كنز العرفان في فقه القرآن

هوية الكتاب

المؤلف: جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري

الناشر: المكتبة المرتضويّة للإحياء الآثار الجعفريّة

المطبعة: الحيدري

الطبعة: 0

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 0 ه.ق

الصفحات: 415

المكتبة الإسلامية

كنز العرفان في فقه القرآن

للشيخ الأجل جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري

المتوفی سنة 826 رحمه اللّه

علق عليه المحقق البارع حجة الإسلام الشيخ محمد باقر (شريف زاده) مد ظله

وأشرف علی تصحيحه اخراج احاديثه محمد باقر البهبودي

من منشورات المكتبة المرتضوية لاحياء الآثار الجعفرية

حقوق الطبع بهذه الصورة محفوظة

1343 ش 1384 ق

الجزء الأول

ناشر: انتشارات مرتضوی (تهران)

تاريخ نشر: 1373

چاپخانه: حیدری

نوبت چاپ: پنجم

تیراژ: 3000

محرر الرقمي: محمّد علي ملك محمّد

ص: 1

المجلد 1

كلمة الناشر :

بسمه تعالى

الحمد للَّه ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطَّاهرين.

وبعد : فان كتاب كنز العرفان في فقه القرآن تأليف المحقّق الوجيه المدقّق النبيه ، الشيخ الفاضل الفقيه ، جمال الدين ، وشرف المعتمدين ، أبي عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه السيوري المعروف عند الفقهاء الأعلام بالفاضل السيوريّ والفاضل المقداد ، لمّا كان من أحسن ما كتب في ذلك الفنّ ، مطلوب كلّ راغب ، وبغية كلّ طالب ، لكنّه مع عزّة نسخة المطبوعة ، وكثرة الطالبين لها ، لم يكن طبعاته مطبوع أهل الفضل ، عزمنا بحول اللّه وقوّته أن نطبعه بالطبعة الحروفيّة فطبعناه على أحسن ترتيب وأجمل صورة ، مزدانا بالتعاليق النافعة ، مذيّلاً بتخريج أحاديث والإشارة إلى مواضع آياته ، ليكون نفعه أتمّ وفيضه أعمّ.

فهذا هو المجلّد الأوّل منه بين يدي القرّاء الكرام ، من كتاب الطهارة إلى كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجاء بحمد اللّه يروق الناظرين ، يجده الطالب على ما كان يأمله من حسن النظم والتريب ، وجمال الطبع والأوراق.

وسننتشر المجلّد الثاني - إن شاء اللّه - من أوّل كتاب المكاسب إلى آخر الكتاب واللّه وليّ التوفيق ، وهو نعم الموفّق والرفيق.

الشيخ عبد الكريم المرتضوي

مدير المكتبة المرتضوية

ص: 2

كلمة المحشّي :

باسمه تعالى الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين.

وبعد فيقول الغريق في بحر العصيان ابن محمّد محمّد باقر المدعوّ بشريف زاده گلپايگانى : إنّه سألني الأخ العزيز الحاج الشّيخ عبد الكريم المرتضوي أيّده اللّه تعالى بتأييداته ، عند ما حاول تجديد الطبع لكتاب كنز العرفان للفاضل المقداد السيوريّ ، أن أشرح بعض مطالبه ، وانقح بعض مباحثه ، وأبيّن بعض المكنون من نفائس محتوياته ، فأجبته شاكرا إقدامه على طبع الكتب الدينيّة ، ونشره العلوم الإسلاميّة ، راجيا من القارئين الكرام أن يعذروني إن وقفوا على خطاء أو سهو ، ويقيلوني إن وجدوا عثرة أو زلّة ، وأن لا يضنّوا عليّ بملاحظاتهم القيّمة فانّي أتقبّلها مع الشّكر الجزيل ، وأسأل اللّه أن يجعل ذلك ذخرا لي ليوم المعاد.

ص: 3

ترجمة المؤلّف

هو الشّيخ الفاضل الفقيه جمال الدّين وشرف المعتمدين أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه بن محمّد بن الحسين بن محمّد السيوريّ الحلّي الأسديّ الغرويّ المعروف بالفاضل السيوريّ والفاضل المقداد ، عند الفقهاء المتأخّرين ، كان من أجلّاء الأصحاب ، وعظماء مشايخ الرّجال جامعا بين المعقول والمنقول ، عالما فاضلا متكلّما محقّقا مدقّقا من أعاظم الفقهاء قد أثنى عليه كلّ من عنونه بالثناء الجميل ، والذّكر النبيل. أفاض اللّه على تربته سجال لطفه.

لكنّا لم نعثر في كتب الرّجال والتراجم على شرح حاله وكيفيّة حياته إلّا على أنّه سيوريّ ، أسديّ ، غرويّ من أجلّ تلامذة الشّهيد فالرّجل مع نبالته وعظم شأنه عند الأصحاب ، ورواج كتبه المؤلّفة في شتّى المواضيع ، لم يعرف إلّا بأنّه من سيور قرية من قرى حلّة (1) وأنّه كان من بني أسد المتوطّنين بالعراق

ص: 4


1- قال في الرّوضات : ثمّ انّ السّيوري ، وهو بضم السّين مع الياء المخفّفة التحتانيّة - كما هو المشهور - نسبة الى سيور وهي قرية من قرى حلّة المجلّلة كما في الفهرست المنسوب الى شيخنا البهائي - غفر له - ويحتمل أيضا بعيدا أن يكون نسبة إلى سيور الّتي هي جمع السّير ، وهو ما يقدّ من الجلود المدبوغة لمصارف السّروج وأمثالها من الأدوات الصرميّة ، لكون أحد المذكورين في سلسلة نسبه معروفا ببيع ما ذكر ، والعمل فيه ، كما نسب إليه أيضا الحسين بن محمّد وعبد الملك بن أحمد السيوريّان المحدّثان ، فيما ذكره القاموس ، وهو نسبة الى بلد وقع في شرقي الجند - بالتحريك - الذي هو من جملة بلاد اليمن. انتهى لكنّه خلط في نقل كلام صاحب القاموس حيث قال : والسّير بالفتح الّذي يقدّ من الجلد ج سيور واليه نسب المحدّثان الحسين بن محمّد وعبد الملك بن أحمد السيوريّان ود شرقي الجند منه يحيى بن أبي الخير السيري العمرانيّ إلخ. فالبلد الّذي هو في شرقي الجند هو السّير والنسبة إليه السيرىّ لا السيور ولا السيوريّ. على أنّه قد ذكر شارح القاموس على ما في هامش طبعة مصر ج 2 ص 54 : قال شيخنا : وهذا - يعني النسبة إلى لفظ الجمع - على خلاف القياس وقيل انّهما - يعنى المحدّثين - منسوبان الى بلد اسمه سيور وصحّحه أقوام ، وفاته أبو القاسم عبد الخالق ابن عبد الوارث السيوريّ المغربيّ شيخ القيروان المتوفّى 460. انتهى.

وتتلمّذ عند الشّهيد وسمع منه عند ما ارتحل الشّهيد إلى النّجف الغريّ ، وتوفّي رحمه اللّه سنة 826 الهجرية ودفن في مقابر النجف (1).

إلّا أنّه حيّ معروف بحياته العلميّة ، مذكور بكتبه القيّمة ، وقد اعتنى المترجمون بالبحث والتّنقيب عن كتبه ، والتطلّع على ما فيها من التحقيقات والعوائد ، والتدقيقات والفوائد ، يثنون عليه الثّناء الجميل. فليس لنا إلّا أن نعرّفه بحياته العلميّة ، ونسرد إليكم كتبه القيّمة الثمينة.

ص: 5


1- قال في الرّوضات : ومن جملة ما يحتمل عندي قويّا هو أن يكون البقعة الواقعة في بريّة شهروان بغداد والمعروفة عند أهل تلك النّاحية بمقبرة مقداد ، مدفن هذا الرّجل الجليل الشّأن بناء على وقوع وفاته رحمه اللّه في ذلك المكان أو إيصائه بأن يدفن هناك لكونه على طريق القافلة الراحلة الى العتبات العاليات والّا فالمقداد بن أسود الكندي رحمه اللّه الّذي هو من كبار أصحاب النّبي صلى اللّه عليه وآله مرقده المنيف في أرض بقيع الغرقد الشّريف لما ذكره المؤرّخون المعتبرون من أنّه رضى اللّه عنه توفّي في أرضه بالجرف وهو على ثلاثة أميال من المدينة فحمل على الرّقاب حتى دفن بالبقيع. انتهى. لكنّه من عجيب الاحتمال حيث انّ المسمّين بالمقداد كثيرون وليس لنا أن نقول بأنّ المقبرة المشهورة عندهم لمّا لم يكن للمقداد بن أسود الكندي فليكن للمقداد بن عبد اللّه السيوريّ بل الشّيخ المترجم له قد توفّى بالمشهد الغرويّ على ساكنه آلاف التّحية والثّناء ضحى نهار الأحد السّادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة 826 الهجريّة ودفن بمقابر المشهد المذكور ، على ما صرّح به تلميذه الشّيخ حسن بن راشد الحلّي. بل هو نفسه ينقل عن بعض الأصحاب التّصريح بذلك حيث يقول فيه : وهو الّذي يعبر عنه في فقهيّات متأخّري أصحابنا بالفاضل السيوري وينقل عن كتابه في آيات الاحكام كثيرا وكنيته أبو عبد اللّه وفي بعض المواضع صفته أيضا بالغروي « نزلا » وكأنّه كان من جملة متوطّني ذلك المشهد المقدّس حيّا وميّتا.

مشايخه

كان رحمه اللّه من أجلّاء تلامذة الشّهيد ، والرّاوين عنه ، وهو :

تاج الشّريعة ، وفخر الشّيعة ، علّامة المتقدّمين ، شمس الملّة والدّين ، أبو عبد اللّه محمّد بن الشّيخ جمال الدّين مكّيّ بن الشّيخ شمس الدّين محمّد بن حامد بن أحمد النبطيّ العامليّ الجزّينيّ - نسبة إلى جزّين من قرى جبل عامل - وهو المعروف بالشّهيد الأوّل قدّس اللّه سرّه ، ذو الفضل الباهر ، والثّناء العاطر ، أشهر وأعرف وأعظم من أن يعدّ فضائله في هذا المجال.

كان مؤلّفنا - أعلى اللّه مقامه - من مشاهير تلامذته والرّاوين عنه ، له اختصاص وحظوة عند الأستاذ ، وولع بالبحث والتّنقيب عنده ، ومن ذلك عمد إلى كتاب شيخه « القواعد الفقهيّة » فنضده ورتّبه على أحسن ترتيب وسمّاه « نضد القواعد » كما سيجي ء ، كما أنّه ساءله - أو كاتبه - في مسائل عديدة خلافيّة فأجاب عنها ، فسمّيت تلك المسائل مع أجوبتها بكتاب « المسائل المقداديّة » قال صاحب الرّوضات : وهو الّذي ينقل عنه في كتبنا الاستدلاليّة الفتاوي والخلافيّات وكان نسبة تلك المسائل إلى تلميذه الشّيخ مقداد السيوريّ قدس سره النوريّ (1).

