاهد به عن الحاكم ، لا مثل الطهارة التي يكفي في الحكم بها مجرد عدم العلم بالنجاسة من غير فحص ، وحينئذ يجري بحث التعارض فيما نحن فيه ، لأنه من قبيل الأول ، وسيتم الكلام الى آخر ما قلناه.

فان قلت : يمكن أن يكون مستند الجرح العلم بالمعصية وعدم العلم بالتوبة بعدها ، ومستند التعديل العلم بالتوبة ، فينعكس الأمر ويكون الجرح حينئذ بمنزلة الأصل والتعديل بمنزلة الدليل ، وهذا الاحتمال يعارض الاحتمال الأول فيجب التوقف. نعم لو كان التعديل مرجعه الى عدم العلم بالكبيرة ومرجع الجرح الى العلم بها دائما اتجه تقديم الجارح ، وأما مع قيام الاحتمال المزبور في كل جرح وتعديل فلا وجه للتقديم بل لا بد من التوقف ، لان نسبة الأصلية

ص: 143

والدليلية الى كل منهما على حد سواء.

قلت : ذلك الاحتمال أمر خارج عن مدلول قول المعدل ، لان حاق معنى التعديل لا يزيد عن الاخبار بأمر وجودي - وهو الملكة - وعدم العلم بوجودي آخر وهو الفسق ، كما أن معنى الجرح لا يزيد عن الاخبار بأمر وجودي وهو المعصية الكبيرة وعدم العلم بوجودي آخر وهو التوبة ، فيؤخذ كل منهما في معلومه وهو الأمر الوجودي لا في مجهوله ، بل يرجع فيه الى الأصل لو لم يعارضه قول الأخر.

ومقتضى أخذ قول المعدل في معلومه تصديقه في الملكة ومقتضى عدم الأخذ في مجهوله الرجوع في الفسق الى الأصل. لكن يمنع عن الأصل تصديق قول الجارح في معلومة ، لأنه بالنسبة إليه دليل وارد ، كما أن مقتضى عدم تصديقه في مجهوله - أعني التوبة - الرجوع الى الأصل ، فيلخص من التصديقين ثبوت الفسق كما لا يخفى.

وأما احتمال استناد المعدل الى العلم بالتوبة بعد الفسق الذي شهد به الجارح فلا يدل ظاهر لفظ التعديل عليه ، لان العالم لا يدل على الخاص بل على القدر المشترك. فالاخبار بمجي ء الرجل مثلا لا يترتب عليه حكم مجي ء زيد بل حكم مجي ء جنس الرجل.

ووجه كون التعديل أعم منه واضح ، لأن العدالة قد تحصل بالملكة مع عدم تحقق الفسق في الخارج وقد تحصل بالتوبة بعد سبق المعصية. وهذا قسم خاص من الملكة ، كما ان الملكة الابتدائية بدون سبق المعصية قسم آخر ، والقدر المشترك بينهما هي الملكة مع عدم الفسق ، فاذا أخبر المعدل بالعدالة وجب تصديقه في ذلك القدر المشترك الذي هو القدر المتيقن لا في الملكة الخاصة الحاصلة بالتوبة بحمل كلامه عليها.

نعم لو علمنا منه ذلك قدم قوله على الجارح ، كما إذا شهد الجارح بالفسق

ص: 144

في يوم الجمعة والعدل بالتوبة في يوم السبت.

[ لو اختلف زمان التعديل والجرح ]

وقد جعل في محكي المبسوط من هذا القبيل ما لو كان زمان التعديل مؤخرا عن زمان الجرح ، كما إذا انتقل الشاهد من بلد الى آخر فشهد بينة من أهل البلد المنتقل عنه بفسقه ومن أهل البلد المنتقل إليه بالعدالة ، أو إذا سافر الشاهد وشهد شاهد بفسقه في الحضر وآخر بعدالته في السفر باعتبار ما آنس منه في الطريق من الأمور الكاشفة عن العدالة.

وفيه نظر ، وان كان ظاهر صاحب المسالك السكوت عنه المنبئ عن الرضا ، لان تقديم قول المعدل حينئذ ليس إلا لأجل كونه نصا في عدالته في الزمان المتأخر ، وقول الجارح ظاهر بالنسبة اليه ونصا في الزمان المتقدم ، فيصرف عن ظاهر الجرح بنص التعديل. وحاصله ان الاخبار بالفسق في يوم الجمعة مثلا لا ينافي عدالته في يوم السبت ، فلا يعارض ذلك الاخبار بعدالته يوم الجمعة ، لأن الأخبار الثاني دليل بالنسبة الى الاخبار الأخر ، لظهور عدم دلالته على الفسق في يوم السبت الا بالظهور الحاصل من ملاحظة الاستصحاب الذي لا يعارض الدليل.

وفيه :

( أولا ) النقض ، لأن تأخير زمان العدالة المشهود بها لو كان سببا لتقديم قول المعدل لزم التوقف في صورة التقارن ، لان التفاوت بينهما ليس الا من جهة اختلاف زماني الفسق والعدالة ، وتأثير الاختلاف إذا كان هو تقديم قول المعدل بصيرورته حينئذ نصا بالنسبة الى ما يقتضيه قول الجارح ، فيكون أثر الاتحاد عدم التقديم ، أعني التوقف باعتبار عدم الخصوصية في قول المعدل وكونه ظاهرا في العدالة كظهور قول الجارح في عدمها لا تقديم قول الجارح.

ص: 145

وبعبارة أخرى : إذا كان قول الجارح في صورة التأخير ظاهرا وقول المعدل نصا لزم أن يكون في صورة الاتحاد - أي اتحاد زماني الفسق والعدالة كأن يقول الجارح هو فاسق الان والمعدل هو عادل الان - ظاهرين متعارضين موجبين للتوقف ، كما هو الشأن في تعارض الظاهرين الا أن يكون قول الجارح مقدما - فافهم.

( وثانيا ) ان وجه تقديم قول الجارح في صورة الاتحاد بعينه موجود في صورة التغاير ، واحتمال استناد قول المعدل الى علمه بالتوبة بعد الفسق الذي أخبر به الجارح موجود فيها أيضا. وقد عرفت أن هذا الاحتمال أمر خارج عن حاق التعديل ، فلا يصار اليه الا بتصريح المعدل به.

هذا هو الكلام في صورة الإطلاق ، أي فيما لم يرجع الجرح والتعديل الى التكاذب ، فان رجعا اليه فالمشهور أيضا تقديم قول الجارح ، عملا بمعنى التوقف والرجوع الى ما يقتضيه أصالة عدم العدالة والتكاذب ، بأن عين الجارح زمان المعصية وشهد المعدل بأنه في ذلك الزمان كان مشغولا بعمل ينافي الاشتغال بتلك المعصية.

ومن صورته أيضا ما لو كانت المعصية المشهود بها مما لا يجامع الملكة ، كقطع الطريق وأخذ عشور أموال المسلمين ، فإن أمثال هذه الكبائر العظمى القريبة من الكفر لا تجامع ملكة العدالة ، فالاخبار بها اخبار بعدمها ، كما أن الاخبار بالملكة اخبار بخلافها وعدم صدورها. ومثله ما لو كانت المعصية مما يمتنع خفاؤها على المعدل عادة فإنه يرجع أيضا الى التكاذب.

لكن لا يبعد تقديم قول المعدل في هذه الصورة إذا كان المعدل يدعي الاطلاع على وجه صحيح لهذا العمل القبيح الصوري مع اختفائه على الجارح ، فيكون الجرح حينئذ بمنزلة الاخبار عن الظاهر والتعديل بمنزلة الاخبار عن الباطن.

ص: 146

هذا ، وقد يتأمل في كون الفرض الأول من قبيل تكاذب الجارح والمعدل ، لأن الأخبار بكون المجروح في غير مكان المعصية في زمانها ليس تعديلا له بل اخبارا بأمر ينافيها ، لان المخبر ربما لا يخبر بعدالته لو سئل عنها.

نعم الفرض الأخير أقرب منه بالمثال وان كان فيها أيضا بعض المنافيات. وكيف كان فالتحقيق أن التوقف لا يستلزم العمل بما يقتضيه الجرح مطلقا ، فان التكاذب إذا كان في معصية لا ينافي الملكة ، فالتوقف فيه يقتضي العمل بما يوافق التعديل ، لأنه بعد تعارض قوليهما يرجع الى أصالة عدم صدور المعصية. فيبنى حينئذ على العدالة ، لأن الفرض إحراز الملكة ، وانما النزاع والتكاذب في الفسق باعتبار صدور المعصية لا باعتبار وجودها وعدمها. نعم لو كان التكاذب يرجع الى إثبات الملكة ونفيها كان التوقف مستلزما للعمل بما يوافق الجرح ، لأصالة العدم بعد تعارض القولين. واللّه العالم.

التقاط [ عند تعارض الجرح والتعديل يؤخذ بالأرجح ]

لا عبرة بالمرجحات في تعارض الجرح والتعديل على ما صرح به غير واحد ، حتى من يرى العمل بالظن المطلق في الاحكام وفي ترجيح الاخبار كالسيد في محكي الرياض وولده النبيل في محكي المفاتيح.

وهو الأصل فيما شك في اعتباره من الظنون استدلالا وترجيحا ، لان الاستناد الى الظن لا يفرق فيه بين الاحتجاج به على وجه الاستقلال أو الترجيح كما فصلناه في الأصول حيث سوينا بين الوجهين في حرمة العمل.

نعم قد يقال بناء على كون البينة طريقا شرعيا الى الموضوعات الخارجية ، ان طريقة العقلاء في أمثاله على متابعة أقرب الطريقين الى الواقع وأرجحهما ،

ص: 147

لكن ذلك أيضا مبني على لابدية الترجيح ، فإنه لا بد حينئذ من وجوب الأخذ بالأرجح. واللابدية أيضا تحتاج الى مقدمات لم يثبت شي ء منها في المقام ، منها عدم إمكان الاحتياط أو عدم وجوبه ، وحاصله ثبوت التخيير على فرض التكافؤ ، فإنه مما لا بد فيه من الأخذ بالأقوى.

والحاصل انه إذا ثبت التخيير بين الطريقين على فرض التكافؤ فمقتضى العقل بل النقل أيضا الأخذ بالأرجح - فتأمل. وأما إذا لم يثبت ذلك بل كان اللازم في تلك الصورة التوقف - مثل ما نحن فيه - فطريقة العقلاء لا يسلم كونها على الأخذ بالأقرب والأرجح ، وما نحن فيه من قبيل الثاني إجماعا عند من لم يقدم الجرح مطلقا.

هذا مضافا الى احتمال كون البينة أمرا تعبديا غير ملحوظ فيه جهة الكشف عن الواقع أصلا كالأصول ، بل لعله أقوى الاحتمالين في البينة. وحاصله كون البينة موضوعا للحكم وسببا له لا طريقا اليه.

ومع هذا الاحتمال يسقط اعتبار المرجح رأسا ، لأن المرجح لا بد أن يكون من جنس ما فيه الترجيح ليتأكد به مصلحة العمل والأمور الكاشفة عن الواقع والناظرة اليه ، ومثل الأكثرية والأعدلية والاوثقية ونحوها لا مساس لجهة الحكم الشرعي ومصلحته بناء على هذا الاحتمال ، وهذا مثل ترجيح أحد الفريقين باعتبار عظم جثته ونحوها من المضحكات.

التقاط [ جواز الاستناد في ملكة العدالة إلى الاستصحاب ]

قد ذكرنا أن مستند الشاهد بالعدالة لا يلزم أن يكون علميا للزوم الحرج

ص: 148

والضيق ، وانه يجوز له الاستناد في الملكة إلى الظن وفي عدم الفسق بعد إحرازها الى الأصل.

واعلم أيضا أنه يجوز الشهادة عليها بسبب الاستصحاب ، بأن كانت الملكة الرادعة المشكوكة البقاء بعد العلم بها سابقا ، فيشهد بها مع الشك في زوالها أو طرو الفسق ، فيحكم الحاكم بهذه الشهادة الاستصحابية. ولو شهد بالعدالة السابقة جاز للحاكم البناء على العدالة الفعلية بالاستصحاب.

والأصل في هذا الباب أن أدلة الاستصحاب حاكمة على اعتبار العلم في الشهادة وان كان العلم فيها موضوعا. إذ لا مانع عن مثل هذه الحكومة وان احتاج الى دليل آخر غير دليل جعل أصل الامارة الحاكمة.

ويمكن أن يكون ذلك الدليل هو الإجماع ، لأن الشهادة بالملك والدين ونحوهما من الموضوعات جائزة بمقتضى الاستصحاب. نعم حكم الحاكم بها لا يجوز أن يستند اليه لخروجه عن موازين القضاء ، وأما الحكم بالعدالة فليس من القضاء المحتاج الى الموازين المعهودة - فافهم.

التقاط [ وجوب سماع دعوى المجهول ]

دعوى المجهول مما ذهب الشيخ الى عدم وجوب سماعها وأكثر المتأخرين إلى الوجوب.

وقول الشيخ ليس مبنيا على خروجها بالنص ، فلا ينفع في رده التمسك بعموم أدلة القضاء أو إطلاقها لو كان لها عموم أو إطلاق ينفع في المقام ، بل على منع جريان فائدة القضاء وترتب أثر السماع ، لأن فائدة سماع الدعوى انما هو الإلزام بها بعد ثبوتها.

ص: 149

وهذه الفائدة غير متصورة في الدعوى المجهولة ، لأن العنوان المجهول المقول بالتشكيك لا يفيد الإلزام ، إذ لا يتصور الأمر بدفع المجهول الأعلى أحد وجوه كلها باطلة في المقام :

( أحدها ) الأمر بدفعه على وجه الإبهام ، وهو غير معقول ، لان المبهم مع وصف الإبهام لا يمكن دفعه حتى يلزم به.

( والثاني ) الأمر به على وجه التخيير للدافع أو للمدفوع اليه ، وهو إلزام بغير المدعي به ، لان المفروض كونه أمرا معينا في

الواقع مبهما في الظاهر.

( والثالث ) الأمر به على القدر المعلوم والمتيقن من محتملاته ، كالأمر بدفع الدين المجهول على دفع أقل ما يحتمله المدعي ، وهو أمر معقول لكنه ليس إلزاما بأمر مجهول بل بأمر معلوم. وليس مما يتفرع على سماع دعوى المجهول أيضا ، لأن ذلك في المعنى دعوى لأمر معلوم في ضمن عبارة متضمنة لأمر بلا فائدة ، أعني احتمال الزائد.

والحاصل ان سماع الدعوى المجهولة ان كان لأجل الإلزام بالقدر المتيقن.

فهذا سماع لدعوى أمر معلوم لا مجهول ، وهو خارج عن مفروض المسألة.

مضافا الى أن الإلزام بالقدر المتيقن لا يتمشى فيما إذا دار المجهول بين المتباينين كالثوب والفرس. الا أن يقال : ان دعوى العين المغصوبة فائدتها الإلزام بالقيمة فرارا عن خلود الحبس كما مر في كتاب الغصب ، فيرجع حينئذ إلى الأقل والأكثر المتداخلين.

فان قلت : نختار الوجه الأول ، أعني الإلزام بالمجهول على إبهامه. قولك « انه يتعذر تسليمه فلا يقبل الإلزام ». قلنا ممنوع لا مكان أدائه بالاحتياط أو الخروج عن عهدته بالصلح.

قلنا : إذا كانت المسألة من مجرى البراءة لدوران الأمر بين الأقل والأكثر

ص: 150

في الدين والعين كليهما كما عرفت فحكم الحاكم لا يوجب انقلاب حكمها الى الاحتياط ، بل غاية ما يترتب على الحكم تنزيل المحكوم به منزلة الواقع.

ولا ريب أن اشتغال الذمة واقعا بأمر مجهول مردد بين الأقل والأكثر لا يزيد حكمه على إيجاب القدر الأقل ، فيرجع الأمر في سماع الدعوى إلى الإلزام بالقدر المعلوم. وقد عرفت أنه ليس سماعا للدعوى المجهولة من حيث أنها مجهولة ، أي في ذلك الوصف العنواني.

والقول بأن الأمر قد يدور بين المتباينين كالثوب والفرس فيترتب على سماع دعوى ذلك الحكم باشتغال ذمته به واقعا المقتضي للاحتياط. قد عرفت ما فيه من أن دعوى الأعيان على تقدير سماعها انما تؤثر في الغرامة لا في دفع العين ، فيندرج تحت الأقل والأكثر المتداخلين.

ولو فرض تعلق الدعوى بأحد العينين الموجودتين حتى لا يرجع الى التغريم ، فالاحتياط فيه أيضا لا يرجع الى محصل ، إذ لا احتياط للحاكم في الحكم بدفع المتباينين تحصيلا للبراءة ، لأنه إعطاء للمال على غير مستحقه قطعا ولا للمحكوم له في أخذ هما ، بل هو مخالف للاحتياط في حقه.

نعم الاحتياط في تكليف المحكوم عليه يقتضي الصلح أو إرضاء المحكوم له ولو بدفعهما ، لكنه احتياط لا يلزم عليه بسبب الحكم ، بل يدور مدار علمه باشتغال الذمة وجهله به ، سواء حكم الحاكم باشتغال الذمة أم لا.

[ سماع الدعوى على الغائب ]

ومما يدل على أن المجهول على نحو إجماله لا يقبل الإلزام استثناء القائلين بسماع دعوى المجهول الدعوى على الغائب كالعلامة والمحقق ، إذ لا يتفاوت بناء على ما ذكر بين الدعوى على الحاضر أو الغائب ، فهذا الاستثناء دليل على

ص: 151

أن فائدة سماع لدعوى أمر وراء الإلزام بالمجهول ، كاحتمال إقرار المدعي أو نحو ذلك مما يتبين به الحال بغير حكم الحاكم - فافهم.

ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين الدعوى المجهولة من جميع الجهات - كدعوى شي ء متمول - أو من بعض الوجوه ، ولا بين دعوى الدين أو العين.

فان التحقيق في الكل عدم السماع في ذلك العنوان المجهول بوصف المجهولية ما لم يأخذ المدعي بالقدر المتيقن منه في تحرير الدعوى.

فان قلت : عدم صلاحية المجهول للحكم لا يقتضي عدم وجوب السماع لما يترتب عليه من بعض الفوائد كالإقرار ونحوه ، فيجب على القاضي السماع رجاء لا خراج الحق ولو بغير الحكم كالإقرار.

قلت : وجوب السماع مقدمة لما هو الغرض من تشريع الحكم ، وذلك الغرض ليس سوى الإلزام بالمدعى به على تقدير البينة أو الحلف ، وأما رجاء الإقرار فهو من قبيل الفوائد المترتبة على السماع أحيانا كترتبها على مكالمة غير الحاكم مع المدعى عليه من المؤمنين المحسنين المصلحين.

والحاصل انه لما علم أن الغرض من نصب الحاكم أمر وراء ما يعم جميع الناس - وهو الإلزام بالحق بموازين القضاء - فلا جرم يختص وجوب سماع الدعوى بما إذا احتمل حصول هذا الغرض ، فمع امتناع حصوله لو أوجبنا أيضا السماع كان قد أوجبنا المقدمة مع تعذر ذيها ، وهو كما ترى.

فإن قلت : لا نسلم انحصار غرض الشرع في الإلزام ، بل نقول ان الغرض هو إخراج الحق بأي وجه كان حتى بالإقرار ونحوه ، فيجب السماع حيث يحتمل حصول الغرض على بعض الوجوه.

قلت : الدعوى والاستعداد اللذين هما بابان من أبواب الفقه : الأول عبارة عن ادعاء حق يتضمن لإنكار المدعى عليه ، لان الدعوى هو الشكوى ، ومجرد

ص: 152

الاخبار بحق على الغير دون إظهار إنكار الخصم ولو في ضمن « لا ادري » ليس يصدق عليه الشكوى. والثاني عبارة عن قبول الشكوى ، ومن الواضح أن قبول الشكوى لا معنى له الا الإلزام على المشتكى عنه بما به الشكوى لا إحضاره لرجاء إقراره.

ومن هنا يظهر أن الحكم المستند إلى إقرار الخصم ليس استعداء من الحاكم حقيقة ، كما أن الإلزام على المقر المماطل بالأداء ليس قضاء مصطلحا بل أمرا بالمعروف أو سياسة من السياسات.

[ النقاش في سماع دعوى المجهول ]

ومن جميع ما ذكرنا ظهر فساد ما استدل به على السماع تارة بالعمومات وأخرى بالقياس إلى الوصية بالمجهول أو الإقرار به فإنهما جائزان ، وينفذ الأول فيما هو القدر المعلوم من محتملاته ، ويلزمه الثاني بالتفصيل.

وجه فساد الأول ان العمومات انما تنهض فيما يترتب فيه على السماع غرض تشريع الحكم وهو الإلزام ، وقد ظهر أنه لا يترتب على السماع دعوى المجهول ما لم يرجع الى دعوى القدر المتيقن ، ووجه فساد الثاني أن الوصية بالمجهول انما صحت بإطلاق أدلة الوصية بعد معلومية صدقها عليها وعدم المانع ، والمفروض في المقام عدم شمول الأدلة للدعاوي المجهولة الغير النافعة إلا في القدر المتيقن ، وكذا الإقرار بالمجهول ، فإنه لا فرق بينه وبين الإقرار بالمعلوم في كون كل منهما قابلا للإلزام ولو بعد الاستفصال. ومن الواضح أن الاستفصال من المنكر غير معقول بخلاف الاستفصال من المقر.

وما ذكره الشهيد الثاني في الروضة والمسالك من أنه فرق اعتباري لا يصلح منشأ للحكم الشرعي. يدفعه أن المنشأ للحكم - أعني قبول الإقرار بالمجهول

ص: 153

وعدم قبول دعوى المجهول - ما ذكرنا من نهوض أدلة الإقرار بعد إمكان الاستفصال في القبول وعدم نهوض أدلة السماع.

ومن الفرق المزبور يعلم أن دعوى الإقرار بالمجهول أو الوصية به أيضا غير مسموعتين ، لامتناع الاستفصال هنا أيضا وان أمكن في نفس الإقرار. لكن في المسالك نفي الخلاف في سماعهما ، ولعل المراد به السماع في القدر المتيقن ، وان كان بعيدا لعدم الفرق حينئذ بين هاتين الدعويين وغير هما من الدعاوي المجهولة.

ويمكن أن يقال : ان الإقرار بالمجهول لما كان حكمه شرعا الاستفصال وجب سماع دعواه لترتب الفائدة على السماع حينئذ ، وهو الاستفصال. وفيه تأمل ، لأن المنكر للإقرار كيف يؤمر بالتفصيل مع إنكاره ، وان صح صح الاستفصال في دعوى المجهول أيضا.

والحاصل ان الاستفصال من خواص الإقرار فلا يعم الإنكار وان كان غير معتبر محجوجا عليه بالبينة ، سواء كان المنكر هو الحق المجهول أو الإقرار بحق مجهول. وكذلك الكلام في دعوى الإقرار المجهول فإنه مثل دعوى الإقرار بالمجهول.

ولعله لما ذكرنا من التوجيه والتأمل تردد الشهيد مع قوله بعد سماع الدعوى المجهولة في سماع دعوى الإقرار بالمجهول ، وذكر فيه الوجهان.

ثمَّ انه بناء على ما ذكر من عدم سماع دعوى المجهول لو ادعى دعوى مجهولة فللحاكم تلقينه صورة الدعوى بما يرجع الدعوى الى التعيين ، كادعاء القدر المتيقن لو كان المدعى به دينا ولو كان عينا فيلقنه الحاكم بأنه على تقدير الثبوت لا سبيل لك الى عين المال ، بناء على ما تقدم في مسألة الغصب من أن دعوى الأعيان لا تؤثر مع إنكار المدعى عليه الا في الغرامة بل لك أن تغرمه بالقيمة ،

ص: 154

ثمَّ يلقنه صورة ترجع الى التعيين. فلو كان المدعى به أحد العينين الموجودين سقطت الدعوى رأسا ، إذ لا ثمرة لسماعها أصلا. والقائلون بالسماع لا يظن أنهم يقولون به في هذه الصورة ، خصوصا بعد ملاحظة بعضهم لوجوب إخراج الحق ، ضرورة عدم تصور الإخراج في هذه الصورة.

ودعوى إيجاب السماع لو جاء الإقرار قد ظهر جوابها.

ومن هنا أمكن أن يكون النزاع في السماع لفظيا ، لأنا لم ننكر أيضا وجوب السماع باعتبار القدر المتيقن وانما ننكر سماعها من غير أن يرجع الى التعيين.

والظاهر أن القائلين بالسماع أيضا لا يقولون بسماعها الا من جهة ما يترتب عليها من رجاء الحكم بالقدر المتيقن. وهو جيد لا غائلة فيه لكنه ليس سماعا لدعوى المجهول ، والثمرة تظهر فيما فرضنا من الصورة التي ليس فيها قدر متيقن. واللّه العالم.

تنبيهان [ إحضار الخصم بالتماس خصمه ]

( الأول ) ذكر المحقق وغيره قبل هذه المسألة أنه إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم أحضره إذا كان حاضرا ، سواء حرر المدعي الدعوى أو لم يحرر.

وفيه اشكال من وجهين :

« أحدهما » - أن سماع الدعوى الغير المحررة واجابة مدعيها في إحضار الخصم ينافي عدم سماع الدعوى المجهولة ، كيف وإبهام الأولى أكثر من إبهام الثانية ، لما في الاولى من الاحتمالات التي لم تسمع الدعوى على تقدير بعضها قطعا ، كاحتمال دعوى غير مشروعة ، بخلاف الثانية فإن وجه عدم سماعها ممحض في إبهام المدعى به.

ويمكن دفعه بأن إجابة المدعي في إحضار خصمه غير السماع المنفي في

ص: 155

الدعوى المجهولة ، لاحتمال كونها من السياسات التي قد تجب على الحاكم بنفسها أو مقدمة للدعوى التي سماعها من حقوق المدعي. وبعبارة أخرى :

وجوب سماع الدعاوي المحررة شي ء واجابة المدعي بإحضار الخصم لتحرير الدعوى شي ء آخر ، فلا منافاة بين عدم الأول لجهل المدعى به ووجوب الثاني سياسة أو مقدمة للتحرير - فتأمل.

« وثانيهما » - انه إذا لم يكن الدعوى محررة لم يعلم شرط وجوب إحضار الخصم ، لان وجوبه مقدمة لاستنقاذ حق المدعي أو إيفاء بحقه في سماع الدعوى الصحيحة ، ولا يعلم شي ء من الأمرين قبل التحرير ، والشك في شرط الوجوب يوجب الشك في نفسه.

نعم لو علم من حال المدعي ان له دعوى صحيحة نسلم وجوب الإحضار قبل التحرير ، ولكن كلمات الأصحاب مطلقة.

ويمكن ذبه - مضافا الى ما عرفت في دفع الاشكال من الوجه الأول - باعمال أصالة الصحة في الدعوى ، فإنها مما تتصف بالصحة والفساد ، فيجري فيها الأصل المزبور ، أو بأن وجوب سماع الدعوى الصحيحة انما هو لاستنقاذ حق المدعي المحتمل لا المعلوم. وهذا الاحتمال قائم قبل التحرير أيضا.

والسر في الموضعين أنه لو بني على عدم التعرض لمقدمات الاستنقاذ الا بعد العلم بثبوت المستنقذ - أعني الحق - لزم تضييع حقوق كثيرة واختلال أمور المسلمين كما لا يخفى.

( الثاني ) ان عدم وجوب سماع الدعوى المجهولة فيما كان فيه قدر متيقن مبني على ما يأتي في المسألة الاتية من اشتراط الجزم في الدعوى والا وجب السماع لأنها تنحل حينئذ إلى دعوى مجزومة بالنسبة إلى القدر المتيقن ومشكوكة

ص: 156

بالنسبة إلى الزائد ، فتسمع على القول بعدم اشتراط الجزم لكن مع مراعاة ما يأتي من الشروط. واللّه العالم.

التقاط [ اعتبار الجزم في الدعوى ]

اختلفوا في اعتبار الجزم في الدعوى بعد الاتفاق ظاهرا على عدم وجوب الفحص عن الباطن على الحاكم إذا كانت صورة الدعوى جزمية.

وتوضيح المقال : ان الدعوى الغير الجزمية - سواء كانت ظنية أو وهمية - اما أن يكون للمدعي طريق شرعي إليها كالأصل أو البينة أم لا. والكلام في كل منها يقع في جهتين : إحداهما من حيث الحكم التكليفي ، والأخرى من حيث الحكم الوضعي - أعني وجوب السماع على الحاكم واعمال قواعد القضاء.

أما القسم الأول : فالظاهر عدم الاشكال فيه من حيث التكليف ، فلا اثم على من كان له بينة على حق على أحد أو أصل يقتضي ذلك الحق أن يطالبه بذلك الحق ويدعي عليه ولو على سبيل الجزم ، سواء قلنا ان الدعوى إنشاء لا يقبل الصدق والكذب أو قلنا انه إخبار ، أما على الأول فواضح ، وأما على الثاني فلان الكذب هنا مقرون بالمصلحة المجوزة ، وهو استنقاذ الحق الذي قام عليه أمارة شرعية.

وأما من حيث الحكم الوضعي فالظاهر أن فيه اشكالا ، بل لا يبعد القول بعدم ترتب شي ء من الأحكام المترتبة على الدعاوي عليه ، فلا يجب على الحاكم سماعها ، لان الظاهر أن الاخبار بالحق على الغير ما لم يقترن بالجزم والمطالبة لم يصدق عليه الدعوى عرفا.

فلو قال اني احتمل دينا لي في ذمة زيد أو أظن ، لم يجب على الحاكم

ص: 157

ما يجب عليه في الدعاوي المجزومة لأنه لم يدع شيئا ، وانما أخبر بخبر لا فائدة فيه الإظهار الحال ، فلا بد للظان إبراز الدعوى بصورة الجزم والمطالبة تحقيقا لمعنى الدعوى.

ولو اقتصر على مجرد المطالبة - بأن يقول المدعي ان لي بينة على اشتغال ذمتك واني مطالب به بمقتضى البينة - كفى على الظاهر. فالقول باشتراط الجزم على الدعوى زيادة على المطالبة لا يخلو عن إشكال أو منع ، ويمكن تنزيل كلام من اعتبره على المطالبة.

وكيف كان فيجب على الحاكم حينئذ سماع هذه الدعوى ، ولو علم بالحال وأنه يدعي عن ظن أو وهم لا عن جزم. والدليل عليه أمور :

( الأول ) ان المقتضى للسماع موجود وهو أدلة القضاء ، والمانع وهو عدم ترتب الفائدة على السماع كما في القسم الثاني مفقود.

( والثاني ) ان في عدم سماع مثل هذه الدعوى تقاعدا عن إحقاق الحقوق الذي هو الغرض من تشريع القضاء كما مر.

( والثالث ) فحوى ما دل على حلف الامناء فيما إذا ادعوا التلف ، فان دعوى المستأمن عدم التلف عليه غالبا أو دائما دعوى غير مجزومة مستند الى عدم العلم أو أصالة العدم.

( والرابع ) فحوى خصوص ما ورد في الصائغ والقصار والحائك من جواز إحلافهم إذا اتهموا ، معللا باحتمال استخراج شي ء منهم.

وهذا وسابقة وان لم يكن موردهما ما إذا كان الظان هو المدعي بل المنكر - وهو المستأمن أو المستأجر - لكن الاستدلال بهما من حيث المناط المنقح ، لأنه إذا أثر الظن في إحلاف المدعي أثر في إحلاف المنكر أيضا لاتحاد المناط ثمَّ يتوجه اليمين على المدعي. ولا رد هنا ، لاشتراط الجزم في اليمين كما سيأتي ،

ص: 158

فإن حلف والا فيبنى على القضاء بالنكول ، فان قضى به الزم والا فالدعوى توقف.

وأما القسم الثاني : فلا إشكال في أن الحكم التكليفي فيه الحرمة بناء على كون الدعوى اخبارا لكونه كذبا ، وما ذكرنا من المصلحة غير جارية هنا ، لان المفروض هنا عدم قيام أمارة شرعية على الحق ، فليس له حق ظاهري أو واقعي حتى يجوز الكذب مقدمة لاستنقاذه. ومجرد احتماله الذي لا دليل عليه بل الدليل على خلافه - وهو الأصل - لا يصلح مجوزا له.

وأما الحكم الوضعي - أعني سماع الدعوى - فمبني على ما أشرنا إليه في الالتقاط السابق من أن الغرض الذي وجب سماع الدعوى لأجله ، هو منحصر في الإلزام حتى لا يجب حيث لا يكون للدعوى قابلية ذاتية للإلزام أم لا بل متى احتمل احدى الفوائد المترتبة على السماع كإقرار المدعى عليه أو يمينه المسقط لحق الدعوى أو نحوهما مما قد يترتب على سماع الدعوى من الفوائد ، وجب السماع مقدمة لها.

فان قلنا بالأول - كما لعله الأقوى - لم يجب السماع هنا إذا علم الحاكم بأنه يدعي من غير جزم ولا أمارة شرعية ، لاستحالة الحكم له على خصمه بما يدعيه ، لان المفروض كونه ممنوعا في الشرع عن أخذ المدعي به فكيف يتعلق به الحكم ولا أقبل رجاء للإقراء أو الصلح.

هذا ، وقد يستدل على مساواة القسمين بالأخبار المشار إليها الواردة في الصائغ والصانع والحائك ، كخبري بكر بن حبيب في أحدهما قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أعطيت جبة الى القصار فذهب بزعمه. قال : ان اتهمته فاستحلفه وان لم تتهمه فليس عليه شي ء (1).

وخبر ابى بصير عنه عليه السلام : لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك

ص: 159


1- الوسائل ج 13 ب 29 من أبواب الإجارة ح 16.

الا أن يكونوا متهمين فيخوفون بالبينة ويستحلف لعله يستخرج منهم شيئا (1) ، نظرا إلى إطلاقه وعمومه لجميع صور الاتهام التي منها دعوى الخيانة والتفريط ، خصوصا في الرواية الأخيرة ، حيث لا اشعار ولا دلالة فيها على اختصاص الحكم بصورة دعواهم الذهاب والتلف.

الا أن يقال : ان الظاهر من الاستخراج المعلل به الإحلاف كونه على وفق الأصل ، بمعنى ثبوت الحق ولو ظاهرا. إذ لا يقال للدعوى المخالفة للأصل وسائر الطرق الشرعية انها استخراج للحق بل تسبب وتوصل إلى إحداث حق غير ثابت - فتأمل.

وقد يستدل أيضا على مساواتهما بالوجه الثاني ، أعني استلزام الاقتصار في السماع على الدعاوي اليقينية وعدم سماع الدعاوي الظنية والوهمية تضييع حقوق الناس المحترمة. أترى أن دعوى السرقة لو بني فيها على اعتبار الجزم فهل يستخرج مسروق.

ثمَّ ان كلمات الأصحاب في المسألة غير منقحة ، من حيث أن بعضها ظاهر في أن الجزم من شروط المدعي لا الدعوى ، ومقتضاه الإثم والحرمة في أصل الفرض للدعوى ، وأما اشتراط صيغة الدعوى بالجزم فلا ، ومقتضاه سماع قوله « أظن » أو « أتوهم » على تقدير الإثم. وظاهر عبارة المحقق العكس - يعنى اعتبار الجزم في الصيغة - والحق ما فصلناه.

تنبيهان [ في الظن في الدعوى ومحله ]

( الأول ) ان ذكر الوهم في مقابل الظن كما في الشرائع وعن القواعد لا يخلو عن شي ء ، لأنه ان أريد بالوهم معناه المعروف - أعني الطرف المرجوح

ص: 160


1- الوسائل ج 13 ب 29 من أبواب الإجارة ح 11 وفي آخره « فيخوف بالبينة. ».

ففيه من الطفرة ما لا يخفى ، إذ ينبغي ذكر الشك أولا ثمَّ ذكر الوهم لأنه أقرب الى الظن. وان أريد به الظن - كما يراد به الاحتمال الموجود في موارد التهمة فمرجعه الى الظن أيضا ، فلا وجه للمقابلة.

ويمكن أن يقال : ان المراد به الظن المسبب عن امارة كالاحتمال الموجود في موارد التهمة ، فإن التهمة عبارة عن الرجحان الحاصل ببعض الامارات ، والمراد بالظن هو مطلق الرجحان حتى ترجع المقابلة الى مقابلة العام والخاص أو يعم الرجحان الحاصل من غير سبب. أو يقال : ان المراد بالظن الرجحان القوي وبالوهم الظن الضعيف.

( الثاني ) ان ظاهر كلمات القوم سماع الدعوى الظنية في موضعين : أحدهما دعوى الوارث بحسب ما يجده في ديوان أبيه وخطه ، والثاني دعوى الحاكم أو الإمام عليه السلام دينا لمن لا وارث له بمقتضى ديوانه ورسم خطه. فان ظاهر هم عدم الخلاف في إحلاف المدعى عليه فيهما والقضاء بالنكول على القول به.

ودعوى تنزيل المسألتين على صورة علم الوارث أو الحاكم بسبب ملاحظة الديوان لا يلائم تعليلهم بعدم رد اليمين الى الوارث والحاكم بعدم علمهما. ولعل الكلام فيهما يأتي.

التقاط ( في جواب المدعى عليه )

وهو اما إقرار أو إنكار أو سكوت. وزاد الأردبيلي وجملة ممن تأخر عنه قسما رابعا وهو قوله « لا أدري » ، ووجه عدم ذكر القدماء له اما مبني على غفلتهم أو ادراجهم إياه في أحد القسمين الأخيرين.

والأول في غاية البعد ، فأما ان الإنكار عندهم يعم نفي الواقع ونفي العلم ،

ص: 161

أو يقال ان السكوت باعتبار احتمال كونه عن عناد أو جهل يشمل قوله « لا أدري » ، فإنه نحو سكوت عن التعرض لما يدعيه المدعي من الحق ، إذ الجواب لا بد أن يكون ناظرا الى نفس المدعى به وهو الحق لا إلى شي ء آخر لم يدعه المدعي - أعني العلم - فهو بالنسبة إلى الدعوى سكوت وان كان غير سكوت بنفسه.

والأول أقرب ، فإن الإنكار وعدم العلم متساويان في التمرد عن الحق ، وان كان الأول من حيث العلم بعدمه والثاني من حيث عدم العلم بوجوده. وربما يستظهر ذلك أيضا مما ذكروه في جواب الوارث للمدعي على مورثه بقوله « لا أدري » ، فإنهم يجعلونه من إنكار الوارث. نعم لا يترتب على الجواب ب- « لا أدري » حكم الإنكار من الاستحلاف أورد اليمين إلا إذا ادعي عليه العلم.

وكيف كان فإن أقر فالإقرار حجة مستقلة من غير الاحتياج الى ضم الحكم بلا خلاف ولا اشكال ، لعموم أدلة الإقرار. قال في الشرائع : أما الإقرار فيلزم إذا كان جائز التصرف ، وهل يحكم به عليه من دون مسألة المدعي؟ قيل لا ، لأنه حق له فلا يستوفي إلا بمسألته - انتهى.

وقوله « وهل يحكم » إلخ ، دليل على ما قلنا من أن الإقرار بنفسه ملزم ، لان المراد بقوله « فيلزم » ان كان إلزام خصوص الحاكم بالحكم لم يتأخر ذكر الحكم وشرطه ، وحينئذ فثمرة حكم الحاكم تظهر في بعض ما هو من خواص الحكم ، كحرمة النقض وأمثالها.

[ لا بد من الحكم بعد البينة لإثبات الدعوى ]

وأما البينة ففي المسالك من غير ذلك خلاف : ان الحق لا يثبت بمجرد إقامتها ، بل لا بد معه من حكم الحاكم. ثمَّ قال : والفرق ان البينة منوطة باجتهاد

ص: 162

الحاكم في قبولها وردها وهو غير معلوم بخلاف الإقرار - انتهى كلامه حسن مقامه.

وما ذكره من الفرق محل نظر ، لأن أدلة حجية البينة مطلقة كأدلة الإقرار ، فلا وجه لتقييدها بضم حكم الحاكم. مع أن الظاهر عدم الاشكال بل عدم خلاف معتد به في ثبوت الموضوعات بها كالحياة والموت والطهارة والنجاسة من غير حكم الحاكم. وكونها أمرا اجتهاديا محتاجا الى النظر لا يوجب عدم نهوضها في إثبات ما قامت عليه من الحق إذا كان أمرها من حيث العدالة وسائر شرائط القبول واضحا ، فينقل الكلام في البينة التي كانت حجة عند الكل.

والحاصل ان قضية ما يقضى به حجية البينة وكونها أمارة شرعية إلى الموضوعات ثبوت الحق بمجرد قيامها كالإقرار ، فلا وجه لاعتبار حكم الحاكم.

ومقتضى ذلك إلزام كل أحد للمدعي عليه بالحق بمجرد سماع البينة المقبولة عند السامع وترتيب آثار ثبوت ذلك الحق سواء كان ذلك الحق عينا أو دينا.

الا أنه قد يقال : ان ترتيب الغير آثار البينة من حيث ثبوت الحق فصل عملي للخصومة ، وقد ثبت أن فصل الخصومة بجميع أنحائه من خصائص الحاكم. توضيح المقام : انه إذا قامت البينة على اشتغال ذمة المدعى عليه مثلا فترتب الاثار عليه والجري على طبقه والالتزام بحجيته للكل في نفسه قبل الحكم عبارة عن جواز أخذ الحق عنه وإعطائه المدعي أو قبول المصالحة من المدعي على ذلك الحق أو التقاص من أمواله أو أخذ شي ء منه سرقة وإعطائه المدعي أو نحو ذلك مما يرجع الى تنزيل ذلك الدين المدعى به أو العين منزلة حقوق المدعي وأمواله.

ولا ريب أن ذلك فصل للخصومة بينهما عملا وان لم يكن حكما مصطلحا ،

ص: 163

ولذا يصح صدور الحكم من الحاكم على تقدير كونها حجة مستقلة أيضا وفصلها شأن الحاكم ليس الا.

ودعوى أن حجية البينة في ثبوت الحق مرجعها الى كونها بمنزلة العلم بالحق ، فكما أن العالم إذا عمل بمقتضى علمه وعمل مع ذلك الحق معاملة حق المدعي ، لم يكن ذلك منافيا لما ثبت من اختصاص القضاء بالحاكم ، إذ لا يقال له انه فاصل للخصومة ، بل عامل بمقتضى ما علمه من ثبوت ذلك الحق ، كذلك من قامت عنده البينة إذا رتب عليها الاثار لم يكن فاصلا للخصومة.

مدفوعة بأن المراد بالفصل ليس هو الحكم المصطلح حتى يقال ان العمل بمقتضى العلم أو البينة ليس فصلا لها ، بل المراد ما عرفت من مجرد تطبيق العمل على وفق حقيقة المدعي ولو سرا من غير التعرض للمدعي عليه ظاهرا. ولا ريب أنه مداخلة بين الخصمين من حيث ثبوت الحق وعدمه ونحو فصل عملي للخصومة.

فإن قلت : ينبغي حينئذ أن لا يجوز للعالم أيضا العمل بمقتضى ما علمه من ثبوت الحق للمدعي نظرا الى اختصاص جميع أنحاء الفصل بالحاكم.

قلنا : اعتبار العلم في ترتيب آثار المعلوم عقلي لا يقبل التخصيص ، بخلاف اعتبار البينة ، فإنه لما كان ثابتا من الشرع أمكن تخصيصها بغير الحقوق نظرا الى ما استفيد من أدلة القضاء من اختصاص الفصل بالقضاة.

ومن هنا يعلم أن ترتيب سائر آثار ما قامت عليه البينة غير جهة كونه حقا للمدعي مما يرجع الى تكاليف المرتب نفسه لا مانع منه ، فلو قامت البينة مثلا على نجاسة المبيع قبل حكم الحاكم بها وجب على من سمعها الاجتناب عنه وعن ملاقيه ، فان ترتيب هذا الأثر غير مرتبط بمسألة الفصل فيجوز ، وانما المرتبط به ترتيب أثرها من حيث فساد البيع وكون ثمنها ملكا للمشتري وجواز أخذه من البائع سرقة مثلا ودفعه الى المشتري.

ص: 164

[ موضع حجية البينة ]

والحاصل ان البينة حجة إذا لم تستلزم ثبوت حق على الغير وان استلزمت ثبوت حق على العامل بها ، كما لو شهد عند الوارث بينة على اشتغال ذمة أبيه بدين مثلا فيجب على الوارث وفاؤه لعدم الخصومة هنا ، وأما معها - كما لو شهدت على عين في يد زيد مثلا - لم يثبت كونها للمدعي وان لم يكن زيد منكرا ، لان حجيتها في إثبات شي ء على الغير موقوفة على ضم حكم الحاكم ، فحالها حال اليمين في كونها ميزانا للحاكم لا لغيره ، ويتفارقان من جهة حجية الأول في غير مقام الخصومة دون الثاني.

فإن قلت : لا دليل على اختصاص مطلق فصل الخصومة حتى العملي منها بالحاكم ، لأن أدلة القضاء وردت في الفصل القولي لا في مطلق الفصل.

قلت : يستفاد من مجموعها - ولو بملاحظة كونه من شعب الرئاسة المطلقة - أن المداخلة في أمر المتخاصمين من الجهة التي وقعت فيها الخصومة - أعني الحق وقطع النزاع ظاهرا وباطنا وبأي وجه كان - مختص بالحاكم.

ومما ذكرنا ظهر أنه كما لا يجوز الالتزام بآثار البينة سرا كذلك لا يجوز جهرا ، بأن يتعرض للمنكر ويلزمه بدفع الحق كما هو شأن الحاكم. بيانه : ان حجية البينة في إثبات الحق من غير انضمام الحكم اليه لها مراتب ثلاث : إحداها جواز ترتيب آثاره الراجعة إلى تكليف المرتب مدعيا وغيره دون الراجعة إلى نفس الحق نفيا وإثباتا ، وثانيتيها ترتيب جميع الاثار حتى ما يرجع الى ثبوت الحق لكن سرا من غير مزاحمة للمنكر في تكليفه كما هو شأن الحاكم خاصة ، وثالثتها الترتب مطلقا سرا وجهارا. والثابت من وجوه حجيتها هو الأول دون الأخيرين.

ص: 165

ثمَّ ان ما ذكرنا وجه مخرج لقول الأكثر بعدم حجية البينة إلا مع الحكم ، وصحته أو سقمه يحتاج الى مزيد تأمل في كلمات العلماء وأخبار البينة والقضاء.

[ الإقرار سبب لإلزام المقر بما أقربه ]

هذا كله في البينة ، وأما الإقرار فلا شبهة في أنه ليس بحجة في ترتيب الاثار الراجعة إلى تكليف من سمع الإقرار ، لأنه ليس طريقا شرعيا إلى إثبات الموضوعات ونفيها كسائر الامارات والطرق وانما هو سبب إلزام المقر بما أقر به ، لان قوله عليه السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » لا يدل على أزيد مما ذكرنا ، سواء كان الظرف متعلقا بالإقرار أو الجائز. وانما الكلام في سببيته للإلزام هل هي مشروطة بانضمام حكم الحاكم نحو حجية البينة أم لا ، وعلى الثاني فهل المراد بالإلزام ترتيب آثار ثبوت الحق سرا خاصة بحيث لا يزاحم المقر الراجع عن إقراره في ظاهر تكليفه أو ما يعم الإلزام الظاهري الذي يرد على تكليفه في الظاهر ، كما هو من خواص القضاء الاصطلاحي ، فإنه على ما سبق في صدر الباب عبارة عن إلزام الشخص بما لا يقتضيه تكليفه ، عكس الأمر بالمعروف.

توضيح المطلب : ان المقر إذا نكل ورجع عن إقراره وادعى شبهة داعية له إلى الإقرار الصادر ، فمقتضى القاعدة عدم مزاحمته فيما يراه بعد الإنكار من تكليفه ، خصوصا إذا علم منه الصدق في دعوى الشبهة وانه كان مشتبها في الإقرار الصادر منه ، لان هذه المزاحمة لا تنهض بإثباتها أدلة الأمر بالمعروف ولا غيرها من سائر الأدلة إلا ما قد يتوهم استفادته من أدلة الإقرار من أن نفوذه ومضيه عبارة عن قهر المقر وإلزامه بما أقر ، وان علمنا منه الشبهة في نفس الإقرار إذا كان أصل ثبوت المقر به محتملا ، فلا بد من النظر في القدر المستفاد من مثل قوله

ص: 166

« إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » فهل هو الإلزام بحيث لا يحصل المزاحمة له في تكليفه ، وحاصله إلزامه في أصل ثبوت الحق واقعا وجواز التقاص من أموالهم سرا أو نحو ذلك مما يرجع الى ثمرات اشتغال ذمته الواقعي إذا كان المدعى به دينا مثلا ، أو الإلزام مع المزاجمة المزبورة كما هو شأن الحاكم ، فنقول :

قد عرفت ان الإلزام على خلاف ما يقتضيه تكليف الشخص أمر من شعب الرئاسة المختصة بالإمام عليه السلام ونوابه - أعني الحكام - فيكون معنى جواز الإقرار ونفوذه حينئذ هو المعنى الأول.

فإن قلت : هذا المعنى أيضا غير لائق إلا بحال الحاكم ، كما مر في وجه عدم حجية البينة ، لأنه أيضا فصل عملي للخصومة ، والمستفاد من أدلة القضاء اختصاص جميع أنحاء الفصل بالحاكم كما قلت.

قلت : نعم لكن وزان قولهم « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » غير وزان قوله « البينة حجة » مثلا ، فان الظاهر المتبادر من الأول - لو لم نقل به الالتزام على خلاف ما يقتضيه التكليف الذي هو وظيفة الحاكم. فلا أقل من القول بكونه الإلزام في أصل ثبوت الحق من حيث أنه حق على المقر. وحينئذ فيخصص به ما استظهرنا من أدلة القضاء من اختصاص جميع أقسام الفصل بالحاكم ، وانما لم نقل بذلك في البينة بل قلنا بأن هذه الأدلة بملاحظة هذا الاستظهار تخصص أدلة حجية البينة بغير ما إذا تضمنت حقا على الغير باعتبار كون هذه الأدلة أخص من أدلة البينة - فافهم.

وأما اليمين فالظاهر أنه حجة من غير ضم حكم الحاكم بالبراءة ، فإذا حلف المنكر عند الحاكم ذهب حلفه بما فيه ، فلا يجوز تعرضه لا للمدعي ولا لمن يعلم بكذبه الأعلى تقدير جواز تعرضه بعد الحكم أيضا. والحاصل ان اليمين

ص: 167

قبل صدور الحكم وبعده على حد سواء ، لعموم أدلته وإطلاقها على وجه لا يتأمل في عدم اشتراطها بصدور الحكم ، فراجع اليه وتأمل.

[ مسائل من أحكام الإقرار ]

بقي أشياء :

( الأول ) انه إذا قيل بأن البينة يثبت به الحق قبل الحكم كالإقرار ، فهل يعتبر فيه ما يعتبر في مستند الحاكم من الشرائط أم لا.

بيانه : انه يعتبر في البينة التي هي ميزان للحاكم أمور اتفاقية وأمور خلافية ، ومن الأول أن تكون البينة القائمة على الحق حيا عند تحرير الدعوى ، فلا يجوز له الحكم بمقتضى البينة التي ماتت قبل المرافعة وأن لا يكون إقامة الشهادة منهم قبل سؤال الحاكم وغير ذلك من الشروط الاتية ، ومن الثاني أن لا يطرأ الفسق ما بين الإقامة والحكم ، فلو فسق بعدها لم يحكم بسببها على الخلاف الاتي إنشاء اللّه. وحينئذ فلا بد من التأمل في أن هذه الشروط هل هي معتبرة فيها على القول بعدم الحاجة الى حكم الحاكم أيضا أم لا.

والثمرة بينهما واضحة : فعلى الأول لا يجوز ترتيب آثار البينة التي أقامت الشهادة قبل سؤال السامع المرتب ، وكذا إذا كانا ميتين ، فإنه إذا لم يكن قد رتب الاثار حين سماعها ما لم يكن له الترتيب بعد الممات على هذا التقدير ، وهكذا الى سائر الشرائط. وعلى الثاني يجوز ترتيب الاثار بمجرد قيام البينة على أي وجه كان ، ولا ريب أن مقتضى إطلاق أدلة البينة عدم مراعاة تلك الشروط رأسا.

ومثل هذا القول هو النظر إلى إطلاق أدلتها ، فلا بد لمن يقول به أن يلتزم بحجيتها مطلقا ، وحينئذ فيشكل الأمر في كثير من فروعات هذا القول ، مثل ما إذا علم الحاكم بالبينة وماتت قبل المرافعة ، فإنه بمقتضى ما اتفقوا عليه ظاهرا

ص: 168

من عدم جواز الحكم بالبينة السابقة أن يكون وظيفة الحاكم حينئذ إحلاف المنكر الذي علم بقيام البينة على اشتغال ذمته. ومقتضى القول بحجية البينة مطلقا من غير انضمام الحكم اليه أن يجوز له ترتيب آثار الاشتغال ، وهذا أيضا مما يفصح بفساد القول المزبور - الى غير ذلك مما يتفرع عليه من غوامض المسائل ومشكلات الفروع.

( الثاني ) ان الفتوى في الشبهات الحكمية مثل الإقرار في الشبهات الموضوعية ، فكما أن الإقرار حجة قبل لحوق الحكم كذلك الفتوى في المرافعات التي منشأها الاشتباه في الحكم الشرعي ، بمعنى أن ما عند كل شخص من المدعي وغيره من الفتوى أو الاجتهاد يجوز له العمل سرا وترتيب آثاره باطنا من غير ترقب صدور الحكم على طبقه. وهذا من فروع ما أشرنا إليه في مسألة النقض.

( الثالث ) ان فائدة الإقرار في المال قد تتوقف على اعمال بعض الأصول العملية كما لو أقر بدين في الماضي ، أو اعمال بعض الأصول اللفظية كما لو أقر بلفظ محتمل لخلاف المقصود وظاهر فيه.

ولا إشكال في أن الحاكم يجري الأصلين ويأخذه بإقراره حالا في الأول وعلى حسب ما يقتضيه ظاهر لفظ الإقرار في الثاني. وأما غير الحاكم ففي الاقتصار على الإلزام به من غير أعمال الأصل مطلقا فيلزمه بدين الماضي في الماضي إذا كان هناك فائدة مترتبة على الاشتغال في الماضي دون الحال في الأول ، وبالقدر المتيقن من مدلول لفظ الإقرار لو كان هناك قدر متيقن يترتب على الإلزام به فائدة في الثاني ، أو الإلزام مع اعمال الأصل مطلقا ، أو التفصيل بين الأصل العملي فالأول واللفظ فالثاني ، وجوه :

« وجه الأول » - ان البينة أقوى الطرق الشرعية ، ولذا لا يعارضها شي ء منها ، وبعد ما عرفت أنها ليست حجة إذا تضمنت حقا على الغير الا للحاكم فما عداها

ص: 169

بطريق أولى ، بل الوجه المذكور في عدم حجيتها بعينه يجري في غيرها.

والحاصل ان الطرق الشرعية غير الإقرار الذي فائدته الإلزام خاصة كما ظهر ملغاة في إثبات الحق على الغير الا للحاكم ، لما استفدنا من أدلة القضاء من اختصاص جميع أنحاء الفصل بالحاكم سوى الإقرار ، فإذا لم ينهض الإقرار بإثبات الحق الا بضميمة غيره من سائر الطرق كان العمل به أيضا من خصائص المجتهد ، لان المستند إليه حينئذ حقيقة هو ذلك الطريق دون الإقرار بنفسه.

« ووجه الثاني » - أنه فرق بين الأصول وسائر الطرق التعبدية ، لأن العمل بالأصول أمر مركوز في أذهان العقلاء ، وتعبد الشرع بها يرجع الى نحو من الإمضاء ، وبعد ملاحظة بنائهم على العمل بها يكون الإقرار بالماضي مثلا إقرارا بالحال وبالظاهر إقرارا بالنص ، فيلزم بهما بمقتضى قوله عليه السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».

« ووجه الثالث » - أن الأصول العملية لو سلم كون العمل بها مركوزا في أذهان العقلاء فليست محققة لموضوع الإقرار بما يقتضيها ، بل انما هي سبب آخر للإلزام بالحق في عرض الإقرار ، فالإقرار سبب للإلزام في نفسه والأصل المسبوق به سبب آخر له عند العقلاء من غير أن يرجع الى الإقرار بحيث يندرج تحت اسمه.

كيف والمفروض أن المنكر غير معترف باشتغال ذمته الفعلي ، ومع عدم الاعتراف به كيف يصدق عليه أنه مقر وان كان عدم اعترافه غير مسموع عند العقلاء بل محجوجا عليه بالاستصحاب.

وهذا بخلاف الأصول اللفظية ، فإنها محققة لموضوع الإقرار ، فإن مجاري الإخبارات على الظواهر اللفظية ، فليس الإلزام بما يقتضيه ظاهر اللفظ إلزاما بشي ء آخر غير الإقرار حتى يندرج تحت الأصل الذي أصلنا من عدم نهوض

ص: 170

الطرق الواقعية في إثبات الحق سوى الإقرار.

وقد يناقش فيه : بأن قضية قوله عليه السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » الإلزام بما علم أنه أقر به ، وأما الإلزام بما ظن أنه أقر به فلا بد فيه من التماس دليل آخر ، كما قلنا نظير ذلك في رد من تمسك بحديث الثقلين على حجية ظواهر الكتاب والسنة ، فان كان ذلك الدليل هو بناء العقلاء ، فيرد عليه حينئذ ما أشرنا إليه في تأسيس الأصل المزبور من أن أدلة القضاء مخصصة للظنون المعتبرة بغير ما تضمنت حقا على الغير ، لأنه لا يترتب على بناء العقلاء على العمل بالظن اللفظي سوى حجيته في غير مقام إثبات حق على الغير بالنسبة إلى خصوص الاثار الراجعة إلى ثبوت الحق من حيث أنه حق لأمن حيثيات أخرى راجعة إلى تكليف الشخص كما مر.

الا أن يقال : ان الإقرار يشمل القسمين القطعي والظني ، فالدليل على الإلزام بمقتضى الإقرار الظني أيضا هو قوله عليه السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » ، ويستند في شموله للقسمين الى بناء العقلاء ، على أن الاخبار بلفظ ظاهر في ثبوت الحق إقرار به.

وليس المقام نظير التمسك بحديث الثقلين على حجية ظواهر القرآن ، لان ظواهر القرآن ان لم يثبت حجيتها فلا ينفع فيها حديث الثقلين ، وان ثبتت حجيتها ببناء العقلاء استغني عن الحديث بل لا يبقى له معنى سوى الإرشاد مثل أوامر الإطاعة. بخلاف ما نحن فيه ، لأنه بعد ثبوت حجية الظواهر يتحقق موضوع الإقرار. وأما جواز الإلزام به بعد الصدق فنحتاج فيه أيضا الى أدلة الإقرار ، لما عرفت من أن أدلة حجية الطرق لا تنفع في المقام سوى دليل الإقرار ، فنحن نثبت أولا صدق الإقرار على ما يدل عليه ظاهر لفظ الإقرار لبناء العقلاء على حجية الظواهر ثمَّ نستدل على نفوذه بأدلة الإقرار - فافهم.

ص: 171

( الرابع ) هل يجوز الحكم بعد الإقرار قبل التماس المدعي أم لا ، ومبنى المسألة أحد أمور :

الأول - انه لو قلنا بكون الحكم حقا للمدعي لم يجوز قبل مطالبته كما أشار إليه المحقق ، وان قلنا انه تكليف محض على الحاكم يرجع الى نحو الأمر بالمعروف ، وان لم يكن منه حقيقة فيجوز.

وانما قيدنا التكليف بكونه محضا لأنه لو كان فيه جهة الحقيقة أيضا توقف على مطالبة صاحب الحق أيضا. ومن هنا يعلم ضعف هذا المبنى ، لان الظاهر عدم كونه تكليفا محضا للحاكم وان لم يكن حقا محضا أيضا ، نظرا الى كون إحقاق الحق وكذا رفع الظلم عن الشخص واجبا شرعا مع توقفه على رضى المظلوم.

الثاني - انه لا شبهة في كونه حقا ، وانما الكلام في أن حقيته انما يتحقق بعد الالتماس ، كوجوب إقامة الشهادة واستحباب إجابة المؤمن فإنهما مأتيان بعد السؤال ، أو أنه حق قبل الالتماس أيضا. فعلى الأول لا يجوز أي لا يترتب عليه الأثر ، وعلى الثاني يجوز لان كونه حقا لا يقضي بعدم جواز أدائه قبل المطالبة ، كما في الدين فإن أداءه جائز طالب الدائن أم لا.

الثالث - انه لا إشكال في أنه حق مطلقا ، ولكن الإشكال في أنه من الحقوق التي تأخيرها أيضا حق لأربابها ، كالدين المؤجل على أقوى الوجهين ، لأن الدائن له الامتناع عن أخذ الدين وإبقاءه في ذمة المديون قبل بلوغ الأجل ، مع احتمال أن يكون التأجيل محض الترفيه لحال المديون فلا يكون للدائن الامتناع أم لا. فعلى الأول لا يجوز ، لا حقيقة الشي ء إذا كانت بيد ذي الحق فعلا وتركا لم يجز أداؤه قبل المطالبة ، وإلا جاز وان لم يجز مع المنع لان كون الشي ء حقا لا يقضى بتوقف أدائه على المطالبة مطلقا ، لأن الإذن النوعي الموجود

ص: 172

في نوع ذوي الحقوق يكفي في المطالبة ، نعم إذا منع كان ذلك في حكم الاسقاط عن الحكم - فتأمل.

الرابع - انه لا إشكال في كونه من الحقوق التي فعلها حق وتركها أيضا حق ، وأنه يتوقف على رضاء صاحب الحق ومطالبته ، وانما الكلام في اكتفاء شهادة الحال في الاذن والمطالبة وعدمه أو في وجود شهادة الحال وعدمها ، وأوجه الأمور ثالثها.

التقاط ( في دعوى المدعى عليه الإعسار )

قال في الشرائع بعد ذكر أقسام الجواب وبعض ما يجري في مجلس المرافعة وأحكامها : ولو ادعى الإعسار كشف عن حاله ، فان استبان فقره أنظره ، وفي تسليمه الى غرمائه ليستعملوه أو يؤاجروه روايتان ، أشهرهما الانظار حتى يوسر ، وهل يحبس حتى يتبين حاله؟ فيه تفصيل ذكر في باب المفلس.

وفي هذه العبارة إجمال وإغلاق ، لأن المراد بكشف الحال يحتمل أن يكون الكشف الشرعي بمطالبة البينة أو الإقرار وأن يكون الكشف الحقيقي بالفحص والتجسس من المطلعين على حقيقة الحال.

وعلى الأول يكون المراد بعدم تبين الحال الذي يدل عليه قوله أخيرا « وهل يحبس حتى يتبين الحال » عدم البينة والإقرار ، وبالتفصيل المذكور في باب المفلس ما ذكره هناك من الحبس مع وجود مال ظاهر بيده وعدم الحبس مع عدم وجوده.

وعلى الثاني يكون المراد بعدم تبين الحال عدم انكشاف الحال بالفحص

ص: 173

وبالتفصيل المزبور هناك في قواعد القضاء من مطالبة البينة والاستحلاف وغير هما مما ذكره هناك.

وظاهر عبارة المسالك ينطبق على الأخير كما يظهر للمتأمل ، كما أن عبارة الفاضل في القواعد صريحة أيضا في ذلك ، حيث فرض البحث مع جهل الحال بعد فقد البينة والإقرار ، فإن البحث بعد فقد هما لا معنى له سوى الانكشاف الحقيقي. وحينئذ فيشكل على عبارة الشرائع هذه ، حيث أوجب أولا كشف الحال بالفحص ثمَّ استعمال البينة وسائر موازين القضاء ، إذ ليس في الدعاوي ما يكون حاله كذلك ، بأن يوقف الاستحلاف أو طلب البينة حتى يتفحص الحاكم عن حقيقة الحال. الا أن يقال : ان الإعسار من الموضوعات التي يتوقف استعمال الأصل فيها حتى يتفحص - فتأمل.

ثمَّ أن في العبارة إجمالا آخر ، من حيث أنه لم يعلم أن مفروض الكلام دعوى الإعسار قبل الحكم بعد ثبوت الحق أو بعد الحكم ، وان كان ظاهر المسالك هو الأخير - فراجع وتأمل.

[ هل يحتاج في إثبات الإعسار إلى اليمين؟ ]

ثمَّ ان مسألة دعوى الإعسار كلمات الأصحاب فيها مضطربة من حيث الاحتياج الى اليمين بعد إقامة البينة وعدمه ، ففي الشرائع في باب المفلس : ان المعسر إن أقام البينة على تلف المال الذي كان بيده لم يحتج الى اليمين ، وان أقامها على مطلق الإعسار فللغرماء إحلافه. وفي موضع من محكي التذكرة عكس ذلك ، وفي موضع آخر منه أنه لا يمين في الموضعين.

ولنكشف الحال في المسألة بعد ذكر مقدمة يتبين بها المدعي من المنكر في مسألة الإعسار :

ص: 174

اعلم أن الإعسار أمر وجودي ينشأ دائما من عدم المال ، لأنه عبارة عن نحو ضيق في المعيشة وسوء حال في المعاش ، نظير الفقر والفاقة ، فان الفقر عبارة عن الاحتياج الذي هو أمر وجودي ، ومنشؤه عدم المكنة والثروة وفقدان المال.

ودعوى أن مفهوم العسر عين ذلك المفهوم العدمي - أعني عدم المال - شطط من الكلام يعرف وجهة من ملاحظة افتراقهما كثيرا ، فإن الإنسان قد يكون في سعة من أمر معاشه مع فقدانه المال رأسا ، كواجبي النفقة مثل الولد والزوجة بل العبد أيضا إذا كان متنعما بأنواع النعم ، فإن هؤلاء كثيرا ما لا يكونون في العسر والضيق ، سواء كان لهم مال يبذل فيما عليهم من الحقوق كالدين والجناية أم لا.

ودعوى أن هؤلاء إذا لم يستطيعوا أداء ما عليهم من الحقوق فيكونون أولي الإعسار بالنسبة إلى أداء الحق وان لم يكونوا كذلك بالنسبة إلى مئونة المعاش.

مدفوعة بأن مجرد ثبوت الحق في الذمة مع قطع النظر عن مطالبة صاحب الحق ووجوب أدائه شرعا ليس مما يصدق به الإعسار العرفي ، وكلامنا في تشخيص المعسر الذي يبحث عن جواز مطالبته وعدمه. وهذا الإعسار لا يعقل أن يكون تحققه بعد المطالبة ووجوب الأداء ، لأن الشي ء إذا كان مقدما على شي ء آخر في المرتبة امتنع أن يكون ذلك الشي ء المقدم من أحكام ذلك الشي ء المؤخر. وهنا لما فرضنا أن للمطالبة مدخلية في تحقق الإعسار كانت مقدمة عليه طبعا ، فيمتنع أن تكون من أحكامه وجودا وعدما.

والحاصل ان غرضنا تشخيص الإعسار الذي نتكلم في جواز المطالبة وعدمها معه وبيان مورد افتراقه عن ذلك المفهوم العدمي - أعني عدم المال - لا بيان مطلق الإعسار حتى ما يمتنع أن تكون المطالبة وجودا وعدما من أحكامه

ص: 175

كالاعسار الذي يتحقق موضوعه بعد المطالبة ، وهذا هو الذي لا يفارق عدم المال ، وأما الأول فقد عرفت مفارقته عنه.

فان قلت : الحكم هو جواز المطالبة وعدم الجواز لا نفس المطالبة ، فلا يمتنع عروضه للإعسار الذي يتوقف على المطالبة حرمة مطالبة المعسر مطلقا سواء كان معسرا بدون المطالبة أو بعدها.

قلت : نعم لكن ذلك أيضا لا يبطل ما ادعيناه من مفارقة عدم المال عن الإعسار ، لأنا نفرض من سمعت غير مطالب بدين أو حق ، فان العسر حينئذ غير متحقق مع عدم المال رأسا.

[ في مفهوم العسر ]

وكيف كان فلا شبهة في أن مفهوم العسر أمر وجودي لكن مع ملاحظة أمر عدمي ، وهو فقدان المكنة الموجودة في صورة اليسار التي يتحقق بسببها مفهومه.

توضيح ذلك : ان اللفظ قد يكون معناه وجوديا محضا وقد يكون عدميا كذلك وقد يكون أمرا وجوديا ملحوظا فيه معنى عدمي ، وذلك مثل لفظ « الحد » فإنه عبارة عن جزء وجودي لا يكون بعده جزء آخر ، ومثل « اللازم » فإنه عبارة عن أمر وجودي لا ينفك عن وجودي آخر ، ومثل « الإلزام » فإنه عبارة عن أمر وجودي وهو مرتبة خاصة من الطلب مع عدم الرضا بالترك ، ومثل « الحبس » فإنه عبارة عن كون الشخص في مكان بحيث لا يقدر على الكون في مكان آخر ، ومثل « الشرط » فإنه عبارة عن شي ء وجودي أو عدمي يلزم من عدمه عدم شي ء آخر - الى غير ذلك من الألفاظ الدالة على أمور وجودية مع ملاحظة أمر عدمي ، بحيث لو جرد ذلك الوجودي عن ملاحظة ذلك المعني العدمي كان إطلاق اللفظ عليه غلطا ويحتاج الى لفظ آخر.

ص: 176

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان العسر اسم لمرتبة من المكنة بملاحظة فقدانها للمكنة الموجودة في صورة اليسار ، لكن مناط الحكم الشرعي - وهو حرمة المطالبة - الظاهر هو ذلك المفهوم العدمي.

وحاصله : كون اليسار الذي هو عبارة عن مقابل ذلك العدمي شرطا لجواز المطالبة لا كون الإعسار مانعا ، وان كان ظاهرا صدر قوله تعالى « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » (1) ذلك ، لكن ذيلة ظاهر فيما قلناه ، أعني كون اليسار شرطا للمطالبة و عدم اليسار موضوعا لحرمة المطالبة دون العسر الذي هو الوجودي. توضيح ذلك : أن معنى الانظار هو الإمهال ، والإمهال أمر عدمي محض وقد علق وجوبه بمقتضى صدر الآية على العسر الذي قد عرفت أنه أمر وجودي ملحوظ فيه أمر عدمي.

وتعليق أمر عدمي على شي ء وجودي يدل على مانعيته للوجود ، كما في قوله عليه السلام « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي ء » (2) فان أخذنا بظاهر الصدر لزم الحكم بأن العسر هو المانع عن المطالبة وأنه الموضوع للحكم الشرعي.

لكن لما كان ملاحظة عدم اليسار معتبرا في معنى العسر جاز أن يقال ان : تعليق الإمهال على العسر باعتبار كون ذلك المفهوم العدمي الذي هو لازمه سببا لعدم المطالبة وكون نقيضه الذي هو اليسار شرطا لجوازها.

وهذا الاحتمال في نفسه خلاف ظاهر الصدر ، لكن إذا نظرنا الى نفس الإنظار إلى حصول الميسرة فيتعين ذلك ، لأنه صريح في أن الميسرة شرط لجواز المطالبة شرعا كما أن القدرة شرط للتكليف عقلا ، فيكون سبب الحرمة عدم ذلك الشرط لا الأمر الوجودي المقارن له - أعني الإعسار.

ص: 177


1- سورة البقرة الآية 280.
2- الوسائل ج 1 ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 1 بلفظ « إذا كان الماء قدر كر... ».

ومما ذكرنا ظهر ما في كلام من زعم أن العسر مانع عن المطالبة ، وليس عدم المال والمكنة شرطا وسببا لحرمة المطالبة. ويتفرع على ذلك أن دعوى الإعسار مطابق للأصل ، لأنه في الحقيقة دعوى لأمر عدمي ، أعني عدم اليسار على الوجه الذي بينا. وعليه اتفقت كلمات الجل أو الكل ، حيث يعللون يمين المعسر بأنه منكر وبأن الإنسان خلق معسرا كما عن الشيخ.

نعم لو بنينا على أن العسر مانع وان حرمة المطالبة متفرع على ثبوت العسر لا أن جوازها مشروط باليسار كان مدعي الإعسار مدعيا مخالفا للأصل.

إذا تمهدت المقدمتان فالكلام في دعوى الإعسار يقع في مقامين : أحدهما دعوى الإعسار بدون العلم بسبق المال ، والثاني دعواه فيما كان هناك مال سابقا أو كان أصل الدعوى مالا مثل القرض وثمن المتاع.

[ دعوى الإعسار بدون العلم بسبق المال ]

( أما الأول ) فظاهر الجل كالمحقق والعلامة والشهيدين «رحمه اللّه» أنه لو أقام فيه على إعساره بينة خلي سبيله.

قال في الشرائع في باب المفلس : وان لم يكن له مال ظاهر - أي للمفلس - وادعى الإعسار فإن وجد البينة قضى بها وان عدمها وكان قبلا له أصل مال أو كان أصل الدعوى مالا حبس حتى يثبت إعساره ، وإذا شهدت البينة بتلف أمواله قضى بها ولم يكلف اليمين ولو لم تكن البينة مطلعة على باطن أمره ، أما لو شهدت بالإعسار مطلقا لم تقبل حتى تكون مطلعة على باطن أموره بالصحبة المؤكدة ، وللغرماء إحلافه دفعا للاحتمال الخفي ، ولو لم يعلم له أصل مال وادعى الإعسار قبلت دعواه ولا يكلف البينة وللغرماء مطالبته باليمين - انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس سره.

ص: 178

ودلالته بل صراحته في أن البينة يكتفى بها من مدعي الإعسار مطلقا حتى فيما لو لم يعلم أصل مال ، واضحة بشهادة ترك الاستفصال ، لأنه أطلق القضاء بالبينة مع وجودها ، وفصل في صورة عدمها بين المقامين في الحبس واليمين. وقريب منه عبارة القواعد.

وأما عبارة الشهيد في اللمعة فيمكن استفادته منها أيضا ، قال فيها : فان ادعى الإعسار وثبت صدقه فيه ببينة مطلعة على باطن أمره أو بتصديق خصمه له أو كان أصل الدعوى بغير مال وحلف ترك.

فان الترديد في عبارة المصنفين غالبا أو دائما محمول على منع الخلو ، وعلى هذا يكون مقتضاه أن صدق دعوى الإعسار يثبت بالبينة مطلقا ، سواء كان الدعوى بمال وهو المقام الثاني أو بغير مال كما هو المفروض في المقام الأول.

نعم لو حمل الترديد على منع الجمع لم يدل على كفاية البينة في المقام الأول بل يدل على عدم الكفاية. وأما عبارة الروضة وشرحها فصريحة في قبول البينة حينئذ ، بل بعدم الافتقار الى اليمين بالأولوية ، خلاف ما ذكره جماعة في صورة سبق المال أو كون الدعوى مالا من جواز إحلاف مدعي الإعسار مع إقامة البينة أيضا.

بل لعل ما صرح به في الروضة من عدم اليمين في المقام الأول مع إقامة البينة يمكن القول بأنه ظاهر الشرائع والقواعد وكل من أطلق القول بكفاية البينة في ثبوت الإعسار ، وحينئذ فيشكل المسألة من جهتين :

( إحداهما ) ان دعوى الإعسار في المقام الأول - أعني ما إذا لم يعلم له مال سابق ولم يكن أصل الدعوى مالا - ان كانت مطابقة للأصل كما قلنا فلا وجه للاقناع عنه بالبينة ، لأن المنكر لا يسمع منه البينة ، بمعنى أنه لا يكتفى بها ، وان كانت مخالفة للأصل فلا وجه للاكتفاء منه باليمين كما هو صريح الشرائع

ص: 179

وغيره ، لان المدعى لا ينفع له اليمين. فأما أن يقال : ان مدعى الإعسار في هذه الصورة مدعي لكن يطالب باليمين أيضا استظهارا - كما في غير موضع - أو يقال انه منكر ولكن تسمع منه البينة ، على خلاف القاعدة.

( وثانيتهما ) ان البينة على الإعسار في المقام الثاني قد صرح بعضهم كالمحقق بأنها لا تغني عن اليمين أيضا. والفرق بينه وبين المقام الأول غير واضح ، فلا بد لمن يرى جواز الإحلاف مع البينة في المقام الثاني القول بجوازه في المقام الأول أيضا.

ويمكن الجواب عن الإشكال الأول بوجوه :

« الأول » - المنع عن قبول البينة من مدعي الإعسار في المقام الأول ، فإن المصرح به قليل مع إمكان منع دلالة عبارة المحقق مع تصريحه بعدم مطالبة البينة حينئذ - فارجع وتأمل.

« والثاني » - ان دعوى الإعسار بعد ثبوت الحق مخالفة لأصالة الاشتغال المقتضية للبراءة ، فيكون مدعيها مدعيا ، لان الثابت في ذمته مأمور بالأداء ، فادعاء العسر حينئذ ادعاء للبراءة بعد ثبوت الاشتغال ، فيكون مخالفا للأصل. وفيه نظر واضح.

« والثالث » - ان الإعسار قد عرفت أنه أمر وجودي ملحوظ فيه العدم ، وكل شي ء يكون كذلك يمكن مطالبة البينة عليه باعتبار جزئه الوجودي واليمين باعتبار جزئه العدمي.

فإن قلت : مطالبة البينة على الجزء الوجودي بعد عدم كونه موضوعا للحكم الشرعي بل الموضوع هو ذلك الجزء العدمي لا وجه لها.

قلت : لما كان ذلك الجزء الوجودي مسببا عن ذلك الجزء العدمي كما عرفت كانت البينة عليه مثبتا لذلك العدم بالملازمة الانية.

ص: 180

وحاصل هذا الوجه أصل ، وهو أن المنكر إذا كان قوله ملزوما لأمر وجودي صح منه إقامة البينة ، وانما لم يصح منه ذلك في النفي المحض الذي ليس له أثر وجودي - فافهم.

( والرابع ) المنع من عدم سماع البينة من المنكر ، وانما الفرق بينه وبين المدعي أنه مطالب به بخلافه فإنه غير مطالب الا باليمين ، ولكن لو أقام البينة لنمنع عدم قبولها منه لعموم أدلتها.

فإن قلت : ظاهر قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (1) عدم سماع اليمين من المدعي والبينة من المنكر من وجهين : « أحدهما » التفصيل القاطع للشركة ، فلو كان المدعي والمنكر متشاركين في قبول البينة أو اليمين مطلقا أو في بعض الموارد كان التفصيل أو إطلاقه لغوا كما لا يخفى.

« وثانيهما » ان المسند إليه إذا كان محلى باللام أفاد حصره في الخبر ، سواء كان وصفا كقولك « الأمير زيد » أولا كقولك « الكرم في العرب » كما صرح أساطين علم العربية والبيان.

وقد ذكرنا في الأصول أن وجهه دلالة اللام حينئذ على ثبوت جنس المسند إليه في المسند ، وثبوت الجنس لشي ء بعد فرض كون المقام مقام البيان يستلزم ثبوت كل فرد ، وثبوت كل فرد في المسند يمنع من ثبوت بعض الافراد لغيره.

ويؤيده بل يدل عليه ما ورد في تقديم بينة الخارج وعدم قبولها من الذي في يده العين المتنازع فيها.

قلت : ما ذكرت من ظهور الرواية في الحصر المانع عن قبول البينة من المنكر مسلم ، لكنا نصرفها عن ظاهرها بقرينتين داخلية وخارجية :

ص: 181


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ، عدة احاديث بلفظ « البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ».

( أما الأولى ) فهي ان الفقرة الأخيرة بعد ورودها عقيب الاولى - نظير الأمر الوارد عقيب الحظر - لا يفيد سوى الرخصة. توضيحه : ان مفاد كلمة الاستعلاء في الفقرتين ليس هو الحكم التكليفي كما لا يخفى ، لوضوح أن اقامة البينة على المدعي ليس بواجب عليه ، بل الحكم الوضعي ، وهو اشتراط تحقيق مقالة المدعي بإقامة البينة وتحقيق المنكر مقالته باليمين ، ولما كان إقامة البينة كلفة دلت الفقرة الأولى على اشتراط ثبوت قوله بها وعدم كفاية شي ء آخر. وأما اليمين فهي وان كانت في نفسها كلفة في مقابل عدمها لكنها في جنب إقامة البينة أمر هين.

ومن الواضح أن سبق مطالبة الأمر الأسهل من المنكر بعد ذكر مطالبة الأمر الأصعب من المدعي لا يكون مؤداه سوى الترفيه والرخصة كالأمر بعد الحظر أو توهمه ، لا عدم اجزاء الأمر الأصعب على تقدير تبرعه به كعدم أجزاء أمر اليمين من المدعي.

ومما يدل على أن اليمين ليست كلفة مع وضوح أن المدعي إذا أريد الترفيه بحاله لعسر إقامة البينة عليه أو لنكتة أخرى سمع قوله باليمين. والحاصل ان الاكتفاء باليمين حقيقة تصديق لقول المكتفى عنه من غير كلفة ، وأما مطالبة البينة فهو رد لقول المطالب منه حقيقة ، ولذا يقال ان القول قوله بيمينه لا بنيته.

ومن هنا علم أن عدم ذكر البينة مع اليمين مع تساويهما لأجل استهجان ذكر الأثقل مع الأخف ، كالتخيير بين الأقل والأكثر.

ثمَّ لا يذهب عليك أن ذلك لا يستلزم التخصيص في الفقرة الأولى ، لأن مفادها حينئذ حصر مطالبة جميع أفراد البينة في المدعي ، وهو باق على عمومه ، لا حصر كفاية جميع أفرادها فيه - فافهم.

نعم كل ما يكتفى فيه من المدعي باليمين فهو تخصيص في الفقرة الاولى ، وكل ما لا يكتفى فيه من المنكر فهو تخصيص في الفقرة الثانية ، والتخصيص

ص: 182

الأول كثير وأما التخصيص الثاني فهو في الدماء أيضا ثابت ، وذلك لان ظاهر الفقرتين حصر المدعى في البينة والمنكر في اليمين أيضا لعين ما ذكرنا في حصر البينة في المدعى.

وحاصله : ان المسند المحلى باللام أيضا يدل على العموم ولو كان للجنس في مقام البيان لقاعدة الحكمة ، فمفاد « البينة على المدعى » أن كل بينة على المدعى وكل مدع عليه البينة ، وكذا مفاد « اليمين على المنكر » ، فكل موضع لا يكتفى من المنكر باليمين بل يطالب منه البينة فهو تخصيص في الفقرة الأولى باعتبار مدلولها بملاحظة تعريف المسند اليه وفي الفقرة الثانية أيضا باعتبار مدلولها بملاحظة تعريف المسند.

وأما القرينة الخارجية فهي ما ورد في الدماء من « ان اللّه تعالى حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم ، حكم في أموالكم بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وفي دمائكم بأن اليمين على المدعي والبينة على المنكر محافظة للدماء » (1). وجه كونها قرينة : أن الإجماع قائم على كفاية البينة في دعوى الدم فكذا في الإنكار في غير الدماء ، لأن المغايرة بينهما انما هي في كون المدعي في الدماء بمنزلة المنكر في غيره ، فالحكم الثابت في دعوى الدماء ثابت في المنكر في غيرها.

وما ورد أيضا من أن اللّه تعالى أوحى الى نبي من أنبيائه أن احكم بين الناس. فقال : يا رب كيف أحكم بما لم يره عيني ولا سمعت أذني؟ فقال : أحكم بالبينات وأضفهم إلى اسمي. قال المعصوم عليه السلام : هذا لمن لم يكن له بينة (2). بناء على كون المراد بالموصول المنكر دون المدعي.

ص: 183


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 3 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
2- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

وما رواه أيضا في العيون في باب العلل من تعليل يمين المنكر بأنه جاحد لا يستطيع على إقامة البينة على الجحود (1). فإنه يدل على أن تعيين اليمين للمنكر مبني على الرخصة والترفيه وأنه لو استطاع على إقامة البينة - بأن كان إنكاره متضمنا لأمر وجودي قابل لا قامتها عليه - سمع منه ، الا أن الرواية وردت في إبداء الحكمة ، ولكنه لا يخلو عن نحو تأييد لما قلنا.

وأما رواية منصور (2) الواردة في تقديم بينة الخارج والمصرحة بعدم قبول البينة من الذي في يده العين - أعني المنكر - فلا تنهض في منع قبولها في غير صورة المعارضة الذي كلامنا فيه ، لان البحث في أن المنكر هل يسمع منه البينة وهل تكون بينته مغنية عن يمين أم لا مع قطع النظر عن صورة التعارض؟ فيمكن الالتزام بمضمون الرواية في صورة المعارضة وجعلها دليلا على ترجيح بينة الخارج حتى يكون دليلا على المطلوب ، لان الترجيح فرع كون الطرف المقابل حجة.

ومن هنا يظهر سقوط ما أورده الفاضل في كشف اللثام على ما في القواعد حيث جمع العلامة فيها بين ترجيح بينة الخارج وبين سماع البينة من ذي اليد في صورة عدم المعارضة ، إذ لا منافاة بين عدم القبول في صورة التعارض لرجحان معارضة ذاتا وبين القول بحجيته بدون التعارض كما لا يخفى.

( الخامس ) ان تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية ومدخليته في الحكم ، فيستفاد من قوله « اليمين على المنكر » أنه من حيث إنكاره وجحوده لا يطالب ولا يسمع منه سوى اليمين ، فلو كان منكر يتضمن قوله ادعاء أمر وجودي مستلزم عقلا أو عادة لصدق إنكاره - كما في المقام وكما في صورة الاختلاف في وجه

ص: 184


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 6.
2- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 4.

الإجارة بأن قال الموجر آجرتك بعشرة وقال المستأجر بل بخمسة - فلا يستفاد منه عدم قبول البينة منه من حيث ادعائه لذلك الأمر الوجودي.

ودعوى أنه إذا اشتمل الإنكار على ادعاء أمر وجودي كان المنكر مدعيا من جهة وان كان منكرا من جهة إنكاره. مدفوعة بأن مجرد تضمن الإنكار لادعاء أمر وجودي لا يجعله مدعيا ، ولذا لا يحكم في مثله بالتحالف فلا يطالب اليمين في مسألة الاختلاف في وجه الإجارة الا من المستأجر ، على ما صرح به في المسالك ناسبا له الى المشهور ناقلا لخلاف الشيخ وقوله بالتحالف.

[ مواضع تقبل فيها بينة المنكر ]

وقد صرح غير واحد بقبول البينة من المنكر في مواضع :

« منها » - ما ذكروه في دعوى تلف المغصوب حيث حكموا فيه بسماع قول المدعي - أعني الغاصب - حذرا من لزوم تخليد الحبس والعقوبة.

وأورد عليه بالنقض فيما إذا أقام المنكر - أعني المالك - البينة على البقاء ، فلو لا إقامة البينة من المنكر الذي يقتدر على إقامتها باعتبار اشتمال مقالته على أمر وجودي كان النقض ساقطا غير صالح للإلزام على القوم.

« ومنها » - مسألة الاختلاف في وجه الإجارة المشار إليها ، فإن هذه أيضا مما صرح به في المسالك مرسلا له إرسال الواضحات.

والحاصل : ان مواضع سماع البينة من المنكر في كلمات القوم تصريحا وتلويحا كثيرة. نعم كثيرا ما يصرحون بعدم السماع أيضا في مسائل مخصوصة وعلى وجه الكلية أيضا ، كما صرح به المحقق في الشرائع والفاضل في كشف اللثام والسيد في محكي الرياض. لكن القدر الجامع بين الكلمات والأدلة يمكن أن يكون ما ذكرنا من التفصيل بين صور الإنكار والقبول فيما يتضمن منه

ص: 185

لادعاء أمر وجودي مسبب عن أمر عدمي. وعليك بالتأمل والنظر في كلماتهم.

لكن هذا التفصيل أيضا غير منضبط ، لان القول بسماع البينة من المنكر في كل مقام يتضمن إنكاره لأمر وجودي ولو بالاستلزام أيضا مشكل. مثلا لو أقام البينة على موت مورث مدعي الدين قبل تاريخ التمسك الذي تمسك به في دعوى الدين من جانب مورثه أشكل سماع بينته.

الا أن يقال : ان الميزان هو أن يكون الإثبات الذي يقيم عليه البينة متعلقا لغرض المنكر بالذات ، كإقامة المالك البينة على بقاء المغصوب ، فيخرج مثل إقامة البينة على موت المورث قبل تاريخ التمسك ، فان موته ليس متعلقا لغرضه بالذات بل باعتبار استلزامه لعدم اشتغال ذمته بالدين.

وهو أيضا مشكل ، لأن إقامة المستأجر البينة على قدر ما يدعيه من الأجرة أيضا إقامة لها على غير المقصود بالذات ، لان الغرض منها نفي ما يدعيه الموجر من الزيادة. وكيف كان فالنظر في الأدلة لا يبعد مساعدته على سماع البينة من المنكر إذا كان إنكاره مستلزما لأمر وجودي يكون متعلق غرضه ، وأما مساعدة كلمات العلماء لجميع جزئيات هذا الميزان فلا نلتزم به ولا نقول به.

[ سماع البينة من المنكر على ما ينفعه ]

ثمَّ ان المحقق القمي في محكي جواب سؤاله اختار ما قويناه من سماع البينة من المنكر حيث يقيمها على ما ينفعه ويحقق مقالته ، واستدل عليه بعد تزييف دلالة « البينة على المدعي واليمين على أنكر » على عدم السماع بقاعدة كون التفصيل قاطعا للشركة بما حاصله : ان التفصيل انما هو في الأمر الواجب على المتخاصمين دون الكافي ، فالمدعي والمنكر ممتازان في أن الأول يجب عليه إقامة البينة والثاني لا يجب الا اليمين ، بأمور :

ص: 186

« منها » - ما ورد فيمن ادعى على الباقر عليه السلام بغلة اشتراها من شخص فصدقه وسلمه البغلة ، ثمَّ ادعى سرجها أيضا فكذبه وقال «عليه السلام» : ان لي بينة على أن السرج لي (1). فإنه عليه السلام كان ذا يد على السرج ومع ذلك استند في كون السرج ماله إلى البينة.

ودلالته وان كانت محل مناقشة ، لأنه عليه السلام لم يكن معه في مقام المرافعة والخصومة بل في مقام بيان الواقع ، لكنه لا يخلو عن تأييد لما قلنا.

« ومنها » - قول أمير المؤمنين عليه السلام حين طالب منه أبو بكر البينة على ملكية فدك : حكمت بخلاف ما حكم به رسول اللّه «صلی الله علیه و آله و سلم» من ان البينة على المدعى واليمين على من أنكر ، لم تطالب البينة مني ولا تطالبها من المسلمين (2).

فان جوابه عليه السلام يشعر أو يدل على قبول البينة من المنكر ، والا كان عليه أن يقول لم تطالبني البينة مع أن المنكر لا يسمع منه البينة. وحاصله الى تقريره عليه السلام له على مطالبة البينة من حيث اشتمالها على فائدة له وردعه في تعيين المطالبة منه لا من المسلمين.

ومنه يندفع ما قد يتوهم من دلالة قوله عليه السلام « بخلاف ما حكم به رسول اللّه » على خلاف المقصود وان البينة من المنكر خلاف حكم رسول اللّه «صلی الله علیه و آله و سلم» . وجه الاندفاع : ان المخالفة اما هي في المطالبة والتقرير انما هو في إفادة البينة فائدة في حق المنكر - فافهم.

ثمَّ ان كونه عليه السلام منكرا في ملكية فدك اما باعتبار كونها في يده أو باعتبار ما تقتضيه قواعد الميراث. ثمَّ ان دلالته أيضا خفية أو ممنوعة ، كما يظهر بالتأمل من وجوه ، لكنه لا تخلو عن نحو تأييد أيضا.

ص: 187


1- الوسائل.
2- الوسائل

« ومنها » - ادعاء صاحب المهذب البارع الإجماع على أنه إذا تنازع اثنان في عين تحت يد هما قضى لمن كان له بينة إذا لم يقم صاحب البينة.

وأنت بعد الإحاطة بما قدمنا وبكلمات الأصحاب كالمحقق والفاضل الأصفهاني وصاحب الرياض المصرحين بعدم القبول والشهيد المتأمل في ذلك في الدروس وغيرهم تعرف ما في هذا الإجماع.

وأما ما ذكره في تزييف دلالة التفصيل على قطع الشركة وتبعه بعض مشايخنا ، ففيه ما لا يخفى ، لان قبول البينة من المنكر ينافي إيجاب اليمين عليه ، لأنه أحد فردي الواجب المخير.

ودعوى كون البينة مسقطة وان التكليف تعلق باليمين خاصة كما يقال مثل ذلك في بعض المقدمات. شطط من القول هنا ، لان اليمين والبينة ليس شي ء منهما تكليفا بل كل منهما مسقط محض.

وأما الإشكال الثاني فنقول في حسمه : تارة بعدم الفرق بين المقامين ، فمن يرى الإحلاف في بعض صور المقام الثاني الذي تأتي الإشارة إليه يلزمه القول به في المقام الأول في تلك الصورة أيضا. وأخرى بإمكان الفرق بينهما ، وهو أن البينة القائمة على الإعسار في المقام الأول - أعني غير المسبوق بالمال - لا بد أن تكون وافية بتمام المدعى ، بأن تكون نافية للاحتمال الخفي الذي علل بدفعه اليمين في المقام الثاني.

وأما البينة القائمة على الإعسار في المسبوق بالمال فستعرف أنها قد تكون وافية رافعة للاحتمال الخفي ، فيستغني عن اليمين حينئذ مثل الأول كما سنذكره ، وان تكون غير وافية محتاجة في تماميتها الى اليمين. فالبينة التي تحتاج الى اليمين لما كانت مختصة بالمقام الثاني - كما سنذكر - اختص اليمين به أيضا ، بخلاف المقام الأول فإن مثل هذه البينة لما لم تسمع في المقام الأول استغني

ص: 188

عن اليمين ، فالفرق بين المقامين انما جاء من قبل الفرق بين بينهما لأمن أنفسهما.

وانما لم تسمع البينة الغير الوافية في المقام الأول لأنه لا يلزم من عدم سماعها محذور ، إذ المنكر - أعني مدعي الإعسار في المقام الأول - ان شاء أن يستريح عن اليمين فعليه إقامة البينة الوافية وان عسر عليه إقامتها فيستريح الى اليمين ، إذ لا يطالب منه أزيد منها. بخلاف المقام الثاني الذي فرضنا كون مدعي الإعسار فيه مدعيا ، فان وظيفته ليس اليمين لكونه مدعيا ، فلو كلف بالبينة التامة لزم تخليد الحبس إذا عدمها ، فيقنع عنها بالبينة الغير الرافعية للاحتمال الخفي وينجبر ضعفه باليمين - فتأمل وانتظر تمام الكلام.

ثمَّ ان البينة المعتبرة في المقام الأول يعتبر فيها الخبرة والاطلاع التام بحال المدعى ، فان شهدت بالإعسار اعتمادا على الأصل لم تقبل وان قبل مثلها في غير المقام ، لأن الشهادة المستندة إلى الأصل انما تعتبر حيث تعتبر إذا لم يكن نسبة الأصل الذي استند اليه الشاهد الى الجميع سواء والا فلا معنى لقبول مثلها ، فاذا كانت الحالة السابقة في شي ء معلومة لكل أحد وشهد شاهد على طبقها بمقتضى الاستصحاب لم تنفع شهادته جدا ، فلو شهدت في المقام بالإعسار باعتبار كونه مطابقا للاستصحاب لم ينفع وانما ينفع لو كانت شهادته مستندة الى ما هو من خصائصه كالخبرة والاطلاع التأمين بحال المدعي. ومن هنا اعتبروا في بينة الإعسار الخبرة والاطلاع على بواطن الأمر.

فظهر أن البينة في المقام الأول على ثلاثة أقسام لاغية ومغنية عن اليمين وغير مغنية ، والاولى ما كانت مستندة الى الأصل ، والثانية ما كانت نافية للاحتمال الخفي ، والثالثة ما يبقى معه الاحتمال. وهذه قد عرفت الحال فيها وأنها لو لم تقبل في هذا المقام لم يكن بعيدا.

ص: 189

ثمَّ لو شك في كون البينة من الأولى أو الثانية فالكلام فيه مثل الكلام فيما احتمل استناد الشهادة إلى الحدس ، وقد مضى حكمه فيما تقدم.

[ الصور المختلفة في الشهادة على الإعسار ]

( وأما المقام الثاني ) فتفصيل القول فيه : ان دعوى الإعسار اما أن تكون مع العلم بسبق اليسار أو بسبق مال مخصوص واف بالدعوى كلا أو بعضا ، كما إذا كان أصل الدعوى مالا مثل ثمن المبيع أو القرض أو نحوهما مما يتضمن العلم بسبق مال معين باعتراف الخصمين. وعلى التقديرين فاما أن تشهد البينة على الإعسار أو على تلف المال أو الأموال.

ثمَّ ان الشهادة على كل من الإعسار أو تلف الأموال : قد تكون على وجه ينفي احتمال المال الخفي ، كما إذا شهدت على ارتداد مدعي الإعسار أو صلحه عن جميع أمواله شخصا أو بيعه أو نحو ذلك مما يستلزم عدم المال رأسا سرا وعلانية ، وقد تكون على وجه يبقى معه احتمال بقاء بعض الأموال السابقة أو تجدد مال آخر ، كما إذا شهدت بعد الخلطة التامة على تلف جميع أمواله الظاهرة بغرق أو حرق أو نحوهما ، فالصور ثمان :

( الاولى ) ما إذا شهدت على الإعسار مع العلم بسبق اليسار شهادة نافية للاحتمال الخفي.

وهذه لا إشكال في قبولها مجردا عن اليمين ، ولا يظن شمول كلمات من قال بالإحلاف مع البينة كالمحقق لمثل هذه الصورة ، خصوصا مع عدم مجي ء ما علل به من نفي الاحتمال الخفي فيها كما لا يخفى.

( الثانية ) مثل الصورة مع كون الشهادة غير نافية لاحتمال البقاء ، كما إذا شهدت بالعسر والضيق اللائقين بحال الفاقدين ، لا بما يلزم عقلا أو شرعا أو عادة

ص: 190

لفقدان المال ، فان الضيق قد يجامع المال الواقعي وان كان منشؤه غالبا عدمه.

وهذه مورد الإشكال الذي اضطرب فيه كلام بعض من تصدى لدفعه. وجه الاشكال : ان مدعي الإعسار في هذه الصورة مدع ، والمدعي لا ينفع يمينه سواء كانت بينته وافية بالمقصود أم لا ، غاية الأمر أنه إذا لم تكن وافية قضى لصاحبه بعد الحلف.

ولو قيل : ان المدعي فيما يعسر فيه اقامة البينة يكلف باليمين والمقام منه لان عدم المال الواقعي مما يعسر عليه إقامة البينة نوعا ولو كان مسبوقا باليسار ، لأن غاية ما يمكن أن يعلم به الشاهد هو تلف أمواله الظاهرة ، وهو غير مناف لبقاء شي ء من الأموال أو تجدد مال جديد مخفي ، فصار المقام ما يعسر فيه اقامة البينة نوعا ، فيكتفى فيه باليمين.

قيل : ان عسر إقامة البينة نوعا يوجب العدول الى اليمين رأسا ، وليس المقام كذلك ، لأنهم لا يقولون بحلف مدعي الإعسار إذا لم يكن له بينة وانما يقولون به معها ، فان كان المقام من موارد العسر لم يحتج إلى البينة والا لم ينفع اليمين أيضا ، فالجمع بينهما مما لا يساعده شي ء من القواعد.

وتفصى بعض مشايخنا قدس سره عن الاشكال ووجه الجمع بينهما ، بأنه قبل إقامة البينة الناقضة مدعي ضعيف الجانب ، فلا يكتفي منه باليمين بل عليه البينة ، وبعد إقامة البينة الناقصة يقوى جانبه نحو قوة جانب المنكر الذي اكتفي منه باليمين لقوة جانبه ، فيكلف باليمين كسائر الموارد التي يحلف المدعي لقوة جانبه باعتبار مساعدة الظاهر له ، مثل مدعي الإنفاق على الزوجة مع التيام الأخلاق ، وانما لم يقنع منه بتلك البينة القائمة لعدم وفائها بالمقصود وهو العسر الواقعي وعدم المال النفس الأمري. هذا غاية ما يحسن في توجيه كلامه.

وفيه بعد ونظر من وجوه :

ص: 191

الأول - ان اليمين لا يدور مدار قوة الجانب ولو حصلت من الظهور مطلقا في مقابل الأصل. كيف وتقديم قول من يدعي على طبق الظاهر معدود محصور ثبت الحكم فيها بالأدلة الخاصة.

والثاني - انه على تقدير اعتبار الظهور مطلقا في سقوط البينة والإقناع باليمين فالمعتبر انما هو الظهور النوعي الداخلي لا الظهور الشخصي مطلقا ولا الظهور الخارجي مطلقا ، بأن يكون مستنده بعض الامارات الخارجية الغير المعتبرة ، كقول عدل أو عدلين غير ناهض بالمقصود ، وإلا لزم القول بحلف المدعي إذا كان له شاهد واحد ، وهو كما ترى.

والحاصل ان الظهور قد يكون حاصلا من الأمور الداخلية كدعوى إنفاق الزوج على الزوجة مع التيام الأخلاق ودعوى الزوجة الدخول مع الخلوة وسلامة الرجل من العيب ونحوهما مما يظهر فيه صدق المدعي في نفسه مع قطع النظر عن معاضدة أمارة خارجية ، وقد يكون خارجيا حاصلا من ملاحظة أمر خارج ، والمعتبر على القول بدوران الحلف مدار الظهور دون الأصل هو الأول دون الثاني.

والثالث - ان التقوية تحصيل في المقام الأول أيضا ، مع أن القائل باليمين في المقام الثاني لا يقول به في المقام الأول كما عرفته.

والذي يمكن أن يوجه به الجمع بين البينة واليمين هنا وترفع الاشكال هو أن يقال : ان عسر إقامة البينة باب في الفقه ، لسقوط البينة من المدعي شرطا أو شطرا أو رأسا ، بحسب اختلاف المقامات كما أومأنا إليه في بعض الالتقاطات السابقة. فقد يوجب سقوط بعض شرائطها كالذكورية كما في الموارد التي يكتفى فيها بشهادة النسوان ، وكالعدالة كما في موارد الاستفاضة ، وكالعلم كما في مواضع

ص: 192

قبول الشهادة الظنية مثل العدالة ونحوها ، وقد يوجب سقوط أصلها كما في الموارد التي يقدم قول المدعي فيها بيمينه.

وما نحن فيه من قبيل الأخير ، فان اقامة البينة على عدم المال الواقعي المخفي لما كان عسرا عدل عنه في مقدار العسر الى اليمين ، وانما لم يعدل عنها إليها رأسا لا إقامتها على عدم الأموال الظاهرية وعلى الضيق والشدة ليس عسرا ، فلا وجه لإهمال هذا المقدار من الميسور بالمعسور.

فنقول : ان مطالبة البينة لأجل إثبات ما يسهل إثباته من الضيق الكاشف عن عدم الأموال الظاهرة ومطالبة اليمين لأجل إثبات ما يصعب إثباته من عدم المال الباطني ، وهذا نظير موارد جريان قاعدة الميسور في العبادات ، فكما أن قاعدة الميسور قاضية بإهمال بعض أجزاء العبادات وشروطها المعسورة مع مراعاة الميسور كذلك قاعدة عسر إقامة البينة قاضية بإهمال القدر المعسور من مراعاتها شرطا أو شطرا.

ومن جملة الشروط أو الشطور وفاؤها بالمدعى بنفي الاحتمال الخفي ، فحيث لم تكن وافية فلينظر : فان كان في مراعاة الوفاء عسر عدل في التوفية إلى اليمين كما يعدل إليها لو كان العسر في أصل إقامتها.

ومنه يظهر وجه عدم العدول إليها مع عدم البينة ، لأن إقامتها ولو غير وافية ليس عسرا ، فلا وجه لإهمال الميسور بتعذر المعسور.

فان قلت : لو أن شخصا كان عليه إقامة البينة على تمام ما يدعيه من العشرة مثلا عسرا مع إقامتها على الخمسة فهل يحلف عدولا في القدر المعسور الى اليمين كما ذكرت؟.

قلت : المناط هو العسر النوعي لا الشخصي.

ومما ذكرنا ظهر أن اليمين في المقام ليست من قبيل اليمين الاستظهارية في الدعوى على الميت ونحوها ولا من قبيل جزء السبب كاليمين المنضمة مع

ص: 193

الشاهد في دعوى الأموال بل من قبيل اعتضاد السبب وجبران ضعفه في الدلالة والصراحة في المدعى بجابر ، لان اليمين الاستظهارية لدفع ما ربما يقال بعد ثبوت المدعى مثل دعوى الإبراء أو الوفاء أو نحوهما ، وهذا اليمين محتاج إليها في أصل ثبوت الدعوى. وكذا ضميمة الشاهد في دعوى الأموال جزء سبب شرعي كالشاهد ، بخلاف هذه اليمين فإنها ليست لدفع ما يقال بعد ثبوت الدعوى ولا جزء السبب الشرعي بل جابر دلالته.

( الصورة الثالثة ) أن تشهد على تلف الأموال في المسبوق باليسار شهادة نافية للاحتمال الخفي ، مثل أن تشهد على ما يستلزم شرعا أو عقلا لعدم المال الواقعي ، كالارتداد والبيع والصلح ونحوها ، وحكمها حكم الصورة الأولى.

( الصورة الرابعة ) مثل الصورة مع بقاء احتمال اليسار ، اما لاحتمال بقاء بعض الأموال السابقة حيث يحتمل خفاء بعضها على البينة واما لاحتمال تجدد مال بعد تلفها ، وحكمها حكم الثانية في الاحتياج الى اليمين.

وعليها ينزل قول العلامة بالإحلاف مع بينة التلف في موضع من التذكرة ، كما ينزل على سابقها قول من فرق بين بينة التلف وبينة الإعسار بعدم الإحلاف في الأول دون الثاني كالمحقق. وان كان هذا لا يخلو عن نحو تفكيك معيب في العبارة ، والا أشكل الفرق ولا يكاد يتم ، الا أن يقال : ان الشهادة على تلف الأموال السابقة نافية لاحتمال بقاء شي ء من الأموال السابقة تصديقا للبينة.

وأما احتمال تجدد المال. فهو مدفوع بالأصل كما في المقام الأول ، فإن كان يدعيه مدعي اليسار فله الإحلاف ، كما في المقام الأول ، بل هو منه حقيقة ، فلا يندرج تحت صورة العلم بسبق اليسار وان لم يدعه. فلا وجه للإحلاف ، لأن تلف الأموال المعلومة قد يثبت بالبينة بحيث لا يبقى معه الاحتمال الخفي كما في جميع المقامات ، لأن البينة إذا شهدت بشي ء فلا يلتفت الى احتمال

ص: 194

خطأها وغفلتها وجهلها بالواقع وغيرها من الأموال الخفية أو المتجددة يدعيها الخصم حتى يستحلف لأجله.

والحاصل ان شهادة البينة على تلف الأموال المعلومة على حد شهادتها على الارتداد مثلا في تلف الأموال الظاهرة ، واحتمال تجدد المال غير ضائر ، والكلام بالنسبة إليه مثل الكلام في المقام الأول فله حكم نفسه. واحتمال بقاء شي ء من الأموال المعلومة منفي في القسمين بالبينة ، وهكذا الكلام بالنسبة إلى احتمال خفاء بعض الأموال على البينة من أول الأمر ، فإنه مثل احتمال التجدد منفي بالأصل كالمقام الأول.

فظهر وجه كلام المحقق من أنه مع قيام البينة على التلف لا حاجة الى اليمين ، يعني بالقياس إلى الأموال السابقة وتلفها لا مع دعوى المدعي بعض الأموال غير التي شهدت البينة بتلفها ، أو دعوى تجدد بعض الأموال بعد التلف ، فإنه يندرج تحت المقام الأول المفروض عدم العلم باليسار ، ومع قيامها على الإعسار المطلق لا بد من اليمين ، لأن غاية ما تشهد به البينة هو ذلك الأمر الوجودي الذي قد تفارق عدم المال الواقعي ، فيكون دلالتها على المراد - وهو العسر الواقعي - ناقصة فيحتاج الى المكمل. الى آخر ما عرفت في الصورة الثانية.

لكن يبقى الكلام حينئذ في توجيه العكس الذي ذهب إليه في موضع من التذكرة ، وتوجيهه أن يقال : ان مفروض كلام الفاضل في بينة التلف أن تشهد البينة على تلف الأموال الظاهرة ساكتا عن الاحتمالات الخفية كما في الصورة الثانية.

وحينئذ فوجه اليمين في بينة التلف ما قلنا في بينة الإعسار من أن في رفع الاحتمالات الخفية بالبينة لما كان عسرا نوعيا عدل فيه الى اليمين عملا بالقاعدة المشار إليها.

ويوجه عدم اليمين في بينة الإعسار بحملها على ما لا يبقى معه الاحتمال الخفي كالصورة الأولى ، أو بما أشار إليه البعض من أن بينة الإعسار بعد فرض

ص: 195

خبرتها واطلاعها على بواطن الأمور تفي بالمدعي ، لأنها تثبت الضيق والشدة اللائقين بحال الفاقد. وبه يثبت الإعسار ، لأن الحكم الشرعي لا يناط على دفع الاحتمالات الواهية ولا على زيادة مداقة في الفحص عن البواطن ، فاذا ثبت أن الرجل يصبر على ما لا يصبر عليه الملي غالبا كفى ذلك في ثبوت إعساره ، ولا يلتفت الى الاحتمالات التي خفيت على البينة. وفيه تأمل والأول أولى.

كما أن ما وجهنا به كلام العلامة في بينة التلف أولى مما وجهنا به كلام المحقق في بينة التلف ، لان احتمال تجدد المال في صورة قيام البينة على التلف - وان كان في نفسه مخالفا للأصل - لكن استصحاب بقاء اليسار مع احتمال التجدد حاكم على أصالة العدم ، كما تقرر في استصحاب الكلي. وكذا احتمال خفاء بعض الأموال على الشاهد من أول الأمر ، فإن أصالة العدم وان كان بنفسه جاريا الا أن استصحاب كلي اليسار المحتمل وجوده في ضمن فرد آخر خفي غير الأفراد المعلومة العدم حاكم عليه أيضا كما تحقق في محله.

والحاصل انه متى حصل العلم باليسار السابق كان مدعي الإعسار مخالفا للأصل ، سواء كان احتمال اليسار باعتبار احتمال تجدد مال بعد التلف أو باحتمال خفاء مال غير الأموال الظاهرة أو باحتمال بقاء بعض الأموال الظاهرية ، فليس وظيفته اليمين بشي ء من الاعتبارات ، وحينئذ فلا فرق بين بينة التلف وبينة الإعسار المطلق في الاحتياج الى الحلف وعدمه.

وحاصل الكلام من أوله الى آخره : ان مع قيام الاحتمال الخفي لا بد من اليمين في بينة التلف وبينة الإعسار ، لما ذكرنا من القاعدة ، ومع عدمه فلا حاجة إليها.

ومن فرق بينهما فأحسن الوجوه في توجيهه حمل البينة على التلف في كلامه على غير البينة على الإعسار.

ص: 196

ومن الإحاطة بما ذكرنا يعرف الكلام في الصور الباقية الأربع ، كما يعرف الكلام من حيث الإحلاف وعدمه في المقام الأول الذي فرض فيه عدم العلم بسبق اليسار ، وان ما ذكرنا من الاحتياج الى اليمين في البينة الغير النافية جار فيه أيضا.

وان الفرق بينه وبين المقام الثاني مع فرض اتحاد البينة مشكل ، الا أن يتمسك بما نبهنا عليه من منع سماع البينة الغير النافية في المقام الأول ، نظرا الى ما لمدعي الإعسار فيه من المندوحة والاستراحة إلى اليمين على تقدير فقدانه البينة النافية الكاملة.

التقاط [ حلف المنكر يسقط جميع حقوق المدعى ]

إذا حلف المنكر سقطت الدعوى في الحال والاستقبال ، وليس للمدعي مطالبته بالحق ولا الاقتصاص من أمواله كما كان له ذلك قبل التحليف ، ولا معاودة المحاكمة ولا تسمع دعواه لو فعل ، ولكن ذمة المنكر مشغولة بالحق ولا تحصل له البراءة في نفس الأمر.

وبهذا كله صرح في المسالك ناسبا له الى المشهور نافيا لظهور الخلاف فيه بعد فرض الكلام فيما إذا لم يقم على حقه بينة بعد الإحلاف.

ومستند المسألة أخبار بين الأمر بتصديق الحالف والرضا بيمينه عن الحق وبين المصرح بذهاب اليمين بحق المدعي وإبطاله وانه لا حق له على المنكر بعد الإحلاف وبين النافي للتقاص سرا.

وتوضيح الحال في المسألة : ان الدعوى اما أن تكون في الدين أو العين ، فان كانت في الدين فلا إشكال في عدم حصول البراءة الواقعية للمنكر بالحلف

ص: 197

للإجماع ظاهرا على وجوب التخلص عنه على المنكر فيما بينه وبين اللّه لو كانت اليمين كاذبة ، ولأنه إذا أقر بعد الحلف جاز المطالبة ظاهرا وباطنا كما سيأتي ، فلو كانت الذمة بريئة كان الإقرار لغوا ، لأنه إقرار بشي ء كان في ذمته قبل الحلف لا بعده ، وسيأتي توضيحه أيضا.

وكذا لا إشكال في عدم العود الى الدعوى ولا في عدم جواز المطالبة ، وأما حرمة المقاصة فلو لا ما دل عليها بالخصوص كان حالها نظير ما يأتي ، ولكن الخبر الوارد في جناية اليهودي صريح في عدم جوازها ، ولعله لا خلاف فيها معتدا به.

وأما ترتب سائر أحكام الملكية على وجه لا يكون فيه تعرض للمنكر ولا لحاله ظاهرا ولا باطنا - مثل الاحتساب من الزكاة والخمس ونحو هما - فمال بعض مشايخنا قدس سره في ملحقات كتابه إلى العدم ، استظهارا له من مثل قوله عليه السلام في الروايات « ذهبت اليمين بما فيه » (1) و « انها أبطلت كل ما ادعاه قبله » (2) ، لكن الإنصاف انه محل تأمل بل منع ، لأنه ان أريد دلالتها على خروج ما في ذمة المنكر من الدين عن المالية رأسا نمنع إمكان دعوى الإجماع على عدمه ، لما عرفت من وجوب التخلص عنه على المنكر بلا خلاف ظاهر ، وعدم براءة ذمته في نفس الأمر المقتضي لاشتغالها بالدين ، فلا دلالة فيها على ذلك والإلزام القول بكون اليمين من النواقل إذا كان المدعى به عينا ، فان ذهاب جميع جهات الملكية والمالية في العين لا معنى له سوى خروجها عن ملك المالك ، ولعله مما لا يلتزم به أحد.

والتفكيك بين العين والدين بالتزام بقاء بعض الجهات المالية في الأول

ص: 198


1- الوسائل ج 18 ب 9 من أبواب كيفية الحكم ح 2.
2- الوسائل ج 18 ب 9 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

دون الثاني ، وان أمكن لكنه يحتاج الى دليل ، ولا دليل في خصوص العين لا يجري في الدين سوى قصور دلالتها على ذهاب جميع الجهات المالية.

ودعوى ان الدليل في العين هو الإجماع في مثل المقام. كلام قشري لا يليق بمن عرف الإجماع الناشئ عن دليل تعبدي والناشئ عن مقتضى القواعد العامة مع قصور دلالة المخرج. فاذا ثبت أن الذاهب انما هو بعض الجهات المالية لا جميعها فالقدر المتيقن منه ما قلنا من المطالبة أو التعرض لحاله الباطني أيضا.

ويؤيده ما في خبر آخر من النهي عن الأخذ بعد اليمين (1) مكان ما اشتمل عليه غيره من الإذهاب والإبطال ، فإن المقام وان لم يكن من موارد التخصيص أو التقييد الا أن المظنون اتحاد مفاد الكل. وان أريد دلالتها على بقاء الدين على حكم مال المدعي مع عدم جواز تصرفه فيه بشي ء من التصرفات ، فهذا في العين وان كان أمرا معقولا لكنه في الدين ليس بمعقول ، لأن مالية الدين ليس على حد مالية العين الراجعة الى صفة اضافية بينها وبين المالك ، بل هي عبارة عن صرف ترتيب أحكام المالية من التصرفات ، فبقاء المالية وعدم نفوذ شي ء من التصرفات فيه كالتناقض.

فان قلت : أثر بقاء المالية ممحض فيما يتعلق بالأخرة من العقوبات والمؤاخذة ونحو هما مما يترتب على شغل الذمة بحق الناس ، وأما ما يتعلق بالدنيا فلا ضير في عدم ثبوت شي ء منها.

قلت : ما يتعلق باشتغال الذمة في الآخرة ليس شيئا قابلا لإثبات صفة المالية للدين ، لأنك عرفت أن مالية الدين حقيقتها ترتيب أحكام المال وما يتعلق بالاشتغال في الآخرة ليس من الحكم الشرعي في شي ء ، مع أن المؤاخذة والعقاب

ص: 199


1- الوسائل ج 18 ب 10 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2.

ونحو هما مما يرجع الى الأمور الأخروية ، يكفي في ترتبها مجرد الحلف الفاجر ولو قلنا بخروج المال عن المالية رأسا حتى في العين ، لأنه حينئذ بمنزلة الإتلاف التي لا توجب شيئا سوى الإثم والعقاب ، فلا يكون فرق حينئذ بين ثبوت بقاء المالية وذهابها رأسا - فافهم.

وقد يستدل أيضا بما دل على تصديق الحالف والرضا بيمينه عن الحق (1) ، فإن عموم التصديق بجميع الجهات المالية يقتضي الاعتراض عن جميع التصرفات وفيه مضافا الى ما عرفت في غيره أن وزان تصديق الحالف المأمور به هنا ، وزان تصديق المؤمن المأمور به في الاخبار ، وان المراد عدم الاتهام والتصديق المخبري الصوري لا ترتب آثار مطابقة قول المؤمن للواقع.

فان قلت : حكم الامام عليه السلام بذهاب اليمين بالحق ثمَّ استشهد بالنبوي الأمر بتصديق الحالف ، فيكون المراد بتصديقه أمرا غير محض عدم الاتهام والتصديق المخبري الذي لا يترتب عليه ذهاب العين بالحق وعدم جواز التعرض.

قلت : القدر المحتاج إليه في صحة الاستشهاد كون المستشهد له مما يندرج تحت الشاهد ، وأما اقتضاء الاستشهاد لعموم الشاهد فلا. بل قد يقال : ان الاستشهاد المزبور مما يوهن دلالة قوله عليه السلام « ذهبت اليمين » على عدم التعرض الباطني كالمقاصة ، ويوجب اختصاصه بعدم جواز المطالبة جهارا ، لان التصديق المأمور به ليس مؤداه سوى التجافي عن المعارضة والمخاصمة ، نظير تصديق المؤمن الفاسق مثلا.

ومما ذكرنا ظهر أن تعقيب الأمر بالتصديق في النبوي بقوله صلى اللّه عليه وآله « ذهبت اليمين بحق المدعي أيضا » لا يعطي عموما في التصديق.

هذا كله مع أن الخارج عن تحت عموم الأمر بالتصديق أكثر من داخله ،

ص: 200


1- الوسائل ج 18 ب 9 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

إذ ليس يجب على الناس متابعة من أخبر خبرا ثمَّ حلف باللّه تعالى على طبقه ، وتقييده بمقام المرافعة يحتاج الى دليل ، وذيله المشار اليه لا يقتضي التقييد بحسب القواعد اللفظية.

والقول بأن المقيد هو الإجماع. قد عرفت ما في مثله.

كل ذلك مضافا الى أن في الروايات السابقة التي هي أظهر دلالة من الأمر بالتصديق ما يستظهر منه الفطن العارف بأساليب الكلام ومزايا الدلالات ، كخبر ابن ابي يعفور قال بعد ما قال الامام عليه السلام : ذهبت اليمين بحق المدعي فلا حق له. قلت : وان كان له بينة عادلة؟ قال : نعم وان أقام بعد ما استحلفه خمسين قسامة ما كان له - الحديث (1).

وجه الاستظهار أن كلمة « ان » الوصلية تدل على رفع توهم عدم مناسبة الشرط للجزاء وتوهم مانعيته له ، ومن الواضح أن اقامة البينة إنما يتوهم منافاته للمطالبة والتعرض لحال المنكر أو ماله لا ببعض التصرفات التي تتوقف على ثبوت الحق واقعا لا ظاهرا كالإبراء والعتق مثلا ، فلو أن الامام عليه السلام أراد بذهاب اليمين عدم جواز الإبراء والاحتساب السري من الزكاة أيضا وان الراوي أيضا فهم ذلك من كلامه عليه السلام كان قوله « وان أقام البينة » وقوله في جوابه « نعم » بمكان من الركاكة والاستهجان ، إذ قيام البينة وعدمه بالنسبة إلى مثل تلك التصرفات لا يؤثر شيئا ، لأنها منوطة بثبوت الحق واقعا لا ظاهرا ، بل كان عليه لو أراد توضيح الحال أن يقول ولو أقام بينة فكيف الحكم لا التعبير بأن الوصيلة المشعرة بالاستبعاد الغير اللائق بالمقام.

فظهر أن التعبير بها مبني على كون الحكم المدلول عليه بقوله عليه السلام « ذهبت اليمين » مما لا يناسبه إقامة البينة ، وليس هو إلا حرمة المطالبة وترتب

ص: 201


1- الوسائل ج 18 ب 9 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

سائر الاثار جهارا لا خفاء.

ثمَّ ان لازم القول بسلب جميع الاثار المالية في الدين عدم حصول التهاتر القهري أيضا لو فرض إتلاف المدعي شيئا من أموال المنكر يساوي قيمته بمقدار الدين الذي في ذمته. وهو كما ترى أثر قهري ، لأن التهاتر في مورده ، إذ لا يعقل اشتغال ذمة الشخص بعين ما اشتغل ذمة الشخص الأخر كالدينار الكلي ، فاذا فرض أن ما في ذمة المنكر دينار وقيمة التألف أيضا دينار حصل البراءة قهرا.

وبالجملة مفاسد هذا القول يضيق عن الإحاطة بها نطاق البيان ، وكيف بمثل هذه الأدلة الموهونة الدلالة يلتزم بخلاف القواعد المتينة ، سيما مع عدم مصرح به سوى من عرفت مع تأمله وتردده واعترافه بأنه لا يخلو عن نظر واشكال.

ومما يبعده أيضا تصريحه وتصريحهم بأن المنكر لو كذب بالإقرار عاد المطالبة والتعرض ، فإنه مع ذهاب المالية الدنيوية رأسا لا يكاد يتم ذلك الا بالتزام كون الإقرار سببا جديدا في حدوث المالية ، بخلاف ما لو قلنا ببقاء المالية وان الذاهب هو السلطنة على بعض الاثار كالتعرض والمطالبة.

[ لو أقر المنكر عاد حكم المطالبة والتقاص ]

توضيح المقام ، انه قد تطابق النص والفتوى على أن المنكر الحالف لو أقر بالحق مطلقا - سواء كان عند الحاكم أو عند غيره أو في السر - عاد حكم المطالبة والتقاص وغيرهما مما لم يكن له قبل الإقرار بعد الحلف.

وهذا على تقدير ذهاب المالية مشكل ، لأن الإقرار لا يقتضي إلا الإلزام بالمقربه ، فحيث كان المقر به أمرا غير مترتب عليه شي ء من الأثر وقع لاغيا ، وعلى القول بذهاب المالية رأسا فالإقرار به إقرار بما مر غير ملزم وانه كالإقرار بالدين الذي يتعقبه المسقط مثل الإبراء ونحوه ، فلا بد من الالتزام بأن الإقرار

ص: 202

سبب شرعي تعبدي لحدوث مال جديد في ذمة المقر مع العلم بعدم ثبوت مال في ذمته قبل الإقرار.

وهذا جدل لا يلتفت اليه من أنس بالفقه أنسا ، بخلاف ما لو قيل بما اخترنا من بقاء صفة المالية وعدم جواز ترتب بعض الاحكام لمانع الإنكار المقرون باليمين ، لأنا نقول حينئذ : ان الإقرار يرفع المانع من استيفاء الحق. وبعبارة أخرى :

ان المنع انما تعلق باستيفاء الحق من المنكر بعد اليمين ما دام منكرا وبعد الإقرار يرتفع الموضوع.

الا أن يقال بمثله على ذلك القول أيضا ، بأن يقال : ان الإنكار كان مانعا عن ترتب جميع الاثار المالية ما دام منكرا وتكذيب النفس يرفع المانع.

وكيف كان فقد ظهر أن التمسك في الحكم المزبور - أعني جواز المطالبة بأدلة الإقرار - غير سديد ، لأن أدلة الإقرار انما تفيد الإلزام إذا كان المقر به أمرا ملزما ، فلا بد أولا من إحراز كون الدين بعد الحلف من الأمور الملزمة ثمَّ التمسك بها ، لا التمسك بها مع قطع النظر عن ذلك حتى على احتمال خروجه عن المالية في الدنيا رأسا ، فإنه حينئذ كالإقرار بالدين بعد تحقق المسقط.

( تجديد مقال لتوضيح حال )

قد عرفت أن الأمر بالتصديق في النبوي نظير قرينة ، أعني الأمر بإعطاء الحالف له معنى آخر غير ترتيب آثار النفي والبراءة ، وان ذهاب اليمين بحق المدعي وإبطالها إياه ونفي الحق بعد اليمين لا دلالة لها أيضا على نفي جميع تصرفات المدعي من المطالبة وغيرها.

ونقول أيضا طلبا لمزيد البيان : ان ذهاب اليمين بالحق وإبطاله لا بد أن يراد به - بدلالة الاقتضاء كما في حديث رفع الخطأ والنسيان - ابطال الاثار

ص: 203

لا ابطال نفس المال ، لأن إبطال الشي ء الثابت خصوصا إذا كان من الأعيان الخارجية لا معنى له ، فيدور الأمر بين أن يكون المراد ابطال جميع الاثار حتى ما يرجع الى المنكر بحيث يكون المنكر بعد الحلف برئ الذمة رأسا الذي هو خلاف الإجماع ظاهرا أو إبطال جميع ما يرجع الى المدعي خاصة من الاثار أو إبطال خصوص ما يليق بمقام الدعوى والخصومة أعني المطالبة وتجديد دعوى أخرى ونحوها مما يشاركها في التعرض لحال المنكر.

والأول لو قلنا بكونه المتعذر في مثل المقام مع إمكان منعه وإرجاعه إلى نفي الأثر الظاهر ، فلا بد من المصير الى غيره بقرينة الإجماع بزعمك وبمساعدة المقام بزعمنا ، فتعين أحد الأخيرين ، وأولهما تحكم بلا دليل.

ودعوى ان القرينة هي الأقربية بالمعنى الحقيقي بعد تعذر الأول الذي هو أقرب من الكل. كما ترى ، فتعين الثاني ، أعني إرجاع الابطال إلى الأثر الظاهر اللائق بالمقام ، لان المقام مقام إعطاء ميزان القضاء وفصل الخصومة.

ومن الواضح أن موازين الفصل لا يزيد مقتضاها على مجرد ترك الدعوى والخصومة ، ومن هنا يعلم أنه لو لا النص الوارد في حرمة المقاصة بعد اليمين لم يجز الحكم بها بدلالة هذه الروايات وكان حال اليمين حال البينة في جواز المقاصة الباطنية أيضا. مضافا الى أن قوله عليه السلام « ذهبت اليمين بحق المدعي » وانها أبطلت كل ما ادعاه ، لا يدل الا على إبطالها الحق من حيث الدعوى لأمن حيثيات أخرى كما لا يخفى.

نعم من بين هذه الروايات ذيل الرواية الدالة على حرمة المقاصة المعلل فيها بأنه رضي بيمينه وقد مضت اليمين بما فيها (1). يمكن أن يستدل به على ذهاب جميع الجهات المالية من طرف المدعي حتى مثل قابليته للإبراء ونحوها ،

ص: 204


1- الوسائل ج 18 ب 10 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

لان التعليل في قوة كبرى صغراها حرمة المقاصة ، فكأنه قال عليه السلام : ان المقاصة حق من الحقوق ، ولا شي ء من الحقوق بثابت بعد اليمين. ولا يجري ما قلنا في سائر الروايات ، لأن إرجاع الإمضاء إلى خصوص جهة المخاصمة والتعرض والادعاء يوجب عدم الارتباط بين الدليل والمدعى ، لان المقاصة ليست من جهات الدعوى والمخاصمة فلا بد من إرجاعه إلى معنى عام شامل.

فهو اما ذهاب جميع التصرفات المالية من طرف المدعي حتى مثل الإبراء والاحتساب ، أو القدر الجامع بين قطع الخصومة وحرمة المقاصة ، والثاني لا مجال له كما أشرنا إليه لكونه تحكما بلا دليل وبعيدا عن الفهم السليم ، فتعين الأول.

وفيه : ان ذيل الرواية ليس في مقام التعليل حتى يكون في مقام إعطاء القاعدة ، بل اللام في كلمة « اليمين » للعهد والإشارة إلى اليمين المتقدم ذكرها ، فقوله « فقد مضت اليمين بما فيها » عبارة أخرى عما نهى عنه أولا من الأخذ. نعم قوله « لكنك رضيت بيمينه » في قوة التعليل لعدم الأخذ والمضي.

وكيف كان فالإنصاف أن العدول عن مقتضى القواعد المحكمة بمثل هذه الدلالة التي تتوقف على دقة النظر مع عدم مصرح به من الفقهاء جرأة عظيمة ، خصوصا مع ما سمعت عن غير واحد من أن اليمين لا يحصل به البراءة الواقعية ومع ملاحظة إطلاق ما ذكروه في غير المقام من أن حكم الحاكم لا يغير الواقع ، فإنه يعم المستند الى اليمين.

ودعوى أن إطلاق كلامهم ورد في بيان ما يترتب على حكم الحاكم من حيث أنه حكم ، فلا يدل على عدم تغييره الواقع باعتبار شي ء آخر يقارنه وينضم اليه كاليمين. مدفوعة بأن موضوع الحكم إذا كان في بعض الموارد ملازما لعنوان ينافي الحكم كان الإطلاق قبيحا كما قررناه في الأصول وأوردنا به على

ص: 205

الحلي في مقدار ما ينزح لموت الكافر من البئر حيث رجع في حكمه الى مالا نص فيه وحمل النص الوارد فيه على أنه مسوق لبيان حكم الموت من حيث انه موت ، فتأمل جيدا.

ثمَّ ان الفرق بين القولين وثمرات بقاء أحكام المالية عدا المطالبة والمقاصة لا تكاد لكثرتها تحصى. مثلا إذا أوصى للمدعي بالدين على المنكر ومات قبل القبول بعد اعترافه به كان للورثة حق القبول على المختار لا على القول الأخر ، وهكذا الى آخر ما لا يخفى.

[ هل يذهب الحلف بالحق في العين أيضا؟ ]

هذا كله في الدين ، وأما العين فينبغي النظر في أن الروايات شاملة لها أم لا. قد يقال بعدم تقييد فيها بالدين ، لأن الحق يعم الدين والعين ، ويؤيده أن الدليل على انقطاع الخصومة باليمين في العين ليس سوى هذه الروايات.

والتحقيق أن الشامل منها للعين غير نافع ، والنافع منها غير شامل ، فان ما عدا الرواية الدالة على عدم المقاصة قد عرفت أن مؤداها لا يزيد على انقطاع الخصومة وحرمة العود إلى الخصومة وسائر وجوه المعارضة ، وبها تمت مسألة فصل الخصومة في الدين والعين بواسطة اليمين.

والرواية الدالة على عدم المقاصة غير شاملة للعين ، لعدم عموم فيها سوى ما يتوهم من عموم الموصول في قوله « مضت اليمين بما فيها » ، وقد عرفت أن الظاهر منها العهد كاللام في اليمين ، ويؤيده صيغة الماضي المشيرة الى ما سبق ذكره ، فلا دلالة فيها على حرمة المقاصة في العين.

نعم يدل عليها أمران آخران :

( أحدهما ) ان التقاص فرع السلطنة على المقتص عليه شرعا ، واليمين

ص: 206

قاطعة للسلطنة الشرعية على الشخص إجلالا لاسمه تعالى.

والحاصل ان التقاص فرع استحقاق المطالبة شرعا لا فرع الاستحقاق للمال ، فلو استحق المال ولم يستحق المطالبة لم يجز له التقاص ، لأن السلطنة على مال الشخص سلطنة عليه كما لا يخفى. وأقل ما يدل عليه روايات المسألة ، حتى مثل الأمر بالتصديق والرضا باليمين أن لا يكون للمدعي سلطنة على المنكر الحالف ، ونفي السلطنة على الشخص يمنع المقاصة لكونها متفرعة على السلطنة عليه ، لاستلزام السلطنة على المال السلطنة على المالك.

ومن هنا أمكن تصحيح دلالة غير الرواية الواردة في عدم التقاص على حرمة المقاصة أيضا.

( والثاني ) رواية سليمان بن خالد : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثمَّ وقع له عندي مال آخذه مكان مالي الذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع؟ قال : ان خانك فلا تخنه ، ولا تدخل فيما ائتمنته عليه (1).

فان المال يشمل العين والدين ، بل ظاهر قوله « عنده » هو العين ، الا أن يمنع دلالتها باعتبار كونها واردة في مقاصة الودعي ، وهو غير المقام.

[ لو وجد المدعي عين ماله يجوز أخذه ]

ثمَّ انه لو ظفر المدعي بالعين على وجه لا يكون في أخذها اهانة بالحاكم جاز الأخذ ، حتى لو قلنا في مسألة الدين بعدم جواز شي ء من التصرفات ، وذلك لان الدين ليس سوى الحقوق التي يستحقها الدائن والحق قابل للإبطال والذهاب ، فيمكن الاستدلال بقوله عليه السلام « ذهبت اليمين بحق المدعي

ص: 207


1- الوسائل ج 6 ب 83 من أبواب ما يكتسب به ح 7.

وأبطلت كل ما ادعاه » على ذهاب تلك الحقوق بأسرها ، بخلاف العين فإن ابطالها مع قطع النظر عن الاحكام غير معقول ، فلا بد من إرجاع الابطال إلى الأحكام المتعلقة بها. والأحكام الباطلة الذاهبة المتعلقة بها ليست الا ما كان من قبيل السلطنة على الحالف نفسا أو مالا ، وأما الاحكام التي لا يلزم من ترتبها تعرض بحاله فلا وجه لذهابها وبطلانها.

ومن الواضح أن التصرف في العين بحيث لا ينجر إلى خصومة ومنازعة ودعوى أخرى ليس سلطنة على المنكر ولا على ماله ، وكذا ليس إنشاء مخاصمة جديدة كما لا يخفى.

فالحق أن التصرف الباطني الغير الآئل الى اهانة الحكم أو الى منازعة ومشاجرة جديدة جائز بخلاف المقاصة لما عرفت ، واللّه العالم.

