اللوامع الحسنية في الأصول الفقهية

هوية الکتاب

الكتاب: اللوامع الحسنية في الأصول الفقهية.

المؤلف : السيد حسن صدر الدين الكاظمي.

الناشر : مركز تراث سامراء.

المدقق اللغوي: الشيخ عقيل علي الدراجي

التصميم والإخراج الفني: الحاج مسلم شاكر المطوري

المطبعة :

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: ١٠٠٠ نسخة.

سنة الطباعة: ١٤٤١ ه_ / ٢٠٢٠م.

رقم الإصدار : ٤٦ .

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد لسنة ٢٠٢٠م.

ISBN:

جميع الحقوق محفوظة لمركز تراث سامراء.

محرر الرقمي: علیرضا راهجو

ص: 1

اشارة

الكتاب: اللوامع الحسنية في الأصول الفقهية.

المؤلف : السيد حسن صدر الدين الكاظمي.

الناشر : مركز تراث سامراء.

المدقق اللغوي: الشيخ عقيل علي الدراجي

التصميم والإخراج الفني: الحاج مسلم شاكر المطوري

المطبعة :

الطبعة: الأولى.

عدد النسخ: ١٠٠٠ نسخة.

سنة الطباعة: ١٤٤١ ه_ / ٢٠٢٠م.

رقم الإصدار : ٤٦ .

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد لسنة ٢٠٢٠م.

ISBN:

جميع الحقوق محفوظة لمركز تراث سامراء.

محرر الرقمي: علیرضا راهجو

ص: 2

ديوان الوقف الشرعي

جسدية المقدسية

الشرفاوي

فَالأصول الفقهية

التفت السيّد حَسَن صَدر الدين الكاظمي

ت ١٣٥٤ه_

الشيخ إبراهيم الجوراني

مراجعة وتدقيق

الشرفاوي

ص: 3

ص: 4

مقدمة المرکز

ص: 5

ص: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله ربِّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

وبعد...

فقد عاصر السيد حسن صدر الدين الكاظمي العصر الذهبي للحوزات العلمية في فترة تعج بالأساطين والأفذاذ من العلماء والمحققين وقد ازدهرت الحياة العلمية لاسيما في حوزتي النجف الأشرف وسامراء، حيث تتلمذ على أعلام النجف لمدة سبع سنين وعلى مرحلتين، كما تتلمذ على أعلام سامراء لمدة تسع عشرة سنة على مرحلتين أيضاً، أما في النجف فامتدت الأولى من سنة (1288 ه_ ) (1) وإلى حين هجرته الأولى إلى سامراء في سنة (1292ه_) تبعاً لأستاذه السيد المجدّد الشيرازي.

وامتدت الفترة الثانية من حوالي سنة (١٢٩٤ه_) إلى سنة (١٢٩٧ه_)، سنة ، وهي هجرته الثانية إلى الناحية المقدّسة (2)، وفيها مكث زهاء (17) سنة متواصلة إلى حين هجرته إلى مدينة الكاظمية المقدسة، وذلك في سنة (١٣١٤ه_) (3).

لذا فإن هويته العلمية هي من بركات حوزة سامراء وعميدها السيد محمد حسن

ص: 7


1- حسن الصدر، تكملة أمل الآمل : ٣٤٦/٥؛ الأوردبادي، موسوعة الأوردبادي: ١١/ ١٨، وقد ذكر السيد عبد الحسين شرف الدين ان هجرته إلى النجف كانت في سنة (1290ه_) والصحيح ما أثبتناه. ينظر بغية الراغبين: ٣٠٦٢.
2- قال في التكملة: (وفي سنة سبع وتسعين خرجتُ إلى سامراء والتحقت بالسيد الأستاذ الميرزا الشيرازي ،وكنت جئت قبل ذلك إليها سنة اثنتين وتسعين،بقيتُ سنة ونصفاً ورجعت إلى النجف )تكملة أمل الآمل: ١/ ١١٥، ٣٤٧/٥.
3- حسن الصدر، تكملة أمل الآمل : ١١٦/٥؛ بغية الراغبين: ٣٠٦٥.

الشيرازي رحمة الله علیه ، وخصوصاً أنه تتلمذ عليه في النجف أيضاً.

وللمصنف جملة من المؤلّفات التي ألّفها في سامراء، وهي تمثل تراثه العسكري.

وهي:

١ - (إبانة الصدور في موقوف ابن أذينة)،

وهي رسالة فريدة في بابها ألّفها بطلب من أستاذه المجدّد الشيرازي رحمةالله علیه.

2- (تبيين الإباحة في مشكوك ما لا يؤكل لحمه للمصلين)،

تقريراًلدرس أستاذه السيد المجدّد الشيرازي رحمة الله علیه.

٣- (رسالة في تعارض الاستصحابين)،

رسالة مختصرة في مسألة تعارض الاستصحابين، تقريراً لدرس أستاذه السيد المجدّد الشيرازي رحمة الله علیه.(1)

٤ - (الدرّ النظيم في مسألة التتميم)،

وهو تقرير لبحث السيد المجدّد الشيرازي رحمةلله علیه.

ه- (رسالة في الشهادة).

٦- (سبيل الرشاد في شرح نجاة العباد)،

كتب الجزء الأول منه في سامراء وبقية الأجزاء في الكاظمية المقدسة.

7-(الغرر في نفي الضرار والضرر)،

قال في آخر النسخة :(.... في مواردها وأنها إنما ترفع اللزوم لا واقع الحكم وجهته؛ لعدم ما يوجب رفعه . هذا ما تيسر لنا تحريره في بيان القاعدة، والحمد لله رب العالمين والصلاة على

ص: 8


1- طبعها وما قبلها مركز تراث سامراء بعنوان( رسائل من إفادات المجدّد الشيرازي)بتحقيق الفاضل الشيخ مسلمالرضائي.

أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، وقد وقع الفراغ منها في دار غيبة الإمام عجل الله فرجه سامرّاء في سنة 1311ه_، وسميتها الغرر في نفي الضرار والضرر).

8- (كشف الالتباس عن قاعدة الناس )،

قال في آخرها: (وقد فرغ من تحريرها العبد الفاني ابن السيد هادي صدر الدين حسن الموسوي الكاظمي العاملي عامله الله تعالى بلطفه الخفي والجلي، في يوم الثاني عشر من جمادى الأولى سنة 1311 ألف وثلاثمئة وإحدى عشرة).

٩- (كشف النقاب عن رسالة الاستصحاب)،

قال في آخرها: (ووقع الفراغ منها في يوم الجمعة من شهر ربيع الثاني من شهور سنة ١٣٠٠ه_، في بلد غيبة الإمام عجل الله فرجه، أيام المهاجرة إليها لتحصيل العلم).

١٠- (لزوم صوم ما فات في سنة الفوات)،

كتبها بطلب من السيد إسماعيل الشيرازي في سامراء.

١١ - (نكت الرجال على منتهى المقال = الحواشي على منتهى المقال في أحوال الرجال)(1).

١٢-( رسالة لب اللباب على رسالة الاستصحاب)،

وهي تعليقة علّقها المؤلّف على رسالة الاستصحاب للشيخ الأعظم، وفرغ منها سنة ١٣١١ه_ في سامراء.

آخرها :( وصلى الله على محمد وآله الطاهرين الجامعين لكل الكمال، وقع الفراغ منها في شهر ربيع الثاني من سنة 1311 ه_ في بلد الإمام عجل الله تعالى فرجه، وصلّى الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، أيام المهاجرة إليها لتحصيل العلم بخدمة حجة الإسلام وآية الله في العالمين نصير الملة والحق والدين، سيدنا الأستاذ أدام الله ظله العالي على مفارق الأنام بمحمد وآله

الكرام).

ص: 9


1- الطهراني، الذريعة: ٣٠٤/٢٤ .

هذا مجمل (1)التراث العسكري للسيد حسن صدر الدين الكاظمي الذي أبدعه في سامراء.

ومن مميزات تلك الفترة هو ظهور بعض المؤلّفات والأسفار لتصبح محوراً للدراسات العليا ومحطاً لأنظار الأعلام وتعليقهم وشرحهم، ككتاب المكاسب والرسائل للشيخ الأعظم، وكتاب كفاية الأصول للمحقق الفذ الشيخ محمد كاظم الخراساني، وكتاب العروة الوثقى لفقيه أهل البيت السيد محمد كاظم اليزدي.

وقد كان الفضل الأول يرجع إلى الشيخ الأعظم والأفذاذ من تلامذته، وعلى رأسهم السيد المجدّد الشيرازي.

ولذا قام السيد المؤلّف بجمع آراء الشيخ الأعظم والأعيان من تلامذته في كتابه هذا؛ حيث يقول عنه :( كتاب اللوامع الحسنية في الأصول الفقهية، بطريق الإيجاز، من أول علم الأصول إلى آخره، ذكرت فيه نتائج أفكار شيخنا المرتضى وسيدنا الأستاذ الميرزا وسائر تلامذة الشيخ المرتضى، وهو كتاب لم يصنّف مثله على مسلك الشيخ في علم الأصول) (2).

ووصف السيد عبد الحسين شرف الدين الكتاب قائلاً : (اللوامع كتاب في أصول الفقه،يتضمن نتائج الإمامين الأنصاري والشيرازي وتلامذتهما الأعلام. وللمؤلف دلو بين دلائهم ملأه إلى عقد الكرب (3) (4).

ولأهمية آراء هؤلاء الأساطين خصوصاً إذا ما اتفقوا في تنقيح مسألة ما فقد ذكر السيد

ص: 10


1- وقد تعرّضنا لتفصيل هذا المجمل من تراث السيد الذي أبدعه في سامراء في كتاب (أعلام مؤلّفي حوزة سامراء)، وذكرنا فيه حوالي 300 عنوان أَلفَ في سامراء وربوعها الطاهرة، كما تعرّض خُصوص التراث العسكري للسيد الصدر بمقالة جميلة فضيلة الأخ الشيخ مسلم الرضائي ستنشر قريباً.
2- حسن الصدر، تكملة أمل الآمل: 1/ 117.
3- يملأ الدلو إلى عقد الكرب هو عجز بيت للفضل بن العباس، صار مثلاً يضرب للرجل إذا زاول أمراً بلغ به منتهاه. ينظر ابن معصوم الطراز الأول : 33/2 ، الخليل، العين : ٣٦٠/٥ ، الميداني، مجمع الأمثال : ٣٨٨/٢.
4- السيد عبد الحسين شرف الدين، بغية الراغبين : 3087 .

الخوئي قدس سرهُ في أكثر من دورة في أصوله قائلاً: (لقد شاهدنا بعض الأعاظم (1) يدعي القطع بالحكم من اتفاق الشيخ الأنصاري والسيد الشيرازي و الميرزا محمد تقي الشيرازي (نوّر الله ضريحهم) لاعتقاده شدة ورعهم ودقه فكرهم) (2) .

ومما زاد في قيمة الكتاب أنه احتوى على آراء السيد المجدّد التي طرحها في سامراء - كما ذكر المؤلِّف في مواضع عديدة منها قوله : ( والتحقيق ما أفاده سيدنا الأستاذ حجة الإسلام الميرزا في مجلس الدرس بسامراء).

وقال في موضع آخر : ( وإنما أطلنا في توضيح المقام لأنه من غوامض الأنظار، وأبكار الأفكار التي استفدناها من سيدنا الأستاذ الميرزا قدس سرهُ ولم يسبقه أحد في تحقيق الواجب المشروط، فإن الخبير يعلم أنه من مزالق الفحول..)

وقد تجلت تلك الآراء في مؤلَّفات الأساطين من تلامذته، ولذا ذكر العلّامة الأوردبادي في أكثر من موضع متحدّثاً عن كفاية الأصول للمحقق الفذ الشيخ محمد كاظم الخراساني بأن (مباحثها كلها مأخوذة من أستاذه الأجل يعرفها الفنيون) (3).

كما ذكر العلّامة النقوي أن ما ذكره العلّامة النائيني بقوله: (إنه للسيد الأستاذ) فالمراد به هو السيد المجدّد وليس المحقق الفشاركي كما ربما يتوهم البعض فقال: (فهو في بحثه يعبر بالسيد الأستاذ عن السيد المجدّد قدس سرهُ و هو كثير الإعجاب والإعظام لكلماته فينقلها بكل تجلّة ولا يعدوها في مواضع الخلاف على الأغلب ..) (4).

ولأهمية هذا السفر وتعدد ميزاته العلمية والتراثية حيث ينتفع به من أراد تدريس أو دراسة كتاب الكفاية، ولأنه يغني القارئ بثقافة أصولية، ولأن المصنف من أعلام حوز

ص: 11


1- ذكر غير واحد ومنهم السيد تقي الطباطبائي القمي في عمدة المطالب في التعليق على المكاسب: ١٧٩/٤ ، بأن المراد ببعض الأعاظم هو آية الله السيد علي آقا نجل السيد المجدّد الشيرازي رحمة الله علیه.
2- الشاهرودي، دراسات في علم الأصول : ١٤٤/٣ ، البهسودي مصباح الأصول: ١٤٠.
3- الأوردبادي، موسوعة الأوردبادي: ٣٠٤/١٠، ٣٠/١١.
4- النقوي ، أقرب المجازات : ٢٢٥ ، ٣١٢.

سامراء حيث قضى فيها قرابة تسعة عشر عاماً، ولكون هذا المصنّف لم يطبع من قبل، كل ذلك دفعنا لاختيار هذا الكتاب وتحقيقه.

آملين بذلك أن نتقدم خطوة باتجاه إحياء تراث حوزة سامراء وأعلامها الذين قدّموا للحوزات العلمية جهوداً عظيمة.

وقد تصدّى لتحقيق هذا الكتاب المبارك الأخ العزيز الشيخ إبراهيم الجوراني، فلله دره على سرعة وجودة الإنجاز.

نسأله تعالى ببركة هذا الشهر الفضيل أن يتقبل منا جميعاً، وأن يجعله ذخيرة لنا يوم

نلقاه، ويجعل لنا بكل حرف نورا، إنه سميع الدعاء.

الأقل

کریم مسیر كريم

النجف الأشرف

/١٢ شهر رمضان / ١٤٤١ه_

ص: 12

مقدمة التحقيق

ص: 13

ص: 14

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد ..

يُعدُّ الشيخ الوحيد البهبهاني رضوان الله تعالى عليه (ت١٢٠٦ ه_) مؤسس المدرسة الأصولية الحديثة، ولو تحرّينا فروع شجرة فقهاء آل البيت علیهم السلام في القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر، بل وحتى القرن الخامس عشر ، لوجدناهم يرجعون إليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ولذلك يطلق عليه (الأستاذ الأكبر)، وتربى في مدرسته مجموعة من العلماء الفضلاء لم يجد الزمان بمثلهم الذين ألّفوا الكتب والأسفار القيّمة، وأثروا المدرسة الأصولية أيما إثراء، كالشيخ جعفر كاشف الغطاء صاحب كتاب كشف الغطاء (ت ١٢٢٧ه_)، والميرزا القمي صاحب القوانين (ت 1231ه_)، والشيخ محمد تقي الأصفهاني صاحب هداية المسترشدين (ت ١٢٤٨ه_) ، وأخيه الشيخ محمد حسين صاحب الفصول الغروية (ت ١٢٥٠ ه_)، والمولى أحمد النراقي صاحب مستند الشيعة (ت ١٢٤٥ه_)، والسيد محسن الأعرجي المعروف بالمحقق الكاظمي صاحب المحصول في علم الأصول (ت ١٢٢٧ه_)، والشيخ محمد شريف الآملي المعروف بشريف العلماء (ت ١٢٤٥ه_)؛ وبعد وفاة شريف العلماء رضوان الله تعالى عليه أفل نجمُ مدرسة كربلاء وشدَّ طلبة العلم رحالهم تلقاء الوادي المقدس طوى، نجف سيد الوصيين علیه السلام حيث الفقيه الألمعي نادرة الزمان الشيخ محمد حسن الجواهري صاحب جواهر الكلام (ت ١٢٦٦ه_)، وكان ممن حضروا عنده تلميذ شريف العلماء الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري رضوان الله تعالى عليه، ولما رأى الشيخ الجواهري مدى علمية الشيخ الأنصاري أشار إليه بأن يقوم مقامه فيحمل لواء المرجعية ويقوم بأعبائها، فكان خير خلف لخير سلف، فقام بها خير قيام، فشيد الأركان وأنار البرهان

ص: 15

وصار يشار إليه بالبنان حتى صار كتاباه (المكاسب) و (الفرائد) لا يعدوهما فقيه ولا أصولي؛ حيث أماط اللثام عن فرائد غررها الحسان، وجعلها تستشف لذوي البصائر وتلمع، ونبغ على يديه المباركتين ثلة من العلماء الفضلاء الأفذاذ، وكان من مقدميهم السيد المجدّد الشيرازي رضوان الله تعالى عليه، وقد آلت إليه المرجعية بعد أستاذه فقام بأعبائها خير قيام، وتربت على يديه ثلة من الأعلام ، كالميرزا محمد تقي الشيرازي صاحب فتوى الجهاد في ثورة العشرين، والشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس حوزة قم المقدسة، والميرزا حسين النوري صاحب کتاب مستدرك الوسائل، والسيد محمد كاظم اليزدي صاحب كتاب العروة الوثقى، والسيد إسماعيل الصدر صاحب الشبهة العبائية المعروفة ومنهم سيدنا المصنّف السيد حسن الصدر رحمة الله علیه.

وكان السيد المجدّد الشيرازي رضوان الله تعالى عليه قد هاجر إلى سامراء العسكريين عليه السلام في سنة (1291ه_)، فخف إليه فضلاء طلابه، وشمر وشمروا عن سواعد الجد والاجتهاد في الدرس والتدريس والبحث والتحقيق، يواصلون ليلهم بنهارهم، وكيف لا يكونون كذلك وقد نفخ فيهم سيدهم روح التفاني والإخلاص، ونادى في حيهم أن حي على الجهاد، فلبوا سراعاً حلقات تحملها الملائكة وأستاذهم يلقي هُم من الحكمة وعلوم آل محمد علیه السلام ما شرح الله له صدورهم و وعنه آذانهم، من المعقول والمنقول، فصارت سامراء قبلة العاشقين للعلم، ومنارة يتوجه إليها الوافدون، تعج بأفواج من العلماء الفحول الذين لا يشق لهم غبار، ولا يجاريهم متسابق في مضمار، يقلّبون العلم على وجوهه كما يقلب الصراف دراهمه، وهكذا بنى رضوان الله تعالى عليه في مدينة العسكريين الله منارة مجد تشع ضياء في دياجير الظلمات، ولما استوفى رضوان الله تعالى عليه مدته وصارت إلى آبائه اللام وفادته لبى نداء الرحمن منتقلاً إلى دار الخلد ،والجنان، وذلك في سنة (1312ه_) بعد واحد وعشرين قضاها هناك، فحملت نعشه الرؤوس من بلدة إلى بلدة وكل يسابق الآخر لحمل النعش الشريف، إلى أن وصل إلى جوار جده باب مدينة العلم ، فدفن عند بابه، فجزاه الله عنا وعن الإسلام وأهله خير جزاء المحسنين.

وبقي صرحه الذي بناه شامخاً، يحوطونه علماء فحول من الذين نماهم إلى الفضيلة

ص: 16

والحكمة مما يعجز اللسان عن وصفهم ويكل البيان عن عد محاسنهم، كآية الله السيد علي آقا نجل السيد المجدّد الشيرازي وآية الله السيد عبد الهادي الشيرازي، وآية الله الميرزا محمد تقي الشيرازي والسيد هادي الحسيني الخراساني، وغيرهم من العلماء الربانيين، وبقيت حوزة سامراء قائمة من بعد وفاة المجدّد الشيرازي قرابة اثنتين وعشرون سنة إلى وقت الاحتلال البريطاني للعراق في سنة (١٣٣٤ه_)؛ حيث انتقل جميع من كان في سامراء من العلماء إلى الكاظمية المقدسة، فمنهم من استقرَّ فيها، ومنهم من توجه إلى غيرها كالنجف الأشرف أو كربلاء المقدسة، ومن الذين استقروا في الكاظمية المقدسة بعد تسعة تسعة عشر قضاها في سامراء سيدنا المصنّف (رضوان الله تعالى عليه) منشغلاً بالتدريس والبحث والتحقيق.

وقد ترك السيد حسن الصدر تراثاً ثراً من المؤلّفات القيمة وفي مختلف أصناف العلوم وكانت له مكتبة عامرة بنفائس الكتب حتى قال عنها تلميذه السيد عبد الحسين شرف الدين في بغية الراغبين (1): (وكان موفقاً في تحصيل نفائسها في جميع العلوم والفنون عقلية ونقلية)، وقال أيضاً : (تضمنت مكتبته من نوادر الأسفار المخطوطة ما لا يوجد في أكثر المكتبات الحافظة، وبهذا رنت في الأقطار فذكرها المتتبع جرجي زيدان في طليعة مكتبات العراق).

وبعد الاحتلال البريطاني كانت هناك أنباء وهنبثة وخطوب جرت، فما كان إلا أن امتدت إلى سامراء يد الظالمين وعاثت بربعها فساداً وتخريباً ؛ ليطمسوا معالمها وما لمعَ من نجومها( يُريدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (2) .

فقام فتية آمنوا بربهم، يحدوهم الأمل، فشمروا عن سواعد الجد والعمل؛ ليظهروا ما قد خفي من عقود ودرر غطتها الإحن والأضغان وتوارد الحدثان، وينفضوا عنها تراب السنين؛ لترجع لماعة برّاقة تسرُّ الناظرين و سهلة المأخذ للطالبين، فأسسوا صرحاً أسموه (مركز تراث سامراء) أخذ على عاتقه إحياء ما قد اندثر من التراث المتعلّق بذلك العالم الفذ

ص: 17


1- بغية الراغبين المطبوع في ضمن موسوعة الإمام السيد شرف الدين: ٧ / ٣٠٤ .
2- سورة التوبة : 28 .

المجدّد الشيرازي رحمةالله.

فكان مما وقع عليه الاختيار هذا الكتاب المسمى ب_(اللوامع الحسنية في الأصول الفقهية) للسيد حسن الصدر تلميذ السيد المجدد الشيرازي رضوان الله تعالى عليهما، الذي لازمه في سامراء وحدها تسعة عشر سنة ينهل من نمير علومه وتزداد قدمه في العلوم رسوخاً وثباتاً، وهذا الكتاب يغني اسمه عن رسمه، وعنوانه عن بيانه، وقد ألقى إلي شيخي وأستاذي سماحة الشيخ العلّامة كريم مسير (أدام الله عزه) هذا الكتاب الكريم، فجزاه الله خيراً عني وعن جميع المحصلين ووفقه في الدارين وحشره مع ساداته الغر الميامين المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ص: 18

النسخ المعتمدة :

الأولى : نسخة الأصل، وهي بخط المصنف رضوان الله تعالى عليه، ولون الورق فيها أصفر، وعدد صفحاتها المكتوبة (158) صفحة، وعدد صفحاتها مع الصفحات الفارغة (١٦٣ ) ، وعدد الأسطر في الصفحة (27-30) سطراً، وفي هذه النسخة بعض التشويش في بدايتها، ففي أول صفحة منها هناك مقدمة مكتوبة يظهر من المصنف أنه كتبها كمقدمة لكتابه تأسيس الشيعة، وبعد مقابلتها مع مقدمة كتاب تأسيس الشيعة المطبوع تبين أنها مسودة أولية لمقدمة كتاب (تأسيس الشيعة الكرام لعلوم الإسلام)؛ وجود الاختلاف بين الاثنتين، وبعد هذه الصفحة ينتقل إلى الصفحة التي أخذت الرقم (1) حيث توجد فيها المقدمة كاملة، وبعدها كتب مقدمة وشطب عليها، والذي يبدو لي أن هذه هي المقدمة التي كتبها أولاً للكتاب ثم عدل عنها فشطب عليها وكتب المقدمة التي أثبتها للكتاب في الصفحة السابقة، ثم إنه رضوان الله تعالى عليه بعد المقدمة المشطوبة كتب عنوان لامعة في المبادئ اللغوية ولم يكتب شيئاً ثم انتقل إلى عنوان تقسيم اللفظ وأكمل المباحث.

وفي الصفحة (١٥٨) _ وهي آخر صفحة مكتوبة من هذه المخطوطة - ذكرَ: (لامعةً في رسم هذا العلم وبيان موضوعه وغايته)، ومن المعلوم أن هذه الأمور تبحث في مقدمة الكتاب، فكان حقها أن تكتب أول مبحث بعد مقدمة المصنف (رضوان الله تعالى عليه).

والحاصل : إنه بعد العثور على مبحث (رسم العلم وموضوعه وغايته) في آخر صفحة من نسخة الأصل، فلا يوجد نقص في نسخة الأصل إلا مبحث واحد، هو مبحث المبادئ اللغوية، الذي ذكرته النسخة ( ب ) الآتية الذكر كاملاً .

كما احتوت نسخة الأصل على الشطب لبعض المباحث - كما في صفحة (٥٢) _ منها حيث شطب على زهاء ثمانية عشر سطراً مما كتبه في موضوع الخطابات الشفاهية، وكذلك يوجد شطب في الصفحات (٥٧ ، 108 ، 113 ، 1٤8 ، 152) منها، وهناك خلل في تعداد بعض النقاط تم استدراكه في النسخة المخطوطة (ب).

النسخة الثانية :ونرمز لها بالنسخة (ب)، ويرجع تاريخ الفراغ من نسخها إلى الرابع

ص: 19

عشر من جمادى الأولى من سنة ألف وثلاثمئة وواحد وأربعين أي قبل ثلاث عشرة سنة من وفاة السيد المصنّف رحمةالله الذي توفي في سنة (١٣٥٤ه_)، بيد ناسخها السيد أحمد بن علي الحسيني المرعشي، وهو الكاتب الخاص (1)للسيد المصنّفله وهذان الأمران _ أقصد كونها نسخت في حياة المصنّف وكونها بيد كاتبه الخاص - يجعلانا نطمئن بل قد نجزم بأن هذه النسخة كتبت تحت نظره الشريف، وهذا يجعلها في مصاف نسخة الأصل من حيث الأهمية، ولعلها بمثابة المبيضة، وهي بحالة جيدة من حيث الخط، وكاملة وشاملة لكل الموضوعات، وموجود فيها مبحث (لامعة في رسم العلم وبيان موضوعه وغايته ) بعد المقدمة مباشرة، ثم بعده مبحث المبادئ اللغوية كاملاً ، عدد صفحاتها (٢٢٦) صفحة، وعدد الأسطر في صفحتها الأولى (1٥) سطراً، وعددها في آخر صفحة هو (13) سطراً، وباقي الصفحات كلها تحتوي (17) سطراً، وهي خالية من الشطب ومكتوبة بخط جيد وواضح جداً ، نعم يوجد فيها حك لكلمتين أو أكثر في اللامعة الأولى في تعريف علم أصول الفقه وهي موجودة في نسخة الأصل.

ص: 20


1- ذكره المحقق في مقدمة كتاب أمل الآمل :8.

عملنا في التحقيق :

أولاً: تم إجراء المقابلة بين النسختين على مرتين، مرة من قبل الإخوة في (مركز تراث سامراء)، وأخرى من قبلنا، وتم إثبات مقدار التفاوت و الاختلاف مع غض الطرف عن الاختلافات اليسيرة منها مثل التذكير والتانيث والتعريف والتنكير وغيرها مما لا حاجة إليها.

ثانياً: ما كتبه السيد المصنف على ظهر كتابه لب اللباب على رسالة الاستصحاب) بقوله : (إذا قلت: سيّدنا الأستاذ أو سيّدنا العلّامة فأريد به حجّة الإسلام الميرزا محمد حسن الشيرازي النجفي العسكري، وإذا قلت بعض مشايخنا فأريد شيخنا الأستاذ الميرزا حبيب الله الرشتي النجفي، وإذا قلت بعض أفاضل العصر أو بعض الأفاضل المعاصرين فأريد به جناب الآخوند ملا محمّد كاظم الخراساني النجفي، وإذا قلت: بعض الأفاضل أريد به الآقا الشيخ ملا رضا الهمداني) تم أخذه بنظر الاعتبار في تخريج المصادر والإشارة إليها، وقد التزم في هذا الكتاب بهذا التعبير مع أستاذه الميرزا المجدّد الشيرازي أعلى الله مقامه، لكنه لم يلتزم به مع الآخوند الخراساني ، بل ذكره صريحاً ثلاث مرات، مرةً عبّر عنه ببعض أفاضل العصر وذكر نص كلامه، ومرةً ببعض المعاصرين، وهذا احتملنا أن يكون لصاحب الكفاية؛ لكونه مطابقاً لمختاره في الكفاية أو لغيره، ومرةً ذكره صريحاً بقوله: (دعوى صاحب الكفاية)، وأما تلويحاً فقد ذكره كثيراً حتى إنه كان ينقل مقاطع من كلام صاحب الكفاية فيها في مقام الأخذ والرد دون أن يشير إليه صريحاً.

وقمت بتخريج الأقوال والآراء الواردة في المتن تصريحاً وتلويحاً من مصادرها الأصلية، وذكرت لها أكثر من مصدر، وقمت بتخريج الآراء والأقوال التي لم يسم المصنف لله قائلها والتي اكتفى بالتعبير عنها بمثل ( زعم ، قيل، نقل، بعض الأصحاب) وغيرها، وكذلك أشرت لما وافق متبنياته من علمائنا السابقين رحمة الله أو غيرهم.

ثالثاً: عادة ما ينقل السيد المصنف له الآيات والروايات باختصار أو بالمعنى في بعض الحالات، فعمدنا إلى نقلها من المصدر و أشرنا إلى ذلك، وتم جعل الآيات الكريمة بين أقواس مزهرة، وكذا تم تخريج الروايات الشريفة وأقوال العلماء وكلمات واللغويين

ص: 21

والأبيات الشعرية من مصادرها، وحاولنا أن نشير إلى أكثر من مصدر.

رابعاً: حاولنا عدم إضافة شيء زائد على ما في نسخة الأصل من عناوين، والاقتصار على ما ذكره المصنف فقال له إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك، فإن رأينا ذلك كافياً لم نضف شيئاً، وإن اقتضت الضرورة إضافته ،أضفناه، كما في مبحث قيام الأمارات مقام القطع الطريقي، ومبحث اختلاف القائلين بالظن الانسدادي، ومبحث عدم حجية الظن في أصول الدين وغيرها.

شكر وامتنان :

وفي الختام لا بُدّ من تقديم وافر الشكر والامتنان لجميع من قدم المساعدة وأخص منهم بالذكر شيخنا العلّامة كريم مسير (أدام الله عزه) الذي أعطانا من وقته الكثير برغم مشاغله الكثيرة وأبدى كثيراً من الملحوظات القيّمة والنافعة.

كما أقدم شكري إلى الإخوة الأعزاء في المركز ولا سيما شعبة التحقيق، وأخص منهم بالذكر جناب الشيخ أياد حميد الطائي والشيخ حيدر الخفاجي (وفقهم الله تعالى لمراضيه) لقيامهم بالمقابلة الأولى وتقديم جملة من الملحوظات المهمة.

اللهم اختم بعفوك أجلي، وحقق في رجاء رحمتك عملي، وسهل إلى بلوغ رضاك سبلي، والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

إبراهيم دخيل الجوراني

النجف الأشرف

٢٩ /شعبان المعظم / ١٤٤١ه_

ص: 22

صورة الصفحة الأولى من المخطوط (أ)

ص: 23

صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط (أ)

ص: 24

صورة الصفحة الأولى من المخطوط (ب)

ص: 25

صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط (ب)

ص: 26

ديوان الوقف الشرعي

جسدية المقدسية

الشرفاوي

فَالأصول الفقهية

التفت السيّد حَسَن صَدر الدين الكاظمي

ت ١٣٥٤ه_

الشيخ إبراهيم الجوراني

مراجعة وتدقيق

الشرفاوي

ص: 27

ص: 28

مُقدمة المصنف

ص: 29

ص: 30

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي علّمنا أصول العلم والفقه، وهدانا إلى لوامع الأصول والفروع، بما أودعه فينا من صنعه البديع، والصلاة على محمد وآله الذين ألقوا إلينا الأصول وأمرونا بالتفريع (1).

أمّا بعد: فيقول العبد الراجي فضل ربه ذي المنن ،ابن العلّامة السيد الهادي حسن، المشتهر بالسيد حسن صدر الدين الكاظمي: إنَّ هذا متن متين في إيجاز علم أصول الفقه، على مسلك شيخنا العلّامة المرتضى الأنصاري، في تنقيح هذا العلم، ضمّنته نتائج أفكاره (2)، وأفكار سيدنا الأستاذ الميرزا آية الله الشيرازي، وأفكار الأفاضل من تلامذتهما(3) بطريق الإشارة، وبأوجز عبارة، وسميته: «اللوامع الحسنية في الأصول الفقهية».

(1) إشارة إلى قول الإمام الصادق علیه السلام لام: «إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا»،الحرالعاملي، وسائل الشيعة: ٦١/٢٧.

(2)في نسخة ب: أفكاري.

(3)أمثال الميرزا حبيب الله الرشتي والسيد محمد الفشاركي والميرزا محمد تقي الشيرازي، والآخوند اخُراساني صاحب الكفاية، الذي تتلمذ عند العلمين الشيخ الأنصاري والمجدّد الشيرازي، وقرر للسيد الشيرازي ( ذخيرة في دليل الانسداد) حققها وطبعها مركز تراث سامراء.

ص: 31

ص: 32

لامعة في رسم هذا العلم، وبيان موضوعه، وغايته

وحيث كان للفظ (أصول الفقه) - الذي هو عَلَمٌ لهذا العلم _ اعتبارُ التركيب، واعتبارُ العَلَمية ناسب البحث عن كلا الاعتبارين ،وليعلم فيه المناسبة بين المنقول والمنقول إليه، والأنسب أيضاً تقديمه؛ إذ الكلام فيه من حيث وضع المفردات، واعتبار العلمية طارئ عليه، فلو قدمناه طابق الوضع الطبع.

والكلام فيه في ثلاث:

في معرفة المضاف، والمضاف إليه، والإضافة؛ لأنَّه متركب منها .

فاعلم: إن الأصول جمع أصل وهو _ مطلقاً _ ما يبتنى عليه (1)، وعند الأصوليين الدليل (2).

والفقه في اللغة: الفهم (3) ، وفي اصطلاحنا: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية (4) ، فالعلم بمنزلة الجنس؛ لأنَّه من الأعراض لا الذاتيات .والمراد به هنا:التصديق الجازم لكونه حقيقةً فيه لغةً وعرفاً.

والمراد بالأحكام: الأحكام المطلقة لا بشرط العرفية،والشرعية، والفرعية.

ص: 33


1- الفيروزآبادي، القاموس المحيط: ٢٨٩/٤ .
2- يطلق الأصل في الاصطلاح على أربعة معانٍ: الدليل، والراجح، والأصل، والقاعدة. قال في القوانين بعد ذكر المعاني الأربعة: (والأولى هنا إرادة المعنى اللغوي)، ووافقه صاحب الهداية والفصول. ينظر : الشهيد الثاني تمهيد القواعد: 32 الميرزا القمي، القوانين المحكمة: ٣٥/١؛ محمد تقي الأصفهاني، هداية المسترشدين:٩٥/١ ؛ محمد حسين الحائري، الفصول الغروية: ١.
3- الفيروز آبادي ، القاموس المحيط : ٢٨٩/٤.
4- الكرباسي، إشارات الأصول: 2/1؛ القزويني، ضوابط الأصول: 5/1.

والمراد بالشرعية: ما من شأنه أن يؤخذ من الشارع، وأُخذ أيضاً إما بلسانه، أو بلسان العقل .

وبعبارة أخرى هو ما يُنسبُ إليه بنحو عموم المجاز (1) ، بقرينة ذكرهم الأدلة فيه _ أي في التعريف _ ولا ريب أنها أعم من الدليل العقلي.

ثم ما من شأنه أن يؤخذ من الشارع يعمُّ الحكم التكليفي المولوي، والإرشادي، والوضعي، والموضوع المخترع وغيره كالجهاد ونحوه.

والمراد بالفرعية: ما يعرض للفعل الظاهر للمكلف مطلقاً، سواء كان العروض بلا واسطة أو معها (2) .

والمراد من الأدلة التفصيلية: الأدلة الأربعة.

وأمّا رسم علم أصول الفقه، فإنه : العلم بالقواعد الملاحظة في مقام استنباط الأحكام سواء كانت القواعد من الطرق إلى الأحكام الواقعية ولو بوسائط، أو من الأحكام المتعلّقة بالشك. وسواء كانت تلك القواعد منجزة للأحكام الواقعية،أو مسقطة لها.

وموضوع علم الأصول: كلي القواعد المذكورة في رسمه، المتحدة مع موضوعات مسائله المتكثرة، لا خصوص الأدلة الأربعة (3)، فافهم.

وغايته: القدرة على معرفة الاستنباط.

ص: 34


1- عموم المجاز هو حمل اللفظ على معنى مجازي يعم معناه الحقيقي ومعنى مجازياً آخر، كما لو حلف أن لا يضع قدمه في دار فلان، فيحنث سواء دخلها راكباً أو ماشياً حافياً كان أو ناعلاً حيث أخذت وضع القدم بنحو عموم المجاز الشامل لهذه المعاني. ينظر : السرخسي ،أصول السرخسي: ١/ ٧٤؛ الحائري، الفصول الغروية: ٥٧ .
2- أطلق المصنف قدس سرهُ لما كان عروضه بلا واسطة وما كان بواسطة مطلقاً حتى لوكان بأمر مباين، في حين عرّفه الميرزا القمي في القوانين: 1/ 35 قال : الفرعية ما يتعلّق بالعمل بلا واسطة. ووافقه صاحب هداية المسترشدين : ١ / ٦٠ و صاحب الفصول الغروية : ٣.
3- ينظر الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 7 .

لامعة في المبادئ اللغوية

(1).

واللغة هي: الألفاظ الموضوعة للدلالة على المعاني المقصودة (2).

والوضع : تخصيص شيء بشيء جعلاً لحاجة الإفهام لا عن علاقة سابقة،لكنها تحدث بعد الالتزام به، ويكون بحيث متى أطلق الشيء الأول أحس وفهم منه الشيء الثاني (3).

وتعيين اللفظ للمعنى ليدل عليه على قسمين:

إمّا أن يدل عليه بنفسه، أو بتعيينه له.

واللفظ - من حيث تشخّص المعنى ،وكليّته، وخصوص الوضع، وعمومه، على ما يقتضيه التقسيم العقلي - أربعةٌ؛ لأنَّ المعنى إمّا خاص، أو عام، وعلى كل تقديرٍ الوضع إما خاص، أو لا.

فالأول :ما يكون موضوعاً لشخص باعتبار تعقلّه بخصوص فرده دون أحواله،و یسمی هذا الوضع وضعاً خاصاً لموضوع له خاص، كالأعلام الشخصية.

والثاني: ما وضع لشخص باعتبار تعقلّه لا بخصوصه، بل بأمر عام، ويسمى ذلک وضعاً عاماً لموضوع له خاص، ويكون الوضع لكل جزئي جزئي دفعة واحدة بملاحظة الكلي.

والثالث: ما وضع لأمر كلي باعتبار تعقلّه علی کلیّة وعمومه،و یسمی هذا الوضع وضعاً عاماً لموضوع له عام؛ كأسماء الأجناس الموضوعة للمعاني الكلية لا في حال الخصوصية، ولا بشرطها.

الرابع: ما وضع لكلي باعتبار تعقلّه بخصوصية بعض أفراده.

لا خلاف في وقوع الأول والثالث،إنما الخلاف في الثاني والرابع.

ص: 35


1- هذه اللامعة غير موجودة في نسخة المخطوطة (أ) وموجودة في نسخة (ب).
2- ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام: ٤2/1. والمعاني المقصودة يعني المرادة؛ لأن الفظ في اللغة مهمل ومستعمل. ينظر العلّامة الحلي، معارج الأصول: ٤٩.
3- الجرجاني، التعريفات: 111 .

ذهب العضدي (1) وجماعة (2) [إلى] أن وضع الحروف والضمائر وأسماء الإشارة من نحو القسم الثاني.

واختلفوا في إمكان الرابع فأحاله غيرُ واحد (3) ، وقال بعضهم (4) بإمكانه، والقائلون بإمكانه على قولين : فمنهم (5) من أنكر وقوعه، ومنهم (6) من أثبته وزعم أن المقادير هذا من القبيل بناءً على كونها حقيقةً في القدر المشترك بين التام والناقص الذي يساوق التام في الفائدة المقصودة، وكذلك وضع أكثر المركبات الخارجية كالترياق الفاروق (7)، ومعجون الاطريفل (8) ، فإن إطلاقها على الناقص الذي لا يُعتنى بنقصانه حقيقة في عرف واضعه مع عدم تعدد الوضع.

ص: 36


1- عضد الدين الإيجي، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ٥٩ .
2- الشريف الجرجاني وأغلب من تأخر عنه كصاحب المعالم والفصول. ينظر : الجرجاني، حاشية الجرجاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب : ٦٦٤/١؛ الشيخ حسن، معالم الدين: 123؛ الحائري الفصول الغروية: ٢٠٥ .
3- ينظر: الجرجاني، حاشية الجرجاني على شرح العضد على مختصر ابن الحاجب : ٢/ ٦٦٤؛ الحائري الفصول الغروية : 20 ؛ الشيخ حسن معالم الدين: 123؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 27/1 تحقيق الزارعي.
4- ينظر : الميرزا الرشتي بدائع الأفكار : ٤٠ ؛ المحقق الحائري، درر الفوائد: ٣٦/١.
5- الحائري، الفصول الغروية : ١٦ ذكره ولم ينسبه لقائل معين ،قال :ومنهم من أجاز أن يكون الموضوع له حينئذٍ عاماً كما لو شاهدنا حيواناً فتوصلنا به إلى وضع اللفظ بأزاء نوعه.
6- الميرزا الرشتي، بدائع الأفكار : ٤٠؛ المحقق الحائري، درر الفوائد: 36:1.
7- وهو من الأدوية المركبة، قال ابن سينا: (هذا الترياق أجل الأدوية المركبة وأفضلها، لكثرة منافعة وخصوصاً للسموم من النواهش كالحيات والعقارب والسموم المشروبة القتالة ومن الأمراض البلغمية والسوداوية وحمياتها والرياح الخبيثة ... إلخ) ينظر أبو علي سينا، القانون في الطب: ٤ / ٤٣٥ .
8- هو عبارة عن مجموعة من المواد النباتية والطبية تخلط مع بعضها وتعجن بالسمن وتعقد بالعسل وينقسم إلى معجون الطريفل الكبير والصغير بحسب المواد الداخلة في تركيبه. ينظر داود الأنطاكي، تذكرة أولي الألباب : ٣/ ١٧٥.

والتحقيق: إن الخصوصيات لا يعقل أن تكون مرآة لملاحظة كلياتها، ولو فرض تعقل القدر المشترك بين الأفراد إجمالاً باعتبار تعقل الفرد كان الوضع له، فيرجع إلى القسم الثالث. وأمّا وضع المبهمات (1) فتحقيق القول فيها : إن المعاني قد تكون ملحوظة عند العقل بالذات ومقصودة بذواتها، وقد تكون ملحوظة تبعاً غير مقصودة بذواتها، بل على أنها آلة لملاحظة غيرها، ومرآة لمشاهدة ما سواها؛ وهي بالاعتبار الأول مستقلة بالمفهومية والتعقل، وصالحة لأن يحكم عليها، أو بها وبالاعتبار الثاني غير مستقلّة بالمفهومية وغير صالحة للحكم عليها أو بها، مثلاً معنّى الابتداء معنى له تعلّق بغيره كالسير مثلاً، فذلك المعنى إذا لاحظه العقل قصداً وبالذات كان مستقلاً بالمفهومية صالحاً لأن يحكم عليه، كما تقول: الابتداء معنى إضافي وبه، كما تقول : ما يبحث عنه معنى الابتداء، ويلزم ادراك متعلّقه تبعاً، وبالعرض إجمالاً وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظ الابتداء. ولك ملاحظته على هذا الوجه أن تقيده بمتعلّق مخصوص فتقول : ابتداء سيري البصرة، ولا يخرج ذلك عن وإذا لاحظه العقل من حيث إنَّه حالة بين السير والبصرة، وجعله آلة لمعرفة حالهما، ومرآة لمشاهدتهما على هيئة الانضمام والارتباط كان غيرُ مستقلِّ بالمفهومية وغيرُ صالح لأن يحكم عليه أو به، وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظ (من) ؛ لنصَّ (2) أمير المؤمنين وكافة علماء العربية (3) أن الحرف لا يدل على معنى في نفسه، وإنما يدل على معنىً في غيره، فاتضح أن ذكر متعلّق

ص: 37


1- ينظر ابن هشام، أوضح المسالك قال المبهم هو ما افتقر إلى غيره في بيان مسماه، وهو شامل لأسماء الإشارة والموصولات والحروف وغيرها. لكن المحقق الرضي في شرح الكافية خصه بأسماء الإشارة والموصولات شرح الكافيه : ٣: ٢٤٠ .
2- ينظر الشيخ المفيد، الفصول المختارة : 91 قال رحمة الله علیه: ( و أخبرني الشيخ أدام الله عزّه مرسلاً عن محمد بن سلام الجمحي أن أبا الأسود الدؤلي دخل على أمير المؤمنين علیه السلام فرمى إليه رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام ثلاثة أشياء: اسم، وفعل، وحرف، جاء لمعنى، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أوجد معنى في غيره).
3- ينظر: المحقق الرضي، شرح الكافية : ١/ ٣٥ ابن مالك، شرح التسهيل: ١٨؛ وكافة علماء العربية ٣٥/١٢؛ حيث جعلوا الحرف قسيماً للمعاني المستقلّة الاسم والفعل.

الحرف إنما وجب لتحصّل معناه في الذهن؛ إذ لا يمكن إدراكه إلَّا بإدراك متعلّقه، وهو آلة لملاحظته لا لأنَّ الواضع شرط في دلالته على معناه الإفرادي ذكر متعلّقه، ولو لم يشترط ذلك لأمكن فهم معناه والحكم عليه وبه في نفسه، فإنه لا يرجع إلى طائل، وأنى يكون كذلك ومعناه لمكان جزئيته وخصوصيته لا يعقل إلّا بذكر ما يدل بنفسه، وعلى الخصوصية التي بها تتحقق الجزئية هل تعقل معنى (من) في: سرت من البصرة - أعني هذا الابتداء الخاص - إلّا بذكر ما قبلها وما بعدها فأيّ استقلال في الدلالة بعد هذا! فالوضع في الحروف من قبيل القسم الثاني، أي من قبيل الوضع العام لموضوع له خاص؛ وأيضاً فحيث لا دليل على هذا الاشتراط في الحروف سوى التزام ذكر المتعلّق في الاستعمال ، فهو مشترك بينها وبين الأسماء اللازمة للإضافة.

ومما ذكرنا ظهر فساد دعوى (1) أن حال المستعمل فيه والموضوع له في الحروف حالهما في الأسماء؛ وذلك لأنَّ الأسماء الغير لازمة للإضافة لا التزام فيها بذكرالمتعلّق في الاستعمال، بخلاف الحروف والأسماء اللازمة للإضافة؛ فإنه لا يصح استعمالها بدون ذكر المتعلّق؛ ضرورة كون المتعلّق من خصوصيات (من) ومتقوماً بها بحيث لا معنى ل_(من) في: سرت من البصرة، إلَّا بذكرِ السير والبصرة ، فإذا أراد استعمال (من) في الابتداء الخاص لزمه ذكر المتعلّق؛ لأنَّ معنى (من) كما لا يكون في الذهن إلاَّ في مفهوم آخر لا يكون في الخارج إلَّا في مذکورآخر، فالتزام ذكر المتعلّق في الاستعمال من شروط استعمال الحرف وما ألحق به، وهو الفارق بين حال المستعمل فيه والموضوع له في الحروف، وبين حال المستعمل فيه والموضوع له في الأسماء.

وظهر (2) مما حققنا أيضاً أنَّ المستعمل فيه عين الموضوع له، ويلزم القائلين بأنَّ الوضع في الحروف وما ألحق بها من قبيل الوضع العام لموضوع له عام أنّ الموضوع له غير مستعمل قط في ما وضع له؛ للاتفاق على أنّ المستعمل فيه الخصوصيات دون القدر المشترك.

ص: 38


1- ينظر الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ١/ ٢٨.
2- ينظر الميرزا القمي، القوانين: ١ / ٥٠ ؛ الحائري، الفصول الغروية: ١.

ودعوى صاحب الكفاية (1) أنْ ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ الابتداء مثلاً إِلَّا الابتداءمثلاً الَّا البتداء،فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلاً كذلك لا يعتبر في معناها لحاظه في غيرها وآلة، وكما لا يكون لحاظه فيه موجباً لجزئيته فليكن كذلك فيها.

ممنوعةٌ أشد المنع، وأنّى يتحد الاسم والحرف في ما له الوضع، وما له الوضع في الحرف حالة لمعنى آخر، ومن خصوصياته القائمة به، فحاله حال العرضي، فكما لا يكون في الخارج إلَّا في الموضوع كذلك المعنى الحرفي لا يكون في الذهن إلّاَ في مفهوم آخر، ولا في الخارج إلَّا متعلّقاً بغيره، والآلية معنى ذاتي للحرف ولها الوضع، فما له الوضع في لفظ (من)

مباين لما له الوضع في لفظ الابتداء المقيد مطلقاً بنفسه كحال تباين العرض والجوهر.

فإن قلتَ: كما يمكن أن يكون الموضوع له الخصوصيات يمكن أن يكون القدر المشترك بينها هو الموضوع له، والاستعمال في الخصوصيات من قبيل استعمال الكلي في الفرد.

قلتُ: قد عرفت أنَّ معنى الحرف جزئي آلي وحالة لمعنى آخر لا يقبل الكلية، والقدر المشترك الذي باعتباره تعقلنا الخصوصيات ليس معنى حرفياً، ومعنى عموم الوضع في كلمة (من) هو أن الواضع تعقل معنى الابتداء مطلقاً، وهو أمر مشترك بين الابتداءات الشخصية التي كل منها ملحوظة تبعاً، ووضع لفظ ( من ) لكل جزئي جزئي دفعة واحدة، ولولا ملاحظة ذلك الكلي لم يقدر على ذلك الوضع، فليس الكلي معني حرفياً حتى يكون موضوعاً له، إنما هو آلة لملاحظته، ولا المستعمل فيه فردٌ له؛ ضرورة كونه جزئياً آلياً. ولو كان الحرف موضوعاً للعام الكلي لاستعمل فيه، ولكنه لم يستعمل إلَّا في الخصوصيات بالاتفاق، وظاهر الاستعمال المستمر الحقيقة، والاتفاق قائم على أنها ليست بمجاز، فلم يبق إلَّا أن تكون وضعت للجزئيات بملاحظة الكليات.

فإن قلتَ: الموضوع له (من) الابتداء المقيد بأنه لملاحظة المذكور على الإطلاق، لا الابتداء المقيد مطلقاً بنفسه من دون حاجة إلى ضميمة، وحيث إنَّ تلك الملاحظة لا تتم إلَّا

ص: 39


1- ينظر الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٣٠/١.

بالتركيب مع ما يجيء به لتعرف حاله، صح أنَّه غير مستقل في نفسه من أن معناه إذا لوحظ تبعاً لغيره، لكن ذلك لا يستلزم عدم استقلاله في الدلالة على معناه.

قلتُ : معنى الحرف معاند لما يستقل في الدلالة على معناه ، وقد عرفت أنَّ تقييد الابتداء بمتعلّق مخصوص كقولك: ابتداء سيري البصرة، لا يخرج ذلك عن الاستقلال، فهذا معنى اسمي لا حرفي.

إنما الحرفي الذي لاحظ [ه] العقل فوجده حالة بين السير والبصرة، وجعله آلةً لمعرفة حالهما ومرآة لمشاهدتهما على هيئة الانضمام والارتباط، فهو لا يستقل بالمفهومية، ولو قلت: السير من البصرة، كان المخبر به السير الخاص، فلم تستعمل (من) إلَّا في الجزئي الإضافي ،ووقوعها بين كلّيتين لا يمكن أن يخرجها عن معناها الربطي الآلي الجزئي إلى الكلية باتفاق (1) كل علماء العربية. فافهم، وإنه ولي التسديد.

في تقسيم الألفاظ

قد يوصف اللفظ باعتبار معناه بالجزئية وبالكلية، ومتساوي الصدق على أفراده متواطئ، وغيره مشكك، والمتصف بذينك الاسمُ، فإن تكثر معناه وجعل لكل واحد بوضع مستقل فهو المشترك، وقد دخل به المرتجل على الأقوى؛ والوضع إن خُصَّ بواحد فهو الحقيقة كأسد، فإن استعمل في غيره برخصةٍ فهو المجاز.

علائم الحقيقة والمجاز

يثبت الوضع بنص من لا ريب فيه من أهل العلم باللغة، ويسبق معنى اللفظ للذهن من مجرد اللفظ به، فإن استند لخارجٍ عن اللفظ فلا وضع، ولا بدَّ من العلم بالاستناد إلى مجرد اللفظ فلا يكفي الظن بالاستناد إليه على الأصح، وأصالة عدم الاستناد إلى غير اللفظ

ص: 40


1- يث اتفق جميع علماء العربية على كون الحرف ليس له معنى استقلالي، بل آلي ربطي، ولم يقل أحد منهم بأنه يخرج عن هذا عند وقوعه بين كلّيين. ينظر المحقق الرضي، شرح الكافية : ١/ ٣٥ وغيره من كتب النحويين في مبحث الكلمة.

لا تنفع، والنقض بسبق المجاز المشهور للذهن (1) لا يصغى إليه، وإنما يسبق المنقول للذهن بلا لحاظ شهرة عند التأمل، والنفع في سبق معنى اللفظ للعالم (2) فلا دور ولا إشكال. والحق إنَّ صحة السلب علامة المجاز، وعدمها علامة الحقيقة للجاهل بالمجاز وبالحقيقة لا للعالم فلا دور؛ إذ لا توقف عند الجاهل أصلاً، وبالسلب ينكشف له المجاز،

وبعدمه ينكشف له الحقيقة، وغيرُ هذا من وجوه دفع الدور لا تدفعه.

والاطراد (3) علامة الحقيقة إذا اطرد استعمال اللفظ من دون تأويل، وما ليس يطرد نحو: (اسأل القرية) (4) فهو مجاز، والحق إنه يطّرد مجازاً إذا وجدت له علاقة.

والغلبة علامة الوضع بمعنى الاستقراء التام.

في استكشاف الوضع بالاستعمال

يثبت الوضع عرفاً مع العلم بالمفهوم، وعدم العلم بالمراد؛ وكذا إذا اتحد المستعمل به مع الجهل بالموضوع له اللفظ؛ وتوقف بعضهم (5)، وبعضهم (6) صار إلى المجاز؛ ومثله إنْ اتحد الوضع وتكثر المعنى، فالمورد المجهول بالمعنى دخل للأصل، ولشمول المفهوم الكلي، نعم لو كثر المستعمل به اللفظ وجهل وضع اللفظ فيه، أو جهل الوضع في البعض وعلم

ص: 41


1- في نسخة ب :إلى الذهن.
2- في نسخة ب :والنفع للجاهل في سبق معنى اللفظ للعالم.
3- ذكر في هداية المسترشدين: ١ / ٢٦٠ الاطراد من اللوازم المساوية للحقيقة، وعدمه من اللوازم المساوية للمجاز، فالأول يدل على الحقيقة والثاني يدل على المجاز، من باب دلالة اللازم المساوي على ملزومه.
4- سورة يوسف: 82، وسمّى المحقق الحلي هذا النوع من الأمثلة باسم (تعليق اللفظة بما يستحيل تعلّقها به وجعله من علامات المجاز. ينظر المحقق الحلي معارج الأصول: ٥1.
5- المتوقف هو المحقق القمي، ونسبه إلى المشهور ، وتابعه والد الفاضل النراقي كما ذكر ولده، ينظر: القمي، القوانين: 1/ 80؛ الحائري، الفصول : ٤١ ؛ الرشتي، بدائع الأفكار: ٢٦٠.
6- ابن جني، الخصائص : ٣٩٤ .

لآخر، فالوجه الوقف وفاقاً للمشهور (1) ، والمرتضى (2) بالوضع للكل قضی ،لانَّه الأصل في الاستعمال ولا يرتضيه الفضلاء (3) ، وكل لفظ علم المقصود منه يحمل عليه ألبتة.

وكذا لو اتّحد المعنى الحقيقي للّفظ ولا معارض له، وإنْ تكثرَ معنى اللفظ بالوضع وكان له معنىَ مشتهر حُملَ على ما اشتهر فيه مع اتحاد العرف، ومع تعدد العرف فعرفُ السامع مع علم المتكلّم به، لا عرف من قال، ولا التوقف.

نعم، لو لم يعلم المتكلّم بعرف السامع ويدر العدم فالمقدم عرفه، ويرجح المنقول إن كان النقل قبل الاستعمال لا بعد، ومع الجهل بالنقل فالأخذ بما يقتضيه الأصل لا غير.

تعارض الأحوال

إذا ورد لفظ يحتمل فيه التخصيص، والإضمار ،والمجاز، والنقل، والاشتراك؛ فإن جاء على واحد منها دليلٌ معتمد فذاك، وإن قضى بواحد مردد تعارضت الأحوال من جهة التردد، والأخذ بالتخصيص منها لا ريب فيه عرفاً، ثمَّ بالمجاز الشائع فيه، ثمَّ بالإضمار، ومع تعارض خصوص النقل والاشتراك فالترجيح للاشتراك، والنقلُ مرجوحٌ بالأصل.

في الحقيقة الشرعية

اختلفوا في الألفاظ المستعملة في المعاني المخترعة في الشرع كالصوم والصلاة، والحج والزكاة، هل لها وضع من الشارع تعييني أو تعيني ؟ أم لا وضع له فيها أصلاً؟

قولان، والتفصيل قول ثالث (4).

ص: 42


1- ذهب المشهور إلى التوقف؛ لأنهم يبنون على أن الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ولا مرجح لأحدهما على الآخر. ينظر : الحائري، الفصول: ٤١ ؛ الميرزا القمي، القوانين: 81/1.
2- السيد المرتضى، الذريعة : 13 ، قال : إن ظاهر استعمال أهل اللغة اللفظة في شيء دلالة على أنها حقيقة فيه إلا أن ينقلها ناقل عن هذا الظاهر.
3- كصاحب القوانين والمناهج والضوابط والإشارات وزبدة الأصول.
4- في نسخة ب: والتفصيل ثالثهما .

واحتج المثبت مطلقاً بالتبادر و ممنوع (1)، وبالتتبع المفيد للظن بالوضع. وفيه منعٌ ظاهر.

واحتج الثاني بعدم ثبوت النقل، فالأصل العدم.

وفيه: إنَّ الأصل لا يقتضي نفيَ الوضع في الواقع، والنفي ظاهراً لا ينفع.

والحقُ ثبوت الحقيقة الشرعية في الجملة موجبة جزئية.

وما قيل (2) من نفي المعاني المخترعة في الشرع، وليس (3) إِلَّا شرائط زادها الشارع، فما شك فيه ينفي بالأصل.

فقولٌ ظاهرُ الوهن ساقط .

ثم على القول بالاختراع انعقد مبحث الصحيح والأعم

[ مبحث الصحيح والأعم]

فاختلفوا بعد الاتفاق على الأحداث في الأسماء هل هي اسم للصحيح أو للمعنى الأعم؟

والأصح الأول؛ للتبادر وصحة السلب، ولظاهر: «لا صلاة إلَّا بطهور» (4) وأمثالها الظاهرة في نفي (الصحة) (5) ، وهي مستفيضة قوية الظهور في نفي الصحة (6) دون نفي الكمال

و لا ينفع الاحتمال بعد الظهور. وحملُه عليه لبعضِ ما ورد فيه، قياسٌ مردودٌ.

ص: 43


1- كذا في نسختي المخطوطة والظاهر سقوط كلمة (هو) .
2- ينظر الرازي، المحصول : 1/ 298 حيث نسبه إلى القاضي الباقلاني.
3- كذا في نسختي المخطوطة والظاهر سقوط كلمة (هي).
4- الطوسي، الاستبصار : ٥٥/١.
5- في نسخة ب: نفي الماهية.
6- في نسخة ب :نفي الماهية.

واحتج العامل بالأعم (1) بالتبادر وامتناع السلب.

والحق العدم.

وبلزوم كثرة الماهية عند اختلاف الكيفية.

وفيه: إنَّ المختلف إنما هو النوع الوضع (2) للقدر الجامع للأنواع، وهو المبرئ فتأمل. وثمرة هذا النزاع عندهم إجراء أصالة العدم بناءً على كون الأسامي للأعم، مع أنها تجري على المختار؛ لأنَّ التكليف ليس بالمجهول، بل بالمتيقن المعلوم، (فينفى المشكوك بالأصل وليس المشكوك من أطرف المعلوم) (3) بالإجمال (4) حتى لا تجري فيه البراءة.

والقولُ بالاشتغال عند الشك قولٌ ضعيفٌ ستعرف تزييفه (5) إن شاء الله .

في المشترك

والقول بإحالته مقطوع الفساد؛ لإمكانه في حكمة الوضع، ولوجوه (6) في القرآن نحو القرء (7) وعسعس (8) ، وفي اللغة نحو العين.

نعم، هو على خلاف الأصل، ولا خلاف في عدم ورود استعماله في كل المعاني ولا في معنى شامل للمجموع إلَّا تجوزاً، وهل يجوز في أكثر من معنى واحد على سبيل الانفراد بأن

ص: 44


1- ينظر الميرزا القمي، القوانين:1،6/1
2- في نسخة ب :الموضوع.
3- ما بين القوسين غير موجود في نسخة ب.
4- هكذا ورد في نسخة ب: بل بالمتيقن المعلوم بالاجمال.
5- غير موجودة في ب.
6- كذا في الأصل، وفي نسخة ب: ولوجود.
7- في قوله تعالى في سورة البقرة: 228: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ، حيث إن لفظ القرء موضوع للطهروالحيض.
8- في قوله تعالى في سورة التكوير: 17 : ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ )، حيث إن لفظ عسعس موضوع لأقبلَ وأدبرَ.

يراد منه كل واحد، ويكون مناطاً للحكم مستقلاً كما لو لم يستعمل إلَّا فيه أم لا؟ الأصح العدم، ومنهم (1) من جوّزه حقيقة، ومنهم (2) من جوّزه تجوّزاً، ومنهم (3) من جوّزه على نحو الحقيقة للتثنية والجمع وعلى وجه التجوّز في المفرد، ومنهم (4) من جوّزه في النفي دون الإثبات، وأدلة الكل مدخولةٌ. والحقُ الامتناع مطلقاً؛ لعدم إمكان الُمستَعمِل لحاظ اللفظ وجهاً لإرادة أكثر من معنى واحد في استعمال واحد ،مفرداً كان معنى اللفظ أو غيره، حقيقةً كان الاستعمال في الأكثر أو تجوّزاً، ضرورة أنَّ لحاظ اللفظ وجهاً وعنواناً في إرادة معنى ينافي لحاظه وجهاً في إرادة معنی آخر؛ لأنَّ لحاظ اللفظ وجهاً في إرادة معنى إنما يكون تبعاً للحاظ المعنى المودوع في اللفظ الذي هو عنوان المعنى، والمعنى هو المعنون به، فكيف يمكن إرادة معنى آخر مع المعنى الملحوظ بوجهه وعنوانه في استعمال واحد ؟ وهل هذا إلَّا المحال العقلي، ولولا ما يحيل العقل من ذلك لما كان مانع من جوازه.

ودعوى اعتبار الوحدة في الموضوع له. ممنوعةٌ جداً، وكون الوضع في حال وحدة المعنى غير مانع لعدم كون الوحدة قيداً في الموضوع ولا في الموضوع له.

واحتج القائل (5) بالتفصيل على كون الاستعمال في التثنية والجمع على نحو الحقيقة فيهما ، بكونهما بمنزلة تكرار اللفظ ، وعلى كونه على نحو المجاز بالمفرد بكونه موضوعاً للمعنی

ص: 45


1- نقل عن الشافعي والباقلاني أنهما قالا : المشترك إذا تجرّد عن القرائن المخصوصة وجب حمله على جميع معانيه.ينظر: الرازي، المحصول: 27٤/١؛ ومن أصحابنا من جوّزه كالسيد المرتضى في الذريعة: 18/1؛ والشيخ الطوسي في العدة اشترط أن يكون الوقت وقت حاجة. عدة الأصول: ٥١/١؛ واختار المحقق الحلي جوازه نظراً إلى الإمكان لا إلى اللغة. معارج الأصوال: ٥٣ .
2- ينظر: العلّامة الحلي، مبادئ الوصول : 70؛ الشيخ الجواهري، جواهر الکلام: ١٠٣/٢٨.
3- ينظر الشيخ حسن معالم الدين: 39.
4- ينظر: السيد القزويني، تعليقه على معالم الأصول : ١ / ٥١١ ؛ الحائري، الفصول الغروية: ٥٣ .
5- في نسخة ب هكذا: ودعوى اعتبار الوحدة في الموضوع له واحتج القائل.

بقيد الوحدة، فإذا استعمل في الأكثر من معنى واحد لزم إلغاء قيد الوحدة، فيكون مستعملاً في جزءالمعنى بعلاقة الكل والجزء.

وفيه: إنّ اللفظ إنما يكون موضوعاً لنفس المعنى من غير ملاحظة قيد الوحدة، وإلَّا لما جاز الاستعمال في أكثر من معنى عند المجوّز ؛ لأنَّ الأكثر ليس جزء المقيد بالوحدة، بل ينافيه؛ لأنَّ المفرد بشرط الوحدة وذلك بشرط لا، فالمفرد يناقض الوضع مع التعدد، ويباينه كما هو واضح، فلا رخصة حينئذٍ في استعمال المفرد في أكثر من معنى، وحيث لا رخصة فالتجوّز أيضاً لا رخصة فيه؛ لأنَّه فرع الرخصة في الاستعمال بالمتعدد، ولا يفيد لفظ المثنى والمجموع إلَّا بمعنى المفرد، فالمراد من كونه بحكم تكرار اللفظ أنه كأنه تكرر وأريد من كل لفظ فردٌ من أفراد معناه لا أنه يراد منه معنى من معانيه، فالأمر بالعينين أمر بفردين من العين الجارية مثلاً لا بالعين الجارحية، والعين الباصرة فلا يكون من استعمالها في أكثر من معنى، على أنه لو دل على التعدد لا يكون من استعمال التثنية والجمع في أكثر من معنى؛ ؛ لأنَّ هيئتهما إنما تدل على إرادة المتعدد مما يراد من مفردهما، وحينئذٍ فيكون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانيه من استعمالهما في معنى واحد كما إذا استعملا وأريد المتعدد من (1) معنى واحد منهما لا من استعمال العينين في معنيين؛ ولو أريد من العينين ذلك - أي فردان من الجارية وفردان من الباصرة - كان من استعمال العينين في المعنيين، لكن هذا لا دليل عليه، وكونهما بحكم تكرار اللفظ لا يفيده حينئذ ؛ لأنَّ فيه إلغاء قيد الوحدة التي هي قيد في المفرد والمثنى والمجموع عند المدعي.

ثمَّ التفصيل بين النفي وغيره أيضاً فاسدٌ؛ لأنَّ النفي لا يقتضي التعدد وإن عمَّ، وإنما ينفي الذي يفهم في حالة الإثبات وضعاً كما لا يخفى.

وأيضاً لا يجوز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي؛ لعدم الإذن به من الواضع، وتوقيفه صحة الاستعمال على الرخصة.

ص: 46


1- في نسخة ب: (عن).

فالقول بجوازه مجازاً مردودٌ مطلقاً؛ لما بينهما من المناقضة

من جهة القرينة المعارضة،بل الجمع بینهما ممتنع عقلاً حینئذٍ.

مبحث المشتق

وهو معنى بسيط منتزع من الذات بملاحظة اتصافها بالمبدأ، وهو حقيقة فيما تلبس بالمبدأ في الحال بالاتفاق (1) ، ومجازٌ فيما يتلبس به في الاستقبال بالاتفاق (2). والخلاف في الذي انقضى عنه المبدأ.

والأكثر (3) على كونه مجازاً؛ لصحة السلب مطلقاً عما انقضى عنه وتبادر التلبس في الحال بالمبدأ منه عند الإطلاق، ولو كان موضوعاً للأعم لزم اتصافه بالضدين في الذي انقضى عنه التلبس بالقيام وتلبس حالاً بالقعود، وكالأبيض الذي صار أسودَ، ولا ريب في مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادئ المتضادة على ما ارتكز لها من المعاني، ولو كان للأعم لصح استعماله بلحاظ كلا الحالين.

والاحتجاج على كونه حقيقة في ما انقضى عنه المبدأ بصدق العالم على النائم عرفاً في غير محله؛ لأنَّ العلم حال النوم مرتسم بالنفس لم يزل عنها.

وأمّا عدم صحة السلب في مثل: مقتول ومضروب المنقضي عنه المبدأ فلا ينافي المجازية؛ حيث أُريد من المبدأ معنى يكون التلبس به باقياً في الحال مجازاً؛ ولذا يصح فيهما أنه ليس بمضروب ومقتول الآن، بل كان مضروباً ومقتولاً، ولا فرق بين المصدر السيّال وسائر الأفعال، ولا بين ما طرأ عليه الضد وغيره؛ لما عرفت من الأدلة على اعتبار التلبس بالحال،

ففي من انقضى عنه المبدأ مجاز مطلقاً.

ص: 47


1- ينظر الفاضل التوني الوافية : ٦٢.
2- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ١/ ٨٢.
3- في نسخة :ب ولا الخلاف

لامعةٌ في الأوامر

الأمر: طلب العالي الفعلَ بالقول (1).

ولا مخالفة عندنا بين الطلب والإرادة التكليفية، بل هما متحدان ولفظهما بإزاء معنى واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين

الإرادة الإنشائية، ولفظ الأمر للحتم عرفاً ولغةٌ (2)؛ لأنَّه المنساق عند الإطلاق.

وأمّا صيغة افعل فهي للوجوب لغةً ، بل وشرعاً ؛ لأنه المفهوم عرفا منها، والنقل للوجوب الشرعي خلافُ الأصل، وتشهد به آية التحذير (3) المشتملة على تهديد مخالفة الأمر، ويعلم من سياق الآية أنّ لازم التهديد ترك الواجب، وإلَّا لقبح التهديد لا عن سبب، فلا دور في الاستدلال بالآية على الوجوب.

وكذا الجمل الخبرية في مقام البعث والطلب ظاهرة في الوجوب، بل هي آكد فيه من الصيغة (4).

تنبیهان

[التنبيه] الأول: إطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب تعبدياً بناءً على كون التقرّب المعتبر في العبادة بمعنى إتيان الفعل الله كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (5) ، ولا ريب في إمكان اعتبار التقرّب بهذا المعنى في متعلّق الأمر.

نعم، لو كان المراد بالتقرّب المعتبر في العبادة إتيان العمل بقصد الامتثال _ الذي لا يمكن أخذه في متعلّق الأمر؛ لكون قصد الامتثال من كيفيات الإطاعة عقلاً لا من قيود

ص: 48


1- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٦٢.
2- ينظر : حبيب الله الرشتي بدائع الأفكار : 809؛ الميرزا القمي، القوانين: ١/ ١٦٦.
3- سورة النور : ٦٣ .
4- في نسخة ب : في الاستدلال بالآية على الوجوب، بل هي آكد فيه من الصيغة.
5- سورة البينة ٥ .

المأمور به شرعاً - لما كان مجال للاستدلال بإطلاق الصيغة على عدم اعتبار قصد الامتثال، كما لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق مادة الصيغة، ولا عدم اعتبار الوجه من إطلاق المادة في العبادات عند الشك في اعتباره فيها ، بل المرجع في الشك في التوصلية والتعبدية حينئذٍ إلى الأصل وهو الاشتغال؛ لأنَّ الشك في المسقط والخروج عن عهدة التكليف (1).

التنبيه الثاني: الصيغة المطلقة إذا كانت في مقام البيان ومجردة عن القرينة فإطلاقها يقتضي حينئذٍ كون الوجوب فيها مطلقاً من جميع الجهات، فيكون نفسياً تعينياً عينياً، سواء وجب شيء آخر أو لا وأتى بشيء آخر أو لا، أتى به آخر أم لا؛ لأنَّ هذه لو كانت كان الواجب مقيداً بها، والمفروض تحقق الإطلاق، فالنفسية والتعينية والعينية ثابتةٌ؛ لمكان الإطلاق.

الأمر بعد الحضر

إذا ورد أمر عقيب التحريم هل يكون للوجوب (2) كالأمر المبتدأ، أو للإباحة (3)، أو للتبعية (4) لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علة النهي ؟

والحقُ أن مجرد وروده عقيب التحريم لا يقتضي لأن يكون صارفاً له عما وضع له؛ لكون الحرمة أعم من الوجوب، والعام لا ينافي الخاص، وكما لا يمتنع الانتقال من الحضر إلى الإباحة فكذا لا يمتنع منه إلى الوجوب، والعلم بجوازه ضروري.

نعم، كونه عقيب الحضر، أو عقيب تو همه مما يصلح لأن يكون الآمر اعتمد على قرينية ذلك لكن لم يثبت فتكون الصيغة مجملة إلَّا أنْ يتمسك بقاعدة المقتضي والمانع فيقال: الأمر

ص: 49


1- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ١/ ١٤٥ - ١٤٦ .
2- ينظر الرازي، المحصول : ٩٦/٢؛ المحقق الحلي، معارج الأصول: ٦٥؛ الشهيد الثاني، تمهيد القواعد: 27 قاعدة 32.
3- ينظر: الآمدي، الأحكام: 178/2؛ ابن الحاجب ،مختصر منتهى الأصول المطبوع في ضمن شرح العضد: ١٤٧؛ الميرزا القمي، القوانين: 1/ 183.
4- ينظر: العضد الإيجي، شرح العضد على مختصر منتهى الأصول لابن الحاجب: ١٧٥؛ السيد المرتضى، الذريعة : 1/ 73؛ الشيخ الطوسي، عدة الأصول: 183/1 .

يفيد الوجوب والمانع عنه مفقود.

و فيه نظرٌ ، والاستدلالُ على الأقوال بما ورد من استعمال الشارع في غير محلّه؛ لظهورالمراد بالقرينة الخارجية، فهو خروج عن موضوع البحث، فافهم.

في مبحث المرة والتكرار

والحقُ أنَّ الأمر مقتضاه مطلق الطلب من غير تقييد بمرة ولا تكرار لا في مادته ولا في هيئته، والاكتفاء بالمرة لمكان تحقق الامتثال ؛ لأنها (1) موضوع لطلب إيجاد الطبيعة باعتبار وجودها في الخارج الحاصلة بالمرة (2).

واحتج على اقتضائه التكرار بوروده مکرراً (3).

وفيه المنع أولاً، والمعارضة بالحج ثانياً.

وبكونه كالنهي؛ لاشتراكهما في الطلب (4) ، وهو قياس مع الفارق؛ لعموم النهي ، لكل زمان.

وبكون الأمر يقتضي النهي عن الضد والنهي يقتضي دوام الترك فيلزم التكرار بالمأمور به (5).

وفيه:

أولاً : منع اقتضاء النهى عن الضد كما ستعرف.

وثانياً: عدم استلزام عدم استلزام النهي عن الضد التكرار، وإن كان للدوام فلا يجب لأجله دوام

ص: 50


1- كذا في نسختي المخطوطة ولعل الصحيح: (لأنه).
2- الآخوند الخرساني، كفاية الأصول: ١/ ١٥٠
3- ينظر العلّامة الحلي، نهاية الوصول: 98/2 حيث ذكر هذه الأدلة في ضمن ثلاثة عشر دليلاً للقائلين بالتكرار، وردَّها جميعاً واقتصر صاحب المعالم على ذكرها. معالم الدين: ٥٤ .
4- الآخوند ،الخرساني، كفاية الأصول: ١ / ١٥٠ .
5- الآخوند ،الخرساني، كفاية الأصول: ١ / ١٥٠ .

الفعل المأمور به، نعم يتم في ضدين لم يرتفعا لا مطلقاً كما هي دعوى الخصم. ثمَّ على المختار لو أتى بالفعل ثانياً لم يكن ممتثلاً؛ لتحقق الامتثال بالأول وحصول الغرض به؛ لكونه علة تامة في حصول ذلك، فلا مجال للإتيان به ثانياً بداعي الأمر بعد سقوط الأمر، بل يكون بالثاني شرعاً (1) على الأصح. ثمَّ إِنْ كان الأمر قد عُلّق على شرط أو وصف مفهم للعلية من هذه الحيثية لزم تكرار المأمور به، وإلَّا فلا على الأصح.

في الفور والتراخي

الحقُّ أنَّ الظاهر من الأمر طلب إيجاد الطبيعة (2) من غير تقييد بفور، أو تراخ خلافاً لقول (3) فيهما؛ لأنَّ الأمر ورد بالمعنيين كالواجب المضيق والموسع، فيكون حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو طلب الفعل من غير إشعار بخصوصية الفور والتراخي؛ دفعاً للمجاز والاشتراك؛ ولأنه قابل للتقييد بهما نحو: اضرب الآن أو غداً.

واحتج القائل بالفور (4) بقوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ إِلَّا تَسْجُدَ إِذ أَمَرْتُكَ ﴾ (5)، ولأنَّ التأخير إذا كان دائماً انتفى الوجوب، وإن كان إلى وقت معين وجب وجود ما يدل عليه اللفظ ، وإن كان إلى غير معين لزم تكليف ما لا يطاق.

ص: 51


1- كذا في نسختي المخطوطة ولعل الصحيح: (مشرّعاً).
2- ينظر:الفاضل التوني، الوافية : 78؛ الشيخ حسن، معالم الدين: ٥٦ ؛ المحقق الحلي، معارج الأصول:٦٥.
3- ينظر: الدمشقي، اللباب في علوم الكتاب ٣٥/٥؛ وقال السيد المرتضى في الذريعة : ١٣١/١ : إنه مشترك بين الفور والتراخي. وكذلك العلّامة الحلي، تهذيب الوصول : 93؛ والرازي في المحصول: .١١٣/٢.
4- ينظر : الشيخ الطوسي، عدة الأصول: 227/1؛ العلّامة الحلي، نهاية الوصول: ٢/ ١١٥ - ١٢٥.
5- سورة الأعراف: 12 .

والجواب:

عن الأول أنه حكاية حال، فلعل أمر الله كان مقروناً بما دلّ على الفور، وهو الفاء في قوله تعالى: ﴿فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (1)؛ فإنه تعالى رتب السجود على التسوية والنفخ بفاء التعقيب؛ ولأنَّ ابليس ترك السجود لا بعزم الفعل فيستحق الذم لا من حيث التأخير .

وعن الثاني أنه منقوض بقوله : أوجب عليك الفعل في أي وقت شئت.

ثمَّ التحقيق أن التأخير يجوز إلى وقت معين، وهو حصول ظن الموت بعد وقت الفعل بلا فصل، ولا يجب أن يكون في اللفظ دلالة عليه؛ لجواز أن يستفاد ذلك الوقت من حصول

أمارات الموت كعلو السنّ والمرض الشديد، ونحو ذلك.

ثمَّ الأظهر - بناءً على الفور _ عدم دلالة الصيغة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده، فلو أخر عن أول الوقت فلا دلالة على تكليفه بالفعل فيما بعد فوراً ففوراً.

ص: 52


1- سورة الحجر: 29 .

في تعريف الواجب وتقسيمه

الواجب :ما يذم تاركه في الجملة (1).

وينقسم: إلى النفسي المطلوب بالذات، وإلى الغيري المطلوب وصلة؛ وإلى الأصلي الذي جاء به خطاب مستقل ، وإلى التبعي الذي وجب تبعاً لوجوب غيره. والأصل في الواجب أن يكون نفسياً، وليست النفسية قيداً في الواجب، بل هي مفهومة من إطلاق مورد الطلب.

وإلى التعبدي، وهو الذي لا بد فيه من نية التقرّب.

وإلى التوصلي، ولا يجب فيه قصد القربة، وقد عرفت مبنى أصالة التوصلية والتعبدية، وحكم الشك في الإطاعة، وعدم إمكان صحة نفي قصد الامتثال بالإطلاق، وحكم ما لو كان دليل الوجوب الإجماع أو حكم العقل، حكم الدليل اللفظي في ذلك من هذه الحشة.

في تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط

فاعلم أن الواجب المطلق ما لا تقييد في الطلب فيه واقعاً.

وأمّا المشروط فبخلافه، وهو: ما كان الطلب مقيداً في الواقع، فحاصل تصويره على وجه لا يلزم فيه تعليق في الإنشاء - الذي هو غير معقول أو غير جائز _ ولا يلزم تأخير المنشأ عن الإنشاء الباطل ، وهو أن القضية الشرطية لا ريب في كون الجزاء فيها إنشاءَ كما في مثل : إن جاءك زيد فأكرمه. فلا بدَّ من معرفة حال هذا القيد، وأنّ المقيد ما هو هل هو المادة أو

الهيئة ؟

فنقول: لا ريب في عدم تقيّد المادة (2)؛ لأنَّه يكون حينئذٍ قيداً للمطلوب لا للطلب ،وظاهر القضية خلافه؛ لأنَّ ظاهرها كون القيد قيداً للطلب، فإذا كان كذلك _ والمفروض عدم جواز التعليق في الإنشاء، والطلب من الإنشائيات - فلا بدَّ حينئذٍ من أن نقول: إِنَّ

ص: 53


1- الأصفهاني، هداية المسترشدين : ٢/ ٦٠ .
2- ينظر الميرزا أبو القاسم الكلانتري ،مطارح الأنظار:١/٢٣٦ .

