نهج البلاغة و الفکر الانساني المعاصر

هوية الکتاب

نَهْجُ الْبَلاغَة

والْفِكْرُ الْإِنْسَانيُّ المُعاصِر

مؤتمر نَهْجُ الْبَلاغَة والْفِكْرُ الْإِنْسَانيُّ المُعاصِر

9،8 رجب 1414 ه

22 ، 23 کانون الاول 1993 م

المستشارية الثقافية للجمهورية الاسلامية الإيرانية

بدمشق

نَهْجُ الْبَلاغَة والْفِكْرُ الْإِنْسَانيُّ المُعاصِر

محرر رقمي : روح الله قاسمي

ص: 1

اشارة

ص: 2

مؤتمر نَهْجُ الْبَلاغَة والْفِكْرُ الْإِنْسَانيُّ المُعاصِر

9،8 رجب 1414 ه

22 ، 23 کانون الاول 1993 م

المستشارية الثقافية للجمهورية الاسلامية الإيرانية

بدمشق

نَهْجُ الْبَلاغَة والْفِكْرُ الْإِنْسَانيُّ المُعاصِر

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 4

مقدمة الکتاب

ص: 5

الشیخ محمد شريعتي المستشار الثقافي

بسم الله الرحمن الرحيم

الإمام علي (ع) نجمٌ تلألأ في سماء الإسلام وتربى في حضن النبوة وهو أول المسلمين إيماناً وتصديقاً بدعوة خاتم المرسلين، وأكثرهم معاشرة له واستئناساً به، ولو قلنا إنَّ الإمام علياً، كان من أبرز ثمراتِ حياة النبي محمد (ص) لما كنا مبالغين بشيء، ونحن إذا درسنا هذه الثمرة نكون قد درسنا صميم الإسلام وشخصية الرسول. ونهج البلاغة هو قبسٌ من إشعاع عليٍّ (علیه السلام) الذي كان من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كالضوء من الضوء كما جاء على لسان علىٍّ نفسه، ولذلك يمكن للأمة الإسلامية بل والبشرية جمعاء أن تستفيد من نهج البلاغة في مختلف شؤون حياتها المعاصرة فيما لو قدرت قيمته حق تقدير وسلكت الطريق الأمثل إلى كنوزه.

إن موضوع نهج البلاغة والآفاق التي يحتويها هذا السفر الجليل من حِكم ومواعظ ونُظُم وسياسة واقتصاد واجتماع وفكر وأخلاق ليس خافياً على الكثيرين ممن درسوا سيرة علي (علیه السلام) وعطاءه بتجرد وهذا ما أثبتته البحوث التي قدمت لمؤتمر «نهج البلاغة والفكر الإنساني المعاصر» المبارك، غير أن المستشارية الثقافية للجمهورية

ص: 6

الإسلامية الإيرانية في سوريا رأت أنَّ سفر علىٍّ هذا بما يمثله من قيم أدبية وسياسية وتعليمية وأخلاقية وإدارية وغيرها قد يكون مجهولاً بعض الشيء في هذه المنطقة، ولذلك ارتأت المستشارية وعملاً بسياسة الجمهورية الإسلامية الهادفة إلى إحياء التراث الإسلامي-وبعدما أنجزته في مؤتمراتها السابقة عن بعض الشخصيات الإسلامية-ارتأت أن يكون هذا المؤتمر مخصصاً لأن يعالج ولو بعض ما ورد في هذا الكتاب النفيس نهج البلاغة الذي تجلّت فيه شخصية الإمام علي (علیه السلام) وعبقريته.

وبالفعل فقد عمدت المستشارية إلى دعوة بعض المفكرين والأدباء من الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية العربية السورية ولبنان وسائر البلدان واقترحت للبحث بعض المحاور المستوحاة من شخصية الإمام علي (علیه السلام) وكتابه (نهج البلاغة) فاختار الباحثون والأدباء المدعوّون بحوثهم وأشعارهم حسبما رأوه مناسباً لهذا المؤتمر عالجوا فيها أفكاراً من موضوع المؤتمر، وجاء المؤتمر الذي استضافته مكتبة الأسد الوطنية في دمشق مفاجئاً للجميع من حيث الحضور غير المتوقع من قبل الجمهور الغفير الذي واظب على الحضور والاستماع باهتمام إلى البحوث والقصائد والكلمات التي اختصرت لضيق الوقت ونوردها هنا كاملة في هذا الكتاب الذي رُتبت فيه مواد المؤتمر حسب البرنامج اليومي مردفة ببعض البحوث التي قُدِّمت إلى المؤتمر ولم تلق لعدم تمكن مرسليها من الحضور ونحن إذ نترك القارىء الكريم مع تفاصيل هذا اللقاء الفكري الثقافي نتمنى أن يكون المؤتمر فاتحة خير للاهتمام بنهج البلاغة ككتاب أنموذجي للأدب والعلم والأخلاق ونرجو أن نكون قد وُفِّقنا في عرض هذا النهج الذي رسمه الإمام علي (علیه السلام) بخطبه ورسائله وحكمه ومواعظه والذي يرجع الفضل في جمعه وتدوينه إلى العالم الفذ الأديب الشاعر السيد الشريف الرضي رضي الله عنه وأسكنه فسيح جناته.

محمد شريعتي

المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية

في دمشق

ص: 7

برنامج اليوم الأول

من مؤتمر نهج البلاغة والفكر الانساني المعاصر

الأربعاء 8/ رجب / 1414 ه، 22 / 12 / 1993

- القرآن الكريم

- كلمة ترحيبية لمكتبة الأسد

- كلمة وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي

الدكتور علي لاريجاني، ألقاها المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق، الشيخ محمد شريعني

- محاضرة العلامة السيد محمد حسين فضل الله «لبنان»

* محاضرة سماحة الشيخ أحمد كفتارو مفتي الجمهورية العربية السورية

- الأستاذ جوزيف الهاشم «لبنان»

- العلامة الشيخ محمد تقي جعفري «ایران»

- الأستاذ الدكتور أسعد علي «سورية»

- الأستاذ الشاعر أنور الجندي «سورية»

- الأستاذ الدكتور حسن الزين «لبنان»

ص: 8

جلسة الافتتاح

ص: 9

ص: 10

کلمة الافتتاح

الدكتور علي لاريجاني

وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على رسول الله الأكرم خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى جميع الأولياء والصالحين وأهل بيته المكرمين وصحبه المنتجبين والسلام عليكم أيها الحضور الكريم ورحمة الله وبركاته.

أبارك للمسلمين جميعاً حلول ذكرى المولد السعيد لمولى المتقين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) هذا النجم الساطع في عالم الفضيلة والتقوى والعلم والفكر الإنساني والجهاد في سبيل الله والمظهر التام للإنسان الكامل والفضائل الأخلاقية.

ص: 11

أقدم شكري الجزيل لكافة الإخوة والأخوات المشاركين في هذا المؤتمر الكريم الذي يعقد تزامناً مع ذكرى مولد أمير البيان علي (عليه السلام) إحياء لذكره وتخليداً لكتاب (نهج البلاغة) وهو من كنوز العالم الإسلامي النادرة. واليوم فإن هذا السَّفر العظيم لا زال مهجوراً للأسف الشديد، ونعتقد أن رسالة العلماء والباحثين والمفكرين في العالم الإسلامي تكمن في بذل جهودهم لكشف أغوار هذا الينبوع الفكري الخالد، حتى يتسنى للمسلمين أن يستزيدوا من إفاضاته المعنوية والعرفانية والعبادية والإلهية الخاصة، حيث نأمل أن يكون هذا المؤتمر المبارك فاتحة خير لتحقق هذا الهدف العظيم.

أيها الحضور الكريم:

رغم أن القلم والبيان عاجزان عن وصف هذا الكتاب الملكوتي والمعنوي والمربي للإنسان، إلا أني أكتفي بالإشارة بإيجاز إلى بعض أبعاده، على أمل أن يوفَّق السادة المحترمون المشاركون في المؤتمر في تسليط أضوائهم على هذا الكتاب الخالد من خلال المقالات والدراسات التي سيقدمونها فيه.

أشير هنا إلى بعدين مهمين تميز بهما كتاب نهج البلاغة واهتم بهما المفكرون والباحثون طوال التاريخ، ولربما يمكن اعتبارهما من أبرز الخصائص والسمات التي تميّز بها (نهج البلاغة) وهذان البعدان هما:

البعد الأول: شمولية هذا الكتاب وتعدد أبعاده:

إن تميز (نهج البلاغة) بصفة الشمولية والاستيعاب جعله يُعرف في أوساط المفكرين الباحثين كواحد من أبرز وأندر الكتب التي ألفت عبر التاريخ، حيث إن أبحاثه العرفانية والكلامية والعقلية والملحمية وحكمه الرائعة تجتذب إليها كل إنسان يطلع عليها، وتجعل القلوب والعقول والعواطف تنقاد إلى قائلها وتثير اعجاب واستغراب الناس من مضمون تلك الكلمات وتدعوهم إلى التواضع والإقرار بعظمة شخصية الإمام علي (علیه السلام) الذي يقف شامخاً فوق أعلى قمم الكرامة والعظمة الإنسانية والمعنوية.

وأفضل من عبَّر عن هذه الحالة التي ميزت شخصية أمير المؤمنين علي (علیه السلام) هو العلامة الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري (قدس سره) حيث يقول:

ص: 12

إن الكلمة مرآة الروح الإنسانية، لذا فإن كل كلمة تتعلق بنفس العالم الذي ترتبط به روح صاحبها، فالكلمات التي تتعلق بعوالم عديدة تكون علامة على تلك الروح التي لم تنحصر في عالم واحد.

وحيث إن روح الإمام علي (عليه السلام) لا تتحدد بعالم خاص بل هو الإنسان الكامل الجامع لجميع المراتب الإنسانية والروحية والمعنوية فلا تختص كلماته أيضاً بعالم واحد وهكذا فإن من مميزات كلام الإمام علي (علیه السلام) أنه ذو أبعاد متعددة وليس ذا بعد واحد.

كما أن الشيخ محمد عبده تأثر كثيراً بهذه الخاصية التي تميز بها (نهج البلاغة)، حيث أثارت إعجابه حالة الشمولية وتنوع الجوانب والموضوعات والاهتمامات والصور التي ظهرت في كلام الإمام علي (علیه السلام) فنراه قد أشار إلى هذه الناحية في مقدمة شرحه لنهج البلاغة مؤكداً على أن روح الإمام علي (علیه السلام) كانت روحاً وسيعة وشاملة ومتعددة الأبعاد، وقد امتُدح دوماً لتميزه بهذه الخاصية. حيث كان (عليه السلام) حاكماً عادلاً وعابداً ساهراً ليله وبكّاء في المحراب وضاحكاً في ساحة الحرب، وجندياً متمرساً ومديراً مدبراً وحكيماً رحيماً ورقيق القلب وعميق الفكر، وكان أيضاً قائداً عسكرياً بارعاً وفي نفس الوقت معلماً وخطيباً وقاضياً ومفتياً ومزارعاً وكاتباً بل وإنساناً كاملاً ومحيطاً بجميع عوالم الروح الإنسانية.

أيها الإخوة وأيتها الأخوات الكرام:

إن البعد الشمولي في شخصية الإمام علي (علیه السلام) هو الذي جعلها تجمع الأضداد والصفات المختلفة، ومنح كلامه رونقاً خاصاً وجاذبية لا نظير لها وجمالاً أخاذاً. وقد انبهر صفي الدين الحلي المتوفى في القرن الثامن الهجري بهذه الخاصية التي تميزت بها شخصية أمير البيان الإمام علي (علیه السلام) حيث قال:

جُمعتْ في صفاتك الأضدادُ *** ولهذا عزت لك الأندادُ

زاهدٌ حاكمٌ حليم شجاع *** فاتكٌ ناسك فقير جوادُ

شیمٌ ما جمعنَ في بشرٍ قطٌ *** ولا حاز مثلهنَّ العباد

خُلقٌ يخجل النسيم من اللطف *** وبأسٌ يذوب منه الجمادُ

جلَّ معناك أن يحيط به الشعر *** ويحصي صفاتك النقادُ

إن هذا البعد أكسب نهج البلاغة جانباً إنسانياً وعالمياً، لذا فإنه لا يمكن أن يحدَّد بأي

ص: 13

زمان أو مكان من حيث الصورة والمعنى، كما أن تغير الثقافات وتطور مستوى الأفكار الإنسانية لم ولن يقلل من أهمية نهج البلاغة، بل إننا نعتقد أن عالمنا الإنسانيّ المعاصر الذي يواجه أزمة فقدان المعنويات بأمس الحاجة إلى المعارف الإلهية والحكم الإنسانية السامية والنصائح الأخلاقية والمعنوية التي يزخر بها هذا الكتاب القيم الذي يمكن أن يمثل اليوم أفضل هدية وأثمن شيء يقدَّم لبني الإنسان في سبيل سموهم وتعاليهم.

أيها الحضور الكريم:

إن الروح المتعددة الأبعاد التي تميز بها الإمام علي (علیه السلام) جعلته يتفوق على منافسيه في جميع الميادين، مما دفع بأعدائه فضلاً عن أحبائه للإقرار بفضله وسمو شخصيته.

فأي عالم يمكنه أن يتعرف على حقيقة عمق الوجود بنظرة كونية شاملة ومن منظار حسي وفلسفي وعرفاني تام وجامع وبشكل متواز.

إنه الإمام علي (علیه السلام) الذي كان أحياناً يخترق عالم المادة والعالم الحسي ليصل إلى المعنى عبر المادة كعالم طبيعي ملتزم بالدقة ومن ثم يصل إلى قسمة الملكوت عبر نافذة المادة ... وكان تارة أخرى ينظر من الملك إلى الملكوت بعروج عرفاني وقلب خالص ونزيه ويلقي نظرة شاملة إلى الوجود كله عبر نافذة القلب. كما كان أحياناً يتسلق مركب العقل ليقوض أركان قصور الأفكار الوهمية والخيالية بدقة لا نظير لها في ظل الأسس العقلية والاستدلال والبرهان؛ وينظم في كلامه أعقد المسائل الفلسفية في مجال معرفة الكون والتوحيد بشكل حيث يعجز عن فهمها وإدراكها حتى أبرز المفكرين والفلاسفة وأعمقهم.

بالإضافة إلى اهتمام هذا الكتاب القيم بمسائل التوحيد والعرفان قبل أي شيء آخر وتكراره للحديث عن (الله) جل وعلا وتعظيمه، إلا أنه يتضمن أحاديث قيمة ورائعة في باب الحكومة والزعامة والحقوق المتبادلة بين الحاكم والرعية واستتباب العدالة الاجتماعية وحق حاكمية الناس ودورهم المؤثر في الحياة وموقعهم الريادي الممتاز في مقابل الحاكم، مصوراً النظام الحكومي الإسلامي بشكل رائع وأفق سامٍ وفكر خالص وجديد، وهو لا نظير له في عالم السياسة والأنظمة الاجتماعية إطلاقاً. لأن الإمام علياً (علیه السلام) ينظر إلى الحاكم باعتباره الأمين والحارس لحقوق الناس والمسؤول الأول أمامهم وأن الحكومة ليست سوى أمانة بيد الحاكم. لذلك فإن نهج البلاغة يمثل مظهراً ناطقاً لشخصية الإمام علي(علیه السلام) المتعددة الأبعاد وهو مرآة

ص: 14

تعكس أبعاد وجوده، وأن كلماته الحماسية في ساحات الحرب وجمله العرفانية والفلسفية في التوحيد والأسس العقائدية وخطبه القيِّمة في الحكومة والزعامة ونصائحه الحكيمة والمعنوية، كلها منحت (نهج البلاغة) قيمة متسامية جعلت القلوب والعواطف تنجذب إليها وأكسبته نفوذاً وتأثيراً كبيراً على قارئيه ومستمعيه لا يمكن أن نجده في كلام أو كتاب بشري آخر حيث إن الإشارة إلى نماذج من تلك الكلمات تستلزم وقتاً أكبر وفرصة أوسع من هذا المؤتمر الكريم.

البعد الثاني: فصاحة وبلاغة نهج البلاغة:

تذكر كتب التاريخ أن الأدباء والعارفين بفنون الكلام وعباقرة الأدب العربي أثنوا كثيراً على نهج البلاغة، بل وعبروا عن إعجابهم بهذا الكتاب الخالد عبر التاريخ، وإن هذه الخصوصية التي تميز بها نهج البلاغة لا تحتاج إلى التوضيح بالنسبة للعارفين بجمال الكلام والخطابة. إلا أن مطالعة ودراسة المؤلفات الأدبية التي كُتبت حول نهج البلاغة والتمعن في ما احتوته من إطراء ومديح الجمال وبلاغة هذا الكتاب تؤكد هذه الحقيقة وهي أن أوصاف الأدباء وإطراء عباقرة الأدب العربي حول نهج البلاغة لم تكن مبالغاً فيها أبداً بل أنها كانت تعبر عن عين الحقيقة وإقراراً بالفضل، ولربما أن الثناء والاطراء الذي ذكر حول نهج البلاغة عبر التاريخ لم يعبر تماماً عما يستحقه الإمام علي (علیه السلام) من ثناء ومديح.

فهذا السيد الرضي الذي يعتبر من كبار علماء الإسلام وهو الذي بذل جهداً كبيراً في جمع نهج البلاغة وتنظيم خطبه بشكل فني وأدبي رفيع يعبِّر عن اندهاشه وإعجابه الكبير بفصاحة وبلاغة كلام الإمام علي (علیه السلام) حيث يقول:

(كان أمير المؤمنين علي (علیه السلام) مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر،مكنونها وعنه أخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصر وا وقد تقدم وتأخروا، لأن كلامه عليه السلام عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي).

وكذلك فإن ابن أبي الحديد وهو من علماء المعتزلة في القرن السابع الهجري وكان أديباً ماهراً وشاعراً بارعاً ومن المغرمين بكلام الإمام علي (علیه السلام) كتب في مقدمة شرحه قائلاً:

(حقاً، إن كلام على دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق).

وأضاف وهو يصف فصاحة أمير البيان قائلاً:

ص: 15

(انظر إلى الفصاحة، كيف تُعطي هذا الرجل قيادها وتملِّكه زمامها، وأعجب لهذه الألفاظ المنصوبة يتلو بعضها بعضاً كيف تؤاتيه وتطاوعه سلسة سهلة، تتدفق من غير تعسف ولا تكلف ...).

أيها الأساتذة المحترمون:

أكتفي بهذا القدر من التوضيح حول هذين البعدين اللذين تميز بهما (نهج البلاغة) تاركاً المجال أكثر للسادة الباحثين والمفكرين المشاركين في هذا المؤتمر الموقر الذي يُعقد في سورية الشقيقة لكشف أسرار هذا الكتاب القيِّم وتعريف أجيالنا المسلمة أكثر بالشخصية المعنوية اللامعة لأمير المؤمنين (علیه السلام) وكتابه الخالد الذي لا يزال مهجوراً-للأسف-في المحافل الإنسانية عموماً وفي المحافل الإسلامية بشكل خاص. ومساهمة مني في علاج هذه الحالة غير الطبيعية أقترح النقاط الآتية، آملًا أن تلقى الاهتمام من قبل السادة الباحثين والمفكرين المحترمين الحاضرين في هذا التجمع العلمي الكبير:

1-ينبغي على الصحف والمجلات ووسائل الإعلام العامة الأخرى أن تبادر إلى توضيح المفاهيم السامية الواردة في نهج البلاغة لعموم المسلمين من خلال القيام بخطوات بنّاءة وإيجابية بهذا الشأن حتى تطلع الأجيال المسلمة المعاصرة على المحتوى الغني والمربي للإنسان لهذا الكتاب الملكوتي الخالد.

2-من المناسب أن تبادر المراكز العلمية والجامعية والحوزات العلمية إلى تدريس نهج البلاغة والتعامل معه كمادة دراسية والاستفادة من مضامينه في الأبحاث المتخصصة من أجل رقي ونشر الثقافة الإسلامية السامية.

3-من المناسب أن يبذل الكتّاب وأرباب القلم والمؤلفون ما بوسعهم من جهد لشرح الأبعاد المختلفة لنهج البلاغة وتعريف الآخرين بالأفكار الإنسانية للإمام علي (علیه السلام) التي فيها خير الدنيا والآخرة.

4-ينبغي على أصحاب دور النشر المحترمين في العالم الإسلامي أن يساهموا في نشر وإشاعة وتوزيع هذا الكتاب الخالد وإيصاله إلى أيدي ملايين العاشقين والمتلهفين لهذا الفكر الإنساني القيِّم ویولوا هذه القضية الاهتمام المناسب.

أغتنم هذه الفرصة لأشكر مرة أخرى السادة الباحثين والعلماء والمفكرين الذين يشاركون

ص: 16

في هذا المؤتمر الكريم من خلال أبحاثهم ودراساتهم ومقالاتهم أو حضورهم، كما أشكر الجمهورية العربية السورية الشقيقة لاستضافتها هذا المؤتمر والمستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في دمشق التي اعتادت على إقامة مثل هذه المؤتمرات العلمية والثقافية مساهمة منها في إحياء وتخليد التراث الثقافي الأصيل لأمتنا الإسلامية المجيدة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 17

ص: 18

معايير الحق والباطل في نهج البلاغة

العلامة السيد محمد حسين فضل الله

هناك من إذا ذكرت اسمه شعرت بنفسك تدخل في كهوف التاريخ لتبحث عنه لتحمل شمعة هنا وشمعة هناك حتى تستطيع أن تتعرفه وتتعرف فكره وحياته، و هناك من إذا ذكرته شعرت أن اسمه يتجاوز الزمن ويحلق في الآفاق الواسعة التي تطل بك على المطلق ويطوف بك في كل موقع من مواقع الحياة، حتى إنك تفتش عن شيء لم يتحدث عنه تصريحاً أو إيحاء أو إيماء، فلا تجد هناك شيئاً من ذلك، و عندما تدخل عقله فإنك ترى الشروق كله، العقل الذي كله شروق خلافاً لكثير من العقول التي إذا دخلتها فقد تحتاج إلى كثير مما يمكن أن يجعلك تتلمس هذا الفكر أو ذاك الفكر.

ص: 19

علي الانسان الانسان

هناك أشخاص إذا ذكرتهم تشعر أنهم ينطلقون بك في التجريد حتى لتتحسس في نفسك معهم أنك تبتعد عن الحياة وهناك أناس إذا ذكرتهم شعرت أنهم إذا أمسكوا المجرد بفكرهم أعطوه حركيته وأنزلوه إلى الواقع، ذلك هو علي الذي إذا حاصره التاريخ ليبحث عن بعض الحواجز التي كانت تنتصب أمامه وعن الدوائر التي أريد له أن يحاط بها وعن الآفاق الصغيرة التي حشر اسمه فيها وعن العصبيات التي أريد له أن يكتب في عنوانها إنك لن ترى علياً في ذلك كله لأن علياً، وهو الإنسان الإنسان، ولكنه الإنسان الذي عاش حياته كلها مع الله، لا صوفية تختزن المشاعر ولكن انفتاحاً يجعلك تعيش مع عباد الله لتتحسس آلامهم ومشاكلهم ولتبدع لهم من خلال الله في عقولهم عقلاً، ولتبدع لهم من خلال وحي الله في فكرهم فكراً وعاش كل قلبه مع الله ولذلك كان يعيش مع الناس بقلبه الذي يشعر وهو في قمة السلطة «لعل بالحجاز أو باليمامة من لا طمع له بالقوت».

الحديث عن علي حديث عن الحياة

الحديث عن علي (علیه السلام) للذين ينفتحون على الآفاق العالية في الحياة، هو حديث عن الحياة كلها ولذلك فإننا نريد أن نعيش معه في قضايانا المتحركة لأن القضية ليست قضية دراسة أكاديمية تحاول من خلالها أن تتعمق في الفلسفة أو ما إلى ذلك، ولكن المسألة أننا عندما نريد أن نستقدم التاريخ إلينا التاريخ الذي يمثل حقيقة الحياة فإن علينا أن نشعر في كل هذا التاريخ بقضايانا تتحرك من خلاله فنحن لا نريد أن نفرض التاريخ على قضايانا لأننا نعرف أن التاريخ قد يتحرك من خلال ظروف محدودة وقد يتحرك من خلال تجارب معينة، لذلك قد يكون التاريخ حتى الذي تقدسه في ظروفه التي عاشها شيئاً لا يتناسب معك عندما تصنع التاريخ (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت) فيما صنعته من تاريخها، فيما عاشته من ظروفها، فيما تحركت فيه من انتصاراتها وهزائمها (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت) عندما صنعت تاريخها (ولكم ما كسبتم) عندما تصنعون التاريخ.

لذلك نحن لا نريد أن نستغرق في التاريخ لتنقله كله وبذلك نقول لكل الذين يتحدثون إليك عن انطلاقتك من الجذور هل تريد أن تعيدنا إلى المرحلة التي انطلقت منها الجذور؟ الذين

ص: 20

أطلقوا الجذور حركوها في الظروف التي عاشوها فأعطتهم كل غناها وكل قوتها وتبقى الجذور تماماً كالينابيع تمدك في كل مرحلة بشيء جديد؛ من هنا ليس معنى ذلك أنك عندما تريد أن ترجع إلى الأصول أنك تتجمد في المرحلة التاريخية التي عاشها الأصول، حتى النص عندنا النص لا يحبسنا في داخل حروفه، النص عندما يعطيك معناه فالمعنى ليس هو ما في القاموس المعنى في إيحاءاته،إيماءاته،عمقه امتداداته، أجوائه، حركته في التجربة، النص في القرآن وفي السنة وفي كل ما نحترمه من فكر النص ليس شيئاً جامداً، كان متحركاً منذ انطلق وبقيت حركته تفرض نفسها على الحياة لتواكب كل متغيرات الحياة.

الحيادية والصراع في الحياة

لهذا نحن نريد أن نعيش مع علي قضايانا في حركة الصراع في الحياة، نحن نعيش في عالم يضج بالصراع، والصراع يفرض الكثير من المشاكل ومن المنازعات ومن الخلافات ومن الصدامات هل تقف أمام الصراعات التي توجع رأسك وتثقل قلبك وقد تأخذ منك رأسك وقد تقيدك وقد تحبسك هل تعيش في حركة الصراع على أساس أن كون الإنسان الحيادي الذي ينفصل عن ساحة الصراع ليكون الإنسان الذي ليس مع فلان وليس مع فلان لا يدخل في هذا الجو ولا في ذلك الجو؟ أو تتحرك لتكون جزءاً من الصراع أو لتدرس مضمون هذا الصراع، ما هو في طبيعته وما هو في علاقته بالحياة وما هو في علاقته بالمصير وبالمستقبل؟ إن تدرس مضمون الصراع قبل أن تتخذ موقفاً حيادياً أو إيجابياً هنا أو سلبياً هناك.

هناك كلمة للإمام علي (علیه السلام) ربما يفهمها بعض الناس بطريقة خاطئة، «كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب» وابن اللبون هو ولد الناقة الذكر الذي لم يقو ظهره على الركوب وليس له ضرع يجلب منه، كن مثله، لا تجعل أحداً يتخذك جسراً يصل من خلاله إلى أطماعه ولا أن يستفيد من طاقاتك لتحلب طاقاتك لتطعمه طاقة يقوى الشر في داخلها.

بعض الناس يفهمون المسألة الفتنة أنها تمثل حركة الصراع، أن يقتتل الناس، في هذا فتنة أن يختلف الناس هذه فتنة! ولذلك كثر الحياديون في مجتمعاتنا وأصبح الكثيرون من الناس يتفرجون على الساحة وإذا خافوا أن يضبطهم بعض الناس وهم يطلون من النافذة يغلقون النافذة ويجلسون في بيوتهم ينتظرون الفرج، بعض الناس كذلك، لأنهم يقولون إنها فتنة، ولكن

ص: 21

هل الفتنة كلمة تساوي الصراع؟ الفتنة فيما نفهمها هي الحركة التي تنطلق لتفتنك، لتدخلك في متاهات أو لتدخلك في موقع ليس لك دور فيه من خلال ما تعيشه، إنهم يحددون كلمة الفتنة بالموقع الذي لا يعرف فيه الحق من الباطل أو الموقع الذي يتنازع فيه فئتان من أهل الباطل. وعبر الإمام علي (علیه السلام) عن الفتنة كيف تنشأ إنها بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالاً على غير دين الله فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطع عنه السن المعاندين ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى. الفتنة أن تنطلق القضية أو الفكرة التي تعطي من ملامح الحق بعض الشيء وتخفي من عمق الباطل بعض الشيء فتتحرك وأنت تشعر أنها الحق ولكنها في الواقع ليست هي الحق.

وهكذا نجد في كلمة أخرى للإمام، «إن الفتن إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت نبهت ينكرن مقبلات ويعرفن مدبرات يحمن حوم الرياح يصبن بلداً ويخطئن بلداً»، تلك هي المسألة.

افهم ساحة الفتنة

إن الإمام يريد أن يؤكد المسألة عندما لا تكون الساحة واضحة لديك لا تقتحمها ولكن حاول أن تفهمها أن تعرفها «كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب»، إنما تعبر عن عملية الاقتحام غير المدروس، إما أن تقف لتدرسها فتلك مسؤوليتك لأنك لا تستطيع أن تكون حيادياً أمام ما يحدث في ساحتك لأن ما يحدث في ساحتك ليس مجرد شيء يخص الذين يتصارعون ولكنه شيء يشمل الواقع كله ولذلك عليك أن تدرس الفتنة لتستوضحها. حتى عندما تكون هنالك فئتان من أهل الباطل لا دور لك في طرح هذا ولا دور لك في طرح ذاك عندما تكون المسألة كذلك، فإن عليك أن لا تقتحم المعركة لتكون فريقاً لهذا أو لذلك، لكن عليك أن تدرس ما هو دورك أمام هاتين الفئتين المتصارعتين من أهل الباطل أكان ذلك في بلدك أو في منطقتك أو في العالم كله أنت إنسان لا بد أن تعيش حركة حياتك في إنسانيتك في أن يكون لك الدور الفاعل في حركة الواقع كله، ولذلك ربما يكون دورك أن

ص: 22

تخطط لتجعلهما يعيان الحق، وربما يكون دورك أن تزيد في صراعهما ليسقط الباطل المتمثل في هذا وذاك، وربما يكون دورك أن تتحالف في هذا وذاك، وربما يكون دورك أن تتحالف مع أحدهما لا ضد الآخر ولكن لتضعف القوي لتتفرغ للضعيف بعد ذلك.

فرق بين الأحلام والواقع

قد يقول بعض الناس هذه سياسة تبتعد عن المثاليات وهل تريد أن تنزلنا إلى جزئيات الواقع؟ لكن هنا فرق بين أن تعيش الحياة أحلاماً ومثالاً تجريدياً وبين أن نعيش الحياة واقعاً يتصل بحياتنا الثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية عندما تكون المسألة مسألة إنسانية يراد لها أن تعيش في كل مواقعها التي تركز وجودها وحركتها وامتدادها إن عليك في هذا المجال أن لا تذرف دموعك على المسألة لأن هناك مأساة تواجهك في جزئيات الأمور فإذا سقطت أمام المأساة الصغيرة فستسقطك المأساة الكبيرة.

بعض الناس يحاولون دائماً أن يسقطوا القضايا الكبرى من خلال حديثهم عن مفردات المآسي التي تنتجها القضايا الكبرى، أن يحدثوك عن ضرورة الابتعاد عن الصراع وهو مفروض عليك لأن للصراع نتائجه التي تتحرك لتستنزف الدموع والخفقات والنبضات. العاطفة هي سر إنسانيتنا ولكن لو استطعنا أن نحول الحياة إلى عاطفة وينطلق كل الناس عاطفة تهفو وتخفق وتنبض وتتحرك لكانت الحياة جنة مصغرة على الأرض، لكن مشكلة الحياة إنها عاطفة وعقل وحركة وإنسانية وقضايا وما إلى ذلك فلا بد لك أن تجمع كل هذا التوازن، ولذلك كنت أقول دائماً أن علينا أن نعطي العاطفة جرعة من العقل لتتوازن وأن نعطي العقل جرعة من العاطفة ليرق ويلين ولنخفف من قسوته.

لذلك إننا نكون كابن اللبون في الفتنة أن لا نقتحمها دون دراسة ودون وعي ولكن أن نواجهها بالوعي الذي يفهم مضمونها والدراسة التي تجعلك تعرف كيف تحدد موقفك منها هنا وهناك.

لا حيادية بين الحق والباطل

علي لا يريد للإنسان أن يكون حيادياً عندما تكون المعركة معركة الحق والباطل، الحياديون بين الحق والباطل يخونون إنسانيتهم ويخونون الحياة ويسقطونها، إنه يتحدث عن

ص: 23

هؤلاء الذين يبتعدون عن الساحة حتى لا تتحرك نحوهم شرارات الساحة، قال وهو يحدث بعض الناس عن بعض من اعتزلوا القتال في بعض معاركه قال: «إن سعيداً وعبد الله لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل» لم ينصرا الحق لأنهما أبعدا طاقتهما عن نصرة الحق ولم يخذلا الباطل لأنهما عندما حجبا قوتهما عن الحق أعطيا الباطل قوة سلبية، والباطل لا يقوى باتباعه ولكنه يقوى بالحياديين الذين يؤمنون بالحق ولكنهم لا يتحملون مسؤوليته، وهذا هو الذي تمثله الكلمة التي استهلكناها «الأكثرية الصامتة» وهذا ما تمثله الكلمة المأثورة «الساكت عن الحق شيطان أخرس» شيطان أخرس لأن «الشيطنة» ليست شيئاً إيجابياً مضاداً فقط ولكن الشيطنة قد تكون أعمق في السلبيات من الايجابيات ويحدثنا الإمام عن نتائج هذه المواقف المتخاذلة «أيها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقو من قوي عليكم لكنكم تهتم مناه بني إسرائيل ولعمري ليضعفن لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلفتم الحق وراء ظهوركم وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد».

هزائمنا هزائم المتخاذلين

إن المسألة هي أن الكثير من هزائمنا على كل المستويات التي تتحرك في الواقع، المشكلة في كل هزائمنا إنها هزائم المتخاذلين وليست هزائم الذين يقاتلوننا. إننا في كل تاريخنا الحديث في كل حركة الصراع التي عشناها مع الاستكبار العالمي أو مع الصهيونية العالمية أو مع كل المواقع التي تتحرك هنا وهناك، لم تنطلق من قوة مطلقة هناك وضعف مطلق هنا كانت المسألة قوة كبيرة هناك متحركة كة وقوة محايدة هنا جامدة ضعفنا هو الذي أعطى الآخرين كثيراً من قوتهم ولا أقول كل قوتهم.

لذلك أن المسألة التي تتحدى إنسانيتنا في كل قضايا الصراع في الواقع هي أن يعيش الإنسان دوره في حركة إنسانيته في الواقع إن الإنسان الذي لا يشارك في أي موقع من مواقع الصراع التي تمثل القضايا الكبرى في الحياة هو إنسان ميت يتنفس وميت يتحرك، لأن قضية أن تموت ليست أن يموت جسدك ولكن قضية أن تموت أن يموت دورك، أن لا يكون لك غنى في الحياة، وهذا ما ينبغي لنا أن نفكر فيه أنا لا أدعو إلى عشوائية في اتخاذ الموقف حتى يحدثنا بعض الناس عن صعوبات هنا ومشاكل هناك ولكن أيها الناس قد نتخيل صعوبات ما ليست بصعوبات وقد نتخيل مستحيلًا ما ليس بالمستحيل، نحن شعب نحاول أن نعطي كلمة

ص: 24

المستحيل لأي شعب نجرب أن نقترب منه فيبتعد عنا دون أن نتقدم خطوة في اتجاهه لنكتشف ماذا يثقله حتى لم يتحرك خطوة إلينا.

اكتشفوا طاقاتكم

في العالم كله المستحيل ليس شيئاً مطلقاً إنما هو شيء محدود، كل شيء ممكن في نطاق الطاقات الإنسانية وفي نطاق ما أعطاه الله للإنسان من كل المغريات والأدوات، ولكن علينا أن نكتشف ذلك، إن لدينا طاقة ولكننا لا نكتشفها علينا أن نكتشف طاقاتنا لأن حركة الصراع في كل الواقع الذي نعيشه هي حركة لا يمكن للإنسان أن يعيش الترف أمامها، ولا يمكن للإنسان أن يكون حيادياً أمامها، ورد عندنا في حديث بعض أئمة أهل البيت «علیهم السلام»، وهو يحدث عن حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)» الإمام موسى الكاظم: [ ابلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن أمعة، قالوا: وما الأمعة؟ قال: أن تقول أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس-هذا خطأ-إنما هما نجدان نجد خير ونجد شر فلا يمكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير].

ولكننا استهلكنا كلمات الاسترخاء لأننا شعب يحب الاسترخاء، شعب يعيش ليله مشدوداً إلى غناء طويل طويل لا شغل له إلا أن يطلق التنهيدات ليعيش الجميع الآهات لينادوا الليل يا ليل المغنون ينادون ياليل والمصفقون يصفقون لليل لكن قولوا لي هل في كل هذا الذي نلهو به هل فيه كلمة فجر ويا نور ويا إشراق؟ إن بعض شعرائنا حاولوا أن يخدرونا ونحن نسمع شوقي يقول: «إذا الفتنة اضطرمت في البلاد ورمت النجاة فكن إمعة».

لماذا يقحم علينا «رمت النجاة» هل يقول لنا روموا النجاة؟ إنها كلمات تخدرنا بها وما زال الخدر يفترس كل عقولنا.

هذه كلمة في حركة الحرية الفكرية في حياتنا من خلال علي نحن عادة عندما نكون في موقع القوة نفرض على الناس أن لا يعارضوا فكرنا في كل الجوانب وأن لا يعارضوا فكرنا في حركة الواقع بعنوان إن علينا أن نحمي الحق من كل فكر الباطل، ولذلك لا يجوز لنا أن نعطي الباطل أية حرية اخنقوا فكره اختقوا كلمته اخنقوا وجوده حتى يصفو الحق! أليست هذه هي الفكرة التي تطوف في كثير من أوضاعنا؟ ولكن علياً لا يوافق على ذلك، «لا تقاتلوا الخوارج من بعدي فإنه ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه» الذين يخالفونك

ص: 25

اثنان إنسان يعيش مشكلته معك لتكون مشكلته مشكلة وعي،، وهو يعي لا ما أنت فيه ويستغرق في ظلمات فكره ولو من وجهة نظرك إنها ظلمات شخص يحب الحقيقة ولكنه لا يملك الطريق الذي ينير له درب الحقيقة انطلاقاً من عقد نفسية أو من ظروف محيطة به أو من أي شيء هنا وهناك، وهناك شخص يفهم الحق جيداً ويفهم الباطل جيداً واختار أن يركز الباطل ليصادم الحق في الواقع، شخص فرغ من المسألة، ليست قصته هي المسألة الفكرية فيما هو الحق والباطل وليس موقفه هو المسألة الفكرية ولكن موقفه هو الواقع الذي يريد أن يضغط عليه ويضغط ويضغط حتى يسقط أمام الباطل عندما تدخل في صراع مع الذي طلب الباطل فأدركه عليك إذا احتدم الصراع أن لا يكون القتال شيئاً سلبياً عندك لأن القضية هي قضية حركة الواقع وعندما يريد إنسان أن يضغط على الواقع بقسوة أن يلغي الإنسان الآخر أن يلغي القضية الكبرى إن المسألة تفرض عليك أن تواجه ذلك، لكن من طلب الحق فأخطأ هذا إنسان طيب حتى لو كان فكره خبيثاً فيما هو المضمون للخبث والطيبة، إنسان منفتح على الحق ولكنه لم يستطع أن يصل إليه في هذا المجال لا تقاتله، ولم يقاتل علي الخوارج لأنهم كفروه ولم يقاتل علي الخوارج لأنهم دعوه إلى أن يتوب ويسلم من جديد لم يقاتل علي الخوارج لأنهم عارضوه وهو الخليفة، أعطاهم كل الحرية في أن يقولوا ما يشاؤون ودخل معهم في حوار مرير بشكل مباشر وبشكل غير مباشر حتى إذا عاثوا في الأرض فساداً قتلوا خباب وبقروا بطن زوجته وقتلوا من قتلوا قال سلموني القتلة ولم يبادرهم بحرب ولم يسلموه القتلة، عند ذلك قال لأصحابه لا تبدؤوهم بقتال وعندما بدؤوه بالقتال قاتل لا خنقاً للحرية ولكن حفاظاً على النظام العام للإنسان.

خنق الفكر يحوله شهيداً

هذه الفكرة تعطينا منهج الإسلام، وعلي من خير من يمثل الإسلام في مسألة الحرية، إن مسألة أن لا نعطي الآخر حريته في الفكر المضاد ليست مسألة مطلقة بعض الناس يتصورون أنك كلما اضطهدت الفكر أكثر خنقته أكثر ولكن التجربة أنك كلما اضطهدت الفكر أكثر أعطيته حياة أكثر إن الفكر يكون شيئاً عادياً عندما يتحرك بشكل طبيعي ولكنك عندما تضطهده فإنه يصبح الفكر الشهيد والناس يحبون الشهداء. لذلك الذين يخنقون الحرية يشجعون معارضيهم أكانت المعارضة فكرية أو غير فكرية لا تقاتلوا الخوارج من بعدي لأنهم

ص: 26

خوارج فلم أقاتلهم لأنهم خرجوا علي، ولكني قاتلتهم لأنهم عاثوا في الأرض فساداً». حاوروهم افتحوا عقولهم على الحق وليكن الحوار هو الأساس، هذا هو منهج الحرية.

الحق لا يعرف بالرجال

وفي الختام كلمة أخيرة: نحن الذين نتعبد للرجال ونعيش عبادة الشخصية في شرقنا كله وفي غير شرقنا الشخص هو الذي يحدد لنا خط السير، فكره هو الحق، فإذا غير شرقنا، الشخص هو الذي يحدد لنا خط السير، فكره هو الحق فإذا غير فكره صار فكر الآخر هو الحق، ليس الشخص فحسب حتى الحركات، حتى الأحزاب، نحن أناس معنيون بأن نكون الصنميين الذين نتعبد للاطار بعيداً عن الصورة، المهم الاطار أما الصورة مهما تبدلت فنحن نتعبد للاطار، وجاء إنسان إلى علي يقول له: «أتراني أظن أن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة وأننا على حق؟ قال: يا هذا أو يا حارث إنك نظرت تحتك ولم تنظر إلى فوقك فحرت، إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه أعرف الحق تعرف أهله وأعرف الباطل تعرف أهله». المنهج، المضمون، الفكرة، القضية لا تنظر إلى أحد، الحق لا يعرف بالرجال، إلا الرجال الذين يجسدون الحق من خلال عصمتهم هؤلاء هم الحق مجسداً، ولكن حتى هؤلاء الذين هم الحق مجسداً لا يستعلون كما نستعلي عندما يكون لنا قوة، من أعظم من رسول الله في إيماننا؟ إنه كما يقول ابن سعد في طبقاته، وقف في آخر حياته ليقدم حسابه للناس وحسابه ليس مع الناس لأن الله هو الذي اصطفاه وأرسله واختاره رحمة للعالمين ولم ينطلق الناس لينتخبوه ومع ذلك كان يريد أن يقول لكل القادة أن يحترموا الناس فيقدموا كل حساباتهم التي تتصل بمسؤولياتهم، قال لهم: إنكم لا تمسكون علي بشيء أو إنكم لا تعلقون علي بشيء إني ما أحللت إلا ما أحل القرآن وما حرمت إلا ما حرم القرآن، القرآن لا أنا، القرآن اقرؤوه جيداً واقرؤوا حركتي جيداً لتحكموا على حركتي من خلال القرآن، وهو القرآن الناطق، لكن الحق أن تعرفه.

مشكلتنا تعب التفکیر

مشكلتنا هي في كل واقعنا الفكري والسياسي والديني والاجتماعي أننا أناس يتعبنا التفكير ويتعبنا البحث ويتعبنا الحوار ولذلك نقول للآخرين فكروا لنا، ولا نقول لنفكر وفكروا

ص: 27

معناء تلك المسألة، لم نعرف الحق ولم نعرف الباطل ولذلك فنحن نرجم الحق بالحجارة تارة ونصفق للباطل أخرى.

هذه هي المسألة التي تفرض نفسها علينا في كل الواقع.

هذا بعض بعض بعض ما يوحي إلينا به علي وعلي يستوحي رسول الله ويستوحي القرآن وينفتح على الله من خلال وحي القرآن، ومن خلال رسول الله، لذلك، لننطلق من خلال مسؤولية نركزها في حياتنا، مسؤولياتنا في إغناء إنسانيتنا بالفكر، ومسؤوليتنا في إغناء حياتنا بالحركة الواعية، ومسؤولياتنا غدا أمام الله عندما ينطلق النداء (وقفوهم إنهم مسؤولون) ما هو الجواب؟ (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).

ص: 28

القرآن في نهج البلاغة

سماحة الشيخ أحمد كفتارو

المفتي العام للجمهورية العربية السورية

رئيس مجلس الافتاء الأعلى

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد رسول الله، وعلى آل بيته الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

ساعات الزمن شاهدة على مسيرة حياة الإنسان راصدة لأفعاله وأقواله وأكثرها قدراً وأعلاها شأناً ما كان في ذكر الله وذكر رسوله وذكر أوليائه، والعمل الصالح والعلم النافع. أجل، إن من أسعد اللقاءات التي تجمع المؤمنين ما يتجهون فيها لصنع وحدتهم والتداول في دينهم وإحياء تراثهم ودراسة عوامل عزتهم، وذكر مآثر أبطالهم، وعرض النماذج العظيمة من تاريخهم، يحيون بها قلوب أبنائهم، ويدفعون تطلعاتهم إلى التأسي بها والعمل بمقتضاها.

ص: 29

وإذا كان لي أن أتناول في هذه الكلمات مآثر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه من خلال نهج البلاغة، فإن ذلك واحد من الشواهد التي تزدحم على باب المجد الذي صنعه رسول الإسلام ومؤسس البناء الديني الأخلاقي والحضاري الإنساني، ليجعل الحياة التي يحياها الإنسان منصرفة إلى جادتها مستمرة على أداء دورها الذي ارتضاه لها خالق الإنسان، رب العزة رب العالمين جل شأنه، كيف لا وعظمة الإمام وبطولاته وبلاغته وعدالته وعلمه مستمدة من بحار علوم القرآن الكريم وسنة رسول رب العالمين، وقد قال رب العزة عن كتابه (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) سورة البقرة 1، وقال سبحانه: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) سورة الاسراء 9.

أيها الإخوة الأفاضل أيها المحبون لرسول الله وآل بيته والدارسون لنهج الإمام علي بن أبي طالب، لإحياء ذكره ونشر علومه ومعارفه إنه ليسعدني أن أتحدث إليكم عن القرآن الكريم، نور الهداية المشع في كلمات نهج البلاغة والمهيمن على فكر أمير المؤمنين والمتحرك في كل ملاحظة وخاطرة وعبرة وحكمة وموعظة ودعوة، ودقة قلب وبسمة حب، وضربة سيف وصيحة حق. لقد سطرت كلمات الإمام بمداد من نور لأنها مستمدة من نور النور (الله نور السموات والأرض) سورة النور 35، وهي باقية في القلوب المؤمنة والعقول الواعية والصدور المتدفقة بروح الإسلام وحقائق القرآن متحدية تبدلات القرون وعواصف الأيام.

عن علي رضي الله عنه قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا خير في العيش إلا لمستمع واع، أو عالم ناطق ... أيها الناس إنكم في زمان هدنة، وإن البر بكم سريع، وقد رأيتم الليل والنهار يُبليان كل جديد ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاد ليعد المضمار. فقال المقداد: يا نبي الله ما الهدنة؟ قال: بلاء وانقطاع، فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، وما حل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه قاده إلى النار، وهو الدليل إلى خير سبيل، وهو الفصل ليس بالهزل له ظهر وبطن، فظاهره حكم، وباطنه علم عميق، بحره لا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه علماؤه، وهو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، وهو الحق الذي لم تلبث الجن إذ سمعته أن قالوا: (إنا سمعنا قرآنا عجباً، يهدي إلى الرشد فآمنا به) من قال به صدق ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن عمل به هدي إلى صراط مستقيم، فيه

ص: 30

مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودال على الحجة» العسكري من كنز العمال الجزء الثاني ص 288، رقم الحديث 4027.

الحض على تعلم القرآن الكريم:

ولشدة ما كان الإهتمام بالقرآن الكريم حفظاً وتعلماً وتعليماً، شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، وتربيته للصحابة الكرام، وقد وصف الله رسوله بقوله: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) سورة الجمعة 2.

ولم يقتصر تعليم القرآن على الرجال بل شمل النساء والأولاد وأقيمت مساجد صغيرة في أحياء المدينة لتعليم الصغار كتاب الله، وبذلك تم تحرير المجتمع الإسلامي الأول من أمية القراءة والكتابة، وأمية العقيدة والثقافة والعلوم والأخلاق، لما يشتمله القرآن الكريم على علوم الحياة الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول الإمام علي كرم الله وجهه: «تعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص، وإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه، والحسرة له ألزم وهو عند الله ألوَم» النهج ص 164،

فضل القرآن:

وإذا كانت المنفعة موصوفة بأنها من نتاج تفاعل الفكر مع الحياة، والصراع بين الحق والباطل، وحصول التجربة والخبرة عند الإنسان فإن وراء كل فائدة علمية أو أخلاقية أو اجتماعية، تضحيات جسيمة وتجارب أليمة وجهود مبذولة وأوقات مهدورة فكيف يمكن للإنسان أن يحصل على تجارب البشرية عبرة وعلماً وبياناً، ويمضي في مسيرة الحياة موفقاً مهتدياً ما لم يكتسب خبرات السابقين وإرشادات السالكين وهدايات المهتدين المهديين.

لقد حوى كتاب الله كل ذلك وأعظم، وفي فضل القرآن الكريم يقول الإمام علي كرم الله وجهه: «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في

ص: 31

هدى أو نقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدرانكم واستعينوا به على لأوانكم» النهج ص 252، كيف لا يكون كذلك وهو كلام رب العالمين.

عظمة القرآن:

وما يجتمع في كتاب الله لا يجتمع في أي كتاب وما بينهما مثل ما بين الله وعباده وكل كتاب يؤخذ منه ويرد عليه إلا كتاب الله، فإنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ففيه نور الحقيقة والمعرفة وعلوم الدنيا والآخرة وأسس النصر والعزة والكرامة، وبيان الخير والشر، وعوامل الوحدة والقوة، ومناهل العرفان والإيمان، وتجارب الأنبياء والأمم، وقواعد العدل منذ القدم، وفيه ميثاق المؤمنين ورابطة الموحدين، وخلاص التائيين. ينتظم فيه عقل وقلب المتطلعين إلى العلم واليقين يبدل أحوال الأمم والمجتمعات يغرس فيها عوامل النماء والبناء والهناء، وفي ذلك يقول الإمام علي كرم الله وجهه: «ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه وشعاعاً لا يظلم ضوءه وفرقاناً لا يخمد بركانه وتبياناً لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه وعزاً لا تهزم أنصاره وحقاً لا تخذل أعوانه، فهو معدن الإيمان وبحبوحته. وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه وأثافي الإسلام وبنيانه، وأودية الحق ومحيطاته». النهج ص 315.

شمولية القرآن:

هكذا القرآن كلام رب العالمين، كلما ازددنا له درساً ازددنا منه علماً وفهماً، وزدنا به عزاً ومجداً، وعلمنا منه ما لم نكن نعلم في كل آية منه صورة تتلوها في البعد صورة ترافقها في العمق صورة، وتتولد في الآفاق صورة، وتشتمل مع هذا وذاك على أبعاد وأعماق متناسقة في المعالم الخاصة والعامة متوازنة في البيان والمعنى، كلما زاد جهد الدارس لها زاد فيها منهمه له شمولية واتساع وعمق واتساق يزداد عند العلماء بهاء ويعظم عند المختصين مضاء، وفي ذلك يقول الإمام علي كرم الله وجهه: «فالقرآن آمر زاجر وصامت ناطق، حجة الله على خلقه، آخذ عليه ميثاقهم، وارتهن عليهم أنفسهم أتم نوره وأكمل به نوره وقبض نبيه صلى الله

ص: 32

عليه وسلم وآلهو قد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به فعظموا منه سبحانه ما عظم من نفسه، فإنه لم يخف عنكم شيئاً من دينه ولم يترك شيئاً رضيه أو كرهه إلا وجعل له علماً بادياً وآية محكمة، تزجر عنه أو تدعو إليه، فرضاه فيما فيه واحد وسخطه فيما بقي واحد واعلموا أنه لن يرضى عنكم بشيء قد سخطه على من كان قبلكم ولن يسخط عليكم بشيء رضيه ممن كان قبلكم، وإنما تسترون في أمر بيّن، وتتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم، قد كفاكم مؤونة دنياكم، وحثكم على الشكر وافترض على ألسنتكم دوام الذكر» النهج ص 265.

الأحكام الشرعية في القرآن الكريم:

وإذا كان العمق والشمول ينال كل الظواهر والعوالم والخلائق والعقائد والحوادث والثوابت والمتغيرات، بياناً قرآنياً وهداية إلهية، وعلوماً وآيات احتواها القرآن الكريم، فهو لم يدع الصراع الإنساني والمتغير دون نظم وتهديف وتشريع وهداية.

إن من أجلّ غايات كلام الله في القرآن الكريم صلاح المجتمع وسعادة الإنسان. وتحقيق أمنه وسلامته، لا تفريق ولا تفضيل [الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله] رواه أبو يعلى البزار عن أنس والطبراني عن ابن مسعود كنز العمال الجزء 6 ص 360، وكذلك [فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا الأبيض على أسود إلا بالتقوى]. قال الله تعالى: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات 13. وقد اشتمل كتاب الله على النواظم والقوانين والتشريعات التي تكفل حقوق الناس وتضبط حركة الصراع القائم فيما بينهم أفراداً وجماعات وأمماً وممالك ودولاً، وجعل لكل إنسان حقوقاً وأوجب عليه واجبات وضبط حركة التبادل بين أداء الحقوق والواجبات، سواء أكان ذلك من خلال العلاقات المادية أو المعنوية الإجتماعية أو الإنسانية، وجعل الأنبياء نماذج وأمثلة رائدة يحتذي الناس حذوها، ويهتدون بهديها وقدم روائز للسلوك الإنساني وبين نتائج السلوك الإنساني لمن مضى من البشر، ليقدم إلى إنسان اليوم والغد الموعظة والفائدة، وفي ذلك يقول الإمام علي كرم الله وجهه: «كتاب ربكم فيكم، مبيناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه ورخصه وعزائمه، وخاصه وعامه وعبره وأمثاله ومرسله ومحدوده ومحكمه ومتشابهه، مفسراً مجمله ومبيناً غوامضه بين مأخوذ ميثاق وموسع على العباد في جهله وبين مثبت في الكتاب فرضه ومعلوم

ص: 33

في السنة نسخه وواجب في السنة أخذه ومرخص في الكتاب تركه، وبين واجب بوقته وزائل في مستقبله ومباين بين محارمه، من كبير أو عد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه، وبين مقبول في أدناه، موسع في أقصاه» النهج ص 44.

وعن القرآن بصفته موعظة إلهية خالدة ودائمة قال الإمام عليه السلام: «إن الله سبحانه وتعالى لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنه حبل الله المتين، وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره مع أنه قد ذهب المتذكرون وبقي الناسون أو المتناسون، فإذا رأيتم خيراً فأعينوا عليه، وإذا رأيتم شراً فاذهبوا عنه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: يا ابن آدم اعمل الخير ودع الشر، فإذا أنت جواد قاصد» نهج البلاغة ص 254.

القرآن الكريم كتاب العلم والهداية والايمان:

إن القرآن الكريم كتاب علم فرض الله فيه على المؤمنين السير في البلاد ودراسة مظاهر الحياة ونشأتها والقوانين التي تنظم جميع المخلوقات في البر والبحر والجو، وفي أعماق الكون والإنسان بكل خلاياه وأعضاءه.

والقرآن كتاب هداية: قدمها الله عز وجل للناس من أجل إسعادهم ورفع مستويات حياتهم، ودرء الأخطار عنهم وكسب تجارب الأفراد والأمم السابقين، وأنار لهم دروب المستقبل ببعديه: الدنيوي والأخروي والقرآن كتاب إيمان: يعلم الإنسان معرفة الحقيقة والالتزام بها والإعتراف بأهميتها في تحرير الإنسان من الجهالة والجاهلية ويدعوه إلى معرفة الخالق جل جلاله، ذلك أن الإيمان بالله يستلزم بالضرورة الإيمان بشريعته وقرآنه ورسله وملائكته، والقدر خيره وشره، واليوم الآخر، والإيمان عندئذ سبيل العدالة والصلاح، والإستقامة وصنع الحياة الفاضلة، إقامة الروابط الإنسانية السامية، ليكون الناس جميعاً أمة واحدة.

والمسلمون اليوم وأعداء الإسلام متفقون على شيء واحد، يعلمونه حق العلم، ألا وهو دور القرآن في الحياة.

أعداء الإسلام يحاربون القرآن يشوهون القرآن، يعملون على انتزاع القرآن من قلوب المسلمين، فقد صرح بذلك كلادستون الوزير البريطاني أمام مجلس العموم بعد الحرب العالمية

ص: 34

الأولى قائلاً: «لا نستطيع السيطرة على المسلمين والاستيلاء على بلادهم ما دام هذا الكتاب في أيديهم». مشيراً إلى القرآن الكريم بيده. ووزير المستعمرات الفرنسي قال أمام البرلمان الفرنسي، في باريس عام 1932 بمناسبة مرور مائة عام على احتلال فرنسا للجزائر: «لم يقف

في طريقة فرنسة الجزائر غير هذا القرآن».

لقد صدق الوزيران الإنكليزي والفرنسي فقد عبرا عن الحقيقة الراسخة، والأعداء اليوم يحاولون محاربة القرآن الكريم بطرائق شتى طامعين في إطفاء نور الله، (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) سورة التوبة 32، فمن محاولاتهم: نقل الحرب المعلنة على القرآن الكريم من أيد وأقلام وهيئات غربية أو صهيونية أو علمانية، إلى أيد تحمل الهوية الإسلامية وتتحدر من أسر إسلامية وتتكلم باللغة القرآنية وتتظاهر بالمظاهر الإيمانية، تتمركز محاولاتهم حول تشويه القرآن بتشويه معانيه وغاياته، أو بتحويله إلى كتاب مزين محمول على الرفوف، يتلى على موائد الموتى وفي مقابر المسلمين، يطلقون عليه كلمة مبارك.

ولم تكن هذه المحاولات حديثة طارئة، بل هي قديمة قدم الإسلام، ولم تكن كتابات سلمان رشدي في هذا الأمر غير تجديد لتلك المحاولات. إن غايات أعداء الإسلام ترمي إلى نزع القرآن الكريم بحقائقه العلمية وهداياته الوجدانية والأخلاقية، وأهدافه التوحيدية التقدمية، للحيلولة دون نهوض هذه الأمة، ولضمان استمرارية نزيف الثروة والقوة والأدمغة من أمتنا وبلادنا إلى بنوكهم ومصانعهم ومختبراتهم، وإذا ما دمنا غير عاملين بمنهج كتاب الله وسنة نبيه فنحن خدام لهم شئنا أم أبينا.

أما المسلمون اليوم ... وهم يعلمون حق العلم أن لا عزة لهم بغير كتاب الله وسنة نبيه، فما هي الأسباب التي جعلتهم حتى الآن وقد فقدوا تاج عزته وميثاق وحدتهم، غارقين في الفرقة، متشردين متعصبين. قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: «إلى الله أشكو من معشر يعيشون جُهالاً ويموتون ضُلالاً، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حرف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر» نهج 60.

إن المحنة التي يعيشها المسلمون موجود فرجُها في كتاب الله جل جلاله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وآله. قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله

ص: 35

يقول: أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن أمتك مختلفة بعدك، قال: فقلت: من أين المخرج يا جبريل؟ قال: كتاب الله تعالى به يقصم الله كل جبار، ومن اعتصم به نجا ومن تركه هلك ومن اعتصم به نجا ومن تركه هلك قول فصل وليس بالهزل، لا تختلقه الألسن ولا تفنى أعاجيبه فيه نبأ كان قبلكم، وفصل ما بينكم وخبر ما هو كائن بعدكم» مسند الإمام أحمد مجلد 1 ص 91.

إن اختلاف العامة من المسلمين في أمور دينهم وقرآنهم لا يعني الطامة الكبرى، والخسارة الحقيقية والهزيمة المنكرة. لكن اختلاف علماء الأمة وأصحاب الرأي والمطاعين فيها هو المأساة الحقيقية، والمسؤولية في الحالين واقعة لا مناص على عواتق العلماء والقادة، الذين إذا اتحدوا اتحدت الأمة، وإذا اختلفوا اختلفت. قال الله تعالى في كتابه المجيد (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفاحفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) سورة آل عمران 103. وقال رسول الله في حجة الوداع: [تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً أمراً بيِّناً كتاب الله وسنة نبيه] انظر السيرة النبوية لابن هشام مجلد 4 ص 250.

أيها السادة العلماء والباحثون الأفاضل يا من لو اتحدتم وتعاضدتم وتمسكتم بقرآن ربكم وسنة نبيكم لكنتم المثل الفاضل والأسوة التي يحتذيها الناس وإني أرى أن تنبثق عن هذا المهرجان العظيم هيئة إسلامية عليا تتفرع عنها لجان متخصصة للعمل على دراسة الإسلام وأحوال المسلمين من بينها لجنة القرآن وعلومه لا كما جرت العادة، بل المطلوب ترجمة هدايات كتاب الله في برامج عمل جاد.

أيها السادة العلماء والمهتمون برفع الأذى والظلم والجهل والتخلف عن الأمة الإسلامية، إن درب المستقبل مفتوح على مصراعيه مهما بلغت قوى البغي والعدوان (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وسلام الله على صاحب هذه المناسبة رضوان الله عليه وآل بيته.

ص: 36

ص: 37

ضوء من الضوء

الأستاذ جوزيف الهاشم

وزير لبناني سابق

عرينةَ الشَّام، غَنِّي يومَ طلَّتِه *** وسبَّحي الله في ذكرى ولادته.

يُطلُّ «كالضوء من ضوء» (1) وينشره *** كالبدر يعكس شمساً وهجُ جبهته

هو الإمام، «حسام الدين»، فارسُه، *** ما زغرد السيف إلا بين قبضته

يدُ النبوة شدَّت عزم ساعده، *** وأطلقتْهُ إماماً من طفولته،

فكان ظلَّ رسول الله، «كاتِبه»، *** وأوَّل القوم إيماناً بدعوته

سيدُ البيان، «وباب العلم» (2) مشترعاً، *** والفقه مذ كان، نهجُ من بلاغته

* * *

هو الفتى، أم هو المفتيُّ (3)، «قاصعةٌ» (4) *** وقْفاتُ منبرهِ في «شِقشقيّته»(5)

محجَّةُ الشرع، «أقضاكم» (6) وإن سلفتْ *** «خلافةُ هلكت» (7)، من دون حكمته

يعُبُّ من منهل القرآن يحفظه *** «والنهج» (8) كالبحر، فاغرفْ من غزارته

ص: 38


1- قول للإمام علي: «أنا من الرسول كالضوء من الضوء».
2- إشارة إلى قول الرسول: «أنا مدينة العلم وعلي بابها».
3- «لايفتينَّ أحد في المدينة وعليّ حاضر»-عمر بن الخطاب.
4- خطبة للإمام، تضمَّنت تكوين الخليقة وتحذير الناس من إبليس، وهي تعني القاطعة
5- إحدى خطب الإمام جسدت لواعج نفسه، تعني: «هادرة هدرت ثم قرَّت».
6- قول للرسول: «أقضاكم علي».
7- قول لعمر بن الخطاب: «لولا علي لهلك عمر».
8- أبيات في وصف نهج البلاغة حتى «كانه دستور الوجود».

يغوص في موجه القرصان، إن لمستْ *** یداه دُرّأ، هوى في قعر لجّته

أعماقه قُلَلٌ، أغواره قممُ *** إلى مدى الله، توقٌ نحو رحمته

أنَّى التفتَّ نهىً، أنَّى اتجهتَ هدى *** وحيث أبحرتَ ضوء من منارته

هنا العدالةُ، نورُ الأرض مذهبُها، *** ودولةُ الحقِّ آيّ في شريعته

هنا الفضيلةُ، عنوانُ الحياة هنا *** عنوان مجتمع، عنوانُ قادته

هنا السياسة مصباح السّماء تُقئ *** يا ليتهم فهموا معنی سیاسته!

كأنَّ دونك دستورَ الوجود، فما *** زلَّت شرائعُه في دنْيویّته

هو الفتى، نبويُّ العَبْق، محتدهُ *** «كالملح في الأرض» (1)، فاذكرْ بعض قصّته

أيَّام «بدرٍ»، «حُنينٍ»، «خندقٍ»، «أحُدٍ» *** والبيدُ والصَّيدُ تحكي عن بطولته

ويوم «خيبرَ» في حصن اليهود دوى *** لِذي الفَقار صَليلٌ قبل صولته

تزعزع الحصن من هول الدويِّ، وما *** جادت بثانية نجلاء ضربته

على «يديه يتم الفتح» (2)، كم خفقت *** «سيوف ربِّك» (3) ظلاً فوق جنته!

يذود عن حُرمات الحوض، يحرسُها، *** والحمد والحلم بعضٌ من طهارته

يشدُّ درعَ نبي الله مبتهجاً، *** وطيفُ جبريلَ يشوي في عمامته

لسانُه حجةُ للمشركين إِذا *** ضاقوا بحجّته هانوا بساحته

ما كفَّ إلا مع التكبير ساعِدُه *** وللصلاة انحنت هيفاء قامته

* * *

هذا الإمامُ، فتى الإسلام، ملحمةً *** أيامه الغرُّ، ماذا عن خلافته؟

«يوم الغدير»، وقل من قبلُ، كم طربتْ *** أذنُ النبي، وزفّتْ همْسَ عزته؟

«أنذر عشيرتك القُربى» (4)، فأنذرها *** فأطرقَ القومُ إلا زوجُ ابنته،

«وزيره في «حديث الدّار»، وارثُه *** وصيِّه، ووليِّ بعد غربته»

«کمثل» هارون من موسى بمنزلةٍ *** إلا النَّبوة تبقى رهنَ ساعته» (5)

* * *

هلَّ الغدير بأسراب الحجيج، وما *** تباطأ الرَّكبُ، يشدو في مسيرته

في صوته نغماتُ الحزن يخنقها *** رجْعُ التشهد، إذعاناً لسنَّته

ص: 39


1- من وصف للجاحظ في بني هاشم.
2- قال النبي يوم خيبر: «لاعطين الراية رجلًا يفتح الله على يديه».
3- من أقوال النبي «الجنة تحت ظلال السيوف».
4- «أنذر عشيرتك الأقربين». سورة الشعراء، «يوم الدار» نزل قوله تعالى: «وأنذر عشيرتك الأقربين»، وقد جمع النبي بني هاشم وأنذرهم، ثم قال في الإمام علي: «هذا أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا».
5- إشارة إلى قول الرسول للإمام علي وقد خلّفه في غزوة تبوك: «اما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي».

دنا الوداع كما الروح الأمين دنا، *** ينزِّل الآيَ مغموراً بفرحته

هو العليُّ، وصيُّ الأرث، فابتهجوا *** ووزَّعوا البُشْر، واحكوا عن ولايته:

«ولي من كنتُ مولاه» (1)، وسيدُه *** يا أيها القومُ سيروا تحت رايته

«يحبه من أحب الله (2)، يُبغضه *** من أبغض الله»، يقضي في ضلالته

اليومَ أكملتُ، يا إسلام (3)، دينَكم، *** فسبِّحوا الله في إتمام نعمته

علامَ يختلفُ الأنصار؟ كيف غدتْ؟ *** قرائنُ الناس أحجى من نبوّته؟

ما بالُ حزب قريشٍ قام منتفضاً، *** يوم «السقيفة» في إثبات حجّته؟

إن يجهلِ الناس، والتنزيلُ مرتسمٌ، *** «قم يا رسولُ وبلِّغ وحْي آيته» (4)

* * *

ما ثار في سيِّد الزهّاد ثائره *** «سلامة الدين أشهى» (5) من إمارته

أعطاه كلّ نفيس، كل تضحية، *** وروحُهُ لازمت أهوال راحته

حباهُ فلذته والفِلذتين وما *** عزت عطاءاتُه من أجل أمَّته

وسار في دربه «السبطان» (6) ما اختلفت *** معالم الدرب حتى في شهادته

كأنها «درب عيسى» (7)، طبتَ من مثلٍ *** والجود بالروح قسطُ من رسالته

من أجل دينه لا دنياه، كان فدئ *** والدين أسمى معاني هاشميَّته

* * *

ليس الإمام فتى الإسلام وحدَهمُ، *** وليس وقفاً على أبناء شيعته،

من كان بالشَّيم الغراء معتصماً، *** بالبرِّ، بالرفق بالتقوى بخلَّته

بالنبل بالحقِّ، بالأخلاق مكرمةً *** وبالشموخِ، فهذا إبنُ بيعته

* * *

عُدْ يا إمام، فللتاريخ دورتُه، *** والأحرف السود وشّت بيضَ صفحته

ذا حصنُ خيبر من بعد الهوان علا، *** يغتاب زندك مُعتدّاً بقوته

أرضُ القداسات مادَتْ من مفاسده، *** ونزعة الشرِّ ثارت في شراسته

يحصّن الظلم والطغيان، مفترساً *** طهارة الأرض مدفوعاً بنزوته

جيش الصحابة عنه ارتدَّ منكفئاً، *** والانقسامات باتت من طبيعته.

ص: 40


1- قول للرسول: «من كنت مولاه فعلي مولاه».
2- من قول للرسول: «من أحب علياً فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله».
3- أعلن النبي ولاية علي، فنزلت عليه الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي). سورة المائدة.
4- بعد «حجة الوداع»، نزل قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) فأخذ النبي بيد عليّ ورفعها، ثم، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه». ثم نزلت الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم). وجاء عن الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس للسيوطي: إن قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) إنما علي معني بها.
5- وضع علي يده في يد أبي بكر مبايعاً، منعاً للفتنة والشقاق بين المسلمين وقال: «سلام الدين أحب إلينا».
6- الحسن والحسين حفيدا النبي.
7- من قول الرسول للإمام علي: «إن فيك مثلًا من عيسى أبغضته اليهود وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به».

ما قضَّ إلا زئيرُ الشام مضجعَهُ *** فانقضَّ يزرع رُعباً في عزيمته

على اسم «حيدرةٍ» (1) خاض الوغى أسدٌ، *** وبيرقُ النصر معقودٌ بلُبدته

في التوأمين صهيلٌ، والجنوب صدىَّ *** لصرخة الصمت في دنيا عروبته

دمُ المقاومة المبرورُ سيّجه *** وللشهادة سورُ حول تربته

عُد، أين سيفك؟ إن الساح في ظمأ *** لرقصة النار تُذري عند ومضته

هُزَّ المهنَّد، تندک الحصونُ، أما *** تبرَّم سيف مغلولاً بهدنته؟

ما زال يذكر ذاك الحصنُ صولَته *** بشِّرْ جهنَّم، واصقلْ حدَّ شفرته

* * *

لبنانُ يا بلداً عزَّت مآثره *** هذي المآثر، كانت سرَّ محنته

في ظلّه ترتع الأديان ما اكتملت *** أركانُ منعته إلا بوحدته

دعْ عنك ما لفّق الواشون من كذبٍ، *** ما حدّثوك به عن طائفيَّته

على محياه لاحتْ أحمديَّته *** وفي الجبين ضحىَّ من عيسويَّته

يقوم من رَحم البارود منتفضاً *** فاخفض جناحك واخشعْ تحت أرزته

الحواشي:

(1)-قول للإمام علي: «أنا من الرسول كالضوء من الضوء».

(2)-إشارة إلى قول الرسول: «أنا مدينة العلم وعلي بابها».

(3)-«لايفتينَّ أحد في المدينة وعليّ حاضر»-عمر بن الخطاب.

(4)-خطبة للإمام، تضمَّنت تكوين الخليقة وتحذير الناس من إبليس، وهي تعني القاطعة

(5)-إحدى خطب الإمام جسدت لواعج نفسه، تعني: «هادرة هدرت ثم قرَّت».

(6)-قول للرسول: «أقضاكم علي».

(7)-قول لعمر بن الخطاب: «لولا علي لهلك عمر».

(8)-أبيات في وصف نهج البلاغة حتى «كانه دستور الوجود».

(9)-من وصف للجاحظ في بني هاشم.

(10)-قال النبي يوم خيبر: «لاعطين الراية رجلًا يفتح الله على يديه».

(11)-من أقوال النبي «الجنة تحت ظلال السيوف».

ص: 41


1- «حيدرة»: معناه الأسد، اسم أطلقته على الإمام علي أمُّه فاطمة باسم أبيها أسد بن هاشم.

(12)-«أنذر عشيرتك الأقربين». سورة الشعراء، «يوم الدار» نزل قوله تعالى: «وأنذر عشيرتك الأقربين»، وقد جمع النبي بني هاشم وأنذرهم، ثم قال في الإمام علي: «هذا أخي ووصي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا».

(13)-إشارة إلى قول الرسول للإمام علي وقد خلّفه في غزوة تبوك: «اما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي».

(14)-قول للرسول: «من كنت مولاه فعلي مولاه».

(15)-من قول للرسول: «من أحب علياً فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله».

(16)-أعلن النبي ولاية علي، فنزلت عليه الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي). سورة المائدة.

(17)-بعد «حجة الوداع»، نزل قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) فأخذ النبي بيد عليّ ورفعها، ثم، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه». ثم نزلت الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم). وجاء عن الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس للسيوطي: إن قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) إنما علي معني بها.

(18)-وضع علي يده في يد أبي بكر مبايعاً، منعاً للفتنة والشقاق بين المسلمين وقال: «سلام الدين أحب إلينا».

(19)-الحسن والحسين حفيدا النبي.

(20)-من قول الرسول للإمام علي: «إن فيك مثلًا من عيسى أبغضته اليهود وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به».

(21)-«حيدرة»: معناه الأسد، اسم أطلقته على الإمام علي أمُّه فاطمة باسم أبيها أسد بن هاشم.

ص: 42

أساليب عرض وإثبات الحقائق ونيل الكمال في نهج البلاغة

العلامة الشيخ محمد تقي جعفري

يتبين من الأحاديث المنقولة عن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) سواء أتلك التي جُمعت في (نهج البلاغة) أو غيره من المصادر أنه كان يعمد من خلال أحاديثه وسيرته إلى تعريف الناس بالحقائق وإثباتها لهم ودعوتهم إلى طي المسيرة المؤدية إلى أنواع الكمال.

تضمنت خطب الإمام علي (علیه السلام) العديد من الطرق الإرشادية التي كان ينتهجها ويدعو الناس لاتباعها وسنشير إليها بالتفصيل في هذه الدراسة. ولكن قبل الدخول في الموضوع الرئيسي لا بد من الإشارة إلى مسألة رئيسية ومهمة للغاية وهي: أن الشخصية الإنسانية-الإلهية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) تتميز بدرجة عالية من السمو والكمال بحيث أن جميع أقواله وأفعاله وحتى سكوته دليل على الحقائق أو تعتبر أمواجاً لتلك الحقائق.

ص: 43

وشخصية الإمام علي (علیه السلام) تجسد فحوى هذه القاعدة العامة وهي أن الإنسان عندما يقع ضمن جاذبة الكمال فإنه يصبح انعكاساً لهذا الكمال كما هو الحال في الإنسان الذي يصبح انعكاساً للعقل مع وصول العقل إلى حالة الفعل. لذا فإن سعينا في هذه الدراسة ليس اتباع الأساليب المتداولة في الأفكار البشرية لإثبات عظمة خُطب ذلك الإنسان العظيم، لأنه وكما أشرنا فإن علياً بن أبي طالب (علیه السلام) يعتبر صورة أو انعكاساً عن الكمال وهو يمتلك في ذاته الحجة والدليل على كماله.

بل إن الأساليب الثلاثة المتبعة لتوضيح الحقائق والحث على التخلّق بأخلاق الله من قبل الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم) المعلِّم الوحيد لأمير المؤمنين (علیه السلام) وتطبيقاً لما جاء في الآية المباركة: (ادعُ إلى سبيلِ ربِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسن) كانت مراعاة لقدرة الإدراك والشعور والتعقل التي يمتلكها الناس كما هو الحال في الأساليب التي اتبعها أمير المؤمنين علي (علیه السلام) في خطبه المباركة لإرشاد وتوعية الناس وتعريفهم بحقائق الأمور. إن ولي الله الأعظم هذا (أي أمير المؤمنين علياً بن أبي طالب) كان يرشد الناس عن طريق الأساليب الأربعة الآتية فضلًا عن حركاته وسكناته وهي:

1-بيان وتوضيح المبادىء الأساسية.

2-وصف الحقائق والوقائع.

3-الاستدلال.

4-الارشاد.

قبل الدخول في المباحث المذكورة أعلاه نشير إلى موضوع يتعلق بالارتباط الشخصي لأمير المؤمنين (علیه السلام) مع الحقائق والوقائع.

الارتباط الشخصي لأمير المؤمنين (علیه السلام) مع الحقائق وسلوكه الخاص في الحياة:

تُقسَّم الموضوعات التي تبين الارتباط الشخصي لأمير المؤمنين علي (علیه السلام) مع الحقائق وسلوكه الخاص في الحياة إلى المجاميع الآتية:

1-الموضوعات التي توضح علاقته (علیه السلام) مع الله:

يتفق كافة العلماء والمفكرين وأصحاب الرأي في العلوم الإسلامية في أن أمير المؤمنين (علیه السلام)

ص: 44

كان شخصية مجسِّدة للقرآن الكريم وكانت درجة معرفته للقرآن الكريم وإيمانه بجميع ما يحتويه في أسمى ما يمكن، حيث أن هذه الصفة الفريدة التي تميز بها عليه السلام تبدو جلية في خُطبه. وكان يعتقد اعتقاداً تاماً بما جاء في هذه الآية المباركة فيما يخص قرب الله منه:

(ونحنُ أقربُ إليه من حبلِ الوريد) «سورة ق /16).

وكذلك هذه الآية:

(وهو معكم أينما كنتم) «سورة الحديد / 4».

وكان سلام الله عليه متيقناً شهودياً بها، حيث وردت فقرات عديدة في نهج البلاغة تشير إلى هذا المعنى منها:

أ-عندما سأله ذعلب اليماني: (هل رأيتَ ربك؟)، أجابه الإمام علي (علیه السلام): (أفأعبد ما لا أرى؟!)، فقال وكيف تراه؟ (لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان) نهج البلاغة، خطبة رقم 179.

ب-وكذلك في خطبة أخرى يقول عليه السلام:

(اللهم إنك أنس الآنسين لأوليائك وأحضرهم بالكفاية للمتوكِّلين عليك تشاهدهم في سرائرهم وتطَّلع عليهم في ضمائرهم وتعلم مبلغ بصائرهم فأسرارهم لك مكشوفة وقلوبهم إليك ملهوفة. إنْ أوحشتْهم الغربة آنسهم ذكرك، وإنْ صُبِّت عليهم المصائب لجؤوا إلى الاستجارة بك علماً بأن أزِمَّة الأمور بيدك ومصادرها عن قضائك) نهج البلاغة، خطبة رقم 227.

2-الموضوعات التي تبين علاقة الإمام علي (علیه السلام) مع عالم الوجود:

فيما يخص هذا الجانب فإن الإمام علي (علیه السلام) ينظر إلى جميع الأجزاء والعلاقات الموجودة في عالم الوجود على أنها آيات إلهية، ويوصي بالتعرّف على العالم طبقاً لأوامر القرآن الكريم المؤكَّدة.

وفي بعض ابتهالاته في (نهج البلاغة) يشير إلى حقائق وظواهر عالم الطبيعة حيث يقول:

(اللهم ربَّ السَّقف المرفوع والجوِّ المكفوف ...) نهج البلاغة، خطبة رقم 171).

من المؤكد أن الإنسان عندما يذكِّر ببعض الحقائق أثناء ابتهاله إلى الله فإنه ينبه إلى عظمتها وهي غير قابلة للإدراك بدون إدراك هويتها وخواصها.

في خطبة له (سلام الله عليه) وفي جواب على من يلوم الدنيا ويوبِّخها يقول:

(إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن عزف عنها ودار غنى لمن تزوّد منها ودار

ص: 45

موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحبّاء الله ومصلى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله) نهج البلاغة خطبة 131.

يُلاحظ أن أمير المؤمنين علياً (علیه السلام) ينظر إلى علاقة الإنسان الكامل مع هذه الدنيا على أنها علاقة بين وسيلة الكمال ومن يريد الوصول إلى السمو والكمال. وفي الحقيقة فإن الدنيا تمثل حقيقة ترتبط قيمتها وعظمتها بالنظرة التي يمتلكها الإنسان عن حياته.

كذلك فإن لأمير المؤمنين (علیه السلام) قولًا حول علاقة الإنسان بالدنيا لم يقل أي من الفلاسفة والحكماء مثله عبر التاريخ، حيث يقول عليه السلام:

(الناس فيها رجُلان: رجل باع نفسه فيها فأوبقها ورجل ابتاع نفسه فأعتقها) نهج البلاغة، ج 2 خطبة رقم 133.

إن الإحاطة التامة بدقائق هذا الحديث المبارك تستلزم تخصيص كتاب كامل يشبعه بحثاً واستنباطاً واستلهاماً للدروس والعبر. والإمام علي (علیه السلام) يريد أن يقول لنا في هذا الحديث: إنه لو كانت حياة الإنسان هي المحور فينبغي أن يحرر شخصيته الإنسانية من عوامل الجبر والفناء ويرشدها نحو طريق السمو والكمال حتى يتمكن من طى مسيرته الحياتية المؤدية إلى تحقيق هدفه السامي.

3-الموضوعات التي تبين علاقة أمير المؤمنين علي (علیه السلام) مع الناس:

إن علاقة الإمام علي (علیه السلام) مع الناس يمكن إدراكها وتوضيحها إذا أخذنا بنظر الاعتبار هوية الإنسان وخصائصه. حيث ينظر(علیه السلام) إلى الإنسان كموجود حي متعدد الأبعاد ومتنوع الكفاءات، ولكن هذا الموجود الحي يصبح موجوداً هزيلاً ومنحطاً إن لم تؤدِّ سُبل التربية والتعليم والإرشاد التي يتلقاها إلى استثمار تلك الأبعاد والكفاءات في طريق الأهداف الإنسانية-الإلهية.

كما أنه لو استثمر هذه الطاقات والملكات في طريق دعم وتقوية ذاته الطبيعية لتحول إلى أكثر الموجودات الحية وحشية وضرراً.

هذه هي الهوية الإنسانية بخصائصها المحددة، إلا أن النظرة الإلهية تعتبر الإنسان موجوداً مهماً وأساسياً وضمن الهدف الأسمى لعملية خلق الوجود من قبل الله جل وعلا، وما دام لم يُخرج نفسه بشكل إرادي من مجرى الحياة وهي الينبوع الخالد نحو المحيط الأبدي، فلا

ص: 46

بدّ أن يلقى كل المحبة والاحترام والتكريم. وبهذا الخصوص يقول الإمام علي (علیه السلام):

(أنا أريدكم لله وأنتم تريدوني لأنفسكم) نهج البلاغة، خطبة رقم 136).

أي أن أمير المؤمنين (علیه السلام) يقول للناس: إني أنظر إليكم نظرة أعلى بكثير مما تتصورون، حيث أعتبركم مظهراً من مظاهر المشيئة الإلهية، وأن محبتكم هي محبة الله وأرى أن من يظلمكم كأنه يظلم الله، بينما أنتم تتخذونني وسيلة لعنادكم وإشباع أهوائكم.

نعرف أن خطب نهج البلاغة تمثل مظاهر من الأبعاد المختلفة لإنسان مستقص في مسيرة الكمال. وبالطبع أن محتوى هذه الخطب ليس أوهاماً لا أساس لها وتفاصيل عابرة أو أصداء شاعر وأساطير مخدرة. بل إن فحوى هذه الخطب يتميز بدرجة كبيرة من الواقعية بحيث أن الإنسان الذي يعيش في الطبيعة المتعلقة بخالقها يستطيع أن يجد فيها الطريق القويم المؤدي إلى هدف حياته السامية.

إن كلام وأقوال أمير المؤمنين (علیه السلام) في (نهج البلاغة) تُثبت مضمونها بنفسها عبر أربعة طرق، أي أن حقيقة وواقعية محتوى خطب أمير المؤمنين «علیه السلام» يمكن إثباتها عبر أربعة طرق هي:

1-بيان وتوضيح المبادىء الأساسية.

2-وصف الحقائق والوقائع.

3-الاستدلال.

4-الارشاد.

أولا-بيان الحقائق عن طريق توضيح المبادىء والقوانين الأساسية:

يتبين من إلقاء نظرة دقيقة على خطابات أمير المؤمنين علي (علیه السلام) الواردة في (نهج البلاغة) أن المواضيع المطروحة إما هي بذاتها مبادىء وقوانين أساسية حول العالم والإنسان وعلاقتهما مع بعضهما وعلاقة بني الإنسان فيما بينهم والعلاقة بين الله والعالم والإنسان أو أن الأمور والمسائل المعروضة في تلك الخطب تستند إلى المبادىء، والقوانين الأساسية. كما أن هذا الاستناد يكون أحياناً صريحاً ومتصلاً بالمسألة المطروحة، وأحياناً أخرى يكون عرض المسألة بشكل بحيث توضح تلك المبادىء والقوانين بصورة شفافة ولطيفة. لتوضيح هذا الأمر نورد نماذج من خطب

ص: 47

أمير المؤمنين (علیه السلام):

1-قضية الانحراف عن الحق والعناد فيه:

جاء في إحدى خطب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) ما ينص على ذلك:

(زرعوا الفجور وسقوه الغرور وحصدوا الثبور) نهج البلاغة، ج 1، الخطبة الثانية.

2-قانون الحركة في الأمور الاجتماعية:

(أفلح من نهض بجناح أو استسلم فأراح) نهج البلاغة، ج 1، الخطبة الخامسة».

3-قانون الحق والباطل:

(ألا وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل) نهج البلاغة، ج 1، خطبة رقم 28.

4-نيل الحق بالجد والسعي:

(لا يدرك الحق إلا بالجد) نهج البلاغة، ج 1، خطبة رقم 29.

5-جزاء عدم الانصياع للقيادة العالمة الخيِّرة:

(فإنَّ معصية الناصح الشفيق العالم المجرِّب تورث الحسرة وتعقب الندامة) «نهج البلاغة، ج 1، خطبة رقم 35).

6-التناقض بين الانتهازية وتقوى الله:

(قد يرى الحوِّل القلَّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه) نهج البلاغة، ج1، خطبة رقم 41.

7-الأهواء أساس الفتن:

(إنما بدء الفتن أهواء تُتَّبع) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 50.

8-ميزان الحق والباطل:

(فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخفَ على المرتادين. ولو أنَّ الحقَّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان ...) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 50.

9-العلاقة بين الغاية والزمن:

(وأنَّ غايةً تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة الجديرة بقصر المدَّة) نهج البلاغة، ج1، خطبة رقم 64.

ص: 48

10-إصلاح الآخرين:

(ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي) نهج البلاغة، ج 1، خطبة رقم 69.

11-العلاقة بين القائد والرعية:

(والله لأسلمنَّ ماسلمتْ أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصَّة ...) نهج البلاغة، ج 1، خطبة رقم 74.

12-الأمل يجمد العقل ويُنسي الذِّكر ويخدع الأمل:

(واعلموا أن الأمل يُسهي العقل ويُنسي الذِّكر فأكذبوا الأمل فإنه غرور وصاحبه مغرور) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 86.

13-أحب عباد الله:

(إن من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 87.

14-سنَّة الله في هلاك الجبارين ونجدة الأمم:

(فإن الله لم يقصم جبّاري دهر قط إلا بعد تمهيل ورخاء ولم يجبُر عظم أحد من الأمم إلا بعد أزل وبلاء) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 88.

15-ضرورة محاسبة النفس ووزنها:

(عباد الله، زِنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا وحاسبوها من قبل أن تُحاسبوا) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 90.

16-إقبال الفتن وإدبارها:

(إنَّ الفتن إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت نبَّهت يُنكرن مقبلاتٍ ويُعرفن مدبراتٍ) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 93.

17-العالِم الحقيقي:

(العالم من عرف قدره وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 103.

18-لا يُطلب النصر بالظلم:

(أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولَّيت عليه! كلا والله لا أطور به ماسمر سمير

ص: 49

وما أمَّ نجم في السماء نجماً) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 126.

19-الحذر من القصور العامرة والمزخرفة المليئة بالظلم:

(ويل لسكككم العامرة والدور المزخرفة التي لها أجنحة كأجنحة النسور وخراطيم كخراطيم الفيلة من أولئك الذين لا يُندب قتيلهم ولا يُفقد غائبهم) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 128.

20-المجتمع المثالي هو الذي يُعين قائده في إصلاح الناس واجتثاث الظلم:

(أيها الناس، أعينوني على أنفسكم وأيم الله لأنصفنَّ المظلوم من ظالمه ولأقودنَّ الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحقِّ وإن كان كارهاً) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 136.

تمثل هذه المبادىء والقوانين نماذج من تلك الحقائق الأساسية التي وردت بكثرة في خطب الإمام علي (علیه السلام) في نهج البلاغة. هذا ويبلغ عدد المبادىء والقوانين العامة الواردة في «نهج البلاغة حوالي 800 مبدأ وقانون عام ومن ضمنها 480 حديثاً مقتضباً وغزير المعنى سُميت ب (الكلمات القصار) وهي توضح بشكل عام ما يتعلق بالإنسان والعالم والله سبحانه وتعالى والعلاقة التي تربط فيما بينهم.

ثانيا: وصف الحقائق وأسها في نهج البلاغة:

تشاهد في خطب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) أربعة أنواع من الوصف هي:

1-الوصف المنطقي.

2-الوصف عن طريق المعلول أو النتيجة.

3-الوصف التنبيهي والارشادي لمعرفة الحقائق.

4-الوصف القيمي.

وسنعمد أدناه إلى تسليط الأضواء على كل من هذه الأنواع الأربعة من الوصف:

1-الوصف المنطقي:

لا يُقصد بالوصف المنطقي ما يُعرف بالتعريف المنطقي الرسمي وهو عبارة عن تحديد الحد التام والحد الناقص والرسم التام والرسم الناقص، بل يُقصد منه التنبيه بالنقاط المضيئة والأليفة مع الذهن من أجل فهم النقاط المجهولة والمظلمة.

ص: 50

نشير أدناه إلى نماذج من هذا الوصف التي وردت في خطب أمير المؤمنين علي (علیه السلام):

أ-يقول الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام) في وصفه للقلب:

(لقد عُلِّق بنياط هذا الإنسان بضعة هي أعجب ما فيه: وذلك القلب، وذلك أن له موادَّ من الحكمة وأضداداً من خلافها؛ فإن سنح له الرجاء أذله الطَّمع وإن هاج به الطَّمع أهلكه الحرص وإن ملكه اليأس قتله الأسف وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ وإن أسعده الرضى نسي التحفظ وإن غاله الخوف شغله الحذر وإن اتسع له الأمر استلبته الغرة وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع وإن عضته الفاقة شغله البلاء وإن جهده الجوع قعد به الضعف وإن أفرط به الشبع كظَّته البطنة فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 108.

صحيح أن الخصائص التي ذكرها أمير المؤمنين (علیه السلام) للقلب ووصفه بها ليست بالمعنى المنطقي الشائع إلا أنها مفيدة للتعرف بدقة على هذا العضو الداخلي في جسم الإنسان المسمى بالقلب.

ب-ويقول عليه السلام في وصفه للدين ومراحل معرفته والتصديق به:

(أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحیده و کمال توحیده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه) نهج البلاغة، ج 1 الخطبة الأولى..

ليس المقصود بكلمة (أوَّل) في هذا الحديث البداية الزمنية بل يقصد منها أساس وقاعدة الحياة الدينية التي تشمل بشكل طبيعي أيضاً البداية الزمنية.

ج-وفي وصفه للدنيا يقول عليه السلام:

(ما أصف من دار أوَّلها عناء وآخرها فناء في حلالها حساب وفي حرامها عقاب من استغنى فيها فتن ومن افتقر فيها حزن ومن ساعاها فاتته ومن قعد عنها واقته ومن أبصر بها بصرَّته ومن أبصر إليها أعمته) نهج البلاغة، ج 1، خطبة رقم 82.

ما أروع هذا الوصف الذي انفرد به أمير المؤمنين (علیه السلام) دون غيره من عظماء التاريخ في وصفه لحياة الإنسان في هذه الدنيا وعلاقته معها.

ص: 51

د-وفي وصفه للزهد يقول الإمام علي (علیه السلام):

(الزَّهادة قصر الأمل والشكر عند النعم والتورع عند المحارم) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 81.

ه-وفي وصفه للإنسان المسلم يقول عليه السلام:

(فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 167.

2-الوصف عن طريق المعلول والنتيجة:

ويعتمد هذا النوع من الوصف على بيان معلول أو نتيجة حقيقة من الحقائق تشير إلى بعدٍ مهم جداً من أبعاد تلك الحقيقة بالرغم من عدم وصفها لهويتها.

يزخر (نهج البلاغة) بالعديد من الأحاديث المتضمنة لهذا النوع من الوصف نشير هنا إلى عدد منها:

أ-في وصفه للنتائج التي تسفر عن انحراف الإنسان يقول الإمام علي (علیه السلام):

(وإنَّ من أبغض الرجال إلى الله تعالى لعبداً وكله الله إلى نفسه، جائراً عن قصد السبيل سائراً بغير دليل إنْ دُعي إلى حرث الدنيا عمل وإن دُعي إلى حرث الآخرة كسل! كأنّ ماعمل له واجب عليه وكأن ما ونى فيه ساقط عنه) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 103.

ب-في وصفه للنتائج التي تسفر عن التقوى إن اتصف بها الإنسان المسلم وتورع عن محارم الله يقول أمير المؤمنين (علیه السلام):

(فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم وبصر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس أنفسكم وجلاء عشا أبصاركم وأمن فزع جأشكم) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 198).

ج-في وصفه الرائع إلى النتائج المترتبة على اتصاف الإنسان بالعقل والجهل والأدب والمشاورة يقول أمير المؤمنين علي (علیه السلام):

(لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل، ولا ميراث كالأدب ولا ظهير كالمشاورة) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 54.

المعروف أن هوية العقل تعني الفكر المنتج المستفيد من القوانين، وبالتأكيد أن نتيجة

ص: 52

الاتِّصاف بمثل هذا العقل أو الفكر المنتج تكون الغنى عن الآخرين. كما أن هوية الجهل تعني فراغ الذهن من انعكاس الوقائع وتقبّل الحقائق، وأن نتيجة مثل هذا الفراغ الذهني تتمثل في الفقر والحاجة إلى الآخرين. وكذلك فإن هوية الأدب تعني الأخلاق الإنسانية السامية، وبالتأكيد أن إحدى نتائج السلوك الأخلاقي هي عدم الحاجة إلى الامتيازات التي تُؤخذ من الآخرين، وهو أكبر ميراث للإنسان. وإن هوية المشاورة تعني تبادل الأفكار لانتخاب الرأي الأفضل، ولا شك أن من يشاور العقلاء قبل الإقدام على أية خطوة يعني أنه يستند إلى دعامة راسخة ومحكمة.

د-أفضل نموذج من خطابات أمير المؤمنين (علیه السلام) يتضمن حقيقة الوصف عن طريق المعلول أو النتيجة ما قاله عليه السلام في وصفه لنتائج الإعراض عن الحق حيث يقول:

(أيها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ولم يقو مَن قوي عليكم ولكنكم تهتم قوي عليكم ولكنكم تهتم متاه بني إسرائيل ولعمري ليضعَّفنَّ لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلَّفتم الحقَّ وراء ظهوركم وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد) نهج البلاغة، ج 1 خطبة رقم 166.

أي أن أمير المؤمنين علي (علیه السلام) يريد أن يقول: إن أعرض الناس عن الحق فستحدث النتائج الآتية:

1-تمكُّن العدو والأجانب من فرض سيطرتهم على مثل هؤلاء الناس.

2-تمكُّن الأجانب من الحكم بقوة عليهم وإخضاعهم لنيرهم.

3-التيه في وادي الحياة والانشغال بمشكلاتها كما تاه بنو إسرائيل.

4-الابتعاد عن الوقائع والحقائق، وعدم صلة الأقربين والارتباط بمن كان من الواجب الابتعاد عنهم.

3-الوصف التنبيهي والإرشادي لمعرفة الحقائق:

هذا النوع من الوصف موجود بكثرة أيضاً في (نهج البلاغة)، ويتميز بأنه يحث المخاطب الذي له اطلاع نسبي على الحقيقة على إدراك عظمة هوية تلك الحقيقة عن طريق الاستفادة من عقله وضميره للتعرف أكثر على ماهية تلك الحقيقة. ولتوضيحه نورد أدناه نموذجين من

ص: 53

خطب أمير المؤمنين علي (علیه السلام):

أ-في وصفه للحق وتوضيح اثنين من أهم خصائصه يقول الإمام علي (علیه السلام):

(فالحق أوسع الأشياء في التَّواصف وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه ولا يجري عليه إلا جرى له) نهج البلاغة، ج 1، خطبة رقم 216.

نلاحظ أن هذا النوع من الوصف لا يعبر عن هوية الحق بحد ذاتها، بل إنه يركز على توضيح اثنين من أهم خصائصه اللازمة لتوعية الناس وإرشادهم نحو معرفة الحقيقة.