وقد نقل رحمه اللّه كيفيّة شهادة أستاذه وشيخه الشهيد ننقله بعين عبارته المنقولة المكتوبة :

قال العلامة المجلسي في بحار الأنوار (2) : وجدت في بعض المواضع ما صورته : قال السيد عزّ الدّين بن حمزة بن محسن الحسينيّ رحمه اللّه : وجدت بخطّ شيخنا المرحوم المغفور له ، العالم العابد ، أبي عبد اللّه المقداد السيوريّ ما هذه صورته :

وقال صاحب اللؤلؤة (3) : ورأيت بخطّ شيخنا العلّامة أبي الحسن الشيخ

ص: 6


1- الروضات ص 593.
2- راجع المستدرك ج 3 ص 438.
3- راجع الرّوضات ص 592 ، لؤلؤة البحرين ص 145.

سليمان بن عبد اللّه البحرانيّ ما صورته : وجدت في بعض المجموعات بخطّ من أثق به منقولا من خطّ الشيخ العلّامة جعفر بن كمال الدّين البحرانيّ ما هذه صورته :وجدت بخطّ شيخنا المرحوم المبرور ، العالم العامل ، أبي عبد اللّه المقداد السيوريّ ما هذه صورته :

كانت وفاة شيخنا الأعظم ، الشّهيد الأكرم ، أعني شمس الدّين محمّد بن مكّيّ قدّس في حظيرة القدس سرّه ، تاسع عشر جمادى الأولى سنة ستّ وثمانين وسبعمائة قتل بالسيف ، ثمّ صلب ، ثمّ رجم ، ثمّ أحرق ببلدة دمشق ، لعن اللّه الفاعلين لذلك والرّاضين به ، في دولة بيد مرو ، وسلطنة برقوق ، بفتوى المالكيّ ، يسمّى برهان الدّين وعباد بن جماعة الشافعيّ ، وتعصّب عليه في ذلك جماعة كثيرة بعد أن حبس في القلعة الدمشقيّة سنة كاملة.

وكان سبب حبسه أن وشى به تقيّ الدّين الجبليّ - أو الخياميّ - بعد ظهور أمارات الارتداد منه ، وأنّه كان عاملا ثمّ بعد وفاة هذا الواشي [ الفاجر ] ، فأقام على طريقته شخص اسمه يوسف بن يحيى ، وارتدّ عن مذهب الإماميّة ، وكتب محضرا شنّع فيه على الشّيخ شمس الدّين محمّد بن مكّي بأقاويل شنيعة ، ومعتقدات فضيعة وأنّه كان أفتى بها الشّيخ محمّد بن مكّيّ ، وكتب في ذلك المحضر سبعون نفسا من أهل الجبل ، ممّن كان يقول بالإمامة والتشيّع ، وارتدّوا عن ذلك ، وكتبوا خطوطهم تعصّبا مع يوسف بن يحيى في هذا الشّأن ، وكتب في هذا ما يزيد على ألف من أهل السّواحل من المتسنّين ، وأثبتوا ذلك عند قاضي بيروت ، وقيل قاضي صيدا ، وأتوا بالمحضر إلى القاضي عبّاد بن جماعة لعنه اللّه بدمشق ، فنفذه إلى القاضي المالكيّ وقال له : تحكّم فيه بمذهبك وإلّا عزلتك.

فجمع الملك بيد مرو الأمراء والقضاة والشّيوخ ، لعنهم اللّه جميعا ، وأحضروا الشّيخ رحمه اللّه وأحضروا المحضر وقرئ عليه ، فأنكر ذلك وذكر أنّه غير معتقد له - مراعيا للتقيّة الواجبة - فلم يقبل منه وقيل له قد ثبت ذلك شرعا ولا ينتقض حكم القاضي.

ص: 7

فقال الشّيخ للقاضي عبّاد بن جماعة : إنّي شافعيّ المذهب وأنت إمام المذهب وقاضيه ، فاحكم في بمذهبك ، وإنّما قال الشّيخ ذلك لأنّ الشافعيّ يجوّز توبة المرتدّ ، فقال ابن جماعة لعنه اللّه : على مذهبي يجب حبسك سنة كاملة ثمّ استتابتك أمّا الحبس فقد حبست ، ولكن تب إلى اللّه واستغفر حتّى أحكم بإسلامك ، فقال الشّيخ : ما فعلت ما يوجب الاستغفار - خوفا من أن يستغفر فيثبت عليه الذنب - فاستغلظه ابن جماعة وأكّد عليه فأبى عن الاستغفار فسارّه ساعة ثمّ قال : قد استغفرت فثبت عليك الحقّ.

ثمّ قال للمالكيّ : قد استغفر والآن ما عاد الحكم إليّ ، غدرا منه وعنادا لأهل البيت عليهم السلام ، ثمّ قال عبّاد : الحكم عاد إلى المالكيّ فقام المالكيّ وتوضّأ وصلّى ركعتين ثمّ قال : قد حكمت بإهراق دمه ، فألبسوه اللباس ، وفعل به ما قلناه من القتل ، والصّلب ، والرّجم ، والإحراق ، وساعد في إحراقه شخص يقال له محمّد بن الترمذيّ مع أنّه ليس من أهل العلم وإنّما كان تاجرا فاجرا. انتهى

تلامذته والرّاوون عنه

كان - رحمه اللّه - علما من الأعلام ، ووجها من وجوه أصحابنا ، يرود إليه طلّاب العلم ، وروّاد الفضل ، فهو شيخ من المشايخ العظام ، أسطوانة للفقه والكلام قد تخرّج عليه جمع من الفقهاء ، وسمع منه كثير من مشايخ الإجازة :

منهم : شيخ مشايخ الإماميّة في عصره ، أبو الحسن علي بن هلال الجزائري مولدا العراقيّ أصلا ومحتدا ، ففي إجازة المحقّق الكركيّ للقاضي صفيّ الدّين عيسى ، قال بعد ما أثنى على شيخه أبي الحسن عليّ بن هلال الجزائريّ ثناء بالغا :وهذا الشيخ الجليل يروي عن جماعة من الأساطين من أجلّاء تلامذة الشهيد الأوّل وفخر المحقّقين منهم الشّيخ مقداد بن عبد اللّه السيوريّ عن الشهيد (1).

ص: 8


1- المستدرك ج 3 ص 435 ، الرّوضات ص 639.

2 - الشّيخ شمس الدّين محمّد بن الشجاع القطّان الأنصاريّ الحلّي العالم الكامل صاحب كتاب معالم الدّين في فقه آل ياسين المعروف بابن القطّان.

3 - رضيّ الدّين عبد الملك بن شمس الدّين إسحاق بن عبد الملك بن محمّد بن محمّد بن فتحان الحافظ القميّ محتدا القاسانيّ مولدا.

4 - الشّيخ الصالح العالم الفاضل زين الدّين عليّ بن الحسن بن علالة وكان من تلامذته أيضا أجازه في ثاني جمادى الآخرة سنة 822 قال صاحب الرّياض : رأيت كتاب الأربعين حديثا للمقداد رحمه اللّه في أردبيل في مجموعة بخطّ تلميذ المصنّف وعليه إجازته له صورتها :

« أنهى قراءة هذه الأحاديث الشّيخ الصالح العالم الفاضل زين الدّين عليّ بن حسن بن علالة وأجزت له روايتها عنّي عن مشايخي قدّس أرواحهم وكتب المقداد ابن عبد اللّه السيوريّ في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة 822 (1).

5 - الفاضل الفقيه والشاعر الأديب الشّيخ حسن بن راشد الحلّيّ ، وكان من تلامذته أيضا ، له ارجوزة في تاريخ الملوك والخلفاء ، وارجوزة في تاريخ القاهرة ، وارجوزة نظم فيها ألفيّة الشّهيد قدس سره المسمّاة « بالجمانة البهيّة في شرح الألفيّة » فرغ من نظمها سنة 825 وعدد الأبيات 653 ، وقد قرّظ منظومته الجمانة هذه شيخه المقداد تقريظا لطيفا ، وهو الّذي أرّخ وفاة شيخه المقداد لسنة 826 ، له أيضا قصائد تعرف بالحلّيّات وغير ذلك (2).

وكان رحمه اللّه معاصرا للشيخ فخر الدّين أحمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المتوّج البحرانيّ صاحب المؤلّفات الكثيرة الّتي منها « النّهاية في تفسير الخمسمائة آية » وهي آيات أحكام القرآن بمقتضى حصر الفقهاء المحقّقين (3). قال في اللؤلؤة عند

ص: 9


1- الذّريعة ج 1 ص 429.
2- الاعلام للزركلى ج 2 ص 204. الذّريعة ج 1 ص 429 و 465.
3- الرّوضات ص 20 ، المستدرك ج 3 ص 435.

ذكره لابن المتوّج : كان معاصرا للشّيخ المقداد صاحب كنز العرفان وهو المعنيّ بقوله قال المعاصر (1)

أقول : قد عبّر المصنّف رحمه اللّه عنه بقوله : قال المعاصر في ص 108 و 143 و 222 و 390 وغير ذلك من طبعتنا هذه وكأنّه ينقل عن كتابه النّهاية في آيات الأحكام وهذا دليل على أنّ كتابه النّهاية كان عند المصنّف رحمه اللّه يطالعه فيبحث عنه ولذلك يقول : قال المعاصر. وأمّا ما ذكره الرّوضات : « والمعني بقوله فيه ( يعنى كتاب النّهاية ) قال المعاصر هو الشّيخ شرف الدّين مقداد بن عبد اللّه السيوريّ في كنز العرفان (2) » فالظاهر أنّه خلط لكلام صاحب اللؤلؤة كما لا يخفى.

وكان للمقداد رحمه اللّه ولد يسمّى عبد اللّه ولأجل ذلك كنّوه بأبي عبد اللّه وهو الّذي ألّف له المقداد كتاب الأربعين حديثا ، على ما صرّح به في رياض العلماء (3).

تآليفه

كان - رحمه اللّه - فاضلا محقّقا مدقّقا أديبا ، ذا رأى بديع ، وذوق لطيف فأتقن تآليفه وكتبه أحسن إتقان ، ورتّبها على أجمل ترتيب وأقوم برهان ، أودع فيها من لطائف التّحقيقات ، وبدائع الفوائد ، ما يروق النّاظر ، ويفيد الطّالب ، ويهديه إلى بغيته المطلوبة.