[ في جواز التقاص من المنكر ]

بقي شي ء ، وهو أن في مسألة التنازع في الثمن والمثمن الذي ينجر الأمر فيه الى التحالف ، قد صرح غير واحد بالتقاص ، فيقتص البائع مثلا بالمبيع المردود اليه بعد حلف المشتري على نفي الثمن الذي يستحقه البائع في ذمة المشتري الذي نفاه بحلفه.

وهذا ربما يقال بمنافاته لما أجمعوا هنا عليه من عدم جواز التقاص بعد الحلف. نعم لو قيل ان التحالف سبب شرعي تعبدي لا فلانفساخ العقد أو لفسخ الحاكم ارتفع المنافاة ، لكن على ما ذكره في الروضة من التقاص ربما يتوهم ورود الاشكال ، والجواب عنه ان حرمة المقاصة بعد الحلف ليس لأجل كون الحلف ناقلا كما لا يخفى ، بل لأجل احترام عرض الحالف فلا يدعى عليه ثانيا واحترام ماله فلا يقاص منه.

ص: 208

وقضية ذلك اختصاص الحرمة بالمقاصة التي ينافيها الحلف ويكرهها الحالف ، لا المقاصة التي لا ينافيها الحلف بل يؤكدها ولا يكرهها الحالف بل يحبها ويرضى بها كما في المقام ، لأن المشتري الحالف على عدم وقوع البيع بالثمن الذي يدعيه البائع يريد دفع سلطنة البائع عليه بالثمن المخصوص ويرضى بأول أمرها الى ما كان قبل البيع ، فلو تمرد البائع عن قبول البيع فهو مناف لمقتضى الحلف بخلاف ما لو قبله وجعله قصاصا عما له في ذمة المشترى ، فإنه تصديق ظاهري بحلف المشتري وعمل على طبق حلفه ظاهرا.

ومن هذا البيان ظهر إمكان تقرير الإشكال في غير التحالف أيضا ، كمدعي البيع ومنكره الحالف على عدمه ، كما ظهر جوابه أيضا ، فالإشكال مشترك الورود بين صورة التحالف وغيره ، وكذا الجواب.

وحاصل الجواب : ان مقتضى حلف المشتري على نفي البيع بالثمن المخصوص مع اعتراف البائع بعدم البيع على الثمن الذي يدعيه المشتري كون المبيع باقيا في ملك البائع ، ففي تصرف البائع فيه واحتسابه قصاصا عن الثمن الذي يدعيه تصديق للحلف ظاهرا وعمل بأدلة المقاصة باطنا ، فالتقاص الباطني إذا كان منافيا لتصديق الحالف ظاهرا فهي التي تمنعها اليمين لا ما كان فيها تصديق صوري للحالف.

ويمكن أن يجاب أيضا في مسألة التحالف خاصة : بأن المتداعيين معترفان بأن كلا منهما يستحق على الأخر شيئا وانما الخلاف في الخصوصية والحلف انما وقع على نفيه مطلق المال ، فحينئذ نقول : ان البائع مثلا يأخذ المبيع قصاصا عما له على المشتري لا على الثمن الذي نفاه المشتري بحلفه.

فان قلت : الذي يستحقه البائع مثلا - وهو الثمن المخصوص الذي يدعيه - قد ذهب بحلف المشتري ، والذي يعترف المشتري من الثمن ينفيه البائع

ص: 209

ويعترف بعدم استحقاقه ، فلا يبقى مال يمكن أن يجعل المبيع في مقابله.

قلت : لا منافاة بين عدم استحقاق البائع شيئا من الخصوصيتين واستحقاقه مالا كليا بمقتضى اعتراف المشتري واعتقاد البائع ، لأن الحكم يتبع الدليل ولو على نحو يقتضي الجمع بين المتضادين أو المتناقضين ، ومن الواضح أن جواز المقاصة حكم من أحكام استحقاق المال المطلق لا المال المعين.

وان شئت قلت : ان الثمن الذي يعترف به المشتري لا ينفيه البائع بحسب مقدار ماليته ، فمقدار مالية ذلك الثمن أمر متفق الثبوت في ذمة المشتري ، فيعطى البائع عن مقدار ماليته لا عن نفسه ، لان نفسه مع قطع النظر عن المالية لا يقبل المقاصة ، الا أن مقتضى ذلك أن يقتصر في المقاصة على مقدار مالية الثمن الذي يعترف به المشتري.

والظاهر أن من يقول بالمقاصة في التحالف يقول بأنه يقتص بمقدار ما يدعيه المقاص من الثمن مثلا لا بمقدار ما يدعيه المقاص منه. والثمرة بينهما تظهر في مقدار الزيادة التي يجب على البائع مثلا دسها في مال المشتري ، فإنه يختلف زيادة ونقصانا باختلاف الوجهين.

ثمَّ انه قد ظهر أن الحكم في صورة كون الثمن دينا على خلاف ما قلنا في الدين من حرمة المقاصة ، فلو كان الثمن عينا فهل يحكم فيه بخلاف ما حكمنا في العين من جواز التصرف في العين باطنا ، بأن يدس البائع مثلا المبيع في مال المشتري ويتصرف بعين الثمن الذي وقع البيع عليه باعتقاد البائع؟ وجهان.

وجه العدم أن التصرف في الثمن تكذيب للحالف وتعرض له فلا يجوز ، ووجه الجواز - وهو الأقوى - أنه تصرف في ملكه لا في ملك المشتري ، وليس فيه تعرض للمشتري الحالف لا لنفسه بالدعوى والمخاصمة ولا لماله ، وليس فيه

ص: 210

أيضا تكذيب صوري للحلف لابتنائه على الخفاء ، وأما تكذيب الحالف باطنا فلا ضير فيه ، بل هو مقتضى عدم كون الحلف مغيرا للواقع. واللّه العالم.

التقاط [ هل تسقط دعوى المدعي مع النكول ]

إذا رد المنكر اليمين الى المدعي فأما أن ينكل عن اليمين ولا يحلف أو يحلف ، فلو نكل سقطت دعواه في ذلك المجلس بلا خلاف ولا اشكال ، والروايات ناطقة به.

وهل تسقط دعواه مطلقا حتى في غير ذلك المجلس - بأن لا يسمع دعواه أبدا ولو أقام بينة - أو يختص سقوط الدعوى بذلك المجلس. قولان ، ذهب الى الثاني جماعة منهم الشهيدان على ما حكي عنهما ناسبا له في الروضة إلى المشهور ، لكن عن جماعة دعوى الإجماع على السقوط.

ويدل عليه إطلاق الاخبار والاستصحاب ، بناء على أن المجمع عليه في ذلك المجلس هو سقوط الدعوى بحيث لا يسمع منه إقامة البينة حينئذ ، فإنه يستصحب حينئذ متى شك في حدوث حق جديد ، وأما لو كان المجمع عليه مجرد عدم سماع قوله ثانيا في ذلك المجلس وعدم سلطنته على المنكر في ذلك المجلس لم يجز الاستصحاب إذا شك في وجوب سماع قوله في مجلس آخر ، لان السلطنة في كل آن موضوع مستقل غيرها في آن آخر ، فلا ينسحب حكم أحدهما إلى الأخر ، بخلاف الحق فإنه إذا سقط سقط والعود يحتاج الى دليل - فافهم.

وان حلف ثبت حقه نصا وفتوى ، وهل هي في حكم بينة المدعي أو بمنزلة إقرار المنكر؟ وجهان بل قولان. وربما قيل انها قسم ثالث ، فلا يجري فيها

ص: 211

حكم شي ء من البينة والإقرار بل يرجع في كل حكم الى ما يقتضيه القواعد فيه. وذكروا لهذا الخلاف ثمرات مذكورة في كتب الفقهاء.

[ الأدلة على سقوط الدعوى مع النكول ]

والمهم هنا بيان أمرين : أحدهما وجه الحصر الذي ذكره غير واحد ، والثاني وجه القولين على تقدير ثبوت الانحصار.

( أما الأول ) فيمكن أن يستدل عليه بعموم « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (1) ، فإنه يقضي بالانحصار على البيان الذي مر في بعض الالتقاطات السابقة. وحاصله ان الحكم بجنس البينة على جنس المدعي في مثل المقام يفيد أن كل بينة على المدعي وكل مدعى عليه البينة ، فإذا ثبت أن يمين المدعي هنا تثبت حقه على المنكر ، فلا بد أن يكون يمينه اما بمنزلة البينة في الحكم حتى لا يلزم تخصيص في العالم المزبور أو تكون بمنزلة البينة إقرار المنكر الذي يرتفع به أصل الخصومة.

فلو قيل : ان اليمين ليست بمنزلة صيرورة الدعوى بمنزلة التسالم والتصالح - كما لو أقر المنكر - بل قسم ثالث لميزان فصل الخصومة لزمه بطلان الحصر المستفاد من العموم.

وهذا نظير ما ذكروه في التحليل من أنه بمنزلة ملك اليمين أو بمنزلة النكاح اتباعا لظاهر الآية الشريفة الناطقة بمحافظة الفروج الا على الأزواج أو ما ملكت الايمان. ولب الكلام ان الأمر دائر بين الإلحاق الموضوعي والتخصيص.

توضيحه : ان الشارع حصر حجة المدعي المثبتة لحقه في البينة بمقتضى قوله « البينة على المدعي » ، ثمَّ قال في دليل آخر ان اليمين المردودة أيضا يثبت

ص: 212


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

بها الحق ، فإن كان المراد بالبينة ما يعم اليمين على أن يكون اليمين في نظره بمنزلتها ومشاركتها في الحكم بقي الحصر بحاله وسلم العموم أيضا عن التخصيص ، لأن الإخراج والإدخال الموضوعيين ليسا من التخصيص في شي ء كما حققناه في الأصول.

ولذا لم نذهب الى أن الاستصحاب ونحوه من الأصول بل الأمارات أيضا مخصصة للواقع ، بل مؤدياتها ملحقة بموضوعات الأحكام إلحاقا جعليا. وأما لو كان المراد بالبينة ما لا يعم اليمين وكانت اليمين حجة أخرى في عرض البينة بطل الحصر وتخصص العموم.

ومثل هذا التقرير يقال في مسألة التحليل.

وحيث أن أصالة العموم في البينة على المدعي مع عدم ظهور أدلة اليمين في استقلالها وتخصيص العموم بها يقتضي بقاء الحصر. وبعبارة أخرى : الإلحاق الموضوعي في صورة الشك ، فلا جرم يكون اليمين بمنزلة البينة ان كانت حجة للمدعي وإلا لزم أن تكون بمنزلة ارتفاع الخصومة بإقرار المنكر ، إذ لا ثالث لهما مع بقاء الحصر وأصالة العموم على حالها.

مضافا الى ظهور بعض أدلة اليمين في كونها بمنزلة البينة وسكوت الباقي عن التخصيص وعن كونها حجة أخرى مستقلة ، كخبر يونس : استخراج الحقوق بأربعة وجوه : شهادة رجلين عدلين ، فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، وان لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدعي ، وان لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه ، فان لم يحلف رد اليمين على المدعي فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقه ، فان أبى أن يحلف فلا شي ء له (1).

وجه الظهور : ان ما عدا اليمين المردودة كلها في حكم البينة وملحقة بها

ص: 213


1- الوسائل ج 18 ب 15 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

كأنها تفاصيل البينة التي حصر حجة المدعي في الروايات العديدة فيها ، مثل ما روي ان أحكام المسلمين على ثلاثة : بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية (1). يعني بها القرعة بناء على كون المراد بالقاطعة الفاصلة لا الجازمة ، فإنها حينئذ يمين المنكر لأنها التي تقطع الخصومة وترفعها. وغيرها مما دل على انحصار فصل الدعوى بالبينة ويمين المنكر.

نعم في الموارد التي يقدم قول المدعي بيمينه - وبالجملة كل يمين يحلفها المدعي بأصل الشرع لا بالرد - نلتزم بكون اليمين في تلك الموارد حجة مستقلة في عرض البينة.

وأما وجه القولين :

( فوجه الأول ) أن يمين المدعي يمين على الإثبات وطريق شرعي له الى ثبوت الحق عند الحاكم ، مثل سائر الموارد المقبول فيها قول المدعي بيمينه ، الا أن الفرق أن اليمين في تلك الموارد حجة مستقلة لمساعدة أدلتها للتخصيص وهنا في حكم البينة ، إذ الخصم معترف بأنها على تقدير كونها حجة مثبة للحق ، فلا بد أن تكون مثل البينة وليست حجة مستقلة والا عاد الكلام الى المقام الأول ، والمفروض أن التنازع في أنها مثل اليمين أو البينة لا بد أن يكون بعد التسالم على الحصر ، فاذا كانت حجة على المدعي على ثبوت الحق فلا جرم يكون مثل البينة.

( ووجه الثاني ) ان هذه اليمين ليست على حد سائر الايمان الثابتة بأصل الشرع للمدعي بل هي يمين المنكر المردودة اليه ، ورد اليمين في قوة الإقرار بالحق ، فكأنه مقر والا كان يحلف ولم يردها على المدعي.

وهذا وان كان وجها اعتباريا الا أنه يصلح سرا للحكم المنصوص عليه.

ص: 214


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

والصواب أن يقال في وجه الثاني : ان الأمر بالتصديق المأمور به في النبوي المتقدم « من حلف لكم باللّه فصدقوه » (1) يجعل يمينه في حكم الإقرار ، فإن المنكر مأمور بتصديقه بعد رد اليمين ، والتصديق والإقرار بمعنى ، والحاكم أيضا مأمور بترتيب آثار التصديق المأمور به ، فيكون حال اليمين المردودة حال الإقرار في الاثار الشرعية وحال المدعي حال المقر له.

وجوابه : ان تصديق الحالف إذا أخذنا بظاهره أفاد وجوب ترتيب آثار المصدق به لا آثار نفس التصديق ، نظير مفاد أدلة تصديق العادل ، فهو على خلاف الظاهر ، يعني كون اليمين بمنزلة البينة أولى.

[ عدم تمامية أدلة سقوط الدعوى مع النكول ]

والتحقيق أن إتمام ما ذكروه من الحصر بحسب القواعد اللفظية مشكل ، لان العمومات القاضية بالحصر قابلة للتخصيص ، وأدلة اليمين غير ناظرة إلى مدلول تلك العمومات حتى تكون مفسرة للبينة بل منافية لها ومعارضة لعمومها.

ولو سلم فغاية الأمر الشك في كونها مخصصة أو جاعلة لليمين بمنزلة البينة ، ومقتضى الشك الرجوع فيما يخالف القاعدة من أحكام البينة إلى الأصول والقواعد ، وكذا اقامة الدليل اللفظي على كونها بمنزلة البينة أو الإقرار أشكل.

والذي يقتضيه التأمل أن يقال في وجه الحصر : ان أمر اليمين في الواقع مردد بين كونها بمنزلة البينة في الأحكام الثابتة لها من حيث كونها حجة شرعية مثبتة للحق وبين كونها بمنزلة الإقرار كذلك ، لاشتمالها على التزام المنكر بقول المدعي بعد اليمين.

توضيح ذلك : ان اليمين المردودة قد اجتمعت فيها جهتان : جهة حكاية

ص: 215


1- الوسائل ج 18 ب 9 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

عن الواقع وكشف عنه نظير كشف الأدلة الاجتهادية الحاكمة على الأصول ، وجهة التزام من طرف المدعي الراد ، لان وضع رد اليمين ومبناه على التزام الراد - وهو المنكر للحق - على تقدير حلف المدعي اليمين مثل الالتزام الذي هو في الإقرار. غاية الأمر ان المقر المخبر عن الواقع ملتزم بالحق المقر به منجزا والمنكر الراد ملتزم به معلقا على حلف المدعي ، فان كان الشارع لا حظ جهتها الاولى في جعلها حجة مثبتة للحق فلا بد أن تكون مثل البينة من الأحكام المجعولة لها من حيث كونها حجة لأمن حيث كونها بينة ، فان كان من الاحكام مالا يعقل انسحابه الى غير البينة ولو كانت شرعية مثلا الترجيح بالأعدلية ونحوها عند التعارض حيثما تلاحظ المرجحات ، ومثل الجمع بين البينتين إذا كانت شهادة أحدهما على المدعي بالتصريح والتنصيص والأخر على خلافه بنحو الإطلاق والظهور القابل للجمع مع الأول ، فإن مثل هذه الاحكام لا يعقل ثبوتها لليمين على تقدير كونها حجة شرعية كالبينة كما لا يخفى. ولعل الأصحاب المرددين لها بين الأمرين لا يريدون ترتيب مثل هذه الاحكام على تقدير كونها بمنزلة البينة ، كما سيظهر ذلك من بعض ما سنشير اليه.

وان كان الشارع قد لا حظ جهتها الثانية فلا بد أن تكون مثل الإقرار في الأحكام الثابتة له من جهة كونها التزاما بالحق لا الأحكام الثابتة له من جهة كونها إقرارا مثل كونه مكذبا للبينة التي يقيمها بعد الإقرار ، فإنه من خواص ذات الإقرار ، وحينئذ فيبطل كثير من الفروعات التي ذكروها ثمرة للنزاع :

مثل ما ذكروه فيما لو أقام المدعى عليه بينة على رد المال المدعى به بعد حلف المدعي اليمين المردودة من أنها لو كانت بمنزلة الإقرار لم تسمع كما لا تسمع فيما لو أقر بعدم الرد ولو كانت بمنزلة البينة على عدم الرد مثلا سمعت وقضي له ، اما لتقديم بينة الإثبات على بينة النفي وكذا على ما في حكمه ، أو لأن اليمين

ص: 216

المردودة إذا كانت بمنزلة البينة لم تكن تنفع من المدعي في المقام لكونها بينة على النفي ، وغير ذلك.

وجه البطلان : أنه لو قيل بأن اليمين مثل الإقرار لم يترتب عليها عدم قبول البينة بعدها ، لأنه من خواص ذات الإقرار باعتبار كونه تكذيبا للبينة ، فلا وجه لجريان مثله في اليمين أيضا.

ومثل ما ذكروه أيضا من عدم الاحتياج الى حكم الحاكم لو كانت بمنزلة الإقرار بخلاف ما لو كانت مثل البينة.

فإن هذه الثمرة أيضا لا تخلو عن إشكال ، لأن عدم احتياج الإقرار إلى حكم الحاكم يمكن القول بأنه من خواص ذات الإقرار ، لأنه سبب لارتفاع الخصومة والتشاجر ، وعدم الاحتياج الى الحكم لعله لأجل ذلك لا لأمر تعبدي ثابت في الإقرار ، وحينئذ نقول : الظاهر أن الشارع لا حظ جهة كونه حجة كاشفة عن الواقع في مقابل الأصول لوجهين : أحدهما ان مقتضى تصديق الحالف المأمور به ترتيب آثار الصدق لا آثار التصديق كما نبهنا عليه آنفا ، والثاني ان ظاهر رواية استخراج الحقوق بالأربعة المشار إليها كون اليمين بمنزلة البينة في إثبات الحق. واستخراجه بقرينتين :

الاولى - ان ظاهر الاستخراج كونها حجة ، فإنه لو كان بمنزلة الإقرار لم يتحقق بسببها الاستخراج ، بل المنكر باعتبار نكوله عن اليمين فقد سبب الى ثبوت حق المدعي ، بل الأمر في الإقرار الحقيقي أيضا كذلك ، كما ذكرنا في البحث عن الإقرار ، لأنه سبب لارتفاع الخصومة ، وأسباب ارتفاع الخصومة ليست أسبابا للمدعي في استخراج حقه ، لان صدق الاستخراج يتوقف على بقاء المنكر على إنكاره حتى يكون المدعي بواسطة إقامة حجة عليه مستخرجا لحقه ، وهو واضح.

ص: 217

والثانية - ان قرينة المقابلة تقتضي ما ذكرنا ، لان اليمين المردودة آخر الأربعة ، والثلاثة السابقة عليها كلها حجج للمدعي مثل البينة والشاهد واليمين ورجل وامرأتان.

لا يقال : قبل اليمين المردودة ذكرت في الرواية يمين المنكر ، وهي ليست حجة في شي ء بل أمرا قاطعا للخصومة ، فتكون اليمين مثلها لا مثل ما قبلها من الثلاثة.

لأنا نقول : يمين المنكر ذكرت في الرواية توطئة لذكر اليمين المردودة لا أصالة ، بأن تكون بيانا لميزان القضاء.

[ معنى كون اليمين بمنزلة البينة ]

ثمَّ الظاهر أن كونها بمنزلة البينة انما هو بالنسبة إلى المتخاصمين كما صرح به الشهيد في القواعد لا بالنسبة الى من عداهما ، لان ذكر اليمين في مقام استخراج الحق لا يزيد مؤداه على كونها حجة من حيث استخراج الحق لا حجيته في إثبات المدعى بقول مطلق كالبينة ، والأمر بالتصديق أيضا على تقدير دلالته على ترتيب آثار الصدق دون التصديق لا يدل على أمر زائد على ترتب الصدق من الحجية المزبورة.

ودعوى ان قرينة المقابلة تقتضي كونها مثل البينة. مدفوعة بأنه لو لا ما يدل على حجية البينة مطلقا من الأدلة والعمومات ، لما حكمنا بمقتضى هذه الرواية الواردة في مقام التنازع على أزيد من الحجية في حق المتخاصمين في البينة أيضا ، وحينئذ فلا ينتزع العين المتنازع فيها من المنكر بعد حلف المدعي إذا كانت العين في يد ثالث ، لأنها حجة بالنسبة إلى المنكر خاصة.

وفائدته التغريم للحيلولة إذا كان الثالث متلقيا للعين من المنكر ، فلو ادعى عينا أقر بها المدعى عليه لغير المدعي ونكل عن اليمين فحلف المدعي لم ينتزع

ص: 218

العين من يد المقر له ، لأنها ليست مثل البينة بالنسبة إلى الغير أيضا بل بالنسبة إلى خصوص المدعى عليه ، وفائدته حينئذ تغريمه قيمة العين للحيلولة.

فلو قلنا بأنها مثل الإقرار مبنى على كون الإقرار المسبوق بالإقرار لاخر سببا لضمان القيمة للحيلولة ، فمن يقول به كان كما إذا قيل بكونها مثل البينة فلا ثمرة ومن لا يقول به خرجت المسألة عن موضع إحلاف المنكر ، لأن الإحلاف لا يجوز فيما لو أقر الحالف لم يترتب على أثره إقرار ، بل من القواعد المقررة عندهم أن الحلف محله ما لو إقرار الحالف ينفع إقراره.

ومن هنا اتجه أن يقال : بناء على هذا القول - أي القول بعدم فائدة للإقرار الثاني - لم ينفع القول بكونها مثل البينة أيضا إذا كانت المماثلة بالنسبة إلى خصوص المتخاصمين ، لأنه إذا خرجت المسألة عن مورد الإحلاف باعتبار عدم نفع الإقرار فلا يكون مورده باعتبار كون اليمين المردودة بمنزلة البينة.

والحاصل انهم في مورد الإحلاف ذكروا للفرق بين إلحاقها باليمين أو بالبينة ثمرات ، وهو انما يتم لو كانت مثل البينة مطلقا حتى في حق غير المتخاصمين ، إذ لو لم تكن حجة إلا في حقهما لم يكن فرق بين القولين الا أن يجعل الإحلاف وعدمه من ثمرات المسألة ، كما جعله الشهيد في القواعد ، فإنه ذكر فيها أربع عشرة ثمرة أكثرها يرجع الى ذلك ، وحاصله : انه لو قلنا بأنها مثل البينة ولو من حق المتخاصمين احلف المقر ، وفائدته النكول وحلف المدعي ثمَّ التغريم » ، وان قلنا بكونها مثل اليمين لم يحلف إلا إذا كان للإقرار فائدة.

[ الادعاء على من يقر بغير ما يدعيه المدعى ]

ومن فروع المسألة أيضا ما لو ادعى زوجية امرأة مقرة بالزوجية لغير المدعي ، فعلى القول بأنها مثل الإقرار لم تحلف الا على القول بتغريم الإقرار

ص: 219

الثاني ، وأما على القول بكونها مثل البينة أحلفت على أي حال ، وفائدته رجاء النكول وحلف المدعي ثمَّ تغريمها المهر.

وظاهر كلمات الأصحاب المفروغية عن أنها ليست مثل البينة بقول مطلق حتى في حق غير المتخاصمين ، يعلم ذلك من كلماتهم في أبواب الفقه.

وهذا الشهيد الثاني قال فيما إذا ادعى الاثنان عينا في يد ثالث فأقر لأحدهما فلآخر إحلاف ذي اليد ، فان نكل وردها الى المدعي غرم قيمة نصف العين. ولم يفصل بين ما لو قيل بأن اليمين المردودة مثل البينة أو مثل الإقرار ، مع انها لو كانت مثل البينة في حق غير المتخاصمين أيضا لم يتجه الإحلاف في تغريم النصف ، لان التغريم لا يتم على القول بأنها مثلها مطلقا ، لان مقتضى ذلك استرداد نصف العين من يد الأخر المقر له.

ومثله المحقق في التداعي ، فإنه صرح في بعض فروعه بأن فائدة اليمين المردودة على القول بأنها مثل الإقرار التغريم لا استرداد العين. لكن ظاهر المحكي عن الدروس أنها لو كانت مثل البينة أثرت أثرها مطلقا حتى بالنسبة الى غير المتخاصمين ، حيث قال : انها - أي اليمين المردودة - كالإقرار فلا ينفذ في حق غيره ، وقيل كالبينة ، وهو بعيد. فان مقابلة القول بأنها مثل البينة في مقابل القول بأنها مثل الإقرار الذي لا ينفذ في حق غيره ، صريح أو ظاهر في أنها على تقدير كونها مثل البينة تنفذ في حق غير هما أيضا.

ومثله العلامة في باب النكاح فيما لو ادعى اثنان زوجية امرأة فصدقت أحدهما ، أنها لو ردت اليمين إلى الأخر فحلفت انتزعت من الأول للثاني.

فإن قلت : إذا كان لليمين المردودة جهتان جهة الإثبات وجهة الالتزام فلم لا يلتزم بمقتضى الجهتين حتى يكون قسما ثالثا ، فيلتزم بترتيب آثار البينة من حيث كونها حجة مثبتة وبآثار الإقرار من جهة اشتمالها على التزام المنكر بالحق

ص: 220

ولو تقديرا. نعم إذا كان بين مقتضاهما تناف - بأن يكون مقتضى كونهما مثل البينة عدم ترتيب حكمه ومقتضى كونه بمنزلة الإقرار ترتيبه أو بالعكس - توقف ويرجع الى مقتضى القاعدة ، وبهذا تكون اليمين المردودة قسما ثالثا.

قلت : هذا القول ساقط بعد ما قررنا ، لأن أحكام ذات البينة من حيث أنها بينة لأمن حيث كونها حجة مثبتة قد عرفت عدم قابلية ثبوتها لليمين ، وكذلك أحكام ذات الإقرار وبقية أحكامها نلتزم بثبوتها فيها.

قولك : فتكون قسما ثالثا.

قلنا : ان أرادوا كونها مثل البينة أنها كذلك في جميع الاحكام ، وكذا من كونها مثل الإقرار فهذه قسم ثالث ، وان أرادوا المماثلة في كونها حجة مثبتة للحق في حق المتخاصمين خاصة فهو إلحاق لها بالبينة لا بالإقرار.

[ ثمرة كون اليمين مثل البينة ]

ثمَّ ان الثمرة بين كونها مثل البينة في حق المتخاصمين خاصة أو مثل الإقرار. كالمعدومة ، لأن الأحكام التعبدية الثابتة للإقرار قد عرفت ثبوتها لها من حيث كونها إقرارا ، فلا تنسحب الى اليمين لعدم مساعدة الدليل وكذا أحكام البينة ، فيبقى من الثمرة ما أشرنا إليه ناقلا له عن الشهيد من الإحلاف وعدمه في كثير من الصور.

لكنا نقول : بأنها مثل البينة في كونها حجة مثبتة بالنسبة إلى المتخاصمين ، ولا نرى لهذه الثمرة أيضا وقعا ومحلا ، وذلك لان المقام : قد يكون من مورد اليمين والبينة معا ، وهذا لا فرق بين كونه بينة أو إقرارا ، لأن فائدتها على التقديرين ثبوت الحق بالنسبة إلى المنكر ولا ينفذ على غيره. وقد يكون من موارد البينة دون الإقرار ، كالموارد التي لا يترتب على إقرار المنكر ثمرة ، مثل ما أشرنا

ص: 221

إليه من مسألة الإقرار بعد الإقرار على قول الشيخ القائل بعدم نفوذ إقراره الثاني لعدم قابلية المحل ، فنقول :

قولك : انها لو كانت مثل الإقرار خرجت المسألة عن مورد الإحلاف ، لان فائدته الرد ثمَّ حلف المدعي ، فإذا كان حلفه بمنزلة إقرار المدعى عليه وقع لاغيا ، لعدم نفوذ إقراره حينئذ.

قلنا : نحن نقول حينئذ أنها سواء كانت بمنزلة الإقرار أو بمنزلة البينة يحلف المدعى عليه هنا ، وفائدته الرد لعموم أدلة اليمين المردودة ، فلا يلزم من القول بكونه مثل الإقرار في كونه ملزما عدم الإحلاف هنا لفرض عموم الأدلة.

والحاصل ان شئت اجعلها مثل البينة أو الإقرار ، فمقتضى العموم هنا الإحلاف فلا ثمرة بين جعلها كالبينة أو كالإقرار ، فإنه ان أريد من جعلها كالإقرار سقط الإحلاف في مثل المقام فهو ممنوع للعموم.

[ الحلف من موارد الإقرار لا البينة ]

وقد تكون المسألة من موارد الإقرار دون البينة فحينئذ يثمر الخلاف ، فإنها لو كانت بمنزلة البينة لم ينفع العموم ، لان العموم انما ينفع إذا كان المقام صالحا لإقامة المدعي الحجة ، فإذا فرض عدم قبوله البينة التي هي أقوى الحجج المثبتة لم ينفع عموم ما دل على أن اليمين حجة مثبتة لحق المدعي ، فيتوقف الإحلاف حينئذ على القول بكونها مثل الإقرار.

لكنا نمنع وجود مثل هذه الصورة ، بأن ينفع فيها إقرار المدعى عليه ولا ينفع فيها حجة المدعي ، وما ذكروه مثالا لهذه الصورة محل مناقشة ، فإنهم جعلوا من هذا الباب ما لو ادعى البائع مرابحة زيادة الثمن عما أخبر به أولا وأنكر المشتري وادعى عليه البائع العلم ، فان بينة البائع على ما يدعيه من الثمن

ص: 222

غير مسموعة ، لأن إخباره السابق مكذب لها ، بخلاف أخبار المشتري وتصديقه للبائع فإنه ينفع.

وفيه : انا نمنع عدم سماع بينة البائع حينئذ على وجه الإطلاق. وتوضيحه : ان البائع اما أن يقيم البينة على زيادة الثمن ، واما أن يقيمها على علم المشتري بها ، واما أن يقيمها على خطأ في الاخبار الأول. والاخبار السابق انما يكذب بينتها في الصورة الاولى ، وفي هذه الصورة يمكن منع سماع يمينه أيضا ، لأن حال اليمين وحال البينة في شرط عدم التكذيب سواء ، فلو حلف حلفا قد سبق منه تكذيبه أمكن القول بعدم اعتبار هذا الحلف شرعا حتى يكون مثل إقرار المدعي ، لان قيام الحلف منزلة الإقرار انما يكون في اليمين بعد اعتبارها ، ومن شرائط اعتبارها عدم تكذيب الحالف لها ، ولذا لو أقر المنكر بعد الحلف وكذب نفسه بطل أثر اليمين كما مر ، ولا فرق في التكذيب بين لا حقه وسابقة.

وأما الصورتان الأخيرتان فلا مانع من سماع البينة فيهما خصوصا الأخيرة ، إذ البينة على علم المشتري بالثمن لا يكذبها الاخبار السابق.

ولا ريب أن كون اليمين المردودة بمنزلة البينة أو بمنزلة الإقرار انما هو بالنسبة إلى متعلق الإقرار لا شي ء آخر ، فاليمين على القول بكونها بمنزلة الإقرار كالبينة بالنسبة إلى متعلق الإقرار على القول الأخر لا بالنسبة إلى شي ء آخر ، وعلى تقدير كونها بمنزلة الإقرار تكون في المسألة بمنزلة إقرار المشتري بالعلم بالزيادة وعلى تقدير كونها بمنزلة البينة تكون بمنزلتها بالنسبة إلى علمه أيضا لا بالنسبة إلى شي ء آخر. ومن الواضح أن البينة على علمه ليس يكذبها الاخبار السابق.

وبالجملة نمنع عدم نفع إقامة البينة في المسألة لو قلنا بنفع الإقرار ، وحينئذ نتمسك بعموم أدلة اليمين ونخرجه في مثل المقام أيضا. وبذلك تنعدم الثمرة رأسا.

وصار ملخص الكلام : انا نعمل بعموم أدلة اليمين ونحلف المدعى عليه

ص: 223

مطلقا ونجري عليها حكم الحجة المثبتة للحق بالنسبة إلى خصوص المتخاصمين لا مطلقا كما هو خيرة العلامة ، سواء كان في هذا اختيار كونها قسما ثالثا أو إلحاقها بالبينة من حيث كونها حجة مثبتة.

تذنيب [ نكول المدعى عن اليمين المردودة ] [ ونكول المدعى عليه على القضاء بالنكول ]

نظير هذا النزاع يتصور في نكول المدعي عن اليمين المردودة ونكول المدعى عليه على القول بالقضاء بالنكول ، فيقال في الأول هل هو بمنزلة إقرار المدعى أو بمنزلة يمين المنكر ، وفي الثاني هل هو بمنزلة إقرار المدعى عليه أو بمنزلة يمين المدعي المردودة.

ولعله يتفرع عليه بعض الثمرات التي توهم ترتبها على النزاع في اليمين المردودة ، والأصحاب لم يتعرضوا في النكولين لما قلنا.

والكلام النافع فيهما أن يقال : بأن القدر الثابت من الأدلة في الموضعين سقوط الدعوى في مجلس الدعوى ، وقوله عليه السلام « فلا حق له » في نكول المدعي أو نكول المنكر على القول به وان كان يتراءى في بادئ الرأي دلالته على عدم سماع البينة بعده ، فيكون مثل إقرار الناكل مثلا.

لكنه ليس كذلك ، لما أشرنا إليه فيما سبق من أن نفي الحق في مقام المخاصمة لا يزيد مؤداه على سقوط الدعوى في ذلك اليمين ، وأما سقوطها على وجه لا ينفع بعده إقامة البينة فلا بد فيه من التماس دليل آخر ، كاستصحاب ورواية كما في يمين المنكر.

ص: 224

هذا ، وتأمل بعد ذلك في الاخبار وكلمات الأخيار. واللّه الهادي إلى الصواب.

التقاط [ نكول المدعى عن اليمين والرد معا ]

إذا رد المنكر اليمين الى المدعي وحلف فقد عرفت الكلام فيه ، وان نكل عن اليمين والرد ففي عدم القضاء بالنكول الا بعد رد الحاكم اليمين الى المدعي أو القضاء بالنكول؟ قولان مشهور أن أشهر هما الأول ، وهو قضية الأصل في المسألة من وجوه ، لأصالة عدم جواز القضاء وعدم صحته ، بمعنى ترتب أثر المقصود من القضاء.

وربما تمسك بأصالة براءة ذمة المنكر عن الحق بدون حلف المدعي ، وأما معه فهو المتفق عليه ، أو عن الحلف ، وليس بوجه.

أما الأول : فلان اشتغال ذمة المنكر واقعا لا يختلف بسبب اليمين المردودة وعدمها كما لا يخفى ، واشتغال ذمتها ظاهرا - بمعنى وجوب دفع الحق - فهو تابع لشرعية القضاء بالنكول وصحته ، وقد عرفت أن قضية الأصل عدمها.

وأما الثاني : فلان وجوب الحلف عليه ليس وجوبا تكليفيا يدفع بالأصل كما لا يخفى.

( حجة القول الأول ) بعد الأصول عموم الأدلة الدالة على انحصار موازين القضاء في البينة بالمعنى الأعم والايمان ، منها الرواية المتقدمة القاضية بانحصار استخراج الحقوق في الأربعة التي ليس منها نكول المنكر عن اليمين والرد معا.

وهذه أظهرها دلالة ، لإباء سياقها عن التخصيص رأسا ، حتى لو ثبت شي ء غيرها فلا بد من ارتكاب تمحل غير التخصيص ، اما بإدراجه تحت شي ء من الأربعة

ص: 225

ولو بضرب من التوسع والتسامح أو بحملها على الغالب المتعارف الشائع.

توضيحه : ان سياق الرواية آب عن التخصيص ، وأما التخصص فلا ، فاذا ثبت شرعية استخراج حق المدعي بشي ء غير داخل تحت الأربعة مثل اليمين في الموارد التي ثبت فيها بأصل الشرع لا بالرد مثل مظان قبول قوله بيمينه ، فلا بد فيه من تمحل يرجع الى التخصص لا التخصيص ، كأن يقال المراد بالحقوق أمور معهودة أو الحقوق مخصصة بغير تلك الحقوق التي تستخرج بيمين المدعي الغير المردودة ، فإن تخصيص الحقوق غير تخصيص الرواية ، لأن تخصيص الرواية تصرف في المحصور فيه ، وهو الذي يأبى عنه سياقها ، وأما تخصيص الحقوق في سلامة المحصور فيه.

أو يقال : ان المراد بالاستخراج الغالبي لا مطلقا ، فيكون كارتكاب التخصيص في الحقوق في سلامة المحصور فيه.

أو يقال : ان ذلك شي ء دخل تحت أحد الأربعة ، ويجعل ذلك الدليل القاضي بكونه من موازين القضاء دليلا على ذلك حفظا للمحصور فيه عن التخصيص ، لأن الإلحاق الموضوعي لا ينافي بقاء المعموم بحاله.

فإن قلت : من جملة الأربعة اليمين المردودة التي يردها المنكر دون الحاكم وهو أمر خامس ، ومن يقول بالقضاء بالنكول يجعله أيضا خامس الموازين ، فالرواية غير واردة عليه. بيانه : ان القاضي بالنكول لا يجعله سادس الموازين بل خامسها ، ومقتضى الرواية أيضا كون الموازين خمسة ، لان الميزان الرابع فيها اليمين المردودة من المنكر ، فإذا أضيف إليها المردودة من قبل الحاكم صارت الموازين خمسة ، فالرواية لا بد من الخروج عن ظاهرها بالتزام ميزان آخر يكون خامس الموازين ، وذلك الميزان الخامس عند القاضي بالنكول هو النكول وعند غيره هي اليمين المردودة.

ص: 226

قلت : لا نسلم أن الرواية غير باقية على ظاهرها ، لان الميزان الرابع فيها ليس سوى اليمين المردودة ، وكونها مردودة من الحاكم لأمن المنكر لا يجعلها قسما آخر حتى يزيد الميزان على الأربعة ، لأن يمين المدعي هي يمين المنكر ، سواء جاء من قبل المنكر أو من قبل الحاكم.

ولو سلم فتنزيل المردودة من المنكر منزلة المردودة من قبل الحاكم إبقاء لظاهر الحصر بحاله ، لما عرفت من أن التنزيل والإلحاق الموضوعي غير مناف لبقاء الحصر على ظاهره ، خصوصا مثل هذا التنزيل الذي هو بمكان من القرب الى الاعتبار.

والحاصل ان الالتزام بكون النكول ميزانا للقضاء لا يجامعه الحصر المستفاد من الرواية كما لا يخفى ، بخلاف التزام كون اليمين المردودة التي يردها الحاكم ، فان ذلك غير مضر بالحصر تحقيقا أو تنزيلا - فافهم.

ومنها - حديث « انما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (1). ودلالته واضحة ، لأن نكول المدعي خارج عنهما معا بخلاف اليمين التي يردها الحاكم لأنها داخلة في الثاني.

ودعوى أن المراد بالايمان هي يمين المنكر لا المدعي. ممنوعة بدليل قبول قول المدعي في بعض الموارد بيمينه.

ودعوى خروجها بالدليل. ليس بأولى من حمل الايمان على ما يعم يمين المدعي ، مضافا الى أنا ندعي أن اليمين المردودة هي يمين المنكر ، سواء كان الراد هو المنكر أو الحاكم.

ومنها - ما روي ان أحكام المسلمين على ثلاثة : بينة عادلة ، ويمين قاطعة ،

ص: 227


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

وسنة جارية (1). أي القرعة. والنكول خارج عن الثلاثة - إلى أخر ما عرفت هنالك.

وغير ذلك مما دل على حصر حجة المدعي في البينة وخلاص المنكر عن أداء الحق باليمين.

وقد يستدل على المطلوب أيضا برواية عبيد بن زرارة عن الصادق عليه السلام في الرجل يدعى عليه الحق ولا بينة للمدعي. قال : يستحلف أو يرد اليمين على صاحب الحق ، فان لم يفعل فلا حق له (2).

وأجاب عنها في المسالك بضعف سندها بقاسم بن سليمان وضعف دلالتها أيضا بظهورها في كون الراد هو المنكر ، لأن صيغة « يرد » أن قرئت معلوما رجع الضمير المستتر فيها الى المنكر بقرينة رجوع الضمير المستتر في المعطوف عليه - أعني يستحلف - اليه ، فيكون الراد هو المنكر لا الحاكم. وان قرئت مجهولا كان الراد هو الحاكم ، لعدم استتار ضمير فيها حينئذ ، وظاهره الأول.

واستدل أيضا برواية هشام عنه عليه السلام « يرد اليمين على المدعي » (3).

والعمدة هي العمومات.

وحجة القول الثاني أيضا روايات عامة وخاصة :

منها - قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على المنكر » (4).

استدل به في المسالك وغيره ، وتقريب الاستدلال حسبما مرت إليه الإشارة : ان الفقرة الثانية باعتبار تعريف المسند والمسند اليه تفيد قضيتين عامتين ، إحداهما ان كل يمين على المنكر ، والثانية أن كل منكر عليه اليمين كما مرت إليه الإشارة سابقا. ومقتضى عموم القضية الاولى عدم القضاء بيمين المدعي ، لان يمين

ص: 228


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 6.
2- الوسائل ج 18 ب 7 من أبواب كيفية الحكم ح 2.
3- الوسائل ج 18 ب 7 من أبواب كيفية الحكم ح 3.
4- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2.

المدعي ليس يمين المنكر ، فليست يمين شرعا بحكم عكس نقيض القضية ، أعني كل ما ليس على المنكر ليس بيمين ، خرج عن عمومها يمين المدعي إذا كان الراد هو المنكر ، وأما غيرها فلا دليل.

لا يقال : عدم القضاء بيمين المدعي لا يستلزم المطلوب ، وهو القضاء بالنكول ، لجواز عدم القضاء رأسا وإيقاف الدعوى أو حبس المنكر حتى يفعل أحد الأمرين أو الأمور من اليمين أو الرد أو أداء الحق.

قلنا : مفروض البحث وجوب القضاء في صورة النكول اما قبل الرد الى المدعي أو بعده ، فاذا ثبت بمقتضى العموم عدم القضاء باليمين تعين القضاء بالنكول.

وفيه :

أولا : ان قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » مسوق لبيان وظيفتهما في ابتداء الأمر ، فالوظيفة الأولية للمدعي هي إقامة البينة ، فلا يكلف ابتداء الا بها ، وكذا وظيفة المنكر الأولية هي اليمين ، فلا يطالب الا بها. وأما وظيفتهما الثانوية - بمعنى وظيفة المدعي مع عدم إقامة البينة ووظيفة المنكر مع عدم الحلف - فهو ساكت عن بيانها. فلا بد من التماس دليل آخر في صورة نكول المنكر عن اليمين أو عدم إقامة المدعي البينة. ومن هنا يعلم أن القضاء باليمين المردودة من قبل المنكر أيضا ليس تخصيصا في عمومها.

وثانيا : ان القضاء بالنكول من دون رد اليمين الى المدعي تخصيصا زائدا في عكس الفقرة الأولى ، لان مقتضى عكسها بحكم تعريف المسند ان كل مدعى عليه البينة بمعنى عدم الحكم له الا بها خرج عنها اليمين إذا ردها المنكر أو الحاكم بالاتفاق ، وأما النكول المجرد عن الرد فلا.

لا يقال : لا نسلم خروج اليمين إذا كان الراد هو الحاكم ، لأنه أول الدعوى ، والقاضي بالنكول لا يقول به ، فالأمر يدور بين خروج النكول أو خروج اليمين

ص: 229

عن العموم ، لا أن خروج اليمين اتفاقي وخروج النكول مشكوك فيه.

لأنا نقول : المراد ان القضاء بالنكول يتصور على قسمين : أحدهما القضاء به بعد رد الحاكم اليمين ، وهذا اتفاقي ، لأن الفريقين كليهما يقولان به ، أما القائل بالرد فواضح وأما القاضي بالنكول فهو أيضا يقضي حينئذ ولو كان لا جل النكول لا لأجل اليمين ، فغرضنا من الاتفاق أن النكول الذي يتعقبه الرد قد خرج عن عموم القضاء بالاتفاق ، سواء كان الخارج هو النكول المجرد أو المتعقب بها ، وأما النكول الذي لا يتعقبه رد فالقضاء به مشكوك ، ومقتضى ما ذكرنا من العموم عدم القضاء.

والحاصل ان القضاء باليمين يستلزم تخصيصا في أصل الفقرة الأخيرة ، والقضاء بالنكول يستلزمه في عكس الفقرة الاولى ، وأحد التخصيصين ليس بأولى من الأخر.

الا أن يقال : ان القضاء باليمين كما يستلزم تخصيصا في أصل الفقرة الأخيرة كذلك يستلزم تخصيصا في عكسها ، لأنه إذا اعتبرنا في القضاء الرد فلازمه أن يقضي للمنكر إذا نكل المدعي عن اليمين المردودة. والقضاء بنكول المدعي تخصيص في عكس الفقرة الأخيرة ، لأن قضية عكسها أن لا يتخلص المنكر الا باليمين ، على التقريب الذي عرفت في عموم الفقرة الأولى أصلا وعكسا. فالأمر يدور بين التخصيص والتخصيص ، والأول أرجح ، فيثبت القضاء بالنكول ويسقط اشتراط الرد.

لا يقال : القضاء بنكول المدعي مما لا كلام فيه ، فهو خارج عن عموم عكس الفقرة الأخيرة بالروايات السابقة ، فهو لازم على أي تقدير.

قلت : نكول المدعي عن اليمين إذا كان الراد المنكر غير نكوله إذا كان

ص: 230

الراد الحاكم ، والإجماع لو كان فإنما هو على القضاء بالأول دون الثاني ، فالقضاء به تخصيص آخر في عكس الفقرة الأخيرة.

ومنها - رواية البصري عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه على ما في محكي الكافي والتهذيب قال : قلت للشيخ - يعني موسى بن جعفر عليه السلام - خبرني عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلا يكون لا البينة بماله. قال : فيمين المدعي عليه ، فان حلف فلا حق له وان لم يحلف فعليه ، وان كان المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين باللّه الذي لا إله الا هو لقد مات فلان وان حقه لعليه ، فإن حلف والا فلا حق له ، لأنا لا ندري لعله قد أوفاه ببينة لا نعلم موضعها أو بغير بينة قبل الموت ، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البينة ، فإذا ادعى ولا بينة فلا حق له ، لان المدعى عليه ليس بحي ، ولو كان حيا لألزم اليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه ، فمن ثمَّ لم يثبت عليه حق (1).

دلت يصدرها وذيلها على القضاء بمجرد عدم حلف المدعى عليه من دون اشتراطه يرد اليمين : أما الصدر فهو قوله « وان لم يحلف فعليه » ، فإنه يدل على ثبوت الحق عليه بمجرد عدم الحلف من دون اعتبار أمر آخر.

وأورد عليه بوجوه :

« الأول » ان سند الرواية ضعيف لاشتماله على ياسين الضرير.

« والثاني » ان متنها مختلف ، لأنها بعينها مروية في الفقه وليس فيها قوله « وان لم يحلف فعليه » بل « وان رد اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حق له ».

وعلى هذا فلا مساس لها بالمدعي ، واختلاف المتن عيب في الرواية يسقطها عن الاعتبار.

« والثالث » ان ظاهرها مقيد لا محالة ، للإجماع على عدم ثبوت الحق على

ص: 231


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

المنكر بمجرد عدم الحلف ، بل لا بد معه من أحد أمرين : أما رد اليمين وحلف المدعي ، أو نكوله عن الرد أيضا. والاستدلال انما يتم لو كان القيد المقدر ولم يرد ، وهو ممنوع لاحتمال نكوله وحلف المدعي. والحاصل ان التقدير لازم ، فالمقدر اما لم يرد فيكون المعنى ان المدعى عليه ان لم يحلف ولم يرد - أي نكل عن الرد - فعليه الحق أو حلف المدعي ، والمعنى أنه ان لم يحلف وحلف المدعي فعليه الحق. والاستدلال يتم به على الأول ، وأما على الثاني فهي دليل على عدم القضاء بالنكول كما لا يخفى.

وهذه الوجوه كلها مردودة :

( أما الأول ) فلان ضعف السند مع حصول الوثاقة وسكون النفس غير معيب على الرواية ، والرواية مما رواه المشايخ الثلاثة ، فهي مجمع على روايتها وان كان في متنها نحو اختلاف. مع أن الرواية مأخوذة من كتاب احمد بن محمد بن عيسى ، وهو بمكان من الإتقان والمداقة في الرواية حتى أمر بإخراج البرقي من قم لكونه يروي عن الضعفاء. مع أنها معمول بها عند الكل في الجملة ، وهو جابر لسندها ، ولا يشترط في جبران السند بالعمل عمل الأصحاب بجميع فقراتها. نعم ذلك شرط في جبر الدلالة ، فيتقدر الانجبار بمقدار العمل.

( وأما الثاني ) فلان مثل هذا الاختلاف لا يضر ، لعدم رجوعه الى التكاذب والتعارض ، لا مكان الجمع ، بأن كان الكليني «رحمه اللّه» قد أسقط بعض فقرات الرواية وأسقط الفقيه البعض الأخر ، وكان ما ذكره كل منهما هو الذي أسقطه الأخر ، فيؤخذ بهما معا خروجا عن ظاهر كل منهما بنص الأخر ، فإن عدم تعرض الكليني لما رواه الصدوق من الفقرة ظاهر في عدم كونه من الرواية لكن صريح الصدوق كونها منها ، فيكون التعارض بينهما تعارض النفي والإثبات ،

ص: 232

وكذا عدم تعرض الصدوق لما في الكافي ظاهر في عدم كونه من الرواية لكن الكافي مصرح بكونها منها.

والحاصل ان هذا الاختلاف بمنزلة روايتين غير متعارضتين ، فيعمل بهما معا ويثبت المطلوب ، ولهذا جمع الشيخ الحرفي الوسائل بينهما ، فروى الرواية جامعة لهما ، وصورة ما عن الوسائل هكذا : وان حلف فلا حق له ، وان رد اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حق له وان لم يحلف فعليه (1).

وأوردها بعض مشايخنا أيضا في جواهره على وجه الجمع بين الفقرتين لكن بعكس ترتيب الوسائل ، فراجع اليه. والحاصل ان ما صنعه في الوسائل في محله.

ومن العجائب ما عن بعض نسخ الوسائل من روايتها على طور رابع ، وصورته ، وان حلف فلا حق له وان لم يحلف فعليه وان حلف فلا حق له.

وكيف كان فالعمل بهما معا لا مانع منه.

ثمَّ لو بني على التعارض سقطت عن الاستدلال للإجماع ، وقد يرجع الفقيه لكون الصدوق أضبط.

( وأما الثالث ) فلان التقدير في المقام غير لازم ، بل المقام مقام دوران الأمر بين التقييد بالأقل والأكثر ، وذلك لان إطلاق « وان لم يحلف فعليه » يشمل صورا : أحدها ما إذا لم يحلف ولم يرد بأن يكون ناكلا عن اليمين وردها ، وثانيها ما إذا لم يحلف ورد اليمين وحلف المدعي ، وثالثها ما إذا ردها ولم يحلف المدعي.

والصورة الأخيرة خارجة عن تحت الإطلاق قطعا ، إذ ليس في هذه الصورة شي ء على المنكر جدا. والصورة الثانية باقية تحت الإطلاق ، لأنه إذا حلف

ص: 233


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

المدعي ثبت على المنكر الحق. والصورة الاولى مشكوك فيها ، والقاضي بالنكول يدعي بقاءها تحت الإطلاق أيضا والقاتل بعدم القضاء يقول بخروجها ، فالمقام مقام التقييد بالأكثر أو الأقل لا مقام التقدير ودوران المقدر بين الأمرين.

وأما ذيل الرواية فهو قوله عليه السلام « وليس المدعى عليه بحي ولو كان حيا لألزم اليمين أو الحق أو برد اليمين عليه ». وجه الدلالة : ان مقابلة إلزامه بالحق للحلف ولرده اليمين ظاهرة أو صريحة في أن المدعى عليه إذا لم يحلف ولم يرد الزم بالحق من غير اعتبار أمر آخر.

ودعوى ان المراد الإلزام بالحق بعد رده اليمين على المدعي. خروج عن ظاهر المقابلة ، وبعد رد الحاكم تقييد بلا دليل.

وقد يناقش في دلالتها بسبب إجمال « يرد » لاحتمال كونه مبنيا للمجهول فيسقط عن الاستدلال ، لان مفاد الرواية حينئذ أن المدعى عليه يكلف أولا باليمين وان أبى فبالحق ، وان أبي فالحاكم يرد اليمين الى المدعي ويقضي بعد حلف المدعي.

ويبعده أمران :

أحدهما - ان مقابلة الإلزام بالحق لرد الحاكم لا معنى له ، للإجماع على أن الحاكم ليس مخيرا بين الإلزام بالحق من دون الرد الذي هو عبارة أخرى عن القضاء بالنكول وبين الرد ، ومجرد تكليفه بأداء الحق من غير إلزام ليس بمعنى الإلزام في شي ء.

والثاني - انه ان قرئ مجهولا لم يكن في الكلام قرينة مقالية أو مقامية تدل على المدعي الذي هو مرجع لضمير « عليه » ، فالكلام يخرج الى حد الغلط ، بخلاف ما لو قرئ معلوما فان الضمير المستتر فيه يرجع الى المدعى عليه ، وهو يكون بمنزلة سبق ذكر المدعي - فافهم.

ص: 234

هذا مع احتمال أن يكون عبارة الحديث « برده اليمين » بالموحدة ، فيكون مفعولا بالواسطة لألزم.

ثمَّ ان الإلزام باليمين أو الحق أو الرد يحتمل معنيين : أحدهما كونه في مقام إنشاء الحكم الشرعي ، فالمعنى ان حكم اللّه حينئذ الإلزام بأحد الأمور ، والاستدلال به حينئذ واضح ، لان القضاء بالنكول هو الإلزام بالحق إذا لم يرد.

والثاني أن يكون مسوقا لبيان الواقع ، بمعنى أن المدعى عليه لو كان حيا لكان يلزمه أحد الأمور ، لا أن الإلزام بأحدها وظيفة الحاكم.

ووجه لزوم أحد هذه الأمور للمدعي عليه الحي : هو أن وظيفته شرعا الحلف أو رده اليمين ، فيلزمه الحاكم بأحدهما ويقهره عليهما الا أن يختار أحدهما ، فمتى لم يختر شيئا فهو في عقوبة الحاكم وإلزامه الى أن يفك نفسه ويتوصل الى خلاص نفسه مع التمرد منهما برد الحق ، فلزوم الأمور المذكورة له ليس لأجل كون الإلزام بأحدها حكم اللّه تعالى ، بل لان حكمه تعالى هو الإلزام باليمين أو الرد.

لكن قد ينجر الأمر الى أن المدعى عليه لا يحلف ولا يرد ولكن يخلص نفسه بدفع الحق ، فقوله « الزم اليمين » إلخ بيان لما ينتهي اليه أمر المدعى عليه الحي ولو باختيار نفسه. وعلى هذا يثبت القضاء بالنكول أيضا ، لأن رد الحاكم يمنع عن لزوم أحد هذه الأمور ، إذ ربما ينكل عن اليمين فيسقط حقه ، فلا بد من القول بعدم الرد محافظة للحصر.

لا يقال : القضاء بالنكول غير دفع المدعى عليه الحق تخلصا عن اليمين والرد.

لأنا نقول : « أولا » انه يبطل القضاء بالرد كما عرفت ، وإذا بطل ذلك ثبت القضاء بالنكول ، لاتفاق الفريقين على أنه لا بد من القضاء. « وثانيا » ان القضاء

ص: 235

بالنكول لا يقصد منه سوى إخراج الحق بدون الرد ، وهو بعينه ما يدل عليه الرواية - فتأمل.

ومنها - رواية الأخرس : سأل محمد بن مسلم الصادق عليه السلام عن الأخرس كيف يحلف؟ قال : ان أمير المؤمنين عليه السلام كتب له اليمين وغسلها وأمره بشربها ، فامتنع فألزمه الدين (1).

وظاهرها الإلزام بدون رد اليمين والا لنقل ولزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. مضافا الى ظهور كلمة الفاء في « فألزمه الدين » على تعقيب الإلزام للامتناع بلا مهلة فتخلل اليمين بينهما.

ودعوى ان حكاية الحال مجملة لا تصلح للاستدلال. ساقطة في مثل المقام المسوق لجواب السؤال ، خصوصا إذا كان الحاكي هو الامام عليه السلام.

لكن يمكن المناقشة فيها بوجه آخر ، وهو ان الإجماع قائم على عدم القضاء بمجرد الامتناع عن الحلف ، بل لا بد معه من أحد أمرين : اما النكول عن رد اليمين أو اليمين المردودة ، فلا بد من الالتزام بإهمال المكاتبة وعدم اشتمالها على تمام ميزان القضاء ، فتكون مجملة.

ولا يوجه بما وجهنا به الاستدلال بقوله « ولا يحلف » في رواية البصري ، تضعيفا لورود مثل هذه المناقشة الذي تو همه بعض الأجلاء كما لا يخفى.

هذا مدرك القول الثاني ، ومع ذلك فالقول الأول لم يبعد ، لما تقدم. واللّه العالم.

تذييل [ مستثنيات عدم القضاء بالنكول ]

قد استثنى الأصحاب من مسألة عدم القضاء بالنكول على القول به مواضع ،

ص: 236


1- الوسائل ج 18 ب 33 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

وظاهره الاستثناء كما في المسالك (1) القضاء به فيها على القول بعدم القضاء به مطلقا : منها دعوى التهمة وقد تقدمت ، ومنها دعوى الوصي ما لا لليتيم ، ومنها دعواه على الورثة إيصاء الميت مالا للفقراء. والضابط كل موضع امتنع رد اليمين الى المدعي لمانع عقلي أو شرعي ، ولعله يأتي إنشاء اللّه تعالى بيان ذلك المانع الشرعي أو العقلي في المواضع المشار إليها.

ويمكن أن يستدل على الاستثناء بوجوه :

( منها ) أن فصل الخصومة في تلك المواضع ، مما لا بد منه ، لعموم الايات والاخبار الإمرة بالحكم بما أنزل اللّه تعالى الدالة على سماع الدعوى. مضافا الى ما فيه من المحافظة على عدم ضياع الحقوق الذي هو الداعي إلى شرعية أصل القضاء والى ظاهر اتفاقهم على ذلك.

ولو قيل بتوقيف الدعوى عند تمرد المنكر من الحلف على القول بعدم القضاء بالنكول ، وإذا ثبت سماع الدعوى فيها فلا بد من القضاء بالنكول ، إذ على تقدير عدمه لا يترتب على السماع فائدة إذا لم يكن للمدعي بينة ، لان الحاكم لا يقدر حينئذ إلزام المنكر بشي ء ، فإن غاية ماله ان يقول له « احلف وان شئت لا تحلف فليس عليك شي ء » ، ومن المعلوم أن ذلك عين عدم سماع الدعوى.

فان قلت : نمنع وجوب سماع الدعوى فيها مع عدم البينة ، لأن أوامر الحكم بما أنزل اللّه تعالى متخصص بحكم العقل بما إذا كان هناك ميزان للحكم. ومن هنا لا يسمع الدعوى على الميت أو الصغير. وبالجملة كل موضع ليس المدعى عليه قابلا للإحلاف إذا لم يكن للمدعي بينة وليس في هذه المواضع بعد فقد البينة ميزان للحكم ، لان يمين المنكر على تقدير كونها ميزانا فإنما هي في صورة إمكان الرد لا مطلقا ، لظاهر قوله عليه السلام « استخراج الحقوق بالأربعة » التي ليس منها القضاء بالنكول بدون الرد.

ص: 237


1- واعلم ان ظاهر المسالك الاستثناء من الرد لأمن القضاء بالنكول - فافهم « منه ».

قلت : أولا كلامنا مع الجماعة الذين رأوا سماع الدعوى مع عدم القضاء بالنكول وإيقاف الدعوى. وثانيا انه لا دلالة في الرواية على انحصار ميزان القضاء في الأربعة مطلقا بل في الموارد التي يمكن فيها الرد ، لأنها مسوقة لبيان الموازين التي هي تحت قدرة المدعي استظهارا من لفظ « الاستخراج » كما يظهر وجهه بالتدبر. ولو سلم الإطلاق ففيما يأتي دلالة على التقييد بصورة إمكان الرد.

( ومنها ) قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (1) ، لأن ظاهر الفقرة الأخيرة - كما مر غير مرة - حصر وجوه خلاص المنكر وانفكا كه من قيد الدعوى في اليمين ، فلو لم يحلف لم يتخلص ، فتخلصه موقوف بعد عدم أداء الحق على اليمين ، فلو لم يحلف لم يتخلص ، فتخلصه موقوف بعد عدم أداء الحق على اليمين ، فحيث لا يحلف الزم بالحق ، خرج منه صورة نكول المدعي عن اليمين المردودة مع إمكان الرد وبقي الباقي.

فإن قلت : ظاهر الفقرة الأولى أيضا حصر حجج الدعوى وأسباب استخراج حقه بالبينة ، خرج منه اليمين المردودة أو نكول المدعي عليه عن رد اليمين على القضاء بالنكول ، وأما نكوله عن اليمين مع عدم النكول عن الرد باعتبار عدم إمكانه فلا دليل على خروجه.

قلت : أولا أنا ندعي بقرينة كلمة « على » انها لا تدل الا على انحصار حجج المدعي التي هي تحت قدرته واختياره كالبينة ونحوها في البينة ، وأما ما هو خارج عن اختياره كنكول المنكر فلا يندرج في عموم المحصور - فافهم وتأمل.

وثانيا انا نجمع بين الفقرتين ونقول : أما المدعي فليس له حجة في هذه المواضع على إثبات حقه ، وأما المنكر فليس له خلاص أيضا إلا باليمين ، ويترتب عليه أن المنكر اما أن يحلف أو يؤدي الحق أو يحبس تحقيقا لمعنى حصر خلاصه في اليمين - فتأمل.

ص: 238


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2.

( ومنها ) قوله عليه السلام في رواية البصري المتقدمة « وان لم يحلف - أي المنكر - فعليه الحق » ، فإن غاية ما يرد على إطلاقه تقييده برد الحاكم اليمين الى المدعي مع إمكانه وأما مع عدمه فلا.

فان قلت : هذا معارض بما في الروايات الأخر من أن المدعي إذا لم يحلف فلا شي ء له.

قلت : المراد عدم الحلف مع الرد لا مطلقا ، خصوصا مع ملاحظة ما في بعض الروايات ، حيث أن فيها بدل ولم يحلف « وان أبى عن الحلف أو امتنع » ، فان ظاهر الإباء والامتناع أو صريحهما عدم الحلف فيما له أن يحلف لا فيما لا يجوز له الحلف لمانع شرعي أو عقلي.

( ومنها ) أن سير الموازين الشرعية للقضاء والتأمل فيها يقضي باعتبار نكول المنكر عن اليمين ميزانا للقضاء أيضا ، لأنه أمارة نوعية على اشتغال الذمة ، مثل نكول المدعي عن اليمين المردودة ونكول المنكر عن الرد على القول بالقضاء به ، فيكون نكول المنكر عن اليمين أيضا كذلك - فتأمل.

( ومنها ) ما سبق في المسألة السابقة من الروايات الواردة في خصوص موضع الدعوى تهمة الذي يندرج في مفروض المسألة ، كقوله عليه السلام في الصائغ والأجير : ان اتهمته فاستحلفه لعله يستخرج منه شيئا.

وجه الدلالة ، انه لو لا القضاء بالنكول فلا يترتب الاستخراج على الاستحلاف ، لان المدعي ان حلف وان لم يحلف فلا يلزم عليه شي ء على هذا القول.

ودعوى ان احتمال الاستخراج لرجاء الإقرار بسبب الاستحلاف مدفوع : أولا بأن الخارج بسبب الإقرار لا يصدق عليه عنوان المستخرج ، وثانيا ان رجاء الإقرار من الاستحلاف على تقدير عدم القضاء بالنكول لا وجه له ، لان الاستحلاف انما يجدي في الإقرار إذا كان الامتناع من الحلف تعظيما لله تعالى متوقفا عليه. وأما

ص: 239

إذا لم يكن متوقفا عليه ولا على دفع الحق بل يتحقق مع عدمهما أيضا فلا وجه للرجاء المزبور. الا أن يقال : ان الاستحلاف في الرواية محمول على الاستحلاف في غير مقام الحكومة ، فتدبر.

هذه وجوه يمكن توجيه الاستثناء بها بمعنى الحكم بالقضاء بالنكول على القول بعدمه في غير المقام ، ولكن للمناقشة في الكل أو الجل نظر. ولو قيل بالحبس حتى يقر أو يحلف كان أوجه ، وان كان لا يقاف الدعوى رأسا أيضا وجه ، ولكن القول بسقوط حق المدعي نظرا إلى إطلاق ما سمعت من أنه إذا لم يحلف فلا شي ء له ، بمكان من الضعف والسقوط. واللّه العالم.

التقاط [ لا يستحلف المدعى لو أقام بينة تثبت حقه ]

إذا أقام المدعي بينة قابلة لا ثبات الحق لم يستحلف إذا كان المدعى عليه حيا عاقلا بالغا حاضرا. بلا خلاف موجود أو محكي ، عملا بالروايات المصرحة بالمعتضدة بمقتضى قاعدة كون البينة حجة مستقلة والعمومات الحاصرة لتكليف المدعي في البينة.

وما ورد في بعض الروايات من وصية علي عليه السلام لشريح برد اليمين الى المدعي مع إقامة البينة لكونه أجلى للعمى (1). محمول على ما لو انقلب المنكر مدعيا فاستحلفه ، أو على ما إذا كانت الدعوى على غير الجامع للأوصاف المزبورة.

ولا فرق في ذلك بين ما إذا شهدت البينة على سبب الحق واستصحبه الحاكم - على القول بجوازه - أو شهدت بالحق الفعلي اتكالا على الاستصحاب. وان

ص: 240


1- الوسائل ج 18 ب 8 من أبواب كيفية الحكم ح 4.

كان احتمال عدم ثبوت الحق واقعا قائما وانتفاؤه مما لم يتفرع على البينة في الصورتين ، فان هذا الاحتمال مع فرض حجية البينة في الصورتين لا يعتنى به بحيث يوجب توقف الحكم بالاشتغال الفعلي على ضم اليمين بالبينة ، للإجماع المحقق على أن المنكر إذا لم يستحلف المدعى يثبت الحق بالبينة في الصورتين ، فلو لا إتمام الحجة بمجردها لزم الحلف طلبه المنكر أو لم يطلب استكمالا للحجة.

ودعوى أنه إذا لم يطلب وسكت فسكوته دليل على اعترافه بعدم حصول البراءة على فرض وجود السبب ، فيؤخذ بمقتضى ظاهر سكوته في مقام البيان ، بخلاف ما إذا ادعى البراءة الفعلية. وان كان احتمالا وجيها الا أنه مجرد تخريج لا دليل عليه.

فثبت أن قيام الحجة على السبب يكفي في إثبات الحق الفعلي ولا يعتنى معها على احتمال البراءة الفعلية ، سواء ادعاها المنكر أم لم يدع. نعم له دعوى الإبراء أو الأداء أو نحوهما مما يوجب انقلاب المنكر مدعيا ، فيسمع حينئذ قوله ويستحلف المدعي حينئذ لكونه منكرا ، بلا خلاف ظاهر فيه بين الأصحاب.

وعليه نزل في كشف اللثام قول العلامة « ولو التمس بعد إقامة البينة عليه - أي على الحق - إحلاف المدعي على الاستحقاق أجيب » يعني انه لو التمس الإحلاف بعد دعوى ما يوجب انقلاب المنكر مدعيا كالإبراء والأداء لا دعوى البراءة الفعلية وعدم الاستحقاق الفعلي ، فإنه لا ينطبق الا على الاحتمال المزبور الذي لا دليل عليه ، ونعم التنزيل. وبه يجمع بينه وبين ما قال بعده « ولو التمس المنكر يمين المدعي مع الشهادة لم يلزم إجابته » فإنه لولاه لتناقض القولان جدا.

هذا إذا كان المدعى عليه حيا ، وأما إذا كان ميتا فيستحلف على المشهور ، لما في رواية عبد الرحمن البصري وقد تقدم ذكرها برمتها في المسألة السابقة (1) ،

ص: 241


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

وفيها : وان كان المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين باللّه الذي لا إله الا هو قد مات فلان وان حقه لعليه ، فإن حلف والا فلا حق له ، لأنا لا ندري لعله قد وفاه ببينة لا نعلم موضعها أو بغير بينة قبل الموت ، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البينة - الحديث.

وهذه الرواية لا شي ء عليها دلالة وسندا ، لان يس الضرير الذي ضعفت الرواية لأجله وكون مجهولا يتبين حسن حاله من كون الرواية مأخوذة من كتاب احمد بن إسحاق القمي لأنه كان لا يروي عن الضعفاء بل كان يأمر بإخراج من دأبه ذلك من قم مثل محمد بن خالد البرقي كما أشرنا إليه سابقا.

مع أن المناط عندنا ليس على وثاقة الراوي وعدالته ، بل على الظن الاطمئناني بالصدور الذي يتحقق غالبا من عمل جملة من الأصحاب فضلا عن عمل الجل أو الكل ، فالعمل بها في مواردها لا كلام فيه وانما الكلام في تنقيح العلة وإلغاء بعض الخصوصيات التي اشتمل عليها العلة ، مثل كون المدعي أصيلا لا وكيلا أو وصيا أو وليا وكون المدعى به دينا وكون المدعى عليه ميتا وكون الاحتمال المنفي باليمين احتمال حصول البراءة في حياة المدعى عليه لا في مماته ، وكون احتمال البراءة ناشئا من حصول مبرئة بعد الاشتغال لأمن احتمال فساد السبب الذي شهد به الشهود كالإقرار للتورية ، والعقد الفاقد لبعض الشروط المخفي على الشاهدين ، وكون الحجة خصوص البينة لا الشاهد واليمين وما في حكمهما وكون البراءة حاصلة من فعل الميت كما يقتضيه قوله « وفاه » لأمن إبراء المدعي أو وفاء الأجنبي ونحو ذلك مما لا يخفى.

[ الإشارة إلى مواضع تلغى فيها خصوصيات العلة ]

وبالجملة في العلة خصوصيات لا خلاف ولا إشكال في إلغائها وخصوصيات

ص: 242

في إلغائها إشكال أو خلاف ، فهاهنا مقامات لا بأس بالإشارة إليها مفصلا ليرجع فيما يشك في إلغائه واعتباره الى الأصل وهو عدم الاعتبار :

( فمن الاولى ) كون المدعي والمدعى عليه رجلين على ما يقتضيه الجمود على ظاهر اللفظ ، إذ الظاهر عدم اعتبار الرجولية لا في المدعي ولا في المدعى عليه إجماعا.

( ومنها ) كون الاحتمال المنفي باليمين احتمال وفاء الميت في حال حياته ، إذ الظاهر عدم العبرة به أيضا ، فلو علم عدم وفائه واحتمل إبراء المدعي له في حال حياته أو وفاء الغير عنه تبرعا أو مع الاذن كالوكيل أو احتمال شي ء من المسقطات وأسباب براءة ذمة الميت في حال حياته وغيرها توجهت اليمين الاستظهاري أيضا ، بنفي ذلك كله.

ولا مدخلية لخصوصية وفاء الميت ، وان كان هو مقتضى الجمود على ظاهر اللفظ ، وحينئذ فيكون قوله عليه السلام ، « ولعله قد وفاه » كناية عن مطلق المبرئ للذمة ، مثل قول القائل « لا أبرح عن هذا المكان حتى يؤذن المؤذن ».

( ومن الثانية ) كون البراءة المحتملة هي البراءة حال الحياة ، فلو علم بموته مشغول الذمة واحتمل حصول البراءة بعد الموت فإنه محل الاشكال والتأمل في المسالك وغيره ، والجمود على صريح الرواية اختصاص الحكم باحتمال البراءة في حال الحياة ، فيرجع مع القطع بعدمه إلى القاعدة التي أشرنا إليها من عدم اعتبار ضم اليمين ولو احتمل حصولها بعد الموت.

وجه الاشكال : انه ينبغي النظر في أن اعتبار اليمين هنا هل هو من جهة توقف ثبوت الدعوى على اليمين المنضمة إلى البينة ، بأن تكون البينة باعتبار عدم نهوضها بإثبات الاستحقاق الفعلي إلا باعمال الاستصحاب ناقصة محتاجة في

ص: 243

إثبات الفعلية إلا دفع احتمال البراءة الواقعية باليمين أو من جهة مراعاة احتمال دعوى الميت البراءة لو كان حيا.

وعلى الأول يتعدى في الحكم عما يقتضيه ظاهر اللفظ ويحمل التقييد باحتمال الوفاء في حال الحياة على الغالب ، لان الغالب عدم حصول البراءة بعد الموت إلا بأداء الوارث ويؤخذ بإطلاق الحكم ، كما هو الشأن في كل قيد جرى مجرى الغالب ، فيقال : ان قوله « فعلى المدعي اليمين » مطلق واختصاص العلة بما إذا كانت البراءة المحتملة في حال حياته محمول على الغالب ، وهو تسالم الوارث مع المدعي بقاء الحق فعلا على تقدير موته وعليه الحق ، فلا يؤثر في تقييد المطلق.

وعلى الأخير يقتصر في الحكم على ظاهر العلة ويقال : ان اليمين هذه انما شرعت لدفع احتمال ما للميت أن يدعيه لا لنقصان في هذه البينة على خلافها في غير الدعوى على الميت.

توضيحه : انه إذا ثبت الحق عند الحاكم ببينة عادلة فللمدعي عليه دعاوي مسموعة : أحدها دعوى جرح الشهود ، وهذه يقوم بها أولياء الميت. وثانيها دعوى الإبراء أو الوفاء مع البينة ، وهذه تدفع بالأصل ، لا صلاة عدم الحجة على الاحتمال المزبور. وثالثها دعوى أحدهما أو بما يقرب منهما في حصول براءة الذمة بلا بينة ، وهذه لا يترتب عليها سوى توجيه اليمين الى المدعي ، فجعل الشارع الحاكم نائبا منوب الميت في استحلاف المدعي مراعاة لجانب الميت.

ومثله اليمين في الدعوى على الغائب على القول بها ، فإنها اليمين التي لو كان المدعى عليه حاضرا لطلبها ، واليه أشار الشيخ في محكي المبسوط حيث قال : ان المدعى عليه الغائب لو حضر وادعى جرح الشهود أن اقامة البينة على

ص: 244

التأدية فهو على حجته ، وان ادعى ما يتوجه عليه اليمين فيقول الحاكم أني قد استحلفته نيابة عنك. وعلى هذا فلا معنى للاستحلاف لا جل احتمال حصول البراءة بعد الموت ، إذ ليس للميت دعوى ذلك حتى يقوم الحاكم مقامه في الاستحلاف.

والحاصل ان الدعوى على الشخص في مماته تنزيل منزلة الدعوى عليه في حال حياته ، ويراعى حينئذ جانب الميت باستحلاف المدعي دفعا لاحتمال أنه لو كانت الدعوى في حال الحياة فربما كان يتوجه اليمين الى المدعي ، ومن الواضح أنه لو كانت الدعوى في حال الحياة لما كان له ادعاء حصول البراءة بعد الممات وانما يكون ذلك لو نزل الميت بمنزلة الحي في حال الدعوى كما لا يخفى.

وفرق واضح بين تنزيل الدعوى في حال الممات منزلة الدعوى حال الحياة وبين تنزيل المدعى عليه الميت منزلة الحي ، وادعاء حصول البراءة بعد الموت انما يتعقل منه على الثاني دون الأول. نعم للوارث دعوى البراءة بعد الموت وإحلاف المدعي ، ولا كلام فيه.

ويمكن ترجيح الاحتمال الثاني بظاهر العلة بعد حملها على العلة الحقيقية دون الصورية التي هي في قوة القضية الكلية. وجه الدلالة : ان قضية التعليل في كلمات المعصوم لا بد أن يكون بالأمور المعلومة المفروغ عنها أو المأنوسة عند المخاطب ، فان التعليل لحكم تعبدي توقيفي بأمر توقيفي غير معلوم للمخاطب ولا مأنوس قبل مستهجن جدا إلا فيما كان الغرض منها بيان قاعدة كلية دون العلة ، مثل أن يقال « زيد وارث عمرو لأنه ابنه » ، وهذا لا يتم على تقدير كون المراد بقوله عليه السلام « لأنا لا ندري » إبداء احتمال البراءة كما يقتضيه الجمود على ظاهر اللفظ ، لعدم صلاحية احتمال البراءة الواقعية لأن تكون علة للاستحلاف الا من باب أخذ أصل العلة أيضا أخذ المسلمات ، وهو كما ترى بمكان من القبح لعرائه عن الفائدة.

ص: 245

[ فرض دعوى الميت البراءة لو كان حيا ]

وأما لو قولنا بأن المراد به إبداء احتمال دعوى الميت للبراءة على تقدير الحياة كان تعليله من الأمور المعلومة المفروغ عنها ، لان دعوى البراءة بعد ثبوت سبب الاشتغال مستتبعة شرعا لتوجه اليمين الى المدعي بحيث يعلمه كل أحد.

وإذا كانت الدعوى المزبورة حكمها الاستحلاف حسن تعليل وجوب الاستحلاف استظهارا عند احتمالها على تقدير الحياة ، وان كان تعليل أصل الاستحلاف بالاحتمال المزبور غير مستحسن ، لان الحكم ببعض آثار الشي ء إذا كان على وجه الاحتياط جاز تعليله باحتمال وجود ذلك الشي ء ، والذي لا يحسن تعليله بمجرد الاحتمال التقديري ، انما هو الحكم به لا على وجه الاستظهار والاحتياط.

توضيح المقام : ان الاستحلاف هنا بعد قيام البينة الاستصحابية خروج عما تقتضيه عمومات البينة وقاعدة الاستصحاب ، فلا بد من تعليله إذا علل بعلة غير مطردة في جميع مجاري الاستصحاب وأغلب مجاري البينة ، فإن التعليل بعلة مطردة مع عدم اطراد الحكم مستهجن جدا ، وحينئذ فإن كان المراد بقوله « لأنا لا ندري » إلخ ، تعليل الاستحلاف باحتمال البراءة الواقعية كان تعليلا بالعلة المطردة مع عدم اطراد الحكم ، لان هذا الاحتمال قائم في الدعوى على الحي أيضا مع عدم الاستحلاف هنا كما عرفت ، بخلاف ما لو قيل ان المراد تعليله باحتمال دعوى الميت البراءة ، فإن العلة حينئذ تختص بمورد الحكم وما يضاهيه من موارد قيام هذا الاحتمال كالدعوى على الغائب وأخواته ويحسن بذلك التعليل ويكون مرجعه إلى مراعاة الاحتياط في اعمال موازين القضاء ، كما أن الأول يرجع الى الاحتياط في الحكم باشتغال الذمة الذي يقتضيه البينة بضميمة الاستصحاب.

ص: 246

ومن الواضح أن إيجاب الاحتياط في الحكم بالاشتغال مع اقتضاء الاستصحاب خلافه أمر غير معهود ، فلا يحسن تعليله بأمر يكون مثله في الغرابة ، أعني احتمال البراءة الواقعية.

وأما إيجاب الاحتياط في استعمال موازين القضاء بالجمع بين البينة واليمين مراعاة لاحتمال دعوى لا يترتب عليها سوى الاستحلاف ، أمر مأنوس بالاذهان كأنه من الأمور المعلومة عند المخاطب.

ويمكن استفادة ذلك أيضا من قوله « أو بغير بينة » ، إذ لو كان المقصود إبداء احتمال البراءة الذي يجري في جميع الموارد كفى في ذلك قوله « ببينة » ، فيعلم من ذلك أنه عليه السلام أراد بقوله « بغير بينة » إبداء احتمال يستتبع الاستحلاف إذ لو كان قد وفي بغير بينة فليس له سوى الاستحلاف.

وبالجملة فرق واضح بين قولنا « يجب الاستحلاف لاحتمال البراءة الواقعية » وبين قولنا « يجب لاحتمال دعوى البراءة » ، فإن الأول تعليل ركيك مخالف لقاعدة حجية البينة والاستصحاب والثاني غير مخالف لشي ء منهما ، أمر مأنوس بالاذهان كأنه أمر معلوم ، لان دعوى البراءة على تقدير فعليتها بعد ثبوت الاشتغال مستتبعة للاستحلاف جدا ، وعلى تقدير كونها تقديرية يناسبها الاستحلاف استظهارا ، ومرجعه الى الاحتياط والأخذ بالأوثق في استعمال ميزان القضاء ، لان الاحتياط في كل شي ء بحسبه.

والاحتياط في اعمال الموازين هو مراعاة جميع الدعاوي المحتملة واستعمال ما يناسب كل منها من الموازين حتى يكون الحكم جامعا للميزان على كل تقدير كما في المقام ، فان المدعى عليه لو كان حيا فاما يعترف بالحق أو يدعي البراءة الأصلية أو يدعي البراءة الطارئة بعد الاشتغال ببينة أو يدعيها بغير بينة ، وعلى جميع التقادير يقع الحكم موقعه ، أما على الأول فواضح وأما على الثاني فلان

ص: 247

دعوى البراءة الأصلية لا يلتفت إليها للبينة القائمة على أصل الاشتغال ، وكذا على الثالث ، لان الفرض عجزه عن إقامة البينة وكذا عجز الحاكم أو الوارث ، وأما على الأخير فيلتفت الى دعواه ويستحلف المدعي ، فإذا حلف المدعي مع البينة كان الحكم بما يدعيه حكما جامعا لجميع ما تيسر من موازين القضاء.

ثمَّ ان المراد بقوله « لأنا لا ندري لعله وفي » إبداء احتمال دعوى البراءة الحاصلة قبل الموت كما هو صريح الرواية. فلا يتعدى الى احتمال دعوى البراءة الحاصلة بعد الموت ، وان كان هذا في حسن التعليل مثل الأول.

مضافا الى أن الإنسان إذا مات مشغول الذمة كان دعوى بقاء الاشتغال الى زمان الدعوى ادعاء على الورثة ، فيعامل معها حينئذ ما يعامل مع الدعاوي على الاحياء ، فلا وجه لاستحلاف المدعي مع عدم ادعاء الوارث للبراءة ، ومع الادعاء فلا اشكال ولا كلام في الاستحلاف لكونها دعوى صحيحة مسموعة يترتب عليها الاستحلاف مع عدم البينة.

[ بعض ثمرات قول المدعى « لا ندري » ]

ثمَّ انه لا يذهب عليك ما بين الوجهين من الفروع والثمرات ، فإنها كثيرة جدا :

( فمن الثمرات ) أنه لو قيل بالوجه الأول - أعني كون المقصود من قوله « لا ندري لعله وفاه » تعليل الاستحلاف بإبداء احتمال البراءة - لم يسقط الحلف إذا شهدت البينة بالاشتغال حال الموت ، إذ الفرض على هذا الوجه عدم صلاحية البينة المجردة لا ثبات الحق على الميت ، بل لا بد من ضم اليمين بها حتى يكونا معا حجة تامة ، فلا بد من الاستحلاف أيضا دفعا للاحتمال المخفي على الشهود تكملة للبينة ، وأما لو قيل بالوجه الثاني سقط الحلف جدا ، لان الشهود إذا شهدت بالاشتغال في حال الموت لم يلتفت الى دعواه البراءة ، لمصادمتها للشهود.

ص: 248

( ومنها ) أنه لو كان المدعي على الميت لم يتمكن من الحلف كالوكيل بدون دعوى العلم عليه أو الوصي أو الولي سقط الحلف على الثاني ، لأن الحلف إذا كان وجهه الاحتياط في ميزان القضاء والدفع ما للميت أن يدعيه على تقدير الحياة ، اختص بما إذا كانت على تقدير فعليتها مؤثرة في الاستحلاف ، لان مزية الفرع على الأصل لا معنى لها. فاذا فرضنا أنه لو كان حيا وادعى البراءة لم يكن له استحلاف المدعي فكيف يستحلفه الحاكم مراعاة لتلك الدعوى.

وأما على الأول فلا يسقط ، لان اليمين شرعت حينئذ تكلمة للبينة وجزء من الحجة ، فإذا تعذرت نقصت الحجة ويوقف الدعوى ، وهذا معنى عدم السقوط.

وبعبارة أخرى : إذا قلنا بالوجه الثاني فاليمين شرط اختياري وإذا قلنا بالأول فهو شرط مطلقا.

( ومنها ) لو فرض أن المدعي ممن لا يجوز له أن يحلف على البت كالوارث : فعلى الأول يسقط الحلف ويوقف الدعوى ، لان اليمين المذكورة في الرواية يمين على الإثبات والاشتغال الواقعي ، فإذا قلنا ان يمين المدعي لدفع احتمال البراءة الواقعية تكملة للبينة فلا وجه للعدول عنها الى اليمين على نفي العلم إذا تعذرت على البت ، بل غاية الأمر إيقاف الدعوى لنقصان الميزان. وأما على الوجه الثاني ثبت الحلف وتمَّ القضاء ، لان الغرض من هذه اليمين لما كان دفع دعوى محتملة دارت من حيث كونها على البت وعدمه مدار الدعوى ، فان كانت في موضع يترتب عليها فيه اليمين على البت توجهت كذلك على المدعي والا فعلى نفي العلم.

( ومنها ) مسألة الدعوى على الغائب والمجنون والصغير والمغمى عليه ونحوهم فإنها متفرعة على الوجهين : فعلى الأول لا وجه لإلحاقهم بالميت ، لان عدم حجية البينة بالاستقلال بل مع اليمين في خصوص الدعوى على الميت لا يستلزم عدم الحجية في الدعوى على غيره أيضا ، فلا وجه للإلحاق. وأما على

ص: 249

الوجه الثاني فلما كان مبناه على كون اليمين لدفع الدعوى فلا جرم يطرد في كل مقام يقوم فيه احتمال الدعوى.

ومن الثانية أيضا كون المدعى به دينا ، مقتضى الجمود على ظاهر الرواية اختصاص الحكم به وعدم التعدي إلى العين بقرينة « وفاه » ، فان ضميره الذي هو بمنزلة مفعوله الأول يرجع الى الرجل المدعى ومفعوله الثاني وهو الحق محذوف ، والمعنى وفي الرجل حقه ، وتوفية الرجل حقه ظاهر بل صريح في كون ذلك الحق دينا ، لان تأدية العين لا يطلق عليها التوفية ، يقال وفيت الرجل أو أوفيته إذا أديت دينه ، أما لان الوفاء عبارة عن إعطاء ما في الذمة وإبرائها عما عليها من الحق أو لأن الوفاء إذا بني على باب التفعيل أو الافعال ونسب الى الشخص فيراد به الخروج عن عهدة دينه لا عينه.

لكن يمكن إلغاء خصوصية الدين أيضا ، نحو إلغاء خصوصية مباشرة الميت للتوفية بذوق الفقاهة ، لأنه المعيار في مثل المقام ، والا فلا ضابطة لذلك بل الأمر يدور مدار الحدس ، فكما قلنا لا مدخلية لخصوصية التوفية بل لو احتمل إبراء المدعي أو وفاء الأجنبي وجب الاستحلاف أيضا ، فكذلك نقول ان خصوصية الدين أيضا ملغاة ، إذ المدار على قيام احتمال دعوى الميت لو كان حيا دعوى يترتب عليها الاستحلاف ، وهو في العين أيضا موجود ، فان الميت لو كان حيا فربما كان يدعي انتقال العين التي أقام المدعي على استحقاقها البينة ويستحلف.

المدعي والحاصل ان المسألة غامضة ، والمدار على حدس الفقيه القاطع بإلغاء خصوصية الدين.

( ومنها ) كون حجة المدعي خصوص البينة على ما يقتضيه الجمود على ظاهر الرواية أيضا ، لكن الظاهر عدم الفرق بينها وبين سائر الموازين كالشاهد واليمين ورجل وامرأتين ، وهل يعتبر تعدد الحلف بناء على التعدي في الأول

ص: 250

أم يكفي يمين جامعة بين الحدوث والبقاء كما ذكره العلامة في محكي؟ وجه العدم :

انهما مترتبان ، لان اليمين الاولى جزء من الميزان للدعوى الاولى واليمين الثانية لدفع الدعوى الثانية المحتملة بعد الفراغ عن الدعوى الاولى ، فلا بد أولا من فصل الدعوى الاولى باليمين ثمَّ تقدير دعوى أخرى ثمَّ اليمين ، وهذا مثل ما لو انقلب المنكر مدعيا واستحلف ، فان اليمين هذه لتأخر رتبتها عن الدعوى الأولى التي كان فيها منكرا لا يستحلف قبل طي الدعوى الاولى ، فعدم كفاية اليمين الجامعة ليس لأن الواحدة لا تقوم مقام الاثنتين بل لما بينهما من الترتيب الرتبي. لكن الأظهر الكفاية لأن الترتيب انما هو بين الدعويين لا بين ميزانيهما ، فلو فرض كون إحداهما فعلية والأخرى تقديرية جاز اجتماعهما واجتماع ميزانيهما.

ومنه يعلم الوجه في عدم جواز الحلف قبل دعوى الإبراء إذا كان المدعى عليه حيا ، لان الدعويين المترتبتين المتحققتين لا يجتمعان جدا فلا يجمع بين ميزانيهما. وليس هذا من باب تداخل اليمين ، لان الحلف بأمور متعددة ينحل الى الايمان المتعددة ، ولذا لو قال « واللّه لأفعلن كذا وكذا وكذا » وحنث بترك الكل كان عليه ثلاث كفارات.

( ومنها ) كون احتمال البراءة ناشئا من احتمال حصول المبرئ بعد سبب الاشتغال إذا كان المدعى به دينا أو حصول الناقل بعد سبب الملكية إذا كان عينا ، لا من احتمال فساد السبب كالتورية في الإقرار وفساد الشرط في العقد ونحوهما ، فإن التعدي عن الأول الذي هو مورد التعليل الى الثاني أيضا مبني على حدس الفقيه.

ولا بعد فيه بناء على ما استظهرنا من التعليل من كون الغرض من اليمين دفع الدعوى المحتملة لا دفع احتمال البراءة ، فإنه إذا كان الاحتياط في ميزان القضاء

ص: 251

بمراعاة الدعاوي المحتملة واجبا على القاضي دار الحكم مدار تقدير دعوى يترتب عليه الإحلاف ، سواء تعلقت بالرفع بعد حصول السبب أو بالدفع بأن تتعلق بأصل السبب وتجعله غير مؤثر.

[ الدعوى على الحي الذي لا لسان له حين الدعوى ]

هذا كله في الدعوى على الميت ، وأما التعدي منه الى الحي الذي لا لسان له حين الدعوى كالغائب والمجنون والصغير والمغمى عليه ونحوهم فقد تقدم في ذكر ثمرات الوجهين المزبورين أنه على الوجه الثاني الذي استظهرنا لا إشكال في التعدي ، وأما على الوجه الأول فقد قلنا ان التعدي مشكل.

لكن الأظهر عدم الفرق بين الوجهين في المقام وان كان التعدي على الوجه الثاني أوضح ، لأن قوله عليه السلام « لأنا لا ندري لعله وفاه » علة منصوصة تجري في كل مقام يقوم فيه احتمال الوفاء ، ولا نقتصر على موردها الذي هو الميت ، ولو أخذنا بمجامع خصوصياتها ولم نتعد عن شي ء منها.

فما في المسالك من إبداء الفرق بين الميت وبين هؤلاء ، مبني على عدم الالتفات الى النص بالعلة ، وان منصوص العلة يكفي فيه خصوصية المورد ، فلا يقتصر في مثل قوله « الخمر حرام لإسكاره أو لأنه مسكر » على حرمة الخمر خاصة بل يتعدى الى كل مسكر ويحكم بحرمته باتفاق غير المرتضى «رحمه اللّه» ، وحينئذ نقول : ان الغائب بل كل من يتطرق في حقه احتمال الوفاء ولا لسان له حين الدعوى في حكم الميت لأنا لا ندره لعله وفاه - انتهى.

لكن في خصوص القضاء على الغائب وردت روايات صريحة في أنه إذا قامت البينة على الحق سلم المال الى المدعي بكفلاء ويكون الغائب على حجته

ص: 252

إذا حضر (1) ، ومقتضاها عدم ثبوت اليمين الاستظهارية في الدعوى عليه من جهة الحصر الظاهر من السكوت في مقام البيان ، فيتعارض عموم العلة المنصوصة تعارض العامين ، لان عموم التعليل يقضي بالاستحلاف مع قيام احتمال دعوى الوفاء مطلقا في الميت وغيره.

وإطلاق قوله « يقضي على الغائب إذا قامت عليه البينة ويباع أمواله » يقضي بكفاية البينة سواء كان معها يمين أم لا ، ففي صورة حلف المدعي لا إشكال في القضاء ، وفي صورة عدم الحلف يتعارضان فيه.

وقد يقرر النسبة بينهما بأن التعليل صريح في صورة قيام احتمال الدعوى وعام من حيث كون المدعى عليه الغائب وغيره ، وتلك الرواية صريحة في الغائب ومطلقة من حيث قيام احتمال الدعوى وعدمه ، كما إذا كان بقاء الحق على تقدير ثبوته معلوما ، فمورد التعارض - أعني محل الاجتماع - هو الدعوى على الغائب مع قيام الاحتمال المزبور.

وقد يقال : ان الرواية أخص مطلقا من العلة ، لأن صورة عدم قيام احتمال الدعوى فرض نادر لا يصلح لحمل الرواية عليها ، فتكون كالصريح في صورة قيام الاحتمال الذي هو مورد الاجتماع ، وبعد ملاحظة الحصر المستفاد من السكوت في مقام البيان تكون أخص من العلة.

والانصاف أن ظهور العلة في الاستحلاف أقوى من ظهورها في العدم على أي تقدير ، فيعمل بظهور العلة ، لأن المدار في رجحان الدلالة على قوة الظهور وضعفه. ولذا حكمنا بأن ظهور منطوق آية النبإ من حيث العلة في عدم العمل بالظن ولو كان حاصلا من قول العدل أقوى من ظهور مفهومها في القبول وان كان المفهوم أخص من المنطوق.

ص: 253


1- الوسائل ج 18 ب 26 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

والسر فيما ادعينا أن ظهور السكوت في مقام البيان الذي يوجب كون الرواية أخص من العلة المنصوصة ظهور عقلي وظهور العلة ظهور لفظي ، فهو مقدم على الظهور العقلي وان كان هو مقدما على الأصول.

ودعوى ان ما في الرواية من أن الغائب على حجته يؤكد الحصر المستفاد من السكوت ممنوعة ، لأن المراد بالحجة التي عليها الغائب هي إقامة البينة ، ولو سلم إطلاقها الشامل للإحلاف أيضا مع أنه كما ترى نقول أيضا : ان كون الغائب على حجته بمعنى جواز الإحلاف له إذا حضر وادعى الإبراء لا ينافي استحلاف القاضي أيضا قبل حضوره ، لان استحلافه احتياط فيما يصدر منه من القضاء ، وهذا لا ينافي كون الغائب أيضا على حجته إذا حضر.

ومن هنا يظهر أن ما في الدروس من الجمع بين إحلاف الحاكم قبل حضور الغائب وإحلافه إذا حضر ، ليس كل البعيد. ولعل الكلام يأتي فيه إنشاء اللّه تعالى.

نعم لو قلنا بتكافؤ الظهورين وتساقطهما كان المرجع العمومات النافية لليمين مع البينة ، مثل قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » بالبيان المتقدم.

ثمَّ ان المناط في الدعوى على الغائب وأخواته قيام احتمال البراءة إلى حين الدعوى الى زمان الغيبة كالموت في الدعوى على الميت ، فلا بد أن يكون اليمين على بقاء الحق فعلا وعدم حصول البراءة لا قبل الغيبة ولا بعدها على خلاف الدعوى على الميت ، فإنك عرفت أن المعتبر فيها احتمال البراءة قبل الموت لا بعده.

والفرق واضح ، لان احتمال البراءة بعد الموت ليس مما يتعلق بالميت بل بالورثة ، بخلاف احتمال البراءة بعد الغيبة ، فإن الغائب على فرض حضوره له دعوى البراءة بعد الغيبة.

ص: 254

[ لو كان المدعى وكيلا عن غائب ]

هذا كله فيما إذا كان المدعي على الغائب مثلا أصيلا ، فلو كان وكيلا فهل يستحلف الوكيل مطلقا أو لا يستحلف مطلقا ، أو يفصل بين ما إذا كانت الدعوى المحتملة التقديرية دعوى إبراء الموكل أو قبضه فلا يستحلف وبين ما إذا كانت دعوى قبض الوكيل أو علمه بقبض الموكل فيستحلف؟ وجوه مبنية على استحلاف الوكيل المدعي على الحاضر مطلقا أو عدم الاستحلاف أو التفصيل بين الصورتين.

وحيث أن الأظهر الموافق لقول الأكثر في صورة دعوى الوكيل على الحاضر هو التفصيل ، كان الحكم في دعواه على الغائب أيضا كذلك ، لان الفرع لا يزيد على الأصل. فإذا كان المدعى عليه الحاضر - على تقدير إبراء الموكل أو قبضه - لا يستحلف الوكيل فكيف يستحلفه الحاكم لاحتمال دعوى الغائب إبراء الموكل.

نعم لما كان دعوى الحاضر على الوكيل قبضه أو علمه بقبض الموكل مسموعة مستتبعة لا حلافه استحلف أيضا في الدعوى على الغائب على عدم القبض أو عدم العلم به.

ولو قيل : ان دعوى الحاضر على الوكيل قبضه أو علمه غير مسموعة أيضا ، فلا يتوجه الحلف على عدمها على الوكيل ، كان الحكم في الدعوى على الغائب عدم الاستحلاف أيضا مطلقا. فظهر وجوه المسألة المشار إليها.

وكيف كان فلو قيل باستحلاف الوكيل فلا كلام ، والا ففي القضاء بالبينة أو عدم القضاء وإيقاف الدعوى الى زمان حضور الغائب أو مباشرة الموكل بنفسه الدعوى أيضا. وجهان أشير إليهما فيما تقدم من أن اليمين هل هي شرط في القضاء على الميت والغائب ونحو هما مطلقا أو إذا كانت ممكنة. وعلى الأول

ص: 255

توقف الدعوى لعدم تحقق شرط القضاء الذي هو البينة مع اليمين ، وعلى الثاني يقضي كما مر.

وصرح بعض مشايخنا بعدم تسليم المال الى الوكيل ، لعدم ثبوت الحق بدون الحلف والوكيل لا يحلف ، وقد عرفت الحال في حلف الوكيل.

وقد تقدم أيضا أن اليمين إذا لم تكن مكملة للبينة - بأن كانت لدفع احتمال البراءة الخفي - بل مشروعة لدفع الدعاوي المحتملة احتياطا للقاضي في مسألة القضاء لا احتياطا في مراعاة الواقع كما على فرض التكملة كانت شرطا في حال الإمكان لا مطلقا. واللّه العالم.

التقاط [ هل يسلم الحق الى المدعى لو كان المدعى عليه غائبا؟ ]

إذا ادعي على الغائب وتمَّ ميزان القضاء ففي الروايات أنه لا يسلم الحق الى المدعي أو وكيله الا بكفلاء ، وصرح بمضمونها في الشرائع وعمل بها ، لكنه لا يقول باليمين في الدعوى على الغائب والصبي ، فيكون الكفيل عنده عوضا عن اليمين كما في المسالك ، لكن عن القواعد اعتبار اليمين والكفيل معا.

ولعله أولى ، إذ مسألة التكفيل لا ربط لها بمسألة اليمين ، لأن القائل بعدم اليمين يقول أيضا بتمام الحجة بالبينة المحضة ، فيكون القول بالتكفيل للتعبد بالنص ، ولا مانع منه مع كون القضاء على هؤلاء مبنيا على مراعاة الاحتياط على ما اخترنا من اعتبار اليمين للعلة المنصوصة.

ثمَّ أن أخذ الكفيل هنا مشكل من حيث عدم انطباقه على القواعد :

أما أولا : فلان الحجة بعد ما تمت فلا وجه للتكفيل ، إذ ليس للغائب عليه سلطنة فعلية ، واحتمال اقامة الحجة بعد الحضور لا يعجل العقوبة - فتأمل.

ص: 256

وأما ثانيا : فلان الكفالة هنا عبارة عن الضمانة ، خصوصا بقرينة ما في بعض هذه الروايات من اعتبار الملاءة في المدعى عند تسليم المال اليه وليس المراد بها الكفالة المصطلحة. والضمانة لا بد فيها من موجب معلوم للمضمون حتى لا يرجع الى ضمان ما لم يجب ولم يعلم بعد ثبوت كون المدعى مستحقا عليه.

الا أن يقال : انه ضمان ما لم يتبين أو ضمان العين. توضيحه : ان الضمانة على أقسام : ضمانة الدين ونحوه من الجرم والغرامة المترتبة على الإتلافات ، وضمانة العين وهي التي جوزها المحقق في كتاب الضمان واستشكل فيه صاحب المسالك ، وهو أن يتعهد الشخص لعين من الأعيان كتعهد اليد العارية لما تستولي عليه ، ومرجعها الى التزام الضامن بكون تلفها من كيسه لا من كيس مالكها ، وضمان ما لم يجب وهو أن يضم الشخص بشي ء لم يوجد سببه بعد كضمان صداق زوجة يتزوجها شخص بعد ، وضمان ما لم يتبين كضمان درك المبيع فإنه إذا احتمل كون المبيع مستحقا للغير احتمل استحقاق المشتري على البائع بعضوه ، فضمان شخص لما على المشتري إذا تبين فساد العقد ضمان لأمر محتمل الوجود غير معلوم وليس من ضمان ما لم يجب. وما نحن فيه يحتمل أن يكون من القسم الأخير أو من ضمانة العين.

التقاط [ سكوت المدعى عند اقامة الدعوى ]

إذا سكت المدعي ولم يجب فان كان لعذر كوحشة أو غباوة أو صمم أو خرس أرفق به ، ويوصل في الأخيرين إلى معرفة الجواب بالإشارة الموصلة اليه. وان كان عند عناد ففيه أقوال ثلاثة نقلها في الشرائع : أحدها أنه يحبس

ص: 257

حتى يتبين الحال ، والثاني أنه يجبر ويلزم بالضرب ونحوه حتى يجيب ، والثالث أنه يقول له الحاكم أجب والا جعلتك ناكلا.

والأخير أظهر ، لأن الإجبار أو الحبس متفرعان على أن لا يكون هناك ميزان شرعي لفصل الخصومة ، وأما معه فلا وجه للعدول عنه الى ما لم يتحقق سببه بعد. وإطلاق الأدلة الماضية قاضية بأن وظيفة المدعى عليه اليمين أو الرد فاذا سكت قضى بالنكول عليه مع الرد أو بدونه على الاختلاف المتقدم.

وفي رواية البصري الماضية « وان لم يحلف - أي المدعى عليه - فعليه » كما في الكافي والتهذيب ، ولا ريب أنه إذا سكت يصدق عليه أنه لم يحلف.

وحينئذ فإن قضينا بالنكول حكم عليه بعد قوله « أجب والا جعلتك ناكلا » والا فبعد رد اليمين الى المدعي.

ثمَّ ان ظاهر الأقوال الثلاثة أنه لا يسأل عن المدعى هل له بينة أم لا. وهو الذي استظهره المحقق القمي من كلامهم فيما حكي عنه ، وأورد عليهم بأن البينة مقدمة على الحبس أو الإجبار أو القضاء بالنكول.

والحق أن هذا الاستظهار ليس في محله ، فلا وقع للإيراد المذكور أيضا ، لأن كلماتهم هنا وان كانت مطلقة بحسب الظاهر لكن الظاهر بل المعلوم أن مصب الأقوال الثلاثة في بيان وظيفة القاضي إذا لم يكن للمدعي بينة لا مطلقا حتى لو أقام البينة لم تسمع ، إذ لا وجه لذلك ، كما لا وجه لتوهم قول الأصحاب به. فغرضهم ان الجواب بالسكوت حكمه ما ذا كما أن الجواب بالإنكار حكمه اليمين ، فكما أن قولهم بإحلاف المنكر انما هو بعد فقد البينة كذلك قولهم بحبس الساكت أو إجباره أو إجراء حكم النكول عليه.

ص: 258

[ إذا قال المدعى « لا أدرى » ]

هذا واضح ، وانما الإشكال فيما لو قال في الجواب « لا أدري ما تقول » ، فان فيه أقوالا واحتمالات :

( أحدها ) توقف القضاء على البينة وعدم اليمين مطلقا وعدم الرد وعدم القضاء بالنكول تنزيلا له منزلة الميت الذي لا لسان له أو منزلة الصبي أو الغائب ونحوهم ممن لا لسان له في الجواب ، لأنه إذا قال « لا أدري » كانت الدعوى لا منكر لها. ولم نجد قائلا ، بل ذكر بعض مشايخنا قدس سره احتمالا معترفا بأنه خلاف الإجماع ظاهرا.

( والثاني ) انه يحلف يمين نفي العلم ، ويكتفى به في سقوط الدعوى ، لكن لو أقام البينة بعدها سمعت ، على خلاف يمين البت التي لا تسمع البينة بعدها. وهذا مختار بعض مشايخنا قدس سره.

واستدل عليه بما حاصله : ان المدعى عليه وظيفته اليمين نصا وفتوى ، وأما كونها على نحو البت أو على نفي العلم فيتبع كيفية الإنكار ، فإن كان على وجه ينفي الاستحقاق الواقعي فهي على البت ، أو على وجه ينفي الاستحقاق الظاهري فهي على نفي العلم. ويظهر من محكي مجمع البرهان الميل اليه ، وعن الكفاية نفي البعد عنه.

( والثالث ) انه يحلف يمين البت اتكالا على الأصل. ذكره في محكي الكفاية على نحو الإمكان والاحتمال.

( والرابع ) عدم توقف القضاء على البينة وعدم الاكتفاء باليمين على نفي العلم ، بل برد اليمين على المدعي بناء على عدم القضاء بالنكول أو مطلقا.

ص: 259

وهو ظاهر الكل أو الجل على ما اعترف به غير واحد منهم الأردبيلي والسبزواري قدس سر هما ، وهو الأقوى.

لنا على ذلك ظهور الاتفاق وإطلاق الاخبار :

أما الأول - فلأنهم اتفقوا على أن الدعوى إذا كانت متعلقة بفعل المدعى عليه فاليمين لا بد أن تكون على نحو البت ، وإذا كانت متعلقة بفعل غير المدعى عليه كالميت فيكفي أن تكون على نفي العلم. ثمَّ انهم اختلفوا في بعض الفروع في كون اليمين على البت أو على نفي العلم ، مثل ما لو كانت الدعوى متعلقة بفعل البهيمة أو بفعل العبد ، ومثل دعوى الاخوة ونحوها ، فقيل انه لا بد أن تكون اليمين على نحو البت ، وقيل انه يكفي أن تكون على نفي العلم إلحاقا لها بفعل الغير.

ولا ريب انهم حيثما يقولون باعتبار البت في اليمين معناه القضاء بالنكول أو مع الرد حيثما تعذرت اليمين على نحو البت بعذر شرعي أو عقلي ، مثل ما إذا كان المدعى عليه المنكر قد نذر سابقا أن لا يحلف باللّه صادقا وكاذبا ، فإن شرطية البت في اليمين حينئذ قاضية بالنكول أو مع الرد. والحاصل ان اليمين على نحو البت حيثما تعتبر فهي شرط مطلق ثابت في حال الإمكان والتعذر.

وقضية بقاء الشرطية مع العذر والقضاء بالنكول أو مع الرد ، ولعل المكتفى في مسألتنا هذه باليمين على نفي العلم يقول في صورة التعذر الناشئ من النذر بتوقف القضاء على البينة. وهو كما ترى ، وقد عرفت انهم اعتبروا البت في اليمين إذا كانت الدعوى متعلقة بفعل النفس ، وقضية ذلك أنه إذا تعذرت اليمين البتية قضى بالنكول أو مع الرد.

فان قلت : ما صرحوا به من البت في اليمين إذا كانت الدعوى متعلقة بفعل النفس مبنى على الغالب ، وهو علم الشخص بفعله ، فلا يجري فيما لا يعلم بفعله ، فإنه حينئذ كفعل الغير.

ص: 260

قلنا : أولا دعوى الغلبة ممنوعة ، لأن العلم بعدم الشي ء واقعا غالبا متعسر ، لابتنائه على الإحاطة بجميع أسباب وجوده الخفية والقطع بانتفائها أجمع ، سواء كان ذلك الشي ء فعل نفسه أو فعل غيره.

وثانيا : ان الغلبة المزبورة ليست بحيث يكون صورة عدم العلم بفعل النفس معها مسكوتا عنها في كلامهم ، كيف مع أنا لو لم نقل بأكثرية هذه الصورة بالنسبة إلى صورة العلم أو مساواتها لها فلا أقل من كثرتها في نفسها بحيث يبعد خروجها عن كلامهم ، فاما أن يقال انها داخلة تحت إطلاق قولهم باعتبار البت في اليمين ، أو يقال انها مهملة مسكوت عنها في كلامهم ، أو يقال ان حكمها حكم الدعوى المتعلقة بفعل الغير ، وكلها كما ترى.

وثالثا : ان موضوع المسألتين الخلافيتين وموضوع المسألة الاتفاقية واحد كما لا يخفى ، ولا ريب أنه لا يمكن أن يجعل مفروض كلامهم في المسألتين الخلافيتين كون المدعى عليه عالما بالواقع ، بأن يكون إنكاره متوجها الى الواقع ، لان يمين العالم لا بد أن تكون على نحو البت باعتراف الخصم وباتفاق الكل إذا كانت الدعوى غير متعلقة بفعل الغير ، فلا بد أن يجعل موضوع المسألة مطلق المدعى عليه ، سواء كان عالما بالواقع أو جاهلا.

وبالجملة من راجع كلماتهم في تقسيم اليمين على قسمين على أنهم حيثما يقولون باعتبار البت في اليمين لا يشترطون فيه علم المدعى عليه بالحال ، وعلم أيضا أن خلاف العامة مع الأصحاب وفيما بينهم - حيث ذهب بعضهم الى كون اليمين دائما على البت سواء تعلقت بفعل النفس أو بفعل الغير وبعضهم إلى أنها دائما على نفي العلم كذلك - ليس مقصورا بصورة علم المدعى عليه أو جهله بل مطلق شامل للصورتين.

وثمرته ما أشرنا من أن اليمين حيثما كانت على البت وتعذرت لجهل المدعى

ص: 261

عليه أو لعذر آخر قضى بالنكول أو بعد الرد ، مع أن إيقاف سماع الدعوى على البينة مما لم يلتزم به أحد. ولازم المكتفي باليمين على نفي العلم ذلك إذا كان المدعي معترفا بعدم علمه.

فان قلت : قد صرح بعضهم بأن الوارث ان علم بالحال فيما يتعلق بمورثه من الدعاوي حلف على البت ، والا فيكتفى منه باليمين على عدم العلم. وقضية المقابلة أن يكون الأمر فيما نحن فيه أيضا كذلك ، فقولهم « ان اليمين فيما يتعلق بفعل النفس لا بد أن تكون على البت » ينزل أيضا على صورة العلم بالحال ، نظير قولهم في فعل الغير.

قلت : المصرح قد اختلط عليه الحال بعض الاختلاط ، لأنا نقول : ان الوارث يكتفي منه الحلف على عدم العلم مطلقا سواء علم بالحال أم لا. والظاهر أنه رأي الكل أو الجل ، ومقتضى المقابلة أنه لا يكتفي في فعل النفس أيضا إلا بالبت. ولعل التصريح المزبور منشؤه الاشتباه في مسألتنا هذه.

[ اعتبار الحلف في المدعى عليه ]

وأما الاخبار فهي أيضا تدل على اعتبار الحلف في المدعى عليه وان كان في بعضها التقييد بالجحود والإنكار ، لأن المقام ليس مقام التقييد كما لا يخفى ، والخصم أيضا يساعدنا على ذلك وانما يدعي أن اليمين أعم من أن تكون على البت أو على نفي العلم.

وأنت خبير بأن اليمين المقابلة للبينة لا يراد بها سوى ما يتعلق منها بالواقع كالبينة ، فالمراد باليمين ليست الا ما كانت ناظرة إلى نفي الدعوى واقعا كالبينة المثبتة لها كذلك :

فمنها ما مر في ذيل حديث البصري « ولو كان المدعى عليه حيا لا لزم اليمين

ص: 262

أو الحق أو يرد اليمين » (1) ، فإنه صريح الدلالة في أن المدعى عليه الحي لا مفر له من أحد هذه الأمور الثلاثة ، سواء قلنا ان الترديد قد لو حظ فيه حال الموارد جميعا أو حال كل مورد : فعلى الأول فهو ترديد توزيعي ، يعني ان المدعى عليه قد يكون ممن يلزم باليمين كالمنكر ، وقد يكون ممن يلزم بالحق كما لو أقر ، وقد يكون ممن يلزم بالرد كالساكت أو من يقول « لا أدري ». وعلى الثاني فهو تخيير شرعي يرجع الى كل مدعى عليه ، فيقول له الحاكم اما أن تحلف أو تعطي الحق أو ترد اليمين.

أما شموله للمقام بناء على الأول فواضح ، لأن الذي يلزم بالرد خاصة ليس الا الساكت ومن يقول « لا أدري » ، وأما شموله له بناء على الثاني فلان المجيب بلا أدري يمكن في حقه الترديد بين الأمور الثلاثة ، إذ لا مانع له من اليمين على البت في نظرنا ، لاحتمال علمه بالعدم ، ويعبر عنه بعدم العلم الذي هو أعم من العلم بالعدم ، فيقول له اما أن تحلف على البت ان كنت عالما بالعدم واما أن تعطي الحق أو ترد ولو فرضنا كونه جاهلا وان قوله « لا أدري » مبني على جهله بالحال لا على علمه بالعدم.

فمع أنه كلام خارج عن الفرض لان الفرض حكم الجواب بلا أدري مع قطع النظر عن علمنا بحاله نظير حكم الجواب بالإنكار ، وان كان شاكا أو كاذبا أو فرضنا تصريحه في الجواب بالجهل نقول حينئذ : انه يجب عليه ما يجب على المنكر بطريق البت إذا علمنا بجهله وكونه شاكا.

والحاصل ان حكم الجواب بلا أدري مسألة وحكم الشاك مسألة أخرى تجرى فيمن يجيب بلا أدري أو يجيب بالإنكار ، ومقتضى الدليل هو الالتزام بأحد

ص: 263


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

الأمور الثلاثة ، سواء أجاب بالإنكار أو بلا أدري أو سكت ، وسواء كان ظاهر قوله مطابقا لاعتقاده أم لا.

هذا كله مع أنا لو فرضنا أنه اختار الرد بدون إلزام الحاكم توجه اليمين الى المدعى قطعا بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، ويتم الكلام في صورة عدم الاختيار بالإجماع المركب ، لان الرد إذا قلنا به في الجملة قلنا به مطلقا ، لوضوح كون يمين المنكر حينئذ ميزانا للقضاء ، والقائل بعدم الرد لعله يدعي أن الميزان هو يمين المدعى عليه على نفي العلم.

ومما ذكرنا ظهر وجوه بقية الأقوال وضعفها أيضا حتى القول الثاني. نعم قد يستدل بل قد استدل عليه - مضافا الى ما تقدم من إطلاق قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » ببعض الأخبار الدالة على أن الرجل لا يحلف الا على علمه ، كخبر ابي بصير ومرسلة يونس « لا يستحلف الرجل الا على علمه » ولا تقع اليمين الا على العلم استحلف أو لم يستحلف (1).

وفيه : انها مسوقة لبيان وظيفة الحالف في مقام التكليف ، وان الشاك لا يحل له الحلف. وأين هذا من مسألتنا هذه التي نبحث فيها عن ميزان القضاء إذا كان المدعى عليه قول « لا أدري » أو كان شاكا في الواقع. واللّه العالم.

مسائل ( متعلقة بالقضاء على الغائب )

( أولها ) لا اشكال نصا وفتوى في القضاء على الغائب عن البلد إذا كان بعيدا ، وأما الغائب عن مجلس القضاء وهو الحاضر في البلد ، فان كان الحضور متعذرا له فلا اشكال ولا خلاف أيضا في القضاء عليه ، ودليله جميع أدلة القضاء مع

ص: 264


1- الكافي ج 7 ص 445 باب لا يحلف الرجل الا على علمه.

قاعدة نفي الضرر ، وأما مع عدم التعذر ففي القضاء عليه قولان ، والمشهور القضاء ، لكن الدليل عليه غير مساعد ، لعدم وفاء الإطلاقات بالدلالة على ذلك لإهمالها من هذه الجهة أو لانسباق الحاضر منها واختصاص ما ورد في خصوص القضاء على الغائب بالنائي بحكم التبادر.

مضافا الى ما يظهر من روايات عديدة ناطقة بعدم القضاء الا بعد السؤال عن المدعى عليه المعللة بأن ذلك أحوط وأبى في القضاء ، مثل رواية محمد ابن مسلم عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع من الأخر ، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء (1). ومثله غيره.

ودعوى اختصاصها بالمتخاصمين الحاضرين. لا تضر ، لان الظاهر منها إعطاء قاعدة القضاوة من غير مدخلية لحضور الخصم وغيبته ، فالسؤال عن المدعى عليه كسائر ما ورد في آداب القضاء أمر راجع الى شرائط القضاوة ، سواء تعلقت بالحاضر أو الغائب.

وأما ظهورها في الندب ، فغير قادح أيضا بعد كون الحكم في الحاضر على نحو الوجوب بالإجماع ، وتعليل الحكم الوجوبي بما يلوح منه الندب باب معروف في الروايات يراد إبداء المناسبة.

ونظيره ما ذكره المحقق القمي في استدلال الامام عليه السلام على طرح الشاذ النادر من الروايتين المتعارضتين بحديث التثليث الذي حمله على الاستحباب. فما عن عوائد المحقق النراقي من حمل الرواية على الاستحباب ليس بجيد.

لا يقال : ربما يكون في عدم الحكم على الحاضر في البلد الغائب عن

ص: 265


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب آداب القاضي ح 2 وهو عن أبى جعفر عليه السلام.

مجلس القضاء ضرر على المدعي ، فيجب بقاعدة نفي الضرر التي هي المستند في القضاء على من يتعذر عليه الحضور.

لأنا نقول : قاعدة نفي الضرر لا يعمل بها إلا في مقام الاطمئنان لكثرة ما بها من التخصيص ، ولا اطمينان بها في القضاء وان نسب الى المشهور القول به.

فتأمل. مع أن الكلام في المقام مع قطع النظر عن لزوم الضرر وان القضاء هل يشترط بحضور المدعى عليه في غير الغائب عن البلد أم لا ، فلو قيل بالاشتراط لم يلزم منه عدم الفضاء مطلقا حتى ينفى الضرر.

وقد يتوهم دلالة النبوي « إذا حضر عنده خصمان فتواعد الموعد فوفى أحدهما ولم يف الأخر قضى للذي وفي » وأمثاله على المدعى. وهو سهو ، لان ذلك دليل على القضاء على الممتنع ، وهو خارج عن محل الكلام.

ثمَّ ان التعذر الذي يسوغ معه القضاء على غير الحاضر في المجلس ، أمر موكول الى العرف لأحد له شرعا ، فيختلف باختلاف الأحوال والازمان والأمكنة والمدعي والمدعى عليه ، ومن جملة العذر ما لو صبر المدعي الى زواله فات بعض حوائجه ، مثل مصاحبة رفقة السفر ، الى غير ذلك مما يظهر بالمراجعة إلى العرف.

ثمَّ الغائب عن البلد ان كان قريبا منه حكمه حكم البعيد الى حد المسافة لإطلاق أدلة الغائب ومعلومية صدقه على مطلق الخارج عن البلد ، ولكن ذلك أيضا موكول الى العرف ، ولا يبعد تحديد ذلك بحد الترخص الشرعي لأنه مما يساعد عليه العرف أيضا.

( فرع ) لو كان المدعى به متعلقا باثنين أحدهما حاضر والأخر غائب فأقام المدعي البينة وقضى فهل القضاء المزبور بالنسبة إلى الغائب الأخر حكمه حكم القضاء على الغائب أم لا؟ فيه وجوه.

مثاله دعوى الزوجية ، فلو ادعى أحد زوجية امرأة حاضرة وقضى له بالبينة ،

ص: 266

فهل القضاء المزبور بالنسبة إلى آخر غائب يدعي زوجيته مثل القضاء على الغائب أم لا؟

قد يقال ذلك ، وفائدته الاستحلاف استظهارا على القول به في القضاء على الغائب لو كان هناك دعوى محتملة من ذلك الغائب ويكون هو على حجته إذا حضر.

وقد يقال ان القضاء ينفذ عليه منجزا من دون استحلاف ، إلحاقا له بالقضاء على الحاضر. وهو أضعف الوجوه.

وقد يقال عدم نفوذ القضاء عليه مطلقا ، بل يجب تجديد إقامة البينة إذا حضر.

وقد يقال ان المدعي حينئذ يكون منكرا بالقياس الى ذلك الأخر ، لقوة جانبه بإقامة البينة فله إذا حضر الدعوى عليه.

ثمَّ ان الحكم التسجيلي الذي ذكره في محكي القواعد ليس من باب القضاء على الغائب ، وهو أن يقيم ذو اليد على ملكية ما في يده تسجيلا على من يتوهم مخاصمته ومنازعته ، وهذا على تقدير صحته ليس من باب القضاء على الغائب. واللّه العالم.

( الثانية ) المدعي على الغائب اما أن يتعرض جحوده أو يتعرض لإقراره أو لا يتعرض شيئا منهما ، والأول هو القدر المتيقن من أدلة القضاء على الغائب ، وأما الثاني فقد صرح في محكي القواعد على عدم القضاء حينئذ لاشتراط الجحود ، والظاهر أنه شرط في مطلق الدعوى والمخاصمة ، لأن الدعوى وما يشتق منه من الصيغ ظاهر في المخاصمة والمشاجرة ، ومع التنزل فلا أقل من قصور أدلة القضاء على الحاضر والغائب عن التناول لذلك.

وحال الأخير يظهر مما ذكر ، فان شرطنا الجحود لم تسمع الدعوى والا

ص: 267

سمعت ، لكن في محكي القواعد مع اشتراطه الجحود ان عدم التعرض للإقرار يكفي في سماع الدعوى.

هذا بالنسبة إلى الحكم والقضاء ، وأما بالنسبة إلى أخذ المال فقد صرح في محكي التحرير بأنها تسمع ولو مع التعرض للاعتراف مع تصريحه بعدم سماعها للحكم. ولا بعد فيه بناء على عموم حجية البينة مع اعمال قاعدة نفي الضرر حيثما تجري ، ولا ينافيه ما نقلنا من عدم حجية البينة فيما يتعلق بحقوق الناس الا بعد الحكم. ولا حكم في المقام ، لان ذلك مختص بصورة التشاجر والتنازع ولو محتملا ، ومع فرض اعتراف الغائب لا نزاع هنا ، فيكون إثبات المال كسائر الموضوعات مثل إثبات الهلال ونحوه.

الا أن يقال : ان قول المدعي لا يكفي في ثبوت إقرار الغائب ، فلو أثبت إقراره أيضا بالبينة أخذ المال ، فحيث لم يثبت إقراره بعد يكون المقام مقام الدعوى ولو احتمالا. واللّه العالم.

( الثالثة ) لو كان صاحب الحق غائبا فطالب الوكيل وادعى الغريم التسليم الى الموكل ولا بينة ، ففي الإلزام تردد بين الوقوف في الحكم لاحتمال الأداء وبين الحكم وإلغاء دعواه ، لان التوقف يؤدي الى تعذر طلب الحقوق بالوكلاء ، والأول أشبه.

هذه عبارة الشرائع ، وفهم منه المسالك أن المصنف اختار الإلزام والحكم.

وفي بعض حواشي المسالك ان ظاهر العبارة التوقف.

والأول أظهر احتمالا ومحتملا ، وذلك لان دعوى الغريم التسليم الى الموكل دعوى على الغائب بلا بينة ، ولا تسمع الدعوى على الغائب الا بالبينة.

ومنه يظهر أنه لا يمين هنا أيضا لأجل هذه الدعوى.

نعم لو ادعى على الوكيل العلم بالتسليم فله الإحلاف ، لأنه دعوى متعلقة

ص: 268

بفعل الغير ، والدعوى المتعلقة بفعل الغير يترتب عليها يمين نفي العلم إذا تعرض المدعي للعلم.

ثمَّ انه لا وجه هنا للتكفيل الذي احتمله بعض ، تسوية بينه وبين الدعوى على الغائب الذي تقدم دلالة الأخبار عليه فيها ، لان هذه الدعوى بعد ما كانت ساقطة في الشرع لم يتزلزل شرعا الدفع ، وإذا لم يتزلزل الدفع لم يكن وجه للكفيل.

نعم لو كان المدعى عليه أيضا غائبا - بأن ادعى وكيل الغائب على وكيل الغائب أو عليه - توجه التكفيل ، لان المدعى عليه إذا كان غائبا قام هنا احتمال دعوى مسموعة ، غاية الأمر عدم تأثير هذا الاحتمال عاجلا في الاستحلاف نظرا إلى غيبة المدعي وعدم جواز حلف الوكيل عنه ولكنه لا يوجب عدم مراعاة ذلك الاحتمال رأسا ، إذ من المحتمل أنه إذا حضر وحضر خصمه احلف.

وقضية المراعاة التكفيل بناء على جوازه مطلقا أو في خصوص تسليم مال الغائب.

فظهر الفرق بينه وبين الأول ، لان المدعي للتكفيل في الأول حاضر ودعواه التسليم الى الموكل غير معتبرة ، فلا مقتضى للتحليف. بخلاف الثاني ، فإن مقتضى التحليف فيه موجود ، وهو احتمال دعوى الغائب إذا حضر. وانما لا يستحلف لأجل فقد الشرط وهو حضور الموكل.

ثمَّ التكفيل للدفع المتزلزل مرجعه الى ضمان ما لم يتبين وجود سببه مع احتماله في الواقع ، ومنه ضمان درك الثمن وضمان العين والتعهد بها ، وسماه في محكي القواعد بالاستيثاق وعدله موارد من الفقه :

( منها ) ضمان درك المهر ، والدئل عليه على وجه يكون قاعدة كلية مفقود ، لكن أصل شرعيته في الجملة ثابتة ، كما مر في دفع مال الغائب بكفلاء. ولعله

ص: 269

يكفي في جواز اشتراطه في ضمن عقد من العقود كالبيع والصلح ، لأن الشي ء إذا ثبت شرعيته في الجملة أمكن الحكم باندراجه تحت عموم الأدلة ، وأما مع الشك في أصل شرعيته ففيه اشكال.

مثلا العدول من الجماعة إلى الفرادى لما ثبت شرعيته في الجملة - كما في صلاة الخوف - أمكن القول بجوازه في الجماعة لأدلة الجماعة ، وأما العدول من الانفراد إلى الجماعة لما لم يثبت أصلا لم يجز القول به الا من زعم ان أدلة الجماعة مطلقة لا مهملة.

وكيف كان فالظاهر أن التكفيل ليس تعبدا محضا بل لأجل الاستيثاق كما فهمه الشهيد ، فيسقط إذا كان الأخذ موثوقا به في الرد مع تحقق سببه ، وإلا لزم التسلسل ، لان الكفيل أيضا يحتاج الى كفيل آخر. واللّه العالم.

ص: 270

القول في كيفية الاستحلاف

التقاط [ عدم الإحلاف إلا باللّه تعالى ]

ظاهر الأصحاب الاتفاق على أنه لا بد أن يكون الحلف المثبت لحق أو النافي له - وبالجملة في مقام الدعوى - باللّه تعالى ، فلو حلف بغيره لغي الحلف.

هذا في المسلم ، وأما اليهودي والنصراني والمجوسي والدهري والوثني وما أشبههم ، فقد ذكر في محكي المبسوط والشرائع أنه يجوز إحلافهم بغيره تعالى ، مع تقييده في الشرائع بما إذا كان الحلف به أردع. لكن النصوص عاما وخاصا متفقة على عدم الإحلاف إلا باللّه تعالى ، منها ما سمعت في السابق « اقض بينهم بالبينة وأضفه إلى اسمي » (1).

وأما في غير مقام الدعوى فالكلام فيه تارة من حيث الحكم الوضعي كوجوب الكفارة وحصول فصل الخصومة به وأخرى من حيث الحكم التكليفي : أما الأول فالظاهر عدم الخلاف في أنه لا يترتب عليه الأثران ، وأما الثاني فقد اختلف فيه.

ص: 271


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2 و3.

والاخبار الناهية كثيرة ، لكنها معارضة بالسيرة المستمرة وبما علم من أفعال المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين ، فإنهم كثيرا يحلفون بآبائهم وبالجملة بغير اللّه تعالى. وقد جمع غير واحد بحمل الأخبار الناهية على الكراهة ، وهو أيضا مشكل ، لأن الكراهة أيضا منافية لأفعالهم.

ودعوى أن الافعال منزلة على بيان عدم الحرمة ، شطط من القول. نعم يمكن حمل الافعال على بعض المصالح الخفية.

مع أن الاخبار الناهية شاملة لمقام الدعوى أيضا ، وحملها على الكراهة ينافي القول بعدم ترتب الأثر على الحلف ، بل وكذلك حملها على الحرمة ، لأن الحرمة لا تنافي ثبوت الحكم الوضعي ، فلو حملت على الكراهة فلا بد من حملها على غير مقام الدعوى. ولا بأس به ، لان عدم ترتب الأثر على الحلف بغيره تعالى في مقام الدعوى أدلته كثيرة : منها ما أشرنا إليه حيث قال جل اسمه « وأضفه إلى اسمي ».

مضافا الى الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقن ، وهو الحلف به تعالى. فيدفع ما يقتضي الاكتفاء بالحلف بغيره تعالى في مقام الدعوى ، إذ ليس هو إطلاق مثل قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ». وهو كما ترى ، لأنا لو لم نقل بأن المنساق من اليمين هو اليمين باللّه تعالى فلا أقل من عدم إطلاقها. فافهم واللّه العالم.

التقاط [ كيفية إحلاف المجوس ]

ذهب الشيخ في محكي المبسوط إلى أنه لا يقتصر في حلف المجوس على لفظ الجلالة ، بل يضيف الى هذه اللفظة الشريفة ما يزيل احتمال ارادة غير الذات

ص: 272

المقدسة كخالق الظلمة والنور ، لان المجوسي سمى النور إلها ، فاذا أتى بلفظ الخالق نص في الذات المقدسة.

ومال اليه بل قال به بعض من تأخر ، نظرا الى لزوم إحراز وقوع الحلف بالجلالة ، ومع احتمال ارادته غيرها لم يكن الحلف به تعالى محرزا ، فلا يتحقق ميزان القضاء.

وقد يناقش فيه : بأن احتمال ارادة الخلاف غير قادح في مقابل الظهور اللفظي ، ولذا لا يعتنى باحتمال التورية أو احتمال شي ء آخر ينافي ظاهر اللفظ ، والا انسد باب الفصل بالإيمان ، لأن الإحاطة بالأمر القلبي والعلم به أمر غير ميسور.

ويدفع ذلك بأن احتمال ارادة غير الذات المقدسة هنا ليس في مقابل ظهور لفظي ، لأن المتكلم إذا كان له اصطلاح أو اعتقاد مغاير لاعتقاد السامع في لفظ من الألفاظ لم يجز حمله على مقصود السامع لعدم الظهور.

نعم ما ذكر من عدم الاجتزاء باحتمال التورية حق لما ذكر ، لكن الأظهر أيضا الاقتصار ، لإطلاق الاخبار بل ونصها في خصوص المجوسي واليهودي والنصراني ، ولان عدم الاعتقاد بوجود الذات المقدسة - العياذ باللّه - لا ينافي وقوع الحلف بها ، لان المقصود إحلاف المدعى عليه بالذات المقدسة التي وجودها حق ثابت اعتقده الحالف أم لا.

ومن المشايخ من بالغ في ذلك فقال بالاقتصار حتى مع العلم بأنه أراد باللفظة المباركة غير الذات المقدسة أخذا بإطلاق الاخبار. وهو كما ترى جمود بارد ، لأنا إذا علمنا ارادة غير الذات المقدسة فقد علمنا بعدم وقوع الحلف بها ، ومجرد ذكر لفظ الجلالة لا يجدي بعد ما لم يكن المقصود من اللفظ المعنى.

ص: 273

التقاط [ التغليظ في الإحلاف ]

يكفي في الحلف الذي هو ميزان القضاء أن يقول الحالف « واللّه ماله قبلي حق » ، والظاهر الاكتفاء بغير لفظ الجلالة أيضا من أسماء اللّه الخاصة الصريحة في الذات المقدسة ، لا طلاق بعض الاخبار وعدم صلاحية ما فيه خصوص لفظ الجلالة للتقييد ، ولذا لم يشترطه الأصحاب فيما عثرناه.

نعم يستحب للحاكم التغليظ في الحلف في الحقوق كلها ، سوى المال الذي لا يبلغ نصاب القطع على المشهور بين الأصحاب ، لكن في المسالك انه غير واضح المستند.

أقول : يمكن استفادته من إحلاف النبي صلى اللّه عليه وآله بعض اليهود على نحو التغليظ وان كان في غير مقام المرافعة ، ومن حلف الأخرس الذي روي عن أمير المؤمنين عليه السلام فإنه على نحو التغليظ (1) ، وما روي عنه عليه السلام أيضا في حلف الظالم بالبراءة من حول اللّه وقوته معللا بأنه يعجل في المؤاخذة (2) ، وغير ذلك مما لا يخفى على المتتبع. مضافا الى كون التغليظ أردع ، فناسب مراعاته استظهارا.

لكن لا يستحب للحالف الإجابة ، بل ربما يكره ، لأن الخفة في الحلف مرغوب إليها ، خلافا لبعض العامة فأوجب التغليظ عليه ، وللآخر فأنكر الاستحباب للحاكم أيضا.

ثمَّ التغليظ بالمكان يحصل بالاستحباب في الأمكنة المشرفة ، وبالزمان في

ص: 274


1- الوسائل ج 18 ب 29 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2.
2- الوسائل ج 16 ب 33 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2 و3.