الخاصية الأولى تشير إلى أن الجميع يتحدثون عن الحق ويتنافسون في وصفه وتوضيح خصائصه ويعبِّرون عن معرفتهم به، لأن كل من يدرك شيئاً عن حقيقة الوجود والقوانين السائدة فيه يدرك مفهوماً عن الحق، وهذا المفهوم هو بحد ذاته يمثل معنى واسعاً جداً يتفنن الأشخاص في إدراك الحق منه كلاً حسب قدرته الذهنية. ولكن عندما يدخل الحق حيِّز العمل العيني وتطبيق السلوك الإنساني معه فإنه يصبح أكثر الأشياء ضيقاً وحساسية ولا يطيق أي نوع من التسامح لأنه لا وجود لأي نوع من التهادن أو التقارب بين الحق والحاجات والأهواء الشخصية لذا فإن تحقيق الحق في الميدان العملي يستلزم الجدية والسعي المخلص والقضاء على أي شيء لا يرتبط بهوية الحق.

الخاصية الثانية تعبِّر عن أن الحق أسمى بكثير من الميول والأهواء الشخصية للأفراد والمجتمعات، حيث أن الحق لا يتوافق مع رغبات الأشخاص بل يتوافق مع مُثُل الإنسان وقيمه ومعنوياته سواء أشاء الإنسان أم أبى.

لذلك حينما يفرح الإنسان عندما يتوافق الحق مع رغباته، لا بد أن يعرف أن الحق لم يأت إليه ليُفرحه بل إن المكانة أو الموقف الذي يكمن فيه هذا الإنسان هو الذي جعله منطبقاً مع الحق وجعل الجانب المخالف له هو الباطل. وبالعكس عندما يسير الحق في الجهة المخالفة لرغبة الإنسان فليس السبب هو أن الحق يناصب هذا الإنسان العداء ويريد أن يزعجه، ويفرح إن رآه منزعجاً بل إن هذا الإنسان اتخذ موقفاً لنفسه جعله يقف في الجهة الأخرى من الحق.

إذن فإن الحق هو البوصلة التي ترشد سفينة الإنسان وسط أمواج محيط الحياة المتلاطمة، وهي تدلّ قبطانها نحو خط سيره الواقعي دون أدنى انحراف. وإن هذه البوصلة لا تؤثر عليها مطلقاً الأعاصير التي تعصف بالسفينة المبحرة وسط أمواج الحياة المتلاطمة والتي تجر الإنسان

ص: 54

نحو الانحراف عن خط سيره الحقيقي في الحياة.

ب-في وصفه لصفات القاضي المثالي وهو يعطي إرشاداته إلى عامله في مصر (مالك الأشتر) يقول الإمام علي (علیه السلام):

(ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيَّتك في نفسك ممَّن لا تضيق به الأمور ولا تمحِّكه الخصوم ولا يتمادى في الزلَّة ولا يحصو من الفيء إلى الحق إذا عرفه ولا تُشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه وأوقفهم في الشبهات وأخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الأمور وأصرمهم عند اتضاح الحكم ممَّن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء) نهج البلاغة، ج 2، خطبة رقم 53 عهد الإمام إلى مالك الأشتر.

يتضمن هذا المقتطف من العهد الذي كتبه الإمام علي (علیه السلام) إلى عامله في مصر (مالك الأشتر) نصائح إرشادية يبين فيها (عليه السلام) الصفات الواجب توفرها في القاضي المثالي وهذه الصفات تنتج عن روح سليمة وكاملة يمتلكها القاضي المثالي وهي تمثل نتيجة واقعية لعمل ذهني يقوم به قاضٍ عادل وواع ونزيه، كما أن طرح مثل هذه الأمور من قبل الإمام علي (علیه السلام) تُعين الناس على معرفة حقيقة القاضي المثالي والمناسب الذي يبتٌ في أمور المسلمين.

4-الوصف القِيَمي:

هذا النوع من الوصف موجود بكثرة أيضاً في (نهج البلاغة)، ويعتمد على توضيح وتبيين قيمة حقيقة من الحقائق والتي بإمكانها أن تمهد الطريق لمعرفة هوية تلك الحقيقة. ويعتبر هذا النوع من الوصف مفيداً ولازماً أحياناً لأنه سهل الفهم من قبل الناس وشديد التأثير عليهم وهو يؤثر عليهم أكثر مما تؤثره باقي أنواع الوصف.

نورد أدناه نماذج من خطب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) استخدم فيها هذا النوع من الوصف:

أ-يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) في وصفه للقرآن الكريم:

(واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل، والمحدِّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى أو نقصان من عمى. واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى) نهج البلاغة، ج 1، خطبة رقم 176.

إن الوصف الوارد في الجمل السابقة لا يتضمن تبييناً للهوية المحددة لمحتويات القرآن

ص: 55

وهي الأصول والعقائد والأحكام والقصص والأخلاق وآيات التبشير والتهديد المتعددة، بل إن هذا الوصف يبين القيم التي يحبها الإنسان ويميل إليها. حيث أن أفراد جميع المجتمعات والشعوب تعرف بحق قيمة التعليم والتربية ومضمون الكتب الإصلاحية وكذلك تدرك القيمة الحياتية للزعماء المربين الذين يعملون بكل جد ووضوح من أجل سعادتهم الحقيقية. أي أن المربين والمصلحين العظماء والمؤلَّفات الإنسانية القيِّمة التي تنير الدرب أمام بني الإنسان للوصول إلى (الحياة المعقولة) يمتلكون أسمى مراتب القيم، كذلك فإن الخطباء الصادقين والرواة الثقاة الذين ينقلون الحقائق إلى الناس يتميزون بقيمة متعالية في المجتمع تُماثل قيمة الضمائر المخلصة والنزيهة داخل الكيان الإنساني. وإن أكبر القيم هي لتلك الحقائق التي تؤدي إلى حدوث التغيير التكاملي في الإنسان وإن هذا التغيير له بعدان:

أولاً: زيادة الامتيازات الإنسانية.

ثانياً: تقليل نقاط الخبث والسوء.

وأية قيمة أكبر من تلك الحقيقة التي تجعل الإنسان مستغنياً عن أي نوع من الاحتياج والتبعية داخل المحيط الفردي والاجتماعي والمادي والمعنوي؟! وإن هذه القيمة بحدها الأقصى موجودة في القرآن الكريم.

ب-في وصفه لقيمة الصلاة يقول الإمام علي (علیه السلام):

(تسكيناً لأطرافهم وتخشيعاً لأبصارهم وتذليلًا لنفوسهم وتخفيفاً لقلوبهم وإذهاباً للخيلاء عنهم، ولما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعاً والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً) نهج البلاغة، ج1، خطبة رقم 192.

وهكذا نرى أن تركيز الإمام علي (علیه السلام) في هذه الخطبة بالدرجة الأولى على قيمة الصلاة والفوائد المترتبة على أدائها للإنسان.

ج-في وصفه لقيمة العلم يقول الإمام علي (علیه السلام) مخاطباً الصحابي الجليل كميل بن زياد:

(یا کميل معرفة العلم دين يُدان به وبه يكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته والعلم حاكم والمال محكوم عليه، ياكميل، هلك خُزّان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر: أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة) نهج البلاغة، ج 2، خطبة رقم 147.

ص: 56

كما نرى فإن الحديث يتضمن إشارات رائعة لقيمة العلم ومقارنة دقيقة وحقيقية بين العلم والمال وبين حملة العلم وخزنة الأموال.

د-في وصفه لقيمة العلم والعبودية لله والخلوص له يقول الإمام علي (علیه السلام):

(وما برح الله-عزَّت آلاؤه-في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عباد ناجاهم في فكرهم، وكلَّمهم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار والأسماع والأفئدة، يذكِّرون بأيام الله، ويخوِّفون مقامه بمنزلة الأدلة في الفلوات) نهج، ج 1، خطبة رقم 220.

ذُكر في بعض المصادر أن الحلم أفضل من العلم، وهذا المفهوم يعني أن العالِم الحليم يكون على قدر كبير من السعادة والقوة الروحية تحرره من أسر الاطار العلمي الذي يظنه هو الأساس ولا شيء غيره. لذا فإن الحِلم ينفع العالِم ويقدم له خدمات عديدة ومفيدة منها:

1-يزيد من سعة الإنسان العالِم ويجعله يدرك أن الإنسان مهما يتزود بالعلوم فإنه يبقى محتاجاً للمزيد والحلم يحث العالِم على طلب المزيد من العلوم وعدم القناعة بما يمتلكه من علم، وكما يقول بعض النوابغ الكبار: مثلُنا كمثل الطفل الذي بدأ السير لتوه والواقف جوار ساحل محيط واسع لا متناهي من الحقائق المجهولة ولا يرى منه سوى حبات الحصى والرمال الملونة التي تبدو أمامه من تحت سطح الماء ويظن أنه يرى كل المحيط.

2-يعتبر الحِلم أفضل دواء لداء الغرور والعُجب الذي يصيب العالِم بشكل إرادي أو لا إرادي وهو يرى نفسه غنياً بالمعلومات التي تجعله متميزاً عن الآخرين في المجتمع وأنظار الناس متوجهة إليه أي أن العِلم يجعل منه كالشيء المعروض في واجهة محل يتفرج على الناس وهو يتلذذ من ذلك ويصاب بآفة الغرور والعُجب، والحِلم أفضل علاج للحد من هذه الحالة. وإذا أصيب العالم بهذا المرض يصبح هدفه منحصراً في أن يتفرج الناس على قامته وجماله أثناء حديثه أو يقابلونه بكلمات الترحيب والاطراء عندما يلتقي بهم وهذه الآفة تشبه السم الذي يفسد الروح الإنسانية.

وهناك معنى آخر للحِلم آخر للحلم وهو الذي يسقي شجرة العلم بالماء ويحول ذلك السم القاتل والمفسد إلى جرعة منعشة تغير الإنسان العالِم من كونه جداراً حديدياً جافاً أمام الناس إلى عامل محرك ومربي للناس.

3-إن العالِم الذي يقرن علمه بالحلم ينجو بنفسه من الغرق في أعاصير الشك والترديد

ص: 57

والظن التي تهبّ عليه في معترك الحياة ويجعله متزناً ومسيطراً على أعصابه ومشاعره وتصرفاته. وإن العالِم الحليم ليس فقط لا يخاف من الشك والظن والوهم بل إنه يبحث عنها ويعمد إلى تحريكها وخلط الأجواء التي يسودها الشك والظن والتردد ليستخرج منها الحقائق الخالصة والنقية كما تستخرج الزبدة من خلط وتعكير اللبن.

والإمام علي (علیه السلام) ينظر إلى الناس من حيث العلم الذي يحملونه ويقسمهم إلى ثلاثة أقسام حيث يقول عليه السلام:

(الناس ثلاثة فعالم رباني ومعلِّم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق) نهج البلاغة، ج1، شرح محمد عبده، حديث رقم 147.

أي أن الإمام علياً (علیه السلام) يصنف الناس من حيث العلم الذي يتزودون به إلى عالِم رباني يقرن علمه بالحلم وعالِم يسعى في طريق النجاة والخلاص ليس من أجل اتخاذ كسب العلم وسيلة لتحقيق القدرة والسلطة والتغلب على الضعفاء في ساحة التنازع من أجل البقاء وليس أيضاً العِلم الذي يهابه الناس الضعفاء كما يخافون من القنابل الحارقة ومؤامرات المستكبرين الهادفة إلى فرض سلطتهم الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والثقافية، بل السعي الحثيث في سبيل كسب العلم الذي يمكنه أن يمهِّد الطرق المختلفة المؤدية إلى (الحياة المعقولة) له ولغيره من الناس.

بالتأكيد فإن تعليم وتربية مثل هؤلاء العلماء أمر مهم جداً يقوم به العلماء الربانيون في مجتمع يمتلك آمال وأهداف (الحياة المعقولة) السامية، وليس في مجتمع يسيّره الأقوياء والمستكبرون ضمن أُطر جاهزة. والنوع الثالث من الناس الذين يقصدهم الإمام علي (علیه السلام) في حديثه هم الناس العاديون البسطاء وغير الواعين وعديمو الشخصية والذين لا يعرفون من الحياة سوى الحركة والاحساس الجبري وانجاب أمثالهم. وتنحصر أهداف هؤلاء الناس في الحياة إلى قسمين القسم الأول: السعي من أجل إشباع اللذائذ والتمتع بها وانتخاب أنواع التخدير وإشباع رغباتهم التي لا أساس لها وفتح مواقع لهم في المجتمع لا علاء أسمائهم وألقابهم والاستناد إلى قوة يمكنهم عن طريقها إثبات وجودهم في المجتمع.

القسم الثاني: تتمثل بتلك الأهداف التي يحددها المقتدرون والأقوياء ويفرضونها على

ص: 58

بسطاء الناس غير الواعين الذين يقضون حياتهم في مسير العوامل الأكثر قوة، ويصبحون ساحات جيدة لتجارب الأقوياء والسلطويين. لم نكن نتأسف لو كانت حياة المجتمعات بشكل بحيث يتمكن بسطاء الناس غير الواعين من امتلاك حياة مستقلة يمسكون بأيديهم مقدراتها رغم قلة مستواها ويتحركون بشكل مستقل دون أن يكونوا أداة بأيدي الآخرين. لو كان هؤلاء الناس (الذين أطلق عليهم أمير المؤمنين (علیه السلام) مصطلح الهمج الرعاع) يعرفون كيف ينظر إليهم الأقوياء ولو كان هؤلاء المستضعفون يعلمون كيف يفكر المستكبرون ليلاً ونهاراً بشأنهم وما هي المخططات التي يعدّونها لهم، لكان بإمكانهم أن يتحولوا إلى قوة يمكنها أن تجتث جذور الأقوياء والمستكبرين من صفحات التاريخ بشرط أن لا يُصاب هؤلاء أنفسهم بداء حب القوة والعُجب بالانتصار ويأخذوا مواقع المستكبرين السابقة في المجتمع وبالتالي ظهور طبقة جديدة من المستضعفين والضعفاء.

إن مسيرة التاريخ الطبيعية تشير إلى أن مثَلَ المستضعفين والمستكبرين كمثل الدجاجة والبيضة أي كما عبر بعض المفكرين: إنه الشيء الذي يربي نقيضه في داخله. إن عبارة (الآن جاء دورنا تعتبر جملة غنية المحتوى ومتجذرة مع الأخذ بنظر الاعتبار وجود مسألة الصراع من أجل البقاء في الحياة، ولا يمكن النظر إليها كمزحة، حيث أن هذا التسلسل الطبيعي في التاريخ الطبيعي لبني الإنسان لا ينقطع أبداً إلا إذا بدأ التاريخ الإنساني من جديد وحُذف المستضعف والضعيف من القاموس الإنساني ولا يبقى منه سوى ذكر مجرد في كتب التاريخ لتطلع عليه الأجيال.

إذن فإن هذه المجموعة الثالثة من الناس (الهمج الرعاع) سيُطرحون في الساحة التاريخية ما دام الأقوياء والمستكبرون والسلطويون موجودين في المجتمعات الإنسانية. بينما لو أُخرجت القوة بأشكالها المتنوعة من أيدي المقتدرين والأقوياء ووُزعت بين أبناء المجتمعات بشكل عادل لتغيرت الأوضاع السائدة في المجتمعات واُلغيت مصطلحات عديدة مثل احتقار الآخرين وفرض الحرمان والحرمان من الحق والعدل وغيرها.

أما فيما يخص علاقة أمير المؤمنين علي (علیه السلام) مع هذه المجموعات الثلاث فهي أيضاً واضحة تماماً. فالقسمان الأول والثاني (العالِم الرباني والمعلم على سبيل نجاة) يجسدان الأهداف والأمال الإنسانية-الإلهية لأمير المؤمنين عليه السلام وإنه يسير في مقدمة هاتين القافلتين. أما

ص: 59

المجموعة الثالثة (الهمج الرعاع) فهم ذات أهمية كبرى لهذا الإنسان الإلهي، حيث أن تعليم وتربية أفراد هذه المجموعة يعتبر من أهم الواجبات الإنسانية-الإلهية لهذا المعلم والمربي الكبير.. وكان عليه السلام يؤكد في أغلب خطبه الواردة في نهج البلاغة على لزوم إحقاق حقوق هذه المجموعة والعمل على أخذها من أيدي المقتدرين الظالمين، وأهميتها بالنسبة له كأهمية التنفس لباقي الناس، حيث جاء في إحدى خطبه:

(أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظَّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز) نهج البلاغة، ج 2، خطبة رقم 3.

وفي عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر يؤكد أيضاً على لزوم الاهتمام بأبناء هذه الفئة ويكرر لفظ الجلالة (الله) مرتين عندما يريد أن يوصي بهم حيث يقول:

(الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزمنى ... فلا يشغلنَّك عنهم بطر فإنك لا تُعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم فلا تُشخص همَّك عنهم ولا تصعِّر خدك لهم وتفقَّد أمور من لا يصل إليك منهم ممَّن تقتحمه العيون وتحقره الرجال ففرِّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع فليرفع إليك أمورهم. ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله یوم تلقاه فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم وكل فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه) نهج البلاغة، ج 2، خطبة رقم 53.

وفي مكان آخر من نفس هذا (العهد) يقول الإمام علي (علیه السلام) مخاطباً مالك الأشتر:

(وليكن أحبَّ الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمُّها في العدل وأجمعها لرضى الرعية، فأن سُخط العامة يُجحف برضى الخاصة وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضى العامة) «نهج البلاغة، ج 2، خطبة رقم 3».

وأمثال هذه الجمل والحكم التي تتكرر بكثرة في نهج البلاغة توضح علاقة أمير المؤمنين (علیه السلام) مع أفراد هذه المجموعة وتوصيته بلزوم الاهتمام بهم ورعايته لهم واعتبار هذه المسألة مهمة من الناحيتين السياسية والأخلاقية.

ه-في وصفه لقيمة العبادة وتصنيفه للناس الذين يؤدون العبادة يقول الإمام علي (علیه السلام):

ص: 60

(إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار) نهج البلاغة، ج 4 شرح محمد عبده، حديث رقم 239.

وهكذا نرى كيف يصنِّف الإمام علي (علیه السلام) الناس الذين يعبدون الله حسب نيتهم في العبادة وهدفهم منها بين من يعبد الله رغبة في النعم الدنيوية والثواب الأخروي وهذه عبادة التجار ومن يعبد الله خوفاً من عقابه وهذه عبادة العبيد ومن يعبد الله شكراً له لنعمه على الناس وهذه عبادة الأحرار وهي أفضل العبادات.

ثالثا: أسس الاستدلال في نهج البلاغة:

هناك سبعة أنواع من الاستدلال وردت في خطب (نهج البلاغة) سنشير إليها بالتفصيل بعد التأكيد على الملاحظتين الآتيتين:

1-إن سبب تقسيمنا لأنواع الاستدلال إلى سبعة لأنه يحتمل أن يكون بين بعض هذه الأنواع نقاط مشتركة من حيث المنحى.

2-لا نقصد من الاستدلال في أنواعه السبعة معناه الرسمي وهو يعني أن يفترض الإنسان مقدمات مع شروطه الخاصة المنطقية ومن ثم يستنتج النتيجة من تلك المقدمات، بل المقصود هو إرشاد الناس نحو القبول بالحقائق. وقد قُسِّم الاستدلال طبقاً لنوع الأسس التي يستند إليها فأحياناً يكون مستنداً لأسس شهودية أو تجارب شخصية أو أسس أخرى.

بشكل عام نقول: إن القصد من الاستدلال هو عرض الحقائق والوقائع وإرشاد الإنسان نحوها سواء أكانت قابلة للتوضيح بأشكال قياسية واستقرائية وتمثيلية أو عن طريق الارجاع إلى التجارب الشخصية.

أما الأنواع السبعة لهذه الاستدلالات فهي كالآتي:

1-الاستدلال الرياضي-العيني.

2-الاستدلال الاستقرائي.

3-الاستدلال القياسي.

4-الاستدلال التمثيلي.

5-الاستدلال الحِكَمي.

ص: 61

6-الاستدلال عن طريق الادراك والاستنباط الخاص.

7-الاستدلال الشهودي

1-الاستدلال الرياضي العيني:

أرشد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم نبيه الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى ثلاثة أنواع رئيسية من السبل المؤدية إلى الحقائق والوقائع وهي: الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. كذلك فقد وردت هذه السبل الثلاثة بوضوح في (نهج البلاغة).

كما أن القرآن الكريم استخدم ثلاثة أنواع من هذا الاستدلال وهي: الآفاقية والأنفسية والآفاقية-الأنفسية.

استخدم الإمام علي (علیه السلام) هذا النوع من الاستدلال كثيراً في خطبه وإرشاداته الواردة في (نهج البلاغة)، حيث يقول في إحدى خطبه:

(حدَّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبه ها) نهج البلاغة، خطبة رقم 163.

ويقول في خطبة أخرى:

(ولا يعزب عنه عدد قطر الماء ولا نجوم السماء ولا سوافي الريح في الهواء ولا دبيب النمل على الصفا، ولا مقيل الذر في الليلة الظلماء، يعلم مساقط الأوراق وخفيَّ طرف الأحداق) نهج البلاغة، خطبة رقم 178.

وفي خطبة لأمير المؤمنين (علیه السلام) تُعرف ب (خطبة الأشباح) أشار إلى حقائق من عالم الوجود مع ما تتميز به من نظم دقيق، حيث يهدف عليه السلام من عرض الوجه الرياضي لعالم الوجود إلى دعوة الناس إلى لزوم حاكمية النظم الدقيق للأشياء مع حالة التجديد التي تظهر كل لحظة نتيجة للحركة والتحول المستمر في الموجودات. في جانب من هذه الخطبة يشير أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى هذا النوع من الاستدلال حيث يقول:

(وأرانا من ملكوت قدرته وعجائب ما نطقت به آثار حکمته و اعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوته ما دلَّنا باضطرار قيام الحجة له على معرفته، فظهرت البدائع التي أحدثتها آثار صنعته وأعلام حكمته).

2-الإستدلال الاستقرائي:

وهو عبارة عن الاستدلال الذي بموجبه يمكن الوصول لنتيجة عامة عن طريق متابعة

ص: 62

الحالات أو النقاط المختلفة. وكلما كانت حالات المتابعة والتجربة أكثر تزداد درجة الثقة بالنتيجة المطلوبة.

يمكن مشاهدة هذا النوع من الاستدلال في خطب أمير المؤمنين علي (علیه السلام)، حيث يقول عليه السلام:

(اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تُبصر إلا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدَّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً أو متمرداً كأن بأذْنه عن سمع المواعظ وقراً) نهج البلاغة، خطبة رقم 129.

وفي أماكن أخرى من خطبه يدعو أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى الاعتبار بالأمم السابقة؛ وبالتأكيد فإن الإمام علياً (علیه السلام) لم يدعُ الناس إلى ذلك حتى يطّلعوا على ماضي الأمم السابقة وينظرون إليها باعتبارها من التاريخ بل يدعوهم إلى إجراء تحقيق وتدقيق في ماضي هذه الأمم حتى يتعلموا قواعد وأصول (الحياة المعقولة) لبني الإنسان ويعتبروا منها. حيث يقول عليه السلام:

(فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته ...) نهج البلاغة خطبة رقم 192 القاصعة.

وقد ورد نفس هذا المعنى بشكل آخر في الخطبة ذاتها، حيث يقول عليه السلام وهو يوصي نجله الإمام الحسن المجتبى (علیه السلام):

(واعرض عليه أخبار الماضين وذكِّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين ...).

ويقول أيضاً في نفس الخطبة:

(أي بنيَّ، إني وإن لم أكن عُمِّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم وفكِّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بما انتهى إليَّ من أمورهم قد عُمِّرت مع أوَّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره).

وهكذا نرى أن الإمام عليًا (علیه السلام) اتبع هذا النوع من الاستدلال (الاستدلال الاستقرائي) ووجه إرشاداته إلى الناس عن طريق دعوتهم إلى الاطلاع حول الأقوام والأمم السابقة والاعتبار منهم.

3-الاستدلال القياسي:

ينتج هذا النوع من الاستدلال من تطبيق القضايا العامة الثابتة على الأمور الأخرى،

ص: 63

ويمكن مشاهدة هذا النوع من الاستدلال كثيراً في خطب وكلمات أمير المؤمنين علي (علیه السلام)، كما نراه في الخطبة الأولى الواردة في (نهج البلاغة) حيث يشير عليه السلام إلى العديد من الحقائق عن طريق استخدامه أسلوب الاستدلال القياسي:

(فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثنّاه ومن ثنّاه فقد جزّاه. ومن جزأه فقد جهله. ومن جهله فقد أشار إليه ومن أشار إليه فقد حدَّه. ومن حدّه فقد عدَّه ...).

ولتسهيل هذا النوع من الاستدلال الذي اتبعه الإمام علي (علیه السلام) لتوضيح حقيقة مهمة من حقائق الوجود نعمد إلى الأسلوب التالي في العرض:

1-إن وصف الله يستلزم مقارنة الصفة مع الذات الذات الإلهية، وهذه المقارنة تستلزم التثنية، إذن فإن وصف الله يستلزم التثنية.

2-إنَّ وصف الله يستلزم تثنيته، وإن تثنيته تستلزم تجزئته، إذن فإن وصف الله يستلزم تجزئته

3-إن وصف الله يستلزم تجزئته، وإن تجزئته ناتجة عن الجهل، إذن فإن وصف الله ناتج عن الجهل.

4-إن وصف الله ناتج عن الجهل، وإن الجهل يستلزم الإشارة إليه، إذن فإن وصف الله يستلزم الإشارة إليه.

5-إن وصف الله يستلزم الإشارة إليه، وإن الإشارة إليه تستلزم تحديده، إذن فإن وصف الله يستلزم تحديده.

6-إن وصف الله يستلزم تحديده، وإن تحديده يستلزم عده، إذن فإن وصف الله يستلزم عدَّه.

بعد هذه المقدمات والنتائج التي تم تبيينها في الحديث على شكل الاستدلال القياسي، فإن النتيجة النهائية تكمن في أن وصف الله يستلزم عده، بينما يعتبر عدَّه أمراً محالاً.

كذلك ينبغي التذكير بهذه النقطة وهي: ما دمنا نتمكن أن نعتبر نتائج كل من الاستدلالات القياسية المذكورة في الحديث نتيجة منفردة بحد ذاتها ونعتقد بها كذلك يمكننا أن تأخذ جميع المقدمات والنتائج المذكورة أعلاه وبالشكل الذي رتبناه بنظر الاعتبار ونخرج من مجموعها بنتيجة نهائية.

4-الاستدلال التمثيلي:

وهو عبارة عن ذلك النوع من الاستدلال الذي يعتمد على استخراج جامع مشترك

ص: 64

لموضوع ثبت حكمه (أو السبب العام للحكم) وتعميمه على جميع الأمور والمصاديق المرتبطة بالموضوع أو على جميع الأمور والحالات التي يمكن أن يشملها السبب. مثل مسألة ممنوعية شرب (الجعّة) بسبب سكرها وهو يستند على ممنوعية شرب مختلف أنواع المشروبات المسكرة. حيث تزخر خطابات أمير المؤمنين عليه السلام بهذا النوع من الاستدلال منها:

(ولو ضربتَ في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلَّتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كلِّ شيء وغامض اختلاف كل حي. وما الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلا سواء).

ويعني ذلك أن السبب الكامن في أن الأجزاء والأبعاد والقوانين الحاكمة عليها في الهيكل التكويني والجسمي للنملة تدل على أن خالقها لا يمكن أن يكون إلا الله الخلاق (سبحانه وتعالى) هي نفسها موجودة في خلقه للنخلة والكواكب والمجرّات الكبيرة الأخرى فضلاً عن المخلوقات الصغيرة مثل الذبابة الصغيرة.

ه-الاستدلال الحِكَمي:

يُقصد بهذا النوع من الاستدلال تلك الإرشادات السامية المستندة إلى مقدمات حكيمة ... وهو موجود بكثرة في)نهج البلاغة). ويمكننا القول أن أغلب القضايا التي كان الإمام علي (علیه السلام) یوردها في خطبه المباركة لإثبات مسألة أهمية وقيمة الوجود كله وحثّ الناس على فهم هذه المسألة والأصول الأخلاقية والحث على العمل بها كانت هذا من النوع من الاستدلال.

منها ما قاله عليه السلام في الخطبة 185 من نهج البلاغة:

(ولو فكَّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة والبصائر مدخولة).

وهكذا نرى أن الإمام عليًا (علیه السلام) في هذه الجمل يحث الناس على فهم قيمة عالم الوجود ويوضح نتيجة فهم وإدراك هذه الحقيقة والتفكر فيها وهي العودة إلى الصراط المستقيم والخوف من النار، ثم يرشدهم إلى أسباب عدم تفكرهم وإهمالهم لآيات الوجود وهي المجسدة لقدرته (جل وعلا) والمتمثلة في مرض القلوب واختلال البصائر.

ينقل (السيد الرضي) عن أمير المؤمنين (علیه السلام) حوالي 480 كلمة قصيرة وحكمة، ولو دقق

ص: 65

الإنسان فيها لرأى أنها مقسمة إلى نوعين:

1-القسم الأول، تتضمن معاني بديهية لا تحتاج إلى إثبات أو تحليل أو تركيب، منها قوله عليه السلام:

(قيمة كلِّ امرء ما يُحسنه) حكمة رقم 81، نهج البلاغة.

(الإعجاب يمنع الازدياد) حكمة رقم 167، نهج البلاغة.

(لا ترى الجاهل إلا مُفرطاً أو مفرِّطاً) حكمة رقم 70، نهج البلاغة.

2-القسم الثاني، تتضمن جملاً حكيمة تضمر في داخلها استدلالات حكيمة كما في قوله بشأن العدل والجود وترجيح أحدهما على الآخر حيث يقول (علیه السلام):

(العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها، والعدل سائس عام، والجود عارض خاص، فالعدل أشرفهما وأفضلهما) حكمة رقم 437، نهج البلاغة.

ومن الحكم الأخرى لأمير المؤمنين علي (علیه السلام) التي تضمر في داخلها دلائلها الحكيمة أو كما یُعبَّر عنها في علم المنطق (قياساتها معها) تذكر هذه الحكمة الرائعة:

(من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلِّم نفسها ومؤدِّبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم) حكمة رقم 73، نهج البلاغة.

6-الاستدلال عن طريق الادراك والاستنباط الخاص:

هذا النوع من الاستدلال يعتمد على الاستنباطات الخاصة والكبيرة التي تظهر عند الشخصيات الكاملة والعظيمة من أمثال أمير المؤمنين علي (علیه السلام)، وهي يعتمد عليها أفراد بني الإنسان الذين يريدون أن يعرفوا أو أنهم يعرفون إلى حد ما من هم ومن أين أتوا وإلى أين يسيرون؟!

كمثال على ذلك نورد هذا القول لأمير المؤمنين (علیه السلام) حيث يقول:

(وإني لعالم بما يُصلحكم ويقيم أودكم ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي) نهج البلاغة، خطبة رقم 69.

يتضمن هذا الحديث استنباطاً وفهماً عميقاً لشخصية إنسان لا يريد أن يخسر نفسه من أجل إرضاء أناس لا يهمهم سوى إشباع أهواءهم وملذاتهم المادية؛ أي أن الإمام علياً (علیه السلام) يريد

ص: 66

أن يقول أن شخصية الإنسان عظيمة إلى درجة بحيث ينبغي أن لا يفسدها الإنسان بنفسه من أجل كسب رضا ناس لا يعرفون سوى تحقيق الأرباح واللهاث وراء الملذات المادية.

لذا فإننا أوردنا هذه الكلمات العظيمة لإنسان كامل أصبح (قدوة) للحياة الإنسانية (المعقولة)، ويقر بذلك جميع الشخصيات التاريخية المعروفة من أمثال جلال الدين محمد مولوي الذي يُعبِّر في إحدى مقطوعاته الشعرية عن عظمة شخصية الإمام علي (علیه السلام) الذي لا يمكنه أن يقول للناس كل ما يستنبطه من حقائق لأن أذهانهم عاجزة عن إدراكها. كذلك المفكر المسيحي ميخائيل نعيمة الذي كتب مقدمة لكتاب حول شخصية أمير المؤمنين (علیه السلام) اسمه (الإمام علي بن أبي طالب صوت العدالة الإنسانية) جاء فيها:

(فالذي فكَّره وتأمَّله وقاله وعمله ذلك العملاق العربي بينه وبين نفسه وربه لمّا لم تسمعه أذن ولم تبصره عين وهو أكثر بكثير مما عمله بيده أو أذاعه بلسانه وقلمه..). نقول: لو أن البشرية عملت بهذا القدر من الإرشادات والمعلومات التي عرضها أمير المؤمنين (علیه السلام) أمامها لغيّرت مسيرتها التاريخية نحو واقع أفضل ومستقبل أكثر إشراقاً.

هناك نقطة مهمة جداً تبدو واضحة في خطب الإمام علي (علیه السلام) وهي أنه كان يكتفي بذكر الموضوع المعين ولا يورد أي دليل بشأنه، كأنه يصف حقيقة ملموسة تبدو بيِّنة بالنسبة له وتحتاج إلى نوع من التفكر والتأمل من قبل الآخرين لإدراك هذه الحقيقة الموجودة في بواطنهم.

7-الاستدلال الشهودي:

ذكرنا في النوع السابق من الاستدلال نقاطاً يمكن أن توضح أيضاً هذا النوع من الاستدلال أي (الاستدلال الشهودي). ولكن لأن هاذين النوعين يختلفان فيما بينهما لذا سنعمد إلى بيان موجز حول هذا الاختلاف؛ حيث أن القضايا التي تستخدم في الاستدلال السابق يمكن عرضها في أجواء المعارف الإنسانية العامة، لذا فإن مثل هذه الاستنباطات والمفاهيم والحكم تشبه ما ينزل على الأنبياء من وحي، حيث أنهم بالرغم من استلامهم للآيات والمعارف الإلهية عبر الوحي إلا أنهم يكلمون الناس على قدر عقولهم: (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلِّم الناس على قدر عقولهم).

إلا أن الموضوعات التي تشكل هذا النوع من الاستدلال (الشهودي) لها بُعدان: البعد الأول: يمكن عرضها لباقي الناس.

ص: 67

البعد الثاني: أن الشهود غير قابلة للتعليم والتفهيم مباشرة. بل إن هؤلاء الناس يمكنهم أن يبينوا مقدمات وطرق الوصول إلى الشهود ويتركوا باقي الأمر للآخرين ليوفّقوا بعملهم وسلوكهم في نيل مقام الشهود.

هناك العديد من الجُمل الواردة في (نهج البلاغة) استخدم الإمام علي (علیه السلام) فيها هذا النوع من الاستدلال منها:

(بصَّر نيكم صدق النية) نهج البلاغة الخطبة الرابعة.

(لم أعبد رباً لم أره) نهج البلاغة، خطبة رقم 179.

وفي نفس هذه الخطبة يبين أمير المؤمنين (علیه السلام) سبيل نيل مثل هذا الشهود حيث يقول عليه السلام:

(لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان).

وكذلك قوله:

(ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب) نهج البلاغة، خطبة رقم 114.

وبديهي أن رؤية الحقائق الغيبية لا تتم إلا عن طريق الشهود.

رابعا: الارشاد:

رغم أن أقوال وخطب أمير المؤمنين (علیه السلام) كانت تهدف جميعها إلى إرشاد الناس، إلا أن أنواع هذا الارشاد وكيفيته كانت تختلف حسب اختلاف الأبعاد الإنسانية وسيرهم نحو النمو والسلوك نحو الله.

كذلك فإن الأساليب الثلاثة السابقة التي كان الإمام علي (علیه السلام) يستخدمها لتبيين الحقائق (بيان وتوضيح المبادىء الأساسية ووصف الحقائق والاستدلال)، تُعتبر في الواقع وسائل لإرشاد الناس وتوجيههم نحو الكمال الحقيقي. حيث أن هذا الإنسان الكامل يريد بكافة السبل والوسائل أن يسحب الناس من الأرض والتراب الذي لصقوا أنفسهم به نحو العلو والسمو ويعرفهم بروحهم الطاهرة وبالتالي يجعلهم ينجذبون نحو الكمال. إن خطب أمير المؤمنين علي (علیه السلام) مليئة بجمل الإرشاد والوعظ ودعوة الناس للحق ومعرفة الحقيقة وحتى أن الأوامر الإلهية التي بوردها في خطبه مثل لزوم إقامة الصلاة هي نوع من الإرشاد إلى ضرورة ترسيخ الاتصال بين العبد وربه. لذا يمكن تقسيم الارشاد الوارد في خطب نهج البلاغة إلى أربعة

ص: 68

أنواع هي:

1-دعوة الناس إلى مراجعة ماضي الأمم السابقة.

2-تبيين نتائج العمل بالقوانين الإنسانية.

3-الحث على السير نحو هدف الحياة السامي.

4-عرض الوقائع والحقائق.

أي إن لزوم الإرشاد طرحت في خطب الإمام علي (علیه السلام) بنفس درجة لزوم إدارة المجتمع من النواحي السياسية والحقوقية والاقتصادية، وهو يتعارض مع ما يروّج له في المجتمعات المعاصرة من فصل بين هذه الأمور وإرشاد الناس نحو الحق.

هذا وأن بعض الجمل الإرشادية الواردة في نهج البلاغة تؤكد على مفهوم الإرشاد بشكل مباشر، كما هو الحال في وصية الإمام علي (علیه السلام) الناس مراراً في خطبه بتقوى الله حيث يقول عليه السلام:

(أوصيكم بتقوى الله).

كذلك ورد نفس هذا المفهوم بصورة أخرى في الخطبتين 83 و 99 حيث يقول (علیه السلام):

(عباد الله، أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم).

ووردت وصبة أخرى للإمام (علیه السلام) في الخطب رقم 114 و 161 و 173 و 182 و 188 حيث يقول: (أوصيكم بذكر الموت).

كذلك وردت هذه المفاهيم في الخطب رقم 191 و 194 و 196 و 198 وفي إحدى الكلمات القصار برقم 82 حيث يقول عليه السلام:

(أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الإبل لكانت لذلك أهلًا: لا يرجونَّ أحد منكم إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه، ولا يستحيينَّ أحد منكم إذا سئل عمّا لا يعلم أن يقول لا أعلم ولا يستحينَّ أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه، وعليك بالصبر، فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه).

والسلام عليكم

ص: 69

ص: 70

الكنز المهجور وآثاره الانسانیة

الدكتور أسعد علي

باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء

واللهم صلِّ على محمد وآل محمد

كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

1-الكنز المهجور:

الكلمة الطيبة: لطيبيِّ القلوب والأنفس والأذواق ...

والأرضُ: مَهْدٌ. قاراتها الخمسُ: أقرَّتْ، وقررتْ-بألسنة عباقرة أبنائها-الاستماعَ مجدَّداً] إلى صوت علي (علیه السلام).

ص: 71

واحدٌ من هؤلاء الذائقين، يقول بالكلمة الطيبة، أو باللحظة السعيدة:

غمرتْ مياه البحر قلبيَ لحظةً

فعشتُ حياة ألفِ آلافِ ربيع

إذاً ... ماذا نقول باللحظة السعيدة التي عشناها: ساعات بحساب الوقت. لقد غُمرنا بما وراء الكلمة الطيبة، اليوم؛ وكلمات الشعر والنثر: جديرة بالتأمل الطويل. ابتداءً من الكلمة [المهجورية] التي بدأها الشيخ [شريعتي]، نقلاً، أو نيابة عن [وزير الثقافة والإرشاد].

هل نهج البلاغة، فعلاً مهجور: بعد كل هذا الذي سمعناه من سيرورته بأنفاس الخلائق؟!

2-دعوة المرتضى للرائين:

أجرِّب، باثنتي عشرة كلمة، تحيتكم وإبداءَ الحيويات المكنوزة وراءها. وحبذا استيعاب الوقت الجميع من كانوا مقررين لإحياء هذه الأمسية.

الكلمات المكلِّفة بالتحية والإحياء:

إنَّ الشريف سری *** بالنهج بين الورى

يُعلنُ عن دعوةٍ *** لمرتضى مَن يرى

هذا [المرتضى] للرائين ... ما هي دعوته؟ ... ولماذا قام الشريف بهذا العمل؟ أعني: جمع [نهج البلاغة] من تفاريق كلام أمير الكلام، وحكيم الإسلام (علیه السلام)؟!

3-ودعوة المؤتمر للمعاصرين

العنوان الذي دعينا من أجله: مهمُّ ومثير جدّاً ... ويستدعي التلفت إلى ما تعنيه كلماته. فحتى نقرأ [نهج البلاغة] مجدّداً: ينبغي أن نتعرف إلى جوهري [الفكر الإنساني المعاصر]؛ لأن عنوان الدعوة [مؤتمر نهج البلاغة والفكر الإنساني المعاصر].. فعلاً: ماذا يعني الفكر المعاصر؟.. وما نسبته إلى مطلق فكر نهج البلاغة؟

ص: 72

4-ثقة الجمهور والوثائق:

لا نزال إلى اليوم: نجتهد مع إخوتنا الإيرانيين؛ لكي لا يضعوا عبارة [تأليف الشريف الرضي] أمام اسم [نهج البلاغة ]. لأن هذه العبارة: توهم بأن النصوص النهجية من صنع الشريف.

نحن خرّجنا هذه العبارة في مقدمة [الإبداع والنقد]. ووضعنا النص بالعربية والفارسية، ... وقلنا: إن التأليف يعني الجمع والتنسيق. وبالفعل: جمع الشريف [محاسن خطب] أمير المؤمنين (علیه السلام)، ثم ألَّف بينها بالتنسيق الذي نراه مرتباً من [الواحد] حتى [239] التاسع والثلاثين بعد المائتين.. فكان ما سماه [ باب الخطب]. وجمع [ محاسن كتب] أمير المؤمنين (علیه السلام). وألَّف بينها فكان [باب الكتب] أو [باب الرسائل]. وهو مرقم من [1] إلى [79]. ومثل ذلك جمع [ محاسن الحكم العلوية ]. وألّف بينها؛ فكانت [باب الحكم] المنسق من [1] إلى [480]. وقد فصل بين جزئي الحكم بتسع غرائب وضعها بين الحكمة [260] والحكمة [261]. وقال: إنها من [ غريب كلام] أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي يحتاج إلى التفسير.

ومع هذا الوضوح: لا يزال الواقع يحتفظ بأناس يستغربون أن نقتنع بنصوص [نهج البلاغة] على أنها الأمير المؤمنين. وكثيراً ما ابتسمنا لاستغرابهم؛ لأنه يجعل خادماً من خدم أمير المؤمنين: بهذا المستوى من البلاغة.

وبكل حال: فإن عمل الشريف مقدر ومعتبر، ومعي وثائق: تؤكد قيمه وصدقه. إنما هُيَّءَ لي أن أنظر: إلى وجوهكم الجميلة. وإلى أسلوبكم الصمودي في الوقوف والإصغاء. فاعتبرت ذلك أصدق توثيقاً من الوثائق. وأعفيكم وأعفي نفسي من استعراض هذه المقنعات؛ لأنكم بصدق الموقف ولهفة التطلع: تجاوزتم مستويات من يطلبون الوثائق والبراهين.

5-«الحلم» للمؤتمر والمختبر أوروبا:

عمل الشريف في مشروعه الجامع: ذو قِيَم حضارية وإنسانية. ولنعرف ذلك: نعود إلى كلماتنا المعدودة باثنتي عشرة كلمة. ثم ننطلق من دلائل الكلمات: إلى آفاق الفكر

ص: 73

المعاصر، التي يحياها أبناء القارات.

معي كتاب يحمل هذا العنوان [آفاق الفكر المعاصر]: جمع نصوصه: تسعة من أساطين الفكر العالميين. وألف بينها [غايتان بيكون]. وأخرجت بعشرة آفاق؛ فيها [222] اثنان وعشرون ومئتا نص.

الموازنة الأولى مع نهج البلاغة: كَمِّيَّةٌ. فالشريف وحده: جمع سبعة نصوص وثمانمئة [807].

والموازنة الثانية: موضوعية. فموضوعات آفاق الفكر: عشرة؛ رتبت على هذه الصورة:

1-الفكر الفلسفي: [13] ثلاثة عشر نصاً.

2-السيكولوجيا المعاصرة [30] ثلاثون نصاً.

3-العلوم الاجتماعية: [26] ستة وعشرون نصاً.

4-فلسفة التاريخ: [16] ستة عشر نصاً.

5-أوضاع ومسائل سياسية: [18] ثمانية عشر نصاً.

6-مسائل الفن المعاصر وأشكاله: [51] واحد وخمسون نصاً.

7-الفكر الديني: [14] أربعة عشر نصاً.

8-العلوم الرياضية والفيزيائية: [9] تسعة نصوص وملحوظات.

9-البيولوجيا: [16] ستة عشر نصاً.

10-المذاهب الإنسانية المعاصرة: [26] ستة وعشرون نصاً.

أعرف أن المقارنة والتحليل: يحتاجان وقفة مختبر لا وقفة مؤتمر. ومع ذلك: أغامر؛ وأذكر أصغر نص في نصوص نهج البلاغة. وأذيع عبقاً من دلائله في القارة الأوروبية.

هذا النص: كلمتان؛ هما: [الحِلْمُ عَشيرةٌ ].

حول هذا الموضوع: كتب جاحظ الفرنسيين؛ [شارل بلا] ما سمَّاه [ رسالة في الحلم عند العرب].. ومع موسوعية بحوث هذا الباحث: لم يبلغ الآفاق الفسيحة التي احتوتها حكمة [الحلم عشيرة]؛ لأن لفظ [الحلم ]: مجنَّح بتسعة وأربعين معنى؛ ولكل معنى: أفقه. ولذلك

ص: 74

كانت [العشيرة]: خَبرهُ ... والعشيرة: من تطيل عشرته؛ فيكون لك أهلًا وامتداداً حتى [العرش]؛ كما في تقاليب الكلمة بدستور [فقه اللغة ]. ففعل [ عشر] يدور بستة دوائر منها [عرش، شرع، شعر، رعش، رشع ].

إن أفق [التاريخ] من آفاق الفكر المعاصر. وهو من مواسم [العشرة ]. ومثله أفق [البيولوجيا ]. وأفق [السياسة ]. وأفق [ الاجتماع ].

كذلك تعود آفاق [الفن والإنسانية والنفس] إلى العشرة من وجهها الشعوري [ شعر ].

وأفق [الدين والعلم]: يعودان إلى دلائل العشرة من وجه الصعود [عرش] ومن وجه التنزيل، أو النزول [شرع].

لكنني أيضاً، أجدد التذكير بأن الوقت للتحليل: يحتاج وقفة مختبر لا وقفة مؤتمر.

وأنا أثق بقدرتكم على الوعي، لو أتيح لكم:ولي أن نتعامل مع هذا النص الأصغر من نصوص نهج البلاغة؛ لأن [الحلم] فيكم: مجنح بتسعة وأربعين جناحاً، أقربها: العقل، والصبر والتسامح. أليست آفاق الفكر المعاصر: محكومة بالعقل والصبر؟!

هذا مثال من القارة الأوروبية.

فماذا عن القارة الأمريكية؟!

6-مكافأة الوثيقة الأمريكية: الثقة بالمدبر:

قصة أمريكا مع كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام): طويلة وجميلة.. وعليها مكافأة [مائة ألف دولار]: لمن يلتقط الإشارة. ولا بد أن الوعي: أعظم إسعاداً لصاحبه من أية مكافأة مادية. لأن [الفهم: يشعر الفاهم بالمقدرة]؛ كما يقولون في [آفاق الفكر المعاصر؛ 858].

سنة 1971: القيت [قصة الإسلام في عيد الغدير] على جمهور [أسرة التآخي] في برج حمود. بيروت. وختمت القصة الغديرية بهذه العبارة:

عفوك يا إمامي ...!

فما جئت أمنحك الثقة؛ لتكون بثقتي خليفة. بل جئتُ أستمد منك الثقة؛ لأكون

ص: 75

مسلماً محسناً، على طريق الحق ...

أنتَ: ثقةٌ تشرق على الكون: فتتفتح في جسوم المرضى شفاءٌ؛ وفي قلوب اليائسين أملاء؛ وفي حياة المحبين لقاء؛ وفي عقول المفكرين دولاً وبناء.

مرة، تفتحت في قلب فيلسوف أمريكيٍّ ثقةُ بالنفس واعتماداً عليها؛ فبنى على قولك: بيانه الاستقلالي.

واستقلت أمريكا عن بريطانيا: بفعل تنفيذ لكلمات منك؛ فكنت أباً روحياً: لاستقلالها وحريتها. وابرؤك من مسؤولية المخالفة لمبدئين استمدهما منك فيلسوفها [امرسون: Emerson].

بعد عشرين عاماً من صدور [قصة الإسلام] هذه: لقيت صديقاً من نبلاء البحر الأبيض المتوسط. فأخبرني عن استعداده لشراء هذه المعلومة: بالمبلغ الذي ذكرت. وقال إن الحصول على هذه الوثيقة: لا يقدر ثمنه.

والآن أستميحكم العذر: باستخدام الوثيقة، التي توثق تلك المعلومة. هذا كتاب [ناموس الأدب الأمريكي]. لقد استعارته لي إحدى بناتي من [المركز الثقافي الأمريكي بدمشق ]؛ لأن كتابي ذهب مع مكتبة [عين الجديدة] في لبنان.

في سيرة امرسون: أنه اتصل بكلمات أمير المؤمنين سنة 1832. وذكر كلمات [ التقدير المدبر] في مقالة [الذات الحق] التي نشرها بذلك العام. وصرح فيها باسم [الابن القانوني لمحمد ص] يعني: الصهر.. واستقال من عمله في [كنيسة بوسطن الموحدة] الثانية. وقال: لا بد للواعظ الحق من ترك وظيفة الوعظ في الكنيسة. ثم غاب عن أمريكا حتى سنة 1841 فعاد ومعه مقالته الجديدة [الذات العليا ]. والعملان: خلاصة لما استلهمه من مثالية حكيم الإسلام (علیه السلام). وقد أسس مؤسسة الجماعة المثالية. وحرر مجلتها منذ 1844-1846.

وخلاصة القصة المؤثرة رواها كتاب سيرة [امرسون]؛ وذكرت الموسوعات العالمية [مثاليته واستقالته من الكنيسة لظروف اعتقادية غامضة]. ويستطيع من شاء: العودة إلى هذا الكتاب ابتداء من [ص 422] الصفحة الثانية والعشرين بعد الأربعمائة؛ [The American Tradition in Literature].

ص: 76

إمرسون: تجاوز التأثر المعبَّر عنه بالكلام. واتخذ موقفاً. فقد اقتنع بكلمات أمير المؤمنين القائلة بما مؤداه [ يأتيك ما قدر لك. وأعظم الناس راحة من علم ذلك وعمل به ]. وعبارة إمرسون الانكليزية: تجمع بين الحصة النسبية والمقدر المطلق، وبين الارتياح مما يقلق ].

هذه الفكرة: أساس العمل المحرر من الخوف والقلق. وقد حاول إقناع الأمريكيين بهذه الثقة المطمئنة إلى [الفاطر، الرزاق، المدبِّر ].

أعتبر المعلومة: فهمت.

وهذه الوثيقة: عرضت.

وتبقى المكافأة: لمن التقط الإشارة.

امرسون: لم يكتف بالكلام. وقد شدَّد [سماحة السيد فضل الله] على أزمة الكلام والمتكلمين. وقبله كانت النباهة والتنبيه إلى [الكنز المهجور].

وبلسان سيد الجميع: طرحت أزمة [المهجورية ]. وعبارة سورة الفرقان الشهيرة:

[وقال الرسول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً].

الناس: يقرؤون القرآن كل يوم. ويصلُّون بآياته كل وقت. لكنهم لا يُنفذِّون روحه وأخلاقه. وبهذا المعنى فهو [ مُتَّخَذٌ مهجور]. ومعروف مجهول. وخصب بائر. وقريب بعيد.

إمرسون: اطلع على كلمات حكيم الإسلام (علیه السلام). فتغير مُخُّه. وكانت الومضة المضيئة. وولد الشخص الذي يعدل مدينة أو قارة. كما في مقالة [الذات الحق]. ومنذ ولد ذلك الشخص الذي علم: عمل بعلمه. ولا يزال ساطعاً في ثريات الفكر المعاصر الأمريكي بما تشرِّبه من كلام مضيء.

أتكفي هذه الإنارة: لرؤية المغزى من الإثارة الموصلة إلى الإشارة؟!

هذا من أمريكا بعد أوروبا.

وآسيا. أما لها حصة بهذا القرار الإنساني المعاصر؟!

ص: 77

إن تراث أبي تراب: ملك للجميع. ومن شاء من أبناء التراب: يتغنى بالحِلْم، وينتسب إلى عشيرته. أو يعتني بالمقدَّر ويسعى بآفاق حكمته.

7-العزائم بين الواقع والمثال: الصين

معي ديوان ماوتسي تونغ، الذي كان يحكم الصين. ومن يفكر أن ماوتسي تونغ: قبل وصية أمير المؤمنين (علیه السلام) لابنه الحسن. ثم تشبع بمبادئها واجتهد بتردادها: كما هو واضح العبارة في قصائد من ديوانه؛ مثل [ تشانغ تشا كوين لوين إلى ليوياتسي]. في هذه القصائد الثلاث: ثلاثة مبادىء من الوصية الحسنية المسماة في شرحنا العصري [العقل حفظ التجارب ].

المبدأ الأول: يتعلق بالمثال الذي يعبر عنه الأسلوب الصيني ب [ المليك القدير، الذي يسير أقدار الطبيعة جميعاً] ص 24.

والمبدأ الثاني: يتعلق بالواقع، الذي يلبس بالزي الصيني [صورة البرودة والسخونة والسلام بينهما ص 57.

والمبدأ الثالث: يتعلق بالحركة الأخلاقية الدائبة بين ضرورات الواقع وحريات المثال. والعبارة الصينية: ترادف العبارة العلوية، حتى تشف عن مباسم الكلمات العلوية المشعة، فهل يتيح لنا وقت المؤتمر: الإصغاء إلى تحليل المختبر؟!

أمير الكلام (علیه السلام): يصف العاقل بالمتعظ بالآداب. وينصح بصد الهموم الواردات بعزائم الصبر الموقنات.

ويأخذ رئيس الصين: الوصفة المنشطة: فيمدح آداب رفيقه «ليو». وينصحه بالمناعة ضد الآلام. وبالنظر إلى كل شيء، في العالم، بصدر رحب ص 65.

وقت المؤتمر: عزيز.

وأدوية المختبر: معروفة العناوين. فليذهب إلى خبرائها من يحبون سعادة [التعارف العالمي في قاموس علي ].

ص: 78

8-الدعاء والصفاء والدعوة: أوروبا وآسيا

أثبتت الوصية الحسنية: أبوتها في [ التعارف العالمي ]. ومن أنباء فقرها: أشير بتسارع ضوئي.

فيها برج للدعاء: عجيب.منه قوله (علیه السلام):

فمتى شئت ...

استفتحت بالدعاء، أبواب نعمته.

واستمطرت شآبيب رحمته. [ف 126].

نجد ترجمة هذا في قصيدة شاعر الشعراء الألماني [هلدر لن] المسمَّاة: [كما لو في يوم عطلة] ص 136: قصائد مختارة.

وفي الوصية: برج للصفاء. منه قوله (علیه السلام):

فإن أيقنت أن قد:

صفا قلبك فخشع

وتم رأيك فاجتمع

وكان همك في ذلك هما واحدا.

فانظر فيها فسرت لك. [ف 61].

نجد تمثَّل هذا في قصيدة [ الرسول] من ديوان الشعر الهولاندي.

فإذاً من حسن الحظ: أن الكوفة لم تبتلع صوت علي (علیه السلام). ولم تكن قضيته المثلى: محصورة في مسجد الكوفة الضيق. بل كانت قضية الإنسان في كل مكان وزمان. [ الخطبة:25] ما هي إلّا الكوفة أقبِضُها وأبسُطها. إن لم تكوني إلا أنتِ تهُبُّ أعاصيرُك، فقبَّحكِ اللّهُ] ...!

كان أمير المؤمنين: يتحدث في مكان ضيق. لكنه-وهو أبو التراب-كان يعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذا الكلام: سيتلقاه أهل الذوق من أبناء التراب، في كل مكان ...

ص: 79

9-كلام علي في أفريقيا:

ألا يكفي من أفريقيا: صوت الشيخ محمد عبده. وصوت [محمد أبي الفضل إبراهيم ].

مقدمة الشيخ محمد عبده لنهج البلاغة: شهيرة. وتظل حاضرة ناضرة؛ لأنه اكتشف [دولة البلاغة] وأقر قوانينها وعظم [ مدبرَ تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، وحامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ]. واعتقد أنه [ليس في أهل هذه اللغة: إلا قائل بأن كلام الإمام علي (علیه السلام)، هو أشرف الكلام، وأبلغه، وأغزره مادة، وأرفعه أسلوباً، وأجمعه لجلائل المعاني، بعد كلام الله ونبيه (صلی الله علیه و آله و سلم)].

ومقدمة أبي الفضل لشرح ابن أبي الحديد: معلومة ومفهومة. وعبارتها الأولى:

[اجتمع للإمام علي بن أبي طالب: ما لم يتهيأ لغيره. من: صفات الكمال، ومحمود الشمائل والخلال، وسناء الحسب، وباذخ الشرف. مع الفطرة النقية، والنفس المرضية ].

ومثلهما صاحب [ البلاغة تطور وتاريخ]، الدكتور شوقي ضيف؛ فقد أقر وقرر أيضاً، بصوت جهير [ وكان علي: لا يبارى فصاحة وبلاغة؛ ص 14].

10-آسيا وقارات النقد: سورية وإيران

نعود إلى آسيا: وصلتني رسالة حديثة على غير موعد. فيها موازنات بين عوالم قديمة وجديدة. وبين محسوسات ومعقولات. وبين ما كان وما يكون. منها:

[لو ملكت كنوز الدنيا: لما عادلت لفظة مضيئة من صحائف أبي تراب].

في الرسالة: دعاء يستنزل الغيث. والحمد لله. والغريب في استخدام [ صحائف أبي تراب]: ممن كتبت [ ملحمة الإمام؛ ووهج البردة للنبي؛ وسطوح الفجر بالثريا للحسين ]. ذكرت صاحبة الكلمات الآسيوية في [بينات الفاتحة] من [فصول مقدمة ] الشرح العصري.

ربما تكون الإثارة بالكنوز أكثر من الصحائف. فجواهر الكنوز: غير ألفاظ الصحائف. ولنسأل: كم تشتغلون للحصول على كنز من كنوز الدنيا؟!

ص: 80

فلنجرب إذاً: أن نستضيء بكلمة من كلام أبي تراب على نحو حقيقي وتحققي ...!

هنا: نتجاوز قارات الإبداع. ونصل إلى وجوه القارات النقدية. ونعود إلى الكلمة المؤرّجَة بالنبأ المزدوج. لقد أكد الدكتور [علي لاريجاني ]. وجود كنز. وأكّد أنه: مهجور. نهج البلاغة: كنز مهجور.

لقد سمعنا من عزائم أبناء القارات: ما يؤكد شَغَفَ مُهَجِهِمْ بما في مُهَجِ ذلك الكنز مما يحدد الحياة والحضارات. ولا أظننا: ننسى بعد اليوم موسيقا [الصين وأمريكا وأوروبا وأفريقيا وبلدان آسيا] المنغمة على برازخ اللقاء مع كلمات أبي تراب. لكننا نبقى أكثر وفاء: لكلمات [الفرقان] المنزلة على قلب النبي الخاتم (صلی الله علیه و آله و سلم). وقد أكدت تلك الكلمات: لقاء الأضداد. فالقرآن: متخذ مهجور. والسيد الخميني: يُصَنِّفُ [نهج البلاغة] في المرتبة الثانية بعد القرآن؛ فهو لتحرير الإنسان المعاصر والمقبل: أعظم نهج، وأرقى دستور، بعد كتاب الله ...

نسلك الجادة الوسطى. فنرى: أن [نهج البلاغة]: نصف مقروء. ولا أقول: إنه مقروء تماماً. وحججنا واضحة جداً.

بيننا: السيد [ جمال الدین دین برور]. وهو مؤسس [بنياد نهج البلاغة] في طهران. [ وأقام عشرة مؤتمرات عالمية لاكتشاف ما في كنوز [نهج البلاغة ]. ونشر عدداً من البحوث. وحتى الآن: لم نصل إلى إحصاء حقيقي بعدد الكتب والبحوث والطبعات والشروح والترجمات التي لنهج البلاغة.

وبيننا: الشيخ [محمد تقي جعفري]. وقد سمعتم منه. وهو صاحب شرح جديد لنهج البلاغة. وقد بلغت مجلدات شرحه: أربعة وعشرين مجلداً. ولا يزال في الخطبة [160] الستين بعد المائة، من قسم الخطب. وقد يبلغ شرحه خمسين مجلداً أو أكثر. واللهم زد وبارك.

ومع كل هذه المواسم: يرى النقد الحضاري ما سمعتم من أحكام القراءة النصفية والمهجورية. فلماذا لا يزال هذا المشروع الذي جمعه الشريف الرضي من كلام جده علي: مهجوراً، أو نصف مقروء؟!

ص: 81

هل تجدون جواباً في الرسالة الآسيوية التي تقول بتفوق [لفظة مضيئة من صحائف أبي تراب على كنوز الدنيا]؟

ربما. فأهل الدنيا: لا يزالون يشتغلون بالكنوز الدنيوية. وإذاً: ما المانع أن نستمر بقراءة [نهج البلاغة ] لنحصل منه على ثمرات مواسم جديدة. كما حصل منه [هلدر لن] في ألمانيا. وكما حصل منه [إمرسون] في أمريكا. وكما حصل منه [ ماوتسي تونغ] في الصين. وغيرهم وغيرهم.

11-تصحيح البناء اللغوى: خ 1

نأخذ الخطبة الأولى: كإشارة لضرورة إعادة النظر بالذي تمَّ من قراءات [نهج البلاغة] حتى الآن.

الخطبة في قراءتنا المجدَّدة: مقسمة إلى تسع وأربعين فقرة. ومرتبة بسبع زمر. ومشروحة بعشرة كتب. واسمها في هذه القراءة [ الهوية والتكوين]. في القسم الأخير من الخطبة الأولى: حديث عن القرآن الكريم بعد ارتفاع رسول الله إلى الرفيق الأعلى.

من هذا القسم: اكتشفت الحكم القائل بأن [نهج البلاغة] نصف مقروء. لأن أربعة أحوال الكتاب: ضبطت ضبطاً، نصف صحيح. وأقرأ لكم القراءة الضابطة. ثم أذكر بما عليه النص: عند جميع من تعاملوا معه من الشراح والمحققين.

قال (علیه السلام):

وخلَّف فيكم. كتاب ربكم:

مُبيِّناً: حلاله وحرامه.

مفسرِّاً: مجمله.

مُبيْناً: غوامضه.

مبايِنًا: بين محارمه.

هذه القراءة التي يقتضيها السياق والبناء اللغوي السليم. لكن الحالين الأخيرين:

ص: 82

قرنا قراءة خاطئة؛ فجعلت الثالة كالأولى: بتشديد الياء. وجعلت الرابعة بالضم: على تأويل غير سائغ.

إنها أربع أحوال متتابعة؛ ولكل منها: دوره ووظيفة طبيعته. وقد فصل [الشرح العصري] بهذه المسألة في مكانها، بعنوان [أنبياء الأمم والكتاب].

12-تصحيح لصالح الامام المنتظر: خ 150

والأخطر من البناء اللغوي وضبطه: أن نَسُبَّ من نحب ونحن لا نشعر؛ فيكون الخطأ مع الأشخاص الذين نكرمهم.

في الخطبة [ 150] الخمسين بعد المائة، وفق إخراج الشيخ صبحي الصالح، الذي صدر في بيروت سنة 1967.

ما سأقوله: مُلَّحٌ. وإني أرجو [مؤتمركم الكريم]: أن يهتم بضبط النصوص التي تؤذي أول الأئمة وآخرهم بوضوح.

يقولون عن صاحب الزمان (عجل الله تعالی فرجه) وأصحابه: إنهم أهل ضلال. وهذا عجيب. كيف لم ينتبهوا إلى هذا الكلام المنحرف والسادر.

صحيح: المؤتمر محدود بوقت. إنما في المؤتمر ينبغي أن ننتبه لمثل هذه القضايا؛ لنصحح النصوص جميعها: وفق ما هو الحق.

الشيخ صبحي: زاد كلمتين في مقدمة الخطبة المشار إليها هما [أهل الضلال].

أصحاب [ معجم الفاظ نهج البلاغة] في [قم وبيروت]: قطَّعوا الخطبة إلى جمل وفق المادة. ووضعوا [أهل الضلال] في صدر كل جملة على مراقهم.

راجعوا مادة [بصر] وتحولاتها في [أبصار. بصائر ]. ومثلها مادة [ صبر]. وسيأخذكم العجب من غيبة الانتباه.

أمثلة:

(أ) [في سترة عن الناس: لا يبصر القائف أثره ]. المقصود [ صاحب الزمان] المستور

ص: 83

عن رؤية الناس. ولكن عباقرة الانتباه: أرادوا تنبيه القارىء إلى معنى الجملة فوضعوا أمامها بين قوسين [أهل الضلال].

(ب) [ تُجْلَى بالتنزيل أبصارهم ويُرْمَى بالتفسير في مسامعهم]. والمقصود: أصحاب صاحب الزمان (عج) الذين يعدّون ليوم الظهور. ورياضتهم: قراءة القرآن، التي تصقل أبصارهم؛ لتكون قادرة على الفهم والنفاذ والتمييز. ومكافأة هذه الرياضة: تلقي التفسير الذي يُسْفِرُ معه فجرُ المعنى المرشد إلى صراط النعمة.

لكن عباقرة المعجم وأساتذة الانتباه: قدموا إرشاداً للقراء؛ فوضعوا أمام هذه العبارة المضيئة (أهل الضلال).

أنا متعجب غاية العجب: كيف لم يحبسهم حابسُ الفيل؟!

نحن قضينا أحزان مسألة دولة الإمام الأول. لكن دولة الإمام المنتظر القادمة: رجاء الناس وحاجاتهم؛ لأنه [يملأ الدنيا عدلًا كما ملئت جوراً ]. أليس من الواجب الانتباه الواقي لتلك المنتظرة؟ أمِنَ الآن يبدؤون بالأذى والتضليل ...؟ ... ومن؟ ومن؟

الذين يحبون صاحب الزمان. والذين ينتظرون المجيء السعيد المجيد.

أرجو أن تصحح المعجمات وفق مسطرة الانتباه. وأرجو أن تحذف زيادات الشيخ صبحي الصالح، التي أضافها على الخطبة، وعلى غيرها من نصوص نهج البلاغة.

13-تصحيح لصالح الأمام الأول: ر / 21

في الرسالة الإحدى والثلاثين [31]: أسقط صبحي الصالح كلمتين من فقرتها الأولى. فصار الإمام علي (علیه السلام): [المستسلم للدنيا ]. وفرض هذا الحكم على ذلك المتمرد على الدنيا، المطلِّق لها، الذام للتكالب عليها. وصدَّق هذا الحكم الذين قلدوا صبحي الصالح. وحتى الذين ترجموا النص إلى لغات أخرى: احتفظوا بهذا التزوير للشخصية.

معجمات نهج البلاغة: كذلك وضعت تحت مادة [سلم-استسلم] هذا الحكم الانقلابي على الشخصية الغالبة.

ص: 84

إذاً: لقد قلبوا دلائل الشخصية. وجعلوا: إمام الزهاد بالدنيا مستسلماً لها.

وجواباً لمن ذكّر بمعاوية في هذا المقام تقول:

الأمر مختلف؛ فهؤلاء: تصرفوا خطأ. ومعاوية كان ذا موقف عامد. ومع ذلك لم يقل بعلي مثل هذا القول. ويروي الرواة حكاية اعتقاده بتميز شخصية علي. ومن أقواله الشهيرة في مناسبات مختلفة:

والله ... لو كان عند علي بيت من التبر وبيت من التبن: لنفذ تبره قبل تبنه ... والله ... ما سنَّ الفصاحة لقريش إلا علي [مقدمة شرح ابن أبي الحديد؛ ج 1 / ص 25].

ومثل هذا: كثير في أقوال معاندي علي وخصومه. فكيف نوازن بين أقوال الخصوم الممجدة عن صحو: وبين أقوال المحبين الذامة عن غفلة؟!

14-الموعود المربع

على كل حال: لا نريد كلاماً طويلاً بهذا المقام. وليست المسألة: مسألة كلام. ونحترم أوقات الآخرين ونحب سماع أكثر ما يمكن منهم.

وسأصدر كتاباً مستقلاً: بهذه النقائض والمفارقات العجيبة، التي تجعل [ صاحب الزمان وأصحابه] كما سمعتم. وتجعل [سيد الزهاد] بالدنيا: مستسلماً لها. وسيتعجب معي مصدر و تلك الأحكام في كتبهم ومعجماتهم الصادرة عن مثل [ جماعة المدرسين] بقم. أو [دار التعارف] في بيروت. وغيرها.

يا للعجب ممن يحبون صاحب الزمان وأصحابه. ثم يذمونهم. وهم لا ينتبهون.

أرجو مراجعة [المعجم] هذه الليلة إن أمكن. لتروا ما أذكره لكم في مواد [ بصر؛ يبصر؛ أبصارهم؛ بصائرهم]. وفي [ صبر]. وفي [سلم. استسلم].

كذلك: نحن في طريق إصدار [نهج البلاغة ذي الفقر وشرحه العصري] جملة واحدة. كذلك نحن في طريق إصدار [ قاموس علي: موسوعة التجدد الحضاري].

ص: 85

15-التعية الزمانية والسابقون

كل عام وأنتم بخير.

وهذه المعايدة تفترض: تكملة التحية والهدية.

[والسابقون السابقون: أولئك المقربون].

نحن في احتفالنا بالتاسع والعاشر من رجب: نقدم موعد الاحتفال؛ لأنه في نص الدعوة: يتزامن مع مولد أمير المؤمنين. وهذا المولد: يكون في الثالث عشر من رجب.

الثالث عشر من رجب هذا العام: يجيء مع مولد السيد المسيح. وهذا الاتفاق بين العيدين إشارة تحملنا إلى التقاط الهدية للجميع. فكل عام والعالم كله بخير. بمولد أمير المؤمنين فمولد القول لقول الحق.

لاحظت ما تنقله المعجمات [الفرنسية والانكليزية] تحت مادة [عيدَس]. وهي في اللغتين: مفرد أضيفت إليه علامة الجمع [ عيد + س]. والصورة الكتابية للكلمة باللغتين (IDS-S).

المثير في الإشارة: دلائلها الزمانية. فهذا اللفظ يعني [الثالث عشر] من الشهر. كما يعني [ الخامس عشر] من بعض الأشهر.

وأترك اكتشاف الإنارة وراء الإشارة: لذوي البصائر الموسوعية والقاموسية والذوقية.

أكتفي منها: بإرادة التحية العامة بالخير لأهل زماننا وأهل كل زمان. لأن دعاء صاحب الزمان الشهير يشمل الجميع قال (علیه السلام):

[الأحياء والأموات؛

أبقهم وأحيهم،

ليروا،دولتنا وعزنا وملكنا وسلطاننا].

احتفالنا السابق لموعده: من همة السابقين المقربين. والأخ الشيخ شريعتي ومن يمثلهم: يستبقون الخيرات، فيدعون إلى مثل هذه المؤتمرات. ويثقون بنباهة من يدعون لذلك نبارك بأيام [السابق والمنتظر] من زمان الخيرات والبركات.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 86

ملاحظة:

أسماء [الوثائق والبينات]: ذُكِرَتْ في سياق الحديث المباشر؛ لذلك لم نضع لها لائحة خاصة.

رحم الله «ابن الهيثم» مؤصِّل علم «البصريات والنظارات». لقد فعل أفعال اجتهاده: ليعيد إلى «عيني أمه» سلامة الرؤية. فماذا نفعل: لنعيد إلى «أعين أمتنا»: صحة النظر؟!

من [موسوعة التجدد الحضاري]

ص: 87

ص: 88

قاهر الموت

اشارة

إلى الإمام علي كرم الله وجهه

الأستاذ أنور الجندي

حيتَك روحي أشواقاً وتحنانا *** يا سيّداً غمرَ الأكوانَ إيمانا ...

فكم هزمتَ عدواً في مصاولةٍ *** وكم تجرّعتَ آلاماً وأحزانا

هُم حاربوك فلا والله ما هدأتْ *** ضغينةٌ وابتْ عيناكَ أضغانا

وكنتَ في ثُبُج الهيجاء مُعجزةً *** وكنتَ في الليل إنجيلاً وقُرآنا

ونهجُك النهج، آياتٌ مخضَّبةٌ *** بالأمنيات همَت ورداً وريحانا

بلاغةً تترك الأيامَ-واجمةً *** وحكمةٌ نديتْ عدلاً وتبيانا

والسيفُ سيفك في ساحِ الوغى قدرٌ *** سلهُ، الم يكُ في الميدانِ طُوفانا؟

تلفَّت الدهر مذهولاً لغرّته *** وأطرق الزمن المغرور إذعانا

يا قاهرَ الموتِ والأجيال مصفيةٌ *** لهاشميّ، فديتُ الليث ظمآنا

ص: 89

مشى إلى الهودجِ المشؤوم تحفزه *** مشاعرُ خلتُها في الصدر بركانا

وهالَه من جنون الغدر مغتصبُ *** تخيّل الغدر إشفاقاً وإحسانا

وأنجعُ العُمر أن ترجو بلهنيةً *** من أحمق جُنَّ أحقاداً، وطُغيانا

عُبدانُ مهزلةٍ طاشت مداركُهم *** فأسرجوا في سُكون الليل عُبدانا

وهم وربِّك أوهامٌ ملفقة *** لم تصحُ من عنتِ الكفران كُفرانا

يا قاهرَ الموتِ ماتَ الحسُّ وانطفأت *** مشاعلُ المجد أثاماً وحرمانا

وزُلزلت بالأباة الصيد داميةً *** أرضُ تهاوت حزازاتٍ وأشجانا

تكادُ من طعناتِ الغدر موجعةً *** أن تَسأل الخرق المجنونَ نسيانا

ألا يهزُّك يا مولاي أنَّ دماً *** يسيلُ من قلبي المحزونِ غضبانا؟

وأين أحبابيَ الأبطال، أين ثرىّ *** ضمَّ الإمام، فماد القبر نشوانا؟

يا قبر تِهْ بأمير المؤمنين هوىً *** وقبل الجسد القُدسيَّ هيمانا

ولا تسلنيَ صبراً، إنني قلقٌ *** تعشّق الحكمة الغرّاء ولهانا

ولن أضيق بدهر حائر أبداً *** فقد خُلقتُ كحدِّ السيف عُريانا

وهِمتُ بالألم القتّال محترقاً *** بناره، وألفتُ السهد سهرانا

وما تذوقتُ في دنياي أمنية *** فهل تفيق من الآثام دُنيانا؟

يا سيدي يا إمام الكون هل لمحتْ *** عيناكَ مثلي في اللأواء إنسانا؟

إني حببتُك مفتوناً وكم عشقتْ *** عينُ المحبينَ في الظلماء فتّانا

أنتَ الإمام، ولحنٌ خالدٌ شغلت *** آیاتُ نهجِكَ أجيالاً وأزمانا

وراحَ كلُّ محبٍّ ينتشي طرباً *** وعبَّ من عبق الألحانِ سكرانا

لك الخلودُ، ومجدٌ بادخٌ، ورُؤى *** كالورد رفٌ على الأغصان نشوانا

تأنَّق السيف في يُمناك أغنيةً *** أكرِم بسيفِك أنغاماً وألحانا

يا سيدي، يا إمامَ الكونِ معذرةً *** إن بحتُ بالنغم المجروحِ أُسوانا

تنكّر الغاصبون الصقر واضطرمت *** أحقادهم، وسعوا للشر ذوبانا

وأدلجوا في دروب الشرك يُلهبهم *** لؤمٌ تفجَّر إعصاراً، ونيرانا

ص: 90

وأنتَ تعلمُ، والأيام عالمةً *** أنَّ الإمام إمامٌ أينما كانا

وأنَّك السيفَ، لم تُشهَر لنازلةٍ *** إلا هدمتَ أكاليلاً، وتيجانا

فكيف يُنكر معتوهٌ وإمَّعةٌ *** من خلّف الذئب في صفّين حيرانا؟

وتلك خيبر تبكي وهي مِنهكة *** منازلاً، وأضاليلاً وأوثانا

ولم تزلْ أرضها السمراء ذاكرةٌ *** ليثاً تجسِّد فيه الطهر ألوانا

يا سيدي، يا إمامَ الكون كم سألتْ *** عنكَ الملاحمُ أبطالاً وفرسانا

نشكو إليكَ هموماً عربدت حنقاً *** وغاصباً سامنا ذُلاً وعُدواناً

أقامه الغرب في أوطاننا ملِكاً *** يامَن رأى الملِك الجبّار شيطانا

ونحنُ لاهون أنستنا هزائمنا *** شعباً يئنُّ من الآلام جوعانا

هم شردوه وغالوا في مذلته *** فضاع حساً، وأحلاماً، وأوطانا

يا سيدي، يا إمام الكون لو عطفتْ *** يُمناك بالسيف لاهتاجت سرایانا

أنت الإمام، وحسبي أنني دنف *** أحبَّ وجهك كالأنوار جذلانا

لك التحية من قلبي مضمِّخةً *** بالعطر، تسحبُ أذيالا ... وأردانا ...

ص: 91

ص: 92

حقوق الانسان في نهج البلاغة

الدكتور حسن الزين

الكلام عن حقوق الإنسان في نهج البلاغة يكتسب أهميته من كونه يطرح استطراداً موضوع موقف النظام الإسلامي من هذه الحقوق. ومن هذا المنطلق يمكن القول أن حديثنا يتصل بما هو مطروح في مجال الاعلام العالمي من تناقض ذلك الموقف مع معطيات النظام الديمقراطي في هذا المجال.

وبعبارة أوضح يمكن القول أن الإسلام متهم في هذه الأيام من قبل جهات كثيرة من الرأي العام العالمي بأنه يحمل نظاماً استبدادياً يخطط للقضاء على الديمقراطية! وهنا يطرح السؤال: إذا كانت حقوق الإنسان كما فصلتها الشرعة المنسوبة إليها هي الوجه البارز للديمقراطية وللنظم السياسية المنتمية إليها فما هو موقف نهج البلاغة ومن ثم النظام الإسلامي

ص: 93

من كل ما ذكرنا؟

جميع دساتير الدول الديمقراطية الحديثة تنص على حق المساواة بين جميع المواطنين دون تمييز في اللون أو الدين أو الطبقة أو العرق في ظل باب هام حول حقوق الإنسان، وأبرز تلك الحقوق كما تشير هذه الدساتير هي حق الحياة والحق بالحرية الشخصية وحق الملكية الفردية، وهي (أي هذه الحقوق) تشمل حرية الرأي والقول والكتابة والاجتماعية وتكوين الجمعيات والحق في المحاكمة العادلة والوقاية من أي قيد على الحرية الشخصية وعدم الحبس الظالم عن طريق الاعتداء على الحريات وأن لا جريمة ولا عقاب إلا بناء على نص القانون.

جميع هذه الحقوق لم تقر أو يعترف بها إلا في عصور متأخرة من التاريخ الإنساني وبعد فترات من الظلم والقهر وبعد ثورات من الشعوب رافقتها إراقة دماء لا حصر لها. فالدستور الأميركي صدر عام 1787 م وأقدم وثيقة لحقوق الإنسان في تاريخ أوروبا هي المغناكارتا التي صدرت عام 1215 م وكانت في الأساس لحماية حقوق الأشراف واللوردات في انكلترا في مواجهة الملك. ولم يشمل هذا العهد الذي يفخر به الإنكليز حقوق عامة الشعب أي فلاحي الاقطاع. فلم ينل المواطن العادي هذه الحقوق إلا بعد خمسة قرون على الأقل من ذلك التاريخ.

ولسوف نحرص على تقصي موقف الإمام علي بن أبي طالب من هذه الحقوق عبر النظام الذي أقامه خلال فترة حكمه وما عبر عنه من تصور يتصل به قبل تلك الفترة وذلك من خلال ما سجل في نهج البلاغة من قوله وعمله.

1-حق الحياة:

هذ الحق يعني في مفهومنا الحديث أن يصبح الإنسان أمناً على حياته من أي تهديد ويقابله في القرآن قوله تعالى: (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً). أما عند علي بن أبي طالب فيأخذ تفسير الآية بعده الصحيح في ظل تطبيق ينأى به عن تأثير المطامع والعصبيات لأن القاتل يتحمل وزراً كبيراً فتطاله يد العدالة مهما بلغ به النسب والنفوذ دون أي تمييز. ولنا في موقفه من مقتل الهرمزان مثال ساطع لأن القاتل هو عبيد الله عمر بن الخطاب والقتل تم انتقاماً للخليفة نفسه بعد أن قتله أبو لؤلؤة مولى المغيرة بن شعبة، ولكن الهرمزان لا تربطه بالقاتل غير رابطة الدين وهو بريء من دم الخليفة وللقضاء وحده حق

ص: 94

الفصل في هذه الجريمة. وهكذا فإنه أصر على تحميل عبيد الله مسؤولية هذه الجريمة: بقوله: «لأقتلنه بالهرمزان» وعندما التقاه في صفين قال له: «أنت تطالب بدم عثمان والله يطالبك بدم الهرمزان» (1).

لقد كان يوصي ولاته بحماية «حق الحياة» فيقول: «إياك والدماء وسفكها بغير حقها. فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام ... ولا عذر لك عند الله وعندي بقتل العمد» (2).

وفي جميع حروبه لم يكن يبدأ بقتال وكان يوصي جنوده قائلاً: «لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم. ولا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً ولا تجهزوا على جريح» (3). ولكن أبرز ما يوضح حرصه على حماية هذا الحق-تقيداً بالنص الشرعي-تجلى في موقفه من ابن ملجم قاتله. لقد كان فيه من المصداقية ما ربما عجزت عن تفصيله جميع متون وشروح القانون فقد أمر أن لا يقتل ابن ملجم قبل ثبوت جريمة القتل! بوفاة الإمام»! وقال: «إن أبق فأنا ولي دمي» (4)

وفي هذا السياق وحرصاً منه على حماية حق الحياة وعدم مسه بدون وجه حق حمَّل وصيته لولديه الإمامين الحسن والحسين (علیه السلام) ما يلي: يا بني عبد المطلب لألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً، تقولون: «قتل أمير المؤمنين، ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي ... انظروا إذا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة ولا يمثل بالرجل. فإنني سمعت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور» (5) لقد خاف أن يعتدي على حياة رجل آخر بعد وفاته غير القاتل كما حصل بعد مقتل الخليفة عمر بن الخطاب كما خاف أن يمثل بالقاتل خلافاً لنص حديث الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم). ولكن في كلامه أيضاً إشارة إلى ضرورة التحقق من سبب الوفاة قبل إنزال العقوبة حيث يقول: «إذا مت من ضربته» لأن الوفاة قد تحصل بسبب عامل آخر «كموت الفجاءة» وعندئذ يتغير نوع العقوبة! ألا يذكرنا ذلك بكل ما يعتمده القضاء في أيامنا هذه في سبيل تقرير العقاب المناسب؟.

2-الحق بالحرية الشخصية:

أما مفهومه لحق الإنسان بالحرية الشخصية فإنه يظهر في الرؤية التي يقدمها نهج البلاغة على درجة كبيرة من الأهمية في عدد من المواقف التي يعبر عنها كلامه بصراحة ووضوح وأبرزها كانت مواقفه من معارضيه من الخوارج ومن محاربيه في موقعة الجمل كما في صفين. قيل له عن

ص: 95


1- مروج الذهب للمسعودي الجزء الثاني صفحة 380-381.
2- نهج البلاغة ص 537.
3- نهج البلاغة ص 453.
4- نهج البلاغة ص 459.
5- نهج البلاغة ص 512.

قوم من جند الكوفة هموا باللحاق بالخوارج فرفض التعرض لهم لمنعهم من ترك جيشه والالتحاق بأعدائه وتحداه ابن الكواء في المسجد وأثناء الصلاة بما يشير إلى تكفيره فلم يتعرض له بأذى وقيل له عن ذلك الخارجي الذي كان يخطط لقتله ويسبه فقال: «إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب» رغم شدة كلام الفاعل الذي قال: «قاتله الله كافراً ما أفقهه» (1) وهكذا يتأكد من مجريات الأمور في عهده ومن كلامه أنه كان يعتبر لمعارضيه حقوقاً لا تسمح له أحكام الشرع بتجاوزها، وضمن هذا المنطق كان موقفه من جيش معاوية في صفين بعد أن قام هذا الأخير بمنع جيش علي من ورود الماء. وعندما أجلس الإمام جيش معاوية عن الماء بالقوة سمح لهم بوروده (2).

في سياق مبدأ الحق بالحرية الشخصية الذي حمى الإمام حجة تطبيقه حتى الرمق الأخير من حياته تندرج وقائع كثيرة نجمت عن تصرفاته وقوله. لقد قيل له أن رجالاً من قبله يتسللون من المدينة إلى معاوية فكتب إلى عامله على المدينة سهل بن حنيف يقول: «فقد بلغني أن رجالاً ممن قبلك يتسللون إلى معاوية فلا تأسف على ما يفوتك من عددهم ...» (3) وقد كان باستطاعته منعهم!

كان يرفض مبدأ التجسس على الناس لما فيه من حد لحريتهم الشخصية وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر مما كتبه لواليه على مصر هذا الكلام:

« ... إن في الناس عيوباً الوالي أحق من سترها» (4).

ونرى ما يشابه هذا التصرف اليوم في قوانين الجزاء الحديثة التي تمنع استعمال نتائج التجسس في وسائل الاثبات أمام المحاكم حماية لمبدأ الحرية الشخصية!

ومن هذا المنطلق جاء كلام الإمام إلى واليه: «ولا تعجلن إلى تصديق ساع فإن الساعي غاش ولو تشبه بالناصحين» (5).

ويشمل هذا الحق بالحرية الشخصية حرية الرأي والاجتماع وقد قدمنا في مجال حرية الرأي لجهة حواره مع معارضيه ما يكفي لإثبات تمسك الإمام بهذه الحرية لدرجة مناقشة خصومه من الخوارج في مسألة تكفيره من قبلهم! وكذلك الأمر فيما ذكرناه وسوف نذكر من حواره مع سائر خصومه السياسيين، كما أنه لا ينكر أحد أنه سمح للخوارج بتكوين «جمعية» أو أنه أتاح لهم على الأقل حرية الاجتماع كما سنرى في هذا البحث.

ص: 96


1- النهج ص 651.
2- نهج البلاغة ص 512.
3- نهج البلاغة ص 558.
4- نهج البلاغة ص 520.
5- نهج البلاغة نفس المرجع السابق.

2-حق الملكية الفردية:

أما حق الملكية الفردية فكان لرؤية الإمام فيه ما يمنح له الحماية والالتزام ولكن لهذا الحق حدوداً أو قيوداً تظهر بوضوح كلما تعرضت حقوق الناس الاقتصادية للخطر أو تعرض المجتمع لمواجهة تناقضات وانعكاسات الفقر والغنى أو التخمة والجوع فينعكس ذلك على حق الملكية الفردية إلى درجة تقزيمه كما يبدو من هذا القول: «إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما متع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك» (1) فإذا أضفنا إلى هذا الكلام قولاً مشهوراً لأبي ذر الغفاري أذكر أنه يقول فيه: «عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه» أمكن لنا تصور الموقف الإسلامي من الملكية الفردية. وهكذا فإنه عن وضع مغاير كان يسود بعض مجتمع عصر الإمام يقول مستنكراً: «إضرب بطرفك فهل ترى إلا فقيراً يكابد فقراً أو غنياً بدل نعمة الله كفراً ...» (2) كما يقول: «أترجو أن يعطيك الله وأنت متمرغ في النعيم تمنعه اليتيم والأرملة ...» (3).

ومما يجدر أن نشير إليه أن هذا الحق، حق الملكية الفردية، كغيره من الحقوق تشمل حمايته جميع فئات المجتمع لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم وفي هذا يقول الإمام: «ولا تمسن مال أحد من الناس مصل ولا معاهد» (4).

إن حماية هذا الحق واجب مفروض على الجميع ولتوضيح ذلك نورد كلاماً للإمام قاله عندما بلغه نبأ غزو جيش معاوية للأنبار واعتداءات هذا الجيش على ممتلكات الناس من مسلمين ومعاهدين وأموالهم حيث يقول: «ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام» ثم نراه يستغرب عدم قيام الناس بواجب التصدي لهذا الاعتداء على حقوقهم متابعاً القول: «ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلاً منهم كلم ولا أريق لهم دم» (5).

4-التعددية السياسية أو حق المعارضة السياسية:

إن موقف الإمام من هذا الحق أو من مبدأ التعددية السياسية يبدو من خلال نهج البلاغة متناقضاً مع جميع مظاهر الحكم في عصره لأنه يتخذ شكلاً يتجاوز ذلك العصر من الوجهة الفكرية والعملية في اعتباره حقاً طبيعياً لأفراد الرعية عندما يقول: «لا تقاتلوا الخوارج بعدي

ص: 97


1- نهج البلاغة ص 632.
2- نهج البلاغة ص 240.
3- نهج البلاغة ص 458.
4- نهج البلاغة ص 515-516.
5- نهج البلاغة ص 76.

فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه» (1).

من منطلق هذا الكلام يمكن إلقاء الأضواء على موقف الإمام من المعارضة السياسية كواقع كان يواجهه ومن حقوق المعارضين بحيث يعتبر أنهم يتمتعون بحقوق المواطن كاملة من دون تمييز.

لقد كان يعتبر خصومه من الخوارج الذين كفروه «طلاب حق ضلّوا» ولكن نظرته هذه تبقى هي نفسها بالنسبة لسائر معارضي حكمه من الذين يعتقدون، عن حسن نية، أنهم مع الحق يحاربون من أجله أو يعارضون فقد سأله بعض أصحابه في هذا السياق فأجاب: «من قاتل وهو صادق النية في نصر الحق مبتغياً وجه الله ورضاه فمصيره مصير الشهداء».

هذه الموضوعية المطلقة في التعامل مع المعارضين جعلت من «المعارضة السياسية» مؤسسة قائمة بالفعل في عصر الإمام.

لأنها من هذا المنطلق تواجه الحكم مسلحة بحقوق يعترف لها بها رئيس الدولة ويمنع الاعتداء عليها،، ومن أجل احترام هذه الحقوق منع أصحابه من الاعتداء على ذلك الخارجي الذي سبه كما سبق القول قائلاً لهم: «إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب» (2). كذلك كان موقفه من الذين التحقوا بمعاوية من سكان المدينة (3) ومن هذا الاتجاه وهذا السياق قال علي (علیه السلام) مشيراً إلى مكفريه من الخوارج: «لهم علينا ثلاث: أن لا نمنعهم المساجد أن يذكروا الله فيها وأن لا نمنعهم الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا وأن لا نقاتلهم حتى يقاتلونا» وفي هذا يقول أبو عبيد بن سلام: «أفلا ترى أن علياً رأى للخوارج في الفيء حقاً ما لم يظهروا الخروج على الناس وهو مع ذلك يعلم أنهم يسبونه ويبلغون منه أكثر من السب إلا أنهم كانوا مع المسلمين في أمورهم ومحاضرهم حتى حاروا إلى الخروج فيما بعد! (4).

ولم يقتصر في هذا الموقف من معارضيه على الخوارج وحدهم لأنه كان يحكم تصرفاته كلها في تعامله مع سائر خصومه السياسيين مع طلحة والزبير في حرب الجمل إلى حد كبير مع معاوية بن أبي سفيان حيث استنفد معه جميع طرق الحوار التي استعملها مع جميع معارضيه السياسيين واعترف خلال ذلك الحوار بجميع الحقوق فلم يلجأ إلى الاعتداء على أي منها، وقد كان قادراً، فلم يمنع الماء عن جيش معاوية بعد أن طرده عنها وكان معاوية قد منع، ولم يتعرض لخصومه من القادة الذين كانوا يتداوون من جراحهم في مكان في البصرة وكان يعلم بذلك وبالمكان.

ص: 98


1- نهج البلاغة ص 115 الجزء الأول.
2- نهج البلاغة ص 651.
3- نهج البلاغة ص 558.
4- الأموال لأبي عبيد بن سلام صفحة 102.

وحرم قتل طلحة والزبير وحاور الجميع ما استطاع إلى ذلك سبيلاً دون جدوى، ولم يبدأ أحداً بقتال!

لقد ظهر اعترافه الصريح بحقوق معارضيه السياسيين منذ بداية حكمه عندما نهى عن «بیع المضطرين» تقيداً بالسنة الشريفة (1).

طبق الإمام كل هذه المبادىء التي تؤدي إلى الاعتراف بحقوق المعارضة السياسية بمصداقية بعيدة عن أي حقد أو إكراه فأموالهم كانت تتمتع بحماية السلطة مثلها في ذلك مثل أموال الموالين وهذا ما حصل في موقعة الجمل وصفين وفي النهروان فكان المنتصرون يمرون على الذهب والفضة دون أن يكون لهم سبيل للحصول على شيء منه كما جرت العادة وكما كانت تقضي تقاليد الحروب. لقد أدى ذلك إلى اعتراض أصحابه ولكنه كان يطبق أحكام الشرع ونواهيه، فلم يأبه! لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.

وهنا تجدر الإشارة إلى التعددية الدينية التي حماها الإسلام لأن لها وجهاً سياسياً في ظل نظام كان يستمد شرائعه من أحكام الدين. لقد انعكس كل ذلك على الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصاية لغير المسلمين. ومن هذا المنطلق كانت الحقوق التي منحت لغير المسلمين في هذا السبيل بموجب أحكام الشرع الإسلامي ونواهيه، مضافاً إليها بعض الحقوق التي لا يتمتع بها المسلمون فبينما تبيحها شرائع أهل الكتاب كحق تملك الخمرة والخنزير وتعاطي الربا كانت كل هذه الحقوق تتلقى الحماية المتساوية مع تلك التي تمنح لحقوق المسلمين ويبدو كلام الإمام معبراً عندما يقول: (دم المسلم كدم الذمي حرام) (2). فيمنح لحق غير المسلم بالحياة نفس الحماية التي يعترف بها للمسلم. وحين يغضب بسبب ما واجه النساء المسلمات والذميات من هجوم جيش معاوية على الأنبار ويصف اعتداء الجند على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة يستغرب كيف أن المعتدين انصرفوا «وافرين ما نال رجلاً منهم ولا أريق لهم دم» (3).

وقد سبق أن أشرنا إلى كلامه في حماية ملكية غير المسلمين الفردية دون تفريق بينهم وبين المسلمين.

هذه التعددية السياسية في وجهيها الديني والاجتماعي كانت في أساس رؤية الإمام للنظام الإسلامي كما كان تطبيق مبادئها بمصداقية وموضوعية وحزم في أساس كل ما واجه علياً ابن أبي طالب (علیه السلام) من مصاعب ومتاعب وحروب!

ص: 99


1- الأموال لأبي عبيد ص 102 ونهج البلاغة ص 660 الجزء السابع.
2- نهج البلاغة ص 76.
3- نهج البلاغة ص 76.

وبعد ذلك يطرح السؤال حول كل ما يواجه تطبيق مبدأ التعددية السياسية والدينية حالياً حتى في ظل الأنظمة التي تتبنى الديمقراطية، من مآس تتصل بالتمييز العرقي أو العنصري أو الديني أو الاجتماعي؟

5-الحق بالمساواة في الحقوق:

هذا الحق يبدو من خلال نهج البلاغة في صورة تعطي لتطبيقه مثالية ربما عز نظيرها في الكثير من الدول الديمقراطية. ونجد في كلامه لأحد ولاته تعبيراً عن ما يتطلبه ذلك من صدقية وموضوعية تحكم حماية هذا الحق عندما يقول: «وألزم الحق من لزمه من القريب والبعيد ... واقعاً ذلك من قرابتك وخاصتك حيث وقع» (1). وهو في كلام آخر مشابه يقول لأحد ولاته: «إياك والاستثثار بما الناس فيه أسوة» (2).

إن اهتمام الإمام بهذا الحق ينبع مما فرضته حاجات اجتماعية بدت ماسة بعد عهد الخليفة الثالث الذي انعدمت فيه المساواة أو كادت بسبب عودة الروح القبلية من جديد إلى المجتمع الإسلامي وما نجم عن من ذلك من استثثار وتمييز جعلا من بني أمية وأتباعهم طبقة أرستقراطية استهواها المال والنفوذ فتعرض بيت المال لما يشبه النهب وتعرضت وظائف الدولة العليا لما يشبه الاحتكار، ولكن الإمام عندما تصدى لمواجهة هذه التحديات وجد من المقاومة ما لم يقتصر على بني أمية وحدهم بل تعداهم إلى كثير من الفئات الاجتماعية الأخرى بعد أن كانت العصبية قد أحكمت نفوذها، ومن هذا المنطلق جاء كلام أحد أصدقائه معبراً عن شيء من العصبية عندما أخذ الإمام يوزع العطاء من بيت المال بالتساوي ثلاثة دنانير لكل فرد من الحضور حيث قال سهيل بن حنيف: «هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم ...» فقال الإمام: «نعطيك كما نعطيه» (3) وجاء في رواية أخرى أنه قال: «نظرت في كتاب الله فلم أجد لولد اسماعيل على ولد اسحق فضلا» (4).

لقد رفض التمييز في كل أشكاله-استناداً إلى سنة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)-عندما عوتب في المساواة بين أشراف العرب والصحابة والسابقين إلى الإسلام والموالي والمعاهدين وغيرهم فقال: «أما القسم والأسوة فذلك أمر لم أحكم به بادىء ذي بدء وقديما سبق إلى الإسلام قوم ونصر وه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم رسول الله في القسم ولا آثرهم في السبق ...» (5) لقد رفض التمييز بجميع أشكاله في العطاء مهما بلغت أخطاء من شملتهم المساواة، حتى لو كانت بين

ص: 100


1- نهج البلاغة ص 535.
2- نهج البلاغة ص 539.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الجزء السابع ص 38.
4- الروضة من الكافي المجلد الثامن ص 69.
5- نهج البلاغة ص 236.