فمنها رسالة آداب الحجّ. قال في الرّياض : رأيته في مجموعة بخطّ تلميذ المصنّف رحمه اللّه الشيخ زين الدّين عليّ بن الحسن بن علالة ، وعلى ظهره إجازة المصنّف لتلميذه الكاتب المذكور ، وتاريخ الإجازة الخامس والعشرون من جمادى الآخرة سنة 822 (4).

ص: 10


1- اللؤلؤة ص : 176.
2- الرّوضات ص 20.
3- الرّوضات ص 693.
4- الذّريعة ج 1 ص 17.

ومنها الأدعية الثّلاثون. يحوي ثلاثين دعاء من أدعية النّبيّ والأئمّة المعصومين عليهم السلام ، قال في الذّريعة (1) : رأيت نسخة منه بخطّ جعفر بن محمّد بن بكّة الحسينيّ سنة 940 في كتب السّيد محمّد علي السّبزواري بالكاظميّة.

ومنها الأربعون حديثا. قال صاحب الرّياض : رأيته في أردبيل في مجموعة بخطّ تلميذ المصنّف - ره - وعليه إجازته له وقد ألّفه لولده الشّيخ عبد اللّه كما مرّ الإشارة إليه.

ومنها إرشاد الطّالبين : إلى نهج المسترشدين. هو شرح نهج المسترشدين في أصول الدّين تأليف العلامة الحلّي. شرحه المترجم له رحمه اللّه بعنوان « قال :أقول : » فرغ منه آخر نهار الخميس الحادي والعشرين من شعبان سنة 792 ، وطبع ببمبئى سنة 1303 (2).

ومنها شرح ألفيّة الشّهيد قدس سره (3) قال في اللؤلؤة نسبه إليه بعض مشايخنا المعاصرين نوّر اللّه مراقدهم (4).

ومنها الأنوار الجلاليّة : في شرح الفصول النصيريّة لخواجه نصير الدّين الطوسيّ. والفصول أصله فارسيّ قد ترجمه إلى العربيّة ركن الدّين محمّد بن عليّ الجرجانيّ تلميذ العلّامة الحلّي والمؤلّف رحمه اللّه قد شرح تلك النسخة المعرّبة بعنوان « قال أقول » وصدّره باسم الملك جلال الدّين عليّ بن شرف الدّين المرتضى العلويّ الحسيني الآوي ، وسمّاه باسمه. قال في الذّريعة : رأيت منه نسخا منها نسخة بخطّ عليّ بن هلال والظّاهر أنّه الكركيّ (5) المجاز من المحقّق الكركيّ

ص: 11


1- ج 1 ص 396.
2- الذّريعة ج 1 ص 515.
3- الذّريعة ج 2 ص 297.
4- الرّوضات ص 639.
5- بل هو على بن هلال الجزائري المجاز من المحقّق الكركي كما مرّ في تلامذته وكأنّه من سهو الكاتب أو الطّابع. راجع الذّريعة ج 2 ص 423.

تاريخ كتابتها سنة 980 ، وقال في الرّوضات : وإنّما نقله إلى العربيّة ( يعني الفصول النصيريّة ) قريبا من عصر المصنّف شيخنا المحقّق ، المتقن المنصف ، ركن الملّة والدّين ، محمّد بن عليّ الفارسيّ الجرجانيّ الأصل والمحتد ، والأستراباديّ المنشأ والمولد ، كما استفيد لنا من شرحه الرّشيق الّذي كتبه على سبيل التّحرير والتّحقيق الشّيخ مقداد بن عبد اللّه السيوريّ الحلّيّ فيما وجدنا النسبة إليه - رحمه اللّه - على ظهر بعض نسخه الّذي شاهدناه ، وفيه أيضا أنّ قلم هذا الشّارح المؤيّد المسدّد ، خدم بشرحه ذلك جناب صاحب البلد ، والملك الأوحد الأمجد ، والرئيس الأجلّ الأنجب الأرشد الأسعد ، الأمير جلال الدّين أبي المعالي عليّ بن شرف الدّين المرتضى العلويّ الحسينيّ الآويّ ، وسمّاه من هذه الجهة ، والعلّة الغائيّة ، بالأنوار الجلاليّة للفصول النصيرية (1).

ومنها تجويد البراعة : في شرح تجريد البلاغة. في علمي المعاني والبيان المتن تأليف الشّيخ كمال الدّين ميثم بن عليّ بن ميثم البحرانيّ المتوفّى 679 ويقال له أصول البلاغة. وبلحاظ الجناس سمّى الفاضل المقداد شرحه له بتجويد البراعة في شرح تجريد البلاغة (2).

ومنها التنقيح الرائع : في شرح مختصر الشرائع. قال صاحب الرّوضات :وأمّا كتابه التنقيح ، الّذي هو في الحقيقة معلمه الوضيع ، فهو أمتن كتاب في الفقه الاستدلاليّ ، وأرزن خطاب ينتفع به الدّاني والعالي ، وفيه من الفوائد الخارجة شي ء كثيرا ومن الزوائد النافجة نبذ غفير ، منها ما نقل فيه عن ابن الجوزيّ أنّه قال في وجه تسمية أيّام البيض من أقسام الآونة في الشّهور : سمّيت بذلك لبياض لياليها والعامّة تقول : الأيّام البيض. حتّى أنّ بعض الفقهاء جرى في كتبه على طريق العامّة في ذلك وهو خطأ فإنّ الأيّام كلّها بيض لكنّ العرب يسمّي كلّ ثلاث ليال من الشّهر باسم وسيأتي تفصيلها في النكاح.

ص: 12


1- الرّوضات ص 581 و 582.
2- الذّريعة ج 3 ص 352.

ثمّ ذكر في كتاب النّكاح أنّ العرب تسمّي كلّ ثلاث ليال من الشّهر باسم فلها حينئذ عشرة أسماء : غرر ، ثمّ نفل ، ثمّ تسع ، ثمّ عشر ، ثمّ بيض ، ثمّ درع ثمّ ظلم ، ثمّ حنادس ، ثمّ الدادي ، ثمّ محاق. » فذكر وجه تسمية الأيّام بتلك الأسماء فراجع (1)

وقال في الذريعة : التّنقيح الرائع من المختصر النافع الّذي هو اختصار الشّرائع. والتّنقيح شرح وبيان لوجه تردّداته في المختصر الّذي هو كأصله للمحقّق الحلّيّ المتوفّى 676 والشّرح للفاضل المقداد وهو شرح تامّ من الطهارة إلى الدّيات في مجلّدين بعنوان « قوله : قوله : » فرغ منه في تاسع ربيع الأوّل سنة 818 ونسخة عصر المؤلّف توجد في الخزانة الرضويّة كما في فهرسها كتبت في 821 (2)

ومنها الجامع الفوائد : في تلخيص القواعد. كما نسب إليه قدس سره (3) وكأنّه بعد ما نضّد كتاب شيخه الشهيد القواعد الفقهيّة وسماه نضد القواعد على ما يأتي ، لخّصه ثانيا وسمّاه الجامع الفوائد في تلخيص القواعد

ومنها شرح سى فصل : لخواجه نصير الدّين الطوسيّ في النجوم والتّقويم الرقميّ (4)

ومنها كنز العرفان : في فقه القرآن وسيأتي تمام البحث فيه.

ومنها اللّوامع الإلهيّة : في المباحث الكلاميّة قال في الرّوضات : من أحسن ما كتب في فنّ الكلام ، على أجمل الوضع وأسدّ النظام ، وهو في نحو من أربعة آلاف بيت ، ليس فيه موضع ليت كان كذا وليت (5).

ومنها النّافع يوم الحشر : في شرح الباب الحادي عشر ، للعلامة. وهو المتداول عند الطلاب المطبوع مرارا من بين الشّروح ، وقد كتبت عليه حواشي وتعليقات (6).

ص: 13


1- الرّوضات ص 639.
2- الذّريعة ج 4 ص 463.
3- ريحانة الأدب ج 3 ص 182. الاعلام للزركلى ج 8 ص 208.
4- ريحانة الأدب ج 3 ص 182. الاعلام للزركلى ج 8 ص 208.
5- الرّوضات ص 639.
6- الذّريعة ج 3 ص 7.

ومنها نضد القواعد الفقهيّة : على مذهب الإماميّة. قال في الرّوضات :

وهو كتاب بديع رتّب فيه قواعد شيخه الشّهيد على ترتيب أبواب الفقه والأصول من غير زيادة شي ء على أصل ذلك الكتاب ، غير ما رسّمه في مسألة القسمة منه.

قال قدس سره في ديباجة كتابه ذلك : أمّا بعد فإنّ اتباع الحسنة بالحسنة في العمر الّذي سنه منه سنة ، من أعظم الرغائب ، وأسنى المواهب ، ولمّا وفّق اللّه لزبر كتاب اللّوامع الإلهيّة ، في المباحث الكلاميّة ، رأيت اتباعه بكتاب في المسائل الفقهيّة ، والمباحث الفروعيّة ، إحدى الحسنيين ، وأجدى الموهبتين ، وكان شيخنا الشّهيد قدس سره قد جمع كتابا مشتملا على قواعد وفوائد في الفقه تأنيسا للطلبة بكيفيّة استخراج المنقول من المعقول ، وتدريبا لهم في اقتناص الفروع من الأصول لكنّه غير مرتّب ترتيبا يحصّله كلّ طالب ، وينتهز فرصة كلّ راغب ، فصرفت عنان العزم إلى ترتيبه وتهذيبه ، وتقرير ما اشتمل عليه وتقريبه ، وسمّيته نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الإماميّة إلخ (1)

وقد رتّبه على مقدّمة في تعريف الفقه وما يتعلّق بذلك ، وقطبين : الأوّل منهما في العبادات والثّاني في المعاملات وفيه أحكام العقود والإيقاعات.

وقد كان عندنا نسخة منه تفضّل بها الفاضل المحترم الأستاذ المكرّم مرتضى المدرّسيّ الچاردهيّ ، فنقلنا قاعدتين منه الاولى في ص 135 والثانية في ص 198 حيث أحال المصنّف رحمه اللّه توضيح المرام إلى كتابه النضد. فراجع.

ومنها نهج السّداد : في شرح واجب الاعتقاد ، للعلامة (2).

ومنها شرح مبادئ الأصول : للعلامة (3).

ومنها تفسير مغمضات القرآن (4).

ص: 14


1- الرّوضات ص 639.
2- الرّوضات ص 639.
3- الرّوضات ص 639.
4- ريحانة الأدب ج 3 ص 182.

