كتاب القضاء المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: ميرزا حبيب اللّه الرشتي

المحقق: السيد احمد الحسيني

الناشر: دار القرآن الكريم

المطبعة: مطبعة الخيام

الطبعة: 0

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1401 ه.ق

الصفحات: 319

المكتبة الإسلامية

كتاب القضاء

تأليف: الفقيه المحقق والأصولي المدقق

الحاج ميرزا حبيب اللّه الرشتي

(1234 - 1312)

(الجزء الثاني)

تحقيق: السيد أحمد الحسيني

محرر الرقمي: محمّد علي ملك محمّد

ص: 1

اشارة

من منشورات دار القرآن الكريم

(قم - ایران)

مطبعة الخيام - قم

(1401 ه)

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، محمد سيد الأولين والآخرين ، وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى يوم الدين.

ص: 3

ص: 4

القول في الشاهد واليمين

اشارة

يبحث فيهما عن جهات في ضمن التقاطات :

التقاط [ القضاء بالشاهد واليمين والدليل عليه ]

يقضى بالشاهد واليمين في الجملة بالإجماع بل بالضرورة ، والروايات عليه من طرق العامة والخاصة مستفيضة ، ومن طرق الخاصة ما رواه عبد الرحمن ابن الحجاج قال : دخل الحكم بن عيينة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه السلام فسألاه عن شاهد ويمين فقال : قضى به رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» وعلي «عليه السلام» بالكوفة فقالا : هذا خلاف القرآن. فقال : وأين وجدتموه خلاف القرآن؟ فقالا : ان اللّه تبارك وتعالى يقول « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ » (1). فقال عليه السلام لهما : فقوله « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ » هو أن لا تقبلوا شهادة واحد ويمينا (2).

نقول : لعلهما ما قرءا القرآن حتى يعلما موضع هذه الآية ، فإنها وردت في

ص: 5


1- سورة الطلاق : 2.
2- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

الطلاق ولم يقل فيه أحد بكفاية شاهد ويمين ، ولو قرءا قوله تعالى « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ » (1) كان أحسن ، وحينئذ فالجواب : أولا ما أشار إليه الإمام بطريق الإنكار والرد ، أعني عدم دلالتها على عدم قبول شاهد ويمين. وثانيا ان الأمر في هذه الآية للإرث أولان ترك الاشهاد في معرض الوقوع في النزاع ، فلا مساس له بالمقام أعني عدم جواز القضاء بالشاهد واليمين.

فان قلت : لو كان هذا كافيا لما كان وجه لاعتبار التعدد في الشاهد ، إذ الشاهد الواحد حينئذ يكفي في الفرار عن خوف ذهاب الحق.

قلنا : أولا ان التعدد في الشاهد يمنع من إنكار المشهود عليه دون الوحدة ، وثانيا ان التعدد آكد في مقام إلزام الخصم ، فيكون ذكره في مقام الإرشاد أولى مما هو دونه في الإلزام - أعني الشاهد.

ثمَّ قال عليه السلام : ان عليا «عليه السلام» كان قاعدا في مسجد الكوفة فمر به عبد اللّه ابن قفل التميمي ومعه درع طلحة ، فقال له علي : هذه درع طلحة أخذ يوم البصرة غلولا. فقال له عبد اللّه بن قفل : فاجعل بيني وبينك قاضيك الذي نصبته للمسلمين ، فجعل بينه وبينه شريحا ، فقال له علي عليه السلام : هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة. فقال له شريح : هات على ما تقول بينة. فأتاه بالحسن «عليه السلام» فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة فقال : هذا شاهد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر. قال : فدعا قنبرا فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة ، فقال شريح : هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك. قال : فغضب «عليه السلام» وقال : خذها فان هذا قضى بالجور - ثلاث مرات - فقال له : ويلك أو ويحكم اني لما أخبرتك أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة

ص: 6


1- سورة البقرة : 272.

فقلت هات على ما تقول بينة وقد قال رسول اللّه صلى اللّه صلى اللّه عليه وآله : حيث ما وجد غلول أخذ بغير بينة (1).

نقول : الغلول دخول شي ء في شي ء بالرفق كدخول الماء في الشجر ، والغول هنا مال عن الغنيمة أخذ على نحو يشبه بالسرقة قبل القسمة.

ومعنى قوله صلى اللّه عليه وآله ان مدعي أخذ الغنيمة يصدق بلا بينة ولا يمين بعد معلومية كونه من الغنيمة ، وأما مع الشك فيه وكون الدعوى في أصل كونه من الغنيمة فلا معنى لأخذه بلا بينة ، وحينئذ فالحكم على طبق القواعد ، لان مدعي كونها على غير وجه الغلولية مدعي مطالب بالبينة لموافقة قول منكره للأصل بل الأصول.

ووجه استشهاد الامام عليه السلام في درع طلحة بقول رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» أنه لما كان كون الدرع درع طلحة وكونه من الغنيمة أمرا معلوما وكان دعواه عليه السلام أنه أخذ غلولا - يعني بدون اذن الامام وتقسيم الغنيمة - كان مطالبة البينة منه عليه السلام قضاء جوريا.

ثمَّ قال عليه السلام : فقلت لم يسمع هذا الحديث فهذه واحدة ، ثمَّ أتيتك بالحسن فشهد فقلت هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر ، وقد قضى رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» بشاهد واحد ويمين فهذه ثنتان ، ثمَّ أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة فقلت هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك ولا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا ، ثمَّ قال : ويلك أو ويحك امام المسلمين يؤمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا.

صدق اللّه العلي العظيم وصدق رسوله الكريم ووجهه العليم.

ص: 7


1- نقس الحديث السابق وبقيته.

التقاط [ هل الشاهد واليمين معا حجة للمدعي؟ ]

هل الشاهد واليمين هما معا حجة للمدعي ، أو أن الحجة وهو الشاهد واليمين شرط ، أو العكس؟

قيل : وتظهر الفائدة في الغرم وقدره مع رجوع الشاهد : فعلى الأول يغرم الشاهد النصف ، وعلى الثاني الكل ، ولا يلزم شيئا على الثالث.

استدل على الأول بظاهر النصوص الدالة على توقف القضاء بهما معا ويتوقف كل منهما على الأخر ، فيكون الحجة مركبة منهما.

وعلى الثاني بأن اليمين قول المدعي فلا يكون حجة على المنكر بل هو شرط كيمين الاستظهار ، والاولى الاستدلال عليه بنحو « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » بعد دعوى صدق البينة على الشاهد الواحد كصدقها على أربعة مثلا ، فان الشاهد يكون حينئذ كالشاهدين في الحجية وان اشترط بشي ء كالبينة في الدعوى على الميت.

وعلى الثالث بأن اليمين جزء آخر للعلة فيكون هو الحجة ، والاولى الاستدلال عليه بأن الشاهد انما هو لتقوية جانب المدعي وصيرورة المقام به مقام إحلاف المدعي ، إذ عرفت سابقا أن الحلف انما هو على من يقوي جانبه منكرا كان أو مدعيا ، وان اختصاص المنكر به غالبا انما هو لقوة جانبه للأصل ، فلو قوى جانب المدعي للأمارة نوعية أو شخصية انقلب الأمر. والشاهد الواحد ليس من موازين القضاء أبدا ، وانما فائدته تقوية جانب المدعي ليحلف ، فالحلف هو الحجة بحكم قوله عليه السلام « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (1) ، وانما يحتاج في استعماله الى الشاهد ليصير المقام مقامه.

ص: 8


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

وكيف كان فلا جدوى في هذا النزاع وما ذكره من الثمرة بل واضح ، لان الحلف سواء كان شرطا أو شطرا أو مشروطا فله مدخل في الحكم وسبب في الإتلاف على المحكوم عليه ، وهذا القدر يكفي في ضمان الحالف للنصف ، لأن تأثير المقتضي والشرط في مسألة الضمان على نحو واحد وان كان تأثير الأول آكد ، وهو واضح.

التقاط [ لو قدمت اليمين على الشاهد وقعت لاغية ]

يشترط في الشاهد واليمين تقديم الشاهد على اليمين وتعديله ، بلا خلاف موجود بيننا. فلو قدمت اليمين وقعت لاغية.

والأصل في المسألة بعد الإجماع هو الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقن ، ولم يثبت في الشاهد واليمين الا ذلك. ويؤيده الترتيب الذكرى في أخبار المسألة ، وليس في الأدلة إطلاق في المقام ، لورودها في مقام أصل تشريع الشاهد واليمين.

وربما يذكر له بعض الوجوه والاعتبارات قابلة للمناقشة ، مثل ما في المسالك من كون الحجة هو الشاهد واليمين متممة له ووظيفة المتمم التأخير ، ومثل ما عن كشف اللثام من أن الشاهد يوجب تقوية جانب المدعي فيحلف كالمنكر ، فقبل قيام الشاهد لا مورد للحلف. والوجه الأول مبني على كون الحجة الشرعية هو الشاهد واليمين شرطا ، والثاني على العكس ، وشي ء منهما ليس بثابت ، وان ذكرنا للأخير وجها في الالتقاط السابق.

نعم يمكن أن يكون سر ما ذهب إليه الأصحاب هو ظهور أدلة الحلف في أنه لا بد أن يكون الحلف بعده الحكم ، فلو قدم على الشاهد لم يقع الحكم

ص: 9

بعده. وهو موافق للاعتبار أيضا ، لأن قضية التعظيم عدم تخلف الحلف عن القضاء ، وهو انما يتم إذا كان جزءا أخيرا للميزان أو بمنزلة الجزء الأخير ، إذ لو كان الجزء الأول فربما لا يلحقه الجزء الأخير فلا يتعقبه حكم.

وقد استفدنا من الأدلة نحو قوله « من حلف باللّه فصدقوه » (1) خلاف ذلك ، والأمر فيه سهل بعد وضوح أصل الحكم.

التقاط ( في مورد الشاهد واليمين ومقام استعمالهما )

اعلم أن الدعوى اما أن تكون في شي ء متعلق باللّه سبحانه ويسمى بحق اللّه أو في أمر متعلق بالادمي ويسمى بحق الناس ، والأول مثل رؤية هلال رمضان ونحوها من الموضوعات التي تستتبع أحكاما شرعية ، والثاني على أقسام أربعة :

الأول : أن لا يكون مالا ولا مستتبعا لمال كحق القذف.

الثاني : أن يكون بالانحصار.

الثالث : أن يكون غير مال مستتبعا للمال.

وهذا أيضا على قسمين : أحد هما ما كان المقصود الأصلي منه مالا كالبيع والصلح وحق الخيار وحق الشفعة ونحوها ، والثاني ما لم يكن كذلك وان استتبع المال دائما كالنكاح إذا كان المدعي مرأة أو أحيانا كالقصاص فإنه قد يستتبع مالا ، كما إذا كان على المقتضى منه ديون مؤجلة بناء على كون الموت سببا لتعجيل ما على الميت من الديون.

إذا تحقق ذلك فالقسم الأول - وهو حق اللّه المحض - لا يثبت بالشاهد

ص: 10


1- الوسائل ج 16 باب وجوب الرضا باليمين من كتاب الايمان ح 1 بلفظ « من حلف باللّه فليصدق ».

واليمين ، إذ المحلوف له انما هو اللّه تعالى ولا فائدة بالنسبة الى اللّه تعالى كما مر سابقا ، ولعل هذا إجماعي عندنا.

وأما باقي الأقسام ففي ثبوتها بها مطلقا أو التفصيل بين الحق الغير المالي المحض وبين ما عداه فيثبت الثاني مطلقا دون الأول واختصاص الحكم بخصوص الديون من قسم الحقوق المالية. وجوه واحتمالات :

( أما الأول ) فلم نجد قائلا به الا أن إطلاق كثير من الأدلة يقتضيه :

ومنها - حديث استخراج الحقوق بأربعة بناء على ما هو الظاهر في مقابلة الجمع بالجمع من الاستغراق (1) ، بمعنى ثبوت كل واحد من الحقوق بكل واحد من الأربعة ، خصوصا بعد ملاحظة ما فيه من بعض الشواهد ، حيث اشتمل على ذكر الأربعة بنحو الترديد والترتيب المشعرين بصلاحية كل مقام لمجي ء الأربعة بعد فقد الأول ثمَّ الأول.

لكن ورد في مقابلها أدلة مقيدة لا طلاقها بخصوص الدين ، مضافا الى ما في خصوص حديث الاستخراج من قابليته للإهمال ووروده في مقام أصل بيان جنس الموازين في جنس الحقوق لا في مقام بيان تمام الحكم.

منها - الجعفري : كان رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» يجيز في الدين شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدين ولم يكن يجيز في الهلال إلا شاهدي عدل (2). دل بظاهره على انحصار موردهما بالدين.

لا يقال : هذه حكاية حال لا تدل على أزيد من كون الصادر من الرسول «صلی اللّه علیه و آله و سلم» هو القضاء بها في خصوص الدين ، ومن أين يستفاد الحصر ، لان عدم قضاء الرسول في غيره لا يدل على عدم جواز القضاء بهما فيه.

ص: 11


1- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

لأنا نقول : ليس المراد أن الرسول قضى بهما في الدين دون غيره فلا يجوز ضرورة عدم اقتضائه لذلك ، بل المراد أن كلام الامام «عليه السلام» مسوق لبيان شرعية القضاء بهما وبيان موردهما ، والا فلا جدوى في ذكر الدين وان كان الصادر من الرسول «صلی اللّه علیه و آله و سلم» هو القضاء بهما فيه خاصة ، إذ ليس في بيان جميع خصوصيات الأمر الواقع فائدة.

وأيضا في لفظ « كان » دلالة على بيان ما عليه عادة الرسول لا ما وقع في زمانه صلى اللّه عليه وآله.

ومنها - الجعفري أيضا ، وفيه : فكان رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحق ، وذلك في الدين (1).

ودلالته أوضح ، لأن ظاهر قوله عليه السلام « وذلك في الدين » بيان ما شرع فيه القضاء بهما لا ما وقع فيه قضاء الرسول «صلی اللّه علیه و آله و سلم» .

ومنها - قوله عليه السلام أيضا : قضى رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده (2).

وهو أظهر دلالة منهما ، لمكان لفظة « وحده » الظاهرة أو الصريحة في الاحتراز عما عدا الدين.

وحمله على بيان ما وقع فيه قضاء الرسول «صلی اللّه علیه و آله و سلم» ركيك قريب باللغو في كلام الامام عليه السلام ، إذ بيان أن الرسول ما قضى بهما في غير الدين لو لم تكن لتحديد محلهما وموردهما من الدعاوي ، لم يتصور له فائدة مصححة لصدوره من الامام «عليه السلام» .

ثمَّ لا يتوهم أن المثبتين لا يقيد فيهما ، لان المثبتين في الأحكام الوضعية ،

ص: 12


1- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 5.
2- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 10.

خصوصا إذا كان المقيد في مقام التحديد ، وإعطاء الميزان يقيد مطلقهما بالمقيد. فظهر أن احتمال ثبوت كل حق آدمي ولو لغير المالي بهما لا مجال له.

ثمَّ نقول : ان المراد بالدين ليس هو الدين بالمعنى الأخص ، أعني الأمر الثابت في الذمة بعد خروج مثل الإنفاق على واجب النفقة ونحوها من الحقوق المالية الغير المستقرة في الذمة ، وكذا خروج مثل المبيع والصلح ونحو هما من أسباب الملك. فالدين مثال عن كل مال أو كل شي ء يكون المقصود الأصلي منه المال ، فلا حاجة في إلحاق العين به الى الإجماع المركب ، فبطل الاحتمال الأخير الذي حكي القول به من غير واحد من القدماء. ولعلهم أرادوا أيضا بالدين ما قلنا ، أعني مطلق الحقوق المالية سواء كان دينا أو عينا أو شيئا يقصد منه أحدهما ، فتعين الاحتمال الثاني.

ثمَّ ان تميز الحق المالي عن غيره وتميز ما يقصد منه المال عن غيره لا يخلو عن غموض ، إذ لو جعلنا المدار على القصد الشخصي لزم خروج مثل دعوى الخيار الغير المقصود منه في الواقعة الشخصية يحصل المال ، ولو جعلنا المدار على القصد النوعي لزم خروج مثل النكاح مطلقا حتى ما لو كان المدعي هي الزوجة ، لأن وضع النكاح ليس لتحصيل المال وان ترتب عليه غالبا أو دائما.

ولو جعل المدار على أحد الأمرين كان أمتن ، لأن العبرة بصدق كون الدعوى في الدين بالمعنى الأعم ، فلو كان المدعى به مالا أو شيئا وضع لأجل تحصيل المال صدق أن الدعوى في الدين وان علمنا من حال المدعي أن غرضه ليس تحصيل المال.

وكذا لو كان المدعى به في خصوص الواقعة الشخصية شيئا مستتبعا للمال وكان غرض المدعي أيضا تحصيل المال كالقصاص فيما لو كان على المدعى عليه ديون مؤجلة ، صدق أيضا أن الدعوى في الدين.

ص: 13

الا أن الذي يظهر من الأدلة ومن كلام الأصحاب كون المدار على الوضع النوعي ، فكلما وضع بحسب النوع لجلب المال فيثبت بالشاهد واليمين.

ثمَّ ان ذا الجنبتين والموارد المشكوكة حكمها واضح ، فإن الأول كالسرقة مثلا يعمل فيه بالنسبة الى كل جهة ما هو وظيفتها ، والثاني يرجع فيه الى الأصل والقواعد وهو عدم الثبوت.

هذا إذا كانت الشبهة غير موضوعية ، وأما إذا كانت موضوعية فهي غير متصورة إذا كان المدار على القصد النوعي كما لا يخفى. نعم لو اعتبر القصد الشخصي أيضا فلا يبعد إيقاف الحكم حتى يستفسر عن قصد المدعي. واللّه العالم.

التقاط [ حلف جماعة من المدعين في الدعوى الواحدة ]

لو ادعى جماعة مالا لمورثهم مثلا حلفوا أجمع مع شاهدهم وثبت الدعوى ولو حلف بعض أخذ نصيبه ولم يكن للممتنع مشاركة معه - كذا في الشرائع.

وإطلاقه لا يفرق بين كون المدعى به عينا أو دينا ، لكن الفاضل في محكي التحرير والإرشاد والقواعد فرق بينهما ، فحكم بمشاركة الممتنع معه فيما أخذ إذا كان عينا. واستشكل في المسالك الفرق بين ما نحن فيه وبين ما لو أقر المدعى عليه لأحدهما فإنه يشاركه الأخر فيما وصل اليه.

فهنا إشكالان : أحدهما الفرق بين الشاهد واليمين وبين الإقرار ، والثاني الفرق بين العين والدين في الشاهد واليمين.

ثمَّ ان هنا اشكالا ثالثا ، وهو الفرق بين المقام وبين ما عليه الأكثر من أن الدين المشترك بين الاثنين كل ما يحصل أحد الشريكين منه مشاركة الأخر ان شاء ولو نوى الدافع كونه للأخذ.

ص: 14

ويمكن دفع هذا الإشكال بأن الدين المشترك متعين في الخارج بتعيين المديون ، فاذا تعين جرى على ذلك العين الخارجي حكم الشركة ، ولا يؤثر فيه تعيينه لأحد الشريكين ، لأنه ليس له ولاية على تقسيم ذلك المشترك ، وكذا ليس للأخذ أيضا ذلك ، فيبقى مراعى بإجازة الأخر. بخلاف ما يعينه المدعى عليه في المقام في الخارج للحالف ، فإنه لم يعينه على أن يكون تعيينا للدين المدعى به ، إذ المفروض إنكاره وعدم اعترافه بالدين ، فذلك العين باق في ملك المدعى عليه وانما يأخذه الحاكم للحالف بحكم الشرع المستند الى الحلف ، فلو حكم بمشاركة غير الحالف معه لزم كون اليمين مثبتة مالا لغير الحالف ، وهو غير جائز سواء كان مستقلا كحلف الوكيل لإثبات مال الموكل أو الولي لإثبات المال المولى عليه أو في ضمن إثبات مال للحالف كما إذا كانا شريكين.

فان قلت : لو شاركه الأخر فإنما يشاركه بمقتضى اعترافه بالشركة لا لأجل الحلف ، لان الحلف متعلقه أمر كلي في الذمة ولا شركة فيه ومتعلق الشركة انما هو المأخوذ الخارجي ، وهذه الشركة انما جاءت بمقتضى اعتراف الحالف بالشركة في الدين.

قلنا : متعلق الاعتراف أيضا هو المشاركة في الدين الكلي الثابت في ذمة المدعى عليه ، وكلما يوجد من ذلك الدين في الخارج ، وأما المأخوذ فليس مصداقا لذلك الدين ، لان المفروض عدم قصد الدافع كونه وفاء للدين حتى يجري فيه حكم الشركة بمقتضى الاعتراف ، فهو في الواقع والظاهر ملك طلق للمدعي عليه وانما يدفعه الى الحالف غصبا عليه بحسب حكم الحاكم ، فليس ذلك مما يقتضي الاعتراف بأصل الشركة في الدين المشاركة فيه ، فلو شاركناه مع الحالف لكان الحلف مثبتا لمال الغير.

لا يقال : نية الحاكم هنا قائم مقام نية الدافع فيجب أن يتشاركا ، لان الحاكم

ص: 15

انما حكم بدفعه وفاء للدين المشترك ، فيكون ذلك المدفوع حصة من الدين المشترك والا لم يجز للحالف أيضا أخذه إلا تقاصا.

لأنا نقول : لم يثبت ترتب ذلك الحكم الوضعي على حكم الحاكم ، بمعنى كون حكمه ونيته بمنزلة نية المديون في تعيين الدين الكلي ، وانما ثبت جواز أخذ الحالف بمقتضى الحكم.

هذا ، وقد يناقش فيه : بأن الحالف يأخذه بعنوان كونه من الدين لا بعنوان المقاصة ، فيشاركه الأخر بمقتضى اعترافه بكون المأخوذ حصة من الدين المشاع.

ومنه يظهر الفرق بين المأخوذ بالحلف والمأخوذ بالمقاصة ، فإنه لا مشاركة في الثاني قطعا بخلاف الأول فإن قضية الإشاعة مشاركتهما فيما يحصل للحالف فيه ، الا أن المشهور لعله الأول.

ومما ذكرنا ظهر الفرق بين العين والدين أيضا ، لأن العين لما كانت ذاتها مشتركة مشاعة بينهما جرى على ما يحصل منها في يد الحالف حكم الإشاعة ، وليس كالدين محتاجة إلى القصد والنية حتى تتشخص في الخارج على وجه الإشاعة ، فالمأخوذة من العين مشاعة بينهما قبل الأخذ وبعده ، بخلاف المأخوذ من الدين فإنه قبل الأخذ ملك طلق للمدعي عليه وبعد الأخذ يصير ملكا للحالف.

وأما الفرق بين ما نحن فيه وبين الإقرار فهو أيضا واضح ، وان كان في إلحاقه بالمقام أيضا وجه من حيث أن المدعى عليه منكر للآخر فيكون مثل ما نحن فيه. الا أن الأظهر الحاقه بالمعترف بها ، لأنه باعتبار اعترافه لأحدهما يتعين ما يدفعه اليه للدين ، فيجري فيه حكم الشركة بمقتضى اعترافه.

والمسألة من حيث هذه الإشكالات تحتاج الى تتبع وتأمل مزيدين. واللّه العالم.

ص: 16

التقاط [ البطون الموقوف عليهم متعاقبا ] [ هل يأخذون الوقف بلا يمين ]

لو ادعى بعض أن الميت وقف عليهم دارا مثلا وبعدهم على نسلهم مترتبا ، فان حلف المدعون مع شاهدهم قضى لهم بالوقفية ولا يؤدى منها دين ولا ميراث ولا وصية ، فان انقرضوا معا أو على التعاقب فهل يأخذ البطن الثاني الدار من غير يمين أو يتوقف عليها؟

صرح في الشرائع بعدم الاحتياج الى يمين مستأنفة ، لأن الثبوت الأول أغنى عن تجديده ، لكن في المسالك : فيه وجهان مبنيان على أن البطن الثاني يتلقون الوقف من البطن الأول دون الواقف ، فعلى الأول كما هو الأشهر فلا حاجة الى اليمين ، كما إذا أثبت الوارث ملكا بالشاهد واليمين ثمَّ مات فان وإرثه يأخذه بغير يمين - انتهى.

وفيما ذكره اشكال من وجهين :

( أحد هما ) انهم ذكروا في باب الوقف أن إجارة البطن الأول للوقف الى ما بعد انقراضهم باطلة لتعلق حق البطن الثاني بالوقف ، معللين بأن البطن الثاني يتلقون الوقف من الواقف دون البطن الأول. ولم يخالف فيه أحد. وان احتمل المحقق «رحمه اللّه» صحة الإجارة مع كون الأجرة للبطن الثاني ، وهذا كيف يجامع ما ذكره من تلقيهم الوقف من البطن الأول.

( والثاني ) ان مسألة تلقي الوقف من البطن الأول أو من الواقف ليس معنونا في كلام القوم على وجه يمكن تحصيل الشهرة على أحد طرفيها ، فكيف ذكر أن الأشهر التلقي من البطن الأول.

ص: 17

ويمكن دفع الإشكال الأول بأن المراد بتلقي الوقف من الواقف في مسألة الإجارة غير المراد به في المقام وأمثاله ، لأن المراد به في باب الإجارة عدم كون الوقف منتقلا من البطن الأول الى الثاني نحو انتقال الإرث ، وهو حق سواء قلنا بأنهم يلقون من الواقف أو من البطن الأول ، إذ خروج الوقف من ملك الأول ودخوله في ملك الثاني على القول بتلقيهم من الأول ليس على نحو تلقي الإرث من المورث ، لان المورث يترك ماله للوارث بجعل اللّه تعالى وحكمه بخلاف البطن الأول فإنهم يتركون الوقف للبطن الثاني بجعل الواقف.

وان شئت قلت : ان زوال ملكية المورث عن التركة ودخولها في ملك الوارث ليس لأجل قصور في ملكية التركة للمورث ونقصان فيها بل لأجل قصور في المالك لان الميت لا يملك ، بخلاف زوال ملكية الوقف للبطن الأول فإنه لأجل نقصان وقصور في نفس الملك دون المالك ، وان كان هو أيضا قاصرا باعتبار الموت.

وأما المراد به في المقام وأمثاله فهو معنى آخر ، وهو أن يكون الوقف داخلا في ملك البطن الثاني في عرض دخوله في ملك البطن الأول ، من غير فرق الأمن حيث تقدم زمان ملكهم على زمان ملك الثاني ، فيكون المراد التلقي من البطن الأول في مقابل هذا المعنى ، وهو أن يكون الواقف داخلا في ملك الثاني مترتبا على دخوله في ملك الأول.

وبعبارة أخرى : التلقي من الوقف مرجعه الى أن الواقف ملّك العين برهة من الزمان البطن الأول وبرهة البطن الثاني وهكذا ، لا بمعنى تجديد أصل الملك ، فان الملك لا يعقل تجديده ، بل بمعنى جعل الزمان قيدا للمملوك. فالعين المقيدة بكونها خمسين سنة مملوكة للبطن الأول والمقيدة بخمسين بعده مملوكة للثاني وهكذا. نظير تقييد المنفعة ، فإن من يملك منفعة سنة من الدار فإن جعل الملك

ص: 18

المؤبد وان كان المملوك - وهي المنفعة - محدودة. ومرجع التلقي من الأول أن الواقف ملكهم ليس الا لكن وجه خاص يرجع الى نقصان وقصور في أصل الملكية ، بأن جعله متعلقا لحق البطن الثاني وتملكهم على نحو يستلزم انتقاله الى البطن الثاني ومنه الى الثالث وهكذا ، فالملك والمملوك على الثاني مستبدان لكن الملك ملك مخصوص متعلق بحق غير المالك ، وعلى الأول فالملك مؤبد تام والملك محدود نظير تحديد المنفعة.

فظهر الفرق بين التلقي من الواقف أو من الأول ، كما ظهر الفرق بين التلقي من الواقف في باب الإجارة وبين التلقي من الواقف في هذا المقام ونظائره ، مثل ما قالوا في قبض الوقف من كفاية قبض الأول لأن الثاني يتلقون منه لا من الواقف.

ويمكن رفع الإشكال الثاني بأن الأشهر في كلامه قدس سره صفة للمبني بملاحظة التفريع لا لنفسه ، لان المشهور عدم احتياج تجديد اليمين ، فقوله « كما هو الأشهر » معناه أن التلقي من الأول أشهر من جهة أن عدم تجديد اليمين هو الأشهر لا أن التلقي من الأول في نفسه هو الأشهر. وهذا نظير دعوى الإجماع على الحكم بزعم اندراجه تحت أصل مجمع عليه.

وهذا وجه في العبارة وان كان بعيدا ، وهذا هو الكلام في المبنى.

وأما التفريع والبناء فيمكن النظر فيه من الطرفين :

( فقد يقال ) بتلقيهم من البطن الأول مع لزوم تجديد اليمين كما ذهب اليه بعض مشايخنا ، لأن أصل الملك للبطن الثاني مسبب عن فعل الواقف ، فهم مع البطن الأول سواء في كون كل منهما مدعيا على سائر الورثة ، فعلى كل منهما الحلف ، لان حلف الشخص لا يجدي في إثبات مال للغير ، ومجرد التقدم الرتبي والترتيب في الملك لا يغني عن حلف المتأخر.

ص: 19

( وقد يقال ) بتلقيهم من الواقف مع عدم الحاجة الى تجديد اليمين ، لان البطون بمنزلة شخص واحد من جهة اتحاد سبب التمليك وان كان ملكهم على نحو الترتيب دون التشريك ، فيكون حلف البطن الأول مغنيا ، لأنه إذا حلف بعض المجموع فقد حلف المجموع ، ولذا يكتفي في القبض بقبض البطن الأول مع اشتراط الوقف بالقبض.

والحاصل ان ما ذكره قدس سره من التفريع ليس محل القبول كل القبول ، بل للمناقشة فيه مجال واسع وعلى الناظر التأمل.

[ لو كان الوقف للجنس يبطل لامتناع إثباته بالحلف ]

ولو كان الاستحقاق بعد الأولاد للفقراء - أي للجنس - بطل الوقف لامتناع إثباته بالحلف ، إذ المستحق إذا كان هو الجنس لم يصدق على فرده المدعى حتى يسمع منه الحلف وعادت الدار إرثا ، اما لبطلان الوقف من أصله لكونه أمرا ظاهريا ثابتا بموجب حلف البطن المنقرض فيرجع الى مقتضى الأصل ، أو لصيرورته حينئذ كالوقف المنقطع الأخر الذي حكمه العود الى ملك الوارث ، وعلى الأول فالعبرة بالوارث حين موت الواقف ، وعلى الثاني يحتمل ذلك أيضا ويحتمل كون العبرة بحين الانقطاع كما يحتمل غير هما أيضا من الوجوه المذكورة في المنقطع الأخر.

وفي المسالك يحتمل صرفه إلى أقرب الناس الى الميت. وهو بظاهره لا وجه له الا أن يكون المراد صرفه الى وجوه البر ، فان الشيخ في محكي المبسوط ذكر ذلك ثمَّ قال : ان أقرب وجوه البر هو الصرف على أقرباء الميت الأقرب فالأقرب ، لان خير الصدقة هي الصدقة على الأقارب ، ولعله المراد كما يعلم من ملاحظة المبسوط.

ص: 20

هذا كله إذا حلف المدعون أجمع ، فإن امتنعوا عن الحلف أجمع حكم بالدار ميراثا ولهم إحلاف باقي الورثة المنكرين ان ادعوا عليهم العلم بالوقفية ونصيبهم وقف بمقتضى إقرارهم على أنفسهم ، فإن ماتوا صرف حقهم إلى أولادهم على سبيل الوقف دون الإرث ، لأن إقرار مورثهم نافذ عليهم.

هذا إذا كان الوارث والبطن الثاني متحدين ، فان اختلفا صرف الى البطن الثاني وقفا ولا يعطى الوارث لإقرار مورثهم ، وهل يحتاج البطن الثاني إلى اليمين في أخذهم له وقفا؟ في المسالك وجهان مبنيان على تلقي الوقف كما تقدم.

ويشكل ذلك بأن البطن الثاني لا معارض له لأنهم الوارث ، ولو فرض كون الوارث غيرهم فهم ممنوعون عن الإرث بإقرار مورثهم ، فلا مدعي للبطن الثاني حتى يحلفوا له.

ويمكن أن يقال : ان الحاكم يحلفهم باعتبار رجوع أمر الوقف اليه بعد فرض حرمان الوارث فلا يعطيه مدعي الوقفية بلا يمين ، وهل للأولاد أن يحلفوا على أن جميع الدار وقف كما كان ذلك للبطن الأول؟ في المسالك فيه وجهان : من كون الأولاد تبعا لا بأيهم فإذا لم يحلفوا لم يحلفوا ، ومن أنهم يتلقون الوقف من الواقف فلا تبعية.

وفيه : ان المقتضي للحلف موجود والمانع مفقود ، لان البطن الثاني سواء كان متلقى من البطن الأول أو من الواقف يدعون وقف الدار عليهم ، وهي دعوى ممنوعة فلهم الحلف مع شاهدهم ، وتلقيهم من الأول ليس يرجع الى نحو الإرث كما عرفت ، فلا ربط له بالمقام.

وهل يكفيهم اقامة البطن الأول الشاهد ، إذ لا بد لهم من تجديد اقامته؟

ص: 21

والثمرة تظهر عند خروج الشاهد عن شرائط القبول في عصر البطن الثاني. وسيجي ء إنشاء اللّه تعالى في باب الشهادات تحقيق هذا المقام.

ولا يبعد القول بالكفاية ، لان الخصوم بمنزلة الخصم الواحد لاتحاد دعواهم فلا يقاس بغيرهم في عدم الكفاية ، لأن المناط في اتباع الشاهد استجماعه لشرائط القبول عند المتبع لا عند غيره.

ولو حلف بعضهم ونكل بعض - بأن كانوا ثلاثة فحلف واحد ونكل اثنان - أخذ الحالف الثلث والباقي تركة يقضى منه الديون والوصايا وما فضل يقسم بين من عدا الحالف من الورثة كما عن المبسوط. وقيل يقسم على الكل حتى الحالف ، ولا وجه له وجيه.

نعم لو كان نصيب الحالف إرثا أكثر من نصيبه وقفا كان الزائد في حكم مجهول المالك ، لان الحالف ممنوع منه بإقراره اوقفية الموجبة لنقصان حظه وكذا الوراث لإنكارهم الوقف ، فالزائد بزعمهم مال الحالف ويجري عليه حكم مجهول المالك ، وهي الصدقة بناء على جريانه في كل مال امتنع إيصاله إلى مالكه ولو كان معلوما تفصيلا أو إجمالا ، نظرا الى عموم مناط دليله وهو كون الصدقة أقرب طرق الإيصال المأمور به حينئذ. ويحتمل فيه القرعة بناء على معارضة من خرجت باسمه بإقرار الأخر فيدس حينئذ في مال من خرجت باسمه. ويحتمل الصلح بين الحالف وبين من عداه.

وهذه الوجوه الثلاثة تحتمل في كل مال مردد بين اثنين ينفيه كل منهما عن نفسه ، والأول أوجه ثمَّ الثاني. واللّه العالم.

ص: 22

القول في كتاب قاض الى قاض

التقاط [ عدم الاعتداد بكتاب القاضي في القضاء ]

المعروف بين أصحابنا «رحمه اللّه» عدم الاعتداد بكتاب القاضي ، وقد روى طلحة والسكوني عن ابي عبد اللّه عليه السلام أن عليا «عليه السلام» كان لا يجيز كتاب قاض الى قاض لا في حد ولا في غيره الى أن ولت بنو أمية فأجازوا بالبينات (1).

وسند رواية السكوني إلى السكوني على ما أخبر به شيخنا دام ظله صحيحة ، والسكوني عامي الا أن رواياته معمول بها عند الأصحاب ، فلا شين فيها من حيث السند.

وأما دلالتها ففيها بعض الكلام ، لأنها كالصريحة في أن عليا عليه السلام كان لا يجيز كتاب القاضي مطلقا حتى مع البينة ، بقرينة مقابلة فعل بني أمية لفعله «عليه السلام» ، مع أن الكتابة الثابتة بالبينة كالقول الثابت به في بعض الفروع.

وتوضيح الحال أن يقال : ان إنهاء الاحكام وابلاغها الى الحكام قد يكون

ص: 23


1- الوسائل ج 18 ب 28 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

مع الواسطة وقد يكون بدونها ، والوسائط بعد خروج الوسائط المفيدة للعلم منحصرة في البينة وإقرار المدعى عليه ، والإنهاء بدون الواسطة منحصر في القول والفعل كالكتابة والإشارة ونحو هما ، فهنا مسائل أربع :

[ لو كانت الواسطة بين القاضيين الكتابة ]

( الاولى ) أن تكون الواسطة هي الكتابة ، وقد عرفت أنها غير معتبرة عند الأكثر سوى المحقق الأردبيلي إذا علم بصدور الكتابة عن قصد. نعم نقل عن ابى علي إجازتها في حقوق الناس مطلقا.

وتحقيق المقام هو ان الكتابة فيها أمور عديدة يمكن استناد عدم الاعتبار إليها :

« منها » - احتمال كونها مزورة على القاضي كما ذكره المحقق.

« ومنها » - احتمال صدورها لا عن قصد معناها كما في المسالك ، اما بعدم قصد أصل الكتابة وصدورها بمثل السهو ونحوه أو بعدم قصد افادة شي ء بل لغرض آخر مثل اختبار القلم أو المشق أو نحوهما.

« ومنها » - احتمال كونها إنشاء لا اخبارا ، كما هو المتعارف في مثل هذا الزمان من إنشاء الاحكام بالارقام لا بالألفاظ.

« ومنها » - عدم الدليل على اعتبار الكشف الكتبي بعد الفراغ عن الأمور السابقة والعلم بصدورها قصدا لحكاية مضمونها من صدور الحكم سابقا ، كما ذكره بعض مشايخنا « قده ».

وهذه الاحتمالات كلها صالحة لمنع الاعتداد بالكتابة :

( أما الاحتمال الأول ) فلا سبيل الى دفعه إلا بقرائن الأحوال المفيدة للقطع.

( وأما الاحتمال الثاني ) فيمكن دفعه بالأصل كما يدفع ذلك في القول ، لأن أصالة عدم السهو والخطأ والنسيان والعبث وأشباهها لا يفرق في اعتبارها

ص: 24

عند العقلاء بين القول والكتب الا احتمال قصد غرض آخر غير الإفادة ، فإنه أمر غير بعيد في الكتابة لم يعلم بناء العقلاء على الجري بمقتضى عدمه عند الشك ، فان غرض المشق في الكتابة مثلا أو غرض اختبار القلم أو نحو هما من الأغراض ليس بمثابة سائر الأغراض الحاصلة في الأحوال غير الإفادة في الندرة ، فلا بعد في منع ذلك عن اعتبارها.

( وأما الاحتمال الثالث ) فكذلك لا أصل فيه يرجع إليه ، لأن الصورة صالحة للأخبار وللإنشاء ، كالقول فإنه أيضا إذا تردد بين الاخبار والإنشاء يتوقف فيه ، الا أن الأقوال قد يكون الأصل فيها يقتضي الاخبار ، مثل صيغة الماضي مثل « حكمت » و « بعت » و « اشتريت » ، فإنه لو شك في مثل ذلك بل أريد به الاخبار أو الإنشاء فمقتضى أصالة الحقيقة الثاني.

وكذا الكلام في الجملة الاسمية مثل « أنت طالق » و « أنت حر » و « أنا ضامن » فإنها عند الشك أيضا محمولة على الاخبار ، اما لأصالة الحقيقة بناء على ثبوت الوضع للمركبات أو للأصول الاعرابية كما قيل ، فيكون وضع الجملة الاسمية في اللغة للأخبار وتحمل عليه عند الشك أو لأصل آخر يرجع في أمثال المقام اليه. وليس الحال في الكتابة كذلك ، فإن صورة « حكمت » كما تصلح للأخبار كذلك للإنشاء ولا أصل هنا يرجع اليه. الا أن يقال بأن الكتابة تجري مجرى اللفظ عند العرف في جميع الاحكام ، وهو أمر غير ثابت.

نعم قد يقال : بأن الكتابة تكفي في إنشاء الحكم ، وليس الحكم مثل بعض الأمور المعتبر فيه اللفظ كالبيع والنكاح ونحو هما ، بل مثل الأمور التي لا يتفاوت في الكشف عنها بين القول والفعل كما ذكره في محكي مجمع البرهان كالوكالة والفتوى والرواية فإنها تتحقق بالكتابة كما تتحقق بالقول. لكن طريقة معظم الأصحاب من القدماء والمتأخرين على عدم المساواة بينهما وعدم الحكم بقيام

ص: 25

الكتابة مقام اللفظ في مقام التعذر كخرس ونحوه ، أو في مقامات خاصة علم أن أحكامها الوضعية والتكليفية تابعة لمعانيها لا لألفاظها كالوكالة فان آثارها انما علم بثبوتها للإذن الذي يكشف عنه عبارة التوكيل عنها فيكتفي فيها بالكتابة ، ومثل الفتوى فان المطاع رأي المجتهد حتى لو علم به من غير كاشف عمل به.

ومثل تعديلات الرجال ، فان مدارها على ما يستكشف منها من الإذعان القلبي بعد التهم لا على الاخبار بذلك الإذعان ، كما هو الشأن في التعديل في الموضوعات خصوصا في مقام المرافعة فإن العبرة بالأخبار بالإذعان بالعدالة في شهود مثل الهلال أو دين أو حق على الغير أو نحوها.

والحاصل ان بناء الأصحاب على الاقتصار على الأقوال إلا في مقام التعذر أو في مقام علم من الخارج أن العبرة فيه بالمكشوف عنه لا بالكاشف ، وحينئذ فلا بد من النظر والتأمل في الحكم وأنه مثل الفتوى ، فلا عبرة فيها بخصوصية الكشف القولي أو مثل الشهادة في الاقتصار على الاخبار القولي أو مثل سائر الإنشاءات المعتبر فيها اللفظ خاصة ، ومقتضى الأصل الأولي معلوم والدليل الوافي غير معلوم.

( وأما الاحتمال الرابع ) فهو أيضا معتد به ، لعدم الدليل على اعتبار ظواهر الكتابة. لكنه ضعيف ، لأنا إذا أحرزنا صدور الكتابة عن قصد الاخبار بالحكم السابق وعلمنا به فلا يبقى في المقام جهة ظنية الأمن جهة احتمال سقط أو تجوز مع ترك القرينة ونحوها من الأمور التي لا يعتني بها عند العقلاء.

نعم ، هنا كلام آخر ، وهو أن الكتابة بعد الفراغ عن الأمور المزبورة تكون كالقول في الكشف عن الاخبار بالحكم ، فلا بد من التأمل في أن دليل قبول قول الحاكم على القول به هل يجري في الكتابة أم لا فمن الجائز اختصاصه به ، كما إذا استدللنا على قبول القول بقاعدة من ائتمن على عمل قبل قوله فيه مطلقا

ص: 26

أو مع العدالة ، فإن هذه القاعدة يمكن منع جريانها في الفعل ، فلو أخبر النائب في الحج به قولان قبل قوله بناء على القاعدة ، وأما لو أخبر به كتبا أو إشارة فلاحتمال عدم القبول مجال واسع وأولى بالمنع ما لو لم يخبر أصلا وعلمنا أنه لو سئل عنه لا خبر به.

والحاصل ان الكتابة بعد الفراغ عن عدة أمور تصير كالقول الذي نتكلم فيه إنشاء اللّه تعالى ، فانتظر وتأمل في جريان دليل قبوله فيها.

[ أخبار القاضي للقاضي الأخر بحكمه ]

( الثانية ) أن تكون الواسطة قول القاضي واخباره بالحكم الذي حكم به ، اما للشاهد يشهد به عند القاضي الثاني كما هو المفروض في الشرائع أو للقاضي الثاني ، بأن يقول له شفاها « اني قد حكمت بينهما في وقت كذا » قاصدا للأخبار.

ويمكن الاستدلال على وجوب تصديقه بأمور :

« الأول » - كونها خبر عدل فيصدق ، بناء على أن الأصل في الخبر العدل القبول حتى في الموضوعات.

« الثاني » - قاعدة من ملك شيئا ملك الإقرار به ، لان بعض مجاريه الظاهر لا اشكال ولا خلاف فيه. والمقام منه ، لان ظاهرهم إمضاء من كان إنشاؤه ماضيا يصرح به الفخر في محكي الإيضاح ، وعبارة الشرائع أيضا ظاهرة في هذا المعنى ، وفي المسالك ان الملازمة بين الأمرين ظاهرة.

وقد ذكرنا بعض الفروع المصرح بجريان القاعدة المزبورة فيها في باب اللقطة ، مثل قبول قول العبد المأذون في التجارة قبل الانعزال ، وقد نقل عن الشيخ في باب الجهاد وجوب تصديق من يخبر من العسكر بتأمين بعض الكفار قبل استقرار حكم الأسر.

ص: 27

نعم لو بني في المسألة على ذلك وجب تقييد الحكم بما قبل زمان انعزال القاضي ، لأن هذه القاعدة على تقدير جريانها مختصة بزمان كون ذلك الشي ء المقربة مملوكا للمقر ، حتى أنهم صرحوا بأن إقرار المريض بما زاد عن الثلث غير نافذ ولو تعلق بفعله في زمان الصحة ، فارجع الى ما ذكرنا في باب اللقطة تجد شواهد واضحة على ذلك. وحينئذ فلو كان اخبار الحاكم في زمان رجوع الشهود عن الشهادة أو خروجهم عن العدالة لم يقبل أيضا ، لأنه في هذه الحال ليس للحاكم الأول إنشاء الحكم حتى يقبل اخباره.

« الثالث » - أدلة القضاء ، فإنها كما تدل على نفوذ إلزامات القاضي كذلك تدل على قبول إخباراته بالقضاء ، لان تصديق خبره في ثاني الزمان فصل ظاهري بين المتخاصمين وان كان اخبارا لا إنشاء.

فان قلت : انه فصل بلا ميزان.

قلنا : الميزان السابق يكفي في هذا الفصل أيضا.

ولا يذهب عليك أنا لا نقول ان الاخبار بالإلزام إلزام وفصل حقيقة ، بل نقول انه إخبار لو صدقناه ترتب عليه استمرار الفصل السابق فيجب أن يقبل ، للملازمة العرفية بين نفوذ الإلزام ونفوذ الاخبار بالإلزام ، فيستدل من دليل الأول على الثاني من باب لوازم الخطاب. ويمكن أن تكون عبارة الشرائع ناظرة الى ذلك.

وهذا نظير ما قالوا في باب الطلاق من أن إنكار الرجوع طلاق لأن إخباره يكشف عن رضائه بالزوجية ، فإذا كان في زمان جاز له الرجوع أثر أثره ، لأنه ان كان في الواقع صادقا في الاخبار بعدم الطلاق فهو وان كان كاذبا فهو راض بالزوجية ولو بقاءا ، فيكون في حكم الرجوع الذي هو عبارة عن الرضا بحدوث

ص: 28

الزوجية لعدم الفرق بين الرضائين الرضا بإبقاء المدلول عليه بالأخبار الكاذب والرضا بالحدوث المكشوف عنه بالرجوع.

وفيما نحن فيه أيضا نقول : ان اخبار الحاكم بالفصل ان كان صادقا فهو والا فقد انقدح في ضميره عدم خصومة بين المتخاصمين ولو بقاءا ، فكما أنه إذا رأى عدم الخصومة حدوثا نفذ رأيه كذلك إذا رأى عدمها بقاءا ، فيكون اخباره بعدم الفصل بمنزلة إلزامه به من حيث الكشف عن تعلق رأيه بعدم الخصومة.

وللتأمل في جميع الأدلة المشار إليها مجال. واللّه العالم.

[ لو كانت الواسطة بين القاضيين البينة ]

( الثالثة ) أن تكون الواسطة البينة. والظاهر عدم الاشكال والخلاف المعتد به في اعتبارها في المقام ، إذ لا مانع منها مع عموم حجيتها ، فثبت بها حكم القاضي الأول عند القاضي الثاني ، فيلزم الناس بمتابعته إلزاما ناشئا من أطراف الحكومة لأمن أطراف الأمر بالمعروف والسياسات.

[ إقرار المحكوم بحكم قاض عند قاض آخر ]

( الرابعة ) أن تكون الواسطة الإقرار. واعتباره أظهر ، حتى أن اعتبار البينة في محكي الشرائع ثبت بالمقايسة إلى اعتباره. قال ما مؤداه : انه لو أقر المحكوم عليه بالحكم عند الحاكم الثاني لألزم فكذلك لو ثبت بالبينة ، لأنه كلما ينفذ الإقرار به يثبت بالبينة.

لكن في المقام إشكالين : أحدهما إخراج حقوق اللّه تعالى ، والثاني الحكم بعدم نفوذ حكم القاضي الأول بعد فسقه ونفوذه بعد موته وجنونه ونحوه.

ص: 29

( وجه الإشكال الأول ) ان عموم حجية البينة تأبى عن التخصيص بحقوق الناس ، وكون حق اللّه مبنيا على التخفيف لا يصلح له والا لما ثبت بها عند الحاكم الأول أيضا.

ولو منع عن عموم حجية البينة فلا فرق أيضا في مسألة التنفيذ بين حقوق الناس وحقوق اللّه تعالى. وما ذكر في الفرق من أن القضاء قول بغير علم فيقتصر على موضع الحاجة والقدر المتيقن وهو حقوق الناس دون حقوق اللّه التي بنيت على التخفيف ، يدفعه أن التنفيذ مع البينة ليس بغير علم.

أقول : لو قيل ان إنفاذ الحكم الثابت بل المعلوم أمر غير مستفاد من أدلة القضاء بل يحتاج إلى أدلة أخرى ، كما يفصح عنه تمسك مثل المحقق في ذلك بأمور أخر غيرها مثل مساس الحاجة ونحوها من الوجوه الثلاثة أو الأربعة.

فبان الفرق بين المقامين ، لان الفرق حينئذ ليس قدحا في عموم حجية البينة بل قدحا في وفاء عموم ذلك الدليل بالتنفيذ في حقوق اللّه.

( ووجه الإشكال الثاني ) ان حكم الحاكم ان كان مثل الفتوى فلا بد من مراعاة جميع الشروط في زمان العمل حدوثا وبقاءا ، ولذا قلنا في مسألة البقاء على تقليد الميت ان من يقول به لا بد أن يقول بجوازه بعد عروض الفسق والجنون أيضا ، مع انه باطل إجماعا ، كما أن الملازمة من أوضح الواضحات المنبهة عليها في محلها ، فلا وجه لنفوذ الحكم بعد الجنون والموت أيضا وان كان من باب الرواية والخبر. فالشروط شروط في حال الرواية لا في حال التحمل لا في حال العمل ، فينبغي نفوذ حكمه بعد الفسق أيضا كما يعمل بالرواية بعد فسق الراوي. واللّه العالم.

ص: 30

القول في القسمة

التقاط [ حقيقة الإشاعة وتقسيم المال المشاع ]

القسمة تمييز أحد النصيبين من المال المشاع عن النصيب الأخر ، والكلام هنا في مقامين : أحدهما في حقيقة الإشاعة الخارجية ، والثاني في توضيح حقيقة القسمة.

( أما الأول ) فالإشاعة عبارة عن سريان ملك كل من الشريكين الى كل جزء يفرض من العين المشتركة ، بمعنى كونه ملكا لهما في الواقع ونفس الأمر بالمناصفة مثلا. ولو انتهى الجزء الى جزء غير قابل للقسمة ففيه كلام يعرف ، فنصفه بحسب المالية لهذا ونصفه الأخر لذاك.

ولنوضح الحال بتنظير الجزء المشاع كالنصف بالجزئي المشاع أعني الفرد ، فكما ان الفرد المطلق المشاع سار الى جميع المصاديق الطبيعية في الخارج وينطبق على كل واحد من مصاديقها في الواقع ونفس الأمر كذلك الجزء المشاع كالنصف سار الى جميع المال المشترك ، فكل جزء يفرض يكون نصفه المشاع لأحد ونصفه الأخر للآخر.

ص: 31

ثمَّ إذا فرضنا جزءا وقلنا ان نصفه المشاع لأحد لم يمنع ذلك بأن نقول أن ذلك الجزء على فرض تقسيمه نصفين يكون كل نصف منه بين الشريكين أيضا بطريق التنصيف ، لان ذلك هو قضية الإشاعة بحسب الأجزاء الخارجية ، بمعنى اشتمال كل جزء على حقهما واقعا ونفس الأمر.

وهاهنا تحقيق آخر لبعض مشايخنا في معنى الإشاعة ، ومرجعه الى أن إشاعة الحق عبارة عن تعلق الحق بجزء كلي صالح للصدق على جميع ما يمكن أن يكون مصداقا لذلك الجزء. كالنصف المشاع الكلي فإنه يصدق على جميع الانصاف المفروضة حتى أنصاف الاجزاء.

والفرق المميز بين الوجهين غير واضح ، لكن تعلق الحق بالكلي بعد ما كان المملوك هي العين الخارجية تعسف بل يحتاج الى الدليل مع أنه لا يكاد يتم ، لان كلا من مصاديق النصف في الخارج جزئي حقيقي ، ومقتضى انطباقه على نصف زيد مثلا أن يكون ملكا طلقا له ، لأنه مصداق للكلي الذي هو كذلك ، ومقتضى كونه مصداقا لنصف عمرو أن يكون ملكا له خاصة ، فلا بد من القول بأنه مردد بينهما أو القول بأنه بينهما نصفين ، والأول خارج عن حقيقة الإشاعة والثاني هو المراد ، وذلك مقدمة لتصحيح ما ذكره لا تأسيس كما لا يخفى.

[ معنى الشركة في العين ]

توضيح المقام : ان الشركة في العين تتصور على وجوه ثلاثة :

« أحدها » - أن يكون كل منهما مالكا لاجزاء معينة في الواقع مبهمة في الظاهر.

« والثاني » - أن يكون كل منهما مالكا للجزء الكلي المنتشر كالنكرة مثل النصف المشاع القابل للصدق على كل أنصاف من غير تعيين في الواقع كالنكرة.

ص: 32

« والثالث » - أن يكون ملك كل منهما ساريا الى كل جزء بحيث لو فرض كل جزء كان بينهما ، فلا جزء في الواقع يكون منطبقا على ملك خصوص أحدهما ، بل كل جزء يفرض ففيه جزء من هذا أو جزء من ذلك.

والأول خارج عن حقيقة الإشاعة جدا ، لأن الشركة حينئذ مرجعها الى اشتباه المالين الغير المتمايزين ، كاشتباه أحد مصرعي الباب بالآخر واشتباه فرس بفرس. وكذا الثاني ، لعدم إمكان اختصاص مصاديق النصف بأحدهما الأعلى سبيل الترديد الذي عرفت فساده ، فتعين الثالث.

[ بحث حول الجزء الذي لا يتجزى ]

ثمَّ ان الجزء الذي لا يتجزى أو لا يقبل القسمة الخارجية ليس بمملوك لأحد ، وأما الجزء الذي ينقسم الى جزئين غير منقسمين فلا بد من كونه ملكا لأحد هما ومختصا به ، إذ العرض أن جزءه الفرضي الذي لا يتجزى أولا ينقسم غير قابل للملكية ، لأن الملك انما يعرض الأجسام وجزء الجسم الذي لا يتجزى على القول به حقيقة أو عرفا ليس بجسم ، فلا يكون ظرفا لإضافة الملك ، فلا بد أن يكون ذلك الجزء المركب من الجزئين الغير المتجزئين أو غير المنقسمين مختصا بمالك واحد أو باثنين على نحو كونهما مالكا واحدا لمملوك واحد.

وأما المركب من هذه الأجزاء الفرضية - أي الاجزاء المركبة من الجزئين الغير المتجزئين وهي العين المشتركة - فلما كان قسمتها الخارجية منتهية الى أجزاء غير قابلة للإشاعة بالمعنى المزبور ، بأن يكون جزء منه ملكا لأحدهما وجزء منه للآخر كما عرفت تطرق الإشكال في كون العين مشاعة بينهما أيضا ، لأن قضية تركبها من الاجزاء الفرضية الغير القابلة للإشاعة عدم تصور الإشاعة فيها وكونها بمنزلة ملك واحد مختصا بمالك واحد أو بمالكين على وجه

ص: 33

كونهما بمنزلة مالك واحد ، على أن يكون الملك الواحد الذي هو عبارة عن الاختصاص نصفه لهذا ونصفه لذلك لا أن يكون اختصاص نصف العين لهذا واختصاص نصفها الأخر لذلك ، كما هو كذلك على تقدير الإشاعة.

والحاصل ان مقتضى الإشاعة أن يكون كل منهما مالكا لنصف العين الخارجي فيكون لكل منهما اختصاصا مطلقا وملكا مستقلا بنصف العين ، فكل منهما مالك مستقل وكل من النصفين المشاعين مملوك مستقل.

ومقتضى انتهاء القسمة الى أجزاء غير قابلة للإشاعة غير صالح لعروض الملكية لها نظرا الى كون الملكية من صفات الأجسام وجزء الجسم ليس بجسم كونهما معا بمنزلة مالك واحد وكون العين أيضا بمنزلة المملوك الواحد ، فيكون لكل منهما نصف الاختصاص بالعين ، كما أنه على الأول يكون لكل منهما الاختصاص بنصف العين.

ومقتضى دقيق النظر الثاني ، لأن الجسم وان لم يشتمل على الاجزاء الفعلية الغير المتجزية أو المنقسمة الا أن قسمتها الخارجية تنتهي الى ذلك.

ويندفع ذلك الإشكال بأن أبعاض الجسم الحاصل بالتجزية الخارجية يتصور على أقسام ثلاثة :

( أحدها ) أن يكون ذلك الجزء بحيث لو قسم نصفين أو أثلاثا مثلا كان كل نصف منه أو كل ثلث منه قابلا لعروض الملكية له ، بأن يكون لكل نصف مملوكا لأحد مستقلا بحيث يكون قابلا للشركة ، بل لا بد من اختصاصها بشخص واحد ، فلو قسم نصفين خرج كل نصف منه عن الملكية.

( والثاني ) أن يكون بحيث لو قسم خرج كل قسمة منه عن صلاحية عروض الملكية ، كالجزء المركب من الجزئين الغير المتجزئين على القول بإمكان الجزء

ص: 34

الذي لا يتجزء ، ولازمه أن يكون ذلك الجزء مختصا ومملوكا لأحد فلا يصلح أن يكون مملوكا لاثنين على أن يكون كل منهما مالكا لجزئه ، إذ الفرض عدم قابلية جزئه للملكية ، فلو تعلق باثنين فلا بد من فرضهما كالمالك الواحد.

( والثالث ) أن لا يكون قابلا للتجزية كالجزء الذي لا يتجزى وأن لا يكون مختصا ومملوكا ، لأن الملكية من عوارض الأجسام وجزء الجسم الذي لا يتجزى ليس بجسم بل جزء منه.

وحينئذ نقول : ان القسمة قبل انتهائها إلى القسم الأول لا إشكال في تصور الإشاعة في العين ، لإمكان أن يكون كل جزء منه بين الشريكين على سبيل الإشاعة ، وبعد الانتهاء إليه فالإشاعة فيه عبارة عن كون أحد الجزئين منه على سبيل البدلية لأحد والجزء الأخر كذلك للآخر ، إذ الفرض عدم صلاحية أجزاء هذا الجزء الا أن يكون لأحدهما خاصة ، فالإشاعة هاهنا تغاير الإشاعة قبل الانتهاء فإنها قبل الانتهاء عبارة عن كون كل جزء منها مشتركا بينهما على سبيل الإشاعة وبعد الانتهاء عبارة عن اختصاص نصفه الكلي المخير بأحدهما ونصفه الأخر بالآخر.

وهذا ليس مرجعه الى القول الثاني ، أعني ملكية كل منهما لنصف العين الكلي الصادق على الانصاف المتوهمة في العين ، لان الالتزام به في تمام العين خروج عن حقيقة الإشاعة ، إذ الفرض أن نصف مجموع مصداقه قابل لان يكون بينهما بالإشاعة ، فلا وجه لاختصاصه بأحدهما وعلى سبيل البدل ، بخلاف ما نحن فيه ، فان الالتزام به في المقام ليس خارجا عن حد الإشاعة ، لأن الإشاعة الحقيقية إنما تتصور فيما إذا كان أجزاء العين المشتركة قابلة لان يكون بينهما ، فاذا انتهت القسمة إلى جزء لو قسمناه لم يصلح كل جزء منه الا للاختصاص

ص: 35

بأحدهما ، فلا يتصور الشركة في مثل ذلك الجزء الا بأن يكون نصفه الكلي لأحد هما ونصفه الأخر للآخر.

فهذا هو الفارق بين المقامين ، فاذا انتهت القسمة إلى القسم الثاني فلا بد أن تكون الشركة حينئذ على نحو آخر ثالث ، وهو أن يكون هما معا بمنزلة مالك واحد ، إذ الفرض أن الجزء في هذه المرتبة ليس مركبا من جزئين قابلين للاختصاص حتى يكون أحدهما ملكا لأحد الشريكين والأخر للآخر ، فلا بد حينئذ من الاختصاص بأحدهما ليس إلا أو بهما على أن يكونا بمنزلة واحد. وحينئذ يكون الجزء مملوكا لهما على النحو المزبور ، إذ لا وجه للاختصاص بأحدهما دون الأخر الا أن يلتزم ذلك أو يتشخص بالقرعة ، كدوران المال الواحد بين الاثنين ، فان المقام من قبيل دوران المالك بينهما وإذا انتهت الى القسم الثالث خرج عن ملكية كل منهما. نعم يبقى اختصاص أعيان تلك الأعيان بهما اختصاصا غير راجع الى الملكية.

وعلى ما ذكرنا وحققنا في معنى الإشاعة يظهر وجه ما ذكروه فيما لو باع أحد الشريكين النصف المشاع من العين المشاع من أنه ينفذ في الربع ويكون في الربع الأخر فضوليا ، لان نصف العين المشاع قابل لان يكون بينهما نصفين فيكون لهما ، فلا ينفذ البيع إلا في الربع.

نعم لو باع نصف المشاع - بأن يقول « بعتك نصفي المشاع » - نفذ في تمام النصف ، لان العين إذا انقسمت إلى المرتبة الاولى من المراتب الثلاث المشار إليها وفرض أجزاءها التي لا تتصور الإشاعة في أنصافها الا على سبيل البدلية كما قلنا متلاشية ، فلا جرم يكون نصفها الكلي - أعني على سبيل البدلية - مختصا بأحدهما ، فإذا قال « بعتك نصفي المشاع » كان معناه أن نصف أجزاء

ص: 36

العين المتلاشية التي لا تصلح أن تكون إلا لأحدهما ولو على سبيل البدلية بعته إياك ، فينفذ في تمام النصف. وبقية الكلام يظهر بالتأمل.

ثمَّ ان كلام القوم لا ينطبق على ما صورناه في معنى الإشاعة في بعض المقامات مثل ما قالوا فيما لو طلق امرأته قبل الدخول وكان نصف المهر تالفا ، فإن الأكثر ذهبوا الى أن المرأة تستحق نصف الباقي ، مع أن قضية معنى الإشاعة استحقاقها نصف الموجود ونصف التالف بالقسمة.

فلا بد من توجيه أمثال المقام ، مثل أن يقال ان استحقاق الزوج الطلاق استحقاق جديد متعلق بالنصف المضمون في المهر مثل الصاع في الصبرة ، ونحو ذلك من التوجيهات. لأن الذي بينا في معنى الشركة أمر وجداني عقلي بعد التأمل في حقيقة الإشاعة منطبق على جميع فروعاتها في أبواب الفقه ، فلا يقبل المناقشة بمجرد عدم مطابقة كلماتهم في بعض الفروع له لأنه قابل للتوجيه واللّه العالم.

[ القسمة هي تميز النصف المشاع وإفرازه ]

هذه حقيقة الإشاعة ، وأما حقيقة القسمة فهي عبارة عن تميز ذلك النصف المشاع مثلا عن النصف الأخر كذلك ، ومن الواضح أن حقيقة التميز في الإشاعة من المستحيلات التي لا تتعلق بها القدرة كتعلق حقيقة الملك بالعدم مثل المنافع لكن في العرف عمل يسمونه بالتميز وأمضاه الشارع كما في العرف معاملة يسمونه بتمليك المعدوم كالمنافع ، وذلك العمل عبارة عن أمر جعلي من قبل العرف لا يرجع الى بيع ولا الى صلح ولا إلى مبادلة مستقلة بل مباين للكل حقيقة وان كان مستلزما لانتقال مال أحد الشريكين إلى الأخر.

توضيحه : ان هذه الإنشاءات أمور متخالفة الحقيقة عند العرف وان

ص: 37

تشاركت في بعض الأمر دائما أو أحيانا ، فحقيقة البيع مباينة لحقيقة الصلح وان أفاد كل منهما النقل والانتقال ، وكذا حقيقة الهبة مغايرة لهما ، كما اتضح ذلك كله في محله من أن إنشاء الطلب وإنشاء التمني والترجي والعرض ونحوها حقائق ممتازة بحسب الوجدان وان أفاد كل منها مطلوبية المطلوب والمتمني والمترجى.

وهكذا نقول في الفرق بين إنشاء المبادلة والمعاوضة وبين حقيقة القسمة ، فإن المبادلة حقيقتها أن تبدل مال نفسك بمال صاحبك بإخراجه عن ملك وإدخاله في ملك صاحبك عوضا عن ماله ، وحقيقة القسمة أن تفرز مال نفسك عن مال صاحبك المجتمعين في عين خارجية ، ولما لم يكن بين المالين تميز واقعي كما ظهر في توضيح معنى الإشاعة فلا جرم يكون الافتراز اقتراحا منك وجعلا من عندك نظير الحقيقة الادعائية ، فالتقسيم توسل من الشخص الى مال نفسه ولو اقتراحا ، والمبادلة توسل الى ملك مال الغير في مقابل مالك ملك ، ففي كل منهما يحصل انتقال شي ء من مالك الى صاحبك وبالعكس ، الا أن هذا الانتقال في الأول لم ينشأ من إنشاء النقل بل من الافراز الاقتراحي فيما لا تميز هنا في الواقع وفي الثاني نشأ من إنشاء النقل والمبادلة.

فظهر أن القسمة كما أنها لا ترجع الى العقود المعرفة من البيع والصلح والهبة كذلك لا ترجع إلى مبادلة مستقلة وتمليك مستبد ومعاوضة برأسها ، فلا يلحقها شي ء من أحكام المعاوضة. نعم منه الرد مشتملة على افراز ومبادلة ومعاوضة ، لأن الرد إذا لم يكن من العين المشاعة رجع إدخاله في ملك الشريك الى نحو معاوضة.

ثمَّ ان في جريان الربا فيه احتمال ذكرنا وجهه في باب الغصب في مسألة تخليط الغاصب المغصوب بمال نفسه بوجه مبسوط واف حاو لجميع ما في المقام من وجوه الاستدلال.

ص: 38

ويحتمل العدم حتى على ذلك الوجه الذي مرجعه إلى مقالة المحقق من عدم اختصاص الربا بالبيع بل ثبوته في كل معاوضة صورية أو معنوية ، وذلك لان الإشاعة تمنع عن تعلق الملك بعين الجزء المشاع بل توجب تعلقها بالمجموع ، لان الملك عبارة عن الاختصاص والاختصاص يستدعي محلا ممتازا بحيث لا يكون متعلقا لحق الغير والا لم يكن محلا للاختصاص. والمفروض أن العين المشاعة باعتبار كون كل جزء منها مجمعا للحقين ومشتملا لعين مال الشريكين لا يمكن فيها فرض جزء فارغ حتى يتعلق به الاختصاص ، ففي صورة حصول الشركة بالمزج يلزم زوال ملكية كل من الشريكين عن رقبة ماله وقيامها بالمجموع.

[ الإشاعة تنحصر في الأسباب الشرعية للشركة ]

ومن مشايخنا قدس سره من زعم أن الإشاعة الواقعية لا تحصل بالمزج مطلقا وتنحصر في الأسباب الشرعية للشركة ، مثل الإرث والبيع ونحو هما بحسبان أن المالين في الواقع ممتازان في علم اللّه تعالى ، فيكونان كالمالين المتلاصقين.

ومما حققنا هنا يظهر أنه لا وجه له ، لان بعض صور المزج كمزج الماء بالماء لا إشكال في سببيته للشركة الواقعية ، لان أعيان مال كل منهما باعتبار الاستهلاك في الأخر خرج عن قابلية تعلق الملك بها ، لان الامتزاج يخرج عين مال كل منهما عن قابلية الملكية باعتبار استدعائها محلا فارغا ممتازا كما عرفت ، فالامتياز الواقعي بينهما لا ينفع بعد عدم صلاحيتهما لعروض الملكية ، فحال العين المركبة منهما حينئذ كحال العين الواصلة إليهما بالميراث الا من حيث تعلق ملك كل منهما بالرقبة.

نعم في بعض صور المزج - وهو الذي لم يوجب استهلاك كل من المالين

ص: 39

حقيقة كمزج الدنانير والدراهم أو مزج الحنطة بعضها ببعض - يحتاج في الحكم بالإشاعة الواقعية فيه الى تنزيل عرفي وإمضاء شرعي ، فحيث يجري الممتزجان مجرى التالف المستهلك عندهم وأمضاه الشارع تحصل الإشاعة الواقعية وان كان أعيان مال كل واحد ممتازة عن أعيان الأخر في الواقع ، فكل دينار يفرض حينئذ فهو بينهما نصفين أو أثلاثا مثلا.

فكيف كان فيظهر مما ذكرنا أن التقسيم متفاضلا ليس معاوضة ربوية ولو بالمعنى الأعم من البيع ، لان التفاضل انما يحصل بين الأعيان التي عرفت خروجها عن ملك كل منهما ، والقسمة التي قلنا انها تستتبع انتقالا في العين بحسب اللب انما لوحظت بالنسبة إلى ماليتها ولا تفاضل بينهما ، فلو تقاسما وتراضيا بالتفاضل - بأن أخذ أحدهما الأقل لجودته والأخر الأكثر لرداءته - جاز ولا رباء.

ثمَّ ان التفاضل لا يكون بالقسمة كما صورنا وقد يكون في نفس الشركة ، بأن يكون أصل الشركة يحصل على وجه الربا والتفاضل كما إذا اختلط جيد بردي ء ، فلو حكمنا فيه بالشركة في العين دون القيمة لزم التفاضل في أصل الشركة ، لأن صاحب الجودة قبل المزج كان مالكا لصاع مثلا وبعده قد ملك صاعا ونصفا.

وظاهر كلماتهم في باب الشركة حصول الشركة بمزج الجيد والردي ء ، لكن في باب المفلس نقل صاحب المسالك عن الشيخ في مسألة ما لو اشترى المفلس زيتا فخلطه بماله ، أنه نقل قولا بأن البائع يشارك في العين المختلطة بنسبة قيمة المالين ، ثمَّ قال انه مستلزم للربا. قال في المسالك بعد نقل ذلك : وهو يتم على القول بثبوته في كل معاوضة ولو خصصناه بالبيع لم يكن القول بعيدا.

ص: 40

وقد عرفت ما فيه وان المزج إذا كان على وجه يقرب من التداخل الحقيقي المستحيل صار سببا لزوال اختصاص ملك كل منهما بصاحبه من حيث العين ، لأنه كما تزول المالية وتبقى الملكية كذلك قد تزول أصل الملكية التي هي الاختصاص والسلطنة باعتبار عدم قابلية المحل لحقارته كيفا كالميراث أو كما مثل الجزء الذي لا يتجزأ على القول به أو باعتبار وجود المانع كما في المقام ، فان كل جزء من عين مال زيد مثلا يفرض ففيه جزء من عين مال عمرو ، وهو يمنع عن سلطنة كل منهما بعين ماله وعن اختصاصها به ولو لم يبلغ حد الجزء الذي لا يتجزأ ، فلا بد حينئذ من زوال ملكية كل منهما عن عين ماله وبقاء ماليته.

وبعبارة أخرى : ان الملك قبل الامتزاج للمالك اختصاص بعينه واختصاص بماليته وبالمزج يزول اختصاص الأول دون الثاني ، ومقتضى هذا قيام المالية بالمجموع المركب من المالين ، فيكون المجموع بمنزلة ملك جديد حاصل لهما من امتزاج ماليهما الممتازين المختصين.

ومن هنا لا بد في ملكية كل منهما شيئا من العين ملاحظة مقدار تأثير ماله في مالية المجموع ، فلو اختلط جيد بردي ء كان لصاحب الجيد من العين أكثر من صاحبه ، لأن تأثير الجيد في مالية المجموع أكثر من تأثير الردي ء فيه ، فيملك صاحب الجيد من العين بنسبة القيمتين. وأين هذا من الربا.

وأما ما ذكره الشيخ فيمكن تنزيله على ما لو قصد البائع المعاوضة ، بأن أخذ من العين بنسبة القيمة عوضا عن ماله الذي استهلك في مال المفلس ، فان ثبوت الربا بنفس الشركة لأنه معاملة برؤية في مقام التقسيم والتوصل الى ماله لا في أصل حصول الشركة. فكيف فالأظهر عدم ثبوت الربا لا في القسمة لكونها افرازا ولا في الشركة لكونها في الحقيقة عبارة عن تملك جديد لمال جديد. واللّه العالم.

ص: 41

التقاط [ عدم حصول الشركة الحقيقية في مزج شيئين متماثلين ]

إذا كان المزج مزجا يقرب من المزج الحقيقي - كامتزاج المائين بل مطلق المائعين خصوصا إذا وقع بينهما فعل وانفعال بالغليان مثل السكنجبين - فقد عرفت حصول الإشاعة في مثله قهرا ، سواء كان المزج باختيارهما أو كان قهريا.

ولو كان المزج باختيار أحدهما غصبا أو عدوانا فقد ظهر الكلام فيه في باب الغصب وأن فيه أقوالا أربعة ، فارجع.

ولا يحتاج في إثبات الشركة الواقعية حينئذ إلى دليل شرعي.

ومن هنا يعلم ان الخلاف في اعتبار اتحاد الجنس في الممتزجين ليس على ما ينبغي بعد أن كان الحكم بالشركة في المتجانسين غير مستند الى دليل شرعي بل عقلي. وكيف يعقل بقاء اختصاص كل بماله في مثل السكنجبين مع أن كل جزء من الخل فيه جزء من السكر ، فلا بد من انتقال اختصاص كل بماله عن عين ماله الى المجموع المركب.

وأما إذا لم يكن المزج مزجا حقيقيا - كاختلاط الحنطة بالحنطة والدنانير بالدنانير والخيل بالخيل وأشباهها مما لا يخرج بالامتزاج أعيان مال كل عن قابلية الاختصاص - ففي عدم حصول الشركة الحقيقية فيها مطلقا نظرا الى عدم دليل شرعي يدل على ذلك مع انفراز عين مال كل منهما عن عين مال الأخر بحيث يقبل الاختصاص.

فلا وجه للحكم بالشركة التي هي عبارة عن استحقاق كل منهما شيئا من عين مال الأخر المفروز الممتاز في علم اللّه تعالى ، أو التفصيل بين ما يجري في العرف مجرى المزج الحقيقي في الحكم بخروج عين مال كل عن قابلية

ص: 42

الاختصاص - مثل أجزاء الدقيق وحبات الحنطة المختلطة وكل دينار من الدنانير الممتزجة - وبين ما يجري مجرى المبهم والمشتبه كاختلاط الخيل بالخيل. وجوه ، ظاهر الأصحاب التفصيل ، لان حصول الشركة في مثل خلط الدنانير لعله إجماعي.

والدليل على حصول الشركة حينئذ - بعد تنزيل العرف له منزلة الاستهلاك والاختلاط الحقيقي - إمضاء الشارع ، فلا بد حينئذ في الامتزاجات الغير الحقيقية متابعة العرف وملاحظة تنزيلهم وحكمهم بخروج أجزاء مال كل عن قابلية الاختصاص ، إذ لا مرجع لذلك الا العرف حتى لو ورد في الدليل أن المزج سبب للشركة ، لأن المرجع في موضوعات الأدلة مفهوما ومصداقا ليس سوى العرف.

ومن هنا يجي ء الاختلاف في ثبوت الشركة في بعض الامتزاجات العرفية بين العلماء ، حيث أن تشخيص التنزيل العرفي ليس من المصاديق الجلية الغير القابلة للخلاف ، فكل مزج يوجب عد الممتزجين في العرف مالا واحدا وعد أعيان مال كل من الشريكين مستهلكة خارجة عن قابلية الاختصاص يحصل فيه الشركة ، وكل مالا يعد كذلك فهو من باب اشتباه مال بمال.

ومن هنا يختلف الحكم من حيث اختلاف الممتزجين كما مزج حبة من الحنطة بمثلها لا يؤثر في حصول الشركة ، لأنهما لا يعدان في العرف مالا واحدا أو ملكا كذلك ، فاختصاص كل منهما بعين ماله باقية وان اشتبها في الظاهر بخلاف مزج القبضة بالقبضة.