زان غير محصن من جهة ومؤمن، وقد أيد ذلك بقوله: «إن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) قطع يد السارق وجلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفيء ... فأخذهم رسول الله بذنوبهم. ولم يمنعهم سهمهم من الإسلام ولم يخرج أسماءهم من بين أهله».

إن شمولية مبدأ المساواة كما تبدو من خلال رؤية الإمام، تطال جميع فئات وطبقات المجتمع فالخليفة يتساوى فيها مع أي مواطن آخر في حقه تجاه بيت مال المسلمين كما في سائر الحقوق. ومن هذا المنطلق يخسر الإمام دعواه أمام من سرق درعه لأنه لم يتمكن من تقديم البينة وهي على المدعي والخليفة كغيره من سائر الناس ملزم بتقديم البينة. وغير المسلم يتساوى مع المسلم في الحقوق لا سيما حق الحياة وفي ذلك يقول الإمام: «دماؤهم كدمائنا» و «دم المسلم كدم الذمي حرام» (1) وتتساوى جميع الفئات أمام القانون ومن ثم أمام المال العام فيوزع هذا المال بالتساوي بين الموالين والمعارضين والأشراف والموالي والمسلمين والمعاهدين. وهذا مما تم بعد البيعة مباشرة وبعد وقعة الجمل ورفض في ذلك أية مساومة لصالح المعارضين عندما قال: «لو كان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله» (2). إنه يعرف أن هذا الأمر يرتبط بأحكام الشرع وهو من هذه الناحية حق لا يلغيه التقادم وكل ما وزع من بيت المال خلافاً لأحكامه باطل ويجب أن يستعاد. وفي هذا السياق جاء قول الإمام: «والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته فإن في العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق» (3).

وجاء على لسان ابن عباس أن علياً بن أبي طالب خطب في اليوم التالي على بيعته في المدينة فقال: «ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال فإن الحق القديم لا يبطله شيء.» (4).

هذا الحق الذي يتمثل في تطبيق مبدأ العدالة والمساواة كان خلال كل فترة حكمه يؤلف أساس هذا الحكم، فإذا ما تعارض مع أي أمر آخر كان تمسك الإمام به شديد الوضوح مهما كانت العقبات! وهل كان يهمه من أمر الحكم إلا أن يقيم حقاً؟

قال عبد الله بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين (علیه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت لا قيمة له فقال: والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً! (5).

ص: 101


1- نهج البلاغة ص 515.
2- نهج البلاغة ص 236.
3- نهج البلاغة ص 55 الجزء الأول.
4- المرجع السابق.
5- نهج البلاغة ص 88-89 الجزء الأول.

6-حق الحماية من العقاب:

كان من أبرز ما قدمته نظرية حقوق الإنسان في العصور الحديثة مسألة حق الحماية من العقاب، فجاءت مقولة أن لا عقوبة بدون نص وعدم الحكم إلا بعد سماع أقوال الطرفين وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته. وفي هذا المجال يأتي كلام علي بن أبي طالب (علیه السلام) شديد التعبير في قوله لأحد ولاته: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك ممن لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم. ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشف الأمور (1).

ومن هذا الاتجاه امتنع عن تسليم معاوية من طلب من قتلة عثمان فأنبأه أنه لا يعرف لعثمان قاتلاً بعينه بعد أن بحث واستقصى وأنه لا يستطيع أن يسلم إليه من اتهمهم لا لشيء إلا لأنه اتهمهم وظن بهم الظنون «لأن أمور الحدود لا تستقيم إلا على المحاجة والمقاضاة وإحضار البينة» (2) وقد جاء في كتاب له إلى معاوية: «أما ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك فإني نظرت في هذا الأمر فلم أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك.» (3).

لقد حقق الإمام في مقتل عثمان ولكنه لم يتمكن من إكمال التحقيق بسبب الحرب كما لم يتبين له صحة كون محمد بن أبي بكر صاحبه هو القاتل وهو متهم من قبل معاوية. ثبت ذلك من خلال شهادة نائلة زوجة عثمان.

ومن هذا المنطلق كان يمتنع عن إنزال العقاب بالخوارج قبل أن يقوموا بما يسمى اليوم في عالم القانون «بدء تنفيذ الجريمة» تطبيقاً لمبدأ براءة المتهم حتى تثبت إدانته.

وفي هذا السياق جاء كلامه لمن أخبره عن شخص يتآمر لقتله: «لا أقتل من لم يقتلني» شديد التعبير لأن البيئة هي الأساس في أحكام القضاء في نظره، وقبل ظهورها يمتنع إنزال العقاب.

وعندما «خرجت الخوارج من المسجد فحكمت» قيل له: إنهم خارجون عليك فقال: «لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسيفعلون» (4).

أليس في هذه الحماية من العقاب ما يؤكد تطبيق الإمام لمبدأ «براءة المتهم حتى تثبت إدانته» وإقامة الدليل والدليل في هذه الحال هو «بدء التنفيذ» للثورة المسلحة!!

ص: 102


1- نهج البلاغة ص 526.
2- علي وبنوه لطه حسين ص 888.
3- نهج البلاغة ص 449.
4- الكامل للمبرد الجزء الثاني صفحة 156 طبعة مكتبة المعارف ببيروت.

الحواشي:

(1) مروج الذهب للمسعودي الجزء الثاني صفحة 380-381.

(2) نهج البلاغة ص 537.

(3) نهج البلاغة ص 453.

(4) نهج البلاغة ص 459.

(5) نهج البلاغة ص 512.

(6) النهج ص 651.

(7) نهج البلاغة ص 512.

(8) نهج البلاغة ص 558.

(9) نهج البلاغة ص 520.

(10) نهج البلاغة نفس المرجع السابق.

(11) نهج البلاغة ص 632.

(12) نهج البلاغة ص 240.

(13) نهج البلاغة ص 458.

(14) نهج البلاغة ص 515-516.

(15) نهج البلاغة ص 76.

(16) نهج البلاغة ص 115 الجزء الأول.

(17) نهج البلاغة ص 651.

(18) نهج البلاغة ص 558.

(19) الأموال لأبي عبيد بن سلام صفحة 102.

(20) الأموال لأبي عبيد ص 102 ونهج البلاغة ص 660 الجزء السابع.

(21) نهج البلاغة ص 76.

(22) نهج البلاغة ص 76.

(23) نهج البلاغة ص 535.

(24) نهج البلاغة ص 539.

(25) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الجزء السابع ص 38.

(26) الروضة من الكافي المجلد الثامن ص 69.

(27) نهج البلاغة ص 236.

(28) نهج البلاغة ص 515.

(29) نهج البلاغة ص 236.

(30) نهج البلاغة ص 55 الجزء الأول.

(31) المرجع السابق.

(32) نهج البلاغة ص 88-89 الجزء الأول.

(33) نهج البلاغة ص 526.

(34) علي وبنوه لطه حسين ص 888.

(35) نهج البلاغة ص 449.

(36) الكامل للمبرد الجزء الثاني صفحة 156 طبعة مكتبة المعارف ببيروت.

ص: 103

برنامج اليوم الثاني

من مؤتمر نهج البلاغة والفكر الانساني المعاصر

الخميس 9 / رجب / 1414 ه-1993/12/23

- القرآن الكريم

- الأستاذ الدكتور عمر موسى باشا «سوریة»

- الدكتور علي الشيخ عمار «لبنان»

- الأستاذ لبيب بيضون «سوریة»

- الدكتور محمد توفيق أبو علي «لبنان»

- فضيلة الشيخ نبيل حلباوي «سوریة»

-----------------

- القرآن الكريم

- الأستاذ الدكتور إبراهيم بيضون «لبنان»

- الأستاذ الدكتور عارف تامر «سوریة»

- حجة الاسلام والمسلمين السيد جمال الدين دين برور «إیران»

- الأستاذ سليمان كتاني «لبنان»

- فضيلة الشيخ علي خازم «لبنان»

- الأستاذ عبد الفتاح قلعه جي «سوریة»

- الأستاذ الدكتور حسن جابر «لبنان»

- كلمة الختام حجة الاسلام والمسلمين الشيخ محمد حسن أختري سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية في دمشق

ص: 104

الجلسة الصباحية

ص: 105

ص: 106

نهج البلاغة في مرآة القرآن

الأستاذ الدكتور عمر موسى باشا

«أنا من رسول الله كالضوء من الضوء»

علي بن أبي طالب

من المفيد جداً أن نستهل بحث النهج وعلاقته الوثيقة بالقرآن الكريم، فتتحدث عن أهمية ذلك في تراثنا الفكري والحضاري، فهو المرآة الصادقة للحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية على اختلاف وجوهها وتنوع فنونها، وهو المصدر الثالث من مصادر البيان العربي الأصيل، بعد كتاب الله المعجز، والسنّة النبوية الغرّاء.

ص: 107

ولا بد لنا في طرّة هذا الاستهلال من أن نشير إلى أهمية هذا السفر العربي الذي هو قدوة البلغاء، ومنهج المنشئين والمثل الأعلى للمفكرين والمبدعين.

ومن المستحسن هنا أن نشير إلى البواعث الأصيلة والمصادر المعتمدة التي جعلت الإمام البليغ علياً بن أبي طالب (علیه السلام) يبدع في خطبه ورسائله وكتبه وكلامه عامة، وفي حكمه وأمثاله، ومواعظه وأقواله خاصة، وليس من باب العبث اللفظي قوله: «القلب مصحف البصر» (1). وفي هذا التشبيه البليغ رمز، وليس المراد فيه التشبيه نفسه فحسب، وإنما هو تأكيد أو لعله يقول: إن القرآن هو البصر أو البصيرة أو هو ملء البصر والبصيرة معاً، وذلك حين نتجاوز ظاهر اللفظ، ساعين إلى معرفة باطنه، لأنه الماضي والحاضر والمستقبل، يؤكد لنا ذلك قوله في كلامه السائر: «وفي القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم» (2)، وفي هذا القول الفصل الحقيقة الأبدية.

علي و الرضي

مما لا شك فيه أن للشريف الرضي الفضل كل الفضل في البدء بجمع كلام الإمام وصونه من الضياع والفقد، وذلك نظراً لأهميته واتصاله الفعّال بالأحداث الكبرى في حياة العرب والمسلمين، ولا سيما هذه الأحداث التي شلت الكلمة وفرّقت الإخوة، وكان لكلام الإمام الأثر الكبير في جمع القلوب وتوحيد المشاعر، وقد تجلى ذلك كله في هذه الومضات الإنسانية، والإضاءات البيانية، والإبداعات الفكرية، وذلك بالاعتماد على ما في القرآن من شرائع وأحكام، وما فيه من عظات وآيات، فلقد انعكس ذلك كله في أقواله وأعماله.

من ذلك قوله في خطبة له في إحدى الجمع: «إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله». ثم تعوّذ وقرأ سورة (العصر) ثم قال: «جعلنا الله وإياكم ممن تسعهم رحمته، ويشملهم عفوه ورأفته، وأستغفر الله لي ولكم» ثم جلس يسيراً وتابع الحمد الثاني في خطبته المذكورة.

ومما هو جدير بالذكر أن الإمام علياً (علیه السلام) كان يعلّم القرآن ويشرحه ويفسره لمن حوله، كما أشار إلى ذلك في خطبة ذم فيها بعض العاصين من أصحابه بقوله: «وقد دارستكم الكتاب وفاتحتكم الحجاج».

كما ذكر الشريف الرضي أنه ابتدأ بتأليف كتاب في خصائص الأئمة، وذكر «محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم»، وتوقف بعد الانتهاء من خصائص إمام الأئمة علي (علیه السلام)، إذ عاقته

ص: 108

«محاجزات الأيام ومماطلات الزمان» عن إنجاز هذا الكتاب، ويبدو لنا أن هذا التوقف كان-في اعتقادنا-غير متعلق بالأيام والزمان كما يقول، وإنما يرجع إلى أسباب نفسية خاصة وعوامل ذاتية، ذلك أنه شعر بالتقصير في حق الإمام علي (علیه السلام)، فهو قمة الإبداع البياني، بيد أن أدبه المشهور كان معروفاً ومشتتاً بين العلماء وضائعاً بين الناس، فآثر آنئذ التوجه الكلي لجمع ما تفرّق من أدبه، وتوزع من فكره، ومما يؤكد ذلك أن الناس كانوا معجبين بما اختاره من «محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب، دون الخطب الطويلة، والكتب المبسوطة» (3).

واستطرد الشريف الرضي قائلاً: «فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره، معجبين ببدائعه ومتعجبين من تواضعه وسألوني عند ذلك أن أبتدىء بتأليف يحتوي على مختار كلام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وادب، علماً أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة وجواهر العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها ومنه عليه السلام ظهر مكنونها وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ. ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وقد تقدم وتأخروا، لأن كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مِسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي، فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالماً بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذكر ... (4).

أوردت بعض كلام الشريف الرضي، وذلك يؤكد ما قلته في البدء، وهو أنه شعر بالغبن الذي لحق بالإمام عليٍّ (علیه السلام)، حين قصرّ أصحابه بحقه، ولا سيما بعد أن ألح عليه الناس طالبين جمع آثاره الأدبية المشتتة هنا وهناك، وقد اختتم مقدمته بقوله: «ولا أدعي-مع ذلك-أني أحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام،حتى لا يشذ عني منه شاذ، ولا يندّ نادً، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إليّ، والحاصل في ربقتي، دون الخارج مِن يديّ، وما عليّ إلا بذل الجهد، وبلاغ الوسع، وعلى الله سبحانه وتعالى نهج السبيل، وإرشاد الدليل، إن شاء الله تعالى (5).

وحقاً ما قاله فلقد استدرك القدماء والمحدثون على ما جمعه الشريف الرضي، وبذلك

ص: 109

كان حقاً أميناً عما فعل، وأشار إلى من سيقوم بعده فيكمل هذا الجمع، ويبقى الأمر والفضل للسابق المتقدم.

علي والقرآن

أكثر الإمام علي (علیه السلام) من وصف القرآن، والاستشهاد بآياته ومثانيه وبيان معجزاته وأحكامه في كل مناسبة سانحة اقتضاها الخطاب، واقترنت بها المناسبة، ذلك أنه كان يعتقد أن من حق الولد على والده «أن يحسّن اسمه، ويحسّن أدبه، ويعلّمه القرآن» (66).

ومن الملاحظ أنه كان يدور في فلك القرآن، ويتغنى به يصفه ويبيّن قدسيته وعظمته. والملاحظ أنه كان يجد فيه مثله الأعلى في بلاغته العظمى، وإعجازه المطلق، وما عرفنا من القدماء أو المحدثين من أدرك ما أدركه من الحقائق العليا، وسوف نلاحظ أنه تبنّى ما فيه من محاسن الحكم والأمثال والأقوال حتى إنه كان في بعض الأحيان يصنّف أو يخطب خطبة كما توحيه إليه بعض الآيات ذات الدلالة والمغزى، وقد توضح لنا ذلك في خطب ثلاث توضيحاً لآيات ثلاث، وكأنها كان ينشيء ذلك تعليماً وتثقيفاً، وتبياناً توضيحاً، وهذا الأسلوب خاص به، وهو الرائد فيه.

أما مظاهر هذا الأثر والتأثر القرآني الكلي أو الجزئي، فيمكن أن نتبينها في عدة أساليب، فهو حيناً يتغنى بالقرآن، ويصف إعجازه، ويعدد أحكامه، ويبين زواجره ونواهيه من خلال بيانه وتبيانه ولا يقتصر الأمر على ذلك، وإنما نراه يقتبس آياته يزين بها أسلوبه وينمق بها ديباجته، وقد يكتفي من الآية بأكثرها أو أقلها، أو بكلمة واحدة، وهذا من أجمل الرمز القرآني في الديباجة النهجية.

وسوف نعرض شواهد وتماثيل من ذلك كله، كما وردت في النهج، إذ لا نستطيع إيراد جزء محدد منها إيماناً منا بالوحدة الكلية في هيكل النص الأدبي، ذلك لأن الاجتزاء يُفقد الأحكام الأدبية والنقدية قيمتها الفنية. ومما هو جدير بالذكر أن الإمام كان منهجياً في بلاغته، والمهم أننا نعجب كل العجب حين نجده حريصاً على الوحدة الكلية الموضوعية، وقل أن نجده يأخذ من كل موضوع بطرف، وإنما كان يبحث دوماً موضوعاً محدداً في خطبته، ساعده على ذلك

ص: 110

أصالة منهجية، وهذا التوجه الذي بدأه، وهو الجوهر في العمل الأدبي من الأمور الهامة التي لم يتنبه لها النقاد القدماء منهم والمحدثون.

القرآن والنهج

ولا بد لنا من وقفة قصيرة نوضح فيها أهمية القرآن في النهج، ونشير إلى ما رواه الجاحظ عن أبي يعقوب الثقفي، عن عبد الملك بن عمير قال: سُئل الحارث بن أبي ربيعة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: كم كان له ما شئت من ضرس قاطع في العلم بكتاب الله والفقه في السنة والهجرة إلى الله ورسوله والبسطة في العشيرة والنجدة في الحرب، والبذل للماعون» (6).

لقد تضمن نهجه العلم بكتاب الله، بالإضافة إلى هذه الصفات الخمس التي رويت في هذا الخبر الجامع المانع، وذلك كله موثق بالاقتباس من آياته ومثانيه.

يقول الدكتور صبحي الصالح: « ... وفي خطب علي خاصة فريدة لا تكاد تفارقها وهي كثرة اقتباسه من القرآن المجيد والحديث الشريف ... والمعروف أن الاقتباس من كتاب الله وحديث نبيه جائز، حتى ولو اقتطع المقتبس موضع الشاهد المناسب من أواخر الآية أو أواسطها، أو اختار عبارات من الحديث أو ألفاظاً، وقد كان من دلائل جواز الاقتباس عند بعض البلاغيين أن الإمام، عليه السلام، أكثر منه في كلامه، وهو حجة، فلا مسوّغ للتساؤل عن اقتطافه كرم الله وجهه، ألفاظاً وتركه ألفاظاً أُخر، ما دام غير قاصد إلى النقل الحرفي، وإنما كان قاصداً إلى طبع أسلوبه بطابع إسلامي صريح ...» (7).

كما أشار الباحث نفسه إلى أن (نهج البلاغة) هو خير «نموذج للنثر الفني في صدر الإسلام» (8).

بيد أننا نضيف إلى هذا التقويم المنهجي المتعلق بالشكل أمراً آخر، وهو أن النهج يمثل القيم المثلى للحياة الإنسانية، والسعادة البشرية، ومن هذا الجانب تبرز عبقرية الإمام الرائد الذي كان يضع في حسبانه خير البشرية قاطبة وهو القائل: «وأنا من رسول الله كالضوء من الضوء والذراع من العضد (88)، وقوله هذا غني عن كل بيان وتبيان.

ص: 111

أوصاف القرآن

وصف الإمام علي كرم الله وجهه في النهج القرآن، ولا أعرف مصدراً أبدع في وصفه، كما أبدعه إذ نجد خطباً كاملة للتحدث عن القرآن ولا يتكرر الحديث نفسه، فنراه تارة يحجل حيث يجب الإحجال، ويفصل حين يجب التفصيل، ويمكن أن نجمل أوصافه في ثلاثة أنواع وصفية:

النوع الأول: نصوص كاملة، أو شبه كاملة في الكتب والخطب والرسائل.

النوع الثاني: فقرات مطوّلة تضمنتها بعض النصوص المذكورة.

النوع الثالث: إشارات عابرة لآيات مجتزأة وألفاظ قرآنية.

وتتضمن هذه الأنواع البيانية الثلاثة من المعاني الكلية ما يتضمنه القرآن نفسه من شرائع الأحكام، وما استجد من الأحداث والفتن والحروب والأحوال الاجتماعية المختلفة.

النوع الأول:

يمكن أن نتبين أربعة نماذج من التماثيل الفنية، وسوف تشير إلى أهم مميزاتها من خلال الوقوف عندها تعريفاً وتوضيحاً وتمثيلاً.

أما النموذج الأول، فهو الخطبة الأولى التي استهل بها النهج، وقد تضمنت التحدث عن ابتداء الخلق: خلق السماء والأرض، وخلق الملائكة وآدم، واختيار الأنبياء، ومبعث الرسول محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وذكر القرآن وما تضمنه من الأحكام الشرعية وغيرها.

استهل الإمام علي (علیه السلام) خطبته بقوله: «وخلّف. كتاب ربكم فيكم، مبيناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله وناسخه و منسوخه ...» (9).

وأما النموذج الثاني فقد تضمن وصف قدرة الله بعد الحمدلة، وخلص منها إلى قوله: «وجعل لكل شيء قدراً، ولكل قدْر أجلاً، ولكل أجل كتاباً» (10).

ثم استطرد لذكر فضل القرآن ونعته بأنه «آمر زاجر وصامت ناطق، حجة الله على خلقه، أخذ عليهم ميثاقه، وارتهن عليهم أنفسهم، أتم نوره، وأكمل به دينه» (11). واختتم خطبته بالوصية والتقوى.

وأما النموذج الثالث فقد تضمن طلب الانتفاع ببيان الله والاتعاظ بمواعظه، وقد استهله بقوله: «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يُضل، والمحدث

ص: 112

الذي لا يكذب» (12).

أما النموذج الرابع، فهو أطول النماذج المذكورة، وهو من خطبة له، يحسن بنا الوقوف عندها، وقد اختتمها بذكر القرآن مطولاً. استهلها بالتحدث منبهاً على إحاطة علم الله بالجزئيات، ثم يحث على التقوى ويبين فضل الإسلام وبعثة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) بالحق حتى انتهى إلى ذكر القرآن الكريم، ومن الواجب أن نورد ختام خطبته، وهو قوله: «ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يُدرك قعره، (ومنهاجاً لا يُضل نهجه) وشعاعاً لا يُظلم ضوؤه وفرقاناً لا يُخمد برهانه، وبياناً لا تُهدم أركانه، وشفاء لا تُخشى أسقامه، وعزاً لا تُهزم أنصاره، وحقاً لا تُخذل أعوانه.

فهو معدن الإيمان وبحبوحته وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه وأثافي الإسلام وبنيانه، وأودية الحق،وغيطانه، وبحر لا يستنزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يغيضها الواردون، ومنازل لا يضل (نهجها) المسافرون، وأعلام لا يعمى عنها السائرون، وآكام لا يجوز عنها القاصدون.

جعله الله رياً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجً لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده، داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عُروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه وسلماً لمن ائتم به وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلجاً لمن حاجّ به وحاملاً لمن حمله ومطية لمن أعمله وآية لمن توسَّم وجنة لمن استلام وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى وحكماً لمن قضى» (3).

أبرز ما يلاحظ في هذا التمثال القرآني أن نصه قد أعطانا أدق صورة، وأكمل نموذج عن کتاب الله عز وجل ويمكن للباحث أن يتبين الملاحظات الثلاث التالية:

الأولى: أنه تحدث عن الكتاب المنزل والفرقان الأمثل، وأنه النور والشعاع والسراج، والبحر والحق والعز والشفاء، وقد شفع ذلك بذكره (منهاجاً لا يضل نهجه).

والثانية: أنه تحدث من خلاله عن الإسلام والإيمان والعلم والعدل، وشفع ذلك كله أيضاً بذكره (نهجها) ثانية بعد ذكرها الازدواجي الأول.

والثالثة: أنه أبرز أهمية الكتاب الفرقان عند العلماء والفقهاء والصلحاء لأنه مصدر كل شيء وهدى ورحمة للعالمين، ولا يستغني عنه أي إنسان.

ص: 113

وذكر النهج ثلاث مرات يؤكد ما ذكرناه في بدء الحديث، وهو أن التسمية كانت مستوحاة من كلام الإمام نفسه.

النوع الثاني

يتضمن النوع الثاني بعض المقتطفات والشذرات البليغة في أسطر معدودات، بيد أنها لا تستنفد القسم الأعظم من النص النهجي، وإنما تأتي استطراداً واستشهاداً لما يعرض له من المعنى، وقد أحصينا هذا النوع في ستة نماذج مجتزأة تضمنتها النصوص.

أما النموذج الأول فهو من خطبة له في ذكر أركان الدين وقد اختتمت بالدعوة إلى الإفاضة في ذكر الله والاقتداء بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ثم خلص من ذلك طالب تعلم القرآن بقوله: «وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص، وإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أعظم والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم» (14).

وأما النموذج الثاني فهو من كلام الإمام علي (علیه السلام) في مخاطبته أهل البصرة، فتحدث عن الإيمان، ووصف حال أهل القبور يوم القيامة، ودعا إلى التمسك بحبل القرآن في قوله: «وعليكم بكتاب الله، فإنه الحبل المتين والنور المبين والشفاء النافع، والري الناقع والعصمة للمتمسك والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقام، ولا يزيغ فيستعتب ولا تخلقه كثرة الرد وولوج السمع من قال به صدق ومن عمل به سبق» (15).

وأما النموذج الثالث فهو من خطبة الأشباح، وهي من جلائل خطبه خطب بها على منبر الكوفة، وقد استهلها بالتحدث عن الله عز وجل، وذكر صفاته اعتماداً على ما ورد منها في القرآن، كما تضمنت وصف السماء والملائكة والأرض والبحار وهى من أطول خطبه، ومما قاله: «فانظر أيها السائل: فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به واستضى بنور هدايته وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنّة النبي، صلى الله عليه وآله وأئمة الهدى أثره، فكِلْ علمه إلى الله سبحانه، فإن ذلك منتهى حق الله عليك ...» (16).

وأما النموذج الرابع فهو من كلام له في ذم اختلاف العلماء في الفتيا، وذم أهل الرأي، وأن الحكم للقرآن، وقد استشهد بقوله تعالى: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء) (17) وقوله تعالى:

ص: 114

(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) (18)، واختتم حديثه واستشهاده بعد هاتين الآيتين بقوله: «وإن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تُكشف الظلمات إلا به» (19).

هذه الكلمات المعدودات في جزء من وصف القرآن إنما تجمع كل شيء الظاهر والباطن والعجائب والغرائب، وماذا أبقى بعدئذ؟!

وأما النموذجان الخامس والسادس فهما على جانب كبير من الأهمية، ذلك لأنهما يتعلقان ببعض الأحداث الهامة، ولا سيما ما يتعلق منها برفع المصاحف والتحكيم، ونحن نكتفي هنا بما يتعلق بالقرآن.

ففي النموذج الخامس المتعلق بالتحكيم وموقفه بعد سماعه لأمر الحكمين في مطلع كلام له عليه السلام: «إنّا لم نحكّم الرجال، وإنما حكمنا القرآن، هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال، ولما دعانا القوم إلى أن نحكم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله، سبحانه وتعالى، وقد قال سبحانه وتعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) (20)، فرده إلى الله أن نحكم بكتابه، ورده إلى الرسول أن نأخذ بسنته، فإذا حُكم بالصدق في كتاب الله، فنحن أحق الناس به، وإن حكم بسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنحن أحق الناس وأولاهم بها ...» (21).

والملاحظ أن الإمام علياً (علیه السلام) كان يناقش قصة التحكيم مناقشة منطقية مقنعة، ويدعم حججه بما ورد في القرآن فهو يتحدث عن القرآن بالقرآن وهنا تكمن براعته البلاغية.

والأمر نفسه في النموذج السادس، وهو من كتاب أمر جماعة من أصحابه أن يقرؤوه أيضاً على شيعته بيّن لهم ما يقوله فيما سألوه عنه، ومنه قوله: « ... وكان صلحي بينهم على رجلين حكمين يحييا ما أحيا القرآن ويميتان ما أمات القرآن، فاختلف رأيهما، وتفرق حكمها، ونبذا حكم القرآن وخالفا ما في الكتاب واتبعا هواهما بغير هدى من الله، فجنبهما السداد وأهوى بهما في غمرة الضلال ...» (22).

كما أشار في الكلام نفسه إلى الحكماء والعلماء والفقهاء وحملة القرآن والمتهجدين بالأسحار، والعباد والزهاد في الدنيا وعمّار المساجد وأهل تلاوة القرآن (23).

ص: 115

هذه النماذج والتماثيل تعطينا كما رأينا في النوع الأول خير دليل على أن الثقافة القرآنية في نهج البلاغة هي العماد الأصيل والجوهر المتلألي في البلاغة العربية.

النوع الثالث

يتضمن النوع الثالث إشارات عابرة ورموزاً خاطفة إلى القرآن الكريم في بعض المناسبات من خطبه وكلامه ورسائله في كلمات معدودات، وقد تمتد إلى أكثر من سطر أو سطرين بيد أنها لا تتجاوز أربعة أسطر في الأغلب، ويمكن أن نتبينها في ثمانية نماذج. ومن المفيد لهذا البحث أن نعرضها لاستكمال الصور الكلية، لأنها تثبت أحياناً بعض الأقوال المأثورة مما يتعلق بالقرآن، وقل أن نجد مثيلًا في مصدر آخر بمثل هذا المظهر المطبوع بالطابع الذاتي، فقد قوّم حياته وأعماله بالتقويم القرآني المحض! ولا أعرف أحداً فعل مثل فعله وفق منهجه الخاص.

من ذلك قوله في النموذج الأول من خطبة له وهي الخطبة العجيبة المسمّاة ب (الغراء): «فكفى بالجنة ثواباً ونوالاً، وكفى بالنار عقاباً ووبالاً، وكفى بالله منتقماً ونصيراً، وكفى بالكتاب حجيجاً وخصيماً» (24).

وقوله في النموذج الثاني من خطبة له يتحدث فيها عن صفات الحق ووعظ الناس بالتقوى والمشورة: «وأنزل عليكم الكتاب تبياناً لكل شيء وعمَّر فيكم نبيه أزماناً حتى أكمل له ولكم-فيما أنزل من كتابه-دينه الذي رضي لنفسه» (25).

وقوله في النموذج الثالث من كلام له حين عزم على المسير إلى الخوارج وقد اعترض عليه بعض أصحابه: «فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن». ومما هو جدير بالذكر أن المعترض عليه كان يعتمد على علم النجوم، بيد أنه نبه إلى عدم الاعتماد على التنجيم والمنجمين. وقوله في النموذج الرابع بعد ليلة الهرير: «أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرؤوا القرآن فأحكموه» (26).

وقوله في النموذج الخامس من خطبة له في تعظيم الله ووعظ الناس وذكر القرآن: «وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعز لا تهزم أعوانه» (27).

ولم يكتف بذلك، وإنما أعاد ذكر القرآن في وعظه الناس بقوله: «کتاب الله تبصرون به، وتنطقون،به وتسمعون،به وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف بالله، ولا يخالف بصاحبه عن الله» (28).

ص: 116

وقوله في النموذج السادس من كلام له يدحض حكم الحكمين: «فإنما حكم الحكمان ليُحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن، وإحياؤه الاجتماع عليه، وإماتته الافتراق عنه، فإن جرَّنا القرآن إليهم اتبعناهم، وإن جرَّهم إلينا اتبعونا» (29).

وهذه المرة الثالثة التي يرد فيها ذكر التحكيم وموقف علي منه.

وقوله في النموذج السابع بعد انصرافه من صفين، وفيها وصف حال الناس قبل البعثة وصفة آل النبي: «أرسله بالدين المشهور والعلم المأثور، والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحة للشبهات واحتجاجاً بالبينات وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمُثلات (30).

وقوله في النموذج الأخير الثامن من خطبة له في بيان فضل القرآن والرسول (صلی الله علیه و آله و سلم): «ذلك القرآن فاستنطقوه، ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه إلا أنه فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم» (31).

هذه ثمانية عشر نموذجاً للتماثيل البيانية النهجية، وقد لاحظنا من خلالها أن الإمام علياً (علیه السلام) كان يجد في القرآن البيان كل البيان يعتمد عليه، ويستشهد به مسترشداً بهديه، ويجعله الحكم الفصل، والقول الفصل في كل ما يتعلق بالأحداث التي مرت به، أو التي تعرض له، ومن المفيد هنا الوقوف عند قصة سودة بنت عُمارة الهمدانية، فقد روت هذه المرأة «أنها جاءت إليه تشتكي من رجل ولّاه صدقاتهم، فوجدته قائماً يصلي، فلما انفتل من صلاته قال لها بتعطف ورأفة: ألك حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل فبكى ثم رفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم إني لم أمرهم بظلم خلقك، ولا تركِ حقك، ثم أخرج من جيبه قطعة من جراء فكتب فيها:

«بسم الله الرحمن الرحيم: قد جاءتكم بينة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ».

إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك حتى يأتي من يقبضه منك والسلام (32).

أبرز ما يلاحظ هذا الطبع القرآني الأصيل، فقد وضح أمر الشرع بالنسبة إلى الحاكم، وطلب من عامله الأمانة وإعطاء الناس حقوقهم المشروعة. ولكن البيان النهجي كان على غاية

ص: 117

من الدقة، إذ لا يستطيع الباحث أن يجعل النص القرآني معزواً إلى سورة واحدة، لأنه استخدم ببراعة هذا التداخل القرآني في النص الذي كتبه وذلك كما يلي في عدة سور معاً.

أولاً في سورة الأعراف قوله تعالى: (قد جاءتكم بينة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) (33).

ثانياً: في سورة هود قوله تعالى: (ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ) (34).

ثالثاً: رواية (جاءكم) عوضاً عن (جاءتكم) فقد وردت في قوله تعالى: (فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة) (35).

هكذا يتضح أنه استخدم أكثر من ثلاث آيات، ولا نجد آية واحدة تجمع النص المذكور كاملاً، والواقع أن مثل هذا التداخل يوضح الإعجاز النهجي في استخدام القرآن، فهو من حيث التكامل النصي مستقيم، ومن حيث الاستخدام صحيح، ولكن يبقى علينا أن نشير إلى أن مثل التنسيق في الاستشهاد لم يسبق إليه ولا نعرف فيما اطلعنا من نصوص اقتباسية من فعل مثل ذلك، وربما يحسبه الشراة أنه غير مستقيم مع النص القرآني. قد يبدو هذا للوهلة الأولى ولكن النظرة الفاحصة بأكثر من زاوية تبرز لنا الدقة النهجية في هذا الاستخدام اللفظي في النظرة التفصيلية، والاستخدام المعنوي في النظرة التكاملية.

مقتبسات القرآن

كنا تحدثنا عن أوصاف القرآن، واستخداماته الفنية من خلال النماذج والتماثيل الجمالية في النهج، وقد لاحظنا أن الإمام علياً (علیه السلام) كان يشفع وصف القرآن بآيات من القرآن نفسه في أكثر من آية في بعض الأحيان، بيْد أن هذا التوجه كان أكثر استخداماً في غير المجال السابق، لأنه يشمل النهج كاملاً سواء أكان في وصف القرآن أم في غيره من الموضوعات التي كانت موضع حديثه وخطبه وكتبه.

قد نستغرب إن قلنا إن عدد اقتباساته القرآنية عامة هو إحصائياً مساوٍ لعدد السور القرآنية، وهو مائة وأربع عشرة سورة.

ص: 118

يمكن تقسيم الآيات الاقتباسية في النهج إلى ثلاثة أنواع بحسب طول الاستشهاد أو قصره.

النوع الأول: آيات الاستشهاد الكبرى ست عشرة آية.

النوع الثاني: آيات الاستشهاد الوسطى إحدى وخمسون آية.

النوع الثالث: آيات الاستشهاد الصغرى سبع وأربعون آية.

ومما هو جدير بالذكر أن الاستشهاد لا يعني الآية كلها، فقد يكون النص كاملاً، وقد يكون معظمه، وقد يكون أقله.

يضاف إلى ذلك عدد آيات المستدرك.

ولابد من الإشارة هنا إلى رأي الإمام علي (علیه السلام) في قراءة القرآن وترتيله والتغني به، وهو قوله: «بينه تبياناً، ولا تهذه هذّ الشعر، ولا تنثره نثر الرمل، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» (36).

و من ذلك قوله: «ترتيل القرآن حفظ الوقوف وبيان الحروف» (37).

هذا كله يؤكد لنا معرفة الإمام علي (علیه السلام) بقواعد التلاوة والتجويد. يضاف إلى ذلك حفظه، ذلك أن طبيعة المناسبات أكدت لنا، إذ كان يكتفي في بعض الأحيان بالتعبير عما يريده قرآناً كما كان الحال في شكواه. كما كان يستخدم في بعض حكمه وأمثاله معاني القرآن معبراً بأسلوبه الذاتي من ذلك قوله: «إذا حبيت بتحية فحبي بأحسن منها، وإذا أسديت إليك يد، فكافئها بما يربي عليها، والفضل مع عليها والفضل مع ذلك للبادى» (38).

ثلاث جمل في هذه الفقرة أو القول السائر للإمام علي (علیه السلام)، فالجملة الأولى مستمدة من كتاب الله معنى ولفظاً (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) (39) ولم يكتف بهذا الاقتباس القرآني بما ينسجم والمناسبة العارضة، وإنما شفعها بما يلائم ذلك، فتحدث عن المحسن الذي أسدى إليه صنيعاً حسناً، واختتمه بأن الفضل للسابق المتقدم.

الشرع القرآني

لا بد لنا بعد التحدث عن الأوصاف القرآنية في نهج البلاغة والاقتباسات الاستشهادية في المناسبات المختلفة، من توضيح ميزة ثالثة، وهي الشرح القرآني توضيحاً لعظمة القرآن،

ص: 119

وتبياناً لمواطن إعجازه، وتوضيحاً لفنون بلاغته.

والملاحظ وجود ضربين من الشرح والتبيان القرآني فأما الضرب الأول فيتعلق بالشرح المباشر رغبة من الإمام علي (علیه السلام) لأهمية الموضوع المجمل في كتاب الله عز وجل؛ وأما الضرب الثاني فيتعلق بسؤال أو طلب من بعض صحابته، وهو الشرح المطلوب غير المباشر، أو هو شرح المطلق.

الشرح المباشر:

يتضمن هذا الضرب ثلاثة نماذج يحسن الوقوف عندها،

أما النموذج الأول فهو كلامه حين تلا قوله تعالى: (الهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) (40).

فقد استهل شرحه بقوله: «يا له مراماً ما أبعده وزوراً ما أغفله! وخطراً ما أفظعه!» (41) واختتمه بقوله: «وإن للموت لغمرات، هي أفظع من أن تَّستغرق بصفة أو تعتدل على عقول أهل الدنيا» (42).

وأما النموذج الثاني فهو كلامه حين تلا قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله» (43).

فقد استهل شرحه بقوله: «إن الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاء للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتُبصر به بعد القشوة وتنقاد به بعد المعاندة» (44).

واختتمه بقوله: «فحاسب نفسك لنفسك، فإن غيرها من الأنفس لها حسب غيرك» (45).

وأما النموذج الثالث فهو كلامه حين تلا قوله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) (46).

فقد استهل شرحه بقوله: «أدحض مسؤول حجة، وأقطع مغتر معذرة، لقد أبرح جهالة بنفسه» (47).

ثم استطرد بعد هذا الاستهلال المعنف يقول: «يا أيها الإنسان ما جرأك على ذنبك وما غرك بربك، وما أنّسك بهلكة نفسك؟!» (48).

واختتمه بقوله: «فتحرَّ من أمرك ما يقوم به عذرك، وتثبت به حجتك، وخذ ما يبقى لك،

ص: 120

مما لا تبقى له وتيسر لسفرك وشم برق النجاة، وارحل مطايا التشمير» (49).

يتضح من هذا الضرب من الشرح أنه كان صادراً عن إبداع ذاتي في أدب الإمام، إذ لم يقل رغبة في أمر خاص، وإنما كان هدفه الإفادة العامة للناس والدعوة إلى فهم أحكام القرآن وتدبر آياته.

الشرح المطلق

كان الإمام علي (علیه السلام) مصدراً من مصادر الشريعة والتشريع بعد موت الرسول الأعظم محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) فلم يكن يهمل سؤال سائل، أو شرح أمر في مناسبة عارضة، وقد توضح لنا ذلك من خلال ثلاثة شواهد.

أما الشاهد الأول فهو في التحدث عن (المغفرة والاستغفار) وقد وردت في القرآن على اختلاف صيغها واشتقاقاتها مائتين واثنتين وثلاثين مرة.

قال الإمام علي (علیه السلام) لقائل ذكر في حضرته (أستغفر الله).

«ثكلتك أمك! أندري ما الاستغفار؟

الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان.

أولها: الندم على ما مضى.

والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.

والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.

والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها.

والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان، حتى تّلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد.

والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

فعند ذلك تقول: (أستغفر الله)» (50).

ولم يقتصر الأمر على ما مر معنا هنا، وإنما كان يردد قوله: «عجبت لمن يقنط ومعه الاستغفار» (51).

وأما الشاهد الثاني فهو في وصف (المتقين) بعد ذكر الاستغفار والمستغفرين، ذلك لأن

ص: 121

«التقى رئيس الأخلاق» (52).

«روي أن صاحباً لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له همام، كان رجلاً عابداً، فقال له: (يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم، فتثاقل عليه السلام عن جوابه،: ثم قال: (يا همام اتق الله وأحسن ف (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (53)، فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم قال (علیه السلام): فالمتقون فيها هم أصل الفضائل: منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم ...» (54).

وهكذا أفاض واستطرد يتحدث في هذه الخطبة عن الجنة والنار ويصف المتقين في الليل «تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلًا» (55).

إن هذه الخطبة في وصف المتقين من أجمل النصوص النهجية، فلا تستغرب إن رأينا صاحبه هماماً يصعق صعقة كانت نفسه فيها ...

كذلك وصف النفاق والمنافقين، في خطبة أيضاً (56)، وقد اختتمها بقوله تعالى: (أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) (57).

وأما الشاهد الثالث فهو في بحث الفتنة، وموقف القرآن من هذا الموضوع الهام، وكأنما كان الإمام علي (علیه السلام) يحرص على تحذير المسلمين من الأحداث التي تثير الفتن بينهم.

ومما هو جدير بالذكر أن رجلاً قال: «يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت رسول الله صلى الله عليه وآله، عنها فقال عليه السلام: «إنه لما أنزل الله سبحانه قوله: (ألم أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون) (58) علمت أن الفتنة لا تنزل بيننا ورسول الله صلى الله عليه وآله بين أظهرنا ...» (59).

خاتمة المطاف

يتضح مما تقدم معنا أن كتاب نهج البلاغة سفر متميز لا كسائر الأسفار لأنه انطباعات إمام كبير من أئمة الإسلام شهد أحداثه الكبرى، فكان نهجه بحق مذكرات ذاتية،

ص: 122

وانطباعات إبداعية لهذا الإمام الكبير الذي أسهم في هذا الصراع المرير بين الخير والشر، ومن خلال هذا التعبير الإنساني من الجاهلية الجهلاء إلى العقيدة السمحة الغراء.

وهكذا سما أتباع الدين الجديد سمواً إنسانياً، فكانت رسالتهم إلى العالم كله والناس أجمعين.

ومن هذا المنطلق بالذات تبدو عظمة النهج لأنه صورة واقعية ونظرة حقيقية إلى المجتمع الجديد، يضاف إلى ذلك أنه كان مجسداً للقيم الإسلامية والمعاني القرآنية، وهذا ما حرصنا على تبيانه والبرهان عليه من خلال النهج.

ولقد استطعنا أن نجلو هذه الحقيقة من خلال البحث في التحدث عن العلاقة بين الإمام علي (علیه السلام) والشريف الرضي، كما تعرضنا بعد ذلك للتسمية، وأثر القرآن فيه، وخاصة الأوصاف القرآنية في النهج بالإضافة إلى الشروح والاقتباسات والحوارات.

هكذا نستطيع بعد هذا كله أن نقول إن نهج البلاغة كان قطاف القرآن، وما فيه من آراء وشروح ليس إلا التفسير الدقيق لذلك كله، ولا سيما أن صاحبه أحد العمد الكبرى في فهم القرآن وتدبير مثانيه وآياته، فكان نهج البلاغة المرآة الحقيقية للمجتمع العربي الإسلامي، اعتماداً على ما في كتاب الله من عقيدة ومواعظ وعبر، وهكذا نستطيع أن نرى نهج البلاغة في أنوار مرآة القرآن.

مصادر البحث:

(1)-نهج البلاغة، تحقيق الشيخ محمد عبده

المكتبة التجارية الكبرى-المطبعة الرحمانية بمصر جزءان.

(2)-نهج البلاغة تحقيق الدكتور صبحي الصالح، جزء واحد جامع طبع في بيروت سنة 1387 ه، وطبع في إيران بقم سنة 1395 ه بإشراف انتشارات الهجرة-إيران-قم.

(3)-نهج البلاغة، تحقيق عبد العزيز سيد الأهل أربعة أجزاء طبع مكتبة الأندلس للطباعة والنشر-بيروت-لبنان 1374 ه و 1954 م.

(4)-مستدرك نهج البلاغة، ومدارك نهج البلاغة ودفع الشبهات عنه-كتابان في مجموع واحد تأليف وجمع الهادي كاشف الغطاء مطبعة مكتبة الأندلس للطباعة والنشر 1374 ه و 1954م

ص: 123

الحواشي:

(1) نهج البلاغة (تح ص) ص 548.

(2) المصدر السابق، ص 530

(3) مستدرك نهج البلاغة (تح ه) ص 68، 96.

(4) المصدر السابق، ص 34.

(5) المصدر السابق، ص 36.

(66) نهج البلاغة (تح ص) ص 549.

(6) الجاحظ: البيان والتبيين 131/1.

(7) مقدمة نهج البلاغة للدكتور صبحي الصالح، ص 26-27.

(8) المصدر السابق، ص 27.

(88) نهج البلاغة (تح ص) ص 418.

(9) نهج البلاغة (تح ص) ص 44-45.

(10) المصدر السابق، ص 265.

(11) المصدر السابق، ص 265.

(12) المصدر السابق، ص 252.

(13) المصدر السابق، ص 315-316.

(14) نهج البلاغة (تح ص) ص 164.

(15) المصدر السابق، ص 219.

(16) المصدر السابق، ص 125.

(17) سورة الأنعام 38/6.

(18) سورة النساء 82/4.

(19) نهج البلاغة (تح ص) ص 61.

(20) سورة النساء 59/4.

(21) المصدر السابق، ص 182، النص 125.

(22) مستدرك نهج البلاغة (تح ه) ص 122.

(23) المصدر السابق، ص 124.

(24) نهج البلاغة (تح ص) ص 112.

(25) المصدر السابق، ص 117.

(26) المصدر السابق، ص 177.

(27) نهج البلاغة (تح ص) ص 191.

(28) المصدر السابق، ص192.

(29) المصدر السابق، ص 185.

(30) المصدر السابق، ص 46.

(31) المصدر السابق، ص 223.

(32) مستدرك نهج البلاغة، ص 138.

(33) سورة الأعراف 55/7.

(34) سورة هود 86/11.

(35) سورة الأنعام 157/6.

(36) مستدرك نهيج البلاغة، ص 170.

(37) المصدر السابق، ص 170.

(38) المصدر السابق، ص 479.

(39) سورة النساء 86/4.

(40) سورة التكاثر 221/102.

(41) نهج البلاغة (تح ص) ص 338.

(42) المصدر السابق، ص 341.

(43) سورة النور 36/24.

(44) نهج البلاغة (تح ص) ص 342.

(45) المصدر السابق، ص 343.

(46) سورة الانفطار 82.

(47) نهج البلاغة (تح ه) ص 344.

(48) المصدر السابق، ص 344.

(49) المصدر السابق، ص 346.

(50) نهج البلاغة (تح ص) ص 551.

(51) المصدر السابق، ص 482.

(52) المصدر السابق، ص 303-306.

(53) المصدر السابق، ص 548.

(54) سورة النحل 128/16.

(55) المصدر السابق، ص 306.

(56) المصدر السابق، ص 307-308

(57) سورة المجادلة 19/58.

(58) سورة العنكبوت 2/29.

(59) نهج البلاغة (تح ص) ص 220.

ص: 124

حقوق الانسان في نهج البلاغة

الدكتور علي صادق الشيخ عمار

إن من أشهر الوثائق السياسية في عالم اليوم هو «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 كانون أول 1948. لقد جاء هذا الإعلان وثيقة دولية ذات إشعاع على الدساتير والقوانين الوطنية التي تصدر في غالب الدول، وبعد صدوره عملت الأمم المتحدة على إنجاز مهمة أكثر صعوبة، وهي تحويل مبادىء هذا الإعلان إلى مواد تتضمنها معاهدة دولية تقرر التزام الدول المصدقة على هذه المعاهدة بتطبيق هذه المبادى، أي تحويل المبادىء الخاصة بحقوق الإنسان إلى أحكام قانونية ملزمة.

ص: 125

وأعدت الهيئة العالمية مشروع اتفاقيتين، الأولى تتناول الحقوق المدنية والسياسية والثانية تعالج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وفي 16 كانون أول سنة 1966 صدقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على هذين المشروعين، ولكن كان تنفيذ كل منهما يتطلب موافقة 35 دولة على الأقل. ولم يتوافر هذا العدد إلا بعد عشر سنوات في 3 كانون الثاني سنة 1976 بالنسبة للاتفاقية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي 23 آذار سنة 1976 بالنسبة للاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية. وتتضمن اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية، حق كل كائن بشري في الحياة والحرية والأمن والحياة الخاصة، وحقه في المحاكمة العادلة، وحمايته من العبودية ومن الاعتقال وحقه في حرية الفكر والديانة وممارسة الرأي والتعبير عنه وحقه في التجمع والتنقل كما تتضمن الاتفاقية الاقتصادية والاجتماعية كفالة ظروف المعيشة الأفضل، وحق الشخص في العمل والأجر العادل وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية، وتشكيل الجمعيات والإنضمام إليها ... إلى آخر ذلك من المبادىء التي من أهمها ما يتعلق مباشرة بموضوع الأقليات، وهو مبدأ المساواة بين البشر فموضوع الأقليات في العصر الحديث يجد إطاراً مرجعياً له في مبدأ المساواة بالصيغة التي أشارت إليها وثائق حقوق الإنسان، واعتبرت لدى كثيرين مرجعاً عالمياً معاصراً لهذا المبدأ، إلا أنه يسهل القول بأن الإسلام سبق هذه الوثائق في تقرير جملة المبادىء التي تضمنتها حماية لحق الإنسان في العيش الحر الكريم، وعلى رأس تلك المبادىء وأخصها مبدأ المساواة بين البشر. فالقرآن الكريم يشير إلى وحدة المنشأ للناس كافة عندما يخاطبهم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) (الحجرات: 13) وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، [كلكم لأدم وآدم من تراب] [الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أبيض إلا بالتقوى]. تقرر أصل المساواة بين البشر جميعاً وأن التفاضل يأتي بعد ذلك نتيجة الفعل الإرادي البشري الذي هو التقوى، جماع خاصتي العمل والإيمان ...

وتكتسب قضية حقوق الإنسان أهمية متزايدة في واقعنا العربي والإسلامي، بسبب أن حكوماتنا جميعها في قائمة الدول المنتهكة لحقوق مواطنيها وشعوبها. أما في المجال الدولي فنحن نجد أن انتهاك حقوق الإنسان يمارس بصورة أوضح نتيجة لثنائية القيم بين الداخل والخارج،

ص: 126

أو نتيجة للتكتلات الدولية أو المصالح السياسية أو النزعات العنصرية ... فحقوق الإنسان نموذج للمفاهيم التي يحاول الغرب فرض عالميتها على الشعوب الأخرى في إطار محاولته فرض سيطرته وخدمة مصالحه القومية وهو يستغل ذلك سياسياً، كما يحدث في العلاقات الدولية وفي الدفاع عن حقوق بعض الأقليات بهدف زعزعة وضرب النظم السياسية المخالفة لقيمه وتوجهاته أو الخارجة عن الشرعية الدولية والنظام الدولي المنعوت بالجديد.

من ناحية أخرى، فإن التركيز الأساسي في موضوع حقوق الإنسان بالمفهوم الغربي ينصب على العلاقات داخل المجتمع الواحد علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة الأغلبية بالأقلية، دونما نظر إلى العلاقات بين هذا المجتمع وسواه من المجتمعات أو بين هذه الدولة وتلك. فالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان لم تُعنَ بعلاقة الدولة القوية بسواها من الدول الضعيفة على الرغم من تصاعد استغلال مفهوم حقوق الإنسان في صورته الأولى علاقات الداخل في النظام الدولي الجديد من أجل التدخل في شؤون الدول مما يعيد إلى الأذهان سوابق تاريخية مماثلة حيث استخدم شعار مكافحة تجارة الرقيق لاستعمار أفريقيا وهدم بنيتها التحتية ووقف تطورها الطبيعي. ويلاحظ في ظل النظام الدولي الجديد أن فكرة حقوق الإنسان قد اكتسبت قوة جديدة من خلال الهيمنة الأميركية المغلفة بخلاف إنساني لا يمكنه الصمود أمام أي اختبار حقيقي.

هذا بالإضافة إلى أن مضمون حقوق الإنسان كما هو وارد في المواثيق الغربية والدولية ليست حقوق إنسان وإنما هي حقوق مواطن. ذلك أن ما يرد في سياق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من نصوص إنها تربط ما بين حقوق معينة وبين المواطن المنتمي لمجتمع بعينه مما يمنع الإنسان الآخر (الأجنبي) من ممارسة مثل هذه الحريات ومن التمتع بمثل هذه الحقوق وهو ما يقيد شمولية هذه الحقوق بقيود واعتبارات سياسية.

إن هذه التحفظات على التصور الغربي لحقوق الإنسان ضرورية من أجل إبراز خصوصية التصور الإسلامي لهذه المسألة حيث الغاية الأساسية هي تحرير الإنسان الذي هو أكرم المخلوقات جعله الله خليفة في الأرض وزوده بالعقل وأراد من خلال الإسلام ومبادئه ونظمه تحريره وحمايته وتكريمه.

فالإسلام بهذا المعنى، ينظر إلى الحقوق باعتبارها ضرورات فطرية بل واجبات ...

ص: 127

فالأكل والملبس والسكن والأمن وحرية الفكر والاعتقاد والتعبد والتعلم والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع والمراقبة ومحاسبة أولياء الأمور ... واجبات لا يجوز إهمالها ولا يجوز لأحد أن يحول بين الإنسان وبين قيامه بهذه الواجبات-الحقوق.

إن هذه الحقوق ليست هبة من مخلوق يعطي متى شاء ويمنع متى شاء، بل الله سبحانه وتعالى هو الذي أمر بها، فهي لأجل ذلك ثابتة ودائمة. فالاستناد إلى شريعة الله، كما نرى يرفع من قيمة هذه الحقوق المستمدة منها ويجعل الالتزام بها طاعة لله سبحانه مما يكسبها قداسة تمنع المؤمنين من تجاوزها وهذا بحد ذاته يفرض منهجاً مختلفاً في التعامل مع مسألة حقوق الإنسان: لا بد من تربية الإنسان الفرد والجماعة والسلطة على احترام هذه الحقوق بما يكفل قوة تأثيرها في الفرد والمجتمع والسلطة.

وإذا أردنا أن نفصل في هذا المجال، على ضوء «نهج البلاغة» للإمام علي، رضوان الله عليه في ذكرى مولده نجد الأثر الكبير الذي خلقه القرآن الكريم وسنة نبيه العظيم، في تشكيل شخصية الإمام المسلم والحاكم المؤمن، وفي توجيه علاقته بالإنسان، فخليفة المسلمين حريص على حفظ دين الفرد مع تقديم كافة الضمانات التي تصونه وتجعل منه إنساناً حراً في عقيدته وعبادته وتفكيره:

«عباد الله، الله الله، في أعز الأنفس عليكم، وأحبِّها إليكم. فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق وأنار طُرقه. فشقوة لازمة أو سعادة دائمة. فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء. فقد دُللتم على الزاد وأُمرتم بالظعن، وحَّثثتم على المسير. فإنما أنتم كركب وُقوف لا يدرون متى يؤمرون بالمسير. ألا فما يصنع بالدنيا من خُلق للآخرة وما يصنع بالمال من عما قليل يُسلبه، وتبقى عليه تبعتُه وحسابه (نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، دار المعرفة-بيروت، جزء 2 صفحة 52).

ومن كلام له عليه السلام مخاطباً أبا ذر لما خرج إلى الربذة منفياً:

«يا أبا ذر، إنك غضبت لله فارجُ من غضبت له إن القوم، خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أفناك عما منعوك، وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حسَّداً، ولو أن السموات والأرضين كانتا على عبد رتقاً ثم اتقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً، ولا يؤنسنَّك إلا الحق، ولا

ص: 128

يوحشتّك إلا الباطل. فلو قبلت دنياهم لأحبُّوك، ولو قرضتَ منها لأمِنُوك» (نهج البلاغة جزء 2 صفحه 12-13).

في موقف فريد يعبر فيه عن احترامه لحرية التفكير ودفاعه عن أصحاب الآراء المخالفة.

ومن كلام له رضوان الله عليه يبدي حرصه على الإنسان وعلى حقه في حياة عزيزة كريمة، يقول:

«وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكونَ في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلَّهم بجميله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الخائف للدِّول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطِّل للسنّة فيهلك الأمة» (جزء 2 ص 14).

وفي موضع آخر: «أما بعد فإنما أهلك من كان قبلكم أنهم منعوا الناس الحقُّ فاشتروه، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه» (جزء 3 ص 138) وفي إشارة إلى وجوب المحافظة على الكرامة الإنسانية يقول:

«اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه» (جزء 2 ص 80)

وفي تأكيد منه على المحافظة على حرية الفكر والرأي والعمل يقول: « ... واستغنِ بمن انقاد معك عمن تقاعس عنك، فإن المتكارِه مغيبه خير من شهوده وقعوده أغنى من نهوضه» (جزء3 ص 6).

وفي كلام آخر: «سعِ الناس بوجهك ومجلسك وحُكمك، وإياك والغضب فإنه طيرة من الشيطان، واعلم أن ما قرَّبك من الله يباعدك من النار، وما باعدِك من الله يقربك من النار» (جزء 3 ص 136).

وفي مكان آخر: «فمنهم المنكِر للمنكَر بيده ولسانه وقلبه فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيّع خصلة، ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيّع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة، ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميِّت الأحياء وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر

ص: 129

لجّي، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرِّبان من أجلٍ، ولا ينقصان من رزق. وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر» (جزء 4 صفحة 89-90).

ومن احتجاجه وغضبه لنفي أبي ذر رضي الله عنه، وإبعاده يظهر حرص الإمام على الإنسان واصراره على صون حريته في الاقامة والتنقل، أما عن قراره في حماية الإنسان من التنكيل والتعذيب فيبرز من خلال كتاب بعث به إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وهو عامله على البصرة: «فحادث أهلها بالإحسان إليهم، واحلُل عقدة الخوف من قلوبهم ... وقد بلغني تنمرك لبني تميم وغلظتك عليهم ...» (جزء3 ص 18).

ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله: «أما بعد فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقاراً وجفوة» (ج3 ص 18-19).

ومن عهده رضوان الله عليه إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما، حين قلّده مصر: «فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك ...» (جزء 3 ص 27). ويرنقي الإمام علي في دفاعه عن الإنسان وحقوقه حين يأمر بحماية سمعته والنهي عن عيب الناس:

«وإنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة، أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنهم: فكيف بالعائب الذي عاب أخاً وعيَّره ببلواه. أما ذكر موضع ستر الله عليه من ذنوبه مما هو أعظم من الذنب الذي عابه به. وكيف يذمه بذنب ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى الله فيما سواه مما هو أعظم منه، وايم الله لئن لم يكن عصاه في الكبير وعصاه في الصغير لجرأته على عيب الناس أكبر.

يا عبد الله لا تعجل في عيب أحد بذنبه فلعله مغفور له ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معذَّب عليه ...» (جزء2 ص 23).

ويقول في موضع آخر مدافعاً عن قراره:

«أيها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعنَّ فيه أقاويل الرجال. أما إنه قد يرمي الرامي وتخطىء السهام ويحيل الكلام، وباطل ذلك يبور والله سميع و شهيد. أما إنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع: الباطل أن تقول سمعت والحق أن تقول رأيت»

(جزء 2 ص 24).

ص: 130

ومن كلام له عليه السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين ولكنكم لو وضعتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوبَ في القول وأبلغ في العذر، وقُلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينِهم واهدهم من ضلالتهم حتى يعرِف الحق من جهله ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لهج به» (جزء 2 صفحة 185).

ومن عهد له كتبه للأشتر النخعي لما ولاه مصر وأعمالها: «وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم (أبغضهم) عندك أطلبهم لمعائب الناس، فإن في الناس عيوباً الوالي أحق مَن سَترها. فلا تكشفنَّ عما غاب عنك منها فإنها عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غالب عنك. فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك» (ج 3 صفحة 89-87).

وفي مواقف مميزة يؤكد عبرها عزمه على حماية الإنسان من تعسف السلطة يقول الإمام علي رضوان الله عليه من كتاب له إلى الأشعث بن قيس عامل اذربيجان: «ليس لك أن تفتاتَ (تستبد) في رعية ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يديك مال من مال الله عز وجل وأنت من خُزانه» (جزء3 صفحة 6).

وفي توجيه له لأحد ولاته يقول: « ... ولا تندمنَّ على عفو، ولا تبجحنَّ (تفرحن) بعقوبة، ولا تُسرِعنَّ إلى بادرة، وجدتَ منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمِّر آمر فأُطاع فإن ذلك إدغال في القلب (إدخال الفاسد) ومنهكة للدين وتقرب من الغِير (حادثات الدهر بتبدل الدول) (ج3 ص 84).

ويتابع آمراً الحاكم: «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومَن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك الّاتفعل تظلِم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته (أبطل) وكان لله حرْباً حتى ينزع ويتوب» (ج 3 ص 85).

وفي صرخة مدوية في وجه السلطات الظالمة، يخاطب الناس بقوله: « ... لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعاً لهم أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم حتى لا يكون انتصار أحدِكم منهم إلا كانتصار العبد من ربه والصاحب من مُستصحبه (التابع من متبوعه) ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشِّية (قبيحة المنظر)، وقطعاً جاهلية» (جزء أول ص 183-184). وفي مجال حفظ عقل الإنسان وتوفير التعليم المناسب له كأحد حقوقه وواجباته [طلب

ص: 131

العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ] (حديث شريف). يقول علي رضوان الله عليه، موجهاً بن عباس عامله على البصرة: « ... واجلس لهم العصرين، فأفتِ المستفتي وعلم عبد الجاهل وذاكر العالم» (جزء 3 ص 127).

ومن كلام له عليه السلام لكميل بن زياد النخعي: «يا كميل العلم خير من المال، والعلم يحرسك، وأنت تحرس المال، المال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق، وصنيع يزول بزواله.

يا كمیل العلم دین يُدان به، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته. والعلم حاكم والمال محكوم عليه» (ج 4 ص 36).

ومن خطبة له: «فإن العامل بغير علم كالسائر على غير طريق. فلا يزيده بعده عن الطريق إلا بعداً من حاجته. والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح، فلينظر ناظر أسائر هو أم راجع» (ج 2 ص 44).

ومن خطبة أخرى موجهاً العلماء: « ... فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أعظم والحسرة له ألزم وهو عند الله ألوَم» (جزء أول ص 216).

وأما عن حفظ المال وهو من حق الناس على السلطة، فيقول من كلام له لما عُوتب على التسوية في العطاء: «ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس ويمنيه عند الله» (جزء 2 ص 7).

ويقول محذراً شريح بن الحارث القاضي: «فانظر يا شريح لا تكون اتبعت هذه الدار من غير مالِك، أو نقدت الثمن من غير جلالك فإذاً أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة» (جزء 3

ص 4).

ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله متوعداً: «وإني أقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنك خُنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدَّنَّ عليك شدة تدعك قليل الوفر (المال) ثقيل الظهر ضئيل الأمر (ضعيف) والسلام» (جزء3 ص 19).

وعن حق الفرد أن ينال كفايته ومسؤولية الدولة عن المحتاجين ورعايتهم يقول في خطبة له مستنكراً: «اضرب بطرْفك حيث شئت من الناس فهل تُبصر إلا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً

ص: 132

بدّل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً ...» (جزء2 ص 11-12).

ومن كتاب له إلى زياد بن أبيه وهو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة، مؤنباً: « ... وتطمع-وأنت متمرّع في النعيم تمنعه الضعيف والأرملة-أن يوجِب لك ثواب المتصدقين، وإنما المرء مخزي بما أسلف وقادم على ما قدم والسلام» (جزء3 صفحة 20).

وعن حق الفرد في الرعاية الاجتماعية والصحية يأمر قُثَم بن العباس وهو عامله على مكة: «وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاحزمه إلى مَن قبلك من ذوي العيال والمجاعة مصيباً به مواضع الفاقة والخلَّات، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيم قِبلنا» (ج3 ص128).

وأما حمايته للملكية الخاصة فقد ظهر من خلال كتبه إلى عدد من عماله يخصهمِ فيها على المحافظة على أملاك الناس وينذر من تجرأ منهم على مصادرتها: «بلغني أنك جردتَ الأرض فأخذت ماتحت قدميك وأكلت ما تحت يديك فارفع إلي حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس» (جزء 3 ص 64-65).

ويقول لآخر مستهجناً وموبخاً: « ... واختطفت ما قدَرتَ عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزلَّ (السريع الجري) دامية (المجروحة) المِعزى الكسيرة (المكسورة)» (جزء3 ص 66).

ومن كتاب له إلى عماله على الخَراج: «ولا تجسموا (تقطعوا) أحداً عن حاجته ولا تحبسوه عن طِلبته. ولا تمسُّنَّ مال أحد من الناس مصلٍّ ولا معاهد ...» (ج 3 ص 80-81).

وعن رأفته بالعمال وحمايتهم يوجه أحد ولاته على مصر بقوله: «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى (شدة الفقر)، فإن في هذه الطبقة قائعاً ومعتَراً (المتعرض للعطاء بلا سؤال) واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قِسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام (أرض الغنيمة) في كل بلد» (ج 3 ص 100-101).

ويتابع قائلاً: «فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن: «لن تقدَّس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع (غير خائف)». (ج 3 ص 102).

وفي قمة غضبه من أولئك المسؤولين الذين تجرؤوا على العامل الفقير يقول: « ... والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفِرا مني بإرادة حتى

ص: 133

آخذ الحق منهما وأزيح الباطل من مظلمتها» (جزء 3 ص 67).

وفي مجال حفظ العرض وحماية الأسرة وتربية الأيتام يوصي ولديه الحسن والحسين بقوله: «والله الله في الأيتام فلا تُغبوا أفواههم (أي صلوا أفواههم بالإطعام ولا تقطعوه عنها) ولا يضيعوا بحضرتكم» (جزء 3 ص 77).

وعن المساواة بين بني البشر ونبذ التفرقة بين الأفراد واعتماد العدل يقول علي رضي الله عنه في كتاب له إلى الأسود بن قطيبة صاحب حُلوان: « ... فليكن أمر الناس عندك في الحق سواء فإنه ليس في الجَور عوض من العدل. فاجتنب ما تُنكر أمثاله (لو صدر من غيرك)» (ج 3 ص 116).

ومن كتاب له إلى بعض عماله: «واخفض للرعية جناحك، وآس (سوِّ بينهم) في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك» (ج 3 ص 76).

ولما اجتمع الناس عليه وشكوا ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته عنهم واستعتابه لهم، فدخل عليه ومما قاله: «فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة» (ج 2 ص 69).

وأما في واجب الشورى وحق الأمة في أن تختار حاكمها وأن تراقبه وتحاسبه وتعزله فهو يفتخر بأن الناس اختاروه بملء إرادتهم: « ... وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيرين» (ج 3 ص 3).

ومن كلام له في وصف بيعته بالخلافة يقول مخاطباً الناس: «وبسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقيضتها، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن أبتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل وحسرت إليها الكعاب (البنت حين يبدو ثديها للنهود)» (ج2 ص 222).

وعن نزوله على رأي قومه ولو خالف رأيه يقول: «لقد كنتُ أمسِ أميراً فأصبحتُ اليوم مأموراً، وكنت أمسِ ناهياً فأصبحت اليوم منهياً. وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون» (ج 2 ص 187).

وفي تفصيل حق الحاكم على الرعية وحق الرعية على الحاكم يقول في خطبة له: «وأعظم

ص: 134

ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي فريضة فرضها الله سبحانه لكلٍ على كل، فجعلها نظاماً لألفتهم وعزاً لدينهم. فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل ...» (ج 2 ص 198-199).

وعن العلاقة التي ينبغي أن تقوم بين الحاكم والرعية يقول: « ... فلا تكلموني بما تُكلم به الجبابرة ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة (أهل الغضب)، ولا تخالطوني بالمصانعة (المدارة) ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي. فإنه من استثقل الحق أن يُقال له أو العدل أن يُعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه» (ج 2 ص 201).

أما عن رفضه كل الأوضاع الجائرة أو الحائدة عن منهج الله فيقول كرم الله وجهه: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير (ما آمر به ولا أقاربه مدى الدهر)، وما أمَّ نجم في السماء نجماً (ما قصد)» (ج 2 ص 6-7).

ويقول في موضع آخر: «ولئن أمهل الظالم فلن يفوتَ أخذه، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه، وبموضع الشُجى من مساغ ريقه» (ج 1 ص 187).

ويخاطب الناس معاتباً إياهم لتهاونهم في مواجهة الانحراف والظلم: «وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون وأنتم لنقضِ ذمم آبائكم تأنفون. فمكَّنتم الظلمة ومن منزلتكم وألقيتم إليهم أزمَّتكم وأسلمتم أمور الله في أيديهم ...» (ج 1 ص 205).

وفي مواجهته للظلم والباطل يقسم متوعداً: «وأيم الله لأبقرنَّ الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته».

ومن خطبة له يتحدث عن الوفاء والغدر يقول: «إن الوفاء توأم الصدق ولا أعلم جنَّة أوقى منه. ولا يغدر من علم كيف المرجع ...» (ج 1 ص 92).

ويقول مخاطباً الصالحين يحضهم على إصلاح الوضع عبر إنكار المنكر والدعوة إلى الخير: « ... لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يُستجاب لكم» (ج 23 ص 77).

ويوجه رسالة إلى أحد ولاته محذراً إياه من الظلم والعدوان: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية

ص: 135

والمحبة لهم واللطف ولا تكوننَّ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق.» (ج 3 ص 84).

إنه الموقف الواضح والفكر الذي يُفصح عنه إنه «نهج البلاغة» للإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه وأرضاه نقدمه في ذكرى ميلاده كوثيقة جامعة تعالج الإنسان داعية إياه إلى المطالبة بكامل حقوقه التي أوجبها الله له ومستحثة إياه كي يؤدي واجباته تجاه خالقه ونفسه ومجتمعه والبشرية جمعاء، محذرة من أي تلكؤ أو تساهل بداعي الخوف أو الضعف.

إننا ونحن نتحدث عن حقوق الإنسان نستكشف الفروق بين موقف الغرب ورؤية الإسلام الذي يهتم بالإنسان كإنسان فيأخذ بيده صوب الطريق الذي يحفظ عليه إنسانيته وكرامته وحريته. و نهج البلاغة الذي نحن اليوم بصدد البحث عن مكنوناته، خير معبر عن هذا التوجه الرباني الخلاق.

فنرجو الله أن يثبتنا على الحق ويهدينا سواء السبيل ويعيذنا من شرور أنفسنا وينصرنا على عدوه وعدونا، إنه نعم المولى ونعم النصير وبالإجابة جدير.

ص: 136

معالم العلوم في نهج البلاغة

الأستاذ لبيب بيضون

معالم العلوم:

إن كنت تنشد العلم فالإمام موئل العلم والمعرفة، وإن كنت تروم القوة فحيدرة رمز القوة والشجاعة، ذاك من عطاء الله وقدره أنه يعطي من يشاء بغير حساب. لقد اصطفى سبحانه الأنبياء والمرسلين، واختار الأئمة الطاهرين، وأسبغ عليهم من فيوضاته وقدراته، فكان لأمير المؤمنين «ع» القسط الأوفر منها، فهو باب مدينة علم الرسول «ص»، وهو سيف الله الغالب علي ابن أبي طالب «ع». وفي ذلك قلت:

مقالةٌ جاءتْ عن المصطفي *** في صنو طه الأسدِ الغالبِ

إني أنا مدينة سلم وال *** باب عليٌ بن أبي طالب

ص: 137

والقوة والعلم مفتاحا شخصية الإمام علي (علیه السلام)، وهما عنصران أساسيان لكل قائد وإمام لكن العلم والرأي يميزان على القوة والشجاعة، حتى قال المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هي أولُ وهي المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة *** بلغت من العلياء كل مكان

وإذا كانت هذه أهمية العلم، فلننظر في علم الإمام علي «علیه السلام»، الذي جعله الله لنا قدوة، وأمرنا باتباعه وموالاته.

يقول النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): [من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي فليوال علياً من بعدي».

وليست الموالاة لعلي (علیه السلام) تعني مجرد المحبة بقدر ماتعني الاقتداء به والسير على هديه ونهجه، في كل زمان ومكان حتى يكون المصباح المنير لكل عقل وجنان، مصداقاً لقوله عليه السلام:

«ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه» (نهج البلاغة الكتاب 45).

ونحن اليوم أحوج ماتكون إلى هذا النور العلمي والهدي العلوي في أي وقت مضى.

علوم القرآن:

قرر الله سبحانه في القرآن أنه جمع فيه كل العلوم والمعارف، فقال جل من قائل: (ما فرّطنا في الكتاب من شيء). وقال: (فيه تبيانُ كل شيء). ولكن هذه العلوم لها أهلها، وهم أهل الذكر والراسخون في العلم الذين يعلمون تنزيل القرآن وتأويله، وظواهره وبواطنه، وكما قال سبحانه: (لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) وعلي «ع» من الراسخين في العلم.

علم على «ع» بالقرآن:

ولسنا في صدد تحديد علم الإمام علي (علیه السلام)» بالقرآن، فهو فوق التحجيم والتحديد، إذ هو أعلم شخص بالقرآن بعد رسول الله «صلی الله علیه و آله و سلم». ويكفينا لبيان ذلك جواب ابن عمه عبد الله بن

ص: 138

عباس حين سئل عن نسبة علمه إلى علم علي «علیه السلام»، فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط. ويكفينا قوله (علیه السلام) حين سئل عن تفسير سوة الفاتحة فقال: «لو شئت لأوقرتُ لكم سبعين بعيراً في تفسير فاتحة الكتاب»، فما بالك بالقرآن كله.

وما عسانا نقول فيمن قال: «سلوني قبل أن تفقدوني، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل نزلت أو في نهار مكيّها ومدنيها، سفريّها وحضريّها، ناسخها ومنسوخها، محكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم.

العلم الالهي:

وأشرف العلوم القرآنية هو العلم الإلهي، وقد برع فيه الإمام علي «علیه السلام» بشكل لا نظير له، وهذا نهج البلاغة يذخر بدقائق هذا العلم، بينما لا نجد أحداً من أقران علي (علیه السلام) قد تجرأ فتكلم بكلمة في هذا المضمار.

ومن جوامع الكلم التي تكلم فيها الإمام عن معرفة الله قوله «ع»:

«عرفت الله سبحانه: بفسخ العزائم وحل العقود، أي تغيير النية، ونقض الهمم».

«من عرف نفسه فقد عرف ربه».

«ثمرة العلم، معرفة الله».

وإذا كانت معرفة الله تنطلق من العلم، ومنه علم الطبيعة والكون، فاسمحوا لي أن أعرفكم على أحد فروع العلوم المتنوعة «الطبيعية والكونية والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والحيوان والنبات والطب»، في تراث الإمام وأهل البيت «علیه السلام»، ألا وهو علم الفلك والحساب وهو موضوع هذا البحث.

لم الفلك:

بدأ علم الفلك في القرآن الكريم، بدعوة العقل البشري إلى التفكر في هذه النجوم والمجرات والأجرام والكواكب. انطلاقاً من فكرتين:

ص: 139

الأولى: أن هذه المخلوقات تدل على وجود الله وقدرته وعظمته، فتدعو الإنسان من خلالها إلى الإيمان بمبدع الكون الأعظم.

والثانية: أن هذه الأجرام قد خلقها الله وسخّرها لخدمة الانسان، فيجب عليه دراستها ومعرفتها ليستطيع الاستفادة منها.

قال الله تعالى: (الله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج من الثمرات رزقاً لكم، وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخّر لكم الليل والنهار) (سورة إبراهيم: 32، 33).

ثم جاء الإمام علي (علیه السلام) شارحاً لهذين المبدأين العظيمين في خُطبه وكلماته، مفصلاً مبيِّناً، وكأنه يطّلع على السموات من علٍّ، وينظر إلى أعماق الأرض من سُفل، ولا عجب هو القائل:

«أيها الناس، سلوني قبل أن تفقدوني، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض».

وهو القائل: «لو كُشف لي الغطاءُ ما ازددت يقيناً» فهو يرى مالا نرى، وينظر إلى الملأ الأعلى، وهذا حال من تصفو نفسه وينقى فكره، فيرى في مرآة نفسه الحقائق، بعين البصيرة والدقائق.

منشأ الكون:

يضع لنا الإمام علي (علیه السلام) في نهجه نظرية متكاملة عن نشوء الكون والعالم، مازال العلماء يتخبطون في فرضياتهم عنها دون أن يصلوا إلى نتيجة. وفي نظري أن هذه النظرية كانت أعظم خطوة جريئة خطاها الإمام علي (علیه السلام) ليخبرنا عن عالم مضى وانقضى منذ ملايين السنين، حين لم تكن أرض ولا سماء، وإنما فراغ وذرات. فمن الذي أنبأه بهذا، ومن أين استمد هذا العلم، من غير نبع العلم الالهي:

(عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً) (سورة الانسان: 6).

يفترض الإمام علي (علیه السلام) أنه أول نشوء الكون، خلق الله سائلًا-عبّر عنه بالماء-وهو ما يسميه علماء اليوم بالهيولى، وهي تتألف من الجزيئات العنصرية (كالبروتون والنترون والالكترون) التي صنعت العناصر فيها بعد، كالهيدروجين والهليوم والليثيوم والكربون.

ص: 140

الخ، وهذه الجزيئات إن وجدت مجتمعة بهذا الشكل تكون ثقيلة جداً، وأثقل من المواد الموجودة على الأرض بآلاف المرات. لذلك كان لابدّ لحملها في الفضاء ومنعها من الانتشار والتبعثر من ريح قوية جداً، سماها الإمام بالريح العاصفة، تحيط بها من كل جانب، فتجمعها إلى بعضها، ثم تأتي ريح من نوع آخر سماها الإمام بالريح العقيم، فتلعب بها من جانب واحد، فتمخضها كما نمخض اللبن في السقاء، وتصنع منها أول غاز ملأ الكون وهو الهيدروجين، الذي عبّر عنه القرآن بالدخان في قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) (سورة فصلت: 11).

وبتحريك هذا الهيدروجين في دوّامات متمركزة نشأت فيما بعد الأجرام والكواكب التي شكلت المجموعات والمجرات التي هي الآن موجودة في السماء، سواء لم نرها في النهار، أو رأينا طرفاً منها في الليل، تسبّح الله وتسير على هدي الله، سابحة في أفلاكها ومساراتها، وملتزمة بحركاتها ومداراتها فسبحان من برأها على غير مثال مضى، وأنشأها على غير نظير يحتذى.

يقول باب مدينة العلم «علیه السلام» في الخطبة الأولى من نهج البلاغة:

«ثم أنشأ سبحانه فَتْقَ الأجواءِ، وشقَّ الأرجاءِ، وسكائِكَ الهواء، فأجرى فيها ماءً متلاطماً تيّارُه متراكماً زخَارُه حمَلَهُ على متْنِ الرِّيحِ العاصفة، والزَّعْزَعِ القاصفة، فأَمَرَها بِردِّهِ، وسلّطها على شِّدهِ، وقَرَنَها إلى حدِّه الهواءُ من تحتها فَتيقُ، أي منبسط، والماء من فوقها دَفِيْق».

ثم يقول «علیه السلام»: «ثم أنشأ سُبحانه ريحاً اعْتَقَمَ،مهَيَّهَا، وأدامَ مُرَبَّها, أي ملازمتها وأعْصَفَ مجْرَاها، وأبعدَ منشَأها، فأَمَرها بتَصْفيق الماءِ الزَّخار، وإثارةِ موجِ البحار، فَمَخَضَهُ مخضَ السَّقَاءِ، وعَصَفتْ به عَصْفَها بالفَضاء، تَرُدُّ أوّلَهُ إلى آخِرِه، وساجيْهِ إلى مائِره، حتّى عَبَّ عُبابُه، ورمى بالزَّبدِ رُكامُه فَرفَعه في هَواءٍ مُنْفَتق وجوٍّ مُنْفَهق، أي مفتوح واسع، فسَوّى منه سَبْعَ سمواتٍ، جعلَ سُفْلاهُنَّ مَوْجاً مكْفوفاً، وعُلياهُنَّ سَقْفاً محفوظاً، وسَمْكاً مَرْفوعاً، بغير عَمَدٍ يدْعَمُها، ولا دِسار يَنْظِمُها».

ص: 141

خلق السماء والمجرات:

ويحدثنا الإمام علي (علیه السلام) عن كيفية تشكل المجرات في الخطبة 89 من النهج في معرض حديثه عن خلق السماء، فيقول:

«ونظَم بلا تعليقٍ رَهَوات فُرَجها، ولاحمَ صُدوعَ انفراجها، ووَشَّجَ بينها وبين أزواجها، أي أمثالها وقرائنها، ... وناداها بعد إذْ هي دخان، فالتحمت عُرى أشراجها، جمع شَرَج وهي المجرة. وفتقَ بعد الارتتاق صوامت أبوابها».

يشير الإمام «علیه السلام» في هذا الكلام إلى أول نشوء المجرات، فقد كان يسود الكون دخان هو غاز الهيدروجين، ثم حركه سبحانه في دوائر، فتجمعت دقائقه في مجموعات كالعرى تشغل من الفراغ مناطق معينة، وهذه العرى هي نواة المجرات التي تكونت بعد ذلك.

وكانت السماء أول ما خلقت غير منتظمة الأجزاء، بل بعضها أعلى وبعضها أخفض فنظمها سبحانه «ونظم» بلا تعليق رَهَوات،فُرَجها»، فجعلها على بساط واحد، من غير حاجة إلى تعليق، وألصق ما بينها من شقوق وفروج ولاحمَ صُدوع انفراجها»، فجعلها جسماً متصلاً أملس، بل جعل كل جزء منها ملتصقاً بمثله «ورشّحَ بينها وبين أزواجها».

ثم يقول عليه السلام: «وناداها بعد إذ هي دخان، فالتحمت عُرى أشراجها» وفي هذا تشبيه لمجموعات المجرة المتمحورة حول محور واحد بالحلقات المرتبطة ببعضها بوشاج الجاذبية، وجعل بين المجموعات والمجرات أبواباً، بعد أن كانت مسدودة بدون منفذ، وهو ما عبر عنه الإمام (علیه السلام) بالفتق بعد الارتناق في قوله «وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها».

ثم يقول «علیه السلام»: «وأقام رصداً من الشهب الثواقب على ثقابها أي طرفها، وأمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره».

فأما قوله «ع»: «وأقام رصداً من الشهب» فإشارة إلى أن الشهب ترصد كل من يحاول النفوذ من نقاب السماء، أي من طرقها، فالفجوات الموجودة بين الكواكب إذا حاولت أية مركبة فضائية أن تمر منها، طاردتها الشظايا المتطايرة من نجوم المجرة فأحرقتها، كأن هناك رصداً يمنعون من يريد الخروج إلى السموات الأخرى، بإحراقه بالشهب. وقد حصلت هذه الظاهرة كثيراً للمركبات الفضائية أول صنعها، فقد جابهتها الشهب والنيازك الملتهبة التي تجوب

ص: 142

الفراغات بين النجوم، وحرقت العديد منها إلى أن أخذت الاحتياطات ضد ذلك، وصدق سبحانه حيث قال:

(يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان). (سورة الرحمن: 33) فهو سبحانه لم يستبعد الخروج من أقطار السموات، إنما شرطه بشرط القدرة والسلطان.

وأما قوله «علیه السلام»: «فأمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده»، أي أمسك الكواكب من أن تضطرب في الهواء بقوته. «وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره»، أي ألزمها مراكزها ومداراتها لا تفارقها.

وصدق الإمام علي عليه السلام حيث قال: «فإني بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض»، وصدق النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) حيث قال: [ أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب]. فاعتبروا يا أولي الألباب.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 143

ص: 144

المعيارية الاسلامية في الأدب على ضوء نهج البلاغة

الدكتور محمد توفيق أبو علي

بُداءة، نقول إن مصطلح «الإسلامية» في الأدب يعني المنحى الإسلامي فيه لفظاً ومعنى ولا فكاك بينهما، بل تلاحم إلى حدود الانصهار من غير تبدَّ لوشم التفاصل والفرقة.

والباعث على هذه العجالة ما يلفت في الأمة من اضطراب في تحديد المصطلحات والمفاهيم، حتى لكأن بعضها قد سيق إلينا، وأسقط على ذاكرتنا لنماء الشرخ وتوسيع الخرق؛ فإذا بالزمن غثّه وسمينه يصبح معياراً تقويميناً يحتكم إليه، وإذا بأدب الفسوق والمجون والخلاعة والظلم، يمسي أدباً «إسلامياً»، وإذا بالحافظة لا تحفظ إلا هو؛ ومن خلل بعض المسام ينسل حيباً خجولاً وئيداً، رجع صدى لصوت، كان لولا رحمة الله أن يختنق، أعني به صوت العدول في كل عصر ومصر.

ص: 145

وقبل الحديث عن نهج البلاغة لا مندوحة لنا عن تمهيد طفيف لحال الأدب قبله وبعده. فمن المعروف بداهية أن العرب كانوا في الجاهلية أمة مفتونة بالبيان (1)، فتنة تجعلهم يقرؤون الشعر على قبور الموتى (2)، ولا يقرؤونه إلا على وضوء (3)، ناظرين إلى الشعراء نظر الأمم الأخرى إلى الأنبياء كما يروي الرازي عن الأصمعي عن عمر بن العلاء (4). وهنا يتبدى لنا وجه من وجوه الحكمة في تجلي الإعجاز الرباني قرآناً تعنو له الوجوه، وتنحر له الأقلام.

وليس جديداً القول إن أثر المعطى الأدبي في القرآن الكريم، كان متقدماً في البدء على أثر المحمول الديني في نفوس الناس، فهذا الأعرابي الضارب في التيه، لم يكن ليخشع لقداسة الذكر الحكيم، لو لم تبهره إبلاغيته وتجعله أسير الدهشة الكبرى؛ والروايات كثيرة، حسبنا أن تذكر منها قصة الوليد بن المغيرة الذي-على الرغم من عنجهيته وغطرسته-أذعن لبلاغة القرآن الكريم، راداً على من يريد نعت الرسول الأعظم بالكاهن أو بالمجنون أو بالشاعر: «والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، وما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، ما هو شاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر» (5)

وقد أدرك السلف وجهاً من وجوه العظمة الأدبية في النص القرآني، فانبروا يؤلفون حول إعجاز القرآن، بيد أن محاولاتهم لم تبارح أفق النظر، خلا مجال اللغة؛ فلم توظف نتائجها-إلا لماماً-في تشييد صرح التقنية الإبداعية للحضارة الجديدة. ففي حقبة انبزاغ النور العلوي، كان شعراء الدعوة (حسان وكعب وابن رواحة)الذين يذبّون عنها الأعداء من المخضرمين الذين انبجست عبقريتهم عهد الجاهلية، فلم يستطيعوا أن يفارقوا نهجهم الأسلوبي القديم وطريقة نظمهم السالفة. فكانت المعاني الجديدة التي حملتها البعثة الكريمة تمشي جنباً إلى جنب مع الموروث الجاهلي في كثير من الأحايين، أي إن الطعن في الأحساب والأنساب-على سبيل المثال-كان يواكب التهديد بنار جهنم أو الاغراء بجنات تجري من تحتها الأنهار ... وقس على ذلك.

وتدور عجلة الزمن، ويبقى الشعر الإسلامي على هذه الشاكلة، مع تغير مطرد-بطيئاً كان أو سريعاً-في محمول النص الفكري، أي في انحسار المضامين الجاهلية، وشيوع الأفكار الإسلامية، من غير أن يطرأ جديد على التقنية الشعرية، من حيث كونها بناء على صورة ما، أو

ص: 146


1- لمزيد من التوسع في هذه الفكرة، انظر: أ-الجاحظ: الحيوان 71/1 وما بعدها. ب-ابن رشيق: العمدة 65/1 وما بعدها. ج-ابن سلام: طبقات الشعراء ص 34 وما بعدها. د-ابن عبد ربه: العقد 103/6 وما بعدها.
2- أنظر ابن النديم: الفهرست ص 138.
3- انظر ابن الأنباري: شرح القصائد السبع الطوال ص 370.
4- انظر أبو حاتم الرازي: الزينة في الكفات الإسلامية 96/1-97.
5- السهيلي: الروض الأنف 1 / 137؛ ابن منظور: اللسان 350/5 مادة رجز.

شكلاً فنياً له أسسه المميزة، أو أسلوباً له قواعده وأنظمته الخاصة ... الخ؛ فهذه الأمور برمتها كانت من الارث الجاهلي الذي استمر بعد انبلاج فجر البعثة، يضيء للشعراء سبل النظم وطرق التوليف.

كل هذا كان في الحقبة الراشدة، أما في العهد الأموي، فقد انقلبت الأمور-إلا لماماً-رأساً على عقب وانعكست دورة الزمان، وكان أولى الضحايا «الشعر الإسلامي» فكيف حدث ذلك؟

أ-من المفترض عقلاً ومنطقاً أن يكتسب شعراء الإسلام في هذا العهد بعد تمرّسهم بالعملية الشعرية في كنف الدعوة ورحابها، أفقاً ذاتياً وخصوصية فردية، شكلاً ومضموناً، بيد أن هذا الأمر لم يحصل البتة، فقد التهمت نيران العصبيات القبلية، كل أشجار الدوح وحناجر طيوره، ورجع الشعراء القهقرى ليستلهموا لا الشكل الشعري الجاهلي فحسب، بل روحيته ومضامينه وأفكاره فكانت حقبة بني أمية-خلا فترات محدودة كفترة عمر بن عبد العزيز-أخطر من الجاهلية على الخلفية الفكرية، التي توجّه الأنساق الشعرية يومذاك، لأنها أهدرت كل المخزون الثقافي الذي تجمع لدى «المبدعين الإسلاميين»، واغتالت صبوة الأجيال إلى التماهي مع قيم الإسلام.

ب-في هذا العهد عرف التدوين سبيله إلى التراث وكان الانتقاء سيد الساح، فخنقت أسواط الجلاد كل أصوات الكلم الطيب، التي لا تتناغم مع إيقاع النغم الحاكم ولذلك، فلعل «الشعر الرسمي» الذي وصل إلينا من الحقبة الراشدة نفسها، هو ما رضي عنه السلطان، بعد أن بث عيونه وأياديه تمعن فيه تحويراً وتبديلاً.

ج-بعد الانتقاء والتدوين أصبح المعيار الشعري واضحاً لا يحتمل اللبس أو الغموض، فكل شعر لا ينفخ في بوق السلطان ليس شعراً، وهو غث لا قيمة «أدبية» له ولا يسترعي الانتباه أو يستحق العناية، ولذلك فقد نما شعر «الضد» في السر لا في الجهر، وقد نكل بأصحابه ومريديه مما جعله يتلفع دثار الغلو والمبالغة في سوانح شتى.

ونمضي قدماً لنرى بني العباس، الذين زعموا أنهم ثاروا على الأمويين، بغية إرجاع الحق إلى أصحابه، والعودة بالناس إلى طهر الينابيع، ولعل هذه الشكلية في الثورة، قد ولّدت انعكاساً لها في عالم الأدب، فكيف اتفق الأمر أن التقى زمن بني العباس مع ولادة الفنون

ص: 147

والأوزان المستحدثة (1)، كالدوبيت (2) والكان وكان (3) والسلسلة (4). الخ. وهل هي مصادفة أن يكتب في هذه الأنماط الجديدة فريقان اثنان: المارقون، والمتصوفة، وكلاهما تعبير سلبي وإيجابي عن ظاهرة رفض لما هو قائم؛ ويغنينا في هذا المقام، الفريق الثاني، فهل هي مصادقة محض (أو محضة) أن ينتسب هؤلاء جميعاً على اختلاف نزعاتهم ومشاربهم وأهوائهم، إلى الإمام علي (علیه السلام) باب مدينة علم المصطفى (صلی الله علیه و آله و سلم)؟

هذا في الشعر، أما في النشر، فالأمر كان يسير على غير هذا المنوال. فمنذ البدء، لم يكن للعرب في الجاهلية موروث نثري فني كبير خلا جزءاً من الأمثال، وبعض سجع الكهان والخطب المتناثرة؛ وأُنزل القرآن بلسان عربي مبين معجزاً أساليب العرب وقدراتهم، مؤسساً رؤيا شمولية للإنسان والحياة والكون بعضها البيان، بيد أن هذا الشق البياني لما يستوعب تاريخياً فيما نرى فآن الأوان لتمحيص في التاريخ وإعادة في النظر؛ فالعرب-شأنهم شأن الأمم الأخرى-لم يعرفوا سوى شكلين من أشكال التعبير الكلامي: الشعر والنثر؛ والقرآن ليس بأحديهما بل هو نمط تعبيري له فرادته، ويتجاوز النمطين معاً.

هذا النمط البياني التجاوزي، الذي أسسه القرآن لا قبل للناس بمحاكاته بل بوسعهم أن يتأثروا به ويفيدوا منه وهذا ما حدث في الحقبة الراشدة، فقد استرشد بهديه بعض الملهمين مؤسسين ما اصطلحنا على تسميته «بالنثر التجاوزي» أي النثر الذي تجاوز الراهن المألوف من الكتابة، لعلّة استضاءته بالنص القرآني، وقد سطعت أنوار هذا النثر في تكامل بهي بنيوي الاتجاه مع الإمام علي (علیه السلام) الذي جمع الكلمة إلى الشفافية إلى لطافة الصورة، إلى اللفظة المأنوسة في بوتقة عز نظيرها بعد القرآن الكريم والحديث الشريف.

وجاء العهد الأموي، وأصاب الشعر ما أصابه من ضمور وانحلال رؤيويين؛ خلا ما تسرب عن غفلة الحاكم من شعر الضد؛ فظلت أنوار «النثر التجاوزي» نفسها هي التي تضيء سبل السالكين زمن انبعاث الصحو من سباته، فغرف بعض المتصوفة العرفانيين من هذا المعين الجميل، حتى لكأن مؤلفاتهم قد أضحت في جوهرها، حواشي وشروحاً على الأصل.

انطلاقاً مما تقدم ذكره، نقول إن ما اصطلحنا على تسميته بالنثر التجاوزي، هو في كثير من الأحايين، ما نصبو إلى التماهي معه في العملية الإبداعية الشعرية المعاصرة، ولعل كثيراً من المدارس الأدبية العربية الحديثة، والتي يعزى وجودها إلى عوامل نهضوية غربية، ما زالت قاصرة

ص: 148


1- الفنون والأوزان المستحدثة ضربان: ضرب موجود في الدوائر العروضية الخليلية، ولم يستعمله العرب قبل الخليل بن أحمد الفراهيدي مثل بحر المستطيل وهو مقلوب بحر الطويل؛ وضرب آخر ابتدع في العصر العباسي ولم يك موجوداً في دوائر الخليل مثل الدوبيت [ انظر محمد توفيق أبو علي: علم العروض ومحاولات التجديد ص 33 وما بعدها].
2- دوبیت: وزن فارسي الأصل مؤلف من (دو) بمعنى اثنين وبيت بمعناها العربي أي البيتان يلاحظ فيه أن الروي في الأشطر الأول والثاني والرابع واحد بينهما الروي في الشطر الثالث مختلف. وأشهر أنواعه: فعِلن متفاعلن فعولن فعِلن (انظر محمد أسبر ومحمد أبو علي: الخليل معجم في علم العروض، ص 44-445 كامل مصطفى الشيبي: ديوان الدوبيت).
3- الكان وكان: وزن اخترعه البغداديون ونظموا عليه الحكايات والخرافات، لذلك فقد سمي بهذا الاسم وزنه: مستفعلن فاعلاتن مستفعلن مستفعلان (انظر الخليل معجم في علم العروض ص 73-73).
4- السلسلة من البحور الغنائية المولدة، وزنه: فعلن فعلاتن مستفعلن فعلاتن. انظر المرجع نفسه ص 64-65.

عن بلوغ قمم الأخيلة الجامحة. التي ترفل بها سياقات بعض النثر التصوفي، ومن يرتد قلبه أدنى شك، فليرجع إلى «مواقف» النفّري (1)-وهو أقرب الرهط إلينا-ليجد ضالته المنشودة.

سمات الأدب الاسلامي على ضوء معيارية النهج:

قبيل الحديث عن هذه السمات، سنعمد إلى عرض ما تيسر لنا الاطلاع عليه من أقوال في الأدب، ذات غنى دلالي، لنقف في خاتمة المطاف على ماهية مفهوم له يجمع ويمنع، نستأنس به إبّان معالجتنا المعيارية تفصيلاً. فقد قيل في الأدب:

أ-إنه فن الكلمة التي تعبر عن التجربة الإنسانية، بشكل يحدث الرضا الفني، جامعاً بين المنفعة والمتعة (2).

ب-هو سجل حي لما رآه الناس في الحياة. بل هو تعبير عن الحياة وسيلته اللغة (3).

ج-إنه يحيا بفضل الحياة التي تتمثل فيه (4).

د-هو يستمد من الحياة مادته، لكنه يدفعها ويوجهها (5). بل يفسرها وينقدها (6).

ه-من أبرز صفاته: الوضوح وعمق الفهم وسمو الروح؛ والوضوح أهم هذه الصفات ويتجلى من خلال إحساس المؤلف بالصورة أي بتركيزه الاهتمام على الشكل الجوهري للأشياء، في العالم المرئي وغير المرئي، بغية إيصال التجربة حارة إلى الآخرين (7).