الأوقات المباركة ، وبالقول بإضافة سائر أسماء اللّه تعالى الى لفظ الجلالة.

وهل يعتبر فيه اختيار أسماء الجلال كالقاهر والمهلك والمدرك ونحوها ، أو يجعل بأسماء الجمال والرحمة أيضا كالرحمن والرحيم. قد يقال بالأول لأن فائدة التغليظ التخويف وذكر أسماء الرحمة ينافيه ، وقد يقال بالثاني لأن ذكر الأوصاف يعطي تعظيما للمحلوف به فيعظم الحلف لأجل ذلك ، وهو المعهود من فعل الأكابر حيث كان حلفهم المغلظ هكذا « والذي نفسي بيده » ، و « الذي خلق النور والظلم وبرئ النسم » ، « والذي بعثك بالحق » مخاطبا للنبي صلى اللّه عليه وآله ، وأمثال ذلك الى ما شاء اللّه.

وفي الاخبار الواردة في الباب أيضا ما هو مشتمل على التغليظ بغير أسماء الجمال كما لا يخفى. واللّه العالم.

التقاط [ لو حلف على عدم الإجابة إلى التغليظ ]

إذا حلف أحد أن لا يجيبه الى التغليظ فالتمسه خصمه ، ففي الشرائع لم تنحل بيمينه ، وعن الدروس فيه نظر من اشتمالها على ترك المستحب ومن توهم اختصاصه بالحاكم.

واعلم أن ما ذكره في الدروس يشير الى اعتبار الرجحان في متعلق الحلف ، وعلى ذلك تبنى المسألة على استحباب التغليظ للحالف أو وجوبه. فان قيل بعدم الاعتبار أو قيل بعدم استحباب التغليظ أو وجوبه فمقتضى القاعدة عدم الانحلال ، لكن ورد أنه « إذا وجدت خيرا منه - أي مما حلفت عليه - فافعله » (1) ، ومقتضى ذلك الانحلال ، لان الإجابة مستحبة ولو تعلقت بمكروه. ومنه ما روي

ص: 275


1- الوسائل ج 16 ب 38 من كتاب الايمان ح 1.

عن الامام عليه السلام من الحلف على ضرب بعض غلمانه ثمَّ العفو عنه (1) ، لان الضرب وان كان في نفسه راجحا في نظره عليه السلام لكن العفو كان أرجح.

وان قيل بوجوبه لم تنحل ، لان اليمين والنذر والعهد ونحوها من العناوين الثانوية يعتبر في متعلقها الجواز الشرعي إجمالا ، لأن موضوع هذه العناوين متأخر عن موضوع الأحكام الأولية ، فلا بد من عروضها لواجب أو حرام أو مباح أو مستحب أو مكروه ، وحيث لا سبيل الى الحرام تعين أحد الأربعة. ومنه يظهر أن المراد بالجواز باقي الاحكام الأربعة.

[ الكلام في العناوين الثانوية ]

وحيث انجر الكلام الى ذكر العناوين الثانوية ناسب نقل بعض الكلام فيما يتعلق بها ، فنقول وباللّه الاستعانة وعليه التكلان والاعتصام :

ان الحكم الشرعي ان لم يتعلق في موضوعه حكم آخر وجودا أو عدما سمي ذلك الموضوع بالعنوان الاولي ، فالعنوان الاولي ما كان الحكم ثابتا لذاته قبل ثبوت حكم آخر أو انتفائه عنه كشرب الخمر وأكل السكر ، فإن الحرمة والحلية ثابتتان لذاتهما.

ولا يجوز أن يقال ان شرب الخمر المباح ذاتا أو الواجب كذلك حرام ، لان المفروض ثبوت الحرمة له قبل اتصافه بحكم آخر نفيا أو إثباتا ، فهو خلاف الفرض ، وللزوم التسلسل ، لأنه ينقل الكلام الى ذلك الحكم الذي قيد بوجوده أو عدمه شرب الخمر ، فلا بد من الانتهاء الى حكم ثابت لذاته قبل ملاحظة حكم آخر له ، وان لوحظ حكم آخر وجودا أو عدما سمي بالعنوان الثانوي ، لأنه عنوان للفعل بعد أن كان في نفسه متصفا بحكم شرعي.

ص: 276


1- الوسائل ج 16 ب 18 من أبواب كتاب الايمان ح 1 و2 و3 و4.

وهذا مثل اطاعة الوالدين واجابة المؤمن وإدخال السرور في قبله وإنفاذ الوصية والوكالة والوفاء بالنذر والعهد والشرط والصلح وفعل مقدمات الواجب وما أشبهها ، لأنها عناوين تعلق بها الحكم الشرعي بعد اتصاف مصاديقها بأحد الأحكام الشرعية قبل عروض تلك العناوين.

وبعبارة أخرى : هذه العناوين مصاديقها الخارجية أمور موصوفة بأحد الأحكام قبل اتصافها بتلك العناوين ، فالفعل الذي يتعلق به النذر قبل أن يتعلق به ويجعله مصداقا للمنذور لا بد أن يتصف بأحد الاحكام ، وهكذا سائر العناوين المزبورة.

وحينئذ ننقل الكلام الى ذلك الحكم ونقول : انه لا بد أن تكون غير الحرمة ، لأن الحرام ليس قابلا لان يتعلق به الوجوب ، بخلاف سائر الاحكام فان تعلقها بموضوع لا يمنع من تعلق حكم آخر به ماثله أو غايره ، لان مرجع المماثلة إلى تأكد المصلحة. ومن هنا لم يجز تحليل حرام بصيغة النذر ولا بصيغة الصلح ولا بالوكالة ولا من جهة المقدمية لواجب ولا من جهة كونه اجابة للمؤمن ولا غيرها من العناوين الثانوية إجماعا وقولا واحدا.

[ الدليل على أن العنوان الثانوي مختص بما عدا الحرام ]

نعم لا بد من التأمل في أن اختصاصها بما عدا الحرام هل يستفاد من أدلتها أو لا بد فيه من الاستناد الى دليل آخر؟

قد يقال بالأول ، لأنا لو قطعنا النظر عما دل على اختصاص النذر والعهد بالراجح الحاكم على أدلة النذر والعهد واليمين وعن قوله عليه السلام « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » الحاكمة على أدلة اطاعة الوالدين والزوج والسيد والوصي والملتمس وأدلة إدخال السرور ، وعن قوله « كل شرط جائز إلا ما

ص: 277

أحل حراما أو حرم حلالا (1) » الحاكم على أدلة جواز الشرط والصلح بل النذر والعهد ونحوها مما يندرج تحت الشرط اللغوي الذي هو مطلق الالتزام والبناء على شي ء ، أو عن غيرها مما يستند اليه قبل الإجماع في إرجاع العناوين المزبور الى غير الحرام.

جاز أن يقال : ان النسبة بينها وبين ما دل على الحكم الاولي الثابت لذات ذلك الفعل عموم من وجه ، سواء كان ذلك الحكم هي الحرمة أو الإباحة ، لأن الأحكام الخمسة كلها متضادة ، فكما لا يجتمع وجوب الوفاء بالنذر مع الحرمة الفعلية كذلك لا يجتمع مع الإباحة الفعلية.

ويؤيده أن ظاهر الأدلة الخاصة الحاكمة المشار إليها هو عموم أدلة تلك العناوين وعدم اختصاصها بنفسها بالمباحات ، والا لم تكن تلك الأدلة حاكمة ، مع أن قوله عليه السلام « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » منطوقه يحكم على أدلة الإطاعة ويتناول بعمومها لولده ، فكما يمكن أن يقال ان المنذور يجب فعله إلا إذا كان شرب خمر كذلك يمكن أن يقال شرب الخمر حرام الا إذا كان منذورا به. ولذا ترى بعض ما يشاركها في ثانوية العنوان - كمحافظة النص واجابة الملهوف واغاثته - مقدما على كل حرام أو واجب ، وليس هذا إلا لعدم مجي ء الدليل الحاكم فيه مع ثبوت ترجيحه شرعا على أدلة الاحكام.

وقد يقال بالثاني ، لأن الظاهر من سياق أدلة هذه العناوين اشتمالها على مقتضى الحكم - أي الوجوب مثلا - بخلاف أدلة الأحكام الأولية ، فإن ظاهرها اشتمال موضوعاتها للعلة التامة. ومن الواضح أن المقتضي لا يؤثر في نفسه ، بل لا بد فيه من عدم المانع ، وأي مانع من اشتمال الفعل على علة الحرام.

بخلاف العلة التامة ، فإن تأثيرها لا يتوقف على شي ء. مثلا قوله « الخمر

ص: 278


1- الوسائل ج 6 كتاب التجارة ب 6 من أبواب الخيار ح 5.

حرام » يستفاد منه أن الخمر مشتملة على العلة التامة للحرمة ، وقوله « يجب الوفاء بالنذر » يستفاد منه أن النذر فيه ما يقتضي الوجوب ، فاذا تعلق بشرب الخمر لم يؤثر لمكان المانع.

فان قلت : إذا كان الأمر كذلك فلا بد من عدم تعلقه بالمباح أيضا فضلا عن الواجب والمكروه أو المستحب ، لان ظاهر قوله « السكر مباح » مثلا أن السكر مشتمل على العلة التامة للإباحة ، وعلة الإباحة أيضا لا يؤثر معها مقتضي الوجوب.

قلت : فرق بين علة الإباحة وعلة التحريم ، لأن علة الإباحة مركبة من أمر عدمي - وهو عدم وجوب ما يقتضي الإلزام بالفعل أو الترك - بخلاف علة التحريم فإنها مركبة من الأمور الوجودية المقتضية للإلزام بالترك ، ولا ريب أن عدم المقتضي للإلزام لا ينافي عروضه بسبب أمر خارج.

نعم لو كان علة الإباحة أيضا راجعة إلى أمر وجودي محض - كما في بعض الموارد مثل اباحة النكاح على ما يظهر من استدلال الامام عليه السلام على بطلان اشتراط عدم التزويج في عقد النكاح بقوله تعالى « فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ » (1) - اتجه القول بعدم قبوله الالتزام بالترك بسبب الشرط ، لكنه أمر خارج عما يقتضيه حقيقة الإباحة ثابت في بعض الموارد الخاصة لخصوصيات موجودة فيه.

ثمَّ ان مثل الحرام ترك الواجب المعين ، لأن علة الإلزام مانع عن تأثير مقتضى الترك ، وأما الواجب المخير فهو كالإباحة فعلا وتركا ، إذ ليس في شي ء من فعله وتركه علة الإلزام ، وكذا المستحب والمكروه بل فعل الواجب المعين ، لأن علة الإلزام بالفعل لا يمنع عن تأثير المقتضي الإلزام به ، لأن تأثيره حينئذ

ص: 279


1- سورة النساء : 3.

تأكد المصلحة. فلا فرق حينئذ بين تعلق النذر مثلا بالمباح أو المستحب والمكروه وبين تعلقه بفعل الواجب.

[ عدم مزاحمة المستحبات للمحرمات ]

ومما ذكرنا ظهر عدم مزاحمة شي ء من المستحبات لشي ء من المحرمات ، لأن أدلة الاستحباب تدل على اشتمال المستحب لمصلحة غير ملزمة للترك مع رجحان في الفعل ، ومرجعه الى عدم مقتضي الإلزام ، وهذا لا يخرجه عن قابلية عروض علة الإلزام بالترك.

فان قلت : سلمنا أن علة لإباحة يمكن اجتماعها مع مقتضى الإلزام ، لكنا نقول ان إطلاق قوله « السكر مباح » أو عمومه يدل على سلامة جميع أفراد السكر عن عروض ما يقتضي الإلزام. مثلا إذا قال المولى « أكرم جيراني » فهذا يدل على كونهم أصدقاء وليس فيهم عدو وإلا لزم التخصيص في ذلك العموم لعدم صلاحية العدو للإكرام.

قلت : لما علم من الخارج أن موضوع المباح مما يصلح أن يعرفه موضوع الوجوب أو الحرمة فلا جرم يكون قوله « السكر مباح » في قوة قوله ما ليس فيه جهة الإلزام فعلا أو تركا من أفراد السكر فهو مباح ، فموضوع الإباحة وان كان في ظاهر الدليل هو ذات السكر لكنه في الحقيقة ليس تلك الذات المطلقة بل الذات المعلقة بعدم عروض ما يقتضي الإلزام.

ولا ريب انه متى شك حينئذ في فرد من أفراد السكر من حيث اشتماله على مقتضى الإلزام وعدمه فهو شك في موضوع الدليل ، كما إذا شك في موضوع العالم المأمور بالإكرام فلا مسرح للتمسك بالعموم حينئذ ، بل ينزل العموم أو

ص: 280

الإطلاق على وروده في مقام بيان حكم آخر ، وهو حكم ذات السكر في نفسها مع قطع النظر عن العوارض.

نعم لو كان موضوع الدليل عاما وعلم من الخارج أن هناك مخصصا - كما في مثال « أكرم جيراني » - استكشف من العموم سلامة أفراده الموجودة الخارجة عن عنوان ذلك التخصيص.

وحاصل الفرق بينه وبين ما نحن فيه : ان عدم عروض مقتضى الإلزام جزء من موضوع المباح وقيد من قيوده ، بخلاف الصداقة فإنها ليست شرطا حتى يجب إحرازها عند الشك ، بل غاية الأمر أن العداوة مانعة ، فان شك في وجوده استكشف عن العموم سلامة الافراد عنه ، فما نحن فيه من قبيل المخصص اللفظي والمثال من المخصص العقلي ، وقد حققنا في الأصول الفرق بين المثالين ، وان كان التمسك بكل منهما عند الشك تمسكا بالعام في الهيئة المصداقية. فافهم.

فان قلت : لا نجد فرقا بين قوله « الخمر حرام » و « الصلاة واجبة » ونحوهما مما سيق لبيان الحكم العنوان الاولي ، وبين قوله « النذر واجب الوفاء » و « الصلح جائز » وأمثالهما من العناوين الثانوية ، فإن كان ظاهر الأول اشتمال الفعل على علة الإلزام بالفعل أو الترك كان ظاهر الثاني أيضا ذلك ، فدعوى أن مفاد الأول اشتمال الفعل للعلية التامة ومفاد الثاني اشتماله على المقتضي. تحكم بارد وتعسف ساقط ، وإذا كان ظاهرهما الدلالة على اشتمال الفعل للعلة التامة أو المقتضي تعارضا في مادة الاجتماع.

قلت : ما ذكرت وان كان يقتضيه الجمود على ظاهر اللفظ لكن المنصف يعرض عنه ، لان الفرق بين العنوان الاولي الذي لا يعتبر في مفهومه فعل آخر كشرب الخمر وبين العنوان الثانوي الذي يعرض لذوات الافعال كالنذر الذي

ص: 281

يتعلق بفعل لا محالة. مما لا ينكر من حيث أن وزان الأول وزان « الظلم حرام » ووزان الثاني وزان « الصدق واجب ».

ومما يؤيده ويضعف ما زعمت أن العناوين الثانوية على ما نقول سالمة عن التخصيص وعلى ما تقول مخصصة بأدلة المحرمات إجماعا ، وعدم التخصيص أولى. فافهم واللّه العالم بحقيقة الحال.

[ الحلف على عدم التغليظ لا على عدم الإجابة ]

ثمَّ ان هنا مسألة أخرى غير مفروضة في عبارة الشرائع الماضية ، وهي الحلف على عدم التغليظ لا على عدم الإجابة. والفرق بينهما على تقدير وجوب الإجابة أنه لا ينعقد اليمين رأسا على الثاني ، وكذا لو قيل باستحبابها مع اشتراط الرجحان في متعلق اليمين ، بخلافه على الأول فإنها تنعقد وتنحل بحكم قوله عليه السلام « إذا وجدت خيرا منه فافعله » ونحوه. واللّه العالم.

التقاط [ حلف الأخرس بالإشارة ]

مقتضى القاعدة أن يكون حلف الأخرس بالإشارة ، لان إشارته قائمة مقام فعله في جميع أبواب الفقه حتى العبادات ، حتى أن بعضهم حكم بأن إشارته في الصلاة بمنزلة كلامه فيبطلها تنزيلا لها منزلة الكلام. وان كان قد يناقش فيه بعدم صدق الكلام عليه عرفا وان شاركه في وجه المناسبة لمعناه اللغوي الذي هو « الكلم » أي الجرح ، لكنه لا يخلو عن قوة جدا.

وما ذكرنا هو المعمول به المشهور بين القدماء والمتأخرين ، فلا بد حينئذ من حمل الرواية الواردة في تحليفه المشتملة على كيفية من التغليط في اليمين

ص: 282

والأمر بشربها على محامل لا تنافي الحكم المشهور. وليس علينا في أمثال المقام تعيين العيب الذي في الرواية ، بل الاعراض عنها متعين وان كان سندها صحيحا.

التقاط [ المراد من الاستحلاف في مجلس القضاء ]

قال في الشرائع : لا يستحلف الحاكم أحدا إلا في مجلس القضاء الا مع العذر كالمرض المانع وشبهه ، وحينئذ فيستنيب الحاكم من يحلفه في منزله ، وكذا المرأة التي لا عادة لها بالبروز الى مجمع الرجال والممنوعة بأحد الاعذار.

واعلم أن المراد بالاستحلاف في العبارة وفي أحاديث الباب وكلمات الأصحاب هو الحلف عن طلب كالاستنباط ، لا مجرد طلب الحلف أو الاذن بناء على كون الاستفعال لمجرد طلب الفعل حصل أو لم يحصل ، لان الاستفعال أحد إطلاقاته ما ذكرناه من تحصيل الفعل عن طلب ، وأمثلته كثيرة ، وهو المراد ، لأن الاذن في الحلف الظاهر أنه لا يعتبر فيه المجلس ، فلو أذن في غيره وحلف فيه أجزأ على القول باعتبار المجلس.

ثمَّ المراد بمجلس القضاء اما المجلس النوعي وهو ما بني للقضاء فيه واما المجلس الشخصي وهو ما وقع فيه الخصومة والدعوى. والمتبادر من العبارة هو الأول ، وحينئذ فالمعتبر هو وقوع الحلف فيه حضر الحاكم أم لا ، وعلى الثاني فالمتبادر اشتراط الحضور.

وكيف كان ففي العبارة احتمالات : أحدها أن يكون المقصود وقوع الحلف في حضور الحاكم ، سواء كان الحاكم في مجلس القضاء النوعي أو الشخصي أو لم يكن فيه ، والثاني اعتبار كون الحلف في مجلس القضاء بأحد المعنيين حضر الحاكم أو لم يحضر. والثالث أن يكون الحلف في مجلس

ص: 283

الحكم وحضور الحاكم وهذا أخص من الأولين ، والرابع الاحتراز عن الحلف في البيت لا في حضور الحاكم ولا في مجلس القضاء. وتعيين أحد الاحتمالات على وجه يتعين القول به احتمالا ومنحلا مشكل.

ثمَّ المسألة لا مستند لها في الأدلة ، وظاهر صاحب المسالك أنه على وجه الكراهة. وهو مشكل ، لان مثل هذه العبارة الواردة في شرائط القضاء وآدابه آب عن الحمل على الكراهة ، كيف وقد ذكر بعضهم كالشهيد «رحمه اللّه» في محكي الدروس هذا الحكم في باب شرائط اليمين التي كلها على وجه الاشتراط واللزوم.

وكيف كان فالقدر المتيقن من هذه العبارة وأمثالها هو عدم جواز حلف الحاكم إلا في بيته ، بمعنى عدم سقوط حلف المدعي بذلك بدون حضور الحاكم وبدون أن يكون في مجلس القضاء. وهذا يمكن الاستدلال عليه بتوقيفية القضاء وعدم ثبوت إطلاق أدلة اليمين باعتبار ورودها في مقام بيان أصل الميزان ، مضافا الى الطريقة المألوفة المعهودة بين المسلمين من عدم الاستحلاف إلا في مجلس الحكم والمرافعة.

ثمَّ ان هذا شرط في اليمين التي يستحقها المدعي وليس من وظائف القاضي ، فلا يؤثر الاستنابة في حال الاختيار. نعم لو كان من وظائفه أمكن القول بعدم اعتبار المباشرة مع احتماله للشك في قبوله الاستنابة كأصل القضاء. واللّه العالم.

التقاط [ حكم الحلف باللغات غير العربية ]

قد عرفت أنه يكفي في الحلف أن يقول « واللّه ليس قبلي حق » ، وكذا يكفي الحلف بسائر أسماء اللّه تعالى الخاصة. وهل يعتبر العربية أو يكفي بالأسماء الفارسية ونحوها أيضا الظاهر الكفاية خصوصا عند التعذر.

ص: 284

لكن الإشكال في وجود الاسم للذات المقدسة في الفارسي ، وإطلاق لفظ « خدا » على الذات المقدسة يقوي في النظر كونه كإطلاق لفظ « الرب » ، لان « خدا » في الفارسية بمعنى الصاحب. ومن المحتمل قويا ان إطلاقه عليه تعالى من قبيل إطلاق الكلي على أكمل الافراد.

وكيف كان فالظاهر الجواز ، لا طلاق بعض لأدلة وعدم صلاحية ما فيه خصوص الأسامي العربية للتقييد. واللّه العالم.

التقاط [ البينة وظيفة المدعى واليمين وظيفة المنكر ]

بعد ما عرفت وثبت بالنص والإجماع أنه لا بد في طي الدعوى من ميزان للقاضي وأنه لا يكفي مطلق ما يكفي في مقام عمل نفس الشخص من الأصول والأمارات الشرعية وأنه منحصر في البينة والايمان. فاعلم أن مقتضى الأصل الاولي أن تكون البينة من وظائف المدعي واليمين وظيفة للمنكر ، فلو أغمضنا النظر عن المستفيض « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » ودار الأمر بين مطالبة البينة عن المدعي واليمين عن المنكر أو العكس تعين الأول بمقتضى الأصل المشار اليه.

ونعني بالأصل الاولي ما هو القاعدة والقانون عند العقلاء المستقر عليه طريقتهم والمركوز في جبلتهم في مثل المقام ، فان بناءهم على مطالبة البينة من الذي يدعي خلاف الأصل وعلى تحميل الأثقل من الميزانين عليه والأخف على من يوافق قوله الأصل ، بل بناؤهم على عدم تحميل موافق الأصل شيئا والاقتصار في الفصل بين المتنازعين على وجود البينة وعدمها.

لكن الشارع تصرف في طريقتهم هذه في الجملة ، بأن نصب للفصل عند

ص: 285

عدم البينة أيضا ميزانا وهي اليمين وأمضى ما عليه من مطالبتهم البينة من المدعي.

والحاصل انا إذا وجدنا قول الشارع « فاحكم بينهم بالبينة وأضفه إلى اسمي » أو قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (1) وعلمنا أن القضاء لا بد له من فاصل ولا يكفي في رفع الخصومة المشي على طبق كل أصل أو أمارة شرعية يكفي في غير مقام رفع الخصومة حكمنا بمقتضى القانون المقرر عند كافة العقلاء أنه لا بد أن يكون المطلوب بالبينة هو المدعي وباليمين هو المنكر ، لأن قوة جانبه وموافقة قوله للأصل يمنع من تحميله الأشق والأثقل كما يمنع عند العقلاء من تحميله اليمين.

فان قلت : لو لا قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » لم يعلم من قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » ولو بملاحظة طريقة العقلاء أنه لا بد أن يتوجه اليمين الى المنكر ، لاحتمال كون كل من البينة واليمين ميزانا مطلوبا من المدعي وكون المنكر مستريحا من كل تحميل ، لما معه من الأصل الذي هو حجة شرعية ، كما اعترفت أن العقلاء بناؤهم على ذلك وان لم يمضه الشارع.

هذا مضافا الى ما في إرجاع البينة الى المدعي من الموافقة والمطابقة لأدلة حجية البينة ، فإن الفصل بمقتضى البينة نحو استعمال لدليل حجيتها الوارد في مقام تحكيمها على الأصول. والحاصل ان المنكر له حجة داخلة ، فمطالبة الحجة منه ثانيا أمر بديع لا يساعده قانون العرف ولا قانون الشرع المشروع لحجية البينة ، فإنها شرعت في إثبات ما ليس عليه حجة شرعية لا لا ثبات ما عليه بعض الأمارات الشرعية ، وان كانت فيه أيضا معتبرة على تقدير قيامها.

فظهر مما ذكر أن مطالبة البينة من المنكر خروج عن مقتضى الأصل الأولي

ص: 286


1- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 1 و2.

من جهتين : إحداهما تنظر الى بناء العقلاء ، والثانية تنظر الى نحو قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » فلا بد من إرجاع البينة الى المدعي. ويتعين بذلك رجوع الميزان الأخر ، وهو اليمين الى المنكر.

قلت : كلامنا بعد الفراغ عن أن القضاء سواء كان للمدعي أو للمنكر لا يكون عند الشارع الا بميزان من الميزانين المزبورين وان أحدهما وظيفة المدعي والأخر وظيفة المنكر ، ولكن لا تشخص وظيفة كل منهما من وظيفة الأخر ، فحينئذ نقول : ان البينة وظيفة المدعي واليمين وظيفة المنكر. وهذا معنى كلام المحقق وغيره. ومع فقدها - أي البينة - فالمنكر مستند إلى البراءة الأصلية ، وهو أولى باليمين.

وليس مرجع هذا الكلام الى الاستناد الى قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ». نعم ذكر قبل ذلك كلاما يرجع اليه حيث قال : البحث الثاني في يمين المنكر والمدعي ، اليمين يتوجه الى المنكر تعويلا على الخبر. فشكر اللّه سعيه حيث أتى في ضمن كلمتين بما فصلناه من الطريقتين من الأصل الاولي والثانوي المدلول عليه بالخبر.

ثمَّ انه قد خرج عن هذا الأصل موارد وجهت اليمين فيها الى المدعي ، كدعوى الدم مع اللوث ، أي قيام أمارة شخصية على صدق الدعوى ، ونحوها مما يقدم فيه قول المدعي في أبواب الفقه مراعاة لامارة نوعية قائمة على صدق الدعوى ، كدعوى الدخول مع الخلوة والتيام الخلقين والسلامة عن المرض أو دعوى الإنفاق ونحو هذه الموارد ، أو لا مارة شخصية اعتبرها الشارع كدعوى الدم مع اللوث ، أو لوجود مانع عن مطالبة اليمين من المنكر.

والسر في الخروج هو أن إرجاع اليمين الى المنكر انما كان لقوة جانبه ، وفي المواضع المشار إليها لا قوة في جانبه باعتبار قيام الظن النوعي أو الشخصي

ص: 287

على خلافه ، بل القوة حينئذ في جانب المدعي. لكن ذلك أيضا ليس على وجه مطرد ، لان الاعتماد ليس على كل أمارة نوعية أو شخصية بل لا بد من قيام دليل على اعتبارها ، فيكون مرجع ما ذكرنا بعد مشاهدة الأصل إلى بيان السر والحكمة دون الدليل.

هذا في موارد وجود الامارة ، وأما في غيرها فمطالبة اليمين عن المدعي دون المنكر لا بد أن يكون لمانع ، مثل اختلال النظام وحصول الهرج والمرج والعسر والحرج وتخليد الحبس ونحوها. ومن موارد وجود الأمارة القوية لجانب المدعي ما لو أقام شاهدا واحدا ، فالشاهد واليمين أيضا من موارد توجه اليمين الى المدعي. واللّه العالم.

التقاط [ لا بد من الجزم في اليمين ]

لا بد في اليمين أن تكون ناظرة إلى الواقع على وجه الجزم ، فلو كانت ناظرة إلى الظاهر لم يكف ، لان اليمين الواردة في الأدلة هي اليمين المطابقة للدعوى والدعوى متعلقة بالواقع. وأيضا حال اليمين والبينة واحد ، والبينة حاكية عن الواقع فكذا اليمين.

وكذا لا بد فيها من الجزم ، فلو كان الحالف شاكا معترفا بشكه لم يكف ، لعدم صدق الاخبار على القضية إذا كان المتكلم بها شاكا في مطابقتها للواقع ، فلا يشمله الأدلة الدالة على تصديق الحالف ، كعدم شمول أدلة تصديق العادل للأخبار المقرون بالشك في المطابقة إذا كان الحال واضحة. نعم مع عدم وضوح الحال فظاهر الأخبار القاضي بالجزم متبع.

والذي يدل على ما قلنا أن خروج معلوم الكذب عن تحت الأدلة الإمرة

ص: 288

بالتصديق ليس على وجه التخصيص بل التخصص ، لان الخبر المعلوم الكذب ليس بمشمول لعنوان الخبر ، لان الخبر حقيقة في الصادق أو ما كان مطابقا لاعتقاد المخبر ، ولأن المأمور بالتصديق ليس الا خصوص ما كان حاكيا عن اعتقاد المخبر ، وهو الأجود.

[ اليمين المتكلة على الأمارات والأصول ]

إذا تحقق ذلك فاعلم ان مقتضى القاعدة أن اليمين على الواقع نفيا أو إثباتا اتكالا على الأمارات الشرعية أو الأصول التعبدية لا يترتب عليها الأثر ، لأن المحلوف عليه حينئذ اما الثبوت أو النفي الظاهريين أو الواقعيين ، والأول كأن يحلف المنكر على براءة ذمته أو على عدم كون العين المتنازع فيها للمدعي ظاهرا :

فان كان الحلف على الظاهري لم يطابق الدعوى ، لان الدعوى متعلقة باشتغال ذمتها واقعا ، وأما الاشتغال الظاهري المشروط بالعلم فربما لا يدعيه المدعي بل ربما يعترف بعدمه إذا علم بجهل المنكر بالحال ، فلا فائدة في الحلف على عدمه ، لعدم كونه المدعى به كما أشرنا اليه.

وان كان الحلف على الواقعي اتكالا على الامارة الشرعية فهو وان تطابق الدعوى لكنك عرفت اعتبار الجزم ولو بظاهر الحال في الاخبار الذي يحلف عليه. وهو مفقود في المقام بحكم الفرض ، لأن مجاري الأصول بل الأمارات الشرعية غالبا مشكوك ، مع أن الظاهر أيضا حكمة حكم الشك.

وان شئت قلت : ان العلم اعتبر في جواز الحلف موضوعا لا طريقا حتى يقوم مقامه الامارات والأصول. هذا بالنسبة إلى الحكم الوضعي ، وأما الحكم

ص: 289

التكليفي فالظاهر الحرمة ، لأنه قول بما لا يعلم وكذب بين. نعم مع وضوح الحال يمكن منع قبحه ، لعدم ترتب شي ء عليه من الإغراء ونحوه.

ويدل على ما ذكر زيادة على كونه مقتضى القاعدة بعض الروايات أيضا ، مثل ما في علل فضل بن شاذان المروي في العيون (1) ، فإنه علل عدم مطالبة البينة من المنكر بأنه جاحد ولا يقدر على إقامة البينة ، فلو كان الاخبار بمقتضى الأصل عن الواقع جائزا لكان إقامة البينة على النفي ممكنا بمقتضى الأصل ، بل قد يظهر من الأصحاب أنه مفروغ عنه فيما بينهم ، لأنهم قسموا اليمين الى قسمين يمين البت ويمين نفي العلم ، وجعلوا محل الثاني ما إذا تعلقت بفعل الغير ، فلو لا عدم جواز اليمين على البت بمقتضى الأصول كانت اليمين مطلقا على البت ، لان متعلق الدعوى إذا كان فعل الغير يحلف على نفيه بتا بمقتضى الأصل.

هذا ما تقتضيه الأدلة ، لكن الالتزام به والبناء عليه مشكل ، مع قطع النظر عن خصوص ما ورد من جواز الاخبار بمقتضى بعض الأمارات ، لأن ذلك يستلزم سد باب الدعاوي والإنكار والشهادات والايمان في كثير من الإشهاد كالملكية والزوجية والنسب والعدالة والطهارة والنجاسة ونحوها مما لا يمكن إحرازها إلا باستعمال أصل من الأصول أو امارة من الامارات.

بل الاشكال جاز في جميع الأمور التي يترتب عليها الأحكام الشرعية ، فلا يتم الاخبار بالغصب أو الإتلاف أو القتل أو البيع أو الطلاق الى جميع الموضوعات الا مع الإغماض عن بعض الاحتمالات المنافية لتحقق المخبر به اتكالا على بعض الأصول اللفظية أو العملية أو الأمارات الشرعية كالفراش وأصالة الصحة ، لأنه إذا ادعى ملكية عين في يد شخص فلا بد من طرح احتمال دخولها في

ص: 290


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

ملك ذي اليد بسبب خفي ولو في سابق الازمان بالنسبة إلى الأيادي السابقة التي تلفها المدعي من تلك الأيادي.

وكذا إذا ادعى دينا فلا بد من الإغماض عن بعض ما يحتمل ولو بعيدا من الأمور المانعة عن الاشتغال أو الموجبة للبراءة ، وأما دعوى الغصب والإتلاف فالإشكال يجري فيما يتعلقان به من المال ، وكذا القتل.

وبالجملة من تحلى بحلية الانصاف وجد من نفسه أن الاخبار بأحد هذه الأمور في مقام الدعوى أو في مقام الإنكار أو في مقام الشهادة أو في مقام الحلف أو في مقام المكاتبة والقصة لا يتم الا بعد استعمال بعض الأصول والأمارات التعبدية الشرعية أو العقلائية ، فلو بنى على عدم ترتب الأحكام الوضعية على الاخبار بها في شي ء من المقامات المشار إليها إلا بعد الإحاطة التامة بواقعيات هذه الأمور إحاطة علمية جزمية غير مستندة الى أصل من الأصول أو الامارات انسد باب الدعوى والإقرار والإنكار والشهادة واليمين. وفساده بمكان لا يحتاج الى النظر الخفي.

هذا مضافا الى ما عليه بناء العلماء وسيرة المسلمين وطريقة أهل العرف من جميع الأديان ، أما العلماء فان ديدنهم الاخبار بالأحكام الواقعية بصورة الجزم ، كالحكم بأن هذا حرام وهذا حلال ، مع أن مستندهم في تلك الإخبارات والفتاوى ليس إلا الأصول والأمارات الشرعية التي مجاريها مشكوكة.

ودعوى أن قول الفقيه « هذا حرام » اخبار بالحرمة الظاهرية. شطط من الكلام بعد كون الحلال والحرام من دون التقييد بالقيد الظاهري ظاهرين أو صريحين في الحلال والحرام الواقعيين.

وأما المسلمون وأهل العرف من الأديان فان اخبارهم بزوجية امرأة أو ملكية عين أو نسب شخص في مقام القصة أو في مقام الدعوى أو في مقامات

ص: 291

أخرى ، ليس مبنيا على العلم اليقيني بالموضوع الواقعي. أترى أنه لو تزوج أحد بالفارسي تقليدا أو اجتهادا فهل يتوقف الزوج أو غيره في إطلاق الزوجة على المعقود عليها ، وهكذا من تزوج امرأة ارتضع من أمهات عشر رضعات ، أو غير ذلك من الأمثلة التي لا تحصى كما وكيفا.

والحاصل ان بناء العرف من العوام والخواص على الاخبار بهذه الأمور إذا ساعد عليها أصل شرعي أو امارة شرعية إلى تنزيل مجاري الأصول والأمارات منزلة الواقع ادعاء ، نظرا الى مساواته لها في جميع الاثار والأحكام الشرعية برجوع القضية الظاهرة في التنجيز الى البناء والتقدير ، بأن يكون معنى قول الفقيه « هذا حرام » أنه حرام بناء على مطابقة الامارة القائمة عليه للواقع ، وهكذا معنى قولهم لزوجة زيدانها زوجته نظرا الى ما أفتى به المفتي. وعلى التقديرين فالاخبار متعلق بالواقع بصورة الجزم ولو تنزيلا أو تقديرا.

ومع ذلك كله كيف يمكن القول بعدم جواز الاخبار بالواقع بمقتضى الأصول والأمارات ، أم كيف يشترط في الدعوى أو الحلف أو الإنكار أو الشهادة الجزم بالواقع بحيث لا يكون هناك احتمال يحتاج في نفيه الى التعبد بسبب شرعي أو أصل أو امارة شرعيين. فهل يقول أحد انه لو ادعى زوجية امرأة عقد عليها تقليدا أو اجتهادا ظنيا ، فهذه دعوى ظنية أو مشكوكة.

فالمسهل للخطب والمهون للأمر والجامع بين الأدلة وكلمات العلماء هو أن يقال : ان مجاري الأصول والامارات والأسباب الشرعية شرعا وعرفا يجري عليها حكم الواقع ، فيجوز الادعاء بمقتضى الاستصحاب وكذا الإنكار وكذا الشهادة وكذا اليمين ويترتب عليها الاثار الشرعية كلها ، لكن يشترط عدم مصادمة الجهة المتكل فيها على الاستصحاب مثلا لدعوى مدعى في مقابلها.

وبذلك يجمع بين ما عرفت من بنائهم وبين ما أثبتوه في كتبهم من اشتراط

ص: 292

البت في اليمين والجزم في الدعوى والعلم في الشهادة ، فنقول : إذا ادعى شخص عينا في يد آخر فهنا أمور لا بد للمدعي دفعها بالأصل ، مثل احتمالات كون العين المتنازع فيها للمدعي عليه بالأسباب الخفية سابقا أو لاحقا ويجوز له الاتكال على الاستصحاب في اليمين على الواقع بتا إذا ردت اليمين اليه ولو علم الحاكم أو المنكر بأن يمينه مستندة من بعض الوجوه الى الاستصحاب.

لكن إذا وقع قضية بعض هذه الأصول طرفا لدعوى المدعى عليه - بأن ادعى انتقال العين اليه من جده أو أبيه أو أمه أو نحو ذلك - سقط الأصل المزبور من الاعتبار ، فلو حلف والحال هذه اتكالا على الأصل ولم ينفع ، بل وجب عليه الحلف البتي إذا رد اليه مثلا.

ومن هنا جازت الشهادة بمقتضى الاستصحاب ولو علم الحاكم أو المدعى عليه بالحال ويقضي بالبينة المستندة إليها أيضا ، لاعتبار الاستصحاب وكفايته في إحراز الواقع للشاهد ولغيره. مع أن المنكر لو انقلب مدعيا وادعى المبرئ أو المسقط لم تنفع البينة الاستصحابية حينئذ ولم يجز للمدعي إذا رد الحلف عليه اليمين على البت اتكالا على ذلك الاستصحاب الذي يدعي المنكر خلافه.

[ لو كان الاخبار مستندا الى الأصل ]

والحاصل ان السير والتتبع في الفتاوى مع ملاحظة ما جرت عليه سيرة المسلمين يقضي بقيام مجاري الامارات والأصول مقام الواقع مطلقا حتى في مقام الدعوى ، إلا الأصل أو الأمارة التي يدعي المدعى عليه خلافه لا جميع الأصول ، وحينئذ فلو كان الاخبار مستندا من جميع الوجوه أو من بعضها الى الأصل فان لم يكن في مقابله دعوى - بأن كانت الدعوى ناظرة إلى جهة غير راجعة الى ما قام عليه الاستصحاب واعتمد عليه المدعي في دعواه الجزمية أو

ص: 293

الشاهد في شهادته أو الحالف في حلفه البتي - ترتب عليه جميع الأحكام الشرعية وضعا وتكليفا ، فلو كان في مقام الدعوى حل له ذلك ، ولو كان في مقام الشهادة حل ونفذ ، وكذا لو كان في مقام الحلف فتنفصل به الخصومة ، وان كان يدعي المدعى عليه خلافه سقط الأصل في جميع المقامات المزبورة من الجزم من تلك الجهة دون سائر الجهات.

وقد يشكل ذلك بأن المنكر لا بد أن يستند في اخباره الى الأصل في بعض الوجوه ، خصوصا فيما إذا كانت الدعوى في دين كلي أو عين غير مستندة الى سبب خاص ، فكيف يحلف على البت مع كون جميع الأصول المتكل عليها في مقابلها دعوى المدعي.

والجواب ان الدعوى إذا كانت مطلقة غير مستندة الى سبب خاص معلوم احتملت أسبابا جديدة بعضها معلوم العدم عند المنكر وبعضها مشكوك لا بد له في نفيه من الاتكال بالأصل ، وحيث أن السبب المشكوك لم يعلم استناد دعوى المدعي إليه لاحتمال استنادها الى السبب الذي يعلم المنكر جزما بانتفائه صح له الحلف البتي. وهذا المقدار يكفي في اعتبار الاستصحاب ولا يجب على المتكل عليه الحراز عدم كونه معرضا للدعوى ، بل إذا لم يعلم بكونه كذلك جاز له الاعتماد عليه في الاخبار الجزمي.

ومما ذكرنا ظهر سر ما صرحوا به من عدم جواز الحلف بتا إذا كان متعلق الدعوى فعل الخير ، إلا إذا علم المدعى عليه علما جزميا بعدمه ، لأنه إذا لم يعلم ذلك فلا بد من الاستناد الى الأصل في الحلف البتي. وقد عرفت ان الاستصحاب إذا كان معرضا لدعوى المدعي لا يجوز الحلف بمقتضاه بتا ، ولو حلف لم يترتب عليه الأثر أيضا مع العلم بالحال.

وكذا ظهر أن من صرح باعتبار الجزم في صحة اليمين وأنها لا يجوز مع

ص: 294

الشك كالشهيد في محكي الدروس وغيره ، فمراده الجزم الذي عليه بناء المتشرعة في مخاطباتهم ومكالماتهم في هذه المشار إليها ، وهو الجزم المبني على تنزيل مجاري الأصول والأمارات منزلة الواقع ادعاء كما عرفت ، لا الجزم المبني على الإحاطة التامة بالواقع ، فان مفاسد ذلك مما يضيق عن الإحاطة به نطاق البيان. وكذا ظهر أيضا ان كل ما يجوز الشهادة عليه جازت اليمين وبالعكس. واللّه العالم.

التقاط [ يلزم الحلف على القطع لا نفي العلم ]

قال في الشرائع يلزم الحلف على القطع مطردا ، الا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم. فلو ادعى عليه ابتياع أو قرض أو جناية فأنكر حلف على الجزم ، ولو ادعي على أبيه الميت لم يتوجه اليمين ما لم يدع عليه العلم فيكفيه الحلف أنه لا يعلم. وكذا لو قيل « قبض وكيلك » وأراد بالتقييد بالنفي أن الحلف على إثبات فعل الغير أيضا ، لا بد أن يكون على القطع والبت. فالأقسام أربعة : إثبات فعل النفس ، ونفيه ، وإثبات فعل الغير ، ونفيه. وفي الثلاثة الأولى يعتبر البت ، وفي الرابع يكفي الحلف على نفي العلم لكن بشرط أن يتعرض المدعي لعلم المنكر والا انحصر طريق الدعوى في البينة.

وقد توهم أنه إذا اشترط في الحلف على نفي العلم كان الحلف أيضا على البت والقطع ، لان المدعى به حينئذ هو علم المنكر كالوارث مثلا والإنكار متوجه اليه ، فاذا حلف على عدم العلم كان الحلف قطعيا ، فصرح بأن الحلف دائما على البت.

وليس بوجه ، لان التعرض لعلم الوارث شرط لتوجه اليمين في دعوى

ص: 295

المال ، والا فأصل دعوى العلم ليس مما يوجب يمينا على نفي العلم ، ولذا ذكرنا سابقا أن الجواب بلا أدري لا يستتبع اليمين على نفي العلم ولو ادعاه المدعي بل يرد اليمين الى المدعي في هذه الحال أيضا ، أعني في حال دعوى المدعي العلم عليه.

والحاصل ان اليمين على نفي العلم إذا كانت في دعوى المال مع التعرض للعلم خرجت اليمين عن كونها قطعية جزمية وصح تقسيمها الى قسمين ، وانما لا يصح إذا كان يمين نفي العلم فيما إذا كان أصل المدعى به هو العلم لا المال مثلا مع اشتراط التعرض للعلم. وفرق بين كون يمين نفي العلم فاصلة لدعوى المال بشرط التعرض للعلم وبين كونها لفصل دعوى العلم ، فإنها في الأولى ليست بقطعية بخلافها في الثانية.

[ الدعوى على نتيجة الفعل ]

ثمَّ ان الدعاوي على أقسام ثلاثة : منها ما يتعلق بفعل النفس مثل الأمثلة المزبورة ، ومنها ما يتعلق بفعل الغير كامثلة المذكورة ، ومنها ما ليس من الافعال بل النتائج مع احتمال استناده الى فعل النفس أو فعل الغير.

لا إشكال في حكم الأولين ، وانما الإشكال في القسم الثالث ، مثل دعوى اشتغال الذمة أو ملكية العين أو نحوهما من النتائج ، فان اشتغال ذمة الشخص مثلا قد يحصل من فعله كالبيع والإتلاف ونحو هما ، وقد يحصل من فعل غيره اشتغال الذمة أو ملكية العين أو نحوهما من النتائج ، فان اشتغال ذمة الشخص مثلا قد يحصل من فعله كالبيع والإتلاف ونحوهما ، وقد يحصل من فعل غيره كدابته أو عبده أو مورثه أو نحو ذلك ، فله يلحق ذلك بفعل النفس أو بفعل الغير؟ ظاهر هم الأول ، فيحكمون في مثلها باليمين على نحو الجزم والقطع.

ويشكل ذلك بأن الدعوى في مثلها غير معلومة التعلق بفعل النفس ، لاحتمال تعلقها بفعل الغير كما ذكر.

ويمكن دفع الاشكال بالنظر الى ما حققناه في الالتقاط السابق حيث قلنا

ص: 296

انه يكفي في اليمين البتية احتمال استناد دعوى المدعي الى ما يعلم المنكر بانتفائه لا الى ما اعتمد في نفيه بالاستصحاب ، فان مثل ذلك يجري في المقام أيضا ، لأنه إذا ادعى شيئا يحتمل استناده الى فعل المنكر ، والى فعل غيره فان كانت في الواقع مستندة الى فعل نفسه فالحلف القطعي في محله كما هو واضح ، وان كانت مستندة الى فعل غيره فالحلف البتي على نفي فعل الغير أيضا جائز أو مع العلم بانتفائه.

والاستصحاب النافي لاستناده إلى أفعال الغير قائم مقام العلم ، إذ قد عرفت أن الحلف البتي بمقتضى الاستصحاب جائز إذا لم يكن في طرف الدعوى أو واجب شك في ذلك.

والحاصل ان المنكر في هذه الأمثلة لما لم يكن عالما باستناد دعوى المدعى الى فعل غيره كان كمن يعلم بعدم الاستناد في جواز الحلف البتي ، نظرا الى كونه احتمالا في مقابل الاستصحاب ، لان عدم العلم باستناد الدعوى الى الاحتمال المخالف للاستصحاب يكفي في الحلف البتي على عدمه اتكالا على الاستصحاب.

فان قلت : قضية القاعدة - ولو بعد تسليم هذه القاعدة أعني جواز الحلف البتي بمقتضى الاستصحاب بشرط عدم مصادمته مع دعوى المدعي أيضا - عدم جواز الحلف البتي ، لأن الشك في الشرط لا يوجب الشك في المشروط ، فاذا احتمل المنكر كون أصالة عدم فعل الغير الذي أتكل عليه معرضا لدعوى المدعي لم يجز له الحلف البتي ، لاشتراط ذلك بعدم كونه معرضا لها.

قلت : إذا أنكر المنكر الاشتغال فظاهر اخباره الجزم بالعدم ، وهو أمر ممكن ولو بعيدا ، كما إذا صالحه المدعي عن المتنازع فيه وقبضه قبل الدعوى فإنه حينئذ جازم بعدم الاشتغال. فتأمل.

وظاهر الاخبار يوجب توجه الحلف البتي عليه ، ولو فرض الكلام فيما

ص: 297

إذا علمنا أنه أتكل في بعض الاحتمالات الخفية بالأصل ، فنقول حينئذ : انه يكفي في مطالبة الحلف البتي من المنكر عدم إحرازه سبب الحلف الغير البتي ، أعني استناد الدعوى الى فعل الغير الذي لا يعلم بانتفائه علما وجدانيا ، اما لعمومات الحلف الظاهرة في الحلف البتي كما مر. فتأمل ، أو لأصالة عدم استناد الدعوى الى ذلك السبب المستلزمة لاستنادها الى سبب يقتضي الحلف البتي. فتأمل ، أولان الشرط الذي اعتبرناه في الحلف بمقتضى الاستصحاب - أعني عدم كونه معرضا للدعوى - أمر ثابت من كلمات العلماء على خلاف ما عليه طريقة المتشرعة قاطبة من الاعتماد على الأصول والأمارات في أخبارهم الجزمية ولم يثبت أزيد من ذلك ، فنقول :

قضية القاعدة الثابتة من بناء العوام والخواص جواز الحلف البتي بمقتضى الأصل ، مثلا خرج من تحتها صورة العلم التفصيلي بكون الأصل المعتمد عليه معرضا للدعوى ، وأما صورة الشك في ذلك فهي باقية تحت القاعدة. فتأمل ، أو لأن ظاهر الاخبار يقتضي كونه جازما بانتفاء جميع الأسباب ، سواء كان فعل نفسه أو فعل غيره وعلمنا إجمالا باتكاله في نفي بعض الأسباب على الاستصحاب مثلا لا يمنع عن الحكم بمقتضى ذلك الاخبار الجزمي ، وهو الإحلاف على نحو البت ، لان سلب جميع الأسباب يتضمن ما يتعلق بأفعاله من الأسباب أيضا ، وهو - أعني نفي ما يرجع الى فعله من الأسباب - يكفي في مطالبة الحلف البتي ، والمعلوم بالإجمال - أعنى الاستناد الى الاستصحاب في نفي بعض الأسباب - لا يعلم رجوعه الى ما يتعلق بفعل نفسه وعدم العلم بما يمنع من الحلف البتي كاف في مقابل ظاهر الاخبار المقتضي له.

وتوضيح المسألة : ان المنكر في الأمثلة المزبورة التي ظاهر اخباره هو العلم بعدم الأسباب رأسا ان لم يعلم استناده في نفي بعضها الى الاستصحاب

ص: 298

كما يتفق كثيرا ما فلا إشكال في كون يمينه على نحو البت ، لان العالم يمينه على البت سواء كان في فعل نفسه أو في فعل غيره وان علمنا أنه أتكل في نفي البعض الى الاستصحاب ، فان علمنا أن ذلك البعض لا يرجع الى فعل نفسه وانه ما لم يعلم ما يرجع الى فعله من الأسباب كلا ، فلا إشكال أيضا في كون يمينه على نحو البت.

لا يقال : كيف لا اشكال فيه مع أنه يحتمل استناد المدعي الى فعل غيره الذي اعتمد المنكر في نفيه بالأصل ، وقضية تطابق الدعوى واليمين إحراز كون الدعوى راجعة إلى فعل نفسه حتى يقتصر في فصلها بالحلف القطعي ، والا فبمقتضى القاعدة اما إلزام المدعي في هذه الصور بذكر السبب أو الجمع بين حلفين : أحدهما القطعي لاحتمال استنادها الى فعل نفسه الذي فرض علم المنكر بعدمه ، وثانيهما الحلف على نفي العلم بوجود ما يرجع الى فعل غيره من الأسباب.

لأنا نقول : اما إلزام المدعي بالتفصيل فلا وجه له بعد عدم الدليل عليه وكون دعوى أصل التنمية دعوى صحيحة. وأما الجمع بين الحلفين ، ففيه : ان الحلف على نفي فعل الغير مشروط بادعائه المدعي بشرط الفرض للعلم أيضا ، وأصل الدعوى هنا غير معلوم فضلا عن الشرط المزبور. مع إمكان أن يقال : ان الحلف على عدم التنمية ينحل الى الحلف البتي على عدم الأسباب التي يعلم بانتفائها وعلى نفي العلم بالأسباب التي يحتمل وجودها.

هذا ان علمنا بأن السبب المنفي بالأصل يرجع الى غير فعل نفسه ، وان علمنا انه يرجع الى فعل نفسه ، فهاهنا نلتزم بأنه ليس مقام الحلف البتي وأنه لو حلف أيضا مع علمنا بالحال لا ينفع بل يرد اليمين الى المدعي بناء على ما سمعت في مسألة « لا أدري » على الخلاف المذكور سابقا.

ص: 299

وان جهل الحال من هذه الجهة بعد العلم الإجمالي باستناد المنكر في بعض الأسباب المردد بين فعله وفعل غيره بالاستصحاب فنقول أيضا : وظيفته الحلف القطعي لما ذكرنا من الجري على مقتضى ظاهر الاخبار من العلم بانتفاء جميع الأسباب التي منها فعل نفسه مع عدم معلومية الصارف ، وهذا مثل ما قد يقال في اللفظ الواقع في مقابل ظاهر لفظ آخر المردد بين احتمال يكون على تقديره صارفا لفظ الآخر وبين احتمال لا يكون صارفا ولا مستتبعا بحكم من عدم صلاحيته للصرف حينئذ.

ومثله الكلام فيما نحن فيه ، فان معلومية استناد المنكر في نفي بعض الأسباب مع دورانه بين أن يرجع الى فعل نفسه فيمنع عن الحلف أو يرجع الى فعل غيره ويكون فعل نفسه معلوم العدم ، فلا يؤثر في شي ء لا يمنع عن العدول عما يقتضيه ظاهر الاخبار ، وهو عدم الاستناد في نفي فعل نفسه الى الاستصحاب.

[ وجوب إحراز مطابقة الجواب والحلف للدعوى ]

ثمَّ ان تمَّ ما ادعيناه من حجية ظاهر الاخبار في عدم استناد المنكر الى فعل نفسه الى الاستصحاب فهو والا ففي المسألة إشكال ، لوجوب إحراز مطابقة الجواب والحلف للدعوى ، ومع الشك في جزمه بما يتعلق بفعل نفسه كيف لا يحرز كون حلفه مطابقا لها.

والحاصل انه لا بد من إحراز كون الجواب والحلف جوابا وحلفا على كل تقدير ، ومن التقادير والاحتمالات كون الدعوى متعلقة بفعل المنكر وكون الإنكار الجزمي ناظرا إلى أسباب ترجع الى فعل غيره لا الى فعل نفسه ، فلا يمكن إحراز المطابقة حتى بالحلف البتي.

وأيضا كيف يلزمه الحاكم بالحلف البتي مع أن البت على نفي فعل الغير

ص: 300

ليس بلازم شرعا. ولا ريب ان الحلف بناء على نفي التنمية حلف على نفي فعل الغير ، لأن النتائج بنفسها ليست من الافعال بل مسببة منها ، وسلب المحتمل يمكن أن يكون من أفعال الغير ، فإذا ألزمه الحاكم بنفي التنمية بتا فقد ألزمه على الحلف البتي فيما يرجع الى فعل الغير.

توضيح ذلك : ان تعذر العلم بنفي فعل الغير غالبا أوجب قياما لحلف على نفي العلم مقام الحلف البتي ، ولا فرق في التعذر المذكور بين أن يكون متعلق الحلف فعلا معينا من أفعال الغير وبين أن يكون غير معين ، داخلا تحت أمور يحتمل كون بعضها من أفعال الغير ، فاذا كان الحلف على نفي فعل المعين بتا مرفوعا عن المنكر لم يتعقل مطالبة الحلف على نفي شي ء يحتمل أن يكون سببه فعل الغير ، بل هذا أولى بالرفع كما لا يخفى. ومقتضى ذلك عدم إلزامه بالحلف البتي إذا كانت الدعوى في النتائج.

ويمكن دفع الإشكال الأول بظاهر الاخبار كما مر ، والاشكال الثاني بأن التعذر حكمه في رفع الحلف البتي على نفي فعل الغير لا علة ، فيقتصر في الخروج عن قضية الأصل الذي قررنا - وهو كون اليمين على نحو البت - على مورد الحكمة ، وهو ما إذا أحرزنا كون متعلق الدعوى فعل الغير ، ودعوى التنمية ليست دعوى متعلقة بفعل الغير وان كانت متعلقة بفعله بحسب الاحتمال العقلي.

والحاصل ان الخارج عن تحت الأصل إذا كانت هي الدعوى المتعلقة بعنوان فعل الغير لم ينطبق على دعوى أمور يحتمل أن يكون سببها فعل غير معين من الغير ، فيرجع فيه الى الأصل.

وان تمَّ ما ذكر في رفع الإشكال الأول من إحراز كونه جازما في فعل النفس بمقتضى ظاهر الاخبار ، وتمَّ أيضا ما ذكرنا في رفع الإشكال الثاني من الرجوع

ص: 301

الى الأصل فيما هو خارج عن عنوان المخصص. فهو والا كما هو الظاهر في الثاني بناء على كونه تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية ، أمكن أن يقال : ان المدعي حينئذ يطالب بذكر السبب ، فان ذكر سببا يرجع الى فعل نفس المنكر استفصل المنكر ثانيا في تعين ذلك السبب المعلوم بالإجمال انه مجرى الأصل ، فإن قال انه فعل نفسه كلف بالرد ، لان اليمين في فعل النفس لا بد أن يكون مع الجزم ، وان قال انه فعل غيره كلف باليمين الجزمية ، وان قال المدعي لا أعلم السبب استفصل المنكر أيضا ، فإن قال ان السبب المتكل في نفيه على الأصل فعل غيره لا فعل نفسه كان الحكم كالصورة التي ذكرنا حكمها ، وهي ما لو علمنا أنه جازم في نفي فعل نفسه ، وان قال انه فعل نفسه كلف بالرد أيضا أو يكلف المدعي بالبينة لاحتمال كون مستنده فعل غيره.

[ الآراء في يمين نفي العلم ]

هذه هي الحال في دعوى النتائج ، وأما أصل المسألة فالأقوال فيها أربعة :

« أحدها » - ما ذهب اليه بعض العامة من إنكار يمين نفي العلم رأسا وانحصاره في الحلف على نفي الواقع جزما ، سواء كان في فعل النفس أو فعل الغير. غاية الأمر المنكر إذا كان جاهلا بالحال فهو في مقام تعذر الحلف ووجوب الرد الى المدعي ، فيحكم بعد رده أو رد الحاكم أو يقضي بالنكول.

ويدل على هذا الرأي جميع أدلة اليمين ، إذ قد عرفت أن ظاهر بعضها وصريح الأخر اليمين الناظرة الى الواقع الذي هو متعلق الدعوى والبينة ، فاليمين على نفي العلم ليست من الموازين ، غاية الأمر انه إذا كان جاهلا يرد ، نحو قوله عليه السلام في جواب من سأله عن الرجل يدعى عليه الحق ولا بينة يستحلف أو يرد اليمين. وقوله عليه السلام في رواية أخرى : لو كان المدعى

ص: 302

عليه حيا لألزم اليمين أو الحق أو يرد (1). بناء على سوقه لبيان مجموع موارد القضاء لا كل واحد حتى ينزل على الصورة المقابلة لليمين والرد معا كصورة العلم. وقد استوفينا الكلام في توضيحه في مسألة « لا أدري » والجواب بالسكوت.

« وثانيها » - ما يقابله من إنكار اليمين الجزمية رأسا وانحصارها في نفي العلم مطلقا ، سواء كان في فعل النفس أو فعل الغير. ويشهد له ما أسلفنا قبل الالتقاط السابق من بناء العقلاء على انحصار فصل الخصومة في وجود البينة للمدعي وعدمها للمدعي عليه من غير حاجة الى اليمين أصلا ، لأن العمل بهذا البناء وان كان يقتضي استراحة المنكر من الحلف رأسا لكن لما كان يحتمل أن يكون كاذبا في دعواه العلم بالعدم وعالما بثبوت الحق استحلف حتى يتشخص عدم كونه عالما بالحق ، وإلا فاليمين على نفي العلم لا مساس لها بالدعوى المتعلقة بالواقع ، فلا وجه لكونها ميزانا في فعلها وطيها.

والحاصل ان الاكتفاء باليمين على نفي العلم مطلقا حتى في فعل النفس لا وجه له سوى القول بأن عدم علم المدعى عليه بالحق مع عدم القامة المدعي حجة شرعية يكفي في الحكم بعدم الحق ، وهو موافق للأصل ، لأن الجاهل مع عدم قيام الحجة يجري على العدم حتى يجي ء ما يصرفه عن تكليف نفسه ، وانما يستحلفه على عدم العلم لإحراز جهله وتبعيد اخباره بالعدم المستلزم لجهله عن الكذب.

وعلى هذا يتجه الاكتفاء في مسألة « لا أدري » باليمين على نفي العلم كما سمعته من بعض مشايخنا ، بل لعله مبني على هذا القول ، ولا يتم على سائر الأقوال في المسألة كما لا يخفى.

ومما يتفرع على القول المزبور : ان المدعي لو اعترف بجهل المدعى

ص: 303


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

عليه سقط اليمين رأسا وانحصر قطع الخصومة في إقامة البينة ، لأن اليمين على نفي العلم إذا كانت فائدته إحراز جهل المدعى عليه لعدم صلاحية كونها ميزانا لفصل الدعوى الناظرة الى الواقع فباعتراف المدعي بالجهل يستغنى عن استكشاف الجهل بالحلف.

ويتفرع عليه أيضا سماع قيام البينة بعد يمين المنكر ، لأنه لم يحلف على نفي الواقع حتى يذهب بحق المدعي كما في الأدلة بل على نفي العلم ، ولا منافاة بين عدم علمه وثبوت الحق بالبينة وغير ذلك من الفروعات الراجعة إلى الثمرة والفرق بين اليمين والبينة ويمين نفي العلم ، كما سيأتي الكلام فيها إنشاء اللّه تعالى.

وقد يقال : ان مقتضى هذا القول عدم جواز رد اليمين الى المدعي أيضا ، لأن يمين المدعي لا بد أن تكون لا ثبات الحق وهذا اليمين متعلقها العلم دون الواقع.

ويدفع بمنع الملازمة ، إذ اليمين المردودة لا بد أن تكون على إثبات الحق وان كانت في الأصل على نفي العلم ، ولذا لو رد الوارث اليمين الى المدعي حلف على الواقع.

« وثالثها » - ما هو المختار عند الخاصة جلا أو كلا ، وهو الذي ذكره المحقق في العبارة السابقة من التفصيل في النفي بين فعل النفس أو فعل الغير ، ففي الأول لا بد من البت يعني على نفي الواقع ، وفي الثاني يكفي على نفي العلم. ومرجعه إلى ملاحظة العسر واليسر الغالبين ، كما يصرح به كلمات جملة من الأصحاب المتعرضين لذكر العلة ، للتفصيل المذكور كصاحب المسالك وفاقا للمحكي عن الشيخ ، لان العلم بفعل النفس وجودا وعدما غالبا أمر ميسور ، بخلاف فعل الغير فان العلم بعدمه غالبا متعذر ، فاكتفي فيه بعدم العلم ، فصار

ص: 304

عدم العلم في هذا النوع بمنزلة عدم الحق واقعا ، ولذا لو اعترف المدعي بعدم العلم سقط دعواه وتتوقف على إقامة البينة.

قال الشهيد «رحمه اللّه» في القواعد : لو ادعى عليه موت مورثه سمعت في موضع السماع ، فلو أنكر حلف على نفي العلم ان ادعاه عليه كما يحلف على نفي غصبه وإتلافه. ويحتمل الحلف على البت لكثرة اطلاع الوارث على ذلك.

ويحتمل الفرق بين حضوره وغيبته عند موت المدعى به ، والأصحاب على الأول - انتهى كلامه قدس سره.

ومبنى الاحتمال الأخير على ملاحظة التعذر الصنفي ، لان صنف موت الغائب غالبا يتعذر فيه العلم ، كما أن مبنى القول المشهور على ملاحظة العسر النوعي ، فإن فعل الغير نوعا مما يعسر العلم بنفيه بخلاف فعل النفس. وهنا احتمال خامس ، وهو ملاحظة نوع الافعال ، كالإتلاف في حال النوم ، فان العلم بهذا النوع متعذر.

وكيف كان فالتفصيل المشهور هو المذهب ، والدليل عليه - بعد الحكمة المشار إليها - ما يظهر من جملة من الروايات :

( منها ) تعليل عدم مطالبة البينة من المنكر بأنه لا يقدر على إقامة البينة على الجحود في رواية فضل بن شاذان المتقدمة (1) ، لأن الشهادة واليمين متساويان في كون كل منهما اخبارا جزميا بالواقع ، فتعليل عدم البينة بعدم إمكانها على النفي يدل على عدم اعتبار تعلق اليمين بنفي الواقع إذا كان متعذرا أو متعسرا ، كنفي فعل الغير.

أقول : لا يقال قضية التعليل عدم اعتبار تعلقها بالنفي الواقعي مطلقا سواء

ص: 305


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

كان في فعل النفس أو فعل الغير ، فيكون ظهور التعليل دليلا مخرجا عن ظواهر ما اقتضت اعتبار تعلقها بالواقع من الأدلة.

لأنا نقول : ان الشهادة من الإخبارات المتعلقة بفعل الغير ، فيقتصر في إلحاق اليمين بها على موردها. ويؤيده أن التعليل قد سبق لبيان العدول من مطالبة البينة من المنكر الى يمينه ، وتعليل أحد الضدين بالعلة المشتركة بينه وبين الضد الأخر قبيح ، فلو كان المناط الاخبار بمطلق النفي - حتى نفي فعل النفس - لم يصح التعليل المزبور ، للاختصاص بإقامة البينة لجريانه في اليمين على فعل النفس أيضا ، فلا بد من إرجاع التعليل الى الاخبار المتعلق بنفي فعل الغير.

الا أن يقال : ان هذا ليس بأولى من جعل يمين المدعي التي علل العدول عن البينة إليها بالتعليل المذكور يمين نفي العلم. بل هذا أولى ، لأن ظهور التعليل في العموم أقوى من اليمين في البينة الناظرة الى نفي الواقع.

وفيه تعسف لا يخفى ، لان اليمين المذكور في الرواية - خصوصا بملاحظة سائر الروايات - كالصريحة في اليمين الناظرة الى الواقع ، فكيف تعارض ظهورها ظهور التعليل في العموم مع إمكان منع ظهوره بملاحظة كون أصل الشهادة من الإخبارات الناظرة الى خصوص نفي الشي ء عن الواقع.

ومما ذكرنا يظهر الحال فيما لو قال المنكر « لا أدري » ، فإن التعليل لا يجري فيه أيضا ، فلا يقال : ان مقتضاه سقوط الحلف في حقه لتعذره في حقه ، لان تعذر الشهادة على النفي ليس أمرا دائميا بل غالبيا ، فالمدار على غلبة التعذر.

ومن الواضح انتفاء العلة فيما يتعلق بنفي فعل النفس ، فلو فرض صورة يكون الشخص غير عالم بفعله فهو لا يصير منشأ لدخول نوعه تحت عموم العلة.

فإن قلت : ان قضية التعليل سقوط الحلف على نفي فعل الغير بتا ، ولكنه لا يدل على الاكتفاء بالحلف على نفي العلم ، بل مقتضى القاعدة بعد سقوط

ص: 306

الحلف البتي تعين الرد الى المدعي بقوله عليه السلام « أو يحلف أو يرد ».

قلت : الاجتزاء بيمين نفي العلم انما يستفاد من التعليل بعد ملاحظة أنه لا بد للمنكر من الحلف ، فبمقتضى قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ».

فإن قلت : اليمين المذكورة هي اليمين على نحو البت كما مر غير مرة ، فإذا خرج مورد عن صلاحية الحلف البتي دخل تحت قوله عليه السلام « أو يرد » ودعوى تخصيص عموم البينة على المدعي ، كما ترى.

قلنا : يستكشف من التعليل المزبور أن عدم العلم بفعل الغير ينزل شرعا منزلة العدم الواقعي ، فالحلف على نفي العلم به حلف جزمي ولو ادعاء ، فلا يلزم تخصيص في العموم المزبور - فافهم.

( ومنها ) الرواية الواردة في الرهن (1) ، وفيها تصريح بأن الوارث يحلف على نفي العلم بما ادعى على المورث.

( ومنها ) رواية حفص الواردة في جواز الشهادة بمقتضى اليد (2) ، وحاصل مضمونها أن الراوي اعتقد عدم جواز الشهادة على ملكية ما في اليد بمقتضى اليد ، معللا باحتمال كونه لغيره وانما تجوز على اليد ، ورده الامام عليه السلام بأنك إذا اشتريت منه ما في يده فهل تحلف على أنه صار ملكك.

وجه الاستدلال : ان الحلف على دخول ما اشتراه من ذي اليد في ملكه مع احتمال اليد التي تلفه منها على غير الحقية يرجع الى الحلف على نفي فعل الغير ، لان احتمال كون تلك اليد غاصبة أو نحوها من الاحتمالات المخالفة للأصول لا بد منه في الحلف البتي على لازم حقية اليد - أعني الملكية - وقد

ص: 307


1- الوسائل ج 6 ب 30 من أبواب أحكام الرهن ح 1.
2- الوسائل ج ب من أبواب كيفية الحكم ح.

حكم الامام عليه السلام بجواز هذا الحلف ، فعلم أن الحلف على نفي فعل الغير مع عدم العلم أمر جائز.

فإن قلت : مقتضى الرواية جواز الاعتماد على الأصول في الحلف ، وأين هذا من الدلالة على أن المدعى عليه يحلف على نفي العلم بفعل الغير وأنه يجزيه عن الحلف البتي.

قلنا : الحلف البتي على ما يتوقف على نفي فعل الغير بالأصول حلف على نفي العلم مع وضوح الحال بأن علم أنه استند في هذا الحلف على الأصول ، إذ لا فرق بين قوله « واللّه لا علم لي بما تدعيه » وبين قوله « واللّه ليس ما تدعيه حقا » ، مع العلم بأنه اعتمد في نفي الدعوى على الاستصحاب. وهكذا حال الحلف على ما يتوقف على نفي فعل الغير.

الا أن الانصاف أن في دلالتها على المدعي نظر ، لان جواز كون الحلف البتي مستندا الى الاستصحاب لا يدل على الكفاية به مع وضوح الحال.

والحاصل : ان مدلول الرواية أنه يجوز للشخص الاعتماد في نفي فعل الغير بالاستصحاب وإبراز الحلف بصورة البت فيما بينه وبين الخصم ، والمدعى كفاية الحلف على نفي العلم بفعل الغير أو على نفيه بمقتضى الاستصحاب ، مع وضوح الحال في مقام الدعوى عن الحلف البتي الغير المستند ظاهرا الى الاستصحاب.

مضافا الى ما في الرواية من الإشكال : تارة من حيث كون الحكم في المقيس عليه من جواز الشهادة على الملك بمقتضى اليد خلاف قول الأكثر ، وأخرى من ثبوت الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، لان عدم دلالة اليد على الملك لا ينافي سببيتها لانتقال ما في اليد الى المنتقل إليه ، إذ يمكن كون اليد يد وكيل أو مأذون ، فمقتضى أصالة الصحة في اليد - وهي التصرف والشراء الواقعيين -

ص: 308

صحة الشراء وانتقال العين إلى المشتري ، فرد عدم جواز الشهادة على الملك بمقتضى اليد بجواز الحلف على الملكية بعد الشراء من المشتري يرجع الى بعض المعاني الذي علمه عند الامام عليه السلام.

[ يمين نفي العلم هل هي فاصلة للدعوى ]

ثمَّ ان يمين نفي العلم هل هي فاصلة للدعوى ، بمعنى كونها ميزانا للقضاء كاليمين على نحو البت ، أو توجب متاركة الدعوى وانقطاع السلطنة الفعلية.

وهذان الاحتمالان جاريان في يمين نفي العلم مطلقا حتى على القول بالاكتفاء في فعل النفس ، ويتفرع عليهما أنه على الثاني فالدعوى باقية ، بمعنى أن المدعي على حجته لو أقام البينة ويجوز المقاصة أيضا ولا يحرم نقض الحكم المستند إليها - الى غير ذلك مما سمعت في يمين المنكر سابقا. وأما على الأول فقد يقال انها مشاركة لليمين البتية في جميع الاحكام ، فلا تسمع البينة بعدها ولا يجوز المقاصة ولا نقض الحكم - الى غير ذلك من الأمور.

وقد يفصل على هذا التقدير بين الأحكام المزبورة ، فالبينة تسمع كبينة الغائب بالنسبة إلى اليمين الاستظهارية ، إذ الوجه في عدم سماع البينة بعد يمين المنكر كونها مكذبة لها ، وهاهنا لا تكذيب ، إذ لا منافاة بين تصديق يمين نفي العلم والعمل بالبينة القائمة على الواقع.

ودعوى أن قضية كون الشي ء ميزانا للقضاء سقوط الدعوى بعدها رأسا بحيث لا تسمع إقامة البينة بعدها ممنوعة. لأن المناط في سقوط الدعوى رأسا وسقوط اعتبار البينة تنافي مقتضى البينة لمؤدي الميزان الذي فصلت الدعوى به ، وأما مع عدم التنافي فلا ، ولذا قلنا ان البينة بعد اليمين المردودة مسموعة حتى لو قيل بأنها كالإقرار. فلو حلف المدعي بعد رد المنكر على شراء الدار

ص: 309

المتنازع فيها مثلا قضي له ، لكن لو أقام المنكر البينة على انتقالها اليه بعد الشراء سمعت بينتها.

نعم لو أقر المنكر من أول الأمر بأن الدار ملك المشتري لم تسمع بعده إقامة البينة ، ولكن اليمين المردودة التي هي بمنزلة إقراره في الإلزام لا تمنع عن سماع البينة ، لأن عدم السماع في صورة الإقرار كان لأجل تكذيبه لها بإقراره لا لأجل كون الإقرار حجة عليه وميزانا للقضاء حتى يجري حكمه في البينة المردودة.

والحاصل ان يمين نفي العلم إذا كان ميزانا للقضاء والفصل فليس كاليمين البتية من جهة عدم سماع البينة بعدها ، بل بمنزلة اليمين الاستظهارية في الدعوى على الغائب ، ومثل اليمين المردودة بالنسبة إلى اليمين التي لا تنافيها.

وأما المقاصة ففيها اشكال من حيث اختصاص أدلة حرمتها باليمين البتية ، لكونها المتبادرة من اليمين الواردة في الأدلة ، فلا تجري في يمين نفي العلم ولو كانت ميزانا ، ومن حيث قيام عدم علم المدعي عليه مقام عدم الواقع شرعا نظرا الى قبول اليمين النافية للواقع في حقه للعسر الغالبي باليمين على نفي العلم.

وأما سائر الاحكام فلا بد من النظر في أدلتها أيضا ، فيبقى من الفرق بين الاحتمالين عدم سقوط الدعوى في الثاني دون الأول وان لم يمنع عن سماع البينة بعده. فتأمل واللّه العالم.

التقاط [ دعوى علم المدعي بالمدعى عليه ]

قد عرفت أن الدعوى إذا كانت متعلقة بفعل الغير كفى في فصلها يمين المدعى عليه على نفي العلم بشرط أن يتعرض المدعي دعوى الواقع علم المدعى عليه ،

ص: 310

بأن يقول « لي على مورثك كذا وأنت عالم به » ، والكلام هنا في موضعين : أحدهما في دعوى العلم مستقلا لا في ضمن دعوى الواقع ، وهذا لا اختصاص له بفعل الغير ، فيجري فيما لو ادعى على أحد انك عالم باشتغال ذمتك بكذا مثلا. والثاني دعوى العلم في ضمن دعوى الواقع ، ومحله فعل الغير ، إذ لا تأثير لدعوى العلم فيما يتعلق بفعل النفس.

( أما الموضع الأول ) فمحصل القول فيه : ان دعوى العلم ان رجع الى دعوى الواقع بناء على كون العلم حقيقة في الاعتقاد الجازم المطابق الى دعوى الواقع وهو واضح ، والفرض للعلم يقع لاغيا في فعل النفس ومؤثرا في الإحلاف على نفي العلم في فعل الغير وان لم يرجع الى دعوى الواقع ، كما إذا كان المراد من العلم مجرد الاعتقاد ، فالظاهر عدم سماع مثل هذه الدعوى ، لان الاعتقاد لا يترتب عليه الأثر. نعم لو قيل بأن الاعتقاد في حكم الإقرار كانت دعواه مسموعة.

( وأما الموضع الثاني ) فظاهر كلمات الأصحاب أنه يشترط في إحلاف المدعى عليه دعوى المدعي بطريق الجزم علم المدعى عليه ، لكن الذي يقتضيه النظر في الأدلة والتأمل في الفتاوي أن المراد بتعرض دعوى العلم عدم اعتراف المدعي بجهل المدعى عليه لا اشتراط جزمه في الدعوى ، فما لم يعترف بجهله حلف المدعى عليه يمين نفي العلم ، سواء علم بعلمه أو ادعاه أولم يعلم وسكت.

والسر في ذلك : ان الشارع أقام يمين المدعى عليه هنا مقام الحلف على نفي الواقع ، فلا بد للمدعي عليه من الحلف اما على نفي الواقع أو نفي العلم أو الرد ، سواء ادعى المدعي علم المدعى عليه أو لم يدع بل اقتصر على مطالبة اليمين.

ودعوى أن دعوى العلم إذا كان مع الاحتمال دون الجزم كانت الدعوى غير مجزومة فلا تسمع. مدفوعة بأن دعوى أصل المال لما كانت جزئية كفت

ص: 311

في سماعها ، وعدم علمه بعلم المدعى عليه لا يجعل أصل الدعوى ظنية أو شكية.

نعم يرد هذا على من زعم بطلان تقسيم اليمين الى القسمين وانها منحصرة في البتية ، بناء على إرجاع يمين نفي العلم بفعل الغير الى دعوى العلم لا الى دعوى الواقع كما نقلناه آنفا ، إذ لا بد له من الالتزام بسماع الدعوى الغير المجزومة هنا ، واستثناؤه عما ذكروه من اشتراط الجزم في الدعوى أو من القول بسقوط الدعوى حينئذ واشتراطها بدعوى العلم جزما.

وبعبارة أخرى : ان يمين الوارث على نفي العلم ان جعلناها فاصلة لدعوى الواقع وقلنا بصحة التقسيم ، لم يرد على القول بعدم اشتراط الجزم في دعوى العلم شي ء ، وأما لو جعلناها فاصلة لدعوى العلم وقلنا ان اشتراط الأصحاب دعوى العلم على الوارث لأجل سقوط دعوى المال رأسا وعدم توجهها الى الوارث وانما المتوجه إليه هي دعوى العلم. يرد عليه أحد أمرين : اما عدم سماع الدعوى في صورة شك المدعي في علم الوارث ، أو القول باستثناء هذه الدعوى عن حكم سائر الدعاوي في شرط الجزم ، وهو كما ترى مما لا يلتزم به أحد.

ودعوى إمكان الالتزام بالأول - أعني عدم سماع الدعوى في الصورة المزبورة لظهور كلام الأصحاب في اشتراط الجزم في دعوى العلم - يدفعها ما يأتي من عدم الظهور أو قيام القرينة على خلافه.

[ الدليل على عدم الجزم في دعوى العلم ]

ثمَّ الدليل على ما ادعينا من عدم اعتبار الجزم في دعوى العلم بل عدم اعتبار دعوى العلم رأسا بل للمدعي إحلاف المدعى عليه من دون دعوى العلم إذا لم يعترف بعدم علمه إطلاق الأدلة الماضية الناطقة بانحصار أمر المدعى عليه وخلاصه

ص: 312

من تبعة الدعوى بأحد أمور أما أداء الحق أو اليمين أو الرد ، فنقول :

إذا لم يعترف المدعي بعدم علم الوارث مثلا وقال « لا أدري أنت عالم أم لا » فهذه الصورة اما داخلة في الإطلاقات والعمومات أو خارجة ، والثاني لا سبيل اليه. ودعوى مساواة هذه الصورة لصورة الاعتراف بجهله ، مدفوعة بأن صورة الاعتراف لا يتصور فيه الحلف ، ضرورة مساعدته المدعي له في عدم الحلف ، فكيف يستحلفه عليه ، والاستحلاف على نفي الواقع أيضا لا سبيل له ، لكون الدعوى متعلقة بفعل الغير ، فعلى الأول ثبت المدعى وهو الإحلاف أو الرد.

فان قلت : ظاهر ما دل على انحصار أمر المدعى عليه في الثلاثة هو الانحصار فيما إذا كان وظيفة المدعى عليه اليمين البتية ، فلا يجري فيما إذا كانت وظيفته اليمين على نفي العلم.

قلنا : بعد ما عرفت أن اليمين على نفي العلم بمنزلة اليمين البتية في فعل الغير ، جرى فيه حكم اليمين البتية حرفا بحرف - فافهم.

هذه حال الأدلة ، وأما كلمات الأصحاب فظاهرها اشتراط دعوى العلم وان كان هو سقوط الدعوى مع عدم التعرض لدعوى العلم ، لكنا ننزلها على ما قلنا من الاحتراز عن صورة الجعل بقرينة عموم الأدلة المشار إليها مع العلم أو الظن بعدم

عثورهم على دليل مخرج غير ما دل على الإقناع من الوارث ونحوه بالحلف على نفي العلم ، فإنه قاصر عن افادة ما صرحوا به من اشتراط دعوى العلم الا بالمعنى الذي قررنا به.

والحاصل ان ظواهر الأدلة كما قد يصار عنها بظواهر كلمات الأصحاب كذلك قد يصار بها عن ظواهر الكلمات إذا لم يطمئن منها ما يوجب الخروج عن ظواهر الأدلة ، ونحن لما نظرنا الى عدم ثبوت الدليل المخرج في أيديهم

ص: 313

أيضا وعلمنا انهم لم يشترطوا دعوى العلم لا جل دليل تعبدي مخفي علينا ، علمنا أن مقصودهم من اشتراط العلم مقدار ما يساعد عليه القواعد العامة ، وهو إخراج صورة الاعتراف ، فان عدم سماع الدعوى حينئذ موافق للقواعد.

هذا مضافا الى ما ستقف من بعض القرائن في كلامهم على ما ذكرنا ، حيث يفرعون على اشتراط دعوى العلم أنه لو ساعده المدعي على عدم العلم لم يسمع دعواه ، فان المقصود لو كان اشتراط دعوى العلم كان دائرة التفريع أو سمع فيشمل ما لو لم يساعده على عدم العلم بل قال « لا أدري أنت عالم أم لا » - فافهم وانتظر تمام الكلام فيما بعد. واللّه العالم.

التقاط [ دعاوي لا يعلم فيها كيفية الحلف ]

يشكل الحال في فروع من حيث كون الحلف فيها على البت أو على نفي العلم : منها دعوى إتلاف البهيمة زرعا أو غيره ، ومنها دعوى جناية العبد - الى غير ذلك من الفروع المذكورة في كتب الأصحاب.

[ دعوى إتلاف البهيمة شيئا ]

( والأظهر في المسألة الأولى ) الإلحاق بفعل النفس ، بل هو هو. توضيح ذلك : ان إتلاف البهيمة تارة يكون عن تقصير المالك في الحفظ وأخرى لا عن تقصير ، والدعوى في الصورة الأخيرة غير مسموعة ، فلا بد من فرض الكلام في صورة التقصير ، بأن ادعى عليه التقصير وأنكره.

وهذا لا إشكال أيضا في كون الدعوى متعلقة بفعل النفس ، ومحل الاشكال

ص: 314

ما إذا كان أصل التقصير الذي هو سبب شرعي للضمان مسلما وكان الاختلاف في الإتلاف.

وجه الاشكال : ان الإتلاف فعل الغير المدعى عليه جدا ، وكون البهيمة لازمة لها لا يوجب صد فعل النفس عليه ، فيلزم الحلف على نفي العلم لكونه فعل الغير ، أو للمناط الذي أشير إليه من التعذر الغالبي ، فإن التعذر الغالبي إذا كان الموجب لسقوط الحلف البتي في نفي فعل الغير الذي يصدر من المكلف الذي له ذمة ، لزم أن يكون كذلك في مطلق فعل الغير ، بل في غير الفعل أيضا من الأمور الخارجية التي تؤثر في الضمان كالريح.

والجواب : ان إتلاف البهيمة من حيث كونه إتلافا صادرا من البهيمة لا تسمع دعواه ، وانما تسمع دعواه من حيث كونه دخيلا في اتصاف فعل الشخص بكونه سببا للضمان ، ولا يلزم في تعلق الدعوى بفعل النفس عدم مدخلية أمر خارج عن فعل النفس فيه ، والألم يسمع دعوى البيع أيضا ، لأن البيع الصحيح - أي نفس الإيجاب الصحيح - يناط تأثيره بأمور كثيرة لا ترجع الى فعل البائع ، ككون المبيع مملوكا أو مأذونا أو مرئيا أو نحوها من الأوصاف التي لو فرض تجرد البيع عنها لم تسمع دعواه مجردا عنها.

والحاصل ان المدعى به إذا كان أمرا يرجع الى فعل النفس ذاتا أو صفة أو ملفقا كان من موارد دعوى فعل النفس ، ولا يلزم من كونه من هذه الموارد رجوعه الى فعل النفس بكله وتمامه.

فان قلت : قضية رواية العلل إلحاق المقام ونحوه بفعل الغير وإن كان يصدق عليه انه يرجع الى فعل النفس في الجملة ، لأن عموم التعليل المشتمل عليه الرواية يقتضي سقوط الإحلاف البتي ، حيث يرجع الى نفي أمر يرجع الى

ص: 315

غير المدعى عليه ، فقد لا يتعذر العلم بالنفي مع تعين الحلف على نفي العلم وقد يتعذر مع وجوب البتي وقد يجتمعان.

والحاصل ان القدر المتيقن فيما خرج عن تحت أصالة كون الحلف على نحو البت ليس الا ما كان فعل الغير المدعى به سببا لاشتغال ذمة المدعى عليه أو لثبوت حق عليه أو نحو ذلك. وأما مطلق فعل الغير حتى مثل الأمور التي توجب اتصاف فعل النفس بالسببية فلا ، إذ ليس في أدلة الباب إطلاق أو عموم ، بل استنقدنا سقوط الحلف البتي عن مثل الوارث عن مجموع ما في الباب من الاخبار وكلمات الأخيار ، وليس فيها إطلاق يقضي بالبت في كل ما هو خارج عن فعل النفس ، ولذا لو كان المدعى به أمرا غير راجع الى فعل فاعل كان الحلف على البت أيضا مثل دعوى وجود التركة للميت أو دعوى موت المورث أو دعوى هبوب الريح فيما يترتب عليه ضمان على المدعى عليه أو غير ذلك.

والحاصل ان المدار في يمين نفي العلم كون المدعى فعلا صادرا من الغير من غير أن يؤثر وجوده في فعل النفس ، فلو لم يكن كذلك فالحلف على البت سواء لم يكن فعلا أصلا أو فعلا مؤثرا في فعل النفس. والوجه ما أشرنا إليه من الاقتصار فيما خالف الأصل على العذر.

ومن هنا يعلم أنه لو كانت الشبهة من جهة الشك في كونه فعل الغير أو فعل النفس فاليمين أيضا على البت.

[ دعوى جناية العبد ]

( وأما المسألة الثانية ) فالأظهر أن الدعوى متعلقة فيها بفعل الغير - أعني العبد - لان فعل العبد سبب للإتلاف مستقل من غير أن يرجع الى فعل سيده ذاتا أو صفة ، وعدم ثبوت الذمة للعبد أو ثبوتها لا مدخلية له في كون الإتلاف

ص: 316

صادرا من العبد ، غاية الأمر أنه على تقدير عدم ثبوت ذمته تكون جناية خسارة على سيده.

وهذا لا بد منه في كل مقام يكون الدعوى متعلقة بفعل الغير ، إذ لو لا تأثير فعل الغير في ثبوت حق على المدعى عليه لم تتوجه الدعوى ، ولذا يشترط في سماع الدعوى على الميت أمور لو لا أحدها لم يتعلق حق على الوارث ، ففعل العبد مثل فعل المورث من حيث كون كل منهما فعل الغير ومؤثرا في ثبوت حق على المدعى عليه ، غاية الأمر انه على تقدير ثبوت الذمة للعبد عدم توجه الدعوى على السيد في فعل العبد كعدم توجهها في الدعوى على الميت مع عدم اجتماع شروط اشتغال ذمة الوارث أو ثبوت حق عليه. واللّه العالم.

التقاط [ تتوجه اليمين على الوارث في صور ادعاء العلم ]

قال في الشرائع : لا تتوجه اليمين على الوارث ما لم يدع عليه العلم بموت المورث والعلم بالحق وانه ترك في يده مالا ، ولو ساعد المدعي على عدم أحد هذه الأمور لم تتوجه.

ومثله قال في القواعد ، قال : ولا تتوجه اليمين على الوراث ما لم يدع علمه بموت مورثه وبحقه وأنه ترك مالا في يده ، فلو سلم المدعي جهل الوارث بأحدها لم يتوجه عليه حق.

وظاهر العبارتين كالمسالك أن المدعي على تقدير الاعتراف بجهله بالحق أو الموت سقط الدعوى رأسا ، بمعنى أن الدعوى حينئذ من الدعاوي التي لا تستحق الجواب.

وفيه اشكال من حيث أن الدعوى حينئذ مسموعة بالبينة بالاتفاق ظاهرا ،

ص: 317

فلا بد من تنزيل كلامهم على عدم سماع الدعوى مجردة عن البينة ، فيكون المراد من عدم توجه الدعوى كما في المسالك أو عدم توجه الحق كما في القواعد عدم توجهها ، أي عدم ترتب شي ء عليها بمجردها مع عدم البينة.

ولا ضير في ذلك ، لان أمثال هذه المسامحة غير عزيزة في كلماتهم. ألا ترى أن المحقق جعل من شرائط توجه اليمين دعوى أصل التركة في يد الوارث لا دعوى علمها ، بناء على عطف قوله « وانه ترك » على « العلم » لا « الموت » ، كما هو الظاهر ، خصوصا بعد ملاحظة ما يصرح به بعد ذلك من كون حلف الوارث على نفي التركة لا بد أن يكون بطريق القطع والبت ، مع أن دعوى التركة من شرائط أصل الدعوى على الوارث لا توجه اليمين ، إذ لو لم يدعها وقعت الدعوى لغوا محضا.

ومثله عبارة القواعد في المسامحة ، حيث صرح بأن المدعي لو سلم جهل الوارث بأحد الأمور المزبورة لم تتوجه الحق ، مع أن من جملة الأمور المزبورة دعوى أنه ترك مالا ، فإن أراد من الحق اليمين لم يحسن جعله دعوى التركة أو دعوى العلم بها من شرائط التوجه ، لان دعوى أصل التركة من شرائط أصل الدعوى لا من شرائط توجه اليمين. الا أن يقال : شرط سماع الدعوى شرط لتوجه اليمين أيضا ، ودعوى العلم بها ليست شرطا لسماع الدعوى ولا لتوجه اليمين ، إذ لو اعترف المدعي بجهل الوارث بالتركة وأثبتها بالبينة ثمَّ ادعى عليه العلم بالحق توجه اليمين أيضا.

وتبعهم في المسامحة أيضا الشهيد « رحمه اللّه » في محكي الدروس حيث ذكر في شرائط توجه اليمين الى الوارث دعوى المدعي موت المورث ووجود التركة ، وكذا ذكر في شرط سماع الدعوى دعوى المدعي علم الوارث.

ص: 318

والحاصل ان أمثال هذه المسامحات في كلامهم كثيرة ، فلا بد من محافظة النظر عن الجمود على ظاهرها بعد الظفر بما هو المراد الواقعي.

[ المراد من دعوى علم الوارث ]

وكيف كان فقد ذكرنا قبل الالتقاط السابق ان ظاهر هذه العبارات وان كان شرطية دعوى العلم ، فلا يتوجه اليمين مع عدم الدعوى كما صرح به بعض مشايخنا «رحمه اللّه» ، الا أن مقتضى التأمل الصادق سقوط هذا الشرط بالمعنى المزبور وكون المراد الاحتراز عن صورة اعتراف المدعي بجهل الوارث ، وذكرنا أيضا بعض الأدلة عليه ونزيد هنا ونقول :

ان قضية الأدلة العامة أن كل مدعى عليه عليه اليمين أو الرد ، مثل قوله « يستخلفه أو يرد » (1) ومثل قوله « البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه » (2) ، فالوارث لا بد له من الحلف أو الرد مطلقا ادعى عليه العلم أم لا ، خرج صورة اعتراف المدعي بجهله لعدم فائدة للحلف هنا ، لان حكمة تشريع الحلف كونه تشفيا للمحلوف له وأمارة لغيره ، وبعد مساعدة المدعي بجهل المدعى عليه لم يترتب عليه التشفي كما لا يخفى. وكذا لا يعقل كون الحلف على نفى العلم أمارة إلى الواقع.

وقد يوجه عدم الحلف في صورة الاعتراف بأن الحلف انما هو لدعوى العلم ، فحيث لا دعوى فلا حلف ، وهذا مبني على كون يمين نفي العلم مشروعة لأجل فصل دعوى العلم لا دعوى الواقع ، وقد ذكرنا مرارا فساده.

وأما الأدلة الخاصة فهي أيضا مطلقة ، إذ ليس فيما استدللنا به على شرعية

ص: 319


1- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 1 - 6.

يمين نفي العلم في فعل الغير مثل رواية العلل المعللة ومثل رواية الرهن ومثل رواية حفص الواردة في اليد تقييد بصورة دعوى العلم الا من يمنع إطلاقها ويدعي ورودها في غير المقام (1).

نعم يمكن الاستدلال برواية البصري الواردة في الرجل يدعى قبل الرجل الحق فلا يكون له البينة بماله. قال : فيمين المدعى عليه ، فان حلف فلا حق له وان لم يحلف فعليه ، وان كان المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين باللّه الذي لا إله الا هو لقد مات فلان وان حقه لعليه ، فإن حلف فلا حق له. الى أن قال : فان ادعى ولا بينة فلا حق له - الحديث (2).

وجه الدلالة من وجهين :

أحدهما - أنه قد اجتمع فيه كيفية تحرير الدعوى على الحي وكيفية تحرير الدعوى على الميت مع اتحاد الكيفيتين فلو ، كان الدعوى على الميت لها كيفية مغايرة كما على تقدير اشتراط دعوى العلم كان الواجب التنبيه عليها.

لا يقال : ما نحن فيه هي الدعوى بلا بينة ومورد الرواية الدعوى مع البينة ، ولا نقول ان دعوى العلم شرط في الثاني أيضا بل فيما لم يكن للمدعي بينة ، فان لم يتعرض للعلم حينئذ لم تسمع دعواه سواء كان شاكا أو معترفا بعدم العلم.

لأنا نقول : قيام البينة وعدمه انما هو بعد تحرير الدعوى ، ويظهر من الرواية ان كيفية تحرير الدعوى على الميت ليست كيفية مغايرة لكيفية تحريرها على الحي - فافهم.

والثاني - ان قوله « فلا حق له » بظاهره مخالف للإجماع ، إذا لو ادعى المدعي علم الوارث واستحلفه ونكل عن الحلف أورده وحلف المدعي أثبت

ص: 320


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم.
2- الوسائل ج 18 ب 4 من أبواب كيفية الحكم.

عليه الحق ، فلا بد من تقييد إطلاقه بما دل على ثبوت الحق بعد نكول الوارث عن الحلف وإطلاق أدلة التقييد ، وهي التي تدل على عدم خلاص المنكر الا بالحلف مع عدم البينة الواقعية يقضي بثبوت الحق بالنكول عن الحلف مطلقا ، سواء كان مع دعوى العلم أولا ، ولا ريب ان إطلاق المقيد حاكم على إطلاق المطلق ، فلا يقال : ان قوله « لاحق » عام أو مطلق خرج عن تحته صورة نكول الوارث عن الحلف مع دعوى العلم ، وأما مع عدم دعواه فلا دليل على خروجها عنها ، بل قضية إطلاقه البناء على عدم ثبوت الحق ، وهو معنى اعتبار دعوى العلم.

ثمَّ الظاهر أن يمين نفي العلم بفعل الغير رخصة لا عزيمة ، فيجوز له الحلف البتي إذا كان عالما بالواقع ويجزيه ، وهل يجزيه الحلف على النفي الظاهري ، بأن يحلف على نفي فعل الغير بمقتضى الاستصحاب مثلا أم لا بد من الحلف على نفي الواقع جزما أو على نفي العلم وجهان ، من أن الحلف على عدم العلم بشي ء والحلف على عدمه الواقعي اتكالا على عدم العلم به ، مرجعهما واحد ، ومن الاقتصار في الخروج عن أصالة كون الحلف على نحو البت على القدر المتيقن ، وهو الحلف على نفي العلم ، واللّه العالم.

التقاط [ الغريم مولى العبد عند الادعاء عليه ]

قال في الشرائع : إذا ادعي على العبد فالغريم مولاه ، ويستوي في ذلك دعوى المال والجناية ، والمراد بالغريم من يؤخذ بالحق ويطالب منه ، يعني ان المدعى عليه هو العبد فيعامل معه ما يعامل مع المدعى عليه الحر من حيث

ص: 321

السؤال والجواب والإقرار والإنكار والحلف والرد الى غير ذلك من وظائف الدعوى ولكن الغريم مولاه.

فان ثبت على العبد شي ء بمقتضى ميزان القضاء ، فان كان أثره يرجع الى العبد فيما بعد العتق كالإتلاف فالمالية ونحوها فلا شي ء على المولى ، وان كان أثره مما يرجع الى العبد عاجلا - على معنى أنه لو كان حرا كان عليه شي ء من الحقوق - فهذا يطالب به المولى ، بمعنى أن المولى حينئذ يقع طرفا للمنازعة والمخاصمة من حيث دفع الحق ، فإن كان ذلك الميزان الذي فصل به الدعوى على العبد حجة شرعية مثل البينة فعلى المولى دفع الحق ، والا فلا بد للمدعي من اقامة الحجة عليه وطرح النزاع معه.

وليس المراد أنه إذا ألزم العبد بكل ميزان شرعي لزم المولى الحق ، بل المراد أنه لا شي ء على العبد عاجلا ، وانما الحق الذي ادعى على العبد من المال أو الجناية على المولى ، وأما ان ذلك الحق يلزم المولى فعلا أو شأنا فهو موكول إلى مساعدة القواعد.

ومما ذكرنا في معنى العبارة يسقط جل ما في المسالك من الاشكال على العبارة أو كله.

التقاط [ عدم سماع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة ]

لا اشكال ولا خلاف في عدم سماع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة ، لأنه كلما يتوجه الدعوى على الحلف وعكسه النقيض كلما لا يتوجه الحلف لا يتوجه الدعوى ، ولم يتقرر الحلف طريقا شرعيا الى ثبوت الحد إجماعا ، مضافا الى النص والاعتبار الجلي المستنبط من الاخبار.

ص: 322

ولان حلف المنكر هنا لا طائل تحته ، لأن فائدة الحلف كما أشرنا إليه هو التشفي للمحلوف له وهو المدعى مثلا ، والمحلوف له هنا هو اللّه تعالى.

هذا في حق اللّه المحض ، وأما مورد تعلق الحقين فان كان حق الآدمي حق مالي كالسرقة فيعمل في كل حق بمقتضاه ، وان كان حقا غير مالي كالقذف ففي سماع الدعوى بلا بينة وجهان أو قولان ، وإطلاق أدلة القضاء يقتضي السماع. واللّه العالم.

التقاط [ مواضع تسمع الدعوى فيها مجردة عن البينة ]

قد عرفت عدم سماع الدعوى مجردة عن البينة في غير حق اللّه وعدم خلاص المدعي الا بالبينة وعدم خلاص المنكر الا باليمين.

فاعلم أن موارد خرجت عن تحت القواعد الثلاث فقد تسمع مجردة عن البينة ، اما مع اليمين أو بدونها أيضا ، وقد يتخلص المنكر بلا يمين أيضا.

وهذه الموارد كثيرة قد ثبت الحكم في كل واحد واحد منها بالدليل من إجماع ونحوه ، واحصاؤها خارج عن حيز استطاعة القلم في باب واحد ، ولا ضابط أيضا لتلك الموارد غير أن ما سقط فيه مطالبة البينة عن المدعي بعضها مستند الى وجود المانع عن تكليف المدعي بالبينة كتضييع الحقوق وبعضها مستند الى وهن في الأصل الذي في جانب المنكر وقوة في جانب المدعي وبعضها مستند إلى الأمرين :

( فمن الأول ) يمكن أن يكون مدعي البلوغ بالإنبات ، فان اقامة البينة عليه غالبا متعذر أو متعسر ، فيلزم من إيقاف سماع دعواه عليها ضياع الحقوق غالبا.

ودعوى الودعي التلف ، لان تكليف الامناء بالبينة في دعوى التلف ينجر

ص: 323

الى فتور رغبة الناس عن قبول الودائع ، فهو المانع من العمل بمقتضى الأصل الذي عليه بناء العقلاء من مطالبة الحجة من المدعي.

( ومن الثاني ) دعوى الدخول مع الخلوة والتيام الأخلاق وانتفاء الموانع ، فإن أصالة عدم الدخول التي صارت سببا لصدق المدعي على مدعيه موهونة بمعارضة الظاهر المستند إلى العادة ، فأشبه المنكر في قوة وسقط عنه كلفة البينة.

ومن الأخير تقديم قول مدعي الدم في اللوث بيمينه ، لأن القوة في جانب المدعي ، لمكان الامارة على صدقه مع كونه على وفق المصلحة ، حيث أن مطالبة البينة في دعوى الدم من المدعي مظنة ضياع الدم.

بل صرح بهذه المصلحة في حديث « ان اللّه حكم في دمائكم بخلاف ما حكم في أموالكم » (1) ، لأن الإمام عليه السلام قد علل فيه عدم الاكتفاء باليمين من المنكر بأنه يوجب ضياع الدماء ، لكن المصالح الموجودة في تلك الموارد ليست علة مطردة حتى ينفعنا في الفروع المشتبهة ، بل انما هو على وجه الحكمة التي لا تتعدى عن موردها ، فلا بد في سقوطه إقامة البينة من المدعي من قيام دليل مخصوص لعموم نحو « البينة على المدعي » ، فان ثبت عمل به من حيث سقوط البينة.

وأما العدول عنها الى اليمين فلا بد أيضا من قيام دليل آخر ، إذ المدعي بعد ما عرفنا سقوط وظيفته الشرعية - أعني البينة - فلا دليل على قيام اليمين التي هي وظيفة المنكر مقامه ، بل لا بد من تصديقه بلا يمين ، وهو مخالف للأصل من جهتين : إحداهما من جهة طرح ذلك الأصل الذي يدعي خلافه ، والثاني من حيث كونه خروجا عن قاعدة انحصار القضاء بالبينة أو الإيمان.

ص: 324


1- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 3.
[ الاستدلال بقيام اليمين مقام البينة ]

هذا ، ويمكن الاستدلال بعد قيام الدليل على سقوط البينة عن المدعي على قيام اليمين مقامه ، وذلك لان مقتضى عموم نحو قوله عليه السلام « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » أن لا يكون قضاء إلا بأحدهما ، ومقتضى قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » أن تكون البينة وظيفة للمدعي مطلقا ، فاذا ثبت في مورد سقوط البينة عن المدعي فمقتضى عموم قوله عليه السلام « انما » استعمال الميزان الأخر ، وهي اليمين ، لأن إطلاق المطلق لا يهمل عند انتفاء المقيد.

مثلا إذا ثبت « أعتق رقبة » ثمَّ ورد « أعتق رقبة مؤمنة » ، فإن ثبت التكليف بالمؤمنة على حالة لم يكتف منه بعتق الكافرة ، أما إذا انتفى التكليف بالمؤمنة - كما إذا لم يتمكن المكلف بعتق المؤمنة على عتقها - أورد تخصيص على دليل وجوب عتق المؤمنة ، مثل أن يكون المأمور بعتقها نوع من الرجال كالتجار ، ثمَّ ورد تخصيص آخر دل على عدم وجوب عتقها على بعض المأمورين كان المتبع حينئذ إطلاق الأمر بالعتق ووجب عتق الكافرة حينئذ على ذلك البعض.

وما نحن فيه كذلك ، لان مقتضى ما دل على لا بدية أحد الميزانين في كل قضاء الاكتفاء بأحدهما في كل قضاء ، لكن الحديث المفصل - أعني قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » قضى بأن القضاء إذا كان للمدعي فلا بد أن يكون ميزانه البينة ، ومقتضى عموم مطالبة البينة من كل مدعى يقضى له ، فاذا ثبت في بعض المدعى أنه يقضى له بلا بينة لعسر أو حرج أو شي ء آخر ، رجعنا حينئذ إلى إطلاق الأدلة الاولى القاضية بلا بدية أحد الميزانين في القضاء ، فيتعين تصديق قوله حينئذ بيمينه.

ص: 325

وهذا هو السر في أن الفقهاء إذا اقتضى قواعدهم مطالبة البينة من المدعى مثلا فيقولون ان القول قوله بيمينه لا مطلقا.

ويرشد إليه أيضا تعليل الإمام في حديث الدماء كما أشرنا إليه ، حيث علل عدم الاكتفاء باليمين من المنكر هنا بأنه يوجب ضياع الدم مع أن عدم الاكتفاء منه باليمين لا يستلزم كون وظيفته البينة ، فيظهر أنه حيثما ينتفي أحد الميزانين يقوم الميزان الأخر مقامه.

لكن هذا أيضا غير مطرد ، فربما تسقط البينة من المدعي بلا يمين ، وكذا تسقط اليمين عن المنكر بلا بينة ، فمن الأول دعوى صاحب المال دفع الزكاة إلى المستحق فإنها مقبولة بلا يمين ، ومن الثاني إبدال النصاب في أثناء الحلول ، فإنه منكر مع عدم مطالبة البينة منه ، وجعله صاحب المسالك من موارد تقديم قول المدعي.

وفيه نظر ، لان مدعي الابدال يدعي براءة ذمته عن الزكاة أو سلامة عين ماله من تعلقها به ، فهو موافق للأصل ، بخلاف العامل أو الجابي أو الفقير المطالبين للزكاة ، فإنهم يدعون خلاف الأصل المزبور.

ودعوى أن الشك في تعلق الزكاة مسبب عن الشك في الابدال ، والأصل عدمه لأنه حادث ، فيكون مدعيه مخالفا للأصل. مدفوعة بأن أصالة عدم الابدال لا تثبت كون المال الموجود محلا لتعلق الزكاة إلا بناء على اعتبار الأصل المثبت كما لا يخفى ، فيكون قول مدعي الزكاة غير مطابق للأصل نافع بخلاف المالك.

لكن الاعتذار عن هذه المواضع ونحوها مما ذكره صاحب المسالك وغيره بأنها ليست من مجاري القضاء بين الناس حقيقة وان كان متعلق الدعوى فيها من حقوق الناس لأنها أشبه بحقوق اللّه أو الموضوعات التي لا يجري فيها القضاء كالطهارة والنجاسة والهلال وان تضمنت أحيانا بعض حقوق الناس.

ص: 326

ويمكن استظهار ذلك في خصوص الزكاة من وصايا أمير المؤمنين عليه السلام كما في الزكاة في حديث طويل منقول في محكي الوسائل المشتمل على كمال الرفق ولين العريكة مع صاحب الزكاة ، فإن فيها بعض الآداب الذي يظهر منه أن الزكاة لا تحل الا بدفع صاحب المال وانها ليست من موارد القضاء ومجاري الخصومة. ولعل المراجع الى الحديث الشريف يستفيد بعض ما خفي علينا من المطالب (1).

فان قلت : قضية قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » حصر حجة المدعي في البينة وعدم كون اليمين حجة له لأنه قضية الحصر ، فاذا ثبت في مقام سقوط البينة عن المدعي لزم تصديق قوله بلا بينة لا الحكم بقيام اليمين مقام البينة بالأدلة الدالة على لابدية أحد الميزانين في القضاء ، إذ بعد معلومية عدم كون اليمين حجة للمدعي وان حجته منحصرة في البينة لا يبقى لتلك الأدلة دلالة على قيام اليمين مقام البينة.

وقياسه بمثال « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » قياس مع الفارق ، لان مفاد « أعتق رقبة مؤمنة » ليس سوى وجوب المؤمنة ، واما مع عدم كفاية عتق الكافرة فيستفاد من عدم الدليل لا دلالة الدليل على عدمه ، وقوله « البينة على المدعي » يدل زيادة على إلزام المدعي بالبينة على عدم كون اليمين حجة له بمقتضى الحصر المستفاد من تعريف المسند والمسند اليه.

قلت : قوله « البينة على المدعي » يدل على أمرين : أحدهما كون البينة حجة ، للمدعي والثاني كونها متعينة عليه - بمعنى عدم كفاية اليمين له. والحصر المستفاد من القضية يرجع الى الثاني ، وما ذكرت مبني على رجوعه إلى الأول ، إذ

ص: 327


1- الوسائل ج 6 ب 14 من أبواب زكاة الأنعام ح 1.

انحصار الكفاية في البينة انما يقتضي عدم كفاية اليمين لا عدم كونها حجة له شرعا.

وانما قلنا برجوع الحصر الى الثاني لأنا استفدنا من مقابلة الفقرتين أن الفقرة الأولى مسوقة لبيان التكليف الأثقل كما أن الفقرة الثانية لبيان رفع الأثقل وكفاية الأسهل - أعني اليمين - ومقتضى ذلك أن يرجع الحصر الى الثاني ، لأن مفاد قوله « البينة على المدعي » بعد الاستفادة المزبورة أن البينة متعينة على المدعي ، فالحصر يرجع الى المتعين الذي هو بمنزلة محمول القضية حقيقة.

ومن هنا يسقط توهم بعض المنافاة بين ما ذكرنا هنا وما قدمنا في الالتقاطات السابقة ، حيث قلنا : ان قضية تعريف المسند والمسند اليه ان كل بينة على المدعي وكل مدعى عليه عليه اليمين ، فيتوهم أن قضية الكلية الثانية عدم حجية اليمين للمدعي أصلا ، ولذا قلنا ان موارد تصديق المدعى بيمينه قد خرج بالدليل.

وجه السقوط : ان قضية الكلية الثانية في نفي الاكتفاء باليمين من المدعي ، وهذا يكفي في كون موارد تصديق قوله بيمينه خارجا بالدليل ، وليس قضية الكلية عدم كون اليمين حجة للمدعي.

والحاصل ان العمل بما دل على لابدية الميزان من اليمين أو البينة في القضاء متعين إذا ثبت سقوط البينة من المدعى ، فيقدم قوله بيمينه. نعم لو كان دليل السقوط على وجه يستفاد منه عدم الحاجة الى شي ء آخر فحينئذ لا بد من النظر في أن المراد هو القضاء بلا ميزان أو مجرد التصديق ، فان التصديق لا بد من أن يكون على وجه القضاء ، وان أمكن أن يكون كذلك مثل القضاء بالنكول على القول به ، بناء على كونه من مقامات تصديق قول المدعي ، فإنه لا بينة هنا ولا يمين ، فقد يكون مفاد الدليل سقوط البينة من المدعي ، وحينئذ فلا بد في القضاء من اليمين أيضا عملا بالأدلة العامة كما عرفت.

ص: 328

وقد يكون مفاد الدليل سقوط الأمرين ، فحينئذ لا بد من النظر والتأمل ، فإن دل على شرعية القضاء حينئذ عمل به والا فيصدق قول المدعي بلا بينة ولا يمين من غير قضاء ، كمدعي الابدال والدفع في مسألة الزكاة.

ويحتمل أن يكون من هذا الباب تصديق الامناء حيث لا يمين الا من باب القضاء ، لان ما دل على لابدية الميزان في القضاء لا يصار عنها بمجرد دلالة الدليل على التصديق بلا ميزان ، لان التصديق أعم من القضاء.

هذا كله في المدعي ، وأما المنكر فالظاهر أنه ان دل دليل على سقوط اليمين في حقه قضي له ، لان المنكر يكفيه اليمين في القضاء له مطلقا ، فاذا سقطت سقط البينة بطريق أولى ، إلا إذا كان المقام لا يجري فيه الأولوية ، كمنكر الدم فان سقوط البينة فيه لا يستلزمه سقوط اليمين نظرا إلى زيادة الاهتمام بالدماء.

نعم لو لم يعلم من الدليل الدال على سقوط اليمين سقوطه في مقام القضاء بل احتمل أن يكون المراد مجرد التصديق صدق قوله وخلي سبيله باليمين من غير قضاء ، مثل مدعي الابدال بناء على كونه منكرا كما هو الأظهر لعموم الأدلة ، فالأولوية إنما تجري بعد معلومية أن المراد بالتصديق بغير يمين هو القضاء لا مجرد تخلية السبيل. واللّه العالم.

التقاط ( في الصلح عن الدعوى باليمين حيث لا سبيل إليها شرعاً )

اعلم أن الدعوى قد ينحصر فصلها في البينة ، بمعنى عدم سماعها الا بها ، كالدعوى مع التهمة على القول بسماعها والدعوى على الميت مع عدم دعوى العلم على الورثة ، فان المدعي في هذه وأمثالها ان لم يكن له البينة فليس له الدعوى والإحلاف ، فهل له الصلح عن الدعوى بالحلف أم لا.

ص: 329

وليس في الكتب المعروفة عنوان لهذه المسألة ، ويندرج تحتها صلح المتنازعين عند عدم وجود الحاكم. وبالجملة كل مقام ليس للمدعي سلطنة على إحلاف غير المدعى عليه ، اما لكون الدعوى مما لا تسمع إلا بالبينة أو لفقد شرط من شروط القضاء كالاجتهاد.

وانما خصصنا الكلام بما إذا كان للمدعي سلطنة على الإحلاف مع عدم الفرق بينه وبين ما كان شرائط الإحلاف فيه موجودة - بأن يصالح المدعي عن دعواه الصحيحة بحلف المدعى عليه من غير مرافعة إلى الحكام - لأن فائدة المسألة انما تظهر فيه ، إذ مع سلطنته على الإحلاف.

وكيف كان فالصلح تارة يقع على المدعى به وأخرى على الدعوى ، وثمرة الصلح على الدعوى إسقاط كل ما كان للمدعي من الاثار الوضعية والتكليفية ، مثل إسقاط يمين المنكر لجميع آثار الدعوى لا المدعى به.

وأما الصلح عن المدعى به - بأن يقول المدعي « صالحتك عما ادعي من العين أو الدين بأن تحلف باللّه على براءة ذمتك » مثلا - فهو على قسمين : أحد هما أن يكون المصالح به أعني الحلف هو الحلف على براءة الذمة بعد الصلح ، والثاني الحلف على براءتها قبل الصلح.

لا إشكال في فساد الصلح على الوجه الأول ، لأن الصلح لو كان صحيحا برئت ذمة المدعى عليه بعد الصلح جدا ، فيكون الحلف على البراءة بعده لغوا لا يترتب عليه غرض العقلاء ، إذ فائدته للمدعي التشفي ، وهو انما يتصور مع تجويز كذب الحالف ، وأما مع العلم بالصدق فلا فائدة فيه أصلا ، فيلزم من صحة الصلح فساده.

وأما على الوجه الثاني فالحلف حينئذ ليس هو الحلف الذي شرع ميزانا لطي الدعاوي ، لأن الحلف هذا مورده ما لو أقر المدعى عليه لألزم ، وهذا ليس

ص: 330

كذلك ، لان المدعى عليه على تقدير صحة الصلح لو أقر باشتغال ذمته قبل الصلح لم ينفع للمدعي كما هو واضح ، وليس أيضا مسقطا للمدعي به لسقوطه بنفس الصلح ، فالكلام في صحة هذا الصلح مثل الكلام في صحة ما لو صالح على اليمين في غير مقام الدعوى ، مثل أن يقول « صالحتك عن كذا على أن تحلف باللّه على كذا » ، وحينئذ فلا بد من إحراز شرائط العوض ، مثل كونه مباحا وكونه متعلقا به غرض عقلائي ، إذ مع انتفائهما أو انتفاء أحدهما لا وجه لصحة الصلح ، وحينئذ نقول :

ان أحوال المدعي ثلاثة : فاما أن يعلم بأن المدعى عليه يحلف صادقا باعتقاده أو كاذبا أو لا يعلم شيئا منهما ، والحلف في الصورة الأولى لغو كما مر ، لعدم حصول التشفي بحلف الصادق باعتقاده. وفي الثانية حرام للمدعي عليه بذله ، وشرط عوض الصلح أن يكون مقدور التسليم شرعا وعقلا ، بل لا يجوز للمدعي أيضا استيفاؤه ، لأنه اعانة على الإثم ، والاذن في المعصية معصية عقلا وشرعا. وفي الصورة الثالثة مردد بين اللغو وممتنع التسليم ، وعلى أي حال فلا يصلح أن يكون عوضا في الصلح ، لان شرط العوض أن يكون من الأمور التي يترتب عليها غرض العقلاء وان يكون لكل من المتصالحين أمرا جائزا والا فلا يمكن تسليمه ولا تسلمه.

فان قلت : إذا كان الاذن في الحلف الكاذب معصية فكيف يتوقف حلف المنكر على رخصة المدعي إذا كان عالما بكذبه في اعتقاده.

قلنا : فرق بين المقامين ، لان مرجع شرطية إذن المدعي في حلف المنكر الى عدم رفع اليد عن المخاصمة ، ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك ، ولا يجب على المدعي رفع اليد عن المخاصمة محافظة للمنكر عن الحلف الفاجر. بخلاف الصلح على اليمين الفاجرة ، فإنه اعانة على الإثم واقدام على القبيح.

ص: 331

توضيح الفرق بين المقامين : ان التسبيب الى القبيح قبيح ، وأما رفع اليد عن عمل يحصل بذلك الرفع ترك القبيح ليس بواجب ، فلو كان الشخص مشتغلا بشغل مباح بالذات وكان تركه سببا لعدم صدور المعصية عن شخص فلا يجب الترك حينئذ ، وأما التسبيب إلى المعصية والإعانة عليها فهو غير جائز.

فالمدعي لما كان رفع يده عن المخاصمة سببا لعدم صدور الحلف الكاذب عن المنكر فهو ليس بواجب عليه ، وأما الصلح على اليمين الفاجرة ومطالبتها بعد الصلح فلما كان تسبيبا إلى المعصية فهو غير جائز.

وانما قلنا ان مرجع إذن المدعي في حلف المنكر الى رفع اليد عن المخاصمة لا الى الرضا باليمين الفاجرة ، لأن يمين المنكر انما شرعت لخلاص المنكر من يد المدعي ، وليس حجة متوجهة من قبل المدعي الى المنكر فيما لم يرفع المدعي يده عن المنكر ، فلا سبيل له الى التخلص الا باليمين ، وهو أمر بيد المنكر لا بيد المدعي ، إذ لا معنى لكون خلاص المنكر بيد المدعي بل للمدعي إبقاء يده على المخاصمة وللمنكر خلاص نفسه من يده ، فاذا لم يكن بينة فلا بد من السؤال عن المدعي واستكشاف حاله من حيث ترك المخاصمة حتى يتخلص المنكر بدون اليمين أو عدم تركها حتى يتخلص المنكر بيمينه.

ومن أجل ذلك كان اذن المدعي في الحلف في معنى عدم رفع يده عن المخاصمة.

ومن هنا قد يقال : بأن المدعي يجب عليه أيضا إظهار عدم الرضا باليمين إذا علم بكذب الحالف في اعتقاده مع الاذن وبدونه ، إذ لا منافاة بين الاذن بالمعنى المذكور وبين عدم الرضا وإظهار الكراهة ، وانما المنافاة بين عدم الرضا والاذن بمعنى الطلب لا بمعنى عدم رفع اليد عن المخاصمة.

ودعوى قبح كل عمل يتوقف على ترك صدور القبيح عن شخص مثل التسبيب لكون كل منهما مصداقا للإعانة. واضحة المنع ، لان ترك العمل المذكور

ص: 332

داخل في عنوان إيجاد المانع عن وقوع المعصية ، والإعانة ترجع إلى إيجاد مقدمات المعصية ، ولا دليل على وجوب الأول بعد فرض استناد جميع مقدمات المعصية وأسبابها إلى فعل مريدها ، بخلاف الثاني فإنه واجب تركا للإعانة التي مرجعها إلى إيجاد بعض المقدمات.

هذا هو تمام الكلام في الصلح عن المدعى به ، وأما الصلح عن الدعوى فيعلم الكلام فيه بما ذكرنا ، لان عدم اشتمال الحلف على شرائط العوضية لا يتفاوت فيه بين المقامين. واللّه العالم.

وقد وافقنا في هذه المسألة ما نقل عن المحقق القمي في بعض جواب سؤاله.

التقاط ( في تورية الحالف )

تعرضها في القواعد ، ومحصل الكلام فيه : ان الحالف ان كان مبطلا ظالما فالبحث في توريته في الحلف : تارة من حيث الحكم التكليفي ، وأخرى من حيث الحكم الوضعي.

أما الحكم التكليفي فالظاهر أنه لا إشكال في حرمته أيضا ، وان قلنا بأن التورية لا تندرج في اسم الكذب.

وأما في حكمه الذي هو القبح العقلي والشرعي ، فلو حلف المنكر على براءة ذمته كاذبا فلا ينفعه في التفصي عن الإثم والعقاب أن يوري في حلفه بالقلب أو باللسان على وجه لا يسمعه القاضي أو المدعي.

والدليل على ذلك هو العقل المستقل ، لأنه وان كان حلفا صادقا الا أن مناط قبح الحلف الكاذب الذي دل عليه العقل والنقل - مضافا الى قبح الكذب -

ص: 333

موجود في ذلك الحلف الصادق الذي جعله عرضة لا بطال حق الناس ، لان قبح الحلف الكاذب انما هو لأجل كونه هتكا لاحترام اسم اللّه تعالى. ولا ريب أن كونه هتكا ليس متوقفا على كونه كذبا ، لان الهتك انما يحصل باستحقاره باللّه تعالى من حيث أن قضية التعظيم عدم جعل الحلف به وسيلة إلى المقاصد الحقة فضلا عن التوصل الى المقاصد الباطلة.

والحاصل ان استعظام المولى له مراتب : منها ما هو متصف بالحسن الغير الملزم ، كترك الحلف به للتوصل الى المقاصد المباحة ، فإنه راجح عقلا وشرعا لما فيه من التعظيم الواضح. ومنها ما هو متصف بالحسن الملزم ، كعدم الحلف به للتوصل الى المقاصد المحرمة ، سواء كان بطريق الكذب أو بطريق الصدق الذي هو التورية.

ولعل حرمة التورية في الحلف الكاذب ومساواته مع الكذب هو المشهور بين العلماء كما ادعاه الشيخ دام ظله.

ومن هنا يظهر أنه من الكبائر ، لأن قبحه مثل قبح الحلف الكاذب الذي لا إشكال في كونه كبيرة.

وأما الحكم الوضعي فالظاهر أيضا عدم ترتبه ، فلا يحصل به فصل الدعوى ويظهر الثمرة فيما إذا حصل العلم للقاضي أو غيره بالتورية ، والا فظاهر الحلف عدم التورية.

[ تورية المظلوم في الحلف جائزة ]

هذا إذا كان الحالف ظالما ، وأما إذا كان مظلوما فيجوز له التورية بل قد يجب كالودعي الذي ادعى عليه جورا ، فان التورية في الحلف الذي يتوجه إليه في الدعوى الجورية واجبة له.

ص: 334

نعم الظاهر جواز الكذب له أيضا ، فيحلف كاذبا تخلصا عن جور المدعي وإيصالا للوديعة إلى صاحبها ، للأخبار الدالة على جواز الحلف الكاذب للتخلص من الظالم ، حتى ورد أنه أحلى من العسل.

لكن قد يقال : ان مصب تلك الاخبار ما إذا حصل الاضطرار والإلجاء إلى الكذب ، ومع إمكان التورية لا يتصور الإلجاء ، لأن النية أمر قلبي لا يعقل الإكراه عليه ، فيشكل الأمر بين الأخذ بظاهر الاخبار فلا يجب التورية وبين طرحها لمراعاة الاضطرار التي دل عليها العقل والنقل فلا يجوز الكذب مطلقا.

ويمكن التفصي بحمل الاخبار على ما هو الغالب المتعارف بين الناس من عدم التفات الملجأ والمضطر حين الاضطرار إلى التورية ، فإن المضطر على طلاق امرأته أو بيع ماله غالبا لا يوري في طلاقه وبيعه ، بل إذا طلق كان مع قصد المعنى.

وبذلك يجمع أيضا بين ما دلت عليه الاخبار وقام عليه الإجماع من عدم صحة طلاق المكره مثلا مع عدم قبول حقيقة الطلاق الذي هو الإنشاء القلبي المقرون بالكاشف للإكراه ، لإمكان إرادة معنى آخر من لفظة « طالق » غير إنشاء الطلاق كذاهب مثلا.

وجه الجمع : ان الإكراه على حقيقة الطلاق كثيرا ما أمر يقع في الخارج مثل صورة غفلة المكره عن التورية فحينئذ يقع غير مؤثر.

وبذلك يندفع ما أورده المحقق الثاني في محكي وديعة جامع المقاصد على العلامة حيث قال بجواز حلف الودعي كاذبا تخلصا من الظالم بأن الكذب مع إمكان التورية لا ضرورة إليه.

ص: 335

تذنيب [ هل تثبت الشفعة عند إلزام القاضي بالحلف عليها ]

قال في القواعد بعد مسألة التورية في الحلف : ولو كان القاضي يعتقد ثبوت الشفعة مع الكثرة لم يكن لمعتقد نفيها الحلف على نفي اللزوم بتأويل اعتقاد نفسه ، بل إذا ألزمه القاضي صار لازما ظاهرا وعليه أن يحلف ، وهل يلزمه باطنا؟ اشكال أقربه اللزوم ان كان مقلدا لا مجتهدا.

توضيح المسألة : ان الخصومة إذا كان منشأها الاختلاف في الحكم الشرعي كثبوت الشفعة مع الكثرة فإن حررت الدعوى عن وجه عرف القاضي بأن الاختلاف لأجل الاشتباه في الحكم الشرعي فالفاصل حينئذ هو رأي القاضي ولا سبيل الى الحلف حينئذ ، وليس كلامه ناظرا الى مثل ذلك قطعا ، وان حررت الدعوى على وجه يرجع الى النزاع الموضوعي - كما لو قال مدعي الثبوت لخصمه « يجب عليك رد المبيع لثبوت حق الشفعة » وقال صاحبه « الرد ليس بلازم على » توجه الحلف الى منكر اللزوم على نفي اللزوم الواقعي ، وهذا معنى قوله « يلزمه ظاهرا ».

ثمَّ في لزومه باطنا أيضا - بمعنى عدم جواز التورية في الحلف بتأويل اعتقاد نفسه باطنا - اشكال كما ذكره ، أقر به اللزوم إذا كان مقلدا لا مجتهدا ، وليس المراد باللزوم الباطني هو اللزوم بعد اليمين المردودة كما تو همه بعض.

ووجه الإشكال في اللزوم الباطني : هو التأمل في منع أدلة القضاء عن التورية في الحلف على نفي اللزوم الواقعي ، اما لان أدلة القضاء انما تدل على نفوذ إلزامات القاضي وحكمه بوجوب الحلف على نفي اللزوم الواقعي ليس فيه جهة إلزام بل انما هو محض بيان الحكم الشرعي وبيان وظيفة المنكر في

ص: 336

تخلصه عن الخصومة ، أو لأن معنى إلزام القاضي على تقدير شموله لمثل المقام ، لا يمنع التورية ، لان التورية تمحل شرعي للفرار عن الإلزام لا مخالفة للإلزام الصادر.

وبعبارة أخرى : مقتضى أدلة القضاء أن القاضي إذا ألزم بشي ء لزم ، وهذا انما يتم فيما إذا لم يكن الملزم به قابلا للتورية ، والا فبالتورية يخرج عن كونه ملزما به. وكلا الوجهين منفيان :

( أما الأول ) فلأن الحاكم وظيفته في جميع المرافعات بيان وظيفة المتخاصمين والإلزام بمقتضاها حتى المرافعات الموضوعية ، ومعنى نفوذ إلزام الحاكم أنه إذا ألزم بمقتضى بعض الوظائف لزم العمل به ، فإذا ألزم المحكوم عليه هنا بالحلف على عدم اللزوم الواقعي لم يجز له مخالفته بالتورية.

( وأما الثاني ) فلأن التورية أيضا فيما الزم الحاكم به مخالفة لإلزام الحاكم ، لان الحاكم يلزمه على نفي اللزوم الواقعي ، فمتى لم يحلف عليه ولو بالتورية فقد خالف الإلزام كما لا يخفى.

ودعوى أن التورية هنا كالتورية فيما إذا كان الحالف مظلوما. مدفوعة بأن المحلف هنا ليس بظالم في اعتقاده. نعم إذا كان مذهب القاضي مخالفا لمذهب المتخاصمين أمكن صدق الظلم حينئذ ، ويتفرع عليه جواز التورية.

ومما ذكرنا ظهر وجه القول بعدم جواز التورية مطلقا في المقلد والمجتهد كما عن ظاهر الدروس ، كما ظهر أيضا وجه القول بجواز التورية مطلقا كما عن المبسوط.

وأما وجه التفصيل بين المقلد والمجتهد الذي استقر به في القواعد ومال إليه في محكي الإيضاح فهو : ان المجتهد إذا رأى فساد دليل القاضي على ثبوت الشفعة مثلا وأن ما أدى اليه ظنه من نفي الشفعة هو الحق ، فإطلاق ما دل على

ص: 337

النفي وما دل على اعتباره يقتضي جواز العمل به مطلقا حكم القاضي بخلافه أم لا ، بخلاف المقلد فإنه لا دليل له على فساد حكم القاضي ، بل نسبة حكم القاضي وحكم مجتهده الذي قلده في نفي الشفعة اليه على حد سواء ، فحاله كحال سائر مقلدي القاضي في نفوذ حكمه عليه.

والتحقيق في المسألة هو النظر في أدلة القضاء وأنها تدل على حرمة الرد خاصة أو على وجوب ترتيب آثار الحكم واقعا زيادة على الرد ، فان كان الأول جاز التورية للمجتهد والمقلد على حد سواء ، وان كان الثاني لم يجز كذلك :

أما في المقلد فالأمر واضح ، وأما في المجتهد فلأن هذه الأدلة حاكمة على دليل اعتبار الامارة القائمة على نفي الشفعة مثلا ، فتكون حجية تلك الأمارة القائمة في غير صورة المعارضة لحكم القاضي. ولا يبعد رجحان الثاني على الأول ، فيتجه إطلاق ما عن الشهيد في الدروس. واللّه العالم.

التقاط [ هل تنتقل التركة إلى الوارث ] [ لو كان على الميت دين محيط بها ]

لو مات شخص وعليه دين محيط بالتركة ففي انتقالها الى الوارث انتقالا متزلزلا مراعى بأداء الدين أو عدم الانتقال وبقاؤها على حكم مال الميت.

قولان مشهوران بين الأصحاب ، فذهب أكثر القدماء الى الثاني وأكثر المتأخرين إلى الأول.

والمراد بكونها في حكم مال الميت كونها في حكم مال الحي ، إذ الميت ليس له مال حقيقي حتى تكون التركة مع الدين في حكم ما له الحقيقي ، ففي

ص: 338

العبارة نوع قصور أو مسامحة في إفادة المراد ، ولعل المراد أن التركة مال حكمي للميت لا أنها في حكم ماله الحقيقي.

والأصل في المسألة عدم الانتقال إلى الورثة وعدم جريان حكم مال الميت عليها أيضا ، فكل منهما مخالف له.

وما يتوهم أن بقاءها في حكم مال الميت قضية الاستصحاب أو استصحاب عدم الانتقال أو استصحاب بقاء العلقة والربط الموجودين بين الميت وبين التركة. فليس بشي ء ، لأن العلقة كانت قائمة بالحي وهو الإنسان ، ولا حياة حتى يتصور بقاء العلقة القائمة بها ، فإن الباقي أمران : الجسم العنصري الذي صار جمادا ، والروح المجرد. وشي ء منهما لا يصلح أن يكون مالكا : أما الجسم فلانه جماد والجمادات لا يعقل تملكها ، وأما الروح فلا أن صلاحيته لإضافة طرف الملكية أمر غير معلوم أو معلوم العدم ، لوضوح كون المالكية من خصائص الإنسان المركب من الروح والجسم ، فلا تثبت لمجرد الروح.

وأما استصحاب بقاء الاحكام والاثار الموجودة في حال الحياة. ففيه أنه لم يكن في حال الحياة أثر متعلق بأعيان التركة حتى يستصحب ، بل مقتضى الأصل عدم تعلق حق الديان بأعيانها ، ضرورة كونها في حال الحياة متعلقة بذمة مالكها لا بأعيانها.

فظهر أن القولين متساويان في الحاجة الى الدليل ، والدليل على القول الأول - وهو الانتقال - أمران عقلي ونقلي ، أما النقلي فاطلاقات آيات الإرث وأخبارها ، فان نحو قوله تعالى « لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ » (1) مطلق غير مقيد بما إذا لم يكن هناك دين ، غاية الأمر انه ثبت من الأدلة أن الديان حقهم متعلق بالتركة كتعلق

ص: 339


1- سورة النساء آية : 8.

حق المرتهن بالرهن مثلا ، وهذا يوجب تزلزلا في ملكية الأقربين لا نفي الملكية رأسا.

ويجاب عنها : بأن إطلاقها مقيد بالاية المبتدئة للإرث فيما بعد الوصية والدين « وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ » إلى قوله « مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ » (1) ، ووجه التقييد واضح.

وأجيب : بحمل اللام في المقيد على افادة الاستقرار ، أي استقرار ملكية النصف انما هو بعد الأمرين.

ورد : بأن اللام لإفادة أصل الملكية لا لإفادة استقرارها.

ويدفعه : أن استقرار الملك ليس أمرا خارجا عن أصل الملكية ، بل هو عبارة عن الملكية التامة. وهذا هو عين معنى اللام ، لأنها انما تدل على الملكية التامة : إما لأنها تدل على مطلق الاختصاص الغير المقيد بحال دون حال ، ويستفاد من عدم القيد الملك المستقر ، لان الملك الغير المستقر ليس فيه اختصاص مطلق ، بل المقيد بما إذا حصل موجب الاستقرار. أو لأن اللام منصرف الى الاختصاص المطلق ، ولازمه هذا الفرد من الملكية ، أعني التام المستقر.

[ إذا كان على الميت دين فليس للورثة شي ء ]

والثمرة بين الوجهين تظهر فيما ورد في الاخبار من أنه إذا كان على الميت دين فليس للورثة شي ء ، فان قلنا ان التمام والاستقرار يستفادان من إطلاق الاختصاص الذي تدل عليه اللام فالحديث دليل على مذهب القدماء ، لأن النفي حينئذ متوجه إلى حقيقة الاختصاص وجنسه لا الى فرده الكامل أعني المستقر ، ضرورة عدم اعتباره في مدلول اللام واستفادته من مقام الإطلاق. وان قلنا بالثاني

ص: 340


1- سورة النساء آية : 13.

فليس فيه دلالة على مذهبهم ، لان مدلول اللام إذا كان بحكم الانصراف الناشئ من غلبة الاستعمال مثلا أو بحكم الوضع هو الملك المستقر ، فلا جرم إذا وقع في حيز النفي توجه النفي إلى الاستقرار لا الملك المطلق.

وقد يقال : انه على الأول أيضا كذلك ، لان اللام لم يقع في حيز النفي في القضية السلبية في الاخبار بل وقع محكوما به في تلك القضية ، فقوله « ليس للوارث شي ء » لم يتوجه فيه النهي إلى مدلول اللام فقط حتى يفيد سلب مطلق الاختصاص المنافي للملكية رأسا ، بل الى المدلوله في حال عدم تقييده التي تفيد الاختصاص المطلق ، فيفيد سلب الاختصاص المطلق لا سلب مطلق الاختصاص.