ويؤيده ما ورد في مسألة ما لو استودع من اثنين ثلاثة دراهم درهما من أحدهما ودرهمين من الأخر ثمَّ تلف أحدها من غير تفريط ، من أنه يعطى صاحب الدرهمين درهما ونصفا وصاحب الدرهم النصف ، فإنه غير منطبق على

ص: 43

قاعدة الشركة ، مع أن حصول الشركة في مزج الدنانير مما لا خلاف فيه ، فليس ذلك إلا لمتابعة الحكم للصدق العرفي وعدم صدق المال الواحد على الممتزج من القليلين.

[ الدليل على حصول الشركة في مزج المائعات ]

ثمَّ ان الدليل في حصول الشركة في مزج المائعات - ولو كانت مختلفة بحسب الجنس - ما عرفت من خروج عين مال كل عن المالية بل الملكية وقيامها بالمجموع المركب ، فلا حاجة في إثبات الشركة فيها الى دليل شرعي.

وأما حصول الشركة في المزج العرفي فهو الإجماع ، لأن حصول الشركة هنا في الجملة مما لا خلاف فيه ، بل لو قيل ان الخلاف انما يجي ء فيه خفاء صدق المال الواحد على بعض صور المزج ووضوحه لا من قصور الدليل الشرعي وعدمه كان خفاء. واللّه العالم.

التقاط [ صحة قسمة الإرث وجوازها ]

لا اشكال ولا خلاف في صحة القسمة وجوازها ، بمعنى ترتب آثارها التي كلها أو جلها ترجع إلى فوائد انفراز كل من النصيبين عن الأخر.

ويدل عليه - بعد الإجماع - أدلة نفي الضرر ، لأن الشركة ضرر.

وهل هي من قبيل العقود والإيقاعات أو الموضوعات المترتبة عليها الاحكام كالالتقاط والغصب والاحياء والحيازة والنسب ونحوها مما لا يرجع الى عقد أو إيقاع؟ فيه وجوه واحتمالات ، أقواها الأخير.

ص: 44

ويؤيد الأول أو يدل عليه اعتبار التراضي من الطرفين فيها حتى في القسمة الإجبارية ، لأن الحاكم ولي الممتنع فيقوم رضاؤه مقام رضائه.

لكنه كما ترى ، إذ مجرد اعتبار التراضي لا يدل على كون المعتبر فيه عقدا ، لان كل عقد يعتبر فيه الرضا لا أن كل اعتبار رضاء يخص بالعقد ، والأمر فيه سهل ، وانما الكلام في سببها وما تحصل به ، فان فيه أقوالا ثلاثة : الأول حصولها بمجرد التراضي من دون قرعة ، والثاني اعتبار القرعة مطلقا ، والثالث القرعة المتعقبة بالرضا المتأخر.

( واستدل على الأول ) بعموم « الناس مسلطون على أموالهم » (1) وقوله « لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيب نفسه » (2) ، وقد أوضحنا ضعف الاستدلال بهما في أمثال المقام مرارا وقلنا : ان تعميم جهات السلطنة لا ينافي إناطة التصرف بسبب خاص ، فلو قال المولى « أنت مسلط على مالك وافعل ما شئت من البيع والصلح والهبة ونحوها » ثمَّ قال « لا يتحقق النقل والانتقال الا بسبب خاص كالصيغة العربية » لم يكن ذلك منافيا لقوله الأول ، لأن مقابل السلطنة العامة الحجر على بعض التصرفات ، والاقتصار في سبب النقل على شي ء خاص ليس فيه رائحة الحجر في التصرف كما لا يخفى.

وأما الاستدلال بالأخير فهو أضعف ، لأن مفاده مدخلية طيب النفس في الحل ، وهذا لا ينافي اعتبار شي ء آخر معه من عقد أو لفظ أو نحو هما ، لان مفاد مثل هذا الكلام ليس كون المستثنى علة تامة ، بل نظير قوله صلى اللّه عليه وآله

ص: 45


1- بحار الأنوار 2 / 272 الطبعة الحديثة.
2- الوسائل ج 3 ب 3 من أبواب مكان المصلى بلفظ « لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفس منه ».

« لا صلاة إلا بطهور » و « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » (1) وأشباهها من الدلالة على مدخلية المستثنى وشرطيته.

والنكتة في التعبير عن هذا الشرط بمثل هذه العبارة كونه في بعض الأحيان علة تامة ، كما إذا حصل بعد استجماع سائر الشرائط ، فإن الجزء الأخير بمنزلة تمام العلة في حصول الأثر عنده.

( واستدل على الثاني ) بأدلة القرعة وظهورها في اللزوم (2). وهو كذلك ، لأن القرعة على تقدير جريانها في المقام يجب العمل بمقتضاها والا كانت لغوا.

مضافا الى اشتمال أخبارها على ما هو كالصريح في اللزوم.

الا أن يمنع عن جريان القرعة في المقام ، وهو خلاف الإجماع ظاهرا ، لأن شرعية القرعة في مقام التقسيم في الجملة أمر معلوم. وحيث علم صلاحية المقام له صح الاستدلال بإطلاق أو عموم أدلتها عند الشك في اعتبار أمر زائد.

نعم مع الشك في اصلاحية فهي من العمومات الموهونة الغير القابلة للاستدلال والاحتجاج ، نظير كثير من القواعد ، مثل قاعدة نفي الضرر والعسر وقاعدة الاعتداء المدلول بقوله « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » (3).

( واستدل على الثالث ) باستصحاب بقاء الشركة وأصالة عدم ترتب أثر القسمة على مجرد القرعة ، لعدم نهوض أدلتها في الاستدلال عند الأصحاب في

ص: 46


1- الوسائل ج 14 ب 1 من أبواب القراءة في الصلاة ح 1 بلفظ « لا صلاة له الا أن يقرأ بها في جهر أو إخفات ».
2- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 15.
3- سورة البقرة : 194.

أشباه المقام ونظائره الذي لا يخفى على المطلع ، فيؤخذ حينئذ بالقدر المتيقن ، وهي القرعة المتعقبة بالرضا المتأخر.

والأظهر من الأقوال الأول ، ويدل عليه أمران :

( الأول ) انه لم يكتف بمجرد التراضي ، فأما يعتبر فيه غير القرعة كالصلح والبيع ونحوهما من العقود - بأن يبيع كل من الشريكين بعد تعديل السهمين حصة من أحدهما بحصته من الأخر أو يصالح عنه أو نحو ذلك - واما يعتبر فيه القرعة.

وكلاهما باطلان : أما الأول فلأن اعتبار مثل الصلح ونحوه يخرج القسمة عن كونها قسمة ، لأن القسمة ليست الا بحت الافراز وصرف التميز ، وتوقف حصولهما على مبادلة وصلح خلف محال ، فافهم. وأما القرعة فلمنع شرعيتها في المقام ، لأنها مشروعة في أحد مقامين ليس المقام منهما : أحدهما تميز المجهول الواقعي ، والثاني رفع التشاح والنزاع الفعليين أو الشأنيين عند تزاحم الحقين أو الحقوق ، مثل اختلاف المتسابقين الى مكان مباح أو اختلاف المتعلمين على معلم دفعة في السبق واللحوق أو العبدين فيما إذا أوجب عتق أحد هما الغير المعين ، كما لو نذر عتق أول مملوك يملك فملك اثنين دفعة ، فإنه يستخرج المعتق بالقرعة كما ورد بالأول الرواية (1).

وليس في المقام مشاجرة واختلاف بين الشريكين ، إذ الفرض تراضيهما على أن يكون أحد السهمين لأحدهما والأخر للآخر ، فالقرعة لما ذا؟ بل يجري مجرى اللغو والعبث حينئذ ، لعدم ترتب شي ء من الأثرين عليه.

ودعوى إطلاق أدلتها أو عمومها الشامل لصورتي التشاجر وعدمه. ممنوعة ، يظهر وجه المنع من التأمل في تلك الأدلة ومصبها وموردها ، فإنها بين ما

ص: 47


1- الوسائل ج 18 ب 13 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

يختص بالأول كالرواية الواردة في الابن المشتبه بين الاثنين أو الشاة الموطوءة المشتبهة (1) ، أو ما يختص بالثاني حقيقة كما إذا كان ظاهرا فيه أو حكما كما إذا كان مجملا وساكتا من هذه الجهة.

فإن قلت : سلمنا عدم شرعية القرعة وعدم فائدتها في مثل المقام لكن مجرد التراضي ليس بملزم ، فلا تحصل القسمة.

قلنا : الملزم هو صدق عنوان التميز على مجرد التراضي بعد تعديل السهام ، فإن حقيقة القسمة من الموضوعات العرفية وصدقها على التعديل المتعاقب بالتراضي معلوم بين معهود معروف معتاد بين الناس ، فاذا حصلنا عنوان القسمة وصدقها بمجرد التراضي ترتب عليها اللزوم ، لان الانفراز بين النصيبين إذا حصل احتاج العود إلى الشركة إلى سبب جديد.

فان قلت : مجرد الصدق العرفي لا يكفي بعد عدم الدليل الشرعي على صحته ، وأين الدليل؟

قلنا : علمنا وبينا عدم اعتبار مدخلية شي ء في القسمة سوى القرعة ، والصدق العرفي انما لا يكفي في حصول الأثر إذا شككنا في شرط شرعي أو في أصل مشروعيته عند الشارع ، وأما إذا علمنا أنها مشروعة - كما علمنا أن البيع عند الشارع ناقل في الجملة ثمَّ علمنا عدم صلاحية شي ء شرطا فيها كصلاحية جملة من الأشياء للشرطية في البيع - فلا جرم يتعقبها الإمضاء الشرعي أيضا. فتأمل.

ثمَّ ان هذا الكلام مع قطع النظر عن الدليل الثاني ، والا فهو دليل شرعي ، فيحسم الاشكال رأسا.

( الثاني ) قوله « المؤمنون عند شروطهم » (2) لان الشرط معناه مجرد الالتزام ،

ص: 48


1- الوسائل ج 18 ب 13 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 15 ب 20 من أبواب المهور.

وهو موجود في المقام ، لأن التراضي في المقام عبارة عن التزام كل من الشريكين بأحد النصيبين فيلزمه.

ولا يقدح في الاستدلال به كونه من العمومات الموهونة ، لأن الفرض مطابقة قول صيانة لمضمونها وهو شرط العمل بمثلها ، كما قلنا في أدلة القرعة آنفا وفي نظائرها سابقا.

[ هل يشترط رضا الطرفين في القرعة ]

وحاصل الكلام أنه تتصور القرعة في صورتين :

« إحداهما » - ما إذا كان القاسم ثالثا كقاسم الإمام أو وكيل المتقاسمين ، فان التقسيم حينئذ بلا قرعة ترجيح بلا مرجح ، لان تعيين حق كل منهما في أحد السهمين إذا لم يكن من طرف صاحب الحق ورضائه لا يمكن الا بمعين.

« والثانية » - ما إذا تراضيا على القرعة ابتداء ، فإنها حينئذ تكون معينة لحق كل منهما عن الأخر.

وهل يعتبر بعدها الرضا؟ الظاهر العدم ، لأن القرعة - على تقدير شرعيتها - فظاهر أدلتها اللزوم كما عرفت. نعم مقتضى الاحتياط هو ذلك.

وأما إذا تراضيا بدون القرعة فليس لها مسرح في المقام ، لأن التراضي مرجعه الى تجاوز كل منهما عن حقه في السهم الأخر ، والقرعة اما لتعيين المجهول أو لترجيح أحد الحقوق على الأخر كما في تسابق الاثنين على مباح أو ماء ونحو هما ، والترجيح انما يحتاج اليه عند التشاح الفعلي أو الشأني ، فحيثما يجوز كل منهما عن حقه ويوقفه الى صاحبه لا يجري فيه القرعة.

وان شئت قلت : ان القرعة لتعيين أحد الحقين ، وهو انما يتصور إذا كان كل منهما باقيا على حقه وملتزماته ، فلو أسقط كل منهما حقه وتجاوز عنه كتجاوز

ص: 49

كل من المتقاسمين عن حقه في السهم الذي يختاره صاحبه سقطت القرعة.

وهذا مع وضوحه يتضح من النظر في أخبار القرعة (1) ، فإنها بين ما لا تدل الا على شرعيتها في تعيين المجهول ، وبين ما تدل على كونها مرجحة لأحد الحقين المتزاحمين ، وبين ما تدل على أنها لرفع الأمور المشكلة ، وبين ما تدل على أنه ما فوض قوم أمرهم الى اللّه تعالى الا وقد هداهم الى الخير والصواب أو ما يقرب من هذا العنوان.

ولا يكاد ينطبق شي ء من هذه العناوين على المقام ، وهو ما إذا تراضى الشريكان وفوض كل منهما الأمر الى صاحبه ، بأن يقول له اختر ما شئت من السهمين المتعادلين.

فان قلت : بناء على ما ذكرت يلزم بسقط القرعة إذا فوض كل من العبيد أمر العتق الى صاحبه إذا كان على المولى عتق أحدهما المخير أو أعتقه كذلك بناء على صحة العتق.

قلت : العتق فيه جهة حق اللّه تعالى أيضا ولم يعلم أنه مما يمكن التفويض فيه ، والكلام انما هو بعد معلومية كون الحق حقا للاثنين محضا جائزا لكل منهما إسقاطه والتجاوز عنه ، فالحقوق المتزاحمة في مسألة العتق لا تتعين الا بمعين الهي. واللّه العالم.

التقاط [ هل يعتبر في القاسم التعدد أم لا؟ ]

يعتبر في القسمة بالتقويم أن يكون المقوم متعددا جامعا لشرائط الشهادة ، لأن التقويم شهادة.

ص: 50


1- الوسائل ج 18 ب 13 من أبواب كيفية الحكم.

وهل يعتبر في القاسم من قبل الامام عليه السلام التعدد أم لا؟ فذهب الأصحاب كما في المسالك الى عدم الاعتبار اقامة له مقام الحاكم.

وتوضيح الكلام هو : ان حقيقة القسمة تحصل بأمرين : تعديل السهام ، وتعيين أحدها لأحد الشركاء.

لا شبهة ولا ريب أن الأمر الثاني مما لا معنى لاعتبار التعدد فيه ، لان التعيين لا بد أن يكون بالقرعة ، إذ لا وجه لاقتراح القاسم على المتقاسمين ، فتعدد القاسم في مسألة الافراز والتعيين الحاصلين بسبب القرعة لا معنى له.

وأما التعديل فهو مما لا بد من إحرازه في الواقع ولو بتسالم الشريكين ، إذ لو لم يحصل ذلك لم يحصل القسمة. مثلا إذا كان أحد السهمين صاعا والأخر صاعين لم يكن اختصاص كل منهما بأحد الشريكين قسمة سواء كان بالتراضي أو بالقرعة. فإذا وجب إحراز تعديل السهام وجب اعتبار التعدد فيمن يباشره وبخبر عنه عند الحاكم.

فكلام الأصحاب ناظر إلى أنه لا يحتاج الافراز بالقرعة إلى تعدد المقرع في السهام المتعادلة المفروغ عن تعادلها ، لا أن التعديل إذا كان خلافيا بين الشريكين أو نظريا عند الحاكم ، كما في بعض الاملاك والأراضي والعقارات المشتركة التي لا يخلو تقسيمها عن غرض وإشكال يجري فيه الواحد.

هذا ، ويحتمل أن يقال : ان القسمة من شؤون الحكومة ، فلا ضير في إناطتها بنظر الحاكم ومن يجري مجراه كالقاسم بكلا الجزئين ، ومرجعه الى أن الحاكم أو القاسم إذا أحرز معادلة السهام بنظره نفذ على المتقاسمين قهرا.

وقد يدعى ظهور عبارة المسالك في ذلك ، وهو بعيد احتمالا ومحتملا. واللّه العالم.

ص: 51

التقاط [ اجرة القاسم على من هي؟ ]

إذا كان القاسم منصوبا من قبل الحاكم فأجرته من بيت المال لأنه من المصالح ، فان لم يتفق له الكفاية من بيت المال فأجرته على الشركاء ، سواء كان طالب القسمة جميعهم أو كان بعضهم. بلا خلاف محكي بين الأصحاب ، خلافا للمحكي عن أبي حنيفة وأحد وجهي الشافعي فيختص بالطالب. ورد بأن العمل المحترم وقع لهم أجمع فعليهم الأجرة.

وقد يناقش في ذلك وفيما ذكره الأصحاب بأن مجرد احترام العمل لا يوجب الأجرة على من ينتفع بل لا بد من صدوره بإذنه وأمره ، وإذا كان الطالب بعض الشركاء فغير الطالب غير راض بالقسمة فضلا عن أن يكون إذنا ، فمقتضى القاعدة كون الأجرة على الطالب خاصة ، الا أن الأصحاب على خلافه.

ولعل نظرهم إلى أنه يجب على الشريك اجابة شريكه في القسمة ، فإذا امتنع قام الحاكم مقامه في الاذن.

ويمكن النظر فيه بأن الواجب عليه عدم المعارضة مع الشريك إذا أراد افراز ماله عن ماله ولا يجب عليه القسمة مباشرة أو تسبيبا حتى يكون امتناعه سببا لقيام اذن الحاكم مقام اذنه ، فمبني المسألة حينئذ هو أن الواجب على الشريك هل هو الإجابة إلى القسمة إذا طلبها شريكه أو عدم المزاحمة والمعارضة ، فان بنى على الأول كانت الأجرة عليهم أجمع لقيام اذن الحاكم مقام اذن الممتنع ، وان بني على الثاني كانت الأجرة على الطالب خاصة لأنه الأمر والاذن وان كان نفع القسمة يصل الى غير الطالب أيضا.

ص: 52

[ الأجرة توزع على الورثة بملاحظة الحصص ]

ثمَّ ان الأجرة توزع على الجميع بملاحظة الحصص لا بملاحظة الرؤس ، لأن الشركة في العمل انما هي بنسبة ما يترتب من الانتفاع المالي ، والا فهو في نفسه ليس مما يتملك حتى يتصور الشركة ، فإذا كان العمل لاثنين فان كان انتفاع كل منهما به بقدر انتفاع الأخر كان العمل بينهما نصفين وتكون أجرته عليهما أيضا كذلك ، وان كان انتفاع أحد هما به ضعف انتفاع الأخر كان العمل بينهما أثلاثا وكذا الأجرة ، وذلك كمحافظة المال المشترك ، مثل الزرع المشترك بين الاثنين أو ثلاث بنصب الناظور ، فمن كان حصته من الزرع أزيد كان عمل الناظور له أكثر ، فالقسمة عمل يصل نفعها الى المتقاسمين بحسب نصيبهم ، فمن كان مالكا للثلث مثلا كان له ثلث القسمة.

لا يقال : نتيجة القسمة تميز النصيبين وافراز كل منهما عن الأخر ، وهما في هذه متساويان ، إذ لا فرق بين السهم الزائد والسهم الناقص في صفة التميز والانفراز ، فكل منهما ممتاز عن الأخر بمثل امتياز الأخر عنه.

لأنا نقول : تميز السهم الأقل ليس مغايرا لتميز الأزيد في نفس التميز بل في مقدار المالية والانتفاع ، فان تميز الثلاثين مثلا أكثر نفعا من تميز الثلث.

وان شئت قلت : ان القسمة من مئونة الأملاك ، لأن الشركة عيب فيها وضرر ، والملك الكامل هو الملك الخاص ومئونة تحصيلها القسمة ، فإذا كانت القسمة من مئونة الاملاك كانت حالها كحال المنفعة في توزيعها على مقدار الملكية والمالية ، فكان صاحب الثلاثين قد وصل اليه ثلثا القسمة كثلثي المنفعة.

وبعبارة ثالثة : ان القسمة تحدث في مال كل من الشريكين صفة جديدة مالية ، وهي الخلوص والسلامة عن الإشاعة ، فكأن القاسم يريد من كل منهما أجرة

ص: 53

إحداث ما يخص بمال كل منهما من الصفة ، فاذا اختلفت الصفتان في المالية نظرا الى أن خلوص الثلاثين أكمل في المالية من خلوص الثلث لزم على كل منهما دفع عوض ما حدث في ماله.

هذا كله في العمل البسيط العرفي كنظر الناظور والقسمة البسيطة العرفية كقسمة غير الموزون والمكيل والمزروع ونحوها مما لا يحتاج في قسمتها سوى النظر ، وأما القسمة المركبة من عدة أفعال خارجية مثل الوزن والكيل فالأمر فيه واضح ، لان عمل القاسم حينئذ لصاحب الثلاثين ضعف عمله لصاحب الثلث كما وكيفا ، لان الفراز ثلثي المال الموزون بالوزن أكثر عملا من افراز ثلثه.

أقول : ولكن المدار ليس على ذلك ، بل على ملاحظة مقدار الانتفاع ، فقد يكون المتقاسمان متساويين في الانتفاع المالي مع كون العمل الخارجي لأحدهما أكثر ، مثل ما إذا تراضيا على أن يكون لأحدهما الردي ء الأكثر وللآخر الجيد الأقل ، فالظاهر هنا قسمة الأجرة عليهما بالسوية.

ثمَّ انه لا يقدح في تقسيم الأجرة بنسبة الحصص إفضاؤه إلى ذهاب مال قليل الحصة رأسا ، فإنه من خواص القسمة لا من خواص تقسيم الأجرة بنسبة الحصص ، إذ لو قسم بنسبة الرؤس فربما يفضي الى ذهاب مال كل من المتقاسمين أيضا. والحاصل ان أجرة القاسم قد تزيد على قيمة مجموع الحصص ، وهذا عيب في القسمة لا في تقسيم أجرتها بنسبة الحصص. واللّه العالم.

التقاط [ اجرة القاسم على من استأجره ]

إذا لم يكن القاسم من طرف الحاكم بل من طرف أرباب المال ، فاما أن يستأجره الجميع أو بعضهم ، فإن استأجره الكل فلا إشكال في صحة الإجارة ،

ص: 54

وكذا لو استأجره بعضهم أصالة عن نفسه ووكالة عن الباقي وكيفية تقسيم الأجرة كما تقدم أن لم يتعين في ضمن العقد ما على كل واحد من الشركاء ، وان استأجره بعضهم ففي صحة استيجار الثاني ذلك الأجير فيما لو كان الشركاء اثنين اشكال ، لا تميز حق الثاني يحصل بعين تميز حق الأول والمفروض أنه مستحق على الأجير بمقتضى العقد الأول ، فالعقد الثاني يبقى بلا مورد ، لان شرط صحة الإجارة وقوعها على عمل مملوك غير مستحق عليه ببعض أسباب الاستحقاق.

وقد يقرر الإشكال : بأن تميز حق الثاني واجب على الأجير مقدمة لتميز حق الأول ، وأخذ الأجرة على الواجب غير جائز ، فيتوقف ورود الإشكال حينئذ على القول بوجوب المقدمة والقول بعدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات ، ففي القول بعدم وجوب المقدمة حينئذ استراحة عن الاشكال ، وكذا القول بجواز أخذ الأجرة على الواجبات التوصلية.

وفيه : أولا ان تميز حق الثاني ليس مقدمة لتميز حق الأول بل عينه ، لان التميز بين الاثنين نسبة الى كل منهما مثل نسبته إلى الأخر ، كفصل الشي ء المتصل فإنه إذا حصل انفصل كل من المتفاصلين عن الأخر بعين ذلك الفصل الجزئي الحقيقي.

وليس هنا فصلان متغايران أحدهما يكون متعلقا بأحدهما والأخر بالآخر.

نعم يحصل من الفصل الواحد والتميز الواحد مفهومان متضايفان كل منهما في عرض الأخر ، وهما تميز كل من المتمايزين عن الأخر وانفصاله عنه ، لان تميز هذا عن ذاك غير تميز ذاك عن هذا مفهوما ، إلا أنهما متضايفان متحصلان من فعل واحد خارجي ، وهو التميز والفصل الخارجيين.

فتوهم كون تميز حق الثاني مقدمة لتميز حق الأول. بين الفساد ، لأنه ان أريد به التميز حقه المصدري ففيه أن تميز حقه الأول ، فلا مغايرة

ص: 55

بينهما لا مفهوما ولا مصداقا وانما المغايرة بينهما بالإضافة والاعتبار ، فان قيس ذلك الفعل الخارجي إلى نصيب أحد الشريكين قيل انه تميزه عن نصيب الأخر وان عكس انعكس. وان أريد التميز الذي هو حاصل التميز المصدري فهو ليس بمقدمة لتميز حق الأول ، لأنهما مفهومان متضايفان حاصلان من فعل واحد في مرتبة واحدة لا يجوز الاستيجار لأحد هما بعد الاستيجار للآخر ، لان النتائج بنفسها ليست بمجرى الإجارة إلا بملاحظة مقدماتها التي هي الاعمال القابلة لها ، فاذا عقد على عمل باعتبار بعض نتائجه لم يجز العقد عليه ثانيا باعتبار النتيجة الأخرى.

ومن هنا يظهر أنه لا فرق في ورود الاشكال بين أن يكون المعقود عليه في العقد الثاني تميز حق الثاني - أي الفعل الذي يحصل به الانفراز - أو التميز الذي هو الانفراز.

وثانيا - انه لا ربط لوجوب المقدمة بالمقام بعد تسليم المقدمة ، لأن المانع من صحة العقد الثاني ليس هو وجوب التميز على الأجير بل كونه مستحقا عليه ، وعدم وجوب المقدمة لا ينافي كونه غير مملوك له مستحقا عليه بالعقد الأول.

وثالثا - أنه لا ربط لحرمة أخذ الأجرة على الواجبات بالمقام ، لأنا لو لم نقل بذلك فالإشكال أيضا وارد ، لما عرفت من أن المانع ليس هو وجوب تميز الحق الثاني بل كونه غير مملوك له مستحقا للغير ، وانما قيدنا محل الإشكال في العقد الثاني بما إذا كان الشركاء اثنين لأنهم لو كانوا ثلثاه كان العقد الثاني صحيحا ، لان العقد الأول قد ورد على تميز حق أحد الشركاء ، فيبقى تميز حق الشريكين مملوكا له وغير مستحق عليه. نعم يتطرق الإشكال حينئذ في العقد الثالث كما يظهر بالتأمل.

هذا ، وقد أجيب عن الاشكال بوجوه :

ص: 56

( أحدها ) النقص بما لو استؤجر شخص في البيع عن أحد والشراء عن آخر ، فإن الأجير في البيع يجب عليه تحصيل الشراء مقدمة ، فيكون العقد على الشراء عقدا على غير مملوك مستحق عليه. ذكره الفخر في محكي الإيضاح.

وفيه : ان البيع والشراء فعلان مستقلان ، والواجب على الأجير في البيع إنشاء إيجاب النقل عند وجود المشتري ولا يجب عليه الشراء حتى يكون مستحقا عليه.

ولو قيل : ان المراد بالبيع ليس هو مجرد إنشاء الإيجاب بل هو إيجاد النقل الخارجي ، والنقل الخارجي يتوقف على الشراء فيجب عليه تحصيل الشراء مقدمة. وبعبارة أخرى : يجب على الأجير في البيع إنشاء الإيجاب المقرون بالقبول ، فتحصيل القبول واجب عليه من باب كونه مقدمة لحصول صفة المقارنة.

قيل : ان وجوب إنشاء النقل المقرون بالقبول لا يجعل القبول مستحقا عليه ، لان المراد بالقبول القبول الاختيار الذي هو مملوك للقابل ، فالمستحق عليه هو تحصيل المقارنة لا نفس المقرون الذي هو القبول. وبعبارة أخرى : القبول فعل مملوك للقابل ووجوب تحصيل مقارنته لا يخرجه عن كونه مملوكا للقابل ، فاذا يجوز له العقد على نفس القبول كالعقد على نفس الإيجاب - فافهم انه دقيق.

( والثاني ) ما نقله في المسالك أيضا ، وهو أن السؤال مبني على أنه يجوز استقلال بعض الشركاء باستئجار القسام لإفراز نصيبه ، ولا سبيل إليه ، لأن إفراز نصيبه لا يمكن الا بالتصرف في نصيب الآخرين مترددا أو تقديرا ، ولا سبيل إليه إلا برضاهم. نعم يجوز أن ينفرد واحد منهم برضى الباقين فيكون أصيلا ووكيلا ولا حاجة الى عقد الباقين - انتهى.

ويرد عليه : ان المانع من ترتيب العقود ليس هو استلزام صحة العقد الأول

ص: 57

التصرف في نصيب الآخرين ، لإمكان فرض جواز التصرف أو عدم الحاجة إليه ، بل المانع هو وقوع العقد الثاني على عين ما وقع عليه الأول ، وهو غير مرتفع برضاء الشركاء ، إذ على تقدير رضاهم بالعقد الأول فاما يعقدون على القسمة ثانيا أو يكتفون بالأول ، والثاني خلاف الفرض والأول غير جائز لعدم محل قبل العقد الثاني.

وقد أجيب أيضا بوجه آخر غير ناهض في رفع الاشكال. والتحقيق أنه لو فرض للعقد الثاني محل مغاير لمورد العقد الأول صح العقد الثاني والا فلا. واللّه العالم.

التقاط [ الإجبار في تقسيم المثليات ]

إذا كان المقسوم مما يتساوى أجزاؤه جنسا ووصفا وقيمة كالحبوب والادهان ونحو هما من المثليات دخل على قسمتها الإجبار.

قال في الشرائع : ويقسم هذا القسم كيلا ووزنا متساويا ومتفاضلا ربويا كان أو غيره ، لان القسمة تميز حق لا بيع.

وأخذه في المسالك بما حاصله : ان التفاضل ان كان باعتبار اختلاف السهام كثرة وقلة كالثلث والثلاثين فهذا ليس تفاضلا في القسمة ، لأن الأصل في القسمة أن يكون بنسبة الاستحقاق ، وان كان باعتبار ترجيح أحدهما على الأخر بتوفير جانبه زيادة على حقه فليس ذلك داخلا في القسمة بل هو هبة محض الزائد ، فلو ترك قوله متساويا ومتفاضلا كان أولى.

وفي بعض حواشي المسالك : فرض التفاضل بأخذ أحدهما الأقل لجودته والأخر الأكثر لرداءته. وهذا جيد لكنه لا يجوز في مسألة الإجبار على القسمة ،

ص: 58

لأن شرط الإجبار تساوي الاجزاء جنسا ووصفا وقيمة ، مع أنه صرح في هذا القسم بالإجبار على القسمة. وتأويل كلامه أنه أراد الإجبار في بعض الصور ، بناء على ان مراده بالتساوي الاجزاء المثليات مطلقا سواء تساوى أجزاؤه في القيمة أم لا. تعسف في تعسف.

ويمكن أن يوجه بأنه أراد بالتفاضل الإشارة إلى جواز حصول الشركة في العين الممتزجة من الجيد والردي ء المتساويين في المقدار ، لأنه قول في المسألة كما نقل صاحب المسالك في باب المفلس عن الشيخ أنه نقل هذا القول عن بعض ، فإنه على هذا القول تكون القسمة بالتفاضل مع دخول الإجبار عليه ، وهو بعيد.

وكيف كان فالأصل في القسمة اعتبار التراضي ، فالإجبار مخالف للأصل مطلقا ، لأن حقيقة القسمة وان كانت افرازا الا أنها إفراز جعلي يستتبع انتقال مال كل منهما إلى الأخر بالحس والعيان ، فلا بد فيها من التراضي ، لأصالة بقاء ملك كل على ماله.

ويدل عليه أيضا قوله « لا يحل مال امرئ الا بطيب نفسه » (1) بناء على أن الحل كناية عن خروجه عن ملكه ، بل ولو أبقي على ظاهره من جواز التصرف ، لأنه إذا لم يجز التصرف في ملك الغير الا بطيب نفسه فلا ينتقل ملكه الى غيره الا بالطيب بالفحوى والأولوية الجلية ، فلا بد في دخول الإجبار على القسمة من قيام دليل.

فقد يستدل على ذلك بقاعدة السلطنة ، بناء على أن إفراز المال من وجوهها ، ولعله يشير الى ذلك قول المحقق : ويجبر الممتنع على مطالبة الشريك بالقسمة

ص: 59


1- الوسائل ج 3 ب 3 من أبواب مكان المصلى بلفظ « لا يحل دم امرئ مسلم ولا ما له الا بطيبة نفس منه ».

لأن الإنسان له ولاية على الانتفاع بماله والانفراز أكمل نفعا ، وهو محصل ما ذكره الشيخ في محكي المبسوط.

ويمكن المناقشة فيه بأن السلطنة على الافراز ترجع إلى السلطنة على تقليب مال وهو المشاع الى مال آخر وهو المعين. وهذا ليس من وجوه الانتفاع بالمال وطرق السلطنة عليه ، إذ لا يفهم بين قولنا « زيد مسلط على داره » و « ليس له جعل داره حماما » مثلا منافاة.

والسر في ذلك أن مقتضى عموم القضية وكليتها ليس سوى سريان الحكم الى جميع أفراد موضوعه مع بقاء الموضوع على حاله ، وليس له دلالة على كيفية حال الموضوع وأنه مما يمكن تقلبه الى موضوع آخر.

ويمكن أن يقال : ان إفراز مال المشاع وتعينه - وان كان تبديلا للمال بمال آخر في دقيق النظر بمعنى افنائه رأسا واحداث مال جديد لا إخراجه من الملك فافهم - الا أن التعيين والإشاعة في العرف معدودان من الأحوال الطارئة على مال واحد ، فالإفراز بعد عرفا من وجوه التصرف في المال المشاع.

[ ضعف الاستدلال بقاعدة لا ضرر على دخول الإجبار ]

هذا ، ومما ذكرنا ظهر ضعف الاستدلال بقاعدة لا ضرر على دخول الإجبار في القسمة أيضا بل ، الاستدلال به أضعف ، لأن الضرر إذا كان من لوازم وجود المال فلا وجه لرفعه بتبديله الى مال آخر. ويجري فيه التوجيه المزبور أيضا ، لأن التقسيم إذا عد من وجوه التصرف في المال كان في منعه وعدم الإجابة اليه مع عدم الضرر ضررا على الملتمس.

فان قلت : في القسمة يحصل انتقال كل مال من الشريكين إلى الأخر ولو كانت افرازا ، لان كونها كذلك جعلي لا واقعية له على ما هو المختار المنصور

ص: 60

في معنى الإشاعة من أنها عبارة عن كون كل جزء جزء قابل للتنصيف الى نصفين قابلين للملك بين الشريكين ، فحقيقة القسمة الإجبارية ترجع الى دخول مال كل منهما الى ملك صاحبه بدون رضائه. وليس في شي ء من القواعد ما يساعده ، بل يدل عليه صريح قوله « لا يحل مال امرئ الا بطيب نفسه » بالبيان المتقدم آنفا.

وأن بقاعدة السلطنة دلالة على حصول تملك مال الغير بدون رضائه ، أم كيف يكفي كونها إضرارا جعليا في إمضاء الشارع إياه على وجه يخرج به عن قضية القواعد ، لان الجعل العرفي يحتاج إلى الإمضاء الشرعي ، ومع وجود الردع بنحو قوله « لا يحل » كيف يدعى الإمضاء؟

قلت : ما ذكرت من استتباع القسمة انتقال مال كل منهما إلى الأخر مبني على اعتبار عقلي ملغى في نظر العرف ، فإن القسمة عند العرف محض تميز وصرف افراز ، فتعيين النصف المشاع عند العرف يجري مجرى افراز أحد مصرعي الباب المتلاصقة عن الأخر أو كتشخيص أحد المشتبهين عن الأخر ، وليس لذلك الاعتبار العقلي أثر في نظرهم ، حتى ان الانتقال حقيقة غير موجود عندهم في القسمة.

وإذا كان الأمر كذلك كان منع الشخص عن افراز ماله منعا له عن التصرف في ماله عرفا وإدخالا للضرر عليه ، ولا ريب أن السلطنة والضرر من الموضوعات العرفية كالنقل والانتقال ، فيدوران مدار الصدق العرفي ، فالسلطنة على المال أمر عرفي كما أن نفس موضوع المال أيضا عرفي ، فكما لا يلتفت الى الدقة العقلية في بعض الأموال العرفية كالمعدومات كذلك لا يلتفت الى الدقة العقلية في بعض مصاديق السلطنة.

فكما أن دقيق النظر يمنع عن الحكم بملك المعدومات وكونها مالا كالمنافع المتجددة في الدهور اللاحقة ومع ذلك يجري عليها حكم الأموال عرفا وشرعا

ص: 61

كذلك يجري على القسمة حكم السلطنة عرفا وشرعا وان كان دقيق النظر يقضي بعدم كونها سلطنة.

فظهر أن ما ذكره الأصحاب في خصوص متساوي الأجزاء جنسا ووصفا من دخول الإجبار على القسمة منطبق على القاعدة. واللّه العالم.

التقاط [ في أي نوع من القسمة يدخل الإجبار ]

بعد ما عرفت من دخول الإجبار على القسمة فاعلم : ان القسمة تنقسم أولا إلى قسمة ضررية وغيرها ، والثاني تنقسم إلى قسمة عينية وقسمة مالية وقسمة ردية :

والمراد بالقسمة الضررية ما يوجب خروج السهام بعد القسمة عن المالية مطلقا أو بما بعد في العرف ضررا كثيرا كتقسيم الجوهرة وتنصيفها نصفين.

وبالقسمة العينية أن ينقسم المشاع بعينها ، بأن يتحصص عينها حسب حصص الشركاء ، وذلك بأن يكون المشترك مالا متساوي الاجزاء في جميع صفات المالية وقابلا للتحصص بالحصص بالتجزية وتعديل السهام كما وكيفا بالوزن في الموزون والكيل في المكيل والزرع في المزروع والمساحة في الأراضي المتساوية الأجزاء وصفا وجنسا.

وبالقسمة المالية أن ينقسم المشاع بحسب المالية دون الكمية والكيفية ، وذلك بأن يكون المال المشترك مالا مختلفة الاجزاء في القيمية ، سواء كان من جنس واحد كالحنطة أو من أجناس مختلفة كالحنطة والشعير والدار والثوب ، ويلاحظ في تعديل السهام مقدار ماليتها فيجعل وزنتان من الشعير سهما ووزنة من الحنطة سهما.

ص: 62

وبالقسمة الردية ما امتنع فيه تعديل السهام عينا وقيمة إلا بعد اضافة مال خارجي إليه حتى يصير بذلك مالا آخر قابلا للقسمة. وقد تطلق القسمة الردية على ما يعم القسمة المالية.

إذا تحقق ذلك فاعلم أن القسمة الضررية لا تقبل الإجبار ، لتعارض قاعدة السلطنة مع قاعدة نفي الضرر فيتساقطان ، أو أن قاعدة نفي الضرر حاكمة على قاعدة السلطنة كحكومتها على سائر القواعد العامة.

وهذا لا خلاف فيه ولا اشكال ، وسيأتي توضيح المراد بالضرر الواقع للإجبار ، فمورد القسمة الإجبارية هي ما عدا القسمة الضررية ، فنقول :

ان القسمة الردية أيضا لا تقبل الإجبار ولو كانت افرازا لا معاوضة ، لأن الدليل على الإجبار هي قاعدة السلطنة بالبيان المتقدم ، وهي لا تنهض بإدخال الإجبار في القسمة إذا كان فيها رد. لان المفروض عدم قابلية المال المشاع بنفسه للتقسيم عينا ولا قيمة ، فموضوع السلطنة حينئذ غير محقق وانما يتحقق بعد فرض اضافة أمر خارجي اليه ، فالمال المشاع الموجود غير قابل للسلطنة عليه وإفرازه والقابل - وهو المجموع المركب منه ومن الرد - ليس بمال مشترك.

والحاصل ان الواجب انما هو الإجابة إلى القسمة مع وجود موضوعها والمحل القابل لها ، وأما تحقيق موضوعها وإيجاد محل قابل لها بإضافة مال خارجي فليس بواجب على الشريك ولو امضاء ، بأن يكون الراد غير الممتنع.

واما القسمتان الأوليان - أعني العينية والمالية - في دخلهما الإجبار مع عدم الضرر ، لكن الأصل في الإجبار هو الأول. فمتى أمكن تعديل السهام بحسب الكم والكيف لم يجبر على التعديل بالقيمة ، لأن كل جزء من المال متعلق بحق الشركاء ، فلا وجه لمنعه عن حقه.

وبعبارة أخرى : ان حرمان الشخص عن عين ماله إلى القيمة حكم مناف

ص: 63

لقاعدة السلطنة ، وانما يعدل عن العين الى المال مع عدم إمكان التوصل الى العين ، فلو كان المال أجناسا مختلفة كالحنطة والشعير لم يجبر على التعديل بالقيمة ، بل لكل من الشركاء الاقتراح بتقسيم كل جنس ، بل له الاقتراح بتقسيم كل جزء في الجنس الواحد ، فيقسم كل واحد من آحاد البطيخ إذا لم يرض أحد الشركاء الا بذلك.

نعم ليس له ذلك إذا لم يتعلق به غرض عقلائي ، كتقسيم كل جزء حبة من حبات الحنطة ولو لم يخرج عن المالية بسبب قابليته للطحن بعد التقسيم أيضا ، لأن مثل هذا الاقتراح بمعزل عن مقاصد العقلاء ، لان الإلزامات الشرعية لا تتعلق بما لا يتعلق به غرض العقلاء.

ومن هنا لا يلزم الوفاء بالشرط الخارج عن مقاصد العقلاء في ضمن العقد ولو تعلق به غرض في خصوص الواقعة الشخصية لبعض الشركاء ، ففي وجوب الإجابة حينئذ نظر : من عموم السلطنة مع اقترانها بالغرض الصحيح ، ومن كون المدار في أمثال المقام على ملاحظة حال العقلاء نوعا لا شخصا.

وعلى هذا فلا بد من تنزيل إطلاق كلماتهم في الإجبار على القسمة بحسب المالية في بعض الأمثلة على ما إذا تعذر فيه القسمة العينية لعذر عقلي أو شرعي وبه صرح في محكي التذكرة حيث قال ما حاصله : ان للشريك الامتزاج بتقسيم كل عين من أعيان المال المشترك وعدم الإجابة إلى التقسيم بحسب المالية بتعديل السهام قيمة وانه لا يجبر على ذلك مع إمكان تقسيم الأعيان.

[ عدم دخول الإجبار مع عدم إمكان التعديل في القسمة ]

هذا إذا أمكن التعديل بحسب الكم والكيف ولو بتقسيم كل عين من الأعيان المشتركة بحيالها ، وأما مع عدم إمكان ذلك وانحصار التقسيم في التعديل

ص: 64

بحسب المالية والقيمة - كما إذا كان المال المشترك عبيدا متعددة قابلة للتعديل بالقيمة بأن يرى أحد العبيد مائة ومجموع الاثنين مائة ونحو ذلك من الفروض - ففي دخول الإجبار على القسمة حينئذ بالتعديل قيمة مطلقا أو عدم الإجبار مطلقا أو التفصيل بين ما يتسامح فيه العقلاء من حيث تعلق الغرض بنفس الأعيان فالإجبار وما لا يتسامح فالعدم ، وجوه.

( وجه الأول ) عموم قاعدة السلطنة وعدم الالتفات الى تعلق الغرض بالعين ، لأن فائدة القسمة هي التفصيل الى تكميل المال وتخليصه من الإشاعة ، وهو حاصل مع التعديل بحسب القيمة ، وأما الغرض المتعلق بالعين فوضع القسمة الإجبارية على عدم مراعاته وإلغائه رأسا. والا امتنع الإجبار مطلقا ، لأن القسمة يلزمها انقطاع يد كل من الشريكين عن عين نصيب الأخر ، فلا يكون حينئذ إجبار أصلا حتى فيما يمكن فيه القسمة العينية ، ولذا جعل بعض الأصحاب سقوط الإجبار في القسمة بتعديل القيمة رأسا.

( ووجه الثاني ) ما عرفت آنفا من أن قطع سلطنة الشخص عن عين ماله وتعيين حقه في بعض أعيان المشترك غصبا عليه ليس مما يقتضيه قاعدة السلطنة ، بل هو مناف لتلك القاعدة ، فكما أن ملتمس القسمة يريد التوصل الى تكميل ماله بالقسمة فكذلك الممتنع يريد التمتع بعين ماله كالدار مثلا ، فالاقتراح عليه بإخراج عين الدار عن يده أو عين الفرس مثلا مناف لقاعدة نفي الضرر.

وان شئت قلت : ان القسمة إذا لم تتصور في كل عين من أعيان المال وانحصر تعديلها بالتقويم كانت ضررا ، لاستلزامها انقطاع يد الشريك عن عين ماله ، فيندرج تحت القسمة الضررية التي لا إجبار فيها.

ودعوى أن فوت الغرض المتعلق بالعين ليس بضرر ، إذ المعتبر في الضرر هو الضرر المالي. مدفوعة بأن الإشاعة ليس ضررا ماليا ، بل ربما يكون

ص: 65

قيمة النصف المشاع مثلا أزيد من قيمة النصف المفروز أو مساويا ، مع أنهم استدلوا على الإجبار في القسمة بأن الشركة ضرر فيجب نفيه.

[ لا ترجيح لغرض الملتمس للقسمة على غرض الممتنع منها ]

والحاصل ان انقطاع سلطنة الشخص عن بعض أعيان ماله ولو على نحو الإشاعة والتعيين تمام حقه في بعض تلك الأعيان ليس مما يدل عليه دليل ، إذ لا ترجيح لغرض الملتمس على غرض الممتنع ، فكما أن الملتمس يريد التوصل الى بعض الأغراض التي لا يترتب على فوته ضرر مالي والاستقلال بالمال وإخراجه عن الإشاعة ، ضرورة عدم توجه ضرر مالي ونقصان في المالية اليه على فرض بقاء حصته على الإشاعة ، فكذلك الممتنع يريد محافظة بعض أغراضه التي لا يترتب على فوتها ضرر مالي ، وترجيح جانب الملتمس بإجبار الممتنع على القسمة ترجيح بلا مرجح.

( ووجه التفصيل ) ان الأغراض المتعلقة بالأعيان ليست على نهج واحد عند العقلاء ، فربما يكون الغرض المتعلق بالعين ملغى في نظر العرف كما هو مبنى دخول الإجبار في القسمة العينية ، أي القسمة بحسب الكم والكيف ، لان المال إذا كانت أجزاؤه متساوية وصفا وجنسا وقابلا للتعديل بحسب الكم والكيف لم يلزم من التقسيم والإفراز الا انقطاع يد كل من الشريكين عن عين نصيب الأخر.

وحيث أن المفروض عدم التفاوت العقلاني بين نصيبه ونصيب شريكه عينا ولا قيمة ألغاه الشارع أيضا ونزله منزلة الوصول الى تمام حقه عينا وقيمة.

وهكذا إذا كان المال مختلفة الاجزاء بالاختلاف المتسامح فيه عند العقلاء من حيث تعلق الغرض بالخصوصية ، فإن كل اختلاف في الاجزاء ليس مما يصحح تعلق الغرض بالخصوصية ، فربما يكون الغرض المتعلق بالخصوصية واجب

ص: 66

المراعاة عند العقلاء ، مثل الغرض المتعلق بخصوصية الدار ، فإن منزلة الدار مثلا عند العقلاء ليس كمنزلة شي ء آخر يساويها في القيمة مثل الثوب أو الجام ونحو هما : فان كان الغرض المتعلق بالخصوصية من قبيل الأول الذي يتسامح فيه لم يجب مراعاته بل يجبر صاحب ذلك الغرض وهو الممتنع ، وان كان من قبيل الثاني يجب مراعاته فيزاحم حقه حق الملتمس. وهذا التفصيل أوفق بكلمات الأكثر.

ومن هنا قال العلامة «رحمه اللّه» بالإجبار في قسمة العبيد مع إمكان تعديلها بالقسمة ، وبعدم الإجبار في قسمة العبد والجوهر مثلا المشترك فيهما بين الاثنين ، فان الأغراض المتعلقة بخصوص بعض العبيد ليس مما يزاحم بها غرض الافراز والاستقلال بالمال عند العقلاء ، بخلاف الغرض المتعلق بجنس العبد أو الجوهر مثلا ، فان مما يعتنى به عند العقلاء ، حتى أنه ربما يرجح على غرض الافراز.

والحاصل ان المناط في الإجبار على القسمة بحسب المالية على هذا التفصيل عدم كون الغرض المتعلق بالخصوصية واجب المراعاة عند العقلاء نوعا حتى لا يزاحم به غرض الافراز والتعيين الذي دعا الملتمس الى التماس القسمة.

ومن أجل ذلك تطرق الاشكال والنظر والتردد في كثير من صور القسمة المالية التي اشتمل على جملة منها كتب الأصحاب باعتبار الشك في كون الغرض المتعلق بالعين واجب المراعاة عند العقلاء أو ملغى رأسا أو بحيث يزاحم به غرض الافراز والتعيين في المال.

وهذا هو الأقوى ، لأن اختلاف الأغراض ربما يرجع الى اختلاف حال الشركاء من حيث التضرر بالقسمة وعدمها ، كما إذا كانت تلك الأغراض مما يعتد بها العقلاء ، فتندرج القسمة حينئذ تحت القسمة الضررية التي لا إجبار فيها.

ودعوى عدم صدق الضرر على فوت الغرض العقلائي مع التساوي في

ص: 67

مقدار المالية. قد ظهر فسادها نقضا بأصل الشركة وحلا بصدق الضرر عليه عرفا.

قال شيخنا الأستاد «رحمه اللّه» : وممن صرح بأن فوت الغرض ضرر على الشريك هو المحقق القمي في جواب سؤاله الفارسي. واللّه العالم.

التقاط [ حكم الأموال المختلفة بين شركاء متعددين ]

إذا كان أموال متعددة بين اثنين بأسباب مختلفة - مثل ما إذا ورثا دارا من أبيهما وحماما من أمهما وتملكا أيضا بعقد بيع أو صلح أو نحو ذلك - فطريق القسمة حينئذ تقسيم كل مال بحياله إن أمكن ، ولو امتنع قسمة كل مال منفردا وانحصر الأمر في قسمة مجموعها بالتعديل بحسب القيمة ، فقد صرح بعض مشايخنا تبعا للمحكي عن الشيخ «رحمه اللّه» بعدم دخول الإجبار على القسمة حينئذ بل عدم شرعية القسمة رأسا الا أن ترجع الى نحو صلح ونحوه ، لأن القسمة حينئذ ترجع إلى معاوضة ما يستحقه أحد الشريكين في أحد العينين بما لصاحبه في الأخر ، فلا وجه للإجبار عليها. بخلاف ما لو كانت الشركة في مجموع الأموال ، فإن القسمة حينئذ ولو بتعديل السهام قيمة افراز لا معاوضة.

ومحصل هذا : ان سبب الشركة في كل منهما إذا كان مغايرا لسببها في الأخر كان هنا شركتان في مالين مشتركين ، ومقتضى كل شركة حصول الإشاعة في موضوعها ، فحق كل منهما في كل من العينين ثابت على وجه الإشاعة في تلك العين ولا يسري شيوعها الى العين الأخرى ، كما في صورة كون سبب الشركة واحدا ، فإذا أريد تقسيم العينين بالتعديل وجعل كل من العينين سهما رجع ذلك الى المعاوضة ، لأن السهمين إذا لم يكن كل منهما على البدل قابلا للاختصاص

ص: 68

بأحد الشركاء بل كان نصف كل منهما مختصا بكل من الشريكين فلا جرم يقع بين النصف من هذه العين وبين النصف من العين الأخرى معاوضة.

وهذا الكلام صحيح إذا لاحظنا كل واحد من العينين بحيالها وجعلناها مالا مغايرا للآخر ، وأما إذا لاحظناهما مالا واحدا ونظرنا الى المجموع المركب منهما نظرا الى أن هذا المجموع أيضا مال آخر مغاير لكل منهما في لحاظ الانفراز لم ترجع القسمة حينئذ إلى تبديل ما يستحقه كل منهما في أحد العينين بما يستحقه الأخر في الأخرى ، لأن مالية مجموع المالين بالنسبة إلى مالكين مثل نسبة ماليته الى كل واحد.

فكما أن ذلك المجموع إذا كان لواحد كان نصفه وثلثه وربعه الى آخر الكسور ملكا على نحو الإشاعة ، فكذلك إذا كان لاثنين يكون كل نصف منه ملكا لكل منهما على سبيل الإشاعة ، بمعنى كونه صادقا على جميع ما يتصور فيه من الانصاف على البدل ولا ينحصر في النصف الملفق من نصف أحد العينين ونصف الأخرى ، بل يكون من مصاديقه كل واحد من العينين إذا كانتا متعادلتين بحسب القيمة. وبهذا الاعتبار يصح فيها القسمة تعديلا ، ويدخل عليها الإجبار أيضا إذا لم يكن اختلاف الأموال مما تتفاوت به الأغراض.

ومما يؤيد ما قلنا أو يدل عليه أنه لم يقل أحد في باب الشركة العقدية أن الأموال المشتركة لا تقسم تعديلا إذا امتنع قسمة كل من الأعيان افرازا مع ان مال التجارة المشتركة يتجدد يوما فيوما بحسب التقليب والتقلبات الحاصلة فيه من بيع وشراء ونحو هما.

ودعوى الفرق بين المال الشركة وبين ما نحن بأن ثمن الشركة مشاع بين الشريكين فيتجدد البيع ولو مع تعدد العقد. بيّن الفساد ، لأن الإشاعة في الثمن لا يوجب ارتفاع التعدد في تلك العقود الواقع كل منها على مبيع خاص

ص: 69

مغاير للجميع في العقد الأخر. مع أن البيع والشراء قد يتحققان مع كون الثمن في ذمة الشريكين ، فلا بد أن يلتزم بعدم جواز قسمة ما يحصل منهما من الأموال بالتعديل.

وكذا يؤيد ما قلنا انقسام مال المضاربة بين العامل ورب المال مع ظهور الربح تعديلا مع حصوله بالأسباب المتعددة ، بل هذا أوضح لعدم الإشاعة في الثمن في المضاربة.

والحاصل ان تعدد الأسباب ليس بمانع عن القسمة تعديلا. نعم لا بد من إحراز كون تلك الأموال الحاصلة بالأسباب المتعددة مالا واحدا ولو بملاحظة مجموعها من حيث المجموع.

فان قيل : ان تعدد الأسباب يوجب عد ما يحصل من كل سبب مالا مستقلا ، فلا تأثير لملاحظة المجموع في جعلها مالا واحدا.

قلنا : تعدد الأسباب بمجرده لا يؤثر ، ولذا لو تملك نصف صبرة من الحنطة بسبب ونصفها الأخر بسبب آخر لم يخرج كون تلك الصبرة عن المال الواحد العرفي ، خصوصا إذا كان المالك واحدا ، فالمناط في جعل أمور متعددة مالا واحدا أو متعددة شي ء آخر ، اما قلة اختلافها جنسا أو وصفا أو غير ذلك.

وعلى أي حال فلا يتفاوت الحال بين حصول الشركة في كل واحد من تلك الأمور بسبب مستقل مختص وبين حصولها في الكل بسبب واحد. فالأظهر في صورة انحصار القسمة في التعديل الإجبار مع عدم توجه الضرر الى بعض ولو بفوت غرضه العقلائي كما مر. واللّه العالم.

ص: 70

التقاط [ ذوا اليد يقسم بينهما المال الذي يدهما عليه ]

إذا سأل الشريكان الحاكم القسمة وكان لهما بينة بالملك قسم بلا خلاف ولا اشكال ، وان لم يكن لهما بينة وكان يدهما عليه ولا منازع فالمشهور أيضا أنه يقسم ، ونقل عن المبسوط أنه لا يقسم وكذا نقل عن الدروس.

ومبنى المسألة على أن قسمة الحاكم حكم منه بالملك أو بمنزلته أو تصرف من التصرفات ، نظير العقد بين رجل وامرأة ، فإنه ليس حكما منه بالزوجية حتى لا يجوز نقضه. والثمرة بين الوجهين لا تكاد تحصى.

ومما ذكرنا يظهر جواز القسمة ، لأنها ليست بحكم بل هي كسائر تصرفاته التي لا تستدعي بعض موازين القضاء بل أمارة من أمارات العمل. واللّه العالم.

التقاط [ المال المشترك الممتنع القسمة ]

إذا امتنع قسمة المال المشترك افرازا وتعديلا ، فهاهنا يتصور القسمة بوجهين آخرين :

( أحدهما ) أن يجعل الأكثر قيمة سهما والأقل سهما. وفائدة القسمة على هذا الوجه خروج الأقل خاصة عن الإشاعة وبقاء الأكثر بين الشريكين أيضا على وجه الإشاعة بحسب ما يبقى من حق آخذ الأقل. فلو كان المال عبدين قيمة أحدهما عشرة وقيمة الأخر عشرون وقسما على أن يكون الأقل سهما والأكثر قيمة سهما بقي الأكثر أيضا مشتركا بينهما ، فيكون حق آخذ الأقل من العبد الذي قيمته عشرون ربعه ، فيشار كان أرباعا.

ص: 71

( والوجه الثاني ) أن يضاف إلى الأقل ما يساوي معه الأكثر في القيمة. وهذا يسمى بقسمة الرد ، وحقيقتها تسالم الشريكين على صيرورة مال خارج عن المشترك لأحدهما خاصة بدلا عن جزء معين كالربع أو السدس ونحو هما من العين المشاعة.

ولذا اتفقت الكلمة على أن قسمة الرد مشتملة على معاوضة ومعادلة وان لم تكن بيعا ، فأحد العوضين لا بد أن يكون ملكا طلقا لأحد الشريكين والأخر جزءا معينا من المشاع ، لا بمعنى كون نفس ذلك الجزء مشاعا بينهما ، لاستحالة كون العوض والمعوض ولو بعضا من شخص واحد ، بل بمعنى كون ذلك الجزء من العين المشاعة.

ولا ريب أن الكسور المفروضة في الأعيان المشاعة تختص بكل واحد من الشركاء ببعض الاعتبارات ، فنصف العين مثلا مشاع بين زيد وعمرو ولكن نصف زيد مختص به وكذلك نصف عمرو ، فالمعوض هو الجزء المختص بأحدهما الذي يساوي الضميمة في المالية. فتدبر.

ولا خلاف ولا إشكال في أن قسمة الرد لا تقبل الإجبار كما ذكرنا سابقا ، وكذا لا إشكال في عدم الإجبار على الوجه الأول ، وهو الذي سمي بما لا يخرج معه المال عن الإشاعة رأسا ، لأن الضرر المترتب على هذا النحو من القسمة آكد من فوات الغرض الذي تقدم عدم الإجبار معه ، فلا بد في صحة كل من الوجهين من التراضي ، فلو اتفقا على الرد وعدلت السهام وأقرع فهل تلزم بنفس القرعة على القول بعدم اعتبار الرضا بعدها في قسمة الافراز أم لا تلزم الا بالرضا بعدها ولو قيل باللزوم في قسمة الافراز؟ ذهب الشيخ والأكثر الى الثاني.

وحاصل ما استدل به الشيخ على مختاره : ان القرعة تفيد في مثل المقام معرفة البائع من المشتري ، فقبل القرعة لا يعلم ، فاذا علم بها فلا بد له وللمشتري

ص: 72

الذي تسالما على اشتغال ذمته بالزيادة في مقابل جزء من العين المشاعة والتراضي بعدها ، لان الرضا السابق ليس رضاء بالمعاوضة ، لعدم تعيين البائع والمشتري ، فالرضا بها ما يكون بعد معرفة دافع الزيادة الذي هو بمنزلة البائع ومعرفة من يخرج من ملكه ذلك الجزء.

وقد يستشكل فيه بأن أدلة القرعة تفيد اللزوم كما مر ، فلا مجال للرضا مع فرض شرعيتها ، ولذا استقرب بعض اللزوم من غير رضاء بعدها.

وفيه : ان لزوم العمل بالقرعة يختلف بحسب اختلاف المقامات ، فان كان مؤداها التعيين أو الافراز ترتب عليها اللزوم من غير رضاء بعدها ، وأما إذا كان مؤداها مجرد التعديل الذي هو مقدمة للقسمة ، فالعمل بمؤداها لا يزيد على الحكم بحصول التعديل بها.

وغرض الشيخ أن القرعة في قسمة الرد مقدمة للتعديل الذي هو مقدمة للقسمة وليست قسمة ، وذلك لان الأقل لا يعادل به الأكثر إلا بعد ضم مقدار من المال يساوي جزء من العين المشاعة اليه ، والمفروض عدم كون الضميمة عينا خارجية بل ولا كل ما في الذمة.

وحيث كانت تلك الذمة مرددة بين أن تكون ذمة هذا الشريك أو ذاك ، لم تصلح لان يكون ما فيها عوضا عن جزء من المشاع ، وكذا لا يصلح ذلك الجزء المردد بين أن يكون من مال هذا أو من مال ذاك معوضا ، لان ما في الذمة إنما يعد مالا إذا تعين محلها وعلم الملتزم بها على سبيل التعيين الظاهري أو الواقعي ، وأما إذا كان الملتزم بها شخصا مخيرا من أحد الشخصين غير معين في الظاهر ولا في الواقع فهذا لا يصلح بدلا لشي ء ، فإذا لم يصلح بدلا لم يفد ضم مثل ذلك الى الأقل التعديل بينه وبين الأكثر.

وبعبارة أخرى : إذا تراضيا بالرد والقرعة فقد تراضيا على استحقاق أحدهما

ص: 73

الغير المعين على الأخر مالا في ذمته في مقابل جزء من المشترك ، وهذا التراضي لا يجعل الأقل مقابلا للأكثر ومعادلا له فعلا.

نعم إذا أقرع وتبين الملتزم بذلك المال الكلي حصل التعديل ، لان هذا المال الكلي في ذمة من خرجت باسمه مضافا الى الأقل يعادل الأكثر ، فإذا حصل التعديل قسم حينئذ بالتراضي ونحوه.

[ الفرق بين قسمة الرد وقسمة الافراز ]

ومن هنا بان الفرق بين قسمة الرد وقسمة الافراز ، لان الافراز لا يتوقف تعديل السهام فيه الى القرعة ، إذ المعادلة بين الأعيان الخارجية أمر حسي غير متوقف على القرعة ، فلا يبقى للقرعة بعد الافراز والتعديل أثر إلا حصول الانفراز ، ومعه يستغنى عن الرضاء المتأخر عملا بظاهر أدلتها. بخلاف القسمة الردية ، فان التعديل فيها أمر غير معقول قبل تعيين دافع الزيادة وأخذ الجزء ، فالقرعة حينئذ لا تفيد سوى ما ذكره الشيخ «رحمه اللّه» من معرفة البائع ، أراد أن معرفة البائع ليس نفس القسمة بل مقدمتها ، فعبد معرفته استعد المال للقسمة لحصول التعديل بملاحظة ضم الأقل مع ما التزمه دافع الرد.

هذا ، أقول : يمكن أن يقال ان كون مفاد القرعة حينئذ هو التعديل دون القسمة لا يستلزم اعتبار الرضا بعدها ، لإمكان القول بأن الرضا بالقرعة رضاء بالتعديل والقسمة معا ، فالشريكان إذا تسالما على الرد وعلى القرعة فقد تسالما على التعديل بموجب القرعة وعلى كونه قسمة وافرازا. وبعد ما استظهرنا اللزوم من أدلة القرعة بعد شرعيتها سقط اعتبار الرضا بعدها.

وأيضا إذا لم يكن مفاد القرعة تميز الحق ولا تعيين المجهول بل مجرد

ص: 74

التعديل توجه المنع عن شرعيتها ، لما تقدم من أن شرعيتها منحصرة في أحد الموضعين.

ثمَّ أن للشيخ استدلالا آخر على المسألة لو تمَّ فإنما يفيد اعتبار الرضا بعدها في قسمة التعديل ، لأنه قال : لما لم يعتبر الرضا في قسمة الإجبار في الابتداء فكذلك في الاستدامة ، وهنا اعتبر التراضي في الابتداء فكذا في الانتهاء كأنه أراد اعتبار الرضا الى آن التصرف ، لأن القسمة بالتراضي قسمة معاطاتية فلا يلزم الا بعد التصرف ، فحيث كانت القسمة قسمة تراض ولو كانت بالتعديل اعتبر فيه الرضا الى زمان التصرف الذي هو زمان اللزوم.

التقاط ( في طور طريف آخر لتحقيق مقالة الأكثر ) [ التعديل المتوقف على الرد ]

وهو أن القسمة مسبوقة بالتعديل ضرورة ، والتعديل فيما يتوقف فيه على الرد انما يحصل صيرورة الرد جزءا من المقسم ، وكونه جزءا من المقسم يتوقف على تسالم الشريكين ، لكونه بدلا عن جزء مشاع في العين وعلى تعيين الملتزم به الذي هو بمنزلة المشتري وتعيين من يخرج عن ملكه العوض - أعني ذلك الجزء المشاع - وعلى اشتغال ذمة الملتزم بذلك الرد فعلا لا تصورا أو فرضا.

فهنا أمور ثلاثة : الأول تسالم الشريكين على المبادلة من غير تعيين باذل الرد الذي هو بمنزلة المشتري وباذل الجزء الذي هو بمنزلة البائع ، والثاني تعيين الباذل ، والثالث صيرورة الرد مستقرا في ذمته ، إذ لو لا الاشتغال الفعلي لم

ص: 75

يكن الأقل معادلا للأكثر ، لأن تعيين الملتزم به من غير تحقق الالتزام فعلا لا يزيد في مالية الأقل حتى يعادل الأكثر.

والأول يجري مجرى المساومة في البيع ، والثاني يجري مجرى تعيين البائع من المشتري ، والثالث يجري مجرى البيع.

مثلا إذا كان المال المشترك عبدين قيمة أحدهما عشرة وقيمة الأخر عشرون فلا بد فيه أولا من تسالم الشريكين على مبادلة جزء من العبد الذي يسوى عشرين بمال ، فلا بد أولا من تقدير ذلك الجزء وتقدير قيمته ، وذلك الجزء في المثال هو ربع ذلك العبد ، لان نصفه يقابل بتمام العبد الأخر ، فيبقى ربعان منه مشتركا بين الشريكين ، فلكل منهما ربع من هذين الربعين وقيمة ذلك خمسة. ثمَّ بعد ذلك لا بد من تعيين من يدفع الخمسة وأخذ ربع شريكه حتى يخلص له تمام العبد الذي قيمته عشرون ، ويتبعه تعيين من يخرج عن ملكه ربعه المشاع في ذلك العبد ويتملك الخمسة وتمام ذلك العبد الأخر. ثمَّ بعد ذلك لا بد من اشتغال ذمة الملتزم بالخمسة بها فعلا حتى تقوم تلك الخمسة مقام الربع الذي يتملكه بدفعها من العبد المشاع ، إذ لو لا ذلك لما حصل التعادل بين العبد الذي قيمته عشرة وبين العبد الذي قيمته عشرون. ثمَّ بعد ذلك لا يحتاج الى التقسيم ثانيا ، لحصوله حينئذ بنفس ذلك التعديل.

إذا تحقق ذلك فنقول : ان التسالم على الرد يحصل به الأمر الأول والقرعة يحصل بها الأمر الثاني ، لأنها حينئذ تفيد معرفة البائع عن المشتري من غير تحقق نقل بعد ، فالتعديل بعد غير حاصل. وأما الأمر الثالث الذي به قوام التعديل - أعني استقرار الرد في ذمة المشتري كما عرفت - فلا بد فيه من التراضي فالتراضي سبب لأمرين التعديل والقسمة معا.

أما سببيته للأول فلان القرعة لم تفد سوى تعيين البائع ، وقد عرفت أن

ص: 76

مجرد التعيين لا يكفي في تحقق التعديل ما لم تشتغل ذمة المشتري بالرد فعلا ، فلا بد في تنجز الاشتغال وتحققه فعلا من شي ء آخر ليس هو الا الرضا المتأخر. وأما سببيته للقسمة إذ لا مفهوم لها في المقام سوى استقرار الرد في ذمة أحد الشريكين معينا بإزاء ما يتملكه من الربع المشاع ، وقد فرضنا حصوله بالرضا.

فان قلت : إذا جوزت حصول التعديل والقسمة معا بشي ء واحد - وهو الرضا المتأخر - فلم لا يجوز حصولهما بنفس القرعة التي تسالما عليه سابقا. أو يقال : أن مجرد التسالم على مبادلة جزء من العبد الذي قيمته عشرون في المثال المزبور بشي ء يكفي في حصول التعديل ، ولا حاجة الى تعيين باذل المردود وباذل الجزء فضلا عن حصول الاشتغال الفعلي بالمردود.

قلنا : القرعة إنما شرعت للتميز لا للنقل ، إذ ليس من الأسباب الناقلة القرعة وقد عرفت أن قسمة الرد ترجع إلى مبادلة مال بمال ، ولهذا لا يجوز استناد أصل القسمة إليها بل إلى التراضي الذي هو مبادلة معاطاتية. مضافا الى ما في الأخيرين من التعسف ، لان التسالم على المبادلة من غير تعيين البائع والمشتري واستقرار ذمة المشتري بالرد فعلا لا يوجب كون العبد الذي قيمته عشرة عديلا للعبد الذي قيمته عشرون.

ومما ذكرنا يظهر أن قياس القرعة في المقام بها في قسمة الافراز والتعديل ليس في محله ، لأن قسمة الافراز والتعديل ليس فيهما مبادلة ، لما مر من أنها عبارة عن صرف إفراز الحق وتعيين المبهم ولو جعلا ، بخلاف قسمة الرد فإنها تشتمل على المعاوضة عرفا وشرعا بلا خلاف وان لم يكن بيعا ، وإذا لم تشتمل القسمة على المعاوضة ولو في نظر العرف لم يكن مانع من حصولها بنفس القرعة ، لأن القرعة تنهض بتعيين الحق وتميزه ولا تنهض بنقل مال بعوض. واللّه العالم.

ص: 77

فرعان [ يتعلقان بأحكام الرد في القسمة ]

( الأول ) ان المردود لا يجب أن يكون معادلا للجزء المشاع في المالية ، بل يجوز للشريكين التسالم على جعل شي ء قليل بدلا عن ذلك الجزء كما هو الشأن في سائر المعاوضات ، لان المتعاوضين لهما على الاقتراح على البيع بغير ثمن المثل أو الصلح عليه أو نحو هما من العقود ، فيجوز في المثال المزبور التسالم على بدلية قران واحد لربع العبد الذي فرضنا قيمته خمسة.

وهل يجري فيه خيار الغبن لو كان أحد الشريكين جاهلا بالحال؟ الظاهر الجريان لو كان مدرك خيار الغبن قاعدة لا ضرر ، ومثله الكلام لو ظهر في المردود عيب.

( الثاني ) قد ظهر أن قسمة الرد مشتملة على معاوضة ولكنها ليست بيعا.

ويتفرع على ذلك أن أحكام المعاوضة المطلقة تجري فيها ، وأما أحكام البيع خلاصة فلا تجري فيها. فالربا يجري في القسمة الردية ، فلا يجوز في المال الربوي جعل الرد زائدا عن الجزء المشاع وزنا. مثلا إذا كان المال المشترك مالين من جنس ربوي لم يكن تقسيمه بالإفراز للضرر ولا بالتعديل لعدم المعادلة ، فإن جعل الرد من غير الذهب مثلا كالفضة فلا اشكال ، وان جعل من جنسه فلا بد من مراعاة مساواته للجزء المشاع المعوض وزنا ، فلا يجوز جعل المردود مثقالين من الذهب إذا كان ما يقابله من الذهب الذي قيمته أكثر أقل من مثقالين كربع المثقال ، كما يتفق كثيرا في المسكوك فإن قيمة الذهب مثلا بملاحظة السكة غير قيمتها بدونها ، فيمكن أن يعادل ربع المثقال من المسكوك الربعين من غيره ولو مع التساوي في الجودة والرداءة فضلا عن صورة الاختلاف فيها.

ص: 78

وأما العرف فلا يجري أحكامه فيها ، فلا يشترط في القسمة الردية التقابض في مجلس القسمة لو كان المال المشترك من جنس النقدين ، وهكذا الى سائر ما يخص البيع من الاحكام. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء الغلط في القسمة وصوره ]

إذا ادعى أحد الشريكين الغلط في القسمة فالمدعى عليه اما قاسم الامام عليه السلام أو أحد الشريكين ، وعلى التقديرين فالكلام تارة في صحة الدعوى وأخرى في توجه اليمين عند عدم البينة.

ثمَّ الغلط في القسمة يتصور على قسمين : أحدهما أن تكون السهام غير متعادلة ، والثاني عدم وصول أحد الشريكين الى تمام نصيبه مع فرض التعادل ، كما إذا كان لأحد أربعة السدس وللآخر سدسان وعدلت السهام أسداسا وقسمت ولكن صاحب الأسداس الأربعة لم يكن وصل الى تمام حقه بل إلى ثلاثة أسداس.

فدعوى الغلط على الأول لعدم معادلة السهام ، وعلى الثاني دعوى لعدم وصول حقه بتمامه إليه. فإن ادعى الغلط على الوجه الثاني فقول المدعى مطابق للأصل ، فهو منكر حقيقة والمدعي صاحبه الذي يدعي وصول تمام الحق إليه. لكن الظاهر خروج دعوى الغلط على هذا الوجه من مفروض كلام الأصحاب.

أقول : بل الظاهر عدم صدق الغلط في القسمة على عدم وصول تمام حق أحد الشريكين اليه ، بل الظاهر عدم كون الشريك حينئذ مدعى عليه ، الا أن يدعي عليه خيانة من السرقة ونحوها ، لان عدم ظفر أحد الشريكين بتمام حقه المفروض ليس مما يوجب شيئا على الشريك الأخر.

ص: 79

وأما الدعوى على الوجه الأول فقد يقال انه مدع ، لأن الأصل في القسمة الصحة. ويشكل ذلك بأن القسمة عبارة عن التميز ، وهو ليس مما ينقسم الى صحيح وفاسد حتى يجري فيه أصل الصحة كما نبهنا عليه في غير مثل المقام غير مرة ، حيث أشرنا الى أن مجرى أصل الصحة كل فعل ينقسم الى صحيح وفاسد لا مطلقا ، مثل الوطي والغصب والأكل والشرب والسرقة والزنا ونحوها من موضوعات الاحكام.

وحينئذ فإجراء أصل الصحة في القسمة اما بملاحظة التقسيم الصوري الذي يتصور فيه الصحة والفساد أو بملاحظة سبب القسمة وهو الفصل ، أو الإنشاء الخارجي القائم بالقاسم الذي يترتب عليه التميز وانفراز الحصص ، لان هذا الفعل باعتبار كونه مؤثرا لإفادة التميز تارة وغير مؤثر أخرى ينقسم الى صحيح وفاسد ، كالنقل وسببه الذي هو صيغة البيع ، فإن الأول لا يجري فيه أصل الصحة لعدم انقسام النقل الواقعي إلى صحيح وفاسد ، بخلاف الثاني وهو سبب النقل - أعني صيغة البيع - فإنه باعتبار تأثيره أثر النقل تارة وعدم التأثير أخرى يتصف بهما ، فيجري فيه أصل الصحة.

وحينئذ نقول : ان كان المدعى عليه الشريك فلا إشكال في توجه الدعوى حينئذ ، لأنه يدعي منه مالا في يده ، كما لا إشكال في توجه اليمين اليه. وانما الكلام في اشتراطها بدعوى أم لا؟ ظاهر إطلاق الأصحاب والأقوى الأخير عند شيخنا « قده » ، لما ذكر من أن الدعوى ان تعلقت بما في يده وان عين ماله في يده فالدعوى بفعل النفس - سواء كان القاسم غيره كقاسم الامام وغيره أو هو - وليس المقام من باب الدعوى على الوارث بفعل أبيه.

وقد تقدم في محله ان الدعوى إذا كانت متعلقة بفعل النفس توجه اليمين

ص: 80

على البت ولو لم يدع العلم بل اعترف بعدم العلم أيضا ، فإن فائدة الاستحلاف حينئذ تظهر في الرد.

فان قلت : ما الفرق بين المقام وبين ما لو ادعى على الوارث عينا من أعيان تركة أبيه وأنه غصبها أبوه ، حيث أن الدعوى هنالك دعوى متعلقة بفعل الغير ، فلا توجب اليمين الا مع دعوى العلم ، بخلاف المقام فإنه دعوى بفعل النفس مع أن حصول مال الشريك في يد شريكه انما صار بسبب فعل الغير الذي هو القاسم مثلا.

قلنا : في الدعوى على الوارث أيضا ترتب عليه اليمين بلا دعوى العلم إذا ادعى العين وأنها ماله من غير تعرض لفعل المورث وغصبه لها. نعم لو تعرض له وقال ان هذه العين قد غصبها مورثيك كانت من الدعوى المتعلقة بفعل الغير.

فان قلت : نفرض المقام مثل ذلك ، بأن يقول أحد الشريكين للآخر ان القاسم قد غلط وجعل شيئا من مالي في يدك باعتبار غلطه في التعديل بين سهمي وسهمك ، فلا بد حينئذ من توقف المساع على دعوى العلم على الشريك.

قلنا : فرق بين القاسم والمورث ، فان القاسم بمنزلة الوكيل في إيصال حقهما إليهما ، فالدعوى المستندة إلى فعل القاسم كالدعوى المستندة إلى فعل الوكيل ، كأن يقول وكيلك في القرض قد استقرض مني.

هذا ، ولا بد في اتضاح الحال من التأمل فيما ذكرنا سابقا ميزان من فعل النفس وميزان فعل الغير.