و-المؤلف يذهب أبعد من دلالة الألفاظ، فهو يسبر أغوار الذات البشرية، بفضل الإيماءات الفنية المتناغمة مع ذبذبات النفس والفكر.

ز-لا يعرف بوظيفة محددة، فهو على مر العصور، قد أدى ورفض كل الأدوار الممكنة (8).

ح-مهما اختلفت مذاهبه وتعارضت وتباينت فإن جوهره واحد، لأنه تجسيد للكيان الروحي للإنسان وبلورة له (9)، وهو تنظيم للنزعات الفردية للأديب والقارىء معاً، بتحويلها إلى شكل جمالي يجعل التجربة النفسية لهما محركاً لأنبل الدوافع (10).

ط-التجربة الأدبية الكبيرة تعطي معنى لنظام علاقات الأشياء في الحياة (11).

ي-إن الأديب العظيم يتأثر بالحساسية اللغوية لجماعته وعصره، بيد أن حساسيته تطبع عصره بطابعها الخاص (12).

ص: 149


1- النفَّري (ت 354 ه/ 96م): محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، أبو عبد الله، عالم بالدين، متصوف، نسبته إلى بلدة «نفَّر» بين الكوفة والبصرة، من كتبه «المواقف» و «المخاطبات» كلاهما في التصوف (انظر العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب 433/5: ياقوت الحموي: معجم البلدان 303/8؛ خير الدين الزركلي: الأعلام 7 / 184.
2- William Henry Hudsm: An intraduction to the study of literature, 12n ded,p: 10
3- المرجع نفسه، قارن مع عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه: ص 20.
4- انظر الحاشية الثالثة.
5- انظر عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه، ص 21.
6- Evans: Literature and seience, George Allen 82 unwin, Lonolon 1954, p:99-100.
7- Nathan comfort star: the Dynamies of Literature, Columbia univ Press, ivew york 1945, P:22.
8- المرجع نفسه، ص 23-24.
9- أبريست: الاتجاهات الأدبية في القرن العشرين ترجمة جورج طرابيشي، ص 209.
10- نبيل راغب: المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، ص 8.
11- المرجع نفسه، ص 11. انظر Star في كتابه السابق، ص 22. - Marcel Creasot. Lestyleet sestechniques, prisses universitaires de Framee, 1946, P:4.
12- انظر: Welick علیه السلام Warren: theory of literalure, P:7.

ك-كل عمل أدبي خاص وعام، فردي وجماعي، له خصائص ذاتية، من جهة، ويشارك الأعمال الفنية الأخرى في الصفات العامة، من جهة أخرى (1).

ل-الأديب العظيم هو الذي لا يتملق مجتمعه، بل يصدقه الرؤيا والإحساس والتعبير (2).

والآن وبعد استعراضنا لهذه الطائفة من الأقوال فإننا وجدنا أن أوجز التعريفات وأشملها القول: إن الأدب يعني كل ما حملته لغة أمة من الأمم، من نتاج فكري-جمالي-وجداني، يجمع بين المتعة والمنفعة أو قل هو الفكر مزجى بالعاطفة والحلم، ليصبح الكلام المثقِّف المهذَّب الممتع للفرد والجماعة. فأين لنا من أثر بشري بعد الحديث الشريف، خلا نهج البلاغة، يستطيع أن يتسع لكل هذه المضامين والرؤى؟

هذا بالإجمال أما بالتفاصيل فسنختار ثلاثة محاور رئيسة في سمات النص النهجي هي: الحداثة والمعاصرة؛ التنوع والأصالة؛ الالتزام.

1-الحداثة والمعاصرة

إن كثيراً من الباحثين (3) قد أسهبوا في الكلام على التفريق بين هذين المصطلحين، ومع هذا نجد اللبس ما زال قائماً عند فريق كبير من القراء، الأمر الذي يدفعنا إلى إعادة الكرة في التوضيح، فنقول إن المعاصرة تعني الانتساب إلى عصر ما، أما الحداثة فهي الجدة التي لا تبالي بالأيام (4).

ومن وجوه الإبداع في النهج، جمعه-من غير جمع أو طرح-هذين المفهومين، فهو مرآة لأدق ما في عصره من قلق حضاري، وهو في الوقت عينه، كشاف يضيء لألاؤه على العصور القادمة، حتى ليمسي رونقه حلة كل عصر، ومضامينه حشاياه، متجاوزاً الرتابة التي قد يحس بها حديث إزاء قديم.

ودلالة المعاصرة والحداثة لم تقتصر على حيّز دون آخر في الشكل أو المضمون، بل انصهرا معاً في وحدة فنية متجانسة.

ويحار الباحث أي نص يختار وأي نص يغفل فالنصوص تنازع بعضها في وجوب الصدارة الجمالية؛ وليس لنا إلا أن نعرض بعضها:

- أيها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا

ص: 150


1- انظر عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه ص45.
2- انظر محمد ابو علي: مدخل إلى مفهوم الأدب الجماهيري، ص 34.
3- كثر هم نذكر منهم أدونيس على سبيل المثال لا الحصر، في كتابيه: زمن الشعر، والثابت والمتحول.
4- انظر محمد توفيق أبو علي: إشكالية الابداع في الشعر العربي الحديث في مجلة المنطلق، العددين 73 و 74 كانون أول-كانون ثان، 1990-1991 / جمادى الآخرة-رجب 1411ه ص 49.

تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح (1).

- شُغل من الجنة والنار أمامه، ساعٍ سريع نجا، وطالب بطيء رجا، ومقصر في النار هوی (2).

- وقد باتوا سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم، ركب المعزي من طول سجودهم (3).

- یا دنیا یا دنيا، إليك عني ألي تعرضتِ؟ أم إلىّ تشوقتِ؟ لا حان حينك! هيهات! غرّي غيري (4).

- الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقه (5).

- الوعد وجه والانجاز محاسنه (6) ... الخ.

ومن البراهين الدالة على إبلاغية الحداثة في النص النهجي، تلك المقابلة الطريقة التي دبجها الأستاذ رياض نجيب الريس ونشرت في مجلتي المستقبل (7) والغدير (8)، فقد صنع الكاتب أسئلة تتماهى مع نصوص في النهج، كانت بمثابة الأجوبة. وهذا ما يقودنا إلى ملاحظة تلك الطاقة الاستشرافية العظيمة التي يتحلى بها ذلك النص؛ مما أفسح في المجال لكاتب معاصر، أن يخترق حجب العصور، وتبقى الإضاءة متوهجة لا يدانيها الشعوب وإفساحاً في المجال للإفادة سأعرض لبعض الأمثلة من تلك المقابلة الآنفة الذكر:

1-سيدي أمير المؤمنين، ما هذا الزمان الذي تعيشه أمتك؟ (9)

«يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل، ولا يظرف فيه إلا الفاجر، ولا يضعف فيه إلا المنصف، يعدّون الصدقة فيه غرماً، وصلة الرحم مناً» (10).

2-لكن كيف يواجه المرء يا أمير المؤمنين آلة الحكم؟ (11).

«لا خير في الصمت عن الحكم، كما أنه لا خير في القول بالجهل» (12).

3-وهل يعمل الحاكم بمشورة المحكومين يا أمير المؤمنين؟ (13).

«من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها. [و] من استقيل وجوه الآراء عرف مواقع الأخطاء» (14) ... الخ.

7-أين الوطن يا سيدي الإمام، وقد أصبحنا كلنا نعيش في غربة قاسية؟ (15)

«ليس بلد بأحق بك من بلد خير البلاد ما حملك. الغنى في الغربة وطن والفقر في الوطن غربة» (16).

ص: 151


1- نهج البلاغة: مختارات بإشراف سميح عاطف الزين، ص208 وما بعدها.
2- المصدر نفسه، ص 408 وما بعدها.
3- المصدر نفسه، ص 426 وما بعدها.
4- المصدر نفسه ص 688 وما بعدها.
5- المصدر نفسه ص 696.
6- المصدر نفسه، ص 706.
7- مجلة المستقبل، العدد 314، شباط 1983.
8- مجلة الغدير العددان 10 و 11 جمادى الأول والثاني 1411 ه/ كانون الأول 1990م.
9- رياض نجيب الريس: مقابلة صحفية مع أمير المؤمنين (علیه السلام) في مجلة الغدير العددين 10 و 11 جمادى الأول، جمادى الثاني 1411 ه/ كانون الأول 1990م، ص 120.
10- النهج (شرح محمد عبده) 23/4.
11- المصدر السابق (الغدير) الموضع نفسه.
12- المصدر السابق (النهج) 108/4.
13- المصدر السابق، الموضع نفسه.
14- المصدر السابق 41/4-42.
15- المصدر السابق ص 121.
16- المصدر السابق 14/2.

8-لكن الفقر يا أمير المؤمنين، ليس هو غربتنا الوحيدة، يكاد الفقر يكون مقيماً معنا في عصر الغنى العربي (1).

«ألم أقل لابني محمد بن الحنفية: يا بني إني أخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه، فإن الفقر منقصة للدين، ودهشة للعقل، داعية للمقت ... الفقر الفقر هو الموت الأكبر ... ولو كان الفقر رجلًا لقتلته» (2).

نافل القول إن اللافت في هذه الأجوبة، تلك الديباجة الأنيقة والبسيطة في آن، التي تسمح للإنسان الحديث التعاطف معها، من غير استئذان إيضاح، أو توسل معجم.0

وأما المعاصرة، فالنهج برمته صورة عن عصره، بتفاصيله الحضارية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ولا تحتاج في إبراز ذلك إلى دليل، لأن النهار لا يعوزه برهان، لمن كان ذا بصرٍ ویری.

2-التنوع والأصالة:

إن النص النهجي يجسد بعد حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) التجربة المثلى لتمثل النص القرآني، فهو أدب الفطرة المنشود، ويكتنز في حناياه، ما يستوعب أكثر الاتجاهات الأدبية على اختلاف أنماطها، فهو يجمع إلى رصانة الكلاسيكية، لهب العاطفة المتقد في الرومانسية، وجذوة الأحاسيس الطامحة إلى الانعتاق في فضاء الذات الإنسانية التي لا تهيم في فراغ، بل تستمد نبض سيرورتها من هدى خالقها، فيمسي الهاجس الاجتماعي كوة تواصل تصبو إليها حوافز الاحتجاج الرومانسي، نهجاً واضحاً رافضاً لكل مظاهر الظلم والاستبداد، مندثراً بشفافية الصورة، وخصب الخيال المزدانين بوجد صوفي، وبغرابة أليفة غير مألوفة، غامضة واضحة في آن.

كل هذا التنوع يفضي إلى أصالة؛ فالنهج محمولاً وأسلوباً، يطوف بك في عوالم متنوعة بيد أنها محورية الغاية والمقصد، همها القول ببساطة من غير وعظ مباشر أيها المخلوق أذعنْ لقدرة الخالق، وتأدب طوعاً في عبادته، وهنا يكمن الإبداع في منهج الدعوة في النهج، خصوصاً في النصوص الوصفية التي تتحدث عن الكون والإنسان وارتباطهما بالخالق عز وجل. والمواضيع قد تبدو لوهم العين في أول نظرة متناثرة غير متسقة، بيد أننا لو أمعنّا فيها النظر ثانية، لوجدنا السر كامناً في وحدة عضوية معنوية بحيث يصبح الكلام على خلق الحيوان، منسجماً أيها

ص: 152


1- المصدر السابق الموضع نفسه.
2- المصدر السابق 76/4 و 41/4.

انسجام مع خلق الملائكة والبشر وقس على ذلك.

والتنوع يتجلى، لا في الموضوعات فحسب، بل في صياغة الكلام ورصفه تبعاً لتنوع السياقات والمناخات، فحينما يكون الموضوع متعلقاً بصفات الله جل جلاله نرى أن جلال الأسلوب وفخامته باديان بلا قناع وكذا الأمر من حيث الإطناب والايجاز، وطول النفس وقصره، تناغماً مع طبيعة الموقف والتنوع والأصالة باديان في تنويع الأسلوب بين مسجّع ومرسل، بدثار من العفوية، فالسجعة لم تقف حائلاً دون تمام المعنى، بل على العكس، نحس كأن المعنى يلهث ليقف مستريحاً مطمئناً عند هذا السجع، الذي يبدو ملزماً لزوم القافية بناء القصيدة من زاوية بنيوية.

وظاهرة التنوع والأصالة، تتبدى في الامساك بأصول الأشياء المنغرسة بالذاكرة، وإطلاق أعنتها في فضاء جديد، يفيد من المنهج ويغيّر في الاتجاه. فالابداع في الأدب الجاهلي، أكثر ما يبرز-حسب ما نرى-بواسطة حالة إيعاز اصطلحنا على تسميتها «بالتجريد الحسي» وهي أقرب ما تكون إلى ما يسمى بالمنحى الرمزي الحديث؛ يفرّق بينهما ويجمع ما يفرق ويجمع بين خصوصيتي التراث والحداثة0 فكلاهما-التجريد الحسي والرمز-يتفقان في الخروج بالمحمول من الإطار الوضعي إلى الإطار الدلالي، بيد أنهما يفترقان في نمطية التكثيف الرؤيوي وشفافيتها، فالرمز بما أوتي من محمول تاريخي متراكم، أصبح شفافاً ذا استقلالية ذاتية، وهو قد يعتمد اللفظ المفرد أو سياق الكلام في آن. وشفافيته واستقلاليته جعلتاه يتسم بنقص في الدفق الحراري للغنائية، بينما نرى «التجريد الحسي» بما استند إليه من سياق، يقوم على الارتقاء بالحس إلى ما فوق الحس، رافلاً بغنائية دفينة لا يبددها المحمول (1).

وقبل أن أعطي أمثلة على النمط الجاهلي بغية مقاربة ذلك مع ما ورد في النهج، أشير إلى أن هذا الأخير، قد استثمر منهج الأول في التعاطي مع الواقع، وبدل في اتجاه الإيعاز، فالجاهلي كان يوعز إلى «معجم الدلالات» في الذاكرة الجاهلية، والنهج صار يؤسس لمعجم دلالات في الذاكرة الإسلامية، ليثبت التصاعد البياني الجميل بين جمال الجاهلية والإسلام على ضوء الفهم للحديث الشريف: [ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا ] (2). يقول لبيد الجاهلي:

راسخ الدمن على أعضاده *** ثلمته كل ريح وسبيل (3)

ص: 153


1- انظر محمد توفيق أبو على: الأمثال العربية والعصر الجاهلی، ص 84-85.
2- محمد الفروي: الأمثال النبوية 304/20 مع الحواشي.
3- الميداني: مجمع الأمثال 161/2.

ومحور القصد قوله: راسخ الدمن، فالدمن يعني البعر، أما راسخ الدمن، فإشارة إلى العداوة (1).

ويقول الأعشى:

زنادك خير زناد الملوك *** خالط فيهن مرخ عفارا

ولو بت تقدح في ظلمة *** حصاة ينبع لأوريت نارا (2)

فالمرخ والعفار وهما من الشجر، أصبحا بمثابة الرمز عن القوة والمجد. ويقول النابغة الذبياني: «حدثوني بني الشقيقة ما يمنع فقعاً بقرقر أن يزولا» (3). فالفقع لغة الكمأة تنجلها الدواب بأرجلها (4)، والقرقر: الأرض الملساء الواسعة، فإن ضاقت أنثت (5). أما صورة الفقع بقرقر فترمز إلى الذل.

استناداً إلى الأمثلة الجاهلية السابقة نلاحظ أن لعبة الحس تتم عبر تواصل بين ذاكرة الفرد وذاكرة الجماعة؛ فذاكرة الأول، ليس لها أن تقيم علاقات شعرية خارج إطار ذاكرة الثاني؛ وهذا التواصل يؤدي إلى نمط عن التسامي في دلالة اللفظة، يعوّض على الشاعر ذكر مستلزمات العنوان المقصود أو شيء منها، لأن السّياق قد كفاه ذلك عبر جدلية إسقاط الصفات على المحسوس واستعارتها منه؛ وهذا السفر بين الاسقاط والاستعارة أوضح الرؤيا، ولم يبارح الدفء الشعوري.

هذا ما كان في أسلوبية الجاهلي، أما في أسلوبية النهج، فثمة تواصل وتغير. التواصل باد في الإفادة من طاقة المحسوسات وتوجيهها نحو أفق اللا محسوس، ثم الأوبة بها إلى الحس بإسقاط واستعارة كما أسلفنا القول؛ وأما التغاير فقائم على أمرين:

أ-وجهة الدلالة

ب-وجهة الاطلاق.

ففي وجهة الدلالة، ثمة تأسيس لمنهج إيعازي جديد، يبدو النهج فيه أدباً إسلامياً، يرتكز إلى خلفية فكرية منهلها الكتاب والسنة؛ وآية ذلك، أنه يتعذر على من لم يطلع على الذكر الحكيم والحديث الشريف أن يعي حقيقة مكنوزات النهج.

وأما في وجهة الإطلاق، فالمنهج التجريدي الجاهلي كان يقوم على مواضع محدودة في السياق، قوامها جملة أو بعض جملة، بينما أطلق النهج العنان لهذا المنهج، في أن جعل السياق

ص: 154


1- انظر المصدر نفسه في الموضع نفسه.
2- المصدر نفسه 74/2.
3- المصدر نفسه 284/1.
4- المصدر نفسه الموضع نفسه.
5- ابن منظور، اللسان، مادة قرر.

برمّته تقريباً، صناجة بلا ضجيج، يرتقي بالمفهومات من التداول المألوف، لتبعث في الذهن تداعيات تخييلة، وألقاً دافقاً من الفيض العفوي والتلقائية المهذبة.

وإجلاء للفارق بين نمطي التجريد، سنعمد إلى إعطاء أمثلة من النهج توضح اللبس وتميط اللثام عن الغوامض:

- النموذج الأول: أ-«قد اصطلحتم على الغل فيما بينكم، ونبت المرعى على دِمنكم» (1).

ب-«تزول الجبال ولا تزل! عض على ناجذك» (2).

ج-«قليل الوفر ثقيل الظهر» (3).

- النموذج الثاني (4): أ-«والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه بل اندمجتُ على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية (5) في الطويّ (6) البعيدة» (7).

ب-«رمته قسِي الفناء بنبال الموت» (8).

ج-«هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استعوره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحلّ الأعلى» (9).

والتنوع والأصالة يظهران بجلاء في شمولية الثقافة وخصوصية الانتقاء، مما جعل بعض الباحثين يقعون في شبهة اللا انتماء إزاء بعض النصوص، التي استشرفت الآفاق قبل وقوع بصر القوم عليها آنذاك (10). وشمولية الثقافة تبرز للعيان في ذلك الغنى الزاخر من المعلومات المتصلة بأدق المصطلحات في مناحي شتى، وأما خصوصية الانتقاء، فيشهد لها اختيار مواضيع محددة، رامزة قد وظفت في سياق اكتمال بنية النص النهجي، حتى لكأن هذا النص أصبح بمثابة «الغربال الثقافي» العصره طرح الغث وأبقى على السمين قارناً الشيء بالشيء وليستقيم البنيان والتنوع والأصالة باديان في تساوق الواضح؛ وهو الأوفر عدداً، مع المبهم، ثم هيمنة الأول على الثاني وإخراجه بلا قاموس من كهف الإبهام، والمثال التالي شاهد على هذا القول: «فأموا منزلاً خصيباً، وجناباً مريعاً، فاحتملوا وعثاء الطريق، وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم.» (11)، فانظر إلى لفظ «مريعاً» كيف أضاء له سبل التفسير لفظ «خصيباً»،

ص: 155


1- مختارات من نهج البلاغة بإشراف سميح عاطف الزين، ص 610 والمحور في المثل قوله: «ونبت المرعى على دمتکم»
2- . المصدر نفسه، ص 372، والمحور في المثل قوله: «عض على ناجذك» والناجذ: أقصى الضرس.
3- المصدر نفسه ص278؛ والمحور في المثل: قوله: «ثقیل الظهر». أي مسكين لا يقدر على مؤونة عياله.
4- قد أسلفنا القول إن النموذج الثاني، يستغرق الجزء الأكبر من النهج، فاقتضت الإشارة.
5- الأرشِية: الحبل.
6- الطَوِيّ: البئر.
7- مختارات من نهج البلاغة، ص 380.
8- المصدر نفسه، ص 612.
9- المصدر نفسه، ص 654.
10- لمزيد من التوسع حول هذه النقطة انظر: عبد الزهراء الخطيب: مصادر نهج البلاغة وأسانيده، مقدمة محمد محيي الدين عبد الحميد لنهج البلاغة؛ زكي مبارك: النثر الفني 59/1.
11- المصدر السابق، ص 670.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى لفظتي: «جشوبة» و«خشونة».

3-الالتزام:

إن قارىء النهج يستنتج بسهولة فائقة سمات الالتزام فيه والتي تتجلى بما يلي:

أ-المساهمة الجادة في بعث نهضة الأمة، والالتزام بخط المستضعفين فيها، على هدي الكتاب والسنّة.

ب-الالتزام النهجي كلي وشامل وجزء هام منه الالتزام الفني، فالنص بمثابة شرك جميل يغري القارىء بالوقوع في حبائله الشريفة، ليرفعه من ترابية الواقع إلى علٍ، حيث العالم الرؤيوي «السامي»، من غير أن ينسيه نكهة التراب الطيبة.

ج-تساوق الالتزام السلوكي لصاحب النهج مع روحية الالتزام الأدبي، يجعل النص النهجي وثيقة دامغة في هذا المجال، لأن الأديب المبدع الصادق في تجربته السلوكية، أشد تأثيراً وأكثر استمراراً منه مبدعاً غير صادق، ولأن الأديب الذي يمارس نمطاً سلوكياً ملوثاً لن يكتب أدباً ناصع البياض أي: «من نصّب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه» (1).

د-الالتزام النهجي، متوازن، يعي توزع الإنسان بين مادة وروح، وعقل وقلب وجسد ونفس، فلا يُسرف أو يثبط، أو ينحاز الحيز على حساب آخر، فاصلا بين الذات والموضوع، كما هي الحال في مدرسة «الفن للفن» مثلا، التي جعلت التجربة الأدبية تعويذة لصد العدوان المادي عن المثالية؛ أو كما هي الحال في الاتجاه «الواقعي» للأدب. الذي يجعل النتاج الابداعي، مطية للمادية في وجه المثالية ... الخ.

خاتمة:

وفي الختام، لا مندوحة لنا عن الدعوة-بصوت عالٍ جهوري، لا يعتوره أدنى خفوت أو غض-إلى الإفادة من النهج، هذه السانحة الحضارية الكبرى، بغية إرساء مفاهيم واضحة، لأدب إسلامي، حي ومعاصر وحديث؛ فالمشروع الإسلامي المعاصر، كثيراً ما يتألق سياسياً، بید أنه يستعير في أكثر الأحايين، أدوات سواه التعبيرية وهذه إشكالية يجب أن نتخلص منها، فالأدب الإسلامي هو الأجدر أن يعطي لا أن يأخذ لأن الإرهاصة الأولى التي مكنته في الأرض، كانت الكلمة المعجزة ألا فلنعد القهقرى، كي نرى أمامنا جلياً.

ص: 156


1- مختارات من نهج البلاغة، ص 688.

ونسأل في هذا السياق: أليس أدبنا الإسلامي المعاصر مقصراً أيما تقصير، عن اللحاق بركب التغييرات التي طرأت على واقعنا والتي نجمت بغالبيتها عن إضاءة الدم الوهّاج سبل المستضعفين في مجابهة قوى الاستكبار؟ فأين المعادل الفني التعبيري لثورة الإسلام في إيران؟ وأين الانعكاس البياني الفاعل، لدماء شهداء الحالة الإسلامية في لبنان؟ وأين التأطير النقدي لمفاهيم إسلامية تتوافق مع توق الجمهور المسلم إلى قيمه؟

وفي هذا السياق أيضاً، نرى لزاماً علينا التعريج على أمر، لعله فاتحة الأمور من حيث الأهمية والتأثير، نعني به وحدة الأمة الإسلامية لتقوم بواجبها الحضاري في التاريخ؛ والنهج نعم النهج هو أحد أهم السبل القويمة التي إن عرفنا كيف ننهجها وننهج بها وإليها، فستوصلنا إلى ما نصبو إليه، والدواء قد يكون مراً بعض الأحيان لا يستسيغه الشارب، ولكنه مضطر إليه، وكذا الأمر ها هنا؛ فثمة نصوص خلافية، تقع تحت دائرة التجاذب بين المسلمين على اختلاف نزعاتهم، وجامع النهج، الشريف الرضي نفسه قد أشار في كثير من المواضع، إلى أن ما جمعه جزء وليس كلاً بقوله: «ومن خطبة له عليه السلام»؛ «ومن كلام له عليه السلام» ... الخ. فلنتخذ من هذا الابتار في النص النهجي، مناسبة تأمل وتفكر وإعادة نظر، ولندعُ إلى مؤتمر حواري إسلامي شامل بغية السعي المخلص الجاد لتحقيق ما فات من النص فلعل اكتماله يؤدي إلى إضاءة تكون في خير الأمة ووحدتها.

في القرآن الكريم-والقرآن وحي لا سبيل إلى الشك فيه-ثمة آيات قد تعوزنا الضرورة في بعض الأحيان إلى التغاضي عن قراءتها، لنقرأ آيات أخرى تتألف بها قلوب الناس من غير المسلمين! أفليس الأجدر بنا أن نتألف قلوب المسلمين، خصوصاً أن الأمر ليس في دائرة النص الإلهي، بل هو في حيز الجمع والاختيار البشريين (أو البشري) ولا يضير النهج، أن تؤخذ منه بعض النصوص، بعد احتمال اكتمال تحقيقها، ليصار إلى مناقشة الظروف التي قيلت فيها، وعرض ذلك على ميزان العقيدة والحكم الشرعي عند كل المسلمين، بعد تحديد الثابت والمتحرك فيها، بغية استنتاج معايير تحتكم الأمة كلها إليها، ليعود النهج كما أراده الإمام علي عليه السلام لسان الأمة في أبهى حُلة وأجمل رونق، وأصفى ديباجة.

وكرم الله وجه الإمام علي عليه السلام القائل: قلوب الرجال وحشية، فمن تألفها أقبلت عليه (1).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

ص: 157


1- مختارات من نهج البلاغة، ص 702.

الحواشي :

(1) لمزيد من التوسع في هذه الفكرة، انظر:

أ-الجاحظ: الحيوان 71/1 وما بعدها.

ب-ابن رشيق: العمدة 65/1 وما بعدها.

ج-ابن سلام: طبقات الشعراء ص 34 وما بعدها.

د-ابن عبد ربه: العقد 103/6 وما بعدها.

(2) أنظر ابن النديم: الفهرست ص 138.

(3) انظر ابن الأنباري: شرح القصائد السبع الطوال ص 370.

(4) انظر أبو حاتم الرازي: الزينة في الكفات الإسلامية 96/1-97.

(5) السهيلي: الروض الأنف 1 / 137؛ ابن منظور: اللسان 350/5 مادة رجز.

(6) الفنون والأوزان المستحدثة ضربان: ضرب موجود في الدوائر العروضية الخليلية، ولم يستعمله العرب قبل الخليل بن أحمد الفراهيدي مثل بحر المستطيل وهو مقلوب بحر الطويل؛ وضرب آخر ابتدع في العصر العباسي ولم يك موجوداً في دوائر الخليل مثل الدوبيت [ انظر محمد توفيق أبو علي: علم العروض ومحاولات التجديد ص 33 وما بعدها].

(7) دوبیت: وزن فارسي الأصل مؤلف من (دو) بمعنى اثنين وبيت بمعناها العربي أي البيتان يلاحظ فيه أن الروي في الأشطر الأول والثاني والرابع واحد بينهما الروي في الشطر الثالث مختلف. وأشهر أنواعه: فعِلن متفاعلن فعولن فعِلن (انظر محمد أسبر ومحمد أبو علي: الخليل معجم في علم العروض، ص 44-445 كامل مصطفى الشيبي: ديوان الدوبيت).

(8) الكان وكان: وزن اخترعه البغداديون ونظموا عليه الحكايات والخرافات، لذلك فقد سمي بهذا الاسم وزنه: مستفعلن فاعلاتن مستفعلن مستفعلان (انظر الخليل معجم في علم العروض ص 73-73).

(9) السلسلة من البحور الغنائية المولدة، وزنه: فعلن فعلاتن مستفعلن فعلاتن. انظر المرجع نفسه ص 64-65.

(10) النفَّري (ت 354 ه/ 96م): محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري، أبو عبد الله، عالم بالدين، متصوف، نسبته إلى بلدة «نفَّر» بين الكوفة والبصرة، من كتبه «المواقف» و «المخاطبات» كلاهما في التصوف (انظر العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب 433/5: ياقوت الحموي: معجم البلدان 303/8؛ خير الدين الزركلي: الأعلام 7 / 184.

(11) William Henry Hudsm: An intraduction to the study of literature, 12n ded,p: 10

(12) المرجع نفسه، قارن مع عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه: ص 20.

(13) انظر الحاشية الثالثة.

(14) انظر عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه، ص 21.

(15) Evans: Literature and seience, George Allen 82 unwin, Lonolon 1954, p:99-100.

(16) Nathan comfort star: the Dynamies of Literature, Columbia univ Press, ivew york 1945, P:22.

(17) المرجع نفسه، ص 23-24.

(18) أبريست: الاتجاهات الأدبية في القرن العشرين ترجمة جورج طرابيشي، ص 209.

ص: 158

(19) نبيل راغب: المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية، ص 8.

(20) المرجع نفسه، ص 11.

انظر Star في كتابه السابق، ص 22.

- Marcel Creasot. Lestyleet sestechniques, prisses universitaires de Framee, 1946, P:4.

(21) انظر:

Welick علیه السلام Warren: theory of literalure, P:7.

(22) انظر عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه ص45.

(23) انظر محمد ابو علي: مدخل إلى مفهوم الأدب الجماهيري، ص 34.

(24) كثر هم نذكر منهم أدونيس على سبيل المثال لا الحصر، في كتابيه: زمن الشعر، والثابت والمتحول.

(25) انظر محمد توفيق أبو علي: إشكالية الابداع في الشعر العربي الحديث في مجلة المنطلق، العددين 73 و 74 كانون أول-كانون ثان، 1990-1991 / جمادى الآخرة-رجب 1411ه ص 49.

(26) نهج البلاغة: مختارات بإشراف سميح عاطف الزين، ص208 وما بعدها.

(27) المصدر نفسه، ص 408 وما بعدها.

(28) المصدر نفسه، ص 426 وما بعدها.

(29) المصدر نفسه ص 688 وما بعدها.

(30) المصدر نفسه ص 696.

(31) المصدر نفسه، ص 706.

(32) مجلة المستقبل، العدد 314، شباط 1983.

(33) مجلة الغدير العددان 10 و 11 جمادى الأول والثاني 1411 ه/ كانون الأول 1990م.

(34) رياض نجيب الريس: مقابلة صحفية مع أمير المؤمنين (علیه السلام) في مجلة الغدير العددين 10 و 11 جمادى الأول، جمادى الثاني 1411 ه/ كانون الأول 1990م، ص 120.

(35) النهج (شرح محمد عبده) 23/4.

(36) المصدر السابق (الغدير) الموضع نفسه.

(37) المصدر السابق (النهج) 108/4.

(38) المصدر السابق، الموضع نفسه.

(39) المصدر السابق 41/4-42.

(40) المصدر السابق ص 121.

(41) المصدر السابق 14/2.

(42) المصدر السابق الموضع نفسه.

(43) المصدر السابق 76/4 و 41/4.

(44) انظر محمد توفيق أبو على: الأمثال العربية والعصر الجاهلی، ص 84-85.

ص: 159

(45) محمد الفروي: الأمثال النبوية 304/20 مع الحواشي.

(46) الميداني: مجمع الأمثال 161/2.

(47) انظر المصدر نفسه في الموضع نفسه.

(48) المصدر نفسه 74/2.

(49) المصدر نفسه 284/1.

(50) المصدر نفسه الموضع نفسه.

(51) ابن منظور، اللسان، مادة قرر.

(52) مختارات من نهج البلاغة بإشراف سميح عاطف الزين، ص 610 والمحور في المثل قوله: «ونبت المرعى على دمتکم»

(53). المصدر نفسه، ص 372، والمحور في المثل قوله: «عض على ناجذك» والناجذ: أقصى الضرس.

(54) المصدر نفسه ص278؛ والمحور في المثل: قوله: «ثقیل الظهر». أي مسكين لا يقدر على مؤونة عياله.

(55) قد أسلفنا القول إن النموذج الثاني، يستغرق الجزء الأكبر من النهج، فاقتضت الإشارة.

(56) الأرشِية: الحبل.

(57) الطَوِيّ: البئر.

(58) مختارات من نهج البلاغة، ص 380.

(59) المصدر نفسه، ص 612.

(60) المصدر نفسه، ص 654.

(61) لمزيد من التوسع حول هذه النقطة انظر: عبد الزهراء الخطيب: مصادر نهج البلاغة وأسانيده، مقدمة محمد محيي الدين عبد الحميد لنهج البلاغة؛ زكي مبارك:

النثر الفني 59/1.

(62) المصدر السابق، ص 670.

(63) مختارات من نهج البلاغة، ص 688.

(64) مختارات من نهج البلاغة، ص 702.

ص: 160

ص: 161

ساقي الحوض:

سماحة الشيخ: نبيل حلباوي

ساقيّ الحوض: هل إليكَ سبيلُ؟ *** فطريقي شوكٌ وعبئي ثقيل

وقيودي يشددْنَ للأرضِ خطوي *** وجناحي عن كلِّ أفقٍ كليلُ

ولهيبُ الهجيرِ يُحرِقُ صدري *** ودموعي يَصدى بهنَّ الغليل

ما جهلتُ الجوابَ يوماً فيبقى *** ليَ عذرٌ والسائلُ المسؤول

أتراني وأنتَ أنتَ وليِّي *** وإمامي وقائدي والدليل

والأباريقُ كالنجوم وأظما *** لشقائي فما عساي أقولُ

يا لها خجلةَ إلى أبد الآ *** باد تبقى وحسرة لا تزول

فلاشمِّر لكل فعل ولاءٍ *** فمعَ الفعل يحسُن التفعيل

ولأطهِّر نفسي وقلبي وعقلي *** ولأسرْ فالجهاد دربٌ يطولُ

ص: 162

ولأقلْها في حبِّ طه وأهل ال *** بيتِ ورداً ما نال منه ذبول

ولتردَّدْ معي الملائك والأف *** لاك والناسُ والرّبى والسهول

* * *

يا إماماً تحارُ فيه العقولُ *** ليس يدري مداهُ إلا الرسول

يا أخاه ونفسه وهداه *** وتلاقى التنزيل والتأويل

وأماناته لديه وباب ال *** علم والبضعةُ الطهور البتول

ما له في الأنام من بعد طه *** من مثيل وليس عنه بديل

نضَّر الدهرَ والمكانَ وأعطى *** ما به الدهرُ والمكانُ بخيلُ

يا إمامَ البيانِ حينَ يجولُ *** وإمامَ الحسام حين يصولُ

كان للشِّركِ دولةٌ وزمان *** وجيوش وسادة وقبيل

فإذا ذو الفِقارِ يهوي عليهم *** وإذا الشِّركُ بعد ذاك قتيل

وصروحُ اليهود كانت وكانوا *** ولهم صولةٌ وظلٌّ ظليل

نفثوها مكراً وكيداً وحقداً *** فإذا الردُّ سيفُك المسلول

وإذا خيبرٌ ومرحبُ ذكرى *** وإذا هم حلف الصحارى فلول

وغديرٌ بخمّ بلغ فيه ال *** مصطفى ما به أتى التنزيل

إنها حجَّة الوداع وقد حا *** نَ من الركبِ في الهجير قفول

وإذا منبرٌ عليه الرسول *** وعليٌّ وثالثً جبريلُ

أوقفوا ها هناك تسعين ألفاً *** يحتويهم تَرقّبٌ وفضولُ

وأصاخَ التاريخُ والتفتَ الدَّه *** ر فماذا راحَ الرسول يقول

قال هذا مولى لمن كنتُ مولا *** هُ فرمضاء مكةٍ سلسبيل

وإذا بيعةٌ وعهد وعيدٌ *** ولإبليس رنّةٌ وعويل

إنه يوم أكمل الدين والنع *** مة تمّت ولاية لا لا تزول

أي نهج من البلاغة لولا *** هُ لما تمَّ للبليغ الوصول

هو دنيا الإيمان تشرق حتى *** ما لها في القلوب يوماً أفول

ص: 163

هو نفحُ القرآنِ في عالمِ القو *** لِ وأفقٌ من الجمالِ جميلُ

ضاقَ عنكَ الزمانُ حكماً وعلماً *** فإذا الصبرُ دريُك الموصول

وسلوني من قبلِ أن تفقدوني *** يا لها غُصَّة فأين السؤول

وخصومٌ ينازعونك دنيا *** أنتَ عنها بربِّها مشغول

وسوى الحقِّ لست تعشقُ فيها *** وعن العدلِ لستَ فيها تميل

وجرعتَ الخذلانَ من قوم سوءٍ *** كلُّ شِلوٍ منهم حقيرٌ ذليل

حسبوها دنيا تطيب فكانت *** بعض موت، والخاذل المخذول

يا لسيفٍ يصنِّف الناس للنا *** ر فصيلٌ وللجنانِ فصيل

كنتَ تسعى إلى الشهادة حتى *** فُزتَ بل عانقَ الخليلَ الخليلُ

وعلى دربك الأئمة ساروا *** وعليهم من الطغاةِ كبول

حفظوا الدين أن يزيَّف أو تُج *** تثُ منه فروعُهُ والأصول

وقفوا دونه تِباعاً إلى أن *** غاب مهديُّهم لتُقضى فصولُ

كم قرونٍ مرَّت وللظلم فيها *** دولةٌ ظلُّها وبيءٌ وبيلُ

فاستفاض الإفقار والتجهيل *** واستمرَّ التفجيع والتقتيل

ثم أمسي المستعمرون علينا *** لو جرتْ للدِّماء منّا سيول

وصليبيُّ حِقدهم ليس يُروى *** ومن العلم نابُهم مصقول

وأرادوا بالدين مكراً فأبقو *** ه شعاراً وعزمه مشلول

سطَّحوه وحجَّموه فامسی *** ليس عُمقٌ فيه وليس شمول

وحسِبنا أنَّ المسيرة ماتت *** وعلى الحقِّ قد تراخت شدول

فإذا النور من سناك تجلَّى *** عنه أفقٌ معطَّر مطلولُ

ثورةً قادَها حفيدك للنص *** ر وضحَّ التكبيرُ والتهليلُ

فإذا البغي عرشُهُ مثلولُ *** وإذا الكفر سیفه مغلول

وإذا الشرقً خيبةٌ وانكسارٌ *** وإذا الغرب صعقةٌ وذهولُ

والخُمينيُّ يقدمُ الركبَ والل *** ه على الرَّكب حارسٌ ووكيلُ

ص: 164

حكمة في صلابة وثبات *** أوحدي، وموقف لا يحول

وفناء في الله يدني إليه *** كل أمر كأنه مستحيل

وعلى الدرب خلفه علماء *** لهم في الجهاد باع طويل

الوليُّ الفقيه والشعبُ لبيَّ *** كَ وطعمُ الشهادة المعسول

فاهنا اليومَ فالمسيرةُ عادت *** مثلما كان خطُّها المأمول

وأضاء الإسلام خارطة الدن *** يا وعاد النهج الأصيل الأصيل

وزكا نَفْحُهُ على أرض لُبنا *** نَ فغاصَتْ في الوحل إسرائيل

وفلسطين صُبحها عن قريبٍ *** فتّقتهُ حجارةٌ سجِّيلُ

إنَّ وعد المستضعفين لآتٍ *** ومتاعَ المستكبرينَ قليلُ

إنها رايةٌ بكفِّ ولىٍّ *** وإلى صاحب الزَّمان تؤولُ

ص: 165

ص: 166

الجلسة المسائية

ص: 167

ص: 168

رؤية الدولة في نهج البلاغة

الدكتور إبراهيم بيضون

جاء في لسان العرب، في معنى الدولة منسوباً إلى الجوهري: «في الحرب أن تدال إحدى الفئتين على الأخرى» (1)، ولكنها اقترنت عموماً في الإسلام الأول، بالفيء، فقيل: صار الفيء دولة بينهم يتداولونه مرة لهذا ومرة لهذا» (2). كما جاء فيه أن «الدولة» (بضم الدال أو فتحها) تعني «الحرب والمال على السواء» (3) وهي تقارب هنا ما ورد في سورة «آل عمران» عن مداولة الأيام التي يفسرها الفقهاء بتعاقب الشدة والرخاء (4).

والدولة كمصطلح لم تُستخدم إلا في وقت متأخر، ولم يرد ذكرها في السياق القرآني سوى مرة واحدة (سورة الحشر الآية 7) بالإضافة إلى عبارة «نداولها» في السورة السابقة، على أن

ص: 169


1- ابن منظور، لسان العرب ج 1 ص 552.
2- المكان نفسه.
3- المكان نفسه.
4- سيد قطب في ظلال القرآن، ج 8 ص 38.

مدلول كل من الكلمتين ليس بعيداً عن المضمون الحديث للمصطلح، خلافاً للشورى التي اقتصرت لفظاً على ثلاث آيات في سور ثلاث (1)، ولكنها معنى جاءت ملتبسة أو غائمة، ولا تعبر بالتالي عن النظرية السياسية التي واكبت بيعة السقيفة، وحاولت ربطها بهذا السياق القرآني. ففي الآية من سورة الحشر، تظهر بوضوح تجليات الدولة بالمعنى الشمولي، تأسيساً على قاعدة التنظيم الاقتصادي (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل)، وعلى قاعدة التنظيم الاجتماعي (كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم)، وعلى قاعدة التنظيم السياسي والتشريعي للمجتمع (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب). بما في ذلك مبدأ الطاعة، استناداً إلى الجزء الأخير من الآية الكريمة التي هي بمجملها، اختصار لنظرية الدولة على صورة الإسلام والنموذج المعبر عنها في تجربة الرسول بالمدينة.

ولذلك يرى الفقهاء المسلمون أن «الدولة» قامت كمضمون في ذلك الوقت المبكر، ومتوازية بهذا المعنى مع هجرة الرسول (2)، حيث كانت عناصرها واضحة في المدينة، ولقد أشار أبو الحسن التلمساني (781 ه) إلى هذه العناصر في تعداده لمعاوني الرسول من نواب ووزراء وقضاة وحجاب وحرّاس وشعراء وتراجمة وعرفاء على القبائل وأمراء على الحج والنواحي والغزوات الخ. وذلك حين يخرج غازياً من المدينة (7). هذا على الرغم من أن البيئة التي انطلق منها الإسلام لم تعرف الدولة التي كان نمطها التميمي في جنوب شبه الجزيرة العربية قد تلاشى، وهو ما توقف عنده الشافعي في «رسالته» قائلاً: «إن كل من كان حول مكة، لم يكن يعرف إمارة، وكانت تأنف أن يعطي بعضها بعضاً طاعة الإمارة» (8). ولا نستثني من ذلك مكة التي أفصح أحد زعمائها (الأسود بن المطلب بن زمعة)، أن «قريشاً لقاح لا تملك ولا تُملك» (9)، في معرض التصدي لمحاولة عثمان بن الحويرث الأسدي، لربط مكة بالسيادة البيزنطية (10). وفي مقدمة ما يعنيه ذلك أن «الدولة» التي كانت حاضرة كمضمون في المجتمع الإسلامي الأول من خلال الضميعة وما تفرع عنها من تنظيمات إدارية واقتصادية وعسكرية كانت تمثل نمطاً مختلفاً عما قبله من صيغ القبائل التعاقدية، وغيرها من أنماط الممالك العربية القديمة.

ولكن هذه «الدولة» أو السلطة، بعد وفاة الرسول، على الرغم من اكتناه التراث والتماهي

ص: 170


1- سور: آل عمران، الشورى، البقرة.
2- رضوان السيد رؤبة الخلافة وبنية الدولة في الإسلام. الاجتهاد السنة الرابعة 1991 ص 14-15. أبرز الدلالات السمعية على ما كان في عهد الرسول من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية. تحقيق إحسان عباس-دار الغرب الإسلامي-بيروت 1985. 8. الرسالة للإمام تحقيق أحمد شاكر. مطبعة الحلبي بمصر 1914 ص 80. 9. مصعب الزبيدي، نسب قريش. دار المعارف بمصر ص 209-210. 10. أبو الطيب الفاسي المكي، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ص 108-109. 11. رضوان السيد المرجع السابق ص 14. 12. رضوان السيد المرجع السابق ص 16. 13. الشيخ المفيد، النصرة في حرب البصرة ص 42. 14. نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده طبعة مصر (د. ت 1 ج 1 ص 87). 15. رضوان السيد المرجع السابق ص 16. 16. حسن جابر الفكر السياسي عند الإمام علي (إطروحة غير منشورة) ص 144. 666. حسن جابر، المرجع السابق ص 49. 17. نهج البلاغة ج 3 ص 195. 18. نفسه ج 2 ص 104. 19. نفسه ج 1 ص 112. 20. الارشاد ج 3 ص 141. 21. نهج البلاغة 153/1. 22. نهج البلاغة ج 1 ص 155. 23. نهج البلاغة 42/1-44. 24. يحملكم على طريقة هي الحق. الماوردي، الأحكام السلطانية ص13. 25. نهج البلاغة ج 1 ص 42. 26. نفسه 3 ص227 27. نفسه ج 2 ص 98. 28. نفسه ج 1 ص 66-67. 29. نفسه ج 4 ص 8. 30. نفسه. 31. نفسه ج 2 ص 59. 32. نفسه. 33. نفسه ج 3 ص 266. 34. يذكر ابن خلدون أن المحتسب كان يقوم بالبحث عن المنكرات ويضرر (يزجر) على قدرها ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة. المقدمة ص 198. 35. اليعقوبي تاريخ ج 2 ص 182. الدينوري الأخبار الطوال ص 151. 36. نفسه ج 2 ص 62-64. 37. نهج البلاغة ج 2 ص 85. 38. نفسه ج 2 ص 86. 39. نفسه لا شرف أعلى من الإسلام ولا عز أعز من التقوى، ولا معقل أحسن من الدرع. نفسه ج 3 ص 242. 40. نهج البلاغة ج 3 ص 243-244. 41. نفسه ج 3 ص 44-45. 42. نفسه ج 3 ص 85. 43. نهج البلاغة ج 3 ص 33. 44. نهج البلاغة ج 3 ص 93. 45. المكان نفسه. 46. المرجع نفسه ج 2 ص 10. 47. المرجع نفسه ج 3 ص 77. 48. خليفة بن خياط، تاريخ ج 1 ص 230، 232، 233، إبراهيم بيضون الحجاز والدولة الإسلامية ص 177. 49. نهج البلاغة ج 3 ص 5. 50. نفسه ج 3 ص 72. 51. نهج البلاغة ج 3 ص 78. 52. نفسه ج 1 ص 115. 53. نفسه ج 3 ص 65. 54. نفسه ج 3 ص 115. 55. نفسه ج 3 ص 115-116. 56. نفسه ج 2 ص 69. 57. نفسه ج 3 ص 22. 58. نفسه ج 3 ص 129. 59. نهج البلاغة ج 3 ص 22. 60. حسن جابر الفكر السياسي عند الإمام علي ص 166. 61. لا تتبعوا مولياً ولا تجهزوا على جريح ولا تنتهبوا مالاً، ومن القى سلاحه فهو آمن. ليس على الموحدين سيء ولا نضمن من أموالهم إلا ما قاتلوا به وعليه. الدينوري الأخبار الطوال ص 155. اليعقوب ج 2 ص 183 الطبري ج 4 ص 451. 62. الطبري ج 4 ص 538. 63. المصدر نفسه ج 4 ص 540. 64. نهج البلاغة ج 3 ص 15. 65. نفسه ج 3-15-16. 66. الطبري ج 5 ص 96 طبعة بيروت. 67. ابن منظور، لسان العرب، ج 4 ص 78. 68. نهج البلاغة ج 1 ص 63. 69. نفسه ج 3 ص 63-66. 70. نهج البلاغة ج 1 ص 66. 71. المكان نفسه. 72. المصدر نفسه ج 3 ص 16. اليعقوبي ج 2 ص 183. ياسين سويد، الفن العسكري الإسلامي ص 111. 73. نهج البلاغة ج 1 ص 100-101. 74. نفسه ج 1 ص 100. 75. نفسه ج 1 ص 110. 76. نفسه ج 2 ص 3. 77. نفسه جج 3 ص 6-7. 78. نفسه ج 3 ص 16-18. 79. نفسه ج 3 ص 117. 80. المكان نفسه. 81. نهج البلاغة ج 2 ص 25. 82. نفسه ج 2 ص 40. 83. نهج البلاغة ج 2 ص 4. 84. نفسه ج 2 ص 210-211. 85. نفسه ج 1 ص 231. 86. مروج الذهب ج 2 ص 353. 87. كان من إرهاصاتها موقف الأشتر النخعي وأصحابه من سعيد بن العاص الذي اعتبر السواد فطيناً لقريش. 88. نهج البلاغة ج 1 ص 42. 89. مروج الذهب ج 2 ص 353. 90. نهج البلاغة ج 2 ص 10. 91. نهج البلاغة ج 2 ص 10. 92. نفسه ج 3 ص 106-107. 93. نهج البلاغة ج 3 ص 90-91. 94. نفسه ج 3 ص 27. 95. الطبري جط ص 543. 96. اليعقوبي، تاريخ ج 2 ص 203. 97. أبو عبيد الأموال ص 81. 98. این آدم القرشي الخراج ص 46. 99. انظر في هذا المجال طريق الخالدين، دراسات في تاريخ الفكر الإسلامي ص 25. 100. نهج البلاغة ج 3 ص 110. 101. المكان نفسه. 102. نفسه ج 3 ص 111. 103. نفسه ج 3 ص 110-111. 104. نفسه ج 3 ص 15. 105. ابن الأثير ج 2 ص 500، ابن عساكر تاريخ مدينة دمشق ص 196. 106. نهج البلاغة ج 2 ص 249. 107. نهج البلاغة ج 1 ص 100.

مع التجربة الرائدة ظلت أسيرة القلق الذي رافقها في السقيفة وأعجزها بالتالي عن التماس الصيغة التي تتوازى بمعناها الكامل السياسي والإداري، مع المعنى الذي اكتسبته تجربة الرسول في هذا المجال، خصوصاً على مستوى الصيغة وما واجهته من ارتباك أمام تحديات المرحلة. فقد تم التداول بالخلافة في التعبير عن الدولة، انطلاقاً من التصور الفقهي أن المسلمين أمة النبي المستخلف على النبوة، وأن «رئيسهم» يصبح، وفقاً لهذا المنظور، الخليفة الذي انتقلت إليه قيادة «المشروع الإلهي» الذي هيأهم الله له (11)، وهذا مادفع أبا بكر إلى أن يسمي نفسه «خليفة رسول الله» باعتباره نائباً له في تطبيق هذا المشروع، بوجهتيه الدينية والزمنية.

وإذا كان للاستخلاف مدلوله «الرسالي الغالب» بشأن تطبيق شريعة الله، دون أن تكون واضحة فيه المسألة التنظيمية، مما انعكس جدلاً فيما بعد حول السلطة في الإسلام، فإن هذه المسألة بدت محسومة منذ أيام الرسول الذي حفلت منجزاته بما هو سياسي واقتصادي وعسكري، إلى جانب المسألة الدينية. كما أن حركة الردة في عهد أبي بكر، لم يكن الموقف منها محكوماً بتوقف القبائل عن الزكاة، وما يمس من خلال ذلك علاقتها بالدين، وإنما بالخروج على وحدة الجماعة وإرادة السلطة. كما أن تسميته عمر بن الخطاب نفسه بأمير المؤمنين لا يتعدى هذا المفهوم باعتبار أن الإمارة صفة سياسية في المقام الأول (12)، فضلًا عن الإجراءات التنظيمية التي قام بها هذا الخليفة والتي جاءت أكثر مقاربة لمعنى الدولة، بعد أن قطعت كمضمون شوطاً بعيداً في هذا الاتجاه السياسي على عهده.

ولكن الذي بقي ملتبساً، ليس هذا الجانب السياسي الذي كان قائماً بالضرورة، وإنما جوهر الصيغة المرتبكة وإخفاقها في إرساء القواعد الثابتة للمجتمع، على نحو يتكامل فيه السياسي مع الديني ويحول دون اختراق هذا المجتمع من خارج الصبغة، أو بمعنى آخر، فإن هذا المجتمع، برغم الهالة التي أحاطت بخلفاء رسول الله، لم تستطع «نظرية الأمر الواقع» أن توفر له طرائق البيعة للخلفاء الأربعة الراشدين مفتقدة بأجمعها وبصورة عملية إلى الشورى التي كان من مفارقاتها أن بيعة الإمام علي، كانت أكثر تعبيراً عنها، بعد أن تثبتت له بإجماع من حوته مدينة الرسول من المهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان ومن انضاف إليهم من أهل مصر والعراق في تلك الحال من الصحابة والتابعين بإحسان»، حسب تعبير الشيخ المفيد الذي

ص: 171

يضيف في هذا المجال: «ولم يدع أحد من الناس أنه تمت له بواحد مذكور ولا إنسان مشهور ولا بعدد يحصى محصور، فيقال تمت بيعته بفلان واحد وفلان وفلان كما قيل في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان» (13).

ومن هنا كان الرفض الضمني مسوغاً من جانب الإمام علي لهذه الصيغة، التي أسست عن غير قصد لسلطة قريش في الإسلام، وليس للدولة الإسلامية مجسدة طموح الأمة على مستوى الرسالة ذلك الذي أخفقت فيه التجربة الراشدية، حين كان الخليفة هو المحور (أبو بكر عمر بن الخطاب) وكانت الخلافة هو وأسرته (عثمان). ولم يكن هذا الرفض أو التحفظ موجهاً ضد شخصية أبي بكر الذي كان واحداً من النخب البارزة في الإسلام، وما رددته الروايات التاريخية عن «الأفضلية» إنما كان الجانب الأهم فيها لدى الإمام ما يرتبط بمشروع الدولة التي يمكن القول أنه كان أول المعلنين، وإن بصورة غير مباشرة لها، وذلك في رده على مقولة الخوارج بصدد التحكيم:

«نعم إنه لا حكم إلا لله. وأنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلِّغ الله فيها الأجل، ويُجمع به الفيء ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر (14).

فهو (أي الإمام) يرى في السلطة (الدولة) ضرورة للدين وتطبيق أحكام الشريعة بما يحفظ حقوق المسلمين ويرعى شؤونهم الحياتية محدداً إلى ذلك مهام «رئيسها» الإمام، ومسؤولياته التي تتمثل أساساً في المحافظة على وحدة الأمة (جمع الأمر)، وتوزيع الثروة (الفيء)، وإحقاق العدل (الانتصاف للضعيف من القوي) والدفاع عن حدودها (مجاهدة العدو).

وفي ضوء هذا المفهوم المتقدم لوظيفة «الدولة»، كما عبر عنه الإمام في قوله السالف يتبلور الفكر السياسي الشيعي في أواخر القرن الأول الهجري، على قاعدة «أن الإمامة من مقتضيات الدين أو ضروراته» (15)، فيما يصبح واقعها هو الضرورة لدى الفقهاء الذين ساندوا السلطة بعد انهيار الخلافة الراشدية، ولقد تشكلت الرؤية الشيعية للإمامة (الدولة) على هذه النظرية، باعتبار أنها أساس الحياة السياسية والاجتماعية (16)، متضمنة شروطها الصعبة التي حالت دون الانخراط في التسويات أو الحلول التوفيقية، وما انطوت عليه من تناقض في الرؤية بصدد «الشورى» و«الاجماع». فالإمام حين تصدى للأمر بناء على نص «الوصية»، إنما

ص: 172

كان يتفاعل معه من منطق هذه الضرورة الدينية، وليس من مجرد الطموح الشخصي الذي هو من منظور سياسي حق لكل الصحابة المتطلعين إلى السلطة في ذلك الوقت. ولذلك كانت البيعة لأبي بكر، خرقاً-برأي الإمام-لقرار نبوي كان معروفاً لدى الصحابة الكبار (666)، مقدِّماً نفسه ليس على أساس القرابة (واعجباه أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة؟) (17). وإنما لأنه المؤهل لها إيماناً وتقوى وعلماً وجهاداً (إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله) (18)، وهو ما جعله نتيجة لذلك جديراً بهذه الوصية»، تلك التي يفصح عنها بصورة مباشرة في معرض الرد على مبادرة الأنصار في «السقيفة»: «لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم» (19). يريد بذلك القول أن الرسول أوصى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، من يؤول الأمر إليه بعده. ولذلك حين يتصدى لمسألة الخلافة، إنما يخوض فيها بناء على هذه الأفضلية التي تقررها صفاته وطبيعة موقعه، وهو ما عبّر عنه الشيخ المفيد في قوله: «کان من آيات الله تعالى في أمير المؤمنين (20) كمال عقله ووقاره ومعرفته بالله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) فكان كمال عقله حصول المعرفة له بالله ورسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) آية الله تعالى فيه باهرة خرق به العادة ودل بها على مكانته منه واختصاصه به وتأهيله لما رشحه له من إمامة المسلمين والحجة على الخلق أجمعين» (21).

هكذا إذاً تتجلى الرؤية السياسية لدى الإمام، ومعها الوعي بعظم الدور المؤهل له المتابعة مسيرة الإسلام (ركزت فيكم راية الإيمان، وتنعتكم على حدود الحلال والحرام والبستكم العافية من عدلي وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي). ذلك الدور الذي حالت دونه عوائق ومؤامرات لإبعاده عن السلطة، مما أدى إلى تعثر المسيرة وانهيار من بعده. فلم يحالفه الحظ، كما «الدولة» الإسلامية التي ظلت مشروعاً تخترقه الثغرات، على ترجمة هذه الأفكار إلى الواقع، بما يرسي بنيان المجتمع العادل على أسس ثابتة. ولكنه من خلال تجربته المعقدة في الحكم، ومواقف له سابقة، يمكن التعرف على صورة هذا المجتمع الذي كان يطمح إليه. وسنجد في سفره القيم (نهج البلاغة) مادة غنية للإحاطة بمشروع الدولة الإسلامية التي كانت في بال الإمام وعلى صورته، والتي حالت حروب المتربصين بها، عمداً أو تضليلاً، أو إيثاراً للمصالح الخاصة، دون ظهورها متكاملة على أرض الواقع.

أ-في الفكر السياسي: كان من بين ما تميز به الإمام، هو سعة العلم الذي كان موظفاً

ص: 173

بإتقان لمصلحة الرؤية السياسية البعيدة والمتماسكة، واكتناه التاريخ بعمق مما جعله مكتسباً تلك الفرادة على مستوى الأمة التي ما انفكت منطوية على رواسب الماضي وعصبياته (يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات المعروف عندهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا. كأن كل امرىء منهم إمام نفسه) (22)، ولم تستطع إلا قليلًا مجاراة فكره والانخراط في حركته فبدا خارج سربه ومسحة من المعاناة ظاهرة على خطابه السياسي.

ولعل قوله حين بويع بالمدينة يصلح مدخلاً لهذه الرؤية الفريدة، مقدماً نفسه في ظل هذا المنهاج الصعب، ولا يفوته التوكيد على الثوابت:

«ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم. والله ما كتمت وشمة، ولا كذبت كذبة، ولقد نبثتُ بهذا المقام وهذا اليوم؛ إلا وإن الخطايا خيلٌ شمس حُمل عليها أهلها وخلعت بحمها فتقمحت في النار. ألا وإن التقوى مطايا ذللٌ حُمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة حقاً وباطلاً، ولكل أهل فلئن أمر الباطل لقديماً فعل، ولئن قل الحق فلربها ولعل، ولقلها أدبر شيء فأقبل» (13).

وإذا كان في النص الذي أوردناه سابقاً والذي قيل في ذروة الحرب الأهلية (الرد على الخوارج) إعلان عن نشوء دولة الإمام، فإن هذا النص يمثل برنامجاً كاملاً لها، وإحاطة تامة بما يتطابق والنموذج، فضلًا عن الجذرية، والخيار بين خطين لا ثالث لهما: الحق والباطل.

ويبقى في هذا الخيار المدخل الدائم إلى فرادة الفكر السياسي والاجتماعي للإمام الذي لم يحد عن خطه الرفيع، وظل هاجسه بالقليل بالمرونة وكانت ما تزال هذه «طريقته» التي وضغها عمر بن الخطاب ب (الحق) (3)، والتي كان من تعبيراتها قبل أن يلي الخلافة، دعوته بعيد اغتيال عمر إلى محاكمة ابنه (عبيد الله) لقتله متهمين بالمؤامرة. ولكن عثماناً آثر أن يطوي ملف القضية، متهيباً إقامة الحد على ابن الخليفة السابق. وكما أن المبدأ لا يتجزأ، فإن المساواة تكون أيضاً في العقاب، سواء أطالت التهمة الأسماء الكبيرة أم العادية من الناس. وفي ظل هذه الرؤية، يقوم الإمام في اليوم التالي لبيعته على مصادرة «قطائع» عثمان، على أساس أن كل ما أخذ من مال الله مال الله يجب أن يرد إلى بيت المال: «والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك الإماء لرددنه، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق» (25).

والعدل لا ينفك مندرجاً وعلى انسياب تام في تلك الثنائية اللافتة التي تحذّر الخيار،

ص: 174

منتشرة على مساحة واسعة في نهج البلاغة:

- الجنة والنار (كل نعيم دون الجنة فهو محقور، وكل بلاء دون النار عافية) (26).

- الخير والشر (إذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه) (27).

- الدنيا والآخرة (إن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع وإن الآخرة أشرفت باطلاع) (28).

- الحق والباطل (إن أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق أحب إليه، وإن نقصه وكرثه من الباطل وإن جر إليه فائدة وزاده این يُتاه بكم) (29).

- حزب الله وحزب الشيطان (حزبنا حزب الله والفئة الباغية حزب الشيطان، ومن سوّى بيننا وبين عدونا ليس منا) (30).

- الباطن والظاهر)إن لكل ظاهر باطناً على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه) (31).

- العدل والظلم (يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم) (32).

- العلم والجهل (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا) (33).

ولعل هذه الثنائية تختصرها ثنائية مركزية، كانت ما تزال عنوان السلطة في الإسلام على مستوى الممارسة، متمثلة بالعبارة المألوفة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، تلك التي انبثقت عنها في العهد العباسي وظيفة «المحتسب» الشهيرة (34)، غير أن فرادتها لدى الإمام في اكتسابها تلك الرهافة في تطبيق الأحكام، مستنداً إلى إيمان عميق وعلم واسع هيأ له السبيل إلى التشريع المناسب (الذي كان من الأمثلة المبكرة عليه في عهده فقال أهل القبلة في معركة الجمل) (35). وهو سبيل يصفه الإمام في كلام موجّه إلى أهل البصرة بأنه «أبلج المنهاج، أنور السراج. فبالإيمان يُستدل على الصالحات، وبالصالحات يُستدل على الإيمان، وبالإيمان يُعمر العلم. وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخُلُقان من خُلُق الله سبحانه. وعليكم بكتاب الله فإنه الحبل المتين والنور المبين والشفاء النافع والري الناقع والعصمة للمتمسك والنجاة للمتعلق لا يعوج فيقام ولا يزيغ فيستعتب، ولا تُخلقه كثرة الرد وولوج السمع. من قال به صدق ومن عمل به سبق» (36).

وهكذا ترقى «الطريقة» إلى مستوى «المنهاج» الذي يشده ذلك «الحبل المتين» إلى الينابيع، فيبقى كتاب الله النور الذي يسطع في القلب والفعل ولا تخون العودة إليه في

ص: 175

أحلك الأوقات. وفي غير هذا المنحى، فإن الطريق مظلم، والمنهاج مغلق على ضلال، وليس من إمام عادل خارج هذا السبيل:

إن الطريق الواضحة، وإن أعلام الدين لقائمة، فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهَدى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة» (37).

هذا ما صارح به الإمام الخليفة عثماناً بعدما ظهر من سياسته ما قطع بينه وبين ذلك الحبل:

«فلا تكونن لمروان سيِّقة، يسوقك حيث شاء بعد جلال السن وتقضي العمر» (38).

لقد كان طموحه في الواقع، بحجم القضية التي حملها مبكراً، وهي الإسلام، مختذلاً فيه جوهر الدور وكل تفاصيله، فكان يتراجع هو ليتقدم الدين ويزهد بالمنصب ليحفظ له وحدته، ولا يعنيه أن يكون خليفة، إلا إذا أقام العدل وصان الجماعة وحافظ على الرسالة التي تستوجب نضالاً مستمراً على مستوى الذات والموضوع، ومن أجل ترسيخ المواطنية السليمة في المجتمع كما في قوله السابق: «إن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل».

وفي ضوء ما سبق يمكن الدخول إلى عالم «الدولة» التي حاول أن يؤسس لها الإمام، مستلهمة كتاب الله وسنة الرسول ومحصنة بالعدل والتقوى من الانحراف والسقوط في مهاوي الغرائز والمصالح الشخصية (39). فهي «دولة» تنطلق من تراث غني في الفكر السياسي المتميز بدينامية على الصعيد التربوي وإعداد الإنسان الصالح الذي من دونه تبقى مهددة ومشرعة على الخطر. و نهج البلاغة تكتنفه في الحقيقة نماذج عديدة من الأفكار والقيم الموجهة إلى هذا الإنسان المؤمن الطليعي، لا سيما في هذا القول:

«أيها المؤمنون، إنه من رأى عدواناً يُعمل به، ومنكراً يُدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سلم ويرىء، ومن أنكره بلسانه فقد أُجر وهذا أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، وقام على الطريق، ونوّر في قلبه اليقين. أما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الاكنفثة في بحر لجّي. وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقربان من أجل، ولا ينقصان من رزق وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند إمام جائر» (40).

ولعل ما يميز هذه المسألة السياسية أيضاً على صفحات نهج البلاغة، ذلك الحوار الساخن مع المجتمع، وحثّ إنسانه على خوض التجربة بصورة دائمة، وصولاً إلى السلطة

ص: 176

العادلة. ولا تكاد هذه النبرة تتراجع أو يصيبها الفتور على مساحة الخطاب السياسي في «النهج»، ومنها إضافة إلى قوله السالف هذا النص من وصية للإمام:

«وأمر بالمعروف تكن من أهله وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله بجهدك، وجاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وخض الغمرات للحق حيث

كان» (41).

ولم تخفت هذه النبرة، حتى وهو يستقبل الموت، فتكون وصيته الأخيرة، تتويجاً للثوابت الراسخة وتكريساً للخيار الصعب الذي لم تنل منه المعاناة والانكسارات، حين يتوجه إلى ولديه الحسن والحسين قائلاً:

أوصيكما بتقوى الله وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا تأسفا على شيء منها زوى عنكما، وقولا الحق واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً (42).

وقد احتلت المسألة السياسية، كما رأينا، حيزاً بارزاً في نهج البلاغة، مستمدة ثوابتها من القرآن الكريم، ونموذجها من تجربة الرسول، وديناميتها من العلم الذي كان سبيل الإمام إلى تلك الشفافية في القراءة السياسية الراقية للمرحلة والإمساك بزمام تفاصيلها. كان ذلك ما هيأ له التفرد في السير على «طريقته»، وعلى امتداد الخط الرفيع الذي يميز المعروف عن المنكر، وما يتفرع عنهما من ثنائيات متضادة حفل بها القرآن الكريم وتراث الإسلام الأول.

ب-في الفكر الإداري: قامت النظرية الإدارية في مشروع الإمام، كما النظرية السياسية على أساس أن الدولة هي دولة الإسلام، حاملة فكره ورسالته وتجربته، دون أن يفي ذلك أنها دولة دينية، حتى وإن كانت الإمامة أصلاً من أصول الدين. فمنذ البدء كان الجانب السياسي غير منفصل عن الجانب الديني في الإسلام الذي كانت فرادته في ذلك التكامل والاتحاد بين الجانبين: الرسالة التي تحدد العلاقة مع الخالق، والنظام الذي يستلهم منها القوانين والنظم لمصلحة البشرية وتفعيل الدور الإنساني يهدي من المبادىء والقيم التي جاءت بها الرسالة.

وفي ضوء ذلك كانت العقيدة حاضرة في كل تفاصيل المشروع الذي كان في صدده الإمام، من أجل إقامة الدولة العادلة. وهذا ما يتجلى على الخصوص في وصاياه لعماله، بالحرص على تجسيد الوجه الساطع للإسلام، وفي مقدمة ذلك القيام بفرائض الدين ليكونوا القدوة والمثال في ولاياتهم، فكان مما قاله لعامله على مصر محمد بن أبي بكر:

ص: 177

«فأنت محقوق أن تخالف على نفسك، وأن تنافح عن دينك، ولو لم يكن لك إلا ساعة من الدهر. صل الصلاة لوقتها المؤقت لها ولا تعجل وقتها لفراغ، ولا تؤخرها عن وقتها لاشتغال، واعلم أن كل شيء من عملك تابع لصلاتك» (43).

وبمثل هذا الكلام يوصي أيضاً الأشتر ويأمره: «بتقوى الله وإيتاء طاعته واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسنته التي لا يسعد أحد إلا باتباعها (44).

وكانت فلسفة الإدارة تقوم على إسعاد الناس، وليس قمعهم وأخذهم بالشدة، وهي تتطابق مع الذي جاء في وصيته الأخيرة للأشتر:

«وأشعِر ملكك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق» (45).

كما تقوم على المساواة بين الناس في العطاء:

«لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله» (46).

وتقوم أيضاً على مبدأ الثواب والعقاب ومدى التزام العمال والموظفين بهذا النهج. فالناجحون في مهامهم يستحقون الثناء وربما الارتقاء إلى مهمات أكثر دقة، كما حدث لعامل البحرين (عمر بن أبي سلمة المخزومي) الذي نال ثقة الإمام، فاستدعاه إلى الالتحاق به حين فرر السير إلى الشام مطرياً عليه بقوله:

«فلقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة، فاقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم ولا مأثوم. فإنك ممن استظهر به على جهاد العدو وإقامة عمود الدين» (47).

وكانت المراقبة الشديدة على «الموظفين» والاطلاع على أحوالهم، وعلاقتهم بالرغبة مما يترتب على «الإمام» القيام به ومتابعته عن كثب، فضلًا عن اختيارهم الذي يخضع لمعيار أساسه الكفاءة والورع وممارسة الفرائض.

ولذلك باستثناء عبد الله بن العباس وأخيه قثم اللذين تم اختيارهما على أساس هذه القاعدة أيضاً، فإنه تفادى «استعمال» بني هاشم، كما المهاجرين بشكل عام، مستعيناً بصورة خاصة بشخصيات من الأنصار واكبت تجربته حتى نهايتها وأظهرت مصداقية عالية في مهامها (أبو قتادة الأنصاري (مكة) وسهل بن حنيف وأبو أيوب الأنصاري (المدينة)، وقيس بن سعد (مصر) وعثمان بن حنيف (البصرة)، وقرظة بن كعب (الكوفة)، والنعمان بن العجلان (البحرين) (48).

ص: 178

وإذا كان الإمام قد كافاً عامله المخزومي وأظهر التقدير لنزاهته، فإنه يظهر امتعاضاً مما

وصله عن قاضي الكوفة (شريح بن الحارث) وشراء دار له وتشكيكاً باستغلال منصبه فاستدعاه وقال له:

«فانظر یا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة» (49).

وبوحي من هذا الموقف يوجه كتاباً إلى أحد عماله، طالباً منه تقديم كشف لحسابه، بعدما بلغه من أخبار عن سوء أمانته وإثرائه على حساب منصبه:

بلغني أنك جردت الأرض فأخذت ما تحت قدميك فارفع إلى حسابك، واعلم أن حساب الله أعظم من حساب الناس (50).

وكان على العامل برأي الإمام أن تكون مسافة ما بينه وبين الرعية، لأن التوسع في الاختلاط بهم، يقلل من هيبة السلطة ويجعل الحاكم أسير هذه العلاقة، ولذلك يأخذ على عامله (عثمان بن حنيف) تلبيته لوليمة أقامها رجل من البصرة (51). فالعامل مبشر (52)، ويجب أن يكون محصناً إزاء المغريات وكل ما يمس سلوكه القدوة، ومن هنا كان عليه التنبه للجواسيس الذين يلتمسون الحق بالباطل» (53)، وعليه حسن اختيار الأعوان لأن للوالي خاصة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلة إنصاف في معاملة» (54)، كما جاء في كتاب له إلى الأشتر محذراً من مثل هؤلاء:

«فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، ولا تقطعن لأحد من حاشيتك وحامتك قطيعة، ولا يطمعن منك في اعتقاد عقدة تضر بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنًا ذلك لهم دونك وعيبه لمليك في الدنيا والآخرة» (55).

ولعل هذا الفكر يمثل في زمانه وعلى مدى الأزمنة نموذجاً للإدارة التي تتحدد وظيفتها في إسعاد الرعية وتوفير الأمن والرخاء لها، وتفعيل انخراطها إلى أبعد الحدود في المجتمع، ولذلك يشدد الإمام على التحذير الدائم من الانحراف (56)، ومن الخيانة (57)، ونكث العهد (58) وقد يكون ذلك أكثر وطأة على من ترسّم فيهم كفاءة، وبما ليست محصّنة بمثلها من الورع، ومن هؤلاء زياد بن أبيه عامله على فارس حين كتب إليه بمثل هذه الشدة:

ص: 179

«إني أقسم بالله صادقاً، لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً، أو كبيراً، لأشدّن عليك شدة تدعك قليل الوّفر ثقيل الظهر، ضئيل الأمر» (59).

وعلى صعيد الممارسة، فإن الإدارة في عهد الإمام قامت على أركان ثلاثة وهي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود والعدل (60). كما أنها تندرج في سياق النهج العام للدولة التي كان رائدها بناء المجتمع النموذج، وهذا الأخير، لا يكون إلا بتأسيس علاقة حوارية مع الرعية، تقوم على الثقة والمحبة والقيم، وكل ما يسهم في تحصين الإدارة من الانحراف والعصبية والاستغلال والاحتكار.

ج-في الفكر الحربي: برز الإمام مقاتلاً شجاعاً في حروب الإسلام ضد المشركين واليهود، وبذلك يأتي إلى الخلافة ومعه تجربة غنية في الحرب، هذه التي وجد نفسه في أتونها، حين الفتنة ذرت قرنها وعصف الانقسام بالمسلمين. فخاضها على غير رغبة منه أو حماسة، ليتقي فقط الانهيار، ويتصدى للبغي والباطل. على أن الحرب لم تدفع به إلى التطرف وهي تفرض في العادة مثله، خصوصاً إذا كان القتال من أجل المبدأ، بما يصاحبه من فرز للمواقف وحسم للخيارات، وإنما كان هاجسه الدماء التي تُهرق في غير موضعها، وخارج القضية الأساس للإسلام. ومن هناك كانت حرب البصرة من أصعب القرارات لدى الإمام تلك الحرب التي أشعل نارها من عُرفوا بالناكثين الذين دفعوا بالفتنة إلى جبهة المهاجرين، بما يعنيه ذلك من امتثال بين الرواد في الإسلام وما تركه ذلك في شرخ عميق في المجتمع الذي فقد تماسكه منذ ذلك الحين.

ولا بد للمتتبع لمعركة الجمل التي وقعت في مستهل عهد الإمام أن تتبدى له معالم المنهج الذي يستعيد في ظله المؤرخ، صورة الصراع مع المنافقين في المدينة، دون أن يعني ذلك المقارنة المجردة بين هؤلاء وبين «الناكثين»، ولكن المقارنة تصبح جائزة بين أسلوب كل من الرسول والإمام في مواجهة الفتنة وإبقاء باب الحوار مفتوحاً حتى اللحظة الأخيرة، توخياً لهدف أساسي وهو إنقاذ وحدة الأمة.

وبهذا المعنى تكون معركة الجمل من أخطر الأزمات الداخلية التي عصفت بالمسلمين، ولقد خاضها الإمام بروح عالية من المسؤولية، وموقف شجاع غير متأثر بالاعتبارات الشخصية والسياسية، وخاضها أيضاً بفكر لماح يستنبط حلولاً صعبة للمسائل المعقدة. فكان القرار الذي

ص: 180

واجه به تجربة ليست لها سابقة مما رهص به الفكر الحربي للإمام في تلك المرحلة. ويتسامى هذا الفكر متجاوزاً النكث للعهد والدماء ومنتصراً على الأحقاد، فيصبح قتل الخصوم مثار حزن وأسى وليس مبعثاً للابتهاج كما في قانون الحرب، ومراعياً حرمة البيوت والمرأة التي كان لها محل في معركة الجمل. وكانت صفية ابنة الحارث، قد تهجمت على الإمام أو جبهته حسب تعبيره في رواية لدى الطبري جاء فيها أن أحد أصحابه قال له: هممت أن أفتح هذا الباب وأقتل من فيه» (62)، مشيراً إلى دار عبد الله بن خلف في البصرة حيث كانت توجد أيضاً عائشة، فزجره الإمام قائلاً: «لا تهتكن ستراً ولا تدخلن داراً ولا تهيجن امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم. ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وإنهن المشركات. فلا يبلغني عن أحد عرض لامرأة ...» (63).

وبهذه الروح العالية، يحارب الإمام معاوية، فلا يكون القتال على هذه الجبهة الداخلية، سوى وقف لعدوان وإتقاء لفتنة. وبوحيها يوصي أحد قادته (معقل بن قيس الرياحي) حين أرسله إلى الشام طليعة لقواته:

«اتق الله الذي لا بد من لقائه ولا منتهى لك دونه، ولا تقاتلن إلا من قاتلك» (64).

وكان يختار قادته وفقاً للمعيار الذي رأيناه في اختيار الولاة والقضاة، وهو يقوم على التقوى، مصحوبة بالجرأة والإقدام والانضباط، ففي كتاب له إلى اثنين من القادة ينبئهما بتعيين الأشتر قائداً للجيش يقول:

«قد أمرت عليكما وعلى من في حيزكها مالك بن الحارث الأشتر، فاسمعا له وأطيعا واجعلاه درعاً ومجناً، فإنه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته ولا بطؤه، عما الاسراع إليه أحزم، ولا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل» (65).

والقاعدة المركزية للفكر الحربي عند الإمام هي الجهاد، هذا التعبير القرآني الذي كان مدلوله ما يزال مقتصراً على حرب المشركين وأعداء الإسلام، استخدم لأول مرة خارج هذا الاطار، عشية الثورة على عثمان، حين نُسب إلى صحابة من المدينة القول-فيما يرويه الطبري-«فإن كنتم تريدون الجهاد، فعندنا الجهاد» (66). وإذا تجنب الإمام استعمال هذه العبارة في حربه مع «الناكثين» في البصرة، فإن الحرب مع الفئة الباغية تلك التي خرجت عن طاعة الإمام فظلمت وأفسدت (67)، وأثارت العصبيات حري بها أن تكتسب هذه السمة الجهادية في تصديها للظلم والانحراف عن الدين والتجرؤ على سنة الرسول وتراث الأوائل.

ص: 181

والجهاد من هذا المنظور يجسد مرحلة يرتقي بها الإنسان إلى مستوى نخبوي، يؤهله للانخراط بكليته في القضية التي يقاتل من أجلها ويتفاعل معها بعقله وإحساسه، سواء أكان النصر ما ينتظره أو الشهادة. ولذلك يقوّم الإمام الجهاد بأنه «باب من أبواب الجنة فتحه الله الخاصة أوليائه» (68) ولما أيقن ضياع هذه النخبة وانطوائها على قلة صغيرة، حاول عبثاً تحريض أصحابه على الجهاد، لا سيما في خطبته الشهيرة التي تحمل هذا العنوان (69)، وتخوض في موضوعه ببلاغة وعمق، ولكنه أدرك أخيراً أن هؤلاء القوم-وهم سواء قبائل الكوفة-الذين فرضت الأحداث أن يكونوا جمهوره الأساسي، إنما كانوا يقاتلون في سبيل قضية، لم يكتنهوا-باستثناء قلة-عمقها ومداها إلا أنها لم تقدم تأثيراً على تكوينهم القبلي الذي تراجعت فيه العصبية، بالمقارنة مع عصبيات الشام المتماسكة، مما أدى إلى زعزعة انضباطها في هذا المجال أيضاً، وحدا بالإمام في النتيجة إلى تتويج خطبته بالقول المأثور: «لا رأي لمن لا يطاع» (70).

كان هذا إذاً مفهوم الحرب في نهج البلاغة مواكباً فكرة الجهاد ومضمونها الإسلامي

الشمولي. فهي حرب معلنة ضد الباطل والظلم والبغي، نهض فيها الإمام وهو دون العشرين كما وقد ذرف على الستين-كما يقول في خطبته الشهيرة (71)، وهو خائض غمارها من أجل هذه المبادىء، بحكم الاختيار والضرورة، ولعله، وهو المحارب بطبيعته والقائد في صميم تكوينه، يكتسب فكره على هذه المساحة ريادة فذة، خصوصاً فيما يمكن أن نسميه «آداب الحرب»، التي تندرج فيها مبادىء مثل «عدم البدء بالقتال، عدم إيذاء النساء، عدم قتل الفارّين، السماح للعدو بالوصول إلى الماء، احترام العهود الخ) (72). وإذا صح أن يكون للحرب الهادفة قانون، فهو منبثق من هذا الذات النظري والعملي، المتعارض مع أنماط الحروب التي تتوخى الإفناء وإراقة دماء الضعفاء من أجل التسلط والاستغلال.

ولأن الحروب التي خاضها الإمام كانت موجهة ضد الباطل والبغي، فقد عاشها بعقله وأحاسيسه، وحرص على أن تكون كذلك لدى قادته وجنوده، مشدداً على إبراز الهدف الذي يقاتلون من أجله والتمييز بين قضيته وقضية العدو، فضلاً عن التحريض الدائم من أجلها على القتال. وإذا أردنا الدخول في التفاصيل سنجد أن مسألة الجهاد تتخذ حيزاً بارزاً في نصوص النهج، حيث تبتدى واضحة حوافز الإمام، وهو مقبل على الحرب بمشاعر صادقة وإيمان عميق بتحقيق النصر:

ص: 182

«فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت وأنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه ومتبوئاً أوطانه (73).

ولكن هذا النصر، كان دونه الصبر على الألم والجد في «جهاد العدو» (74)، ولذلك كان الإمام يعد للحرب عدتها، بما فيها تحشيد المقاتلين، والظهور بأتم اللياقة، والتنظيم، وإحداث الجلبة، وغير ذلك مما يعكس رهبة لدى العدو. كما يهتم بالاستعداد النفسي للجنود، على نحو يجعلهم أكثر قدرة على القتال والانخراط المطلق فيه:

«عضوا على النواجذ، فإنه أبنى للسيوف عن الهام، وأكملوا اللأمة، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها» (75).

كما يستحث جنوده على رباطة الجأش عند اللقاء مع العدو، والقتال جهة واحدة وبقلوب مجتمعة في المعركة (76)، مؤكداً على التزام الطاعة (77)، وعدم الاستسلام لليأس بعد الهزيمة (78)، وليس على الجنود أن يتمردوا على صلح دعا إليه العدو «ولله فيه رضا» (79) لأن مثل هذا الصلح ربما كانوا بحاجة إليه لإعادة تنظيمهم وتحسين أدائهم، ولكنه يشترط عليهم الحذر الشديد والتعامل بحزم مع عدوهم (80)، والتنبه لما يبيته من خطط وراء الصلح.

أما بشأن القيادة، وإن مارسها الإمام بصورة مباشرة متقدماً الصفوف في حرب دُفع إليها ضد الباطل، وقضت أن يكون على رأسها، فإن القاعدة في «نهج البلاغة»، ألا يكون «الإمام» قائداً للجيش في الحرب، لأن ذلك في حال وقوعه، فيعكس خطراً على المرجعية في «الدولة»، ومن وحي هذا المفهوم، نصح الخليفة عمر بن الخطاب أن لا يسير بنفسه إلى «غزو الروم» قائلاً:

«إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتُنكب، لا تكن للمسلمين كائفة دون أقصى بلادهم ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً مجرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين» (81).

كما يحذر هذا الخليفة في مثل هذا الموقف حين أراد الخروج على رأس الجيش لمحاربة الفرس، الأمر الذي سيحدث فراغاً بالسلطة، لن يتورع عن استغلاله المتربصون والمتآمرون:

«فإنك إن شخصت من هذه الأرض، انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها

ص: 183

حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك» (82).

وهكذا يتجلى الفكر الحربي في نهج البلاغة، متداخلاً مع المسائل الأخرى، وعلى السوية ذاتها في التعبير عن قيم الإسلام ورسالته الإنسانية. وبناء على ذلك، فإن تراث الحرب فكراً وممارسة فيه، يعكس المرحلة الأكثر خطورة، منذ عهد الرسول. وكان التصدي لها في أولويات سياسة الإمام الذي شاء من أجل ذلك، المجازفة في التجربة الصعبة، وإنقاذ الأمة من الضلال والبغي. وبهذا المعنى كانت «دولة» الإمام استمراراً لدولة الرسول، إذ عاشت كلتاهما حالة حرب دائمة، ولم تتوان عن التعبئة وحشد المقاتلين والتأهب لدفع الخطر، ودفع راية الجهاد ومن ثم ترسيخ مبدأ الشهادة التي تصبح مطلباً، كما النصر في نهاية المطاف وهذا ما عبّر عنه الإمام بشكل خاص في اثنين من نصوص نهج البلاغة، مشدداً في الأول على قيمة الموت في ساحة المعركة:

«إن أكرم الموت القتل والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على الفراش» (83).

وساعياً في النص الثاني إلى الشهادة التي تسوغ له احتمال أمر لم يشأ أن يكون فيه لولا ذلك، وهو الخلافة (84):

«والله لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدو لوقد حم لي لقاؤه لقربت ركابي ثم شخصت عنكم، فلا أطلبكم ما اختلف جنوب و شمال» (85).

د-في الفكر الاقتصادي: كان من الطبيعي، والحرب أخذت جل وقت الإمام، أن ينعكس ذلك على نصوص نهج البلاغة، فبدا الجهاد مستأثراً بنصيب كبير، وفي سياقه كان الاهتمام بمسائل الإدارة والسياسة، وعدا ذلك-والمقصود هنا ما يمس رؤية الدولة في النهج الذي كان للفكر الديني حضوره البارز فيه-فإن مسائل أخرى بدت على الهامش منها، لا سيما المسألة الاقتصادية التي اقتصرت على أمور العطاء وملكية الأرض والخراج، وشواهد خافتة على هذا الجانب الهام في «دولة» الإمام، ولكنها لا تعدم في النهاية ضوءاً على السياسة المالية في هذه الأخيرة، متسقة في ظل التجربة وخصوصيتها في تلك المرحلة.

وبالعودة إلى المصادر التاريخية نجد الإمام يلتزم القاعدة التي انطلق منها الخليفة عمر ابن الخطاب بشأن إقطاع الأرض وإبقائها ملكاً للأمة (86). وهي سياسة أثارت على الخليفة

ص: 184

الأسبق قريشاً وبعض صحابتها، كما أثارت قادة الأمصار الذين استفزهم منح الخليفة عثمان قطائع لهؤلاء ولأقربائه. وهو ما يبدو أنه كان أحد حوافز القادة للثورة على الخليفة (87). ولذلك كان استرداد هذه القطائع (88) جزءاً من الحركة الاصلاحية التي استهدفت من جانب الإمام مجمل نهج الخليفة السابق على كافة الصعد السياسية والإدارية والاقتصادية.

على أن الفرادة في هذا المجال، تتمثل في مبدأ العطاء، بناء على قاعدة المساواة بين المسلمين. فقد روى المسعودي أن الإمام «قسم ما في بيت المال على الناس ولم يفضل أحداً على أحد» (89). ناقضاً بذلك، ليس الطريقة الفئوية لسلفه، وإنما طريقة الخليفة عمر الذي كان له اجتهاد خاص في هذه المسألة على قاعدة الأسبقية والبلاء. وكان منطلق الإمام في هذه «التسوية» بين المسلمين على أساس أن المال هو مال الله، وينبغي أن يوزع بصورة عادلة، وإن لم يكن كذلك يصبح كمن يطلب النصر بالجور على حد تعبيره (90). ثم يضيف في هذا السياق:

«إن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف. ولم يضع امرؤ ماله في غير حقه ولا عند غير أهله إلا حرمه الله شكرهم» (91).

وبناء على هذه القاعدة كانت نظرة الإمام إلى الخراج الذي يرتبط عضوياً بالعطاء، خصوصاً بعد توقف الغنائم إثر ركود جبهات الفتوح. وهي نظرة تؤسس لعلاقة إيجابية مع شعوب البلاد المفتوحة، بما يسهم في عمرانها وتعزيز انتمائها للأمة، لذا يرى ضرورة إصلاح أمر الخراج، بما يتعدى الجباية إلى المسألة الاقتصادية برمتها، حيث يشكل الخراج المصدر الأساسي لها في ذلك الوقت. وهذا ما يمكن قراءته بوضوح في عهده للأشتر، فيوصيه قائلاً:

«تفقد أمر الخراج بما يُصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم، صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلا بهم لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله. وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلًا» (92).

وبهذا الكلام يستشرف الإمام المصير الذي سارت إليه دولة الأمويين، من خلال نظرتها القصيرة إلى الخراج مقترناً لديها بالاستغلال ذلك الذي ألّب عليها شعوب البلدان المفتوحة. وكان ذلك ما دفع أحد ولاتها على العراق (يزيد بن المهلب) إلى فصل الخراج عن مهمته، معللًا ذلك حسب الرواية التاريخية أن العراق أخربها الحجاج وأنا اليوم رجل أهل العراق ومتى

ص: 185

قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم على ذلك، صرتُ مثل الحجاج. ومتى لم آت سليمان بمثل ماكان الحجاج أتى به لم يقبل مني» (93).

وخلافاً لذلك، حرص الإمام على تكريس الشعور بالمساواة لدى هذه الشعوب، محذراً من استغلال أهل الخراج وموصياً بالتالي أن يؤخذوا باللين والحوار والمودة. ولعل كتابه إلى عمال الخراج يشكل نموذجاً في هذا المجال، محدِّداً وظيفة الخراج وطبيعتها وصفات العامل عليه ورسالته. وقد جاء فيها:

«فانصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم، فإنكم خزّان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة، ولا تحسموا أحداً عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعنّ للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها ولا عبداً، ولا تضر بن أحداً سوطاً لمكان درهم ولا تمسن مال أحد من الناس مصلّ ولا معاهد، إلا أن تجددا فرساً وسلاحاً يُعتدى به على أهل الإسلام».

وثمة وصية أخرى لا تحيد عن هذا المنحى، كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، وقد جاء فيها:

«انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا ترد عن مسلماً ولا تجتازن عليه،كارهاً ولا تأخذن منه أكثر من حق الله فى ماله» (94).

ومما يلفت في هذا المجال، أن الإمام عمد إلى فصل وظيفة الخراج، كذلك بيت المال (95) ضبطاً لمالية الدولة، وحتى لا تكون السلطات محصورة بكاملها في يد الوالي الذي قد يلجأ إلى استغلال نفوذه الواسع. ولقد روى اليعقوبي أن الإمام كتب إلى قرظة بن كعب الأنصاري، يأمره بشق نهر كان قد عفا في أرض لأهل الذمة، خاتماً رسالته بالقول:

«فلعمري أن يعمروا أحب إلينا من أن يخرجوا» (96).

وهكذا يأتي تشجيع الزراعة في خدمة الاستقرار ويقترن الخراج بعمارة الأرض وإصلاحها، كما رأينا في النص السالف من نهج البلاغة ولعل هذه السياسة وإن وجدها البعض «شديدة»، لا سيما المتضرر من المساواة، حفرت بعمق أمام الإسلام، لينتشر بتلك السرعة في البلاد المفتوحة. على أن الإمام شأن أسلافه، رفض توزيع الأرض في السواد الذي أخذ يتحول إلى مطلب حيوي لقادة الأمصار ويشكل مصدر قلق الخليفة عمر إلى تحذير

ص: 186

القبائل في العراق من هذا الأمر: «وأخاف إن قسّمته-أي السواد-أن تفاسدوا بينكم في الماء» (97). وهو ما يحمل معناه ذلك الذي جاء في قول الإمام إزاء هذه المسألة:

«لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت هذا السواد بينكم» فقد اكتفى بإجراء الفيء على القبائل من الأرض (98) التي يتطلب نظامها الزراعي القائم على الري، شروطاً وعلاقات اجتماعية ليست متوفرة لدى هذه القبائل. ويبدو أن هذه المسألة راكمت نقمة واحتجاجات على السلطة السياسية، مما يفترض أنه أسهم فيما بعد، في تمرد قبائل الخوارج بدافع الاستئثار بالأراضي التي فُتحت بسيوفهم على حد تعبيرهم (19).

كما لفت الإمام في نهج البلاغة إلى أهمية دور الصناع والتجار في الحياة الاقتصادية، فأوصى بهم خيراً (100)، ولكنه لا يغفل عن سلوكهم الذي ينبغي أن يكون تحت مراقبة العمال، حتى لا يشتطوا في الطمع والجشع، وهو ما ينطوي عليه خصوصاً أحد كتبه إلى الأشتر:

«واعلم-مع ذلك-أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة» (101).

فمن مسؤولية العامل أن يراعي أوضاع الفئات الفقيرة أو من يسميهم الإمام بالمساكين وأهل الزمنى (102). الذين لا حيلة لهم، وأن يحميهم من الاستغلال والاحتكار، وهو ما يوجب التدخل لضبط الأسعار ومراقبة الموازين والمكاييل، حتى لا يكون إجحاف بالفريقين (البائع والمبتاع) (103)، فضلًا عن استخدام القمع نحو المخالفين من التجار:

«فإن فارق حكره بعد نهيك إياه فنكّل به وعاقبه في غير إسراف» (104).

خاتمة:

يتبين من هذه الدراسة لرؤية الدولة في نهج البلاغة أن هذا الأخير، بما انطوى عليه من خلاصة لتجربة الإمام ومعاناته، ومواكبة دقيقة لروح التحولات الجذرية، يمثل ريادة على المستوى الفكري التنظيري في الإسلام. فقد كان سباقاً إلى طرح مسائل وإشكاليات لم تكن قد اختمرت مضامينها على مستوى العقل الغربي الذي كان عليه الانتظار طويلاً قبل الخوض فيها بجدية وعمق، ولكن ليس على المدى ذاته من الرؤية والاستشراف، فضلاً عن الجذرية التي خفتت كثيراً في القرون التالية.

وقد يكون في ذلك سر أزمة الإمام وفكره، إذ بدا كلاهما في غربة عن العصر الذي رفض

ص: 187

هذا النمط من الجذرية، بل ما هو أقل منها، حين أُطيح الخليفة عمر بن الخطاب، نتيجة لأسباب قد يكون من أعمقها اقترابه من هذا الفكر. وقد يكمن في ذلك أيضاً، سبب تأخر ظهور الدولة بمعناها الكامل في الإسلام، حتى أنها لم تظهر على هذه الصورة المطلقة فيما بعد، إذا توقفنا عند النماذج المضطربة لدى الأمويين والعباسيين.

ولعل الإمام الذي انخرط مبكراً في الإسلام، وأبحر فيه بتقواه وعلمه، ومن ثم وجد نفسه في موقع قيادي على مساحته كان يرى برغم التحديات وجوب متابعة هذا الدور، بغية إرساء الدولة التي تجلت ملامحها في عهد الخليفة عمر قبل أن تعصف بها المؤامرة. ومن هذا المنظور لم يكن الإمام بعيداً عن تجربة هذا الخليفة الذي تشير الروايات التاريخية إلى استشارة الأخير له في الأمور الصعبة فضلاً عن تعيينه نائباً له عند خروجه إلى الشام (105)، بل كان يجد في ما أنجزه نواة لهذه الدولة التي خالجت صورتها الإمام، وسعى إلى استكمالها بعد أن آلت إليه الخلافة، وقد نجد أصداء هذه العلاقة الإيجابية بين الاثنين في نهج البلاغة، مثنياً-أي الإمام-على عمر بوصفه بعد اغتياله أنه «قوم الأود وداوى العمد وخلف الفتنة وأقام السنة. ذهب نقي الثوب، قليل العيب أصاب خيرها وسبق شرها. أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه. رحل وتركهم في طريق متشعبة لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي» (106).

لقد جمعت قواسم عديدة مشتركة بين الاثنين في رؤيتهما للدولة، مع الفارق أن الأول (عمر) وجد أنه باستطاعته تحقيق هدفه من خلال صيغة توازنية ربما أسهمت المرحلة في نجاحها النسبي على الأقل، فيما كان الثاني (علي) بجذريته في الأساس، وأمام تغير الظروف عما كانت عليه محكوماً بالخيار الصعب، دون أن تكون مجدية في ذلك الوقت، العودة إلى المعادلة السابقة لو شاء الإمام ذلك. فقد شهدت مرحلة الإمام فرزاً لم يكن قائماً بهذا الوضوح من قبل بين تيارين: أحدهما يمثل الإسلام الجذري، وآخر يسعى إلى التوفيق مع شعاراته مستمداً قوته من القبائل التي لم تكن بمعظمها قد انخرطت تماماً في حركة الإسلام أو استوعبت مفاهیمه بما يتعدى الشعار.

وفي ضوء ذلك كان الإمام على وعي بالتحديات التي واجهت مشروعه لإقامة الدولة العادلة، بما يضمن وعلى المدى البعيد تماسك المجتمع ورسوخ جذوره في الأرض. وإذ وجد نفسه أمام هذا المأزق كان عليه أن يراهن على النموذج وإن على مساحة صغيرة، حيث

ص: 188

تتأصل النفوس وتتعمق التجربة ويتجلى الحق عن الباطل، كما صرح في ذروة معاناته في صفين: «ما دفعتُ الحرب يوماً، إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فنهتدي بي وتعشو إلى ضوئي وذلك أحب إلي من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تنوء بآثامها» (107).