وتوضيحه : ان اللفظ « إذا » في حال عدم تقييده ينصرف الى بعض أفراده لأجل عدم التقييد ، فلا يتفاوت فيه بين أن يثبت لشي ء أو ينفي عنه ، ففي الصورتين يتوجه كيف القضية من الإيجاب أو السلب الى ذلك الفرد المستفاد من عدم القيد ، فاذا قلنا هذا مختص بهذا دل على الاختصاص المطلق ، لان الاختصاص إذا لم يقيد بقيد ينصرف الى الفرد الكامل منه ، أعني الاختصاص من كل وجه ، وإذا وضعنا مكان الإيجاب السلب وقلنا هذا ليس مختصا بهذا دل أيضا على سلب الاختصاص المطلق الذي هو الفرد الكامل من الاختصاص لا على سلب مطلق الاختصاص.

ولذا لا ينافي مدلول هذه القضية السلبية ثبوت بعض مراتب الاختصاص ، وانما يتوجه النهي إلى حاق مدلول اللفظ إذا وقع محكوما عليه ، مثل لا رجل ولا شي ء ولا اختصاص ونحوها ، فيدل على نفي مدلول اللفظ مطلقا في ضمن أي فرد كان ، وحينئذ أمكن منع دلالة ما ورد في الاخبار من أنه ليس للورثة شي ء مع الدين على مذهب القدماء ، وهو سلب مطلق الملكية على الوجهين ، سواء قلنا بأن الملكية التامة يستفاد من عدم تقييد الاختصاص المستفاد من اللام أو من حاق اللام باعتبار رفعه أو انصرافه لغلبة الاستعمال إلى الملكية التامة المستقرة.

ص: 341

هذا ، ويرد على الرد أن اللام ان كان لإفادة الاستقرار فلا بد من الحمل عليه في المطلقات أيضا ، إذ حملها في المطلقات على افادة مطلق الملك ، وفي الاية المقيدة على الاستقرار لا وجه له سوى البناء على ترجيح التصرف في المقيد على التصرف في المطلق. وهو بديهي البطلان في محله ، فاذا حملت في الموضعين على الاستقرار خرجت المطلقات عن الدلالة على الملكية أيضا ، لدلالتها حينئذ على استقرارها المقيد بحكم الآية المقيدة بما بعد الدين.

والحاصل ان اللام ان كانت ظاهرة في أصل الملكية فمقتضى الآية المقيدة تقييد أصل الملكية المستفادة من المطلقات ، وان كانت ظاهرة في استقرار الملك فمقتضاها تقييد استقرار الملك ، ففي صورة وجود الدين لا يجري مدلول المطلقات أعني الاستقرار ، وأما ثبوت أصل الملك فلا بد له من التماس دليل آخر.

وعلى التقديرين فالمطلقات تخرج عن الدلالة على مذهب المتأخرين ، وانما لا تخرج لو حملت اللام في المطلقات على الملك وفي المقيد على الاستقرار.

وهو كما ترى خارج عن مقتضى القواعد ، لان اللام ان كانت لإفادة أصل الملكية فلا بد من الحمل على ظاهرها في المقيد أيضا ، لأن التصرف في المطلق بالتقييد أولى من التزام خلاف ظاهر في المقيد ، فلا يحمل أمر « أعتق رقبة مؤمنة » على الاستحباب جمعا بينه وبين « أعتق رقبة ».

هذا إذا لم يؤخذ بمفهوم قيد بعد الوصية والدين ، والا فالاية المقيدة دليل على مذهب القدماء على التقدير الأول - أعني حمل اللام في الموضعين على الملك المطلق - دون الثاني.

ومن هنا يظهر أن هذه الآية ليست دليلا على مذهب القدماء مطلقا ولا على تقدير اعتبار المفهوم وحمل اللام في الموضعين على الملك.

هذا ، ثمَّ ان في تركيب الآية المقيدة نوع غموض ، لان الظرف - أعني

ص: 342

قوله تعالى « مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ » - يحتمل أن يكون متعلقا بمتعلق خبر المبتدإ المقدم ، أعني قوله « لكم » ، والمعنى نصف ما ترك الا بعدهما ، ولا ريب أن المملوك بعد إخراجهما هو نصف الباقي لا نصف ما ترك. ويحتمل أن يكون حالا للموصول ، فالمعنى ان ما ترك حال كونه بعد الوصية والدين مملوك لكم ، وهذا مثل قول القائل « العشرة بعد إخراج الثلاثة منها علي ».

ويمكن التوجيه على تقدير تعلقه بمتعلق « لكم » بأن ذلك إشارة الى أن الوصية والدين مانعان من ملك مجموع ما ترك ، بحيث لو فرض انتفاؤهما رأسا أو بعد الموت ولو بتبرع متبرع أو بإبراء أو نحوهما كانت التركة للوارث.

ولأجل الإيهام الى هذا المعنى سمي ما ينتقل الى الزوج بعد الوصية والدين بنصف التركة ، يعني ان المقصود إعدامهما وإعدامهما لا يستلزم خروج شي ء عن ملك الوارث مطلقا حتى يكون المنتقل اليه نصف الباقي ولو استلزمه على بعض الوجوه كما إذا أخرجا من عين التركة.

[ المراد بالوصية والدين ]

ومن هنا يعلم أن المراد بالوصية والدين نفسهما لا إخراجهما أو أداؤهما أو وفاؤهما أو غير ذلك من الأمور التي يناقش في طردها وعكسها مع كون التقدير مخالفا للأصل ، فالمعنى أن نفس الوصية - أي العين الموصى بها - ونفس الدين مانعان عن الإرث مع وجود المقتضي ، فمع وجودهما لا ارث ومع عدمهما بأي نحو من أنحاء العدم يثبت الإرث ، ولذا لا يتفاوت فيه بين إخراجهما من أعيان التركة أو من غيرها ولا بين إيفاء الوارث أو إيفاء الغير تبرعا أو حصول البراءة قهرا ببعض أسبابها ، فليس المراد أن تمام التركة مثلا

ص: 343

مملوك للوارث بعد إخراجهما منها فإنه غير معقول ، بل المراد أن تمامها مملوك للوارث بشرط عدم الدين المحيط مثلا.

وهذا معنى لا غبار عليه ، وذلك مثل ما يقال ان كفن الميت يخرج من التركة ، فليس المراد أن مقدار ما يساويه ليس من الإرث فلا بد من إقراره ، بل المراد أن حق الميت وحاجته مقدم على حق الوارث وحاجته ، فلو غرق الميت أو حرق زال المانع من ارث مقدار الكفن.

هذه حال الايات المقيدة للإطلاق بما بعد الوصية والدين ، وأما الاخبار النافية لكون التركة للوارث المثبتة إياها للغرماء فقد ظهر النظر في دلالتها أيضا على مذهب القدماء ، وان كان لها ظهور بدوي في ذلك.

وحاصل لما ذكرنا : ان نفي كون التركة للوارث لا يدل في دقيق النظر على سلب جميع أنحاء الملكية بل على سلب الملكية التامة التي من لوازمها الاستقلال في التصرف ، فالمراد أنه ليس للورثة التركة بمعنى التصرف فيها والاستقلال في أمرها مع بقاء الدين ، سواء كانت اللام موضوعة للاختصاص أو منصرفا اليه بحاقه وجوهرة أو كانت لمطلق الاختصاص واستفيد الكمال والتمام من عدم القيد كما مر.

وهذا ينطبق على مذهب المتأخرين ، لأن ملكية التركة للورثة مع الدين عندهم ملكية ناقصة ، بمعنى فقدانها لكمالها الذي يستتبع الاستقلال في التصرف لا الملكية التامة المنفية بحكم الاخبار ولا الملكية المتزلزلة كالملكية في زمان الخيار ، لأنها أنقص منها بمراتب ، إذ الخيار لا يمنع عن شي ء من التصرفات بخلاف الدين فإنه مانع عنها رأسا ، فما في بعض الكلمات من تعبير الملكية على مذهب المتأخرين بالملكية المتزلزلة مسامحة أو قصور في العبارة.

ص: 344

[ جرح أدلة القدماء في المسألة ]

ومما ذكرنا ظهر أدلة مختار القدماء من الايات والاخبار وجوابها وانه ليس فيها دلالة عليه الا على تقدير حمل اللام على الملكية المطلقة ثمَّ إثبات المفهوم القيدي بعد الوصية والدين في الايات ، وكلاهما كما ترى.

وأما الدليل العقلي على مذهب المتأخرين فتقريره بعد بيان مقدمتين :

إحداهما - عدم قابلية الميت للتملك ، وهذا مضافا الى كونه إجماعيا ظاهرا - لان القدماء يقولون انه في حكم مال الميت لا أنه مال له حقيقة - مما يساعد البرهان والوجدان عليه ، لأن الجدة أحد الأعراض التي لم يعلم قابلية ثبوتها للمجردات ، حتى أن ثبوت الملكية بالمعنى الذي يثبت للإنسان لله تعالى أيضا ممنوع أو ممتنع ، لان هذه الإضافة الخاصة - أعني العلقة الخاصة الحاصلة بين الإنسان وبين أعيان الأموال - متقومة بطرفين أحدهما الإنسان والثاني العين ، وثبوت مثل هذه العلقة لغير الحيوان الناطق ضروري البطلان ، وثبوت غيرها مما يخطر في ذهن المكابر المتعسف لا يمنع ثبوتها لغيره حتى الجمادات والحيوانات. والحاصل ان علاقة الملكية هذه العلاقة المعهودة المعدودة من الاعراض التسعة لا يتعقل ثبوتها لغير الإنسان - أي الحيوان الناطق.

وثانيتهما - ان الملك بلا مالك أو المال بلا صاحب أيضا من المستحيلات الأولية ، ضرورة امتناع قيام النسبة إلا بالمنتسبين ، والمراد بالمالية ما يساوق الملكية في الافتقار الى مالك وصاحب لمجرد ما يصلح لبذل المال في مقابله ، فإن المالية بهذا المعنى ثابتة للمباحات الأصلية أيضا. والحاصل ان الملكية والمالية كما لا يتعقل ثبوتها بدون المال والمملوك كذلك لا يتعقل بدون المالك وصاحب المال.

ص: 345

إذا تحققتا فنقول : بالموت تخرج التركة عن ملك الميت بحكم المقدمة الاولى ، فلا بد له من مالك تقوم به الملكية بحكم المقدمة الثانية ، وليس هو إلا الوارث ، للإجماع ظاهرا على عدم دخوله في ملك الغرماء ، لان القدماء يزعمون بقاءها في حكم مال الميت.

فان قلت : لم لا يجوز أن تخرج التركة عن الملكية والمالية بموت صاحبها فلا تكون ملكا لأحد ، بل قضية خروجها عن ملك الميت بحكم البرهان ، مضافا الى أصالة عدم دخولها في ملك أحد ذلك.

قلت : هذا الاحتمال مدفوع بظواهر جميع ما في باب الميراث من الايات والاخبار وكلمات الأخيار ، لتطابقها على انتقال المال الى الوارث ، بل هو قضية لفظ الإرث ومشتقاته ، لأن الإرث بمعنى الانتقال ، وحقيقته تستدعي بقاء صفة الملكية مع تبدل المالك.

وبهذا الاعتبار بعد البيع والصلح مثلا من النواقل ، لأنه سبب لتبدل مالك بمالك مع بقاء الملك على صفة الملكية في الحالتين. وعلى تقدير خروج التركة بالموت عن الملكية لا معنى لانتقالها من الميت الى الوارث ، لان تملكهم لها بعد الدين يكون تملكا جديدا كتملك المباحات الأصلية. وهو بديهي البطلان ، إذ لم يظن أحد أن التركة قبل أداء الدين مثل المباحات التي ليست ملكا لا حد وان تملك الوارث لها باعتبار حق الأولوية ، كتملك صاحب الخمر المستحيل الى الخل.

والحاصل ان أعيان مال الميت ليست مثل دية الجناية الواقعية على الميت في دخولها في ملك الوارث ابتداء ، أي من غير انتقالها من الميت إليهم ، بل مثل سائر ما ينتقل من مالك الى آخر بسبب شرعي كالبيع ، فالموت في الشريعة أحد أسباب الانتقال لا انه سبب زوال الملكية ، وإطلاق الإرث على تملك الوارث

ص: 346

لما يحصل في شبكة المورث أو لما باعه المورث مع الخيار باعمال حق الخيار بالفسخ أو نحو ذلك مما يدخل في ملك الوارث اعتبارا باعتبار إرثهم لحق من الحقوق المستتبعة للمال ، مبني على نحو من التجوز أو المسامحة باعتبار ملاحظة انتقال أصل السبب وهو الحق ، فسمي تملكهم للنتيجة باسم تملكهم للمقدمة كما في الأول ، أو باعتبار تنزيل الملك الحاصل بالفسخ الذي هو عبارة عن ازالة العقد من حينه منزلة الإرث الحقيقي.

فالفسخ وان لم يكن كاشفا عن فساد العقد بل ناقلا بعد صحته لكنه ابطال لأثره ، فيدخل في ملك صاحب الخيار من حين فسخ المبيع من زمان البيع ، فكأنه من جملة أعيان ما تركه المورث حكما وان لم يكن كذلك حقيقة.

وربما يقال بصدق الإرث على الملك الحاصل بالفسخ حقيقة ، لأن الوارث تلقاه من المورث حقيقة باعتبار تلقيهم سبب هذا الملك اعترض الخيار. وليس بشي ء ، لأن الوارث قد تلقى من المورث محض الحق ، وهو أمر وراء الملك الحاصل بسبب الفسخ ، ولذا ليس لغرماء الميت إلزام الورثة على الفسخ بل الوارث له الامتناع عن ذلك ، لعدم تلقيه من المورث شيئا سوى الحق.

نعم لو قيل بصدق الإرث الحقيقي على ملك ما في شبكة المورث ، نظرا الى دخوله في ملك الوارث قهرا من غير مدخلية لفظ الوارث. لم يكن بذلك البعيد.

وأما صدق الوارث على من أسلم بعد موت المورث وقبل القسمة ، فهو ليس أيضا على حقيقته ، بل عدم الصدق هنا أوضح ، ضرورة عدم انتقال شي ء من التركة إليه حتى على قول المتأخرين ، فإنه حال موت المورث كان ممنوعا من التملك بالإرث. فكيف يقال انه ورث أباه مثلا حقيقة بعد ما عرفت من كون الإرث عبارة عن الانتقال الذي هو عبارة عن تبدل مالك بمالك وعن تلقي الملك من الوارث.

ص: 347

ومن هنا لم يجز إثبات الإرث له بأدلة الميراث ، بل لا بد له من دليل آخر لولاه لكان محروما بمقتضى الأدلة المخصصة لها بغير الكافر.

نعم يكفي أدلة الميراث في الأمثلة المتقدمة ، فلا يحتاج في إرث الوارث لما في شبكة مورثه أو للخمر التي استحالت الى الخل بعد الموت أو للمبيع الذي باع المورث مع الخيار بعد الفسخ إلى أدلة أخرى ، بل يكفي أدلة الميراث. فظاهر أن موارد عدم صدق الإرث الحقيقي على أطوار مختلفة :

فمنها ما يستدل عليه بنفس أدلة الميراث وان لم يصدق عليه الإرث الحقيقي ، لأن صدق الإرث حقيقة على انتقال الحق الذي هو سبب لحصول ملك جديد للوارث يكفي في إثبات ذلك الملك له ، ومنها ما يحتاج إلى أدلة أخرى.

فإن قلت : صدق الإرث على ملك الورثة للتركة انما هو باعتبار مكان سبب الانتقال الذي هو الموت أو النسب حين الموت لا باعتبار انتقال الفعلي ، وهذا وان قلنا انه خلاف الظاهر من لفظ « الإرث » لكنه غير بعيد بعد ملاحظة تقييد الإرث بما بعد الوصية والدين ، فنزل وجود سبب الانتقال حين الموت بمنزلة الانتقال الفعلي ، فأطلق الوارث على الورثة.

قلنا : ليس في أدلة الميراث تقييد لفظ الإرث بما بعد الدين ، بل الأدلة المقيدة كلها مشتملة على كلمة اللام الدالة على الملكية ، فيدور الأمر بين صرف اليد عن ظاهر لفظ الإرث في الكتاب والسنة بحمله على الانتقال الثاني المستند الى وجود السبب وإبقاء اللام في المقيدات على ظاهرها وهو الملكية وبين الأخذ بظاهر لفظ الإرث ومشتقاته الظاهرة في الانتقال الفعلي الحقيقي والتصرف في كلمة اللام بحملها على الاستقرار كما فعله الأصحاب.

وهذا التصرف وان كان خلاف مقتضى القاعدة - لأنها تقتضي إبقاء المقيد على حاله وتقييد المطلق كما قلنا - لكنها قد يصار عنها الى التصرف في القيد

ص: 348

ويبقى المطلق على إطلاقه إذا كان ذلك التصرف أقرب ، كما هو الشأن في جميع موارد تعارض الأحوال ، لأن التخصيص مثلا وان كان أرجح من المجاز مثلا نوعا الا أن بعض المجازات لقربه يقدم عليه ، فليس كل تقييد أولى من كل تصرف في المقيد كما في المقام ، فإن إطلاق الأدلة المشتملة على لفظ الإرث يقتضي الانتقال الفعلي مطلقا مع الدين وعدمه ، لكن ورد في مقابلها أدلة مشتملة على لفظة اللام مقيدة بما بعد الدين ، ومقتضي قاعدة التقييد حمل المطلق على غير المقيد ، فلا ملكية في مورده أصلا.

لكن هذا الحمل يستلزم التصرف في لفظ الإرث ومشتقاته بحملها على الانتقال الشأني ، وهو تصرف مرجوح يمكن الاستراحة عنه بحمل اللام في الأدلة المقيدة على استقرار الملك ، ولو قلنا بأنها موضوعة لأصل الملكية لا لاستقرارها ، فضلا عما لو قلنا بانصرافها من حيث الإطلاق أو من حيث غلبة الاستعمال أو من حيث الوضع الى الاستقرار كما هو الأظهر ، فنحملها على الاستقرار فرارا عن حمل الإرث على الانتقال الشأني.

نعم لو كانت الأدلة المقيدة أيضا مشتملة على لفظ الإرث مكان اللام أمكن جعله قرينة على ارادة الانتقال الشأني من لفظه في المطلقات على الانتقال بما بعد الدين أو في حمله على الانتقال الشأني في المطلقات والفعلي في المقيدات.

وعلى التقديرين لا يكون مع الدين انتقال فعلي من غير تفاوت ، فلا وجه لترجيح أحدهما على الأخر ، وان أمكن ترجيح التقييد أيضا إبقاء للفظ الإرث في الموضعين على ظاهره الذي هو الانتقال الفعلي.

فإن قلت : قد ورد في رواية سليمان بن خالد « ان الوارث يرث الدية بعد الدين (1) » ، فيقيد به إطلاق ما اشتمل على لفظ الإرث من أدلة الميراث.

ص: 349


1- الوسائل ج 17 ب 10 من أبواب موانع الإرث ح 1.

قلنا : لفظ الإرث إذا نسب الى المال فمعناه الأخذ ، أي يأخذ الدية ، وما قلناه من تفسيره بالانتقال انما هو إذا نسب الى المورث ، فمعنى « ورث زيد أباه » أنه انتقل المال اليه ، ومعنى « ورث زيد الدار » إذا أخذها إرثا - فافهم وتأمل.

هذا ما أدى اليه النظر في الأدلة من العقل والنقل.

[ استدلال المحقق القمي على مسألة الإرث المقيد ]

ثمَّ ان المحقق القمي سلك في الاستدلال على مذهب القدماء مسلكا آخر أشار إليه في القوانين في الاجتهاد والتقليد وفصل القول فيه في بعض جواب سؤاله ، وهو أن الأدلة المقيدة المشتملة على التقييد بما بعد الدين والوصية تدل على أن الإرث انما يتحقق بعد أداء الدين ، فقبل الأداء فالتركة غير منتقلة إلى الورثة. وحاصله حمل كلمة « بعد » على بعد الزماني وعلى أن مطلق الدين يمنع من الإرث ولو لم يكن بالنسبة إلى الفاضل في غير المستوعب.

وذكر في طي وجوه الرد على المتأخرين أن الايات المقيدة مجملة من حيث دورانها بين تقييد الملك أو الاستقرار ، فيسقط عمومات الإرث عن الاستدلال ، لكنها من العام المخصص بالمجمل.

وفيه : ان حمل « بعد » على البعد الزماني مبني أولا على تقدير في المقام ، وقد عرفت أن معنى الآية تام من غير الالتزام بالتقدير ، لان قوله « من بعد وصية أو دين » سواء كان قيدا للظرف المتقدم - أعني لكم ومرجعه الى تعلقه بمتعلقه أو قيدا أي حالا لما ترك أو للسهام كما في كشف اللثام ، فمعناه افادة مانعية الدين من غير حاجة الى تقدير أداء أو وفاء أو نحوهما.

وأما ما ذكره من كون العمومات مخصصة بالمجمل. ففيه ما لا يخفى ، لأن

ص: 350

إجمال المخصص انما يقدح في الاستدلال بالعام إذا كان على وجه يوجب التخصيص على جميع الاحتمالات ، وأما إذا كان الاجمال باعتبار دورانه بين احتمال يكون مخصصا - كما إذا كان اللام في المسألة للملكية وبين احتمال لا يكون مخصصا كما لو حملت على الاستقرار - فالعام لا يسقط عن الحجية ، بل ربما يجعل عموم العام رافعا لا جمال ذلك المخصص كما تقرر في محله.

وربما يستدل على كل من القولين ببعض الفروع المجمع عليها ، لان بعضها يناسب القول الأول وبعضها يناسب القول الثاني ، لكن الكل ساقط عن صلاحية الاحتجاج ، لعدم استلزامها شرعا أو عقلا لشي ء من القولين. نعم لو تمَّ الحجة لكان في بعضها تأييدا ، مثلا قيام الإجماع على سلطنة الوارث على البيع ونحوه ولو بقبول الدين في الذمة أو بأدائه من ماله.

وبالجملة أحقية الورثة بأعيان التركة آية كونه مالكا ولو كان محجورا في بعض جهات التصرف ، لان الملك لا ينافي الحجر ، بخلاف السلطنة على عين فإنه ينافي عدم الملكية رأسا ، ومرجعه الى أن السلطنة ينكشف كشفا إنيا عن الملكية بمقتضى عموم سلطنة الناس على أموالهم ، والا فأحقية الورثة بأعيانها أو سلطنته على بعض التصرفات بنفسها ليس مما يستلزم كونه مالكا الا باعتبار ملاحظة ما أثبت الملازمة بين المال والسلطنة ، مثل قوله « الناس مسلطون على أموالهم ».

ومع ذلك ففي المناقشة فيه مجال واسع واضح يظهر للمتأمل ، لكنه لا يخلو عن تأييد للقول الثاني.

ومثله الإجماع على أن الحالف مع الشاهد في دعوى مال للمورث هو الوارث ، وغير المالك لا يحلف ، لان الحلف لا يثبت مال الغير ، فان مرجعه الى ما دل على عدم إثبات الحلف مالا للغير ، فإنه يدل على الملكية في موارد

ص: 351

صحة الحلف بالإن ، والا فلا شهادة في صحة الحلف على إثبات مال للمورث على كون الحالف مالكا للتركة.

إلى غيرهما من الفروع التي لا ينافي عدم الملكية في نفسها إلا بملاحظة أدلتها التي أثبتت الملازمة بينها وبين الملكية.

[ عدم جواز تصرفات الوارث في الإرث المقيد ]

ثمَّ انه بناء على القول الأول - أعني عدم انتقال المال إلى الورثة - لا ينبغي الإشكال في عدم جواز تصرفاته تكليفا ووضعا ، فلا يصح بيعه لشي ء من أعيان التركة أو إتلاف بعضها أو نحوهما من التصرفات الاتلافية. وأما على القول الثاني - أعني الانتقال - ففي جواز التصرف وعدمه اشكال معبر بأن تعلق الدين بالتركة هل هو كتعلق الدين بالمرهون أو كتعلق أرش الجناية برقبة العبد.

والتحقيق أن الوراث لا يجوز له شي ء من التصرفات المتلفة لجهة المالية ، والدليل عليه ما ورد في الدية من أن الميت أحق بها من الوراث (1) ، فان فحواها يشتمل لسائر التركة ، إذ الدية لم تكن داخلة في ملك الميت أصلا بخلاف التركة.

وجه الدلالة واضح ، فإن الأحقية ظاهرها الملكية ، ولذا يستدل بمثل قوله « من سبق الى مباح فهو أحق به » (2) على كون الحيازة من أسباب حصول الملك.

ومع التنزيل عن الملكية فلا أقل من الحق المانع عن تصرفات الوارث وهجره عن الانتفاعات المالية قبل حصول براءة ذمة الميت.

وما ورد أيضا في عبد مأذون اختلف فيه وفيما في يده بين غرماء مالكه الميت والورثة ، من أنه لا سبيل للورثة الى ذلك العبد وما في يده قبل الدين. وهو

ص: 352


1- الوسائل ج 17 ب 14 من أبواب موانع الميراث.
2- الكافي 4 / 546 ، ح 33.

أوضح دلالة من سابقة ، لان نفي السبيل آكد في تغليظ مراتب الحجر بعد صرفه عن ظاهره الذي هو عدم الملكية ، جمعا بينه وبين ما دل على أصل الانتقال على رأي المتأخرين.

وما ورد في الإنفاق على عيال الميت من أنه إذا كان عليه دين محيط بجميع المال فلا ينفق عليهم والا ينفق من أوسط المال.

وغيرها مما يدل على حجر الوارث بعد التنزل عن دلالتها على عدم الانتقال.

وانما قيدنا التصرف المنهي بكونه مفوتا لجهة المالية إذ لا مانع من التصرف الغير المتلف لها ، مثل معاوضة عين من أعيان التركة بعين آخر يساويه في القيمة والمالية ، فإن مثل هذا التصرف لا يمنع منه ، لان حق الديان انما تعلق بمالية التركة لا بأعيانها من حيث ذواتها.

وهذا مثل حق الورثة بالنسبة إلى الزائد عن الثلث على القول بكون المنجزات منه لا من الأصل ، فإن التنجيز المفوت للمالية ممنوع لا مطلقا ، فلو باع جميع التركة بثمن المثل مثلا نفذ البيع من غير اجازة الورثة. وكذا الوصية بما يزيد عن الثلث ، فلو أوصى بجميع التركة في مقابل ما يساويها في القيمة نفذت الوصية ظاهرا.

وبالجملة حق الديان ليس متعلقا بذوات أعيان التركة من حيث هي بل من حيث المالية ، فمتى كانت المالية محفوظة نفذ تصرف الوارث ، مثل المثال المشار اليه. ولا ينفع ضمان الوراث للدين من عنده ، فإن مصلحة الغرماء عدمه ، فكل تصرف لم يكن فيه مصلحة الغرماء من حيث وصول الدين لم ينفذ من الورثة.

وربما قيل بجوازه مع قدرة الغرماء على الفسخ ، جمعا بين الأدلة المانعة وبين « الناس مسلطون على أموالهم ».

ص: 353

وفيه : ان ما قلنا أقرب الجموع في الأدلة بعد صرف الأدلة النافية عن ظاهرها الاولي - أعني نفي الملكية رأسا.

[ الرهن يمنع من التصرفات مطلقا ]

ومما ذكرنا ظهر أن هذا التعلق ليس على حد تعلق الرهن مطلقا ، لأن الرهانة تمنع التصرف مطلقا حتى ما لا يرجع الى تلف المالية ، وقد عرفت أن حق الغرماء ليس كذلك بل على وجه لا يمنع من بعض التصرفات الذي ليس فيه تفويت لمالية التركة ، ولو بمثل البيع لأنه تفويت لمالية الجميع الى حصول ملك جديد - أعني الثمن - فلا تجوز.

ودخول الثمن في حكم التركة لا معنى له بعد فرض بيع الوارث لنفسه ، فالبيع بمنزلة الإتلاف في عدم الجواز.

نعم يجوز تبديل عين من الأعيان بعين مساوقة لها في المالية ، لعدم فوات شي ء من جهات المالية ، سواء كانت المبادلة بطريق البيع أم لا.

فصار الحاصل : انه لا يجوز للورثة احداث تصرف يكون ضررا على الغرماء ، فلو باع قاصدا لا كل الثمن كان ممنوعا لكونه خيانة في حق الغرماء ، ولو باع لا بهذا القصد بل قاصدا لكون الثمن من جملة ما يتعلق به حق الغرماء كان جائزا.

ومن هنا أمكن الفرق بين المبيع بعين خارجي تقوم مقام المبيع في المالية وبين البيع الكلي في الذمة ، فيجوز الأول دون الثاني ، إذ تبديل المال الخارجي بما في الذمة ليس مصلحة الغرماء.

[ لا يجوز للوصي التصرف المفوت للمالية ]

ومن هنا أمكن القول بأن تصرف الوصي في الثلث أيضا كذلك ، فلا يجوز

ص: 354

له التصرف الذي يكون تفويت للمالية ، وأما التصرف الغير المفوت - مثل تبديل عين الثلث بشي ء آخر مساو له في المالية مثل تبديل الحنطة بالدرهم - فيجوز إذا كان التصرف أمرا لا يتفاوت الحال فيه بين الحنطة وقيمتها ، كالاستيجار لقضاء الصوم والصلاة ، من غير فرق بين تصريح الوصي بالإذن في التبديل أو عدم الإذن رأسا ، خلافا للمحكي عن المحقق التستري الشيخ أسد اللّه.

فان قلت : ظاهر كلمات الأصحاب يأبى عما تقول ، لان حق الديان ان كان مثل حق الرهن فقد صرحوا بعدم جواز البيع والعتق ونحوهما من التصرفات حينئذ مطلقا كالتصرف في الرهن ، وان كان مثل أرش الجناية فيجوز مطلقا وينتقل الحق إلى ذمة الوارث ، كحق الأرش بعد بيع العبد الجاني ، وان كان حقا ثالثا فقد صرحوا أيضا بجواز البيع وسائر التصرفات ، فالقول بجواز البيع إذا لم يترتب عليه ضرر على الغرماء مما يأباه كلامهم في الفروع.

قلت : ما ذكرنا هو مقتضى التأمل في الأدلة ، لأنا نعلم أن تعليق الإرث بما بعد الدين في الايات والاخبار ليس إلا لأجل وصول حق الغرماء ، ومن الواضح ان مراعاة الوصول لا يقتضي أزيد من منع الوارث عن التصرفات الضررية على الغرماء ، وأما التصرفات الغير الضررية - مثل ما يكون فيه مصلحة للغرماء أو للورثة من غير تفاوت فيه لحال الغرماء - فلا يستفاد من الأدلة.

وإباء كلمات الأصحاب عنه أيضا ممنوع ، بل الظاهر أن البيع في كلامهم مثال عن كل تصرف ضرري لا مطلق البيع ، خصوصا بملاحظة اقترانه بالعتق الذي ليس فيه مصلحة الغرماء.

فان قلت : الاحتمالات الثلاثة كيف تتصور حينئذ؟

قلنا : تصويرها واضح ، وهو أن التصرفات الضررية التي تصدر من الوارث

ص: 355

باطلة ، يعني متوقفة على إمضاء الغرماء على تقدير كونه كحق الرهانة وصحيحة على التقديرين الآخرين.

ولا يذهب عليك أن ما اخترنا يشبه القول بأن النزاع في القيمة دون أعيان التركة ، فإن الوارث أحق بها من جميع الناس على القول بالانتقال ، وحق الغرماء انما تعلق بمالية التركة ، فالتصرف الذاهب بالمالية يجي ء فيه الاحتمالات الثلاثة.

ثمَّ اعلم أنه لا فرق فيما ذكرنا بين القول الأول - أعني عدم الانتقال - والقول الثاني ، فنقول : على القول الأول يجوز للوارث أيضا التصرف في التركة ما لم يكن المقصود إضرار الغرماء أو يترتب عليه الإضرار وان لم يكن مقصودا ، ولا منافاة بين عدم ملك الورثة للتركة وبين نفوذ تصرفاتهم بالتصرف الغير الضرري بنص آية « أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ » ، فإن أولويتهم بالتركة - أي بأعيانها - تقتضي كمال أحقيتهم بها من غيرهم ، خرج بحكم أدلة الدين بعض مراتب الأحقية وهي الملكية. وأما الولاية في التقليب والتقلب بها على وجه لا ينافي المنساق من أدلة الدين ومصبها - كالتقليب الغير الضار على الغرماء الغير المنافي لعلة عدم الملكية ، أعني وصول حق الغرماء - فلم يقم دليل على خلافها.

[ الكلام في الدين غير المحيط بالإرث ]

هذه حال الدين المحيط ، وأما غير المحيط فالكلام فيه : تارة في مقدار مقابل للدين من التركة ، وأخرى في الباقي. وفي كل منهما : تارة نتكلم أيضا في ملكية الوارث ، وأخرى في تصرفاته.

أما ما عدا المقابل فالظاهر عدم الاشكال والخلاف في كونه ملكا للورثة

ص: 356

إلا ما سبق من المحقق القمي. وربما يتوهم أن ظاهر عبارة العلامة عدم الملكية هنا دون القسم الأول - أعني ما كان الدين فيه محيطا بالتركة - وهو مع يعد صدوره عن العلامة بعدا لا يعارضه صريح الكلام فلا بد من تأويله فضلا عن ظاهره فإنه ليس في العبارة دلالة عليه.

قال في ميراث القواعد : من مات وعليه دين مستوعب للتركة فالأقرب عندي أن التركة للورثة لكن يمنعون منها كالرهن حتى يقضى الدين ، وقيل يبقى على حكم مال الميت ولا ينتقل الى الوارث ، وتظهر الفائدة في النماء.

ولو لم يكن مستوعبا انتقل إلى الورثة ما فضل عن الدين وان ما قابله على حكم مال الميت وتكون التركة بأجمعها كالرهن - انتهى.

وفيه : ان معنى قوله « على حكم مال الميت » في العبارة الأخيرة أنه يبنى على حكم ماله ، فيجري فيه الخلاف المتقدم من حيث الانتقال إلى الورثة أو عدم الانتقال ، وليس المراد به ما هو المراد به في العبارة المتقدمة ، أعني عدم الانتقال إلى الورثة. ومنشأ الاشتباه تقدير متعلق « على » في العبارة الثانية نحو يبنى لا يبقى ، والقرينة على ذلك سبق الإشارة إلى الخلاف في المسألة ، لأن ذلك يبين كون المتعلق في هذه العبارة يبني لا يبقى.

ولقد أصاب في محكي كشف اللثام بأصل المراد ، لكن بطريق آخر ، وهو تنزيل قوله « على حكم مال الميت » في الأخير على قول قبل السابق ذكره وكيف كان فالمراد واضح إذا جردنا النظر عن كون المتعلق يبقى.

وأما جواز التصرف للوارث ففيه وجهان بل قولان ، وقد عرفت قول العلامة في هذه العبارة بأن التركة تكون بأجمعها كالرهن. ولعله الأقرب والأشبه بالقواعد.

أما على القول بكون مقدار الدين في حكم مال الميت وأنه غير منتقل الى

ص: 357

الورثة ، فلان مقدار الدين أمر كلي مساو في جميع أعيان التركة ، فكل ما يتصرف فيه الوارث من أعيان التركة فقد تعلق به حق الميت تعلق الكلي بالفرد لا تعلق الجزء بالكل ، كتعلق حق الشريك بالمشترك فإنه على نحو الإشاعة ، بخلاف تعلق الكلي بالعين فإنه ليس على هذا النحو ، ولذا لا يدخل عليه النقص إذا تلف شي ء من أعيان التركة كما لا يدخل النقص على مال المشتري صاعا من صبرة إذا تلف شي ء منها.

فان قلت : تعلق الكلي بالعين لا يمنع عن التصرف فيها مطلقا ، بل إذا انحصرت في مقدار ذلك الحق الكلي ، لأنه إذا كان في غير المتصرف فيه سعة للكلي كان الكلي محفوظا عن التصرف ، ولذا يجوز للبائع في المثال المشار اليه التصرف في الصبرة ما لم ينته الى الصاع فاذا انتهت اليه تعيين كونه للمشتري ، إذ لا مصداق للصاع الكلي من الصبرة حينئذ سواء ، فان تصرف فيه البائع فيرجع الى خيار التسليم أو تلف فيرجع الى مسألة تلف المبيع قبل القبض. وبالجملة إذا كانت عين أو أعيان تعلق بها حق كلي فمقتضى القاعدة جواز التصرف فيها ما دام في تلك الأعيان سعة لذلك الحق ، لأن التصرف حينئذ ليس فيه بل في غيره ، فلا وجه لعدم الجواز ، فاذا انحصر مصداق ذلك الحق في فرد تعين كونه ذلك الحق الكلي ، فلا يجوز التصرف لكونه تصرفا في حق الغير.

قلنا : فرق بين الكلي المتعلق بالصبرة وأشباهه وبين الكلي المتعلق بالتركة أعني الدين ، لان هذا الكلي - أعني الدين - وجوده مانع عن استقرار ملك الوارث للفاضل وان لم يكن مانعا عن أصل ملكه له ، وذلك لما عرفت في تفسير الاية أن المراد بما بعد الدين أن التركة لا تنتقل الى الوارث الا حال كونها مع عدم الدين ، فحال وجود الدين ولو كان غير مستوعب لا يصدق على شي ء من أعيان التركة عنوان ما ترك حال عدم الدين وان أمكن أن يتصف بهذا العنوان

ص: 358

فيما بعد ، فإذا أراد الوارث التصرف في شي ء من التركة جاء احتمال كونه من التركة حال وجود الدين أبدا واحتمال طرو صدق كونه من التركة حال عدم الدين ، بأن يصير الدين بعده معدوما.

ولأجل مجي ء الاحتمالين ومراعاة الاحتمال الأول يمنع عن التصرف فيه ، فالتصرف في شي ء من التركة مع وجود الدين معرض للضرر على الغرماء وان لم يعلم كونه ضررا فعلا ، لا أنه ان أوفى الدين انكشف عن كون المتصرف فيه حقا طلقا للوارث ، لاتصافه بعد الأداء بكونه من التركة حال عدم الدين ، وان لم يوفه ولا حصل مبرئ آخر انكشف كون المتصرف فيه من التركة حال وجود الدين ، فينتقل الدين حينئذ إلى ذمة الوارث مع تلف الباقي بآفة سماوية.

وقد عرفت أن انتقال العين إلى الذمة ليس فيه مصلحة الغرماء ، فلا يجوز ، إذ لا فرق في التصرف المنهي عنه بين كونه ضررا أو معرضا له ، بمعنى دورانه بين احتمال انتقال الدين إلى الذمة فيكون ضررا وبين عدم الانتقال فلا يكون ضررا.

ولا يذهب عليك ان ما ذكرنا لا يرجع الى مختار القمي ، حيث قال بعدم انتقال الفاضل إلى الورثة مع وجود الدين كما تقدم.

لأنا نقول : ان الوارث يملك ما عدا الدين ملكا فعليا مع وجود الدين ، لكن ذلك أمر بحسب الواقع وأما بحسب الظاهر فهو محجور عن جميع التركة باعتبار عدم العلم بكون المتصرف فيه قبل الدين من مصاديق ما ترك حال وجود الدين.

ولا يخفى على من سدد النظر في فهم ما قلنا أن الصاع من الصبرة ليس كذلك ، لان بيع الصاع لا يوجب اختصاص ملك البائع بالصبرة حال عدم الصاع ، لأن قضية نقل الكلي من عين ليس أزيد من نقل ذلك الكلي على كلية إلى المشتري ،

ص: 359

وأما كون وجود الصاع مانعا عن ملك البائع أو عن استقرار ملكه للصبرة فليس من مقتضياته.

فانكشف الفرق بين ما نحن فيه وبين مسألة بيع الصاع من الصبرة ، واتضح أيضا عدم الملازمة بين استحالة بيع الكلي كما قيل واستحالة سريان حق الديان الى تمام التركة كما توهم.

[ هل تجب فطرة العبد إذا مات السيد وعليه دين؟ ]

ومن الإحاطة بما قلنا يسهل الخطب في عبارة الشرائع في باب الزكاة ، حيث دلت على عدم وجوب فطرة العبد على الورثة إذا مات المورث بعد الهلال وعليه دين. ويتحقق المحاكمة فيما في تلك العبارة من اختلاف المشارب ، حيث أخذ المحقق القمي بإطلاقه فجعله ناظرا الى ما اختاره من عدم نقل التركة إلى الورثة مع الدين مطلقا في المستوعب وغيره ، ووافقه صاحب المسالك في الأخذ بالإطلاق ، فأورد عليه بأنه انما يتم على القول بعدم انتقال التركة إلى الورثة لا مطلقا ، وحمله صاحب المدارك على صورة الاستيعاب تأويلا للإطلاق.

وجه كون ما قلنا استراحة عن جميع هذه الخيالات : ان التركة ليست ملكا طلقا مستقرا للوارث مع الدين ولو الغير المستوعب كما عرفت ، والمناط في زكاة الفطرة هو الملك التام المستقر كما في زكاة المال.

والحاصل ان كل جزء من اجزاء التركة يحتمل لحوق صفة عدم الدين إليها ويحتمل عدم اللحوق ، والمفروض أن ملك الوارث على القول بعدم انتقال مقابل الدين الى الوارث كما هو مذهب المحقق انما هو التركة في حال عدم الدين ، فكل عين من أعيان التركة يحتمل دخوله تحت هذا العنوان فيما بعد فيكون ملكا للوارث ويحتمل عدم الدخول ، كما إذا بقي الدين مع تلف سائر

ص: 360

التركة فيكون ملكا للميت ، لأنه إذا تلف الباقي من غير تفريط من الوارث يتعين كون الباقي للغرماء ، فقبل انعدام الدين لا يمكن الحكم بالملكية للوارث في شي ء من الأعيان.

وان شئت قلت : ان ما قابل الدين على كليه باق في ملك الميت حكما ، ومقتضى كليه تساوي جميع أجزاء التركة إليه ، لأنه يصدق على كل واحد من مصاديق ما قابل أنه مفهوم ما قابل وان صدق عليه أيضا أنه غير ما قابل بجعل ما قابل غيره ، لكن صدق غير ما قابل عليه لا يكفي بعد فرض صدق ما قابل عليه ، إذ لا مرجح لأحد العنوانين على الأخر ، فينبغي الانتظار الى أن يتبين الحال بانعدام الدين وعدمه ، فان انعدم تعين كونه ملكا للوارث لكونه مصداقا للتركة حال الانعدام ، وان لم ينعدم - بأن تلف ما عداه من التركة - تعين كونه للميت ، لانحصار مصداق ما قابل الدين فيه في حال وجود الدين الى القول بأن الدين في الجملة مانع عن ارث مجموع التركة كما ذهب اليه المحقق القمي ، ولا الى تنزيل العبارة على الدين المستوعب كما عن المدارك ، بل تمَّ ذلك على القول بأن خصوص ما قابل لا يدخل في ملك الوارث سواء كان الدين مستوعبا أم لا كما بينا.

هذا على القول بأن عدم انتقال ما قبال الى ملك الورثة ، وأما على القول الأخر - أعني الدخول - فالظاهر أيضا حجر الورثة عن مجموع التركة. وعلى هذا جرى في دين القواعد وميراثه حيث قال بأن التركة بأجمعها كالرهن بقول مطلق تارة وبالتصريح أخرى.

ومما ذكرنا ظهر الحال في فرع آخر ذكره في دين القواعد ، مثل أن الوارث لو تصرف في التركة ثمَّ ظهر دين سابق أو تجدد الدين باعتبار وجود سببه في حال الحياة كالجناية ، فإنه كالتصرف في حال العلم بوجود الدين.

كما ظهر أيضا حال ما في بعض الروايات من أن الوارث لا يتصرف في

ص: 361

التركة إلا مع الضمان ، فان المراد بالضمان لا بد أن يكون هو الضمان الشرعي الناقل لما في ذمة الميت إلى ذمة الوارث فيعتبر فيه رضائه الغرماء ، وأما ضمانه من عنده فلا ينفع الا مع من أن يكون مليا ويكون غرضه الوفاء والأداء.

ثمَّ في الدين الغير المستوعب انما يمنع من التصرف إذا لم يكن الباقي بحسب العادة مأمونا من الزوال وإلا جاز ، لان المناط في التصرف المنهي هو تفويت حق الغرماء أو كونه في معرض التفويت ، فحيث لا تفويت ولا تعريض جاز. واللّه العالم.

تذنيب ( في المطالب بحقوق الميت على الناس )

وفيه مسائل :

( الأولى ) المطالبة والمحاكمة.

وهو جائز للغريم والوارث ، لوجود المقتضي وهو كون الدعوى ملزمة وعدم المانع.

( الثانية ) الإحلاف.

وهذا أيضا مشترك بين الغريم والوارث ، إذ لا مانع منه بعد صحة الدعوى ، ولا يشترط في الإحلاف إلا كون الدعوى مسموعة ، قالوا : كلما يتوجه فيه الجواب على الخصم يتوجه اليمين.

( الثالثة ) الحلف.

وهذا مختص بالوارث ، فلا يجوز للغريم ، أما عدم الجواز له فلأن اليمين لا تثبت مالا لغيره ، والتركة اما ملك للوارث أو في حكم مال الميت. وبالجملة

ص: 362

الغريم كالأجنبي ليس له ولاية على الميت وأمواله - وان كان له حق الاستيفاء من أمواله كما أن المرتهن أيضا ليس له الحلف على إثبات الملك للراهن إذا ادعى على العين المرهونة ، وأما جوازه للوارث فلأنه قائم مقام الوارث فله الولاية على أمواله ، سواء قلنا بانتقال التركة اليه أو قلنا ببقائه في حكم مال الميت ، أما على الأول فواضح وأما على الثاني فلانه وان لم تكن التركة ملكا فعليا له لكنه أولى بالميت وأمواله في المطالبة عن غيره بحكم آية تفضيل أولي الأرحام بعضها على بعض.

ودعوى ان الحلف لا يثبت ملكا لغيره. فيها :

أولا - انه لا عموم في ذلك يعم المقام.

وثانيا - ان المراد أنها لا تثبت ملكا لغير الحالف لا أنها لا تثبت ملكا لا يكون للحالف. وبينهما فرق واضح ، وما نحن فيه من الثاني ، لأن حلف الوارث لا يثبت ملكا لأحد ، إما للميت فواضح لعدم وجود حقيقة الملك بالنسبة اليه ، وأما بالنسبة إلى الغرماء فللإجماع على أن التركة ليست ملكا للغرماء. نعم هو يثبت شيئا يمكن أن يصير ملكا للحالف أو لغيره.

وثالثا - ان الملك الثاني ثابت للورثة أيضا ، لأن الموت والنسب سببان للإرث ، وبهذا الاعتبار أطلق الوارث على الوارث على القول بعدم الانتقال.

وهذا في حكم الملك الفعلي من هذه الجهة ، إذ القدر المعلوم من عدم إثبات الحلف ملكا للغير أن يكون الحالف غير مالك للمحلوف عليه لا فعلا ولا شأنا ، بأن لا يكون سبب الملك موجودا أيضا ، وأما مع وجود سبب الملك فلا دليل على عدم جوازه بعد عموم أدلة اليمين المردودة.

هذا ، ثمَّ لو ادعى الغريم وأحلف سقط حقه مما في ذمة المدعى عليه ظاهرا وباطنا ، فلا يجوز له المقاصة أيضا ، كما تقدم في يمين المنكر من أنها تذهب

ص: 363

بما فيه. لكن حق الوارث لا يسقط بهذه الدعوى ، فله الدعوى ثانيا ، فإن أقام بينة أو شاهدا وحلف يثبت الدين.

وهل للغرماء حينئذ نصيب منه بعد حلف المدعى عليه لهم؟ الظاهر عدم الإشكال في كون الدين حينئذ كسائر التركة بالنسبة إلى تعلق حق الغرماء إذا استوفى ذلك الدين ، لأنه بعد الاستيفاء من جملة ما ترك لا يقال ذهب يمين المدعى بحق الغريم فكيف يتعلق حقه بذلك الدين الذي استوفاه الوارث.

قلنا : ذهاب اليمين بما فيه قد عرفت أنه ليس على وجه يبدل الواقع ويؤثر فيه على وجه يحرم معه التعرض سرا وجهرا كالمقاصة ، فكل حكم من الاحكام لا يعد ثبوته تعرضا بحال الحالف لا بأس من ترتيبه. ولا ريب أن الدين يتعلق واقعا بالتركة ، وترتيب آثار هذا الحكم قبل ثبوت الدين بعد حلف المدعى عليه للتغريم تعرض بحاله وتكذيب عملي لحلفه ، وأما بعد ثبوت الدين ووجوده في الخارج وصيرورته في عنوان ما ترك فليس العمل بمقتضاه تعرضا بحاله.

هذا بعد الاستيفاء ، وأما قبله ففي جواز مطالبة الغريم حينئذ إشكال في محكي القواعد : من أن اليمين ذهبت بما فيه فلا حق للغريم عليه ، ومن صيرورة الدين بعد البينة أو الشاهد واليمين من جملة التركة.

كذا حرر وجه الإشكال في محكي كشف اللثام ، والظاهر أن وجه شي ء آخر ، وهو أن ما في الذمة ليس على حد العين في صدق عنوان ما ترك عليها ، لان كون ما في الذمة من جملة التركة عبارة عن ثبوت حق من الميت في ذمة المديون يكون صاحبه ومطالبه اثنان الغريم والوارث ، فاذا سقط حق الغريم يحلف المديون كان معنى سقوطه ما كان له من حق المطالبة ، فكيف يعود ذلك الحق الذاهب.

ص: 364

بخلاف كون العين من جملة ما ترك ، فإنه عبارة عن اتصافها بصفة المالية كسائر الأعيان إما للوارث أو للميت حكما ، فما في ذمة المديون قبل تعينه في الخارج ليس شيئا قابلا لتعلق حق الغريم بعد فرض سقوط ما كان له من المطالبة ، وأما بعد التعيين الخارجي وتشخصه باستيفاء الوارث دخل تحت عنوان التركة التي هي مجمع حق الغريم والوارث. واللّه العالم.

ص: 365

ص: 366

فهرس الكتاب

عنوان / الصفحة

كلمة محقق الكتاب... 5

ترجمة المؤلّف... 10

بدء الكتاب... 25

معنى القضاء لغة و عرفاً... 23

وجوب الحكم بالحق وجوازه... 27

ما يعتبر في القاضي من الشرائط... 28

العدالة و معناها الفقهى... 28

استقلال الحاكم بالفتوى... 29

الفرق بين الحكم و الفتوى... 31

مسائل في قضاء المقلد... 32

الادلة على قضاء الحاكم مستقلا... 33

اختلاف المتخاصمين في الشبهة الحكمية... 34

وجوب الزام المتمرد بالحكم... 35

المراد من العلم مايشمل الظن الذي دل الدليل على حجيته... 39

ص: 367

من أدلة وجوب الحكم مادل على اعتبار البينة... 43

علم القاضي في القضاء و الحكم... 45

حرمة نقض الحكم... 46

القضاء في الشبهات الموضوعية... 47

نصب المجتهد المقلد للقضاء وتوكليه... 48

هل يجوز نصب الامام القاضي غير المجتهد... 48

البحث في الولاية العامة للمجتهد... 49

الجواب عن الادلة الواردة في ذلك... 50

حكم التوكيل في القضاء... 52

تقسيم الافعال التي يترتب عليها أثر شرعي... 52

قضاء المقلد في حال الاضطرار... 55

القضاء في الشبهات الموضوعية عند الاضطرار... 56

عدم استقلال العقل في المسائل الخلافية... 58

ما يختص بأحكام المقلد المنصوب للقضاء... 60

عدم جواز الترافع الى حكام الجور... 64

الادلة على حرمة التحاكم الى الطاغوت... 64

لا يجبر واجد شرائط القضاء على القضاء مع وجود مثله... 67

حكم ما يعود إلى القاضي من الأموال... 69

ارتزاق القاضي من بيت المال... 69

أخذ الاجرة على القضاء... 70

الكلام في الاستيجار على بعض العبادات... 71

حقيقة النيابة وآثارها... 73

ص: 368

عدم الفرق بين النيابة في المعاملات و العبادات... 75

عدم توقف تأثير النيابة في الحكم الوضعي على استحبابها... 76

النائب ينوي في العبادات النيابة ثم القربة... 77

النيابة أمر توقيفي لابد من ثبوت شرعيتها... 79

جواز النيابة عن الأموات... 80

جواز الاجارة في العبادات يتوقف على ثبوت شرعية النيابة فيها... 81

إهداء ثواب العبادات للأموات أو الإحياء... 84

الواجب الكفائي لا مانع من الاستيجار عليه... 87

الفرق بين ماله اجرة وما ليس له اجرة عرفا... 89

عود إلى أخذ الأجرة على القضاء... 92

ما يثبت به ولاية القاضي... 93

معنى الاستفاضة في الخبر... 93

غرض الفقهاء من الخبر المستفيض... 94

الأدلة على اعتبار الاستفاضة الظنية... 96

هل ينعزل القضاة بموت الإمام؟... 101

علم القاضي هل يكون بينة للقضاء... 104

حبس المدعى عليه لو كانت بينة المدعى غير تامة... 106

في نقض حكم الحاكم... 107

ما يجوز فيه نقض الحكم... 108

ما ذا يراد من حرمة نقض الحكم؟... 111

نقض الفتوى بالحكم وبالعكس... 112

نقض المجتهد فتوى غيره... 114

ص: 369

تتبع الحاكم حكم من قبله... 116

ترجمة مترجم الدعوى شهادة أو رواية؟... 116

هل يكفي إظهار الإسلام في الشهادة... 118

ما هي حقيقة العدالة؟... 122

أمور تتعلق بالملكة... 124

نقض حكم الحاكم إذا عرف فسق الشهود... 125

كيفية تعديل الشهود أو جرحهم... 127

شرطية التفصيل في الجرح... 129

حمل كلام المخبر على الصدق الخبري... 132

كيفية تعديل الشهود... 137

اعتبار العلم في مستند التعديل... 138

العمل بقول الجارح عند اختلاف الشهود... 140

الكلام في الامارة وكيفية قبولها... 141

معنى تصديق المخبر بالعدالة والفسق... 142

لو اختلف زمان التعديل والجرح... 145

عند تعارض الجرح والتعديل يؤخذ بالأرجح... 147

جواز الاستناد في ملكة العدالة إلى الاستصحاب... 148

وجوب سماع دعوى المجهول... 149

سماع الدعوى على الغائب... 151

النقاش في سماع دعوى المجهول... 153

إحضار الخصم بالتماس خصمه... 155

اعتبار الجزم في الدعوى... 157

ص: 370

في الظن في الدعوى ومحله... 160

في جواب المدعى عليه... 161

لا بد من الحكم بعد البينة لإثبات الدعوى... 162

موضع حجية البينة... 165

الإقرار سبب لإلزام المقر بما أقربه... 166

مسائل من أحكام الإقرار... 168

في دعوى المدعى عليه الإعسار... 173

هل يحتاج في إثبات الإعسار إلى اليمين؟... 174

في مفهوم العسر... 176

دعوى الإعسار بدون العلم بسبق المال... 178

مواضع تقبل فيها بينة المنكر... 185

سماع البينة من المنكر على ما ينفعه... 186

الصور المختلفة في الشهادة على الإعسار... 190

حلف المنكر يسقط جميع حقوق المدعى... 197

لو أقر المنكر عاد حكم المطالبة والتقاص... 202

تجديد مقال لتوضيح حال... 203

هل يذهب الحلف بالحق في العين أيضا؟... 206

لو وجد المدعي عين ماله يجوز أخذه... 207

في جواز التقاص من المنكر... 208

هل تسقط دعوى المدعي مع النكول... 211

ص: 371

الأدلة على سقوط الدعوى مع النكول... 212

عدم تمامية أدلة سقوط الدعوى مع النكول... 215

معنى كون اليمين بمنزلة البينة... 218

الادعاء على من يقر بغير ما يدعيه المدعى... 219

ثمرة كون اليمين مثل البينة... 221

الحلف من موارد الإقرار لا البينة... 222

نكول المدعى عن اليمين المردودة... 224

نكول المدعى عن اليمين والرد معا... 225

مستثنيات عدم القضاء بالنكول... 236

لا يستحلف المدعى لو أقام بينة تثبت حقه... 240

الإشارة إلى مواضع تلغى فيها خصوصيات العلة... 242

اليمين في الدعوى على الغائب... 244

فرض دعوى الميت البراءة لو كان حيا... 246

بعض ثمرات قول المدعى « لا ندري »... 248

الدعوى على الحي الذي لا لسان له حين الدعوى... 252

لو كان المدعى وكيلا عن غائب... 255

هل يسلم الحق الى المدعى لو كان المدعى عليه غائبا؟... 256

سكوت المدعى عند اقامة الدعوى... 257

إذا قال المدعى « لا أدرى »... 259

اعتبار الحلف في المدعى عليه... 262

مسائل متعلقة بالقضاء على الغائب... 264

القضاء على الغائب عن البلد... 264

ص: 372

تقسيم المدعي على الغائب... 267

مطالبة الوكيل عن صاحب الحق... 268

القول في كيفية الاستحلاف... 271

عدم الإحلاف إلا باللّه تعالى... 271

كيفية إحلاف المجوس... 272

التغليظ في الإحلاف... 274

لو حلف على عدم الإجابة إلى التغليظ... 275

الكلام في العناوين الثانوية... 276

العنوان الثانوي مختص بما عدا الحرام... 277

عدم مزاحمة المستحبات للمحرمات... 280

الحلف على عدم التغليظ لا على عدم الإجابة... 282

حلف الأخرس بالإشارة... 282

المراد من الاستحلاف في مجلس القضاء... 283

حكم الحلف باللغات غير العربية... 284

البينة وظيفة المدعى واليمين وظيفة المنكر... 285

لا بد من الجزم في اليمين... 288

اليمين المتكلة على الأمارات والأصول... 289

لو كان الاخبار مستندا الى الأصل... 293

يلزم الحلف على القطع لا نفي العلم... 295

الدعوى على نتيجة الفعل... 296

وجوب إحراز مطابقة الجواب والحلف للدعوى... 300

الآراء في يمين نفي العلم... 302

ص: 373

يمين نفي العلم هل هي فاصلة للدعوى... 309

دعوى علم المدعي بالمدعى عليه... 310

الدليل على عدم الجزم في دعوى العلم... 312

دعاوي لا يعلم فيها كيفية الحلف... 314

دعوى إتلاف البهيمة شيئا... 314

دعوى جناية العبد... 316

تتوجه اليمين على الوارث في صور ادعاء العلم... 317

المراد من دعوى علم الوارث... 319

الغريم مولى العبد عند الادعاء عليه... 321

عدم سماع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة... 322

مواضع تسمع الدعوى فيها مجردة عن البينة... 323

الاستدلال بقيام اليمين مقام البينة... 325

في الصلح عن الدعوى باليمين حيث لا سبيل إليها شرعاً... 329

في تورية الحالف... 333

تورية المظلوم في الحلف جائزة... 334

هل تثبت الشفعة عند إلزام القاضي بالحلف عليها... 336

هل تنتقل التركة إلى الوارث... 338

إذا كان على الميت دين فليس للورثة شي ء... 340

المراد بالوصية والدين... 343

جرح أدلة القدماء في المسألة... 345

صدق الارث علی الملك الحاصل بالفسخ حقيقة... 347

ص: 374

استدلال المحقق القمي على مسألة الإرث المقيد... 350

عدم جواز تصرفات الوارث في الإرث المقيد... 352

الرهن يمنع من التصرفات مطلقا... 354

لا يجوز للوصي التصرف المفوت للمالية... 354

الكلام في الدين غير المحيط بالإرث... 356

هل تجب فطرة العبد إذا مات السيد وعليه دين؟... 360

في المطالب بحقوق الميت على الناس... 362

فهرس الكتاب... 367

ص: 375

ص: 376

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: ميرزا حبيب اللّه الرشتي

المحقق: السيد احمد الحسيني

الناشر: دار القرآن الكريم

المطبعة: مطبعة الخيام

الطبعة: 0

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1401 ه.ق

الصفحات: 319

المكتبة الإسلامية

كتاب القضاء

تأليف: الفقيه المحقق والأصولي المدقق

الحاج ميرزا حبيب اللّه الرشتي

(1234 - 1312)

(الجزء الثاني)

تحقيق: السيد أحمد الحسيني

محرر الرقمي: محمّد علي ملك محمّد

ص: 1

اشارة

من منشورات دار القرآن الكريم

(قم - ایران)

مطبعة الخيام - قم

(1401 ه)

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، محمد سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى يوم الدين.

ص: 3

ص: 4

القول في الشاهد واليمين

اشارة

يبحث فيهما عن جهات في ضمن التقاطات :

التقاط [ القضاء بالشاهد واليمين والدليل عليه ]

يقضى بالشاهد واليمين في الجملة بالإجماع بل بالضرورة ، والروايات عليه من طرق العامة والخاصة مستفيضة ، ومن طرق الخاصة ما رواه عبد الرحمن ابن الحجاج قال : دخل الحكم بن عيينة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه السلام فسألاه عن شاهد ويمين فقال : قضى به رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» وعلي «عليه السلام» بالكوفة فقالا : هذا خلاف القرآن. فقال : وأين وجدتموه خلاف القرآن؟ فقالا : ان اللّه تبارك وتعالى يقول « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ » (1). فقال عليه السلام لهما : فقوله « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ » هو أن لا تقبلوا شهادة واحد ويمينا (2).

نقول : لعلهما ما قرءا القرآن حتى يعلما موضع هذه الآية ، فإنها وردت في

ص: 5


1- سورة الطلاق : 2.
2- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

الطلاق ولم يقل فيه أحد بكفاية شاهد ويمين ، ولو قرءا قوله تعالى « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ » (1) كان أحسن ، وحينئذ فالجواب : أولا ما أشار إليه الإمام بطريق الإنكار والرد ، أعني عدم دلالتها على عدم قبول شاهد ويمين. وثانيا ان الأمر في هذه الآية للإرث أولان ترك الاشهاد في معرض الوقوع في النزاع ، فلا مساس له بالمقام أعني عدم جواز القضاء بالشاهد واليمين.

فان قلت : لو كان هذا كافيا لما كان وجه لاعتبار التعدد في الشاهد ، إذ الشاهد الواحد حينئذ يكفي في الفرار عن خوف ذهاب الحق.

قلنا : أولا ان التعدد في الشاهد يمنع من إنكار المشهود عليه دون الوحدة ، وثانيا ان التعدد آكد في مقام إلزام الخصم ، فيكون ذكره في مقام الإرشاد أولى مما هو دونه في الإلزام - أعني الشاهد.

ثمَّ قال عليه السلام : ان عليا «عليه السلام» كان قاعدا في مسجد الكوفة فمر به عبد اللّه ابن قفل التميمي ومعه درع طلحة ، فقال له علي : هذه درع طلحة أخذ يوم البصرة غلولا. فقال له عبد اللّه بن قفل : فاجعل بيني وبينك قاضيك الذي نصبته للمسلمين ، فجعل بينه وبينه شريحا ، فقال له علي عليه السلام : هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة. فقال له شريح : هات على ما تقول بينة. فأتاه بالحسن «عليه السلام» فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة فقال : هذا شاهد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر. قال : فدعا قنبرا فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة ، فقال شريح : هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك. قال : فغضب «عليه السلام» وقال : خذها فان هذا قضى بالجور - ثلاث مرات - فقال له : ويلك أو ويحكم اني لما أخبرتك أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة

ص: 6


1- سورة البقرة : 272.

فقلت هات على ما تقول بينة وقد قال رسول اللّه صلى اللّه صلى اللّه عليه وآله : حيث ما وجد غلول أخذ بغير بينة (1).

نقول : الغلول دخول شي ء في شي ء بالرفق كدخول الماء في الشجر ، والغول هنا مال عن الغنيمة أخذ على نحو يشبه بالسرقة قبل القسمة.

ومعنى قوله صلى اللّه عليه وآله ان مدعي أخذ الغنيمة يصدق بلا بينة ولا يمين بعد معلومية كونه من الغنيمة ، وأما مع الشك فيه وكون الدعوى في أصل كونه من الغنيمة فلا معنى لأخذه بلا بينة ، وحينئذ فالحكم على طبق القواعد ، لان مدعي كونها على غير وجه الغلولية مدعي مطالب بالبينة لموافقة قول منكره للأصل بل الأصول.

ووجه استشهاد الامام عليه السلام في درع طلحة بقول رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» أنه لما كان كون الدرع درع طلحة وكونه من الغنيمة أمرا معلوما وكان دعواه عليه السلام أنه أخذ غلولا - يعني بدون اذن الامام وتقسيم الغنيمة - كان مطالبة البينة منه عليه السلام قضاء جوريا.

ثمَّ قال عليه السلام : فقلت لم يسمع هذا الحديث فهذه واحدة ، ثمَّ أتيتك بالحسن فشهد فقلت هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر ، وقد قضى رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» بشاهد واحد ويمين فهذه ثنتان ، ثمَّ أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة فقلت هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك ولا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا ، ثمَّ قال : ويلك أو ويحك امام المسلمين يؤمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا.

صدق اللّه العلي العظيم وصدق رسوله الكريم ووجهه العليم.

ص: 7


1- نقس الحديث السابق وبقيته.

التقاط [ هل الشاهد واليمين معا حجة للمدعي؟ ]

هل الشاهد واليمين هما معا حجة للمدعي ، أو أن الحجة وهو الشاهد واليمين شرط ، أو العكس؟

قيل : وتظهر الفائدة في الغرم وقدره مع رجوع الشاهد : فعلى الأول يغرم الشاهد النصف ، وعلى الثاني الكل ، ولا يلزم شيئا على الثالث.

استدل على الأول بظاهر النصوص الدالة على توقف القضاء بهما معا ويتوقف كل منهما على الأخر ، فيكون الحجة مركبة منهما.

وعلى الثاني بأن اليمين قول المدعي فلا يكون حجة على المنكر بل هو شرط كيمين الاستظهار ، والاولى الاستدلال عليه بنحو « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » بعد دعوى صدق البينة على الشاهد الواحد كصدقها على أربعة مثلا ، فان الشاهد يكون حينئذ كالشاهدين في الحجية وان اشترط بشي ء كالبينة في الدعوى على الميت.

وعلى الثالث بأن اليمين جزء آخر للعلة فيكون هو الحجة ، والاولى الاستدلال عليه بأن الشاهد انما هو لتقوية جانب المدعي وصيرورة المقام به مقام إحلاف المدعي ، إذ عرفت سابقا أن الحلف انما هو على من يقوي جانبه منكرا كان أو مدعيا ، وان اختصاص المنكر به غالبا انما هو لقوة جانبه للأصل ، فلو قوى جانب المدعي للأمارة نوعية أو شخصية انقلب الأمر. والشاهد الواحد ليس من موازين القضاء أبدا ، وانما فائدته تقوية جانب المدعي ليحلف ، فالحلف هو الحجة بحكم قوله عليه السلام « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (1) ، وانما يحتاج في استعماله الى الشاهد ليصير المقام مقامه.

ص: 8


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

وكيف كان فلا جدوى في هذا النزاع وما ذكره من الثمرة بل واضح ، لان الحلف سواء كان شرطا أو شطرا أو مشروطا فله مدخل في الحكم وسبب في الإتلاف على المحكوم عليه ، وهذا القدر يكفي في ضمان الحالف للنصف ، لأن تأثير المقتضي والشرط في مسألة الضمان على نحو واحد وان كان تأثير الأول آكد ، وهو واضح.

التقاط [ لو قدمت اليمين على الشاهد وقعت لاغية ]

يشترط في الشاهد واليمين تقديم الشاهد على اليمين وتعديله ، بلا خلاف موجود بيننا. فلو قدمت اليمين وقعت لاغية.

والأصل في المسألة بعد الإجماع هو الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقن ، ولم يثبت في الشاهد واليمين الا ذلك. ويؤيده الترتيب الذكرى في أخبار المسألة ، وليس في الأدلة إطلاق في المقام ، لورودها في مقام أصل تشريع الشاهد واليمين.

وربما يذكر له بعض الوجوه والاعتبارات قابلة للمناقشة ، مثل ما في المسالك من كون الحجة هو الشاهد واليمين متممة له ووظيفة المتمم التأخير ، ومثل ما عن كشف اللثام من أن الشاهد يوجب تقوية جانب المدعي فيحلف كالمنكر ، فقبل قيام الشاهد لا مورد للحلف. والوجه الأول مبني على كون الحجة الشرعية هو الشاهد واليمين شرطا ، والثاني على العكس ، وشي ء منهما ليس بثابت ، وان ذكرنا للأخير وجها في الالتقاط السابق.

نعم يمكن أن يكون سر ما ذهب إليه الأصحاب هو ظهور أدلة الحلف في أنه لا بد أن يكون الحلف بعده الحكم ، فلو قدم على الشاهد لم يقع الحكم

ص: 9

بعده. وهو موافق للاعتبار أيضا ، لأن قضية التعظيم عدم تخلف الحلف عن القضاء ، وهو انما يتم إذا كان جزءا أخيرا للميزان أو بمنزلة الجزء الأخير ، إذ لو كان الجزء الأول فربما لا يلحقه الجزء الأخير فلا يتعقبه حكم.

وقد استفدنا من الأدلة نحو قوله « من حلف باللّه فصدقوه » (1) خلاف ذلك ، والأمر فيه سهل بعد وضوح أصل الحكم.

التقاط ( في مورد الشاهد واليمين ومقام استعمالهما )

اعلم أن الدعوى اما أن تكون في شي ء متعلق باللّه سبحانه ويسمى بحق اللّه أو في أمر متعلق بالادمي ويسمى بحق الناس ، والأول مثل رؤية هلال رمضان ونحوها من الموضوعات التي تستتبع أحكاما شرعية ، والثاني على أقسام أربعة :

الأول : أن لا يكون مالا ولا مستتبعا لمال كحق القذف.

الثاني : أن يكون بالانحصار.

الثالث : أن يكون غير مال مستتبعا للمال.

وهذا أيضا على قسمين : أحد هما ما كان المقصود الأصلي منه مالا كالبيع والصلح وحق الخيار وحق الشفعة ونحوها ، والثاني ما لم يكن كذلك وان استتبع المال دائما كالنكاح إذا كان المدعي مرأة أو أحيانا كالقصاص فإنه قد يستتبع مالا ، كما إذا كان على المقتضى منه ديون مؤجلة بناء على كون الموت سببا لتعجيل ما على الميت من الديون.

إذا تحقق ذلك فالقسم الأول - وهو حق اللّه المحض - لا يثبت بالشاهد

ص: 10


1- الوسائل ج 16 باب وجوب الرضا باليمين من كتاب الايمان ح 1 بلفظ « من حلف باللّه فليصدق ».

واليمين ، إذ المحلوف له انما هو اللّه تعالى ولا فائدة بالنسبة الى اللّه تعالى كما مر سابقا ، ولعل هذا إجماعي عندنا.

وأما باقي الأقسام ففي ثبوتها بها مطلقا أو التفصيل بين الحق الغير المالي المحض وبين ما عداه فيثبت الثاني مطلقا دون الأول واختصاص الحكم بخصوص الديون من قسم الحقوق المالية. وجوه واحتمالات :

( أما الأول ) فلم نجد قائلا به الا أن إطلاق كثير من الأدلة يقتضيه :

ومنها - حديث استخراج الحقوق بأربعة بناء على ما هو الظاهر في مقابلة الجمع بالجمع من الاستغراق (1) ، بمعنى ثبوت كل واحد من الحقوق بكل واحد من الأربعة ، خصوصا بعد ملاحظة ما فيه من بعض الشواهد ، حيث اشتمل على ذكر الأربعة بنحو الترديد والترتيب المشعرين بصلاحية كل مقام لمجي ء الأربعة بعد فقد الأول ثمَّ الأول.

لكن ورد في مقابلها أدلة مقيدة لا طلاقها بخصوص الدين ، مضافا الى ما في خصوص حديث الاستخراج من قابليته للإهمال ووروده في مقام أصل بيان جنس الموازين في جنس الحقوق لا في مقام بيان تمام الحكم.

منها - الجعفري : كان رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» يجيز في الدين شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدين ولم يكن يجيز في الهلال إلا شاهدي عدل (2). دل بظاهره على انحصار موردهما بالدين.

لا يقال : هذه حكاية حال لا تدل على أزيد من كون الصادر من الرسول «صلی اللّه علیه و آله و سلم» هو القضاء بها في خصوص الدين ، ومن أين يستفاد الحصر ، لان عدم قضاء الرسول في غيره لا يدل على عدم جواز القضاء بهما فيه.

ص: 11


1- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

لأنا نقول : ليس المراد أن الرسول قضى بهما في الدين دون غيره فلا يجوز ضرورة عدم اقتضائه لذلك ، بل المراد أن كلام الامام «عليه السلام» مسوق لبيان شرعية القضاء بهما وبيان موردهما ، والا فلا جدوى في ذكر الدين وان كان الصادر من الرسول «صلی اللّه علیه و آله و سلم» هو القضاء بهما فيه خاصة ، إذ ليس في بيان جميع خصوصيات الأمر الواقع فائدة.

وأيضا في لفظ « كان » دلالة على بيان ما عليه عادة الرسول لا ما وقع في زمانه صلى اللّه عليه وآله.

ومنها - الجعفري أيضا ، وفيه : فكان رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحق ، وذلك في الدين (1).

ودلالته أوضح ، لأن ظاهر قوله عليه السلام « وذلك في الدين » بيان ما شرع فيه القضاء بهما لا ما وقع فيه قضاء الرسول «صلی اللّه علیه و آله و سلم» .

ومنها - قوله عليه السلام أيضا : قضى رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده (2).

وهو أظهر دلالة منهما ، لمكان لفظة « وحده » الظاهرة أو الصريحة في الاحتراز عما عدا الدين.

وحمله على بيان ما وقع فيه قضاء الرسول «صلی اللّه علیه و آله و سلم» ركيك قريب باللغو في كلام الامام عليه السلام ، إذ بيان أن الرسول ما قضى بهما في غير الدين لو لم تكن لتحديد محلهما وموردهما من الدعاوي ، لم يتصور له فائدة مصححة لصدوره من الامام «عليه السلام» .

ثمَّ لا يتوهم أن المثبتين لا يقيد فيهما ، لان المثبتين في الأحكام الوضعية ،

ص: 12


1- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 5.
2- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 10.

خصوصا إذا كان المقيد في مقام التحديد ، وإعطاء الميزان يقيد مطلقهما بالمقيد. فظهر أن احتمال ثبوت كل حق آدمي ولو لغير المالي بهما لا مجال له.

ثمَّ نقول : ان المراد بالدين ليس هو الدين بالمعنى الأخص ، أعني الأمر الثابت في الذمة بعد خروج مثل الإنفاق على واجب النفقة ونحوها من الحقوق المالية الغير المستقرة في الذمة ، وكذا خروج مثل المبيع والصلح ونحو هما من أسباب الملك. فالدين مثال عن كل مال أو كل شي ء يكون المقصود الأصلي منه المال ، فلا حاجة في إلحاق العين به الى الإجماع المركب ، فبطل الاحتمال الأخير الذي حكي القول به من غير واحد من القدماء. ولعلهم أرادوا أيضا بالدين ما قلنا ، أعني مطلق الحقوق المالية سواء كان دينا أو عينا أو شيئا يقصد منه أحدهما ، فتعين الاحتمال الثاني.

ثمَّ ان تميز الحق المالي عن غيره وتميز ما يقصد منه المال عن غيره لا يخلو عن غموض ، إذ لو جعلنا المدار على القصد الشخصي لزم خروج مثل دعوى الخيار الغير المقصود منه في الواقعة الشخصية يحصل المال ، ولو جعلنا المدار على القصد النوعي لزم خروج مثل النكاح مطلقا حتى ما لو كان المدعي هي الزوجة ، لأن وضع النكاح ليس لتحصيل المال وان ترتب عليه غالبا أو دائما.

ولو جعل المدار على أحد الأمرين كان أمتن ، لأن العبرة بصدق كون الدعوى في الدين بالمعنى الأعم ، فلو كان المدعى به مالا أو شيئا وضع لأجل تحصيل المال صدق أن الدعوى في الدين وان علمنا من حال المدعي أن غرضه ليس تحصيل المال.

وكذا لو كان المدعى به في خصوص الواقعة الشخصية شيئا مستتبعا للمال وكان غرض المدعي أيضا تحصيل المال كالقصاص فيما لو كان على المدعى عليه ديون مؤجلة ، صدق أيضا أن الدعوى في الدين.

ص: 13

الا أن الذي يظهر من الأدلة ومن كلام الأصحاب كون المدار على الوضع النوعي ، فكلما وضع بحسب النوع لجلب المال فيثبت بالشاهد واليمين.

ثمَّ ان ذا الجنبتين والموارد المشكوكة حكمها واضح ، فإن الأول كالسرقة مثلا يعمل فيه بالنسبة الى كل جهة ما هو وظيفتها ، والثاني يرجع فيه الى الأصل والقواعد وهو عدم الثبوت.

هذا إذا كانت الشبهة غير موضوعية ، وأما إذا كانت موضوعية فهي غير متصورة إذا كان المدار على القصد النوعي كما لا يخفى. نعم لو اعتبر القصد الشخصي أيضا فلا يبعد إيقاف الحكم حتى يستفسر عن قصد المدعي. واللّه العالم.

التقاط [ حلف جماعة من المدعين في الدعوى الواحدة ]

لو ادعى جماعة مالا لمورثهم مثلا حلفوا أجمع مع شاهدهم وثبت الدعوى ولو حلف بعض أخذ نصيبه ولم يكن للممتنع مشاركة معه - كذا في الشرائع.

وإطلاقه لا يفرق بين كون المدعى به عينا أو دينا ، لكن الفاضل في محكي التحرير والإرشاد والقواعد فرق بينهما ، فحكم بمشاركة الممتنع معه فيما أخذ إذا كان عينا. واستشكل في المسالك الفرق بين ما نحن فيه وبين ما لو أقر المدعى عليه لأحدهما فإنه يشاركه الأخر فيما وصل اليه.

فهنا إشكالان : أحدهما الفرق بين الشاهد واليمين وبين الإقرار ، والثاني الفرق بين العين والدين في الشاهد واليمين.

ثمَّ ان هنا اشكالا ثالثا ، وهو الفرق بين المقام وبين ما عليه الأكثر من أن الدين المشترك بين الاثنين كل ما يحصل أحد الشريكين منه مشاركة الأخر ان شاء ولو نوى الدافع كونه للأخذ.

ص: 14

ويمكن دفع هذا الإشكال بأن الدين المشترك متعين في الخارج بتعيين المديون ، فاذا تعين جرى على ذلك العين الخارجي حكم الشركة ، ولا يؤثر فيه تعيينه لأحد الشريكين ، لأنه ليس له ولاية على تقسيم ذلك المشترك ، وكذا ليس للأخذ أيضا ذلك ، فيبقى مراعى بإجازة الأخر. بخلاف ما يعينه المدعى عليه في المقام في الخارج للحالف ، فإنه لم يعينه على أن يكون تعيينا للدين المدعى به ، إذ المفروض إنكاره وعدم اعترافه بالدين ، فذلك العين باق في ملك المدعى عليه وانما يأخذه الحاكم للحالف بحكم الشرع المستند الى الحلف ، فلو حكم بمشاركة غير الحالف معه لزم كون اليمين مثبتة مالا لغير الحالف ، وهو غير جائز سواء كان مستقلا كحلف الوكيل لإثبات مال الموكل أو الولي لإثبات المال المولى عليه أو في ضمن إثبات مال للحالف كما إذا كانا شريكين.

فان قلت : لو شاركه الأخر فإنما يشاركه بمقتضى اعترافه بالشركة لا لأجل الحلف ، لان الحلف متعلقه أمر كلي في الذمة ولا شركة فيه ومتعلق الشركة انما هو المأخوذ الخارجي ، وهذه الشركة انما جاءت بمقتضى اعتراف الحالف بالشركة في الدين.

قلنا : متعلق الاعتراف أيضا هو المشاركة في الدين الكلي الثابت في ذمة المدعى عليه ، وكلما يوجد من ذلك الدين في الخارج ، وأما المأخوذ فليس مصداقا لذلك الدين ، لان المفروض عدم قصد الدافع كونه وفاء للدين حتى يجري فيه حكم الشركة بمقتضى الاعتراف ، فهو في الواقع والظاهر ملك طلق للمدعي عليه وانما يدفعه الى الحالف غصبا عليه بحسب حكم الحاكم ، فليس ذلك مما يقتضي الاعتراف بأصل الشركة في الدين المشاركة فيه ، فلو شاركناه مع الحالف لكان الحلف مثبتا لمال الغير.

لا يقال : نية الحاكم هنا قائم مقام نية الدافع فيجب أن يتشاركا ، لان الحاكم

ص: 15

انما حكم بدفعه وفاء للدين المشترك ، فيكون ذلك المدفوع حصة من الدين المشترك والا لم يجز للحالف أيضا أخذه إلا تقاصا.

لأنا نقول : لم يثبت ترتب ذلك الحكم الوضعي على حكم الحاكم ، بمعنى كون حكمه ونيته بمنزلة نية المديون في تعيين الدين الكلي ، وانما ثبت جواز أخذ الحالف بمقتضى الحكم.

هذا ، وقد يناقش فيه : بأن الحالف يأخذه بعنوان كونه من الدين لا بعنوان المقاصة ، فيشاركه الأخر بمقتضى اعترافه بكون المأخوذ حصة من الدين المشاع.

ومنه يظهر الفرق بين المأخوذ بالحلف والمأخوذ بالمقاصة ، فإنه لا مشاركة في الثاني قطعا بخلاف الأول فإن قضية الإشاعة مشاركتهما فيما يحصل للحالف فيه ، الا أن المشهور لعله الأول.

ومما ذكرنا ظهر الفرق بين العين والدين أيضا ، لأن العين لما كانت ذاتها مشتركة مشاعة بينهما جرى على ما يحصل منها في يد الحالف حكم الإشاعة ، وليس كالدين محتاجة إلى القصد والنية حتى تتشخص في الخارج على وجه الإشاعة ، فالمأخوذة من العين مشاعة بينهما قبل الأخذ وبعده ، بخلاف المأخوذ من الدين فإنه قبل الأخذ ملك طلق للمدعي عليه وبعد الأخذ يصير ملكا للحالف.

وأما الفرق بين ما نحن فيه وبين الإقرار فهو أيضا واضح ، وان كان في إلحاقه بالمقام أيضا وجه من حيث أن المدعى عليه منكر للآخر فيكون مثل ما نحن فيه. الا أن الأظهر الحاقه بالمعترف بها ، لأنه باعتبار اعترافه لأحدهما يتعين ما يدفعه اليه للدين ، فيجري فيه حكم الشركة بمقتضى اعترافه.

والمسألة من حيث هذه الإشكالات تحتاج الى تتبع وتأمل مزيدين. واللّه العالم.

ص: 16

التقاط [ البطون الموقوف عليهم متعاقبا ] [ هل يأخذون الوقف بلا يمين ]

لو ادعى بعض أن الميت وقف عليهم دارا مثلا وبعدهم على نسلهم مترتبا ، فان حلف المدعون مع شاهدهم قضى لهم بالوقفية ولا يؤدى منها دين ولا ميراث ولا وصية ، فان انقرضوا معا أو على التعاقب فهل يأخذ البطن الثاني الدار من غير يمين أو يتوقف عليها؟

صرح في الشرائع بعدم الاحتياج الى يمين مستأنفة ، لأن الثبوت الأول أغنى عن تجديده ، لكن في المسالك : فيه وجهان مبنيان على أن البطن الثاني يتلقون الوقف من البطن الأول دون الواقف ، فعلى الأول كما هو الأشهر فلا حاجة الى اليمين ، كما إذا أثبت الوارث ملكا بالشاهد واليمين ثمَّ مات فان وإرثه يأخذه بغير يمين - انتهى.

وفيما ذكره اشكال من وجهين :

( أحد هما ) انهم ذكروا في باب الوقف أن إجارة البطن الأول للوقف الى ما بعد انقراضهم باطلة لتعلق حق البطن الثاني بالوقف ، معللين بأن البطن الثاني يتلقون الوقف من الواقف دون البطن الأول. ولم يخالف فيه أحد. وان احتمل المحقق «رحمه اللّه» صحة الإجارة مع كون الأجرة للبطن الثاني ، وهذا كيف يجامع ما ذكره من تلقيهم الوقف من البطن الأول.

( والثاني ) ان مسألة تلقي الوقف من البطن الأول أو من الواقف ليس معنونا في كلام القوم على وجه يمكن تحصيل الشهرة على أحد طرفيها ، فكيف ذكر أن الأشهر التلقي من البطن الأول.

ص: 17

ويمكن دفع الإشكال الأول بأن المراد بتلقي الوقف من الواقف في مسألة الإجارة غير المراد به في المقام وأمثاله ، لأن المراد به في باب الإجارة عدم كون الوقف منتقلا من البطن الأول الى الثاني نحو انتقال الإرث ، وهو حق سواء قلنا بأنهم يلقون من الواقف أو من البطن الأول ، إذ خروج الوقف من ملك الأول ودخوله في ملك الثاني على القول بتلقيهم من الأول ليس على نحو تلقي الإرث من المورث ، لان المورث يترك ماله للوارث بجعل اللّه تعالى وحكمه بخلاف البطن الأول فإنهم يتركون الوقف للبطن الثاني بجعل الواقف.

وان شئت قلت : ان زوال ملكية المورث عن التركة ودخولها في ملك الوارث ليس لأجل قصور في ملكية التركة للمورث ونقصان فيها بل لأجل قصور في المالك لان الميت لا يملك ، بخلاف زوال ملكية الوقف للبطن الأول فإنه لأجل نقصان وقصور في نفس الملك دون المالك ، وان كان هو أيضا قاصرا باعتبار الموت.

وأما المراد به في المقام وأمثاله فهو معنى آخر ، وهو أن يكون الوقف داخلا في ملك البطن الثاني في عرض دخوله في ملك البطن الأول ، من غير فرق الأمن حيث تقدم زمان ملكهم على زمان ملك الثاني ، فيكون المراد التلقي من البطن الأول في مقابل هذا المعنى ، وهو أن يكون الواقف داخلا في ملك الثاني مترتبا على دخوله في ملك الأول.

وبعبارة أخرى : التلقي من الوقف مرجعه الى أن الواقف ملّك العين برهة من الزمان البطن الأول وبرهة البطن الثاني وهكذا ، لا بمعنى تجديد أصل الملك ، فان الملك لا يعقل تجديده ، بل بمعنى جعل الزمان قيدا للمملوك. فالعين المقيدة بكونها خمسين سنة مملوكة للبطن الأول والمقيدة بخمسين بعده مملوكة للثاني وهكذا. نظير تقييد المنفعة ، فإن من يملك منفعة سنة من الدار فإن جعل الملك

ص: 18

المؤبد وان كان المملوك - وهي المنفعة - محدودة. ومرجع التلقي من الأول أن الواقف ملكهم ليس الا لكن وجه خاص يرجع الى نقصان وقصور في أصل الملكية ، بأن جعله متعلقا لحق البطن الثاني وتملكهم على نحو يستلزم انتقاله الى البطن الثاني ومنه الى الثالث وهكذا ، فالملك والمملوك على الثاني مستبدان لكن الملك ملك مخصوص متعلق بحق غير المالك ، وعلى الأول فالملك مؤبد تام والملك محدود نظير تحديد المنفعة.

فظهر الفرق بين التلقي من الواقف أو من الأول ، كما ظهر الفرق بين التلقي من الواقف في باب الإجارة وبين التلقي من الواقف في هذا المقام ونظائره ، مثل ما قالوا في قبض الوقف من كفاية قبض الأول لأن الثاني يتلقون منه لا من الواقف.

ويمكن رفع الإشكال الثاني بأن الأشهر في كلامه قدس سره صفة للمبني بملاحظة التفريع لا لنفسه ، لان المشهور عدم احتياج تجديد اليمين ، فقوله « كما هو الأشهر » معناه أن التلقي من الأول أشهر من جهة أن عدم تجديد اليمين هو الأشهر لا أن التلقي من الأول في نفسه هو الأشهر. وهذا نظير دعوى الإجماع على الحكم بزعم اندراجه تحت أصل مجمع عليه.

وهذا وجه في العبارة وان كان بعيدا ، وهذا هو الكلام في المبنى.

وأما التفريع والبناء فيمكن النظر فيه من الطرفين :

( فقد يقال ) بتلقيهم من البطن الأول مع لزوم تجديد اليمين كما ذهب اليه بعض مشايخنا ، لأن أصل الملك للبطن الثاني مسبب عن فعل الواقف ، فهم مع البطن الأول سواء في كون كل منهما مدعيا على سائر الورثة ، فعلى كل منهما الحلف ، لان حلف الشخص لا يجدي في إثبات مال للغير ، ومجرد التقدم الرتبي والترتيب في الملك لا يغني عن حلف المتأخر.

ص: 19

( وقد يقال ) بتلقيهم من الواقف مع عدم الحاجة الى تجديد اليمين ، لان البطون بمنزلة شخص واحد من جهة اتحاد سبب التمليك وان كان ملكهم على نحو الترتيب دون التشريك ، فيكون حلف البطن الأول مغنيا ، لأنه إذا حلف بعض المجموع فقد حلف المجموع ، ولذا يكتفي في القبض بقبض البطن الأول مع اشتراط الوقف بالقبض.

والحاصل ان ما ذكره قدس سره من التفريع ليس محل القبول كل القبول ، بل للمناقشة فيه مجال واسع وعلى الناظر التأمل.

[ لو كان الوقف للجنس يبطل لامتناع إثباته بالحلف ]

ولو كان الاستحقاق بعد الأولاد للفقراء - أي للجنس - بطل الوقف لامتناع إثباته بالحلف ، إذ المستحق إذا كان هو الجنس لم يصدق على فرده المدعى حتى يسمع منه الحلف وعادت الدار إرثا ، اما لبطلان الوقف من أصله لكونه أمرا ظاهريا ثابتا بموجب حلف البطن المنقرض فيرجع الى مقتضى الأصل ، أو لصيرورته حينئذ كالوقف المنقطع الأخر الذي حكمه العود الى ملك الوارث ، وعلى الأول فالعبرة بالوارث حين موت الواقف ، وعلى الثاني يحتمل ذلك أيضا ويحتمل كون العبرة بحين الانقطاع كما يحتمل غير هما أيضا من الوجوه المذكورة في المنقطع الأخر.

وفي المسالك يحتمل صرفه إلى أقرب الناس الى الميت. وهو بظاهره لا وجه له الا أن يكون المراد صرفه الى وجوه البر ، فان الشيخ في محكي المبسوط ذكر ذلك ثمَّ قال : ان أقرب وجوه البر هو الصرف على أقرباء الميت الأقرب فالأقرب ، لان خير الصدقة هي الصدقة على الأقارب ، ولعله المراد كما يعلم من ملاحظة المبسوط.

ص: 20

هذا كله إذا حلف المدعون أجمع ، فإن امتنعوا عن الحلف أجمع حكم بالدار ميراثا ولهم إحلاف باقي الورثة المنكرين ان ادعوا عليهم العلم بالوقفية ونصيبهم وقف بمقتضى إقرارهم على أنفسهم ، فإن ماتوا صرف حقهم إلى أولادهم على سبيل الوقف دون الإرث ، لأن إقرار مورثهم نافذ عليهم.

هذا إذا كان الوارث والبطن الثاني متحدين ، فان اختلفا صرف الى البطن الثاني وقفا ولا يعطى الوارث لإقرار مورثهم ، وهل يحتاج البطن الثاني إلى اليمين في أخذهم له وقفا؟ في المسالك وجهان مبنيان على تلقي الوقف كما تقدم.

ويشكل ذلك بأن البطن الثاني لا معارض له لأنهم الوارث ، ولو فرض كون الوارث غيرهم فهم ممنوعون عن الإرث بإقرار مورثهم ، فلا مدعي للبطن الثاني حتى يحلفوا له.

ويمكن أن يقال : ان الحاكم يحلفهم باعتبار رجوع أمر الوقف اليه بعد فرض حرمان الوارث فلا يعطيه مدعي الوقفية بلا يمين ، وهل للأولاد أن يحلفوا على أن جميع الدار وقف كما كان ذلك للبطن الأول؟ في المسالك فيه وجهان : من كون الأولاد تبعا لا بأيهم فإذا لم يحلفوا لم يحلفوا ، ومن أنهم يتلقون الوقف من الواقف فلا تبعية.

وفيه : ان المقتضي للحلف موجود والمانع مفقود ، لان البطن الثاني سواء كان متلقى من البطن الأول أو من الواقف يدعون وقف الدار عليهم ، وهي دعوى ممنوعة فلهم الحلف مع شاهدهم ، وتلقيهم من الأول ليس يرجع الى نحو الإرث كما عرفت ، فلا ربط له بالمقام.

وهل يكفيهم اقامة البطن الأول الشاهد ، إذ لا بد لهم من تجديد اقامته؟

ص: 21

والثمرة تظهر عند خروج الشاهد عن شرائط القبول في عصر البطن الثاني. وسيجي ء إنشاء اللّه تعالى في باب الشهادات تحقيق هذا المقام.

ولا يبعد القول بالكفاية ، لان الخصوم بمنزلة الخصم الواحد لاتحاد دعواهم فلا يقاس بغيرهم في عدم الكفاية ، لأن المناط في اتباع الشاهد استجماعه لشرائط القبول عند المتبع لا عند غيره.

ولو حلف بعضهم ونكل بعض - بأن كانوا ثلاثة فحلف واحد ونكل اثنان - أخذ الحالف الثلث والباقي تركة يقضى منه الديون والوصايا وما فضل يقسم بين من عدا الحالف من الورثة كما عن المبسوط. وقيل يقسم على الكل حتى الحالف ، ولا وجه له وجيه.

نعم لو كان نصيب الحالف إرثا أكثر من نصيبه وقفا كان الزائد في حكم مجهول المالك ، لان الحالف ممنوع منه بإقراره اوقفية الموجبة لنقصان حظه وكذا الوراث لإنكارهم الوقف ، فالزائد بزعمهم مال الحالف ويجري عليه حكم مجهول المالك ، وهي الصدقة بناء على جريانه في كل مال امتنع إيصاله إلى مالكه ولو كان معلوما تفصيلا أو إجمالا ، نظرا الى عموم مناط دليله وهو كون الصدقة أقرب طرق الإيصال المأمور به حينئذ. ويحتمل فيه القرعة بناء على معارضة من خرجت باسمه بإقرار الأخر فيدس حينئذ في مال من خرجت باسمه. ويحتمل الصلح بين الحالف وبين من عداه.

وهذه الوجوه الثلاثة تحتمل في كل مال مردد بين اثنين ينفيه كل منهما عن نفسه ، والأول أوجه ثمَّ الثاني. واللّه العالم.

ص: 22

القول في كتاب قاض الى قاض

التقاط [ عدم الاعتداد بكتاب القاضي في القضاء ]

المعروف بين أصحابنا «رحمه اللّه» عدم الاعتداد بكتاب القاضي ، وقد روى طلحة والسكوني عن ابي عبد اللّه عليه السلام أن عليا «عليه السلام» كان لا يجيز كتاب قاض الى قاض لا في حد ولا في غيره الى أن ولت بنو أمية فأجازوا بالبينات (1).

وسند رواية السكوني إلى السكوني على ما أخبر به شيخنا دام ظله صحيحة ، والسكوني عامي الا أن رواياته معمول بها عند الأصحاب ، فلا شين فيها من حيث السند.

وأما دلالتها ففيها بعض الكلام ، لأنها كالصريحة في أن عليا عليه السلام كان لا يجيز كتاب القاضي مطلقا حتى مع البينة ، بقرينة مقابلة فعل بني أمية لفعله «عليه السلام» ، مع أن الكتابة الثابتة بالبينة كالقول الثابت به في بعض الفروع.

وتوضيح الحال أن يقال : ان إنهاء الاحكام وابلاغها الى الحكام قد يكون

ص: 23


1- الوسائل ج 18 ب 28 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

مع الواسطة وقد يكون بدونها ، والوسائط بعد خروج الوسائط المفيدة للعلم منحصرة في البينة وإقرار المدعى عليه ، والإنهاء بدون الواسطة منحصر في القول والفعل كالكتابة والإشارة ونحو هما ، فهنا مسائل أربع :

[ لو كانت الواسطة بين القاضيين الكتابة ]

( الاولى ) أن تكون الواسطة هي الكتابة ، وقد عرفت أنها غير معتبرة عند الأكثر سوى المحقق الأردبيلي إذا علم بصدور الكتابة عن قصد. نعم نقل عن ابى علي إجازتها في حقوق الناس مطلقا.

وتحقيق المقام هو ان الكتابة فيها أمور عديدة يمكن استناد عدم الاعتبار إليها :

« منها » - احتمال كونها مزورة على القاضي كما ذكره المحقق.

« ومنها » - احتمال صدورها لا عن قصد معناها كما في المسالك ، اما بعدم قصد أصل الكتابة وصدورها بمثل السهو ونحوه أو بعدم قصد افادة شي ء بل لغرض آخر مثل اختبار القلم أو المشق أو نحوهما.

« ومنها » - احتمال كونها إنشاء لا اخبارا ، كما هو المتعارف في مثل هذا الزمان من إنشاء الاحكام بالارقام لا بالألفاظ.

« ومنها » - عدم الدليل على اعتبار الكشف الكتبي بعد الفراغ عن الأمور السابقة والعلم بصدورها قصدا لحكاية مضمونها من صدور الحكم سابقا ، كما ذكره بعض مشايخنا « قده ».

وهذه الاحتمالات كلها صالحة لمنع الاعتداد بالكتابة :

( أما الاحتمال الأول ) فلا سبيل الى دفعه إلا بقرائن الأحوال المفيدة للقطع.

( وأما الاحتمال الثاني ) فيمكن دفعه بالأصل كما يدفع ذلك في القول ، لأن أصالة عدم السهو والخطأ والنسيان والعبث وأشباهها لا يفرق في اعتبارها

ص: 24

عند العقلاء بين القول والكتب الا احتمال قصد غرض آخر غير الإفادة ، فإنه أمر غير بعيد في الكتابة لم يعلم بناء العقلاء على الجري بمقتضى عدمه عند الشك ، فان غرض المشق في الكتابة مثلا أو غرض اختبار القلم أو نحو هما من الأغراض ليس بمثابة سائر الأغراض الحاصلة في الأحوال غير الإفادة في الندرة ، فلا بعد في منع ذلك عن اعتبارها.

( وأما الاحتمال الثالث ) فكذلك لا أصل فيه يرجع إليه ، لأن الصورة صالحة للأخبار وللإنشاء ، كالقول فإنه أيضا إذا تردد بين الاخبار والإنشاء يتوقف فيه ، الا أن الأقوال قد يكون الأصل فيها يقتضي الاخبار ، مثل صيغة الماضي مثل « حكمت » و « بعت » و « اشتريت » ، فإنه لو شك في مثل ذلك بل أريد به الاخبار أو الإنشاء فمقتضى أصالة الحقيقة الثاني.

وكذا الكلام في الجملة الاسمية مثل « أنت طالق » و « أنت حر » و « أنا ضامن » فإنها عند الشك أيضا محمولة على الاخبار ، اما لأصالة الحقيقة بناء على ثبوت الوضع للمركبات أو للأصول الاعرابية كما قيل ، فيكون وضع الجملة الاسمية في اللغة للأخبار وتحمل عليه عند الشك أو لأصل آخر يرجع في أمثال المقام اليه. وليس الحال في الكتابة كذلك ، فإن صورة « حكمت » كما تصلح للأخبار كذلك للإنشاء ولا أصل هنا يرجع اليه. الا أن يقال بأن الكتابة تجري مجرى اللفظ عند العرف في جميع الاحكام ، وهو أمر غير ثابت.

نعم قد يقال : بأن الكتابة تكفي في إنشاء الحكم ، وليس الحكم مثل بعض الأمور المعتبر فيه اللفظ كالبيع والنكاح ونحو هما ، بل مثل الأمور التي لا يتفاوت في الكشف عنها بين القول والفعل كما ذكره في محكي مجمع البرهان كالوكالة والفتوى والرواية فإنها تتحقق بالكتابة كما تتحقق بالقول. لكن طريقة معظم الأصحاب من القدماء والمتأخرين على عدم المساواة بينهما وعدم الحكم بقيام

ص: 25

الكتابة مقام اللفظ في مقام التعذر كخرس ونحوه ، أو في مقامات خاصة علم أن أحكامها الوضعية والتكليفية تابعة لمعانيها لا لألفاظها كالوكالة فان آثارها انما علم بثبوتها للإذن الذي يكشف عنه عبارة التوكيل عنها فيكتفي فيها بالكتابة ، ومثل الفتوى فان المطاع رأي المجتهد حتى لو علم به من غير كاشف عمل به.

ومثل تعديلات الرجال ، فان مدارها على ما يستكشف منها من الإذعان القلبي بعد التهم لا على الاخبار بذلك الإذعان ، كما هو الشأن في التعديل في الموضوعات خصوصا في مقام المرافعة فإن العبرة بالأخبار بالإذعان بالعدالة في شهود مثل الهلال أو دين أو حق على الغير أو نحوها.

والحاصل ان بناء الأصحاب على الاقتصار على الأقوال إلا في مقام التعذر أو في مقام علم من الخارج أن العبرة فيه بالمكشوف عنه لا بالكاشف ، وحينئذ فلا بد من النظر والتأمل في الحكم وأنه مثل الفتوى ، فلا عبرة فيها بخصوصية الكشف القولي أو مثل الشهادة في الاقتصار على الاخبار القولي أو مثل سائر الإنشاءات المعتبر فيها اللفظ خاصة ، ومقتضى الأصل الأولي معلوم والدليل الوافي غير معلوم.

( وأما الاحتمال الرابع ) فهو أيضا معتد به ، لعدم الدليل على اعتبار ظواهر الكتابة. لكنه ضعيف ، لأنا إذا أحرزنا صدور الكتابة عن قصد الاخبار بالحكم السابق وعلمنا به فلا يبقى في المقام جهة ظنية الأمن جهة احتمال سقط أو تجوز مع ترك القرينة ونحوها من الأمور التي لا يعتني بها عند العقلاء.

نعم ، هنا كلام آخر ، وهو أن الكتابة بعد الفراغ عن الأمور المزبورة تكون كالقول في الكشف عن الاخبار بالحكم ، فلا بد من التأمل في أن دليل قبول قول الحاكم على القول به هل يجري في الكتابة أم لا فمن الجائز اختصاصه به ، كما إذا استدللنا على قبول القول بقاعدة من ائتمن على عمل قبل قوله فيه مطلقا

ص: 26

أو مع العدالة ، فإن هذه القاعدة يمكن منع جريانها في الفعل ، فلو أخبر النائب في الحج به قولان قبل قوله بناء على القاعدة ، وأما لو أخبر به كتبا أو إشارة فلاحتمال عدم القبول مجال واسع وأولى بالمنع ما لو لم يخبر أصلا وعلمنا أنه لو سئل عنه لا خبر به.

والحاصل ان الكتابة بعد الفراغ عن عدة أمور تصير كالقول الذي نتكلم فيه إنشاء اللّه تعالى ، فانتظر وتأمل في جريان دليل قبوله فيها.

[ أخبار القاضي للقاضي الأخر بحكمه ]

( الثانية ) أن تكون الواسطة قول القاضي واخباره بالحكم الذي حكم به ، اما للشاهد يشهد به عند القاضي الثاني كما هو المفروض في الشرائع أو للقاضي الثاني ، بأن يقول له شفاها « اني قد حكمت بينهما في وقت كذا » قاصدا للأخبار.

ويمكن الاستدلال على وجوب تصديقه بأمور :

« الأول » - كونها خبر عدل فيصدق ، بناء على أن الأصل في الخبر العدل القبول حتى في الموضوعات.

« الثاني » - قاعدة من ملك شيئا ملك الإقرار به ، لان بعض مجاريه الظاهر لا اشكال ولا خلاف فيه. والمقام منه ، لان ظاهرهم إمضاء من كان إنشاؤه ماضيا يصرح به الفخر في محكي الإيضاح ، وعبارة الشرائع أيضا ظاهرة في هذا المعنى ، وفي المسالك ان الملازمة بين الأمرين ظاهرة.

وقد ذكرنا بعض الفروع المصرح بجريان القاعدة المزبورة فيها في باب اللقطة ، مثل قبول قول العبد المأذون في التجارة قبل الانعزال ، وقد نقل عن الشيخ في باب الجهاد وجوب تصديق من يخبر من العسكر بتأمين بعض الكفار قبل استقرار حكم الأسر.

ص: 27

نعم لو بني في المسألة على ذلك وجب تقييد الحكم بما قبل زمان انعزال القاضي ، لأن هذه القاعدة على تقدير جريانها مختصة بزمان كون ذلك الشي ء المقربة مملوكا للمقر ، حتى أنهم صرحوا بأن إقرار المريض بما زاد عن الثلث غير نافذ ولو تعلق بفعله في زمان الصحة ، فارجع الى ما ذكرنا في باب اللقطة تجد شواهد واضحة على ذلك. وحينئذ فلو كان اخبار الحاكم في زمان رجوع الشهود عن الشهادة أو خروجهم عن العدالة لم يقبل أيضا ، لأنه في هذه الحال ليس للحاكم الأول إنشاء الحكم حتى يقبل اخباره.

« الثالث » - أدلة القضاء ، فإنها كما تدل على نفوذ إلزامات القاضي كذلك تدل على قبول إخباراته بالقضاء ، لان تصديق خبره في ثاني الزمان فصل ظاهري بين المتخاصمين وان كان اخبارا لا إنشاء.

فان قلت : انه فصل بلا ميزان.

قلنا : الميزان السابق يكفي في هذا الفصل أيضا.

ولا يذهب عليك أنا لا نقول ان الاخبار بالإلزام إلزام وفصل حقيقة ، بل نقول انه إخبار لو صدقناه ترتب عليه استمرار الفصل السابق فيجب أن يقبل ، للملازمة العرفية بين نفوذ الإلزام ونفوذ الاخبار بالإلزام ، فيستدل من دليل الأول على الثاني من باب لوازم الخطاب. ويمكن أن تكون عبارة الشرائع ناظرة الى ذلك.

وهذا نظير ما قالوا في باب الطلاق من أن إنكار الرجوع طلاق لأن إخباره يكشف عن رضائه بالزوجية ، فإذا كان في زمان جاز له الرجوع أثر أثره ، لأنه ان كان في الواقع صادقا في الاخبار بعدم الطلاق فهو وان كان كاذبا فهو راض بالزوجية ولو بقاءا ، فيكون في حكم الرجوع الذي هو عبارة عن الرضا بحدوث

ص: 28

الزوجية لعدم الفرق بين الرضائين الرضا بإبقاء المدلول عليه بالأخبار الكاذب والرضا بالحدوث المكشوف عنه بالرجوع.

وفيما نحن فيه أيضا نقول : ان اخبار الحاكم بالفصل ان كان صادقا فهو والا فقد انقدح في ضميره عدم خصومة بين المتخاصمين ولو بقاءا ، فكما أنه إذا رأى عدم الخصومة حدوثا نفذ رأيه كذلك إذا رأى عدمها بقاءا ، فيكون اخباره بعدم الفصل بمنزلة إلزامه به من حيث الكشف عن تعلق رأيه بعدم الخصومة.

وللتأمل في جميع الأدلة المشار إليها مجال. واللّه العالم.

[ لو كانت الواسطة بين القاضيين البينة ]

( الثالثة ) أن تكون الواسطة البينة. والظاهر عدم الاشكال والخلاف المعتد به في اعتبارها في المقام ، إذ لا مانع منها مع عموم حجيتها ، فثبت بها حكم القاضي الأول عند القاضي الثاني ، فيلزم الناس بمتابعته إلزاما ناشئا من أطراف الحكومة لأمن أطراف الأمر بالمعروف والسياسات.

[ إقرار المحكوم بحكم قاض عند قاض آخر ]

( الرابعة ) أن تكون الواسطة الإقرار. واعتباره أظهر ، حتى أن اعتبار البينة في محكي الشرائع ثبت بالمقايسة إلى اعتباره. قال ما مؤداه : انه لو أقر المحكوم عليه بالحكم عند الحاكم الثاني لألزم فكذلك لو ثبت بالبينة ، لأنه كلما ينفذ الإقرار به يثبت بالبينة.

لكن في المقام إشكالين : أحدهما إخراج حقوق اللّه تعالى ، والثاني الحكم بعدم نفوذ حكم القاضي الأول بعد فسقه ونفوذه بعد موته وجنونه ونحوه.

ص: 29

( وجه الإشكال الأول ) ان عموم حجية البينة تأبى عن التخصيص بحقوق الناس ، وكون حق اللّه مبنيا على التخفيف لا يصلح له والا لما ثبت بها عند الحاكم الأول أيضا.

ولو منع عن عموم حجية البينة فلا فرق أيضا في مسألة التنفيذ بين حقوق الناس وحقوق اللّه تعالى. وما ذكر في الفرق من أن القضاء قول بغير علم فيقتصر على موضع الحاجة والقدر المتيقن وهو حقوق الناس دون حقوق اللّه التي بنيت على التخفيف ، يدفعه أن التنفيذ مع البينة ليس بغير علم.

أقول : لو قيل ان إنفاذ الحكم الثابت بل المعلوم أمر غير مستفاد من أدلة القضاء بل يحتاج إلى أدلة أخرى ، كما يفصح عنه تمسك مثل المحقق في ذلك بأمور أخر غيرها مثل مساس الحاجة ونحوها من الوجوه الثلاثة أو الأربعة.

فبان الفرق بين المقامين ، لان الفرق حينئذ ليس قدحا في عموم حجية البينة بل قدحا في وفاء عموم ذلك الدليل بالتنفيذ في حقوق اللّه.

( ووجه الإشكال الثاني ) ان حكم الحاكم ان كان مثل الفتوى فلا بد من مراعاة جميع الشروط في زمان العمل حدوثا وبقاءا ، ولذا قلنا في مسألة البقاء على تقليد الميت ان من يقول به لا بد أن يقول بجوازه بعد عروض الفسق والجنون أيضا ، مع انه باطل إجماعا ، كما أن الملازمة من أوضح الواضحات المنبهة عليها في محلها ، فلا وجه لنفوذ الحكم بعد الجنون والموت أيضا وان كان من باب الرواية والخبر. فالشروط شروط في حال الرواية لا في حال التحمل لا في حال العمل ، فينبغي نفوذ حكمه بعد الفسق أيضا كما يعمل بالرواية بعد فسق الراوي. واللّه العالم.

ص: 30

القول في القسمة

التقاط [ حقيقة الإشاعة وتقسيم المال المشاع ]

القسمة تمييز أحد النصيبين من المال المشاع عن النصيب الأخر ، والكلام هنا في مقامين : أحدهما في حقيقة الإشاعة الخارجية ، والثاني في توضيح حقيقة القسمة.

( أما الأول ) فالإشاعة عبارة عن سريان ملك كل من الشريكين الى كل جزء يفرض من العين المشتركة ، بمعنى كونه ملكا لهما في الواقع ونفس الأمر بالمناصفة مثلا. ولو انتهى الجزء الى جزء غير قابل للقسمة ففيه كلام يعرف ، فنصفه بحسب المالية لهذا ونصفه الأخر لذاك.

ولنوضح الحال بتنظير الجزء المشاع كالنصف بالجزئي المشاع أعني الفرد ، فكما ان الفرد المطلق المشاع سار الى جميع المصاديق الطبيعية في الخارج وينطبق على كل واحد من مصاديقها في الواقع ونفس الأمر كذلك الجزء المشاع كالنصف سار الى جميع المال المشترك ، فكل جزء يفرض يكون نصفه المشاع لأحد ونصفه الأخر للآخر.

ص: 31

ثمَّ إذا فرضنا جزءا وقلنا ان نصفه المشاع لأحد لم يمنع ذلك بأن نقول أن ذلك الجزء على فرض تقسيمه نصفين يكون كل نصف منه بين الشريكين أيضا بطريق التنصيف ، لان ذلك هو قضية الإشاعة بحسب الأجزاء الخارجية ، بمعنى اشتمال كل جزء على حقهما واقعا ونفس الأمر.

وهاهنا تحقيق آخر لبعض مشايخنا في معنى الإشاعة ، ومرجعه الى أن إشاعة الحق عبارة عن تعلق الحق بجزء كلي صالح للصدق على جميع ما يمكن أن يكون مصداقا لذلك الجزء. كالنصف المشاع الكلي فإنه يصدق على جميع الانصاف المفروضة حتى أنصاف الاجزاء.

والفرق المميز بين الوجهين غير واضح ، لكن تعلق الحق بالكلي بعد ما كان المملوك هي العين الخارجية تعسف بل يحتاج الى الدليل مع أنه لا يكاد يتم ، لان كلا من مصاديق النصف في الخارج جزئي حقيقي ، ومقتضى انطباقه على نصف زيد مثلا أن يكون ملكا طلقا له ، لأنه مصداق للكلي الذي هو كذلك ، ومقتضى كونه مصداقا لنصف عمرو أن يكون ملكا له خاصة ، فلا بد من القول بأنه مردد بينهما أو القول بأنه بينهما نصفين ، والأول خارج عن حقيقة الإشاعة والثاني هو المراد ، وذلك مقدمة لتصحيح ما ذكره لا تأسيس كما لا يخفى.

[ معنى الشركة في العين ]

توضيح المقام : ان الشركة في العين تتصور على وجوه ثلاثة :

« أحدها » - أن يكون كل منهما مالكا لاجزاء معينة في الواقع مبهمة في الظاهر.

« والثاني » - أن يكون كل منهما مالكا للجزء الكلي المنتشر كالنكرة مثل النصف المشاع القابل للصدق على كل أنصاف من غير تعيين في الواقع كالنكرة.

ص: 32

« والثالث » - أن يكون ملك كل منهما ساريا الى كل جزء بحيث لو فرض كل جزء كان بينهما ، فلا جزء في الواقع يكون منطبقا على ملك خصوص أحدهما ، بل كل جزء يفرض ففيه جزء من هذا أو جزء من ذلك.

والأول خارج عن حقيقة الإشاعة جدا ، لأن الشركة حينئذ مرجعها الى اشتباه المالين الغير المتمايزين ، كاشتباه أحد مصرعي الباب بالآخر واشتباه فرس بفرس. وكذا الثاني ، لعدم إمكان اختصاص مصاديق النصف بأحدهما الأعلى سبيل الترديد الذي عرفت فساده ، فتعين الثالث.

[ بحث حول الجزء الذي لا يتجزى ]

ثمَّ ان الجزء الذي لا يتجزى أو لا يقبل القسمة الخارجية ليس بمملوك لأحد ، وأما الجزء الذي ينقسم الى جزئين غير منقسمين فلا بد من كونه ملكا لأحد هما ومختصا به ، إذ العرض أن جزءه الفرضي الذي لا يتجزى أولا ينقسم غير قابل للملكية ، لأن الملك انما يعرض الأجسام وجزء الجسم الذي لا يتجزى على القول به حقيقة أو عرفا ليس بجسم ، فلا يكون ظرفا لإضافة الملك ، فلا بد أن يكون ذلك الجزء المركب من الجزئين الغير المتجزئين أو غير المنقسمين مختصا بمالك واحد أو باثنين على نحو كونهما مالكا واحدا لمملوك واحد.

وأما المركب من هذه الأجزاء الفرضية - أي الاجزاء المركبة من الجزئين الغير المتجزئين وهي العين المشتركة - فلما كان قسمتها الخارجية منتهية الى أجزاء غير قابلة للإشاعة بالمعنى المزبور ، بأن يكون جزء منه ملكا لأحدهما وجزء منه للآخر كما عرفت تطرق الإشكال في كون العين مشاعة بينهما أيضا ، لأن قضية تركبها من الاجزاء الفرضية الغير القابلة للإشاعة عدم تصور الإشاعة فيها وكونها بمنزلة ملك واحد مختصا بمالك واحد أو بمالكين على وجه

ص: 33

كونهما بمنزلة مالك واحد ، على أن يكون الملك الواحد الذي هو عبارة عن الاختصاص نصفه لهذا ونصفه لذلك لا أن يكون اختصاص نصف العين لهذا واختصاص نصفها الأخر لذلك ، كما هو كذلك على تقدير الإشاعة.

والحاصل ان مقتضى الإشاعة أن يكون كل منهما مالكا لنصف العين الخارجي فيكون لكل منهما اختصاصا مطلقا وملكا مستقلا بنصف العين ، فكل منهما مالك مستقل وكل من النصفين المشاعين مملوك مستقل.

ومقتضى انتهاء القسمة الى أجزاء غير قابلة للإشاعة غير صالح لعروض الملكية لها نظرا الى كون الملكية من صفات الأجسام وجزء الجسم ليس بجسم كونهما معا بمنزلة مالك واحد وكون العين أيضا بمنزلة المملوك الواحد ، فيكون لكل منهما نصف الاختصاص بالعين ، كما أنه على الأول يكون لكل منهما الاختصاص بنصف العين.

ومقتضى دقيق النظر الثاني ، لأن الجسم وان لم يشتمل على الاجزاء الفعلية الغير المتجزية أو المنقسمة الا أن قسمتها الخارجية تنتهي الى ذلك.

ويندفع ذلك الإشكال بأن أبعاض الجسم الحاصل بالتجزية الخارجية يتصور على أقسام ثلاثة :

( أحدها ) أن يكون ذلك الجزء بحيث لو قسم نصفين أو أثلاثا مثلا كان كل نصف منه أو كل ثلث منه قابلا لعروض الملكية له ، بأن يكون لكل نصف مملوكا لأحد مستقلا بحيث يكون قابلا للشركة ، بل لا بد من اختصاصها بشخص واحد ، فلو قسم نصفين خرج كل نصف منه عن الملكية.

( والثاني ) أن يكون بحيث لو قسم خرج كل قسمة منه عن صلاحية عروض الملكية ، كالجزء المركب من الجزئين الغير المتجزئين على القول بإمكان الجزء

ص: 34

الذي لا يتجزء ، ولازمه أن يكون ذلك الجزء مختصا ومملوكا لأحد فلا يصلح أن يكون مملوكا لاثنين على أن يكون كل منهما مالكا لجزئه ، إذ الفرض عدم قابلية جزئه للملكية ، فلو تعلق باثنين فلا بد من فرضهما كالمالك الواحد.

( والثالث ) أن لا يكون قابلا للتجزية كالجزء الذي لا يتجزى وأن لا يكون مختصا ومملوكا ، لأن الملكية من عوارض الأجسام وجزء الجسم الذي لا يتجزى ليس بجسم بل جزء منه.

وحينئذ نقول : ان القسمة قبل انتهائها إلى القسم الأول لا إشكال في تصور الإشاعة في العين ، لإمكان أن يكون كل جزء منه بين الشريكين على سبيل الإشاعة ، وبعد الانتهاء إليه فالإشاعة فيه عبارة عن كون أحد الجزئين منه على سبيل البدلية لأحد والجزء الأخر كذلك للآخر ، إذ الفرض عدم صلاحية أجزاء هذا الجزء الا أن يكون لأحدهما خاصة ، فالإشاعة هاهنا تغاير الإشاعة قبل الانتهاء فإنها قبل الانتهاء عبارة عن كون كل جزء منها مشتركا بينهما على سبيل الإشاعة وبعد الانتهاء عبارة عن اختصاص نصفه الكلي المخير بأحدهما ونصفه الأخر بالآخر.

وهذا ليس مرجعه الى القول الثاني ، أعني ملكية كل منهما لنصف العين الكلي الصادق على الانصاف المتوهمة في العين ، لان الالتزام به في تمام العين خروج عن حقيقة الإشاعة ، إذ الفرض أن نصف مجموع مصداقه قابل لان يكون بينهما بالإشاعة ، فلا وجه لاختصاصه بأحدهما وعلى سبيل البدل ، بخلاف ما نحن فيه ، فان الالتزام به في المقام ليس خارجا عن حد الإشاعة ، لأن الإشاعة الحقيقية إنما تتصور فيما إذا كان أجزاء العين المشتركة قابلة لان يكون بينهما ، فاذا انتهت القسمة إلى جزء لو قسمناه لم يصلح كل جزء منه الا للاختصاص

ص: 35

بأحدهما ، فلا يتصور الشركة في مثل ذلك الجزء الا بأن يكون نصفه الكلي لأحد هما ونصفه الأخر للآخر.

فهذا هو الفارق بين المقامين ، فاذا انتهت القسمة إلى القسم الثاني فلا بد أن تكون الشركة حينئذ على نحو آخر ثالث ، وهو أن يكون هما معا بمنزلة مالك واحد ، إذ الفرض أن الجزء في هذه المرتبة ليس مركبا من جزئين قابلين للاختصاص حتى يكون أحدهما ملكا لأحد الشريكين والأخر للآخر ، فلا بد حينئذ من الاختصاص بأحدهما ليس إلا أو بهما على أن يكونا بمنزلة واحد. وحينئذ يكون الجزء مملوكا لهما على النحو المزبور ، إذ لا وجه للاختصاص بأحدهما دون الأخر الا أن يلتزم ذلك أو يتشخص بالقرعة ، كدوران المال الواحد بين الاثنين ، فان المقام من قبيل دوران المالك بينهما وإذا انتهت الى القسم الثالث خرج عن ملكية كل منهما. نعم يبقى اختصاص أعيان تلك الأعيان بهما اختصاصا غير راجع الى الملكية.

وعلى ما ذكرنا وحققنا في معنى الإشاعة يظهر وجه ما ذكروه فيما لو باع أحد الشريكين النصف المشاع من العين المشاع من أنه ينفذ في الربع ويكون في الربع الأخر فضوليا ، لان نصف العين المشاع قابل لان يكون بينهما نصفين فيكون لهما ، فلا ينفذ البيع إلا في الربع.

نعم لو باع نصف المشاع - بأن يقول « بعتك نصفي المشاع » - نفذ في تمام النصف ، لان العين إذا انقسمت إلى المرتبة الاولى من المراتب الثلاث المشار إليها وفرض أجزاءها التي لا تتصور الإشاعة في أنصافها الا على سبيل البدلية كما قلنا متلاشية ، فلا جرم يكون نصفها الكلي - أعني على سبيل البدلية - مختصا بأحدهما ، فإذا قال « بعتك نصفي المشاع » كان معناه أن نصف أجزاء

ص: 36

العين المتلاشية التي لا تصلح أن تكون إلا لأحدهما ولو على سبيل البدلية بعته إياك ، فينفذ في تمام النصف. وبقية الكلام يظهر بالتأمل.

ثمَّ ان كلام القوم لا ينطبق على ما صورناه في معنى الإشاعة في بعض المقامات مثل ما قالوا فيما لو طلق امرأته قبل الدخول وكان نصف المهر تالفا ، فإن الأكثر ذهبوا الى أن المرأة تستحق نصف الباقي ، مع أن قضية معنى الإشاعة استحقاقها نصف الموجود ونصف التالف بالقسمة.

فلا بد من توجيه أمثال المقام ، مثل أن يقال ان استحقاق الزوج الطلاق استحقاق جديد متعلق بالنصف المضمون في المهر مثل الصاع في الصبرة ، ونحو ذلك من التوجيهات. لأن الذي بينا في معنى الشركة أمر وجداني عقلي بعد التأمل في حقيقة الإشاعة منطبق على جميع فروعاتها في أبواب الفقه ، فلا يقبل المناقشة بمجرد عدم مطابقة كلماتهم في بعض الفروع له لأنه قابل للتوجيه واللّه العالم.

[ القسمة هي تميز النصف المشاع وإفرازه ]

هذه حقيقة الإشاعة ، وأما حقيقة القسمة فهي عبارة عن تميز ذلك النصف المشاع مثلا عن النصف الأخر كذلك ، ومن الواضح أن حقيقة التميز في الإشاعة من المستحيلات التي لا تتعلق بها القدرة كتعلق حقيقة الملك بالعدم مثل المنافع لكن في العرف عمل يسمونه بالتميز وأمضاه الشارع كما في العرف معاملة يسمونه بتمليك المعدوم كالمنافع ، وذلك العمل عبارة عن أمر جعلي من قبل العرف لا يرجع الى بيع ولا الى صلح ولا إلى مبادلة مستقلة بل مباين للكل حقيقة وان كان مستلزما لانتقال مال أحد الشريكين إلى الأخر.

توضيحه : ان هذه الإنشاءات أمور متخالفة الحقيقة عند العرف وان

ص: 37

تشاركت في بعض الأمر دائما أو أحيانا ، فحقيقة البيع مباينة لحقيقة الصلح وان أفاد كل منهما النقل والانتقال ، وكذا حقيقة الهبة مغايرة لهما ، كما اتضح ذلك كله في محله من أن إنشاء الطلب وإنشاء التمني والترجي والعرض ونحوها حقائق ممتازة بحسب الوجدان وان أفاد كل منها مطلوبية المطلوب والمتمني والمترجى.

وهكذا نقول في الفرق بين إنشاء المبادلة والمعاوضة وبين حقيقة القسمة ، فإن المبادلة حقيقتها أن تبدل مال نفسك بمال صاحبك بإخراجه عن ملك وإدخاله في ملك صاحبك عوضا عن ماله ، وحقيقة القسمة أن تفرز مال نفسك عن مال صاحبك المجتمعين في عين خارجية ، ولما لم يكن بين المالين تميز واقعي كما ظهر في توضيح معنى الإشاعة فلا جرم يكون الافتراز اقتراحا منك وجعلا من عندك نظير الحقيقة الادعائية ، فالتقسيم توسل من الشخص الى مال نفسه ولو اقتراحا ، والمبادلة توسل الى ملك مال الغير في مقابل مالك ملك ، ففي كل منهما يحصل انتقال شي ء من مالك الى صاحبك وبالعكس ، الا أن هذا الانتقال في الأول لم ينشأ من إنشاء النقل بل من الافراز الاقتراحي فيما لا تميز هنا في الواقع وفي الثاني نشأ من إنشاء النقل والمبادلة.

فظهر أن القسمة كما أنها لا ترجع الى العقود المعرفة من البيع والصلح والهبة كذلك لا ترجع إلى مبادلة مستقلة وتمليك مستبد ومعاوضة برأسها ، فلا يلحقها شي ء من أحكام المعاوضة. نعم منه الرد مشتملة على افراز ومبادلة ومعاوضة ، لأن الرد إذا لم يكن من العين المشاعة رجع إدخاله في ملك الشريك الى نحو معاوضة.

ثمَّ ان في جريان الربا فيه احتمال ذكرنا وجهه في باب الغصب في مسألة تخليط الغاصب المغصوب بمال نفسه بوجه مبسوط واف حاو لجميع ما في المقام من وجوه الاستدلال.

ص: 38

ويحتمل العدم حتى على ذلك الوجه الذي مرجعه إلى مقالة المحقق من عدم اختصاص الربا بالبيع بل ثبوته في كل معاوضة صورية أو معنوية ، وذلك لان الإشاعة تمنع عن تعلق الملك بعين الجزء المشاع بل توجب تعلقها بالمجموع ، لان الملك عبارة عن الاختصاص والاختصاص يستدعي محلا ممتازا بحيث لا يكون متعلقا لحق الغير والا لم يكن محلا للاختصاص. والمفروض أن العين المشاعة باعتبار كون كل جزء منها مجمعا للحقين ومشتملا لعين مال الشريكين لا يمكن فيها فرض جزء فارغ حتى يتعلق به الاختصاص ، ففي صورة حصول الشركة بالمزج يلزم زوال ملكية كل من الشريكين عن رقبة ماله وقيامها بالمجموع.

[ الإشاعة تنحصر في الأسباب الشرعية للشركة ]

ومن مشايخنا قدس سره من زعم أن الإشاعة الواقعية لا تحصل بالمزج مطلقا وتنحصر في الأسباب الشرعية للشركة ، مثل الإرث والبيع ونحو هما بحسبان أن المالين في الواقع ممتازان في علم اللّه تعالى ، فيكونان كالمالين المتلاصقين.

ومما حققنا هنا يظهر أنه لا وجه له ، لان بعض صور المزج كمزج الماء بالماء لا إشكال في سببيته للشركة الواقعية ، لان أعيان مال كل منهما باعتبار الاستهلاك في الأخر خرج عن قابلية تعلق الملك بها ، لان الامتزاج يخرج عين مال كل منهما عن قابلية الملكية باعتبار استدعائها محلا فارغا ممتازا كما عرفت ، فالامتياز الواقعي بينهما لا ينفع بعد عدم صلاحيتهما لعروض الملكية ، فحال العين المركبة منهما حينئذ كحال العين الواصلة إليهما بالميراث الا من حيث تعلق ملك كل منهما بالرقبة.

نعم في بعض صور المزج - وهو الذي لم يوجب استهلاك كل من المالين

ص: 39

حقيقة كمزج الدنانير والدراهم أو مزج الحنطة بعضها ببعض - يحتاج في الحكم بالإشاعة الواقعية فيه الى تنزيل عرفي وإمضاء شرعي ، فحيث يجري الممتزجان مجرى التالف المستهلك عندهم وأمضاه الشارع تحصل الإشاعة الواقعية وان كان أعيان مال كل واحد ممتازة عن أعيان الأخر في الواقع ، فكل دينار يفرض حينئذ فهو بينهما نصفين أو أثلاثا مثلا.

فكيف كان فيظهر مما ذكرنا أن التقسيم متفاضلا ليس معاوضة ربوية ولو بالمعنى الأعم من البيع ، لان التفاضل انما يحصل بين الأعيان التي عرفت خروجها عن ملك كل منهما ، والقسمة التي قلنا انها تستتبع انتقالا في العين بحسب اللب انما لوحظت بالنسبة إلى ماليتها ولا تفاضل بينهما ، فلو تقاسما وتراضيا بالتفاضل - بأن أخذ أحدهما الأقل لجودته والأخر الأكثر لرداءته - جاز ولا رباء.

ثمَّ ان التفاضل لا يكون بالقسمة كما صورنا وقد يكون في نفس الشركة ، بأن يكون أصل الشركة يحصل على وجه الربا والتفاضل كما إذا اختلط جيد بردي ء ، فلو حكمنا فيه بالشركة في العين دون القيمة لزم التفاضل في أصل الشركة ، لأن صاحب الجودة قبل المزج كان مالكا لصاع مثلا وبعده قد ملك صاعا ونصفا.

وظاهر كلماتهم في باب الشركة حصول الشركة بمزج الجيد والردي ء ، لكن في باب المفلس نقل صاحب المسالك عن الشيخ في مسألة ما لو اشترى المفلس زيتا فخلطه بماله ، أنه نقل قولا بأن البائع يشارك في العين المختلطة بنسبة قيمة المالين ، ثمَّ قال انه مستلزم للربا. قال في المسالك بعد نقل ذلك : وهو يتم على القول بثبوته في كل معاوضة ولو خصصناه بالبيع لم يكن القول بعيدا.

ص: 40

وقد عرفت ما فيه وان المزج إذا كان على وجه يقرب من التداخل الحقيقي المستحيل صار سببا لزوال اختصاص ملك كل منهما بصاحبه من حيث العين ، لأنه كما تزول المالية وتبقى الملكية كذلك قد تزول أصل الملكية التي هي الاختصاص والسلطنة باعتبار عدم قابلية المحل لحقارته كيفا كالميراث أو كما مثل الجزء الذي لا يتجزأ على القول به أو باعتبار وجود المانع كما في المقام ، فان كل جزء من عين مال زيد مثلا يفرض ففيه جزء من عين مال عمرو ، وهو يمنع عن سلطنة كل منهما بعين ماله وعن اختصاصها به ولو لم يبلغ حد الجزء الذي لا يتجزأ ، فلا بد حينئذ من زوال ملكية كل منهما عن عين ماله وبقاء ماليته.

وبعبارة أخرى : ان الملك قبل الامتزاج للمالك اختصاص بعينه واختصاص بماليته وبالمزج يزول اختصاص الأول دون الثاني ، ومقتضى هذا قيام المالية بالمجموع المركب من المالين ، فيكون المجموع بمنزلة ملك جديد حاصل لهما من امتزاج ماليهما الممتازين المختصين.

ومن هنا لا بد في ملكية كل منهما شيئا من العين ملاحظة مقدار تأثير ماله في مالية المجموع ، فلو اختلط جيد بردي ء كان لصاحب الجيد من العين أكثر من صاحبه ، لأن تأثير الجيد في مالية المجموع أكثر من تأثير الردي ء فيه ، فيملك صاحب الجيد من العين بنسبة القيمتين. وأين هذا من الربا.

وأما ما ذكره الشيخ فيمكن تنزيله على ما لو قصد البائع المعاوضة ، بأن أخذ من العين بنسبة القيمة عوضا عن ماله الذي استهلك في مال المفلس ، فان ثبوت الربا بنفس الشركة لأنه معاملة برؤية في مقام التقسيم والتوصل الى ماله لا في أصل حصول الشركة. فكيف فالأظهر عدم ثبوت الربا لا في القسمة لكونها افرازا ولا في الشركة لكونها في الحقيقة عبارة عن تملك جديد لمال جديد. واللّه العالم.

ص: 41

التقاط [ عدم حصول الشركة الحقيقية في مزج شيئين متماثلين ]

إذا كان المزج مزجا يقرب من المزج الحقيقي - كامتزاج المائين بل مطلق المائعين خصوصا إذا وقع بينهما فعل وانفعال بالغليان مثل السكنجبين - فقد عرفت حصول الإشاعة في مثله قهرا ، سواء كان المزج باختيارهما أو كان قهريا.

ولو كان المزج باختيار أحدهما غصبا أو عدوانا فقد ظهر الكلام فيه في باب الغصب وأن فيه أقوالا أربعة ، فارجع.

ولا يحتاج في إثبات الشركة الواقعية حينئذ إلى دليل شرعي.

ومن هنا يعلم ان الخلاف في اعتبار اتحاد الجنس في الممتزجين ليس على ما ينبغي بعد أن كان الحكم بالشركة في المتجانسين غير مستند الى دليل شرعي بل عقلي. وكيف يعقل بقاء اختصاص كل بماله في مثل السكنجبين مع أن كل جزء من الخل فيه جزء من السكر ، فلا بد من انتقال اختصاص كل بماله عن عين ماله الى المجموع المركب.

وأما إذا لم يكن المزج مزجا حقيقيا - كاختلاط الحنطة بالحنطة والدنانير بالدنانير والخيل بالخيل وأشباهها مما لا يخرج بالامتزاج أعيان مال كل عن قابلية الاختصاص - ففي عدم حصول الشركة الحقيقية فيها مطلقا نظرا الى عدم دليل شرعي يدل على ذلك مع انفراز عين مال كل منهما عن عين مال الأخر بحيث يقبل الاختصاص.

فلا وجه للحكم بالشركة التي هي عبارة عن استحقاق كل منهما شيئا من عين مال الأخر المفروز الممتاز في علم اللّه تعالى ، أو التفصيل بين ما يجري في العرف مجرى المزج الحقيقي في الحكم بخروج عين مال كل عن قابلية

ص: 42

الاختصاص - مثل أجزاء الدقيق وحبات الحنطة المختلطة وكل دينار من الدنانير الممتزجة - وبين ما يجري مجرى المبهم والمشتبه كاختلاط الخيل بالخيل. وجوه ، ظاهر الأصحاب التفصيل ، لان حصول الشركة في مثل خلط الدنانير لعله إجماعي.