وان كان المدعى عليه القاسم. فقد يقال بسقوط الدعوى حينئذ كما هو القدر المتيقن من عبارة المحقق في الشرائع ، لأن الدعوى على القاسم كدعوى الخيانة على الحاكم ، لكن فيه ان القاسم قائم مقام الحاكم في نفس التقسيم لا في مقدماته من التعديل.

ص: 81

[ منشأ الغلط في التقسيم ]

توضيحه : ان الغلط في التقسيم قد ينشأ من الخطأ في تعديل السهام وقد ينشأ من الخطأ في تطبيق السهام المعدلة على الموجود الخارجي ، كما إذا عدل المال بأن يكون حقتان من هذه الحنطة مقابل حقة من الأخرى ثمَّ حصل الغلط في الافراز الخارجي ولم تكن الحقة من هذه الحنطة مقدار الحقتين. وربما ينشأ من أشياء أخرى كنقصان الميزان ونحوه ، وقد ينشأ من الغلط في نظر القاسم ، ومن الواضح عدم تصور الخطأ في نظره ، فلا بد من رجوع دعوى الغلط عليه الى دعوى الخطأ في بعض الأمور المشار إليها التي ليس نظر القاسم فيها الا كنظر أهل الخبرة ، فإن نظره القائم مقام نظر الحاكم انما هو نظر في التقسيم الذي لا يتصور فيه الخطأ.

فحينئذ لا بد من التأمل في أن الخطأ في التعديل سبب للضمان لكونه تسبيبا للإتلاف أو مباشرة له أم لا ، وعلى الأول فلا بد من النظر في أن الإمناء هل يتوجه عليهم اليمين أم يصدقون بغير يمين إذا كانوا مدعى عليهم كتصديقهم مع اليمين إذا كانوا مدعين فيما ائتمنوا فيه. فان تمت المسألتان - أعني كون الغلط من أسباب الضمان وتوجه اليمين إلى الأمناء إذا كانوا مدعى عليهم - والا فلا.

ثمَّ لا فرق بين قاسم الامام ومن استأجره الشركاء للتقسيم.

ثمَّ ان القسمة لو كانت بتعديل القيمة وأقام المدعي البينة فيما كان المدعى عليه الشريك كان المقام من تعارض البينات ، بناء على اشتراط العدالة والتعدد في المقوم. واللّه العالم.

ص: 82

التقاط [ ظهور الاستحقاق في المال بعد تقسيمه ]

إذا اقتسم الشريكان مثلا ثمَّ ظهر البعض مستحقا ، فان كان مع أحدهما بطلت القسمة ، ضرورة بقاء استحقاق صاحب المستحق في نصيب شريكه ، وكذا لو كان بينهما لكن لا بالسوية ، بأن يكون حق أحدهما قيمة أكثر لما ذكره ، ان كان بينهما بالسوية لم تبطل لبقاء المعادلة بين ما عداه من السهام بحالها.

هذا إذا كان البعض مستحقا معينا ، وان كان جزءا مشاعا كالثلث فيهما إذا اقتسما المال بينهما نصفين فظهر شريك آخر مثلهما في النصيب. فلا إشكال في البطلان في المستحق ، بمعنى ثبوته في كل من النصيبين على وجه الإشاعة ، وأما فيما زاد عنه فعن الشيخ قولان البطلان وعدمه. والأول أظهر ، لأن الحكم بصحة القسمة حينئذ يستلزم خروج حصة الثالث عن بعض وجوه الإشاعة من غير اذنه ولا اذن من يقوم مقامه ، بخلاف ما لو حكم ببطلان القسمة فإنها باقية على كمال إشاعته.

وانما قلنا ذلك لان مصاديق نصيبه - وهو الثلث في المثال المزبور - على تقدير بطلان القسمة وبقاء المال على إشاعته بين الشركاء الثلث أكثر من مصاديقها على تقدير الحكم بصحة القسمة ، لأن مصاديق ثلثه على هذا التقدير دائرة بين ثلث مجموع النصفين المركب منهما بالسوية ، ولا يجوز تعيينه في أحدهما خاصة ولا فيما يتركب منهما بالاختلاف ، مثل أن يؤخذ من أحدهما أكثر من الأخر ، بخلافها على تقدير بقاء المال على الإشاعة الأولية ، فإنه صالح حينئذ لأن يتعين في ثلث مركب من النصفين وأن يتعين في أحدهما خاصة وفي المركب منهما بالاختلاف وبالسوية.

ص: 83

وبالجملة لا إشكال في أن إشاعة الثلث على تقدير بطلان القسمة مطلقا أوسع دائرة من إشاعته على تقدير الصحة. وتقليل وجوه الإشاعة كاعدامها رأسا يتوقف على اذن صاحب الحق أو اذن من يقوم مقامه ، خصوصا إذا كانت القسمة رد لاشتمالها على المعاوضة حقيقة.

فإن قلت : معنى الإشاعة هو كون كل جزء من أجزاء المال بين الشركاء على ما هو المختار لا كون كل سهم من الشركاء مفهوما ذا مصاديق متعددة قابلا لان يتعين في كل واحد من تلك المصاديق كما هو خيرة بعض مشايخنا « قده ». والإشاعة بهذا المعنى أيضا باقية ولو حكم بصحة التقسيم ، لان كل جزء من أجزاء كل من النصفين يفرض فيه حق للشريك الثالث وهو الثلث ، فليس في الخارج جزء لا يكون ثلثه له حتى ينافي بقاء إشاعة ثلثه على حالها.

وما ذكرت من التفاوت في مصاديق الثلث على تقديري صحة القسمة وفسادها مسلم ، لكنه لا يقدح في الإشاعة بالمعنى المزبور وانما يقدح فيها بمعنى اقتضائه تقليلا في وجوهها على القول بأن حق كل من الشركاء مفهوم كلي كالثلث صالح للتعيين في ضمن مصاديق متعددة ، والمفروض أنه غير مختار.

قلت : الإشاعة بالمعنى الذي اخترنا أيضا لا تبقى على تصوير صحة القسمة بحالها ، إذ من وجوهها على تقدير فسادها صلاحية التعيين في أحد النصفين خاصة أيضا ، فإنه إذا اعتبر جز آن من كل نصف مع جزء من النصف الأخر فأحد الاجزاء على سبيل التخيير حينئذ ملك له ، إذ ليس الإشاعة حينئذ إلا بهذا المعنى.

وما بينا من معنى الإشاعة انما هو في غير هذه الملاحظة ، لأنا ذكرنا أنه إذا فرض قسمة المال الى أجزاء لا تقبل القسمة فالإشاعة ترجع الى كون كل جزء ملكا لكل من الشريكين أو الشركاء على البدل ، وانما يرجع الى الاستحقاق في كل جزء قبل فرض انتهاء القسمة الى أجزاء غير منقسمة ، وحينئذ فإن كانت

ص: 84

القسمة باطلة أمكن تعيين الثلث في أحد النصفين كما يظهر بالتأمل ، بخلاف ما لو قيل بصحتها.

هذا كله إذا قلنا بأن مرادهم ببطلان القسمة بقاء إشاعة مال الثالث على حالتها الأولية في مقابل من يقول بزوال إشاعتها في الجملة ، بمعنى تعيين ذلك المال بأن يكون سدسه في أحد النصفين وسدسه في النصف الأخر. وأما إذا كان المراد ببطلانها بطلانها بالنسبة إلى المتقاسمين مع بقاء مال الثالث على إشاعته التامة فالأقرب الصحة ، لعدم اشتراط القسمة بتميز جميع الحصص جمع فيجوز تميز الحصتين بالتراضي مع بقاء الأخر على إشاعته ، وحينئذ فإن أجاز الثالث التقسيم شارك كلا منهما بالسدس والا بطلت القسمة ، لأنه إذا لم يجز وأخذ تمام حقه أو أكثره من أحد النصيبين فلا جرم يكون صاحبه شريكا للآخر كما هو واضح. واللّه العالم.

التقاط [ صحة الإقالة بقاعدة السلطنة ]

قد ظهر مما مر أن من أدلة مشروعية القسمة على وجه التراضي قاعدة السلطنة ، فإذا تسالما على القسمة قلنا لهما ذلك ، لان « الناس مسلطون على أموالهم ».

وهل يمكن إثبات صحة الإقالة بتلك القاعدة؟ وجهان مبنيان على أن فسخ المتقاسمين واقالتهما هل يرجع الى إبطال أثر السبب الصحيح الواقع فلا يمكن كما في فسخ العقود أو لا يرجع.

إيضاحه : ان قاعدة السلطنة تنهض في مقامين : أحدهما إثبات جواز التصرفات بأسرها التي منها النقل ، وثانيهما إثبات لزوم الملك بعد تحقق النقل.

ص: 85

إذ سلطنة الناقل على انتزاع المنقول من المنقول اليه مناف لسلطنته على ملكه مقتضى عدم سلطنته عليه ، وهذا هو اللزوم.

وأما إبطال أثر العقد الواقع مثلا بالتراضي والتقائل فليس مما يقتضيه قاعدة السلطنة ، وحينئذ فإن كانت القسمة من الأسباب لم يبطل أثر إلا بالتراضي على الفسخ بمقتضى قاعدة السلطنة بل مقتضاها حينئذ اللزوم كما ظهر ، وان كانت من الاحكام ففي اقتضاء القاعدة عود الإشاعة الزائلة بمجرد التسالم على الفسخ أيضا اشكال.

نعم لو استند فيه الى عمومات الإقالة لم يكن بعيدا ، فيما في القواعد من جواز الفسخ بالتراضي مبني على تلك العمومات.

ودعوى عدم شمولها للمقام نظرا الى اختصاصها بالعقود. مدفوعة بأن معنى الإقالة هي الفك والحل وإبطال الأثر - سواء حصل بالعقد أو بالتباني والتعاهد والتراضي من دون عقد - فيجري في كل معاهدة ومراضاة ، بل في الأعم منه أيضا كما في قول الداعي « وأقلني عثرتي ».

نعم هنا كلام آخر ، وهو أن أثر التقسيم ليس على حد آثار العقود في قابلية البطلان والانحلال ولو حكما ، لأن أثر التقسيم صيرورة المال المشاع معينا ، وقد سبق أن المال المشاع مال مبان للمال المعين ، وصيرورة المعين مشاعا لا يندرج تحت الابطال الحكمي المتصور في إبطال أثر العقد.

قلت : يمكن أن يقال : ان ابطال أثر العقد الواقعي الصحيح حقيقة غير معقول ، فمعنى اقالة العقد يرجع الى الإبطال الحكمي الذي هو عبارة عن الالتزام بآثار عدم العقد الواقعي. وهذا نحو من الابطال الحكمي الذي هو عبارة عن الالتزام بآثار عدم العقد الواقعي. وهذا نحو من الابطال الحكمي لا مانع عن ثبوته لأثر التقسيم ، فيرجع التقسيم فيه الى جريان أحكام المال المشاع في المال المفروز المعين. واللّه العالم.

ص: 86

التقاط [ صحة القسمة لو ظهر في الشركة المقسومة دين ]

إذا ظهر في الشركة المقسومة دين فالظاهر بقاء القسمة ، لأن حق الديان متعلق بمالية التركة لا بأعيانها والتقسيم تصرف في الأعيان لا في المالية.

ولا فرق في ذلك بين استيعاب الدين وعدمه ، ولا بين اقامة الورثة بالدين وبين امتناعهم كلا أو بعضا. نعم في صورة كون الممتنع بعض الورثة حجر عن نصيبه خاصة ، فيباع ويقضى منه الدين. وفيه تأمل ، لكن ظاهر الأكثر في صورة امتناع الجميع عن القيام بالدين بطلان القسمة.

وكذا لا فرق بين القول بانتقال التركة إلى الورثة مع تعلق حق الديان بها وبين بقائها على حكم مال الميت.

نعم قد يشكل على الأخير في صحة أصل التقسيم ، لأن الورثة ليسوا بمالكين للتركة فتقسيمهم كتقسيم الأجنبي. لكن فيه ان مجرد حق الأولوية كاف في صحة القسمة.

وقد تقدم سابقا في مسألة انتقال التركة إلى الوارث أن الوارث على القول الأخير أيضا أحق بالتصرفات الغير المفوتة للجهة المالية في التركة من غيرهم ، فهم موجب حقهم يجوز لهم القسمة ، وأما حق الديان فليس بمانع كما ظهر.

فالمقتضي - وهو الحق - موجود ، والمانع - وهو الدين - ليس بصالح للمنع. واللّه العالم.

ص: 87

التقاط [ وجوه ما لو ظهر في التركة وصية ]

ولو ظهر في التركة وصية فهذه على ضروب :

( أحدها ) أن يكون الموصى به عينا معينا كدار معينة ، وحكمه حكم ما لو ظهر عين مستحقة في نصيب أحد الشريكين فتبطل القسمة.

( والثاني ) أن يكون الموصى به جزءا مشاعا كالثلث ، وهذه أيضا كما لو ظهر جزء مشاع مستحقا ، وقد تقدم فيه القولان للشيخ.

( والثالث ) أن يكون مالا كليا كألف دينار أو درهم ، وحكمه حكم الدين المشاع. وقد يقال بالفرق ، لان الدين متعلق بالذمة والوصية متعلق بالعين كحق الزكاة ، فيكون كالجزء المشاع ، والأول أظهر.

( والرابع ) أن يكون عينا كليا من أعيان التركة كعبد من العبيد ، وهذا يكون مثل الصاع في الصبرة. والوجهان السابقان يجيئان هنا أيضا ، الا أن كونه من قبيل الجزء المشاع أظهر. واللّه العالم.

التقاط [ ظهور عيب في المال بعد قسمته ]

لو ظهر في المقسوم عيب ، فعن التحرير أن حكمه حكم العيب في المبيع من الخيار بين الأرش والفسخ ، وكل منهما لا يخلو عن إشكال : أما الأرش فلانه على خلاف القاعدة فيقتصر على مورده ، وأما الثاني فلما ظهر من عدم قابلية القسمة للانفساخ.

نعم الظاهر أن من ظهر في نصيبه العيب لو رضي به كان له ذلك خصوصا

ص: 88

في المثليات ، لان التعديل فيها ليس بملاحظة المالية ، ويكون رضاه حينئذ بمنزلة الإجازة في الفضولي ، فان لم يرض كشف عن فساد القسمة من أصلها. واللّه العالم.

التقاط [ قسمة الوقف للموقوف عليهم ]

يجوز قسمة الوقف عن الطلق بلا اشكال ، وأما قسمة الوقوف بعضها عن بعض فقد منعوا عنه لأجل تعلق حق البطون اللاحقة.

الا أن يقال : انه لا يقضى بفساد القسمة مطلقا حتى في حق البطن الأول ، فليكن مثل الدين ، فالبطن الثاني لهم الإمضاء والرد ، الا أنه ليس بقسمة حقيقة ، ولا دليل على شرعيتها كذلك.

وكيف كان فقد يقال بجواز تقسيم الوقف على بعض الصور ، وهو إذا تعدد الواقف والموقوف عليهم ، كأن وقف زيد حصة من الدار المشاعة بينه وبين عمرو على أولاده ووقف عمرو حصته على أولاده ، فإن جواز القسمة حينئذ - بأن يقسم أولاد زيد وأولاد عمرو تلك الدار بينهم نصفين - ليس بعيدا كل البعد.

الا أن يقال : ان الواقف قد وقف حصته المشاعة بشرط الإشاعة ، فلا يتعدى عن كيفية الوقف الى غيرها.

وفيه : ان مقتضى ذلك عدم جواز قسمة الوقف عن الطلق أيضا ، فإن اعتبار صفة الإشاعة في الوقف يمنع عن قسمته مطلقا ومع عدم اعتبارها يصح مطلقا ، لعدم المانع وعدم منافاته أيضا لحق البطون اللاحقة كمنافاته له في صورة اتحاد الواقف والموقوف عليه.

ص: 89

أقول : ومثل ذلك ما لو وقف شخص واحد نصف داره على أولاد زيد ونصفها الأخر على أولاد عمرو ، كما يظهر بالتأمل.

ونقل عن صاحب الحدائق « قده » القول بصحة قسمة الوقف في هذين الفرضين. واللّه العالم.

التقاط [ قسمة الدين غير جائزة ]

ذكر العلامة وغيره أن قسمة الدين لا يجوز ولو بالتراضي ، فلو قسماه لم يؤثر وكان ما يحصل بينهم وما يتوى عليهما فالتاوي لا يخص بمن رضي به سهما ، كما أن الحاصل لا يخص بمن رضي سهما. وقد نطقت به روايات :

( منها ) خبر عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن رجلين بينهما مال منه دين ومنه عين فاقتسما العين والدين فتوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه وخرج الذي لاخر أيرده على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله (1).

وبمعناها روايات أخرى ، الا أنها أظهر دلالة ولعلها المستند ، والا فالمانع عن تقسيم الدين غير موجود.

وقد يدعى اختصاص القسمة بالأعيان الموجودة لكونها من عوارض الأجسام. وهو مدفوع بأن الملكية أيضا كذلك مع عروضها الدين. والحاصل ان تميز الاملاك على حد ملكيتها ، فكما أن ملكية الدين اعتبار من الاعتبارات الواقعية كذلك قسمتها.

نعم الظاهر أن المتبادر من لفظة « القسمة » القسمة في بادئ الرأي ، وهو انفراز الأعيان الخارجية. لكن دليل صحة قسمة الأموال المشتركة ليس شيئا

ص: 90


1- الوسائل ج 6 ب 6 من كتاب الشركة ح 2.

مشتملا على لفظ « القسمة » من الأدلة اللفظية ، بل بناء العرف على إمضاء الشارع المعلوم من مجموع ما ورد في أبواب الفقه من تقسيم الأموال المشتركة ، ولا ريب في بناء العرف على قسمة الديون.

فلو لا هذه الروايات الرادعة كان القول بالتقسيم قويا وان كان محتملا مع ملاحظتها أيضا ، بناء على قصورها عن الخروج عما تقتضيه القواعد العامة. واللّه العالم.

ص: 91

القول في الدعاوي

التقاط [ حقيقة المنكر والمدعى في الدعاوي ]

لا بد للفقيه من معرفة حقيقة المدعي والمنكر وبيان ضابط مطرد في معرفتهما لا ثبوت الحقيقة الشرعية فيهما كما نسب الى بعض ، ضرورة كونهما من الموضوعات العرفية التي يرجع فيها الى العرف ، بل لان كلا منهما قد يشتبه بالآخر في جملة من الموارد.

ولان المدعي الذي جعل مقابلا للمنكر في الأدلة لا يمكن حمله على المعنى اللغوي ، لأن الدعوى لغة عبارة عن كل اخبار جازم ، فيشمل الإنكار أيضا ، فيبطل المقابلة. يعلم أن المراد به بعض أقسام معناه اللغوي ، كما أن المراد بالمنكر بعض أفراده ، فلا بد من بيان كل من المدعي والمنكر على وجه يطرد ، ثمَّ الرجوع في الموارد المشكوكة الى ما يقتضيه القاعدة ، وهو مطالبة البينة من الخصمين ان كان مطالبتها من المدعي رخصة وإيقاف الدعوى لو كانت عزيمة.

ص: 92

[ اختلاف الكلمات في معنى المدعى ]

وقد عرف المدعي لما ذكرنا بتعريفات : أحدها أن يكون قوله مخالفا للأصل ، والثاني من يدعي خلاف الظاهر ، والثالث من لو ترك ترك. والكلام تارة في كشف معانيها وأخرى في تعيين الصحيح منها ، فنقول :

( أما الأول ) فالمراد بالأصل ليس هو الأصل الاولي - أعني أصالة العدم - بل كل أصل أو أمارة شرعية يكون مرجعا في مقام العمل ، فيشمل نحو أصالة الصحة واليد ونحوهما من الأصول والأمارات الشرعية.

ودعوى أن المراد به خصوص أصالة العدم أو ما يعمه وسائر الأصول العملية كالبراءة والاستصحاب. بمعزل عن الركون إليها ، يفصح عن ذلك ما في رواية منصور بن حازم (1) من الاستدلال على عدم قبول البينة من ذي اليد لكونه مدعيا كما يفصح عنه سائر ما اتفق الكل على كونه مدعيا مع عدم مطابقة قوله لأصل العدم أو للاستصحاب ، مثل مدعي الصحة في العقود ، فإنها قاعدة ثانوية حاكمة أو مخصصة بقاعدة الاستصحاب ، وغير ذلك مما لا يخفى.

والحاصل ان المراد بالأصل هنا القاعدة ، فمحصل التعريف أن الخصمين إذا تنازعا نوظر في أن قول أيهما يوافق القاعدة التي هي المرجع ، سواء كان مخالفا للأصل أم موافقا.

والثمرة تظهر في مورد أصل الصحة واليد ، فان قول مدعي الصحة والملكية وان كان مخالفا لأصل العدم الا أنه موافق للقاعدة الشرعية الثانوية.

وقد يشكل ذلك بما إذا ادعى ذو اليد تلقي الملك من المدعي ، فان المرجع فيه أيضا هو البناء على مقتضى اليد مع قطع النظر عن مقام الخصومة ، بل مع

ص: 93


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 14.

ملاحظته أيضا قبل صدور الحكم مع أنه مدع باعتبار اعترافه بملك المدعى وادعائه انقل.

فلو قيل : ان قوله مخالف لأصالة العدم فهو مدع لا جلها. قيل : ان هذا مبني على تفسير الأصل بالمعنى الأخص والا فلا وجه له.

ومثله ما لو ادعى المديون الإبراء ، فإن القاعدة التي بناء العمل عليها مع قطع النظر عن مقام الخصومة ترتيب آثار البراءة لكونه مدعيا بلا معارض مع أنه مدع.

ويمكن ذب الاشكال عن هذا بأن المراد بالقاعدة ما يعول عليها في العمل قبل صدور الحكم من الحاكم ولو في حال المعارضة. وليس هو في دعوى الإبراء إلا استصحاب الشغل ، لان دعوى الإبراء دعوى مع المعارض.

ويمكن ذب الأول بأن المراد ما يعول عليه الحاكم في حكمه لو لم يكن بينة ، وهو دعوى في اليد التلقي من المدعي الا استصحاب بقاء الملك لانقطاع حكم اليد بذكر السبب ، وهو التلقي من المدعي.

( وأما الثاني ) فالظاهر أن المراد بالظاهر أعم من الأصول الأولية والقواعد الشرعية والظواهر الغير المعتبرة ، مثل دعوى الزوج أو الزوجة تعاقب إسلامهما ، فإنها مطابقة للظاهر دون الأصل. فالنسبة بينهما عموم مطلق ، لأن الأصول والقواعد المعول عليها شرعا كلها ظواهر نوعية.

نعم لو فرض قاعدة تعبدية محضة بحيث لم يكن حكمة التعبد بها إفادتها الظن النوعي كانت النسبة عموما من وجه. الا أنها غير موجودة ، حتى البراءة الأصلية في الموضوعات ، فان الاعتداد بها لأجل كونها أمارة ظنية. ولذا جعل دعوى اشتغال الذمة مورد اجتماع الحدود الثلاثة حتى الأخير.

نعم المراد به هو الظواهر النوعية ، فلا عبرة على هذا التفسير بالظواهر

ص: 94

الشخصية المستندة إلى الأمارات الغير المنضبطة ، مثل كون المدعي رجلا صالحا متقيا ، فان قول منكره وان كان مخالفا للظاهر الا أنه ظاهر مستند إلى أمارة غير منضبطة.

( وأما الثالث ) ففيه نحو إجمال وإشكال ، لأن الترك الذي يترتب على ترك الدعوى غير متضح المقصود. ولا يصح تفسيره بمثل عدم المطالبة والمؤاخذة ونحوها من الاحكام ، للزوم الدور. لان الحكم بترتبها موقوف على معرفة المدعي ، فلو اعتبر في تعريفه - كأن يقال ان المدعي هو الذي لو سكت عن الخصومة لم يطالب بشي ء بخلاف المنكر فإنه يطالب - ولو سكت يلزم الدور كما يظهر بالتأمل.

والظاهر أن مؤدى هذا التعريف اما يرجع الى الأول فيتطابقان ، وذلك لان المراد بأن المدعي من يترك مع سكوته كما في بعض العبارات أو لو ترك كما في آخر أنه يعامل معه بمقتضى القاعدة.

وتسمية ذلك بالترك ليس ببعيد ، لان العمل بمقتضى القاعدة حقيقة ترك للمدعي على حاله ، بخلاف المنكر فإنه لو ترك الخصومة لم يترك ، أي لم يعمل معه بمقتضى القاعدة بل يطالب بالحق الذي ثبوته عليه مخالف للقاعدة.

فإن قلت : معنى « ترك » على ما صرح به غير واحد ويساعده صريح اللفظ أنه لا يتعرض بحاله لا أنه يعامل معه بمقتضى القاعدة.

قلنا : هذا لا ينطبق على صور كثيرة من صور مجاري أصل الصحة ، فإنهما لو تداعيا في صحة العقد وفساده فلا ريب أن كلا منهما يتعرض لصاحبه ، ولو ترك الخصومة فلا بد من إخراج أمثال هذه الصورة عن تحته. وهو بعيد ، لان مدعي الصحة من أوضح مصاديق المنكر عند الأصحاب ، فكيف يعرف المنكر والمدعي بما لا يشتمله.

ص: 95

فان قلت : في الفرض المزبور هما متداعيان ، لان مدعي الصحة مثلا يطالب بالمبيع ومدعي الفساد يطالب بالثمن ، فكل منهما مدع الا أن مدعي الصحة معه حجة شرعية لا أنه منكر فيدفع قوله.

قلنا : هذا اعتراف بأن مدعي الصحة ليس بمنكر عند الأصحاب ، بل هو أيضا مدع لكن مع الحجة الشرعية. وقد عرفت أنه ليس كذلك ، فان مدعي الصحة منكر عندهم ، فلا بد من تطبيق التعريف المذكور عليه ، ولا يمكن ذلك بما فسرنا.

فصار المحصل من التعريف أن من يختلف حاله بالسكوت والمخاصمة هو المدعي ، لأنه الذي يتوقف تغير حاله على دعواه ، ومن لم يختلف حاله بالسكوت وعدم السكوت - يعني عدم توقف تغير حاله على قوله وتكلمه - هو المنكر.

والسر في ذلك أنه لا يكون الإنسان كذلك الا أن يكون قوله مطابقا للدليل الشرعي الذي هو المعول في المسألة من أصل أو غيره ، إذ لو كان قوله مخالفا للدليل الذي هو المرجع في مورد الدعوى اختلف حال سكوته وحال تكلمه ، بمعنى عدم توصله الى مقصوده في إحدى الحالتين وهي حالة السكوت وتوصله الى مقصوده في الأخرى وهي حالة التكلم والدعوى.

[ المدعى في دعوى الإبراء هو المديون ]

ومن هذا البيان يظهر أن المدعي في دعوى الإبراء هو المديون ، لأنه الذي يختلف حاله من حيث الوصول الى المقصود الذي هو التخلص من مطالبة الدائن وعدمه بدعوى الإبراء وعدمها ، وأما الدائن فلا يتفاوت حاله بعد إقرار المديون بالدين بعد أن ينكر الإبراء أو يسكت فإنه يتوصل الى مقصوده في الصورتين.

ص: 96

ومثله الكلام فيما لو ادعى ذو اليد انتقال الملك اليه من المدعي الأول ، فإنه الذي لو ترك أي سكت ترك أي يخلى على حاله التي كان عليها بدون التكلم ، وهو وجوب تسليم المال ، لأنه بإقراره مأخوذ بالملك ولا خلاص له الا بعد دعواه الانتقال ، وحينئذ فالتعريف الأول والثالث يتطابقان ، فيبقى الكلام في ترجيح التعريف الأول أو الثاني لكونه أخص من الثاني كما ظهر.

لا يقال : ظاهر تقابل التعريف الأول والثالث في كلمات العلماء يقضي بتغايرهما مصداقا ، فكيف يتساويان؟

لأنا نقول : ذلك الظهور ممنوع ، ولذلك اختلفوا في تعريف الواجب بين من عرفه بما يستحق تاركه العقاب وبين من فسره بما يستحق تارك كه الذم ومن فسره بما كان فعله مطلوبا وتركه مبغوضا على الاتفاق ، على أن الواجب شي ء واحد ، فاختلاف التعاريف قد يكون باعتبار اختلاف العرفين في الحقيقة العرفية بالعموم والخصوص ، وقد يكون باعتبار الاختلاف في صحة الحد وسقمه من حيث اختلال طرده وعكسه بالنسبة الى ما اتفقوا عليه من حقيقة العرف.

وأما ما ربما يتوقف من تعريف المدعي بما يرجع الى الجمع بين التعريف الأول والثاني فشطط من الوهم ، لان مقتضى الجمع بينهما عدم صدق المدعي الا بعد مخالفة قوله للأصل بالمعنى الأخص أو الأعم الشامل للقاعدة والظاهر الغير المعتبر معا ، فيخرج أكثر أفراد المدعي ، لان المدعي قلما يتفق مخالفة قوله لظاهر غير معتبر زيادة على الأصل أو القاعدة الشرعيين.

فحينئذ نقول : ان التعريف الأول أظهر ، لأن الظاهر من الأدلة والمستفاد منها أن المدعي الذي يطالب بالبينة من يقوى جانبه بمطابقة قوله لدليل شرعي.

ولعل هذا أيضا موافق للمدعي العرفي حيثما يطلق في مقابل المنكر ، لان المدعى في العرف من كان يدعى على خلاف القاعدة ، وصدق المدعي عرفا على من

ص: 97

يخالف قوله لظاهر نوعي غير معتبر انما هو أيضا لأجل كون متابعة الظواهر النوعية أمرا معهودا بين العرف وكون المدعي خلافها مدعيا بخلاف القاعدة ، فلم يختلف الشرع والعرف في المدعي الذي عليه البينة مثلا وانما يختلفان في المصداق ، حيث أن مخالفة الظاهر مطلقا ليس في نظر الشارع مخالفة للقاعدة بخلافها في نظر العرف.

وهذا نظير اختلاف الشرع والعرف في مصاديق البيع مثلا بعد الاتفاق في مفهومه وأنه النقل.

ومما يؤيد ما ذكرنا أو يدل عليه تعليل سقوط البينة عن المنكر في بعض الاخبار المتقدمة بأنه جاحد والجاحد لا يستطيع على إقامة البينة. وجه التأييد أو الدلالة أنه بمقتضى التعليل يدل على أن كل جاحد منكر ، ولا ريب أن مدعي خلاف الظواهر يصدق عليه الجاحد فيكون منكرا.

لا يقال : مقتضى التعليل أن كل منكر جاحد ، فيخرج ذو اليد ونحوه ممن يطابق قوله الظواهر الشرعية عن كونه منكرا.

لأنا نقول : هذا مشترك الورود على التعريفين ، إذ التعريف الثاني مقتضاه أن يكون ذو اليد منكرا لا أنه موافق للظاهر ، وانما الخلاف في الظاهر الغير الشرعي ، وقضية التعليل المزبور كون مخالفه منكرا. وهذا القدر هو المقصود في مقام ترجيح التعريف الأول على الثاني. فافهم واللّه العالم.

التقاط [ ما يشترط في سماع دعوى المدعى ]

يشترط في سماع الدعوى شروط يرجع بعضها الى نفس الدعوى وبعضها الى المدعى به. ومما يرجع الى نفس الدعوى كونها لازمة ، بأن يترتب على

ص: 98

المدعى عليه بعد ثبوت الدعوى شي ء قابل للإلزام ، فلو لم تكن لازمة لم تسمع ، وهو واضح.

ويتفرع على ذلك أن دعوى البيع الفضولي على المالك غير مسموع ، لعدم إيجابه شيئا على المالك. وكذا دعوى الإيجاب بلا قبول ، لأن الإيجاب بنفسه غير مفيد للنقل ، بخلاف دعوى القبول فإنه جزء أخير للناقل.

وربما يتوهم سماع دعوى الفضولي والإيجاب مثلا حملا لهما على الفرد الصحيح منهما ، أعني المقرون بالإجازة والقبول. وهذا الحسبان فاسد ، لأن صحة كل شي ء بحسبه ، فصحة الإيجاب كونه بحيث إذا تعقبه القبول الأثر في النقل وصحة بيع الفضولي كونه بحيث إذا تعقبه الإجازة أفاد النقل. والصحة بهذا المعنى لا ينفع ثبوتها في الدعوى بالمعنى الأخر ، أعني كونهما مؤثرين في النقل الفعلي لا يعقبه أصل الصحة.

وأزيد من هذا البيان يطالب من غير هذا الموضع.

قال في محكي الدروس : ولا يسمع دعوى البيع من دون قوله « ويلزمك تسليمه » لجواز الفسخ.

وفيه نظر ، لأصالة عدم طرو الفسخ فيحكم بترتب المقتضي على المقتضي ، ولذا لا يتوقف في سماع الدعوى المتعلقة بالمقتضيات في سائر أبواب الفقه.

أقول : يمكن ان دعاوي المقتضيات إذا كانت في حال تسالم الخصمين على عدم طرو المفسد وتمحض اختلافهما في أصل وجود المقتضي سمعت الدعوى بدون دعوى عدم المزيل. وإلا ففيه اشكال ، لما ذكرنا من أن المدعى به لا بد أن يكون أمرا لازما ، والمقتضيات ليست أمورا لازمة مع قطع النظر عن وجود الموانع. فافهم واللّه العالم.

ص: 99

التقاط [ كيفية ثبوت حق المدعى ]

المدعى به قد يكون مالا أو في حكمه ، وقد يكون شيئا ينتفع به المدعي وليس بمال. وذلك كدعوى فسق الشهود فإنه ليس بمال ولكن مما ينتفع به المدعي لكونه سببا لدفع الإلزام ، وكذلك دعوى فسق الحاكم فان الترتب عليه انما هو رفع الإلزام خاصة.

ولا تعرض في هاتين الدعويين للحق الواقعي الذي حكم به الحاكم نفيا أو إثباتا ، لإمكان ثبوت حق المدعي مع فسق الشاهدين أو الحاكم. وبالجملة الميزان والمدار في هذا القسم من الدعوى كون المدعى به فساد ميزان من موازين القضاء من غير التعريض للواقع نفيا أو إثباتا.

ومن هنا يظهر أن دعوى كذب الشهود أو جور الحاكم بأن يكون قد حكم مع علمه بفسق الشهود. ليس من هذا القبيل ، فلان البينة على تقدير كونها ضامنة لما ذهب من المدعى عليه من المال فدعوى كذب الشهود أو جور الحاكم مسموعة بلا اشكال. نعم يمكن أن يستند في عدم سماعها الى ما أشار إليه المحقق من إيثاره ظاهر الفساد.

وكيف كان فالكلام فيما لم يكن الدعوى منه متعلقة بمال واقعي أو سبب كالإتلاف ، مثل إتلاف الحاكم بجوره أو إتلاف الشهود بكذبهم. وهل الإقرار من أيهما؟ فيه تفصيل ، لأن الإقرار له جهة كشف وجهة إلزام ، فإن كان دعوى الإقرار باعتبار الجهة الأولى خرجت أيضا عن موضوع مسألتنا ، لأن دعوى الإقرار من هذه الجهة دعوى للرافع ، فالمدعي إذا قال « لي عليك كذا وأنت تعلم به وأقررت به » فهو خارج عن المسألة. وان كانت باعتبار الجهة الثانية

ص: 100

- كأن يقول المدعي « أنا لا ادعي عليك مالا واقعيا وانما ادعي عليك الإقرار به » - فهو داخل في محل النزاع ، لأن الإقرار في حد ليس من المال ولا من أسبابه. نعم ينتفع به المدعي بعد إثبات الإقرار كما ينتفع بفسق الشهود.

ومن هذا القبيل أيضا دعوى المدعي بأن المدعى عليه ليس أحلفه مرة ، أو دعوى المدعى عليه طي هذه الدعوى بعض الوجوه عند حاكم من الحكام ، فإنهما من قبيل دعوى فسق الشهود ، الا أن المقصود فيهما إسقاط الحق وفيه عدم توجه الإلزام بالحق.

إذا تحقق ذلك فان كان للمدعي بينة على ما يدعي من فسق الشهود ونحوه ، فلا كلام في سماع الدعوى حينئذ لعموم حجية البينة ، من غير حاجة الى التمسك بما ورد من موازين القضاء التي منها البينة (1) ، فلو قلنا بعدم شمولها لغير الحقوق لم يكن إشكال في سماع البينة أيضا نظرا الى حجيتها في جميع الموضوعات.

وان لم يكن له بينة ففي سماع الدعوى في هذا القسم من الدعاوي وجهان أو قولان : من عموم أدلة القضاء ، ومن دعوى أن المتبادر من الحق أو الحقوق التي ذكرت في بعض تلك الأدلة الحق المالي الواقعي ، فيستدل حينئذ من رواية استخراج الحقوق بأربعة بعد ورودها في مقام إعطاء الميزان في الدعاوي المسموعة على عدم سماع دعوى غير الحق وعدم استخراجها بالأربعة. (2)

فإن قلت : من جملة الأربعة البينة وأنت لا تقول باختصاصها بالحق.

قلنا : نقول بالاختصاص من حيث كونه ميزانا للقضاء ، ونقول أيضا بحجيتها من حيث حجيتها في سائر الموضوعات - فافهم.

ص: 101


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 7 من أبواب كيفية الحكم ح 4.

فان قلت : ليس من تلك الأربعة يمين المنكر بل اليمين المردودة ، والكلام في الأول دون الثاني.

قلنا : ان قلنا ان يمين المنكر والمردودة متلازمان ولا يتفارقان كما هو احتمال في المسألة على ما سبق مشروحا فلا اشكال ، وان جوز التفكيك وقلنا بأنه يمكن أن يكون المقام قابلا لا حلاف المنكر وغير قابل لليمين المردودة ، كما في صور كون المدعي غير المالك من ولي أو وصي أو وكيل نقول : ان يمين المنكر وان لم تكن من تلك الأربعة الا أنها مذكورة في الرواية مقدمة لليمين المردودة.

وبعد دعوى ان المنساق منها اختصاص الأربعة بالحقوق ، وان دعوى اختصاص غيرها مما ذكر فيها من الموازين به أيضا ، فيصير حاصل الدعويين أن الرواية ظاهرة في أن غير الحقوق المالية لا يجرى فيه شي ء من موازين القضاء - فافهم.

ومما ذكرنا ظهر الحال في الإقرار ، الا أن السماع فيه أقوى لأن الإقرار وان لم يكن سبا للحق الواقعي الا أنه سبب للحق الظاهر ، الا أن يدعي أن المتبادر من الحق الواقعي ، وفيه إشكال أو منع.

[ الدعوى على الحاضر أو الغائب ]

بقي شي ء ، وهو أن دعوى فسق الشهود لا بد أن يكون من محل كان المدعى عليه له حجة ، ففي الدعوى على الحاضر لا بد أن تكون قبل الحكم وفي الدعوى على الغائب بعده.

وربما يدعى أن إطلاق كلام المحقق وغيره في سماع الدعوى بعد الحكم يعم الحاضر مطلقا والغائب.

ص: 102

ويمكن منعه بأن الكلام مسوق للتعميم من حيث الحضور والغيبة لا لإطلاق الحكم في جميع صور الحكم على الحاضر ، فكأن المراد أنه لا فرق بين كون الدعوى قبل الحكم وبعده إذا كان المدعى عليه باقيا على حجته بعد الحكم لا مطلقا. واللّه العالم.

ص: 103

القول في الوصول إلى الحق

التقاط [ انتزاع العين المتنازع فيها من المدعى عليه ]

من كان دعواه عينا في يد إنسان فله انتزاعها ولو قهرا بمساعدة ظالم ما لم يثر فتنة كما في الشرائع وغيره. والمراد بالفتنة ما يعم تلف المال والنفس ، فيندرج فيه كلما يصدق عليه الفتنة ولو كانت مثل التشاتم والتعارك.

ومن هنا يظهر أن المراد بالإنسان في هذه العبارة هو المنكر ، إذ لو كان مقرا كالسارق وقطاع الطريق جاز استنقاذ العين من يده ولو آثار فتنة مطلقا أو ما لم ينجر الى قتل النفس.

وفي كلام المحقق دلالة على ذلك ، أي على أن الكلام فيما إذا كان صاحب اليد منكرا ، حيث ذكره في مسائل الدعوى وعبر عنه بمن كان دعواه عينا في يد إنسان.

وكذا عبارة القواعد حيث قال : ولو قدر المدعي على انتزاع عينه من

ص: 104

يد خصمه فله ذلك. لان التعبير بالمدعي يدل على فرضه المسألة في صورة إنكار ذي اليد حتى يكون من مسائل الدعوى.

وبالجملة توضيح القول في المقام هو أن من يجد عين ماله في يد غيره ، فان كان ذلك مقام الدعوى والمرافعة - بأن كان ذو اليد منكرا - فالحكم فيه كما ذكره الأصحاب من اشتراط جواز الانتزاع بعدم إثارة الفتنة مطلقا صغيرة أو كبيرة ، لأن عدم سلطنة المدعي ظاهرا على المنكر يمنع عن تجويز الشارع للانتزاع القهري المورث للفتنة ، لان فساده من جزئيات فساد ترك الناس على حالهم وعدم نصب الرئيس لهم في طي مخاصماتهم.

وهل للمدعي الاستقلال مع عدم الفتنة إذا توقف على ضرر وضرار كتخريق الثوب وكسر القفل وهدم الباب ونحوه. ظاهر المحكي عن الإرشاد العدم ، لأنه وضع مكان الفتنة الضرر. لكن في مفتاح الكرامة الجواز ، وربما يظهر من محكي مجمع البرهان.

وفيه نظر لقاعدة نفي الضرر. ولا يعارضه قاعدة السلطنة ، لإمكان توصله إلى الحق بالرجوع الى الحاكم. وبالجملة مع عدم توقف التوصل إلى الحق على الإضرار يشكل جوازه بل الظاهر العدم.

ولا دلالة لقوله عليه السلام « ليّ الواجد يحل عقوبته » (1) على الجواز : أما أولا فلعدم صدق اللي مع إنكار المدعى عليه مع اعتقاده حقيته ، وأما ثانيا فلا مكان منع دلالته على تعيين المعاقب - بالكسر - بل انما يدل على تعيين المعاقب ، فمن الجائز أن يكون المعاقب هو الحاكم.

ص: 105


1- بحار 103 / 146 باب المطل في الدين 5. واللى : المطل ، يقال لواه غريمه بدينه يلويه ليا ، وأصله لويا فأدغمت الواو في الياء. وذكر الحديث أيضا ابن الأثير في النهاية 4 / 75.

نعم مع انحصار التوصل إلى الحق في الإضرار يجوز ، لقاعدة السلطنة مع سلامتها عن معارضة « لا ضرر » ، لأنها معارضة بمثله ، لان عزل الإنسان عن ماله ضرر عليه وان كان ذلك في غير مقام الدعوى ، كما إذا كان ذو اليد معترفا بظلمه كاللص وقطاع الطريق وسائر أقسام الظلم ، جاز لصاحب العين استنقاذ الحق ولو انجر الأمر إلى المعاركة والمقاتلة بشروط مذكورة في مسألة الدفاع ، منها احتمال التوصل أو ظنه كما صرح به الأصحاب في تلك المسألة.

الا أن يقال : ان إطلاق كلامهم منزل على الغالب ، وهو عدم إمكان استنقاذ الحق من السارق والذاهب مثلا بالمراجعة إلى الحاكم. وفيه تأمل أو منع.

ويدل عليه أيضا قوله « ليّ الواجد يحل عقوبته وعرضه » وقوله « مطل الغني ظلم » (1) بالفحوى ، فإنهما وان وردا في الدين الا أن المتمرد عن رد عين المال أولى بإيجاب العقوبة من المتمرد عن إيفاء الدين.

نعم مع أدائه إلى القتل خاصة قد يمنع عنه ، لان المال لا يقابل به النفس في كلام مذكور في محله.

فهذه المسألة غير متناولة لصورة الاعتراف التي يجوز فيها الانتزاع ولو مع الفتنة. والعجب أن بعض مشايخنا قدس سره زعم اختصاص المسألة بصورة الاعتراف حيث قيد الإنسان بالمتمرد المعلوم الحال. وهذا بمكان من البعد عما رأينا من عدم شمول المسألة لصورة الاعتراف فضلا عن الاختصاص به. واللّه العالم.

ص: 106


1- بحار 103 / 146 باب المطل في الدين ح 3.

التقاط [ الوجوه فيما لو كان الحق في الدعوى دينا ]

لو كان الحق دينا فاما أن يكون المدعي مقرا باذلا أو مقرا ممتنعا أو جاحدا :

فان كان الأول لم يستقل المدعي باستيفائه من دون المدعى مع إمكان تعيينه أو من دون الحاكم مع تعذر تعيينه لمرض ونحوه ، لان له ولاية في التعيين وجهاته. وهذا لا اشكال فيه.

ثمَّ ان البذل لو كان بينه وبين آن المطالبة مقارنة حقيقية عرفية فلا كلام ، والا - كما إذا قال ابذل غدا أو بعد ساعة - ففي إلحاقه بالباذل أو بالممتنع في ذلك الزمان وجهان.

والأظهر هو التفصيل ، فان المدعي ان كان له غرض عقلائي في ظرف ذلك الزمان الذي لا يبذل الا بعده ألحق بالامتناع ، لأن التأخير موجب لفوت غرض عقلائي. والا ألحق بالباذل ، لعدم ترتب ضرر على المدعي ولا فوت غرض بالصبر في ذلك الزمان القليل أو الكثير مثلا.

وقد يقال : ان المدار في صدق الامتناع أو البذل هو التأخير على وجه يخل بالفور العرفي وعدمه ، فان كان البذل بعد فوت الفور العرفي جرى عليه حكم الامتناع والا جرى عليه حكم الباذل.

وان كان ممتنعا في استقلال صاحب الحق أو استقلال الحاكم دونه. وجهان بل قولان ، مقتضى الأصل الأول ، لأن الولاية على مال الغير أمر على خلاف الأصل ، فيقتصر على القدر المتيقن الذي هو ولاية الحاكم.

ولا يعارضه أصالة عدم وجوب الرجوع الى الحاكم ، لعدم كونه حكما تكليفيا يدفع بالأصل بل هو وجوب شرطي للتوصل إلى الحق.

ص: 107

لكن قد يقال بإطلاق ما ورد في الباب من جواز الاستقلال باستيفاء الدين من باب التقاص ، لأن قضية إطلاقها عدم شرطية اذن الحاكم.

ويمكن الخدشة في هذا الإطلاق بورودها مورد الغالب في زمان صدور الروايات ، ومن عدم إمكان الاستيذان من الحاكم ، لان سلاطين العدل ومنصوبيه لم يكونوا مستطيعين على التصدي لو ظائف الحكومة.

وقد يقال : بأن مدلول الروايات هو الاذن لا بيان الحكم الشرعي. وهو ضعيف. وعلى فرض عدم التنزيل على الغالب يمكن دعوى إهمالها من هذه الجهة. نعم مقتضى قوله صلى اللّه عليه وآله « لي الواجد يحل عقوبته وعرضه » جواز الاستقلال ، الا أن يدعى إهماله من جهة تعيين المعاقب.

هذا إذا كان مقرا ، ولو كان جاحدا فهو ممتنع.

وقد يفرض كونه باذلا أيضا ، كما إذا قال مع جحوده « خذ ما تدعي ان كنت محقا » وفيه تعسف.

وكيف كان فاما أن يكون للمدعي بينة أم لا ، وعلى التقديرين جاز له الاستقلال باستيفاء الدين من مال الجاحد تقاصا ، وربما منع عن الاستقلال مع البينة. وهو موافق للأصل المشار اليه محجوج عليه بإطلاق الاخبار.

ولا فرق في ذلك بين التقاص من جنس الدين أو من غير الجنس ولا بين البيع وتملكه من غير البيع ، لا طلاق الاخبار ، وان كان لبعض خلاف في بعض هذه المقامات.

والأظهر أيضا الجواز مع الاستيمان على كراهة ، جمعا بين الاخبار المانعة في خصوص الودعي والمجوزة عموما وخصوصا. واللّه العالم.

ص: 108

التقاط [ تلف العين قبل بيعها للاقتصاص ]

لو تلفت العين التي يريد أن يبيعها ويقتص من ثمنها قبل تحقق القصاص من غير تعد وتفريط ، ففي الضمان قولان :

( يدل على عدم الضمان ) قوله « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ » (1) ، وهو الذي تستند إليه قاعدة ارتفاع الضمان في الأمانات الشرعية. ووجهه على ما سبق في باب الغصب أن المراد بالإحسان - على ما صرح به في محكي تمهيد القواعد - هو عدم الحرج الشرعي ، فالحسن ما لا حرج في فعله شرعا ، وقد يطلق ويراد به ما يمدح بفعله.

ولكن المراد في المقام هو الأول ، لأنه اقتصار على صرف معناه الأصلي ، لأن الذي لا قبح في فعله ولا حرج حسن لغة وعرفا ، إذ الحسن مقابل القبح.

ومن الواضح أن وضع اليد على مال الغير إذا كان بإذن الشارع - كما في مقام التقاص - كان من الإحسان النافي للسبيل.

نعم لا بد أن يكون الفعل الذي يراد نفي السبيل هو الفعل الذي يكون حسنا مأذونا فيه ، وأما لو كان السبيل مترتبا على فعل آخر يلازم ذلك الفعل الحسن ، ففي نفيه اشكال بل منع.

ومن هنا يشكل في نفي الضمان في إتلافات الطبيب بالمعالجة ، لأن المأذون فيه هو العلاج دون الإتلاف الذي حصل من علاجه.

وبالجملة إذا كان سبب السبيل كاليد والإتلاف ونحوهما بنفسه مأذونا فيه

ص: 109


1- سورة التوبة : 91.

فهو منفي بقاعدة الإحسان ، وأما إذا كان المأذون فيه أمرا ملزوما لذلك السبب فالسبيل باق.

ولا فرق في السبب المأذون بين أن يكون مقدمة أو ذي المقدمة ، فمقدمات التقاص المأذون فيه أيضا مما لا يترتب عليه ضمان على هذا التقدير ، فوضع اليد على مال الغير ارادة للتقاص ليست يد رضائه سواء كان المال بقدر حقه أو أزيد إذا توقف التقاص عليه ، فمقتضى القاعدة عدم الضمان في الزائد أيضا. فما عن العلامة من الفرق بين الزائد وبين غيره كما يأتي ليس بواضح.

( ويدل على الثاني ) أن قاعدة الإحسان مختصة بما إذا لم يكن فعل المحسن لأجل مصلحة نفسه.

ومن هنا يعللون الضمان في كثير من الصور المأذون فيها بأن المأذون إنما قبض لمصلحة نفسه ، يريدون به الإشارة الى أن الاذن الشرعي انما يؤثر في عدم الضمان إذا كان فعل المأذون محض الإحسان من غير أن يكون غرضه مصلحة نفسه ، كما في الالتقاط ونحوه من الأمانات الشرعية. وأما إذا لم يكن كذلك فقاعدة الإحسان لا تنفي الضمان ، وحينئذ فقبض المقاص قبض لمصلحة نفسه يترتب عليه الضمان وان كان مأذونا فيه.

وعلى القولين لا فرق بين مقدار الزائد إذا كان المأخوذ أكثر من المال الذي يريد مقاصته.

ونقل عن العلامة في التحرير التفصيل ، فحكم بالضمان فيما قابل دون الزيادة. وهو فيما بعد البيع جيد ، لأن الزيادة بعد استيفاء الحق تكون أمانة شرعية في يد المقاص ، من غير أن يكون يده عليه لمصلحة نفسه بل لصرف مصلحة المقاص منه ، وأما قبله فقد عرفت أن حالها حال ما قابل.

وقد يقال : ان وضع اليد فيما قابل وضع لمصلحة نفسه فيضمن ، بخلاف

ص: 110

الزيادة فإن وضع اليد عليها ليس لمصلحة نفسه ، لان الفرض وفاء غيره بحقه ، فيكون وضع اليد عليه إحسانا محضا لكونه مأذونا فيه ولو مقدمة.

وفيه : ان قضية المقدمية أن يكون وضع اليد على الزيادة كوضع اليد على مقدار ما قابل في كونها لمصلحة نفس القابض ، فالفرق غير واضح. وأولى بالضمان ما لو لم يتوقف التقاص على الاقتصاص مما يشمل الزيادة ، فإن وضع اليد على مال الغير لا يجوز إلا مقدمة للاقتصاص. والمقدمة مع تعددها لا ينسحب حكمها إلى المقدمة الغير الجائزة.

ومنه يظهر عدم جواز هدم الحائط وكسر القفل ونحو هما من الإحراز إذا لم يتوقف الاقتصاص عليها.

هذا كله في الدين ، وأما العين فالظاهر على ما ينطق به بعض أخبار الباب كخبر علي بن سليمان وخبر داود بن زربي فتأمل الجواز ، وفاقا لغير واحد منهم العلامة في باب اللقطة في المدرس المبدل.

وهل يكون المأخوذ بدلا للحيلولة أو بدلا للعين؟ وجهان. يدل بعض ما ورد في الدين على الثاني ، لاشتمال الدعاء المأثور للمقاص فيه على أن المأخوذ مكان مال المقاص ، إذ الظاهر عدم الفرق بين الدين والعين من هذه الجهة ، والثمرة بينهما غير خفية ، وقد سبق بعضها في باب الغصب. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء مال لم يكن لأحد عليه يد ]

من ادعى مالا يد لا حد عليه قضي له به من دون بينة كما في الشرائع. ثمَّ قال : ومن بابه كيس بين جماعة فيسألون هل هو لكم فيقولون لا ويقول واحد هو لي فإنه يقضى به لمن ادعاه.

ص: 111

والغرض من جعل مسألة الكيس من باب المسألة الإشارة إلى مدركها ، إذ الأصل في المسألة رواية منصور بن حازم عن الصادق عليه السلام : عشرة كانوا جلوسا ووسطه كيس فيه ألف درهم ، فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس ، فقالوا كلهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي. قال عليه السلام : هو للذي ادعاه (1).

وقد تعنون المسألة بالدعوى بلا معارض ، ويجعل « اليد » في عبارة المحقق وغيره كناية عن المدعي ، لان الدعوى على ذي اليد من شأنها معارضتها بالعدم.

والرواية منطبقة على الثاني ، لأن الكيس كان تحت يد عشرة جميعا ، بمعنى كونهم جميعا بمنزلة يد واحدة.

وفي مثله إذا نفى أحدهم عن نفسه المال زال حكم يده وينحصر في الباقي ، فإذا انحصر في الواحد يكون هو صاحب اليد. فخرجت مسألة الكيس عما عنون به المحقق من كون المدعى به مالا يد لأحد عليه فكيف يجعله من بابه.

ودعوى أن الحكم في الرواية مستند الى كونه دعوى بلا معارض لا الى يد المدعي واهية ، لأن الحكم في الرواية إذا كان على وفق القاعدة المعروفة المعهودة - أعني حجية قول ذي اليد - فصرفه إلى قاعدة أخرى جديدة غير معهودة من الأباطيل الواضحة ، وينبغي أن يصرح بأن المراد بالدعوى دعوى تكون على خلاف الأصل ، فإن ثمرة التصديق تظهر هنا لا فيما يطابق الأصل.

[ ما المراد من اليد على المال ]

وكيف كان فعلى المسألة حجب لا بد من كشفها ، لان المراد باليد هل هو الفعلي أو ما يعم اليد السابقة ، فلو ادعى مالا كان في يد أحد قبل الدعوى هل يصدق المدعى أم لا؟ وكذا المراد بالمعارض هل هو المعارض الشأني أو

ص: 112


1- الوسائل ج 18 ب 17 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

أو الفعلي خاصة؟ فعلى الأول لا يصدق المدعي الا مع فرض عدم صلاحية دعواه للمعارضة أصلا ، وعلى الثاني يصدق بمجرد سلامة الدعوى عن المعارضة الفعلية. حتى أن الزوجة مثلا لو ادعت أنها مطلقة غير مدخولة في الساعة السابقة جاز تزويجها.

وكل منهما أشكل من الأخر ، لأن الاقتصار في سماع الدعوى بلا معارض على دعوى غير صالحة للمعارضة مطلقا يوجب سقوط القاعدة عن الفائدة ، لأن مثل هذه الدعوى ممتنعة عقلا أو عادة. وجعل المدار على المعارضة الفعلية وعدمها ، يتفرع عليه ما يقضي الضرورة بخلافه فضلا عن الإجماع مثل الفرع المشار اليه.

[ دعوى الأموال وغير الأموال ]

وتنقيح المسألة يحصل برسم مقامين : الأول في دعوى الأموال ، والثاني في غيرها كدعوى الطلاق والوكالة ونحو هما.

( أما الأول ) فالكلام فيه تارة في اعتبار فعل المسلم وتصرفه مع عدم المعارض ، وأخرى في حجية قوله وادعائه.

أما الفعل والتصرف ، حيث لا معارض لهما - مثل أن يضع إنسان يده على مال مطروح أو يتصدى لبيعه أو نحو ذلك من التصرفات - فالظاهر وجوب حمله على الصحة تكليفا ووضعا ، فيجوز الشراء ممن يتصدى لبيع المطروح.

والدليل عليه القاعدة المسلمة في الجملة ، أعني أصالة حمل فعل المسلم على الصحة ، لأنه من أظهر مواردها ، فيحكم بأن وضع اليد على ذلك المطروح بعنوان الملكية وضع صحيح تكليفا ووضعا ، وكذا بيعه ونحوه من التصرفات.

وقد يناقش في ذلك بأن حمل فعل المسلم على الصحيح كالبيع لا يقضي

ص: 113

بكونه ملكا له ، لأن أصل الصحة لا يثبت الأمر المشكوك في وجوده من الشرط أو الجزء كما تحقق في محله ، حيث قلنا ان صحة البيع الواقع من الراهن لا يثبت اذن المرتهن إذا اختلفا في الاذن وعدمه ، وكذا صحة بيع مال الغير لا يثبت مقارنته بالاذن ، فكذلك نقول في المقام : ان صحة البيع مع الشك في كون المبيع مملوكا للبائع لا يقتضي الحكم بكونه مملوكا للبائع ، كما أن صحة البيع المتنازع في كون أحد العوضين فيه خمرا أو خلا لا يقتضي الحكم باستحقاق الخل ، وهكذا الى سائر ما فرعنا على بطلان الأصل المثبت من فروعات المسألة في محله.

وأما القول فالدليل على حجيته واعتباره غير واضح ، لأن رواية الكيس قد عرفت ظهورها في مورد يكون للمدعي يد على المال. ولا كلام في مثله ، لان اليد بنفسها سبب لتصديق صاحب اليد من غير حاجة الى ضميمة الدعوى والقول.

نعم لو حملت الرواية على ما إذا لم يكن يد للمدعي ، مثل أن يقال : ان العشرة قد وردوا على الكيس المطروح فنفى كلهم الا بعضهم ، أو يقال : ان المدعي قد ورد على الجماعة الذين كانت اليد لهم دون المدعى الوارد ، أو نحو ذلك كان دليلا على المسألة. وكذا لو ادعى إطلاقها بالنسبة إلى كون المدعي ذا يد وعدمه.

الا أن جميع ذلك احتمالات لا شاهد لها ، والرواية لا إطلاق لها لكونها من باب حكايات الأحوال. الا أن يتمسك بترك الاستفصال ، فان الاستفصال في مثله على تقدير عدم عموم الحكم أمر لازم. فتدبر.

أو يقال : بأن اليد على الكيس كانت مقومة لمجموع العشرة ، فإذا نفى الأكثر عن نفسهم زال اليد عن الكيس رأسا حتى بالنسبة الى المدعي.

ص: 114

[ تصوير معنى المشاركة في اليد ]

توضيحه : ان المشاركة في اليد تتصور على قسمين : أحدهما أن يكون لكل من الشركاء يد مستقل كجلوس المترددين في الدار ، فان اليد في مثله ثابتة لكل واحد حتى لو قطع النظر عن الأخر أو فرض عدمه كان يده ثابتة. والثاني أن يكون اليد مقومة بالمجموع بحيث لو انتفى يد أحدهم انتفت اليد عن الباقي.

ومن هذا الباب مورد الرواية ، لأن يد العشرة على الكيس في الوسط كانت مقومة بالمجموع. وآية ذلك أنه لو كان كل واحد من العشرة بحيث إذا انفرد عن الباقي والكيس في محله ومكانه - بأن يقع الكيس في مقابله - لم يصدق عرفا أنه صاحب يد على ذلك الكيس الواقع في قدامه ، بل كان يعتبر في كونه صاحب يد انضمام الباقي اليه على نحو يحصل من اجتماعهم نحو دائرة محيطة بالكيس كانت اليد حينئذ مقومة بالجميع ، فاذا كان أصل ثبوت اليد لكل واحد باعتبار كونه جزءا للدائرة المحصلة لليد لزم اناطة بقاء اليد وعدمه بتفرقهم على وجه لا يبقى معه دائرة محيطة وبعدم تفرقهم كذلك.

ومنه يعلم أن تفرق واحد أو اثنين أو ثلاثة لا يقدح في ثبوت اليد للباقي مجتمعا ، إلا إذا كان التفرق بحيث ينتفي معه شبه دائرة محيطة ، وأما مع بقائه فلا.

هذا حال التفرق ، وأما نفي الملكية عن أنفسهم فهو في حكم التفرق الحقيقي ولو كانوا مجتمعين ، لأن النفي يرفع أثر الاجتماع كما يرفع أثر اليد المنفردة.

نعم لو كان الكيس المفروض بقرب من المدعي - بحيث لو انفرد صدق أنه صاحب يد عليه أيضا - لم يقدح تفرق الباقي أو نفيهم في ثبوت اليد له على الكيس.

ص: 115

لكن الظاهر من السؤال - على ما يقتضيه جلوس العشرة عادة - أن نسبة الكيس الى المدعي وغيره من حيث القرب والبعد كانت نسبة واحدة بحيث يعتبر في ثبوت اليد اجتماعهم مع عدم النفي ، فلا يرد أن الرواية كما يحتمل ذلك كذلك يحتمل الأول ، فلا يصح الاستناد إليها في تأسيس حكم جديد ، وهو اعتبار قول المدعي بلا معارض مع عدم اليد.

وأما ما ربما يتوهم أو توهم من دلالة رواية منصور الأخرى الطويلة في مسألة الخلافة وتعيين قيم القرآن على أن المدعي بلا معارض يعتبر قوله (1) ، لأن الراوي احتج على كون علي عليه السلام قيم القرآن دون ابن مسعود وسائر العشرين بأن عليا «عليه السلام» قد ادعى العلم بجميع القرآن ولم يدعه أحد من هؤلاء وإمضاء المعصوم ، فلو لا أن قول المدعي بلا معارض كان معتبرا كان الاحتجاج في غير محله.

ففيه : ان الاحتجاج بدعوى علي عليه السلام انما هو بعد الفراغ عن حجية قول آحاد الصحابة بأن قول الصحابي كان حجة عند الصدر الأول ، ولذا استدل الراوي على عدم كون ابن مسعود مرجعا في معرفة القرآن باعترافه بأنه لا يعلم القرآن كله لا بأن قوله ليس بمعتبر حتى فيما يدعي علمه من الايات ، فليس الاستناد الى قول علي عليه السلام ودعواه العلم بالقرآن جمعا من جهة أنه كان مدعيا بلا معارض ، بل من جهة كونه من الصحابة وكون قول الصحابة حجة.

وقد يستدل على المطلوب بأصالة الصحة أيضا. وقد بينا ضعفه في محله ، حيث قلنا ان اجزاء أصالة الصحة في الأقوال عبارة أخرى عن القول بحجية قول المسلم الغير العادل. وهو كما ترى ، لأن حجية العدل فيه ألف كلام فضلا عن غيره.

ص: 116


1- الكافي 1 / 149.

وقد يستدل عليه أيضا بما عن الفاضل وابنه من أن كل فعل يكون للإنسان إنشاؤه يقبل اخباره به كما أومأنا إليه في غير موضع ، منها باب اللقطة في تحقيق قولهم « من ملك شيئا ملك الإقرار به » ، مثل اخبار بعض العسكر بأمان بعض الكفار حيث أن له إنشاء الأمان فيقبل اخباره ، ومثل اخبار الحاكم بالحكم الذي أنشأه ، وغير ذلك من الأمثلة المشار إليها المصرح بها في كلمات الأصحاب.

وهنا أيضا يقال بأن تصرف المسلم وفعله المعينين على الملك إذا كانا نافذين وحجتين ومحمولين على الصحة كان قوله واخباره ودعواه للملك أيضا كذلك.

لا يقال : له إنشاء التصرف ، فيقبل قوله بناء على القاعدة المزبورة في الاخبار بالتصرف لا الملك.

لأنا نقول : الملك لما كان متفرعا على فعله الذي كان يملكه كوضع اليد والبيع ونحو هما من التصرفات المختصة بالملاك كان الاخبار بالملك منزلة الاخبار بذلك الفعل.

وهذا مثل ما عن العلامة «رحمه اللّه» في باب الخيار من أن أخبار البائع ذي الخيار بكون المبيع مغصوبا مقبول ، لان له إزالة أثر العقد بالفسخ فيقبل قوله واخباره بكل شي ء يترتب عليه فساد العقد ، مع أن الفرق بين الغصب الذي يخبر به البائع والفسخ الذي يملكه أوضح وأجلى من الفرق بين الملك الذي يخبر به المدعي فيما نحن فيه والفعل الذي هو مالكه - أعني التصرفات المختصة بالملاك.

ثمَّ المراد باليد في المقام هي اليد التي تدل على الملك سواء كانت فعلية أو سابقة ، لان المدار على كون المدعى به غير محكوم بملك أحد ، فحيثما كان محكوما بحكم اليد الفعلية أو السابقة بالملك للغير لم يقبل دعوى مدعيه بلا بينة.

وأما المراد بقولهم « قضى له » فيحتمل وجوهاً :

ص: 117

( أحدها ) أن يخلى المدعي وسبيله ، بأن لا يتعرض بحاله بمطالبة البينة أو اليمين مع عدم ترتب غير آثار ملكه عليه ، وهو الظاهر من المسالك. وأنت خبير بأن هذا المعنى موافق للأصل والقواعد فلا يحتاج الى دليل جديد.

( والثاني ) أنه يقضى به على وجه يكون به صاحب اليد ، ويجوز معه ترتيب آثار الملك مراعى الى حدوث مدعي آخر ، فيكون أثر القضاء جعل المدعي صاحب اليد مراعى الى ظهور الخصم ، وبعد ظهوره يكون حاله مع حال الخصم من حيث اليد وعدمه واحدة.

( والثالث ) انه يقضى له على وجه يكون به صاحب اليد مطلقا حتى مع ظهور الخصم. ولعل الأخير أظهر.

[ دعوى غير المال كالوكالة وغيرها بلا معارض ]

هذا هو الكلام في المقام الأول - أعني دعوى الاملاك - وأما الكلام في المقام الثاني - أعني دعوى غيرها بلا معارضة أحد كدعوى الوكالة والطلاق - فإثبات قبول الدعوى فيه أشكل ، لعدم مساعدة شي ء من الأدلة عليه الا ما ربما يدعى الاتفاق على خلافه من أصالة حجية قول المسلم ، بمعنى قبوله التصديقية من حيث المطابقة للواقع.

ومما يدل على فساده الاتفاق على عدم حجيته في مقابل اليد أو في مقابل الدعوى. مع أن قضية الحجية القبول مطلقا ، لأن البينة وما يجري مجراها حجيته في هذه المقامات كلا ونحو ذلك من المقامات التي لا يسمع فيها قول المسلم التي هي أكثر مما يحتمل البقاء تحت الإطلاق.

ثمَّ ان الدعوى بلا معارض في المقام الثاني أيضا تنقسم الى قسمين : لان الدعوى قد تكون دعوى على الغير اشتمالها على سقوط حق الغير ، وذلك

ص: 118

مثل دعوى الوكالة ، ومثل دعوى الطلاق ، ومثل دعوى موت الزوج ، ومثل دعوى العبد الإعتاق ، وغير ذلك من الدعاوي المخالفة للأصول المتضمنة لسقوط حق الغير. وقد لا يكون كذلك بل تكون دعوى مخالفة للأصل من دون تضمنها لسقوط حق حتى تكون دعوى على الغير ، وذلك مثل دعوى الرجوع ودعوى الحيض ودعوى الطهر ونحو ذلك مما تخالف الأصل ولا تتضمن إسقاط حق للغير في بعض المقامات.

وفي كل منهما لا دليل على قبول الدعوى ، الا أن عدم القبول في القسم الأول أوضح. بل يمكن الاستدلال عليه مضافا الى عدم الدليل بقوله البينة على المدعي ، إذ يصدق عليه عرفا أنه مدع على الغير وان لم يكن ذلك منكرا.

ولا يذهب عليك أن مرجع هذه الدعاوي ليست الى الدعوى على الغائب.

مثلا إذا ادعت المرأة موت الزوج وأرادت التزويج ، فهذه ليست دعوى على الغائب ولكنها دعوى متضمنة لسقوط حق الغير ، وهكذا.

ولا فرق في هذا القسم بين كون ذلك الغير معلوما بالتفصيل أو معلوما بالإجمال مع كون الشبهة محصورة. وأما مع عدم انحصار الشبهة فالظاهر أنها ملحقة بالقسم الثاني ، لأن العلم الإجمالي مع كثرة المحتملات ملحق بالجهل حكما في مثل المقام.

ويتضح مما قررنا السر في عد تصديق مدعي اللقطة أو مدعي مجهول المالك ، لأنه يدعي ما يتضمن سقوط ولاية الملتقط أو الحاكم ، لان ولايتهما تزول بظهور المالك.

نعم لو ادعى مالا مجهول المالك قبل استقراره في يد الحاكم ونحوه صدق وقضى له بناء على التصديق في القسم الثاني ، أعني ما لا يكون دعوى على غير معلوم تفصيلا أو إجمالا ، لأن الدعوى حينئذ ليست دعوى على الغير كذلك ،

ص: 119

بل على الغير المشتبه في غير محصور من دون أن تكون متضمنة لسقوط حق ولاية ، إذ الفرض عدم وصوله الى يد الحاكم أو أمين آخر بعد.

وقد يقال : انه على البناء المزبور يصدق مدعي اللقطة مثلا ، لأن ولاية الملتقط ليست من الحقوق الثابتة له أصالة بل باعتبار كونه نائبا مناب مالك اللقطة ، فبعد ادعاء الشخص اللقطة لم يتصور لدعواه معارض ولم تكن دعواه دعوى على الغير : أما بالنسبة إلى المالك المجهول فواضح ، إذ المفروض عدم العبرة بالعلم الإجمالي المتعلق بوجوده وكونه بمنزلة الجهل. وأما الملتقط فلعدم منافاة دعواه لدعوى المدعي مثلا ، لان الملتقط لا يدعي الملكية بل يدعي ولاية الحفظ عن المالك وهو يدعي الملكية ، فيجمع بينهما من غير أن يكون فيه سقوط حق.

وفيه تعسف ، لان المراد بالسقوط هنا أعم مما يوجب الخروج الموضوعي ، فظهور مالك اللقطة وان لم يكن مسقطا لحق ولاية الملتقط حقيقة الا أن ذلك يوجب زوال صفة الولاية ، وهو يكفي في مطالبة البينة من المدعي. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء المدعى شيئا بعد نفيه عن نفسه ]

إذا ادعى مالا يد لأحد عليه بعد أن نفي عن نفسه فهل يقبل ويصدق بناء على قبول قول المدعي بلا معارض أو مشروط بما إذا لم يسبقه إنكار.

قد يقال بدلالة الرواية المذكورة عليه بناء على إرادة الحقيقة من قوله « فقال كلهم » لا حيث يشمل ذلك المدعي أيضا. ويؤيده ما ظاهرهم الاتفاق عليه في باب النكاح من أن الشخص لو أنكر زوجية امرأة ثمَّ ادعاها وصدقته

ص: 120

المرأة وجب عليها التمكين وتصديق الرجل. ومثله ما ذكروه في ذي اليد من أنه لو نفى ملكية ما في يده عن نفسه ثمَّ ادعى الملكية قبل دعواه ولو مع العلم بعدم تجدد سبب ناقل.

لكن قد يناقش في الرواية بأن الظاهر من كل ما عدا المدعي كما لا يخفى.

ويؤيده تعبير الأصحاب كالمحقق «رحمه اللّه» وغيره عن مضمونها بما هو كالصريح في ذلك. فارجع ولا حظ.

وفي قبول دعوى الزوج بعد النفي بأن الحق لما كان للزوجة فاذا صدقته وجب عليها التمكين لأنها المانعة عن سماع دعواه بعد الإنكار.

وفي مسألة اليد بأن الإنكار الأول والإقرار الثاني يتعارضان ويتساقطان فيعود حكم اليد ، فلا يقاس به ما لا يكون فيه شي ء من أمارات الملك كما نحن فيه.

هذا ، ويمكن أن يقال : ان الدعوى بلا معارض على تقدير قبوله يشمل المقام ولا يشمله قولهم « لا يسمع الإقرار بعد الإنكار » ولا أدلة نفوذ الإقرار للإقرار الأول ، لأن ذلك في مقام الخصومة الفعلية أو الشأنية ، فحيث لا خصم فلا وجه للنفوذ مع إمكان حمله على السهو والنسيان مثلا ، واللّه العالم.

التقاط [ حكم إخراج ما غرق بالغوص ]

لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لصاحبه وما أخرج بالغوص فهو لمخرجه ، كما نطقت به رواية ضعفها المحقق في الشرائع مشعرا بالتردد ، ولكن عمل بها في محكي النهاية ومحكي الإرشاد والتذكرة والتحرير.

وربما قيل بأن المرجع فيما يخرج بالغوص عن القاعدة ، فإن كان الإخراج

ص: 121

بإذن المالك وأمره استحق أجرة الغوص والخارج للمالك ، وان كان بدون الاذن فليس له شي ء.

وربما يستدل على ذلك بعد قصور الرواية عن تأسيس حكم مخالف للقواعد بأن شيئا من أسباب التمليك للغواص غير موجود ، لان ما يحتمل أن يكون سببا أحد أمور :

( الأول ) كون الاعراض من أسباب التمليك ، بمعنى كونه سببا لخروج المعرض عنه عن ملك المالك رأسا وصيرورته كالمباحات الأصلية ، بحيث يصير ملكا للقابض والحائز.

( والثاني ) الإباحة على نحو القول بها في المعاطاة ، بمعنى اباحة العين لكل من يقبض فيكون بمنزلة هبة وعطية غير معين فيها الموهوب له.

( والثالث ) صيرورة المال بالغرق في حكم التالف إذا صار الى قعر البحر بحيث ييأس منه المالك ، كما هو الغالب فيما يحتاج إخراجه إلى الغوص ، إذ المتوقف في وسط البحر غالبه يقذفه البحر بالساحل ، ولذا قال عليه السلام « وما أخرجه البحر فهو لصاحبه » (1) ، إذ الغالب بل الدائم أن البحر لا يقذف ما في قعره بل ما في فوقه أو بطنه على نحو لا يلحق عرفا بالمعدومات والتالفات.

بعكس ما يخرج بالغوص ، فإنه غالبا شي ء مستقر قعر البحر بحيث يلحق في تلك الحالة بالتالف ، فيكون وضع اليد عليه من أسباب حصول الملك كحيازة المباحات الأصلية.

[ معنى زوال وصف الملك عن المال ]

توضيحه : ان زوال وصف الملك قد يكون باعتبار خروج المالك عن

ص: 122


1- الوسائل ج 17 ب 11 من أبواب اللقطة ح 1 و 2.

القابلية كالحي إذا صار جمادا بالموت ، وقد يكون لحدوث القصور في المملوك ، كما إذا انقلب الى بعض مالا يتملك ولا يتمول شرعا أو عرفا كتحول الغذاء فضلة وصيرورة البيضة فاسدة ونحو هما ، وقد يكون باعتبار انتفاء موضوع الملك وتلفه حقيقة كموت الحيوان واراقة الماء ونحو هما من أقسام التلف الحقيقي العرفي ، وقد يكون حكما كالمال الذي لا يمكن وصوله الى مالكه عادة كالمال المنهوب في الطريق أو المسروق فيما لا يتعين فيه السارق في محصورين كأهل القرية أو أهل بلد مثلا.

وبالجملة ما كان المالك مأيوسا عن الظفر به عادة فإنه عرفا يلحق بالتالف ، ولذا لا يصح بيعه وشراؤه ونحو هما مما يعتبر في مجاريها الملك والمال العرفيين.

ومن هذا الباب الغريق الواقع في قعر البحر ، فان المالك فيه أشد يأسا مما أجروا عليه حكم التالف كالمال الذي يأخذه قطاع الطريق ، فاذا كان في حكم التالف فلا يصلح طرفا لنسبة الملكية والمالية اللتين كانتا متقومتين به.

والجميع منظور فيه :

( أما الأول ) فيرد عليه : أولا منع كون محل البحث من موارد الإعراض ، لأن مجرد غرق المال لا يستلزم اعراض المالك ، نعم ربما يوجب يأسه عادة ، وبينهما لعله بعض الفرق. وثانيا منع كون الاعراض سببا لخروج المال عن ملك المعرض حتى يتملكه القابض بالحيازة ، إذ لا دليل على ذلك غاية الأمر كونه سببا لإباحة التصرفات عدا ما يتوقف على الملك كالوطي والبيع ونحو هما ، ولم تقم السيرة على أزيد من ذلك في غير الأمور الحقيرة ، فلا مسرح للتمسك بالسيرة أيضا.