وهكذا، فإن الدولة التي أخفقت على الأرض كانت تصوغ نموذجها بهدوء في الوقت نفسه على صفحات نهج البلاغة وترى إلى أن تصبح حقيقة في يوم، قرب أم بعد. كان ذلك هاجساً في مراهنته على النتيجة وفي أن تكون للإسلام دولة على صورته ليست لفئة أو عشيرة، ولا لطبقة كما جاء في السياق القرآني، وإنما هي لجميع المؤمنين بالتساوي، حقوقاً وواجبات ولعل هذه «الدولة» أعلنها الإمام فعلاً في نصه المتعلق بالخوارج، مختصراً وظيفتها على كافة الصعد السياسية والإدارية والاجتماعية والاقتصادية والحربية.

وإذا كان هذا النص المكثف قد حمل العناوين الأساسية للدولة فإن مضامينها، وعلى قدر كبير من التفصيل، حاضرة في مسار النصوص التي تجعل المسألة السياسية ومتفرعاتها، في السياق نفسه المسائل الدين الذي كانت خصوصيته في هذا التكامل المبدع. وهذه «الدولة»، إن لم تبدأ فعلاً في حينها، لا سيما وأن إعلانها تزامن مع ذروة الحرب الأهلية، بما فرضته الأخيرة من إعاقة لتنفيذها، فإن معناه كان مكتملًا على مستوى النظرية المبدعة أيضاً في نهج البلاغة.

الحواشي:

(1) ابن منظور، لسان العرب ج 1 ص 552.

(2) المكان نفسه.

(3) المكان نفسه.

(4) سيد قطب في ظلال القرآن، ج 8 ص 38.

(5) سور: آل عمران، الشورى، البقرة.

(6) رضوان السيد رؤبة الخلافة وبنية الدولة في الإسلام. الاجتهاد السنة الرابعة 1991 ص 14-15. أبرز الدلالات السمعية على ما كان في عهد الرسول من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية. تحقيق إحسان عباس-دار الغرب الإسلامي-بيروت 1985.

(8) الرسالة للإمام تحقيق أحمد شاكر. مطبعة الحلبي بمصر 1914 ص 80.

(9) مصعب الزبيدي، نسب قريش. دار المعارف بمصر ص 209-210.

(10) أبو الطيب الفاسي المكي، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ص 108-109.

ص: 189

(11) رضوان السيد المرجع السابق ص 14.

(12) رضوان السيد المرجع السابق ص 16.

(13) الشيخ المفيد، النصرة في حرب البصرة ص 42.

(14) نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده طبعة مصر (د. ت 1 ج 1 ص 87).

(15) رضوان السيد المرجع السابق ص 16.

(16) حسن جابر الفكر السياسي عند الإمام علي (إطروحة غير منشورة) ص 144.

(666) حسن جابر، المرجع السابق ص 49.

(17) نهج البلاغة ج 3 ص 195.

(18) نفسه ج 2 ص 104.

(19) نفسه ج 1 ص 112.

(20) الارشاد ج 3 ص 141.

(21) نهج البلاغة 153/1.

(22) نهج البلاغة ج 1 ص 155.

(23) نهج البلاغة 42/1-44.

(24) يحملكم على طريقة هي الحق. الماوردي، الأحكام السلطانية ص13.

(25) نهج البلاغة ج 1 ص 42.

(26) نفسه 3 ص227

(27) نفسه ج 2 ص 98.

(28) نفسه ج 1 ص 66-67.

(29) نفسه ج 4 ص 8.

(30) نفسه.

(31) نفسه ج 2 ص 59.

(32) نفسه.

(33) نفسه ج 3 ص 266.

(34) يذكر ابن خلدون أن المحتسب كان يقوم بالبحث عن المنكرات ويضرر (يزجر) على قدرها ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة. المقدمة ص 198.

(35) اليعقوبي تاريخ ج 2 ص 182. الدينوري الأخبار الطوال ص 151.

(36) نفسه ج 2 ص 62-64.

(37) نهج البلاغة ج 2 ص 85.

(38) نفسه ج 2 ص 86.

(39) نفسه لا شرف أعلى من الإسلام ولا عز أعز من التقوى، ولا معقل أحسن من الدرع. نفسه ج 3 ص 242.

(40) نهج البلاغة ج 3 ص 243-244.

ص: 190

(41) نفسه ج 3 ص 44-45.

(42) نفسه ج 3 ص 85.

(43) نهج البلاغة ج 3 ص 33.

(44) نهج البلاغة ج 3 ص 93.

(45) المكان نفسه.

(46) المرجع نفسه ج 2 ص 10.

(47) المرجع نفسه ج 3 ص 77.

(48) خليفة بن خياط، تاريخ ج 1 ص 230، 232، 233، إبراهيم بيضون الحجاز والدولة الإسلامية ص 177.

(49) نهج البلاغة ج 3 ص 5.

(50) نفسه ج 3 ص 72.

(51) نهج البلاغة ج 3 ص 78.

(52) نفسه ج 1 ص 115.

(53) نفسه ج 3 ص 65.

(54) نفسه ج 3 ص 115.

(55) نفسه ج 3 ص 115-116.

(56) نفسه ج 2 ص 69.

(57) نفسه ج 3 ص 22.

(58) نفسه ج 3 ص 129.

(59) نهج البلاغة ج 3 ص 22.

(60) حسن جابر الفكر السياسي عند الإمام علي ص 166.

(61) لا تتبعوا مولياً ولا تجهزوا على جريح ولا تنتهبوا مالاً، ومن القى سلاحه فهو آمن. ليس على الموحدين سيء ولا نضمن من أموالهم إلا ما قاتلوا به وعليه. الدينوري الأخبار الطوال ص 155. اليعقوب ج 2 ص 183 الطبري ج 4 ص 451.

(62) الطبري ج 4 ص 538.

(63) المصدر نفسه ج 4 ص 540.

(64) نهج البلاغة ج 3 ص 15.

(65) نفسه ج 3-15-16.

(66) الطبري ج 5 ص 96 طبعة بيروت.

(67) ابن منظور، لسان العرب، ج 4 ص 78.

(68) نهج البلاغة ج 1 ص 63.

(69) نفسه ج 3 ص 63-66.

(70) نهج البلاغة ج 1 ص 66.

ص: 191

(71) المكان نفسه.

(72) المصدر نفسه ج 3 ص 16. اليعقوبي ج 2 ص 183. ياسين سويد، الفن العسكري الإسلامي ص 111.

(73) نهج البلاغة ج 1 ص 100-101.

(74) نفسه ج 1 ص 100.

(75) نفسه ج 1 ص 110.

(76) نفسه ج 2 ص 3.

(77) نفسه جج 3 ص 6-7.

(78) نفسه ج 3 ص 16-18.

(79) نفسه ج 3 ص 117.

(80) المكان نفسه.

(81) نهج البلاغة ج 2 ص 25.

(82) نفسه ج 2 ص 40.

(83) نهج البلاغة ج 2 ص 4.

(84) نفسه ج 2 ص 210-211.

(85) نفسه ج 1 ص 231.

(86) مروج الذهب ج 2 ص 353.

(87) كان من إرهاصاتها موقف الأشتر النخعي وأصحابه من سعيد بن العاص الذي اعتبر السواد فطيناً لقريش.

(88) نهج البلاغة ج 1 ص 42.

(89) مروج الذهب ج 2 ص 353.

(90) نهج البلاغة ج 2 ص 10.

(91) نهج البلاغة ج 2 ص 10.

(92) نفسه ج 3 ص 106-107.

(93) نهج البلاغة ج 3 ص 90-91.

(94) نفسه ج 3 ص 27.

(95) الطبري جط ص 543.

(96) اليعقوبي، تاريخ ج 2 ص 203.

(97) أبو عبيد الأموال ص 81.

(98) این آدم القرشي الخراج ص 46.

(99) انظر في هذا المجال طريق الخالدين، دراسات في تاريخ الفكر الإسلامي ص 25.

(100) نهج البلاغة ج 3 ص 110.

(101) المكان نفسه.

(102) نفسه ج 3 ص 111.

ص: 192

(103) نفسه ج 3 ص 110-111.

(104) نفسه ج 3 ص 15.

(105) ابن الأثير ج 2 ص 500، ابن عساكر تاريخ مدينة دمشق ص 196.

(106) نهج البلاغة ج 2 ص 249.

(107) نهج البلاغة ج 1 ص 100.

ص: 193

ص: 194

إلى «أمير النحل»

الدكتور عارف تامر

بالأمس فئتُ إلى رحاب الإمام جعفر الصادق. أشم عرف الإمامة والعبقرية وأنحني أمام الإبداع والحكمة والبلاغة.

واليوم ... أستجيب إلى دعوة المستشارية الثقافية الإيرانية الموقرة، وأقف خاشعاً وأنا لا أملك إلا القليل من الكثير. معترفاً بعجزي عن التعبير والعبور إلى عالم الإمام علي العميق الغور والمجهول الأبعاد والحدود.

ماذا عليّ أن أقول في إمام المتقين؟ وقولي فيه لم يتغير ... الإمام علي لم يجمع الإمامة والخلافة فحسب. بل جمع الولاية والوصاية. وكان أساس الدين وصاحب التأويل والناطق بالقرآن وممثول النفس الكلية في عالم الدين والعقل الفعال في عالم الإبداع.

ص: 195

لقد غالت وتاهت في علي أمم عديدة، وخرجت عليه وحاربته أمم كثيرة، ولكنه ظلَّ حياً في قلوب الذين عرفوه وفي أفكار الذين نهلوا من معينه وتفيؤوا ظلاله، وآمنوا برسالته.

فيا أمير النحل ... يا يعسوب المؤمنين. أيها الخالد خلود الدهر. جئنا في هذه الذكرى الغالية ننهل من معينك ونسير على هديك ونعاهدك على الولاء فأنت المعلم، والقطب والناموس والمثل الأعلى. وأهلك صفوة الخلق، والشجرة المباركة التي مكن الله لها في الأرض وفي السماء.

يا وصي محمد. يطيب لي أن أفيء إلى رحابك شعراً، بعد أن خانتني الكلمات نثراً.

* * *

عديني في الذهاب وفي الاياب *** عهدتكِ في وعودك لا تُجابي

عديني بالمزيد من الأماني *** فقد دونتُ حبك في كتابي

مهاةَ البيد في مغناك سحرٌ *** بذكرني بأيام الشباب

وفي دنيايَ هجرٌ وادّكارٌ *** يعيدٌ إليَّ حزني واكتئابي

أحسنُّ إلى دياركِ من بعيدٍ *** حنينَ الغصن للطلِّ المُذاب

ديارُ تقىّ نمتْ فيها الأماني *** وجلَّت عن بيانٍ أو حساب

فتنتُ بها وفي كبدي اشتياقٌ *** إلى جدثِ الوصيّ أبي تراب

فيا لله مما في فؤادي *** و يا لله من شوقي وما بي

* * *

أبا حسن صبوتُ إلى الرحاب *** أمني النفسَ أحلم بالثواب

أحسُّ ركاب راحلتي وأسري *** وئيداً في الرواح وفي الإياب

اشمُّ أريجَ قيصومٍ ووردٍ *** وأسجدُ في المرابع والهضاب

ص: 196

ربوعك يا دیار جنان عدنٍ *** زهَت بالطيبين من الصحاب

حلمتُ بها تواكبني المطايا *** ونار الشوق تعصف باللباب

هنا النجف الشريف هنا غصونُ *** من الأرواحِ والنخل الرُطاب

هنا الأنداء تُهمي في خشوعٍ *** على قمم المآذنِ والقباب

* * *

أميرَ النحل ليس سواك أرجو *** فحبك فوق ظني وارتيابي

حملتُ لك الولا غضاً نديّاً *** ورحت وكلُّ زهوٍ في إهابي

ودبَّجت القصائد ناطقاتٍ *** وجئت إليك أشكو في عتاب

أتسقي الناس ماء كوثرياً *** وترضى أن أعيش بلا شراب

ومن أولى بجودٍ منك مثلي *** وبين يديك ألقيت انتسابي

فأنت البدر يخترق الدياجي *** وأنت الشمسُ تهزأ بالغياب

وأنتَ القاسم النيران تولى *** نجاة من حسابٍ أو عقاب

أبا حسنٍ رسمتَ لنا سبيلاً *** ونهجاً للبلاغة والخطاب

وشدت لنا من الفصحى أساساً *** يقودُ إلى الحقيقة والصواب

وتفسيراً وتأويلاً قويماً *** لآياتٍ تنزلُ في الكتاب

حلفت بغير اسمك لا أنادي *** فجد لي بالمثول وبالثواب

أتقتلُ بالوغى عمرو بن ود *** وتصرع مرحباً في عقر باب

وتردی كلَّ جَبَّارٍ عنيدٍ *** تمرس بالخيانة والخراب

وتأبى أن تردَّ على ابتهالي *** وفي أيديك ميزان الحساب

ووعدك كل ما أصبوا وا إليه *** وأنت التبرُ عندك كالتراب

* * *

أبا حسنٍ محضتك كلُّ حبي *** وجئت إليك أطمع بالجواب

خطابي والمدائحَ والقوافي *** فبارك لي بربك في خطابي

ودعني في الظلال فأنت عندي *** مقيمٌ في الجوارح والخباب

ص: 197

أرى لقياك فرضاً والتزاماً *** وبابا للشفاعة والمثاب

طمعت إلى الجوار أقيم فيه *** فقد أصبحت في دار اغتراب

فكم يحلو الركون إلى الأماني *** وكم يحلو الوصول إلى الطلاب

* * *

سلامُ الله يُهمى كلَّ حينٍ *** على الجدثِ المضمَّخ بالطُيابِ

على علم الغري وما استباحت *** معالمه من الحسب اللباب

سقاهُ الله قطراً بعد قطرٍ *** صفاء الماء والنُطَف العذاب

وجاد عليه هطَّالاً سخياً *** هطولُ الودق من قلب السحاب

ص: 198

مكانة «نهج البلاغة» في الفكر الاسلامي المعاصر

حجة الإسلام سيد جمال الدين دين برور

قبل أن أبدأ دراستي هذه التي أعددتها لهذا المؤتمر الموقر حول (نهج البلاغة) ومكانته في الفكر الإسلامي المعاصر اسمحوا لي-أيها السادة-أن أشير بإيجاز إلى مفهوم الإسلام المعاصر وفكره الثوري الذي يُنظَر إليه اليوم كأهم ظاهرة في عالمنا الراهن حتى تتبين بوضوح مكانة (نهج البلاغة) في ظل مثل هذه الظروف غير الطبيعية السائدة في كرتنا الأرضية ... وأبدأ كلامي بإثارة هذا السؤال:

قد يسأل سائل: ما الفرق بين الإسلام المعاصر وإسلام القرون الماضية؟

ص: 199

نقول: إن (الإسلام المعاصر) يعني الإسلام الذي عُرض على الساحة العالمية بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وهو يختلف عن سابقه اختلافاً عميقاً وتاماً ليس في المبادىء والأحكام والمصادر، بل من حيث طرحه في جوهر السياسة الدولية والحاكمية على المستوى الإداري وإيجاد ملجأ جماهيري وسعيه لإنقاذ المحرومين والمستضعفين الذين يشكلون الأكثرية بين أبناء الشعوب العالمية.

بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عُرض الإسلام كعقيدة وفكر ودين حي يسعى من أجل إنقاذ بني الإنسان ولا يطمع في دنياهم، مما ساعده على كسب مواقع عميقة في قلوب وأفكار دعاة الحرية في شتى بقاع العالم، لا سيما أن قافلة هذا الإسلام كانت بقيادة فقيه عادل وسياسي زاهد وعارف أثبت لأول مرة عملياً نجاح سياسة (اللا شرقية واللا غربية) المستقلة في قاموس السياسة العالمية. كما أجبرت قوته الإلهية والمعنوية والدعم الجماهيري له الحكومات العالمية على الاعتراف رسمياً به. وقد قال المفكر العالمي (أندريه مالرو): «إن القرن الحادي والعشرين سيكون دينياً أو لن يكون أبداً». وأنا أصلح هذه العبارة وأقول: «إن القرن الحادي والعشرين سيكون إسلامياً أو لن يكون أبداً».

إن انتصار الإسلام في إيران أبطل إلى الأبد ادعاءات الشيوعية وأراجيفها الإعلامية التي استمرت سبعين عاماً ترفع شعار «الدين أفيون الشعوب» وأيقظ أعداداً غفيرة من أبناء العالم وأرشدهم إلى الدين القويم بعد أن كانوا حيارى في وادي الالحاد.

وقد لعب النداء التاريخي المهم الذي وجهه قائد الثورة الإسلامية الفقيد سماحة الإمام الخميني (رضوان الله عليه) إلى زعيم الاتحاد السوفييتي السابق «غورباتشوف» دوراً رئيسياً في التعجيل بانهيار صروح الكفر والإلحاد العالمي حيث جاء في جانب منه:

«إن الإسلام-لما يحمله من قيم سامية وما يتميز به من شمولية عالمية-يمكن أن يكون وبيسر-الخيار الناجح القادر على إنقاذ جميع الشعوب وحل كافة المشكلات التي تواجهها البشرية ... إن التوجه والتدبر الجاد في الإسلام قادر على إنقاذكم. إننا ننظر إلى مسلمي العالم كافة بنفس نظرتنا إلى مسلمي بلدنا، ونعتبر أنفسنا دوماً شركاء لهم في المصير.

لقد أثبتم من خلال الحرية النسبية التي منحتموها لممارسة الشعائر الدينية في بعض الجمهوريات السوفيتية أنكم لم تعودوا تعتقدون أن (الدين أفيون الشعوب)، وكيف يمكن أن

ص: 200

يكون كذلك. فهل أن الدين الذي صمد في إيران كجبل أشم بوجه القوى الكبرى هو أفيون للشعوب؟! وهل أن الدين الذي يدعو إلى استتباب العدل في العالم ويطالب بتحرر الإنسان من القيود المادية والمعنوية هو أفيون الشعوب؟!».

أجل إن الإسلام المعاصر لن يكون بعد الآن سجيناً بين دفات الكتب ورفوف المكتبات وحُجرات المدارس والحوزات العلمية القديمة، ولن يقبل أن يغيَّب عن المجتمع ويسلب دوره في تقرير مصير الشعوب، ولن يرضى بإخلاء الساحة للمستكبرين والظالمين ليوصلوا ويجولوا كيفما يشاؤون دون أي رادع أو وازع.

وكما يقول البروفسور العالمي (روجيه غارودي):

«إذا عرفت حركات التحرير الدينية، التي تشكل اليوم قاعدة تحول كبير في أمريكا اللاتينية إلى جانب المجاهدين والمناضلين المسلمين الفقراء هذا الإسلام الحي الذي عرف كيف يلقِّن معنى الشهادة لآلاف الرجال المؤمنين في شتى أنحاء العالم، فإن قوة عالمية جديدة لا تقهر ستولد في العالم».

هذا هو الإسلام المعاصر الذي يقف بوجه القوى المستكبرة المعتدية والغاصبة ويحث الآخرين على ذلك. لذا فإن كيان الاستعمار العالمي مهدَّد بخطر التقويض والانهيار التام، ورغم أن هؤلاء لم ولن يتوانوا عن أي جهد لمقارعة هذا الإسلام والحؤول دون انتشاره الا إن العاقبة ستكون له حيث قال عز وجل: (ليظهره على الدين كله).

وكما يقول الشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر:

«إن الإسلام الذي حجره الاستعمار عسكرياً وسياسياً في قمقم ليصبغ العالم الإسلامي بما يشاء من ألوان، قد انطلق من قمقمه في إيران فكان زلزالاً على الطغاة ومصالح الاستعمار وقاعدة لبناء الأمة من جديد».

إن الإسلام المعاصر يقود اليوم الشعوب في سبيل الوعي والصحوة والحرية والانعتاق حتى لا تتمكن القوى الشيطانية من تكبيلها وتقييدها بالسلاسل ونهب ثرواتها. أي أن الثورة الإسلامية في إيران أحيت في الحقيقة الثقافة والحضارة الجديدة ونشرت أنوار الوعي واليقظة في كل مكان، وكما يقول أحد علماء ومفكري السودان «أنه بنجاح الثورة في إيران بدأ الإسلام دورة حضارية جديدة».

ص: 201

إن الفكر والثقافة الإسلامية كانت قد أشبعت بحثاً وتحليلاً خلال قرون طويلة، ولكنها ظلت حبيسة الكتب، أي أن العالم لم يكن يعرف الكثير عنها، بل أن أغلب المسلمين كانوا يجهلونها، وحتى لو عرف عنها البعض فإنه لم يكن يصدِّق بإمكانية تطبيق هذا الفكر، إلا أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران حوّل هذا الحلم إلى حقيقة وأثبت أن الثقافة الإسلامية هي ثقافة بني الإنسان ولا تعرف الحدود.

إن الإسلام المعاصر هو الإسلام الحي الناشط الذي يبشر بالحياة الإنسانية المشرفة ويحمل معه ندّاءات الحرية والاستقلال لذا فقد تفاعلت مع هذا الإسلام مختلف شعوب العالم واستلهمت منه روح الصمود والمقاومة والثورة.

إن أفضل مثال على الإسلام المعاصر وقوته المعنوية والسياسية يتمثل في نداء الإمام الراحل (قدس الله سره) إلى الزعيم السوفييتي السابق غورباتشوف، الذي تضمن دعوة صريحة للشرق الاستعماري الملحد إلى الإسلام المعاصر والنيِّر، حيث حمل ذلك النداء التاريخي أحد الفقهاء والفلاسفة الكبار على رأس وفد رسمي والتقى بزعيم إحدى القوتين العالميتين آنذاك في موسكو وتلى أمامه نداء الإسلام المتضمن نبوءة الإمام بقرب انهيار الشيوعية حيث جاء فيه:

«لقد اتضح للجميع أن البحث عن الشيوعية ينبغي أن يتوجه من الآن فصاعدأ إلى متاحف التاريخ السياسي العالمي».

وسرعان ما تحققت نبوءة الإمام وانهارت صروح الشيوعية وأعيدت الحياة ثانية إلى الجمهوريات الآسيوية المسلمة بعد عشرات السنين من القهر والاضطهاد والحرمان، وفي الحقيقة لا بد من القول أن الإسلام المعاصر الذي دعا إليه الإمام الراحل (قدس سره) هو الإسلام المحمدي الأصيل.

الغزو الثقافي الغربي ضد الاسلام المعاصر:

في الوقت الذي أوجد الإسلام المعاصر صحوة بين المسلمين وجعل قلوب المحرومين خاصة تنقاد إليه وتدافع عنه بشتى الأساليب فإن المستكبرين والسلطويين من جانبهم عقدوا العزم على مواجهة هذا المارد الكبير لأنهم يعرفون أن زمام الأمور لو سُلمت للإسلام المعاصر لأدى ذلك إلى أن تحكم الشعوب نفسها وينتهي إلى الأبد تسلطهم اللا قانوني واللا مشروع على مقدرات الشعوب العالمية. لذلك فإنهم وبعد أن جربوا أنواع المؤامرات والدسائس منها حرب

ص: 202

الثمانية أعوام التي فرضت على الثورة الإسلامية وصلوا أخيراً إلى هذه النتيجة وهي أنه لا يمكن القضاء على الثقافة إلا بالغزو الثقافي ولا يمكن إسقاط حكومة أقيمت على أساس ثقافة ما إلا بعد القضاء على هذه الثقافة.

لذلك فإنهم بادروا إلى محاربة هذه الثقافة قبل أي أمر آخر وأثاروا بهذا الشأن قضية المرتد سلمان رشدي وكتابه الشيطاني واستغلوه للبدء بحرب جديدة ضد الإسلام وثقافته الأصيلة.

قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان المستشرقون والخبراء الغربيون بشؤون الإسلام يضمِّنون مؤلفاتهم التي يكتبونها حول الإسلام عبارات ثناء وإطراء ظاهري للإسلام رغم أنهم كانوا يهدفون من وراء مثل هذه المؤلفات إلى تحقيق أهداف استعمارية خبيثة. إلا أنه بعد انتصار الثورة الإسلامية وترسيخ قواعدها في إيران غيّر هؤلاء المستشرقون وعملاء الغرب أسلوبهم في الكتابة وعمدوا إلى أساليب الكذب والاستهزاء والسخرية لإضعاف أسس هذه الثقافة الإلهية في القلوب والأفكار وبالتالي تجويف المسلمين الثوريين من الداخل وإفسادهم ودفعهم لكي يفتحوا الأبواب بأيديهم أمام الأعداء ويستسلموا عملياً لأهدافهم الخبيثة ويُذعنوا لحكمهم الجائر، وهذه النقطة تعتبر في غاية الأهمية وينبغي للباحثين والمحققين والمؤلفين أن يدرسوها من كافة جوانبها ويُشبعوها بحثاً وتحقيقاً.

على أية حال فإن بريطانيا الاستعمار العجوز تقدمت الباقين في هذا الغزو الثقافي حيث استخدمت كاتباً مرتداً لتنفيذ مآربها الخبيثة ووفرت له كافة أشكال الدعم والحماية تكريماً له على هذه الخيانة الكبرى للإسلام الأصيل.

إن هذه الخطوة تثبت بوضوح أن الأعداء بدؤوا حرباً ثقافية كبرى ضد الإسلام المعاصر وهم لجؤوا إلى هذا العمل الخطير بعد أن يئسوا من إسقاط الثورة الإسلامية في إيران بعد سلسلة من الإقدامات التي استهدفوا من ورائها تشويه الصورة الإسلامية للثورة ومسخ الأفكار العالمية وجرّ الأذهان نحو الانحراف، لذلك هاجموا بشكل مباشر الإسلام النقي الأصيل الذي يشكل هوية وأساس الإسلام المعاصر والثورة الإسلامية واستفادوا من العديد من الأقلام المأجورة من أمثال سلمان رشدي المرتد والكاتب اليهودي (غولد زيهر) وغيرهم من العملاء.

هذا وإن العالم الإسلامي أجمع والعلماء والكتّاب المسلمين بشكل خاص تقع عليهم

ص: 203

مسؤولية تعريف العالم بالإسلام الأصيل ومصادره وأهدافه الحقة ولا بد لهم أن يسعوا في هذا الطريق أكثر من أي وقت مضى حتى نتمكن من مواجهة الغزو الثقافي الخطير الذي تتعرض له أمتنا الإسلامية حالياً وتعريته وإلحاق الهزيمة الساحقة به إن شاء الله.

مكانة نهج البلاغة في الفكر الاسلامي المعاصر:

بعد أن بحثنا في (الإسلام المعاصر) وفكره الأصيل المنقذ للبشرية من السقوط والداعي إلى إيجاد مجتمع إنساني حر ومستقل في ظل مدرسة الوحي الإلهي، والذي تحقق في إيران الإسلام من خلال إقامة حكومة العدل، وتطرقنا إيضاً إلى المؤامرات التي تُحاك حالياً ضد ثقافتنا الإسلامية الأصيلة نصل إلى موضوع دراستنا هذه.

لا بد من الإشارة هنا إلى هذه النقطة وهي أن كلمات وخُطب جميع الأئمة (عليهم السلام) تنبع من مصدر واحد وترتبط بمدرسة الوحي والإلهام الإلهي، ولا يمكن الفصل والتفريق بينهم حيث كانوا جميعاً في قمة العلم والقيادة إلا أن الظروف والمكانة السياسية والاجتماعية لكل إمام لعبت دوراً كبيراً في إظهار علومه ومعارفه.

والنقطة الملفتة للأنظار تتمثل في الفترة الزمنية التي تعود إليها خُطب (نهج البلاغة) حيث كان أمير المؤمنين علي (علیه السلام) على رأس الحكومة الإسلامية وكان يتحدث في شؤون السياسة والمجتمع وقضايا مهمة تخص الناس والعلاقات بين أبناء الأمة الإسلامية.

ولأن التاريخ يتكرر، فإن عالمنا المعاصر يمر بظروف تشبه عصر الإمام علي (عليه السلام) وهناك في الساحة أنصار وأعداء للرسالة الإسلامية كما كان عليه الوضع آنذاك، لذا فإن نهج البلاغة يتميز بمكانة مهمة في الفكر الإسلامي المعاصر بحيث أنه لا غنى عنه لأي إنسان يعيش في عالمنا.

في الحقيقة، وبغض النظر عن مسألة ارتباط الإمام علي (عليه السلام) بالرسول الأعظم وكسب العلوم كافة منه باعتباره معلمه الأول، فإن خُطب وكلام أمير المؤمنين (علیه السلام) يمكن أن يكون لها مكانة علمية وعملية سامية في عالمنا المعاصر باعتبارها تعبِّر عن فكر إسلامي أصيل ومتفاعل مع الحياة، وهذا ما حدث فعلاً حيث كان لهذا الكتاب القيِّم دور كبير في حدوث (الصحوة الإسلامية) المعاصرة واجتذاب الناس نحو الإسلام الثوري المعاصر.

إن نهج البلاغة يتميز بمستوى عالٍ من حيث المضمون السياسي والاجتماعي

ص: 204

والعرفاني وهو ما يحتاجه الناس في هذا العصر وهم يعبرون عن مدى تعلقهم وحبهم له. أي أن الإمام علياً (علیه السلام) في الحقيقة يختزن في (نهجه) كلاماً لأبناء عصرنا الذين يتفاعلون مع هذا الكلام على مختلف مذاهبهم الفكرية والاجتماعية لأنه يتضمن أنواراً ترشد الناس إلى الطريق الأمثل في الحياة.

إن نهج البلاغة هو النبع الفيّاض لعلم الحياة والهادي للإنسانية والمُغذي للروح البشرية في أكثر أبعادها أصالة والمتمثل بالبعد العرفاني وارتباط الإنسان بالله (جل وعلا) وبعبارة أوضح فإن نهج البلاغة يعبِّر عن روح الإسلام المعاصر.

ويقول الآلوسي: «إن نهج البلاغة المتضمن خطب علي بن أبي طالب هو انعكاس عن نور الكلام الإلهي والشمس التي تتلألأ بفصاحة المنطق النبوي» (1).

ويقول المرصفي أيضاً: «إن نهج البلاغة هو المثال الحي عن نور وحكمة وعلم وهداية وإعجاز وفصاحة القرآن وإن هذا الكتاب يتضمن حِكم متعالية وقوانين سياسية ومواعظ لامعة لا تُشاهد في كتب الحكماء الكبار والفلاسفة المشهورين والعلماء النوابغ» (2).

وكتب الدكتور زكي مبارك قائلاً: «اعتقد أن مطالعة كتاب نهج البلاغة تقوي في الإنسان روح الشهامة والرجولة وعظمة النفس لأنه صادر من روح قوية كانت تقف بوجه الصعوبات بهمة وشجاعة الليوث» (3).

ويقول الأستاذ أمين نخلة: «من يريد أن يعالج أمراض نفسه عليه أن يلجأ إلى خطب الإمام في نهج البلاغة، حتى يتعلم طريق السير في ظل هذا الكتاب» (4).

واليوم فإن أصداء (نهج البلاغة) تملأ الخافِقَين، وأينما حلت أنواره اجتذبت إليها العقول والأحاسيس. لنقرأ بهذا الشأن ما كتبه الدكتور الأستاذ عبد الرحمن مدير الجمعية الإسلامية المجرية حيث يقول:

«في عام 1986 أهداني مسؤول إيراني نسخة من كتاب نهج البلاغة، وكنت أرغب في أن أعرف محتواه كأثر إسلامي مدون. وبعد أن قرأته وجدته أثراً فلسفياً غزيراً بالحِكم النابعة من أحد كنوز الإسلام، وحينها عرفت الإسلام إلى حدٍ ما وأدركت عظمته أكثر، والآن أدافع عنه في أي محفل يتعرض إليه وأقول لا وجود للسنة والشيعة كلنا مسلمون وإخوة متحابون ولا بد أن نحافظ معاً على الإسلام هذا الكنز الإلهي الثمين» (5).

ص: 205


1- مصادر نهج البلاغة / ص 98.
2- مصادر نهج البلاغة / ص 98.
3- مصادر نهج البلاغة / ص 100.
4- مصادر نهج البلاغة / ص 100.
5- صحيفة (كيهان فرهنكي) العدد 95 / شباط 1993م.

نهج البلاغة في الجامعات:

من المراكز العلمية التي دخلها (نهج البلاغة) في العقد الأخير واهتُمَّ به تدريساً وتعليماً هي الجامعات التي تمثل مركز إعداد وتربية عقول الشباب والطلبة في عصرنا. حيث يُدرَّس كتاب نهج البلاغة اليوم في الجامعات الإيرانية وبلدان عالمية أخرى، مثل الهند التي تجري الاستعدادات حالياً في جامعة حيدر آباد لتدريسه في مرحلتي الماجستير والدكتوراه. فضلاً عن جامعة (عليكرة الهندية) التي نشر أحد أساتذتها وهو الدكتور شاه وسيم عدة مقالات وكتب وألقى العديد من المحاضرات في هذا المجال.

كذلك فإن نصوصاً من نهج البلاغة يُستفاد منها من قبل أحد أساتذة كلية الآداب في جامعة دمشق الذي له عدة مؤلفات قيمة حول هذا الكتاب والذي يُشارك في هذا المؤتمر.

أما في إيران الإسلام فإن نهج البلاغة يُدرَّس بشكل أوسع وأشمل في الجامعات الإيرانية، حيث درّست شخصياً هذا الكتاب في مرحلتَي الماجستير والدكتوراه، كذلك فقد أرسلت العديد من الرسائل الجامعية المؤلفة حول نهج البلاغة إلى مؤسسة نهج البلاغة التي افتخر بمسؤولية الإشراف عليها لدراستها وتقييمها حيث أشير أدناه إلى عناوين وأصحاب بعض هذه الرئاسل:

1-رسالة بعنوان (المنهج التربوي في نهج البلاغة)، إعداد محي الدين فضل الله، إشراف: الدكتور محمد كاظم مكي والدكتور يوسف فران / كلية التربية-الجامعة اللبنانية.

2-رسالة بعنوان (التربية في نهج البلاغة)-جامعة إعداد الأساتذة الجامعيين في طهران.

3-عدة رسائل جامعية حول الأبعاد المختلفة لنهج البلاغة، أرسلت إلينا للدراسة والتقييم من قبل جامعة إعداد المعلمين ومجمع الآداب والعلوم الإنسانية الجامعي وكلية التربية وعلم النفس وكلية العلوم التربوية في جامعة طهران، بالإضافة إلى عدة رسائل دكتوراه في موضوع (التربية بروايات المعصومين عليهم السلام).

نهج البلاغة في المؤتمرات والمحافل العلمية:

يُستفاد من نصوص نهج البلاغة في المؤتمرات العلمية التي تعقد في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتُدرس هذه النصوص من قبل الباحثين والمحققين. فمثلاً في المؤتمر الدولي للاقتصاد

ص: 206

الإسلامي الذي عقد في أيلول 1988 من قبل مؤسسة البحوث الإسلامية التابعة للروضة الرضوية المقدسة في مدينة مشهد قُدمت دراسة علمية مهمة من قبل الأستاذ محمد هادي عبد خدائي بعنوان (السياسات المالية في خطب أمير المؤمنين علي (علیه السلام)).

كذلك تستفيد المؤسسات الإدارية في الحكومة الإسلامية الإيرانية حالياً من (نهج البلاغة) كمصدر للتشريع الإداري وسنّ القوانين والتعليمات الإدارية.

وقد أصدرت منظمة الشؤون الإدارية والوظيفية في الجمهورية الإسلامية كتاباً ضمّنته مجموعة من الإرشادات الإدارية وتصنيف الوظائف في الحكومة الإسلامية وذلك بالاقتباس من (عهد الإمام علي (علیه السلام) إلى عامله في مصر مالك الأشتر).

ترجمة نهج البلاغة إلى اللغات العالمية المختلفة:

بُذلت إلى الآن جهود كبيرة من قبل الأساتذة والعلماء لترجمة كتاب نهج البلاغة إلى اللغات العالمية المختلفة وذلك بهدف توسيع دائرة الاستفادة من هذا المؤلَّف القيِّم، وكانت أكثر هذه الجهود نابعة من رغبة جماهيرية واندفاع ذاتي، نشير أدناه إلى جوانب من هذه الأعمال:

1-تمّت ترجمة (الكلمات القصار في نهج البلاغة) إلى اللغات: الانجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية.

كما تُرجمت مقدمته إلى 21 لغة عالمية هي:

الفارسية والانجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والتركية الاسلامبولية والسويدية والسواحلية والأرمنية والآشورية والروسية واليوغسلافية واليابانية والعبرية والكورية والأندونيسية والبرتغالية والأردية والصينية والاسبانية.

2-تمّت ترجمة كتاب (عشر كلمات من نهج البلاغة) من الفارسية إلى اللغات المذكورة في النقطة الأولى بالإضافة إلى اللغات الآتية:

الهندية والبنغالية والبلغارية واللاتينية والأفغانية والكردية والكيلكية والتركية الآذرية والفلبينية واليونانية والزرادشتية والتايلندية والباسكية والفنلندية والسبهانية والماليزية والتاميلية والكاتالونية والاسبرانتوية والبلجيكية.

3-ترجمة 570 كلمة من الكلمات القصار لأمير المؤمنين علي (علیه السلام) إلى اللغات: الفارسية والانجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والتركية والاسبانية والسواحلية والهوسا والروسية

ص: 207

والآشورية والصينية واليابانية والأرمنية.

إقامة عشرة مؤتمرات دولية حول نهج البلاغة:

تأكيداً لأهمية (نهج البلاغة) ودوره في الثقافة الإسلامية المعاصرة بادرت مؤسسة نهج البلاغة إلى نشر الأفكار والحِكم الواردة فيه من خلال عقد المؤتمرات الدولية العشرة التي أقيمت إلى الآن بحضور المئات من المفكرين والعلماء والباحثين من إيران والعديد من البلدان العالمية.

وقد عُقد أول مؤتمر عالمي حول نهج البلاغة في طهران في مايس عام 1981 بمناسبة الذكرى الألفية الجمع نهج البلاغة، حيث وجّه سماحة الإمام الخميني (قدس سره) نداء تاريخياً إلى المؤتمر جاء في جانب منه:

(أما كتاب نهج البلاغة المنبثق من روحه عليه السلام من أجل تعليمنا وتربيتنا نحن الراقدين في حضيض الذات والغارقين في حجاب الذاتية والأنانية، فهو بلسم للشفاء ولعلاج الأمراض الفردية والاجتماعية ...).

وأضاف سماحته مخاطباً السادة المؤتمرين بالقول:

(من المؤمّل أن تتمكنوا-أنتم أيها العلماء والمفكرون الرساليون المجتمعون في هذا المؤتمر الموقر المنعقد في ذكرى ألفية جامع نهج البلاغة-من تبيين-قدر ما تيسر-الأبعاد العرفانية والفلسفية والأخلاقية والتربوية والاجتماعية والعسكرية والثقافية وغيرها من أبعاد هذا الكتاب وأن تُعرّفوه للمجتمعات البشرية وتعرضوه عليها فهو متاع يطلبه الإنسان والعقل المنير).

قدمت خلال المؤتمر ست عشرة دراسة علمية حول المحاور الآتية:

1-الإنسان الكامل من منظار نهج البلاغة.

2-الله والعالَم والإنسان من منظار نهج البلاغة.

3-العزة والذلة من منظار نهج البلاغة.

4-الحكومة في نهج البلاغة.

5-الإمامة في نهج البلاغة.

6-الحقوق من منظار نهج البلاغة.

7-نهج البلاغة والعلم بالغيب.

8-النظرة الكونية التوحيدية في نهج البلاغة.

ص: 208

9-الطب والتطبيب في نهج البلاغة.

10-البُعد الأدبي في نهج البلاغة.

11-بيت المال في نهج البلاغة.

وقد ألقى قائد الثورة الإسلامية سماحة آية الله الخامنئي (حفظه الله) كلمة قيمة في المؤتمر حول (الحكومة الإسلامية في نهج البلاغة) وكان سماحته آنذاك يشغل منصب رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

أما المؤتمر الثاني لنهج البلاغة فقد ركز على مسائل التربية والأخلاق والسياسة والشؤون الاجتماعية في نهج البلاغة، وافتتحه رئيس مجلس الخبراء آية الله المشكيني، وقدِّم خلاله ستة عشر مقالاً تحقيقياً.

والمؤتمر الثالث ركّز حول موضوعات الحق والعدل والوحدة والناكثين في نهج البلاغة، وافتتحه آية الله مهدوي كني وقُدم خلاله سبعة عشر مقالاً وبحثاً تحقيقياً.

أما المؤتمران الرابع والخامس فقد تمحورا حول مسألة الحكومة الإسلامية في نهج البلاغة، حيث صدر كتاب يتضمن 12 مقالاً منتخباً وافتتحه سماحة القائد وألقي فيه أيضاً بحثاً لسماحة الشيخ هاشمي رفسنجاني رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران.

كذلك أقيم المؤتمر السادس لنهج البلاغة في ذكرى مرور ألف عام على وفاة العلامة الشريف الرضي جامع نهج البلاغة، حيث ألقيت فيه العديد من المقالات والدراسات وطُبعت المقالات العربية في مجلة (تراثنا) العدد الخامس السنة الأولى عام 1406 للهجرة ومنتخبات من المقالات الفارسية في الكتاب السادس الذي صدر عن المؤتمر حيث تضمن 21 مقالاً وعدة قصائد شعرية.

أما المؤتمر السابع فقد افتتحه سماحة رئيس الجمهورية الإسلامية وتركز حول الإدارة الإسلامية في نهج البلاغة وألقيت خلاله 23 مقالاً تحقيقياً فضلاً عن عقد عدة ندوات تخصصية، وقد ركز المؤتمر الثامن حول نفس المحور وافتتحه آية الله السيد موسوي أردبيلي.

وأخيراً أقيم المؤتمران التاسع والعاشر لنهج البلاغة خلال العامين الماضيين بمشاركة المئات من الباحثين والمحققين من داخل الجمهورية الإسلامية وخارجها.

ص: 209

مشروع تحقيق وتصحيح نهج البلاغة:

بعد أن أشرنا إلى الأبعاد المختلفة لانتشار مفاهيم (نهج البلاغة) في عالمنا المعاصر، نشير فيما يلي إلى ما تحقق حتى الآن في مجال دراسة وتحقيق وتصحيح النص الأصلي لنهج البلاغة بالأساليب العلمية الحديثة المتبعة في بلدان العالم المتقدمة ... حيث أنجزنا ولله الحمد مشروعاً كبيراً تمثل بتحقيق وتصحيح وتنقيح كتاب (نهج البلاغة) بفضل جهود مباركة بذلها عدد من الأساتذة والمحققين والباحثين.

من المعروف أن عملية إسناد الكتاب إلى مؤلفه ومطابقته مع النسخ الخطية القديمة تعتبر من أول أصول الدراسات العلمية للنصوص ولا بد أن تنفذ هذه العملية قبل أي خطوة أخرى.

وهنا نشير إلى ما تحقق بهذا الشأن فيما يخص كتاب نهج البلاغة.

كما تعرفون أن نهج البلاغة يُستفاد منه منذ أكثر من ألف عام في المكتبات والمراكز العلمية الإسلامية والعالمية، ودُرِّس وشُرح وتُرجم مراراً من قبل العلماء والمحققين فضلاً عن استنساخه وتنقيحه.

بالطبع فإن الاعتبار العلمي لهذا الكتاب نابع عن عدة عوامل بالإضافة إلى كونه يتضمن كلام الإمام علي (علیه السلام) وخطبه وهي تثبت صحة نسبه إلى مؤلفه، ومن هذه العوامل هي الإجازات التي صدرت من جامعه لعدد من الأشخاص الموثقين حيث أجيزوا لمهمة روايته، وقد وردت أسماء ثمانية من الأشخاص الذين أجيزوا لهذه المهمة في مقدمة كتاب نهج البلاغة المحقق والمصحح الذي أصدرته مؤسستنا وأول هؤلاء هي (السيدة تقية) بنت السيد مرتضى علم الهدى التي درست نهج البلاغة عند عمها (السيد الرضي) جامع (نهج البلاغة)، حيث كان السيد الرضي يدرِّس هذا الكتاب في أيام معينة ويحضر دروسه عدد كبير من الطلاب.

من العوامل الأخرى التي تزيد من الاعتبار العلمي لهذا الكتاب هو وجود النسخة الخطية المكتوبة بخط جامعه التي كانت موجودة في بغداد حتى القرن السابع الهجري وذكرها في شروحهم مجموعة من العلماء منهم ابن ميثم البحراني وباقي علماء القرنين السادس والسابع الهجري مثل قطب الدين الراوندي وقطب الدين كيذري وعلي بن ناصر السرخسي.

كما نُقل عن المرحوم العلامة الأميني أنه شاهد نسخة خطية من نهج البلاغة في سوق

ص: 210

بغداد كتبت في عهد جامعه بخط السيد مرتضى علم الهدى وأنه لم يتمكن من شرائها لغلاء سعرها.

وبعد حدوث التقدم الصناعي والتكنولوجي في مجال طبع الكتب ظهرت في الأسواق العالمية طبعات عديدة لنهج البلاغة وعليها شروح وتصحيحات متعددة.

لقد طُبع نهج البلاغة عشرات المرات في إيران وباقي البلدان، إلا أنه لم تكن هناك نسخة منقّحة ومصححة تقبل بها المراكز العلمية المعروفة وتقرّها رسمياً. لذا فقد تعهدنا في المؤسسة مهمة إنجاز هذا المشروع التاريخي الكبير وبدأنا مشروعاً تحقيقياً جماعياً اشترك فيه عدد كبير من المحققين والمصححين وذوي الاطلاع والتجربة الكافية في هذا المجال.

وقد عقدنا عدة اجتماعات عمل وتحقيق واستشارة مع العديد من العلماء والخبراء وخرجنا بعدة نتائج عرضت في اللجنة العلمية العليا في المؤسسة التي صادقت عليها ومن ثم بدأنا العمل بعد التوكل على الله المنّان.

اضطلع أحد المحققين الكبار بمهمة تطبيق نص نهج البلاغة مع النسخ الخطية القديمة المتوفرة والمعتبرة وبعد مدة طويلة نسبياً انتهينا من هذه الخطوة.

وقد اعتمدنا في التصحيح والتحقيق على النسخ الخطية الآتية:

1-النسخة الخطية الموجودة في مكتبة آية الله العظمى المرعشي (قدس سره) في مدينة قم وهي أقدم نسخة موجودة.

2-النسخة الخطية الموجودة في مكتبة فخر الدين نصيري (دُونت عام 494) للهجرة).

3-النسخة الخطية الموجودة في مكتبة (ممتاز العلماء لكهنو) (دونت عام 510 للهجرة).

4-النسخة الخطية الموجودة في جامعة عليكرة في الهند (دُونت عام 538 للهجرة).

5-النسخة الخطية لمكتبة مدرسة نواب في مدينة مشهد (دونت عام 544 للهجرة).

6-النص الأصلي لشرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي، وعنوانه (منهاج البراعة) (عام 652 للهجرة).

7-النص الأصلي لشرح نهج البلاغة لقطب الدين كيذري، وعنوانه (حدائق الحقائق) (ويعود لعام 635 للهجرة).

ص: 211

8-النص الأصلي لشرح نهج البلاغة لعلي بن ناصر سرخسي الذي عاش في القرن السابع الهجري.

لحسن الحظ لم يُشاهد اختلاف أساسي في النسخ الخطية المذكورة، وإن وجد اختلاف فيعود إلى القرون اللاحقة وكانت مُغرضة على الأغلب.

بعد إنهاء هذه المرحلة بدأت المرحلة الثانية، حيث قام مجموعة من المحققين بدراسة وتقييم الكتاب ثانية وذلك بمراجعة المصادر المتعلقة بالموضوع وأعيد النظر في الكثير من الاستنباطات والانتخابات السابقة وأجريت نقاشات عديدة حتى تم التوصل إلى الصيغة النهائية التي تراعي أيضاً رأي المصحح.

وفي هذه المرحلة تفضل آية الله الخزعلي عضو مجلس صيانة الدستور وحافظ كل (نهج البلاغة) بمراجعة جميع فصول الكتاب وتعاون معنا أيضاً في هذه المرحلة المحقق الأستاذ علي أكبر غفاري. بعد إنهاء هذه المرحلة بدأت المرحلة الأخيرة حيث قام أحد أساتذة الأدب العربي الكبار بمراجعة نص الكتاب وثبّت ملاحظاته الأدبية والقواعدية متبعاً أحدث أساليب التنقيح المتبعة عالمياً وقد نفذنا أغلب ملاحظاته ونأمل أن نوفق في الطبعة الثانية في الأخذ بجميع تلك الملاحظات.

أخيراً ندعو الله جل وعلا أن يتقبل منا هذا العمل المبارك ويوفقنا في خدمة الإسلام الأصيل إنه سميع الدعاء-والسلام.

الحواشي:

(1) مصادر نهج البلاغة / ص 98.

(2) مصادر نهج البلاغة / ص 98.

(3) مصادر نهج البلاغة / ص 100.

(4) مصادر نهج البلاغة / ص 100.

(5) صحيفة (كيهان فرهنكي) العدد 95 / شباط 1993م.

ص: 212

نهج البلاغة وأثره في الأدب العربي

الأستاذ سليمان كتاني

إن النطاق فخم وجليل في إقامة المستشارية الإسلامية الإيرانية في دمشقنا الأسدية احتفالاً بذكرى ميلاد رجل عظيم لايني مغموراً بأوشحة السناء، ومؤتمراً أضفي عليه هذا العنوان:

- مؤتمر نهج البلاغة والفكر الإنساني المعاصر-

ولقد أسرعت المستشارية الكريمة بتغليف الإمام علي بنهج البلاغة معرفة عن الإنتاج العظيم بأنه بحر فكري زاخر عزيز الشواطىء ووسيع الحدود.

ص: 213

ولقد بادرت المستشارية المحترمة إلى تعريف عن بعض هذه الشواطىء المفتوحة الآفاق تحت عناوين عشرين مربوطة ببطاقة الدعوات أرقم بعضاً منها، للدلالة إلى عمقها واتساع حواشيها:

نهج البلاغة وأثره في الأدب العربي

الأخلاق والتربية والتعليم

مفاهيم الحق والباطل

البلاغة والحكمة والفلسفة

الإدارة والحكم وصفات الحاكم

حقوق الإنسان

العبادة والتوحيد الإلهي والتقوى والزهد

وهكذا فإن المستشارية المنهمكة بشؤون الفكر والروح في وجود الإنسان، تكون قد دعتنا جميعاً، بأفكارنا وقلوبنا، وأقلامنا وأشواقنا، وكل تعطشاتنا إلى المناهل، ليكون لنا اصطفاف مشهَّى حول موائد سخية منوعة الأناويه ومعددة الأطايب يقسطها علينا رجل-منا-عظيم وبهي وسخي اسمه علي ونهجه بليغ عبقري، وبحره واسع ممدود وفكره ملم بطاقات الروح، ومطل على انفتاحات رخية، إذ ما يشتمل بها الإنسان، يتنزه ويترفع إلى سماك، ويتمنطق بوعي مطهر يبني به خلاياه الشريفة فوق الأرض وتحت أفياء النجوم.

وهكذا يتضح من بسطة العناوين الكبيرة أن الإمام علياً-كرم الله وجهه السني-قد شدد إنتاجه الثمين المسكوب في نهج البلاغة بكل ما يتناول الأمة مجتمع من قضايا فكرية وروحية وفلسفية، واقتصادية وسياسية واجتماعية وتربوية مناقبيّة، وإنه بالتالي، ملم بها إلماماً وسيعاً ومركزاً على بعد إنساني-وجداني-حضاري، لا تتحق مرتقية إلّا به مجتمعات الإنسان.

ليس في نهج البلاغة إلا مادة وحيدة هي قضية المجتمع الإنساني. أما المجتمع الإنساني هذا فهو انطلاق من إسار الغرائز وتخبطاتها البهيمية الجاهلية، إلى تحقيق وجداني مميز، يجلوه ويتطور به وعي متدرج إلى تفهم الحق الإلهي الذي هو ضمير الحياة الخالد، من أجل استمرارية المجتمعات البشرية في تلوين السعادات الروحية المزروعة في أشواق الإنسان وتطلعاته الأنيقة.

ص: 214

مادتان-فقط-يحتويهما نهج البلاغة: مادة أساسية جذرية هي الإنسان يجبله الله من حنين الأرض، وتماوجات الضياء، وينفخ فيها نسمة الروح، ومادة تعهدية هفهافة المهامس، تكفكف الإنسان في توضيبه المجتمع الحي.

أما الكتاب كله في امتداد صفحاته وانفتاح ذمتيه فهو كناية عن تداخل مواج بين مساحات ومسافات يتأنق فيها الفكر ويعمق بها الوجدان.

ولكن المساحات هذه وإن تكن مشغوفة بالمسافات، فإن المواد التي تعبئها لا تعدو كونها معدودة على أصابع الكف يدرجها العقل المنيع، ويرصفها الفن البديع، ويوضبها الأسلوب المفصَّح، ويلونها النهج البليغ الحق فيها هو الركن الوسيط، والعدل هو الضلع الشفيع، والمساواة هي فهرمانة الدار توزع الزاد المطهر على الأفواه المصلية لساكب التنزيل في حروف السور-أما موضوع البحث فإنهنَّ المحبكات الصائغات رصات المجن: التقوى والزهد والعفة ونظافة العين وطهارة الكف، واستقامة الخطوات إنها كلها المجدولة في بناء هيكلية الإنسان، وهي كلها المصبوبة وعياً جماعياً ثقافياً نجياً، يتفرغ لتوطيد مجتمع الإنسان.

تلك هي المواد المسكوبة في السفر النفيس-إنها فلسفة علي في نظرته إلى الدنيا تؤنِّق موائدها نسمات الحياة إن المثل الكريمة المحلى بها ذهنه الراسخ، ولا يستنبتها إلا الإيمان بارى الأكوان هي التي تبني مجتمع الإنسان-وأن الحق الإلهي هو في توزيع المصافي على مفارق الدروب، تنظف مناهل الإنسان وتجمعه إلى ذاته الكريمة.

سيكون الإمام علي-وهو ينزل ذاته كلها في نهج البلاغة-تمثيلاً جامعاً لكل المزايا، والصفات والمناقب، ولكل ملاقط العقل والروح في منازع الإنسان، وسنكون نحن-بدورنا-ملحومين حول موائده الثرية، نتناول منها إصابات بليغة في التسديد عن كل موضوع يطرح علينا، سيكون لكل عنوان دبجته المستشارية الكريمة مجال مستفاض به.

- فالأخلاق والتربية والتعليم الصحيح، أين لا تشع بها الآيات في نهج البلاغة؟

- ومفاهيم الحق ومزالق الباطل، أين ومتى لا يسمو بها تقديس الحق؟ وأين ومتى لا يقذعها ذم الباطل في نهج البلاغة؟

- وآفات المجتمع وعلاجاتها، هل لنا أن نرى-في نهج البلاغة-الاصفافة وجوه الكذابين، والماكرين، والفاسقين والكافرين والعاهرين والمتسللين على حرمات الناس؟

ص: 215

- والإدارة والحكم، وصفات الحاكم هل تركهم الإمام وحدهم يصولون ويجولون، ويرفعون فوق أكتاف العباد؟ ألم يسددهم بالمواعظ، ويلملمهم بالرشاد؟ ألم يمسحهم بأطياب الحق، ويشوه وجوههم إذ يرتكبون الفحشاء ويتلوثون بالمظالم؟

- والعبادة والتوحيد الإلهي، والتقوى والزهد في نهج البلاغة أي حرفٍ من تراكيب نجاواه خلامن صنوف العبادة؟ وأي ثوب ترداه بدنه لم تغزل خيطه كف العبادة؟

وأي رغيف قده من طحينه لم تعجنه العبادة؟

وأي دنيأ تلمسها بغير همسات العبادة؟

وأي رصف وأي وصف وأي بيان، لم يزدن بآيات الشهادة؟

- والبلاغة والحكمة والفلسفة، في نهج البلاغة؟

أي ثوب هو الهفهاف، وقد طرزه علي بغزارة مشقوقة من الضفاف المرصعة بالزمرد والمبللة بزلال الكوثر، والمطيبة بأنفى ما أنتجت الأرض من مر ولبان، وأنزل فيه سيدة العرس، وهي الهابطة من علياء الجنان في أذنيها قرطان صاغتهما الحكمة من تطواف الروح عبر مشاهداتها السنية، وفي عينيها أبهاء مرمية الحدود تجمعت إليهما من شموس أزلية فجرها رب مخلق في فلسفة إنقاذ الوجود من طيات العدم.

- إنها عروس علي وسماها البلاغة-

ليتنا نتمهل قليلًا عن الكلام حتى نلثم غزارات الإمام تتناثر منها حبات اللؤلؤ التي تتوهج بها وتتبرج وجنتا عروسه وهي البتول والعذراء المتلفعة بالطهر، والزهد، وكل أناقات الحرف، وكل بلاغات السور-إنها أفاويهه في مجاني العمر، وإنها ألوانه في تدبيج الصور. فلنجدل منها وشاحات وشاحات تعبر بها منه إليه في اقتضاب المثل المشهات، فنبني بها مداميك الجمال في مجتمعنا الإنساني المشتاق تحقيق الصفاء وتحقيق الرخاء، وتحقيق الرجاء.

ها هو هنا وها هو هناك ترذنا من معاطفه السماء:

- ما كتمتُ وشحة ولا كذبت كذبة

- إلا وأن الخطايا خيل شمس، حمل إليها أهلها

وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار.

- الا وأن التقوى مطايا ذلل حمل إليها أهلها فأوردتهم الجنة.

ص: 216

- والدنيا دار مني لها الفناء، ولأهلها منها الحلاء.

وهي حلوة نضرة وقد عجلت للطالب والتبست بغلب الناظر.

فارتحلوا عنها بأحسن ما يحضركم من الثراء.

- والله-لا تراه العين بمشاهدة-ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان.

- ليس شر من الشر إلا عقابه-وليس خير من الخير إلا ثوابه.

- بادروا أجالكم بأعمالكم-والأجل مساق النفس والهرب منه موافاته.

- لا تدخلوا بطونكم لعق الحرام.

- ضع فخرك-واحطط كبرك-واذكر قيرك فإن عليه ممرَّك.

- طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.

- أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟

- إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره.

- إياك واتكالك على المنى فإنها بضائع الموتى.

- إياك تجمح بك مطية اللجاج.

- من تعدى الحق ضاق مذهبه.

- وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر.

- لا تندمن على عقد ولا تبجحن بعقوبة.

- إياك ومصاحبة الفسَّاق فالشر بالشر ملحق.

- احذر الغضب فإنه جند عظيم من جنود إبليس.

- العلم وراثة-والآداب حلل مجددة، والفكر مرآة صافية.

- من كفارات الذنوب إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب.

- المرء مخبوء تحت لسانه.

- كل نفس بما كسبت رهينة.

تمهلنا قليلاً وما قللنا من وجبة الاستعراض، فالرجل الذي تندبنا بلثم بناناته هو منا في الأفق الكبير-إنه سيد من أسياد الفصاحة، وإنه قطب سني في أفق البلاغة، لا يتناول معنى من معاني الفكر، ولا ومضة من ومضات الروح إلا مصبوبة في وشماتها، فأين هي تراكيب جمله

ص: 217

لا ترتقص بمداليلها الفكرية والفلسفية والروحية، سواء بسواء؟ أليس هو العبقري الفائض في امتيازاته البهية؟ أليس هو الشخصية الفذة المؤتلقة قبل تنوعات المواهب؟ أليس هو البدن السليم والعقل السليم؟ تجمعت إليه صنوف المزايا، وتجذرت فيه باقات الصفات؟ فلا غرو أن نجد في نهج البلاغة ما يعكس عنه كل هذه الاشعاعات النبيلة المستريحة في سنابل الكلمات. وسنابل الكلمات هي حفلات الرقص المتلاعبة بالمباهج المفروزة في الأسلوب المنور بالأدب المزهًى، لقد سمعناه في القول: «الأجل مساق النفس» فأي جمال وأي عمق، وأي تنزيل أنيق تحمل هذه الوشحة «مساق»؟ وسمعناه يقول: «ضع فخرك، وأحطط كبرك» أليس في الفعلين الأمرين جدية تملأ الكلمتين بالفعل الناهد بهمة الروح والهازئة بالمجد الفارغ المزيف؟ وسمعناه يقول: «إنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، فأي اتساع مدهش وأي لون بكر، وأية فلسفة مفتوحة على الاقرار في هذه الكلمات الثلاثية التركيب: «يوم الخوف الأكبر»؟ وسمعناه يقول في إشارة وصفية للحرب: «إذا احمرً البأس الأحمر» فأية رمزية تعلمنا اليوم-وفي عصر الرمزيات ومزجياتها المركبة من سحب الضباب-كيف نلعب بالكلمة، فتحمِّلها سحراً وتورية، ورمزاً، أليس البأس-هنا-ميداناً من ميادين الحروب الضارية؟ تتنحر فيها الأبدان وتشوى إشلاؤها باللهيب الأحمر؟

هنالك كلمتان أخذتا مني عيني وردتا في نهج البلاغة من شرح الشيخ محمد عبده في الصفحة 193 من الجزء الثالث إنهما هكذا واردتان: «هذا الخطيب الشمشح» وكلمة «شمشح» تحمل صورتين متناقضتين في المعنى: ماهر أو بخيل ممسك ... فيا خطيبنا ما أبهاك تنشر عليك بلاغة الإمام أطياب الفهم ومهارات الخطابة. ويا آخر ما أغباه يهزؤه الغرور من فوق منبر.

ختاماً أيها السادة فلنتمنَّ على أدبنا العربي أن يتلمس روعة أركانه في الادراك: إن الفصاحة والبلاغة هما ميزان توضع في كفتيه كل المناهل وكل القيم في مجتمع الإنسان؛ فالإفصاح السليم هو المنبىء الكلمة بمعناها الصحيح، من دون ضياع، وأي تفتيش ومن هنا تأتي المعاني-كالمقاصر-محفورة في الذهن كما في كلماتها وهكذا تكون الكلمة إناء المعنى. يجدها اللسان مع لحظة بروز المعنى الخاطر في البال والحائر في الروح.

أما البلاغة فهي المسكوبة في صياغة ربط الكلمات في تأليف الجمل، عن طريق المزج

ص: 218

الأنيق المؤتلف مع المعنى وفنية الأسلوب، إنها تعهد الإبراز المشرق للفكرة المقصودة في مهمة الإبلاغ.

أما الإمام علي-الكبير والعفيف والسني-فهو ركن متين من أركان الفصاحة والبلاغة في الأدب العربي، وإنه-حتى الآن-أي بعد مرور أربعة عشر قرناً، بحر الفصاحة والبلاغة، وسيد الكلمة المنحوتة والمحفورة بازميل معناها، والحامل أفياء الفكر، وأبعاد المرامي، وعبوات الفلسفة المؤمنة بخالق الكون، وأزليات الوجود، وهي الحي الباقي في حضن ربه يوم الخوف الأكبر.

ص: 219

ص: 220

الامام علي علیه السلام وأثره في التصوف العملي

الشيخ علي خازم

اختلف المؤرخون للتصوف الإسلامي في مصادره التي انطلق منها هل هي الكتاب والسنة وسيرة الصحابة، أم هي مصادر وافدة: هندية ومسيحية ... الخ. واختلفوا في موافقة ما ذهبت إليه الصوفية للإسلام أو خروجه عنه، ومما قاسوا عليه في هذا المجال أقوال ومذاهب كان لبعضها حظ من الانتشار في المجتمع الإسلامي وبعض دون ذلك.

ولعل أبرز ما اختلف فيه في هذا المجال هو علاقة التصوف بالتشيع لعلي بن أبي طالب عليه السلام. ولئن عمل أكثر علماء الشيعة الاثني عشرية على إدانة التصوف من حيث هو طريق مخترع للسمو الروحي والعلاقة بالله عز وجل-لا من حيث غايته-فإن مذهب من رأى

ص: 221

علاقة ما بين التصوف والتشيع قد ركز على اعتبار أمير المؤمنين المعين الذي صدر عنه الصوفية في مشربهم درجة أولى ثم حاول أن يوفق بين بعض مقالات الصوفية وبين بعض مقالات الشيعة لعلي بن أبي طالب على أي نحو كان هذا التشيع.

وإذا استطعنا فهم هذا التوفيق من حيث ابتنائه على اعتبار التصوف والتشيع متقابلين كاتجاهين بغض النظر عن الاختلافات الداخلية فيهما، وهو أمر يبعد عن الموضوعية، فإننا نحتار في فهم الشدة والقسوة لدى بعض الباحثين من حيث الإصرار في اتجاههم على نفي كل علاقة لعلي عليه السلام بالتصوف ومن أن يعدَّ مؤثراً في حدوث الاتجاه الصوفي.

انتساب الصوفية لعلي عليه السلام:

إن الحكم بعدم مشروعية السلوك الصوفي يرجع إلى اعتباره تشريعاً لم يأت أصحابه بدليل عليه من الكتاب والسنة، فضلاً عما أدى إليه في مراحله المتأخرة من توهم الحلول والاتحاد، فهو إذاً اختراع محض. وهذا الاعتراض هو جوهر إشكال علماء المسلمين على الصوفية.

وإذا قبل هذا الاعتراض كمادة أساسية في نقاش دعاوى الصوفية فإننا لا نستطيع دفع جوانب أخرى ساهمت في تشكيل هذا الاتجاه الروحي بين المسلمين، ومن أهم هذه الجوانب كما يدَّعيها المؤرخون: الزهد والفتوة، وهم يعدون الإمام علياً بن أبي طالب عليه السلام رأس سلسلة إسنادهم والمؤثر الأهم، وهذا التأثير ليس محكوماً به استنباطاً فقط، بل هو مما أقرَّ به كبار الصوفية ونقل عنهم حتى اشتهر. ذكر ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة:

«ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون وقد صرح بذلك الشبلي والجنيد وسري وأبويزيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم وكونهم يسندونها إليه عليه السلام».

وكذلك في الفتوة فإننا ننقل عن ابن أبي الحديد:

«وما أقول في رجل أحبَّ كل أحد أن يتكثر به وودَّ كل أحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها «أن لا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك»، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه وصنفوا في ذلك كتباً، وجعلوا لذلك إسناداً أنهوه

ص: 222

إليه، وقصروه عليه، وسموه سيد الفتيان وعضدوا مذهبهم بالبيت المشهور المروي إنه سمع من السماء يوم أحد:

«لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي».

نعم، قد يؤخذ على الفتوة كما يؤخذ على غيرها خروجها عن الإسلام وأحكامه في موارد متعددة، ولكننا لا نرى مبرراً لمن يذهب إلى دفع الزهد العلوي من أن يكون ملهماً للزهد عند من أتوا بعده، أو فتوته عليه السلام أن تكون مصدراً للفتوة اللاحقة غير كون هؤلاء يقرؤون التاريخ محاكمين ومقدسين، وبمعنى آخر إنهم ينفون عن الصوفية والفتيان حق الانتساب لعلي عليه السلام، متناسين وجود اتجاهات منحرفة كثيرة بلغت حدِّ الغلو فيه دون أن تسيء إليه أو إلى أتباعه وشيعته المخلصين له، وقد يكون منشأ الانحراف دخيلاً على جماعة أسست في صورة معتدلة أول نشوئها.

نزاع ومحاكمة:

إننا في موضع المحاكمة لهذين الاتجاهين: الزهد والفتوة نستطيع أن ترسم حدودهما العلوية لنخرج كل الانحرافات والشطحات عن دائرة ساحته عليه السلام، ويمكن لنا أن نشكك في صحة السند المعنعن في الباس الخرقة عند الصوفية، أو إلباس السروال عند الفتيان وما إليها من تفاصيل عملية ونظرية وفي إيصال هذا الشك إلى منتهاه الاثباتي نفياً كفاية لتبوئه ساحة من يحق لهم الانتساب والتشيع لعلي مما يدعى بحقهم زوراً وجهلاً.

إن الحدة في طرفي إشكالية العلاقة بين التصوف والتشيع قد نشأت من أضرار المدعين على حمل كل ما ورد في الاتجاه الصوفي ونظرياته على مذهب الشيعة بعنوان موالاة علي مطلقاً، واقتناص أداء لم يتبنَّها أكثر من أصحابها لتكون دليلاً على ما اتجهوا إليه.

وفي المقابل استند الطرف المعترض من الاثني عشرية إلى أقوال بعض الأئمة الناظرة إلى صوفية معينة ليدينوا بها كل الاتجاه الصوفي، بل وسعى البعض إلى إرجاع الصوفية إلى المذهب السني-كما وادعى ذلك بعض السنة-ليتحمل هذه الجهة كل هفوات وأضاليل القوم.

و بين هذين ظُلم التصوف كاتجاه روحي، فلم يدرس بموضوعية من جهة غرضه، وهو بلا شك غرض سام، ومنع من أن ينظر إليه كحالة رقي روحي في مسيرة الأمة الإسلامية ومن مآثرها الحضارية. وظُلم الإمام علي عليه السلام أيضاً بمنعه أن يكون مؤثراً في هذا الاتجاه

ص: 223

الروحي بنواحيه الإيجابية الأساسية.

وفوق ذلك كله اخترعنا مجالاً جديداً لتمزيق الأمة الإسلامية من حوله.

الصوفية فرقة إسلامية أم أشخاص؟

إن أسماء بارزة في عالم التصوف الإسلامي نفسه، وفي الطرق المختلفة فيه قد رفضت ما يرفضه المحققون من علماء السنة والشيعة وذهبت إلى ما يذهبون إليه من الاقتصار على الشريعة في طريق الوصول إلى الحق وإبطال مقالات الاتحاد والحلول كما نرى في طعن علاء الدولة السمناني المعدود من مشايخ الصوفية على الشيخ محي الدين بن عربي في ما ذهب إليه من اعتبار فرعون عين الحق تعالى.

وأن بين من يتصفون بالصوفية أنفسهم تبايناً واختلافاً يكاد معه عدُّ التصوف فرقة واحدة أمراً مستحيلاً، وهذا الادعاء على أي حال لم يظهر إلا من عدد قليل فيهم منهم الرومي، ولم يقل به أحد من المؤرخين للتصوف إلا الفخر الرازي كما في كتابه اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، الباب الثامن:

«اعلم أن أكثر من حصر فرق الأمة لم يذكر الصوفية وذلك خطأ، لأن حاصل قول الصوفية أن الطريق إلى معرفة الله هو التصفية والتجرد من العلائق البدنية، وهذا طريق حسن».

وكان قد سبقه باختلاف يسير أبو المظفر طاهر بن محمد الاسفراييني في كتابه التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين حيث عدَّه من مذاهب الفرق الناجية من أهل السنة والجماعة.

التصوف إذاً حالة بين المتصوفة، إلا أن هذه الملامح لا ينبغي أن نغفل معها عن إمكانية ملاحظتهما في حالات التصوف التي ظهرت في الأديان الأخرى أيضاً.

وهذه الذاتية تلزمنا بضرورة التوقف عند آراء كل متصوف بنفسه، بل لعلنا لا نجد لواحدهم استقراراً في تعريفه لأمر ما، إذ هم كما يدعون أرباب أحوال، ومن كانت هذه حاله كيف تمكن محاكمته، فضلاً عن إمكانية افتراض نسق ممذهب، وهذا حالهم في تعريف الصوفي كما ينقله الدكتور أبو العلاء عفيفي عنهم يعطينا ما يزيد على أربعين تعريفاً فما بالك إذا وصلت نوبة البحث إلى التصوف النظري؟

ص: 224

مقام علي عليه السلام في الاتجاه الروحي تصوفا وفتوة:

إن التصوف العملي زهد وفقر وورع وعبادة وعمل وتوبة، والفتوة شجاعة وسخاء وحياء، وللإمام من هذه النصيب الأوفى بل هو المقدَّم فيها عن غيره دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما وصفه بذلك في نهج البلاغة:

«كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، وكان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد ...». وقال في شجاعته: «كنا إذا حمرَّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه». وقد دعا الإمام إلى متابعة سيرة رسول الله بقوله: «فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر صلى الله عليه وآله فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى. قضم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه، وحقَّر شيئاً فحقره وصغَّر شيئاً فصغَّره. ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظمنا ما صغرَّ الله ورسوله لكفى به شقاقاً لله، ومحادَّة عن أمر الله».

إن التصوف بما هو اتجاه روحي غرضه التقرب من المولى والاعراض عمَّا سواه حالة نفسانية، ولا بد للنفس الإنسانية من طريق مرسومة وسائق يقودها. وأن وجود الإنسان في هذه الدنيا يشتمل على وجودين مادي وروحي وهما متعلقان ببعضهما البعض، وقد بعث الله تعالى النبيين بالرسالات لتنظيم التناغم بين مقتضيات الطبيعتين المادية والروحية في مسار الوصول إلى أعلى مراتب العبادة المؤدية إلى عرفان الله حقاً، وضمن هذه الصورة لا يكون التصوف خارجاً عما أشار إليه أمير المؤمنين حين ربط الآثار الروحية بالعمل والعبادة:

«الصلاة قربان كل تقي والحج جهاد كل ضعيف ولكل شيء زكاة وزكاة البدن الصيام وجهاد المرأة حسن التبعّل».

وقال عليه السلام أيضاً في نفس المجال:

«فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر، والزكاة تسبيباً للرزق، والصيام ابتلاء لاخلاص الخلق، والحج تقربة للدين، والجهاد عزاً للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء، وصلة الرحم منماة للعدد والقصاص حقناً للدماء، وإقامة الحدود إعظاماً للمحارم، وترك الزنا تحصيناً للنسب، وترك اللواط تكثيراً

ص: 225

للنسل، والشهادة استظهاراً على المجاحدات، وترك الكذب تشريفاً للصدق، والسلام أماناً من المخاوف والإمامة نظاماً للأمة، والطاعة تعظيماً للإمامة».

إن كلام الإمام هذا يضع الفقه الذي سماه أهل التصوف علم الرسوم، في إطاره الذي أراده الله من خلق الإنسان: العبادة المفسرة بالمعرفة، وهذه المعرفة هي ما يسعى إليه الصوفية، فهذا هو إذا الطريق العلوي الذي يجمع بين ما للحق وللخلق ويوصل الإنسان إلى حالة القرب والإخلاص.

إن الاتجاه الروحي عند الإمام علي عليه السلام لم يخرجه من هذه الدنيا ولكنه كما في المنقول عنه قرضها علي منهاج المسيح عليه السلام. وهو في هذا الاتجاه الروحي لا ينكر تأثير الانشغال بالخلق عن الحق تعالى، وأن هذا الانشغال قد يخرج الإنسان عن حده فيصير حينئذ «كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقممها» سعياً بين القاذورات المتنافس فيها.

أمير المؤمنين إذاً هو تالي رسول الله صلى الله عليه وآله في قيادة الأمة في معراجها الروحي وسنتحدث لاحقاً عن خصوصيته في هذا المجال ونكتفي هنا بالإشارة إلى أنه سيعد عند الصوفية رأس السلسلة في السند المتصل برسول الله، ولكن هذا لم يمنع اتجاه قوم ممن خافوا استخدام هذا الموضوع سياسياً ومذهبياً أن يبتدعوا طرقاً تنتهي إلى الخلفاء الثلاثة الآخرين وإن لم يأخذ هذا العمل مداه واحسب أن الافتعال الخصوصيات وأحوال لم يقف أمام صورة ابن أبي طالب في أذهان المسلمين.

وكما في التصوف كذلك حاولت جماعة في الشام-كما يذكر الدكتور الشيبي أن تقلل من شأن علي عليه السلام في مقام الفتوة فأوجدوا مقابلها النبوية وهي جماعة قائمة على أسس الفتوة بغير اسمها ولكن لم يكتب لها الانتشار هكذا تصنع السياسة والبغضاء. يجعل علي عليه السلام مقابل النبي لأن جماعة تبنته فيساء إليه من أعدائهم ليرتفع الولاء عند محبيه وتخرج الأمور عن نصابها إلى أن يقضي الله برد هذه الأمة إلى الجادة الوسطى ويبقى علي في مقامه الذي هو فيه لا يضره شنآن مبغض ولا غلو محب.

عودة إلى العلاقة بين التصوف والتشيع:

ذكرنا في موضع سابق أن بعض المؤرخين ادعى نسبة التصوف إلى التشيع لعلي مطلقاً،

ص: 226

بمعنى أنه مثلا قد عدَّ الغلاة المؤلهين لعلي عليه السلام شيعة مع أن المسلمين عموماً والشيعة الاثني عشرية خصوصاً يعتبرونهم كفاراً.

وقلنا إن في هذا افتراء على فرقة عريقة من المسلمين ومجافاة للموضوعية ولو أراد هؤلاء الانصاف لاكتفوا بالقول بأن للإمام علي عليه السلام التأثير المهم والبارز في ترغيب المسلمين بالعبادة والزهد والورع والفقر والرضا والتوكل. الخ وهي الأمور التي تعد بصورة موضوعية من المؤثرات في تشكيل الطرق والنظريات الصوفية اللاحقة.

إن القول بتأثر الصوفية بالتشيع يحتاج بداية إلى تحديد لهذا التشيع وإن أول إشكال يرد على القائلين بهذه المقالة هو أنه لا يصح الجزم باعتبار المؤسسين للتصوف في مراحله المختلفة شيعة لعلي عليه السلام ولو من خلال فهم التشيع بمعنى الموالاة عموماً، فماذا نصنع مثلاً بأبي بكر الكتاني مبدع فكرة «القطب» والمنظِّر لها والذي كان يجد في نفسه غيرة من علي بن أبي طالب، فاستعمل المنامات ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وأمره له بالسلام عليه للمصالحة معه.

نعم يمكن ملاحظة علاقة ما بين أحد الصوفية وعلي عليه السلام ولكنَّ هذا لا يعني صحة استناد كل ما يراه إلى علي. ويمكن أن تتشابه بعض الأفكار ولكن التشابه شيء والتأثر والتأثير شيء آخر يحتاج إلى إثبات اتباع ونقل.

وفوق هذا كله، فإن الاشكال الأساسي على هؤلاء أنهم من جهة يرون التشيع مذهباً ركِّب بتطور الزمان، ومن جهة أخرى يحكمون بأن التصوف أخذ من التشيع. ولو سلَّمنا بتشيع المنقول عنهم أو المتأثَّر بهم فالأولى أن يقال بتأثر الصوفية ببعض الشيعة لا بالتشيع، علماً بأن أكثر الشيعة يرون أن المذهب قد وجد في حياة رسول الله نفسه ضمن صورة محددة يخرج عنها أكثر من يدعى تأثيرهم في التصوف.

وبهذا نصل إلى أن القول بتأثر التصوف العملي في أكثر مفرداته بعلي عليه السلام هو قول صحيح دون الخشية من استعمال اصطلاح التصوف، وأنه عليه السلام اختُّص بهذا دون بقية الصحابة لأنه قد تميَّز عنهم فعلاً باعترافهم أنفسهم، والتزام كبار أهل الطريقة كما نقله عنهم ابن أبي الحديد وغيرّه.

وإذا أردنا تفسير ذلك فإننا نستطيع القول بأن الإمام عليه السلام قد تميَّز من بين

ص: 227

الصحابة ليس بالسلوك العملي فقط بل بالتوجيه لهذا السلوك والدعوة له خصوصاً بعد توليه الخلافة وماكان عليه حال المجتمع الإسلامي آنذاك. وفي نهج البلاغة أسناد كافية ومواد يمكن الاعتماد عليها في تركيب الاتجاه الروحي عند الإمام، وسواء أردنا تشكيل هذا الاتجاه الروحي وفق مفردات القوم المتأخرة في التأليف ما بينها، أو أردنا أخذها كما هي لاستطعنا الوقوف على طريقة في الحياة الروحية لا نسقط معها من كلامه المجموع في نهج البلاغة-لخروجه عن الموضوع-إلا النزر اليسير.

إن الاتجاه الروحي عند أمير المؤمنين ليس شأناً يخرج به عن الحياة بل هو مترابط معها. إنه عليه السلام عنوان الذاكر الحقيقي لله: انظر إليه وابن عباس يدعوه للقاء الخارجين إلى الحج، الطالبين الاستماع إليه، وهو مشغول بخصف نعله فيسأله عن قيمتها على ما هي عليه، فلا يقيّمها بنصف درهم والإمام يراها أحبَّ إليه من الإمارة إلا أن يقيم حقاً أو يدفع باطلاً.

وانظر إليه في السوق شاهراً سيفه يقول: من يشتري مني هذا السيف فو الذي فلق الحبة لطالمنا كشفت به الكرب عن وجه رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولو كان عندي ثمن إزار لما بعته فيبيعه رجل إزاراً ويؤخر قبض ثمنه. وانظر إليه وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها وهو يراها معيناً على خشوع القلب.

وانظر إليه لا يبيت مبطاناً وحوله أكباد حرَّى، ولعل في الحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالشبع أو طمع بالقرص.

وهذا هو يسأل أهل الكوفة أن لا يدعوه يخرج من عندهم بما يزيد على ما أتاهم به، وهو يأكل ويطعمهم من ماله الخاص وكد يمينه.

الاتجاه الروحي عند علي عليه السلام يحكم الحياة في هذه الدنيا وينظمها، إنه الجمع بين العمل والعبادة بين المال والقناعة بين الجهاد والتوكل بين السلطة والزهد بين سلامة البدن وتقوى القلوب. ولما كان الكلام عن الاتجاه الروحي عند الإمام علي عليه السلام كما ذكرنا مبثوثاً في كل أنحاء النهج، وقفت عند الأسلوب الذي يمكنني من الإشارة إلى معالم هذا الاتجاه دون حمل نهج البلاغة بكامله، فرأيت الاقتصار على بعض عناوين التصوف العملي وما ورد فيها منه سلام الله عليه كافٍ وأنا الخائف من الوقوف على عتبته فكيف بالخوض في ساحته.

ص: 228

إن السلوك الروحي لا يستقيم في الاتجاه الصحيح دون رؤية واضحة لهذا العالم المادي الذي نعيش فيه، وإذا كانت صورة الدنيا وحال الناس فيها كما وصف عليه السلام-وهي كذلك-فإن الوصول إلى رتبة أولياء الله يكون بالسعي للتشبه بهم في زهدهم فيها، وورعهم عن محارمها، والتزام حدود الله فيها والتوكل عليه والقناعة بالكفاف منها، والجهاد في سبيل الله الذي يحتاج إلى قوة وشجاعة وسخاء وهذه كما ذكرنا سابقاً من مفردات التصوف العملي التي لا يسع المقام لاستقصاء أقواله وسيرته فيها فضلًا عن ذكر كل ما يعد من مفردات التصوف العملي الأخرى.

الدنيا والعمل فيها:

«مثل الدنيا كمثل الحية لين مسَّها والسم الناقع في جوفها يهدي إليها الغر الجاهل ويحذرها ذو اللب العاقل».

«الدنيا دار ممر لا دار مقر».

«الدنيا خلقت لغيرها ولم تخلق لنفسها».

«من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلّا بتركها».

وفي وصف للدنيا: « ... إن الله لم يرضها ثواباً لأوليائه، ولا عقاباً لأعدائه وإن أهل الدنيا كركب بينا هم حلَّوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلواه».

«أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار فخذوا من ممركم لمقركم».

«اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».

ومن كلام له عليه السلام قاله للعلاء بن زياد الحارثي وقد دخل عليه يعوده فرأى سعة داره بالبصرة:

«ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟ وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة: تقري فيها الضيف وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة.

فقال له العلاء يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وماله؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، قال عليَّ به فلما جاء قال عليه السلام: «يا عديَّ نفسه! لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك أترى الله أحلَّ لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها!

ص: 229

أنت أهون على الله ذلك.

قال يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! قال: ويحك إني لست كأنت إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره!».

ليست الدنيا عند الإمام علي إلا مزرعة للآخرة، وهى بنفسها لا تستحق ذماً ولا مدحاً حيث أنها جعلت في تصرف الإنسان: «فالناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها».

أو كما في كلام آخر له عليه السلام: «الناس في الدنيا عاملان عامل عمل في الدنيا للدنيا قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلفه الفقر ويأمنه على نفسه فيفني عمره في منفعة غيره.

وعامل عمل في الدنيا لما بعدها، فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأحرز الخطين معاً، وملك الدارين جميعاً، فأصبح وجيهاً عند الله لا يسأل الله حاجة فيمنعه».

وهذا الذي «جاءه من الدنيا بغير عمل» ليس ما ذهب إليه ابن أبي الحديد في شرحه بأنه أثر لاشتغاله بالعبادة، فإن هذا الأثر عند الإمام قد بُيِّن في موضع آخر حيث قال: «لا يسأل الله حاجة فيمنعه» بل هو المقسوم من الرزق المقدر للخلائق كلها.

إن الدنيا مشتملة على ما يذكر بالآخرة وعلى ما يغر ويخدع والإنسان في حياته هو المسؤول عن كيفية النظر إليها. قال عليه السلام وقد سمع رجلًا يذم الدنيا:

«أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها، المخدوع بأباطيلها! أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟ أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟ متى استهوتك أم متى غرَّتك؟ أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم علَّلت بكفيك، وكم مرَّضت بيديك؟ تبتغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء غداة لا يغني عنهم دواؤك ولا يجدي عليهم بكاؤك.

لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فيه بطلبتك ولم تدفع عنه بقوتك وقد مثلَتْ لك به الدنيا، وبمصرعه مصرعك. إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لم فهم عنها ودار غنى لمن تزوَّد منها ودار موعظة لمن اتعظ بها.

مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحى الله ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها

ص: 230

الرحمة وربحوا فيها الجنة فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهلها فمثلت لهم ببلائها البلاء وشوَّقتهم بسرورها إلى السرور!

راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيباً وترهيباً وتخويفاً وتحذيراً فذمَّها رجال غداة الندامة وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكَّرتهم الدنيا فتذكروا، وحدثتهم فصدقوا ووعظتهم فاتعظوا!»

«يا أيها الناس متاع الدنيا حطام موبىء فتجنبوا مرعاه قلعتها أحظى من طمأنينة وبلغتها أزكى من ثروتها، حكم على مكثر منها بالفاقة، وأعين من غني عنها بالراحة.

من راقه زبرجها أعقبت ناظريه كمها، ومن استشعر الشغف بها ملات ضميره أشجاناً لهنَّ رقص على سويداء قلبه: همّ يشغله وغم يحزنه، كذلك حتى يؤخذ بكظمه فيلقى بالفضاء متقطعاً أبهراه هيناً على الله فناؤه وعلى الاخوان القاؤه. وإنما ينظر المؤمن إلى الدنيا بعين الاعتبار، ويقتاث منها ببطن الاضطرار، ويسمع فيها بأذن المقت والابغاض، إن قيل أثرى قيل أكدى وإن فرح له بالبقاء حزن له بالفناء. هذا ولم يأتهم «يوم فيه يبلسون».

«الركون إلى الدنيا مع ما تعاين منها جمل والتقصير في حسن العمل إذا وثقت بالثواب عليه غبن والطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار له عجز».

«إن أولياء الله هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذ نظر الناس إلى ظاهرها واشتغلوا بأجلها إذ اشتغل الناس بعاجلها، فأماتوا منها ماخشوا أن يميتهم وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم، ورأوا استكثار غيرهم منها استقلالاً، ودركهم لها فوتاً.

أعداء ما سالم الناس وسلم ما عادى الناس! بهم عُلم الكتاب وبه علموا، وبهم قام الكتاب وبه قاموا لا يرون مرجوا فوق ما يرجون ولا مخوفاً فوق ما يخافون».

ورئي عليه إزار مرقوع فقيل له في ذلك، فقال:

«يخشع له القلب، وتذل به النفس ويقتدي به المؤمنون. إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بينهما كلما قرب من واحد بعد من الآخر، وهما بعد ضرتان!».

«أزهد في الدنيا يبصرك الله عوراتها ولا تغفل فلست بمغفول عنك».

«يا دنيا يا دنيا! إليك عني أبي تعرضت أم إلى تشوقت؟ لا حان حينك! هيهات! غري غيري لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير،

ص: 231

وعملك حقير. آه من قلة الزاد وطول الطريق وبعد السفر وعظيم المورد».

الزهد:

يعرِّف الإمام عليه السلام الزهد على أنه حالة نفسية:

«الزهد كله بين كلمتين من القرآن: قال الله سبحانه لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم. ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه».

و «أفضل الزهد إخفاء الزهد».

والزهد عنده عمل لا عجز ولذلك قال عليه السلام «لا زهد كالزهد في الحرام» لأن الزهد مقابل للرغبة وللطمع: «الطامع في وثاق الذل» و «إن الطمع مورد غير مصدر وضامن غير وفي» «الطمع رق مؤبد».

وقد وصف عليه السلام الزاهدين والطامعين قال:

«طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة. أولئك قوم اتخذوا الأرض بساطاً وترابها فراشاً وماءها طيباً والقرآن شعاراً والدعاء دثاراً ثم قرضوا الدنيا قرضاً على منهاج المسيح عليه السلام».

وقابلهم بمن «يرجو الآخرة بغير العمل ويرجي التوبة بطول الأمل يقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل فيها بعمل الراغبين: إن أعطي منها لم يشبع وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي ويبتغي الزيادة فيما بقي ينهي ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو أحدهم».

وللإمام في دفع ما توهمه البعض طريقاً إلى الآخرة كلام جميل يقول: «العجز آفة، والصبر شجاعة، والزهد ثروة، والورع جُنة، ونعم القرين الرضا». وهذا الكلام يعيدنا إلى التأكيد على أن التربية الروحية عند الإمام عليه السلام لا تكون بالسلبية اتجاه الدنيا فإنها مظهر عجز والعجز كما قال آفة.

القناعة:

يرتبط الزهد بالقناعة و «القناعة مال لا ينفد» و «كل مقتصر عليه كاف» الزهد في الحلال والحرام كما ذكرنا مقابل للرغبة والطمع وهما حالتان نفسيتان مقلقتان: «من اقتصر على بلغة

ص: 232

الكفاف فقد انتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة، والرغبة مفتاح النصب ومطية التعب، والحرص والكبر والحسد دواع إلى التقحم في الذنوب» و«من استشعر الشغف بها-الدنيا-ملأت ضميره أشجاناً لهن رقص على سويداء قلبه: هم يشغله وغم يحزنه كذلك حتى يؤخذ بكظمه ...». والقناعة المرتبطة بالزهد كذلك لا تكون ناشئة عن عجز فذلك إنما يكون «ممن أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه وانقطاع سببه فقصرته الحال على حاله فتحلى باسم القناعة وتزين بلباس أهل الزهادة وليس من ذلك في مراح ولا مغدى».

القناعة سبيل إلى راحة النفس وطمأنينتها كما مر معنا ويعلم الإمام ابن آد أن الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك فإن لم تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك على هم يومك! كفاك كل يوم على ما فيه فإن تكن السنة من عمرك فإن الله تعالى سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك، وإن لم تكن السنة من عمرك فما تضع بالهم فيهما ليس لك. ولن يسبقك إلى رزقك طالب، ولن يغلبك عليه غالب ولن يبطىء عنك ما قدِّر لك.

القناعة عند الإمام إذاً مدخل إلى دفع الهم عن النفس وليست عجزاً وقعوداً عن العمل.

الفقر:

لا يريد الإمام من القناعة أن توصل إلى الفقر السلبي بل إلى الفقر الإيجابي، إلى الكفاف دون أن يكون في الغنى واليسار أية مشكلة إذا حفظ معهما حق الله وحق الناس وتنظيم حياة الإنسان يساعد على حصولهما ومن ذلك قوله عليه السلام: «قلة العيال أحد اليسارين».

إن التمييز بين حياة الكفاف وحياة الفقر كما ذهب إليها بعض الصوفية يضعنا أمام نتائج مختلفة، إذ أن الفقر عند الإمام «يخرس الفطن عن حجته» و «الفقر في الوطن غربة» و «الفقر الموت الأكبر» وقد قال لابنه: «يا بني إني أخاف عليك الفقر فاستعذ بالله منه، فإن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت» «ألا وأن من البلاء الفاقة وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب ألا وإن من النعم سعة المال وأفضل من سعة المال صحة البدن، وأفضل من صحة البدن تقوى القلب».

نعم لا بد للفقراء من معين من أنفسهم لكي لا يؤثر فيهم الفقر نفوراً عن الحق فلذلك قال عليه السلام: «العفاف زينة الفقر» و«ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله

ص: 233

وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالاً على الله».

«فمن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أصلح أمر آخرته، أصلح الله أمر دنياه».

هذا وإن الكفاف هو الاقتصار على الحاجة والقناعة بالكفاف التي أشار إليها بقوله عليه السلام «كل مقتصر عليه كاف» من صفات المؤمنين حقاً أولئك الذين قال فيهم: «طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله»، وهي الصفات التي وصف بها خباب بن الأرت وزاده عليها «وعاش مجاهداً».

التوكل والعبادة والعمل:

هنا نصل إلى واحدة من أخطر المفردات التي أساء فيها قوم فصاروا منها إلى التواكل وترك العمل ولننظر ماذا يقول الإمام فيه:

إن التوكل على الله وحسن الظن به والثقة بقضائه لا تكفي العبد عن العبادة والعمل، وقد أجاب رسول الله لما قيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر «أفلا أكون عبداً شكوراً»، وهذه العبادة وهذا العمل لا يكونان على أتم صورهما إلا إذا وافقا شرع الله لنا فيما ورد إلينا من الطرق الصحيحة عن رسول الله وأهل بيته.

«إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ لكم حدوداً فلا تعتدوها ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكفلوها، طوبى لمن ذل في نفسه وطاب كسبه وصلحت سريرته وحسنت خليقته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من لسانه وعزل عن الناس شره ووسعته السنة ولم ينسب إلى البدعة».

«من قصِّر في العمل ابتلي بالهم ولا حاجة لله فيمن ليس الله في ماله ونفسه نصيب» واللمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه وساعة يروم معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل وليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمة لمعاش أو خطوة في معاد أو لذة في غير محرَّم».

إن ما ذهب إليه البعض من تعذيب النفس والجسد عمل غير مجدي: فكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، وفي العباد، و «قليل تدوم عليه أرجى من كثير مملول منه» و«إذا أضرَّت

ص: 234

النوافل بالفرائض ما تركوها».

الشجاعة والفتوة:

ويستمر منهج الإمام في التربية الروحية للإنسان حتى نصل إلى الفتوة والشجاعة التي لا تنفصل عما سلف مما يجب أن تتحلى به نفس المسلم ولنأخذ بعضاً مما ذكره في هذا المجال:

«البخل عار والجبن منقصة».

«رضي بالذل من كشف عن ضره وهانت عليه نفسه من أمَّر عليها لسانه».

«الاحتمال قبر العيوب».

«قرنت الهيبة بالخيبة إن قدر الرجل على قدر همته وصدقه على قدر مروءته وشجاعته على قدر أنفته».

«الظفر بالحزم والحزم بإجالة الرأي والرأي بتحصين الأسرار».

«لا يعد الصبور الظفر وإن طال به الزمان».

«من أحدَّ سنان الغضب لله قوي على قتل أشداء الباطل».

«إذا هبت أمراً فقع فيه فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه».

«لا تدعونَّ إلى مبارزة وإن دعيت فأجب فإن الداعي إليها باغ والباغي مصروع».

«أيها المؤمنون إنه من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرىء ومن أنكره بلسانه فقد أجر ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونوِّر في قلبه اليقين».

«أول ما تغلبون عليه الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قُلب فجُعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه».

وإذا أردنا أن نتعرف إلى فتوته عليه السلام وشجاعته ليكون أسوة بعد رسول الله فلننظر إلى قوله: «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه». «والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدير عنه وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً حتى يأتي علي يومي».

«والله إن امرءاً يمكِّن عدوه من نفسه يعرق لحمه ويهشم عظمه ويفري جلده لعظيم عجزه ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره. أنت فكن ذاك إن شئت فإما أنا فوالله دون أن

ص: 235

أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام وتطيح السواعد والأقدام ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء». «والله ما أبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إلي». وقال في قوم: «وقد أرعدوا وأبرقوا ومع هذين الفشل ولسنانرعد حتى نوقع ولا نسيل حتى نمطر».

«اغزوهم قبل أن يغزوكم فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا».

قد استطعموكم القتال فأقروا على مذلة وتأخير محلة أو رؤوا السيوف من الدماء ترووا من الماء فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين».

أما الموت عنده فهو غير مخوف لأن «عليَّ من الله جنة حصينة فإذا جاء يومي انفرجت عني وأسلمتني فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم» كما قال عندما خوفوه من الاغتيال، بل إن الموت غيظاً من عمل الظالمين ممدوح عنده كما قال «فلو أن امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما کان به ملوماً بل كان به عندي جديرا».

آداب العشرة:

للمؤمن صفات يجب أن يتحلى بها الإنسان في نفسه، وأن لا يتصف بأخرى، ومنها ما يتعلق بالعشرة مع الناس:

«إذا كان في رجل خلة رائقة فانتظروا أخواتها».

«خالطوا الناس مخالطة، إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنُّوا إليكم».

«البخل جامع لمساوىء العيوب وهو زمام يقاد به إلى كل سوء».

«الحلم والأناة توأمان ينتجهما علو الهمة».

«الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك وألا يكون في حديثك فضل من عملك وأن تتقي الله في حديث غيرك».

«من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته».

«مامزح أمرؤ مزحة إلا مُجّ من عقله مجة».

«المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه أوسع شيء صدراً واذلَّ شيء نفساً، يكره الرفعة ویشنا السمعة طويل غمه بعيد همه كثير صمته مشغول وقته، شکور صبور، مغمور بفكرته صنين بخلته».

«من الخرق المعالجة قبل الإمكان، والأناة بعد الفرصة».

ص: 236

«اللسان سبع إن خليّ عنه عقر» وقيل له صف لنا العاقل فقال عليه السلام:

«هو الذي يضع الشيء مواضعه» فقيل صف لنا الجاهل فقال: «قد فعلت».

«آلة الرياسة سعة الصدر».

«متى أشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي لو صبرت؟ أم حين أقدر عليه فيقال لي لو عفوت؟».

«من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنَّ من أساء إليه بالظن».

«فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها».

«السخاء ما كان ابتداء، فأما ما كان عن مسألة فحياء وتذمم».

«أعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان وأعجز منه من ضيَّع من ظفر به منهم».