الصيغة لم تستعمل في الطلب المطلق، ولا المقيد الفعلي، حتى يلزم فيها التعليق في إنشائها، أو يلزم تحصيل مقدمات الواجب، لكن المتكلّم حيث لم يكن محباً لإكرام زيد مطلقاً بل إذا اتفق مجيئه، فقبل مجيئه ليس له حب ولا إرادة، ولما أراد إنشاء هذا المعنى قال: إن جاءك زيد فأكرمه، ولا ريب في كون هذه القضية مؤدية لهذا المعنى الذي أراده، فنفس هذا الطلب الاظهاري الإنشائي ليس فيه تعليق أصلاً، ومنشؤه ليس منفكاً عنه، وإنما التقييد في الطلب الواقعي الذي هو مقتضى هذه القضية الإنشائية.

وبعبارة أخرى: للطلب وجودان :وجود إنشائي إظهاري، ووجود واقعي لبي. فالأول ليس فيه تعليق أبداً، وهو سبب في حصول الثاني، وهذا الثاني المدلول عليه بهذا الإنشائي الإظهاري تابع لواقعه فإن حصل القيد في الخارج فهو حينئذٍ حاصل، وإلَّا فلا، بخلاف هذا الإنشائي فإنّ وجوده الإنشائي تام ، بمعنى أنّ المتكلّم قد أنشأ المقيد لا أنه إنشاء مقيدٌ، فالموجود بهذا الإيجاد هو الشيء المقيد فلا يلزم التقييد في الإنشاء، ولا تأخير المنشأ عن الإنشاء.

نعم، مقتضاه وواقعه المستفاد منه - أعني الطلب اللبي - تابعٌ لواقعه، فإن حصل وجب على المكلف فعله وإلّا فلا، فهذا الوجوب الإنشائي شأني لا فعلي، وقد سمُوه بالواجب المشروط بهذا الاعتبار؛ لأنَّ الطالب تارةً يطلب إكرام زيد طلباً مطلقاً فيقول:أكرم زيداً، فمدلول (أكرم) في هذه الصورة طلب الإكرام. وتارةً لا يطلب إكرامه، بل يقول : أكرم إن جاءك، ف_(أكرم) المطلقة غيرُ (أكرم إنْ) ف_ (إكرم) في قوله : ( أكرم إنْ) ليست مستعملة في معناها المطلق الغير المتعقب ب_(إن)، بل هي مستعملة في الطلب الخاص الذي هو مدلول (أكرم إنْ )في هذه القضية تدل على معناها، و (إنْ) تدل على معناها.

فهنا دالان: (أكرم) و (إن جاءك)، ومدلولان : الطلب والشرطية، والطلب المتعقب بالشرط غير الطلب المطلق فالصيغة إنشاءٌ للمقيد وإيجاد لأمرٍ مقيدٍ لا إيجاد مقيد.

وإنما أطلنا في توضيح المقام؛ لأَّنه من غوامض الأنظار، وأبكار الأفكار التي استفدناها

ص: 54

من سيدنا الأستاذ الميرزا قدس سرهُ ولم يسبقه أحد في تحقيق الواجب المشروط، فإنَّ الخبير يعلم أنه من مزالق الفحول حتى إنَّ بعضهم حيث لم يحقق (1) كيفية إنشاء الواجب المشروط، وتخيل أنه ينشأ مطلقاً ثم يقيّد فأشكل بأنَّ الطلب ليس قابلاً للإطلاق والتقييد؛ لأنَّ وضعه وضع الحروف. وقد عرفت أنه لا أساس لهذا الإشكال على ما حققناه من الدالين والمدلولين.

وآخر لم يحصّله على ما حققنا فالتزم بما يرجع إلى كونه قضية خبرية لا إنشاء فيها

قال :( وينقسم باعتبار آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلف ولا يتوقف حصوله على أمر غير مقدور كالمعرفة، وليسمّ منجزاً، وإلى ما يتعلّق وجوبه ويتوقف حصوله على أمر غير مقدور، وليسمّ معلّقاً كالحج، فإن وجوبه يتعلّق بالمكلف من أول زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة ويتوقف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقف هناك للوجوب وهنا للفعل) (2). انتهى.

فقوله:(إن التوقف هناك للوجوب) ظاهر في نفي الوجوب المقيد، وأن الوجوب المقيد إنما هو في الواجب المعلّق.

وأنكر بعضُ (3) الأجلّة التثليث المذكور، وجعل الواجب إمّا مطلقاً أو مشروطاً، وزعم أن الواجب المعلّق هو الواجب المشروط.

ومنهم (4) من أنكر إمكان الواجب المعلّق؛ لاستلزامه تأخر الشرط عن المشروط.

والتحقيق (5) تثليث الواجبات لكن المشروط بالتقرير الذي حققناه، ومنه يظهر صحة

ص: 55


1- في نسخة ب: لم يتحقق.
2- الحائري، الفصول الغروية: ٧٩ .
3- الكلانتري ، مطارح الأنظار : ٢٦١/١ وما بعدها، حيث أرجع الواجب المعلّق الذي اخترعه صاحب الفصول رحمة الله علیه إلى الواجب المشروط الذي اختاره الشيخ الأعظم . ينظر الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 1/ 188.
4- ينظر ملا علي النهاوندي، تشريح الأصول: 191.
5- ينظر الآخوند الخراساني، كفاية الأصول : 2/ 189 حيث إن هذا ردٌ لإشكال النهاوندي الذي ذكره .

الواجب المعلّق وأنَّ المنشأ لم ينفك عن الإنشاء في زمان الإنشاء إلَّا أنَّ زمانه هو متأخر في حد ذاته، وإلَّا فحصوله وحصول الإنشاء زماناً متحد، فلا مانع من تقييد المنشأ بالمعنى الذي قد عرفته من الدالّين والمدلولين، لا أنه يطلق ثم يقيّد كما توهمه المورِد، بل ينشأ مقيداً كما ينشأ مطلقاً، فعالمُ وجوده قد يكون مطلقاً وقد يكون مقيداً، فلا تفكيك ولا تقييد للطلب بالمعنى الذي فرضه.

وظهر أيضاً ضعف ما أفاده الشيخ (1)من إنكار تثليث الواجبات، وحصرها في المطلق و المشروط، وإنكارِ التعليق وتقييد وجود الواجب؛ لعدم تصويره قدس سرهُ بحسب اللب التثليث، وقد عرفت تصويره بأن يكون الحج مثلاً مطلوباً في نفس الطالب إذا اتفقت له الاستطاعة وأمكنت بالإمكان العقلي بأن استطاع قهراً أو حصلت له بالمقارنة الاتفاقية، أو هو طلبها، فالحج على هذا مطلوب بعد حصول الاستطاعة وليس مشروطاً إلَّا بالإمكان العقلي، وهذا بخلاف ما لو كان في نفسه طلب الحج إذا تحققت الاستطاعة في الخارج وحصلت في الوجود الخارجي بأن تمكن منها في الخارج على أن يكون التمكن منها في الخارج شرطاً له لامطلقاً، فإذا لم يتحقق في الخارج ولم يقدر عليها العبدُ فليس الحج مطلوباً له أبداً ولا محبوباً لديه، وظاهرٌ أنَّ هذا غير الأول، وغير إرادة الحج عن الاستطاعة بقول مطلق من دون اعتبار شيء آخر، بأن يكون نفس الحج عن الاستطاعة على كل تقدير وكل حال مطلوباً له ومحبوباً لديه، وعلى هذا لو علم العبد بهذا الطلب على هذا النوع وجب عليه إتيانه بكل وجه وعلى كل حال؛ لتنجزه بالعلم فيجب عليه تحصيل الاستطاعة، وهذا بخلاف الصورة الأولى - أعني ما لو كان مشروطاً بالإمكان العقلي - فإنه لا يجب عليه تحصيل الاستطاعة، لكن لو علم من نفسه أنه يتحقق له هذا التقدير لا محالة على كل حال وجبَ عليه تحصيل مقدمات الواجب المعلّق المتوقف عليها لو كانت له مقدمات يتوقف عليها قبل حصول الاستطاعة؛ لأنَّها حينئذٍ

في تشريح الأصول، وقد ذكر له الآخوند ثلاثة وجوه.

ص: 56


1- الكلانتري، مطارح الأنظار : ١/ ٢٣٦ - 237، حيث أرجع القيود إلى المادة وليس إلى الهيئة، مخالفاً بذلك المشهور.

من مقدمات الواجب المطلق؛ إذ المفروض أنَّ طلبه غيرُ مقيد بشيء سوى الإمكان العقلي، وقد تحقق وعلم بتحققه المكلف، وهذا بخلاف الواجب المشروط، وهو التقرير الثاني، فإنه لو علم العبد بالطلب على النحو المذكور لم يجب عليه تحصيل الاستطاعة ولا ما يتوقف عليه الواجب لو علم بتحقق الاستطاعة لا محالة؛ لأنَّ الشرط تحققها في الخارج لا إمكانها عقلاً، فلا مانع بحسب اللب ولا بحسب اللفظ من أن تكون الواجبات ثلاثة على هذا النحو؛ والمانع الآخر عند شيخنا (1) لزوم التقييد في الطلب بحسب الإنشاء، وقد أوضحنا عدم لزوم ذلك بما لا مزيد عليه، والحمد لله رب العالمين.

ص: 57


1- الهامش السابق.

في مقدمة الواجب

والحقُ أنها مسألة عقلية لا لفظية؛ لأنَّ النزاع في ثبوت نفس الملازمة عقلاً بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، وأنه هل يحكم العقل بالملازمة أم لا؟

فظهر أنها أصولية لا فرعية؛ إذ النزاع في الملازمة لا في نفس وجوبها (1)، فإن ذلك هو الثمرة المترتبة على القول بثبوت الملازمة ولا مورد للأصل لو أريد تأسيسه في المسألة؛ لعدم

الشك عند العقل في ثبوت الملازمة وعدمها؛ لتبين الموضوع عنده. فقول بعض المعاصرين: ( لا أصل لعدم الحالةالسابقة)(2) في غير محله، فافهم.

وتنقسم المقدمة إلى أنحاء عديدة باعتبارات:

فتنقسم إلى : المقدمة الداخلية، والمقدمة الخارجية.

والمراد بالداخلية ذات أجزاء الماهية المأمور بها؛ فإنها مقدمة للأجزاء بشرط الاجتماع،وليست محلاً للنزاع؛ إذ هي عين المأمور به ذاتاً، ومخالفتها لذيها اعتبارية، فتجب بوجوبه. وبالخارجية ما كان له دخل في تحقق المأمور به، وهو خارج عنه غير أنه لا يتحقق إلا به. وتنقسم إلى : العقلية، والشرعية، والعادية التي هي كنصب السلّم، ومرجعٍ الأخيرتين

إلى العقلية ظاهرٌ.

وتنقسم أيضاً إلى : مقدمة الوجود، ومقدمة الوجوب، ومقدمة الصحة، ومقدمة العلم، ولا نزاع في مقدمة الوجوب والمقدمة العلمية؛ لأنَّ الكلام في التي يترشح الوجوب

ص: 58


1- ينظر الشيخ حسن ،معالم الدین: 71 ، قوله : وأيضاً فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدير تسليمها إنما تنهض دليلاً على الوجوب في حال كون المكلف مريداً للفعل المتوقف عليها؛ الكلانتري، مطارح الأنظار : ١ / ١٩٥ حيث قال: القول في وجوب مقدمة الواجب، السيد القزويني، حاشية على المعالم : 99 حيث قال :اختلف القوم في وجوب ما لا يتم الواجب إلا به .....إلخ.
2- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 1/ 229؛ الميرزا النائيني، فوائد الأصول: ٣٠٠/١، حيث من الممكن أن يريد المصنف ببعض المعاصرين الميرزا النائيني، فإن وفاته سنة ١٣٥٥ هج ووفاة المصنف في سنة ١٣٥٤ه_ ، فهما متعاصران ودرسا معاً في سامراء، وما أفادهُ الميرزا في الفوائد مطابق لما ذكره المصنف.

عليها من قبل وجوب ذيها والمقدمة العلمية يتوقف عليها تحصيل العلم بالبراءة سواء كان الواجب فعلاً أو تركاً، فيجب فعل الجميع أو ترك الجميع تحصيلاً للبراءة بعد العلم الإجمالي

بالتكليف.

وتنقسم إلى: المقدمة المتقدمة، وإلى المتأخرة كالأغسال الليلية المعتبرة في صحة الصوم، والإجازة بناءً على الكشف، وغير ذلك (1) مما له دخل في الإرادة، فيكون لحاظه شرطاً في حصولها، ولا ريب في كفاية لحاظه ، فيكون لحاظه مقارناً لها وللتكليف والأمر، فلا إشكال حينئذٍ.

وكذلك الواجب ينقسم إلى أنحاء، فينقسم إلى:المطلق، والمشروط؛ والمطلق إلى: المنجز، والمعلّق، وقد تقدم تصوير الجميع بما لا مزيد عليه مع دفع كل ما قيل أو يقال عليه. ومع الشك في رجوع القيد إلى الهيئة نحو الشرط المتأخر أو المقارن، أو إلى المادة على نحوٍ يجب تحصيله أو لا يجب، ولم يكن في البين ما يعين الحال فيه فالمرجعُ الأصول العملية(2). وقيل (3)بترجيح الإطلاق في طرف الهيئة وتقييد المادة؛ لأنَّ إطلاق الهيئة شمولاً وإطلاقَ المادة بدلياً غير شامل لفردين في حالة واحدة؛ ولأنَّ تقييد الهيئة يوجبُ بطلان محل الإطلاق في المادة ويرفع مورده، بخلاف تقييد المادة وإطلاق الهيئة. وفي كلا الوجهين نظرٌ، فتأ ملٌ.

وينقسم إلى :نفسي ،وغيري والغيري ما كان الغرض منه التوصل به إلى واجب لا يتوصل إليه إلَّا به، والنفسي ما كان هو الغرض سواء كانت محبوبيته بنفسه كمعرفة الله تعالى، أو كانت للفوائد المترتبة على حسنه الموجب لوجوبه بذاته كسائر الواجبات التي هي في العقليات، ومع الشك في النفسية والغيرية فإطلاقُ الهيئة يقتضى النفسية، ولو كان شرطاً

ص: 59


1- كتوقف صحة الأجزاء المتقدمة من الصلاة على الأجزاالمتأخرة منها، وكذلك كل مركب إرتباطي مشروط بتمام أجزاءه فتتوقف صحة الأجزاء المتقدمة على تمام الأجزاء المتأخرة.
2- ينظر الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ١٩٧/١.
3- الكلانتري، مطارح الأنظار : 1/ 252 .

لواجب آخر وجبَ التنبيه عليه، وإذا لم يكن هناك إطلاقٌ لزمَ الإتيان به مع العلم بوجوب ما احتُملَ كونه شرطاً له فعلاً والعلم بجهة وجوبه ، وإلَّا فلا؛ لكون الشك فيه حينئذٍ بدوياً. ثمَّ استحقاق الثواب والعقاب على امتثال وعصيان النفسي؛ لأَّنَّه المقرّب وتركه المبعد، والغيري بما هو غيري لا يوجبُ قرباً ولا بعداً، والثوابُ والعقاب على امتثال النفسي وعصيانه واحد لا تعدد فيه كما هو ظاهر عند العقل، وما جاء في الثواب على المقدمات (1)؛ فلكونها مستحبةً بنفسها وعبادة يعتبر فيها قصد القربة، وغايتها أحد هذه العبادات، فليس الثواب لكونها مطلوبةً بالغير، بل لكونها مطلوبة بنفسها ندباً (2)؛ ولهذا تصح ولو لم يأتِ بها. بقصد التوصل بها إلى غاية من الغايات التي لها .

نعم، لو كان اعتبار قصد القربة فيها لمحض أمرها الغيري لزمَ قصد الغاية لا محالة، فجعلُ (3) ثمرة وجوب المقدمة ترتبَ الثواب على فعلها والعقاب على تركها في غير محله.

تنبيه

اعتبر ناسُ أشياء في وجوب المقدمة لا أرى صحتها، مثل: اعتبار أن يكون الإتيان بها بداعي التوصل بها إلى ذيها في المقدمات العبادية (4).ومثل : اعتبار ترتب ذي المقدمة على المقدمة، بحيث لو لم تكن موصلة كشف عن عدم وقوعها على صفةالوجوب (5). ومثل:

ص: 60


1- كما في الطهارات الثلاث، وهي: الوضوء، والغسل، والتيمم، ينظر كفاية الأصول للآخوند الخُراساني:207/1.
2- في نسخة ب: فليس الثواب لكونها مطلوبة بنفسها ندباً.
3- الأصفهاني، هداية المسترشدين : ١ / ١٠٤ قال : دعوى وجوبها كذلك موهونةٌ جداً، بل لا يعرف قائل به أصلاً .
4- أبو الحسين البصري، المعتمد : 102 ؛ الرازي المحصول : 2/ 192 ، ونسب صاحب الكفاية هذا القول إلى الشيخ الأنصاري استظهاراً من كلام صاحب التقريرات المعروفة ب_(مطارح الأنظار ) ينظر الآخوند الخراساني، كفاية الأصول : ١ / ٢١٥ ، ولمعرفة مبنى الشيخ في المقدمة الموصولة ينظر الشيخ الأنصاري، الفوائد الأصولية، الفائدة الخامسة صفحة: ١٤٤ وما بعدها.
5- ينظر الحائري، الفصول الغروية: ٨١ - ٨٦ .

اشتراط وجوبها بإرادة المكلف الفعلَ المتوقف عليها ضرورة كون الملاك في حكم العقل بوجوب المقدمة هو المقدمية والتوقف من غير مدخلية قصد التوصل في ذلك.

نعم، امتثال الأمر الغيري في الوضوء يتوقف على قصد التوصل وإلَّا لم يكن ممتثلاً للأمر بالوضوء، وأمّا وقوعه على صفة الوجوب العقلي فلا توقف له على قصد التوصل،بل لو لم يقصد به التوصل وقعَ واجباً كسائر الواجبات التوصلية.

وأمّا عدمُ صحة القول بالمقدمة الموصلة فظاهرٌ؛ لعدم الفرق بين ما يترتب عليه الواجب وما لا يترتب في الاتصاف بالمقدمية وتوقف حصول الواجب عليه الذي هو في حكم العقل بوجوبها والداعي له في طلبها ، ولا غرض سوى ذلك، ولا يعقل أن يكون ترتب الواجب غرضاً وداعياً لوجوبها؛ لعدم ترتبه على تمامها بالضرورة فضلا عن كل واحدة منها في أغلب الواجبات.

نعم، في التوليدية والسببية تترتب على تمامها، فيكون القول بالمقدمة الموصلة قولاً بعدم وجوب المقدمة إلَّا في التوليديات، وبطلانه ظاهرٌ.

وأمّا فسادُ اعتبار إرادة المكلف فعلَ ذي المقدمة في وجوبها فظاهرٌ؛ ضرورة تبعية وجوب المقدمة في التقييد والإطلاق لوجوب ذيها بناءً على أنَّ وجوبها من باب حكم العقل بالملازمة، ولا يكون ذو المقدمة مشروطاً بإرادته بالضرورة، فلا تكون المقدمة مشروطةً بإرادته.

وينقسم الواجب إلى :الواجب الأصلي، وهو ما جاء به خطابٌ مستقلٌ وإرادةٌ بالأصالة (1).

وإلى التبعي وهو ما كان وجوبه بالتبع إلى وجوب غيره؛ لكون إرادته لازمةً لإرادة غيره (2)، ولو ولو شُك في الواجب أنه واجب أصلي أو تبعي، فلا يخلو إمّا أن يكون الواجب

ص: 61


1- ينظر الآخوند ،الخُراساني، كفاية الأصول: ١/ ٢١٣.
2- المصدر السابق .

التبعي أمراً وجودياً خاصاً غيرَ متقوم بعدمي، أو يكون متقوماً بعدمي بأن يكون هو ما لم يتعلّق به إرادةٌ مستقلة، وعلى الأول لا مجرى لأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلة به إلَّا على القول بالأصل المثبت،وعلى الثاني لا مانع من ذلك فيثبت به أنه واجبٌ تبعي، فيترتب عليه آثاره الشرعية (1) .

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه - نعم - اختلفوا في وجوب ما لا يتم الواجب إلاَّ به على أقوالٍ (2) ثالثها حصر الوجوب في المقدمة السببية ، وقيل : لا يجب إلَّا الشرط الشرعى (3).

وأدلة الكل مدخولة، والحقُ ثبوت الملازمة بين المقدمة وذيها، لشهادة الوجدان بأنَّ من أحبّ أمراً أحبّ كل ما لا يوجد محبوبه إلَّا به، وربما يجعل المقدمة كذيها في قالب الطلب المولوي ويبعث عليها، وفي العيان وجودُ أوامر الغيرية في العبادات، والأمرُ الغيري لا يتعلّق بمقدمة إلّا إذا كان فيها مناط الوجوب

الغیری ،فإذا فی کل مقدمة وجودُ مناط الأمر الغیری فيصح تعلّقه بها، وهو المطلوب، وإن الحب مترشح من ذي المقدمة على المقدمة التي يتوقف وجود ذيها عليها، وربما كان للمقدمة حب ذاتي وآخر تبعي، ولا مانع من اجتماعهما كالوضوء والغسل، فإنه محبوب لذاته ومحبوب لكونه مما يتوقف حصول الصلاة عليه.

مما ذكرنا ظهر بطلان التفصيل بين المقدمة السببية وغير السببية، والتفصيل بين ما لو كانت شرطاً شرعياً وغيره؛ لعدم التفاوت في باب الملازمة بين مقدمة ومقدمة.

ص: 62


1- في نسخة ب: آثار الشرعية.
2- ينظر العلّامة الحلي، نهاية الوصول: 2/ 193 حيث نسبه إلى السيد المرتضى، ولم يرتض النسبة صاحب المعالم وصاحبُ القوانين والشيخُ الأنصاري، ينظر: المعالم ٦٢، القوانين: ٢١٦/١؛ الكلانتري، مطارح الأنظار : 203/1 أورد هذا الاعتراض السيد الكاظمي في شرح الوافية، انظر المحقق النراقي، المناهج :49.
3- ينظر: العضد الإيجي، شرح العضد على مختصر منتهى الأصول لأبن الحاجب: 82؛ المحقق النائيني، فوائد الأصول: ٢٦٢/١ .

[ حجة القول باختصاص الوجوب بالمقدمة السببية وردّه ]

حجة القول باختصاص الوجوب بالمقدمة السببية بعد انحصار الوجوب بالمسبب. وفيه: إنْ كان وجه البعد لزوم التكليف بما لا يطاق لوجوب المسبب حال عدم السبب؛ لأنَّ حصول الشيء عند عدم ما يتوقف عليه يكون ممتنعاً، والممتنع غير مقدور، فواضحُ الفساد؛ ضرورة أنَّ المسبب مقدور بواسطة السبب فلا امتناع. وإن كان وجه البعد حكم العقل بالملازمة فهو قولٌ بوجوب المقدمة مطلقاً.

و مما ذكرنا ظهر فساد ما قيل (1) من لزوم صرف ما دل على طلب المسبب إلى السبب؛ لأنَّ المسبب ممتنع بدون السبب أو واجب إن كان مقترناً به؛ حيثُ عرفت أنَّ المسبب مقدور بواسطة السبب، ولا يعتبر في التكليف غير القدرة على الفعل بلا واسطة أو بواسطة.

في ثمرة الخلاف في المقدمة

والحقُ انحصار الثمرة بالقول بوجوب المقدمة؛ لما عرفت من كون المبحوث فيه هو الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدماته فيتفرّع على القول بثبوت الملازمة وجوبُ المقدمة حينئذٍ، ومن أنكر الملازمة لا يلزمه القولُ بوجوب المقدمة.

قيل : من الثمرة اجتماعُ الوجوب والحرمة بناءً على القول بالملازمة فيما إذا كانت المقدمة محرمة، فيبنى على جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، بخلاف ما لو قيل بعدم الملازمة (2).

وفيه: إنَّ ذلك لو تمَّ فإنما يتم فيما لم يكن لذلك الاجتماع مدخلٌ في الصحة والفساد؛ إذ المقدمة إنْ كانت مثل الكون الخاص - الذي هو مقدمة لمطلق الكون، الذي هو جزءُ الصلاة بناءً على كون الفرد مقدمةً للكلي وكانت الصلاة في المكان المغصوب، فتكون المقدمةُ محرمةً متحدةً مع ذيها في الوجود _ فالفسادُ لا يبتني على القول بالملازمة ،ووجوب المقدمة، بل يحكم

ص: 63


1- الشيخ حسن، معالم الدين: ٦١.
2- الميرزا القمي، القوانين: 1/ 211؛ الكلانتري، مطارح الأنظار : ٣٩٦/١ قال: ما قد نسبه البعض إلى الوحيدالبهبهاني ... إلخ.

بالفساد ولو لم نقل بوجوب المقدمة؛ للاتحاد، ووحدة الموجود، وعدم جدوى تعدد الجهة. وإن كانت المقدمة توصليةً مغايرة في الوجود مع ذيها كالركوب على الدابة المغصوبة لقطع المسافة للحج فلا يخلو: إمّا أن تكون منحصرة أم لا، ومع الانحصار لا وجوب فيها أصلاً، ولكن لا أثر لها في الفساد، فلو ركبها ووصل صحَّ حجه وحصل مطلوبه، ومع التعدد وعدم الانحصار فالوجوب في الجملة، لكن لا أثر له في الفساد أيضاً؛ لكونها موصلة لا غير وقد حصل الواجب بعد حصولها كما هو ظاهر ، بل لا يلزم اجتماع الوجوب والحرمة أصلاً؛ إذ في صورة انحصار المقدمة بالمحرمة إمّا لا وجوب للمقدمة؛ لعدم وجوب ذيها؛ لأجل المزاحمة كما في الصلاة في الدار المغصوبة، وإمّا لا حرمة لها؛ للمزاحمة كما لو صلّى حال الخروج في آخر الوقت، وأمّا في صورة عدم الانحصار فالواجبُ من المقدمات هو غير المحرمة، فلا اجتماع أصلاً.

وزعم ناسٌ (1) أنَّ النزاع في نفس الوجوب، فجعلوا الثمرة براءة ذمة ناذر الواجب بإتيان المقدمة، وإن كان فيه نظرٌ؛ من جهة انصراف الواجب إلى النفسي إلّا أن يكون قصد الأعم، وتحقق الإصرار على الحرام الموجب للفسق بترك واجب بمقدماته المتعددة، مع أنَّه لو ترك أول المقدمات وامتنع عليه فعل الواجب لم يحرم فعل باقي المقدمات العديدة، فلا يتحقق إلَّا أصل العصيان دون الإصرار.

وجعلوا منها (2) عدم جواز الأجرة على المقدمة بناءً على وجوبها؛ لحرمة أخذ الأجرة على المقدمة على الواجبات، مع أنَّه لا يصح على إطلاقه لا في التوصليات ولا في العباديات، نعم لا بأس به في بعض الواجبات.

ص: 64


1- ينظر: الأصفهاني هداية المسترشدين: ١٠٤/٢ حيث ذكره ولم ينسبه إلى قائل؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 1/ 227.
2- الأصفهانی،هدایة المسترشدین:104/2،وأنکر الشیخ الأنصاری هذا التفریع،قال:و کیف کان إنه لاأصل لهذا التفریع...إلخ.انظر الکلانتری،مطارح الأنظار:349/1.

خاتمة في التنبيه على مقدمة غير الواجب من الأحكام

(1).

أمّا الحرام فلا تترشح الحرمة منه إلى مقدماته التي معها اختيار تركه، نعم لو فرض للحرام مقدمة لا يبقى معها اختيار ترك الحرام كانت تلك المقدمة محرمة والملازمة بينهما محققة، وكذا الحال في المكروه. أمّا المستحب فالملازمة بينه وبين مقدماته لا شبهة فيها كالمقدمات في الواجب بلا تفاوت في الترشح من طلبها طلب فعل ما يتوقف عليه المستحب.

مسألة الضد

الحقُ أن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده [ب]نحو العينية، أو الجزئية، أو بنحو اللزوم؛ من جهة التلازم بين طلب أحد الضدين وطلب ترك الآخر، أو بنحو المقدمية،والمسألة عقلية أصولية، والأمر أعمُّ من اللفظي واللبي.

والضدُ للشيء ما لا يجتمع معه لذاته عقلاً ، وإطلاقه على الترك غيرُ صحيح؛ إذ الترك عدمٌ والضدُ وجوديٌ ، لكنهم سمّوه بالضد العام تجوّزاً، ولتفسير هم له بالكف، وفيه نظرٌ. ولا ينبغي النزاع فيه؛ فإن الأمر بالشيء عينُ النهي عن تركه في نفس الأمر، وإن تغايرا مفهوماً فقد اتحدا في الوجود الخارجي، بل قيل: ليس هناك إلَّا طلب واحد بسيط، وهو منسوب إلى الوجود طلباً له (2) ، وقد ينسب إلى الترك باعتبار الزجر عن الترك عنه، والعينية إنما هي بهذا الاعتبار، فتأمل.

والضد الخاص هو كل موجود نافى الواجب الشرعي، وهو الذي قيل باقتضاء الأمر النهي عنه (3)،

ص: 65


1- الحائري، الفصول الغروية : 89 .
2- الأصفهاني، هداية المسترشدين: 2/ 210، حيث قال: (قوله: فظهر أن دلالة الأمر بالشيء على عن ضده العام ليس على سبيل التضمن والالتزام، بل ليس مفاد النهي المفروض إلا عين ما يستفاد من الأمر .... إلخ)؛الآخوند الخراساني، كفاية الأصول : ١/ ٢٤٥.
3- الآمدي، الأحكام: 1/ 172 حيث اختاره بناءً على القول بالمنع من التكليف بما لا يطاق، ونسب القول إلى الباقلاني المحققُ الحلي، مبادئ الوصول: 117 .

وقيل بعدم اقتضائه (1).

ثمَّ النزاع المذكور في الضدين يجري في الواجب الموسع والمضيق، وهكذا الخلاف لو تخالفا، ثم النهي تابع لمقتضى الدليل فيعمّ النفسي والغيري والتبعي والأصلين، ووهمَ منْ خصه بالتبعي (2).

ثمَّ لا يقال: ما وجه أفراد مسألة اقتضاء الأمر بالشيء النهيَ عن ضده، عن مسألة ما لا يتم الواجب إلَّا به _ مع أنَّها من فروعها _ بناءً على ما ذكرت من خروج الضد العام عن محل الكلام، وانحصار الخلاف في الضد الخاص.

لأنا نقول : لو تمَّ هذا السؤال فإنما يتم لو كان الاتفاق حاصلاً على مقدمية ترك الضد لفعل الضد الآخر، ولكن أهل العلم بالفن على عدم المقدمية، فالفرقُ ظاهر، والنسبة بينهما عموم مطلق، بل يمكن أن يكون عموماً من وجه؛ لأنَّ النفي والإثبات في كلِّ من المسألتين يجامعُ النفي والإثبات في الأخرى.

والمهم في هذه المسألة هو تحقيق اقتضاء الأمر النهيَ عن ضده الخاص بنحو المقدمية لأجل كون ترك الضد مقدمةً لفعل الآخر أم لا؟ وحيث انحصر دليلُ القائلين بالاقتضاء بالضد الخاص بدعوى مقدمية ترك الضد لفعل الواجب لزمنا تحقيقُ الحال في المقدمية.

فقد ذهب ناسٌ إلى التوقف من الطرفين (3) ، والأكثر توقف الوجود على العدم وعدم توقفه على الوجود (4)، وآخرون كون الفعل مقدمة للترك (5)، وذهب المحقق الخوانساري (6)

ص: 66


1- الشيخ حسن ،معالم الدين: ٦٣ ؛ الميرزا القمي، القوانين: 1/ 238.
2- الأصفهاني، هداية المسترشدين: 197/2.
3- العضدي ،شرح مختصر ابن الحاجب : 82 - 83 .
4- الحائري، الفصول الغروية : 92؛ الكرباسي، إشارات الأصول: ٥٥ .
5- محمد علي الحائري، مختارات الأصول: 125؛ حبيب الله الرشتي، بدائع الأفكار: 378 حيث نسبوا هنا القول إلى الكعبي صاحب الشبهة المعروفة.
6- الكلانتري ، مطارح الأنظار : ٥١١/١ .

إلى توقف وجود الضد المعدوم على دفع الضد الموجود، وعدم توقف رفعه على وجود الآخر،فهو تفصيل بين وجود الضد وعدمه، وقولٌ بالتوقف في صورة الوجود، وبعدمه في صورة العدم.

والحقُّ نفي التوقف مطلقاً وفاقاً لمحققي أهل العصر، وهو الذي اختاره البهائي (1) وسلطان العلماء (2) والسيد المحقق الكاظمي في المحصول (3) وشيخنا العلّامة المرتضى الأنصاري (4) وكل الاساتيد من تلامذته (5)، والحجة على ذلك من وجوه يظهر منها الجواب عن حجة الخصم:

[الوجه ] الأول : منع التوقف، وإنما هي المقارنة بين وجود أحد الضدين وعدم الآخر من دون توقف الوجود على عدم؛ وذلك بمنع كون وجود كل منهما مانعاً من وجود الآخر؛ لأنَّ مجرد استحالة اجتماع الضد مع الضد الآخر لا يقتضي كونه مانعاً منه ليكون عدمه مقدمة لفعله؛ إذ الأمور اللازمة للموانع مما يستحيل اجتماعها مع الممنوع مع أنَّ وجودها ليس من الموانع ولا عدمها من المقدمات، فمجردُ عدم إمكان اجتماعهما في محل واحد كما هو قضية التضاد لا يجدي في الحكم بالتمانع إلاَّ بأن يكون عدم أحدهما شرطاً لوجود الآخر، ووجوده مؤثراً في عدم الآخر، وليس لجواز إسناد عدمه إلى عدم علته، ووجود الآخر إلى وجود علته، غاية الأمر أن يكون علة عدم أحدهما مقارنةً لعلة وجود الآخر، فيمتنع وجودها في محل واحد؛ لعدم وجود علتيهما معاً مع انتفاء التمانع بالمعنى الذي يدعيه الخصم.

فإن قلتَ: إنْ أردتَ مجرد الملازمة مع إمكان تبدل العلة المعدومة بالموجود فهو فاسدٌ؛ لاستلزامه إمكان وجود الضدين المستلزم لارتفاع التضاد. وإن أردتَ التلازم بين وجود

ص: 67


1- الشيخ البهائي، زبدة الأصول: 117.
2- سلطان العلماء، حاشية اسلسلطان على المعالم : ٩٥ .
3- السيد المحقق الكاظمي، المحصول في الأصول ٥٩٩/٢ .
4- الكلانتري، مطارح الأنظار: ٤٩٩/١.
5- حبيب الله الرشتي بدائع الأفكار: 378؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٣٤٤/١.

علة أحدهما (1) ، وانتفاء علة الآخر فننقل الكلام إلى عدم إمكان اجتماع العلتين، فإن كان التمانع بينهما ثبتَ المطلوب فيهما وفي معلوليهما ؛ لسراية التمانع من العلتين إليهما، وإلا فجاز اجتماعهما، ويترتب عليه إمكان وجود الضدين.

أمّا الكبرى فظاهرةٌ؛ فإن عدم المانع من أجزاء علة الوجود، ولا ينافي ذلك امتناع استناد الوجود إلى المعدوم، فإن ذلك يراد به أن يكون العدم معطياً للوجود، لا أن يكون العدم شرطاً لإيجاد الموجود.

قلتُ: إِنَّ التمانع وامتناع الاجتماع في محل واحد إنما يقضي بالتوقف فيما إذا لم يكن ذلك العدم مساوياً كما في المقام كما ستعرف، فلا وجه للحكم بالتوقف، بل يكفي في ردّك احتمال التساوي، فنختار الشق الأول من ترديدك، تارةً أنَّ التمانع _ بمعنى عدم إمكان اجتماعها في الوجود _ لا يقتضي (2) بالتوقف كما في سائر أقسام التقابل ، وتارةً نختار الشق الثاني، وأنَّ قولَ: إنَّ عدم المانع بمعنى عدم توقف وجود أحدهما على عدم الآخر لا يقضي بالاجتماع في الوجود كما في سائر أقسام التقابل أيضاً، مضافاً إلى أنَّ الكبرى لا تخلو من منع؛ فإن الموارد التي حكموا فيها بأنَّ عدم الشيء شرطٌ ووجوده مانع يحتملُ ان يراد به التعبير والعنوان، كأن يكون الشرط واقعاً أمراً وجودياً، وإنما جعل ذلك العدم عنواناً عنه.

الوجه الثاني: قضاء الوجدان السليم بالمقارنة؛ لأنَّا إذا حصلت لنا إرادةُ فعل المأمور به وانتفى عنه الصارف حصل بالوجدان أمران: فعل المأمور به وترك ضده، فيكونان إذاً معلولي علة واحدة ثالثة، فلا وجه لجعل ترك الضد من مقدمات فعل الآخر، وليست ذلك إلَّا مثل السبب الباعث على حصول أحد النقيضين؛ فإنه هو الباعث على رفع الآخر من غير ترتب وتوقف بينهما كما هو ظاهرٌ.

ودعوى قضاء الوجدان بالتوقف مكابرة جداً.

ص: 68


1- في نسخة ب: بين وجود أحدهما.
2- كذا في النسختين، ولعل المناسب: (يقضي).

الوجه الثالث: إنَّ القول بتوقف الوجود على عدم الضد لمكان الممانعة ملزومٌ للقول باستناد ذلك العدم إلى ذلك الوجود؛ إذ كما أنَّ العدم المانع شرطٌ فوجوده علة لارتفاع

المعلول، وهو دورٌ.

وبعبارة أخرى: لو كان ترك الضد شرطاً لفعل الواجب كان فعل الواجب علة لترك الضد، فيلزم الدور، وهو باطل . ومنعُ عليّته بدعوى استناد الترك إلى عدم المقتضي باطلٌ؛ إذ قد يوجد المقتضي مع ما يمنع من اقتضائه كما وقع.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق السبزواري، قال: في جعل الأضداد مانعاً من حصول الحرام نظرٌ ؛ إذ لو كان كذلك كانت الصلاة مثلاً مانعة من الزنا وكان الزنا، أيضاً مانعاً منها، وحينئذٍ كان الزنا موقوفاً على عدم الصلاة، فيكون وجود الصلاة علة لعدم الزنا، والحال أنَّ عدم الزنا علة لوجود الصلاة؛ لأنَّ رفع الموانع من علة الوجود، فيلزم أن يكون العلية من الطرفين، وهو خلفٌ (1).

أقول: هذا قريبٌ من سابقه، غير أنَّ المأخوذ فيه كونُ عدم المانع أيضاً علةً، وأنَّ جهة التوقف في الطرفين هو العليّة، والمأخوذ في سابقه في لزوم الدور أنَّ عدم المانع شرطٌ، وأنَّ جهة التوقف في أحد الطرفين على نحو الاشتراط، كما في توقف فعل الضد على ترك الآخر في الطرف الآخر ، وفي الطرف الآخر، على جهة العليّة كما في توقف تركه على فعل الآخر كتوقف

الشيء على علته وسببه.

[الوجه] الخامس: ما ذكره بعضهم (2)، وهو أيضاً قريب من سابقه، وحاصله: أن القول بمقدمية الترك يوجب صحة قول الكعبي (3) بانتفاء المباح بناءً على وجوب المقدمة

مطلقاً.

ص: 69


1- المحقق السبزواري، رسالة في مقدمة الواجب مطبوعة في ضمن رسائل: ٦١ .
2- الشيخ حسن معالم الدين ٦٨ .
3- الأصفهاني، هداية المسترشدين: 2/ 235.

بيان الملازمة: إنه على تقدير كون فعل الضد من مقدمات ترك الآخر يكونُ فعل المباحات لترك الأضداد المحرمة واجباً.

الوجه ] السادس: لو كان ترك الضد مقدمة لفعل الضد لزمَ ترتب عدم فعل الضد على عدمه؛ لأنَّه معنى المقدمة، وحينئذٍ فيتوقف عدم وجود الضد على عدم ذلك الترك الذي فرض كونه مقدمةً وهو فعل الضد الآخر، وعلى هذا يتوقف فعلُ الفعل على ترك ضده، وتركُ الضد يتوقف على فعل ضده بمقتضى مقدمية تركه.

لا يقال : إنما يردُ الدور لو قلنا (1) بأن الفعل أيضاً علةٌ للترك، ولا نقول به، بل نقول: إنَّ ترك الضد إنما استند إلى الصارف؛ لأنَّه أسبقُ من الفعل رتبة، ففعل الضد يتوقف على ترك ضده الآخر، ولا يتوقف ترك الضد على فعل ضده الآخر، بل علته الصارف، فلا دور.

لأنا نقول: إنا لا ننكر الاستناد فعلاً إلى الصارف، ومع ذلك الدورُ بحاله؛ لوقوع الفعل في مرتبة علة الترك المستلزم للتقدم عليه، مع أنَّ الفرض تقدمُ الترك أيضاً على الفعل لمقدميته فلزم تقدمُ ترك الضد على نفسه، وكذلك لزمَ تقدمُ فعل الضد على نفسه؛ لأنَّ تقدم الضد مقدمٌ طبعاً على فعل الضد؛ لمكان مقدميته، وفعلُ الضد المفروض شأنيته للعليّة مقدمٌ

على ترك ضده.

فتحصّل: أن ترك الضد مقدمٌ على فعل ضده الذي هو مقدم على ذلك الترك؛ فوجب أن يكون ترك الضد مقدماً على نفسه، وكذا فعل الضد.

وأحالَ المحققُ الخوانساري دفعَ الدور بالتفصيل الذي حكيناه عنه، وأنَّ الذي يقتضيه تمانع الأضداد إنما هو توقف وجود الضد على ارتفاع الضد الوجودي، لا على عدم الضد العدمي الذي كان عدمه سابقاً على علة الموجود أو مقارناً معها (2).

ص: 70


1- في نسخة ب :ولو قلنا.
2- الكلانتري مطارح الأنظار : ٥١١/١ .

وفيه إنه لو كان فعل الضد علةً في ترك ضده للزم في صورة (1) عند عدمه وعدم موجود يصلح للعليّة إما ارتفاع النقيضين ،أو تحقق المعلول بلا علة ،أو استناد الوجود إلى العدم، والكل باطل.

بيان الملازمة: إنه لو فرض عدم الفعل الذي هو علة لعدم الضد، وعدمُ كل شيء من الممكنات يصلحُ لأنْ يكون علّةً لشيء، فإما أن يكون الفعل _ الذي كان عدمه معلولاً - موجوداً أم لا، فإن قلتَ بوجوده لزمك القولُ بإسناد الوجود إلى العدم؛ لأنَّا فرضنا انتفاء ما يصلح للعلية في الممكنات كلها، وإن قلتَ بعدم وجود ذلك الفعل _ الذي كان عدمه معلولاً _ فإما أن تقولَ بتحقق ذلك العدم المعلول أم لا، فيلزمك على تقدير عدم التحقق ارتفاعُ النقيضين، وعلى التحقق تحققُ المعلول بلا علة. والمهم بعد هذا بيانُ ما ذكروه.

ثمرة في المسألة

بناءً على اقتضاء الأمر النهيَ بنحو المقدمية قالوا (2): يثمر النهي فساد فعل الضد إذا كان واجباً تعبدياً لانتفاء الطلب عنه ؛ إذ العقل يمنع من اجتماع الأمر والنهي في الفرد.

بل قيل بالفساد للنهي حتى على القول (3) بإمكان اجتماع الأمر والنهي؛ إذ ليس المقام من موارد اجتماع الأمر والنهي المتنازع فيه؛ لعدم كون عنوان المقدمية مأموراً به حتى يقال: عنوانان اتفق تحققهما في وجود واحد، فإنَّ عنوان المقدمية في المقام ليس مما يتوقف عليه المطلوب، بل التوقف على نفس ترك الصلاة إذا كان ضدها مطلوباً فلا يجوز تعلّق الأمر بها للنهي عنها، فالمورد من موارد النهي في العبادات الموجب للفساد، لا من موارد مسألة اجتماع الأمر والنهي.

ص: 71


1- ( في صورة) ليست في نسخة ب.
2- الأصفهاني، هداية المسترشدين : ٢/ ٢٦٩ ؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٢٤٦/١ .
3- في نسخة ب: حتى القول، وهذا القول منقول عن الشيخ البهائي. ينظر الأصفهاني هداية المسترشدين: .٢٦٩/٢

بل قيل (1) بالفساد حتى لو منعت المقدمية ومنع النهي عنها؛ لامتناع الأمر بالصلاة مثلاً مع الأمر بإزالة النجاسة عن المسجد في وقت الصلاة عقلاً؛ لعدم جواز الأمر بالضدين فإِنَّ الأمر بالضد وإن لم يقتضِ النهي من ضده؛ لعدم المقدمية، لكنه يقتضي عدم الأمر به؛ لامتناع الأمر بإيجاد الضدين في زمان واحد.

ودعوى عدم الفساد على القولين؛ لأنَّ النهي غيري فيجامع الأمر، لا نفسي حتى لا يجامع الأمر.

واضحةُ الضعف كضعف القول بأنَّ ترك الضد إن لم يكن موصولاً لم يكن مطلوباً . ويمكن القول بالصحة من وجهين آخرين صحيحين:

{الوجه }الأول: كفاية الجهة في صحة العبادة - أعني جهة الأمر بالصلاة _ ولا ريب في رجحانها ومحبوبيتها المُكْفيّةُ في التقرب وإنْ لم يؤمر بها؛ لمكان المزاحم أو المانع الخارجي، والصلاةُ - بناءً على عدم النهي عنها - معلومةُ المحبوبية غير أنَّ الأمر المزاحم اقتضى ارتفاع الأمر بها فعلاً مع بقاء ملاك الأمر فيها على حاله، فلا تُخْرِجَ لها عن الرجحان والمحبوبية وقابلية التقرّب بناءً على عدم اقتضاء الأمر النهيَ عن ضده.

الوجه الثاني: الترتب (2)؛ ضرورة أنَّ المولى لو أمر بإيجاد الصلاة مقارناً لترك الإزالة أوجب ذلك انبعاث المكلف لو علم بتحقق ذلك الترك في الآن المتصل بالآن الذي فيه. وإنما قلنا ذلك؛ لأنَّه لو صبر إلى أن يتحقق ذلك الترك لم تقع الصلاةُ بالعنوان الذي

ص: 72


1- الحائري، درر الفوائد: 138.
2- المحقق الكركي، جامع المقاصد : 12/5 . وهو أول من التزم بفكرة الترتب في باب الدين من جامع المقاصد في شرح كلام العلّامة قدس سرهُ في بيان اشتغال المديون المتمكن من أداء الدين بالصلاة مع مطالبة المدين، ورتبه السيد المجدّد الشيرازي، ينظر: الروزدري، تقريرات المجدد الشيرازي: ٢/ ٢٧٣ تحت عنوان المقدمة المحرمة السيد الفشاركي، الرسائل الفشاركية: ١٨٤ تحت عنوان الترتب؛ الميرزا النائيني، فوائد الأصول : ٣٣٦/١ حيث نقح الترتب ورتبه وهذبه، وتناوله جميعُ من جاء بعده حتى صارت من المباحث الأصولية المهمة، وأنكر تصحيح الأمر بالضد بواسطة الترتب الشيخُ الأعظم في مطارح الأنظار : 1/ 580 وما بعدها، وتابعه الآخوند الخراساني في كفاية الأصول: ٢٤٧/١.

أمر بها (1) وهو المقارنة؛ لأنَّ المفروض أن الأمر بالصلاة مشروطٌ ومتفرٌع على عصيان الأمر الأول بالأهم أعني الإزالة مثلاً فلا أثر للأمر بالصلاة إلّا حال مقارنة الترك المشروط به بالخصوص، فلا يقتضي الإتيان بمتعلّقه على وجه الإطلاق حتى يلزم الالتزام بترك الإزالة؛ ضرورة كونه مشروطاً بأمرٍ خارجي أعني المقارنة لترك الأهم، فلو ترك المكلف الصلاة لعدم تحقق ترك الإزالة في الخارج لم يكن مخالفاً للأمر بالصلاة المشروطة بالترك الخارجي، كما أن الأمر المطلق بالأهم لا يقتضي إيجاد متعلّقه في طرف عدمه؛ لأنَّ الإرادة إذا تعلّقت بشيء من الأشياء كانت موجودة، ولا يمنع وجودُها تركَ المأمور به في الواقع أو فعله؛ لعدم مدخلية هذين الكونين في قدرة المكلف، وإذا كانت الإرادة مع كل هذين الكونين موجودةً، والأمرُ بالصلاة مشروطٌ بالترك الخارجي فلا يلزم من الأمر بالصلاة على هذا النحو وجودُ التكليف بالضدين، بل الأمر الأول بالأهم يقتضي عدم تحقق التكليف بالضدين، والأمرُ بغير الأهم يقتضي ايجاده على تقدير تحقق شرطه، فلا مانع عقلاً من الأمرين على هذا النحو من الترتب الذي لو امتثل المكلفُ الأمر بالأهم لم يكن عاصياً للأمر بغير الأهم؛ لأنَّ الامتثال للأهم يوجبُ عدم تحقق شرط الأمر بضده، ومن المعلوم أن عدمَ إتيان الواجب المشروط لعدم تحقق شرطه ليس مخالفة للأمر به بالضرورة، فلا يلزم من هذين الأمرين _ اللذين أولهما مطلقٌ والآخر مشروطٌ على النحو المفروض - التكليفُ بما لا يطاق؛ لأنَّ ذلك إنما هو فيما إذا كان امتثال كلَّ منهما معصيةَ الآخر ، وهو في المقام غيرُ لازم بالضرورة، فلا بعث للمكلف على الجمع بين الضدين بوجهٍ من الوجوه، والذي يوضح ذلك أنه لو فرض _ محالاً _ صدور الضدين معاً من المكلف لم يقعا معاً على وجه الطلب، وإنما المطلوب حينئذٍ الأهم وحده لا آخر معه؛ لانتفاء شرط وجوب الضد الآخر ، ومتى ثبتَ إمكان الأمر بالضدين على النحو المذكور من الترتب وجبَ حمل الأمر بالصلاة في الفرع المذكور على الوجوب المشروط بترك الإزالة؛ لأنَّ المفروض أنَّ المقتضي لوجوب الصلاة بقولٍ مطلق موجودٌ، والمانع منحصرٌ

ص: 73


1- في نسخة ب: أُمر به.

بالأمر بما لا يطاق عند الأمر بالضدين، وقد انكشف أن التكليف بالضدين على نحو الترتب المذكور ليس من التكليف بما لا يطاق، فلا بدَّ أن يحكم العقل بتأثير مقتضي الأمر بالصلاة.و دعوی أنَّ الأمر بالضدين على نحو ما ذكر من الترتب رجعَ إلى الطلب المطلق بكلِّ منهما في زمان واحد؛ لأنَّ الأمر بإيجاد الضد مع الأمر بإيجاد ضده الآخر لا يخلو إمّا أن يكون الأمر بإيجاده مطلقاً في زمان الأمر بضده المطلق.

أو يكون مشروطاً بترك الآخر ، والشرط إمّا أن يكون هو الترك الخارجي للضد الآخر أو هو كون المكلف بحيث يترك في علم الله، فإن كان الأمر بغير الأهم على النحو الأول من الإطلاق لزمَ التكليفُ بما لا يطاق.

وإنْ كان على نحو الأول من الاشتراط وكان الشرط نفس الترك الخارجي فلا مانع منه، ولا يصير مطلقاً إلا بعد تحقق الترك ومضي زمانه، لكنه خلاف فرض القول بالترتب؛ لأنَّ القائل بالترتب يقول بتحقق الأمرين في زمان واحد وإن كان على النحو الأخير من الاشتراط، فالأمر بغير الأهم يصيرُ مطلقاً في ظرف تحقق شرطه والمفروض وجود الأمر بالأهم أيضاً؛ لمكان إطلاقه، ففي زمان تحقق شرط غير الأهم يتحققُ اجتماع أمرين متعلّقين بضدين، كلُّ واحد منهما مطلقٌ، أمّا الإطلاق الأول - أعني الأهمّ - فظاهرٌ ؛ لأنَّه المفروض، وأمّا إطلاق (1) ضده؛ فلأنَّ الأمر بالمشروط بعد تحقق شرطه يصير مطلقاً، فيلزمُ من الأمر به التكليف بما لا يطاق أيضاً.

مدفوعةٌ بما عرفت من انقضاء كلِّ من الأمرين، وعدم انقلاب المشروط مطلقاً في حال، والشرط هو الترك الخارجي لا العنوان المنتزع منه، ولا يلزم تأخير الطلب عن زمان الترك؛ لما عرفت من عدم اقتضاء الأمر المشروط إيجادَ متعلّقه بعد تحقق الشرط، فقد يقتضيه كذلك، وقد يقتضي مقارنة الفعل المشروط كما قررناه.

وإذا ظهر كون الشرط نفس الترك الخارجي للضد، وأنه لا يلزم منه تأخير الطلب

ص: 74


1- في نسخة ب: الإطلاق.

عن زمان الترك، ففعلية (1) الطلب المشروط لا ينافي بقاء الطلب المطلق الذي لا يقتضي إلّا عدم تحقق الترك الذي هو شرط لوجوب ضده، لا أنه يقتضي إيجاد الفعل في ظرف تحقق هذا الترك حتى يتوهم لزوم الأمر بما لا يطاق.

وهنا وجه ثالث: وهو أن الذي يحيله العقل من الأمر بالضدين فيما إذا كانا مضيّقين لا غير؛ للزوم الأمر بما لا يطاق، أمّا لو كان أحدهما موسعاً فلا مانع عند العقل من الأمر بهما (2) ، كأن يقول : انقذ هذا الغريق الساعةَ، وانقذ الآخر من الآن إلى الزوال، أو يقول : انقذ هذين من الآن إلى الزوال؛ فإن الوقت المضروب للواجب موسعٌ، والمطلوب إيجاد الواجب في طبيعة الوقت المحدود بالحدّين، فلا مانع من الأمر الفعلي بالصلاة في مجموع الوقت مع إيجاب الإزالة في أول الوقت، أمّا بناءٌ على كون التخيير في أجزاء الوقت المضروب عقلياً وعدم سراية الأمر بالطبيعة إلى الأفراد ففي غاية الوضوح، وأما بناءً على كون التخيير بين جزئيات الأزمنة شرعياً، أو بناءً على سراية حكم الطبيعة إلى الأفراد؛ فلعدم لزوم اللغوية في مثل فرع الصلاة والإزالة المفروض كون الفعل في نفسه مقدوراً، وليس من التخيير بين المقدور كإكرام زيد، وغير المقدور كالطيران إلى السماء حتى يكون قبيحاً، أقصاه حكم العقل بوجوب امتثال أمر آخر من الشارع، ولا يقدر مع الامتثال أن يأتي بالفعل الآخر، فلا لغوية الأمر. ويكفي في ثمرته أنَّ المكلف لو أراد أن يعصي الواجب المضيّق يقدرُ على إطاعة ّالواجب الموسّع.

في الواجب التخييري

كالأمر بالأشياء على سبيل التخيير كخصال الكفارة يقتضي عرفاً وصفَ كل واحد منها بالوجوب ،على معنى أنَّ المكلف لا يحل له الإخلال بالجميع، ولا يجبُ عليه الإتيان بالجميع، وأيّما فعل كان واجباً بأصل الشرع،والتعيين موكولٌ إلى اختيارالمكلَّف بالفتح،

ص: 75


1- في نسخة ب :الفعلية.
2- في نسخة ب: بها.

وإنْ فعل الجميع - المستحب فيه الجمع كخصال الكفارة - استحقَ الثواب على فعل أمور، كلُ فعل منها واجبٌ مخيّرٌ، أي بإرادة المكلف (1).

وأما ما يقال (2): من أنَّ الواجب منها واحد من الأبدال لا بعينه غير معيّن عندنا، وهو معيّن عند الله تعالى، فهو باطلٌ؛ لأنَّ التعيين يقتضي إيجاب ذلك المعيّن عند الله وعدم جواز تركه؛ لأنَّ الواجب ليس إلَّا هذا، وقد وقع الاتفاق على جواز ترك كل واحد منها بفعل الآخر، ومعناه جواز ترك كل واحد بشرط الإتيان بالآخر، وذلك تناقضٌ ظاهر.

في التخيير بين الأقل والأكثر

وإنه قد جاء التخيير بين الزائد والناقص في موارد معلومة، واختلفوا في وجوب الأكثر ، فقيل بالوجوب البدلي (3).

والحقُّ عدم الوجوب؛ لإمتثال الأمر بالأقل، فليس الزائد على الأقل ببدل، والأقصر (4) لا يدخل بالتمام؛ لمكان النية والسلام.

نعم، لو كانت إرادة الأقل (بشرط لا) يكونُ الزائد حينئذٍ بدلاً .

وقيل: هو ندب مستحب (5) ، وقيل : واجب في الدفعي خاصة دون غيره (6).

وأعلم أنه لا كلام في جواز الأمر بالفعل العبادي المساوي لوقته، وهو واقع، كوجوب صوم رمضان، ولا يجوز أن يكون وقت العبادة يقصر عن فعلها إلَّا أن يكون غرض الآمر

ص: 76


1- الشيخ حسن ،معالم الدين: 72؛ القمي، القوانين: / ٢٤٦ ، وهذا هو المشهور بين أصحابنا.
2- الرازي، المحصول : ٢/ ١٦٠ ، الإيجي، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب : 79، وهذا القول تبرأ منه الأشاعرة ونسبوه إلى المعتزلة وتبرأ منه المعتزلة ونسبوه إلى الأشاعرة، ذكر ذلك العلّامة الحلي، نهاية الوصول: ١٥٦/٢ .
3- الحائري، الفصول الغروية: 102 .
4- في نسخة ب: ببدل الأقصر. ينظر الكرباسي، إشارات الأصول: ١/ ١٢١ .
5- الأصفهاني، هداية المسترشدين: 311/2 وما بعدها .
6- الميرزا القمي القوانين: ١ / ٢٥٠.

تنزيل الوقت الخارج كقوله : (من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت كله» (1).

[في الواجب الموسع ]

والحقُّ أنه يجوز أن يكون بحيث يفضل منه، وهو الواجب الموسع، وهو ثابت لقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (2)، ومن المعلوم أنَّ ما بين الدلوك والغسق يفضَلُ من الصلاة؛ إذ ليس المراد تطبيق أجزاء الصلاة على أجزاء الوقت إجماعاً (3).وتخصيصُ آخر الوقت بالوجوب - كما ذهب إليه الحنفية (4)،أو أوله _ كما عن المفيد (5) وابن أبي عقيل (6) ترجيحٌ من غير مرجح.

وعن الآخرين (7) القول باستحقاق العقاب بالتأخر عن أول الوقت لكن جاء العفو عنه من الشارع بفعله في ثاني الوقت، وعن السيد المرتضى أنه يجب العزم في كل جزء من أجزاء الوقت على الفعل في ثاني الوقت؛ ليفصل عن المندوب (8).

وفيه: إن الفرق حاصل ؛ لأنَّ المندوب لا يجب فعله في جزء من أجزاء وقته، ومن تركه

ص: 77


1- ينظر : المحقق الحلي المعتبر : ٢ / ٤٧ ؛ العلّامة الحلي، منتهى المطلب : ١٠٩/٤؛ الميرزا القمي، القوانين:٢٥١/١؛ وروي هذا الحديث في الموطأ لمالك بن أنس: 1/10حدیث 15،و نقلَ هذا الحدیث عن الذکری للشهید الأول الحرُ العاملي وسائل الشيعة: ٤ / 21٨ أبواب مواقيت الصلاة باب 30 حديث ٤ وفي الباب نفسه في حديث 2 وحديث5 ، وكان مختصاً بصلاتي الغداة والعصر وليس مطلقاً.
2- سورة الإسراء : 78 .
3- الشيخ حسن معالم الدين: ٧٤.
4- السرخسي، أصول السرخسي: 1/ 31 نقله عن مشايخهم العراقيين.
5- الشيخ المفيد: التذكرة: ٣٠.
6- العلّامة الحلي، مختلف الشيعة ٤٣/٢ ، ابن أبي عقيل رحمة الله علیه هو أحد فقهائنا الذين يطلق عليهم القديمين، والآخر هو ابن الجني، ينظر: ابن فهد، المهذب البارع : ٦٩/١ وغيره من الكتب الفقهية كجامع المقاصد ومفتاح الكرامة.
7- الطوسي، الخلاف: ١/ ٢٧٦ مسألة ١٨.
8- السيد المرتضى، الذريعة: ١/ ١٤٧، ١٥٢.

من حيث لم يفعل في جزء من أجزائه لا يلزمُ له إثمٌ، بخلاف الواجب الموسع؛ فإنه لا يجوز تركه في جميع أجزاء وقته.

وقيل: إن فات أول الوقت يكون الوجوب مراعى، فإن بقي المكلف سالماً كشفَ عن بقاء الوجوب (1).

وقيل :إن فات أول الوقت فاتَ شرط وجوبه ،ويكون فعله مندوباً (2) .

وبعضهم (3) منع أن يفضل من الوقت بدعوى أنه يفضي إلى ترك الواجب، والتزم بتأويل ما جاء من صلاة الزلزلة.

وكل هذه الأقوال مخالفةٌ لظاهر الأمر الظاهر في كل وقته بمعنى التخيير في جميع أجزائه،فالكلُّ وقتٌ للامتثال وأيُّ زمان اختاره المكلف أجزأه فالتخيير فيه.

[ قاعدة التخيير في الشيء تخيير في لوازمه]

ويتفرّعُ على القول بجواز اتساع وقت العبادة قاعدةُ: (التخيير في الشيء تخييرٌ في لوازمه)؛ للتلازم بين التخيير في اللوازم وبين اتساع الوقت كما هو ظاهر، فلو أخرَ المسافر صلاته حتى حضر أتمها مع اتساع الوقت لها، وإن لم يبق من الوقت إلَّا قدر فعل العبادة تعيّنَ عليه لا محالة وحرم تركه.

نعم، يتضيّق الموسع بظن الفوات ويثبت العصيان بالتأخير حتى لو انكشف خلاف ظنه على إشكال، بل منع، غير أنه متجه، وهو متجه، وهو أداء لا قضاء كما توهم، كما أنه لا عصيان مع ظنه بقاء الوقت فمات، وقيل بالعصيان في خصوص ما كان محدود الوقت دون غيره (4).والفرق تحكّمٌ.

ص: 78


1- الرازي، المحصول : ٢ / ١٧٤ ؛ الآمدي، الأحكام: ١/ ١٠٥ .
2- الرازي، المحصول : ٢ / ١٧٤ ؛ الآمدي، الأحكام: ١/ ١٠٥.
3- العلّامة الحلي، نهاية الوصول: ٢/ ١٧٣، ونسبه إلى أبي الحسن الكرخي وجماعة من الأشاعرة وجماعة الحنفية وعزاه إلى من لا تحقيق له في مبادئ الوصول : ١٠٤ .
4- الأصفهاني، هداية المسترشدين : ٢/ ٣٥٥ وما بعدها؛ الميرزا القمي، القوانين: ٣٥٨/١.

[في الواجب الكفائي]

وإذا تعلّق غرض الشارع بتحصيل الفعل من جماعة لا على سبيل الجمع، بل على سبيل البدل فهو الواجب الكفائي.

والحقُّ أنه واجب على كل واحد على السواء؛ لأنَّهم لو تركوه جميعاً عوقبوا؛ حيث به قد أُمروا، ويسقط عنه بفعل غيره؛ لحصول المقصود منه.

وقيل : يجب على البعض فقط؛ لآية النفر (1) ، وهو غلط ؛ لأنَّها في بيان ما يسقطه عن الجميع وأضعف منه القول بوجوبه على المجموع (2) ؛ للزوم القصد على كل واحد حينئذٍ، وهو باطل، والإلزام بالنسخ مردودٌ.

ويقع الكلام في أنَّه هل متعلّق الطلب في التكليف الطبيعة أو الفرد في مقامات: [المقام الأول: في تحرير محل النزاع.

فاعلم أنه لّما كان متعلّق الطلب بوجوده الذهني،متعلقاً للطلب،و عروض الطلب لمتعلّقة إنمّا هو فی الذهن،اختلفوا - بعد الاتفاق على لزوم اعتبار الوجود في متعلّق الطلب-

في أنَّ الوجود المعتبر لحاظه في متعلّق الطلب هل هو وجود الطبيعة أو وجود الفرد؟

وبعبارة أخرى هل الطبيعة بوجودها الذهني متعلّقةٌ للطلب، أو الفرد بوجوده الذهني متعلّق للطلب؟

ويظهر من بعض الاحتجاجات (3) أنَّ مرادهم - بعد فرض اعتبار الوجود- هل المعتبر أشخاص الوجودات الخاصة، أو المعنى الواحد الجامع بين الوجودات؟

المقام الثاني: في التنبيه على أمور (4) لا بدَّ منها :

ص: 79


1- سورة التوبة: 122، ينظر: الإيجي، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب: 77؛ العلّامة الحلي، نهاية الوصول: 2/ 170 ؛ الميرزا القمي، القوانين: ١/ ٢٦٢ .
2- الأصفهاني، هداية المسترشدين: 2/ 273 . قال وعزي القول به إلى قطب الدين الشيرازي.
3- الأصفهاني، هداية المسترشدين: ٦٨٩/٢ ، الميرزا القمي، القوانين: ١/ ٢٦٤.
4- لم يذكر إلا أمراً واحداً.

الأول: إنَّ الماهية من حيث هي هي غيرُ قابلة لتعلّق الطلب مطلقاً فعلاً وتركاً؛ ضرورة كونها بما هي هي ليست إلّا هي، فلا بدَّ أن يكون بلحاظ الوجود أو الترك معها مطلوبة ومتعلّقاً للإرادة سواء كان الغرض والمطلوب نفس الطبيعة بلحاظ الوجود أو أفرادها الملحوظ وجودها في الذهن.

وظهر مما ذكرنا - [من] أن اللازم اعتبارُ الوجود في متعلّق الطلب- أنَّ الوجود لا يكون غاية في الطلب؛ لعدم إمكان تعلّق الطلب بنفس الماهية بما هي هي، فلا يتعلّق بها طلب حتى تكون الغاية في طلبها نفس الوجود أو الترك كما هو ظاهر.

نعم، الوجود الخارجي غايةٌ في الأمر بالماهية؛ لأنَّه طلب الوجود لها من المكلّف، فالأمر يبعث المكلّف على أنْ يُلبسَ الماهيةَ حلّةَ الوجود في الخارج، فالمطلوب صدور الوجود من المكلّف وحصوله للماهية في الخارج منه، لا طلب الوجود الحاصل؛ فإن ذلك تحصيل للحاصل، وهو غير معقول.

المقام الثالث: الحقُّ أنَّ المضاف إليه الوجود في الخارج ليس إلّا الكلي الطبيعي، بل يمتنع إضافة الوجود في الخارج إلَّا إليه؛ لأنَّ فردية الفرد لا تتحقق إلَّا بعد اجتماع العناوين والحيثيات في الوجود، فيصيرُ بها فرداً ومجمعاً للعناوين ككونه جسماً وحيواناً وناطقاً، طويلاً أو قصيراً، أبيض أو أسود، وأمثال ذلك من الماهيات والعناوين، وبدونها لا فرد في الخارج، فإنكار وجود الكلي الطبيعي في الخارج ناشئ من عدم تحصيل فردية الفرد.

نعم، لا يوصف بالكلية إلّا في الذهن كنفس الكلية المنتزعة من الماهية المتصورة في الذهن لا في الخارج، لكن معنى طلب الأمر الماهية المتعلّق بها الطلب هو أن يجعلها المكلف بنفسها في الخارج بناءً على أصالة الماهية، أو يطلب منه ان يُلبسها حلّة الوجود الخارجي، وأن يصدر منه وجودها الخارجي بناءً على أصالة الوجود، فالكلي الطبيعي إذا لبس حلة الوجود الخارجي صار فرداً، ولكن لوازم الوجود الخارجي لا مدخلية لها به ولا بما صار هو به محبوباً ؛ فإن الخصوصيات منها ما هو للماهية وبها تكون محبوبة، ومنها ما هي من لوازم الوجود الخارجي التي لا مدخلية لها بالكلي الطبيعي ولا بمحبوبيته وجوداً وعدماً لو أمكن

ص: 80

انفكاك الخصوصيات الخارجية والعوارض العينية التي للوجود الخارجي.

المقام الرابع: في احتجاج الطرفين.

احتج القائل بأن متعلّق الطلب الأفراد بأن الطبيعة لا توجد في الخارج، والوجود مختص بأفرادها.

وفيه: ما عرفت من وجود الكلي الطبيعي في الخارج، وأنه هو الذي له الحظ في الوجود لاغیر.

واحتج أيضاً بأن المقدور ليس إلّا الفرد، ولا يمكن تعلّق الطلب بغير المقدور كما هو ظاهر؛ ضرورة كون الطبيعة المجردة عن الخصوصيات لا يمكن تحققها في الخارج، فلا بدَّ من إيجاد الفرد مقدمةً لحصول الطبيعة في ضمنه.

وفيه: إن الطبيعة إذا قيدت بشرط عدم انضمامها بالخصوصيات لا تكون قابلة للوجود الخارجي، وإذا جردت عن هذا الاعتبار فتعلّق الضرورة بها ضروريٌ، وليس وجود الفرد مقدمة لوجود الطبيعة؛ لمكان اتحادهما في الخارج كما لا يخفى على أهل العلم بالمسألة.

واحتج القائل بتعلّقه بأشخاص الوجودات الخاصة دون معنى الواحد الجامع بين الوجودات، بأنَّ الوجودات بأسرها متباينات ولا جامع لها حتى يمكن تعلّق الطلب به، فلا بدَّ أنْ يكون متعلّق الطلب الأشخاص الخاصة.

وفيه منع عدم الجامع بالوجدان؛ ضرورة تعلّق الإرادة بإيجاد الماء لرفع العطش من غير مدخلية خصوصيات الوجود في الإرادة، فكما أن متعلّق الطلب صرف الإيجاد أو صرف الترك، كذلك المتعلّق ذات الماهية المخصوصة ذات المصلحة من غير مدخلية للخصوصيات اللازمة للوجودات الخارجية وجوداً وعدماً لو أمكن انفكاكها كما تقدمت الإشارة إليه.

واحتج القائل بتعلّق الطلب بوجود الطبيعة، بأن طلب الشيء يتوقف على تصوره، والفرد لا يتصور إلَّا بعد تحققه؛ لأنَّ الصور الذهنية إنما تؤخذ من الخارج، فإذا لم يكن الفرد في الخارج لا يمكن إحاطة الذهن به فكل ما يحيط الذهن به قبل تحقق الفرد فهو كلي يمكن تقييده في الذهن بقيود عديدة بحيث يصير منحصراً في فرد واحد، ولا يخرج بذلك من كونه

ص: 81

كلياً قابلاً للصدق على كثيرين، وبعد التحقق في الخارج لا يكون متعلّقاً للطلب؛ لأنَّه تحصيل لما هو حاصل.

وفيه: إنه لا يلزم التصور التفصيلي للمتعلّق ولا يتوقف الطلب على تصور تفصيلاً بل يكفي التصور الإجمالي ولو بالوجه والعنوان، وحينئذٍ لا يستحيل تصور الفرد قبل وقوعه بالوجه والعنوان ضرورة إمكان تصور أفراد الطبيعة بعنوان أنها أفراد لها، ولو لم يكن ذلك لما كان للنزاع محل .

واحتج القائل بتعلّق الطلب بالمعنى الوحداني الجامع بين الأفراد، بأن وجود الشخص لا يدخل في الذهن، وإلا لانقلب خارجاً.

وفيه: إن المتصور من الأشخاص صورها الذهنية الحاكية عن الخارج، لا بوصف تحققها في الخارج تكون متصورة في الذهن حتى يلزم الانقلاب، بل يكفي انتقاش صورها في الذهن، ويتعلّق الطلب بتلك الصورة الذهنية الحاكية عن الخارجيات.

واحتج أيضاً بأن إمكان تصور الوجود الشخصي إنما يكون بعد تحققه، وإذا تحقق لا يمكن تعلّق الطلب به.

وفيه ما عرفت من كفاية التصور الإجمالي بالوجه وبالعنوان، وعدم توقف الطلب على التصور التفصيلي، فلا يستحيل تصور الفرد بوجهه؛ ضرورة إمكان تصور أفراد الطبيعة بعنوان أنها أفراد الطبيعة كما هو ظاهر .

لكن الأظهر أنّ متعلّق الطلب صرف نفس الماهية باعتبار الوجود من دون مدخلية للوازم الوجودات الخارجية، والمطلوب في الأمر بها الوجود الخارجي على ما أو ضحناه في المقام الثاني فلا نعيد.

ص: 82

وثمرة الخلاف في المسألة

منها: في الشبهة الموضوعية التحريمية، فإنَّ القائل بتعلّق طلب الترك بالماهية لا يمكنه التمسك بالبراءة العقلية؛ للعلم بالنهي عن الطبيعة فلا يمكنه شرب مشكوك الخمرية بأصالة البراءة، بخلاف القائل بتعلّق النهي بالأفراد فيجري أصالة البراءة في هذا الفرد المشكوك ؛ لعدم العلم بحرمته بالخصوص.

ومنها: لو ارتكب المطلوب تركه، فإن كان المطلوب هو ترك الماهية فقد وجدت في الخارج وتحقق العصيانُ فلا عصيان بارتكابه ثانياً، وإن كان النهي متعلقاً بالأفراد فكل (1) فردِ فرد إطاعة وعصيان.

فإن قلت: إنَّ النهي عن الماهية ينحل إلى مناهي متعددة بتعدد المصاديق، فهو رجوع إلى تعلّق النهي بالأفراد، وكذلك لو قلنا بدلالة النهي على طلب الترك في جميع الأزمان، فتأمل؛ فإنه يرجع إلى طلب ترك جميع وجودات الماهية، وهو معنى تعلّق الطلب بترك الأفراد.

والعدلية على(امتناع الأمر بالشيء مع العلم بانتفاءشرطه)

(2).

أي عِلْمُ الآمر بانتفاء شرط وجوبه؛ لحكم العقل بامتناعه؛ لأنَّه تكليف بغير المقدور؛ لتوقف وجوده على تمام علة الوجود ومنها الشرط، ولا فرق عندنا بين الممتنع بالذات والممتنع بالغير، وجوّزه الجبرية (3) وكل من قال بأن القدرة مقارنة للفعل وهي غير مؤثرة فيه؛ لكونه واقعاً بقدرة الله، ولا يشك أنَّ التكليف بفعل الغير حال عدم القدرة عليه تكليفٌ

ص: 83


1- كذا في المخطوطة، ولعل الأصح فلكل.
2- أبو الحسين البصري، المعتمد: ١ / ١٥٠ ؛ العلّامة الحلي نهاية الوصول : 2/ 282؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٢٥٢/١ .
3- الرازي، المحصول : ٢٧٦/٢ - ٢٧٧؛ الشيخ حسن معالم الدين: 82، حيث نسبه إلى أكثر مخالفينا، قال : قال أكثر مخالفينا إن الأمر بالفعل المشروط جائز وإنْ علم الآمر انتفاء شرطه.

بما لا يطاق، وهو قبيح بالضرورة، فالله سبحانه لا يفعل قبيحاً؛ لحكمته، فاستحال منه وقوع التكليف بالمحال، وأمرُ إبراهيمَ بالذبح لمحضِ الابتلاء ولم يكن الفعلُ مراداً منه، وإذا أُريد بالأمر مصالحُ أُخر غير الفعل فلا مانع منه ولا قبح فيه كما هو ظاهر.

ودعوى انحصار الأمر بداعي طلب الفعل لا غير، باطلةٌ (1) ، بل يكون للامتحان وغيره، وهو أمر إنشائي غير أنه صوري لا واقعي بالنسبة إلى الفعل، ولا كلام لأهل العلم فيه، كما لا كلام في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه مرتبة الفعلية؛ لعدم شرطه، وهو كثير في الشرعيات والعرفيات فافهم (2) .

الحقُّ عدم بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب

لعدم وجود الجنس بلا فصل (3) ، ودعوى قيام فصل آخر مقامه ممنوعةٌ، فلا بدَّ لتعيين الجواز من دليل آخر في العبادات، ولا دلالة لدليلي الناسخ والمنسوخ على تعيين واحد من الأحكام بوجه من الوجوه لا الجواز ولا غيره، ولا مجرى لاستصحاب الجواز الكلي، وإنْ كان الحق جريانه في الشك في حدوث فرد كلي مقارنِ لارتفاع فرده الآخر، لكنه في المقام من الاستصحاب في الشك في تبدل حكم بحكمِ آخر ، فلا يصح؛ إذ الأحكام الخمسة متضادة، والجواز أحدها، وهو ضد الوجوب فلا يعد عرفاً _ لو كان _ أنه باقٍ، بل يعد أنه حادث آخر غيره، فلا مجرى لاستصحابه كما هو ظاهر.

ص: 84


1- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول : ٢٥٣/١ .
2- الأصفهاني، هداية المسترشدين : ٢ / ٦١١ وما بعدها؛ الحائري، الفصول الغروية: 109؛القمی، القوانين: ١ / ٢٧٦ .
3- العلّامة الحلي، مبادئ الوصول : 108 ؛ القمي، القوانين: 1/ 282.

الحقُّ أنَّ القضاء بفرض جديد

لعدم دلالة الأمر بالمؤقت على الأمر به في خارج الوقت، فالأصل براءة الذمة من وجوب القضاء في خارج الوقت (1) ، واستصحابُ وجوب المؤقت بعد انقضاء الوقت غلطٌ ظاهرٌ ، بل الأمر به ظاهرٌ في وحدة المطلوب؛ إذ يطلب الماهية المقيدة، وحيث لا قيد لا تقييد فلا مقيد.

ودعوى كون وقت الفعل خارجاً لازم للفعل فلا يسقط بخروج الوقت. مدفوعةٌ بأنَّ الوقت قيدٌ لازم به وإلَّا لجاز تقديم الفعل على الوقت. نعم، ربما جاء دليل الواجب على الإطلاق، وكان التوقيت بدليل منفصل لم يفهم حينئذٍ طلب الماهية المقيدة؛ لإطلاق دليل الوجوب، فيكون وقت الفعل خارجاً لازماً له فلا يسقط بخروج

الوقت؛ لظهور الدليلين في تعدد المطلوب حينئذ.

والأمر بالأمر بشيء أمر به

للتبادر واستقامة الطريقة في أمرهم الرسل في سائر الأوامر، ومنه في الكتاب العزيز والسنّة الكثيرة الظاهرة في غرض تبليغ الأمر بذلك الشيء.

ودعوى (2) عدم الدلالة إلَّا بقرينة، يكذّبها العيان والبرهان، بل لو أراد مجرد الأمر بالشيء من غير غرض في حصول ذلك الشيء، فلا بدَّ من ضم ما يدل على ذلك، وكذا لو أراد حصوله بعد تعلّق أمره به لا أصل حصوله احتاجَ إلى نصب قرينةٍ صارفةٍ.

في الإجزاء وعدمه

لا كلام في سقوط الأمر بعد حصول متعلّقه سواء كان الأمر متعلقاً بالعناوين الواقعية الأولية أو بالعناوين الثانوية الطارئة كالعجز والاضطرار والشك في التكليف الواقعي وغير

ص: 85


1- الأصفهاني، هداية المسترشدين: ٢/ ٦٦٠ ؛الآخوندالخراساني، كفاية الأصول : ١/ ٢٦٨.
2- الآخوند ،الخراساني، كفاية الأصول: ٢٦٩/١ .

ذلك، ضرورة أنه لو كان باقياً بعد حصول متعلّقه لزمَ طلب الحاصل كما هو ظاهر. وإنما الكلام في أنَّ الأمر الاضطراري الذي أوجبَ حكماً واقعياً في حال الاضطرار، هل يجزي عن الواقع الأولي؟ بمعنى أنه لو ارتفع الاضطرار في الوقت أو في خارجه لم يجب الإتيان بما اقتضاه الأمر الواقعي الأولي، أم لا؟

وفيما لو انكشف خلاف ما ظنه المجتهد حكماً واقعياً فهل يجزي الحكم الظاهري الذي هو مؤدى ذلك الظن عن الحكم الواقعي حينئذ أم لا؟

وتحقيق الكلام في الأمر الاضطراري (1) هو أنه إن كانت المصلحة القائمة فيه مساوية لما في الاختياري ومن سنخ واحد لا مغايرة بينهما، كان إجزاؤه عن الأمر الواقعي هو الأظهر. وإِنْ لم يكن كذلك فلا إجزاء وإن كان ذا مصلحة تامة كالاختياري؛ لتغايرهما فلا يكون مجزياً عن الواقع.

اللهم أن يكون (2) تمامية مصلحة الفعل الاضطراري في الخارج موجباً لعدم إمكان استيفاء مصلحة الاختياري الأولي، أمّا مع عدم تمامية الغرض أو عدم تمامية المصلحة، فلا كلام في عدم الإجزاء؛ لإمكان استيفاء الزيادة بعد زوال العذر.