فإن قلت : قد مر في باب اللقطة بعض ما يدل على أن الاعراض سبب للخروج

ص: 123

عن الملك كما في البعير الواقع في الكلاء ، فان في بعض الروايات تعليل إباحتها بأن المالك أباحها (1).

قلت : الالتقاط في نفسه سبب للتملك ، غاية الأمر أنه اشترط في خصوص البعير الضالة بما إذا علم أن مالكها قد أعرض عنها ، فالكلام هنا في كون الاعراض سببا مستقلا في جعل المعرض عنه من المباحات.

( وأما الثاني ) ففيه أيضا أن مجرد اليأس لا يستلزم إنشاء الإباحة فعلا أو قولا أو قلبا ، والكلام في أن مجرد الغرق هل يستلزم اباحة الغريق للأخذ كما نطقت به الرواية أم لا ، ومع ذلك فالإباحة انما تبيح التصرفات دون الملك أو ما يتوقف عليه من التصرفات.

( وأما الثالث ) فلان كون الغريق في حكم التالف عرفا على تقدير تسليمه مطلقا ، مع أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال ، فربما تكون العادة جارية بإمكان إخراجه بغوص ونحوه ، فلا يتم دعوى كونه بمنزلة التالف حينئذ ، إذ صيرورة المال تالفا حقيقيا انما يوجب زوال صفتي الملكية والمالية.

وأما حق الاختصاص والأولوية فلا يوجب زواله أيضا ، وتحقيق ذلك يطلب مما أسلفنا في باب الغصب في جملة مسائله ، كمسألة زرع حب المغصوب وتفريخ البيضة المغصوبة ونحو هما ، فاذا كان حق الأولوية باقيا فيلزمه عود الملكية على تقدير زوال تعذر الوصول الذي أوجب إلحاقه بالتالف ، فيكون للمالك انتزاعه من الغواص.

وبالجملة ظاهر الرواية غير مطابق للقواعد ، والعمل بها على نحوه ينجبر به ضعف السند غير معلوم. نعم يمكن تطبيقها على القاعدة بالتصرف فيما يقتضيه ظاهر كلمة اللام المفيدة للملكية ، بأن يقال : ان المراد حصول الإباحة في

ص: 124


1- الوسائل ج 17 ب 13 من أبواب اللقطة ح 2.

التصرفات دون الملك أو ما يتوقف عليه من التصرفات ، فمعنى قوله عليه السلام « فما أخرج بالغوص فهو لهم » (1) انهم يتصرفون فيه كيف شاءوا لا أنهم يتملكون.

وهذا المعنى موافق للقاعدة ، لأن التصرفات في المال المعرض عنه مضافا الى إمكان إثباته من السيرة وبعض الاخبار موافق للقواعد أيضا ، لأن الإنسان إذا أعرض عن ماله فان رجع ذلك الى أمر وجودي - وهو إنشاء إباحة التصرفات للناس - فلا إشكال حينئذ في جواز التصرف ، لأنه تصرف بإذن المالك ورخصته.

وان قلنا بعدم رجوعه الى ذلك وان الاعراض ليس بإباحة ولا مستلزما له ، فلا أقل من كونه رفعا لمنع تصرفات الناس ، وهو يكفي في جواز تصرفهم ، لأن حرمة التصرف في مال الغير انما هو لأجل الاحترام ، كما يدل عليه قوله عليه السلام « ان اللّه جعل حرمة أموالكم كحرمة دمائكم » (2) فاذا أعرض صاحب المال عنه ورفع الحجر والمنع من قبله فالتصرف في مثله ليس منافيا لاحترامه.

وأيضا يمكن القول بأن التصرف حينئذ تصرف عن طيب النفس منه.

وكيف كان فجواز التصرف في المال المعرض عنه من دون القول بحصول الملك ، سيما في الأموال الحقير ، أمره سهل.

فان قلت : مورد الرواية ليس فيه إشارة إلى الإعراض ، فظاهره أيضا

ص: 125


1- الوسائل ج 17 ب 11 من أبواب اللقطة ح 1 و 2.
2- الموجود في الوسائل في موضعين من كتاب القصاص منه ص 3 وص 10 ففي ص 3 حديث 3 هكذا « فان دماءكم وأموالكم عليكم حرام » وفي ص 10 حديث 3 هكذا « وحرمة ماله كحرمة دمه » الوسائل 19 كتاب القصاص ص 3 و 10.

مناف للقواعد ، لان مجرد اليأس مع عدم الاعراض ليس من أسباب حل التصرف أيضا.

قلت : نحمل الرواية بعد التصرف في لام « لهم » بما عرفت على الغالب الذي هو الاعراض عند حصول اليأس ، لأن الايسين عن أموالهم غالبا معرضون عنها. أو ربما يشعر به رواية أخرى واردة في المسألة حيث أن فيها زيادة ، وهي ان ما تركه أهله أخرج بالغوص فهو لأهله ، لأن ظاهر تركه هو الاعراض. فافهم.

وحينئذ فيحمل إطلاق رواية البعير المتقدمة على صورة الإعراض حمل المطلق على المقيد ، بناء على ثبوت التقييد في المثبتين في الأحكام الوضعية ، كما هو أحد الوجهين في المسألة أو أقواهما. واللّه العالم.

ص: 126

القول في دعاوي الاملاك

التقاط [ التنازع في عين معين ]

لو تنازع اثنان عينا : فاما أن تكون العين لا يد لأحد عليها ، أو تكون تحت يدهما معا ، أو تحت يد أحدهما ، أو يد ثالث. فهنا مسائل :

[ التنازع على عين لا يد لأحد عليها ]

( الاولى ) أن يتنازعا عينا لا يد لأحد عليها ، فان كانت الدعويان متعاقبتين قدمت الأولى ، لأنها في حال وقوعها كانت بلا معارض. بل هذه ثمرة تصديق الدعوى بل معارض على أظهر الوجوهات في المسألة كما سبق ، الا أن تفرض الدعوى الثانية كانت في حال دعوى الأولى ، بأن ثبت ذلك بإقرار المدعي الأولى أو بنحو ذلك.

لا يقال : المدعي الثاني - انما يدعي حقيته في حال دعوى الأول ، فتكون تلك الدعوى في حال صدورها معارضة بمثلها وان لم تكن معلومة.

ص: 127

لأنا نقول : المعتبر في تصديق الدعوى بلا معارض سلامتها حين وقوعها عن دعوى أخرى مثلها ، وهذا مفروض الوجود في دعوى الأول. وادعاء الثاني حقيقته في حال تلك الدعوى لا تجعلها دعوى معارضة ، لان التعارض من خواص وجود الدعوى الثانية ان الدعوى الاولى حين وجودها كانت مما يتعقبها دعوى أخرى معارضة ، وهو غير كونها مبتلاة بالمعارض في حين وجودها.

وان كانتا متقارنين بالتقارن العرفي أو الحقيقي. ففيه وجوه الطرح واعمال كل من الدعويين في النصف كاعمال السببين مع الإمكان ، وذلك مثل ما لو أوصى بألف لزيد من الثلث وألف لعمرو وكان مجموع الثلث مقدار ألف ، فإن الحكم فيه التشريك بالنصف بين زيد وعمرو والقرعة ، كما هو الشأن في جميع صور تعارض الأمارتين أو تزاحم السببين ، فإنه قد يحكم فيها بالطرح كالبيعين الواقعين على شي ء واحد ، وقد يحكم بالتشريك كالمثال المفروض ، وقد يتوقف ويستخرج الواقع بالقرعة.

هذا حكم أصل المسألة ، وأما القضاء فيحتاج الى الحلف ، بمعنى أن الحاكم يقضي بالمجموع للحالف إذا كان أحدهما والا فالتنصيف ، لان كل واحد منهما بالنسبة إلى الأخر مدعى عليه وان لم يكن منكرا لعدم اليد ، فيجري ميزان القضاء من الحلف وغيره.

[ التنازع على عين لكل من المتنازع يد عليها متناوبا ]

( الثانية ) أن تكون تحت يدهما معا على التناوب كالفرس يركبه أحد هما يوما والأخر يوما ، وعلى الاجتماع كالدار يحلها اثنان على وجه يتصرف كل منهما في مجموع الدار.

والحكم فيه كما ذكره الأصحاب من القضاء بينهما نصفين ، لان يد كل منهما

ص: 128

وان كانت على المجموع الا أنها دليل شرعا وعرفا على ملكيته للنصف المشاع ، لان مطلق اليد في العرف دليل على مطلق الملك الشامل للملك التام والناقص واليد الاستقلالية دليل على الملك التام والمنضمة مع مثلها دليل على الملكية الناقصة في مجموع الدار والملكية التامة في النصف المشاع.

وفي الشرع أيضا كذلك ، لان الشارع لم يتصرف في موضوع اليد العرفية التي تعد عند العرف من أمارات الملك التام أو الناقص بل أمضاها وقررها على ما هي عليه في العرف.

وليس المراد أن اليد على المجموع في صورة التعدد يد على النصف المدعى ، بل المراد أن الأيادي المجتمعة أمارات على ملكية النصف أو الثلث مثلا وان لم يكن بينهما فرق عملي.

نعم لو جعلنا علامة الملك السلطنة التي تكشف عنها اليد لا نفس اليد كانت يد كل منهما بمعنى السلطنة التامة على النصف ، فان جعلنا الامارة نفس اليد قلنا ان يد كل منهما على المجموع ، ولكن اليد على المجموع انما تكون أمارة على ملك المجموع إذا كانت تامة استقلالية ، وأما إذا كانت ناقصة بمزاحمة مثلها فهي أمارة على ملك البعض كالنصف والثلث مثلا. وان جعلنا دليل الملك هي السلطنة التي تكشف عنها اليد قلنا ان لكل منهما علامة الملك في النصف دون الكل. والأمر في ذلك سهل.

وانما الكلام فيما جنح اليه بعض مشايخنا قدس سره حيث جعل اليدين بمنزلة الأمارتين المتعارضتين أو السببين المتزاحمين ، وقال : ان القضاء بالنصف انما هو لأجل ذلك لأجل أن يد كل منهما على النصف أو أن اليد على المجموع إذا كان معها مثلها لا تدل الا على تلك النصف. وقاسه بالمسألة الاولى - أعني الثاني على مالا يد لأحد هما وعلى تعارض البينتين.

ص: 129

وقد ظهر ضعفه بما ذكرنا ، حيث أن المحكم في ذلك هو العرف ، إذ الشارع لم يغير موضوع تلك الأمارة العرفية عما هي عليه في العرف. ونحن نجد أن بناء العرف في صورة تعدد اليد بالتناوب أو بالاجتماع على جعل يد كل دليلا على ملك البعض.

وأما القياس بتعارض البينتين فهو قياس مع الفارق ، إذ لم يعتبر في دلالة البينة على حقيقة ما قامت عليه عدم قيام بينة أخرى على خلافها ، بل هي في نفسها حجة شرعية وعرفية غاية الأمر أنها بسبب التعارض تسقط عن الحجية الفعلية.

وكذا الدعوى فإنها أمارة على صدقها فيما لا يد لأحد عليه سواء عارضها مثلها أم لا ، غاية الأمر انها بعد التعارض تكون المقام من مقام تعارض الأمارتين ، بخلاف اليد فان دلالتها على الملكية التامة مشروطة عرفا وشرعا على استقلالهما ، والاستقلال مع التعدد غير موجود بالنسبة إلى المجموع وانما هو بالنسبة إلى البعض - فافهم.

وكيف كان فيتفرع على ما ذكرنا أن الحكم لكل منهما بالمجموع يتوقف على الحلف ، لان كلا منهما بالنسبة الى نصف شريكه مدع وهو بالنسبة إليه منكر ، فيحصل التداعي هو مقام التحالف كما صرح به غير واحد.

وعلى ما ذكره « قده » يخرج المقام عن مورد التحالف ، إذا لا تداعي هنا بل كل منهما منكر ولا يدعى له ، كالمسألة الاولى أعني صورة تعارض الدعويين على عين مطروحة ، فإنه لا وجه في مثله للتحالف الا على بعض الوجوه التي ذكرها « قده » لتوجيه التحالف بعد فرض خروج المقام عن التداعي ، وحينئذ فلا بد أن يكون عدم تعرض جماعة للحلف في المقام لأحد وجوه :

( أحدها ) أن يكون ترك التعرض ثقة بما هو المعلوم من أن القضاء لا يكون إلا بأحد الموازين بعد التسالم على ما ذكرنا وان كلا منهما دليل على ملك النصف

ص: 130

خاصة دون الكل حتى يكون من مقام تعارض الأمارتين ، وحينئذ فيرتفع الخلاف بين المتعرض للحلف من المسألة وغير المتعرضين ، لان كلا من الطائفتين يعترف حينئذ بأن كل واحد من اليدين دليل على النصف وأنه حكم شرعي وأصل في المسألة ، وبه يعرف المدعي من المنكر ويحكم بأن كلا منهما منكر بالنسبة إلى النصف ومدع بالنسبة إلى النصف الأخر ، وان كان القضاء بمعنى فصل الخصومة متوقفا على شي ء من موازينه من حلف أو بينة. لكن هذا خلاف ظاهر المحقق في الشرائع حيث جعل القولين متقابلين.

( وثانيها ) ما ذكره « قده » من أن اليدين المجتمعين عند غير المتعرضين لما كانت بمنزلة الأمارتين المتعارضتين اقتصروا في القضاء على مجردهما ولم يعتبروا في ذلك الحلف ، إذ على ذلك لا يرجع الى التداعي حتى يتوقف الحكم على الإحلاف كما عرفت ، بل على فرض وجود الدعويين كالعدم وعدم سماع شي ء منهما وترتيب آثار كل من اليدين.

( وثالثها ) إلحاق المسألة بالدرهم المشتبه بالاثنين في مسألة الوديعة في الصلح القهري ، فكما أن القضاء في مسألة الدرهم لا يتوقف على الإحلاف بل يحكم الحاكم بينهما بالنصف من غير إحلاف للنص كذلك في المقام يقضي بينهما بالنصف لكونه حكما شرعيا وصلحا قهريا في المسألة ثبت من الشرع بالدليل.

( ورابعها ) ما أبداه في محكي كشف اللثام وتبعه في محكي مفتاح الكرامة ، وهو التصرف في ظاهر كلمات من صرح هنا بالحلف ، بحملها على أن الحلف أمره راجع الى المتداعيين ، فلكل منهما إحلاف صاحبه ، وأما الحاكم فهو يقضي بالنصف من دون إحلاف. واستظهره من عبارة النافع ، حيث انه بعد أن قال انه يقضي بالنصف قال : ولكل منهما إحلاف صاحبه.

ص: 131

ومما مر تعرف أن الوجه الأول أقرب احتمالا ومحتملا ، كما تعرف ضعف ما عداه خصوصا الأخير ، لأن القضاء إذا لم يتوقف على الحلف فقضى الحاكم وتمَّ القضاء فلا معنى لسلطنة كل منهما بعد الفصل والانفصال على إحلاف صاحبه.

هذا ، ثمَّ ان الأصحاب ذكروا في كتاب الصلح مسائل ربما يتخيل مشابهتها لما نحن فيه ، كلها على خلاف القاعدة ثبت بالدليل من النص :

منها - لو كان لواحد ثوب بعشرين درهما وللآخر ثوب بثلاثين ثمَّ اشتبها. قالوا : فان خير أحدهما صاحبه فقد أنصفه وان تعاسرا بيعا وأقسما بينهما وأعطى صاحب العشرين سهمين من خمسة وللآخر ثلاثة.

ومنها - ما أشير إليه من الدينار المشتبه بين الاثنين عند الودعي ، بأن أودعه إنسان در همين وآخر درهما وامتزج الجميع ثمَّ تلف درهم. قالوا : ان صاحب الدرهمين يأخذ درهما ونصفا من الأخر.

ومنها - ما لو كان مع اثنين درهما وادعاهما أحدهما وادعى الأخر أحدهما كان لمدعيهما درهم ونصف وللآخر ما بقي.

( أما المسألة الأولى ) فهي وان كانت مخالفة للقواعد لعدم صيرورة الثوبين بمجرد الاشتباه مشتركا بينهما حتى يتشاركا في ثمنهما بنسبة ما كان لهما مع عدم الاشتباه ، فلا بد من استعمال القرعة قاعدة مع عدم التداعي ومعه من استعمال موازين القضاء. إلا أنها لا مساس لها بالمقام حتى يستنبط حكمه مما ذكروه هناك ، لأنها في تلك المسألة ما تداعيا عينا في يدهما كما لا يخفى.

( وأما المسألة الثانية ) فهي أيضا غير مربوطة بالمقام : اما لان يد الودعي ليست يدا للمستودعين ، أو لأن للودعي على كل منهما يد واحدة يعلم كونها من جانب أحدهما دون الأخر ، فيده على كل واحد من الدرهمين يد نيابة عن

ص: 132

هذا أو عن ذاك ، فالمنوب عنه غير معلوم ، فيكون مثل ما لو تداعيا عينا يعلم كونها في يد أحد هما معا.

وان أبيت عن ذلك وادعيت أن يد الودعي على كل واحد من الدرهمين يد نيابة عنهما معا. قلنا حينئذ : انا نعلم بمخالفة احدى يديه للواقع في كل واحد من الدرهمين ، للعلم بأنه في الواقع لأحد هما خاصة ، فيده على الدرهمين معا معلوم المخالفة للواقع بالنسبة إلى كلا الرجلين ، فيخرج أيضا عن موضوع مسألتنا - أعني التداعي - مع كون العين في يدهما على وجه احتمل حقيقة كل من اليدين ولو على سبيل الشركة ، ولكنها أيضا مخالفة للقاعدة كما لا يخفى.

نعم بعض مشايخنا « قده » أسس في الأموال المشتبهة أساسا استنادا الى ما ورد في هذه المسائل وغيرها من أن الاشتباه والدوران من أسباب الشركة أو الإشاعة نظير المزج في الشركة الحقيقية ، وعلى هذا الأساس تتم المسألتان وغير هما أيضا.

( وأما المسألة الثالثة ) فالمستند فيها رواية ابن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن ابى عبد اللّه عليه السلام في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما الدرهمان لي وقال الأخر هما بيني وبينك. قال : فقال أبو عبد اللّه «عليه السلام» : أما الذي قال هما بيني وبينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له فيه شي ء وأنه لصاحبه ويقسم الدرهم الثاني بينهما نصفين (1).

ومثله المرسل كما قيل (2).

قضية الحديث أن مدعي أحد الدرهمين قد يدعي أحدهما على سبيل الإشاعة ، بأن يكون له في كل درهم نصف كما هو ظاهر قول الراوي « هما بيني وبينك » لان المتبادر منه أنه كان يدعي إشاعة الدرهمين وأنهما ميراث بينهما أو ثمن مبيع

ص: 133


1- الوسائل ج 13 ب 9 من كتاب الصلح ح 1.
2- الوسائل ج 13 ب 9 من كتاب الصلح ح 2.

كذلك ، وقد يدعي أحد هما المعين ويعترف بالآخر لصاحبه كما هو ظاهر قول الامام عليه السلام في الجواب « وأما الذي قال هما بيني وبينك فقد أقر بأن الدرهمين ليس له » حيث فهم من ذلك دعواه الأحد المعين ففسره بأنه أقر بأن أحد الدرهمين ليس له.

ولا ريب أن الإقرار بأحد الدرهمين ليس إقرارا بالنصف المشاع وادعاء النصف المشاع الأخر ، إذ ليس النصف المشاع منهما هو أحد الدرهمين بل هو نصف كل من الدرهمين.

وهذا هو الظاهر من عبارة الأصحاب أيضا ، لأنهم عبروا عن عنوان دعوى مدعي النصف بدعوى أحد الدرهمين الذي يكون النسبة بينه وبين النصف المشاع عموما مطلقا.

فلا بد من صرف أحد الظهورين : أما الظهور الأول بجعل المراد من قوله « بيني وبينك » كون المدعى به أحد الدرهمين المعين ، أو الظهور الثاني بجعل قوله « أقر بأحد الدرهمين » مرادفا لقوله أقر بإشاعة الدرهمين ، لان التعبير عن النصف المشاع من الدرهمين غالبا يكون بأحدهما نظرا الى ما هو الغالب من عدم انقسام الدرهمين بين الشريكين الا اختصاص كل منهما بدرهم.

قال بعض مشايخنا « قده » ان الرواية في الإشاعة أظهر ، كما جنح شيخنا دام ظله إلى أنها في دعوى المعين أظهر ، لأن دلالة أحد الدرهمين على عدم الإشاعة مطابقة كما لا يخفى ، فيحتاج صرفها الى دليل ليس هو سوى تعارف التعبير عن نصفهما المشاع بأحدهما أحيانا ، بخلاف دلالة قوله « بيني وبينك » ، فإنه مع قطع النظر عن تعارف استعماله في مقام الإشاعة لا دلالة له وضعا على الإشاعة ، إذ لو كان الدرهمان لاثنين على نحو اختصاص كل بأحدهما يصدق أيضا أنهما بينهما.

ص: 134

وكيف كان فان رجحنا الإشاعة كانت الرواية مخالفة للقاعدة من جهتين : لان الدرهمين إذا كانا تحت يد اثنين على وجه الإشاعة كان كل منهما بالنسبة إلى النصف منكرا لكونه ذا يد بالنسبة إليه فلا وجه لتنصيف النصف أيضا بل يكون أحد الدرهمين لمدعي النصف حينئذ كما ذكروا في التداعي على دار بينهما ، ثمَّ ان التنصيف من دون حلف أيضا خلاف مقتضى قواعد القضاء. وان رجحنا التعيين كانت مخالفته للقاعدة من جهة واحدة وهي القضاء من دون حلف ، لان التنصيف حينئذ مقتضى قاعدة تساويهما في اليد بالنسبة الى كل واحد من الدرهمين ، لما عرفت من أن العين إذا كانت تحت يد اثنين كانت بينهما نصفين بمقتضى يديهما ، فكل واحد من الدرهمين حكمه ذلك ، غاية الأمر خروج أحدهما بإقرار مدعى الأخر.

هذا إذا لم يعلم إجمالا باختصاص ما يدعيه من الدرهم بأحدهما كما هو الغالب ، وإلا فالتنصيف أيضا مقتضى القاعدة ، لأن يدهما على الدرهم المعين حينئذ يصير كلا يد باعتبار العلم الإجمالي بعدم الاشتراك واختصاصه بأحدهما ، فيكون من قبيل المدعيين على ما لا يد لأحد عليه ، وقد عرفت أن الحكم فيه التنصيف على بعض الوجوه. لكن عدم الاستحلاف أيضا على خلاف القاعدة.

وعلى أي حال فما نحن فيه خارج عن مورد الرواية الا على تقدير حملها على دعوى المعين مع عدم العلم الإجمالي بعد وان احدى اليدين واختصاص الدرهم بأحدهما. ويحصل بذلك التناقض بين كلمات الأكثر في المقامين ، حيث أنهم اعتبروا هنا الحلف ولم يعتبره هنالك.

ولعل هذا مما يؤيد أو يدل على أن الأكثر حملوا الرواية على الإشاعة وانها موضوع كلامهم في تلك المسألة فيرتفع التناقض ، أو حملوها على دعوى العين مع العلم الإجمالي بعد وان إحدى اليدين واختصاص كل درهم بأحد.

ص: 135

[ التنازع في عين هي في يد غير المتنازعين ]

( المسألة الثالثة ) ما إذا كانت العين بيد ثالث ، فان صدق ذلك الثالث أحد هما صار هو ذا اليد ، فيكون مدعى عليه بالنسبة إلى الأخر ، لأن المراد بالمدعى عليه على ما مضى في تعريف المنكر والمدعي كل من يوافق قوله حجة شرعية وهو المقر له ، لأن إقرار ذي اليد له حجة له في ملكية العين فيكون هو المدعى عليه.

نعم للآخر إحلاف ذي اليد المقر ، وهل يحلف على البت كما قال بعض مشايخنا لكون الدعوى متوجهة اليه ، أو على نفي العلم لو ادعى عليه العلم كما في كشف اللثام؟ الظاهر هو الثاني ، لأن الدعوى متعلقة بغير فعل المدعى عليه أعني المقر ، وهو ملكية العين لهذا ولذاك ، فليس له الإحلاف على عدم الملكية بل على عدم العلم بها. والسر في ذلك أن ذا اليد إذا لم يكن مدعيا لملكية ما في يده كان نفيه للملكية أو إثباته لها نفيا أو إثباتا متوجها الى فعل الغير بحسب المعنى ، كنفي الوارث الانتقال المسبب عن فعل المورث فإنه في الحقيقة نفي لفعل الغير.

ومن هنا يظهر أنه لا فرق في ذلك بين كون الإحلاف قبل الإقرار لأحد أو بعده ، فإنه يحلف على نفي العلم في الموضعين.

فان قلت : إذا كانت الدعوى بعد الإقرار فهي دعوى للإتلاف والحيلولة ، ودعوى الإتلاف دعوى لفعل النفس ، فلا بد أن يكون الحلف حينئذ على البت.

قلت : متعلق الدعوى حينئذ ليس هو نفس الإتلاف ، بل كون متعلق الإتلاف - أي المتلف بالفتح - مالا للمدعي. وفرق بين دعوى إتلاف المال - بأن يقول أتلفت علي مالا - وبين دعوى كون المتلف مالا بعد الفراغ عن الإتلاف ، فإن الثاني مثل دعوى الاخوة ، فالمنكر لها يحلف على نفي العلم بها ، مع أن

ص: 136

الاخوة ليست فعلا للمدعي عليه ولا لغيره بل مسببا عن فعل الغير وهو المورث. وكذا ما نحن فيه ، لان دعوى مالية المتلف يرجع الى دعوى المضاف إليه - أعني كونه مالا للمدعي - لا إلى أصل الإتلاف.

والغرض من التمثيل بدعوى الاخوة التنبيه على أن المراد بفعل الغير أعم مما يكون بنفسه فعلا للغير أو مسببا عن فعله ، حتى لا يقال ان الملكية ليست فعلا لغير المقر ، فلا يكون دعواها دعوى لفعل الغير ، لأنها وان لم تكن بنفسها فعلا للغير الا أنها كالاخوة مسببة عن فعل الغير ، وهو المدعي مثلا.

ثمَّ ان فائدة الإتلاف هنا الغرم دون العين ، والغرامة هنا من جهة الحيلولة ، فيغرم ولو نكل وحلف المدعي أو بدون الحلف. ويتضح الحال في فروع المسألة في فرض المسألة.

قال في محكي القواعد : ولو كانت في يد ثالث حكم لمن يصدقه بعد اليمين منهما.

والظاهر أن ضمير « منهما » يرجع الى ذي اليد المقر وإلى المقر له ، أي يعينهما للآخر. وهذه عبارة أخرى عن أن له إحلافهما ، فلا يرد ما قيل من أنه لا مدخلية لحلف ذي اليد في الحكم بها لمن صدقه. فتدبر.

وان صدقهما فيقضي بينهما نصفين ولكل منهما إحلاف صاحبه وإحلاف الثالث ، فان نكل أحدهما عن الحلف اختصت العين بالحالف.

ثمَّ ليس له الدعوى على الثالث حينئذ لأنه وصل الى حقه. ومن محكي كشف اللثام يظهر أن له الدعوى عليه ان كان قد سلم العين الى الناكل فيغرم النصف. وفيه انه جمع بين العوض والمعوض. الا أن يوجه بأن ذا اليد المقر بعد فرض تسليمه نصف العين الناكل كان ضامنا للحالف بعد نكوله عن الحلف ، ولا يخرج عن الضمان بمجرد نكول الناكل واستحقاق الحالف للكل شرعا

ص: 137

بسبب حلفه اليمين المردودة ، بل يتوقف خروجه عن الضمان على وصول ذلك النصف الى يد الحالف ، فله - أي للحالف - حينئذ تغريم المقر وعدم التعرض لحال الناكل اما لعجزه عن انتزاع العين من يده أو لشي ء آخر ، كما تقدم نظيره في تعاقب الأيادي ، فإن المالك له تضمين الغاصب الأول ولو مع إمكان انتزاع العين من يد الثاني ، وحينئذ فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض. وليس مراده ذلك أيضا ، بل المراد أن الحالف له ترك الناكل على حاله وتغريم المقر.

ومنه يظهر أنه لو بدر بالدعوى على الثالث المقر فأغرم ثمَّ ادعى على الأخر فنكل وأخذ العين كلها رجعت الغرامة التي غرمها المقر.

وفروض المسألة بملاحظة النكول والحلف والابتداء بالدعوى على المقر أو بعد انقضاء أمر هما ستة ، لأنهما اما أن يحلفان أو ينكلان أو يحلف أحدهما دون الأخر ، وهذه الصور قد تكون بعد الدعوى على الثالث المقر أو قبلها ، وحكم الكل يظهر بالتأمل.

كما يظهر أيضا زيادة الاقسام بملاحظة حلف الثالث لهما أو نكوله كذلك أو الحلف لأحدهما والنكول للآخر. فتدبر.

وان أقر لأحدهما لا على التعيين ففي الحكم بالتنصيف أو القرعة وجهان بل قولان.

ويتفرع على الأول التحالف وعلى الثاني اختصاص الحلف عمن خرجت باسمه ، بمنزلة ذي اليد في كونه مالكا الى أن يعلم خلافه بينة أو نحوها مما هو ميزان للقضاء.

ومما ذكرنا ظهر الكلام فيما لو دفعهما معا ، فان الكلام فيه هو الكلام فيما لو تداعيا على عين مطروحة وان لم تكونا من باب واحد ، لأن الأولى داخلة في الدعوى بلا معارض ، فإنهما معا مدعيان ولا معارض لهما ، بخلاف الثانية فإن دفع ذي اليد

ص: 138

إياهما معارضة. نعم لو قال ليست العين لي أو لا أعرف صاحبها احتمل كونه من باب الدعوى على ما لا يد عليه.

وكيف كان فان حلف كل منهما لصاحبه أو نكلا فالحكم التنصيف والا فهي للحالف. واللّه العالم.

ص: 139

القول في تعارض البينات

التقاط [ كيفية الجمع بين البينات المتعارضة ]

إذا تعارضت البينتان فإن أمكن الجمع بينهما بصرف الظاهر الى النص أو الأظهر جمع بينهما. وليس المراد به جمعهما في استكشاف مراد البينتين إذ لا مسرح له من كلام اثنين ، بل المراد به الجمع بينهما في استكشاف الواقع ، كما إذا كان الجمع بين قوليهما ممكنا في الواقع ، بل أن يشهد أحدهما بالملك السابق والأخر بالملك الفعلي ، فإن الشهادة على الملك السابق انما تدل على الملك الاتي بالظهور لا بالنص ، بخلاف الشهادة على الملك الفعلي.

وهكذا كل ما يمكن الجمع بينهما ، مثل شهادة أحدهما بالملك من أصل أو دليل وشهادة الأخر بما يبطل معه ذلك الأصل. وهذا مع وضوحه يدل عليه أيضا بعض الاخبار :

ففي صحيحة أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يأتي

ص: 140

القوم فيدعي دارا في أيديهم ويقيم الذي في يده الدار أنه ورثها من أبيه لا يدرى كيف أمرها. قال «عليه السلام» : أكثرهم بينة يستحلف وتدفع (1).

وذكر أن عليا عليه السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة ، فقامت لهؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا وقامت لهؤلاء البينة بمثل ذلك.

فقضى بها لا كثرهم بينة واستحلفهم. قال : فسألته حينئذ أرأيت ان كان الذي ادعى الدار. قال : ان أبا هذا الذي هو فيها قد أخذها بغير ثمن ولم يقم الذي هو فيها بينة الا أنه ورثها عن أبيه. قال : إذا كان أمرها هكذا فهي للذي ادعاها وأقام البينة عليها (2).

فقد دلت على تقدير النص أو الأظهر عند تعارض البينتان ، لأنه في الحقيقة جمع بينهما على وجه يرتفع التعارض ، لان بينة ذي اليد انما تدل على الملك باعتبار حمل فعل مورثه على الصحيح وأخذ الظاهر يده على الدار. وأما بينة المدعي فهي صريحة في فساد يده وعدم كونها يد ملك ، ولذا قدمت على بينة ذي اليد.

لكن قد يشكل الأمر في الرواية ، بأن مصب السؤال في الصدر أيضا من قبيل تعارض الظاهر والأظهر ، لأن بينة ذي اليد ما شهدت الا بأن الدار من تركة أبيه بخلاف بينة المدعي فإنها شهدت بالملك الفعلي له.

وهذا مما يمكن فيه الجمع ، إذ لا منافاة بين كون الدار من تركة أبيه ظاهرا مع كونها مغصوبة أو مستأجرة أو نحوهما مما أبداه الراوي بسؤاله الثاني ، فما وجه العمل بمقتضى التعارض في السؤال الأول.

الا أن يقال : ان شهادتهم على الإرث شهادة على الملك الفعلي. وفيه : انها الشهادة بالملك عن سبب خاص ، فلا منافاة بينه وبين ما يقتضي فساد ذلك السبب

ص: 141


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

كما أبداه الراوي بسؤاله الثاني ، فإن هذا الاحتمال كان قائما في مصب السؤال الأول أيضا.

ثمَّ انه حكي عن بعض شراح الإرشاد تقسيم الجميع الى قريب كما في المثال المتقدم وإلى بعيد ، كما لو شهد أحدهما بالبيع من زيد غدوة ويشهد الأخر بالبيع من عمرو عشية ، فإن الجمع بينهما ممكن على بعض الوجوه البعيدة بإمكان صدور البيعين ، بأن كان قد باع أولا من زيد ثمَّ انتقل المبيع إلى البائع ثانيا قبل العشية بسبب من الأسباب فباعه ثانيا من عمرو ، ولا بأس به إذا كان أمرا غير بعيد بحسب حال البائع.

[ لو لم يمكن الجمع بين المتعارضين ]

هذا كله مع إمكان الجمع ، وان امتنع فاما أن يتعارضان أو يتكاذبان على ما يقضي به ظاهر عبارة القواعد وتقرير الفاضل في شرحه ، فإنه قدس سره جعل التكاذب غير التعارض وجعل محل الكلام والنزاع هو الأخير ، أما الأول فحكم فيه بالتساقط.

والكلام تارة في الفرق بينهما ، وأخرى فيما حكم به من التساقط في خصوص التكاذب دون التعارض :

( أما الأول ) فالظاهر - على ما يستفاد من ظاهر تمثيله - هو أن يكون منافاة قولي البينتين على القتل في وقت وتشهد الأخرى على الحياة في ذلك الوقت ، فان العلم حاصل إجمالا بتعمد أحدهما في الكذب ، إذ القتل والحياة من الأمور الحسية التي يندر وقوع الخطأ فيها ، فلا بد حينئذ أن يكون أحدهما كاذبا في اعتقاده.

ومثله ما مثله في محكي الكشف من أن تشهد بينة على أن هذا الولد ولدته

ص: 142

هذه المرأة وتشهد أخرى بأنه بعينه ولدته امرأة أخرى ، فإن العلم الإجمالي في مثله أيضا حاصل بكذب أحدهما.

الا أن احتمال الخطأ في الثاني أمر ممكن ، وعلى هذا يعم التكاذب الصورتين ويكون المراد به كل ما علم فيه بكذب احدى البينتين كذبا خبريا اما من جهة التعمد أو من جهة الخطأ ويكون المراد بالتعارض حينئذ مالا يعلم ذلك فيه ، كما إذا شهدت إحداهما بملكية العين لزيد وأخرى لعمرو ، إذ من المحتمل صدق كل منهما بحسب معتقد هما من دون أن يكون مخطئا ، بأن يكون مستند شهادة أحدهما شيئا من أصل أو دليل ومستند الأخر من غيره. الا أن العمل بمقتضاهما لما كان ممتنعا عدا من المتعارضين.

ومن هنا ظهر الفرق بين المتعارضين وبين ما يمكن فيه الجمع ، بأن يكون إحداهما ظاهرا بالمعنى المتقدم والأخرى أظهر.

( وأما الثاني ) - أعني كون الحكم في المتكاذبين التساقط ليس الا - فهو يتجه فيما فرضه في القواعد ، أعني مثال القتل وكل ما هو مثله من الفروض ، لان التساقط عبارة عن فرض البينتين كالعدم ، وهو متعين في مثال القتل بعد عدم الترجيح أو عدم الأخذ به ، إذا لا مسرح لا عمال كل من البينتين هنا في الجملة كما يدعيه الشيخ قدس سره ، ولا مجال أيضا للقرعة كما لا يخفى. فلا بد من التساقط والعود إلى الحالة الأولية ، أي حال عدم إقامة البينة رأسا فلا تحالف ومثله كل ما هو من باب المدعي والمنكر.

وأما ما يرجع الى التداعي - كالمثال الذي أضافه في كشف اللثام الى مثال القواعد - ففيه مشكل ، لأن الوظيفة حينئذ الرجوع الى القرعة بعد العلم الإجمالي بكذب إحداهما ، فيتعين ما هو الحجة من البينتين بها.

ويمكن إرجاع مثال الكشف الى غير التداعي ، بأن تشهد احدى البينتين

ص: 143

بما ينافي شهادة الأخرى لا بما يضاده. مثلا شهدت إحداهما على ولادة امرأة معينة لولد معين في بلد معين في وقت كذلك وشهدت أخرى بأن هذه المرأة عقيمة من أول عمرها مثلا أو أنها في غير ذلك البلد في ذلك الوقت مثلا ، فحينئذ يكون الحكم بالتساقط متجها.

وكيف كان فلنتكلم في حكم تعارض البينتين :

التقاط [ تعارض البينة في الملك مع عدم إمكان التوفيق ]

اشارة

إذا تعارض البينتان في ملكية العين على وجه لا يمكن معه التوفيق بينهما فلا يخلو الحال عن أمور أربعة : لأن العين اما أن تكون في يديهما أو في يد أحدهما أو في يد ثالث ، أو لا تكون في يد أحد ، فهاهنا مسائل :

( المسألة الاولى ) : ( أن تكون العين في أيديهما )

وحكم المسألة حينئذ القضاء بينهما نصفين بلا خلاف في ذلك على ما في المسالك ، وانما الخلاف في سببه.

فقيل بأن الوجه في ذلك تعارض البينتين وتساقطهما ، فيبقى يد كل منهما بالنسبة إلى النصف المشاع قاضية بالملكية كما لو لم تكن بينة أصلا ، فإن الحكم فيه التنصيف كما سبق في الالتقاط السابق وأنه لأجل اعمال السببين المتزاحمين بقدر الإمكان كما قيل ، أو لأجل أن الأيادي المجتمعة ليست دليلا على الملك عرفا وشرعا إلا في النصف مثلا أو الثلث كما هو الحق.

وقيل ان الوجه هو ترجيح بينة لكل منهما بالنسبة الى ما استولت عليه يده ،

ص: 144

أعني الاعتضاد باليد وإلقائها بالنسبة إلى النصف الخارج ، بناء على ترجيح بينة الداخل على بينة الخارج.

وقيل ان الوجه عكس ذلك ، وهو ترجيح كل منهما بالنسبة إلى النصف الذي هو في يد صاحبه لا النصف الذي في يده بناء على ترجيح بينة الخارج.

ولعل هذا هو المشهور ، والكلام في ذلك تارة في حقيقة الأقوال وأخرى في التحالف :

( أما الأول ) فالظاهر أن القول المشهور - وهو الأخير - أقوى ، إذ الأول لا وجه له ، لان بينة ذي اليد ليست حجة بالنسبة الى ما في يده ، فبينة كل منهما حجة بالنسبة إلى النصف الذي في يد صاحبه لا بالنسبة الى ما في يده. ولا تعارض بين البينتين بالنسبة إلى النصف الخارج ، والتساقط يتوقف على تعارض الحجتين.

والحاصل ان بينة كل منهما وان كانت معارضة بالنسبة إلى الأخرى في مجموع مؤداهما الا أن حجيتهما بالنسبة الى بعض المؤدى - وهو النصف الخارج الذي تحت يد صاحبه - وفي هذا البعض لا تعارض بينهما كما لا يخفى ، فيعمل ببينة كل منهما في المقدار الذي هي حجة فيه ، ويحكم بذلك بملكية كل منهما لما في يد صاحبه.

فالقول بالتساقط هنا ساقط عن الاعتبار ، سواء قلنا في تعارض بينة الداخل والخارج بالتساقط أو بترجيح بينة الداخل أو الخارج : أما على الأول فلما عرفت من أنه لا تعارض هنا بينهما فيما هما حجتان فيه. وأما على الأخير فواضح لان ترجيح بينة الداخل يقتضي المصير الى القول الثاني وترجيح بينة الخارج القول بالثالث ، فالتساقط لا وجه له.

نعم لو قلنا بأن بينة الداخل حجة شرعية مثل بينة الخارج كان القول

ص: 145

بالتساقط متجها ، لما ذكرنا مرارا أن الأصل في تعارض الامارات هو التوقف والتساقط. لكنه مبنى ضعيف ، إذ الظاهر أن بينة الداخل ليست حجة شرعية.

وقولهم بترجيح بينة الداخل. مبني على التعبد بما دل عليه بعض الروايات وبترجيح بينة الخارج مبني على المسامحة ونسبة عدم الحجية بالمرجح نظرا الى تعارض البدوي.

والحاصل ان القول بالتساقط متجه لو بنينا أن بينة الداخل حجة شرعية مثل بينة الخارج ، والا فأي القولين في مسألة تعارض بينة الداخل والخارج أخذنا فلا وجه للقول بالتساقط هنا.

وأما على القول الثاني فلان مبنى ترجيح بينة الداخل على الخارج أحد أمور لا يجري شي ء منها في المقام :

أحدها - النص كما سيجي ء ، وظاهر أن مورده ما إذا كانت العين في يد أحدهما ، ولا يمكن التعدي إلى المقام لتنقيح المناط : أما أولا فلان هذا التفصيل - أعني ترجيح بينة الداخل إذا كانت في يد أحدهما لا في أيديهما - وارد في الاخبار فكيف يتعدى. وأما ثانيا فلان حكمة ترجيح بينة الداخل لعله الاعتضاد باليد ، وهو غير موجود فيما نحن فيه كما ستعرف.

وثانيها - الاعتضاد ، بأن يقال ان بينة الداخل مؤداها ومؤدى اليد واحد وهو ملكية ذي اليد ، فيحصل التعاضد ويقدم على بينة الخارج. وهذا أيضا لا يجري في المقام :

أما أولا : فلان مؤدى اليد كون النصف هو مجموع ملك ذي اليد ومؤدى البينة كونه بعض ملكه ، فلم يتحد مؤداهما حتى يحصل الاعتضاد. بخلاف ما لو كانت العين بيد أحدهما ، فإن يده وبينته كليهما قاضيان بأن مجموع العين ملك لذي اليد ، فيحصل التعاضد لتطابق المؤديين. فتأمل.

ص: 146

وبعبارة أخرى : ان مقتضى مجموع اليدين كون كل واحد مالكا للنصف بشرط لا ، أي بشرط عدم ملكية نصف الأخر ، فمقتضى يد كل منهما هو ملكية النصف منفردا ومقتضى بينة كل واحد هي ملكية النصف بشرط الانضمام ، أي في ضمن المجموع. ومن الواضح أن ملكية النصف منفردا غير ملكية منضما ، فبين مدلول يد كل منهما وبينته تعارض وتناقض فكيف يحصل التعاضد.

والسر في ذلك ان الاخبار بملكية مجموع العين اخبار واحد بسيط لا يقبل التبعيض في مدلوله من حيث الظن ، فاذا يحصل من المعاضد الظن بالمجموع لم يحصل منه تقوية الظن في البعض أيضا. فتدبر.

وأما ثانيا : فلان الجهة التي يحصل بسببها الاعتضاد بعينها يحصل بها التوهين أيضا ، لأن الاعتضاد انما حصل بسبب البينة ، والمفروض أن قضية البينة المعارضة عدم دلالة اليد على الملك.

الا أن يقال : ان لكل واحد من اليدين بالنسبة إلى ملكيه النصف جهة اعتضاد وجهة توهين ، فينظر إلى الجهة المعاضدة ويؤخذ بها دون الجهة الموهنة.

وفيه : ان ذلك نظير اجتماع الأمر والنهي ، فان الجهة المعاضدة بعد مقابلتها بالجهة الموهنة تخرج عن جهة الاعتضاد ، فيد كل منهما وان كان يؤيدها ويعاضدها بينة صاحبها الا أنه يوهنها بينة الأخر ، فلا يحصل التعاضد. بخلاف ما إذا كانت العين في يد أحدهما ، فإن اليد فيه يعاضد للبينة ويؤيدها من غير معارضة.

وأما ثالثا : فلان يد كل منهما وان كان يصدق البينة في النصف الا أنها مكذبة لها من جهة أخرى ، لأن قضية اليدين ليست الا الحكم بملكية كل منهما للنصف بشرط لا ، وهذا المعنى يكذب البينة ولو بالنسبة إلى النصف أيضا ، لأن مدلول

ص: 147

البينة ملكية الكل فالذي مدلوله النصف بشرط لا مكذب لهما ، لأن ملكية النصف بشرط لا خلاف ما يقضي به البينة ولو في النصف.

والفرق بين هذا الوجه والأول هو أن مبنى الأول على منع الاعتضاد ومبنى هذا الوجه على دعوى التوهين وان كان ملاك كل من الوجهين واحد الا ان التوهين انما ندعيه من الوجه الذي ادعينا بسببه عدم الاعتضاد ، وهو تضاد مدلول اليد ومدلول البينة بالنسبة إلى النصف. فليتدبر.

وثالثها - تعارض البينتين وبقاء يد الداخل سليمة عن المعارض ، فان هذا أحد وجوه تقديم بينة الداخل وان كان ضعيفا.

وهذا قد عرفت ضعفه ، لأن قضية ذلك هو القول الأول أعني التساقط ، وأما الثاني أعني التحالف فجملة الكلام فيه أن التحالف هنا لا بد أن يعلل بأحد أمور :

الأول : النص ، وهو خبر إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السلام ان رجلين اختصما الى أمير المؤمنين عليه السلام في دابة في أيديهما وأقام كل واحد منهما البينة على أنها نتجت عنده ، فأحلفهما علي «عليه السلام» فحلف واحد وأبى الأخر أن يحلف ، فقضى بها للحالف (1).

الثاني : التساقط ، أي تساقط البينتين بعد تعارض خارج كل منهما بداخل الأخر بناء على حجية الداخل كبينة الخارج ، كما يدل عليه ذيل الرواية المتقدمة قال بعد ما ذكر فقيل له فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البينة. قال : أحلفهما فأيهما حلف ونكل الأخر جعلتها للحالف ، فان حلفا جميعا جعلتهما بينهما نصفين قيل : فان كانت في يد أحدهما وأقاما جميعا البينة. قال : أقضي بها للحالف الذي هو في يده. فدل باستحلاف ذي اليد على حجية بينته مع بينة الخارج

ص: 148


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 2.

وتساقطهما ، لان حلف ذي اليد ينافي عدم حجية بينته بعد كون المدعي قد أقام البينة فلا بد أن يكون حجة.

ثمَّ بعد ذلك يحكم بتساقط البينتين معا ، إذ مع ترجيح احدى البينتين أيضا لا وجه لإحلاف ذي اليد ، لان الراجح ان كان بينته استغنى عن اليمين ، لان بينة المنكر على تقدير حجيتها وسماعها لا يمين معها ، وان كان الراجح بينة المدعي الخارج فلا وجه أيضا لا حلاف المدعى عليه الداخل كما لا يخفى. فاذا تساقطا فلا بد في القضاء لكل منهما من التحليف ، كما لو تنازعا ولا بينة لأحدهما ، لأن كلا منهما بالنسبة الى ما في يد الأخر مدعى له إحلافه.

الثالث : الحكم بأن اليدين المجتمعتين في حكم التساقط وعدم اليد رأسا ، وهذا بناء على ما مضى في الالتقاط السابق من عدم كون اليد على الكل مع الاشتراك دليلا على ملك النصف عرفا وان اليد المشتركة بمنزلة السبب الذي يزاحمه غيره ، فإن الإحلاف حينئذ يتجه أيضا لو قلنا في تعارض البينتين على ما لا يد لأحد عليه بالإحلاف ، كما يأتي في المسألة إنشاء اللّه تعالى.

وهذه الوجوه الثلاثة كلها ضعيفة :

( أما الأول ) فلان التعبد برواية غير واضحة السند في مقابلة القواعد العامة - كقاعدة البينة على المدعي واليمين على من أنكر مثلا - من غير عمل معتد به كما ترى.

( وأما الثاني ) فمع أن الاستدلال به مبني على عدم الفرق بين الدخول والخروج الحسيين والمعنويين ، لان العين كانت في أيديهما معا فيكون كل منهما داخلا بالنسبة إلى النصف وخارجا بالنسبة إلى النصف - كما هو المختار - أمر معنوي اعتباري ، والا فبحسب الظاهر كل منهما ذو اليد وداخل فلا خارج.

فلا بد في الاستدلال بذيل الرواية الواردة فيما إذا كان ذو اليد أحدهما

ص: 149

خاصة على التساقط فيما إذا كانت في أيديهما من ادعاء مقدمة أخرى يمكن منعها (1) ، وهي عدم الفرق بين الخروج الحتمي والحكمي ، معارض برواية منصور عن الصادق عليه السلام قال : قلت له : رجل في يده شاة فجاء رجل فادعاها وأقام البينة العدول أنها ولدت عنده ولم يهب ولم يبع وجاء الذي في يده بالبينة مثلهم عدول انها ولدت عنده ولم يبع ولم يهب. قال عليه السلام : حقها للمدعي ولا أقبل من الذي في يده بينة ، ان اللّه عزوجل إنما أمر أن يطلب البينة من المدعي فان كانت له بينة والا فيمين الذي هو في يده ، هكذا أمر اللّه عزوجل.

لأنها تدل على عدم قبول البينة من الداخل وعدم حجيتها حتى يعارض ببينة الخارج فيتساقطان ، فان رجحنا هذه الرواية والا فلا بد من الرجوع الى ما دل بعمومه على التنصيف في تعارض البينتين من غير تحالف أو الى قوله « البينة على المدعي واليمين على المنكر » ، حيث أن مقتضاه عدم التحالف أيضا ، لأن كلا منهما بالنسبة الى ما في يد صاحبه مدعي وله بينة ولا يمين معها.

فان قلت : قد بينت وفاقا لغير واحد فيما تقدم أن البينة من المنكر مسموعة وأنها مسقطة ليمينه بناء على أن قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » لا يدل على أزيد من رفع إلزام المنكر بالبينة كالمدعي ، أما لان اللزوم المدلول عليه بكلمة « على » وارد في مقام توهم الكلفة - أي كلفة إقامة البينة على المنكر أيضا - أو لأن المراد عدم قبول البينة من المنكر في جهة إنكاره ونفيه ، فلا ينافي قبولها منه إذا ادعى أمرا ثبوتيا قابلا لإقامة البينة عليه ، فرواية منصور على ما بينت سابقا لا بد من الاعراض عنها.

قلت : قد بينا سابقا على ما ذكرت في غير مقام التعارض ، بأن يكون المنكر

ص: 150


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 14.

مستطيعا على إقامة البينة على أمر وجودي مستلزم لصدق قوله ، كما في مدعي الإعسار الذي هو منكر حقيقة ، وأما في مقام التعارض فلا. وقد نبهنا على ذلك هنالك أيضا ، وهو موافق للحكمة غالبا ، لان بينة المنكر إذا وقعت في مقابل بينة المدعي فغالبا تكون من قبيل وقوع الظاهر في مقابل الأظهر ، لجواز اعتماد البينة على يد المنكر أو الأصل الذي به صار المنكر منكرا ، فمن أجل هذه الحكمة أمكن القول بالفرق بين صورة التعارض وغيرها.

ولا يقدح في ذلك عدم مجي ء هذه الحكمة في بعض الصور ، كما إذا شهدت بينة المنكر بالملك مع الاستناد الى سبب آخر غير اليد ، لأن الحكمة لا يجب أن تكون مطردة.

والحاصل ان سماع بينة المنكر وكفايتها عن اليمين مع عدم المعارض ، وأما معه فالظاهر عدم حجيتها رأسا ، فلا يصغى بعد إقامة المدعي البينة إلى قول المنكر أن له البينة. ولعل هذا مراد المشهور من تقديم بينة الخارج ، الا ما يقضي به ظاهره من الترجيح المبني على حجية الطرف المقابل.

( وأما الثالث ) فلما ظهر سابقا من أن اليد المشتركة في العرف والشرع دليل على ملكية النصف ، فلا وجه للحكم بتساقط اليدين وكون المسألة من باب تعارض البينتين على مالا يد لأحد عليه. فظهر مما ذكرنا أن المشهور - أعني عدم التحالف - هو المنصور. واللّه العالم.

المسألة الثانية : ( ما إذا كانت العين في يد أحدهما )

اشارة

وصورها ثلاث : لأنه اما أن يقيم البينة المدعي خاصة ، أن المنكر كذلك أو يقيمان معا.

ص: 151

ولا إشكال في الصورة الاولى ، وأما الثانية ففي سماع بينة المنكر حينئذ وجهان بل قولان قد تقدما من ظاهر قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » ومن أن مطالبة اليمين من المنكر مبنية على الترفيه والتخفيف ودفع العسر ، فلا يدل على عدم القبول لو أقامها.

توضيح المقال : انه لا شبهة في أن مقتضى ظاهر قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » بملاحظة تعريف المسند إليه في الفقرتين حصر جميع أفراد البينة في المدعي وجميع أفراد اليمين في المنكر ، أي كل بينة على المدعي وكل يمين على المنكر. وقضية ذلك عدم سماع البينة من المنكر رأسا والا لا نتقض الكلية الأولى.

الا أن هنا ما يصرفه عن ظاهره الى إرادة نفي الإلزام دون القبول ، فيكون الملحوظ في الكلية الأولى اللزوم دون القبول ، وذلك من وجهين :

أحدهما : ان الأمر بالنسبة إلى البينة أخف ، لأن إقامة البينة كلفة واضحة بخلاف اليمين ، وتعين الأمر الأخف على شخص دون الأثقل لا يفيد عرفا سوى الترفيه والترخيص وعدم الإلزام بالأثقل ، نظير الأمر الوارد في مقام وهم الحظر وحينئذ يكون قوله « اليمين على المنكر » أن وظيفته التي لا يسعه التخلف عنها هي اليمين. وأما أنه لو أقام البينة فهل يقبل منه أم لا ، فهو ساكت عنه ، فلا بد فيه من الرجوع الى ما دل على عموم حجية البينة.

والثاني : ان مدلول قوله « اليمين على من أنكر » عدم قبول البينة منه من حيث إنكاره ، فلا يمنع ذلك عن قبولها منه من جهة أخرى راجعة إلى الإثبات.

ويؤيده أن حكمة رفع البينة عن المنكر كون إقامة البينة على الإنكار المحض عسرا ، كما يدل عليه تعليل مطالبة اليمين من المنكر في علل فضل بن شاذان

ص: 152

بأنه جاحد والجاحد لا يستطيع على إقامة البينة. فإذا فرض دعوى المنكر أمرا وجوديا كان حاله كحال المدعي من حيث

العسر واليسر ، فلا تجرى فيه تلك العلة بل يرجع فيه الى عمومات حجية البينة. وحينئذ فلا بد من التصرف في ظاهر قوله عليه السلام « ولا أقبل من الذي في يده البينة » في رواية منصور المتقدمة بحمله على عدم القبول في صورة التعارض كما هو مورد تلك الرواية فدعوى عمومها لصورتي التعارض وعدمه موهونة بملاحظة ما ذكرنا من الوجهين في معنى قوله عليه السلام « اليمين على من أنكر » فينزل قوله « ولا أقبل » في رواية منصور على صورة التعارض بإرادة العهد من الموصول دون العموم.

( وأما الصورة الثالثة ) فاختلف فيها من حيث الترجيح بالدخول والخروج مطلقا أو التفصيل من حيث الأكثرية والأعدلية إلى أقوال ، وجملة القول فيه أن المرجحات المتصورة في تعارض بينة الداخل والخارج ثلاثة أو أربعة.

وليعلم أن المراد بالدخول والخروج موافقة كل أصل أو دليل شرعي ومخالفتهما ، فليس المراد بالداخل خصوص ذي اليد وبالخارج خصوص غيره بل ما يعم مدعي الصحة في العقد مثلا أيضا.

الأول : من المرجحات النص ، بأن ثبت من الاخبار تعبدا أنه إذا تعارضت البينتان قدم الداخل أو الخارج.

والثاني : احتمال أحدهما بعض المحامل الذي لا يوجد في الأخر ، كما في صورة الشهادة على الملك المطلق ، فان فيه من الاحتمالات الغير المنافية لعدم الملك واقعا ما ليس في الشهادة عليه بالسبب المعين المحسوس. مثل أن يشهد أحدهما بالملك وسكت عن السبب ويشهد الأخر بسببه كالحيازة مثلا ، فان هذه الشهادة بموجبها صريحة في الملك ، بخلاف الأول فإن الملك المطلق الذي

ص: 153

شهدت به البينة يحتمل كونها ظاهرية مستندة الى أصل أو أمارة ، وهذا المرجح يجري مجرى المرجحات الدلالية في الاخبار.

والثالث : أن يكون احتمال الكذب الخبري في أحدهما أبعد منه في الأخر كاحتمال الكذب في خبر الأعدل فإنه أبعد منه في خبر العادل ، وكذا الأكثر أو الأضبط أو نحوهما مما يوجب الترجيح بحسب الصدق والكذب الخبريين.

وهذه تجري مجرى المرجحات السندية والمضمونية في الاخبار.

وهذه المرجحات الثلاث مرتبة ، فمع وجود الاولى لا يلتفت الى الأخيرين لأن الحكم التعبدي في مورد التعارض هو المتبع كالتخيير أو ترجيح ما وافق الاحتياط في تعارض الاخبار على اختلاف المذاهب. ومع وجود الثاني لا يلتفت الى الأخير أيضا ، لأن الأخذ بذلك المرجح حقيقة جمع عملي بين البينتين ، فإن الأخذ بمقتضى مالا يحتمل إلا الملكية الواقعية مثلا لا ينافي فساد قول من يحتمل مع قوله عدم الملكية الواقعية.

إذا تحقق ذلك فنقول : مقتضى الأصل الأولي المستفاد من عموم ما دل على حجية قول العدلين في الموضوعات أنه إذا تعارض بينة المدعي والمنكر كالتساقط ، لأنه الثابت في الأمارات والحجج الشرعية المتعارضة. لكنه في باب القضاء استفدنا من أدلة هذا الباب أن بينة المدعي علة تامة في إثبات الحق على المنكر بحيث إذا كان له بينة فلا يلتفت بعد ذلك الى شي ء آخر حتى السلامة عن المعارض.

وبعبارة أخرى : يستفاد منها أن بينة المدعي بالنسبة إلى إثبات الحق على المنكر ليست كسائر الحجج القابلة للمعارضة ، بأن تكون مقتضية لإثبات الحق بل هي علة تامة يترتب على مجرد وجودها ثبوت الحق على المنكر. وهذه الاستفادة من وجوه :

ص: 154

أحدها : ظاهر الاخبار الناطقة بأنه إذا أقام المدعي البينة قضي له (1). فإنها بإطلاقها تدل على عدم إيقاف الحكم لاحتمال قيام المنكر أيضا ببينته والنظر من ترجيح أحدهما على الأخر ، وهذه وبين قولي وفعلي وظاهر وأظهر كما لا يخفى على المتتبع.

وثانيها : قوله عليه السلام « استخراج الحقوق بأربعة » (2) ، فإن ظاهره ولو بمعونة وروده في مقام إعطاء الميزان كون كل واحد من الأربعة علة تامة لا يترقب مع وجود أحدها وجود شي ء آخر حتى السلامة عن المعارض في القضاء.

وثالثها : رواية منصور المتقدمة (3) ، دلت بصريحها على عدم قبول البينة من الذي في يده العين.

ورابعها : قوله عليه السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (4) بضميمة قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (5) وقوله « احكام المسلمين على ثلاثة : بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية » (6) ونحوها مما دل على أن كل واحد من البينة والايمان علة تامة للقضاء ، فاذا استفدنا منها كون كل واحد منها علة تامة ثمَّ استفدنا من قوله عليه السلام « البينة على المدعي » أن المطالب بالبينة هو المدعي استفدنا عدم احتياج المدعي بعد إقامة البينة إلى شي ء آخر في إثبات الحق على المنكر حتى السلامة عن المعارض. نعم يحتاج الى تعديل

ص: 155


1- الوسائل ج 18 ب 2 و 3 من أبواب كيفية الحكم.
2- الوسائل ج 18 ب 7 من أبواب كيفية الحكم ح 4.
3- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 14.
4- الوسائل ج 18 ب 3 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
5- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
6- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

بينته للجهل بحالها ، لكنه أمر يتحقق به موضوع البينة وليس أمرا زائدا عليها يحتاج إليه المدعي.

فان قلت : مقتضى جميع ما ذكرت كون يمين المنكر أيضا علة تامة ، ومن الواضح أنه لا يجتمع عليتها وعلية البينة للمدعي ، لاستحالة اجتماع علتي الحكمين المتناقضين ، فينكشف من ذلك كون كل واحد من البينة واليمين مقتضيا للحكم لا علة ، لأن الجمع بين مقتضى المتناقضين أمر ممكن.

قلنا : هذا انما يتجه إذا كان مرتبة اليمين في مرتبة البينة ، وأما إذا كانتا مترتبتين - بأن كانت مرتبة أحدهما بعد عدم الأخر كمرتبة اليمين بالنسبة إلى مرتبة البينة حيث قضت الضرورة بعدم كون اليمين ميزانا مع بينة المدعي - فلا استحالة في كون كل واحد منهما علة تامة للقضاء في مورده وموضع استعماله.

فان قلت : قد بنيت على أن بينة المنكر مع عدم المعارض أيضا حجة مسموعة مغنية عن اليمين ، وهذا البناء يستلزم البناء على كون بينة المدعي مقتضية لا علة تامة ، لان موازين القضاء كلها من باب واحد من حيث كونها علة أو مقتضية ، ويستحيل اجتماع العلتين لأمرين متناقضين الا على وجه الترتيب ، والقدر المسلم انما هو الترتيب بين يمين المنكر وبينة المدعي ، وأما الترتيب بين بينته وبينة المدعي فهو أول الكلام ، وحينئذ لا بد من حمل الموازين على كونها مقتضية لا علة.

قلت : يثبت الترتيب بينهما أيضا بملاحظة ظهور ما ذكرنا في كون بينة المدعي علة تامة وعدم ظهور دليل قبول البينة من المنكر إلا في كونها مقتضية ، وذلك لان ذلك الدليل ليس سوى عمومات حجية قول العدلين ، ومن الواضح عدم دلالته الا على كون قولهما مقتضيا قابلا للمعارضة. فإذا لاحظنا ذلك ولاحظنا

ص: 156

ظهور أدلة حجية بينة المدعى في كونها علة تامة حصل من هاتين الملاحظتين تأخر رتبة بينة المنكر عن بينة المدعي ، فلا تسمع الا بعد أن لم تكن للمدعي بينة.

وبالجملة قد استفدنا من باب القضاء أن بينة المدعي بالنسبة إلى إثبات الحق على المنكر علة تامة ، وهذه الاستفادة أمر زائد على ما يقضي به عموم حجية البينة ، فإنه لا يفيد سوى كونه مقتضيا قابلا للمعارضة.

وقضية هذه الاستفادة تقديم بينة المدعي على بينة المنكر في صورة المعارضة ، لأن الدليل على حجية بينة المنكر على القول به لا يزيد مؤداه على كونها حجة مع عدم المعارضة ، كما هو الشأن في جميع أدلة الامارات ، فإنها انما تدل على حجتها الفعلية مع عدم المعارضة ، فلا يقاوم بينة المدعي التي ثبت كونها حجة مطلقا.

فان قلت : لو كان بينة المدعي حجة فعلية مطلقا - أي علة تامة للقضاء - لم يتصور تعارض البينتين في التداعي مثلا ، مع أن بطلان التالي واضح.

قلت : يمكن أن يقال انا استفدنا من أدلة القضاء كونها حجة فعلية وعلة تامة بالنسبة إلى ثبوت الحق على المنكر خاصة ، فيختص حينئذ بما إذا كان المقام من مقام المدعى والمنكر لأمن مقام التداعي ، لأنه الذي يستفاد من المأثور قولا وفعلا.

ثمَّ لا يذهب عليك أن الأدلة الفعلية ليست محتملة في الباب حتى يمنع دلالتها على المدعي الاستدلال ، فاذا حكم الصادق عليه السلام وذكر قضية من الرسول صلى اللّه عليه وآله أو من الأمير عليه السلام في مقام الاستدلال على ذلك والاستشهاد له ، كان جميع ما في تلك القضية من الإطلاق والتقييد حجة كالقول.

مضافا الى أن سياق الروايات الحاكية عن قضايا الرسول صلّى اللّه عليه

ص: 157

وآله مثل ما يقرب معنى من أنه كان رسول اللّه «صلی اللّه علیه و آله و سلم» إذا اختصم اليه رجلان يقول للمدعي : ألك بينة؟ فان قال نعم قضى بها وان قال لا أحلف المنكر (1).

وما أشبهها وسائر ما بها من خصوصيات التعبير ، ربما يفيد العلم لو لم يفد الظن بأن المدعي مع إقامة البينة يقضي وليس للحاكم بعدها حالة منتظرة أخرى كالسلامة عن المعارض ونحوها. هذه قضية القاعدة مع قطع النظر عن الروايات الواردة في المسألة.

وأما الروايات : فمنها ما يدل على تقديم بينة الخارج أيضا ، مثل رواية منصور المتقدمة (2) ، ودونها في الدلالة المرسل المروي في كشف اللثام عن الأمير عليه السلام. ومنها ما يدل على تقديم بينة الداخل ، وهي رواية جابر عن فعل النبي «صلی اللّه علیه و آله و سلم» ورواية غياث بن إبراهيم. ومنها ما يدل على ترجيح الأكثر كخبر أبي بصير المتقدم.

وهذه الروايات من حيث السند كلها غير نقية ، وليس في بعضها ترجيح على الأخر ترجيحا يمكن الركون اليه ، الا أن ما دل على ترجيح الخارج أظهر من حيث الدلالة من الباقي ، لأن رواية منصور صريحة في عدم قبول البينة من ذي اليد اما مطلقا أو مع وجود المعارض. وأما روايتا جابر وغياث فهما حاكيتان عن الفعل ، وهو على تقدير اعتباره لا يقاوم دلالة القول. وأما رواية أبي بصير ففي صدرها اضطراب قد سبق إليه الإشارة ، لأنه من مواضع الجمع لأمن مواضع الترجيح ، فلم يبق الا الذيل. وعلى أي حال فرواية منصور أظهر دلالة من الكل.

ثمَّ ان النسبة بينها تباين كلي كما لا يخفى ، فعلى تقدير التخيير لم يبطل

ص: 158


1- الوسائل ج 18 ب 6 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 14.

أيضا ما في رواية منصور ، وكذا على تقدير التساقط ، لما عرفت من القاعدة المطابقة لمضمونها.

وأما روايات القرعة فلا عامل بها عملا معتدا به.

ثمَّ ان ما قويناه من تقديم بينة الخارج لا اشكال فيه في صور ثلاث ، وهي أن يشهد كل من البينتين بالملك المطلق أو بالملك المسبب أو شهد بينة الخارج بالمسبب والداخل بالمطلق ، وان كان الحكم في الأول والثالث أظهر منه في الثاني ، لنهوض جميع ما استدللنا به على ترجيح بينة الخارج في تلك الصور خصوصا الثاني الذي هو مورد رواية منصور.

لان يقال : تقديم بينة الخارج في الثانية وان نطق به رواية منصور الا أنه بعيد عن الاعتبار وعما يقضي به النظر في القواعد العامة ، لأن بينة الداخل بعد أن كانت حجة في نفسها وشهدت بالملك المسبب كانت في رتبة بينة الخارج في القوة مضافا الى اعتضادها باليد ، فتقديم بينة الخارج حينئذ تعبدا محضا لمضمون رواية منصور أمر مشكل.

قلت : لا اشكال فيه بعد ما عرفت من اعتضاد مضمون تلك الرواية بما يدل عليه قوله « البينة على المدعي » وقوله « إنما أقضي بينكم » ونحوها مما مر من كون بينة المدعي علة تامة غير قابلة للمعارضة أصلا. وليس ذلك أمرا تعبديا محضا بل عليه بناء العرف أيضا ، لأن صاحب الحق بعد أن كان له طريق الى التوصل الى حقه بإقامة الحجة فلا معنى لتعطيل حقه باعتبار جعل حجته معارضة لحجة من عليه الحق.

والحاصل ان الحجج الشرعية والعرفية إنما شرعت ووضعت للتوصل الى الحقوق ، فلا بد من كفايتها بذلك المهم صونا للحقوق عن الضياع ، وأما من عليه الحق فليس له حق حتى يصغى الى حجته في مقابلة حجة المدعي. وغاية

ص: 159

ما يقضى به عموم ما دل على حجية البينة سماعها ممن عليه الحق إذا لم يكن لصاحبه حجة على ثبوته ، واما في مقابل حجته فلا.

وأما إذا شهدت بينة الخارج بالملك المطلق وبينة الداخل بالملك المسبب ففي تقديم بينة الخارج أيضا إشكال ، من عموم ما استدللنا به على تقديم بينة الخارج وكونها علة تامة حتى رواية منصور باعتبار عموم ما فيها من التعليل ، ومن أن تقديم بينة الداخل في هذه الصور.

ربما يقال انه جمع بينهما لا ترجيح ، لان الملك المطلق يحتمل احتمالات لا يحتمل الملك المقيد المستند الى سبب خاص بحيث يوجد من بين تلك الاحتمالات احتمال أو احتمالات لو حملت الشهادة عليه لم تكن منافية لشهادة بينة الداخل على الملك المقيد.

مثلا : إذا شهدت بينة ذي اليد على الشراء من زيد المدعي وشهدت بينة على الملك المطلق كان العمل بشهادة بينة الداخل أوثق وأقرب بالواقع وأدخل في وجوب العمل بالبينات ، لان كل واحدة من البينتين متساوية في الاحتمالات النافية للواقع الراجع الى صفات البينة من حيث تعمد الكذب أو الخطأ والنسيان أو نحو هما. وتزيد بينة الخارج على بينة الداخل بأن فيها احتمال الاستناد الى استصحاب وليس في بينة الداخل هذا الاحتمال. وأما احتمال الفسخ بعد الشراء فهو معارض باحتمال الشراء بعد الفسخ أيضا.

والحاصل ان الشهادة بالملك المطلق وان كانت حجة شرعية في إثباته ما لم يعلم باستناده الى ما لا يعارض اليد وان احتمل ذلك الا أنه إذا وقع التعارض بينها وبين الشهادة بالملك المقيد السالم عن ذلك الاحتمال ، فمقتضى الجمع هو تقديم الشهادة على الملك المقيد.

والدليل على هذا الجمع هو عموم أدلة حجية البينة ، فإن مقتضى ذلك

ص: 160

العمل بمقتضى البينة الصريحة ، فإن العمل بها ليس تكذيبا للبينة الظاهرة ، بخلاف العكس فان العمل بالبينة الظاهرة تكذيب للعمل بالبينة الصريحة.

وهذا غير مستبعد من بناء الفقهاء أيضا ، بل الظاهر أن بناءهم على ذلك حيثما يتعارض البينتان واحتمل في أحدهما ما لا يحتمل في الأخرى ، فإنهم يقدمون الغير المحتمل فيه كما يأتي إنشاء اللّه بعض الإشارة إليه عند اختلاف البينتين في الملك بالقدم والحدوث.

وهذا الجمع هو الذي جعلناه القسم الثاني من أقسام الترجيح فيما سبق ، فإنه ترجيح من وجه وجمع من آخر.

ولا يبعد دعوى بناء العقلاء على مثل هذا الجمع أيضا في الموارد التي تتعارض فيها الامارات العرفية خصوصا البينات ، فان لم نقل به فلا إشكال في تقديم بينة الخارج في هذه الصورة الرابعة أيضا. وأما ان قلنا بذلك وأنه القاعدة في تعارض البينات نظير الجمع فيما إذا صرح احدى البينتين بسبب لا ينافي تصديقه في ذلك تصديق البينة الأخرى كالملك القديم والجديد ، فلا شبهة في تقديمه على الترجيح بالمرجحات الناظرة الى صدق الشهود وكذبهم أعني مطابقة قولهم للواقع ومخالفته له كالا عدلية والاوثقية والأكثرية وأضرابها إذا لم نعول في الترجيح بها على التعبد بالأخبار.

وأما تقديمه على الترجيح بالخروج ، ففيه تفصيل ، وهو أنه لو بنينا على ترجيح بينة الداخل فلا اشكال وان بنينا على ترجيح بينة الخارج فهذا يحتمل أن يكون لأحد أمور أشرنا إليها : أحدها أن يكون وجه التقديم هو عدم حجية بينة المنكر رأسا مطلقا. والثاني أن يكون الوجه عدم اعتبارها إذا كان للمدعي بينة على دعواه ، نظير عدم اعتبار الشاهد واليمين في مقابل البينة. والثالث أن يكون الوجه عدم اعتبارها عند وقوع المعارضة بينها وبين بينة المدعي.

ص: 161

والفرق بينه وبين سابقة أن عدم بينة المدعي على الأول شرط لا جعل حجية بينة الداخل شأنا ، وعلى هذا التقدير شرط الحجية فعلا ، فان كان الوجه هو الأول أو الثاني وجب في هذه الصورة ترجيح بينة الخارج أيضا ، وان كان الوجه هو الثالث كان الترجيح لبينة الداخل ، لان بينة الداخل حجة إذا لم يعارضها المدعي ، وقد ظهر أنه في المقام لا معارضة بينهما حقيقة.

والذي استظهرنا من الأدلة هو بطلان الوجه الأول ، أعني عدم كون بينة الداخل حجة مطلقا حتى مع عدم بينة للمدعي. وأما الوجهان الاخران فقد يقال بسكوت الأدلة التي استظهرنا منها ما قوينا ، أعني كون بينة المدعي علة تامة غير صالحة للمعارضة عن تعيين أحد هما ، لان عمدة تلك رواية منصور ولا ظهور لها في أن عدم قبول البينة من الذي في يده المال المدعى به لا من الوجهين المذكورين.

فعلى الفقيه إمعان النظر واختيار الراجح ، فان لم يترجح في نظره شي ء منها فليرجع الى عموم أدلة حجية البينة ، ومقتضاه حجية بينة الداخل في الصورة المفروضة ، لما حققنا من كون العمل بها حينئذ جمعا عمليا للفقيه ، فلا يصار الى ترجيح بينة الخارج لكونه طرحا لبينة الداخل من غير سبب.

فان قلت : قد استظهرت من الأدلة كون بينة المدعي علة تامة لثبوت حقه على المنكر ، وهو عام يتناول صورة المعارضة وعدمها.

قلنا : تلك الأدلة بين الأدلة الفعلية التي لا عموم فيها ، مثل المأثور عن النبي والوصي عليهما الصلاة والسلام لمجرد إقامة المدعي البينة وعدم انتظار شي ء آخر وبين القولية ، وأقواها دلالة رواية منصور المتقدمة بمواضع أربعة :

الأول قوله « حقها للمدعي » ، والثاني قوله « لا أقبل من الذي في يده بينة » ، والثالث قوله « لان اللّه تعالى أمر أن يطلب البينة من المدعي » ، والرابع قوله

ص: 162

« والا فيمين الذي هي في يده ». دلت بهذه المواضع منطوقا ومفهوما تصريحا وتلويحا على عدم سماع البينة من ذي اليد مطلقا أو في مقابل بينة المدعي مطلقا ، سواء كان الجمع بينهما ولو عملا أمرا ممكنا أم لا ، بأن تكونا متعارضتين.

لكن في دلالة الكل على هذا الإطلاق نظرا :

( أما الأول ) فلاحتمال رجوع ضمير « حقها » إلى الشاة لا إلى البينة ، وعليه فلا ربط لها بالمدعى ، وعلى تقدير رجوعها إلى البينة - كما هو مبنى الاستدلال - لم يدل على انحصار حق البينة في المدعى الا في مورد الرواية أو في مثله مما يكون شهادة كل من البينتين فيه بالملك المقيد على وجه موجب لتعارضهما ، لا في مثل ما نحن فيه الذي عرفت أن البينتين فيه غير متعارضتين.

وبذلك يجاب عن الثاني أيضا.

( وأما الثالث ) فلا دلالة فيها الا على عدم مطالبة البينة من المنكر ، وأما عدم القبول فلا. ولو سلم الدلالة عليه أيضا - بقرينة وقوعه تعليلا لقوله « لا أقبل » - ففيه ما عرفت من اختصاص نفي القبول بمورد المعارضة الذي هو مورد الرواية.

فإن قلت : قوله عليه السلام « فان اللّه أمر أن يطلب البينة من المدعي » وقع علة لقوله « لا أقبل » ، ولا يصح دعوى اختصاص العلة بالمورد والا لغي التعليل فعموم العلة قاض بعدم قبولها من المنكر مطلقا.