والدليل على حصول الشركة حينئذ - بعد تنزيل العرف له منزلة الاستهلاك والاختلاط الحقيقي - إمضاء الشارع ، فلا بد حينئذ في الامتزاجات الغير الحقيقية متابعة العرف وملاحظة تنزيلهم وحكمهم بخروج أجزاء مال كل عن قابلية الاختصاص ، إذ لا مرجع لذلك الا العرف حتى لو ورد في الدليل أن المزج سبب للشركة ، لأن المرجع في موضوعات الأدلة مفهوما ومصداقا ليس سوى العرف.

ومن هنا يجي ء الاختلاف في ثبوت الشركة في بعض الامتزاجات العرفية بين العلماء ، حيث أن تشخيص التنزيل العرفي ليس من المصاديق الجلية الغير القابلة للخلاف ، فكل مزج يوجب عد الممتزجين في العرف مالا واحدا وعد أعيان مال كل من الشريكين مستهلكة خارجة عن قابلية الاختصاص يحصل فيه الشركة ، وكل مالا يعد كذلك فهو من باب اشتباه مال بمال.

ومن هنا يختلف الحكم من حيث اختلاف الممتزجين كما مزج حبة من الحنطة بمثلها لا يؤثر في حصول الشركة ، لأنهما لا يعدان في العرف مالا واحدا أو ملكا كذلك ، فاختصاص كل منهما بعين ماله باقية وان اشتبها في الظاهر بخلاف مزج القبضة بالقبضة.

ويؤيده ما ورد في مسألة ما لو استودع من اثنين ثلاثة دراهم درهما من أحدهما ودرهمين من الأخر ثمَّ تلف أحدها من غير تفريط ، من أنه يعطى صاحب الدرهمين درهما ونصفا وصاحب الدرهم النصف ، فإنه غير منطبق على

ص: 43

قاعدة الشركة ، مع أن حصول الشركة في مزج الدنانير مما لا خلاف فيه ، فليس ذلك إلا لمتابعة الحكم للصدق العرفي وعدم صدق المال الواحد على الممتزج من القليلين.

[ الدليل على حصول الشركة في مزج المائعات ]

ثمَّ ان الدليل في حصول الشركة في مزج المائعات - ولو كانت مختلفة بحسب الجنس - ما عرفت من خروج عين مال كل عن المالية بل الملكية وقيامها بالمجموع المركب ، فلا حاجة في إثبات الشركة فيها الى دليل شرعي.

وأما حصول الشركة في المزج العرفي فهو الإجماع ، لأن حصول الشركة هنا في الجملة مما لا خلاف فيه ، بل لو قيل ان الخلاف انما يجي ء فيه خفاء صدق المال الواحد على بعض صور المزج ووضوحه لا من قصور الدليل الشرعي وعدمه كان خفاء. واللّه العالم.

التقاط [ صحة قسمة الإرث وجوازها ]

لا اشكال ولا خلاف في صحة القسمة وجوازها ، بمعنى ترتب آثارها التي كلها أو جلها ترجع إلى فوائد انفراز كل من النصيبين عن الأخر.

ويدل عليه - بعد الإجماع - أدلة نفي الضرر ، لأن الشركة ضرر.

وهل هي من قبيل العقود والإيقاعات أو الموضوعات المترتبة عليها الاحكام كالالتقاط والغصب والاحياء والحيازة والنسب ونحوها مما لا يرجع الى عقد أو إيقاع؟ فيه وجوه واحتمالات ، أقواها الأخير.

ص: 44

ويؤيد الأول أو يدل عليه اعتبار التراضي من الطرفين فيها حتى في القسمة الإجبارية ، لأن الحاكم ولي الممتنع فيقوم رضاؤه مقام رضائه.

لكنه كما ترى ، إذ مجرد اعتبار التراضي لا يدل على كون المعتبر فيه عقدا ، لان كل عقد يعتبر فيه الرضا لا أن كل اعتبار رضاء يخص بالعقد ، والأمر فيه سهل ، وانما الكلام في سببها وما تحصل به ، فان فيه أقوالا ثلاثة : الأول حصولها بمجرد التراضي من دون قرعة ، والثاني اعتبار القرعة مطلقا ، والثالث القرعة المتعقبة بالرضا المتأخر.

( واستدل على الأول ) بعموم « الناس مسلطون على أموالهم » (1) وقوله « لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيب نفسه » (2) ، وقد أوضحنا ضعف الاستدلال بهما في أمثال المقام مرارا وقلنا : ان تعميم جهات السلطنة لا ينافي إناطة التصرف بسبب خاص ، فلو قال المولى « أنت مسلط على مالك وافعل ما شئت من البيع والصلح والهبة ونحوها » ثمَّ قال « لا يتحقق النقل والانتقال الا بسبب خاص كالصيغة العربية » لم يكن ذلك منافيا لقوله الأول ، لأن مقابل السلطنة العامة الحجر على بعض التصرفات ، والاقتصار في سبب النقل على شي ء خاص ليس فيه رائحة الحجر في التصرف كما لا يخفى.

وأما الاستدلال بالأخير فهو أضعف ، لأن مفاده مدخلية طيب النفس في الحل ، وهذا لا ينافي اعتبار شي ء آخر معه من عقد أو لفظ أو نحو هما ، لان مفاد مثل هذا الكلام ليس كون المستثنى علة تامة ، بل نظير قوله صلى اللّه عليه وآله

ص: 45


1- بحار الأنوار 2 / 272 الطبعة الحديثة.
2- الوسائل ج 3 ب 3 من أبواب مكان المصلى بلفظ « لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفس منه ».

« لا صلاة إلا بطهور » و « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » (1) وأشباهها من الدلالة على مدخلية المستثنى وشرطيته.

والنكتة في التعبير عن هذا الشرط بمثل هذه العبارة كونه في بعض الأحيان علة تامة ، كما إذا حصل بعد استجماع سائر الشرائط ، فإن الجزء الأخير بمنزلة تمام العلة في حصول الأثر عنده.

( واستدل على الثاني ) بأدلة القرعة وظهورها في اللزوم (2). وهو كذلك ، لأن القرعة على تقدير جريانها في المقام يجب العمل بمقتضاها والا كانت لغوا.

مضافا الى اشتمال أخبارها على ما هو كالصريح في اللزوم.

الا أن يمنع عن جريان القرعة في المقام ، وهو خلاف الإجماع ظاهرا ، لأن شرعية القرعة في مقام التقسيم في الجملة أمر معلوم. وحيث علم صلاحية المقام له صح الاستدلال بإطلاق أو عموم أدلتها عند الشك في اعتبار أمر زائد.

نعم مع الشك في اصلاحية فهي من العمومات الموهونة الغير القابلة للاستدلال والاحتجاج ، نظير كثير من القواعد ، مثل قاعدة نفي الضرر والعسر وقاعدة الاعتداء المدلول بقوله « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » (3).

( واستدل على الثالث ) باستصحاب بقاء الشركة وأصالة عدم ترتب أثر القسمة على مجرد القرعة ، لعدم نهوض أدلتها في الاستدلال عند الأصحاب في

ص: 46


1- الوسائل ج 14 ب 1 من أبواب القراءة في الصلاة ح 1 بلفظ « لا صلاة له الا أن يقرأ بها في جهر أو إخفات ».
2- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 15.
3- سورة البقرة : 194.

أشباه المقام ونظائره الذي لا يخفى على المطلع ، فيؤخذ حينئذ بالقدر المتيقن ، وهي القرعة المتعقبة بالرضا المتأخر.

والأظهر من الأقوال الأول ، ويدل عليه أمران :

( الأول ) انه لم يكتف بمجرد التراضي ، فأما يعتبر فيه غير القرعة كالصلح والبيع ونحوهما من العقود - بأن يبيع كل من الشريكين بعد تعديل السهمين حصة من أحدهما بحصته من الأخر أو يصالح عنه أو نحو ذلك - واما يعتبر فيه القرعة.

وكلاهما باطلان : أما الأول فلأن اعتبار مثل الصلح ونحوه يخرج القسمة عن كونها قسمة ، لأن القسمة ليست الا بحت الافراز وصرف التميز ، وتوقف حصولهما على مبادلة وصلح خلف محال ، فافهم. وأما القرعة فلمنع شرعيتها في المقام ، لأنها مشروعة في أحد مقامين ليس المقام منهما : أحدهما تميز المجهول الواقعي ، والثاني رفع التشاح والنزاع الفعليين أو الشأنيين عند تزاحم الحقين أو الحقوق ، مثل اختلاف المتسابقين الى مكان مباح أو اختلاف المتعلمين على معلم دفعة في السبق واللحوق أو العبدين فيما إذا أوجب عتق أحد هما الغير المعين ، كما لو نذر عتق أول مملوك يملك فملك اثنين دفعة ، فإنه يستخرج المعتق بالقرعة كما ورد بالأول الرواية (1).

وليس في المقام مشاجرة واختلاف بين الشريكين ، إذ الفرض تراضيهما على أن يكون أحد السهمين لأحدهما والأخر للآخر ، فالقرعة لما ذا؟ بل يجري مجرى اللغو والعبث حينئذ ، لعدم ترتب شي ء من الأثرين عليه.

ودعوى إطلاق أدلتها أو عمومها الشامل لصورتي التشاجر وعدمه. ممنوعة ، يظهر وجه المنع من التأمل في تلك الأدلة ومصبها وموردها ، فإنها بين ما

ص: 47


1- الوسائل ج 18 ب 13 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

يختص بالأول كالرواية الواردة في الابن المشتبه بين الاثنين أو الشاة الموطوءة المشتبهة (1) ، أو ما يختص بالثاني حقيقة كما إذا كان ظاهرا فيه أو حكما كما إذا كان مجملا وساكتا من هذه الجهة.

فإن قلت : سلمنا عدم شرعية القرعة وعدم فائدتها في مثل المقام لكن مجرد التراضي ليس بملزم ، فلا تحصل القسمة.

قلنا : الملزم هو صدق عنوان التميز على مجرد التراضي بعد تعديل السهام ، فإن حقيقة القسمة من الموضوعات العرفية وصدقها على التعديل المتعاقب بالتراضي معلوم بين معهود معروف معتاد بين الناس ، فاذا حصلنا عنوان القسمة وصدقها بمجرد التراضي ترتب عليها اللزوم ، لان الانفراز بين النصيبين إذا حصل احتاج العود إلى الشركة إلى سبب جديد.

فان قلت : مجرد الصدق العرفي لا يكفي بعد عدم الدليل الشرعي على صحته ، وأين الدليل؟

قلنا : علمنا وبينا عدم اعتبار مدخلية شي ء في القسمة سوى القرعة ، والصدق العرفي انما لا يكفي في حصول الأثر إذا شككنا في شرط شرعي أو في أصل مشروعيته عند الشارع ، وأما إذا علمنا أنها مشروعة - كما علمنا أن البيع عند الشارع ناقل في الجملة ثمَّ علمنا عدم صلاحية شي ء شرطا فيها كصلاحية جملة من الأشياء للشرطية في البيع - فلا جرم يتعقبها الإمضاء الشرعي أيضا. فتأمل.

ثمَّ ان هذا الكلام مع قطع النظر عن الدليل الثاني ، والا فهو دليل شرعي ، فيحسم الاشكال رأسا.

( الثاني ) قوله « المؤمنون عند شروطهم » (2) لان الشرط معناه مجرد الالتزام ،

ص: 48


1- الوسائل ج 18 ب 13 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 15 ب 20 من أبواب المهور.

وهو موجود في المقام ، لأن التراضي في المقام عبارة عن التزام كل من الشريكين بأحد النصيبين فيلزمه.

ولا يقدح في الاستدلال به كونه من العمومات الموهونة ، لأن الفرض مطابقة قول صيانة لمضمونها وهو شرط العمل بمثلها ، كما قلنا في أدلة القرعة آنفا وفي نظائرها سابقا.

[ هل يشترط رضا الطرفين في القرعة ]

وحاصل الكلام أنه تتصور القرعة في صورتين :

« إحداهما » - ما إذا كان القاسم ثالثا كقاسم الإمام أو وكيل المتقاسمين ، فان التقسيم حينئذ بلا قرعة ترجيح بلا مرجح ، لان تعيين حق كل منهما في أحد السهمين إذا لم يكن من طرف صاحب الحق ورضائه لا يمكن الا بمعين.

« والثانية » - ما إذا تراضيا على القرعة ابتداء ، فإنها حينئذ تكون معينة لحق كل منهما عن الأخر.

وهل يعتبر بعدها الرضا؟ الظاهر العدم ، لأن القرعة - على تقدير شرعيتها - فظاهر أدلتها اللزوم كما عرفت. نعم مقتضى الاحتياط هو ذلك.

وأما إذا تراضيا بدون القرعة فليس لها مسرح في المقام ، لأن التراضي مرجعه الى تجاوز كل منهما عن حقه في السهم الأخر ، والقرعة اما لتعيين المجهول أو لترجيح أحد الحقوق على الأخر كما في تسابق الاثنين على مباح أو ماء ونحو هما ، والترجيح انما يحتاج اليه عند التشاح الفعلي أو الشأني ، فحيثما يجوز كل منهما عن حقه ويوقفه الى صاحبه لا يجري فيه القرعة.

وان شئت قلت : ان القرعة لتعيين أحد الحقين ، وهو انما يتصور إذا كان كل منهما باقيا على حقه وملتزماته ، فلو أسقط كل منهما حقه وتجاوز عنه كتجاوز

ص: 49

كل من المتقاسمين عن حقه في السهم الذي يختاره صاحبه سقطت القرعة.

وهذا مع وضوحه يتضح من النظر في أخبار القرعة (1) ، فإنها بين ما لا تدل الا على شرعيتها في تعيين المجهول ، وبين ما تدل على كونها مرجحة لأحد الحقين المتزاحمين ، وبين ما تدل على أنها لرفع الأمور المشكلة ، وبين ما تدل على أنه ما فوض قوم أمرهم الى اللّه تعالى الا وقد هداهم الى الخير والصواب أو ما يقرب من هذا العنوان.

ولا يكاد ينطبق شي ء من هذه العناوين على المقام ، وهو ما إذا تراضى الشريكان وفوض كل منهما الأمر الى صاحبه ، بأن يقول له اختر ما شئت من السهمين المتعادلين.

فان قلت : بناء على ما ذكرت يلزم بسقط القرعة إذا فوض كل من العبيد أمر العتق الى صاحبه إذا كان على المولى عتق أحدهما المخير أو أعتقه كذلك بناء على صحة العتق.

قلت : العتق فيه جهة حق اللّه تعالى أيضا ولم يعلم أنه مما يمكن التفويض فيه ، والكلام انما هو بعد معلومية كون الحق حقا للاثنين محضا جائزا لكل منهما إسقاطه والتجاوز عنه ، فالحقوق المتزاحمة في مسألة العتق لا تتعين الا بمعين الهي. واللّه العالم.

التقاط [ هل يعتبر في القاسم التعدد أم لا؟ ]

يعتبر في القسمة بالتقويم أن يكون المقوم متعددا جامعا لشرائط الشهادة ، لأن التقويم شهادة.

ص: 50


1- الوسائل ج 18 ب 13 من أبواب كيفية الحكم.

وهل يعتبر في القاسم من قبل الامام عليه السلام التعدد أم لا؟ فذهب الأصحاب كما في المسالك الى عدم الاعتبار اقامة له مقام الحاكم.

وتوضيح الكلام هو : ان حقيقة القسمة تحصل بأمرين : تعديل السهام ، وتعيين أحدها لأحد الشركاء.

لا شبهة ولا ريب أن الأمر الثاني مما لا معنى لاعتبار التعدد فيه ، لان التعيين لا بد أن يكون بالقرعة ، إذ لا وجه لاقتراح القاسم على المتقاسمين ، فتعدد القاسم في مسألة الافراز والتعيين الحاصلين بسبب القرعة لا معنى له.

وأما التعديل فهو مما لا بد من إحرازه في الواقع ولو بتسالم الشريكين ، إذ لو لم يحصل ذلك لم يحصل القسمة. مثلا إذا كان أحد السهمين صاعا والأخر صاعين لم يكن اختصاص كل منهما بأحد الشريكين قسمة سواء كان بالتراضي أو بالقرعة. فإذا وجب إحراز تعديل السهام وجب اعتبار التعدد فيمن يباشره وبخبر عنه عند الحاكم.

فكلام الأصحاب ناظر إلى أنه لا يحتاج الافراز بالقرعة إلى تعدد المقرع في السهام المتعادلة المفروغ عن تعادلها ، لا أن التعديل إذا كان خلافيا بين الشريكين أو نظريا عند الحاكم ، كما في بعض الاملاك والأراضي والعقارات المشتركة التي لا يخلو تقسيمها عن غرض وإشكال يجري فيه الواحد.

هذا ، ويحتمل أن يقال : ان القسمة من شؤون الحكومة ، فلا ضير في إناطتها بنظر الحاكم ومن يجري مجراه كالقاسم بكلا الجزئين ، ومرجعه الى أن الحاكم أو القاسم إذا أحرز معادلة السهام بنظره نفذ على المتقاسمين قهرا.

وقد يدعى ظهور عبارة المسالك في ذلك ، وهو بعيد احتمالا ومحتملا. واللّه العالم.

ص: 51

التقاط [ اجرة القاسم على من هي؟ ]

إذا كان القاسم منصوبا من قبل الحاكم فأجرته من بيت المال لأنه من المصالح ، فان لم يتفق له الكفاية من بيت المال فأجرته على الشركاء ، سواء كان طالب القسمة جميعهم أو كان بعضهم. بلا خلاف محكي بين الأصحاب ، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة وأحد وجهي الشافعي فيختص بالطالب. ورد بأن العمل المحترم وقع لهم أجمع فعليهم الأجرة.

وقد يناقش في ذلك وفيما ذكره الأصحاب بأن مجرد احترام العمل لا يوجب الأجرة على من ينتفع بل لا بد من صدوره بإذنه وأمره ، وإذا كان الطالب بعض الشركاء فغير الطالب غير راض بالقسمة فضلا عن أن يكون إذنا ، فمقتضى القاعدة كون الأجرة على الطالب خاصة ، الا أن الأصحاب على خلافه.

ولعل نظرهم إلى أنه يجب على الشريك اجابة شريكه في القسمة ، فإذا امتنع قام الحاكم مقامه في الاذن.

ويمكن النظر فيه بأن الواجب عليه عدم المعارضة مع الشريك إذا أراد افراز ماله عن ماله ولا يجب عليه القسمة مباشرة أو تسبيبا حتى يكون امتناعه سببا لقيام اذن الحاكم مقام اذنه ، فمبني المسألة حينئذ هو أن الواجب على الشريك هل هو الإجابة إلى القسمة إذا طلبها شريكه أو عدم المزاحمة والمعارضة ، فان بنى على الأول كانت الأجرة عليهم أجمع لقيام اذن الحاكم مقام اذن الممتنع ، وان بني على الثاني كانت الأجرة على الطالب خاصة لأنه الأمر والاذن وان كان نفع القسمة يصل الى غير الطالب أيضا.

ص: 52

[ الأجرة توزع على الورثة بملاحظة الحصص ]

ثمَّ ان الأجرة توزع على الجميع بملاحظة الحصص لا بملاحظة الرؤس ، لأن الشركة في العمل انما هي بنسبة ما يترتب من الانتفاع المالي ، والا فهو في نفسه ليس مما يتملك حتى يتصور الشركة ، فإذا كان العمل لاثنين فان كان انتفاع كل منهما به بقدر انتفاع الأخر كان العمل بينهما نصفين وتكون أجرته عليهما أيضا كذلك ، وان كان انتفاع أحد هما به ضعف انتفاع الأخر كان العمل بينهما أثلاثا وكذا الأجرة ، وذلك كمحافظة المال المشترك ، مثل الزرع المشترك بين الاثنين أو ثلاث بنصب الناظور ، فمن كان حصته من الزرع أزيد كان عمل الناظور له أكثر ، فالقسمة عمل يصل نفعها الى المتقاسمين بحسب نصيبهم ، فمن كان مالكا للثلث مثلا كان له ثلث القسمة.

لا يقال : نتيجة القسمة تميز النصيبين وافراز كل منهما عن الأخر ، وهما في هذه متساويان ، إذ لا فرق بين السهم الزائد والسهم الناقص في صفة التميز والانفراز ، فكل منهما ممتاز عن الأخر بمثل امتياز الأخر عنه.

لأنا نقول : تميز السهم الأقل ليس مغايرا لتميز الأزيد في نفس التميز بل في مقدار المالية والانتفاع ، فان تميز الثلاثين مثلا أكثر نفعا من تميز الثلث.

وان شئت قلت : ان القسمة من مئونة الأملاك ، لأن الشركة عيب فيها وضرر ، والملك الكامل هو الملك الخاص ومئونة تحصيلها القسمة ، فإذا كانت القسمة من مئونة الاملاك كانت حالها كحال المنفعة في توزيعها على مقدار الملكية والمالية ، فكان صاحب الثلاثين قد وصل اليه ثلثا القسمة كثلثي المنفعة.

وبعبارة ثالثة : ان القسمة تحدث في مال كل من الشريكين صفة جديدة مالية ، وهي الخلوص والسلامة عن الإشاعة ، فكأن القاسم يريد من كل منهما أجرة

ص: 53

إحداث ما يخص بمال كل منهما من الصفة ، فاذا اختلفت الصفتان في المالية نظرا الى أن خلوص الثلاثين أكمل في المالية من خلوص الثلث لزم على كل منهما دفع عوض ما حدث في ماله.

هذا كله في العمل البسيط العرفي كنظر الناظور والقسمة البسيطة العرفية كقسمة غير الموزون والمكيل والمزروع ونحوها مما لا يحتاج في قسمتها سوى النظر ، وأما القسمة المركبة من عدة أفعال خارجية مثل الوزن والكيل فالأمر فيه واضح ، لان عمل القاسم حينئذ لصاحب الثلاثين ضعف عمله لصاحب الثلث كما وكيفا ، لان الفراز ثلثي المال الموزون بالوزن أكثر عملا من افراز ثلثه.

أقول : ولكن المدار ليس على ذلك ، بل على ملاحظة مقدار الانتفاع ، فقد يكون المتقاسمان متساويين في الانتفاع المالي مع كون العمل الخارجي لأحدهما أكثر ، مثل ما إذا تراضيا على أن يكون لأحدهما الردي ء الأكثر وللآخر الجيد الأقل ، فالظاهر هنا قسمة الأجرة عليهما بالسوية.

ثمَّ انه لا يقدح في تقسيم الأجرة بنسبة الحصص إفضاؤه إلى ذهاب مال قليل الحصة رأسا ، فإنه من خواص القسمة لا من خواص تقسيم الأجرة بنسبة الحصص ، إذ لو قسم بنسبة الرؤس فربما يفضي الى ذهاب مال كل من المتقاسمين أيضا. والحاصل ان أجرة القاسم قد تزيد على قيمة مجموع الحصص ، وهذا عيب في القسمة لا في تقسيم أجرتها بنسبة الحصص. واللّه العالم.

التقاط [ اجرة القاسم على من استأجره ]

إذا لم يكن القاسم من طرف الحاكم بل من طرف أرباب المال ، فاما أن يستأجره الجميع أو بعضهم ، فإن استأجره الكل فلا إشكال في صحة الإجارة ،

ص: 54

وكذا لو استأجره بعضهم أصالة عن نفسه ووكالة عن الباقي وكيفية تقسيم الأجرة كما تقدم أن لم يتعين في ضمن العقد ما على كل واحد من الشركاء ، وان استأجره بعضهم ففي صحة استيجار الثاني ذلك الأجير فيما لو كان الشركاء اثنين اشكال ، لا تميز حق الثاني يحصل بعين تميز حق الأول والمفروض أنه مستحق على الأجير بمقتضى العقد الأول ، فالعقد الثاني يبقى بلا مورد ، لان شرط صحة الإجارة وقوعها على عمل مملوك غير مستحق عليه ببعض أسباب الاستحقاق.

وقد يقرر الإشكال : بأن تميز حق الثاني واجب على الأجير مقدمة لتميز حق الأول ، وأخذ الأجرة على الواجب غير جائز ، فيتوقف ورود الإشكال حينئذ على القول بوجوب المقدمة والقول بعدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات ، ففي القول بعدم وجوب المقدمة حينئذ استراحة عن الاشكال ، وكذا القول بجواز أخذ الأجرة على الواجبات التوصلية.

وفيه : أولا ان تميز حق الثاني ليس مقدمة لتميز حق الأول بل عينه ، لان التميز بين الاثنين نسبة الى كل منهما مثل نسبته إلى الأخر ، كفصل الشي ء المتصل فإنه إذا حصل انفصل كل من المتفاصلين عن الأخر بعين ذلك الفصل الجزئي الحقيقي.

وليس هنا فصلان متغايران أحدهما يكون متعلقا بأحدهما والأخر بالآخر.

نعم يحصل من الفصل الواحد والتميز الواحد مفهومان متضايفان كل منهما في عرض الأخر ، وهما تميز كل من المتمايزين عن الأخر وانفصاله عنه ، لان تميز هذا عن ذاك غير تميز ذاك عن هذا مفهوما ، إلا أنهما متضايفان متحصلان من فعل واحد خارجي ، وهو التميز والفصل الخارجيين.

فتوهم كون تميز حق الثاني مقدمة لتميز حق الأول. بين الفساد ، لأنه ان أريد به التميز حقه المصدري ففيه أن تميز حقه الأول ، فلا مغايرة

ص: 55

بينهما لا مفهوما ولا مصداقا وانما المغايرة بينهما بالإضافة والاعتبار ، فان قيس ذلك الفعل الخارجي إلى نصيب أحد الشريكين قيل انه تميزه عن نصيب الأخر وان عكس انعكس. وان أريد التميز الذي هو حاصل التميز المصدري فهو ليس بمقدمة لتميز حق الأول ، لأنهما مفهومان متضايفان حاصلان من فعل واحد في مرتبة واحدة لا يجوز الاستيجار لأحد هما بعد الاستيجار للآخر ، لان النتائج بنفسها ليست بمجرى الإجارة إلا بملاحظة مقدماتها التي هي الاعمال القابلة لها ، فاذا عقد على عمل باعتبار بعض نتائجه لم يجز العقد عليه ثانيا باعتبار النتيجة الأخرى.

ومن هنا يظهر أنه لا فرق في ورود الاشكال بين أن يكون المعقود عليه في العقد الثاني تميز حق الثاني - أي الفعل الذي يحصل به الانفراز - أو التميز الذي هو الانفراز.

وثانيا - انه لا ربط لوجوب المقدمة بالمقام بعد تسليم المقدمة ، لأن المانع من صحة العقد الثاني ليس هو وجوب التميز على الأجير بل كونه مستحقا عليه ، وعدم وجوب المقدمة لا ينافي كونه غير مملوك له مستحقا عليه بالعقد الأول.

وثالثا - أنه لا ربط لحرمة أخذ الأجرة على الواجبات بالمقام ، لأنا لو لم نقل بذلك فالإشكال أيضا وارد ، لما عرفت من أن المانع ليس هو وجوب تميز الحق الثاني بل كونه غير مملوك له مستحقا للغير ، وانما قيدنا محل الإشكال في العقد الثاني بما إذا كان الشركاء اثنين لأنهم لو كانوا ثلثاه كان العقد الثاني صحيحا ، لان العقد الأول قد ورد على تميز حق أحد الشركاء ، فيبقى تميز حق الشريكين مملوكا له وغير مستحق عليه. نعم يتطرق الإشكال حينئذ في العقد الثالث كما يظهر بالتأمل.

هذا ، وقد أجيب عن الاشكال بوجوه :

ص: 56

( أحدها ) النقص بما لو استؤجر شخص في البيع عن أحد والشراء عن آخر ، فإن الأجير في البيع يجب عليه تحصيل الشراء مقدمة ، فيكون العقد على الشراء عقدا على غير مملوك مستحق عليه. ذكره الفخر في محكي الإيضاح.

وفيه : ان البيع والشراء فعلان مستقلان ، والواجب على الأجير في البيع إنشاء إيجاب النقل عند وجود المشتري ولا يجب عليه الشراء حتى يكون مستحقا عليه.

ولو قيل : ان المراد بالبيع ليس هو مجرد إنشاء الإيجاب بل هو إيجاد النقل الخارجي ، والنقل الخارجي يتوقف على الشراء فيجب عليه تحصيل الشراء مقدمة. وبعبارة أخرى : يجب على الأجير في البيع إنشاء الإيجاب المقرون بالقبول ، فتحصيل القبول واجب عليه من باب كونه مقدمة لحصول صفة المقارنة.

قيل : ان وجوب إنشاء النقل المقرون بالقبول لا يجعل القبول مستحقا عليه ، لان المراد بالقبول القبول الاختيار الذي هو مملوك للقابل ، فالمستحق عليه هو تحصيل المقارنة لا نفس المقرون الذي هو القبول. وبعبارة أخرى : القبول فعل مملوك للقابل ووجوب تحصيل مقارنته لا يخرجه عن كونه مملوكا للقابل ، فاذا يجوز له العقد على نفس القبول كالعقد على نفس الإيجاب - فافهم انه دقيق.

( والثاني ) ما نقله في المسالك أيضا ، وهو أن السؤال مبني على أنه يجوز استقلال بعض الشركاء باستئجار القسام لإفراز نصيبه ، ولا سبيل إليه ، لأن إفراز نصيبه لا يمكن الا بالتصرف في نصيب الآخرين مترددا أو تقديرا ، ولا سبيل إليه إلا برضاهم. نعم يجوز أن ينفرد واحد منهم برضى الباقين فيكون أصيلا ووكيلا ولا حاجة الى عقد الباقين - انتهى.

ويرد عليه : ان المانع من ترتيب العقود ليس هو استلزام صحة العقد الأول

ص: 57

التصرف في نصيب الآخرين ، لإمكان فرض جواز التصرف أو عدم الحاجة إليه ، بل المانع هو وقوع العقد الثاني على عين ما وقع عليه الأول ، وهو غير مرتفع برضاء الشركاء ، إذ على تقدير رضاهم بالعقد الأول فاما يعقدون على القسمة ثانيا أو يكتفون بالأول ، والثاني خلاف الفرض والأول غير جائز لعدم محل قبل العقد الثاني.

وقد أجيب أيضا بوجه آخر غير ناهض في رفع الاشكال. والتحقيق أنه لو فرض للعقد الثاني محل مغاير لمورد العقد الأول صح العقد الثاني والا فلا. واللّه العالم.

التقاط [ الإجبار في تقسيم المثليات ]

إذا كان المقسوم مما يتساوى أجزاؤه جنسا ووصفا وقيمة كالحبوب والادهان ونحو هما من المثليات دخل على قسمتها الإجبار.

قال في الشرائع : ويقسم هذا القسم كيلا ووزنا متساويا ومتفاضلا ربويا كان أو غيره ، لان القسمة تميز حق لا بيع.

وأخذه في المسالك بما حاصله : ان التفاضل ان كان باعتبار اختلاف السهام كثرة وقلة كالثلث والثلاثين فهذا ليس تفاضلا في القسمة ، لأن الأصل في القسمة أن يكون بنسبة الاستحقاق ، وان كان باعتبار ترجيح أحدهما على الأخر بتوفير جانبه زيادة على حقه فليس ذلك داخلا في القسمة بل هو هبة محض الزائد ، فلو ترك قوله متساويا ومتفاضلا كان أولى.

وفي بعض حواشي المسالك : فرض التفاضل بأخذ أحدهما الأقل لجودته والأخر الأكثر لرداءته. وهذا جيد لكنه لا يجوز في مسألة الإجبار على القسمة ،

ص: 58

لأن شرط الإجبار تساوي الاجزاء جنسا ووصفا وقيمة ، مع أنه صرح في هذا القسم بالإجبار على القسمة. وتأويل كلامه أنه أراد الإجبار في بعض الصور ، بناء على ان مراده بالتساوي الاجزاء المثليات مطلقا سواء تساوى أجزاؤه في القيمة أم لا. تعسف في تعسف.

ويمكن أن يوجه بأنه أراد بالتفاضل الإشارة إلى جواز حصول الشركة في العين الممتزجة من الجيد والردي ء المتساويين في المقدار ، لأنه قول في المسألة كما نقل صاحب المسالك في باب المفلس عن الشيخ أنه نقل هذا القول عن بعض ، فإنه على هذا القول تكون القسمة بالتفاضل مع دخول الإجبار عليه ، وهو بعيد.

وكيف كان فالأصل في القسمة اعتبار التراضي ، فالإجبار مخالف للأصل مطلقا ، لأن حقيقة القسمة وان كانت افرازا الا أنها إفراز جعلي يستتبع انتقال مال كل منهما إلى الأخر بالحس والعيان ، فلا بد فيها من التراضي ، لأصالة بقاء ملك كل على ماله.

ويدل عليه أيضا قوله « لا يحل مال امرئ الا بطيب نفسه » (1) بناء على أن الحل كناية عن خروجه عن ملكه ، بل ولو أبقي على ظاهره من جواز التصرف ، لأنه إذا لم يجز التصرف في ملك الغير الا بطيب نفسه فلا ينتقل ملكه الى غيره الا بالطيب بالفحوى والأولوية الجلية ، فلا بد في دخول الإجبار على القسمة من قيام دليل.

فقد يستدل على ذلك بقاعدة السلطنة ، بناء على أن إفراز المال من وجوهها ، ولعله يشير الى ذلك قول المحقق : ويجبر الممتنع على مطالبة الشريك بالقسمة

ص: 59


1- الوسائل ج 3 ب 3 من أبواب مكان المصلى بلفظ « لا يحل دم امرئ مسلم ولا ما له الا بطيبة نفس منه ».

لأن الإنسان له ولاية على الانتفاع بماله والانفراز أكمل نفعا ، وهو محصل ما ذكره الشيخ في محكي المبسوط.

ويمكن المناقشة فيه بأن السلطنة على الافراز ترجع إلى السلطنة على تقليب مال وهو المشاع الى مال آخر وهو المعين. وهذا ليس من وجوه الانتفاع بالمال وطرق السلطنة عليه ، إذ لا يفهم بين قولنا « زيد مسلط على داره » و « ليس له جعل داره حماما » مثلا منافاة.

والسر في ذلك أن مقتضى عموم القضية وكليتها ليس سوى سريان الحكم الى جميع أفراد موضوعه مع بقاء الموضوع على حاله ، وليس له دلالة على كيفية حال الموضوع وأنه مما يمكن تقلبه الى موضوع آخر.

ويمكن أن يقال : ان إفراز مال المشاع وتعينه - وان كان تبديلا للمال بمال آخر في دقيق النظر بمعنى افنائه رأسا واحداث مال جديد لا إخراجه من الملك فافهم - الا أن التعيين والإشاعة في العرف معدودان من الأحوال الطارئة على مال واحد ، فالإفراز بعد عرفا من وجوه التصرف في المال المشاع.

[ ضعف الاستدلال بقاعدة لا ضرر على دخول الإجبار ]

هذا ، ومما ذكرنا ظهر ضعف الاستدلال بقاعدة لا ضرر على دخول الإجبار في القسمة أيضا بل ، الاستدلال به أضعف ، لأن الضرر إذا كان من لوازم وجود المال فلا وجه لرفعه بتبديله الى مال آخر. ويجري فيه التوجيه المزبور أيضا ، لأن التقسيم إذا عد من وجوه التصرف في المال كان في منعه وعدم الإجابة اليه مع عدم الضرر ضررا على الملتمس.

فان قلت : في القسمة يحصل انتقال كل مال من الشريكين إلى الأخر ولو كانت افرازا ، لان كونها كذلك جعلي لا واقعية له على ما هو المختار المنصور

ص: 60

في معنى الإشاعة من أنها عبارة عن كون كل جزء جزء قابل للتنصيف الى نصفين قابلين للملك بين الشريكين ، فحقيقة القسمة الإجبارية ترجع الى دخول مال كل منهما الى ملك صاحبه بدون رضائه. وليس في شي ء من القواعد ما يساعده ، بل يدل عليه صريح قوله « لا يحل مال امرئ الا بطيب نفسه » بالبيان المتقدم آنفا.

وأن بقاعدة السلطنة دلالة على حصول تملك مال الغير بدون رضائه ، أم كيف يكفي كونها إضرارا جعليا في إمضاء الشارع إياه على وجه يخرج به عن قضية القواعد ، لان الجعل العرفي يحتاج إلى الإمضاء الشرعي ، ومع وجود الردع بنحو قوله « لا يحل » كيف يدعى الإمضاء؟

قلت : ما ذكرت من استتباع القسمة انتقال مال كل منهما إلى الأخر مبني على اعتبار عقلي ملغى في نظر العرف ، فإن القسمة عند العرف محض تميز وصرف افراز ، فتعيين النصف المشاع عند العرف يجري مجرى افراز أحد مصرعي الباب المتلاصقة عن الأخر أو كتشخيص أحد المشتبهين عن الأخر ، وليس لذلك الاعتبار العقلي أثر في نظرهم ، حتى ان الانتقال حقيقة غير موجود عندهم في القسمة.

وإذا كان الأمر كذلك كان منع الشخص عن افراز ماله منعا له عن التصرف في ماله عرفا وإدخالا للضرر عليه ، ولا ريب أن السلطنة والضرر من الموضوعات العرفية كالنقل والانتقال ، فيدوران مدار الصدق العرفي ، فالسلطنة على المال أمر عرفي كما أن نفس موضوع المال أيضا عرفي ، فكما لا يلتفت الى الدقة العقلية في بعض الأموال العرفية كالمعدومات كذلك لا يلتفت الى الدقة العقلية في بعض مصاديق السلطنة.

فكما أن دقيق النظر يمنع عن الحكم بملك المعدومات وكونها مالا كالمنافع المتجددة في الدهور اللاحقة ومع ذلك يجري عليها حكم الأموال عرفا وشرعا

ص: 61

كذلك يجري على القسمة حكم السلطنة عرفا وشرعا وان كان دقيق النظر يقضي بعدم كونها سلطنة.

فظهر أن ما ذكره الأصحاب في خصوص متساوي الأجزاء جنسا ووصفا من دخول الإجبار على القسمة منطبق على القاعدة. واللّه العالم.

التقاط [ في أي نوع من القسمة يدخل الإجبار ]

بعد ما عرفت من دخول الإجبار على القسمة فاعلم : ان القسمة تنقسم أولا إلى قسمة ضررية وغيرها ، والثاني تنقسم إلى قسمة عينية وقسمة مالية وقسمة ردية :

والمراد بالقسمة الضررية ما يوجب خروج السهام بعد القسمة عن المالية مطلقا أو بما بعد في العرف ضررا كثيرا كتقسيم الجوهرة وتنصيفها نصفين.

وبالقسمة العينية أن ينقسم المشاع بعينها ، بأن يتحصص عينها حسب حصص الشركاء ، وذلك بأن يكون المشترك مالا متساوي الاجزاء في جميع صفات المالية وقابلا للتحصص بالحصص بالتجزية وتعديل السهام كما وكيفا بالوزن في الموزون والكيل في المكيل والزرع في المزروع والمساحة في الأراضي المتساوية الأجزاء وصفا وجنسا.

وبالقسمة المالية أن ينقسم المشاع بحسب المالية دون الكمية والكيفية ، وذلك بأن يكون المال المشترك مالا مختلفة الاجزاء في القيمية ، سواء كان من جنس واحد كالحنطة أو من أجناس مختلفة كالحنطة والشعير والدار والثوب ، ويلاحظ في تعديل السهام مقدار ماليتها فيجعل وزنتان من الشعير سهما ووزنة من الحنطة سهما.

ص: 62

وبالقسمة الردية ما امتنع فيه تعديل السهام عينا وقيمة إلا بعد اضافة مال خارجي إليه حتى يصير بذلك مالا آخر قابلا للقسمة. وقد تطلق القسمة الردية على ما يعم القسمة المالية.

إذا تحقق ذلك فاعلم أن القسمة الضررية لا تقبل الإجبار ، لتعارض قاعدة السلطنة مع قاعدة نفي الضرر فيتساقطان ، أو أن قاعدة نفي الضرر حاكمة على قاعدة السلطنة كحكومتها على سائر القواعد العامة.

وهذا لا خلاف فيه ولا اشكال ، وسيأتي توضيح المراد بالضرر الواقع للإجبار ، فمورد القسمة الإجبارية هي ما عدا القسمة الضررية ، فنقول :

ان القسمة الردية أيضا لا تقبل الإجبار ولو كانت افرازا لا معاوضة ، لأن الدليل على الإجبار هي قاعدة السلطنة بالبيان المتقدم ، وهي لا تنهض بإدخال الإجبار في القسمة إذا كان فيها رد. لان المفروض عدم قابلية المال المشاع بنفسه للتقسيم عينا ولا قيمة ، فموضوع السلطنة حينئذ غير محقق وانما يتحقق بعد فرض اضافة أمر خارجي اليه ، فالمال المشاع الموجود غير قابل للسلطنة عليه وإفرازه والقابل - وهو المجموع المركب منه ومن الرد - ليس بمال مشترك.

والحاصل ان الواجب انما هو الإجابة إلى القسمة مع وجود موضوعها والمحل القابل لها ، وأما تحقيق موضوعها وإيجاد محل قابل لها بإضافة مال خارجي فليس بواجب على الشريك ولو امضاء ، بأن يكون الراد غير الممتنع.

واما القسمتان الأوليان - أعني العينية والمالية - في دخلهما الإجبار مع عدم الضرر ، لكن الأصل في الإجبار هو الأول. فمتى أمكن تعديل السهام بحسب الكم والكيف لم يجبر على التعديل بالقيمة ، لأن كل جزء من المال متعلق بحق الشركاء ، فلا وجه لمنعه عن حقه.

وبعبارة أخرى : ان حرمان الشخص عن عين ماله إلى القيمة حكم مناف

ص: 63

لقاعدة السلطنة ، وانما يعدل عن العين الى المال مع عدم إمكان التوصل الى العين ، فلو كان المال أجناسا مختلفة كالحنطة والشعير لم يجبر على التعديل بالقيمة ، بل لكل من الشركاء الاقتراح بتقسيم كل جنس ، بل له الاقتراح بتقسيم كل جزء في الجنس الواحد ، فيقسم كل واحد من آحاد البطيخ إذا لم يرض أحد الشركاء الا بذلك.

نعم ليس له ذلك إذا لم يتعلق به غرض عقلائي ، كتقسيم كل جزء حبة من حبات الحنطة ولو لم يخرج عن المالية بسبب قابليته للطحن بعد التقسيم أيضا ، لأن مثل هذا الاقتراح بمعزل عن مقاصد العقلاء ، لان الإلزامات الشرعية لا تتعلق بما لا يتعلق به غرض العقلاء.

ومن هنا لا يلزم الوفاء بالشرط الخارج عن مقاصد العقلاء في ضمن العقد ولو تعلق به غرض في خصوص الواقعة الشخصية لبعض الشركاء ، ففي وجوب الإجابة حينئذ نظر : من عموم السلطنة مع اقترانها بالغرض الصحيح ، ومن كون المدار في أمثال المقام على ملاحظة حال العقلاء نوعا لا شخصا.

وعلى هذا فلا بد من تنزيل إطلاق كلماتهم في الإجبار على القسمة بحسب المالية في بعض الأمثلة على ما إذا تعذر فيه القسمة العينية لعذر عقلي أو شرعي وبه صرح في محكي التذكرة حيث قال ما حاصله : ان للشريك الامتزاج بتقسيم كل عين من أعيان المال المشترك وعدم الإجابة إلى التقسيم بحسب المالية بتعديل السهام قيمة وانه لا يجبر على ذلك مع إمكان تقسيم الأعيان.

[ عدم دخول الإجبار مع عدم إمكان التعديل في القسمة ]

هذا إذا أمكن التعديل بحسب الكم والكيف ولو بتقسيم كل عين من الأعيان المشتركة بحيالها ، وأما مع عدم إمكان ذلك وانحصار التقسيم في التعديل

ص: 64

بحسب المالية والقيمة - كما إذا كان المال المشترك عبيدا متعددة قابلة للتعديل بالقيمة بأن يرى أحد العبيد مائة ومجموع الاثنين مائة ونحو ذلك من الفروض - ففي دخول الإجبار على القسمة حينئذ بالتعديل قيمة مطلقا أو عدم الإجبار مطلقا أو التفصيل بين ما يتسامح فيه العقلاء من حيث تعلق الغرض بنفس الأعيان فالإجبار وما لا يتسامح فالعدم ، وجوه.

( وجه الأول ) عموم قاعدة السلطنة وعدم الالتفات الى تعلق الغرض بالعين ، لأن فائدة القسمة هي التفصيل الى تكميل المال وتخليصه من الإشاعة ، وهو حاصل مع التعديل بحسب القيمة ، وأما الغرض المتعلق بالعين فوضع القسمة الإجبارية على عدم مراعاته وإلغائه رأسا. والا امتنع الإجبار مطلقا ، لأن القسمة يلزمها انقطاع يد كل من الشريكين عن عين نصيب الأخر ، فلا يكون حينئذ إجبار أصلا حتى فيما يمكن فيه القسمة العينية ، ولذا جعل بعض الأصحاب سقوط الإجبار في القسمة بتعديل القيمة رأسا.

( ووجه الثاني ) ما عرفت آنفا من أن قطع سلطنة الشخص عن عين ماله وتعيين حقه في بعض أعيان المشترك غصبا عليه ليس مما يقتضيه قاعدة السلطنة ، بل هو مناف لتلك القاعدة ، فكما أن ملتمس القسمة يريد التوصل الى تكميل ماله بالقسمة فكذلك الممتنع يريد التمتع بعين ماله كالدار مثلا ، فالاقتراح عليه بإخراج عين الدار عن يده أو عين الفرس مثلا مناف لقاعدة نفي الضرر.

وان شئت قلت : ان القسمة إذا لم تتصور في كل عين من أعيان المال وانحصر تعديلها بالتقويم كانت ضررا ، لاستلزامها انقطاع يد الشريك عن عين ماله ، فيندرج تحت القسمة الضررية التي لا إجبار فيها.

ودعوى أن فوت الغرض المتعلق بالعين ليس بضرر ، إذ المعتبر في الضرر هو الضرر المالي. مدفوعة بأن الإشاعة ليس ضررا ماليا ، بل ربما يكون

ص: 65

قيمة النصف المشاع مثلا أزيد من قيمة النصف المفروز أو مساويا ، مع أنهم استدلوا على الإجبار في القسمة بأن الشركة ضرر فيجب نفيه.

[ لا ترجيح لغرض الملتمس للقسمة على غرض الممتنع منها ]

والحاصل ان انقطاع سلطنة الشخص عن بعض أعيان ماله ولو على نحو الإشاعة والتعيين تمام حقه في بعض تلك الأعيان ليس مما يدل عليه دليل ، إذ لا ترجيح لغرض الملتمس على غرض الممتنع ، فكما أن الملتمس يريد التوصل الى بعض الأغراض التي لا يترتب على فوته ضرر مالي والاستقلال بالمال وإخراجه عن الإشاعة ، ضرورة عدم توجه ضرر مالي ونقصان في المالية اليه على فرض بقاء حصته على الإشاعة ، فكذلك الممتنع يريد محافظة بعض أغراضه التي لا يترتب على فوتها ضرر مالي ، وترجيح جانب الملتمس بإجبار الممتنع على القسمة ترجيح بلا مرجح.

( ووجه التفصيل ) ان الأغراض المتعلقة بالأعيان ليست على نهج واحد عند العقلاء ، فربما يكون الغرض المتعلق بالعين ملغى في نظر العرف كما هو مبنى دخول الإجبار في القسمة العينية ، أي القسمة بحسب الكم والكيف ، لان المال إذا كانت أجزاؤه متساوية وصفا وجنسا وقابلا للتعديل بحسب الكم والكيف لم يلزم من التقسيم والإفراز الا انقطاع يد كل من الشريكين عن عين نصيب الأخر.

وحيث أن المفروض عدم التفاوت العقلاني بين نصيبه ونصيب شريكه عينا ولا قيمة ألغاه الشارع أيضا ونزله منزلة الوصول الى تمام حقه عينا وقيمة.

وهكذا إذا كان المال مختلفة الاجزاء بالاختلاف المتسامح فيه عند العقلاء من حيث تعلق الغرض بالخصوصية ، فإن كل اختلاف في الاجزاء ليس مما يصحح تعلق الغرض بالخصوصية ، فربما يكون الغرض المتعلق بالخصوصية واجب

ص: 66

المراعاة عند العقلاء ، مثل الغرض المتعلق بخصوصية الدار ، فإن منزلة الدار مثلا عند العقلاء ليس كمنزلة شي ء آخر يساويها في القيمة مثل الثوب أو الجام ونحو هما : فان كان الغرض المتعلق بالخصوصية من قبيل الأول الذي يتسامح فيه لم يجب مراعاته بل يجبر صاحب ذلك الغرض وهو الممتنع ، وان كان من قبيل الثاني يجب مراعاته فيزاحم حقه حق الملتمس. وهذا التفصيل أوفق بكلمات الأكثر.

ومن هنا قال العلامة «رحمه اللّه» بالإجبار في قسمة العبيد مع إمكان تعديلها بالقسمة ، وبعدم الإجبار في قسمة العبد والجوهر مثلا المشترك فيهما بين الاثنين ، فان الأغراض المتعلقة بخصوص بعض العبيد ليس مما يزاحم بها غرض الافراز والاستقلال بالمال عند العقلاء ، بخلاف الغرض المتعلق بجنس العبد أو الجوهر مثلا ، فان مما يعتنى به عند العقلاء ، حتى أنه ربما يرجح على غرض الافراز.

والحاصل ان المناط في الإجبار على القسمة بحسب المالية على هذا التفصيل عدم كون الغرض المتعلق بالخصوصية واجب المراعاة عند العقلاء نوعا حتى لا يزاحم به غرض الافراز والتعيين الذي دعا الملتمس الى التماس القسمة.

ومن أجل ذلك تطرق الاشكال والنظر والتردد في كثير من صور القسمة المالية التي اشتمل على جملة منها كتب الأصحاب باعتبار الشك في كون الغرض المتعلق بالعين واجب المراعاة عند العقلاء أو ملغى رأسا أو بحيث يزاحم به غرض الافراز والتعيين في المال.

وهذا هو الأقوى ، لأن اختلاف الأغراض ربما يرجع الى اختلاف حال الشركاء من حيث التضرر بالقسمة وعدمها ، كما إذا كانت تلك الأغراض مما يعتد بها العقلاء ، فتندرج القسمة حينئذ تحت القسمة الضررية التي لا إجبار فيها.

ودعوى عدم صدق الضرر على فوت الغرض العقلائي مع التساوي في

ص: 67

مقدار المالية. قد ظهر فسادها نقضا بأصل الشركة وحلا بصدق الضرر عليه عرفا.

قال شيخنا الأستاد «رحمه اللّه» : وممن صرح بأن فوت الغرض ضرر على الشريك هو المحقق القمي في جواب سؤاله الفارسي. واللّه العالم.

التقاط [ حكم الأموال المختلفة بين شركاء متعددين ]

إذا كان أموال متعددة بين اثنين بأسباب مختلفة - مثل ما إذا ورثا دارا من أبيهما وحماما من أمهما وتملكا أيضا بعقد بيع أو صلح أو نحو ذلك - فطريق القسمة حينئذ تقسيم كل مال بحياله إن أمكن ، ولو امتنع قسمة كل مال منفردا وانحصر الأمر في قسمة مجموعها بالتعديل بحسب القيمة ، فقد صرح بعض مشايخنا تبعا للمحكي عن الشيخ «رحمه اللّه» بعدم دخول الإجبار على القسمة حينئذ بل عدم شرعية القسمة رأسا الا أن ترجع الى نحو صلح ونحوه ، لأن القسمة حينئذ ترجع إلى معاوضة ما يستحقه أحد الشريكين في أحد العينين بما لصاحبه في الأخر ، فلا وجه للإجبار عليها. بخلاف ما لو كانت الشركة في مجموع الأموال ، فإن القسمة حينئذ ولو بتعديل السهام قيمة افراز لا معاوضة.

ومحصل هذا : ان سبب الشركة في كل منهما إذا كان مغايرا لسببها في الأخر كان هنا شركتان في مالين مشتركين ، ومقتضى كل شركة حصول الإشاعة في موضوعها ، فحق كل منهما في كل من العينين ثابت على وجه الإشاعة في تلك العين ولا يسري شيوعها الى العين الأخرى ، كما في صورة كون سبب الشركة واحدا ، فإذا أريد تقسيم العينين بالتعديل وجعل كل من العينين سهما رجع ذلك الى المعاوضة ، لأن السهمين إذا لم يكن كل منهما على البدل قابلا للاختصاص

ص: 68

بأحد الشركاء بل كان نصف كل منهما مختصا بكل من الشريكين فلا جرم يقع بين النصف من هذه العين وبين النصف من العين الأخرى معاوضة.

وهذا الكلام صحيح إذا لاحظنا كل واحد من العينين بحيالها وجعلناها مالا مغايرا للآخر ، وأما إذا لاحظناهما مالا واحدا ونظرنا الى المجموع المركب منهما نظرا الى أن هذا المجموع أيضا مال آخر مغاير لكل منهما في لحاظ الانفراز لم ترجع القسمة حينئذ إلى تبديل ما يستحقه كل منهما في أحد العينين بما يستحقه الأخر في الأخرى ، لأن مالية مجموع المالين بالنسبة إلى مالكين مثل نسبة ماليته الى كل واحد.

فكما أن ذلك المجموع إذا كان لواحد كان نصفه وثلثه وربعه الى آخر الكسور ملكا على نحو الإشاعة ، فكذلك إذا كان لاثنين يكون كل نصف منه ملكا لكل منهما على سبيل الإشاعة ، بمعنى كونه صادقا على جميع ما يتصور فيه من الانصاف على البدل ولا ينحصر في النصف الملفق من نصف أحد العينين ونصف الأخرى ، بل يكون من مصاديقه كل واحد من العينين إذا كانتا متعادلتين بحسب القيمة. وبهذا الاعتبار يصح فيها القسمة تعديلا ، ويدخل عليها الإجبار أيضا إذا لم يكن اختلاف الأموال مما تتفاوت به الأغراض.

ومما يؤيد ما قلنا أو يدل عليه أنه لم يقل أحد في باب الشركة العقدية أن الأموال المشتركة لا تقسم تعديلا إذا امتنع قسمة كل من الأعيان افرازا مع ان مال التجارة المشتركة يتجدد يوما فيوما بحسب التقليب والتقلبات الحاصلة فيه من بيع وشراء ونحو هما.

ودعوى الفرق بين المال الشركة وبين ما نحن بأن ثمن الشركة مشاع بين الشريكين فيتجدد البيع ولو مع تعدد العقد. بيّن الفساد ، لأن الإشاعة في الثمن لا يوجب ارتفاع التعدد في تلك العقود الواقع كل منها على مبيع خاص

ص: 69

مغاير للجميع في العقد الأخر. مع أن البيع والشراء قد يتحققان مع كون الثمن في ذمة الشريكين ، فلا بد أن يلتزم بعدم جواز قسمة ما يحصل منهما من الأموال بالتعديل.

وكذا يؤيد ما قلنا انقسام مال المضاربة بين العامل ورب المال مع ظهور الربح تعديلا مع حصوله بالأسباب المتعددة ، بل هذا أوضح لعدم الإشاعة في الثمن في المضاربة.

والحاصل ان تعدد الأسباب ليس بمانع عن القسمة تعديلا. نعم لا بد من إحراز كون تلك الأموال الحاصلة بالأسباب المتعددة مالا واحدا ولو بملاحظة مجموعها من حيث المجموع.

فان قيل : ان تعدد الأسباب يوجب عد ما يحصل من كل سبب مالا مستقلا ، فلا تأثير لملاحظة المجموع في جعلها مالا واحدا.

قلنا : تعدد الأسباب بمجرده لا يؤثر ، ولذا لو تملك نصف صبرة من الحنطة بسبب ونصفها الأخر بسبب آخر لم يخرج كون تلك الصبرة عن المال الواحد العرفي ، خصوصا إذا كان المالك واحدا ، فالمناط في جعل أمور متعددة مالا واحدا أو متعددة شي ء آخر ، اما قلة اختلافها جنسا أو وصفا أو غير ذلك.

وعلى أي حال فلا يتفاوت الحال بين حصول الشركة في كل واحد من تلك الأمور بسبب مستقل مختص وبين حصولها في الكل بسبب واحد. فالأظهر في صورة انحصار القسمة في التعديل الإجبار مع عدم توجه الضرر الى بعض ولو بفوت غرضه العقلائي كما مر. واللّه العالم.

ص: 70

التقاط [ ذوا اليد يقسم بينهما المال الذي يدهما عليه ]

إذا سأل الشريكان الحاكم القسمة وكان لهما بينة بالملك قسم بلا خلاف ولا اشكال ، وان لم يكن لهما بينة وكان يدهما عليه ولا منازع فالمشهور أيضا أنه يقسم ، ونقل عن المبسوط أنه لا يقسم وكذا نقل عن الدروس.

ومبنى المسألة على أن قسمة الحاكم حكم منه بالملك أو بمنزلته أو تصرف من التصرفات ، نظير العقد بين رجل وامرأة ، فإنه ليس حكما منه بالزوجية حتى لا يجوز نقضه. والثمرة بين الوجهين لا تكاد تحصى.

ومما ذكرنا يظهر جواز القسمة ، لأنها ليست بحكم بل هي كسائر تصرفاته التي لا تستدعي بعض موازين القضاء بل أمارة من أمارات العمل. واللّه العالم.

التقاط [ المال المشترك الممتنع القسمة ]

إذا امتنع قسمة المال المشترك افرازا وتعديلا ، فهاهنا يتصور القسمة بوجهين آخرين :

( أحدهما ) أن يجعل الأكثر قيمة سهما والأقل سهما. وفائدة القسمة على هذا الوجه خروج الأقل خاصة عن الإشاعة وبقاء الأكثر بين الشريكين أيضا على وجه الإشاعة بحسب ما يبقى من حق آخذ الأقل. فلو كان المال عبدين قيمة أحدهما عشرة وقيمة الأخر عشرون وقسما على أن يكون الأقل سهما والأكثر قيمة سهما بقي الأكثر أيضا مشتركا بينهما ، فيكون حق آخذ الأقل من العبد الذي قيمته عشرون ربعه ، فيشار كان أرباعا.

ص: 71

( والوجه الثاني ) أن يضاف إلى الأقل ما يساوي معه الأكثر في القيمة. وهذا يسمى بقسمة الرد ، وحقيقتها تسالم الشريكين على صيرورة مال خارج عن المشترك لأحدهما خاصة بدلا عن جزء معين كالربع أو السدس ونحو هما من العين المشاعة.

ولذا اتفقت الكلمة على أن قسمة الرد مشتملة على معاوضة ومعادلة وان لم تكن بيعا ، فأحد العوضين لا بد أن يكون ملكا طلقا لأحد الشريكين والأخر جزءا معينا من المشاع ، لا بمعنى كون نفس ذلك الجزء مشاعا بينهما ، لاستحالة كون العوض والمعوض ولو بعضا من شخص واحد ، بل بمعنى كون ذلك الجزء من العين المشاعة.

ولا ريب أن الكسور المفروضة في الأعيان المشاعة تختص بكل واحد من الشركاء ببعض الاعتبارات ، فنصف العين مثلا مشاع بين زيد وعمرو ولكن نصف زيد مختص به وكذلك نصف عمرو ، فالمعوض هو الجزء المختص بأحدهما الذي يساوي الضميمة في المالية. فتدبر.

ولا خلاف ولا إشكال في أن قسمة الرد لا تقبل الإجبار كما ذكرنا سابقا ، وكذا لا إشكال في عدم الإجبار على الوجه الأول ، وهو الذي سمي بما لا يخرج معه المال عن الإشاعة رأسا ، لأن الضرر المترتب على هذا النحو من القسمة آكد من فوات الغرض الذي تقدم عدم الإجبار معه ، فلا بد في صحة كل من الوجهين من التراضي ، فلو اتفقا على الرد وعدلت السهام وأقرع فهل تلزم بنفس القرعة على القول بعدم اعتبار الرضا بعدها في قسمة الافراز أم لا تلزم الا بالرضا بعدها ولو قيل باللزوم في قسمة الافراز؟ ذهب الشيخ والأكثر الى الثاني.

وحاصل ما استدل به الشيخ على مختاره : ان القرعة تفيد في مثل المقام معرفة البائع من المشتري ، فقبل القرعة لا يعلم ، فاذا علم بها فلا بد له وللمشتري

ص: 72

الذي تسالما على اشتغال ذمته بالزيادة في مقابل جزء من العين المشاعة والتراضي بعدها ، لان الرضا السابق ليس رضاء بالمعاوضة ، لعدم تعيين البائع والمشتري ، فالرضا بها ما يكون بعد معرفة دافع الزيادة الذي هو بمنزلة البائع ومعرفة من يخرج من ملكه ذلك الجزء.

وقد يستشكل فيه بأن أدلة القرعة تفيد اللزوم كما مر ، فلا مجال للرضا مع فرض شرعيتها ، ولذا استقرب بعض اللزوم من غير رضاء بعدها.

وفيه : ان لزوم العمل بالقرعة يختلف بحسب اختلاف المقامات ، فان كان مؤداها التعيين أو الافراز ترتب عليها اللزوم من غير رضاء بعدها ، وأما إذا كان مؤداها مجرد التعديل الذي هو مقدمة للقسمة ، فالعمل بمؤداها لا يزيد على الحكم بحصول التعديل بها.

وغرض الشيخ أن القرعة في قسمة الرد مقدمة للتعديل الذي هو مقدمة للقسمة وليست قسمة ، وذلك لان الأقل لا يعادل به الأكثر إلا بعد ضم مقدار من المال يساوي جزء من العين المشاعة اليه ، والمفروض عدم كون الضميمة عينا خارجية بل ولا كل ما في الذمة.

وحيث كانت تلك الذمة مرددة بين أن تكون ذمة هذا الشريك أو ذاك ، لم تصلح لان يكون ما فيها عوضا عن جزء من المشاع ، وكذا لا يصلح ذلك الجزء المردد بين أن يكون من مال هذا أو من مال ذاك معوضا ، لان ما في الذمة إنما يعد مالا إذا تعين محلها وعلم الملتزم بها على سبيل التعيين الظاهري أو الواقعي ، وأما إذا كان الملتزم بها شخصا مخيرا من أحد الشخصين غير معين في الظاهر ولا في الواقع فهذا لا يصلح بدلا لشي ء ، فإذا لم يصلح بدلا لم يفد ضم مثل ذلك الى الأقل التعديل بينه وبين الأكثر.

وبعبارة أخرى : إذا تراضيا بالرد والقرعة فقد تراضيا على استحقاق أحدهما

ص: 73

الغير المعين على الأخر مالا في ذمته في مقابل جزء من المشترك ، وهذا التراضي لا يجعل الأقل مقابلا للأكثر ومعادلا له فعلا.

نعم إذا أقرع وتبين الملتزم بذلك المال الكلي حصل التعديل ، لان هذا المال الكلي في ذمة من خرجت باسمه مضافا الى الأقل يعادل الأكثر ، فإذا حصل التعديل قسم حينئذ بالتراضي ونحوه.

[ الفرق بين قسمة الرد وقسمة الافراز ]

ومن هنا بان الفرق بين قسمة الرد وقسمة الافراز ، لان الافراز لا يتوقف تعديل السهام فيه الى القرعة ، إذ المعادلة بين الأعيان الخارجية أمر حسي غير متوقف على القرعة ، فلا يبقى للقرعة بعد الافراز والتعديل أثر إلا حصول الانفراز ، ومعه يستغنى عن الرضاء المتأخر عملا بظاهر أدلتها. بخلاف القسمة الردية ، فان التعديل فيها أمر غير معقول قبل تعيين دافع الزيادة وأخذ الجزء ، فالقرعة حينئذ لا تفيد سوى ما ذكره الشيخ «رحمه اللّه» من معرفة البائع ، أراد أن معرفة البائع ليس نفس القسمة بل مقدمتها ، فعبد معرفته استعد المال للقسمة لحصول التعديل بملاحظة ضم الأقل مع ما التزمه دافع الرد.

هذا ، أقول : يمكن أن يقال ان كون مفاد القرعة حينئذ هو التعديل دون القسمة لا يستلزم اعتبار الرضا بعدها ، لإمكان القول بأن الرضا بالقرعة رضاء بالتعديل والقسمة معا ، فالشريكان إذا تسالما على الرد وعلى القرعة فقد تسالما على التعديل بموجب القرعة وعلى كونه قسمة وافرازا. وبعد ما استظهرنا اللزوم من أدلة القرعة بعد شرعيتها سقط اعتبار الرضا بعدها.

وأيضا إذا لم يكن مفاد القرعة تميز الحق ولا تعيين المجهول بل مجرد

ص: 74

التعديل توجه المنع عن شرعيتها ، لما تقدم من أن شرعيتها منحصرة في أحد الموضعين.

ثمَّ أن للشيخ استدلالا آخر على المسألة لو تمَّ فإنما يفيد اعتبار الرضا بعدها في قسمة التعديل ، لأنه قال : لما لم يعتبر الرضا في قسمة الإجبار في الابتداء فكذلك في الاستدامة ، وهنا اعتبر التراضي في الابتداء فكذا في الانتهاء كأنه أراد اعتبار الرضا الى آن التصرف ، لأن القسمة بالتراضي قسمة معاطاتية فلا يلزم الا بعد التصرف ، فحيث كانت القسمة قسمة تراض ولو كانت بالتعديل اعتبر فيه الرضا الى زمان التصرف الذي هو زمان اللزوم.

التقاط ( في طور طريف آخر لتحقيق مقالة الأكثر ) [ التعديل المتوقف على الرد ]

وهو أن القسمة مسبوقة بالتعديل ضرورة ، والتعديل فيما يتوقف فيه على الرد انما يحصل صيرورة الرد جزءا من المقسم ، وكونه جزءا من المقسم يتوقف على تسالم الشريكين ، لكونه بدلا عن جزء مشاع في العين وعلى تعيين الملتزم به الذي هو بمنزلة المشتري وتعيين من يخرج عن ملكه العوض - أعني ذلك الجزء المشاع - وعلى اشتغال ذمة الملتزم بذلك الرد فعلا لا تصورا أو فرضا.

فهنا أمور ثلاثة : الأول تسالم الشريكين على المبادلة من غير تعيين باذل الرد الذي هو بمنزلة المشتري وباذل الجزء الذي هو بمنزلة البائع ، والثاني تعيين الباذل ، والثالث صيرورة الرد مستقرا في ذمته ، إذ لو لا الاشتغال الفعلي لم

ص: 75

يكن الأقل معادلا للأكثر ، لأن تعيين الملتزم به من غير تحقق الالتزام فعلا لا يزيد في مالية الأقل حتى يعادل الأكثر.

والأول يجري مجرى المساومة في البيع ، والثاني يجري مجرى تعيين البائع من المشتري ، والثالث يجري مجرى البيع.

مثلا إذا كان المال المشترك عبدين قيمة أحدهما عشرة وقيمة الأخر عشرون فلا بد فيه أولا من تسالم الشريكين على مبادلة جزء من العبد الذي يسوى عشرين بمال ، فلا بد أولا من تقدير ذلك الجزء وتقدير قيمته ، وذلك الجزء في المثال هو ربع ذلك العبد ، لان نصفه يقابل بتمام العبد الأخر ، فيبقى ربعان منه مشتركا بين الشريكين ، فلكل منهما ربع من هذين الربعين وقيمة ذلك خمسة. ثمَّ بعد ذلك لا بد من تعيين من يدفع الخمسة وأخذ ربع شريكه حتى يخلص له تمام العبد الذي قيمته عشرون ، ويتبعه تعيين من يخرج عن ملكه ربعه المشاع في ذلك العبد ويتملك الخمسة وتمام ذلك العبد الأخر. ثمَّ بعد ذلك لا بد من اشتغال ذمة الملتزم بالخمسة بها فعلا حتى تقوم تلك الخمسة مقام الربع الذي يتملكه بدفعها من العبد المشاع ، إذ لو لا ذلك لما حصل التعادل بين العبد الذي قيمته عشرة وبين العبد الذي قيمته عشرون. ثمَّ بعد ذلك لا يحتاج الى التقسيم ثانيا ، لحصوله حينئذ بنفس ذلك التعديل.

إذا تحقق ذلك فنقول : ان التسالم على الرد يحصل به الأمر الأول والقرعة يحصل بها الأمر الثاني ، لأنها حينئذ تفيد معرفة البائع عن المشتري من غير تحقق نقل بعد ، فالتعديل بعد غير حاصل. وأما الأمر الثالث الذي به قوام التعديل - أعني استقرار الرد في ذمة المشتري كما عرفت - فلا بد فيه من التراضي فالتراضي سبب لأمرين التعديل والقسمة معا.

أما سببيته للأول فلان القرعة لم تفد سوى تعيين البائع ، وقد عرفت أن

ص: 76

مجرد التعيين لا يكفي في تحقق التعديل ما لم تشتغل ذمة المشتري بالرد فعلا ، فلا بد في تنجز الاشتغال وتحققه فعلا من شي ء آخر ليس هو الا الرضا المتأخر. وأما سببيته للقسمة إذ لا مفهوم لها في المقام سوى استقرار الرد في ذمة أحد الشريكين معينا بإزاء ما يتملكه من الربع المشاع ، وقد فرضنا حصوله بالرضا.

فان قلت : إذا جوزت حصول التعديل والقسمة معا بشي ء واحد - وهو الرضا المتأخر - فلم لا يجوز حصولهما بنفس القرعة التي تسالما عليه سابقا. أو يقال : أن مجرد التسالم على مبادلة جزء من العبد الذي قيمته عشرون في المثال المزبور بشي ء يكفي في حصول التعديل ، ولا حاجة الى تعيين باذل المردود وباذل الجزء فضلا عن حصول الاشتغال الفعلي بالمردود.

قلنا : القرعة إنما شرعت للتميز لا للنقل ، إذ ليس من الأسباب الناقلة القرعة وقد عرفت أن قسمة الرد ترجع إلى مبادلة مال بمال ، ولهذا لا يجوز استناد أصل القسمة إليها بل إلى التراضي الذي هو مبادلة معاطاتية. مضافا الى ما في الأخيرين من التعسف ، لان التسالم على المبادلة من غير تعيين البائع والمشتري واستقرار ذمة المشتري بالرد فعلا لا يوجب كون العبد الذي قيمته عشرة عديلا للعبد الذي قيمته عشرون.

ومما ذكرنا يظهر أن قياس القرعة في المقام بها في قسمة الافراز والتعديل ليس في محله ، لأن قسمة الافراز والتعديل ليس فيهما مبادلة ، لما مر من أنها عبارة عن صرف إفراز الحق وتعيين المبهم ولو جعلا ، بخلاف قسمة الرد فإنها تشتمل على المعاوضة عرفا وشرعا بلا خلاف وان لم يكن بيعا ، وإذا لم تشتمل القسمة على المعاوضة ولو في نظر العرف لم يكن مانع من حصولها بنفس القرعة ، لأن القرعة تنهض بتعيين الحق وتميزه ولا تنهض بنقل مال بعوض. واللّه العالم.

ص: 77

فرعان [ يتعلقان بأحكام الرد في القسمة ]

( الأول ) ان المردود لا يجب أن يكون معادلا للجزء المشاع في المالية ، بل يجوز للشريكين التسالم على جعل شي ء قليل بدلا عن ذلك الجزء كما هو الشأن في سائر المعاوضات ، لان المتعاوضين لهما على الاقتراح على البيع بغير ثمن المثل أو الصلح عليه أو نحو هما من العقود ، فيجوز في المثال المزبور التسالم على بدلية قران واحد لربع العبد الذي فرضنا قيمته خمسة.

وهل يجري فيه خيار الغبن لو كان أحد الشريكين جاهلا بالحال؟ الظاهر الجريان لو كان مدرك خيار الغبن قاعدة لا ضرر ، ومثله الكلام لو ظهر في المردود عيب.

( الثاني ) قد ظهر أن قسمة الرد مشتملة على معاوضة ولكنها ليست بيعا.

ويتفرع على ذلك أن أحكام المعاوضة المطلقة تجري فيها ، وأما أحكام البيع خلاصة فلا تجري فيها. فالربا يجري في القسمة الردية ، فلا يجوز في المال الربوي جعل الرد زائدا عن الجزء المشاع وزنا. مثلا إذا كان المال المشترك مالين من جنس ربوي لم يكن تقسيمه بالإفراز للضرر ولا بالتعديل لعدم المعادلة ، فإن جعل الرد من غير الذهب مثلا كالفضة فلا اشكال ، وان جعل من جنسه فلا بد من مراعاة مساواته للجزء المشاع المعوض وزنا ، فلا يجوز جعل المردود مثقالين من الذهب إذا كان ما يقابله من الذهب الذي قيمته أكثر أقل من مثقالين كربع المثقال ، كما يتفق كثيرا في المسكوك فإن قيمة الذهب مثلا بملاحظة السكة غير قيمتها بدونها ، فيمكن أن يعادل ربع المثقال من المسكوك الربعين من غيره ولو مع التساوي في الجودة والرداءة فضلا عن صورة الاختلاف فيها.

ص: 78

وأما العرف فلا يجري أحكامه فيها ، فلا يشترط في القسمة الردية التقابض في مجلس القسمة لو كان المال المشترك من جنس النقدين ، وهكذا الى سائر ما يخص البيع من الاحكام. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء الغلط في القسمة وصوره ]

إذا ادعى أحد الشريكين الغلط في القسمة فالمدعى عليه اما قاسم الامام عليه السلام أو أحد الشريكين ، وعلى التقديرين فالكلام تارة في صحة الدعوى وأخرى في توجه اليمين عند عدم البينة.

ثمَّ الغلط في القسمة يتصور على قسمين : أحدهما أن تكون السهام غير متعادلة ، والثاني عدم وصول أحد الشريكين الى تمام نصيبه مع فرض التعادل ، كما إذا كان لأحد أربعة السدس وللآخر سدسان وعدلت السهام أسداسا وقسمت ولكن صاحب الأسداس الأربعة لم يكن وصل الى تمام حقه بل إلى ثلاثة أسداس.

فدعوى الغلط على الأول لعدم معادلة السهام ، وعلى الثاني دعوى لعدم وصول حقه بتمامه إليه. فإن ادعى الغلط على الوجه الثاني فقول المدعى مطابق للأصل ، فهو منكر حقيقة والمدعي صاحبه الذي يدعي وصول تمام الحق إليه. لكن الظاهر خروج دعوى الغلط على هذا الوجه من مفروض كلام الأصحاب.

أقول : بل الظاهر عدم صدق الغلط في القسمة على عدم وصول تمام حق أحد الشريكين اليه ، بل الظاهر عدم كون الشريك حينئذ مدعى عليه ، الا أن يدعي عليه خيانة من السرقة ونحوها ، لان عدم ظفر أحد الشريكين بتمام حقه المفروض ليس مما يوجب شيئا على الشريك الأخر.

ص: 79

وأما الدعوى على الوجه الأول فقد يقال انه مدع ، لأن الأصل في القسمة الصحة. ويشكل ذلك بأن القسمة عبارة عن التميز ، وهو ليس مما ينقسم الى صحيح وفاسد حتى يجري فيه أصل الصحة كما نبهنا عليه في غير مثل المقام غير مرة ، حيث أشرنا الى أن مجرى أصل الصحة كل فعل ينقسم الى صحيح وفاسد لا مطلقا ، مثل الوطي والغصب والأكل والشرب والسرقة والزنا ونحوها من موضوعات الاحكام.

وحينئذ فإجراء أصل الصحة في القسمة اما بملاحظة التقسيم الصوري الذي يتصور فيه الصحة والفساد أو بملاحظة سبب القسمة وهو الفصل ، أو الإنشاء الخارجي القائم بالقاسم الذي يترتب عليه التميز وانفراز الحصص ، لان هذا الفعل باعتبار كونه مؤثرا لإفادة التميز تارة وغير مؤثر أخرى ينقسم الى صحيح وفاسد ، كالنقل وسببه الذي هو صيغة البيع ، فإن الأول لا يجري فيه أصل الصحة لعدم انقسام النقل الواقعي إلى صحيح وفاسد ، بخلاف الثاني وهو سبب النقل - أعني صيغة البيع - فإنه باعتبار تأثيره أثر النقل تارة وعدم التأثير أخرى يتصف بهما ، فيجري فيه أصل الصحة.

وحينئذ نقول : ان كان المدعى عليه الشريك فلا إشكال في توجه الدعوى حينئذ ، لأنه يدعي منه مالا في يده ، كما لا إشكال في توجه اليمين اليه. وانما الكلام في اشتراطها بدعوى أم لا؟ ظاهر إطلاق الأصحاب والأقوى الأخير عند شيخنا « قده » ، لما ذكر من أن الدعوى ان تعلقت بما في يده وان عين ماله في يده فالدعوى بفعل النفس - سواء كان القاسم غيره كقاسم الامام وغيره أو هو - وليس المقام من باب الدعوى على الوارث بفعل أبيه.

وقد تقدم في محله ان الدعوى إذا كانت متعلقة بفعل النفس توجه اليمين

ص: 80

على البت ولو لم يدع العلم بل اعترف بعدم العلم أيضا ، فإن فائدة الاستحلاف حينئذ تظهر في الرد.

فان قلت : ما الفرق بين المقام وبين ما لو ادعى على الوارث عينا من أعيان تركة أبيه وأنه غصبها أبوه ، حيث أن الدعوى هنالك دعوى متعلقة بفعل الغير ، فلا توجب اليمين الا مع دعوى العلم ، بخلاف المقام فإنه دعوى بفعل النفس مع أن حصول مال الشريك في يد شريكه انما صار بسبب فعل الغير الذي هو القاسم مثلا.

قلنا : في الدعوى على الوارث أيضا ترتب عليه اليمين بلا دعوى العلم إذا ادعى العين وأنها ماله من غير تعرض لفعل المورث وغصبه لها. نعم لو تعرض له وقال ان هذه العين قد غصبها مورثيك كانت من الدعوى المتعلقة بفعل الغير.

فان قلت : نفرض المقام مثل ذلك ، بأن يقول أحد الشريكين للآخر ان القاسم قد غلط وجعل شيئا من مالي في يدك باعتبار غلطه في التعديل بين سهمي وسهمك ، فلا بد حينئذ من توقف المساع على دعوى العلم على الشريك.

قلنا : فرق بين القاسم والمورث ، فان القاسم بمنزلة الوكيل في إيصال حقهما إليهما ، فالدعوى المستندة إلى فعل القاسم كالدعوى المستندة إلى فعل الوكيل ، كأن يقول وكيلك في القرض قد استقرض مني.

هذا ، ولا بد في اتضاح الحال من التأمل فيما ذكرنا سابقا ميزان من فعل النفس وميزان فعل الغير.

وان كان المدعى عليه القاسم. فقد يقال بسقوط الدعوى حينئذ كما هو القدر المتيقن من عبارة المحقق في الشرائع ، لأن الدعوى على القاسم كدعوى الخيانة على الحاكم ، لكن فيه ان القاسم قائم مقام الحاكم في نفس التقسيم لا في مقدماته من التعديل.

ص: 81

[ منشأ الغلط في التقسيم ]

توضيحه : ان الغلط في التقسيم قد ينشأ من الخطأ في تعديل السهام وقد ينشأ من الخطأ في تطبيق السهام المعدلة على الموجود الخارجي ، كما إذا عدل المال بأن يكون حقتان من هذه الحنطة مقابل حقة من الأخرى ثمَّ حصل الغلط في الافراز الخارجي ولم تكن الحقة من هذه الحنطة مقدار الحقتين. وربما ينشأ من أشياء أخرى كنقصان الميزان ونحوه ، وقد ينشأ من الغلط في نظر القاسم ، ومن الواضح عدم تصور الخطأ في نظره ، فلا بد من رجوع دعوى الغلط عليه الى دعوى الخطأ في بعض الأمور المشار إليها التي ليس نظر القاسم فيها الا كنظر أهل الخبرة ، فإن نظره القائم مقام نظر الحاكم انما هو نظر في التقسيم الذي لا يتصور فيه الخطأ.

فحينئذ لا بد من التأمل في أن الخطأ في التعديل سبب للضمان لكونه تسبيبا للإتلاف أو مباشرة له أم لا ، وعلى الأول فلا بد من النظر في أن الإمناء هل يتوجه عليهم اليمين أم يصدقون بغير يمين إذا كانوا مدعى عليهم كتصديقهم مع اليمين إذا كانوا مدعين فيما ائتمنوا فيه. فان تمت المسألتان - أعني كون الغلط من أسباب الضمان وتوجه اليمين إلى الأمناء إذا كانوا مدعى عليهم - والا فلا.

ثمَّ لا فرق بين قاسم الامام ومن استأجره الشركاء للتقسيم.

ثمَّ ان القسمة لو كانت بتعديل القيمة وأقام المدعي البينة فيما كان المدعى عليه الشريك كان المقام من تعارض البينات ، بناء على اشتراط العدالة والتعدد في المقوم. واللّه العالم.

ص: 82

التقاط [ ظهور الاستحقاق في المال بعد تقسيمه ]

إذا اقتسم الشريكان مثلا ثمَّ ظهر البعض مستحقا ، فان كان مع أحدهما بطلت القسمة ، ضرورة بقاء استحقاق صاحب المستحق في نصيب شريكه ، وكذا لو كان بينهما لكن لا بالسوية ، بأن يكون حق أحدهما قيمة أكثر لما ذكره ، ان كان بينهما بالسوية لم تبطل لبقاء المعادلة بين ما عداه من السهام بحالها.

هذا إذا كان البعض مستحقا معينا ، وان كان جزءا مشاعا كالثلث فيهما إذا اقتسما المال بينهما نصفين فظهر شريك آخر مثلهما في النصيب. فلا إشكال في البطلان في المستحق ، بمعنى ثبوته في كل من النصيبين على وجه الإشاعة ، وأما فيما زاد عنه فعن الشيخ قولان البطلان وعدمه. والأول أظهر ، لأن الحكم بصحة القسمة حينئذ يستلزم خروج حصة الثالث عن بعض وجوه الإشاعة من غير اذنه ولا اذن من يقوم مقامه ، بخلاف ما لو حكم ببطلان القسمة فإنها باقية على كمال إشاعته.

وانما قلنا ذلك لان مصاديق نصيبه - وهو الثلث في المثال المزبور - على تقدير بطلان القسمة وبقاء المال على إشاعته بين الشركاء الثلث أكثر من مصاديقها على تقدير الحكم بصحة القسمة ، لأن مصاديق ثلثه على هذا التقدير دائرة بين ثلث مجموع النصفين المركب منهما بالسوية ، ولا يجوز تعيينه في أحدهما خاصة ولا فيما يتركب منهما بالاختلاف ، مثل أن يؤخذ من أحدهما أكثر من الأخر ، بخلافها على تقدير بقاء المال على الإشاعة الأولية ، فإنه صالح حينئذ لأن يتعين في ثلث مركب من النصفين وأن يتعين في أحدهما خاصة وفي المركب منهما بالاختلاف وبالسوية.

ص: 83

وبالجملة لا إشكال في أن إشاعة الثلث على تقدير بطلان القسمة مطلقا أوسع دائرة من إشاعته على تقدير الصحة. وتقليل وجوه الإشاعة كاعدامها رأسا يتوقف على اذن صاحب الحق أو اذن من يقوم مقامه ، خصوصا إذا كانت القسمة رد لاشتمالها على المعاوضة حقيقة.

فإن قلت : معنى الإشاعة هو كون كل جزء من أجزاء المال بين الشركاء على ما هو المختار لا كون كل سهم من الشركاء مفهوما ذا مصاديق متعددة قابلا لان يتعين في كل واحد من تلك المصاديق كما هو خيرة بعض مشايخنا « قده ». والإشاعة بهذا المعنى أيضا باقية ولو حكم بصحة التقسيم ، لان كل جزء من أجزاء كل من النصفين يفرض فيه حق للشريك الثالث وهو الثلث ، فليس في الخارج جزء لا يكون ثلثه له حتى ينافي بقاء إشاعة ثلثه على حالها.

وما ذكرت من التفاوت في مصاديق الثلث على تقديري صحة القسمة وفسادها مسلم ، لكنه لا يقدح في الإشاعة بالمعنى المزبور وانما يقدح فيها بمعنى اقتضائه تقليلا في وجوهها على القول بأن حق كل من الشركاء مفهوم كلي كالثلث صالح للتعيين في ضمن مصاديق متعددة ، والمفروض أنه غير مختار.

قلت : الإشاعة بالمعنى الذي اخترنا أيضا لا تبقى على تصوير صحة القسمة بحالها ، إذ من وجوهها على تقدير فسادها صلاحية التعيين في أحد النصفين خاصة أيضا ، فإنه إذا اعتبر جز آن من كل نصف مع جزء من النصف الأخر فأحد الاجزاء على سبيل التخيير حينئذ ملك له ، إذ ليس الإشاعة حينئذ إلا بهذا المعنى.

وما بينا من معنى الإشاعة انما هو في غير هذه الملاحظة ، لأنا ذكرنا أنه إذا فرض قسمة المال الى أجزاء لا تقبل القسمة فالإشاعة ترجع الى كون كل جزء ملكا لكل من الشريكين أو الشركاء على البدل ، وانما يرجع الى الاستحقاق في كل جزء قبل فرض انتهاء القسمة الى أجزاء غير منقسمة ، وحينئذ فإن كانت

ص: 84

القسمة باطلة أمكن تعيين الثلث في أحد النصفين كما يظهر بالتأمل ، بخلاف ما لو قيل بصحتها.

هذا كله إذا قلنا بأن مرادهم ببطلان القسمة بقاء إشاعة مال الثالث على حالتها الأولية في مقابل من يقول بزوال إشاعتها في الجملة ، بمعنى تعيين ذلك المال بأن يكون سدسه في أحد النصفين وسدسه في النصف الأخر. وأما إذا كان المراد ببطلانها بطلانها بالنسبة إلى المتقاسمين مع بقاء مال الثالث على إشاعته التامة فالأقرب الصحة ، لعدم اشتراط القسمة بتميز جميع الحصص جمع فيجوز تميز الحصتين بالتراضي مع بقاء الأخر على إشاعته ، وحينئذ فإن أجاز الثالث التقسيم شارك كلا منهما بالسدس والا بطلت القسمة ، لأنه إذا لم يجز وأخذ تمام حقه أو أكثره من أحد النصيبين فلا جرم يكون صاحبه شريكا للآخر كما هو واضح. واللّه العالم.

التقاط [ صحة الإقالة بقاعدة السلطنة ]

قد ظهر مما مر أن من أدلة مشروعية القسمة على وجه التراضي قاعدة السلطنة ، فإذا تسالما على القسمة قلنا لهما ذلك ، لان « الناس مسلطون على أموالهم ».

وهل يمكن إثبات صحة الإقالة بتلك القاعدة؟ وجهان مبنيان على أن فسخ المتقاسمين واقالتهما هل يرجع الى إبطال أثر السبب الصحيح الواقع فلا يمكن كما في فسخ العقود أو لا يرجع.

إيضاحه : ان قاعدة السلطنة تنهض في مقامين : أحدهما إثبات جواز التصرفات بأسرها التي منها النقل ، وثانيهما إثبات لزوم الملك بعد تحقق النقل.

ص: 85

إذ سلطنة الناقل على انتزاع المنقول من المنقول اليه مناف لسلطنته على ملكه مقتضى عدم سلطنته عليه ، وهذا هو اللزوم.

وأما إبطال أثر العقد الواقع مثلا بالتراضي والتقائل فليس مما يقتضيه قاعدة السلطنة ، وحينئذ فإن كانت القسمة من الأسباب لم يبطل أثر إلا بالتراضي على الفسخ بمقتضى قاعدة السلطنة بل مقتضاها حينئذ اللزوم كما ظهر ، وان كانت من الاحكام ففي اقتضاء القاعدة عود الإشاعة الزائلة بمجرد التسالم على الفسخ أيضا اشكال.

نعم لو استند فيه الى عمومات الإقالة لم يكن بعيدا ، فيما في القواعد من جواز الفسخ بالتراضي مبني على تلك العمومات.

ودعوى عدم شمولها للمقام نظرا الى اختصاصها بالعقود. مدفوعة بأن معنى الإقالة هي الفك والحل وإبطال الأثر - سواء حصل بالعقد أو بالتباني والتعاهد والتراضي من دون عقد - فيجري في كل معاهدة ومراضاة ، بل في الأعم منه أيضا كما في قول الداعي « وأقلني عثرتي ».

نعم هنا كلام آخر ، وهو أن أثر التقسيم ليس على حد آثار العقود في قابلية البطلان والانحلال ولو حكما ، لأن أثر التقسيم صيرورة المال المشاع معينا ، وقد سبق أن المال المشاع مال مبان للمال المعين ، وصيرورة المعين مشاعا لا يندرج تحت الابطال الحكمي المتصور في إبطال أثر العقد.

قلت : يمكن أن يقال : ان ابطال أثر العقد الواقعي الصحيح حقيقة غير معقول ، فمعنى اقالة العقد يرجع الى الإبطال الحكمي الذي هو عبارة عن الالتزام بآثار عدم العقد الواقعي. وهذا نحو من الابطال الحكمي الذي هو عبارة عن الالتزام بآثار عدم العقد الواقعي. وهذا نحو من الابطال الحكمي لا مانع عن ثبوته لأثر التقسيم ، فيرجع التقسيم فيه الى جريان أحكام المال المشاع في المال المفروز المعين. واللّه العالم.

ص: 86

التقاط [ صحة القسمة لو ظهر في الشركة المقسومة دين ]

إذا ظهر في الشركة المقسومة دين فالظاهر بقاء القسمة ، لأن حق الديان متعلق بمالية التركة لا بأعيانها والتقسيم تصرف في الأعيان لا في المالية.

ولا فرق في ذلك بين استيعاب الدين وعدمه ، ولا بين اقامة الورثة بالدين وبين امتناعهم كلا أو بعضا. نعم في صورة كون الممتنع بعض الورثة حجر عن نصيبه خاصة ، فيباع ويقضى منه الدين. وفيه تأمل ، لكن ظاهر الأكثر في صورة امتناع الجميع عن القيام بالدين بطلان القسمة.

وكذا لا فرق بين القول بانتقال التركة إلى الورثة مع تعلق حق الديان بها وبين بقائها على حكم مال الميت.

نعم قد يشكل على الأخير في صحة أصل التقسيم ، لأن الورثة ليسوا بمالكين للتركة فتقسيمهم كتقسيم الأجنبي. لكن فيه ان مجرد حق الأولوية كاف في صحة القسمة.

وقد تقدم سابقا في مسألة انتقال التركة إلى الوارث أن الوارث على القول الأخير أيضا أحق بالتصرفات الغير المفوتة للجهة المالية في التركة من غيرهم ، فهم موجب حقهم يجوز لهم القسمة ، وأما حق الديان فليس بمانع كما ظهر.

فالمقتضي - وهو الحق - موجود ، والمانع - وهو الدين - ليس بصالح للمنع. واللّه العالم.

ص: 87

التقاط [ وجوه ما لو ظهر في التركة وصية ]

ولو ظهر في التركة وصية فهذه على ضروب :

( أحدها ) أن يكون الموصى به عينا معينا كدار معينة ، وحكمه حكم ما لو ظهر عين مستحقة في نصيب أحد الشريكين فتبطل القسمة.

( والثاني ) أن يكون الموصى به جزءا مشاعا كالثلث ، وهذه أيضا كما لو ظهر جزء مشاع مستحقا ، وقد تقدم فيه القولان للشيخ.

( والثالث ) أن يكون مالا كليا كألف دينار أو درهم ، وحكمه حكم الدين المشاع. وقد يقال بالفرق ، لان الدين متعلق بالذمة والوصية متعلق بالعين كحق الزكاة ، فيكون كالجزء المشاع ، والأول أظهر.

( والرابع ) أن يكون عينا كليا من أعيان التركة كعبد من العبيد ، وهذا يكون مثل الصاع في الصبرة. والوجهان السابقان يجيئان هنا أيضا ، الا أن كونه من قبيل الجزء المشاع أظهر. واللّه العالم.

التقاط [ ظهور عيب في المال بعد قسمته ]

لو ظهر في المقسوم عيب ، فعن التحرير أن حكمه حكم العيب في المبيع من الخيار بين الأرش والفسخ ، وكل منهما لا يخلو عن إشكال : أما الأرش فلانه على خلاف القاعدة فيقتصر على مورده ، وأما الثاني فلما ظهر من عدم قابلية القسمة للانفساخ.

نعم الظاهر أن من ظهر في نصيبه العيب لو رضي به كان له ذلك خصوصا

ص: 88

في المثليات ، لان التعديل فيها ليس بملاحظة المالية ، ويكون رضاه حينئذ بمنزلة الإجازة في الفضولي ، فان لم يرض كشف عن فساد القسمة من أصلها. واللّه العالم.

التقاط [ قسمة الوقف للموقوف عليهم ]

يجوز قسمة الوقف عن الطلق بلا اشكال ، وأما قسمة الوقوف بعضها عن بعض فقد منعوا عنه لأجل تعلق حق البطون اللاحقة.

الا أن يقال : انه لا يقضى بفساد القسمة مطلقا حتى في حق البطن الأول ، فليكن مثل الدين ، فالبطن الثاني لهم الإمضاء والرد ، الا أنه ليس بقسمة حقيقة ، ولا دليل على شرعيتها كذلك.

وكيف كان فقد يقال بجواز تقسيم الوقف على بعض الصور ، وهو إذا تعدد الواقف والموقوف عليهم ، كأن وقف زيد حصة من الدار المشاعة بينه وبين عمرو على أولاده ووقف عمرو حصته على أولاده ، فإن جواز القسمة حينئذ - بأن يقسم أولاد زيد وأولاد عمرو تلك الدار بينهم نصفين - ليس بعيدا كل البعد.

الا أن يقال : ان الواقف قد وقف حصته المشاعة بشرط الإشاعة ، فلا يتعدى عن كيفية الوقف الى غيرها.

وفيه : ان مقتضى ذلك عدم جواز قسمة الوقف عن الطلق أيضا ، فإن اعتبار صفة الإشاعة في الوقف يمنع عن قسمته مطلقا ومع عدم اعتبارها يصح مطلقا ، لعدم المانع وعدم منافاته أيضا لحق البطون اللاحقة كمنافاته له في صورة اتحاد الواقف والموقوف عليه.

ص: 89

أقول : ومثل ذلك ما لو وقف شخص واحد نصف داره على أولاد زيد ونصفها الأخر على أولاد عمرو ، كما يظهر بالتأمل.

ونقل عن صاحب الحدائق « قده » القول بصحة قسمة الوقف في هذين الفرضين. واللّه العالم.

التقاط [ قسمة الدين غير جائزة ]

ذكر العلامة وغيره أن قسمة الدين لا يجوز ولو بالتراضي ، فلو قسماه لم يؤثر وكان ما يحصل بينهم وما يتوى عليهما فالتاوي لا يخص بمن رضي به سهما ، كما أن الحاصل لا يخص بمن رضي سهما. وقد نطقت به روايات :

( منها ) خبر عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن رجلين بينهما مال منه دين ومنه عين فاقتسما العين والدين فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه وخرج الذي لاخر أيرده على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله (1).

وبمعناها روايات أخرى ، الا أنها أظهر دلالة ولعلها المستند ، والا فالمانع عن تقسيم الدين غير موجود.

وقد يدعى اختصاص القسمة بالأعيان الموجودة لكونها من عوارض الأجسام. وهو مدفوع بأن الملكية أيضا كذلك مع عروضها الدين. والحاصل ان تميز الاملاك على حد ملكيتها ، فكما أن ملكية الدين اعتبار من الاعتبارات الواقعية كذلك قسمتها.

نعم الظاهر أن المتبادر من لفظة « القسمة » القسمة في بادئ الرأي ، وهو انفراز الأعيان الخارجية. لكن دليل صحة قسمة الأموال المشتركة ليس شيئا

ص: 90


1- الوسائل ج 6 ب 6 من كتاب الشركة ح 2.

مشتملا على لفظ « القسمة » من الأدلة اللفظية ، بل بناء العرف على إمضاء الشارع المعلوم من مجموع ما ورد في أبواب الفقه من تقسيم الأموال المشتركة ، ولا ريب في بناء العرف على قسمة الديون.

فلو لا هذه الروايات الرادعة كان القول بالتقسيم قويا وان كان محتملا مع ملاحظتها أيضا ، بناء على قصورها عن الخروج عما تقتضيه القواعد العامة. واللّه العالم.

ص: 91

القول في الدعاوي

التقاط [ حقيقة المنكر والمدعى في الدعاوي ]

لا بد للفقيه من معرفة حقيقة المدعي والمنكر وبيان ضابط مطرد في معرفتهما لا ثبوت الحقيقة الشرعية فيهما كما نسب الى بعض ، ضرورة كونهما من الموضوعات العرفية التي يرجع فيها الى العرف ، بل لان كلا منهما قد يشتبه بالآخر في جملة من الموارد.

ولان المدعي الذي جعل مقابلا للمنكر في الأدلة لا يمكن حمله على المعنى اللغوي ، لأن الدعوى لغة عبارة عن كل اخبار جازم ، فيشمل الإنكار أيضا ، فيبطل المقابلة. يعلم أن المراد به بعض أقسام معناه اللغوي ، كما أن المراد بالمنكر بعض أفراده ، فلا بد من بيان كل من المدعي والمنكر على وجه يطرد ، ثمَّ الرجوع في الموارد المشكوكة الى ما يقتضيه القاعدة ، وهو مطالبة البينة من الخصمين ان كان مطالبتها من المدعي رخصة وإيقاف الدعوى لو كانت عزيمة.

ص: 92

[ اختلاف الكلمات في معنى المدعى ]

وقد عرف المدعي لما ذكرنا بتعريفات : أحدها أن يكون قوله مخالفا للأصل ، والثاني من يدعي خلاف الظاهر ، والثالث من لو ترك ترك. والكلام تارة في كشف معانيها وأخرى في تعيين الصحيح منها ، فنقول :

( أما الأول ) فالمراد بالأصل ليس هو الأصل الاولي - أعني أصالة العدم - بل كل أصل أو أمارة شرعية يكون مرجعا في مقام العمل ، فيشمل نحو أصالة الصحة واليد ونحوهما من الأصول والأمارات الشرعية.

ودعوى أن المراد به خصوص أصالة العدم أو ما يعمه وسائر الأصول العملية كالبراءة والاستصحاب. بمعزل عن الركون إليها ، يفصح عن ذلك ما في رواية منصور بن حازم (1) من الاستدلال على عدم قبول البينة من ذي اليد لكونه مدعيا كما يفصح عنه سائر ما اتفق الكل على كونه مدعيا مع عدم مطابقة قوله لأصل العدم أو للاستصحاب ، مثل مدعي الصحة في العقود ، فإنها قاعدة ثانوية حاكمة أو مخصصة بقاعدة الاستصحاب ، وغير ذلك مما لا يخفى.

والحاصل ان المراد بالأصل هنا القاعدة ، فمحصل التعريف أن الخصمين إذا تنازعا نوظر في أن قول أيهما يوافق القاعدة التي هي المرجع ، سواء كان مخالفا للأصل أم موافقا.

والثمرة تظهر في مورد أصل الصحة واليد ، فان قول مدعي الصحة والملكية وان كان مخالفا لأصل العدم الا أنه موافق للقاعدة الشرعية الثانوية.

وقد يشكل ذلك بما إذا ادعى ذو اليد تلقي الملك من المدعي ، فان المرجع فيه أيضا هو البناء على مقتضى اليد مع قطع النظر عن مقام الخصومة ، بل مع

ص: 93


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 14.

ملاحظته أيضا قبل صدور الحكم مع أنه مدع باعتبار اعترافه بملك المدعى وادعائه انقل.

فلو قيل : ان قوله مخالف لأصالة العدم فهو مدع لا جلها. قيل : ان هذا مبني على تفسير الأصل بالمعنى الأخص والا فلا وجه له.

ومثله ما لو ادعى المديون الإبراء ، فإن القاعدة التي بناء العمل عليها مع قطع النظر عن مقام الخصومة ترتيب آثار البراءة لكونه مدعيا بلا معارض مع أنه مدع.

ويمكن ذب الاشكال عن هذا بأن المراد بالقاعدة ما يعول عليها في العمل قبل صدور الحكم من الحاكم ولو في حال المعارضة. وليس هو في دعوى الإبراء إلا استصحاب الشغل ، لان دعوى الإبراء دعوى مع المعارض.

ويمكن ذب الأول بأن المراد ما يعول عليه الحاكم في حكمه لو لم يكن بينة ، وهو دعوى في اليد التلقي من المدعي الا استصحاب بقاء الملك لانقطاع حكم اليد بذكر السبب ، وهو التلقي من المدعي.

( وأما الثاني ) فالظاهر أن المراد بالظاهر أعم من الأصول الأولية والقواعد الشرعية والظواهر الغير المعتبرة ، مثل دعوى الزوج أو الزوجة تعاقب إسلامهما ، فإنها مطابقة للظاهر دون الأصل. فالنسبة بينهما عموم مطلق ، لأن الأصول والقواعد المعول عليها شرعا كلها ظواهر نوعية.

نعم لو فرض قاعدة تعبدية محضة بحيث لم يكن حكمة التعبد بها إفادتها الظن النوعي كانت النسبة عموما من وجه. الا أنها غير موجودة ، حتى البراءة الأصلية في الموضوعات ، فان الاعتداد بها لأجل كونها أمارة ظنية. ولذا جعل دعوى اشتغال الذمة مورد اجتماع الحدود الثلاثة حتى الأخير.

نعم المراد به هو الظواهر النوعية ، فلا عبرة على هذا التفسير بالظواهر

ص: 94

الشخصية المستندة إلى الأمارات الغير المنضبطة ، مثل كون المدعي رجلا صالحا متقيا ، فان قول منكره وان كان مخالفا للظاهر الا أنه ظاهر مستند إلى أمارة غير منضبطة.

( وأما الثالث ) ففيه نحو إجمال وإشكال ، لأن الترك الذي يترتب على ترك الدعوى غير متضح المقصود. ولا يصح تفسيره بمثل عدم المطالبة والمؤاخذة ونحوها من الاحكام ، للزوم الدور. لان الحكم بترتبها موقوف على معرفة المدعي ، فلو اعتبر في تعريفه - كأن يقال ان المدعي هو الذي لو سكت عن الخصومة لم يطالب بشي ء بخلاف المنكر فإنه يطالب - ولو سكت يلزم الدور كما يظهر بالتأمل.

والظاهر أن مؤدى هذا التعريف اما يرجع الى الأول فيتطابقان ، وذلك لان المراد بأن المدعي من يترك مع سكوته كما في بعض العبارات أو لو ترك كما في آخر أنه يعامل معه بمقتضى القاعدة.

وتسمية ذلك بالترك ليس ببعيد ، لان العمل بمقتضى القاعدة حقيقة ترك للمدعي على حاله ، بخلاف المنكر فإنه لو ترك الخصومة لم يترك ، أي لم يعمل معه بمقتضى القاعدة بل يطالب بالحق الذي ثبوته عليه مخالف للقاعدة.

فإن قلت : معنى « ترك » على ما صرح به غير واحد ويساعده صريح اللفظ أنه لا يتعرض بحاله لا أنه يعامل معه بمقتضى القاعدة.

قلنا : هذا لا ينطبق على صور كثيرة من صور مجاري أصل الصحة ، فإنهما لو تداعيا في صحة العقد وفساده فلا ريب أن كلا منهما يتعرض لصاحبه ، ولو ترك الخصومة فلا بد من إخراج أمثال هذه الصورة عن تحته. وهو بعيد ، لان مدعي الصحة من أوضح مصاديق المنكر عند الأصحاب ، فكيف يعرف المنكر والمدعي بما لا يشتمله.

ص: 95

فان قلت : في الفرض المزبور هما متداعيان ، لان مدعي الصحة مثلا يطالب بالمبيع ومدعي الفساد يطالب بالثمن ، فكل منهما مدع الا أن مدعي الصحة معه حجة شرعية لا أنه منكر فيدفع قوله.

قلنا : هذا اعتراف بأن مدعي الصحة ليس بمنكر عند الأصحاب ، بل هو أيضا مدع لكن مع الحجة الشرعية. وقد عرفت أنه ليس كذلك ، فان مدعي الصحة منكر عندهم ، فلا بد من تطبيق التعريف المذكور عليه ، ولا يمكن ذلك بما فسرنا.

فصار المحصل من التعريف أن من يختلف حاله بالسكوت والمخاصمة هو المدعي ، لأنه الذي يتوقف تغير حاله على دعواه ، ومن لم يختلف حاله بالسكوت وعدم السكوت - يعني عدم توقف تغير حاله على قوله وتكلمه - هو المنكر.

والسر في ذلك أنه لا يكون الإنسان كذلك الا أن يكون قوله مطابقا للدليل الشرعي الذي هو المعول في المسألة من أصل أو غيره ، إذ لو كان قوله مخالفا للدليل الذي هو المرجع في مورد الدعوى اختلف حال سكوته وحال تكلمه ، بمعنى عدم توصله الى مقصوده في إحدى الحالتين وهي حالة السكوت وتوصله الى مقصوده في الأخرى وهي حالة التكلم والدعوى.

[ المدعى في دعوى الإبراء هو المديون ]

ومن هذا البيان يظهر أن المدعي في دعوى الإبراء هو المديون ، لأنه الذي يختلف حاله من حيث الوصول الى المقصود الذي هو التخلص من مطالبة الدائن وعدمه بدعوى الإبراء وعدمها ، وأما الدائن فلا يتفاوت حاله بعد إقرار المديون بالدين بعد أن ينكر الإبراء أو يسكت فإنه يتوصل الى مقصوده في الصورتين.

ص: 96

ومثله الكلام فيما لو ادعى ذو اليد انتقال الملك اليه من المدعي الأول ، فإنه الذي لو ترك أي سكت ترك أي يخلى على حاله التي كان عليها بدون التكلم ، وهو وجوب تسليم المال ، لأنه بإقراره مأخوذ بالملك ولا خلاص له الا بعد دعواه الانتقال ، وحينئذ فالتعريف الأول والثالث يتطابقان ، فيبقى الكلام في ترجيح التعريف الأول أو الثاني لكونه أخص من الثاني كما ظهر.

لا يقال : ظاهر تقابل التعريف الأول والثالث في كلمات العلماء يقضي بتغايرهما مصداقا ، فكيف يتساويان؟

لأنا نقول : ذلك الظهور ممنوع ، ولذلك اختلفوا في تعريف الواجب بين من عرفه بما يستحق تاركه العقاب وبين من فسره بما يستحق تارك كه الذم ومن فسره بما كان فعله مطلوبا وتركه مبغوضا على الاتفاق ، على أن الواجب شي ء واحد ، فاختلاف التعاريف قد يكون باعتبار اختلاف العرفين في الحقيقة العرفية بالعموم والخصوص ، وقد يكون باعتبار الاختلاف في صحة الحد وسقمه من حيث اختلال طرده وعكسه بالنسبة الى ما اتفقوا عليه من حقيقة العرف.

وأما ما ربما يتوقف من تعريف المدعي بما يرجع الى الجمع بين التعريف الأول والثاني فشطط من الوهم ، لان مقتضى الجمع بينهما عدم صدق المدعي الا بعد مخالفة قوله للأصل بالمعنى الأخص أو الأعم الشامل للقاعدة والظاهر الغير المعتبر معا ، فيخرج أكثر أفراد المدعي ، لان المدعي قلما يتفق مخالفة قوله لظاهر غير معتبر زيادة على الأصل أو القاعدة الشرعيين.

فحينئذ نقول : ان التعريف الأول أظهر ، لأن الظاهر من الأدلة والمستفاد منها أن المدعي الذي يطالب بالبينة من يقوى جانبه بمطابقة قوله لدليل شرعي.

ولعل هذا أيضا موافق للمدعي العرفي حيثما يطلق في مقابل المنكر ، لان المدعى في العرف من كان يدعى على خلاف القاعدة ، وصدق المدعي عرفا على من

ص: 97

يخالف قوله لظاهر نوعي غير معتبر انما هو أيضا لأجل كون متابعة الظواهر النوعية أمرا معهودا بين العرف وكون المدعي خلافها مدعيا بخلاف القاعدة ، فلم يختلف الشرع والعرف في المدعي الذي عليه البينة مثلا وانما يختلفان في المصداق ، حيث أن مخالفة الظاهر مطلقا ليس في نظر الشارع مخالفة للقاعدة بخلافها في نظر العرف.

وهذا نظير اختلاف الشرع والعرف في مصاديق البيع مثلا بعد الاتفاق في مفهومه وأنه النقل.

ومما يؤيد ما ذكرنا أو يدل عليه تعليل سقوط البينة عن المنكر في بعض الاخبار المتقدمة بأنه جاحد والجاحد لا يستطيع على إقامة البينة. وجه التأييد أو الدلالة أنه بمقتضى التعليل يدل على أن كل جاحد منكر ، ولا ريب أن مدعي خلاف الظواهر يصدق عليه الجاحد فيكون منكرا.

لا يقال : مقتضى التعليل أن كل منكر جاحد ، فيخرج ذو اليد ونحوه ممن يطابق قوله الظواهر الشرعية عن كونه منكرا.

لأنا نقول : هذا مشترك الورود على التعريفين ، إذ التعريف الثاني مقتضاه أن يكون ذو اليد منكرا لا أنه موافق للظاهر ، وانما الخلاف في الظاهر الغير الشرعي ، وقضية التعليل المزبور كون مخالفه منكرا. وهذا القدر هو المقصود في مقام ترجيح التعريف الأول على الثاني. فافهم واللّه العالم.

التقاط [ ما يشترط في سماع دعوى المدعى ]

يشترط في سماع الدعوى شروط يرجع بعضها الى نفس الدعوى وبعضها الى المدعى به. ومما يرجع الى نفس الدعوى كونها لازمة ، بأن يترتب على

ص: 98

المدعى عليه بعد ثبوت الدعوى شي ء قابل للإلزام ، فلو لم تكن لازمة لم تسمع ، وهو واضح.

ويتفرع على ذلك أن دعوى البيع الفضولي على المالك غير مسموع ، لعدم إيجابه شيئا على المالك. وكذا دعوى الإيجاب بلا قبول ، لأن الإيجاب بنفسه غير مفيد للنقل ، بخلاف دعوى القبول فإنه جزء أخير للناقل.

وربما يتوهم سماع دعوى الفضولي والإيجاب مثلا حملا لهما على الفرد الصحيح منهما ، أعني المقرون بالإجازة والقبول. وهذا الحسبان فاسد ، لأن صحة كل شي ء بحسبه ، فصحة الإيجاب كونه بحيث إذا تعقبه القبول الأثر في النقل وصحة بيع الفضولي كونه بحيث إذا تعقبه الإجازة أفاد النقل. والصحة بهذا المعنى لا ينفع ثبوتها في الدعوى بالمعنى الأخر ، أعني كونهما مؤثرين في النقل الفعلي لا يعقبه أصل الصحة.

وأزيد من هذا البيان يطالب من غير هذا الموضع.

قال في محكي الدروس : ولا يسمع دعوى البيع من دون قوله « ويلزمك تسليمه » لجواز الفسخ.

وفيه نظر ، لأصالة عدم طرو الفسخ فيحكم بترتب المقتضي على المقتضي ، ولذا لا يتوقف في سماع الدعوى المتعلقة بالمقتضيات في سائر أبواب الفقه.

أقول : يمكن ان دعاوي المقتضيات إذا كانت في حال تسالم الخصمين على عدم طرو المفسد وتمحض اختلافهما في أصل وجود المقتضي سمعت الدعوى بدون دعوى عدم المزيل. وإلا ففيه اشكال ، لما ذكرنا من أن المدعى به لا بد أن يكون أمرا لازما ، والمقتضيات ليست أمورا لازمة مع قطع النظر عن وجود الموانع. فافهم واللّه العالم.

ص: 99

التقاط [ كيفية ثبوت حق المدعى ]

المدعى به قد يكون مالا أو في حكمه ، وقد يكون شيئا ينتفع به المدعي وليس بمال. وذلك كدعوى فسق الشهود فإنه ليس بمال ولكن مما ينتفع به المدعي لكونه سببا لدفع الإلزام ، وكذلك دعوى فسق الحاكم فان الترتب عليه انما هو رفع الإلزام خاصة.

ولا تعرض في هاتين الدعويين للحق الواقعي الذي حكم به الحاكم نفيا أو إثباتا ، لإمكان ثبوت حق المدعي مع فسق الشاهدين أو الحاكم. وبالجملة الميزان والمدار في هذا القسم من الدعوى كون المدعى به فساد ميزان من موازين القضاء من غير التعريض للواقع نفيا أو إثباتا.

ومن هنا يظهر أن دعوى كذب الشهود أو جور الحاكم بأن يكون قد حكم مع علمه بفسق الشهود. ليس من هذا القبيل ، فلان البينة على تقدير كونها ضامنة لما ذهب من المدعى عليه من المال فدعوى كذب الشهود أو جور الحاكم مسموعة بلا اشكال. نعم يمكن أن يستند في عدم سماعها الى ما أشار إليه المحقق من إيثاره ظاهر الفساد.

وكيف كان فالكلام فيما لم يكن الدعوى منه متعلقة بمال واقعي أو سبب كالإتلاف ، مثل إتلاف الحاكم بجوره أو إتلاف الشهود بكذبهم. وهل الإقرار من أيهما؟ فيه تفصيل ، لأن الإقرار له جهة كشف وجهة إلزام ، فإن كان دعوى الإقرار باعتبار الجهة الأولى خرجت أيضا عن موضوع مسألتنا ، لأن دعوى الإقرار من هذه الجهة دعوى للرافع ، فالمدعي إذا قال « لي عليك كذا وأنت تعلم به وأقررت به » فهو خارج عن المسألة. وان كانت باعتبار الجهة الثانية

ص: 100

- كأن يقول المدعي « أنا لا ادعي عليك مالا واقعيا وانما ادعي عليك الإقرار به » - فهو داخل في محل النزاع ، لأن الإقرار في حد ليس من المال ولا من أسبابه. نعم ينتفع به المدعي بعد إثبات الإقرار كما ينتفع بفسق الشهود.

ومن هذا القبيل أيضا دعوى المدعي بأن المدعى عليه ليس أحلفه مرة ، أو دعوى المدعى عليه طي هذه الدعوى بعض الوجوه عند حاكم من الحكام ، فإنهما من قبيل دعوى فسق الشهود ، الا أن المقصود فيهما إسقاط الحق وفيه عدم توجه الإلزام بالحق.

إذا تحقق ذلك فان كان للمدعي بينة على ما يدعي من فسق الشهود ونحوه ، فلا كلام في سماع الدعوى حينئذ لعموم حجية البينة ، من غير حاجة الى التمسك بما ورد من موازين القضاء التي منها البينة (1) ، فلو قلنا بعدم شمولها لغير الحقوق لم يكن إشكال في سماع البينة أيضا نظرا الى حجيتها في جميع الموضوعات.

وان لم يكن له بينة ففي سماع الدعوى في هذا القسم من الدعاوي وجهان أو قولان : من عموم أدلة القضاء ، ومن دعوى أن المتبادر من الحق أو الحقوق التي ذكرت في بعض تلك الأدلة الحق المالي الواقعي ، فيستدل حينئذ من رواية استخراج الحقوق بأربعة بعد ورودها في مقام إعطاء الميزان في الدعاوي المسموعة على عدم سماع دعوى غير الحق وعدم استخراجها بالأربعة. (2)

فإن قلت : من جملة الأربعة البينة وأنت لا تقول باختصاصها بالحق.

قلنا : نقول بالاختصاص من حيث كونه ميزانا للقضاء ، ونقول أيضا بحجيتها من حيث حجيتها في سائر الموضوعات - فافهم.

ص: 101


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 7 من أبواب كيفية الحكم ح 4.

فان قلت : ليس من تلك الأربعة يمين المنكر بل اليمين المردودة ، والكلام في الأول دون الثاني.

قلنا : ان قلنا ان يمين المنكر والمردودة متلازمان ولا يتفارقان كما هو احتمال في المسألة على ما سبق مشروحا فلا اشكال ، وان جوز التفكيك وقلنا بأنه يمكن أن يكون المقام قابلا لا حلاف المنكر وغير قابل لليمين المردودة ، كما في صور كون المدعي غير المالك من ولي أو وصي أو وكيل نقول : ان يمين المنكر وان لم تكن من تلك الأربعة الا أنها مذكورة في الرواية مقدمة لليمين المردودة.

وبعد دعوى ان المنساق منها اختصاص الأربعة بالحقوق ، وان دعوى اختصاص غيرها مما ذكر فيها من الموازين به أيضا ، فيصير حاصل الدعويين أن الرواية ظاهرة في أن غير الحقوق المالية لا يجرى فيه شي ء من موازين القضاء - فافهم.

ومما ذكرنا ظهر الحال في الإقرار ، الا أن السماع فيه أقوى لأن الإقرار وان لم يكن سبا للحق الواقعي الا أنه سبب للحق الظاهر ، الا أن يدعي أن المتبادر من الحق الواقعي ، وفيه إشكال أو منع.

[ الدعوى على الحاضر أو الغائب ]

بقي شي ء ، وهو أن دعوى فسق الشهود لا بد أن يكون من محل كان المدعى عليه له حجة ، ففي الدعوى على الحاضر لا بد أن تكون قبل الحكم وفي الدعوى على الغائب بعده.

وربما يدعى أن إطلاق كلام المحقق وغيره في سماع الدعوى بعد الحكم يعم الحاضر مطلقا والغائب.

ص: 102

ويمكن منعه بأن الكلام مسوق للتعميم من حيث الحضور والغيبة لا لإطلاق الحكم في جميع صور الحكم على الحاضر ، فكأن المراد أنه لا فرق بين كون الدعوى قبل الحكم وبعده إذا كان المدعى عليه باقيا على حجته بعد الحكم لا مطلقا. واللّه العالم.

ص: 103

القول في الوصول إلى الحق

التقاط [ انتزاع العين المتنازع فيها من المدعى عليه ]

من كان دعواه عينا في يد إنسان فله انتزاعها ولو قهرا بمساعدة ظالم ما لم يثر فتنة كما في الشرائع وغيره. والمراد بالفتنة ما يعم تلف المال والنفس ، فيندرج فيه كلما يصدق عليه الفتنة ولو كانت مثل التشاتم والتعارك.

ومن هنا يظهر أن المراد بالإنسان في هذه العبارة هو المنكر ، إذ لو كان مقرا كالسارق وقطاع الطريق جاز استنقاذ العين من يده ولو آثار فتنة مطلقا أو ما لم ينجر الى قتل النفس.

وفي كلام المحقق دلالة على ذلك ، أي على أن الكلام فيما إذا كان صاحب اليد منكرا ، حيث ذكره في مسائل الدعوى وعبر عنه بمن كان دعواه عينا في يد إنسان.

وكذا عبارة القواعد حيث قال : ولو قدر المدعي على انتزاع عينه من

ص: 104

يد خصمه فله ذلك. لان التعبير بالمدعي يدل على فرضه المسألة في صورة إنكار ذي اليد حتى يكون من مسائل الدعوى.

وبالجملة توضيح القول في المقام هو أن من يجد عين ماله في يد غيره ، فان كان ذلك مقام الدعوى والمرافعة - بأن كان ذو اليد منكرا - فالحكم فيه كما ذكره الأصحاب من اشتراط جواز الانتزاع بعدم إثارة الفتنة مطلقا صغيرة أو كبيرة ، لأن عدم سلطنة المدعي ظاهرا على المنكر يمنع عن تجويز الشارع للانتزاع القهري المورث للفتنة ، لان فساده من جزئيات فساد ترك الناس على حالهم وعدم نصب الرئيس لهم في طي مخاصماتهم.

وهل للمدعي الاستقلال مع عدم الفتنة إذا توقف على ضرر وضرار كتخريق الثوب وكسر القفل وهدم الباب ونحوه. ظاهر المحكي عن الإرشاد العدم ، لأنه وضع مكان الفتنة الضرر. لكن في مفتاح الكرامة الجواز ، وربما يظهر من محكي مجمع البرهان.

وفيه نظر لقاعدة نفي الضرر. ولا يعارضه قاعدة السلطنة ، لإمكان توصله إلى الحق بالرجوع الى الحاكم. وبالجملة مع عدم توقف التوصل إلى الحق على الإضرار يشكل جوازه بل الظاهر العدم.

ولا دلالة لقوله عليه السلام « ليّ الواجد يحل عقوبته » (1) على الجواز : أما أولا فلعدم صدق اللي مع إنكار المدعى عليه مع اعتقاده حقيته ، وأما ثانيا فلا مكان منع دلالته على تعيين المعاقب - بالكسر - بل انما يدل على تعيين المعاقب ، فمن الجائز أن يكون المعاقب هو الحاكم.

ص: 105


1- بحار 103 / 146 باب المطل في الدين 5. واللى : المطل ، يقال لواه غريمه بدينه يلويه ليا ، وأصله لويا فأدغمت الواو في الياء. وذكر الحديث أيضا ابن الأثير في النهاية 4 / 75.

نعم مع انحصار التوصل إلى الحق في الإضرار يجوز ، لقاعدة السلطنة مع سلامتها عن معارضة « لا ضرر » ، لأنها معارضة بمثله ، لان عزل الإنسان عن ماله ضرر عليه وان كان ذلك في غير مقام الدعوى ، كما إذا كان ذو اليد معترفا بظلمه كاللص وقطاع الطريق وسائر أقسام الظلم ، جاز لصاحب العين استنقاذ الحق ولو انجر الأمر إلى المعاركة والمقاتلة بشروط مذكورة في مسألة الدفاع ، منها احتمال التوصل أو ظنه كما صرح به الأصحاب في تلك المسألة.

الا أن يقال : ان إطلاق كلامهم منزل على الغالب ، وهو عدم إمكان استنقاذ الحق من السارق والذاهب مثلا بالمراجعة إلى الحاكم. وفيه تأمل أو منع.

ويدل عليه أيضا قوله « ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه » وقوله « مطل الغني ظلم » (1) بالفحوى ، فإنهما وان وردا في الدين الا أن المتمرد عن رد عين المال أولى بإيجاب العقوبة من المتمرد عن إيفاء الدين.

نعم مع أدائه إلى القتل خاصة قد يمنع عنه ، لان المال لا يقابل به النفس في كلام مذكور في محله.

فهذه المسألة غير متناولة لصورة الاعتراف التي يجوز فيها الانتزاع ولو مع الفتنة. والعجب أن بعض مشايخنا قدس سره زعم اختصاص المسألة بصورة الاعتراف حيث قيد الإنسان بالمتمرد المعلوم الحال. وهذا بمكان من البعد عما رأينا من عدم شمول المسألة لصورة الاعتراف فضلا عن الاختصاص به. واللّه العالم.

ص: 106


1- بحار 103 / 146 باب المطل في الدين ح 3.

التقاط [ الوجوه فيما لو كان الحق في الدعوى دينا ]

لو كان الحق دينا فاما أن يكون المدعي مقرا باذلا أو مقرا ممتنعا أو جاحدا :

فان كان الأول لم يستقل المدعي باستيفائه من دون المدعى مع إمكان تعيينه أو من دون الحاكم مع تعذر تعيينه لمرض ونحوه ، لان له ولاية في التعيين وجهاته. وهذا لا اشكال فيه.

ثمَّ ان البذل لو كان بينه وبين آن المطالبة مقارنة حقيقية عرفية فلا كلام ، والا - كما إذا قال ابذل غدا أو بعد ساعة - ففي إلحاقه بالباذل أو بالممتنع في ذلك الزمان وجهان.

والأظهر هو التفصيل ، فان المدعي ان كان له غرض عقلائي في ظرف ذلك الزمان الذي لا يبذل الا بعده ألحق بالامتناع ، لأن التأخير موجب لفوت غرض عقلائي. والا ألحق بالباذل ، لعدم ترتب ضرر على المدعي ولا فوت غرض بالصبر في ذلك الزمان القليل أو الكثير مثلا.

وقد يقال : ان المدار في صدق الامتناع أو البذل هو التأخير على وجه يخل بالفور العرفي وعدمه ، فان كان البذل بعد فوت الفور العرفي جرى عليه حكم الامتناع والا جرى عليه حكم الباذل.

وان كان ممتنعا في استقلال صاحب الحق أو استقلال الحاكم دونه. وجهان بل قولان ، مقتضى الأصل الأول ، لأن الولاية على مال الغير أمر على خلاف الأصل ، فيقتصر على القدر المتيقن الذي هو ولاية الحاكم.

ولا يعارضه أصالة عدم وجوب الرجوع الى الحاكم ، لعدم كونه حكما تكليفيا يدفع بالأصل بل هو وجوب شرطي للتوصل إلى الحق.

ص: 107

لكن قد يقال بإطلاق ما ورد في الباب من جواز الاستقلال باستيفاء الدين من باب التقاص ، لأن قضية إطلاقها عدم شرطية اذن الحاكم.

ويمكن الخدشة في هذا الإطلاق بورودها مورد الغالب في زمان صدور الروايات ، ومن عدم إمكان الاستيذان من الحاكم ، لان سلاطين العدل ومنصوبيه لم يكونوا مستطيعين على التصدي لو ظائف الحكومة.

وقد يقال : بأن مدلول الروايات هو الاذن لا بيان الحكم الشرعي. وهو ضعيف. وعلى فرض عدم التنزيل على الغالب يمكن دعوى إهمالها من هذه الجهة. نعم مقتضى قوله صلى اللّه عليه وآله « لي الواجد يحل عقوبته وعرضه » جواز الاستقلال ، الا أن يدعى إهماله من جهة تعيين المعاقب.

هذا إذا كان مقرا ، ولو كان جاحدا فهو ممتنع.

وقد يفرض كونه باذلا أيضا ، كما إذا قال مع جحوده « خذ ما تدعي ان كنت محقا » وفيه تعسف.

وكيف كان فاما أن يكون للمدعي بينة أم لا ، وعلى التقديرين جاز له الاستقلال باستيفاء الدين من مال الجاحد تقاصا ، وربما منع عن الاستقلال مع البينة. وهو موافق للأصل المشار اليه محجوج عليه بإطلاق الاخبار.

ولا فرق في ذلك بين التقاص من جنس الدين أو من غير الجنس ولا بين البيع وتملكه من غير البيع ، لا طلاق الاخبار ، وان كان لبعض خلاف في بعض هذه المقامات.

والأظهر أيضا الجواز مع الاستيمان على كراهة ، جمعا بين الاخبار المانعة في خصوص الودعي والمجوزة عموما وخصوصا. واللّه العالم.

ص: 108

التقاط [ تلف العين قبل بيعها للاقتصاص ]

لو تلفت العين التي يريد أن يبيعها ويقتص من ثمنها قبل تحقق القصاص من غير تعد وتفريط ، ففي الضمان قولان :

( يدل على عدم الضمان ) قوله « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » (1) ، وهو الذي تستند إليه قاعدة ارتفاع الضمان في الأمانات الشرعية. ووجهه على ما سبق في باب الغصب أن المراد بالإحسان - على ما صرح به في محكي تمهيد القواعد - هو عدم الحرج الشرعي ، فالحسن ما لا حرج في فعله شرعا ، وقد يطلق ويراد به ما يمدح بفعله.

ولكن المراد في المقام هو الأول ، لأنه اقتصار على صرف معناه الأصلي ، لأن الذي لا قبح في فعله ولا حرج حسن لغة وعرفا ، إذ الحسن مقابل القبح.

ومن الواضح أن وضع اليد على مال الغير إذا كان بإذن الشارع - كما في مقام التقاص - كان من الإحسان النافي للسبيل.

نعم لا بد أن يكون الفعل الذي يراد نفي السبيل هو الفعل الذي يكون حسنا مأذونا فيه ، وأما لو كان السبيل مترتبا على فعل آخر يلازم ذلك الفعل الحسن ، ففي نفيه اشكال بل منع.

ومن هنا يشكل في نفي الضمان في إتلافات الطبيب بالمعالجة ، لأن المأذون فيه هو العلاج دون الإتلاف الذي حصل من علاجه.

وبالجملة إذا كان سبب السبيل كاليد والإتلاف ونحوهما بنفسه مأذونا فيه

ص: 109


1- سورة التوبة : 91.

فهو منفي بقاعدة الإحسان ، وأما إذا كان المأذون فيه أمرا ملزوما لذلك السبب فالسبيل باق.

ولا فرق في السبب المأذون بين أن يكون مقدمة أو ذي المقدمة ، فمقدمات التقاص المأذون فيه أيضا مما لا يترتب عليه ضمان على هذا التقدير ، فوضع اليد على مال الغير ارادة للتقاص ليست يد رضائه سواء كان المال بقدر حقه أو أزيد إذا توقف التقاص عليه ، فمقتضى القاعدة عدم الضمان في الزائد أيضا. فما عن العلامة من الفرق بين الزائد وبين غيره كما يأتي ليس بواضح.

( ويدل على الثاني ) أن قاعدة الإحسان مختصة بما إذا لم يكن فعل المحسن لأجل مصلحة نفسه.

ومن هنا يعللون الضمان في كثير من الصور المأذون فيها بأن المأذون إنما قبض لمصلحة نفسه ، يريدون به الإشارة الى أن الاذن الشرعي انما يؤثر في عدم الضمان إذا كان فعل المأذون محض الإحسان من غير أن يكون غرضه مصلحة نفسه ، كما في الالتقاط ونحوه من الأمانات الشرعية. وأما إذا لم يكن كذلك فقاعدة الإحسان لا تنفي الضمان ، وحينئذ فقبض المقاص قبض لمصلحة نفسه يترتب عليه الضمان وان كان مأذونا فيه.

وعلى القولين لا فرق بين مقدار الزائد إذا كان المأخوذ أكثر من المال الذي يريد مقاصته.

ونقل عن العلامة في التحرير التفصيل ، فحكم بالضمان فيما قابل دون الزيادة. وهو فيما بعد البيع جيد ، لأن الزيادة بعد استيفاء الحق تكون أمانة شرعية في يد المقاص ، من غير أن يكون يده عليه لمصلحة نفسه بل لصرف مصلحة المقاص منه ، وأما قبله فقد عرفت أن حالها حال ما قابل.

وقد يقال : ان وضع اليد فيما قابل وضع لمصلحة نفسه فيضمن ، بخلاف

ص: 110

الزيادة فإن وضع اليد عليها ليس لمصلحة نفسه ، لان الفرض وفاء غيره بحقه ، فيكون وضع اليد عليه إحسانا محضا لكونه مأذونا فيه ولو مقدمة.

وفيه : ان قضية المقدمية أن يكون وضع اليد على الزيادة كوضع اليد على مقدار ما قابل في كونها لمصلحة نفس القابض ، فالفرق غير واضح. وأولى بالضمان ما لو لم يتوقف التقاص على الاقتصاص مما يشمل الزيادة ، فإن وضع اليد على مال الغير لا يجوز إلا مقدمة للاقتصاص. والمقدمة مع تعددها لا ينسحب حكمها إلى المقدمة الغير الجائزة.

ومنه يظهر عدم جواز هدم الحائط وكسر القفل ونحو هما من الإحراز إذا لم يتوقف الاقتصاص عليها.

هذا كله في الدين ، وأما العين فالظاهر على ما ينطق به بعض أخبار الباب كخبر علي بن سليمان وخبر داود بن زربي فتأمل الجواز ، وفاقا لغير واحد منهم العلامة في باب اللقطة في المدرس المبدل.

وهل يكون المأخوذ بدلا للحيلولة أو بدلا للعين؟ وجهان. يدل بعض ما ورد في الدين على الثاني ، لاشتمال الدعاء المأثور للمقاص فيه على أن المأخوذ مكان مال المقاص ، إذ الظاهر عدم الفرق بين الدين والعين من هذه الجهة ، والثمرة بينهما غير خفية ، وقد سبق بعضها في باب الغصب. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء مال لم يكن لأحد عليه يد ]

من ادعى مالا يد لا حد عليه قضي له به من دون بينة كما في الشرائع. ثمَّ قال : ومن بابه كيس بين جماعة فيسألون هل هو لكم فيقولون لا ويقول واحد هو لي فإنه يقضى به لمن ادعاه.

ص: 111

والغرض من جعل مسألة الكيس من باب المسألة الإشارة إلى مدركها ، إذ الأصل في المسألة رواية منصور بن حازم عن الصادق عليه السلام : عشرة كانوا جلوسا ووسطه كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس ، فقالوا كلهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي. قال عليه السلام : هو للذي ادعاه (1).

وقد تعنون المسألة بالدعوى بلا معارض ، ويجعل « اليد » في عبارة المحقق وغيره كناية عن المدعي ، لان الدعوى على ذي اليد من شأنها معارضتها بالعدم.

والرواية منطبقة على الثاني ، لأن الكيس كان تحت يد عشرة جميعا ، بمعنى كونهم جميعا بمنزلة يد واحدة.

وفي مثله إذا نفى أحدهم عن نفسه المال زال حكم يده وينحصر في الباقي ، فإذا انحصر في الواحد يكون هو صاحب اليد. فخرجت مسألة الكيس عما عنون به المحقق من كون المدعى به مالا يد لأحد عليه فكيف يجعله من بابه.

ودعوى أن الحكم في الرواية مستند الى كونه دعوى بلا معارض لا الى يد المدعي واهية ، لأن الحكم في الرواية إذا كان على وفق القاعدة المعروفة المعهودة - أعني حجية قول ذي اليد - فصرفه إلى قاعدة أخرى جديدة غير معهودة من الأباطيل الواضحة ، وينبغي أن يصرح بأن المراد بالدعوى دعوى تكون على خلاف الأصل ، فإن ثمرة التصديق تظهر هنا لا فيما يطابق الأصل.

[ ما المراد من اليد على المال ]

وكيف كان فعلى المسألة حجب لا بد من كشفها ، لان المراد باليد هل هو الفعلي أو ما يعم اليد السابقة ، فلو ادعى مالا كان في يد أحد قبل الدعوى هل يصدق المدعى أم لا؟ وكذا المراد بالمعارض هل هو المعارض الشأني أو

ص: 112


1- الوسائل ج 18 ب 17 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

أو الفعلي خاصة؟ فعلى الأول لا يصدق المدعي الا مع فرض عدم صلاحية دعواه للمعارضة أصلا ، وعلى الثاني يصدق بمجرد سلامة الدعوى عن المعارضة الفعلية. حتى أن الزوجة مثلا لو ادعت أنها مطلقة غير مدخولة في الساعة السابقة جاز تزويجها.

وكل منهما أشكل من الأخر ، لأن الاقتصار في سماع الدعوى بلا معارض على دعوى غير صالحة للمعارضة مطلقا يوجب سقوط القاعدة عن الفائدة ، لأن مثل هذه الدعوى ممتنعة عقلا أو عادة. وجعل المدار على المعارضة الفعلية وعدمها ، يتفرع عليه ما يقضي الضرورة بخلافه فضلا عن الإجماع مثل الفرع المشار اليه.

[ دعوى الأموال وغير الأموال ]

وتنقيح المسألة يحصل برسم مقامين : الأول في دعوى الأموال ، والثاني في غيرها كدعوى الطلاق والوكالة ونحو هما.