«صدر العاقل صندوق سره والبشاشة حبالة المودة والاحتمال قبر العيوب».

«أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم فما يعثر منهم عاثر إلا ويد الله بيده يرفعه».

«من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب».

«إذا حبيت بتحية فحي بأحسن منها، وإذا أسديت إليك يد فكافئها بما يربي عليها والفضل مع ذلك للبادي».

«لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه».

«لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته وغيبته ووفاته».

«عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شره بالإنعام عليه».

«أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما وابغض بغيضك هوناً ما عسى

أن يكون حبيبك يوماً ما».

«أحسنوا في عقب غيركم تحفظوا في عقبكم».

«الركون إلى الدنيا مع ما تعاين منها جهل والتقصير في حسن العمل إذا وثقت بالثواب عليه غبن والطمأنينة إلى كل أحد قبل الاختبار له عجزه».

«ما المجاهد الشهيد في سبيل الله بأعظم أجراً ممن قدر فعف لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة».

وبعد، فهذا شيء من منهج علي الروحي وله في مقامات الرضا والاستغفار والتوبة وغيرها

ص: 237

كلام وأحوال فمن التزم بهذا كان على التشيع والسنة وإلا فهو خارج ومنسوب إلى البدعة، وإن كان هذا المنهاج مما يسمى تصوفاً فإنه التصوف الممدوح العامل بغير مذموم في الدنيا والآخرة.

والحمد لله رب العالمين

ص: 238

تقاسیم البيان من مقام الهزام على كلام أمير الكلام عليه السلام

الأستاذ عبد الفتاح قلعه جي

قال علي بن أبي طالب (علیه السلام):

كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه، وكان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد، وكان أكثر دهره صامتاً، فإن قال بد القائلين ونقع غليل السائلين، وكان ضعيفاً مستضعفاً فإن جاء الجد فهو ليث غاب وصلُّ واد لا يدلي بحجة حتى يأتي قاضياً، وكان لا يلوم أحداً على ما يجد العذر في مثله حتى يسمع اعتذاره وكان لا يشكو وجعاً إلّا عند برثه، وكان يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل وكان إذا غلب عليه الكلام لم يغلب عليه السكون وكان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلم، وكان إذا بدهه أمران نظر أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه. فعليكم بهذه الخلائق فالزموها وتنافسوا فيها، فإن لم تستطيعوها فاعلموا أن أخذ القليل خير من ترك الكثير.

ص: 239

«كان لي فيما مضى أخ في الله».

هكذا قال أمير الكلام

وبين كان ... وما هو كائن

يمتد الطريق إلى القلوب

التائقة إلى نور الحق

والاخاء في الله شعاع من نوره

ورسول الله يضفر الأنوار القلبية جدائل

ويرسلها على كتف المدينة

ويأخذ سيد البيان بيد أمير الكلام

ويقول: «هذا أخي في الله».

حكاية

في مقام الحب، توضأ السالك بدم القلب، وعلى شاطيء نهر

العشق القى حجراً في الماء، ولما رأى الدوائر تتسع اتسعت الرؤية

فصاح: إني أرى أيدي تتصافح في الله

و شعوباً وقبائل لتعارف في الله

وأرى جرحاً في خاصرة الأرض يناديكم:

يا من كان الإيمان لكم نسباً

من يوقف نزف الهرسك والصومال

من يصرع تنين الحما الغربي

من يقتلع الباب الخشبي

ينزل خيبر من منعتها

من ...

يا من قال لكم رب الناس:

«إنما المؤمنون إخوة» (1)

ص: 240


1- «العقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك»، (م، مس) ج 3، ص 52-53 م).

تجاويق الدم

دمعت عينا أمير الكلام

على ما فات ... وما هو آت

وسالت قطرات من دمه الزكي

المسفوك بخنجر الغدر

فغمرت جراحات هذه الأمة الشعثاء

وقال:

«كان لي فيما مضى أخ في الله وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه»

أنتم

يا من أمسكتم بتلابيب الدنيا

والدنيا قبض هواء

أحكي لكم قصة أمي

جمعوا في كفيه التبرين فقال:

«والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه»

يا عصر الأوثان

اسمع

ألحان الإيمان

«يا كميل هلك خزّان الأموال وهم أحياء» (1)

فتحزَّر

من سلطان المال

وسلطان البطن

من كل طواغيت الأرض

وطواغيت النفس

كن كذاك الذي تحدث عنه أمير الكلام قائلاً:

ص: 241


1- نهج البلاغة، (م، س) ج 4، ص 41.

«كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا

يشتهي ما يجد ولا يكثر إذا وجد»

لمن الموائد في المقاصف أسرت *** والجائعون على الطوى قد باتوا

لمن الخورنق والسدير وما بنى *** فجرُ الغني أموالهم آهات

ورقة من روزنامة قديمة

يحكى أن نبيلاً رومانياً من أولاد الذئبة، كغيره من نبلاء روما كان خاضعاً لسلطان بطنه، يشتهي ما يجد، ويكثر إذا وجد، مسعوراً بلذة الأكل.

كان إذا اعونت معدته من الطعام أدخل ريشة في فمه فتقياً ثم عاد إلى الطعام من جديد.

وذات يوم غص بريشته فمات

وسقطت روما

قال لي أبي ونحن حول الكانون نتدفاً.

يا بني احذر

أرى نساء كاسيات عاريات

مائلات مميلات

وأرى الأمة تلد ربتها

وأرى قوماً يتطاولون في البنيان

وهذه المدينة

تغص بريشتها

ثمرات من شجرة طوبى

«وكان أكثر دهره صامتاً، فإن قال بدَّ القائلين، ونقع غليل السائلين»

طوبى لمن كان نور الله في قلبه

لأنه يتعلم الكلام من الصمت

ص: 242

ويتعلم الصمت من التفكر

ويتعلم التفكر من أنوار تتنزل على قلبه

فتجذبه إلى مصدرها

فإن قال:

كان في الحكمة متعالياً

الحقيقة صاعداً

طوبى لمن كان باباً لمدينة العلم

وكان العلم باباً لنور اليقين

وكان اليقين باباً للأنوار الرحمانية

ذاكرة الدمع

كان أبي بناء حكيماً

يرصف حجارة الطريق لئلا تتعثر بها امرأة مطفلة أو صغير

ويصلح ما تهدم من البيوت

قال لي ذات صباح موحل وهو يخصف نعله:

يا بني

احذر فتوى عالم خلا قلبه من نور الله

واستفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك

والتمس له معطار الأنوار

من كان أكثر دهره صامتاً

فإن قال بد القائلين، ونقع غليل السائلين

هكذا قال أبي ثم مات

وفي عتمة الليل

كنت أسمع نحيباً متصلاً يقطع نياط القلب كانت أدواته التى صحبته في رحلة البناء والعمر المعول والمسحاة والشاقول

ص: 243

تبكي عليه

في عتمة الليل

«وكان ضعيفاً مستضعاً إن جاء الجد فهو ليث غاب

وصل واد لا يد لي بحجة حتى يأتي قاضياً»

أعلى درجات القوة

أن توصلك القوة باب الرحمة

أن يسكنك ضعاف الناس

يقوى في ضعفك مقهور

يضعف في قوتك شرور

نحن قوم تذيبنا الأعين النجل *** على أننا نذيب الحديدا (1)

هكذا قال مصير الخصيتين

الملك المنعم في زورق فضته

واستلت بغداد الأعين النجل

تصد السيف التتري الأسود

فانهارت

ماذا لو قال:

«أشداء على الكفار رحماء بينهم»

هل كان لدجلة أن يقذى بدم ومداد

حكاية

كان الشيخ صالح المجذوب ضعيفاً مستضعفاً، ولما دخل الفرنسيون حلب خلع جذبته وحمل صفيحة بنزين إلى خان الشوربجي في باب جنين، وحين هم بإحراق الخان الذي كان مقراً للقومندان انهالت عليه النيران فسقط صريعاً.

هكذا قال راوي الخبر وللخبر رواية أخرى تقول:

إن الشيخ صالح المجذوب حين هم بإحراق الخان طاردته عساكر الصليبيين في حملتهم التاسعة، ولما حصروه في فرن ألقى نفسه في التنور وقعد أمام النار فأحس بالبرودة، ومد يده

ص: 244


1- ابن أبي طالب الإمام علي (علیه السلام) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 4، ص 48.

فوق اللهيب يتدفأ، ثم تناول رغيفاً وراح يأكل، فامتلأت قلوب الصليبيين رعباً، ولم تدرك سر «يا نار كوني برداً وسلاماً» فنكسوا بنادقهم وقالوا: إذا كانت النيران لم تؤذ جسد هذا الإنسان فما الذي ستفعله بنادقنا؟

قال لي أبي الذي أوتي أسرار الحكمة:

يا بني إذا لم يشتعل قلبك برب الفلق فلن تستطيع أن

تدرأ عن نفسك أذى شر ما خلق، وإذا لم تعشق

ما تؤمن به فلن تستطيع أن تدافع عنه أو تتحمل الأذى

في سبيله فلا تشكو وجعاً

ثم قال:

كان لأمير الكلام يا بني فيما مضى أخ في الله، وكان لا يلوم

أحداً على ما يجد العذر في مثله حتى يسمع اعتذاره.

شجرة الكلام

يحكى أن يهودياً ادعى على أبي الحسن قال القاضي اجلس يا أبا الحسن، وأوسع له المجلس. غضب وقال: لم تعدل بين متخاصمين فميزتني بقولك يا أبا الحسن.

يا ممتشقاً صوت العدل

أسمعت أنين المعتذرين المسجورين

في وديان النسيان

إن الجور

لا يقهره إلا الصبر

وأمير الكلام يقول:

«كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان لا يشكو وجعاً إلا عند برثه، وكان يفعل ما يقول، ولا يقول ما لا يفعل»

والكلام

آه من الكلام

سر أوجاعنا

ص: 245

وكان أمير الكلام قليل الكلام

فتعلم هذا البيان.

ترتيلة الصمت والكلام

سقط أبي من فوق جدار كان يبنيه، فارتض جسمه وتكسرت عظامه، ولكنه لم يطلق صرخة ألم واحدة.

مسحت بأناملي الصغيرة دمعتين شرقت بهما عيناي وقلت: اصرخ يا أبي

فتبسم ضاحكاً من قولي وقال:

يا بني

من يجد في جسمه وجعاً

يشغل عن الشكوى

بمصارعة الداء

ومقاربة الشفاء

وهذا أول الدواء

يا بني

عِيُّ الفعال أدعى للوبال

من عيّ الكلام

تعلم من الصمت

كيف يكون الكلام

وكيف تنسج من الوقت

رداء للحياة

يا بني

شغلنا بقعقعة الكلام

وصولات الخصام

حتى تراعت علينا اللئام

كما تداعى الأكلة على قصعتها

ص: 246

صرنا أعداداً

وكنا أنداداً

صرنا ثغاء

وكنا رعاء

وصار أهل الأفعال

يخيطون لأهل الأقوال

سلاماً

تبين منه عورات أشباه الرجال

وربات الحجال

أما سمعت أمير الكلام يقول:

«كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان إذا غلب عليه الكلام لم يغلب عليه السكوت وكان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلم»

يا بني

الساكت عن الحق شيطان أخرس

قلت: والصمت. ألا يحمد الصمت في مواطن الخطر؟

قال:

تعلم من الصمت الكلام فإن بدا *** لك الظلم فالزم جانب الحق ظاهرا

فما الشعر أن تغدو بليلى مولها *** ولكن بنصر الله تصبح شاعرا

قلت: وكيف أميز بين اثنين لا يغلب عليهما السكوت؟

بائع كلام في مجلس سلام

وبائع تعس في مورد حمام

قال: كن على ما تسمع أحرص منك على أن تتكلم

واستمع بقلبك

لا بأذنك

ص: 247

فإن بعض الكلام قرع

وبعضه صدع

وإن في بعض الكلام نور

يتنزل على الأفئدة

وإن في بعضه ظلما

تغشى القلب والأوردة

فكن مع المتقين

الذين وصفهم أمير المؤمنين

لهمّام العابد

وقد صعق من الموعظة

صعقة كانت نفسه فيها

وكان أمير الكلام إذا وعظ

بد القائلين

ونقع غليل السائلين

ولم يغلب عليه السكوت

قلت: وأين اليوم أمير كأمير المؤمنين

نور کلامه

مستمد من نور الأنوار

«نفسه منه في عناء

والناس منه في راحة

يمزج الحِلم بالعلم

والقول بالعمل»

متمثلاً قول أخيه في الله

«عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة» (1)

«يعفو عمن ظلمه

ص: 248


1- (م، ن) ص 199-200.

ويعطي من حرمه

ويصل من قطعه

حاضراً معروفه

مقبلاً خيره

مدبراً شره» (1).

حكاية

كان يا ماكان، كان في سالف العصر والأوان، ملك عظيم

أمر أن يبنى له قصر على قمة جبل شاهق يطل على عاصمة ملكه، فعمل المهندسون والبناؤون، وهلك في بنائه الكثيرون.

وكان هنالك درويش يمر كل يوم فيلقى نظرة على ما يجري ثم يمضي،

ولما انتهى البناء، وقف الملك أعلى الجبل وحوله حراسه،

ومر الدرويش أسفل الجبل وحوله مريدوه وهو يتكيء على عصاه

ويحمل إبريقه.

صاح الملك: قف أيها الدرويش، أي عيب ترى فيّ أو في هذا

القصر، فأنت تمر كل يوم، تلقي نظرة مستخف ثم تمضي؟

قال الدرويش: يامن تعالى بالملك، عيبك أن عزرائيل

سيعودك، فماذا أنت فاعل مع هذا العيب الكبير

وعيب قصرك أن سافيات الريح والزمن ستحوله

إلى طلل حائل ورسم دارس

غداً عندما يكبو جواد عمرك وكبريائك

ويضمك قصر قلَّصه العقر، مترين في متر

وينادي الحق

يامن في بناء مجدك الراحل

وقصرك الزائل

أنفقت ما اؤتمنت عليه من مال

ص: 249


1- (م، ن) ج 3، ص 79.

وأهلكت الرجال

«لمن الملك اليوم»

فماذا أنت قائل

إذ يجيب الحق نفسه:

«لله الواحد القهار»

أيها الملك المسوّر بتيهه وجهله وحرسه

هذه الدنيا بيت عنكبوت

وأنت فيها ذبابة

علقت بالشرك

تنتظر مصيرها المحتوم

«وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت» (1)

فخالف الهوى

قبل أن يوقظك النوى

وكن كما قال أمير الكلام

«كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان إذا بدهه أمران نظر

أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه».

بقية موّال قديم

لي صديق كان قاضياً وما زال

أثرى أقرانه

وفقيراً ما زال

يحكم في المئين والملايين

وفقيراً ما زال

يعدونه بالأبيضين

الفضة والبضة

ويوعدونه بالأسودين

ص: 250


1- (م، ن) ص 83.

الجفوة والشدة

ليحكم بالمحال

فكان قبل الحكم

يغلق على نفسه باب الهوى وطول الأمل

ويخلع الوعد والوعيد

ويصلي ركعتين

ويبحر في الملكوت

حتى يرى الدنيا ... بيت عنكبوت

ثم يمسك بالقلم ... وشآبيب القسم

ويتلو ... ويتلو ... حتى تدمع منه العيون

ويسمع من عليين

صرير «ن. والقلم وما يسطرون» (1)

فيكتب ما يوحي إليه اليقين

قال العارف بالله:

إني رأيت صديقك هذا في الجنة على بساط زاهر

من بسمات المظلومين وأنت ما زلت تقول:

كان صديقي فقيراً وما زال

أما سمعت أمير الكلام يقول:

«أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى

وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول

الأمل فينسي الآخرة»

هزيم الهزام

قال لي أبي الذي أوتي أسرار الحكمة:

لقد أعجبني حديثك عن صديقك القاضي الذي يحكم بين الناس

فهلا حدثت بهذا الحديث

ص: 251


1- سورة الشورى آية 38.

من أوتي حكم الناس

قلت:

يا أبي

إن طائر صوتي لا يصل إليه

فهو على قمة جبل شاهق وحوله حراسه

وبيني وبينه سبعة أودية، وسبعة جبال وسبعة بحار

قال:

وهل هو إلا واحد من الناس

وها م الناس أمامك ... فحدثهم

وقد حدثتكم أيها الناس

عزفت لكم هذه التقاسيم

من هزيم الهزام

بريشة الحق

وكما بدأت حديثي بكلام أمير الكلام

أختم حديثي بقوله عليه السلام

أيها الناس

«إن أمرنا صعب مستصعب لا يحمله إلا عبد مؤمن

امتحن الله قلبه بالإيمان ولايعي حديثنا إلا صدور

أمينة وأحلام رزينة» (1)

الهوامش

(1) نهج البلاغة ص 69 ج 4 ط دار المعرفة-بيروت-شرح الشيخ محمد عبده.

(2) الحجرات 10.

(3) نهج البلاغة ص 36 ج 4.

(4) ابن المعتمة.

(5) الفتح 29.

(6) حديث نبوي.

(7) نهج البلاغة ص 163-164 ج 2.

(8) العنكبوت 41.

(9) القلم 1.

(10) نهج البلاغة ص 92-93.

(11) نهج البلاغة ص 128 ج 2.

(2)

(3)

(4)

(5)

(6)

(7)

(8)

(9)

(10)

(11)

(12)

ص: 252


1- (م، ن) ج 1، ص 84.
2- ابن أبي طالب الإمام علي (علیه السلام) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 4، ص 48.
3- «العقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك»، (م، مس) ج 3، ص 52-53 م).
4- نهج البلاغة، (م، س) ج 4، ص 41.
5- (م، ن) ج 2، ص 191-200.
6- نهج البلاغة، (م، س) ج 2، ص 201-202.
7- (م، ن) ص 199-200.
8- (م، ن) ج 3، ص 79.
9- (م، ن) ص 83.
10- سورة الشورى آية 38.
11- نهج البلاغة، (م، س) ج 4، ص 76.
12- (م، ن) ج 1، ص 84.

مقاربة نظرية المفهوم الشورى

اشارة

في فكر الامام علي علیه السلام

الدكتور حسن جابر

تحظى الشورى اليوم باهتمام كبير لدى معظم الباحثين في الفكر السياسي الإسلامي، وذلك بعد دخول الإسلام من جديد في دائرة التطبيق العملي، بعد أن اعتراه الجمود، كنتيجة طبيعية لفعل التعليق المتعمِّد لمفاهيمه الأساسية المرتبطة بالاجتماع السياسي بصورة خاصة ومجمل مفاهيم الاجتماع بصورة عامة.

والإثارة الجديدة، التي نأمل في تقديم إسهام متواضع فيها ترتبط بواحدة من مفردات المنظومة الفكرية ذات البعد الاجتماعي-السياسي، وهي الشورى، التي تخضع اليوم، وكما سبقت الإشارة إلى مراجعة تطال الدلالة اللغوية للمفهوم وتتناول معها مختلف صور تمثّلاتها وتطبيقاتها على امتداد التاريخ الإسلامي.

ص: 253

لكننا، مع التسليم، بأهمية الإطارين المفهومي والتاريخي وضرورة تجديد النظر فيهما باستمرار، نجد لزاماً ضرورة توسيع دائرة البحث لتطال أصل الرؤية الإسلامية للإنسان والحياة فبدونها لا يأمن أحد من إمكانيات التعارض وربما التباين بين الرؤية وأفقها واستهدافاتها وبين واحد من عناصرها الجزئية نعني الشورى التي قد لا تساعد دراستها بمفردها، أي معزولة عن بقية العناصر المصطفة في عرضها، في مقاربة معناها الواقعي وهو غاية ما ترمي إليه في البحث.

في ضوء هذا التمهيد يعد فهم القرآن الكريم بمجمله والسنّة الشريفة شرطاً أساسياً لفهم المراد بالشورى بعبارة أخرى، الشورى هي جزء يسير من بنية معرفية شاملة وواسعة، ومقاربة المعنى الحقيقي لهذا الجزء لا تتأتى إلا بالوقوف على المقاصد الكلية للشرع، ومن ضمنها مقصده الإنساني (أي ما يتعلق بالإنسان).

وفي السياق عينه لا يمكننا ملامسة الفهم الواقعي لأمير المؤمنين في موضوع الشورى، إلا بعد البحث الدقيق في مجمل رؤيته وتصوره، ومن بينها تصوره وفهمه للإنسان تحديداً. وفق هذا التأسيس المنهجي، تعد ملاحقة الباحث للمعجم المفرس لألفاظ نهج البلاغة مثلاً، أو غيره لالتقاط النصوص الصريحة التي تتحدث عن الشورى مباشرة ملاحقة مقبولة بل أساسية، غير أنها لا تكفي إطلاقاً لمعرفة موقف الإمام من الشورى، لأنها لن تكون سوى مجتزأة، محنطة ومشلولة، وباختصار لن تكون إلا ميتة. قد يقال: إن ما يكفى الباحث هو دراسة منطوق النصوص التي تتناول الموضوع مباشرة إلى جانب متابعة القرائن التي قد تحتِّف بالنص موصولة كانت أم مفصولة، وهذه وحدها كفيلة بالكشف عن مختلف الجوانب الخفية بالمراد الحقيقي (الجدي). لكن يجاب بأن ما يميّز النص المباشر عن غير المباشر هو تضمنه الصريح للفظ موضوع البحث، لكننا في الوقت عينه، لا نستطيع تحريره من مناسباته الزمانية والمكانية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى للفظة الشورى مرادفاتها اللغوية بل وتقاطعاتها مع الكثير من المفاهيم، وهذه كلها تحتِّم النظر بالكل أي بكامل المنظومة.

بناء على ما تقدَّم يتَّسع مفهوما القرينة والدلالة ليشملا كل ما قد يتفق والموضوع بما في ذلك الوعي التاريخي لظرف صدور النص وربما مراداته السياسية كما سيتبين معنا بعد قليل.

تأسيساً على هذه المقدمة المنهجية، سأعمد إلى ملاحقة نصوص الإمام في مسألة أخالها

ص: 254

مناسبة لتكون مدخلاً علمياً لمقاربة فهم الإمام للشورى وأقصد هنا موضوع نسبية التجارب الخاصة وقصورها عن إدراك الحقيقة تمام الحقيقة طبعاً في إطار دائرة العقل والتدبير الإنسانيين.

فالفرد، كما يستوحى من بعض نصوص الإمام، لا يستطيع، مهما اتّسعت خبرته وتعاظمت تجربته أن يدرك الحقيقة أو، يُثبت من تماميتها في القضايا العامة، إلا بالتفاعل مع محصلات معارف الآخرين، لأن مجرد اعتبارها عامة أو كلية يستدعي فهماً عاماً أو كلياً، للناس الذين يتوحدون في همها، وبما أن قضايا المجتمع تنتسب في معظمها لدائرة التدبير أي التي يكون للعقل وحده مرجعية البت بها، ويقصر الشرع تدخله فيها على التحديدات العامة لمقاصده التي هي كناية عن محددات المالية تُرِك أمر تفصيلها للعقل البشري استناداً إلى تجارب البشر في الحياة وخوضهم فيها، فإن الوقوف على الحقيقة في كل ما يخص تلك الدائرة هو من مسؤولية المجتمع كله. والتعليل المنطقي لذلك ناشيء من التسليم بواقع اختلاف اهتمام الناس وتنوّع منابتهم الاجتماعية وتفاوت تطلّعاتهم وحوافزهم وبالتالي الزاوية التي ينظرون من خلالها إلى الأمور العامة والقضايا المشتركة وهذا كافٍ لتولّد التباينات والاختلافات في وجهات النظر، فكل واحد قد يعتقد بتمام حقيقة ما يراه واستفاده من تجربته وبالتالي خطأ أي نظرة أخرى وفهم مخالف وهذا لن يقود إلا إلى الاختلاف وربما الصراع والحل في ظل هذه السنة الإلهية في الاجتماع الإنساني لا ينحصر في تفرد البعض بفهمهم ونظرتهم للأمور وإنما يتعداه إلى التفاعل وتبادل الآراء اللذين قد يشكلان الضمانة العلمية والواقعية لالتقاط الحقيقة وتشخيصها. لذا كانت الاستشارة بنظر الإمام هي عين الهداية والاستغناء بالرأي هو شكل من أشكال المخاطرة التي ترجح فيه احتمالات الخطأ (1). فجزئية التجربة، في حد ذاتها ضرورية وحيوية، لأنها مدعاة للاعتبار والإفادة ولهذا كانت مطلوبة، لكن على ألا تؤخذ نتيجتها كحقيقة تامة وناجزة وإنما لتسهم مع مثيلاتها-التجارب البشرية-في تولد الحقيقة، وبذلك فقط تنتزع الحقائق، فبالتنوع والاختلاف تكون الوحدة والعقل في النهاية هو مستودع التجارب قبه تحفظ وبواسطته تسود وتنتشر لكن خير ما جربت هو ما وعظك (2).

صحيح أن النتائج التي يحصلها الفرد من بين الجماعة قد تتأتى من مقدمات مقطوعة الصحة، لكن بالنسبة له و لمعطياته وخصوصياته ومحدودية الزاوية التي نظر من خلالها للأمور،

ص: 255


1- ابن أبي طالب الإمام علي (علیه السلام) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 4، ص 48.
2- «العقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك»، (م، مس) ج 3، ص 52-53 م).

ودفاع الفرد عن تجربته ومحصلاته هو أمر مشروع ومستساغ ولا يجوز تجاهل كدح أي كان وتجاربه لأنه مخلوق ليعتبر، لكن في الوقت عينه لا تكفي خصوصية التجربة للتعميم، فالآخرون قد تتحصل لديهم نتائج أخرى كذلك، لكن من مقدمات خاصة بهم، ولهم الحق، أيضاً في شرحها، وتسويغها والدفاع عنها، ولا يجوز تسفيه خبرتهم الخاصة واحتقارها، لكن غير الصحيح أيضاً أن يدعي كل واحد تمامية الحقيقة عنده واستحالة وجودها عند غيره، بل لا بد أن تعرُض الأفراد محصلة تجاربها لتصل إلى فهم مشترك وقناعة موحدة، فيتحول الاختلاف الواقع إلى علة ومدخل للتعارف لا للتناحر والتنافر. هكذا يستطيع المجتمع، كما الفرد، اختزال مراحل كثيرة بواحدة ويقلل في آن من احتمالات الخطأ ويحصرها بأدنى نسبة ممكنة تقرّبها من العدم. وهل الاطمئنان العلمي هو غير التلاشي شبه الكامل لاحتمالات الخلاف؟

ألا ترى أن الفرد الذي يقصر بناء منظومة مفاهيمه ومعارفه على تجاربه الشخصية المتفردة، والتي كان يتترس بها في مرحلة ما من حياته، يعود فيكتشف، وإن متأخراً، عدم كونها مرتكزة على ثوابت وأنّ ما كان يتوهّمه كذلك، تكفلت التجربة بزعزعتها بعد أن أتيحت له ظروف مغايرة أسَّست لمنطلقات مختلفة عن تلك التي كانت سبباً في إنتاج قناعاته السابقة؟ غير أن ذلك قد لا يحصل إلا للمتفاعل المتفحص الناقد، وقد يحرم منها مَن لم تتوفر فيه تلك الشروط والمواصفات. فلماذا لا نطوي المراحل بمشاركة الآخرين تفكيرنا واستنتاجاتنا حتى نراكم على الصحيح أو القريب منه. وإذا كانت مصالح الأفراد قد لا تتضرر كثيراً من المراجعات والتغييرات، لكن المأساة تُرخي بظلها على المجتمع إذا أُخضع للدينامية نفسها والتحول عينه، فهو لا يقوى على تجديد نفسه بالسرعة عينها، بل الضرر الذي يلحق به على صعيد الوعي الجمعي لا تزول آثاره دون أن يترك ذلك التغير تشوهات بمستوى من المستويات.

إذاً، التجربة الجزئية أو الشخصية مع أهميتها وضرورتها، وحاجتنا لتعزيزها وتكثيفها، تبقى منقوصة وبحاجة إلى ما يصوبها وكلما تعدى الرأي والحكم الفرد إلى الجماعة، نحا من الجزئي إلى الكلي، فإن يد الله مع الجماعة والحقائق في الواقع، ليست إلا كلية، بل لا يمكن أن تكون إلا كذلك لتقبل التعميم ولتكون متجاوزة الشخصي والخاص، فهي جماع الخبرة النوعية، وهذا كان الاستبداد بالرأي، في نظر أمير المؤمنين (علیه السلام)، مدعاة للهلكة والمشاورة، في المقابل، طريقاً لمشاركة الناس عقولهم (1).

ص: 256


1- نهج البلاغة، (م، س) ج 4، ص 41.

ما سقناه على الفرد في علاقاته بالآخرين نسحبه على المجتمع في علاقاته مع الكيانات المجتمعية الأخرى، أي أن الشورى لا ينبغي أن تقف عند حدود إطار إنساني مجتمعي معين، بل قيمتها أيضاً تتأكد في تخطّي الخصوصيات الجغرافية والعرقية-الاثنية والحضارية إلى ما هو أوسع وأرحب، هذا كله في البعد الأفقي أي العرضي الذي يلحظ مختلف الوجودات الإنسانية-السياسية في عصر ما، مع أن منطق البحث يتسع ليستوعب البعد الطولي في العلاقات الإنسانية أي العصور المتعاقبة. فالشورى بين المعاصرين، لا ترفع أبداً الحاجة إلى قراءة تجارب السابقين والتفاعل معها، بل يؤكد أصل الحاجة إلى الآخر ضرورة الاستفادة من محصلة وعي الغابرين. فالحقائق التي لا يستطيع فرد ادعاء تماميّتها وكذا الجماعة، لا يمكن وبالنتيجة نفسها أن يدعيها عصر، فهي موضوع لتأمل البشرية في مختلف مراحل تطورها. وبذلك يتحصل الاقتران بين التناصح-الذي يحمل إيحاءات التبادل الحي-مع الاعتبار-الذي يتبادر منه معنى الاستفادة من الماضي بشكل خاص.

أمير المؤمنين (علیه السلام) في معالجته لمسألة التفاعل لم يدرجها في دائرة حقوق البشر، بل جعلها من حقوق الله على العباد (1).

إذاً، الحياة سلسلة مكثفة من التجارب المتراكمة والمتكاملة، ومن اللغو والعبث أن يعيد الإنسان صناعة التجارب عينها، بل يلزمه الاستفادة مما مضى والسعي لتأكيد حقائقها من خبرته المستحدثة، وبذلك تنجلي حقائق الحياة وتنكشف سنن الاجتماع البشري، التي يعد استيعابها أو مقاربة فهمها-في أضعف الصور-شرطاً لنجاح البشرية في بلورة مؤسساتها وهيكليات إدارتها، وبالتالي تنجز أفضل صيغ نظم الأمر عندها.

غير أن هاجس الوصول إلى الحقيقة، يستلزم شروطاً يفترض بها أن تتوفر ليدلو كل فرد أو جماعة بقناعته، وقد حدد أمير المؤمنين شرطاً حيوياً عده الأساس الذي لا بد أن تستند إليه الأمم لتصل إلى الحقيقة المنشودة، وهو الحرية.

والحرية بنظر الإمام لا تتنجز بمجرد رفع الموانع المباشرة التي قد تحول دون التعبير عن الرأي، فهذه قد تمارسها البشرية دائماً، وإنما المراد هو رفع المعوقات غير المباشرة، كسطوة السلطان وتضيقه من النقد ومحاباته للمصانعين والمدارين فإن هذه لا تحفز أولي النظر والرأي لممارسة النقد، وإنما تدفعهم إيحاءاتها القمعية إلى توخي الحذر والابتعاد عن مجالس الحكام.

ص: 257


1- (م، ن) ج 2، ص 191-200.

فالشورى في الواقع، تعني استظهار الرأي، والمراد منه الصريح والمعبر عن قناعة صاحبه لا أي رأي، فإذا حال الخوف والقمع والجزع دون إبدائه، فلا تبقى قيمة لتبادل المواقف والآراء. لذا جهد أمير المؤمنين (علیه السلام) لإخراج الناس في علاقاتهم معه من مناخ التقليد الموروث والسائد إلى الجو الذي تسوده الصراحة والرغبة في الإصلاح، قال الإمام في هذا السياق:

«لا تثنوا عليّ بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى الله وإليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها، وفرائض لا بد من إمضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست في نفسي بفوق أن أخطىء (1).

ما أثاره الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في مسألة حرية إبداء الرأي والنصيحة أو اللوم، يتعدى إطار المشروعية والإباحة إلى ما هو أسمى وأرفع، فقد حث، بصريح العبارة، على المبادرة إلى تقديم النصح والمشورة بما يشعر بالإلزام.

فلا شك أن في إصرار الإمام على استنطاق الأمة ودفعها إلى لعب دورها الطبيعي في النقد وتقديم النصح مرامي بعيدة الغور لعل البعض منها يمكن تشخيصه بمعونة القرائن والدلالات بل والايحاءات المختلفة، وقد يكون إشراك الناس في مسيرة الكدح لكشف الحقائق الاجتماعية العامة هي واحدة من تلك المرامي.

ولعل ثانيها يستهدف الوظيفة التربوية، لأفراد المجتمع، الذي ينطوي كل واحد منهم على استعدادات وملكات مضمرة تحتاج دائماً إلى محرضات من الخارج إلى جانب المحفزات الذاتية لتأخذ طريقها إلى الوجود ولا يستطيع أحد الحكم بحدودها قبل اختبارها واستنفاذ أقصى طاقتها، وهنا لا تنحصر مهمة كشفها على الفرد بل الأمة وقيادتها مسؤولتان في المستوى نفسه، ويعد التساهل في حق ترجمتها جريمة لا تقع نتيجتها على طرف دون الآخر.

وهنا تمتاز القيادة الإلهية عن غيرها في ملاحظة بل تحسس واجباتها تجاهه، فالأولى تعتبر معالجة هذا الأمر من جملة تكاليفها بل في مقدمتها في المقابل قد لا تشعر الثانية بالحاجة إلى

ص: 258


1- نهج البلاغة، (م، س) ج 2، ص 201-202.

معالجتها، إلا في لحظة يقظة ضمير، ولا يخفى في هذا المورد وجود الكثير من الدواعي لكبتها ومنعها من الظهور كالخوف من منافسة الآخر، وتهديده لمصالح القيادة السياسية. وهذا ما يفسر الكثير من الممارسات والتشريعات غير المسؤولة التي قد تطالعنا بها الأنظمة وأجهزتها التنفيذية.

في هذا الإطار، شدد الإمام على مسؤولية ولي الأمر والحكومة في عدم استبعاد أحد وضرورة مشاركة الجميع في تصويب وتوجيه سياسات الدولة والقيادة يستوي في ذلك النخب من أهل العلم والفضيلة وغيرهم، «فليس امرؤوإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته بفوق أن يعاون على ما حمّله الله من حقه ولا امرؤ وإن صغرته النفوس واقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه» (1).

وهذا حق للرعية وليس مِنَّة من الحكومة أو القائد بل هي واجب مفترض الامتثال، ووفق ما يستفاد من منطوق أحد النصوص فإن القضايا العامة بكل تفاصيلها مطروحة للتداول في المجتمع، يخرج منها بعض القضايا التي قد تحتمها الضرورات الأمنية «ألا وإن لكم عندي أن لا أحجز دونكم سراً إلا في حرب، ولا أطوي دونكم أمراً إلا في حكم، ولا أؤخر لكم حقاً عن محله ولا أقف به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء، فإذا فعلت ذلك، وجبت الله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة وأن لا تنكصوا عن دعوة ولا تفرطوا في صلاح ... فخذوا من أمرائكم، وأعطوهم من أنفسكم ما يصلح الله به أمركم» (2).

وفي إشارة إلى أهمية استنطاق الناس وسبر اتجاهاتهم وآرائهم فيما يخص سلوك الحاكم ومقدار صلاحه يدعو عليه السلام إلى تفحص مدى رضى العامة وقبولها بأدائه وسلوكه، فإن استقامة الصالحين يستدل بها، كما عبّر الإمام بما يجري الله على ألسن عباده (3).

هذه الروح التي سادت نصوص الإمام في النهج، تتطابق بل تتسانخ وتلك التي نفقهها من ظاهر بعض النصوص القرآنية التي تُرجع مسؤولية معالجة القضايا العامة والتفكر في شأنها وتداول سبل حلها إلى المؤمنين أنفسهم «وأمرهم شورى بينهم» (4).

يبقى أن نشير إلى أن الشورى مع أهميتها وانبساطها على الأمة كلها لا تستغني عن مرجعية صالحة للبت بالأمر، «فإذا عزمت فتوكل»، وهذا ما يظهره الإمام في معرض ردِّه على ابن عباس الذي أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه عليه السلام: «لك أن تشير عليَّ وأرى، فإن

ص: 259


1- (م، ن) ص 199-200.
2- (م، ن) ج 3، ص 79.
3- (م، ن) ص 83.
4- سورة الشورى آية 38.

عصيتك فأطعني (1). وعبر عنها أيضاً في خطاب عام للناس «وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين آمركم» (2).

ما قدمته، هو مجرد مقاربة نظرية، آمل أن تكون قد لامست بعض حقيقة الشورى في فكر الإمام وهي بحاجة إلى الإغناء الدائم، لأن النظر في هذه المفردة الحيوية تستلزم الغوص في بحر الرؤية الشاملة، وهذا مدعاة لعمق النظر وسعة الأفق وبعد البصيرة ومثلي لا يجازف في ادعائها، وهل بمقدور المتعلم على سبيل نجاة أن يحوط بمدارك العالم الرباني؟

أخيراً، أتقدم بالشكر المفعم بمشاعر الحب والاحترام من المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية في دمشق ومن مسؤولها الكريم فضيلة الشيخ محمد شريعتي، آملًا المزيد من العطاء في مسيرة الحق والسلام.

الحواشي:

(1) ابن أبي طالب الإمام علي (علیه السلام) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج 4، ص 48.

(2) «العقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك»، (م، مس) ج 3، ص 52-53 م).

(3) نهج البلاغة، (م، س) ج 4، ص 41.

(4) (م، ن) ج 2، ص 191-200.

(5) نهج البلاغة، (م، س) ج 2، ص 201-202.

(6) (م، ن) ص 199-200.

(7) (م، ن) ج 3، ص 79.

(8) (م، ن) ص 83.

(9) سورة الشورى آية 38.

(10) نهج البلاغة، (م، س) ج 4، ص 76.

(11) (م، ن) ج 1، ص 84.

ص: 260


1- نهج البلاغة، (م، س) ج 4، ص 76.
2- (م، ن) ج 1، ص 84.

كلمة الختام

اشارة

ص: 261

سماحة حجة الإسلام الشيخ محمد حسن أختري

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا أفضل الأنبياء

والمرسلين وسيد السفراء المقربين العبد المؤيد والرسول المسدد المحمود الأحمد أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أولاده الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى وصيه ووارثه أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين على عليه أفضل صلاة المصلين.

يشرفني في هذا اللقاء المبارك والحفل الكريم وهذا المؤتمر الجليل أن أقدم لكم أولاً التهنئة والتبريكات بمناسبة ذكرى مولد مولود الكعبة الإمام علي بن أبي طالب وحفيده وولده الإمام أبي جعفر محمد بن علي الجواد عليهم السلام، كما أقدم التبريكات والتهاني إلى الأمة الإسلامية وقائدها الإمام آية الله الخامنئي وإليكم جميعاً.

إن هذا المؤتمر وحيد في نوعه وفريد في مضامينه إن اجتماعنا في هذا المؤتمر وهذه المناسبة الكريمة ليس إلّا من نتائج وثمار العلاقات الوطيدة والعميقة القائمة بين إيران وسوريا وفي ظل ورعاية الرئيسان الرئيس هاشمي رفسنجاني والرئيس حافظ الأسد.

إن إقامة هذا المؤتمر في هذا البلد الكريم والصديق ليبعث السرور في القلب، أن

ص: 262

يُقال ويُتحدث عن إمام كبير وعن كلام بليغ جليل، لقد استفدنا واستفدتم، ولقد أفاد وأجاد المحققون المتحدثون فبارك الله فيهم وشكر الله سعيهم وسعيكم لمشاركتكم وحضوركم في مثل هذا المؤتمر الكريم وشكراً لكم، ولا يسع المجال للحديث والوقت قد انتهى والمؤتمر قد انتهى إلّا أنني أُذكِّر عملاً بقوله تعالى: (إن الذكرى تنفع المؤمنين).

ما قيل وما يقال ليس إلّا قطرة من البحر الواسع للإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام الذي كان كلامه فوق كلام المخلوقين ودون كلام الخالق، كما قال الأئمة: «إن كلامنا صعب مستصعب»، فعلى الباحثين والمدققين أن يدققوا أكثر فأكثر، إن في نهج البلاغة من العلوم ما يحتاج إليه الإنسان لأن في كلام الأئمة «علیهم السلام» وفي كلام النبي محمد«صلی الله علیه و آله و سلم» ما يتسع لكل العلماء والمحققين أن يبحثوا فيه، ففي كلامهم وفي نهج البلاغة خاصة من العلوم ما يسع عصرنا هذا ويسع المستقبل كما وسع المجتمع الذي قبلنا، ونحن بحاجة إلى دراسة عميقة في كلام الأئمة وفي نهج البلاغة خصوصاً، وأنا أتمنى أن ندرس كلنا في هذه المدرسة حيث لازال هذا الكتاب بعيداً عنا لأننا لم ندرس هذا الكتاب بما يستحقه من دراسة مع أن له من الشروح ما لا يقل عن ستين شرحاً حسب ما عرفناه من كتب التاريخ وما بين أيدينا من الشروح، فلا يعرف هذا الكتاب كثير من المسلمين فتعالوا ندخل هذه المدرسة الكبيرة ونطبق مايدرِّسنا به الإمام الهادي المرشد ما ينفعنا في حياتنا، والحياة الصالحة تكون بتطبيق أحكام ومعارف هذا الكتاب المقدس الذي هو بعد القرآن منزلة، أليس هو كلام الإمام القائل: «لا يرقى إلىَّ الطير».

وأكرر شكري ثانياً لكل الباحثين والمحققين وأتمنى أن يا سوا هذا الكتاب أكثر فأكثر في مختلف علومه الواسعة التي تشمل كل نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والعرفانية والعقائدية والأخلاقية، فتعالوا نأخذ درساً من هذا المؤتمر في أن نمعن في دراسة هذا الكتاب ونجعل منه أسوة لنا في حياتنا.

وفي الختام أشكر مستشاريتنا الثقافية في دمشق لاقامة هذا المؤتمر وأشكر جميع الأخوة والأخوات المشاركين فيه ونتمنى أن يوفقنا الله تبارك وتعالى لما فيه الخير والصلاح وأن نكون تلاميذ لنهج البلاغة وللإمام أمير المؤمنين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 263

ص: 264

الموضوعات التي لم تلق في المؤتمر

ص: 265

ص: 266

أثر نهج البلاغة في مصادر الفكر السياسي الاسلامي

محسن الموسوي

مصادر الفكر السياسي كثيرة ولا يمكن أن تحصى عدداً، وأول مصدر للفكر السياسي الإسلامي هو القرآن الكريم، ومن بعده كتب الصحاح، ثم كتب العقائد والفقه والتفسير، حيث نجد فيها مباحث الإمامة، الحقوق، الحدود، البغاة وأهل الذمة، القضاء، الخراج، إلى آخره من الموضوعات السياسية، ويأتي بعد هذه المصادر في الأهمية كتب التأريخ والتراجم وكتب الأدب والبلاغة التي تتضمن وصفاً لأحداث سياسية مرت في التاريخ الإسلامي.

ص: 267

وبعد هذه المصادر الرئيسية، تأتي مصادر أخرى كتبها علماء مجتهدون استندوا في دراساتهم على الأصول الأولى من القرآن والسنة. وحاولوا من خلال بحثهم أن يستنبطوا أفكاراً سياسية تحقق لهم أغراضهم التي وضعوا كتبهم من أجلها. فبعضهم حاول أن يستنبط نظرية سياسية من المصادر الأولى والبعض حاول أن يُقدم دراسة شافية للسلطان كي يتمكن من إدارة دفة الأمور. والبعض حاول أن يقدم من خلال دراسته رؤية عن المشاكل السياسية التي تعاني منها الأمة وطرق معالجتها، والبعض الآخر جاء على ذكر المواضيع السياسية عرّضاً. ولا ريب إن أكثر مَن كتبوا في هذه الموضوعات تأثروا بخطب الإمام علي (علیه السلام)، وقسم كبير منهم جاؤوا على ذكر هذه الخطب في مواطن الاستشهاد والذي يهمنا هو أن نتناول هذه المصادر لاعتبارين الأول، إن أغلب أصحاب هذه التأليفات هم من المجتهدين القادرين على الاستنباط، وفي موارد الاستنباط كلمات وخطب الإمام أمير المؤمنين. والاعتبار الثاني؛ إن هذه الكتب هي المصادر الرئيسية التي بين أيدي الدارسين والباحثين في الفكر السياسي الإسلامي، والتي لا يمكن لأي كاتب أو باحث في الفكر السياسي الاستغناء عنها.

وسنتناول أثر نهج البلاغة على هؤلاء المؤلفين بحسب التسلسل التأريخي.

عبد الله بن المقفع: متوفى سنة 142 ه:

من أئمة الكتّاب، وأول من عني في الإسلام بترجمة كُتب المنطق. ترجم له، ابن النديم في الفهرست ذاكراً اسمه بالفارسية روزبه، ويكنى قبل إسلامه أبا عمرو، فلما أسلم اكتنى بأبي محمد، وكان يكتب لعيسى بن علي الوالي على الكرمان ويذكر من كتبه الأدب الصغير والأدب الكبير.

عند التفحص في كتابه الشهير «الأدب الصغير والأدب الكبير ورسالة الصحابة» نلاحظ تأثره البالغ بالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حتى إنه اعتاد على نقل نصوص من خطب الإمام دون أن يذكر اسم الإمام، وما ذلك إلا تخفياً من السلطات العباسية التي كان يعمل موظفاً لديها. وقد أشار إلى ذلك دون أن يُدلي بما هو أكثر، فذكر في الأدب الصغير.

وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام (الناس) المحفوظ حروفاً (1).

فمن هم هؤلاء الناس يا ترى؟ يذكر صاحب مقدمة الكتاب وهو يوسف أبو حلقة:

ص: 268

فيرى (أي ابن المقفع) أن البناء الأول في النثر العربي الأدبي الفني كان عند أمير المؤمنين الإمام علي في نهج البلاغة (2).

كما ويشير إلى ذلك، محمد كرد علي في ترجمته لحياة ابن المقفع:

وقيل أنه تخرج في البلاغة بخطب علي بن أبي طالب (3).

فهل كان الإمام علي (علیه السلام) هو مثله الأعلى في الحكم والسياسية كما هو في الأدب؟

الأدب الصغير والأدب الكبير ورسالة الصحابة «الدرة اليتيمة».

يحاول ابن المقفع ومن خلال كتاباته أن يرسم نظرية سياسية. فالاتجاه السياسي هو الغالب على كتاباته، وحتى القسم الذي ترجمه من الفارسية الغالب عليه الجانب السياسي. ومن كتبه الشهيرة الأدب الصغير والأدب الكبير ورسالة الصحابة التي طبعت في كتاب واحد، وتضمنت مجموعة نثرية جاءت في صياغتها على نسق رسائل الإمام علي عليه السلام الخاصة في ولاته، ووصاياه إلى أبنائه. وبالرغم من أنه لم يذكر اسم الإمام في كتابه مطلقاً، إلا أنه أخذ من الإمام الكثير من أقواله وخطبه.

وهذه نماذج عما نقله في «الأدب الصغير والأدب الكبير».

يقول في ص 49: ومن نصب نفسه للناس إماماً في الدين فعليه بتعليم نفسه وتقديمها في السيرة والطعمة.

وهي مأخوذة من كلمة الإمام علي عليه السلام: من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه (5).

ويقول ابن المقفع في ص 52: ثم على الملوك بعد ذلك تعهد عمالهم وتفقد أمورهم حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن ولا إساءة مسيء ... وهذا أيضاً مأخوذ من الإمام علي عليه السلام من رسالته إلى مالك الأشتر ولا يكن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة (6). ويقول في ص 53: والدنيا دول، فما كان منها لك أتاك على ضعفك وما كان عليك لم تدفعه بقوتك.

وهي عبارات نقلها ابن المقفع من أمير المؤمنين عليه السلام:

وإن الدنيا دار دول، فما كان منها لك أتاك على ضعفك وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك (7).

ص: 269

وجاء في الصفحة 62: العجب آفة العقل، واللجاجة معقود الهوى؛ وهو قريب لكلام أمير المؤمنين عليه السلام:

عجب المرء بنفسه أحد حساد عقله (8).

ويذكر في الصفحة 84: الظفر بالحزم والحزم بإجالة الرأي والرأي بتكرار النظر ويتحصين الأسرار.

وهو كلام منقول نصاً للإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

الظفر بالحزم والحزم بإجالة الرأي والرأي بتحصين الأسرار (9).

ويقول ابن المقفع في الصفحة 89؛ سمعتُ العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق، ولا غنى كالرضى.

وهو أيضاً مستمد من كلام أمير المؤمنين عليه السلام:

لا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب ولا عقل كالتدبير ولا كرم كالتقوى ولا قرين كحسن الخُلق ولا ميراث كالأدب، ولا قائد كالتوفيق، ولا تجارة كالعمل الصالح ... إلى آخر الخطبة (10).

ويورد على الصفحة 46 من الأدب الصغير؛ وعلى العاقل-ما لم يكن مغلوباً على نفسه-أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يُفضي فيها إلى إخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه، وينصحونه في أمره، وساعة يُخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها مما يحل ويحمل. وقد استوحى هذه الجمل من كلام أمير المؤمنين عليه السلام؛ للمؤمن ثلاث ساعات ساعة يُناجي فيها ربه وساعة يرُمَ معاشه وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها (11). وجاء في نهاية الأدب الكبير أو «الدرة اليتيمة»:

اني مخبرك عن صاحب، كان أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما أعظمه عندي، صغر الدنيا في عينه كان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد ولا يُكثر إذا وجد، وكان خارجاً من سلطان فرجه فلا يدعو إليه مروءته، ولا يستحق رأياً ولا بدناً، وكان خارجاً من سلطان الجهالة فلا يقدم إلا على ثقة أو منفعة، وكان أكثر دهره صامتاً فإذا قال بذّ القائلين، كان يُرى متضعفاً مستضعفاً فإذا جاء الجد فهو الليث عادياً. وكان لا يدخل في دعوى ولا يُشرك في رأي ولا يدلي بحجة حتى يجد قاضياً عدلاً وشهوداً عدولاً، وكان لا يلوم أحداً على ما قد

ص: 270

يكون العذر في مثله حتى يعلم ما اعتذاره. وكان لا يشكو وجعاً إلا مَن يرجو عنده البرء، ولا يصحب إلا مَن يرجو عنده النصيحة. وكان لا يتبرم ولا يتسخط ولا يتشهى ولا يتشكى فهو لا ينتقم من الولي-ولا يغفل عند العدو، ولا يخص نفسه دون إخوانه بشيء من اهتمامه وحيلته وقوته (12).

وهذا الكلام مستوحى أيضاً بكامله من خطبة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام مطلعها:

كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه ... إلى آخر الخطبة (13). نكتفي بهذا القدر من هذه الاقتباسات التي قام بها ابن المقفع من خطب وكلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وقد لاحظنا كيف أنه ينقل كلاماً للإمام مع بعض التغيير الطفيف وفي بعض المرات دون أدنى تغيير وقد دفع هذا النهج ببعض الكتّاب إلى تصورات خاطئة بعيدة عن الواقع. فقد تصور الأستاذ محمد كرد علي إن الشريف الرضي أخذ كلامين لابن المقفع هما (وعلى العاقل ... الخ) و(إني مخبرك عن صاحب ... الخ) إنه نسبهما للإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

نورد تعليقه على كلام ابن المقفع (إني مخبرك ... الخ)..

وقد أورد الرضي في نهج البلاغة هذا الوصف ونسبه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بتحريف وزيادة (14).

ثم يستنتج بعد ذلك قائلاً:

ونرجح أن عزو هذا الكلام إلى علي بن أبي طالب أو إلى الحسن بن علي، هو من فعل من أضافوا على كلام أمير المؤمنين ما ليس منه سامحهم الله (15).

ثم يشير إلى نفس الملاحظة عند تعليقه على الكلمة الثانية لابن المقفع (وعلى العاقل ... الخ) فيقول:

ومن ذلك ما نسبه لعلي وهو لابن المقفع «للمؤمن ثلاث ساعات يناجي بها ربه ... الخ» (16). ولمناقشة الأستاذ محمد كرد علي نورد هذه الملاحظات:

1-خلط الأستاذ محمد كرد علي بين ما هو مذكور في نهج البلاغة وما هو مذكور في الأدب الصغير، ف «للمؤمن ثلاث ساعات يناجي بها ربه ...» هو كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة، أما كلام ابن المقفع فهو «وعلى العاقل ... الخ».

ص: 271

2-هناك فرق ملموس بين ما أورده الشريف الرضي وبين ما جاء في الأدب الصغير والأدب الكبير، فقد بدأ ابن المقفع بعبارة «إني مخبرك عن صاحب كان أعظم ... الخ» و «على العاقل ...» وهما في نهج البلاغة بشكل آخر هو «كان لي فيما مضى أخ في الله ...» و«للمؤمن ثلاث ساعات ...» كما مر سلفاً.

3-هناك نصوص كثيرة ذكرنا قسماً منها أوردها ابن المقفع وهي من كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) ولم يُغير فيها ابن المقفع أي تغيير فماذا يقول محمد كرد علي في هذه النصوص هل نقلها الشريف الرضي عن ابن المقفع أيضاً.

4-ذكر ابن المقفع في بداية الأدب الصغير، أنه وضع هذا الكتاب من كلام الناس، ولم يذكر اسم الذين نقل عنهم، وطبعاً على رأسهم كما عرفنا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

5-أقرّ الأستاذ محمد كرد علي بهذه الحقيقة أيضاً عندما ذكر في كتابه أمراء البيان، وقيل إنه تخرج في البلاغة بخطب علي بن أبي طالب. ثم يقر ذلك في النتيجة النهائية التي ينتهي إليها:

وما نخال ذلك كافياً في بلوغ الغرض لقلة المأثور من تلك الخطب يومئذ.

فالأستاذ محمد كرد علي يقلل من تأثير خطب الإمام على ابن المقفع بحجة إنها لم غير كافية أو متوفرة بشكل كاف حتى يتخرج عليها أديب كبير كابن المقفع.

ولو كان الأستاذ كرد علي قد اطلع على رأي المسعودي في مروج الذهب حيث أشار إلى حفظ الناس لخطب الإمام (17) وقد بلغ عدد الخطب التي حفظها الناس أكثر من أربعمائة وثمانين خطبة. وهذا يكفي للدلالة على صحة نظرية القائلين بأن ابن المقفع تخرج على خطب الإمام عليه السلام.

6-عندما ندقق في كلام أمير المؤمنين (ليس للعاقل ... الخ) نجد أنه ورد في كتاب المحاسن بسنده عن الأصبغ بن نباتة المتوفى سنة 100 للهجرة (18) أي قبل أن يولد ابن المقفع بست سنين، وهذا ما يؤكد لنا أن النص هو للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وليس لابن المقفع أي دور سوى نقل هذا النص كما هو عادته في نقل نصوص أخرى للإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

ص: 272

أبو عثمان عمروبن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255 للهجرة:

كبير أئمة الأدب، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة (19). مولده ووفاته في البصرة، فلج في آخر عمره، وكان مشوّه الخلقة ومات والكتاب على صدره، قتلته مجلدات من الكتب وقعت عليه. له تصانيف في كل فن له مقالة في أصول الدين ومن أحسن تصانيفه وأمتعها الحيوان، وكذلك البيان والتبيان (20).

وبحكم اهتمام الجاحظ بالأدب والبلاغة فقد تأثر بخطب وكلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، حتى أنه ألف مجموعة اختار فيها مائة كلمة لأمير المؤمنين اختار الشريف الرضي جملة منها وأثبتها في النهج (21). روى ذلك الخطيب الخوارزمي بسنده عن أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر صاحب أبي عثمان الجاحظ: كان الجاحظ يقول لنا زماناً: إن لأمير المؤمنين عليه السلام مائة كلمة-كل كلمة-منها تعني بألف كلمة من محاسن كلام العرب قال: وكنت أسأله دهراً بعيداً أن يجمعها لي ويمليها علي وكان يعدني بها، ويتغافل عنها، ضناً بها، قال: فلما كان آخر عمره أخرج جملة مسودات مصنفاته فجمع منها تلك الكلمات وأخرجها إلي بخطه فكانت الكلمات المائة هذه (22) وقد أورد الجاحظ كلمات الإمام أمير المؤمنين في جميع كتبه البيان والتبيين الحيوان والمحاسن والأضداد التاج.

1-المحاسن والأضداد (23):

وهو يشتمل على موضوعات متنوعة تصب في هدف المؤلف من تأليفه وهو إبراز الفضائل والرذائل في كل صنف من صنوف الصناعات، وفي كل طبقة من طبقات المجتمع.

يقول الجاحظ عن كتابه في المقدمة:

وجملة الكتاب وإن كثر ورقه فليس مما يحل لأنه وإن كان كتاباً واحداً، فأنه كتب كثيره في خطابه والعلم بالشريعة والأحكام والمعرفة بالسياسة والتدبير (24).

ويتضمن الكتاب جملة موضوعات أخلاقية منها ما يتعلق بحكام البلاد مثل محاسن المشورة وضده محاسن الولايات وضده، محاسن الشجاعة وضده محاسن حب الوطن وضده، محاسن الدهاء والحيل وضده ... إلى آخره.

ولا يُخفي الجاحظ تأثره بخطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام سواء أذكر اسمه في

ص: 273

طيات في كتبه أو لم يذكره.

وفي فصل محاسن المودة ينقل هذه الوصية للإمام أمير المؤمنين (25) إلى ولده الحسين(علیه السلام): ابذل لصديقك كل المودة ولا تطمئن إليه كل الطمأنينة، وأعطه كل المواساة ولا تفشي إليه كل الأسرار (26).

ثم يذكر موقف الإمام علي (علیه السلام) من معاوية عندما اتصل به مسير معاوية فقال: لا أرشد إليه قائده ولا أسعد رائده ولا أصاب غيثاً، ولا سار إلا ريثاً، ولا رافق إلا ليئاً، أبعده الله وأسحقه وأوقد على أثره وأحرقه، لا حطَّ الله رحله، ولا كشف محله، ولا بشر به أهله، ولا زكي له مطلب، ولا رحب له مذهب، ولا يسر له مراحاً، ولا فرج الله له غمه، ولا ولا سرى همه لا سقاه الله ماء، ولا حل عقده، ولا أروى زنده وجعله الله سفر الفراق وعصى الشقاق (27).

وحول محاسن الدنيا نقل هذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السلام.

الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها إلى آخر الخطبة (28).

ثم يذكر الجاحظ، عندما دخل علي صلوات الله عليه المدائن فنظر إلى إيوان كسرى أنشد بعض أصحابه شعراً (وذكر الشعر). فقال علي صلوات الله عليه: أبلغ من ذلك (يعني الشعر) قول الله تعالى: (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) (29).

2-كتاب الحيوان: (30)

وهو يتناول الحيوانات وما يرتبط بها من أدب، وأخبار وروايات، ويحاول الجاحظ أن يستنبط من حياة الحيوان العبر التي تنفع الإنسان في مجالات حياته المختلفة.

وذكر الجاحظ في هذا الكتاب الكثير من كلمات الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) لا مجال لذكرها جميعاً لتنوع أبوابه، لكن نأخذ بعض ما يهمنا في الفكر السياسي. فحول إمارات النباهة، يذكر ما يلي:

وكان يُقال: يُستدل على نباهة الرجل في الماضين بتباين الناس فيه، وقال: ألا ترى أن علياً رضي الله عنه قال: يهلك فيّ فئتان محب مفرط، ومبغض مفرط. وهذه صفة أنبه الناس وأبعدهم غاية في مراتب التدين وشرف الدنيا (31).

ومن مشتقات البيضة، يذكر هذه الكلمة للإمام علي عليه السلام: أنا بيضة البلد (32).

ص: 274

وحول استعارات اليعسوب، وهو فحل النحل يستشهد بكلام الإمام قائلاً:

وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صلاح الزمان وفساده، «ماذا كان ذلك ضرب يعسوب الدین بذنبه» (33).

وللجاحظ بالإضافة إلى هذين الكتابين كتاب التاج في أخلاق الملوك، وهو کتاب أخلاقي سياسي كتبه على نسق وصايا أمير المؤمنين عليه السلام لولده الحسن، وقد جمع فيه جملة أفكار استعارها من كلمات وحكم الأولين ومنهم أمير المؤمنين عليه السلام (34).

أبو جعفر البرقي المتوفى سنة 374 أو سنة 280:

هو أبو جعفر أحمد بن محمد البرقي، ذكره الطوسي قائلًا:

أصله كوفي، وكان جده محمد بن علي حبسه يوسف بن عمر والي العراق بعد قتل زيد ابن علي بن الحسين عليه السلام، ثم قتله، وكان خالد صغير السن فهرب مع أبيه عبد الرحمن إلى برقة قم فأقاموا بها، وكان ثقة في نفسه، غير أنه أكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل وصنف كتباً كثيرة منها المحاسن وغيرها (35).

وذكر ابن النديم، باسم آخر هو أبو عبد الله محمد بن خالد البرقي، وذكر أنه من أصحاب الرضا، وذكر كتبه: كتاب العويص كتاب التبصرة، كتاب المحاسن كتاب الرجال، وفيه ذكر من روى عن أمير المؤمنين عليه السلام (36).

كتاب المحاسن (37)

الكتاب كما قيّمه المصحح السيد محمد صادق بحر العلوم في المقدمة:

إن كتابه هذا كان مرجعاً لعلماء التاريخ والجغرافية والتراجم، كما كان مرجعاً لعلماء الحديث.

والكتاب يتضمن موضوعات سياسية مثل الإمامة والولاية، والعدل، ويضم كتاب مصابيح الظلم على موضوعات من قبيل البدع، إظهار الحق ويضم كتاب الصفوة والنور والرحمة على موضوعات الولاية، والمؤمن وصفاته الأساسية وهي المعرفة والحب اللتان لهما طابعاً سياسياً. وفي كتاب عقاب الأعمال يُبين بعض الموضوعات المتعلقة بموقف الإنسان مثل عقاب من شك في علي، عقاب مَن أنكر آل محمد، عقاب مَن لم يعرف إمامه عقاب مَن اتخذ إمام

ص: 275

جور، عقاب من نكث صفقة الإمام، والكتاب يتضمن الكثير من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام، بل عدّه العلامة عبد الزهراء الخطيب من مصادر نهج البلاغة (38)، حيث اعتمد عليه في الكثير من الكلمات القصار.

وأورد البرقي كلمات الإمام في الموضوعات السياسية بالإضافة إلى الموضوعات الأخرى فذكر في الصفحة 72 عن الإمام أنه قال: ثلاث موبقات، نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة.

وأورد في كتاب مصابيح الظلم (من المحاسن) كلام أمير المؤمنين عليه السلام:

أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير وجوعها طويل (39).

نكتفي بهذا القدر القليل لأن ما ورد في الكتاب كثير من كلمات الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) بل نستطيع أن نجزم أن الكتاب كله تقريباً هو من كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام). أو كلمات أبنائه الأئمة من أهل البيت عليهم السلام.

أبو محمد عبد الله بن قتيبة المتوفى سنة 276 ه:

عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدنيوري، عالم مشارك في أنواع من العلوم، كاللغة والنحو وغريب القرآن ومعانيه وغريب الحديث والشعر والفقه والأخبار، وأيام الناس وغير ذلك. سكن بغداد وحدّث بها، وولي القضاء في دنيور وتعتبر كتب ابن قتيبة من المصادر المهمة لنهج البلاغة. وتتجلى الأغراض السياسية في كتابين للمؤلف هما عيون الأخبار الإمامة والسياسة.

1-عيون الأخبار (40)

حقاً يُعتبر هذا الكتاب من المصادر السياسية، لأنه اشتمل على موضوعات سياسية متنوعة خصص المؤلف الجزء الأول من الكتاب لموضوع السلطان والجزء الثاني للحرب، وذكر المؤلف في الجزئين حكايات وكلمات وحكم لا يمكن أن يستغني عن مراجعتها كل باحث في الفكر السياسي الإسلامي. فحول الإصابة بالظن والرأي يذكر كلام أمير المؤمنين عليه السلام:

إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق (41) وهو في الأصل لله در ابن عباس إنه ... الخ.

وفي فصل خيانات العمال، يذكر كلام أمير المؤمنين عليه السلام عندما كان يدخل بيت

ص: 276

المال ويقول يا حمراء ويا بيضاء، أحمري وأبيضي وغري غيري (42).

ويواصل كلامه حول خيانة الولاة، فينقل رسالة من الإمام إلى أحد ولاته بعد أن ظهرت منه الخيانة وهي؛

إني أشركتك في أمانتي، ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب والعدو قد حرب قلبت لابن عمك ظهر المجن، ففرقته مع المفارقين ... الخ (43).

ویرى ابن قتيبة إن الوالي المقصود هو ابن عباس، بينما يرفض آخرون ذلك منهم ابن أبي الحديد، وسنتناول هذا الموضوع في مكان آخر.

وفي فصل آداب الحرب ومكائدها ينقل رواية طويلة عن ابن عباس يصف بها أمير المؤمنين يوم صفين قائلاً:

ما رأيت رئيساً يوزن به لرأيته يوم صفين وكأن عينيه سراج سليط وهو يحمس أصحابه، إلى أن انتهى إلي وأنا في كثف فقال: معشر المسلمين استشعروا الخشية وعنوا الأصوات وتجلببوا السكينة وأكملوا اللوم وأخفوا الخون، وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل السلة والحظوا الشزر وأضعنوا النبر، ونافحوا بالضبا وصِلوا السيوف بالخُطا والرماح بالنبل، وامشوا إلى الموت مشياً سجحاً، وعليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنب فاضربوا شبجه، فإن الشيطان راكد في كسر نافج خصيبه مفترش ذراعيه قد قدم للوثبة يداً وأخّر للنكوص رجلاً (44).

ومن تعاليمه في الحرب يذكر ابن قتيبة، قوله لابنه الحسن:

يا بني لا تدعون أحداً إلى البراز، ولا يدعونك أحد إليه إلا أجبته فإنه بغي (45). وفي العدة والسلاك يذكر هذه الكلمة للإمام علي في السيف:

السيف أنمى عدداً وأكثر ولداً (46).

ثم يذكر إن درع علي (رضي الله عنه) صدراً لا ظهر لها فقيل له في ذلك فقال:

إذا استمكن عدوي من ظهري فلا يُبق (47).

وفي فصل آداب الفروسية يذكر هذه الكلمة للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام).

عضوا على النواجذ من الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام (48).

وفي فصل أخبار الجبناء، فيذكر كلمة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) في عمرو بن العاص:

ص: 277

عجباً لابن النابغة يزعم أني تلعابة، أعافِس، وأمارس أما وشر القول أكذبه ... إلى آخر الخطبة (49).

وفي فصل الحيل في الحروب وغيرها يذكر ابن قتيبة:

أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبد الله بن عباس لما قدم البصرة فقال:

إئت الزبير ولا تأتِ طلحة، فإن الزبير ألين وأنت تجد طلحة كالثور، عاقصاً قرنه، يركب الصعوبة ويقول هي أسهل فاقرأه السلام وقل له يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وأنكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا (50).

وفي فصل ذكر الأمصار، ذكر خطبة الإمام علي عليه السلام حين دخل البصرة:

يا أتباع البهيمة ويا جند المرأة، رَغا فأجبتم، وعُقر فانهزمتم، دينكم نفاق وأخلاقكم رقاق وماؤكم زُعاق ... الخ (51). وللإمام كلام آخر في أهل البصرة سنورده في مكانه إنشاء الله تعالى.

2-الإمامة والسياسة (52):

ويتضمن الكتاب الوقائع التاريخية من بداية الخلافة الراشدة حتى نهاية حكم الرشيد عام 195 ه. ولذا يسمى أيضاً ب (تأريخ الخلفاء). ويتسم الكتاب بالسمة السياسية لأنه يُركز على الأحداث السياسية الهامة وما دار في تلك الحقبة من التاريخ الإسلامي من حوادث وصراعات سياسية، فقد ذكر المؤلف في نهاية الجزء الثاني؛ قد تم بعون الله تعالى ما به ابتدأنا وكمل وصف ما قصصنا من أيام خلفائنا وخير أئمتنا وفتن زمانهم، وحروب أيامهم، وانتهينا إلى أيام الرشيد (53).

وقد اشتمل الجزء الأول من الكتاب على العشرات من كلمات الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) (خطبه-رسائله-كلماته الغريبة-حكمه القصار) واتخذه صاحب کتاب مصادر نهج البلاغة مصدراً لكتابه (54).

ولكثرة ما ورد في الكتاب من خطب الإمام علي عليه السلام اكتفيت بالإشارة إلى تلك الخطب مع أرقام الصفحات فهي تكفي للدلالة على أثر خطب الإمام علي عليه السلام في هذا الكتاب.

ص: 278

1-كلام الإمام علي حول الخليفة عمر ص 2.

2-محاورة الإمام علي بن أبي طالب مع العباس بعد وفاة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ص 4.

3-قول الإمام علي حول الزبير ص 10.

4-كلامه أثناء بيعته لأبي بكر ص 11.

5-احتجاج الإمام علي على المهاجرين ص 12.

6-السبب الذي دفع بالإمام علي لعدم المشاركة في السقيفة ص 12.

7-محاورة الإمام علي مع الخليفة عمر وإجباره على المبايعة ص 13.

8-كلامه أثناء بيعته للخليفة أبي بكر ص 14.

9-محاورة الإمام علي مع عبد الرحمن بن عوف حول الخلافة بعد وفاة الخليفة عمر ص 26.

10-رد الإمام علي على معاوية بن أبي سفيان في مجلس عثمان ص 30.

11-إقامة الإمام علي الحد على الوليد بن عقبة وكلامه في ذلك ص 34.

12-طلب الإمام علي من الخليفة عثمان إقالة ابن أبي سرح من عمله ص 36.

13-محاورة بين الإمام علي والخليفة عثمان حول كتاب كتبه إلى عبد الله بن أبي سرح ص 40.

14-خطبة للإمام علي (علیه السلام) قبل البيعة ص 46.

15-كتاب الإمام علي (علیه السلام) إلى معاوية ص 46-49.

16-محاورة بين الإمام علي (علیه السلام) والمغيرة بن شعبة ص 50.

17-خطبة الإمام علي بعد البيعة ص 50-51.

18-محاورة بين الإمام علي وطلحة والزبير حول البيعة ص 51.

19-جواب الإمام علي لابن عباس عندما اقترح عليه تولية طلحة والزبير ص 52.

20-جواب الإمام علي (علیه السلام) لعمار بن ياسر بعد محاولاته لتغيير مواقف بعض الصحابة من البيعة ص 53-54.

21-كتاب الإمام علي إلى أخيه عقيل ص 55-56.

22-كتاب الإمام علي إلى طلحة والزبير ص 70.

23-كتاب علي عليه السلام إلى الأحنف بن قيس ص 71.

24-كلام الإمام علي لطلحة والزبير قبل القتال ص 71-72.

ص: 279

25-تذكير الإمام علي الزبير بمواقفه السابقة ص 72.

26-مخاطبة الإمام علي لطلحة بين الصفين ص 74-75.

27-حديثه لعبد الرحمن بن أبي بكر قبل القتال ص 75.

28-محاوراته (علیه السلام) أثناء القتال الجمل، ص 76-77-78-79.

29-محاورته (علیه السلام) مع عقيل عندما أظهر الحاجة ص 80.

30-كتاب الإمام علي إلى معاوية بعد معركة الجمل ص 82.

31-وصية الإمام علي إلى ابن عباس ص 85.

32-كتاب علي (علیه السلام) إلى جرير بن عبد الله عامله على همدان ص 89-90.

33-كتاب علي (علیه السلام) إلى الأشعث بن قيس عامله علی آذربیجان ص 91.

34-كلام الإمام علي إلى جرير عندما أراد أن يرسله إلى معاوية ص 92-93.

35-كتاب الإمام علي إلى معاوية ص 93.

36-كتاب الإمام علي إلى جرير وهو في الشام ص 95-96.

37-جواب الإمام علي (علیه السلام) على كتاب معاوية ص 102.

38-تعبئة الإمام علي (علیه السلام) لأهل العراق للقتال ص 104.

39-كلام الإمام علي للأشعث عندما بعثه إلى معاوية ص 105.

40-دعاء الإمام علي (علیه السلام) معاوية إلى البراز ص 106.

41-محاوراته عليه السلام في معركة صفين ص 107.

42-خطبة الإمام علي عليه السلام لأبي محجن الثقفي ص 114.

43-خطبة الإمام علي عليه السلام بعد مفارقة بعض أصحابه ص114.

44-جواب الإمام علي على كتاب معاوية ص118.

45-قرار الإمام علي (علیه السلام) بقتال جيش معاوية ص 123.

46-رأي الإمام علي (علیه السلام) في مجلس المشورة ص 125.

47-كلام علي (علیه السلام) بعد مقتل عمار بن ياسر ص 126.

48-كلام الإمام علي قبل التحكيم ص 132.

49-كتاب الإمام علي إلى أبي موسى الأشعري بعد التحكيم ص 140.

ص: 280

50-خطبة للإمام علي (علیه السلام) بعد التحكيم ص 143.

51-كتاب الإمام علي للخوارج ص 143.

52-كتاب الإمام علي إلى ابن عباس ص 144.

53-خطبة الإمام علي (علیه السلام) لأهل الكوفة ص 145.

54-ما قاله الإمام علي عليه السلام في الخثعمي ص 146.

55-مطالبته (علیه السلام) بقتلة عبد الله بن خباب ص 147.

56-خطبة الإمام علي عند انصرافه من النهروان ص 149.

57-خطبة ل (علیه السلام) يعبىء أصحابه لقتال الخوارج ص 150.

58-كلامه عليه السلام للأشعث بن قيس الكندي ص 151.

59-جوابه (علیه السلام) لمن اقترح عليه تفريق الأموال على الأشراف ص 153

60-كتاب له عليه السلام لأهل العراق (وهو كتاب مطوّل) من صفحة 154 حتى صفحة 159.

61-كلامه (علیه السلام) لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في المنام ص 160.

62-وصيته (علیه السلام) بالرحمة لقاتله ص 160.

63-وصيته (علیه السلام) لأولاده ص 162.

إبراهيم بن محمد البيهقي كان حيا عام 320 للهجرة:

نبغ في خلافة المقتدر، له كتاب المحاسن والمساوىء (55) جاء في مقدمة الكتاب؛ كتاب وضعه إبراهيم بن محمد البيهقي أحد علماء المسلمين وأدبائهم الذين لم تحفظ تراجم حياتهم بصورة يُستطاع معها معرفتهم معرفة كاملة وكل ما ذُكر عنه في فهرست دار الكتب المصرية أنه من علماء القرن الخامس الهجري، في حين تذكر مقدمة الطبعة الأوربية أنه عاش وتبغ في عهد خلافة المقتدر العباسي (295-320 ه) (908-932 م) وإنه صاحب كتاب المحاسن والمساوىء. وقد كتبه على غرار المحاسن والأضداد، واشتمل على موضوعات سياسية، فذكر المؤلف محاسن المشورة، ومساوىء من يستشير محاسن الولايات ومساوئها، ومحاسن النظر في الظالم، محاسن العفو مساوىء تعدي السلطان. ففي محاسن المشورة ينقل عدداً من كلمات

ص: 281

الإمام أمير المؤمنين القصيرة فمما ينقله على الصفحة 371:

قال ابن عباس فلما قتل عثمان خرج علي وهو على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا على يمينه وابن القارىء على يساره وكان من أمر طلحة والزبير ما كان، وقتل طلحة عشية ذلك اليوم وأنا أرى الكراهية في وجه علي رضي الله عنه، فقال: أما والله لقد كنتُ أكره أن أرى قريشاً صرعى تحت بطون الكواكب، ولكن نظرتُ إلى ما بين الدفتين فلم أرَ يسعني إلا قتالهم أو الكفر، ولئن كان قال هؤلاء ما سمعت في طلحة وهو يشير إلى حادثة وقعت بينه وبين عمه العباس يعاتبه فيها على رد مشورته (56).

ويورد في الصفحة 358 خطبة الإمام علي عليه السلام: الدنيا دار صدق ... إلى آخرها.

والتي أوردها الجاحظ أيضاً في محاسن صفة الدنيا.

ثم يذكر خطبة الإمام عندما وقف على المقابر:

اعتبروا يا أهل الديار التي طُبق بالخراب مناظرها ويُشتد في التراب بناؤها (57). ثم يذكر القصة التي ذكرها الجاحظ عندما مر الإمام علي عليه السلام على المدائن وما قاله الشاعر ثم رد الإمام على الشاعر بما هو أبلغ.

وحول محاسن الشدة يقول: وخطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: تقول

قریش جزع ابن أبي طالب من الموت والله لعلي أنس بالموت من الطفل بثدي أمه (58).

ثم يذكر وحُكي عنه إنه قال: ما أبالي وقعتُ في الموت أو وقع الموت عليّ.

والبيهقي يُكثر من إيراد خطب الإمام في الفصول الأخرى من الكتاب والتي تدور حول موضوعات مختلفة، وقد خصص فصلًا للحديث حول محاسن أمير المؤمنين عليه السلام ومساوىء من عادى علياً أورد فيه الكثير من كلمات الإمام ومواقفه.

أبو الحسن الأشعرى المتوفى سنة 324 أو 330 للهجرة:

هو أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري، إليه تنسب الطائفة الأشعرية.

من أبرز كتبه «الرد على المجسمة» و«مقالات الإسلاميين» و«الإبانة عن أصول الديانة»

ص: 282

و«الرد على ابن الراوندي» و«اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع» وأشهر كتبه على الاطلاق هو «مقالات الإسلاميين».

مقالات الإسلاميين:

حرص الأشعري في هذا الكتاب أن يأتي بآراء جميع أهل الفرق الإسلامية وغيرها في مختلف الأصول والفروع، فهو ينقل الرأي دون أن يذكر مورد الاستناد وفي بعض الأحيان يذكر حديثاً أو قولاً لدعم بعض الآراء التي يرجحها على الآراء الأخرى ولا يشذ الأشعري عن بقية العلماء والمصنفين الذين أخذوا من كلمات الإمام علي عليه السلام وعلى سبيل المثال يذكر في قضية التحكيم قول أمير المؤمنين (علیه السلام):

قد أبيت عليكم في أول الأمر فأبيتم إلا إجابتهم إلى ما سألوا، فأجبناهم وأعطيناهم العهود والمواثيق ... وليس يسوغ لنا الغدر (59).

أحمد بن مسكويه توفي 421 ه.

مؤرخ بحاث، أصله من الري وسكن أصفهان وتوفي بها. اشتغل بالفلسفة والكيمياء، والمنطق مدة، ثم أولع بالتاريخ والأدب والانشاد، وكان قيّماً على خزانة كتب ابن العميد ثم كُتب عضد الدولة ابن بويه فلقب بالخازن، ثم اختص ببهاء الدولة البويهي وعظم شأنه عنده (60).

من أهم كتبه «تجارب الأمم وتعاقب الهمم» وهو كتاب تاريخي انتهى به إلى السنة التي مات فيها عضد الدولة (372 ه)

وله كتاب آخر هو:

تهذيب الأخلاق و تطهير الأعراق (61):

هو كتاب يخرج بين الأخلاق والسياسة والاجتماع فيعتبر مصدر من مصادر الفكر السياسي، يتخذ ابن مسكويه من الإمام علي عليه السلام مثله الأعلى في الحاكم الملتزم والإنسان المتشرّب بالأخلاق الفاضلة، وقد انعكس ذلك جلياً في موضوعات الكتاب المتنوعة التي تناولها، وكثيراً ما استشهد بكلمات الإمام أو مواقفه.

يقول في صفحة 62.

ص: 283

ومن سمع كلام الإمام صلوات الله عليه الذي صدوره عن حقيقة الشجاعة، إذ قال لأصحابه: أيها الناس إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف على الرأس أهون من ميتة على الفراش (62).

فهو مثله الأعلى في الشجاعة كذلك مثله الأعلى في الفضائل الأخرى، منها كثرة المزام التي قد يتصور البعض أنها تتناقض والشجاعة، وكان من كثرة مزاحه أن عابه بعض الناس، فقال: لولا دعابه فيه (63).

أبو الحسن الماوردى المتوفى سنة 450 للهجرة:

هو أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري، الفقيه الشافعي كان كان من وجوه الفقهاء الشافعية ومن كبارهم، وكان حافظاً للمذهب وله فيه كتاب «الحاوي» الذي لم يطالعه أحد إلا وشهد له بالتبحر والمعرفة التامة بالمذهب. وفوِّض إليه القضاء ببلدان كثيرة، واستوطن بغداد في درب الزعفراني وروى عنه الخطيب أبو بكر صاحب (تاريخ بغداد) وقال: كان ثقة (64) وكان يميل إلى مذهب الاعتزال (65).

أصولي، مفسر، أديب سياسي درس بالبصرة بغداد، وولي القضاء ببلدان كثيرة، وبلغ منزلة عند ملوك بني بويه وتوفي ببغداد (66).

أهم كتبه قوانين الوزارة الأحكام السلطانية، آداب الدين والدنيا، تفسير القرآن الكريم.

1-قوانين الوزارة وسياسة الملوك (67):

ويسمى أيضاً بأدب الوزير، أو قوانين الوزارة وسياسة الملك، ويتناول الكتاب ما يتعلق بالوزير من أحكام وآداب مشتملاً على أحاديث نبوية، وكلمات مأثورة للإمام علي عليه السلام ولبقية الصلحاء والسلاطين العادلين وهو بحق مصدر من مصادر الفكر السياسي الإسلامي، لا يستغني عنه أي دارس في الفكر السياسي الإسلامي.

وتأثر الماوردي بالإمام أمير المؤمنين هو أمر طبيعي، فهو قد عاش بين البصرة وبغداد حيث كانت خطب الإمام علي عليه السلام تنتشر في ذلك الوقت، فقد مضى نصف قرن على انتشار نهج البلاغة للشريف الرضي، كما وأن قرب الماوردي إلى ملوك بني بويه وهم من الشيعة

ص: 284

جعله قريباً إلى مذهبهم في حب علي بن أبي طالب (علیه السلام)، مما جعل بين أيديه مصادر وكتب كثيرة تحيط بخطب الإمام ومواقفه.

لم يدع الماوردي فرصة فيها ذكر الإمام إلا ومجد ذلك الإنسان الذي جمع كل الفضائل، نقل عن الجاحظ هذه الجمل؛ وليت خزانة كتب الرشيد وتصفحتُ كتبه، فلم أجد كلمة إلا وجدت لها نقيضه، إلا كلمات جاءت عن فيلسوف العرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قيمة كل امرىء ما يحسن ومن جهل شيئا عاداه، ولن يهلك امرؤ عرف قدره (68).

ويذكر الماوردي كلاماً لأمير المؤمنين في مقدمة الكتاب،

العقل حسام قاطع، والحلم غطاء سابغ (69).

وفي فصل الدفاع مهمة الوزير يستشهد بحكمة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام وهي، خذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين (70).

وحول حذر الوزير يذكر هذا الكلام لأمير المؤمنين (علیه السلام).

من حاول أمراً بمعصية الله كان أبعد لما رجا، وأقرب لمجيء ما أتقى (71).

وفي فصل العزل يذكر هذا القول لأمير المؤمنين عليه السلام:

لا خير في معين مهين ولا في صديق ضئين (72).

وحول الرأي والمشورة وهي من ضرورات الوزارة والوزير أورد هذا الكلام الأمير المؤمنين (علیه السلام):

ربما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده (73).

وفي فصل (تابع العهود) أورد هذه الحكمة لأمير المؤمنين عليه السلام:

انتهزوا هذه الفرص فإنها تمر مر السحاب (74).

وعن الدنيا وعواقب انصراف الوزير نحوها ينقل هذه الكلمة لأمير المؤمنين عليه السلام:

احذروا الدنيا فإنها غدّارة مكارة ختارة خسارة تستنكح في كل يوم بعلًا، وتستقبل في كل ليلة أهلاً، وتفرّق كل يوم شملًا (75).

2-الأحكام السلطانية والولايات الدينية (76):

وهي مجموعة من الأحكام الشرعية المتعلقة بالحكم والحكومة وإدارة الدولة، يقول المؤلف في مقدمة الكتاب.

ص: 285

وتأثر الكتاب بالنهج وصاحب النهج الإمام علي عليه السلام أمرٌ ملحوظ في هذا الكتاب لأن مؤلفه يحاول أن يستنبط من مواقف الإمام وكلماته أحكاماً شرعية من شأنها أن تنظم الحياة السياسية في الدولة الإسلامية.

3-أدب القاضي:

وهو كتاب قيم طبع في جزئين، يتناول جانب هام من جوانب الدولة الإسلامية، وهو السلطة القضائية، وعلاقة هذه السلطة بالسلطات الأخرى.

احتوى الكتاب على الكثير من المواقف القضائية للإمام أمير المؤمنين عليه السلام وهو المعروف بتلك المواقف حيث كان ملاذ الخلفاء الراشدين الذين سبقوه والذين لم يجدوا بين جميع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من هو أفضل من علي (علیه السلام) في القضاء وهم الذين سمعوا من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يقول في حق علي (علیه السلام): «أقضى هذه الأمة علي» (77) فكان من الطبيعي أن يتضمن الكتاب قصص وحكايات قضائية كثيرة وعلى كلمات للإمام علي عليه السلام في القضاء.

ومن البدء يتوّج الماوردي كتابه بكلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فيورد في المقدمة هذه الكلمة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

إن القلوب تحل كما تحل الأبدان فأهدوا إليها طرائف الحكمة (78).

ثم يذكر الماوردي وصية رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) للإمام علي عليه السلام عندما ولّاه القضاء، قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): إذا حضر الخصمان إليك، فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر، قال علي: فما أشكلت على قضية بعدها (79).

ويستدل الماوردي من هذه القضية بإنابة الإمام لأمور القضاء لمن تتوفر فيه الشروط.

وحول الإجماع في أمور القضاء وأن المناط ليس رأي الأشخاص بل المناط هو الحق يورد كلام أمير المؤمنين عليه السلام:

اعرف الحق تعرف أهله (80).

والاجماع هو أحد وسائل معرفة الحقيقة.

وحول اجتهاد القاضي يذكر الماوردي قول الإمام علي للخليفة عمر؛ إن كانا ما اجتهدا فقد غشا، وإ كانا قد اجتهدا فقد أخطأ فعليك الدية (81).

وفي فصل هل تثبت الأسماء والحدود والمقادير بالقياس، وحول تسمية النبيذ خمراً يذكر

ص: 286

حكم أمير المؤمنين في شارب النبيذ وهو ثمانين جلدة وذلك؛ لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذى افترى وحد المفتري ثمانون (82).

وفي فصل جواز التقليد في الأمور السياسية، ومنها القضاء يذكر لنا الماوردي المحاورة التي دارت بين عبد الرحمن بن عوف والإمام علي عليه السلام أثناء انتخاب الخليفة بعد عمر ابن الخطاب.

قال عبد الرحمن: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر، فقال علي: بل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأجتهد رأيي (83). فيستدل من جواب الإمام باتباعه سنة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على جواز التقليد ولكن هذا لا يسمی تقليداً، إذ التقليد هو عمل العامي برأي المجتهد. والمجتهد لا يُقلد والإمام علي عليه السلام هو مجتهد بناءً على استدلال الماوردي فهنا ينتفي التقليد أما اتباعه للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) فلاعتبار آخر هو إن السنة النبوية هي أحد مصادر الاجتهاد مثلها مثل القرآن الكريم استناداً للآية الكريمة (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (84).

وحول مراقبة الإمام لولاته وعماله يذكر رسالته إلى عبد الله بن عباس والتي جاء فيها فإن الإنسان ليسره إدراك مالم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه (85).

وحول استضافة أحد الخصمين بدون حضور الخصم الآخر يستدل الماوردي بعدم جواز ذلك من موقف الإمام علي عليه السلام عندما نزل عليه رجل فقال له الإمام. ألك خصم؟ قال نعم قال: تحول عنا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه (86).

وفي فصل القضاء على الغائب، يذكر الماوردي حكماً شرعياً مستنداً إلى رأي مالك والذي بدوره يستند إلى رأي أمير المؤمنين عليه السلام فيذكر قائلاً: وقال مالك: لا يجوز أن يحضره إذا كان من أهل الصيانة، إلا أن يعلم أن بينهما معاملة، أو خلطة فيحضره احتجاجاً بما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:

لا يعدي الحاكم على خصم إلا أن يعلم بينهما معاملة (87).

وحول جواز الاستخلاف على القضاء يذكر الماوردي هذه القضية من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 287

روى أن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: إن لي حماراً ولهذا بقرة وإن بقرته قتلت حماري، فقال لأبي بكر «اقض بينهما» فقال: لا ضمان على البهائم، فقال لعمر: اقض بينهما، فقال مثل ذلك، فقال لعلي: اقض بينهما فقال علي: «أكانا مرسلين» فقالا: لا، قال: أكانا مشدودين» قالا: لا، قال: «أفكانت البقرة مشدودة والحمار مرسلاً؟» قالا: لا، قال: «أفكان الحمار مشدوداً والبقرة مرسلة»، قالا: نعم، قال: «على صاحب البقرة الضمان» (88).

ويورد الماوردي وبالإضافة إلى ما تقدم العشرات من الحوادث القضائية المعقدة التي واجهت الدولة الإسلامية سواء أفي زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أو في زمن الخلفاء الثلاثة أو في عهده وكيف استطاع الإمام بحنكته القضائية أن يفصل في تلك القضايا المعقدة.

أبو يعلى الفراء المتوفى سنة 458 ه:

هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفرّاء، عالم خلف الفرّاء، عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون، من أهل بغداد، ولّاه القائم العباسي قضاء دار الخلافة والحريم، وحران وحلوان، وكان قد امتنع واشترط أن لا يحضر أيام المواكب، ولا يخرج في الاستقبالات، ولا يقصد دار السلطان، فقبل القائم شرطه (89). له تصانيف كثيرة منها «الإيمان» و «الأحكام السلطانية» و «الكفاية في أصول الفقه» (90).

الأحكام السلطانية (91):

يقول المؤلف في مقدمة كتابه:

فإني كنت صنفت كتاب الإمامة، وذكرته في أثناء كتب المعتمد، وشرحت فيه مذاهب المتكلمين وحجاجهم، وأدلتنا والأجوبة عما ذكروه وقد رأيتُ أن أفرد كتاباً في الإمامة، أحذف فيه ما ذكرت هناك من الخلاف والدلائل، وأزيد فيه فصولاً أُخر، تتعلق بما يجوز للإمام فعله من الولايات وغيرها (92).

فهو كتاب يدور حول الدولة والولايات وما يدور حولها من أحكام ومسائل وقد كتبه الفراء على غرار الأحكام السلطانية للماوردي الذي سبقه في تأليف الكتاب بسنوات قليلة، وعليه فقد أورد الفراء ما أورده الماوردي من استدلالات على كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.

ص: 288

فحول قتال أهل البغي أورد الفراء؛

وقد عرض قوم من الخوارج لعلي رضي الله عنه بمخالفة رأيه، وقال أحدهم وهو يخطب على منبره «لا حكم إلا لله تعالى» فقال علي: «كلمة حق أريد بها باطل»، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نبدؤكم بقتال ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا (93).

واستنبط الفراء من كلام أمير المؤمنين عليه السلام، إذا لم يخرج الخوارج عن المظاهرة بطاعة الإمام، ولم يتحيزوا بدار اعتزلوا فيها، وكانوا أفراداً متفرقين تنالهم القدرة وتمتد إليهم اليد تركوا ولم يحاربوا وأجريت عليهم أحكام أهل العدل في الحقوق والحدود.

أما إذا اعتزلت هذه الطائفة الباغية أهل العدل، وتحيزت بدار تحيزت فيها نظرت فإن لم تمتنع من حق، ولم تخرج عن طاعة، لم يحاربوا، ومورد الاستدلال هو موقف الخوارج من الإمام علي عليه السلام. عندما اعتزلت طائفة من الخوارج علياً رضي الله عنه بالنهروان، فولى عليهم عاملاً أقاموا على طاعته زماناً، وهو لهم موادع إلى أن قتلوه فأرسلم إليهم: سلموا قاتله، فأبوا، قالوا: كلنا قتله قال: فاستسلموا إذا أقتلكم فسار إليهم، فقتل أكثرهم (94).

وحول التسوية في الحكم بين القوي والضعيف والشريف والمشروف ذكر هذه الحادثة:

وقد روى عن شريح أنه قال: أصاب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه درعاً له سقطت منه وهو يريد صفين-مع يهودي، فقال: يا يهودي هذه الدرع سقطت مني ليلاً، وأنا أريد صفين-فقال: بل هي درعي وفي يدي فقدمه إلى شريح، فارتفع علي على اليهودي، ثم قال لشريح: لولا أنه ذمي لجلستُ معه مجلس الخصوم (95).

وفي فصل ولاية القضاء، وبعد أن ذكر الشروط التي يجب توفرها في القاضي، أردف الفراء قائلاً؛ والعلم بأنه من أهل الاجتهاد يحصل بمعرفة متقدمة، وباختياره ومسألته، قد قلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً قضاء اليمن، ولم يختبره لعلمه به، ولكن صار تنبيهاً على وجه القضاء، فقال: إذا حضر الخصمان بين يديك، فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر قال علي: فما أشكلت علىّ قضية بعدها (96).

وحول الديوان وهو موضوع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطة من الأعمال والأموال ومن

ص: 289

يقوم بها من الجيوش والعمال وكان أول من وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب، فأما سبب وضعه فروى؛ أن عمر استشار الناس في تدوين الدواوين فقال علي بن أبي طالب تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من المال ولا تمسك منه شيئاً (97). والإمام شيئاً (97). والإمام هو أحد الذين استشارهم الخليفة عمر كما هو مذكور في التأريخ.

الوزير نظام الملك المتوفى سنة 485 للهجرة:

هو أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق بن العباس الملقب نظام الملك قوام الدين الطوسي، كان في أولاد الدهاقين، واشتغل بالحديث والفقه ثم اتصل بخدمة علي بن شاذان المعتمد عليه بمدينة بلخ، ثم قصد داود بن ميكائيل بن سلجوق والد السلطان ألب ارسلان فظهر له منه النصح والمحبة، فسلمه إلى ولده ألب أرسلان، دبَّر أمره فأحسن التدبير، وبقي في خدمته عشر سنين فلما مات ألب أرسلان وازدحم أولاده على الملك وطّد المملكة لولده ملك شاه فصار الأمر كله لنظام الملك وليس للسلطان إلا التخت والصيد، وأقام على هذا عشرين سنة، وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والصوفية، وكان إذا سمع الأذان امسك عن جميع ماهو فيه، بنى المدارس والمساجد وأشهرها مدرسته ببغداد الذي شرع ببنائها سنة سبع وخمسين وأربعمائة (98). من كتبه أمالي نظام الملك في الحديث، مطبوع من المنشورات الحديثة (99).

سير الملوك سياست نامة (100):

مكتوب باللغة الفارسية، وطُبع بطبعتين، الأولى سياست نامة، والثانية بعنوان سر الملوك جاء في المقدمة.

أما علاقة الكتاب بنهج البلاغة فيفترض إن عهد نظام الملك قد شهد انتشار نهج البلاغة وبلغ صيته مدى واسع، وقد أخذ الكثير من كلمات أمير المؤمنين واستشهد بمواقفه.

ففي الصفحة 166 من سير الملوك أورد جواب أمير المؤمنين عليه السلام على سؤال سئل أي الرجال أشد قوة؟ أجاب الإمام مَن ملك نفسه عند الغضب، ولم يفعل ما يندم عليه.

وفي الصفحة 180 من (فصل عدم التعجل في الأعمال) نقل هذا الكلام عن أمير المؤمنين عليه السلام: التأني محمود في كل شيء إلا في عمل الخير.

ص: 290

وإلى جانب ذلك أورد نظام الملك مواقف عديدة من سيرة الإمام ومحاوراته مع الرسول الأكرم. والكتاب برمته هو محاولة من المصنف لوضع خطوط عامة أمام السلطان لإدارة دفة البلاد.

أبو حامد الغزالي المتوفى سنة 505 للهجرة:

هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي الملقب بحجة الإسلام زين الدين الطوسي الشافعي، لم يكن للطائفة الشافعية في آخر عصره مثله، واختلف إلى دروس إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وكان أستاذه يتبجج به، ولم يزل ملازماً له إلى أن توفي، فخرج من نيسابور إلى العسكر، ولقي الوزير نظام الملك فأكرمه وعظمه وفوض إليه تدريس مدرسته النظامية بمدينة بغداد (101)، فیلسوف، متصوف، له نحو مائتي مصنف مولده ووفاته في الطابران قصبة طوس بخراسان، نسبته إلى صناعة الغزل عند من يقول بتشديد الزاي، أو إلى غزله (من قرى طوس) لمن قال بالتخفيف (102). من أهم كتبه «إحياء علوم الدين» و«تهافت الفلاسفة» و «الاقتصادي في الاعتقاد» و«المنقذ من الضلال» و«فضائح البطانية» و«الولدية» وكتب أخرى، والغالب على كتبه الجانب الأخلاقي والعقدي والرد على المذاهب الفكرية والعقدية.

ومن بين كتبه «التبر المسبوك في نصيحة الملوك» كتبه بالفارسية، وهو من مصادر الفكر السياسي الإسلامي.