قلت : لو سلم ذلك أمكن أن يدعى معنى قوله عليه السلام « ان اللّه أمر » إلخ ، هو أن اللّه جعل البينة التي هي حجة تامة غير قابلة للمعارضة للمدعي ولم يجعلها للمنكر ، وعدم كون البينة حجة تامة للمنكر لا ينافي كونها حجة غير تامة له ، بمعنى كونها في حقه قابلة للمعارضة ، فيستدل على اعتبارها في حقه بعموم ما دل على حجية البينة ، وقضية ذلك العمل بها مع عدم المعارضة كما فيما نحن فيه.

( وأما الرابع ) فالجواب عنه ان إلزام اليمين على المنكر بعد فقد بينة

ص: 163

المدعي انما سيق لرفع الإلزام بالبينة التي قد ركزت في أذهان الناس مطالبته من كل صاحب دعوة واقعية مثبتا كان أو نافيا ، كما اشتهر عند العلماء أن النافي والمثبت كليهما محتاجان الى الدليل ، فلا يفيد سوى رفع مشقة البينة عن المنكر.

وهذا مثل ما قلنا في حديث « البينة على المدعي واليمين على المنكر » في رد توهم من زعم أن قضية التفصيل عدم كون وظيفة المنكر الا اليمين ، من أن الفقرة الثانية نظير الأمر الوارد في مقام توهم الحظر لا يفيد سوى الرخصة والترفيه.

فان قلت : إذا مضت عموم رواية منصور وسائر الأدلة ، فبما ذا تستدل على عموم الحكم للصور الثلاث المذكورة مع أن صورتين منها خارجتان عن مورد رواية منصور.

قلنا : نستدل بالمناط القطعي ، إذ بعد تقديم بينة الخارج على بينة الداخل في صورة كونهما مسببين يعلم تقديمها عليها في المطلقين ، وفي كون صورة كون الداخل مطلقا والخارج مقيدا بالمناط أو بالفحوى - فافهم.

فظهر أن ما ذهب إليه الأكثر في الصورة الرابعة من تقديم بينة الداخل لا يخلو عن قوة. واللّه العالم.

فروع تظهر في تنبيهات

( الأول ) انه قد سبق الإشارة الى أن المراد بالداخل ليس هو خصوص ذي اليد ، كما قد يوهمه المحكي عن التحرير والمبسوط ، بل يتناول كل من يصدق عليه المنكر بموافقة أصل أو أمارة شرعيين.

ويفصح عن ذلك تصريحاتهم في مسائل التنازع من كل باب ، ففي باب

ص: 164

الإجارة ذكروا أنه لو اختلف المؤجر والمستأجر في زيادة الأجرة ونقصانها وأقام كل منهما بينة بني على مسألة تعارض بينة الداخل والخارج ، وكذا ذكروا فيما إذا تنازع البائع والمشتري في صحة البيع وفساده وأقام كل منهما بينة أنه يبنى على تلك المسألة.

( الثاني ) لو أقام الداخل البينة بعد قضاء الحاكم للخارج بينته وتسليم الحق إليه ، كما لو ادعى زيد عينا في يد عمرو وأقام عليها البينة فقضى له وسلمت العين اليه ثمَّ أقام عمرو بينة على أنها له. فقد اختلف فيه على قولين : أحدهما ما عن الشيخ من نقض القضاء واعادة العين الى عمرو في المثال ، والثاني ما اختاره في الشرائع بعد نقل مذهب الشيخ من عدم النقض وإبقائها في يد زيد.

وليس في كلام هؤلاء تعرض لحال ما إذا كانت إقامة البينة قبل ازالة يد الداخل وهو عمرو في المثال المذكور ، وقد صرح الشهيد «رحمه اللّه» في القواعد بنقض القضاء حينئذ وإبقاء العين في يد عمرو نظرا الى بقاء اليد حسا ، وهو المحكي عن التحرير. وربما يقضي به ظاهر هؤلاء أيضا ، نظرا الى ما في كلامهم من مفهوم القيد ، أي قيد « بعد زوال اليد ».

ثمَّ ان البينة اما أن تصرح بحدوث ملكية العين بعد القضاء عند احتمال تجددها بعده ، أو تصرح بالملكية قبل القضاء ، أو تطلق في الشهادة.

ولا إشكال في القسم الأول ، لأنه لا مانع فيه من سماع دعوى الداخل حينئذ للملكية ولا من سماء بينته والحكم بعد فرض عدم معارضة بينته لما أقامه الخارج من البينة.

كما لا ينبغي الإشكال في سماعها على الثالث ، لان احتمال تجدد الملك كاف في سماع الأمرين ، وانما يظهر من المسالك دخوله تحت محل النزاع أيضا ، والظاهر انه ليس كذلك.

ص: 165

فبقي الاحتمال الثاني لأن القضاء فيه للداخل لا يخلو عن اشكال ، وعليه فنقول : ان اقامة البينة اما أن تكون قبل ازالة يد الداخل عن العين أو بعدها ، وعلى التقديرين فالبحث في هذه المسألة انما يتفرع ويتعلق على القول بتقديم بينة الداخل في المسألة المتقدمة ، وأما على القول بتقديم الخارج فالظاهر سقوط هذا الفرع رأسا ، بمعنى تعين عدم النقض وإبقاء العين في يد المدعي لو كانت مسلمة إليه ، خلافا لصاحب المسالك «رحمه اللّه» ، فإنه بنى المسألة في مفروض كلام المحقق «رحمه اللّه» ، أعني ما إذا كانت إقامة البينة بعد ازالة يد الداخل عن العين على المسألة السابقة ، أعني تقديم بينة الخارج أو الداخل وان العبرة بالدخول والخروج حال ملك المدعي أو حال إقامة البينة وحال التعارض.

فان بنى على تقديم بينة الخارج وان العبرة في الخروج بحال إرادة البينة نقض الحكم وحكم بها لعمرو لأنه حال إقامة البينة خارج باعتبار اقتضاء القضاء صيرورة زيد داخلا ، وكذا لو بنى على تقديم بينة الداخل وجعل العبرة فيه بحال الملك لان عمرو في حال الملك الذي يدعيه كان داخلا وان صار بسبب القضاء خارجا والا لم ينقض الحكم وأقرت العين في يد زيد.

والظاهر أن ما ذكره ليس على ما ينبغي ، إذ على القول بتقديم بينة الخارج لا يعقل انقلاب الداخل خارجا بنفس تقديم الخارج ، لأنه من باب استلزام وجود الشي ء وعدمه ، وهو دور محال ، بل ربما يتسلسل. فإنه إذا قضى للخارج بينة صار ذلك سببا لصيرورة الداخل المحكوم عليه خارجا ، فاذا سمع بينته وقضى له انعكس الأمر ، وهكذا الى الدورة الثانية والثالثة.

نعم ما ذكره صحيح في الاحتمال الأول ، أعني ما إذا شهدت البينة بالملك المتجدد بعد القضاء للأول ، وكذا في الاحتمال الثالث ، أعني صورة الإطلاق كما هو الأظهر. وأما الاحتمال الثاني الذي نتكلم فيه - وهو ما إذا صرحت

ص: 166

البينة بالملك قبل القضاء وقبل ازالة اليد - فلا يعقل أن يكون القضاء للخارج حينئذ سببا لانقلاب الداخل خارجا مقدما ببينته على بينة المدعي.

كيف وثمرة القضاء للخارج انفصال الخصومة وعدم الإصغاء إلى بينة الداخل في حال القضاء ، فلو بنى على أن هذا القضاء الواقع للخارج قضاء عليه فلا يكون قضاء له ، وهو خلف بين وكلام هين.

بل التحقيق أن البحث في هذا الفرع انما يتم على القول بتقديم بينة الداخل ، وهو الذي يظهر أيضا من محكي شرح الإرشاد لابن فهد ، حيث أنه بعد ما أشار الى ما في المسألة من الاحتمالات من حيث القول بتقديم بينة الخارج أو الداخل وكون المناط بالدخول والخروج هو الدخول والخروج في حال الدعوى أو في حال إقامة البينة ، قال : ان نقض القضاء واعادة العين انما يتم على القول بتقديم بينة الداخل وكون العبرة بالدخول في حال الدعوى التي سماها في المسالك بحال الملك. وعليه فمبني المسألة ما أشار إليه الشهيد في القواعد من أن يد الداخل انما أزيلت لفقد البينة فبعد وجودها لا بد من عودها ، ومن أن القضاء لا ينتقض إلا بقطعي.

توضيحه : ان الحكم ببينة المدعي حكم تعليقي مراعي بعدم إقامة المدعي عليه بينة معارضة لبينته بناء على هذا القول - أعني تقديم بينة الداخل عند التعارض - فإذا أقام المدعي بينة ولم يظهر الحاكم بينة معارضة لها تشهد للداخل كان حكم الحاكم على طبقها حينئذ حكما تعليقيا ، لان العمل بكل أصل أو أمارة معلق ومشروط ، بأن لا يكون لها معارض واقعا. فلا بد من إحراز ذلك الشرط اما بالعلم والوجدان فيقع الحكم على طبقه حينئذ منجزا أو بالاتكال على الأصل فيكون حينئذ حكما ظاهريا معلقا في الواقع على انتفاء المعارض لميزان

ص: 167

ذلك الحكم ، بحيث إذا ظهر مخالفة الأصل للواقع وتبين وجود المعارض انتفى الحكم جدا.

وهذا ليس نقضا للحكم بل انتقاضا ، لان استعداد الحكم للبقاء يتبع استعداد ميزانه ، فان كان ميزانه منجزا من حيث الوجود ومن حيث الاعتبار مثل بينة الخارج إذا شهدت بالملك المسبب على القول بتقديم بينته عند التعارض مع بينة الداخل مطلقا وقع الحكم أيضا منجزا ، فلا ينتقض الا بقاطع.

وأما إذا كان في ميزانه تعليق اما من حيث الوجود مثل البينة التي تشهد اتكالا بالاستصحاب أو من حيث الاعتبار مثل بينة الخارج على القول الأخر - أعني تقديم بينة الداخل - وقع الحكم معلقا إذا كان ميزانه بحسب الظاهر سليما عن المعارض أو الوارد ، ويراعى الى ظهور الوارد لو كان التعليق في أصل وجودها مثل ما إذا كان مستندا بالاستصحاب ، ولذا يسمع البينة عن المحكوم عليه بالدين لو ادعى الإبراء أو الى ظهور المعارض لو كان التعليق في اعتبارها لا في وجودها مثل بينة الخارج على هذا القول. فاذا ظهر ما يبطل أثر البينة بأحد الوجهين انتقض الحكم بنفسه ، وليس هذا القضاء مجمعا على بطلانه إلا بقطعي.

هذا وجه انتقاض الحكم وعود العين الى يد عمرو ، وأما وجه عدم الانتقاض فهو الذي يظهر في بادي الرأي من أن القضاء إذا وقع وقع مستداما. ولا شبهة في وقوع القضاء للخارج فلا ينتقض بعده بالبينة.

فإن قلت : على ما ذكرت لا يقع القضاء أبدا الا معلقا ، لان كل بينة يقيمها المدعي يحتمل ظهور المعارض له بعد القضاء ولو من غير الداخل ، لاحتمال معارضتها ببينة خارج آخر مثله ، فقولك ان بينة الخارج - على القول بتقديم

ص: 168

ما ليس فيها تعليق - باطل ، لان التعليق ثابت ولو بالقياس الى ظهور معارض لها من خارج آخر ، فأين قولهم لا ينقض القضاء إلا بقطعي وفي أي مورد يقال ذلك.

قلت : ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى بينة خارج آخر ، لان بينة أحد الخارجين بالنسبة إلى بينة الأخر يعد من المعارض ، وأما بينة الداخل بالنسبة إلى بينة الخارج فهي بمنزلة الدليل بالنسبة الى الأصل على القول بتقديمها.

ولا نقول بالتعليق إلا في القسم الثاني ، لأن القول به في القسم الأول - أعني التعليق بعدم وجود المعارض - ينجر الى نحو تسلسل ، من حيث أن اعتبار أحد المتعارضين ليس معلقا على انتفاء مطلق المعارض حتى يرتفع اعتباره بمجرد ظهور المعارض كما في القسم الثاني بل على انتفاء معارض أقوى.

فإذا ظهر معارض أقوى كان الحكم بتقديمه أيضا تعليقيا مراعي بعدم ظهور الأقوائية في الأول ، لأن ذلك أمر ممكن ، بأن ينضم الى ذلك الدليل الأول بعد ظهور المعارض الأقوى بعض ما يوجب انقلاب الأقوائية من المرجحات كالكثرة مثلا فإنها مما أمكن أن تزيد شيئا فشيئا يوما فيوما ، ثمَّ بعد ظهور ذلك المرجح وانقلاب الأقوائية يكون تقديمه أيضا تعليقيا مراعي بعدم تجدد القوة لمعارضة فيما بعد ، وهكذا هلم جرا.

فاضطررنا في باب القضاء أن نجعل العبرة بوجود المعارض وعدمه حين قيام الحجة وحال القضاء وعدم الالتفات الى احتمال وجوده واقعا وظهوره فيما بعد والا لاختل باب القضاء ولا يترتب عليه أثره المقصود. فلا بد من وقوع القضاء منجزا حيثما يقع وعدم كونه معلقا ومراعي الى ظهور وجود المعارض.

نعم ما ذكرت من كون العمل بالدليل دائما تعليقيا حق في الأحكام ، حتى انه لو اتفق في يوم واحد ظهور المعارض بعد عدم ظهوره في حال العمل ألف

ص: 169

مرة انتقض العمل كذلك ولا ضير فيه ، وأما في باب القضاء فليس يمكن الالتزام بتعليقية القضاء مطلقا حتى بالقياس الى ظهور المعارض الذي يكون نسبته الى ميزان القضاء كنسبة أحد الدليلين المتعارضين بالنسبة إلى الأخر.

نعم لا ضير في الالتزام به بالنسبة إلى القسم الأول من المعارض ، أعني ما كان نسبته الى ميزان القضاء كنسبة الدليل الى الأصل.

وبعبارة أخرى : المعارض الذي لا يشترط العمل به بشي ء بل يكون وجوده علة تامة للحكم غير معلق على شي ء ، مثلا بينة الداخل على القول بتقديمها على بينة الخارج فان العمل بها على هذا القول لا يتوقف على شي ء ، فإذا ظهر وجب انتقاض الحكم المستند الى بينة الخارج والقضاء للداخل قضاء منجزا غير متوقف ومعلق على شي ء.

والحاصل ان معارض ميزان القضاء على قسمين :

قسم يجب العمل به منجزا غير معلق على شي ء حتى عدم المعارض ، وذلك مثل بينة الداخل على القول باعتبارها ، فان العمل بها متعين بلا انتظار شي ء آخر حتى المعارض ، إذ لا معارض لها حتى ينتظر وجودها ، سواء كان موجودا في زمان اقامة الخارج البينة أو ظهر بعدها وبعد القضاء له.

وقسم يجب العمل به معلقا على نحو تعليق العمل بالميزان الذي استند اليه القضاء ، وذلك مثل بينة خارج آخر مثل المدعي ، فان العمل ببينة المدعي كما أنه معلق على عدم معارض أقوى كذلك العمل بالمعارض الأقوى أيضا معلق لسلامته على عدم معارض أقوى ، سواء كانت الأقوائية باعتبار تجدد صفة رجحان في بينة المدعي أو باعتبار ظهور مدع آخر.

ففي القسم الأول لا مضايقة عن الالتزام بتعليقية القضاء ، بل لا بد من القول بها بعد معلومية توقف اعتبار الأدلة والحجج والامارات فعلا على إحراز عدم

ص: 170

المعارض أو الحاكم بالأصل. وأما في القسم الثاني فالالتزام بالتعليق فيه أمر غير ممكن لاستلزامه التزلزل في جميع القضوات وانجراره الى التسلسل كما عرفت.

فظهر أن القول بالانتقاض فيما نحن فيه كما عليه الشيخ بناء على أصله من تقديم بينة الداخل لا يخلو عن وجادة وسدادة.

ولا يدفعه ما ذكره الشهيد في القواعد من أن القضاء لا ينقض إلا بقطعي ، لأنه ليس نقضا بل انتقاضا كما عرفت.

الا أن يقال : ان ظهور المعارض في أدلة الأحكام أمر ممكن ، فلا بد أن يكون العمل بكل دليل في حكم من الاحكام مراعي الى ظهور المعارض ، وأما في باب القضاء والبينات فأمر غير متصور الا على بعض الوجوه الخارج منها المقام ، لان المدعي حين إقامة البينة ولم يقم الداخل بينة معارضة له فقد تحقق شرط عدم المعارض ، واما أن المعارض ليس سوى شهادة البينة لا اعتقاد البينة في نفس الأمر ، والشهادة كانت منتفية حين القضاء واقعا وظاهرا. وفيه ما لا يخفى فتأمل.

بقي الكلام في وجه ما فصل الشهيد «رحمه اللّه» في القواعد من اختيار نقض القضاء مع بقاء يد الداخل والاشكال مع زوالها. وقد يوجه ذلك بأن بقاء اليد سبب لبقاء الدخول العرفي بحاله ، فلا بد من تقديم بينته على بينة الخارج عملا بمقتضى الأدلة.

ولا يقدح في ذلك وقوع القضاء للخارج وصيرورته داخلا بسبب القضاء ، ومع قطع النظر عنه فكل من هو داخل مع قطع النظر عن القضاء يقدم بينته ، ومع بقاء اليد حسا يكون الداخل عمرا كما كان قبل القضاء.

بخلاف ما لو زالت اليد ، فان زوالها سبب لزوال صفة الدخول العرفي ،

ص: 171

فلا وجه لتقديم بينته على بينة المدعي الخارج حينئذ. بل ينبغي العكس ، لان العين بعد انتقالها الى يد المدعي - أعني زيدا في المثال المذكور - يكون هو الداخل عرفا بمقتضى أصالة صحة يده وتصرفه. وأما مع عدم انتقالها فهو بعد خارج وان كان قضي له ، إذ لا عبرة بالدخول الحاصل من جهة القضاء.

هذه غاية ما يوجه به التفصيل المزبور. ولكنه غير وجيه ، لان اليد المستندة إلى القضاء حالها كحاله ، فلا تصلح منشأ لصيرورة صاحبها داخلا ، بعد ما عرفت من أن المناط في الدخول والخروج ما كان مع قطع النظر عن القضاء أو عما هو مستند إليه ، لأن المستند الى المستند إلى الشي ء مستند الى ذلك الشي ء ، فالدخول المستند اليد إلى المستندة إلى القضاء مستند إليه حقيقة ، فلا عبرة به.

وأما دعوى أصالة الصحة في يد المدعي - وحاصلها عدم استناد الدخول الى القضاء بل الى اليد بعد ملاحظة احتمال حقيقتها وإجراء أصالة الصحة فيها - فيدفعها ان أصالة الصحة في يده معارضة بأصالة الصحة في يد المأخوذ منه الداخل - أعني عمرا في المثل المزبور - وهي حاكمة على أصالة الصحة في يده ، لان الشك في صحة يده وفسادها مسبب عن الشك في صحة يد الداخل وفسادها كما لا يخفى. فالأظهر عدم الفرق بين بقاء اليد الحسية وزوالها. واللّه العالم.

( الثالث ) إذا قدمنا بينة الداخل فهل يحتاج معها الى اليمين كما في القواعد أم لا؟.

والتحقيق فيه أن ينظر الى وجه التقديم : فان كان هو تساقط البينتين وسلامة اليد عن المعارض افتقر الى اليمين ، لان القضاء بدونها حينئذ يكون قضاء بلا ميزان ، وان كان هو ترجيح بينة الداخل للاعتضاد باليد فاليمين غير لازمة ، لان الحاكم للداخل على هذا الوجه مستند الى بينته ، ومع البينة لا حاجة الى اليمين.

ص: 172

وان كان هو التعبد بالأخبار فلا بد من النظر ، لأن الأخبار مختلفة : منها ما يشتمل على الترجيح مع اليمين ، ومنها بدونها. فبأيهما استند الحكم - أي تقديم بينة الداخل - يتبع حكمه من حيث اليمين وعدمها.

( الرابع ) إذا أراد ذو اليد إقامة البينة قبل ادعاء من ينازعه للتسجيل ، ففي القواعد كما عن التحرير الأقرب الجواز. ولعل وجه الجواز النظر الى عمومات الحكم بين الناس السابق إليها الإشارة في أول هذا الباب ، بل يمكن الاستدلال عليه بعمومات القضاء وفصل الخصومة أيضا بناء على كون المقام من الفصل للخصومة التقديرية.

توضيح المقام : ان حكم الحاكم قد يتعلق بالموضوعات على وجه ليس المقصود منه رفع الخصومة وان ترتب عليه ذلك أحيانا ، كالحكم بالهلال والقبلة وطهارة شي ء ونجاسته وأمثال ذلك ، وقد يتعلق على وجه يكون المقصود منه رفع الخصومة ، وهذا أيضا على قسمين ، لأن الخصومة اما أن تكون محققة ولو مع عدم حضور أحد الخصمين كالحكم على الغائب ، وقد يكون مقدرة أي شأنية ، والحكم في الأول رفع الخصومة وفي الثاني دفع لها.

لا إشكال في جواز الحكم على الوجه الأول منهما المقصود منه رفع الخصومة الفعلية ، وأما جوازه على الوجه الثاني المقصود منه رفع الخصومة الشأنية فالظاهر أيضا نهوض عمومات الحكم والقضاء بين الناس بإثباته على هذا الوجه. وأما جوازه على الوجه الأول الغير الراجع الى فصل الخصومة لأحد الوجهين المذكورين فهو مبني على تمامية عمومات الحكم بين الناس ، ولأجل ذلك يستشكل فيه.

وما نحن فيه - أعني إقامة البينة للتسجيل - من القسم الثاني من الوجه

ص: 173

الثاني ، وهو عكس الحكم على الغائب لعدم حضور المدعى عليه هناك وعدم حضور المدعي هنا.

هذا هو الكلام في مدرك المسألة ، وأما معنى إقامة البينة للتسجيل فقد ظهر مما ذكرنا ، وهو دفع الخصومة التقديرية ، بمعنى إثبات الحق المتنازع فيه قبل تحقق التنازع بموازين القضاء وحكم الحاكم.

وأما فائدته فهي على القول بتقديم بينة الداخل واضحة ، إذ يترتب على هذه البينة والحكم ما يترتب على بينة الداخل مع وجود المدعي وتعارض البينتين ، فيثمر مع موت الشهود أو فسقهم أو نحو ذلك. وأما على القول بتقديم بينة الخارج فلا يثمر الا على تقدير ظهور المدعي ولا يكون له بينة ، ومعه يثمر بناء على كون بينة المنكر مسقطة عن يمينه كما يأتي إنشاء اللّه تعالى.

فما قاله بعض مشايخنا من عدم الفائدة لغرض التسجيل قبل تحقق الخصومة ، ليس على ما ينبغي.

( الخامس ) إذا لم يكن للمدعي بينة وأقام ذو اليد أو كل منكر بينة ، فهل هي تسقط عنه اليمين كما في القواعد؟.

والتحقيق هو أنه لو قيل بتقديم بينة الداخل بلا يمين فلا إشكال في سقوط اليمين هنا ، لأنه إذا اكتفى ببينة المنكر عن اليمين في صورة معارضة بينته لبينة المدعي ففي صورة عدم المعارضة لزم الاكتفاء والإقناع بها عنها بطريق أولى ، وان قيل بتقديمها مع البينة فإن كان وجه اليمين هو تساقط البينتين بعد تعارضهما وصيرورة اليد سليمة عن المعارض فهنا لا حاجة الى اليمين ، لسلامة بينته هنا عن المعارض مع كونها حجة كما هو المفروض على هذا البناء. وان كان الوجه هو التعبد بظاهر بعض الاخبار الدال على اليمين مع البينة ، ففي الحكم

ص: 174

بسقوط اليمين هنا اشكال ، لاحتمال توقف الحكم لذي اليد على أمور ثلاثة البينة واليد واليمين تعبدا.

الا أن يقال : ان اليمين وحدها كافية للمنكر إذا لم يكن للمدعي بينة ، فوجود البينة معها يصير لغوا. وهو خلف ، إذ المفروض حجية بينة الداخلي.

هذا على القول بتقديم بينة الداخل عند التعارض ، وأما على القول بتقديم بينة الخارج فسقوط اليمين هنا مبني على كون اليمين من المنكر رخصة أو عزيمة ، وقد سبق مرارا أن قوله عليه السلام « اليمين على من أنكر » لا يدل على العزيمة بل على الرخصة ، وأنه لو أقام البينة كان كافيا في الحكم له ، فالأظهر ما ذكره العلامة من الكفاية مطلقا.

( السادس ) قضية تقديم بينة الداخل هو أن يطلب الحاكم البينة أولا من المدعى عليه ، فان كان له بينة قضى له ولا يصغى الى مقالة المدعي ، إذ لا فائدة في ذلك ، لان غاية ما للمدعي إقامة البينة على دعواه ، والمفروض تقديم بينة الداخل على بينته.

وهذا على خلاف ما هو المعهود المتعارف بين الناس من مطالبة البينة أولا من المدعي ، وخلاف صريح ما هو المأثور قولا وفعلا من النبي والأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين. وهذا أيضا من شواهد بطلان القول بتقديم بينة الداخل.

فان قلت : لا يلزم من تقديم بينة الداخل مطالبة البينة منه أولا على ما هو المتعارف ، لان المدعي هو صاحب الحق والمطالب به ، ومقتضى القاعدة مطالبة البينة ممن يطلب الحق ، ثمَّ لو لم يكن له بينة فله إحلاف المنكر. نعم لو أقام المدعي البينة وقال المنكر ولي أيضا بينه قضي له ، وهذا لا ينافي سؤال البينة أولا من المدعي.

قلت : اما أن نقول بأن الحاكم بعد قيام البينة يجب عليه تلقين المنكر ان

ص: 175

لك إقامة البينة أيضا مثل تلقينه حق الجرح إياه أولا نقول به ، فان قلنا به كان الابتداء بسؤال البينة من المدعي لغوا صرفا وأكلا من القضاء ، إذ لا يستقر القضاء الا بعد النظر في حال المدعى عليه من حيث استطاعته على إقامة البينة على خلاف بينة المدعي وعدمه ، فمقتضى الوضع الطبيعي حينئذ الابتداء بسؤال البينة من المدعى عليه ، لأن الأمر بالأخرة ينتهي إلى سؤالها عنه. وان لم نقل بذلك ساوى بينة المدعي وبينة المدعى عليه حينئذ من حيث الابتداء بالسؤال ، فللحاكم الابتداء بأيهما يريد ، مع أن المعهود الالتزام بسؤال البينة أولا من المدعي - فافهم.

( السابع ) إذا أقام البينة على الداخل فادعى الشراء من المدعي أو ثبت الدين فادعى الإبراء ، ففي القواعد ان كانت البينة حاضرة سمعت قبل ازالة اليد وتوفية الدين ، وان كانت غائبة طولبت في الوقت بالتسليم ثمَّ إذا أقام البينة استرد.

وقد يشكل الفرق بين ما ذكره في المسألتين وبين ما إذا ادعى فسق الشهود وكان الخارج غائبا فإنه يمهل ثلاثة أيام كما هو مصرح به في محله.

ثمَّ الفرق بين حضور الشهود وغيابها أيضا لا يخلو عن إشكال ، لان المدعي بعد إثبات دعواه ان كان مستحقا للحكم وجب الحكم ويترتب عليه أثره من التسليم ثمَّ إذا أقام الداخل البينة يسترد ، ففيه جمع بين حق المدعي والداخل ، وان لم يكن مستحقا للحكم باعتبار كون بينة المدعي معلقة على عدم المعارض فلا بد للحاكم من إيقاف الحكم حتى يتفحص عن المعارض لم يستحق الحكم ووجب مطلقا على الحاكم إمهال الداخل إلى إحضار بينته.

وكشف الحال عن هذا المقال : ان القضاء قد يكون تنجيزيا وقد يكون

ص: 176

تعليقيا ، وقد سبق أن التعليق والتنجيز في القضاء يستتبع التعليق والتنجيز في الميزان ، والتعليق في الميزان يتصور على وجوه ثلاثة :

أحدها : أن يكون التعليق في موضع البينة ، بمعنى توقف تحقق البينة الشرعية على عدم شي ء لو وجد أوجب انتفاء أصل وجود البينة ، وذلك مثل تعليق وجود البينة المعدلة على عدم مجي ء الجارح ، فان عدم الجارح من شرائط وجود البينة التي هي ميزان القضاء.

والثاني : أن يكون التعليق في تحقيق مدلولها ، مثل البينة التي تشهد بالملك بمقتضى الاستصحاب ، فان مضمون هذه البينة موقوف على عدم الدليل على ارتفاع الحالة السابقة.

والثالث : أن يكون التعليق في أصل اعتبارها ، مثل بينة الخارج بالنسبة إلى بينة الداخل ، فان اعتبارها على القول بتقديم بينة الداخل معلق على انتفائها.

والمدعى عليه في هذه الصور الثلاث ان لم يدع المعارض فللحاكم الحكم للمدعي بمقتضى أصالة عدم المعارض ، فيكون الحكم واقعا على نحو التعليق. وأما ان ادعى المعارض فاما ان يقال بوجوب إيقاف الحكم في المواضع الثلاثة مطلقا تفحصا عن المعارض ورجاء لإتيان الداخل به بناء على كون العمل بالأصل في باب القضاء كالعمل به في باب الاحكام من حيث افتقار العمل به الى الفحص عن المعارض. واما أن يقال بعدم إيقاف الحكم مطلقا ، نظرا الى عدم الدليل على وجوب الفحص عن المعارض عليه كما يجب على المجتهد.

فلا وجه لتعطيل حق المدعي مع سلامة حجته ظاهرا عن المعارض ، أو يفصل بين الوجه الأول والوجهين الأخيرين ، فيلتزم في الأول بلزوم الإمهال

ص: 177

وإيقاف القضاء حتى يحضر البينة ، لأن البينة قبل إحراز سلامتها عن الجارح لا تصلح حجة للمدعي فليس له حق يجب مراعاته.

ودعوى إحراز السلامة بحكم الأصل. غير نافعة ، لأن التمسك بالأصل إنما ينفع في الدعاوي مع وجود المقتضى ، وعدم المعارض هنا جزء للمقتضي.

وأما مع عدم المقتضي فلا اعتداد به ، لان الشارع جعل للقاضي موازين غير الأصول كالبينة ونحوها ، فلا يجوز له إهمال دعوى أحد إلا بعد وجود بعض تلك الموازين ، فقبل وجوده يجب عليه التوجه الى الدعوى وعدم الالتفات الى كونها مخالفة للأصل. والا فكل دعوى مخالفة فيلزم أن لا يجاب المدعى من إحضار خصمه ولا الالتفات الى سماع قوله لأصالة عدم الحق وأصالة عدم البينة ونحوهما ، مع أنه ضروري البطلان ، وليس ذلك الا لوجوب إهمال الأصول على القاضي والنظر الى ما دل على وجوب طي الدعاوي بالموازين المعهودة.

ولا كذلك إذا وجد الميزان وأقيمت البينة ، فإنه بعد وجوده لا عذر للقاضي في القضاء غير احتمال وجود معارض ، وهو من قبيل المانع يدفع بالأصل كسائر المقامات.

ومما ذكرنا يظهر أنه لا يرد أن يقال : ان الأصل حجة شرعية ، سواء كان في مقام رفع المانع أو تكميل المقتضي. ووجه عدم الورود ان اتكال القاضي في تحصيل المقتضي بالأصل مناف لما دل على وجوب سماع الدعاوي وفصلها بالموازين ، لان مقتضى وجوب السماع عدم الالتفات إلى أصالة عدم حقيقة الدعوى ، ومقتضى جعل الموازين عدم استناد الفصل الى غير تلك الموازين ، فحيث توقف القضاء على ما ليس بميزان له الا بمؤنة الأصل لم يجز ذلك له.

بخلاف ما لو توقف على ما هو ميزان له في نفسه ، فإنه يجب لوجود المقتضي

ص: 178

بالأدلة الدالة على وجوبه بالبينة مثلا وعدم المانع بحكم الأصل وفي الأخيرين بعدم الإمهال ، لما ذكر في وجه عدم الإمهال مطلقا من عدم الدليل على وجوب الفحص على الحاكم بعد قيام الحجة ، أو يفصل بين صورة حضور البينة فيوقف القضاء حتى يقيمها الداخل مطلقا وفي المواضع الثلاثة ، وبين الغيبة فيقضي بلا مهلة ، لأن حضور البينة يمنع عن العمل بالأصل في إحراز عدم المعارض ، اما لعدم جريانها أو لاستلزام العمل به مع حضورها مخالفة الواقع كثيرا. أو لأن بينة المدعي في هذه الصورة - أعني صورة حضور الشهود - ليس ميزانا تاما عند العرف ، لان مدعي الدين مثلا ان أثبت مدعاه ببينة الا أن الثبوت الاستصحابى مع ادعاء المديون البراءة الفعلية بالإبراء وادعاء حضور البينة على ذلك ليس مما يترتب عليه عرفا الحكم بالاشتغال الفعلي ، إذ لا بد من نهوض بينة المدعي بإثبات الاشتغال الفعلي ، وهو لا يتم إلا بضميمة الاستصحاب الذي ليس بناء العرف على الالتفات إليه في باب القضاء مع دعوى الإبراء ودعوى حضور الشهود.

والتحقيق أن حضور البينة - أي بينة من يدعي الإبراء بعد ثبوت الاشتغال الاستصحابي أو من يدعي الشراء بعد ثبوت ملكية العين - يمنع عن التسليم ، كما ذكره العلامة مرسلا له إرسال المسلمات ، لأنه في معرض ضياع حق المدعي الذي وجب لحفظه سماع الدعوى على الحاكم ولو كان ذلك الحق الغرض المتعلق بالعين.

نعم الظاهر أنه لا يمنع عن سائر التصرفات كالركوب والسكنى والبيع والإجارة ونحوها ، فإنه لا مانع منها.

ولعل مراد العلامة أيضا من عدم التسليم ليس هو المنع من التصرفات ، إذ الظاهر أن المراد بالتسليم هو التسليم على وجه التسليط بالإتلاف ، فإنه الذي

ص: 179

لا يجوز مع حضور البينة. والدليل على ذلك هو الأدلة على وجوب فعل الدعاوي والتوجه إليها ، فإن معنى التوجه الى الدعوى والتعرض لفصلها عدم ترك المدعى عليه على حاله التي كان عليها قبل الدعوى ، إذ لو ترك على حاله لم يترتب على سماع دعوى المدعي الأثر المقصود من السماع وهو إيصال الحقوق ، فكل شي ء ينافي وصول المدعي الى حقه على تقدير إقامة البينة فلا بد من منع المدعى عليه عنه ، وذلك مثل الإتلاف دون سائر التصرفات.

فلو ادعى دارا مثلا فللمدعي عليه بيعها وإجارتها وسكناها وغير ذلك من التصرفات ما لم يقم المدعي البينة ولو في

حال الدعوى ، واما إتلافها فيمنع منه ، لأنه مناف لحكمة وجوب سماع الدعوى - أعني إيصال الحقوق - إذ الغرض المتعلق بالعين يفوت بالإتلاف ولا يتداركه دفع القيمة على تقدير ثبوت حق المدعي ، بل قد يتعذر دفع القيمة أيضا. بخلاف سائر التصرفات ، فإنها غير منافية لتوصله الى حقه ولو كان نقلا عينا أو منفعة.

وحينئذ نقول : ان المدعى عليه إذا ادعى الشراء فليس للحاكم تسليم العين الى المدعي الذي أثبت ملكيتها على وجه يتسلط على إتلافها ، وهو المراد بالتسليم في المقام لا مطلقة ولو مع المنع من الإتلاف ، وكذا لو ادعى الإبراء فإنه ليس للحاكم أيضا إلزامه بالتسليم من دون انتظار لقيام البينة على الإبراء ، وكذا الحال في الوجه الثالث من وجوه التعليق في البينة ، أعني ما إذا كان المعلق عليه فقدان المعارض ، كبينة الداخل على القول بتقديمه. بل وكذا الحال في كل مقام يدعي المدعي مع حضور البينة ، فان المدعى عليه لا يخلى وسبيله على وجه يفعل في المدعى به ما يشاء ، بل يمنع عن التصرفات المتلفة ولا يعمل بالأصل في هذه الحالة بالنسبة إلى تلك التصرفات.

ومجمل القول في المقام على وجه كلي هو أن المدعي لا قامة البينة سواء

ص: 180

كان خارجا أو داخلا ، وسواء كان في الأول مدعيا أو كان أولا منكرا ثمَّ انقلب مدعيا ، كمدعي الإبراء بعد ثبوت الدين ومدعي الشراء بعد ثبوت الملك.

وبالجملة كل من يسمع بينته إذا قال ان لي بينة حاضرة لم يجز العمل بالأصل في الوجه الذي ينافي تجويزه الغرض الداعي إلى سماع الدعوى - أعني إيصال الحق - فلا يترك ذو اليد على ما كان عليه من وجوه السلطنة على ما في يده مطلقا حتى مثل الإتلاف ونحوه مما يمنع عن توصل المدعي الى حقه بعد إقامة البينة ، كما لا يخلى على حاله من حيث الفرار عن حضور المخاصمة ، فكما يجب عليه الحضور في مجلس القضاء كذلك يجب عليه عدم التصرف في المدعى به على وجه يفوت معه غرض سماع الدعوى ويلزمه الحاكم عليه.

والدليل عليه هو أدلة وجوب سماع الدعاوي بعد ملاحظة الحكمة بل العلة ، وهي إيصال الحق ، فإنه لا يتيسر الا مع منع المدعى عليه عن التصرفات المنافية لوصول الحق الى المدعي على تقدير إقامة البينة.

هذا كله مع حضور البينة ، وأما مع غيابها واستمهال المدعي لا قامتها فالظاهر عدم الإمهال ووجوب المشي على طبق الأصل والحاكم على طبقه.

ويختلف مقتضاه باختلاف المقام ، فلو كان ملتمس الإهمال هو المدعي لم يجب بل يحكم بمقتضى الأصل ، وهو تسلط المنكر على المدعى به على نحو تسلطه قبل الدعوى ، ولو كان الملتمس هو الداخل لم يسمع أيضا قوله بل يلزم بتسليم المدعى به الى المدعي ، لان البينة ليست بأضعف من اليد بل هي أقوى منها ، فكما أن المدعي لا يجاب في التماس تأخير القضاء بل يقضى بعدم سلطنته على المنكر وبسلطنته على ما في يده من جميع الوجوه كذلك الداخل لا يجاب في التماس المهلة بل يقضى للمدعي وينزع العين من الداخل أخذا بمقتضى بينته التي هي أقوى من اليد.

ص: 181

وكذا الكلام لو كان الملتمس هو مدعي الإبراء أو مدعي الشراء فإنهما لا يجابان أيضا فيلزمان بالتسليم عملا بمقتضى البينة. والدليل على ذلك أن غيبة الشهود لا ميزان لها شرعا أو عرفا ، فربما يتوقف حضورها على مضي سنة أو سنتين وفي إجابتهم في تأخير القضاء حينئذ حرج وضرر عظيم لا يمكن التزامهما وينافيان للغرض المشرع للقضاء ، وهو واضح لا يخفي على المتفقه.

نعم الظاهر أن الحكم في الوجه الأول من وجوه التعليق - أعني التعليق الراجع إلى أصل تحقق الميزان مثل التعليق بالنسبة إلى الجرح - ليس كذلك فان مدعي الجرح يمهل إلى إحضار بينته ، وذلك لما أسلفنا آنفا من أن أصالة عدم الجارح لا تصلح ميزانا للقضاء ولا مكملا له ، لانحصار موازين استخراج الحقوق في أمور ليس منها الأصل.

ولا يرد ذلك في الوجهين الأخيرين ، لأن الفرض فيهما وجود البينة للمدعي فعلا ، وهو أحد تلك الأمور وعمدتها ، فلو حكم حينئذ فقد وقع الحكم بالميزان الشرعي ، إذ لا ينافي استناد الحكم إليها دفع احتمال وجود معارض بالأصل.

والحاصل ان التعليق الراجع الى موضوع البينة الشرعية كالتعليق بالنسبة إلى الجرح يمنع عن القضاء قبل الفحص عن وجود المعلق وعن العمل بالأصل في إحراز ذلك قبل الإمهال والفحص والنظر ، بخلاف التعليق الراجع الى تحقق مدلول البينة أو الى اعتبارها كالتعليق بالنسبة الى عدم الدليل على ارتفاع الحالة المشهود بها هنا - أعني الملك السابق - أو مع عدم المعارض كتعليق بينة الخارج بالنسبة إلى بينة الداخل ، فإنه لا يمنع عن القضاء مطلقا بل مع حضور البينة المعلق على عدمها اعتبار بينة المدعي.

ويمكن أن يكون السر في ذلك أن دعوى الجرح ونحوها مما يرجع الى دعوى عدم صلاحية الميزان للقضاء دعوى على الحاكم ، فمدعي الجرح

ص: 182

لا دعوى له على المدعي بل على الحاكم ، وكأنه يقول : ان هذا الميزان ليس مما يستند اليه الحاكم في القضاء.

وإذا كان المدعى عليه هو الحاكم لم يعقل فصل هذه الدعوى بعدم الالتفات الى قول مدعي الجرح ، بل لا بد حينئذ من الالتفات اليه وإمهاله حتى يحضر بينته ، بخلاف مدعي الإبراء أو الشراء أو مدعي المعارض ، فان دعوى هؤلاء دعوى على خصومهم لا على الحاكم ، فللحاكم فصل هذه الدعاوي بالأصل.

ثمَّ ان الإمهال لا بد فيه من مراعاة جانب المدعي أيضا حتى لا يرد عليه ضرر ولذا حددوه بثلاثة أيام ، فإنه ليس تحديدا شرعيا بل أمر يقضي به الجمع بين الحقين ومراعاة الجانبين. فظهر أن كل واحد من التفصيلين أقوى من إطلاق القول بالإمهال وإطلاق القول بعدمه.

وأما الميزان في الحضور والغيبة فهو أيضا أمر عرفي يختلف باختلاف الأحوال والازمان والمكان ونحوها. واللّه العالم.

المسألة الثالثة : ( ما إذا كانت العين في يد ثالث وأقام كل منهما بينة )

ومحل الكلام ما إذا لم يصدق ذو اليد لأحدهما والا اندرج تحت المسألة الثالثة وكان من موارد تعارض بينة الداخل والخارج ، لأن إقرار ذي اليد يجعل المقر له منكرا أو داخلا. والمشهور في هذه المسألة الرجوع الى الترجيح بالأكثرية.

ولنبين أولا مقتضى القاعدة مع عدم المرجح ، فنقول :

قد يقال : ان قضية القاعدة فيه بعد تساقط البينتين الرجوع الى التحالف والقضاء بالحلف أو النكول مطلقا ، فان حلفا أو نكلا فإلى القرعة. وذلك لان

ص: 183

قضية الأدلة الحاصرة لميزان القضاء في البينة والايمان ، مثل قوله عليه السلام « إنما أقضي بينكم بالايمان والبينات » (1) وقوله تعالى « اقض بينهم بالبينات وأضفه إلى اسمي يحلفون به » (2) أنه إذا تعذر أحدهما تعين الأخر وإذا تعذرا معا تعين القضاء بالقرعة بمقتضى قوله عليه السلام « أحكام المسلمين على ثلاثة :

بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية » (3) بناء على تفسير السنة الجارية بالقرعة وبما علم من أدلة القضاء من كون القرعة أيضا ميزانا للقضاء في الجملة إذا لم يكن هناك ميزان آخر.

ولا ريب أن البينتين المتعارضتين وجودهما كعدمهما في تعذر القضاء بالبينة إذ العمل بأحدهما دون الأخر ترجيح بلا مرجح ، والعمل بهما مستحيل ، والتخيير أيضا باطل بالضرورة ، فيكون وجودهما كعدمهما.

فان قلت : يرجح إحداهما بالقرعة.

قلنا : انه يتوقف على ثبوت كون القرعة مرجحة والا فالأصل عدم الترجيح ، لان كون الشي ء مرجحا يحتاج الى دليل.

فان قلت : ثبت مشروعية القرعة في التعيين والترجيح كالمتسابقين الى مباح ونحوه.

قلنا : ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لان التعيين بالقرعة وان لم ينحصر

ص: 184


1- الوسائل ج 18 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1.
2- الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 2 ، والرواية هكذا : قال اقض عليهم بالبينات - إلخ.
3- الرواية هكذا : قال أمير المؤمنين عليه السلام : احكام المسلمين ثلاثة : شهادة عادلة ، أو يمين قاطعة ، أو سند قاضية من أئمة الهدى. الوسائل ج 18 ب 1 من أبواب كيفية الحكم ح 6.

في تعيين المبهم الواقعي - كما في المثال المذكور - الا أن موردها في غير ما كان الأصل فيه التساقط كالامارتين المتعارضتين ، بأن يكون من قبيل الحقين المتزاحمين.

والسر فيه : انه إذا كان الأصل في صورة التعارض التساقط فلا يبقى بعد شي ء لا في الواقع ولا في الظاهر حتى يتعين بالقرعة ، بخلاف ما إذا لم يكن الأصل فيه ذلك ، بأن كان المانع عن إهمال كل واحد من المتعارضين وجود المعارض مع بقاء مصلحة العمل به على حالها ، فان العمل بأحد الحقين حينئذ مطلوب في الواقع والظاهر فيتعين بالقرعة. فافهم.

وإذا ثبت ان البينتين المتعارضتين وجودهما كعدمهما فلا بد من الرجوع الى الحلف الذي رتبته بعد البينة ، فإذا رجعنا إليه فإن حلف أحدهما دون الأخر قضي له والا رجعنا إلى القرعة في تعيين الواقع ، فيكون من خرجت باسمه بمنزلة المنكر يعامل معه معاملته ، لأن أدلة القرعة لا تنهض بكفايتها في الميزان بأن يكون مستند القضاء هو نفس القرعة.

ثمَّ إذا عاملنا معه معاملة المنكر استحلفناه ثانيا ، فان حلف قضي له وان رد فحلف صاحبه فكذلك ، وان نكلا كان العين بينهما نصفين ، لان القضاء بالنصف أيضا من وجوه القضاء بلا احتياج الى ميزان آخر.

وانما قلنا ذلك مع أن النكول عن اليمين المردودة يوجب القضاء للمنكر ، لان من خرجت باسمه ليس منكرا في القضاء ، فلو قضي له عند نكول صاحبه عن اليمين المردودة كان مستند القضاء أيضا نفس القرعة. وقد قلنا ان نفس القرعة لا تصلح ميزانا للقضاء.

ومعنى جريان أحكام المسلمين عليها بعد البينة واليمين كونها معينة للملك ظاهرا لأحدهما عند فقدهما ، وأما القضاء فلا بد فيه من التماس بعض موازينه ،

ص: 185

لان كون الملك ظاهرا لأحدهما لا يكفي في القضاء ، بل لا بد فيه من وجود بعض الموازين اما البينة أو اليمين أو التنصيف الذي هو أحد طرق القضاء عند فقد الميزانين.

هذا ، وقد يناقش في جريان القاعدة المشار إليها في المقام ، لان جريانها على ما تحقق يتوقف على ثبوت مقدمتين : إحداهما كون المقام من موارد تعذر القضاء بالبينة ، والثانية كونه من موارد إمكان القضاء بالحلف ، فإنه إذا فقد كل منهما فقدت النتيجة ، وهي القضاء بالحلف.

أما الأولى فلأنها إذا انتفت كان المقام محلا للقضاء بالبينة ، فلا يصار الى الحلف ، لأن البينة هو الأصل في القضاء وأول موازينه. وأما الثانية فلأنها إذا انتفت تعين الإقراع ، لأن القرعة موردها صور انتفاء الميزانين.

وكلتاهما ممنوعة :

أما الأولى فلانا نمنع تعذر القضاء بالبينة عند تعارضهما ، لا مكان القضاء حينئذ بالتنصيف ، فإنه وان كان طرحا للعلم الإجمالي أو طرحا للبينتين في مقام العمل وترتيب الأثر الا أنه قضاء بموجب البينة ، لأنه إذا أعطى كل واحد من المدعيين نصف المدعى به ومنع عن النصف الأخر مراعاة لبينة الأخر كان ذلك قضاء مستندا إلى مراعاة بينة كل منهما في الجملة.

توضيح ذلك : ان العمل بموجب البينتين مقام والفصل بين المتخاصمين وطي نزاعهما مقام آخر ، والممتنع هو المقام الأول ، لأن التنصيف ليس عملا بالبينتين بل طرح لهما حقيقة. وأما المقام الثاني - أعني طي النزاع بالبينة - فنمنع تعذره ، لان التنصيف قضاء ناش من وجود البينتين ، إذ لا وجه لمنع كل منهما عن النصف الا ابتلاء بينة كل منهما ببينة الأخر.

وبعبارة أخرى : إعطاء كل منهما نصف المال مستند الى بينته فإنها شهدت

ص: 186

بالكل ، ومنعه عن النصف الأخر مستند الى معارضة بينته بينة صاحبه. فصار كل واحد من عقدي الإيجاب والسلب - أي الإعطاء والمنع - مستندا إلى البينة ، وهذا معنى كون القضاء بالتنصيف قضاء بالبينة.

هذا ، ويدفعه أن يكون المنع من النصف مستندا الى تعارض البينة مرجعه الى سقوط دعوى كل منهما بالنسبة إلى النصف ، وهذا عين تعذر القضاء بالبينة لأن معنى تعذر القضاء بالميزان عدم سماع الدعوى ، فالتنصيف في الحقيقة طي للدعوى بسقوطها وعدم سماعها في النصف المدعى به لا بالبينة.

وأما المقدمة الأخيرة فلان الحلف انما يكون ميزانا إذا كان وظيفة لأحد المتداعيين في دعوى واحدة ، وأما إذا كان نسبته الى كل واحد منهما على حد سواء فلا تصلح ميزانا وكذا النكول.

وقياس حلفهما بالبينتين المتعارضتين غير صحيح ، لأن البينة حجة شرعية ومن شأنها عدم خروجها عن الحجية بالمعارضة ، بخلاف الحلف فإنه ليس حجة حتى يتصور فيه التعارض ، فلا بد في كونه ميزانا من اختصاصه بأحدهما ، فحيث كان نسبته إليهما نسبة واحدة كان المقام من موارد تعذر الحلف باليمين ، فلا بد من استعمال القرعة.

نعم لو بذل أحدهما الحلف ونكل الأخر قبل الإقراع أمكن أن يقال بعدم الحاجة الى القرعة حينئذ ، لأن فائدة القرعة لا تزيد على جعل الحلف مختصا بأحدهما كما ظهر ، والاختصاص في هذا الفرض حاصل بنكول أحدهما من غير قرعة.

فصار المحصل أنه إذا تعارض البينتان فالأصل فيه القرعة دون إحلاف كل منهما ، إذ لا فائدة فيه كما لا فائدة في نكولهما ، الا أن يتبين نكول أحدهما عن الحلف قبل القرعة ، فيحلف من غير قرعة لحصول فائدتها بدونها.

ص: 187

وانما قيدنا الدعوى بكونها واحدة لأنه إذا تداعيا في أمرين - بأن اختلفا في المبيع أو الثمين وادعى كل منهما شيئا فحلف كل منهما على مدعاه - لا ينافي ما ادعيناه من انحصار ميزانيته فيما إذا كان وظيفته لأحدهما ، لأن الاختصاص فيه أيضا حاصل بالقياس الى كل واحد من المدعى به. فافهم.

هذه قضية القاعدة في تعارض البينتين مع عدم المرجح أو عدم اعتباره مع قطع النظر عن أخبار الباب ، وأما الاخبار فهي مختلفة :

منها - ما يدل على القضاء بالتنصيف بمجرد التكافؤ من غير ذكر حلف ولا قرعة ، مثل قول الأمير عليه السلام في رواية غياث عن الصادق عليه السلام : ولم يكن في يده جعلتها بينهما نصفين (1). ومثل رواية تميم بن طرفة.

ومنها - ما يدل على التنصيف بعد حلفهما أو نكولهما من غير ذكر قرعة أيضا ، مثل رواية إسحاق بن عمار (2). ويمكن النسبة بين هاتين بالإطلاق والتقييد ، فيمكن الجمع بينهما بتقييد إطلاق الأول بالثاني ، ويرجع الحاصل الى القضاء بالنصف بعد الحلف.

ومنها - ما يدل على القرعة من غير ذكر حلف ، مثل المرسل عن أمير المؤمنين عليه السلام في البينتين يختلفان في الشي ء الواحد يدعيه الرجلان أنه يقرع بينهما إذا اعتدلت بينة كل واحد منهما. ومثل موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام : ان رجلين اختصما الى على عليه السلام في دابة فزعم كل واحد منهما أنها نتجت عند مزودة ، وأقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد ، فأقرع بينهم - الحديث (3).

ص: 188


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 3 و 4.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 15.
3- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 12.

ومنها - ما يدل على الإقراع وإحلاف من خرجت القرعة باسمه ، مثل رواية البصري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : كان علي إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء وعددهم سواء أقرع بينهم على أيهم يصير اليمين (1). ويمكن الجمع بين هاتين أيضا بالتقييد ، فيقيد إطلاق الطائفة الأولى المكتفية بالقرعة بالثانية المصرحة باعتبار اليمين فيها.

وبعد ملاحظة هذا الجمع والجمع السابق بين الطائفة الأولى يقع التعارض بين هذه الطائفة والطائفة الأولى على وجه التباين ، لان خبر إسحاق يدل على التنصيف من دون قرعة وخبر البصري يدل على اعتبار القرعة والحلف ، فبينهما تباين. فتقييد التحالف في خبر إسحاق بما بعد القرعة في غاية البعد خصوصا مع ملاحظة التحالف. فإن الإقراع يقتضي إحلاف من خرجت باسمه القرعة دون التحالف ، وحينئذ فلا بد من ملاحظة المرجحات.

ولا يبعد دعوى رجحان أخبار القرعة ، خصوصا مع ملاحظة الشهرة ، وعلى تقدير التكافؤ فالمرجع هي عمومات القرعة المقررة لكل أمر مشكل. فما هو المشهور من الإقراع بعد التكافؤ هو الأظهر من ملاحظة الاخبار وعلاجها بقواعد الجمع ، خلافا للمحكي عن المبسوط حيث فصل فذهب إلى القرعة فيما إذا كانت بينتهما مطلقتين والى التنصيف إذا كانت مسببتين وان اختصت إحداهما بالتقييد قضي بها.

وهذا التفصيل بعض فقراتها موافق للقاعدة ، كالقضاء بالبينة المقيدة إذا كانت الأخرى مطلقة ، لما مر في السابق من أن هذا النحو جمع عملي بين البينتين.

ص: 189


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 5 ، والحديث يختلف عما هنا بعض الاختلاف فراجع.

وأما الفرق بين المطلقتين والمقيدتين فقد يستدل عليه بأن أخبار القرعة كلها مطلقة بالنسبة إلى إطلاق البينتين وتقييدهما ، أما رواية البصري فواضحة وأما رواية سماعة فلان التقييد بالنتاج فيها انما هو في كلام المدعي لا في مدلول البينة ، إذ لا دلالة في قوله « وأقام كل واحد منهما البينة » على شهادة البينتين أن الدابة نتجت عند مزودهما ، لاحتمال اقتصارهما في الشهادة على مجرد الملكية التي ادعاها كل واحد منهما المدلول عليها بقوله « اختصما » ، بل لعله الظاهر كما لا يخفى. وحينئذ فمقتضى القاعدة العمل بخبر إسحاق الوارد في المقيدتين المصرح بالتنصيف بدون القرعة.

هذا ، ويرد عليه أن خبر إسحاق مشتمل على التنصيف مع الحلف ، وليس في كلام الشيخ اعتبار الحلف في القضاء بالتنصيف.

ويمكن دفعه : بأن عدم ذكر الشيخ للحلف لا يدل على عدم قوله به ، لاحتمال أن يكون عدم ذكر الحلف ثقة بما هو المعلوم المعهود المنطبق على قواعد القضاء من توقفه على اليمين أو البينة.

مع أن الانصاف أن منع ظهور خبر سماعة في المقيدتين تعسف ومكابرة ، لأن احتمال عدم تطابق بينة المدعي لما هو المذكور من كلماته في الرواية بعيد جدا.

هذا هو الكلام في تعارض البينتين المتساويتين في جميع الجهات.

[ اعتبار التساوي في العدل والعدد ]

بقي الكلام فيما يقضي به مفهوم هذه الروايات من اعتبار التساوي في العدل والعدد ، وانه إذا اختلفا في أحد الأمرين - بأن كان أحدهما أكثر عددا أو أعدل - فهل يجب الترجيح بهما أم لا ، والكلام فيه في مقامات : الأول في اعتبار

ص: 190

الترجيح بالأكثرية أو الأعدلية ، والثاني في تقديم أحدهما على الأخر عند التعارض بأن كان أحدهما أكثر والأخر أعدل ، والثالث في التعدي عنهما الى مرجحات أخر كالاضبطية ونحوها :

( أما المقام الأول ) فقد يستدل على الترجيح بالأكثر بروايات :

منها : خبر أبي بصير - وقد سبق - عن رجلين يأتي القوم فيدعي دارا في أيديهم ويقيم الذي في يديه الدار البينة أنها ورثها عن أبيه ولا يدري كيف أمرها فقال : أكثرهم بينة يستحلف ويدفع اليه. وذكر أن عليا عليه السلام أتاه قوم يختصمون في بغلة ، فقامت لهؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم ولم يبيعوا ولم يهبوا وأقام هؤلاء البينة أنهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا ، فقضى بها لا كثرهم واستحلفهم - الحديث.

دل بموضعيه على الترجيح بالأكثرية : الأول « قوله أكثرهم بينة يستحلف » ودلالة واضحة. والثاني ذكر قضاء علي عليه السلام لأكثرهم بينة ، فإنه وان كان في نفسه لا يصلح للاستدلال لأنه من حكايات الأحوال الا أن وقوعها في مقام الاستشهاد يوجب صلاحيتها للاستدلال ، كما استدل الامام عليه السلام.

وفي الاستدلال بكلا الموضعين نظر :

( أما الأول ) فلاختصاصه بما إذا كان أحدهما ذا اليد وكانت احدى البينتين داخلة والأخرى خارجة فلا ينفع فيما نحن فيه. مع أن في الرواية إشكالات آخر ، وهو أن البينتين مما يمكن الجمع بينهما ، فالرجوع الى الترجيح فيهما مخالفة للمتفق عليه من إمكان الجمع مهما أمكن ، وقد سبقت الإشارة الى هذا الإشكال أيضا.

( وأما الثاني ) فلان قضية الاستدلال وان كانت عموم ما ذكر من الحكاية الا

ص: 191

أن جريانها في المستشهد له قل القائل به وخلاف التحقيق الذي مر في المسألة الثانية.

ومنها : مفهوم قوله عليه السلام في رواية سماعة المذكورة « وأقام كل واحد منهما بينة سواء في العدد » ، فان مفهوم القيد في مثل مقام - أعني مقام بيان الميزان - كمقام التحديد حجة بلا مفهوم جميع القيود يعول عليه في أمثال المقام ، وهو يقتضي عدم الإقراع : اما لأجل التنصيف وهو باطل قطعا ، واما لأجل القضاء للأكثر وهو اعتبار.

فان قلت : هذا القول من المعصوم عليه السلام وقع حكاية عن قضية واقعة فغاية ما يستفاد منه أن عليا عليه السلام قضى بالقرعة مع تساوي العدد ، وهذا لا يفيد حكم أصل المسألة ولا يدل على اعتبار التساوي وان الأكثرية مرجحة ولو قلنا بمفهوم القيد في أمثال المقام.

قلت : قد ذكرنا غير مرة أن الحكم في القضية الواقعة إذا حكاه الامام عليه السلام في مقام ذكر الحكم الشرعي يتشخص بالخصوصيات الموجودة في الحكاية خاصة ، بحيث يعلم منه أن ما عدا تلك الخصوصيات من الخصوصيات الموجودة في تلك الواقعة الخاصة التي هي مورد الحكم المحكي لا عبرة بها وأنها ملغاة في ذلك الحكم.

وأما الخصوصيات الموجودة فيها فهي معتبرة ، والا كان تخصيصها بالحكاية من بين سائر الخصوصيات لغوا عاريا عن الفائدة ، فيعلم من ذلك أن الفرق بينها وبين الخصوصيات المسكوت عنها هو اعتبارها في الحكم - أعني الإقراع - دون سائر الخصوصيات.

فثبت بذلك اعتبار صفة التساوي في العدد في الإقراع ، فإنه مع عدم التساوي لا قرعة هنا ، أما لأجل كونه من موارد الترجيح وهو الظاهر ، أو لأجل

ص: 192

كونه من موارد القضاء بالتنصيف وهو باطل ، إذ على تقدير عدم اعتبار الأكثرية في الحكم بالقرعة يكون وجودها كعدمها ، فيكون مثل صورة التساوي الذي حكم فيه بالقرعة ، فلا معنى للقضاء بالتنصيف أيضا. فتأمل. وللإجماع على عدم القضاء بالتنصيف مع كون احدى البينتين أكثر ، فإن الاحتمال فيه دائر بين الحكم للأكثر أو القرعة.

وأما الترجيح بالأعدلية فيدل عليه روايتان :

إحداهما - رواية البصري المتقدمة : كان علي عليه السلام إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدلهم سواء وعددهم سواء أقرع بينهما. فإنها بالمفهوم تدل على اعتبار التساوي في العدل والعدد ، وأنه إذا انتفت المساواة في كل منهما لم يقرع (1). والكلام في أن عدم الإقراع لا يستلزم الترجيح والحكم للأرجح ما مر ، وكذا الكلام في اعتبار مفهوم الصحة أو كونها حكاية عن الحكم في قضية واقعة.

وثانيتهما - المرسل المتقدم عن أمير المؤمنين في البينتين يختلفان في الشي ء الواحد يدعيه الرجلان انه يقرع بينهما إذا اعتدلت بينة كل واحد منهما (2).

لان الاعتدال عبارة عن المساواة في جميع ما يعد في العرف مرجحا ، لأنه أمر عرفي ، فيدل عدم الإقراع عند عدم الاعتدال العرفي مطلقا ، ولا ريب أن الأعدلية توجب عدم الاعتدال فلا قرعة - الى آخر ما عرفت فيما تقدم من الرد.

وروي عن بعض النسخ « عدلت » مكان « اعتدلت » ، وهو مؤيد بقوله « بينة كل واحد منهما » ، لان الاعتدال لا يتم معناه الا بطرفين ، فكان ينبغي أن يكون هكذا : إذا اعتدل البينتان أو بينة كل منهما مع بينة الأخر.

ص: 193


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 5.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 15.

( وأما المقام الثاني ) فقد يستدل على تقديم الأكثرية على الأعدلية بإطلاق مفهوم قوله عليه السلام في رواية سماعة « سواء في العدد » ، لأنه بإطلاقه يدل على عدم الإقراع مع عدم المساواة فيه ولو مع كون الأقل أعدل.

وقد يجاب : بأن منطوقه مقيد بمنطوق رواية البصري المصرحة باعتبار التساوي في العدالة زيادة على التساوي في العدد ، وإذا قيد المنطوق كان الجزاء - وهو الإقراع - متوقفا على أمرين : المساواة في العدد ، والمساواة في العدالة.

ومقتضى مدخليتهما معا في الحكم عدم الإقراع عند انتفاء كل واحد منهما مستقلا ، لان عدم كل واحد من أجزاء العلة وشرائطها علة تامة لعدم المعلول ، وحينئذ قد يقع التعارض بين مفهومي القيدين فيما نحن فيه ، لأن المنتفي ان كان أحد القيدين فلا اشكال ، وكذا ان كان كليهما مع عدم التعارض ، مثل ما إذا كان احدى البينتين أكثر وأعدل فالاكثرية سبب لانتفاء القيد الثاني مع عدم التعارض بينهما.

وأما إذا كانت الأكثرية في إحداهما والأعدلية في الأخرى ، فمقتضى الانتفائين أيضا عدم الإقراع ، لكن لما كان عدم الإقراع لأجل الترجيح لا لأجل التنصيف كما مر فيقع التعارض بينهما. فمقتضى انتفاء القيد الأول - أعني التساوي في العدد - الحكم لا كثرهما بينة ، ومقتضى انتفاء القيد الثاني الحكم لأعدلهما بينة ، فلا دلالة في إطلاق مفهوم قوله عليه السلام « سواء في العدد » في رواية سماعة على تقديم الأكثر على الأعدل مع ملاحظة رواية البصري المقيدة لمنطوقها بالمساواة في العدد أيضا ، وانما يدل على تقديم الأكثر مع عدم تقييد المنطوق به.

وفيه : ان حكم ثبوت التقييد بدليل منفصل بعد ما كان ظاهر الجملة الشرطية سببية الشرط للجزاء غير حكم المقيد المذكور في الشرط. وما ذكرت من التحقيق انما يتم في الثاني دون الأول.

ص: 194

بيانه : ان ظاهر الجملة يدل على سببية الشرط للجزاء ، فان كان الشرط مركبا من أمرين بطريق العطف ، كقولك « إذا جاءك زيد وعمرو أفعل كذا » ، أو بطريق التقييد كما في قولك « إذا جاءك زيد راكبا فافعل كذا » يدل على سببية المنضم والمنضم اليه معا وان كان الشرط منفردا في الكلام ، فمقتضى ظاهر الجملة كونه سببا للجزاء ، ثمَّ بملاحظة إطلاق الشرط يثبت كونه علة تامة على ما هو التحقيق المقرر في محله.

وأظهر الوجوه في دلالة الجملة الشرطية على المفهوم ، فاذا ثبت من الخارج مدخلية شي ء آخر ، ثبت أن طلاق الشرط مقيد وأنه ليس بعلة تامة لكن كونه سببا أيضا باق بحاله ، لأن مجرد مدخلية شي ء آخر في الجزاء لا ينافي سببية الشرط لاحتمال كونه شرطا ، فلا يلزم من اعتبار التساوي في العدالة أيضا خروج التساوي في العدد عن السببية التي دلت الجملة بظاهرها عليها.

بل نقول : ان التساوي في العدد سبب والتساوي في العدالة شرط فاذا انتفيا معا لزم أن يكون انتفاء الجزاء وهو المعلول - أعني الإقراع فيما نحن فيه - مستندا الى عدم المساواة في العدد أعني الأكثرية دون العدالة ، لأن عدم المعلول لا يستند عرفا الى عدم الشرط أو عدم المانع مع عدم المقتضي ، إذ يقبح أن يعتذر الفقير مثلا في عدم تجارته بخوف الضرر في الطريق مع عدم استطاعته وعدم تملكه مالا يتجر به.

فظهر أن الأكثرية هي المستند إليها في عدم الإقراع وان اجتمع معها الأعدلية موافقة أو مخالفة ، وان الأعدلية مع وجود الأكثرية لا عبرة بها ، وهو المراد.

هذا ، ويرد عليه أن ما ذكر انما يتجه إذا كان الاستواء في العدد في حيز الشرط ، وليس كذلك بل الموجود في رواية سماعة (1) أن عليا عليه السلام حكم

ص: 195


1- الوسائل ج 18 ب 13 من أبواب كيفية الحكم ح 12.

بالقرعة فيما أقام كل من المتداعيين بينة سواء في العدد. وهذا لا يدل على كون الاستواء في العدد سببا للإقراع ، وانما يدل على مدخليته فيه فيكون حاله كحال ثمَّ ان مدلول رواية البصري (1) بعد ملاحظة مفهوم الاستواء في العدد والعدالة يدل على الحكم بالأرجح عند عدم التعارض ، وأما معه - كما إذا كانت الأكثرية التي هي عبارة عن انتفاء المساواة في العدد في جانب والأعدلية في آخر - فالمستفاد منها عدم الإقراع ، فيدور الأمر بين القضاء بالتنصيف أو ترجيح الأكثر أو الأعدل ، وحيث لم يثبت شي ء منهما تعين التنصيف. وليس الحال هنا كالحال في صورة رجحان احدى البينتين بالأكثرية والأعدلية في بطلان التنصيف بالإجماع لعدم الإجماع هنا على ذلك.

( وأما المقام الثالث ) فقد يستدل عليه بمفهوم قول أمير المؤمنين عليه السلام في المرسل المذكور « إذا اعتدلت بينة كل منهما » ، لان الاعتدال أمر عرفي ينتفي عرفا بكل مزية مثل الأضبطية ونحوها ، فينتفي الإقراع ويتم المدعي على التقريب المتقدم في الروايات السابقة. وهو استدلال ضعيف كما لا يخفى ، فالتعدي مشكل مع عدم ظهور قول الأصحاب به.

فقد تلخص مما ذكرنا أن الحكم مع عدم الترجيح للقرعة ومعه الأخذ بالمرجح المنصوص لا مطلقا. وهل يحتاج الى اليمين في الموضعين أم لا؟

الأقوى اعتبار اليمين فيهما ، لان القضاء لا يكون إلا بأحد من البينة واليمين مع الإمكان ، فمن خرجت باسمه الحلف وقضى له وكذا من كان بينته أرجح :

( أما الأول ) فواضح بعد ملاحظة مثل قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » وإمكان القضاء بالحلف هنا.

ص: 196


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 5.

فإن قلت : ظاهر أخبار القرعة كفايتها حيثما تجري في القضاء.

قلت : انها معارضة بما ذكر من الدليل على حصر الميزان في البينة واليمين مع إمكان القضاء بأحدهما ، وهو أخص مطلقا من أخبارها. ولو سلم أن النسبة بينهما عموم من وجه ، فالترجيح لما دل على توقف القضاء باليمين لأنه المشهور ، ولأن أدلة القرعة يشترط في العمل بها انجبار ضعفها بالعمل ، وهو هنا مفقود.

ولو سلم التكافؤ فالمرجع هو الأصل الذي يقتضي الأخذ بالقدر المتيقن.

وهو القضاء بالحلف ، لان نفوذ الأصل خلاف مقتضى الأصل الاولي كما تقدم في أول القضاء.

فان قلت : قد وردت في الباب أدلة أخرى غير تلك الأخبار العامة على القضاء بالقرعة وهي كثيرة ، ومنها أيضا ما تقدم « احكام المسلمين على ثلاثة :

بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية » ، وهي أخص مطلقا من الأدلة الحاصرة للميزان في البينة واليمين كما لا يخفى.

قلنا : ان هذه الاخبار مقيدة بأخبار أخر دالة على اعتبار اليمين مع القرعة وقد أشرنا إلى بعضها في أول المسألة.

( وأما الثاني ) - أعني إحلاف من بينته أرجح - فلان القدر الثابت من الترجيح بالأكثرية كونها مرجحة لجانب من كانت بينته أكثر في القضاء له ، وهو لا ينافي توقف القضاء على الحلف.

والحاصل ان المقتضي للحلف موجود وهو تعارض البينتين ، والمانع - وهو سقوط البينة المرجوحة عن قابلية المعارضة - غير معلوم ، لاحتمال كون الرجحان بالنسبة إلى مجرد تغليب جانب صاحب البينة الراجحة وتقويته وجعل القول قوله كالمنكر لا بالنسبة إلى ذات البينة حتى يكون المرجوح ساقطا عن الاعتبار وقاصرا عن المعارضة.

ص: 197

فإن قلت : معنى ترجيح احدى البينتين على الأخرى هو كون الحجة الفعلية هو ذلك الراجح كما هو كذلك في ترجيح الاخبار بعضها على بعض والا لم يكن ترجيحا للبينة.

قلت : ليس في الأدلة ان الكثرة في البينتين مرجحة حتى يفرع عليه سقوط الأول عن قابلية المعارضة ، وانما الموجود فيها بعد ملاحظة المفهوم عدم القرعة مع وجود الكثرة ، وهذا بنفسه لا يدل على تغليب جانبها أيضا فضلا عن كونها مرجحة كما تقدم ، والقدر الثابت من الإجماع بطلان التنصيف مع وجودها.

وهذا المقدار لا يقضي بكون الكثرة مرجحة لنفس البينة كما في الاخبار ، لاحتمال اختصاص فائدتها بجعل صاحب البينة الراجحة قوي الجانب وكون القول قولها ، فلا دلالة فيها على سقوط الأقل مثلا عن قابلية المعارضة.

وأما كلمات الأصحاب فهي وان كانت في بادئ النظر ظاهرة في ترجيح أصل البينة ، إلا أن التأمل فيها يقضي بخلاف ذلك الظاهر. لان الموجود في كلام جملة منهم أنه يقضي لأكثرهم بينة.

وهذا لو لم يكن ظاهرا فيما ذكرنا - أعني كون القول قوله كما يقتضيه الانصاف - فليس بظاهر أيضا في سقوط الأقل مثلا عن درجة الاعتبار. نعم في عبارة الشرائع حيث قال « يقضي بأرجح البينتين » ربما يكون بعض الإشعار إلى ترجيح البينة وان القضاء انما هو بالبينة لا باليمين.

وكيف كان فالمتبع هو الدليل ، ولم نجد مساعدته على كون مستند القضاء في صورة الرجحان هو البينة الراجحة دون اليمين.

ثمَّ لو حلف من خرجت القرعة باسمه أو من كان بينته أرجح قضي له وان نكلا ردت اليمين إلى الأخر فإن حلف قضي له وان نكل أيضا قسم بالسوية ،

ص: 198

لما مر من أن القضاء بالتنصيف آخر موازين القضاء. وهذا أصل متبع في كل مقام لا يمكن القضاء فيه بالبينة ولا باليمين ولا بالقرعة.

فإن قلت : لا وجه للتنصيف ، بل إذا تعذرت الأمور الثلاثة يجب إيقاف القضاء ، كما لو انحصر القضاء بالبينة ولم تكن للمدعي بينة مثل الدعوى على الغائب مثلا. وبعبارة أخرى : ان المتداعيين إذا لم يكن مع أحدهما شي ء من الموازين الثلاثة طردهما الحاكم ولم يسمع الدعوى ولم يقم دليل على القضاء بالتنصيف من غير ميزان بل هو حكم بلا مستند ، فكما أن حكم الواقعة إذا انحصر في البينة مثلا مثل الدعوى على الغائب يوقف فيها القضاء مع عدم بينة للمدعي ولا يسمع دعواه ، فكذلك ما نحن فيه يجب فيه إيقاف القضاء لعدم الميزان.

قلت : إيقاف القضاء تارة يكون باعتبار عدم قدرة المدعي مثلا على اقامة الميزان مع كونه مجهولا شرعا ، مثل عدم سماع الدعوى على الغائب بلا بينة ، وأخرى يكون باعتبار عدم جعل الشارع للواقعة ميزانا :

الأول أمر ممكن ، لان مرجعه الى عدم سماع دعوى المدعي إذا توقف سماعها على البينة التي هو فاقد لها ، وهذا لا ضير فيه ومنافاة للحكمة.

وأما الثاني فهو مناف للحكمة ومناف للغرض المشرع للقضاوة ونصب الاحكام ، لأنه يجب على الشارع في الواقعة التي تسمع فيها الدعوى جعل ميزان للقضاء والا كان السماع لغوا.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأنه إذا نكل كل منهما عن اليمين بعد سماع دعواهما ومطالبة البينة منهما وتعارض البينتين واستعمال القرعة وإحلاف من خرجت باسمه ونكوله عن الحلف ورده الى الأخر ونكوله ، فلا بد أن يكون

ص: 199

للقاضي حينئذ ميزان للقضاء حتى يقضي بذلك الميزان ولا يتعطل الحكم ، لان التوقف في القضاء حينئذ لا وجه له ، لأنه ضرر يجب دفعه بأدلة القضاء.

وليس مثل عدم سماع دعوى المدعي إذا لم يكن له بينة في الواقعة التي ينحصر فصلها بالبينة ، لان مقتضى جعل الميزان عدم سماع الدعوى في هذا الفرض والا كان جعل الميزان لغوا وخرج الميزان عن كونه ميزانا. فلا بد حينئذ فيما نحن فيه أن يكون للقضاء ميزان يقضي به حتى لا يلزم توقيف الحكم من قبل الشارع ، وليس هو الا القضاء بالتنصيف ، إذ المفروض عدم جريان شي ء من سائر الموازين فيه باعتبار التعارض والتدافع. نعم لو كان المدعى به مالا يتصور الشركة فيه كالزوجية تعين الإقراع ثانيا من دون حلف. فتأمل.

فإن قلت : لم لا يجعل الميزان حينئذ القرعة مع كونها أحد الموازين بعد تعذر البينة واليمين. فان قلت : قد استعملناها بعد تعارض البينتين. قلنا : تلك القرعة كانت لتلخيص من يكون القول قوله وكان الميزان هي اليمين ، وأما القرعة حينئذ - أي بعد نكولهما عن الحلف - فهي بنفسها تكون ميزانا من غير حلف. والحاصل ان تعارض البينتين واقعة ونكول المتداعيين عن الحلف بعد الإقراع واقعة أخرى ولا يكفي الإقراع في إحداهما عن الأخرى.

قلت : قد عرفت غير مرة أن القرعة بنفسها لا يستتم بها ميزان القضاء ، ومعنى كونها ميزانا له في الجملة أنها المرجع إذا تساوى المتداعيان من جميع الجهات في تعيين من يكون القول قوله بيمينه لقصور أدلتها عن إثبات كونها مستندا للقضاء بنفسها لما مر آنفا ، واليمين متعذرة هنا فلا مجال للقرعة حينئذ.