ثمَّ اعلم أنّ المصلحة قد تكون مترتبة على الاضطرار الفعلي، وقد تكون على الاضطرار في تمام الوقت، وعلى الأول يجوز الإتيان بالفعل الاضطراري مع رجاء زوال العذر، بل حتى مع العلم بالزوال بعد ذلك، وعلى الثاني لا يجوز له ذلك، فلو أتى بالفعل في أول الوقت ثم ارتفع عذره في أثناء الوقت كشفَ عن عدم كونه مأموراً به؛ لأنَّ الفرض أن التكليف بالفعل لا يتعلّق إِلَّا على المضطر في تمام الوقت، فعلى الأول لا إعادة مع ارتفاع العذر في الوقت، والإعادة على الفرض الثاني؛ لكشف انقطاع العذر وعدم كون المأتي به متعلّقاً للأمر لا لعدم إجزاء امتثال الأمر في حال العذر. هذا كله في الإعادة في الوقت.

ص: 86


1- الروزدري ، تقريرات المجدد الشيرازي: ٢/ ١٦١ .
2- في نسخة ب: اللهم إلَّا أن تكون.

أمّا القضاء في خارجه فيسقط على كلا الفرضين إذا استوعب العذر تمام الوقت وارتفع العذر بعده،

وأمّا مفاد الأدلة في أنحاء صور التكاليف فمحلّه الفقه، ومع الشك في ظواهر الأدلة في الإعادة والقضاء فالأصل البراءة؛ لكونه من الشك في التكليف والشك في الفوت؛ لاحتمال استيفاء العاجز المصلحة بإتيان الفعل الاضطراري وعدم إمكان الأمر الجديد بالقضاء في خارج الوقت.

وأمّا إذا انكشف خلاف ظن المجتهد، فالأظهر عدم الإجزاء؛ لفوات الواقع الذي هو المطلوب ولا وجوب على غيره، أقصاه أن يعذر الجاهل الذي لا طريق له إلى فعل الواقع، فوجوب الواقع لا يرتفع بناءً على ما هو التحقيق من كون الأمارات طرقاً صرفة لا موضوعية لها، فالواقع بعدُ مطلوب وإلا لزمَ التصويب، والغرضُ الموجب للحكم حدوثاً موجب له بقاءً ما لم يحصل، والمفروض عدم حصوله؛ لعدم اشتمال الظن على ما يحصل ذلك الغرض الموجب للتكليف بالواقع، وأقصى ما فيها رفع تحيّر المكلف عند عدم العلم بالواقع، وعذره فيه مع عدم المخالفة، فلا وجه للإجزاء مع بقاء الأمر بالواقع وعدم حصول الغرض واستقلال العقل بعدم المعذورية مع العلم بالمكلف به الواقعي، ولا دليل على عدم إمكان استدراك ما فات من الواقع بمجرد فعل متعلّق الأمر الظاهري العذري، ولا فرق في عدم الإجزاء بين الشبهات الموضوعية أو الحكمية من موارد الأحكام الظاهرية؛ ضرورة علم المكلف بثبوت التكليف حين انكشاف الخلاف.

ودعوى الإجزاء للأصل فاسدةٌ؛ لكون الشك في السقوط، فالأصل العقلي الاشتغال حتى عند القائل بالسببية في الأمارات؛ لأنَّه لا ينكر أنَّ الأحكام الظاهرية في طول الأحكام الواقعية لا في عرضها؛ لكون الموضوع فيها الشك في الواقع، فلا يمكن أن تكون رافعة للأحكام الواقعية حتى ينحصر الحكم الفعلي بمؤدى الظن أو الأصل كما هو ظاهر.

فإنْ قلتَ : قد ذكرتَ أنَّ الأصل البراءة في الشك في الإعادة والقضاء بعد أداء الفعل الاضطراري، فليكن الأصل هنا كذلك.

ص: 87

قلت: إنما قلنا هناك بالبراءة؛ لأنَّ التكليف الواقعي في حق المضطر ليس إلّا ما فعله فلو كُلّف بالتمام كان تكليفاً جديداً غيره، فالأصل البراءة، بخلاف المقام؛ فإنَّ الواقع محفوظٌ حال الشك فيه والعمل بالحكم الظاهري، فإذا ارتفع الشك وانكشف الواقع المحفوظُ وشك في سقوطه، كانَ الأصل الاشتغال واستصحاب بقاء التكليف السابق، ولا مجرى لأصالة العدم على أنَّ التحقيق أنه لا مجرى للأصول بعد قيام الدليل الكاشف عن الواقع ُكما هو المفروض.

ص: 88

لامعة في النواهي

الحقُّ أنَّ النهي ظاهرُ في التحريم عرفاً، والقولُ (1) بظهوره في الكراهة، أو الاشتراك اللفظي بينهما (2) ، أو المعنوي خلافُ الظاهر جزماً وكذلك صيغة النهى

[ صيغة النهي]

ظاهرةٌ في خصوص التحريم كما هو الأشهر (3)، ومعناها ترك الفعل عند العرف. وقيل : معناها الكف؛ لكون الترك عدمٌ ممتنع (4) وفيه منعٌ؛ إذ لو تم لوجب نقيضه، ولا نتفى كلُّ طلب، مع أنَّه باعتبار القدرة على استمرار الترك يكون مقدوراً بالضرورة.

وفي دلالة النهي على التكرار خلافٌ

والحقُّ أنه ليس للتكرار والدوام وضعاً (5)؛ لسبق الإطلاق إلى الذهن، ولصحة التقييد بالدوام وعدمه من غير تكرير ولا نقض، فلو شرط الإطلاق في ماهية الترك فلا كلام؛ للمنع عن إدخال الماهية في كل ما يوجد من أفرادها حينئذٍ.

في اجتماع الأمر والنهي

مع فرض وجود المندوحة للمكلف بأن يكون متمكناً من إيجاد عنوان (6) المأمور به في غير مورد النهي.

ص: 89


1- الميرزا القمي، القوانين: 308/1.
2- الشهيد الثاني، تمهيد القواعد: 138.
3- الرازي المحصول : ٢/ ٢٨٥ ؛ الشيرازي اللمع في أصول الفقه : ٨٥.
4- الإيجي، شرح العضد على مختصر ابن الحاجب : 177؛ محمد مهدي النراقي، أنيس المجتهدين: ١٦٧.
5- الشيخ الطوسي، عدة الأصول: ٢٥٥/١؛ العلّامة الحلي، تهذيب الوصول: ١٢٥ .
6- (عنوان) ليست في نسخة (ب).

ثمَّ النزاع في الصغرى، وهو أنه هل يلزم من بقاء إطلاق دليل الوجوب وإطلاق دليل النهي في مورد اجتماعهما اجتماعُ الأمر والنهي في الواحد الشخصي أم لا يلزم بأن يكون محل الأمر غيرَ محل النهي وإن اجتمعا في مصداق واحد شخصي؟

ولا نزاع في الأمر والنهي بشيءٍ واحد بالجنس،وخروج المتباينين والمتساويين عن محل النزاع؛ لإمكان تعلّق الأمر بأحد المتباينين وتعلّق النهي بالآخر، وعدم إمكان ذلك في المتساويين في الصدق؛ لعدم المندوحة، فمحل النزاع في العامّين من وجه، وأمّا العام المطلق والخاص فاختلفوا في دخوله في محل النزاع.

والتحقيقُ خروجه (1)؛ إذ المطلق يقتضي الأمر بالطبيعة، والمقيد يقتضي النهي عنها، وهي متحدة في عالم الذهن مع المقيد؛ لأَّنها مقسمٌ له وللمطلق، فيلزم أن يكون المحبوب مبغوضاً حتى في الذهن، وهذا غير معقول، بخلاف مفهوم الصلاة والغصب مثلاً، فإنه لا اتحاد بينهما في الذهن أصلاً.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنَّ التحقيق في الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادات، أنَّ النزاع في مسألتنا هذه في إمكان اجتماع ماهيتين إحداهما مطلوبة الفعل والأخرى مطلوبة الترك في شيء جامع لهما، [و] في مسألة النهي في أنَّ النهي المتعلّق بفرد من أفراد الماهية المأمور بها هل يقتضي رفع الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر بها أم لا؟

والحقُّ في مسألتنا الإمكان وفاقاً لسيدنا الأستاذ (2)؛ لوجود المقتضي وفقدان المانع، أمّا الأول (3) فلأن الأحكام إنما تتعلّق على الطبائع من حيث هي هي، كما يقتضيه وضع المادة والهيئة، وقضية الصلاة واجبة من قبيل القضايا النفس الأمرية كالإنسان موجود، لا القضايا الخارجية المأخوذ في موضوعها الوجود الخارجي.

ص: 90


1- الميرزا القمي، القوانين: 358/1؛وخالفه الشيخ الأنصاري. ينظر الكلانتري، مطارح الأنظار: ١ / ٦٠٥ ؛ الروزدري ،تقريرات المجدّد الشيرازي: 13/1 .
2- الروزدري، تقريرات المجدّد الشيرازي: ٣/ ٢٧ .

والقولُ بأنَّ القضايا النفس الأمرية لا بدَّ وأن يكون المحمول فيها من لوازم الموضوع بحيث لا ينفك عنه ذهناً ولا خارجاً، وليس المحمول في قولنا : الصلاة واجبة كذلك، فلا بدَّ وأنْ يكون من القضايا الخارجية.

مدفوعٌ بأنَّ هذا في القضية التي مفادها ثبوتُ شيء لشيء، وأمّا القضايا التي مفادها ثبوتُ شيٍءٍ مثل: الإنسانُ موجودٌ، فليس كذلك ؛ فإنَّ القولَ بأنَّ: (الإنسان الموجود في الخارج موجودٌ) غيرُ معقول ؛ لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه، وكونه موجوداً قبل وجوده ،وهذا باطل ببداهة العقل، والقضايا الشرعية ملحقةٌ بقولنا: (الإنسان موجود) حكماً ، فافهم.

وأمّا الثاني _ أعني عدم المانع - فالحقُّ أنه لا مانع من الجواز إلَّا ما زعم المانعُ من لزوم اجتماع الحكمين المتضادين، ولزوم اجتماع الحب والبغض والمصلحة والمفسدة في شيء واحد، وليس كما زعمه؛ لأنَّ عروض الطلب - أمراً كان أو نهياً - لمتعلّقه إنما هو في الذهن لا في الخارج، واتصاف المحل به أيضاً في الذهن لا في الخارج كالكلية العارضة للإنسان، فإنه لايصير متصفاً بالكلية في الخارج، فالعروض في الذهن؛ لأنّها منتزعة من الماهية المتصورة في الذهن، واتصاف الماهية بالكلية في الذهن؛ لأنّها لا تقبل الكلية في الخارج.

ولو كان عروض الطلب المتعلّقه واتصاف متعلّقه به في الخارج كالحرارة العارضة للنار والبرودة العارضة للماء لزمَ أنْ لا يتعلّق الطلب إلَّا بعد وجود متعلّقه كما أنّ الحرارة والبرودة لا توجدان إلّا بعد وجود النار والماء، فيلزم طلب الحاصل والنهي عن المتروك وهو محال، ولا يكون عروضه في الذهن واتصاف المحل به في الخارج كالأبوة والبنوة وأمثالهما من الانتزاعيات من المعقولات الثانوية؛ لأنَّ متعلّق الطلب إذا وجد في الخارج مسقطٌ للطلب، ويكون معدوماً له، ولا يعقل أن يتصف في الخارج بما هو يُعدم بسببه، فانحصر كونه على ما قررنا من أنَّ عروضه في الذهن واتصاف المحل به في الذهن أيضاً، فطبيعة الصلاة والغصب وإن كانتا موجودتين بوجود واحد أعني الحركة الشخصية المتحققة في الدار المغصوبة، لكنَّ متعلّق الأمر والنهي ليس الطبيعة الخارجية؛ لما عرفت من لزوم تحصيل الحاصل، بل متعلّقها الطبيعة بوجودها الذهني، لكن لا من حيث ملاحظة كونه وجوداً ذهنياً، بل

ص: 91

من حيث كونه حاكياً عن الخارج، وظاهرٌ أنَّ طبيعة الصلاة في الذهن غيرُ طبيعة الغصب في الذهن، فلا يلزم من وجود الأمر والنهي اجتماعهما في محل واحد؛ لورود الأمر والنهي على الحقيقتين المتعددتين بملاحظة الوجود الذهني المتحدتين بملاحظة الوجود الخارجي، والطلبُ العارض على الحقيقتين بوجودهما الذهني الحاكي عن الخارج لا يسري إلى أفرادهما الخارجية؛ لمكان المغايرة في اللحاظ التفصيلي؛لكون الطبيعة بلحاظ وجودها الذهني الحاكي جُعلت محمولاً، والوجودات الخاصة في الخارج موضوعاً ، فهما في هذا اللحاظ متغايران تغاير المحمول والموضوع فلا يسري الطلب القائم بالطبيعة إلى أفرادها، وجوباً كان أو تحريماً؛ لمكان المغايرة في هذا اللحاظ.

فإن قلتَ: إذا كان الوجود المجرد عن الخصوصيات متعلّق الحب والبغض، لزمَ أنْ يكون المحبوب والمبغوض ليس له وجود في الخارج، وما ليس له وجود في الخارج لا يكون له أثر ، ولا يكون متعلّقاً للأمر والنهي؛ لأنَّه عبارة عن الوجود الجامع الذي لا حظّ له إلَّا في الذهن.

قلتُ : هو بوصف كونه جامعاً، لا يتحقق إلَّا في الذهن، لكنَّ قولك: إنه لا حظَّ له في الخارج غلطٌ؛ فإن المحبوب والمبغوض هي الحقيقة الواحدة التي يحدها العقل في الوجودات الشخصية التي يحويها طبيعة واحدة، أعني صرف الوجود من دون مدخلية للخصوصيات الفردية، كما قد يتعلّق حبنا أو بغضنا بشرب الماء من دون مدخلية الخصوصيات الخارجية في الحب والبغض، ولو لم تكن تلك الطبيعة في الخارج لما أمكننا تعلّق الحب بها، ويدلُّك على تحقق صرف الوجود في الخارج ملاحظةُ وحدة الأثر من أفراد الطبيعة الواحدة، ولو لم يكن ذلك الأثر الواحد من المؤثر الواحد لزمَ تأثيرٌ واحد من المتعدد، وهذا محال عقلاً، أوضحنا سابقاً وجود الكلي الطبيعي في الخارج بما لا مزيد عليه، فراجعه.

لا يقال : إن الصلاة والغصب من العناوين المنتزعة من الوجودات الخارجية، وليس لها وجود في الخارج حتى يجرد عن الخصوصيات ويكون المجرد مورداً للتكليف، فاللازم في مثلها القول بأنَّ مورد التكليف الوجود الخارجي الذي هو منشأ الانتزاع لتلك العناوين،

ص: 92

ولا ريب في وحدة الوجود الخارجي الذي يكون منشاً للانتزاع.

وبالجملة، تعددُ العناوين مفهوماً لا يجدي في عدم لزوم اجتماع الأمر والنهي في واحد؛ لعدم الحقيقة لها إلَّا عند العقل، والذي يكون مورداً للأمر والنهي ليس إلَّا الوجود الخارجي الذي ينتزع منه عنوان الصلاة وعنوان الغصب، ولا شبهة في وحدته.

لأنا نقول: إنا قد أوضحنا صرف الوجود في الخارج فلا وجه لهذه الشبهة؛ فإنَّ العناوين المنتزعة لا تنتزع إلّا من صرف الوجود من غير ملاحظة الخصوصيات، فإنَّ مفهوم ضارب إنما ينتزع من ملاحظة حقيقة وجود الإنسان واتصافه بحقيقة وجود المبدأ، من دون دخل الخصوصيات أفراد الإنسان أو كيفيات الضرب في ذلك، فمفهوم الغصب ينتزع من حقيقة التصرّف في تلك العين، من دون مدخلية خصوصيات التصرّف من كونه من الأفعال الصلواتية أو غيرها في ذلك، ومفهوم الصلاة ينتزع من الحركات والأقوال الخاصة مع ملاحظة اتصافها ببعض الشرائط، من دون مدخلية خصوصية وقوعها في محلٌ خاص، وقد عرّفناك قابلية ورود الأمر والنهي على الحقيقتين المتعددتين بملاحظة الوجود الذهني المتحدين بملاحظة الوجود الخارجي، ولما كان منشأ انتزاع الصلاة والغصب متعدداً، وردَ الأمر والنهي وتعلّقا بما هو منشأ لانتزاعها.

ومما ذكرنا ظهر ما في كلام شيخنا العلّامة المرتضى قدس سرهُ في بيان المانع من الاجتماع، قال: (إنَّ محذور إجتماع الضدين غيرُ منحصر في كون الشيء الواحد معروضاً وموضوعاً للضدين، بل هو أعم منه ومن كون الشيء مصداقاً للضدين، أو معروضاً لأحد الضدين ومصداقاً للآخر، إلَّا ترى أنه كما لا يعقل كون المحل الشخصي معروضاً للسواد والبياض، كذلك لا يعقل كونه مصداقاً للأسود والأبيض، ولا يعقل أيضاً كونه معروضاً للسواد ومصداقاً للأبيض، أو معروضاً للبياض ومصداقاً للأسود. فمقاماته يلزمُ في المقام على القول بكون الكلي متعلّقاً للأحكام هو اجتماع الضدين في محل واحد، بحيث يكون الشيء الواحد الشخصي معروضاً للوجوب والحرمة، وأمّا كون الشيء الواحد معروضاً للنهي

ص: 93

ومصداقاً للأمر على مذاقنا ومذاق صاحب الهداية (1) ، وكونه مصداقاً لهما على مذاق المحقق القمي القائل بتعلّق النهي أيضاً بالطبيعة، فلا محيص ولا مناص عنه في المقام، وهذا في نظر العقل غير معقول أيضاً كما نشاهده في الأبيض والأسود) (2)، انتهى.

فإنَّ مقايسة المقام بمسألة الأبيض والأسود قياس مع الفارق موضوعاً ومحمولاً، أمّا موضوعاً؛ فلأن الموضوع في قضية : (الجسم أبيض) هو الجسم بلحاظ الخارج؛ لعدم عروض البياض والسواد إلّا في الخارج نظير ثبوت الحرارة للنار في قضية: (النار حارة)، بخلاف المقام؛ لما عرفت من عدم معقولية اعتبار الوجود في موضوع قضية (الصلاة واجبة )كعدم معقولية ذلك في قضية (الإنسان موجود)، بل الموضوع هو الصلاة من حيث هي هي.

وأمّا محمولاً؛ فلأن المحمول في القضية السابقة عروضه لموضوعه، وهو الجسم، ووقوعه علیه عروض ووقوع حلولي، بمعنى أنَّ عروضه له على نحو الاستقرار والثبوت، وليس هو بآني الحصول، بخلاف المحمول في قضيتنا؛ فإن الوجوب - وهو الطلب الذي هو: عبارة عن اللفظ الكاشف عن الإرادة النفسانية، أو عن الإرادة المنكشفة باللفظ - تعلّقه على متعلّقه تعلّق صدوري بلحاظ، وتعلّق وقوعي بلحاظ آخر، كالضرب مثلاً، حيث إنَّ له أيضاً نسبة صدورية بالنسبة إلى الضارب، ونسبة وقوعية بالنسبة إلى المضروب وليس هو أمراً ثبوتياً حلولياً حالاً في محل الوقوع كحلول البياض والسواد في الجسم، ومن المعلوم أنَّ ذلك بملاحظة إضافته إلى الفاعل من حيث صدوره عنه أمر غيرُ قارّ لا تقرُّر له ليلزم اجتماع الأمر والنهي في محل واحد، كما أنه بلحاظ إضافته إلى فعل المكلف من حيث تعلّقه عليه لا تقرر له أيضاً؛ فتعلّق الأمر على الطبيعة والنهي على الفرد ليس نفوذياً كنفوذ البياض والسواد في الجسم؛ فلا يلزم من وجود الطبيعة في ضمن الفرد في الخارج اجتماعٌ كاجتماع اللونين في

ص: 94


1- الأصفهاني، هداية المسترشدين: ٥٥/٣ وما بعدها.
2- لم أعثر على هذا الكلام نصاً في التقريرات المنسوبة للشيخ الأنصاري كالفوائد الأصولية ومطارح الأنظار، كما لم أعثر عليه في كلام تلميذيه السيد المجدّد الشيرازي والميرزا حبيب الله الرشتي، ولعل المصنّف نقله بالمعنى أو من كتاب آخر . نعم هو موجود بالمعنى في مطارح الأنظار : ٦٣٨/١ .

جسم واحد، وإنْ فرض الكلام في أثر هذا الطلب الذي هو منبعث عنه _ وهو حكم العقل بملاحظة الطلب بوجوب الإطاعة - فهو أيضاً أمر غير مستقل ليس له استقرار كاستقرار البياض والسواد في محلهما في الخارج.

فإن قلتَ :لازمُ ما ذكرت نفي المضادية بين الأحكام الخمسة، بل لازم ذلك تجويز الاجتماع فيما إذا كان الشيء الواحد معروضاً للحكمين، مع أنَّ عدمه ضروريٌ، عقلاً.

قلتُ : لا ننكر ذلك ولا نتحاشى منه؛ إذ عدم اجتماع الحكمين في محل واحد ليس محذوره منحصراً باجتماع الضدين، بل مستنده لزوم التكليف بالمحال، ولزوم اللغوية والعبثية في كلام الحكيم، وتسميتها بالأضداد ليست إلّا لمناسبة بينها وبين الأضداد في عدم إمكان الاجتماع، كيف وقد نرى عدم صدق تعريف { ال_ }ضد عليها؛ إذ الضدان :عبارة عن الأمرين الوجوديين اللذين لا يمكن اجتماعهما في محل واحد (1) . والمراد من الأمرين الوجوديين هو :الأمران المستقيمان اللذان كان لها تقرير في الخارج، وكان عروضها عروض حلول.

ومن المعلوم عدم لزوم التكليف بالمحال واللغوية والعبثية فيما إذا كان الشيء الواحد معروضاً لأحد الحكمين ومصداقاً لهما.

نعم،يلزم ذلك إذا كان هو معروضاً لهما وموضوعاً لهمابالخصوص؛ ولذا منعنا ذلك خاصة دون القسمين الأخيرين، فافهم.

ويؤيد ما ذكرنا ما عدَّه المجوزون من الأدلة، وجعله سيدنا الأستاذقدس سرهُ (2) من عمدتها، وهو: أنَّ إِذنَ الشارع الحكيم في العبادات المكروهة مع وجود المندوحة، سواءٌ كان المكروه بمعناه المصطلح أم غيره بأي معنى كان كاشفٌ عن أنَّ متعلّق الأحكام شيء لا يستلزم من اجتماع حكمين منها في محل اجتماع الضدين؛ فيستفاد من هذا أنَّ متعلّق الأحكام الطبائع من حیث هی هی وبطلان دعوى أنَّ الحكم بالجواز منافٍ لمذهب العدلية من تبعية الأحكام

ص: 95


1- المقداد السيوري، الأنوار الجلالية 70 .
2- الروزدري، تقريرات المجدّد الشيرازي: 27/3.

للمصلحة والمفسدة خصوصاً في العبادات؛ فإن المصلحة فيها لا تدرك إلّا بقصد التقرب والامتثال والإطاعة، وهي لا تحصلُ في ضمن الحرام.

وجه البطلان: أنا قلنا بتعلّق الأحكام بالطبائع ولم يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في محل واحد؛ لأنَّا قلنا:إنَّ الموضوع المتعلّق عليه الأمر حينئذٍ غير الموضوع المتعلّق عليه النهي؛ اذ موضوع الأمر ليس إلَا طبيعة الصلاة وليست فيها إلّا المصلحة الصرفة، وموضوع النهی ليس إلّا طبيعة الغصب وليست فيها إلّا المفسدة الصرفة.

وأمّا الموضوع الملفّق من الأمرين -الذي حصل بسوء اختيار المكلف في الخارج- فليس هو موضوعاً لأحد الخطابين ليعتبر وجود المصلحة والمفسدة فيه، بل لا يعقل فرضه موضوعاً مستقلاً للخطابين؛ إذ ليس فيه مزية بالنسبة إلى أصل الطبيعة إلّا في الوجود والعوارض والمشخصات التي هي من لوازم الماهية، وليس شيء منها صالحاً لكونه معروضاً لحكم آخر مجانس للحكم المتعلّق على الطبيعة أو مغاير له.

أمّا لوازم الماهيات فواضحةٌ ؛ لأنَّ الطلب المتعلّق عليها إن كان مجانساً للطلب المتعلّق على الطبيعة فيلزمُ تحصيل الحاصل وطلب الواجب، وإن مغايراً (1) له فيلزمُ التكليفُ بالمحال. وأمّا الماهيةُ - باعتبار الوجود علة غائية للطلب مقدمة عليه تصوراً ومتأخرة عليه وجوداً _ فلا يعقل أخذها في موضوع الطلب الذي هو علة لوجودها في الخارج، وعلى هذا فالمكلف مدركٌ للمصلحة بواسطة الإتيان بطبيعة الصلاة، وواقعٌ في المفسدة بواسطة إيجاده الغصب، مطيعٌ من هذه الجهة وعاصٍ من تلك، محبوب من هذه ومبغوض من أخرى، كمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً (2) .

ثمَّ إِنَّ من الأصحاب (3) من فرَع المسألة على أصالة الوجود وأصالة الماهية، وأنَّ الكلي

ص: 96


1- في نسخة ب: وإن كان مغايراً.
2- إشارةً إلى قوله تعالى:﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئَاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ سورة التوبة: ١٢٠ .
3- الحائري، الفصول الغروية: ١٢٦ .

الطبيعي هل هو عين الأفراد أم لا؟ ومما ذكرنا من أنَّ الأمر إنما تعلّق بالماهية،والوجودُ غايةٌ، يُعلم أنه لا دخل لمسألتنا بما ذكره.

ومن فروع هذه المسألة، مسألة: حكم المتوسط في الأرض المغصوبة.

فاعلم أنه مأمور بالخروج لا لأنَّ الخروج محبوب حسنٌ؛ لكونه تخلصاً كما زعم (1) ، بل لمسألة الترتب، وارتكاب أقل المحذورين إذا كان محذور الوقوف أشدَّ من محذور الخروج، وإذا كان مأموراً بالخروج _ ولو بهذا الاعتبار _ فلا يعقل (2) تعلّق النهي به حسبما عرفت، ولا يقع معصية أيضاً؛ لتوقف المعصية على النهي.

نعم، هو معاقب عليه؛ لأنَّه مبغوض ذاتاً، وقد أوقع نفسه في ذلك المبغوض الذاتي عمداً وعدواناً، كما هو الحكم في سائر موارد إيقاع النفس في المبغوض ذاتاً، وعلى هذا يكون صلاته حال الخروج صحيحة.

و في المسألة فروع أُخر تُعرف مما ذكرنا.

واحتج المجوزون (3) أيضاً : بأنه لو لم يجز لما وقع نظيره، وقد وقع، كما في العبادات

المكروهة مثل : الصلاة في الحمام (4) ومواضع التهمة (5) وأمثالهما (6) .

بيان الملازمة: أنه لا مانع من الاجتماع إلّا التضاد بين الوجوب والحرمة، وعدم كفاية

ص: 97


1- الكلانتري، مطارح الأنظار : 709/1 .
2- في نسخة ب فلا يعلل.
3- القمي، القوانين: 1/ 328 .
4- لقول الإمام الصادق علیه السلام:«عشرة مواضع لايصلى فيها: الطين والماء، والحمام، والقبور، ومسان الطريق، وقرى النمل، ومعاطن الإبل، ومجرى الماء، والسبخ والثلج» . الكليني، الكافي: ٢ / ٣٩٤ .
5- كالصلاة في مساجد أهل البدع ؛ لقول أبي عبد الله علیه السلام : «من دخل موضعاً من مواضع التهمة فاتهم فلا يلومن إلا نفسه». الصدوق، الأمالي: ٥٨٧ .
6- ككراهة الوضوء بسؤر الحائض كما في رواية الحسين ابن أبي العلاء:«عن الحائض يشرب من سؤرها قال:نعم و يتوضأ منه». الكليني، الكافي : 11/3 وكصيام يوم عرفة اذا أضر بالدعاء، وصيام يوم عاشوراء ويوم الأضحى ،الكليني، الكافي: ٤ / ١٤٥ - ١٤٨ .

تعدد الجهة مع وحدة الوجود في الخارج، وهو موجود بعينه في اجتماع الكراهة مع الوجوب، واجتماع الوجوب مع الاستحباب؛ لأنَّ الأحكام متضادة، والتالي باطل؛ لوقوع الاجتماع في موارد لا تحصى، فيكشف وقوعها عن بطلان المقدم، وهو عدم جواز اجتماع الوجوب والحرمة.

والتحقيقُ في الجواب: إنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أصناف؛ لأنّها قد يتعلّق النهی بعنوان آخر يكون بينه وبين العبادة عموم من وجه كالصلاة في مواضع التهمة، وقد يتعلّق النهي بتلك العبادة مع تقييدها بخصوصية، وذلك: إمّا بأن يكون للفرد المكروه بدلٌ كالصلاة في الحمام، وإمّا أنْ لا يكون له بدلٌ كالصوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات، فهذه ثلاثة أصناف ؛ أما الكلام على الصنف الأول فنقول:

إذا اجتمع عنوان الواجب مع المكروه وإن كانت جهة الكراهة تقتضي عدم تحقق كل فرد تعيّناً (1) إلَّا أنها لما لم تكن مانعةً للفعل على وجه اللزوم، فلا يقاوم جهة الوجوب الملزمة للفعل؛ فإذا اجتمع عنوان الواجب مع المكروه فاللازمُ بحكم العقل انتفاء وصف الكراهة فعلاً، ولكن لَما كان الفرد الموجود الخارجي مشتملاً على جهة الكراهة مشتملاً على جهة الكراهة يوجدُ فيه حزازة؛ فيكون امتثال الواجب في هذا الفرد أقلَّ ثواباً من امتثاله في غيره؛ لمكان تلك الحزازة، فليست الكراهةُ في هذا الفعل _ الذي هو مصداق للواجب - حكماً فعلاً (2)، بل حكمٍ حيثيتي، نظير : (الغنم حلال)، فإطلاقُ دليل الكراهة على الوجود الذي يكون فعلاً مصداقاً للواجب؛لاتحاده معه نظيرُ إطلاق: (الغنم حلال)، بالنسبة إلى الفرد الموطوء المجامع مع الحرام من الغنم، فالمعنى: أنَّ هذا الموجود - مع قطع النظر عن اتحاده مع الواجب _ يكون مكروهاً .

وأمّا الصنف (3) الثاني - أعني ما إذا تعلّق النهي بالعبادة مع خصوصية زائدة كالصلاة في الحمام _ فالنهيُ إمّا أن يرجع إلى نفس تلك الخصوصية بالخصوص، فهو لبيان الكراهة

ص: 98


1- في نسخة ب: تعييناً.
2- في نسخة ب: فعلياً.
3- في نسخة ب :وأما على الصنف.

الذاتية فيها وإن لم تكن الكراهة فعلية، فيكون هذا الفرد أقلَّ ثواباً من سائر الأفراد، والنهي حينئذٍ مولوي دال على الكراهة الشرعية بنحو القضية الطبيعية، وإمّا أن يفهم من النهي الإرشاد، وترغيب المكلف بإتيان فرد آخر خالٍ عن المنقصة، وتكون الكراهة حينئذٍ مستفادة منه بطريق الإنْ، وعلى التقديرين لا نقضَ.

وأمّا الصنف الثالث - بأن لا يكون للعبادة المنهي عنها بدلٌ كصوم يوم عاشوراء -فالتحقيقُ فيه أنْ يقال : لما كان رجحان الترك أشدَّ من رجحان الفعل غلبَ جانب الكراهة وزال وصف الاستحباب، والحكم الفعلي هو الكراهة لا غير.

ثمّ لا وجه لِما قيل (1) : من أنَّ إجزاء الغسل الواحد عن الجنابة والجمعة، إنما هو من اجتماع الواجب والمندوب في فرد واحد ، فهو من موارد جواز اجتماع الحكمين المتضادين، بل مطلقُ تداخل الأسباب حتى في منزوحات البئر ونحوها تدلُ على ذلك؛ لمنع صحة التداخل مع التماثل ومع التنافي؛ إذ الأصل في تعدد السبب يقتضي تعدد الطلب، وإذا قام دليل بالخصوص على كفاية غسل واحد عنهما فالموجود في الخارج من قبيل الصلاة في المسجد في كونه مصداقاً للواجب فقط مع أفضليته من سائر المصاديق من جهة اشتماله على جهة الاستحباب فلا يكون جامعاً للحكمين، بل للوجهين، فهما كمفهومين تصادقا -توافقا في الفرد أو تخالفا - فتغني نية الوجهين عن المفهومين.

وبالجملة، إذا فهمنا تعدد الحقيقة في الغسلين فلا يكون مورد اجتماع الضدين، بل من قبيل إكرام العالم، واستحباب إكرام الهاشمي، ولو فهمنا وحدتهما حقيقة وقلنا بعدم كفاية غسل واحد عنهما فلا اجتماع أيضاً، ولو قلنا بكفاية الغسل الواحد فهو من تصادق المفهومين لا حكمين كما عرفت.

وسيأتي إن شاء الله في مبحث مفهوم الشرط تحقيقُ القول في مسألة الأسباب والمسببات.

ص: 99


1- الكلانتري، مطارح الأنظار : ٦٥٨/١ حكاه عن الفاضل النراقي.

احتج القائل بالامتناع

بأنَّ تحقيق الامتناع يتوقف على بيان أمور:

أحدها: أنه لا إشكال في تضادّ الأحكام بأسرها في مقام فعليتها ومرتبة واقعيتها، لا بوجوداتها الإنشائية من دون انقداح البعث والزجر والترخيص، نحو ما أنشئ وجوبه أو حرمته أو ترخيصه، فلا امتناع في اجتماع الإيجاب والتحريم في فعل واحد إنشاء من دون بعث نحوه وزجر عنه، ووضوحُ الامتناع معهما.

ومن هنا ظهر أنه لا تزاحم بين الجهات المقتضية لها إلّا في مرتبة فعليتها وواقعيتها، وأنه يمكن إنشاءُ حكمين اقتضائيين لفعل واحد وإن لم يمكن أن يصير فعلياً إلَّا أحدهما.

ومما ذكرنا ظهر أنَّ تعلّق الأمر والنهي الفعليين بشيء واحد محالٌ، ولا يتوقف امتناعه على استحالة التكليف بالمحال.

ثانيها: أنه لا ريب أنَّ متعلّق الأحكام إنما هو الأفعال بهويتها وحقيقتها لا بأسمائها وعناوينها المنتزعة عنها، وإنما يكون أخذ اسمٍ أو عنوانٍ خاص في متعلّق الأمر والنهي؛ لأجل تحديد ما يتعلّق به أحدهما منها، وتعيّن (1) مقداره؛ فلا ينثلم وحدة المتعلّق بحسب الهوية والحقيقة واقعاً بتعدد الاسم أوالعنوان، ولا تعدده كذلك بوحدتهما، فالحركة الخاصة الكذائية المحدودة بحدود معينة لا يتعدد إذا سميت باسمين أو انتزع عنها عنوانان من وجهين، كما أنَّ الحركتين الخاصتين اللتين تكون كل منهما محدودة بحدود معينة لا يصيران واحداً إذا سميتا باسم واحد،أو انتزع عنهما مفهوم واحد، وهذا من أوائل البديهيات.

وبالجملة، إنما يتعلّق الأحكام في الأدلة بالأسامي والعنوانات بما هي حاكية عن المسميات والمعنونات وفانية فيها لا بما هي بنفسها، ومن الواضح أنه لا يتكثر المحكي والمرئي الواحد بتكثر الحاكي والمرآة، ولا يتحد المتكثر بوحدتهما.

ثالثها: أنَّ الطبيعتين اللتين يتعلّق بأحدهما الأمر وبالأخرى النهي إذا تصادقتا في مورد

ص: 100


1- في نسخة ب: تعيين.

يكشف عن أنهم ليستا بحاكيتين عن هويتين وحقيقتين مطلقاً، بل في غير مورد التصادق، وإلّا يلزم أن يكون لهويتين (1) ، ولا يكون لوجود واحد إلّا ماهية وحقيقة واحدة، ولا عن موجودين متغايرين في الخارج ولو كانا متحدين بحسب الحقيقة والماهية، كالضرب الواقع في الخارج تارةً ظلماً وأخرى تأديباً إِلَّا في غير المورد.

وبالجملة، تعدد الوجه واختلاف الجهة المأخوذ في أصل عنوان المسألة لا يجدي شيئاً في مورد الاجتماع، لا تعدده بحسب الحقيقة والماهية، ولا بحسب الوجود في الخارج، بل هو واحد ماهيةً ووجوداً.

نعم، يجدي تعدد ما يحكيه ويريه، وهو المرئي والمحكي ذاتاً ووجوداً؛ لما عرفت أنَّ متعلّقات الأحكام نفسُ الأفعال الخاصة المسماة بأسماء، المعنونات بعناوين متباينات أو متصادقات، مطلقاً أو في الجملة من غير تفاوت في ذلك بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية؛ لوحدة المورد ماهيةً ووجوداً. أمّا الطبيعة المأمور بها والطبيعة المنهي عنها وإنْ كان كلٌ منهما عنواناً للفعل الذي تعلق الأمر به والنهي، فهما مفهومان اعتباريان انتزعا عن الفعل المعنون بهما ولو قلنا بأصالة الماهية، وإلَّا فخصوص ما كان عنواناً منها؛ لبداهة اعتبارية المفاهيم التي ليس بأزائها شيءٌ في الخارج، ولا وجود لها إلّا بوجود ما انتزعت عنه، ولا موطن لها إلَّا الذهن اختصاص(2) الأصالة - على القول بأصالة الماهية - بالحقائق الخارجية التي يكون بإزائها شيء في الخارج، ويكون لها موطن في الذهن والخارج، غاية الأمر تلزمهما الجزئية في الخارج، ويعرضهما الكلية تارةً والجزئية أخرى في الذهن.

ومن هنا ظهر عدم ابتناء المسألة على القول بأصالة الوجود والماهية أصلاً كما تخيله

ص: 101


1- في نسخة ب: أن يكون له هويتان.
2- كذا في نسختي المخطوطة ولعل الصحيح: (لإختصاص).

صاحب الفصول (1).

والأصيل في مورد الاجتماع واحد وجوداً وماهيةً، فظهر مما بيناه أنَّ مورد الاجتماع- لوحدته ذاتاً ووجوداً لما اتفق في هذا الأمر وكونه بنفسه متعلّقاً للحكم واقعاً وحقيقةً وإِنْ أخذ في الدليل اسمه أو عنوانه؛ لِما حقق في سابقه _ لا يمكن أن يكون بالفعل واجباً وحراماً يبعث نحوه ويزجر عنه فعلاً؛ للتضاد بين الأحكام في هذا المقام، وإن لم يكن بينهما التضاد بحسب وجوداتها الإنشائية كما عرفت في الأمر الأول.

ولا يخفى أنَّ تعلّق الأحكام بالطبائع لا الأفراد لا يرفع غائلة هذا التضاد في مورد الاجتماع؛ فإنَّ غاية تقريبه أنْ يقال: إنَّ الطبائع من حيث هي - وإن كانت ليست إلّا هي ولا يصلح لأن يتعلّق بها الأحكام كالآثار العادية والعقلية، إلّا أنها مقيدة بالوجود بحيث كان الوجود خارجاً والتقييد به داخلاً _ صالحة لتعلّق الأحكام بها.

ومن الواضح أنَّ متعلّق الأمر والنهي على هذا ليسا بمتحدتين أصلاً، لا في مقام تعلّق البعث والزجر ، ولا في مقام الامتثال لأحدهما وعصيان الآخر؛ فإتيان الآخر بإتيان المورد بسوء الاختيار.

أمّا في المقام الأول؛ فلبداهة تعددهما ومباينة أحدهما عن الآخر بما هو متعلّق الأمر أو النهي وإن اتحدا فيما هو خارج عنهما بما هما كذلك.

وأمّا في المقام الثاني؛ فلسقوط أحدهما بالإطاعة والآخر بالعصيان بمجرد الإتيان، فأين اجتماعهما في واحد؟ وانتزاعُ ماهية كذا والمنهي كذا عنه إنما هو بمجرد كونه مما لا ينطبق عليه ما أُمر به ونُهي عنه، من دون أن يتعلّق به بنفسه البعث والزجر.

وهذا لا يجدي بعد ما عرفت - بما لا مزيد عليه - أنَّ تعدد ما يؤخذ في دليلهما من الاسم والعنوان لا يوجب يوجب تعدد ما هو المتعلّق لهما في مورد الاجتماع لا ماهية ولا وجوداً، بل الاسمان أو العنوانان حاكيان في هذا المورد عن واحد يكون متعلّقاً لهما حسب توسعة

ص: 102


1- الحائري، الفصول الغروية: ١٢٦ .

متعلّقهما واقعاً بحيث يعمانه.

وتوهم الجدوى في ذلك: إما لتخيّل أنَّ تعدد العنوان حاكِ عن تعدد المحكي ماهيةً وذاتاً مطلقاً ولو فيما اتحدا وجوداً كما في مورد التصادق، أو أنَّ تعدده كافٍ بأن يكون بنفسه متعلّقا للبعث أو الزجر لا بما هو حاكٍ.

وقد عرفتَ _ بما لا مزيد عليه _ فسادهما، وأنَّ المورد الواحد واحد وجوداً وماهيةً، وأنَّ العنوان بما هو هو ليس إلا أمراً انتزاعياً لا وجود له إلا بوجود منشأ الانتزاع، ولا واقعية له بواقعيته، وليس ما يوجب البعث والطلب من الآثار المطلوبة والمبغوضة والصفات الحسنة والذميمة إلَّا في المنشأ دونه، فليس هو كذلك محكوماً بالأمر أو النهي، بل بما هو حاك؛ فيكون المأمور به أو المنهي عنه هو المحكي، وهذا فيما كان المأخوذ في الدليلين أو أحدهما من قبيل أسامي الماهيات أوضح من أنْ يخفى على الأوائل فضلاً عن الأفاضل.

هذا مضافاً إلى أنَّ هذا التقريب يقتضى الجواز مطلقاً ولو كان العنوانان متساويين؛ لتعددهما في مقام البعث وسقوطهما بالإطاعة والعصيان بإتيان واحد من مصاديقهما، ولا يقول به القائل أيضاً، إلَّا أنْ يدعي أنه مما لا يقول به؛ لأنَّه طلب المحال حينئذ، لا من أجل أنَّ الطلب محال، فتدبر جيداً.

قال: ومما حققناه _ من كون العناوين بمعنوناتها تكون متعلقة للأحكام _ كما في الأسماء بلا إشكال ولا كلام - ظهرَ أنَّ غائلة التضاد في مورد الاجتماع في نفس الطلب على حالها سواء قلنا بتعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد _ وقد عرفت بما لا مزيد عليه _ أو بالاختلاف؛ فإنه على هذا يكون أفراد حقيقة واحدة متعلّقة للبعثين؛ إذ يكون الطبيعة المأمور بها _ على سعتها بحسب الوجود بحيث لا يشذ عنها فرد - متعلّقة للأمر، وإن كانت خصوصيات الأفراد ومشخصاتها خارجةً عنها بما هي مأمور بها، وكان بعض ما يسعها من الأفراد التي تكون بالفعل مبعوثاً إليها حسب قضية البعث إليها على سعتها الذي لازمه عقلا التنجيز فيها بما هي منهي عنها؛ فيكون هذا البعض بوجوده الشخصي - بما هو وجود تلك الحقيقة والماهية من دون ملاحظة خصوصية _ مبعوثاً إليها، وبما هو وجودها مع ملاحظة الخصوصية ممنوعاً

ص: 103

فعلاً، وملاحظة الخصوصية وعدم ملاحظتها لا توجب تعدده، بل هو واحد حقيقةً وماهيةً ووجوداً كما لا يخفى على من له أدنى التفات (1) . انتهى كلامه.

وفيه لمن تدبر فيما قدمناه من حجة الجواز مواضع للنظر؛ فإن قوله في المقدمة الثانية: إنَّ متعلّق الأوامر والنواهي إنما هو الأفعال بهوياتها وحقائقها غير معقول؛ لما عرفت من لزوم طلب الحاصل إذا كان تعقل (2)الطلب بنفس الحقيقة الخارجية، ولا دافع لهذه المفسدة إلا التزام (3) بكون متعلّق التكاليف الصور الذهنية من حيث حكايتها عن الخارج.

وأما ما أكثر تكراره _ من عدم تعلّق الأحكام بصرف الأسماء _ فهو من أوضح الواضحات التي لا يتوهمها أحد ؛ لأنّها ألفاظ كاشفة عن معانيها، والمجوز إنما يقول بتعلّق التكاليف بالمفاهيم المتعلّقة في الذهن باعتبار حكايتها عن الخارج كما أوضحناه بما لا مزيد عليه.

وأما ما ذكره في المقدمة الثالثة - من وحدة مورد تصادق العناوين فإن أراد عدم كونها متميزة بعضها مع بعض في الخارج فهو من أبده ،البديهيات، وإن أراد عدم تحقق لها في نفس الأمر _ بمعنى كونها صوراً ذهنية لا واقعية لها _ فهو مقطوع البطلان، ويكفي في تعلّق التكاليف بتلك العناوين تحققها في نفس الأمر على ما ذكرناه، فتأمله؛ فإنه دقيق يكشف للمتأمل فيه ضعف هذه الشبهة والتوهمات، ويوضح الجواز بما لا شبهة فيه ولا إشكال.

ص: 104


1- الآخوند الخراساني، فوائد الأصول: ١٥٢/١.
2- في نسخة ب :تعلق.
3- في نسخة ب: الالتزام.

في اقتضاء النهي الفساد

الحقُّ، اقتضاء النهي المتعلّق بالعبادة نفسها الفساد؛ لدلالة النهي على حرمتها الذاتية، فلا تجتمع الصحة _ بأي معنى كانت - مع الحرمة فالنهي عن صوم العيدين نهي عن نفس العبادة، بمعنى: أنه لو أمر به كان عبادةً كصوم سائر الأيام المشروطة بالقربة، وربما كان المنهي عنه هو عبادة فعلاً كنهي الحائض عن السجود والركوع (1) اللذين هما ذاتاً عبادة فتكون محرمة فعلا مع كونها عبادة فعلًا.

ولا فرق في فساد العبادة بالنهي عنها نفسها أو عن جزئها العبادي مع الاقتصار عليه لا مع إمكان الإتيان بغير المنهي عنه، وكذا الشرط العبادي المنهي عنه إذا استلزم فساد العبادة المشروطة به، وأما النهي عما لم يكن عبادة فلا اقتضاء له للفساد، فلا ملازمة بين حرمته وفساده لا لغةً ولا عرفاً، فحصر السبب في الشرع لو أوجب مبغوضية المسبب لا يوجبُ فساده وعدم ترتب الأثر الوضعي عليه؛ لعدم المنافاة.

نعم، لو دلَّ النهي على حرمة السبب العقلي بحيث لا يكاد يحرم مع صحتها كما لو نهى عن ترتب الأثر من أكل الثمن أو المثمن؛ فيدل على فساد ما يوجد.

ودعوى وضع النهي للفساد مطلقاً شرعاً وعرفاً ممنوعةٌ، كدعوى كونه حقيقةً شرعيةً في الفساد لقبول النهي عنه.

ودعوى الاتفاق ممنوعةٌ، ولا دليلية في فعلهم، وكون التحريم عن حكمة لا يقتضي الحكم بالفساد وإن اقتضاه ترجيح الترك، لكن لو فعل بالأثر الوضعي تابع له بلا ريب.

ثمَّ اعلم أنَّ الاتفاق على حمل المطلق على المقيد لا ينافي الاختلاف في مسألة دلالة النهي على فساد المنهي عنه ؛ إذ الكلام هنا في إحراز الموضوع والمصداق، وفي تلك في بيان الحكم بعد إحراز الموضوع .

ص: 105


1- في نسخة ب: الركوع والسجود.

وزعم بعض مشايخنا (1) أنّ النزاع هنا راجع إلى أنه هل المسألة من مصاديق مسألة اجتماع الأمر والنهي أم من مصاديق بناء المطلق على المقيد بمعنى: أنَّ النهي هل يتعلّق بذات الشيء فيكون من مصاديق تلك المسألة، أم يتعلّق بوصفه الخارجي فيكون من مصاديق هذه؟

وفيه: إنَّ من أفراد مسألة دلالة النهي على الفساد صورة تعلّق النهي بنفس الشيء، أي بذاته، بل هذا الفرد هو الأصل في هذا النزاع، والبواقي راجعة إليه.

ص: 106


1- الروزدري ، تقريرات المجدّد الشيرازي: 91/3 .

لامعةٌ في معنى النص، والظاهر، والمؤول، والمنطوق، والمفهوم

النص: ما لا يحتمل سوى المعنى الذي عليه دلَّ (1) .

والظاهرُ : في اللغة هو الواضح (2) ، وفي الاصطلاح الراجح مع احتمال غير (3)،وهو دليل شرعي يجب اتباعه والعمل به بالاتفاق (4).

والتأويلُ: [لغةً] من آل يؤول إذا رجع (5)، واصطلاحاً: صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله (6)، والصحيح منه ما كان موافقاً لوضع اللغة، أو عرف الاستعمال، أو عادة صاحب الشرع، وأن يقوم الدليل على أنَّ المراد بذلك اللفظ هو المعنى الذي حمل عليه إذا كان لا يستعمل كثيراً فيه، ولا يصح التأويل بالقياس جلياً كان القياس أو خفياً، ولا بلا دليل، ولا مع الدليل المرجوح أو المساوي.

المنطوقُ: ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق، أي يكون حكماً للمذكور وحالاً أحواله (7).

والمفهوم: ما دلّ عليه اللفظ لا بمحل النطق، أي يكون حكماً غير مذكور وحالاً من أحواله (8).

ص: 107


1- الحائري، الفصول الغروية: 189 .
2- الآمدي الأحكام :٥2/3 وأما في قواميس اللغة فلم يذكروا هذا المعنى. ينظر : ابن منظور، لسان س اللغة فلم يذكروا هذا لله العرب : ٤ / ٥٢٧ ؛ الجوهري، الصحاح : ٢/ ٧٣٠ .
3- العلّامة الحلي، نهاية الوصول : 3/ 328؛ القمي، القوانين: 2/ 228.
4- لاتفاق الأصوليين على حجية الظواهر وإن اختلفوا في سبب الحجية. ينظر الآخوند الخراساني، كفاية الأصول : 2 / 291؛ وجماعة من الأخباريين بنوا على عدم حجية ظواهر الكتاب مدعين اختصاص فهمه بمن خوطب به ينظر الفاضل التوني الوافية : ١٣٧ و ٢٥٧ .
5- الجوهري، الصحاح : ٤ / ١٦٢٨ .
6- الآمدي، الأحكام : ٥٢/٣ ؛ العلّامة الحلي، نهاية الوصول: ٣٢٩/٣.
7- الآمدي، الأحكام: ٦٣/٣ ؛ البهائي، زبدة الأصول: ١٤٩.
8- الروزدري، تقريرات المجدد الشيرازي: ١٣٥/٣ ؛ الكرباسي، إشارات الأصول: ٤٦٤ .

وبالجملة، إنَّ الألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها، فقد يستفاد منها من جهة النطق تصريحاً، وقد يستفاد منها من جهته تلويحاً؛ فالأول المنطوق، والثاني المفهوم.

والمنطوق قسمان:

الأول: ما لا يحتمل التأويل، وهو النص.

والثاني: ما يحتمله وهو الظاهر .

والأول أيضاً قسمان:

صريحٌ: إن دل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن.

وغير صريح: إن دل عليه اللفظ بالالتزام، وغيرُ الصريح ينقسم إلى:

دلالة اقتضاء، وإيماء، وإشارةٍ.

فدلالة الاقتضاء هي: إذا توقف الصدق، أو الصحة العقلية، أو الشرعية عليه مع كون ذلك مقصود المتكلّم.

ودلالة الإيماء: أن يقترن اللفظ بحكم لو لم يكن للتعليل لكان لغواً.

ودلالة الإشارة: حيث لا يكون مقصوداً للمتكلّم.

وقيل: إنَّ دلالة الاقتضاء والإيماء والإشارة من المفهوم لا من المنطوق الغير الصريح، ولا واسطة بينهما (1) .

وعرّف المنطوق بأنَّ المعنى الذي يكون بحسب اللفظ والمفهوم هو ما فهم من من غير هذه الجهة، فيكونان كالكلي والجزئي من صفات المدلول، ويكون دلالة الاقتضاء من المفهوم.

والمفهوم ينقسم إلى :

مفهوم ،موافقة، ومفهوم مخالفة.

فمفهوم الموافقة: حيث يكون المسكوت عنه موافقاً للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم

ص: 108


1- الغزالي، المستصفى : ٢٦٣ ؛ الآمدي، الأحكام: ٦٤/٣؛ العلّامة الحلي، نهاية الوصول: ٣٥٤/٣.

من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب، وإن كان مساوياً له فيسمى لحن الخطاب.

ومفهوم المخالفة: وهو حيث يكون المسكوت عنه مخالفاً للمذكور في الحكم إثباتاً ونفياً، فيثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق به ويسمى دليل الخطاب.

وأنواع مفهوم المخالفة عشرة:

مفهوم الشرط، ومفهوم الصفة، ومفهوم العلة، ومفهوم العدد، ومفهوم الغاية،ومفهوم اللقب، ومفهوم الحصر ، ومفهوم الحال، ومفهوم الزمان، ومفهوم المكان؛ والثلاثة الأخيرة من جملة مفاهيم الصفة؛ لأنَّ المراد بها الصفة المعنوية لا النعت.

وهنا إشكال يجري في كلية المفاهيم وهو :أنَّ المعلّق على الشرط مثلاً هو الإنشاء الخاص الحاصل بهذا الكلام، فأقصى ما يفيد الشرطية هو انتفاء ذلك الإنشاء دون غيره، ومقتضى هذا الإشكال إبطال المفاهيم رأساً.

والتحقيقُ في الجواب عنه : أنَّ غرض القائلين بالمفهوم ليس التعليق بالنسبة إلى الإنشاء الخاص والانتفاء عند الانتفاء بالنسبة إليه، فالمعلّق ليس عندهم نفس الإنشاء حتى ينتفي على كل تقدير؛ فإنَّ هذا غير معقول؛ ضرورة أنَّ الإنشاء إيجاد، وهو ينعدم بعد وجوده حتى في اللقب، فلا يعقل فيه التعليق، بل غرضهم أنَّ التعليق إنما هو المنشأ، بمعنى: أنَّ المتكلّم لاحظ أولاً سنخ الوجوب _ الذي هو مدلول الهيئة - معلّقاً ثم أنشأ ذلك الوجوب المعلق، فالمعلّق والمعلّق عليه والتعليق (1) إنما هو قبل الإنشاء، والإنشاء خبر متفرع عليها، فالانتفاء عند الانتفاء إنما هو بالنسبة إلى المنشأ لا الإنشاء وإنْ كان تقييد الهيئة باطلاً عندنا كما ذكرناه في الواجب المعلّق مشروحاً، لكن تكلّمنا هنا على مذاق القوم.

[ حجية مفهوم الشرط]

أما الكلام في حجية مفهوم الشرط فقد اختلفوا فيه ، فالمثبت ادعى أنَّ المفهوم من (إنْ جاءك زيد فأكرمه) قضيةٌ شرطية سالبة بشرطها وجزائها، لازمة للقضية الشرطية التي تكون

ص: 109


1- في نسخة ب: الوجوب المعلّق والمعلّق عليه والتعليق.

معنى القضية اللفظية، ولها خصوصية، بتلك الخصوصية مستلزمة لها؛ بدعوى دلالة أدوات الشرط على كون مدخولها علةً تامةً للجزاء؛ فتدلّ على الانتفاء عند الانتفاء كما دلت على الثبوت عند الثبوت بالوضع، بدعوى أنَّ وضع (إنْ) وأخواته للانتفاء عند الانتفاء، وجعل ما يتلو (إنْ) علةً تامة، أو بالإطلاق أعني : إطلاق الشرط وعدم تقييده، الموجب للحمل على تأثيره مطلقاً فيثبت انحصاره بالعليّة وتأثيره وحده.

والتحقيقُ : أنَّ المستفاد من القضية الشرطية كونُ الجزاء يُوجد في ظرف وجود الشرط مع ارتباط بين الشرط والجزاء بوجه، فقد يكون الشرط علةً تامة للجزاء، وقد يكون معلولاً، وقد يكونان معلولين لعلة ثالثة، وقد يكون الشرط أحد أجزاء العلة التامة بعد الفراغ عن باقيها .

أمّا دلالة أدوات الشرط على كون مدخولها علةً تامةً للجزاء بالوضع أو الإطلاق فلم ينهض عليه دليل إلى حده ، وما ذكروه (1) دليلاً عليه لا يتم، وجاءهم الوهم من بعض القضايا الشرطية التي تجيء نادراً بالعلية بتوسط بعض القرائن الحالية والمقالية، فظنوها قرينةً عامة فيفهم منها دائماً العليّة بالإطلاق فلا بد من الحمل عليه، وهو وهمٌ في وهم.

[ تعدد العلة هل يوجب تعدد المعلول أم لا؟]

وتعدد العلة يوجب تعدد المعلول بلا كلام إنما الخلاف في أن تعدد الشرط في القضايا الشرطية التي جاءت من الشارع هل هو تعدد للعلة أم لا؟ ويتفرّع على الخلاف المذكور.

أنَّ الأصل عدم تداخل الأسباب أم لا؟ وكذا الكلام في المسببات

فاعلم أنَّ الكلام تارةً بحسب اللب، وأخرى بحسب ظاهر القضية.

ص: 110


1- الآخوند ،الخراساني، كفاية الأصول: ٢/ ٩٦ وما بعدها؛ الحائري، الفصول الغروية: ١٤٧، حيث ذهب إلى أن هيئة الجملة الشرطية تدل بالوضع على الانحصار؛ الأصفهاني، هداية المسترشدين: ٤٢٧/١، حيث ذهب إلى أن وضع أدوات الشرط للعلة المنحصرة؛ الكلانتري مطارح الأنظار : ٢ / ٢٦ حيث ذهب الشيخ الأنصاري فيها إلى ظهور الجملة الشرطية في العلة المنحصرة بالانصراف إلى أكمل الأفراد.

أما بحسب اللب فجعل السببية يتصور على أربعة وجوه:

[الوجه ] الأول: أن يكون السبب نفس الطبيعة المهملة المرسلة على وجه الإهمال من غیر اعتبار وجود فيها أو عدم، وهي الماهية (لا) بشرط شيء) ، ولا (لا شيء)، وهي بحسب الوجود على قسمين:

قسم يصدق على القليل والكثير كالماء والخط والتكلّم والوطي.

وقسم ليس كذلك، كالإنسان، ومقتضى هذا الوجه بقسميه هو التداخل، بل لا يعقل العدم.

الوجه الثاني: أن يكون السبب هو الماهية بقيد وجودها وتحققها في ضمن الفرد.

[الوجه] الثالث: أن يكون السبب هو نفس الفرد، ومقتضاهما عدم التداخل.

والوجه الرابع :ما ذكره السيد الأستاذ (1) وهو :أن يكون السبب هو الماهية المهملة، بمعنى: أنه إذا حصل الامتثال بها مرة واحدة طول العمر ارتفع أثرها سواء تحققت بعدها أم لا كما في الحج.

ثمَّ المسبب إما الطلب، أو تنجزه، وإما اشتغال الذمة بالطبيعة؛ وهذا على قسمين:

أحدهما : أنَّ المسبب هو الطبيعة بلحاظ طبيعتها وإطلاقها.

والثاني: أنه الطبيعة بلحاظ فعليتها ووجودها.

ومقتضى الثلاثة الأول هو التداخل، كما أنَّ مقتضى الأخير والرابع عدمه.

أمّا الأول منها؛ فلأنَّ تعدد الطلب إن اقتضى تعدد الوجوب [ف] لا يقتضي تعدد الواجب، بل يجوز تعلّق الأوامر الكثيرة على شيء واحد لداع من الدواعي ووجه من الوجوه، كالأوامر المتعلّقة بالصلاة.

وأمّا الثاني منها؛ فلأنَّ التنجز قابل للتأكيد، ولا شك أنَّ التأكيد حقيقة لا مجاز، نظير تكرار الطلب، لكن لا يكاد يوجد في الشرعيات أمر مطلق متكرر يشك في التداخل فيه

ص: 111


1- الروزدري، تقريرات المجدّد الشيرازي: 217/3 .

وعدمه.

وأمّا الثالث منها؛ فإنه مقتضى الإطلاق.

وأما الرابع ؛ فلأن الحكم المعلّق بالفرد لا إطلاق له من حيث كون الفرد مأتياً بالأمر (1)الآخر وعدمه؛ لأنَّ الإتيان بالطبيعة للأمر الخاص ليس من أقسام وجودها، فلا يعم.

وأما بحسب ظاهر القضية فالقائل (2) بظهورها في التعدد واستقلال كل شرط بالتأثير بالسببية يقول:

إذا تعدد الشرط لزم تعدد العلة، ولازم تعدد العلل تعدد المعلول، فلكل علة معلول مستقل، والأصل عدم تداخل الأسباب مع التنافي ومع التماثل، وكذلك الكلام في المعلول عنده، خلافاً لبعض الفحول (3) ؛ لأنَّ مقتضى أدلة السببية كون كل واحد من أفراد الطبيعة سواء وجدت دفعة أو بالتفاوت _ سبباً مستقلاً؛ فلو قال الشارع: (إن نمت فتوضأ) فالنوم اللاحق إذا أثر في وضوء آخر فهو على القاعدة، وإذا لم يؤثر شرعاً فاللازم تقييد موضوع الشرط بالنوم الخاص ، وهو النوم الأول أو الغير المسبوق بمثله.

لا يقال : ظاهرُ القضية وحدة المسبب، وهو حقيقة الوضوء في القضية المفروضة، فلم لا يكون هذا صارفاً عن ظهور إطلاق السبب - لو سلّم مع أنَّه لنا أن نمنع اقتضاء إطلاق السببية كون كل فرد سبباً مستقلاً؛ فإنَّ الطبيعة إذا كانت معروضة للأمر لا يقتضي إطلاقها كونَ كل واحد من أفرادها واجباً مستقلاً، فكذا معروض السببية؛ إذ لافرق بين كون الشيء معروضاً للأمر أو معروضاً للسبية.

لأنا نقول: إنَّ الألفاظ الدالة على المفاهيم إنما تدل بالوضع على الطبيعة المهملة المعرّاة عن اعتبار الإطلاق والتقييد، والوجود والعدم، وحيثُ كانت بهذا النحو غير قابلة لمعروضية

ص: 112


1- في نسخة ب :بالفرد.
2- المحقق جمال الدين الخوانساري، مشارق الشموس: ٦١ .
3- الكلانتري، مطارح الأنظار : ٥١/٢ .

الحكم لزمَ بحكم العقل اعتبار الوجود حتى يصح كونها باعتبار الوجود، تصير موضوعاً للحكم، والوجود اللازم اعتباره بحكم العقل هو صرف الوجود فهو القدر المتيقن من اعتبار الوجود.

وأمّا اعتبارُ وجود خاص مقيد بقيد وجودي أو عدمي أو كل واحد من الوجودات الخاصة فموقوف على النص على اعتباره، فالأخذ بصرف الوجود في موضوع الأمر والاكتفاء في مقام الامتثال بفرد واحد كونه من باب القدر المتيقن وعدم دلالة دليل على أزيد منه، فلو جاء دليل على اعتبار الزائد لم يكن معارضاً؛ لأنَّ الأخذ به كان من باب القدر المتيقن وعدم الدليل على الزايد، فمقتضى الجزاء في قوله: (إذا نمت فتوضأ) _ مع قطع النظر عن الشرط _ كون موضوع الأمر هو صرف الوجود، ومقتضى سبيته الفعلية المستفادة من القضية الشرطية كونُ كل فرد من أفراد النوم سبباً فعلياً؛ لأنَّ الأسباب العادية والمؤثرات الخارجية تكونُ بهذه المثابة، أعني أنَّ كل طبيعة تكون في الخارج مؤثرة يؤثر كل فرد منها، ومن هنا تحمل السبية المستفادة من القضايا الواردة من الشارع على المتعارف من الأسباب، فيفهم من القضية الشرطية أمران:

أحدهما: مدلول أداة الشرط، وهو العليّة الفعلية لما جعل شرطاً في القضية.

والثاني: ما هو المفهوم للقضية من جهة المرتكز الذهني العرفي من الأمر المتعارف، وهو كون كل وجود لهذا الشرط علةً فعليّةً، فعلى هذا يلزم الحكم بتعدد التأثير عند تعدد تلك د؛ لأنه لو حكمنا به لم نرتكب خلافاً لظاهر القضية؛ لما عرفت من أنَّ الأخذ بصرف الوجود في موضوع الأمر إنما كان من جهة عدم البيان وهذا الظهور العرفي للقضية يصير بياناً له، بخلاف أنه لو حكمنا بعدم تعدد التأثير فلا بد من التصرف:

إمّا في الظاهر المستفاد من أدوات الشرط بحملها على إفادة كون تاليها مقتضياً للعلة التامة.

وإمّا في ظاهر الآخر المستفاد من العرف من غير دليل.

فإن قلتَ: سلّمنا، لكن المسبب ليس هو فعل الوضوء - مثلاً - حتى يقتضي تعدد أفراد

ص: 113

السبب الفعلي تعدده، بل المسبب هو الوجوب، ولا يقتضي تعدد أسباب الوجوب تعدده، بل يتأكد بتعدد أسبابه.

قلتُ: ظاهر القضية أنَّ السبب الشرعي يقتضي نفس الفعل، وأمرُ الشارع إنما جاء من قبل هذا الاقتضاء، بمعنى أنَّ الشارع أمرنا بإعطاء كل ذي حق حقه.

فإن قلتَ: يمكن أن يكون كل واحد من السببين مؤثراً في عنوان غيرِ ما يكون الآخر مؤثراً فيه واجتمعا في فرد واحد، فلا يقتضي تعدد السبب تعدد الوجود، كما لو قال الآمر:( إن جاءك عالم فأكرمه)، و(إن جاءك هاشمي فأكرمه)،فجاءك عالمٌ هاشمي، فلا شبهة في أنَّه لو أكرمتَ ذلك العالم الهاشمي كنتَ قدامتثلت الأمرين جميعاً.

قلتُ :أمّاأولاً:فظاهر القضية وحدةُ عنوان المسبب، ولا شك أنه مع وحدة العنوان في المسبب لا يمكن القول بتعدد التأثير إلَّا بالتزام تعدد الوجود؛ لعدم معقولية تداخل الوجودين من طبيعة واحدة.

ثانياً: لو أغمضنا عن الظهور فلا أقلَّ من الشك في المفهومين المتأثرين من سببين،هل يجتمعان في مصداق واحد أم لا ؟ ومقتضى القاعدة الاشتغال؛ لأنَّ الاشتغال بالتكليفين ثابتٌ، ولا يعلم الفراغ إلَّا بإيجادين.

هذا محصول حجة القائلين بعدم التداخل ، لكنك قد عرفت التحقيق في مفاد القضايا الشرطية، ومقتضاه أنه يكفي في صدق القضايا الشرطية المتعددة _ التي جزاؤها حقيقة واحدة - تحققُ تلك الحقيقة مرةً واحدةً ولو تعدد ما جعل شرطاً في الخارج، وكذا في صورة تعدد أفراد الطبيعة الواحدة التي جعلت شرطاً.

نعم، لو وجد الجزاء ثم تحقق فرد من أفراد ما جعل شرطاً يجبُ إتيان الجزاء ثانياً؛ لأنَّ مقتضى القضية الشرطية تحققُ الجزاء في ظرف وجود الشرط، فالفعل الموجود قبل تحقق الشرط لا يكفي.

ومما ذكرنا يظهر أنَّ الأصل في باب الأسباب أن في صورة تعدد السبب وعدم تخلل المسبب يكفي المسبب الواحد، وأمّا في صورة التخلل فيجبُ الإتيان بفعل الآخر للوجود

ص: 114

الاحق.

[مفهوم الوصف]

وأمّا مفهوم الوصف فقد اختلفوا في أنَّ إثبات حكم لذاتٍ مأخوذةٍ مع بعض صفاتها هل يستلزم انتفاء ذلك الحكم عند انتفاء تلك الصفة أم لا؟

والمراد بالمفهوم في المقام رفعُ سنخ الحكم عن غير محلّ الوصف على وجه تكون القضية المشتملة على الوصف منحلةً إلى عقدٍ إيجابي - أعني : الثبوت في محل الوصف _ وعقدٍ سلبي في غير محلٌ الوصف.

والحقُ، عدم الدلالة على انتفاء ذلك الحكم عند انتفاء تلك الصفة إلّا بالقرائن الخارجية المفيدة للمفهوم مثل : الأوصاف الواقعة في الحدود والتعاريف وفتوى الأصحاب؛ حيث إنَّها يقصد بها الأصلاح طرداً وعكساً الملازم لإرادة المفهوم، والنزاعُ في استناد الدلالة إلى الوضع لا إلى القرائن ولا دلالة كما يشهد به العرف وثبوت الوضع في الشرط لو كان لا يستلزم القول به في الصفة كما لا يخفى .

وقولُهم : إِنَّ التعليق على الوصف يشعر بالعلية (1)، لا يقتضي القول بمفهوم الوصف؛ لأنَّه لا ينفي احتمال خصوصية المورد فلا إشعار فيه على العلية التامة، ولو سلّم فلا ينفي احتمال التعدد كما هو المقصود في إثبات المفهوم، إلّا انه لا ينافي ثبوت المفهوم في الجملة، مع أنَّه غير مطّرد كما في قولك: (اشتر لي عبداً أسوداً)، هذا مضافاً إلى أنَّ الأصل هو الاشتراك

المعنوي فيما لو استعمل اللفظ في معنيين بينهما جامع قريب كما فيما نحن فيه.

ودعوى تبادر العرف لمفهوم الوصف عند قولك: (اشتر لي عبداً أسوداً)الدال على عدم مطلوبية شراء الأبيض على وجهِ لواشتراه لم يكن ممتثلاً .

مدفوعةٌ بأنَّ عدم مطلوبية شراء الأبيض إنما هو بواسطة المطلوبية بالأسود في الإنشاء

الخاص والكلام ليس فيه . نعم، لو كان مفاده عدم مطلوبيته مطلقاً كان ذلك وجهاً.

ص: 115


1- الكلانتري، مطارح الأنظار : 85/2؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٢/ ١١٩ .

وبالجملة، لا دلالة لفظية على حدِ غيره من المباحث المتعلّقة بالظواهر اللفظية، على أنَّ الشيء إذا كان له وصفان فوصف بأحدهما دون الآخر كانَ المراد ما فيه تلك الصفة دون الآخر، ومثلّوا له ب_(كل غنم سائمة فيه الزكاة)، وأنت خبير أنَّ اللازم في أخذ المفهوم الأخذ بجميع مجامع الكلام وقيوده سوى النفي والإثبات، فمفهوم الوصف في المثال: (لا شيء من غير السائمة فيه الزكاة)، والسور في القضايا آلةٌ لملاحظة ما يتعلّق به، ولا يعتبر موضوعاً فيها.

فظهر فساد دعوى تخیّل اختلافهما في الكم أيضاً ، وأدلتهم على ذلك كلها مدخولة لا تنهض على ذلك، أقصاه الإشعار، وهو غير محل الكلام. نعم، نقول بالحجية في كل مورد يكون ظاهراً في العليّة.

والحقُ، منع الظهور في الانحصار في الوصف الظاهر في العلية، فالقولُ بالتفصيل بين ما كان الوصف علةً وبين غيره ضعيفٌ جداً أيضاً، فتدبر.

[مفهوم الغاية]

وأمّا مفهوم الغاية فالنزاع في موضعين:

في أنّ الغاية هل تدخل في المغيّى أو لا؟

وفي أنَّ الحكم المغيّى هل ينتفي بعد حصول الغاية أو لا؟

والحقُّ، دخول ما بعد الأداة؛ لأنَّ غاية الشيء آخره، وهي داخلةٌ فيه بحكم أصالة الحقيقة؛ لأنَّ الظاهر أنَّ الأداة موضوعة للنهاية الحقيقية، كما أنَّ الحق تقييد الحكم بالغاية يوجبُ انتفاء الحكم رأساً وسنخاً عما بعد الغاية على وجه لو ثبت له مثل الحكم المذكور بدليل آخر كان معارضاً لذلك التقييد، وإنَّ اعتبار المفهوم في المقام مثل اعتباره في الشرط على القول به - أعني : انتفاء سنخ الحكم في جانب المفهوم - وإلا فانتفاء الحكم الشخصي ثابت في اللقب والوصف أيضاً ، بل ذلك ضروري؛ ضرورة اختصاص كل حكم مختص بموضوع بذلك الموضوع، والعرف شاهد على ثبوت الدلالة الالتزامية. فدعوى انتفاء الدلالة مكابرةٌ.

مفهوم الحصر.

ص: 116

ولا فرق بين (إلى وحتى) في ثبوت الدلالة، والظاهر ثبوت نظيرها في (من) الابتدائية، كما أنَّ الترتيب في المشتمل (1) على الكلمتين ظاهر الاستفادة (2) فهو الأصل، إلَّا ان يقوم دليل على غيره فيكون مجازاً بدليله في آية الوضوء فتأمل.

[ مفهوم الحصر]

وأمّا مفهوم الحصر فهو أقوى من مفهوم الغاية، وأنواع الحصر خمسة عشر نوعاً أقواها (ما وإلا) نحو: (ما قام إلا زيد) ، وب_ (إنما ) نحو: «إنما الأعمال بالنيات» (3) الدال على فساد العمل بلا نية، فتأمل.

ثم - حصر المبتدأ في الخبر، وذلك بأن يكون معرّفاً باللام أو الإضافة، نحو: (العالم زيد)، و(السجاد علي بن الحسين).

لنا فهم العرف من هذا التركيب حصرَ الوصف، ومقتضى التعريف كونُ الحمل ذاتياً كما هو مذهب الأكثر (4)

ومن مفاد الحمل عند حملك (أل) على العمومِ الحصرُ قطعاً، وإن حملها على الجنس فالظاهر اتحاد ذي الجنس بالشخص،وأما مثل : (زيد رجل) فلا اتحاد؛ لعموم الخبر، وحكمُ الوصف التأخير، وإنما يقدم لبيان الحصر.

والحقّ، أن هذه الوجوه لا تخلو من نظر، والمدار على ما كان العمل به معلوماً عند العرف، والنافي لم يأتِ بحجة، فإنَّ أهل العرف تفهم من قول القائل: (ما زيد إلَّا قائماً) سلبَ جميع المحمولات عن زيد، وهذا مستفادٌ من المنطوق وإثبات القيام لزيد المستفاد من المفهومريا،

ص: 117


1- في نسخة ب: المشتملة.
2- في نسخة ب: ظاهراً لاستفادة.
3- الطوسي، تهذيب الأحكام: ٤ / ١٨٦، ونصُّ الحديث: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ، ما نوى»، «وروي بلفظ آخر - كما في التهذيب : الأعمال بالنيات».
4- القمي، القوانين: ١ / ٤٢١ ؛ الكلانتري، مطارح الأنظار : 1/ 111.

وكذلك القول بالتفصيل لا دليل عليه.

وكذلك الإضراب ب_ (بل)، خصوصاً إذا كانت مسبوقة ب_(لا)؛ فإنها كالنصِّ في ثبوت المفهوم.

[ مفهوم اللقب ]

وأمّا مفهوم اللقب وهو تعليق الحكم بالاسم العلم، نحو: (قام زيدٌ)، أو اسم النوع، نحو : ( في الغنم زكاة)، وكلّ ما يجعل أحد أركان الكلام كالفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر.

فالحقُّ أنه لا مفهوم فيه؛ لانتفاء الدلالات الثلاث، ولم يعمل به أحد إلّا أبو بكر الدقاق (1) ونقله أبو خطاب الحنبلي في التمهيد (2) عن منصوص أحمد بن حنبل، وقال به مالك وداود وبعضُ الشافعية على ما حكاه بن تورك (3)، والقائل به لم يأتِ بحجة لغوية ولا شرعية ولا عقلية، وأمّا إذا دلت عليه القرينة فهو خارج عن محل النزاع، فقولُ الحنابلة : (يُعمل بما دلّت عليه القرينةُ دون غيره) (4)،ليس تفصيلاً في المسألة.

ص: 118


1- محمد بن محمد، أبو بكر الدقاق المتوفى سنة 392 ه_، فقيه شافعي أصولي من أهل بغداد، وكان يلقب بحناط، له مصنّفات منها : كتاب في الأصول على مذهب الشافعي، وقد اشتهر بقوله بمفهوم اللقب. ينظر تاریخ بغداد: ٣/ ٤٤٨ .
2- الآمدي، الأحكام: ٣/ ٩٥؛ السيد محمد المجاهد، مفاتيح الأصول: 217.
3- الصحيح ابن فورك أبو بكر ابن فورك الحنبلي المتوفى ٤٠٦ ه_، له كتاب الحدود في أصول الفقه. ينظر أبو الخطاب الحنبلي، التمهيد : 301.
4- الشهيد الثاني، تمهيد القواعد: 119 قاعدة 29.

[مفهوم للعدد]

وكذا لا مفهوم للعدد عندنا-أعني: تعليق الحكم بعدد مخصوص- ؛ فإنه لا يدل على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك العدد زائداً كان أو ناقصاً ، خلافاً للشافعي (1) وأحمد (2) ومالك (3) وداود الظاهري (4) وصاحب الهداية (5) من الحنفية، فذهب هؤلاء إلى القول بالمفهوم للعدد مطلقاً. فقولُ صاحب المطارح في التقريرات (6):( وحكي القول بالإثبات مطلقاً ولم نعرف قائله) غريبٌ.

ص: 119


1- جمال الدين الأسنوي، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول : ٢٥٢ مسألة 7؛ الغزالي، المنخول: ٢٩٢ .
2- الآمدي، الأحكام: 3/ 72 .
3- المصدر السابق .
4- الظاهر أن ورود اسم داود الظاهري في جملة المثبتين لمفهوم العدد من طغيان القلم، فإن الظاهريين يتوقفون في حكم المفهوم، فلا يدل على النفي ولا على الإثبات إلا بدليل آخر. ينظر ابن حزم الظاهري، الإحكام في أصول الأحكام: 8877؛ وذكر في الآمدي، الأحكام: ٣/ ٦٧ نفي حجية المفهوم.
5- وهو برهان الدين الميرغناني التوفى سنة ٥٩٣ ه_، وهو من الحنابلة، له كتاب (الهداية) شرح فيه كتابه الآخر (بداية المبتدي).
6- الكلانتري، مطارح الأنظار : 123/2.

في مباحث العموم

العام: هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد (1).

[الجمع المنكر]

وأما الجمع المنكر فلا يفيد العموم؛ لأنَّه لا يوصف بالأقل، نحو: (جاءني رجال ثلاثة وأربعة وخمسة)، ومفهومُ الجمع المنكر قابلٌ للتقسيم إلى هذه المراتب، ومورد القسمة _ وهو (رجال) _ مغايرٌ لأقسامه وغير مستلزم لها. فالحقُّ أنه لا يعمّ في نحو: (جاء رجال)؛ لصدقه على كل جملة، وإذا نوّن دار أمره بين الكل وغيره؛ لوضعه للكلي.

وقيل: للعموم؛ لأنَّه موضوع كل جملة، فحمله على العموم أولى؛ لأنَّه حملٌ على حقائق الجمع جميعاً (2).

والحقُّ أنَّ ما جمع وضع للقدر الجامع للكل، والعلم بالأقل موافقٌ مع أصالة العدم. وأقلَّ ما يصدق عليه الجمع ثلاثةٌ لا اثنان عند المحققين (3).

ص: 120


1- الشيخ الطوسي، عدة الأصول: ٢٩١/١.
2- الشيخ الطوسي، عدة الأصول: ١/ ٢٩٤ - ٢٩٥ .
3- الشيخ الطوسي، عدة الأصول : ٥٠١/١ ؛ الرازي، المحصول: ٢/ ٣٧٠.

[ صيغ العموم]

وصيغ العموم: كل، وجميع، وأيّ في الاستفهام والمجازاة، أيُّ الشرط مثل: (أيُّ رجل يأتيني فله درهم)، و (متى) للعموم في الأزمنة خاصة، نحو: (متى هذا الوعد)، ومَنْ وما، مثل: (اشترِ ما رأيتَ)؛ فإنه يشمل العبيد والإماء، لكن إذا كانت (1) نكرة موصوفة، نحو:( مررت بما معجب لك)، أي: شيء، أو كانت غير موصوفة، نحو: (ما أحسن زيد)؛ فإنها لا تعم، و (أين) للعموم في الأمكنة خاصة، نحو: (فأين تذهبون)، ونحو: (أين وجدت العلماء فأحسن إليهم).

واختلفوا في إفادتها العموم، فالأكثر (2) على أنها للعموم فقط، وعن السيد المرتضى (3) أنها مشتركة بين العموم والخصوص؛ لأنَّها وردت لكل منهما، والأصل في الاستعمال الحقيقة، وفيه منع ظاهر.

وللخصوص بالخصوص ، لأنه المتيقن ، فالحمل عليه أولى (4).

وفيه: أنه اجتهاد لا يعتمد عليه.

والحقُّ أنها تختص بالعموم لا غير؛ لنص أهل العلم باللغة (5) وفهم أهل العرف ذلك.

والجنس في عرف العلماء : هو الماهية المعرّاة من جميع الاعتبارات (6) .