التبر المسبوك في نصيحة الملوك (103)

وهو كتاب أخلاقي صغير كتبه أبو حامد الغزالي للسلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي بالفارسية ثم عربه بعضهم ونقله محمد بن علي المعروف «بعاشق جلبي» إلى التركية (104) وتأثير كلمات أمير المؤمنين (علیه السلام) على الكتاب أمر ملموس في مجالين؛ الأول الطريقة التي تم بها صياغة الكتاب وهي على شكل وصايا الإمام إلى أولاده والمجال الثاني هو نقل أقوال ومواقف الإمام عليه السلام. ويكفي أن نشير إلى ما ذكره جلال الدين همداني محقق النسخة الفارسية عند حديثه حول مصادر الكتاب ما يقول:

إن من بين تلك المصادر خطب وكلمات أمير المؤمنين عليه السلام (105).

وأول ما يبدؤه الغزالي هو التحذير من مغبة الظلم، وإن هناك مَن هو فوق الملوك والسلاطين مَن يأخذ حق المظلوم من الظالم. فيورد كلاماً لأمير المؤمنين عليه السلام ويل لقاضي

ص: 291

الأرض من قاضي السماء.

ثم يتناول بالشرح سياسة الوزراء وسير الوزراء فيذكر عن كاتب أمير المؤمنين عبد الله بن رافع، قال:

كنت أكتب كتاباً، فقال لي أمير المؤمنين: يا عبد الله ألق دواتك، وأطل جلفة قلمك، ووسع بين السطور، وأجمع ما بين الحروف (106) وهو تأكيد على أهمية الاقتصاد وأهمية تحسين الخط أثناء كتابة الرسائل.

ثم ينقل محاورة فاطمة الزهراء عليها السلام مع أمير المؤمنين عليه السلام:

كانت فاطمة رضي الله عنها تطحن كثيراً بالجاروشة حتى أدمت أناملها فشكت ذلك في بعض الأيام إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال لها علي: قولي لأبيك ليبتاع لك خادمة (107).

أبو بكر الطرطوشي المتوفى سنة 530 للهجرة:

هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب القرشي الفهري الأندلسي الطرطوشي الفقيه المالكي الزاهد المعروف بابن أبي رندقة، صحب أبا الوليد الباجي وقرأ الأدب على أبي محمد بن خرم بمدينة اشبيلية، ورحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة، وحج ودخل بغداد والبصرة وكان إماماً عالماً عاملاً زاهداً ورعاً ديناً متواضعاً متقشفاً متقللاً من الدنيا راضياً منها باليسير (108) وهو من أهل طرطوشة Tartosa بشرقي الأندلس، سكن الاسكندرية فتولى التدريس واستمر فيها إلى أن توفي وكان زاهداً لم يتشبث من الدنيا بشيء. من كتبه «سراج الملوك» و«التعليقة» في الخلافيات خمسة أجزاء، وكتاب كبير عارض به إحياء علوم الدين للغزالي و «بر الوالدين» و«الفتن» و «الحوادث والبدع» و «مختصر تفسير الثعلبي» (109) ونزل بيت المقدس (110).

سراج الملوك (111):

اشتمل الكتاب كما ذكر حاجي خليفة: على جمعَ من سير الأنبياء وآثار الأولياء ومراعاة (ومواعظ) العلماء وحكمة الحكماء ونوادر الخلفاء ورتبه ترتيباً أنيقاً، فما سمع به ملك إلا استكتبه، ولا وزير إلا استصحبه، يستغني الحكيم بمدارسته عن مباحثة الحكماء والملك عن مشاورة الوزراء وذكر فيه الأمير أبا عبد الله محمد الأموي، وأبوابه أربعة وستون بابا (112).

ص: 292

وقد تضمن الكتاب مجموعة من خطب وكلمات الإمام علي عليه السلام، وبعض كلماته جرت على قلمه بعفوية دون أن يذكر اسم الإمام، ويظهر من كثرة إيراده لكلمات الإمام عليه السلام إنه نهل من نهج البلاغة حتى ارتوى به قلمه الذي أخذ يسطر على القرطاس بإيقاع من بلاغة الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) وفيما يلي بعض ما أورده.

1-أورد في الصفحة (7) محاورة الإمام أمير المؤمنين مع أسقف قد أسلم، وجاءت المحاورة ضمن مواعظ ابن السماك لهارون الرشيد.

2-أورد على الصفحة (11) الأبيات الشعرية التي قالها الإمام عند دفن السيدة الزهراء سلام الله عليها ومطلعها:

لكل اجتماع من خليلين فرقةٌ *** وإن الذي دون المسميات قليل (113)

3-أورد على الصفحة (23) وصية الإمام أمير المؤمنين إلى الحسن والحسين والتي مطلعها: أوصيكما بتقوى الله والرغبة في الآخرة (114).

4-أورد على الصفحة (24) هذه الرواية:

وروى أن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) لما رجع من صفين، فدخل أوائل الكوفة فإذا هو بقبر، فقال: قبر من هذا؟ فقالوا قبر خباب بن الأرث فوقف عليه، وقال: رحم الله خباباً أسلم راغباً، وهاجر طائعاً، وعاش مجاهداً وابتلى في جسمه آخراً. ثم وقف على القبر وقال:

السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة (115).

5-وفيما جاء في الولاة والقضاء، وما في ذلك من الغرور والخطر، نقل في الصفحة 34 هذه الرواية عن الإمام علي عليه السلام.

وروى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: بعثني رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى اليمن وأنا حديث السن، فقلت: يا رسول الله إنك تبعثني إلى قوم شيوخ ذوي أسنان ... إلى آخر (116).

6-وفي بيان الحكمة في كون السلطان في الأرض أورد على الصفحة (39) العلة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام لهذا قال علي بن أبي طالب: أمران جليلان لا يصلح أحدهما بالتفرد ولا يصلح الآخر بالمشاركة وهما الملك والرأي.

7-ثم يفرد باباً لوصية الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى كميل بن زياد (هو الباب 22 ص 53) ومطلع

ص: 293

الوصية: يا كميل إن القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك ... إلى آخر الوصية (117).

8-في الباب 23 في العقل والدهاء والخبث أورد في الصفحة 55 أبيات للإمام أمير المؤمنين مطلعها:

إن المكارم أخلاق مطهرة *** فالعقل أولها والدين ثانيها

9-وأورد في الصفحة 56 في نفس الباب قول أمير المؤمنين (علیه السلام): خير الأمور الأوسط، إليه يرجع العالي، ومنه يلحق التالي (118).

10-في الباب 28 في الحلم أورد على الصفحة 66 قول الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام): الصفح الجميل، الرضا بلا عتاب.

11-ويذكر على الصفحة 67 وسُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه كثيراً من كبراء فارس ومن أحد ملوكهم عندهم، فقال؛ لأردشير فضل السبق غير إن أحمدهم سيرة أنوشروان، قال: فأي أخلاقه كان أغلب عليه، قال: الحلم والأناة. فقال علي رضي الله عنه: هما توأم ينتجهما علو الهمة (119).

12-وفي الباب 30 في الصفحة 74 في الجود والسخاء، يذكر هذه الحكمة للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام): ما جمعت من المال فوق قوتك فإنها أنت فيه خازن لغيرك (120).

13-وفي الباب 32 على الصفحة 79 يورد الطرطوشي في الصبر (من صفات السلطان) الصبر مطية لا تكبو والقناعة سيف لا ينبو (121).

14-ويذكر قوله (علیه السلام) للأشعث بن قيس على الصفحة (80) حول الصبر والجزع؛ إن تجزع فقد استحق ذلك منك بالرحم وإن تصبر ففي ثواب الله تعالى خلف من ابنك إن تصبر جرى عليك القلم وأنت مأجور وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور (122).

15-وعلى الصفحة (81) أورد كلمة أخرى للإمام في عاقبة الصبر: والصبر كفيل بالنجاح والتوكل لا يحبطه والعاقل لا يذل بأول نكبة ولا يفرح بأول رفعة. الصبر مناضل الحدثان والجزع من أعوان الزمان (123).

16-وفي الباب 33، ص 84 وحول كتمان السر أورد هذه الحكمة، سرك أسيرك، فإذا تکلمت به صرت أسيرة (124).

ص: 294

17-وحول الشكر أورد في الصفحة (88) قال علي عليه السلام: لا تكن ممن يعجز عن شكر أوتي ويبتغي الزيادة فيما بقي ينهي ولا ينتهي، ويأمر الناس بما لا يأتي، تحب الصالحين ولا تعمل بأعمالهم وتبغض المسيئين وأنت منهم تكره الموت لكثرة ذنوبك ولا تدعها في طول حياتك (125).

18-وفي الباب 47 في سيرة السلطان في بيت المال في الصفحة 101 يورد هذا الموقف للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: عندما أشرف على بيت المال وفيه مال، فقال: يا بيضاء، يا حمراء، ابيضي، واحمري وغري غيري ثم أمر فقسم جميع ما فيه على المسلمين، وأمر قنبر أن يكنسه ويرشه ثم دخل فصلى فيه. ويعلق الطرطوشي على هذا الموقف قائلًا: ثم كثير من الملوك سادوا في الأموال على نحو هذه السيرة من ملوك الإسلام وملوك الروم.

19-وفي باب 49 في سيرة السلطان في الأنفاق من بيت المال وسيرة العمال على الصفحة 107، وقال سعيد بن جُبير إن علياً رضي الله عنه قدم الكوفة وهو خليفة وعليه إزاران قطريان قد رقع إزاره بخرقة ليست بقطرية من ورائه فجاءه أعرابي فنظر إلى تلك الخرقة، فقال: يا أمير المؤمنين، كل في هذا الطعام والبس واركب فإنك ميت أو مفتول فقال: إن هذا خير لي في صلاتي، وأصلح لقلبي وأشبه يشبه الصالحين قبلي وأجدر أن يقتدى به من أتى من بعدي.

20-الباب 55 في معرفة حسن الخلق على الصفحة 119 يذكر هذه الرواية أن علياً رضي الله عنه دعا غلاماً له، فلم يجبه فدعاه ثانياً وثالثاً فلم يجبه، فقام إليه فرآه مضطجعاً، فقال: أما تسمع يا غلام فقال نعم، قال: فما حملك على ترك جوابي، قال: أمنت عقوبتك فتكاسلت فقال: إمضِ فأنت حرّ لوجه الله.

21-وذكر قول الإمام علي عليه السلام في الصفحة:119: إنا لنص أكفاً نرى قطعها.

22-الباب 61 في ذكر الحروب وتدبيرها وحيلها وأحكامها. يُورد في الصفحة 46 عند رفع المصاحف، قال الإمام علي عليه السلام: أي قوم هذه مكيدة.

23-الباب 63 وهو جاء مع أخبار ملوك العجم، ينقل كلام أمير المؤمنين: قيمة كل امرىء ما يحس على لسان المأمور (126).

24-الباب 64 وعلى الصفحة 159 أورد هذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السلام: ما أهمني ذنب أمهلت بعد حتى أصلي ركعتين (127).

ص: 295

25-وفي الصفحة 163 يذكر مجموعة حكم للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: الساكت أخو الراضي، الكاتم للعلم كمن لا علم له المرء محبوء تحت لسانه، قيمة كل امرىء ما يحسن الحكمة ربيع القلوب الخصومة تكشف العورة وتورث المعرة، تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها، الغضب عند المناظرة منشأة للحجة، إذا فسد الأمان كسدت الفضائل وضرت ونفقت الرذائل ونفعت وصار خوف الموسر أكثر من خوف المعسر، وكلمات أخرى لا مجال لذكرها (128).

26-وفي الصفحة 165 أورد الطرطوشي، جملة من حكم الإمام السياسية التي ترتبط بسياسة الدولة وإدارتها؛ وقال علي رضي الله عنه: ما يظل فعل الله ينتطق به غثك خير من سمين غيرك. إن أحببت أن لا يفوتك ما تشتهي فأشتهِ ما يمكنك من قصد أسهل. اقطع الشر عن صدر غيرك بقطعة من صدرك، وازجر المسيء بإنابة المحسن لكي يرغب في الإحسان، لن يهلك من مالك ما وعظك، الخلاف يهدم الرأي خير الناس لغيره خيرهم لنفسه، إحسان الله مكفور عند من أصبح مصراً على ذنب مستور.

يصير التخلق خلقاً بالاجتهاد والاعتياد الحجر الغصيب في البنيان وهن على الخراب، ربما شرق شارب الماء قبل ريه رب رأي أنفع من مال وحزم أوقى من رجال من استوعب الحلال شاقت نفسه إلى الحرام من ذم الزمان لم يحمد الأخوان، بتقلب الأحوال نعلم جواهر الرجال، من عرف الزمان لم يحتج إلى ترجمان، من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد، رسولك ترجمان عقلك، الطاعة غنيمة الأكياس عند تفريط العاجز، كلما اشتد الظلام حسن ضوء السراج، الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق والتقصير عن الاستحقاق عمى أو حسد أولى الناس بالرحمة من احتاج إليها فحرمها من لم يدر قدر البلية لم يرحم أهلها. كفاك أدباً لنفسك ما كرهته لغيرها، مجالسة الأحمق غرور والقيام عنه ظفر، لا تسأل عما لم يكن فإن في الذي كان شغل البخل جامع لمساوىء العيوب وهو زمام يُقاد به إلى كل سوء (129)، يتبين لنا مما تقدم إن كتاب سراج الملوك من الكتب التي يمكن اعتبارها مصدراً من مصادر نهج البلاغة بالرغم من إن الكتاب قد كتب بعد أكثر من مائة عام من تأليف نهج البلاغة. فقد تضمن الكتاب مجموعة كبيرة من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام التي ترتبط بالحكم والإدارة وأخلاق الحاكم وعلاقة الحاكم بالرعية، وفي نفس الوقت يعتبر هذا الكتاب مصدراً مهماً من مصادر الفكر السياسي

ص: 296

فقد اعتمده كمصدر كل من كتب في هذا المجال ولا غرو أن يتخذه اثنان من أفذاذ الفكر السياسي والاجتماعي هما عبد الرحمن بن خلدون وابن الأزرق كمصدر لكتابيهما (المقدمة) و (بدائع السلك في طبائع الملك).

ابن أبي الربيع عاش في القرن السابع الهجري:

هو أحمد بن محمد بن أبي الربيع شهاب الدين أديب كان من رجال المعتصم (كما يذكر الزركلي).

سلوك المالك في تدبير الممالك (130):

يحاول المصنف في هذا الكتاب ومن خلال الأقوال التي ينقلها عن الحكماء والعلماء أن يرسم خطوطاً محددة لسياسة الدولة ينتفع بها الخليفة العباسي. وعلى رأس أولئك الذين نقل عنهم أمير المؤمنين عليه السلام، فقد جاء كتابه زاخراً بكلمات الإمام وأفكاره بعضها أشار فيها إلى الإمام والبعض الآخر لم يشر فيها إلا أنها واضحة بيئة فعلى الصفحة 81 يذكر في تأديب الأولاد؛ وأما الولد فينبغي أن يُؤخذ بالأدب من صغره، فإن الصغير أسلس قياداً وأسرع مواتاة، ولم تغلب عليه عادة تمنعه من اتباع ما يُراد منه، ولا له عزيمة تصرفه عما يُؤمر به، فهو إذا اعتاد الشيء ونشأ عليه خيراً كان أو شراً لم يكد ينتقل عنه (131).

وهذا الكلام مأخوذ من كلام أمير المؤمنين عليه السلام:

وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما أُلقي فيها من شيء قبلته (132).

وعلى هذا فقس ما سواه من الأفكار والأقوال.

فكل فقرة من الكتاب مطعمة بروح نهج البلاغة وكلمات الإمام علي عليه السلام وفي بعض الأوقات لا يرى بأساً من ذكر الإمام علي عليه السلام، دون أن يذكر غيره.

ابن الطقطقي المتوفى سنة 709 ه:

هو محمد بن علي بن محمد بن طباطبا العلوي، أبو جعفر المعروف بابن الطقطقي، مؤرخ بحاث ناقد من أهل الموصل، خلف أباه سنة 672 ه في نقابة العلويين بالحلة والنجف وكربلاء، وتزوج بفارسية من خراسان وزار مراغة سنة (696 ه) وعاد إلى الموصل، فألف فيها سنة 701

ص: 297

كتابه «الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية» وقدمه إلى واليها (فخر الدين عيسى ابن إبراهيم) (133).

الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية (134):

وهو كتاب يخرج بين السياسة والأخلاق، ويحاول من خلاله أن يرسم للوالي الذي هدى إليه الكتاب برنامجاً لإدارة أمور البلاد، وقد أبرز المصنف كغائية في الفكر السياسي وذخيرته من أقوال الأئمة والعلماء في هذا الكتاب. ولا يُشك في أن نهج البلاغة هو مصدره الأول عند تأليف الكتاب. وقد ذكر هذه الحقيقة بنفسه في مقدمة الكتاب ذاكراً اسم نهج البلاغة على غير عادة من سبقه من المفكرين السياسيين الذين ذكرناهم. والأكثر من ذلك، ذكر لنا ابن الطقطقي، حقيقة هامة قلما نجد من يعترف بها إلا من ملك الجرأة الأدبية الكافية ولم يتحيز إلى فئة، فقد ذكر في مقدمة الكتاب إن الناس كانوا متوجهين صوب المقامات الحريرية والبديعية فعدل الناس إلى نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنه الكتاب الذي يتعلم منه الحكم والمواعظ والخطب والتوحيد والشجاعة والزهد وعلو الهمة وأدنى فوائده الفصاحة والبلاغة (135).

العلامة الحلي المتوفى سنة 726 للهجرة:

هو جمال الدين أبو منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين علي بن محمد ابن مطهر الحلي المعروف بالعلامة الحلي.

ولد سنة 647 ه في الحلة وتوفي فيها من أشهر علماء الشيعة، يقول عنه السيد محسن العاملي هو العلامة على الاطلاق الذي طار ذكر صيته في الآفاق ولم يتفق لأحد من علماء الإمامية أن لقب بالعلامة على الاطلاق غيره (136).

ومن كتب العلامة)كتاب منهاج الكرامة في إثبات الإمامة)، وقد حفل الكتاب بالكثير من كلمات وخطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فأورد في الصفحة 33 عن احمد بن حنبل في تفسيره للآية (إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة)، قال أمير المؤمنين (علیه السلام): ما عمل بهذه الآية غيري وبي خفف الله تعالى عن تعالى عن هذه الأمة (137).

وأورد أيضاً في نفس الصفحة عن محمد بن كعب القرطي، قال: افتخر طلحة بن شيبة

ص: 298

وافتخر عباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب (علیه السلام)، قال علي: ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد (138).

وينقل في الصفحة 34 خصيصة لأمير المؤمنين عليه السلام قال: انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وآله حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): اجلس فصعد على منكبي فذهبت لأنهض به فرأى في ضعفاً فنزل وجلس لي نبي الله وقال اصعد على منكبي فصعدتُ على منكبه، قال فنهض بي قال: فإنه تخيل لي أني لو شئت لنلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه تمثال من صفر ونحاس فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): اقذف به فقذفت به فتكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله نستبق حتى توارينا بالبيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس (139).

وفي صفحة 38 من الكتاب ينقل عن عامر بن وائلة، قال كنت مع علي عليه السلام في البيت يوم الشورى فسمعت علياً عليه السلام يقول لهم لاحتجنَّ عليكم بما لا يستطيع عربيكم، ولا عجميكم تغيير ذلك، ثم قال: أنشدكم الله أيها النفر. ثم ذكر خطبة طويلة للإمام عليه السلام يُبين فيها فضله ومآثره.

ويسجل العلامة الحلِّي موقفاً آخر للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) عندما أصر على إجراء الحد على الوليد بن عتبة حده أمير المؤمنين وقال: لا يبطل حد الله وأنا حاضر، ويدخل عليه رجل فوجده يأكل طعاماً متواضعاً فتعجب من ذلك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: بأبي وأمي من لم ينخل له طعام (رسول الله) ولم يشبع من خبز البر ثلثة أيام حتى قبضه الله عز وجل واشترى يوماً ثوبين غليظين فخيّر قنبراً فيها، فأخذ واحداً ولبس هو الآخر، ورأى في كمه طولاً عن أصابعه فقطعه.

ويذكر موقفاً آخر للإمام علي عليه السلام تتجلى منه صلته بالله وهو في أشد الساعات يذكر على الصفحة 74، قال ابن عباس: رأيته في حرب مع معاوية بن أبي سفيان وهو يرقب الشمس، فقلت يا أمير المؤمنين ماذا تصنع، فقال: أنظر إلى الزوال لأصلي فقلت في هذا الوقت، فقال: إنما نقاتلهم على الصلاة، وهكذا يأخذ العلامة الحلي في سرد مآثر ومواقف أمير المؤمنين عليه السلام، موقف له في قضية قضائية مستعصية، عجز عن حلها الآخرون، وموقف

ص: 299

له في غزوة أحد عندما فر الكثير من ساحة الجهاد وبقي هو ونفر قليل من بني هاشم، ومواقف أخرى لا مجال لذكرها لكثرتها.

إبراهيم الشاطبي المتوفى 790 للهجرة:

هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي: أصولي حافظ ومن أهل غرناطة، كان من أئمة المالكية (140).

وهو محدث فقيه أصولي، لغوي، مفسر (141).

من كتبه «الموافقات في أصول الفقه» و«المجالس» شرح به كتاب البيوع من صحيح البخاري و «الافاءات والانشاءات» رسالة في الأدب، نشرت نبذة منها في مجلسة المقتبس و«الاعتصام».

الاعتصام (142):

يتناول الكتاب البدعة وأحكامها فهو كتاب فقهي يتعرض لمسألة سياسية اجتماعية ثقافية هي البدعة.

وقد احتوى الكتاب البدعة وأحكامها، فهو كتاب فقهي يتعرض لمسألة سياسية اجتماعية ثقافية هي البدعة.

وقد احتوى الكتاب على مجموعة من مواقف وكلمات الإمام علي عليه السلام تتعلق بهذا الموضوع، فقد تعرض الإمام أمير المؤمنين لظاهرة البدع في زمانه ومنها ظهور مذهب الخوارج، فماذا كان موقف الإمام من الخوارج؟

يذكر الشاطبي في الصفحة 42، قال ابن الكواء إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين مَن الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً؟

قال: فهم أهل حروراء.

وقد تكون البدعة حسنة، وهنا يضرب الشاطبي مثالاً على البدعة الحسنة بطلب الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) من أبي الأسود الدؤلي يوضح شيء في النحو (143).

وقد تكون البدعة هو الافراط في التعبد ويضرب مثالاً على ذلك في الصفحة 281 من الجزء الأول. روى عن الربيع بن زياد الحارثي أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أعدى

ص: 300

على أخي عاصم قال: ما باله؟ قال: لبس العباء يريد النسك، فقال علي رضي الله عنه: علي به فأتی به مؤتزراً بعباءة مرتدياً بالأخرى، شعث الرأس واللحية، فعبس في وجهه، وقال: ويحك، أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئاً؟ بل أنت أهون على الله من ذلك أما سمعت الله يقول في كتابه (والأرض وضعها للأنام ...) إلى قوله (يخرج منها اللؤلؤ والمرجان) (144). أفترى الله أباح هذه لعباده ألا يبتذلوه ويحمدوا الله عليه فيثيبهم عليه؟ وأن ابتذالك نِعم الله بالفعل خير منه بالقول، قال عاصم فما بالك في خشونة مأكلك، وخشونة ملبسك، قال: ويحك إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس (145).

ومشكلة البدع تنبع من تبعية الناس لبعض الرجال على اعتقاد أنهم أخيار فيشرعون لهم ما لم ينزل الله به من سلطان، ومن أجل ذلك أورد الشاطبي كلام أمير المؤمنين عليه السلام: إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله ... إلى آخر الكلام (146).

وفي الجزء الثاني ينقل على الصفحة 14 عن البخاري في باب من حض بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله.

ومن أسباب رواج البدعة الشح، ويذكر الشاطبي قولاً لأمير المؤمنين عليه السلام: سيأتي على الناس زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يده ولم يؤمر بذلك (147).

وهناك بدعة حسنة في الأحكام منها ما ذكره على الصفحة 118 الجزء الثاني عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: من سكر هذى ومن هذى افترى فأرى عليه حد المفتري (148). فالحكم جديد إذ لم يحدث شيء من هذا القبيل في زمن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم).

ثم يذكر الشاطبي: إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الضياع، قال علي رضي الله عنه «لا يصلح الناس إلا ذاك».

وفي بحث الفرق والفرقة الناجية، ينقل الشاطبي عن ابن وهب هذا الحديث عن علي عليه السلام: إنه دعا رأس الجالوت واسقف النصارى، فقال إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما، فلا تكتما ... إلى أن يسأله، إلا ما أخبرتني على كم افترقت اليهود من فرقة بعد موسى؟

ص: 301

فقال له ولا فرقة واحدة فقال له على: كذبت والذي لا إله إلا هو، لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة.

علي بن هذيل عاش في القرن الثامن الهجرى:

هو علي بن عبد الرحمن بن هُذيل الفزاري: أديب أندلسي من علماء الاجتماع من كتبه «عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرئاسة» قدمه إلى السلطان محمد بن يوسف النصري سنة 763 و «حلية الفرسان وشعار الشجعان» و «مقالات الأدباء ومناظرات النجباء» و«الفوائد المسطرة في علم البيطرة» و «تحفة الأنفس وشعار سكان الأندلس» و«تذكرة من أتقى» (149).

عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة (150):

والكتاب مجموعة من الحكم المرتبطة بالحياة التي يستفيد منها الحاكم والرعية لإدارة أمور الحياة والمملكة، وهو تقدمة إلى السلطان محمد بن يوسف وبوب الكتاب على أساس بداية الكلام أو بداية الحديث أو بداية الحكمة، ثم على أساس العدد. ومنهج المؤلف في الكتاب يقوم على إيراد ما ورد عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من أحاديث وحكم في الأبواب المتنوعة، وبعد الأحاديث النبوية يسرد ما جاء على لسان الآخرين من الأئمة والحكماء، وقد فصل هذا القسم من الحكم ووضع له عنوان «ومن الحكم المأثورة عن السلف وغيرهم» وفي هذا المكان أورد المؤلف الكثير من الكلمات القصيرة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام مع ذكر اسم الإمام أو بدون ذكره، وقلما ذكر موعظة أو حكمة للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إلا وأعقبها بموعظة للإمام علي عليه السلام، وعندما لا يجد المصنف كلاماً للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) يستهل به الفصل وما يناسب الموضوع يبادر إلى ذكر كلام للإمام أمير المؤمنين عليه السلام مثل ما صنع في الصفحة 10 «الفصل ثمانية» ذكر المصنف في البداية قائلاً: لم أجد في هذا الفصل حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لابنه الحسن رضي الله عنه: يا بُني احفظ عني هذه الثمانية خصال ... إلى آخر وصيته. ومعنى ذلك إن المصنف يعطي للإمام منزلة رفيعة، فهو يأتي بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) في الحكمة والموعظة والخطب والكلمات المأثورة لا ينازعه في هذا الموقع أحد من الحكماء والأدباء على رغم كثرتهم ومنزلتهم.

ص: 302

لقد أكثر المؤلف من ذكر الإمام عليه السلام وأورد في كتابه الكثير من كلماته وحكمه حتى اتخذه السيد عبد الزهراء الخطيب أحد مصادره في نهج البلاغة (151).

محمد بن الأزرق متوفى 896 ه

محمد بن علي بن محمد الأصبحي الأندلسي أبو عبد الله شمس الدين الغرناطي ابن الأزرق: عالم اجتماعي سلك طريقة ابن خلدون من أهل غرناطة، تولى القضاء بها إلى أن استولى عليها الافرنج، فانتقل إلى تلمسان ثم إلى المشرق يستنفر ملوك الأرض لنجدة صاحب غرناطة، ثم حج ورجع إلى مصر فجدد الكلام في غرضه فدافعوا عن مصر بقضاء القضاة في بيت المقدس فتولاه بنزاهة وصيانة، ولم تطل مدته هناك حتى توفي به (152).

من كتبه «الأبريز المسبوك في كيفية آداب الملوك» و «تخيير الرياسة وتحذير السياسة» و«بدائع السلك في طبائع الملك».

بدائع السلك في طبائع الملك (153):

يطغى على كتابات ابن الأزرق الطابع السياسي، وأهم ما كتبه هو «بدائع السلك في طبائع الملك» وقد اعتمد فيه بالدرجة الأولى على «المقدمة» لابن خلدون وعلى «سراج الملوك للطرطوشي» وقد أورد في الكتاب ما أورده ابن خلدون والطرطوشي.

ففي الصفحة 80 أورد حكاية عبيدة السلماني الذي أورده ابن خلدون، قال عبيدة السلماني لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين ما بال أبي بكر وعمر أطاع الناس لهما والدنيا عليهما أضيق من شبر واتسعت عليها ووليت أنت وعثمان، فلم يكونوا لكما، فصارت عليكما من شبر، فقال: لأن رعية أبي بكر وعمر كانوا مثلي ومثل عثمان، ورعيتي اليوم مثلك وشبهك (154).

وفي مجال الاستشارة يذكر كلام أمير المؤمنين عليه السلام؛ الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه (155).

وحول تنظيم المجلس وعوائده يذكر هذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السلام. «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى، فليقل آخر مجلسه، أو حين يقوم سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين» (156). ويذكر أيضاً، قال علي بن أبي طالب رضي

ص: 303

الله عنه: إن لله ملائكة ينزلون كل يوم يكتبون فيه أعمال العباد (157).

ثم يورد منظومة للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) والتي بدايتها:

ولا تصحب أخا الجهل

وإياك وإياه ... إلى آخر المنظومة (158).

ثم يذكر وصفاً للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على لسان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: لم أو قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وآله وسلم (159).

رفيع الدين نظام العلماء توفي سنة 1336 للهجرة:

هو السيد رفيع الدين بن علي أصغر بن رفيع بن أبي طالب الوزير بن سليم نائب الصدارة المنتهي نسبه إلى السيد علي الشاعر بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد الرئيس بن إبراهيم طباطبا الحسني الطباطبائي التبريزي.

له مصنفات أهمها «المقالات النظامية» و «تحفة الأمثال» و «التحقيقات العلوية» و «المجالس النظامية» و «تشريح التقويم» و«أسرار الشهادة» و«آداب الملوك» و«تحفة الولي» و «دستور الحكمة» (160).

آداب الملوك (161):

وهو كتاب باللغة الفارسية، يقول المؤلف في المقدمة، بالنظر إلى المصلحة العامة كنت أتمنى أن أجمع في آداب الملوك مجموعة من نصائح الحكماء ومواعظ العلماء وتجارب العقلاء، وأخبار الأنبياء والأولياء حتى تصبح دستوراً للعمل يستفيد منه القارىء، ويكون برنامجاً للأمراء وولاة العهد العظام. وقد وجدتُ وأثناء مطالعتي لخطب نهج البلاغة وجدتُ في ولاية أمير المؤمنين لمالك الأشتر ضالتي التي كنتُ أبحث عنها، فهي تتضمن جانباً كاملاً من الآداب الحسنة التي يحتاجها الحكام. لقد قمت بشرح مختصر مع ترجمة هذه «الولاية الشريفة» حتى يعم نفعها الجميع.

ويضيف فى مقدمة الكتاب؛

وفي الحقيقة إن الالتزام بالنهج الذي بينه الإمام لمالك الأشتر والحفاظ على هذا الخط هو أفضل للسلاطين من الحفاظ على خزائن الأرض.

ص: 304

وجاء في الصفحة الأولى من الكتاب

عندما عرف السلطان مظفر الدین شاه (162) بهذا الكتاب وما يتضمنه من فوائد للحكم فأمر بطبعه.

المنهج الذي اتبعه المصنف في تأليف الكتاب:

أولاً: نقل النص.

ثانياً: الترجمة.

ثالثاً: الشرح ويتضمن حكايات الملوك وما يتفق مع النص.

ثم بعد ذلك يستنبط قواعد للحكم، ويتضمن الكتاب بين دفتيه 323 صفحة تدور كلها حول ولاية الإمام لمالك الأشتر. والكتاب هو محاولة لاستنباط وبرنامج عمل للدولة وللحاكم من خلال الولاية التي بعث بها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى واليه على مصر مالك لأشتر.

المصادر والمراجع:

1-ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، 1961 م.

2-ابن أبي الربيع: أحمد بن محمد، كتبه محمد علي الخراساني، طبع حجري، 1268 ه.

3-ابن الأثير: محمد بن محمد الشيباني الكامل في التاريخ، دار صادر دار بیروت 1965 م.

4-ابن الأزرق: محمد بن علي الأصبحي، بدائع السلك في طبائع الملك، وزارة الإعلام، بغداد 1977 م.

5-ابن تيمية: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، دار الكاتب العربي، بيروت

6-ابن تيمية: تقي الدين منها جالسنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية.

7-ابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أبي الفضل الإصابة في عبير الصحابة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

8-ابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أبي الفضل لسان الميزان طبع حيدر آباد ط 1، سنة 1330 ه.

9-ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة.

ص: 305

10-ابن خلدو: عبد الرحمن المقدمة مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

11-ابن خلكان: أبي عباس شمس الدين أحمد بن محمد وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، حققه إحسان عباس منشورات الشريف الرضي، قم، إيران.

12-ابن الصباغ: علي بن محمد المالكي، الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة عليهم السلام، مطبعة العدل النجف، العراق.

13-ابن الطقطقي: محمد بن علي الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده مصر وطبعة ثانية، المطبعة الرحمانية، مصر، 1340 ه.

14-ابن قتيبة: أبي محمد عبد الله بن مسلم، الإمامة والسياسة وهو المعروف بتاريخ الخلفاء-الحلبي وشركاه القاهرة، 1969 م.

15-ابن قتيبة: عيون الأخبار الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1973 م.

16-ابن قيم الجوزية: محمد بن أبي بكر الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة 1953 م.

17-ابن مسكوية: أحمد بن محمد، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، صححه محمد عبد القادر المازني، 1298 ه.

18-ابن المقفع: الأدب الصغير والأدب الكبير ورسالة الصحابة، شرح يوسف أبو حلقة، مكتبة البيان، ط3، 1964م.

19-ابن المقفع: الدرة اليتيمة، تصحيح الأمير شكيب أرسلان، المطبعة الأدبية، بيروت، 1897 ه.

20-ابن هذيل: أبي الحسن علي بن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، عين الأدب والسياسة: وزين الحسب والرياسة، ط2، 1985م.

21-الأشعري: أبي الحسن مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين تحقيق محمد محي الدين الدین عبد الحميد مكتبة النهضة ط2، عام 1969 م.

23-انصاريان: علي الدليل على موضوعات نهج البلاغة، انتشارات مفید، طهران، 1978 م.

24-البرقي: أبو جعفر أحمد بن محمد المحاسن والأضداد المطبعة الحيدرية قدم له السيد محمد صادق بحر العلوم، 1964.

25-بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، ترجمة عبد الحليم النجار، دار المعارف، ط 3 مصر.

26-البغدادي: إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار الفكر بيروت، 1982م هدية العارفين فيأسماء المؤلفين وآثار المصنفين من كشف الظنون، دار الفكر بيروت، 1982م.

ص: 306

27-البغدادي: هدية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين من كشف الظنون، دار الفكر، بيروت 1982م.

28-البيهقي: إبراهيم بن محمد المحاسن والمساوىء، دار صادر دار بیروت، 1960م.

29-التكريتي: ناجي، الفلسفة الإسلامية عند ابن أبي الربيع مع تحقيق كتاب سلوك المالك في تدبير الممالك، دار الأندلس ط 2، 1980 م.

30-الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر، المحاسن والأضداد، مطبعة السعادة، 1938 م، وط 1 سنة 1912م.

31-الجاحظ: الحيوان تحقيق عبد السلام محمد هارون الحلبي وأولاده، ط1، القاهرة.

32-الجاحظ: التاج في أخلاق الملوك، تحقيق أحمد زكي، مطبعة الأميرية، القاهرة، ط 1، 1914م.

33-الحائري جعفر: نهج البلاغة الثاني، مؤسسة الهجرة، إيران.

34-حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار الفكر 1982م.

35-الحلي: جمال الدين الحسن بن يوسف بن مطر، منهاج الكرامة في إثبات الإمامة طبع حجري، بخط حجي هلال السرحان، مطبعة الارشاد، 1971 م.

36-الخطيب: عبد الزهراء، مصادر نهج البلاغة وأسانيده، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 2،

1975 م.

37-الخوارزمي: أبو جعفر محمد، المناقب، المطبعة الحيدرية قدم له العلامة محمد رضا الموسوي، 1965م.

38-الزركلي: خير الدين الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط 6، 1984م.

39-زيدان:جُرجي، تاريخ آداب اللغة العربية دار الهلال، تعليق شوقي ضيف.

40-السبكي: تقي الدين الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية.

41-الشاطبي: أبي اسحاق إبراهيم المطبعة التجارية الاعتصام، تعريف محمد رشيد رضا، طبع مصر، بلا تاريخ.

42-الشريف الرضي: حقائق التأويل في متشابه التنزيل، مطبعة الفري النجف الأشرف، 1936 م.

43-الصدوق: الأمالي كتابفروشي إسلامية ط3-1355 ه.

44-الطرطوشي: أبي بكر محمد بن محمد بن الوليد الفهري. المطبعة الخيرية، مصر، سنة 1306 ه.

45-الطوسي: محمد بن الحسن أبي جعفر الطوسي، منشورات الشريف الرضي، صححه العلامة السيد محمد صادق آل بحر العلوم، قم.

ص: 307

46-العاملي، محسن أعيان الشيعة دار التعارف بيروت.

47-عبدة: محمد شرح نهج البلاغة، دار الذخائر قم.

48-الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد نصيحة الملوك، تصحيح جلال الدين الهمداني

(بالفارسية).

49-الفراء: أبي يعلى محمد بن الحسين الأحكام السلطانية، مكتب الإعلام الإسلامي، طهران 1406 ه. تحقيق محمد حامد الفقي.

50-كاشف الغطاء: الهادي إلى نهج البلاغة، مكتبة الأندلس، بيروت.

51-كحالة: عمر رضا معجم المؤلفين مكتبة المثنى، ودار إحياء التراث العربي، بيروت.

52-کرد علي: محمد أمراء البيان القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1937م.

53-الكليني: أبو جعفر محمد الأصول من الكافي.

54-الماوردي: أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب مركز النشر: مكتب الإعلام الإسلامي، الأحكام السلطانية، طهران، 1406 ه.

55-الماوردي: أدب القاضي تحقيق محي هلال السرحان، مطبعة الارشاد، 1971م.

56-الماوردي: أدب الوزير المعروف بقوانين الوزارة سياسة الملك مكتبة الخانجي، ط 1، مصر 1929م.

57-المجلس: محمد باقر، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت.

58-مجموعة من المؤلفين: نهج الحياة، مؤسسة نهج البلاغة، ط 1 بلا تاريخ، قم.

59-محمدي: سيد كاظم المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة ط 2، نشر إمام عي، قم 1369 ه. ش.

60-المفيد: الارشاد، طبع حجري، 1372 ه.

61-المسعودي: أبي الحسن علي بن الحسين، مروج الذهب، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد دار المعرفة، بيروت، بلا تاريخ.

62-النسائي: الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب، خصائص أمير المؤمنين، المطبعة الحيدرية، النجف، 1949 م.

63-نظام العلماء: محمد رفيع التبريزي آداب الملوك، طبع حجري، 1320 ه.

64-نظام الملك: أبو علي حسن بن علي سلوك الملوك، تصحيح محمد القزويني، انتشارات زوار إيران، 1397 ه.

65-هيوار: دائرة المعارف الإسلامية، ترجمة محمد ثابت القندي.

ص: 308

الحواشي

(1) ابن المقفع: الأدب الصغير، ص 37.

(2) أبو حلقة: مقدمة «الأدب الصغير» ص6.

(3) كرد:علي محمد امراء البيان، ج 2، ص 105.

(4) ذكرها كل من ترجم لابن المقفع، اعتمدنا الطبعة 3 ص 70 الأدب الصغير. مكتبة البيان 1964، شرح يوسف أبو حلقة، واعتمدنا الدرة اليتيمة تصحيح شكيب أرسلان، طبع بیروت 1897، المطبعة الأدبية.

(5) عبدة: محمد نهج البلاغة، ص 672.

(6) عبدة: محمد، نهج البلاغة، ص 604.

(7) عبدة محمد نهج البلاغة، ص 648.

(8) عبدة: محمد، نهج البلاغة، ص 705.

(9) عبدة محمد، نهج البلاغة، ص 669.

(10) عبدة: محمد نهج البلاغة ص 682-683.

(11) الشريف الرضي: نهج البلاغة (الملحق لمعجم

الفاظ نهج البلاغة) ص 222.

(12) ابن المقفع: الأدب الصغير والأدب الكبير ص 186.

(13) أورده الشريف الرضي ص 212 من (الملحق) وذكره السيد عبد الزهراء الحسيني في مصادر نهج البلاغة، ج 4 ص 226 وأورد مصادر هذه الخطبة قبل الشريف الرضي وبعده.

(14) كرد علي محمد أمراء البيان، ج 2 ص 573.

(15) كرد علي: محمد أمراء البيان، ج 2 ص 574.

(16) كرد علي محمد أمراء البيان، ج 2 ص 575.

(17) ذكر ابن أبي الحديد عن عبد الحميد الكاتب إنه قال: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت وقال ابن نُباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الانفاق الاسعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب (ابن أبي الحديد-شرح نهج البلاغة ويبدو أن حفظ خطبة الإمام كانت من عادة الأدباء والبلغاء، الجزء 1 / ص 24).

(18) البرقي: المحاسن، كتاب السفر، ص 284، والأصبغ بن نباتة من خاصة أمير المؤمنين (علیه السلام) وعمّر بعده وروى عهد مالك الأشتر الذي عهده إليه أمير المؤمنين لما ولاه مصر وروى الكثير من وصاياه وكلماته (الطوسي: الفهرست ص 37).

(19) الزركلي خير الدين الأعلام، ج 5 ص 74.

(20) ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 3 ص 471.

(21) الخطيب: عبد الزهراء، مصادر نهج البلاغة وأسانيده، ج 1 ص 60.

(22) الخوارزمي: المناقب ص 271، والخوارزمي؛ هو الموفق بن أحمد المكي الخوارزمي، أبو المؤيد مؤلف «مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة» و «مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب»، كان فقيهاً، أديباً له خطب وسفر أصله من مكة أخذ العربية عن الزمخشري بخوارزم، وتولى الخطابة بجامعها.

(الزركلي: خير الدين، 323/7، وذكر كتاب مناقب أمير المؤمنين حاجي خليفة في كشف الظنون ص 1844).

(23) ذكر المناقب ونسبته إلى الجاحظ حاجي خليفة في كشف الظنون ص 1609، والبغدادي في هدية العارفين 803/1 والزركلي في الأعلام، 74/5، وقد اعتمدنا الطبعة الأولى من الكتاب مطبعة السعادة، سنة الطبع: 1912م مصر.

(24) الجاحظ: المحاسن والأضداد، ص 7.

(25) الجاحظ: المحاسن والأضداد، ص 28، وذكر الشريف الرضي كلام أمير المؤمنين بهذا الشكل (إياك ومشاورة. الخ) ضمن وصاياه إلى ولده الحسن (نهج البلاغة، ص 162 (الملحق).

(26) الجاحظ: المحاسن والأضداد، ص 47.

(27) الجاحظ: المحاسن والأضداد ص 96.

(28) الجاحظ: المحاسن والأضداد ص 96.

ص: 309

(29) الجاحظ المحاسن والأضداد، ص 135، والآية: الدخان / 29.

(30) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون بتفصيل، ص 696، واعتمدنا الطبعة الأولى منشورات الحلبي وأولاده سنة 1938 م، تحقيق عبد السلام محمد هارون.

(31) الجاحظ الحيوان 90/2، وأورده الشريف الرضي بهذا الشكل وسيهلك فيّ صنفان محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق (نهج البلاغة ص 66 الملحق).

(32) الجاحظ: الحيوان، 329/3.

(33) الجاحظ الحيوان، 329/3 وقد أورده الشريف الرضي هكذا؛ فإذا كان ذكل ضرب يعسوب الدين بذنبه، فيجتمعون إليه، كما يجتمع فزع الخريف. نهج البلاغة ص 210 الملحق.

(34) راجع كتاب التاج في أخلاق الملوك، تحقيق أحمد زكي، ط 1، مطبعة الأميرية، القاهرة، 1914 م.

(35) الطوسي: الفهرست ص 20، وذكر في وفاته روايتين كما جاء في أعيان الشيعة، 399/9.

(36) ابن النديم: الفهرست، ص323.

(37) اعتمدنا النسخة المطبوعة في النجف عام 1964م، المطبعة الحيدرية قدم لها محمد صادق بحر العلوم.

(38) الخطيب: عبد الزهراء، مصادر نهج البلاغة وأسانيده، ص 40.

(39) البرقي: المحاسن، ص 208، وأورد الشريف الرضي هذا الكلام في نهج البلاغة، راجع نهج البلاغة بشرح محمد عبده ص 459.

(40) كل من ترجم الحياة ابن قتيبة ذكر هذا الكتاب، ذكره ابن النديم الفهرست 121، وذكره ابن خلكان: وفيات الأعيان، 42/3، وذكره حاجي خليفة في كشف الظنون، ص 1184.

اعتمدنا الطبعة المصرية، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1973م.

(41) المصدر نفسه 35/1 وأورده الخوارزمي في المناقب ص 127.

(42) ابن قتيبة: عيون الأخبار 57/1، وذكره الصدوق هكذا يا صفراء يا بيضاء لا تغريني غري غيري الصدوق: الأمالي 169 وأيضاً المجلي بحار الأنوار 41 / 102.

(43) ذكر ابن أبي الحديد الرسالة بهذا الشكل: (أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن في أهلي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إلىّ فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب والعدو قد حرب، وأمانة الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد فتكت وشغرت قلبت لابن عمك ظهر المجن ... إلى آخر) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 167/16. ونقل الرسالة الإمام محمد عبده كما هي في شرح ابن أبي الحديد مع اختلاف في كلمة فتكت فذكر بدلاً عنها كلمة فنكت (أي صارت ماجنة) انظر نهج البلاغة بشرح محمد عبده ص 581.

(44) ابن قتيبة: عيون الأخبار، ص 110، ذكره محمد عبده مع بعض الاضافات (نهج البلاغة، ص 166). وذكره صبحي الصالح في الصفحة 97.

(45) ابن قتيبة: عيون الأخبار، ص 128، وذكره الشريف الرضي في نهج البلاغة، ص 208 (الملحق).

(46) ابن قتيبة: عيون الأخبار ص 130، وجاء في نهج البلاغة للشريف الرضي «بقية السيف أبقى عدداً، وأكثر ولداً» (نهج البلاغة، ص 195 «الملحق للمعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة».

(47) ابن قتيبة: عيون الأخبار ص 131.

(48) ابن قتيبة: عيون الأخبار، ص 133 وقد أورد الشريف الرضي كلام أمير المؤمنين بهذا الشكل عضوا على النواجذ فإنه أنبي للسيوف (نهج البلاغة: ص 27 الملحق).

ص: 310

(49) ابن قتيبة: عيون الأخبار، ص 164، أورد الخطبة الشريف الرضي: نهج البلاغة ص 35 (الملحق) كما وأوردها محمد عبده في صفحة 200 مشيراً أنها في عمرو بن العاص.

(50) ابن قتيبة: عيون الأخبار، ص 190، وأورد الشريف الرضي هذا الكلام بهذا الشكل:

لا تلقين طلحة، فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصاً قرنه يركب الصعب ويقول: هو المذلول، ولكن ألق الزبير فإنه البن عريكة، فقل له: يقول ذلك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما علا مما بدا (نهج البلاغة، ص 7) (الملحق)، (عبدة: نهج البلاغة، ص 130).

(51) ابن قتيبة: عيون الأخبار، ص 217، ونقلها الشريف الرضي بشكل آخر؛ كنتم جُند المرأة وأتباع البهيمة رغا فأجبتم وعقر فهربتم أخلاقكم دِقاق وعهدكم شقاق ودينكم نفاق، وماؤكم زُعاق (عبده: نهج البلاغة ص 98-99 (الملحق) ص 9.

(52) لم يأت ابن النديم على ذكر السياسة والإمامة (انظر: الفهرست، ص 121) وكذلك حاجي خليفة في كشف الظنون. وكذلك البغدادي في هدية العارفين ص 441 من الجزء الأول، ولم يأت على ذكر كحالة (انظر: معجم المؤلفين 150/6) أما الزركلي فقد أورد اسم الكتاب عند ترجمته لابن قتيبة لكنه ذكر (وللعلماء نظر في نسبته إليه (الأعلام 147/4)، وذكره بروكلمان قائلاً: وأما كتاب الإمامة والسياسة المنسوب إلى ابن قتيبة فتوجد مخطوطاته في برلين المتحف البريطاني، بشاور بنكيبور بوهار مكتبة جامعة لندن (تأريخ الأدب العربي: ج2، ص 229). وذكره جرجي زيدان في (تاريخ آداب اللغة العربية: ج 2 ص 198) قائلاً: وهو كتاب بجزئين طبع عدة طبعات. واعتمدنا النسخة المطبوعة في مصر سنة 1963 م الطبعة الثالثة.

(53) ابن قتيبة: الإمام والسياسة، ج 2 ص 207.

(54) انظر الجزء الأول صفحة 31 من مصادر نهج البلاغة للسيد عبد الزهراء الخطيب.

(55) كحالة عمر رضاء معجم المؤلفين، 89/1، اعتمدنا النسخة المطبوعة في بيروت عام 1960م، الناشر دار صادر ودار بیروت.

(56) أورد محمد عبده نقلًا عن الشريف الرضي الخطبة بهذه الصيغة؛ أما والله لقد كنتُ أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب أدركت وتري من بني عبد مناف وأفلتتني أعيان أعيان بني جُمع، ولقد اتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله، فوقعوا دونه نهج البلاغة (عبدة: محمد، نهج البلاغة ص 481).

(57) البيهقي: إبراهيم بن محمد المحاسن والمساوىء ص 358، وقد ذكر الشريف الرضي الخطبة بشكل مختلف (انظر: الشريف الرضي: نهج البلاغة الملحق ص 20).

(58) البيهقي: إبراهيم بن محمد المحاسن والمساوىء، ص 483، وقد أورد الشريف الرضي الخطبة مع اختلاف طفيف في مكان (والله لعلي) جاء ب (والله لابن أبي طالب) (انظر الشريف الرضي: نهج البلاغة الملحق، ص8).

(59) انظر من صفحة 49-55 من المحاسن والمساوىء للبيهقي.

(60) ذكر الكتاب أكثر من ترجم للمؤلف-ذكر البغدادي بعنوان مقالات المسلمين وجميع اختلافاتهم البغدادي: هدية العارفين، 677/1، وذكره الزركلي: خير الدين الأعلام، 263/4، اعتمدنا الطبعة الثانية، نشر مكتبة النهضة، سنة 1969م، تحقيق محمد محي عبد الحميد.

(61) الأشعري علي بن إسماعيل، مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين، 64/1، الطبري: تاريخ الأمم والملوك: 113/3.

(62) الزركلي خير الدين، الاعلام، 212/1.

(63) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون، 514/1، وذكره كحالة في معجم المؤلفين، 169/2، اعتمدنا النسخة المصرية، مطبعة الوطن، سنة 1298 ه صححه محمد عبد القادر المازني.

ص: 311

(64) ابن مسكويه: تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 62 وأورده الشريف الرضي في الملحق ص 64.

(65) ابن مسكويه: تهذيب الأخلاق، ص112، والذي عابه على ذلك هو الخليفة عمر بن الخطاب عندما أراد أن يوصي من بعده كما جاء في الكامل؛ فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي فقيه دعابه.

(66) ابن خلكان: وفيات الأعيان، 282/3 (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 67/3). الطبري: تاريخ الأمم والملوك، المجلد الثاني، 581.

(67) الزركلي: خير الدين، الاعلام، 327/4.

(68) كحالة: عمر رضا معجم المؤلفين، 189/7.

(69) ذكره البغدادي: هدية العارفين، 689/1، اعتمدنا الطبعة المصرية، ط 1، سنة 1929م، مكتبةالخانجي.

(70) الماوردي: قوانين الوزارة، ص 57، وذكر الشريف الرضي كلام أمير المؤمنين في مكانين الأول في صفحة 195 قيمة كل امرىء ما يحسنه والثاني ص 202 هلك امرؤ لم يعرف قدره (نهج البلاغة الملحق).

(71) الماوردي: قوانين الوزارة: ص 7، ويذكر الشريف الرضي كلام أمير المؤمنين بهذا الشكل، الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام قاطع فاستر خلل خلقك بحلمك، وقائل هداك بعقلك (الملحق ص 225).

(72) الماوردي: قوانين الوزارة، ص 14، وقد ذكر الشريف الرضي هذه الحكمة بهذه الصورة. وخذ على عدوك بالفضل فإنه أحلى (أحد) الظفرين، نهج البلاغة (الملحق) ص 162.

(73) الماوردي: قوانين الوزارة ص 22.

(74) الماوردي: قوانين الوزارة ص 36، وأورده الشريف الرضي بهذا الشكل، لا خير في معين مهين، ولا في صديق ظنين (نهج البلاغة الملحق ص 161).

(75) الماوردي: قوانين الوزارة ص 39، وأورده الشريف الرضي في نهج البلاغة ص 162.

(76) الماوردي: قوانين الوزارة ص 57؛ وقد أورد الشريف الرضي هذه الحكمة بهذا الشكل، والفرصة تمر مر السحاب فانتهزوا فرص الخير (نهج البلاغة الملحق ص191).

(77) الماوردي: قوانين الوارة، ص 57 أورده الشريف الرضي في فصل الجد الخطبة 230 بهذا الشكل فاحذروا الدنيا بإنها غدارة غرارة خدوع، مطية قنوع ملبسة نزوع ... (نهج البلاغة الملحق ص 141).

(78) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ص 19 وذكره كل من ترجم للماوردي فهو من أشهر كتبه، اعتمدنا النسخة المطبوعة في إيران عام 1406 الناشر مكتب الإعلام الإسلامي وهي صورة من النسخة المصرية.

(79) يقول محقق الكتاب محي هلال السرحان، لم يكن)أدب القاضي(إلا جزئين من كتاب الحاوي الكبير في الفقه الشافعي. النسخة التي راجعتها مطبوعة عام 1971 مطبعة الارشاد.

(80) الخوارزمي: المناقب، ص 41.

(81) الماوردي: أدب القاضي، 260/1، وأورده الشريف الرضي بهذا الشكل، إن هذه القلوب نمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحِكم (نهج البلاغة الملحق ص 196).

(82) الماوردي: أدب القاضي، 130/1 وذكرها النسائي في الخصائص ص 15.

(83) الماوردي: أدب القاضي، 476/1، وقد أورده الشريف الرضي بهذا الشكل، قبل إن الحارث بن حوت أناء فقال: أتداني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة، فقال عليه السلام: يا حارث إنك نظرت تحتك ولم تنظر فوقك فجرت، إنك لم تعرف الحق فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أناه (عبده: محمد نهج البلاغة، ص 719).

(84) الماوردي: أدب القاضي، 529/1.

(85) الماوردي: أدب القاضي، 611/1، وذكره المفيد في الارشاد ص 116.

ص: 312

(86) الماوردي: أدب القاضي، 646/1، أورده ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، 188/1 بتغيير طفيف فبدل اجتهد رأيي ذكر اجتهاد رأيي.

(87) النجم / 3-4.

(88) الماوردي: أدب القاضي، 94/2، أورد الشريف الرضي نص الرسالة كما يلي: أما بعد فإن المرء قد يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه. عبدة: محمد، نهج البلاغة، ص 536).

(89) الماوردي: أدب القاضي، 264/2. ذكره الحر العاملي في وسائل الشيعة إن أمير المؤمنين قال لرجل نز عنده: أخصم أنت؟ قال: نعم، فقال: تحول عنا فإن رسول الله (ص) نهى أن يُضاف الخصم إلا ومعه خصمه، الحر العاملي: وسائل الشيعة 157/18.

(90) الماوردي: أدب القاضي، 320/2.

(91) الماوردي: أدب القاضي، 387/2، وذكره المفيد في الارشاد ص 113.

(92) الزركلي: خير الدين، الأعلام، 99/6.

(93) كحالة: عمر رضا، معجم المؤلفين، 254/9.

(94) ذكر الكتاب كل مَن ترجم لحياة المؤلف لأنه من أشهر كتبه، واعتمدنا النسخة المطبوعة في إيران عام 1406 للهجرة، الناشر مكتب الأعلام الإسلامي وهي صورة عن النسخة المصرية تصحيح محمد حامد فقي.

(95) الفرّاء: الأحكام السلطانية، ص 19.

(96) الفراء: الأحكام السلطانية، ص 54 وأورده الماوردي أيضاً في الأحكام السلطانية ص 58. وقد أورده الطبري في تاريخ الأمم والملوك المجلد 3 الصفحة 114، ذكره مع تغيير.

(97) الفراء: الأحكام السلطانية، ص 55، وذكره الطبري مع تغيير في تاريخ الأمم والملوك. المجلد3/ الصفحة 120.

(98) الفراء: الأحكام السلطانية، ص66، وذكره ابن الأثير في الكامل بهذا الشكل؛ وجد علي درعاً له عند نصراني فأقبل به إلى شريح، وجلس إلى جانبه، وقال لو كان

خصمي مسلماً لساويته، وقال: هذه درعي! فقال النصراني ما هي إلا درعي ولم يكذب المؤمنين؟ فقال شريح لعلي: الك بينة؟ قال: لا، وهو يضمك، فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ثم عاد وقال: أشهد أن هذه أحكام الأنبياء. أمير المؤمنين قد مني إلى قاضيه، وقاضيه يقضي عليه، ثم أسلم واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إلى صفين ففرح علي بإسلامه، ووهب له الدرع وفرساً (ابن الأثير: الكامل في التاريخ 401/3).

(99) الفراء: الأحكام السلطانية، 62، ذكره النسائي في الخصائص ص 15.

(100) الفراء: الأحكام السلطانية، ص237، وذكر الماوردي في الأحكام السلطانية ص 199، أما الطبري فينقل الحادثة بصورة أخرى، فيذكر ولما أراد عمر وضع الديوان قال له علي وعبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك. قال: لا بل أبدأ بعم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ثم الأقرب فالأقرب. (الطبري تاريخ الأمم والملوك المجلد 2 ص 452).

(101) ابن خلكان: وفيات الأعيان، 128/2.

(102) الزركلي: خير الدين، الأعلام، 202/2.

(103) ذكره أبو حامد الغزالي في كتابه نصيحة الملوك (التبر المسبوك في نصائح الملوك) ص 122. اعتمدنا نسختين الأولى طبعت سنة 1397 ه. الطبعة الثانية سنة 1364ه-. ش الناشر، وزارة التعليم العالي في إيران.

(104) ابن خلكان: وفيات الأعيان، 216/4-217.

(105) الزركلي: خير الدين الأعلام، 22/7.

(106) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون، 337/1 بعنوان آخر وه-و التبر المسبوك في نصائح الملوك، وذكره البغدادي في هدية العارفين، 80/1، اعتمدنا الأصل الفارسي، تصحيح جلال الدین همداني، والنسخة المعربة المطبوعة عام 1306، ج 1، المطبعة الخيرية المنشأة بجمالية مصر

ص: 313

(107) حاجي خليفة: كشف الظنون، 337/1.

(108) الغزالي: نصيحة الملوك، ص 68.

(109) الغزالي: التبر المسبوك، ص 309 وفي النسخة الفارسية ص193، وأورد الشريف الرضي كلام أمير المؤمنين بهذا الشكل الق دواتك، وأطل جلقة قلمك، وفرج بين السطور، وقرفط بين الحروف. فإن ذلك أجدر بصباحة الخط (نهج البلاغة الملحق ص 216).

(110) ذكره ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة، 159/8.

(111) ابن خلكان: وفيات الأعيان 262/4.

(112) الزركلي: خير الدين، الأعلام 133/7،

(113) كحالة: عمر رضا، 96/12

(114) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون 984/2 راجعنا ط 1 سنة 1306ه- المطبعة الخيرية في مصر.

(115) حاجي خليفة: كشف الظنون، 984/2.

(116) أوردها العاملي في أعيان الشيعة، 552/1 مع تغيير طفيف.

(117) أورد الشريف الرضي هذه الوصية على الصفحة 169 من نهج البلاغة (الملحق).

(118) أوردها الشريف الرضي على الصفحة 200 من نهج البلاغة (الملحق).

(119) ذكرها النسائي في الخصائص ص 15.

(120) أوردها الشريف الرضي: نهج البلاغة (الملحق) ص 201.

(121) أورد الشريف الرضي كلام أمير المؤمنين(ع) بهذا الشكل؛ وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق (نهج البلاغة الملحق ص 173).

(122)-أورد الشريف الرضي، كلام أمير المؤمنين (علیه السلام): الحلم والأناة توأمان ينتجهما علو الهمة (نهج البلاغة الملحق ص 227).

(123) أورده الشريف الرضي: نهج البلاغة الملحق ص 205.

(124) ذكرهري شهري في ميزان الحكمة: 257/5.

(125) أورده الشريف الرضي، نهج البلاغة (الملحق) ص 214.

(126) أورده الشريف الرضي بهذا الشكل الصبر يناضل الحدثان، والجزع من أعوان الزمان.

(127) ذكره الأمدي في غرر الحكم: 437/1. (نهج البلاغة الملحق ص 206).

(128) وهي من مواعظه المشهورة ذكرها الشريف الرضي (نهج البلاغة الملحق ص 202).

(129) أورده الشريف الرضي بهذا الشكل؛ قيمة كل أمرىء ما يحسنه (نهج البلاغة الملحقص 195).

(130) أورده الشريف الرضي بهذه الصورة؛ ما أهمني ذنب أمهلت بعد حتى أصلي ركعتين، وأسال الله العافية (نهج البلاغة الملحق ص 225).

(131) أورد أكثرها الشريف الرضي في النهج.

(132) أورد الشريف الرضي جميع تلك الكلمات في أماكن متفرقة من النهج.

(133) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ص 1000، وذكره البغدادي في إيضاح المكنون (26/1) وقد راجعنا نسخة حجرية كاتبه محمد علي الخراساني. كُتب بتاريخ 1286، القاهرة.

(134) ابن أبي الربيع: سلوك المالك في تدبير الممالك، ص 81.

(135) الشريف الرضي: نهج البلاغة (الملحق) ص 157.

(136) الزركلي: خير الدين، الأعلام، 283/6-284، وفخر الدين عيسى بن إبراهيم، هو عامل السلطان المغولي على الموصل هيوار: دائرة المعارف الإسلامية 217/1.

(137) ذكره الزركلي في الاعلام، 284/6، وكحالة، في معجم المؤلفين 51/11. راجعنا النسخة المصرية المطبوعة سنة 1340 للهجرة في المطبعة الرحمانية.

ص: 314

(138) ابن الطقطقي: الفخري في الأداب السلطانية، ص 11.

(139) العاملي: السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، 396/5.

(140) المجادلة / 12.

(141) النسائي: الخصائص، ص 56.

(142) ابن الصباغ المالكي المتوفى سنة 855 ه-: الفصول المهمة، ص 124-125.

(143) النسائي: خصائص أمير المؤمنين، ص 44-45.

(144) الزركلي: خير الدين، الأعلام، 75/1.

(145) كحالة: عمر رضا معجم المؤلفين، 118/1.

(146) ذكره كحالة في معجم المؤلفين، 118/1 اعتمدنا النسخة المصرية بتعريف محمد رشيد رضا طبع المكتبة التجارية.

(147) ذكره بالتفصيل ابن خلكان في وفيات الأعيان 535/2.

(148) الرحمن من آية 10-22.

(149) ذكره الكليني في الأصول من الكافي 410/1.

(150) الشاطبي: الاعتصام، 313/1.

(151) أورده الشريف الرضي؛ سيأتي على الناس زمان عضوض، يعض الموسر فيه على ما في يديه، ولم يُؤمر بذلك قال سبحانه (ولا تنسوا الفضل بينكم) تنهد فيه الأشرار، وتسذل الأخيار ويبايع المضطرون (النهج الملحق ص 228).

(152) ذكره المفيد: الإرشاد، ص 116.

(153) الزركلي: خير الدين، الأعلام، 299/4، وكحالة: عمر رضا معجم المؤلفين، 121/7.

(154) ذكره البغدادي: إسماعيل بن محمد أمين، إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 131/2. وقال عن مؤلفه حسن بن علي بن هُذيل ربما أخطأ فذكر الكنية مكان الاسم، اعتمدنا الطبعة الثانية سنة 1985، دار الكتب العلمية، بيروت.

(155) الخطيب مصادر نهج البلاغة وأسانيده 4 / 384.

(156) الزركلي: خير الدين الأعلام، 289/6.

(157) ذكره البغدادي: اسماعيل باشا، في إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون 170/1، وذكره كحالة في معجم المؤلفين 43/11، النسخة التي تمت مراجعتها في جزئين من منشورات منارة الأعلام في العراق، سنة الطبع 1977م.

(158) ذكره ابن خلدون في المقدمة ص 181.

(159) انظر بدائع السلك ص 355.

(160) ابن الأزرق: بدائع السلك في طباع الملك، 362/1.

(161) المصدر نفسه، 389/2.

(162) المصدر نفسه، 432/2.

(163) المصدر نفسه، 483/2.

(164) العاملي: السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، 33/7.

(165) ذكره العاملي في أعيان الشيعة، 33/7، وكحالة: عمر رضا، معجم المؤلفين 169/4. راجعنا نسخة قديمة طبع عام 1320ه.

(166) مظفر الدين شاه هو الملك الخامس من سلالة قاجار في إيران في عهد وقعت ثورة الدستور فأقر النظام الدستوري في عام 1907 (الباحث).

ص: 315

ص: 316

لماذا ألف الشريف «نهج البلاغة»؟

الشيخ جعفر المهاجر

الكتاب هو تقرير عن أزمَة. يقول فيه مؤلفه أو مصنفه أين وكيف المخرج من ضيق الأزمة إلى فسحة الفرج. أين أو كيف على مستوى التأمل والتفكير والمعرفة طبعاً. والباقي، أي توظيفه وإعماله، هو مهمة أن يترسّموا خطاه كيما يفوزوا بما فاز ويشاركوه سعادة العارفين. إذ لا سعادة ولا نجاح بغير المعرفة. وما الكاتب في نهاية الأمر إلا دليل متمكن. يقول عن خُبر ابن الطريق. ويحاول أن يُعدي الناس بالشفاء. إن صح القول إن الشفاء يمكن أن يتم كما المرضى عن طريق العدوى.

ص: 317

- 1-

والكتاب عندما ينجح، فيذيع وينتشر ويُطلب، فذلك يتضمن تقريراً آخر أوسع وأشمل، يقول أن الأزمة إياها لم تكن منحصرة بالكاتب، بل يشعر بها أو يعاني منها جمهور عريض. وأن المشروع الذي يقدمه أو يعرضه الكاتب في كتابه قد صادق محله المناسب. فحينها يطلب الجمهور الكتاب، فإنما يسعى في الحقيقة وراء الوعد الذي يقدمه على مستوى الفكر.

ذانك هما المبدآن اللذان نتسلح بهما ونحن نواجه الاشكالية التي طرحناها في عنوان البحث سؤالاً: «لماذا ألف الشريف نهج البلاغة»؟ والسؤال من بعد يولّد أسئلة.

وجدير بنا، ونحن في هذه الفاتحة، أن نذكر وأن نتذاكر في مغزى أن خُطب وكلمات أمير المؤمنين عليه السلام قد جُمعت قبل الشريف عدة مرات: ولكنها لم تحظ بما حظي به «نهج البلاغة» من اشتهار وذيوع وصيت طائر. حتى أننا لا نعرف لها اليوم نسخة. بل لم يذكر أحد من قدماء المؤلفين، ممن ذكر تلك المجاميع، أنه رأى أحدها. وهذا يدل على أنها لم تحظً حتى بجزء يسير مما حظي به مجموع الشريف. وذلك أمر غريب. فنص الإمام هو هو. وما فعله الشريف فعله غيره سواء بسواء من حيث المنهج. فلماذا فاز مجموع الشريف بالاشتهار والذيوع دون غيره؟

حظ؟ ربما! فالكتب كالبشر لها أيضاً حظوظها. فرُب كتاب جيد لا ينال ما يستحق. ورب كتاب يتنكر له أهل زمانه، ثم يصبح محط الأنظار فيما بعد. والعكس صحيح.

لكنني أعتقد أن الحظ هنا، ليس إلا تعبيراً غامضاً عن شروط موضوعية لا ندركها. فنلجأ إلى كلمة (حظ). وذلك تفسير للمجهول بالمجهول. أي أنه هرب من التفسير الحقيقي. الذي يعني ويعتمد تفسير المجهول بالمعلوم.

الأرجح أن التفسير الصحيح يكمن في الزمان وأهله. فنحن نعلم علم اليقين أن عالم القيم والأفكار وما هو عند الناس أولى بالاعتبار، وقدرتهم على استيعاب الأفكار وتقويمها كل ذلك هو عالم متغير متحرك، فرب نظام فكري أو عملي يكون غير موضع اهتمام أو غير صالح أو غير مقبول اليوم. ثم يغدو في زمان آخر البلسم الشافي والدواء الكافي. وأن القيم أي معيار الناس للنظم، يتبدل من زمان إلى زمان. تبدلاً مقوداً بالتحدي الذي يواجهونه، وبكيفية فهمهم لها أي للنُظم وله أي للتحدي، ومدى التناغم والتناسب بين النظم والتحدي،

ص: 318

أخلاقياً، أو فكرياً، أو سياسياً، حتى الرسالات وتطورها يخضع لهذه القاعدة.

ومن المعلوم أن الشريف أتم تأليف «نهج البلاغة» مع نهاية القرن الخامس. ومن المتعالم عليه بين أهل الدراسات الحضارية والتاريخية الإسلامية المحدثين، خصوصاً الغربيين منهم، أنه في هذا الأوان كانت الحضارة الإسلامية تنحدر بسرعة انحدارها الذي لم يتوقف بعد ذلك أبداً. بعد أن بلغت الأوج في القرن الذي سبق. وفي رأينا أن هذا الحكم مبتسر ناقص. لم يصدر عن استيعاب كامل ولا شبه كامل للمعطيات التاريخية والحضارية.

لا مراء في أنه كانت هناك حركة في اتجاه الانحدار والهبوط. لكنها لم تكن شاملة بحيث يصح القول أن الحضارة الإسلامية كلها كانت تتهاوى. بل كانت تلك الحركة الانحدارية محصورة في الحضارة الرسمية. أي في المؤسسات الرسمية والفكر الرسمي وتشعباتهما وتفرعاتهما. كانت الخلافة ومؤسساتها قد هانت وخبا وهجها. ولم يعد من سبب للحفاظ على خلقها البالي سوی أنه لم يكن عنها بديل. كانت الخلافة مفهوم الشرعية الوحيد الرسمي الذي أنجبته التجربة التاريخية. وكان العالم الإسلامي المترامي الأطراف حبيس تلك التجربة. مثل قدم صينية ممنوع عليها النمو. أما الفكر الرسمي بمدارسه الأساسية الثلاث: معتزلة وأشعرية وأهل حديث، فلم يعُد في وضع يسمح له بأن يقدم للجماهير الكسيحة ما يساعدها على حل مشكلاتها المزمنة، وهي التي خاضت ضد بعضها البعض معارك شرسة، كان فيها قمع واضطهاد، كثيراً ما كانت السلطة تأخذ جانب فريق منها ضد الآخر، ومعلوم أنه عندما تخرج المعارك الفكرية عن هدفها وموضوعها ونهجها وتغدو أداة سلطوية بيد أهل السياسة، فإنها وأهلها تفقد معناها عند الناس.

بكلمة، كان الانحدار محصوراً في القوالب الرسمية للحضارة الإسلامية. لأن تلك القوالب قد استنفدت الدفعة الأولى التي أنتجتها النهضة الإسلامية الأساسية. وغدت نجماً خابياً. كبير لكنه خامد. لا ضوء فيه ولا حرارة.

في المقابل، وخارج الإطار الرسمي وهامشه الثقافي، كانت هناك حالة مخاض هائلة. فيها الكثير من سمات إعادة الإنتاج الحضارة جديدة. تتجاوز أزمات المؤسسات الرسمية. مادتها وميدانها الجمهور العادي. ولذلك فإن المؤرخين يفشلون في قراءتها لأنهم عموماً، ما يزالون أسارى المهج السلطوي في كتابة التاريخ، ذلك المنهج الأعور، الذي لا يرى ولا يسجل إلا

ص: 319

السلطة وأعمالها. متجاهلاً كل ماله علاقة بالجمهور. من حركة سكانية، وتيارات فكرية ... الخ.

يمكننا أن نلتمس مظاهر حالة الولادة أو إعادة الإنتاج هذه في مظاهر كثيرة، بعضها صحي، يندرج في إعادة تجديد الإسلام ومنها مرضي فيه شيء من ملامح وسمات الولادة والتجديد، ولكنها ضلّت الطريق إلى الهدف وأبز ظاهرتين من الباب الثاني التصوف والحركة القرمطية.

أما التصوف، ونحن نتكلم عنه هنا بوصفه حركة شعبية انبعثت في ذلك الزمان واتخذت شكل منظمات شعبية. فقد كان مشروع إنتاج ثقافة بديلة عن الثقافة الرسمية المتهالكة. ولكنه، نظراً لتركيبته الفكرية ونموذجه السلوكي، لم يكن قادراً على تقديم أكثر من جُرعة مخدرة، تترك النفوس عامرة بالرضى، في حين أن معركتها الحقيقية هي في الجانب الآخر تماماً.

هذه الملاحظة تفسر لنا لماذا وقف أئمة أهل البيت عليهم السلام موقفاً صارماً منه. لقد كان ذلك التصوف بكل بساطة هرباً من المواجهة. ولذلك رأينا من الخلفاء العباسيين مَن نصره وأيده. ولنتصور وقع المنظر على الجماهير وهي ترى خليفة المسلمين يتلقى الخرقة من الشيخ الصوفي. وأي قدوة سلوكية بالغة الوقع كان المنظر يقدمه للجماهير. ولكننا بالتحليل الحقيقي نرى أن رأس السلطة وحامي الثقافة الرسمية، كان يدفع الناس في الاتجاه الذي يشغلهم عنه. وذلك غاية الدهاء.

أما القرمطية، فقد كانت حركة اعتراضية فجة. انتشرت بين الأعراب في العراق وشبه الجزيرة، انطلاقاً من بيئة شيعية كما يُقال. ولكنها منذ أيامها الأولى لم تحقق الاتصال بمراكز القيادة الشيعية الأصيلة. وهكذا أفلتت من عقالها وتحولت إلى حركة نهب وتدمير ودائماً كان الفصال التشيع عن قيادته الفكرية منطوياً على تهديد بالغ، والحقيقة أن الناس في العراق والشام وشبه الجزيرة قد عانوا الكثير من غارات القرامطة المدمرة. بكلمة كانت الحركة القرمطية، رغم ما حملته من تعبير رفضاً بالغاً للمؤسسات الرسمية، أشبه بثورة غضب عارمة، دمرت البيت وقتلت وشردت بعض أهليه وهي التي خرجت تحت شعار حمايتهم ممن يحيطون بهم.

المظهر الصحي والأساسي لحالة الولادة تلك، والذي يُعتبر بحق تجديداً للإسلام، وفي اتجاه إعادة إنتاج حضارة بديلة، ينحصر في الانتشار الواسع للتشيع الإمامي. ذلك الإنتشار

ص: 320

الذي يعود الفضل فيه للتخطيط البارع والعمل الدائب والهادىء والحكيم الذي قاده ورعى خُطاه على التوالي الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، ابتداء من الإمام الباقر. وهو واحد من أعظم وأعجب الانجازات نجح في اختراق كافة السدود والانحرافات، بقوة الفكر وبالتنظيم البارع والشامل لرعاية المؤمنين في كافة الأقطار.

في النصف الثاني من القرن الرابع حين كانت الحضارة الإسلامية الرسمية قد بدأت تنحدر بسرعة عن الذروة التي غدت وراءها-كان التشيع الإمامي يصعد بسرعة مماثلة. مثل فقاعة تحررت من الثقل الذي كان يكتمها في الأمّاق. حيث غدا في الشام والعراق وشبه الجزيرة وبعض إيران وما وراء النهر هوية أوسع الجماهير وأملها في غد مشرق. وانتشرت المراكز العلمية الشيعية من شمال إيران حتى غرب الشام. فمن بخارى إلى نيشابور إلى قم والري إلى بغداد فحلب فطرابلس، كانت هناك حركة فكرية عارمة، انداخت كل منها في دائرتها. اتخذت أحياناً شكلاً سياسياً كما في حلب وطرابلس. ونشدد هنا على التجربة السياسية القصيرة والمجيدة التي حققتها طرابلس بقيادة أمرائها الفقهاء والمتنورين بني عمار. لقد كانت تجربة متقدمة بكافة المعايير لم يُنسج على منوالها إلا بعد ما يزيد على العشرة قرون بقيام الجمهورية الإسلامية.

في ذلك الأوان وتحت ظل حالة الولادة الجديدة، ومن أحد أهم المراكز الفكرية الشيعية،-خرج الشريف على الناس بكتاب قديم جديد سماه «نهج البلاغة»، انتشر بين الناس بسرعة انتشار النار في الهشيم. وبسرعة أيضاً غدا أحد أشهر الكتب في المكتبة الإسلامية. إن لم نقل أشهرها وأوسعها انتشاراً على الاطلاق

- 2-

بعد هذه الصورة الحية المركزة للعصر وأهله وتياراته وقد اختصرنا فيها بسطور معدودات ماحقّه أن يكتب بمئات الصفحات ليس من العسير علينا أن نكتشف سر ذلك الذيوع والانتشار لهذا المجموع بالذات لكلمات أمير المؤمنين عليه السلام وخطبه ورسائله. هو ذا كتاب صادف لحظته. اللحظة التي وصلت فيها الأزمة إلى أقصى ما يكون فكرياً وسياسياً. لحظة سقوط حضارة مستهلكة وإعادة إنتاج حضارة جديدة. هو ذا فكر التقى مع أزمة مجتمعه في منتصف الطريق، فزوّده بصورة للإنسان الجديد القادم، ومنح المشروع الوليد هدفاً سامياً يتجه إليه ويعمل في سبيله. وغني عن البيان، أن صورة الإنسان، أعني وظيفته الحضارية

ص: 321

وحقوقه، هي في رأس ما يميز حضارة عن أخرى.

وعلى أن الشريف سمي مجموعه الجديد «نهج البلاغة» مما يدل على أنه أعطى الصياغة الفنية المحل الأول فيه، فإن من المؤكد أن الكتاب بنفسه، وبصرف النظر عن وجهة نظر الشريف، كان نهجاً لما هو أكثر بكثير من البلاغة. وإن تكن الكلمة القوية الجميلة مفتاحه إلى قلوب الناس وسبيله إلى عقولهم.

أين بالذات، سر نهج البلاغة؟

لا يمكننا، طبعاً، ونحن نقلب وجوه الرأي في سر ذلك الذيوع الهائل للكتاب، أن نُغفل السحر الخاص لكلام علي عليه السلام فارس الكلمة. ولقد كان الناس دائماً يتعلقون بالكلام الجميل، الذي يعبر تعبيراً قوياً وقريباً إلى الكمال عن مكنون الضمائر. وسر ذلك التعلق قريب جداً من موقع سر الإنسان نفسه الذي نعرف جميعاً أنه النطق.

لكن الكلمة، مهما تكن قوية جميلة هي في نهاية الأمر وعاء العبرة فيها أوعته. وإلا كانت وعاء فارغاً نزين به خزانة حافظتنا ونتمتع باستعادتها وترديدها، لكن علاقتنا بها تقف عند هذه الدرجة، وما كان لها أن تأخذ موقعاً، كالذي نعرفه ل «نهج البلاغة»، إلا إذا قدمت لنا، بالإضافة إلى قوتها وجمالها، شيئاً ذا علاقة أشد وأمتن بما يشغل نفوسنا من تطلعات وأحلام البشر.

والحق أن القارىء الحصيف ل «نهج البلاغة» لواجد فيه مادة إنسانية فريدة في ثرائها وتقدمها. إنسانية بمعنى أن موضوعها الإنسان بوصفه ساعياً إلى الكمال الشخصي، وبوصفه عضواً في كتاب صيغة اجتماعية لها عليه وله عليها، وبوصفه طرفاً أو موضوعاً لحالة سياسية، يتأثر بها ويؤثر فيها، وعليه أن يتفاعل معها التفاعل الملائم. بنسبة تحقيقها للغايات والمبادىء والحقوق المشروعة للإنسان، فينصرها أو يحاربها، يؤيدها أو يعارضها، يقبلها أو يرفضها، حسب الدرجة المطلوبة أو الممكنة. طبقاً للقاعدة المؤسسة في المأثور الشهير «من رأى منكم باطلاً فليغيره بيده أو بقلبه أو بلسانه»، وبالمقابل وبنفس الدرجة من الصحة والمشروعية من رأى منكم حقاً فليثبته بيده أو بلسانه أو بقلبه.

إن مشكلات الحرية والعدالة وقيمة الإنسان كإنسان، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، وبكافة معانيها، تأخذ حيزاً واضحاً جداً من الهموم التي يطرحها «نهج البلاغة». فخلال

ص: 322

التحليلات التي يقدمها الإمام للأداء السياسي في الفترة السابقة على عهده، وأيضاً خلال المبادىء التي سار عليها في فترة حكمه القصيرة والمضطربة والوصايا التي حمّلها لعماله، وخصوصاً وصيته لصاحبه مالك الأشتر خلال ذلك كله يقدم الإمام مادة سياسية متقدمة جداً، بل ما تزال في أوج تقدمها حتى اليوم.

أعتقد أن روح «نهج البلاغة» مستودعة في نصين أساسيين. هما وصية الإمام لابنه الحسن عليهما السلام التي يطرح فيها تصوّره للسبيل الأمثل لسعي الإنسان للكمال الشخصي. ووصيته المشار إليها أعلاه لمالك، التي يطرح فيها تصوره للسبيل الأمثل لسعي الإنسان إلى الكمال الاجتماعي، عبر نهج سياسي شامل وغني عن البيان أن الغايتين تتقاطعان عند مسألة كرامة الإنسان وتكريمه وتصور الإمام بشقيه يُكمل التصور القرآني للمسألة نفسها، من حيث أن التصور القرآني يطرح التكريم الإلهي للإنسان عبر إعداده وتسخير الأشياء له (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر). ونص الإمام يطرح تكريم الإنسان للإنسان، تكريمه لنفسه عبر سعيه إلى الكمال، وتكريمه لأخيه بتحقيق العدل ونفي الظلم. وذلك بمجمله المضمون العميق للحرية. فلا حرية حقيقية لإنسان يُلصقه أدنى ما فيه بالأرض ويكبحه عن التسامي، ثم إن الكلام عن الحرية الشخصية في مجتمع غير عادل هو حديث خرافة.

والعدل عند الإمام ثنائي العلم وعبء العالم «لولا ما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سعب،مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها» وأشهد أن ليس في كل ما أعرفه من فكر الإنسان مثل هذا الربط الصلب والمباشر بين المعرفة والعدل. هو ذا فكر علوي حصراً.

- 3-

هذه المبادىء، وتفصيلاتها كثيرة، ونحن لم نُكم منها إلا بالعناوين، هي ما أعطت «نهج البلاغة» ذلك الحضور الهائل عند الناس، ومن المجتمع أن يتأمل المرء الطلعة في ذلك التعاطي الغني بين علي ونهجه. فيسأل نفسه: مَن منهما مدين للآخر بحضوره؟ وهل علي حاضر بالنهج؟ أم النهج حاضر بعلي؟ والجواب القاطع صعب إن لم يكن مستحيلاً، لكن من المريح أن نهرب إلى التشبيه، فنقول مثلًا، إن النافذة التي تُنير الغرفة مدينة في فعلها إلى الشمس المضيئة في الخارج، لكن الشمس ما كانت ذات معنى ولا فعل بالنسبة لمن داخل الغرفة لولا النافذة التي

ص: 323

تسمح للنور بالنفاذ.

لقد كان على المجتمع الإسلامي أن يمر بتجارب قاسية قبل أن يصبح مؤهلاً لاستيعاب ما تعني بالنسبة له المبادىء التي أتى بها الإمام وجمعها الشريف في «نهج البلاغة»، وكان عليه، قبل كل شيء أن يتحرر من آثار التضليل الفكري والتشويه الوجداني الذي ارتكبته بحقه السلطة، ابتداء من معاوية، الذي فعل كل ما بوسعه ولقد كان بوسعه الكثير، لكي يهندس الثورة المضادة لكل ما أسسه رسول الله صلوات الله عليه وآله ولكل ما سار عليه الهداة المهديون من خلفائه، وفي هذا السبيل أسس مساراً فكرياً ونهجاً أخلاقياً أنسب له ولحكمه، وأنسب لكل ذوي الأطماع السلطوية. كما كان على المجتمع الإسلامي نفسه أن يمر بتجارب سياسية، وأن ينضج بنار الألم، وحقاً لم يبخل عليه حكامه بذلك الدواء الناجع والمر، خصوصاً في القرآن الذي وُلد فيه الشريف وعاش والذي تميز بسيطرة العناصر العسكرية المغامرة الشرهة على الصورة السياسية لدار الإسلام. وراحت تعيث في البلاد والعباد فساداً متوسلة بكل ما تحت يدها للوصول والاحتفاظ بالسلطة، فمن صراعات عسكرية فيما بينها، إلى إثارة الفتن المذهبية بين المسلمين وكان على الناس في كل مكان أن يدفعوا الثمن الباهظ من حياتهم ورزقهم واستقرار أمورهم، وكل ذلك معروف مشهور عند أهله.

في ذلك الجو الملتبس الحافل بالاحتمالات، طرح الشريف «نهج البلاغة»، فكان ذلك أشبه بالتقاء مادتين كيميائيتين نشيطتين. لم يكن عليهما لكي تبدآ التفاعل إلا أن تلتقيا. الناس والكتاب، ومنذ تلك اللحظة بدأت حالة جديدة عنوانها أن الإنسان المسلم قد وجد صورته كما يجب أن تكون وكما عليه أن يسعى لأن تكون بالقياس إلى ما هو كائن فعلاً، ولقد قدمنا قبل قليل أن صورة الإنسان أعني قيمته وحقوقه وواجباته هي في رأس ما يميز صيغة اجتماعية عما سواها.

- 4-

السؤال الأخير الذي تطرحه إشكالية البحث هو: ترى هل فعل الشريف مافعل، حين انكبّ على جمع خطب الإمام وكلماته ورسائله عن استهداف ووعي على تداعيات عمله وتأثيراته المطلوبة، مما أشرنا إليه أم لا؟ والجواب يتوقف على المفهوم الذي نعتمده لكلمة وعي، فمن المعلوم أن وعي الإنسان على الحدث وهو في داخله يختلف تماماً ونوعياً عن وعي المحلل الذي

ص: 324

يأتي فيما بعد ويدرس الحدث نفسه، الإنسان في داخل الحدث يستجيب له بوعي عجيب وغامض، وفي درجة الاستجابة، الاستجابة وليس الوعي، يمتاز كبار القادة عما سواهم من الناس، ولا شك أن الشريف، وهو الإنسان الذي جمع الصفات الغر، وعاش في قلب الحالة السياسية والفكرية في (بغداد) كان مؤهلًا للاستجابة الملائمة وعلى كل حال فإنه قد فعل وفعله دليل ساطع على أنه استجاب الاستجابة الملائمة.

ص: 325

ص: 326

المنهج التربوي للامام علي نموذج التربية الاسلامية

الدكتور: محمد كاظم مكي

أولا: الامام والتربية:

يلتقي خاصة أهل الفكر وعامة أهل الثقافة في كل زمان ومكان عند تقدير المزايا الفكرية للإمام علي فيصفونه بأنه بحر علم، ومحيط معرفة لا يحاط ... وستستمر الأبحاث، مهما تعمقت واتسعت تتناول مواضيع معارفه دون أن تستنفدها،

وسيظل تراثه جديداً متجدداً.

فكلما ظهرت في الناس علوم حديثة، وجدت لها في تراث الإمام جذوراً.

ومن الطبيعي أن يكون إنسان كالإمام علي مربياً، لأنه:

كان إماماً قائداً،

وكان وريثاً لقائد عظيم، لرسول صاحب رسالة،

ونقلُ الرسالة للبشر تربية، والقيادة تربية، والإمامة تربية، وخلافة نبي الإسلام، تربية عظيمة خطيرة.

ص: 327

ولكن هل كان الإمام علي صاحب منهج تربوي؟

وما معنى المنهج لغة واصطلاحاً، وما معنى المنهج التربوي؟

وما هي عناصر هذا المنهج، وبنيته ومحتواه، وما هي خصائصه؟

المنهج من نَهج، وطريقٌ نهج أي بيِّن واضح.

ومنهج يعني الطريق، والمنهاج كالمنهج.

والآية الكريمة: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً).

وفي حديث العباس بن عبد المطلب: لم يمت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حتى ترككم على طريق ناهجة أي واضحة، بينة (1).

والمنهج العلمي هو الطريق الذي نعتمده للوصول إلى الحقيقة وهو نظام متكامل ينظر بمنظار الشمول والإحاطة بموضوع اختصاصه.

ومع ديكارت Descartes، المنهج هو الطريق الذي يجب أن يعتمده كل منا ليفكر ويبحث. بل هو مجموعة الوسائل المعدة لتوجيه الفكر نحو نتيجة معينة، إنه يتضمن أبداً الاتجاه نحو غاية وهدف، بل إن المنهج هو طريقة إجراء عمل ما وفق مبادىء، وبحسب نظام، لتحقيق هدف ما (2).

أما المنهج التربوي فيعني المذهب التربوي أو النظام التربوي الذي ينتجه فرد معين أو يعتمده مجتمع معين ويبتني هذا المذهب على أسس فكرية ومبادى واضحة ومتناسقة منطقياً لتخدم قيماً معينة.

ولهذا المنهج، بنية، ومكونات، وعناصر أي محتوى.

وهو يعتمد طرقاً عامة ووسائل خاصة لتنفيذه وتحقيقه.

وقد ظهرت المناهج التربوية مع الفلسفات القديمة: اليونانية والهندية والصينية والرومانية، ومع الأديان الكتابية كاليهودية والمسيحية والإسلام، كما ظهرت مع الفلسفة الحديثة، والفكر المعاصر، واعتمد كل شعب أو مجتمع أو دولة متقدمة كانت أو نامية أو متخلفة، أنظمة تربوية تستند إليها عملية التربية والتعليم.

وكما تحمل المناهج التربوية طابع الأديان وأسماءها، والفلسفات ومجتمعاتها، فهي تحمل أيضاً أسماء واضعيها ومبتدعيها كالإمام علي، والإمام الكاظم وابن سحنون، والقابسي

ص: 328

والغزالي وابن جماعة والشهيد الثاني من المسلمين ... ومثل روسو Rousseau، وبالدوين، Baldwin، ومونتسوري Montessori، وفرينه Freine، وبينه Binet، وادلر Adler، وبياجه Piaget، ولو برو Lobro، وروجرز Rogers، في الغرب الحديث والمعاصر (3).

وإذا شئنا أن نعرِّف المنهج التربوي للإمام علي فلا بد من تبينّ ينابيعه التي أملت بنيته ومكوناته.

ثانيا: ينابيع الفكر التربوى عند الامام علي:

للفكر التربوي عند الإمام علي مصادر وينابيع أمدته بمضامينه وأهدافه ووسائله، فما هي هذه الينابيع:

ألف: تربيته في أحضان النبي محمد:

هذا الإنسان المولود في حضن الكعبة بيت الله العتيق النابت في دوحة قريش من أسرة أقدامها في أعماق الفقر، وسلوكها في سدة الشرف فتح عينيه وفي اليوم الأول من دنياه على رجل يغشى بيت أبي طالب كمن يدخل بيته إنه الرجل المؤهل للنبوة، محمد بن عبد الله، يخاطب فاطمة بنت أسد، أم علي، وقد ولدت الرضيع علياً، قائلاً: اجعلي مهده (علياً) بقرب فراشي.

وكان محمد يطهِّر علياً في وقت غسله ويوجره اللبن عند شربه، ويحرك مهده عند نومه ويناغيه في يقظته، ويطوف به في جبال مكة وشعابها (4).

وعندما أصاب قريشاً قحط شديد قال النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لعمّيه حمزة والعباس: علينا أن نحمل ثقل أبي طالب في هذا الظرف العصيب، عندها قدموا إلى بيت أبي طالب وطلبوه أن يدفع إليهم أولاده ليكفوه مؤونة أمرهم فقال: ارتكوا عقيلاً وخذوا الباقي ... فأخذ محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) علياً (5).

ولقد أوجز الإمام علي خلاصة تربيته في حجر الرسول محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) بقوله: «وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضع الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه، يرفع لي كل يوم في أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به» (1).

ص: 329

ياء: نشأته في أحضان الرسالة الإسلامية:

قدّر لعلي، بفعل حياته في بيت محمد، أن يكون أول صبي تكتحل عيناه بمرأى الإسلام في مهده فيقبل على الدين الجديد بعفويته، ويكون أول من أسلم من الصبيان، وثاني من آمن بالنبي (7) وقد جاء في الروايات: أول من صلّى مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) علي وأول من أسلم علي وأول من صلى في الكعبة خلف رسول الله. وقال علي (علیه السلام): أنا عبد الله، وأخو رسول الله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها إلا كاذب آمنت قبل الناس سبع سنين (8).

وقال فيه رسول الله: [رجل امتحن الله قلبه للإيمان] وقد كانت ثقة الرسول به كبيرة فأولاه مهام عديدة، وخلّفه في المدينة في بعض مغازيه حين خرج إلى تبوك ليتولى الصلاة في غيابه في المسجد، ورفع له الراية يوم خيبر وأرسله إلى قضاء اليمن، وحمله على كتفيه ليحطم أصنام الكعبة، وأرسل معه كتاب البراءة إلى أهل مكة، وقال عنه: [علي مني وأنا منه] وقال له: [ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ] (9).

وقد شارك علي في محن الرسول كلها صابراً معه على اضطهاد قريش محتسباً خلال ثلاث وعشرين سنة، يكافح دونه، ويجالد دونه في قمع الكافرين، ويجاهد، ويقيه بنفسه في المواقف الصعبة (10).

ولجهاده قال فيه النبي: [لم يستقم الإسلام إلا بسيفه وبمال خديجة ] (11)، ولعلمه قال فيه لنبي أيضاً: [ أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب]، وقال أيضاً: [علي باب علمي وهديي ] (12).

وهكذا تخرج علي من مدرسة محمد، وبقي نصيراً لاستاذها العظيم محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، وكان نخبة المجاهدين في سبيل الإسلام، وطالباً رضع العلم من سيرة الرسول، وكان علمه من ينبوع الإسلام يرتوي ومن معارف محمد ينهل.

جیم: القرآن الكريم، ينبوع الفكر التربوي عند الإمام علي:

كل الإسلام في القرآن والقرآن هو الإسلام نفسه، ولقد نهل علي من هذا النبع الزاخر مبكراً، فاستفاد منه إيمانه، واستفاد منه علمه، واستفاد منه نهجه التربوي.

1-علاقة علي بالقرآن:

قال الرسول محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) [علي مع القرآن والقرآن معه، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض] (13).

ص: 330

وقال علي في القرآن الكريم: «عليكم بكتاب الله، فإنه الحبل المتين والنور المبين، والصراط المستقيم، والشفاء النافع، والري الناقع، والعصمة للمتمسك، والنجاة للمتعلق، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا يخلق على كثرة الرد أو الترداد من قال به صدق ومن عمل به لحق ...» (14).

وقال الإمام في القرآن الكريم أيضاً: « ... جعله الله رياً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده دواء ...» (15).

2-المضامين التربوية في القرآن:

من خلال علاقته بالقرآن استفاد الإمام من كل معاني التربية في هذا الكتاب السماوي المقدس، والذي تضمن كل مبادىء التربية في خطوطها العريضة وفي تفاصيلها الدقيقة.

فقد حدد القرآن قيم الحياة البشرية، وحدد الهدف من خلق الإنسان في هذه الدنيا. وقد لخصت الآيتان الكريمتان التاليتان هذا الهدف:

(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (16)

(أفحسبتم أنها خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) (17).

العبادة هي هدف الحياة، والعبادة هي الطاعة، وطاعة الله طريق السعادة، وهل أفضل سلوكاً من طاعة الخالق والسير على هديه أنت في مأمن إذا سرت على هدى العارف الرازق ...، وقد جاء الأنبياء من آدم إلى محمد يحملون رسالات السماء إلى البشر ليوصلوهم إلى السعادة. فالقرآن يريد صياغة الإنسان ويمنحه هدفه وغايته، والهدف الذي يريد أن يوصل الإنسان إليه هو الله: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) (18).

وفي القرآن الله هو المربي: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) (19).

والأنبياء هم المربون: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) (20). وخلق الله الكون بتصرف الإنسان (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (21).

وجعل القرآن التعارف بين الشعوب أساساً ومبدأ: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ...) (22).

ص: 331

وربط القرآن العبادة وهى هدف الحياة بطاعة الوالدين قيمة وموقعاً: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) (23).

وجعل الأبناء ورثة وقرة أعين واعتبر الأسرة نواة المجتمع وسعادة الدنيا: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً) (24).

وخط لسلوك الإنسان طريقاً وسطاً، ودعا إلى العفو والتسامح والاعراض عن الجاهلين: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) (25).

وفضل القرآن العلم والمعرفة، ودعا إلى التزود بالعلوم، لأنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (وقل ربي زدني علماً).

ودعا الناس إلى عدم الاسراف في الأكل وفي الشرب، والاعتدال في المشي، والكلام ... إذن لقد رسم القرآن الخطوط العريضة لتربية الإنسان والتي توضحت وتفصلت بالحديث الشريف كما نلاحظه لاحقاً.