فإن قلت : النكول عن اليمين المردودة من الموازين للقضاء كما تقدم بلا إشكال فيقضى للراد ، وهو هنا من خرجت باسمه القرعة.

ص: 200

قلنا : ميزان القضاء هو نكول المدعي عن يمين المنكر لا كل نكول ، ومن خرجت باسمه القرعة ليس منكرا شرعا وعرفا ، وانما قدم قوله بيمينه للحلف فلا يكون النكول عن هذه اليمين من نكول المدعي عن يمين المنكر.

فان قلت : القضاء بالتنصيف قضاء بلا ميزان ، لان التنصيف هو المقضي به لا ميزان القضاء ، والقضاء بلا ميزان باطل.

قلنا : أولا - ان القضاء بالتنصيف قضاء بموجب البينة في الجملة كما أوضحناه سابقا ، لأن إعطاء كل منهما نصف المدعى به عمل ببينته في الجملة ومنعه عن النصف الأخر عمل ببينة صاحبه كما تقدم.

فان قلت : كيف يكون التنصيف عملا بكل منهما في الجملة ، بل هو طرح لهما رأسا ، لأن كلا منهما يشهد ببطلانه وكونه على خلاف الواقع ، ولذا قد تقرر في الأصول ان الجمع بين الدليلين بالعمل بكل منهما في بعض مدلوله طرح لكل منهما ، وليس من جزئيات قاعدة أولوية الجمع من الطرح.

قلنا : هذا حق بعد تسليم مقدمتين : إحداهما اعتبار العلم الإجمالي في حق الناس ، والثانية كون اعتبار البينة في الحقوق من باب الطريقية لأمن باب السببية المحضة. وكلتاهما ممنوعتان ، بل لا يبعد أن يكون الأقوى خلافها ، لان مراعاة العلم الإجمالي في حقوق الناس الظاهر أنها غير واجبة بل غير جائزة جمعا بين الحقين.

ونظرا الى ما ثبت بالنص والإجماع من إلغاء العلم الإجمالي في موارد كثيرة وكذا القول بأن البينة في إثبات الحقوق من باب السببية المحضة مثل البيع للنقل والانتقال ، ليس بذلك البعيد. بل قد يستشم ذلك من بعض أخبار الباب الدال على القسمة في صورة تعارض البينتين بحسب عدد الشهور ، وكذا من ثبوت ربع الوصية بشهادة امرأة واحدة ونصفها بشهادة اثنتين وتمامها بشهادة الأربع ، كما هو واضح.

ص: 201

فاذا بنينا أن إهمال العلم الإجمالي في الحقوق المشتبهة ومخالفته جائزة وان قيام البينة سبب مملك لمن أقيمت له كان إعطاء كل منهما نصف المدعى به اعمالا لبينته في الجملة مع عدم محظور من جهة مخالفة الواقع.

فان قلت : ان كان الأمر كذلك لا يصار الى القضاء بالتنصيف من أول الأمر إلى حين تعارضهما وتكافؤهما ، بل يرجع الى الحلف أو القرعة ، مع كون القضاء بالبينة في مجراها مقدما على الجميع.

قلنا : ان التنصيف ليس قضاء كاملا بالبينة ، بل هو قضاء به على وجه النقصان ، ومع إمكان القضاء بميزان آخر كاليمين مثلا على وجه التمام لا يصار الى القضاء بالبينة على وجه النقصان. وبعبارة أخرى : ان التنصيف قضاء بموجب البينة وعمل بها في الجملة لا بتمام مؤداها ، وهذا مع إمكان استعمال ميزان آخر يقضى به على وجه الكمال والرجحان لا يصار اليه ، بل انما يصار اليه مع فقد جميع الموازين.

وثانيا - انه لو لم يقض بالتنصيف في مفروض البحث لم يبق لاخبار القضاء بالتنصيف مثلا مورد أصلا ، فيلزم طرحها. وهو في غاية البعد ، لكثرة تلك الاخبار وعدم ظهور امارة الطرح فيها غير تعارضها بأخبار القرعة التي قد عرفت اختصاصها بصورة إمكان الحلف بعدها.

وهذه لا تنافي ما قدمنا من ترجيح أخبار القرعة عليها في صورة تكافؤ البينتين أو الحكم بالتساقط والرجوع الى عمومات القرعة ، لأن التساقط في صورة التكافؤ وإمكان الحلف بعد القرعة لا ينافي كون تلك الاخبار معمولا بها في غير تلك الصورة. فتأمل واللّه الهادي.

[ حكم عدم البينة في الدعوى مع عدم تصديق ثالث أحد الطرفين ]

ومما ذكرنا في هذه المسألة - وهي المسألة الرابعة - ظهر حكم مسألة

ص: 202

خامسة ، وهي ما إذا لم يكن لأحد الخارجين بينة ولم يصدق الثالث أحدهما ، فإن الحكم هنا أيضا القضاء بالتنصيف مع العلم الإجمالي بكون العين لأحدهما ومع عدم العلم واحتمال كونها لثالث عدم سماع الدعوى وإيقافها الى أن يقيم أحدهما البينة.

أما القضاء بالتنصيف في الأول فلعدم جواز منعهما من العين لكونه مخالفة قطعية وعدم جواز القضاء بها لأحدهما لكونه ترجيحا بلا مرجح وقضاء بلا ميزان ، وعدم جريان التحالف أيضا لان نسبة الحلف الى كل منهما على حد سواء ، وقد سبق أنه متى كان كذلك لم يصلح الحلف ميزانا للقضاء وانما يصلح ميزانا إذا كان متوجها الى أحدهما المعين خاصة ، فليس مثل البينة في كونها حجة شرعية مسموعة من متعدد ، لأن الحجة الشرعية حجة في إثبات المدعى مع قطع النظر عمن يقيمها ، بخلاف الحلف فإنه ليس حجة شرعية حتى يكون وجوده كافيا في إثبات المدعي ويمكن أن يقيمها الاثنان ، بل هو ميزان للقاضي مشروطا بأمور كوقوعه بعد مطالبة المحلوف له واذن الحاكم وغير ذلك مما لا يعتبر في البينة والحجة الشرعية ، وكونه ميزانا لا يمكن الا مع اختصاصها بأحد المتداعيين.

ومن هنا يظهر فساد ما يتخيل من قياس حلف المتداعيين ببينتهما وانه كما لا يمكن للقاضي الحكم بالبينة المتعارضة - ومع ذلك فهو يطالب البينة من كل من المدعيين وجاء اختصاص أحدهما بالبينة فيقضي بها - كذلك لا يمكن له القضاء في صورة حلفهما ونكولهما ، لكنه يستحلفهما رجاء حلف أحدهما ونكول الأخر حتى يحصل ميزان القضاء. فلا وجه للقول بعدم كون الحلف إذا كان نسبته الى كل واحد من المتداعيين متساوية ميزانا ، وانه انما يكون ميزانا إذا كان مختصا بأحدهما.

ص: 203

وجه ظهور الفساد أن البينة حجة شرعية مع قطع النظر عن مطالبة الحاكم وعدم جواز القضاء بالبينة المتبرع بها ليس لأجل عدم كونها حجة قبل المطالبة ، بل لأن مطالبة الحاكم شرط تعبدي يثبت في كونها ميزانا ، إذ ليست الحجية مساوقة للميزانية ، فاذا كانت حجة كانت نسبتها الى كل من المدعيين على حد سواء ، فعلى الحاكم مطالبتها من كل منهما والقضاء بحسب ما يئول الأمر إليه من الاختصاص بأحدهما أو التعارض ، بخلاف اليمين فإنها جعلت ميزانا لا حجة حتى يتصور التعارض فيها. والميزان لا يجوز أن يكون أمرا لكل من المتداعيين اقامته ، فقبل ظهور نكول أحدهما لا يكون الحلف ميزانا ، فاذن انحصر الأمر في القضاء بالتنصيف.

نعم للإقراع وجه قوي اختاره العلامة في محكي القواعد ، لكن الالتزام به موقوف على الاطمئنان بالعامل به ، فان ثبت فيها والا فلا مناص الا بالقضاء بالقسمة.

وأما إيقاف الدعوى في الثاني فلعدم البينة وعدم صلاحية الحلف للميزان كما عرفت وعدم العلم الإجمالي بدوران المال بينهما حتى يلزم من عدم القضاء تعطيل الحق لاحتمال كونه لثالث.

ومما ذكرنا ظهر أن ما في محكي كشف اللثام من التحالف ، ليس على ما ينبغي. واللّه الهادي.

التقاط [ أنواع تعارض البينات وأحكامها ]

كما يتحقق التعارض بين الشاهدين كذلك يتحقق بين الشاهد والامرأتين فإذا كان لأحدهما شاهد وامرأتان وللآخر شاهد وامرأتان جرى فيه حكم تعارض البينتين. وكذا يتحقق بين الشاهد واليمين.

ص: 204

ولا إشكال في شي ء مما ذكر ، لأن قضية حجية الشاهد وامرأتين وقوع المعارضة بين فردين منها ، وكذلك قضية حجية الشاهد واليمين ، لان اليمين شرط لقبول شهادة الشاهد الواحد ، فالميزان انما هو الشاهد دون اليمين.

ويدل عليه - مضافا الى إمكان الاستدلال عليه بمفهوم آية النبإ - بعض الروايات : كان النبي صلى اللّه عليه وآله يقضي بالشاهدين والشاهد واليمين لئلا يبطل حق مسلم ولا يرد شهادة مؤمن (1).

وبالجملة لا إشكال في تعارض الحجج الشرعية في نفسها وبعضها مع بعض ، بل الظاهر جريان حكم تعارض البينتين أيضا وان كان المتبادر من لفظ « البينة » خصوص الشاهدين ، لان هذا التبادر إطلاقي بدليل عدم صحة سلب البينة عن رجل وامرأتين ولا عن الشاهد واليمين ، فكل حكم ثبت في الأدلة لتعارض البينتين يجري فيهما أيضا. لكن أحكام تعارض البينتين لم تثبت في الأدلة بعنوان تعارض البينتين بل ثبتت في موارد خاصة ووقائع معينة كانت الشهود فيها رجال على ما يظهر من التأمل في الأدلة الماضية.

نعم قد عرفت في رواية أبي بصير قول الامام عليه السلام « أكثرهم بينة يستحلف » (2) ، لكن عرفت أيضا ما في تلك الرواية ، فإن عثرنا بحكم شرعي ثابت بعنوان البينتين جرى في تعارض رجل وامرأتين وكذا في تعارض رجل ويمين ، والا فالظاهر أيضا الجريان للمناط القطعي ، فعلى تقدير الترجيح بالأكثرية يرجح شهادة الرجل وثلاث امرأة على شهادة رجل وامرأتين وهكذا.

هذا كله واضح ، وانما الإشكال في تعارض كل منهما مع الشاهدين ،

ص: 205


1- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب كيفية الحكم ح 18.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 1.

ففي الشرائع انه يتحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد وامرأتين ولا يتحقق بينهما وبين الشاهد واليمين.

وعلله في المسالك بأن الشاهد واليمين حجة ضعيفة ، ولذا اختلف في ثبوت الحق بهما المخالفون ، ومخالفتهم لو لم تكن مقوية نظرا الى أن الرشد في خلافهم ، فلا أقل من عدم التضعيف مع أن الاختلاف في الاعتبار لا مساس له باحداث الضعف عند من يقول بالاعتبار.

ومن هنا يظهر أن سعة مجاري الشاهدين من حيث الأموال والحقوق والحدود وغيرها وضيق دائرة الشاهد واليمين لاختصاصهما بخصوص الماليات لا يوجب أيضا ضعفا في اعتبار الشاهد واليمين ولا يفيد قصور معارضته مع الشاهدين.

نعم يمكن استظهار هذا المرام من بعض الروايات الماضية ، كقوله عليه السلام « كان شهودهم سواء في العدد والعدالة » (1) ، لأنه كما يدل على الترجيح بالأكثرية إذا كان بينة كل منهما الشاهدين كذلك يدل عليها إذا كان بينة أحدهما الشاهدين وبينة الأخر الشاهد واليمين ، لأن قضية مفهوم القيد اعتبار تساوي عدد الشهود في القضاء بالقرعة ويصدق عدم التساوي إذا كان بينة أحدهما الشاهد واليمين.

الا أن يقال : انه يدل على الترجيح بالأكثرية إذا كان شاهد كل منهما متعددا بقرينة لفظ العدد والشاهد ، واليمين ليس كذلك فهو ليس من باب مورد الرواية.

أو يقال : موردها ما إذا كان حجة كل منهما الشهود ، والشاهد واليمين ليس شهودا ، لان المركب من الشي ء وخارجه خارج عنه.

ويدفعه ما مر من أن الحجة انما هي الشاهد الواحد ، واعتبار اليمين شرط له استظهارا وقد يتوهم العكس أن الشاهد يقوى جانب المدعي فيكون الميزان

ص: 206


1- هي رواية البصري المتقدمة الوسائل ج 18 ب 12 ح 5.

هي اليمين كالمنكر الذي جانبه أقوى من المدعي الذي لا بينة له ، وهو ضعيف وسخيف.

الا أن يقال : ان المدعي في المقام القضاء بالشاهدين من دون حلف وعدم الاعتناء بالشاهد واليمين ، بمعنى عدم صلاحيتها للمعارضة وفرض وجودهما كعدمهما. وهذا النحو من الترجيح ما استظهرناه من قوله « سواء في العدد » ، بل استظهرنا منه ترجيح جانب من كان شهوده أكثر وتقديم قوله ليمينه ، وهذا غير الترجيح المطلوب في المقام. واللّه العالم.

التقاط [ التقدم التاريخي في إحدى البينتين ]

ذكروا من أسباب الترجيح اختصاص احدى البينتين بزيادة التاريخ فالأكثر على تقديمها ، كما إذا شهدت إحداهما بالملك منذ سنتين وشهدت الأخرى بالملك الفعلي الإني أو منذ سنة.

وذكروا في وجه ذلك أنهما يتعارضان في الزمان المشترك فيه ويبقى الاستصحاب - أعني استصحاب الملك السابق على ذلك الزمان - سليما عن المعارض ، فيرجع اليه : اما لكون الأصل مرجحا لما يوافقه من الدليل ، أو لكونه مرجعا بعد الحكم بتساقط المتعارضين.

ولا بد أن تفرض المسألة فيما إذا صرح صاحب الزيادة بالملك في الزمان المشترك فيه المشتمل على الملك الفعلي من غير استناد الى الاستصحاب ، والا بأن شهدت بالملك في ذلك الزمان استصحابا فلا ريب في تقديم الأخر ، لعدم صلاحية الاستصحاب لمعارضة الدليل.

هذا ، وقد يناقش فيما ذكروه بأن شهادة صاحب الزيادة بالملك في الزمان

ص: 207

المشترك فيه - أعني الملك الحالي - شهادة بالبقاء وشهادة الأخرى شهادة بالحدوث. وهو أقوى ، لاحتمال كون الشهادة بالبقاء مستندة الى الاستصحاب وعدم احتمال ذلك في الشهادة بالحدوث. فيجمع بينهما بالعمل بالشهادة بالحدوث ، لعدم كون ذلك ردا للشهادة بالبقاء بخلاف العكس ، فان العمل بالشهادة بالبقاء ردا صريحا للشهادة بالحدوث.

والجمع بين الدليلين مهما أمكن واجب ، كما أوضحنا ذلك في الصورة الرابعة من المسألة الثالثة - أعني ما إذا شهدت بينة الداخل بالمقيد وبينة الخارج بالمطلق - فارجع إليها.

والى هذا يرجع ما ذكره في القواعد من الدليل على عدم الترجيح والبناء على التساوي على ما فهمه الفاضل في كشف اللثام.

ويمكن المناقشة فيه : بأن هذا خروج عن مفروض الكلام الذي هو الترجيح بزيادة التاريخ وعدمه ، فان هذه الحيثية انما تتحقق فيما لا يجري فيه التحقيق المزبور ، كما إذا فرضنا استناد كل من الشاهدين إلى أصل أو أمارة واحدة واختلفا في زيادة التاريخ ونقصانه ، مثل ما إذا اعتقد كل واحد من البينتين كون يد الثالث الذي فرضنا المدعى به فيها يدا من قبل كل واحد من المتداعيين ، بأن اعتقدت بينة زيد ملكية العين التي في يد عمرو له باعتقاد كون عمرو وكيلا أو مملوكا له فشهدت له بالملك واعتقدت بينة الأخر مثل ذلك فشهدت له.

فحينئذ لا يمكن القول بتقديم الشاهد بالملك المتأخر بملاحظة احتمال استناد الشاهد بالملك السابق الى الاستصحاب دون الشاهد بالملك اللاحق.

ففي مثله يتم ما ذكره الأصحاب من تعارض البينتين في الزمان المشترك فيه وبقاء استصحاب ملك الزمان السابق سليما عن المعارض.

الا أن هذا الاستصحاب مما لا يقول به العلامة ، كما أشار إليه في هذه المسألة

ص: 208

بقوله « وثبوت الملك في الماضي انما يثبت تبعا لثبوته في الحال ». وحاصله :

ان شرط الاستناد اليه أن تكون الحالة السابقة مشهودا بها بوصف احتمال بقائها إلى آن القضاء ، بأن تصرح البينة بعدم العلم بزوالها. فلو شهدت بالملك في الأسس من دون هذا التصريح فليس للحاكم الاستناد اليه. وهو وجه آخر من الوجهين اللذين رد بهما على مختار الشيخ من التساقط في الزمان المشترك والأخذ بالملك السابق استصحابا.

[ صور اختلاف التاريخ في البينات ]

وكيف كان فنحن نوضح الحال في المسألة بذكر شقوقها وضروبها ، لان الاختلاف في زيادة التاريخ ونقصانه يكون في صور : من حيث كون كل من البينتين مطلقتين أو مستندتين إلى أصل أو أمارة أو مختلفتين. ومن حيث كون بينة الملك الحادث قد تكون مصرحة بالحدوث وقد تكون مطلقة.

( الاولى ) أن يكون مستند بينة الملك السابق بالشهادة بالملك في الزمان المشترك هو الاستصحاب ومجرد الاتكال على الحالة السابقة بأن علم ذلك منه بالتصريح ونحوه ، وقد يكون مستند بينة الملك المتأخر هو العلم بالناقل بأن علم منه ذلك بالتصريح ونحوه. والحكم في هذه الصورة في غاية الوضوح كما ذكرناه مرارا ، وهو ترجيح بينة الملك المتأخر ، لأن التعارض بينهما يرجع الى التعارض بين النفي والإثبات وبين الدراية وعدم الدراية مثل تعارض الجارح والمعدل. ومن الواضح تقديم المثبت ، لأن الأخذ بقوله ليس تكذيبا لقول الثاني الذي يرجع نفيه الى نفي العلم بالمزيل.

وكلام العلامة في القواعد غير منطبق على هذه الصورة ، إذ لا وجه في مثله لترجيح الشاهد بالأقدم ولا للتوقف والتساقط. وكذا كلام الأصحاب لا بد أن

ص: 209

ينزل على غيرها ، إذ لا وجه لتقديم الملك الا سبق في هذا الفرض ، مع أن ظاهر عنوان المسألة باختصاص احدى البينتين بزيادة التاريخ وجعلها من أسباب الترجيح ما إذا كان للزيادة مدخل في الحكم في هذه الصورة ، وانما جاء الترجيح من جهة أخرى لا من جهة الزيادة والنقصان.

الا أن يقال : انه لو لا زيادة التاريخ - كما إذا قال أحدهما اني أعلم انه ملكه منذ كذا ولا أعلم مزيله الان وقال الأخر اني أعلم انه ملكه بشراء ونحوه ولم يؤرخ - لم يحكم فيه بتقديم الغير المؤرخ. لاحتمال أن يكون قد اعتمد في الملك الحالي بالاستصحاب ، بأن كان الشراء الذي علم به قبل التاريخ الذي شهد بالملك فيه واستصحبه.

ومع تطرق هذا الاحتمال لا يحكم بترجيح غير المؤرخ ، فللزيادة حينئذ مدخل في الحكم حينئذ. لكن يدفعه أنها مؤثرة في الحكم بتقديم الملك المتأخر لا القديم. فتدبر.

( الثانية ) أن يكون مستند بينة الأقدم في الزمان المشترك تصرف المشهود له أو الملكية الظاهرية المستندة إلى التصرف ، مثل ما إذا اعتقد كون يد الثالث الذي فرضنا كون العين في يده يدا من جانب المشهود له لكونه وكيلا أو مملوكا ، وكان هذا الاعتقاد هو الباعث على الشهادة بالملك الأقدم مع استمراره الى آن الشهادة باعتبار استمرار يد ذلك الثالث. ويكون مستند بينة الملك القديم المتأخر عن الأول غير معلوم بأن تشهد بالملك في ابتداء سنته ، ولم يعلم أن المراد هو الملك الظاهري المستند الى بعض الأصول والأمارات أو الملك الواقعي.

وفي هذه الصورة أيضا لا بد من تقديم بينة الملك القديم - أعني المتأخر -

ص: 210

أخذا بظاهر شهادته وحملا لها على الملك الواقعي ، فيكون دليلا على بطلان مستند بينة الأقدم - أعني المتصرف.

والسر في ذلك أيضا أن التعارض بينهما في الحقيقة يرجع الى النفي والإثبات لأن مرجع الشهادة بالتصرف أو بالملك الظاهري المستند إليه إلى الشهادة بالسبب مع عدم العلم بالفساد ، ومرجع الشهادة بالملك المطلق حينئذ العلم بفساد ذلك المستند بعد حمله على الملك الواقعي ، كما هو قضية ظاهر الشهادة شرعا وعرفا لأن الشهادة بالأمور الحسية أو ما يجري مجراها من الأمور المنتزعة من الاثار الحسية كما ينزل على الإحساس لا على الحدس كذلك ينزل على واقعها لا على ما يعم الواقع والظاهر. فتدبر.

وبذلك يندفع ما لو قيل - كما في كشف اللثام - أن بينة القديم يحتمل أن تكون قد اعتمدت باليد ، وهي أعم من الملك ، فلا تكون دليلا على فساد مستند الأقدم ، فلا يرجع الى « أدري » في مقابل « لا أدري » كما قررت ، وانما يكون كذلك لو علم أنها انما شهدت بالملك من غير الجهة التي شهدت من جهتها بينة الأقدم - أعني التصرف.

وجه الاندفاع : ان هذا الاحتمال في مقابل ظاهر الشهادة لا يعتني به الا إذا توقف الجمع بينها وبين البينة المعارضة على الاعتناء به ، كما ستعرف في صورة إطلاق البينتين ، فلو أمكن الجمع بغير التنزيل على هذا الوجه الذي هو احتمال صرف في مقابل أدلة تصديق البينة فلا يصار اليه.

ولا يذهب عليك إنا لا نقول بأن ظاهر الاخبار كون المشهود به غير مستند إلى أصل أو أمارة ، لأن هذه الدعوى لا معنى لها بعد سكوت ألفاظ الشهادة وحال الشاهد عن تعيين المستند الا من جهة الحس والحدس. فافهم.

بل نقول : ان الاعتناء بذلك الاحتمال يوجب عدم العمل بالشهادة بالملك

ص: 211

حيثما يتوقف على عدم الاعتناء به ، كما إذا كانت البينة غير معارضة ، فان تنزيلها على الملك المستند إلى أصل أو أمارة لا تنفع في مقابل يد المنكر. ولذا لو صرح ببينة الخارج بذلك لم تصلح ميزانا للحاكم على أحد الوجهين أو القولين بل أقواها ، فلا بد من إلقاء هذا الاحتمال إلا إذا استلزم عدم الإلقاء طرح بينة أخرى فيجب عدم الإلقاء جمعا بين البينتين ، كما في صورة إطلاق اليمين في الصورة الاتية.

وفيما نحن فيه لا يتوقف الجمع بين البينتين على الاعتناء بهذا الاحتمال ، إذ لو حملنا بينة القديم على الملك الواقعي الغير المستند الى اليد أو الاستصحاب مثلا حصل التوافق بينهما وبين الأقدم الذي علم استناده الى مجرد التصرف.

وان شئت قلت : ان الاعتناء باحتمال كون المشهود به ظاهريا مستندا إلى أمارة ظاهرية انما يكون إذا كان في مقابله بينة أخرى يكون التعارض بينهما بعد الاعتناء بذلك الاحتمال من قبيل التعارض بين النفي والإثبات وبين الدراية وعدم الدراية.

وهنا ليس الأمر كذلك ، إذا لو حمل بينة القديم على كونها مستندة الى اليد مثلا فبينة الأقدم ليست مشتملة في هذه الصورة على العلم بفساد ذلك المستند ، إذ الفرض أنها انما شهدت بالملك الاتي باعتبار الاستناد الى التصرف السابق المستمر الى آن الشهادة القديم ، وهو ليس ادعاء للعلم بفساد مستند القديم حتى يعمل بشهادته بعد تنزيل شهادة القديم على أخس المستند - أعني الأصل أو الامارة - كما يفعل ذلك إذا توقف الجمع بين اليمين عليه.

والحاصل ان الأصل في الشهادة قبولها بموجب ما يشهد به وحملها على أشرف المستندات إلا إذا توقف الجمع بينها وبين البينة المعارضة على خلافه ، وحينئذ فلا بد من حمل شهادة القديم على أشرف المستندات ، وهو العلم الوجداني

ص: 212

بالملك الواقعي ، إذ قد يترتب في هذه الصورة على تنزيلها على أخسها - أعني الأصل أو الامارة التعبدية - فائدة الجمع كما ظهر ، فلا وجه له.

هذا ، ثمَّ ان تقديم بينة القديم في هذه الصورة يمكن درجها تحت الأصل المزبور ، أعني الترجيح بالزيادة إذا كانت في إحدى البينتين زيادة ، لأن الزيادة على قسمين صورية ومعنوية ، والصورية مثل اشتمال إحداهما على زمان غير مشتمل له الأخرى كالاقدم والقديم ، والمعنوية أن تكون مضمون احدى البينتين أخص من مضمون الأخرى ، فالخصوصية زيادة يؤخذ بها ، لعدم منافاتها مع الأخذ بالعام كما في المقام ، فان بينة الأقدم إنما شهدت بالتصرف الذي هو أعم من الملك ، بخلاف بينة القديم فإنها شهدت بالملك الذي هو أخص من اليد.

( الثالثة ) أن تكون كل واحدة من البينتين مطلقة محتملة للاستناد إلى أصل أو أمارة بحيث يكون المشهود به في كليهما نفس الملك الظاهري وإلى العلم الوجداني على وجه يكون المشهود به هو الملك الواقعي.

وهذه الصورة مورد كلمات القدماء في مسألة تعارض القديم والأقدم ، والذي يقتضيه النظر في المقام أيضا هو ترجيح القديم على الأقدم لا ما هو المشهور كما في المسالك - أعني العكس - لما ذكرنا من أن الشهادة بالبقاء أضعف من الشهادة بالحدوث ، لاحتمال استناد الاولى الى الاستصحاب دون الثانية ، فيجمع بينهما حينئذ بحمل ما يحتمل استناده الى الاستصحاب عليه وحمل الأقوى على العلم بالمزيل ولو كان أمارة كاليد كما أوضحناه في الصورة المتقدمة.

لا يقال : كما يحتمل استناد الشهادة بالبقاء الى الاستصحاب كذلك يحتمل استناد الشهادة بالحدوث إليه أيضا ، وذلك بأن يكون مستند بينة الحدوث - أي القديم - هو الشراء الذي استند في صحته الى استصحاب كاستصحاب بقاء ملك البائع المعلوم له سابقا قبل تاريخ الأقدم ، وحينئذ ينقلب الأمر فتكون الشهادة

ص: 213

بالحدوث شهادة بالبقاء وشهادة بالبقاء شهادة بالحدوث في أول زمان علمه - أي منذ سنتين - فلا مرجح لإحداهما على الأخرى من تلك الحيثية - أعني حيثية احتمل الاستناد الى الاستصحاب وعدمه.

لأنا نقول : أولا - أن ظاهر الشهادة هو الملك الواقعي ، وحيثما يحتمل العلم في حق الشاهد حملناها عليه ، وهو - أي العلم - بالملك الواقعي في الزمان المشترك غير محتمل في حق بينة الأقدم أو غير معتبر ، لأن غاية ما يقال في حقه انه علم بالملك الواقعي في ابتداء سنتين أو بالملك الظاهري المستند الى التصرف مثلا علم ببقاء ذلك الملك في أول الان المشترك فيه - أعني رأس السنة.

ولا ريب أن عمله بالبقاء يتوقف على العلم بعدم طرو المزيل في تلك المدة وهذه هي الشهادة على النفي ، وهي اما غير مسموعة أو غير صالحة لمعارضة الشهادة بالإثبات. بخلاف بينة القديم ، فان علمه بالملك الواقعي في ابتداء السنة أمر محتمل ، ولا يرجع الى الشهادة على النفي والعلم بالعدم ، لا مكان علمه في ابتداء السنة بعد حصول الملك الواقعي للآخر. وحينئذ فلا بد من الجمع بينهما بحمل بينة القديم على الاستناد الى الاستصحاب وحمل بينة القديم على العلم بسبب الملك الواقعي في ابتداء السنة كالحيازة ونحوها مما لا يحتمل فيه شي ء ليستند في رفعه الى الأصل. لما عرفت من وجوب حمل الشهادة في مقام التعارض على الوجه الذي يحصل به الجمع.

وهذا الوجه هنا منحصر فيما قلنا ، إذ لو حملنا بينة القديم على الملك الظاهري والأقدم على الملك الواقعي ، فهذا موقوف على إمكان علم بينة الأقدم بالملك الواقعي في رأس السنة الثانية من غير أن يرجع الى الشهادة على النفي.

وقد عرفت أنه متعذر ولو حملناها على الملك الظاهري لم يرتفع التعارض كما

ص: 214

لا يخفى ، فانحصر المناص في حمل الأقدم على الملك المستند الى الاستصحاب والقديم على الملك المستند الى المزيل.

فان قلت : أي دليل على هذا النحو من الجمع.

قلنا : أسلفنا الكلام في هذا الجمع واستدللنا عليه بظاهر الأصحاب في تعارض البينتين وبأدلة وجوب العمل بالبينة مهما أمكن في المسألة الثالثة من مسائل التعارض.

وثانيا - ان احتمال استناد الشهادة بحدوث الملك منذ سنة الى الاستصحاب غير قادح في كونها شهادة بالثبوت بالنسبة إلى شهادة بينة الأقدم بذلك الملك ، لما أشرنا إليه في الصورة الثانية من أن الاحتمال الذي لا يكون الأخر بالنسبة إليه « أدرى » لا يقدح. ومن الواضح أنه لو كان بينة القديم مستندة الى الشراء المبني على استصحاب ملك البائع.

فهذا احتمال لا يدفعه بينة القديم ، لأن غاية ما يلزم منه ثبوت الملك في رأس سنتين ، وهو لا يرفع استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنة مع عدم معلومية زمان ملك البائع لنا ، لأن قضية ثبوت الملك في رأس سنتين استصحاب هذا الملك الى رأس السنة ، وقضية ثبوت الملك للبائع قبل السنة مهملا استصحابه الى رأس السنة أيضا ، فيقع التعارض بين الاستصحابين.

نعم لو علم أنه مستند الى استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنتين كان بينة الأقدم حينئذ بالنسبة إلى بينة القديم المستندة إلى الشراء المبني على استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنتين « أدري » ، فتكون مقدمة عليه.

ولكن هذا الفرض أمر زائد على حمل مستند بينة الأقدم على الشراء المبني على استصحاب ملك البائع ، لأن الاقتصار على صرف هذا الحمل لا يقتضي كون

ص: 215

ملك البائع معلوما لها قبل السنتين ، إذ لا يتوقف كون المستند استصحابا على فرض الحالة السابقة قبل سنتين ، فلو كانت الحالة السابقة بعد رأس السنتين وقبل رأس السنة كان المستند أيضا استصحابا.

والحاصل ان حمل مستند الشاهد على الاستصحاب إذا لم يكن الأخر بالنسبة إليه بمنزلة « أدري » كان كحمله على الملك الواقعي ، وانما يختلفان إذا رجع محصل البينتين بعد حمل إحداهما على الاستصحاب الى تعارض « أدري » و « لا أدري » ، والمفروض أنه لا يرجع محصل بينة الأقدم والقديم الى ذلك ولو بعد حمل بينة القديم في شهادته بالملك في رأس السنة على الملك الظاهري المتوقف على الاستصحاب.

وانما يرجع الى ذلك لو حمل على الملك الظاهري المستند الى استصحاب خاص ، وهو الشراء المبني على استصحاب ملك البائع الثابت قبل السنتين.

وهذا الحمل خارج عن مفاد بينة القديم سواء حملناها على الملك الواقعي أو الظاهري. بخلاف العكس ، فإنه بينة الأقدم بعد تنزيلها على الملك المستند الى الاستصحاب يكون النسبة بينهما وبين بينة القديم كنسبة « لا أدري » الى « أدري » سواء حملت بينة القديم على الملك الظاهري المحض أو الواقعي.

والحاصل ان مضمون بينة القديم سواء كان واقعيا أو ظاهريا لا يرجع الى « لا أدرى » على وجه يكون بينة الأقدم في مقابلها « أدري » ، بخلاف بينة الأقدم ، فإنها على تقدير حملها على الظاهري ترجع بالنسبة إلى الملك في الزمان المشترك - أعني رأس السنة - الا الى « لا أدري » على وجه يكون بينة القديم بالنسبة إليه « أدرى » ، لأن الشهادة بالحدوث ولو كان ظاهريا شهادة على الإثبات والشهادة بالبقاء إذا كان ظاهريا شهادة بالنفي والشهادة بالإثبات مقدم على الشهادة بالنفي.

ص: 216

هذا ، ويمكن الخدشة في ذلك بأن بينة القديم إذا كانت منزلة على الملك الظاهري تكون النسبة بينهما وبين بينة الأقدم نسبة « لا أدري » الى « أدري » على تقدير ويكون الأمر بالعكس على تقدير آخر ، وذلك لان ذلك الملك الظاهري الذي ينزل عليه بينة القديم ان كان ملكا ظاهريا مستندا الى شراء المشهود له من البائع الذي علم بملكه بعد رأس السنتين وقبل السنة كان الأمر بالعكس ، فتكون بينة الأقدم حينئذ بمنزلة « لا أدري » وبينة القديم بمنزلة « أدري ».

ولو كان ظاهريا فبمجرد حمل بينة القديم على الشراء المستند الى الاستصحاب لا ترجع إلى الشهادة بالثبوت في مقابل الشهادة بالنفي ، بل يحتمل فيه الأمران ، وهو منشأ التوقف والتساقط لعدم تمحضها حينئذ في الشهادة بالإثبات وعدم تمحض بينة الأقدم في الشهادة بالنفي حتى يحكم بتقديم القديم لاحتمال رجوع كل منهما إلى النفي مع رجوع الأخر إلى الإثبات.

وما يقال من تقديم الإثبات على النفي ، انما هو في جهتي الإثبات والنفي فلو احتمل في النفي جهة إثبات وفي الإثبات جهة نفي لم يمكن حينئذ ترجيح أحدهما على الأخر ، لعدم معلومية المراجعة إلى الإثبات الذي لا ينفيه الأخر ، بل إنما ينفي العلم به عن المراجعة إلى النفي الذي يثبته الأخر.

وهذا أصل في جميع صور تعارض النفي والإثبات ، فإن الجمع بينهما انما هو إذا كان النفي بمنزلة « لا أدري » والإثبات بمنزلة « أدري » ، وأما مجرد النفي والإثبات فلا يجمع بينهما.

هذه صور الاختلاف بالقدم والأقدم ، وبقي صورتان أخريان ذكرهما في القواعد :

( الاولى ) أن تكون احدى البينتين تشهد بالملك السابق الى الحال ، كأن يقول « اني أشهد أنه ملكه من سنة أو سنتين الى هذا الان » وتشهد الأخرى

ص: 217

بالملك الاتي خاصة ، وهي المسماة بتعارض القديم والحادث ، والحكم فيها هو الحكم في تعارض القديم والأقدم.

( والثانية ) أن تكون إحداهما ذات تاريخ معين والأخرى مطلقة ، بأن يقول « اني أشهد أنه ملكه من السابق إلى الآن » ولم يعين بدون الملك.

ولا يذهب عليك أن الاولى ليست من قبيل تعارض المؤرخ والمطلق ، والحكم هو التوقف ، ولا استصحاب هنا لأحدهما بعد التساقط. ولو قلنا في تعارض القديم والأقدم بوجوب الأخذ باستصحاب الملك في الزمان السابق الذي يختص به الأقدم ، وذلك لان استصحاب الملك في هذه الصورة يجري في كلا الجانبين ، لأنه إذا سقط البينتان فمقتضى استصحاب الملك في التاريخ المطلق المجهول بقاء الملك في الحال ، ومقتضى استصحاب الملك في التاريخ المعين أيضا كذلك فيتعارضان.

فعلى المشهور في مسألة تعارض القديم والأقدم من تساقطهما في الزمان المشترك والرجوع الى استصحاب الملك في الزمان المختص. ينبغي في هذه الصورة التحالف مثلا فضلا عن القول الذي أبداه العلامة من التساوي وعدم جواز التعويل على هذا الاستصحاب.

وهل الحكم كذلك على تقدير ترجيح القديم كما أبديناه. والظاهر لا ، لان وجه تقديم القديم على الأقدم وهو كون بينة القديم ولو كان ظاهريا راجعة إلى الإثبات في مقابل الشهادة بالنفي لا يجري هنا ، لان جهل التاريخ يمنع عن كونه شهادة بالحدوث ، لاحتمال كون التاريخ المجهول قبل التاريخ المعين.

نعم لو وجهنا تقديم بينة القديم بما مر مرارا ، وعليه أيضا من وجوب الجمع عند إمكان حمل إحداهما على ما لا تحتمله الأخرى كان اللازم هنا أيضا الجمع

ص: 218

بينهما بحمل شهادة المؤرخ على الملك الاستصحابي ، وحمل الشهادة الغير المؤرخة على العلم بالمزيل. واللّه العالم.

توضيح وتنقيح [ مستند الشهادة حجة عند تعارض البينة ]

واعلم أنه إذا لم تكن البينة معارضة بأخرى لم يلتفت الى مستند شهادته ووجب المضي على ظاهر ما تشهد به ، لعدم الداعي إلى النظر في مستند الشاهد مع عدم المعارض إذا كانت وافية ومنطبقة على الدعوى. وأما إذا كانت معارضة بأخرى فهاهنا وجوه :

( الأول ) أن يقال : انه يجب تنزيل كل منهما على المشهود به الواقعي ملكا كان أو غيره ، ويتفرع عليه تخريب قاعدة الجمع بين البينات المتعارضة ، لاستحالة كون الواقع في جانب كل واحد منهما إلا في بعض الصور ، فتكون قاعدة الجمع غالبا ملغاة لعدم إمكانه بعد حمل كل منهما على الواقع الا نادرا كما سنشير.

( والثاني ) أن يقال : انه يجب أن يكون تنزيل كل منهما على المشهود به الظاهري ، فإذا شهدت بينة بأن هذه العين مثلا ملك لفلان وشهدت أخرى بأنها ملك لاخر ، وجب تنزيل شهادة كل منهما على الملك المستند إلى أصل أو أمارة كاستصحاب ويد ونحوهما.

وعلى ذلك يبنى تأسيس قاعدة الجمع بين البينات في الجملة ، فإن هذا التنزيل ربما يفيد الجمع وربما لا يفيده ، وذلك لان الأصول والأمارات في أحد الجانبين ان كانت محتملة للأخرى تعذر الجمع لاستلزامه الترجيح بلا مرجح.

وأما إذا احتمل في إحداهما أصل أو أمارة لم تحتمل في الأخرى بحيث لو حملنا

ص: 219

عليها لم يكن منافيا للأخرى ، لكونها محمولة على بعض الوجوه الغير المنافية له حصل بحملها عليه الجمع بين البينتين ، ويظهر مثاله للمتأمل فيما قدمناه.

( والثالث ) أن يقال : إنه يجب تنزيل كل منهما على وجه يحصل به الجمع سواء كان بحملهما على الظاهري أو بحمل إحداهما على الظاهري والأخرى على الواقعي مع عدم تساوي البينة حذرا من الترجيح بلا مرجح ، وعلى هذا أيضا ينقدح وجه الجمع بين البينتين.

والفرق بينهما وبين السابق هو أن دائرة الجمع على هذا أوسع منها على الوجه الثاني.

ويتفرع عليه أنه لو شهدت إحداهما بالملك المطلق والأخرى بالشراء وجب الجمع بتقديم بينة الشراء لأنه الملك المسبب.

لا يقال : ان الملك أخص من الشراء ، وقد ذكرت في الصورة الثانية أن الخاص يشتمل على زيادة معنوية ، والترجيح بالزيادة واجبة.

لأنا نقول : هذا مبني على ملاحظة الوجه الأول من هذه الوجوه ، فان الشراء والملك إذا حملناهما على الواقعي لزم تقديم الملك ، لان الشراء الواقعي يمكن فاسدا غير مؤثرة في إفادة الملك الواقعي ، بأن يكون البائع مثلا غير مالك في الواقع. لكن الملك الواقعي لا يعقل أن يكون فاسدا ، فبعد حملهما على الواقع وجب تقديم الملك.

وهذا هو المورد النادر الذي قلنا بتحقق الجمع فيه أحيانا على الوجه الأول وأما على الوجه الثالث فالجمع يحصل بتقديم الشراء ، وذلك لان كل ما يجري في الشراء من الاحتمالات المنافية للملك الواقعي يحتمل في الملك المطلق أيضا لأن ما ينافي العام ينافي الخاص ضرورة. وأما ما يجري ويحتمل في الملك المطلق

ص: 220

فبعضها لا يجري في الشراء ، وذلك بأن يكون الملك المطلق مستندا الى يد مستندة الى الاستعارة من البائع.

وتنزيل الملك المطلق على هذا الوجه يحصل به الجمع ، لعدم المنافاة بين الملك الظاهري بهذا المعنى ، أعني المستند الى يد الاستعارة من البائع وبين الملك الواقعي الحاصل من الشراء من المعير ، فإنما قلنا بأن الجمع بأي وجه أمكن لازم تعين حملهما على هذا الوجه.

فان قلت : كما يحتمل استناد الملك الى يد الاستعارة من البائع كذلك يحتمل مثل ذلك في ملك البائع الذي كان الشراء منه فيتعارض الاحتمالان فلا يمكن الجمع.

قلت : كل ما يحتمل في ملك البائع أو في سائر مقدمات الشراء الصحيح الواقعي من الأمور المنافية لإفادته الملك الواقعي يحتمل أيضا في الملك المطلق لان كل سبب يفرض للملك يحتمل فيه بعض ما يجعله سببا ظاهريا غير مفيد للملك الواقعي.

ولكن يحتمل في الملك المطلق شي ء لا يجري في الشراء ، وهو استناده الى يد الاستعارة من البائع الواقعي ، فإنه إذا حملنا الملك المطلق على هذا الاحتمال سلم الشراء الصادر منه عما ينافي إفادته الملك الواقعي من الاحتمالات.

بخلاف تنزيل الشراء على ما أبديت من الاحتمال - أعني كونه من البائع الذي كان ملكه ظاهريا - فإنه لو حمل الشراء على ذلك لم يسلم الملك المطلق عما يوجب كونه ظاهريا ، إذ لا منافاة بين كون ملك البائع ظاهريا وكون الملك المطلق أيضا ظاهريا ، بأن تكون العين لثالث غير المتداعيين.

والحاصل ان احتمال كون البائع غير مالك واقعا معارض باحتمال كون المطلق أيضا ظاهريا ، فبعد حمل الشراء على الشراء من مستصحب الملكية للتعارض

ص: 221

الاحتمالات ولا يحصل الجمع ، بخلاف حمل الملك المطلق على الاستعارة من البائع ، فإنه على تقدير هذا الحمل سلم الشراء عما يوجب فساده ويكون شراء صحيحا ملكا ، وحينئذ فيجب الجمع بحمل ما يحتمل كونه مستندا الى سبب ظاهري لا يجري في الأخر على ذلك السبب الظاهري.

وبذلك ينقدح وجه جمع آخر في مسألة تعارض القديم والأقدم ، لأن جميع الاحتمالات المنافية للملك الواقعي التي تحتمل في القديم تحتمل في الأقدم أيضا. بخلاف العكس ، وذلك انه ليس للملك الذي يشهد به بينة القديم بحمل ظاهري لا يكون في الملك الأقدم - أعني الملك في الزمان المشترك وهو رأس السنة - لأن غاية ما في الملك القديم ابتناؤه على استصحاب يكون بينة الأقدم بالنسبة إليه مزيلا ، بأن تكون الحالة السابقة مقدما على السنتين.

وهذا الاحتمال معارض بالمثل ، إذ يحتمل أن يكون مستند بينة الأقدم في رأس السنتين استصحابا يكون بينة القديم بالنسبة مزيلا ، بأن يكون بينة الأقدم قد علم بالملك قبل السنتين ، وانما شهد به في رأس السنتين استصحابه له ، وبينة القديم قد علم بانتقال الملك منه الى شخص بعد ذلك الزمان وقبل السنتين ثمَّ علم بيعه للمشهود له في رأس السنة فشهد بالملك له في رأسها ، فإن بينة القديم في هذا الفرض مزيل لبينة الأقدم كما ان استصحابه مزيل لاستصحابه.

بخلاف بينة الأقدم ، فإن فيها بعض ما يختص به من الوجوه الظاهرية ، وهو استصحاب الملك من رأس السنتين الى رأس السنة ، فان هذا الاستصحاب غير متصور في مستند الملك القديم ، فاذا حملنا بينة القديم على الاعتماد على هذا الاستصحاب تمحض ببينة القديم مزيلا لسلامته عن هذا المحمل بعد مساواتهما في سائر الوجوه ، فيكون بينة الأقدم بمنزلة « لا أدري » مزيلا للملك الثابت

ص: 222

في رأس السنتين وبينة القديم بمنزلة « أدري » ، فيعمل ببينة القديم كما في مسألة الجرح والتعديل.

وقد يناقش في ذلك بمنع تمحض بينة القديم في كونه مزيلا له ، بل انما يتمحض في ذلك إذا كان نصا في العلم بالمزيل. وليس كذلك ، لاحتمال رجوع التعارض بينهما الى الملك الثابت في رأس السنتين ، بأن تكون شهادة بينة القديم بالملك في رأس السنة باعتبار اعتقادها عدم الملك في رأس السنتين أيضا.

والحاصل أنه على تقدير رجوع شهادة بينة الأقدم بالملك في رأس السنة إلى قوله « لا أدري » المزيل للملك السابق كما هو مبنى الجمع ، يحتمل أن يكون معارضة بينة القديم لها في هذه الجهة - أعني جهة عدم العلم بالمزيل - فتكون المعارضة في بقاء الملك السابق وعدمه بعد التسالم على حدوثه في رأس السنتين.

ويحتمل أن تكون المعارضة في الملك السابق ، بأن يكون تكذيب بينة القديم لها في رأس السنة باعتبار التكذيب في الملك السابق الثابت في رأس السنتين. وعلى هذا الاحتمال لا تكون بينة القديم مزيلة لبينة الأقدم بل معارضة لها.

وهذا هو الوجه في ذهاب الأكثر في مسألة تعارض الملك المطلق والمسبب عن الشراء مثلا الى ترجيح المسبب وعدم ذهابهم الى ترجيح بينة القديم ، لأنه على تقدير حمل الملك المطلق على الملك الظاهري المستند الى يد العارية ونحوها يتمحض بينة الملك المسبب عن الشراء مزيلة ، فيؤخذ بها جمعا ، لعدم المنافاة بين ثبوت الملك الظاهري لأحد بموجب يده مثلا وبين تملك الأخر واقعا بموجب الشراء.

فمقتضى القاعدة المسلمة عندهم من عدم معارضة « لا أدري » مع « أدري » يجب تقديم المسبب ، لأنه بمنزلة « أدري » والملك المطلق بمنزلة « أدري »

ص: 223

بعض أسباب الملك ظاهرا ولا أعلم مزيله. بخلاف مسألة القديم والأقدم ، فإن غاية ما يتصور في الأقدم حمله على الاستصحاب من رأس السنتين الى رأس السنة ورجوع الشهادة بالملك في رأس السنة إلى قوله « لا أدري » بالمزيل.

وهذا لا يكفي في حصول الجمع بتقديم بينة القديم ، لاحتمال عدم كونها بمنزلة « أدري » المزيل كما ظهر ، فلا بد من تنزيلها بعد تنزيل بينة الأقدم على الاستصحاب المزبور على علمها بالمزيل لا بعدم الملك السابق ليرجع الى التعارض والتكاذب.

وأيضا الجمع بين المطلق والمقيد انما هو بحمل المطلق على مستند ظاهري ، وهكذا جميع صور الجمع بين البينتين التي صرحوا بها في مسائل تعارض البينات ، فان الجمع فيها انما هو بحمل إحداهما على مستند خاص ظاهري.

وهذا غير الجمع المعمول في تعارض القديم والأقدم ، فإنه جمع بالتصرف في مدلول احدى البينتين ، وهي بينة القديم بحمله على الملك الحادث الرافع للملك السابق مع كون المدلول محتملا غير ذلك ، وهو الملك الحادث الرافع للملك السابق الثابت في رأس السنتين للآخر ، بأن كان معتقده عدم ذلك الملك السابق.

فالجمع في مسألة القديم والأقدم يخالف الجمع في مسألة المطلق والمقيد وهكذا في مسألة الجارح والمعدل ومسألة تعارض النافي والمثبت ، وهكذا سائر موارد الجمع من جهتين : إحداهما أن الجمع في تلك الموارد يحصل بتنزيل واحد في إحدى البينتين بخلاف الجمع في هذه ، فإنه كما عرفت يحتاج الى تنزيل بعد تنزيل آخر. وثانيتهما أن الجمع فيها راجع الى التصرف بحسب المستند لا بحسب المدلول ، بخلاف الجمع هنا فإنه جمع بالتصرف في المدلول.

لكن لقائل أن يقول : انه لا غائلة في ارتكاب الوجهين معا ، لعين ما دل على التنزيل الأول ، لأن قاعدة الجمع مهما أمكن كما يقتضي الجمع فيما إذا حصل

ص: 224

تنزيل واحد حتى يرجع الى تعارض « لا أدري » مع « أدري » كذلك يقتضيه فيما إذا توقف الرجوع الى ذلك على التنزيلين مع التصرف في المدلول.

هذا ، ويمكن توجيه تقديم القديم بتقرير آخر أوضح يرجع الى الترجيح النوعي ، وهو أن يقال : ان في مسألة تعارض القديم والأقدم أمارات ثلاث تفيد كل منها بحسب النوع الظن : إحداها أمارة حدوث الملك في رأس السنتين لزيد وثانيتها أمارة بقاء ذلك الملك الى رأس السنة وهو الاستصحاب ، وثالثتها أمارة حدوث الملك لعمرو في رأس السنة وهي بينة القديم.

ولا تعارض بين شي ء من هذه الأمارات ، إلا بين أمارة البقاء في رأس السنة لزيد وأمارة الحدوث لعمرو ، فدار الأمر بين العمل بأمارة الحدوث أو بأمارة البقاء ، والعمل بأمارة البقاء طرح وتكذيب لامارة الحدوث جدا. وأما العمل بأمارة الحدوث فليس طرحا لامارة البقاء ، لان الدليل على اعتبار أمارة البقاء التي تفيد الظن نوعا معلق على عدم مجي ء أمارة على زوال البقاء ، والمفروض كون أمارة الحدوث لعمرو في رأس السنة أمارة للزوال ولو لم تكن ناطقة بعدم البقاء ، الا أن عدم البقاء - سواء كان باعتبار عدم الحالة السابقة أو باعتبار زوالها في رأس السنة مظنون في رأس السنة بشهادة بينة القديم - فتعين العمل بها.

ولعله لأجل ما ذكرنا نقل عن المحقق جمال الدين قدس سره في حاشية الروضة القول بتقديم القديم ، كما جنح إليه في محكي كشف اللثام.

فظهر من جميع ما ذكرنا وجه القول المشهور في مسألة تعارض القديم والأقدم ، وهو الذي ذكرنا في المناقشة ، إذ بعد عدم مساعدة قاعدة الجمع على تقديم القديم يتعارضان في رأس السنة وما بعدها ويبقى الملك السابق في رأس السنتين سليما عن المعارض ، فيستصحبه الحاكم.

ص: 225

كما ظهر أيضا وجه القول بتقديم القديم ، وأما وجه التساقط وعدم العمل باستصحاب الملك السابق كما أبداه العلامة في القواعد ، فهو اما عدم صلاحية استصحاب الملك السابق لا ثبات الملك الاتي أو عدم جريان هذا الاستصحاب أيضا بعد تعارضهما في البقاء ، لان الرجوع الى الحالة السابقة مع وجود الدليل على خلافها انما يتصور إذا كان لذلك الدليل معارض من جنسه ، بأن يكون دليل ارتفاعها واقعا معارضا بدليل وجودها الواقعي ، كما إذا تعارض دليل الوجوب الواقعي مع دليل الإباحة الواقعية ، فإنه حينئذ يرجع الى الحالة السابقة ، وهي البراءة الأصلية لأن بقاء تلك البراءة بمقتضى الظن الاستصحابي سليم حينئذ عن المعارض.

وأما إذا كان الدليل على خلاف الحالة السابقة معارضا لنفس الظن الاستصحابي لا لدليل آخر من جنسه ناظر الى وجود الحالة السابقة في الان الثاني واقعا لم يكن فيه للأخذ بالحالة السابقة وجه بعد فرض صلاحية ذلك الاستصحاب ، أعني البقاء الذي يقضي به الظن الاستصحابي لمعارضة ذلك الدليل.

والحاصل أنه ان قلنا ان الظن الحاصل بالبقاء الحاصل من ملاحظة الحالة السابقة لا يعارض الظن بالحدوث الناشئ من بينة القديم ، فهذا يقتضي الحكم بتقديم بينة القديم جمعا ، وهو خلاف الفرض ، إذ الفرض كما عليه المشهور التعارض بين الظنين والتساقط ، وبعد سقوط الظن الاستصحابي لم يبق هنا للحاكم استصحاب آخر حتى يعول عليه.

ودعوى ان التساقط بسبب المعارضة هو البقاء الذي كان مدلولا لبينة الأقدم فلا ينافي حكم الحاكم بالبقاء بعد سقوط مدلول تلك البينة. مدفوعة بأنه ليس هنا بقاء ان يكون أحدهما مدلول البينة والأخر ميزانا للحاكم بعد تساقط البينتين والأول أوجه كما يظهر بالتأمل. واللّه العالم.

ص: 226

التقاط ( في تعارض المرجحات )

قد سبق في أول باب تعارض البينات أن المرجح على ثلاثة أقسام : أحدها ما يكون من قبيل المرجحات المستعملة به في الاخبار كالاعدلية والأكثرية والأضبطية ونحوها مما يرجع الى وجوه البينتين في المتعارضتين وانها صدق أحدهما على الأخر. والثاني ما يكون من قبيل المرجحات الدلالية في الاخبار ، وقد سميناه فيما سبق بالترجيح المدلولي. والثالث ما يكون من المرجحات الخارجية كالخروج والدخول.

ثمَّ ظهر بعد ذلك أيضا ان من جملة المرجحات اشتمال احدى البينتين على زيادة لم تكن في الأخرى ، ثمَّ قسمتها الزيادة إلى صورية مثل أن بينة أحدهما تشهد بالملك القديم والأخرى به في الحال ، أو تشهد إحداهما بالأقدم والأخرى بالقديم ، ومعنوية مثل أن يكون مدلول احدى البينتين الملك ومدلول الأخرى اليد ، أو يكون مدلول إحداهما الملك المطلق والأخرى المسبب كالملك الحاصل من الشراء ، وهكذا الى سائر ما يكون مدلول إحداهما أخص من مدلول الأخرى ، فإن الخاص يزيد على العام باعتبار ما فيه من الخصوصية.

فاعلم أن هذه المرجحات قد يقع التعارض بينهما ، والذي سبق على تفاصيله كان بيانا لحكمها مع قطع النظر عن التعارض ، فلا بد من بيان صورة ما يقع بينها فيها المعارضة.

[ تعارض الأعدلية والأكثرية ونحوهما ]

فنقول :

( أما المرجح الأول ) - أعني الأعدلية والأكثرية وأضرابهما - فلا يتعلق

ص: 227

ببيان الحال فيها غرض ، لان الدليل على اعتبارها ان كان هو المقيد كانت مقدمة على الجميع ، لأنها حينئذ مرجحات منصوصة لا يقاومها المرجحات الغير المنصوصة ، لأنها مرجحات حيث لا يكون مرجح.

نعم بعض صور الترجيح بالأمور المزبورة - كأن يرجع الى عدم التعارض رأسا - لا يلتفت إليها أيضا ، مثل ما إذا شهدت إحداهما بالملك بموجب الاستصحاب وشهدت الأخرى بالمزيل ، فان الحكم بتقديم المزيل هنا في الحقيقة جمع بين البينتين لا ترجيح ، وتسميته ترجيحا مبني على التسامح.

ففي مثل هذه الصورة لا ينبغي الاعتداد بالأعدلية مثلا ولو كان اعتبارها ثابتا بالنص تعبدا ، لان ذلك إنما هو في مقام التعارض وهنا لا تعارض. وأما في مثل المطلق والمقيد فقد ذكرنا أيضا وجه جريان الترجيح بالأعدلية فيه وعدمه في الصورة الرابعة من صور تعارض بينة الداخل والخارج. فارجع.

وان كان وجه اعتبارها غير الاخبار - بناء على وجوب الترجيح في البينات المتعارضة - كانت رتبتها متأخرة عن جميع المرجحات المزبورة ، لأن هذه المرجحات بمنزلة الترجيح من حيث الدلالة في الاخبار التي مرجعها الى الجمع أو الى الترجيح من حيث المرجحات الداخلية بالنسبة إلى الأعدلية ونحوها.

وكيف كان فالغرض هنا متعلق ببيان حال التعارض فيما عداها من اليد والزيادة والإطلاق والتقييد ، ويندرج فيه مسائل :

( الأولى ) تعارض الزيادة الصورية مع الدخول والخروج ، وتحتها ثمان : لأن الزيادة الصورية اما أن تكون في طرف الخارج أو الداخل ، وعلى التقديرين فاما أن يتكلم على القول بترجيح بينة الخارج أو الداخل ، وعلى التقادير الأربعة فاما أن يقال في مسألة الاختلاف في الزيادة الصورية بتقديم القديم على الحادث

ص: 228

أو الأقدم على القديم ، أو يقال بالعكس كما جنح إليه في كشف اللثام وقويناه بوجوه عديدة وأطوار عجيبة.

فهذه ثمان مسائل ، وانما أسقطنا الاحتمال الثالث في مسألة تعارض القديم والأقدم الذي أبداه العلامة ، وهو القول بالتساقط وعدم الرجوع الى استصحاب الملك القديم أو الأقدم ، لأن الزيادة على هذا القول ليس من المرجحات وكذا النقصان ، ولازمه عدم التكافؤ لشي ء من المرجحات ، يعني وجوب الأخذ بالمرجح سواء كان في طرف السابق أو اللاحق.

وتوضيح الحال في المسائل الثمان هو أنه على القول بترجيح السابق ، فاما أن يكون السبق في بينة الخارج أو الداخل. وعلى التقديرين يتكلم تارة على القول بتقديم بينة الداخل ، فهذه أربع مسائل :

الاولى : أن يكون السبق في بينة الخارج وبنينا على تقديم الخارج ، فهنا لا إشكال في تقديمها على بينة الخارج مطلقا.

الثانية : أن يكون السبق في طرف الخارج أيضا وبنينا على تقديم بينة الداخل ، فان قلنا ان اليد مرجع لا مرجح أشكل الأمر في الترجيح هنا ، لان ترجيح السبق أيضا يرجع الى تساقط البينتين والرجوع الى استصحاب الملك لان هذا الاستصحاب لا يعقل أن يكون مرجحا للبينة ، إذ الملك السابق حالة سابقة واحدة تارة يعول عليها الشاهد وأخرى يعول عليها الحاكم.

وبعد سقوط تعويل الشاهد عليها باعتبار معارضة بينة اللاحق يرجع إليها الحاكم ، فليس استصحاب الحاكم أمارة أخرى يعاضد بينة السابق على القول باعتضاد الاستصحاب للدليل فضلا عن القول بعدم صلاحية الأصل لأن يكون مرجحا ، وانما يكون الاستصحاب كذلك إذا لم يكن الموافق له معولا عليه كما لو تعارض دليل الوجوب الواقعي والإباحة الواقعية ، فإن الحالة السابقة - أعني

ص: 229

البراءة الأصلية - تكون أمارة معاضدة لدليل الإباحة الواقعية الغير المستند الى الاستصحاب بل الى الحس ونحوه.

بخلاف بينة السابق ، فان شهادتها بالملك اللاحق مبنية على سبق الملك ، ومستندة الى الحالة السابقة أو محتملة للاستناد إليها ، فلا تكون كل واحدة من البينة والحالة أمارة مستقلة تصلح لاعتضاد الأخرى.

وحينئذ فيشكل الترجيح في المقام ، الا أن يقال : ان بعد تساقط البينتين يقع التعارض بين المرجعين الاستصحاب واليد ، وحيث أن اليد واردة وحاكمة على الاستصحاب تعين الأخذ بها ويترجح بينة الداخل.

هذا إذا قلنا ان اليد مرجع لا مرجح ، وان قلنا انها مرجحة كان ترجيح بينة الداخل حينئذ أوضح وان كان السبق للأخرى ، لما عرفت من عدم صلاحية السبق للترجيح ، وان إطلاق الترجيح عليه مسامحة ، إذ المراد به تساقط البينتين والرجوع الى الاستصحاب ، فلا يصلح للمعارضة مع شي ء من المرجحات.

والثالثة : أن يكون السبق في بينة الداخل وقلنا بترجيحها على بينة الخارج وحينئذ وجب تقديمها ، سواء كانت اليد مرجعا أو مرجحا كما لا يخفى.

والرابعة : أن يكون السبق لبينة الداخل أيضا وبنينا على ترجيح بينة الخارج وحينئذ فإن قلنا ان وجه ترجيح الخارج هو أن البينة غير مسموعة من الداخل مطلقا ، سواء كان في صورة المعارضة أم لا كما هو أحد الاحتمالات في المسألة على ما سبق وان كان قد عرفت ضعفه.

فلا فائدة في هذا المرجح - أعني البقاء - إذ الفرض عدم حجية بينة الداخل والسبق انما يكون مرجحا إذا كانت البينة التي تشهد بها حجة.

وان قلنا ان وجه الترجيح رجحان بينة الخارج باعتبار الخروج ، أشكل حينئذ في ترجيح الخارج أو الداخل من إطلاق رواية منصور ولا أقبل من الذي

ص: 230

في يده بينة ، ومن أن عدم القبول انما هو في صورة التكافؤ لا في صورة رجحان بينة الداخل بمرجح كالسبق ، والأول أظهر عملا بإطلاق الأدلة.

هذا كله على القول بالترجيح بالسبق ، وأما على القول بالترجيح باللحوق - كما نقل عن جمال الدين - فالصور أيضا أربع مثل الصور المزبورة :

ففي الأولى لا بد من النظر في أن ترجيح بينة الخارج نظير الشاهد واليمين في قبال البينة على الوجهين فيه كما تقدما ، أو لأجل الترجيح بالخروج بعد كون كل من البينتين حجة ، وعلى الأولتين لا فائدة أيضا للحوق في بينة الداخل كما لا يخفى. وعلى الثاني فالظاهر ترجيح بينة الداخل حينئذ لكونه بمنزلة الجمع كما سبق ، فلا يجري فيه الترجيح بالخروج ونحوه.

وفي الصورة الثانية يقدم بينة الداخل ، سواء كان اليد مرجعا أو مرجحا ، لتعاضد المرجحين اللحقوق واليد.

وفي الصورة الثالثة يقدم بينة الخارج ، سواء كان اليد مرجعا أو مرجحا ، لأن الأخذ بالقديم نحو جمع بين البينتين كما تحقق ، فلا عبرة معه باليد على شي ء من الوجهين.

وفي الصورة الرابعة يقدم أيضا بينة الداخل بطريق أولى على جميع التقادير ، كما يظهر الوجه بالتأمل والتدبر.

هذه الحال في تعارض الترجيح السبقي واللحوقي مع اليد ، وأما تعارضهما مع بقية المرجحات فقد ظهر الحال في تعارضهما مع الأعدلية والأكثرية ، وأما تعارضهما مع قوة الحجة وضعفها مع أقوائية الشاهدين من الشاهد واليمين فالحال فيه أيضا واضحة ، لأن الحجة الضعيفة ساقطة عن الاعتبار رأسا في مقابل الحجة القوية فلا يجدي فيها المرجحات.

وأما تعارضهما مع الترجيح بالإطلاق والتقييد - أعني الملك المسبب -

ص: 231

فالظاهر أنه غير متصور ، لان تعارض الحادث والقديم أو القديم والأقدم لا يكونان إلا في المسببين ، إذ لو كانا مطلقين أو كان أحدهما مطلقا خرج عن كونها شهادة بالحدوث أو القدم ، وذلك لان الإطلاق في الشهادة كونها على وجه يحتمل معه الاستناد إلى أمارة شرعية ، والشهادة بالحادث أو القديم مرجعها إلى الشهادة بالملك عن سبب لا عن أمارة ، إذ الحادث أو القديم لا يعقل استناده إلى الامارة ، إذ الامارة لا توجب حدوث الملك ولا قدمه ، لان الطريق لا يؤثر في نفس ذي الطريق.

نعم يمكن فرض وقوع التعارض بين السبق واللحوق وبين الإطلاق والتقييد لا بينهما وبين الحادث والقديم ، كما إذا شهدت إحداهما بنفس الملك في رأس السنة لا بحدوث الملك فيه وشهدت الأخرى بالملك في الحال أو شهدت به في رأس السنتين ، فان في مثل هذه الصورة يتصور التعارض بين السبق أو اللحوق وبين المطلق أو المقيد كأن تقول إحداهما « أشهد انه اشتراه في رأس السنة » وتقول الأخرى « أشهد أنه ملكه في الحال » ، وحينئذ فاما أن يتكلم فيه على القول بترجيح السبق أو بترجيح التأخر ، وعلى التقديرين فلإطلاق اما في طرف السابق والتقييد في طرف المتأخر أو العكس.

فهذه أربعة أقسام يظهر حكمها لمن تأمل فيما ذكرنا في الصور الثمان.

ومنه يظهر أيضا ما إذا تعارض السبق والتأخر مع الترجيح باليد والسبب كأن يقول السابق « أشهد أنه اشتراه » واللاحق « أشهد أنه في يده » أو العكس.

وعلى التقديرين فقد يتكلم على القول بترجيح السابق أو المتأخر. فتدبر تنتقل الى ما هو الحكم فيها. واللّه العالم.

ص: 232

التقاط [ عند تعارض البينتين هل يشترط ضم الشاهد ]

هل يشترط في مسألة تعارض القدم والحدوث أو القديم والأقدم المتقدمة ضم الشاهد بالقديم أو الأقدم إلى شهادته بالملك السابق شيئا يدل على عدم علمه بالمزيل كقوله « ولا نعلم مزيلا » أو « لا أدري زال أم لا » ، أو لا يشترط الضميمة مطلقا ، أو يشترط مطلقا ، أو يشترط أن تكون تلك الضميمة بالصيغة الاولى - أعني قوله « ولا أعلم له مزيلا » لا بالصيغة الثانية. فيه وجوه أو أقوال :

ظاهر عبارة المحقق وإطلاقها على ما صرح به في المسالك عدم اشتراط الضميمة مطلقا ، وصرح في القواعد بأن الشهادة بالملك السابق لا تسمع إلا بضميمة قوله « لا أعلم له مزيلا ».

وظاهر المسالك أنه مذهب الأكثر ، قال : وعللوه بأن قوله « لا أدري زال أم لا » يقتضي تردد أو ريبة ، فهي بعيدة عن أداء الشهادة ، بخلاف قوله « ولا أعلم له مزيلا ». ومختار صاحب المسالك هو الوجه الثاني ، أعني اشتراط مطلق الضميمة.

والتحقيق أن الشهادة بالملك السابق بدون الضميمة ليست شهادة بالمدعى ، وهو الملك الحالي ، فلا بد للحاكم في الحكم بالملك الحالي من التعويل على الاستصحاب ، لأن مجاري الشهادات بل جميع إخبارات المتشرعة بموضوعات الاحكام كالوقف والنسب والملك والزوجية على الاخبار بها اعتمادا على بعض ما عليها من الامارات الشرعية وان لم يصرح به في حال الشهادة بل أطلق ، ضرورة عدم إمكان العلم الواقعي بحقائقها لعدم كونها من الأمور المحسوسة ، فشهادة أحد بالملك تعويلا على الاستصحاب لو خرجت عن موازين القضاء وعد القضاء

ص: 233

بها من القضاء بالاستصحاب لم يكن لأدلة العمل بالبينة مورد في الأمور الغير المحسوسة ، فمبنى الاخبار بها عرفا على التعويل على بعض الامارات.

نعم لو شهدت البينة بالملك المستصحب - بأن كان الاستصحاب من مقومات المشهود به - كان جعلها من البينة التي هي من الموازين مشكلة ، ولذا فرق في القواعد بين قوله « لا اعلم له مزيلا » وبين قوله « هذا ملك بمقتضى الاستصحاب » ، فحكم بكفاية الأول دون الثاني.

فإن وجه هذا الفرق هو الذي ذكرنا من أن المدار على صدق الشهادة عرفا ، وأنه إذا شهد بالشي ء معولا في شهادته على الاستصحاب أو اليد مثلا يصدق عليه أنه شهد بالمدعى. ولا يقدح فيه التعويل على الامارة الشرعية ، بخلاف ما لو شهدت بالملك الاستصحابى ، فإنه لا يصدق عليه عرفا أنه شهد بالمدعى وهو الملك.

وبالجملة فرق بين تقييد نفس المشهود به بالأمارة كاليد أو الاستصحاب وبين إيقاع الشهادة على الواقع بانيا وتعويلا فيه على الامارة ، فإن الثاني شهادة بالواقع ولو لم تكن عن طريق علمي والثاني بيان واخبار بحكم ظاهري شرعي ، أعني اقتضاء الاستصحاب الملك أو دلالة اليد عليه.

هذا وجه اعتبار الضميمة ، ووجه الفرق بين قوله « لا أعلم له مزيلا » وقوله « هذا ملكه بموجب الاستصحاب » كما ذكره في القواعد.

وأما وجه عدم كفاية قوله « لا أدري زال أم لا » فهو أن مثل هذا القول أيضا يمنع عن صدق الشهادة ، لأن مثل هذا الشخص لا يصدق عليه عرفا أنه شهد بالملك الحالي ، بل العرف في مثله يحكمون بأنه ليس له شهادة في الملك الاتي فضلا عن عدم صدق الشهادة.

ولعل وجهه ما في المسالك وعن الإيضاح من أن هذا القول يكشف عن ريبه في ضمير الشاهد مانعة عن شهادته بالبقاء ولو بملاحظة الاستصحاب.

ص: 234

[ الاستصحاب عند ثبوت اشتغال الذمة ]

هذا ، ولكن في المقام اشكال ، وهو أن الظاهر عدم الاشكال والخلاف في أنه لو شهد بسبب الاشتغال السابق كالقرض ونحوه أو بنفس الاشتغال حكم الحاكم بالاشتغال الفعلي اتكالا على الاستصحاب من غير حاجة الى ضميمة.

وكذا لو أقر ذو اليد بالملك السابق ، كما صرح به العلامة في القواعد بعد أن قال بعدم فائدة في الشهادة بالملك السابق من دون الضميمة : بل ربما يقال في مثل الشهادة بسبب الاشتغال أو سبب الزوجية أو بنفسها السابقة أنه لا يقدح علم الشاهد بالأداء أو الطلاق.

وقد ذكر العلامة في محكي التحرير والقواعد أنه لو شهد أحد الشاهدين بالقرض السابق مثلا وشهد الأخر بالوفاء لم تنفع شهادة الثاني ، لكون المدعي مكذبا لقول الشاهد كما عن التحرير ، أو لعدم كون الشهادة بالوفاء شهادة صريحة بالقرض في الاشتغال كما عن القواعد ، ولم يعطل عدم الفائدة في شي ء من الكتابين بأن ثبوت المدعي في السابق لا يكفي إلا مع كون الشاهد قادرا على الاستصحاب باعتبار عدم علمه بالمزيل.

وهذا منه يفصح عن أن المانع ليس فقدان شهادة الثاني للضميمة ، بل هو اما تكذيب المدعي أو عدم صراحة الشهادة ، فلا وجه لاعتبار عدم علم الشاهد بالزوال.

وحيثما يكون كذلك فمقتضى القاعدة عدم قدح علمه بالخلاف أيضا ، فإنه إذا لم يعتبر استصحاب الشاهد لم يقدح تصريحه بالزوال أيضا.

وبالجملة المانع عن الحكم يقتضي الشهادة بالملك من دون الضميمة ان كان هو عدم صلاحية الاستصحاب - أي استصحاب الحاكم للقضاء - لزم عدم الحكم بالبينة على الاشتغال أو البيع أو الزوجية السابقة أيضا وكذا بالإقرار

ص: 235

بالملك السابق ، والا فلا وجه لاعتبار الضميمة في الشهادة بالملك القديم أيضا.

هذا ، ويمكن الذب عن الإشكال بأن المقامين مختلفان ، لأن الشهادة بالقرض السابق تحدث حقا على المدعى عليه بالخصوص في الزمان السابق ، وبعد ثبوت هذا الحق ينقطع أثر إنكاره ، فلا بد له من دعوى جديدة بالإبراء والا كان إنكاره مع ثبوت ذلك الحق باطلا ، بمعنى أنه لا يترتب على إنكاره بدون تجديد الدعوى وظيفة الإنكار وأثره الشرعي - أعني الحلف - لأنه إذا حلف على عدم الاشتغال رأسا وفي شي ء من الأزمنة ، وهو باطل لأنه مكذب للبينة. والثاني الحلف على عدم الاشتغال المسبب عن سبب البراءة ، وهو حلف على أمر وجودي أو عدم حادث لا العدم الأزلي ، وهو أيضا باطل.

وهكذا إذا أقر المدعى عليه بالملك السابق ، فإن الإقرار بالملك للمدعي ولو سابقا يوجب تعلق إلزام ولو تقديرا على المدعى عليه المقر ، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز مطلقا في أي زمان كان. وتعلق هذا الإلزام أيضا يبطل أثر إنكاره ، لأنه اما يحلف على عدم وجود شي ء ملزم عليه رأسا فهذا مكذب للإقرار ، أو يحلف على حصول ما أوجب رفع هذا الإلزام المسبب من الإقرار فهو حلف على الإثبات.

وهكذا الكلام إذا أقام أحد المتداعيين بينة على سبب الملك السابق الملزم على صاحبه شيئا في السابق فإنه يحكم له على صاحبه ، كما إذا تداعيا عينا في يد ثالث وأقام أحدهما بينة على أنه اشتراها منه أمس أو قبل الأمس. فإن هذه البينة تكفي في هذا المقام ، إذ مع وجودها لا يترتب على دعوى الأخر أثر ، لأنه ان كان يدعي عدم حجة له رأسا وفي جميع الأزمنة فهذا دعوى مكذبة للبينة ، وان كان يدعي الحجة على صاحبه بانتقال ونحوه فهذه دعوى بلا بينة.

ولا كذا إذا أقام في هذه الصورة بينة على مجرد الملك السابق أو الشراء

ص: 236

من شخص ما ، فان هذه البينة لا تبطل دعوى خصمه ، فالقضاء بموجبها قضاء بما لا يبطل قول الخصم. وضم الاستصحاب الى تلك البينة حتى تكون البينة بضميمة استصحاب الحاكم مبطلة لدعوى الخصم قضاء بالاستصحاب لا بالبينة ، بخلاف الأول فإن القضاء بالبينة القائمة على الشراء من الخصم قضاء بالبينة ، لأنها قد أوجبت على الخصم حقا في شي ء من الأزمنة ، فالحكم بذلك الحق حق بموجب البينة.

فإن قلت : لا بد للحاكم في هذه الصور كلها من الاستصحاب ، لان وجود سبب الاشتغال أو نفس الاشتغال أو سبب الزوجية أو نفس الزوجية أو الشراء السابق من المدعى عليه في مسألة التداعي ، وبالجملة ثبوت الحق السابق غير منطبق على دعوى المدعي ، وهو الحق في الحال ، فلا يكفي في قطع الإنكار أو قطع الدعوى. الا أن يستصحب الحاكم ذلك الحق السابق ، فكيف يكون الفاصل نفس البينة.

قلنا : يكفي في استناد القضاء إلى البينة إيجابها حقا في أحد الأزمنة بدون مئونة الاستصحاب ، واحتياج الحاكم في إثبات ذلك الحق في الحال الى الاستصحاب انما هو في مقام العمل ان استتم ميزان القضاء ، فالاحتياج الى الاستصحاب انما هو لترتب أثر الحق الثابت بالبينة.