ص: 121


1- الميرزا القمي القوانين: ١ / ٤٥٠ ؛الأصفهاني، هداية المسترشدين: ٣/ ١٦٠ .
2- الآمدي، الأحكام: 2/ 200؛ العلّامة الحلي، نهاية الوصول: ٣٥١/٢.
3- السید المرتضی،الدریعة:197/1-201.
4- الآمدي، الأحكام: 2/ 200؛ العلّامة الحلي، نهاية الوصول: ٣٥١/٢ .
5- الشيخ الطوسي، عدة الأصول: 1/ 278؛ المحقق الحلي، معارج الأصول / 82 .
6- الميرزا القمي، القوانين: ١ / ٤٥٠ ؛ الأصفهاني، هداية المسترشدين: ٣/ ١٦٠.

واسم الجنس ما دلّ على الماهية لا بشرط شيء كرجل(1). وقيل: إنَّه موضوع للفرد المنتشر (1) . ولا دليل عليه، والأول هو الأظهر.

واستعمالُ الكلي بالفرد مجازٌ إن قصد منه الفرد، وإنْ أُريد من حيث حلول الجنس في ضمنه فهو (2) حقيقة، وعلى المجاز لا ينحصر معناه بالفرد على الأصح.

وتدخلُ لام الجنس عليه لتعريف الجنس كالشمس.

ولامُ العهد الذهني قد ترد لما يعهد ذهناً إذا كان الفرد بها مشاعاً قد عهد، والمعرّف بها مستعمل بالحقيقة فهو إذاً حقيقة، وإنما فهم الفرد من القرينة ، فلا يلزم في اللفظ المجاز.

وقيل :إذا قيد بالفرد فهو مجاز؛ لأنَّه موضوع لِما تجرّد عن القيد، وقد قيد بالفرد (3)، وأورد بالنقض بالمنكر.

وفيه: إنَّ الوضع في المنكر نوعيَّ لا شخصي، فلا يرد النقض، فتأمل. وكذلك تفيد استغراق كل الأفراد مع انتفاء العهد، ويلحظ بها الفرد المعين وإن لم یلفظ به.

[الجمع المعرَّف باللام]

والجمع المعرَّف باللام يجري به جميع ما ذكر من الأقسام، ويقتضي العموم عرفاً إذا عُرّف ب_ ( أل ) ولم يكن عهد ؛ فلا شيء من المراتب بمعيّن عند المخاطب حتى ينصرف إليه، والعمومُ فيه جميعي لا مجموعي كما يراه بعضٌ (4).

والحقُّ أنَّ المفرد المعرّف باللام موضوعٌ للجنس مع انتفاء العهد.

ص: 122


1- الميرزا القمي، القوانين: ١ / ٤٥٠
2- في نسخة ب وهو.
3- الميرزا القمي القوانين: ٤٦٥/١ وما بعدها.
4- الحائري، الفصول الغروية: ١٧١ .

وقيل : للعموم؛ لوصفه بالجمع وتحققِ الإخراج منه (1).

وفيه: إنَّ ذلك قرينة على إرادة العموم، لا وضعه للعموم.

ثمَّ إِنَّ فهمَ نفس الجنس منه عرفاً دليلٌ على عدم اشتراكه.

نعم، يُفهم العموم عند الإطلاق إذا علّق الحكم بنفس الجنس، ويفهم العموم بالحكمة والسريان، أعني :سريان الجنس في كل فرد، هذا إذا لم يكن هناك فرد شائع، وإلَّا انصرف إلى الفرد الشائع؛ لأنَّه الراجح في الكلام عند أهل الأفهام.

ولو دار الأمر في معنى اللام بين الحمل على العهد أو غيره فالحمل عليه أولى وأصحّ.

والنكرةُ في سياق النفي

يُفهم منها العموم عرفاً، نحو: (لا رجل في الدار)، فإنها نقيض المثبتة؛ لأنَّه لو قال: (لا رجل في الدار) ثم قال: (فيها رجل) عُدَّ مناقضاً للقول الأول، وهي غير عامة في الإثبات فتعم النكرة في النفي، وإلّا شا لما تناقض؛ لأنَّ الايجاب الجزئي إنما يناقضه السلب الكلي.

وتركُ الاستفصال للعموم

فيما إذا أطلق الجواب عما يحتمل فيه الوجوه فيحمل على الكل، إلَّا إذا كان له وجه معروف ينصرف الإطلاق إليه حينئذٍ ، وهذا مع علم السائل بعلم المسؤول بالوجوه المحتملة فيه كما هو الحال في رواة أصحابنا في أسئلتهم عن الأئمة الأطهار العالمين بعلم ما كان وما يكون، ولا فرق بين الفعل والقول إلَّا أن يكون تعليل يفهم.

في مسألة خطاب المعدوم بخطاب المشافهة ك_ (إفعل، ولا تفعل)

اعلم أنَّ هذا النزاع غيرُ النزاع في تكليف المعدوم وطلب المراد منه في النفس _ الذي

هو بين الأشاعرة وغيرهم المبني على ثبوت الكلام النفسي -؛ فإنَّ الأشاعرة لما أثبتوا بزعمهم- لقدم الخطابات (2) - صفة التي هي الأحكام الشرعية التي بها كان التكليفُ، ومعلوم أنه لا مكلف حينئذٍ لزمَ تكليف المعدوم، ولما كان هذا البناء على قدم الكلام النفسي الفاسد وظهر فساد المبنى في محلّه (3) ظهرَ فساد الابتناء.

و محلُّ هذا النزاع في علم الكلام، والمذكور في علم أصول الفقه توجيه الخطاب إلى المعدوم، وهو نزاع بين الحنابلة وغيرهم، والأشاعرة فيه كالمعتزلة على المنع (4)، وإنما أجازه الحنابلة.

ص: 123


1- في نسخة ب: تقدم الخطابات.
2- في نسخة ب:تقدم الخطابات.
3- العلّامة الحلي، كشف المراد: ٤٠٣ الصفة السادسة؛المقداد السيوري، إرشاد الطالبين: ٢٠٨ - ٢١٤ و 219؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ١٢٧/١.
4- الرازي، المحصول: 389/2؛ العلّامة الحلي، نهاية الوصول: ٢ /٤٢٩.

وتحريره يقع في باب العموم والخصوص، وقد وهم غيرُ واحد من المتأخرين (1) وخلطوا النزاعين وجعلوه نزاعاً واحداً، وأشكلَ عليهم الأمر في تحرير محل النزاع، ونسبوا إلى الأشاعرة ما هو مذهب الحنابلة، وجوّز بعضهم (2) توجيه الخطاب إلى المعدوم مع ضم الموجود، ومنهم (3) من جوّزه مطلقاً على طريق التجوّز وتنزيل المعدوم منزلة الموجود حتى يكون استعمال أدوات الخطاب حقيقة لا مجاز فيها، وأخرج الخطابات الغير المصدرة بأداة الخطاب عن محل النزاع كقوله تعالى: ﴿وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (4)، وأمثال ذلك مع أَنَّه داخل في النزاع؛ لأنّه كما عرفت في توجيه الخطاب إلى المعدوم بخطاب المشافهة ك_(إفعل ولا تفعل)، وقوله تعالى:« وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ » خطابٌ للناس بجملة يراد منها الإنشاء لا الإخبار ، ولا ينحصر خطاب المشافهة بالمصدر ب_:( يا أيها الناس )ونحوه بالضرورة.

والتحقيقُ أن جميع خطابات الله عزَّ وجلَّ كانت لجميع الناس؛ إذ لا معدوم منهم عنده؛ فإنه خلقهم أولاً أرواحاً وكانوا جنوداً مجندة قبل خلق أجسادهم (5)، بل وخاطبهم وهم أرواح، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هُذَا غَافِلِينَ) (6)، فهذه الخطابات القرآنية وغيرها كلها للموجودين، غيرَ أن منهم{ من} (7) هو حاضر مجلس

ص: 124


1- الميرزا القمي، القوانين: 517/1 قال قدس سرهُ:(وقول الأشاعرة بجوازه مكابرة ناشئة من قولهم بقدم الكلام النفسي).
2- الفاضل التوني الوافية : 119.
3- محمد مهدي النراقي، أنيس المجتهدين : ٧٣٤/٢ وما بعدها؛ الكلانتري، مطارح الأنظار : 2/ 189 حكاه عن المناهج الذي نسبه للتفتازاني.
4- سورة آل عمران: 97 .
5- الكليني، الكافي: ٤٨٦/١.
6- سورة الأعراف: ١٧٢.
7- من نسخة ب.

الخطاب ببدنه وروحه، ومنهم من هو حاضر عند الله بروحه، والمخاطب بالخطاب العام الكل؛ إذ ليس المراد بالخطاب البعث والتحريك الفعلي، ولا بالنهي الزجر الفعلي حتى يكون له أثر بالنسبة إلى الأرواح الغير المتجسدة، بل إنما المراد التكليف المتكفل له الخطاب ولا خصوصية للسامع قطعاً غير تنجز تلك الأحكام بالنسبة إليه وصيرورتها فعلية.

فإِنْ كان النزاع في أنَّ المعدوم هل يكون الحكم الذي صار فعلياً بالنسبة إلى الموجود بعد علمه به يكون فعلياً بالنسبة إلى المعدوم أم لا؟ فهذا من الكلام الذي يلحق بالهذيان.

وبالجملة، خطاب : (يا أيها الناس) عام لكل إنسان ولا خصوصية فيه للأشخاص السامعين، بل هو كخطاب زرارة ب_ : لا تنقض اليقين بالشك» (1) ، فكما لا اعتبار لشخص « زرارة في هذا الحكم كذلك ] (2) لا اعتبار للحاضرين في: (يا أيها الناس)، وليس القطع بعدم خصوصية زرارة بهذا الحكم أجلى من القطع بعدم خصوصية السامعين في مسجد رسول الله صلی الله علیه وآله [ب] الخطابات القرآنية.

وإن كان النزاع من حيث البعث والتحريك وأنَّ البعث والتحريك ب_: (يا أيها الناس) هل يعمُّ بعث المعدوم وتحريكه فهو بكلام أهل السواد أشبه.

وإن كان النزاع في الصناعة اللفظية فالقائل بالإمتناع يقول: إنَّ أدوات الخطاب موضوعةٌ لخطاب المشافهة المعيّن الشخصي والجسم الحسي فلا استعمال في المعدوم وغير الموجود، والقائل بالجواز ينكر الوضع على النحو المذكور أو يقول بصحة تنزيل المعدوم منزلة الموجود؛ فتكون الخطابات القرآنية قد لوحظ فيها التنزيل واستعملت في المخاطبة للحاضر والغائب المنزل منزلة الحاضر ؛ فيكون النزاع حينئذ لفظياً؛ لأنَّ المنكر لا ينكر إمكان التنزيل، والمثبت لا ينكر عدم وضع الأداة للأعم من الموجود والمعدوم، فما هذا التشاجر الذي لا يرجع إلى طائل؟ سواء كانت المسألة عقلية أو لغوية، وكم من مباحث الأصول ما

ص: 125


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة ١ / 2٤٥ ح 1 أبواب نواقض الوضوء ونص الحديث: «... ولا تنقض اليقين أبداً بالشك، وإنما تنقضه بيقين آخر».
2- من نسخة ب.

هو لا روح له عند التحقيق!

في مباحث التخصيص

اعلم أنَّ المخصص: إمّا متصل، وهو ما لا يستقل بنفسه، و[إما] منفصل وهو بخلافه.

[ التخصيص بالمخصص المتصل ]

ثمَّ المتصل خمسة أقسام بالاستقراء: الاستثناء، والغاية، والشرط، والوصف، والبدل. والأولان يخرجان المذكور ، والبواقي غيره، ويجب إبقاء الأكثر بعد التخصيص ؛ لقبح : (أكلتُ كل الرمان الذي في الدار)، وفيه عشرة وقد أكل واحدة على أنه يكفي الشك في الرخصة في غير ما ذكر من بقاء الأكثر؛ فالجواز فيه معلوم، وفي غيره مشكوك، وجواز إطلاق العام وإرادة الخاص في الخبر والأمر كقوله تعالى: ﴿ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (1)، والمراد: الممكن، وقوله: (اقتلوا المشركين) (2) ، والمراد به ما عدا أهل الذمة، لكن هذا لا ينافي ما ذكر من اعتبار إبقاء الأكثر .

وقيل : يصح مع إبقاء واحد؛ لأن ترجيح بقاء ما عدا الواحد قبيح (3).

ورُدَّ : بأنَّ الأكثر أولى؛ لقربه من مدلول العام (4) .

والحقُّ ما سمعته من الشك في الرخصة في غير صورة بقاء الأكثر .

ودعوى أنَّ الواحد متيقن البقاء وغيره مشكوك فالأصل عدم الزائد. ممنوعة؛ لما عرفت من قبح: (أكلتُ كل الرمان)، وقد أكل واحدة. وفي المقام أقوال أُخر ضعيفة (5).

ص: 126


1- سورة الزمر : ٦٢
2- سورة التوبة : ٥ .
3- الشيخ الطوسي، عدة الأصول: ٣١٦/١.
4- الشيخ حسن معالم الدين: 110 ؛ الحائري، الفصول الغروية: ١٨٧.
5- الميرزا القمي، القوانين : 8/2؛ الأصفهاني ، هداية المسترشدين : ٣ / ٢٥٦ .

لما كان الاستثناء هو الإخراج، ولا إخراج إلّا بعد الدخول، ثم لا معنى للإخراج إلّا الإخراج من تعلّق الحكم، كان المستثنى مشتملاً على التناقض لاجتماع النفي والإثبات عليه، غايته أن أحدهما يرد عليه في ضمن المستثنى منه والآخر منفرداً، فأشكل ذلك على القوم. والتحقيق في الجواب أن المخرج في الواقع والحقيقة غير محكوم عليه في ضمن العام وإن تحقق الحكم صورة، فإنّ إطلاق القوم في (قام القوم إلَّا زيداً) مجاز، بل إذا كان التخصيص بالمتصل لم يتم المحكوم عليه بعد حتى يجيء المتصل، فإنهما شيء واحد؛ لمكان الاتصال وعدم الاستقلال؛ ولهذا لم يعد التخصيص به إنكاراً بعد الإقرار، بخلاف المنفصل فإنه لا يسمع، ويشهد لما ذكرنا أنّ أهل العرف _ على اختلاف طبقاتهم - إذا خصصوا بالمتصل لم يخطر لهم هذا التناقض ببال أصلاً وإن كان المتكلّم أو السامع ممن خاصم في هذه المسألة، وهذا بخلاف ما إذا سمعوا التخصيص بالمنفصل، فإنا نراهم يحكمون حينئذ بالتناقض وينساق إليهم، وليس هناك إلَّا الاتصال وعدم انعقاد الظهور فيه إلا بعد الفراغ؛ لأنّ للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء من اللواحق ما دام متشاغلاً به، فافهم.

[ حجية العام في الباقي]

وإذا خُصَّ العام بمخصص مبين المفهوم والمصداق فهو حجة أيضاً في الباقي مطلقاً بلا خلاف (1) من أصحابنا، وهو مذهب الأفاضل من الجمهور (2)، وفصل بعضُهم بين المتصل والمنفصل فقال بحجية الأول دون الثاني (3).

والحقُّ الحجية مطلقاً؛ لنا حكم العرف والعقلاء بانقطاع عذر العبد المأمور بإكرام العلماء إلَّا زيداً، إذا لم يكرم عالماً ؛ وما ذلك إلا لظهور العام في الباقي على وجه لا يشوبه شائبة

ص: 127


1- في نسخة :ب بل لا خلاف .
2- السرخسي أصول السرخسي : ١ / ١٤٤؛ الجصاص أصول الجصاص: ٢٤٦/١.
3- الآمدي، الأحكام: 2/ 232 ، المسألة الخامسة، حكاه عن البلخي.

إجمال وإهمال أبداً.

والمتتبع لموارد الاحتجاجات والمخاصمات في كلمات أهل المعرفة وأرباب العصمة ظاهرا منهم وأصحابهم من أهل العلم بالمناظرة من أهل اللسان والمحاورة يرى ذلك ظاهراً كالشمس في رابعة النهار ، كيف ولولا ذلك لانسدّ باب الاستنباط في الفقه؛ لتوقفه على الأخذ بأمثال هذه العمومات! مع أنَّ الظاهر عدم وجود عام غير مخصص، بل قيل: ما من عام إِلَّا وقد خُصَّ (1)؛ ولذا قال أهل العلم باللسان عند المحاورة: العام المخصص أقوى ظهوراً من غيره؛ لكونه مظنةً للتخصيص الوجدان المستقيم يرى ذلك بمكان (2) فصام من الوضوح ولا يحتاج إلى البرهان ولكنا مع ذلك نوضح الوجه في ذلك بالبرهان كي لا يبقى قول القائل، فنقول:

غاية ما يمكن أنْ يقال: إنَّ الباقي بعد التخصيص مرتبة من مراتب المجاز، والمراتب فيه متساوية، فتعيين خصوص الباقي دون باقي المراتب ترجيح بلا مرجح (3).

وقد أُجيب: بأنَّ المرجح أقربية الباقي إلى مدلول العام (4).

ورد: بأنَّ الأقربية المعتبرة في الترجيح هي المقيدة لغلبة الاستعمال في اللفظ بعد صرفه عن معناه الحقيقي، وأما غيرها فلا عبرة بها و [ الأقربية ] بهذا المعنى غير متحققة في المقام؛ لأنَّ الموارد الباقية مصداقه، ولا ريب باختلافه على وجه لا يمكن أن يحصل غلبة في مرتبة من مراتبه كما لا يخفى (5).

فالتحقيقُ في الجواب ما أفاده سيدنا الأستاذ حجة الإسلام الميرزا له في مجلس الدرس بسامراء وهو أنَّ الظهور العام في الباقي إنما هو مسبب من الوضع الأصلي للعام؛ حيث

ص: 128


1- الميرزا القمي، القوانين: ١ / ٤٤٤ ؛ الأصفهاني، هداية المسترشدين: ١/ ٣٢٥ .
2- الحائري، الفصول الغروية: ٤٤٤ .
3- الآخوند ،الخراساني كفاية الأصول: ١٤٧/٢ .
4- الميرزا القمي، القوانين: ٤٨/٢ .
5- الكلانتري، مطارح الأنظار : 2/ 132 .

إنَّ العام قبل التخصيص دال على إراءة جميع الأفراد الممتازة في ذاتها، فكأنَّ المتكلم أراد جميع الأفراد المتميزة بلفظ واحد دال على تمامها، فدلالة العام المتعلقة بذات الأفراد أصلية، ودلالته على اجتماع الأفراد _ أعني الاستغراق - عرضيةٌ ؛ لأنَّ واقع لفظ : (كل) الدلالة على هذه ذوات مدخولها المتميزة في ذاتها، وكون تلك الذوات المتميزة مجموعةً، فإذا ارتفع عن الأفراد الاجتماع السابق بإخراج بعض الأفراد فدلالة العام السابقة _ التي كانت قبل هذا الإخراج - على حالها بعد باقية؛ لفرض تشخصها سابقاً واستقلالها، فاللفظ المستعمل في الباقي وإنْ لم يكن حقيقةً اصطلاحية، بمعنى: أنَّ اللفظ لم يستعمل في تمام ما وضع له، ولكنه مع ذلك ليس مجازاً على حد سائر المجازات التي لا بد في استعمالها في غير الموضوع له (1) من علاقة، ويكون الاستعمال فيها بلحاظ تلك العلاقة، بل الظهور السابق _ الذي كان به كل فرد من هذه الأفراد الباقية الآن - باقٍ على حاله السابق من الظهور.

وبعبارة أخرى: اللحاظ الذي كان لهذه الأفراد من العام في الظهور لم يزل، وحينئذ فاستعمال اللفظ في الباقي كاستعماله لو لم يكن للعام في الواقع أفراد سوى أفراد هذا الباقي من حيث الظهور والإراءة، فالمرآتية بالنسبة إلى هذه الأفراد بمقتضى الوضع الأولى الحقيقي باق له لم يزل، فهو ليس حقيقة اصطلاحية ولا مجازاً اصطلاحياً، فإذا ثبت أنَّ دلالة العام على كل فرد لم تكن محتاجة إلى دلالته على انضمام الأفراد الأخر، بل كانت كالمستقلة بنفسها، وهذه الدلالة في الباقي موجودة؛ لثبوت مقتضيها وعدم ما يوجب صرف اللفظ السابق الثابت له؛ لفرض اختصاص المخصص بغير هذه الأفراد، فالباقي متعيّن على تعيّن الجميع عند عدم المخصص، فافهم واغتنم.

ص: 129


1- في نسخة ب: الموضع له.

[في التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما لو كان المخصص لفظياً]

وفيما لو كان تخصيص العام بما أخذ عنواناً في موضوع الحكم وشك في فرد أنه من أیهما؟

فالحقُ عندنا عدُم جواز التعويل على العام في حكم المصداق المشكوك الاندراج في العام المخصص بمخصص لفظي مبين ومعنون بما عنون به العام، نحو: (أكرم العلماء) المخصص ب_: (لا تكرم فساق العلماء)، وشُك في مصداقٍ لإجراء حكم العام عليه، سواء كان العام أو الخاص حكماً تكليفياً بأقسامه، أو وضعياً كذلك؛لأنَّ العام لا يرفع الشك المتولّد من الترديد في الأمور الخارجية التي لا دخل لإرادة المتكلّم فيها، والعام مرجعٌ فيما شك فيه من مراد المتكلّم؛ فلو شككنا في أنَّ (زيداًعادل) لم يرتفع الشك في عدالته بالرجوع إلى المتكلم من حيث إنَّه متكلّم بالعام، بل نسبة المشكوك إلى العنوانين نسبة واحدة؛ فلا يمكن الحكم بدخوله في أحدهما؛ للزوم الترجيح بلا مرجح، بل يرجع فيها إلى الأصول إنْ كان مجملاً مطلقاً، ولا يرجع إلى العام مطلقاً؛ لعدم اقتضائه الكشف عن المصداق في المشكوك، وجدَ الأصل أو انتفى.

ودعوى أنَّ العام مقتضٍ والمخصص مانع واضحةٌ الفساد عند أهل النظر، مع أنَّه لا بدَّ من إحراز المانع بدليلٍ، ومجردُ الشك في وجود المانع - مع قطع النظر عن الحالة السابقة _ لا يقتضي الحكم بالعدم.

وأمّا مع العلم بالحالة السابقة قبل زمان الشك؛ فالأخذ حينئذٍ بالاستصحاب من بعض (1) الأخبارية المتمسكين في موارد الاستصحابات الموضوعية بعموم الدليل، وما ذلك منهم بعجيب، لكن للشهيد الثاني كلام ربما أشعر بذلك أيضاً؛ حيث احتمل إلحاق الخنثى المرتدة - في الحكم بالقتل - بالرجل؛ لعموم قوله علیه السلام : «من بدلَّ دينه فاقتلوه» (2)، قال: خرج

ص: 130


1- الكلانتري، مطارح الأنظار : ٢ / ١٣٥.
2- النوري، مستدرك الوسائل : ١٨ / ١٦٣ حديث ٢٢٣٩٤.

منه المرأة ويبقى الباقي داخلاً في العموم؛ إذ لا نصَّ على الخنثى بخصوصه (1). انتهى فتأمل. ويدلك على عدم جواز التعويل المذكور ظهورُ العام بعد التخصيص في الأفراد الغير

المتصفة بعنوان الخاص؛ لمكان تقييد الخاص بما عنون به العام الظاهر في إرادة ما عدا أفر الخاص، وإلّا لزمَ التنافي؛ لتعارض أصالة الحقيقة في كّل من العام والخاص؛ فالعام حاكمٌ بإكرام فساق العلماء، والخاص حاكمٌ بعدم إكرامهم حينئذٍ، فلا بدَّ من رفع التنافي بكون الخاص كاشفاً عن حقيقة مراد المتكلّم من العام، وليس هو إلَّا ماعدا أفراد الخاص؛ فإذا كان المراد في الواقع من العام الأفراد المعنونة بغير أفراد الخاص لا يمكن التمسك به في حكم (2) الفرد المشكوك المصداقية له؛ لعدم اتصافه بالوصف العنواني المعنون به العام كما هو ظاهر؛ فإنْ كان هناك أصل موضوعي فهو المرجع وإلاّ فما تقتضيه الأصول، ولا خصوصية لإجراء أصل البراءة في المقام كما توهم (3) .

[في التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما لو كان المخصص لبياً]

أمّا لو كان المخصص لبياً، ولم يؤخذ(4) عنواناً في موضوع (5) الحكم، ووقع الشك في فرد أنه من أيّهما ؟

فالحقُّ صحة التعويل على العام كما لو قال المولى :(أكرم العلماء)، وعلمنا من تعبيره وبيانه أنه لا يريد إكرام الفاسق، وشككنا في زيد العالم هل هو الفاسق أم لا؟

فالعامُ محكمٌ فيه فيجب إكرامه؛ لأنَّ المولى لم يعتبر في موضوع حكم العام صفةً غير العلم، والمفروض إحراز عنوان العام في المشكوك الفسق؛ فأصالة عدم كونه فاسقاً ترفعُ

ص: 131


1- الشهيد الثاني، الروضه البهية : ٣٠/٨.
2- في نسخة ب: التمسك به من حكم.
3- الكلانتري، مطارح الأنظار : ٢/ ١٣٥.
4- في نسخة ب: لبياً لم يؤخذ.
5- في نسخة ب في موضع.

الشك في الفسق في المقام بعد إحراز عنوان العام في الفرد المشكوك، الموجب لإحراز ما هو الموضوع في الحكم من عنوان العام، فيصح التعويل على العام بلا كلام، بل التحقيقُ أنَّ الرجوع إلى العام في المقام يوجبُ رفع الشك عن زيد المذكور؛ لأنَّ تعبير المولى بالعموم من دون أخذ عنوانٍ آخر _ كما هو المفروض _ يكشفُ عن أنه لا يرى في أفراد العلماء فاسقاً، وإلَّا لكان عليه تخصيص العلماء بغير الفساق، فكل من يجب إكرامه ليس بفاسق؛ لأنّا قد فرضنا أنا نعلم أنه لا يريد إكرام الفاسق ؛ فينتج : (أنَّ زيداً ليس بفاسق)؛ فالتمسك بالعام في (زيد) لا يحتاجٌ إلى رفع الشك بأصل العدم، بل بالعموم يستكشفُ واقع المشكوك فيه. وأوضح من ذلك المثال لو قال: (أكرم جيراني عموماً)، وعلمنا أنه لا يريد إكرام عدوه؛ فإنا نستكشف أنه لا يرى من هو عدوه في جيرانه، بل نستكشفُ من ثبوت الإكرام الملازم لعدم العداوة عدمَ كونه عدواً، بل التحقيقُ ذلك لو كان المخصص في المثال المذكور لفظياً بأن قال:(لا تكرم عدوي) بعد قوله: (أكرم كل جيراني)؛ للاستكشاف المذكور حرفاً بحرف، فافهم.

فإنَّ التخصيصات اللفظية قد لا توجبُ التنويع ولا تعدد الموضوع كما في: (أكرم كل جيراني ولا تكرم أعدائي) ، نعم، الغالب فيها اقتضاء تعدد الموضعين وتنويعها كالعالم الفاسق والعالم غير الفاسق.

وبالجملة، فالمدار في صحة التعويل وعدم صحة التعويل على العام في الشبهة الموضوعية ليس على مجرد كون المخصص لبياً ولفظياً، بل على الفهم العرفي، والتنويع وعدم التنويع.

[التخصيص بالمجمل]

والتخصيص بالمجمل أي المبهم غير المعين مثل :( اقتلوا المشركين إلَّا بعضهم) فإنه لا يجوز التمسك به؛ لأنَّ جهالة المخرج توجب جهالة الباقي؛ لأنَّ المجموع بمنزلة كلام واحد فتسري جهالته إليه، ولو كان مبيناً من جهة أخرى أخذ به؛ لوجود المقتضي وانتفاء المانع كما لو قال:( اقتلوا الكفار إلّا بعض اليهود)، فإن غير اليهود يجبُ الأخذ به بعموم العام، فالأخذ يتوقف على البيان.

ص: 132

[هل يرجع إلى العام في الشبهة المصداقية؟]

ولا رجوع إلى العام في الشبهة المصداقية ولا يرتفع الإجمال عن المخصص بالعام، وصور أصل التخصيص بالمجمل ثلاث:

{الصورة} الأولى: ما كان مردداً بين متباينين ك_:(أكرم العلماء إلا زيداً) مع اشتراكه بین آحادٍ من العام، ولا ريب في الحكم بالإجمال فيه، سواء كان من التخصيص بالمتصل أو المنفصل؛ لأنَّ المفروض انتفاء العلم أو الظن بالمراد منه.

[ الصورة] الثانية: ما كان مردداً بين الأقل والأكثر وكان الأقل لا يشمله الأكثر كقولك: (أكرم العلماء إلَّا الزيدين)، وتردد الأمر في( الزيدين) أنَّ المراد الفردان من العلماء المسميان ب_ :(زيد) أو فرد واحد اسمه (زيدين)، والحكمُ بالإجمال فيه ظاهرٌ، سواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً؛ لعدم ما يوجب البيان لا من اللفظ ولا من الأصل؛ لأنَّ أصالة عدم خروج الأكثر معارضةٌ بأصالة عدم خروج الأقل؛ فإنَّ الأقل في مثله بمنزلة المتباينين، والواحدُ المعلوم خروجه مفهوماً لا يجدي بعد معارضة الأصل الجاري بالمصداق بأصالة عدم خروج الأكثر .

فإِنْ قلتَ :الحكم بخروج الفردين وإن كانا متغايرين يشتملُ على زيادة تخصيص في العام، بخلاف الحكم بخروج فرد واحد ، فهو مخالف لأصل واحد، والأول مخالف لأصلين.

قلتُ: توحيد الأصل لا يوجب الترجيح عندنا، إنما ذلك في الأدلة الاجتهادية لا الأصول وإنْ ابتنيت على الظنون النوعية، فتأمل. الصورة الثالثة: ما كان دائراً بين الأقل والأكثر مع شمول الأكثر للأقل ك_ :(أكرم العلماء العدول)، وشك في العدالة هل هي الملكة أو حسن الظاهر، فصاحب الملكة دخوله في العام معلومٌ، أو يكون دخوله في المخصص معلوم كقوله : (أكرم العلماء ولا تكرم الفساق منهم)، وشك في معنى الفاسق هل هو مرتكب الكبائر فقط، أو يعمه ومرتكب الصغائر، فمرتكب الكبائر داخلٌ في المخصص قطعاً، والشك إنما هو في الزائد؟

فإنْ كان التخصيص فيه بالمتصل كالشرط والغاية والصفة وبدل البعض، فالظاهرُ

ص: 133

الإجمال أيضاً وسريان الإجمال في العام، فيسقط العام عن الاعتبار بالنسبة إلى تلك الأفراد المشكوكة والمرجع فيها الأصول لا العام؛ لأنَّ العدالة أخذت قيداً في الموضوع أعني : العلماء-، وإجمالُ المقيد بعد إجمال القيد غيرُ خفي، فكان الموضوع نفس العدالة، وكان المرجع قولك :( أكرم عدول العلماء) مع اشتباه العدالة بين شيئين.

نعم ،العام في غير تلك الأفراد المشكوكة مبينٌ لا إجمال فيه.

وإن كان التخصيص بالمنفصل فقد يظهر عدم سريان الإجمال إلى العام، فيؤخذ في المعلوم المتيقن وهو مرتكب الكبيرة،ويدفع الزائد بأصالة عدم التخصيص فيؤخذ فيه بالعموم دون الأصول العملية.

وبعبارة أخرى: خروج مرتكب الكبيرة معلوم الخروج بالقرينة، وأما غيره فغيرُ معلوم؛ فالأصل عدم الخروج.

فإن قلتَ: أيُّ فرق بين ما {إذا} (1) كان الخاص من المتصل أو المنفصل؟

قلتُ: إِنَّ الظهور بعدُ لم يتم في المتصل، ولم تتم الدلالة على الأفراد المندرجة فيه قبل الإتيان بالقيد، وهذا بخلاف المنفصل؛ فإنَّ التخصيص فيه لأجل التعارض لا لأجل عدم تمامية الظهور، والصور الثلاث - كما عرفت - قد يكون فيها المخصص متصلاً وقد يكون منفصلاً؛ فتكون الصور ست.

وهنا فرض سابع وهو: ما كان المخصص معارضاً بمخصص آخر، والمعلوم أنَّ العام مخصص بأحدهما ولم يعلم بعينه، والحكم فيه الترجيح وإن لم يمكن (2)، فما عرفت في المخصص المجمل في محل الاشتباه من الرجوع إلى الأصول على الأصح، وفي الرجوع فيه إلى التخيير وجهٌ، فيتخير بينهما.

ص: 134


1- ما بين المعقوفين من نسخة ب.
2- في نسخة ب: وإن لم يكن.

وهل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص؟

وكلمة الفصل في ذلك: إنّ من العمومات غيرُ قابل (1) للتخصيص مثل : قوله تعالى: (وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (2)،وقوله{ تعالى}: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ (3)، فكل ما سميتُ أُمّاً من نسب أو رضاع - وإن علت - فهي حرام، وقوله {تعالى}: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان ) (4)،[ وقوله تعالى]:( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) (5) ، وقوله{ تعالى}: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (6). فهذا النوع لا كلام فيه.

ومنها ما هو قابل للتخصيص وقد علم تخصيصها تفصيلاً ، أو هي من أطراف ما علم تخصيصه إجمالاً، فهذا النوع أيضاً لا كلام فيه.

ومنها ما لا عِلْمَ بتخصيصه لا تفصيلاً، ولا هو من أطراف ما علم تخصيصه إجمالاً غير أنه معرّضٌ للتخصيص، ولا كلام في اعتبار أصالة العموم فيه في الجملة من باب الظن النوعي للمشافهين وغيرهم، فهذا النوع هو محلُّ الخلاف؛ فالقائل بلزوم الفحص يقول: إنما يجب اتباع أصالة العموم بعد الفحص عن المخصص واليأس من العثور عليه؛ لأنَّه معرّضُ للتخصيص (7).والنافي يقول باتباع أصالة العموم مطلقاً (8).

والحقُّ، لزوم الفحص فيه؛ لكونه معرّضاً للتخصيص، وقد استقامت الطريقة على

ص: 135


1- في نسخة ب: ما هو غير قابل.
2- سورة الحجرات: ١٦ .
3- سورة النساء: ٢٣ .
4- سورة الرحمن: ٢٦ .
5- سورة آل عمران: 185.
6- سورة هود: ٦.
7- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٢/ ١٦٥ .
8- المصدر السابق.

ذلك خلفاً عن سلف حتى حكى الإجماعَ عليه جماعةٌ (1) وهو الأحوط. والشكُ في المقام كافٍ في عدم جواز التمسك به قبل الفحص؛ لعدم جريان أصالة عدم المخصص قبل الفحص؛ لأنَّ المفروض كونه معرّضاً للتخصيص؛ فأصالةُ العموم التي هي معتبرة من باب الظن النوعي لا يمكن اتباعها مع وجود ما يصلح لأن يكون مقيداً لإطلاقها، نظير وجود ما يصلح أن يكون قرينةٌ على المجاز، المانع من اتباع أصالة الحقيقة فی اللفظ، ومع الشك في حجية أصالة العموم؛ - لوجود ما يصلح _ لا معنى لأصالة عدم التخصيص.

وعلى هذا فلا حاجة إلى ما قيل (2) من: أنَّ الكلام في العمومات التي بأيدينا المحتملِ تخصيصها من جهة علمنا الإجمالي بوجود مخصصات لها في الأخبار التي يمكن الوصول إليها، وحينئذٍ فلا يمكن إجراء الأصول قبل الفحص ؛ لعدم صحة إجرائها في أطراف المعلوم بالإجمال _ كما هو محرر في موضعه (3) _ ويجب الفحص حتى يرتفع ما كان يقتضيه.

فعلى ما ذكرنا حتى يخرج عن كونه معرّضاً، وعلى القول بمانعية العلم الإجمالي فحتى يرتفع، وارتفاعه بالفحص ظاهرٌ، وعلى القول باعتبار الظن الشخصي وعدم حصوله قبل الفحص فالظن بعدم المخصص عند حصول الظن بالمراد بعد الفحص.

[الاختلاف في صورة تعدد المستثنى منه ]

واختلف الناس في صورة تعدد المستثنى منه وذلك : أن يتعدد ما يصلح لأن يكون مستثنى منه ك_: (أكرم ربيعة وأجلّ مضر إلَّا الرعاء).

قال الله عزّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَم يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ

ص: 136


1- الكلانتري، مطارح الأنظار : ١٥٧/٢، حيث نسب القول بالإجماع إلى العلّامة الحلي في النهاية.
2- الكلانتري، مطارح الأنظار : ١٦٨/٢ .
3- مباحث العلم الإجمالي.

ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لهُمْ شَهَادَةَ أَبَدًا وَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا)(1)، فَإِنَّ كلاً من المأمور بجلدهم والمنهي عن قبول شهادتهم والمخبر بفسقهم صالحٌ في حد ذاته لأن يكون

مستثنى منه.

قال الشيخ الطوسي (2) وجماعة (3) : يرجع إلى جميع ما تقدم مما هو صالح.

وقال العلّامة (4) وجماعة (5): يرجع إلى الأخير فحسب.

وقال السيد المرتضى: قد استعمل تارةً راجعاً إلى الكل وأخرى إلى الأخير؛ فيكون مشتركاً بينهما (6).على ما هو طريقته في كل ما استعمل على نحوين.

وقال ناسٌ (7) بالتوقف، فلم يحكموا بشيء.

والكل متفقون على الرجوع إلى الأخير؛ حيث إنّه القدر المتيقن على كل تقدير، لا حيث إنَّ الاستثناء في هذا الباب موضوعٌ للأخير، بل القائلُ: إنه موضوعٌ للأخير، والقائلُ: إنه موضوعٌ للجميع، والقائلُ بالوضع للأمرين، والمتوقف الذي لم يدرِ لأي الأمرين وُضِعَ ، يقولون:إنَّ الأخير متيقنُ الدخول؛لأنَّه: إمّا موضوعٌ له وحده، أو داخلٌ مع غيره، فالكل قاطعون بأنَّ الأخير موضوعٌ له إمّا وحده أو مع غيره، فالكلام فيما عداه مع الاتفاق على عدم تخصيصه بما عدا الأخير، فالمانعُ من ردّه إلى ما عدا الأخير عند العلّامة كونُه حقيقةً في الأخير فقط، فلا يصرف إلى المجموع إلّا مع القرينة كسائر المجازات، ولا يصرف عند السيد إلى المجموع؛ لعدم القرينة على التعيين وإن كان حقيقةً فيه أيضاً،

ص: 137


1- سورة النور : ٤ - ٥ .
2- الشيخ الطوسي، عدة الأصول: ٣٨٤.
3- الآمدي، الأحكام:٢ / ٣٣٦،الحائري، الفصول الغروية:211 .
4- العلّامة الحلي، نهاية الوصول: ٣ / ٧٤ .
5- الرازي، المحصول : ٤٣/٣ نسبه إلى أبي حنيفة وأصحابه.
6- ر
7- الرازي المحصول : ٣ / ٤٥المحقق الحلي، معارج الأصول : 100 ؛ الشيخ حسن، معالم الدين: 122.

نعم القائلون بالتوقف لا يعلمون إلَّا أنه موضوع لأحد الأمرين، فلا يرجعون إلى الجميع إلَّا بالقرينة، فالأصل. والأقوى القول بالاشتراك المعنوي.

ثم إن ظهرَ الانقطاعُ أو الاتصالُ أو قامتُ قرينةٌ على الرجوع إلى أحد الأمرين، فلا إشكال في وجوب العمل على ما هو الظاهر، وإلّا فالظاهر الاختصاص بالأخير؛ لأصالة عدم تعلّقه بغيرها فتستصحب، على أنَّ القول بوضعه للإخراج مما يليه ليس بذلك البعيد، بل يشهد به التبادر.

[ تخصيص العام بمفهوم الموافقة والمخالفة ]

في تخصيص العام بمفهوم الموافقة والمخالفة لا خلاف في الأول، كالتخصيص بالشرط والصفة والغاية والبدل، سواء ثبت لها مفهوم أم لا؛ فالتخصيص بالصفة مثل: (عظّم قريش الشرفا)، فإنك قصرت العام الذي علّقت به الحكم على بعض أفراده، وهو التخصيص؛ فإنه قصر العام على بعض أفراده، وليس عبارة عن الإخراج من متعلّق الحكم في الخارج، إنما ذلك لازم التخصيص، لكنه يبتني على إثبات المفهوم في الشرط والغاية والصفة، ومن نفاه نفى هذا اللازم ولم يبقَ عنده إلَّا الإخراج من الحكم على العام.

و مما ذكرنا ظهر الجواب عما يقال: من أنّ التخصيص ليس عبارة عن خروج بعض أفراد العام عن تعليق الحكم به والحكم عليه بشيء حتى يكون المخرج مسكوتاً عنه؛ لأنَّ ذلك ليس من مدلول اللفظ كي يصحَّ الإخراج منه، وإنما يجيء تبعاً، ولا عن دلالة العام عليه وشموله له؛ إذ لا زال دالاً عليه شاملاً له، وإنما هو عبارة عن إخراجه عن تعلق الحكم بالعام في الخارج، ومتى خرج عن تعلّق الحكم ثبت نقيضه.

وعليه فالحكم بكون الوصف من المخصصات يستلزمُ إثبات مفهوم الوصف _ أعني نفي الحكم عن غير محل الوصف - ولاستحالة ارتفاع النقيضين مع وقوع الخلاف في المفهوم، واتفاق الكلمة على عدِّه في المخصصات.

وكذا الكلام في الشرط والغاية والبدل، فجوابه ما عرفت من كون التخصيص عبارة

ص: 138

عن قصر العام على بعض أفراده، لا أنه عين الإخراج، إنما ذلك لازمه عند مثبت المفهوم دون العكس، فافهم.

إنما الخلاف في جواز التخصيص بمفهوم المخالفة بناءً على ثبوته، الأظهر الجواز؛ لأنَّه كالمنطوق في الحجية، بل دلالة اللفظ على المفهوم أظهر من دلالته على المنطوق؛لأنّه المقصود بالإفاده، فلا إشكال في تخصيص العام بمفهوم المخالفة - على تقدير القول بثبوته في قبال العام وعدم التصرّف في ظاهر الجملة الشرطية والأخذ بظهورها _ ولكن الإشكال في تحقيق أنَّ الجملة الشرطية أظهر في إرادة الانتفاء عند الانتفاءبينهما، أو العام أظهر في إرادة الأفراد منه؛ فإنَّ الأظهر هو القرينة على التصرّف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل؟

الأظهر أنَّ العام هو الأظهر دلالةً في شموله لمحل المعارضة إذا كان العام متصلاً بالجملة الشرطية.

وقد قالوا (1) بذلك في معارضة منطوق التعليل في آية النبأ مع المفهوم بالنسبة إلى خبر العدل الظني؛ فإنَّ قضية عموم التعليل عدمُ الاعتماد على الخبر الظني، ومقتضى المفهوم ثبوته، وعموم التعليل أظهرُ.

وأمّا إذا كان غير متصل - كما في معارضة المفهوم المذكور مع العمومات (2) الناهية عن العمل بغير العلم - فالجملةُ الشرطية أظهر من العام، فيقدم ظهورها على ظهوره؛ لأنَّ مرجع الكلام إلى تعارض الظاهرين.

والحقِّ ،أنه لا ميزان في البين للأظهرية، وتختلف بحسب المقامات، وإنْ كان كلٌ من العام وما له المفهوم يصلحُ لأن يكون قرينة متصلة للتصرّف في الآخر.

والتحقيقُ ، أنَّ الدلالة على كل منهما إن كانت بالإطلاق فلا عموم ولا مفهوم؛لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما ؛ التزاحمهما كما لو زاحم ظهور أحدهما وضعاً لظهور

ص: 139


1- الكلانتري، مطارح الأنظار : ٢/ ٢١٥ - ٢١٦.
2- الآمدي، الأحكام: 2/ 238؛ الشيخ حسن، معالم الدين: ١٤٠؛ الحائري، الفصول الغروية: ٢١٢.

الآخر وضعاً فلا دلالة بالإطلاق، فالمرجع حينئذٍ فيما دار بين العموم والمفهوم إلى الأصول العملية، وهذا مع عدم كون أحدهما أظهر، ولو كان أحدهما أظهر كان مانعاً من انعقاد الظهور أو استقرار الظهور في الآخر، فيكون الأظهر، وهو المرجع وعليه المعول، فافهم وتأمل.

[ التخصيص بالمخصص المنفصل]

وأمّا المخصص المنفصل فلا خلاف في تخصيص الكتاب بالكتاب وبالخبر المتواتر كما يجوز تخصيصه بهما عند المحققين (1).

وأمّا تخصيص العام الكتابي بالخبر الظني فالحقُّ، جوازه أيضاً؛ لاستقامة الطريقة خلفاً عن سلف على العمل بأخبار الآحاد المعتبرة في قبال العام الكتابي، فالإجماع على العمل بالخبرالمخالف لعموم القرآن محقق بالقطع واليقين.

ودعوى أنَّ ذلك لعله لاحتفاف الخبر بقرينة قطعية مدفوعةٌ بما ذكره الشيخ عند احتجاجه بعمل الصحابة على حجية الأخبار بأنه تعويل على ما يعلم ضرورة خلافه،ولا يحسن مكالمة مدعيه (2).

أقول: تقديم الخاص على العام - المفروض حجيتهما _ ضروريٌ، وقول: إنَّ القطعي لا يعارضه الظني في المقام غلطٌ ؛ فإنَّ الكتاب قطعيٌ من حيث السند، والخبر ظنيٌ من حيث السند، ومن هذه الحيثية لا تعارض بينهما.والكلامُ من حيث الدلالة وهما ظنيان؛ فإن أصالة الحقيقة في العام يجبُ الأخذ بها ولكن يجبُ تقديم ما هو صالح للقرينة عليها، وقد فرضنا أنّ خبر الواحد صالح لذلك سنداً باعتبار العلم بحجيته، ودلالةً؛ لأنَّه الخاص المفروض

ص: 140


1- الرازي ،المحصول: 77/3؛ الآمدي، الأحكام: 318/2؛ السيد المرتضى، الذريعة: ٢٧٩/١؛ الشيخ الطوسي، عدة الأصول : ٢ / ١٣٤ ؛ المحقق الحلي، معارج الأصول: ٩٥-٩٦؛ القمي،القوانين: 308/2.
2- الشيخ الطوسي، عدة الأصول: ٣٤٦.

حجيته فيقدم على أصالة الحقيقة في العام، سواء كانت حجيتها من باب التعبد أو من باب الظن؛ لأنَّها مقيدة بعدم قيام ظن معتبر على خلافها، وقد قام الظن المعتبر على خلافها في العام، وهي في العام غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره، على أنَّ التحقيق أنَّ ما جاء من طريق شركاء القرآن إنما هو بيانُ المراد من عموماته وإطلاقاتها، ولا تعارض بينهما عند أهل العلم بالقرآن، فافهم.

وقد استدل المجوّزُ والمانعُ بوجوه لا ينبغي التعرّض لها؛ لضعفها وقصورها، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى.

في تعارض العام والخاص

فاعلم أنَّ الخاص المخالف لحكم العام إن كان وروده مقارناً لورود العام فهو مبينٌ للعام عرفاً، من غير فرق بين العامين من وجه وغيره، سواء كانا ظنيّين، أو كان العام قطعياً والخاص ظنياً، أو العكس، سواء قلنا باعتبار أصالة الحقيقة من باب الظن أو من باب التعبد ؛ لكون أصالة الحقيقة في العام مقيدة بعدم ورود الظن بخلافها، وهكذا لو سبق ورود الخاص أو تأخر وكان وروده بعد العام قبل حضور وقت العمل به، فهو في كل هذه الصور مبينٌ ومخصص.

وإن كان زمان الحاجة بالعام قبل الخاص كان الخاص ناسخاً، لا مبيناً ولا مخصصاً؛ لئلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كان العام وارداً لبيان الحكم الواقعي، وإلاّ كان الخاص مبيناً له ومخصصاً أيضاً كما هو الغالب.

وأمّا إذا كان ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص، فيُحتملُ الأمران: تخصيص الخاص للعام، ويحتمل أن يكون العام ناسخاً للخاص، وأنّ الأظهر تخصيص الخاص؛ لكثرته وشيوعه وقلّة النسخ وندرته في الأحكام، ومن هنا حكموا بالتخصيص عند الجهل بتاريخ الدليلين، والتردد بين ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام أو قبل حضوره؛ لأنَّ كثرة التخصيص وندرة النسخ توجبُ الظن بالتخصيص، وإلحاقه بالأعمّ

ص: 141

الأغلب على إشكال؛ لأنَّ الحمل على البيان والتخصيص إنما يكون إذا كان ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاص؛ لظهور الخاص حينئذ في الدوام، وأما مجرد الظن بالتخصيص لا دليل عليه ؛ إذا لم يوجب ظهور الخاص بالدوام، فالمرجع حينئذٍ الأصول العملية في مثله، فتأمل (1) .

وإذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر فخصص الأعم من وجه بالمرجح الذي له إنْ کان.

وإن وردا بعد وقت العمل فالثاني مخصص بالأول.

ولو ورد عام وخاصان فلا يخصص أحدهما بالآخر (2)، بل تكون نسبته لهما على حدّ سواء.

مبحث المطلق والمقيد

الحقُّ، أنَّ المطلق موضوع للماهية من حيث هي هي، المبهمة المعراة عن سائر الطوارئ بالکیة حتی (اللا بالشرطية)، فتعريفه ب_:(ما دلّ على شائع في جنسه) (3) غلطٌ، إلّا أن لا

يراد به التعريف مطلقاً، بل شرح الاسم بما هو أقرب إلى ذهن السامع لا إلى الوضع، فالمطلقُ مهمل كالمجمل في غير مورد البيان؛ لخروج الشياع والسريان وكل الطوارئ عنه وضعاً، فلو أريد به أحد الطوارئ فلا بدّ من نصب قرينة حالية أو مقالية أو دليل الحكمة أعني إحراز كون المتكلّم في مقام البيان لتمام مراده، دون البعض ودون القدر المتيقن، فإذا أحرز أنه في مقام بیان تمام مراده أخذ به على الإطلاق، وإلا فإن كان له جهات وأحرز كونه في مقام بيان الجهة الفلانية فيؤخذ به في مورده خاصة، إلّا أن تكون ملازمة بين الجهة التي هو في بيانها مع الجهات الأُخر.

ص: 142


1- في نسخة ب: في مثله مطلقاً.
2- في نسخة ب :بالأخير.
3- الشيخ حسن، معالم الدين: ١٥٠ ؛ الشيخ البهائي زبدة الأصول: ١٤٣.

والمقيدُ ما يقابل المطلق، وهو : ( ما دل على الماهية بقيد من قيودها، أو ما كان له دلالة على شيء من القيود).

واعلم أنّ ما ذكرناه في التخصيص للعام فهو جارٍ في تقييد المطلق، وحمل المطلق، على القید.

مع اتحاد الحكم لا مع تعدده وكان ما يوجبه متحداً لا تعدد له.

وبعبارة أخرى : أن يتفقا في السبب والحكم فيحمل أحدهما على الآخر سواء اختلفا في الإثبات والنفي أو توافقا. ومن الأول : (اعتق رقبة، ولا تعتق رقبة كافرة)، ومن الثاني: (اعتق رقبة إن ظاهرتَ، واعتق رقبة مؤمنة إنْ ظاهرتَ)، أو مجرّداً عن ذكر الموجب، فإنّ العرف يحكمون أنَّ المراد بالمطلق هو المقيد، وأنَّ هذا الحمل بيانٌ للمطلق وهو راجع إلى التقييد، فالعمل بالمقيد متعين للجمع بينهما مع كثرة التقييد ومساعدة العرف عليه، ولعل السرَّ أظهرية إطلاق الأمر في الإيجاب من ظهور المطلق في الإطلاق كي يحمل الأمر في المقيد على الاستحباب، فافهم.

والمطلق حقيقة في المقيد

على التحقيق؛ لما عرفت من معنى المطلق، وأن مدلوله الماهية المجردة، فهي صالحة للإطلاق والتقييد من جهة التجرّد، فكما أنَّ الإطلاق ليس مدلول المطلق حتى يكون استعماله في المقيد مجازاً، كذلك الماهية المقيدة ليست مدلول المطلق، بل مدلول الماهية المجرّدة، فالمطلق في ضمن المقيد متحقق قطعاً، فهو حقيقة فيه.

والحقَّ أنه مبين له لا ناسخ، والحمل على المقيد إنما هو في الواجبات دون غيرها المستحبات؛ فإن حمل الأمر بالمقيد في المستحبات على تأكيد الاستحباب عند أهل العلم بالفقه.

ص: 143

في المجمل والمبين

والمجمل في اللغة: المبهم، من أجمل الأمر إذا أبهم (1) . وأسدُّ تعاريفه: أنه ما دل دلالة لا يتعين المراد بها إلا بمعين سواء كان عدم التعيين بوضع اللغة، أو بعرف الشرع، أو بالاستعمال (2).

والمبيّنُ لغةً : المظهر، من بانَ إذا ظهر. وفي الاصطلاح هو الدال على المراد بخطاب لا يستقل بنفسه في الدلالة على المراد، كقوله تعالى مبيناً للبقرة الصفراء: ﴿فَاقع لَّوْنُهَا ﴾ (3) .

والإجمال أقسام وأنواع:

الأول : الإجمال حال الأفراد الاسمية، وهو إما يكون بتصريفه نحو: (قال) من القول والقيلولة، و (المختار) للفاعل والمفعول وإما أن يكون بأصل وضعه، فإما أن تكون معانيه متضادة كالقرء للطهر والحيض والناهل للعطشان والريان أو متشابهة غير متضادة، فإما أن يتناول معاني كثيرة بحسب خصوصياتها فهو المشترك، وإما بحسب معنى تشترك فيه فهو المتواطئ.

الثاني: الإجمال في الأفعال ك (عسعس) بمعنى أقبل وأدبر.

الثالث: الإجمال في الحروف، كتردد الواو بين العطف والابتداء.

الرابع:الإجمال حال التركيب، كما في قوله تعالى: ﴿أَوْ يَعْفُو الَّذِي بيَده عُقْدَة النكاح)(4) ؛ لتردده بين الزوج والولي.

الخامس: الإجمال في مرجع الضمير والصفة، وفي تعدد المجازات المتساوية مع مانع يمنع من حمله على الحقيقة.

ص: 144


1- الفيومي، المصباح المنير : 110 ؛ الجوهري، الصحاح : ٤ / ١٦٦٢ ؛ الطريحي مجمع البحرين: ٤٠٢/١ .
2- الآمدي، الأحكام 8/3؛ الشهيد الثاني تمهيد القواعد 232؛ الكرباسي، إشارات الأصول: ٤٠٤/١ .
3- سورة البقرة: ٦٩ .
4- سورة البقرة: ٢٣٧ .

السابع (1): الإجمال في فعل المعصوم إذا فعل فعلاً يحتمل وجهين احتمالاً واحداً.

الثامن (2): فيما ورد من الأوامر بصيغة الخبر كقوله تعالى: ﴿ وَالجُرُوحَ قِصَاصُ ) (3)،وقوله تعالى: ﴿وَالْطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ) (4)، وقد اختلف فيها، فالأكثر على أنها تفيد الإيجاب (5).

وقال آخرون :يتوقف فيها حتى يرد دليل يبين المراد بها (6) .

وأما الموارد التي اختلف في إجمالها، والأظهر عدم اجمالها.

منها: الألفاظ التي علق التحريم على الأعيان، كقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة ) (7)، ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ﴾ (8).

ومنها قوله: (وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) (9)، ذهبت الحنفية [إلى] أنه مجمل؛ لتردده بين الكل والبعض (10)

ومنها: [قوله]: ﴿السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَها) (11)، قال الحنفية بإجمالها (12)،

ص: 145


1- كذا في المخطوطة (أ) ، والصحيح: السادس كما في نسخة ب.
2- كذا في المخطوطة (أ) ، والصحيح : السابع كما في نسخة ب.
3- سورة المائدة: ٤٥ .
4- سورة البقرة: ٢٢٨ .
5- المحقق الحلي، معارج الأصول: ١٠٦ وما بعدها؛ القمي، القوانين: ١٩٦/٢ وما بعدها .
6- الرازي ، المحصول :161/3.
7- سورة المائدة : ٣ .
8- سورة النساء: ٢٣
9- سورة المائدة : 6.
10- حكاه الرازي، المحصول : ١٦٤/٣ ؛ الآمدي، الأحكام: ١٤/٣ .
11- سورة المائدة: 8 .
12- أبو الحسن البصري المعتمد : ٣٣٦/١؛ حكاه عن البعض الآمدي، الأحكام: ١٩/٣، نسبه إلى الأصوليين .

والأكثر على نفي الإجمال (1) ، وهو الأظهر .

ومنها: «لا صلاة إلا بطهور » (2) ، « لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » (3) ، « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» (4) ، « لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) » (5) ، (لا) نكاح إلَّا بولي ) (6) فذهب الباقلاني وأهل الرأي [إلى] أنه مجمل (7) ، والأكثر (8) على نفي الإجمال؛ فإن منها ما هو في نفي الكمال، ومنها ما هو في نفي الصحة مثل: «لا صلاة إلَّا بطهور»؛ لظهوره في أنَّ الصلاة المتلبس بها بغير طهور فاسدةً لا يحصل بها امتثال، سواء كان اسم الصلاة للصحيح أو الأعم. نعم، حمل النفي على نفي الذات مبني على القول بالصحيح.

[تأخير البيان عن وقت الحاجة ]

ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة في ما يحتاج إلى بيان من: مجمل، وعام، ومجاز، ومشترك، وفعل متردد ، ومطلق، إذا تأخر بيانه في الواجبات الفورية؛ لقبحه عند العقلاء، بل حكى الباقلاني إجماع أرباب الشرائع على امتناعه (9) .

وأما تأخيره عن زمن الخطاب فجائز إلى وقت الحاجة إلى الفعل عرفاً وعقلاً وذلك

ص: 146


1- العلّامة الحلي، تهذيب الأصول: ١٦٣ ؛ الشيخ البهائي، زبدة الأصول: ١٤٤ .
2- الصدوق، الفقيه : 1/ 33؛ الشيخ الطوسي، التهذيب : ٥٠/١ .
3- الشيخ الطوسي، التهذيب: ٩٢/١
4- النوري، مستدرك الوسائل : ٤ / ١٥٨ الباب الأول من أبواب القراءة حديث ٥ .
5- ابن أبي جمهور الإحسائي، عوالي اللآلئ : ٣ / ١٣٢ .
6- النوري، مستدرك الوسائل : 1٤ / 317، رقم الحديث: ١٦٨١٣ ، باب ثبوت الولاية للأب والجد للأب مع وجود الأب على البنت غير البالغة الرشيدة وكذا الصبي.
7- الجصاص، الفصول في الأصول: 1/ 351 .
8- الشيخ حسن معالم الدين: ١٥٥؛ القمي، القوانين: ٢٠٦/٢ .
9- لم أعثر على من حكاه عن الباقلاني، لكن نقل الشيخ البهائي في زبدة الأصول: ١٤٥ الإجماع على امتناعه؛ وهو ظاهر السيد المرتضى، الذريعة: ١/ ٣٦١؛ الشيخ حسن، معالم الدين: ١٥٩ .

في الواجبات التي ليست بفورية، حيث يكون الخطاب لا ظاهر له، كالأسماء المتواطئة والمشتركة، أو له ظاهر وقد استعمل في خلافه، كتأخير التخصيص والنسخ ونحو ذلك، والمتتبع لموارد هذه الشريعة الطاهرة يجدها قاضية بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب قضاءً ظاهراً واضحاً لا ينكره من له أدنى خبرة بها وممارسته لها، كما أنه يجوز التأخير على التدريج بأن يبين بياناً أولاً ثم يبين بياناً ثانياً (1) كالتخصيص بعد التخصيص؛ لعدم المانع عن ذلك عرفاً وشرعاً وعقلاً، والكلّ بيان.

ص: 147


1- في نسخة ب: على التدريج بأن يبين بياناً ثانياً.

[الأدلة الشرعية ]

والأدلة الشرعية عندنا أربعة؛ لأنَّ الدليل على الحكم الشرعي: إما وحي أو لا، والأول إما نوع لفظه معجزاً أو لا، والأول الكتاب، والثاني السنة.

وغير الوحي: إما كاشف عن تحقق وحي أو لا، والأول الإجماع، والثاني دليل العقل .

في حجية الكتاب

ولا خلاف بين المسلمين في جواز العمل بظواهره من دون نص، ولم يخالف في ذلك غير بعض الأخبارية (1)، وأدلتهم كلها مدخولة، كيف وقد أنزل الله على رسوله كتاباً عربياً بلسان قومه (2)! وأمر عباده فيه ونهاهم وعلمهم وأوعدهم، وذكر لهم أدلة على وجوده وصفاته الجمالية والجلالية، وقصّ عليهم قصص الماضين؛ ليعتبروا، وغير ذلك، وقد فهم القوم تلك المقاصد منه، وقطعوا بأنَّ الله أراد منهم ما فهموه، ولم يبين النبي الله لهم جميع ما في القرآن، ولم يكن له قيم غيره لله الله ، حينئذ ، وكيف يسوغ لأحد أن يقول : إن الله ألغزَ وعمّى وأحال البيان إلى النبي الله ، بل إلى من يجيء بعد البعثة بقرب من ثلاثمئة عام؟!

وقد علم الإمام الاستدلال به، ووقع الاحتجاج به من الرواة، وأقروهم الأئمة، وقد أقمتُ الحجج والبراهين على الحجية، وعلى دفع شبهة هؤلاء الحشوية في كتابي: « قاطعة اللجاج في إبطال طريقة أهل الاعوجاج بما لا أعرفُ أحداً سبقني إلى ذلك .

في الإجماع المحصل

وهو الاتفاق في حكم للأصحاب الكاشف عن قول المعصوم، سواء كان من الكل أو البعض، والعلم بالإجماع لأهل العلم بالفقه والحديث ليس بذلك الصعب؛ فإن من يطلع على مقالة خاصة إمام وبطانته ومن يدين الله تعالى بطاعته من جلّ أصحابه عَلِمَ بحكم العادة

ص: 148


1- محمد أمين الاسترآبادي، الفوائد المدنية : ٢٦٩-٢٧٠، الفاضل التوني، الوافية : ١٣٦ .
2- إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ....) سورة ابراهيم: ٤.

أنَّ تلك مقالته علیه السلام. انظر إذا رأيتَ الطبقة الأولى والثانية من أصحاب أبي عبد علیه السلام يقولون بفتيا، أتراك ترتاب في أنهم إنما صدروا بذلك عنه علیه السلام ؟ وحصول العلم باتفاق جميع أصحابه أو جلّهم أوضح من أن يخفى أو يحتاج إلى بيان.

ثمَّ إِنَّ ذلك كما يكون في أيام ظهور أصحاب العصمة علیه السلام يكون في الغيبة؛ وذلك بتتبع قادتهم في أصولهم في الحديث؛ الجريان عادتهم بالأخذ بما يعقدونه من الأبواب؛ فإنَّ عنوان كل باب فتوى، فإذا وجدنا حكماً في عنوان باب في أصل من الأصول حصل لنا ظن، ثم إذا وافقه أصل آخر قوي ذلك الظن، وهكذا إلى أن يصل إلى مرتبة يحصل عندها القطعُ بأنه عينُ ما حكم به المعصوم، ويختلف ذلك باختلاف مكانة أصحاب الأصول في العلم والتقوى وعدم النقل بالمعنى ونحو ذلك، ولعل أكثر ما في كتب السيد والشيخ والمحمدين (1) ومن قاربهم من ذلك، وربما كان من كتب الفتاوى ما يدعيه من جاء بعد ذلك كالمحقق والعلّامة والشهيد ،وغيرهم كذا أفاده السيد المحقق في المحصول (2)، وهو القول الفصل. ودعوى صاحب المعالم تعذرُ حصوله في هذه الأعصار غريبة، وقد زيّفها سلطان العلماء في حاشيته (3)، فراجع.

وقيل: إن طريق الكشف عن قول المعصوم عند القدماء منحصر باتفاق كل العلماء؛ لأنَّه سيدهم، فيقطع بموافقته من إجماعهم، ويعلم قوله إجمالاً (4)، فلا دور كما هو ظاهر.

ومن هنا لزمهم القول باعتبار مجهول النسب، وقد عرفت المنهج الصحيح في طريق الكشف عن قوله. وكان كلامهم في الإجماع .الدخولي وطريقة الشيخ في الإجماع قاعدة

ص: 149


1- في نسخة ب السيدين والمراد بالسيد هو السيد المرتضى وبالشيخ هو الشيخ المفيد وبالمحمدين هو المحمدين الثلاثة: محمد بن يعقوب الكليني، ومحمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق و محمد بن الحسن الطوسي (رضوان الله عليهم أجمعين).
2- السيد محسن الأعرجي، المحصول : 2/ 320 .
3- سلطان العلماء، حاشية معالم الدين: ٢٤٢ وما بعدها .
4- العلّامة الحلي، تهذيب الوصول : 201؛ القمي، القوانين : ٢ / ٢٣٤ ؛ الحائري، الفصول الغروية: ٢٤٣.

اللطف المعروفة (1) .

وفيه بحث ونظر، فالطريق منحصر في النقل والتتبع على النحو الذي أوضحناه،الموجب للقطع بقول الإمام علیه السلام.

[ حجية القطع ]

والقطع حجة بنفسه عقلاً، وطريق إلى الواقع كالمرآة، أو كالشمس في الكشف للعين، يستحيلُ النهي عنه شرعاً وعقلاً؛ للزوم التناقض من حيث المورد، ومن حيث السبب، ومن حيث القاطع ؛ ولكون الإطاعة حسنة لا تقبل المنع ، كما أن مخالفة القطع قبيحة لا تقبل الترخيص، ولا أتم منه في الكشف الذاتي، وهو المانع من تصرف الشارع فيه نفياً أو إثباتاً؛ لأنَّه بنفسه طريق للواقع، فلو كانت حجيته بجعل لزم الدور أو التسلسل؛ فإن الأمر بمتابعته لا يوجب التنجز؛ لوجوده الواقعي، فلا بد من العلم بالأمر ، وهذا العلم يحتاج إلى الأمر وهكذا، فإما أن يدور أو يتسلسل كما هو ظاهر، ولا يسمى حجة عرفية إِلَّا مجازاً؛ لأنَّ الحجة في الاصطلاح ما يستلزم القطع بالمطلوب.

نعم، قد يؤخذ طريقاً في موضوع حكم شرعي ويكون وسطاً، لا حجة لحكم آخر، وقد يكون موضوعياً صرفاً لم يلحظه الشارع إلا من جهة كونه صفة خاصة، وقد يكون تمام الموضوع كما لو رتب الحرمة على مقطوع الخمرية بما هو مقطوع الخمرية أصاب الواقع أم لا، فأقسامه أربعة:

طريقٌ صرف، وهو الموضوع عقلاً الذي لا تناله يد التصرف عقلاً وشرعاً، وموضوعيٌ صرف، وموضوعي طريقي من أي وجه كان، وتمام الموضوع.

ص: 150


1- لشيخ الطوسي، العدة: ٦٢٩/٢ وما بعدها

[قيام الأمارات مقام القطع الطريقي]

تقوم الأمارات وبعض الأصول مقام [القطع ] الطريقي الصرف بلا كلام، وتقوم مقام [القطع ] الموضوعي الطريقي على الأصح وفاقاً للشيخ (1) والسيد الأستاذ (2)، وقد أوضحه سيدنا الأستاذ قدس سره: بأنه إذا اعتبر العلم من باب طريقيته وكاشفيته في شيء، كأن يقال: (الخمر إذا علمت بها فاجتنبها ) ( وقام الدليل على طريقية شيء كالخمر) (3) فالظاهر أنه يقوم مقام العلم، فإذا أخبر المخبر بأنَّ المائع الخاص خمرٌ وجبَ اجتنابه، وتوضيح ذلك يتم ببيان أمور (4):

[الأمر] الأول: لا يخفى أن المراد من أخذ العلم من باب الطريقية ليس بأن يستعمل العلم في غير معناه كالكاشف والطريق ونحوهما، بل هو مستعمل في معناه وهو الاعتقاد الجازم (5) ، لكن اعتبار الاعتقاد الجازم قد يكون بملاحظة الخصوصية فيه غير الانكشاف للواقع ، (وقد يكون بملاحظة انكشاف الواقع ) (6) وإن كان انكشاف الواقع ليس إلا بالعلم فلا يقتضي اعتباره من جهة انكشاف الواقع استعماله في غير معناه، بل انكشاف الواقع ليس إلا بالعلم.

فالعلم _ وهو انكشاف الواقع واقعاً - إذا كان مأخوذاً في الشيء من تلك الجهة لا من جهة خصوصية أخرى مأخوذة فيه ككونه خصوص اليقين فيلحظ فيه خصوصية اليقينية التي هي غير جهة الكشف، وإن كان موجوداً معه إلا أنه لم يلحظ فيه ولم يعتبر لأجل تلك الخصوصية التي هي أمر خاص غير وصف الكشف؛ فإنه لو اعتبر تلك الخصوصية التي

ص: 151


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ١/ ٣٤ .
2- الروزدري، تقريرات المجدّد الشيرازي: ٢٥١/٣ وما بعدها .
3- ما بين القوسين لم ترد في ب.
4- لم يذكر إلا أمراً واحداً .
5- المقداد السيوري، إرشاد الطالبين: ٩٦ .
6- ما بين القوسين لم ترد في ب.

ليس من جهة الكشف يصيرُ كسائر الأوصاف والأمور المعتبرة في الأشياء التي يحتاجُ قيام شيء آخر مقامه إلى دليل تنزيل مخصوص کدلیل تنزيل التراب منزلة الماء (1).

بخلاف ما لو اعتبر لأجل طريقيته وكاشفيته؛ فإنَّ دليل طريقية الطرق يكفي في قيامها؛ لأنَّ المفروض اعتباره من جهة الكشف، فكل ما جعل كاشفاً يقوم مقامه؛ لأنه كاشفاً، والموضوع حقيقة الواقع المحرز بالطريق التام ولو بالجعل، فإذا ثبت كون الظن طريقاً بحكم الشارع ترتب عليه الأثر؛ لتحقق موضوعه ولو تنزيلاً، ولا يحتاج ذلك إلى لحاظه باللحاظين المتضادين كما زعمه بعض أفاضل العصر (2)؛ إذ لا لحاظ إلّا كونه مرآة صرفاً وطريقاً محضاً إلى ذات المتعلّق من حيث هي لا إلى حكمه حتى يتوجه إشكال الاستعمال في متضادين، لكن هذا البيان لا يفي بقيام مثل الاستصحاب مقامه، فالأولى أنْ بالجعل يصير يقرر هكذا :

تقرير قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي

العلم إذا أخذ طريقاً ومن جهة حصول المعلوم عند العالم وله سواء أخذ لصرف ترتيب حكم متعلّقه؛ لأنَّ متعلّقه ما لم يحصل عند العالم ليس عليه دلالة ترتيب حكمه، إذا اشترط في حصول الحكم حصول الشيء عند العالم، والمفروض أنَّ في الواقع والحقيقة لا يكون حصول الشيء عند المكلف إلَّا ما يعلم ، يعني أنَّ العلم هو الحصول عنده، والحصول عنده ليس إلا العلم إلا أنه إذا ادعى مرتبة من الحصول الظني أنه ذلك الحصول العلمي وأنه الحصول الواقعي ادعاءً عند المكلف لزم ترتيب حكم المتعلّق؛ إذ الحكم الذي يتوقف حصوله على الحصول عند المكلف فذلك إدخال موضوعي بجعل ذلك الحصول حصولاً

ص: 152


1- كرواية الحسين بن أبي العلاء قال: سألت أبا عبد الله علیه السلام عن الرجل يمر بالركية وليس معه دلو؟ قال: ليس عليه أن ينزل الركية، إنّ رب الماء هو رب الأرض، فليتيمم. الكليني، الكافي: ٣ / ٦٣، باب الوقت الذي يوجب التيمم، ومن تيمم ثم وجد الماء، حديث ، وغيرها من أدلة طهورية التراب.
2- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٢ / ٢٤٨.

علمياً بالادعاء، والإغماض عن احتمال الخلاف، وإذا حكم بالبناء على المتيقن فالعمل بهذا الحكم - أعني البناء على البقاء - حصول للبقاء عندك بحسب ذلك الحكم؛ فإنَّ ما هو الحكم الباقي حاصل عندك جزماً، فقد حصل ما هو الواقع الجعلي الشرعي، ولما لم يكن المقصود إلَّا حصول الواقع فقد حصل أو ما [هو] بمنزلة الواقع وقد حصل، فقد ثبت ما نحن بصدده من قيام الاستصحاب مقام العلم الطريقي.

ولا فرق أيضاً بين أن يكون الحكم للمعلّق ويكون الاستصحاب لإحرازه، أو للمعلّق بوصف كونه حاصلاً عندك؛ فإنَّ بالاستصحاب حصولاً عندك، وهو بمنزلة ،المتعلّق فالحصول بوصف كونه حاصلاً.

[ أقسام الظن]

وللظن أقسام القطع وزيادة (1)؛ لأنه قد يكون طريقاً صرفاً، وقد يكون موضوعاً، والموضوع تارةً يتصور أخذه من حيث الكشف، وأخرى من حيث قيامه بالمكلف، وعلى التقديرين فتارةً يتصور جزءاً للموضوع، وأخرى تمام الموضوع، والأول لا بدَّ أنْ يكون موضوعاً لحكم متعلّقه؛ حيث إنَّه لم يحرز به متعلّقه؛ فلا بد من توسيطه، فهذه صور تسع في الظن، والكل لا تخلو عن الموضوعية إلا ما كان طريقاً صرفاً إلى نفس الأحكام؛ لوجوب الامتثال بحكم العقل، فيكون منجعلا حينئذ كالعلم بعد اجتماع شرائط الحكم، وذلك الظن المعتبر بدليل الانسداد الكلي أو الجزئي بناءً على تقرير الحكومة لا الكشف ولا يكون وسطاً لترتب آثار متعلّقه؛ حيث إنَّ الحكم الظاهري المترتب عليه كأنه من إلزام العقل، لا بجعل الشارع إرشاداً من العقل لتحصيل الأمن من الضرر المترتب على المخالفة.

ص: 153


1- فالقطع أقسامع أربعة والظن أقسامه تسعة.

وأما مسألة التجرّي

فإن كان النزاع في استحقاق العقوبة وعدمه فالمسألة كلامية، وإن كان النزاع في ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح أم لا ؟ فالمسألة أصولية يستدل بها على حكم شرعي، وإن كان النزاع في أنَّ ارتكاب ما قطع بحرمته هل هو حرام شرعاً أم لا؟ فالمسألة فقهية.

والحق في تحرير محل النزاع فيها ما أفاده سيدنا الأستاذة قدس سره (1)، وهو: أن التجري والانقياد في نظر العقل والعقلاء في حكم الإطاعة والمعصية في استحقاق فاعلهما المدح والثواب والذم والعقاب أو لا كما يشهد به عنوان المسألة واستدلالهم على الاستحقاق بحكم العقل بقبح التجرّي ؛ فمرجع النزاع على هذا إلى أن الثواب والعقاب من لوازم الإطاعة والمعصية الحقيقيتين، أو هما من آثار مطلق الإطاعة والمعصية وإن كانتا حكمتين (2) ؛ لإتحاد المناط فيهما. وإن كان الظاهر من كلمات بعضهم أن النزاع في أنَّ الفعل غير المحرم ذاتاً هل يقتضي تعلّق القطع به كونه حراماً ومبغوضاً للشارع على أن يكون القطع من الجهات المقبحة والمحسنة؟

والحقُّ عدم اتصاف الفعل بالحرمة الشرعية؛ لأنَّ العناوين المتحققة مع الفعل المتجرى به، منها ما ليس اختيارياً، ككونه شرب ماء مقطوع الخمرية وكونه تجرأ، ومنها ما لا شبهة في عدم تحريمه ككونه مقطوع الخمرية؛ لعدم قابلية هذا العنوان للحكم الشرعي المولوي؛ لأنَّه نظير الحكم بحرمة المعصية ووجوب الإطاعة، فافهم.

والظاهر استحقاق العقاب على التجرّي لا الفعل؛ لأنَّ المناط في الاستحقاق الموجود في الإطاعة والمعصية موجود في الانقياد والتجرّي بعينه ضرورة أن ترتب المدح والثواب في الإطاعة ليس لأجل صدور ذات الواجب وتحققه في الخارج، وكذا ترتب الذم والعقاب على المعصية ليس لحصول ضرر من فعل المحرم يترتب على الآمر، بل لا مدخلية لذات الواجب ولا لذات المحرم في الاستحقاق ضرورة عدم عود الضرر والنفع فيها لا إلى نفس الفاعل

ص: 154


1- الروزدري، تقريرات المجدّد الشيرازي: ٣ / ٢٨٠ وما بعدها .
2- كذا في الأصل ولعل الصحيح حكميتين.

ولا إلى الآمر ؛ لغنائه المطلق، فليس إلَّا أن المناط في الاستحقاق عند الإطاعة كونُ العبد واقفاً بحضرته ساعياً في حصول مرضاته، وغير ذلك من العناوين للإطاعة.

وأما عند المعصية؛ فكونه مستخفاً بحق مولاه، وهاتكاً لحرمته بارتكاب مناهيه، غير مبال بمعصيته وترك طاعته، وأمثال ذلك من العناوين التي تكون المعصية بها معصية.

فظهر أنّ المناط في الاستحقاق موجود في التجرّي، فالتجرّي معصية حكمية عند العقل والعقلاء، كما أن الانقياد إطاعة حكمية؛ فالمتجرّي بوصف كونه متجرياً وطاغياً مستحق للعقاب عند العقل، وأقصى ما جاء العفو عن القصد إلى المعصية المؤيد لما حققناه؛ إذ التجرّي المبحوث فيه هتك للمولى في الظاهر ، فهو أعظم من القصد إلى المعصية التي دلت الأخبار (1) على النهي عنها، ولا وجه فيها إلَّا القبح المسبب عن التجري؛ لأنَّ النهي عن القصد ليس إلَّا إرشادياً تعلّق بالقصد؛ لما فيه من الهتك والطغيان، فمراتب التجرّي مختلفة كمراتب الانقياد فظهر فساد توهم تحقق عقابين في المعصية الحقيقية (2)، فافهم.

وما ذكروه من الدليل فإنا نختار ثبوت العقاب على من أصاب دون من أخطأ، ولزوم ابتناء العقاب على أمر غير اختياري غيرُ مانع إلَّا إذا لم يرجع إلى الإرادة والاختيار بالآخرة كما في المقام.

[إنكار الأخباريين لحجية القطع الناشئ من حكم العقل]

وعن جمع من الأخبارية نفي حجية القطع المسند إلى العقل فقط؛ لأنَّه يكثر الخطأ في مبادئ حكم العقل، فإن أرادوا عدم جواز العمل بالقطع بعد حصوله _ كما هو المصرح به من

ص: 155


1- الحر العاملي، الوسائل : ١ / ٥٦:٥٠ أبواب مقدمات العبادة باب ٥ ح ٥ ، باب ٦ ح ٣ ٤ ٤ ٢٢٤ باب ٧ ح ١ - ٥ ، ١٥ / ١٤٨ أبواب جهاد العدو باب ٦٧، ١٦ / ١٣٧ أبواب الأمر والنهي وما يناسبها باب ٥ حديث ٢ ، ١٧ / ٢٢٤ أبواب ما يكتسب به باب ٥٥ ح ٤ - ٥ .
2- الحائري، الفصول الغروية: ٤٣١ - ٤٣٢ .

بعضهم (1) _ فقد عرفت أنَّه لا يعقل النهي عنه. .

وإن أرادوا عدم جواز الخوض في المقدمات العقلية لتحصيل المطالب؛ لما بها من الخطأ فغير مسلّم، على أن الطرق المسلوكة لهم في تحصيل المطالب من الأدلة الشرعية ليست بأقل تلك، ولو جاز طرحها عقلاً لجاز طرح طرق الأحكام الشرعية.

وإن أرادوا عدم تنجز الحكم الشرعي بالقطع المستند إلى العقل فهو غلط صرف؛ لأنَّ العلم المأخوذ في حكم العقل بوجوب الإطاعة غير مقيد بسبب خاص بالضرورة.

وقيل: إن المنفي في كلامهم هو حكم العقل غير المفيد للقطع، وإنَّ كلام السيد الصدر في عدم جواز اتباع غير النقل فيما لا قطع فيه بالحكم، فهم لا ينكرون حجية القطع بالحكم إذا حصل (2)، لكن صرَّح بعض الأفاضل بتصريح بعضهم بعدم جواز العمل بالقطع المستند إلى حكم العقل بعد حصوله (3) .

وقد عرفت أنَّه إذا حصل لا يتفاوت من حيث المورد، ولا من حيث السبب، ولا من حيث القاطع، لا عقلاً ولا شرعاً .

[حجية قطع القطاع]

فالقولُ بعدم حجية قطع القطاع فاسد أيضاً - مطلقاً _ سواء احتمل تصرف المولى في حجية القطع أم لا ؛ لما عرفت سابقاً من كونه حجة بنفسه بلا جعل، وإلا دار أو تسلسل، والمنع من العمل به محال ومستلزم للتناقض ، اللهم إلا أنْ يريد القطع المأخوذ جزءاً في الموضوع، فتأمل (4) .