( أما الأول ) فالكلام فيه تارة في اعتبار فعل المسلم وتصرفه مع عدم المعارض ، وأخرى في حجية قوله وادعائه.

أما الفعل والتصرف ، حيث لا معارض لهما - مثل أن يضع إنسان يده على مال مطروح أو يتصدى لبيعه أو نحو ذلك من التصرفات - فالظاهر وجوب حمله على الصحة تكليفا ووضعا ، فيجوز الشراء ممن يتصدى لبيع المطروح.

والدليل عليه القاعدة المسلمة في الجملة ، أعني أصالة حمل فعل المسلم على الصحة ، لأنه من أظهر مواردها ، فيحكم بأن وضع اليد على ذلك المطروح بعنوان الملكية وضع صحيح تكليفا ووضعا ، وكذا بيعه ونحوه من التصرفات.

وقد يناقش في ذلك بأن حمل فعل المسلم على الصحيح كالبيع لا يقضي

ص: 113

بكونه ملكا له ، لأن أصل الصحة لا يثبت الأمر المشكوك في وجوده من الشرط أو الجزء كما تحقق في محله ، حيث قلنا ان صحة البيع الواقع من الراهن لا يثبت اذن المرتهن إذا اختلفا في الاذن وعدمه ، وكذا صحة بيع مال الغير لا يثبت مقارنته بالاذن ، فكذلك نقول في المقام : ان صحة البيع مع الشك في كون المبيع مملوكا للبائع لا يقتضي الحكم بكونه مملوكا للبائع ، كما أن صحة البيع المتنازع في كون أحد العوضين فيه خمرا أو خلا لا يقتضي الحكم باستحقاق الخل ، وهكذا الى سائر ما فرعنا على بطلان الأصل المثبت من فروعات المسألة في محله.

وأما القول فالدليل على حجيته واعتباره غير واضح ، لأن رواية الكيس قد عرفت ظهورها في مورد يكون للمدعي يد على المال. ولا كلام في مثله ، لان اليد بنفسها سبب لتصديق صاحب اليد من غير حاجة الى ضميمة الدعوى والقول.

نعم لو حملت الرواية على ما إذا لم يكن يد للمدعي ، مثل أن يقال : ان العشرة قد وردوا على الكيس المطروح فنفى كلهم الا بعضهم ، أو يقال : ان المدعي قد ورد على الجماعة الذين كانت اليد لهم دون المدعى الوارد ، أو نحو ذلك كان دليلا على المسألة. وكذا لو ادعى إطلاقها بالنسبة إلى كون المدعي ذا يد وعدمه.

الا أن جميع ذلك احتمالات لا شاهد لها ، والرواية لا إطلاق لها لكونها من باب حكايات الأحوال. الا أن يتمسك بترك الاستفصال ، فان الاستفصال في مثله على تقدير عدم عموم الحكم أمر لازم. فتدبر.

أو يقال : بأن اليد على الكيس كانت مقومة لمجموع العشرة ، فإذا نفى الأكثر عن نفسهم زال اليد عن الكيس رأسا حتى بالنسبة الى المدعي.

ص: 114

[ تصوير معنى المشاركة في اليد ]

توضيحه : ان المشاركة في اليد تتصور على قسمين : أحدهما أن يكون لكل من الشركاء يد مستقل كجلوس المترددين في الدار ، فان اليد في مثله ثابتة لكل واحد حتى لو قطع النظر عن الأخر أو فرض عدمه كان يده ثابتة. والثاني أن يكون اليد مقومة بالمجموع بحيث لو انتفى يد أحدهم انتفت اليد عن الباقي.

ومن هذا الباب مورد الرواية ، لأن يد العشرة على الكيس في الوسط كانت مقومة بالمجموع. وآية ذلك أنه لو كان كل واحد من العشرة بحيث إذا انفرد عن الباقي والكيس في محله ومكانه - بأن يقع الكيس في مقابله - لم يصدق عرفا أنه صاحب يد على ذلك الكيس الواقع في قدامه ، بل كان يعتبر في كونه صاحب يد انضمام الباقي اليه على نحو يحصل من اجتماعهم نحو دائرة محيطة بالكيس كانت اليد حينئذ مقومة بالجميع ، فاذا كان أصل ثبوت اليد لكل واحد باعتبار كونه جزءا للدائرة المحصلة لليد لزم اناطة بقاء اليد وعدمه بتفرقهم على وجه لا يبقى معه دائرة محيطة وبعدم تفرقهم كذلك.

ومنه يعلم أن تفرق واحد أو اثنين أو ثلاثة لا يقدح في ثبوت اليد للباقي مجتمعا ، إلا إذا كان التفرق بحيث ينتفي معه شبه دائرة محيطة ، وأما مع بقائه فلا.

هذا حال التفرق ، وأما نفي الملكية عن أنفسهم فهو في حكم التفرق الحقيقي ولو كانوا مجتمعين ، لأن النفي يرفع أثر الاجتماع كما يرفع أثر اليد المنفردة.

نعم لو كان الكيس المفروض بقرب من المدعي - بحيث لو انفرد صدق أنه صاحب يد عليه أيضا - لم يقدح تفرق الباقي أو نفيهم في ثبوت اليد له على الكيس.

ص: 115

لكن الظاهر من السؤال - على ما يقتضيه جلوس العشرة عادة - أن نسبة الكيس الى المدعي وغيره من حيث القرب والبعد كانت نسبة واحدة بحيث يعتبر في ثبوت اليد اجتماعهم مع عدم النفي ، فلا يرد أن الرواية كما يحتمل ذلك كذلك يحتمل الأول ، فلا يصح الاستناد إليها في تأسيس حكم جديد ، وهو اعتبار قول المدعي بلا معارض مع عدم اليد.

وأما ما ربما يتوهم أو توهم من دلالة رواية منصور الأخرى الطويلة في مسألة الخلافة وتعيين قيم القرآن على أن المدعي بلا معارض يعتبر قوله (1) ، لأن الراوي احتج على كون علي عليه السلام قيم القرآن دون ابن مسعود وسائر العشرين بأن عليا «عليه السلام» قد ادعى العلم بجميع القرآن ولم يدعه أحد من هؤلاء وإمضاء المعصوم ، فلو لا أن قول المدعي بلا معارض كان معتبرا كان الاحتجاج في غير محله.

ففيه : ان الاحتجاج بدعوى علي عليه السلام انما هو بعد الفراغ عن حجية قول آحاد الصحابة بأن قول الصحابي كان حجة عند الصدر الأول ، ولذا استدل الراوي على عدم كون ابن مسعود مرجعا في معرفة القرآن باعترافه بأنه لا يعلم القرآن كله لا بأن قوله ليس بمعتبر حتى فيما يدعي علمه من الايات ، فليس الاستناد الى قول علي عليه السلام ودعواه العلم بالقرآن جمعا من جهة أنه كان مدعيا بلا معارض ، بل من جهة كونه من الصحابة وكون قول الصحابة حجة.

وقد يستدل على المطلوب بأصالة الصحة أيضا. وقد بينا ضعفه في محله ، حيث قلنا ان اجزاء أصالة الصحة في الأقوال عبارة أخرى عن القول بحجية قول المسلم الغير العادل. وهو كما ترى ، لأن حجية العدل فيه ألف كلام فضلا عن غيره.

ص: 116


1- الكافي 1 / 149.

وقد يستدل عليه أيضا بما عن الفاضل وابنه من أن كل فعل يكون للإنسان إنشاؤه يقبل اخباره به كما أومأنا إليه في غير موضع ، منها باب اللقطة في تحقيق قولهم « من ملك شيئا ملك الإقرار به » ، مثل اخبار بعض العسكر بأمان بعض الكفار حيث أن له إنشاء الأمان فيقبل اخباره ، ومثل اخبار الحاكم بالحكم الذي أنشأه ، وغير ذلك من الأمثلة المشار إليها المصرح بها في كلمات الأصحاب.

وهنا أيضا يقال بأن تصرف المسلم وفعله المعينين على الملك إذا كانا نافذين وحجتين ومحمولين على الصحة كان قوله واخباره ودعواه للملك أيضا كذلك.

لا يقال : له إنشاء التصرف ، فيقبل قوله بناء على القاعدة المزبورة في الاخبار بالتصرف لا الملك.

لأنا نقول : الملك لما كان متفرعا على فعله الذي كان يملكه كوضع اليد والبيع ونحو هما من التصرفات المختصة بالملاك كان الاخبار بالملك منزلة الاخبار بذلك الفعل.

وهذا مثل ما عن العلامة «رحمه اللّه» في باب الخيار من أن أخبار البائع ذي الخيار بكون المبيع مغصوبا مقبول ، لان له إزالة أثر العقد بالفسخ فيقبل قوله واخباره بكل شي ء يترتب عليه فساد العقد ، مع أن الفرق بين الغصب الذي يخبر به البائع والفسخ الذي يملكه أوضح وأجلى من الفرق بين الملك الذي يخبر به المدعي فيما نحن فيه والفعل الذي هو مالكه - أعني التصرفات المختصة بالملاك.

ثمَّ المراد باليد في المقام هي اليد التي تدل على الملك سواء كانت فعلية أو سابقة ، لان المدار على كون المدعى به غير محكوم بملك أحد ، فحيثما كان محكوما بحكم اليد الفعلية أو السابقة بالملك للغير لم يقبل دعوى مدعيه بلا بينة.

وأما المراد بقولهم « قضى له » فيحتمل وجوهاً :

ص: 117

( أحدها ) أن يخلى المدعي وسبيله ، بأن لا يتعرض بحاله بمطالبة البينة أو اليمين مع عدم ترتب غير آثار ملكه عليه ، وهو الظاهر من المسالك. وأنت خبير بأن هذا المعنى موافق للأصل والقواعد فلا يحتاج الى دليل جديد.

( والثاني ) أنه يقضى به على وجه يكون به صاحب اليد ، ويجوز معه ترتيب آثار الملك مراعى الى حدوث مدعي آخر ، فيكون أثر القضاء جعل المدعي صاحب اليد مراعى الى ظهور الخصم ، وبعد ظهوره يكون حاله مع حال الخصم من حيث اليد وعدمه واحدة.

( والثالث ) انه يقضى له على وجه يكون به صاحب اليد مطلقا حتى مع ظهور الخصم. ولعل الأخير أظهر.

[ دعوى غير المال كالوكالة وغيرها بلا معارض ]

هذا هو الكلام في المقام الأول - أعني دعوى الاملاك - وأما الكلام في المقام الثاني - أعني دعوى غيرها بلا معارضة أحد كدعوى الوكالة والطلاق - فإثبات قبول الدعوى فيه أشكل ، لعدم مساعدة شي ء من الأدلة عليه الا ما ربما يدعى الاتفاق على خلافه من أصالة حجية قول المسلم ، بمعنى قبوله التصديقية من حيث المطابقة للواقع.

ومما يدل على فساده الاتفاق على عدم حجيته في مقابل اليد أو في مقابل الدعوى. مع أن قضية الحجية القبول مطلقا ، لأن البينة وما يجري مجراها حجيته في هذه المقامات كلا ونحو ذلك من المقامات التي لا يسمع فيها قول المسلم التي هي أكثر مما يحتمل البقاء تحت الإطلاق.

ثمَّ ان الدعوى بلا معارض في المقام الثاني أيضا تنقسم الى قسمين : لان الدعوى قد تكون دعوى على الغير اشتمالها على سقوط حق الغير ، وذلك

ص: 118

مثل دعوى الوكالة ، ومثل دعوى الطلاق ، ومثل دعوى موت الزوج ، ومثل دعوى العبد الإعتاق ، وغير ذلك من الدعاوي المخالفة للأصول المتضمنة لسقوط حق الغير. وقد لا يكون كذلك بل تكون دعوى مخالفة للأصل من دون تضمنها لسقوط حق حتى تكون دعوى على الغير ، وذلك مثل دعوى الرجوع ودعوى الحيض ودعوى الطهر ونحو ذلك مما تخالف الأصل ولا تتضمن إسقاط حق للغير في بعض المقامات.

وفي كل منهما لا دليل على قبول الدعوى ، الا أن عدم القبول في القسم الأول أوضح. بل يمكن الاستدلال عليه مضافا الى عدم الدليل بقوله البينة على المدعي ، إذ يصدق عليه عرفا أنه مدع على الغير وان لم يكن ذلك منكرا.

ولا يذهب عليك أن مرجع هذه الدعاوي ليست الى الدعوى على الغائب.

مثلا إذا ادعت المرأة موت الزوج وأرادت التزويج ، فهذه ليست دعوى على الغائب ولكنها دعوى متضمنة لسقوط حق الغير ، وهكذا.

ولا فرق في هذا القسم بين كون ذلك الغير معلوما بالتفصيل أو معلوما بالإجمال مع كون الشبهة محصورة. وأما مع عدم انحصار الشبهة فالظاهر أنها ملحقة بالقسم الثاني ، لأن العلم الإجمالي مع كثرة المحتملات ملحق بالجهل حكما في مثل المقام.

ويتضح مما قررنا السر في عد تصديق مدعي اللقطة أو مدعي مجهول المالك ، لأنه يدعي ما يتضمن سقوط ولاية الملتقط أو الحاكم ، لان ولايتهما تزول بظهور المالك.

نعم لو ادعى مالا مجهول المالك قبل استقراره في يد الحاكم ونحوه صدق وقضى له بناء على التصديق في القسم الثاني ، أعني ما لا يكون دعوى على غير معلوم تفصيلا أو إجمالا ، لأن الدعوى حينئذ ليست دعوى على الغير كذلك ،

ص: 119

بل على الغير المشتبه في غير محصور من دون أن تكون متضمنة لسقوط حق ولاية ، إذ الفرض عدم وصوله الى يد الحاكم أو أمين آخر بعد.

وقد يقال : انه على البناء المزبور يصدق مدعي اللقطة مثلا ، لأن ولاية الملتقط ليست من الحقوق الثابتة له أصالة بل باعتبار كونه نائبا مناب مالك اللقطة ، فبعد ادعاء الشخص اللقطة لم يتصور لدعواه معارض ولم تكن دعواه دعوى على الغير : أما بالنسبة إلى المالك المجهول فواضح ، إذ المفروض عدم العبرة بالعلم الإجمالي المتعلق بوجوده وكونه بمنزلة الجهل. وأما الملتقط فلعدم منافاة دعواه لدعوى المدعي مثلا ، لان الملتقط لا يدعي الملكية بل يدعي ولاية الحفظ عن المالك وهو يدعي الملكية ، فيجمع بينهما من غير أن يكون فيه سقوط حق.

وفيه تعسف ، لان المراد بالسقوط هنا أعم مما يوجب الخروج الموضوعي ، فظهور مالك اللقطة وان لم يكن مسقطا لحق ولاية الملتقط حقيقة الا أن ذلك يوجب زوال صفة الولاية ، وهو يكفي في مطالبة البينة من المدعي. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء المدعى شيئا بعد نفيه عن نفسه ]

إذا ادعى مالا يد لأحد عليه بعد أن نفي عن نفسه فهل يقبل ويصدق بناء على قبول قول المدعي بلا معارض أو مشروط بما إذا لم يسبقه إنكار.

قد يقال بدلالة الرواية المذكورة عليه بناء على إرادة الحقيقة من قوله « فقال كلهم » لا حيث يشمل ذلك المدعي أيضا. ويؤيده ما ظاهرهم الاتفاق عليه في باب النكاح من أن الشخص لو أنكر زوجية امرأة ثمَّ ادعاها وصدقته

ص: 120

المرأة وجب عليها التمكين وتصديق الرجل. ومثله ما ذكروه في ذي اليد من أنه لو نفى ملكية ما في يده عن نفسه ثمَّ ادعى الملكية قبل دعواه ولو مع العلم بعدم تجدد سبب ناقل.

لكن قد يناقش في الرواية بأن الظاهر من كل ما عدا المدعي كما لا يخفى.

ويؤيده تعبير الأصحاب كالمحقق «رحمه اللّه» وغيره عن مضمونها بما هو كالصريح في ذلك. فارجع ولا حظ.

وفي قبول دعوى الزوج بعد النفي بأن الحق لما كان للزوجة فاذا صدقته وجب عليها التمكين لأنها المانعة عن سماع دعواه بعد الإنكار.

وفي مسألة اليد بأن الإنكار الأول والإقرار الثاني يتعارضان ويتساقطان فيعود حكم اليد ، فلا يقاس به ما لا يكون فيه شي ء من أمارات الملك كما نحن فيه.

هذا ، ويمكن أن يقال : ان الدعوى بلا معارض على تقدير قبوله يشمل المقام ولا يشمله قولهم « لا يسمع الإقرار بعد الإنكار » ولا أدلة نفوذ الإقرار للإقرار الأول ، لأن ذلك في مقام الخصومة الفعلية أو الشأنية ، فحيث لا خصم فلا وجه للنفوذ مع إمكان حمله على السهو والنسيان مثلا ، واللّه العالم.

التقاط [ حكم إخراج ما غرق بالغوص ]

لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لصاحبه وما أخرج بالغوص فهو لمخرجه ، كما نطقت به رواية ضعفها المحقق في الشرائع مشعرا بالتردد ، ولكن عمل بها في محكي النهاية ومحكي الإرشاد والتذكرة والتحرير.

وربما قيل بأن المرجع فيما يخرج بالغوص عن القاعدة ، فإن كان الإخراج

ص: 121

بإذن المالك وأمره استحق أجرة الغوص والخارج للمالك ، وان كان بدون الاذن فليس له شي ء.

وربما يستدل على ذلك بعد قصور الرواية عن تأسيس حكم مخالف للقواعد بأن شيئا من أسباب التمليك للغواص غير موجود ، لان ما يحتمل أن يكون سببا أحد أمور :

( الأول ) كون الاعراض من أسباب التمليك ، بمعنى كونه سببا لخروج المعرض عنه عن ملك المالك رأسا وصيرورته كالمباحات الأصلية ، بحيث يصير ملكا للقابض والحائز.

( والثاني ) الإباحة على نحو القول بها في المعاطاة ، بمعنى اباحة العين لكل من يقبض فيكون بمنزلة هبة وعطية غير معين فيها الموهوب له.

( والثالث ) صيرورة المال بالغرق في حكم التالف إذا صار الى قعر البحر بحيث ييأس منه المالك ، كما هو الغالب فيما يحتاج إخراجه إلى الغوص ، إذ المتوقف في وسط البحر غالبه يقذفه البحر بالساحل ، ولذا قال عليه السلام « وما أخرجه البحر فهو لصاحبه » (1) ، إذ الغالب بل الدائم أن البحر لا يقذف ما في قعره بل ما في فوقه أو بطنه على نحو لا يلحق عرفا بالمعدومات والتالفات.

بعكس ما يخرج بالغوص ، فإنه غالبا شي ء مستقر قعر البحر بحيث يلحق في تلك الحالة بالتالف ، فيكون وضع اليد عليه من أسباب حصول الملك كحيازة المباحات الأصلية.

[ معنى زوال وصف الملك عن المال ]

توضيحه : ان زوال وصف الملك قد يكون باعتبار خروج المالك عن

ص: 122


1- الوسائل ج 17 ب 11 من أبواب اللقطة ح 1 و 2.

القابلية كالحي إذا صار جمادا بالموت ، وقد يكون لحدوث القصور في المملوك ، كما إذا انقلب الى بعض مالا يتملك ولا يتمول شرعا أو عرفا كتحول الغذاء فضلة وصيرورة البيضة فاسدة ونحو هما ، وقد يكون باعتبار انتفاء موضوع الملك وتلفه حقيقة كموت الحيوان واراقة الماء ونحو هما من أقسام التلف الحقيقي العرفي ، وقد يكون حكما كالمال الذي لا يمكن وصوله الى مالكه عادة كالمال المنهوب في الطريق أو المسروق فيما لا يتعين فيه السارق في محصورين كأهل القرية أو أهل بلد مثلا.

وبالجملة ما كان المالك مأيوسا عن الظفر به عادة فإنه عرفا يلحق بالتالف ، ولذا لا يصح بيعه وشراؤه ونحو هما مما يعتبر في مجاريها الملك والمال العرفيين.

ومن هذا الباب الغريق الواقع في قعر البحر ، فان المالك فيه أشد يأسا مما أجروا عليه حكم التالف كالمال الذي يأخذه قطاع الطريق ، فاذا كان في حكم التالف فلا يصلح طرفا لنسبة الملكية والمالية اللتين كانتا متقومتين به.

والجميع منظور فيه :

( أما الأول ) فيرد عليه : أولا منع كون محل البحث من موارد الإعراض ، لأن مجرد غرق المال لا يستلزم اعراض المالك ، نعم ربما يوجب يأسه عادة ، وبينهما لعله بعض الفرق. وثانيا منع كون الاعراض سببا لخروج المال عن ملك المعرض حتى يتملكه القابض بالحيازة ، إذ لا دليل على ذلك غاية الأمر كونه سببا لإباحة التصرفات عدا ما يتوقف على الملك كالوطي والبيع ونحو هما ، ولم تقم السيرة على أزيد من ذلك في غير الأمور الحقيرة ، فلا مسرح للتمسك بالسيرة أيضا.

فإن قلت : قد مر في باب اللقطة بعض ما يدل على أن الاعراض سبب للخروج

ص: 123

عن الملك كما في البعير الواقع في الكلاء ، فان في بعض الروايات تعليل إباحتها بأن المالك أباحها (1).

قلت : الالتقاط في نفسه سبب للتملك ، غاية الأمر أنه اشترط في خصوص البعير الضالة بما إذا علم أن مالكها قد أعرض عنها ، فالكلام هنا في كون الاعراض سببا مستقلا في جعل المعرض عنه من المباحات.

( وأما الثاني ) ففيه أيضا أن مجرد اليأس لا يستلزم إنشاء الإباحة فعلا أو قولا أو قلبا ، والكلام في أن مجرد الغرق هل يستلزم اباحة الغريق للأخذ كما نطقت به الرواية أم لا ، ومع ذلك فالإباحة انما تبيح التصرفات دون الملك أو ما يتوقف عليه من التصرفات.

( وأما الثالث ) فلان كون الغريق في حكم التالف عرفا على تقدير تسليمه مطلقا ، مع أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال ، فربما تكون العادة جارية بإمكان إخراجه بغوص ونحوه ، فلا يتم دعوى كونه بمنزلة التالف حينئذ ، إذ صيرورة المال تالفا حقيقيا انما يوجب زوال صفتي الملكية والمالية.

وأما حق الاختصاص والأولوية فلا يوجب زواله أيضا ، وتحقيق ذلك يطلب مما أسلفنا في باب الغصب في جملة مسائله ، كمسألة زرع حب المغصوب وتفريخ البيضة المغصوبة ونحو هما ، فاذا كان حق الأولوية باقيا فيلزمه عود الملكية على تقدير زوال تعذر الوصول الذي أوجب إلحاقه بالتالف ، فيكون للمالك انتزاعه من الغواص.

وبالجملة ظاهر الرواية غير مطابق للقواعد ، والعمل بها على نحوه ينجبر به ضعف السند غير معلوم. نعم يمكن تطبيقها على القاعدة بالتصرف فيما يقتضيه ظاهر كلمة اللام المفيدة للملكية ، بأن يقال : ان المراد حصول الإباحة في

ص: 124


1- الوسائل ج 17 ب 13 من أبواب اللقطة ح 2.

التصرفات دون الملك أو ما يتوقف عليه من التصرفات ، فمعنى قوله عليه السلام « فما أخرج بالغوص فهو لهم » (1) انهم يتصرفون فيه كيف شاءوا لا أنهم يتملكون.

وهذا المعنى موافق للقاعدة ، لأن التصرفات في المال المعرض عنه مضافا الى إمكان إثباته من السيرة وبعض الاخبار موافق للقواعد أيضا ، لأن الإنسان إذا أعرض عن ماله فان رجع ذلك الى أمر وجودي - وهو إنشاء إباحة التصرفات للناس - فلا إشكال حينئذ في جواز التصرف ، لأنه تصرف بإذن المالك ورخصته.

وان قلنا بعدم رجوعه الى ذلك وان الاعراض ليس بإباحة ولا مستلزما له ، فلا أقل من كونه رفعا لمنع تصرفات الناس ، وهو يكفي في جواز تصرفهم ، لأن حرمة التصرف في مال الغير انما هو لأجل الاحترام ، كما يدل عليه قوله عليه السلام « ان اللّه جعل حرمة أموالكم كحرمة دمائكم » (2) فاذا أعرض صاحب المال عنه ورفع الحجر والمنع من قبله فالتصرف في مثله ليس منافيا لاحترامه.

وأيضا يمكن القول بأن التصرف حينئذ تصرف عن طيب النفس منه.

وكيف كان فجواز التصرف في المال المعرض عنه من دون القول بحصول الملك ، سيما في الأموال الحقير ، أمره سهل.

فان قلت : مورد الرواية ليس فيه إشارة إلى الإعراض ، فظاهره أيضا

ص: 125


1- الوسائل ج 17 ب 11 من أبواب اللقطة ح 1 و 2.
2- الموجود في الوسائل في موضعين من كتاب القصاص منه ص 3 وص 10 ففي ص 3 حديث 3 هكذا « فان دماءكم وأموالكم عليكم حرام » وفي ص 10 حديث 3 هكذا « وحرمة ماله كحرمة دمه » الوسائل 19 كتاب القصاص ص 3 و 10.

مناف للقواعد ، لان مجرد اليأس مع عدم الاعراض ليس من أسباب حل التصرف أيضا.

قلت : نحمل الرواية بعد التصرف في لام « لهم » بما عرفت على الغالب الذي هو الاعراض عند حصول اليأس ، لأن الايسين عن أموالهم غالبا معرضون عنها. أو ربما يشعر به رواية أخرى واردة في المسألة حيث أن فيها زيادة ، وهي ان ما تركه أهله أخرج بالغوص فهو لأهله ، لأن ظاهر تركه هو الاعراض. فافهم.

وحينئذ فيحمل إطلاق رواية البعير المتقدمة على صورة الإعراض حمل المطلق على المقيد ، بناء على ثبوت التقييد في المثبتين في الأحكام الوضعية ، كما هو أحد الوجهين في المسألة أو أقواهما. واللّه العالم.

ص: 126

القول في دعاوي الاملاك

التقاط [ التنازع في عين معين ]

لو تنازع اثنان عينا : فاما أن تكون العين لا يد لأحد عليها ، أو تكون تحت يدهما معا ، أو تحت يد أحدهما ، أو يد ثالث. فهنا مسائل :

[ التنازع على عين لا يد لأحد عليها ]

( الاولى ) أن يتنازعا عينا لا يد لأحد عليها ، فان كانت الدعويان متعاقبتين قدمت الأولى ، لأنها في حال وقوعها كانت بلا معارض. بل هذه ثمرة تصديق الدعوى بل معارض على أظهر الوجوهات في المسألة كما سبق ، الا أن تفرض الدعوى الثانية كانت في حال دعوى الأولى ، بأن ثبت ذلك بإقرار المدعي الأولى أو بنحو ذلك.

لا يقال : المدعي الثاني - انما يدعي حقيته في حال دعوى الأول ، فتكون تلك الدعوى في حال صدورها معارضة بمثلها وان لم تكن معلومة.

ص: 127

لأنا نقول : المعتبر في تصديق الدعوى بلا معارض سلامتها حين وقوعها عن دعوى أخرى مثلها ، وهذا مفروض الوجود في دعوى الأول. وادعاء الثاني حقيقته في حال تلك الدعوى لا تجعلها دعوى معارضة ، لان التعارض من خواص وجود الدعوى الثانية ان الدعوى الاولى حين وجودها كانت مما يتعقبها دعوى أخرى معارضة ، وهو غير كونها مبتلاة بالمعارض في حين وجودها.

وان كانتا متقارنين بالتقارن العرفي أو الحقيقي. ففيه وجوه الطرح واعمال كل من الدعويين في النصف كاعمال السببين مع الإمكان ، وذلك مثل ما لو أوصى بألف لزيد من الثلث وألف لعمرو وكان مجموع الثلث مقدار ألف ، فإن الحكم فيه التشريك بالنصف بين زيد وعمرو والقرعة ، كما هو الشأن في جميع صور تعارض الأمارتين أو تزاحم السببين ، فإنه قد يحكم فيها بالطرح كالبيعين الواقعين على شي ء واحد ، وقد يحكم بالتشريك كالمثال المفروض ، وقد يتوقف ويستخرج الواقع بالقرعة.

هذا حكم أصل المسألة ، وأما القضاء فيحتاج الى الحلف ، بمعنى أن الحاكم يقضي بالمجموع للحالف إذا كان أحدهما والا فالتنصيف ، لان كل واحد منهما بالنسبة إلى الأخر مدعى عليه وان لم يكن منكرا لعدم اليد ، فيجري ميزان القضاء من الحلف وغيره.

[ التنازع على عين لكل من المتنازع يد عليها متناوبا ]

( الثانية ) أن تكون تحت يدهما معا على التناوب كالفرس يركبه أحد هما يوما والأخر يوما ، وعلى الاجتماع كالدار يحلها اثنان على وجه يتصرف كل منهما في مجموع الدار.

والحكم فيه كما ذكره الأصحاب من القضاء بينهما نصفين ، لان يد كل منهما

ص: 128

وان كانت على المجموع الا أنها دليل شرعا وعرفا على ملكيته للنصف المشاع ، لان مطلق اليد في العرف دليل على مطلق الملك الشامل للملك التام والناقص واليد الاستقلالية دليل على الملك التام والمنضمة مع مثلها دليل على الملكية الناقصة في مجموع الدار والملكية التامة في النصف المشاع.

وفي الشرع أيضا كذلك ، لان الشارع لم يتصرف في موضوع اليد العرفية التي تعد عند العرف من أمارات الملك التام أو الناقص بل أمضاها وقررها على ما هي عليه في العرف.

وليس المراد أن اليد على المجموع في صورة التعدد يد على النصف المدعى ، بل المراد أن الأيادي المجتمعة أمارات على ملكية النصف أو الثلث مثلا وان لم يكن بينهما فرق عملي.

نعم لو جعلنا علامة الملك السلطنة التي تكشف عنها اليد لا نفس اليد كانت يد كل منهما بمعنى السلطنة التامة على النصف ، فان جعلنا الامارة نفس اليد قلنا ان يد كل منهما على المجموع ، ولكن اليد على المجموع انما تكون أمارة على ملك المجموع إذا كانت تامة استقلالية ، وأما إذا كانت ناقصة بمزاحمة مثلها فهي أمارة على ملك البعض كالنصف والثلث مثلا. وان جعلنا دليل الملك هي السلطنة التي تكشف عنها اليد قلنا ان لكل منهما علامة الملك في النصف دون الكل. والأمر في ذلك سهل.

وانما الكلام فيما جنح اليه بعض مشايخنا قدس سره حيث جعل اليدين بمنزلة الأمارتين المتعارضتين أو السببين المتزاحمين ، وقال : ان القضاء بالنصف انما هو لأجل ذلك لأجل أن يد كل منهما على النصف أو أن اليد على المجموع إذا كان معها مثلها لا تدل الا على تلك النصف. وقاسه بالمسألة الاولى - أعني الثاني على مالا يد لأحد هما وعلى تعارض البينتين.

ص: 129

وقد ظهر ضعفه بما ذكرنا ، حيث أن المحكم في ذلك هو العرف ، إذ الشارع لم يغير موضوع تلك الأمارة العرفية عما هي عليه في العرف. ونحن نجد أن بناء العرف في صورة تعدد اليد بالتناوب أو بالاجتماع على جعل يد كل دليلا على ملك البعض.

وأما القياس بتعارض البينتين فهو قياس مع الفارق ، إذ لم يعتبر في دلالة البينة على حقيقة ما قامت عليه عدم قيام بينة أخرى على خلافها ، بل هي في نفسها حجة شرعية وعرفية غاية الأمر أنها بسبب التعارض تسقط عن الحجية الفعلية.

وكذا الدعوى فإنها أمارة على صدقها فيما لا يد لأحد عليه سواء عارضها مثلها أم لا ، غاية الأمر انها بعد التعارض تكون المقام من مقام تعارض الأمارتين ، بخلاف اليد فان دلالتها على الملكية التامة مشروطة عرفا وشرعا على استقلالهما ، والاستقلال مع التعدد غير موجود بالنسبة إلى المجموع وانما هو بالنسبة إلى البعض - فافهم.

وكيف كان فيتفرع على ما ذكرنا أن الحكم لكل منهما بالمجموع يتوقف على الحلف ، لان كلا منهما بالنسبة الى نصف شريكه مدع وهو بالنسبة إليه منكر ، فيحصل التداعي هو مقام التحالف كما صرح به غير واحد.

وعلى ما ذكره « قده » يخرج المقام عن مورد التحالف ، إذا لا تداعي هنا بل كل منهما منكر ولا يدعى له ، كالمسألة الاولى أعني صورة تعارض الدعويين على عين مطروحة ، فإنه لا وجه في مثله للتحالف الا على بعض الوجوه التي ذكرها « قده » لتوجيه التحالف بعد فرض خروج المقام عن التداعي ، وحينئذ فلا بد أن يكون عدم تعرض جماعة للحلف في المقام لأحد وجوه :

( أحدها ) أن يكون ترك التعرض ثقة بما هو المعلوم من أن القضاء لا يكون إلا بأحد الموازين بعد التسالم على ما ذكرنا وان كلا منهما دليل على ملك النصف

ص: 130

خاصة دون الكل حتى يكون من مقام تعارض الأمارتين ، وحينئذ فيرتفع الخلاف بين المتعرض للحلف من المسألة وغير المتعرضين ، لان كلا من الطائفتين يعترف حينئذ بأن كل واحد من اليدين دليل على النصف وأنه حكم شرعي وأصل في المسألة ، وبه يعرف المدعي من المنكر ويحكم بأن كلا منهما منكر بالنسبة إلى النصف ومدع بالنسبة إلى النصف الأخر ، وان كان القضاء بمعنى فصل الخصومة متوقفا على شي ء من موازينه من حلف أو بينة. لكن هذا خلاف ظاهر المحقق في الشرائع حيث جعل القولين متقابلين.

( وثانيها ) ما ذكره « قده » من أن اليدين المجتمعين عند غير المتعرضين لما كانت بمنزلة الأمارتين المتعارضتين اقتصروا في القضاء على مجردهما ولم يعتبروا في ذلك الحلف ، إذ على ذلك لا يرجع الى التداعي حتى يتوقف الحكم على الإحلاف كما عرفت ، بل على فرض وجود الدعويين كالعدم وعدم سماع شي ء منهما وترتيب آثار كل من اليدين.

( وثالثها ) إلحاق المسألة بالدرهم المشتبه بالاثنين في مسألة الوديعة في الصلح القهري ، فكما أن القضاء في مسألة الدرهم لا يتوقف على الإحلاف بل يحكم الحاكم بينهما بالنصف من غير إحلاف للنص كذلك في المقام يقضي بينهما بالنصف لكونه حكما شرعيا وصلحا قهريا في المسألة ثبت من الشرع بالدليل.

( ورابعها ) ما أبداه في محكي كشف اللثام وتبعه في محكي مفتاح الكرامة ، وهو التصرف في ظاهر كلمات من صرح هنا بالحلف ، بحملها على أن الحلف أمره راجع الى المتداعيين ، فلكل منهما إحلاف صاحبه ، وأما الحاكم فهو يقضي بالنصف من دون إحلاف. واستظهره من عبارة النافع ، حيث انه بعد أن قال انه يقضي بالنصف قال : ولكل منهما إحلاف صاحبه.

ص: 131

ومما مر تعرف أن الوجه الأول أقرب احتمالا ومحتملا ، كما تعرف ضعف ما عداه خصوصا الأخير ، لأن القضاء إذا لم يتوقف على الحلف فقضى الحاكم وتمَّ القضاء فلا معنى لسلطنة كل منهما بعد الفصل والانفصال على إحلاف صاحبه.

هذا ، ثمَّ ان الأصحاب ذكروا في كتاب الصلح مسائل ربما يتخيل مشابهتها لما نحن فيه ، كلها على خلاف القاعدة ثبت بالدليل من النص :

منها - لو كان لواحد ثوب بعشرين درهما وللآخر ثوب بثلاثين ثمَّ اشتبها. قالوا : فان خير أحدهما صاحبه فقد أنصفه وان تعاسرا بيعا وأقسما بينهما وأعطى صاحب العشرين سهمين من خمسة وللآخر ثلاثة.

ومنها - ما أشير إليه من الدينار المشتبه بين الاثنين عند الودعي ، بأن أودعه إنسان در همين وآخر درهما وامتزج الجميع ثمَّ تلف درهم. قالوا : ان صاحب الدرهمين يأخذ درهما ونصفا من الأخر.

ومنها - ما لو كان مع اثنين درهما وادعاهما أحدهما وادعى الأخر أحدهما كان لمدعيهما درهم ونصف وللآخر ما بقي.

( أما المسألة الأولى ) فهي وان كانت مخالفة للقواعد لعدم صيرورة الثوبين بمجرد الاشتباه مشتركا بينهما حتى يتشاركا في ثمنهما بنسبة ما كان لهما مع عدم الاشتباه ، فلا بد من استعمال القرعة قاعدة مع عدم التداعي ومعه من استعمال موازين القضاء. إلا أنها لا مساس لها بالمقام حتى يستنبط حكمه مما ذكروه هناك ، لأنها في تلك المسألة ما تداعيا عينا في يدهما كما لا يخفى.

( وأما المسألة الثانية ) فهي أيضا غير مربوطة بالمقام : اما لان يد الودعي ليست يدا للمستودعين ، أو لأن للودعي على كل منهما يد واحدة يعلم كونها من جانب أحدهما دون الأخر ، فيده على كل واحد من الدرهمين يد نيابة عن

ص: 132

هذا أو عن ذاك ، فالمنوب عنه غير معلوم ، فيكون مثل ما لو تداعيا عينا يعلم كونها في يد أحد هما معا.

وان أبيت عن ذلك وادعيت أن يد الودعي على كل واحد من الدرهمين يد نيابة عنهما معا. قلنا حينئذ : انا نعلم بمخالفة احدى يديه للواقع في كل واحد من الدرهمين ، للعلم بأنه في الواقع لأحد هما خاصة ، فيده على الدرهمين معا معلوم المخالفة للواقع بالنسبة إلى كلا الرجلين ، فيخرج أيضا عن موضوع مسألتنا - أعني التداعي - مع كون العين في يدهما على وجه احتمل حقيقة كل من اليدين ولو على سبيل الشركة ، ولكنها أيضا مخالفة للقاعدة كما لا يخفى.

نعم بعض مشايخنا « قده » أسس في الأموال المشتبهة أساسا استنادا الى ما ورد في هذه المسائل وغيرها من أن الاشتباه والدوران من أسباب الشركة أو الإشاعة نظير المزج في الشركة الحقيقية ، وعلى هذا الأساس تتم المسألتان وغير هما أيضا.

( وأما المسألة الثالثة ) فالمستند فيها رواية ابن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن ابى عبد اللّه عليه السلام في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما الدرهمان لي وقال الأخر هما بيني وبينك. قال : فقال أبو عبد اللّه «عليه السلام» : أما الذي قال هما بيني وبينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له فيه شي ء وأنه لصاحبه ويقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين (1).

ومثله المرسل كما قيل (2).

قضية الحديث أن مدعي أحد الدرهمين قد يدعي أحدهما على سبيل الإشاعة ، بأن يكون له في كل درهم نصف كما هو ظاهر قول الراوي « هما بيني وبينك » لان المتبادر منه أنه كان يدعي إشاعة الدرهمين وأنهما ميراث بينهما أو ثمن مبيع

ص: 133


1- الوسائل ج 13 ب 9 من كتاب الصلح ح 1.
2- الوسائل ج 13 ب 9 من كتاب الصلح ح 2.

كذلك ، وقد يدعي أحد هما المعين ويعترف بالآخر لصاحبه كما هو ظاهر قول الامام عليه السلام في الجواب « وأما الذي قال هما بيني وبينك فقد أقر بأن الدرهمين ليس له » حيث فهم من ذلك دعواه الأحد المعين ففسره بأنه أقر بأن أحد الدرهمين ليس له.

ولا ريب أن الإقرار بأحد الدرهمين ليس إقرارا بالنصف المشاع وادعاء النصف المشاع الأخر ، إذ ليس النصف المشاع منهما هو أحد الدرهمين بل هو نصف كل من الدرهمين.

وهذا هو الظاهر من عبارة الأصحاب أيضا ، لأنهم عبروا عن عنوان دعوى مدعي النصف بدعوى أحد الدرهمين الذي يكون النسبة بينه وبين النصف المشاع عموما مطلقا.

فلا بد من صرف أحد الظهورين : أما الظهور الأول بجعل المراد من قوله « بيني وبينك » كون المدعى به أحد الدرهمين المعين ، أو الظهور الثاني بجعل قوله « أقر بأحد الدرهمين » مرادفا لقوله أقر بإشاعة الدرهمين ، لان التعبير عن النصف المشاع من الدرهمين غالبا يكون بأحدهما نظرا الى ما هو الغالب من عدم انقسام الدرهمين بين الشريكين الا اختصاص كل منهما بدرهم.

قال بعض مشايخنا « قده » ان الرواية في الإشاعة أظهر ، كما جنح شيخنا دام ظله إلى أنها في دعوى المعين أظهر ، لأن دلالة أحد الدرهمين على عدم الإشاعة مطابقة كما لا يخفى ، فيحتاج صرفها الى دليل ليس هو سوى تعارف التعبير عن نصفهما المشاع بأحدهما أحيانا ، بخلاف دلالة قوله « بيني وبينك » ، فإنه مع قطع النظر عن تعارف استعماله في مقام الإشاعة لا دلالة له وضعا على الإشاعة ، إذ لو كان الدرهمان لاثنين على نحو اختصاص كل بأحدهما يصدق أيضا أنهما بينهما.

ص: 134

وكيف كان فان رجحنا الإشاعة كانت الرواية مخالفة للقاعدة من جهتين : لان الدرهمين إذا كانا تحت يد اثنين على وجه الإشاعة كان كل منهما بالنسبة إلى النصف منكرا لكونه ذا يد بالنسبة إليه فلا وجه لتنصيف النصف أيضا بل يكون أحد الدرهمين لمدعي النصف حينئذ كما ذكروا في التداعي على دار بينهما ، ثمَّ ان التنصيف من دون حلف أيضا خلاف مقتضى قواعد القضاء. وان رجحنا التعيين كانت مخالفته للقاعدة من جهة واحدة وهي القضاء من دون حلف ، لان التنصيف حينئذ مقتضى قاعدة تساويهما في اليد بالنسبة الى كل واحد من الدرهمين ، لما عرفت من أن العين إذا كانت تحت يد اثنين كانت بينهما نصفين بمقتضى يديهما ، فكل واحد من الدرهمين حكمه ذلك ، غاية الأمر خروج أحدهما بإقرار مدعى الأخر.

هذا إذا لم يعلم إجمالا باختصاص ما يدعيه من الدرهم بأحدهما كما هو الغالب ، وإلا فالتنصيف أيضا مقتضى القاعدة ، لأن يدهما على الدرهم المعين حينئذ يصير كلا يد باعتبار العلم الإجمالي بعدم الاشتراك واختصاصه بأحدهما ، فيكون من قبيل المدعيين على ما لا يد لأحد عليه ، وقد عرفت أن الحكم فيه التنصيف على بعض الوجوه. لكن عدم الاستحلاف أيضا على خلاف القاعدة.

وعلى أي حال فما نحن فيه خارج عن مورد الرواية الا على تقدير حملها على دعوى المعين مع عدم العلم الإجمالي بعد وان احدى اليدين واختصاص الدرهم بأحدهما. ويحصل بذلك التناقض بين كلمات الأكثر في المقامين ، حيث أنهم اعتبروا هنا الحلف ولم يعتبره هنالك.

ولعل هذا مما يؤيد أو يدل على أن الأكثر حملوا الرواية على الإشاعة وانها موضوع كلامهم في تلك المسألة فيرتفع التناقض ، أو حملوها على دعوى العين مع العلم الإجمالي بعد وان إحدى اليدين واختصاص كل درهم بأحد.

ص: 135

[ التنازع في عين هي في يد غير المتنازعين ]

( المسألة الثالثة ) ما إذا كانت العين بيد ثالث ، فان صدق ذلك الثالث أحد هما صار هو ذا اليد ، فيكون مدعى عليه بالنسبة إلى الأخر ، لأن المراد بالمدعى عليه على ما مضى في تعريف المنكر والمدعي كل من يوافق قوله حجة شرعية وهو المقر له ، لأن إقرار ذي اليد له حجة له في ملكية العين فيكون هو المدعى عليه.

نعم للآخر إحلاف ذي اليد المقر ، وهل يحلف على البت كما قال بعض مشايخنا لكون الدعوى متوجهة اليه ، أو على نفي العلم لو ادعى عليه العلم كما في كشف اللثام؟ الظاهر هو الثاني ، لأن الدعوى متعلقة بغير فعل المدعى عليه أعني المقر ، وهو ملكية العين لهذا ولذاك ، فليس له الإحلاف على عدم الملكية بل على عدم العلم بها. والسر في ذلك أن ذا اليد إذا لم يكن مدعيا لملكية ما في يده كان نفيه للملكية أو إثباته لها نفيا أو إثباتا متوجها الى فعل الغير بحسب المعنى ، كنفي الوارث الانتقال المسبب عن فعل المورث فإنه في الحقيقة نفي لفعل الغير.

ومن هنا يظهر أنه لا فرق في ذلك بين كون الإحلاف قبل الإقرار لأحد أو بعده ، فإنه يحلف على نفي العلم في الموضعين.

فان قلت : إذا كانت الدعوى بعد الإقرار فهي دعوى للإتلاف والحيلولة ، ودعوى الإتلاف دعوى لفعل النفس ، فلا بد أن يكون الحلف حينئذ على البت.

قلت : متعلق الدعوى حينئذ ليس هو نفس الإتلاف ، بل كون متعلق الإتلاف - أي المتلف بالفتح - مالا للمدعي. وفرق بين دعوى إتلاف المال - بأن يقول أتلفت علي مالا - وبين دعوى كون المتلف مالا بعد الفراغ عن الإتلاف ، فإن الثاني مثل دعوى الاخوة ، فالمنكر لها يحلف على نفي العلم بها ، مع أن

ص: 136

الاخوة ليست فعلا للمدعي عليه ولا لغيره بل مسببا عن فعل الغير وهو المورث. وكذا ما نحن فيه ، لان دعوى مالية المتلف يرجع الى دعوى المضاف إليه - أعني كونه مالا للمدعي - لا إلى أصل الإتلاف.

والغرض من التمثيل بدعوى الاخوة التنبيه على أن المراد بفعل الغير أعم مما يكون بنفسه فعلا للغير أو مسببا عن فعله ، حتى لا يقال ان الملكية ليست فعلا لغير المقر ، فلا يكون دعواها دعوى لفعل الغير ، لأنها وان لم تكن بنفسها فعلا للغير الا أنها كالاخوة مسببة عن فعل الغير ، وهو المدعي مثلا.

ثمَّ ان فائدة الإتلاف هنا الغرم دون العين ، والغرامة هنا من جهة الحيلولة ، فيغرم ولو نكل وحلف المدعي أو بدون الحلف. ويتضح الحال في فروع المسألة في فرض المسألة.

قال في محكي القواعد : ولو كانت في يد ثالث حكم لمن يصدقه بعد اليمين منهما.

والظاهر أن ضمير « منهما » يرجع الى ذي اليد المقر وإلى المقر له ، أي يعينهما للآخر. وهذه عبارة أخرى عن أن له إحلافهما ، فلا يرد ما قيل من أنه لا مدخلية لحلف ذي اليد في الحكم بها لمن صدقه. فتدبر.

وان صدقهما فيقضي بينهما نصفين ولكل منهما إحلاف صاحبه وإحلاف الثالث ، فان نكل أحدهما عن الحلف اختصت العين بالحالف.

ثمَّ ليس له الدعوى على الثالث حينئذ لأنه وصل الى حقه. ومن محكي كشف اللثام يظهر أن له الدعوى عليه ان كان قد سلم العين الى الناكل فيغرم النصف. وفيه انه جمع بين العوض والمعوض. الا أن يوجه بأن ذا اليد المقر بعد فرض تسليمه نصف العين الناكل كان ضامنا للحالف بعد نكوله عن الحلف ، ولا يخرج عن الضمان بمجرد نكول الناكل واستحقاق الحالف للكل شرعا

ص: 137

بسبب حلفه اليمين المردودة ، بل يتوقف خروجه عن الضمان على وصول ذلك النصف الى يد الحالف ، فله - أي للحالف - حينئذ تغريم المقر وعدم التعرض لحال الناكل اما لعجزه عن انتزاع العين من يده أو لشي ء آخر ، كما تقدم نظيره في تعاقب الأيادي ، فإن المالك له تضمين الغاصب الأول ولو مع إمكان انتزاع العين من يد الثاني ، وحينئذ فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض. وليس مراده ذلك أيضا ، بل المراد أن الحالف له ترك الناكل على حاله وتغريم المقر.

ومنه يظهر أنه لو بدر بالدعوى على الثالث المقر فأغرم ثمَّ ادعى على الأخر فنكل وأخذ العين كلها رجعت الغرامة التي غرمها المقر.

وفروض المسألة بملاحظة النكول والحلف والابتداء بالدعوى على المقر أو بعد انقضاء أمر هما ستة ، لأنهما اما أن يحلفان أو ينكلان أو يحلف أحدهما دون الأخر ، وهذه الصور قد تكون بعد الدعوى على الثالث المقر أو قبلها ، وحكم الكل يظهر بالتأمل.

كما يظهر أيضا زيادة الاقسام بملاحظة حلف الثالث لهما أو نكوله كذلك أو الحلف لأحدهما والنكول للآخر. فتدبر.

وان أقر لأحدهما لا على التعيين ففي الحكم بالتنصيف أو القرعة وجهان بل قولان.

ويتفرع على الأول التحالف وعلى الثاني اختصاص الحلف عمن خرجت باسمه ، بمنزلة ذي اليد في كونه مالكا الى أن يعلم خلافه بينة أو نحوها مما هو ميزان للقضاء.

ومما ذكرنا ظهر الكلام فيما لو دفعهما معا ، فان الكلام فيه هو الكلام فيما لو تداعيا على عين مطروحة وان لم تكونا من باب واحد ، لأن الأولى داخلة في الدعوى بلا معارض ، فإنهما معا مدعيان ولا معارض لهما ، بخلاف الثانية فإن دفع ذي اليد

ص: 138

إياهما معارضة. نعم لو قال ليست العين لي أو لا أعرف صاحبها احتمل كونه من باب الدعوى على ما لا يد عليه.

وكيف كان فان حلف كل منهما لصاحبه أو نكلا فالحكم التنصيف والا فهي للحالف. واللّه العالم.

ص: 139

القول في تعارض البينات

التقاط [ كيفية الجمع بين البينات المتعارضة ]

إذا تعارضت البينتان فإن أمكن الجمع بينهما بصرف الظاهر الى النص أو الأظهر جمع بينهما. وليس المراد به جمعهما في استكشاف مراد البينتين إذ لا مسرح له من كلام اثنين ، بل المراد به الجمع بينهما في استكشاف الواقع ، كما إذا كان الجمع بين قوليهما ممكنا في الواقع ، بل أن يشهد أحدهما بالملك السابق والأخر بالملك الفعلي ، فإن الشهادة على الملك السابق انما تدل على الملك الاتي بالظهور لا بالنص ، بخلاف الشهادة على الملك الفعلي.

وهكذا كل ما يمكن الجمع بينهما ، مثل شهادة أحدهما بالملك من أصل أو دليل وشهادة الأخر بما يبطل معه ذلك الأصل. وهذا مع وضوحه يدل عليه أيضا بعض الاخبار :

ففي صحيحة أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يأتي

ص: 140

القوم فيدعي دارا في أيديهم ويقيم الذي في يده الدار أنه ورثها من أبيه لا يدرى كيف أمرها. قال «عليه السلام» : أكثرهم بينة يستحلف وتدفع (1).

وذكر أن عليا عليه السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة ، فقامت لهؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا وقامت لهؤلاء البينة بمثل ذلك.

فقضى بها لا كثرهم بينة واستحلفهم. قال : فسألته حينئذ أرأيت ان كان الذي ادعى الدار. قال : ان أبا هذا الذي هو فيها قد أخذها بغير ثمن ولم يقم الذي هو فيها بينة الا أنه ورثها عن أبيه. قال : إذا كان أمرها هكذا فهي للذي ادعاها وأقام البينة عليها (2).

فقد دلت على تقدير النص أو الأظهر عند تعارض البينتان ، لأنه في الحقيقة جمع بينهما على وجه يرتفع التعارض ، لان بينة ذي اليد انما تدل على الملك باعتبار حمل فعل مورثه على الصحيح وأخذ الظاهر يده على الدار. وأما بينة المدعي فهي صريحة في فساد يده وعدم كونها يد ملك ، ولذا قدمت على بينة ذي اليد.

لكن قد يشكل الأمر في الرواية ، بأن مصب السؤال في الصدر أيضا من قبيل تعارض الظاهر والأظهر ، لأن بينة ذي اليد ما شهدت الا بأن الدار من تركة أبيه بخلاف بينة المدعي فإنها شهدت بالملك الفعلي له.

وهذا مما يمكن فيه الجمع ، إذ لا منافاة بين كون الدار من تركة أبيه ظاهرا مع كونها مغصوبة أو مستأجرة أو نحوهما مما أبداه الراوي بسؤاله الثاني ، فما وجه العمل بمقتضى التعارض في السؤال الأول.

الا أن يقال : ان شهادتهم على الإرث شهادة على الملك الفعلي. وفيه : انها الشهادة بالملك عن سبب خاص ، فلا منافاة بينه وبين ما يقتضي فساد ذلك السبب

ص: 141


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

كما أبداه الراوي بسؤاله الثاني ، فإن هذا الاحتمال كان قائما في مصب السؤال الأول أيضا.

ثمَّ انه حكي عن بعض شراح الإرشاد تقسيم الجميع الى قريب كما في المثال المتقدم وإلى بعيد ، كما لو شهد أحدهما بالبيع من زيد غدوة ويشهد الأخر بالبيع من عمرو عشية ، فإن الجمع بينهما ممكن على بعض الوجوه البعيدة بإمكان صدور البيعين ، بأن كان قد باع أولا من زيد ثمَّ انتقل المبيع إلى البائع ثانيا قبل العشية بسبب من الأسباب فباعه ثانيا من عمرو ، ولا بأس به إذا كان أمرا غير بعيد بحسب حال البائع.

[ لو لم يمكن الجمع بين المتعارضين ]

هذا كله مع إمكان الجمع ، وان امتنع فاما أن يتعارضان أو يتكاذبان على ما يقضي به ظاهر عبارة القواعد وتقرير الفاضل في شرحه ، فإنه قدس سره جعل التكاذب غير التعارض وجعل محل الكلام والنزاع هو الأخير ، أما الأول فحكم فيه بالتساقط.

والكلام تارة في الفرق بينهما ، وأخرى فيما حكم به من التساقط في خصوص التكاذب دون التعارض :

( أما الأول ) فالظاهر - على ما يستفاد من ظاهر تمثيله - هو أن يكون منافاة قولي البينتين على القتل في وقت وتشهد الأخرى على الحياة في ذلك الوقت ، فان العلم حاصل إجمالا بتعمد أحدهما في الكذب ، إذ القتل والحياة من الأمور الحسية التي يندر وقوع الخطأ فيها ، فلا بد حينئذ أن يكون أحدهما كاذبا في اعتقاده.

ومثله ما مثله في محكي الكشف من أن تشهد بينة على أن هذا الولد ولدته

ص: 142

هذه المرأة وتشهد أخرى بأنه بعينه ولدته امرأة أخرى ، فإن العلم الإجمالي في مثله أيضا حاصل بكذب أحدهما.

الا أن احتمال الخطأ في الثاني أمر ممكن ، وعلى هذا يعم التكاذب الصورتين ويكون المراد به كل ما علم فيه بكذب احدى البينتين كذبا خبريا اما من جهة التعمد أو من جهة الخطأ ويكون المراد بالتعارض حينئذ مالا يعلم ذلك فيه ، كما إذا شهدت إحداهما بملكية العين لزيد وأخرى لعمرو ، إذ من المحتمل صدق كل منهما بحسب معتقد هما من دون أن يكون مخطئا ، بأن يكون مستند شهادة أحدهما شيئا من أصل أو دليل ومستند الأخر من غيره. الا أن العمل بمقتضاهما لما كان ممتنعا عدا من المتعارضين.

ومن هنا ظهر الفرق بين المتعارضين وبين ما يمكن فيه الجمع ، بأن يكون إحداهما ظاهرا بالمعنى المتقدم والأخرى أظهر.

( وأما الثاني ) - أعني كون الحكم في المتكاذبين التساقط ليس الا - فهو يتجه فيما فرضه في القواعد ، أعني مثال القتل وكل ما هو مثله من الفروض ، لان التساقط عبارة عن فرض البينتين كالعدم ، وهو متعين في مثال القتل بعد عدم الترجيح أو عدم الأخذ به ، إذا لا مسرح لا عمال كل من البينتين هنا في الجملة كما يدعيه الشيخ قدس سره ، ولا مجال أيضا للقرعة كما لا يخفى. فلا بد من التساقط والعود إلى الحالة الأولية ، أي حال عدم إقامة البينة رأسا فلا تحالف ومثله كل ما هو من باب المدعي والمنكر.

وأما ما يرجع الى التداعي - كالمثال الذي أضافه في كشف اللثام الى مثال القواعد - ففيه مشكل ، لأن الوظيفة حينئذ الرجوع الى القرعة بعد العلم الإجمالي بكذب إحداهما ، فيتعين ما هو الحجة من البينتين بها.

ويمكن إرجاع مثال الكشف الى غير التداعي ، بأن تشهد احدى البينتين

ص: 143

بما ينافي شهادة الأخرى لا بما يضاده. مثلا شهدت إحداهما على ولادة امرأة معينة لولد معين في بلد معين في وقت كذلك وشهدت أخرى بأن هذه المرأة عقيمة من أول عمرها مثلا أو أنها في غير ذلك البلد في ذلك الوقت مثلا ، فحينئذ يكون الحكم بالتساقط متجها.

وكيف كان فلنتكلم في حكم تعارض البينتين :

التقاط [ تعارض البينة في الملك مع عدم إمكان التوفيق ]

اشارة

إذا تعارض البينتان في ملكية العين على وجه لا يمكن معه التوفيق بينهما فلا يخلو الحال عن أمور أربعة : لأن العين اما أن تكون في يديهما أو في يد أحدهما أو في يد ثالث ، أو لا تكون في يد أحد ، فهاهنا مسائل :

( المسألة الاولى ) : ( أن تكون العين في أيديهما )

وحكم المسألة حينئذ القضاء بينهما نصفين بلا خلاف في ذلك على ما في المسالك ، وانما الخلاف في سببه.

فقيل بأن الوجه في ذلك تعارض البينتين وتساقطهما ، فيبقى يد كل منهما بالنسبة إلى النصف المشاع قاضية بالملكية كما لو لم تكن بينة أصلا ، فإن الحكم فيه التنصيف كما سبق في الالتقاط السابق وأنه لأجل اعمال السببين المتزاحمين بقدر الإمكان كما قيل ، أو لأجل أن الأيادي المجتمعة ليست دليلا على الملك عرفا وشرعا إلا في النصف مثلا أو الثلث كما هو الحق.

وقيل ان الوجه هو ترجيح بينة لكل منهما بالنسبة الى ما استولت عليه يده ،

ص: 144

أعني الاعتضاد باليد وإلقائها بالنسبة إلى النصف الخارج ، بناء على ترجيح بينة الداخل على بينة الخارج.

وقيل ان الوجه عكس ذلك ، وهو ترجيح كل منهما بالنسبة إلى النصف الذي هو في يد صاحبه لا النصف الذي في يده بناء على ترجيح بينة الخارج.

ولعل هذا هو المشهور ، والكلام في ذلك تارة في حقيقة الأقوال وأخرى في التحالف :

( أما الأول ) فالظاهر أن القول المشهور - وهو الأخير - أقوى ، إذ الأول لا وجه له ، لان بينة ذي اليد ليست حجة بالنسبة الى ما في يده ، فبينة كل منهما حجة بالنسبة إلى النصف الذي في يد صاحبه لا بالنسبة الى ما في يده. ولا تعارض بين البينتين بالنسبة إلى النصف الخارج ، والتساقط يتوقف على تعارض الحجتين.

والحاصل ان بينة كل منهما وان كانت معارضة بالنسبة إلى الأخرى في مجموع مؤداهما الا أن حجيتهما بالنسبة الى بعض المؤدى - وهو النصف الخارج الذي تحت يد صاحبه - وفي هذا البعض لا تعارض بينهما كما لا يخفى ، فيعمل ببينة كل منهما في المقدار الذي هي حجة فيه ، ويحكم بذلك بملكية كل منهما لما في يد صاحبه.

فالقول بالتساقط هنا ساقط عن الاعتبار ، سواء قلنا في تعارض بينة الداخل والخارج بالتساقط أو بترجيح بينة الداخل أو الخارج : أما على الأول فلما عرفت من أنه لا تعارض هنا بينهما فيما هما حجتان فيه. وأما على الأخير فواضح لان ترجيح بينة الداخل يقتضي المصير الى القول الثاني وترجيح بينة الخارج القول بالثالث ، فالتساقط لا وجه له.

نعم لو قلنا بأن بينة الداخل حجة شرعية مثل بينة الخارج كان القول

ص: 145

بالتساقط متجها ، لما ذكرنا مرارا أن الأصل في تعارض الامارات هو التوقف والتساقط. لكنه مبنى ضعيف ، إذ الظاهر أن بينة الداخل ليست حجة شرعية.

وقولهم بترجيح بينة الداخل. مبني على التعبد بما دل عليه بعض الروايات وبترجيح بينة الخارج مبني على المسامحة ونسبة عدم الحجية بالمرجح نظرا الى تعارض البدوي.

والحاصل ان القول بالتساقط متجه لو بنينا أن بينة الداخل حجة شرعية مثل بينة الخارج ، والا فأي القولين في مسألة تعارض بينة الداخل والخارج أخذنا فلا وجه للقول بالتساقط هنا.

وأما على القول الثاني فلان مبنى ترجيح بينة الداخل على الخارج أحد أمور لا يجري شي ء منها في المقام :

أحدها - النص كما سيجي ء ، وظاهر أن مورده ما إذا كانت العين في يد أحدهما ، ولا يمكن التعدي إلى المقام لتنقيح المناط : أما أولا فلان هذا التفصيل - أعني ترجيح بينة الداخل إذا كانت في يد أحدهما لا في أيديهما - وارد في الاخبار فكيف يتعدى. وأما ثانيا فلان حكمة ترجيح بينة الداخل لعله الاعتضاد باليد ، وهو غير موجود فيما نحن فيه كما ستعرف.

وثانيها - الاعتضاد ، بأن يقال ان بينة الداخل مؤداها ومؤدى اليد واحد وهو ملكية ذي اليد ، فيحصل التعاضد ويقدم على بينة الخارج. وهذا أيضا لا يجري في المقام :

أما أولا : فلان مؤدى اليد كون النصف هو مجموع ملك ذي اليد ومؤدى البينة كونه بعض ملكه ، فلم يتحد مؤداهما حتى يحصل الاعتضاد. بخلاف ما لو كانت العين بيد أحدهما ، فإن يده وبينته كليهما قاضيان بأن مجموع العين ملك لذي اليد ، فيحصل التعاضد لتطابق المؤديين. فتأمل.

ص: 146

وبعبارة أخرى : ان مقتضى مجموع اليدين كون كل واحد مالكا للنصف بشرط لا ، أي بشرط عدم ملكية نصف الأخر ، فمقتضى يد كل منهما هو ملكية النصف منفردا ومقتضى بينة كل واحد هي ملكية النصف بشرط الانضمام ، أي في ضمن المجموع. ومن الواضح أن ملكية النصف منفردا غير ملكية منضما ، فبين مدلول يد كل منهما وبينته تعارض وتناقض فكيف يحصل التعاضد.

والسر في ذلك ان الاخبار بملكية مجموع العين اخبار واحد بسيط لا يقبل التبعيض في مدلوله من حيث الظن ، فاذا يحصل من المعاضد الظن بالمجموع لم يحصل منه تقوية الظن في البعض أيضا. فتدبر.

وأما ثانيا : فلان الجهة التي يحصل بسببها الاعتضاد بعينها يحصل بها التوهين أيضا ، لأن الاعتضاد انما حصل بسبب البينة ، والمفروض أن قضية البينة المعارضة عدم دلالة اليد على الملك.

الا أن يقال : ان لكل واحد من اليدين بالنسبة إلى ملكيه النصف جهة اعتضاد وجهة توهين ، فينظر إلى الجهة المعاضدة ويؤخذ بها دون الجهة الموهنة.

وفيه : ان ذلك نظير اجتماع الأمر والنهي ، فان الجهة المعاضدة بعد مقابلتها بالجهة الموهنة تخرج عن جهة الاعتضاد ، فيد كل منهما وان كان يؤيدها ويعاضدها بينة صاحبها الا أنه يوهنها بينة الأخر ، فلا يحصل التعاضد. بخلاف ما إذا كانت العين في يد أحدهما ، فإن اليد فيه يعاضد للبينة ويؤيدها من غير معارضة.

وأما ثالثا : فلان يد كل منهما وان كان يصدق البينة في النصف الا أنها مكذبة لها من جهة أخرى ، لأن قضية اليدين ليست الا الحكم بملكية كل منهما للنصف بشرط لا ، وهذا المعنى يكذب البينة ولو بالنسبة إلى النصف أيضا ، لأن مدلول

ص: 147

البينة ملكية الكل فالذي مدلوله النصف بشرط لا مكذب لهما ، لأن ملكية النصف بشرط لا خلاف ما يقضي به البينة ولو في النصف.

والفرق بين هذا الوجه والأول هو أن مبنى الأول على منع الاعتضاد ومبنى هذا الوجه على دعوى التوهين وان كان ملاك كل من الوجهين واحد الا ان التوهين انما ندعيه من الوجه الذي ادعينا بسببه عدم الاعتضاد ، وهو تضاد مدلول اليد ومدلول البينة بالنسبة إلى النصف. فليتدبر.

وثالثها - تعارض البينتين وبقاء يد الداخل سليمة عن المعارض ، فان هذا أحد وجوه تقديم بينة الداخل وان كان ضعيفا.

وهذا قد عرفت ضعفه ، لأن قضية ذلك هو القول الأول أعني التساقط ، وأما الثاني أعني التحالف فجملة الكلام فيه أن التحالف هنا لا بد أن يعلل بأحد أمور :

الأول : النص ، وهو خبر إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام ان رجلين اختصما الى أمير المؤمنين عليه السلام في دابة في أيديهما وأقام كل واحد منهما البينة على أنها نتجت عنده ، فأحلفهما علي «عليه السلام» فحلف واحد وأبى الأخر أن يحلف ، فقضى بها للحالف (1).

الثاني : التساقط ، أي تساقط البينتين بعد تعارض خارج كل منهما بداخل الأخر بناء على حجية الداخل كبينة الخارج ، كما يدل عليه ذيل الرواية المتقدمة قال بعد ما ذكر فقيل له فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البينة. قال : أحلفهما فأيهما حلف ونكل الأخر جعلتها للحالف ، فان حلفا جميعا جعلتهما بينهما نصفين قيل : فان كانت في يد أحدهما وأقاما جميعا البينة. قال : أقضي بها للحالف الذي هو في يده. فدل باستحلاف ذي اليد على حجية بينته مع بينة الخارج

ص: 148


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

وتساقطهما ، لان حلف ذي اليد ينافي عدم حجية بينته بعد كون المدعي قد أقام البينة فلا بد أن يكون حجة.

ثمَّ بعد ذلك يحكم بتساقط البينتين معا ، إذ مع ترجيح احدى البينتين أيضا لا وجه لإحلاف ذي اليد ، لان الراجح ان كان بينته استغنى عن اليمين ، لان بينة المنكر على تقدير حجيتها وسماعها لا يمين معها ، وان كان الراجح بينة المدعي الخارج فلا وجه أيضا لا حلاف المدعى عليه الداخل كما لا يخفى. فاذا تساقطا فلا بد في القضاء لكل منهما من التحليف ، كما لو تنازعا ولا بينة لأحدهما ، لأن كلا منهما بالنسبة الى ما في يد الأخر مدعى له إحلافه.

الثالث : الحكم بأن اليدين المجتمعتين في حكم التساقط وعدم اليد رأسا ، وهذا بناء على ما مضى في الالتقاط السابق من عدم كون اليد على الكل مع الاشتراك دليلا على ملك النصف عرفا وان اليد المشتركة بمنزلة السبب الذي يزاحمه غيره ، فإن الإحلاف حينئذ يتجه أيضا لو قلنا في تعارض البينتين على ما لا يد لأحد عليه بالإحلاف ، كما يأتي في المسألة إنشاء اللّه تعالى.

وهذه الوجوه الثلاثة كلها ضعيفة :

( أما الأول ) فلان التعبد برواية غير واضحة السند في مقابلة القواعد العامة - كقاعدة البينة على المدعي واليمين على من أنكر مثلا - من غير عمل معتد به كما ترى.

( وأما الثاني ) فمع أن الاستدلال به مبني على عدم الفرق بين الدخول والخروج الحسيين والمعنويين ، لان العين كانت في أيديهما معا فيكون كل منهما داخلا بالنسبة إلى النصف وخارجا بالنسبة إلى النصف - كما هو المختار - أمر معنوي اعتباري ، والا فبحسب الظاهر كل منهما ذو اليد وداخل فلا خارج.

فلا بد في الاستدلال بذيل الرواية الواردة فيما إذا كان ذو اليد أحدهما

ص: 149

خاصة على التساقط فيما إذا كانت في أيديهما من ادعاء مقدمة أخرى يمكن منعها (1) ، وهي عدم الفرق بين الخروج الحتمي والحكمي ، معارض برواية منصور عن الصادق عليه السلام قال : قلت له : رجل في يده شاة فجاء رجل فادعاها وأقام البينة العدول أنها ولدت عنده ولم يهب ولم يبع وجاء الذي في يده بالبينة مثلهم عدول انها ولدت عنده ولم يبع ولم يهب. قال عليه السلام : حقها للمدعي ولا أقبل من الذي في يده بينة ، ان اللّه عزوجل إنما أمر أن يطلب البينة من المدعي فان كانت له بينة والا فيمين الذي هو في يده ، هكذا أمر اللّه عزوجل.

لأنها تدل على عدم قبول البينة من الداخل وعدم حجيتها حتى يعارض ببينة الخارج فيتساقطان ، فان رجحنا هذه الرواية والا فلا بد من الرجوع الى ما دل بعمومه على التنصيف في تعارض البينتين من غير تحالف أو الى قوله « البينة على المدعي واليمين على المنكر » ، حيث أن مقتضاه عدم التحالف أيضا ، لأن كلا منهما بالنسبة الى ما في يد صاحبه مدعي وله بينة ولا يمين معها.

فان قلت : قد بينت وفاقا لغير واحد فيما تقدم أن البينة من المنكر مسموعة وأنها مسقطة ليمينه بناء على أن قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » لا يدل على أزيد من رفع إلزام المنكر بالبينة كالمدعي ، أما لان اللزوم المدلول عليه بكلمة « على » وارد في مقام توهم الكلفة - أي كلفة إقامة البينة على المنكر أيضا - أو لأن المراد عدم قبول البينة من المنكر في جهة إنكاره ونفيه ، فلا ينافي قبولها منه إذا ادعى أمرا ثبوتيا قابلا لإقامة البينة عليه ، فرواية منصور على ما بينت سابقا لا بد من الاعراض عنها.

قلت : قد بينا سابقا على ما ذكرت في غير مقام التعارض ، بأن يكون المنكر

ص: 150


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 14.

مستطيعا على إقامة البينة على أمر وجودي مستلزم لصدق قوله ، كما في مدعي الإعسار الذي هو منكر حقيقة ، وأما في مقام التعارض فلا. وقد نبهنا على ذلك هنالك أيضا ، وهو موافق للحكمة غالبا ، لان بينة المنكر إذا وقعت في مقابل بينة المدعي فغالبا تكون من قبيل وقوع الظاهر في مقابل الأظهر ، لجواز اعتماد البينة على يد المنكر أو الأصل الذي به صار المنكر منكرا ، فمن أجل هذه الحكمة أمكن القول بالفرق بين صورة التعارض وغيرها.

ولا يقدح في ذلك عدم مجي ء هذه الحكمة في بعض الصور ، كما إذا شهدت بينة المنكر بالملك مع الاستناد الى سبب آخر غير اليد ، لأن الحكمة لا يجب أن تكون مطردة.

والحاصل ان سماع بينة المنكر وكفايتها عن اليمين مع عدم المعارض ، وأما معه فالظاهر عدم حجيتها رأسا ، فلا يصغى بعد إقامة المدعي البينة إلى قول المنكر أن له البينة. ولعل هذا مراد المشهور من تقديم بينة الخارج ، الا ما يقضي به ظاهره من الترجيح المبني على حجية الطرف المقابل.

( وأما الثالث ) فلما ظهر سابقا من أن اليد المشتركة في العرف والشرع دليل على ملكية النصف ، فلا وجه للحكم بتساقط اليدين وكون المسألة من باب تعارض البينتين على مالا يد لأحد عليه. فظهر مما ذكرنا أن المشهور - أعني عدم التحالف - هو المنصور. واللّه العالم.

المسألة الثانية : ( ما إذا كانت العين في يد أحدهما )
اشارة

وصورها ثلاث : لأنه اما أن يقيم البينة المدعي خاصة ، أن المنكر كذلك أو يقيمان معا.

ص: 151

ولا إشكال في الصورة الاولى ، وأما الثانية ففي سماع بينة المنكر حينئذ وجهان بل قولان قد تقدما من ظاهر قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » ومن أن مطالبة اليمين من المنكر مبنية على الترفيه والتخفيف ودفع العسر ، فلا يدل على عدم القبول لو أقامها.

توضيح المقال : انه لا شبهة في أن مقتضى ظاهر قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » بملاحظة تعريف المسند إليه في الفقرتين حصر جميع أفراد البينة في المدعي وجميع أفراد اليمين في المنكر ، أي كل بينة على المدعي وكل يمين على المنكر. وقضية ذلك عدم سماع البينة من المنكر رأسا والا لا نتقض الكلية الأولى.

الا أن هنا ما يصرفه عن ظاهره الى إرادة نفي الإلزام دون القبول ، فيكون الملحوظ في الكلية الأولى اللزوم دون القبول ، وذلك من وجهين :

أحدهما : ان الأمر بالنسبة إلى البينة أخف ، لأن إقامة البينة كلفة واضحة بخلاف اليمين ، وتعين الأمر الأخف على شخص دون الأثقل لا يفيد عرفا سوى الترفيه والترخيص وعدم الإلزام بالأثقل ، نظير الأمر الوارد في مقام وهم الحظر وحينئذ يكون قوله « اليمين على المنكر » أن وظيفته التي لا يسعه التخلف عنها هي اليمين. وأما أنه لو أقام البينة فهل يقبل منه أم لا ، فهو ساكت عنه ، فلا بد فيه من الرجوع الى ما دل على عموم حجية البينة.

والثاني : ان مدلول قوله « اليمين على من أنكر » عدم قبول البينة منه من حيث إنكاره ، فلا يمنع ذلك عن قبولها منه من جهة أخرى راجعة إلى الإثبات.

ويؤيده أن حكمة رفع البينة عن المنكر كون إقامة البينة على الإنكار المحض عسرا ، كما يدل عليه تعليل مطالبة اليمين من المنكر في علل فضل بن شاذان

ص: 152

بأنه جاحد والجاحد لا يستطيع على إقامة البينة. فإذا فرض دعوى المنكر أمرا وجوديا كان حاله كحال المدعي من حيث

العسر واليسر ، فلا تجرى فيه تلك العلة بل يرجع فيه الى عمومات حجية البينة. وحينئذ فلا بد من التصرف في ظاهر قوله عليه السلام « ولا أقبل من الذي في يده البينة » في رواية منصور المتقدمة بحمله على عدم القبول في صورة التعارض كما هو مورد تلك الرواية فدعوى عمومها لصورتي التعارض وعدمه موهونة بملاحظة ما ذكرنا من الوجهين في معنى قوله عليه السلام « اليمين على من أنكر » فينزل قوله « ولا أقبل » في رواية منصور على صورة التعارض بإرادة العهد من الموصول دون العموم.

( وأما الصورة الثالثة ) فاختلف فيها من حيث الترجيح بالدخول والخروج مطلقا أو التفصيل من حيث الأكثرية والأعدلية إلى أقوال ، وجملة القول فيه أن المرجحات المتصورة في تعارض بينة الداخل والخارج ثلاثة أو أربعة.

وليعلم أن المراد بالدخول والخروج موافقة كل أصل أو دليل شرعي ومخالفتهما ، فليس المراد بالداخل خصوص ذي اليد وبالخارج خصوص غيره بل ما يعم مدعي الصحة في العقد مثلا أيضا.

الأول : من المرجحات النص ، بأن ثبت من الاخبار تعبدا أنه إذا تعارضت البينتان قدم الداخل أو الخارج.

والثاني : احتمال أحدهما بعض المحامل الذي لا يوجد في الأخر ، كما في صورة الشهادة على الملك المطلق ، فان فيه من الاحتمالات الغير المنافية لعدم الملك واقعا ما ليس في الشهادة عليه بالسبب المعين المحسوس. مثل أن يشهد أحدهما بالملك وسكت عن السبب ويشهد الأخر بسببه كالحيازة مثلا ، فان هذه الشهادة بموجبها صريحة في الملك ، بخلاف الأول فإن الملك المطلق الذي

ص: 153

شهدت به البينة يحتمل كونها ظاهرية مستندة الى أصل أو أمارة ، وهذا المرجح يجري مجرى المرجحات الدلالية في الاخبار.

والثالث : أن يكون احتمال الكذب الخبري في أحدهما أبعد منه في الأخر كاحتمال الكذب في خبر الأعدل فإنه أبعد منه في خبر العادل ، وكذا الأكثر أو الأضبط أو نحوهما مما يوجب الترجيح بحسب الصدق والكذب الخبريين.

وهذه تجري مجرى المرجحات السندية والمضمونية في الاخبار.

وهذه المرجحات الثلاث مرتبة ، فمع وجود الاولى لا يلتفت الى الأخيرين لأن الحكم التعبدي في مورد التعارض هو المتبع كالتخيير أو ترجيح ما وافق الاحتياط في تعارض الاخبار على اختلاف المذاهب. ومع وجود الثاني لا يلتفت الى الأخير أيضا ، لأن الأخذ بذلك المرجح حقيقة جمع عملي بين البينتين ، فإن الأخذ بمقتضى مالا يحتمل إلا الملكية الواقعية مثلا لا ينافي فساد قول من يحتمل مع قوله عدم الملكية الواقعية.

إذا تحقق ذلك فنقول : مقتضى الأصل الأولي المستفاد من عموم ما دل على حجية قول العدلين في الموضوعات أنه إذا تعارض بينة المدعي والمنكر كالتساقط ، لأنه الثابت في الأمارات والحجج الشرعية المتعارضة. لكنه في باب القضاء استفدنا من أدلة هذا الباب أن بينة المدعي علة تامة في إثبات الحق على المنكر بحيث إذا كان له بينة فلا يلتفت بعد ذلك الى شي ء آخر حتى السلامة عن المعارض.

وبعبارة أخرى : يستفاد منها أن بينة المدعي بالنسبة إلى إثبات الحق على المنكر ليست كسائر الحجج القابلة للمعارضة ، بأن تكون مقتضية لإثبات الحق بل هي علة تامة يترتب على مجرد وجودها ثبوت الحق على المنكر. وهذه الاستفادة من وجوه :

ص: 154

أحدها : ظاهر الاخبار الناطقة بأنه إذا أقام المدعي البينة قضي له (1). فإنها بإطلاقها تدل على عدم إيقاف الحكم لاحتمال قيام المنكر أيضا ببينته والنظر من ترجيح أحدهما على الأخر ، وهذه وبين قولي وفعلي وظاهر وأظهر كما لا يخفى على المتتبع.

وثانيها : قوله عليه السلام « استخراج الحقوق بأربعة » (2) ، فإن ظاهره ولو بمعونة وروده في مقام إعطاء الميزان كون كل واحد من الأربعة علة تامة لا يترقب مع وجود أحدها وجود شي ء آخر حتى السلامة عن المعارض في القضاء.

وثالثها : رواية منصور المتقدمة (3) ، دلت بصريحها على عدم قبول البينة من الذي في يده العين.

ورابعها : قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (4) بضميمة قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (5) وقوله « احكام المسلمين على ثلاثة : بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية » (6) ونحوها مما دل على أن كل واحد من البينة والايمان علة تامة للقضاء ، فاذا استفدنا منها كون كل واحد منها علة تامة ثمَّ استفدنا من قوله عليه السلام « البينة على المدعي » أن المطالب بالبينة هو المدعي استفدنا عدم احتياج المدعي بعد إقامة البينة إلى شي ء آخر في إثبات الحق على المنكر حتى السلامة عن المعارض. نعم يحتاج الى تعديل

ص: 155


1- الوسائل ج 18 ب 2 و 3 من أبواب كيفية الحكم.
2- الوسائل ج 18 ب 7 من أبواب كيفية الحكم ح 4.
3- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 14.
4- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
5- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
6- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

بينته للجهل بحالها ، لكنه أمر يتحقق به موضوع البينة وليس أمرا زائدا عليها يحتاج إليه المدعي.

فان قلت : مقتضى جميع ما ذكرت كون يمين المنكر أيضا علة تامة ، ومن الواضح أنه لا يجتمع عليتها وعلية البينة للمدعي ، لاستحالة اجتماع علتي الحكمين المتناقضين ، فينكشف من ذلك كون كل واحد من البينة واليمين مقتضيا للحكم لا علة ، لأن الجمع بين مقتضى المتناقضين أمر ممكن.

قلنا : هذا انما يتجه إذا كان مرتبة اليمين في مرتبة البينة ، وأما إذا كانتا مترتبتين - بأن كانت مرتبة أحدهما بعد عدم الأخر كمرتبة اليمين بالنسبة إلى مرتبة البينة حيث قضت الضرورة بعدم كون اليمين ميزانا مع بينة المدعي - فلا استحالة في كون كل واحد منهما علة تامة للقضاء في مورده وموضع استعماله.

فان قلت : قد بنيت على أن بينة المنكر مع عدم المعارض أيضا حجة مسموعة مغنية عن اليمين ، وهذا البناء يستلزم البناء على كون بينة المدعي مقتضية لا علة تامة ، لان موازين القضاء كلها من باب واحد من حيث كونها علة أو مقتضية ، ويستحيل اجتماع العلتين لأمرين متناقضين الا على وجه الترتيب ، والقدر المسلم انما هو الترتيب بين يمين المنكر وبينة المدعي ، وأما الترتيب بين بينته وبينة المدعي فهو أول الكلام ، وحينئذ لا بد من حمل الموازين على كونها مقتضية لا علة.

قلت : يثبت الترتيب بينهما أيضا بملاحظة ظهور ما ذكرنا في كون بينة المدعي علة تامة وعدم ظهور دليل قبول البينة من المنكر إلا في كونها مقتضية ، وذلك لان ذلك الدليل ليس سوى عمومات حجية قول العدلين ، ومن الواضح عدم دلالته الا على كون قولهما مقتضيا قابلا للمعارضة. فإذا لاحظنا ذلك ولاحظنا

ص: 156

ظهور أدلة حجية بينة المدعى في كونها علة تامة حصل من هاتين الملاحظتين تأخر رتبة بينة المنكر عن بينة المدعي ، فلا تسمع الا بعد أن لم تكن للمدعي بينة.

وبالجملة قد استفدنا من باب القضاء أن بينة المدعي بالنسبة إلى إثبات الحق على المنكر علة تامة ، وهذه الاستفادة أمر زائد على ما يقضي به عموم حجية البينة ، فإنه لا يفيد سوى كونه مقتضيا قابلا للمعارضة.

وقضية هذه الاستفادة تقديم بينة المدعي على بينة المنكر في صورة المعارضة ، لأن الدليل على حجية بينة المنكر على القول به لا يزيد مؤداه على كونها حجة مع عدم المعارضة ، كما هو الشأن في جميع أدلة الامارات ، فإنها انما تدل على حجتها الفعلية مع عدم المعارضة ، فلا يقاوم بينة المدعي التي ثبت كونها حجة مطلقا.

فان قلت : لو كان بينة المدعي حجة فعلية مطلقا - أي علة تامة للقضاء - لم يتصور تعارض البينتين في التداعي مثلا ، مع أن بطلان التالي واضح.

قلت : يمكن أن يقال انا استفدنا من أدلة القضاء كونها حجة فعلية وعلة تامة بالنسبة إلى ثبوت الحق على المنكر خاصة ، فيختص حينئذ بما إذا كان المقام من مقام المدعى والمنكر لأمن مقام التداعي ، لأنه الذي يستفاد من المأثور قولا وفعلا.

ثمَّ لا يذهب عليك أن الأدلة الفعلية ليست محتملة في الباب حتى يمنع دلالتها على المدعي الاستدلال ، فاذا حكم الصادق عليه السلام وذكر قضية من الرسول صلى اللّه عليه وآله أو من الأمير عليه السلام في مقام الاستدلال على ذلك والاستشهاد له ، كان جميع ما في تلك القضية من الإطلاق والتقييد حجة كالقول.

مضافا الى أن سياق الروايات الحاكية عن قضايا الرسول صلّى اللّه عليه

ص: 157

وآله مثل ما يقرب معنى من أنه كان رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» إذا اختصم اليه رجلان يقول للمدعي : ألك بينة؟ فان قال نعم قضى بها وان قال لا أحلف المنكر (1).

وما أشبهها وسائر ما بها من خصوصيات التعبير ، ربما يفيد العلم لو لم يفد الظن بأن المدعي مع إقامة البينة يقضي وليس للحاكم بعدها حالة منتظرة أخرى كالسلامة عن المعارض ونحوها. هذه قضية القاعدة مع قطع النظر عن الروايات الواردة في المسألة.

وأما الروايات : فمنها ما يدل على تقديم بينة الخارج أيضا ، مثل رواية منصور المتقدمة (2) ، ودونها في الدلالة المرسل المروي في كشف اللثام عن الأمير عليه السلام. ومنها ما يدل على تقديم بينة الداخل ، وهي رواية جابر عن فعل النبي «صلی اللّه علیه و آله و سلم» ورواية غياث بن إبراهيم. ومنها ما يدل على ترجيح الأكثر كخبر أبي بصير المتقدم.

وهذه الروايات من حيث السند كلها غير نقية ، وليس في بعضها ترجيح على الأخر ترجيحا يمكن الركون اليه ، الا أن ما دل على ترجيح الخارج أظهر من حيث الدلالة من الباقي ، لأن رواية منصور صريحة في عدم قبول البينة من ذي اليد اما مطلقا أو مع وجود المعارض. وأما روايتا جابر وغياث فهما حاكيتان عن الفعل ، وهو على تقدير اعتباره لا يقاوم دلالة القول. وأما رواية أبي بصير ففي صدرها اضطراب قد سبق إليه الإشارة ، لأنه من مواضع الجمع لأمن مواضع الترجيح ، فلم يبق الا الذيل. وعلى أي حال فرواية منصور أظهر دلالة من الكل.

ثمَّ ان النسبة بينها تباين كلي كما لا يخفى ، فعلى تقدير التخيير لم يبطل

ص: 158


1- الوسائل ج 18 ب 6 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 14.

أيضا ما في رواية منصور ، وكذا على تقدير التساقط ، لما عرفت من القاعدة المطابقة لمضمونها.

وأما روايات القرعة فلا عامل بها عملا معتدا به.

ثمَّ ان ما قويناه من تقديم بينة الخارج لا اشكال فيه في صور ثلاث ، وهي أن يشهد كل من البينتين بالملك المطلق أو بالملك المسبب أو شهد بينة الخارج بالمسبب والداخل بالمطلق ، وان كان الحكم في الأول والثالث أظهر منه في الثاني ، لنهوض جميع ما استدللنا به على ترجيح بينة الخارج في تلك الصور خصوصا الثاني الذي هو مورد رواية منصور.

لان يقال : تقديم بينة الخارج في الثانية وان نطق به رواية منصور الا أنه بعيد عن الاعتبار وعما يقضي به النظر في القواعد العامة ، لأن بينة الداخل بعد أن كانت حجة في نفسها وشهدت بالملك المسبب كانت في رتبة بينة الخارج في القوة مضافا الى اعتضادها باليد ، فتقديم بينة الخارج حينئذ تعبدا محضا لمضمون رواية منصور أمر مشكل.

قلت : لا اشكال فيه بعد ما عرفت من اعتضاد مضمون تلك الرواية بما يدل عليه قوله « البينة على المدعي » وقوله « إنما أقضي بينكم » ونحوها مما مر من كون بينة المدعي علة تامة غير قابلة للمعارضة أصلا. وليس ذلك أمرا تعبديا محضا بل عليه بناء العرف أيضا ، لأن صاحب الحق بعد أن كان له طريق الى التوصل الى حقه بإقامة الحجة فلا معنى لتعطيل حقه باعتبار جعل حجته معارضة لحجة من عليه الحق.

والحاصل ان الحجج الشرعية والعرفية إنما شرعت ووضعت للتوصل الى الحقوق ، فلا بد من كفايتها بذلك المهم صونا للحقوق عن الضياع ، وأما من عليه الحق فليس له حق حتى يصغى الى حجته في مقابلة حجة المدعي. وغاية

ص: 159

ما يقضى به عموم ما دل على حجية البينة سماعها ممن عليه الحق إذا لم يكن لصاحبه حجة على ثبوته ، واما في مقابل حجته فلا.

وأما إذا شهدت بينة الخارج بالملك المطلق وبينة الداخل بالملك المسبب ففي تقديم بينة الخارج أيضا إشكال ، من عموم ما استدللنا به على تقديم بينة الخارج وكونها علة تامة حتى رواية منصور باعتبار عموم ما فيها من التعليل ، ومن أن تقديم بينة الداخل في هذه الصور.

ربما يقال انه جمع بينهما لا ترجيح ، لان الملك المطلق يحتمل احتمالات لا يحتمل الملك المقيد المستند الى سبب خاص بحيث يوجد من بين تلك الاحتمالات احتمال أو احتمالات لو حملت الشهادة عليه لم تكن منافية لشهادة بينة الداخل على الملك المقيد.

مثلا : إذا شهدت بينة ذي اليد على الشراء من زيد المدعي وشهدت بينة على الملك المطلق كان العمل بشهادة بينة الداخل أوثق وأقرب بالواقع وأدخل في وجوب العمل بالبينات ، لان كل واحدة من البينتين متساوية في الاحتمالات النافية للواقع الراجع الى صفات البينة من حيث تعمد الكذب أو الخطأ والنسيان أو نحو هما. وتزيد بينة الخارج على بينة الداخل بأن فيها احتمال الاستناد الى استصحاب وليس في بينة الداخل هذا الاحتمال. وأما احتمال الفسخ بعد الشراء فهو معارض باحتمال الشراء بعد الفسخ أيضا.

والحاصل ان الشهادة بالملك المطلق وان كانت حجة شرعية في إثباته ما لم يعلم باستناده الى ما لا يعارض اليد وان احتمل ذلك الا أنه إذا وقع التعارض بينها وبين الشهادة بالملك المقيد السالم عن ذلك الاحتمال ، فمقتضى الجمع هو تقديم الشهادة على الملك المقيد.

والدليل على هذا الجمع هو عموم أدلة حجية البينة ، فإن مقتضى ذلك

ص: 160

العمل بمقتضى البينة الصريحة ، فإن العمل بها ليس تكذيبا للبينة الظاهرة ، بخلاف العكس فان العمل بالبينة الظاهرة تكذيب للعمل بالبينة الصريحة.

وهذا غير مستبعد من بناء الفقهاء أيضا ، بل الظاهر أن بناءهم على ذلك حيثما يتعارض البينتان واحتمل في أحدهما ما لا يحتمل في الأخرى ، فإنهم يقدمون الغير المحتمل فيه كما يأتي إنشاء اللّه بعض الإشارة إليه عند اختلاف البينتين في الملك بالقدم والحدوث.

وهذا الجمع هو الذي جعلناه القسم الثاني من أقسام الترجيح فيما سبق ، فإنه ترجيح من وجه وجمع من آخر.

ولا يبعد دعوى بناء العقلاء على مثل هذا الجمع أيضا في الموارد التي تتعارض فيها الامارات العرفية خصوصا البينات ، فان لم نقل به فلا إشكال في تقديم بينة الخارج في هذه الصورة الرابعة أيضا. وأما ان قلنا بذلك وأنه القاعدة في تعارض البينات نظير الجمع فيما إذا صرح احدى البينتين بسبب لا ينافي تصديقه في ذلك تصديق البينة الأخرى كالملك القديم والجديد ، فلا شبهة في تقديمه على الترجيح بالمرجحات الناظرة الى صدق الشهود وكذبهم أعني مطابقة قولهم للواقع ومخالفته له كالا عدلية والاوثقية والأكثرية وأضرابها إذا لم نعول في الترجيح بها على التعبد بالأخبار.

وأما تقديمه على الترجيح بالخروج ، ففيه تفصيل ، وهو أنه لو بنينا على ترجيح بينة الداخل فلا اشكال وان بنينا على ترجيح بينة الخارج فهذا يحتمل أن يكون لأحد أمور أشرنا إليها : أحدها أن يكون وجه التقديم هو عدم حجية بينة المنكر رأسا مطلقا. والثاني أن يكون الوجه عدم اعتبارها إذا كان للمدعي بينة على دعواه ، نظير عدم اعتبار الشاهد واليمين في مقابل البينة. والثالث أن يكون الوجه عدم اعتبارها عند وقوع المعارضة بينها وبين بينة المدعي.

ص: 161

والفرق بينه وبين سابقة أن عدم بينة المدعي على الأول شرط لا جعل حجية بينة الداخل شأنا ، وعلى هذا التقدير شرط الحجية فعلا ، فان كان الوجه هو الأول أو الثاني وجب في هذه الصورة ترجيح بينة الخارج أيضا ، وان كان الوجه هو الثالث كان الترجيح لبينة الداخل ، لان بينة الداخل حجة إذا لم يعارضها المدعي ، وقد ظهر أنه في المقام لا معارضة بينهما حقيقة.

والذي استظهرنا من الأدلة هو بطلان الوجه الأول ، أعني عدم كون بينة الداخل حجة مطلقا حتى مع عدم بينة للمدعي. وأما الوجهان الاخران فقد يقال بسكوت الأدلة التي استظهرنا منها ما قوينا ، أعني كون بينة المدعي علة تامة غير صالحة للمعارضة عن تعيين أحد هما ، لان عمدة تلك رواية منصور ولا ظهور لها في أن عدم قبول البينة من الذي في يده المال المدعى به لا من الوجهين المذكورين.

فعلى الفقيه إمعان النظر واختيار الراجح ، فان لم يترجح في نظره شي ء منها فليرجع الى عموم أدلة حجية البينة ، ومقتضاه حجية بينة الداخل في الصورة المفروضة ، لما حققنا من كون العمل بها حينئذ جمعا عمليا للفقيه ، فلا يصار الى ترجيح بينة الخارج لكونه طرحا لبينة الداخل من غير سبب.

فان قلت : قد استظهرت من الأدلة كون بينة المدعي علة تامة لثبوت حقه على المنكر ، وهو عام يتناول صورة المعارضة وعدمها.

قلنا : تلك الأدلة بين الأدلة الفعلية التي لا عموم فيها ، مثل المأثور عن النبي والوصي عليهما الصلاة والسلام لمجرد إقامة المدعي البينة وعدم انتظار شي ء آخر وبين القولية ، وأقواها دلالة رواية منصور المتقدمة بمواضع أربعة :

الأول قوله « حقها للمدعي » ، والثاني قوله « لا أقبل من الذي في يده بينة » ، والثالث قوله « لان اللّه تعالى أمر أن يطلب البينة من المدعي » ، والرابع قوله

ص: 162

« والا فيمين الذي هي في يده ». دلت بهذه المواضع منطوقا ومفهوما تصريحا وتلويحا على عدم سماع البينة من ذي اليد مطلقا أو في مقابل بينة المدعي مطلقا ، سواء كان الجمع بينهما ولو عملا أمرا ممكنا أم لا ، بأن تكونا متعارضتين.

لكن في دلالة الكل على هذا الإطلاق نظرا :

( أما الأول ) فلاحتمال رجوع ضمير « حقها » إلى الشاة لا إلى البينة ، وعليه فلا ربط لها بالمدعى ، وعلى تقدير رجوعها إلى البينة - كما هو مبنى الاستدلال - لم يدل على انحصار حق البينة في المدعى الا في مورد الرواية أو في مثله مما يكون شهادة كل من البينتين فيه بالملك المقيد على وجه موجب لتعارضهما ، لا في مثل ما نحن فيه الذي عرفت أن البينتين فيه غير متعارضتين.

وبذلك يجاب عن الثاني أيضا.

( وأما الثالث ) فلا دلالة فيها الا على عدم مطالبة البينة من المنكر ، وأما عدم القبول فلا. ولو سلم الدلالة عليه أيضا - بقرينة وقوعه تعليلا لقوله « لا أقبل » - ففيه ما عرفت من اختصاص نفي القبول بمورد المعارضة الذي هو مورد الرواية.

فإن قلت : قوله عليه السلام « فان اللّه أمر أن يطلب البينة من المدعي » وقع علة لقوله « لا أقبل » ، ولا يصح دعوى اختصاص العلة بالمورد والا لغي التعليل فعموم العلة قاض بعدم قبولها من المنكر مطلقا.

قلت : لو سلم ذلك أمكن أن يدعى معنى قوله عليه السلام « ان اللّه أمر » إلخ ، هو أن اللّه جعل البينة التي هي حجة تامة غير قابلة للمعارضة للمدعي ولم يجعلها للمنكر ، وعدم كون البينة حجة تامة للمنكر لا ينافي كونها حجة غير تامة له ، بمعنى كونها في حقه قابلة للمعارضة ، فيستدل على اعتبارها في حقه بعموم ما دل على حجية البينة ، وقضية ذلك العمل بها مع عدم المعارضة كما فيما نحن فيه.

( وأما الرابع ) فالجواب عنه ان إلزام اليمين على المنكر بعد فقد بينة

ص: 163

المدعي انما سيق لرفع الإلزام بالبينة التي قد ركزت في أذهان الناس مطالبته من كل صاحب دعوة واقعية مثبتا كان أو نافيا ، كما اشتهر عند العلماء أن النافي والمثبت كليهما محتاجان الى الدليل ، فلا يفيد سوى رفع مشقة البينة عن المنكر.

وهذا مثل ما قلنا في حديث « البينة على المدعي واليمين على المنكر » في رد توهم من زعم أن قضية التفصيل عدم كون وظيفة المنكر الا اليمين ، من أن الفقرة الثانية نظير الأمر الوارد في مقام توهم الحظر لا يفيد سوى الرخصة والترفيه.

فان قلت : إذا مضت عموم رواية منصور وسائر الأدلة ، فبما ذا تستدل على عموم الحكم للصور الثلاث المذكورة مع أن صورتين منها خارجتان عن مورد رواية منصور.

قلنا : نستدل بالمناط القطعي ، إذ بعد تقديم بينة الخارج على بينة الداخل في صورة كونهما مسببين يعلم تقديمها عليها في المطلقين ، وفي كون صورة كون الداخل مطلقا والخارج مقيدا بالمناط أو بالفحوى - فافهم.

فظهر أن ما ذهب إليه الأكثر في الصورة الرابعة من تقديم بينة الداخل لا يخلو عن قوة. واللّه العالم.

فروع تظهر في تنبيهات

( الأول ) انه قد سبق الإشارة الى أن المراد بالداخل ليس هو خصوص ذي اليد ، كما قد يوهمه المحكي عن التحرير والمبسوط ، بل يتناول كل من يصدق عليه المنكر بموافقة أصل أو أمارة شرعيين.

ويفصح عن ذلك تصريحاتهم في مسائل التنازع من كل باب ، ففي باب

ص: 164

الإجارة ذكروا أنه لو اختلف المؤجر والمستأجر في زيادة الأجرة ونقصانها وأقام كل منهما بينة بني على مسألة تعارض بينة الداخل والخارج ، وكذا ذكروا فيما إذا تنازع البائع والمشتري في صحة البيع وفساده وأقام كل منهما بينة أنه يبنى على تلك المسألة.

( الثاني ) لو أقام الداخل البينة بعد قضاء الحاكم للخارج بينته وتسليم الحق إليه ، كما لو ادعى زيد عينا في يد عمرو وأقام عليها البينة فقضى له وسلمت العين اليه ثمَّ أقام عمرو بينة على أنها له. فقد اختلف فيه على قولين : أحدهما ما عن الشيخ من نقض القضاء واعادة العين الى عمرو في المثال ، والثاني ما اختاره في الشرائع بعد نقل مذهب الشيخ من عدم النقض وإبقائها في يد زيد.

وليس في كلام هؤلاء تعرض لحال ما إذا كانت إقامة البينة قبل ازالة يد الداخل وهو عمرو في المثال المذكور ، وقد صرح الشهيد «رحمه اللّه» في القواعد بنقض القضاء حينئذ وإبقاء العين في يد عمرو نظرا الى بقاء اليد حسا ، وهو المحكي عن التحرير. وربما يقضي به ظاهر هؤلاء أيضا ، نظرا الى ما في كلامهم من مفهوم القيد ، أي قيد « بعد زوال اليد ».

ثمَّ ان البينة اما أن تصرح بحدوث ملكية العين بعد القضاء عند احتمال تجددها بعده ، أو تصرح بالملكية قبل القضاء ، أو تطلق في الشهادة.

ولا إشكال في القسم الأول ، لأنه لا مانع فيه من سماع دعوى الداخل حينئذ للملكية ولا من سماء بينته والحكم بعد فرض عدم معارضة بينته لما أقامه الخارج من البينة.

كما لا ينبغي الإشكال في سماعها على الثالث ، لان احتمال تجدد الملك كاف في سماع الأمرين ، وانما يظهر من المسالك دخوله تحت محل النزاع أيضا ، والظاهر انه ليس كذلك.

ص: 165

فبقي الاحتمال الثاني لأن القضاء فيه للداخل لا يخلو عن اشكال ، وعليه فنقول : ان اقامة البينة اما أن تكون قبل ازالة يد الداخل عن العين أو بعدها ، وعلى التقديرين فالبحث في هذه المسألة انما يتفرع ويتعلق على القول بتقديم بينة الداخل في المسألة المتقدمة ، وأما على القول بتقديم الخارج فالظاهر سقوط هذا الفرع رأسا ، بمعنى تعين عدم النقض وإبقاء العين في يد المدعي لو كانت مسلمة إليه ، خلافا لصاحب المسالك «رحمه اللّه» ، فإنه بنى المسألة في مفروض كلام المحقق «رحمه اللّه» ، أعني ما إذا كانت إقامة البينة بعد ازالة يد الداخل عن العين على المسألة السابقة ، أعني تقديم بينة الخارج أو الداخل وان العبرة بالدخول والخروج حال ملك المدعي أو حال إقامة البينة وحال التعارض.

فان بنى على تقديم بينة الخارج وان العبرة في الخروج بحال إرادة البينة نقض الحكم وحكم بها لعمرو لأنه حال إقامة البينة خارج باعتبار اقتضاء القضاء صيرورة زيد داخلا ، وكذا لو بنى على تقديم بينة الداخل وجعل العبرة فيه بحال الملك لان عمرو في حال الملك الذي يدعيه كان داخلا وان صار بسبب القضاء خارجا والا لم ينقض الحكم وأقرت العين في يد زيد.

والظاهر أن ما ذكره ليس على ما ينبغي ، إذ على القول بتقديم بينة الخارج لا يعقل انقلاب الداخل خارجا بنفس تقديم الخارج ، لأنه من باب استلزام وجود الشي ء وعدمه ، وهو دور محال ، بل ربما يتسلسل. فإنه إذا قضى للخارج بينة صار ذلك سببا لصيرورة الداخل المحكوم عليه خارجا ، فاذا سمع بينته وقضى له انعكس الأمر ، وهكذا الى الدورة الثانية والثالثة.

نعم ما ذكره صحيح في الاحتمال الأول ، أعني ما إذا شهدت البينة بالملك المتجدد بعد القضاء للأول ، وكذا في الاحتمال الثالث ، أعني صورة الإطلاق كما هو الأظهر. وأما الاحتمال الثاني الذي نتكلم فيه - وهو ما إذا صرحت

ص: 166

البينة بالملك قبل القضاء وقبل ازالة اليد - فلا يعقل أن يكون القضاء للخارج حينئذ سببا لانقلاب الداخل خارجا مقدما ببينته على بينة المدعي.

كيف وثمرة القضاء للخارج انفصال الخصومة وعدم الإصغاء إلى بينة الداخل في حال القضاء ، فلو بنى على أن هذا القضاء الواقع للخارج قضاء عليه فلا يكون قضاء له ، وهو خلف بين وكلام هين.

بل التحقيق أن البحث في هذا الفرع انما يتم على القول بتقديم بينة الداخل ، وهو الذي يظهر أيضا من محكي شرح الإرشاد لابن فهد ، حيث أنه بعد ما أشار الى ما في المسألة من الاحتمالات من حيث القول بتقديم بينة الخارج أو الداخل وكون المناط بالدخول والخروج هو الدخول والخروج في حال الدعوى أو في حال إقامة البينة ، قال : ان نقض القضاء واعادة العين انما يتم على القول بتقديم بينة الداخل وكون العبرة بالدخول في حال الدعوى التي سماها في المسالك بحال الملك. وعليه فمبني المسألة ما أشار إليه الشهيد في القواعد من أن يد الداخل انما أزيلت لفقد البينة فبعد وجودها لا بد من عودها ، ومن أن القضاء لا ينتقض إلا بقطعي.

توضيحه : ان الحكم ببينة المدعي حكم تعليقي مراعي بعدم إقامة المدعي عليه بينة معارضة لبينته بناء على هذا القول - أعني تقديم بينة الداخل عند التعارض - فإذا أقام المدعي بينة ولم يظهر الحاكم بينة معارضة لها تشهد للداخل كان حكم الحاكم على طبقها حينئذ حكما تعليقيا ، لان العمل بكل أصل أو أمارة معلق ومشروط ، بأن لا يكون لها معارض واقعا. فلا بد من إحراز ذلك الشرط اما بالعلم والوجدان فيقع الحكم على طبقه حينئذ منجزا أو بالاتكال على الأصل فيكون حينئذ حكما ظاهريا معلقا في الواقع على انتفاء المعارض لميزان

ص: 167

ذلك الحكم ، بحيث إذا ظهر مخالفة الأصل للواقع وتبين وجود المعارض انتفى الحكم جدا.

وهذا ليس نقضا للحكم بل انتقاضا ، لان استعداد الحكم للبقاء يتبع استعداد ميزانه ، فان كان ميزانه منجزا من حيث الوجود ومن حيث الاعتبار مثل بينة الخارج إذا شهدت بالملك المسبب على القول بتقديم بينته عند التعارض مع بينة الداخل مطلقا وقع الحكم أيضا منجزا ، فلا ينتقض الا بقاطع.

وأما إذا كان في ميزانه تعليق اما من حيث الوجود مثل البينة التي تشهد اتكالا بالاستصحاب أو من حيث الاعتبار مثل بينة الخارج على القول الأخر - أعني تقديم بينة الداخل - وقع الحكم معلقا إذا كان ميزانه بحسب الظاهر سليما عن المعارض أو الوارد ، ويراعى الى ظهور الوارد لو كان التعليق في أصل وجودها مثل ما إذا كان مستندا بالاستصحاب ، ولذا يسمع البينة عن المحكوم عليه بالدين لو ادعى الإبراء أو الى ظهور المعارض لو كان التعليق في اعتبارها لا في وجودها مثل بينة الخارج على هذا القول. فاذا ظهر ما يبطل أثر البينة بأحد الوجهين انتقض الحكم بنفسه ، وليس هذا القضاء مجمعا على بطلانه إلا بقطعي.

هذا وجه انتقاض الحكم وعود العين الى يد عمرو ، وأما وجه عدم الانتقاض فهو الذي يظهر في بادي الرأي من أن القضاء إذا وقع وقع مستداما. ولا شبهة في وقوع القضاء للخارج فلا ينتقض بعده بالبينة.

فإن قلت : على ما ذكرت لا يقع القضاء أبدا الا معلقا ، لان كل بينة يقيمها المدعي يحتمل ظهور المعارض له بعد القضاء ولو من غير الداخل ، لاحتمال معارضتها ببينة خارج آخر مثله ، فقولك ان بينة الخارج - على القول بتقديم

ص: 168

ما ليس فيها تعليق - باطل ، لان التعليق ثابت ولو بالقياس الى ظهور معارض لها من خارج آخر ، فأين قولهم لا ينقض القضاء إلا بقطعي وفي أي مورد يقال ذلك.

قلت : ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى بينة خارج آخر ، لان بينة أحد الخارجين بالنسبة إلى بينة الأخر يعد من المعارض ، وأما بينة الداخل بالنسبة إلى بينة الخارج فهي بمنزلة الدليل بالنسبة الى الأصل على القول بتقديمها.

ولا نقول بالتعليق إلا في القسم الثاني ، لأن القول به في القسم الأول - أعني التعليق بعدم وجود المعارض - ينجر الى نحو تسلسل ، من حيث أن اعتبار أحد المتعارضين ليس معلقا على انتفاء مطلق المعارض حتى يرتفع اعتباره بمجرد ظهور المعارض كما في القسم الثاني بل على انتفاء معارض أقوى.

فإذا ظهر معارض أقوى كان الحكم بتقديمه أيضا تعليقيا مراعي بعدم ظهور الأقوائية في الأول ، لأن ذلك أمر ممكن ، بأن ينضم الى ذلك الدليل الأول بعد ظهور المعارض الأقوى بعض ما يوجب انقلاب الأقوائية من المرجحات كالكثرة مثلا فإنها مما أمكن أن تزيد شيئا فشيئا يوما فيوما ، ثمَّ بعد ظهور ذلك المرجح وانقلاب الأقوائية يكون تقديمه أيضا تعليقيا مراعي بعدم تجدد القوة لمعارضة فيما بعد ، وهكذا هلم جرا.

فاضطررنا في باب القضاء أن نجعل العبرة بوجود المعارض وعدمه حين قيام الحجة وحال القضاء وعدم الالتفات الى احتمال وجوده واقعا وظهوره فيما بعد والا لاختل باب القضاء ولا يترتب عليه أثره المقصود. فلا بد من وقوع القضاء منجزا حيثما يقع وعدم كونه معلقا ومراعي الى ظهور وجود المعارض.

نعم ما ذكرت من كون العمل بالدليل دائما تعليقيا حق في الأحكام ، حتى انه لو اتفق في يوم واحد ظهور المعارض بعد عدم ظهوره في حال العمل ألف

ص: 169

مرة انتقض العمل كذلك ولا ضير فيه ، وأما في باب القضاء فليس يمكن الالتزام بتعليقية القضاء مطلقا حتى بالقياس الى ظهور المعارض الذي يكون نسبته الى ميزان القضاء كنسبة أحد الدليلين المتعارضين بالنسبة إلى الأخر.

نعم لا ضير في الالتزام به بالنسبة إلى القسم الأول من المعارض ، أعني ما كان نسبته الى ميزان القضاء كنسبة الدليل الى الأصل.

وبعبارة أخرى : المعارض الذي لا يشترط العمل به بشي ء بل يكون وجوده علة تامة للحكم غير معلق على شي ء ، مثلا بينة الداخل على القول بتقديمها على بينة الخارج فان العمل بها على هذا القول لا يتوقف على شي ء ، فإذا ظهر وجب انتقاض الحكم المستند الى بينة الخارج والقضاء للداخل قضاء منجزا غير متوقف ومعلق على شي ء.

والحاصل ان معارض ميزان القضاء على قسمين :

قسم يجب العمل به منجزا غير معلق على شي ء حتى عدم المعارض ، وذلك مثل بينة الداخل على القول باعتبارها ، فان العمل بها متعين بلا انتظار شي ء آخر حتى المعارض ، إذ لا معارض لها حتى ينتظر وجودها ، سواء كان موجودا في زمان اقامة الخارج البينة أو ظهر بعدها وبعد القضاء له.

وقسم يجب العمل به معلقا على نحو تعليق العمل بالميزان الذي استند اليه القضاء ، وذلك مثل بينة خارج آخر مثل المدعي ، فان العمل ببينة المدعي كما أنه معلق على عدم معارض أقوى كذلك العمل بالمعارض الأقوى أيضا معلق لسلامته على عدم معارض أقوى ، سواء كانت الأقوائية باعتبار تجدد صفة رجحان في بينة المدعي أو باعتبار ظهور مدع آخر.

ففي القسم الأول لا مضايقة عن الالتزام بتعليقية القضاء ، بل لا بد من القول بها بعد معلومية توقف اعتبار الأدلة والحجج والامارات فعلا على إحراز عدم

ص: 170

المعارض أو الحاكم بالأصل. وأما في القسم الثاني فالالتزام بالتعليق فيه أمر غير ممكن لاستلزامه التزلزل في جميع القضوات وانجراره الى التسلسل كما عرفت.

فظهر أن القول بالانتقاض فيما نحن فيه كما عليه الشيخ بناء على أصله من تقديم بينة الداخل لا يخلو عن وجادة وسدادة.

ولا يدفعه ما ذكره الشهيد في القواعد من أن القضاء لا ينقض إلا بقطعي ، لأنه ليس نقضا بل انتقاضا كما عرفت.

الا أن يقال : ان ظهور المعارض في أدلة الأحكام أمر ممكن ، فلا بد أن يكون العمل بكل دليل في حكم من الاحكام مراعي الى ظهور المعارض ، وأما في باب القضاء والبينات فأمر غير متصور الا على بعض الوجوه الخارج منها المقام ، لان المدعي حين إقامة البينة ولم يقم الداخل بينة معارضة له فقد تحقق شرط عدم المعارض ، واما أن المعارض ليس سوى شهادة البينة لا اعتقاد البينة في نفس الأمر ، والشهادة كانت منتفية حين القضاء واقعا وظاهرا. وفيه ما لا يخفى فتأمل.

بقي الكلام في وجه ما فصل الشهيد «رحمه اللّه» في القواعد من اختيار نقض القضاء مع بقاء يد الداخل والاشكال مع زوالها. وقد يوجه ذلك بأن بقاء اليد سبب لبقاء الدخول العرفي بحاله ، فلا بد من تقديم بينته على بينة الخارج عملا بمقتضى الأدلة.

ولا يقدح في ذلك وقوع القضاء للخارج وصيرورته داخلا بسبب القضاء ، ومع قطع النظر عنه فكل من هو داخل مع قطع النظر عن القضاء يقدم بينته ، ومع بقاء اليد حسا يكون الداخل عمرا كما كان قبل القضاء.

بخلاف ما لو زالت اليد ، فان زوالها سبب لزوال صفة الدخول العرفي ،

ص: 171

فلا وجه لتقديم بينته على بينة المدعي الخارج حينئذ. بل ينبغي العكس ، لان العين بعد انتقالها الى يد المدعي - أعني زيدا في المثال المذكور - يكون هو الداخل عرفا بمقتضى أصالة صحة يده وتصرفه. وأما مع عدم انتقالها فهو بعد خارج وان كان قضي له ، إذ لا عبرة بالدخول الحاصل من جهة القضاء.

هذه غاية ما يوجه به التفصيل المزبور. ولكنه غير وجيه ، لان اليد المستندة إلى القضاء حالها كحاله ، فلا تصلح منشأ لصيرورة صاحبها داخلا ، بعد ما عرفت من أن المناط في الدخول والخروج ما كان مع قطع النظر عن القضاء أو عما هو مستند إليه ، لأن المستند الى المستند إلى الشي ء مستند الى ذلك الشي ء ، فالدخول المستند اليد إلى المستندة إلى القضاء مستند إليه حقيقة ، فلا عبرة به.

وأما دعوى أصالة الصحة في يد المدعي - وحاصلها عدم استناد الدخول الى القضاء بل الى اليد بعد ملاحظة احتمال حقيقتها وإجراء أصالة الصحة فيها - فيدفعها ان أصالة الصحة في يده معارضة بأصالة الصحة في يد المأخوذ منه الداخل - أعني عمرا في المثل المزبور - وهي حاكمة على أصالة الصحة في يده ، لان الشك في صحة يده وفسادها مسبب عن الشك في صحة يد الداخل وفسادها كما لا يخفى. فالأظهر عدم الفرق بين بقاء اليد الحسية وزوالها. واللّه العالم.

( الثالث ) إذا قدمنا بينة الداخل فهل يحتاج معها الى اليمين كما في القواعد أم لا؟.

والتحقيق فيه أن ينظر الى وجه التقديم : فان كان هو تساقط البينتين وسلامة اليد عن المعارض افتقر الى اليمين ، لان القضاء بدونها حينئذ يكون قضاء بلا ميزان ، وان كان هو ترجيح بينة الداخل للاعتضاد باليد فاليمين غير لازمة ، لان الحاكم للداخل على هذا الوجه مستند الى بينته ، ومع البينة لا حاجة الى اليمين.

ص: 172

وان كان هو التعبد بالأخبار فلا بد من النظر ، لأن الأخبار مختلفة : منها ما يشتمل على الترجيح مع اليمين ، ومنها بدونها. فبأيهما استند الحكم - أي تقديم بينة الداخل - يتبع حكمه من حيث اليمين وعدمها.

( الرابع ) إذا أراد ذو اليد إقامة البينة قبل ادعاء من ينازعه للتسجيل ، ففي القواعد كما عن التحرير الأقرب الجواز. ولعل وجه الجواز النظر الى عمومات الحكم بين الناس السابق إليها الإشارة في أول هذا الباب ، بل يمكن الاستدلال عليه بعمومات القضاء وفصل الخصومة أيضا بناء على كون المقام من الفصل للخصومة التقديرية.

توضيح المقام : ان حكم الحاكم قد يتعلق بالموضوعات على وجه ليس المقصود منه رفع الخصومة وان ترتب عليه ذلك أحيانا ، كالحكم بالهلال والقبلة وطهارة شي ء ونجاسته وأمثال ذلك ، وقد يتعلق على وجه يكون المقصود منه رفع الخصومة ، وهذا أيضا على قسمين ، لأن الخصومة اما أن تكون محققة ولو مع عدم حضور أحد الخصمين كالحكم على الغائب ، وقد يكون مقدرة أي شأنية ، والحكم في الأول رفع الخصومة وفي الثاني دفع لها.

لا إشكال في جواز الحكم على الوجه الأول منهما المقصود منه رفع الخصومة الفعلية ، وأما جوازه على الوجه الثاني المقصود منه رفع الخصومة الشأنية فالظاهر أيضا نهوض عمومات الحكم والقضاء بين الناس بإثباته على هذا الوجه. وأما جوازه على الوجه الأول الغير الراجع الى فصل الخصومة لأحد الوجهين المذكورين فهو مبني على تمامية عمومات الحكم بين الناس ، ولأجل ذلك يستشكل فيه.

وما نحن فيه - أعني إقامة البينة للتسجيل - من القسم الثاني من الوجه

ص: 173

الثاني ، وهو عكس الحكم على الغائب لعدم حضور المدعى عليه هناك وعدم حضور المدعي هنا.

هذا هو الكلام في مدرك المسألة ، وأما معنى إقامة البينة للتسجيل فقد ظهر مما ذكرنا ، وهو دفع الخصومة التقديرية ، بمعنى إثبات الحق المتنازع فيه قبل تحقق التنازع بموازين القضاء وحكم الحاكم.

وأما فائدته فهي على القول بتقديم بينة الداخل واضحة ، إذ يترتب على هذه البينة والحكم ما يترتب على بينة الداخل مع وجود المدعي وتعارض البينتين ، فيثمر مع موت الشهود أو فسقهم أو نحو ذلك. وأما على القول بتقديم بينة الخارج فلا يثمر الا على تقدير ظهور المدعي ولا يكون له بينة ، ومعه يثمر بناء على كون بينة المنكر مسقطة عن يمينه كما يأتي إنشاء اللّه تعالى.

فما قاله بعض مشايخنا من عدم الفائدة لغرض التسجيل قبل تحقق الخصومة ، ليس على ما ينبغي.

( الخامس ) إذا لم يكن للمدعي بينة وأقام ذو اليد أو كل منكر بينة ، فهل هي تسقط عنه اليمين كما في القواعد؟.

والتحقيق هو أنه لو قيل بتقديم بينة الداخل بلا يمين فلا إشكال في سقوط اليمين هنا ، لأنه إذا اكتفى ببينة المنكر عن اليمين في صورة معارضة بينته لبينة المدعي ففي صورة عدم المعارضة لزم الاكتفاء والإقناع بها عنها بطريق أولى ، وان قيل بتقديمها مع البينة فإن كان وجه اليمين هو تساقط البينتين بعد تعارضهما وصيرورة اليد سليمة عن المعارض فهنا لا حاجة الى اليمين ، لسلامة بينته هنا عن المعارض مع كونها حجة كما هو المفروض على هذا البناء. وان كان الوجه هو التعبد بظاهر بعض الاخبار الدال على اليمين مع البينة ، ففي الحكم

ص: 174

بسقوط اليمين هنا اشكال ، لاحتمال توقف الحكم لذي اليد على أمور ثلاثة البينة واليد واليمين تعبدا.

الا أن يقال : ان اليمين وحدها كافية للمنكر إذا لم يكن للمدعي بينة ، فوجود البينة معها يصير لغوا. وهو خلف ، إذ المفروض حجية بينة الداخلي.

هذا على القول بتقديم بينة الداخل عند التعارض ، وأما على القول بتقديم بينة الخارج فسقوط اليمين هنا مبني على كون اليمين من المنكر رخصة أو عزيمة ، وقد سبق مرارا أن قوله عليه السلام « اليمين على من أنكر » لا يدل على العزيمة بل على الرخصة ، وأنه لو أقام البينة كان كافيا في الحكم له ، فالأظهر ما ذكره العلامة من الكفاية مطلقا.

( السادس ) قضية تقديم بينة الداخل هو أن يطلب الحاكم البينة أولا من المدعى عليه ، فان كان له بينة قضى له ولا يصغى الى مقالة المدعي ، إذ لا فائدة في ذلك ، لان غاية ما للمدعي إقامة البينة على دعواه ، والمفروض تقديم بينة الداخل على بينته.

وهذا على خلاف ما هو المعهود المتعارف بين الناس من مطالبة البينة أولا من المدعي ، وخلاف صريح ما هو المأثور قولا وفعلا من النبي والأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين. وهذا أيضا من شواهد بطلان القول بتقديم بينة الداخل.

فان قلت : لا يلزم من تقديم بينة الداخل مطالبة البينة منه أولا على ما هو المتعارف ، لان المدعي هو صاحب الحق والمطالب به ، ومقتضى القاعدة مطالبة البينة ممن يطلب الحق ، ثمَّ لو لم يكن له بينة فله إحلاف المنكر. نعم لو أقام المدعي البينة وقال المنكر ولي أيضا بينه قضي له ، وهذا لا ينافي سؤال البينة أولا من المدعي.

قلت : اما أن نقول بأن الحاكم بعد قيام البينة يجب عليه تلقين المنكر ان

ص: 175

لك إقامة البينة أيضا مثل تلقينه حق الجرح إياه أولا نقول به ، فان قلنا به كان الابتداء بسؤال البينة من المدعي لغوا صرفا وأكلا من القضاء ، إذ لا يستقر القضاء الا بعد النظر في حال المدعى عليه من حيث استطاعته على إقامة البينة على خلاف بينة المدعي وعدمه ، فمقتضى الوضع الطبيعي حينئذ الابتداء بسؤال البينة من المدعى عليه ، لأن الأمر بالأخرة ينتهي إلى سؤالها عنه. وان لم نقل بذلك ساوى بينة المدعي وبينة المدعى عليه حينئذ من حيث الابتداء بالسؤال ، فللحاكم الابتداء بأيهما يريد ، مع أن المعهود الالتزام بسؤال البينة أولا من المدعي - فافهم.

( السابع ) إذا أقام البينة على الداخل فادعى الشراء من المدعي أو ثبت الدين فادعى الإبراء ، ففي القواعد ان كانت البينة حاضرة سمعت قبل ازالة اليد وتوفية الدين ، وان كانت غائبة طولبت في الوقت بالتسليم ثمَّ إذا أقام البينة استرد.

وقد يشكل الفرق بين ما ذكره في المسألتين وبين ما إذا ادعى فسق الشهود وكان الخارج غائبا فإنه يمهل ثلاثة أيام كما هو مصرح به في محله.

ثمَّ الفرق بين حضور الشهود وغيابها أيضا لا يخلو عن إشكال ، لان المدعي بعد إثبات دعواه ان كان مستحقا للحكم وجب الحكم ويترتب عليه أثره من التسليم ثمَّ إذا أقام الداخل البينة يسترد ، ففيه جمع بين حق المدعي والداخل ، وان لم يكن مستحقا للحكم باعتبار كون بينة المدعي معلقة على عدم المعارض فلا بد للحاكم من إيقاف الحكم حتى يتفحص عن المعارض لم يستحق الحكم ووجب مطلقا على الحاكم إمهال الداخل إلى إحضار بينته.

وكشف الحال عن هذا المقال : ان القضاء قد يكون تنجيزيا وقد يكون

ص: 176

تعليقيا ، وقد سبق أن التعليق والتنجيز في القضاء يستتبع التعليق والتنجيز في الميزان ، والتعليق في الميزان يتصور على وجوه ثلاثة :

أحدها : أن يكون التعليق في موضع البينة ، بمعنى توقف تحقق البينة الشرعية على عدم شي ء لو وجد أوجب انتفاء أصل وجود البينة ، وذلك مثل تعليق وجود البينة المعدلة على عدم مجي ء الجارح ، فان عدم الجارح من شرائط وجود البينة التي هي ميزان القضاء.

والثاني : أن يكون التعليق في تحقيق مدلولها ، مثل البينة التي تشهد بالملك بمقتضى الاستصحاب ، فان مضمون هذه البينة موقوف على عدم الدليل على ارتفاع الحالة السابقة.

والثالث : أن يكون التعليق في أصل اعتبارها ، مثل بينة الخارج بالنسبة إلى بينة الداخل ، فان اعتبارها على القول بتقديم بينة الداخل معلق على انتفائها.

والمدعى عليه في هذه الصور الثلاث ان لم يدع المعارض فللحاكم الحكم للمدعي بمقتضى أصالة عدم المعارض ، فيكون الحكم واقعا على نحو التعليق. وأما ان ادعى المعارض فاما ان يقال بوجوب إيقاف الحكم في المواضع الثلاثة مطلقا تفحصا عن المعارض ورجاء لإتيان الداخل به بناء على كون العمل بالأصل في باب القضاء كالعمل به في باب الاحكام من حيث افتقار العمل به الى الفحص عن المعارض. واما أن يقال بعدم إيقاف الحكم مطلقا ، نظرا الى عدم الدليل على وجوب الفحص عن المعارض عليه كما يجب على المجتهد.

فلا وجه لتعطيل حق المدعي مع سلامة حجته ظاهرا عن المعارض ، أو يفصل بين الوجه الأول والوجهين الأخيرين ، فيلتزم في الأول بلزوم الإمهال

ص: 177

وإيقاف القضاء حتى يحضر البينة ، لأن البينة قبل إحراز سلامتها عن الجارح لا تصلح حجة للمدعي فليس له حق يجب مراعاته.

ودعوى إحراز السلامة بحكم الأصل. غير نافعة ، لأن التمسك بالأصل إنما ينفع في الدعاوي مع وجود المقتضى ، وعدم المعارض هنا جزء للمقتضي.

وأما مع عدم المقتضي فلا اعتداد به ، لان الشارع جعل للقاضي موازين غير الأصول كالبينة ونحوها ، فلا يجوز له إهمال دعوى أحد إلا بعد وجود بعض تلك الموازين ، فقبل وجوده يجب عليه التوجه الى الدعوى وعدم الالتفات الى كونها مخالفة للأصل. والا فكل دعوى مخالفة فيلزم أن لا يجاب المدعى من إحضار خصمه ولا الالتفات الى سماع قوله لأصالة عدم الحق وأصالة عدم البينة ونحوهما ، مع أنه ضروري البطلان ، وليس ذلك الا لوجوب إهمال الأصول على القاضي والنظر الى ما دل على وجوب طي الدعاوي بالموازين المعهودة.

ولا كذلك إذا وجد الميزان وأقيمت البينة ، فإنه بعد وجوده لا عذر للقاضي في القضاء غير احتمال وجود معارض ، وهو من قبيل المانع يدفع بالأصل كسائر المقامات.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا يرد أن يقال : ان الأصل حجة شرعية ، سواء كان في مقام رفع المانع أو تكميل المقتضي. ووجه عدم الورود ان اتكال القاضي في تحصيل المقتضي بالأصل مناف لما دل على وجوب سماع الدعاوي وفصلها بالموازين ، لان مقتضى وجوب السماع عدم الالتفات إلى أصالة عدم حقيقة الدعوى ، ومقتضى جعل الموازين عدم استناد الفصل الى غير تلك الموازين ، فحيث توقف القضاء على ما ليس بميزان له الا بمؤنة الأصل لم يجز ذلك له.

بخلاف ما لو توقف على ما هو ميزان له في نفسه ، فإنه يجب لوجود المقتضي

ص: 178

بالأدلة الدالة على وجوبه بالبينة مثلا وعدم المانع بحكم الأصل وفي الأخيرين بعدم الإمهال ، لما ذكر في وجه عدم الإمهال مطلقا من عدم الدليل على وجوب الفحص على الحاكم بعد قيام الحجة ، أو يفصل بين صورة حضور البينة فيوقف القضاء حتى يقيمها الداخل مطلقا وفي المواضع الثلاثة ، وبين الغيبة فيقضي بلا مهلة ، لأن حضور البينة يمنع عن العمل بالأصل في إحراز عدم المعارض ، اما لعدم جريانها أو لاستلزام العمل به مع حضورها مخالفة الواقع كثيرا. أو لأن بينة المدعي في هذه الصورة - أعني صورة حضور الشهود - ليس ميزانا تاما عند العرف ، لان مدعي الدين مثلا ان أثبت مدعاه ببينة الا أن الثبوت الاستصحابى مع ادعاء المديون البراءة الفعلية بالإبراء وادعاء حضور البينة على ذلك ليس مما يترتب عليه عرفا الحكم بالاشتغال الفعلي ، إذ لا بد من نهوض بينة المدعي بإثبات الاشتغال الفعلي ، وهو لا يتم إلا بضميمة الاستصحاب الذي ليس بناء العرف على الالتفات إليه في باب القضاء مع دعوى الإبراء ودعوى حضور الشهود.

والتحقيق أن حضور البينة - أي بينة من يدعي الإبراء بعد ثبوت الاشتغال الاستصحابي أو من يدعي الشراء بعد ثبوت ملكية العين - يمنع عن التسليم ، كما ذكره العلامة مرسلا له إرسال المسلمات ، لأنه في معرض ضياع حق المدعي الذي وجب لحفظه سماع الدعوى على الحاكم ولو كان ذلك الحق الغرض المتعلق بالعين.

نعم الظاهر أنه لا يمنع عن سائر التصرفات كالركوب والسكنى والبيع والإجارة ونحوها ، فإنه لا مانع منها.

ولعل مراد العلامة أيضا من عدم التسليم ليس هو المنع من التصرفات ، إذ الظاهر أن المراد بالتسليم هو التسليم على وجه التسليط بالإتلاف ، فإنه الذي

ص: 179

لا يجوز مع حضور البينة. والدليل على ذلك هو الأدلة على وجوب فعل الدعاوي والتوجه إليها ، فإن معنى التوجه الى الدعوى والتعرض لفصلها عدم ترك المدعى عليه على حاله التي كان عليها قبل الدعوى ، إذ لو ترك على حاله لم يترتب على سماع دعوى المدعي الأثر المقصود من السماع وهو إيصال الحقوق ، فكل شي ء ينافي وصول المدعي الى حقه على تقدير إقامة البينة فلا بد من منع المدعى عليه عنه ، وذلك مثل الإتلاف دون سائر التصرفات.

فلو ادعى دارا مثلا فللمدعي عليه بيعها وإجارتها وسكناها وغير ذلك من التصرفات ما لم يقم المدعي البينة ولو في

حال الدعوى ، واما إتلافها فيمنع منه ، لأنه مناف لحكمة وجوب سماع الدعوى - أعني إيصال الحقوق - إذ الغرض المتعلق بالعين يفوت بالإتلاف ولا يتداركه دفع القيمة على تقدير ثبوت حق المدعي ، بل قد يتعذر دفع القيمة أيضا. بخلاف سائر التصرفات ، فإنها غير منافية لتوصله الى حقه ولو كان نقلا عينا أو منفعة.

وحينئذ نقول : ان المدعى عليه إذا ادعى الشراء فليس للحاكم تسليم العين الى المدعي الذي أثبت ملكيتها على وجه يتسلط على إتلافها ، وهو المراد بالتسليم في المقام لا مطلقة ولو مع المنع من الإتلاف ، وكذا لو ادعى الإبراء فإنه ليس للحاكم أيضا إلزامه بالتسليم من دون انتظار لقيام البينة على الإبراء ، وكذا الحال في الوجه الثالث من وجوه التعليق في البينة ، أعني ما إذا كان المعلق عليه فقدان المعارض ، كبينة الداخل على القول بتقديمه. بل وكذا الحال في كل مقام يدعي المدعي مع حضور البينة ، فان المدعى عليه لا يخلى وسبيله على وجه يفعل في المدعى به ما يشاء ، بل يمنع عن التصرفات المتلفة ولا يعمل بالأصل في هذه الحالة بالنسبة إلى تلك التصرفات.

ومجمل القول في المقام على وجه كلي هو أن المدعي لا قامة البينة سواء

ص: 180

كان خارجا أو داخلا ، وسواء كان في الأول مدعيا أو كان أولا منكرا ثمَّ انقلب مدعيا ، كمدعي الإبراء بعد ثبوت الدين ومدعي الشراء بعد ثبوت الملك.

وبالجملة كل من يسمع بينته إذا قال ان لي بينة حاضرة لم يجز العمل بالأصل في الوجه الذي ينافي تجويزه الغرض الداعي إلى سماع الدعوى - أعني إيصال الحق - فلا يترك ذو اليد على ما كان عليه من وجوه السلطنة على ما في يده مطلقا حتى مثل الإتلاف ونحوه مما يمنع عن توصل المدعي الى حقه بعد إقامة البينة ، كما لا يخلى على حاله من حيث الفرار عن حضور المخاصمة ، فكما يجب عليه الحضور في مجلس القضاء كذلك يجب عليه عدم التصرف في المدعى به على وجه يفوت معه غرض سماع الدعوى ويلزمه الحاكم عليه.

والدليل عليه هو أدلة وجوب سماع الدعاوي بعد ملاحظة الحكمة بل العلة ، وهي إيصال الحق ، فإنه لا يتيسر الا مع منع المدعى عليه عن التصرفات المنافية لوصول الحق الى المدعي على تقدير إقامة البينة.