وهذا ليس استناد أصل القضاء وابطال دعوى الخصم بضميمة الاستصحاب وانما يكون كذلك لو كان الثابت بالبينة في السابق أمرا غير ملزم على المدعى عليه بوجوده السابق وكان اقتضاؤه إبطال دعوى الخصم موقوفا على استصحاب الحاكم لذلك الأمر السابق كما في الشهادة بالملك السابق ، فان ثبوت الملك سابقا لأحد الخصمين لا يبطل دعوى الأخر ولا يحدث حقا له عليه بعد استصحاب الملك السابق وإثباته في الحال.

ص: 237

ومما يدل على كفاية اشتمال مدلول البينة حقا ولو في السابق في استناد القضاء إليها أنه لا ريب في سماع دعوى الحق السابق وكون دعواه دعوى ملزمة يجب سماعها ، فاذا وجب سماعها وجب قبول البينة على طبقها والحكم على طبقها. بخلاف دعوى الملك السابق ، فإنها دعوى غير ملزمة ، فلا تسمع فلا تفيد البينة عليه شيئا.

ومن أجل ذلك فرق الجل أو الكل بين دعوى المدعي كون هذا الولد من جاريته وبين كون هذا الغزل من قطنه ، فحكموا بسماع الثانية ، لأن ملك القطن مقتضى لملكية الغزل بحيث لو ادعى أحد بعد الاعتراف بملكية القطن ملك الغزل كان مدعيا مطالبا بالحجة ، ولو كان له يد على الغزل فيكون قول المدعي « هذا الغزل من قطني » دعوى ملزمة يجب سماعها على الحاكم ومطالبة البينة على طبقها والحكم بموجبها بعد الإقامة وبعدم سماع الاولى لعدم سببية ملك الجارية لملكية الولد ، فلا تكون دعوى ولادة الولد من المملوكة دعوى ملزمة مسموعة. فالمدار على كون المدعى به ملزما على المدعى عليه حقا وشيئا بلا مئونة الاستصحاب ، فإنه إذا كان كذلك سمع دعواه وقبل البينة ، للملازمة بين سماع الدعوى وقبول البينة على طبقها. بخلاف ما إذا لم يكن كذلك بل توقف سماع الدعوى على ادعاء شي ء آخر كقولك سماع دعوى الملك السابق على دعوى الملك الحالي ، فإن البينة لا تسمع إلا إذا تضمنت على ذلك الشي ء الذي يتوقف على دعواه سماع الدعوى.

[ ابطال قول الخصم يتوقف على ضم الاستصحاب ]

ومما ذكر ظهر أن قطع الدعوى وابطال قول الخصم في الصورة المزبورة انما حصل بنفس البينة من دون ضميمة الاستصحاب. بخلاف إبطاله في دعوى

ص: 238

الملك السابق ، فإن إبطاله قول الخصم فيه لا يحصل بمجرد البينة على الملك السابق ، بل يتوقف أصل الإبطال على ضم الاستصحاب.

فان قلت : إذا ادعى على ذي اليد الملك السابق وأقام البينة عليه فهذا ابطال لإنكاره وإفساد لأثره الذي هو الحلف ، فالفصل فيه - أعني إبطال أثر قول المدعى عليه وجعله كالعدم - مستند إلى البينة من دون ضم الاستصحاب ، وانما يحتاج إليه في مقام العمل لا في مقام الفصل. ووجه ابطال البينة إنكاره كإبطال إنكار منكر الدين في المسألة السابقة هو أن ذا اليد حينئذ اما يحلف على عدم الملك المدعي الظاهر سابقا ولاحقا فهذا مكذب للبينة ، واما يحلف على عدم ملكه المتجدد المسبب عن سبب مزيل للملك منذ أحلف على الإثبات ، فأمر حلف ذي اليد أيضا دائر بين أمرين باطلين نظير حلف منكر الدين كما قلنا ، فالقضاء بالبينة على الملك أيضا قضاء بالبينة خاصة لاستقلالها في إبطال أثر الإنكار ، وأما الاستصحاب فالاحتياج اليه هنا أيضا في مقام العمل لا في مقام الحكم.

قلت : ليس الأمر كذلك ، لأن جهة إنكار ذي اليد والسبب في جعله منكرا مع أنه يدعي الملك فهي في الحقيقة مدعي لا منكر ، وان كان دعواه ملازمة لإنكار ملك المدعي هي أن مرجع قوله في الحقيقة إلى نفي استحقاق شي ء عليه نظير إنكار منكر الاشتغال لا الى نفي ملك المدعي ولا الى دعوى ملكية العين عين أمارة شرعية أعني اليد.

توضيحه : ان إنكار ذي اليد فيه جهات ثلاث : إحداها انه يدعي أمرا وجوديا مطابقا للظاهر وموافقا للأمارة الشرعية أعني ملكية ما في اليد ، والثانية أنه ينفي ملك من عداه وملك خصوص المدعي عما في يده ، والثالثة أنه ينفي

ص: 239

استحقاق المدعي شيئا عليه. فجعل ذي اليد منكرا اما لأجل الجهة الأولى أو الثانية أو الثالثة.

لكن المعين هو الأخير ، لأنه باعتباره صار مدعى عليه ، فيكون تسميته منكرا أيضا من جهة ملاحظة ذلك ، إذ الشخص لا يكون مدعى عليه الا إذا كان المدعى به مربوطا به حتى يكون استحقاق أحد له استحقاقا عليه ، ولذا لا يكون دعوى العين المطروحة دعوى على أحد ، فجهة إنكار ذي اليد هي بعينها جهة لا إنكار في دعوى الدين منكر ، وهي نفي استحقاق المدعي.

فكما أن المدعى عليه في دعوى الدين منكر من جهة نفيه استحقاق المدعي شيئا عليه ، فكذلك في دعوى العين منكر من جهة إنكاره استحقاق المدعي شيئا عليه ، لا من جهة كونه مدعيا لأمر موافق الظاهر - أعني ملكية ما في يده - ولا من جهة كونه منكرا لملكية المدعي لما في يده ، وحينئذ فحلف ذي اليد انما يتحقق في الحقيقة بنفي الاستحقاق.

ومن الواضح أن الحلف عليه ليس أمره دائرا بين أمرين باطلين كحلف منكر الدين بعد قيام البينة على الاشتغال السابق ، لان عدم الاستحقاق الأزلي ليس مكذبا لبينة المدعي على الملك السابق ، لأنه لم يحدث في السابق حقا على ذي اليد حتى يكون الحلف على عدم الاستحقاق الأزلي مكذبا للبينة ، فإنكاره بعد باق على حكمه الذي هو الحلف ، بخلاف حلف منكر الدين فإنه باطل كما عرفت ، وهو معنى بطلان أثر الإنكار وجعل وجوده كالعدم.

نعم لو علم أن العين في زمان الملك السابق كانت في يد ذي اليد التزمنا فيه بعدم الاحتياج إلى الضميمة ، وان البينة حينئذ كافية في الميزان. نظير البينة على الاشتغال السابق ، لأن الملكية السابقة حينئذ سبب لثبوت حق للمدعي على

ص: 240

ذي اليد في الزمان السابق ، فيكون مثل الاشتغال السابق ، ولم يعلم قول الأصحاب بعدم كفاية البينة على الملك السابق في مثل هذا الفرض.

فائدة [ الفرق بين شهادة البينة بالملك السابق ] [ وإقرار ذي اليد ]

علل في القواعد الفرق بين شهادة البينة بالملك السابق وبين إقرار ذي اليد ، بأن البينة تخبر عن تخمين والإقرار اخبار عن تحقيق.

وهذا التعليل بظاهره عليل كما لا يخفى.

ويمكن توجيهه بما فيه بعض المنافاة لما ذكرنا في وجه الفرق ، وهو أن البينة اخبارها يحتمل أن يكون مستندا الى العلم بسبب الملك السابق وعلى العلم ببعض أمارات الملك كاليد. ومثل هذه لا تكون مطابقة للدعوى ، لأنها على تقدير استنادها إلى أمارة الملك السابق لم توجب بالفعل - أي في حال الدعوى - على المدعى عليه شيئا ، فلا تكون منطبقة على الدعوى وهو الملك الفعلي ، وذلك لان وجود السبب في أحد الأزمنة سبب ومقتض في جميع الأزمنة الى أن يعلم المزيل.

ويكفي في الانطباق قيام البينة على وجود المقتضي والسبب بالفعل ، لأن الدعاوي كما تثبت بثبوت نفسها كذلك تثبت بثبوت سببها ، فلا فرق بين البينة التي تشهد بالملك الفعلي وبين البينة التي تشهد بمقتضى الملك - أي بوجود المقتضي فعلا في حال الدعوى ، فاذا كان حال البينة مجملة لم تنفع ، فقوله « ان البينة تخبر عن تخمين » إشارة الى أن البينة لا يجب أن يكون مستند شهادتها العلم بالملك السابق عن سبب حتى تكون مطابقة للدعوى ، لاحتمال كون مستندها العلم به عن أمارة شرعية فلا تكون منطبقة ، بخلاف الإقرار فإنه من

ص: 241

الملزمات الشرعية سواء كان قبل الدعوى أو في حالها ، فيجري وجوده السابق مجرى السبب السابق في كونه مقتضيا للملك الفعلي.

فالفرق بين البينة والإقرار انما جاء من جهة كون الإقرار ولو سابقا بمنزلة الأسباب التي مقتضاها الملك في جميع الأزمنة ما لم يمنع المانع والمزيل ، بخلاف البينة فإنها أعم من أن يكون مؤداها وجود الملك سابقا عن سبب أو عن أمارة. فالإقرار بالملك السابق إقرار بما يقتضي المدعى به - أعني الملك الفعلي - ولو لم يكن علة له ، فيكون منطبقا على دعوى المدعي ، إذ لا فرق في الانطباق بين أن يكون الميزان الشرعي قائما بالمدعى به فعلا عن الملك الفعلي أو بما يقتضيه شأنا لو لم يكن له مزيل في الواقع.

وعلى هذا الفرق ينبغي أن يفرق أيضا بين شهادة البينة بنفس الاشتغال السابق أو بسببه كالقرض ، فينفع في الثاني دون الأول ، لأن الاشتغال السابق غير منطبق على الدعوى وهو الاشتغال الفعلي ، بخلاف سبب الاشتغال كالقرض السابق ، فإنه منطبق على الدعوى ، لان وجود سبب الشي ء ومقتضية في أحد الأزمنة يقتضيه مطلقا الى أن يحصل الرافع.

فالشهادة بالقرض السابق شهادة بالاشتغال الفعلي - أي يقتضيه فعلا - ولو لم تكن شهادته بعلته التامة ، بخلاف الشهادة بالاشتغال السابق والاشتغال في الحال كلاهما معلولان لعلة ثالثة وهو القرض أو شي ء آخر ، فلا ينطبق على الدعوى ، لان شرط الانطباق كون المشهود به عين المدعى به أو علته التامة أو مقتضية وسببه ، والاشتغال السابق ليس شيئا من الثلاثة.

وهذا خلاف الطريقة التي سلكناها في الفرق بين الشهادة بالملك السابق أو بالأسباب كالنكاح والبيع ونحو هما ، فان مقتضى تلك الطريقة عدم الفرق بين

ص: 242

النكاح والزوجية أو بين القرض والاشتغال ، لان مناطها كان شيئا موجودا فيهما وهو كون المشهود به في السابق أمرا ملزما على المدعى عليه.

الا أن يقال : ان الشهادة بالزوجية أو بالاشتغال لا تكون إلا عن سببهما ولو غالبا ، بخلاف الشهادة بالملك فإنها غالبا مبنية على التخمين - أعني الاستناد إلى الأمارة - فلا تكون شهادة بالسبب ، ولذا لا تكفي في دعوى الملك الفعلي ولا أقل من الاحتمال.

والحاصل ان الشهادة بسبب المدعى به ولو في السابق شهادة به ، لان المدار في ثبوت الأشياء على ثبوت سببها ومقتضيها لا على ثبوت نفسها أو ثبوت علتها التامة ، فكل شهادة ترجع إلى الشهادة بالسبب تسمع ولو تعلقت بالمسبب كالزوجية السابقة والاشتغال السابق ، إذا الزوجية والاشتغال لا يعلمان الا بسببهما ، فالشهادة بهما شهادة بسببهما إجمالا ، فتسمع كالشهادة بسببهما تفصيلا.

لا يقال : ما ذكرت من كفاية الشهادة بالسبب وانطباقها على المدعى بدون ضم الاستصحاب ممنوع ، لان المدعى به ان كان هو نفس وجود السبب من غير ضم سلامته عن المانع في الحال فدعواه دعوى غير ملزمة ، إذ لا يترتب عليه بعد ثبوته وجود المسبب فعلا ، لان المسبب لا يتحقق الا بعد وجود السبب وسلامته عن المانع ، والمعلوم انما هو سلامته عنه في السابق دون اللاحق.

ففي زمان الدعوى لا يترتب على وجوده السابق شي ء لازم على المدعى عليه حتى يكون دعواه دعوى ملزمة ، وان كان المدعى به هو وجود المسبب مع عدم المانع فالبينة غير مطابقة للدعوى كما لا يخفى.

لأنا نقول : نحن نختار الأول ، أعني كون المدعى به هو وجود المسبب.

قولك ان نفس وجوده أمر غير ملزم في الحال ، قلنا ممنوع لان عدم كونه ملزما مبني على احتمال لو التفت اليه انقلب المنكر مدعيا مطالبا بالبينة ، وهو احتمال

ص: 243

طرو المانع في الحال. وحيث أن هذه الدعوى التقديرية الثانية لا تجدي في حبس العين أو الدين ، لأنها على فرض تحققها لا ينفع في حبسهما بل عليه رد العين أو الدين مثلا قبل إقامة البينة على المزيل الرافع للمسبب في الحال ، فلا جرم يلزم بالدفع الى أن يدعي المزيل ويقيم عليه البينة فيستردان قضاء بوظيفة الدعوى الجديدة.

والظاهر أنه لا خلاف فيه أيضا بين الأصحاب ، يدل عليه ما ذكروه في ميزان الدعاوي المسموعة وأنها لا بد أن تكون ملزمة وأنه لو ادعى الهبة بدون دعوى القبض لم تسمع ، بل لا بد من ضم دعوى القبض ، مع أن دعوى الهبة المقبوضة ليس الا دعوى سبب الملك.

ولو قيل : ان مرادهم دعوى القبض مع دعوى الملك الفعلي. فهو واضح الفساد ، لان دعوى القبض حينئذ تكون لاغية ، لأن دعوى الملك الفعلي كافية في السماع. وقد صرح العلامة في هذا الباب بعد أن ذكر عدم كفاية البينة على الملك السابق : انه لو أقامها على الشراء من المدعى عليه في السابق كانت كافية.

وبالجملة الظاهر من دعاوي الأسباب دعاوي مسموعة ولو لم يضم إليها دعوى عدم المزيل أو دعوى وجود المسبب فعلا. نعم قد تقدم سابقا أن الشهيد منع في محكي الدروس عن سماع دعوى البيع بدون دعوى عدم تحقق الفسخ.

الا أن ذلك خلاف ظاهر بنائهم ، إذ لو لا ذلك لانسد باب الاشهاد على الأسباب كالبيع والصلح والقرض والنكاح ، وبطلانه ضروري.

فإن قلت : الاشهاد على الأسباب انما هو لأجل كونه مفيدا في بعض الصور وهو ما إذا أنكر المدعي أصل وجود السبب ، بأن تقول الزوجة مثلا : ان العقد لم يقع بيني وبين المدعي أصلا. فإن وجود السبب في مثل هذه الصورة يكون ملزما ، حيث أن المنكر إنما أنكر وجود المدعى به في الحال باعتبار إنكاره

ص: 244

وجود السبب رأسا ، فبعد إثبات وجود السبب يبطل إنكاره ، لأنه معترف عدم وجود المزيل ، فأحد جزئي المدعى - وهو وجود السبب - ثبت بالبينة والجزء الأخر - وهو عدم المزيل - بالتسالم والإقرار.

قلت : الاعتراف التقديري ليس اعترافا ملزما ، فلا بد في هذه الصورة أيضا من إلقاء احتمال تجدد المزيل حتى تكون البينة مطابقة للدعوى ، وهو وجود السبب مع سلامته في الحال عن المانع والمزيل.

فكما يجب إلقاء هذا الاحتمال في هذه الصورة لكونه راجعا الى دعوى المزيل تقديرا ، فكذلك فيما إذا كان الإنكار ناظرا الى وجود المسبب في الحال بأن يقول في دعوى الدين مثلا ليس لك علي دين الان ، أو في دعوى النكاح لست أنا زوجتك ، فان الوجه فيهما واحد ، وهو كفاية البينة على السبب في إثبات المسبب فعلا.

فان قلت : على ما ذكرت يجب قبول البينة على وجود السبب في الجملة ، فلو أقام المدعي بينة على الشراء في السابق من زيد مثلا لزم أن يكون ذلك كافيا في الانطباق ، ولا يلزم أن يكون السبب المدعى به هو الشراء من المدعى عليه خاصة ، لأن الشراء حين وجوده كان علة للملك فعلا ومقتضيا له في جميع الأزمنة المستقبلة الى أن يعلم السبب الناقل ، فلا فرق بين البينة على الشراء من المدعى عليه سابقا أو من شخص آخر ، فما وجه الفرق بينهما كما ذكرت.

قلت : الشراء من زيد ليس سببا واقعيا للملك الا مع البناء على ملك زيد البائع بمقتضى يده ، فالشهادة على الشراء منه شهادة تخمينية أيضا ، لاحتمال استنادها في الشراء إلى أمارة ملك البائع ، فلا تكون شهادة لوجود السبب الواقعي.

ص: 245

فإن قلت : يندفع هذا الاحتمال بما لو صرح البينة بأن المدعي اشتراها من مالكه الواقعي ، فلا بد من القبول.

قلت : هذا أيضا لا ينفع ، لأنها حينئذ تنحل الى شهادتين : إحداهما تحقيقية وهي الشهادة بالشراء ، والأخرى تخمينية وهي الشهادة بملكية البائع ، فتكون مثل الشهادة بالشراء من زيد مثلا.

والحاصل ان البينة إذا لم تكن صريحة في السبب الواقعي لم تكن نافعة ، لأن إنكار المدعي حينئذ لا ينحصر وجهه في دعوى المزيل شأنا ، لاحتمال كون إنكاره ناظرا الى تكذيب ملك البائع الذي كانت الشهادة به تخمينية.

نعم لو شهدت البينة على سبب الملك السابق إجمالا بأن يقول انه حصل في السابق سبب الملك للمدعي كانت مسموعة ، إذ لا فرق بين السبب المطلق والمقيد في كون كل منهما مقتضيا للملك في جميع الأزمنة.

الا أن يقال : ان مرجع الشهادة بالسبب المطلق إلى الشهادة بالشراء من المالك الواقعي ، لأن سبب الملك لا يرجع جميع مقدماته الى التحقيق ، بل يحتمل أن تكون الشهادة ببعض مقدماته - كملك البائع - راجعة إلى التخمين وحينئذ لا يتمحض إنكار المدعي في دعوى المزيل أو دعوى عدم مقدماته المبنية على التحقيق كنفس الإيجاب والقبول ، لاحتمال أن يرجع الى نفي مقدماته التي يحتمل كون الشهادة بها تخمينية ، فلا يصير إنكاره حينئذ باطلا ، لأن الشهادة المبنية على التخمين ليست شهادة بوجود المقتضي فعلا ، لأن الشهادة التخمينية شهادة بالمسبب لا بالسبب. مثلا إذا شهدت بأن البائع كان مالكا في حين البيع فهذه مثل الشهادة بأن المدعي كان مالكا سابقا.

ومن الواضح أن الشراء الصادر من البائع الذي شهد بكونه مالكا شهادة في الحقيقة بأن المدعي كان مالكا في السابق ، والمفروض أن ملك البائع الذي

ص: 246

وقع الشراء منه ليس مقتضيا وسببا لملك المدعى في الحال ، فلا تكون منطبقة لأن شرط الانطباق أحد الأمرين اما الشهادة بالملك أو بوجود سببه فعلا. واللّه العالم.

التقاط [ لو أقر المدعى عليه ان العين لغيره ]

إذا ادعى عينا في يد أخرى فقال المدعى عليه هو لفلان سقط عنه الخصومة ، سواء كان المقر له غائبا كما في الشرائع وغيره. والمراد سقوط المخاصمة من حيث العين لأمن حيث المالية ومن حيثيات أخرى كالولاية على الحفظ ونحوه.

وهل للمدعي إحلافه لو ادعى عليه العلم بأن العين مال المدعي ، قولان مبنيان على أن الإقرار بعد الإقرار هل يوجب الغرم للمقر له الثاني للحيلولة أم لا.

فان قيل بالأول - كما هو المشهور من بعد الشيخ ظاهرا - كان له الإحلاف وفائدته الغرم لو نكل عن الحلف بعد الرد الى المدعي أو بدونه ، وان قيل بالثاني ففي الشرائع أنه لا يجاب لعدم الفائدة حينئذ ، إذ لو أقر المدعى عليه بالعين للمدعي ثانيا لم يستفد شيئا وانما يجاب الى الحلف إذا كان الإقرار مفيدا للفائدة.

لكن في المسالك أنه على هذا القول - أعني القول بأن الإقرار لغو - لا محل له ولا يوجب الغرامة : ان قلنا ان النكول واليمين المردودة كالبينة فله التحليف ، لأنه قد ينكل فيحلف المدعي فإذا حلف وكانت العين تالفة أخذ القيمة وان قلنا إنهما كالإقرار لم يحلفه ، لأنه إن نكل وحلف المدعي لم يستفد شيئا.

وأورد عليه بعض مشايخنا قدس سره : أولا بأن تقييد الحكم بتلف العين

ص: 247

لا وجه له ، بل يغرم ولو كانت باقية بناء على كونه مثل البينة. وثانيا بأن النكول عن الحلف بمنزلة البينة على مصب الدعوى وهو العلم ، ولا يترتب على علم المدعى عليه وإقراره شي ء ، والمفروض أن إقراره بعد الإقرار لغيره لغو لا يوجب الغرامة.

والظاهر أنه لا ورود لشي ء منهما :

( أما الأول ) فلان مراد صاحب المسالك بتلف العين كونها في حكم التالف باعتبار الإقرار الأول للحيلولة لا التلف الحقيقي ، لأن المسألة مفروضة في دعوى العين ، وهي صريحة في بقائها ، مضافا الى أن ما في سائر كلماته من الصراحة بذلك. فارجع وتأمل.

فالمراد أن المدعي إذا حلف اليمين المردودة وقلنا بأنه بمنزلة البينة والمفروض أن العين باعتبار الإقرار الأول صارت بمنزلة التالف للحيلولة أخذا بقيمته.

( وأما ثانيا ) فلما مر في مسألة يمين نفي العلم من أنها إذا ردت الى المدعي حلف على الواقع لا على العلم ، لان دعوى العلم شرط لسماع دعوى المال في موارد اشتراط دعواه وليس نفس العلم مصب الدعوى في تلك الموارد.

نعم يتجه هذا الكلام فيما إذا كان العلم موضوعا وتكون الدعوى متوجهة إليه ، فان المدعي يحلف بعد الرد على نفس العلم حينئذ.

نعم يرد على صاحب المسالك إيراد آخر مضافا الى ابتناء ما ذكره على كون النكول أو اليمين المردودة بمنزلة البينة حتى بالنسبة الى الثالث كما يصرح به العلامة في بعض كلماته ، وهو أن التحليف على هذا المبنى لا يخلو عن إشكال ، لان المدعى عليه إذا لم يترتب على إقراره شي ء فلا فائدة في إحلافه رجاء لنكوله ، لان احتمال نكوله معارض باحتمال إقراره ثانيا أو حلفه ، وكل منهما

ص: 248

مقدور له ، خصوصا الإقرار الذي لا ينفع بحال المدعي ، فالتحليف في مثله لا طائل تحته.

ثمَّ لو بنينا على سماع دعوى الحلف رجاء للنكول فلا بد من تعميم دائرة سماع الدعوى ، بأن يقال : ان ميزان سماعها هو ما لو أقر المنكر بالمدعى به لنفع المدعي أو نكل عن الحلف لنفع المقر له.

هذا كله إذا علم بأن المقر له غير المدعي ، سواء كان معينا بأن يقول هذه العين لفلان أو غير معين بأن يقول انها لغير المدعي ، وأما إذا كان الإقرار الأول على وجه يحتمل كونه للمدعي أيضا بأن يقول أولا انها ليست لي بل لغيري ، فالظاهر نفوذ الإقرار للمدعي ، إذ لا منافاة بين الإقرارين حينئذ ، فيجمع بينهما وينزع العين من يده أخذا بالإقرار الثاني.

وفي مثله لا بد من الإجابة إلى التحليف ، لأنه لو أقر لنفع حتى في العين على القولين - أعني القول بنفوذ الإقرار بعد الإقرار والقول بعدم نفوذه كما عن الشيخ - لأن الإقرار الثاني حينئذ ليس لغوا.

هذا ، وهل للمدعي إحلافه على البت إذا ادعى عليه الغرامة تسبيبا أو الحلف أيضا على نفي العلم ، وجهان تقدما في مسألة ما لو تداعيا عينا في يد ثالث وأقر ذو اليد لأحدهما. كما تقدم قوة الوجه الثاني وفاقا للفاضل في كشف اللثام.

فرع [ حكم ما يؤخذ غرامة ]

لو ادعى أن العين وقف وتوليته لي فقال المنكر هي لفلان ثمَّ أحلفه المدعي ونكل وقضينا بالنكول أو بعد الرد بالغرامة بناء على مذهب المشهور من نفوذ الإقرار بعد الإقرار ، فيما يأخذه غرامة يحتمل وجهين :

ص: 249

أحدهما - أن تقوم مقام العين في الوقفية وتبذل على الموقوف عليهم.

والثاني - أن يشتري بها مثل العين الموقوفة ويجعل مكانه. واللّه العالم.

التقاط [ لو ادعى المالك الإعارة وذو اليد الإجارة ]

إذا ادعى المالك على ذي اليد أنه أعاره العين وادعى هو أنه آجرها إياه ، فالقول هنا قول المالك لأصالة براءة ذمته عما يقتضيه الإجارة ، فلو أقام كل منهما بينة جرى فيه حكم تعارض بينة الداخل والخارج ، فيقدم قول الأجنبي ، لما ذكرنا على أظهر الوجوه.

ويدل عليه مضافا الى ما عرفت ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في الثوب يدعيه الرجل في يد رجل فيقول الذي هو في يده هو لك عندي رهن ويقول الأخر هو لي عندك وديعة. قال : القول قوله وعلى الذي في يده البينة أنه رهن عنده (1).

والوجه الثاني ما عن القواعد في باب الاختلاف في العقد وان البينتين يتعارضان فيجري فيه حكم تعارض البينتين. ووجه في محكي كشف اللثام بأن كلا منهما يدعي أمرا مخالفا للأصل ، لأن كلا من العارية والإجارة عقد مثل الأخر ثمَّ اختار ما رجحنا لما ذكرنا.

والوجه الثالث - وهو أردأ الوجوه - تقديم بينة المالك لكونه خارجا نظرا الى كون الأجنبي ذا يد ، فان اليد كما ترجح ملك العين كذلك ترجح ملك المنفعة. ذكره في محكي كشف اللثام احتمالا ، واستجوده بعض مشايخنا « قده ».

ص: 250


1- الوسائل ج 13 كتاب الرهن ب 16 من أحكام الرهن ح 1 و 3 و 2.

وليس بجيد ، لان اليد انما تجعل صاحبها منكرا إذا لم يكن صاحبها معترفا بعدم كونها يد ملك وإلا فلا أثر لليد ، ولذا لا يسمع دعوى الإجارة أو الوديعة مع إنكار المالك وادعاء غصبية ذي اليد.

هذا إذا كان مدعي الإجارة ذي اليد ، ولو انعكس - بأن ادعى المالك الإجارة وادعى الأجنبي الذي في يده العين العارية - فالحال أيضا ما عرفت من أن القول قول من ينكر الإجارة وهو هنا الأجنبي.

والوجه هو الوجه ، أعني الأصل دون اليد ، لان اليد هذه لا تجعل صاحبها منكرا فيما وقع النزاع فيه ، أعني ملك المنفعة أو عدم ملكها ، وان كان الثاني - وهو أن يكون التداعي بين الأجنبيين كما إذا ادعى أحدهما أن مالك العين آجرها إياه سنة وادعى الأخر أنه أعاره إياها في تلك السنة - فالظاهر أن الأصل لا يوافق أحدهما ، فلو أقاما البينة عمل معامل تعارض البينتين.

وكيف ما كان فحيثما يحكم فيه بتعارض البينتين لزم التوقف بعد التساوي حتى في القرعة.

قال في محكي الكشف في الفرض الأول - أعني فرض التداعي بين المالك وإلا جنبي بعد الحكم بتعارض البينتين - ان الحكم فيه القرعة مع اليمين ، ومع نكولهما يقسمان المنفعة بحسب المدة أو بانقسام العين في تمام المدة.

ويشكل ذلك فيما لو كان أحد العقدين غير ملزم بشي ء كالعارية والوديعة ، فإن تملك المنفعة حينئذ غير معلوم للأجنبي حتى تقسم بحسب الزمان. واللّه العالم.

التقاط [ في دعوى اليد السابقة ]

ولو ادعى عينا في يد إنسان وأقام بينة انها كانت في يده أمس ، فإن كان

ص: 251

المقصود من دعوى اليد السابقة الملك السابق المسبب عن اليد ، فقد ظهر الحال فيه مما مر في المسألة السابقة من حيث اشتراط قبولها بضميمة قوله « لا أعلم مزيلا له » حتى تكون منطبقة مع الدعوى ، وهو الملك الحالي وعدم الاشتراط.

وان كان المقصود من هذه الدعوى انقلاب الدعوى وصيرورة ذي اليد مدعيا - كما قد يتفق كثيرا - فالظاهر القبول من غير الضميمة.

والفرق هو أن الملك السابق لا يلزم شيئا على المدعى عليه في الزمن السابق ولا يرجع الى الشهادة بالسبب والمقتضي أيضا ، فلا تسمع البينة عليه ، بخلاف اليد السابقة فإنها في ذلك الزمان يوجب علوا وتفوقا على المدعي الخارج فتسمع البينة بها ، لان الانطباق يحصل بمجرد وجود شي ء ملتزم في السابق وعدم وجود مزيل له عند الحاكم. وهذا ليس قضاء بالاستصحاب كما مر.

ويمكن المناقشة فيه بما مر أيضا من أن المناط في انطباق البينة للدعوى - وهي ثبوت الملك الفعلي - قيامها على نفس المسبب فعلا وهو الملك ، أو على وجود سببه ومقتضية فعلا وان احتاج الى الاستصحاب - أعني أصالة عدم المانع في الحكم بوجود المسبب - كما مر تفصيله. فليس الأمر هنا كذلك لان اليد السابقة ليست سببا ومقتضية للملك الفعلي أو لليد الحالية حتى يكون وجودها السابق عند الحاكم منطبقا للمدعي به ، أعني الملك الفعلي. واللّه العالم.

التقاط [ التعارض بين الاستصحاب واليد ]

إذا ادعى على إنسان عينا في يده وأقام البينة على الملك السابق مع ضميمة قولها « ولا أعلم له مزيلا » فهاهنا يقع التعارض بين الاستصحاب واليد ، فان

ص: 252

قلنا بتقديم اليد لم تسمع البينة ، وان قلنا بتقديم الاستصحاب قضي بتلك البينة وانتزعت العين من يده ولا يلتفت الى يده بعد ثبوت كون العين ملكا للمدعي في الأمس مثلا. ومعناه أن الاستصحاب يقدم على اليد في مقام الحكومة ولا يلزمه أن يكون مقدما في مقام العمل أيضا حتى فيما لا تعارض ولا تخاصم هنا.

توضيح المقام : هو أن المعارضة بين اليد والاستصحاب يكون في صور ، لأن معارضة اليد مع الاستصحاب قد يكون مع وجود المعارض والمنازع ، وقد يكون بدون المعارض أعني الخصم ، فان كان في غير مقام المعارضة - بأن وجد عين في يد شخص من غير ظهور خصم يدعيها - فهذا مقام العمل خاصة ، ولا ريب في أن اليد حينئذ مقدمة على الاستصحاب مطلقا ، بمعنى أن أصالة عدم كون ذي اليد مالكا أو أصالة بقاء ملك الغير ، وكذا غيرهما من الأصول المنافية لظاهر اليد غير ملتفت إليها.

فلو علم أنها كانت سابقا لغيره لم يقدح ذلك في ترتيب آثار الملك على ما في اليد ، سواء كان ذلك الغير معلوما أو مجهولا ، كما هو كذلك في الغالب إذا الغالب أن ما في الأيادي كان مملوكا لغير ذي اليد بل الأمر كذلك مطلقا ، الا في بعض الصور النادرة ، كما إذا احتمل ملك ذي اليد بمثل الحيازة من الأسباب الطارئة على المباحات الأصلية.

وبالجملة لا إشكال في جواز العمل على طبق اليد عند عدم المعارضة ، سواء كان معارضا باستصحاب أم لا ، بل لو أقر ذو اليد بأنها كانت لغيره أولا لم يقدح أيضا في جواز العمل على طبق اليد ما لم يعارضه معارض. لكن يشترط ذلك بأن يكون ذو اليد مظهرا لقول أو فعل يدل على ملكه ، بأن يرى نفسه مالكا ويعلم ذلك من فعله أو قوله أو بعض أحواله ، فلو كان يد مجردة عن ذلك أشكل البناء على ملكية ما فيها مع معارضة الاستصحاب ، فلو مات دلال وفي يده أموال

ص: 253

الناس لم يحكم بعد موته بملكية تلك التي علمنا بأنه من الناس له ولو احتملنا انتقالها اليه قبل موته.

ويمكن توجيه ذلك مضافا الى ظاهر القول وبناء العرف أن الوارد في أدلة اليد - خصوصا في رواية فدك التي هي أعظمها - كون اليد التي هي أمارة على الملك هي ما كانت مقرونة بالملك العرفي والسلطنة والقهر العرفيين لا مجرد اليد الصورية ، ولذا يسمون يد اللقيط على ما في جوانبه باليد الحكمية.

ومن الواضح أن صاحب اليد إذا لم يستشعر منه دعواه ملكية ما في يده - كما إذا كان مبينا - لم تكن يده من تلك اليد المشار إليها ، أعني المقرون بالملك والظاهر العرفيين اللذين يلزمها دعوى الملكية. وبالجملة الحكم بالملك هنا لو لم يكن ممنوعا فلا أقل من كونه مشكلا محل تأمل.

نعم قد يقال بدلالة خبر حفص الوارد في جواز الشهادة بالملك لأجل اليد (1) ، مستدلا بجواز الشراء من ذي اليد على أن مجرد اليد دليل على الملك ولو لم يكن معه ادعاء من صاحبها ، إذ ليس فيه ما يوجب تقييد اليد بما إذا كان معه تملك عرفي وسلطنة عرفية ، كما في رواية فدك (2) حيث أنها تدل على عدم مطالبة البينة على الناس فيما يتملكون ، أي فيما يتسلطون. نظير الرواية الواردة في متاع البيت من أن كلا من الزوج والزوجة إذا كان مستوليا على شي ء من متاع البيت فهو له (3) ، فرواية حفص بإطلاقها تدل على أن مجرد اليد دليل على الملك ولو لم يصدر من ذي اليد ادعاء الملكية قولا أو فعلا أو حالا.

لكن يمكن الجواب عنها بتنزيلها على الغالب ، إذ الغالب ادعاء الإنسان

ص: 254


1- الوسائل ج 18 ب 25 من أبواب كيفية الحكم ح 3.
2- الوسائل ج 18 ب 25 من أبواب كيفية الحكم ح 2 و 3.
3- الوسائل ج 17 ب 8 من أبواب ميراث الأزواج.

ملكية ما في يده ، فلا دلالة فيها أيضا على أن مجرد اليد بدون الادعاء دليل على الملك.

ولو سلم شموله لغير صورة الادعاء فلا نسلم شموله لما نحن فيه - أعني ما إذا علم بملكية ما في اليد لغير ذي اليد معينا - وذلك لان حفص بعد ما قال له الامام انه يجوز الشهادة بالملك لليد.

فان قلت : لعله لغيره ، وهذا السؤال لا ينطبق على مورد علم تفصيلا بأنه كان لغيره العين : أما أولا فلان الاحتمال المنافي للحالة السابقة خلاف ظاهر لعل ، لأنه ظاهر في إبداء تحت الاحتمال الذي ليس عليه أمارة. وأما ثانيا فلان المتبادر من الغير الغير المعين دون المعين ، وكلامنا فيما لو علم بأن ما في اليد كان ملكا للعين.

فان قلت : تسقط الرواية حينئذ عن الدلالة على حجية اليد في صورة العلم سبق الملك المعين حتى مع الادعاء مع انك بنيت على اعتبار ما فيها.

قلت : لا ضير في خروج هذه الصورة عن تحت هذه الرواية ، لأن حجية اليد فيها مع عدم المعارض والمنازع تستفاد من سائر الروايات كرواية فدك ورواية الاستيلاء الواردة في الزوجين.

فان قلت : يمكن الاستدلال بهما حينئذ على اعتبار اليد في هذه الصورة ولو بدون الادعاء.

قلت : قد عرفت أن الاستيلاء والتملك المذكور في رواية فدك لا يصدقان بدون أن يكون ذو اليد مدعيا ، لان التملك والتسلط العرفي يعتبر فيهما ادعاء الملكية قولا أو فعلا كالتصرف أو حالا.

فتلخص مما ذكرنا أن رواية فدك ورواية الاستيلاء يشملان صورة سبق العلم بكون ما في اليد ملكا لمعين لكنهما غير شاملين لصورة عدم الادعاء ، ورواية

ص: 255

حفص شاملة لصورة عدم الادعاء لكنها غير شاملة لصورة العلم بسبق الملك لغير ذي اليد معينا ، ففي صورة سبق العلم مع عدم الادعاء سبق الحكم بالملكية بمجرد اليد محل اشكال وتأمل. فتدبر.

وان كان على صورة المعارضة فهي على قسمين :

أحدهما : ما كان ذو اليد فيه منكرا ، وذلك كما إذا كان المدعي غير الشخص الذي كان العين أولا ملكه ، فان اليد حينئذ وان كانت معارضة بالاستصحاب أيضا الا أن المدعي فرض كونه غير ذلك الشخص لم يخرج ذو اليد عن كونه منكرا.

والثاني : ان العلم بخلافه وأنه ليس متلقاة من ذلك بل كانت مرددة بين كونها عادية أو محقة ، ومنه صورة الشك في مبدئها.

( أما القسم الأول منهما ) فالظاهر أنه لا إشكال في عدم الاعتبار باليد حينئذ وان المحكم هو الاستصحاب ، وذلك لان وجه اعتبار الشارع لليد ليس حمل تصرف المسلم أو سلطنته الحسية على الصحة ، ولذا يلتزمون بأحكام اليد من الملك وغيره في موضع ليس فيه شي ء من التصرف والسلطنة الحسية ، فيحكمون بأن ما في جوانب اللقيط وحواليه ملكه مع عدم أهلية التصرف والسلطنة ، بل الوجه هو غلبة التلازم بين اليد والملك في الخارج.

ولذا قلنا مرارا ان اليد من الامارات العرفية اعتبار الشارع لها عبارة عن إمضائها على ما هي عليها عند العرف ، فاذا كان وجه اعتبارها الغلبة وعلمنا في موضع بأن اليد الفلانية خارجة عن الافراد الغالبة وداخلة في الأيادي النادرة - أعني الغير المالكة - فحكمه يبقى حينئذ على حاله الى أن يعلم ما يدل على الملك.

وهذا نظير استصحاب الحكم المخصص الخارج عن حكم العام بدليل ،

ص: 256

فان اليد التي كان بدوها عارية ليست أمارة على الملك عند العرف ، فهي من الافراد النادرة ، فإذا لم تكن من الافراد الغالبة فوجودها عند الشك في تجدد الملك كعدمه ، فيجري عليها ما يجري على الشك عند عدم اليد رأسا ، فكان الاستصحاب في هذه سليما عن المعارض.

( وأما القسم الثاني ) - أعني ما لم يعلم بكونها عارية ونحوها واحتمل كونها عارية واحتمل كونها مالكة - ففيه أيضا صور : لان ذا اليد اما مقربا لملك السابق للمدعي أم لا ، وعلى الثاني فاما أن الحاكم عالم بأنه كان ملكا للمدعي سابقا أم لا.

أما صورة الإقرار فالظاهر أيضا عدم الاشكال كما عليه ظاهر الأكثر في عدم الاعتبار باليد وأنه ينزع العين منه وتسلم الى المدعي ، مع أنه لا تنافي بين الإقرار بالملك السابق واليد الحالية ، فلو كان الاستصحاب في مقابل اليد ملغى كان اللازم تقديم جانب ذي اليد المقر أيضا لعدم التنافي.

فيظهر من بنائهم هنا أن اليد في صورة المعارضة لا تعارض استصحاب ملك المدعي وأن الاستصحاب مقدم عليها ، وانما يكون الأمر بالعكس بالنسبة إلى استصحاب عدم ملك ذي اليد أو استصحاب ملك الغير إذا كان المدعي محكوما بعدم كونه مالكا ، كما إذا كان المالك معلوما أو مجهولا وكان المدعي شخصا آخر جار في حقه أصالة عدم الملك لا بالنسبة إلى استصحاب ملك المدعي ، كما إذا فرض كون العين ملكا له سابقا.

والحاصل ان الظاهر أنه لا عبرة باليد في مقابل استصحاب ملك المدعي ، بل الظاهر الإشكال في حكومة صرف اليد على الاستصحاب مطلقا حتى في غير صورة المعارضة ما لم يكن ذو اليد مدعيا لملكية ما في يده أو متصرفا كما عرفت

ص: 257

فالأمر الثابت من أدلة اليد انما هو اعتبار دعوى ذي اليد قولا أو فعلا أو حالا في غير صورة المعارضة والمخاصمة ، وأما ما عداه ففي غاية الاشكال.

والظاهر أيضا أنه لا خلاف معتد به فيما قلنا - أعني عدم الاعتبار باليد في مقابل استصحاب ملك المدعي. يدل على ذلك ما ظاهر هم الاتفاق عليه من جواز الشهادة بالملك اعتمادا على الاستصحاب ، إذ قد عرفت في المسألة المتقدمة - أعني مسألة تعارض الملك القديم والأقدم - المفروغية عن قبول الشهادة بالملك القديم مع ضميمة قول الشاهد « لا أعلم مزيلا » ، وان الخلاف انما كان في الشهادة بالملك السابق مجردا عن الضميمة ، وان ظاهر المحقق وغيره سماع الشهادة المجردة أيضا ، فكيف عن صورة الضميمة أو صورة الشهادة بالملك الفعلي اتكالا على الحالة السابقة.

ودعوى ان الكلام في تلك المسألة كان مفروضا في تعارض بينة الخارجين ولا تعارض فيه بين اليد وبين الاستصحاب كما لا يخفى. مدفوعة بإطلاق كلماتهم في تلك المسألة حيث أن المحقق في الشرائع وغيره ذكرها على نحو الإطلاق الشامل لصورة المدعي والمنكر.

وقد صرح الشهيد في القواعد بأن المعتبر في الشهادة علم الشاهد بالمشهود به في زمان التحمل لا في زمان الأداء. وهذا صريح في جواز الشهادة بالاستصحاب خصوصا بعد ملاحظة ما ذكره بعد ذلك ، حيث استثنى عنه موارد لا ينفك العلم بها في زمان عن العلم به في زمان آخر كالنسب فقال انه يعتبر فيه العلم بالمشهود به في زمان الأداء أيضا ، ثمَّ قال في الوقف انه لو قيل بجواز بيعه كان كالأول ، أي مما يكفي فيه العلم في زمان التحمل خاصة وان قيل بعدم جواز بيعه كان كالثاني - أعني النسب.

والظاهر أن ذلك - أي جواز الشهادة بالاستصحاب في صورة التنازع -

ص: 258

من المسلمات بين الفقهاء ، فلا وجه لوسوسة صاحب الكفاية تبعا للمقدس الأردبيلي في ذلك حتى استشكلا في نفوذ الإقرار بالملك السابق أيضا.

[ اليد لا تعارض الشهادة بمقتضى الاستصحاب ]

ودعوى ان جواز الشهادة بمقتضى الاستصحاب مقصور على مثل العقود والديون ونحو هما مما لا يعارضه فيه يد فعلية. مخالفة لظاهر الكل وصريح الجل كما لا يخفى على المتتبع الخبير.

فاذا جازت الشهادة بالاستصحاب بطل اعتبار اليد في مقابله ، إذ لا معنى للجواز مع حكومة اليد على الاستصحاب ، إذ لا يرد بالجواز هنا إلا المضي ، والا فمن الواضح أن الشهادة بكل أمارة شرعية أو عرفية جائزة تكليفا ، بمعنى أنه لا اثم على الشاهد مع عدم إبراز الاخبار والشهادة بصورة الجزم المؤدي إلى الكذب والتدليس.

فما في الوسائل من حمل الأخبار الدالة على جواز الشهادة بالاستصحاب على صرف الإباحة جاعلا له أحد وجوه الجمع بينها وبين ما دل على دلالة اليد على الملك كما يأتي إنشاء اللّه تعالى (1). لعله ليس على ما ينبغي.

نعم ظاهر الاخبار حكومة اليد على الاستصحاب لا طلاقها من حيث كون اليد معارضا باستصحاب ملك المدعي وعدمه ، الا أن يحمل على مقام العمل دون المرافعة والخصومة. وهو في غاية القرب والوجاهة ولو بعد ملاحظة بناء الأصحاب على جواز الشهادة بالملك السابق مع ضميمة « لا أعلم مزيلا » لكن مع مراعاة الشرط المذكور - أعني كون ذا اليد ذا ادعاء قولا أو فعلا أو حالا وحينئذ تكون حكومة اليد على الاستصحاب مقصورة على صورة ادعاء ذي اليد

ص: 259


1- الوسائل ج 18 ب 17 من أبواب الشهادات ح 1 و 2 و 3.

مع عدم معارضة ادعائه بادعاء آخر ، فلو تجردت اليد عن الادعاء فلا عبرة به على اشكال كما سبق.

وأما لو ادعى وكان ادعاؤه معارضا بادعاء آخر فلينظر فان كان المدعي هو الذي كان مالكا سابقا قدم الاستصحاب على اليد ، وان كان غيره كان اليد أيضا مقدما لأنه لا معارض لها حينئذ سوى أصالة عدم مالكية ذي اليد نفسه.

وقد عرفت أن اليد مع ضميمة الادعاء - أي ادعاء ذي اليد - حاكمة على أصالة عدم مالكية نفسه مطلقا ، وأما بالنسبة إلى أصالة بقاء الملك غير المدعي فهي وان لم تك مقدمة عليه الا أن هذا الاستصحاب لما لم يكن ملزما لشي ء للمدعي على المدعى عليه كان وجوده في تلك الدعوى كعدمه ، فلا يلتفت اليه الحاكم حتى يحكم بعدم اعتبار اليد لأجله ، لأن الحاكم وظيفته الاقتصار في العدول عما تقتضيه الأصول والظواهر على ما هو ميزان للقضاء ، بأن يكون نافعا للمحكوم عليه.

ومما يدل على ما ذكرنا من عدم الاعتبار باليد في مقابل استصحاب ملك المدعي ، رواية منصور المتقدمة (1) الواردة في تعارض بينة الداخل والخارج وغيرها من روايات أخر مشتملة على جواز الشهادة بموجب الاستصحاب.

وجه رواية منصور على ذلك : ان بينة المدعي في تلك الرواية كانت شاهدة بأن الدابة أنتجها المدعي ولم يهب ولم يبع. ومن الواضح أن المقصود بالهبة والبيع مطلق أسباب النقل ، والشهادة على عدم النقل لا تكون الا تعويلا على استصحاب عدم الناقل.

ونحوها في الدلالة رواية معاوية بن وهب قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الرجل يكون في داره ثمَّ يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله ثمَّ يأتينا هلاكه ونحن لا ندري

ص: 260


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 14.

ما أحدث في داره ولا ندري ما أحدث له من الولد إلا أنا لا نعلم أنه أحدث في داره شيئا ولا حدث له ولد ولا تقسم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أن هذه الدار دار فلان لفلان بن فلان مات وتركها ميراثا بين فلان وفلان أو نشهد على هذا. قال : نعم. قلت : الرجل يكون له العبد والأمة فيقول أبق عبدي أو أبقت أمتي فيؤخذ في البلد فيكلفه القاضي البينة ان هذا غلام فلان لم يبعه ولم يهبه أنشهد على هذا إذا كلفناه ونحن لم نعلم أنه أحدث شيئا. فقال عليه السلام : كلما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد به (1).

دلت بصدرها وذيلها على جواز الشهادة بالملك مع احتمال حدوث الناقل وذيلها - وهو قوله « لم تشهد » - أظهر ، لأنه وقع موقع الاستفهام الإنكاري ، فيجري مجرى قوله عليه السلام في رواية حفص « ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق ».

والعجب أنه يحتمل بعض معارضة ذيلها لصدرها ، بحسبان أن قوله « لم تشهد » نفي بمنزلة النهي ، وهو مع وضوح فساده بل غلطيته بحسب العبارة ، لعدم وجه للتعبير عن لا نشهد بلم تشهد. مدفوع بملاحظة تعليق الحكم على المرء المسلم أو اضافة الغلام اليه ، فإنهما يأبيان عن النهي عن الشهادة ، كما لا يخفى على من له أدنى دراية بمعاني الكلام.

وربما يدل على المدعى أيضا ما ورد في تنازع أقرباء المرأة مع أبيها بعد موتها في الأشياء التي جاءت بها من بيت أبيها من تقديم قول الأب (2) ، حيث

ص: 261


1- الوسائل ج 18 ب 17 من أبواب الشهادات ح 2.
2- الوسائل ج 17 ب 8 من أبواب ميراث الأزواج ح 1.

أنها صريحة في الأخذ بالحالة السابقة مع احتمال انتقال الأشياء إليها هبة ونحوها وكون المرأة ذات يد عليها.

فان قلت : إذا جازت الشهادة بمقتضى الاستصحاب لغي اليد في مقابله ، ولازمه عدم ترتب آثار الملك في صورة غير المعارضة والمنازعة أيضا.

قلت : هذه الصورة يعلم حكمها بالسيرة الجارية بين المسلمين ، فتكون هي المقصود والمراد في أخبار اليد ، ففي غيرها لا بد من العمل بموجب الاستصحاب.

[ اليد المجردة عن التصرف والادعاء مقابل الاستصحاب ]

ومن هنا ربما يشكل فيما ذكرنا آنفا من عدم العبرة باليد المجردة عن التصرف والادعاء في مقابل الاستصحاب ، لأن قضية ما استثناه من الصورة بحكم السيرة أن يقال : ان نزاع المنازع شرط في حجية الاستصحاب ، فلو نازع أحد مع ذي اليد كان الاستصحاب حجة عليه ، لتعارض دعواه مع دعوى المدعي فيمحض المعارضة بين مجرد اليد والاستصحاب ، فيقدم الاستصحاب ، للإجماع ظاهرا على جواز العمل بالاستصحاب في مقابل اليد ، وجواز الشهادة بموجبة في صورة وجود المنازع ، وان لم ينازع أحد لم يجز العمل بالاستصحاب بل يجب الحكم بالملك لأجل اليد.

وهو من غرائب الكلام ، لان النزاع غاية تأثيره معارضة دعوى ذي اليد مع دعوى خصم المنازع وملخص المعارضة بين

مجرد اليد والاستصحاب ، وهذا موجود أيضا في صورة عدم ادعاء ذي اليد بشي ء من وجوه الادعاء ، فلا معنى لتقديم الاستصحاب على اليد مع المنازع وعدمه بدونه مع عدم الادعاء.

الا أن يقال : ان دعوى المنازع كما يبطل أثر ادعائه كذلك يبطل أثر يده ،

ص: 262

فيكون الاستصحاب سليما ، ففي صورة عدم المنازع يتمحض المعارضة بين صرف اليد والاستصحاب ، فيمكن القول حينئذ بتقديم جانب اليد وعدم الاعتداد بالاستصحاب.

وفي كلام العلامة في محكي المختلف بعض الإشارة الى هذا المقام كما سننقل إنشاء اللّه تعالى.

ومن جميع ما ذكرنا في صورة إقرار ذي اليد للمدعي ظهر حكم صورة عدم الإقرار ، فان المدعي اما أن يقيم البينة على الملك الفعلي ولو بالتعويل على الاستصحاب ، بأن يقول « انه كان ملكه أمس مثلا ولا أعلم له مزيلا » وأما أن لا يقيم ، فإن أقام البينة انتزعت العين من ذي اليد ولا يلتفت الى يده لتقدم الاستصحاب عليه كما عرفت في صورة المنازع.

وان لم يقم فان كان الحاكم عالما بأنها كانت ملكا للمدعي سابقا ففي قضائه حينئذ بعلمه اشكال : من تقدم الاستصحاب على اليد كما عرفت ، ومن أن الملك السابق ليس أمرا ملزما على المدعى عليه كما سبق في مسألة تعارض التقديم والأقدم ، فلا وجه لقضائه عليه بعد أن لم يكن علمه متعلقا بأمر ملزم الا بعد الاستصحاب الذي ليس من موازين القضاء كما سبق.

ولعل الثاني أظهر ، بناء على ما مر من أن الثابت عند الحاكم لا بد أن يكون ملزما بنفسه على المدعى عليه من غير ضميمة استصحاب الحاكم ولو في الزمن السابق ، فعلمه بما ليس بملزم الا به ليس علما بالميزان.

نعم قد يقال : انه ينبغي أن يطالب البينة من ذي اليد ، لعدم العبرة بيده في مقابل الاستصحاب وان لم يصلح الاستصحاب ميزانا للقضاء ، فإن إبطاله أثر اليد لا مانع منه ولا بعد بالتزامه.

الا أن يقال : بأن استصحاب الحاكم غير مؤثر مطلقا لا في القضاء ولا في

ص: 263

انقلاب المنكر مدعيا ، لان الانقلاب بالأخرة يرجع الى القضاء بالاستصحاب ولو في بعض الأحوال ، وهو صورة عدم إقامة ذي اليد البينة.

بقي شي ء ، وهو أن سائر الأحكام العملية غير القضاء هل يترتب على اليد في حال المنازعة أو يقدم الاستصحاب عليها في مقام العمل أيضا ، والظاهر الأخير لما مر.

تلخيص ( فيه توضيح لما ابسطنا )

وهو أن اليد اما أن لا تكون معارضة باستصحاب ملك أحد معين أو غير معين ، أو يكون :

فعلى الأول تكون دليلا على الملك مطلقا ، فيترتب عليها جميع أحكام الملك حتى الشهادة عند القائلين بجواز الشهادة بالملك لأجل اليد ، من غير فرق بين صورة تصرف ذي اليد أو ادعائه للملكية وعدمها ، ولا بين وجود المنازع وعدمه لكونهما دليلا على الملك في مقابل أصالة عدم مالكية صاحبها.

وعلى الثاني فاما أن لا ينازعه أحد أو ينازع : وعلى الأول يقدم اليد على الاستصحاب في جميع الاحكام مع التصرف أو الادعاء وبدونها على اشكال سبق. وعلى الثاني فاما أن يكون ذو اليد منكرا - بأن يكون المنازع غير من علم بكون العين ملكه سابقا - أو يكون مدعيا : وعلى الأول يقدم اليد على الاستصحاب أيضا في جميع الاحكام حتى في أحكام القضاء سواء كان ذلك الغير معلوما أو مجهولا. وعلى الثاني فاما أن يكون ذو اليد مقرا بملكه سابقا أم لا :

وعلى الأول لا عبرة باليد مطلقا ، وعلى الثاني فإن أقام المدعي بينة على الملك

ص: 264

السابق فكذلك ، والا ففي قضاء الحاكم بعلمه بالملك السابق اشكال عرفته. واللّه العالم بحقائق الأحكام.

[ الشهادة على الملك باستناد العلم السابق ]

ولنختم الكلام بذكر مسألة ذكرها في محكي المختلف فان فيها بعض التأييد لما فصلنا ، قال قدس سره : مسألة قال أبو الصلاح : وإذا كان الشاهد عالما بتملك غيره دارا أو أيضا أو غير ذلك ثمَّ رأى غيره متصرفا فيها من غير منازعة من الأول ولا علم بإذن ولا مقتضى لإباحة التصرف من إجارة أو غير ذلك لم يجز له أن يشهد بملكها لواحد منهما حتى يعلم ما يقتضي ذلك في المستقبل.

وليس بجيد ، لان العلم السابق يستصحب حكمه الى أن يثبت المزيل ، والتصرف مع السكوت لا يدل على الخروج عن الملكية ، بخلاف ما لو شاهد غيره متصرفا بغير منازع ولم يعرف سبق الملك لأحد عليه ، فان جماعة من أصحابنا جوزوا له أن يشهد بالملك المطلق ، أما مع سبق العلم بالملك المعين فلا.

قال : وإذا غاب العبد أو الأمة عن مالكه لم يجز له أن يشهد ما كان يعلمه من تملكه لهما ، الا أن يعلم غيبته لا باق أو اذن المالك.

وليس بجيد كالأول. نعم ان اعترضه شك في بقاء الملك لم يجز له أن يشهد بأنه الان ملكه بل انه كان ملكه في الزمان الماضي وكان مقصوده ذلك ، وحينئذ يصح ما قاله «رحمه اللّه» - انتهى كلامه وسع اللّه مقامه.

ولقد أجاد بإفادته حقائق :

( منها ) خروج اليد المعارضة باستصحاب ملك أحد معين عن مورد جواز الشهادة بالملك لأجلها. ومن الواضح خروجها حينئذ عن جميع الاحكام المترتب

ص: 265

على اليد من الشراء وغيره ، لثبوت الملازمة بينهما بحكم رواية حفص (1) ، حيث استدل فيها الامام عليه السلام بجواز الشراء على جواز الشهادة ، فصارت الملازمة بين الشهادة والشراء وغير هما من الأحكام أصلا حتى يثبت التفكيك من الخارج كما ثبت في البينة ، فإن الشراء وغيره من آثار الملك المترتب عليها قولا واحدا ، بخلاف الشهادة كذلك أو على المشهور.

( ومنها ) الفرق في دلالة اليد على الملك بين ادعاء ذي اليد وعدمه وبين وجود المنازع وعدمه وبين معارضته بالاستصحاب وعدمه ، وهي الأمور التي فصلنا الكلام فيها.

( ومنها ) جواز الشهادة بموجب الاستصحاب ان لم يعرض له شك في البقاء ، أعني التزلزل والتحير الذي لا يكون الا مع قيام أمارة عرفية أو شرعية على خلاف الحالة السابقة وعدم الجواز مع عروض الشك. وليس المراد مطلق الشك ، بل التحرير الذي ليس بناء العرف على الإغماض عنه بمجرد صرف الحالة السابقة ، كما هو الظاهر بعد تأمل ما في كلامه.

قال في الوسائل بعد ذكر أخبار اليد ورواية حفص وغيرها ما هذا لفظه : ولا ينافي هذا ما يأتي في باب الشهادات من جواز الشهادة بالاستصحاب ، لان المفروض هناك عدم دعوى التصرف الملكية ، على أنه لا منافاة بين جواز الشهادة وبين عدم قبولها لمعارضة ما هو أقوى منها ولا بين جوازها وعدم وجوب القضاء قبلها - انتهى كلامه رفع مقامه (2).

وفي كلامه نظرات لا تخفى على المتأمل ، وان كان في اشتراط دعوى المتصرف في دلالة اليد بعض التأييد لما قلنا. واللّه العالم.

ص: 266


1- الوسائل ج 18 ب 25 من أبواب كيفية الحكم ح 2.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 15.

القول في التداعي في العقود

التقاط [ التنازع في العقد المتسالم على وقوعه ]

قد سبق في التداعي في الأملاك أن الأصل في القضاء أن يكون أولا بالبينة ومع تعذرها - بأن يكون نسبتها الى كل من المتداعيين بالسوية - فالقرعة مع اليمين ، ومع تعذرها - بأن نكل الأخر عن اليمين بعد رد من خرجت باسمه عنها - فالتنصيف ، ومع تعذره - بأن لا يكون قابلا له كالزوجية - فبالقرعة المجردة على أحد الاحتمالات كما مر.

إذا عرفت هذا فاعرف أنه إذا تنازعا في العقد المتسالم على وقوعه ، فهذا يتصور على وجهين :

( أحدهما ) أن يكون المقصود من النزاع في العقد عوضا أو معوضا صرف التوصل إلى النتيجة ، أعني المسبب ، كما إذا قال المالك « آجرتك بدرهمين » وقال المستأجر « بل بدرهم ».

( الثاني ) أن يكون الغرض سوى النتيجة ، بأن يكون الغرض حكما وضعيا

ص: 267

ثابتا للعقد ، كأن يقول المستأجر « أجرتني بدرهمين » ويقول المالك « بل بدرهم » ، وذلك في مواضع : مثل أن يكون مقصود المستأجر إثبات الغبن فيفسخ المعاملة ، ومثل أن يكون النزاع بعد الفسخ مع تسليم العوض فتأمل ، ومثل أن يقول المشتري « اشتريت بألف » ويقول الشفيع « بل بمائة ».

وبالجملة سواء كان مدعي الزيادة هو المالك أو المستأجر أو البائع أو المشتري أو الأجنبي كالشفيع ، فان الغرض من هذه الدعوى في هذه الصور ونظائرها ليس المال واشتغال الذمة وعدمه ، بل الغرض حكم وضعي غير ثابت لنفس العقد.

فان كان الغرض هو الاشتغال فلا ريب ، كما أشرنا اليه أن ذكر العقد حينئذ مجرد توطئة لا يكون منشئا لملاحظة التداعي في نفسه ، بل لا بد حينئذ من النظر في الاشتغال وتقديم قول كل من يوافق قوله الأصل أو تقديم بينته.

وعن الشيخ القول بالتحالف. ولا وجه له كما تقدم ، لان ذكر العقد في هذا الفرض توطئة لدعوى اشتغال الزائد ، فلا بد من ملاحظة الدعويين في النتيجة لا في العقد حتى يكون كل منهما مدعيا فيجري فيه التحالف.

وان كان الثاني - وهو أن يكون للعقد جهة موضوعية بأن يكون الغرض ثابتا في نفس العقد كما في الصور المفروضة - فهاهنا يحكم بالتداعي والتحالف مع عدم البينة وبتعارض البينتين مع التساوي والقرعة.

لكن المحكي عن الحلي والأكثر تقديم قول المستأجر مع عدم البينة وترجيح بينة المؤجر مطلقا لكونه من باب المدعي والمنكر. وهو جيد في القسم الأول لا في هذا القسم الذي فرضنا تعلق الغرض فيه بنفس العقد.

ويمكن تنزيل إطلاق كلامهم على الغالب ، إذ الغالب في التداعي في الإجارة بعد التسالم على المنفعة في المدة المعينة كون المالك مدعيا لزيادة الأجرة ،

ص: 268

فيكون مدعيا حينئذ لكونه من القسم الأول ، فيتجه تقديم بينة وكذا تقديم قول المستأجر مع عدم البينة.

[ الفرق بين المقام وما سبق من حكم المتداعيين ]

هذا ، واعلم أن التداعي في الاملاك مقتضى القاعدة فيها بعد تعارض البينتين القرعة دون التحالف كما أشرنا إليه هنا وأوضحناه فيما سبق ، ومقتضى القاعدة في المقام خلافه ، أعني التحالف.

والفرق هو أن كلا من المتداعيين فيما نحن فيه مدعي لشي ء وهو العقد المعين ومنكر لشي ء آخر وهو العقد الذي يدعيه صاحبه. ففي كل منهما جهة ادعاء وجهة إنكار ، ووظيفتهما باعتبار جهة الادعاء البينة وباعتبار جهة الإنكار الحلف ، فاذا تعذر القضاء بوظيفة الجهة الأولى لفقد البينة منهما أو لتعارض البينتين تعين القضاء بمقتضى الجهة الثانية ، وهو الحلف.

ولذا حكموا بالتحالف هنا عند عدم البينة ولم يحكموا به في التداعي في الاملاك بل بالقرعة أو التنصيف كما مر ، لعدم كون كل من المتداعيين هناك منكرا من جهة أخرى غير جهة الادعاء. لكن مع ذلك ترى الكل أو الجل هنا حاكمين بالقرعة بعد التعارض والتساوي ، ولعل الوجه في ذلك هو النظر إلى إطلاق ما دل على القرعة في تعارض البينتين أو عمومه الشامل للتداعي في الاملاك والعقود.

ومثل الأول ما لو رجعت الزيادة والنقيصة إلى اللفظ ، كما لو قال المؤجر بعشرة وقال المستأجر بل بخمسة عشر ، فان القول قول المالك ، لأصالة عدم ذكر الخمسة.

ومثل الثاني ما لو كان الاختلاف في الفرض بين المتباينين ، كما لو قال

ص: 269

أحدهما « آجرتني بثوب » وقال الأخر « بل بعبد » ، فان الحكم فيه هو احكام التداعي ، فان لم يكن لأحدهما بينة تحالفا ، فان حلفا حكم بالتفاسخ ظاهرا.

ويشكل الأول بأنه يؤدي الى حبس كل منهما حق الأخر مقاصة ، مع أنه وردت أن اليمين تذهب بما فيه ، وقد تقدم رفع الإشكال في يمين المنكر ، فارجع وتأمل. ويشكل الثاني بأن الحلف ليس الا ميزانا للقضاء ، والتفاسخ يحتاج الى سبب جديد للنقل.

وقد يوجه - بعد ظهور الاتفاق الا عن الشيخ في محكي الخلاف حيث قال فيه أيضا بالقرعة نظير صورة تعارض البينتين - بأن حلف كل منهما على نفي استحقاق الأخر يوجب سقوط حقه أبدا ظاهرا ، لان يمين المنكر تذهب بما فيه مطلقا ، وهو معنى الانفساخ ، لان المالك إذا حلف على عدم الإجارة بعشرين مثلا سقط حق المستأجر عن العين المستأجرة ظاهرا بيمينه وكذا العكس ، فيترتب عليه إبقاء كل من العوضين في يد مالكه وهو الفسخ.

وان نكلا فهل يحكم أيضا بالتفاسخ؟ لم ينصوا على شي ء في المقام. والظاهر نعم كما عن الدروس لعين ما قلنا في صورة التحالف ، لان نكول كل منهما يوجب سقوط حق الناكل. ومرجعه الى التفاسخ ، لأنه إذا سقط حق المؤجر عن الأجرة بنكوله وسقط حق المستأجر عن المنفعة بنكوله لزم من النكولين إقرار المنفعة في يد المالك وإقرار الأجرة في يد الأجير.

وفيه : ان سقوط الحق بالنكول هذا لا بد أن يراعى الى زمان قيام البينة ، لنكول المدعي عن اليمين المردودة على ما بينا سابقا ، نظرا الى كون النكول هنا أيضا نكولا عن يمين المدعي المردودة من المنكر ، لأنه إذا نكل كل منهما عن يمينه التي هي يمين المنكر ، فلا بد من الرد إلى الأخر ، فنكول الأخر عن اليمين لا بد نكول عن اليمين المردودة وكذا الأول.

ص: 270

نعم لو قلنا بأن النكول عن اليمين المردودة كيمين المنكر في إسقاط الحق أبدا وانه لا يسمع البينة بعده ، كما استدللنا بظاهر قوله عليه السلام « وان نكل - أي المدعي - فلا حق له » وبينا وجه دلالته في اليمين المردودة ، اتجه كون نكولهما في المسألة بمنزلة حلفهما في الإسقاط الأبدي ، ويتفرع عليه التفاسخ الظاهري.

وان أقام أحدهما البينة دون الأخر ففي المسالك قضى له ، وهو واضح.

وفيه اشكال سبق في مسألة أن بينة المنكر إذا سمعت بينته كما إذا كان إنكاره ملزوما أو لازما لجهة إثبات أمكن إقامة البينة عليه فهل تغني بينته عن حلفه.

وجه الاشكال : انه على تقدير عدم الإغناء كما هو القوي بل الأقوى كما تقدم لزم الحكم هنا بالحلف مع البينة ، لأنه منكر لما يدعي عليه صاحبه وان كان مدعيا عليه شي ء آخر واقامة البينة على دعواه وان كان تحققه لإنكاره لكن الحلف حق للمدعي فلا يسقط بثبوت حق لخصمه عليه.

ثمَّ ان إطلاق كلامه لا بد أن ينزل أيضا على ما إذا كان التداعي في العقد راجعا الى الاختلاف في أحد العوضين بأن يكون صدور عقد واحد معين مشخص مفروغا عنه فيما بينهما وكان نزاعهما في العوض أو المعوض كالأمثلة المتقدمة.

وأما إذا كان راجعا الى الاختلاف في العقدين مع احتمال تحقق كل منهما في نفس الأمر ، فأقامه أحدهما البينة على دعواه لا يوجب سقوط دعوى الأخر ، بل يجب القيام بوظائف تلك الدعوى من الحلف وغيره ، كما إذا اختلفا فقال البائع « بعتك دارا بدينار » وقال الأخر « بل فرسا بدرهم » فان قيام أحدهما البينة لا يوجب طي دعوى الأخر كما لا يخفى.

الا أن كون ذلك من التداعي في العقد لا يخلو عن شي ء ، لأن الاختلاف

ص: 271

هنا ينحل الى دعويين مستقلتين ، وان أقام كل منهما البينة فقد عرفت أن قضية القاعدة التحالف عكس التداعي في الاملاك.

لكن أدلة القرعة في تعارض البينتين مطلقة ، فلا بد من الإقراع ، وعليه الكل أو الجل. ومن خرجت باسمه حلف وقضي له ، وان نكل وحلف الأخر قضي له ، وان نكلا فقد يقال ان الحكم هنا أيضا التفاسخ بالبيان المشار اليه.

[ الفرق بين النكول نصا والنكول في دعوى الاملاك ]

ومن ذلك البيان يظهر أيضا وجه الفرق بين نكولهما نصا وبين نكولهما في دعوى الاملاك كالعين ، لان نكول كل منهما يوجب تعطيل العين ان لم يثبت كون التنصيف من وجوه القضاء بعد تعذر الجمع. بخلاف نكولهما في التداعي في العقد ، فإن قضية النكول سقوط حق الناكل ، ويترتب عليه بقاء كل من العوضين في يد مالكه.

وهل التفاسخ هنا أيضا مراعى أم لا؟ والظاهر العدم ، لان الفرق قيام كل منهما بينته وتساقطهما ، فلا شي ء بعدها حتى ينتظر ، فالتفاسخ حينئذ ثابت مطلقا الا أن يبنى على ترجيح البينة بالأكثرية ونحوها مما يتوقع حصوله في المستقبل فان المراعاة حينئذ لها وجه.

والأظهر أن نكولهما هنا لا يوجب الانفساخ ، وقياسه بنكولكهما في صورة التحالف - أعني صورة عدم البينة - باطل ، لان النكول هناك نكول عن اليمين المردودة عن المنكر كما بينا ، وقد عرفت الكلام فيه. بخلاف النكول هنا ، فإنه نكول عن اليمين التي هي بمنزلة جزء البينة ، لأن يمين من خرجت باسمه القرعة ليست يمين منكر ، لأن إنكاره إما من جهة كونه منكر الدعوى الأخر فهو حق ولكنه غير ملحوظ في صورة تعارض البينتين بحكم أخبار القرعة وان كان على

ص: 272

خلاف القاعدة كما عرفت ، وان كان من جهة كون من خرجت باسمه منكرا باعتبار كون القرعة لتعيين المنكر وتميزه عن المدعي كما سبق الى بعض الأوهام - وفاقا للمحكي عن الشيخ - فقد عرفت فساده في دعاوي الاملاك في مسألة تعارض البينتين ، فليست اليمين هنا الا كيمين جزء البينة في كونها يمينا ثابتا للمدعي دون المنكر ، فاذا لم تكن هذه هي اليمين المردودة فلا توجب نكولها سقوط الحق ولو مراعى وانما غايته سقوط الدعوى.

نعم لو ثبت أن النكول عن كل يمين بمنزلته بالنسبة إلى الحق لا الى الدعوى فكما أن يمين من خرجت باسمه مثبتة لحقه فكذلك نكوله يكون مسقطا للحق لا للدعوى خاصة ، كان الحكم بالفسخ بعد نكولهما في المقام وجيها ، لان سقوط حق كل منهما في معنى الفسخ كما قررنا ، ولكنه غير ثابت. غاية الأمر كون النكول عن يمين المنكر كذلك وهو لا يوجب القول به في كل نكول.

وحيث أنه لا وجه لسقوط الدعويين أبدا في المقام بل في جميع المقامات لاستلزامه تعطيل الحق المنافي للحكمة الباعثة على تشريع القضاء ، ولا ينافي ذلك التوقيف في بعض الموارد الذي حصل فيه من عجز الخصمين عن القيام بالميزان مع كونه مجعولا من قبل الشارع كايقاف دعوى المدعي على اللص مثلا إذا لم يكن له بينة كما أوضحناه في مسألة القضاء بالتنصيف في التداعي في الاملاك اتجه الحكم هنا أيضا بالتنصيف لعين أدلة القضاء به في الاملاك.

فإن قلت : التبعيض في العقد غير جائز.

قلنا : نفس العقد من حيث هو مع قطع النظر عما يترتب عليه من الاحكام لا يصلح أن يكون مصبا للدعوى ، فمصب الدعوى هو الفرض المقصود ، والتنصيف في الفرض أمر ممكن حتى فيما إذا اختلفا في أحد العوضين على

ص: 273

وجه التباين ، بأن يقول البائع « بعتك بعبد » وقال المشتري « بل بأمه » فإنه ينصف كل من العبد والأمة بينهما نصفين.

ولا ينافي ذلك العلم الإجمالي بخلافه ، لأنه لازم في موارد القضاء بالتنصيف مطلقا ، سواء كان في التداعي في الاملاك أو العقود. وقد وجهنا في تلك المسألة القضاء بالتنصيف مع كونه معلوم بطلانه إجمالا أو قلنا أنه مخالفة للعلم من حيث العمل لأمن حيث القضاء ، فان القضاء به قضاء بما لا يستطيع أحد المتخاصمين رده وعدم الرضا به إلا على وجه يحتج على فساده بالبينة التي هي من موازين القضاء ، فصار القضاء به من أطراف القضاء بالبينة وآثارها وفوائدها. فارجع وتأمل.

نعم لو كان التداعي في نفس العقد على وجه لا يعقل معه التنصيف ففيه القرعة المجردة ، لأن الحلف مع القرعة في مثله لغو كما ذكرنا سابقا ، لان الحلف الذي لا يترتب على نكوله ثمرة يكون طلبه لغوا.

اللّهم الا أن يجوز إيقاف الدعاوي عند فقد الميزانين أعني الحلف والبينة وجعل الإيقاف من الثمرات ، فحينئذ يجب طلب الحلف أيضا رجاء لنكول من خرجت باسمه ، فيتوقف الدعوى.

واما على ما قوينا من عدم معنى للتوقيف فالوجه هو الاكتفاء بالقرعة ، ولا ينافي هذا ذكر الحلف في اخبار القرعة ، فإنه منزل على ما إذا كان الحلف له فائدة بأن يترتب على نكوله فائدة ولو إيقاف الدعوى ، فاذا لم يترتب الفائدة على النكول لغي الإحلاف.

لكن الإيقاف ليس من الفوائد ، لعدم جوازه عقلا بملاحظة الحكمة ، مضافا الى دلالة الروايات على كون التنصيف أيضا من طرق القضاء ، ولا مورد له الا في المقام ونظائره مما ليس فيه القضاء بالحلف والبينة والقرعة ممكنا.

ص: 274

نعم يحتمل أن يقال بالقرعة المجردة ثانيا ، أي بعد القرعة الاولى والإحلاف ونكولهما لكن القول به مشكل بعد عدم بعد مصرح به من الأصحاب ، وكون عمومات القرعة لكل أمر مشكل من العمومات التي لا يعمل بها الا بعد فتوى جملة الأصحاب بمقتضاها.

وحيث ان ظاهر الأصحاب في المسألة - أعني التداعي في العقود بعد تعارض البينتين - عدم الاكتفاء بالقرعة الأولى مجردة عن اليمين ، انحصر الأمر بين التنصيف أو جعل النكول هنا كالنكول في صورة التحالف في كونه سببا للفسخ ، فأيهما يبطل بإجماع ونحوه يتعين الأخر. فلو ادعى أن التنصيف في الاختلاف في الثمن على وجه التباين أو المثمن مخالف للإجماع قلنا حينئذ بالتفاسخ لا بالقرعة المجردة.

والحاصل ان الاحتمالات في المسألة - أعني ما إذا أقرع وأحلف من خرجت باسمه ونكل ورد إلى الأخر مشكل أيضا - أربعة : أحدها الإقراع ثانيا من غير يمين ، والثاني إيقاف الدعوى وهما باطلان ظاهرا بالإجماع ، والثالث التنصيف مع الإمكان ، والرابع الانفساخ.