ص: 156


1- الاسترآبادي، الفوائد المدنية : ٢٥٦ وما بعدها.
2- حكاه الشيخ الأعظم، فرائد الأصول : ٥٩ - ٦٠ عن السيد صدر الدين وهو محمد ابن مير محمد باقر المتوفى في عشر الستين بعد المئة بعد الألف كما ذكره في الذريعة : ١٤ / ١٦٦، والسيد صدر الدين صاحب كتاب شرح الوافية .
3- الفاضل التوني الوافية : 171 - 172-173.
4- في نسخة ب في موضوع مطلقاً.

مباحث العلم الإجمالي

وفيه مسائل:

[المسألة] الأولى : إثبات التكليف بالعلم الإجمالي وتنجزه به.

الحقُّ كفاية العلم الإجمالي في تنجز التكليف المعلوم بالإجمال وثبوت الحكم به على المكلف، وحكم العقل بلزوم الامتثال؛ لصحة المؤاخذة على مخالفة الحكم مع القطع به بين أطراف محصورة، فالعلم الإجمالي علة تامة عند العقل بالحكم بلزوم الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية.

فإنْ قلتَ: قضية صحة المؤاخذة على مخالفته مع القطع به بين أطراف محصورة، وعدم صحتها مع عدم حصرها أو مع الإذن في الاقتحام فيها هو كون القطع الإجمالي مقتضياً للتنجيز لا علة تامة.

قلتُ: أما عدم صحة المؤاخذة مع عدم الحصر فليس لوجود المانع من التنجيز؛ إنما هو لعدم القدرة على الامتثال وعدم التكليف بما يلزم منه العسر والحرج، وأما إذن الشارع بارتكاب بعض الأطراف فكذلك لا يكون من باب المانع من التنجيز؛ إنما هو تعبد بالحكم الظاهري، وجعل أحدهما بدلاً عن الواقع وحكم بكفايته عنه إما تعييناً أو تخييراً فليس في البين تجويز للترك لا إلى بدل فافهم. فافهم.

نعم، العلم الإجمالي بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية مقتض لا علة.

وقيل : إنّ الحكم بالتنجيز تعليقي عند العقل، بمعنى أنّ العقل يحكم بالتنجيز لولا المانع _ وهو إذن الشارع - فالعلم الإجمالي من قبيل المقتضي لا العلة التامة، وفيه نظر؛ لما عرفت.

المسألة الثانية: في كفاية الامتثال الإجمالي.

لا إشكال في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي بالامتثال بأن يوافقه إجمالاً في التوصليات والعبادات ما لم يحتج إلى التكرار، كالتردد بين الأقل والأكثر في العبادة وجاء بالأكثر؛ لحصول الغرض وعدم الإخلال بما يعتبر، بل الأصح كفايته في امتثال العبادة إذا

ص: 157

استلزم التكرار ؛ لعدم الإخلال حتى بنية الوجه لو جهل سمتَ القبلة وصلّى الصلاة المشتملة على الواجب لوجوبه، أقصاه أنه غير معين بخصوصه، على أن اعتبار الوجه كلام شعري لا دليل عليه، والإجماع (1) المنقول على عدم جواز التكرار ممنوع وغير مقبول، فتحصل الصلاة بالثوبين وإلى الجهات الأربع بلا شبهة، كما لا شبهة في عدم لزوم تعيين العبادة المجهولة في الفرض - بالظن المطلق وكفاية الاحتياط الموجب للعلم الإجمالي بالإطاعة، وهو أولى من الظن المطلق الانسدادي ؛ فإن كان تقديم الامتثال الظني بالظن المطلق الانسدادي من جهة اعتبار نية الوجه فقد عرفت إمكانها مع الاحتياط، وعدم اعتبارها عند أهل النظر، بل الحق كفاية الاحتياط وعدم لزوم الظن المخصوص بالامتثال فضلا عن الظن المطلق لزم التكرار أم لا؛ إذ لا وجه له إلَّا اعتبار نية الوجه التي عرفت وجه عدم اعتبارها؛ ضرورة أن العلم الإجمالي بالامتثال أولى من الظن في تحصيل العمل بعد العلم بعدم اعتبار نية الوجه، فلسنا في شك حتى يقال : لا مجرى للأصل في نية الوجه ولا في نية التقرب؛ حيث لا تؤخذ القربة جزءاً أو شرطاً في العبادة؛ للزوم الدور، ولا بأمر آخر؛ للزوم التسلسل، وإنما الحاكم بها العقل؛ لرجوعها إلى كيفية الإطاعة التي هي وظيفة العقل.

[ أقسام العلم الإجمالي]

وللعلم الإجمالي صور وأقسام؛ لأنَّ الإجمال الطارئ: إما من جهة الاشتباه في نفس الحكم مع العلم بالمتعلق تفصيلاً، أو في المتعلق العلم بالحكم كذلك، أو فيهما معاً، والشبهة في الكل: إما أن يكون منشؤها الاشتباه في الحكم الصادر من الشارع على وجه يكون رفعه من وظيفة الشارع ، أو الأمور الخارجية على وجه يكون رفعه بها وليس من وظيفة الشارع، ويكون ما به الإجمال في الأول كلياً، وتسمّى الشبهة فيه حكمية، وصورها ثلاث، وفي الثاني جزئياً، وتسمى موضوعية ومصداقية، وصورها ثلاث.

ص: 158


1- الشيخ الأنصاري ، فرائد الأصول: ٤٠٩/٢ .

جواز المخالفة الالتزامية دون العملية.

ثمَّ منشأ الاشتباه في الأولى : إما عدم النص كمسألة شرب التتن، أو إجماله دوران (1) الأمر في : (حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ (2) بالتشديد والتخفيف، أو تعارض النصين في الخطاب أو متعلّقه، ومنه آية (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بناءً على تواتر القراءات؛ فالصور فيها اثنتا عشرة، ومنشؤه في الثانية: إما اشتباه في المكلف به، وإما في التكليف؛ وطرفا الشبهة في المكلف: إما احتمالان في مخاطب واحد كما في الخنثى، أو في مخاطبين كما في واجد المني في الثوب المشترك؛ فالصور فيها تسع فيكون المجموع إحدى وعشرين صورة.

في جواز المخالفة الالتزامية دون العملية

لا إشكال في جواز مخالفة العلم الإجمالي إذا لم يترتب على مخالفته المخالفة في العمل، سواء كان ذلك في الشبهات الموضوعية أو الحكمية غير أن الأصول في الشبهة الموضوعية تخرج مجاريها عن موضوع التكليف، ولا بد فيها من اتحاد زماني الوجوب والحرمة، وعدم كون أحدهما المعين تعبدياً بأن يكونا توصليين، أو يكون أحدهما غير المعين تعبدياً، أمثلة الشبهة في الموضوع الالتزام بإباحة وطء المرأة المرددة بين من حرم وطأها بالحلف، ومن وجب وطأها به، ومن أمثلة الشبهة في الحكم الالتزام بإباحة موضوع كلي مردد بين كونه واجباً وحراماً.

لا يقال: الالتزام بحكم الله واجب والحكم بالإباحة طرح لحكم الله الواقعي وهو محرم.

لأنا نقول: إن كان المراد وجوب الموافقة لحكم الله فهو حاصل؛ لأنَّ المكلف: إن فعل وافق الواجب وإن ترك وافق الحرمة؛ إنّ المفروض عدم توقف الموافقة على قصد الامتثال. وإن كان هو وجوب الانقياد والتدين بحكم الله فحاصل أيضاً؛ لأنه حينئذ يكون تابعاً للعلم بالحكم؛ لكونه من اللوازم العقلية له، فإن علم به المكلف تفصيلاً وجب التديُن

ص: 159


1- كذا في نسختي المخطوطة والصحيح: (كدوران).
2- سورة البقرة: 222 .

به كذلك، وإن عَلِمَ به إجمالاً وجبَ التدين به والالتزام به على ما هو عليه في الواقع، ولا دليل على وجوب التدين بما يحتمل الموافقة وهو أحدهما لا على التعيين، فافهم.

في حرمة المخالفة العملية

للمعلوم بالإجمال، أما حرمة المخالفة القطعية كارتكاب كلا المشتبهين؛ فلأن التكليف من الخطاب التفصيلي مثل قوله : (اجتنب عن الخمر) متعلّق بذلك المعلوم إجمالاً، وهو الخمر المردد بين الإنائين؛ لأنَّ الأحكام الشرعية ثابتة لموضوعاتها الواقعية من غير اشتراطها بالعلم بها؛ لاستحالة التقييد بذلك ولا بموضوعاتها، فإذا ثبت تعلّق التكليف بالعنوان الواقعي المحرم حكم العقل بوجوب إطاعته؛ دفعاً للضرر المقطوع به المترتب على الخمر المردد.

وأما وجوب الموافقة القطعية؛ فلأنه بعد ثبوت التكليف بالعنوان المردد يتحقق احتمال العقاب بارتكاب أحد المشتبهين على سبيل البدل؛ لاحتمال كونه الحرام الواقعي، ولا قبح على العقاب بعد فرض ثبوت التكليف به، وكما يحكم العقل بوجوب دفع الضرر المقطوع به كذلك يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل، هذا إذا كان الاشتباه في مصاديق الحكم في المكلف به.

أما إذا كان في المكلف فإما أن يكون طرفا الشبهة في المكلف في مخاطبين كما في لمكلف، واجدي المني في الثوب المشترك، أو في مخاطب واحد كما في الخنثى، فإن كان الأول فالأصل في كل من واجدي المني يجري بلا معارض؛ لعدم تنجز الخطاب في حق كل منهما ؛ لإناطته (1) بعلم كل منهما بكونه جنباً، وهو منتف، وليس الجنب المردد بينهما متعلّقاً للحكم وإن ورد أنه يجب الغسل على كل جنب (2)؛ لكون كل منهما شاكاً في توجه هذا الحكم إليه شكاً صرفاً؛ فلا تتحقق المعصية التي هيا المناط في الاستحقاق.

ص: 160


1- في نسخة ب: لا ناطقة.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة : 2 / 173 ، أبواب غسل الجنابة، الباب الأول، ح١ ؛ ٢ ٣٤ ؛ ٤ وغيرها.

أما الخنثى فالأقوى أنها داخلة في الواقع تحت الذكر أو الأنثى لا أنها قسم ثالث؛فحكمُها مع الغير الاحترازُ مطلقاً؛ لأنَّ العلم الإجمالي علة لتنجيز التكليف، فيجب الاحتياط في جميع التكاليف المختصة بكلُّ من الفريقين؛ فالخنثى إذا نظرت إلى كلتا الطائفتين تعلمُ إجمالاً بمخالفتها أحد الخطابين، فيجب عليها ترك اللباس المختص بالرجال واللباس المختص بالنساء.

نعم، لو لم يكن الحكمان المتعلّقان بها إلزاميين بل كان أحدهما إلزامياً والآخر من قبيل الإباحة والرخصة ، فالمرجع فيهما أصالة البراءة؛ لكون الشك فيهما راجعاً إلى الشك في التكليف كما في ستر جميع البدن غير العورة، بناءً على عدم وجوبه على الرجل حتى عن المرأة، وأما حكم معاملة الغير معها فأصل البراءة، كما في واجدي المني في الثوب المشترك؛ فإنهما من وادٍ واحد.

في إمكان التعبد بالظن

والمراد الإمكان الوقوعي، والحقُّ إمكانه عقلاً؛ لعدم ما يحيله بالقطع واليقين.

ودعوى: لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال مردودةٌ: بالنقض بفتوى المجتهد، واليد والشهادة، مع أنَّه لا يلزم من ذلك بالنسبة إلى الحكم الواقعي مخالفةٌ، ولزومُه في الحكم الظاهري لا ضير فيه؛ لأنَّ الأوامر الظاهرية ليست أوامر حقيقية؛ ولأن الملحوظ في موضوعها الشك في الأولية؛ فالعنوانُ المتعلّق للأحكام الواقعية لا يجتمع مع العنوان المتعلّق للأحكام الظاهرية في ذهن الأمر أبداً، مع أنَّ العقل حاكم عند امتناع تحصيل العلم بالرجوع إلى الظن.

نعم، مع إمكانه لا يجوز التعبد بالظن إلَّا إذا كان لحكمة؛ لكونه مفوتاً للواقع، فلا يجوز عند العقل التعبد به شرعاً من غير تدارك عن الواقع، فلا مانع من الأخذ بما دلّ على حجية بعض الظنون.

ص: 161

في جواز اعتبار الأمارات مع إمكان العلم

كما لو كان في الأمر باتباع الظن مصلحةٌ مرجحةٌ يتدارك بها الحكم ما فات؛ ضرورة عدم القبح(1) حينئذٍ بهذا الإلزام، وهذه الحكمة لا تعارض مصلحة الحكم فلا تناقض؛ ولأنها في الأمر لا في الفعل، فلا تصويب على الحكم الظاهري، وليست الأحكام تابعةً للظنون بالضرورة؛ للقطع باشتراك الأحكام بين المكلفين، فكلٌ مكلفٌ بالواقع لكنه لا ينجز إلَّا بالعلم به، ولا فعلية مع عدم العلم به.

نعم، يجب عليه العمل بمؤدى الظن ما لم يظهر خلافه، فإن ظهر مخالفته للواقع لم يجز عمل عليه؛ لأنَّه لا اعتبار به حينئذٍ، ولم يأتِ بالمطلوب إلَّا على القول بالتصويب (2)؛ لأنَّ الظن كاشفٌ فقط وطريقٌ محض، وليس مؤداه حكماً؛ لما عرفت من بقاء الواقع واشتراك الكل فيه، أقصى ما في الظن أنَّ المظنون حكمٌ عذري لا جعل له في نفس الأمر، فالقولُ بوجوب التعبد به على الله في غاية السقوط عند أهل العلم بجعل الطرق الظنية؛ فإنهم يعلمون أنه لا يجعل نفس الفعل، بل الواجب إمضاء حكم العقل.

[الأصل حرمة العمل بالظن]

الأصل حرمة العمل بالظن - إذا لم يكن عن مأخذٍ معتبر - بالأدلة الأربعة المانعة عن الأخذ بمطلق الظن (3).

ودعوى: منع الإطلاق في الخطابات الشرعية الواردة في المنع من الأخذ بالظن، وأنها لم ترد في مطلق الظن بل في ما لم يكن عن مأخذٍ كالظن الحاصل بالحدس والخرص والتخمين،

ص: 162


1- في نسخة ب: عند القبح.
2- التصويب : هو خلو الواقعة من الحكم إلا ما أدت إليه الأمارة، وإن الله تعالى أحكاماً بعدد آراء المجتهدين، فما يؤدي إليه الاجتهاد فهو حكمه تعالى، وقد أجمع أصحابنا على بطلانه. ينظر، الحائري، الفصول الغروية: ٤٠٦ - ٤٠٧ ؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول : ٣٦٤/٣-٣٦٥ .
3- كقوله تعالى: ﴿ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا).

واقتفاء الآثار من غير علم.

ممنوعةٌ بالسنة إلی جمیع الأدلة والخطایات

نعم، بعضها ربما كان مساقه ما ذكر ، لكن ما جاء في المنع من الأخذ بمطلق الظن كثير في الكتاب والسنة (1). وظاهرها حرمة التدين بالظن والتعبد به لا مجرد العمل به من غير تدين ولا استناد؛ فإنه إذا لم يخالف الواقع مع التمكن منه ولا الأصل المعتبر مع العجز عن الواقع فلا دليل على حرمته، خصوصاً إذا كان العمل به عن احتياط وعملاً برجاء مطابقة الواقع ولم يعارضه احتياط آخر، بل كان حسناً ما لم يستلزم طرح ما يجب الأخذ به من الأصول.

نعم، مع الشك في حجية الظن يحرمُ العمل به؛ لأنَّه تعبد بالشك في الحقيقة، والقولُ بأنَّ الأصل إباحةُ العمل بالظن في غاية السقوط كالقول بالتخيير؛ لدوران الأمر بين محذورين الحرمة والوجوب؛ لكفاية عدم العلم بالوجوب بالتحريم (2) . وربما يقرر الأصل بوجوه (3) أُخر مدخولةٌ لا ينبغي التعرّض لها بعد الذي عرفتَ.

ص: 163


1- من الكتاب كقوله تعالى:﴿ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ ﴾ سورة يونس: ٥٩، وقوله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ سورة الاسراء: ٣٦ ، ومن السنة قوله علیه السلام في عداد القضاة من أهل النار: ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم الحر العاملي، وسائل الشيعة ١٨ / ٢٢ ، باب ٤ من أبواب صفات القاضي، ح ٦ . وقوله : «من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه» النوري، مستدرك الوسائل : ١٧ / 2٤٨ ، باب ٤ من أبواب صفات القاضي، ح ١٤ .
2- الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية : 117؛ القمي، القوانين : 2 / 238 وما بعدها؛ ونسب هذا القول إلى المحقق الكاظمي السيد المجاهد، مفاتيح الأصول : ٤٥٢ حيث استفاد هذا القول من كلام الشهيد الأول في الذكرى والعلّامة في المختلف وغيره.
3- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: 128/1 ؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 288-287/2 .

لامعةٌ في الظنون الخاصة التي دل الدليل على اعتبارها بالخصوص

منها: حجية الظن في تشخيص المراد في ظواهر الألفاظ كالأخذ بالإطلاق إذا لم يكن شائعاً في فرد، والأخذ بالشائع، والحكم بالعموم مع عدم المخصص والأخذ بالمخصص حيث وجد، والأخذ بأصالة الحقيقة عند احتمال غير الموضوع له اللفظ، وقد استقامت الطريقة على اعتبار هذه الأصول عند العرف، والشارع أحدهم؛ ضرورة سلوكه الطريقة واستمراره عليها على نحو يوجب القطع بلزوم اتباع ظاهر كلامه في تعيين مراده، ومنعُ بعض هؤلاء الأخبارية من الأخذ بظواهر الألفاظ في الكتاب العزيز _ وقد تقدم تزييفه في بيان حجية الكتاب _ وإن كانوا فيه على ما لا يحسن مكالمتهم فيه مع تواتر الأخبار بالعمل بالكتاب، وما جاء من المنع عن التفسير بالرأي مؤيدٌ لما قلناه لا مانع من الأخذ بالظواهر عند أهل العلم بالمحاورات ،كما جاء التعريض بهؤلاء العامة الذين يتأولون القرآن بما هو خلاف

الواقع.

ودعوى العلم الإجمالي بالصوارف عن الظهور لا يسقطُ الظاهر عن ظهوره بالضرورة، أقصاه أن يوجب العلم بالفحص وعدم العمل بالعام قبل الفحص، وبالمطلق قبل الفحص عن القيد، أما أنَّ الفحص لا يرفع التوقف فكلامٌ ظاهر الفساد؛ ضرورة عدم العلم بالموانع إلّا بالذي بأيدينا ، وقد فرضنا عدم صحة نفيها قبل الفحص، أما بعده لا علم أصلاً؛ فالأصل لا مانع من إجرائه سواء في ذلك ظواهر الكتاب وغيره؛ ضرورة العلم بأنه لم يُلغز بهذه الظواهر حتى لا يعرفه إلّا شركاء القرآن ولا علم بالنهي عن ظواهر الكتاب، فالأصل الإباحة.

ص: 164

وأما تشخيص الوضع بقول اللغوي

فقد نقل عليه الإجماع (1) واتفاق العقلاء، والحقُّ أنه لم يقم عليه دليل قاطع إلى حده، نعم يعتبر فيه ما يعتبر في الخبر لا الشهادة ، اللهم إلّا أنْ يفيد سكون النفس والاطمئنان كسائر الموارد التي يرجع فيها إلى أهل الخبرة؛ فإنها ما لم تفد الظن الاطمئناني لا دليل على حجيتها بالخصوص.

ودعوى: أنه لا يحصل من قول اللغوي الاطمئنان بالأوضاع؛ لأنَّه ليس من أهل ذلك، وإنما خبرته بموارد الاستعمال لا الوضع والحقيقة والمجاز.

ممنوعةٌ : في مثل كتاب «العين» للخليل، و«الجمهرة» لابن دريد، و«أصلاح المنطق» لابن السكيت ، وأمثالهم (2)من أهل العلم باللغة من الشيعة الثقات في النقل عن العرب، نعم صاحب «القاموس» و«الصحاح» إنما يضبطان موارد الاستعمال، أما «أساس البلاغة» فإنما وضع لتشخيص الحقيقة من المجاز كما لا يخفى على الممارس.

{حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد}

ومنها: الإجماع المنقول بخبر الواحد، ولا كلام فيه لكل من قال بحجية الخبر إذا نقل الثقة العدل الضابط السبب والمسبب عن حس.

ودعوى: أنّ نقله كذلك في زمن الغيبة موهونٌ.

في غير محلها، مع الاعتراف بأنه ربما يتفق لبعض الأجلّة التشرف برؤيته علیه السلام وأخذه الفتوى من جنابه وينقل عنه بعنوان الإجماع المحكي؛ لداعي الإخفاء، كما أنه لا ينبغي الريب

ص: 165


1- الشيخ الأنصاري، الفرائد: 1/ 173 - ١٧٤ ، حيث نقل الإجماع عن السيد المرتضى ولم أعثر عليه في الذريعة، نعم نقله السيد محمد المجاهد عن أستاذه قال : (الثاني الإجماع وإطباق العلماء في جميع الأعصار على حجية خبر اللغوي واعتباره من غير توقف ولا إنكار كما أشار إليه السيد الأستاذ والفاضل الخراساني). ينظر مفاتيح الأصول: ٦١ ، ويقصد بالفاضل الخراساني المحقق السبزواري صاحب ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد.
2- کالصاحب ابن عباد.

في عدم حجية نقل رأي الإمام علیه السلام الالها في ضمن النقل حدساً؛ لأنَّ أدلة حجية خبر الواحد لا تشمل الخبر الحدسي، بل تختص بالإخبار عن حس فقط، والأصل إنما ينفي الخطأ الحسي لا الحدسي، وغالبُ الإجماعات الحاكية للأحكام غيرُ ناقلة عن حس، بل الغالب فيها (1) الحدس ،وإن كان الحاكي الشيخ فمعلومٌ أنّ استناده إلى قاعدة اللطف التي لا تتم عندنا ولا جدوى بنقل قول العلماء؛ لعدم الملازمة لقول الإمام ال الا عند المنقول إليه، وعلمُ الناقل بالملازمة لا يجدي عند غير العالم بها.

ودعوى ظهوره في اتفاق كل العلماء المستلزم لقول الإمام علیه السلام.

ممنوعةٌ، أقصاه ظهوره في اتفاق أهل عصره لا أهل جميع الأعصار؛ فإنه المستلزم للعلم بقول الإمام علیه السلام.

نعم، فيهم من إذا حكى الإجماع يمكن حمله على نقل من يعرف بالفتوى، أو أنه فهم من اتفاق علماء عصره اتفاقَ العلماء، ومنهم من يفهم اتفاقهم من العمل بأصل أو خبر أو قاعدة، وكل هذا يدخل في النقل بالحدس الذي لا دليل على حجيته للمنقول إليه.

نعم، نقل السبب مما ينفع المتتبع الذي يريد تحصيل الإجماع كنقل تواتر الخبر لا يفيد التواتر، لكن من الأمارات النافعة للمتتبع.

وبالجملة، المنقول عن حس مع اجتماع شرائط النقل نافعٌ يترتب عليه أثره الذي له.

ص: 166


1- في نسخة ب: منها.

في الشهرة في الفتوى

الحقِّ ، عدم اعتبار الشهرة؛ إذ أقصاه إفادة الظن ولا دليل على حجية الظن المطلق. ودعوى تنقيح المناط الذي اقتضى حجية الخبر _ وهو الظن _ وهو في الشهرة موجودٌ إن لم يكن الظن فيه أقوى مدفوعةٌ :بأنه لو سلّم فهو تنقيح ظني لا حجية فيه أيضاً، وفي العيان ما يغني عن الخبر ، قد رأينا الشهرة (1) على نجاسة البئر بالملاقاة بحيث كادت أن تكون إجماعاً، فلّما حققنا المأخذ فإذا هو الأمر بالنزح غير الملزوم بالنجاسة.

وبالجملة، لا إفادة فيها للظن الاطمئناني تحقيقاً، نعم لو كانت مما توجبه لأمكن القول بحجيتها لبناء العقلاء والإجماع العملي على اعتبار الظن الاطمئناني كما ستعرف في حجية خبر الواحد إن شاء الله تعالى. ومن الغريب الاستدلال بما دلَّ على حجية الشهرة في الرواية على الشهرة في الفتوى ولو بالفحوى (2)، فافهم.

حجية خبر الواحد

لا خلاف بيننا في عدم حجية خبر الواحد من حيث إنَّه خبر واحد، إنما ذاك حجة عند مخالفينا (3)، وهو الذي حكى السيد المرتضى الإجماع (4) على المنع من العمل به كالقياس، وهو

الذي يرويه القوم في مجامعهم (5).

فإنا وجدنا الطريقة مستقيمة على المنع عن ذلك، ومثله الشاذ النادر الذي لم يعمل به أحد، والخلاف بيننا في خبر الثقة والعدل الضابط الإمامي غير المحفوف بإحدى القرائن

ص: 167


1- الفاضل الآبي، كشف الرموز ٤٩/١ ، قال: (ومما يدل على نجاسته فتوى الفقهاء من زمن :النبي صلی الله عليه وآله إلى يومنا هذا بالنزح، فلو لم ينجس لكان اتفاقهم على إلزام المشاق من غير فائدة والقول بالتعبد ضعيف).
2- السيد المجاهد، مفاتيح الأصول: ٤٩٨ .
3- السرخسي، أصول السرخسي : / ١ / ت٣٢١ .
4- السيد المرتضى، رسائل المرتضى : ١ / ٢٤ ،٣٠٩/٣؛ الشيخ الأنصاري، الفرائد: ٢٤٧/١ .
5- کصحيح مسلم والبخاري ومسند أحمد ومالك وغيرهم .

الأربع التي تضمه في المتفق على حجيته عند الكل السيد وغيره.

والحقُّ حجية خبر الثقة المأمون الذي تسكن النفس ويطمئن القلب بصدوره؛ فإنا استقرأنا طريقة صاحب الشرع وأوصيائه الحجج وأصحابهم على اختلاف طبقاتهم والآخذين عنهم طبقة بعد طبقة حتى الآن على العمل بالخبر الذي تطمئن النفس به ويسكن القلب إليه، ويعدون ذلك علماً، وهو كذلك عند العرف والعقلاء، وما جاء في الظن (1) فالمراد به ما يقابل العلم المذكور، أعني ما لم تطمئن به النفس ولا يسكن إليه القلب؛ ولذا تراهم يهتمون في التفتيش عن عدالة الراوي وثقته وضبطه وأمانته، وعند التعارض الأخذ بالأعدل والأصدق وبما خالف القوم، كل ذلك تحصيلاً بما تطمئن به النفس ويسكن إليه القلب، ولا أعرفُ استقراءً قطعياً يوجبُ القطع والجزم على العمل بخبر الثقة المأمون مثلَ هذا الاستقراء، لكنه لا يكون إلّا لمن كان طويل الباع في الآثار والأخبار، والسير والرجال، وقد حكى الشيخ في العدة الإجماعَ العملي على ذلك مع بيان وجه تحصيله بما لا يمكن لأحد إنكاره، قال: (والذي يدل على ذلك إجماع الفرقة المحقة فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم، ودونوها في أصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه، حتى أنَّ واحداً إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على كتاب معروف وأصل مشهور ، وكان رواه ثقة لا ينكر حديثه، سكتوا وسلّموا الأمر في ذلك وقبلوا قوله، وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي علا الله ومن بعده إلى زمان الصادق جعفر بن محمد علیه السلام الذي انتشر عنه العلم وكثرت الرواية من جهته، فلولا أنَّ العمل بهذه الأخبار كان جائزاً لَما أجمعوا ولأنكروا؛ لأنَّ إجماعهم لا يكون إلَّا عن معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو، قال: والذي يكشف عن ذلك أنه لَما كان العمل بالقياس محظوراً في الشريعة عندهم لم يعملوا به أصلاً، وإذا شذ واحد وعمل به في بعض المسائل واستعمله على وجه الحاجة لخصمه وإن

ص: 168


1- السيد المرتضى، الذريعة : 1/ 20؛ المحقق الحلي، معارج الأصول: 28؛ المقداد السيوري، إرشاد الطالبين: ٩٧ - ١٠٤ .

لم يعلم اعتقاده تركوا قوله وأنكروا عليه وتبرؤا من قوله، حتى إنهم ينكرون تصانيف من وصفنا رواياته لّما كان عاملاً بالقياس فلو كان العمل بأخبار الآحاد يجري هذا المجرى؛ لوجب أيضاً فيه مثل ذلك وقد علمنا خلافه) .

ثم استمر يعرض ويجيب ويقرر ويبين إلى أن احتج ثانياً: باختلاف مذاهبهم في الأحكام على حسب اختلاف الأخبار من دون تضليل بعضهم لبعض ولا تقاطع.

وثالثاً: باعتناء شأن الرجال والفحص عن أحوالهم. انتهى ملخصاً.

وقال السيد المحقق في المحصول: (لا شك في أنَّ عمل الطائفة مذ كانت، وافترق الناس إلى شيعي وسني ودونوا الأخبار، ونظروا في الرجال للجرح والتعديل في أيام الصادقين وبعدهما، إنما هو على الأخذ بأخبار الآحاد لا طريقة لهم سوى ذلك، وأقصى همهم التفتيش عن عدالة الراوي، فإذا أصابوا ذلك لم يتوقفوا، اللهم إلّا أن يكون ما يرويه مظنة ريبة كأن يكون خارجاً عن قواعدهم المعروفة لديهم أو لما تقتضيه الأنظار كما جاء في دية الأصابع (1)، أو يكون في أيديهم ما يعارضه أو نحو ذلك، فيرجعون حينئذ إلى الإمام علیه السلام ويقولون: إن فلاناً جاءنا عنك بكذا ، وروى عن أبيك كيت وكيت جرت بذلك عادتهم واستمرت عليه طريقتهم في مدة تزيد على مئتي عام وآية الهدى بين أظهرهم، فلو كان الأخذ بخبر الواحد محظوراً ومما يشك في أمره _ مع عموم البلوى _ لكثر عنه السؤال من جميع الآفاق، ولجاءتك الأخبار بذلك تترى كما جاءت في القياس، ولئن أهملوا السؤال عن هذا الأصل العظيم في هذه المدد المتطاولة فما كان لآل الله أن يهملوا شيعتهم ويقرّوهم على هذا الخطأ وهم بمرأى منهم ومسمع، وقد استمرت طريقة العلماء منهم في تناولهم أن يعمدوا إلى الأصل الذي لا يكونون رووه من قبل فيتناولونه عمن رواه ولو بواسطة لا يزيدون على أن يرويه لهم..) (2).

ص: 169


1- العلامة الحلي، مختلف الشيعة: 382 .
2- المحقق الكاظمي، المحصول: ١٥٨/٢ .

إلى آخر كلامه قدس الله روحه.

والغرض من نقل كلام الشيخ وهذا السيد المحقق بيانُ وجه تحصيل الاستقراء القطعي والإجماع العملي الذي ادعيناه، وهو أسدُّ أدلة المسألة وأتمها، والدليل العلمي الذي يوجب القطع والجزم بالحجية على وجه التعبد والتدين - وإن كانت سيرة العقلاء أيضاً مستمرة على العمل بخبر الثقة وعدّهم ذلك علماً _ إذا كان مما يسكن إليه القلب وتطمئن به النفس، ويكفي في تحصيل رضاء الشارع به في الشرعيات وإمضائه له عدم الردع عنه المعلوم بالضرورة، ضرورة أنه لو كان أقل ردع لاشتهر وبانَ، وليس من ذلك أثر، وهو كافٍ في المسألة أيضاً، فافهم. وأمّا سائر الأدلة التي ذكروها للحجية [ف] لا تخلو من مناقشة..

منها: الاستدلال بمفهوم الشرط في آية النبأ (1) ، بتقريب: أنَّ تعليق الحكم بإيجاب التبين عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق يقتضي انتفاءه عند انتفائه؛ فيكون خبر العدل ذا أثر شرعي حقيقة بحكم الآية، فيجبُ ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، والآية شاملة للخبر الحاكي للخبر: إما بنحو القضية

الطبيعية، أو لشمول الحكم فيها له مناطاً وإن لم يشمله لفظاً، أو لعدم القول بالفصل.

ومنها: آية النفر (2) الدالة على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف، وتثبت حجيته بدونه بعدم القول بالفصل.

ومنها: آية الكتمان: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا ...) (3) إلى آخر الآية؛ فإنّ حرمة

ص: 170


1- وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ سورة الحجرات: ٦ .
2- وهي قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ سورة التوبة : 122.
3- وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ سورة البقرة: ١٥٩ .

الكتمان تستلزم القبول عقلاً، وإلا لزم لغويته بدونه.

ومنها: آية ﴿فَاسْأَلُوا أهل الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ (1) ، فوجوب (2) السؤال يستلزمُ القبول، وإلا لزم لغوية الأمر بالسؤال.

[ الاستدل بالعقل على حجية الخبر ]

واستدل بالعقل على حجية الخبر بوجوه:

[ الوجه] الأول: إن العقل مستقل بلزوم العمل بمقتضى الأخبار؛ للعلم الإجمالي بصدور جلٌ الأخبار التي بأيدينا إلا ما ندر، فكل مظنون الصدور يجبُ العمل به عقلاً عند عدم العلم؛ لاستقلال العقل بلزوم الأخذ بمظنون الصدور عند عدم العلم بالصدور، بل يلزم العمل بكل خبر - مع عدم المعارض - مع عدم العلم بالصدور، ومع التعارض يؤخذُ بمظنون الصدور، أو بمظنون المطابقة للواقع وينبذ المعارض.

وفيه: إن الخبر لا موضوعية له، إنما هو معتبر من حيث كشفه عن الواقع، والعلم الإجمالي بالأحكام غير منحصر بالأخبار حتى نلتزم، بل العلم واليقين بأمارات أُخر غیر الخبر أيضاً متحقق، فنظن أن الأحكام فيها صادرة أيضاً، فلو علمنا من الأخبار مقدار المعلوم يبقى المعلوم إجمالاً في الأمارات الأُخر، فيلزم احتياطاً الأخذ بما يظن فيه الحكم خبراً كان أو غيره، والذي لا يظن في مضمونه الحكم لا أثر له ، والدليل المذكور إنما يقتضي الأخذ بالمثبت للتكليف لا غيره كالنافي، بل لا يقتضي حجية الخبر على وجه يقيد به إطلاق الكتاب أو يخصص به العام منه، ولا يقتضي ترجيح الخبر على غيره من عموم أو إطلاق أو مفهوم؛ لأنّ ما كان اعتباره من باب الاحتياط لا يصرفُ ظهور ما له ظهورٌ عن ظهوره كما هو ظاهر.

[ الوجه] الثاني: ما احتج به الفاضل التوني في «الوافية»، قال ما لفظه: (إنا نقطع ببقاء التکلیف إلی یوم القيامة [لا] سيما بالأصول الضرورية كالصلاة والزكاة والصوم والحج

ص: 171


1- سورة النحل : ٤٣ .
2- في نسخة ب : فإيجاب.

والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أنَّ جلَّ أجزائها وشرائطها وموانعها وما يتعلّق بها إنما تثبت بالخبر غير القطعي، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد، ومن أنكر ذلك فإنما ينكر باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان) (1)، انتهى.

وفيه:إن العلم بالذي ذكرت ليس بمنحصر بما ذكرت من الأخبار، بل في جميع الروايات، فاللازم على هذا الاحتياط أو العمل بكل ما دل على جزئية شيء أو شرطيته.

ودعوى العلم بوجود الصادر بقدر الكفاية بين تلك الأخبار الموجب لانحلال العلم الإجمالي المذكور وصيرورة غيره خارجة عن طرف العلم.

ممنوعةٌ جداً؛ ضرورة عدم الكفاية في ما علم بصدوره أو اعتباره، على أنّ أقصى هذا الوجه العمل بالروايات المثبتة للجزئية أو الشرطية دون الروايات النافية.

وبعبارة أخرى :أقصاه الاحتياط بالعمل بالأخبار المثبتة للجزئية والشرطية فيما إذا لم تقم حجة معتبرة على نفي الجزئية أو الشرطية من عموم دليل أو إطلاقه، لا الحجية بحيث يخصص أو يقيد بالمثبت للجزئية أو الشرطية منها أو يعمل بالنافي في قبال حجة على الثبوت ولو كان ذلك أصلاً من الأصول.

[ الوجه] الثالث :ما أفاده المحقق الشيخ محمد تقي في «الهداية»: بأنا نعلم ضرورة بالتكليف بالأخذ بما في الكتاب والسنة إلى يوم القيامة، فمع التمكن من الرجوع إليها على وجه يحصل لنا العلم بالحكم أو ما بحكمه فهو، وإلا فلا بدَّ من الرجوع على نحو يحصل الظن بالحكم في الخروج عن عهدة ما علمناه من التكليف، فمع عدم التمكن من المقطوع بصدوره أو اعتباره لا بدَّ من الأخذ بالظن بالصدور أو الظن بالاعتبار (2)، انتهى ملخصاً.

وأجيب: برجوعه إلى دليل الانسداد إن أراد بالعلم العلمَ الإجمالي بتكاليف واقعية،

ص: 172


1- الفاضل التوني الوافية : ١٥٩.
2- الأصفهاني، هداية المسترشدين : ٣/ ٣٥٨ .

وإن أراد العلمَ بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار فيرجع إلى الدليل (الأول) (1). والحقُّ أن دعواه العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة، وهذا لا يرجع إلى شيء مما ذكر ، لكن يرد عليه : إنّ مقتضاه الاقتصار في الرجوع إلى ما هو المتيقن الاعتبار من الروايات، فإن وفى وإلا فالمتيقن بالإضافة، وإلَّا فالاحتياط لا لرجوح إلى ما ظن اعتباره، هذا لو سلّم ثبوت ،التكليف الفعلي بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنة، وإنا نمنع ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة بذلك المعنى فيما لم نعلم بالصدور ولا بالاعتبار، فتأمل.

وأمّا حجية الظن المطلق فقد ذكروا له وجوهاً:

{الوجه الأول}: إنّ في ترك المجتهد الظن بالحكم مظنة الضرر، ودفع الضرر المظنون عقلاً واجبٌ.

بيان الصغرى: إن الظن بوجوب الشيء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته. وأما الكبرى فلاستقلال [ العقل ] (2) بدفع الضرر المظنون.

وفيه: منع الصغرى؛ لأنَّه إن قصد من الضرر العقاب فلا ظن به؛ لعدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقاب على مخالفته بالضرورة؛ لعدم الملازمة بين التكليف والعقوبة (3) فإنَّ الجاهل بالحرمة والوجوب لا يستوجب العقاب عقلاً إنما الملازمة بين خصوص معصية التكليف واستحقاق العقاب على المعصية لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها، فمجرد الظن بالحكم من غير دليل يدلُ على اعتبار الظن لا يتنجز به الحكم عند العقل حتى يحكم بأنَّ مخالفته عصيانه.

اللهم، إلَّا أنْ يقال: سلّمنا عدم استقلال العقل بالتنجيز، لكنه لا يستقل أيضاً بعدم

ص: 173


1- الشيخ الأنصاري، الفرائد: ١/ ٣٦٤ وما بعدها؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٣٥٢/٢ .
2- ما بين المعقوفتين من نسخة ب.
3- في نسخة (ب): فلا ظن به لعدم الملازمة بين التكليف والعقوبة.

الاستحقاق ،فيحتمل العقاب على المخالفة، فيبقى دعوى استقلال العقل بدفع الضرر المشكوك كالمظنون خصوصاً إذا كان الضرر هو العقوبة الأخروية لا الدنيوية، فتأمل.

فقد ادعي الإجماع (1) على عدم وجوب دفع العقاب المحتمل والمشكوك، هذا إذا أُريد من مظنة الضرر في الصغرى العقاب، أما لو قصد منه الوقوع في مفسدة الترك فالمنع أيضاً واردٌ عليها، وإن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع في المفسدة لو خالفه، لكن ليست بضرر على كل حال؛ لعدم الملازمة بين كل ما يوجب قبح الفعل من المفاسد وبين كونه ضرراً على فاعله؛ لإمكان أن يوجب حزازة ومنقصة في الفعل يذمُ عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلاً.

وأما لو أُريد تفويت المصلحة (2) فلا مضرة فيه، بل ربما يكون في استيفائها المضرة كما في الإحسان بالمال، فلا مجرى لقاعدة دفع الضرر المظنون في المقام، ولا يستقل العقل بقبح الفعل المحتمل فيه المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة كما هو ظاهر.

{الوجه }الثاني: لا ريب في رجحان ما يظن به، فيلزم الأخذ بموجبه للزوم الأخذ بالراجح وقبح ترجيح المرجوح.

وفيه: إن الأخذ بالمرجوح لا قبح فيه إذا كان أخذه احتياطاً، والأولى في الجواب لعدم لزوم ذلك، نعم لو كان الأخذ بالظن أو بطرفه واجباً مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلاً أو عدم وجوبه شرعاً وحينئذٍ يدور الأمر بين ترجيحه وترجيح طرفه، ولا يدور الأمر بينهما إلَّا بمقدمات دليل الانسداد وإلَّا كان اللازم هو الرجوع إلى العلم، أو العلمي، أو الاحتياط، أو البراءة، أو غيرها، على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلال (3) المقدمات.

{الوجه} الثالث : لا ريب في وجود واجبات ومحرمات بين المشتبهات، فاللازم وجوب الاحتياط بفعل ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً، وترك ما يحتمل الحرمة ولو موهوماً، لكن

ص: 174


1- الآخوند الخراساني، ذخيرة في دليل الانسداد، ٦٥.
2- في نسخة (ب): وأما تفويت المصلحة.
3- في نسخة (ب): في اختلاف.

قاعدة نفي الحرج تنفي هذا الوجوب؛ لكون العسر شديداً والجمع بين قاعدتي الاحتياط وقاعدة نفي الحرج (1) يقتضي العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهونات (2) والجمع بغير هذا كإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهونات مخالف للإجماع، فيتعين الجمع المذكور.

وأنت خبير بأنَّ هذا ليس إلّا بعض مقدمات دليل الانسداد، ولا ينتج ما لم يضم إليه باقي المقدمات ومع الضم فهو دليل الانسداد لا غيره.

و{الوجه }الرابع: هو دليل الانسداد المؤلّف من مقدمات خمس يستقل معها العقل بكفاية الإطاعة الظنية إما على وجه الحكومة أو على وجه الكشف.

المقدمة الأولى: نعلم إجمالاً بتكاليف شرعية فعلية علينا . [المقدمة ] الثانية: وقد انسدَّ باب العلم والعلمي عنها بأكثرها .

[المقدمة ] الثالثة :ولا يجوز إهمالها علينا.

[ المقدمة ] الرابعة: ولا يجب علينا في أطراف ما علمناه إجمالاً، بل قد لا يجوز الاحتياط كما لا يجوز الرجوع إلى الأصول الأربعة في المسائل، ولا إلى فتوى الفقيه بحكمها.

[المقدمة ] الخامسة: لما كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحاً استقل العقل بلزوم الإطاعة الظنية في تلك المعلومات بالإجمال، وإلا لزم بعد انسداد باب العلم والعلمي بها إما إهمالها، أو الاحتياط في أطرافها، أو الرجوع إلى الأصل في كل مسألة منها، أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية، والمفروض بطلان كل واحد منها.

وتحقيقُ الأمر في هذه المقدمات:

هو أن المقدمة الأولى غير تامة؛ إذ لا موجب للاحتياط بعد ما عرفت احلال العلم

ص: 175


1- في نسخة ب: لكن قاعدة نفي الحرج.
2- كذا في نسختي المخطوطة، ولعل الصحيح: (الموهومات).

الإجمالي المذكور بما بأيدينا من الروايات المودعة في الكتب الأربعة وغيرها من المعتبرات.

نعم، الاحتياط في خصوص ما في الروايات، وهو لا يستلزم العسر فضلاً عن استلزام الاختلال، ولا إجماع على عدم وجوبه، ولو سُلّم ففي غير مورد الانحلال.

وأمّا المقدمة الثانية: فالحقّ لا علم بأكثر الأحكام، لكن لم ينسد العلمي؛ للعلم القطعي بحجية خبر الثقة المأمون، وهو بحمد الله وافٍ بأكثر أبواب الأحكام مع انضمامه إلى ما علم منها تفصيلاً كما يعرف ذلك أهل العلم بالفقه.

وأمّا المقدمة الثالثة: فلا كلام في صحتها .

لا يقال: ليس العلم بها منجزاً لها؛ ضرورة لزوم الاقتحام في بعض الأطراف، فلا عقاب حينئذٍ على المخالفة في سائر الأطراف على تقدير المصادفة؛ لأنّه لو كان لكان من العقاب بلا بيان.

لأنا نقول : قد علمنا من طريقة الشرع الاهتمام بلزوم مراعاة التكاليف،ومقتضاه في المقام إيجاب الاحتياط الموجب لمراعاة التكليف ولو بالالتزام ببعض المحتملات، مع الإجماع على عدم صحة الإهمال في هذا الحال، فلا تكون المؤاخذة بلا بيان حينئذ، فتأمل.

وأمّا المقدمة الرابعة: فلا وجه لدعوى استقلال العقل بعدم وجوب الاحتياط في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لا بدَّ من دعوى وجوبه شرعاً؛ لاهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه، بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات، بناءً على ما هو التحقيق في معنى نفي العسر، أعني نفي الحكم الناشئ من قبله العسر، فتكون قاعدة نفي العسر حاكمة على قاعدة الاحتياط؛ لأنَّ العسر الناشئ من التكاليف المجهولة منفي بنفي العسر.

وأمّا ما ذكر من الرجوع إلى الأصول فالجواب: إن الرجوع إلّآ المثبة للتکلیف منها کالاحتياط، واستصحاب التكليف، فلا مانع من الأخذ بها عقلاً مع أَنَّهُ بمقتضى حكم العقل وعموم النقل، بل العلم الإجمالي بالتكاليف، ربما ينحل بالأصول المثبتة، فلا موجب للاحتياط عقلاً ولا شرعاً.

ص: 176

وأمّا الرجوع فيها إلى فتوى الفقيه فلا يصح للفقيه الُمخطِئ لمن يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي؛ لأنّه من رجوع العالم إلى الجاهل حينئذٍ.

وأمّا المقدمة الخامسة: فلا شبهة في استقلال العقل بها، إلّا أن التحقيق عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالية مع دوران الأمر بين الظنية والشكية أو الوهمية؛ لما عرفتَ من انحلال العلم الإجمالي بما في الكتب الأربعة وأمثالها من المجاميع المعتبرة، ومقتضى ذلك الاحتياط بالالتزام عملاً بما فيها من التكاليف: ولا عسر في ذلك قطعاً.

[ اختلاف القائلين بالظن الانسدادي]

ثمَّ اختلف القائلون بالظن من باب الانسداد هل الحجة هو الظن بالحكم، أو بالطريق، أو بهما ؟

أقوالٌ، أقواها الأخير ؛ لعدم التفاوت في نظر العقل في تحصيل الأمن من عقوبة التكليف بين الظن بالواقع والظن بالطريق؛ لأنَّ كل ما كان القطع به مؤمناً في حال انفتاح باب العلم كان الظن به مؤمناً في حال الانسداد، ومعلوم أن القطع بإتيان المكلف به الواقعي بما هو واقعي لا بما هو معلوم ومؤدى الطريق، ومتعلّق العلم مؤمن ومبرئ، فالظن عند العقل كذلك بعد حكمه بالتنزل إليه ؛ لعدم التفاوت عنده في ذلك بين الظنين.

[ حجة القائل بحجية الظن في خصوص الطريق]

احتج القائل (1) بحجية الظن في خصوص الطريق دون الحكم بوجهين:

الأول: إنا كما نقطع [ب] إنا مكلّفون في زمننا هذا تكليفاً فعلياً بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذره، كذلك نقطع بأنَّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقاً مخصوصاً، وكلفنا تكليفاً فعلياً بالعمل بمؤدى

ص: 177


1- الحائري، الفصول الغروية: 277 ،في حاشية المخطوط :وهو لصاحب الفصول.

طرق مخصوصة، وحيث إنَّه لا سبيل - غالباً - إلى تعيينها بالقطع ، ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام طريقه كذلك، مقام القطع ولو بعد تعذره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على حجيته؛ لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع فيما عداه.

وفيه: إنا نمنع نصب الشارع لما ذكر، ولو كان لوصل إلينا؛ لشدة الحاجة إليه، فلعله أحال في امتثال ما أمر به إلى طريقة العرف في ذلك من الرجوع إلى العلم أو الظن الاطمئناني الذي تطمئن به النفس ويسكن إليه القلب، وعند فقده فإلى الظن، فإنه طريق يسلكه العقلاء عند فقد الأولين كالأصل عند عدم الدليل، مع أنَّه لو سلّم أن الشارع نصب طرقاً خاصة للأحكام الواقعية فلا نعلم ببقاء تلك المنصوبات حتى نلتزم بها.

وهب أنا علمنا بنصب طرق خاصة باقية في ما بأيدينا من الطرق غير العلمية، فاللازم الأخذ بالمتيقن منها، فإن وفى بغالب الأحكام اقتصر عليه، وإلا فالمتيقن من الباقي، أي بالتدريج يقدم بعضها على بعض، وإذا لم يكن فيها معلوم يفي وعدم وجود المتيقن بينها بالكلية فاللازم الاحتياط في أطراف تلك الطرق التي ادعي العلم الإجمالي بوجودها لا تعيينها بالظن.

وليس هذا الاحتياط (1) كالاحتياط المنفي، فإنَّ ذلك الاحتياط التام في أطراف الأحكام الموجب للعسر المخل بالنظام، وهذا احتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق الخاصة المعلومة بالإجمال بزعم الخصم التي يريد تعيينها بالظن، ومن خواص هذا الاحتياط جواز رفع اليد عنه في غير موارد تلك الطرق والرجوع إلى الأصل فيها، سواء كان الأصل نافياً أو مثبتاً للتكليف، وكذا إذا كان الأصل مثبتاً لحكم وتلك الطرق كلها نافية له، أو كان التعارض بين فردين من بعض أطراف تلك الطرق فيه نفياً أو إثباتاً مع ثبوت المرجح المنافي، فالمرجع حينئذٍ الأصل، بل ومع عدم رجحان المثبت في خصوص الخبر منها، ومطلقاً في

ص: 178


1- فيه تعريض ببعض الأفاضل حيث أورد على الإلزام بالاحتياط المذكور. (منه قدس سرهُ).

غير الخبر بناءً على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار في غير الأخبار، وكذا لو تعارض فردان منها في الوجوب والحرمة فإنَّ المرجع في ذلك أيضاً الأصل الجاري فيها. وبالجملة، الأصل هو المرجع في جميع موارد تعارض بعض الأطراف ولو كان ذلك الأصل نافياً؛ لعدم وجود طريق معتبر إلى الحكم، ولا ما هو من أطراف العلم الإجمالي بالطريق على خلافه.

ثمَّ لو سلمنا عدم لزوم الاحتياط في أطراف الطرق ولزوم التنزل إلى الظن فلا وجه للالتزام بخصوص الظن بالطريق.

ودعوى: كون الظن بالطريق أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع من الظن بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجية الطريق أصلاً ومن الظن بالواقع. واضحةُ الفساد كما هو

ظاهر .

ودعوى: الأقربية من الظن بالواقع من جهة توهم صرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدى الطرق ولو بنحو التقييد أعني تقييد الواقع بمؤديات الطرق.

فاسدةٌ قطعاً؛ إذ الصرف لو لم يكن تصويباً محالاً فلا أقل من كونه مجمعاً (1) على بطلانه؛ لما عرفتَ من أن القطع بالواقع إنما يجدي في الإجزاء وبراءة الذمة بما هو واقع لا بما هو مؤدى طريق القطع ، والظن عند العقل مثل العلم بناءً على الانسداد، فلا فرق بين الظنين، فالصرف والتقييد مخالف لما يقتضيه نصب الطرق، على أن التقييد لا يجدي الخصم؛ لأنّ الظن بالواقع لا ينفك عن الظن بكونه مؤدى طريق معتبر.

والظنُ بالطريق ما لم يظن بإصابة الواقع لا ثمرة فيه بناءً على التقييد؛ لعدم استلزامه الظن بالواقع المقيد به بدونه، فليس الظن في الطريق أقرب من الظن بالواقع على حال.

وأيضاً دعوى: أن العلم الإجمالي بنصب طرقٍ وافيةٍ يوجبُ انحلال العلم بالتكاليف

ص: 179


1- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٢: ٣٦٥-٣٦٦ حيث قال: ثانياً لو سلم أن قضيته لزوم التنزل إلى الظن فتوهم ... إلخ .

الواقعية إلى العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية، والانحلالُ يوجبُ عدم تنجز ما لم يؤدِ إليه الطريق من التكاليف الواقعية.

لا تجدي؛ لأنَّه إذا كان رعاية العلم بالنصب لازماً، والفرض عدم اللزوم، بل عدم الجواز، وعليه يكون التكاليف الواقعية كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية الظن بها حال انسداد باب العلم ولا بدَّ حينئذٍ من عناية أخرى في لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الإطاعة وعدم إهمالها رأساً، ولا شبهة في أنَّ الظن بالواقع لو لم يكن أولى حينئذٍ؛ _ لكونه أقرب في التوصل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب وترك الحرام من الظن بالطريق - فلا أقل من كونه مساوياً في ما يهم العقل من تحصيل الأمن من العقوبة في كل حال، فافهم. الوجه الثاني - وهو للشيخ محمد تقي في الهداية المعروفة بالحاشية (1) : لا ريب في كوننا مكلفين بالأحكام ولم يسقط عنا التكليف بها، وأن الواجب علينا أولاً تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به وسقوط تكليفنا عنا،سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أولا، حسبما مرَّ تفصيله، وحينئذٍ فنقول: إن صح لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإنْ انسدَّ علينا سبيل العلم كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه؛ إذ هو الأقرب إلى العلم به، فيتعين الأخذ به عند التنزل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم، والقطع ببقاء التكليف دون ما يحصل معه الظن بأداء الواقع كما يدعيه القائل بأصالة حجية الظن، وأنت خبير بأن الحكم بتفريغ الذمة من وظائف العقل لا غير، وليس للشارع في باب تفريغ الذمة بالإطاعة والامتثال حكم شرعي يتبعه حكم عقلي؛ لأنَّ الحاكم بلزوم الإطاعة بالاستقلال العقلُ لا غير ، ولو فرض من الشارع حكم في هذا الباب كان إرشادياً صرفاً لا مولوية فيه أصلاً، وظاهر أن الذي له الحكم _ وهو العقل - حاكمٌ بأن الواقع بما هو مفرغٌ للذمة، وأن القطع به حقيقةً أو تعبداً مؤمنٌ جزماً، وأن المؤمن في حال الانسداد هو الظن بما

ص: 180


1- الأصفهاني، هداية المسترشدين: ٣٥١/٣.

كان القطع به مؤمناً حال الانفتاح، فالظن بالواقع يكون أيضاً مؤمناً حال الانسداد. قيل: إن مراد المستدل لزوم القطع بالفراغ شرعاً أو الظن به، والظن بالطريق إنما يراد به الذي يكتفي به الشارع؛ لأنَّه الذي يستلزم الظن بالبراءة لدى الشارع، وإنما يكون الظن الفعلي بالطريق مبرئاً لا مطلقاً، فإنَّ الظن النوعي يجتمعُ مع الشك بالبراءة فلا يكون متبعاً

حينئذٍ (1).

لكن يرد عليه _ بناءً على ما ذكر من لزوم الظن بما يكتفي به الشارع في حقه ولا يعاقبه عليه؛ لحكم العقل بلزوم تحصيل الأمن من عقاب المولى علماً مع الإمكان، وظناً مع تعذر العلم من أي طريق حصل شرعاً أو عقلاً من سائر الطرق المسلوكة المفيدة للظن بالبراءة _ أنه يلزم عليه التسلسل بالظن، فالقول به غیر معقول، فتأمل.

على أنَّا نقول : لو سلّمنا إلغاء الظن بالحكم؛ لأنَّه غير مفرغ للذمة، ولا نكتفي بمطلق الفراغ، بل لا بدَّ أن يكون الشارع هو الحاكم بالفراغ، ولا ظن بالفراغ شرعاً بأن لم نكن (2) نظن بطريق الحكم؛ إذ ربما كان الظن بالحكم ولا نظن بالفراغ؛ لحرمة الظن.

وفيه : إن العقل لا يلزم بحصول الحكم بالفراغ، بل يوجبُ حصول الأمن من العقاب، والعلمُ بالطريق أو بالواقع مؤمنٌ قطعاً، ومع عدم إمكان العلم بهما فالظن فيهما حجة؛ لأنَّ الظن مؤمن عند عدم العلم عقلاً.

ثم نقول : لو كان الحاكم بالفراغ هو الشارع فحكمه بتفريغ الذمة عند إتيان المكلف بمؤدى الطريق المنصوب ليس إلّا بدعوى أن النصب يستلزمه، مع أنَّ دعوى: إن التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ فيما إذا أتى المكلف بالواقع، أولى؛ فيكون الظن به ظناً بالحكم بالتفريغ أيضاً.

ولو سلّمنا أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن بالحكم بالتفريغ، لكن أقصاه أن يتنزل إلى

ص: 181


1- القمي، القوانين : ٢ / ٤٣٧؛ وحكاه عنه في هداية المسترشدين : ٤٣٣/٣ .
2- في نسخة ب: إن لم نكن.

الظن بأنه مؤدى طريق معتبر لا خصوص الظن بالطريق، والظنُ بالواقع لا ينفك عن الظن بأنه مؤدى الطريق غالباً.

[ تقرير دليل الانسداد بناءً على الحكومة]

والأصوب تقرير الدليل بطريق الحكومة لا الكشف؛ لعدم مساعدة مقدمات الانسداد على كشف العقل عن كون الظن طريقاً مجعولاً إلى الواقع عند الشارع؛ إذ يجوّز العقل أنْ لا يجعل الشارع طريقاً للامتثال بعد تعذر العلم أصلاً، والإجزاء بما استقلَّ به العقل حال الانسداد من الإطاعة الظنية، وإنما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد من الإطاعة الظنية، وعدم جواز اقتصار المكلف بدونها، ومؤاخذة الشارع غيرُ قابلة لحكمه كي يتوهم استكشاف نصب الشارع من حكم العقل بقاعدة الملازمة؛ لأنَّها لا تكون إلّا في المورد القابل للحكم الشرعي، ومؤاخذته غيرُ قابلة لحكمه ، ولا يمكن أن يكون الأمر بالإطاعة مولوياً، فلو أمر من حيث كونه شارعاً كان حكماً بلا ملاك يوجبه ؛ فلا صحة لتقرير المقدمات إلَّا على نحو الحكومة دون الكشف الذي لو سُلّم لم يكن نافعاً؛ لأنَّه لا ينتج إلَّا أمراً مجملاً، بخلاف نحو الحكومة الذي لا إهمال في نتيجتها لا من حيث السبب، ولا من حيث المورد، ولا من حيث المرتبة؛ لعدم تصور الإجمال في حكم العقل فيُقتفى الظنُ من كل سبب؛ لعدم تفاوت الأسباب في نظر العقل في حكمه بكفاية الإطاعة الظنية، إلَّا أنْ يكون منهياً عنه كالظن الحاصل من القياس؛ لأنَّ حكم العقل بذلك معلقٌ، فافهم.

أمّا أخذه من جهة المرتبة من القوة والضعف، فالذي تسكن به النفس ويطمئن به القلب منه لعدم استقلال العقل بكفاية غير هذه المرتبة منه، اللهم إلَّا أن لا يكون من هذه المرتبة ما به الكفاية في دفع محذور العسر.

وأمّا من حيث الموارد فلا يستقل بكفاية الإطاعة الظنية في ما لا عسر ولا حرج في الاحتياط فيه، وهو مما للشارع فيه مزيد اهتمام كما في الفروج والدماء وحقوق الناس، أما مع امتناع الاحتياط فلا شبهة في اتباع الظن حينئذٍ، ومع عدم الظن في المورد فلا ريب في

ص: 182

لزوم التخيير في ذلك المورد ولا مجرى للأصل عند الشك في المورد مع انتفاء العسر، بل يلزم الاحتياط؛ للعلم الإجمالي بالأحكام.

وربما يقال بجريانه؛ للظن بإجرائه، فالظن فيه قوي، بل ينحصر العلم الإجمالي بالتكليف في سواه على إشكال في المشكوكات من حيث الرجوع فيها بعد العمل بالظن إلى الأصول العملية، وكذلك الإشكال والتوقف في الظواهر من حيث الرجوع فيها بعد العمل بالظن إلى الأصول اللفظية الجارية في ظواهر الكتاب والسنة المتواترة؛ لإجمال الظواهر وارتفاع ظهور بعضها بالعلم الإجمالي، ففي موارد الشك لا مجرى للأصول، لكن إذا انحصر العلم الإجمالي بغيرها يرتفعُ الإشكال في الذي له ظهور.

وقيل: يرفع الإشكال أيضاً لو كان الظن حال الانسداد حجةً كالعلم (1)، وهو محل نظر، فتأمل.

[التعميم من حيث الأسباب والمرتبة بناءً على الكشف ]

وأما التعميم من حيث الأسباب والمرتبة على تقدير الكشف فقد عرفت أنَّ النتيجة على تقدير كون العقل كاشفاً عن حكم الشارع بحجية الظن إنما هي قضية مهملة لا تعميم فيها من حيث الأسباب والمرتبة، وربما ذكروا وجوهاً ثلاثة للتعميم من جهتها كلها مدخولة: الوجه الأول: من المعمّمات: دعوى عدم المرجح لبعض الظنون على بعض فيثبت التعميم؛ لبطلان الترجيح بلا مرجح،والإجماع على بطلان التخيير بين الظنون: أماالمرجح؛ فلأنَّ ما يصلح لأنْ يكون مرجحاً ومعيناً لما يفي في الفقه لا يخلو من أحد أمور ثلاثة : الأول: كون بعض الظنون متعيناً بالنسبة إلى الباقي، فيؤخذ بما هو واجبُ العمل قطعاً، ويطرح الباقي؛ للشك في حجيته.

الثاني: كون بعض الظنون أقوى من بعض فيتعين العمل عليه.

الثالث: كون بعض الظنون مظنونُ الاعتبار، وعند الدوران يقدم مظنون الحجية على

ص: 183


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ١/ ٤٦٨ .

غيره؛ لكونه أقرب إلى الحجية، أو لكونه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع.

لكن نقول: إن المسلّم من هذه في الترجيح لا ينفع، والذي ينفع غير مسلّم كونه مرجحاً؛ فإنَّ:

المرجح الأول: وهو تيقن البعض بالنسبة إلى الباقي لا ينفع؛ لقلته.

و أمّا المرجح الثاني: فضبطُ مرتبة خاصة للظن متعسرٌ ؛ لكون القوة والضعف إضافيان، ووجودُ الظن الاطمئناني منه نادرٌ.

وأمّا المرجح الثالث: وهو الظن باعتبار بعض فيؤخذُ به؛ لكونه أقرب إلى الحجية من غيره، أو أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع الذي لا يفيد لزوم التقديم.

ففيه:إنه لا ميزان في ترجيح الظن المظنون الاعتبار حتى يؤخذ به كلية.

وبالجملة، لا استقامة في تعيين القضية المهملة بمطلق الظن إلّا إذا ثبت جواز العمل بمطلق الظن عند الانسداد، نعم يترجح بمعلوم الاعتبار، وهو سواء كان حجة على إطلاقه أو بالإضافة إلى ما قام على اعتباره كذلك بالظن القائم على حجية ظن متحد لا تعدد فيه، وكذلك إن تعددت الظنون في مسألة تعيين الظن المتبع بعد الانسداد وتساوت الظنون القائمة كلها في مرتبة واحدة فيجب الأخذ بالكل، والقول الصحيح فيما يقع به الترجيح هو الترجيح بمعلوم الاعتبار أو مظنون الاعتبار بالظن المتبع.

الوجه الثاني من المعمّمات : عدم كفاية الظنون المظنونة الاعتبار المنحصرة في الخبر الصحيح بتزكية عدلين؛ فلا بدَّ من التسري إلى الظنون المشكوكة الاعتبار، وإذا وجبَ العمل بمشكوك الاعتبار ثبتَ وجوب العمل بغيرها مما لا يعارض ظواهر الأمارات المظنونة الاعتبار بالإجماع على عدم الفرق بين أفراد مشكوك الاعتبار.

وفيه: مضافاً إلى ُما عرفت - من عدم الدليل على اعتبار مطلق الظن بالاعتبار إلّا إذا ثبت جواز العمل بمطلق الظن عند انسداد باب العلم - أنه مبني على كون مظنون الاعتبار منحصر في الخبر الصحيح بتزكية عدلين وليس كذلك بالضرورة؛ لما حققنا في نهاية الدراية من كفاية العدل الواحد وما أجمعنا عليه من حجية المظنون صدوره بالظن الاطمئناني

ص: 184

والمنجبر بالشهرة في الرواية والموثق مع عدم المعارض، ومن المعلوم عند أهل العلم بالحديث والرجال كفايةُ ذلك، وفي العيان ما يغني عن الخبر، قد كتبنا كل أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات من ذلك.

[ الوجه ] الثالث من طرق تعميم الظن: قاعدة الاشتغال؛ لأنَّ الثابت من دليل الانسداد هو وجوب العمل بالظن في الجملة، وليس بأيدينا قدر متيقن كاف في الفقه، فيجب العمل بكل ظن.

وفيه: إن قاعدة الاشتغال لا تنفع ولا تتم في الظنون المخالفة للاحتياط، ولا يثبت وجوب التسري إليها فضلاً عن التعميم فيها؛ لأنَّ التسري إليها للزوم العسر الذي يرتفع بالعمل ببعض الظنون، فافهم.

في الظن المانع والممنوع

وذلك أن يقوم ظن من أفراد مطلق [الظن] الذي دل عليه دليل الانسداد على حرمة العمل ببعضها بالخصوص، وفي وجوب العمل بالظن الممنوع، أو المانع، أو الأقوى منهما، أو التساقط وجوه، بل أقوال (1).

والتحقيقُ أن الذي استقلَّ العقل بحجيته حال الانسداد إنما هو الظن المقطوع بعدم المنع عنه بالخصوص، وأمّا الممنوع أو المحتمل المنع عنه فلا استقلال للعقل باعتباره في هذا الحال؛ لما عرفتَ من أن حكمه معلقٌ سواء كانت نتيجة المقدمات حجية الظن في الأصول أو الفروع أو فيهما.

نعم، إن لم يكفِ ذلك فيُضم إليه الظن الذي لم يظن المنع عنه وإن احتمل مع قطع النظر المقدمات الخمس، وإن انسد باب هذا الاحتمال معها؛ لأنّه لا احتمال مع الاستقلال كما هو المفروض، فافهم:

ص: 185


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٤٧٢/١ وما بعدها.

لامعةٌ في الظنون المتعلّقة بتشخيص الظواهر أو المرادات

الظاهر حجيتها ووجوب العمل بالظن الحاصل بالحكم الفرعي من تلك الأمارات المتعلّقة بمعاني الألفاظ عند انسداد باب العلم في الأحكام ، لكن لا يترتب عليه أثر آخر

مثل : تعيين المراد في الوصية والأقارير وأمثالهما من الموضوعات الخارجية؛ لعدم ثبوت حجية مطلق الظن فيها، وكذا كل ما كان منشاً للظن بالحكم الفرعي الكلي الذي انسدَّ فيه باب العلم عمل به من هذه الجهة وإن كان ظناً بالموضوع الخارجي، ككون الراوي عادلاً أو مؤمناً حال الرواية، وكون زرارة هو ابن أعين لا ابن لطيفة.

وإن لم يعمل بالظن من سائر الجهات المتعلّقة بعدالة ذلك الرجل أو بتشخيصه عند إطلاق اسمه المشترك، فالظنون الرجالية معتبرة مطلقاً عند أرباب القول بمطلق الظن في الأحكام (1) .

وبالجملة، مقتضى دليل الانسداد شموله لكل ظن تولّدَ منه الظن بالحكم الفرعي الكلي، وأنه حجة من هذه الجهة مما يتعلّق بالألفاظ والرجال والأصول، أو كان الحكم الفرعي ظاهرياً كالظن بحجية الاستصحاب تعبداً، أو بحجية الأمارة الغير مفيدة للظن الفعلي بالحكم، كل ذلك؛ لعدم الفرق بين الظن المتعلّق بنفس الحكم أو بما يتولّد منه الظن بالحكم؛ لشمول الدليل، فلا يصغى للمنع لأجل حرمة العمل بالظن بعد شمول دليل الانسداد.

في عدم حجية الظن في الأمور الخارجية؛ لأنَّ أقصى ما أنتجت (2) المقدمات كفايةَ الإطاعة الظنية في الأحكام الشرعية، فلا يكون الظن في غير الأحكام حجةً، بل أقصاه حجيته فيها، فالظن بالامتثال إنْ كان في مقام تعيين الحكم الشرعي الممتثل فهو الحجة، وأمّا

عدم حجية الظن في أصول الدين

ص: 186


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ١/ ٥٣٩ .
2- في نسخة ب: انتجب.

لو كان في [مقام] تطبيق العمل الخارجي على ذلك فلا مثلاً: يتبع الظن في وجوب صلاة الجمعة يومها ولا يتبع في إتيانها لو ظن إتيانها، بل لا بدَّ من العلم بإتيانها.

{عدم حجية الظن في أصول الدين}

وأمّا الظن في أصول الدين عند انسداد باب العلم بها فلا اعتبار به؛ لأنفتاح باب الاعتقاد بالأصول إجمالاً بما هو الواقع والانقياد له على ما هو عليه في علم الله وفي شريعة رسول الله صلی الله علیه وآله، وليس كالعمل بالجوارح الذي لا يمكن العلم بمطابقته للواقع إلّا بالاحتياط المفروض في باب الانسداد عدم وجوبه، بل عدم جوازه عقلاً، فلزم حينئذٍ العمل بما هو الأقرب، ولا أقرب من الظن، فلا بدَّ من العمل به في الأحكام، لكن الأصول الاعتقادية يمكنُ الإذعان بها وعقد القلب عليها على ما هي في الواقع، في الواقع، فلا انسداد عن الاعتقاد إجمالاً بها وإن انسد باب القطع تفصيلاً (1) بها، فافهم.

ثمَّ هذا في الأصول التي يجب شرعاً الاعتقاد بها، أما التي مرجعها حكم العقل والحاكم بوجوب تحصيل العلم بها هو العقل كوجوب معرفة الله تعالى {ووجوب معرفة رسوله الله صلی اللهُ علیه و آله} (2) وإمام الزمان فبابُ العلم به مفتوح تفصيلاً.

وبالجملة، ما يجب معرفته عقلاً أو شرعاً من المعارف لا يكفي فيه الظن؛ لأنه لا يغني عن الحق شيئاً (3) ولا يوجب المعرفة المأمور بها شرعاً أو عقلاً، وقد عرفتَ إمكان الاعتقاد

الإجمالي، فلا موجب للتنزل إلى الظن إذا فرض انسداد العلم بها.

ص: 187


1- في نسخة ب :باب العقل تفصيلاً.
2- ما بين المعقوفين من نسخة ب.
3- إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنَّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بما يَفْعَلُونَ ﴾ . سورة يونس : ٣٦ .

في أنَّ الظن المطلق لا تترتب عليه الآثار

فلا يجبر السند الضعيف، ولا الدلالة القاصرة، ولا يكون موهناً لما هو حجة، ولا مرجحاً لأحد المتعارضين على الآخر؛ لأنَّ مقدمات دليل الانسداد في الأحكام عند القائل بتماميتها إنما توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة لا الآثار الأُخر، والأصل عدم ترتب الآثار بالظن مطلقاً، كما أن الأصل عدمُ حجية الظن.

اللهم إلَّا أنْ يستفاد من أدلة خاصة ترتيب هذه الآثار كلاً أو بعضاً في الجملة أو كلية، فينبغي مراجعة أدلة الحجية، وقد تكلّم عليها شيخنا في الرسائل في مقامات ثلاثة (1)، فراجع.

ص: 188


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ١/ ٥٨٥ وما بعدها .

لامعةٌ في الأدلة العقلية

دلیل العقل ضربان:

ضربٌ يستقل بحكمه العقلُ كقاعدة الحسن و القبح، وأصل البراءة، وأصل الإباحة،ولا ينافي ذلك ثبوت هذه الأصول بدليل شرعي كما ستعرف.

الضربُ الثاني: ما لا يستقل العقلُ بإثباته كأبواب الملازمات؛ فإن العقل يحكم فيها بواسطة الدليل الشرعي.

أمّا الكلام على الضرب الأول، فالذي يفيد القطع بالحكم هو قاعدة الحسن والقبح، وهي من مبادئ علم الكلام، ويبتني عليها مسألة خلق الأفعال وتعليل أفعاله تعالى بالأغراض وغير ذلك من مسائل الكلام، وإنما ذكرت في هذا الفن؛ لابتناء مسألة خطاب المعدوم، ومسألة الخطاب بما يراد خلاف ظاهره عليها فعُدت من مبادئه.

وأمّا إثبات الأحكام الشرعية بالقاعدة، فإنما يتم بعد إثبات الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وهو استلزامُ الوجوب والحرمة العقليين للوجوب والحرمة الشرعيين.

فالكلام في مقامين:

الأول: في إثبات القاعدة.

الثاني: في إثبات الملازمة بين الحكمين.

أمّا [المقام] الأول

فلا خلاف فيه؛ فإنَّ العقلاء على اختلاف مذاهبهم وتباين طرائقهم حتى البراهمة (1) والثنوية (2) متفقون على أن العقل مما يحكم ويستقل في إثبات المطالب من غير حاجة إلى

ص: 189


1- البراهمة : قبيلة في الهند، يقولون: إنهم من ولد برهمي ملك من ملوكهم قديم،ولهم علامة ينفردون بها وهي خيوط ملونه بحمرة وصفرة يتقلّدونها تقلد السيوف، وهم يقولون بالتوحيد على نحو قولنا إلا أنهم أنكروا النبوات، ويقولون: إن بعثة النبي تخالف الحكمة. ينظر،ابن حزم،الملل والنحل : ١/ ٦٩ ؛ الشيخ الطوسي، الاقتصاد : ١٥٤ .
2- الثنوية : وهم فرقة قائلة بوجود إلهين إله للشر وإله للخير، حيث قالوا: إنه تعالى لا يقدر على الشر وإلا .

مساعدة أمر آخر من شرع أو غيره، ولم يخالف أحد في ذلك إلَّا بعض السوفسطائية (1) المكذبين للحس والوجدان أيضاً، وتبعهم الشيخ أبو الحسن الأشعري فزعم أنَّ العقل لا يحسّن فعلاًولا يقبّح (2)،وتبعه على ذلك غير واحد من متقدميهم (3)س.

وخالف أستاذه الجبّائي (4) في مسألة الصفات، وأفعال العباد، وخلق القرآن، وصدور الكلام، وامتناع الرؤية، وتعليل الأفعال بالأغراض، وغير ذلك مما يبتني على قاعدة الحسن والقبح، ثم جاء المتأخرون (5) منهم فرأوا شناعة ذلك وحكم البديهة بحسن العدل والإحسان وقبح الظلم والعدوان ، وأنَّ أهل العقول مطبقون على ذلك حتى من لا يعرف الدين، فقالوا: إنَّ الحسن والقبح يقال على معان خمسة:

الأول: كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص، كما يقال : العلم شيء حسن والجهل شيء قبيح.

الثاني: كونه موافقاً للطبع ملائماً للنفس أو بالعكس كما يقال: هذا صوت حسن ووجه حسن، ويقال لكل ما تنفره النفس من ضد ذلك: إنه قبيح.

الثالث: كونه موافقاً للغرض أو مخالفاً له وهو المسمى بالمصلحة والمفسدة.

كان خيراً شريراً معاً. ينظر، عضد الدين الايجي، المواقف : 177/3؛ الشيخ الطوسي، الاقتصاد : ٤٥ .

ص: 190


1- السوفسطائية وهم فرقة ينكرون الحسيات والبديهيات وغيرها الواحد سوفسطائي. ينظر المعجم الوسيط : ٤٥٠ ، والسفسطة قياس مركب من الوهميات الغرض منه تغليط الخصم وإسكاته. ينظر الجرجاني، التعريفات: ١٢٤ .
2- الآمدي، الأحكام: 1 : 37؛ الرازي، المحصول: ١/ ١٢٤؛ الحائري، الفصول الغروية: ٣١٦.
3- الآمدي، الأحكام: 1 : 37؛ الرازي، المحصول: ١ / ١٢٤؛ الحائري، الفصول الغروية: ٣١٦.
4- الجبائي: هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبّائي المتوفى سنة ٢٥٩ه_ ، وابنه أبو هاشم عبد السلام المتوفى سنة ٣٢١ ه_ وهما من معتزلة البصرة، وقد انفردا عن أصحابهما بمسائل مثل نفي رؤية تعالى بالأبصار في دار القرار ومسألة الكلام وخلق القرآن وغيرها مما يبتني على القول بالتقبيح و التحسين العقليين ينظر البغدادي، الملل والنحل : 128 ، السبحاني، بحوث في الملل والنحل: ٣/ ٢٠٥.
5- الرازي، المحصول : ١٢٤/٣.

الرابع: إطلاق الحسن على ما ليس بمحظور فيقال للنوم والعقود والبيع والشراء وكل ما لا حرج فيه ولا منع:إنه حسن. الخامس: كون الفعل بحيث يستحق فاعله المدح والذم ، يقال : هذا الفعل حسن أي: يستحق فاعله المدح، وذلك قبيح أي: يستحق فاعله الذم.

قالوا: لا نزاع في غير الحكم بالاستحقاق، فزعموا أن الحسن والقبح شرعيان يَعنون أن العقل لا يدرك ذلك إنما يحسّن ويقبّح الشارعُ، بمعنى أنه يأمر وينهى، فإذا أمر بشيء فذلك تحسينه له، وحسن الشيء عندهم كونه مأموراً به، وليس له حسن في نفسه يدركه الشارع أو غيره ولا استحقاق، وإذا نهى عن شيء فذلك تقبيحه، وقبحه كونه منهياً عنه، وليس له في نفس الأمر قبحٌ يُدرَك.

وأنت خبيرٌ بأنَّ حكم العقل بحسن بعض الأشياء وقبحها بالمعنى المتنازع فيه من البديهيات الأوليات، والأفعال في حد ذاتها - مع قطع النظر عن تكليف الشارع، بل في نفس الأمر والواقع، صفة يقتضي حسنها فاستحقاق فاعلها المدح والثواب، أو قبحها واستحقاق فاعلها الذم والعقاب - إمّا ذاتية كالإحسان والعدوان، أو عرضية كضرب اليتيم للتأديب،وهو معنى قولنا: (الحسن والقبح ذاتيان)، ولسنا نريد بالذاتي ما كان بالذات كما توهمه المعتزلة (1)، فافهم.

وبالجملة، نسبةُ الاستحقاق والاستقباح بهذا المعنى إلى الفطرة كنسبة السماع إلى السمع والرؤية إلى البصر وإدراك سائر المشاعر إليها، وفي الكتاب العزيز من تنبيه العقول على ما فطرت عليه من استحسان الحسن والحكم به، ورفض القبح ونفيه عنه تعالى شيءٌ كثير ، حتى جعل تعالى من لم يتنبه لذلك بمنزلة من لا حسّ له، فقال تعالى: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ

ص: 191


1- وهم قدماء المعتزلة حيث قالوا بذاتية الحسن والقبح، وأما المتأخرون كالجبائي الذي هو من أعلام متأخريهم، فهم يقولون :إن ما يقتضي الحسن والقبح لوجود صفة في الأفعال كضرب اليتيم الذي لا يتصف بصفة في ذاته، بل يتصف بالحسن إذا كان للتأديب وبالقبح إذا كان للتشفي. ينظر :الأصفهاني، هداية المسترشدين: ٥٣٠/٣ ؛ الرازي، المحصول: ١/ ١٢.٤

فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ (1)، مع أنَّ الحسن و القبح لو لم يكونا عقليين وكانا مقصورين على السمع كما يزعمه هؤلاء لَما قُبحَ من الله تعالى شيءٌ حتى إظهار المعجز على يد الكاذب، ولجازَ أنْ يكون الأنبياء كلهم مفترينَ، أظهرَ المعاجزَ على أيديهم للإضلال، ولَما وجبت معرفة الله؛ لتوقف معرفة الإيجاب على معرفة الموجب ،المتوقفة على معرفة الإيجاب، فيدور، ولتوقف وجوب الواجبات على ورود الشرع، وفي ذلك إفحامُ الأنبياء.

وأما المقام الثاني

ففي إثبات الملازمة بين حكم العقل بالبديهة وحكم الشرع، ويتضح ذلك بثبوت مقدمات خمس:

الأولى : إنَّ العقل بما يحسن ويقبح بالضرورة وقد عرفته بالمقام الأول.

الثانية: إنَّ كلّ ما حسنه العقل أو قبحه فهو عند الشارع حسن أو قبيح؛ لأنَّ تجويز مخالفته له : إما بتجويز الخطأ عليه، أو على العقل، وكلاهما محال، أما الأول فظاهر، وأما الثاني

فإن اتهام العقل في الضروريات يوجبُ انقطاعه في النظريات كالعقائد الواجبة حتى إثبات الصانع بطريق أولى.