التّعريف بالكتاب كنز العرفان؟

قد ألّف الباحثون المدقّقون من أصحابنا رضوان اللّه عليهم مؤلّفات كثيرة في آيات الأحكام قديما وحديثا لكنّه لم يرزق واحد منها من الشّهرة والرّغبة والتّنافس في أخذه ونسخه وبحثه والتطلع عليه مثل ما رزق هذا السفر القيّم الّذي ألّفه الفاضل الفقيه ، والمحقّق النبيه ، الشيخ جمال الدّين ، وشرف المعتمدين ، أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه السيوريّ المعروف بالفاضل السيوريّ والفاضل المقداد ، وليس ذلك إلّا لفضله الباهر ، وبيانه القاهر ، وتحقيقاته العميقة ، وفوائده العامّة الأنيقة.

فطار صيت هذا المؤلّف كفضل مؤلّفه بين العامّ والخاصّ وتعاطي نسخه وكتابته الفضلاء والعلماء ، ورغب فيه كلّ باحث وطالب ، فترى نسخه الخطيّة وافرا موجودا في كلّ مكتبة ، وعندنا منه ثلاث نسخ خطيّة قابلنا عليها نسختنا المطبوعة هذه وسنعرّفها بعيد هذا.

وهذا السفر القيّم كنز العرفان في فقه القرآن في فضله واشتهار صيته يشبه مجمع البيان في تفسير القرآن لأمين الدّين الفضل بن الحسن الطبرسيّ. كما أنّه يشبهه في نسقه وترتيبه ، ونقل الأقوال ، وحسن الانسجام ، وبديع الجمال.

وقد اعتمد عليه مؤلّفنا أعلى اللّه مقامه فأكثر النقل منه عند بيان الأقوال ، ونقل الأحاديث والرّوايات (1) وشأن نزول الآيات ، كما ستعرف ذلك عند سبر

ص: 15


1- وقد نقل منه رحمه اللّه الأقوال في قوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ الآية فنقل فيه عن المجمع على ما هو الظّاهر من عبارتيهما قولين : أوّلهما عن الباقر عليه السلام وابن عبّاس وجماعة أن المراد إفاضة عرفات وثانيهما عن الصّادق عليه السلام والجبائي أن المراد إفاضة المشعر. قال وهو الّذي يقوى في نفسي لأنّه ذكر إفاضة عرفات أوّلا. لكنّه كما ذكرنا في الذّيل لا يعثر على رواية تشعر بذلك النّقل عن أبى عبد اللّه عليه السلام كما اعترف به الجزائري في قلائد الدّرر والأردبيليّ في زبدة البيان. وعندي أنّه اشتبه عليه كلام صاحب المجمع عند النّقل منه أو كان نسخته ناقصة أو سقيمة بالتّقديم والتّأخير فإنّه قال : والثّاني أنّ المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النّحر قبل طلوع الشّمس للرّمي والنّحر عن الجبائي قال : والآية تدلّ عليه لأنّه قال فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ثمّ قال ثُمَّ أَفِيضُوا فوجب أن يكون إفاضة ثانية. والنّاس المراد به إبراهيم وقيل انّ النّاس إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ومن بعدهم من الأنبياء عن أبى عبد اللّه عليه السلام . انتهى. وقد يؤيّد كون منشأ الاشتباه سقامة النسخة ، أنّ المؤلّف نقل الاختلاف في المراد من النّاس بعد نقله القول الأوّل مع أنّ الطّبرسي نقله بعد القول الثّاني. فكأنّ قوله « عن أبى عبد اللّه عليه السلام » كانت في نسخته موصولة بقول الجبائي فتوهّم نسبته الى أبى عبد اللّه عليه السلام . فراجع.

أوراق الكتاب مع ما أشرنا إليه في ذيلها من المصادر والمآخذ.

وكما اشتهر عند العامّة تفسير مجمع البيان للطبرسيّ اشتهر عندهم كنز العرفان للفاضل السيوريّ ، وقد عنونه بعض المتأخّرين من المعاصرين في كتابه « التّفسير والمفسّرون (1) ».

فجعل كتابه رابع أربعة بعد كتاب أحكام القرآن للجصّاص وابن العربيّ وقال : مؤلّف هذا التفسير هو مقداد بن عبد اللّه بن محمّد بن الحسين بن محمّد السيوريّ أحد علماء الإماميّة الاثنى عشريّة ، والمعروف بينهم بالعلم والفضل ، والتّحقيق والتّدقيق ، وله مؤلّفات كثيرة.

ثمّ قال : تحت عنوان « التّعريف بهذا التّفسير وطريقة مؤلّفة فيه » :

يتعرّض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط ، وهو لا يتمشّى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ، ذاكرا ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصّاص وابن العربيّ مثلا ، بل طريقته في تفسيره : أنّه يعقد أبوابا كأبواب

ص: 16


1- ج 2 ص 131.

الفقه ، ويدرج في كلّ باب منها الآيات الّتي تدخل تحت موضوع واحد ، فمثلا يقول : باب الطّهارة ثمّ يذكر ما ورد في الطّهارة من الآيات القرآنيّة ، شارحا كلّ آية منها على حدة ، مبيّنا ما فيها من الأحكام ، على حسب ما يذهب إليه الإماميّة الاثنا عشريّة في فروعهم ، مع تعرّضه للمذاهب الأخرى وردّه على من يخالف ما يذهب إليه الإماميّة الاثنا عشريّة ، إلى آخر ما قال.

وقد اعتمدنا في تصحيح الكتاب ومقابلته على النسختين المطبوعتين من قبل إحداهما المستقلّة المطبوعة بالقطع الوزيري ، وثانيهما المطبوعة في هامش تفسير محمّد ابن القاسم الأستراباديّ المنسوب إلى الامام العسكري عليه السلام بالقطع الكبير.

وعلى نسخ خطّيّة نذكر منها ثلاث نسخ مصحّحة مع صورتها الفتوغرافيّة :

1 - نسخة عتيقة مصحّحة وعليها حواشي كثيرة غير أنّها ناقصة من ورق 125 إلى ورق 133 ومن ورق 267 إلى ورق 283 وهو آخر الكتاب وهكذا قد ضاع قدر سطر أو سطرين من ورق 184 إلى ورق 267 آخر النسخة العتيقة فرقّعها الوصّال وكتب عليها بخطّ آخر.

وقد كتب على ظهر النسخة محمّد الموسويّ الجزائريّ في 11 شعبان 1383 ما هذا لفظه :

هذا كتاب كنز العرفان في شرح آيات الأحكام للفاضل المقداد قدس سره وهو مطبوع ، والنسخة تمتاز بالتعليقات الّتي عليها للعلامة الشيخ يعقوب بن إبراهيم البختياري الحويزيّ المتوفّى حدود سنة 1150 المترجم في الإجازة الكبيرة لمعاصره العلّامة النابغة السيد عبد اللّه الجزائريّ المتوفى 1173 وقد كانت ناقصة فكمّلها الفاضل الشيخ حسين بن الحسن بن عليّ بن عليّ النجّار التستريّ ، والد العلّامة المجتهد الواعظ الشيخ جعفر الشهير وكانت لي فوهبتها لشيخنا العلّامة التقيّ ، الحاجّ الشيخ محمّد تقيّ حفيد الشّيخ المزبور وأرجو منه القبول ، وألتمس منه الدعاء. انتهى

ص: 17

2 - نسخة مصحّحة مخطوطة بخطّ جيّد كتبه مسعود بن حيدر الحسنيّ الزواري فرغ منها ليلة الأربعاء الرابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة تسع وتسعين وتسعمائة. (979). وعليها حواشي متفرّقة وفي أوّلها لوحة مذهّبة.

3 - نسخة مصحّحة مخطوطة بخطّ علي أكبر بن عين اللّه الويسي فرغ منها في شهر جمادى الآخرة من سنة 1041 وعليها أيضا حواشي متفرّقة.

وهاتان النسختان لمكتبة آية اللّه العلّامة الأستاذ أبي المعالي السيّد شهاب الدّين الحسينيّ المرعشيّ النجفيّ دامت بركاته.

والحمد لله أوّلا وآخرا

ربيع الثّاني 1384

محمد الباقر البهبودى

ص: 18

ص: 19

ص: 20

اشارة

 بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الّذي أنزل (1) على عبده الكتاب لكلّ شي ء تبيانا ، وجعله لتصديق نبوّته وتأييد رسالته معجزا وبرهانا ، فنزّله نورا وهدى وعبرة للعالمين ، وضمنه جوامع الكلم فكان تبصرة وذكري للعالمين ، وأخرس بفصاحته ألسنة العرب العرباء (2) وأبكم ببلاغته مصاقع (3) البلغاء والخطباء ، وأتقن تهذيبه وأحكم ترتيبه غاية الإحكام ، وصيّره دليلا وحجّة للحكّام في اقتناص (4) الأحكام ، وعصم من تمسّك به

ص: 1


1- قد اجتمعت التعدية بالهمزة وبالتضعيف في قوله تعالى ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ ) . آل عمران3. وزعم الزمخشري ان بين التعديتين فرقا فقال : لما نزل القرآن منجما والكتابان جملة جي ء بنزل في الأول وانزل في الثاني ، وانما قال هو في خطبة الكشاف الحمد لله الذي أنزل القرآن كلاما مؤلفا منظما ، ونزله بحسب المصالح منجما ، لأنه أراد بالأول إنزاله من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا ( وهو الانزال المذكور في ( إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) - القدر - 1 وفي قوله تعالى ( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) . البقرة181. واما قول القفال : ان المعنى أنزل في وجوب صومه أو الذي أنزل في شأنه فتكلف لا داعي اليه ) وبالثاني تنزيله من السماء الدنيا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله نحو ما في ثلاث وعشرين سنة اه قاله ابن هشام في مغني اللبيب.
2- العرباء : الصرحاء الخلص من العرب.
3- مصاقع جمع مصقع كمنبر البليغ الذي لا يرتج عليه في الكلام والعالي الصوت
4- الاقتناص الاصطياد.

وبالعترة من الزّيغ والطّغيان ، ووعد على التمسّك بهما الفوز برضاه والخلود في الجنان.

والصّلوة على المكنّي عنه بالعبوديّة والنبوّة والإرسال ، المنعوت بالرّأفة الموصوف بالرّحمة المؤيّد بالعصمة في الأقوال والأفعال ، محمّد البشير النّذير ، والدّاعي إلى الحقّ والسّراج المنير ، وعلى آله المعصومين وعترته الأطهرين ، كنوز العلم ورعاته ودعاة الحقّ وولاته ما استدارت الخضراء على الغبراء ، واستنارت الغبراء من الخضراء.