دال: الحديث النبوي، ينبوع تربوي:

تمثلت خطة الإسلام التربوية على أرض الواقع، وفي حياة النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، من خلال سنَّة الرسول، والتي حفظت في حديثه، ولعل أبرز ميزة للتوجه التربوي النبوي هو العطف على الطفولة والدعوة لفرح الأطفال، ولفت النظر إلى الاهتمام بشؤون هذه المرحلة من حياة الإنسان.

فالنبي يخاطب الآباء بقوله: [ إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماء كم] واعتبر الرسول أن للولد على الوالد حقوقاً وهي: «أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية وأن لا يرزقه إلا طيباً» (26).

ويشدد الرسول على تربية الأولاد بقوله: [لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق بنصف صاع كل يوم] كما قال: [ وأكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم يغفر لكم] (27).

ويخاطب علياً [ يا علي لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما] و [ وأحبوا الصبيان وارحموهم، وإذا وعدتموهم أعطوهم، فإنهم لا يرون إلا أنكم ترزقون] و [إياك والكذب فإنه يسوء الوجه] و[ رحم الله عبداً أعان ولده على بره بالإحسان إليه، والتآلف له وتعليمه وتأديبه] [ اعدلوا بين أولادكم كما تحبون أن يعدلوا بينكم].

ص: 332

واستمر في الدعوة، دعوة الأهل إلى تفريح الأولاد والرحمة بهم بأقواله التالية: [من فرّح ابنه فكأنها أعتق رقبة، ومن أقر عين ابن فكأنما بكى من خشية الله، وليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا أحبوا الصبيان وارحموهم ] (28).

لكن الرسول لفت إلى وجوب الفصل في المضاجع بين الصبي والصبي، والصبية والصبية، عندما يبلغون سبع سنوات من العمر فأكثر (29).

ولكن التعليم كان الإطار الأساسي للتعامل مع الفرد، حيث اعتبر الرسول أن مهمة الإسلام هي للتعليم والتربية قائلاً [ بالتعليم أرسلت ](30).

من هذه المصادر أخذ الإمام علي مضامين منهجه التربوي، فما هي بنية هذا المنهج وهيكليته.

ثالثا: بنية المنهج التربوى عند الامام علي ومكوناته وعناصره:

من الينابيع الإسلامية أخذ الإمام علي أصول منهجه التربوي.

والإسلام بنظرته الشمولية للكون والإنسان لم يغفل من حياة الفرد مرحلة، بل تطلع إلى الإنسان من مرحلة ما قبل المهد إلى مرحلة ما بعد اللحد، وكذلك فعل نبي الإسلام، وكذلك فعل الإمام علي ربيب الإسلام، وربيب محمد.

وقد نظر الإمام علي في منهجه التربوي على مستويين

- مستوى التربية المقصودة.

- ومستوى التربية غير المقصودة.

فما هما هذان المستويان وما هو مضمون منهجه التربوي على كل مستوى؟

ألف: مستوى التربية المقصودة:

هي التربية الهادفة التي يرعاها البيت والأهل والمدرسة وتمتد من مرحلة ما قبل الولادة إلى مرحلة البلوغ.

وتتمثل مرحلة ماقبل الولادة باختيار الزوجة الصالحة، وقد قال الإمام علي: إياكم وتزويج الحمقاء فإن صحبتها بلاء وولدها ضياع» (31).

وقال أيضاً: «انظروا من يرضع أولادكم فإن الولد يشب عليه» (32)، ثم قال في المضمون

ص: 333

نفسه: «توقوا على أولادكم من لبن البغي والمجنونة، فإن اللبن بعدي» (33).

وبعد مرحلة ما قبل الولادة تبدأ مرحلة الطفولة الأولى وتمتد من الولادة إلى نهاية السنة الأولى وأول شيء بعد الولادة التسمية، فقد قال الإمام علي: «وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه» (34).

هذا وقد انتظرت الإنسانية حتى سنة 1924 حين صدر اعلان جنيف بحقوق الطفل، والتي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث جاء في المبدأ الثالث منه ما يلي: «يجب أن يكون للطفل منذ ولادته الحق في أن يعرف باسم ...» (35).

وبعد التسمية ومعها تكون الرضاعة، حيث يرشد الإمام علي إلى ضرورة لبن الأم بقوله «ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة من لبن أمه» (36). وهذا الأمر موضوع تأكيد من قبل الطب الحديث مع ما يوفره لبن الأم من تحقيق ارتباط الطفل بأمه نفسياً ومادياً وشعوره بالحنان في صدر أمه، وانعكاس ذلك على أمنه واطمئنانه وذهنه (37).

ويتابع الإمام اهتمامه بمراحل الطفولة الثانية (من سنة 1-3 سنوات) والثالثة (من 3-7 سنوات) والرابعة (من 7 سنوات-البلوغ). حيث يعرض نمو الطفل من النواحي الجسدية والذهنية، فقد راقب الإمام نمو الولد طولاً، ونمو أسنانه وذلك بقوله «يشب الصبي كل سنة أربعة أصابع بأصابع نفسه، ويثغر بسبع» (38) والواقع أن الطفل ينمو لجهة الطول بنسبة 4-6 سم سنوياً، وتتكامل أسنانه في السابعة من العمر.

ويعتبر الإمام أن العطف والحنان ضروريان لنمو الولد، وذلك بالاحتضان والاهتمام «لأن قبلة الولد رحمة» وأنه «على الوالد أن يحسن أدب ولده وأن يعامله باللين مع أنه لا بد من الضرب أحياناً»، لأن «ضرب الولد كالسماد للزرع، لكن العاقل يتعظ بالآداب والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب». وإذا كان من قصاص فلا بأس، على أن يكون خالياً من الأذى النفسي والجسدي إذ يقول للأهل بشأن أولادهم: «ابلغوا معلمكم أن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتص منه» (39).

إن وجوب العطف على الولد ومعاملته بالمحبة والحنان كان جزء من مبادىء إعلان حقوق الطفل العالمي حيث ورد في المبدأ السادس من هذا الإعلان بأن من حقوق هذا الطفل «أن يحظى قدر الإمكان بالمحبة والتفهم وأن ينمو تحت رعاية والديه في جو من الحنان» (40)

ص: 334

ولقد قال الإمام ملخصاً موقف العطف ومحدداً السن التي يمكن أن يعامل بها الولد في مناخ من الحنان: «ولدك ريحانتك سبعاً» (41).

كما حدد الإمام المراحل من الطفولة والشباب وقال: «اترك ولدك سبعاً، وعلّمه سبعاً، وصاحبه سبعاً» (42).

وهذا ما يذكرنا بالمبدأ السابع من اعلان حقوق الطفل والذي جاء فيه: «يجب أن تتاح للطفل فرصته للترفيه عن نفسه باللعب والرياضة اللذين يجب أن يستهدفا نفس الغاية التي يرمي التعليم والتربية إلى بلوغهما» (43).

وفي مرحلة الطفولة الثالثة طلب الإمام علي من الآباء أن يعلموا أبناءهم القرآن (44) بعد أن كان قد طلب من الوالد أن يحسن اسم ولده، ويحسن أدبه، ثم طلب أيضاً رعاية الطفولة والولادة خارج نطاق العائلة لتبلغ الأيتام بقوله: «وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له» (45). وتلتزم التربية عند الإمام عي في مرحلة الطفولة الأخيرة (حتى 14 سنة) بأداء الصلاة (ويؤمر بالصلاة لتسع)، وباحترام الوالد وتعلم القرآن وتعلم شعر أبي طالب (46).

وتوقف الإمام عند التربية الجنسية حيث يقول بضرورة التفريق بين الإخوة في المضاجع عندما يبلغون العاشرة من العمر، وقال أن الولد يحتلم لأربع عشرة.

ويؤمن الإمام علي بأن التربية هي التطور، أو أنها متطورة، فلا يجوز أن نكره أولادنا على آدابنا لأنهم مخلوقون لزمان غير زماننا، وهو أي الإمام علي حين يخاطب ولده الحسن يقول في کتابه: «من الوالد الفان المقر للزمان المدبر العمر إلى المولود المؤمل». وهكذا يكون الولد مرحلة متطورة بالنسبة لأهله، إنه مستقبل الحاضر المتراجع إلى الوراء. لذلك يمكن أن نسمي الإمام علي برائد التربية المتطورة.

باء: مستوى التربية غير المقصودة:

هي التربية التي لا تشملها رعاية الأهل، بل رعاية الزمان والدهر، إنها تربية الإنسان بنفسه ولنفسه متأثراً ببيئته الاجتماعية والجغرافية المادية، إنها تربية البالغين والكبار، وتمتد من مرحلة البلوغ إلى مرحلة الممات وفيها يصح المثل «ابنك لا تعلمه الدهر يعلمه». وهذه التربية تتناول شخصية الإنسان بجميع وجوهها الروحية-الأخلاقية والعقلية والاجتماعية والجسدية.

ص: 335

1-التربية الروحية الأخلاقية:

وهي ما يتعلق بنماء الروح، وأول ما يجب تربيته في نظر الإمام علي في هذا المجال هي التقوى لأنها تتضمن معاني الورع في السلوك، والخوف من الله، فقد قال الإمام علي: «التقى رئيس الأخلاق» (48) وقال موصياً ولده الحسن: «إن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله ...» (49).

والتقى دليل الإيمان ومؤشر على وجوده فمن لا يؤمن بالله لا يخاف الله، لذلك طلب الإمام من ولده الحسن عمارة قلبه بذكر الله، والاعتصام بحبه (50).

أما مصادر التقوى فأولها القرآن الكريم (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (51) وأول مظاهر التقوى العبادات وأولها الصلاة حيث يقول الإمام: «الصلاة قربان كل تقي» أما الصوم فهو عبادة تأديتها عيد ونهايتها عيد والصوم الصحيح هو صوم الأتقياء» (52) كما أن الزكاة نتيجة التقوى، والجهاد لباس التقوى وهو باب من أبواب الجنة (53).

وقد ارتبط بالإيمان مزايا أخلاقية منها الصبر، وقد نصح الإمام علي المسلمين بالتربي على الصبر، ونعم الخلق التصبر في الحق ومن صبر ظفر، ولا بد للصبور من صفر، والصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ولا خير في جسد لا رأس له ولا خير في إيمان لا صبر معه (54) وجاء الصبر رديف الحق في سورة العصر: (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) ولقد أوصى الإمام بالعفاف لأنه زينة الفقر، وبالشكر لأنه زينة الغنى، لكنه أوصى بعدم الطمع لأنه رقّ مؤبد (55).

2-التربية العقلية:

تبقى التقوى مصدراً للتربية العقلية في نظر الإمام علي، فالعلم كما يقول يعمر بالإيمان، والتلازم بينهما قائم لأن: «قوام الدين والدنيا عالم يستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم وإن أغنى الغنى العقل» (56).

وقد قال الإمام في وصيته التربوية لتلميذه كميل بن زياد: العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال العلم يزكو على الإنفاق والمال يزول مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر».

ص: 336

3-التربية الاجتماعية:

التقوى أيضاً أساس التربية الاجتماعية، فقد أوصى الإمام المؤمنين قائلاً: «اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم».

واعتبر العلاقة بالآخرين عاملاً من عوامل تأديب الذات وتربيتها بقوله: «كفاك أدباً اجتناب ما تكرهه من غيرك، وأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكرهه لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك» (57).

ودعا الإمام إلى علاقات اجتماعية مبنية على الصدق لأن الصدق هو الإيمان، ولأن الكذب مجانب للإيمان. كما حذر الإمام من ازدواجية الموقف بقوله: «واجعلوا اللسان واحداً، وليخزن الرجل لسانه (58).

ولم يفصل الإمام بين التربية الاجتماعية والتربية السياسية فهو أول من قال بالديمقراطية وبأخذ رأي الأكثرية به بقوله: «والزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة (59).

4-التربية الجسدية:

تتخذ شكل الاعتدال في الأكل، حيث قال الإمام علي: «كم من أكلة منعت أكلات» أو الأمثلة الأخرى: «لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع، ولا تقم إلا وأنت تشتهيه وجوّد المضغ» (60).

جيم: أساليب التربية:

لم يتضمن المنهج التربوي للإمام علي القواعد الأساسية، وأصول بنيته فقط، بل أساليب تنفيذه، وطرق تحقيق عملية التربِّي والتأدب، ومن هذه الأساليب في التربية العلوية:

- أسلوب الدعاء، فهو في نظر الإمام علي توجه لله، وترفع الإنسان عن أن يذل كرامته لمخلوق فالسؤال من العبد للخالق فقط، «فقد كره الله إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة وأحب ذلك لنفسه» ولكن الدعاء لا يكفي بدون عمل لأن «الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر» ومن أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة (61).

- أسلوب التربية بالقدوة الحسنة، فلقد لفت إليه الإمام قائلاً «كان لكم في رسول الله

ص: 337

أسوة حسنة وبسير الأنبياء المعصومين بموسی و داوود و عیسی» (62).

- أسلوب التربية بالتاريخ، متمثلاً بنصيحة الإمام: «أحبي قلبك بالموعظة، وأعرض عليه أخبار الماضين وذكره بما أصاب قبلك من الأولين» «أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق» (63).

- أسلوب التربية بالمثل، حيث يخاطب الإمام ولده في أكثر من مرة: «يا بني قد انبأتك عن الدنيا وحالها وزوالها وانتقالها وضربت لك فيها الأمثال لتعتبر بها وتحذو عليها ...» (64).

رابعا: الخلاصة وخصائص المنهج التربوي عند الامام علي:

- المنهج التربوي للإمام علي هو صورة الفكر التربوي الإسلامي، مستمداً من القرآن وحديث الرسول وسيرته وطريقة تربيته علياً.

- المنهج التربوي للإمام هو بمجمله إعادة إنتاج تربوي لمجتمع إسلامي متطور، متوسع جغرافياً وهو تفصيل مرحلي لأصول إسلامية مؤبدة.

إنه نظرة شاملة لمجمل وضعية الفرد بل هو من تحقيق المثالي على أرض الواقع.

إنه الخطوة الأساسية في مسار المناهج التربوية المتلاحقة التي أبدعها المفكرون المسلمون وما يزالون تأسيساً على التطورات اللاحقة بالإسلام انتشاراً وفكراً وتدريساً. والإمام علي كان أول من استعمل بعد القرآن كلمة التربية بمشتقاتها، وبمعناها أنها تنمية وتغذية حيث قال في مدح الأنصار: «هم والله ربوا الإسلام كما يربِّى الفلو مع غنائهم بأيديهم السِباط، وألسنتهم السِلاط» (65).

والإمام علي بشخصه كان ناتج التربية الإسلامية، نتيجة الإسلام قرآناً ونبياً، أي أنه كان في شخصه النموذج الخلاصة لتربية الإسلام، وكان منهجه التربوي نموذج المنهج الإسلامي التربوي المتطور.

ولكن ما الهدف من إجراء مثل هذه الدراسة، هل هو إبراز جانب من جوانب شخصية الإمام، وربط أفكاره القديمة بأشكال التربية الحديثة، للتفاخر أمام الأمم بشخص الإمام علي الذي خرج بفكره وبإمامته من حيز فئة إلى حيز الإنسان بشكل عام، لأنه يعبر عن الإسلام الدين الموجه لكل خلق الله في كل زمان ومكان؟

ص: 338

الهدف من هذه الدراسة هو هدفان:

- هدف مباشر وهو هدف علمي بحت، يقوم على تحليل مضامين نهج البلاغة بشكل علمي موضوعي لتقصي المبادىء التربوية فيه وتحليلها، وجمع المتألف منها تحت عناوين موحدة، وهذا ما لا يمكن أن تفي به مثل هذه الدراسة السريعة في الوقت المخصص لها.

- هدف بعيد، وهو وضع المنهج التربوي للإمام موضع التنفيذ في حياة الإنسان لتتحول هذه المبادىء التربوية إلى قواعد سلوكية يعمل بموجبها المؤمنون بالله وبالإسلام.

الحواشي:

(1) ابن منظور لسان العرب، دار صادر-دار بیروت، لات. ج 2، ص 383.

(2) Grand larousse Encgclope'dique, livrairei-lareusse, PARIS, 1963, t. 7.p 306.

(3) فاخر عاقل: التربية قديمها وحديثها، دار العلم للملايين، بيروت،ط 3، 1981، ص 67-166.

- فريد النجار: تطور الفكر التربوي في العالم المركز التربوي للبحوث والانماء-بيروت 1983، ص 43-53.

- آقانزيني، الجمود والنجدد في التربية المدرسية، ترجمة عبد الله الدايم، دار العلم للملايين بيروت 1981، ص 5-41.

(4) الاربلي: كشف الغمة في معرفة الأئمة، دار الكتاب الإسلامي، بيروت 1401 ه / 1981م، ج 1، ص 9.

- محمد كاظم القزويني: علي من المهد إلى اللحد، ط 8، دار الصادق، بيروت، 1400 ه / 1980 م، ص 29.

(5) ابن أبي الحديد: نهج البلاغة، لجنة إحياء الذخائر، دار مكتبة الحياة-بيروت 1979، ص 34.

(6) محمد عبده: نهج البلاغة، ط 2، دار الأندلس-بيروت، 1963، ص 373-374.

(7) محمد شمس الدين ابن طولون، الأئمة الاثنا عشر، تحقيق صلاح الدين المنجد، لاط دار صادر-بيروت، 1377 ه / 1958م، ص 48.

- الاربلي: م. س، ج1، ص92.

(8) الحافظ النسائي: خصائص أمير المؤمنين، منشورات المطبعة الحيدرية، العراق، 1369 ه / 1949 م، ص 2-4.

(9) م. س، ص 5-18، ابن الجوزي. تذكرة الخواص، مؤسسة أهل البيت-لبنان 1401 ه / 1983 م، ص 32-57.

- الاربلي: كشف الغمة، 1: 36-80.

(10) الاربلي: م. س 62:1.

(11) علي محمد الحسين الأديب. منهج التربية عند الامام علي دار الكتاب العربي-بيروت 1399 ه- / 1979م ص 50.

(12) الاربلي: م. س، ج1: 64، 92.

(13) م. س، ج 1: ص 148.

(14) ابن الجوزي: تذكرة الخواص، ص 142.

(15) نهج البلاغة: الخطبة 198.

ص: 339

(16) الذاريات 56.

(17) المؤمنون، 115.

(18) الأنعام، 162، الشهيد المطهري: الهدف السامي للحياة الإنسانية إيران 1404ه- / 1983م، ص 1-13.

(19) العلق، الآيات 1-5.

(20) آل عمران، 33.

(21) الجاثية، 13.

(22) الحجرات، 13.

(23) الاسراء، 23.

(24) الفرقان، 74.

(25) الأعراف، 199.

(26) حسن عبد العال: تربية الطفل في الإسلام، مؤتمر التربية الإسلامية-بيروت الكتاب الرابع، ص 122-133.

(27) القرشي: النظام التربوي في الإسلام، دار التعارف-بيروت، 1399 ه- / 1979م، ط1، ص 87، 97.

(28) محمد تقي فلسفي: الطفل بين الوراثة والتربية، دار التعارف-بيروت 1401 ه / 1981 م، ج 2، ص 8، 22،50، 85، 93، 98، 99، 122، 164-167.

(29) م. س، ص 273.

(30) القرشي، م. س، ص 87، 97.

(31) فروع الكافي، 3:2، القرشي، النظام التربوي، ص 55.

(32) الهادي كاشف الغطاء: مستدرك نهج البلاغة، مكتبة الأندلس-بيروت، لاط، لات. ص 171.

(33) علي محمد الحسين الأديب: نهج التربية، ص 152.

(34) نهج البلاغة، حكمة 399.

(35) جان شازال: حقوق الطفل، سلسلة ربي زدني علماً، بيروت-باريس 1983 (ترجمة أبي فاضل) ص 13-14.

(36) كاشف الغطاء، مستدرك نهج البلاغة، ص 171.

(37) محي الدين فضل الله، رسالة جامعية بموضوع المنهج التربوي في نهج البلاغة، كلية التربية 1983، ص 45، 46.

(38) الهادي كاشف الغطاء، مستدرك، ص170.

(39) نهج البلاغة دار الأندلس-بيروت، 1963م /1302ه-، ص 488، الحكمة 399، فضل الله، رسالة في المنهج التربوي في نهج البلاغة، ص 48.

(40) شازال: حقوق الطفل، ص 14.

(41) لبيب بيضون: تصنيف نهج البلاغة، ط2، دار التعليم، بیروت، ص318.

(42) الحر العاملي: وسائل الشيعة، 7: 194، علي محمد حسين الأديب: نهج التربية، ص 160.

(43) شازال: م. س. ص 15.

(44) حكمة 399.

(45) الكتاب رقم 53.

(46) محمد عبده: نهج البلاغة، 647، محسن الأمين: أعيان الشيعة، القسم الأول، مطبعة الانصاف-بيروت، 1960، ص 65.

(47) لبيب بيضون: تصنيف نهج البلاغة، ص 328.

(48) الحكمة 410.

(49) محمد عبده: نهج البلاغة، ص 477.

(50) م. ن. ص 474-475.

(51) سورة البقرة، 2، 177.

(52) نهج البلاغة، ص 366، الحكمة رقم 438.

(53) نهج البلاغة، ص 75، 353.

(54) الحكم 2، 53، 82، 156، 34.

(55) سورة العصر، والحكم 20، 82، 156، 340.

ص: 340

(56) الحكم 156، 372، 38.

(57) نهج البلاغة ص 480، والحكم 320، 412.

(58) نهج البلاغة، ص 315، 511، فضل الله: المنهج التربوي، ص 70.

(59) الكلام، 127، الحكمة 171.

(60) الحكمة 71، 127.

(61) حكم نهج البلاغة 135، 146، 377.

(62) نهج البلاغة، ص 31، 283.

(63) م. ن، ص 328، 475.

(64) م. ن، ص 479.

(65) نهج البلاغة الحكمة 465.

ص: 341

ص: 342

الامام علي (علیه السلام) في ندوة علمية أقطابها نخبة من مفكري الاسلام

الأستاذ: محمد علي اسبر

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: [ أنا مدينة العلم وعلي بابها ] (1).

وقال الإمام علي: « ... اندمجتُ على مكنون علمٍ لو بحتُ به لاضطريتم اضطراب الأرشية في الطُّويَّ البعيدة» (2).

وقال لكميل بن زياد: «إن ههنا «وأشار إلى صدره» لعلماً جمّاً لو أصبتُ له حَمَلَةً» (3).

وتحدث يوماً عن الكوارث التي سوف تنزل بالبصرة على يدي صاحب الزنج (4) ... وعن الأتراك. فقام رجل كلبيُّ من أصحابه وقال: «لقد أُعطيتَ علم الغيب يا أمير المؤمنين:

فضحك وقال: «يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي عِلم، وإنما علم الغيب علم الساعة، وما عدّد الله سبحانه بقونه: (إن الله عنده علم الساعة) (5) الآية. فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، وقبيحٍ أو جميلٍ، وسخيّ أو بخيل، وشقي أو سعيد، ومن يكون في النار حطب أو في الجنان للنبي مُرافقاً، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحدٌ إلا الله، وما سوى ذلك، فعلمٌ علَّمه الله نبيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطمَّ عليه جوانحي» (6).

ص: 343


1- متفق عليه .
2- نهج البلاغة الجزء الأول صفحة 41 الأول صفحة 41 طبع كرم دمشق. «اندمجت ...» يقول الشيخ محمد عبده في شرح الكلمات: «أدمجه: لغُه في ثوب فاندمج، أي انطويت على علم والتففتُ عليه. والأرشية: جمع رشاء بمعنى: الحبل. والطويِّ البعيدة، الطوي: جمع طوية وهي البئر، والبعيدة بمعنى: العميقة ... الخ.
3- نهج البلاغة-الجزء الرابع-صفحة 36 يقول الشيخ محمد عبده في شرح ها (إن ههنا لعلماً ... الخ) الحَمْلَة بالتحريك، جمع: حامل، وأصبت بمعنى: وجدتُ-أي لو وجدت له حاملين لأبرزته ويثثته.
4- صاحب الزنج هو: علي بن محمد بن عبد الرحيم من بني عبد القيس حسب رواية أبي الفداء،وقد بدأ حركته الثورية عام 249 ه- أيام المنتصر الخليفة العباسي.
5- الآية هي: (إن الله عنده علم الساعة، وينزِّل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير) (لقمان 34).
6- تضطم افتعال من الضم، أي وتنضم عليه جوانحي، والجوانح: الأضلاع، تحت الترائب مما يلي الصدر وانضمامها عليه: اشتمالها على قلب يعيها». عبده.

عن ذلك العلم الباذخ الذي كرّم الله به رسوله، وخصَّ الرسول به الإمامَ علياً بأمرٍ من ربه نستمع إلى نُخبة من أبرز مفكري الإسلام في مصر العربية يتحدثون عن علم الإمام علي وأثره الفاعل في منابت العلم، والفقه، والعدالة، في المجتمع الإسلامي، منذ كان الإمام وحتى يرث الله الأرض ومَن عليها.

هذا الأستاذ عبد الكريم الخطيب يقول في كتابه: علي بن أبي طالب بقية النبوة (ص 87) (1) «وكان علي فقيه الإسلام، وعالم الإسلام، وحكيم الإسلام، غير مدفوع عن هذا أو منازع فيه اه.

ويُبرهن على ذلك بما حفظته كتب: السيرة والحديث، والتاريخ، لعلي من آثار: علمية وأدبية واجتماعية، فيقول: «وهذه المرويات من آثاره تشهد بأنه كان البحر الذي لا يُسبر غوره، وأن مقاطع أحكامه وفواصل قوله وجوامع حكمه، قد مسّتها نفحة من نفحات النبوة، فخالطت النفوس، ومازجت القلوب وسكنت إلى العقول، حتى لقد علق الناس بها بهذا القدر الكبير، لأول وقعها في الآذان، قبل أن تحويها الأوراق وتضمها الصحف» اه.

ويُجري الأستاذ الخطيب مقارنة بين علي والصحابة الذين وُلدوا في الجاهلية، ثم دخلوا في الإسلام فماذا كانت ثمرة هذه المقارنة الرزينة؟

لنحضر أذهاننا ونصغ إليه وهو يقول في الصفحة 90: «فالذين دخلوا في الإسلام من مواليد الجاهلية لهم حياتان: حياة في الجاهلية، وحياة الإسلام. ولكلٍّ من الحياتين وجه غير وجه الأخرى، تلك ضلال وعمى، وهذه نور وهدى.

أما علي-كرم الله وجهه-فكانت حياته في الجاهلية والإسلام على سواء لم يغيِّر منه الإسلام شيئاً في ظاهر أو باطن، إذ ولد مسلماً قبل الإسلام» اه.

وإذا طلبتَ منه حجَّة بيِّنة فاصلة على أن علياً ولد مسلماً، فإنه يقدِّم لك هذه الحجة المبصرة في الصفحة 101.

اقرأ متأنياً كلماته: «والذي نقوله هنا هو ما قُلناه من قبل، وهو أن علياً ولد مسلماً على الفطرة» أه.

فإذا سألته: كيف؟

قال: إذ كان مرباه منذ طفولته في بيت الرسول الذي عصمه الله، وعصم من كان في بيته من شرك الجاهلية وضلالها» اه.

ص: 344


1- طبعة ثانية-دار المعرفة-بيروت، سنة 1395 ه-1975م.

الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي: علي إمام المتقين-ج 1-ص 24 (1)، قال: «وفي الحق أن علياً شهد منذ صباه نزول آيات القرآن الكريم، منذ كان في حِجر النبوة، وتفقَّه في أسباب النزول، والتفسير، وعايش أغلب السنة الشريفة، عملاً وقولاً، فتفقه فيها جميعاً حتى لقد صحَّ ما قاله فيه الرسول: [أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه ] اه.

وقال أحمد بن حنبل: «لم ينقل لأحد من الصحابة ما نُقل لعلي، فمناقبه كثيرة» اه.

ويقول في الصفحة 26: «منذ مطلع عمره تعوَّد علي كرَّم الله وجهه أن يقتحم الضباب على الريب ليجلو الحقيقة، ويزيل الريبة».

«وهذا النهج في علاج الأمور، وتقصي الحقيقة، فيما وراء المظاهر، سيعين على إقامة العدل في عهد عمر حين يغدو علي صاحب الشورى في أمور الفقه والقضاء، حتى ليقول عمر: «لولا علي لهلك عمر».

ويقول في الصفحة 27: «أجمل الزمخشري مناقب علي بن أبي طالب في ثماني عشرة خاصة نوجزها فيما يلي: «الخاصة التاسعة: أنه باب مدينة العلم كما جاء في الحديث الشريف: أنا مدينة العلم وعلي بابها (الحديث)».

«الخاصة العاشرة: أنه ذو الأذن الواعية».

«روي أنه لما نزل قوله تعالى: (وتعيها أذن واعية) (الحاقة 12) قال رسول الله: سألت الله عز وجل أن يجعلها أذنك يا علي».

قال علي: فما نسيتُ شيئاً بعد ذلك، وما كان لي أن أنسى» اه.

ثم يقول الشرقاوي: «وشرح الزمخشري عبارة «أذن واعية» في تفسيره المعروف باسم «الكشاف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل»: أذن واعية من شأنها أن تعي وتحفظ ماسمعت به ولا تضيعه بترك العمل، وكل ما حفظته من نفسك فقد وعيته وما حفظته من غير نفسك فقد أوعيته» اه.

أي أن الرسول دعا له بالتفوق في: الفهم والوعي والعمل، وهذا ما لم يدعُ به لغيره بل اختصَّه به هو وحده.

ويرى الأستاذ الشرقاوي أن يجعلك تتمتع بثقة مطلقة من صحة الحديث فيقول: «ونلاحظ أن الزمخشري لم ينفرد بهذا التفسير، فقد جاء في تفسير ابن كثير، أن رسول الله-ص-

ص: 345


1- الناشر: مكتبة غريب-مصر.

قال لما نزلت عليه هذه الآية: سألت ربي أن يجعلها أذن علي» فكان علي يقول: «ما سمعت من رسول الله شيئاً قط فنسيته».

وفي تفسير ابن جرير أن رسول الله قال لعلي: إني أُمرتُ أن أدنيك ولا أقصيك، وان أعلمك، وأن تعيّ، وحق لك أن تعي» فنزلت هذه الآية».

أقول: وأخرج الحديث الفخر الرازي: التفسير الكبير المجلد 15 ص 107 ج 30 (ط3 دار إحياء التراث العربي-بيروت)، قال: وعن النبي، عند نزول هذه الآية (وتعيها أذن واعية) «سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي»، قال علي: فما نسيت شيئاً بعد ذلك، وما كان لي أن أنسى» أه.

وأخرجه السيوطي في تفسيره: الدر المنثور (الحاقة: 12) قال: «وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن مكحول، قال: لما نزلت «وتعيها أذن واعية، قال رسول الله: سألت ربي أن يجعلها أذن علي».

قال مكحول: فكان علي يقول: ما سمعت من رسول الله شيئاً فنسيته» اه.

ويمضي السيوطي قائلاً: «وأخرج ابن جرير وبن أبي حاتم والواحدي، وابن مردويه وابن عساكر، وابن النجار عن بريدة قال: قال رسول الله لعلي: إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك وأن تعي وحق لك أن تعي، فنزلت هذه الآية «وتعيها أذن واعية».

أقول: وأخرج الحديث الهيثمي: في مجمع الزوائد ج 1 ص 131.

وأبو نعيم في حلية الأولياء ج 1 ص 167

والمتقي الهندي في: كنزل العمال ج 6 ص 408.

وانظر الفيروزآبادي: فضائل الخمسة من الصحاح السنة ج 1 ص 319-320 وفي الصفحة 32 قال الشرقاوي: «وقُصارى ما يُقال في فضائل علي كرم الله وجهه،

أنه تعلَّمها من الرسول منذ نشأ في حجر الرسول وترعرع في أحضان النبوة.

«الرسول-ص-هو الذي أسماه

وهو الذي كنّاه.

وهو الذي أطلق عليه حين نضجت مناقبه «إمام المتقين».

وينقل إلينا في الصفحة 52 و 53 نبأ مجلس تثقيفي لرسول الله مع أصحابه، يسأل كل

ص: 346

واحد منهم أن يتلو آيات من الذكر الحكيم، ويشرح صلى الله عليه وآله، و يعلم. ويأتي دور علي بن أبي طالب فيسأله عن نعم الله عليه فيعد عشراً، وحين ينتهي من تعدادها يقول الشرقاوي:

«فتبسم رسول الله في رضى عنه وقال: «ولتهنئك الحكمة من أحبَّك لدينك، وأخذ بسبيلك، فهو ممن هُدي إلى صراط مستقيم، ومن رغب عن هداك،وأبغضك لقي الله يوم القيامة لا خلاق له» اه.

يعقب الأستاذ الشرقاوي على حديث الرسول فيقول: «وفي الحق أن علياً كان يبذل علمه، فإذا جلس في المسجد، قال للناس: سلوني. وماكان-على الرغم من صحة علمه-يحمل ذرة من الغرور».

وقال في الصفحة 56: «وعندما نزلت: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (النحل 43)، قال علي: «نحن أهل الذكر فاسألونا» اه.

وفي الصفحة 83 و 84 قال: «وفوجىء علي بجماعة من الصحابة، فيهم: عبد الله بن العباس، وفيهم الخليفة أبو بكر، ورجل يهودي يقرعون عليه باب داره، ذلك أن اليهودي دخل المسجد فسأل الناس، كما روى مالك بن أنس: «أين وصي رسول الله؟

فأشار القوم إلى أبي بكر. فقال الرجل: أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا وصي أو نبي».

قال أبو بكر: سل عما بدا لك.

قال اليهودي: أخبرني عما ليس لله، وعما ليس عند الله، وعما لا يعلمه الله».

قال أبو بكر: هذه مسائل الزنادقة يا يهودي.

وهمَّ أبو بكر والمسلمون رضي الله عنهم باليهودي.

فقال ابن العباس: ما أنصفتم الرجل.

فقال أبو بكر: أما سمعت ما تكلم به؟

فقال ابن عباس: إن كان عندكم جوابه وإلا فاذهبوا به إلى علي يجيبه، فإني سمعت رسول الله-ص-يقول لعلي بن أبي طالب: اللهم اهدِ قلبه، وثبت لسانه».

فقام أبو بكر رضي الله عنه، ومن حضره، فأتوا علياً في داره فاستأذنوا عليه.

ص: 347

فقال أبو بكر: يا أبا الحسن! إن هذا اليهودي سألني مسائل الزندقة.

فقال علي كرم الله وجهه: ما تقول يا يهودي؟

قال: أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي.

فقال له: قُل.

فأعاد عليه اليهودي الأسئلة.

فقال علي: أما ما لا يعلمه الله، فذلكم قولكم معشر اليهود: إن عزيراً ابن الله، والله لا يعلم له ولداً (إذ لو كان له ولد لكان يعلمه).

وأما قولك: أخبرني بما ليس عند الله، فليس عنده ظلم للعباد.

وأما قولك: أخبرني بما ليس لله. فليس لله شريك.

فقال اليهودي: «أشهد أن محمداً رسول الله، وأنك وصي رسول الله».

فارتاح أبو بكر والمسلمون من جواب علي وقالوا: يا مفرِّج الكروب» انتهى.

ويقول في الصفحة 102: «فعلي كرم الله وجهه ما كان يجد أمراً فيه فرج حتى يأخذ به ... من ذلك، أن عمراً استشار عدداً من الصحابة في امرأة قد زنت، وشهد عليها أربعة شهداء عدول فأجمعوا على رجمها، فلما ذهبوا ليرحموها مرَّ بهم علي فقال: ما شأن هذه؟

قالوا: مجنونة بني فلان زنت فأمر بها أن تُرجم.

فانتزعها علي من أيديهم وردَّهم. فرجعوا إلى عمر فقال: ما ردكم؟

قالوا: ردنا علي.

فقال عمر: ما فعل أبو الحسن هذا إلا لشيء قد علمه.

فجاء علي شبه غاضب فسأله عمر: ما بالك قد رددتَ هؤلاء؟

فقال علي: أما سمعت قول رسول الله: رُفع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟ فما بال هذه تُرجم؟

فأطلقها عمر وجعل يكبر ويقول: «لولا علي لهلك عمر».

ويقول في الصفحة 104: «وجاؤوا عمر بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور، فأمر برجمها.

فقال له على: هذا سلطانك عليها، فما سلطانك على ما في بطنها؟

فأطلقها عمر حتى تضع حملها».

ص: 348

«وجاؤوا عمر بامرأة أجهدها العطش، فمرَّت على راع فاستسقته، فأبى إلا أن تمكَّنه من نفسها، ففعلت فشاور الناس في رجمها فقال علي: «هذه مضطرة، فخلِّ سبيلها، وأشار برجم الراعي وحده، وأخذ عمر بهذا الرأي».

«واجتمع عند عند عمر مال، فقسمه، فبقي منه شيء، فاستشار بعض الصحابة، فيما بقي قالوا: نرى أن تُمسكه فإن احتجت إلى شيء كان عندك».

فسأل علياً: «ما لك لا تتكلم يا أبا الحسن»؟

قال: قد أشار عليك القوم.

قال: وأنت فأشرْ.

قال: أرى أن تقسمه. فقسمه عمر وقال: يا أبا الحسن! لا أبقاني الله لشدَّة لستَ لها، ولا لجلد لستَ فيه».

* * *

عبد الحليم الجندي المستشار في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في جمهورية مصر العربية: الإمام جعفر الصادق ص 199 (طبع القاهرة سنة 1397 ه-1977 م، تحت عنوان (المصحف الخاص) قال: «آلى أمير المؤمنين على نفسه بعد الفراغ من تجهيز رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ألا يرتدي إلا للصلاة، أو يجمع القرآن، فجمعه مرتباً على حسب النزول، وأشار إلى عامِّه وخاصِّه، ومطلقه ومقيَّده، ومحكمه ومتشابهه وناسخه و منسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه، ونبَّه على أسباب النزول فيه.

ومن جلال شأن هذا الكتاب قال فيه محمد بن سيرين «لو أصبت هذا الكتاب كان فيه العلم» اه.

* * *

عبد الفتاح عبد المقصود: الإمام علي بن أبي طالب الجزء الأول ص 225 و 226 و 227 (منشورات مكتبة العرفان-بيروت) قال بعدما تحدَّث عن فقه عمر: «أجل لم يكن له «لعمر» معدى عن ابن أبي طالب في هذه الناحية، وهو من عرفه: علماً، وفقهاً، وحصافة رأي، فلم ينسَ له أن قال رسول الله ذات يوم فيه: [أقضاكم علي] ولم ينسَ له أن محمداً بعثه على قضاء اليمن في أواخر أيامه وانطلق لسانه المبارك، بالدعوة المباركة له: [اللهم اهدِ قلبه وثبِّت لسانه ].

ص: 349

لقد كانت هذه الدعوة خير ضامن لعلي بعدل قضائه وما يندّ عن شفتيه من: آراء وأحكام وإلا فأي الدعوات أولى بأن يستجيب لها الله من دعوات نبي الله؟

وحتى علي نفسه زوَّدته هذه الكلمات الطاهرة بثقة في الوقوع على الصواب، حتى لطالما كان يقول في معرض الحديث عنها: «ما شككت بعدها في قضاء بين اثنين».

«وكذلك شاء الله لهذا الشاب أن يسدَّ نقصاً في ناحية من خصمه السياسي الثاني لم يكن يستطيع أن يسده سواه».

* * *

الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي-الفتنة الكبرى 2 علي وبنوه صفحة 15 (دار المعارف بمصر) يتحدث عن علي والمسلمين بعدما تولى الخلافة فيقول: « ... كان خليفتهم الجديد أجدر الناس أن يملأ قلوبهم طمأنينة، وضمائرهم رضى، ونفوسهم أملاً».

ثم يرفع الستار عن الأسباب التي تفرض عليهم تلك الحالات النبيلة من: الطمأنينة، والرضى، والأمل، فيقول: «فهو ابن عم النبي، وأسبق الناس إلى الإسلام بعد خديجة وأول من صلى مع النبي من الرجال، وهو ربيب النبي قبل أن يُظهر دعوته، ويصدع بأمر الله.

أحس النبي أن أبا طالب يلقى ضيقاً في حياته، فسعى في أعمامه ليعينوا الشيخ على النهوض بثقل أنبائه، فاحتلوا عنه أكثر أبنائه، وتركوا له عقيلاً كما أحب، وأخذ النبي علياً، فكفله وقام على تنشئته وتربيته فلما آثره الله بالنبوة، كان علي في كنفه لم يجاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً، فنستطيع أن نقول: إنه نشأ مع الإسلام.

وكان النبي يحبه أشد الحب ويؤثره أعظم الإيثار، استخلفه حين هاجر على ما كان عنده من ودائع حتى ردها إلى أصحابها وأمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله، ثم هاجر حتى لحق بالنبي في المدينة، فأخرى النبي بينه وبين نفسه، ثم زوَّجه ابنته فاطمة، ثم شهد مع النبي مشاهده كلها، وكان صاحب رايته في أيام البأس، وقال النبي يوم خيبر: [الأعطين الراية غداً رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» فلما أصبح دفع الراية إلى علي.

وقال النبي حين استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تبوك: [أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي]

وقال للمسلمين في طريقه إلى حجة الوداع من كنتُ مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من

ص: 350

والاه وعاد من عاداه» اه.

أقول: زعيم الأدب العربي في مصر يزيح الستار عن بعض مناقب علي بن أبي طالب واحدة ... فواحدة. فهو: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

شبَّ وترعرع في أحضان النبوة المطهرة.

ونشَّأه الرسول على أخلاقه الرحمانية. «نشأ مع الإسلام».

وهو أول من آمن به.

والرسول كان يحبه أنقى حب. وأمجده. وأقدسه.

وعلي قدم نفسه قرباناً فدى لرسول الله، فنام في فراشه، وأنقذه من طغيان قريش المشركة ...

والرسول لم يجد له كفئاً يؤاخي بينه وبين نفسه إلا علي بن أبي طالب ...

ولم يجد للسيدة الزهراء مماثلاً إلا علياً فزوجه إياها بأمر ربه، وقال لها: [زوجتكِ خير أمتي أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً، وأفضلهم حلماً، والله إن ابنيك لسيدا شباب أهل الجنة] اه. (متفق عليه).

وعلي يحب الله ورسوله والله ورسوله يحبان علياً.

ومكانة علي من رسول الله هي مكانة ومرتبة موسى من هارون.

وفي حجة الوداع قرنه رسول الله بنفسه، وأعلم المسلمين أن علياً وليهم بعده: [ من كنت مولاه فعلي مولاه]. ودعا الله-ودعاؤه مستجاب-أن يحب من يجب علياً: [اللهم وال من والاه].

كما دعا الله أن يكون خصماً وعدواً لمن يخاصم علياً ويعاديه: [ وعاد من عاداه ].

وبعدما قدَّم لنا طُرفاً من المناقب التي تفرَّد بها علي يقدَّم لنا شخصية إسلامية لها وزنها في دنيا الإسلام هي: عمر بن الخطاب ليشهد لعلي أن المسلمين عيال عليه في العلم والله سبحانه يقول: (لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (الزمر 9).

يقول: «وكان عمر رحمه الله يعرف لعلي علمه وفقهه ويقول: «أقضانا علي»، وكان يفزع إليه في كل ما يعرض له من مشكلات الحكم، وقال حين أوصى بالشورى «ولو ولّوها الأجلح لحملهم على الجادة» اه. ثم يعطف على نجباء الصحابة والتابعين ...، فيخبرنا-من خلال

ص: 351

دراساته التاريخية-عن قناعاتهم العقائدية في علي فيقول مجملاً: «إلى فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين، ويؤمن بها أهل السنة كما يؤمن بها شيعته» اه.

أقول: وبعد غياب الخليفة الثالث عثمان وبيعة علي ونهوض الناكثين، والقاسطين، في وجهه طلباً للرئاسة يتحدث إلينا عن نهج علي في معالجة تلك الأحداث، فيعرضه لنا على حقيقته روحاً إسلامياً صافي الضياء فيقول: «أمام هذه الأمور العظام، وفي قلب هذه الفتنة المظلمة الغليظة وجد علي نفسه كأحسن ما يجد نفسه: صدق إيمان بالله، ونصحاً للدين، وقياماً بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف، ولا يميل، ولا بُدهن من أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه، لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة، ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحاً أو إخفاقاً، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتاً، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه، وفي آخرها رضى ضميره ورضى الله» اه.

- محمد رضا أمين مكتبة الجامعة المصرية، محمد رسول الله-ص 88 (ط 2، 1358 ه، 1939 م). قال: «وكان علي مع شجاعته الفائقة عالماً، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله: [أنا مدينة العلم وعلي بابها ] اه.

«وعنه أنه قال: إذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره» اه.

* * *

- أحمد حسن الباقوري وزير اوقاف سابق في مصر العربية: علي إمام الأئمة ص 28 و 29 و 30 (الناشر مكتبة مصر-دار مصر للطباعة).

قال: «إنَّ أحداً من أهل العلم لا يجهل منزلة الإمام في كل ما تقتضيه الإمامة من معرفة واسعة وعلم غزير فهو رأس الفضائل وينبوعها وسابق مضمارها، فكل من نبغ في علم أو معرفة، فمنه أخذ وله اقتضى، وعلى مثاله احتذى.

وقد عرفت أن العلم الإلهي هو أشرف العلوم، والذين تحدثوا في هذا العلم حديث الأئمة، إنما أخذوا عنه، وانتهوا إليه» اه.

أقول: فإذا لابس نفسك شبهة شك في قوله فإنه يعطي من البرهان النير المفصل ما ينسخ ضلال كل شبهة وعبث كل شك، إنه يقول:

ص: 352

«ومن شاء تفصيلاً لهذا الإجمال، فإن الأشاعرة من أهل السنة ينتمون إلى أبي الحسن علي ابن أبي بشر الأشعري الذي هو تلميذ لأبي علي الجبائي، «وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بأخَرَة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب» (1)، فإن أنت جاوزت علم الكلام القائم على النظر والاستدلال، إلى علم الفقه القائم على سلوك المسلم في العبادات والمعاملات، فإنك سترى الإمام كرَّم الله وجهه أصل هذا العلم وأساسه، فكل فقيه في الإسلام مستفيد منه وعيال عليه.

«فأما أصحاب أبي حنيفة: محمد وأبو يوسف، فقد أخذوا عن أبي حنيفة والشافعي قرأ على محمد بن الحسن ففقهه راجع إلى أبي حنيفة، والإمام أحمد بن حنبل، قرأ على الشافعي، راجع أيضاً إلى أبي حنيفة، ثم إن أبا حنيفة قرأ على جعفر الصادق، وقرأ جعفر على أبيه محمد الباقر، وقرأ الباقر على علي زين العابدين وهو ابن الحسين والحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين.

«ومالك بن أنس إمام المدينة المنورة قرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس وقرأ ابن عباس على الإمام علي فالإمام علي رضي الله عنه شيخ الفقه السني: أبي حنيفة ومالك والشافعي، وابن حنبل، ثم هو أيضاً شيخ فقهاء الشيعة» اه.

أقول: ولعلك تتوهم أن أئمة المذاهب أوسع الناس فقهاً. ولكن الأستاذ الباقوري ينزع من نفسك ذلك الوهم، ويضيء ذهنك بأن هناك أناساً أكرم منهم منزلة، وأرحب فقهاً. وأن هؤلاء الكبار أخذوا عن علي أيضاً.

فإذا سألت مَن هؤلاء؟

قال لك: «وليس يخفى عليك أن ثمَّة رجالاً أعظم منزلة، وأرفع قدراً من هؤلاء الأئمة، وهم: أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقد كانوا يرجعون إلى الإمام رضي الله عنه، ويأخذون برأيه، ثقة به واطمئناناً إلى علمه الذي أكرمه الله به في الإلمام بشؤون الدنيا. وشؤون الدين».

وليس يغيب عن البصراء بالتشريع الإسلامي، ما يرويه الإمام ابن القيم عن مسروق من قوله: «شاممتُ أصحاب محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة: علي وعبد الله وعمر وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء وأبي بن كعب، ثم شاممتُ هؤلاء الستة، فوجدتُ علمهم ينتهي إلى علي».

ص: 353


1- ما بين قوسين ساقط من الكتاب فأخذناه عن ابن أبي الحديد.

ثم يقول الباقوري: «وقد كان عمر يرجع إلى الإمام في كثير من المسائل التي تُشكل عليه وعلى غيره من الصحابة حتى كان يقول: «لولا علي لهلك عمر».

ثم يقول: «لا بقيتُ لمعضلة ليس لها أبو الحسن».

وقد نهى رضي الله عنه أن يفتي أحد في المسجد وعلي حاضر».

«وبالتأمل في هذه المعاني يعرف أهل الإنصاف، أن الفقه قد انتهى إليه، حتى لقد كان یروي العامة والخاصة قول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم): [أقضاكم علي].

ويعلِّق الأستاذ الباقوري على كلمتي الرسول اللتين أرسلهما حكماً مطلقاً فيقول: «ومعروف أن القضاء هو: الفقه فعلي إذن أفقههم أجمعين».

* * *

في الدراسات العلمية الحديثة: أن ابن خلدون أول من تكلم في مقدمته عن: علم الاجتماع. ولكن الأستاذ الباقوري وزير الأوقاف يجزم أن علياً رأس المتكلمين في: أحوال وأمور الاجتماع. لنسمتع إليه يقول في الصفحة 134 تحت عنوان «علي سيد العلماء بشؤون الاجتماع»: «إن الذي أكرمه الله تعالى بشرف النسب، وكرم البيئة، ويسرَّ له سبيل القدوة بآبائه وأجداده في حرصهم على لزوم معالي الأمور، والنفور من سفسافها، لا جرم أنه ينشأ نشأة صالحة، تأخذ بيده دائماً إلى معالم الهدى وتنأى به عن متاهات الضلال. فإذا نظر أصاب الحق، وإذا فكر استخرج أصدق النتائج من أصح المقدمات، ثم إذا انضم إلى هذه الفضائل في إنسان فضيلة الفضائل، بتأديب رسول الله إياه، وعنايته بأمره، فلا جرم أن يكون هذا الإنسان سيد العلماء بشؤون الاجتماع.

وكذلك كان الإمام علي بن أبي طالب في كل ما كان يصدر عنه من: قول أو فعل، وكذلك نراه في أقضيته التي قضاها وفتاواه التي أصدرها وخطبه التي دوَّنها له الثقات» اه.

ثم يقدم لك مثالاً من أقوال الإمام يجعلك تشاركه قناعاته الوجدانية والعقائدية، أن علياً سيد العلماء فيقول: «وإليك ما يشير إلى هذا الذي ذكرنا لك، في كلمته التي أجاب بها سائله عن أحاديث البدع، وعما في أيدي الناس من: حكم وأحكام، فذلك، حيث قال كرم الله وجهه: «إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، و محكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً.

ص: 354

ولقد كُذب على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قام خطيباً فقال: [من كذب علىَّ متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار].

«وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: أحدهم: رجل منافق، مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول الله متعمداً، فلو علم الناس بأنه منافق كاذب لم يقبلوا منه، ولم يصدقوا قوله ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله، وقد رآه وسمع منه، ولقف عنه، فلا يجدون مندوحة عن الأخذ بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبر ووصفهم بما وصف، ثم بقوا بعده، فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولَّوهم الأعمال، وجعلوهم حكَّاماً على رقاب الناس، فأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك، ومع الدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة.

وثانيهم، رجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، ولم يتعمد كذباً، فهو في يديه، يرويه، ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه، لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.

وثالثهم، رجل سمع من رسول الله شيئاً أمر به، ثم نهى عنه، وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ، ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.

ورابعهم، رجل لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله، وقد حفظ ما سمعه على وجهه، فجاء به على سمعه لم يزد فيه، ولم يُنقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنَّب عنه، وعرف الخاصة والعامة، والمحكم، والمتشابه فوضع كل شيء موضعه. وقد كان يكون من رسول الله الكلام له وجهان، فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله سبحانه به ولا ما عنى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فيحمله السامع، ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله مَن كان يسأله ويستفهمه حتى إنهم كانوا يحبون أن يجيء الأعرابي والطارىء، فيسأله حتى يسمعوا».

«ثم مضى الإمام كرم الله وجهه يقول: «كان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألته عنه وحفظته، فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم، وعللهم في رواياتهم» اه.

ص: 355

يعقب الأستاذ الباقوري على عبارات الإمام فيقول: «وأنت لا تشك بعد أن تقرأ هذه الكلمات للإمام في أنك تستمع إلى عالم أزهري متخصص في أصول الفقه، وهو يُلقي دروسه على طلاب القسم العالي في الجامع الأزهر الشريف، ذلك، أنك لا ترى أسلوباً إنشائياً، ولكنك ترى أسلوباً علمياً لم يعهده الناس إلا من الذين يحرصون على تنقيح القول، وتهذيب الكلام» اه.

ويقدِّم لنا الأستاذ الباقوري قضاء للإمام نتبين منه أنه كان له نظر ثاقب فيما يعود على الإنسان من نفع وضرر في الطعام، ولعله يسرك أن تعرف هذا القضاء الطبي، إذاً، فأصغِ إلى الباقوري يقول:

«ومن أقضيته-كرم الله وجهه-قضاؤه بأن لا يُؤكل لحم الدجاج إلا إذا حُبس على الغذاء النظيف ثلاثة أيام، وكذلك البط لا يُلاكل إلا إذا حُبس على الغذاء النظيف خمسة أيام» اه.

يُفصح الباقوري عن السر الصحي لكلمات الإمام عليه السلام فيقول: «ووجه هذا القضاء تزيده الأيام إشراقاً على مر العصور حتى يوم الناس هذا، فقد قرأنا أخيراً أن الإنسان كلما أكل طعاماً طيباً نظيفاً، فإن طيبه ونظافته مِعوان على سرعة هضمه، وقوة الانتفاع به، وقد ضرب المستنيرون مثلاً لذلك في غسل اليدين قبل الطعام، وفي تناول الطعام نفسه في مكان نظيف بهيج بين الأشجار، أو على ضفاف الأنهار، فقد أفتى أهل العلم بأن هذا الطعام سريع الهضم، عظيم الفائدة».

ويمضي قائلا: «ومن هنا يجيء قضاء الإمام في هذه الصورة فضاء سليماً تؤيده الفطرة السوية، ويزكيه العلم الحديث» اه.

* * *

وهذا قضاء فقهي استنبطه الإمام من الذكر الحكيم فأنقذ امرأة من مخالب الموت، وحال دون تردِّي الخليفة في ظلمات إثم القتل، يطلعنا الباقوري على هذا القضاء النبيل في الصفحة 219 و 220 فيقول: «ومن أقضية الإمام أيضاً قضاؤه الذي صان للمرأة المسلمة حياتها، وحفظ عليها كرامتها. وبيان ذلك أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عثمان يشكو إليه أنه تزوج، وأن زوجته ولدت بعد ستة أشهر فأراد عثمان أن يقيم عليها الحد، فقال له علي: ليس

ص: 356

لك ذلك يا أمير المؤمنين، فإن الله تعالى يقول:

(ووصَّينا الإنسان بوالديه إحساناً، حملته أمه كرهاً، ووضعته كرهاً، وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) (الأحقاف 15).

فقد جعل الله تعالى في هذه الآية مدة الحمل والرضاع ثلاثين شهراً، ثم جعل مدة الرضاع الذي يعقبه الفطام أربعة وعشرين شهراً كما في الآية: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) (البقرة 233).

وعلى هذا النحو جاءت الآية من سورة لقمان: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أنِ اشكر لي ولوالديك إلي المصير) (لقمان 14).

«قفي هاتين الآيتين من سورة البقرة وسورة لقمان أن مدة الرضاع أربعة وعشرون شهراً، في سورة الأحقاف، فقد بقي ستة أشهر هي مدة حمل الزوجة التي يشكوها زوجها» اه.

قد تتساءل ماذا كان من شأن الخليفة وأصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد هذا البيان القرآني؟

يقول الأستاذ الباقوري مجيباً على هذا السؤال: «ولم يسعْ أصحاب رسول الله، ومعهم أمير المؤمنين عثمان إلا أن يُذعنوا لقضاء الإمام، وبذلك انطلقت المرأة إلى بيتها، أسعد ما يكون الإنسان بسلامة حياته، وصيانة كرامته» اه.

أقول: ويسعدني أن أدعوك للتأمل في قول الأستاذ الباقوري: «إن الإمام صان للمرأة المسلمة حياتها، وحفظ عليها كرامتها» اه.

ربما قلت: هي امرأة واحدة، فكيف أعطى الأمر هذا الشمول؟

والجواب: إن مسلمات كثيرات قد يلدنَ لستة أشهر على امتداد الزمن، فقضاء الإمام حمي هؤلاء المسلمات من القتل بتهمة الزنا وحفظ لذويهن ولهن كرامتهم من الاحتراق بنيران العار والشنار.

ألا ما أمجد قوله تبارك وتعالى: (من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) (المائدة 32).

* * *

والعدل معناه: الإنصاف.

ص: 357

ومعنى الإنصاف أن يُعطى كل من الفرد والجماعة ما له من حقوق ... وأن يُؤخذ منه ما يجب عليه من حقوق. والسلطة الزمنية التي تبني سياستها على هذه القاعدة المقدسة، هي السلطة العادلة التي يباركها الله. ويرضى عنها المجتمع. ويعلو شأنها. وتدوم عزيزة ما شاء الله لها أن تدوم. ومن هنا جاءت الحكمة القائلة: العدل أساس الملك.

ويجمع المؤرخون أن الفترة الزمنية التي عاشها الناس بعد غياب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى غياب الإمام علي بن أبي طالب-باستثناء أكثر عهد عثمان-أخصب فترة بالنسبة لتأصيل العدل الاجتماعي. والأستاذ الباقوري يطل علينا-من خلال قضاء لعلي-إطلالة تُشعرنا أنه استقرأ سيرة الراشدين في تنفيذ أحكام العدل، وفق التشريع المحمدي-الإنساني في العطاء من بيت مال المسلمين. يبقى علينا أن نقرأ عباراته بأناة. وبذهن حاضر ...

قال في الصفحة 220-222: «ومن أقضية الإمام أيضاً تسويته في الفيء والصدقة بين المسلمين مخالفاً بذلك عمر إذ كان يفضل في العطاء بعض المسلمين على بعض. فضل السابقين على غيرهم وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضل المهاجرين كافة على الأنصار ثم فضل العرب على العجم.

وعلى غير هذا النهج كان يمضي الخليفة الأول أبو بكر فكان يسوِّي بين أهل الإسلام في الفيء والصدقات، وكان يستند في ذلك إلى النص في آية الصدقات من سورة التوبة، وقد كان استفتى الإمام فأفتاه بالتسوية، فلما آل الأمر إليه، لم يكن له بد من الأخذ بفتواه.

ولذلك سوى في العطية، مؤكداً أن ذلك هو الإسلام، وأنه لن ينزل إلا على حكمه، فذلك قوله-كرم الله وجهه-لطائفة من أصحابه، مشوا إليه ناصحين فقالوا له: يا أمير المؤمنين! أعطِ هذه الأموال للمسلمين، وفضل الأشراف من العرب، وقريشاً على الموالي والعجم، تستمل بذلك من تخاف خلافه وفراره إلى معسكر أعدائك».

فقال لهم تلك الكلمة التي تؤثر أن نرويها بنصها: «أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟

والله الذي لا إله إلا هو لا أفعل ذلك ما طلعت شمس في نهار ولا ما لاح نجم في ليل.

ثم والله لو أن المال كان لي لسويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم التي أفاءها الله عليهم، ثم سكت طويلاً ثم قال: والأمر أسرع مما تظنون وكرر ذلك ثلاث مرات» اه.

ص: 358

وغير خفي على أهل العلم أن الخلفاء الراشدين، كانوا طائفتين طائفة تلتزم النص، وأخرى تستصحب المصلحة.

فكان الخليفة أبو بكر، ومعه الإمام علي يؤثران النص، ويلزمان سبيله.

وكان عمر ومعه عثمان يستصحبان المصلحة وكلتا الطائفين حريصة على مرضاة الله وظافرة بها أخطأت أم أصابت إذ كان من القواعد الشرعية، أن المجتهد المخطىء له أجر واحد، وأن المجتهد المصيب له أجران وليس يخفى على المتأمل الفرق بين المجتهد الذي أخطأ، والمجتهد الذي أصاب إذ كان الذي اجتهد فأصاب، قد بذل جهداً أكبر، وعانى مشقات أكثر، في حين أن الذي اجتهد فأخطأ لم يبذل من الجهد ما بذله صاحبه، ولم يُعان المشقة التي عاناها (1).

* * *

وتحدث الأستاذ عباس محمود العقاد بإيجاز: أن للإمام هداية، بعلم النحو، ويطلع علينا في الصفحة 134 بتفصيل ما أوجزه فيقول: «وإذا قيل في قضائه أنه لم يكن أقضى منه بين أهل زمانه صح أن يُقال في علم النحو إنه لم يكن أحد أوفر منه سهماً في إنشاء هذا العلم من سهمه.

وقد تواتر أن أبا الأسود الدؤلي شكا إليه شيوع اللحن على ألسنة العرب، فقال له: «اكتب ما أملي عليك» ثم أملاه أصولاً منها: إن كلام العرب يتركب من: اسم، وفعل وحرف فالاسم ما أنبأ عن المسمَّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنى، ليس باسمٍ ولا فعل.

«وإن الأشياء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر. وإنما تتفاوت العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر. يعنى اسم الإشارة على قول بعض النحاة. ثم قال لأبي الأسود:

انحُ هذا النحو يا أبا الأسود. فعرف العلم باسم النَّحْوِ من يومها».

ويقع في خاطر العقاد أنه ربما وُجد من يشكِّك أن يستنبط الإمام الأصول الأولى لعلم النحو ويقول: «ثمة روايات تخالف هذه الرواية». فيرد عليه رداً علمياً قاطعاً للجدل فيقول: «ولكن الروايات العربية لا تنتهي بنا إلى مصدر

ص: 359


1- يؤسفنا أن نقول للأستاذ أحمد حسن الباقوري: إن الإسلام يرفض الاجتهاد. عند وجود النص. ولو أنه أباح الاجتهاد مع وجود النص. لانحلَّت عرى وحي السماء. شيئاً. فشيئاً. ومن المتفق عليه أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يقسم بالسوية. وأن الخليفة الأول سار على سنته الواضحة. وذلك ما فعله الإمام علي. وسنده كتاب الله. وصاحب الشريعة نبي الهدى والرحمة صلوات الله عليه وآله. ولا ريب أن التمييز. في العطاء من بيت مال المسلمين عامل فاعل في تكوين طبقية رأس المال. وإشباع قوم حتى التخمة. وجعل آخرين يقاسون هوان الفاقة. والحرمان. وأين ذلك من مساواة الإسلام وعدالته الاجتماعية. والإنسانية؟

أرجح من هذا المصدر، وغيرها من الروايات الأجنبية والفروض العلمية، لا يمنع عقلاً أن يكون الإمام أول من استنبط الأصول الأولى لعلم النحو العربي.» اه.

* * *

وفي الصفحة 137 و 138 يتحدث العقاد عن الثقافة العالمية. ولكن، هل نستطيع أن نضع

ثقافة الإمام في مستوى الثقافات العالمية؟

الأستاذ العقاد يقول: نعم، بل إن ثقافته أصفاها ضياء، إليك كلماته: «أما فن الثقافة الذي يُقاس بمقياس كل زمن فإذا هو عظيم في جميع هذه المقاييس قليل الفوارق بين البدايات منه والنهايات، فذلك هو: في الكلم الجامعة أو فرائد الحكمة التي قلنا آنفاً: إنها تسجل للإمام في ثقافة الأمم عامَّة كما تسجل له في ثقافة الأمة الإسلامية على تباين العصور.

فالكلم الجوامع التي رويت للإمام طراز لا يفوقه طراز في حكمة السلوك على أسلوب الأمثال السائرة». ثم يقارن بين الإمام وأنبياء بني إسرائيل، فيرى أنه فاقهم إبداعاً في التعبير. وغوصا في بحور الحكمة. لنترك لأذهاننا أن تتدبر مرامي كلماته. «قال النبي عليه السلام: [علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل] بعد إيراد الحديث النبوي المبارك يقول: «فهذا الحديث الشريف، أصدق ما يكون على الإمام علي في حكمته التي تقارن بحكم أولئك الأنبياء. فهي من طراز الحكم المأثورة عن أشهر أولئك الأنبياء بالمثل السائر، وهو سليمان بن داوود.

«ويزيد عليها أنها أبدع في التعبير، وأوفر نصيباً من ذوق الجمال، كقوله مثلاً: «نفس المرء خطاه إلى أجله». أو قوله: «المرء مخبوء تحت لسانه». الخ.

وبعد أن يورد أمثلة عديدة يثبت فيها صحيح قوله ينتهي إلى القول في الصفحة 139: «فكل نمط من أنماط كلامه شاهد له بالملكة الموهوبة في قدرة الوعي، وقدرة التعبير ... فهو، ولا شك من أبناء آدم الذين عُلِّموا الأسماء، وأوتوا الحكمة وفصل الخطاب» اه.

* * *

وفي الصفحة 142 يعطيك نفحة من نسائم تمحيصه لثقافة الإمام فيقول: «وخلاصة ذلك كله، أن ثقافة الإمام هي ثقافة العلم المفرد والقمة العالية بين الجماهير في كل مقام ... وإنها هي ثقافة الفارس المجاهد في سبيل الله، يُداول بين القلم والسيف، ويتشابه في الجهاد

ص: 360

بأسه وتقواه. لأنه بالبأس زاهد في الدنيا مقبل على الله، وبالتقوى زاهد في الدنيا مقبل على الله ...

فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا بحثه ونجواه» اه.

* * *

الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقاً: شرح نهج البلاغة المقدمة ص 1 يتحدث عن سمو فصاحة الإمام. وبهاء بلاغته. وسحر عبارته. ونضارة أسلوبه. من خلال كتابه نهج البلاغة الذي أنعمت به عليه صدفة خضراء فيقول بعد حمد الله والصلاة على النبي وآله.: «وبعد، فقد أوفى لي حكم القدر، بالاطلاع على كتاب «نهج البلاغة» مصادفة بلا تعمُّل أصبتُه على تغير حال وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال، فحسبته تسلية وحيلة للتخلية، فتصفحت بعض صفحاته، وتأملت جملاً من عباراته من مواضع مختلفات، وموضوعات متفرقات» اه.

تُرى ماذا رأى بعد ما تأمَّل بعمق ما قرأ من نهج البلاغة؟

يقول: «فكان يخيَّل إليَّ في كل مقام أن حروباً شبَّت وغارات شنَّت، وأن للبلاغة دولة. وللفصاحة صولة، وأن للأوهام عرامة. وللريب دعارة. وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، وتمتلج المهج برواضع الحجج، فتفلُّ من دعارة الوساوس، وتصيب مقاتل الخوانس، والباطل منكسر، ومرج الشك في خمود وهرج الريب في ركود وأن مدبِّر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.

بل كنت كلما انتقلتُ من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد، وتحول المعاهد، فتارة كنتُ أجدني في عالم يعمره من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوِّم منها مرادها، وتنفر بها عن مداحض الزلل إلى جوادِّ الفضل والكمال.

«وطوراً كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة وأنياب كاشرة، وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور، قد تحفَّزت للوثاب، ثم انقضَّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن

ص: 361

هواها وأخذت الخواطر دون مرماها واغتالت فاسد الأهواء، وباطل الآراء» (1).

«وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً، فصل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى، و نما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمار جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التلبيس وآناتٍ كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة، يعرِّفهم مواقع الصواب، ويبصِّرهم مواضع الارتياب، ويحذرهم مزالق الاضطراب، ويرشدهم إلى دقائق السياسة، ويهديهم طريق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة، ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير» اه.

هكذا يضع الإمام عليه السلام قاربه في مناخ الموضوع الذي عالجه بأسلوبه العبقري الأسر ... حتى أنه ليرى أنفاس الحياة تتفجر في خلايا عباراته الملونة تلويناً خالباً بما يلائم روح الموضوع-خطبة كان أو رسالة أو حكمة-وذلك ببديهة تعجز عن سبر غورها الفطن والأفكار.

ويرش الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده الشريف الرضي بدفق من عبير الثناء لجمعه تراث أمير المؤمنين الفكري في كتاب سماه «نهج البلاغة» فيقول: «ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، جمع متفرقه، وسمّاه بهذا الاسم (نهج البلاغة) ولا أعلم اسماً أليق منه بالدلالة على معناه». وتدفعه النشوة البهيجة التي روَّت بها نفسه مضامين النهج إلى القول: «وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما يدل عليه اسمه، ولا أن آتي بشيء في بيان مزيَّته فوق ما أتى به صاحب الاختيار كما سترى في مقدمة الكتاب (2)، ولولا أن غرائز الجبلَّة، وقواضي الذمة تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه، وشكر المحسن على إحسانه، لما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج البلاغة من فنون الفصاحة، وما خُصَّ به من وجوه البلاغة، خصوصاً، وهو لم يترك غرضاً من أعراض الكلام إلا أصابه، ولم يدع للفكر ممراً إلا جابه» اه.

وتستحوذ عبقرية الإمام على جوهر العقل عند مفتي الديار المصرية، فتتألق في نفسه رغبة عارمة، للعلم فيها رضى. ولطلاب الحق هدى. ولناشدي المعرفة نور. فهل عرفتَ تلك الرغبة الحُسنى؟

ص: 362


1- للإمام علي هو: 1-مبيته في فراش رسول الله وإنقاذ الرسول من موت محتم لو لم ينم في فراشه. 2-، فتكه بخيرة شبانها في غزوات بدر، وأحد، والخندق. وما فعله الإمام إنما كان امتثالا لأمر الله ورسوله لإعلاء كلمة الحق، أما عداوة قريش فكانت استجابة لأحقادها الجاهلية. ومن المفرح أن نرى في هذا العصر نخبة المفكرين من الكتاب ينفلتون من قيود التقليد الخاطىء، ويسيرون في إنصاف الإمام شوطاً مباركاً.
2- حيلة للتخلية: وسيلة لقطع أوقات الفراغ-العرامة: الشدة والشراسة-الدعارة: سوء الخلق-الجحافل: جمع جحفل: الجيش الكثير-الذرابة: فصاحة اللسان-تنافح: تدافع-الصفيح: جميع صفيحة: السيف-الأبلج: الشديد البياض-القويم الأملج، الرمح الأسمر. تمتلج امتلج الفصيل ما في ضرع أمه: مصَّه-دعارة الوساوس: ما تثيره نزغات الشيطان في النفس البشرية-الخوانس: ما يخطر في البال من السوء-المرج: الفساد الفساد والفتنة-والهرج: الفتنة والاختلاط-الصولة: السطوة في الحرب ونحوها-باسرة: عابسة الاختلاب: اختلب الشيء: اخذه بالمخلب. وهذه كلها مجازات عن شدة تأثير أسلوب الإمام وفصاحته في نفس القارى.

لا شك أنك حريص على معرفتها. إذن فاستمع إليه يُسفر عن وجه رغبته فيقول: «ومن ثمَّ همَّت بي الرغبة إلى أن أصحب المطالعة بالمراجعة والمشارفة بالمكاشفة، موجزاً في البيان ما استطعتُ معتمداً في ذلك على المشور من كتب اللغة، والمعروف من صحيح الأخبار ولم أتعرض التعديل ما روي عن الإمام في مسألة الإمامة أو تجريحه، بل تركتُ للمطالع الحكم فيه بعد الالتفات إلى أصول المذاهب المعلومة فيها، والأخبار المأثورة الشاهدة عليها، غير أني لم أتحاشَ تفسير العبارة وتوضيح الإشارة لا أريد في وجهي هذا إلا حفظ ما أذكر وذكر ما أحفظ تصوُّناً من النسيان، وتحرزاً من الحيدان.

ولم أطلب من وجه الكتاب إلا ما تعلَّق منه بسبك المعاني العالية في العبارات الرفيعة في كل ضربٍ من ضروب الكلام وحسبي هذه الغاية فيما أريد لنفسي ولمن يطلع عليه من أن أهل اللسان العربي، ويخبرنا الأستاذ عبده، أن عدداً كبيراً من العلماء، أخذ منهم الإعجاب كل مأخذ بنهج البلاغة حين قرؤوه فانصرفوا إلى شرحه. وإلى كشف ما في عباراته من أسرار ولكنهم-كما رأى-لم يستقيموا على نهج واحد. إليك كلماته: «وقد عنى جماعة من أجلِّة العلماء بشرح الكتاب وأطال كل منهم في بيان ما انطوى عليه من الأسرار، وكل يقصد تأييد مذهب. وتعضيد مشرب، غير أنه لم يتيسر لي ولا واحد من شروحهم إلا شذرات وجدتها منقولة عنهم في بطون الكتب، فإن وافقتُ أحدهم فيما رأى فذلك حكم الاتفاق، وإن كنتُ خالفتهم فإلى صواب-فيما أظن على أني لا أعد تعليقي هذا شرحاً في عداد الشروح، ولا أذكره كتاباً بين الكتب، وإنما هو طراز لنهج البلاغة، وعلم توشى به أطرافه» اه.

نهج البلاغة هذا الطراز الأنيق كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، لا ينبض في ذلك عرق من الريب.

ولكل كلام رفيع درجته في سلَّم الصعود.

فعلى قمة أيَّة درجة يستوي كلام علي صاحب نهج البلاغة؟

إليك شهادة الأستاذ محمد عبده مفتي مصر، هو-رحمه الله-لا يكتفي بشهادته بل يضيف إليها شهادة كل من ينطق باللغة العربية-لغة القرآن الكريم.

تدبَّر قوله: «وليس في أهل هذه اللغة إلا قائل بأن كلام الإمام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه (صلی الله علیه و آله و سلم) وأغزره مادة، وأرفعه أسلوباً، وأجمعه الجلائل المعاني» اه.

ص: 363

من أجل أن في كلام الإمام ذلك الثراء-الفكري. الخلقي. الإنساني. الذي لا تنضب كنوزه.

من أجل أن يتزود الشبان-جيلاً بعد جيل-من ذلك الكلام ثقافة مدبجة برونق البلاغة. والنقاء. والطلاوة. وأنواع المعارف.

من أجل أن يسعدوا بذلك، فإنه يدعوهم لقراءة نهج البلاغة قراءة تتحلى بالفهم وسلامة الإدراك، ليستقيم لهم الإبداع فيما يكتبون. وفيها يتكلمون. وفي حياتهم الاجتماعية.

وأراه لا يهيب بالأجيال الصاعدة أن تعب من ينابيع نهج البلاغة الفوَّارة بالعطاء، بل هو يهيب أيضاً بوزارات التربية في عالم العروبة والإسلام أن يقرروا دراسته في المناهج التعليمية.

هيا نصغ إلى نصيحته الماجدة.

قال: «فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة والطامعين في التدرج المراقها، أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهم معانيه في الأغراض التي جاءت من أجلها، وتأمل ألفاظه في المعاني التي صيغت للدلالة عليها، ليصيبوا بذلك أفضل غاية، وينتهوا إلى خير نهاية، وأسأل الله نجاح عملي وأعمالهم وتحقيق أملي وآمالهم» اه.

* * *

عبد الحليم الجندي: الإمام جعفر الصادق صفحة 29 (الفصل الأول تحت عنوان: أخو النبي صلی الله علیه و آله و سلم)، قال: ومن نهج البلاغة يستقي بلغاء العربية، وحكماء الإسلام، ومن تعليمه وضع النحو العربي، ووضع النحو بتعليم علي يذكر بالمكانة الخاصة لعلي في علوم الإسلام، فالنحو العربي هو الذي حفظ العربية لغة القرآن وهو أمر أصولي للغة، كأصول الفقه وسنرى موقفه المبدع فيها، وكذلك كانت مواقف علي بعد ظهور الإسلام، وفي خلافة سابقيه تتصدى للأساسيات في الإسلام.

لقد كان أطول الراشدين حياة في الإسلام، مما يظهر أثره عميقاً، عمق الحوادث والعلوم وأثرها في الإسلام، وطويلاً لطول المدة التي حييها في المراكز الأولى منذ ظهور الإسلام.

وربما أجمل القول في مكان علي قول ابن عباس: لعلي أربع خصال ليست لأحد غيره.

هو أول عربي أو أعجمي صلى مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

وهو الذي كان لواؤه معه يوم الزحف.

وهو الذي صبر معه يوم فرَّ غيره.

ص: 364

وهو الذي غسله فأدخله قبره.

أما عن العلم فيقول ابن عباس: إذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل إلى غيره.

وأما عن العدل، فيقول ابن مسعود معلم الكوفة، وسادس المسلمين: «كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي من أجل هذا وكثير غيره صح عند الشيعة أن النبي أفضى إليه بظاهر الشريعة وخافيها، وأنه أفضى بها إلى مَن خلفه» انتهى.

* * *

وأكاد أجزم أنه أشرق في خاطرك سؤال هو: ما السبب الذي أوجب على علي أن يضع علم النحو؟ جواب هذا السؤال هو: إنه عليه السلام رأى اللغة العربية يعروها الفساد شيئاً ... فشيئاً ... بمخالطة الأعاجم للعرب، وفساد اللغة ينعكس سلباً على القرآن الكريم. وعلى أحاديث الرسول. ولكن تبقى للقرآن الكريم قداسته الربانية ...

لكي يبقى المصدر الرئيسي الأسمى والأسنى للتشريع الإسلامي ببيانه الإلهي.

ولكي تظل الأحاديث النبوية طرية محتفظة بنداوة الوحي وبلاغته ...

وضع الإمام أسس علم النحو. وتلا ما وضعه على أحد تلاميذه النابهين أبو الأسود (ت: 67 ه) وقال له: انحُ هذا النحو، ومن قوله هذا سمي «نحواً».

ويبدأ أبو الأسود بالعمل. وكان يعرض ما يكتبه على الإمام، بين الحين. والحين. فيكمل له بعض النواقص. ويأمره بمواصلة العمل.

* * *

الدكتور محمد عماره: علي بن أبي طالب-نظرة عصرية جديدة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر طبعة أولى أيار 1974).

يتحدث في الصفحة 26 عن عزم الإمام علي على التغيير الاجتماعي بعد توليه الخلافة فيقول: ولم يكن علي يخفي-حتى على عهد عثمان وقبل توليه الخلافة-عداءه للطبقة الجديدة التي احتازت الأموال، وعزمه الأكيد-إن هو تولَّى أمور المسلمين-على تغيير هذا الواقع الطبقي الجديد، والعودة إلى نظام المساواة الذي قرره الإسلام، وطبَّقه الرسول، ومن بعده أبو بكر» اه.

* * *

وفي الصفحة 28 و 29 و 30 يأتي على ذكر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، واجتهاده أيام

ص: 365

خلافته في إلغاء نظام التسوية بين الناس في العطاء. ثم يعلِّق على اجتهاد عمر فيقول: «ولكن الأمر المؤكَّد كذلك أن هذا التمايز والتمييز في العطاء، قد أفضى بالتبعية إلى بروز أوضاع طبقية لم يكن عمر يحسب حسابها ولا يريدها بدليل أنه قد عزم في أواخر حياته على إعادة النظر في هذا النظام الذي قرره وأعلن أنه إن عاش إلى العام القادم فسيعود بالمسلمين إلى نظام التسوية في العطاء ... ولكن عمر لم يعش حتى ينفِّذ عزمه، بل اغتاله غلام المغيرة بن شعبة».

ثم كان عهد عثمان الذي كرَّس القانون الذي كان عمر عازماً على إلغائه، ثم سار على دربه أشواطاً وأشواطاً ... حتى أصبح التمايز الطبقي نظاماً بشعاً، بلغت بشاعته حداً جعل الناس يثورون عليه ثم انتهت ثورتهم بقتل عثمان وتولية علي أمير المؤمنين».

ثم يقول: «ومن هنا كان قرار على العدول عن تمييز الناس في العطاء، والعودة إلى نظام المساواة قراراً من أخطر قراراته الثورية، لأنه كان يعني انقلاباً اجتماعياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات ... كما كان رد فعل الأغنياء-وفي مقدمتهم ملأ قريش وأبناؤهم-ضد علي وقراره هذا بداية الثورية المضادة ضد حكمه» اه.

أقول: ولا ريب أن عمل الإمام علي قائم على فلسفة أخلاقية-إنسانية. منبثقة من جوهر الإسلام ولذلك نرى الدكتور عمارة يقول: «ولقد كانت هناك فلسفة اجتماعية تقف خلف موقف علي هذا نستطيع أن نلمسها ونعيها، إذا نحن أمعنا النظر في كلماته التي يقول فيها: «إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُتِّع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك» اه.

وفي الصفحة 32 يورد الأستاذ عمارة المناقشة المباشرة التي دارت بين طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وأنهما أخذا على علي عليه السلام أنه سوَّى بينهم وبين غيرهم في العطاء ممن لا يماثلهم من المسلمين ... ثم يورد ردَّ علي عليهم. فماذا قال علي؟

يقول عمارة: «فقال علي: أما القسم والأسوة، فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادىء بدء: فقد وجدتُ-أنا وأنتما رسول الله يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ...

وأما قولكما: جعلتَ فيئنا، وما أفاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا، فقديماً سبق إلى الإسلام قوم ونصر وه بسيوفهم ورماحهم، فلم يفضلهم رسول الله في القسم، ولا آثرهم في

ص: 366

السبق والله سبحانه موفٍ السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما والله،عندي ولا لغيركما إلا هذا» اه.

أقول: ذلكم هو علي بن أبي طالب، نهجه في سياسته نهج كتاب الله الذي مضى عليه نبي الهدى والرحمة، وهو غير ملزم باجتهاد عمر الذي احتجَّ به عليه طلحة والزبير، لا سيما وقد تبين لعمر خطأ ذلك الاجتهاد الذي جعل الناس طبقتين: طبقة بطرة تمضغها البطنة والترف. وطبقة بائسة يمضغها الحرمان والفاقة. ولقد حاول بعضهم أن يثني الإمام عن موقفه، ويجعل العطاء طبقياً لتستقيم له الأمور.

ولكن، كيف ينثني عن موقفه، وهو إنما ينفذ أحكام كتاب الله؟

كيف ينثني عن نهجه الحكيم، وهو يقتفي أثر رسول الله؟

إنه لم يرضَ أن يكون للمسلمين خليفة إلا ليُقيم الحق ويزهق الباطل، إنه هو القائل: «إن دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز إلا أن أقيم حقاً أو أميت باطلاً»، لذلك قال لأولئك الناصحين: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولَّيت عليه ...؟

لو كان المال مالي لسوَّيت بينهم، فكيف، وإنما المال مال الله؟»

كان الإمام يدرك المصاعب الدامية الوعرة التي ستشرئب أمامه ... ومع ذلك فقد ثبت على موقفه الرشيد الذي استمد طاقاته من كتاب الله المجيد ومن شرعة رسول رب العالمين ...

* * *

وعن وقفة الإمام هذه يتحدث الدكتور عمارة فيقول: «وكانت هذه وقفة بل ثورة علي ضد التمايز الطبقي الذي استشرى ورسخ على عهد عثمان ...

ثم يقول: «نعم. كان هذا هو موقف علي، بل كانت هذه ثورة من الثورات التي فجرها في المجتمع العربي الإسلامي، عندما ولي أمره، ولم تثنِ عزمه عن موقفه هذا تلك المخاطر التي لاحت أمامه في الشقاق الذي بدأه طلحة والزبير بن العوام، ثم في الحرب التي أشعلاها ضده، بعد أن نقضا بيعتهما إياه. كما لم تثنه عن موقفه هذا الحرب التي أعلنتها قريش-خلف الفرع الأموي بزعامة معاوية-ضده، وضد سياسته الاجتماعية ... بل لقد زاد استمساكا بفكره الاجتماعي،هذا وإصراراً على تطبيق روح الإسلام الداعية إلى المساواة» اه.

* * *

ص: 367

وينقل إلينا الأستاذ عبد الحليم الجندي عن الإمام الشافعي رأيه في مكانه علي في علوم الإسلام فيقول: «يقول الشافعي عن مكانة علي في علوم الإسلام: «كان علي كرم الله وجهه، قد خُص بعلم القرآن والفقه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا له، وأمره أن يقضي بين الناس، وكانت قضاياه تُرفع إلى النبي فيمضيها» اه.

ويتحدث عن جمع الإمام للقرآن بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى فيقول: «ولقد آلى على نفسه بعد الفراغ من تجهيز الرسول صلى الله عليه وعلى آله ألا يرتدي إلا للصلاة أو يجمع القرآن-كما أسلفنا-فجمعه مهتماً بأمور «أصولية» في الشريعة وفقهها تتعلق بالمحكم والمتشابه-أي بما لا يتحمل الاجتهاد وما يتحمله، وبالنصوص التي نُسخت والتي هي واجبة التطبيق، وبالمطلق منها والذي يحتمل التخصيص والعزائم والرخص، وبالفروض والمندوبات، وفيها المحرَّم والمكروه، وما هو تهذيب للأمة من فضائل وآداب، وفي نهج البلاغة طائفة من أصول الفقه التي ينبه عليها أمير المؤمنين رضي الله عنه، وهذه وتلك أساسيات في أصول الفقه والأصول أدلة في طريق أو نهج، ولا إمامة إلا بمنهج» اه.

* * *

الدكتور حامد حفني داوود أستاذ الأدب العربي بكلية الألسن بالقاهرة: مقدمة تفسير القرآن للسيد شبر. يقول الدكتور متحدثاً عن علم التفسير: « ... وكان عبد الله بن عباس من النفر القليل من الصحابة الذين دعا لهم الرسول بفهم الوحي والتنزيل».

وقد نمَّى هذا الاستعداد في نفس ابن عباس كذلك ملازمته للإمام علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى.

وعلي كما نعلم باب هذا المنهل الفيَّاض من علوم النبوة، وواضع حجر الأساس في الحضارة الروحية الإسلامية» اه.

* * *

الشيخ عبد الله العلايلي: أيام الحسين طبع دار العلم للملايين-بيروت، يتحدث عن الإمام علي في الصفحة 153 فيقول: «إن علياً بطل الحق في السلم وفي الحرب، وهو الإنسان الذي استحال إلى طاقة في وجود الحق وكيانه».

ويقول في الصفحة 154: «بقي طابع الإنسان الكامل-علي-الذي لا يحركه الحقد ولا تميل به النزعات والنزوات. طابعاً لأنبائه».

ص: 368

ويقول في الصفحة 165. «شاء الحق أن يقدِّم نموذجه فكان علياً.

وشاءت الإنسانية العليا أن تعترض متألقة في أفق الأحياء فكانت علياً.

وشاءت السماء أن لا تسلِّمه إلى أطباق الثَّرى المظلم، فاختارته ملء عين الحق شهيداً» اه. (1)

الحواشي:

(1) متفق عليه

(2) نهج البلاغة الجزء الأول صفحة 41 الأول صفحة 41 طبع كرم دمشق.

«اندمجت ...» يقول الشيخ محمد عبده في شرح الكلمات: «أدمجه: لغُه في ثوب فاندمج، أي انطويت على علم والتففتُ عليه.

والأرشية: جمع رشاء بمعنى: الحبل.

والطويِّ البعيدة، الطوي: جمع طوية وهي البئر، والبعيدة بمعنى: العميقة ... الخ.

(3) نهج البلاغة-الجزء الرابع-صفحة 36 يقول الشيخ محمد عبده في شرح ها (إن ههنا لعلماً ... الخ) الحَمْلَة بالتحريك، جمع: حامل، وأصبت بمعنى: وجدتُ-أي لو وجدت له حاملين لأبرزته ويثثته.

(4) صاحب الزنج هو: علي بن محمد بن عبد الرحيم من بني عبد القيس حسب رواية أبي الفداء،وقد بدأ حركته الثورية عام 249 ه- أيام المنتصر الخليفة العباسي.

(5) الآية هي: (إن الله عنده علم الساعة، وينزِّل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير) (لقمان 34).

(6) تضطم افتعال من الضم، أي وتنضم عليه جوانحي، والجوانح: الأضلاع، تحت الترائب مما يلي الصدر وانضمامها عليه: اشتمالها على قلب يعيها». عبده.

(7) طبعة ثانية-دار المعرفة-بيروت، سنة 1395 ه-1975م.

(8) الناشر: مكتبة غريب-مصر.

(9) ما بين قوسين ساقط من الكتاب فأخذناه عن ابن أبي الحديد.

(10) يؤسفنا أن نقول للأستاذ أحمد حسن الباقوري: إن الإسلام يرفض الاجتهاد. عند وجود النص. ولو أنه أباح الاجتهاد مع وجود النص. لانحلَّت عرى وحي السماء. شيئاً. فشيئاً. ومن المتفق عليه أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كان يقسم بالسوية. وأن الخليفة الأول سار على سنته الواضحة. وذلك ما فعله الإمام علي. وسنده كتاب الله. وصاحب الشريعة نبي الهدى والرحمة صلوات الله عليه وآله. ولا ريب أن التمييز. في العطاء من بيت مال المسلمين عامل فاعل في تكوين طبقية رأس المال. وإشباع قوم حتى التخمة. وجعل

ص: 369


1- يقول الشريف الرضي في مقدمته ص 11، ما خلاصته: إن جماعة من أصدقائه وإخوانه طلبوا إليه أن يؤلف كتاباً يحتوي على مختار كلام الإمام في جميع فنونه. فيلبي الطلب. فإذا سألت عن المسوغات التي جعلته يلبي مطلبهم. أجاب على السؤال قائلا: «لأن كلام أمير المؤمنين (علیه السلام): مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك، فقد سبق وقصّروا وتقدم وتأخروا، لأن كلامه الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي». فهذه المكانة الباذخة لكلام الإمام أوجبت عليه أن يستجيب لطلبهم، ذلك لأنه إذا جمع في كتاب يقدم للمجتمع الإنساني على مر العصور نفعاً كريماً عظيماً، لما فيه من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، وفي ختام المقدمة يوضح لنا سبب تسميته الكتاب نهج البلاغة: يفتح للناظر فيه أبوابها، ويقرب عليه طلابها فيه حاجة العالم والمتعلم، وبغية البليغ والزاهد، ويمضي في أثنائه من الكلام في: التوحيد والعدل وتنزيه الله سبحانه عن شبه الخلق ما هو بلال كل غلة، وجلاء كل شبهة، ومن الله سبحانه أستمد التوفيق والعصمة، وأتنجّز التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان، ومن زلّة الكلام قبل زلة القدم، وهو حسبي ونعم الوكيل» اه.

آخرين يقاسون هوان الفاقة. والحرمان. وأين ذلك من مساواة الإسلام وعدالته الاجتماعية. والإنسانية؟

(11) للإمام علي هو: 1-مبيته في فراش رسول الله وإنقاذ الرسول من موت محتم لو لم ينم في فراشه. 2-، فتكه بخيرة شبانها في غزوات بدر، وأحد، والخندق. وما فعله الإمام إنما كان امتثالا لأمر الله ورسوله لإعلاء كلمة الحق، أما عداوة قريش فكانت استجابة لأحقادها الجاهلية. ومن المفرح أن نرى في هذا العصر نخبة المفكرين من الكتاب ينفلتون من قيود التقليد الخاطىء، ويسيرون في إنصاف الإمام شوطاً مباركاً.

(12)-حيلة للتخلية: وسيلة لقطع أوقات الفراغ-العرامة: الشدة والشراسة-الدعارة: سوء الخلق-الجحافل: جمع جحفل: الجيش الكثير-الذرابة: فصاحة اللسان-تنافح: تدافع-الصفيح: جميع صفيحة: السيف-الأبلج: الشديد البياض-القويم الأملج، الرمح الأسمر. تمتلج امتلج الفصيل ما في ضرع أمه: مصَّه-دعارة الوساوس: ما تثيره نزغات الشيطان في النفس البشرية-الخوانس: ما يخطر في البال من السوء-المرج: الفساد الفساد والفتنة-والهرج: الفتنة والاختلاط-الصولة: السطوة في الحرب ونحوها-باسرة: عابسة الاختلاب: اختلب الشيء: اخذه بالمخلب. وهذه كلها مجازات عن شدة تأثير أسلوب الإمام وفصاحته في نفس القارى.

(13)-يقول الشريف الرضي في مقدمته ص 11، ما خلاصته: إن جماعة من أصدقائه وإخوانه طلبوا إليه أن يؤلف كتاباً يحتوي على مختار كلام الإمام في جميع فنونه. فيلبي الطلب. فإذا سألت عن المسوغات التي جعلته يلبي مطلبهم. أجاب على السؤال قائلا: «لأن كلام أمير المؤمنين (علیه السلام): مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك، فقد سبق وقصّروا وتقدم وتأخروا، لأن كلامه الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي».

فهذه المكانة الباذخة لكلام الإمام أوجبت عليه أن يستجيب لطلبهم، ذلك لأنه إذا جمع في كتاب يقدم للمجتمع الإنساني على مر العصور نفعاً كريماً عظيماً، لما فيه من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية، وفي ختام المقدمة يوضح لنا سبب تسميته الكتاب نهج البلاغة: يفتح للناظر فيه أبوابها، ويقرب عليه طلابها فيه حاجة العالم والمتعلم، وبغية البليغ والزاهد، ويمضي في أثنائه من الكلام في: التوحيد والعدل وتنزيه الله سبحانه عن شبه الخلق ما هو بلال كل غلة، وجلاء كل شبهة، ومن الله سبحانه أستمد التوفيق والعصمة، وأتنجّز التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان، ومن زلّة الكلام قبل زلة القدم، وهو حسبي ونعم الوكيل» اه.

ص: 370

صور من المؤتمر

ص: 371

ص: 372

الصورة

الشيخ محمد شريعتي المستشار الثقافي

الصورة

رئاسة يوم الإفتتاح

ص: 373

الصورة

العلامة السيد محمد حسين فضل الله

الصورة

جانب من الحضور

ص: 374

الصورة

كلمة سماحة الشيخ أحمد كفتارو

الصورة

جانب من الحضور

ص: 375

الصورة

الاستاذ جوزيف الهاشم

الصورة

العلامة الشيخ محمد تقي جعفري

ص: 376

الصورة

الدکتور أسعد علي

الصورة

الأستاذ أنور الجندی

ص: 377

الصورة

الدکتور حسن الزین

الصورة

هیئي رئاسة الیوم الثاني للمؤتمر

ص: 378

الصورة

الدکتور عمر موسی باشا

الصورة

الدکتور علي صادق الشیخ عمار

ص: 379

الصورة

الاستاذ لبیب بیضون

الصورة

جانب من الحضور

ص: 380

الصورة

جانب من الحضور

الصورة

الدکتور محمد توفیق أبو علي

ص: 381

الصورة

سماحة الشیخ نبیل حلباوي

الصورة

هیئة رئاسة الجلسة الختامیة

ص: 382

الصورة

الدکتور إبراهیم بیضون

الصورة

الدکتور عارف تامر

ص: 383

الصورة

حجة الإسلام سید جمال الدین دین برور

الصورة

الأستاذ سليمان کتاني

ص: 384

الصورة

الشیخ علي خازم

الصورة

الأستاذ عبدالفتاح قلعه جي

ص: 385

الصورة

الدکتور حسن جابر

الصورة

کلمة الختام / حجة الإسلام و المسلمين الشیخ حسن أختري

ص: 386

الفهرس

ص: 387

* مقدمة الكتاب

الشيخ محمد شريعتي المستشار الثقافي ... 6

برنامج اليوم الأول

* كلمة الافتتاح

الدكتور علي لاريجاني ... 11

* معايير الحق والباطل في نهج البلاغة

العلامة السيد محمد حسين فضل الله ... 19

* القرآن في نهج البلاغة

سماحة الشيخ أحمد كفتارو ... 29

* ضوء من الضوء «شعر»

الأستاذ جوزيف الهاشم ... 38

* أساليب عرض وإثبات الحقائق ونيل الكمال في نهج البلاغة

العلامة الشيخ محمد تقي جعفري ... 43

* الكنز المهجور وآثاره الإنسانية

الدكتور أسعد علي ... 71

* قاهر الموت «شعر»

الأستاذ أنور الجندي ... 89

* حقوق الإنسان في نهج البلاغة

الدكتور حسن الزين ... 93

برنامج اليوم الثاني

نهج البلاغة في مرآة العقول

الدكتور عمر موسى باشا ... 107

ص: 388

* حقوق الإنسان في نهج البلاغة

الدكتور علي صادق الشيخ عمار ... 125

* معالم العلوم في نهج البلاغة

الأستاذ لبيب بيضون ... 137

* المعيارية الإسلامية في الأدب على ضوء نهج البلاغة

الدكتور محمد توفيق أبو علي ... 145

* ساقي الحوض

سماحة الشيخ نبيل حلباوي ... 162

* رؤية الدولة في نهج البلاغة

الدكتور إبراهيم بيضون ... 169

* إلى أمير النحل «شعر»

الدكتور عارف تامر ... 195

* مكانة نهج البلاغة في الفكر الإسلامي المعاصر

حجة الإسلام سید جمال الدین برور ... 199

* نهج البلاغة واثره في الأدب

الأستاذ سليمان كتاني ... 213

* الإمام علي (علیه السلام) وأثره في التصوف العملي

الشيخ علي خازم ... 221

* تقاسيم البيان من مقام الهزام على كلام أمير المؤمنين عليه السلام

الأستاذ عبد الفتاح قلعه جي ... 239

* مقاربة نظرية لمفهوم الشورى

الدكتور حسن جابر ... 253

* كلمة الختام

سماحة حجة الإسلام الشيخ محمد حسن أختري ... 262

ص: 389

المقالات التي لم تلق في المؤتمر

* أثر نهج البلاغة في مصادر الفكر السياسي الإسلامي

الأستاذ محسن الموسوي ... 267

* لماذا ألف الشريف نهج البلاغة

الشيخ جعفر المهاجر ... 317

* المنهج التربوي للإمام علي (علیه السلام) نموذج التربية الإسلامية

الدكتور محمد كاظم مكي ... 327

* الإمام علي (علیه السلام) في ندوة علمية أقطابها نخبة من مفكري الإسلام

الأستاذ محمد علي أسبر ... 343

* صور متنوعة من المؤتمر ... 373

ص: 390

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.