هذا كله مع حضور البينة ، وأما مع غيابها واستمهال المدعي لا قامتها فالظاهر عدم الإمهال ووجوب المشي على طبق الأصل والحاكم على طبقه.

ويختلف مقتضاه باختلاف المقام ، فلو كان ملتمس الإهمال هو المدعي لم يجب بل يحكم بمقتضى الأصل ، وهو تسلط المنكر على المدعى به على نحو تسلطه قبل الدعوى ، ولو كان الملتمس هو الداخل لم يسمع أيضا قوله بل يلزم بتسليم المدعى به الى المدعي ، لان البينة ليست بأضعف من اليد بل هي أقوى منها ، فكما أن المدعي لا يجاب في التماس تأخير القضاء بل يقضى بعدم سلطنته على المنكر وبسلطنته على ما في يده من جميع الوجوه كذلك الداخل لا يجاب في التماس المهلة بل يقضى للمدعي وينزع العين من الداخل أخذا بمقتضى بينته التي هي أقوى من اليد.

ص: 181

وكذا الكلام لو كان الملتمس هو مدعي الإبراء أو مدعي الشراء فإنهما لا يجابان أيضا فيلزمان بالتسليم عملا بمقتضى البينة. والدليل على ذلك أن غيبة الشهود لا ميزان لها شرعا أو عرفا ، فربما يتوقف حضورها على مضي سنة أو سنتين وفي إجابتهم في تأخير القضاء حينئذ حرج وضرر عظيم لا يمكن التزامهما وينافيان للغرض المشرع للقضاء ، وهو واضح لا يخفي على المتفقه.

نعم الظاهر أن الحكم في الوجه الأول من وجوه التعليق - أعني التعليق الراجع إلى أصل تحقق الميزان مثل التعليق بالنسبة إلى الجرح - ليس كذلك فان مدعي الجرح يمهل إلى إحضار بينته ، وذلك لما أسلفنا آنفا من أن أصالة عدم الجارح لا تصلح ميزانا للقضاء ولا مكملا له ، لانحصار موازين استخراج الحقوق في أمور ليس منها الأصل.

ولا يرد ذلك في الوجهين الأخيرين ، لأن الفرض فيهما وجود البينة للمدعي فعلا ، وهو أحد تلك الأمور وعمدتها ، فلو حكم حينئذ فقد وقع الحكم بالميزان الشرعي ، إذ لا ينافي استناد الحكم إليها دفع احتمال وجود معارض بالأصل.

والحاصل ان التعليق الراجع الى موضوع البينة الشرعية كالتعليق بالنسبة إلى الجرح يمنع عن القضاء قبل الفحص عن وجود المعلق وعن العمل بالأصل في إحراز ذلك قبل الإمهال والفحص والنظر ، بخلاف التعليق الراجع الى تحقق مدلول البينة أو الى اعتبارها كالتعليق بالنسبة الى عدم الدليل على ارتفاع الحالة المشهود بها هنا - أعني الملك السابق - أو مع عدم المعارض كتعليق بينة الخارج بالنسبة إلى بينة الداخل ، فإنه لا يمنع عن القضاء مطلقا بل مع حضور البينة المعلق على عدمها اعتبار بينة المدعي.

ويمكن أن يكون السر في ذلك أن دعوى الجرح ونحوها مما يرجع الى دعوى عدم صلاحية الميزان للقضاء دعوى على الحاكم ، فمدعي الجرح

ص: 182

لا دعوى له على المدعي بل على الحاكم ، وكأنه يقول : ان هذا الميزان ليس مما يستند اليه الحاكم في القضاء.

وإذا كان المدعى عليه هو الحاكم لم يعقل فصل هذه الدعوى بعدم الالتفات الى قول مدعي الجرح ، بل لا بد حينئذ من الالتفات اليه وإمهاله حتى يحضر بينته ، بخلاف مدعي الإبراء أو الشراء أو مدعي المعارض ، فان دعوى هؤلاء دعوى على خصومهم لا على الحاكم ، فللحاكم فصل هذه الدعاوي بالأصل.

ثمَّ ان الإمهال لا بد فيه من مراعاة جانب المدعي أيضا حتى لا يرد عليه ضرر ولذا حددوه بثلاثة أيام ، فإنه ليس تحديدا شرعيا بل أمر يقضي به الجمع بين الحقين ومراعاة الجانبين. فظهر أن كل واحد من التفصيلين أقوى من إطلاق القول بالإمهال وإطلاق القول بعدمه.

وأما الميزان في الحضور والغيبة فهو أيضا أمر عرفي يختلف باختلاف الأحوال والازمان والمكان ونحوها. واللّه العالم.

المسألة الثالثة : ( ما إذا كانت العين في يد ثالث وأقام كل منهما بينة )

ومحل الكلام ما إذا لم يصدق ذو اليد لأحدهما والا اندرج تحت المسألة الثالثة وكان من موارد تعارض بينة الداخل والخارج ، لأن إقرار ذي اليد يجعل المقر له منكرا أو داخلا. والمشهور في هذه المسألة الرجوع الى الترجيح بالأكثرية.

ولنبين أولا مقتضى القاعدة مع عدم المرجح ، فنقول :

قد يقال : ان قضية القاعدة فيه بعد تساقط البينتين الرجوع الى التحالف والقضاء بالحلف أو النكول مطلقا ، فان حلفا أو نكلا فإلى القرعة. وذلك لان

ص: 183

قضية الأدلة الحاصرة لميزان القضاء في البينة والايمان ، مثل قوله عليه السلام « إنما أقضي بينكم بالايمان والبينات » (1) وقوله تعالى « اقض بينهم بالبينات وأضفه إلى اسمي يحلفون به » (2) أنه إذا تعذر أحدهما تعين الأخر وإذا تعذرا معا تعين القضاء بالقرعة بمقتضى قوله عليه السلام « أحكام المسلمين على ثلاثة :

بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية » (3) بناء على تفسير السنة الجارية بالقرعة وبما علم من أدلة القضاء من كون القرعة أيضا ميزانا للقضاء في الجملة إذا لم يكن هناك ميزان آخر.

ولا ريب أن البينتين المتعارضتين وجودهما كعدمهما في تعذر القضاء بالبينة إذ العمل بأحدهما دون الأخر ترجيح بلا مرجح ، والعمل بهما مستحيل ، والتخيير أيضا باطل بالضرورة ، فيكون وجودهما كعدمهما.

فان قلت : يرجح إحداهما بالقرعة.

قلنا : انه يتوقف على ثبوت كون القرعة مرجحة والا فالأصل عدم الترجيح ، لان كون الشي ء مرجحا يحتاج الى دليل.

فان قلت : ثبت مشروعية القرعة في التعيين والترجيح كالمتسابقين الى مباح ونحوه.

قلنا : ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لان التعيين بالقرعة وان لم ينحصر

ص: 184


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 2 ، والرواية هكذا : قال اقض عليهم بالبينات - إلخ.
3- الرواية هكذا : قال أمير المؤمنين عليه السلام : احكام المسلمين ثلاثة : شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة ، أو سند قاضية من أئمة الهدى. الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

في تعيين المبهم الواقعي - كما في المثال المذكور - الا أن موردها في غير ما كان الأصل فيه التساقط كالامارتين المتعارضتين ، بأن يكون من قبيل الحقين المتزاحمين.

والسر فيه : انه إذا كان الأصل في صورة التعارض التساقط فلا يبقى بعد شي ء لا في الواقع ولا في الظاهر حتى يتعين بالقرعة ، بخلاف ما إذا لم يكن الأصل فيه ذلك ، بأن كان المانع عن إهمال كل واحد من المتعارضين وجود المعارض مع بقاء مصلحة العمل به على حالها ، فان العمل بأحد الحقين حينئذ مطلوب في الواقع والظاهر فيتعين بالقرعة. فافهم.

وإذا ثبت ان البينتين المتعارضتين وجودهما كعدمهما فلا بد من الرجوع الى الحلف الذي رتبته بعد البينة ، فإذا رجعنا إليه فإن حلف أحدهما دون الأخر قضي له والا رجعنا إلى القرعة في تعيين الواقع ، فيكون من خرجت باسمه بمنزلة المنكر يعامل معه معاملته ، لأن أدلة القرعة لا تنهض بكفايتها في الميزان بأن يكون مستند القضاء هو نفس القرعة.

ثمَّ إذا عاملنا معه معاملة المنكر استحلفناه ثانيا ، فان حلف قضي له وان رد فحلف صاحبه فكذلك ، وان نكلا كان العين بينهما نصفين ، لان القضاء بالنصف أيضا من وجوه القضاء بلا احتياج الى ميزان آخر.

وانما قلنا ذلك مع أن النكول عن اليمين المردودة يوجب القضاء للمنكر ، لان من خرجت باسمه ليس منكرا في القضاء ، فلو قضي له عند نكول صاحبه عن اليمين المردودة كان مستند القضاء أيضا نفس القرعة. وقد قلنا ان نفس القرعة لا تصلح ميزانا للقضاء.

ومعنى جريان أحكام المسلمين عليها بعد البينة واليمين كونها معينة للملك ظاهرا لأحدهما عند فقدهما ، وأما القضاء فلا بد فيه من التماس بعض موازينه ،

ص: 185

لان كون الملك ظاهرا لأحدهما لا يكفي في القضاء ، بل لا بد فيه من وجود بعض الموازين اما البينة أو اليمين أو التنصيف الذي هو أحد طرق القضاء عند فقد الميزانين.

هذا ، وقد يناقش في جريان القاعدة المشار إليها في المقام ، لان جريانها على ما تحقق يتوقف على ثبوت مقدمتين : إحداهما كون المقام من موارد تعذر القضاء بالبينة ، والثانية كونه من موارد إمكان القضاء بالحلف ، فإنه إذا فقد كل منهما فقدت النتيجة ، وهي القضاء بالحلف.

أما الأولى فلأنها إذا انتفت كان المقام محلا للقضاء بالبينة ، فلا يصار الى الحلف ، لأن البينة هو الأصل في القضاء وأول موازينه. وأما الثانية فلأنها إذا انتفت تعين الإقراع ، لأن القرعة موردها صور انتفاء الميزانين.

وكلتاهما ممنوعة :

أما الأولى فلانا نمنع تعذر القضاء بالبينة عند تعارضهما ، لا مكان القضاء حينئذ بالتنصيف ، فإنه وان كان طرحا للعلم الإجمالي أو طرحا للبينتين في مقام العمل وترتيب الأثر الا أنه قضاء بموجب البينة ، لأنه إذا أعطى كل واحد من المدعيين نصف المدعى به ومنع عن النصف الأخر مراعاة لبينة الأخر كان ذلك قضاء مستندا إلى مراعاة بينة كل منهما في الجملة.

توضيح ذلك : ان العمل بموجب البينتين مقام والفصل بين المتخاصمين وطي نزاعهما مقام آخر ، والممتنع هو المقام الأول ، لأن التنصيف ليس عملا بالبينتين بل طرح لهما حقيقة. وأما المقام الثاني - أعني طي النزاع بالبينة - فنمنع تعذره ، لان التنصيف قضاء ناش من وجود البينتين ، إذ لا وجه لمنع كل منهما عن النصف الا ابتلاء بينة كل منهما ببينة الأخر.

وبعبارة أخرى : إعطاء كل منهما نصف المال مستند الى بينته فإنها شهدت

ص: 186

بالكل ، ومنعه عن النصف الأخر مستند الى معارضة بينته بينة صاحبه. فصار كل واحد من عقدي الإيجاب والسلب - أي الإعطاء والمنع - مستندا إلى البينة ، وهذا معنى كون القضاء بالتنصيف قضاء بالبينة.

هذا ، ويدفعه أن يكون المنع من النصف مستندا الى تعارض البينة مرجعه الى سقوط دعوى كل منهما بالنسبة إلى النصف ، وهذا عين تعذر القضاء بالبينة لأن معنى تعذر القضاء بالميزان عدم سماع الدعوى ، فالتنصيف في الحقيقة طي للدعوى بسقوطها وعدم سماعها في النصف المدعى به لا بالبينة.

وأما المقدمة الأخيرة فلان الحلف انما يكون ميزانا إذا كان وظيفة لأحد المتداعيين في دعوى واحدة ، وأما إذا كان نسبته الى كل واحد منهما على حد سواء فلا تصلح ميزانا وكذا النكول.

وقياس حلفهما بالبينتين المتعارضتين غير صحيح ، لأن البينة حجة شرعية ومن شأنها عدم خروجها عن الحجية بالمعارضة ، بخلاف الحلف فإنه ليس حجة حتى يتصور فيه التعارض ، فلا بد في كونه ميزانا من اختصاصه بأحدهما ، فحيث كان نسبته إليهما نسبة واحدة كان المقام من موارد تعذر الحلف باليمين ، فلا بد من استعمال القرعة.

نعم لو بذل أحدهما الحلف ونكل الأخر قبل الإقراع أمكن أن يقال بعدم الحاجة الى القرعة حينئذ ، لأن فائدة القرعة لا تزيد على جعل الحلف مختصا بأحدهما كما ظهر ، والاختصاص في هذا الفرض حاصل بنكول أحدهما من غير قرعة.

فصار المحصل أنه إذا تعارض البينتان فالأصل فيه القرعة دون إحلاف كل منهما ، إذ لا فائدة فيه كما لا فائدة في نكولهما ، الا أن يتبين نكول أحدهما عن الحلف قبل القرعة ، فيحلف من غير قرعة لحصول فائدتها بدونها.

ص: 187

وانما قيدنا الدعوى بكونها واحدة لأنه إذا تداعيا في أمرين - بأن اختلفا في المبيع أو الثمين وادعى كل منهما شيئا فحلف كل منهما على مدعاه - لا ينافي ما ادعيناه من انحصار ميزانيته فيما إذا كان وظيفته لأحدهما ، لأن الاختصاص فيه أيضا حاصل بالقياس الى كل واحد من المدعى به. فافهم.

هذه قضية القاعدة في تعارض البينتين مع عدم المرجح أو عدم اعتباره مع قطع النظر عن أخبار الباب ، وأما الاخبار فهي مختلفة :

منها - ما يدل على القضاء بالتنصيف بمجرد التكافؤ من غير ذكر حلف ولا قرعة ، مثل قول الأمير عليه السلام في رواية غياث عن الصادق عليه السلام : ولم يكن في يده جعلتها بينهما نصفين (1). ومثل رواية تميم بن طرفة.

ومنها - ما يدل على التنصيف بعد حلفهما أو نكولهما من غير ذكر قرعة أيضا ، مثل رواية إسحاق بن عمار (2). ويمكن النسبة بين هاتين بالإطلاق والتقييد ، فيمكن الجمع بينهما بتقييد إطلاق الأول بالثاني ، ويرجع الحاصل الى القضاء بالنصف بعد الحلف.

ومنها - ما يدل على القرعة من غير ذكر حلف ، مثل المرسل عن أمير المؤمنين عليه السلام في البينتين يختلفان في الشي ء الواحد يدعيه الرجلان أنه يقرع بينهما إذا اعتدلت بينة كل واحد منهما. ومثل موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام : ان رجلين اختصما الى على عليه السلام في دابة فزعم كل واحد منهما أنها نتجت عند مزودة ، وأقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد ، فأقرع بينهم - الحديث (3).

ص: 188


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 3 و 4.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 15.
3- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 12.

ومنها - ما يدل على الإقراع وإحلاف من خرجت القرعة باسمه ، مثل رواية البصري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : كان علي إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء وعددهم سواء أقرع بينهم على أيهم يصير اليمين (1). ويمكن الجمع بين هاتين أيضا بالتقييد ، فيقيد إطلاق الطائفة الأولى المكتفية بالقرعة بالثانية المصرحة باعتبار اليمين فيها.

وبعد ملاحظة هذا الجمع والجمع السابق بين الطائفة الأولى يقع التعارض بين هذه الطائفة والطائفة الأولى على وجه التباين ، لان خبر إسحاق يدل على التنصيف من دون قرعة وخبر البصري يدل على اعتبار القرعة والحلف ، فبينهما تباين. فتقييد التحالف في خبر إسحاق بما بعد القرعة في غاية البعد خصوصا مع ملاحظة التحالف. فإن الإقراع يقتضي إحلاف من خرجت باسمه القرعة دون التحالف ، وحينئذ فلا بد من ملاحظة المرجحات.

ولا يبعد دعوى رجحان أخبار القرعة ، خصوصا مع ملاحظة الشهرة ، وعلى تقدير التكافؤ فالمرجع هي عمومات القرعة المقررة لكل أمر مشكل. فما هو المشهور من الإقراع بعد التكافؤ هو الأظهر من ملاحظة الاخبار وعلاجها بقواعد الجمع ، خلافا للمحكي عن المبسوط حيث فصل فذهب إلى القرعة فيما إذا كانت بينتهما مطلقتين والى التنصيف إذا كانت مسببتين وان اختصت إحداهما بالتقييد قضي بها.

وهذا التفصيل بعض فقراتها موافق للقاعدة ، كالقضاء بالبينة المقيدة إذا كانت الأخرى مطلقة ، لما مر في السابق من أن هذا النحو جمع عملي بين البينتين.

ص: 189


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 5 ، والحديث يختلف عما هنا بعض الاختلاف فراجع.

وأما الفرق بين المطلقتين والمقيدتين فقد يستدل عليه بأن أخبار القرعة كلها مطلقة بالنسبة إلى إطلاق البينتين وتقييدهما ، أما رواية البصري فواضحة وأما رواية سماعة فلان التقييد بالنتاج فيها انما هو في كلام المدعي لا في مدلول البينة ، إذ لا دلالة في قوله « وأقام كل واحد منهما البينة » على شهادة البينتين أن الدابة نتجت عند مزودهما ، لاحتمال اقتصارهما في الشهادة على مجرد الملكية التي ادعاها كل واحد منهما المدلول عليها بقوله « اختصما » ، بل لعله الظاهر كما لا يخفى. وحينئذ فمقتضى القاعدة العمل بخبر إسحاق الوارد في المقيدتين المصرح بالتنصيف بدون القرعة.

هذا ، ويرد عليه أن خبر إسحاق مشتمل على التنصيف مع الحلف ، وليس في كلام الشيخ اعتبار الحلف في القضاء بالتنصيف.

ويمكن دفعه : بأن عدم ذكر الشيخ للحلف لا يدل على عدم قوله به ، لاحتمال أن يكون عدم ذكر الحلف ثقة بما هو المعلوم المعهود المنطبق على قواعد القضاء من توقفه على اليمين أو البينة.

مع أن الانصاف أن منع ظهور خبر سماعة في المقيدتين تعسف ومكابرة ، لأن احتمال عدم تطابق بينة المدعي لما هو المذكور من كلماته في الرواية بعيد جدا.

هذا هو الكلام في تعارض البينتين المتساويتين في جميع الجهات.

[ اعتبار التساوي في العدل والعدد ]

بقي الكلام فيما يقضي به مفهوم هذه الروايات من اعتبار التساوي في العدل والعدد ، وانه إذا اختلفا في أحد الأمرين - بأن كان أحدهما أكثر عددا أو أعدل - فهل يجب الترجيح بهما أم لا ، والكلام فيه في مقامات : الأول في اعتبار

ص: 190

الترجيح بالأكثرية أو الأعدلية ، والثاني في تقديم أحدهما على الأخر عند التعارض بأن كان أحدهما أكثر والأخر أعدل ، والثالث في التعدي عنهما الى مرجحات أخر كالاضبطية ونحوها :

( أما المقام الأول ) فقد يستدل على الترجيح بالأكثر بروايات :

منها : خبر أبي بصير - وقد سبق - عن رجلين يأتي القوم فيدعي دارا في أيديهم ويقيم الذي في يديه الدار البينة أنها ورثها عن أبيه ولا يدري كيف أمرها فقال : أكثرهم بينة يستحلف ويدفع اليه. وذكر أن عليا عليه السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة ، فقامت لهؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم ولم يبيعوا ولم يهبوا وأقام هؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا ، فقضى بها لا كثرهم واستحلفهم - الحديث.

دل بموضعيه على الترجيح بالأكثرية : الأول « قوله أكثرهم بينة يستحلف » ودلالة واضحة. والثاني ذكر قضاء علي عليه السلام لأكثرهم بينة ، فإنه وان كان في نفسه لا يصلح للاستدلال لأنه من حكايات الأحوال الا أن وقوعها في مقام الاستشهاد يوجب صلاحيتها للاستدلال ، كما استدل الامام عليه السلام.

وفي الاستدلال بكلا الموضعين نظر :

( أما الأول ) فلاختصاصه بما إذا كان أحدهما ذا اليد وكانت احدى البينتين داخلة والأخرى خارجة فلا ينفع فيما نحن فيه. مع أن في الرواية إشكالات آخر ، وهو أن البينتين مما يمكن الجمع بينهما ، فالرجوع الى الترجيح فيهما مخالفة للمتفق عليه من إمكان الجمع مهما أمكن ، وقد سبقت الإشارة الى هذا الإشكال أيضا.

( وأما الثاني ) فلان قضية الاستدلال وان كانت عموم ما ذكر من الحكاية الا

ص: 191

أن جريانها في المستشهد له قل القائل به وخلاف التحقيق الذي مر في المسألة الثانية.

ومنها : مفهوم قوله عليه السلام في رواية سماعة المذكورة « وأقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد » ، فان مفهوم القيد في مثل مقام - أعني مقام بيان الميزان - كمقام التحديد حجة بلا مفهوم جميع القيود يعول عليه في أمثال المقام ، وهو يقتضي عدم الإقراع : اما لأجل التنصيف وهو باطل قطعا ، واما لأجل القضاء للأكثر وهو اعتبار.

فان قلت : هذا القول من المعصوم عليه السلام وقع حكاية عن قضية واقعة فغاية ما يستفاد منه أن عليا عليه السلام قضى بالقرعة مع تساوي العدد ، وهذا لا يفيد حكم أصل المسألة ولا يدل على اعتبار التساوي وان الأكثرية مرجحة ولو قلنا بمفهوم القيد في أمثال المقام.

قلت : قد ذكرنا غير مرة أن الحكم في القضية الواقعة إذا حكاه الامام عليه السلام في مقام ذكر الحكم الشرعي يتشخص بالخصوصيات الموجودة في الحكاية خاصة ، بحيث يعلم منه أن ما عدا تلك الخصوصيات من الخصوصيات الموجودة في تلك الواقعة الخاصة التي هي مورد الحكم المحكي لا عبرة بها وأنها ملغاة في ذلك الحكم.

وأما الخصوصيات الموجودة فيها فهي معتبرة ، والا كان تخصيصها بالحكاية من بين سائر الخصوصيات لغوا عاريا عن الفائدة ، فيعلم من ذلك أن الفرق بينها وبين الخصوصيات المسكوت عنها هو اعتبارها في الحكم - أعني الإقراع - دون سائر الخصوصيات.

فثبت بذلك اعتبار صفة التساوي في العدد في الإقراع ، فإنه مع عدم التساوي لا قرعة هنا ، أما لأجل كونه من موارد الترجيح وهو الظاهر ، أو لأجل

ص: 192

كونه من موارد القضاء بالتنصيف وهو باطل ، إذ على تقدير عدم اعتبار الأكثرية في الحكم بالقرعة يكون وجودها كعدمها ، فيكون مثل صورة التساوي الذي حكم فيه بالقرعة ، فلا معنى للقضاء بالتنصيف أيضا. فتأمل. وللإجماع على عدم القضاء بالتنصيف مع كون احدى البينتين أكثر ، فإن الاحتمال فيه دائر بين الحكم للأكثر أو القرعة.

وأما الترجيح بالأعدلية فيدل عليه روايتان :

إحداهما - رواية البصري المتقدمة : كان علي عليه السلام إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء وعددهم سواء أقرع بينهما. فإنها بالمفهوم تدل على اعتبار التساوي في العدل والعدد ، وأنه إذا انتفت المساواة في كل منهما لم يقرع (1). والكلام في أن عدم الإقراع لا يستلزم الترجيح والحكم للأرجح ما مر ، وكذا الكلام في اعتبار مفهوم الصحة أو كونها حكاية عن الحكم في قضية واقعة.

وثانيتهما - المرسل المتقدم عن أمير المؤمنين في البينتين يختلفان في الشي ء الواحد يدعيه الرجلان انه يقرع بينهما إذا اعتدلت بينة كل واحد منهما (2).

لان الاعتدال عبارة عن المساواة في جميع ما يعد في العرف مرجحا ، لأنه أمر عرفي ، فيدل عدم الإقراع عند عدم الاعتدال العرفي مطلقا ، ولا ريب أن الأعدلية توجب عدم الاعتدال فلا قرعة - الى آخر ما عرفت فيما تقدم من الرد.

وروي عن بعض النسخ « عدلت » مكان « اعتدلت » ، وهو مؤيد بقوله « بينة كل واحد منهما » ، لان الاعتدال لا يتم معناه الا بطرفين ، فكان ينبغي أن يكون هكذا : إذا اعتدل البينتان أو بينة كل منهما مع بينة الأخر.

ص: 193


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 5.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 15.

( وأما المقام الثاني ) فقد يستدل على تقديم الأكثرية على الأعدلية بإطلاق مفهوم قوله عليه السلام في رواية سماعة « سواء في العدد » ، لأنه بإطلاقه يدل على عدم الإقراع مع عدم المساواة فيه ولو مع كون الأقل أعدل.

وقد يجاب : بأن منطوقه مقيد بمنطوق رواية البصري المصرحة باعتبار التساوي في العدالة زيادة على التساوي في العدد ، وإذا قيد المنطوق كان الجزاء - وهو الإقراع - متوقفا على أمرين : المساواة في العدد ، والمساواة في العدالة.

ومقتضى مدخليتهما معا في الحكم عدم الإقراع عند انتفاء كل واحد منهما مستقلا ، لان عدم كل واحد من أجزاء العلة وشرائطها علة تامة لعدم المعلول ، وحينئذ قد يقع التعارض بين مفهومي القيدين فيما نحن فيه ، لأن المنتفي ان كان أحد القيدين فلا اشكال ، وكذا ان كان كليهما مع عدم التعارض ، مثل ما إذا كان احدى البينتين أكثر وأعدل فالاكثرية سبب لانتفاء القيد الثاني مع عدم التعارض بينهما.

وأما إذا كانت الأكثرية في إحداهما والأعدلية في الأخرى ، فمقتضى الانتفائين أيضا عدم الإقراع ، لكن لما كان عدم الإقراع لأجل الترجيح لا لأجل التنصيف كما مر فيقع التعارض بينهما. فمقتضى انتفاء القيد الأول - أعني التساوي في العدد - الحكم لا كثرهما بينة ، ومقتضى انتفاء القيد الثاني الحكم لأعدلهما بينة ، فلا دلالة في إطلاق مفهوم قوله عليه السلام « سواء في العدد » في رواية سماعة على تقديم الأكثر على الأعدل مع ملاحظة رواية البصري المقيدة لمنطوقها بالمساواة في العدد أيضا ، وانما يدل على تقديم الأكثر مع عدم تقييد المنطوق به.

وفيه : ان حكم ثبوت التقييد بدليل منفصل بعد ما كان ظاهر الجملة الشرطية سببية الشرط للجزاء غير حكم المقيد المذكور في الشرط. وما ذكرت من التحقيق انما يتم في الثاني دون الأول.

ص: 194

بيانه : ان ظاهر الجملة يدل على سببية الشرط للجزاء ، فان كان الشرط مركبا من أمرين بطريق العطف ، كقولك « إذا جاءك زيد وعمرو أفعل كذا » ، أو بطريق التقييد كما في قولك « إذا جاءك زيد راكبا فافعل كذا » يدل على سببية المنضم والمنضم اليه معا وان كان الشرط منفردا في الكلام ، فمقتضى ظاهر الجملة كونه سببا للجزاء ، ثمَّ بملاحظة إطلاق الشرط يثبت كونه علة تامة على ما هو التحقيق المقرر في محله.

وأظهر الوجوه في دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ، فاذا ثبت من الخارج مدخلية شي ء آخر ، ثبت أن طلاق الشرط مقيد وأنه ليس بعلة تامة لكن كونه سببا أيضا باق بحاله ، لأن مجرد مدخلية شي ء آخر في الجزاء لا ينافي سببية الشرط لاحتمال كونه شرطا ، فلا يلزم من اعتبار التساوي في العدالة أيضا خروج التساوي في العدد عن السببية التي دلت الجملة بظاهرها عليها.

بل نقول : ان التساوي في العدد سبب والتساوي في العدالة شرط فاذا انتفيا معا لزم أن يكون انتفاء الجزاء وهو المعلول - أعني الإقراع فيما نحن فيه - مستندا الى عدم المساواة في العدد أعني الأكثرية دون العدالة ، لأن عدم المعلول لا يستند عرفا الى عدم الشرط أو عدم المانع مع عدم المقتضي ، إذ يقبح أن يعتذر الفقير مثلا في عدم تجارته بخوف الضرر في الطريق مع عدم استطاعته وعدم تملكه مالا يتجر به.

فظهر أن الأكثرية هي المستند إليها في عدم الإقراع وان اجتمع معها الأعدلية موافقة أو مخالفة ، وان الأعدلية مع وجود الأكثرية لا عبرة بها ، وهو المراد.

هذا ، ويرد عليه أن ما ذكر انما يتجه إذا كان الاستواء في العدد في حيز الشرط ، وليس كذلك بل الموجود في رواية سماعة (1) أن عليا عليه السلام حكم

ص: 195


1- الوسائل ج 18 ب 13 من أبواب كيفية الحكم ح 12.

بالقرعة فيما أقام كل من المتداعيين بينة سواء في العدد. وهذا لا يدل على كون الاستواء في العدد سببا للإقراع ، وانما يدل على مدخليته فيه فيكون حاله كحال ثمَّ ان مدلول رواية البصري (1) بعد ملاحظة مفهوم الاستواء في العدد والعدالة يدل على الحكم بالأرجح عند عدم التعارض ، وأما معه - كما إذا كانت الأكثرية التي هي عبارة عن انتفاء المساواة في العدد في جانب والأعدلية في آخر - فالمستفاد منها عدم الإقراع ، فيدور الأمر بين القضاء بالتنصيف أو ترجيح الأكثر أو الأعدل ، وحيث لم يثبت شي ء منهما تعين التنصيف. وليس الحال هنا كالحال في صورة رجحان احدى البينتين بالأكثرية والأعدلية في بطلان التنصيف بالإجماع لعدم الإجماع هنا على ذلك.

( وأما المقام الثالث ) فقد يستدل عليه بمفهوم قول أمير المؤمنين عليه السلام في المرسل المذكور « إذا اعتدلت بينة كل منهما » ، لان الاعتدال أمر عرفي ينتفي عرفا بكل مزية مثل الأضبطية ونحوها ، فينتفي الإقراع ويتم المدعي على التقريب المتقدم في الروايات السابقة. وهو استدلال ضعيف كما لا يخفى ، فالتعدي مشكل مع عدم ظهور قول الأصحاب به.

فقد تلخص مما ذكرنا أن الحكم مع عدم الترجيح للقرعة ومعه الأخذ بالمرجح المنصوص لا مطلقا. وهل يحتاج الى اليمين في الموضعين أم لا؟

الأقوى اعتبار اليمين فيهما ، لان القضاء لا يكون إلا بأحد من البينة واليمين مع الإمكان ، فمن خرجت باسمه الحلف وقضى له وكذا من كان بينته أرجح :

( أما الأول ) فواضح بعد ملاحظة مثل قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » وإمكان القضاء بالحلف هنا.

ص: 196


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 5.

فإن قلت : ظاهر أخبار القرعة كفايتها حيثما تجري في القضاء.

قلت : انها معارضة بما ذكر من الدليل على حصر الميزان في البينة واليمين مع إمكان القضاء بأحدهما ، وهو أخص مطلقا من أخبارها. ولو سلم أن النسبة بينهما عموم من وجه ، فالترجيح لما دل على توقف القضاء باليمين لأنه المشهور ، ولأن أدلة القرعة يشترط في العمل بها انجبار ضعفها بالعمل ، وهو هنا مفقود.

ولو سلم التكافؤ فالمرجع هو الأصل الذي يقتضي الأخذ بالقدر المتيقن.

وهو القضاء بالحلف ، لان نفوذ الأصل خلاف مقتضى الأصل الاولي كما تقدم في أول القضاء.

فان قلت : قد وردت في الباب أدلة أخرى غير تلك الأخبار العامة على القضاء بالقرعة وهي كثيرة ، ومنها أيضا ما تقدم « احكام المسلمين على ثلاثة :

بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية » ، وهي أخص مطلقا من الأدلة الحاصرة للميزان في البينة واليمين كما لا يخفى.

قلنا : ان هذه الاخبار مقيدة بأخبار أخر دالة على اعتبار اليمين مع القرعة وقد أشرنا إلى بعضها في أول المسألة.

( وأما الثاني ) - أعني إحلاف من بينته أرجح - فلان القدر الثابت من الترجيح بالأكثرية كونها مرجحة لجانب من كانت بينته أكثر في القضاء له ، وهو لا ينافي توقف القضاء على الحلف.

والحاصل ان المقتضي للحلف موجود وهو تعارض البينتين ، والمانع - وهو سقوط البينة المرجوحة عن قابلية المعارضة - غير معلوم ، لاحتمال كون الرجحان بالنسبة إلى مجرد تغليب جانب صاحب البينة الراجحة وتقويته وجعل القول قوله كالمنكر لا بالنسبة إلى ذات البينة حتى يكون المرجوح ساقطا عن الاعتبار وقاصرا عن المعارضة.

ص: 197

فإن قلت : معنى ترجيح احدى البينتين على الأخرى هو كون الحجة الفعلية هو ذلك الراجح كما هو كذلك في ترجيح الاخبار بعضها على بعض والا لم يكن ترجيحا للبينة.

قلت : ليس في الأدلة ان الكثرة في البينتين مرجحة حتى يفرع عليه سقوط الأول عن قابلية المعارضة ، وانما الموجود فيها بعد ملاحظة المفهوم عدم القرعة مع وجود الكثرة ، وهذا بنفسه لا يدل على تغليب جانبها أيضا فضلا عن كونها مرجحة كما تقدم ، والقدر الثابت من الإجماع بطلان التنصيف مع وجودها.

وهذا المقدار لا يقضي بكون الكثرة مرجحة لنفس البينة كما في الاخبار ، لاحتمال اختصاص فائدتها بجعل صاحب البينة الراجحة قوي الجانب وكون القول قولها ، فلا دلالة فيها على سقوط الأقل مثلا عن قابلية المعارضة.

وأما كلمات الأصحاب فهي وان كانت في بادئ النظر ظاهرة في ترجيح أصل البينة ، إلا أن التأمل فيها يقضي بخلاف ذلك الظاهر. لان الموجود في كلام جملة منهم أنه يقضي لأكثرهم بينة.

وهذا لو لم يكن ظاهرا فيما ذكرنا - أعني كون القول قوله كما يقتضيه الانصاف - فليس بظاهر أيضا في سقوط الأقل مثلا عن درجة الاعتبار. نعم في عبارة الشرائع حيث قال « يقضي بأرجح البينتين » ربما يكون بعض الإشعار إلى ترجيح البينة وان القضاء انما هو بالبينة لا باليمين.

وكيف كان فالمتبع هو الدليل ، ولم نجد مساعدته على كون مستند القضاء في صورة الرجحان هو البينة الراجحة دون اليمين.

ثمَّ لو حلف من خرجت القرعة باسمه أو من كان بينته أرجح قضي له وان نكلا ردت اليمين إلى الأخر فإن حلف قضي له وان نكل أيضا قسم بالسوية ،

ص: 198

لما مر من أن القضاء بالتنصيف آخر موازين القضاء. وهذا أصل متبع في كل مقام لا يمكن القضاء فيه بالبينة ولا باليمين ولا بالقرعة.

فإن قلت : لا وجه للتنصيف ، بل إذا تعذرت الأمور الثلاثة يجب إيقاف القضاء ، كما لو انحصر القضاء بالبينة ولم تكن للمدعي بينة مثل الدعوى على الغائب مثلا. وبعبارة أخرى : ان المتداعيين إذا لم يكن مع أحدهما شي ء من الموازين الثلاثة طردهما الحاكم ولم يسمع الدعوى ولم يقم دليل على القضاء بالتنصيف من غير ميزان بل هو حكم بلا مستند ، فكما أن حكم الواقعة إذا انحصر في البينة مثلا مثل الدعوى على الغائب يوقف فيها القضاء مع عدم بينة للمدعي ولا يسمع دعواه ، فكذلك ما نحن فيه يجب فيه إيقاف القضاء لعدم الميزان.

قلت : إيقاف القضاء تارة يكون باعتبار عدم قدرة المدعي مثلا على اقامة الميزان مع كونه مجهولا شرعا ، مثل عدم سماع الدعوى على الغائب بلا بينة ، وأخرى يكون باعتبار عدم جعل الشارع للواقعة ميزانا :

الأول أمر ممكن ، لان مرجعه الى عدم سماع دعوى المدعي إذا توقف سماعها على البينة التي هو فاقد لها ، وهذا لا ضير فيه ومنافاة للحكمة.

وأما الثاني فهو مناف للحكمة ومناف للغرض المشرع للقضاوة ونصب الاحكام ، لأنه يجب على الشارع في الواقعة التي تسمع فيها الدعوى جعل ميزان للقضاء والا كان السماع لغوا.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأنه إذا نكل كل منهما عن اليمين بعد سماع دعواهما ومطالبة البينة منهما وتعارض البينتين واستعمال القرعة وإحلاف من خرجت باسمه ونكوله عن الحلف ورده الى الأخر ونكوله ، فلا بد أن يكون

ص: 199

للقاضي حينئذ ميزان للقضاء حتى يقضي بذلك الميزان ولا يتعطل الحكم ، لان التوقف في القضاء حينئذ لا وجه له ، لأنه ضرر يجب دفعه بأدلة القضاء.

وليس مثل عدم سماع دعوى المدعي إذا لم يكن له بينة في الواقعة التي ينحصر فصلها بالبينة ، لان مقتضى جعل الميزان عدم سماع الدعوى في هذا الفرض والا كان جعل الميزان لغوا وخرج الميزان عن كونه ميزانا. فلا بد حينئذ فيما نحن فيه أن يكون للقضاء ميزان يقضي به حتى لا يلزم توقيف الحكم من قبل الشارع ، وليس هو الا القضاء بالتنصيف ، إذ المفروض عدم جريان شي ء من سائر الموازين فيه باعتبار التعارض والتدافع. نعم لو كان المدعى به مالا يتصور الشركة فيه كالزوجية تعين الإقراع ثانيا من دون حلف. فتأمل.

فإن قلت : لم لا يجعل الميزان حينئذ القرعة مع كونها أحد الموازين بعد تعذر البينة واليمين. فان قلت : قد استعملناها بعد تعارض البينتين. قلنا : تلك القرعة كانت لتلخيص من يكون القول قوله وكان الميزان هي اليمين ، وأما القرعة حينئذ - أي بعد نكولهما عن الحلف - فهي بنفسها تكون ميزانا من غير حلف. والحاصل ان تعارض البينتين واقعة ونكول المتداعيين عن الحلف بعد الإقراع واقعة أخرى ولا يكفي الإقراع في إحداهما عن الأخرى.

قلت : قد عرفت غير مرة أن القرعة بنفسها لا يستتم بها ميزان القضاء ، ومعنى كونها ميزانا له في الجملة أنها المرجع إذا تساوى المتداعيان من جميع الجهات في تعيين من يكون القول قوله بيمينه لقصور أدلتها عن إثبات كونها مستندا للقضاء بنفسها لما مر آنفا ، واليمين متعذرة هنا فلا مجال للقرعة حينئذ.

فإن قلت : النكول عن اليمين المردودة من الموازين للقضاء كما تقدم بلا إشكال فيقضى للراد ، وهو هنا من خرجت باسمه القرعة.

ص: 200

قلنا : ميزان القضاء هو نكول المدعي عن يمين المنكر لا كل نكول ، ومن خرجت باسمه القرعة ليس منكرا شرعا وعرفا ، وانما قدم قوله بيمينه للحلف فلا يكون النكول عن هذه اليمين من نكول المدعي عن يمين المنكر.

فان قلت : القضاء بالتنصيف قضاء بلا ميزان ، لان التنصيف هو المقضي به لا ميزان القضاء ، والقضاء بلا ميزان باطل.

قلنا : أولا - ان القضاء بالتنصيف قضاء بموجب البينة في الجملة كما أوضحناه سابقا ، لأن إعطاء كل منهما نصف المدعى به عمل ببينته في الجملة ومنعه عن النصف الأخر عمل ببينة صاحبه كما تقدم.

فان قلت : كيف يكون التنصيف عملا بكل منهما في الجملة ، بل هو طرح لهما رأسا ، لأن كلا منهما يشهد ببطلانه وكونه على خلاف الواقع ، ولذا قد تقرر في الأصول ان الجمع بين الدليلين بالعمل بكل منهما في بعض مدلوله طرح لكل منهما ، وليس من جزئيات قاعدة أولوية الجمع من الطرح.

قلنا : هذا حق بعد تسليم مقدمتين : إحداهما اعتبار العلم الإجمالي في حق الناس ، والثانية كون اعتبار البينة في الحقوق من باب الطريقية لأمن باب السببية المحضة. وكلتاهما ممنوعتان ، بل لا يبعد أن يكون الأقوى خلافها ، لان مراعاة العلم الإجمالي في حقوق الناس الظاهر أنها غير واجبة بل غير جائزة جمعا بين الحقين.

ونظرا الى ما ثبت بالنص والإجماع من إلغاء العلم الإجمالي في موارد كثيرة وكذا القول بأن البينة في إثبات الحقوق من باب السببية المحضة مثل البيع للنقل والانتقال ، ليس بذلك البعيد. بل قد يستشم ذلك من بعض أخبار الباب الدال على القسمة في صورة تعارض البينتين بحسب عدد الشهور ، وكذا من ثبوت ربع الوصية بشهادة امرأة واحدة ونصفها بشهادة اثنتين وتمامها بشهادة الأربع ، كما هو واضح.

ص: 201

فاذا بنينا أن إهمال العلم الإجمالي في الحقوق المشتبهة ومخالفته جائزة وان قيام البينة سبب مملك لمن أقيمت له كان إعطاء كل منهما نصف المدعى به اعمالا لبينته في الجملة مع عدم محظور من جهة مخالفة الواقع.

فان قلت : ان كان الأمر كذلك لا يصار الى القضاء بالتنصيف من أول الأمر إلى حين تعارضهما وتكافؤهما ، بل يرجع الى الحلف أو القرعة ، مع كون القضاء بالبينة في مجراها مقدما على الجميع.

قلنا : ان التنصيف ليس قضاء كاملا بالبينة ، بل هو قضاء به على وجه النقصان ، ومع إمكان القضاء بميزان آخر كاليمين مثلا على وجه التمام لا يصار الى القضاء بالبينة على وجه النقصان. وبعبارة أخرى : ان التنصيف قضاء بموجب البينة وعمل بها في الجملة لا بتمام مؤداها ، وهذا مع إمكان استعمال ميزان آخر يقضى به على وجه الكمال والرجحان لا يصار اليه ، بل انما يصار اليه مع فقد جميع الموازين.

وثانيا - انه لو لم يقض بالتنصيف في مفروض البحث لم يبق لاخبار القضاء بالتنصيف مثلا مورد أصلا ، فيلزم طرحها. وهو في غاية البعد ، لكثرة تلك الاخبار وعدم ظهور امارة الطرح فيها غير تعارضها بأخبار القرعة التي قد عرفت اختصاصها بصورة إمكان الحلف بعدها.

وهذه لا تنافي ما قدمنا من ترجيح أخبار القرعة عليها في صورة تكافؤ البينتين أو الحكم بالتساقط والرجوع الى عمومات القرعة ، لأن التساقط في صورة التكافؤ وإمكان الحلف بعد القرعة لا ينافي كون تلك الاخبار معمولا بها في غير تلك الصورة. فتأمل واللّه الهادي.

[ حكم عدم البينة في الدعوى مع عدم تصديق ثالث أحد الطرفين ]

ومما ذكرنا في هذه المسألة - وهي المسألة الرابعة - ظهر حكم مسألة

ص: 202

خامسة ، وهي ما إذا لم يكن لأحد الخارجين بينة ولم يصدق الثالث أحدهما ، فإن الحكم هنا أيضا القضاء بالتنصيف مع العلم الإجمالي بكون العين لأحدهما ومع عدم العلم واحتمال كونها لثالث عدم سماع الدعوى وإيقافها الى أن يقيم أحدهما البينة.

أما القضاء بالتنصيف في الأول فلعدم جواز منعهما من العين لكونه مخالفة قطعية وعدم جواز القضاء بها لأحدهما لكونه ترجيحا بلا مرجح وقضاء بلا ميزان ، وعدم جريان التحالف أيضا لان نسبة الحلف الى كل منهما على حد سواء ، وقد سبق أنه متى كان كذلك لم يصلح الحلف ميزانا للقضاء وانما يصلح ميزانا إذا كان متوجها الى أحدهما المعين خاصة ، فليس مثل البينة في كونها حجة شرعية مسموعة من متعدد ، لأن الحجة الشرعية حجة في إثبات المدعى مع قطع النظر عمن يقيمها ، بخلاف الحلف فإنه ليس حجة شرعية حتى يكون وجوده كافيا في إثبات المدعي ويمكن أن يقيمها الاثنان ، بل هو ميزان للقاضي مشروطا بأمور كوقوعه بعد مطالبة المحلوف له واذن الحاكم وغير ذلك مما لا يعتبر في البينة والحجة الشرعية ، وكونه ميزانا لا يمكن الا مع اختصاصها بأحد المتداعيين.

ومن هنا يظهر فساد ما يتخيل من قياس حلف المتداعيين ببينتهما وانه كما لا يمكن للقاضي الحكم بالبينة المتعارضة - ومع ذلك فهو يطالب البينة من كل من المدعيين وجاء اختصاص أحدهما بالبينة فيقضي بها - كذلك لا يمكن له القضاء في صورة حلفهما ونكولهما ، لكنه يستحلفهما رجاء حلف أحدهما ونكول الأخر حتى يحصل ميزان القضاء. فلا وجه للقول بعدم كون الحلف إذا كان نسبته الى كل واحد من المتداعيين متساوية ميزانا ، وانه انما يكون ميزانا إذا كان مختصا بأحدهما.

ص: 203

وجه ظهور الفساد أن البينة حجة شرعية مع قطع النظر عن مطالبة الحاكم وعدم جواز القضاء بالبينة المتبرع بها ليس لأجل عدم كونها حجة قبل المطالبة ، بل لأن مطالبة الحاكم شرط تعبدي يثبت في كونها ميزانا ، إذ ليست الحجية مساوقة للميزانية ، فاذا كانت حجة كانت نسبتها الى كل من المدعيين على حد سواء ، فعلى الحاكم مطالبتها من كل منهما والقضاء بحسب ما يئول الأمر إليه من الاختصاص بأحدهما أو التعارض ، بخلاف اليمين فإنها جعلت ميزانا لا حجة حتى يتصور التعارض فيها. والميزان لا يجوز أن يكون أمرا لكل من المتداعيين اقامته ، فقبل ظهور نكول أحدهما لا يكون الحلف ميزانا ، فاذن انحصر الأمر في القضاء بالتنصيف.

نعم للإقراع وجه قوي اختاره العلامة في محكي القواعد ، لكن الالتزام به موقوف على الاطمئنان بالعامل به ، فان ثبت فيها والا فلا مناص الا بالقضاء بالقسمة.

وأما إيقاف الدعوى في الثاني فلعدم البينة وعدم صلاحية الحلف للميزان كما عرفت وعدم العلم الإجمالي بدوران المال بينهما حتى يلزم من عدم القضاء تعطيل الحق لاحتمال كونه لثالث.

ومما ذكرنا ظهر أن ما في محكي كشف اللثام من التحالف ، ليس على ما ينبغي. واللّه الهادي.

التقاط [ أنواع تعارض البينات وأحكامها ]

كما يتحقق التعارض بين الشاهدين كذلك يتحقق بين الشاهد والامرأتين فإذا كان لأحدهما شاهد وامرأتان وللآخر شاهد وامرأتان جرى فيه حكم تعارض البينتين. وكذا يتحقق بين الشاهد واليمين.

ص: 204

ولا إشكال في شي ء مما ذكر ، لأن قضية حجية الشاهد وامرأتين وقوع المعارضة بين فردين منها ، وكذلك قضية حجية الشاهد واليمين ، لان اليمين شرط لقبول شهادة الشاهد الواحد ، فالميزان انما هو الشاهد دون اليمين.

ويدل عليه - مضافا الى إمكان الاستدلال عليه بمفهوم آية النبإ - بعض الروايات : كان النبي صلى اللّه عليه وآله يقضي بالشاهدين والشاهد واليمين لئلا يبطل حق مسلم ولا يرد شهادة مؤمن (1).

وبالجملة لا إشكال في تعارض الحجج الشرعية في نفسها وبعضها مع بعض ، بل الظاهر جريان حكم تعارض البينتين أيضا وان كان المتبادر من لفظ « البينة » خصوص الشاهدين ، لان هذا التبادر إطلاقي بدليل عدم صحة سلب البينة عن رجل وامرأتين ولا عن الشاهد واليمين ، فكل حكم ثبت في الأدلة لتعارض البينتين يجري فيهما أيضا. لكن أحكام تعارض البينتين لم تثبت في الأدلة بعنوان تعارض البينتين بل ثبتت في موارد خاصة ووقائع معينة كانت الشهود فيها رجال على ما يظهر من التأمل في الأدلة الماضية.

نعم قد عرفت في رواية أبي بصير قول الامام عليه السلام « أكثرهم بينة يستحلف » (2) ، لكن عرفت أيضا ما في تلك الرواية ، فإن عثرنا بحكم شرعي ثابت بعنوان البينتين جرى في تعارض رجل وامرأتين وكذا في تعارض رجل ويمين ، والا فالظاهر أيضا الجريان للمناط القطعي ، فعلى تقدير الترجيح بالأكثرية يرجح شهادة الرجل وثلاث امرأة على شهادة رجل وامرأتين وهكذا.

هذا كله واضح ، وانما الإشكال في تعارض كل منهما مع الشاهدين ،

ص: 205


1- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 18.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

ففي الشرائع انه يتحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد وامرأتين ولا يتحقق بينهما وبين الشاهد واليمين.

وعلله في المسالك بأن الشاهد واليمين حجة ضعيفة ، ولذا اختلف في ثبوت الحق بهما المخالفون ، ومخالفتهم لو لم تكن مقوية نظرا الى أن الرشد في خلافهم ، فلا أقل من عدم التضعيف مع أن الاختلاف في الاعتبار لا مساس له باحداث الضعف عند من يقول بالاعتبار.

ومن هنا يظهر أن سعة مجاري الشاهدين من حيث الأموال والحقوق والحدود وغيرها وضيق دائرة الشاهد واليمين لاختصاصهما بخصوص الماليات لا يوجب أيضا ضعفا في اعتبار الشاهد واليمين ولا يفيد قصور معارضته مع الشاهدين.

نعم يمكن استظهار هذا المرام من بعض الروايات الماضية ، كقوله عليه السلام « كان شهودهم سواء في العدد والعدالة » (1) ، لأنه كما يدل على الترجيح بالأكثرية إذا كان بينة كل منهما الشاهدين كذلك يدل عليها إذا كان بينة أحدهما الشاهدين وبينة الأخر الشاهد واليمين ، لأن قضية مفهوم القيد اعتبار تساوي عدد الشهود في القضاء بالقرعة ويصدق عدم التساوي إذا كان بينة أحدهما الشاهد واليمين.

الا أن يقال : انه يدل على الترجيح بالأكثرية إذا كان شاهد كل منهما متعددا بقرينة لفظ العدد والشاهد ، واليمين ليس كذلك فهو ليس من باب مورد الرواية.

أو يقال : موردها ما إذا كان حجة كل منهما الشهود ، والشاهد واليمين ليس شهودا ، لان المركب من الشي ء وخارجه خارج عنه.

ويدفعه ما مر من أن الحجة انما هي الشاهد الواحد ، واعتبار اليمين شرط له استظهارا وقد يتوهم العكس أن الشاهد يقوى جانب المدعي فيكون الميزان

ص: 206


1- هي رواية البصري المتقدمة الوسائل ج 18 ب 12 ح 5.

هي اليمين كالمنكر الذي جانبه أقوى من المدعي الذي لا بينة له ، وهو ضعيف وسخيف.

الا أن يقال : ان المدعي في المقام القضاء بالشاهدين من دون حلف وعدم الاعتناء بالشاهد واليمين ، بمعنى عدم صلاحيتها للمعارضة وفرض وجودهما كعدمهما. وهذا النحو من الترجيح ما استظهرناه من قوله « سواء في العدد » ، بل استظهرنا منه ترجيح جانب من كان شهوده أكثر وتقديم قوله ليمينه ، وهذا غير الترجيح المطلوب في المقام. واللّه العالم.

التقاط [ التقدم التاريخي في إحدى البينتين ]

ذكروا من أسباب الترجيح اختصاص احدى البينتين بزيادة التاريخ فالأكثر على تقديمها ، كما إذا شهدت إحداهما بالملك منذ سنتين وشهدت الأخرى بالملك الفعلي الإني أو منذ سنة.

وذكروا في وجه ذلك أنهما يتعارضان في الزمان المشترك فيه ويبقى الاستصحاب - أعني استصحاب الملك السابق على ذلك الزمان - سليما عن المعارض ، فيرجع اليه : اما لكون الأصل مرجحا لما يوافقه من الدليل ، أو لكونه مرجعا بعد الحكم بتساقط المتعارضين.

ولا بد أن تفرض المسألة فيما إذا صرح صاحب الزيادة بالملك في الزمان المشترك فيه المشتمل على الملك الفعلي من غير استناد الى الاستصحاب ، والا بأن شهدت بالملك في ذلك الزمان استصحابا فلا ريب في تقديم الأخر ، لعدم صلاحية الاستصحاب لمعارضة الدليل.

هذا ، وقد يناقش فيما ذكروه بأن شهادة صاحب الزيادة بالملك في الزمان

ص: 207

المشترك فيه - أعني الملك الحالي - شهادة بالبقاء وشهادة الأخرى شهادة بالحدوث. وهو أقوى ، لاحتمال كون الشهادة بالبقاء مستندة الى الاستصحاب وعدم احتمال ذلك في الشهادة بالحدوث. فيجمع بينهما بالعمل بالشهادة بالحدوث ، لعدم كون ذلك ردا للشهادة بالبقاء بخلاف العكس ، فان العمل بالشهادة بالبقاء ردا صريحا للشهادة بالحدوث.

والجمع بين الدليلين مهما أمكن واجب ، كما أوضحنا ذلك في الصورة الرابعة من المسألة الثالثة - أعني ما إذا شهدت بينة الداخل بالمقيد وبينة الخارج بالمطلق - فارجع إليها.

والى هذا يرجع ما ذكره في القواعد من الدليل على عدم الترجيح والبناء على التساوي على ما فهمه الفاضل في كشف اللثام.

ويمكن المناقشة فيه : بأن هذا خروج عن مفروض الكلام الذي هو الترجيح بزيادة التاريخ وعدمه ، فان هذه الحيثية انما تتحقق فيما لا يجري فيه التحقيق المزبور ، كما إذا فرضنا استناد كل من الشاهدين إلى أصل أو أمارة واحدة واختلفا في زيادة التاريخ ونقصانه ، مثل ما إذا اعتقد كل واحد من البينتين كون يد الثالث الذي فرضنا المدعى به فيها يدا من قبل كل واحد من المتداعيين ، بأن اعتقدت بينة زيد ملكية العين التي في يد عمرو له باعتقاد كون عمرو وكيلا أو مملوكا له فشهدت له بالملك واعتقدت بينة الأخر مثل ذلك فشهدت له.

فحينئذ لا يمكن القول بتقديم الشاهد بالملك المتأخر بملاحظة احتمال استناد الشاهد بالملك السابق الى الاستصحاب دون الشاهد بالملك اللاحق.

ففي مثله يتم ما ذكره الأصحاب من تعارض البينتين في الزمان المشترك فيه وبقاء استصحاب ملك الزمان السابق سليما عن المعارض.

الا أن هذا الاستصحاب مما لا يقول به العلامة ، كما أشار إليه في هذه المسألة

ص: 208

بقوله « وثبوت الملك في الماضي انما يثبت تبعا لثبوته في الحال ». وحاصله :

ان شرط الاستناد اليه أن تكون الحالة السابقة مشهودا بها بوصف احتمال بقائها إلى آن القضاء ، بأن تصرح البينة بعدم العلم بزوالها. فلو شهدت بالملك في الأسس من دون هذا التصريح فليس للحاكم الاستناد اليه. وهو وجه آخر من الوجهين اللذين رد بهما على مختار الشيخ من التساقط في الزمان المشترك والأخذ بالملك السابق استصحابا.

[ صور اختلاف التاريخ في البينات ]

وكيف كان فنحن نوضح الحال في المسألة بذكر شقوقها وضروبها ، لان الاختلاف في زيادة التاريخ ونقصانه يكون في صور : من حيث كون كل من البينتين مطلقتين أو مستندتين إلى أصل أو أمارة أو مختلفتين. ومن حيث كون بينة الملك الحادث قد تكون مصرحة بالحدوث وقد تكون مطلقة.

( الاولى ) أن يكون مستند بينة الملك السابق بالشهادة بالملك في الزمان المشترك هو الاستصحاب ومجرد الاتكال على الحالة السابقة بأن علم ذلك منه بالتصريح ونحوه ، وقد يكون مستند بينة الملك المتأخر هو العلم بالناقل بأن علم منه ذلك بالتصريح ونحوه. والحكم في هذه الصورة في غاية الوضوح كما ذكرناه مرارا ، وهو ترجيح بينة الملك المتأخر ، لأن التعارض بينهما يرجع الى التعارض بين النفي والإثبات وبين الدراية وعدم الدراية مثل تعارض الجارح والمعدل. ومن الواضح تقديم المثبت ، لأن الأخذ بقوله ليس تكذيبا لقول الثاني الذي يرجع نفيه الى نفي العلم بالمزيل.

وكلام العلامة في القواعد غير منطبق على هذه الصورة ، إذ لا وجه في مثله لترجيح الشاهد بالأقدم ولا للتوقف والتساقط. وكذا كلام الأصحاب لا بد أن

ص: 209

ينزل على غيرها ، إذ لا وجه لتقديم الملك الا سبق في هذا الفرض ، مع أن ظاهر عنوان المسألة باختصاص احدى البينتين بزيادة التاريخ وجعلها من أسباب الترجيح ما إذا كان للزيادة مدخل في الحكم في هذه الصورة ، وانما جاء الترجيح من جهة أخرى لا من جهة الزيادة والنقصان.

الا أن يقال : انه لو لا زيادة التاريخ - كما إذا قال أحدهما اني أعلم انه ملكه منذ كذا ولا أعلم مزيله الان وقال الأخر اني أعلم انه ملكه بشراء ونحوه ولم يؤرخ - لم يحكم فيه بتقديم الغير المؤرخ. لاحتمال أن يكون قد اعتمد في الملك الحالي بالاستصحاب ، بأن كان الشراء الذي علم به قبل التاريخ الذي شهد بالملك فيه واستصحبه.

ومع تطرق هذا الاحتمال لا يحكم بترجيح غير المؤرخ ، فللزيادة حينئذ مدخل في الحكم حينئذ. لكن يدفعه أنها مؤثرة في الحكم بتقديم الملك المتأخر لا القديم. فتدبر.

( الثانية ) أن يكون مستند بينة الأقدم في الزمان المشترك تصرف المشهود له أو الملكية الظاهرية المستندة إلى التصرف ، مثل ما إذا اعتقد كون يد الثالث الذي فرضنا كون العين في يده يدا من جانب المشهود له لكونه وكيلا أو مملوكا ، وكان هذا الاعتقاد هو الباعث على الشهادة بالملك الأقدم مع استمراره الى آن الشهادة باعتبار استمرار يد ذلك الثالث. ويكون مستند بينة الملك القديم المتأخر عن الأول غير معلوم بأن تشهد بالملك في ابتداء سنته ، ولم يعلم أن المراد هو الملك الظاهري المستند الى بعض الأصول والأمارات أو الملك الواقعي.

وفي هذه الصورة أيضا لا بد من تقديم بينة الملك القديم - أعني المتأخر -

ص: 210

أخذا بظاهر شهادته وحملا لها على الملك الواقعي ، فيكون دليلا على بطلان مستند بينة الأقدم - أعني المتصرف.

والسر في ذلك أيضا أن التعارض بينهما في الحقيقة يرجع الى النفي والإثبات لأن مرجع الشهادة بالتصرف أو بالملك الظاهري المستند إليه إلى الشهادة بالسبب مع عدم العلم بالفساد ، ومرجع الشهادة بالملك المطلق حينئذ العلم بفساد ذلك المستند بعد حمله على الملك الواقعي ، كما هو قضية ظاهر الشهادة شرعا وعرفا لأن الشهادة بالأمور الحسية أو ما يجري مجراها من الأمور المنتزعة من الاثار الحسية كما ينزل على الإحساس لا على الحدس كذلك ينزل على واقعها لا على ما يعم الواقع والظاهر. فتدبر.

وبذلك يندفع ما لو قيل - كما في كشف اللثام - أن بينة القديم يحتمل أن تكون قد اعتمدت باليد ، وهي أعم من الملك ، فلا تكون دليلا على فساد مستند الأقدم ، فلا يرجع الى « أدري » في مقابل « لا أدري » كما قررت ، وانما يكون كذلك لو علم أنها انما شهدت بالملك من غير الجهة التي شهدت من جهتها بينة الأقدم - أعني التصرف.

وجه الاندفاع : ان هذا الاحتمال في مقابل ظاهر الشهادة لا يعتني به الا إذا توقف الجمع بينها وبين البينة المعارضة على الاعتناء به ، كما ستعرف في صورة إطلاق البينتين ، فلو أمكن الجمع بغير التنزيل على هذا الوجه الذي هو احتمال صرف في مقابل أدلة تصديق البينة فلا يصار اليه.

ولا يذهب عليك إنا لا نقول بأن ظاهر الاخبار كون المشهود به غير مستند إلى أصل أو أمارة ، لأن هذه الدعوى لا معنى لها بعد سكوت ألفاظ الشهادة وحال الشاهد عن تعيين المستند الا من جهة الحس والحدس. فافهم.

بل نقول : ان الاعتناء بذلك الاحتمال يوجب عدم العمل بالشهادة بالملك

ص: 211

حيثما يتوقف على عدم الاعتناء به ، كما إذا كانت البينة غير معارضة ، فان تنزيلها على الملك المستند إلى أصل أو أمارة لا تنفع في مقابل يد المنكر. ولذا لو صرح ببينة الخارج بذلك لم تصلح ميزانا للحاكم على أحد الوجهين أو القولين بل أقواها ، فلا بد من إلقاء هذا الاحتمال إلا إذا استلزم عدم الإلقاء طرح بينة أخرى فيجب عدم الإلقاء جمعا بين البينتين ، كما في صورة إطلاق اليمين في الصورة الاتية.

وفيما نحن فيه لا يتوقف الجمع بين البينتين على الاعتناء بهذا الاحتمال ، إذ لو حملنا بينة القديم على الملك الواقعي الغير المستند الى اليد أو الاستصحاب مثلا حصل التوافق بينهما وبين الأقدم الذي علم استناده الى مجرد التصرف.

وان شئت قلت : ان الاعتناء باحتمال كون المشهود به ظاهريا مستندا إلى أمارة ظاهرية انما يكون إذا كان في مقابله بينة أخرى يكون التعارض بينهما بعد الاعتناء بذلك الاحتمال من قبيل التعارض بين النفي والإثبات وبين الدراية وعدم الدراية.

وهنا ليس الأمر كذلك ، إذا لو حمل بينة القديم على كونها مستندة الى اليد مثلا فبينة الأقدم ليست مشتملة في هذه الصورة على العلم بفساد ذلك المستند ، إذ الفرض أنها انما شهدت بالملك الاتي باعتبار الاستناد الى التصرف السابق المستمر الى آن الشهادة القديم ، وهو ليس ادعاء للعلم بفساد مستند القديم حتى يعمل بشهادته بعد تنزيل شهادة القديم على أخس المستند - أعني الأصل أو الامارة - كما يفعل ذلك إذا توقف الجمع بين اليمين عليه.

والحاصل ان الأصل في الشهادة قبولها بموجب ما يشهد به وحملها على أشرف المستندات إلا إذا توقف الجمع بينها وبين البينة المعارضة على خلافه ، وحينئذ فلا بد من حمل شهادة القديم على أشرف المستندات ، وهو العلم الوجداني

ص: 212

بالملك الواقعي ، إذ قد يترتب في هذه الصورة على تنزيلها على أخسها - أعني الأصل أو الامارة التعبدية - فائدة الجمع كما ظهر ، فلا وجه له.

هذا ، ثمَّ ان تقديم بينة القديم في هذه الصورة يمكن درجها تحت الأصل المزبور ، أعني الترجيح بالزيادة إذا كانت في إحدى البينتين زيادة ، لأن الزيادة على قسمين صورية ومعنوية ، والصورية مثل اشتمال إحداهما على زمان غير مشتمل له الأخرى كالاقدم والقديم ، والمعنوية أن تكون مضمون احدى البينتين أخص من مضمون الأخرى ، فالخصوصية زيادة يؤخذ بها ، لعدم منافاتها مع الأخذ بالعام كما في المقام ، فان بينة الأقدم إنما شهدت بالتصرف الذي هو أعم من الملك ، بخلاف بينة القديم فإنها شهدت بالملك الذي هو أخص من اليد.

( الثالثة ) أن تكون كل واحدة من البينتين مطلقة محتملة للاستناد إلى أصل أو أمارة بحيث يكون المشهود به في كليهما نفس الملك الظاهري وإلى العلم الوجداني على وجه يكون المشهود به هو الملك الواقعي.

وهذه الصورة مورد كلمات القدماء في مسألة تعارض القديم والأقدم ، والذي يقتضيه النظر في المقام أيضا هو ترجيح القديم على الأقدم لا ما هو المشهور كما في المسالك - أعني العكس - لما ذكرنا من أن الشهادة بالبقاء أضعف من الشهادة بالحدوث ، لاحتمال استناد الاولى الى الاستصحاب دون الثانية ، فيجمع بينهما حينئذ بحمل ما يحتمل استناده الى الاستصحاب عليه وحمل الأقوى على العلم بالمزيل ولو كان أمارة كاليد كما أوضحناه في الصورة المتقدمة.

لا يقال : كما يحتمل استناد الشهادة بالبقاء الى الاستصحاب كذلك يحتمل استناد الشهادة بالحدوث إليه أيضا ، وذلك بأن يكون مستند بينة الحدوث - أي القديم - هو الشراء الذي استند في صحته الى استصحاب كاستصحاب بقاء ملك البائع المعلوم له سابقا قبل تاريخ الأقدم ، وحينئذ ينقلب الأمر فتكون الشهادة

ص: 213

بالحدوث شهادة بالبقاء وشهادة بالبقاء شهادة بالحدوث في أول زمان علمه - أي منذ سنتين - فلا مرجح لإحداهما على الأخرى من تلك الحيثية - أعني حيثية احتمل الاستناد الى الاستصحاب وعدمه.

لأنا نقول : أولا - أن ظاهر الشهادة هو الملك الواقعي ، وحيثما يحتمل العلم في حق الشاهد حملناها عليه ، وهو - أي العلم - بالملك الواقعي في الزمان المشترك غير محتمل في حق بينة الأقدم أو غير معتبر ، لأن غاية ما يقال في حقه انه علم بالملك الواقعي في ابتداء سنتين أو بالملك الظاهري المستند الى التصرف مثلا علم ببقاء ذلك الملك في أول الان المشترك فيه - أعني رأس السنة.

ولا ريب أن عمله بالبقاء يتوقف على العلم بعدم طرو المزيل في تلك المدة وهذه هي الشهادة على النفي ، وهي اما غير مسموعة أو غير صالحة لمعارضة الشهادة بالإثبات. بخلاف بينة القديم ، فان علمه بالملك الواقعي في ابتداء السنة أمر محتمل ، ولا يرجع الى الشهادة على النفي والعلم بالعدم ، لا مكان علمه في ابتداء السنة بعد حصول الملك الواقعي للآخر. وحينئذ فلا بد من الجمع بينهما بحمل بينة القديم على الاستناد الى الاستصحاب وحمل بينة القديم على العلم بسبب الملك الواقعي في ابتداء السنة كالحيازة ونحوها مما لا يحتمل فيه شي ء ليستند في رفعه الى الأصل. لما عرفت من وجوب حمل الشهادة في مقام التعارض على الوجه الذي يحصل به الجمع.

وهذا الوجه هنا منحصر فيما قلنا ، إذ لو حملنا بينة القديم على الملك الظاهري والأقدم على الملك الواقعي ، فهذا موقوف على إمكان علم بينة الأقدم بالملك الواقعي في رأس السنة الثانية من غير أن يرجع الى الشهادة على النفي.

وقد عرفت أنه متعذر ولو حملناها على الملك الظاهري لم يرتفع التعارض كما

ص: 214

لا يخفى ، فانحصر المناص في حمل الأقدم على الملك المستند الى الاستصحاب والقديم على الملك المستند الى المزيل.

فان قلت : أي دليل على هذا النحو من الجمع.

قلنا : أسلفنا الكلام في هذا الجمع واستدللنا عليه بظاهر الأصحاب في تعارض البينتين وبأدلة وجوب العمل بالبينة مهما أمكن في المسألة الثالثة من مسائل التعارض.

وثانيا - ان احتمال استناد الشهادة بحدوث الملك منذ سنة الى الاستصحاب غير قادح في كونها شهادة بالثبوت بالنسبة إلى شهادة بينة الأقدم بذلك الملك ، لما أشرنا إليه في الصورة الثانية من أن الاحتمال الذي لا يكون الأخر بالنسبة إليه « أدرى » لا يقدح. ومن الواضح أنه لو كان بينة القديم مستندة الى الشراء المبني على استصحاب ملك البائع.

فهذا احتمال لا يدفعه بينة القديم ، لأن غاية ما يلزم منه ثبوت الملك في رأس سنتين ، وهو لا يرفع استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنة مع عدم معلومية زمان ملك البائع لنا ، لأن قضية ثبوت الملك في رأس سنتين استصحاب هذا الملك الى رأس السنة ، وقضية ثبوت الملك للبائع قبل السنة مهملا استصحابه الى رأس السنة أيضا ، فيقع التعارض بين الاستصحابين.

نعم لو علم أنه مستند الى استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنتين كان بينة الأقدم حينئذ بالنسبة إلى بينة القديم المستندة إلى الشراء المبني على استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنتين « أدري » ، فتكون مقدمة عليه.

ولكن هذا الفرض أمر زائد على حمل مستند بينة الأقدم على الشراء المبني على استصحاب ملك البائع ، لأن الاقتصار على صرف هذا الحمل لا يقتضي كون

ص: 215

ملك البائع معلوما لها قبل السنتين ، إذ لا يتوقف كون المستند استصحابا على فرض الحالة السابقة قبل سنتين ، فلو كانت الحالة السابقة بعد رأس السنتين وقبل رأس السنة كان المستند أيضا استصحابا.

والحاصل ان حمل مستند الشاهد على الاستصحاب إذا لم يكن الأخر بالنسبة إليه بمنزلة « أدري » كان كحمله على الملك الواقعي ، وانما يختلفان إذا رجع محصل البينتين بعد حمل إحداهما على الاستصحاب الى تعارض « أدري » و « لا أدري » ، والمفروض أنه لا يرجع محصل بينة الأقدم والقديم الى ذلك ولو بعد حمل بينة القديم في شهادته بالملك في رأس السنة على الملك الظاهري المتوقف على الاستصحاب.

وانما يرجع الى ذلك لو حمل على الملك الظاهري المستند الى استصحاب خاص ، وهو الشراء المبني على استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنتين.

وهذا الحمل خارج عن مفاد بينة القديم سواء حملناها على الملك الواقعي أو الظاهري. بخلاف العكس ، فإنه بينة الأقدم بعد تنزيلها على الملك المستند الى الاستصحاب يكون النسبة بينهما وبين بينة القديم كنسبة « لا أدري » الى « أدري » سواء حملت بينة القديم على الملك الظاهري المحض أو الواقعي.

والحاصل ان مضمون بينة القديم سواء كان واقعيا أو ظاهريا لا يرجع الى « لا أدرى » على وجه يكون بينة الأقدم في مقابلها « أدري » ، بخلاف بينة الأقدم ، فإنها على تقدير حملها على الظاهري ترجع بالنسبة إلى الملك في الزمان المشترك - أعني رأس السنة - الا الى « لا أدري » على وجه يكون بينة القديم بالنسبة إليه « أدرى » ، لأن الشهادة بالحدوث ولو كان ظاهريا شهادة على الإثبات والشهادة بالبقاء إذا كان ظاهريا شهادة بالنفي والشهادة بالإثبات مقدم على الشهادة بالنفي.

ص: 216

هذا ، ويمكن الخدشة في ذلك بأن بينة القديم إذا كانت منزلة على الملك الظاهري تكون النسبة بينهما وبين بينة الأقدم نسبة « لا أدري » الى « أدري » على تقدير ويكون الأمر بالعكس على تقدير آخر ، وذلك لان ذلك الملك الظاهري الذي ينزل عليه بينة القديم ان كان ملكا ظاهريا مستندا الى شراء المشهود له من البائع الذي علم بملكه بعد رأس السنتين وقبل السنة كان الأمر بالعكس ، فتكون بينة الأقدم حينئذ بمنزلة « لا أدري » وبينة القديم بمنزلة « أدري ».

ولو كان ظاهريا فبمجرد حمل بينة القديم على الشراء المستند الى الاستصحاب لا ترجع إلى الشهادة بالثبوت في مقابل الشهادة بالنفي ، بل يحتمل فيه الأمران ، وهو منشأ التوقف والتساقط لعدم تمحضها حينئذ في الشهادة بالإثبات وعدم تمحض بينة الأقدم في الشهادة بالنفي حتى يحكم بتقديم القديم لاحتمال رجوع كل منهما إلى النفي مع رجوع الأخر إلى الإثبات.

وما يقال من تقديم الإثبات على النفي ، انما هو في جهتي الإثبات والنفي فلو احتمل في النفي جهة إثبات وفي الإثبات جهة نفي لم يمكن حينئذ ترجيح أحدهما على الأخر ، لعدم معلومية المراجعة إلى الإثبات الذي لا ينفيه الأخر ، بل إنما ينفي العلم به عن المراجعة إلى النفي الذي يثبته الأخر.

وهذا أصل في جميع صور تعارض النفي والإثبات ، فإن الجمع بينهما انما هو إذا كان النفي بمنزلة « لا أدري » والإثبات بمنزلة « أدري » ، وأما مجرد النفي والإثبات فلا يجمع بينهما.

هذه صور الاختلاف بالقدم والأقدم ، وبقي صورتان أخريان ذكرهما في القواعد :

( الاولى ) أن تكون احدى البينتين تشهد بالملك السابق الى الحال ، كأن يقول « اني أشهد أنه ملكه من سنة أو سنتين الى هذا الان » وتشهد الأخرى

ص: 217

بالملك الاتي خاصة ، وهي المسماة بتعارض القديم والحادث ، والحكم فيها هو الحكم في تعارض القديم والأقدم.

( والثانية ) أن تكون إحداهما ذات تاريخ معين والأخرى مطلقة ، بأن يقول « اني أشهد أنه ملكه من السابق إلى الآن » ولم يعين بدون الملك.

ولا يذهب عليك أن الاولى ليست من قبيل تعارض المؤرخ والمطلق ، والحكم هو التوقف ، ولا استصحاب هنا لأحدهما بعد التساقط. ولو قلنا في تعارض القديم والأقدم بوجوب الأخذ باستصحاب الملك في الزمان السابق الذي يختص به الأقدم ، وذلك لان استصحاب الملك في هذه الصورة يجري في كلا الجانبين ، لأنه إذا سقط البينتان فمقتضى استصحاب الملك في التاريخ المطلق المجهول بقاء الملك في الحال ، ومقتضى استصحاب الملك في التاريخ المعين أيضا كذلك فيتعارضان.

فعلى المشهور في مسألة تعارض القديم والأقدم من تساقطهما في الزمان المشترك والرجوع الى استصحاب الملك في الزمان المختص. ينبغي في هذه الصورة التحالف مثلا فضلا عن القول الذي أبداه العلامة من التساوي وعدم جواز التعويل على هذا الاستصحاب.

وهل الحكم كذلك على تقدير ترجيح القديم كما أبديناه. والظاهر لا ، لان وجه تقديم القديم على الأقدم وهو كون بينة القديم ولو كان ظاهريا راجعة إلى الإثبات في مقابل الشهادة بالنفي لا يجري هنا ، لان جهل التاريخ يمنع عن كونه شهادة بالحدوث ، لاحتمال كون التاريخ المجهول قبل التاريخ المعين.

نعم لو وجهنا تقديم بينة القديم بما مر مرارا ، وعليه أيضا من وجوب الجمع عند إمكان حمل إحداهما على ما لا تحتمله الأخرى كان اللازم هنا أيضا الجمع

ص: 218

بينهما بحمل شهادة المؤرخ على الملك الاستصحابي ، وحمل الشهادة الغير المؤرخة على العلم بالمزيل. واللّه العالم.

توضيح وتنقيح [ مستند الشهادة حجة عند تعارض البينة ]

واعلم أنه إذا لم تكن البينة معارضة بأخرى لم يلتفت الى مستند شهادته ووجب المضي على ظاهر ما تشهد به ، لعدم الداعي إلى النظر في مستند الشاهد مع عدم المعارض إذا كانت وافية ومنطبقة على الدعوى. وأما إذا كانت معارضة بأخرى فهاهنا وجوه :

( الأول ) أن يقال : انه يجب تنزيل كل منهما على المشهود به الواقعي ملكا كان أو غيره ، ويتفرع عليه تخريب قاعدة الجمع بين البينات المتعارضة ، لاستحالة كون الواقع في جانب كل واحد منهما إلا في بعض الصور ، فتكون قاعدة الجمع غالبا ملغاة لعدم إمكانه بعد حمل كل منهما على الواقع الا نادرا كما سنشير.

( والثاني ) أن يقال : انه يجب أن يكون تنزيل كل منهما على المشهود به الظاهري ، فإذا شهدت بينة بأن هذه العين مثلا ملك لفلان وشهدت أخرى بأنها ملك لاخر ، وجب تنزيل شهادة كل منهما على الملك المستند إلى أصل أو أمارة كاستصحاب ويد ونحوهما.

وعلى ذلك يبنى تأسيس قاعدة الجمع بين البينات في الجملة ، فإن هذا التنزيل ربما يفيد الجمع وربما لا يفيده ، وذلك لان الأصول والأمارات في أحد الجانبين ان كانت محتملة للأخرى تعذر الجمع لاستلزامه الترجيح بلا مرجح.

وأما إذا احتمل في إحداهما أصل أو أمارة لم تحتمل في الأخرى بحيث لو حملنا

ص: 219

عليها لم يكن منافيا للأخرى ، لكونها محمولة على بعض الوجوه الغير المنافية له حصل بحملها عليه الجمع بين البينتين ، ويظهر مثاله للمتأمل فيما قدمناه.

( والثالث ) أن يقال : إنه يجب تنزيل كل منهما على وجه يحصل به الجمع سواء كان بحملهما على الظاهري أو بحمل إحداهما على الظاهري والأخرى على الواقعي مع عدم تساوي البينة حذرا من الترجيح بلا مرجح ، وعلى هذا أيضا ينقدح وجه الجمع بين البينتين.

والفرق بينهما وبين السابق هو أن دائرة الجمع على هذا أوسع منها على الوجه الثاني.

ويتفرع عليه أنه لو شهدت إحداهما بالملك المطلق والأخرى بالشراء وجب الجمع بتقديم بينة الشراء لأنه الملك المسبب.

لا يقال : ان الملك أخص من الشراء ، وقد ذكرت في الصورة الثانية أن الخاص يشتمل على زيادة معنوية ، والترجيح بالزيادة واجبة.

لأنا نقول : هذا مبني على ملاحظة الوجه الأول من هذه الوجوه ، فان الشراء والملك إذا حملناهما على الواقعي لزم تقديم الملك ، لان الشراء الواقعي يمكن فاسدا غير مؤثرة في إفادة الملك الواقعي ، بأن يكون البائع مثلا غير مالك في الواقع. لكن الملك الواقعي لا يعقل أن يكون فاسدا ، فبعد حملهما على الواقع وجب تقديم الملك.

وهذا هو المورد النادر الذي قلنا بتحقق الجمع فيه أحيانا على الوجه الأول وأما على الوجه الثالث فالجمع يحصل بتقديم الشراء ، وذلك لان كل ما يجري في الشراء من الاحتمالات المنافية للملك الواقعي يحتمل في الملك المطلق أيضا لأن ما ينافي العام ينافي الخاص ضرورة. وأما ما يجري ويحتمل في الملك المطلق

ص: 220

فبعضها لا يجري في الشراء ، وذلك بأن يكون الملك المطلق مستندا الى يد مستندة الى الاستعارة من البائع.

وتنزيل الملك المطلق على هذا الوجه يحصل به الجمع ، لعدم المنافاة بين الملك الظاهري بهذا المعنى ، أعني المستند الى يد الاستعارة من البائع وبين الملك الواقعي الحاصل من الشراء من المعير ، فإنما قلنا بأن الجمع بأي وجه أمكن لازم تعين حملهما على هذا الوجه.

فان قلت : كما يحتمل استناد الملك الى يد الاستعارة من البائع كذلك يحتمل مثل ذلك في ملك البائع الذي كان الشراء منه فيتعارض الاحتمالان فلا يمكن الجمع.

قلت : كل ما يحتمل في ملك البائع أو في سائر مقدمات الشراء الصحيح الواقعي من الأمور المنافية لإفادته الملك الواقعي يحتمل أيضا في الملك المطلق لان كل سبب يفرض للملك يحتمل فيه بعض ما يجعله سببا ظاهريا غير مفيد للملك الواقعي.

ولكن يحتمل في الملك المطلق شي ء لا يجري في الشراء ، وهو استناده الى يد الاستعارة من البائع الواقعي ، فإنه إذا حملنا الملك المطلق على هذا الاحتمال سلم الشراء الصادر منه عما ينافي إفادته الملك الواقعي من الاحتمالات.

بخلاف تنزيل الشراء على ما أبديت من الاحتمال - أعني كونه من البائع الذي كان ملكه ظاهريا - فإنه لو حمل الشراء على ذلك لم يسلم الملك المطلق عما يوجب كونه ظاهريا ، إذ لا منافاة بين كون ملك البائع ظاهريا وكون الملك المطلق أيضا ظاهريا ، بأن تكون العين لثالث غير المتداعيين.

والحاصل ان احتمال كون البائع غير مالك واقعا معارض باحتمال كون المطلق أيضا ظاهريا ، فبعد حمل الشراء على الشراء من مستصحب الملكية للتعارض

ص: 221

الاحتمالات ولا يحصل الجمع ، بخلاف حمل الملك المطلق على الاستعارة من البائع ، فإنه على تقدير هذا الحمل سلم الشراء عما يوجب فساده ويكون شراء صحيحا ملكا ، وحينئذ فيجب الجمع بحمل ما يحتمل كونه مستندا الى سبب ظاهري لا يجري في الأخر على ذلك السبب الظاهري.

وبذلك ينقدح وجه جمع آخر في مسألة تعارض القديم والأقدم ، لأن جميع الاحتمالات المنافية للملك الواقعي التي تحتمل في القديم تحتمل في الأقدم أيضا. بخلاف العكس ، وذلك انه ليس للملك الذي يشهد به بينة القديم بحمل ظاهري لا يكون في الملك الأقدم - أعني الملك في الزمان المشترك وهو رأس السنة - لأن غاية ما في الملك القديم ابتناؤه على استصحاب يكون بينة الأقدم بالنسبة إليه مزيلا ، بأن تكون الحالة السابقة مقدما على السنتين.

وهذا الاحتمال معارض بالمثل ، إذ يحتمل أن يكون مستند بينة الأقدم في رأس السنتين استصحابا يكون بينة القديم بالنسبة مزيلا ، بأن يكون بينة الأقدم قد علم بالملك قبل السنتين ، وانما شهد به في رأس السنتين استصحابه له ، وبينة القديم قد علم بانتقال الملك منه الى شخص بعد ذلك الزمان وقبل السنتين ثمَّ علم بيعه للمشهود له في رأس السنة فشهد بالملك له في رأسها ، فإن بينة القديم في هذا الفرض مزيل لبينة الأقدم كما ان استصحابه مزيل لاستصحابه.

بخلاف بينة الأقدم ، فإن فيها بعض ما يختص به من الوجوه الظاهرية ، وهو استصحاب الملك من رأس السنتين الى رأس السنة ، فان هذا الاستصحاب غير متصور في مستند الملك القديم ، فاذا حملنا بينة القديم على الاعتماد على هذا الاستصحاب تمحض ببينة القديم مزيلا لسلامته عن هذا المحمل بعد مساواتهما في سائر الوجوه ، فيكون بينة الأقدم بمنزلة « لا أدري » مزيلا للملك الثابت

ص: 222

في رأس السنتين وبينة القديم بمنزلة « أدري » ، فيعمل ببينة القديم كما في مسألة الجرح والتعديل.

وقد يناقش في ذلك بمنع تمحض بينة القديم في كونه مزيلا له ، بل انما يتمحض في ذلك إذا كان نصا في العلم بالمزيل. وليس كذلك ، لاحتمال رجوع التعارض بينهما الى الملك الثابت في رأس السنتين ، بأن تكون شهادة بينة القديم بالملك في رأس السنة باعتبار اعتقادها عدم الملك في رأس السنتين أيضا.

والحاصل أنه على تقدير رجوع شهادة بينة الأقدم بالملك في رأس السنة إلى قوله « لا أدري » المزيل للملك السابق كما هو مبنى الجمع ، يحتمل أن يكون معارضة بينة القديم لها في هذه الجهة - أعني جهة عدم العلم بالمزيل - فتكون المعارضة في بقاء الملك السابق وعدمه بعد التسالم على حدوثه في رأس السنتين.

ويحتمل أن تكون المعارضة في الملك السابق ، بأن يكون تكذيب بينة القديم لها في رأس السنة باعتبار التكذيب في الملك السابق الثابت في رأس السنتين. وعلى هذا الاحتمال لا تكون بينة القديم مزيلة لبينة الأقدم بل معارضة لها.

وهذا هو الوجه في ذهاب الأكثر في مسألة تعارض الملك المطلق والمسبب عن الشراء مثلا الى ترجيح المسبب وعدم ذهابهم الى ترجيح بينة القديم ، لأنه على تقدير حمل الملك المطلق على الملك الظاهري المستند الى يد العارية ونحوها يتمحض بينة الملك المسبب عن الشراء مزيلة ، فيؤخذ بها جمعا ، لعدم المنافاة بين ثبوت الملك الظاهري لأحد بموجب يده مثلا وبين تملك الأخر واقعا بموجب الشراء.

فمقتضى القاعدة المسلمة عندهم من عدم معارضة « لا أدري » مع « أدري » يجب تقديم المسبب ، لأنه بمنزلة « أدري » والملك المطلق بمنزلة « أدري »

ص: 223

بعض أسباب الملك ظاهرا ولا أعلم مزيله. بخلاف مسألة القديم والأقدم ، فإن غاية ما يتصور في الأقدم حمله على الاستصحاب من رأس السنتين الى رأس السنة ورجوع الشهادة بالملك في رأس السنة إلى قوله « لا أدري » بالمزيل.

وهذا لا يكفي في حصول الجمع بتقديم بينة القديم ، لاحتمال عدم كونها بمنزلة « أدري » المزيل كما ظهر ، فلا بد من تنزيلها بعد تنزيل بينة الأقدم على الاستصحاب المزبور على علمها بالمزيل لا بعدم الملك السابق ليرجع الى التعارض والتكاذب.

وأيضا الجمع بين المطلق والمقيد انما هو بحمل المطلق على مستند ظاهري ، وهكذا جميع صور الجمع بين البينتين التي صرحوا بها في مسائل تعارض البينات ، فان الجمع فيها انما هو بحمل إحداهما على مستند خاص ظاهري.

وهذا غير الجمع المعمول في تعارض القديم والأقدم ، فإنه جمع بالتصرف في مدلول احدى البينتين ، وهي بينة القديم بحمله على الملك الحادث الرافع للملك السابق مع كون المدلول محتملا غير ذلك ، وهو الملك الحادث الرافع للملك السابق الثابت في رأس السنتين للآخر ، بأن كان معتقده عدم ذلك الملك السابق.

فالجمع في مسألة القديم والأقدم يخالف الجمع في مسألة المطلق والمقيد وهكذا في مسألة الجارح والمعدل ومسألة تعارض النافي والمثبت ، وهكذا سائر موارد الجمع من جهتين : إحداهما أن الجمع في تلك الموارد يحصل بتنزيل واحد في إحدى البينتين بخلاف الجمع في هذه ، فإنه كما عرفت يحتاج الى تنزيل بعد تنزيل آخر. وثانيتهما أن الجمع فيها راجع الى التصرف بحسب المستند لا بحسب المدلول ، بخلاف الجمع هنا فإنه جمع بالتصرف في المدلول.

لكن لقائل أن يقول : انه لا غائلة في ارتكاب الوجهين معا ، لعين ما دل على التنزيل الأول ، لأن قاعدة الجمع مهما أمكن كما يقتضي الجمع فيما إذا حصل

ص: 224

تنزيل واحد حتى يرجع الى تعارض « لا أدري » مع « أدري » كذلك يقتضيه فيما إذا توقف الرجوع الى ذلك على التنزيلين مع التصرف في المدلول.

هذا ، ويمكن توجيه تقديم القديم بتقرير آخر أوضح يرجع الى الترجيح النوعي ، وهو أن يقال : ان في مسألة تعارض القديم والأقدم أمارات ثلاث تفيد كل منها بحسب النوع الظن : إحداها أمارة حدوث الملك في رأس السنتين لزيد وثانيتها أمارة بقاء ذلك الملك الى رأس السنة وهو الاستصحاب ، وثالثتها أمارة حدوث الملك لعمرو في رأس السنة وهي بينة القديم.

ولا تعارض بين شي ء من هذه الأمارات ، إلا بين أمارة البقاء في رأس السنة لزيد وأمارة الحدوث لعمرو ، فدار الأمر بين العمل بأمارة الحدوث أو بأمارة البقاء ، والعمل بأمارة البقاء طرح وتكذيب لامارة الحدوث جدا. وأما العمل بأمارة الحدوث فليس طرحا لامارة البقاء ، لان الدليل على اعتبار أمارة البقاء التي تفيد الظن نوعا معلق على عدم مجي ء أمارة على زوال البقاء ، والمفروض كون أمارة الحدوث لعمرو في رأس السنة أمارة للزوال ولو لم تكن ناطقة بعدم البقاء ، الا أن عدم البقاء - سواء كان باعتبار عدم الحالة السابقة أو باعتبار زوالها في رأس السنة مظنون في رأس السنة بشهادة بينة القديم - فتعين العمل بها.

ولعله لأجل ما ذكرنا نقل عن المحقق جمال الدين قدس سره في حاشية الروضة القول بتقديم القديم ، كما جنح إليه في محكي كشف اللثام.

فظهر من جميع ما ذكرنا وجه القول المشهور في مسألة تعارض القديم والأقدم ، وهو الذي ذكرنا في المناقشة ، إذ بعد عدم مساعدة قاعدة الجمع على تقديم القديم يتعارضان في رأس السنة وما بعدها ويبقى الملك السابق في رأس السنتين سليما عن المعارض ، فيستصحبه الحاكم.

ص: 225

كما ظهر أيضا وجه القول بتقديم القديم ، وأما وجه التساقط وعدم العمل باستصحاب الملك السابق كما أبداه العلامة في القواعد ، فهو اما عدم صلاحية استصحاب الملك السابق لا ثبات الملك الاتي أو عدم جريان هذا الاستصحاب أيضا بعد تعارضهما في البقاء ، لان الرجوع الى الحالة السابقة مع وجود الدليل على خلافها انما يتصور إذا كان لذلك الدليل معارض من جنسه ، بأن يكون دليل ارتفاعها واقعا معارضا بدليل وجودها الواقعي ، كما إذا تعارض دليل الوجوب الواقعي مع دليل الإباحة الواقعية ، فإنه حينئذ يرجع الى الحالة السابقة ، وهي البراءة الأصلية لأن بقاء تلك البراءة بمقتضى الظن الاستصحابي سليم حينئذ عن المعارض.

وأما إذا كان الدليل على خلاف الحالة السابقة معارضا لنفس الظن الاستصحابي لا لدليل آخر من جنسه ناظر الى وجود الحالة السابقة في الان الثاني واقعا لم يكن فيه للأخذ بالحالة السابقة وجه بعد فرض صلاحية ذلك الاستصحاب ، أعني البقاء الذي يقضي به الظن الاستصحابي لمعارضة ذلك الدليل.

والحاصل أنه ان قلنا ان الظن الحاصل بالبقاء الحاصل من ملاحظة الحالة السابقة لا يعارض الظن بالحدوث الناشئ من بينة القديم ، فهذا يقتضي الحكم بتقديم بينة القديم جمعا ، وهو خلاف الفرض ، إذ الفرض كما عليه المشهور التعارض بين الظنين والتساقط ، وبعد سقوط الظن الاستصحابي لم يبق هنا للحاكم استصحاب آخر حتى يعول عليه.

ودعوى ان التساقط بسبب المعارضة هو البقاء الذي كان مدلولا لبينة الأقدم فلا ينافي حكم الحاكم بالبقاء بعد سقوط مدلول تلك البينة. مدفوعة بأنه ليس هنا بقاء ان يكون أحدهما مدلول البينة والأخر ميزانا للحاكم بعد تساقط البينتين والأول أوجه كما يظهر بالتأمل. واللّه العالم.

ص: 226

التقاط ( في تعارض المرجحات )

قد سبق في أول باب تعارض البينات أن المرجح على ثلاثة أقسام : أحدها ما يكون من قبيل المرجحات المستعملة به في الاخبار كالاعدلية والأكثرية والأضبطية ونحوها مما يرجع الى وجوه البينتين في المتعارضتين وانها صدق أحدهما على الأخر. والثاني ما يكون من قبيل المرجحات الدلالية في الاخبار ، وقد سميناه فيما سبق بالترجيح المدلولي. والثالث ما يكون من المرجحات الخارجية كالخروج والدخول.

ثمَّ ظهر بعد ذلك أيضا ان من جملة المرجحات اشتمال احدى البينتين على زيادة لم تكن في الأخرى ، ثمَّ قسمتها الزيادة إلى صورية مثل أن بينة أحدهما تشهد بالملك القديم والأخرى به في الحال ، أو تشهد إحداهما بالأقدم والأخرى بالقديم ، ومعنوية مثل أن يكون مدلول احدى البينتين الملك ومدلول الأخرى اليد ، أو يكون مدلول إحداهما الملك المطلق والأخرى المسبب كالملك الحاصل من الشراء ، وهكذا الى سائر ما يكون مدلول إحداهما أخص من مدلول الأخرى ، فإن الخاص يزيد على العام باعتبار ما فيه من الخصوصية.

فاعلم أن هذه المرجحات قد يقع التعارض بينهما ، والذي سبق على تفاصيله كان بيانا لحكمها مع قطع النظر عن التعارض ، فلا بد من بيان صورة ما يقع بينها فيها المعارضة.

[ تعارض الأعدلية والأكثرية ونحوهما ]

فنقول :

( أما المرجح الأول ) - أعني الأعدلية والأكثرية وأضرابهما - فلا يتعلق

ص: 227

ببيان الحال فيها غرض ، لان الدليل على اعتبارها ان كان هو المقيد كانت مقدمة على الجميع ، لأنها حينئذ مرجحات منصوصة لا يقاومها المرجحات الغير المنصوصة ، لأنها مرجحات حيث لا يكون مرجح.

نعم بعض صور الترجيح بالأمور المزبورة - كأن يرجع الى عدم التعارض رأسا - لا يلتفت إليها أيضا ، مثل ما إذا شهدت إحداهما بالملك بموجب الاستصحاب وشهدت الأخرى بالمزيل ، فان الحكم بتقديم المزيل هنا في الحقيقة جمع بين البينتين لا ترجيح ، وتسميته ترجيحا مبني على التسامح.

ففي مثل هذه الصورة لا ينبغي الاعتداد بالأعدلية مثلا ولو كان اعتبارها ثابتا بالنص تعبدا ، لان ذلك إنما هو في مقام التعارض وهنا لا تعارض. وأما في مثل المطلق والمقيد فقد ذكرنا أيضا وجه جريان الترجيح بالأعدلية فيه وعدمه في الصورة الرابعة من صور تعارض بينة الداخل والخارج. فارجع.

وان كان وجه اعتبارها غير الاخبار - بناء على وجوب الترجيح في البينات المتعارضة - كانت رتبتها متأخرة عن جميع المرجحات المزبورة ، لأن هذه المرجحات بمنزلة الترجيح من حيث الدلالة في الاخبار التي مرجعها الى الجمع أو الى الترجيح من حيث المرجحات الداخلية بالنسبة إلى الأعدلية ونحوها.

وكيف كان فالغرض هنا متعلق ببيان حال التعارض فيما عداها من اليد والزيادة والإطلاق والتقييد ، ويندرج فيه مسائل :

( الأولى ) تعارض الزيادة الصورية مع الدخول والخروج ، وتحتها ثمان : لأن الزيادة الصورية اما أن تكون في طرف الخارج أو الداخل ، وعلى التقديرين فاما أن يتكلم على القول بترجيح بينة الخارج أو الداخل ، وعلى التقادير الأربعة فاما أن يقال في مسألة الاختلاف في الزيادة الصورية بتقديم القديم على الحادث

ص: 228

أو الأقدم على القديم ، أو يقال بالعكس كما جنح إليه في كشف اللثام وقويناه بوجوه عديدة وأطوار عجيبة.

فهذه ثمان مسائل ، وانما أسقطنا الاحتمال الثالث في مسألة تعارض القديم والأقدم الذي أبداه العلامة ، وهو القول بالتساقط وعدم الرجوع الى استصحاب الملك القديم أو الأقدم ، لأن الزيادة على هذا القول ليس من المرجحات وكذا النقصان ، ولازمه عدم التكافؤ لشي ء من المرجحات ، يعني وجوب الأخذ بالمرجح سواء كان في طرف السابق أو اللاحق.

وتوضيح الحال في المسائل الثمان هو أنه على القول بترجيح السابق ، فاما أن يكون السبق في بينة الخارج أو الداخل. وعلى التقديرين يتكلم تارة على القول بتقديم بينة الداخل ، فهذه أربع مسائل :

الاولى : أن يكون السبق في بينة الخارج وبنينا على تقديم الخارج ، فهنا لا إشكال في تقديمها على بينة الخارج مطلقا.

الثانية : أن يكون السبق في طرف الخارج أيضا وبنينا على تقديم بينة الداخل ، فان قلنا ان اليد مرجع لا مرجح أشكل الأمر في الترجيح هنا ، لان ترجيح السبق أيضا يرجع الى تساقط البينتين والرجوع الى استصحاب الملك لان هذا الاستصحاب لا يعقل أن يكون مرجحا للبينة ، إذ الملك السابق حالة سابقة واحدة تارة يعول عليها الشاهد وأخرى يعول عليها الحاكم.

وبعد سقوط تعويل الشاهد عليها باعتبار معارضة بينة اللاحق يرجع إليها الحاكم ، فليس استصحاب الحاكم أمارة أخرى يعاضد بينة السابق على القول باعتضاد الاستصحاب للدليل فضلا عن القول بعدم صلاحية الأصل لأن يكون مرجحا ، وانما يكون الاستصحاب كذلك إذا لم يكن الموافق له معولا عليه كما لو تعارض دليل الوجوب الواقعي والإباحة الواقعية ، فإن الحالة السابقة - أعني

ص: 229

البراءة الأصلية - تكون أمارة معاضدة لدليل الإباحة الواقعية الغير المستند الى الاستصحاب بل الى الحس ونحوه.

بخلاف بينة السابق ، فان شهادتها بالملك اللاحق مبنية على سبق الملك ، ومستندة الى الحالة السابقة أو محتملة للاستناد إليها ، فلا تكون كل واحدة من البينة والحالة أمارة مستقلة تصلح لاعتضاد الأخرى.

وحينئذ فيشكل الترجيح في المقام ، الا أن يقال : ان بعد تساقط البينتين يقع التعارض بين المرجعين الاستصحاب واليد ، وحيث أن اليد واردة وحاكمة على الاستصحاب تعين الأخذ بها ويترجح بينة الداخل.

هذا إذا قلنا ان اليد مرجع لا مرجح ، وان قلنا انها مرجحة كان ترجيح بينة الداخل حينئذ أوضح وان كان السبق للأخرى ، لما عرفت من عدم صلاحية السبق للترجيح ، وان إطلاق الترجيح عليه مسامحة ، إذ المراد به تساقط البينتين والرجوع الى الاستصحاب ، فلا يصلح للمعارضة مع شي ء من المرجحات.

والثالثة : أن يكون السبق في بينة الداخل وقلنا بترجيحها على بينة الخارج وحينئذ وجب تقديمها ، سواء كانت اليد مرجعا أو مرجحا كما لا يخفى.

والرابعة : أن يكون السبق لبينة الداخل أيضا وبنينا على ترجيح بينة الخارج وحينئذ فإن قلنا ان وجه ترجيح الخارج هو أن البينة غير مسموعة من الداخل مطلقا ، سواء كان في صورة المعارضة أم لا كما هو أحد الاحتمالات في المسألة على ما سبق وان كان قد عرفت ضعفه.

فلا فائدة في هذا المرجح - أعني البقاء - إذ الفرض عدم حجية بينة الداخل والسبق انما يكون مرجحا إذا كانت البينة التي تشهد بها حجة.

وان قلنا ان وجه الترجيح رجحان بينة الخارج باعتبار الخروج ، أشكل حينئذ في ترجيح الخارج أو الداخل من إطلاق رواية منصور ولا أقبل من الذي

ص: 230

في يده بينة ، ومن أن عدم القبول انما هو في صورة التكافؤ لا في صورة رجحان بينة الداخل بمرجح كالسبق ، والأول أظهر عملا بإطلاق الأدلة.

هذا كله على القول بالترجيح بالسبق ، وأما على القول بالترجيح باللحوق - كما نقل عن جمال الدين - فالصور أيضا أربع مثل الصور المزبورة :

ففي الأولى لا بد من النظر في أن ترجيح بينة الخارج نظير الشاهد واليمين في قبال البينة على الوجهين فيه كما تقدما ، أو لأجل الترجيح بالخروج بعد كون كل من البينتين حجة ، وعلى الأولتين لا فائدة أيضا للحوق في بينة الداخل كما لا يخفى. وعلى الثاني فالظاهر ترجيح بينة الداخل حينئذ لكونه بمنزلة الجمع كما سبق ، فلا يجري فيه الترجيح بالخروج ونحوه.

وفي الصورة الثانية يقدم بينة الداخل ، سواء كان اليد مرجعا أو مرجحا ، لتعاضد المرجحين اللحقوق واليد.

وفي الصورة الثالثة يقدم بينة الخارج ، سواء كان اليد مرجعا أو مرجحا ، لأن الأخذ بالقديم نحو جمع بين البينتين كما تحقق ، فلا عبرة معه باليد على شي ء من الوجهين.

وفي الصورة الرابعة يقدم أيضا بينة الداخل بطريق أولى على جميع التقادير ، كما يظهر الوجه بالتأمل والتدبر.

هذه الحال في تعارض الترجيح السبقي واللحوقي مع اليد ، وأما تعارضهما مع بقية المرجحات فقد ظهر الحال في تعارضهما مع الأعدلية والأكثرية ، وأما تعارضهما مع قوة الحجة وضعفها مع أقوائية الشاهدين من الشاهد واليمين فالحال فيه أيضا واضحة ، لأن الحجة الضعيفة ساقطة عن الاعتبار رأسا في مقابل الحجة القوية فلا يجدي فيها المرجحات.

وأما تعارضهما مع الترجيح بالإطلاق والتقييد - أعني الملك المسبب -

ص: 231

فالظاهر أنه غير متصور ، لان تعارض الحادث والقديم أو القديم والأقدم لا يكونان إلا في المسببين ، إذ لو كانا مطلقين أو كان أحدهما مطلقا خرج عن كونها شهادة بالحدوث أو القدم ، وذلك لان الإطلاق في الشهادة كونها على وجه يحتمل معه الاستناد إلى أمارة شرعية ، والشهادة بالحادث أو القديم مرجعها إلى الشهادة بالملك عن سبب لا عن أمارة ، إذ الحادث أو القديم لا يعقل استناده إلى الامارة ، إذ الامارة لا توجب حدوث الملك ولا قدمه ، لان الطريق لا يؤثر في نفس ذي الطريق.

نعم يمكن فرض وقوع التعارض بين السبق واللحوق وبين الإطلاق والتقييد لا بينهما وبين الحادث والقديم ، كما إذا شهدت إحداهما بنفس الملك في رأس السنة لا بحدوث الملك فيه وشهدت الأخرى بالملك في الحال أو شهدت به في رأس السنتين ، فان في مثل هذه الصورة يتصور التعارض بين السبق أو اللحوق وبين المطلق أو المقيد كأن تقول إحداهما « أشهد انه اشتراه في رأس السنة » وتقول الأخرى « أشهد أنه ملكه في الحال » ، وحينئذ فاما أن يتكلم فيه على القول بترجيح السبق أو بترجيح التأخر ، وعلى التقديرين فلإطلاق اما في طرف السابق والتقييد في طرف المتأخر أو العكس.

فهذه أربعة أقسام يظهر حكمها لمن تأمل فيما ذكرنا في الصور الثمان.

ومنه يظهر أيضا ما إذا تعارض السبق والتأخر مع الترجيح باليد والسبب كأن يقول السابق « أشهد أنه اشتراه » واللاحق « أشهد أنه في يده » أو العكس.

وعلى التقديرين فقد يتكلم على القول بترجيح السابق أو المتأخر. فتدبر تنتقل الى ما هو الحكم فيها. واللّه العالم.

ص: 232

التقاط [ عند تعارض البينتين هل يشترط ضم الشاهد ]

هل يشترط في مسألة تعارض القدم والحدوث أو القديم والأقدم المتقدمة ضم الشاهد بالقديم أو الأقدم إلى شهادته بالملك السابق شيئا يدل على عدم علمه بالمزيل كقوله « ولا نعلم مزيلا » أو « لا أدري زال أم لا » ، أو لا يشترط الضميمة مطلقا ، أو يشترط مطلقا ، أو يشترط أن تكون تلك الضميمة بالصيغة الاولى - أعني قوله « ولا أعلم له مزيلا » لا بالصيغة الثانية. فيه وجوه أو أقوال :

ظاهر عبارة المحقق وإطلاقها على ما صرح به في المسالك عدم اشتراط الضميمة مطلقا ، وصرح في القواعد بأن الشهادة بالملك السابق لا تسمع إلا بضميمة قوله « لا أعلم له مزيلا ».

وظاهر المسالك أنه مذهب الأكثر ، قال : وعللوه بأن قوله « لا أدري زال أم لا » يقتضي تردد أو ريبة ، فهي بعيدة عن أداء الشهادة ، بخلاف قوله « ولا أعلم له مزيلا ». ومختار صاحب المسالك هو الوجه الثاني ، أعني اشتراط مطلق الضميمة.

والتحقيق أن الشهادة بالملك السابق بدون الضميمة ليست شهادة بالمدعى ، وهو الملك الحالي ، فلا بد للحاكم في الحكم بالملك الحالي من التعويل على الاستصحاب ، لأن مجاري الشهادات بل جميع إخبارات المتشرعة بموضوعات الاحكام كالوقف والنسب والملك والزوجية على الاخبار بها اعتمادا على بعض ما عليها من الامارات الشرعية وان لم يصرح به في حال الشهادة بل أطلق ، ضرورة عدم إمكان العلم الواقعي بحقائقها لعدم كونها من الأمور المحسوسة ، فشهادة أحد بالملك تعويلا على الاستصحاب لو خرجت عن موازين القضاء وعد القضاء

ص: 233

بها من القضاء بالاستصحاب لم يكن لأدلة العمل بالبينة مورد في الأمور الغير المحسوسة ، فمبنى الاخبار بها عرفا على التعويل على بعض الامارات.

نعم لو شهدت البينة بالملك المستصحب - بأن كان الاستصحاب من مقومات المشهود به - كان جعلها من البينة التي هي من الموازين مشكلة ، ولذا فرق في القواعد بين قوله « لا اعلم له مزيلا » وبين قوله « هذا ملك بمقتضى الاستصحاب » ، فحكم بكفاية الأول دون الثاني.

فإن وجه هذا الفرق هو الذي ذكرنا من أن المدار على صدق الشهادة عرفا ، وأنه إذا شهد بالشي ء معولا في شهادته على الاستصحاب أو اليد مثلا يصدق عليه أنه شهد بالمدعى. ولا يقدح فيه التعويل على الامارة الشرعية ، بخلاف ما لو شهدت بالملك الاستصحابى ، فإنه لا يصدق عليه عرفا أنه شهد بالمدعى وهو الملك.

وبالجملة فرق بين تقييد نفس المشهود به بالأمارة كاليد أو الاستصحاب وبين إيقاع الشهادة على الواقع بانيا وتعويلا فيه على الامارة ، فإن الثاني شهادة بالواقع ولو لم تكن عن طريق علمي والثاني بيان واخبار بحكم ظاهري شرعي ، أعني اقتضاء الاستصحاب الملك أو دلالة اليد عليه.

هذا وجه اعتبار الضميمة ، ووجه الفرق بين قوله « لا أعلم له مزيلا » وقوله « هذا ملكه بموجب الاستصحاب » كما ذكره في القواعد.

وأما وجه عدم كفاية قوله « لا أدري زال أم لا » فهو أن مثل هذا القول أيضا يمنع عن صدق الشهادة ، لأن مثل هذا الشخص لا يصدق عليه عرفا أنه شهد بالملك الحالي ، بل العرف في مثله يحكمون بأنه ليس له شهادة في الملك الاتي فضلا عن عدم صدق الشهادة.

ولعل وجهه ما في المسالك وعن الإيضاح من أن هذا القول يكشف عن ريبه في ضمير الشاهد مانعة عن شهادته بالبقاء ولو بملاحظة الاستصحاب.

ص: 234

[ الاستصحاب عند ثبوت اشتغال الذمة ]

هذا ، ولكن في المقام اشكال ، وهو أن الظاهر عدم الاشكال والخلاف في أنه لو شهد بسبب الاشتغال السابق كالقرض ونحوه أو بنفس الاشتغال حكم الحاكم بالاشتغال الفعلي اتكالا على الاستصحاب من غير حاجة الى ضميمة.

وكذا لو أقر ذو اليد بالملك السابق ، كما صرح به العلامة في القواعد بعد أن قال بعدم فائدة في الشهادة بالملك السابق من دون الضميمة : بل ربما يقال في مثل الشهادة بسبب الاشتغال أو سبب الزوجية أو بنفسها السابقة أنه لا يقدح علم الشاهد بالأداء أو الطلاق.

وقد ذكر العلامة في محكي التحرير والقواعد أنه لو شهد أحد الشاهدين بالقرض السابق مثلا وشهد الأخر بالوفاء لم تنفع شهادة الثاني ، لكون المدعي مكذبا لقول الشاهد كما عن التحرير ، أو لعدم كون الشهادة بالوفاء شهادة صريحة بالقرض في الاشتغال كما عن القواعد ، ولم يعطل عدم الفائدة في شي ء من الكتابين بأن ثبوت المدعي في السابق لا يكفي إلا مع كون الشاهد قادرا على الاستصحاب باعتبار عدم علمه بالمزيل.

وهذا منه يفصح عن أن المانع ليس فقدان شهادة الثاني للضميمة ، بل هو اما تكذيب المدعي أو عدم صراحة الشهادة ، فلا وجه لاعتبار عدم علم الشاهد بالزوال.

وحيثما يكون كذلك فمقتضى القاعدة عدم قدح علمه بالخلاف أيضا ، فإنه إذا لم يعتبر استصحاب الشاهد لم يقدح تصريحه بالزوال أيضا.

وبالجملة المانع عن الحكم يقتضي الشهادة بالملك من دون الضميمة ان كان هو عدم صلاحية الاستصحاب - أي استصحاب الحاكم للقضاء - لزم عدم الحكم بالبينة على الاشتغال أو البيع أو الزوجية السابقة أيضا وكذا بالإقرار

ص: 235

بالملك السابق ، والا فلا وجه لاعتبار الضميمة في الشهادة بالملك القديم أيضا.

هذا ، ويمكن الذب عن الإشكال بأن المقامين مختلفان ، لأن الشهادة بالقرض السابق تحدث حقا على المدعى عليه بالخصوص في الزمان السابق ، وبعد ثبوت هذا الحق ينقطع أثر إنكاره ، فلا بد له من دعوى جديدة بالإبراء والا كان إنكاره مع ثبوت ذلك الحق باطلا ، بمعنى أنه لا يترتب على إنكاره بدون تجديد الدعوى وظيفة الإنكار وأثره الشرعي - أعني الحلف - لأنه إذا حلف على عدم الاشتغال رأسا وفي شي ء من الأزمنة ، وهو باطل لأنه مكذب للبينة. والثاني الحلف على عدم الاشتغال المسبب عن سبب البراءة ، وهو حلف على أمر وجودي أو عدم حادث لا العدم الأزلي ، وهو أيضا باطل.

وهكذا إذا أقر المدعى عليه بالملك السابق ، فإن الإقرار بالملك للمدعي ولو سابقا يوجب تعلق إلزام ولو تقديرا على المدعى عليه المقر ، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز مطلقا في أي زمان كان. وتعلق هذا الإلزام أيضا يبطل أثر إنكاره ، لأنه اما يحلف على عدم وجود شي ء ملزم عليه رأسا فهذا مكذب للإقرار ، أو يحلف على حصول ما أوجب رفع هذا الإلزام المسبب من الإقرار فهو حلف على الإثبات.

وهكذا الكلام إذا أقام أحد المتداعيين بينة على سبب الملك السابق الملزم على صاحبه شيئا في السابق فإنه يحكم له على صاحبه ، كما إذا تداعيا عينا في يد ثالث وأقام أحدهما بينة على أنه اشتراها منه أمس أو قبل الأمس. فإن هذه البينة تكفي في هذا المقام ، إذ مع وجودها لا يترتب على دعوى الأخر أثر ، لأنه ان كان يدعي عدم حجة له رأسا وفي جميع الأزمنة فهذا دعوى مكذبة للبينة ، وان كان يدعي الحجة على صاحبه بانتقال ونحوه فهذه دعوى بلا بينة.

ولا كذا إذا أقام في هذه الصورة بينة على مجرد الملك السابق أو الشراء

ص: 236

من شخص ما ، فان هذه البينة لا تبطل دعوى خصمه ، فالقضاء بموجبها قضاء بما لا يبطل قول الخصم. وضم الاستصحاب الى تلك البينة حتى تكون البينة بضميمة استصحاب الحاكم مبطلة لدعوى الخصم قضاء بالاستصحاب لا بالبينة ، بخلاف الأول فإن القضاء بالبينة القائمة على الشراء من الخصم قضاء بالبينة ، لأنها قد أوجبت على الخصم حقا في شي ء من الأزمنة ، فالحكم بذلك الحق حق بموجب البينة.

فإن قلت : لا بد للحاكم في هذه الصور كلها من الاستصحاب ، لان وجود سبب الاشتغال أو نفس الاشتغال أو سبب الزوجية أو نفس الزوجية أو الشراء السابق من المدعى عليه في مسألة التداعي ، وبالجملة ثبوت الحق السابق غير منطبق على دعوى المدعي ، وهو الحق في الحال ، فلا يكفي في قطع الإنكار أو قطع الدعوى. الا أن يستصحب الحاكم ذلك الحق السابق ، فكيف يكون الفاصل نفس البينة.

قلنا : يكفي في استناد القضاء إلى البينة إيجابها حقا في أحد الأزمنة بدون مئونة الاستصحاب ، واحتياج الحاكم في إثبات ذلك الحق في الحال الى الاستصحاب انما هو في مقام العمل ان استتم ميزان القضاء ، فالاحتياج الى الاستصحاب انما هو لترتب أثر الحق الثابت بالبينة.

وهذا ليس استناد أصل القضاء وابطال دعوى الخصم بضميمة الاستصحاب وانما يكون كذلك لو كان الثابت بالبينة في السابق أمرا غير ملزم على المدعى عليه بوجوده السابق وكان اقتضاؤه إبطال دعوى الخصم موقوفا على استصحاب الحاكم لذلك الأمر السابق كما في الشهادة بالملك السابق ، فان ثبوت الملك سابقا لأحد الخصمين لا يبطل دعوى الأخر ولا يحدث حقا له عليه بعد استصحاب الملك السابق وإثباته في الحال.

ص: 237

ومما يدل على كفاية اشتمال مدلول البينة حقا ولو في السابق في استناد القضاء إليها أنه لا ريب في سماع دعوى الحق السابق وكون دعواه دعوى ملزمة يجب سماعها ، فاذا وجب سماعها وجب قبول البينة على طبقها والحكم على طبقها. بخلاف دعوى الملك السابق ، فإنها دعوى غير ملزمة ، فلا تسمع فلا تفيد البينة عليه شيئا.

ومن أجل ذلك فرق الجل أو الكل بين دعوى المدعي كون هذا الولد من جاريته وبين كون هذا الغزل من قطنه ، فحكموا بسماع الثانية ، لأن ملك القطن مقتضى لملكية الغزل بحيث لو ادعى أحد بعد الاعتراف بملكية القطن ملك الغزل كان مدعيا مطالبا بالحجة ، ولو كان له يد على الغزل فيكون قول المدعي « هذا الغزل من قطني » دعوى ملزمة يجب سماعها على الحاكم ومطالبة البينة على طبقها والحكم بموجبها بعد الإقامة وبعدم سماع الاولى لعدم سببية ملك الجارية لملكية الولد ، فلا تكون دعوى ولادة الولد من المملوكة دعوى ملزمة مسموعة. فالمدار على كون المدعى به ملزما على المدعى عليه حقا وشيئا بلا مئونة الاستصحاب ، فإنه إذا كان كذلك سمع دعواه وقبل البينة ، للملازمة بين سماع الدعوى وقبول البينة على طبقها. بخلاف ما إذا لم يكن كذلك بل توقف سماع الدعوى على ادعاء شي ء آخر كقولك سماع دعوى الملك السابق على دعوى الملك الحالي ، فإن البينة لا تسمع إلا إذا تضمنت على ذلك الشي ء الذي يتوقف على دعواه سماع الدعوى.

[ ابطال قول الخصم يتوقف على ضم الاستصحاب ]

ومما ذكر ظهر أن قطع الدعوى وابطال قول الخصم في الصورة المزبورة انما حصل بنفس البينة من دون ضميمة الاستصحاب. بخلاف إبطاله في دعوى

ص: 238

الملك السابق ، فإن إبطاله قول الخصم فيه لا يحصل بمجرد البينة على الملك السابق ، بل يتوقف أصل الإبطال على ضم الاستصحاب.

فان قلت : إذا ادعى على ذي اليد الملك السابق وأقام البينة عليه فهذا ابطال لإنكاره وإفساد لأثره الذي هو الحلف ، فالفصل فيه - أعني إبطال أثر قول المدعى عليه وجعله كالعدم - مستند إلى البينة من دون ضم الاستصحاب ، وانما يحتاج إليه في مقام العمل لا في مقام الفصل. ووجه ابطال البينة إنكاره كإبطال إنكار منكر الدين في المسألة السابقة هو أن ذا اليد حينئذ اما يحلف على عدم الملك المدعي الظاهر سابقا ولاحقا فهذا مكذب للبينة ، واما يحلف على عدم ملكه المتجدد المسبب عن سبب مزيل للملك منذ أحلف على الإثبات ، فأمر حلف ذي اليد أيضا دائر بين أمرين باطلين نظير حلف منكر الدين كما قلنا ، فالقضاء بالبينة على الملك أيضا قضاء بالبينة خاصة لاستقلالها في إبطال أثر الإنكار ، وأما الاستصحاب فالاحتياج اليه هنا أيضا في مقام العمل لا في مقام الحكم.

قلت : ليس الأمر كذلك ، لأن جهة إنكار ذي اليد والسبب في جعله منكرا مع أنه يدعي الملك فهي في الحقيقة مدعي لا منكر ، وان كان دعواه ملازمة لإنكار ملك المدعي هي أن مرجع قوله في الحقيقة إلى نفي استحقاق شي ء عليه نظير إنكار منكر الاشتغال لا الى نفي ملك المدعي ولا الى دعوى ملكية العين عين أمارة شرعية أعني اليد.

توضيحه : ان إنكار ذي اليد فيه جهات ثلاث : إحداها انه يدعي أمرا وجوديا مطابقا للظاهر وموافقا للأمارة الشرعية أعني ملكية ما في اليد ، والثانية أنه ينفي ملك من عداه وملك خصوص المدعي عما في يده ، والثالثة أنه ينفي

ص: 239

استحقاق المدعي شيئا عليه. فجعل ذي اليد منكرا اما لأجل الجهة الأولى أو الثانية أو الثالثة.

لكن المعين هو الأخير ، لأنه باعتباره صار مدعى عليه ، فيكون تسميته منكرا أيضا من جهة ملاحظة ذلك ، إذ الشخص لا يكون مدعى عليه الا إذا كان المدعى به مربوطا به حتى يكون استحقاق أحد له استحقاقا عليه ، ولذا لا يكون دعوى العين المطروحة دعوى على أحد ، فجهة إنكار ذي اليد هي بعينها جهة لا إنكار في دعوى الدين منكر ، وهي نفي استحقاق المدعي.

فكما أن المدعى عليه في دعوى الدين منكر من جهة نفيه استحقاق المدعي شيئا عليه ، فكذلك في دعوى العين منكر من جهة إنكاره استحقاق المدعي شيئا عليه ، لا من جهة كونه مدعيا لأمر موافق الظاهر - أعني ملكية ما في يده - ولا من جهة كونه منكرا لملكية المدعي لما في يده ، وحينئذ فحلف ذي اليد انما يتحقق في الحقيقة بنفي الاستحقاق.

ومن الواضح أن الحلف عليه ليس أمره دائرا بين أمرين باطلين كحلف منكر الدين بعد قيام البينة على الاشتغال السابق ، لان عدم الاستحقاق الأزلي ليس مكذبا لبينة المدعي على الملك السابق ، لأنه لم يحدث في السابق حقا على ذي اليد حتى يكون الحلف على عدم الاستحقاق الأزلي مكذبا للبينة ، فإنكاره بعد باق على حكمه الذي هو الحلف ، بخلاف حلف منكر الدين فإنه باطل كما عرفت ، وهو معنى بطلان أثر الإنكار وجعل وجوده كالعدم.

نعم لو علم أن العين في زمان الملك السابق كانت في يد ذي اليد التزمنا فيه بعدم الاحتياج إلى الضميمة ، وان البينة حينئذ كافية في الميزان. نظير البينة على الاشتغال السابق ، لأن الملكية السابقة حينئذ سبب لثبوت حق للمدعي على

ص: 240

ذي اليد في الزمان السابق ، فيكون مثل الاشتغال السابق ، ولم يعلم قول الأصحاب بعدم كفاية البينة على الملك السابق في مثل هذا الفرض.

فائدة [ الفرق بين شهادة البينة بالملك السابق ] [ وإقرار ذي اليد ]

علل في القواعد الفرق بين شهادة البينة بالملك السابق وبين إقرار ذي اليد ، بأن البينة تخبر عن تخمين والإقرار اخبار عن تحقيق.

وهذا التعليل بظاهره عليل كما لا يخفى.

ويمكن توجيهه بما فيه بعض المنافاة لما ذكرنا في وجه الفرق ، وهو أن البينة اخبارها يحتمل أن يكون مستندا الى العلم بسبب الملك السابق وعلى العلم ببعض أمارات الملك كاليد. ومثل هذه لا تكون مطابقة للدعوى ، لأنها على تقدير استنادها إلى أمارة الملك السابق لم توجب بالفعل - أي في حال الدعوى - على المدعى عليه شيئا ، فلا تكون منطبقة على الدعوى وهو الملك الفعلي ، وذلك لان وجود السبب في أحد الأزمنة سبب ومقتض في جميع الأزمنة الى أن يعلم المزيل.

ويكفي في الانطباق قيام البينة على وجود المقتضي والسبب بالفعل ، لأن الدعاوي كما تثبت بثبوت نفسها كذلك تثبت بثبوت سببها ، فلا فرق بين البينة التي تشهد بالملك الفعلي وبين البينة التي تشهد بمقتضى الملك - أي بوجود المقتضي فعلا في حال الدعوى ، فاذا كان حال البينة مجملة لم تنفع ، فقوله « ان البينة تخبر عن تخمين » إشارة الى أن البينة لا يجب أن يكون مستند شهادتها العلم بالملك السابق عن سبب حتى تكون مطابقة للدعوى ، لاحتمال كون مستندها العلم به عن أمارة شرعية فلا تكون منطبقة ، بخلاف الإقرار فإنه من

ص: 241

الملزمات الشرعية سواء كان قبل الدعوى أو في حالها ، فيجري وجوده السابق مجرى السبب السابق في كونه مقتضيا للملك الفعلي.

فالفرق بين البينة والإقرار انما جاء من جهة كون الإقرار ولو سابقا بمنزلة الأسباب التي مقتضاها الملك في جميع الأزمنة ما لم يمنع المانع والمزيل ، بخلاف البينة فإنها أعم من أن يكون مؤداها وجود الملك سابقا عن سبب أو عن أمارة. فالإقرار بالملك السابق إقرار بما يقتضي المدعى به - أعني الملك الفعلي - ولو لم يكن علة له ، فيكون منطبقا على دعوى المدعي ، إذ لا فرق في الانطباق بين أن يكون الميزان الشرعي قائما بالمدعى به فعلا عن الملك الفعلي أو بما يقتضيه شأنا لو لم يكن له مزيل في الواقع.

وعلى هذا الفرق ينبغي أن يفرق أيضا بين شهادة البينة بنفس الاشتغال السابق أو بسببه كالقرض ، فينفع في الثاني دون الأول ، لأن الاشتغال السابق غير منطبق على الدعوى وهو الاشتغال الفعلي ، بخلاف سبب الاشتغال كالقرض السابق ، فإنه منطبق على الدعوى ، لان وجود سبب الشي ء ومقتضية في أحد الأزمنة يقتضيه مطلقا الى أن يحصل الرافع.

فالشهادة بالقرض السابق شهادة بالاشتغال الفعلي - أي يقتضيه فعلا - ولو لم تكن شهادته بعلته التامة ، بخلاف الشهادة بالاشتغال السابق والاشتغال في الحال كلاهما معلولان لعلة ثالثة وهو القرض أو شي ء آخر ، فلا ينطبق على الدعوى ، لان شرط الانطباق كون المشهود به عين المدعى به أو علته التامة أو مقتضية وسببه ، والاشتغال السابق ليس شيئا من الثلاثة.

وهذا خلاف الطريقة التي سلكناها في الفرق بين الشهادة بالملك السابق أو بالأسباب كالنكاح والبيع ونحو هما ، فان مقتضى تلك الطريقة عدم الفرق بين

ص: 242

النكاح والزوجية أو بين القرض والاشتغال ، لان مناطها كان شيئا موجودا فيهما وهو كون المشهود به في السابق أمرا ملزما على المدعى عليه.

الا أن يقال : ان الشهادة بالزوجية أو بالاشتغال لا تكون إلا عن سببهما ولو غالبا ، بخلاف الشهادة بالملك فإنها غالبا مبنية على التخمين - أعني الاستناد إلى الأمارة - فلا تكون شهادة بالسبب ، ولذا لا تكفي في دعوى الملك الفعلي ولا أقل من الاحتمال.

والحاصل ان الشهادة بسبب المدعى به ولو في السابق شهادة به ، لان المدار في ثبوت الأشياء على ثبوت سببها ومقتضيها لا على ثبوت نفسها أو ثبوت علتها التامة ، فكل شهادة ترجع إلى الشهادة بالسبب تسمع ولو تعلقت بالمسبب كالزوجية السابقة والاشتغال السابق ، إذا الزوجية والاشتغال لا يعلمان الا بسببهما ، فالشهادة بهما شهادة بسببهما إجمالا ، فتسمع كالشهادة بسببهما تفصيلا.

لا يقال : ما ذكرت من كفاية الشهادة بالسبب وانطباقها على المدعى بدون ضم الاستصحاب ممنوع ، لان المدعى به ان كان هو نفس وجود السبب من غير ضم سلامته عن المانع في الحال فدعواه دعوى غير ملزمة ، إذ لا يترتب عليه بعد ثبوته وجود المسبب فعلا ، لان المسبب لا يتحقق الا بعد وجود السبب وسلامته عن المانع ، والمعلوم انما هو سلامته عنه في السابق دون اللاحق.

ففي زمان الدعوى لا يترتب على وجوده السابق شي ء لازم على المدعى عليه حتى يكون دعواه دعوى ملزمة ، وان كان المدعى به هو وجود المسبب مع عدم المانع فالبينة غير مطابقة للدعوى كما لا يخفى.

لأنا نقول : نحن نختار الأول ، أعني كون المدعى به هو وجود المسبب.

قولك ان نفس وجوده أمر غير ملزم في الحال ، قلنا ممنوع لان عدم كونه ملزما مبني على احتمال لو التفت اليه انقلب المنكر مدعيا مطالبا بالبينة ، وهو احتمال

ص: 243

طرو المانع في الحال. وحيث أن هذه الدعوى التقديرية الثانية لا تجدي في حبس العين أو الدين ، لأنها على فرض تحققها لا ينفع في حبسهما بل عليه رد العين أو الدين مثلا قبل إقامة البينة على المزيل الرافع للمسبب في الحال ، فلا جرم يلزم بالدفع الى أن يدعي المزيل ويقيم عليه البينة فيستردان قضاء بوظيفة الدعوى الجديدة.

والظاهر أنه لا خلاف فيه أيضا بين الأصحاب ، يدل عليه ما ذكروه في ميزان الدعاوي المسموعة وأنها لا بد أن تكون ملزمة وأنه لو ادعى الهبة بدون دعوى القبض لم تسمع ، بل لا بد من ضم دعوى القبض ، مع أن دعوى الهبة المقبوضة ليس الا دعوى سبب الملك.

ولو قيل : ان مرادهم دعوى القبض مع دعوى الملك الفعلي. فهو واضح الفساد ، لان دعوى القبض حينئذ تكون لاغية ، لأن دعوى الملك الفعلي كافية في السماع. وقد صرح العلامة في هذا الباب بعد أن ذكر عدم كفاية البينة على الملك السابق : انه لو أقامها على الشراء من المدعى عليه في السابق كانت كافية.

وبالجملة الظاهر من دعاوي الأسباب دعاوي مسموعة ولو لم يضم إليها دعوى عدم المزيل أو دعوى وجود المسبب فعلا. نعم قد تقدم سابقا أن الشهيد منع في محكي الدروس عن سماع دعوى البيع بدون دعوى عدم تحقق الفسخ.

الا أن ذلك خلاف ظاهر بنائهم ، إذ لو لا ذلك لانسد باب الاشهاد على الأسباب كالبيع والصلح والقرض والنكاح ، وبطلانه ضروري.

فإن قلت : الاشهاد على الأسباب انما هو لأجل كونه مفيدا في بعض الصور وهو ما إذا أنكر المدعي أصل وجود السبب ، بأن تقول الزوجة مثلا : ان العقد لم يقع بيني وبين المدعي أصلا. فإن وجود السبب في مثل هذه الصورة يكون ملزما ، حيث أن المنكر إنما أنكر وجود المدعى به في الحال باعتبار إنكاره

ص: 244

وجود السبب رأسا ، فبعد إثبات وجود السبب يبطل إنكاره ، لأنه معترف عدم وجود المزيل ، فأحد جزئي المدعى - وهو وجود السبب - ثبت بالبينة والجزء الأخر - وهو عدم المزيل - بالتسالم والإقرار.

قلت : الاعتراف التقديري ليس اعترافا ملزما ، فلا بد في هذه الصورة أيضا من إلقاء احتمال تجدد المزيل حتى تكون البينة مطابقة للدعوى ، وهو وجود السبب مع سلامته في الحال عن المانع والمزيل.

فكما يجب إلقاء هذا الاحتمال في هذه الصورة لكونه راجعا الى دعوى المزيل تقديرا ، فكذلك فيما إذا كان الإنكار ناظرا الى وجود المسبب في الحال بأن يقول في دعوى الدين مثلا ليس لك علي دين الان ، أو في دعوى النكاح لست أنا زوجتك ، فان الوجه فيهما واحد ، وهو كفاية البينة على السبب في إثبات المسبب فعلا.

فان قلت : على ما ذكرت يجب قبول البينة على وجود السبب في الجملة ، فلو أقام المدعي بينة على الشراء في السابق من زيد مثلا لزم أن يكون ذلك كافيا في الانطباق ، ولا يلزم أن يكون السبب المدعى به هو الشراء من المدعى عليه خاصة ، لأن الشراء حين وجوده كان علة للملك فعلا ومقتضيا له في جميع الأزمنة المستقبلة الى أن يعلم السبب الناقل ، فلا فرق بين البينة على الشراء من المدعى عليه سابقا أو من شخص آخر ، فما وجه الفرق بينهما كما ذكرت.

قلت : الشراء من زيد ليس سببا واقعيا للملك الا مع البناء على ملك زيد البائع بمقتضى يده ، فالشهادة على الشراء منه شهادة تخمينية أيضا ، لاحتمال استنادها في الشراء إلى أمارة ملك البائع ، فلا تكون شهادة لوجود السبب الواقعي.

ص: 245

فإن قلت : يندفع هذا الاحتمال بما لو صرح البينة بأن المدعي اشتراها من مالكه الواقعي ، فلا بد من القبول.

قلت : هذا أيضا لا ينفع ، لأنها حينئذ تنحل الى شهادتين : إحداهما تحقيقية وهي الشهادة بالشراء ، والأخرى تخمينية وهي الشهادة بملكية البائع ، فتكون مثل الشهادة بالشراء من زيد مثلا.

والحاصل ان البينة إذا لم تكن صريحة في السبب الواقعي لم تكن نافعة ، لأن إنكار المدعي حينئذ لا ينحصر وجهه في دعوى المزيل شأنا ، لاحتمال كون إنكاره ناظرا الى تكذيب ملك البائع الذي كانت الشهادة به تخمينية.

نعم لو شهدت البينة على سبب الملك السابق إجمالا بأن يقول انه حصل في السابق سبب الملك للمدعي كانت مسموعة ، إذ لا فرق بين السبب المطلق والمقيد في كون كل منهما مقتضيا للملك في جميع الأزمنة.