الثالثة: إنَّ كلّ ما حسنه الشارع أو قبحه كان بحيث يأمر به أو نهى عنه، وإلّا لكان بحيث يجيز ترك الواجب اللازم كشكر المنعم ورد الوديعة، وفعل القبيح المحظور كقتل النفس ونهب الأموال، وذلك عليه تعالى محال.

الرابعة : إنَّ كلّ ما كان بهذه الحيثية فقد كلف به الشارع فأمر ونهى؛ لاقتضاء الحكمة في إبداع هذا الصنع العظيم الشأن الذي خلق لأجله السماوات والأرض وما فيها وصرفه في ما سواه من العوالم بسلطان العقل أن يكلفه، على أنه لا نزاع فيه المسلم، فإذا لم يكلفه بما تقطع العقول بوجوبه وخطره ويدور عليه استقامة النظام فماذا (2).

ص: 192


1- سورة البقرة: 18.
2- كذا في النسخة أ. وفي نسخة ب: جاء الاختلال.

الخامسة : إنَّ كل فاعل للمأمور به مستحقٌ للثواب وكل تارك له أو فاعل للمنهي عنه مستحقٌ للعقاب، وهذه المقدمة إجماعية (1) لا نزاع فيها بين مثبتي القاعدة.

فيلزم بعد ثبوت هذه المقدمات أنَّ كل فاعل لِما حسنه العقلُ أو قبحه مستحقٌ للثواب أو العقاب بديهة؛ إذ هو نتيجة تسليمها ،وهو التلازم بين الحكمين؛ فإن حكم العقل باستحقاق المدح والذم وحكم الشرع باستحقاق الثواب والعقاب.

ويدل على ثبوت الملازمة قولُه تعالى:( ِإِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَر) (2)، فإنَّ العدل من كل شيء وسطه، ومستقيم الأفعال حسنها، والعموم مستفاد من السياق؛ فإنه في مقام المدح.

وقولُه صلی اللهُ علیه وآله:( ألا ما من شيء يقرّبكم من الجنة ويبعدكم عن النار إلّا وقد أمر الله به،ألا ما من شيء يقرّبكم إلى النار ويبعدكم عن الجنة إلّا وقد نهاكم عنه (3)، إلى غير ذلك من الآيات (4)، والروايات الكثيرة (5).

وقولُ بعض متأخري المتأخرين بثبوت الملازمة الظاهرية ومنع الملازمة الواقعية (6)،

ص: 193


1- لحسن الطاعة وقبح المعصية ينظر المقداد السيوري، إرشاد الطالبين: ٢٦٩ .
2- سورة النحل: 90.
3- المتقي الهندي، كنز العمال: ٢٤/٤.
4- مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ سورة الأعراف: 28 ، والآيات الواردة في الاحتجاج على الكفار العصاة بالتفرق بين المحسن والمسيئ بحسب العقل كما في سورة ص: 28 ، وكذلك الآيات الدالة على الأخذ بما يحكم به صريح العقل: (أفلا تعقلون، أفلا تذكرون، لعلكم تتفكرون ) وغيرها. للمزيد ينظر الحائري، الفصول الغروية: ٣٤١.
5- منها ما روي عن الإمام الكاظم علیه السلام «يا هشام، إن الله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالأنبياء والرسل والأئمة علیه السلام ، وأما الباطنة فالعقول »الحر العاملي، وسائل الشيعة: ١٥ 207 باب 8 من أبواب جهاد النفس، حديث ٦ ، وما روي عن أبي الحسن عليه السلام حين ما سئل عن الحجة على الخُلق اليوم فقال: «العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه، والكاذب على الله فيكذبه» الكافي: 1/ 27 حديث 20 .
6- الحائري، الفصول الغروية: 377.

لا محصل له بوجه

وما يتوهم من دلالة الظواهر على انتفاء الملازمة لا يقاوم ضرورة العقل، والظاهر يدفع بالقاطع، فلو سلّم ظهورها فلا بدَّ من تأويلها بما أشار إليه المحقق القمي في القوانين (1).

{أصالة الإباحة أو الحظر}

ومن جملة موارد حكم العقل قبل ملاحظة الشرع أصالة الإباحة أو الحظر في الأفعال الاختيارية التي لا ضرورة فيها عقلاً ، كأكل الفاكهة وشمَّ الورد، ولا نزاع في ما يتوقف عليه

البقاء كشمٌ الهواء ونحوه ، فإنّ العقل مستقلٌ فيه على الجواز، الإفضائه إلى إتلاف النفس كما في الكذب النافع، فذهب معتزلة بغداد وجماعة (2) منا إلى القول بالحظر؛ لأنَّه تصرَفٌ في مال الغير بغير إذنه، وذهب الشيخان (3) إلى التوقف؛ لأنَّه قد ثبت في العقول أنَّ الإقدام على ما لا يؤمن المكلف كونه قبيحاً مثلُ إقدامه على ما يعلم قبحه.

واحتجَّ على الإباحة بأنه إذا صح أن يخلق الأجسام خالية من الألوان والطعوم فخلقه لها لا بدَّ وان يكون لنفع الغير؛ لاستحالة عود النفع إليه قبح الاستبداء بالضرر، فكانت مباحة، وكان في العقل ما يدل على الإباحة (4) .

وفيه: إنّ اللطف كما يكون بتناولها والانتفاع بها كذلك يكون بالامتناع منها، أوليسَ قد خلق جلَّ شأنه أشياءً كثيرة يصحُّ الانتفاع بها وقد حظرها بالسمع (5)، فليكن ما لم يسمع

من هذا القبيل.

وهذه المسألة من فروع مسألة الحسن و القبح التي عرفت أنَّها من المبادئ الأحكامية

ص: 194


1- الميرزا القمي، القوانين: ١٦/٣ - ٢٥ .
2- أبو الحسين البصري ، المعتمد : ٢ / ١٦٨،السيدالمرتضى، الذريعة : 809 .
3- الشيخ المفيد، التذكرة: ٤٣ ؛ الشيخ الطوسي،العدة:٢ / ٧٤٢.
4- أبو الحسين البصري، المعتمد : ٨٧٦/٢؛ الشيخ الطوسي، العدة: ٢ / ٧٤٧ .
5- الاسترآبادي، الفوائد المدنية : ٤٦٢ .

لا من المسائل الأصولية كأصالة البراءة التي هي بيان لاحكام أفعال المكلفين عند الشك في التكليف على اختلاف أقسامه وموارده.

والحق الحظر هنا؛ لأنَّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر ولو في صورة الشك مما لا يعارضه شيءٌ ، فأكلُ الفاكهة وشم الورد وإن اشتمل على أمارات المنفعة وخلا عن أمارات المفسدة، إلَّا أنه ليس عدم الضرر به في الدنيا مقطوعاً به، والعقل مستقل بوجوب الاجتناب، وحيث لا شرع _ كما هو المأخوذ في العنوان _ فلا تعارض بين حكم العقل والشرع، فافهم.

وحيث فرغنا من الكلام على الأدلة الأربعة، فلا بدَّ من بيان ما يرجع إليه الفقيه _ عند اليأس منها والشك في الحكم الفعلي واقعي أو ظاهري - من الأصول العملية؛ فإنها المرجع بعد الفحص وعدم العثور على الأدلة الاجتهادية، والمهم ذكره من الأصول العملية أربعة: البراءة، والاحتياط، والتخيير، والاستصحاب ؛ لعموم نفعها في أبواب الفقه.

ص: 195

لامعةٌ في أصالة البراءة

وأول مسائلها : الشبهة الحكمية التحريمية

والحقُّ اعتبار أصل البراءة عند الشك في وجوب شيء أو حرمته مع فقد النص أو إجماله واحتماله الكراهة أو الاستحباب، أو تعارضه وعدم ثبوت ترجيح في البين بناءً على القول بالتوقف عند تعارض النصين مع عدم المرجح لا الرجوع فيه إلى التخيير بينهما والأخذ بأحد النصين، فيجوز شرعاً وعقلاً ترك ما شك في وجوبه، وفعل ما شك في حرمته والأمن من عقوبة المخالفة الواقعية بالأدلة الأربعة؛ لحصر التكليف بالبيان في القرآن ونفي التعذيب حتى يبعث الرسول (1)، ومن السنة عدَّ« ما لا يعلمون» (2) في عداد المرفوعات، فالتكليف المجهول م_«ما لا يعلمون»، فهو مرفوع فعلاً عنهم وإن كان في الواقع ثابتاً فلا مؤاخذة عليه البتة، وهذا الرفع منه جلَّ شأنه مِنّةٌ، وإلّا لوضع الاحتياط طريقاً إلى التكليف المجهول ظاهراً وكانت المؤاخذة على تركه، وبهذا الاعتبار كانت المؤاخذة مما للشارع رفعها، فافهم.

على أنّ في ما لا يُعلم من التكليف قابلٌ للرفع بنفسه فلا حاجة إلى تقدير المؤاخذة أو غيرها من الآثار الشرعية. اللهم إلَّا أن يراد بالموصول ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه فلا بدَّ حينئذٍ من تقدير أحد الأمرين، أو الأثر الظاهر، أو تمام الآثار التي تقتضي المِنة رفعها، ويكون بلحاظ الإسناد إليها مجازاً.

وبالجملة، فحديث الرفع دالُّ على رفع كل الآثار التكليفية والوضعية التي في رفعها المِنّة على هذه الأمة، ولا يتوهم أنّ إيجاب الاحتياط في ما لا يعلمون، وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان أثر بنفسها، فإنما يكون باقتضاء الرفع في موردها لا باقتضاء نفسها؛ حيث إنَّ

ص: 196


1- إشارة إلى قوله تعالى:﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ سورة الاسراء: ١٥.
2- وهو قول رسول الله صلی الله علیه وآله : «رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلوة ما ينطقوا بشفة». الحر العاملي، وسائل الشيعة»: ١٥ / ٣٦٩ ح 20٧٦٩ ، الباب ٥٦ ، جملة مما عفي عنه، ح 1.

الاهتمام بموردها يقتضي إيجابها حتى لا يفوت على المكلف، فافهم.

ومنها، ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد في باب التعريف والحجة والبيان بإسناده عن زكريا بن يحيى عن أبي عبد الله علیه السلام قال : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع

عنهم»(1)، والمراد ب_ «ما حجب علمه» : ما لم يقم عليه تعريف وبيان وحجة، فهو موضوع عن المکلف.

فحاصله: ما لم يقدر المكلف على تحصيل حكمه من الشرع فلا تكليف له به في الظاهر، وإلَّا فكل شيء في الواقع له حكم، لكن لا بدَّ من العلم به حتى يلزم المكلف العمل به، وما

لم يعلم به المكلف فليس عليه منه كلفة، فهو موضوع عنه.

والإنصاف أنه في ما استأثر الله به من الأمور الغامضة كأسرار القدر، ومعنى وضعها عن العباد عدم تكليفهم بالبحث عنها.

ومنها : ما عن كتاب الفقيه مرسلاً : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (2).

وفي الغوالي عن الصادق، قال:« كل شيء مطلق حتى يرد فيه نص (3).

وروى الشيخ الصدوق في أماليه بسنده عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال:«الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر أو نهي » (4)، ودلالته على عدم صدق الورود إلَّا بعد العلم بالنهي ظاهرة خصوصاً الأخير، ومعنى إطلاق الشيء أنه مباحٌ بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعاً لا بعنوان أنه لم يرد عن الشارع فيه النهي في الواقع، فافهم.

فدلالته على نفي الاحتياط في غاية الظهور وقوة الدلالة عند أهل العلم باللسان.

ومنها: قوله علیه السلام: «الناس في سعةٍ ما لم يعلموا» (5) ، فما داموا لم يعلموا حرمة الشيء أو

ص: 197


1- الشيخ الصدوق ،التوحيد : ٤١٣ الباب ٦٤ ح 9 .
2- الشيخ الصدوق، الفقيه: 1/ 937ح317.
3- الاحسائي عوالي اللآلئ : ٢/ ٤٤ ح١١١ .
4- الشيخ الصدوق، الأمالي : ٦٦٩ ، ح ١٤٠٥، مجلس ٣٦،ح١٢ .
5- الاحسائي، عوالي اللآلئ: ١ / ٤٢٤ ، ح ١٠٩ .

وجوبه فهم في سعة، ولو كان الحكم الاحتياط ما كانوا في سعة كما هو ظاهر، بل كان عليهم سلوكه لإدراك الواقع.

ومنها: ما جاء في الاشتباه في الموضوع دون الحكم مثل قوله: «كل شيء يكون فيه حرام وحلال فهو حلال لك أبداً حتى تعرف الحرام بعينه» (1).

وقوله في خبر آخر: «كل شيء لك حلال حتى تعلم الحرام فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد شريته وهو سرقة، أو المملوك يكون عندك ولعله قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم لك بينة» (2) وتقريب الاستدلال بها مع أنّها في الاشتباه في الموضوع دون الحكم وفي غير الواجبات والمندوبات :هو أنها دلت على حلّية كل ما لم يعلم حرمته ولو من جهة عدم الدليل على حرمته، وبعد القول بالفصل بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه، وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية، يتمُ الاستدلال على البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية.

قيل: بل يمكن أن يقال: إن ترك ما احتمل وجوبه من مصاديق ما لم يعرف حرمته فهو حلال (3).

وفيه: إن الروايتين في غير الواجبات والمندوبات ،بل هي ممحضة في الاشتباه في الموضوع دون الحكم، فلا ينبغي التعلّق بها في المقام، فتأمل.

ومنها: قول الصادق علیه السلام: «من عمل بما علم كفي ما لم يعلم» (4)، أي: أنه لا يطالب بما وراء ذلك.

ص: 198


1- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام: 79/9 ، كتاب الصيد والذبائح، باب الذبائح والأطعمة، ح 72 .
2- الكليني، الكافي : ٥ / ٣١٤، باب النوادر ، ح ٤٠ .
3- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٣٤/٣.
4- الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال: 133.

ومنها: قوله علیه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿ حَتَّى يُبَيِّنَ هُمْ مَا يَتَّقُونَ): (1) «حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه» (2)، وفي تفسير قوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ (3)«بين لها ما تأتي وما تترك» (4).

وأمّا الإجماع فمن أهل العلم بالفقه والحديث والجدوالاجتهاد، بل هي طريقة المسلمين، فإنا نقطع وكل ذي إدراك أن الناس مذ بعث رسول الله - بل مذهب آدم- لم يؤخذ عليهم الاستئذان من أرباب الشريعة وقوّامها في جميع حركاتهم وسكناتهم وأنحاء الأكل والشرب والقيام والقعود والنوم والمشي والركوب والمحاورات والصناعات وسائر الأعمال، بل هم في ذلك كله على ما يشاؤون، أما علمتم أنهم على ما يشاؤون كما كانوا من قبل إلى أن يرد عليهم نهي من قبله ذا ولا ذا، بل تركهم على ما هم عليه ، ثم إذا أوحي إليهم في شيء أعلمهم به.

والأول باطل بالضرورة والأخيران تقرير لأصل الإباحة إما بالنص أو بالتقرير، والحق الأخير، قاله في المحصول.

وبالجملة تحصيل الإجماع من أوضح الواضحات في مثل المقام الذي كاد أن يكون ضرورياً.

وأمّا العقل فقد حكم مستقلاً بقبح المؤاخذة على من بذل جهده في الفحص عن الحكم المجهول حتى يأس فاستباحه؛ لأنَّه لو عوقب على مخالفته كان عقاباً عليه بلا بيان، وقبحه عند العقل غنيٌ عن البيان، ومع استقلاله بذلك لا يحتمل فيه ضرر العقوبة في مخالفته، فلا مجرى عنده لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل حيث استقل وجزم، فلا تكون القاعدة له بياناً، ولو كان للاحتمال عنده مجالٌ لم يكن للقاعدة احتياج، فافهم.

ص: 199


1- سورة التوبة : ١٥ .
2- الكليني، الكافي : ١ / ١٦٣ ، باب البيان والتعريف ولزوم الحجة.
3- سورة الليل : 8 .
4- البرقي، المحاسن : ٢٧٦، ح ٣٨٩، الباب ٤٠ .

فإن قلتَ: هبُ لا يحتمل ضرر العقوبة لكن يحتمل الوقوع في المفسدة، والعقلُ مستقلٌ بقبح الإقدام على ما لا يؤمن من مفسدته.

قلتُ: قد قلتَ ما لا يفوه به أحدٌ، كلا لا يحكم العقل، ولا يحسن ذلك؛ فإنا نقطع وكل ذي إدراك أن الناس مذ هبط آدم علیه السلام لا يتحرزون من ذلك، وفي العيان ما يغني عن الخبر، فراجع ما ذكرناه من الإجماع على البراءة.

ثمَّ لو كانوا يتحرزون مما لا يؤمن مفسدته كيف أباحه الكتاب والسنة وإجماع العقلاء من أهل الملل والأديان! ولا أعرف المخالفة في المسألة إلَّا من بعض متأخر المتأخرين من الأخبارية محتجين لوجوب الاحتياط - في ما لم تقم عليه حجة _ بالكتاب والسنة ودليل العقل.

أما الأول : فالآيات الناهية عن الإلقاء في التهلكة، وعن القول بغير علم، والآمرة بالتقوى (1)س.

وأنت خبير بأنه إذا كان الحكم بالإباحة شرعاً بالنص وحكمَ العقل بالأمن من مؤاخذة العقاب لم يكن في البين شيء من: الهلكة، ولا القول بغير علم، ولا المخالفة للتقوى بالضرورة. ومن هنا ظهر الجواب عن أخبار أن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة (2)،

ص: 200


1- وهي: قوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) سورة البقرة: ١٩٥، وقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الاسراء: ٣٦ وقوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ آل عمران : 102 ينظر البحراني، الحدائق: ١١ / ٢٩.
2- مثل مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله علیه السلام« فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات »الحر العاملي، وسائل الشيعة ٢٧ / 10٦ - 107 ، أبواب صفات القاضي، باب 9 ، ح١، وكذلك الوسائل : ٢٧ / ١٥٤، ١٥٥ ، ١٥٨، ١٥٩ ، ١٦٨ أبواب صفات القاضي، باب 12، ح 2 ، 13 ، ١٥، ٥٠.

وأخبار التثليث (1) ، والاحتياط (2)؛ ضرورة عدم الهلكة في الشبهة البدوية بعد حكم النص وحكم العقل بالبراءة، وأخبارُ الاحتياط إرشاد محضٌ لا تعبّدَ فيها لمن تأمّلها؛ فإنه يقول: قف عند الشبهة، فإنَّ الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة، والمهلكةُ ظاهرة في العقوبة، ولا عقوبة في الشبهة البدوية بضرورة الشرع والعقل قبل إيجاب الاحتياط، فلا يمكن تعليل إيجاب الاحتياط بأنه خيرٌ من الاقتحام في الهلكة، والمفروض أنه لا علم بوجوبه حتى تصح العقوبة على مخالفته، فليس إلّا الإرشاد.

على أن أخبار البراءة أخصُّ وأظهرُ ، بل هو نصُّ في حلّيّة المشتبه، فتُقدم على أخبار الاحتياط التي أقصاها الظهور في وجوب الاحتياط مع لزوم تخصيصها ببعض الشبهات؛ للإجماع على عدم لزوم الاحتياط في الشبهة الوجوبية حتى من الأخبارية، ولا ريب في عدم قبول مساقها للتخصيص كما هو ظاهر، فليس إلّا ما ذكرنا من كونها للإرشاد.

[ الاستدلال بالعقل على وجوب الاحتياط]

وأمّا استدلالهم بالعقل على وجوب الاحتياط هو: أنه بعد العلم إجمالاً بوجود واجبات ومحرمات في المشتبهات الوجوب والحرمة يحكمُ العقل بلزوم فعل محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة في ما لم يكن على حكمه نصُّ؛ تحصيلاً لبراءة الذمة بعد اشتغالها، ولا كلام في لزوم الاحتياط في أطراف المعلوم إجمالاً.

وفيه: إن العلم الإجمالي منحلٌ إلى تفصيلي وشك بدوي؛ للعلم إجمالاً أيضاً بثبوت طرق وأصول معتبرة قد أثبتت تكاليفَ فعلية منطبقة على ما عُلمَ أولاً تُساوي التكاليفَ

ص: 201


1- رواية جميل عن الصادق علیه السلام عن آبائه علیه السلام: «أنه قال رسول الله صلی اللهُ علیه وآله :الأمور ثلاثة: أمر بيّن لك رشده فأتبعه، وأمر بيّن لك غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردَّه إلى الله عزّ وجلَّ »وسائل الشيعة : 27 / ١٥٧ ، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي، ح 9 .
2- والاحتياط كرواية داود بن القاسم الجعفري عن الرضا علیه السلام: ( إن أمير المؤمنين علیه السلام قال لكميل بن زياد: أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت».الوسائل : ٢٧ / ١٦٧ ، أبواب صفات القاضي، ح ٤٦ . وأنظر كذلك ص 172 في الباب نفسه، ح ٦١ .

المعلومة إجمالاً ، بل تزيد عليها ، فلا عِلمَ بتكاليف أُخر في موارد الطرق والأصول العملية القائمة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في الأطراف.

لا يقال : قد اخترت في المسألة السابقة الحصر بدعوى استقلال العقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية قبل الشرع.

لأنا نقول: قد ثبتت الإباحة شرعاً بالنصِّ (1) الذي هو أخص وأظهر من أخبار الاحتياط.

ولا بد من التنبيه على أمور

{الأمر} الأوّل: إنما تجري أصالة البراءة فيما لم يكن في موردها أصل موضوعي حاكمٌ عليها وافقها أو خالفها، كما لو شك بعد التذكية في حلّيّة حيوان معلوم القبول للتذكية؛ فإنَّ أصالة الإباحة فيه محكمةٌ، ولا أصل فيه إلّا أصالة الإباحة.

أمّا لو شك في أنَّ الجلل فيه هل يوجب ارتفاع قابليته للتذكية أم لا؟

فالأصل المثبت لقبوله التذكية أصالة قبوله لها؛ لأنَّه قبل الجلل كان يطهر ويحل بالتذكية فالأصل أنه كذلك بعده ، ولا مجال لأصالة الإباحة ولا لأصالة عدم التذكية، وكذا لا مجرى لأصالة الإباحة لو شك في حلّيّة حيوان مع الشك في قبوله التذكية إذا ذُبح على شرائط التذكية؛ لأنَّ الأصل الموضوعي - أعني أصالة عدم التذكية - ينضمُه فيما لم يذكَ، ولا مجرى لأصالة الإباحة؛ لمكان الأصل الحاكم كما هو ظاهر.

[الأمر ] الثاني: لا ريب في حسن الاحتياط في العبادات؛ فإنه نحو من الانقياد والطاعة، بل يستحق الثواب لو احتاط بداعي احتمال الأمر أو النهي حتى لو دار الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب؛ لأنّه جاء به باحتمال الأمر واحتمال كونه محبوباً للمولى فيقع على تقدير الأمر به في الواقع امتثالاً لأمره، وعلى تقدير عدم الأمر فهو انقياد، فيستحق الثواب على كل

ص: 202


1- كرواية مسعدة بن صدقة وغيرها مما هو نص في الحلّية. ينظر الحر العاملي، وسائل الشيعة: ١٧ / ٨٨، ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يتكسب به، ح١، ح٤ وغيرها .

حال: إمّا على الطاعة إنْ كان أمر به في الواقع، أو على الانقياد إن لم يكن.

وتوهمُ (1) أنَّ نية التقرب موقوفةٌ على اعتقاد الطلب فلا يكفي حسن الاحتياط فاسدٌ؛ فإنَّ الحاكم باعتبار قصد القربة إنما هو العقل تحصيلاً للامتثال، فالقربة ليست شرطاً شرعياً، ولا جزءاً في العبادة، ولا تعلّق للأمر بها حتى يتوهم عدم إمكان الإتيان بجميع ما اعتبر في العبادة إلّا بعد العلم بالأمر بها، كلا إنما اعتبر القربة العقلُ فلا توقف، فاحتمالُ الأمر كافٍ

عند العقل في حسن الاحتياط، بل لا حاجة في جريان الاحتياط في العبادات إلى الأمر، بل لو تعلّق بها الأمر لم يكن من الاحتياط، بل مما استحبابه. ومن هنا قلنا في مسألة التسامح في أدلة السنن: إنَّ الظاهر من أخبار «من بلغه» (2) أَنَّ الأمر فيها إرشادٌ لحكم العقل، فاحتمال الأمر واحتمال محبوبيته كافٍ عند العقل في حسن الاحتياط بالإتيان والثواب ؛ لمحض التفضل.

نعم، لو قيل: عنوان البلوغ اقتضى محبةَ الفعل بعنوانه الثانوي وهو البلوغ كان وجهٌ، فلو قيل بدلالة أخبار«من بلغه ثواب» على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف كان مستحباً كسائر ما دلَّ الدليل على استحبابه، ولا يجري فيه حينئذ الاحتياط.

[الأمر] الثالث: مقتضى أصالة البراءة في الفرد المشتبه التحريم الإباحة، إلَّا إذا كان النهي عن فعل الشيء في زمان أو مكان بحيث كان المطلوب تركه فيهما وعدم وجوده فيهما ولو مرة، فلو وجد كان عصياناً للنهي وعدم امتثال له أصلاً ، فلا بد من إحراز تركه بالمرة ولو بالأصل، فلا يجوز اقتحام المشكوك والإتيان بشيء يشك معه في تركه؛ للزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه، ولا يتحقق إلا بترك المشتبه.

ص: 203


1- في حاشية المخطوطة :أ فلا توقف بل احتمال الأمر عند العقل كافٍ قطعاً .
2- وهي أخبار كثيرة يستدل بها على قاعدة التسامح في أدلة السنن، منها ما رواه صفوان عن أبي عبد الله علیه السلام أنه قال: «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله صلی اللهُ علیه وآله لم يقله الحر العاملي، وسائل الشيعة : 1/ 80 باب 18 من أبواب مقدمة العبادات ح١، وكذلك ينظر الاحاديث ٣، ٤ ، ٧، ٨ من الباب نفسه : 81، 82.

نعم، لو كان النهي عن كل فرد بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حِدة كانت الأفراد المشتبهة مجرى أصالة البراءة؛ ضرورة أن مجرد العلم بتحريم الشيء لا يوجبُ الامتناع عن أفراده المشتبهة، بل لا يجب حينئذٍ إلا ترك ما علم أنه فرد، فافهم.

الرابع: ما عرفتَ من حكم الشارع والعقل بحسن الاحتياط خصوصاً في الدماء والفروج وغيرها من الأمور المهمة مقيداً بما لم يخل بالنظام فعلاً، ولا ينحصر في المشتبه، بل مما جاء الدليل على وجوبه أو حرمته، أو قامت الأمارات على عدم مصداقيته للواجب أو الحرام.

وبالجملة، كان احتمال التكليف فيه قوياً أو ضعيفاً قامت الحجة على خلافه أو لم تقم كلّ ذلك الاحتياط فيه حسن، ولو لزم منه اختلال النظام لم يحسن، اللهم إلّا أن يلتفت العامل فيرجح بعض الاحتياطات على بعض عند المعارضة، فافهم.

{دوران الأمر بين الوجوب والحرمة؛ لعدم الدليل على تعيين أحدهما تفصيلاً}

ومن مسائل البراءة، إذا دار الأمر بين وجوب الشيء وحرمته؛ لعدم الدليل على تعيين أحدهما تفصيلاً.

والحقُّ فيه البراءة والإباحة؛ لشمول: «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام»، مع عدم الترجيح بين الفعل والترك، ولا مانع من البراءة عقلاً ولا نقلاً إذا كان كل من الحكمين توصلياً، ولا يلزم من طرحهما والرجوع إلى الإباحة بالعمل عصيان قطعاً، وليس فيه طرح لحكم الشارع، بل حكمه الواقعي باقٍ على ما هو عليه في الواقع، ولا يجب الالتزام إلّا بما علم من الحكم الواقعي.

وكونُه كالخبرين المتعارضين الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب غلطٌ ؛ لظهور الفرق بين المقامين وعدم حصول مناط الأخذ حتى يلتزم أعني احتمال الإصابة، بل هنا ليس المطلوب إلّا الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً، وليس الأخذ بخصوص أحدهما أخذاً بخصوص ما صدر واقعاً بالضرورة؛ لاحتمال أن يكون الصادر الآخر، فلا تنجز هنا في

ص: 204

التكليف؛ لعدم التمكن من الموافقة القطعية، والموافقةُ الاحتمالية حاصلةُّ لا محالة. هذا فيما إذا لم يكن واحداً من الوجوب والحرمة، على التعيين تعبدياً؛ للزوم المخالفة العملية حينئذٍ من طرحهما والرجوع إلى الإباحة، فالحكم بالبراءة عقلاً ونقلاً؛ لعموم النقل وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به فيما إذا كان كل من الوجوب والحرمة توصلياً لا مطلقاً، فتأمل.

ص: 205

لامعةٌ [ في الشك في المكلَّف به ]

في الشك في المكلَّف به بعد العلم بأصل الوجوب أو الحرمة، ثمَّ ربما كان الشك والتردد بين المتباينين، وربما كان بين الأقل والأكثر الارتباطي.

{في دوران الأمر بين المتباينين}

أما لو دار الواجب بين متباينين وكان التكليف المعلوم إجمالاً فعلياً من جميع الجهات وجبت الموافقة القطعية وحرمت مخالفتها؛ لوجوب موافقة التكليف الفعلي بالقطع، وإلا لم تحرم مخالفته القطعية، ولا فرق في وجوب الموافقة - بعد العلم بالفعلية _ بين الأطراف التدريجية والحالية؛ لتنجز العلم ووجوب موافقته.

نعم، لو لم يكن التكليف المعلوم إجمالاً معلوم الفعلية، كما لو لم تكن بعض الأطراف محلاً للابتلاء، أو كان المكلف مضطراً إلى بعضها المعين أو المردد، أو كان التكليف متعلّقاً بموضوع مقطوع بتحققه إجمالاً في هذا الشهر كأيام حيض المستحاضة لم تجب الموافقة القطعية حينئذٍ، بل جازَ مخالفة التكليف المعلوم إجمالاً، ومع عدم فعلية التكليف المعلوم إجمالاً من جميع الجهات لا مانع عقلاً ولا شرعاً من إجراء البراءة في الأطراف وشمول أدلتها لها؛ لأنَّها إنما خُصصت عقلاً في صورة فعلية التكليف؛ لأجل مناقضتها معه، فافهم.

فإن قلتَ: لَم كان الاضطرار مطلقاً موجباً لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه تعييناً أو تخييراً، سابقاً كان على العلم أو لاحقاً؟

قلتُ: لكونه مانعاً عن العلم بفعلية التكليف؛ لتقييد التكليف بعدم الاضطرار إلى من أول الأمر؛ فإنَّ الاضطرار إلى الترك من قيود التكليف، ولا يتعلّق التكليف بالذمة من أول الأمر إلَّا مقيداً بعدم عروض الاضطرار.

ومن هنا ظهر الفرق بين الاضطرار إلى بعض الأطراف، وبين فقدِ بعضها بلزوم الاحتياط في الباقي مع الفقد دون الاضطرار؛ لأنَّ فقدَ المكلَف به ليس من قيود التكليف به، بخلاف الاضطرار إلى تركه، فيجبُ رعاية الاحتياط بعد الفقد، لاشتغال الذمة به مطلقاً فلا

ص: 206

بدَّ من الفراغ عنه، ولا يجب رعايته بعد الاضطرار ؛ لعدم العلم بالاشتغال به إلى هذا الحد، فافهم. فيكون الاحتياط فيه من باب الاحتياط في الشبهة البدوية.

فإن قلتَ: لم كان الابتلاء بجميع الأطراف مما لا بد منه في تأثير العلم بفعلية التكليف؟

قلتُ: لتوقف العلم بالتكليف الفعلي على ذلك؛ لاحتمال تعلّق التكليف بما لا ابتلاء به، كما أنَّ ما لا ابتلاء به عادةً لا موقع للنهي عنه؛ لكونه متروكاً بعدم الداعي إليه، والنهي عنه من قبيل تحصيل الحاصل، فالمدار على ما كان داعياً إليه فينهاه المولى عنه، وفي مثله يحصل العلم بالتكليف الفعلي، وبدونه لا علم بتكليف فعلي ولو شك في ذلك، فالأصل البراءة؛ لعدم العلم بالاشتغال ولا ينفع الإطلاق في مثله، فافهم.

ومما يوجبُ رفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال أيضاً كثرةُ الأطراف غير المحصورة؛ لعسر الموافقة القطعية باجتناب كلها، أو ارتكابها جميعاً، أو لزوم الضرر في ذلك، أو غير ذلك مما لا يكون معه التكليف فعلياً، ولو شك في عروض العسر أو الضرر فالمرجع إطلاق الدليل المثبت للتكليف لو كان، وإلا فالبراءة محكمة للشك في التكليف الفعلي، ولا ميزان في تعيين المحصور وغير المحصور يمكن التعويل عليه غير ما ذكرنا.

تتميمٌ

في حكم ملاقاة شيء مع أحد الأطراف المعلوم وجود النجس فيها إجمالاً .

فاعلم أن المدار في الاحتياط في خصوص الأطراف عند العقل على ما يتوقف حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلوم وجوده في بين الأطراف لا مطلقاً، فلا يجب الاجتناب عن ملاقي أحد الأطراف إذا كانت الملاقاة بعد العلم إجمالاً بالنجس مع الاجتناب عن جميع الأطراف؛ للقطع بالاجتناب عن النجس الذي كان في البين، فإن الملاقي لأحد الأطراف بعد العلم بالنجاسة خارج عن الأطراف، ولو كان نجساً في الواقع لنجاسة الملاقي كان فرداً آخر من النجس وقد شك في وجوده كشيء آخر شك في نجاسته بسبب آخر، فهو بالنسبة إلى العلم بالنجس كفرد آخر لم يعلم حدوثه، بل احتمل، فلا مجال لتوهم

ص: 207

لزوم الاجتناب عنه من جهة تنجز الاجتناب عن المعلوم؛ لكونه خارجاً عن أطراف المعلوم بالإجمال قطعاً.

نعم، يجب الاجتناب عن الملاقي والملاقي لو حدث العلم الإجمالي بعد العلم بالملاقاة؛ لأنَّا نعلمُ إمّا نجاستهما أو نجاسةالإناء الآخر فيجب الاجتناب عن النجس في البين.

{فى دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين}

وأما دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين..

والحقُّ الذي لا ينبغي أن يحيف الأخذُ بالأقل عند الشك في الزائد في مثل الصلاة المعروفة في الجملة، وإنما يقع الشك حيث يقع في وجوب ما اتفقوا على جزئيته كالسورة، أو استحبابه كالقنوت، أو جزئية ما يتناوله المتفق عليه كالذكر، وربما وقع في جزئية ما اتفقوا على لزومه كالهوي إلى السجود، أو جوازه كجلسة الاستراحة، فكان الشك إنما هو في دخول ذلك الشيء المحتمل في تمام معنى المجمل، فالعلماء وإن تنازعوا في بعض الأجزاء، لكنهم مجمعون على أن النزاع إنما هو في دخول المتنازع فيه في الصلاة وفي خروجه، وليس نزاعهم فی أنَّ مفهوم الصلاة ماذا، هذا المجموع أو ذاك وإن رجع إليه بالآخرة. والفرض أنَّ النزاع إنما هو في الجزء المحتمل لا في المجموع حتى يقال: (إنَّ العلم الإجمالي بثبوت التكليف بينهما [ أيضاً] يوجبُ الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر؛ لتنجزه به حيث تعلّق بثبوته فعلاً) (1)، انتهى.

ص: 208


1- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول : ٣/ ١١٥ ، ما اختاره المصنف هو المشهور بين المتقدمين والمتأخرين من العامة والخاصة، ينظر: ابن حزم الإحكام: ٦٣٠/٥ ؛ الشيخ الطوسي، الخلاف:١/ ٨٥ المسالة ٣٥؛ ابن إدريس الحلي، السرائر:232/1؛ المحقق الحلي، معارج الأصول: 213 المسألة الأولى من الفصل الثالث (فيما الحق بأدلة الأصول وليس منها )؛ المحقق الكركي، جامع المقاصد: 219/2؛ الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية: ٤٤١ فائدة 19 ؛ الأنصاري، فرائد الأصول : 317/2 حيث قال: (والإنصاف لم أعثر في كلمات من تقدم على المحقق السبزواري من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط وإن كان فيهم من يختلف كلامه في ذلك كالسيد والشيخ والشهيد) انتهى؛ واختاره صاحب الحاشية وصاحب المفاتيح وصاحب الكفاية. ينظر الأصفهاني، هداية المسترشدين: ٥٦٣/٣ وما بعدها؛ السيد محمد المجاهد، مفاتيح الأصول / 528 .

وكيف يعلم تنجزه بالجزء المشكوك دخوله في المكلف به کلا بل المعلوم تنجزه به هو المجموع المعلوم الذي لا خلاف فيه، والمشكوكُ مشكوكٌ بدواً؛ ضرورة لزوم الإتيان بالمجموع المعلوم وجوبه على القولين، والجزء المشكوك دخوله مشكوكُ الوجوبِ على القولين، فكيف يكون العلم منجزاً به وهو محتملٌ صِرف بلا ما يوجب تنجزه لو كان واجباً في الواقع؛ لانحلال العلم وصيرورته مشكوكاً بدوياً !

فظهر فساد دعوی: استلزام الانحلال المحال بزعم بداهة توقف لزوم الأقل فعلاً:

إمّا لنفسه أو لغيره على تنجز التكليف مطلقاً ولو كان متعلّقاً بالأكثر ، فلو كان لزومه كذلك مستلزماً لعدم تنجزه إلَّا إذا كان متعلقاً بالأقل كان خلفاً، مع أنَّه يلزم من وجوده عدمه؛ لاستلزامه عدم تنجز التكليف على كل حال المستلزمُ لعدم لزوم الأقل مطلقاً المستلزِمُ لعدم الانحلال، وما يلزم من وجوده عدمه محالٌ (1).انتهى.

ضرورة أن هذا المجموع المركب من هذه الأجزاء المعلومة هو المعنى الحقيقي للمجمل عند المتشرعة، ومعروضيته للأمر معلومٌ؛ لأنَّ التكليف إنما هو بالمعنى العرفي، ومعلومٌ أن الجزء المحتمل الذي لم يقم دليل عليه مشكوکٌ بدواً لا معلومٌ إجمالاً، إنما المعلوم المجموع المركب من الأجزاء المعلومة، فلا يتوقف تنجز وجوب المجموع ِفعلاًالمتيقن على تنجيز التكليف بالجزء المحتمل الصرف؛ لِما عرفت من أن النزاع إنما هو في دخول المتنازع فيه في الصلاة وفي خروجه، فالصلاة المعروفة في الجملة - أعني هذا المجموع المركب من أجزاء المعلومة - معلومُ الوجوب فعلاً، لا أنَّ نزاع العلماء في مفهوم الصلاة ماذا هل هذا المجموع أو ذاك المجموع ؟ كي يتوهم عدم الانحلال أو استلزامه المحال.

والإنصافُ إن إنكار كون الأقل متيقن الوجوب (2) الملزوم عند العقل مكابرةٌ مع الوجدان ومضادة مع العيان، اليس هذا المجموع المركب من الأجزاء المعلومة معلومٌ ولا

ص: 209


1- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٣ / ١١٦ - 117 - 118.
2- في نسخة ب المتيقن الوجوب.

شك إلَّا في جلسة الاستراحة هل هي داخلة في الصلاة أم لا؟ هذا واقع الأمر وحقيقته، فكيف لا يكون الأقل متيقناً محكوماً بلزومه ولا يكون العلم الإجمالي منحلاً بعد هذا المتيقن الضروري! أليست جلسة الاستراحة على تقدير وجوبها في الواقع داخلةً في هذا المركب المعلوم وجوب جميع أجزائه على كل تقدير سواء كانت الجلسة واجبة أو لم تكن واجبة، ولا يكون الأمر بهذا المجموع على تقدير دخول الجزء المشكوك في حقيقة الصلاة غير الأمر بها على تقدير عدم وجوب ذلك المشكوك ، بل هو ليس إلا الأمر بالصلاة المخترعة ذات الحقيقة الشرعية المعروفة عند المتشرعة في الجملة والمقطوع عندهم بالقطع الضروري هذا المجموع المعروف وإن احتملوا دخول جلسة الاستراحة فيها؟

لكن لّما لم يقم عندهم - بعد الجد والاجتهاد والفحص والبحث - ما يدُّل على ذلك استراحوا إلى قبح العقاب بلا بيان في الأمن من العقاب على ترك جلسة الاستراحة لو كانت في علم الله تعالى داخلة في الصلاة، وقالوا الأصلُ عدمُ دخولها، والبراءة منها.

والقولُ بأنَّ العلم الإجمالي في المكلف به ينجز التكليف بالجزء المشكوك صرف الذي لم يقم دليل على دخوله في المأمور به، وليس فيه إلا صِرف الاحتمال لا غير. مكابرةٌ مع الوجدان. ومن الغريب قوله بعد ذلك: نعم إنما ينحل إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة، فإنَّ وجوبه حينئذٍ يكون معلوماً له، وإنما كان الترديد لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين أو مصلحة أقوى من مصلحة الأقل، فالعقل في مثله وإن استقلَّ بالبراءة بلا كلام إلَّا أنه خارجٌ عما هو محلُّ النقض والإبرام (1)، انتهى.

ويا سبحان الله ! كيف يكون خارجاً عن محل النزاع، أليس النزاع في الجزء المشكوك الذي لم يقم دليل على لزومه ودخوله في حقيقة الصلاة المتلقاة من الشارع التي يقيمها المتشرعة في اليوم والليلة خمس مرات، هل يحتمل عاقل أنها على تقدير دخول الجزء المحتمل المشكوك فيها كالرقص بدونه لا مصلحة فيها، أقصاه أن المصلحة على تقدير دخول جلسة

ص: 210


1- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 3/18-119.

الاستراحة فيها أقوى، أما احتمال أن لا يكون فيها مصلحة ملزمة وأنَّ الجزء المشكوك العلة التامة في ثبوت المصلحة فيها وبدونه هي كالرقص واللعب لا يحتمله أحد، وحينئذٍ كيف لا بدَّ أن ينحل العلم كما اعترف به، وكيف يعترف بهذا ويدعي أنَّ الانحلال مستلزمٌ للمحال!

هل الكلام إلّا في الأقل والأكثر الارتباطي كالصلاة ، ونحوها، وليس الأقل إلّا هذا المركب المعروف عند المتشرعة بالصلاة، والأكثر ليس إلّا هو مع الجزء المحتمل الجزئية الذي لا يمكن إثبات جزئيته إلَّا بالاحتمال، وإثباتُ الجزئية بالاحتمال تشريعٌ يجب الخروج منه، والملزم به إنما يقوده إليه الاحتياط ولا يقول بجزئيته. أبَعدَ هذا لا تكون الصلاة التي عليها المتشرعة ذات مصلحة ملزمة؟ ويدعي أنَّ المصلحة المقتضية للأمر لا تكاد تحرز إلَّا بالأكثر الراجع إلى ما عرفت من الإتيان بالمحتمل المشكوك الذي لا دليل على دخوله في حقيقة الصلاة بوجه من الوجوه، حتى نفى جزئيته عامةُ المتشرعة وقالوا: ليست الصلاة إلَّا ما عرفه المتشرعة عن الشارع.

وهذا المحتمل لا دليل على دخوله فيها فالأصل عدمه، وهذا المعترض يزعم أنه لا يمكن إحراز المصلحة إلّا بهذا المشكوك، وبدونه لا تصح مصلحة الأمر، ولا يحتمل أن تكون المصلحة تامة بدونه أو تكون معه أقوى، ولا غرو فكثيراً ما تشتبه هذه المقامات على غير المتروي، وطريقةُ الأصحاب مستقيمةٌ على البراءة، ولم يُفتِ أحد منهم بلزوم الاحتياط قبل المحقق السبزواري صاحب الذخيرة (1) ؛ لأنَّهم يرون أنَّ التكليف إنما كان بما جاء في البيان لا بالمحتمل، وإنما تعلّق بحقيقة معروفة وهو المعنى الشرعي.

والتحقيق أنه وإن تعلّق بالمجمل، لكن جاء البيان الحقيقة الصلاة قولاً وفعلاً، وهو ما أصابه الراسخون من مجموع الأدلة واستقامت عليه المتشرعة وعرفته وعرّفته بالصلاة، وهذا المشكوك لا دليل على دخوله فيه، وأنى يخفى ما تعم به البلوى وتتوفر الدواعي على

ص: 211


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: 317/2.

نقله مع طول البحث وشدة التنقيب (1) ، فالعقل حاكم بعد الوقوف على ما ذكرنا بالأمن من ترك هذا المشكوك مع القطع بحصول الغرض من إطاعة الأمر بالصلاة، أقصاه أنه يحتمل أن تكون المصلحة أقوى من الإتيان بالجزء المحتمل ، ولا داعي إلى دعوى كفاية ما علم تعلّق الأمر به، فإنه واجب عقلاً وإنْ لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأساً؛ لتنجزه بالعلم به إجمالاً، وأمّا الزائد عليه لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته؛ فإنَّ العقوبة عليه بلا بيان؛ لما عرفتَ من القطع بحصول الغرض بإتيان الصلاة التي اتفق الكل عليها اليوم ولا يعرفون شيئاً خارجاً عنها ، بل لا يحتملون بقاء الاشتغال بترك المحتمل الذي لم يقم دليل على جزئيته أصلاً؛ لاستقلال العقل بالحكم بقبح العقاب بلا بيان.

[الاحتجاج بحديث الحجب والرفع على عدم وجوب الإتيان بالجزء المشكوك وجوبه ] وربما احتج بما تقدم من الأخبار في الشك في التكليف كحديث الحجب وحديث الرفع بأنَّ وجوب الجزء المشكوك محجوب علمه عن العباد فهو موضوع عنهم، ومما لم يعلم فهو مرفوع عن المكلفين؛ وحيث إنَّ هذه الأخبار تدل على نفي العقاب على ترك الجزء المشكوك لو كان واجباً في الواقع - فهي حاكمة على حكم العقل فلا يقتضي وجوب الأكثر من باب الاحتياط الراجع إلى وجوب دفع العقاب المحتمل بزعم الخصم؛ ضرورة أنَّ الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر لو كان واجباً في الواقع، واستصحاب الاشتغال مثبت لا نقول بحجيته، فالعلم بالجزء المشكوك بعد محجوب، فلا ينفع في لزوم الاحتياط.

وهذه الأخبار حاكمة على استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المثبت؛ لأنَّ الشارع أخبر بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الذي حجب العلم بوجوبه، كان المستصحب وهو الاشتغال المعلوم سابقاً غير متيقن إلا بالنسبة إلى الأقل وقد ارتفع بإتيانه، واحتمال بقاء الاشتغال حينئذ من جهة الأكثر منفي بحكم هذه الأخبار ، وكذلك هي تنفي العقاب والضرر المحتمل عقلاً كما عرفت، فافهم.

ص: 212


1- في نسخة (ب): وشدة التنقير.

تتمیمات مهمات

وما ذكرنا من العقل والنقل جار فيما إذا كان الشك في الجزئية من جهة إجمال الدليل أيضاً؛ فإن التكليف متعلّق بمصداق المراد والمدلول؛ لأنه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه فلا يتوهم تنجز التكليف بمراد الشارع من اللفظ إذا كان متعلّق الخطاب مجملاً؛ لما ذكرنا من أنَّ التكليف ليس متعلقاً بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله حتى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبين المشتبه مصداقه بين أمرين حتى يجب الاحتياط فيه، وإنما تعلّق التكليف بمصداق المراد والمدلول؛ لأنَّ المصداق هو الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه واتصافه بمفهوم المراد والمدلول بعد الوضع والاستعمال ، فنفس متعلّق التكليف - أي المصداق- مردد بين الأقل والأكثر لا مصداقه - أي لا مصداق متعلّق التكليف وهو المسمى بمصداق المصداق، ونظير هذا التوهم -أعني توهم أنَّ متعلّق التكليف هو المفهوم لا المصداق من اللفظ - أنه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعاً للصحيح، والصحيحُ مردد مصداقه بين الأقل والأكثر، -فيجب فيه الاحتياط، وهو خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق، فافهم.

ثمَّ لا فرق بين وضع الاسم للصحيح أو الأعم، والمرجع الإطلاقُ عند تعارض النصين في الجزء، وحيث لا إطلاق ، فالمرجع التخييرُ ، وإذا تعلق الحكم بمفهوم مبين وتردد المصداق وجب الاحتياط، فيجب الاحتياط في الشبهة الموضوعية عند الشك في الجزئية؛ لأنَّ المفروض تنجز التكليف بمفهوم مبين معلوم تفصيلاً وإنما الشك في تحققه بالأقل، فمقتضى تحققه وبقاء الاشتغال عدم الاكتفاء به ولزوم الإتيان بالأكثر، والعقل أيضاً أصالة عدم مستقل بوجوب الاحتياط مع الشك في التحقق.

ص: 213

الأول: فيما لو كان الشك في الجزء الذهني هو القيد ودار الأمر بين المطلق وبين المقيد، والقيدُ إمّا من الأمور المنتزعة من أمر خارجي مغاير للمأمور به في الوجود الخارجي كالوضوء الذي يصير منشاً للطهارة المقيد بها الصلاة. وإما أن يكون من خصوصيات المأمور به المتحدة معه في الوجود كما لو دار الأمر بين مطلق الرقبة ورقبة خاصة كمؤمنة مثلاً.

لا ريب في كون القسم الثاني من قبيل المتباينين لا الأقل والأكثر، فالآتي بالرقبة الكافرة لم يأتِ في الخارج بما هو معلوم له تفصيلاً كي يكون معذوراً في الزائد المجهول، بل هو تارك للمأمور به رأساً؛ لأنَّ الإيمان المتحد مع الرقبة ليس مما يتعلق به وجوب مغاير لوجوب أصل الرقبة - ولو مقدمةً - فلا يندرج في «ما حجب علمه عن العباد».

نعم، لا يبعد اندراج القسم الأول فيما حجب علمه»، وكذلك حديث الرفع؛ لدلالته على عدم شرطية ما شك في شرطيته.

الثاني: لو دار الأمر بين التخيير والتعيين حيث لا لفظ في المقام، كما لو دار الواجب في كفارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه وبين إحدى الخصال الثلاث، فالحق التعيين؛ للاحتياط؛ لرجوعه إلى المتباينين لا الأقل والأكثر؛ لعدم كون المعين أمراً خارجاً عن المكلف به مأخوذاً فيه على وجه الشرطية أو الشطرية، بل هو على تقديره عين المكلَّف؛ به.

وينبغي التنبيه على أمور:

الأول: الأصل في الجزء المتروك سهواً فسادُ الصلاة؛ لكونه جزءاً واقعياً لازم الإتيان بنفس الأمر، لا جزءاً في حال الذكر ولا فرق بين الدليل اللفظي واللبي كالإجماع ونحوه، وانتفاء الأمر الغيري في حق الغافل عن الجزء إنما هو من حيث انتفاء الأمر بالكل في حال الغفلة فلا تنتفي الجزئية بذلك، فلا بد له بعد الالتفات من الإعادة أو القضاء.

ودعوى: أنَّ الجزئية مرتفعة حال النسيان بحديث الرفع بناءً على رفع جميع الآثار، وأنَّ الجزئية - باعتبار أنَّ للشارع التصرف بمنشأ انتزاعها - تكون من الآثار الشرعية، فهي مرفوعة.

ص: 214

ممنوعةُ المبنى والابتناء كدعوى الإجزاء في المقام، ولا أمر بغير الأمر الجامع لجميع الأجزاء.

الثاني: الأصلُ في الجزء الزائد عمداً من دون قصد الجزئية عدم الفساد؛ للشك في المانع، والأصل براءة الذمة من شرطية عدمها.

اللهم إلَّا أنْ يدلَّ خبر على الفساد كما جاء في سجدة العزيمة: «أنها زيادة في المكتوبة» (1). نعم، لو زاد بقصد كون الزيادة جزءاً مستقلاً فلا ريب في الفساد؛ لأنَّ ما جاء به مشتمل على زيادة وهو غير مأمور به، وما أمر به لم يقصد الامتثال به.

الثالث: الأصل في الزائد سهواً كالزائد عمداً من غير فرق، فما يقدحُ عمده يقدح سهوه مع عدم الدليل، وقد جاء في الأخبار عموم قدح كل زيادة، وحديث: «لا تعاد» (2) نفى الإعادة في السهو إلا عن خمسة، وهو مخصص لذلك العموم.

الرابع: هل الأصلُ إطلاق الجزء حتى حال التعذر فينتفي الكل بانتفائه، أو اختصاصه في حال التمكن فيبقى ما سواه من الأجزاء؟ وجهان، بل قولان.

الخامس: لو عُلمتْ جزئية الشيء أو شرطيته وشك في إطلاقها لحال العجز عنها، ودار الأمر بين أن يكون الشيء جزءاً أو شرطاً مطلقاً، وبين أن يكون جزءاً أو شرطاً حال التمكن منه ولو ثبت الإطلاق وعجز عنه سقط الأمر به؛ لعدم القدرة فيبقى الأمر متعلّقاً بالباقي، ومع عدم المعين للإطلاق أو التقييد بحال التمكن كإطلاق دليل الجزئية أو الشرطية، أو إطلاق دليل المأمور به وإجمال دليل اعتبار الجزء أو الشرط، فالمرجع حينئذ البراءة عن الباقي؛ لاستقلال العقل بالحكم بها؛ لأنَّ العقاب على تركه يكون عقاباً بلا بيان.

ولا يتوهم رفع الجزئية أو الشرطية بحديث الرفع؛ لأنه جاء بالامتنان بنفي ما يوجب

ص: 215


1- البروجردي، جامع أحاديث الشيعة : 187/٥ ، باب 20 من أبواب القراءة، ح 1.
2- رواية زرارة عن أبي جعفر علیه السلام الهلال أنه قال : لا تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع والسجود ثم قال : القراءة سنة، والتشهد سنة، ولا تنقض السنة الفريضة»، الحر العاملي، وسائل الشيعة، كتاب الصلاة: ٩١/٦ ، ح ٧٤٢٧، باب 29 من أبواب القراءة في الصلاة، حه .

التكليف لا بما يثبته.

ودعوى :استصحاب وجوب الباقي في حال التعذر أيضاً؛ لأنَّ العرف لا يدققون في الموضوع.

ممنوعة: ولو سلّم بقاء الموضوع فهو من القسم الثالث من استصحاب الكلي الذي يُشك في مقدار استعداد الكلي فيه، وربما استدل بالخبر المشهور: «لا يسقط الميسور بالمعسور» (1)وبالمستفيض الآخر: «ما لا يدرك كله لا يترك كله» (2)، وفي شمولها للشرط تأمل، بل منع .

وبالجملة، لا عموم فيها، وهما كسائر أمثالهما لا تخلو من الإشكال في السند أو الدلالة فتأمل.

السادس :لو تعذر الإتيان بتمام المأمور به فهل يقدم البدل على ما بقي أم لا؟ الأظهرُ تقدمُ البدل وإنْ أومأ خبر الميسور بالباقي.

السابع: إذا دار الأمر بين كون الشيء شرطاً أو مانعاً، أو بين كونه جزء جزء وكونه مبطلاً كالجهر بالقراءة في ظهر الجمعة، فقد قيل بوجوبه (3) ، وقيل بوجوب الإخفات وإبطال الجهر (4) ، فهل الحكم التخيير؛ لدوران الأمر في الجهر - مثلاً - بين الوجوب والحرمة، أو هو الاحتياط بتكرر الصلاة مرةً بالجهر ومرةً بالاخفات؟ وجهان.

والتحقيق - حسبما عرفت من عدم وجوب الاحتياط في مطلق الشك في الشرطية والجزئية وعدم حرمة المخالفة القطعية للواقع إذا لم تكن عملية- التخيير هنا، وصرفُ إمكان الاحتياط لا يوجب حكم المتباينين.

نعم، لو كان الحكم في الشك في الشرطية والجزئية الاحتياط تعين هنا الجمع بتكرار الصلاة، فافهم.

ص: 216


1- هذا مضمون الرواية ونصها : لا يترك الميسور بالمعسور ينظر الإحسائي، عوالي اللآلئ: ٥٨/٤ ح ٢٠٥ .
2- الاحسائي، عوالي اللآلئ: ٤ / ٥٨ ح ٢٠٧ .
3- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول : ١٤٣/٣ .
4- المحقق الحلي المعتبر : ٢ / ٣٠٤ ، حكاه عن بعض عن بعض الأصحاب .

خاتمة

في شرائط الأصول الثلاثة الاحتياط، والبراءة، والتخيير .

أما الأول : فلا بدَّ من كونه بحيث يمكن إحراز الواقع المشكوك فيه به على وجه لا يلزم منه اختلالُ النظام كالمنجر إلى الوسواس والجنون والعياذ بالله سواء كان في العبادات أو المعاملات، واشتراط عدم لزوم التكرار في العبادة لا يرجع إلى محصل؛ فإنَّ المفروض الإتيان به بداعي أمر المولى، وهو كافٍ في حصول الامتثال على كل حال، ولا يختص حسن الاحتياط في ما لم يقم دليل على نفي التكليف، بل حتى لو قام على البراءة عن التكليف فإنَّ فيه ادراكاً للمصلحة أو تركاً للمفسدة على تقدير مخالفة دليل البراءة عن التكليف للواقع، فافهم والله ولي التوفيق.

وأمّا الثاني: فالشرط فيه أن لا يكون على خلافه دليل اجتهادي، ولا بدَّ من الفحص عن الدليل قبل العمل بالبراءة في غير الشبهة الموضوعية؛ لأنَّ الجاهل بالحكم يجب عليه التعلم والبحث عن الحكم، فإذا كان مقصراً لم يكن معذوراً عقلاً ونقلاً، والمفروض العلم الإجمالي بثبوت التكليف بين موارد الشبهات بحيث لو فحص عنه ظفر به فهو متمكن من التعلم والعلم بالتكليف، فلو ترك الفحص كان مقصراً ألبتة، ومع الفحص التام وعدم الظفر بالمزيل عن البراءة يصحُ العمل بها وإنْ لم يرتفع العلم الإجمالي؛ فإنه لا أثر له حينئذ؛ فإِنَّ البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجز : إما لانحلال العلم الإجمالي بالظفر بالقدر المعلوم إجمالاً ، أو لعدم الابتلاء إلا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات ولو لعدم الالتفات إليها، فافهم.

وأما اعتبارُ أن لا يكون أصل البراءة موجباً للضرر فراجع إلى ما ذكرنا من اشتراط أن لا يكون على خلافه دليل اجتهادي.

وأمّا اعتبار أن لا يكون موجباً لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى فليس هذا بالاشتراط عند التأمل، فافهم.

وأما مبحثُ صحة عمل الجاهل في العبادات والمعاملات وعدمها فقد ذكرناه في طي مسائل التقليد في أول كتاب التحصيل»، وأفردنا في قاعدة الضرر رسالةً مفردةً.

ص: 217

لامعةٌ في الاستصحاب

وهو : الحكم ببقاء ما شك في بقائه، باعتبار أنه كانَ، فلا بدَّ من اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول في نظر العرف، وقد حكموا ببقاء الموضوع في استصحاب الحكم فلا إشكال (1)، وقد وقع خلاف في نفي الاستصحاب وإثباته مطلقاً أو في الجملة على أقوال أنهاها شيخنا في رسالته إلى أحد عشر (2).

والحقُّ حجيته مطلقاً والبناءً على الحالة السابقة بحسب العمل مطلقاً.

وَاختلفوا في وجه ثبوته من أنه من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم العرفية مطلقاً، أو في الجملة تعبداً، أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقاً، وإمّا من جهة دلالة النصوص، أو دعوى الإجماع عليه كذلك، وجوه وأقوال.

الأظهرُ في وجه ثبوته الأخبارُ من باب التعبد الشرعى كما ستعرف، لا لأنَّ ما ثبت سابقاً وشُك فيه لاحقاً فهو مظنون البقاء، ولا لبناء العقلاء على الحكم بالبقاء؛ لعدم حجية الظن المطلق وكونه ملحقاً بالأعم الأغلب مع تفاوت الأشياء لا يتّبع.

وبناءُ العقلاء ممنوعٌ في غير صورة الظن بالبقاء أو العلم به، وقد عرفت أنَّه لا بدَّ من العلم بحجية الظن، والمراد من الشك خلافُ اليقين، فالاستصحابُ يجري مع الظن بالخلاف والظن بالوفاق بناءً على المختار من حجيته من باب الأخبار، فالمهمُ بيانُ ما عوّلنا عليه من الروايات منها:الصحاح الثلاث لزرارة:

الأولى: المضمرة، وهي عن أبي جعفر الباقر قال: «قلت له الرجل ينام وهو على وضوء، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال: يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والأذن فقد وجب الوضوء. قلت: فإن حرك في جنبه شيء وهو لا يعلم ؟ قال : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، فإنه على يقين

ص: 218


1- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٣ / ١٦٤.
2- الشيخ الأنصاري ، فرائد الأصول: ٤٩/٣ -٥٠.

من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشك، ولكن ينقضه بيقين آخر » (1)الحديث.

والظاهر من السؤال الأول أنه يعلم أن الخفقة والخفقتين من أقسام النوم المطلق، ويعلم أنهما ليسا ناقضاً مستقلاً غيرَ النوم، وإنما سأل عن اندراجهما تحت النوم الناقض شرعاً

من جهة الشبهة في المفهوم لا المصداق كما يشهد له تفصيلُ الإمام علیه السلام المراتب النوم.

وأمّا السؤال الثاني أعني قوله: «فإن حرّك إلى جنبه»، فالظاهر أنه تردد في اندراج بعض مراتب الخفقة والخفقتين تحت المفهوم المبين بعد الفراغ عن خروج بعض مراتبهما

بالبيان المتقدم عليه.

ثمَّ إنَّ عدم الالتفات إلى عدم تحريك شيء إلى جنبه إن كان من الأسباب المورثة للظن بالنوم كانت الروايةُ صريحةً في حجية الاستصحاب مع الظن بالخلاف، وإلا فالتمسك بحجيتها يكونُ من باب إطلاقها.

وقولُه علیه السلام:« وإلا فإنه على يقين من وضوئه» ظاهرٌ في النهي عن نقض اليقين بالشك؛ لكونه علیه السلام في مقام بيان جواب الشرط المحذوف أي:إن لم تستيقن أنك نمتَ فلا يجبُ عليك الوضوء؛ لأنَّك على يقين من وضوئك السابق حال الشك، فيكون قوله: «فإنه على يقين» علةً لجواب الشرط - أعني : لا يجب عليه الوضوء، فأقامه مقامه، وهذا مطردٌ في العرف، ولا ريب في ظهور القضية في عموم اليقين والشك؛ لأنَّ الإمام علیه السلام في مقام بيان ضرب قاعدة لتقريب عدم نقض الوضوء بالشك في النوم، وهذا لا يتم بدون إرادة العموم من اليقين؛ إذ لو لم يكن عمومٌ يكون الكلام بمنزلة قضية جزئية وهي غير منتجة؛ لعدم العلم بكونه داخلاً فيه فلا بدَّ من حمله على العموم، والجزئيةُ لا تصح وجهاً للتعليل فلا بد أن يكون للعموم، وأيضاً قوله: «أبداً» فإنه وإنْ كان لعموم الأزمان إلّا أنه قد يستعمل في عموم الأفراد إذا كانت الأفراد أفراداً طولية مندرجةً بحسب الزمان غير متحققة في زمان واحد كما يظهر من

ص: 219


1- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام: 8/1، باب الأحداث الموجبة للطهارة، ح 11؛ الحر العاملي وسائل الشيعة:١ / ٢٤٥ ح ٦٣١ ، الباب الأول من أبواب نواقض الوضوء، ح 1 .

مراجعة العرف.

هذا، مضافاً إلى استفادة العموم من العلة المنصوصة - أعني قوله: «فإنه على يقين من وضوئه» -ولا مدخلية لوصف الوضوئية في الصغرى حتى يقال بأنه ليس من المنصوص العلة؛ لذكر الوضوء من باب المثال؛ لافتقار اليقين إلى متعلّق،ولا خصوصية للوضوء مع احتمال أن يكون:« فإنه على يقين» نفس الجزاء، بمعنى أنه أمرَ بالمضي على اليقين والبناء عليه و ترتب آثاره عليه فتكون قضية إنشائية، ويستقيم الارتباط واللزوم بين الجزاء والشرط، لكن الظاهر من الجملة الاسمية الإخبار لا الإنشاء، كما أنَّ ظاهر ما بعدها التأسيس لا التأكيد.

نعم، القولُ بأن الجزاء مستفادٌ من قوله : «ولا تنقض اليقين أبداً بالشك» غيرُ بعيد فيكون قوله : «فإنه على يقين» توطئةً للجزاء، والتقدير: إن لم يستيقن النوم فهو مستيقن الوضوء السابق ويثبت على مقتضى يقينه السابق ولا ينقضه، ولكن يخرج حينئذٍ قوله: «لا تنقض» عن كونه بمنزلة كبرى.

ثمَّ حيث كانت الجملة الاسمية -أعني قوله: «فإنه على يقين من وضوئه»- ظاهرةً في أنَّ زمان النسبة هو الحال - أي على يقين من وضوئه السابق حال الشك - وحينئذٍ فلا بدَّ أنْ يكون حال النسبة هو حال الشك متلبساً بكونه على يقين من وضوئه السابق، وهذا لا يناسب غير الاستصحاب، فلا يصغى إلى بعض التمحّلات في تنزيل الجملة الاسمية على الشك الساري، بل نفس قوله علیه السلام: «فإنه على يقين» دالةٌ على حجية الاستصحاب من دون ملاحظة صدرها وذيلها؛ لأنَّ المراد من قوله :« فإنه على يقين من وضوئه»: أنه على يقين من وضوئه السابق حال الشك كما هو قضية الجملة الاسمية التي شأنها أنْ تدلَّ على أنَّ زمان النسبة هو الحال، وحينئذٍ فلا بدَّ أنْ يكون حال النسبة هو حال الشك متلبساً بكونه على يقين من وضوئه السابق، وهذا لا يناسب غير الاستصحاب كما لا يخفى.

لا يقال: مورد الرواية الشبهة في الموضوع من الشك في الرافع، فإن خصصت بها كان ذلك تخصيصاً لعموم اليقين، وإن عمّت لها وللشبهة الحكمية كان موجباً لتخصيص حجيته بما بعد الفحص، وأحدُ التخصيصين ليس أولى من الآخر، فتكون مجملةً فيسقط الاستدلال

ص: 220

بها؛ إذ حملها على الأول حملٌ على ما هو خارج عن محل النزاع.

لأنا نقول: إنا نختار التعميم، ونقول: إنَّ خروجها قبل الفحص ليس من باب التخصيص، بل هو من باب التخصص كما لا يخفى على الخبير من أنها قضية كلية ارتكازية قد أُتي بها في غير مورد؛ لأجل الاستدلال بها على حكم المورد.

لا يقال: بعد عدم إمكان اجتماع اليقين والشك لا بدَّ من حمل النهي عن النقض على وجه صحيح بالتصرّف فیهما،بأن یُحمل الیقین الظن و الشک علی الوهم ،كما فعله الشهيد في الذكرى (1) ، أو بإرادة المتيقن من اليقين كما حمله في المدارك (2)، أو بإضمار الحكم كما فعله البهائي (3)، وحيث إنَّ الإظهار أولى من الإضمار سقطَ احتمال البهائي، فيبقى الأولان ولا مرجح لأحدهما على الآخر.

لأنا نقول: الحمل على المتيقن أولى؛ لأنَّ استعمال اليقين في الظن مجازٌ مستنكرٌ ، بل لم يرد إطلاقه عليه، إلّا في تعريف العلم، وقد رماه القوم بسهم واحد، وإذا انتفى الأول تعيّن الثاني، وعليه يتم الاستدلال.

والتحقيقُ ما أفاده سيدنا الأستاذ العلّامة قدس سرهُ له من أنَّ استعمال لفظ اليقين في الحديث لا يحصل إلَّا بملاحظة نفسه لا بملاحظة المتيقن ؛ لأنَّ العلاقة المجوّزة هو كون الشيء محكماً ومبرماً، وحينئذٍ فالمراد من النهي عن النقض في أخبار الباب لا بدَّ أنْ يكون المراد به عدم البناء على النقض، أي: لا تبني على النقض بل ابنِ على البقاء وعامل يقينك السابق معاملة الباقي تعبداً كما هو قضية سائر القواعد المقررة للشك؛ لأنَّ مرجعها هو البناء على ترتيب الآثار والالتزام به تعبداً من الشارع، وما يمكن أن يكون مانعاً من إرادة نفس اليقين من لفظه أحد الشيئين :

ص: 221


1- الشهيد الأول ، ذكرى الشيعة: ٢٠٧/٢ .
2- السيد محمد الموسوي العاملي، مدارك الأحكام: 1/ 270 .
3- الشيخ البهائي، زبدة الأصول: ١٦٠.

أحدهما: ما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري رحمة الله علیه من أن اليقين لا يصير متعلّقاً للنقض؛ لعدم كونه اختيارياً للمكلف، وفيه ما عرفتَ.

ثانيهما: إنه لو لم يتصرّف فيه يلزم البناء والعمل بآثار اليقين مع ارتفاعه.

وفيه: إنه إنما يلزم لو كان ملحوظاً بنفسه لا إذا كان ملحوظاً على نحو المرآتية والطريقية كما هو ظاهر الأخبار ، وليس قضية ذلك إلّا الالتزام بالمتيقن تعبداً إن كان من الأحكام، وآثاره الشرعية إنْ كان موضوعاً .

وحاصله: حمل الصيغة على النهي عن النقض بناءً ومعاملةً لا حقيقةً؛ لأنَّ النقض الحقيقي ليس اختيارياً للمكلف لا بالنسبة إلى نفس اليقين _ كما هو ظاهر القضية _ ولا بالنسبة إلى المُتيقن ولا إلى آثاره بناءً على إرادتها منه ؛ لعدم التمكن من إبقاء الأحكام الشرعية ورفعها، بل هي على ما كانت عليها في الواقع ولا من موضوعاتها الخارجية؛ بداهةَ أنَّ أمر رفعها وبقائها منوطٌ بأسمائها الخارجية.

هذا، مع أنَّ الكلام في مشكوك الارتفاع والبقاء واقعاً، والواقع لا يتغير عما هو عليه من البقاء والارتفاع وإن كان أمرهما بيد المكلف واختيار.

ومن هنا يظهر أن حمل إرادة المتيقن من لفظ (اليقين) لا يوجبُ حمل (النهي) على النهي عن النقض حقيقةً؛ لِما عرفت من عدم التمكن، وأنه لا وجه لحمل اليقين على المتيقن كما هو ظاهر كلام شيخنا المرتضى رحمة الله علیه حيث قال : (إنَّ إرادة المتيقن من اليقين مما لا بدَّ منه على كل حال ) (1) ، وعلّله بأن النقض الاختياري لا يتعلّق باليقين.

وقد عرفت أنَّ النهي لا بدَّ أن يحمل على النهي البنائي، وإرادةُ المتيقن من اليقين لا يصحح النهي عن النقض الحقيقي، بل هو كرّ على ما فرَّ [ منه ] ؛ لأنَّ النهي لا بدَّ أن يحمل على

البناء والمعاملة.

فظهر أن لفظ (النقض ) مستعملُ في نفس معناه، ولفظ (النقض) أيضاً لا اختصاص

ص: 222


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: 79/3 .

له في حجية الاستصحاب في خصوص الشك في الرافع، بل يعمّه والمقتضي (1)؛ لأنَّ المستفاد من كلام أهل اللغة (2) في معنى النقض ليس إلَّا ما هو ضد الإبرام، وليس فيه قطع اتصال أو رفع هيئة متصلة، بل هو خلاف الأحكام، وتفريق الأجزاء الملتئمة المحكمة بعضها عن بعض، كما يقال: (نقضت الجدار ) أي: فرّقت أجزاءه التي كانت ملتئمة محكمة، وهو المراد بعض من قولهم: (نقضت غزلها من بعد قوة) أي: بعد أن كان ملتئماً محكماً، ويُعبّر عنه بالفارسية (بواريختن)، وليس في مفهومه قطعُ ما هو مستمر كما زعمه الشيخ (3) .

فالنهي - عن النقض حينئذٍ هو عدم البناء على النقض، وهو البناء على البقاء تعبداً، فلا معنى لجعل مطلق رفع الأمر الثابت أو رفع اليد عن الشيء مطلق مجازاً لهذا المعنى؛ لعدم العلاقة، ألا ترى أنه يستهجن قول: (نقضتُ الحجر) إذا أراد رفعه مع أنّ مقتضى الاستمرار فيه موجودٌ، وإضافة النقض إلى العهد والبيعة واليقين إنما هو باعتبار كون كل واحد منها متضمناً لعقد قلبي، وفي كل منها نحو إبرام معنوي، وينتقض بعدم الالتزام بأثر عقدها وبالترديد في ذلك العقد، وبهذه الملاحظة يضاف النقض إليها، فإضافةُ النقض إلى نفس اليقين باعتبار أحكامه، فيكون مجازاً في النسبة، باعتبار أن الأحكام هي أحكامٌ لليقين فأضيف إليه باعتبار أحكامه، فمعنى: لا تنقض اليقين في الواقع لا تنقض أحكام اليقين، بمعنى: البناء على أنها باقيةٌ، والأحكامُ أعم من أحكام نفس الحكم أو الموضوع مطلقاً، فيعم الشك في الرافع والمقتضي، وما أكثر استعمال المجاز في النسبة.

ويقرَّبه كون اليقين بمعنى وكون النقض أيضاً بمعنى، وقد مرَّ لنا في حديث الرفع نحو هذا وقلنا : ارتفع نفس النسيان باعتبار رفع آثاره، ولا يرد عليه ما أورد على حمل إرادة اليقين بمعنى المتيقن وغير ذلك؛ لأنَّ استعمال لفظ (اليقين) بملاحظة نفسه لا بملاحظة

ص: 223


1- بيان وجه الاستظهار في شمول الأخبار في الشك في الرافع والمقتضي. منه رحمة الله علیه.
2- الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين: ٢٤٢/٧ ، الفيروزآبادي، القاموس المحيط: ٣٤٧/٢.
3- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: 78/2.

المتيقن، وقد تقدم في التحقيق مزيد بيان لهذا ، وظاهر أنَّ وجه إسناد الانتقاض إلى اليقين في باب الاستصحاب هو لحاظ اتحاد متعلق اليقين والشك ذاتاً، وعدم ملاحظة تعددهما زماناً، وهو كافٍ عرفاً في صحة إسناد النقض إلى اليقين واستعارته له بلا تفاوت في ذلك عند أهل العرف بين ما كان هناك اقتضاء البقاء، وبين ما لم يكن، مثلاً إذا تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة وشك في بقائها يوم السبت مثلاً ، فأهل العرف يحكمون بالعدالة التي كانت متيقنة وصارت مشكوكة، ويعدون متعلّق اليقين والشك شيئاً واحداً، وهو نفس العدالة، وإنْ كان ذلك بحسب الدقة راجعاً إلى تعدد المتعلّق؛ لأنَّ العدالة الموجودة في يوم الجمعة متيقنة، والعدالة الموجودة في يوم السبت مشكوكةٌ وهما متعددان، إلَّا أنَّ العرف لا يدققون النظر ويتسامحون في فعل متعلّق اليقين والشك شيئاً واحداً، إلا أن الظاهر في بادئ النظر عندهم ليس إلا كون العدالة متيقنة وصارت مشكوكة، فمتعلق اليقين والشك شيء واحد شخصي مسامحةً وعرفاً، كما أن متعلّقهما في قاعدة اليقين شيء واحد شخصي حقيقة، وكما أن وحدة المتعلّق فيها صارت سبباً لصحة الاستعمال وصدق نقض اليقين حقيقةً، فوحدة المتعلّق في الاستصحاب مسامحة ومجازاً يصير سبباً لصدق نقض اليقين [حقيقة] (1) وإن لم يكن نقضاً في الواقع؛ لعدم كون البقاء مقتضياً.

وحينئذ فلا فرق بين كون الشك في الرافع أو في المقتضي، كما أنه لا فرق بين ذلك في القاعدة، غاية الأمر في الفرق بينهما أنَّ وحدة المتعلّق في القاعدة حقيقية وفي الاستصحاب عرفية مسامحية، والعلاقة الملحوظة في الاستعمال لا بدَّ أن تكون من قبيل الوحدة العرفية المسامحية؛ لظهورها وكونها مركوزة في أذهان أهل العرف بخلاف الوحدة الحقيقية فإنها بعيدة عن فهمهم فلا تنزل الأخبار إلَّا على الاستصحاب؛ لأنَّ ملاك التجوّز فيه قريب من أذهان أهل العرف، فلا وجه لتخصيص الأخبار بالشك في الرافع.

وكونه مع المقتضي أقرب وأشبه بالانتقاض لا يقتضي تعيينه؛ فإن مدار الأقربية ما كان

ص: 224


1- من نسخة ب.

أقرب عند أهل العرف لا مجرد الاعتبار العقلي. وقد عرفت أنَّ أهل العرف لا يفرّقون بين ما كان فيه اقتضاء البقاء وما لم يكن فيه ذلك، فافهم.

الصحيحة الثانية المروية في العلل رواها بإسناده عن حريز عن حماد عن أبي جعفر علیه السلام: «قال: قلتُ له: أصابَ ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني فعلمتُ أثره إلى أنْ أُصيبَ له الماءَ، فحضرت الصلاة ونسيتُ أنَّ بثوبي شيئاً وصليتُ ، ثم إني ذكرتُ بعد ذلك؟ قال : تعيد الصلاة وتغسله . قلتُ: فإنْ لم أكن رأيتُ موضعه وعلمتُ أنه أصابه فطلبته ولم أقدر عليه، فلما صليت وجدتُه ؟ قال تغسله وتُعيد . قلت : فإن ظننتُ أنه أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرتُ ولم أرَ شيئاً، فصلّيتُ فيه فرأيتُ فيه؟ قال: تغسله ولا تُعيد الصلاة. قلت : لَم ذلك؟ قال: لأنك كنتَ على يقين من طهارتك فشككتَ ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً. قلتُ: فهل عليَّ إِنْ شككتُ أنه أصابه شيءٍ أنْ أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنك إنما تريد أن تذهب بالشك الذي وقع من نفسك. قلتُ: إنْ رأيتُه في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم يشك ثم رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة؛ لأنَّك لا تدري لعله شيء أوقع عليك، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك» (1) .

ومورد الاستدلال بقوله علیه السلام: «فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك» في موضعين، وتقريبه كما في الصحيحة الأولى : بأن يجعل اللام في كل من الفقرتين للجنس؛ ليصير بمنزلة كبرى كلية وإرادة الجنس هنا أظهر لصراحة القضية في العلية؛ ولكونه في جواب قول زرارة: «لَمَ ذلك؛ فإنه تصريح في كون الإمام لها في مقام الاستدلال، وإرادة الجنس في مقام التعليل أقوى من العهد، مضافاً إلى عدم ما يدل على الشرطية في القضية حتى يحتمل حملها على الجزاء، هذا في الفقرة الأولى، وأما الثانية؛ فلعدم سبق ذكر اليقين قبلها لتحمل اللام على العهد ، وتوهمه ظاهر الفساد كتوهم كون المراد اليقين بالطهارة حال الصلاة والشك فيها

ص: 225


1- الشيخ الطوسي، الاستبصار : ١٨٣/١ ح ٦٤١ .

بعد الصلاة؛ لخروجه عن ميزان فهم الكلام في المحاورات، وإنما الظاهر من قوله: «لأنك كنت على يقين من طهارتك » اليقين بالطهارة قبل ظن الإصابة.

ثمَّ إن اعتبار الاستصحاب إنما يستفاد من كلية الكبرى المسوق لبيانها الكلام، سواء كان المراد بيان جواز الدخول أو عدم الإعادة، فإن الاستدلال غير مبني على بيان فقه الرواية، مع أنَّ تعليل عدم الإعادة بأنها نقضُ اليقين بالشك إنما هو بلحاظ حال الصلاة؛ لأنه كان حال الصلاة على يقين من الطهارة فشك فيها فعلل الإمام علیه السلام لعدم لزوم الإعادة؛ بأن لزومها نقض لليقين بذلك الشك - يعني الذي كان في حال الصلاة - والطهارة الواقعية شرط اقتضائي يحسن التعليل به، فافهم.

ثمَّ الظاهر من اقتناع زرارة بما ذكر الإمام علیه السلام في وجه عدم لزوم الإعادة من لزوم الا النقض من الإعادة اقتضاء الاستصحاب ونحوه من الأمر الظاهري للإجزاء كان مفروغاً عنه عندهم وزرارة ممن مُلئ علماً وفقهاً .

الصحيحة الثالثة لزرارة رواها في الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة عن أحدهما: «قال: قلتُ : من لم يدر في أربع هو أم في اثنين وقد أحرز الاثنين؟ قال: يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم يقرأ فاتحة الكتاب ويتشهد ولا شيء عليه، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه، ولا ينتقض اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنه ينتقض الشك باليقين، ويتم على اليقين فيبني عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات (1).