أمّا بعد : فانّ القرآن بحر لا يفنى عجائبه ، ولجّ لا ينقضي غرائبه ، من طلب الهدى وجده في ظواهره وخوافيه ، ومن رام العصمة من العمى وجدها في منشورة ومطاويه ، علومه لا تعدّ ولا تحصى ، وفنونه لا تحصر ولا تستقصى ، وكان علم الأحكام الشرعيّة والمسائل الفقهيّة الّذي هو فنّ من فنونه وقطف (1) من غصونه أعمّ نفعا للعوامّ والخواصّ ، وأجدى عائدة وأولى بالاختصاص ، إذ به ينتظم قواعد المعاش في العاجلة ، ويتمّ سعادة المعاد في الآجلة ، وكانت الآيات الكريمة الّتي هي مرجع جملة من مسائله أجلّ حجج فتواه وأكبر دلائله ، قد اعتنى العلماء بالبحث عنها واستخراج السرّ الدّفين منها ، لكني لم أظفر بكتاب في تنقيح تلك الآيات بما يبرد الغليل ويشفي العليل ، ويحتوي على جملة ما يبغيه الراغب ، ويستطرفه الطّالب بل إمّا مسهب (2) بذكر الأقاويل والأخبار ، أو مقصّر قد ملّل بالايجاز والاختصار فحداني ذلك على وضع كتاب يشتمل على فوائد قد خلا عنها أكثر التّفاسير وفرائد لم يعثر عليها إلّا كلّ نحرير ، وضممت إلى ذلك فروعا فقهيّة تقتضيها نصوص تلك الآيات أو ظواهرها ، ونكات معان وعجيب غرائب يلمع لدى الفضلاء زواهرها ، يظهر بذلك من الآيات سرّها المكنون وجوهرها الثمين المصون بحيث يعجب بذلك النّاظرون وما يعقلها إلّا العالمون. وسمّيته : كنز العرفان في فقه القرآن والمسؤول

ص: 2


1- القطف العنقود ويقال له بالفارسية خوشه واسم للثمار المقطوفة.
2- مسهب اى مكثر في الكلام.

من ذي الجود والإفضال ، أن يجعله نورا في صحائف الأعمال ، أنّه بطوله وكرمه يسمع ويجيب ، وما توفيقي إلّا باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب.

وهو مرتّب على مقدّمة وكتب ، أما المقدّمة فيشتمل على فوائد (1).

الأولى : اللّفظ المفيد وضعا إن لم يحتمل غير ما فهم منه بالنّظر إليه فهو النصّ وإن احتمل فان ترجّح أحد الاحتمالين بالنّظر إليه أيضا فهو الظّاهر والمرجوح المؤوّل ، وإن تساوى الاحتمالان فهو المجمل ، والقدر المشترك بين النصّ والظّاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه. وقد يتركّب بعض هذه مع

ص: 3


1- وللمقدس الأردبيلي هنا بيانا ننقله بعين عبارته قال : اعلم ان هنا فائدة لا بد قبل الشروع في المقصود من الإشارة إليها وهي انّ المشهور بين الطلبة انّه لا يجوز تفسير القرآن بغير نصّ واثر حتى قال الشّيخ أبو على الطّبرسي قدس سره في تفسيره الكبير : واعلم انّه قد صح عن النّبي صلى اللّه عليه وآله وعن الأئمّة عليهم السلام : انّ تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصّحيح والنّص الصّريح ، وروى العامّة عن النّبي صلى اللّه عليه وآله انّه قال : من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحقّ فقد أخطأ قالوا : وكره جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي كسعيد بن المسيّب وسالم بن عبد اللّه وغيرهما ، والقول في ذلك انّ اللّه سبحانه ندب الى الاستنباط وأوضح السّبيل اليه ومدح أقواما عليه فقال ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) - النّساء 84 - وذمّ آخرين على ترك تدبّره والإضراب عن التّفكر فيه فقال ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) - محمّد 26 - وذكر انّ القرآن منزّل بلسان العرب فقال ( إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) - الزّخرف 2 - الى ان قال : هذا وأمثاله يدلّ على انّ الخبر متروك الظاهر فيكون معناه ان صحّ : انّ من حمل القرآن على رأيه ولم يعلم شواهد ألفاظه فأصاب الحقّ فقد أخطأ الدّليل ، وقد روى انّ النّبي صلى اللّه عليه وآله قال : انّ القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه. وروى عن عبد اللّه بن عبّاس انّه قال : قسّم وجوه التّفسير على أربعة أقسام : تفسير لا يعذر احد لجهالته وتفسير يعرفه العرب بكلامهم وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه الّا اللّه عزوجل فأمّا الّذي لا يعذر احد لجهالته فهو ما يلزمه الكافّة من الشّرائع الّتي في القرآن وجمل دلائل التّوحيد ، وامّا الّذي يعرفه العرب بلسانها فهو حقائق اللّغة ومصوغ كلامهم ، وامّا الّذي يعلمه العلماء فهو تأويل المتشابه وفروع الاحكام ، وامّا الّذي لا يعلمه الا اللّه عزوجل فهو ما يجرى مجرى الغيوب وقيام الساعة. أقول : تحرير الكلام انّ الخبر محمول على ظاهره غير متروك الظّاهر وانّه صحيح مضمونه على ما اعترف به في أوّل كلامه حيث قال : قد صحّ عن النّبي صلى اللّه عليه وآله بيانه انّ الشّيخ أبا على - ره - قال في أوّل تفسيره : التّفسير معناه كشف المراد من اللّفظ المشكل ، والتّأويل ردّ احد المحتملين الى ما يطابق الأخر وقيل : التّفسير كشف المغطّى ، والتأويل انتهاء الشّي ء ومصيره وما يؤل إليه أمره ، وهما قريبان من الأوّلين ، فالمعنى من فسّر وبيّن وجزم وقطع بأنّ المراد من اللّفظ المشكل مثل المجمل والمتشابه كذا بان يحمل المشترك اللفظي مثلا على احد المعاني من غير مرجّح وهو امّا دليل نقليّ كخبر منصوص أو آية أخرى كذالك أو ظاهر أو إجمار. أو عقلي أو المعنوي المراد به احد معانيه بخصوصه بدليل غير الدّلائل المذكورة على فرد معيّن فقد أخطأ. وبالجملة المراد من التّفسير الممنوع برأيه وبغير نصّ هو القطع بالمراد من اللّفظ الّذي غير ظاهر فيه من غير دليل بل بمجرّد رأيه وميلة واستحسان عقله من غير شاهد معتبر شرعا كما يوجد في كلام المبدعين وهو ظاهر لمن تتّبع كلامهم والمنع منه ظاهرا عقلا والنّقل كاشف عنه وهذا المعنى غير بعيد عن الاخبار المذكورة بل ظاهرها ذلك.

بعض ، مثال النصّ : قوله تعالى ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) (1) إذ لا يحتمل غير الوحدانيّة مثال الظّاهر : قوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (2) مثال المؤوّل ( يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (3) في إرادة القدرة ، مثال المجمل ( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ) (4) في احتمال أقبل وأدبر.

الثّانية : اللّفظ الدّالّ على الماهيّة إمّا أن يدلّ عليها من حيث هي هي لا بقيد وحدة أو كثرة أولا ، والأوّل المطلق والثّاني إن دلّ بقيد وحدة فإمّا معيّنة فهو العلم كزيد والمضمر ، أو غير معيّنة وهو النكرة ويقال له أيضا الشّخص المنتشر ، وإن دلّ بقيد كثرة فامّا محصورة بالنّظر إليه وهو اسم العدد ، أو غير محصورة فامّا أن يكون شاملة لكلّ الأفراد فهو العامّ أو غير شاملة وهو الجمع المنكّر ، فالفرق حينئذ بين العامّ

ص: 4


1- الإخلاص 1.
2- المائدة 6.
3- الفتح 10.
4- التّكوير 17.

والمطلق أنّ المطلق يدلّ على الماهيّة من حيث هي هي لا بقيد وحدة أو كثرة والعامّ يدلّ عليها مع قيد الكثرة الشاملة ، وألفاظ العموم : كلّ وجميع ومتى ومن وما وحيثما وأنّى والجمع المعرّف باللّام والجمع المضاف والحق غيرها وتحقيقه في الأصول.

ثمّ العام إن ورد [ عليه ] ما يدلّ على إخراج بعض ما يصحّ أن يتناوله اللّفظ سمّي ذلك المخرج مخصّصا والعام مخصوصا ، وكذا المطلق إن ورد ما يدلّ على الماهيّة بصفة زائدة سمّي ذلك مقيّدا والمطلق مقيّدا ، وكذلك المجمل إن ورد لفظ أو فعل مبيّن لأحد محتملاته سمّي ذلك مبيّنا والمجمل مبيّنا وتحقيق ذلك كلّه في أصول الفقه.

الثالثة : اشتهر بين القوم أنّ الآيات المبحوث عنها نحو من خمسمائة آية وذلك إنّما هو بالمتكرّر والمتداخل وإلّا فهي لا تبلغ ذلك ، فلا يظنّ من يقف على كتابنا هذا ويضبط عدد ما فيه : أنّا تركنا شيئا من الآيات فيسيئ الظنّ به ولم يعلم أنّ المعيار عند ذوي البصائر والأبصار ، إنّما هو التّحقيق والاعتبار ، لا الكثرة والاشتهار.

وعلى التقديرين يرد هنا سؤال تقريره أنّه ورد في الحديث عنهم عليهم السلام :القرآن أربعة أرباع ربع فينا وربع في عدوّنا وربع [ في ] فرائض وأحكام وربع في قصص وأمثال (1) والقرآن ستّة آلاف آية وستّمائة وستّة وستّون آية فكيف يكون خمسمائة وأقلّ ربعه؟ والجواب من وجهين :

الأوّل : ليس المراد الرّبع حقيقة وهو جزء من أربعة أجزاء متساوية في المقدار ، بل الرّبع باعتبار المعنى فلا يلزم أن يكون الأرباع متساوية من حيث المقدار.

الثّاني : أنّ الفرائض والأحكام قد تكون فقهيّة وقد تكون أصوليّة والآيات المذكورة فقهيّة لا غير فجاز كون تمام الرّبع في فرائض وأحكام غير فقهيّة إذا تقرّر هذا فلنشرع في الكتب.

ص: 5


1- سنن ح ل.

كتاب الطّهارة

اشارة

وفيه مقدّمة وآيات.

أمّا المقدّمة :فالطّهارة لغة النّزاهة قال اللّه تعالى ( يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ ) (1) أي نزّهك وشرعا تطلق حقيقة عند بعضهم على رافع الحدث أو المبيح للصّلوة فتعريفها حينئذ هو ما يبيح الدّخول في الصّلوة وإن أطلقت على غير المبيح فمجاز كغسل الجمعة والوضوء المجدّد وعند الأكثر تطلق عليهما حقيقة فأجود تعريفاتها حينئذ استعمال طهور مشروط بالنيّة ، وقد تطلق مجازا بالاتّفاق على إزالة الخبث إمّا عن الثّوب أو عن البدن لأنّ إزالة الخبث في التّحقيق أمر عدميّ فلا حظّ له في المعاني الوجوديّة حقيقة ، وهل إطلاقها في المعنى الحقيقيّ متواط أو مشكّك؟ فيه خلاف ، ومقصود الكتاب هنا ذكر الطّهارة بسائر اعتباراتها المذكورة حقيقة ومجازا.