الا أن يقال : ان مرجع الشهادة بالسبب المطلق إلى الشهادة بالشراء من المالك الواقعي ، لأن سبب الملك لا يرجع جميع مقدماته الى التحقيق ، بل يحتمل أن تكون الشهادة ببعض مقدماته - كملك البائع - راجعة إلى التخمين وحينئذ لا يتمحض إنكار المدعي في دعوى المزيل أو دعوى عدم مقدماته المبنية على التحقيق كنفس الإيجاب والقبول ، لاحتمال أن يرجع الى نفي مقدماته التي يحتمل كون الشهادة بها تخمينية ، فلا يصير إنكاره حينئذ باطلا ، لأن الشهادة المبنية على التخمين ليست شهادة بوجود المقتضي فعلا ، لأن الشهادة التخمينية شهادة بالمسبب لا بالسبب. مثلا إذا شهدت بأن البائع كان مالكا في حين البيع فهذه مثل الشهادة بأن المدعي كان مالكا سابقا.

ومن الواضح أن الشراء الصادر من البائع الذي شهد بكونه مالكا شهادة في الحقيقة بأن المدعي كان مالكا في السابق ، والمفروض أن ملك البائع الذي

ص: 246

وقع الشراء منه ليس مقتضيا وسببا لملك المدعى في الحال ، فلا تكون منطبقة لأن شرط الانطباق أحد الأمرين اما الشهادة بالملك أو بوجود سببه فعلا. واللّه العالم.

التقاط [ لو أقر المدعى عليه ان العين لغيره ]

إذا ادعى عينا في يد أخرى فقال المدعى عليه هو لفلان سقط عنه الخصومة ، سواء كان المقر له غائبا كما في الشرائع وغيره. والمراد سقوط المخاصمة من حيث العين لأمن حيث المالية ومن حيثيات أخرى كالولاية على الحفظ ونحوه.

وهل للمدعي إحلافه لو ادعى عليه العلم بأن العين مال المدعي ، قولان مبنيان على أن الإقرار بعد الإقرار هل يوجب الغرم للمقر له الثاني للحيلولة أم لا.

فان قيل بالأول - كما هو المشهور من بعد الشيخ ظاهرا - كان له الإحلاف وفائدته الغرم لو نكل عن الحلف بعد الرد الى المدعي أو بدونه ، وان قيل بالثاني ففي الشرائع أنه لا يجاب لعدم الفائدة حينئذ ، إذ لو أقر المدعى عليه بالعين للمدعي ثانيا لم يستفد شيئا وانما يجاب الى الحلف إذا كان الإقرار مفيدا للفائدة.

لكن في المسالك أنه على هذا القول - أعني القول بأن الإقرار لغو - لا محل له ولا يوجب الغرامة : ان قلنا ان النكول واليمين المردودة كالبينة فله التحليف ، لأنه قد ينكل فيحلف المدعي فإذا حلف وكانت العين تالفة أخذ القيمة وان قلنا إنهما كالإقرار لم يحلفه ، لأنه إن نكل وحلف المدعي لم يستفد شيئا.

وأورد عليه بعض مشايخنا قدس سره : أولا بأن تقييد الحكم بتلف العين

ص: 247

لا وجه له ، بل يغرم ولو كانت باقية بناء على كونه مثل البينة. وثانيا بأن النكول عن الحلف بمنزلة البينة على مصب الدعوى وهو العلم ، ولا يترتب على علم المدعى عليه وإقراره شي ء ، والمفروض أن إقراره بعد الإقرار لغيره لغو لا يوجب الغرامة.

والظاهر أنه لا ورود لشي ء منهما :

( أما الأول ) فلان مراد صاحب المسالك بتلف العين كونها في حكم التالف باعتبار الإقرار الأول للحيلولة لا التلف الحقيقي ، لأن المسألة مفروضة في دعوى العين ، وهي صريحة في بقائها ، مضافا الى أن ما في سائر كلماته من الصراحة بذلك. فارجع وتأمل.

فالمراد أن المدعي إذا حلف اليمين المردودة وقلنا بأنه بمنزلة البينة والمفروض أن العين باعتبار الإقرار الأول صارت بمنزلة التالف للحيلولة أخذا بقيمته.

( وأما ثانيا ) فلما مر في مسألة يمين نفي العلم من أنها إذا ردت الى المدعي حلف على الواقع لا على العلم ، لان دعوى العلم شرط لسماع دعوى المال في موارد اشتراط دعواه وليس نفس العلم مصب الدعوى في تلك الموارد.

نعم يتجه هذا الكلام فيما إذا كان العلم موضوعا وتكون الدعوى متوجهة إليه ، فان المدعي يحلف بعد الرد على نفس العلم حينئذ.

نعم يرد على صاحب المسالك إيراد آخر مضافا الى ابتناء ما ذكره على كون النكول أو اليمين المردودة بمنزلة البينة حتى بالنسبة الى الثالث كما يصرح به العلامة في بعض كلماته ، وهو أن التحليف على هذا المبنى لا يخلو عن إشكال ، لان المدعى عليه إذا لم يترتب على إقراره شي ء فلا فائدة في إحلافه رجاء لنكوله ، لان احتمال نكوله معارض باحتمال إقراره ثانيا أو حلفه ، وكل منهما

ص: 248

مقدور له ، خصوصا الإقرار الذي لا ينفع بحال المدعي ، فالتحليف في مثله لا طائل تحته.

ثمَّ لو بنينا على سماع دعوى الحلف رجاء للنكول فلا بد من تعميم دائرة سماع الدعوى ، بأن يقال : ان ميزان سماعها هو ما لو أقر المنكر بالمدعى به لنفع المدعي أو نكل عن الحلف لنفع المقر له.

هذا كله إذا علم بأن المقر له غير المدعي ، سواء كان معينا بأن يقول هذه العين لفلان أو غير معين بأن يقول انها لغير المدعي ، وأما إذا كان الإقرار الأول على وجه يحتمل كونه للمدعي أيضا بأن يقول أولا انها ليست لي بل لغيري ، فالظاهر نفوذ الإقرار للمدعي ، إذ لا منافاة بين الإقرارين حينئذ ، فيجمع بينهما وينزع العين من يده أخذا بالإقرار الثاني.

وفي مثله لا بد من الإجابة إلى التحليف ، لأنه لو أقر لنفع حتى في العين على القولين - أعني القول بنفوذ الإقرار بعد الإقرار والقول بعدم نفوذه كما عن الشيخ - لأن الإقرار الثاني حينئذ ليس لغوا.

هذا ، وهل للمدعي إحلافه على البت إذا ادعى عليه الغرامة تسبيبا أو الحلف أيضا على نفي العلم ، وجهان تقدما في مسألة ما لو تداعيا عينا في يد ثالث وأقر ذو اليد لأحدهما. كما تقدم قوة الوجه الثاني وفاقا للفاضل في كشف اللثام.

فرع [ حكم ما يؤخذ غرامة ]

لو ادعى أن العين وقف وتوليته لي فقال المنكر هي لفلان ثمَّ أحلفه المدعي ونكل وقضينا بالنكول أو بعد الرد بالغرامة بناء على مذهب المشهور من نفوذ الإقرار بعد الإقرار ، فيما يأخذه غرامة يحتمل وجهين :

ص: 249

أحدهما - أن تقوم مقام العين في الوقفية وتبذل على الموقوف عليهم.

والثاني - أن يشتري بها مثل العين الموقوفة ويجعل مكانه. واللّه العالم.

التقاط [ لو ادعى المالك الإعارة وذو اليد الإجارة ]

إذا ادعى المالك على ذي اليد أنه أعاره العين وادعى هو أنه آجرها إياه ، فالقول هنا قول المالك لأصالة براءة ذمته عما يقتضيه الإجارة ، فلو أقام كل منهما بينة جرى فيه حكم تعارض بينة الداخل والخارج ، فيقدم قول الأجنبي ، لما ذكرنا على أظهر الوجوه.

ويدل عليه مضافا الى ما عرفت ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في الثوب يدعيه الرجل في يد رجل فيقول الذي هو في يده هو لك عندي رهن ويقول الأخر هو لي عندك وديعة. قال : القول قوله وعلى الذي في يده البينة أنه رهن عنده (1).

والوجه الثاني ما عن القواعد في باب الاختلاف في العقد وان البينتين يتعارضان فيجري فيه حكم تعارض البينتين. ووجه في محكي كشف اللثام بأن كلا منهما يدعي أمرا مخالفا للأصل ، لأن كلا من العارية والإجارة عقد مثل الأخر ثمَّ اختار ما رجحنا لما ذكرنا.

والوجه الثالث - وهو أردأ الوجوه - تقديم بينة المالك لكونه خارجا نظرا الى كون الأجنبي ذا يد ، فان اليد كما ترجح ملك العين كذلك ترجح ملك المنفعة. ذكره في محكي كشف اللثام احتمالا ، واستجوده بعض مشايخنا « قده ».

ص: 250


1- الوسائل ج 13 كتاب الرهن ب 16 من أحكام الرهن ح 1 و 3 و 2.

وليس بجيد ، لان اليد انما تجعل صاحبها منكرا إذا لم يكن صاحبها معترفا بعدم كونها يد ملك وإلا فلا أثر لليد ، ولذا لا يسمع دعوى الإجارة أو الوديعة مع إنكار المالك وادعاء غصبية ذي اليد.

هذا إذا كان مدعي الإجارة ذي اليد ، ولو انعكس - بأن ادعى المالك الإجارة وادعى الأجنبي الذي في يده العين العارية - فالحال أيضا ما عرفت من أن القول قول من ينكر الإجارة وهو هنا الأجنبي.

والوجه هو الوجه ، أعني الأصل دون اليد ، لان اليد هذه لا تجعل صاحبها منكرا فيما وقع النزاع فيه ، أعني ملك المنفعة أو عدم ملكها ، وان كان الثاني - وهو أن يكون التداعي بين الأجنبيين كما إذا ادعى أحدهما أن مالك العين آجرها إياه سنة وادعى الأخر أنه أعاره إياها في تلك السنة - فالظاهر أن الأصل لا يوافق أحدهما ، فلو أقاما البينة عمل معامل تعارض البينتين.

وكيف ما كان فحيثما يحكم فيه بتعارض البينتين لزم التوقف بعد التساوي حتى في القرعة.

قال في محكي الكشف في الفرض الأول - أعني فرض التداعي بين المالك وإلا جنبي بعد الحكم بتعارض البينتين - ان الحكم فيه القرعة مع اليمين ، ومع نكولهما يقسمان المنفعة بحسب المدة أو بانقسام العين في تمام المدة.

ويشكل ذلك فيما لو كان أحد العقدين غير ملزم بشي ء كالعارية والوديعة ، فإن تملك المنفعة حينئذ غير معلوم للأجنبي حتى تقسم بحسب الزمان. واللّه العالم.

التقاط [ في دعوى اليد السابقة ]

ولو ادعى عينا في يد إنسان وأقام بينة انها كانت في يده أمس ، فإن كان

ص: 251

المقصود من دعوى اليد السابقة الملك السابق المسبب عن اليد ، فقد ظهر الحال فيه مما مر في المسألة السابقة من حيث اشتراط قبولها بضميمة قوله « لا أعلم مزيلا له » حتى تكون منطبقة مع الدعوى ، وهو الملك الحالي وعدم الاشتراط.

وان كان المقصود من هذه الدعوى انقلاب الدعوى وصيرورة ذي اليد مدعيا - كما قد يتفق كثيرا - فالظاهر القبول من غير الضميمة.

والفرق هو أن الملك السابق لا يلزم شيئا على المدعى عليه في الزمن السابق ولا يرجع الى الشهادة بالسبب والمقتضي أيضا ، فلا تسمع البينة عليه ، بخلاف اليد السابقة فإنها في ذلك الزمان يوجب علوا وتفوقا على المدعي الخارج فتسمع البينة بها ، لان الانطباق يحصل بمجرد وجود شي ء ملتزم في السابق وعدم وجود مزيل له عند الحاكم. وهذا ليس قضاء بالاستصحاب كما مر.

ويمكن المناقشة فيه بما مر أيضا من أن المناط في انطباق البينة للدعوى - وهي ثبوت الملك الفعلي - قيامها على نفس المسبب فعلا وهو الملك ، أو على وجود سببه ومقتضية فعلا وان احتاج الى الاستصحاب - أعني أصالة عدم المانع في الحكم بوجود المسبب - كما مر تفصيله. فليس الأمر هنا كذلك لان اليد السابقة ليست سببا ومقتضية للملك الفعلي أو لليد الحالية حتى يكون وجودها السابق عند الحاكم منطبقا للمدعي به ، أعني الملك الفعلي. واللّه العالم.

التقاط [ التعارض بين الاستصحاب واليد ]

إذا ادعى على إنسان عينا في يده وأقام البينة على الملك السابق مع ضميمة قولها « ولا أعلم له مزيلا » فهاهنا يقع التعارض بين الاستصحاب واليد ، فان

ص: 252

قلنا بتقديم اليد لم تسمع البينة ، وان قلنا بتقديم الاستصحاب قضي بتلك البينة وانتزعت العين من يده ولا يلتفت الى يده بعد ثبوت كون العين ملكا للمدعي في الأمس مثلا. ومعناه أن الاستصحاب يقدم على اليد في مقام الحكومة ولا يلزمه أن يكون مقدما في مقام العمل أيضا حتى فيما لا تعارض ولا تخاصم هنا.

توضيح المقام : هو أن المعارضة بين اليد والاستصحاب يكون في صور ، لأن معارضة اليد مع الاستصحاب قد يكون مع وجود المعارض والمنازع ، وقد يكون بدون المعارض أعني الخصم ، فان كان في غير مقام المعارضة - بأن وجد عين في يد شخص من غير ظهور خصم يدعيها - فهذا مقام العمل خاصة ، ولا ريب في أن اليد حينئذ مقدمة على الاستصحاب مطلقا ، بمعنى أن أصالة عدم كون ذي اليد مالكا أو أصالة بقاء ملك الغير ، وكذا غيرهما من الأصول المنافية لظاهر اليد غير ملتفت إليها.

فلو علم أنها كانت سابقا لغيره لم يقدح ذلك في ترتيب آثار الملك على ما في اليد ، سواء كان ذلك الغير معلوما أو مجهولا ، كما هو كذلك في الغالب إذا الغالب أن ما في الأيادي كان مملوكا لغير ذي اليد بل الأمر كذلك مطلقا ، الا في بعض الصور النادرة ، كما إذا احتمل ملك ذي اليد بمثل الحيازة من الأسباب الطارئة على المباحات الأصلية.

وبالجملة لا إشكال في جواز العمل على طبق اليد عند عدم المعارضة ، سواء كان معارضا باستصحاب أم لا ، بل لو أقر ذو اليد بأنها كانت لغيره أولا لم يقدح أيضا في جواز العمل على طبق اليد ما لم يعارضه معارض. لكن يشترط ذلك بأن يكون ذو اليد مظهرا لقول أو فعل يدل على ملكه ، بأن يرى نفسه مالكا ويعلم ذلك من فعله أو قوله أو بعض أحواله ، فلو كان يد مجردة عن ذلك أشكل البناء على ملكية ما فيها مع معارضة الاستصحاب ، فلو مات دلال وفي يده أموال

ص: 253

الناس لم يحكم بعد موته بملكية تلك التي علمنا بأنه من الناس له ولو احتملنا انتقالها اليه قبل موته.

ويمكن توجيه ذلك مضافا الى ظاهر القول وبناء العرف أن الوارد في أدلة اليد - خصوصا في رواية فدك التي هي أعظمها - كون اليد التي هي أمارة على الملك هي ما كانت مقرونة بالملك العرفي والسلطنة والقهر العرفيين لا مجرد اليد الصورية ، ولذا يسمون يد اللقيط على ما في جوانبه باليد الحكمية.

ومن الواضح أن صاحب اليد إذا لم يستشعر منه دعواه ملكية ما في يده - كما إذا كان مبينا - لم تكن يده من تلك اليد المشار إليها ، أعني المقرون بالملك والظاهر العرفيين اللذين يلزمها دعوى الملكية. وبالجملة الحكم بالملك هنا لو لم يكن ممنوعا فلا أقل من كونه مشكلا محل تأمل.

نعم قد يقال بدلالة خبر حفص الوارد في جواز الشهادة بالملك لأجل اليد (1) ، مستدلا بجواز الشراء من ذي اليد على أن مجرد اليد دليل على الملك ولو لم يكن معه ادعاء من صاحبها ، إذ ليس فيه ما يوجب تقييد اليد بما إذا كان معه تملك عرفي وسلطنة عرفية ، كما في رواية فدك (2) حيث أنها تدل على عدم مطالبة البينة على الناس فيما يتملكون ، أي فيما يتسلطون. نظير الرواية الواردة في متاع البيت من أن كلا من الزوج والزوجة إذا كان مستوليا على شي ء من متاع البيت فهو له (3) ، فرواية حفص بإطلاقها تدل على أن مجرد اليد دليل على الملك ولو لم يصدر من ذي اليد ادعاء الملكية قولا أو فعلا أو حالا.

لكن يمكن الجواب عنها بتنزيلها على الغالب ، إذ الغالب ادعاء الإنسان

ص: 254


1- الوسائل ج 18 ب 25 من أبواب كيفية الحكم ح 3.
2- الوسائل ج 18 ب 25 من أبواب كيفية الحكم ح 2 و 3.
3- الوسائل ج 17 ب 8 من أبواب ميراث الأزواج.

ملكية ما في يده ، فلا دلالة فيها أيضا على أن مجرد اليد بدون الادعاء دليل على الملك.

ولو سلم شموله لغير صورة الادعاء فلا نسلم شموله لما نحن فيه - أعني ما إذا علم بملكية ما في اليد لغير ذي اليد معينا - وذلك لان حفص بعد ما قال له الامام انه يجوز الشهادة بالملك لليد.

فان قلت : لعله لغيره ، وهذا السؤال لا ينطبق على مورد علم تفصيلا بأنه كان لغيره العين : أما أولا فلان الاحتمال المنافي للحالة السابقة خلاف ظاهر لعل ، لأنه ظاهر في إبداء تحت الاحتمال الذي ليس عليه أمارة. وأما ثانيا فلان المتبادر من الغير الغير المعين دون المعين ، وكلامنا فيما لو علم بأن ما في اليد كان ملكا للعين.

فان قلت : تسقط الرواية حينئذ عن الدلالة على حجية اليد في صورة العلم سبق الملك المعين حتى مع الادعاء مع انك بنيت على اعتبار ما فيها.

قلت : لا ضير في خروج هذه الصورة عن تحت هذه الرواية ، لأن حجية اليد فيها مع عدم المعارض والمنازع تستفاد من سائر الروايات كرواية فدك ورواية الاستيلاء الواردة في الزوجين.

فان قلت : يمكن الاستدلال بهما حينئذ على اعتبار اليد في هذه الصورة ولو بدون الادعاء.

قلت : قد عرفت أن الاستيلاء والتملك المذكور في رواية فدك لا يصدقان بدون أن يكون ذو اليد مدعيا ، لان التملك والتسلط العرفي يعتبر فيهما ادعاء الملكية قولا أو فعلا كالتصرف أو حالا.

فتلخص مما ذكرنا أن رواية فدك ورواية الاستيلاء يشملان صورة سبق العلم بكون ما في اليد ملكا لمعين لكنهما غير شاملين لصورة عدم الادعاء ، ورواية

ص: 255

حفص شاملة لصورة عدم الادعاء لكنها غير شاملة لصورة العلم بسبق الملك لغير ذي اليد معينا ، ففي صورة سبق العلم مع عدم الادعاء سبق الحكم بالملكية بمجرد اليد محل اشكال وتأمل. فتدبر.

وان كان على صورة المعارضة فهي على قسمين :

أحدهما : ما كان ذو اليد فيه منكرا ، وذلك كما إذا كان المدعي غير الشخص الذي كان العين أولا ملكه ، فان اليد حينئذ وان كانت معارضة بالاستصحاب أيضا الا أن المدعي فرض كونه غير ذلك الشخص لم يخرج ذو اليد عن كونه منكرا.

والثاني : ان العلم بخلافه وأنه ليس متلقاة من ذلك بل كانت مرددة بين كونها عادية أو محقة ، ومنه صورة الشك في مبدئها.

( أما القسم الأول منهما ) فالظاهر أنه لا إشكال في عدم الاعتبار باليد حينئذ وان المحكم هو الاستصحاب ، وذلك لان وجه اعتبار الشارع لليد ليس حمل تصرف المسلم أو سلطنته الحسية على الصحة ، ولذا يلتزمون بأحكام اليد من الملك وغيره في موضع ليس فيه شي ء من التصرف والسلطنة الحسية ، فيحكمون بأن ما في جوانب اللقيط وحواليه ملكه مع عدم أهلية التصرف والسلطنة ، بل الوجه هو غلبة التلازم بين اليد والملك في الخارج.

ولذا قلنا مرارا ان اليد من الامارات العرفية اعتبار الشارع لها عبارة عن إمضائها على ما هي عليها عند العرف ، فاذا كان وجه اعتبارها الغلبة وعلمنا في موضع بأن اليد الفلانية خارجة عن الافراد الغالبة وداخلة في الأيادي النادرة - أعني الغير المالكة - فحكمه يبقى حينئذ على حاله الى أن يعلم ما يدل على الملك.

وهذا نظير استصحاب الحكم المخصص الخارج عن حكم العام بدليل ،

ص: 256

فان اليد التي كان بدوها عارية ليست أمارة على الملك عند العرف ، فهي من الافراد النادرة ، فإذا لم تكن من الافراد الغالبة فوجودها عند الشك في تجدد الملك كعدمه ، فيجري عليها ما يجري على الشك عند عدم اليد رأسا ، فكان الاستصحاب في هذه سليما عن المعارض.

( وأما القسم الثاني ) - أعني ما لم يعلم بكونها عارية ونحوها واحتمل كونها عارية واحتمل كونها مالكة - ففيه أيضا صور : لان ذا اليد اما مقربا لملك السابق للمدعي أم لا ، وعلى الثاني فاما أن الحاكم عالم بأنه كان ملكا للمدعي سابقا أم لا.

أما صورة الإقرار فالظاهر أيضا عدم الاشكال كما عليه ظاهر الأكثر في عدم الاعتبار باليد وأنه ينزع العين منه وتسلم الى المدعي ، مع أنه لا تنافي بين الإقرار بالملك السابق واليد الحالية ، فلو كان الاستصحاب في مقابل اليد ملغى كان اللازم تقديم جانب ذي اليد المقر أيضا لعدم التنافي.

فيظهر من بنائهم هنا أن اليد في صورة المعارضة لا تعارض استصحاب ملك المدعي وأن الاستصحاب مقدم عليها ، وانما يكون الأمر بالعكس بالنسبة إلى استصحاب عدم ملك ذي اليد أو استصحاب ملك الغير إذا كان المدعي محكوما بعدم كونه مالكا ، كما إذا كان المالك معلوما أو مجهولا وكان المدعي شخصا آخر جار في حقه أصالة عدم الملك لا بالنسبة إلى استصحاب ملك المدعي ، كما إذا فرض كون العين ملكا له سابقا.

والحاصل ان الظاهر أنه لا عبرة باليد في مقابل استصحاب ملك المدعي ، بل الظاهر الإشكال في حكومة صرف اليد على الاستصحاب مطلقا حتى في غير صورة المعارضة ما لم يكن ذو اليد مدعيا لملكية ما في يده أو متصرفا كما عرفت

ص: 257

فالأمر الثابت من أدلة اليد انما هو اعتبار دعوى ذي اليد قولا أو فعلا أو حالا في غير صورة المعارضة والمخاصمة ، وأما ما عداه ففي غاية الاشكال.

والظاهر أيضا أنه لا خلاف معتد به فيما قلنا - أعني عدم الاعتبار باليد في مقابل استصحاب ملك المدعي. يدل على ذلك ما ظاهر هم الاتفاق عليه من جواز الشهادة بالملك اعتمادا على الاستصحاب ، إذ قد عرفت في المسألة المتقدمة - أعني مسألة تعارض الملك القديم والأقدم - المفروغية عن قبول الشهادة بالملك القديم مع ضميمة قول الشاهد « لا أعلم مزيلا » ، وان الخلاف انما كان في الشهادة بالملك السابق مجردا عن الضميمة ، وان ظاهر المحقق وغيره سماع الشهادة المجردة أيضا ، فكيف عن صورة الضميمة أو صورة الشهادة بالملك الفعلي اتكالا على الحالة السابقة.

ودعوى ان الكلام في تلك المسألة كان مفروضا في تعارض بينة الخارجين ولا تعارض فيه بين اليد وبين الاستصحاب كما لا يخفى. مدفوعة بإطلاق كلماتهم في تلك المسألة حيث أن المحقق في الشرائع وغيره ذكرها على نحو الإطلاق الشامل لصورة المدعي والمنكر.

وقد صرح الشهيد في القواعد بأن المعتبر في الشهادة علم الشاهد بالمشهود به في زمان التحمل لا في زمان الأداء. وهذا صريح في جواز الشهادة بالاستصحاب خصوصا بعد ملاحظة ما ذكره بعد ذلك ، حيث استثنى عنه موارد لا ينفك العلم بها في زمان عن العلم به في زمان آخر كالنسب فقال انه يعتبر فيه العلم بالمشهود به في زمان الأداء أيضا ، ثمَّ قال في الوقف انه لو قيل بجواز بيعه كان كالأول ، أي مما يكفي فيه العلم في زمان التحمل خاصة وان قيل بعدم جواز بيعه كان كالثاني - أعني النسب.

والظاهر أن ذلك - أي جواز الشهادة بالاستصحاب في صورة التنازع -

ص: 258

من المسلمات بين الفقهاء ، فلا وجه لوسوسة صاحب الكفاية تبعا للمقدس الأردبيلي في ذلك حتى استشكلا في نفوذ الإقرار بالملك السابق أيضا.

[ اليد لا تعارض الشهادة بمقتضى الاستصحاب ]

ودعوى ان جواز الشهادة بمقتضى الاستصحاب مقصور على مثل العقود والديون ونحو هما مما لا يعارضه فيه يد فعلية. مخالفة لظاهر الكل وصريح الجل كما لا يخفى على المتتبع الخبير.

فاذا جازت الشهادة بالاستصحاب بطل اعتبار اليد في مقابله ، إذ لا معنى للجواز مع حكومة اليد على الاستصحاب ، إذ لا يرد بالجواز هنا إلا المضي ، والا فمن الواضح أن الشهادة بكل أمارة شرعية أو عرفية جائزة تكليفا ، بمعنى أنه لا اثم على الشاهد مع عدم إبراز الاخبار والشهادة بصورة الجزم المؤدي إلى الكذب والتدليس.

فما في الوسائل من حمل الأخبار الدالة على جواز الشهادة بالاستصحاب على صرف الإباحة جاعلا له أحد وجوه الجمع بينها وبين ما دل على دلالة اليد على الملك كما يأتي إنشاء اللّه تعالى (1). لعله ليس على ما ينبغي.

نعم ظاهر الاخبار حكومة اليد على الاستصحاب لا طلاقها من حيث كون اليد معارضا باستصحاب ملك المدعي وعدمه ، الا أن يحمل على مقام العمل دون المرافعة والخصومة. وهو في غاية القرب والوجاهة ولو بعد ملاحظة بناء الأصحاب على جواز الشهادة بالملك السابق مع ضميمة « لا أعلم مزيلا » لكن مع مراعاة الشرط المذكور - أعني كون ذا اليد ذا ادعاء قولا أو فعلا أو حالا وحينئذ تكون حكومة اليد على الاستصحاب مقصورة على صورة ادعاء ذي اليد

ص: 259


1- الوسائل ج 18 ب 17 من أبواب الشهادات ح 1 و 2 و 3.

مع عدم معارضة ادعائه بادعاء آخر ، فلو تجردت اليد عن الادعاء فلا عبرة به على اشكال كما سبق.

وأما لو ادعى وكان ادعاؤه معارضا بادعاء آخر فلينظر فان كان المدعي هو الذي كان مالكا سابقا قدم الاستصحاب على اليد ، وان كان غيره كان اليد أيضا مقدما لأنه لا معارض لها حينئذ سوى أصالة عدم مالكية ذي اليد نفسه.

وقد عرفت أن اليد مع ضميمة الادعاء - أي ادعاء ذي اليد - حاكمة على أصالة عدم مالكية نفسه مطلقا ، وأما بالنسبة إلى أصالة بقاء الملك غير المدعي فهي وان لم تك مقدمة عليه الا أن هذا الاستصحاب لما لم يكن ملزما لشي ء للمدعي على المدعى عليه كان وجوده في تلك الدعوى كعدمه ، فلا يلتفت اليه الحاكم حتى يحكم بعدم اعتبار اليد لأجله ، لأن الحاكم وظيفته الاقتصار في العدول عما تقتضيه الأصول والظواهر على ما هو ميزان للقضاء ، بأن يكون نافعا للمحكوم عليه.

ومما يدل على ما ذكرنا من عدم الاعتبار باليد في مقابل استصحاب ملك المدعي ، رواية منصور المتقدمة (1) الواردة في تعارض بينة الداخل والخارج وغيرها من روايات أخر مشتملة على جواز الشهادة بموجب الاستصحاب.

وجه رواية منصور على ذلك : ان بينة المدعي في تلك الرواية كانت شاهدة بأن الدابة أنتجها المدعي ولم يهب ولم يبع. ومن الواضح أن المقصود بالهبة والبيع مطلق أسباب النقل ، والشهادة على عدم النقل لا تكون الا تعويلا على استصحاب عدم الناقل.

ونحوها في الدلالة رواية معاوية بن وهب قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الرجل يكون في داره ثمَّ يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله ثمَّ يأتينا هلاكه ونحن لا ندري

ص: 260


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 14.

ما أحدث في داره ولا ندري ما أحدث له من الولد إلا أنا لا نعلم أنه أحدث في داره شيئا ولا حدث له ولد ولا تقسم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أن هذه الدار دار فلان لفلان بن فلان مات وتركها ميراثا بين فلان وفلان أو نشهد على هذا. قال : نعم. قلت : الرجل يكون له العبد والأمة فيقول أبق عبدي أو أبقت أمتي فيؤخذ في البلد فيكلفه القاضي البينة ان هذا غلام فلان لم يبعه ولم يهبه أنشهد على هذا إذا كلفناه ونحن لم نعلم أنه أحدث شيئا. فقال عليه السلام : كلما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد به (1).

دلت بصدرها وذيلها على جواز الشهادة بالملك مع احتمال حدوث الناقل وذيلها - وهو قوله « لم تشهد » - أظهر ، لأنه وقع موقع الاستفهام الإنكاري ، فيجري مجرى قوله عليه السلام في رواية حفص « ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق ».

والعجب أنه يحتمل بعض معارضة ذيلها لصدرها ، بحسبان أن قوله « لم تشهد » نفي بمنزلة النهي ، وهو مع وضوح فساده بل غلطيته بحسب العبارة ، لعدم وجه للتعبير عن لا نشهد بلم تشهد. مدفوع بملاحظة تعليق الحكم على المرء المسلم أو اضافة الغلام اليه ، فإنهما يأبيان عن النهي عن الشهادة ، كما لا يخفى على من له أدنى دراية بمعاني الكلام.

وربما يدل على المدعى أيضا ما ورد في تنازع أقرباء المرأة مع أبيها بعد موتها في الأشياء التي جاءت بها من بيت أبيها من تقديم قول الأب (2) ، حيث

ص: 261


1- الوسائل ج 18 ب 17 من أبواب الشهادات ح 2.
2- الوسائل ج 17 ب 8 من أبواب ميراث الأزواج ح 1.

أنها صريحة في الأخذ بالحالة السابقة مع احتمال انتقال الأشياء إليها هبة ونحوها وكون المرأة ذات يد عليها.

فان قلت : إذا جازت الشهادة بمقتضى الاستصحاب لغي اليد في مقابله ، ولازمه عدم ترتب آثار الملك في صورة غير المعارضة والمنازعة أيضا.

قلت : هذه الصورة يعلم حكمها بالسيرة الجارية بين المسلمين ، فتكون هي المقصود والمراد في أخبار اليد ، ففي غيرها لا بد من العمل بموجب الاستصحاب.

[ اليد المجردة عن التصرف والادعاء مقابل الاستصحاب ]

ومن هنا ربما يشكل فيما ذكرنا آنفا من عدم العبرة باليد المجردة عن التصرف والادعاء في مقابل الاستصحاب ، لأن قضية ما استثناه من الصورة بحكم السيرة أن يقال : ان نزاع المنازع شرط في حجية الاستصحاب ، فلو نازع أحد مع ذي اليد كان الاستصحاب حجة عليه ، لتعارض دعواه مع دعوى المدعي فيمحض المعارضة بين مجرد اليد والاستصحاب ، فيقدم الاستصحاب ، للإجماع ظاهرا على جواز العمل بالاستصحاب في مقابل اليد ، وجواز الشهادة بموجبة في صورة وجود المنازع ، وان لم ينازع أحد لم يجز العمل بالاستصحاب بل يجب الحكم بالملك لأجل اليد.

وهو من غرائب الكلام ، لان النزاع غاية تأثيره معارضة دعوى ذي اليد مع دعوى خصم المنازع وملخص المعارضة بين

مجرد اليد والاستصحاب ، وهذا موجود أيضا في صورة عدم ادعاء ذي اليد بشي ء من وجوه الادعاء ، فلا معنى لتقديم الاستصحاب على اليد مع المنازع وعدمه بدونه مع عدم الادعاء.

الا أن يقال : ان دعوى المنازع كما يبطل أثر ادعائه كذلك يبطل أثر يده ،

ص: 262

فيكون الاستصحاب سليما ، ففي صورة عدم المنازع يتمحض المعارضة بين صرف اليد والاستصحاب ، فيمكن القول حينئذ بتقديم جانب اليد وعدم الاعتداد بالاستصحاب.

وفي كلام العلامة في محكي المختلف بعض الإشارة الى هذا المقام كما سننقل إنشاء اللّه تعالى.

ومن جميع ما ذكرنا في صورة إقرار ذي اليد للمدعي ظهر حكم صورة عدم الإقرار ، فان المدعي اما أن يقيم البينة على الملك الفعلي ولو بالتعويل على الاستصحاب ، بأن يقول « انه كان ملكه أمس مثلا ولا أعلم له مزيلا » وأما أن لا يقيم ، فإن أقام البينة انتزعت العين من ذي اليد ولا يلتفت الى يده لتقدم الاستصحاب عليه كما عرفت في صورة المنازع.

وان لم يقم فان كان الحاكم عالما بأنها كانت ملكا للمدعي سابقا ففي قضائه حينئذ بعلمه اشكال : من تقدم الاستصحاب على اليد كما عرفت ، ومن أن الملك السابق ليس أمرا ملزما على المدعى عليه كما سبق في مسألة تعارض التقديم والأقدم ، فلا وجه لقضائه عليه بعد أن لم يكن علمه متعلقا بأمر ملزم الا بعد الاستصحاب الذي ليس من موازين القضاء كما سبق.

ولعل الثاني أظهر ، بناء على ما مر من أن الثابت عند الحاكم لا بد أن يكون ملزما بنفسه على المدعى عليه من غير ضميمة استصحاب الحاكم ولو في الزمن السابق ، فعلمه بما ليس بملزم الا به ليس علما بالميزان.

نعم قد يقال : انه ينبغي أن يطالب البينة من ذي اليد ، لعدم العبرة بيده في مقابل الاستصحاب وان لم يصلح الاستصحاب ميزانا للقضاء ، فإن إبطاله أثر اليد لا مانع منه ولا بعد بالتزامه.

الا أن يقال : بأن استصحاب الحاكم غير مؤثر مطلقا لا في القضاء ولا في

ص: 263

انقلاب المنكر مدعيا ، لان الانقلاب بالأخرة يرجع الى القضاء بالاستصحاب ولو في بعض الأحوال ، وهو صورة عدم إقامة ذي اليد البينة.

بقي شي ء ، وهو أن سائر الأحكام العملية غير القضاء هل يترتب على اليد في حال المنازعة أو يقدم الاستصحاب عليها في مقام العمل أيضا ، والظاهر الأخير لما مر.

تلخيص ( فيه توضيح لما ابسطنا )

وهو أن اليد اما أن لا تكون معارضة باستصحاب ملك أحد معين أو غير معين ، أو يكون :

فعلى الأول تكون دليلا على الملك مطلقا ، فيترتب عليها جميع أحكام الملك حتى الشهادة عند القائلين بجواز الشهادة بالملك لأجل اليد ، من غير فرق بين صورة تصرف ذي اليد أو ادعائه للملكية وعدمها ، ولا بين وجود المنازع وعدمه لكونهما دليلا على الملك في مقابل أصالة عدم مالكية صاحبها.

وعلى الثاني فاما أن لا ينازعه أحد أو ينازع : وعلى الأول يقدم اليد على الاستصحاب في جميع الاحكام مع التصرف أو الادعاء وبدونها على اشكال سبق. وعلى الثاني فاما أن يكون ذو اليد منكرا - بأن يكون المنازع غير من علم بكون العين ملكه سابقا - أو يكون مدعيا : وعلى الأول يقدم اليد على الاستصحاب أيضا في جميع الاحكام حتى في أحكام القضاء سواء كان ذلك الغير معلوما أو مجهولا. وعلى الثاني فاما أن يكون ذو اليد مقرا بملكه سابقا أم لا :

وعلى الأول لا عبرة باليد مطلقا ، وعلى الثاني فإن أقام المدعي بينة على الملك

ص: 264

السابق فكذلك ، والا ففي قضاء الحاكم بعلمه بالملك السابق اشكال عرفته. واللّه العالم بحقائق الأحكام.

[ الشهادة على الملك باستناد العلم السابق ]

ولنختم الكلام بذكر مسألة ذكرها في محكي المختلف فان فيها بعض التأييد لما فصلنا ، قال قدس سره : مسألة قال أبو الصلاح : وإذا كان الشاهد عالما بتملك غيره دارا أو أيضا أو غير ذلك ثمَّ رأى غيره متصرفا فيها من غير منازعة من الأول ولا علم بإذن ولا مقتضى لإباحة التصرف من إجارة أو غير ذلك لم يجز له أن يشهد بملكها لواحد منهما حتى يعلم ما يقتضي ذلك في المستقبل.

وليس بجيد ، لان العلم السابق يستصحب حكمه الى أن يثبت المزيل ، والتصرف مع السكوت لا يدل على الخروج عن الملكية ، بخلاف ما لو شاهد غيره متصرفا بغير منازع ولم يعرف سبق الملك لأحد عليه ، فان جماعة من أصحابنا جوزوا له أن يشهد بالملك المطلق ، أما مع سبق العلم بالملك المعين فلا.

قال : وإذا غاب العبد أو الأمة عن مالكه لم يجز له أن يشهد ما كان يعلمه من تملكه لهما ، الا أن يعلم غيبته لا باق أو اذن المالك.

وليس بجيد كالأول. نعم ان اعترضه شك في بقاء الملك لم يجز له أن يشهد بأنه الان ملكه بل انه كان ملكه في الزمان الماضي وكان مقصوده ذلك ، وحينئذ يصح ما قاله «رحمه اللّه» - انتهى كلامه وسع اللّه مقامه.

ولقد أجاد بإفادته حقائق :

( منها ) خروج اليد المعارضة باستصحاب ملك أحد معين عن مورد جواز الشهادة بالملك لأجلها. ومن الواضح خروجها حينئذ عن جميع الاحكام المترتب

ص: 265

على اليد من الشراء وغيره ، لثبوت الملازمة بينهما بحكم رواية حفص (1) ، حيث استدل فيها الامام عليه السلام بجواز الشراء على جواز الشهادة ، فصارت الملازمة بين الشهادة والشراء وغير هما من الأحكام أصلا حتى يثبت التفكيك من الخارج كما ثبت في البينة ، فإن الشراء وغيره من آثار الملك المترتب عليها قولا واحدا ، بخلاف الشهادة كذلك أو على المشهور.

( ومنها ) الفرق في دلالة اليد على الملك بين ادعاء ذي اليد وعدمه وبين وجود المنازع وعدمه وبين معارضته بالاستصحاب وعدمه ، وهي الأمور التي فصلنا الكلام فيها.

( ومنها ) جواز الشهادة بموجب الاستصحاب ان لم يعرض له شك في البقاء ، أعني التزلزل والتحير الذي لا يكون الا مع قيام أمارة عرفية أو شرعية على خلاف الحالة السابقة وعدم الجواز مع عروض الشك. وليس المراد مطلق الشك ، بل التحرير الذي ليس بناء العرف على الإغماض عنه بمجرد صرف الحالة السابقة ، كما هو الظاهر بعد تأمل ما في كلامه.

قال في الوسائل بعد ذكر أخبار اليد ورواية حفص وغيرها ما هذا لفظه : ولا ينافي هذا ما يأتي في باب الشهادات من جواز الشهادة بالاستصحاب ، لان المفروض هناك عدم دعوى التصرف الملكية ، على أنه لا منافاة بين جواز الشهادة وبين عدم قبولها لمعارضة ما هو أقوى منها ولا بين جوازها وعدم وجوب القضاء قبلها - انتهى كلامه رفع مقامه (2).

وفي كلامه نظرات لا تخفى على المتأمل ، وان كان في اشتراط دعوى المتصرف في دلالة اليد بعض التأييد لما قلنا. واللّه العالم.

ص: 266


1- الوسائل ج 18 ب 25 من أبواب كيفية الحكم ح 2.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 15.

القول في التداعي في العقود

التقاط [ التنازع في العقد المتسالم على وقوعه ]

قد سبق في التداعي في الأملاك أن الأصل في القضاء أن يكون أولا بالبينة ومع تعذرها - بأن يكون نسبتها الى كل من المتداعيين بالسوية - فالقرعة مع اليمين ، ومع تعذرها - بأن نكل الأخر عن اليمين بعد رد من خرجت باسمه عنها - فالتنصيف ، ومع تعذره - بأن لا يكون قابلا له كالزوجية - فبالقرعة المجردة على أحد الاحتمالات كما مر.

إذا عرفت هذا فاعرف أنه إذا تنازعا في العقد المتسالم على وقوعه ، فهذا يتصور على وجهين :

( أحدهما ) أن يكون المقصود من النزاع في العقد عوضا أو معوضا صرف التوصل إلى النتيجة ، أعني المسبب ، كما إذا قال المالك « آجرتك بدرهمين » وقال المستأجر « بل بدرهم ».

( الثاني ) أن يكون الغرض سوى النتيجة ، بأن يكون الغرض حكما وضعيا

ص: 267

ثابتا للعقد ، كأن يقول المستأجر « أجرتني بدرهمين » ويقول المالك « بل بدرهم » ، وذلك في مواضع : مثل أن يكون مقصود المستأجر إثبات الغبن فيفسخ المعاملة ، ومثل أن يكون النزاع بعد الفسخ مع تسليم العوض فتأمل ، ومثل أن يقول المشتري « اشتريت بألف » ويقول الشفيع « بل بمائة ».

وبالجملة سواء كان مدعي الزيادة هو المالك أو المستأجر أو البائع أو المشتري أو الأجنبي كالشفيع ، فان الغرض من هذه الدعوى في هذه الصور ونظائرها ليس المال واشتغال الذمة وعدمه ، بل الغرض حكم وضعي غير ثابت لنفس العقد.

فان كان الغرض هو الاشتغال فلا ريب ، كما أشرنا اليه أن ذكر العقد حينئذ مجرد توطئة لا يكون منشئا لملاحظة التداعي في نفسه ، بل لا بد حينئذ من النظر في الاشتغال وتقديم قول كل من يوافق قوله الأصل أو تقديم بينته.

وعن الشيخ القول بالتحالف. ولا وجه له كما تقدم ، لان ذكر العقد في هذا الفرض توطئة لدعوى اشتغال الزائد ، فلا بد من ملاحظة الدعويين في النتيجة لا في العقد حتى يكون كل منهما مدعيا فيجري فيه التحالف.

وان كان الثاني - وهو أن يكون للعقد جهة موضوعية بأن يكون الغرض ثابتا في نفس العقد كما في الصور المفروضة - فهاهنا يحكم بالتداعي والتحالف مع عدم البينة وبتعارض البينتين مع التساوي والقرعة.

لكن المحكي عن الحلي والأكثر تقديم قول المستأجر مع عدم البينة وترجيح بينة المؤجر مطلقا لكونه من باب المدعي والمنكر. وهو جيد في القسم الأول لا في هذا القسم الذي فرضنا تعلق الغرض فيه بنفس العقد.

ويمكن تنزيل إطلاق كلامهم على الغالب ، إذ الغالب في التداعي في الإجارة بعد التسالم على المنفعة في المدة المعينة كون المالك مدعيا لزيادة الأجرة ،

ص: 268

فيكون مدعيا حينئذ لكونه من القسم الأول ، فيتجه تقديم بينة وكذا تقديم قول المستأجر مع عدم البينة.

[ الفرق بين المقام وما سبق من حكم المتداعيين ]

هذا ، واعلم أن التداعي في الاملاك مقتضى القاعدة فيها بعد تعارض البينتين القرعة دون التحالف كما أشرنا إليه هنا وأوضحناه فيما سبق ، ومقتضى القاعدة في المقام خلافه ، أعني التحالف.

والفرق هو أن كلا من المتداعيين فيما نحن فيه مدعي لشي ء وهو العقد المعين ومنكر لشي ء آخر وهو العقد الذي يدعيه صاحبه. ففي كل منهما جهة ادعاء وجهة إنكار ، ووظيفتهما باعتبار جهة الادعاء البينة وباعتبار جهة الإنكار الحلف ، فاذا تعذر القضاء بوظيفة الجهة الأولى لفقد البينة منهما أو لتعارض البينتين تعين القضاء بمقتضى الجهة الثانية ، وهو الحلف.

ولذا حكموا بالتحالف هنا عند عدم البينة ولم يحكموا به في التداعي في الاملاك بل بالقرعة أو التنصيف كما مر ، لعدم كون كل من المتداعيين هناك منكرا من جهة أخرى غير جهة الادعاء. لكن مع ذلك ترى الكل أو الجل هنا حاكمين بالقرعة بعد التعارض والتساوي ، ولعل الوجه في ذلك هو النظر إلى إطلاق ما دل على القرعة في تعارض البينتين أو عمومه الشامل للتداعي في الاملاك والعقود.

ومثل الأول ما لو رجعت الزيادة والنقيصة إلى اللفظ ، كما لو قال المؤجر بعشرة وقال المستأجر بل بخمسة عشر ، فان القول قول المالك ، لأصالة عدم ذكر الخمسة.

ومثل الثاني ما لو كان الاختلاف في الفرض بين المتباينين ، كما لو قال

ص: 269

أحدهما « آجرتني بثوب » وقال الأخر « بل بعبد » ، فان الحكم فيه هو احكام التداعي ، فان لم يكن لأحدهما بينة تحالفا ، فان حلفا حكم بالتفاسخ ظاهرا.

ويشكل الأول بأنه يؤدي الى حبس كل منهما حق الأخر مقاصة ، مع أنه وردت أن اليمين تذهب بما فيه ، وقد تقدم رفع الإشكال في يمين المنكر ، فارجع وتأمل. ويشكل الثاني بأن الحلف ليس الا ميزانا للقضاء ، والتفاسخ يحتاج الى سبب جديد للنقل.

وقد يوجه - بعد ظهور الاتفاق الا عن الشيخ في محكي الخلاف حيث قال فيه أيضا بالقرعة نظير صورة تعارض البينتين - بأن حلف كل منهما على نفي استحقاق الأخر يوجب سقوط حقه أبدا ظاهرا ، لان يمين المنكر تذهب بما فيه مطلقا ، وهو معنى الانفساخ ، لان المالك إذا حلف على عدم الإجارة بعشرين مثلا سقط حق المستأجر عن العين المستأجرة ظاهرا بيمينه وكذا العكس ، فيترتب عليه إبقاء كل من العوضين في يد مالكه وهو الفسخ.

وان نكلا فهل يحكم أيضا بالتفاسخ؟ لم ينصوا على شي ء في المقام. والظاهر نعم كما عن الدروس لعين ما قلنا في صورة التحالف ، لان نكول كل منهما يوجب سقوط حق الناكل. ومرجعه الى التفاسخ ، لأنه إذا سقط حق المؤجر عن الأجرة بنكوله وسقط حق المستأجر عن المنفعة بنكوله لزم من النكولين إقرار المنفعة في يد المالك وإقرار الأجرة في يد الأجير.

وفيه : ان سقوط الحق بالنكول هذا لا بد أن يراعى الى زمان قيام البينة ، لنكول المدعي عن اليمين المردودة على ما بينا سابقا ، نظرا الى كون النكول هنا أيضا نكولا عن يمين المدعي المردودة من المنكر ، لأنه إذا نكل كل منهما عن يمينه التي هي يمين المنكر ، فلا بد من الرد إلى الأخر ، فنكول الأخر عن اليمين لا بد نكول عن اليمين المردودة وكذا الأول.

ص: 270

نعم لو قلنا بأن النكول عن اليمين المردودة كيمين المنكر في إسقاط الحق أبدا وانه لا يسمع البينة بعده ، كما استدللنا بظاهر قوله عليه السلام « وان نكل - أي المدعي - فلا حق له » وبينا وجه دلالته في اليمين المردودة ، اتجه كون نكولهما في المسألة بمنزلة حلفهما في الإسقاط الأبدي ، ويتفرع عليه التفاسخ الظاهري.

وان أقام أحدهما البينة دون الأخر ففي المسالك قضى له ، وهو واضح.

وفيه اشكال سبق في مسألة أن بينة المنكر إذا سمعت بينته كما إذا كان إنكاره ملزوما أو لازما لجهة إثبات أمكن إقامة البينة عليه فهل تغني بينته عن حلفه.

وجه الاشكال : انه على تقدير عدم الإغناء كما هو القوي بل الأقوى كما تقدم لزم الحكم هنا بالحلف مع البينة ، لأنه منكر لما يدعي عليه صاحبه وان كان مدعيا عليه شي ء آخر واقامة البينة على دعواه وان كان تحققه لإنكاره لكن الحلف حق للمدعي فلا يسقط بثبوت حق لخصمه عليه.

ثمَّ ان إطلاق كلامه لا بد أن ينزل أيضا على ما إذا كان التداعي في العقد راجعا الى الاختلاف في أحد العوضين بأن يكون صدور عقد واحد معين مشخص مفروغا عنه فيما بينهما وكان نزاعهما في العوض أو المعوض كالأمثلة المتقدمة.

وأما إذا كان راجعا الى الاختلاف في العقدين مع احتمال تحقق كل منهما في نفس الأمر ، فأقامه أحدهما البينة على دعواه لا يوجب سقوط دعوى الأخر ، بل يجب القيام بوظائف تلك الدعوى من الحلف وغيره ، كما إذا اختلفا فقال البائع « بعتك دارا بدينار » وقال الأخر « بل فرسا بدرهم » فان قيام أحدهما البينة لا يوجب طي دعوى الأخر كما لا يخفى.

الا أن كون ذلك من التداعي في العقد لا يخلو عن شي ء ، لأن الاختلاف

ص: 271

هنا ينحل الى دعويين مستقلتين ، وان أقام كل منهما البينة فقد عرفت أن قضية القاعدة التحالف عكس التداعي في الاملاك.

لكن أدلة القرعة في تعارض البينتين مطلقة ، فلا بد من الإقراع ، وعليه الكل أو الجل. ومن خرجت باسمه حلف وقضي له ، وان نكل وحلف الأخر قضي له ، وان نكلا فقد يقال ان الحكم هنا أيضا التفاسخ بالبيان المشار اليه.

[ الفرق بين النكول نصا والنكول في دعوى الاملاك ]

ومن ذلك البيان يظهر أيضا وجه الفرق بين نكولهما نصا وبين نكولهما في دعوى الاملاك كالعين ، لان نكول كل منهما يوجب تعطيل العين ان لم يثبت كون التنصيف من وجوه القضاء بعد تعذر الجمع. بخلاف نكولهما في التداعي في العقد ، فإن قضية النكول سقوط حق الناكل ، ويترتب عليه بقاء كل من العوضين في يد مالكه.

وهل التفاسخ هنا أيضا مراعى أم لا؟ والظاهر العدم ، لان الفرق قيام كل منهما بينته وتساقطهما ، فلا شي ء بعدها حتى ينتظر ، فالتفاسخ حينئذ ثابت مطلقا الا أن يبنى على ترجيح البينة بالأكثرية ونحوها مما يتوقع حصوله في المستقبل فان المراعاة حينئذ لها وجه.

والأظهر أن نكولهما هنا لا يوجب الانفساخ ، وقياسه بنكولكهما في صورة التحالف - أعني صورة عدم البينة - باطل ، لان النكول هناك نكول عن اليمين المردودة عن المنكر كما بينا ، وقد عرفت الكلام فيه. بخلاف النكول هنا ، فإنه نكول عن اليمين التي هي بمنزلة جزء البينة ، لأن يمين من خرجت باسمه القرعة ليست يمين منكر ، لأن إنكاره إما من جهة كونه منكر الدعوى الأخر فهو حق ولكنه غير ملحوظ في صورة تعارض البينتين بحكم أخبار القرعة وان كان على

ص: 272

خلاف القاعدة كما عرفت ، وان كان من جهة كون من خرجت باسمه منكرا باعتبار كون القرعة لتعيين المنكر وتميزه عن المدعي كما سبق الى بعض الأوهام - وفاقا للمحكي عن الشيخ - فقد عرفت فساده في دعاوي الاملاك في مسألة تعارض البينتين ، فليست اليمين هنا الا كيمين جزء البينة في كونها يمينا ثابتا للمدعي دون المنكر ، فاذا لم تكن هذه هي اليمين المردودة فلا توجب نكولها سقوط الحق ولو مراعى وانما غايته سقوط الدعوى.

نعم لو ثبت أن النكول عن كل يمين بمنزلته بالنسبة إلى الحق لا الى الدعوى فكما أن يمين من خرجت باسمه مثبتة لحقه فكذلك نكوله يكون مسقطا للحق لا للدعوى خاصة ، كان الحكم بالفسخ بعد نكولهما في المقام وجيها ، لان سقوط حق كل منهما في معنى الفسخ كما قررنا ، ولكنه غير ثابت. غاية الأمر كون النكول عن يمين المنكر كذلك وهو لا يوجب القول به في كل نكول.

وحيث أنه لا وجه لسقوط الدعويين أبدا في المقام بل في جميع المقامات لاستلزامه تعطيل الحق المنافي للحكمة الباعثة على تشريع القضاء ، ولا ينافي ذلك التوقيف في بعض الموارد الذي حصل فيه من عجز الخصمين عن القيام بالميزان مع كونه مجعولا من قبل الشارع كايقاف دعوى المدعي على اللص مثلا إذا لم يكن له بينة كما أوضحناه في مسألة القضاء بالتنصيف في التداعي في الاملاك اتجه الحكم هنا أيضا بالتنصيف لعين أدلة القضاء به في الاملاك.

فإن قلت : التبعيض في العقد غير جائز.

قلنا : نفس العقد من حيث هو مع قطع النظر عما يترتب عليه من الاحكام لا يصلح أن يكون مصبا للدعوى ، فمصب الدعوى هو الفرض المقصود ، والتنصيف في الفرض أمر ممكن حتى فيما إذا اختلفا في أحد العوضين على

ص: 273

وجه التباين ، بأن يقول البائع « بعتك بعبد » وقال المشتري « بل بأمه » فإنه ينصف كل من العبد والأمة بينهما نصفين.

ولا ينافي ذلك العلم الإجمالي بخلافه ، لأنه لازم في موارد القضاء بالتنصيف مطلقا ، سواء كان في التداعي في الاملاك أو العقود. وقد وجهنا في تلك المسألة القضاء بالتنصيف مع كونه معلوم بطلانه إجمالا أو قلنا أنه مخالفة للعلم من حيث العمل لأمن حيث القضاء ، فان القضاء به قضاء بما لا يستطيع أحد المتخاصمين رده وعدم الرضا به إلا على وجه يحتج على فساده بالبينة التي هي من موازين القضاء ، فصار القضاء به من أطراف القضاء بالبينة وآثارها وفوائدها. فارجع وتأمل.

نعم لو كان التداعي في نفس العقد على وجه لا يعقل معه التنصيف ففيه القرعة المجردة ، لأن الحلف مع القرعة في مثله لغو كما ذكرنا سابقا ، لان الحلف الذي لا يترتب على نكوله ثمرة يكون طلبه لغوا.

اللّهم الا أن يجوز إيقاف الدعاوي عند فقد الميزانين أعني الحلف والبينة وجعل الإيقاف من الثمرات ، فحينئذ يجب طلب الحلف أيضا رجاء لنكول من خرجت باسمه ، فيتوقف الدعوى.

واما على ما قوينا من عدم معنى للتوقيف فالوجه هو الاكتفاء بالقرعة ، ولا ينافي هذا ذكر الحلف في اخبار القرعة ، فإنه منزل على ما إذا كان الحلف له فائدة بأن يترتب على نكوله فائدة ولو إيقاف الدعوى ، فاذا لم يترتب الفائدة على النكول لغي الإحلاف.

لكن الإيقاف ليس من الفوائد ، لعدم جوازه عقلا بملاحظة الحكمة ، مضافا الى دلالة الروايات على كون التنصيف أيضا من طرق القضاء ، ولا مورد له الا في المقام ونظائره مما ليس فيه القضاء بالحلف والبينة والقرعة ممكنا.

ص: 274

نعم يحتمل أن يقال بالقرعة المجردة ثانيا ، أي بعد القرعة الاولى والإحلاف ونكولهما لكن القول به مشكل بعد عدم بعد مصرح به من الأصحاب ، وكون عمومات القرعة لكل أمر مشكل من العمومات التي لا يعمل بها الا بعد فتوى جملة الأصحاب بمقتضاها.

وحيث ان ظاهر الأصحاب في المسألة - أعني التداعي في العقود بعد تعارض البينتين - عدم الاكتفاء بالقرعة الأولى مجردة عن اليمين ، انحصر الأمر بين التنصيف أو جعل النكول هنا كالنكول في صورة التحالف في كونه سببا للفسخ ، فأيهما يبطل بإجماع ونحوه يتعين الأخر. فلو ادعى أن التنصيف في الاختلاف في الثمن على وجه التباين أو المثمن مخالف للإجماع قلنا حينئذ بالتفاسخ لا بالقرعة المجردة.

والحاصل ان الاحتمالات في المسألة - أعني ما إذا أقرع وأحلف من خرجت باسمه ونكل ورد إلى الأخر مشكل أيضا - أربعة : أحدها الإقراع ثانيا من غير يمين ، والثاني إيقاف الدعوى وهما باطلان ظاهرا بالإجماع ، والثالث التنصيف مع الإمكان ، والرابع الانفساخ.

ومقتضى القاعدة هو الأول للعقل والنقل كما عرفت ، فان كان مخالفا للإجماع تعين الرابع ، فيجعل الإجماع على بطلان الاولى كاشفا عن كون النكول عن كل يمين واجبة موجبة لسقوط الحق ، أو عن كون القرعة في تعارض البينتين لتميز المنكر عن المدعي حتى يكون يمين من خرجت باسمه يمين إنكار. واللّه العالم.

التقاط [ اختلاف الموجر والمستأجر في الأجرة أو مدة الإجارة ]

ذكر في الشرائع الاختلاف في زيادة الأجرة ونقصانها ، ونقل فيه قولين

ص: 275

وتردد فيهما : أحد هما الحكم بتقديم بينة المالك لكون القول قول المستأجر فيكون بينته بينة الخارج ، والثاني الحكم بتعارض البينتين لان كلا منهما يدعي عقدا يتبعه الأخر.

ثمَّ قال : ولو ادعى استيجار دار فقال الموجر « آجرتك بيتا منها » قال الشيخ يقرع بينهما ، وقيل القول قول الموجر ، والأول أشبه ، لأن كلا منهما مدع.

ولو أقام كل منهما بينة تحقق التعارض مع اتفاق التاريخ - انتهى كلامه طيب مقامه.

وهذه المسألة عكس مسألة الاختلاف في الأجرة قلة وكثرة ، وظاهر هذه العبارة أن قول الشيخ بالقرعة انما هو في صورة عدم البينة مع أنها مورد التحالف لا القرعة.

نعم للشيخ قول آخر في محكي الخلاف بالقرعة في مورد حكم الأصحاب فيه بالتحالف ، أعني صور فقد البينة. ولكن هذا القول من الشيخ مذكور في المبسوط لا في الخلاف ، ومذهبه في المبسوط مثل مذهب الأصحاب ، أعني التحالف عند عدم البينة في التداعي. والدليل عليه أن العلامة نقل هذا القول عن مبسوط الشيخ في محكي التحرير ، وعبارته المحكية وكذا عبارة التحرير كلاهما صريحتان في أن مورد كلام الشيخ في مسألة الاختلاف في الدار أو البيت صورة عدم البينة ، ففي عبارة الشرائع نوع مؤاخذة.

وكيف كان فالأظهر في المسألة ما ذكره صاحب المسالك من أن النزاع هنا يرجع الى نزاع المدعي والمنكر لا إلى التداعي ، فقول القيل هو الأظهر ، لأن انتقال البيت متفق فيه وانما الشك في الزائد ، نظير الاختلاف في الأجرة.

لكن المحقق مع تردده في الاختلاف في الأجرة اختار في مسألة البيت قول الشيخ ، أعني تعارض البينتين الذي هو من خواص التداعي ، ولا يجري في المدعي والمنكر.

ص: 276

والفرق بينهما بعيد كما في المسالك ، مع أنهم في باب الإجارة لم يفرقوا بين الاختلاف في الأجرة أو في العين المستأجرة ، فحكموا بتقديم قول المستأجر مطلقا إذا رجع النزاع الى مقدار أحد العوضين.

وقد يوجه الفرق بأن الدار مركبة ، ونقل شي ء مركب نقل واحد متعلق بأمر واحد وان كان مستلزما لنقل الاجزاء تبعا ، الا أن النقل التبعي غير ملحوظ في إنشاء نقل المتبوع ، بخلاف الأجرة إذا كانت مرددة بين الأقل والأكثر كالمائة والألف فإن تمليكها ينحل الى تمليكات عديدة حيث تعدد الاجزاء ، فالاختلاف في الأجرة مع ثبوت القدر المتيقن يرجع الى التداعي مطلقا. وفيه تأمل.

ثمَّ على تقدير كونه من التداعي والحكم بالقرعة والقضاء بالتنصيف بالنكول كما مر ، فالبيت ان اتفقا على إجارته كما في كشف اللثام وهو في إجارة الى أن تمضي المدة ويقتسمان الباقي نصفين ويسقط من الأجرة بحسبها.

قال بعض مشايخنا قدس سره : وفيه ان المتجه في الأول ثبوت تمام الأجرة مع أجرة ما فيه النزاع ، مثلا إذا كان الدار لها بيتان كان للمستأجر بيت ونصف بإزاء سبعة ونصف على الأول وبإزاء مجموع العشرة على الثاني.

وهو الحق ، لأن نظر الفاضل إلى قاعدة انفساخ العقد والمعاوضة بالنسبة الى نصف ما عدا البيت ، وعليه فلا بد من جعل قسط من العوض في مقابل ما عاد الى ملك الموجر.

وليس في محله ، فان تنصيف الباقي هنا انما هو لأجل العمل بالبينتين في نصف مؤداهما ، ومقتضاه العمل ببينة المؤجر في نصف البيت ، بأن يجعل نصف الدار - وهو البيت - في مقابل نصف الأجرة وهو الخمسة ، ويرجع حاصله إلى إعطاء بيت ونصف بإزاء العشرة.

ولك أن تقول : انه يجمع العوضان - وهو عشرون - ويجمع العوضان -

ص: 277

وهو الدار وبيتا وهو نصفه في المثال المفروض - ويقسمان ، ويرجع الحاصل الى أن المستأجر يأخذ نصف العوضين وهو نصف الدار ونصف البيت الذي هو ربع الدار بإزاء نصف الأجرتين وهو العشرة.

ولك أن تقول : ان المتفق عليه يبقى بحاله ، فالأجرة والبيت يبقيان بحالهما ويقسم المختلف فيه - وهو ما عدا البيت من الدار - وقد يختلفان في الزمان مع الاتفاق في الأجرة والعين ، فيدعي المستأجر شهرين والموجر شهراً. ويعرف حكمه مما ذكر ، فيأخذ العين المستأجرة في شهر ونصف شهر بإزاء تمام الأجرة لما مر.

[ حكم ما لو كان البينتان مؤرختين ]

هذا كله إذا كان البينتان متفقتين في التاريخ أو مطلقتين ، فان كانتا مؤرختين بطل الثاني لعدم تعلقه بحمل قابل للأثر. ثمَّ ان كان المقدم بينة الدار فلا اشكال وان كان بينة البيت بطل الثاني بالنسبة الى البيت لا مطلقا ، فيصح العقد في الباقي ويسقط من الأجرة بالنسبة. ففي المثال المذكور - أعني البيت المشتمل على البيتين المتساويين - يثبت على المستأجر خمسة عشرة بإزاء مجموع الدار كما يظهر بالتأمل.

هذا إذا علم اتحاد العقد وفساد أحد العقدين ، ولو فرض إمكان اجتماعهما - كما إذا احتمل انتقال منفعة الدار بعد الإجارة السابقة إلى المالك لإقالة ونحوها - فعن الدروس انه يجمع بين الاجارتين ، لان الاستيجار يبطل ملك المستأجر فيما سبق ، وهو على تقدير حجته خارج عن مفروض كلام الأصحاب ، لأن الكلام في تعارض البينتين ، وهنا لا تعارض.

ص: 278

مع إمكان المناقشة فيما ذكره من العمل بالاستيجار الثاني جمعا : أما أولا فلان الأكثر في مسألة تعارض بينة القديم والأقدم يرجح الأقدم ، وأما ثانيا فلان مقتضى الجمع تقديم السابق أيضا وانه مثل ما لو تداعيا على عين وأقام أحدهما بينة على أنه اشتراها من الأخر أمس وأقام هو على أنه ملكه في الحال أو بعد الأمس.

وقد عرفت سابقا في تلك المسألة أن بينة الأقدم إذا كانت مسببة عن سبب ملزم أخذ بها ويطرح بينة القديم بالملك المطلق. فارجع وتأمل.

وهنا كل من أقام البينة على الإجارة السابقة فقد أقامها على الملك المسبب عن سبب ملزم ، فيؤخذ بها. الا أن يقال : ان بينة القديم هنا أيضا تشهد بالملك المسبب كالاقدم. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء مدعيين شراء دار معينة ]

لو ادعى اثنان شراء دار معينة في يد ثالث واقباض الثمن للبائع : فان لم يكن لأحدهما بينة أقرت في يد في اليد مع يمينه لهما ، وان صدق أحدهما دفعت اليه وحلف الاخران الإقرار بمنزلة التلف السماوي وإلا سقط الحلف لانفساخ العقد على تقدير ثبوته بالإقرار ، ولو قال « لا أدري لأيكما » تقارعا أو تحالفا على الوجهين المتقدمين في التداعي على العين ، ولو أقام كل واحد البينة أقرع بعد التساوي في التاريخ ، فان حلف من خرج اسمه أخذ العين وللآخر استرداد الثمن عملا ببينته من دون معارض ، لأن المعارضة انما كانت في المبيع لامتناع كونه لهما وأما إقباض كل منهما الثمن فأمر ممكن يثبت بالبينة.

وهل يفيد تصديق ذي اليد لأحدهما بأن يصير العين للمصدق أو يجعله

ص: 279

داخلا فيقدم بينته أو بينة الأخر الخارج. وفي الشرائع لا يقبل قول البائع لأحدهما. وهو كذلك لعدم الدليل على حجية قوله بعد معلومية عدم كونه مالكا بموجب البينتين.

وما قلنا من قبول قوله مع عدم البينة لا يستلزم القبول معها ، لأنه في حال كونه محكوما بمالكية ما في يده إقراره نافذ في حقه ، فاذا أقر لأحدهما نفذ وثبت الملك ، وأما بعد معلومية عدم كونه مالكا فلا دليل على حجية قوله.

ودعوى أن قول ذي اليد مسموع فيما في يده ولو لم يكن يده يد ملك.

مدفوعة بعدم الدليل على أن اخباره حجة على الغير ، وقبول قوله مع عدم البينة انما هو لأجل كونه إقرارا لا لأجل كون إخباره حجة.

ونقل عن الشيخ في المبسوط قبول قول البائع تنزيلا للبينتين المتعارضتين منزلة ما إذا شهدت بينة واحدة على أنها لأحدهما ولم يتعين.

وفيه : ان الفرق بينهما غير بعيد ، لأن البينة القائمة على أنها لأحدهما وجودها كعدمها لأنها ليست حجة معتبرة. بخلاف البينتين المتعارضتين ، فإنهما معتبرتان في أنفسهما. والتعارض انما يرجع على التعيين ، فهما حجتان متعارضتان متفقتان في عزل المالك عن العين وجعله أجنبيا عنها ، فلا أثر لقوله حينئذ.

بخلاف البينة المحتملة ، فإنها ليست حجة في شي ء فلا توجب عزل المالك وجعله أجنبيا حتى لا ينفذ اخباره.

نعم لو بنى على احتمال أبداه في الدروس من تساقط البينتين وعود المالك الى الحالة الاولى ، أعني حالة عدم قيام البينة حتى أنه يحلف حينئذ لهما مثل صورة عدم البينة أمكن حينئذ قبول قوله لهما.

ولكنه خلاف ظاهر الأصحاب ، فإنهم قائلون في تعارض البينتين بالقرعة كما تقدم.

ص: 280

[ الجمع بين رأيي العلامة الحلي ]

وما ذكرنا من عدم قبول قول البائع لأحدهما هو الذي صرح به العلامة هنا ، لكنه قال سابقا في المسألة الثالثة من مسائل بقايا الدعاوي أنه لو أقر الثالث فالوجه أنه كاليد ترجح البينة فيه. وهو بظاهره مناف لما ذكره هنا.

ويمكن الجمع بأن الترجيح غير قبول قوله ، بمعنى كون إقراره حجة وسببا لصيرورة المقر له بمنزلة ذي اليد.

وقوله « كاليد » متعلق بقوله « ترجح » قدم للتوطئة ، وجعله في كشف اللثام خبرا لان. وهو بعيد ، لأنه يعطي إشكالا في كون إقرار ذي اليد لأحد بمنزلة كون المقر له صاحبه مطلقا ، سواء كان للمتداعيين بينة أم لا ، حيث أن لفظ « الوجه » يشعر بالخلاف أو الإشكال.

مع أنه ليس كذلك ، لان كون إقرار ذي اليد بمنزلة اليد في الجملة ولو في حال عدم البينة ليس محلا للإشكال. وجعل المراد انه كاليد في مفروض الكلام - أعني تعارض البينتين - رجوع الى ما ذكرنا مع قصور في العبارة عن تأدية المراد. فافهم.

ولو نكل وحلف الأخر انعكس الأمر ، ولو نكلا اقتسماهما بناء على ما تقدم نصفين ولكل منهما استرداد نصف الثمن ، وله أيضا الفسخ لتبعيض المبيع عليه قبل قبضه كما في الشرائع.

وقوله « قبل قبضه » إشارة إلى كون ذلك الخيار خيار التلف قبل القبض.

وعليه فيسقط خيار من كان منهما معترفا بتسلم العين كما عن الكشف.

وربما يتوهم أنه خيار خروج بعض المبيع مستحقا للغير بل مغصوبا ، وهو يقتضي ثبوت خيار التلف الذي لا بد فيه من عدم الاعتراف بقبض. فما أورد

ص: 281

بعض مشايخنا على الفاضل من عدم الفرق بين دعوييهما قبض المبيع وعدمها بناء على كون الخيار هذا لأجل ظهور المبيع مستحقا للغير. ليس في محله.

ولعله نشأ من الخلط بين ما نحن فيه وبين ما لو ادعى على المشتري وأقام البينة على كون المبيع له ، فان بطلان البيع حينئذ لأجل ظهور المبيع مستحقا للغير مع إمكان القول فيه أيضا بعدم البطلان من أصله بل من حينه.

وعلى التقديرين فهو خارج عما نحن فيه ، إذ المفروض في المقام اعتقاد كل منهما كذب الأخر وكذب بينته ، فهو من باب لو غصب المبيع بعد القبض في عدم كونه سببا لا فلانفساخ العقد إجماعا. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء اثنين البيع مع تعيين المبيع والثمن ]

لو ادعى اثنان بيع شي ء معين من واحد بثمن معين عكس المسألة السابقة ، فحكم المسألة ما عرف في نظائره من الإقراع والإحلاف والتنصيف بعد نكولهما.

فلو اختلف تاريخ البينتين قضى بالثمنين كما في الشرائع لا مكان جمعهما ، بأن اشتراه من أحدهما ثمَّ باعه من الأخر فاشترى منه أيضا. وانما لم يؤثر في المسألة السابقة اختلاف التاريخ لان الشراء لا يجوز أن يكون لملك نفسه بخلاف البيع فإنه يجوز أن يكون لملك غيره - كذا قيل.

ومراده أن الإنسان لا يعقل أن يشتري مال نفسه ، فاذا ثبت تعدد الشراء بموجب البينتين لإمكان الجمع كما عرفت أشتغل ذمة المشتري بالثمنين لغيره. فعليه إيصال كل ثمن الى صاحبه ، بخلاف البيع فإنه لما كان في ملك الغير ممكنا فمجرد تعدد البيع لا يثبت استحقاق المتأخر للمبيع لإمكان كونه فضوليا عن المشتري الأول الذي ينكر بيع الثاني ويرده على تقدير وقوعه له أيضا فضولة.

ص: 282

وأورد عليه بعض مشايخنا قدس سره أن احتمال كون الشراء لمال نفسه فضوليا أيضا ممكن.

قلت : وجه الإمكان أن زيدا مثلا يشتري دارا من عمرو ثمَّ يوكل شخصا عن نفسه في البيع ويشتري هو عن قبل بكر فضولة. وهو جيد ، لكن الشراء الفضولي مع إنكار المالك البائع لا يوجب على المشتري ثمنا ، لأن الإنكار رد للعقد الفضولي. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء رقية الصغير المجهول النسب ]

الصغير المجهول النسب إذا كان في يد أحد وادعى رقيته قضي بذلك ظاهرا كما في الشرائع وغيره ، بل الظاهر باعتراف بعض أهل الخبرة عدم الخلاف في هذا المقام.

نعم نقل عن بيع التذكرة القول بعدم الحكم ، ولعله غير مختص به في غير المقام.

نعم في كون القضاء مراعى الى البلوغ أو منجزا خلاف ، كالخلاف في قبول دعوى الرقية مع اليمين كما عن الشيخ والتذكرة أو بدونها كما هو ظاهر الأكثر من المحقق وغيره.

ولعل اليمين هنا استظهار لجانب الصغير شبه اليمين الاستظهاري ، والتقييد بمجهول النسب ليس لأجل عدم تصور الشك في معلوم النسب ، بل لأجل أن النسب إذا كان معلوما فربما تقع المرافعة بين المدعي والمنسوب اليه ، فيخرج عن موضوع هذه المسألة - أعني القضاء فيما لا تعارض لذي اليد استنادا الى يده أو الى دعواه.

ص: 283

وقد ناقش في قبول قوله بعض مشايخنا قدس سره لرواية حمران الواردة في تنازع رجل وامرأة على جارية يدعي الرجل أنها أمته وتدعي المرأة أنها بيته (1). وفيها : وان لم يقم الرجل البينة على ما ادعى ولم تقم البينة على ما ادعت خلي سبيل الجارية. ولان اليد انما تدل على الملكية بعد إحراز قابلية المحل لا مطلقا.

وربما يؤيده أن أحدا لا يحكم بملكية ولد يكون مع الرجل له من دون دعوى الرقية ، فبقي اعتبار قوله لأجل الدعوى بلا معارض.

وهو أيضا مشكل ، لأنه على ذلك ينبغي أن لا يفرق بين الصغير والكبير ، مع أن دعوى رقية الكبير الظاهر أنهم لا يقولون به هنا والا لغي التقييد بالصغير.

نعم عن غاية المراد التسوية بينه وبين الصغير ، بل قيل ان ذلك قضية كلام الأصحاب ، وصرح به المحقق في غير المقام ، بل في بيع القواعد أنه لا يسمع دعوى عبد يباع في الأسواق.

والذي يقتضيه التأمل هو عدم الاعتداد بمجرد اليد هنا ، لان اليد العارية عن التصرف لا تدل على الملك بل على تعيين المالك بعد إحراز كون ما هي عليه مالا ، ولذا يحكم بملكية اللقيط لثياب بدنه ونحوه.

بل الظاهر أن موضوع اليد مع عدم إحراز صلاحية ما عليه اليد للملكية غير متحقق ، فلا يقال ان زيدا صاحب يد على صغير في بيته لم يعلم أنه ابنه أو عبده ما لم يعامل معه معاملة العبد. وكذا الدعوى المجردة عن اليد ، كما إذا ادعى أحد رقية صغير أو كبير خارجين عن يده.

وأما اليد المجامعة مع التصرف كالاستخدام ونحوه ومع دعوى الملكية

ص: 284


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 9.

فالظاهر أنها تدل على الملكية بشرط سكوت من عليه اليد لصغر وجنون ونحوهما ، فلو ادعى الحرية فالظاهر تقديم قوله.

وما ورد في الروايات من عدم قبول دعوى العبد الذي يباع الحرية إلا بالبينة (1) كظاهر فتواهم في باب البيع لا بد أن ينزل على ما إذا تكرر البيع في الأسواق حتى تكون دعوى الحرية راجعة إلى دعوى التحرير والإعتاق أو على خصوص دعوى التحرير ، إذ لا يمكن الجمع بين ظاهر لفظ « العبد » و « الأمة » وظاهر لفظ « الحرية » في تلك الرواية ، فلا بد اما من حمل العبد والأمة على العبد والأمة الظاهريين - أي بمقتضى ظاهر اليد والتصرف - أو حمل دعوى الحرية على دعوى التحرير بقرينة إيقاف سمع دعواها على البينة مع كون الحرية على طبق الأصل الأولي.

[ الدليل على رقية الصغير المدعى رقيته ]

ثمَّ الدليل على ما ذكرنا من الحكم بالرقية في صورة اجتماع الأمور الثلاثة أو الأربعة - أعني اليد والتصرف والدعاء وسكوت المدعى عليه - بعد السيرة الجارية - تلك الروايات الدالة على مطالبة البينة من مدعي الحرية بعد استظهار الاحتمال الأول ، أعني كون المراد بالعبد والأمة الظاهريين ، أعني ما هو عبد وأمة بحسب الظاهر بحسب حال المسلم ، إذ هو لا يكون بمجرد اليد ولا بمجرد الدعوى ، لأنه لا يحصل الظهور النوعي إلا بعد اجتماعهما.

نعم في مقابلها روايات تدل على عدم سماع دعوى الرقية إلا بالبينة ، مثل صدر الرواية المتقدمة « الناس كلهم أحرار الا من أقر على نفسه بالرقية » (2) ،

ص: 285


1- الوسائل ج 13 ب 5 من أبواب بيع الحيوان.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 9.

وهو مدرك من أقام بينة على من ادعى من عبد أو أمة ، فإنه يدفع اليه ويكون رقا. ونحوها غيرها مع زيادة قوله « صغيرا كان أو كبيرا ».

لكن يمكن الجواب عنه بأن موردها ما إذا كان المقام مقام دعوى الرقية ، وهو لا يكون إلا إذا لم يكن للمدعي ظهور عرفي باليد والتصرف ، إذ لا يصدق حينئذ عليه المدعي ، فلا بد أن يكون المقام خاليا عن أمارة عرفية أو شرعية دالة على الرقية لا مثل العبد الذي يباع في الأسواق كما بينا.

بل الظاهر أن صورة قيام الظهور النوعي على الرقية باليد الجامعة للتصرف والادعاء غير مشمولة لهذه الرواية ولو مع قطع النظر عن الروايات المعارضة ، لظهور اختصاص هذه الرواية بصورة الدعوى التي لا تجامع مع كون المدعي محكوما بمالكيته عرفا ، وحينئذ فالاستثناء قرينة على أن المراد بالناس من كان يدعي رقيته دعوى عرفية أو شرعية لا كل من ادعى رقيته ولو بموجب اليد والتصرف ، فهو خارج عن موضوع هذه الرواية.

ومع الغمض عن ذلك فالروايات معارضة مخصصة لها كما لا يخفى.

وأما ذيل الرواية المشار إليها الواردة في تداعي رجل وامرأة على جارية ، فعدم شمولها لما نحن فيه أظهر ، لأن الجارية لم تكن تحت يد الرجل المدعي لرقيتها بل كانت بينة وبين المرأة المدعية لبنتيتها - كما هو ظاهر صدرها - عن جارية لم تدرك بنت سبع سنين مع رجل وامرأة.

ولو سلم كونها في يده - كما هو ظاهر قوله « قلت فان لم يقم شهودا أنها مملوكة له قال تخرج من يده » - فهو أيضا خارج عما نحن فيه الذي هو اجتماع اليد والتصرف مع ادعاء ذي اليد بلا معارض ، إذ المعارضة ولو من الأجنبي توجب انتفاء الظهور النوعي عن اليد في الملك مع عدم إحراز قابلية ما عليه اليد للملكية لشبهة الحرية ونحوها.

ص: 286

والسر في ذلك أن اليد في غير الأمور المعلوم المالية ليس لها ظهور عرفي أو شرعي في الملكية ، بل موضوع اليد فيها لا يتحقق الا بعد كشفها عن التصرف المالكي ، والتصرف المالكي مع وجود مدعي الحرية لا يمكن إحرازه ، إذ الاستخدام ونحوه مشترك بين الحر والعبد ، فلا بد في تحصيل الظهور العرفي من فرض الاستخدام أو التعرض للبيع أو نحو ذلك مما هو متفرع على الملك مع السلامة عن ادعاء الحرية. وهذه الصورة هي القدر المتيقن من مجرى السيرة.

[ ادعاء حرية الرق الصغير بعد بلوغه ]

هذا ، ثمَّ ان قبول قوله في الرقية ان كان لأجل اليد لزم عدم سماع دعوى الصغير بعد البلوغ للحرية إلا مع البينة. وهذا معنى المحكي عن السرائر من عدم الالتفات الى قوله حتى بعد البلوغ لسبق الحكم برقيته ، وكذا يرجع الى هذا الوجه ما عن التذكرة وموضع من القواعد من قبول قوله وإحلاف ذي اليد.

ولا يتوهم أن الحلي أراد عدم السماع حتى مع البينة ، إذ لا وجه لذلك ولا يقول به أحد ظاهرا ، وان كان لأجل الدعوى بلا معارض لزم قبول قوله بعد البلوغ : اما مع اليمين ان قلنا بأن الدعوى بلا معارض لا يجعل صاحبها بمنزلة المنكر بالنسبة إلى الدعاوي المتأخرة ، أو مع يمين ذي اليد ان قلنا بأنها تجعل صاحبها كالمنكر. والأول محكي عن الإرشاد.

فصارت الأقوال في سماع دعواه بعد البلوغ ثلاثة : أحدها عدم السماع الا مع البينة وهو المراد من محكي السرائر كما عرفت ، وثانيها السماع مع

ص: 287

اليمين كما عن الإرشاد ، وثالثها السماع مع اليمين على ما في يده كما عن التذكرة. فظهر وجوه الأقوال أيضا. واللّه العالم.

التقاط [ اعتراف الرقية لأحد المدعيين ]

إذا ادعى اثنان رقية أحد فاعترف لأحدهما مع عدم البينة قضى له ، لأن الإقرار حينئذ يجعل المقر له مالكا ، فيصير جانبه قويا باعتبار كون قوله موافقا لأمارة شرعية.

فالوجه في تأثير إقرار الثالث هنا غير الوجه في تأثير إقراره في دعوى الأموال ، لأن إقراره يجعل المقر له صاحب يد ، لأن إقرار ذي اليد في الأموال لغيره يرجع الى الإقرار بأن يده متفرعة على يد المقر له بعارية ونحوها. بخلاف إقرار المدعى عليه هنا ، إذ الحر ليس له يد على نفسه حتى ينكشف بإقراره أن يده عارية من المقر له وأنه ذو اليد.

نعم في دعوى الأموال يجري الوجهان ، فالمقر له فيها يصير القول قوله من جهتين : ( إحداهما ) صيرورته مالكا بسبب الإقرار ، فهو الذي يوافق قوله أمارة شرعية ، كما قلنا في دعوى الحرية أيضا.

( وثانيتهما ) صيرورته صاحب يد لكشف إقرار ذي اليد عن كون يده من جانب المقر له.

هذا حال الإقرار مع عدم البينة ، وأما معها ففي قبوله لأحدهما وجهان تقدما في التداعي على العين ، فإن المسألتين من واد واحد.

وربما يظهر من كشف اللثام الفرق ، حيث مال في تلك المسألة إلى أنه كاليد ترجح البينة وفاقا لموضع من القواعد كما سبق ، وقال هنا بعدم قبول

ص: 288

الإقرار. وهو بعيد ، لأن البينة في دعوى العين توجب خروج إقرار ذي اليد عن صلاحية النفوذ على الأخر ، لكونه إقرارا في حق الغير في دعوى الحرية توجب المقر عن صلاحية الإقرار ، فالفرق واضح.

وان شئت قلت : ان المدعى عليه في دعوى الحرية بعد اقامة البينتين لا ينفع إقراره لأحد المتداعيين ، سواء قلنا في التداعي على العين بقبول إقرار ذي اليد بعد تعارض البينتين أم لا. أما على الثاني فواضح ، وأما على الأول فلان قبول إقرار ذي اليد في العين اما لأجل كونه سببا لصيرورة يده نائبة عن يد المقر له فيكون المقر له ذا اليد أو لأجل صيرورة المقر له مالكا بسبب إقرار ذي اليد وكونه ملزما فيكون العين له ظاهرا.

وشي ء من الوجهين لا يجري في الإقرار بالرقية بعد تعارض البينتين : أما الأول فلان الإنسان لا يد له على نفسه ، لان الحر لا يدخل تحت اليد ، فلا يثبت بالإقرار كون يده عارية من المقر له. وأما الثاني فلان البينة على الرقية توجب خروج المقر عن صلاحية الإقرار ، فيكون لغوا.

وهذا بخلاف إقرار ذي اليد ، فإنه وان كان في حق الغير بعد قيام اقامة البينتين لكن وجه اعتباره على القول به هو حجية اخبار ذي اليد من حيث كونه ذا اليد ، سواء كان ذلك الأخبار إقرارا على نفسه - أي ملزما لشي ء على نفسه - كما في صورة عدم إقامة البينة أو لم يكن إقرارا وملزما بل كان محض اخبار كما إذا كان بعد قيام البينتين. فاذا كان اخباره معتبرا صح أن يكون سببا لترجيح بينة المقر له من باب الاعتضاد.

وحيث لا يد للشخص على نفسه كان الإقرار بالرقية بعد قيام البينتين لغوا ، لعدم كونه من باب اخبار ذي اليد ، فينحصر قبول إقراره في صورة عدم البينة.

ص: 289

فإنه نافذ ، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، وهو موجب لصيرورة المقر له مالكا لرقيته بإقراره كما عرفت. واللّه العالم.

التقاط [ كيفية تقسيم المدعى به مع إقامة البينة والاختلاف في المقدار ]

لو ادعى دارا في يد زيد وادعى عمرو نصفها وأقاما البينة ، فالمشهور أنه يقضى لمدعي الكل بثلاثة أرباع ولمدعي النصف بالربع ، فالدار يكون بينهما أرباعا على حد الحكم المنصوص في مرسل ابن حمزة عن الصادق عليه السلام في رجلين كان بينهما درهمان فقال أحدهما الدرهمان لي وقال الأخر هما بيني وبينك. قال «عليه السلام» : قد أقر أن أحد الدرهمين ليس فيه شي ء وأنه لصاحبه وأما الأخر فبينهما (1). ونحوه مرسل كما في كشف اللثام أنه لا فرق فيما ذكرنا بين كون العين في أيديهما كما هو مورد الرواية أو في يد ثالث كما يأتي.

نعم لو جعل مورد الرواية النزاع في درهم معين من الدرهمين - كما هو ظاهر لفظ « أحد الدرهمين » - خرج ما نحن فيه عن مورده ، وأما لو جعل المورد أحدهما الكلي كما يشعر به قوله « بيني وبينك » كان دليلا في المسألة زيادة على القاعدة.

وقد مر في السابق ذكر الاحتمالين في الرواية وترجيح الأول ، الا أن تنصيف النصف المختلف فيه فيما نحن فيه نظير تنصيف أحد الدرهمين هناك باعتبار كونه مرددا بينهما.

ووجه ما ذهب إليه الأكثر أن نصف الدار لا نزاع فيه ، سواء كان مدعي

ص: 290


1- الوسائل ج 12 ب 9 من أحكام الصلح ح 1.

النصف مقرا بأنه لصاحبه أو ساكتا أو شاكا ، وانما النزاع في النص خاصة وقد تعارض فيه البينتان فوجب النصف بعد القرعة والنكول كما لو تداعيا عينا.

[ كلام ابن الجنيد في المسألة ورده ]

وذهب ابن الجنيد الى تقسيمها بطريق العول ، فقال : انها تقسم أثلاثا فيجعل لمدعي الكل ثلثان ولمدعي النصف ثلث ، نظير ضرب الديان في مال المفلس والميت نظرا الى أن المنازعة وقعت في النصف المشاع ، فكل جزء من العين مورد للمنازعة. ومقتضاه أن يجعل بين المتنازعين بنسبة دعواهما ، فيجعل لمدعي الكل الثلثان ولمدعي النصف الثلث ، لان نسبة النصف الى الكل نسبة الثلث الى الثلاثين. هذا خلاصة المحكي عنه في المسالك.

والأصل في المسألة هو أن المسألة هل في من باب تزاحم الحقوق أو من باب تعارض الامارات ، فان كانت من الأول اتجه كلام ابن الجنيد ، لأنه إذا اجتمع في شي ء حقوق لا يسع ذلك الشي ء لها لزم الجمع بطريق العول وإدخال النقص على كل واحد ، فاذا كان مدعي الكل حقه الكل بموجب بينته ومدعي النصف حقه النصف وأريد الجمع بين الحقين في الدار التي تداعياها لزم تقسيمها بينهما على وجه يكون الواصل الى كل ذي حق بقدر ما وصل الى الأخر بنسبة حقه ويكون الفائت من كل حق بقدر الفائت من الأخر ، وهو لا يكون الا بالعول. وان كانت من الثاني وجب فيه مراعاة قواعد الجمع ، وهو تصديق كل أمارة في مورد التعارض بقدر تصديق الأخر ، فيجب تصديق بينة الكل في محل التعارض بقدر تصديق بينة النصف عملا ، وهو لا يكون الا بالتنصيف.

إذا تحقق ذلك ظهر أن ما ذكره ابن الجنيد ليس في محله :

أما أولا : فلان المقام من باب تعارض الأمارتين ، لأن البينة كاشفة عن

ص: 291

الواقع ومثبتة له ، ومقتضى كشف بينة الكل إعطاء مدعيه نصف الدار ، لأنها لا معارض لها بالنسبة اليه. وان شئت جعلت النصف له من جهة عدم المعارض لأمن جهة البينة ، فيبقى النصف الأخر الذي يتعارض فيه البينتان هو محل النزاع فينصف ويعطى كل واحد ربع الدار عملا بقاعدة التعارض في باب تعارض البينة.

وأما ثانيا : فلان ما ذكره مبني على فرض أحد المتداعيين مستحقا للكل والأخر مستحقا للنصف حتى يكون من باب التزاحم كضرب الديان. وهذا لا دخل فيه لكون النصف الذي فيه النزاع مشاعا ساريا الى جميع الاجزاء ، إذ غاية ما يلزم من السراية جريان النزاع في كل جزء قابل للقسمة ، فجرى فيه ما قلنا في الكل من سلامة نصفه لمدعي الكل لعدم معارض له ولا بينة وتنصيف النصف الأخر. ولعل الغرض من توسيطه إشاعة النصف في أثناء الدليل الاحتراز عن صورة تعيين النصف المتنازع فيه ، فإنه لا وجه لطريق العول فيه.

فان قلت : قد سلف أن قيام المبينة في باب المرافعات سبب لثبوت الحق لا طريق اليه ، والا لكان اللازم التوقيف دون التنصيف ، ولو لم يكن لقضاء أمير المؤمنين عليه السلام بالتقسيم حسب عدد رؤوس الشهود في بعض قضاياه وجه كما مر (1) ، وحينئذ لا يكون المقام من باب التزاحم ، لان بينة الكل سبب لاستحقاق مدعيه إياه وكذا بينة النصف.

قلنا : قد ذكرنا أن البينة في غير صورة التعارض طريق وانما هي سبب في موضع النزاع. والأمر فيما نحن فيه أيضا كذلك ، لان بينة الكل بالنسبة إلى النصف الغير المتنازع فيه طريق صرف ، فيحكم به لمدعي الكل بلا معارض

ص: 292


1- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب الشهادات ح 1 و 2.

وبالنسبة إلى النصف المتنازع فيه سبب محض ، كما أن بينة مدعي النصف أيضا كذلك ، فيعامل معهما معاملة السببية ، ونقول :

ان كلا منهما مستحق لتمام ذلك النصف باعتبار كون بينته سببا لاستحقاقه ، فلا بد من الجمع بين حقهما ، وهو لا يمكن إلا بطريق العول ، بأن يأخذ كذلك منهما ربعه ليكون الواصل الى كل والفائت من حقه بقدر الواصل والفائت من حق الأخر.

لا يقال : لا نسلم أن هنا نصفا غير متنازع فيه حتى يكون يعمل بينة الكل في ذلك النصف وانما يكون كذلك لو قال مدعي النصف لي أحد النصفين. وليس كذلك ، لأنه يدعي النصف الكلي ، ولذا لو باع مالك النصف المشاع نصفه نفذ في الربع دون الربعين ، وذلك لان النصف المشاع ليس عبارة عن أحد النصفين ، بأن يفرض العين نصفين ويكون كل منهما مشاعا ، بل هو عبارة عن النصف الذي لا يقابله نصف آخر ، وهو كلي سار الى جميع الاجزاء. فكل جزء يفرض قد وقع النزاع فيه معينا أو غير معين كالثلث والربع والنصف ونحوها ، فبينة الكل أيضا بينة في مورد الخصومة وليس بينة في غير مورده حتى بالنسبة إلى النصف حتى يعمل به من غير معارض.

قلت : لا فرق بين أن يكون المتنازع فيه أحد النصفين أو النصف الكلي ولا بين أن يكون نصف المجموع محلا للنزاع أو يكون نصف كل جزء قابلا للتنصيف ، لان نصف المجموع على التقدير الأول أو نصف كل جزء على التقدير الثاني يسلم لمدعي الكل من غير منازع ، فيعمل بينة فيه.

وان شئت قلت : ان النزاع في كل جزء على أي تقدير كان يرجع الى استحقاق مدعي النصف نصف ذلك الجزء وعدمه ، فمدعي الكل يقول ليس لك نصف هذا الجزء ومدعي النصف يدعيه ، فمقتضى الجمع بين البينتين

ص: 293

تنصيف النصف المتنازع فيه ، ومجرد كون كل جزء محلا للدعوى وموردا للخصومة لا يقتضي التزاحم أو التعارض في مجموع الاجزاء ، لان سريان حق مدعى النصف الى كل جزء ليس باعتبار تمامه بل باعتبار بعضه.

[ هل النزاع في تمام العين أو تمام الأجرة ]

وتوضيح المقال يتوقف على تحرير محل النزاع وأنه تمام العين أو تمام الاجزاء باعتبار تمامها أو باعتبار بعضها :

( فان كان الأول ) فلا محيص عن مقالة ان الجنيد من العول ، سواء كان العمل بالبينة في الحقوق من باب الطريقية أو من السببية ، أما على الثاني فواضح ، وأما على الأول فلان الطريق إذا كان العمل به واجبا ولو مع المعارضة ولم يجز التوقف عند التعارض يكون حكمه حكم السبب ، إذ لا فرق بين سبب العلم أو سبب المعلوم إذا كان العمل بسبب العلم واجبا شرعا ، فالعمل بالبينة سبب لثبوت حق المتداعيين معا ، سواء كان وجه العمل كون البينة من باب أسباب وجود الحق كسائر الأسباب الشرعية أو من باب أسباب العلم به.

وانما يتجه الفرق بينهما لو كان سبب العلم باقيا على أصله من التوقف كما في الاحكام.

( وان كان الثاني ) اتجه قول الشيخ ، أعني عدم العول. ونحن قد بينا أن نصف العين سالم لمدعي الكل وليس مصبا للدعوى ومحل تعارض البينتين. وان كان قضية دعوى النصف المشاع سريان الدعوى الى تمام اجزاء العين من غير تعيين ولا تشخيص بإشارة حسية ، لأن وصف التمام ليس مصبا للدعوى وانما يتداعيان في التمام باعتبار نصفه ، فلا جرم يختص التعارض والتنازع في ذلك النصف.

ص: 294

وهذا معنى قول الشيخ ان العمل في المسألة بقاعدة المنازعة ، يعني ان قاعدة المنازعة تقتضي إخراج ما لا نزاع فيه ثمَّ يقسم الباقي.

هذا ، ويمكن استظهار قول الشيخ - وهو القول المشهور - من مرسل حمزة المشار إليه ، إذ فيه تعليل اختصاص أحد الدرهمين بمدعي الاثنين بأن صاحبه أقر بأنه ليس له. وهذا ان لم يكن من العلة المنصوصة فلا أقل من صلاحية استيناس الحكم المشهور منه ، وهو أن أحد الخصمين إذا كان معترفا ببعض المدعى به لصاحبه وجب العمل بقاعدة القضاء في غيره.

هذا إذا قلنا بأن النزاع في الدرهمين لم يكن على وجه الإشاعة ، وإلا فهو دليل قاطع في المسألة.

ولا يذهب عليك أن محل الكلام هنا وان لم يكن خصوصا صورة إقرار مدعي النصف بالنصف الأخر لصاحبه ، الا أن التفصيل بينها وبين صورة السكوت غير موجود.

[ تأييد مذهب ابن جنيد في المسألة ]

هذا ، واحتمل في القواعد مذهب ابن الجنيد ، وذكر في كشف اللثام نظيرا للمسألة على هذا المذهب ، وهو أنه لو مات إنسان وعليه لاخر ألفان فإنه يقسم بينهما أثلاثا. ثمَّ أجاب عن دليل ابن الجنيد بما ذكره القوم ، وعن النظير بالفرق لان ديان الميت يتنازعون فيما على ذمته لا على عين وفي المثال المذكور كلهم يدعي كل التركة. ولذا قال في المختلف وهو - يعني قول ابي علي - أقوى عندي لو زاد المدعون على اثنين ، يعني واستوعب دعاوي غير مدعي الجميع العين أو زادت عليها.

قلت : أما الفرق المذكور فلا وجه له ، لان العول في ديون الميت ثابت

ص: 295

ولو لم يكن كل واحد مستوعبا ، كما إذا خلف ألفا وعليه لاخر ألفان ولاخر خمسمائة. وأما تفسير مذهب العلامة في المختلف بما إذا استوعبت دعاوي غير مدعي الجميع العين فليس بظاهر من المختلف ، لأنه قوى قول ابي علي فيما إذا كان المدعون أريد من اثنين ، وهو أعم من صورة استيعاب دعاوي غير مدعي الجميع كما لا يخفى.

ثمَّ ان هنا تصويرا آخر للإشاعة يقرب قول ابن جنيد ، وهو أن يقال : ان الملك المشاع عبارة عن ملكية مجموع الأجزاء كافة على وجه النقصان ، والملك المطلق عبارة عن ملكيتها على وجه الاستقلال ، فمالك النصف على وجه الإشاعة له سلطنة على الكل سلطنة ناقصة.

وعلى هذا التصوير يتجه قول ابن جنيد بعد ما هو المقرر من أن البينة في المنازعات تجري مجرى الأسباب ، لأن مدعي النصف بموجب بينته استحق الكل أيضا استحقاقا ناقصا ومدعي الكل استحق الكل بمقتضى بينته استحقاقا تاما ، والجمع بين استحقاقهما للكل لا يمكن الا بالعول.

ذكره بعض المكلمين في مجلس البحث فأجبته بما ارتضاه ، وهو أن مورد الخصومة حينئذ هو استحقاق مدعي النصف للكل استحقاقا ناقصا وعدم ذلك الاستحقاق ، فمدعي الكل ينفيه ومدعي النصف يثبته ، ومقتضى الجمع بين البينتين تصديق كل من المتنازعين في النصف المدعى به ، ولا ريب أن تنصيف الاستحقاق الناقص للكل يرجع الى ثبوت الاستحقاق التام لمدعي النصف في الربع. فافهم.

[ ادعاء التركة بين أكثر من شخصين ]

هذا إذا كان المدعون اثنين ، ولو كانوا أكثر فهو على قسمين :

ص: 296

( أحدهما ) أن تكون دعاوي غير مدعي الكل مستوعبة للعين بحيث لا يبقى لمدعي الكل شي ء من العين سليما عن المعارض. كما إذا ادعى أحدهم الجميع وادعى الأخر الثلاثين والثالث الثلث ، فطريق القسمة على مذهب المشهور هو أن يقسم العين تسعة عشر : ويعطى ثلثه وهي الستة لمدعي الكل ، إذ لا ينازعه فيه مدعي الثلاثين ولا مدعي الثلث ، وهما معا وان كانا يعارضانه الا أن المركب منهما ليس مدعيا آخر. ثمَّ يقسم ثلثه الأخر بين مدعي الكل ومدعي الثلاثين نصفين ، إذ لا ينازعهما فيه مدعي الثلث. ثمَّ يقسم الثلث الباقي بينهم أثلاثا ، لأنه موضع خصومة الثلاثة ، فيحصل لمدعي الكل أحد عشر ولمدعي الثلاثين خمسة ولمدعي الثلاث اثنان.

وتقسيمه على طريق العول هو أن يعطى مدعي الكل ستة من اثني عشر ، ومدعي الثلاثين ومدعي الثلث كلاهما ستة وهما يقسمانها أثلاثا فيأخذ مدعي الثلاثين ثلثاها وهي أربعة الثلث ثلثها وهو اثنان.

( والقسم الثاني ) هو أن لا يكون دعاوي الآخرين مستوعبة ، كما إذا ادعى أحدهم الجميع والأخر النصف والثالث الثلث ، وتقسيمه على طريق العول هو أن يعطى مدعي الكل ستة من أحد عشر ومدعي النصف منها ثلاثة ومدعي الثلث اثنان ، لان نسبة النصف الى الكل ثلثية ونسبة الثلث الى الكل ربعية ونسبة الثلث الى النصف نسبة الاثنين إلى الخمسة.

وعلى طريق المشهور هو أن يعطى مدعي الكل النصف أولا ، ثمَّ يقسم السدس الذي لا نزاع فيه لمدعي الثلث بينه وبين مدعي النصف نصفين ، ثمَّ يقسم الباقي - وهو الثلث - بين الكل أثلاثا ، فلمدعي الكل من ستة وثلاثين خمسة وعشرون والمدعي النصف سبعة ولمدعي الثلث أربعة.

وذهب العلامة في ظاهر المختلف الى التفصيل في المسألة ، فاختار مذهب

ص: 297

ابي علي إذا كان المدعون أزيد من اثنين. وقد عرفت أن الفاضل أوله الى ما إذا كان دعاوي غير مدعي الكل مستوعبة ، حيث رأى عدم تأثير تجاوز المدعي عن الاثنين في المسألة إلا إذا كان من عدا مدعي الكل دعاويهم مستوعبة حتى يلاحظ مجموع دعاويهم دعوى واحدة وتجعل في مقابل دعوى مدعي الكل لينحصر الأمر في العول ، لأنه إذا فرض كذلك فلا بد من العول.

ولا وجه لمذهب المشهور ، كما لو ادعى اثنان وادعى كل منهما الكل ، فإن الأمر فيه منحصر في العول حتى على طريقة المشهور ، فيقال مثلا : ان مدعي الثلاثين ومدعي الثلث في المثال المتقدم بمنزلة مدع واحد لتمام العين ، فيجعل العين بين مدعي الكل وبينهما نصفين ، لان الثلاثين والثلث تمام العدد وقد ادعاهما الاثنان فيقسمان النصف بينهما أثلاثا كما قلنا.

وفيه ما عرفت من أن منازع مدعي الكل ليس الا مدعي الثلاثين ومدعي الثلث ، واما المركب منهما فليس بمدع آخر حتى يلزم العول في الكل. فالحق في المسألة هو المشهور مطلقا.

[ ملخص وجوه المسألة ]

ومما ذكرنا ظهر أن الوجوه في المسألة أربعة : أحدها عدم العول مطلقا وهو مذهب الشيخ والأكثر ، وثانيها العول مطلقا وهو مذهب ابن جنيد ، وثالثها التفصيل بين تجاوز المدعي عن اثنين فالعول وعدمه فعدمه وهو ظاهر المختلف ، ورابعها التفصيل في صورة التجاوز بين الاستيعاب فالعول وعدم الاستيعاب فالعدم وهو الذي فهمه الفاضل من المختلف وقد عرفت ما فيه.

هذا كله إذا كانت العين في يد ثالث ، ولو كانت في أيديهما فاما أن يكون لكل بينة أو لأحدهم أو لا يكون بينة أصلا ، وحكمها من حيث الدخول والخروج

ص: 298

والتعارض والقرعة والنكول قد ظهر مما سلف ، واما من حيث العول وعدمه فهو مثل صورة خروجها عن أيديهم.

فلو كانت في أيديهما فادعى أحدهما الجميع والأخر النصف قسم بينهما بالسوية بعد حلف مدعي النصف لمدعي الكل لأنه ذو اليد بالنسبة اليه. ولو أقاما البينة وتكافئا : فإن قدمنا بينة الخارج كان الكل لمدعي الكل ، وان قدمنا بينة الداخل قضى بالتنصيف لمدعيه ، وان قلنا بالتعارض وأقرعنا وتحقق النكول من الطرفين فعلى المشهور تكون العين بينهما أرباعا كما قررنا ، وعلى العول تكون أثلاثا.

وإذا استوليت على حقائق ما قررنا عرفت حكم ما في الشرائع والقواعد وسائر كتب القوم من فرض المسألة. واللّه العالم.

التقاط [ اختلاف الزوجين في متاع البيت ]

إذا تداعيا الزوجان متاع البيت ففيه أقوال ذكرها في المسالك ، منشؤها اختلاف الاخبار والاعتبار :

( أحدها ) ما عن المبسوط من العمل بمقتضى القاعدة ، فيحكم لمن له البينة ومع عدمها فيد كل منهما على النصف ، من غير فرق بين ما يصلح لخصوص الرجال أو لخصوص المرأة أو لهما ، الا أن يخص اليد بأحدهما كثياب البدن وما يجري مجراها في الاختصاص بأحدهما.

( وثانيها ) الفرق بين ما يصلح للرجال خاصة فيحكم بها لهم وكذا ما يصلح للمرأة وبين ما يصلح لهما ، فيعمل فيه بمقتضى القاعدة كما ذكر. وهذا محكي عن الشيخ أيضا في الخلاف ، وهو الذي نسبه في الشرائع إلى الأشهر في الروايات والأظهر بين الأصحاب.

ص: 299

( وثالثها ) أنها للمرأة ويطالب الرجل بالبينة. وهذا مصرح به في غير واحد من الروايات ، معللا بأنه لو سئل من بين لا بيتها - أي بين جبلي منى - لا خبروك أن الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الرجل فيعطي التي جاءت به (1).

والعمل بهذه الرواية يقضي بالتفصيل بين البلدان والأقاليم والعمل في كل بلد بموجب ما جرت عليه عادته ، فقد يكون كما أخبر به الامام عليه السلام عن كون الجهاز والمتاع من المرأة وقد يكون بالعكس.

ومحصل التفصيل الذي يظهر من الرواية أن العادة ان كانت جارية على زف المرأة مع المتاع من مالها الى بيت الرجل حكم بمقتضى تلك العادة وتجعل تلك ظهورا متبعا شرعا في صورة التنازع حاكما على الأصل بل اليد أيضا ، إذ لو خلي وطبعه حكم بها للرجل إذا كان مالكا للدار ، لان مالك الدار مع ما فيها داخل تحت يده ، فاذا كانت العادة على زف المرأة مع المتاع خرجنا بها عن حكم اليد تقديما للظهور على اليد.

ومن هنا يظهر أن الحكم كذلك في جميع موارد تعارض الأصل والظاهر ، لأنه في قوة المنصوص العلة ، فكأنه عليه السلام قال : ان ظاهر الحال مع المرأة فيقدم قولها.

لكن العمل به مشكل ، لان بناء الأصحاب إيقاف تقديم الظاهر على ورود الدليل عليه ، حتى أنهم حصروا مواضع تقديمه على غيره من الأصول والطرق المعتبرة.

لكن لو كان الظهور مثل الظهور الذي حكم الامام عليه السلام باعتباره في هذه الروايات لم يكن التعويل عليه مطلقا بعيدا ، وميزانه أن تكون العادة جارية

ص: 300


1- الوسائل ج 18 ب 8 من أبواب ميراث الأزواج ح 1.

على مقتضاه ، بحيث لو سئل الناس عن حكم الواقعة لأخبروا بموجبها ، كما هو صريح كلامه عليه السلام لا مطلق الظهور الناشئ من استقرار مطلق العادة.

ثمَّ ان اخبار الناس بموجبها قد ينشأ بمسامحاتهم وتوسعاتهم وجزافاتهم في الأقوال والاخبار ، فيخبرون بموجبها عن تخمين وجزاف من غير تحقيق ، حتى إذا سئل عقلاؤهم وأهل مداقتهم لسكتوا ولم يخبروا بشي ء. وحينئذ فاللازم المداقة في معرفة كون اخبارهم عن تحقيق أو تسامح.

هذا كله في الأمتعة المشتركة بين الرجال والنساء ، وأما ما يختص بأحدهما ففيه أيضا ظهور نوعي بالاختصاص ، ولا بعد في التعويل عليه تبعا للشيخ مع ورود بعض الروايات فيه. (1)

وعلى أي حال فالمسألة لا تخلو عن غموض ، لما فيها من الاختلاف بحسب الاخبار وكلمات الأخيار المخالفة للقواعد. واللّه العالم.

ص: 301


1- الوسائل ج 17 ب 8 من أبواب ميراث الأزواج ح 2 و 3.

القول في دعوى المواريث

التقاط [ ادعاء الإسلام قبل موت المورث ]

اشارة

إذا ادعى أحد الوارثين إسلامه قبل موت المورث وأنكره الأخر بادعاء التأخير : فاما أن يعلم تاريخ الموت والإسلام أو لا يعلم التاريخان ، وعلى الأول فالمؤرخ اما الموت أو الإسلام ، فهنا مسائل :

( الاولى ) أن يجهل التاريخان

والحكم فيه التوقف والرجوع الى أصالة عدم تحقق سبب الإرث ، الا أن يبنى في مجهول التاريخين على التقارن ، كما هو ظاهر غير واحد ، فيحكم فيه بعدم الإرث لعدم استتمام السبب ، وهو الموت بعد الإسلام.

( الثانية ) أن يعلم تاريخ الموت دون الإسلام

والحكم فيه أيضا عدم الإرث ، لأصالة عدم الإسلام في تاريخ الموت. ولا

ص: 302

فرق فيه بين كون الكفر مانعا أو الإسلام شرطا ، لان المانع إذا كان له حالة سابقة يستصحب.

ولا يجدي أصالة عدم المانع مع إحراز المقتضي ولو مع عدم رجوعه الى استصحاب العدم. وقد قررنا في الأصول فساده ، لعدم نهوض دليل بذلك.

هذا مع أن الكفر هنا عبارة عن عدم الإسلام ، وان قلنا أنه أمر وجودي ضد الإسلام ، إذ الحرمان عن الإرث انما هو من أحكام عدم الإسلام حتى لو فرض كون الوارث شاكا غير معترف بالمعارف حرم من الإرث قطعا. ومن الواضح أن عدم الإسلام موافق للأصل وليس مخالفا.

نعم الظاهر أن الارتداد والقتل ونحوهما مما يرجع الى الأمر الوجودي مانع عن الإرث ، فلو شك في شي ء منها جرى أصالة عدم المانع إذا لم يكن مسبوقا بالوجود السابق. كما إذا فرض ارتداد أحد الوارثين وتوبته حيث تقبل توبته واختلفا في تاريخ التوبة مع العلم بتاريخ الموت. فان الحكم فيه أيضا عدم الإرث استصحابا للارتداد الى تاريخ الموت.

وأما الرقية فان بني على أن العبد لا يملك فالظاهر حينئذ كون الحرية شرطا للإرث لا كون الرقية مانعة ، لأن حقيقة الإرث - وهو الانتقال - لا يتصور في الرق ، فتكون الحرية من شرائط القابلية.

الا ان يقال : ان النسب مقتضى للقابلية والرقية مانعة عنها وان مرجع الحرية الى عدم الرقية ، وفيه تعسف.

وأما على القول بأنه يملك فالظاهر أن الرقية كالارتداد تعد من الموانع ، إلا انك عرفت فيما علم تاريخ الموت عدم اختلاف الحال بين كون ذلك مانعا أو كون ضده شرطا.

وربما يظهر من بعض الروايات - مثل ما ورد في فضل الإسلام وأنه يوجب

ص: 303

شرفا للمسلم فيورث عن الكافر ولا يورث منه الكافر - أن إسلام المورث مانع عن تورث الكافر منه (1).

( الثالثة ) عكس الفرض

بأن علم تاريخ الإسلام دون الموت ، ومثاله في الشرائع تبعا للمحكي عن المبسوط والوسيلة وغيرهما من بعض القدماء هو أن يعلم إسلام الوارث في شعبان مثلا وادعى موت المورث قبله.

وهل ينفع فيه استصحاب بقاء حياة المورث الى شعبان كما ذكره في الشرائع وان ذلك من الأصول المثبتة نظرا الى عدم نهوض ذلك الأصل بإثبات موت المورث في حال إسلام الوارث وهو السبب للإرث دون الحياة في حال الإسلام ، فيكون من الأصول المثبتة كما نبه عليه الأستاد دام ظله في تنبيهات الرسالة الاستصحابية. وهذا هو الأظهر.

وقد يوجه ما ذكره في الشرائع على وجه لا يرجع الى الأصل المثبت ويقال : ان استصحاب حياة المورث في شعبان يثبت به سبب الإرث شأنا ، لأن إسلام الوارث في حياة المورث سبب له على تقدير الموت ، والمفروض تحقق الموت أيضا فالسبب يثبت بالأصل والشرط بالوجدان.

وفيه : ان الثابت بالوجدان هو الموت والثابت بالاستصحاب هو الحياة ، وأما الموت في حال الحياة - وهو الذي يترتب عليه حكم الإرث - فلا يثبت به الا على القول بالأصل المثبت.

ثمَّ ان هذا الفرع مما أورد ما به على من توهم عدم تفصيل العلماء في الحادثين المشكوكين من حيث السبق واللحوق بين صورة العلم بتاريخ أحدهما وعدم

ص: 304


1- الوسائل ج 17 ب 1 عدة من أحاديث الباب من موانع الإرث.

العلم رأسا ، مستندا إلى إطلاق كلماتهم في غير موضع من الفقه كالمجتمعين وتعاقب الحدث والطهارة ومسألة الغرقى والمهدوم عليهم ، الا الشهيد الثاني ومن تأخر عنه.

وجه الإيراد أن الشيخ وابن حمزة والمحقق وغيرهم قد فصلوا في دعوى إسلام الوارث بين الصورتين ، فحكموا في المسألة الأولى بعدم توريث مدعي الإسلام في حياة المورث إلا بالبينة وبالتوريث في المسألة الثالثة.

وقد يناقش في أصالة تأخر الإسلام مع العلم بتاريخ الموت كما في المسألة الثانية بأن استحقاق الوارث المعلوم لتمام التركة موقوف على انحصار الوارث فيه ، وهو مما لا يترتب فيه على أصالة التأخر وما يجري مجراها في نفي استحقاق مدعي الإسلام الا على القول بالأصل المثبت كما يظهر بالتأمل.

ويدفعه : ان وجود كل وارث مقتض لاستحقاق تمام التركة ، فإذا اجتمع المقتضيان اقتسما من أجل المزاحمة والمخالفة ، فليس الانحصار ان لم يرجع الى أمر عدمي - وهو عدم وجود وارث آخر - شرطا ، بل وجود مانع يدفع بالأصل.

وأصالة عدم المانع يترتب عليه وجود الممنوع إذا كانت المانعية ثابتة من الشرع ، بأن كان الحكم مترتبا على عدم ذلك المانع شرعا ، فبعد عدم استحقاق مدعي الإسلام بحكم الأصل لا يبقى إشكال في استحقاق معلوم الإسلام لتمام التركة. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء الإرث للمدعي وللغائب ]

إذا ادعى دارا في يد غيره أنها له ولأخيه الغائب مثلا إرثا عن أبيهما وأقام

ص: 305

بينة ، فان كانت كاملة بالخبرة والاطلاع على باطن حال الميت مع الشهادة على عدم وارث آخر فيما نعلم سلم اليه نصف الدار بغير ضمين ، ولو لم تكن كاملة - بأن علم أنها ليست أهلا للاطلاع بمال الميت وان شهدت بانحصار الوارث فيها أولم تشهد بذلك وان كانت من أهل الخبرة بها - أرجئ التسلم حتى يبحث الحاكم عن الوارث مستقصيا بحيث لو كان وارثا لظهر ، وحينئذ يسلم الى الحاضر نصيبه بضمين استظهارا واستيثاقا.

هذا الحكم قد أفتى به في الشرائع وغيره من غير إشارة أو تنبيه على الخلاف ، وفيه مسائل :

( الاولى ) عدم جواز العمل بالأصل في نفي الوارث قبل الفحص ، مع أن الموضوعات لا يتفحص فيها عن المعارض.

( الثانية ) عدم وجوب الانتهاء فيه الى العلم ، بل يكتفي الحاكم بتضمين الشهود وكمالهم وكونهم أهل الخبرة مع الشهادة بالانحصار أو بتفحص نفسه ، حتى لو كان وارث لظهر ، على وجه يحصل منه الاطمئنان.

والدليل على المسألتين ما أبدينا في غير موضع من نظائر المقام من دليل الانسداد. وبيانه : ان العمل بالأصل في نفي الوارث ابتداء من غير فحص يوجب الاختلال والهرج والمرج بالوقوع في خلاف الواقع كثيرا ، والاقتصار على ما يوجب العلم أيضا فيه تعطيل لحق الحاضر وموجب للاختلال أيضا. فانحصر المناص في العمل بالأصل بعد الفحص الأكيد تفصيا عن الاختلال اللازم على الأمرين من ترك الفحص رأسا والاقتصار على العلم.

ثمَّ ان شهدت البينة الكاملة بالانحصار قضى للحاضر بنصيبه قضاء تعليقيا ، كما سبق نظيره في تعارض بينة الداخل والخارج عند ظهور المرجح أو المعارض بعد القضاء لأحدهما. وان لم تشهد به وتفحص الحاكم سلم اليه نصيبه من غير

ص: 306

قضاء لعدم شي ء من الموازين. الا أن يدعى قيام ظن الحاكم بالفحص مقام علمه في كونه ميزانا ، ولا يخفى بعده.

( الثالثة ) التضمين في صورة عدم البينة الكاملة وعدم التضمين مع قيامها :

أما الأول فللاستيثاق والاستظهار الواجبين فيما يحتمل فيه ظهور الخلاف. وهذا نظير أخذ الكفيل من المدعي في الدعوى على الغائب.

ويمكن أن يستدل عليه أيضا بأن عدم الدفع رأسا تعطيل لحق الحاضر دائما ، إذ المفروض حصول الفحص وعدم ظهور وارث آخر ، والتسليم بدون الضامن تعريض لحق الغير المحتمل للضياع والتلف ، فالجمع بين الحقين قاض بالتسليم مع التضمين.

وأما الثاني - أعني عدم التضمين مع قيام البينة الكاملة - فلاستتمام الحجة من الحاضر وعدم سلطنة للحاكم على إلزامه بالضامن مراعاة للاحتمال في مقابل القضاء المستند إلى البينة.

[ المناقشة في تفسير البينة الكاملة ]

واعلم أن ما ذكرنا في تفسير البينة الكاملة مأخوذ من المسالك ناسبا إلى الأكثر ، وبه صرح في محكي كشف اللئام. وهو غير مرضي عند بعض مشايخنا قدس سره ، حيث استظهر من عبارة الشرائع والإرشاد أن المراد بالكمال أن تشهد البينة بعدم وارث آخر وبعدم الكمال أن تشهد بعدم العلم به ، فأسقط اعتبار كون البينة أهل الخبرة والاطلاع لكونه قدحا في العادل ، قال : فالتحقيق الاكتفاء بالشهادة بالنفي مطلقا وعدم الاكتفاء بالشهادة بنفي العلم كذلك.

قلت : الظاهر أن ما ذكره صاحب المسالك أوفق بالقواعد وأنسب بكلمات الأصحاب ، لأن العلم بعدم الوارث غير معتبر في الشاهد ، إذ يكفي في النفي

ص: 307

عدم العلم بالوجود. بل قد يقال : ان الشهادة بالنفي ساقطة لكونها من باب القطع في غير محله كقطع القطاع ، وان كان التحقيق خلافه كما ذكره في المسالك.

الا أن الظاهر عدم الخلاف والاشكال في أن الشهادة بالنفي يكفي فيها عدم العلم بالخلاف ، وقد سبق عدم الاشكال والخلاف في أن الشهادة بالملك السابق مع قوله « ولا أعلم له مزيلا » يكفي في إثبات الملك في الآن.

والفرق بينه وبين المقام في غاية السقوط ، فالمراد بالكمال لا بد أن يكون ما ذكره صاحب المسالك من كونها أهل الاطلاع والخبرة ، ووجه اعتباره في المقام بل في كل مقام يرجع فيه الى الشهادة بالنفي هو أن اعتبار الشهادة منحصر فيما احتمل فيه اصابة الشاهد بما لم يصبه المشهود له. فاذا كان الحالان متساويين - بأن كان الشاهد مثل الحاكم في الجهل بالحال وعدم الاطلاع بباطن الأمور - لم يكن وجه لاعتبار الشهادة حينئذ. بل هذا أصل متبع في أكثر الأمارات ، فلو علم بأن ذا اليد لا يعلم أزيد مما يعلم غيره لم يكن إخباره حجة عليه فيما يعتبر فيه قوله.

بقي الكلام فيما ذكره في محكي الدروس من أن الكمال هو أن يكون الشاهد من أهل الخبرة مع الشهادة بنفي وارث آخر أو بعدم العلم ، وهو الذي مشينا عليه في تفسير الكمال ، فبمجرد كونه أهل الخبرة لا يكون كاملا.

وهذا له وجه لو كان المدعى به هو أمران : كون الحاضر وارثا ، وكون الوارث منحصرا فيه. فان الشهادة بالانحصار أمر زائد على أصل الشهادة. وأما لو كان المدعى به هو الانحصار خاصة - بأن كان وارثية الحاضر مسلما - تعين تفسير الكمال بكونه من أهل الخبرة ، لأنه إذا كان من أهل الخبرة ولم تشهد بالانحصار لم تكن شاهدا أصلا ، لا أنه شاهد غير كامل ، كما هو قضية تفسير الكمال بما ذكر في الدروس.

ص: 308

والحاصل ان مصب الدعوى لو كان هو انحصار الوارث في الحاضر بعد الفراغ عن كونه وارثا تعين تفسير الكمال بكونها أهل الخبرة ، فالبينة الناقصة ما لم تكن كذلك مع الشهادة بالانحصار ولو كان هو كون الحاضر وارثا مع الانحصار ، بأن يكون أصل الوارثية أيضا متعلقا للدعوى كالانحصار. فيمكن تفسير الكاملة بما ذكره في الدروس كالغير الكاملة على هذا التفسير ما شهدت بأصل كان الحاضر وارثا مع كونه أهل الخبرة والكاملة ما شهدت بكلا جزئي الدعوى ، أعني كونه وارثا وكون الوارث منحصرا فيه.

هذا كله في نصيب الحاضر ، وأما نصيب الغائب ففي انتزاعه من يد ذي اليد نظرا الى ثبوت كون الدار مستحقا للغير وهو الميت بالبينة عند الحاكم أو إقراره في يده لعدم حجية البينة لغير المدعي وان نطقت بثبوت حق الغير. وجهان بل قولان للشيخ في محكي المبسوط والخلاف ، والأقوى هو الخير لما ذكر.

ولا يذهب عليك أنه لا ينافي وجوب ترتيب أحكام مال الميت على النصف الباقي من الدار ، لأن حجية البينة في مقام العمل مطلقة لا تختص بالمدعى وغيره ، وانما المختص به هو القضاء والانتزاع من ذي اليد.

واعلم أن هنا كلاما يناسب طرفي الخلاف ، حتى أن الشهيد الثاني تمسك به لمختار الشيخ في المبسوط ، وهو الثاني. وتمسك الفاضل في محكي كشف اللثام به للثاني ، وهو أن الحق للميت والبينة له.

ولكل وجه : لأن الحق إذا كان للميت توقف استنقاذه على حضور وليه ، والولي انما هو مجموع الوراث لا بعضهم ، فلا يتعرض لحال ذي اليد الى أن يحضر الولي وهو الوارث الغائب. ولأن البينة في مقام الإلزام والحكم

ص: 309

يخص حجيته بالمدعى وان كان في مقام العمل ووجوب ترتيب الأثر عامة للكل ، ولأجل ذلك كان الحكم كما ذكره في المبسوط.

ثمَّ ان الحق إذا ثبت انه للميت كان ذو اليد أجنبيا وجب الانتزاع من يده الى يد أمين ، وهو الذي ذكره في الخلاف كما عن الفاضل ، والأمر فيه سهل. واللّه العالم.

التقاط [ الاختلاف في تاريخ موت احد المورثين ]

إذا ماتت المرأة وابنها فقال أخوها مات الولد أو لا ثمَّ المرأة فالميراث لي وللزوج نصفان ، وقال الزوج بل ماتت الامرأة أولا ثمَّ مات الولد فالمال لي. قضى لمن تشهد له البينة ، ومع التعارض يقرع على حسب ما تقرر في تعارض البينات ، ومع عدمها يقضى بأحد الدعويين لأنه لا ميراث إلا مع تحقق حياة الوارث ، فلا ترث الام من الولد والابن من أمه ويكون تركة الابن لأبيه وتركة الزوج بين الأخ والزوجة.

وهذا الحكم هنا من الأصحاب جزئي من جزئيات ما ذكروه في باب الإرث في مسألة الغرقى والمهدوم عليهم من العمل بالأصلين عند اشتباه تقدم موت أحد المتوارثين وطرح العلم الإجمالي في غير هاتين المسألتين - أعني الغرقى والمهدوم عليهم - للنص.

وربما يظهر من بعض مشايخنا أن ما ذكره الأصحاب هنا وهناك انما هو صورة احتمال تقارن الموتين ، فلو علم السبق في الجملة وشك في السابق فالمتجه هي القرعة. وهذا وان كان فيه استراحة عن مخالفة العلم الإجمالي ،

ص: 310

الا أنه تنزيل لا طلاق كلماتهم هنا وفي باب الميراث على فرض بعيد.

وكيف كان فعلى ما ذكرنا وفاقا للأصحاب لا يحكم بإرث أحد من الام ولابن عن الأخر بعد تحالف الأخ والزوج أو النكول ، بأن يحلف الزوج على عدم موت الولد أولا ويحلف الأخ على عدم موت الام كذلك ثمَّ يقسمان تركة الام نصفين كما لو لم يكن لها ولد أصلا ويكون تركة الابن لأبيه.

ص: 311

لقد وقع الفراغ من نسخ هذا الكتاب الشريف بتوفيق اللّه وعونه بيد العبد الإثم أقل السادة أحد بن محمد رضا الحسيني في يوم السابع من ربيع الثاني من عام الخامس والأربعين وثلاثمائة بعد الالف.

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على نبيه خاتم النبيين ، والأصفياء المكرمين والأوصياء المعظمين ، من الان الى قيام يوم الدين.

ص: 312

فهرس الكتاب

عنوان / الصفحة

القول في الشاهد واليمين... 5

القضاء بالشاهد واليمين والدليل عليه... 5

هل الشاهد واليمين معا حجة للمدعي؟... 8

لو قدمت اليمين على الشاهد وقعت لاغية... 9

في مورد الشاهد واليمين ومقام استعمالهما... 10

تميز الحق المالي عن غيره... 13

حلف جماعة من المدعين في الدعوى الواحدة... 14

البطون الموقوف عليهم متعاقبا هل يأخذون الوقف بلا يمين... 17

لو كان الوقف للجنس يبطل لامتناع إثباته بالحلف... 20

القول في كتاب قاض الى قاض... 23

عدم الاعتداد بكتاب القاضي في القضاء... 23

لو كانت الواسطة بين القاضيين الكتابة... 24

أخبار القاضي للقاضي الأخر بحكمه... 27

لو كانت الواسطة بين القاضيين البينة... 29

ص: 313

إقرار المحكوم بحكم قاض عند قاض آخر... 29

القول في القسمة... 31

حقيقة الإشاعة وتقسيم المال المشاع... 31

معنى الشركة في العين... 32

بحث حول الجزء الذي لا يتجزى... 33

القسمة هي تميز النصف المشاع وإفرازه... 37

الإشاعة تنحصر في الأسباب الشرعية للشركة... 39

عدم حصول الشركة الحقيقية في مزج شيئين متماثلين... 42

الدليل على حصول الشركة في مزج المائعات... 44

صحة قسمة الإرث وجوازها... 44

هل يشترط رضا الطرفين في القرعة... 49

هل يعتبر في القاسم التعدد أم لا؟... 50

اجرة القاسم على من هي؟... 52

الأجرة توزع على الورثة بملاحظة الحصص... 53

اجرة القاسم على من استأجره... 54

الإجبار في تقسيم المثليات... 58

 ضعف الاستدلال بقاعدة لا ضرر على دخول الإجبار... 60

في أي نوع من القسمة يدخل الإجبار... 62

عدم دخول الإجبار مع عدم إمكان التعديل في القسمة... 64

لا ترجيح لغرض الملتمس للقسمة على غرض الممتنع منها... 66

حكم الأموال المختلفة بين شركاء متعددين... 68

ذوا اليد يقسم بينهما المال الذي يدهما عليه... 71

ص: 314

المال المشترك الممتنع القسمة... 71

الفرق بين قسمة الرد وقسمة الافراز... 74

التعديل المتوقف على الرد... 75

فرعان يتعلقان بأحكام الرد في القسمة... 78

ادعاء الغلط في القسمة وصوره... 79

منشأ الغلط في التقسيم... 82

ظهور الاستحقاق في المال بعد تقسيمه... 83

صحة الإقالة بقاعدة السلطنة... 85

صحة القسمة لو ظهر في الشركة المقسومة دين... 87

وجوه ما لو ظهر في التركة وصية... 88

ظهور عيب في المال بعد قسمته... 88

قسمة الوقف للموقوف عليهم... 89

قسمة الدين غير جائزة... 90

القول في الدعاوي... 92

حقيقة المنكر والمدعى في الدعاوي... 92

اختلاف الكلمات في معنى المدعى... 93

المدعى في دعوى الإبراء هو المديون... 96

ما يشترط في سماع دعوى المدعى... 98

كيفية ثبوت حق المدعى... 100

الدعوى على الحاضر أو الغائب... 102

القول في الوصول إلى الحق... 104

انتزاع العين المتنازع فيها من المدعى عليه... 104

ص: 315

الوجوه فيما لو كان الحق في الدعوى دينا... 105

تلف العين قبل بيعها للاقتصاص... 109

ادعاء مال لم يكن لأحد عليه يد... 111

ما المراد من اليد على المال... 112

دعوى الأموال وغير الأموال... 113

تصوير معنى المشاركة في اليد... 115

دعوى غير المال كالوكالة وغيرها بلا معارض... 118

ادعاء المدعى شيئا بعد نفيه عن نفسه... 120

حكم إخراج ما غرق بالغوص... 121

معنى زوال وصف الملك عن المال... 122

القول في دعاوي الاملاك... 127

التنازع في عين معين... 125

التنازع على عين لا يد لأحد عليها... 127

التنازع على عين لكل من المتنازع يد عليها متناوبا... 128

التنازع في عين هي في يد غير المتنازعين... 136

القول في تعارض البينات... 140

كيفية الجمع بين البينات المتعارضة... 140

لو لم يمكن الجمع بين المتعارضين... 142

تعارض البينة في الملك مع عدم إمكان التوفيق... 144

المسألة الاولى: أن تكون العين في أيديهما... 144

المسألة الثانية: ما إذا كانت العين في يد أحدهما... 151

تعارض بينة المدعي و المنكر كالتساقط... 154

ص: 316

فروع تظهر في تنبيهات... 164

المسألة الثالثة : ما إذا كانت العين في يد ثالث... 183

اعتبار التساوي في العدل والعدد... 190

الاستدلال على تقديم الاكثرية على الاعدلية... 194

حكم عدم البينة في الدعوى مع عدم تصديق ثالث... 202

أنواع تعارض البينات وأحكامها... 204

التقدم التاريخي في إحدى البينتين... 207

صور اختلاف التاريخ في البينات... 209

حمل مستند الشاهد على الاستصحاب... 216

مستند الشهادة حجة عند تعارض البينة... 219

في تعارض المرجحات... 227

تعارض الأعدلية والأكثرية ونحوهما... 227

عند تعارض البينتين هل يشترط ضم الشاهد... 233

الاستصحاب عند ثبوت اشتغال الذمة... 235

ابطال قول الخصم يتوقف على ضم الاستصحاب... 238

الفرق بين شهادة البينة بالملك السابق وإقرار ذي اليد... 241

لو أقر المدعى عليه ان العين لغيره... 247

حكم ما يؤخذ غرامة... 249

لو ادعى المالك الإعارة وذو اليد الإجارة... 250

في دعوى اليد السابقة... 251

التعارض بين الاستصحاب واليد... 252

اليد لا تعارض الشهادة بمقتضى الاستصحاب... 259

ص: 317

اليد المجردة عن التصرف والادعاء مقابل الاستصحاب... 262

تفريع لليد المعارضة للاستصحاب و غيرها... 264

الشهادة على الملك باستناد العلم السابق... 265

القول في التداعي في العقود... 267

التنازع في العقد المتسالم على وقوعه... 267

الفرق بين المقام وما سبق من حكم المتداعيين... 269

الفرق بين النكول نصا والنكول في دعوى الاملاك... 272

اختلاف الموجر والمستأجر في الأجرة أو مدة الإجارة... 275

حكم ما لو كان البينتان مؤرختين... 278

ادعاء مدعيين شراء دار معينة... 279

الجمع بين رأيي العلامة الحلي... 281

ادعاء اثنين البيع مع تعيين المبيع والثمن... 282

ادعاء رقية الصغير المجهول النسب... 283

الدليل على رقية الصغير المدعى رقيته... 285

ادعاء حرية الرق الصغير بعد بلوغه... 287

اعتراف الرقية لأحد المدعيين... 288

كلام ابن الجنيد في المسألة ورده... 291

هل النزاع في تمام العين أو تمام الأجرة... 294

تأييد مذهب ابن جنيد في المسألة... 295

ادعاء التركة بين أكثر من شخصين... 296

ملخص وجوه المسألة... 298

اختلاف الزوجين في متاع البيت... 299

ص: 318

القول في دعوى المواريث... 301

ادعاء الإسلام قبل موت المورث... 301

ادعاء الإرث للمدعي وللغائب... 305

 المناقشة في تفسير البينة الكاملة... 307

الاختلاف في تاريخ موت احد المورثين... 310

ص: 319

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.