وتقريب الاستدلال : إن قوله : ولا ينقض اليقين بالشك كبرى لصغرى مطوية،كأنه قال : إنما وجب الإضافة والقيام بها؛ لأنك كنت على يقين ولا ينقض... إلخ، والبناء على الأقل _ الذي هو مقتضى الاستصحاب - وإن كان بإطلاقه مخالف للمذهب وموافق

ص: 226


1- الكليني، الكافي: ٣٥٢/٢ باب السهو في الثلاث والأربع ح٣ .

للعامة (1)؛ لأنَّ مقتضى إطلاقه ترتيب جميع الآثار على المستصحب التي من جملتها عدم إتيان الركعة، ومن جملتها أيضاً إتيانها قبل التسليم، لكن الشارع تصرف في كيفيته فأوجبَ البناء على طبق الحالة السابقة بكيفية خاصة مراعياً فيها جهة الاحتياط، وقيد ذلك بلزوم ترتب بعض الآثار، وهو مجرد عدم الإتيان دون بعض، وهو إتيانها قبل التسليم، غاية الأمر إتيانها مفصولة، وكونه منافياً لإطلاق النقض لا يضر بعد ما جاء التقييد بلزوم إتيان الركعة مفصولةً.

لكن كان سيدنا الأستاذ يقول : (ليس في هذه الصحيحة دلالة على حجية الاستصحاب ؛ وذلك لأن جميع فقراتها لا تعم غير موردها، فإن ظاهر قوله: «لا تنقض... إلخ» مؤكد لقوله: «فاقام(2) فأضاف»)، انتهى.

وحملها على العموم حتى تكون بمنزلة العلة للحكم يأباه بعضُ الفقرات التي بعده مثل قوله : «ويتم على اليقين فيبنى عليه».

وأما قوله علیه السلام: «لا يعتنى بالشك فلا ظهور له في مطلق الشك، وأنَّ المراد من الحالات معه حالات المكلف؛ لقوة احتمال أن يكون المراد منه خصوص الشك في مفروض السؤال، فيكون المراد اختلاف الحكم باختلافها فيكون مؤكدا للفقرات السابقة، مع احتمال أن يكون المراد منه مطلق الشك في عدد الركعات فتكون قاعدة كلية في هذا الباب، فالأولى عد الرواية في عداد الأخبار الواردة في موارد خاصة الدالة على الاستصحاب في خصوص بعض الموارد.

ص: 227


1- المشهور عندنا البناء على الأكثر فيما لو شك بين الاثنتين والثلاث في الرباعية، وكذلك لو شك بين الثلاث والأربع فيها، وادعى الشيخ الطوسي علية الإجماع، وهو مخالف لاستصحاب اليقين في المقام، العامة على الأقل في هذه المسألة فيكون الاستصحاب موافقاً لهم ينظر الشيخ الطوسي، الخلاف : ١ / ٤٤٥ مسالة 192؛ العلّامة الحلي مختلف الشيعة : 380/2؛ النووي، المجموع: ٤ / ١١١ - ١١٢؛ ابن قدامة، المغني: ١/ ٦٧٥ .
2- كذا في نسختي المخطوطة، والصحيح الموجودة في الرواية الشريفة: قام.

وأُجيب عن ذلك بأنَّ الظاهر من « لا تنقض اليقين بالشك» هو أنَّ مناط حرمة النقض إنما يكون؛ لأجل ما في اليقين والشك لا لما في المورد من الخصوصية، وأنَّ مثل اليقين لا ينقض بمثل الشك، فافهم.

ومن الروايات ما في الخصال، وهو حديث الأربعمئة المشهور ، رواه الصدوق بإسناده آبائه،عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله الصادق ال: قال: حدثني أبي عن جدي عن أنَّ أمير المؤمنين الا لما علم أصحابه في مجلس واحد أربعمئة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه، قال: إنَّ الحجامة تصحح البدن... إلى أن قال : أنفقوا مما رزقكم الله عزّ وجلَّ؛ الله فإنَّ المنفق بمنزلة المجاهد في سبيل الله فمن أيقن بالخلف جاد، وسخت نفسه بالنفقة، من كان على يقين فشك فليمض على يقينه ؛ فإن الشك لا ينقض اليقين» (1) الحديث.

فالمراد من كان على يقين بالخلف فشك به فليمض على يقينه به ولينفق مما رزقه الله، وليتيقن الخلف، ولا يمتنع من الانفاق لو شك في الخلف؛ فإنَّ الشك لا ينقض اليقين، وحينئذٍ فلا ينبغي الاستدلال بالفقرة الأولى على الاستصحاب، إلا أن قوله عالان : «فإن الشك لا ينقض اليقين كاف في الاستدلال.

وادعى شيخنا العلّامة المرتضى الله ظهور الرواية في قاعدة اليقين وفي اتحاد المتعلّق؛ لكون الغالب وحدته، وأيده بأن (النقض) في كل واحد من القاعدة والاستصحاب بمعنى ترتب الآثار، وفي القاعدة يترتب على اليقين آثاره السابقة على زمان الشك، وفي الاستصحاب لا بد من ترتب الآثار بعد زمان الشك (2).

ولا يخفى أن عدم ترتيبه لا يكون نقضاً لآثار اليقين السابق؛ لأنَّه لم ينتقض آثار اليقين في زمان اليقين، بل ذلك نقض لآثار البقاء لا لآثار اليقين بخلاف القاعدة فإنَّ عدم الترتيب فيها نقضُ لآثار اليقين في زمان اليقين.

ص: 228


1- الشيخ الصدوق، الخصال: ٦١٩ حديث الأربعمئة.
2- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٦٩/٣ .

هذا، ولكن التحقيق عدم الفرق؛ فإن النقض في الاستصحاب أيضاً مستعمل في معناه الحقيقي؛ لما عرفت من أن التجوّز ليس في كلمة (النقض)، وإنما التجوّز في إضافته إلى اليقين كإضافته إلى العهد والعقد، يقال: (نقض العهد أو العقد) مبني على الاستعارة، فلا فرق من هذه الجهة بين الاستصحاب والقاعدة، والفرقُ الذي بينهما واقعاً لا ينا في شيئاً، وأيضاً يمكن حمل الرواية على الاستصحاب بالتزام التجريد وتوضيحه :

إِنَّ حذف متعلّق اليقين ظاهر في عدم تقييده بالزمان الأول وفي تجريد متعلّق اليقين عن التقييد بالزمان السابق، وإنما المقصود هو مجرد اليقين بالشيء، وأما كون المتيقن مقيداً بالزمان السابق فلا، وحينئذ يصير ظاهراً في أنَّ زمان المتيقن زمان اليقين، وإذا جرد متعلّق اليقين عن التقييد بالزمان يتعلّق به الشك، وإذا تعلّق به الشك بملاحظة عدم تقييده يصير ظاهراً في أنَّ زمان المشكوك زمان الشك، وهذا هو الاستصحاب.

وأمّا توهم إشكال كون الرواية صريحةً في اختلاف زمان الوصفين وكون زمان اليقين سابقاً على زمان الشك، فمدفوع بأن ذلك من جهة بيان غالب الأفراد؛ لأنَّ غالب أفراد الاستصحاب يكون زمان اليقين مقدماً على زمان الشك، وحينئذ ينطبق على الاستصحاب ويرتفع الإشكال، مع أنَّه لا يعتبر في الاستصحاب اختلاف زمان الوصفين فضلاً عن كون زمان اليقين مقدماً ، بل يمكن أن يتحد زمان الوصفين ويمكن أن يختلف، سواء كان زمان اليقين مقدماً أو زمان الشك مقدماً، وربما يؤيد ما ذكرنا من حمل الرواية على الاستصحاب بالتزام التجريد بأن تعليل الإمام علیه السلام وجوب البناء على اليقين بقوله: «فإنه لا ينقض اليقين بالشك يدل على أن ذلك مركوز في الأذهان.

ولا يخفى أن هذا يناسب الاستصحاب لا القاعدة؛ لأنها لا تكون مركوزة في الأذهان، مضافاً إلى أن وحدة لسان المتكلّم واتحاد التعبير في هذه الروايات – أعني أخبار الباب- يكشفُ عن أن المراد في الجميع بيان شيء واحد وهو ضرب قاعدة كلية هي الأخذ باليقين السابق وعدم نقضه بالشك اللاحق، وهذه الاستفادة إنما حصلت من تراكم الظنون الحاصلة من أخبار الباب على وجه يحصل تمام الوثوق والاطمئنان بحجية الاستصحاب، بل

ص: 229

تكاد تفيد القطع بذلك، بل هو القطع كما لا يخفى على الفقيه بلسان أهل البيت علیهم السلام.

ومنها: مكاتبة علي بن محمد القاساني الذي قال فيه النجاشي: (كان فقيهاً مكثراً في منه مذاهب منكرة، الحديث فاضلاً، غمز عليه أحمد بن محمد بن عيسى، وذكر أنه وليس في كتبه ما يدل على ذلك) (1)انتهى.

ولا عبرة بغمز القميين؛ فإنهم يرمون[بالغلو] الرجل الفقيه بنفيه السهو عن المعصوم، وأهل العلم بالرجال يعرفون ذلك، خصوصاً أحمد المذكور، فإن حاله في إنكار بعض الآثار الصحيحة والقدح في رواتها الثقات معروفٌ، وفي كلام النجاشي كفاية عند أهل العلم بالرجال، وهذه الرواية أخرجها الشيوخ واعتمدها الفقهاء وأفتوا بمضمونها فلا ينبغي التأمل فيها من جهة القاساني، قال: «كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب الان : اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وافطر للرؤية (2). ودلالتها على الاستصحاب ظاهرة، بل صريحة؛ حيث فرع لا حد الصوم والإفطار على رؤية هلال شهر الصيام وشهر الإفطار، وهذا نصّ في النهي عن جعل اليقين السابق مدخولاً بالشك ومزاحماً به.

قال شيخنا العلّامة المرتضى رحمة الله : والإنصافُ أن هذه الرواية أظهر روايات هذا الباب إلَّا أن سندها غير سليم (3). وقد عرفت سلامته وأنه لا شبهة فيه على التحقيق، والله ولي التوفيق.

وحيث عممنا حجية الاستصحاب إلى الأحكام الوضعية لزمنا التعرّض لحالها مفهوماً وحكماً، فاعلم:

أنه لا بدَّ من تقديم أمور يتوقف تحقيق المقام عليها:

ص: 230


1- الشيخ النجاشي، رجال النجاشي : 2٥٥ رقم ٦٦٩ .
2- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام ١٥٩/٤ ، ح ،٤٤٥ ، باب ٤١ علامة أول شهر رمضان وآخره ودليل دخوله، ح 17 .
3- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: 71/3 .

الأول: لا كلام في استقلال كل من الوضع والتكليف بحسب المفهوم وتباينها مفهوماً؛ ضرورة مباينة مفهوم الوجوب والحرمة ونحوهما لمفهوم السببية والشرطية ونحوهما، وحمل كل منهما على غير ما يحمل عليه الآخر، فيقال: (الصلاة واجبة)، و(الخمر حرام)، و(الدلوك سبب) و (الطهارة شرط)، وما يتراءى من بعض العبائر (1) من اتحادهما فإنما هو من الإنشاء لا من حيث المفهوم.

الثاني: لا كلام أيضاً في أنَّ لكل من الأحكام الوضعية والتكليفية ألفاظاً تخصها في مقام الإخبار عنهما، ويعبر عن كل منهما بما يخصه من اللفظ كما يقال: (الصلاة واجبة) فيعبر بذلك عن وجوب الصلاة، ويقال: (الدلوك سبب فيعبر عن سببية الدلوك بذلك في مقام الإرادة عن النسبة الخارجية، ولم ينكر أحد تصور الحكم الوضعي في مقام الجعل ووجوده بين موضوعه وبين المأمور به، إنما النزاع في أنَّ هذا المفهوم المتصور المباين للتكليف هل يمكن أن يلحقه الجعل مستقلاً أم لا؟

الثالث: كما يمكن إنشاء الحكم التكليفي يمكن إنشاء السببية ويقصد حصولها بذكر الدلوك سبباً؛ لأنَّ الإنشاء ليس إلا قصد حصول المعنى الذي لا يكون له خارج باللفظ، ولا يحتاج إلى مؤونة زائدة سواء ترتب عليه الأثر أم لا ضرورة عدم توقف الوجود الإنشائي على الوجود الخارجي، فإنه يمكن إنشاء الضدين مع أنَّ تحققهما في الخارج محالٌ، فلا ربط للوجود الإنشائي بالوجود الخارجي.

الرابع: حصر بعضُهم الحكم الوضعي في السببية والشرطية والجزئية (2)، وأضاف

ص: 231


1- الشهيد الأول، الذكرى : ٤٠/١) قال: (والسببية والشرطية والفساد يرجع إلى الاقتضاء والتخيير ان جعلت أحكاماً). انتهى، ينظر المولى حسين الخوانساري، مشارق الشموس: ٧٦/١ حيث قال: (إن ذلك الحكم إما ،وضعي أو اقتضائي، أو تخييري، ولما كان الأول أيضاً عند التحقيق يرجع إليهما فينحصر في الأخيرين ( انتهى) .
2- العلّامة الحلي، نهاية الأصول : 1/ 113 ؛ الفاضل التوني، الوافية: ٢٠٢، حيث ذكر كل من العلّامة والفاضل التوني السببية والشرطية والمانعية ولم يذكروا الجزئية، ولم أعثر على من حصرها في السببية والشرطية والجزئية بما متوفر عندي من مصادر.

بعضُهم الصحة والفساد (1) ، وزاد آخر المانعية والقاطعية والرافعية (2)، وأنهاه بعضهم إلى أربعة عشر، وعدَّ منها : الحجية، والقضاوة، والولاية، والنيابة، والحرية، والرقية، والزوجية، ،والملكية والطهارة والنجاسة والضمان (3)، وأمثال ذلك (4) ، واستظهر شيخنا العلّامة المرتضى علیه السلام من كلام الأصحاب أنه لا بدَّ أن يكون فعل المكلف لا غير (5).

الخامس: لا كلام في إمكان أن يتجوّز عن كل من خطاب الوضع والتكليف بالآخر بأن يقال: (الدلوك سبب لوجوب الصلاة ولا يراد إنشاء الوجوب مجازاً وتجوّزاً؛ لسعة دائرة التجوّز، وكذلك لو قصد من الكلام إنشاء نفس السببية، وينتقل إلى لازمه وهو إنشاء التكليف؛ لكون السببية ملزومة للتكليف كان على المتعارف ولا غرابة فيه، ولا يلزم من ذلك تأثير الإنشاء في نفس السببية، كما أنه لا يلزم في الإخبار بأن زيداً طويل النجاد حصول طول النجاد في الخارج، بل ولا يلزم أن يكون له نجاد، وليس المراد إلَّا الانتقال إلى ما يلزمه من طول القامة، فكذلك إنشاء الوجوب بإنشاء السببية كي ينتقل الذهن منه إليه.

وبالجملة يجوز إنشاء الوضع بالكناية.

السادس: لا بدَّ أنْ يكون بين العلة والمعلول والشرط والمشروط والمانع والممنوع ربط خاص وخصوصية مستدعية لذلك تكويناً، وإلا لزم أن يكون كل شيء مؤثراً في كل شيء وسبباً له، وكل شيء شرطاً لكل شيء، وكذلك المانع والجزء، وهو باطل؛ بالبداهة، فكل ما يكون لوجوده مدخل في وجود شيء آخر، أو لعدمه دخل في عدم شيء آخر، أو لعدمه دخل في وجود شيء آخر، لا بد أن يكون من جهة ربط تكويني بينه وبين ذلك الشيء الآخر،

ص: 232


1- الشهيد الثاني تمهيد القواعد: 37 قاعدة 3 .
2- الرازي، المحصول: 109؛ الآمدي، الأحكام: ١ / ١١٠ - ١١١ .
3- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول : ٣ / ٢٠٤ - ٢٠٩.
4- الطلاق والعتاق والرطوبة واليبوسة والطهارة والحيض والقضاء والأداء والإعادة ..... إلخ. ينظر الشهيد الأول، القواعد والفوائد: ٣٢ - ٣٤ قاعدة ٩ .
5- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول : ٣ / ١٤٥ وما بعدها .

ويكون هو المناط والملاك باتصاف ذلك بالشرطية والمانعية مثلاً وهذا الربط من الأمور التكوينية لا ربط له بالأحكام الوضعية كما أن الأمر بالمركب سواء كان خارجياً أو ذهنياً يستلزم تصور أجزائه الذهنية أو الخارجية، وكذا الأمر بذي السبب يستلزم تصور سببه مثل : (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) (1) فتصور نفس الأجزاء والشرائط والأسباب وغيرها من موارد الأحكام الوضعية لا دخل لها في الأحكام الوضعية، ولا بد من تصورها، ولا ينكر ذلك أحد وليس محلاً للكلام، فافهم.

السابع: لا كلام في أنَّ الأثر القهري العقلي للإنشاء ليس محلاً للكلام كخوف سائر الازواج المترتب على إنشاء طلاق إحدى أزواجه أو خوف سائر عبيده من تكليف أحد عباده؛ ضرورة أنَّ الأمور الجعلية ما يكون إثباتها وعدمها بجعل الجاعل وبيده لو قصد حصولها بالإنشاء، وهي موجودة قبل الجعل ولكن المنشئ قصد حصولها باللفظ، والمفروض أن الأثر القهري عقلي يحصل قهراً ، قصد إنشاؤه باللفظ أو لم يقصد [و] كان غافلاً عنه بالمرة، وظاهر أن ذلك لا يكون من المجعول في شيء، بل هو أثر الإنشاء بما هو ولمجرّده لا أثر مجعول بالإنشاء، فافهم.

الثامن: الأمور غير المتأصلة على قسمين: أحدهما ما يكون اتصاف ذواتها بها على نحو المحمول بالضميمة كالسواد فإنه ضم إلى الذات وصفاً زائداً عن ذاته وله وجود في الخارج مع قطع النظر عن الذات المتصفة به. وثانيهما ما يكون الاتصاف بها بنحو خارج المحمول كالفوقية المنتزعة من الفوق ولا يكون الفوق وصفاً زائداً عن ذات الفوق، والأحكام الوضعية من القسم الثاني - أعني خارج المحمول والمحمول بالضميمة والأمور الاعتبارية - ولما لم يكن من الوجودات الخارجية المتأصلة لا يمكن أن يلحقها الجعلُ؛ لأنَّ الحكم من الأمور الخارجية ومن فعل الحاكم، وهذه لا خارج إلا لمنشأ انتزاعها. التاسع: اعلم أن الحكم الذي هو محل النزاع لا بدَّ أنْ يكون قسماً من الإنشاء قائماً

ص: 233


1- سورة الإسراء: 78.

بالحاكم، لا أنه من الصفات القائمة بالأفعال.

العاشر : تقسيم الحكم إلى الحكم التكليفي الشرعي والوضعي لا يستقيمُ إلَّا بعد تحقق الجامع بينهما، فلا بدَّ أنْ يكون في معاني الحكم معنى إنشائياً مدلولاً للخطاب صالحاً لأن يكون جامعاً لهما فيتنازع حينئذ في كونه مجعولاً للشارع في الوضعيات أم لا؟

والتحقيقُ أنه لا وجود للجامع الإنشائي بين الوضع والتكليف حتى يتنازع فيه، فإن الأشاعرة فسروه بنفس الخطاب (1) ، والمعتزلة بالمصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء (2)، والإمامية بأنه إنشاء الشارع الطلب والتحريم والتخيير (3) ، والفعلُ عندهم خال عن الحكم وإنما يتصفُ بالحكم بعد حكم الشارع، وشيءٌ من هذه التفاسير لا يلزم منه معنى جامع إنشائي.

إذا عرفتَ ذلك ظهر لك أنه لا معنى لكون السبية حكماً شرعياً جعلياً في عداد الأحكام؛ لأنَّا لا نعقل من وجوب الصلاة عند دلوك الشمس إلا وجود الصلاة بعده، وأمّا تأثير الدلوك في وجوبها فلا ندركه؛ لأنَّه من مقتضيات الذات ولوازم الماهية فلا يكون مؤثراً في وجوبها الذي بمعنى السببية؛ إذ ليس هذا المعنى من لوازم ماهية الدلوك كزوجية الأربعة بحيث يوجب تصورُ الماهية تصور ،سببيتها ، ولو كان كذلك لأمكن جعلها كما هو ظاهر، ولا يدرك عقلنا كونه صفةً مجعولةً من الشارع لا من حيث إنَّه شارع، بل من حيث إِنَّه خالقُ وموجد فيه، أي في السبب، باعتبار جنسه أو فصله أو عوارضه المشخصة.

وبالجملة، تصور الأمر [ب] الماهية بأجزائها وقيودها لا يقتضي اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطيته قبل الأمر بالماهية، فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له تنتزع من جزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به، فلا حاجة إلى جعلها له وبدون الأمر به لا اتصاف بها

ص: 234


1- الآمدي، الأحكام ٩٦/١؛ الرازي المحصول : 1/ 79 .
2- الغزالي، المنخول : ٦٣ .
3- الشهيد الثاني تمهيد القواعد: 29-30؛ الشيخ البهائي، زبدة الأصول: ٦٢ .

أصلاً، فافهم.

[أدلة القائل بالجعل]

وعمدة ما تمسك به القائل بالجعل أمران:

أحدهما: أنه قد يتحقق الوضع بدون التكليف كتحقق الضمان على الصبي لو أتلف مال شخص مثلاً مع عدم كونه مكلفاً، كيف ولا يتصور وجود الأمر الانتزاعي مع انتفاء ما ينتزع منه !

وفيه: إنّ الولي هو المكلف المكلف بوجوب ردّ القيمة على صاحب المال، وإن لم يكن له وليٌ یکن [هو] مكلفاً بوجوب الردّ عند البلوغ، فالضمان بالنسبة إلى الصبي انتزع من وجوب الرّد في زمان بلوغه.

ثانيهما: إنّ الأحكام الوضعية _ من السببية والشرطية وغيرها _ كالدلالة الوضعية، فكما أن مجرد وضع الواضع اللفظ بإزاء المعنى تحصلُ الدلالة _ مع أنَّه لم تكن حاصلة قبل الوضع - فكذلك الأحكام الوضعية تحصل بمجرد إنشاء الشارع لها وجعله إياها .

وفيه: إن الدلالة لا تكون مسبَبَةً عن الجعل بحيث تكون مؤثرة فيه بمجرده، بل مستندة إلى أمور لو لم تتحقق لم تحصل الدلالة، ولو حصلت لما انفكتْ عنها، بل يستحيلُ انفكاكها عنها عقلاً.

تتميم

قد جعلوا الثمرة في الخلاف إجراء الأصول وشمول أدلة الاستصحاب وحديثَ الرفع بناءً على الجعل ؛ لأنها من الآثار الشرعية، وشأن الاستصحاب إثبات ذلك، كما أن شأن حديث الرفع ما يكون كذلك.

والحقُ صحة استصحابها ورفعها بحديث الرفع بناءً على كونها منتزعةً أيضاً؛ لأنَّ المراد من الأثر الشرعي ما يكون قابلاً لتصرّف الشارع ولو بالتبع، والأحكام الوضعية مما تنالها يد التصرف إثباتاً ورفعاً من الشارع بتبع إثبات ورفع منشأ انتزاعها، وهو نفس

ص: 235

التكليف، ولا يتوهم أن استصحاب التكليف مغن عن استصحابها؛ فإنَّ الفائدة تحصل رفعاً فيما لو كان استصحاب التكليف معارضاً، أو محكوماً، أو مثبتاً، أو غير ذلك مما يمنع من جريان الاستصحاب، فيستصحب الأحكام الوضعية المنتزعة عنها.

[ تقسيم الأحكام الوضعية إلى منتزعة من التكليف وتابعة له، وإلى مجعولة بنفس التكليف لا بتبعه ]

بقي الكلام في تعيين الأحكام الوضعية المنتزعة غير القابلة للجعل، والتي لا يمكن انتزاعها عن مجرد التكليف في موردها ويمكن انشاؤها نفسها، فاعلم :

إنَّ الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية من القسم الأول، ولا يتصف الشيء بكونه جزءاً أو شرطاً للمأمور به إلَّا بتبع الأمر بما يشتمل عليه مقيداً بأمر آخر، فتنتزع الشرطية والجزئية بملاحظة الأمر، وبدون الأمر لا يتصف الشيء بالجزئية أو الشرطية للمأمور به.

وأما المجعولة بنفسها ويصحُ انتزاعها بمجرد إنشائها كالتكليف، وليست مجعولةً بتبع التكليف ولا منتزعة عنها فكالزوجية والملكية والحرية والرقية والولاية والنيابة والطلاق والعتاق المنتزعة من العقد والإيقاع.

ولا ريب في عدم صحة انتزاعها عن مجرد التكليف في موردها، فلا تنتزع الملكية عن إباحة التصرّف، ولا الزوجية عن جواز الوطء، فافهم.

[ تنبيهات ]

وفي المقام تنبيهات على أمور لا بد منها ..

[ التنبيه] الأول: لا كلام في اعتبار فعلية اليقين والشكِ، اللذين هما ركنا الاستصحاب، فلا يكفي وجودهما الشأني، فلا يتحقق موضوع الاستصحاب مع الغفلة وإن كان بحيث لو التفت لكان متيقناً للحدث - مثلاً - أو شاكاً في بقائه.

[التنبيه] الثاني: لو دلَّ العقل على وجود المستصحب في السابق، فالحق إمكان استصحاب حكم العقل؛ ضرورة إمكان حكم العقل واستقلاله بحسن عنوان أو قبحه في

ص: 236

مورد مركب أو مقيد على سبيل الإهمال والإجمال، بمعنى أنه يحكم بحسن يحكم بحسن هذا المركب أو المقيد مع عدم العلم بمدخلية ما له المدخلية بخصوصه، أو يرى أنَّ المطلق موجب للحسن أو القبح مع احتماله قيام الحسن في خصوصية خاصة مع احتمال أن يكون الملاك في المطلق، أو بأنه قائمٌ بمجموع المركب أو المقيد مع احتمال وجود ملاك آخر في فاقد الجزء أو القيد، فلو تغيّر موضوعه بزوال القيد أو الجزء يشك في ثبوت الملاك في الباقي في الزمان الثاني بعد تبدل الخصوصيات، فلا مانع من إجراء استصحاب الحكم الشرعي المستتبع للحكم العقلي بعد البناء على المسامحة العرفية في إحراز الموضوع.

نعم، لا يجري استصحاب نفس حكم العقل؛ لعدم تصور الشك في بقائه، وكذا لا يجري استصحاب ملاك حكم العقل وإن تصور الشك فيه غير أنه ليس موضوعاً لأثر شرعي.

[التنبيه] الثالث :المستصحبُ إمّا جزئي أو كلي والشك في بقاء الكلي: إمّا من جهة الشك في بقاء الفرد المتحقق به الكلي، أو من جهة تعيينه وتردده بين ما هو باق وما هو مرتفع، أو من جهة الشك في وجود فرد آخر مع الفرد الأول المتيقن ،أو مقارناً لارتفاعه مع احتمال عدم ارتفاع الكلي؛ فالأقسام ثلاثة.

لا إشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأول، ولا يستغنى باستصحاب الفرد عن استصحاب الكلي، لو كان ذا أثر ، بل يجري في كل منهما مستقلاً، كما لا يستغنى باستصحاب الكلي عن استصحاب الفرد بناءً على حجية الاستصحاب من باب التعبد الشرعي؛ فإن الشارع اعتبر الكلي موضوعاً لحكم والفرد موضوعاً لحكم آخر، فهنا حكمان شرعيان على موضوعين: الكلي والفرد، فإذا أمرَ بالتعبد بإبقاء ما كان من الآثار على الفرد لا يلازم ذلك شرعاً التعبدَ بابقاء آثار الكلي؛ إذ لا ملازمة [ شرعية ] (1) بينهما كما هو المفروض، فلا وقع لإشكال أنَّ الفرد مقدمةٌ لحصول الكلى أو عينه، فاستصحاب الفرد يغني عن استصحاب

ص: 237


1- من نسخة ب.

الكلي (1) ، فافهم.

وأمّا القسم الثاني - أعني ما لو كان الشك في تعيين الفرد، فالحقُّ جريان الاستصحاب فيه سواء كان الشك في المقتضي كما لو كان الموجود أولاً حيواناً مردداً بين البق والزنبور، وشك بعد ثلاثة أيام التي لا يعيش البقُ أكثر منها، أو كان الشك في الرافع كما لو كان الخارج بللاً مردداً بين البول والمني، فلو توضأ وشك في بقاء حدثه أو ارتفاعه بواسطة الوضوء فيستصحب كلي الحدث.

ولا يتوهم أن الشك في بقاء الكلي مسببٌ عن الشك في وجود الفرد الطويل، والأصلُ عدمه، فلا يبقى شك في بقاء الكلي؛ لأنَّ الترتب بين السبب والمسبب هنا ليس شرعياً حتى يتقدم الأصلُ الجاري في السبب على المسبب؛ فإن ترتب عدم الكلي على عدم الفرد هنا من جهة العلم بانحصار المورد في فرد واحد، وأنه على تقدير عدم وجود الفرد الطويل وجدَ القصير وارتفع، على أن أصالة عدم وجود الفرد الطويل معارضٌ بأصالة عدم وجود القصير فيما لو كانا متباينين في الأثر.

ودعوى عدم جريان الأصل في طرف القصير لعدم الأثر الشرعي؛ للأصل في طرف االتقصیر.

ممنوعةٌ على إطلاقها؛ لوجود الأثر فيما لو كانا متباينين في الأثر لا أقل وأكثر . واستصحابُ الكلي لا يثبتُ الفرد وإن كان ملازماً له؛ ضرورة عدم كون هذه الأدلة شرعية، فلو فرض أثر للفرد يخصه يُنفى بالأصل.

اللهم إلَّا أن يكون للفرد الآخر أيضاً أثر خاص به فيتعارضان، أو يعلم أن الحكم ببقاء الكلي في الأثر والحكم بعدم الفرد لا يجتمعان حتى في مرحلة الظاهر أيضاً، فافهم.

وأمّا القسم الثالث :- أعني ما كان الشك من جهة وجود فرد آخر مع المتيقن، أو كان حدوثه مقارناً لارتفاعه - فيستصحب الجامع بين الفردين المحتمل بقاؤه بقيام الفرد الآخر

ص: 238


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: 191/3؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٣ / ٢١٧ .

مقام الفرد المتيقن؛ لكون الموضوع للحكم صرفَ الطبيعة من غير ملاحظة الخصوصيات الشخصية، وصرفُ الطبيعة لا ينعدم إلَّا بانعدام تمام الوجودات الخاصة في زمن من الأزمنة اللاحقة؛ لأنَّها في مقابل العدم المطلق، ولا يصدق العدم المطلق إلّا بعد انعدام تمام الأفراد، فلو شك في وجود فرد آخر مع ذلك الفرد المتيقن واحتمل بقاؤه بعد ارتفاع الفرد المتيقن فموردُ الاستصحاب هو صرف الوجود الجامع المتحقق بتيقن صرفِ الطبيعة، وقد شك في بقاء هذا المتيقن فيستصحبه، فإنه على تقدير تحققه في نفس الأمر بقاءً لا حدوثاً؛ لأنَّ هذا المعنى من الوجود في مقابل العدم المطلق، فحدوثه فيما إذا كان مسبوقاً بالعدم المطلق، والمفروض أنه ليس كذلك.

نعم، لو أريد استصحاب الوجود الخاص كان المتيقن سابقاً مقطوعَ الارتفاع، والمشكوك لاحقاً غير متيقن سابقاً، فيختلّ أحد ركني الاستصحاب لا محالة.

التنبيه الرابع:اعلم أن المدار في الاستصحاب على صدق نقض اليقين بالشك حسبها يظهر من أخبار الباب، فلا فرق حينئذٍ بين التدريجيات كالزمان والزمانيات _ كالتكلّم والحركة وأمثالهما _ وغيرهما مما شك في تحققه لاحقاً مع العلم بتحققه سابقاً، فالشكُ في تحقق الحركة أو نفس الزمان بعد العلم بتحققه سابقاً شكٌ في تحقق عين ما كان محققاً سابقاً من غير مسامحة.

ودعوى أن محل الاستصحاب عنوانُ الشك في بقاء والزمان والزمانيات لا بقاء فيهاإلّا بالمسامحة العرفية.

لا يساعدُ عليها أخبارُ الباب، ولا ظهور لها في هذا العنوان، بل ظاهرُاعتبار صدق نقض اليقين بالشك الصادق في التدريجيات وغيرها من غير تفاوت بينهما وحال الاستصحاب المستقر الذي أخذ الزمان قيداً له حال استصحاب نفس الزمان، فمَنْ وجب عليه الجلوس في النهار في مكان وشك في انقضاء النهار أو بقائه صدقَ أنه كان جلوسه سابقاً جلوساً في النهار، والآن كما كان فيترتب عليه الوجوب، فإن الجلوس المتحقق في النهار موضوعٌ واحد للوجوب.

ص: 239

نعم ، لو أريد استصحاب الموضوع المقيد بالزمان، أو استصحاب حكمه بعد انقضاء الزمان المأخوذ ، قيداً فلا مجرى لاستصحابه؛ لأنَّ الجلوس المقيد بالنهار أو حكمه لا يبقى

بعد انقضائه

التنبيه الخامس : لا فرق في شمول أدلة الاستصحاب بين ما كان الحكم المتيقن سابقاً مطلقاً أو مشروطاً، وقد تقدم في الأوامر توضيح الواجب المشروط بما لا مزيد عليه، فإذا شك في بقاء الحرمة المعلّقة في الآن الثاني فقد جعل الشارع حرمةً ظاهرية معلّقة على ذلك المشروط بأدلة الاستصحاب ؛ لشمولها لذلك، فلا إشكال في استصحاب النجاسة المعلّقة على تقدير الغليان للعصير العنبي التي كانت ثابتةً حال كونه عنباً، فهي باقية بعد صيرورته زبيباً بالاستصحاب بعد الفراغ عن كون الجفاف لا يصيره موضوعاً آخر عند العرف.

نعم، استصحاب الحرمة على تقدير الغليان معارض باستصحاب الإباحة الفعلية الثابتة للزبيب قبل الغليان، وربما يقال بحكومة استصحاب الحكم التعليقي على استصحاب الإباحة؛ لأنَّ الشك في بقاء الإباحة الفعلية مسببٌ عن الشك في جعل الحرمة التعليقية.

لكن لا يخلو من تأمل؛ فإن ترتب عدم الإباحة من جهة حكم العقل بثبوت الحرمة الفعلية عند تحقق الشرط نظيرُ الحكم بلزوم الامتثال، وهو يضاد الإباحة، وكون هذا الحكم الفعلي من لوازم الحكم التعليقي لا يضرُ في صحة الأخذ به، وليس من الأصل المثبت، فلا حكومة من جهة أن عدم الإباحة حينئذٍ من جهة عدم إمكان الجمع بينهما، فكما يترتب على استصحاب التعليقي عدمُ الإباحة بحكم العقل كذلك يترتب على استصحاب الإباحة عدمُ الحكم التعليقي بحكم العقل؛ ضرورة عدم اجتماع الإباحة ولو ظاهراً مع ما يكون علةً لضدها، فلا تصحح الحكومة بكون اللازم من اللوازم العقلية للأعم من الواقعي والظاهري كما توهم.

نعم، قد عرفت أنَّ التحقيق في تقدم الأصل السببي على المسببي تقدمُ الشك في السبب على الشك في المسبب طبعاً وإن لم يكن من آثار الأصل المسببي رفعُ الشك عن المسبب شرعاً، فتصح الحكومةُ هنا حينئذٍ.

ص: 240

التنبيه السادس: الحقُ صحة استصحاب الحكم الثابت في الشرائع السابقة لو شك فيه في هذه الشريعة؛ لعموم الأدلة السالمة عن المعارض، ولا تبدل في الموضوع؛ فإنه نظير

الموضوع في الوقف على العناوين، وكالشخص المدرك لشريعتين وشُك في بقاء الحكم في اللاحقة، والمعدوم الموجود في زمان المدركُ للشريعتين متيقنٌ لحكم ذلك المدرك في الشريعة الأولى وشاکٌ في حكمه في الشريعة، فأدلةُ الاستصحاب تثبتُ بقاء ذلك للمدرك للشريعتين، ثم يحكم بثبوت الحكم لذلك المعدوم الذي يوجد في زمن المدرك للملازمة الثابتة شرعاً، فيكون الحكم الثابت للمدرك للشريعتين موضوعاً بحكمه، فافهم.

والعلمُ بنسخ بعض الأحكام السابقة لا يضرُ ؛ لجواز إجراء الأصل في أطراف المعلوم بالإجمال إذا كان سليماً عن المعارض، فالأصلُ عدم النسخ.

والحقُ حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي، فافهم.

استطرادٌ

لا يصح للیهودی المخاصم لبعض السادة الأجلّة اثبات دینه باستصحاب نبوة موسی علیه السلام لأنَّا نعلمُ بنسخه ولا شكَ لنا في شيءٍ منها، فلا مجرى لاستصحابها، ومع قطع النظر عن إخبار نبينا لا نعلمُ بوجود موسى علیه السلام فضلاً عن نبوته، فكيف صحَّ لليهودي إلزامنا بالاستصحاب في أمر لا شكَ لنا في انقطاعه، أو لا علمَ لنا بسابقه على تقدير

عبد أولا آخر؟!

التنبيه السابع :الحقَّ عدم حجية الأصول المثبتة؛ لعدم شمول أخبار الاستصحاب له؛ لأنَّها دلت على الإبقاء العملي للحكم أو الموضوع الذي له أثر يصح للشارع أن يحكم به، فما لم يكن حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي بلا واسطة فلا تشمله أدلة الاستصحاب. وزعم ناسٌ (1) شمولها لما ينتهي إلى أثر شرعي بنحو من الأنحاء، مثل ما ينتهي بواسطة

ص: 241


1- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول : ٣ / ٢٤١ - ٢٤٢- حيث قال:( نعم ، لا يبعد ترتب خصوص ما كان منها محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه ...إلخ ) ؛ الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٢٤٤/٣.

اللوازم العادية أو العقلية إلى أثر شرعي، ومثل ما ينتهي بواسطة الملازمة بينه وبين شيء آخر - إمّا عقلاً أو عادة، أو اتفاقاً - إلى أثر شرعي، أو يكون ملزومه أثراً شرعياً، أو موضوعاً لأثر شرعي، أو يكون ملزمه أثراً شرعياً، ولكن ليس ترتبه على ذلك الموضوع بشرعي، كمن أحرز مقتضى الوجوب وشك في المانع، فأصالة عدم عنوان المانع وإن كان يترتب عليه الوجوبُ وهو حكمٌ شرعي، لكنَّ ترتبَ هذا الحكم على وجود المقتضي وعدم المانع ترتبٌ عقلي لا شرعي، أو يكون المستصحب وأثره من الانتزاعيات التي منشأ انتزاعها بيد الشارع مثل استصحاب الشرطية أو عدمها والمانعية أو عدمها بناءً على عدم جعل الانتزاعيات المذكورة.

والحقُّ أن كل ما كان نقضاً عملياً لنفس المتيقن ابتداءً بلا واسطة فهو مجرى الاستصحاب، فاليقينُ بما ليس له أثر شرعي، بل ينتهي بالواسطة إلى الأثر الشرعي ليس من النقض العملي في شيء، وإذا كانت الواسطة خفية لم يكن ترتبُ الحكم على تلك الواسطة عرفاً، بل يرونه مرتباً على نفس المستصحب، فهو من مصاديق (لا ينقض) العرفية، ومثله ما لو كانت الملازمة بين الشيئين جليّة على وجه يستلزمُ التنزيل في أحدهما التنزيلَ في الآخر كالأبوة والبنوة.

نعم، لو كان الاستصحابُ من باب الظن كانَ الأصلُ المثبت حجةً؛ لعدم انفكاك الظن بالملزوم عن الظنَّ باللازم، والظنَّ بأحد المتلازمين عن الظن بالآخر ، إِلَّا أَنْ يقال: إنَّ بناء العقلاء على اعتبار الظن بالبقاء من الكون السابق، لا الظن بحدوث أمر يلازمُ بقاء ذلك الشيء، فافهم.

والوجه في الأخذ بما يلازم مفاد الأمارات في الوجود سواء كانت الملازمة عادية، أو عقلية، أو اتفاقية، أنه كشٌف حاصلٌ من الخبر، وكلُّ من اللازم والملزوم حجةٌ؛ لأنَّ الخبر كاشف عن كل منهما، والالتزامي وإن كان تبعاً للكشف عن المعنى المطابقي في الوجود، لكن

قال: (نعم،هنا شيء، وهو أن بعض الموضوعات الخارجية المتوسطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي من الوسائط الخفية ) ؛ الحائري، الفصول الغروية: 378.

ص: 242

ليس تبعاً له في الاعتبار والحجية، بل كل منهما كشف حاصل من الأمارات التي هي طريق إلى الواقع، فافهم.

التنبيه الثامن: إذا كان المستصحب مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان اللاحق مع العلم بارتفاعه بعد ذلك الجزء، فهو استصحاب تأخر الحادث الذي علم وجوده في زمان وشُكَ في مبدأ وجوده، فالأصلُ عدم حدوثه في زمان الشك، فيترتب عليه أثر عدمه في ذلك الزمان ولا يترتب عليه أثر حدوثه بعد ذلك؛ لأنَّ حدوثه بعد ذلك لازم عقلي للعدم في ذلك الزمان، ومطلقُ وجوده لا شك فيه. اللهم إلا أنْ يقال بخفاء الواسطة عند العرف.

ولو علم بحدوث حادثين وشك في تقدم أحدهما على الآخر، فإن كانا مجهولي التاريخ فالأصلُ عدم كل منهما في الزمان المشكوك، فلا يجوز العمل بهما، إلَّا إذا لم يلزم من ذلك مخالفة عملية كما في الاناءين المشتبهين اللذين تكون الحالة السابقة فيهما النجاسة.

وإن علم تاريخ أحدهما وجهلَ الآخر فاستصحاب مجهول التاريخ لا مانع منه، فيحكم بعدمه حتى في زمن وجود معلوم التاريخ ، ولا يجري (1) في معلوم التاريخ؛ للعلم، بعدمه قبل ذلك الزمان المعيّن الذي علم بوجوده وعلم انقطاع ذلك العدم في ذلك الزمان فلا زمان يشك في بقائه وعدم بقائه.

نعم، وجوده المقارن مشكوك فيه يمكن استصحاب عدمه؛ لأنه كان مسبوقاً بالعدم الأزلي، وإنْ فرض أنَّ الأثر لعدمه في صورة الوجود المفروض للآخر فلا يجري الاستصحاب؛ إذ ليس له حالة سابقة؛ لأنَّ أصل وجوده معلوم في زمان معلوم، وكون هذا الوجود في زمن وجودِ الآخر فليس بمعلوم نفياً وإثباتاً، فافهم.

التنبيه التاسع: في استصحاب حكم المخصص كما لو دل العام على ثبوت حكم لأفراده ثم جاء المخصص المخرج لفرد من أفراد العام في زمان خاص، فبعد ذلك الزمان يرجع إلى استصحاب الحكم المخصص، مثل:

ص: 243


1- في نسخة ب: ولا مجرى.

ما لو جاء (أكرم العلماء)، ثمَّ علمنا - ولو من دليل لبي كالإجماع - عدم وجوب إكرام زيد العالم يوم الجمعة، فبعد يوم الجمعة يُشكُ في وجوب إكرام زيد، فيستصحب وجوب إكرامه ، إلّا إذا قال: (أكرم العلماء في كل زمان)، وخرج فرد في زمان، فلا حاجة حينئذ إلى الاستصحاب في دخول زيدٍ في الزمان الثاني؛ لأنَّه لاحظ الأزمنة _ أفراداً وقطعات _ إما قيداً للإكرام المأمور به، أو ظرفاً للنسبة الحكمية، ويصير الإكرام _ على تقدير اعتبار القيدية بالنسبة إلى كل فرد من أفراد العام - متعدداً بالنسبة إلى الأزمنة، فإكرام زيد المخصص في يوم الجمعة فرد من أفراد العام، وفي يوم السبت فرد آخر ، وهكذا على تقدير الظرفية للنسبة الحكمية تكون نفس القضية متعددةً بتعدد أفراد الزمان، وعلى كل حال خروج زيد في يوم الجمعة لا يُخرج العام عن الحجية في شمول الحكم لزيد يوم السبت، فلا مجرى للاستصحاب فيه بعد وجود الدليل الاجتهادي على إشكال؛ لأنَّ أصالة العموم بالنسبة إلى الأفراد أقصاه دخول الفرد في الجملة.

وأما استمرار الحكم فلا بد فيه من إحراز إطلاق الزمان، والمفروض أنه معنى واحد، أو هو مستمر من أول وجود الفرد إلى آخره، فلا فرق في ارتفاع هذا المعنى بين أن يخرج الفرد في الأثناء أو من الوجود؛ فإنَّ في كلا الحالين الحكم في العام استمر بالنسبة إلى هذا الفرد من أول وجوده إلى آخره، وتقييد الفرد بغير الزمان المعلوم خروجه موقوف على ظهور الدليل في كل واحد من الأزمنة حتى يقتصر في الخارج على القدر المتيقن، وليس منه أثر، فتأمل.

التنبيه العاشر : في اعتبار بقاء الموضوع في كل استصحاب على نحو ما كان في القضية المتيقنة؛ ضرورة اشتراط الوحدة في الموضوع في القضية المتيقنة والمشكوكة؛ لأنَّ الملاك في شمول أدلة الاستصحاب الشك في بقاء ما كان متحققاً سابقاً بشرط أن يكون المشكوك على تقدير بقائه حكماً شرعياً أو موضوعاً لحكم شرعي ، فلو فرض الشك في قيام زيد وكان المتيقن قيام عمرو فليس هذا الشكُ شكاً في البقاء، ولو كان المشكوك قيام زيد وكان الشك مستنداً إلى الشك في وجود زيد فالموضوع للحكم الشرعي هو تحقق قيام زيد، وهذا المفهوم يصدق أنه شك في بقاء ما هو موضوع لحكم الشارع.

ص: 244

وأما لو كان الموضوع في هذه الصورة ثبوت القيام لزيد بعد تحققه، فهذا المعنى ليس مشكوكاً فيه؛ للعلم بقيام زيد بعد تحققه والمعنى المشكوك فيه _ أعني قيام زيد _ ليس موضوعاً للحكم الشرعي.

ثمَّ ان الحاكم باتحاد الموضوع في الاستصحاب هو العرف لا الدليل ولا العقل؛ لأنَّ الأحكام المتعلّقة بالعناوين تتعلّق بها بلحاظ مصاديقها العرفية؛ لأنَّ الشارع لا يتكلّم إلَّا بلسان العرف، وهو من هذه الحيثية أحدهم ، فقد يرد الحكم في الدليل على عنوان، والعرفُ يحكم بأن الموضوع أعم مما يصدق عليه ذلك العنوان، على وجه لو زال العنوان عنه و ه وأُطلق عليه عنوان آخر يحكمُ العرف أنَّ الباقي في كلا الحالين هو الموضوع للحكم بحيث لا يحتاج في حكمه ببقاء الحكم إلى دليل آخر كالاستصحاب، بل يحكم ببقاء الحكم بنفس الدليل الأول، وربما احتاج إلى دليل آخر مع أنَّه أحرز أن الموضوع هو الموجود في الحالين؛ لاحتماله أن يكون الحكم دائراً مدار وجود اسم العنوان بحيث يكون هو الواسطة في ثبوت حكمها لموضوعها حدوثاً وبقاءً، فلا ينافي بقاء الموضوع عدم الحكم، وقد يحكم بأن زوال العنوان موجب لزوال الموضوع الأول وحدوث موضوع آخر، فالحاكم هو لا غير، فافهم.

التنبيه الحادي عشر: في الشك الساري، ومثاله من الأحكام التكليفية ما لو تيقن وجوب الاستعاذة في أول الصلاة _ مثلاً _ ثم شك في صحة يقينه؛ لأجل تعارض الأدلة، أو رجوعه عن اعتبار الدليل الذي تمسك به.

ومن الأحكام الوضعية : ما لو تيقن طهارة ثوب (1)أولاً، ثم شك في صحة ذلك اليقين بسبب من ب من الأسباب كإخبار عدل بنجاسته.

ومن الموضوعات ما لو تيقن عدالة زيد يوم الجمعة وشك في ذلك؛ لاحتمال انتفائها في ذلك الزمان.

واختلفوا في اندراج قاعدة الشك الساري في أخبار الاستصحاب على أقوال ثلاثة:

ص: 245


1- في نسخة ب :ثوبه.

الأول: الاندراج مطلقاً (1).

والثاني: عدم الاندراج مطلقاً (2) .

والثالث: التفصيل بين تذكر مستند القطع السابق والتفطن لفساده من عدم قابليته للقطع وغيره بالاندراج على الأول وعدمه على الثاني (3).

والأقوى عدم الشمول مطلقاً، وأقصى ما يقال في تقريب الشمول: إنه جعل الزمان السابق في قوله : ( من کان على يقين فشك ظرفاً لليقين، والزمانَ اللاحق ظرفاً للشك، ولوحظ المتيقن والشك مجرداً عن اعتبار الزمان لا على نحو الظرفية ولا على نحو القيدية وحينئذٍ المراد باليقين بالشيء اليقين بذات الشيء على وجه الإهمال عن اعتبار الزمان، والمراد بالشك كذلك، وظاهر أن الشك بذات الشيء يصدقُ على الشك في أصل وجوده وعلى الشك في بقائه؛ لأنَّ بقاء الشيء ليس أمراً آخر وراء ذلك الشيء، فإذا اشتمل كلا الشكين بوجوب المضي على اليقين يوجب إلغاء الشكين كلاهما، وإلغاء كل شك بحسبه، فالشك في أصل الوجود إلغاؤه بأن يحكم بأصل الوجود، والشكُ في البقاء إلغاؤه بأن يحكم بالبقاء.

وأنت خبير بأنَّ شمول الروايات للاستصحاب يتوقفُ على ملاحظة الزمان السابق ظرفاً للمتيقن، والزمان اللاحق ظرفاً للمشكوك، وهذه الملاحظة لا تجتمع مع ملاحظة الزمان الأول قيداً ل_(الشيء) في قوله: «إذا تيقنت بشيء ثم شككت فيه... إلخ»، أو عدم ملاحظة الزمان أصلاً بأن أهمل الملاحظة رأساً حتى تشمل القاعدة أيضاً، وحيث لا تجتمع الملاحظتان فلا تشمل الروايات للاستصحاب والقاعدة، والمفروض الاتفاق على شمولها للاستصحاب، فلا بد أن تكون القاعدة خارجةً عن هذه الروايات.

وأوردَ شيخنا العلّامة المرتضى (4) له خمسة إيرادات على مدعي الشمول:

ص: 246


1- السيد المجاهد، مفاتيح الأصول: ٦٥٧ .
2- الشيخ الأنصاري ، فرائد الأصول: 3/ 308 .
3- الشيخ جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء: 102 .
4- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٣٠٣/٣ وما بعدها .

الأول: عدم الجامع، وأنهما سنخان من المضي لا جامع بينهما.

الثاني : ثبوت التضاد بين اليقينين والشكين.

الثالث: إنّ تعدد اللحاظ في شيء واحد شخصي لا يوجبُ تكثره في الخارج الموجب؛ لكثرته الخارجية، وإنما يوجب تكثره بحسب اللحاظ، ومن المعلوم أن إرادة المتكلّم ليست تابعة للموهومات التي لا واقعية لها.

الرابع: إنّ ما ذكرنا يجدي في بعض الموارد لا جميعها؛ فإن جميع موارد الاستصحابات لا يشترط فيها سبقُ اليقين على الشك كما هو المعتبر في القاعدة؛ لأنَّ المعتبر في الاستصحاب مجرد وجود السابق في الشك في بقائه بعد الزمان الذي وجد فيه، الذي يجامع بعض أخبار حصول الشك واليقين في زمان واحد.

الخامس: إنّ اعتبار قاعدة الشك الساري من حيث هي هي خلافُ الإجماع؛ فإن أحداً لا يقول بأن الشك بعد اليقين ملغى، ولم يعمل بمقتضى اليقين أصلاً ولو حصل الشك بعد اليقين فوراً، ولا دليل على القاعدة المذكورة بعد التحقيق في ما بأيدينا من الأخبار، فإذا اعتقد المكلف بشيء في زمان ثم زال اعتقاده فعليه الرجوع إلى الأصول بالنسبة إلى نفس معتقده وإلى الآثار المترتبة على اعتقاده سابقاً أو لاحقاً موضوعاً أو حكماً، اجتهادياً كان الاعتقاد أو عن تقليد.

ص: 247

خاتمةٌ

في حال الاستصحاب عند تعارضه مع نفسه ومع غيره من الأصول العملية والقواعد المرجوع إليها حال الشك.

[تعارض الاستصحاب مع الأصول العملية والقواعد المرجوع إليها حال الشك]

لا إشكال في تقدم قاعدة التجاوز عليه؛ لكونها أمارة وطريق بمقتضى قوله علیه السلام : هو حين يتوضأ أذكرُ منه حين يشك» (1). وأمّا أصالة الصحة في فعل الغير فحاكمة على الاستصحاب إذا كان الشك في الصحة من جهة الشك في تحقق ما هو قيد للعقد كالعربية وقلنا: إن مجرى الاستصحاب فيه هو المجموع الملتئم مما اعتبر فيه؛ لكونه مسبوقا بالعدم، الحكومة أن الشك في بقاء ذلك على العدم مستند إلى الشك في أن الموجود هل هو مصداق لما له الأثر شرعاً أم لا؟ ومقتضى أصالة الصحة كونه مصداقاً له، فافهم.

وأمّا لو كان الشك في الصحة من جهة الشك في إخلال شرط أو جزء، وكان الشك في الصحة مجرى الاستصحاب كاعتبار البلوغ، أو الرؤية في المبيع أو الكيل أو الوزن، فإن قلنا بكون أصالة الصحة أمارة فتقدمها على الاستصحاب ظاهر، وإذا كانت من الأصول العملية الصرفة فلا حكومة لها على الاستصحاب، ويشكل الأمر في تقدمها عليه، بل التحقيقُ حكومة الاستصحاب عليها، لكنَّ ورود أصالة الصحة في مورد الاستصحاب غالباً يعطي موضوعيتها وإلغاء الاستصحاب، وإلا لزم إلغاؤها رأساً، ولا يلتزم به فقيه.

وأمّا حاله القرعة فالاستصحاب مقدم عليها مطلقاً؛ لأنها لكل أمر مشكل، وارتفاع الإشكال بالاستصحاب، وربما جاء أنها في الأمر المجهول والمشتبه، ومع ذلك يتقدم عليها؛ لأعمية دليلها على الاستصحاب فلا بدَّ من تخصيص دليلها بدليله.

وأمّا حاله مع اليد فحيث استظهرنا اعتبارها من باب الطريقية لا التعبد، فتقدمها عليه ظاهرُ الوجه.

ص: 248


1- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام: ١/ ١٠١ ح ١١٤ .

وربما قيل (1) بتقدمها عليه حتى بناءً على كون اليد من باب التعبد لورودها غالباً مورد ؛ الاستصحاب الموضوعية (2) ، ولو لم نقل بذلك صارت اليد لغواً.

وأمّا حاله مع الأمارات في الموضوعات ومع الأدلة الاجتهادية في الأحكام، فهو حكومة الأمارات والأدلة الاجتهادية أو ورودها على الاستصحاب، وارتفاع موضوع الحكم بالبقاء المعلّق على عدم الطريق.

[تعارض الاستصحابين ]

وأمّا تعارض الاستصحابين: فإن كان الشك في أحدهما مسبباً أحدهما مسبباً عن الشك في الآخر فيقدم السببي على المسببي؛ لتقدم الشك السببي طبعاً؛ لأنَّ المسببي معلول للسببي، فالسببي ليس له معارض في مرتبة وجوده فيجري الحكم بلا معارض فلا يبقى موضوع للمسببي.

ووجه آخر، وهو ما ذكرنا في تقدم الأمارات والطرق من أن الشك المأخوذ في موضوع الأصول العملية بمعنى عدم الطريق، ومع وجود الطريق يرتفع موضوع الأصل، وأدلة الاستصحاب باعتبار شمولها للشك السببي لم يبق للاستصحاب المسببي موضوع، فافهم واغتنم.

وإنْ كان الشك في الاستصحابين مسبباً عن ثالث، فالتحقيقُ عدم شمول: «لا تنقض اليقين بالشك» صورَ التعارض المذكور؛ لأنَّ المنساق من الدليل جعل سببية (3)اليقين السابق والشك اللاحق للعمل بالاستصحاب، وهو في مقام جعل السببية لا غير نظير (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (4) الوارد في بيان سببية العقد لترتب الأثر، وليس المنساقُ من: «لا تنقض

ص: 249


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول : 321/3 - 323 قال: (إنّ اليد مما لا يعارضها الاستصحاب، بل هي حاكمة عليه.
2- في نسخة ب بالموضوعية.
3- في نسخة ب: السببية.
4- سورة المائدة : 1 .

اليقين بالشك »إلا هذا فلا تشمل بإطلاقها صورَ تزاحم السببين وعدم إمكان العمل بالاستصحابين بسبب وجود العلم الإجمالي، وهذه الجهة مرتبتها مؤخرة عن الأولى، وهي محتاجة إلى لحاظ آخر غير لحاظ جعل أصل السببية، واللحاظ الأول لا يغني عن الثاني كي تستفاد الرخصة من هذه الأدلة في العمل بأحدها، فلا وجه للقول بالتخيير ؛ لعدم شمولها في دليل الاستصحاب، فلا حاجة لما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري رحمة الله بقوله : (أما أحدهما المعين دون الآخر [ف] ترجيح بلا مرجح) (1) .

فإنَّ ظاهره القول بثبوت المقتضي في كل منهما إلا أن الأخذ المعين دون الآخر ترجيحٌ بلا مرجح .

وقد عرفت عدم ثبوته فيهما ولا في أحدهما ، لا المعين ولا المخيّر، بل غير داخلين أصلاً، كما لا حاجة إلى قوله : ( وأما أحدهما المخيّر فليس من أفراد العام) (2)، والقائل بالتخيير لا يقول : إنه من أفراده بهذا العنوان بل يقول : جعل السببية والرخصة شاملة لها؛ لإطلاق الأدلة، ويقتصر على قدر المانع عند العقل، وهو ارتكابهما لزوم المخالفة للعلم الإجمالي.

وأما أحدهما فلا مانع منه؛ لأنَّ حكم العقل معلّق على عدم الرخصة من الشارع، فإجراء الاستصحاب في أحدهما تمسك بالعموم بضميمة حكم العقل التعليقي، وقد عرفت فساده .

ويدفعُ أيضاً ببيان آخر حاصله عدم إمكان التمسك بعموم أخبار الاستصحاب بالنسبة إليهما معاً؛ للزوم المخالفة، ولا لأحدهما وتخصيص العموم بالعلم الإجمالي؛ لأنَّ أحدهما بهذا العنوان لم يكن من أفراد العام حتى يخرج منه، والعلم الإجمالي على تقديره من المخصصات اللبية فهو لا يعين الفرد، فإذا لم يكن دخول الفردين كليهما ولا أحدهما من أفراد العام كي يخرج، ولا مخصص لفظياً حتى يصير الفرد ذا عنوان ويخرجه، فهما غيرُ داخلين

ص: 250


1- الشيخ الأنصاري فرائد الأصول: ٣/ ٤١٠ .
2- المصدر السابق .

على جميع التقادير ، ولا معنى للعموم هنا؛ لخروجهما موضوعاً عن الأصل، لا أن القضية - أعني قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» - مهملة في مقام جعل السببية غير ناظرة إلى جهة تزاحم السببين ، ولو كانت متأخرة لجاز التمسك بالإطلاق كما هو مبنى التقريب الأول. والله الهادي سواء السبيل.

ص: 251

لامعة في التعارض والتعادل والترجيح

اعلم أن التعارض عبارة عن تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولها (1)؛ إذ من الواضح أن التعارض عندهم وصف للدليلين لا لمدلولها.

نعم، منشأ تعارضها وتنافيهما ليس إلا أن مدلوليهما على وجه يمتنع الجمعُ بينهما فلزمَ تنافي الدليلين الدالين عليهما (2) وتدافعهما، فالتدافع وصف قائم بالدليلين ناش من وصف امتناع الاجتماع الحاصل في مدلوليهما على وجه التناقض أو التضاد، وحيث عرفت في ما تقدم أن الجهل بالأحكام الواقعية _ التي هي مؤديات الأدلة _ مأخوذ في موضع الأصول تعرفُ عدم المنافاة بين الأحكام الظاهرية والواقعية، وعدم التعارض بين الأدلة الاجتهادية الكاشفة عن الأحكام الواقعية، وبين الأصول العملية المقتضية لخلاف مؤداها؛ لارتفاع موضوع الأصول إذا كانت الأدلة علمية؛ لورودها عليها أو حكومتها إن كانت غير علمية.

[في ميزان الحكومة والورود]

و میزان الورود أن يكون الدليل الوارد بحيث يرفع موضوع المورود عليه، وتخرج موارده حقيقةً عن كونه مصداقاً لموضوع المورود عليه، وذلك بأن يكون بنفسه رافعاً للشك حقيقة.

وأما ميزان الحكومة أن يكون الحاكم أولاً وبالذات وبنفسه مفسراً للمراد من المحكوم عليه ومبيناً لكمية مدلوله ، والمراد من كونه مفسراً له أولاً أن يكون بحيث لا يفهم التنافي بينه وبين المحكوم عليه من أول النظر ، بل يكون كالقرائن المتصلة من حيث كونه موجباً لظهور المحكوم عليه في اختصاص الذي تضمنه بغير مورد الحاكم ابتداءً.

فظهر الفرق بين الحاكم والمخصص (3) المنفصل ؛ فإن المخصص ليس بحيث يوجب

ص: 252


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ١١/٤ .
2- في نسخة ب تنافي الدليلين عليهما .
3- في نسخة ب مورد الحاكم والمخصص.

ظهور العام في اختصاص الحكم المعلّق عليه بغير مورد المخصص، بل العام معه أيضاً ظاهر في تعميم الحكم بالنسبة إلى ذلك المورد، وإنما يقدم الخاص؛ لترجيح ظهوره على ظهور العام وهما متعارضان والترجيح للخاص؛ لترجيح ظهوره بخلاف الحاكم والمحكوم، فإن المحكوم لا ظهور له في عموم الحكم بالنسبة إلى مورد الحاكم حتى يتعارضان.

والتحقيق أن الحكومة والورود بين الأدلة الظنية وأدلة الأصول العملية يختلفُ باختلاف الوجوه الأربعة المتصورة في كيفية اعتبار الطرق والأمارات الظنية :

[الوجه الأول] من كونها على وجه السببية ،واقعاً، وعليّة قيامها لوجوب البناء (1) على مقتضاها.

والوجه الثاني: اعتبارها على وجه السببية ظاهراً، وعليتها في مرحلة الظاهر.

و [الوجه ] الثالث: اعتبارها على وجه الطريقية بالنسبة إلى نفي الاحتمال المخالف لها فقط .

و [ الوجه] الرابع: اعتبارها على وجه الطريقية في تمام مؤداها وكونها منزلةً منزلة العلم بأن يراد من تلك الأدلة جعل مؤديها بمنزلة المتيقن، وجعل الاحتمال المخالف لها بمنزلة العدم.

والوجوه الأربعة المتصورة في كيفية اعتبار الأصول بالنظر إلى الشك المأخوذ في موضوعها وإلى العلم الذي جعل غاية لارتفاعها في أدلة اعتبارها.

أحدها: أن يكون الشك في أدلة الأصول عبارةً عن الجهل القابل للعلم، ويراد بالعلم كونه صفة للقطع.

الثاني: بأن يكون المراد من العلم مطلق الطريق لا خصوص القطع.

والثالث : إن المراد من الشك التحيّر في مقام العمل ومن القطع (2).

ص: 253


1- في نسخة :ب وعليّة قيامها لأجل وجوب البناء.
2- كذا في نسختي المخطوطة، والمطلب بحاجة إلى تتميم.

الرابع: أن يكون الشك عبارة عن عدم الحجة، ويراد من العلم مطلق الحجة.

فإن كان اعتبار الطرق والأمارات على وجه السببية واقعاً فهي واردة على الأصول بجميع وجوهها الأربعة؛ لأنَّ قيام الأمارة يوجب حدوث تكليف آخر واقعي معلوم ايقاع العمل على طبقها.

وإن كان اعتبارها على وجه السببية ظاهراً كان التعارض بينها وبين الأصول بجميع الوجوه فيها؛ لأنَّ كلاً منها يقتضي حكماً ظاهرياً مأخوذاً فيه الجهل بحكم الواقعة، فلا بدَّ حينئذ من ملاحظة الترجيح بين أدلة اعتبارها ومع عدمه يُرجع إلى أحكام التعارض الآتية.

وإن كان اعتبار الأمارات على أحد وجهي الطريقية، وكانت الأصول على الوجه الثاني، أعني أن الشك فيها بمعنى الجهل المقابل للعلم الذي هو مطلق الطريق والحجة الأعم من القطع والظن المعتبر، كانت الأدلة والأمارات حاكمةً على الأصول، لا واردةً ولا معارضةً كما هو ظاهر.

وإن كان اعتبار الأصول على الوجه الثالث والرابع كانت الأدلة والأمارات واردةً عليها؛ لارتفاع موضوع الأصول حينئذ؛ لأنَّه التحيّر في العمل؛ لعدم الحجة فيرتفع التحيّر بقيام الحجة، ولا يبقى تحيّر في مقام العمل.

نعم، لو كان اعتبار الأمارات على وجه السببية واقعاً، واعتبار الأصول على الوجه الثالث والرابع كانت الأمارات والأدلة حاكمة.

والتحقيقُ أن تقديم الطرق والأمارات على الأصول في الموضع الذي تقدم ليس لأجل ورودها أو حكومتها على الأصول، بل لأجل ورود أدلة اعتبارها أو حكومتها على أدلة اعتبار الأصول، وتقديم أدلة اعتبارها إنما هو بتقديم ما قامت هي على اعتبارها، وهي الطرق والأمارات، وتقديمها عبارةٌ عن العمل على طبقها والأخذ بمؤداها، وطرح مؤدى أدلة اعتبار الأصول والعمل على طبقها عنوان منطبق على العمل بالأدلة أو الأمارات (1).

ص: 254


1- في نسخة ب: العمل بالأدلة والأمارات.

نعم، قد يوجد في الأدلة والأمارات ما يكون هو بنفسه وارداً على الأصل كما لو كان مفيداً للقطع، وليس كلامنا هنا فيه، إنما الكلام في غير العلمية منها المعتبرة شرعاً، وقد يوجد ما يكون منها حاكماً كأدلة الشك في الصلاة الرباعية الدالة على البناء على الأكثر في الركعات (1) في مقابل الاستصحاب المقتضي للبناء على الأقل، فإن الروايات في ذلك ظنية السند والدلالة فهي حاكمةٌ لا واردة على الاستصحاب، وكذلك الأدلة النافية لحكم الشك مع كثرته، أو مع حفظ الإمام أو المأموم؛ فإنها حاكمة على الاستصحاب.

فافهم الفرق بين الوارد [ والحاكم] (2) وأن التعارض والورود والحكومة إنما هو بين أدلة اعتبار الطرق والأمارات كلية ، والمفسر ب_ (الفتح) إنما هو أدلة اعتبار الطرق والأمارات لا نفسها كما زعمه شيخنا [العلّامة ] (3) المرتضى

رحمة الله (4).

[في مؤدى الأصول اللفظية ]

ثمَّ اعلم أنّ الأصول اللفظية أدلة اجتهادية في مؤداها لا أحكام ظاهرية غير أن اعتبارها عند عدم القرينة الصارفة (5) عنها ، وحينئذ إنْ كانت القرينة قطعيةً فهي بنفسها رافعة لموضوعها فتكون واردةً عليها، وإن كانت ظنيةً من حيث الصدور نصوصية (6) أو ظهورية فتكون حاكمة عليها؛ إذ بمقتضى أدلة اعتبار سندها تكون كمقطوع الصدور من حيث إيجابها لرفع حكم تلك الأصول واعتبارها عن موردها، وإن لم يرفع موضوعها _ وهو عدم العلم بالقرينة - فيكون دليل اعتبار الصدور حاكماً على دليل اعتبار الأصول اللفظية،

ص: 255


1- في نسخة ب: العبادات.
2- ما بين معوقفتين من نسخة ب.
3- ما بين معوقفتين من نسخة ب.
4- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٤ / ١١- ١٤ .
5- في نسخة ب الصادقة.
6- في نسخة ب خصوصية.

وجَعْلُ الحكومة هنا بين نفس الأصول ونفس القرائن الظنية لا يتجه، فافهم.

ثمَّ اعلم أن قاعدة الجمع أيضاً تُخرِجُ الخبرين الظاهرين من حيث الصدور عن التعارض كالحكومة و الورود؛ حيث إنَّها على تقدير اعتبارها ولزومِ الأخذ بها يرتفعُ التعارض المتحقق بين الخبرين الظاهرين فتُخرِجُهما عن مورد مسألة التعادل (1) والترجيح؛ لأنَّ المراد بالأولوية

في قولهم:(إن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح)(2) التعيينُ لا الرجحان والجمع بين الخبرين بالنظر إلى صدورهما، ومعنى الجمع البناء على صدور كليهما وفرضها كمعلومي الصدور والتصرّف في متنهما، ومعنى الطرح البناء على عدم صدق أحدهما والأخذ بسند الآخر ودلالته؛ لمرجح أو القاعدة (3)خصوص الخبرين الظاهرين من حيث الدلالة، لا ما إذا كان أحدهما نصاً أو أظهر ، أو كانا ،نصين، فإنّ المتعين في الأولين حمل الظاهر على النص أو على الأظهر ، فإنّ ذلك قرينة على التصرّف في الآخر، كالعام والخاص و المطلق والمقيد ،وفي النصين الطرح أو بالمرجح ، إن كان وقلنا به، وإلا فيأخذ بأحدهما تخييراً.

الأظهر عدم تقديم الجمع وإن فرض كونه مقتضى القاعدة الأولية؛ للزوم الهرج والمرج على تقدير إهمال المرجحات في المتعارضين ؛ لقيام الإجماع (4) على إعمالها فيهما؛ ولعدم الفرق بينهما وبين الظنين النصين، كيف وجلَّ أصحاب الأئمة متحيّرون في الخبرين المتعارضين من حيث كيفية العمل حتى

كثر منهم السوال عنهما! و لو کانت القاعدة الأولیّه الجمعَ لم يكن للتحيّر مجالٌ، واحتمالُ تحيّرهم في المتعارضين النصين لا غير يلحقُ محتمل صاحبه بأهل السوداء (5) عند أهل العلم بالحديث.

نعم استمرت طريقتهم وكل أهل العرف واللسان على تقدم النص الأظهر وإن كان

ص: 256


1- في نسخة ب: التعارض.
2- المولى النراقي، أنيس المجتهدين: 219/2.
3- في نسخة ب: قاعدة.
4- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٢٠/٤.
5- في نسخة ب : يلحق محتمله بأهل السوداء.

بحسب السند ظنياً أو قطعياً، أو كان السند فيهما قطعياً أو ظنياً أو مختلفاً، ولا يرون في هذه الموارد تعارضاً ولا تحيّراً ولا تنافياً في الدلالة بخلاف ما [لو ] كان كل واحد من الدليل قطعياً دلالةً وجهةً، أو ظنياً فيهما ؛ للعلم بكذب أحدهما أو لغوية التعبد بصدورهما مع إجمالها، فلا بدَّ من التعارض في أدلة اعتبار السند حينئذٍ كما هو ظاهر.

وبالجملة ، إذا كان العام مقطوع الصدور والخاص كذلك مقطوع الصدور والجه_ة والدلالة لا يرى العرف بينهما تعارضاً، بل يقدم الخاص على العام؛ ضرورة العلم بعدم إرادة ظاهر العام بعد ورود هذا الخاص، وكذلك لو كان العام معلوم الصدور والخاص ظني الصدور على الأصح؛ لورود دليل اعتبار السند وجعله الظهورَ في الخاص كالمعلوم الخلاف بالنسبة إلى ظهور العام، وكذلك الوجه في تقديم الخاص النص غير المقطوع الصدور؛ لعين ما ذكرنا في وجه تقديم الخاص الظني الصدور.

فاتضح من مجموع ما قدمنا أن أحكام التعارض للدليلين المتباينين بحسب الدلالة سواء كانا نصين أو ظاهرين في تمام مدلوليهما، لا فيما لو كان كل منهما نصاً في مقدار من مدلولهما وظاهراً في الآخر، فإنه يؤخذ بالنص في كليهما ويلغى الظاهر فيها؛ لِما تقدم من تحكم العرف النص على الظاهر من غير فرق بين كونهما مقطوعي السند، أو مظنوني السند بالظن المعتبر، أو كان أحدهما معلومَ السند والآخر مظنوناً بالظن المعتبر؛ فإن النصَّ قدرٌ متيقن في الإرادة لا تحيّرَ فيه مطلقاً.

وحيث اتضح الموضوع لأحكام التعارض فالكلام يقع في مقامين: [المقام] الأول: في الخبرين المتباينين في تمام مدلولها ولا مرجح لأحدهما.

والمقام الثاني: فيما لو كان لأحدهما مرجح.

أمّا حكم المقام الأول، فتارةً الكلام فيه بمقتضى القاعدة الأولية وأخرى بمقتضى الأخبار الواردة في المقام.

أما الكلام حسب القاعدة، فاعلم أنا حيث حققنا أن حجية الخبر من باب الطريقية دون السببية فالقاعدة تقتضي التوقفَ في الخبرين المتعارضين في مدلوليهما الخاص بمعنى

ص: 257

التوقف في مدلول كل منهما بالخصوص، والحكم بثبوت أحدهما واقعاً لا فيما يشتركان فيه من نفي الثالث؛ فإن ذلك كشف حاصل من خبر الثقة وليس تابعاً للأثر المختص بكل واحد منهما في الحجية وإن كان تابعاً في الوجود، وحجيةُ الانكشاف في اللازم ليس تابعاً لحجية الانكشاف في الملزوم في المقام، بل أدلة حجية كشف الخبر العادل تعمُّ كل أفراد الانكشاف الحاصل من خبر العادل إذا كان قابلاً للجعل في عرض واحد ، سواء كان من مداليل الخبر بالمطابقة أو باللازم، فافهم.

والتوقفُ في المدلول المختص بكل منهما عليه بناءُ العرف والعقلاء، وضروة سقوط أثرهما المختص بالتعارض؛ لأنَّ أدلة حجية الخبر إنما هي من حيث هو لا نظر فيها لحال التعارض لا إطلاقاً ولا تقييداً، ولسنا ممن يقول بإطلاقها حتى نقول في التخيير في المقام؛ لكونه خلاف الظاهر من الأدلة وعدم قابلية ما هو معلوم المخالفة للحجية؛ لأنَّ المفروض أن أحدهما واقع والآخر لا واقع له، والعقلُ إنما يحكم على تقدير إحراز المصلحة في كل منهما، والمفروض أنها في واحد منهما لا غير.

وأمّا بناء (1) [على] اعتبار الخبر من باب السببية، فإن فرض أن للأمارة القائمة على الواقعة تأثيرٌ في الفعل الذي تضمنت الأمارة حكمه، وكانت تحدث فيه مصلحةً غالبةً على مصلحة الواقع بحيث لا يكون الحكم الواقعي فعلياً إلّا في حق غير الظان بخلافه وبالنسبة إلى الظان بخلافه شأنيٌ صرف، والحكم الفعلي تابعٌ للأمارة، كانَ الحكمُ في تعارض الخبرين المثبتين للتكليف المعلوم مطابقة أحدهما للواقع التوقفَ؛ لأنَّ الواجب حينئذٍ الأخذ بمؤدى أحد الأمارتين في الواقع، وهي الأمارة المخالفة للواقع دون المطابقة للظن على خلافها، وحيث لم يتميز المخالف للواقع من الموافق له لزمَ التوقف والرجوع إلى مقتضى الأصل، فإن كان الخبران مثبتين للتكليف فالأصلُ حينئذٍ الاحتياطُ؛ لأنَّ المفروض أن مضمون أحدهما مجعولٌ في حقه بمقتضى سبية الخبر المخالف للواقع، وإن لم يمكن الاحتياط فالرجوعُ إلى

ص: 258


1- في نسخة ب: جاء.

أصل التخيير، وإنْ كان أحدُهما مثبتاً للتكليف والآخر نافياً فالأصلُ البراءةُ؛ لاحتمال كون الخبر النافي مخالفاً للواقع، وإن فرض أن السببية لا تحدث شيئاً، بل ليس إلَّا أن العمل (1) على طبق الأمارة في مقام العمل على أنه الواقع تشتملُ على مصلحة؛ ولذا أوجبه الشارع، ومعنى إيجاب العمل على الأمارة ليس إلّا وجوب تطبيق العمل عليها، لا وجوب إيجاد العمل على طبقها، كانَ الحكمُ بمقتضى الأصل في المسألةِ التخييرَ؛ لأنَّ الأمارة لا أثر لها في الفعل ولا تحدث فيه مصلحةً، فالواقعُ لا يتغير عما هو عليه، إنما المصلحةُ في الالتزام والتدين بمؤدى الأمارة، ولمّا كانت الأمارتان متعارضتين _ ولا يمكن الالتزامُ بمؤداهما معاً _ وجبَ الالتزامُ في أحدهما على سبيل التخيير؛ إذ المفروض عدم المرجح .

{الكلام بمقتضى الأخبار العلاجية}

وأمّا الكلام بمقتضى الأخبار العلاجية، فاعلم أن طائفة منها صرّحت بالتخيير(2)، وطائفة صرّحت بالتوقف (3)، وطائفة صرّحت بالمرجحات (4) ، والأصحابُ بين قائل بالتوقف مطلقاً (5) ، وقائل بالتخيير مطلقاً (6) ، ومفصّل بين ما لا بدَّ فيه من العمل فالتخييرُ،

ص: 259


1- في نسخة ب: لا تحدث شيئاً بل إلا أن العمل.
2- كخبر الحسن بن الجهم عن الرضا علیه السلام و خبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبدالله علیه السلام ، ومكاتبة عبدالله بن محمد إلى أبي الحسن علیه السلام ، ومكاتبة الحميري إلى الحجة علیه السلام،ينظر ، الحر العاملي، الوسائل (الاسلامية ): 18 / 87 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح٤٠، ٤١، ٤٤ وغيرها.
3- كرواية ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال، ينظر ابن إدريس الحلی، مستطرفات السرائر : ٥٨٤ ، ورواية عمر بن شمر عن جابر عن أبي جعفر علیه السلام ينظر، وسائل الشيعة (الإسلامية):٨٦/١٨ باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 37 .
4- كمقبولة عمر بن حنظلة الواردة في الكافي:٦٧/١ - ٦٨ باب اختلاف الحديث ح ١٠ ، وما عن عبد الرحمان بن أبي عبدالله عن الصادق علیه السلام كما في الوسائل : ١٨ / ٨٤ - ٨٥ ، باب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 29.
5- البحراني ،الحدائق ١ / ١٣٤ المقدمة السادسة.
6- الشيخ حسن معالم الدين: ٢٥٠ ، حيث نفى الخلاف عنه .

وبين غيره فالتوقفُ بما يوافق الاحتياطُ (1)، ومنهم من فصّل بين حقوق الله فالتخييرُ، وحق الناس فالتوقفُ (2)، وآخرُ فصّل بين دوران الأمر بين محذورين فالتخييرُ، وغيره فالتوقفُ (3)، والمشهورُ التخييرُ مطلقاً (4) وحملُ أخبار التوقف على صورة التمكن من لقاء (5) الإمام علیه السلام كما هو ظاهر بعضها، ويشكلُ أن ذلك لا يوجبُ تقييدَ أخبار التوقف المطلقة؛ لعدم المنافاة بين وجوب التوقف مطلقاً تمكن من وصول الإمام (6) علیه السلام أم لا، وبين كون غاية التوقف هو الوصول إلى الإمام، على أن في الأخبار الدالة على التخيير أيضاً فيها ما يدلُّ على ذلك، مثل خبر الحارث بن مغيرة عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إذا سمعت من أصحاب الحديث وكلهم ثقة فموسعٌ عليك حتى ترى القائم» (7) .

هذا، ولكنَّ التدبر في أخبار التوقف يدلُّ على أنها في مقام نفي تعيين أحد الخبرين بالاستحسان والمناسبات الظنية.

وبالجملة القولُ فيهما بغير علم ولا نظرَ فيها إلى نفي التخيير في مقام العمل فلا معارضةَ بين الطائفتين حينئذٍ.

ومن الغريب دعوى إرادة الاحتياط من التوقف في أخبار التوقف (8)، مع أنَّ الاحتياط لا ينطبق على التوقف إلَّا في الشبهة التحريمية خاصةً لا غير ، وقريب منه في الغرابة دعوى

ص: 260


1- الفيض الكاشاني، الأصول الأصيلة:88-89،البحراني، الحدائق : 1/ 102 المقدمة السادسة. ونسبه إلى ابن أبي جمهور الاحسائي.
2- الاسترآبادي، الفوائد المدنية: ٣٩٠، ٥٩٦( جوابات المسائل الظهيرية)؛ الفاضل التوني، الوافية : 328.
3- الكليني، الكافي: ١/ ٨ _ ٩ ، ٦٦ باب اختلاف الحديث ح 7؛ القمي، القوانين: ٤ / ٦٢٢ .
4- الميرزا القمي، القوانين ٤ / ٦٢٢ ؛ الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 3/ 313 .
5- في نسخة ب :بقاء الإمام.
6- في نسخة ب: من الوصول إلى الإمام.
7- الحر العاملي، وسائل الشيعة: ١٧ / ١٢٢
8- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٤٠/٤ .