وأمّا الآيات ، فالأولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (2).

هنا مسائل :

1 - : قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) مورد سؤال تقريره أنّه يلزم اختصاص الوجوب بالمؤمنين مع أنّ عندكم الكافر مكلّف بالفروع؟. (3) جوابه :

ص: 6


1- آل عمران : 37.
2- المائدة : 6.
3- القول بتكليف الكفّار بالفروع ليس مختصّا بالشّيعة ، بل أكثر الشافعيّة عليه نعم خالفهم أبو حامد الاسفرائنى وأكثر الحنفيّة. وقال قوم : في النّواهي دون الأوامر استنادا بانّ النّواهي تروك لا تتوقّف على النيّة. وقوم في من عدا المرتدّ فوافقوا على تكليفه باستمرار تكليف الإسلام. والخلاف في خطاب التكليف وما يرجع اليه من الوضع ككون الطّلاق سببا لحرمة الزّوجة ، وامّا ما لا يرجع اليه نحو الإتلاف والجنايات وترتّب آثار العقود فالكافر كالمسلم اتّفاقا. وكذا ليس تكليفهم بالفروع متّفقا عليه عند الشّيعة كيف وقد خالفهم في ذلك صاحب الحدائق في مبحث غسل الجنابة والمحدّث الكاشاني في الوافي في كتاب الحجّة ومحمّد أمين الأسترآبادي في الفوائد المدنيّة. وعلى كلّ حال فالحقّ تكليفهم بالفروع أيضا ، كيف وكثير من الخطابات التّكليفيّة عامّ شامل لهم مثل قوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) - آل عمران91. وقوله تعالى ( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) - البقرة 20 - وقوله تعالى ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ) - الفرقان 68 - وقوله تعالى ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) - الزلزال 8 - وقوله تعالى ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) - المطفّفين 1 - وقوله تعالى ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ) إلخ - النساء 95 - وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل - الوسائل ج 1 - أبواب الجنابة ب 6 ح 2 - والاخبار المصرّحة بأنّ اللّه فرض على العباد كذا وكذا. وفي الآيات ما يدل خصوصا على تكليفهم بالفروع مثل قوله تعالى : ( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) المدّثّر44. وقوله تعالى ( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى ) - القيمة 31 - وقوله تعالى ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ) - فصّلت 5 و 6.

اللّزوم من حيث مفهوم المخالفة وليس بحجّة عندنا ، ووجه التخصيص بالذين آمنوا أنّهم المتهيّئون للامتثال ، المنتفعون بالأعمال.

2 - : قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ ) ، قيام الصّلاة قسمان قيام للدّخول فيها وقيام للتهيّؤ لها ، والمراد هنا الثّاني وإلّا لزم تأخّر الوضوء عن الصّلوة وهو باطل إجماعا ، فلذلك قيل : المراد على الأوّل : إذا أردتم القيام كقوله تعالى ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ) (1) عبّر عن إرادة الفعل بالفعل المسبّب عنها فهو من إطلاق المسبّب على السّبب [ له ] كقولهم « كما تدين تدان » وفيه نظر لأنّ معنى الإرادة مفهوم من العقل لا من اللّغة بل ما من فعل إلّا وهو مسبّب عن الإرادة فتخصيص القيام يفتقر

ص: 7


1- النّحل : 97.

إلى مخصّص وليس ، وقيل : المراد إذا قصدتم الصّلوة ، لأنّ القيام إلى الشي ء والتوجّه إليه يستلزم القصد إليه فيكون من إطلاق الملزوم وإرادة (1) اللّازم والأولى أنّ ذلك كلّه يخرج « إلى » عن موضوعها الحقيقي وهو كونها للغاية الزمانيّة أو المكانيّة والحقيقيّ (2) أولى ، وذلك مستلزم لتقدير زمان هي موضوعة لغايته فيكون التّقدير : إذا قمتم زمانا ينتهي إلى الصّلوة ، فيكون القيام على حقيقته ، فالمقدّر هو الزّمان الّذي يقتضيه لفظة إلى والفعل معا.

ثمّ اعلم أنّ ظاهر الخطاب يعمّ كلّ قائم محدثا كان أو غيره وهو باطل لأنّه خلاف الإجماع ، ولأنّه صلى اللّه عليه وآله صلّى الخمس في يوم فتح مكّة بوضوء واحد فقال عمر : صنعت ما لم تصنعه؟ فقال صلى اللّه عليه وآله : عمدا فعلته (3) وقيل : كان كذلك و [ قد ] نسخ ، وهو ضعيف أيضا لقوله عليه السلام : « المائدة آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها » (4).

والحقّ أنّ المراد : إذا قمتم إلى الصّلوة محدثين ، فهو مطلق أريد به التّقييد (5).

3 - ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) : الأمر حقيقة في الوجوب على قول الأكثر وتحقيقه في الأصول أي أمرّوا الماء على وجوهكم ، وفيه دلالة على عدم جواز التولية

ص: 8


1- على اللّازم خ ل.
2- والحقيقة خ ل.
3- فتح القدير للشوكانى نقلا عن مسلم واحمد وأهل السّنن عن بريدة جلد 2 صفحة 15.
4- فتح القدير للشوكانى تقدمة سورة المائدة.
5- المقيد ظ ويمكن استفادة هذا أيضا ممّا في آخر الآية ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) حيث أوجب التيمم على المتغوّط والمجامع عند عدم الماء كما أفاده الامام الفخر الرّازي في تفسيره ، وعلى كلّ حال فإجماع الفقهاء على عدم الوجوب الّا داود الظّاهري فإنّه أوجب الوضوء لكلّ صلاة.

بل المباشرة. ولا حاجة إلى الدلك خلافا لمالك والوجه (1) اسم لما يقع به المواجهة فلا يجب تخليل الشّعور الكثيفة عليه بخلاف الخفيفة فإنّ المواجهة تقع بما تحتها.

4 - ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) قيل : إلى بمعنى مع كما في « مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ » (2) فيدخل المرفق ضرورة وقيل : إلى على حقيقتها وهو انتهاء الغاية ، فقيل بدخول المرفق أيضا لأنّه لمّا لم يتميّز الغاية عن ذي الغاية بمحسوس وجب دخولها والحقّ أنّها للغاية ولا يقتضي دخول ما بعدها فيما قبلها ولا خروجه لوروده معهما أمّا الدّخول فكقولك : حفظت القرآن من أوّله إلى آخره ومنه ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) (3) وأمّا الخروج : فك ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (4) و ( فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (5). وحينئذ لا دلالة له على دخول المرفق ولذلك حكم داود الأصبهانيّ الظّاهريّ (6) وزفر (7) بعدم وجوب غسلهما وكذا

ص: 9


1- وحد الوجه عند الإمامية من قصاص شعر الرأس إلى الذقن طولا ، وما دار عليه الإبهام والوسطى عرضا ، وبه قال مالك وقال الشافعي واحمد : ما بين العذار والاذن من الوجه. وذهب الزهري الى ان الوجه ما بين الأذنين. واختلف أهل السنة في حكم الأذنين على ثلاثة أقوال الأول : انها من الرأس قاله ابن المبارك والثوري. الثاني انهما من الوجه قاله الزهري. الثالث : انه يغسل ما اقبل منهما مع الوجه ويمسح ما أدبر منهما مع الرأس قاله الشعبي والحسن.
2- - آل عمران 52 - وكما في قوله تعالى ( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ) - هود 52 - وقوله ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ) - النساء 2 - وقوله ( وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ ) - البقرة 14.
3- الاسراء : 1.
4- البقرة : 83.
5- البقرة : 28.
6- داود بن على بن خلف الأصبهاني المشهور بالظاهرى كان من أكثر الناس تعصبا للشافعي ، وله مذهب مستقل في الفقه تبعه جمع كثير يعرفون بالظاهرية ، مولده بالكوفة سنة 22 وتوفي بها سنة. 27.
7- بضم الزاء وفتح الفاء بعدها الراء وهو أبو الهذيل قيس بن سليم ، كان فقيها حنفيا مولده سنة 110 ووفاته سنة 185 راجع وفيات الأعيان.

لا دلالة على الابتداء بالمرفق ولا بالأصابع ، لأنّ الغاية قد تكون للغسل وقد تكون للمغسول وهو المراد هنا ، بل كلّ من الابتداء والدّخول مستفاد من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه توضّأ وابتدأ بأعلى الوجه وبالمرفقين وأدخلهما ، وإلّا لكان خلاف ذلك هو المتعيّن لأنّه قال صلى اللّه عليه وآله : هذا وضوء لا يقبل اللّه الصّلوة إلّا به (1). أي بمثله فلا يكون الابتداء بالأعلى (2) وبالمرفقين وعدم دخولهما مجزيا بل يكون بدعه ، لكنّ الإجماع على خلافه.

5 - ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) . قيل : الباء للتّبعيض (3) لأنّه الفارق بين مسحت بالمنديل ومسحت المنديل وقيل : زائدة لأنّ المسح متعدّ بنفسه ولذلك أنكر أهل العربيّة إفادة التّبعيض. والتّحقيق أنّها تدلّ على تضمين الفعل معنى الإلصاق ، فكأنّه قال : الصقوا المسح برؤسكم وذلك لا يقتضي الاستيعاب ولا عدمه ، بخلاف :امسحوا رؤوسكم ، فإنّه كقوله ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) .