ومقتضى القاعدة هو الأول للعقل والنقل كما عرفت ، فان كان مخالفا للإجماع تعين الرابع ، فيجعل الإجماع على بطلان الاولى كاشفا عن كون النكول عن كل يمين واجبة موجبة لسقوط الحق ، أو عن كون القرعة في تعارض البينتين لتميز المنكر عن المدعي حتى يكون يمين من خرجت باسمه يمين إنكار. واللّه العالم.

التقاط [ اختلاف الموجر والمستأجر في الأجرة أو مدة الإجارة ]

ذكر في الشرائع الاختلاف في زيادة الأجرة ونقصانها ، ونقل فيه قولين

ص: 275

وتردد فيهما : أحد هما الحكم بتقديم بينة المالك لكون القول قول المستأجر فيكون بينته بينة الخارج ، والثاني الحكم بتعارض البينتين لان كلا منهما يدعي عقدا يتبعه الأخر.

ثمَّ قال : ولو ادعى استيجار دار فقال الموجر « آجرتك بيتا منها » قال الشيخ يقرع بينهما ، وقيل القول قول الموجر ، والأول أشبه ، لأن كلا منهما مدع.

ولو أقام كل منهما بينة تحقق التعارض مع اتفاق التاريخ - انتهى كلامه طيب مقامه.

وهذه المسألة عكس مسألة الاختلاف في الأجرة قلة وكثرة ، وظاهر هذه العبارة أن قول الشيخ بالقرعة انما هو في صورة عدم البينة مع أنها مورد التحالف لا القرعة.

نعم للشيخ قول آخر في محكي الخلاف بالقرعة في مورد حكم الأصحاب فيه بالتحالف ، أعني صور فقد البينة. ولكن هذا القول من الشيخ مذكور في المبسوط لا في الخلاف ، ومذهبه في المبسوط مثل مذهب الأصحاب ، أعني التحالف عند عدم البينة في التداعي. والدليل عليه أن العلامة نقل هذا القول عن مبسوط الشيخ في محكي التحرير ، وعبارته المحكية وكذا عبارة التحرير كلاهما صريحتان في أن مورد كلام الشيخ في مسألة الاختلاف في الدار أو البيت صورة عدم البينة ، ففي عبارة الشرائع نوع مؤاخذة.

وكيف كان فالأظهر في المسألة ما ذكره صاحب المسالك من أن النزاع هنا يرجع الى نزاع المدعي والمنكر لا إلى التداعي ، فقول القيل هو الأظهر ، لأن انتقال البيت متفق فيه وانما الشك في الزائد ، نظير الاختلاف في الأجرة.

لكن المحقق مع تردده في الاختلاف في الأجرة اختار في مسألة البيت قول الشيخ ، أعني تعارض البينتين الذي هو من خواص التداعي ، ولا يجري في المدعي والمنكر.

ص: 276

والفرق بينهما بعيد كما في المسالك ، مع أنهم في باب الإجارة لم يفرقوا بين الاختلاف في الأجرة أو في العين المستأجرة ، فحكموا بتقديم قول المستأجر مطلقا إذا رجع النزاع الى مقدار أحد العوضين.

وقد يوجه الفرق بأن الدار مركبة ، ونقل شي ء مركب نقل واحد متعلق بأمر واحد وان كان مستلزما لنقل الاجزاء تبعا ، الا أن النقل التبعي غير ملحوظ في إنشاء نقل المتبوع ، بخلاف الأجرة إذا كانت مرددة بين الأقل والأكثر كالمائة والألف فإن تمليكها ينحل الى تمليكات عديدة حيث تعدد الاجزاء ، فالاختلاف في الأجرة مع ثبوت القدر المتيقن يرجع الى التداعي مطلقا. وفيه تأمل.

ثمَّ على تقدير كونه من التداعي والحكم بالقرعة والقضاء بالتنصيف بالنكول كما مر ، فالبيت ان اتفقا على إجارته كما في كشف اللثام وهو في إجارة الى أن تمضي المدة ويقتسمان الباقي نصفين ويسقط من الأجرة بحسبها.

قال بعض مشايخنا قدس سره : وفيه ان المتجه في الأول ثبوت تمام الأجرة مع أجرة ما فيه النزاع ، مثلا إذا كان الدار لها بيتان كان للمستأجر بيت ونصف بإزاء سبعة ونصف على الأول وبإزاء مجموع العشرة على الثاني.

وهو الحق ، لأن نظر الفاضل إلى قاعدة انفساخ العقد والمعاوضة بالنسبة الى نصف ما عدا البيت ، وعليه فلا بد من جعل قسط من العوض في مقابل ما عاد الى ملك الموجر.

وليس في محله ، فان تنصيف الباقي هنا انما هو لأجل العمل بالبينتين في نصف مؤداهما ، ومقتضاه العمل ببينة المؤجر في نصف البيت ، بأن يجعل نصف الدار - وهو البيت - في مقابل نصف الأجرة وهو الخمسة ، ويرجع حاصله إلى إعطاء بيت ونصف بإزاء العشرة.

ولك أن تقول : انه يجمع العوضان - وهو عشرون - ويجمع العوضان -

ص: 277

وهو الدار وبيتا وهو نصفه في المثال المفروض - ويقسمان ، ويرجع الحاصل الى أن المستأجر يأخذ نصف العوضين وهو نصف الدار ونصف البيت الذي هو ربع الدار بإزاء نصف الأجرتين وهو العشرة.

ولك أن تقول : ان المتفق عليه يبقى بحاله ، فالأجرة والبيت يبقيان بحالهما ويقسم المختلف فيه - وهو ما عدا البيت من الدار - وقد يختلفان في الزمان مع الاتفاق في الأجرة والعين ، فيدعي المستأجر شهرين والموجر شهراً. ويعرف حكمه مما ذكر ، فيأخذ العين المستأجرة في شهر ونصف شهر بإزاء تمام الأجرة لما مر.

[ حكم ما لو كان البينتان مؤرختين ]

هذا كله إذا كان البينتان متفقتين في التاريخ أو مطلقتين ، فان كانتا مؤرختين بطل الثاني لعدم تعلقه بحمل قابل للأثر. ثمَّ ان كان المقدم بينة الدار فلا اشكال وان كان بينة البيت بطل الثاني بالنسبة الى البيت لا مطلقا ، فيصح العقد في الباقي ويسقط من الأجرة بالنسبة. ففي المثال المذكور - أعني البيت المشتمل على البيتين المتساويين - يثبت على المستأجر خمسة عشرة بإزاء مجموع الدار كما يظهر بالتأمل.

هذا إذا علم اتحاد العقد وفساد أحد العقدين ، ولو فرض إمكان اجتماعهما - كما إذا احتمل انتقال منفعة الدار بعد الإجارة السابقة إلى المالك لإقالة ونحوها - فعن الدروس انه يجمع بين الاجارتين ، لان الاستيجار يبطل ملك المستأجر فيما سبق ، وهو على تقدير حجته خارج عن مفروض كلام الأصحاب ، لأن الكلام في تعارض البينتين ، وهنا لا تعارض.

ص: 278

مع إمكان المناقشة فيما ذكره من العمل بالاستيجار الثاني جمعا : أما أولا فلان الأكثر في مسألة تعارض بينة القديم والأقدم يرجح الأقدم ، وأما ثانيا فلان مقتضى الجمع تقديم السابق أيضا وانه مثل ما لو تداعيا على عين وأقام أحدهما بينة على أنه اشتراها من الأخر أمس وأقام هو على أنه ملكه في الحال أو بعد الأمس.

وقد عرفت سابقا في تلك المسألة أن بينة الأقدم إذا كانت مسببة عن سبب ملزم أخذ بها ويطرح بينة القديم بالملك المطلق. فارجع وتأمل.

وهنا كل من أقام البينة على الإجارة السابقة فقد أقامها على الملك المسبب عن سبب ملزم ، فيؤخذ بها. الا أن يقال : ان بينة القديم هنا أيضا تشهد بالملك المسبب كالاقدم. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء مدعيين شراء دار معينة ]

لو ادعى اثنان شراء دار معينة في يد ثالث واقباض الثمن للبائع : فان لم يكن لأحدهما بينة أقرت في يد في اليد مع يمينه لهما ، وان صدق أحدهما دفعت اليه وحلف الاخران الإقرار بمنزلة التلف السماوي وإلا سقط الحلف لانفساخ العقد على تقدير ثبوته بالإقرار ، ولو قال « لا أدري لأيكما » تقارعا أو تحالفا على الوجهين المتقدمين في التداعي على العين ، ولو أقام كل واحد البينة أقرع بعد التساوي في التاريخ ، فان حلف من خرج اسمه أخذ العين وللآخر استرداد الثمن عملا ببينته من دون معارض ، لأن المعارضة انما كانت في المبيع لامتناع كونه لهما وأما إقباض كل منهما الثمن فأمر ممكن يثبت بالبينة.

وهل يفيد تصديق ذي اليد لأحدهما بأن يصير العين للمصدق أو يجعله

ص: 279

داخلا فيقدم بينته أو بينة الأخر الخارج. وفي الشرائع لا يقبل قول البائع لأحدهما. وهو كذلك لعدم الدليل على حجية قوله بعد معلومية عدم كونه مالكا بموجب البينتين.

وما قلنا من قبول قوله مع عدم البينة لا يستلزم القبول معها ، لأنه في حال كونه محكوما بمالكية ما في يده إقراره نافذ في حقه ، فاذا أقر لأحدهما نفذ وثبت الملك ، وأما بعد معلومية عدم كونه مالكا فلا دليل على حجية قوله.

ودعوى أن قول ذي اليد مسموع فيما في يده ولو لم يكن يده يد ملك.

مدفوعة بعدم الدليل على أن اخباره حجة على الغير ، وقبول قوله مع عدم البينة انما هو لأجل كونه إقرارا لا لأجل كون إخباره حجة.

ونقل عن الشيخ في المبسوط قبول قول البائع تنزيلا للبينتين المتعارضتين منزلة ما إذا شهدت بينة واحدة على أنها لأحدهما ولم يتعين.

وفيه : ان الفرق بينهما غير بعيد ، لأن البينة القائمة على أنها لأحدهما وجودها كعدمها لأنها ليست حجة معتبرة. بخلاف البينتين المتعارضتين ، فإنهما معتبرتان في أنفسهما. والتعارض انما يرجع على التعيين ، فهما حجتان متعارضتان متفقتان في عزل المالك عن العين وجعله أجنبيا عنها ، فلا أثر لقوله حينئذ.

بخلاف البينة المحتملة ، فإنها ليست حجة في شي ء فلا توجب عزل المالك وجعله أجنبيا حتى لا ينفذ اخباره.

نعم لو بنى على احتمال أبداه في الدروس من تساقط البينتين وعود المالك الى الحالة الاولى ، أعني حالة عدم قيام البينة حتى أنه يحلف حينئذ لهما مثل صورة عدم البينة أمكن حينئذ قبول قوله لهما.

ولكنه خلاف ظاهر الأصحاب ، فإنهم قائلون في تعارض البينتين بالقرعة كما تقدم.

ص: 280

[ الجمع بين رأيي العلامة الحلي ]

وما ذكرنا من عدم قبول قول البائع لأحدهما هو الذي صرح به العلامة هنا ، لكنه قال سابقا في المسألة الثالثة من مسائل بقايا الدعاوي أنه لو أقر الثالث فالوجه أنه كاليد ترجح البينة فيه. وهو بظاهره مناف لما ذكره هنا.

ويمكن الجمع بأن الترجيح غير قبول قوله ، بمعنى كون إقراره حجة وسببا لصيرورة المقر له بمنزلة ذي اليد.

وقوله « كاليد » متعلق بقوله « ترجح » قدم للتوطئة ، وجعله في كشف اللثام خبرا لان. وهو بعيد ، لأنه يعطي إشكالا في كون إقرار ذي اليد لأحد بمنزلة كون المقر له صاحبه مطلقا ، سواء كان للمتداعيين بينة أم لا ، حيث أن لفظ « الوجه » يشعر بالخلاف أو الإشكال.

مع أنه ليس كذلك ، لان كون إقرار ذي اليد بمنزلة اليد في الجملة ولو في حال عدم البينة ليس محلا للإشكال. وجعل المراد انه كاليد في مفروض الكلام - أعني تعارض البينتين - رجوع الى ما ذكرنا مع قصور في العبارة عن تأدية المراد. فافهم.

ولو نكل وحلف الأخر انعكس الأمر ، ولو نكلا اقتسماهما بناء على ما تقدم نصفين ولكل منهما استرداد نصف الثمن ، وله أيضا الفسخ لتبعيض المبيع عليه قبل قبضه كما في الشرائع.

وقوله « قبل قبضه » إشارة إلى كون ذلك الخيار خيار التلف قبل القبض.

وعليه فيسقط خيار من كان منهما معترفا بتسلم العين كما عن الكشف.

وربما يتوهم أنه خيار خروج بعض المبيع مستحقا للغير بل مغصوبا ، وهو يقتضي ثبوت خيار التلف الذي لا بد فيه من عدم الاعتراف بقبض. فما أورد

ص: 281

بعض مشايخنا على الفاضل من عدم الفرق بين دعوييهما قبض المبيع وعدمها بناء على كون الخيار هذا لأجل ظهور المبيع مستحقا للغير. ليس في محله.

ولعله نشأ من الخلط بين ما نحن فيه وبين ما لو ادعى على المشتري وأقام البينة على كون المبيع له ، فان بطلان البيع حينئذ لأجل ظهور المبيع مستحقا للغير مع إمكان القول فيه أيضا بعدم البطلان من أصله بل من حينه.

وعلى التقديرين فهو خارج عما نحن فيه ، إذ المفروض في المقام اعتقاد كل منهما كذب الأخر وكذب بينته ، فهو من باب لو غصب المبيع بعد القبض في عدم كونه سببا لا فلانفساخ العقد إجماعا. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء اثنين البيع مع تعيين المبيع والثمن ]

لو ادعى اثنان بيع شي ء معين من واحد بثمن معين عكس المسألة السابقة ، فحكم المسألة ما عرف في نظائره من الإقراع والإحلاف والتنصيف بعد نكولهما.

فلو اختلف تاريخ البينتين قضى بالثمنين كما في الشرائع لا مكان جمعهما ، بأن اشتراه من أحدهما ثمَّ باعه من الأخر فاشترى منه أيضا. وانما لم يؤثر في المسألة السابقة اختلاف التاريخ لان الشراء لا يجوز أن يكون لملك نفسه بخلاف البيع فإنه يجوز أن يكون لملك غيره - كذا قيل.

ومراده أن الإنسان لا يعقل أن يشتري مال نفسه ، فاذا ثبت تعدد الشراء بموجب البينتين لإمكان الجمع كما عرفت أشتغل ذمة المشتري بالثمنين لغيره. فعليه إيصال كل ثمن الى صاحبه ، بخلاف البيع فإنه لما كان في ملك الغير ممكنا فمجرد تعدد البيع لا يثبت استحقاق المتأخر للمبيع لإمكان كونه فضوليا عن المشتري الأول الذي ينكر بيع الثاني ويرده على تقدير وقوعه له أيضا فضولة.

ص: 282

وأورد عليه بعض مشايخنا قدس سره أن احتمال كون الشراء لمال نفسه فضوليا أيضا ممكن.

قلت : وجه الإمكان أن زيدا مثلا يشتري دارا من عمرو ثمَّ يوكل شخصا عن نفسه في البيع ويشتري هو عن قبل بكر فضولة. وهو جيد ، لكن الشراء الفضولي مع إنكار المالك البائع لا يوجب على المشتري ثمنا ، لأن الإنكار رد للعقد الفضولي. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء رقية الصغير المجهول النسب ]

الصغير المجهول النسب إذا كان في يد أحد وادعى رقيته قضي بذلك ظاهرا كما في الشرائع وغيره ، بل الظاهر باعتراف بعض أهل الخبرة عدم الخلاف في هذا المقام.

نعم نقل عن بيع التذكرة القول بعدم الحكم ، ولعله غير مختص به في غير المقام.

نعم في كون القضاء مراعى الى البلوغ أو منجزا خلاف ، كالخلاف في قبول دعوى الرقية مع اليمين كما عن الشيخ والتذكرة أو بدونها كما هو ظاهر الأكثر من المحقق وغيره.

ولعل اليمين هنا استظهار لجانب الصغير شبه اليمين الاستظهاري ، والتقييد بمجهول النسب ليس لأجل عدم تصور الشك في معلوم النسب ، بل لأجل أن النسب إذا كان معلوما فربما تقع المرافعة بين المدعي والمنسوب اليه ، فيخرج عن موضوع هذه المسألة - أعني القضاء فيما لا تعارض لذي اليد استنادا الى يده أو الى دعواه.

ص: 283

وقد ناقش في قبول قوله بعض مشايخنا قدس سره لرواية حمران الواردة في تنازع رجل وامرأة على جارية يدعي الرجل أنها أمته وتدعي المرأة أنها بيته (1). وفيها : وان لم يقم الرجل البينة على ما ادعى ولم تقم البينة على ما ادعت خلي سبيل الجارية. ولان اليد انما تدل على الملكية بعد إحراز قابلية المحل لا مطلقا.

وربما يؤيده أن أحدا لا يحكم بملكية ولد يكون مع الرجل له من دون دعوى الرقية ، فبقي اعتبار قوله لأجل الدعوى بلا معارض.

وهو أيضا مشكل ، لأنه على ذلك ينبغي أن لا يفرق بين الصغير والكبير ، مع أن دعوى رقية الكبير الظاهر أنهم لا يقولون به هنا والا لغي التقييد بالصغير.

نعم عن غاية المراد التسوية بينه وبين الصغير ، بل قيل ان ذلك قضية كلام الأصحاب ، وصرح به المحقق في غير المقام ، بل في بيع القواعد أنه لا يسمع دعوى عبد يباع في الأسواق.

والذي يقتضيه التأمل هو عدم الاعتداد بمجرد اليد هنا ، لان اليد العارية عن التصرف لا تدل على الملك بل على تعيين المالك بعد إحراز كون ما هي عليه مالا ، ولذا يحكم بملكية اللقيط لثياب بدنه ونحوه.

بل الظاهر أن موضوع اليد مع عدم إحراز صلاحية ما عليه اليد للملكية غير متحقق ، فلا يقال ان زيدا صاحب يد على صغير في بيته لم يعلم أنه ابنه أو عبده ما لم يعامل معه معاملة العبد. وكذا الدعوى المجردة عن اليد ، كما إذا ادعى أحد رقية صغير أو كبير خارجين عن يده.

وأما اليد المجامعة مع التصرف كالاستخدام ونحوه ومع دعوى الملكية

ص: 284


1- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 9.

فالظاهر أنها تدل على الملكية بشرط سكوت من عليه اليد لصغر وجنون ونحوهما ، فلو ادعى الحرية فالظاهر تقديم قوله.

وما ورد في الروايات من عدم قبول دعوى العبد الذي يباع الحرية إلا بالبينة (1) كظاهر فتواهم في باب البيع لا بد أن ينزل على ما إذا تكرر البيع في الأسواق حتى تكون دعوى الحرية راجعة إلى دعوى التحرير والإعتاق أو على خصوص دعوى التحرير ، إذ لا يمكن الجمع بين ظاهر لفظ « العبد » و « الأمة » وظاهر لفظ « الحرية » في تلك الرواية ، فلا بد اما من حمل العبد والأمة على العبد والأمة الظاهريين - أي بمقتضى ظاهر اليد والتصرف - أو حمل دعوى الحرية على دعوى التحرير بقرينة إيقاف سمع دعواها على البينة مع كون الحرية على طبق الأصل الأولي.

[ الدليل على رقية الصغير المدعى رقيته ]

ثمَّ الدليل على ما ذكرنا من الحكم بالرقية في صورة اجتماع الأمور الثلاثة أو الأربعة - أعني اليد والتصرف والدعاء وسكوت المدعى عليه - بعد السيرة الجارية - تلك الروايات الدالة على مطالبة البينة من مدعي الحرية بعد استظهار الاحتمال الأول ، أعني كون المراد بالعبد والأمة الظاهريين ، أعني ما هو عبد وأمة بحسب الظاهر بحسب حال المسلم ، إذ هو لا يكون بمجرد اليد ولا بمجرد الدعوى ، لأنه لا يحصل الظهور النوعي إلا بعد اجتماعهما.

نعم في مقابلها روايات تدل على عدم سماع دعوى الرقية إلا بالبينة ، مثل صدر الرواية المتقدمة « الناس كلهم أحرار الا من أقر على نفسه بالرقية » (2) ،

ص: 285


1- الوسائل ج 13 ب 5 من أبواب بيع الحيوان.
2- الوسائل ج 18 ب 12 من أبواب كيفية الحكم ح 9.

وهو مدرك من أقام بينة على من ادعى من عبد أو أمة ، فإنه يدفع اليه ويكون رقا. ونحوها غيرها مع زيادة قوله « صغيرا كان أو كبيرا ».

لكن يمكن الجواب عنه بأن موردها ما إذا كان المقام مقام دعوى الرقية ، وهو لا يكون إلا إذا لم يكن للمدعي ظهور عرفي باليد والتصرف ، إذ لا يصدق حينئذ عليه المدعي ، فلا بد أن يكون المقام خاليا عن أمارة عرفية أو شرعية دالة على الرقية لا مثل العبد الذي يباع في الأسواق كما بينا.

بل الظاهر أن صورة قيام الظهور النوعي على الرقية باليد الجامعة للتصرف والادعاء غير مشمولة لهذه الرواية ولو مع قطع النظر عن الروايات المعارضة ، لظهور اختصاص هذه الرواية بصورة الدعوى التي لا تجامع مع كون المدعي محكوما بمالكيته عرفا ، وحينئذ فالاستثناء قرينة على أن المراد بالناس من كان يدعي رقيته دعوى عرفية أو شرعية لا كل من ادعى رقيته ولو بموجب اليد والتصرف ، فهو خارج عن موضوع هذه الرواية.

ومع الغمض عن ذلك فالروايات معارضة مخصصة لها كما لا يخفى.

وأما ذيل الرواية المشار إليها الواردة في تداعي رجل وامرأة على جارية ، فعدم شمولها لما نحن فيه أظهر ، لأن الجارية لم تكن تحت يد الرجل المدعي لرقيتها بل كانت بينة وبين المرأة المدعية لبنتيتها - كما هو ظاهر صدرها - عن جارية لم تدرك بنت سبع سنين مع رجل وامرأة.

ولو سلم كونها في يده - كما هو ظاهر قوله « قلت فان لم يقم شهودا أنها مملوكة له قال تخرج من يده » - فهو أيضا خارج عما نحن فيه الذي هو اجتماع اليد والتصرف مع ادعاء ذي اليد بلا معارض ، إذ المعارضة ولو من الأجنبي توجب انتفاء الظهور النوعي عن اليد في الملك مع عدم إحراز قابلية ما عليه اليد للملكية لشبهة الحرية ونحوها.

ص: 286

والسر في ذلك أن اليد في غير الأمور المعلوم المالية ليس لها ظهور عرفي أو شرعي في الملكية ، بل موضوع اليد فيها لا يتحقق الا بعد كشفها عن التصرف المالكي ، والتصرف المالكي مع وجود مدعي الحرية لا يمكن إحرازه ، إذ الاستخدام ونحوه مشترك بين الحر والعبد ، فلا بد في تحصيل الظهور العرفي من فرض الاستخدام أو التعرض للبيع أو نحو ذلك مما هو متفرع على الملك مع السلامة عن ادعاء الحرية. وهذه الصورة هي القدر المتيقن من مجرى السيرة.

[ ادعاء حرية الرق الصغير بعد بلوغه ]

هذا ، ثمَّ ان قبول قوله في الرقية ان كان لأجل اليد لزم عدم سماع دعوى الصغير بعد البلوغ للحرية إلا مع البينة. وهذا معنى المحكي عن السرائر من عدم الالتفات الى قوله حتى بعد البلوغ لسبق الحكم برقيته ، وكذا يرجع الى هذا الوجه ما عن التذكرة وموضع من القواعد من قبول قوله وإحلاف ذي اليد.

ولا يتوهم أن الحلي أراد عدم السماع حتى مع البينة ، إذ لا وجه لذلك ولا يقول به أحد ظاهرا ، وان كان لأجل الدعوى بلا معارض لزم قبول قوله بعد البلوغ : اما مع اليمين ان قلنا بأن الدعوى بلا معارض لا يجعل صاحبها بمنزلة المنكر بالنسبة إلى الدعاوي المتأخرة ، أو مع يمين ذي اليد ان قلنا بأنها تجعل صاحبها كالمنكر. والأول محكي عن الإرشاد.

فصارت الأقوال في سماع دعواه بعد البلوغ ثلاثة : أحدها عدم السماع الا مع البينة وهو المراد من محكي السرائر كما عرفت ، وثانيها السماع مع

ص: 287

اليمين كما عن الإرشاد ، وثالثها السماع مع اليمين على ما في يده كما عن التذكرة. فظهر وجوه الأقوال أيضا. واللّه العالم.

التقاط [ اعتراف الرقية لأحد المدعيين ]

إذا ادعى اثنان رقية أحد فاعترف لأحدهما مع عدم البينة قضى له ، لأن الإقرار حينئذ يجعل المقر له مالكا ، فيصير جانبه قويا باعتبار كون قوله موافقا لأمارة شرعية.

فالوجه في تأثير إقرار الثالث هنا غير الوجه في تأثير إقراره في دعوى الأموال ، لأن إقراره يجعل المقر له صاحب يد ، لأن إقرار ذي اليد في الأموال لغيره يرجع الى الإقرار بأن يده متفرعة على يد المقر له بعارية ونحوها. بخلاف إقرار المدعى عليه هنا ، إذ الحر ليس له يد على نفسه حتى ينكشف بإقراره أن يده عارية من المقر له وأنه ذو اليد.

نعم في دعوى الأموال يجري الوجهان ، فالمقر له فيها يصير القول قوله من جهتين : ( إحداهما ) صيرورته مالكا بسبب الإقرار ، فهو الذي يوافق قوله أمارة شرعية ، كما قلنا في دعوى الحرية أيضا.

( وثانيتهما ) صيرورته صاحب يد لكشف إقرار ذي اليد عن كون يده من جانب المقر له.

هذا حال الإقرار مع عدم البينة ، وأما معها ففي قبوله لأحدهما وجهان تقدما في التداعي على العين ، فإن المسألتين من واد واحد.

وربما يظهر من كشف اللثام الفرق ، حيث مال في تلك المسألة إلى أنه كاليد ترجح البينة وفاقا لموضع من القواعد كما سبق ، وقال هنا بعدم قبول

ص: 288

الإقرار. وهو بعيد ، لأن البينة في دعوى العين توجب خروج إقرار ذي اليد عن صلاحية النفوذ على الأخر ، لكونه إقرارا في حق الغير في دعوى الحرية توجب المقر عن صلاحية الإقرار ، فالفرق واضح.

وان شئت قلت : ان المدعى عليه في دعوى الحرية بعد اقامة البينتين لا ينفع إقراره لأحد المتداعيين ، سواء قلنا في التداعي على العين بقبول إقرار ذي اليد بعد تعارض البينتين أم لا. أما على الثاني فواضح ، وأما على الأول فلان قبول إقرار ذي اليد في العين اما لأجل كونه سببا لصيرورة يده نائبة عن يد المقر له فيكون المقر له ذا اليد أو لأجل صيرورة المقر له مالكا بسبب إقرار ذي اليد وكونه ملزما فيكون العين له ظاهرا.

وشي ء من الوجهين لا يجري في الإقرار بالرقية بعد تعارض البينتين : أما الأول فلان الإنسان لا يد له على نفسه ، لان الحر لا يدخل تحت اليد ، فلا يثبت بالإقرار كون يده عارية من المقر له. وأما الثاني فلان البينة على الرقية توجب خروج المقر عن صلاحية الإقرار ، فيكون لغوا.

وهذا بخلاف إقرار ذي اليد ، فإنه وان كان في حق الغير بعد قيام اقامة البينتين لكن وجه اعتباره على القول به هو حجية اخبار ذي اليد من حيث كونه ذا اليد ، سواء كان ذلك الأخبار إقرارا على نفسه - أي ملزما لشي ء على نفسه - كما في صورة عدم إقامة البينة أو لم يكن إقرارا وملزما بل كان محض اخبار كما إذا كان بعد قيام البينتين. فاذا كان اخباره معتبرا صح أن يكون سببا لترجيح بينة المقر له من باب الاعتضاد.

وحيث لا يد للشخص على نفسه كان الإقرار بالرقية بعد قيام البينتين لغوا ، لعدم كونه من باب اخبار ذي اليد ، فينحصر قبول إقراره في صورة عدم البينة.

ص: 289

فإنه نافذ ، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ، وهو موجب لصيرورة المقر له مالكا لرقيته بإقراره كما عرفت. واللّه العالم.

التقاط [ كيفية تقسيم المدعى به مع إقامة البينة والاختلاف في المقدار ]

لو ادعى دارا في يد زيد وادعى عمرو نصفها وأقاما البينة ، فالمشهور أنه يقضى لمدعي الكل بثلاثة أرباع ولمدعي النصف بالربع ، فالدار يكون بينهما أرباعا على حد الحكم المنصوص في مرسل ابن حمزة عن الصادق عليه السلام في رجلين كان بينهما درهمان فقال أحدهما الدرهمان لي وقال الأخر هما بيني وبينك. قال «عليه السلام» : قد أقر أن أحد الدرهمين ليس فيه شي ء وأنه لصاحبه وأما الأخر فبينهما (1). ونحوه مرسل كما في كشف اللثام أنه لا فرق فيما ذكرنا بين كون العين في أيديهما كما هو مورد الرواية أو في يد ثالث كما يأتي.

نعم لو جعل مورد الرواية النزاع في درهم معين من الدرهمين - كما هو ظاهر لفظ « أحد الدرهمين » - خرج ما نحن فيه عن مورده ، وأما لو جعل المورد أحدهما الكلي كما يشعر به قوله « بيني وبينك » كان دليلا في المسألة زيادة على القاعدة.

وقد مر في السابق ذكر الاحتمالين في الرواية وترجيح الأول ، الا أن تنصيف النصف المختلف فيه فيما نحن فيه نظير تنصيف أحد الدرهمين هناك باعتبار كونه مرددا بينهما.

ووجه ما ذهب إليه الأكثر أن نصف الدار لا نزاع فيه ، سواء كان مدعي

ص: 290


1- الوسائل ج 12 ب 9 من أحكام الصلح ح 1.

النصف مقرا بأنه لصاحبه أو ساكتا أو شاكا ، وانما النزاع في النص خاصة وقد تعارض فيه البينتان فوجب النصف بعد القرعة والنكول كما لو تداعيا عينا.

[ كلام ابن الجنيد في المسألة ورده ]

وذهب ابن الجنيد الى تقسيمها بطريق العول ، فقال : انها تقسم أثلاثا فيجعل لمدعي الكل ثلثان ولمدعي النصف ثلث ، نظير ضرب الديان في مال المفلس والميت نظرا الى أن المنازعة وقعت في النصف المشاع ، فكل جزء من العين مورد للمنازعة. ومقتضاه أن يجعل بين المتنازعين بنسبة دعواهما ، فيجعل لمدعي الكل الثلثان ولمدعي النصف الثلث ، لان نسبة النصف الى الكل نسبة الثلث الى الثلاثين. هذا خلاصة المحكي عنه في المسالك.

والأصل في المسألة هو أن المسألة هل في من باب تزاحم الحقوق أو من باب تعارض الامارات ، فان كانت من الأول اتجه كلام ابن الجنيد ، لأنه إذا اجتمع في شي ء حقوق لا يسع ذلك الشي ء لها لزم الجمع بطريق العول وإدخال النقص على كل واحد ، فاذا كان مدعي الكل حقه الكل بموجب بينته ومدعي النصف حقه النصف وأريد الجمع بين الحقين في الدار التي تداعياها لزم تقسيمها بينهما على وجه يكون الواصل الى كل ذي حق بقدر ما وصل الى الأخر بنسبة حقه ويكون الفائت من كل حق بقدر الفائت من الأخر ، وهو لا يكون الا بالعول. وان كانت من الثاني وجب فيه مراعاة قواعد الجمع ، وهو تصديق كل أمارة في مورد التعارض بقدر تصديق الأخر ، فيجب تصديق بينة الكل في محل التعارض بقدر تصديق بينة النصف عملا ، وهو لا يكون الا بالتنصيف.

إذا تحقق ذلك ظهر أن ما ذكره ابن الجنيد ليس في محله :

أما أولا : فلان المقام من باب تعارض الأمارتين ، لأن البينة كاشفة عن

ص: 291

الواقع ومثبتة له ، ومقتضى كشف بينة الكل إعطاء مدعيه نصف الدار ، لأنها لا معارض لها بالنسبة اليه. وان شئت جعلت النصف له من جهة عدم المعارض لأمن جهة البينة ، فيبقى النصف الأخر الذي يتعارض فيه البينتان هو محل النزاع فينصف ويعطى كل واحد ربع الدار عملا بقاعدة التعارض في باب تعارض البينة.

وأما ثانيا : فلان ما ذكره مبني على فرض أحد المتداعيين مستحقا للكل والأخر مستحقا للنصف حتى يكون من باب التزاحم كضرب الديان. وهذا لا دخل فيه لكون النصف الذي فيه النزاع مشاعا ساريا الى جميع الاجزاء ، إذ غاية ما يلزم من السراية جريان النزاع في كل جزء قابل للقسمة ، فجرى فيه ما قلنا في الكل من سلامة نصفه لمدعي الكل لعدم معارض له ولا بينة وتنصيف النصف الأخر. ولعل الغرض من توسيطه إشاعة النصف في أثناء الدليل الاحتراز عن صورة تعيين النصف المتنازع فيه ، فإنه لا وجه لطريق العول فيه.

فان قلت : قد سلف أن قيام المبينة في باب المرافعات سبب لثبوت الحق لا طريق اليه ، والا لكان اللازم التوقيف دون التنصيف ، ولو لم يكن لقضاء أمير المؤمنين عليه السلام بالتقسيم حسب عدد رؤوس الشهود في بعض قضاياه وجه كما مر (1) ، وحينئذ لا يكون المقام من باب التزاحم ، لان بينة الكل سبب لاستحقاق مدعيه إياه وكذا بينة النصف.

قلنا : قد ذكرنا أن البينة في غير صورة التعارض طريق وانما هي سبب في موضع النزاع. والأمر فيما نحن فيه أيضا كذلك ، لان بينة الكل بالنسبة إلى النصف الغير المتنازع فيه طريق صرف ، فيحكم به لمدعي الكل بلا معارض

ص: 292


1- الوسائل ج 18 ب 14 من أبواب الشهادات ح 1 و 2.

وبالنسبة إلى النصف المتنازع فيه سبب محض ، كما أن بينة مدعي النصف أيضا كذلك ، فيعامل معهما معاملة السببية ، ونقول :

ان كلا منهما مستحق لتمام ذلك النصف باعتبار كون بينته سببا لاستحقاقه ، فلا بد من الجمع بين حقهما ، وهو لا يمكن إلا بطريق العول ، بأن يأخذ كذلك منهما ربعه ليكون الواصل الى كل والفائت من حقه بقدر الواصل والفائت من حق الأخر.

لا يقال : لا نسلم أن هنا نصفا غير متنازع فيه حتى يكون يعمل بينة الكل في ذلك النصف وانما يكون كذلك لو قال مدعي النصف لي أحد النصفين. وليس كذلك ، لأنه يدعي النصف الكلي ، ولذا لو باع مالك النصف المشاع نصفه نفذ في الربع دون الربعين ، وذلك لان النصف المشاع ليس عبارة عن أحد النصفين ، بأن يفرض العين نصفين ويكون كل منهما مشاعا ، بل هو عبارة عن النصف الذي لا يقابله نصف آخر ، وهو كلي سار الى جميع الاجزاء. فكل جزء يفرض قد وقع النزاع فيه معينا أو غير معين كالثلث والربع والنصف ونحوها ، فبينة الكل أيضا بينة في مورد الخصومة وليس بينة في غير مورده حتى بالنسبة إلى النصف حتى يعمل به من غير معارض.

قلت : لا فرق بين أن يكون المتنازع فيه أحد النصفين أو النصف الكلي ولا بين أن يكون نصف المجموع محلا للنزاع أو يكون نصف كل جزء قابلا للتنصيف ، لان نصف المجموع على التقدير الأول أو نصف كل جزء على التقدير الثاني يسلم لمدعي الكل من غير منازع ، فيعمل بينة فيه.

وان شئت قلت : ان النزاع في كل جزء على أي تقدير كان يرجع الى استحقاق مدعي النصف نصف ذلك الجزء وعدمه ، فمدعي الكل يقول ليس لك نصف هذا الجزء ومدعي النصف يدعيه ، فمقتضى الجمع بين البينتين

ص: 293

تنصيف النصف المتنازع فيه ، ومجرد كون كل جزء محلا للدعوى وموردا للخصومة لا يقتضي التزاحم أو التعارض في مجموع الاجزاء ، لان سريان حق مدعى النصف الى كل جزء ليس باعتبار تمامه بل باعتبار بعضه.

[ هل النزاع في تمام العين أو تمام الأجرة ]

وتوضيح المقال يتوقف على تحرير محل النزاع وأنه تمام العين أو تمام الاجزاء باعتبار تمامها أو باعتبار بعضها :

( فان كان الأول ) فلا محيص عن مقالة ان الجنيد من العول ، سواء كان العمل بالبينة في الحقوق من باب الطريقية أو من السببية ، أما على الثاني فواضح ، وأما على الأول فلان الطريق إذا كان العمل به واجبا ولو مع المعارضة ولم يجز التوقف عند التعارض يكون حكمه حكم السبب ، إذ لا فرق بين سبب العلم أو سبب المعلوم إذا كان العمل بسبب العلم واجبا شرعا ، فالعمل بالبينة سبب لثبوت حق المتداعيين معا ، سواء كان وجه العمل كون البينة من باب أسباب وجود الحق كسائر الأسباب الشرعية أو من باب أسباب العلم به.

وانما يتجه الفرق بينهما لو كان سبب العلم باقيا على أصله من التوقف كما في الاحكام.

( وان كان الثاني ) اتجه قول الشيخ ، أعني عدم العول. ونحن قد بينا أن نصف العين سالم لمدعي الكل وليس مصبا للدعوى ومحل تعارض البينتين. وان كان قضية دعوى النصف المشاع سريان الدعوى الى تمام اجزاء العين من غير تعيين ولا تشخيص بإشارة حسية ، لأن وصف التمام ليس مصبا للدعوى وانما يتداعيان في التمام باعتبار نصفه ، فلا جرم يختص التعارض والتنازع في ذلك النصف.

ص: 294

وهذا معنى قول الشيخ ان العمل في المسألة بقاعدة المنازعة ، يعني ان قاعدة المنازعة تقتضي إخراج ما لا نزاع فيه ثمَّ يقسم الباقي.

هذا ، ويمكن استظهار قول الشيخ - وهو القول المشهور - من مرسل حمزة المشار إليه ، إذ فيه تعليل اختصاص أحد الدرهمين بمدعي الاثنين بأن صاحبه أقر بأنه ليس له. وهذا ان لم يكن من العلة المنصوصة فلا أقل من صلاحية استيناس الحكم المشهور منه ، وهو أن أحد الخصمين إذا كان معترفا ببعض المدعى به لصاحبه وجب العمل بقاعدة القضاء في غيره.

هذا إذا قلنا بأن النزاع في الدرهمين لم يكن على وجه الإشاعة ، وإلا فهو دليل قاطع في المسألة.

ولا يذهب عليك أن محل الكلام هنا وان لم يكن خصوصا صورة إقرار مدعي النصف بالنصف الأخر لصاحبه ، الا أن التفصيل بينها وبين صورة السكوت غير موجود.

[ تأييد مذهب ابن جنيد في المسألة ]

هذا ، واحتمل في القواعد مذهب ابن الجنيد ، وذكر في كشف اللثام نظيرا للمسألة على هذا المذهب ، وهو أنه لو مات إنسان وعليه لاخر ألفان فإنه يقسم بينهما أثلاثا. ثمَّ أجاب عن دليل ابن الجنيد بما ذكره القوم ، وعن النظير بالفرق لان ديان الميت يتنازعون فيما على ذمته لا على عين وفي المثال المذكور كلهم يدعي كل التركة. ولذا قال في المختلف وهو - يعني قول ابي علي - أقوى عندي لو زاد المدعون على اثنين ، يعني واستوعب دعاوي غير مدعي الجميع العين أو زادت عليها.

قلت : أما الفرق المذكور فلا وجه له ، لان العول في ديون الميت ثابت

ص: 295

ولو لم يكن كل واحد مستوعبا ، كما إذا خلف ألفا وعليه لاخر ألفان ولاخر خمسمائة. وأما تفسير مذهب العلامة في المختلف بما إذا استوعبت دعاوي غير مدعي الجميع العين فليس بظاهر من المختلف ، لأنه قوى قول ابي علي فيما إذا كان المدعون أريد من اثنين ، وهو أعم من صورة استيعاب دعاوي غير مدعي الجميع كما لا يخفى.

ثمَّ ان هنا تصويرا آخر للإشاعة يقرب قول ابن جنيد ، وهو أن يقال : ان الملك المشاع عبارة عن ملكية مجموع الأجزاء كافة على وجه النقصان ، والملك المطلق عبارة عن ملكيتها على وجه الاستقلال ، فمالك النصف على وجه الإشاعة له سلطنة على الكل سلطنة ناقصة.

وعلى هذا التصوير يتجه قول ابن جنيد بعد ما هو المقرر من أن البينة في المنازعات تجري مجرى الأسباب ، لأن مدعي النصف بموجب بينته استحق الكل أيضا استحقاقا ناقصا ومدعي الكل استحق الكل بمقتضى بينته استحقاقا تاما ، والجمع بين استحقاقهما للكل لا يمكن الا بالعول.

ذكره بعض المكلمين في مجلس البحث فأجبته بما ارتضاه ، وهو أن مورد الخصومة حينئذ هو استحقاق مدعي النصف للكل استحقاقا ناقصا وعدم ذلك الاستحقاق ، فمدعي الكل ينفيه ومدعي النصف يثبته ، ومقتضى الجمع بين البينتين تصديق كل من المتنازعين في النصف المدعى به ، ولا ريب أن تنصيف الاستحقاق الناقص للكل يرجع الى ثبوت الاستحقاق التام لمدعي النصف في الربع. فافهم.

[ ادعاء التركة بين أكثر من شخصين ]

هذا إذا كان المدعون اثنين ، ولو كانوا أكثر فهو على قسمين :

ص: 296

( أحدهما ) أن تكون دعاوي غير مدعي الكل مستوعبة للعين بحيث لا يبقى لمدعي الكل شي ء من العين سليما عن المعارض. كما إذا ادعى أحدهم الجميع وادعى الأخر الثلاثين والثالث الثلث ، فطريق القسمة على مذهب المشهور هو أن يقسم العين تسعة عشر : ويعطى ثلثه وهي الستة لمدعي الكل ، إذ لا ينازعه فيه مدعي الثلاثين ولا مدعي الثلث ، وهما معا وان كانا يعارضانه الا أن المركب منهما ليس مدعيا آخر. ثمَّ يقسم ثلثه الأخر بين مدعي الكل ومدعي الثلاثين نصفين ، إذ لا ينازعهما فيه مدعي الثلث. ثمَّ يقسم الثلث الباقي بينهم أثلاثا ، لأنه موضع خصومة الثلاثة ، فيحصل لمدعي الكل أحد عشر ولمدعي الثلاثين خمسة ولمدعي الثلاث اثنان.

وتقسيمه على طريق العول هو أن يعطى مدعي الكل ستة من اثني عشر ، ومدعي الثلاثين ومدعي الثلث كلاهما ستة وهما يقسمانها أثلاثا فيأخذ مدعي الثلاثين ثلثاها وهي أربعة الثلث ثلثها وهو اثنان.

( والقسم الثاني ) هو أن لا يكون دعاوي الآخرين مستوعبة ، كما إذا ادعى أحدهم الجميع والأخر النصف والثالث الثلث ، وتقسيمه على طريق العول هو أن يعطى مدعي الكل ستة من أحد عشر ومدعي النصف منها ثلاثة ومدعي الثلث اثنان ، لان نسبة النصف الى الكل ثلثية ونسبة الثلث الى الكل ربعية ونسبة الثلث الى النصف نسبة الاثنين إلى الخمسة.

وعلى طريق المشهور هو أن يعطى مدعي الكل النصف أولا ، ثمَّ يقسم السدس الذي لا نزاع فيه لمدعي الثلث بينه وبين مدعي النصف نصفين ، ثمَّ يقسم الباقي - وهو الثلث - بين الكل أثلاثا ، فلمدعي الكل من ستة وثلاثين خمسة وعشرون والمدعي النصف سبعة ولمدعي الثلث أربعة.

وذهب العلامة في ظاهر المختلف الى التفصيل في المسألة ، فاختار مذهب

ص: 297

ابي علي إذا كان المدعون أزيد من اثنين. وقد عرفت أن الفاضل أوله الى ما إذا كان دعاوي غير مدعي الكل مستوعبة ، حيث رأى عدم تأثير تجاوز المدعي عن الاثنين في المسألة إلا إذا كان من عدا مدعي الكل دعاويهم مستوعبة حتى يلاحظ مجموع دعاويهم دعوى واحدة وتجعل في مقابل دعوى مدعي الكل لينحصر الأمر في العول ، لأنه إذا فرض كذلك فلا بد من العول.

ولا وجه لمذهب المشهور ، كما لو ادعى اثنان وادعى كل منهما الكل ، فإن الأمر فيه منحصر في العول حتى على طريقة المشهور ، فيقال مثلا : ان مدعي الثلاثين ومدعي الثلث في المثال المتقدم بمنزلة مدع واحد لتمام العين ، فيجعل العين بين مدعي الكل وبينهما نصفين ، لان الثلاثين والثلث تمام العدد وقد ادعاهما الاثنان فيقسمان النصف بينهما أثلاثا كما قلنا.

وفيه ما عرفت من أن منازع مدعي الكل ليس الا مدعي الثلاثين ومدعي الثلث ، واما المركب منهما فليس بمدع آخر حتى يلزم العول في الكل. فالحق في المسألة هو المشهور مطلقا.

[ ملخص وجوه المسألة ]

ومما ذكرنا ظهر أن الوجوه في المسألة أربعة : أحدها عدم العول مطلقا وهو مذهب الشيخ والأكثر ، وثانيها العول مطلقا وهو مذهب ابن جنيد ، وثالثها التفصيل بين تجاوز المدعي عن اثنين فالعول وعدمه فعدمه وهو ظاهر المختلف ، ورابعها التفصيل في صورة التجاوز بين الاستيعاب فالعول وعدم الاستيعاب فالعدم وهو الذي فهمه الفاضل من المختلف وقد عرفت ما فيه.

هذا كله إذا كانت العين في يد ثالث ، ولو كانت في أيديهما فاما أن يكون لكل بينة أو لأحدهم أو لا يكون بينة أصلا ، وحكمها من حيث الدخول والخروج

ص: 298

والتعارض والقرعة والنكول قد ظهر مما سلف ، واما من حيث العول وعدمه فهو مثل صورة خروجها عن أيديهم.

فلو كانت في أيديهما فادعى أحدهما الجميع والأخر النصف قسم بينهما بالسوية بعد حلف مدعي النصف لمدعي الكل لأنه ذو اليد بالنسبة اليه. ولو أقاما البينة وتكافئا : فإن قدمنا بينة الخارج كان الكل لمدعي الكل ، وان قدمنا بينة الداخل قضى بالتنصيف لمدعيه ، وان قلنا بالتعارض وأقرعنا وتحقق النكول من الطرفين فعلى المشهور تكون العين بينهما أرباعا كما قررنا ، وعلى العول تكون أثلاثا.

وإذا استوليت على حقائق ما قررنا عرفت حكم ما في الشرائع والقواعد وسائر كتب القوم من فرض المسألة. واللّه العالم.

التقاط [ اختلاف الزوجين في متاع البيت ]

إذا تداعيا الزوجان متاع البيت ففيه أقوال ذكرها في المسالك ، منشؤها اختلاف الاخبار والاعتبار :

( أحدها ) ما عن المبسوط من العمل بمقتضى القاعدة ، فيحكم لمن له البينة ومع عدمها فيد كل منهما على النصف ، من غير فرق بين ما يصلح لخصوص الرجال أو لخصوص المرأة أو لهما ، الا أن يخص اليد بأحدهما كثياب البدن وما يجري مجراها في الاختصاص بأحدهما.

( وثانيها ) الفرق بين ما يصلح للرجال خاصة فيحكم بها لهم وكذا ما يصلح للمرأة وبين ما يصلح لهما ، فيعمل فيه بمقتضى القاعدة كما ذكر. وهذا محكي عن الشيخ أيضا في الخلاف ، وهو الذي نسبه في الشرائع إلى الأشهر في الروايات والأظهر بين الأصحاب.

ص: 299

( وثالثها ) أنها للمرأة ويطالب الرجل بالبينة. وهذا مصرح به في غير واحد من الروايات ، معللا بأنه لو سئل من بين لا بيتها - أي بين جبلي منى - لا خبروك أن الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الرجل فيعطي التي جاءت به (1).

والعمل بهذه الرواية يقضي بالتفصيل بين البلدان والأقاليم والعمل في كل بلد بموجب ما جرت عليه عادته ، فقد يكون كما أخبر به الامام عليه السلام عن كون الجهاز والمتاع من المرأة وقد يكون بالعكس.

ومحصل التفصيل الذي يظهر من الرواية أن العادة ان كانت جارية على زف المرأة مع المتاع من مالها الى بيت الرجل حكم بمقتضى تلك العادة وتجعل تلك ظهورا متبعا شرعا في صورة التنازع حاكما على الأصل بل اليد أيضا ، إذ لو خلي وطبعه حكم بها للرجل إذا كان مالكا للدار ، لان مالك الدار مع ما فيها داخل تحت يده ، فاذا كانت العادة على زف المرأة مع المتاع خرجنا بها عن حكم اليد تقديما للظهور على اليد.

ومن هنا يظهر أن الحكم كذلك في جميع موارد تعارض الأصل والظاهر ، لأنه في قوة المنصوص العلة ، فكأنه عليه السلام قال : ان ظاهر الحال مع المرأة فيقدم قولها.

لكن العمل به مشكل ، لان بناء الأصحاب إيقاف تقديم الظاهر على ورود الدليل عليه ، حتى أنهم حصروا مواضع تقديمه على غيره من الأصول والطرق المعتبرة.

لكن لو كان الظهور مثل الظهور الذي حكم الامام عليه السلام باعتباره في هذه الروايات لم يكن التعويل عليه مطلقا بعيدا ، وميزانه أن تكون العادة جارية

ص: 300


1- الوسائل ج 18 ب 8 من أبواب ميراث الأزواج ح 1.

على مقتضاه ، بحيث لو سئل الناس عن حكم الواقعة لأخبروا بموجبها ، كما هو صريح كلامه عليه السلام لا مطلق الظهور الناشئ من استقرار مطلق العادة.

ثمَّ ان اخبار الناس بموجبها قد ينشأ بمسامحاتهم وتوسعاتهم وجزافاتهم في الأقوال والاخبار ، فيخبرون بموجبها عن تخمين وجزاف من غير تحقيق ، حتى إذا سئل عقلاؤهم وأهل مداقتهم لسكتوا ولم يخبروا بشي ء. وحينئذ فاللازم المداقة في معرفة كون اخبارهم عن تحقيق أو تسامح.

هذا كله في الأمتعة المشتركة بين الرجال والنساء ، وأما ما يختص بأحدهما ففيه أيضا ظهور نوعي بالاختصاص ، ولا بعد في التعويل عليه تبعا للشيخ مع ورود بعض الروايات فيه. (1)

وعلى أي حال فالمسألة لا تخلو عن غموض ، لما فيها من الاختلاف بحسب الاخبار وكلمات الأخيار المخالفة للقواعد. واللّه العالم.

ص: 301


1- الوسائل ج 17 ب 8 من أبواب ميراث الأزواج ح 2 و 3.

القول في دعوى المواريث

التقاط [ ادعاء الإسلام قبل موت المورث ]

اشارة

إذا ادعى أحد الوارثين إسلامه قبل موت المورث وأنكره الأخر بادعاء التأخير : فاما أن يعلم تاريخ الموت والإسلام أو لا يعلم التاريخان ، وعلى الأول فالمؤرخ اما الموت أو الإسلام ، فهنا مسائل :

( الاولى ) أن يجهل التاريخان

والحكم فيه التوقف والرجوع الى أصالة عدم تحقق سبب الإرث ، الا أن يبنى في مجهول التاريخين على التقارن ، كما هو ظاهر غير واحد ، فيحكم فيه بعدم الإرث لعدم استتمام السبب ، وهو الموت بعد الإسلام.

( الثانية ) أن يعلم تاريخ الموت دون الإسلام

والحكم فيه أيضا عدم الإرث ، لأصالة عدم الإسلام في تاريخ الموت. ولا

ص: 302

فرق فيه بين كون الكفر مانعا أو الإسلام شرطا ، لان المانع إذا كان له حالة سابقة يستصحب.

ولا يجدي أصالة عدم المانع مع إحراز المقتضي ولو مع عدم رجوعه الى استصحاب العدم. وقد قررنا في الأصول فساده ، لعدم نهوض دليل بذلك.

هذا مع أن الكفر هنا عبارة عن عدم الإسلام ، وان قلنا أنه أمر وجودي ضد الإسلام ، إذ الحرمان عن الإرث انما هو من أحكام عدم الإسلام حتى لو فرض كون الوارث شاكا غير معترف بالمعارف حرم من الإرث قطعا. ومن الواضح أن عدم الإسلام موافق للأصل وليس مخالفا.

نعم الظاهر أن الارتداد والقتل ونحوهما مما يرجع الى الأمر الوجودي مانع عن الإرث ، فلو شك في شي ء منها جرى أصالة عدم المانع إذا لم يكن مسبوقا بالوجود السابق. كما إذا فرض ارتداد أحد الوارثين وتوبته حيث تقبل توبته واختلفا في تاريخ التوبة مع العلم بتاريخ الموت. فان الحكم فيه أيضا عدم الإرث استصحابا للارتداد الى تاريخ الموت.

وأما الرقية فان بني على أن العبد لا يملك فالظاهر حينئذ كون الحرية شرطا للإرث لا كون الرقية مانعة ، لأن حقيقة الإرث - وهو الانتقال - لا يتصور في الرق ، فتكون الحرية من شرائط القابلية.

الا ان يقال : ان النسب مقتضى للقابلية والرقية مانعة عنها وان مرجع الحرية الى عدم الرقية ، وفيه تعسف.

وأما على القول بأنه يملك فالظاهر أن الرقية كالارتداد تعد من الموانع ، إلا انك عرفت فيما علم تاريخ الموت عدم اختلاف الحال بين كون ذلك مانعا أو كون ضده شرطا.

وربما يظهر من بعض الروايات - مثل ما ورد في فضل الإسلام وأنه يوجب

ص: 303

شرفا للمسلم فيورث عن الكافر ولا يورث منه الكافر - أن إسلام المورث مانع عن تورث الكافر منه (1).

( الثالثة ) عكس الفرض

بأن علم تاريخ الإسلام دون الموت ، ومثاله في الشرائع تبعا للمحكي عن المبسوط والوسيلة وغيرهما من بعض القدماء هو أن يعلم إسلام الوارث في شعبان مثلا وادعى موت المورث قبله.

وهل ينفع فيه استصحاب بقاء حياة المورث الى شعبان كما ذكره في الشرائع وان ذلك من الأصول المثبتة نظرا الى عدم نهوض ذلك الأصل بإثبات موت المورث في حال إسلام الوارث وهو السبب للإرث دون الحياة في حال الإسلام ، فيكون من الأصول المثبتة كما نبه عليه الأستاد دام ظله في تنبيهات الرسالة الاستصحابية. وهذا هو الأظهر.

وقد يوجه ما ذكره في الشرائع على وجه لا يرجع الى الأصل المثبت ويقال : ان استصحاب حياة المورث في شعبان يثبت به سبب الإرث شأنا ، لأن إسلام الوارث في حياة المورث سبب له على تقدير الموت ، والمفروض تحقق الموت أيضا فالسبب يثبت بالأصل والشرط بالوجدان.

وفيه : ان الثابت بالوجدان هو الموت والثابت بالاستصحاب هو الحياة ، وأما الموت في حال الحياة - وهو الذي يترتب عليه حكم الإرث - فلا يثبت به الا على القول بالأصل المثبت.

ثمَّ ان هذا الفرع مما أورد ما به على من توهم عدم تفصيل العلماء في الحادثين المشكوكين من حيث السبق واللحوق بين صورة العلم بتاريخ أحدهما وعدم

ص: 304


1- الوسائل ج 17 ب 1 عدة من أحاديث الباب من موانع الإرث.

العلم رأسا ، مستندا إلى إطلاق كلماتهم في غير موضع من الفقه كالمجتمعين وتعاقب الحدث والطهارة ومسألة الغرقى والمهدوم عليهم ، الا الشهيد الثاني ومن تأخر عنه.

وجه الإيراد أن الشيخ وابن حمزة والمحقق وغيرهم قد فصلوا في دعوى إسلام الوارث بين الصورتين ، فحكموا في المسألة الأولى بعدم توريث مدعي الإسلام في حياة المورث إلا بالبينة وبالتوريث في المسألة الثالثة.

وقد يناقش في أصالة تأخر الإسلام مع العلم بتاريخ الموت كما في المسألة الثانية بأن استحقاق الوارث المعلوم لتمام التركة موقوف على انحصار الوارث فيه ، وهو مما لا يترتب فيه على أصالة التأخر وما يجري مجراها في نفي استحقاق مدعي الإسلام الا على القول بالأصل المثبت كما يظهر بالتأمل.

ويدفعه : ان وجود كل وارث مقتض لاستحقاق تمام التركة ، فإذا اجتمع المقتضيان اقتسما من أجل المزاحمة والمخالفة ، فليس الانحصار ان لم يرجع الى أمر عدمي - وهو عدم وجود وارث آخر - شرطا ، بل وجود مانع يدفع بالأصل.

وأصالة عدم المانع يترتب عليه وجود الممنوع إذا كانت المانعية ثابتة من الشرع ، بأن كان الحكم مترتبا على عدم ذلك المانع شرعا ، فبعد عدم استحقاق مدعي الإسلام بحكم الأصل لا يبقى إشكال في استحقاق معلوم الإسلام لتمام التركة. واللّه العالم.

التقاط [ ادعاء الإرث للمدعي وللغائب ]

إذا ادعى دارا في يد غيره أنها له ولأخيه الغائب مثلا إرثا عن أبيهما وأقام

ص: 305

بينة ، فان كانت كاملة بالخبرة والاطلاع على باطن حال الميت مع الشهادة على عدم وارث آخر فيما نعلم سلم اليه نصف الدار بغير ضمين ، ولو لم تكن كاملة - بأن علم أنها ليست أهلا للاطلاع بمال الميت وان شهدت بانحصار الوارث فيها أولم تشهد بذلك وان كانت من أهل الخبرة بها - أرجئ التسلم حتى يبحث الحاكم عن الوارث مستقصيا بحيث لو كان وارثا لظهر ، وحينئذ يسلم الى الحاضر نصيبه بضمين استظهارا واستيثاقا.

هذا الحكم قد أفتى به في الشرائع وغيره من غير إشارة أو تنبيه على الخلاف ، وفيه مسائل :

( الاولى ) عدم جواز العمل بالأصل في نفي الوارث قبل الفحص ، مع أن الموضوعات لا يتفحص فيها عن المعارض.

( الثانية ) عدم وجوب الانتهاء فيه الى العلم ، بل يكتفي الحاكم بتضمين الشهود وكمالهم وكونهم أهل الخبرة مع الشهادة بالانحصار أو بتفحص نفسه ، حتى لو كان وارث لظهر ، على وجه يحصل منه الاطمئنان.

والدليل على المسألتين ما أبدينا في غير موضع من نظائر المقام من دليل الانسداد. وبيانه : ان العمل بالأصل في نفي الوارث ابتداء من غير فحص يوجب الاختلال والهرج والمرج بالوقوع في خلاف الواقع كثيرا ، والاقتصار على ما يوجب العلم أيضا فيه تعطيل لحق الحاضر وموجب للاختلال أيضا. فانحصر المناص في العمل بالأصل بعد الفحص الأكيد تفصيا عن الاختلال اللازم على الأمرين من ترك الفحص رأسا والاقتصار على العلم.

ثمَّ ان شهدت البينة الكاملة بالانحصار قضى للحاضر بنصيبه قضاء تعليقيا ، كما سبق نظيره في تعارض بينة الداخل والخارج عند ظهور المرجح أو المعارض بعد القضاء لأحدهما. وان لم تشهد به وتفحص الحاكم سلم اليه نصيبه من غير

ص: 306

قضاء لعدم شي ء من الموازين. الا أن يدعى قيام ظن الحاكم بالفحص مقام علمه في كونه ميزانا ، ولا يخفى بعده.

( الثالثة ) التضمين في صورة عدم البينة الكاملة وعدم التضمين مع قيامها :

أما الأول فللاستيثاق والاستظهار الواجبين فيما يحتمل فيه ظهور الخلاف. وهذا نظير أخذ الكفيل من المدعي في الدعوى على الغائب.

ويمكن أن يستدل عليه أيضا بأن عدم الدفع رأسا تعطيل لحق الحاضر دائما ، إذ المفروض حصول الفحص وعدم ظهور وارث آخر ، والتسليم بدون الضامن تعريض لحق الغير المحتمل للضياع والتلف ، فالجمع بين الحقين قاض بالتسليم مع التضمين.

وأما الثاني - أعني عدم التضمين مع قيام البينة الكاملة - فلاستتمام الحجة من الحاضر وعدم سلطنة للحاكم على إلزامه بالضامن مراعاة للاحتمال في مقابل القضاء المستند إلى البينة.

[ المناقشة في تفسير البينة الكاملة ]

واعلم أن ما ذكرنا في تفسير البينة الكاملة مأخوذ من المسالك ناسبا إلى الأكثر ، وبه صرح في محكي كشف اللئام. وهو غير مرضي عند بعض مشايخنا قدس سره ، حيث استظهر من عبارة الشرائع والإرشاد أن المراد بالكمال أن تشهد البينة بعدم وارث آخر وبعدم الكمال أن تشهد بعدم العلم به ، فأسقط اعتبار كون البينة أهل الخبرة والاطلاع لكونه قدحا في العادل ، قال : فالتحقيق الاكتفاء بالشهادة بالنفي مطلقا وعدم الاكتفاء بالشهادة بنفي العلم كذلك.

قلت : الظاهر أن ما ذكره صاحب المسالك أوفق بالقواعد وأنسب بكلمات الأصحاب ، لأن العلم بعدم الوارث غير معتبر في الشاهد ، إذ يكفي في النفي

ص: 307

عدم العلم بالوجود. بل قد يقال : ان الشهادة بالنفي ساقطة لكونها من باب القطع في غير محله كقطع القطاع ، وان كان التحقيق خلافه كما ذكره في المسالك.

الا أن الظاهر عدم الخلاف والاشكال في أن الشهادة بالنفي يكفي فيها عدم العلم بالخلاف ، وقد سبق عدم الاشكال والخلاف في أن الشهادة بالملك السابق مع قوله « ولا أعلم له مزيلا » يكفي في إثبات الملك في الآن.

والفرق بينه وبين المقام في غاية السقوط ، فالمراد بالكمال لا بد أن يكون ما ذكره صاحب المسالك من كونها أهل الاطلاع والخبرة ، ووجه اعتباره في المقام بل في كل مقام يرجع فيه الى الشهادة بالنفي هو أن اعتبار الشهادة منحصر فيما احتمل فيه اصابة الشاهد بما لم يصبه المشهود له. فاذا كان الحالان متساويين - بأن كان الشاهد مثل الحاكم في الجهل بالحال وعدم الاطلاع بباطن الأمور - لم يكن وجه لاعتبار الشهادة حينئذ. بل هذا أصل متبع في أكثر الأمارات ، فلو علم بأن ذا اليد لا يعلم أزيد مما يعلم غيره لم يكن إخباره حجة عليه فيما يعتبر فيه قوله.

بقي الكلام فيما ذكره في محكي الدروس من أن الكمال هو أن يكون الشاهد من أهل الخبرة مع الشهادة بنفي وارث آخر أو بعدم العلم ، وهو الذي مشينا عليه في تفسير الكمال ، فبمجرد كونه أهل الخبرة لا يكون كاملا.

وهذا له وجه لو كان المدعى به هو أمران : كون الحاضر وارثا ، وكون الوارث منحصرا فيه. فان الشهادة بالانحصار أمر زائد على أصل الشهادة. وأما لو كان المدعى به هو الانحصار خاصة - بأن كان وارثية الحاضر مسلما - تعين تفسير الكمال بكونه من أهل الخبرة ، لأنه إذا كان من أهل الخبرة ولم تشهد بالانحصار لم تكن شاهدا أصلا ، لا أنه شاهد غير كامل ، كما هو قضية تفسير الكمال بما ذكر في الدروس.

ص: 308

والحاصل ان مصب الدعوى لو كان هو انحصار الوارث في الحاضر بعد الفراغ عن كونه وارثا تعين تفسير الكمال بكونها أهل الخبرة ، فالبينة الناقصة ما لم تكن كذلك مع الشهادة بالانحصار ولو كان هو كون الحاضر وارثا مع الانحصار ، بأن يكون أصل الوارثية أيضا متعلقا للدعوى كالانحصار. فيمكن تفسير الكاملة بما ذكره في الدروس كالغير الكاملة على هذا التفسير ما شهدت بأصل كان الحاضر وارثا مع كونه أهل الخبرة والكاملة ما شهدت بكلا جزئي الدعوى ، أعني كونه وارثا وكون الوارث منحصرا فيه.

هذا كله في نصيب الحاضر ، وأما نصيب الغائب ففي انتزاعه من يد ذي اليد نظرا الى ثبوت كون الدار مستحقا للغير وهو الميت بالبينة عند الحاكم أو إقراره في يده لعدم حجية البينة لغير المدعي وان نطقت بثبوت حق الغير. وجهان بل قولان للشيخ في محكي المبسوط والخلاف ، والأقوى هو الخير لما ذكر.

ولا يذهب عليك أنه لا ينافي وجوب ترتيب أحكام مال الميت على النصف الباقي من الدار ، لأن حجية البينة في مقام العمل مطلقة لا تختص بالمدعى وغيره ، وانما المختص به هو القضاء والانتزاع من ذي اليد.

واعلم أن هنا كلاما يناسب طرفي الخلاف ، حتى أن الشهيد الثاني تمسك به لمختار الشيخ في المبسوط ، وهو الثاني. وتمسك الفاضل في محكي كشف اللثام به للثاني ، وهو أن الحق للميت والبينة له.

ولكل وجه : لأن الحق إذا كان للميت توقف استنقاذه على حضور وليه ، والولي انما هو مجموع الوراث لا بعضهم ، فلا يتعرض لحال ذي اليد الى أن يحضر الولي وهو الوارث الغائب. ولأن البينة في مقام الإلزام والحكم

ص: 309

يخص حجيته بالمدعى وان كان في مقام العمل ووجوب ترتيب الأثر عامة للكل ، ولأجل ذلك كان الحكم كما ذكره في المبسوط.

ثمَّ ان الحق إذا ثبت انه للميت كان ذو اليد أجنبيا وجب الانتزاع من يده الى يد أمين ، وهو الذي ذكره في الخلاف كما عن الفاضل ، والأمر فيه سهل. واللّه العالم.

التقاط [ الاختلاف في تاريخ موت احد المورثين ]

إذا ماتت المرأة وابنها فقال أخوها مات الولد أو لا ثمَّ المرأة فالميراث لي وللزوج نصفان ، وقال الزوج بل ماتت الامرأة أولا ثمَّ مات الولد فالمال لي. قضى لمن تشهد له البينة ، ومع التعارض يقرع على حسب ما تقرر في تعارض البينات ، ومع عدمها يقضى بأحد الدعويين لأنه لا ميراث إلا مع تحقق حياة الوارث ، فلا ترث الام من الولد والابن من أمه ويكون تركة الابن لأبيه وتركة الزوج بين الأخ والزوجة.

وهذا الحكم هنا من الأصحاب جزئي من جزئيات ما ذكروه في باب الإرث في مسألة الغرقى والمهدوم عليهم من العمل بالأصلين عند اشتباه تقدم موت أحد المتوارثين وطرح العلم الإجمالي في غير هاتين المسألتين - أعني الغرقى والمهدوم عليهم - للنص.

وربما يظهر من بعض مشايخنا أن ما ذكره الأصحاب هنا وهناك انما هو صورة احتمال تقارن الموتين ، فلو علم السبق في الجملة وشك في السابق فالمتجه هي القرعة. وهذا وان كان فيه استراحة عن مخالفة العلم الإجمالي ،

ص: 310

الا أنه تنزيل لا طلاق كلماتهم هنا وفي باب الميراث على فرض بعيد.

وكيف كان فعلى ما ذكرنا وفاقا للأصحاب لا يحكم بإرث أحد من الام ولابن عن الأخر بعد تحالف الأخ والزوج أو النكول ، بأن يحلف الزوج على عدم موت الولد أولا ويحلف الأخ على عدم موت الام كذلك ثمَّ يقسمان تركة الام نصفين كما لو لم يكن لها ولد أصلا ويكون تركة الابن لأبيه.

ص: 311

لقد وقع الفراغ من نسخ هذا الكتاب الشريف بتوفيق اللّه وعونه بيد العبد الإثم أقل السادة أحد بن محمد رضا الحسيني في يوم السابع من ربيع الثاني من عام الخامس والأربعين وثلاثمائة بعد الالف.

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على نبيه خاتم النبيين ، والأصفياء المكرمين والأوصياء المعظمين ، من الان الى قيام يوم الدين.

ص: 312

فهرس الكتاب

عنوان / الصفحة

القول في الشاهد واليمين... 5

القضاء بالشاهد واليمين والدليل عليه... 5

هل الشاهد واليمين معا حجة للمدعي؟... 8

لو قدمت اليمين على الشاهد وقعت لاغية... 9

في مورد الشاهد واليمين ومقام استعمالهما... 10

تميز الحق المالي عن غيره... 13

حلف جماعة من المدعين في الدعوى الواحدة... 14

البطون الموقوف عليهم متعاقبا هل يأخذون الوقف بلا يمين... 17

لو كان الوقف للجنس يبطل لامتناع إثباته بالحلف... 20

القول في كتاب قاض الى قاض... 23

عدم الاعتداد بكتاب القاضي في القضاء... 23

لو كانت الواسطة بين القاضيين الكتابة... 24

أخبار القاضي للقاضي الأخر بحكمه... 27

لو كانت الواسطة بين القاضيين البينة... 29

ص: 313

إقرار المحكوم بحكم قاض عند قاض آخر... 29

القول في القسمة... 31

حقيقة الإشاعة وتقسيم المال المشاع... 31

معنى الشركة في العين... 32

بحث حول الجزء الذي لا يتجزى... 33

القسمة هي تميز النصف المشاع وإفرازه... 37

الإشاعة تنحصر في الأسباب الشرعية للشركة... 39

عدم حصول الشركة الحقيقية في مزج شيئين متماثلين... 42

الدليل على حصول الشركة في مزج المائعات... 44

صحة قسمة الإرث وجوازها... 44

هل يشترط رضا الطرفين في القرعة... 49

هل يعتبر في القاسم التعدد أم لا؟... 50

اجرة القاسم على من هي؟... 52

الأجرة توزع على الورثة بملاحظة الحصص... 53

اجرة القاسم على من استأجره... 54

الإجبار في تقسيم المثليات... 58

 ضعف الاستدلال بقاعدة لا ضرر على دخول الإجبار... 60

في أي نوع من القسمة يدخل الإجبار... 62

عدم دخول الإجبار مع عدم إمكان التعديل في القسمة... 64

لا ترجيح لغرض الملتمس للقسمة على غرض الممتنع منها... 66

حكم الأموال المختلفة بين شركاء متعددين... 68

ذوا اليد يقسم بينهما المال الذي يدهما عليه... 71

ص: 314

المال المشترك الممتنع القسمة... 71

الفرق بين قسمة الرد وقسمة الافراز... 74

التعديل المتوقف على الرد... 75

فرعان يتعلقان بأحكام الرد في القسمة... 78

ادعاء الغلط في القسمة وصوره... 79

منشأ الغلط في التقسيم... 82

ظهور الاستحقاق في المال بعد تقسيمه... 83

صحة الإقالة بقاعدة السلطنة... 85

صحة القسمة لو ظهر في الشركة المقسومة دين... 87

وجوه ما لو ظهر في التركة وصية... 88

ظهور عيب في المال بعد قسمته... 88

قسمة الوقف للموقوف عليهم... 89

قسمة الدين غير جائزة... 90

القول في الدعاوي... 92

حقيقة المنكر والمدعى في الدعاوي... 92

اختلاف الكلمات في معنى المدعى... 93

المدعى في دعوى الإبراء هو المديون... 96

ما يشترط في سماع دعوى المدعى... 98

كيفية ثبوت حق المدعى... 100

الدعوى على الحاضر أو الغائب... 102

القول في الوصول إلى الحق... 104

انتزاع العين المتنازع فيها من المدعى عليه... 104

ص: 315

الوجوه فيما لو كان الحق في الدعوى دينا... 105

تلف العين قبل بيعها للاقتصاص... 109

ادعاء مال لم يكن لأحد عليه يد... 111

ما المراد من اليد على المال... 112

دعوى الأموال وغير الأموال... 113

تصوير معنى المشاركة في اليد... 115

دعوى غير المال كالوكالة وغيرها بلا معارض... 118

ادعاء المدعى شيئا بعد نفيه عن نفسه... 120

حكم إخراج ما غرق بالغوص... 121

معنى زوال وصف الملك عن المال... 122

القول في دعاوي الاملاك... 127

التنازع في عين معين... 125

التنازع على عين لا يد لأحد عليها... 127

التنازع على عين لكل من المتنازع يد عليها متناوبا... 128

التنازع في عين هي في يد غير المتنازعين... 136

القول في تعارض البينات... 140

كيفية الجمع بين البينات المتعارضة... 140

لو لم يمكن الجمع بين المتعارضين... 142

تعارض البينة في الملك مع عدم إمكان التوفيق... 144

المسألة الاولى: أن تكون العين في أيديهما... 144

المسألة الثانية: ما إذا كانت العين في يد أحدهما... 151

تعارض بينة المدعي و المنكر كالتساقط... 154

ص: 316

فروع تظهر في تنبيهات... 164

المسألة الثالثة : ما إذا كانت العين في يد ثالث... 183

اعتبار التساوي في العدل والعدد... 190

الاستدلال على تقديم الاكثرية على الاعدلية... 194

حكم عدم البينة في الدعوى مع عدم تصديق ثالث... 202

أنواع تعارض البينات وأحكامها... 204

التقدم التاريخي في إحدى البينتين... 207

صور اختلاف التاريخ في البينات... 209

حمل مستند الشاهد على الاستصحاب... 216

مستند الشهادة حجة عند تعارض البينة... 219

في تعارض المرجحات... 227

تعارض الأعدلية والأكثرية ونحوهما... 227

عند تعارض البينتين هل يشترط ضم الشاهد... 233

الاستصحاب عند ثبوت اشتغال الذمة... 235

ابطال قول الخصم يتوقف على ضم الاستصحاب... 238

الفرق بين شهادة البينة بالملك السابق وإقرار ذي اليد... 241

لو أقر المدعى عليه ان العين لغيره... 247

حكم ما يؤخذ غرامة... 249

لو ادعى المالك الإعارة وذو اليد الإجارة... 250

في دعوى اليد السابقة... 251

التعارض بين الاستصحاب واليد... 252

اليد لا تعارض الشهادة بمقتضى الاستصحاب... 259

ص: 317

اليد المجردة عن التصرف والادعاء مقابل الاستصحاب... 262

تفريع لليد المعارضة للاستصحاب و غيرها... 264

الشهادة على الملك باستناد العلم السابق... 265

القول في التداعي في العقود... 267

التنازع في العقد المتسالم على وقوعه... 267

الفرق بين المقام وما سبق من حكم المتداعيين... 269

الفرق بين النكول نصا والنكول في دعوى الاملاك... 272

اختلاف الموجر والمستأجر في الأجرة أو مدة الإجارة... 275

حكم ما لو كان البينتان مؤرختين... 278

ادعاء مدعيين شراء دار معينة... 279

الجمع بين رأيي العلامة الحلي... 281

ادعاء اثنين البيع مع تعيين المبيع والثمن... 282

ادعاء رقية الصغير المجهول النسب... 283

الدليل على رقية الصغير المدعى رقيته... 285

ادعاء حرية الرق الصغير بعد بلوغه... 287

اعتراف الرقية لأحد المدعيين... 288

كلام ابن الجنيد في المسألة ورده... 291

هل النزاع في تمام العين أو تمام الأجرة... 294

تأييد مذهب ابن جنيد في المسألة... 295

ادعاء التركة بين أكثر من شخصين... 296

ملخص وجوه المسألة... 298

اختلاف الزوجين في متاع البيت... 299

ص: 318

القول في دعوى المواريث... 301

ادعاء الإسلام قبل موت المورث... 301

ادعاء الإرث للمدعي وللغائب... 305

 المناقشة في تفسير البينة الكاملة... 307

الاختلاف في تاريخ موت احد المورثين... 310

ص: 319

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.