دلالتها على الاحتياط في العمل بالاستلزام(1)، فتأمل.

نعم، في ذيل مرفوعة زرارة التي رواها في عوالي اللآلئ (2)الأمرُ بأخذ الاحتياط بعد فرض فقد جميع المرجحات التي ذكرت فيها، وظاهرُ الكلام عدّه في عداد المرجحات لا أنه حكم المتعارضين، وحيث إنَّ الأظهر أن الأخذ بالمرجحات مطلقاً إرشاديٌ لا مولوي فالترجيح بالاحتياط منها، ولا قائل بوجوب الترجيح بما وافق الاحتياط، فافهم.

ثمَّ اعلم أن هذا التخيير حكمٌ ظاهري تعلّق بموضوعه يستوي فيه المجتهد والمقلد، نعم لا طريق للمقلد إليه إلَّا فهم المجتهد ؛ لأنَّه لا يقدر على تشخيص مورده.

وهل هو استمراري يحكم على طبق أحد الأمارتين في واقعه، وعلى طبق الأخرى في واقعة أخرى، أم ابتدائي؟

الأظهرُ أنه على سبيل الاستمرار ؛ و (3) لإطلاق أدلته وخصوص ما دل على أن الأخذ بأحدهما إنما هو من باب التسليم، ومعلومٌ عدم اختصاص مصلحة التسليم بحال الابتداء، مضافاً إلى الاستصحاب الموجب لاستمراره الحاكم على استصحاب حكم المختار، ولا تعدد في الموضوع عند العرف كما هو ظاهر.

ص: 261


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٤٠/٤ .
2- الاحسائي، عوالي اللآلئ : ٤ / 133 ح 229 .
3- كذا في نسختي المخطوطة، والظاهر أنها زائدة.

تنبيهٌ

لا بدَّ من الاقتصار في الحكم التخييري على مورد الأخبار العلاجية، أعني صورة تعارض الخبرين؛ لأنَّ التخيير عندنا على خلاف القاعدة؛ حيث إنَّ الأخبار عندنا حجة من باب الطريقية، والقاعدة تقتضي فيها التوقفَ كما عرفت، والحكمُ في تعارض الأمارتين في غير الأحكام التوقفُ الذي هو الأصل في المسألة.

وأمّا الكلام في المقام الثاني

فأيضاً يقع تارةً بمقتضى الأصل والقاعدة في المسألة، وأخرى بمقتضى الأدلة التي قامت على الترجيح بمخالفة العامة، وموافقة الكتاب والسنة، والأعدلية والأصدقية، والأفقهية والأورعية، والأوثقية، والشهرة، والاحتياط.

أمّا الأصلُ فهو عندنا تعيّن ذي المزية؛ حيث إنَّ الأخبار عندنا من باب الطريقية، والمقام من دوران الأمر بين الأخذ بذي المزية المعلوم المتيقن الحجية وما هو مشكوك الحجية، فيتعيّن الأخذ بمعلوم الحجية، كيف ولا يصح جعل المشكوك الحجية فعلاً طريقاً إلى الحكم الشرعي؛ لأنَّه تشريعٌ محرمٌ.

قال شيخنا العلّامة المرتضى الله رحمة الله علیه : (إِنَّ الدليل الشرعي دلّ على وجوب العمل بأحد المتعارضين في الجملة، وحيث كان ذلك بحكم الشرع فالمتيقن من التخيير هو صورة تكافؤ الخبرين، أمّا مع مزية أحدهما على الآخر من بعض الجهات فالمتيقنُ هو جواز العمل بالراجح،وأمّا{جواز}(1) العمل بالمرجوح فلم يثبت، فلا يجوز الالتزام، فصار الأصلُ وجوب العمل بالمرجح) (2).

وأمّا الكلام في أدلة الترجيح بعد الإجماع (3) المحصل والمنقول بالتواتر على ذلك قولاً

ص: 262


1- ما بين المعقوفتين من نسخة ب.
2- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٥٣/٤ .
3- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٤٨/٤ .

وعملاً وقول الكليني:(ولا نجد شيئاً أوسع ولا أحوط من التخيير)(1) في غير المتفاضلين فلا تتوهم، فعمدتها الروايات المعتبرة ، منها : رواية عمر بن حنظلة (2)المسندة في الكتب الأربعة الصريح ذيلها في وجوب الأخذ بالمرجحات المذكورة فيها، وإجمالُ صدرها على تقديره لا يقدحُ بالاحتجاج بذيلها الصريح مع أنَّ الإشكالات على صدرها مبنية على ظهوره في رجوع المتخاصمين إلى الحكمين لأجل الحكم بينهما بأن يكون الفاصل بينهما هو حكومة الحاكم لا روايته، والتدبرُ في فقهه يوجبُ ظهوره في الرجوع إليهما من حيث الرواية؛ لأنَّ المفروض أنَّ منشأ النزاع بينهما هو الاختلاف في الحكم، والمتعارفُ في ذلك الزمان أن كل من يفتي بشيء إنما إفتاؤه بنقل الحديث الذي يرويه في الواقعة المسؤول عنها، وكان المستفتي إنما يرجع إلى المفتي لاستعلام ما يرويه في الواقعة، ففرض السؤال إنما هو في رجوع المتخاصمين إلى الحكمين من حيث كونهما روايين لا مجتهدين، ألا ترى السائل يقول: «وكلاهما اختلفا في حديثكم» (3)، وهذا كالنص في الرجوع إليهما من حيث الحديث والرواية وجعلِ الفاصل الرواية والحديث لا رأي الحاكم كاليوم، فلا يرد شيء من الإشكالات التي ذكرها الشيخ قدس سرهُ (4)، إذ الرواية مما يناسبها التعدد، ويجوز نقلُ روايةٍ متعارضةٍ لما يرويه الغير أيضاً،والراوي أيضاً لا يجوز له إلزامُ الغير الذي له ملكة الاستنباط على ما يراه بما رواه، بل العبرة بنظر الغير في أحكام نفسه، فلا إشكال في هذه الرواية أصلاً غير معارضة المرفوعة لها؛ حيث إنَّ المقبولة تقتضي الأخذ برواية الأعدل والأفقه وإن كان الآخر أشهرُ، والمرفوعة تقتضي عكس ذلك.

والتحقيقُ في فقه الأخبار الواردة في باب التراجيح أنها إنما وردت لأجل الإرشاد

ص: 263


1- الكليني، الكافي ( خطبة الكتاب ) : ٥٧/١ .
2- الكليني، الكافي: ١/ ٦٧ - ٦٨ باب اختلاف الحديث ح 10؛ الشيخ الطوسي، التهذيب: ٣٠١/٦- 330 باب 92 باب الزيادات في القضايا والأحكام ح٥٢ .
3- الشيخ الصدوق، الفقيه : 3/ 8 ح 3233 باب الاتفاق على عدلين في الحكومة.
4- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٤/ ٦٠.

وتعليم طريق الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع، ولا نظر فيها إلى الترتيب بين المرجحات، ولا إلى التعبد بالمرجحات المذكورة مع مراعاة الترتيب فيها، وهذا أحسن ما يقال في توجيه أخبار التراجيح كما يشهد به الأصدقية في المقبولة، وكذا التعليل المذكور فيها لأجل تقديم المشهور على غيره، ضرورة أن عدم الريب فيه إضافي لا حقيقي، وجهةً الأقربية إلى الواقع ملحوظةٌ في أصل جعل أخبار الآحاد التي قلنا: إنه قد لوحظ فيها جهةُ الكشف عن الواقع، فلو دار الأمر بين الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع وبين التخيير بينه وبين غيره لا يحكمُ العقلُ بالتخيير. بل يلزم بالأخذ بما هو أقرب إلى الواقع، ولا إطلاق في أخبار التخيير؛ لأنَّ المرتكز في الأذهان تأخر مرتبته عن مرتبة الترجيح، وحيث كان ذلك هو المركوز كانَ إرشادُ المعصوم إلى الأخذ بالمرجحات لأجل الإرشاد إلى طريق الاستنباط وتعليم طريق الأخذ بالأقرب إلى الواقع لا تعبداً صرفاً، ولا لمجرد الاستحباب كما حملها عليه بعضهم (1). فإنَّ حملها على الاستحباب لا شاهد عليه، بل الشاهد على خلافه، مع مخالفته لكل علماء الطائفة كما تقدمت أقوالهم.

والمقبولة صريحة في وجوب الترجيح بصفات الراوي وبالشهرة من حيث الرواية، وبموافقة الكتاب ،ومخالفة العامة ،وجواز الترجيح بكل من العدالة والفقاهة والصداقة والأورع على الآخر؛ لأنَّ قول السائل: «لا يفضل أحدهما على صاحبه» ظاهرٌ في أنَّ مراده عدم فضل أحدهما على الآخر بشيء من المزايا، فهو ظاهر في فهم أن الترجيح بمطلق المزية، وكذلك المراد بموافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة الترجيح بكل واحد منهما لا صورة اجتماعهما، فافهم.

وقد أشكل سيدنا الأستاذ رحمة الله علیه على ذيل رواية المقبولة إشكالاً لا أعرف الجواب عنه، و هو أنه ذكر بعد ذكر وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين أنهما معاً موافقان

للاحتياط أو مخالفان له بأنه لا يمكن أن يكون النقيضان كلاهما موافقين للاحتياط.

ص: 264


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٥٥/٤؛ حيث حكاه عن السيد الصدر في شرح الوافية؛الآخوند الخراساني،كفاية الأصول٣١٤/٤.

{عدم الاقتصار على المرجحات المنصوصة}

وأمّا الاقتصار على المرجحات المنصوصه وعدمه؟

فالتحقيقُ عدم الاقتصار؛ لوجهين:

الأول: ظهور أخبار الترجيح في أنَّ المدار على الأقرب مطابقةٌ للواقع، فكلُ مزية توجبُ الأقربيةُ إلى الواقع يجبُ الترجيح بها، ومواضع الظهور قد أشار إليها شيخنا في الرسالة في المقام الثالث (1).

الوجه الثاني: ظهور أخبار التحيّر في اختصاصها بصورة التكافؤ من جميع الجهات، فإنَّ قول السائل: «يأتي عنكم خبران أحدهما يأمرنا والآخر ينهانا، كيف نصنع؟» ظاهرٌ في أنَّ مورد السؤال إنما هو التخيير في مقام العمل ، ومن المعلوم أنه لا تحيّر مع اعتبار الشارع لذي المزية من الخبرين، لتعيّن الأخذ به حينئذٍ فالداعي للسؤال عن حكم الخبرين المتعارضين ليس إلَّا تحيّر السائل في مقام العمل، فظهرَ أنَّ سؤاله ظاهرٌ في أنَّ مورد سؤاله مورد التحيّر لا سيما بملاحظة قوله: «كيف نصنع» الذي هو كالصريح في ذلك، فالحكمُ في الجواب مختصٌ بذلك المورد.

ولا بدَّ من التنبيه على أمور:

{التنبيه}الأول: لا يعتبر الظن الفعلي عند التعدي إلى المرجحات غير المنصوصة فالأمارة التي معها ما يوجبُ الأقربية إلى الواقع نوعاً تُقدمُ على التي معها ما يوجبُ الظن الشخصي بمطابقتها للواقع؛ لأنَّ المرجحات المنصوصة فيها ما لا يستلزم (1) الظن الفعلي قطعاً كموافقة الكتاب وأمثالها مع عدم اعتبار الظن الشخصي من أصل، وربما قيل: بأن المدار على أبعدية أحدهما من الخلاف، لتعليل الإمام تقديم الحديث المخالف للعامة ب_«أن الرش

ص: 265


1- في نسخة ب ما يستلزم.

في خلافهم »(1)، وتعليله علیه السلام للأخذ بالموافق للمشهور ب_ : أنه لا ريب فيه» (2).

الأظهرُ أن خلافهم طريقٌ إلى الواقع، ألا تراه يأمر باستفتاء فقهاء العامة والعمل على خلافه، فالمدار على المؤيد بما يفيد الظن نوعاً بالأقربية إلى الواقع حسبما دلت عليه روايات الباب.

التنبيه الثاني: قد عرفت أنَّ مورد التخيير التكافؤ من جميع الجهات، وبعبارة الآخر التحيّر، ومن المعلوم عدم التحيّر في تعارض النص الظني السند أو الجهة مع الظاهر وإن كان قطعي السند؛ لأنَّ تقديم النص على الظاهر وتقديم الأظهر على الظاهر ضروريٌ عند العرف كما عرفتَ، فأدلة التخيير لا تشمل ذلك، كما أن أدلة الترجيح لا تشملها ولا الأصل الأولي في تعارض الخبرين فيما إذا كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً؛ إذ لا مجال للحكم بالتوقف فيما يحكم به العرف بالجمع المرتكز في أذهانهم ولا يرون تعارضاً فيها، فافهم.

التنبيه الثالث: قالوا بتقديم التقييد على التخصيص عند الدوران، وبتقديم التخصيص على النسخ ؛ لكونهما من تعارض الظاهر والأظهر، وعللوا ذلك بوجوه عليلة (3).

والحقُ أن ذلك لا كلية فيه،وإنما هوتابع لخصوصيات المقامات. التنبيه الرابع : لو كان التعارض بين أكثر من اثنين يشكلُ تعيين النص أو الأظهر ، وربما كان بين الاثنين تعارض النص والظاهر أو المتباينين، فإذا جاء معارضٌ ثالث انقلبت النسبة كما لو جاء: (ثمن العذرة سحت)، وجاء: (ثمن العذرة لا بأس به)، وورد: (ثمن العذرة المأكول اللحم لا بأس به،) لزمَ تخصيص (4)الأول بغير عذرة مأكول اللحم، ثم تلاحظ النسبة مع : (ثمن العذرة لا بأس به)؛ لأنَّ تعارض المقيد مع المطلق والمطلق الآخر معه على نسق واحد، فلا بدَّ من تقييد المطلق بالمقيد، وبعد التقيد يكون المطلق بحكم المقيّد فيُقيد

ص: 266


1- الكليني، الكافي: ٥٦/١.
2- الكليني، الكافي: ٦٨/١.
3- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 3/ 328 - 332 .
4- في نسخة ب مخصص.

إطلاق الآخر به، ولو تعارض عام مع مخصصات مع تساوي السند في العام والمخصصات، ومع استيعاب جميع أفراد العام، أو لم يبقَ مقدار ما يصح حمل العام عليه، فالتعارضُ بين العام ومجموع المخصصات، والحكمُ فيها حكمُ المتباينين ، أعني التخيير مع تساوي السند، لكن إذا عمل بالمخصصات أطرح العام، وإن عمل بالعام يطرح من المخصصات مقدار لا محذور في العمل بالباقي، وتطرح المخصصات رأساً؛ لأنَّ التباين مع المجموع لا مع كل منهما، وحينئذٍ يطرح منها مقدار لا محذور بالعمل بالباقي، فحينئذٍ يقع التعارض بين نفس المخصصات فيحكمُ بالتخيير بينها؛ لعدم المرجح.

ولو كان التعارض بين العام والمخصصات مع ترجيح من حيث السند، فإن كان الترجيح للعام على جميع المخصصات أُخذَ بالعام ويطرحُ من المخصصات مقدار ما لا محذور في الأخذ بالباقي، وحينئذٍ يلاحظ الترجيح في الخصوصيات، وإن لم يكن بينها ترجيحٌ يرجع إلى التخيير، ولو كان الترجيح السندي للمخصصات على العام عمل بالمخصصات واطرح العام، ولو كان الترجيح للعام بالاضافة إلى بعض المخصصات ومتساوياً بالاضافة إلى الباقي أو مرجوحاً كذلك كانَ التباين بين العام والبعض المبهم من المخصصات، ولا ترجيح حينئذٍ في البين، فيلحقها حكم المتباينين؛ لأنَّ ترجيح أحد هذين المتباينين لا يكون إلّشا بترجيح العام على تمام المخصصات أو ترجيحها عليه، وحيث لم يوجد الترجيح المذكور كانَ الحكمُ في الفرض حكمُ ما لا ترجيح بينهما، وهو حكم المتباينين، فافهم.

التنبيه الخامس: وحيث رجحنا الترجيح ولم نقتصر على المرجحات المنصوصة، بل قلنا بالترجيح بكل ما يقتضي الأقربية إلى الواقع أو الأبعدية من الخلاف، قلنا: لو كان في أحد المتعارضين أحد من المزايا الموجبة للأقربية وفي الآخر كذلك، أو كان مع أحدهما إحدى المزايا المنصوصة وفي الآخر أُخَرُ كانَ الحكمُ التخييرَ أعمَّ من أن تكون المزيتان المترتبتان راجعتين (1)إلى الصدور، أو كان أحدهما إلى الصدور والآخر إلى جهة الصدور، وكذا الحكم

ص: 267


1- في نسخة ب: المزيتين راجعتين.

بناءً على الاقتصار على خصوص المرجحات المنصوصة مع القول بأن أدلة الترجيح لا نظر فيها إلى الترتيب بين المرجحات.

نعم، بناءً على الاقتصار على خصوص المرجحات المنصوصة مع الترتيب بينها انحصرَ الأخذ بالمزية الملحوظة سابقاً، ولا يعتنى بالأُخرى الملحوظة لاحقاً، ولو كان الخبر الأرجح سنداً _ كخبر الأفقه مثلاً _ موافقاً للعامة قُدّم على الخبر المخالف لهم، بناءً على أن الوجه في ترجیح المخالف هو احتمال التقية في الموافق؛ لأنّ هذا الترجيح ملحوظٌ بعد فرض الصدور

إمّا على وجه القطع كالمتواترين، أو على وجه التعبد كالخبرين بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الآخر، وفي ما فرضنا يمكن التعبد بخبر الأفقه بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور، كذا أفاده شيخنا المرتضى رحمة الله علیه (1).

وأشكل بعضهم (2)بأن ملاك الترجيح في كل منهما على نهج واحد لا مزية لأحدهما على الآخر؛ لأنَّه كما عدَّ الأفقهية من المرجحات كذلك مخالفة العامة عدَّ في المرجحات (3)، فلا وجه لترجيح خبر الأفقه المطابق لهم على خبر غيره المخالف لهم، وهما سيان بملاحظة دليل الحجية مطلقاً كما هو واضح (4)، فتأمل. والحمد لله على ما أنعم وله الشكر على ما ألهم.

ص: 268


1- الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول: ٤ / ٧٥ وما بعدها .
2- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول : ٣٤٠/٣ .
3- في نسخة ب من المرجحات .
4- الوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية : 19 - 20- الفائدة 21؛ المحقق الرشتي، بدائع الأفكار : ٤٥٥ - ٤٥٧ .

خاتمةٌ في مبحثي الاجتهاد والتقليد

لامعةٌ

الاجتهاد عبارة: عن إعمال النظر في تحصيل الحكم الفرعي عن الأدلة له ملكة الاستنباط ومعرفة المراد من الخطابات الشرعية، واستفراغ الوسع في معرفة المراد منها .

ويشترط فيها العلم بكل العلوم المدونة لمعرفة الكتاب والسنة، وأن يكون حصول الملکة عن كثرة المزاولة للفقه والحديث لا محض القوة النظرية. وقد بسطنا الكلام في وجه الحاجة إلى كل علم علم في كتابنا (قاطعة اللجاج في إبطال طريقة أهل الاعوجاج) من أصحابنا الأخبارية بما لا مزيد عليه. ولا ريب في صحة الاجتهاد بالمعنى المذكور وفي جواز العمل بفتوى المتصف به ونفوذ حكمه وقد تضافرت الروايات بكل ذلك (1)، وتحقق الإجماع عليه (2)، بل الضرورة.

[التجزئ في الإجتهاد ]

وأمّا الكلام في التجزئ في الاجتهاد بمعنى حصول ملكة استنباط بعض المسائل لا جميعها فلا يرد: أنَّ الملكة أمر بسيط لا يقبل التجزئة (3)؛ إذ الفرض حصولها على بساطتها في بعض المسائل على نحو حصولها في جميع المسائل، والاختلاف في القوة والضعف.

ص: 269


1- من قبيل ما رواة البزنطي في جامعه عن الرضاء علیه السلام قال : «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع» وسائل الشيعة (آل البيت علیه السلام) : ٢٧/ الباب السادس من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به ح ٥٢، ورواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال ؛ الكافي : ٤١٢/٢ ، باب أدب الحكم، ح٤ ، وقوله علیه السلام:«و أما من کان الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» الطبرسي، الاحتجاج : ٢٦٣ وغيرها .
2- السيد المرتضى، الذريعة : 79٦/٢ - 797؛ الشيخ الطوسي، العدة : ٢ / ٧٣٠، حيث يستظهر من كلام الشيخ قدس سرهُ الأصفهاني، هداية المسترشدين: ٣/ ٦٧٥ .
3- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٣٦١/٣.

فالحقُ إمكانه، بل وقوعه؛ لِما نرى بالعيان من بعض أهل العلم من قدرته على استنباط بعض المسائل على الموازين وعجزه عن المسائل الكثيرةِ الأقوال، أو لكثرة المعارضات، أو لكثرة الشقوقات، لضعف ملكته، حتى أنه يعرف ذلك من نفسه، فهو ممن له ملكة مطلق الاجتهاد لا ملكة الاجتهاد المطلق، واختلافُ المسائل بالسهولة والصعوبة ضروريٌ؛ فإنا نرى العلّامة مع قوته قد يتوقف ويتردد في المسألة، وليس توقفه من حيث الاجتهاد والرجوع إلى الأصول؛ لأنَّه في كثير من المسائل المذكورة في كتاب القواعد رجعَ إلى الأصول ولم يستشكل أصلاً، ونراه في جملة من المسائل تردد واستشكل، فلو كان إشكاله من جهة الاجتهاد -كما زعمه صاحب الكفاية - وأنَّ حكم المسألة الرجوع إلى الأصول لم يكن للإشكال وجه؛ إذ لا إشكال فيه، فليس ذلك إلّا أنه يرى من نفسه العجز عن معرفة حكم تلك المسألة والاجتهاد فيها .

لا يقال : فلا يبقى فرق بين مثل العلّامة والمتجزئ.

لأنا نقول: فرقٌ بين العجز عن علم والعجز عن جهل، فالمتجزئ عاجز؛ لقصور ملکته عن الأخذ بمجامع الأدلة، والعلّامةُ لا عجز فيه عن ذلك ولا عن كل ما للاجتهاد فيه مسرحٌ، غيرَ أنه لّما علِمَ أن لا مسرح للوقوف على حكم المسألة من طريق الاجتهاد المعتبر توقفَ واستشكل، وهذا العجز دليلُ كمال القوة، وكثرة الغور والتعمق، ولا ملازمة بين القدرة على المسائل السهلةِ المأخذ، والقدرة على المسائل الكثيرةِ الأقوالِ والشقوق. فإنا نرى مثل الشيخ والعلّامة والشهيد اختلفت أقوالهم في بعض تلك المسائل حتى تراهم يفتون في كل كتاب بفتوى غير الآخر، فقد يكون لهم في المسألة ثلاثة أقوال أو أكثر، فالفتوى الثانية دليل عجزه في الأولى، والثالثة دليل عجزه في الثانية، فتجدد الرأي ليس عن قصور في الملكة ولا عن ضعف فيها؛ وإنما ذلك لصعوبة المسألة، فإذا أكثر التعمق والتتبع عثر على ما لم يعثر عليه سابقاً مع بذله تمام الوسع وكمال التتبع في الأولى والثانية.

نعم، تردد في المسألة أو فهم التعارض ورجع إلى الأصل، وبعد التأمل التام أو زيادة قوته التفت إلى طريق فهم المسألة كما هو حقه من غير رجوع إلى الأصل، وهذا لا ينافي

ص: 270

الاجتهاد المطلق مع أنَّه لم يفهم المسألة في أول وهلة، ولا استنباطها حق الاستنباط، ولم يأخذ في الاجتهاد المطلق عدم الخطأ في الاستنباط.

وبالجملة ،إن ملكة الاجتهاد مقولة بالتشكيك قوة وضعفاً، والمسائل بالنسبة إليها أيضاً مختلفة، وحصول الملكة بالمسائل تدريجي، بل قيل باستحالة حصول اجتهاد مطلق غير مسبوق بالتجزئ بالمعنى الذي قدمناه (1).

وأمّا حجية ما يؤدي إليه ظنه بالنسبة إلى نفسه فلا ينبغي الريب فيه؛ لاشتراكه مع المكلفين في حجة الظواهر والأخبار، وأقصى ما عليه دفع المعارض والاستنباط منها على الموازين، والمفروض أنه كذلك فيما له ملكة استنباطه لا يفرق فيه بينه وبين المجتهد المطلق.

نعم، لا يصح تقليده ولا حكومته مع التمكن من الرجوع إلى المجتهد المطلق؛ للشك في شمول الأدلة له بأسرها، اللهم إلّا أن يكون في معرفة المراد من الخطابات واستفراغ الوسع في مقدار يصدق عليه أنه عرف أحكامهم علیه السلام.

تتميم في التخطئة والتصويب

ومحل النزاع في خصوص الأحكام الفرعية الغير القطعية كالظنيات التي قام الدليل الظني على إثباتها.

أمّا القطعيات والاعتقاديات فلا كلام في أنَّ المصيب فيها واحدٌ، والأشاعرة مصوّبة للمجتهد في الأحكام الفرعية الشرعية الظنية (2)، والإمامية مخطئة سواء حصل الظن من ظاهر القرآن أو الأخبار ولو كانت متواترة، أو من الأمارات كالشهرة والإجماع المنقول ونحوهما، أو من الاستحسان والقياس؛ للإجماع المحقق عند الإمامية على أن الله تعالى أحكاماً واقعية مخزونة (3)، والأخبارُ بذلك عن أهل العصمة ٌمستفیضةٌ، مع أنَّ التصويب غير معقول؛ لأنَّه

ص: 271


1- الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: ٣٦١/٣.
2- الشوكاني، إرشاد الفحول: ٢٦١، الآمدي، الأحكام: ١٨٣/٤.
3- السيد المرتضى ،الذريعة:٧٥٨/٢ ؛ الشيخ الطوسي،العدة : ٢/ ٧٢٥ - ٧٢٦؛ الشهيد الثاني، تمهيد .

إذا لم يكن حكم في الواقعة لا يعقل أن يحصل الظن به، ضرورة أن تحصيل الظن بالشيء فرعُ احتمال وجوده، ومع القطع بانتفائه كيف يحصل الظن به؟ مضافاً إلى لزوم تعدد المراد من الخطاب الواحد بالنسبة إلى المجتهدين المخالفين في الأدلة اللفظية .

[ أدلة التصويب ]

واحتجوا على التصويب بأنه لو كان حكم الله الواقعي واحداً ولا ريب أنه يجب على المخطئ العمل بمؤدى ظنه، وحينئذٍ: إمّا أن يجب عليه العمل بالحكم الواقعي أيضاً فيلزمُ اجتماع النقيضين، وإمّا لا يجب (1) عليه العمل به فيلزمُ النسخ.

قلتُ: لا يجب عليه العمل بالحكم الواقعي حينئذٍ، وهو غير مرتفع حتى يلزم النسخ، بل هو باق لكن تنجزه مشروط بالعلم به.

ثم إنا حيث قلنا : إنّ اعتبار الظن من باب الكشف والمرآتية عن الواقع لا يلزمنا شيء سوى المعذورية؛ لأنَّا لا نقول: إن الظن بحرمة العصير العنبي _ مثلاً _ موجبٌ لإحداث مفسدة مقتضية لقبحه في الواقع حتى تكون حرمته في الواقع مستلزمة للتصويب في الحكم الأولي وحكمه في البطلان حال التصويب في الحكم الأولي فافهم.

فإنّ منا (2)من ذهب إلى أن مظنون الحرمة في عرض الواقع وإنه حكم ثانوي شرعي، ويلزمه ما ذكرنا من التصويب في الحكم الواقعي الثانوي، وهو مستلزم للتصويب في الحكم الاولی لأنَّ العصیر العنی حینئذٍ من حیث هو فی حكمه الإباحة، ومن حيث الظن بحرمته حرام، ويلزم اجتماع النقيضين حينئذٍ مع أنَّه محال في ذاته؛ ضرورة أن الظن بالشيء متأخرٌ عنه ذاتاً.

القواعد: 322 قاعدة 100 .

ص: 272


1- في نسخة ب: وأما أن لا يجب.
2- في حاشية المخطوط : هو الشيخ أسد الله صاحب المقابيس رحمة الله علیه.

خاتمة

إنما يجب تجديد النظر على المجتهد في الأحكام التي زالت أدلتها عن نظره فلم يبقَ حتى الظن بأن هذا الاجتهاد هو حكم الله فعلاً؛ إذ لا يجوز التعويل على اجتهاده السابق الزائل؛ لأنَّ المطلوب من المكلف هو الواقع ، ولّما انسدَّ عليه باب العلم وبطل الاحتياط جعلَ ظن المجتهد حجةً وطريقاً إلى الواقع ، وقد ذهب ولم يبقَ له ظنٌ، بل هو الآن شاك بالنسبة إلى الواقع، وظنه بالسابق لا يثمر لهذا الزمان ولا يجري للاستصحاب؛ لأنَّ المستصحب إن كان جواز العمل فإمّا بالحكم الواقعي فهو من أول الأمر غير معلوم، وإما بالحكم الظاهري فالمفروض انتفاؤه؛ لأنَّ ظن المجتهد الزائل ولو كان حصل له العلم من الاجتهاد ثم ذهب العلم وظن بأن ما اجتهد فيه أولاً وحصل له العلم هو حكم الله في حجية هذا الظن الحاصل له إشكال من انه لم يحصل من الأدلة، ولا من الاجتهاد، فلا دليل على حجيته، ومن صدق أنه ظن المجتهد بأنه فعلاً هو حكم الله ، والأقرب عدم حجيته؛ لعدم حصوله من الأدلة الشرعية، ولو ظن بخلاف ما اجتهد سابقاً عند تجديده النظر، أو علم بخلاف ما اجتهد أولاً مع علمه بصحة اجتهاده الأول؛ إذ الاجتهاد الصحيح قد يكون موافقاً للواقع وقد يكون مخالفاً، وهنا إنما حصل الظن على خلافه أو العلم بخلاف ما اجتهده أولاً، وربما توقف في المسألة بعد تجديد النظر.

والحق في الفروض الثلاثة عدم جواز البقاء على مؤدى الاجتهاد الأول؛ لذهاب اعتقاده، فلا يجوز له ولا لمقلّديه العمل ؛ لذهاب الحجة وهو رأيه واعتقاده كما هو المفروض، ويجب عليه إعلام مقلّديه كما يجب على العالم إعلام الجاهل؛ لوجوب إرشاد القاصر وإعلامه حسبما دلت عليه الروايات وأمّا ترتيب الآثار على الأعمال الصادرة على طبق الفتوى الأولى بعد رجوع المجتهد عنها وعلم المقلّد بالرجوع عنها فلا ينبغي التأمل في عدم ترتيب شيء من ذلك في صورة القطع بخلاف الاجتهاد الأول، وأمّا مع الظن بالخلاف فالحقُ ذلك أيضاً في العبادات، فإن قاعدة الإجزاء لا تدل على سقوط الأمر الواقعي حتى لو تبين خلافه ظناً في الوقت، والإجماعُ أو العسر والحرج على صحة الأعمال السابقة لو أدى رأيه إلى خلافه في

ص: 273

الاجتهاد الثاني غيرُ متحقق .

نعم، لا يبعد العسر والحرج في نقض الآثار السابقة المترتبة على صحة خصوص المعاملات والإيقاعات إلى حين تغيّر الرأي وبعده فيترتب آثار البطلان من حينه لا من رأسه.

ص: 274

لامعةٌ في التقليد

وهو أخذ فتوى المجتهد للعمل بها في الفروع الشرعية؛ لعجز غير المجتهد عن معرفة المراد من الخطابات الشرعية وعدم قدرته على استفراغ الوسع في معرفة المراد منها، وهو مكلف بالضرورة، فلو لم يرجع إلى المجتهد العارف بذلك لسد عليه باب العلم بما كلف مع أنَّ رجوع العامي إلى العالم فطري جبلّي من ضروريات العقل وفطرياته، وقد جاءت الأخبار عن أهل العصمة بالتصريح به بالخصوص کتوقيع الإمام علیه السلام:« الان :بأن للعوام أن يقلدوه » (1) . وكأمرهم بالإفتاء للعلماء بالحلال والحرام الملزوم لوجوب أخذ الناس ذلك تعبداً.

وبالجملة الأخذ بمجامع الأخبار المتعلّقة في هذا الباب _ ولو أخبار مدح الإفتاء بالحق وأخبار ذم الإفتاء بغير الحق وأمثال ذلك لا خصوص خبر أبان وأمر الإمام علیه السلام له بالجلوس بالمسجد وإفتاء الناس وأنه علیه السلام كان (2)يحبّ أن يرى في شيعته مثل أبان _ يفيد القطع بالأمر بالتقليد، وأنه طريق للعامي، وأن رأي المفتي حجة للمقلّد، والأخبارُ المستفاد منها ذم التقليد إنما أُريد منها تقليد الجاهل، والتقليد في أصول الدين.

نعم، وجوب التقليد مقدمي لا نفسي، بل هو مقدمة لتحصيل الواقع ولأجل العمل؛ لقوله علیه السلام:«هلا علمتَ لأن تعمل» (3).

بقي هنا مسائل

الأولى: يجب تقليد الأعلم عند اختلافهم؛ لأنَّه المتيقن وغيره مشكوك.

اللهم إلَّا أن يجوّز الأعلم الرجوع إلى غيره، والأصل عدم جواز تقديم المفضول، ولا إطلاق في أدلة التقليد عند التأمل فيها ، فإنها في مقام تشريعه وجوازه ولا نظر لها إلى ذلك وأمثاله،

ص: 275


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت): ٢٧ / ١٤١ أبواب صفات القاضي باب 10 ح 20.
2- فى نسخة ب: كما .
3- الشيخ الطوسي، الآمالي: 9 المجلس الأول ح 10 ، وفيها «أفلا علمت حتى تعمل» وليس «هلّا علمتَ لأن تعمل».

بل العقل والنقل يمنعان من ترك الطريق الذي هو أقرب إلى الواقع والأخذ بغيره، ورأي الأعلم - بمعنى الأسّد والأمهر في الاستنباط - لا كلام فيه، فهو المتعين لا غير.

المسألة الثانية: لا بدَّ من حياة المفتي في ابتداء التقليد واستمراره؛ لأنَّ الحجة للمقلّد ليس قول المجتهد، بل إنما هو رأيه واعتقاده الذي هو بمنزلة اعتقاد المقلّد، وكذلك يكون شكّه أيضاً حجةً له كما إذا شك في أنَّ المذي ناقض للوضوء أم لا، حيث يستصحب ويفتي المقلَّد بأن المذي غير ناقض مع أنَّه غير شاك فيه، وكما لو شك في نجاسة الماء القليل بالملاقاة للنجاسة واستصحب الطهارة فيفتي المقلَّد بأنه لا ينجس مع أنَّه قد لا يكون شاكاً ولا ملتفتاً، وقائم مقامه والذي هو حجة للمقلَّد هو رأيه واعتقاده الذاهب بموته فهو نائب عن المقلَّد وقائم وجنونه أو صار عامياً وأمثال ذلك مما يوجب خروجه عن أهلية الاجتهاد والعمل برأيه.

وبعبارة أخرى :إن ما هو حجة للمجتهد هو حجة للمقلد أيضاً، والحجة له رأيه واعتقاده لا غير فكذا للمقلّد ، وليس الاجتهاد من قبيل الخبر؛ إذ الحجة في الخبر هو قول المخبر؛ ولذا كانت الشرائط المعتبرة فيه حال الأخبار والرواية لا حال التحمل ولا ما بعد الإخبار، وكذا الشرائط في الشاهد إنما اعتبرت حال أداء الشهادة لا بعدها، وهذا بخلاف شرائط الاجتهاد فإنها شرط للعمل برأيه حين العمل إجماعاً (1) في الجملة؛ ولذا لا يجوز التقليد لو سمع المقلّد الفتوى من المجتهد ولكن لم يعمل بها حتى فسق المجتهد، أو جنّ، أو مات، فلا يجوز العمل حينئذ بدواً إجماعاً (2)، ولو كان مثل الخبر والحجة هو قول المجتهد لجاز العمل هنا أيضاً كالخبر ، فهذا يكشف عن أن الحجة هو أن الحجة هو اعتقاد المجتهد ورأيه والمفروض ذهابه؛ ضرورة ذهاب الظنون الاجتهادية بالموت؛ لأنها مودعة في الدماغ لا قائمة بالنفس الناطقة كالاعتقادات.

والحاصل : إن القوة الذاكرة تذهب بالموت فيذهب ما أدركت النفس، ولا ينافي

ص: 276


1- الشيخ حسن معالم الدين: ٢٤٧ ، القمي، القوانين: ٤ / ٥٥٨ .
2- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام: 21 / ٤01 حكاه عن غير واحد؛ الحائري، الفصول الغروية: ٤29.

ذلك كون النفس مدركة بعد الموت؛ إذ هو حينئذٍ في عالم التجرّد، فيحصل اعتقادات موافقة لِما أدركته النفس حال تعلّقها بهذا البدن أو مخالفة؛ لأنَّ ذلك إدراك بعد الموت حصل لها بغير توسط القوى، والظنون الاجتهادية إنما حصلها بتوسط هذه القوى؛ ولذا كان مذهب الفحول عدم جواز تقليد الميت (1)؛ لأنَّ الذي دل عليه الأدلة من الإجماع والأخبار الدالة على الإفتاء والاستفتاء إنما دل على حجية هذا الإدراك الحاصل للنفس حال حياته وتعلّقها بهذا البدن ولم يثبت أزيد من تقليد الحي، والموضوع الذي ثبت تقليده هو شخص الحي، ولا يثبت بالاستصحاب جواز تقليده بعد الموت؛ لأنه موضوع آخر غير الموضوع الأول، بمعنى أن الموضوع غير معلوم والشك هنا في موضوعية الباقي، إذ ما ثبت جواز تقليده أولاً ارتفع قطعاً بالموت؛ لعدم بقاء الرأي معه فإنه متقوّم بالحياة، فلا موضوع بعد الموت كما لو تبدل الرأي وارتفع بالجنون، والموضوع شرعاً شخص الحي، وما بقي لم يعلم من أول الأمر جواز تقليده؛ لأنَّ أقصى ما دلت عليه الأدلة جواز تقليد الحي، بل ظهر بما ذكرنا أنه لو علم بقاء الإدراك لا يمكن إثبات جواز التقليد بالاستصحاب؛ إذ موضوع الجواز هو الحي لا النفس المدركة مطلقاً، فلوصف الحياة مدخليةٌ في أصل جواز التقليد وفي الاستمرار عليه بمعنى أن الموضوع هو الشخص الموصوف بوصف كونه حياً، ولا أقل من الشك في أنَّ الموضوع هو الذات بوصف الحياة أم الذات المطلق، فإن كان الموضوع هو الأول لا يجري الاستصحاب، بل نقطع بالعدم، وإن كان الثاني نقطع بالجواز ، وفي صورة الشك لا يجري الاستصحاب؛ إذ لا نعلم أن جواز التقليد كان ثابتاً للذات حتى نثبته له بعد الموت، بل محتمل قريباً أن يكون ثابتاً للذات الموصوفة بالحياة فلا يثبت الاستصحاب الموضوع آخر.

واحتجوا أيضاً على جواز البقاء على تقليد الميت أو وجوبه بوجوه أُخر: منها: التوقيع: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي

ص: 277


1- المقدس الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان: ٥٤٩/٧ حيث قال ( أما عدم جواز تقليد الميت مطلقاً فهو ، مذهب الأكثر ) ؛ الشهيد الأول ذكرى الشيعة : ٤٤/١ مسألة ٥ رجوع الحائض إلى الزوج العامي.

عليكم، وأنا حجة الله عليهم» (1) .

وفيه: إنه إنما يدل على الرجوع إلى الرواة من حيث الرواية كما عرفته في مقبولة عمر ابن حنظلة وكان هو المتعارف في ذلك الزمان إلى زمان الشيخ حسبما صرّح به الشيخ في أول المبسوط ، فراجع (2).

فلا ربط له بأخذ الرأي والفتوى من المجتهد أصلاً حتى يتمسك بإطلاقها الشامل للحياة وبعد الموت، ومعنى «أنهم حجتي عليكم» وجوبُ تصديقهم في الرواية وأخذها طريقاً وحجة على الواقع.

ومنها: إطلاق ما دل على التقليد، وقد عرفت عدم الإطلاق، وأن المنساق فيها خصوص الحي.

ومنها: دعوى حصر دليل التقليد بدليل الانسداد، ومقتضاه جواز تقليد الميت كالحي.

وفيه: إن الأدلة على ذلك لا تحصى كما عرفت وليس المقام حينئذٌ من الانسداد في شيء، بل الباب فيه مفتوح.

ومنها : دعوى السيرة على البقاء على تقليد الميت.

وفيه: إن أهل العلم لا يعرفون قائلاً به، ولا عاملاً من الشيعة به قبل هؤلاء المتأخرين من الأخبارية.

وأمّا فروع التقليد وما يقلد فيه فقد استقصيتها في أول كتاب «تحصيل الفروع الدينية في فقه الإمامية» (3).

والحمد لله أولاً وآخراً، حرّره مؤلّفه العبد الراجي فضل ربه ذي المنن ابن السيد

ص: 278


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة: 18 / 110،بدون لفظة( عليهم).
2- الشيخ الطوسي، المبسوط : ٩/١.
3- وهو من مؤلّفات السيد المصنّف قال عنه رحمة الله: (كتاب ينفع المحتاط والمقلّد خرج منه كتاب الطهارة وكتاب الصلاة، وفي مقدمته مباحث التقليد على سبيل التفصيل) ، ينظر السيد حسن الصدر، تكملة أمل الآمل : 31 ، الطهراني، الذريعة ٣٩٧/٣ .

العلّامة الهادي أبو محمد الحسن الشهير بالسيد حسن صدر الدين الموسوي الكاظمي (1). إلى هنا انتهى بي استنساخ هذه النسخة الشريفة من كتاب«اللوامع في أصول الفقه» من مؤلّفات حضرة الإمام العلّامة سيد المجتهدين وأستاذ المحدثين جمال السالكين وواحد الأنام سيدنا السيد حسن صدر الدين أدام الله للمسلمين أيام إفاداته، بيد أقل السادات أحمد ابن سلطان علي الحسيني المرعشي الشوشتري (2)، في يوم الرابع عشر شهر جمادى الأولى من شهور سنة من الهجرة النبوية.

ص: 279


1- إلى هنا تنتهي نسخة الأصل. تم بحمد الله تعالى ومنه الفراغ من تحقيقه يوم استشهاد الإمام موسى بن جعفر علیه السلام الخامس والعشرين من شهر رجب الأصب من سنة ١٤٤١ ه_، وقد ابتلي العالم بوباء خطير وقفت معه الأساطيل والجيوش عاجزة وانتفت قدرة الأرض وبقيت قدرة السماء.
2- هو الكاتب الخاص للسيد حسن صدر الدين الكاظمي.

مصادر الكتاب

١. القرآن الكريم

ص: 280

النجاشي، أبو العباس أحمد بن علي (ت ٤٥٠ه_ ) .

٢. رجال النجاشي، تحقيق: الحجة السيد موسى الشبيري الزنجاني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ب_ (قم المشرفة)، الطبعة: الخامسة، تاريخ النشر:

(١٤١٦ه_).

القمي، الميرزا أبو القاسم ت (١٢٣١ه_)

3.القوانين المحكمة في الأصول، شرحه وعلق عليه: رضا حسين صبح، الناشر: دار المرتضى، الطبعة الأولى، سنة الطبع : (١٤٣٠ه_).

ابن حزم،الحافظ أبو محمد علي الطاهري الاندلسي(ت ٤٥٦ه_ ) .

٤.الأحكام في أصول الأحكام، تحقيق: قوبلت على نسخة أشرف على طبعها الأستاذ العلّامة أحمد شاكر رحمه الله، الناشر : زكريا علي يوسف، مطبعة العاصمة بالقاهرة.

5.الفصل في الملل والأهواء والنحل، الطبعة الأولى، المطبعة: الأدبية مصر.

المقدس الأردبيلي ، المولى أحمد بن محمد (ت ٩٣٣ه_).

٦ .مجمع الفائدة والبرهان، تحقيق: الحاج آقا مجتبى العراقي والحاج شيخ علي پناه الاشتهاردي والحاج آقا حسين اليزدي الأصفهاني بقم المقدسة، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم المشرفة.

ص: 281

الجصاص، الإمام أحمد بن علي الرازي (ت 370 ه_).

7.الفصول في الأصول (أصول الجصاص)، تحقيق: دكتور عجيل جاسم النمشي، الطبعة: الأولى، تاريخ النشر : ( ١٤٠٥ه_).

البرقي، أحمد بن محمد بن خالد ت(٢٧٤ه_).

8.المحاسن، تحقيق: تصحيح وتعليق : السيد جلال الدين الحسنی

(المحدث)، تاریخ النشر : ( ١٣٧٠ه_ )

الجوهري، إسماعيل بن حماد (ت ٣٩٣ه_).

٩. الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، الطبعة: الرابعة، سنة الطبع: (١٤٠٧ه_)،الناشر: دار العلم للملايين - بيروت - لبنان.

الجوهري، إسماعيل بن حمادت (393ه_).

١٠. الصحاح، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، الطبعة الرابعة، سنة الطبع: (١٤٠٧ه_)، الناشر : دار العلم للملايين.

ابن إدريس الحلي،جعفر بن محمد بن منصور بن أحمد ت(٥٩٨ه_ ) 11.السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، تحقيق: لجنة التحقيق، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين - بقم المشرفة، الطبعة: الثانية، تاريخ النشر : ١٤١٠ه_.

كاشف الغطاء، جعفرت (1228ه_)

12.كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، تحقيق: مكتب الإعلام الإسلامي - فرع خراسان-المحققون: عباس التبريزيان، محمد رضا ،الذاكري عبد الحليم الحلي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع : ١٤٢٢ه_،الناشر:مركز النشر التابع مكتب الإعلام الإسلامي.

المحقق الحلي، نجم الدين أبي القاسم جعفر بن الحسن ت (٦٧٦ه_).

ص: 282

١٣.المعتبر في شرح المختصر، حققه وصححه: عدة من الأفاضل تحت إشراف آية الله ناصر مكارم الشيرازي، منشورات مؤسسة سيد الشهداءعلیه السلام ، قم إيران ،المطبعة: مدرسة الإمام

أمير المؤمنين علیه السلام ،الناشر : مؤسسة سيد الشهداءعلیه السلام تاريخ الطبع : ١٣٦٤ه_

١٤. معارج الأصول، تحقيق : إعداد : محمد حسين الرضوي، الطبعة الأولى عام: ١٤٠٣ه_، الناشر: مؤسسة آل البيت علیه السلام للطباعة والنشر.

نجل الشهيد الثاني ،الشيخ حسن ت (1011ه).

١٥.معالم الدين وملاذ المجتهدين، طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، الطبعة الثالثة عشر، تاريخ الطبع : ١٤٣٠ه_.

العلّامة الحلي، جمال الدين الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين بن المطهر ت (٧٢٦ه_).

١٦.مختلف الشيعة، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، سنة الطبع : ١٤١٣ه_، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم المشرفة.

١٧. نهاية الوصول الى علم الأصول، تحقيق: مؤسسة آل البيت علیه السلام لإحياء التراث، الطبعة

الأولى: ١٤٣١ه_، الناشر: مؤسسة آل البيت علیه السلام لإحياء التراث، المطبعة: ستاره قم .

18.تهذيب الوصول الى علم الأصول، تحقيق: عبد الحسين محمد علي البقال الناشر : مركز النشر - مكتب الإعلام الإسلامي، طباعة وتصحيف: مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي، سنة النشر : ١٤٠٤ه_.

١٩. كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، تحقيق وتعليق: الأستاذ آية الله الشيخ حسن حسن زادة الآملي ،طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي الطبعة: السابعة المنقحة،التاريخ: ١٤١٧ه_.

20.تهذيب الوصول الى علم الأصول، تحقيق: محمد باقر الناصري، الناشر: ذوي القربي،

اللوامع الحسنية في الأصول الفقهية

ص: 283

سنة الطبع : ٢٠٠٥م ، المطبعة: أسوة.

الرشتي، الميرزا حبيب الله ت (1312ه_).

21. بدائع الأفكار، مؤسسة ال ابيت عليه السلام لإحياء التراث

سلطان العلماء، حسن بن محمد ت (١٠٦٢ه_).

22.حاشية السلطان على معالم الدين تصحيح الأستاذ علي محمدي، الناشر دار الفكر، الطبعة: الأولى سنة النشر : ١٣٧٤ه_، المطبعة: قدس.

الميرزا ،النوري، حسين بن محمد تقي بن علي محمد الطبرسي ت (١٣٢٠ه_).

23.مستدرك الوسائل الميرزا النوري، تحقيق: مؤسسة آل البيت علیه السلام لإحياء التراث، الطبعة: المحققة الأولى، تاريخ النشر : (١٤٠٨ه_).

الفراهيدي، الخليل بن أحمد (ت ١٧٠ه_).

٢٤ . كتاب العين، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي، الدكتور إبراهيم السامرائي،الطبعة:الثانية، تاريخ النشر:(١٤٠٩ه_)، الناشر: مؤسسة دار الهجرة.

الكليني، ثقة الإسلام محمد بن يعقوب بن إسحاق ت (٣٢٨ه_ أو ٣٢٩ه_).

٢٥.الكافي، مع تعليقات نافعة مأخوذة من عدة شروح،صححه و علق علی أکبر الغفاري، الناشر: دارالكتب الإسلامية: ١٣٦٣ه_، الطبعة الثالثة : ١٣٨ه_.

الصدوق، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بأبويه القمي ت (381ه_).

٢٦. من لا يحضره الفقيه، حققه وعلّق عليه حسن الموسوي الخرسان، الطبعة: السابعة، الناشر : جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة.

٢٧.الأمالي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم، تاريخ النشر:

١٤١٧ه_، الناشر: مؤسسة البعثة.

ص: 284

28.التوحيد، تحقيق :السيد هاشم الحسيني الطهراني،الناشر : جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة.

29. الخصال، صححه وعلّق عليه : علي أكبر الغفاري، الناشر: جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، سنة النشر : ١٤٠٣ه_.

المفيد، محمد بن محمد النعمان ابن المعلم العكّبري ت (٤١٣ه_).

٣٠.المقنعة، تحقيق ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة،الطبعة: الثانية، سنة الطبع : ١٤١٠ه_.

٣١.التذكرة في أصول الفقه، تحقيق: مهدي ،نجف، الطبعة الثانية، تاريخ النشر : ١٤١٤ه_، طبع ونشر وتوزيع: دار المفيد.

٣٢. الفصول المختارة، تحقيق : السيد علي مير شريفي، طباعة - نشر توزيع: دار المفيد، الطبعة الثانية: ١٤١٤ه_.

المرتضى ، علم الهدى علي بن الحسين الموسوي ت ٤٣٦ه_.

٣٣. رسائل المرتضى، تقديم : السيد أحمد الحسيني، إعداد: السيد مهدي الرجائي، نشر : دار القرآن الكريم - قم، طبع : مطبعة سيد الشهداء - قم، تاريخ النشر : ١٤٠٥ه_.

٣٤. الذريعة، تصحيح وتقديم وتعليق: أبو القاسم گرجي، تاريخ النشر :الطوسي، شيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن ت(٤٦٠ ه_).

٣٥. تهذيب الأحكام، تحقيق وتعليق: السيد حسن الموسوي الخرسان، نهض بمشروعه: الشيخ علي الآخوندي، الناشر: دار الكتب الإسلامية، تاريخ النشر: ١٣٦٤ه_.

٣٦.الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، تحقيق وتعليق : السيد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة: الرابعة، تاريخ النشر : (١٣٦٣ه_)، الناشر: دار الكتب الإسلامية.

ص: 285

37. الخلاف، تحقيق: جماعة من المحققين، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة التاريخ: جمادى الآخرة: ١٤٠٧ه_.

38. العدة في أصول الفقه، تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي، الطبعة: الأولى: ١٤١٧ه_، المطبعة: ستاره _ قم.

39.الأمالي، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، الطبعة: الأولى: ١٤١٤ه_، الناشر : دار الثقافة - ق_م

الشهيد الأول، محمد بن جمال الدين مكي العاملي ت(٧٨٦ه_).

٤٠ . ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، تحقيق ونشر : مؤسسة آل البيت علیه السلام لإحياء التراث، الطبعة: الأولى، تاريخ النشر : (١٤١٩ه_)، المطبعة: ستاره _ قم.

٤١ . القواعد والفوائد، تحقيق: الاعداد والتحقيق: مركز إحياء التراث الإسلامي، الناشر : المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية، تاريخ الطبع : ١٤٣٥ه_.

الشهيد الثاني الشيخ زين الدين ابن مكي العاملي ت(٩٦٥ه_).

٤٢ . تمهيد القواعد تحقيق: مكتب الإعلام الإسلامي فرع خراسان الرضوي، النشر: مؤسسة بوستان كتاب ،الطبعة: الثانية، سنة النشر : ١٤٢٩ه_.

البهائي، بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحائري الهمداني العاملي ت (١٠٣٠ه_).

٤٣.زبدة الأصول، تحقيق : فارس حسون كريم، الطبعة: الأولى، تاريخ النشر: ١٤٢٣ه_. الفاضل التوني، عبد الله بن محمد البشروي الخراساني ت (١٠٧١ه_).

٤٤.الوافية، تحقيق: محمد حسين الرضوي ،الكشميري الناشر : مجمع الفكر الإسلامي الطبعة: المحققة الأولى / رجب ١٤١٢ ه_ - ق، المطبعة: مؤسسة إسماعيليان.

ص: 286

النراقي، المولى محمد مهدي ت(١٢٠٩ه_).

٤٥.أنيس المجتهدين ،تحقيق مركز العلوم والثقافة الإسلامية، مركز إحياء التراث الإسلامي،الناشر:مؤسسة بوستان كتاب، الطبعة الأولى، تاريخ النشر : ١٤٣٠ه_.

الحر العاملي، الفقيه المحدّث محمد بن الحسن ت (١١٠٤ه_ ) .

٤٦.وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت علیه السلام لإحياء التراث - قم المشرفة الطبعة: الثانية، تاريخ النشر : (١٤١٤ه_)، المطبعة: مهر – قم.

الشريف الجرجاني، السيد علي بن محمد ت(٨١٦ه_) .

٤٧.التعريفات، مكتبة لبنان، طبعة جديدة (١٩٨٥م).

العضد الايجي، عبد الرحمن بن أحمد ت(٧٥٦ه_).

٤٨. حاشية على شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي، ضبطه ووضع حواشيه: فادي نصیف طرق يحيى ،الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة، الطبعة الأولى : (١٤٢١ه_).

٤٩.المواقف، تحقيق عبد الرحمن عميرة، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: (١٤١٧ه_)، المطبعة : لبنان - بيروت - دار الجبل الناشر: دار الجبل .

ابن ابي جمهور الاحسائي، محمد بن علي بن إبراهيم ت(٩٠١ه_).

مجتبی

50.عوالي اللآلي، تقديم: السيد شهاب الدين المرعشي النجفي، تحقيق الحاج آقا مجتب_ی العراقي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع : (١٤٠٣ه_)، المطبعة: سيد الشهداء علیه السلام.

الغزالي ،أبي حامد محمد بن محمد بن محمد ت (٥٠٥ه_).

٥١.المستصفى ،تصحيح: محمد عبد السلام عبد الشافي ،تاريخ النشر : ١٤١٧ه_ - ١٩٩٦م.

٥٢.المنخول، حققه وخرج نصه وعلق عليه الدكتور محمد حسن هيتو، الطبعة: الثالثة،

ص: 287

سنة النشر: (١٤١٩ه_)، الناشر : دار الفكر المعاصر.

الاصفهاني، محمد تقي ت (١٢٤٨ه_).

٥٣.هداية المسترشدين، تحقيق ونشر : مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الطبعة الثانية، سنة الطبع : (١٤٢٠ه_).

الحائري محمد حسين بن عبد الرحيم ت (١٢٦١ه_).

٥٤.الفصول الغروية في الأصول الفقهية، الناشر: دار إحياء العلوم الإسلامية، سنة النشر : (١٤٠٤ه_).

الأنصاري، مرتضى بن محمد امین ت(1281ه_).

٥٥. فرائد الأصول، تحقيق : إعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة: الأولى، تاريخ النشر : شعبان المعظم ١٤١٩ ، المطبعة باقري - قم .

٥٦.كتاب الطهارة، تحقيق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة: الأولى، سنة الطبع : ربيع (1415ه_)، المطبعة: مؤسسة الهادی.قم.

٥٧.الفوائد الأصولية، تحقيق: حسن المراغي ( غفاريو)، مؤسسة النشر: شمس الدين، الطبعة ،الاولى، سنة الطبع : (١٤٢٦ه_).

الكلانتري، الميرزا أبو القاسم ت (١٢٩٢ه_).

٥٨. مطارح الأنظار، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة: الأولى، تاريخ الطبع: (١٤٢٥ه_)، المطبعة: شريعة قم.

الآخوند الخراساني، محمد كاظم ت(١٣٢٩ه_).

٥٩. كفاية الأصول، تحقيق :الأستاذ الشيخ عباس علي الزارعي السبزواري، طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة: الثالثة، سنة الطبع : (١٤٢٧ه_).

ص: 288

٦٠.درر الفوائد في الحاشية على الفرائد، مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي،الطبعة: الأولى، سنة الطبع: (١٤١٠ه_).

٦١.ذخيرة في دليل الانسداد، تحقيق : الشيخ محمد الجعفري، الناشر : مركز تراث سامراء، سنة الطبع : (١٤٤١ه_).

الوحيد البهبهاني، محمد باقر بن محمد أكمل ت (١٢٠٦ه_).

٦٢.الفوائد الحائرية، تحقيق: لجنة تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، الناشر : مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة، سنة الطبع : (١٤٣٦ه_ ) .

الكرباسي، محمد إبراهيم بن محمد حسن ت(١٢٦١ه_).

٦٣.إشارات الأصول، مكتبة أهل البيت علیه السلام.

الموسوي القزويني ،محمد إبراهيم محمد باقرت (١٢٦٢ه_).

٦٤. ضوابط الأصول، تحقيق: مهدي الرجائي ،الناشر: العتبة الحسينية المقدسة، الطبعة: الأولى سنة الطبع : (١٤٣٩ه_).

ابن منظور، محمد بن مکرم بن علي ت (711ه_).

٦٥.لسان العرب، طباعة ونشر :ادب الحوزة - قم المقدسة (١٤٠٥ه_).

الرازي فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين ت (٦٠٦ه_).

٦٦.المحصول في علم أصول الفقه، تحقيق: الدكتور طه جابر فياض العلواني، الطبعة: الثانية، تأريخ النشر: (١٤١٢).

القزويني، السيد علي الموسوي ت (1298ه_).

٦٧.تعليقة على معالم الأصول، تحقيق : السيد علي العلوي القزويني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشّرفة، الطبعة الأولى، سنة الطبع : (١٤٢٢ه_).

ص: 289

الكاظمي، الشيخ محمد علي ت (١٣٦٥ه_).

٦٨. فوائد الأصول (تقريرات بحث الشيخ النائيني )،طبع. نشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، سنة الطبع : (١٤٢٩ه_).

الآمدي، علي بن محمدت (٦٣١ه_).

٦٩.الإحكام، تحقيق: تعليق: عبد الرزاق عفيفي، الطبعة: الثانية، تاريخ النشر : (١٤٠٢ه_ ) .

ابن الحاجب، جمال الدين عثمان بن عمر ت (٦٤٦ه_).

70. مختصر منتهى الأصول، ضبطه ووضع حواشيه: فادي نصيف وطارق يحيى، منشورات دار الكتب العلمية.

ابن جني، أبو الفتح عثمان ت (392ه_).

71. الخصائص، تحقيق: عبد الحميد ههنداوي، الناشر : دار الكتب العلمية.

الصدر، السيد صدر الدین محمد بن محمد باقرت (في عشر الستين بعد المائة والالف).

72. شرح الوافية، مخطوط.

المحقق الكاظمي،محسن بن الحسن بن مرتضى الاعرجي ت(١٢٢٧ه_).

73.المحصول في علم الأصول، تحقيق: هادي الشيخ طه الناشر: مركز المرتضى لإحياء التراث والبحوث الإسلامية، الطبعة: الأولى، سنة الطبع (١٤٣٧ه_).

السبزواري، المحقق المولى محمد باقر (ت1090 ه_).

٧٤.رسالة في مقدمة الواجب المطبوعة في ضمن مجموعة رسائل، مكتبة اهل البيت علیه السلام الالكترونية.

ص: 290

الحائري، عبد الكريم اليزدي ت (١٣٥٥ه_).

٧٥. درر الفوائد، المعلّق: الشيخ الأراكي والتحقيق: الشيخ محمد مؤمن القمي، الناشر : مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، الطبع : مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة: الخامسة.

الكركي، علي بن حسين بن علي بن محمد بن عبد العالي (ت ٩٤٠ه_).

٧٦. جامع المقاصد، تحقيق: مؤسسة آل البيت علیه السلام لإحياء التراث، سنة الطبع: (١٤٠٨ه_)، المطبعة: المهدية، الناشر: مؤسسة آل البيت علیه السلام لإحياء التراث. الفشاركي، السيد محمد الطباطبائي (ت ١٣١٦ه_).

77. الرسائل الفشاركي، طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة: الأولى، سنة الطبع : (١٤١٣ ه_ ) ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة.

أبو الحسين البصري، محمد بن علي بن الطيب المعتزلي (ت ٤٣٦ه_).

78.المعتمد في أصول الفقه، تحقيق: محمد حميد عبد الله بتعاون مع: محمد بكر، حسن حنفي، العهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية (دمشق)، سنة الطبع : (١٣٨٤ه_).

الروزدري، المولى على (ت، حدود 1290ه_).

79 .تقریرات آية الله المجدد الشيرازي، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليه السلام لإحياء التراث، الطبعة: الأولى، سنة الطبع: (١٤٠٩ه_)، المطبعة: مهر، قم، الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - قم المشرفة.

الخوانساري، المحقق حسين بن جمال الدين محمد (ت1099ه_).

80 مشارق الشموس، الناشر: مؤسسة آل البيت علیه السلام لإحياء التراث، ملاحظات: طبعة حجرية.

ص: 291

الخطيب البغدادي، الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن علي (ت: ٤٦٣ ه_).

81. تاريخ بغداد، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة: الأولى، تاريخ النشر: ١٤١٧ - 199٧م، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.

السيد المجاهد السيد محمد بن علي الكربلائي (ت ١٢٤٢ه_). 82. مفاتيح الأصول،مكتبة أهل البيت علیه السلام الالكترونية.

الأسنوي، عبد الرحيم بن الحسن ت(٧٧٢ه_).

83.التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، تحقيق: الدكتور محمد حسن هيتو، الطبعة: الثانية، سنة الطبع : (١٤٠١ه_) ، مؤسسة الرسالة، لبنان.

أبو الخطاب، محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني الحنبلي (ت ٤٣٢ه_).

٨٤.التمهيد في أصول الفقه، تحقيق :دكتور مفيد محمد أبو عمشة الناشر: دار المني للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، سنة الطبع : (١٤٠٦ه_).

المقداد السيوري، المقداد ابن عبد الله بن محمد الحلي الأسدي ت (٨٢٦ه_)

٨٥.إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، الناشر: مكتبة سماحة آية الله العظمى المرعشي النجفي الكبرى، الطبعة: الثانية، سنة الطبع: (١٤٣٣ه_).

السرخسي، أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل (ت ٤٩٠ه_).

٨٦. أصول السرخسي، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني،الطبعة: الأولى، تاريخ النشر: ١٤١٤ - 1993م.

الطريحي، فخر الدين (١٠٨٥ه_).

87 .مجمع البحرين، تحقيق: السيد أحمد الحسيني، الطبعة: الثانية، تاريخ النشر: (١٤٠٨ه_).

ص: 292

الاسترآبادي، محمد أمين ت(1033ه_).

88. الفوائد المدنية والشواهد المكية، تحقيق: الشيخ رحمة الله الرحمتي الأراكي، تاريخ النشر : منتصف شعبان المعظم ١٤٢٤ الطبعة: الأولى.

الفاضل الآبي، زين الدين أبي علي الحسن بن أبي طالب ابن أبي المجد اليوسفي (ت٦٩٠ه_ ) .

89 .كشف الرموز ، تحقيق: الشيخ علي پناه الاشتهاردي، الحاج آغا حسين اليزدي، الطبعة: الأولى، تاريخ النشر:(١٤٠٨ه_) ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة.

المتقي الهندي، علاء الدين علي المتقي بن حسام الدين ت (٩٧٥ه_).

90.كنز العمال، تحقيق: ضبط. تفسير: الشيخ بكري حياني ، تصحيح وفهرسة: صفوة السقا، سنة الطبع : (١٩٠٤) ، الناشر: مؤسسة الرسالة.

البحراني الشيخ يوسف ت (١١٨٦ه_).

٩١.الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين في قم المشرفة، قام بنشره: علي الآخوندي.

العاملي، السيد محمد بن علي الموسوي (ت ١٠٠٩ه_).

92. مدارك الأحكام، تحقيق: مؤسسة آل البيت علیه السلام لإحياء التراث – مشهد المقدسة،الطبعة: الأولى،تاريخ النشر : محرم ١٤١٠هج.

ابن قدامة، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد (ت ٦٢٠ه_).

93.المغني، مكتبة اهل البيت علیه السلام الإلكترونية.

اللوامع الحسنية في الأصول الفقهية

ص: 293

النووي، أبو زكريا محيي الدين بن شرف (ت ٦٧٦ ه_).

٩٤.المجموع، مكتبة اهل البيت علیه السلام الالكترونية.

الفيض الكاشاني، المولى محمد محسن بن مرتضی ابن محمود (ت 1091ه_).

٩٥.الأصول الاصيلة، تحقيق:عنى بطبعه ونشره وتصحيحه والتعليق عليه: مير جلال الدين الحسيني الأرموي المحدث، تاريخ النشر : ٢٥ محرم الحرام.

الشوكاني، محمد بن علي (ت ١٢٥٠ه_).

٩٦.إرشاد الفحول ،تحقيق سامي بن العربي الأثري، الناشر: دار الفضيلة (الرياض)،الطبعة: الأولى، سنة الطبع:(١٤٢١ه_).

ابن سينا الحسين بن عبد الله ، أبو علي (ت ٤٢٨ ه_)

97.القانون في الطب ( طبع بيروت)، تحقيق: طبعة قديمة، الناشر: دار احياء التراث العربي، الطبعة الأولى.

الأنطاكي داود بن عمر ( 1008 ه_ . )

98. تذكرة أولى الألباب والجامع للعجب العجاب، تحقيق: طبعة قديمة، الناشر: المكتبة الثقافية (بيروت - لبنان).

ص: 294

الفهرس

مقدمة المركز...7

مقدمة التحقيق ...15

لامعة في رسم هذا العلم، وبيان موضوعه، وغايته...33

لامعة في المبادئ اللغوية...35

في تقسيم الألفاظ...40

علائم الحقيقة والمجاز...40

في استكشاف الوضع بالاستعمال...41

تعارض الأحوال ...42

في الحقيقة الشرعية...42

مبحث الصحيح والأعم...43

في المشترك...44

مبحث المشتق...47

لامعةٌ في الأوامر...48

الأمر بعد الحضر...49

في مبحث المرة والتكرار...50

في الفور والتراخي...51

في تعريف الواجب وتقسيمه...53

في تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط...53

فى مقدمة الواجب...58

ص: 295

حجة القول باختصاص الوجوب بالمقدمة السببية وردّه ...63

في ثمرة الخلاف في المقدمة...63

خاتمة في التنبيه على مقدمة غير الواجب من الأحكام...65

مسألة الضد ...65

ثمرة في المسألة...71

في الواجب التخييري ...75

في التخيير بين الأقل والأكثر...76

في الواجب الموسع...78

قاعدة التخيير في الشيء تخير في لوازمه...78

في الواجب الكفائي...79

وثمرة الخلاف في المسألة...83

والعدلية على(امتناع الأمر بالشيء مع العلم بانتفاء شرطه)...83

الحقُ عدم بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ...84

الحقُّ أنَّ القضاء بفرض جديد...85

والأمر بالأمر بشيء أمر به...85

في الإجزاء وعدمه...85

لامعة في النواهي ...89

صيغة النهي...89

وفي دلالة النهي على التكرار خلافٌ...89

في اجتماع الأمر والنهي...89

احتج القائل بالامتناع...100

في اقتضاء النهي الفساد...105

لامعةٌ في معنى: النص:والظاهر،والمؤول،والمنطوق،والمفهوم...107

حجية مفهوم الشرط...10

ص: 296

تعدد العلّة هل يوجب تعدد المعلول أم لا؟...110

مفهوم الوصف ...115

مفهوم الغاية...116

مفهوم الحصر...117

مفهوم اللقب...118

مفهوم للعدد...118

في مباحث العموم ...120

صيغ العموم...120

الجمع المعرَّف باللام...121

الجمع المنكر...122

والنكرةُ في سياق النفي...123

وتركُ الاستفصال للعموم...123

في مسألة خطاب المعدوم بخطاب المشافهة ك_ (إفعل، ولا تفعل )...123

في مباحث التخصيص ...126

التخصيص بالمخصص المتصل...126

حجية العام في الباقي...127

في التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما لو كان المخصص لفظياً...130

في التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما لو كان المخصص لبياً...131

التخصيص بالمجمل...132

هل يرجع إلى العام في الشبهة المصداقية ؟...133

وهل يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخص؟...135

الاختلاف في صورة تعدد المستثنى منه...136

تخصيص العام بمفهوم الموافقة والمخالفة...138

التخصيص بالمخصص المنفصل...140

ص: 297

في تعارض العام والخاص ...141

مبحث المطلق والمقيد...142

والمطلق حقيقة في المقيد...143

في المجمل والمبين...144

تأخير البيان عن وقت الحاجة...146

الأدلة الشرعية ...148

في حجية الكتاب...148

في الإجماع المحصّل...148

حجية القطع...150

قيام الأمارات مقام القطع الطريقي...151

تقرير قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي...152

أقسام الظن...153

وأمّا مسألة التجرّي...154

إنكار الأخباريين لحجية القطع الناشئ من حكم العقل ...155

حجية قطع القطّاع...156

مباحث العلم الإجمالي ...157

أقسام العلم الإجمالي ...158

في جواز المخالفة الالتزامية دون العملية...159

في حرمة المخالفة العملية...160

في إمكان التعبد بالظن ...161

في جواز اعتبار الأمارات مع إمكان العلم ...162

الأصل حرمة العمل بالظن ...162

لامعةٌ في الظنون الخاصة التي دل الدليل على اعتبارها بالخصوص:...164

وأما تشخيص الوضع بقول اللغوي ...165

ص: 298

حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد...165

في الشهرة في الفتوى ...167

حجية خبر الواحد...167

الاستدل بالعقل على حجية الخبر...171

اختلاف القائلين بالظن الانسدادي...177

حجة القائل بحجية الظن في خصوص الطريق...177

تقرير دليل الانسداد بناءً على الحكومة...182

التعميم من حيث الأسباب والمرتبة بناءً على الكشف ...183

في الظن المانع والممنوع...185

لامعةٌ في الظنون المتعلّقة بتشخيص الظواهر أوالمرادات ...186

عدم حجية الظن في أصول الدين ...187

في أنّ الظن المطلق لا تترتب عليه الآثار...188

لامعةٌ في الأدلة العقلية...189

أصالة الإباحة أو الحظر ...194

لامعةٌ في أصالة البراءة ...196

الاستدلال بالعقل على وجوب الاحتياط...201

دوران الأمر بين الوجوب والحرمة؛ لعدم الدليل على تعيين أحدهما تفصيلاً ...٢٠٤

لامعةٌ في الشك في المكلَّف به ...206

في دوران الأمر بين المتباينين...206

تتميمٌ...207

في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين...208

تتميمات مهمات...213

خاتمة...217 لامعةٌ في الاستصحاب...218

ص: 299

أدلة القائل بالجعل ...235

تتمیم...235

تنبیهات...236

استطرادٌ...241

خاتمةٌ...248

تعارض الاستصحاب مع الأصول العملية والقواعد المرجوع إليها حال الشك ...٢٤٨

تعارض الاستصحابين...249

لامعةٌ في التعارض والتعادل والترجيح...252

في ميزان الحكومة والورود...252

في مؤدى الأصول اللفظية...255

الكلام بمقتضى الأخبار العلاجية...259

تنبيةٌ...262

عدم الاقتصار على المرجحات المنصوصة...265

خاتمةٌ في مبحثي الاجتهاد والتقليد...269

لامعةٌ...269

التجزئ في الإجتهاد ...269

تتميم في التخطئة والتصويب...271

أدلة التصويب ...272

خاتمة ... ...273

لامعةٌ فى التقليد ...275

بقي هنا مسائل ...275

مصادر الكتاب ...281

ص: 300

إصدارات مركز تراث سامراء

1.کتاب «رسالة حدوث العالم» تأليف الشيخ محمد باقر الاصطهباناتي قدس سرهُ، تحقيق مركز تراث سامراء(طبع لأول مرة).

2.کتاب «معالم العبر في استدراك البحار السابع عشر» للميرزا حسين النوري قدس سرهُ (طبع لأول مرة).

3. کتاب «مقدمة الذريعة إلى تصانيف الشيعة»، للشيخ آقا بزرك الطهراني قدس سرهِ، تحقيق مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

٤. كتاب «رسائل من إفادات المجدّد الشيرازي قدس سرهُ، تحقيق الشيخ مسلم الرضائي بمراجعة وتدقيق مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة ).

ه .كتاب «رسالة في أحكام الجبائر»، بقلم السيد محمد الساروي، تحقيق مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

٦. کتاب رسالة في حكم الخلل الواقع في الصلاة تقريراً لبحث السيد المجدّد الشيرازي قدس سرهِ، بقلم الشيخ آقا رضا الهمداني قدس سرهُ، تحقیق مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة)

7.«کتاب مآثر الكبراء في تاريخ سامراء» (ج ٤ ) ، للشيخ ذبيح الله المحلاتي رحمة الله علیه(طبع لأول مرة).

8. کتاب «مجموعة رجالية وتاريخية»، للشيخ آقا بزرك الطهراني قدس سرهُ، تحقيق السيد جعفر الحسيني

الإشكوري (طبع لأول مرة).

٩. كتاب «نزهة القلوب والخواطر في بعض ما تركه الأوائل للأواخر»، تاليف الميرزا محمد بن عبد الوهاب الهمداني، الملقب بإمام الحرمين، تحقيق الشيخ محمد لطف زاده (طبع لأول مرة)

١٠. كتاب «الإمام علي الهادي علیه السلام الا عمر حافل بالجهاد والمعجزات» تأليف الشيخ علي الكوراني، أعده وخرّج مصادره مركز تراث سامراء.

11. کتاب «سامراء في الأرشيف الوثائقي العثماني»، من إعداد مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

12. كتاب «سامراء في السالنامات العثمانية»، من إعداد مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

١٣.كتاب «سامراء في لغة العرب»،من إعداد مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

١٤.كتاب «سامراء في مجلة سومر»،من إعداد مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

١٥.كتاب «قوافي الولاء من الكاظمية إلى سامراء»، للأستاذ عبد الكريم الدباغ ( طبع لأول مرة ) .

١٦.كتاب زيارة أئمة سامراء علیه السلام ، من إعداد مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

17.كتيب «دليل معرض فاجعة سامراء»، من إعداد مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

١٨. كتيب «مناقب أئمة سامراء علیه السلام من طرق العامة» من إعداد مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

19.كتيب «نصائح سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله للشباب المؤمن»، من

ص: 301

إعداد مركز تراث سامراء.

٢٠.كتيب« نصائح سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله للمقاتلين في ساحات الجهاد»، من إعداد مركز تراث سامراء.

21.کتیب «قبسات من حياة أئمة سامراء علیه السلام ، من إعداد مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

22.« كتيب تعريفي بمركز تراث سامراء»، من إعداد مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

٢٣. كتيب «دليل الزائر لمرقد الإمامين العسكريين علیه السلام في مدينة سامراء المقدسة»، إعداد مركز تراث سامراء.

٢٤.كتاب «عصمة الحجج »، تأليف السيد علي الحسيني الميبدي، تحقيق الشيخ ستار الجيزاني (طبع لأول مر).

٢٥. كتاب «مباحث من كتاب الطهارة»، تأليف آية الله السيد إبراهيم الدامغاني قدس سرهُ، تقريراً لبحث تحقيق الشيخ كريم مسير (طبع لأول مرة).

٢٦.كتاب «ذخيرة في تحقيق دليل الإنسداد»، من إفادات السيّد المجدّد الشيرازي، بقلم المحقق الآخوند الخراساني ( صاحب الكفاية)، تحقيق الشيخ محمد الحاج محسن الجعفري، مراجعة وتدقيق مركز تراث سامراء (طبع لأول مرة).

٢٧. كتاب «العتبة العسكرية المقدسة في الإرشيف الوثائقي العثماني»، جمع وترجمة د.سامی المنصوري، تدقيق ومراجعة مركز تراث سامراء.

28.کتاب «مقدمة الذريعة إلى تصانيف الشيعة»، للشيخ آقا بزرك الطهراني قدس سرهُ، تحقيق مركز تراث سامراء ( طبعة ثانية منقحة).

29. كتاب «البيع»، تأليف آية الله السّيد إبراهيم الدامغاني قدس سرهُ، تقريراً لبحث آية الله المجدّد السيّد محمد حسن الشيرازي قدس سرهُ،تحقيق الشيخ سلام محمد الناصري، تدقيق ومراجعة مركز تراث سامراء.

٣٠. كتاب «سامرّاء في مجلة سومر / ج 2»، إعداد مركز تراث سامرّاء.

31. كتاب «شرح اللمعتين»، تأليف آية الله الشيخ عباس بن حسن آل كاشف الغطاء قدس سرهُ، تحقيق محمد جليل الحسناوي، تدقيق ومراجعة مركز تراث سامراء.

32. كتاب «اللوامع الحسنية»، تأليف السيد حسن صدر الدين الكاظمي، تحقيق الشيخ إبراهيم الجوراني، تدقيق ومراجعة مركز تراث سامراء.

٣٣. بحوث المؤتمر العلمي الأول الإمام الهادي علیه السلام عبق النبوة وعماد السلم المجتمعي» (ثلاثة أجزاء).

ص: 302

الكتب التي ستصدر قريباً

١. كتاب سامراء في تراث الكاظميين في القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر، تأليف عبد الكريم الدباغ ،مراجعة وتدقيق مركز تراث سامراء.

2. کتاب مباحث من كتاب الزكاة، تقريراً لبحث السيد المجدّد الشيرازي قدس سرهُ، بقلم العلّامة الفقيه الشيخ أسد الله الزنجاني، تحقيق مركز تراث سامراء.

٣. ببليوغرافيا ( ما كتب في حوزة سامراء).

٤. ببليوغرافيا الإمامين العسكريين علیه السلام.

5.ببلوغرافيا سامراء.

٦.العسكريان علیه السلام في الشعر العربي.

٧.مكتبات سامراء الرائدة وتتضمن:

أ. مكتبة المجدّد السيد محمد حسن الشيرازي.

ب.مكتبة الشيخ محمد تقي الشيرازي.

ج. مكتبة الإمام المهدي العامة.

د. مكتبة الشيخ محمد حسن كبة.

كتب قيد التحقيق والتأليف

1 - رسالة مقدمة الواجب، تأليف السيد هاشم بحر العلوم قدس سرهُ ، تقريراً لبحث آية الله المجدّد السيد محمد حسن الشيرازي

قدس سرهُ.

2- مآثر الكبراء ج ٥ ، تأليف العلّامة الشيخ ذبيح الله المحلاتي

قدس سرهُ.

٣ - مآثر الكبراء ج ٦،تأليف العلّامة الشيخ ذبيح الله المحلاتي قدس سرهُ. قلت له .

4- مآثر الكبراء ج 7، تأليف العلَّامة الشيخ ذبيح الله المحلاتي قدس سرهُ.

5- مآثر الكبراء ج8، تأليف العلّامة الشيخ ذبيح الله المحلاتي قدس سرهُ.

٦ - مآثر الكبراء ج 9،تأليف العلّامة الشيخ ذبيح الله المحلاتي قدس سرهُ.

7-مآثر الكبراء ج11، تأليف العلّامة الشيخ ذبيح الله المحلاتي قدس سرهُ.

8-نكت الرجال على كتاب منتهى المقال، تأليف آية الله السيد صدر الدين الكاظمي قدس سرهُ.

9-علماء تتلمذوا في سامرّاء.

10-وثيقة الفقهاء، محمد باقر البيرجندي.

11 - حواشي على نجاة العباد، عدة من العلماء.

12 - حاشية المكاسب، السيد محمد تقي الشيرازي.

ص: 303

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.