ثمّ اختلف في القدر الواجب مسحه فقال أصحابنا : أقلّ ما يقع عليه اسم المسح أخذا بالمتيقّن ، ولنصّ أئمّتهم عليهم السلام ، وبه قال الشّافعي. وقال أبو حنيفة : ربع

ص: 10


1- الوسائل ب 31 من أبواب الوضوء ح 11.
2- يعني بأعلى الوجه.
3- ما افاده المصنّف - قدّس سره - من افادة الباء التّبعيض دقيق متين لا غبار عليه حقيق بالتّلقي بالقبول ، الّا ان ههنا كلاما لصاحب مجمع البحرين دقيقا مقرونا بالتحقيق ننقله بعين عبارته قال في مادّة بعض : والباء للتّبعيض قال في المصباح : ومعناه انّها لا يقتضي العموم فيكفي أن يقع ما يصدق عليه انّه بعض ، واستدلّوا عليه بقوله تعالى « وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ». وقالوا : الباء هنا للتّبعيض على رأى الكوفيّين ، ونصّ على مجيئها للتّبعيض ابن قتيبة في أدب الكاتب وأبو على الفارسيّ وابن جنّي ونقله الفارسيّ عن الأصمعيّ ، وقال ابن مالك في شرح التّسهيل : وتأتى الباء موافقة من التّبعيضيّة الى ان قال : وذهب الى مجي ء الباء بمعنى التّبعيض الشافعي وهو من ائمّة اللّسان. وقال بمقتضاه احمد وأبو حنيفة حيث لم يوجبا التّعميم بل اكتفى احمد بمسح الأكثر ، وأبو حنيفة بمسح الرّبع ولا معنى للتّبعيض غير ذلك قال : وجعلها للتّبعيض اولى من القول بزيادتها لأنّ الأصل عدم الزّيادة ، ولا يلزم من الزّيادة في موضع ثبوتها في كل موضع بل لا يجوز القول به الّا بدليل ، فدعوى الأصالة دعوى تأسيس وهو الحقيقة ، ودعوى الزّيادة دعوى مجاز ومعلوم انّ الحقيقة أولى وقوله تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللّهِ ) . لقمان31. قال ابن عبّاس الباء بمعنى من ومثله ( فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّهِ ) - هود 41 - اى من علم اللّه الى ان قال : وقال النّحاة : تأتى للإلصاق : ومثّلوه بقولك مسحت يدي بالمنديل اى لصقتها به والظّاهر انّه لا يستوعبه وهو عرف الاستعمال ، ويلزم من هذا الإجماع على انّها للتّبعيض انتهى وهو تحقيق جيّد يطابق المذهب الحقّ ويشهد له صريح الحديث الصّحيح المشهور المرويّ عن زرارة عن الباقر عليه السلام قال : قلت له : الا تخبرني من اين علمت وقلت انّ المسح ببعض الرّأس وبعض الرّجلين؟ فضحك وقال : يا زرارة : قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه ونزل به الكتاب من اللّه تعالى لانّه قال ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ). فعرفنا انّ الوجه كلّه ينبغي ان يغسل ، ثمّ قال ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ). فوصل اليدين بالوجه فعرفنا انّه ينبغي لهما ان يغسلا الى المرفقين ثمّ فصّل بين الكلامين فقال ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فعرفنا حين قال برؤسكم انّ المسح ببعض الرّأس لمكان الباء ثمّ وصل الرّجلين بالرّأس كما وصل اليدين بالوجه فقال ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ). فعرفنا حين وصلهما بالرّأس انّ المسح على بعضها ثمّ فسّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذلك للنّاس فضيّعوه. الوسائل ب 23 من أبواب الوضوء ح 1 -

الرّأس لأنّه عليه السلام مسح على ناصيته وهو قريب من الرّبع وهو غلط. ومالك يمسح الجميع (1).

ص: 11


1- اختلف أهل السّنة في مسح الرّأس على احد عشر قولا : الأوّل : انّه ان مسح منه شعرة واحدة اجزئه. الثّاني : ثلاث شعرات. الثالث : ما يقع عليه الاسم ، نسب هذه الأقوال الثّلاثة إلى الشافعيّ. الرّابع : قال أبو حنيفة : بمسح الناصية. الخامس : قال أبو حنيفة انّ الفرض ان يمسح الرّبز. السّادس : قال أيضا في رواية ثالثة : لا يجزيه الّا ان يمسح النّاصية بثلاث أصابع أو أربع. السّابع : يمسح الجميع قاله مالك. الثّامن ان ترك اليسير من غير قصد اجزئه. العاشر : قال أبو الفرج ان مسح ثلثه اجزء. الحادي عشر : قال أشهب : ان مسح مقدّمه اجزئه. راجع أحكام القرآن لابن العربي.

فروع

1 - : المسح عندنا مختصّ بالمقدّم لوقوع ذلك في البيان فيكون متعيّنا ، ولأنّه مجزئ بالإجماع لأنّ جميع الفقهاء قالوا بالتخيير أيّ موضع شاء.

2 - : الحقّ أنّه لا يجب الابتداء بالأعلى لإطلاق المسح ، ولقول أحدهما عليهما السلام : « لا بأس بالمسح مقبلا ولا مدبرا » (1).

3 - : أنّه لا يتقدّر بثلاثة أصابع لما بيّنّاه من الإطلاق ، ولقول الباقر عليه السلام :« إذا مسحت بشي ء من رأسك أو بشي ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك (2) ، نعم بثلاث أصابع أفضل ».

4 – ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص بالنّصب عطفا على محلّ برؤوسكم ، إذ الجارّ والمجرور محلّه النّصب على المفعوليّة كقولهم :مررت بزيد وعمروا. وقرئ : « تنبت بالدّهن وصبغا للآكلين » (3). وكقول الشاعر :

معاوي إنّنا بشر فأسجح *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا (4)

ص: 12


1- الوسائل ب 20 من أبواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل ب 23 من أبواب الوضوء ح 4.
3- المؤمنون : 20.
4- من أبيات لعقبة بن الحارث الأسدي كما في جامع الشّواهد ولكن البغدادي نسبه الى عقيبة بن هبيرة الأسدي - الخزانة للبغدادى جلد - 2 ص 82 - يخاطب بها معاوية ابن ابى سفيان وبعده. أكلتم أرضنا فجردّتموها *** فهل من قائم أو من حصيد ذروا خون الخلافة واستقيموا *** وتأمير الأراذل والعبيد وأنت خبير بان الكسر في الحديد أوفق بالقاعدة مراعاة للقوافى كما في جامع الشّواهد فلا يصلح شاهدا للمقصود. وما ذكره المصنّف من النّصب عطفا على محلّ الجار والمجرور فهو موافق لما ذكره ابن الأنباري في كتاب الانصاف ص 333 بعد نقل الشعر ومن زعم ان الرّواية ولا الحديد بالخفض فقد أخطأ ، لأنّ البيت الّذي بعده : اديروها بنى حرب عليكم *** ولا ترضوا به الغرض البعيدا والروي المخفوض لا يجتمع مع الروي المنصوب في قصيدة واحدة. وأنت خبير بانّ سيبويه غير متهم فيما نقله رواية عن العرب وقد استشهد بهذا الشعر في مواضع عديدة انظر الكتاب جلد 1 ص 34 وص 352 وص 375 طبع بولاق وقد نقل البيت الّذي بعده كما نقله ابن الأنباري اديروها إلخ وكذلك ص 123 جلد 2 من حاشية الدّسوقى على المغني وقد استشهد به المحقّق الرّضى في باب توابع المنادي كما ذكر.

وقرأ الباقون بالجرّ عطفا على رؤسكم وهو ظاهر. فإذا القرائتان دالّتان على معنى واحد وهو وجوب المسح كما هو مذهب أصحابنا الإماميّة ويؤيّده ما رووه عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنّه توضّأ ومسح قدميه ونعليه (1) :

ومثله عن عليّ عليه السلام وابن عبّاس وأيضا عن ابن عبّاس : أنّه وصف وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فمسح رجليه (2) وإجماع أئمّة أهل البيت عليهم السلام على ذلك ، قال

ص: 13


1- سنن ابى داود جلد 1 صفحة 26 وقد نقل في نيل الأوطار ص 186 جلد 1 انّه اخرج الدّارقطنى عن رفاعة بن رافع بلفظ لا تتمّ صلاة أحدكم. وفيه ويمسح برأسه ورجليه. قال الزّمخشري في الكشّاف : النكتة المقتضية لذكر الغسل والمسح توقي الإسراف. وقال ابن قدامة في المغني ص 132 : وحكى عن ابن عباس انّه قال : ما أجد في كتاب اللّه الّا غسلتين ومسحتين. وروى عن انس بن مالك انّه ذكر له قول الحجّاج :اغسلوا القدمين إلخ. فقال : صدق اللّه وكذب الحجّاج وتلامذة الآية ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) وحكى عن الشّعبي انّه قال : الوضوء مغسولان وممسوحان فالممسوحان يسقطان في التيمّم ، وحكى أيضا عن ابن جرير انّه قال : هو مخيّر بين المسح والغسل محتجّا بظاهر الآية وما رواه ابن عبّاس وسعيد وأوس بن أبي أوس الثقفي.
2- مجمع البيان في تفسير سورة المائدة آية 6 وفي الوسائل ب 25 من أبواب الوضوء. ولم أظفر عليها في طرق أهل السّنة الّا انّ في الإصابة ص 187 ج 1 في ترجمة تميم ابن زيد الأنصاري ما يوافقها في المقصود ونحن ننقلها بعين عبارته : وروى البخاري في تاريخه واحمد بن أبي شيبة وابن ابى عمر والبغوي والطّبراني والباوردي وغيرهم كلّهم من طريق أبي الأسود عن عباد بن تميم المازني عن أبيه قال : رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يتوضّأ ويمسح الماء على رجليه. رجاله ثقات. اه

الصّادق عليه السلام : يأتي على الرّجل الستّون أو السّبعون ما قبل اللّه منه صلاة ، قيل له : وكيف ذلك؟ قال : لأنّه يغسل ما أمر اللّه بمسحه (1). وغير ذلك من الرّوايات وقال ابن عبّاس وقد سئل عن الوضوء : غسلتان ومسحتان (2) وقال الفقهاء الأربعة بوجوب الغسل ، محتجّين بقراءة النصب عطفا على وجوهكم ، أو أنّه منصوب بفعل مقدّر - أي : « فاغسلوا أرجلكم » كقولهم : علّفتها تبنا وماء باردا (3). أراد وسقيتها - وقوله : متقلّدا سيفا ورمحا (4) أي و

ص: 14


1- الوسائل كتاب الطّهارة أبواب الوضوء ب 25 ح 2 وفي العاشر من احاديث هذا الباب عن غالب بن الهذيل قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عزوجل ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) على الخفض هي أم على النّصب قال : بل هي على الخفض. ونقل هذه الرّواية في تفسير البرهان لهذه الآية رقم 24. واعلم ان القراءات ليست متواترة والمتواتر من القرآن ليس الّا ما هو من قبيل الموادّ المرسومة في الكتابة ، واختلافهم في القراءات من اجتهادات القرّاء ، والتّرخيص الوارد عن الأئمّة عليهم السلام انّما هو في مجرّد القراءة ، لا لإيجاب العمل بكل من القراءات وليس شي ء من القراءات حجّة في الحكم. ففي المسئلة ليس ترجيح لإحدى القرائتين على الأخرى ولا تيقّن لوروده عن النّبي صلى اللّه عليه وآله ، فاللّازم الأخذ بما تقتضيه القواعد الأدبيّة وهي كما بيّنه المصنّف قدّس سره وبينّاه في الحواشي ترجيح قراءة الجرّ والوارد عن المعصوم عليه السلام أيضا قراءة الجرّ كما نقلناه.
2- تفسير الطّبري جلد 6 ص 128.
3- آخره : حتى شتت همالة عيناها.
4- اوله : بالبيت زوجك قد غدا.

معتقلا رمحا - (1) ويؤيّده قراءة وأرجلكم بالرّفع - أي وأرجلكم مغسولة - وأمّا قراءة الجرّ فيه فبالمجاورة كقوله تعالى ( عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) (2). بجرّ أليم وقراءة حمزة ( وَحُورٌ عِينٌ ) (3) فإنّه ليس معطوفا على قوله ( وَلَحْمِ طَيْرٍ ) (4) وما قبله وإلّا لكان تقديره يطوف عليهم ولدان مخلّدون بحور عين لكنّه غير مراد ، بل هم الطّائفون

ص: 15


1- قال ابن هشام ( المغني الباب الخامس في حذف الفعل ) بعد ذكر البيت الأوّل وقيل لا حذف بل ضمن معنى انلتها وأعطيتها ، والزموا صحة نحو علفتها ماء باردا وتبنا فالتزموها محتجّين بقول طرفة : لها سبب ترعى به الماء والشّجر. وقد نسب الأزهري في التّصريح في باب المفعول معه هذا القول إلى الجرمي والمازني والمبرّد وابى عبيدة والأصمعي واليزيدى حيث أنكروا حذف الفعل في أمثال تلك الموارد ، وكذلك قالوا في قول الشاعر : إذا ما الغانيات برزن يوما *** وزججن الحواجب والعيونا حيث لا معنى لتزجيج العين اى ترقيقها وتطويلها فالفعل محذوف وقدّروا : وكحلن العيونا. قال الجرمي وموافقوه بانّ : زججن مؤوّل بحسن بتشديد السين ، كما ان علفتها مؤل بأنلتها ولم يحذف فعل. قال : واختلف في التضمين أهو قياسي أم سماعي؟ والأكثرون على انّه قياسىّ وضابطه أن يكون الأوّل والثّاني يجتمعان في معنى عام قاله المرادي في تلخيصه ولابن هشام مثال آخر للحذف في غير ما يطرد وهو قوله تعالى ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) - الحشر 9 - لكن الفاضل الدّسوقى قال في حاشيته على المغني : ويجوز ان يكون من عطف المفردات على أن يكون التّجوز واقعا في الايمان على طريق الاستعارة وتقريرها ان تقول : شبه الايمان من حيث ان المؤمنين من الأنصار تمكنوا منه تمكن المالك في ملكه بمدينة من المدائن الحصينة وادّعى انّ المشبّه فرد من افراد المشبّه به وأستعير لفظ المشبّه به للمشبه في النفس وطوى ذكر المشبه به ورمز بذكر شي ء من لوازمه وهو التّبوء على طريق الاستعارة بالكناية وإثبات التّبوء تخييل.
2- هود : 26.
3- الواقعة : 22.
4- الواقعة : 21.

لا المطوف بهم (1) فيكون جرّه على مجاورة لحم طير ، ولأنّ القول بالغسل قول أكثر الأمّة.

والجواب عن الأوّل : بأنّ العطف على وجوهكم حينئذ مستهجن إذ لا يقال : ضربت زيدا وعمروا وأكرمت خالدا وبكرا ويجعل بكرا عطفا على زيدا وعمرا المضروبين هذا ، مع أنّ الكلام إذا وجد فيه عاملان عطف على الأقرب منهما كما هو مذهب البصريّين ، وشواهده مشهورة خصوصا مع عدم المانع كما في المسئلة ، فانّ العطف على الرّؤس لا مانع منه لغة ولا شرعا. وأمّا النّصب بفعل مقدّر فإنّه إنّما يجوز ويضطرّ إلى التّقدير إذا لم يمكن حمله على اللّفظ المذكور كما مثّلتم. وأمّا هيهنا فلا ، لما قلنا من العطف على المحلّ. وأمّا قراءة الرفع فيحتمل أيضا مذهبنا : أي وأرجلكم ممسوحة ، بل هو أولى لقرب القرينة. وعن الثّاني : بأنّ إعراب المجاورة ضعيف جدّا لا يليق بكتاب اللّه خصوصا وقد أنكره أكثر أهل العربيّة هذا ، مع أنّه إنّما يجوّز بشرطين (2) :

ص: 16


1- وقيل : العطف على جنات وكأنه قيل : المقربون في جنات وفاكهة ولحم طير وحور ، وقيل : على اكواب باعتبار المعنى وقيل بالجر عطفا على اكواب باعتبار اللفظ دون المعنى لان الحور لا يطاف بهن. وقيل : هو معطوف على جنات ولم ينكر الجر بالجوار قاله أبو البقاء العكبري.
2- قال أبو البقاء الحنفي في كتاب الكليات : كل موضوع حمل فيه على الجوار فهو خلاف الأصل إجماعا للحاجة ، والذي عليه المحققون ان خفض الجوار يكون في النعت قليلا وفي التأكيد نادرا ولا يكون في النسق - أي في العطف بالواو - لان العاطف يمنع التجاور ، ومن شرط الخفض على الجوار أن لا يقع في محل الاشتباه. قال ابن هشام في مغني اللبيب في الفائدة الثانية من الباب الثامن : وأنكر السيرافي وابن جنى الخفض على الجوار وتأولا قولهم « خرب » في « جحر ضب خرب » بالجر على انه صفة لضب ، ثم قال السيرافي الأصل خرب الجحر منه بالتنوين ورفع الجحر ثم حذف الضمير للعلم به ، وحول الإسناد إلى ضمير ضب وخفض الجحر كما تقول : مررت برجل حسن الوجه والأصل حسن الوجه منه ، ثم اتى بضمير الجحر مكانه لتقدم ذكره فاستتر. وقال ابن جنى : الأصل خرب جحرة ثم أنيب المضاف اليه عن المضاف فارتفع واستتر.

الأوّل : عدم الالتباس كقولهم : جحر ضبّ خرب ، فإنّه لا التباس في أنّ الخرب صفة للجحر ، بخلافه هنا ، فإنّ الأرجل يمكن أن يكون ممسوحة ومغسولة.

إن قلت الالتباس زائل بالتحديد بالغاية ، فإنّ التحديد إنّما هو للمغسول كالأيدي إلى المرافق. قلت : جاز في شرعنا اختلاف المتّفقات في الحكم وبالعكس فلا يزول الالتباس (1).

الثّاني : أن لا يكون معه حرف عطف كالمثال وهنا حرف عطف.

إن قلت : قد جاء مع العطف كقوله :

فهل أنت إن ماتت أتانك راحل *** إلى آل بسطام بن قيس فخاطب (2)

جرّ خاطبا مع حرف العطف وهو الفاء قلت : إنّ المراد رفع خاطب عطفا على راحل ، وإنّما جرّه وهما أو إقواء (3) ، أو أنّ المراد فخاطب فعل أمر لا أنّه اسم فاعل وكسره للقافية. وأمّا قراءة أليم ، فلعدم الالتباس بيوم. وحور عين مجرور عطفا على جنّات أي المقرّبون في جنات ومصاحبة حور عين ، وذلك لأنّ الجرّ بالجوار مع الواو ممنوع.

وعن الثالث : بالمنع من كونه حجّة مع مخالفة علماء أهل البيت ، خصوصا وقد بيّنّا وروده من طرقكم ، ولهذا كان الجبائيّ يغسل ويمسح ويفتي بالجمع بينهما ثمّ الكلام في إلى كالّذي تقدّم في احتمال المعيّة والغاية والأقوى عندي الثّاني ، والغاية للممسوح فلا دلالة على الابتداء ، وفروع المسح المتقدّمة آتية هنا فيجوز

ص: 17


1- ولقد أجاد في ذلك مجمع البيان حيث أفاد بما حاصله : ان الآية تضمنت ذكر عضو مغسول غير محدود وهو الوجه وعطف عضو محدود مغسول عليه ، فالمناسب لتقابل الجملتين ان يكون الأرجل ممسوحة معلومة محدودة معطوفة على الرؤس الممسوح غير المحدود
2- الأتان بفتح الهمزة الحمار.
3- الاقواء اختلاف قوافى الشعر برفع بيت وجر آخر ، وقلت قصيدة لهم بلا اقواء وأما الاقواء بالنصب فقليل.

ولو بإصبع ومنكوسا وغير مستقيم ، نعم محلّه ظاهر القدم للبيان. وأمّا الكعبان : فملتقى الساق والقدم (1) والناتيان لا شاهد لهما لغة ولا عرفا ولا شرعا وقيل : لو أريد ملتقى الساق والقدم لقال : إلى الكعاب إذ كلّ رجل لها كعبان. أجيب بأنّ المراد الكعبان من كلّ رجل. وبأنّ أبا عبيدة قال : الكعب هو الّذي في أصل القدم ينتهي إليه الساق بمنزلة كعاب القنا (2).

ص: 18


1- نقل عن شيخنا البهائي في كتابه الحبل المتين ان الكعب يطلق على معان أربعة الأوّل : العظم المرتفع في ظهر القدم الواقع بين المفصل والمشط. الثاني : المفصل بين الساق والقدم. الثالث : عظم مائل إلى الاستدارة واقع في ملتقى الساق والقدم له زائدتان في أعلاه يدخلان في حفرتي قصبة الساق وزائدتان في أسفله يدخلان في حفرتي العقب ، وهو نأت في وسط ظهر القدم اعنى وسطه العرضي ولكن نتوه غير ظاهر لحسّ البصر لارتكاز أعلاه في حفرتي الساق ، وقد يعبّر عنه بالمفصل لمجاورته له أو من قبيل تسمية الحال باسم المحلّ. الرّابع : احد الناتيين عن يمين القدم وشماله. أقول : المعنى الأوّل هو مختار أكثر أصحابنا الإماميّة كالمفيد بل المستفاد من المعتبر والانتصار والذّكرى ، والمعنى الثّاني يرجع الى الثّالث وهو مختار العلّامة وهو الى الحقّ أقرب وبالمستفاد من عبارات أهل اللّغة أوفق ، واستدلال العلّامة بصحيحة الأخوين : زرارة وبكير ، المرويّة في الوسائل ب 15 من أبواب الوضوء ح 3 متقن كمال الإتقان ، وعليه محمّد بن الحسن بل أكثر الحنفيّة وفي الكشّاف والمنقول عن طراز اللّغة انّ كل من أوجب المسح قال : المفصل بين السّاق والقدم. وكذلك مفاد كلام النّيشابوري في تفسيره. والرّابع قول أكثر العامّة كالشّافعيّة.
2- وهنا مسائل يجب التّنبيه عليها. الاولى : اتفقت الإماميّة سلفا عن خلف على عدم جواز المسح على الخفّين وهو الموافق للرّوايات الواردة عن العترة عليهم السلام راجع الوسائل ب 15 و 38 من أبواب الوضوء وحسبهم حجّة قوله عزّ من قائل « وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. » - المائدة 6 - حيث انّه نصّ في وجوب المسح على الأرجل أنفسها ، فمن اين جاء المسح على الخفين؟ انسخت الآية أم هي من المتشابهات؟ كلّا بل هي من المحكمات اللّاتي هنّ أمّ الكتاب ، واجمع المفسّرون على ان لا منسوخ في سورة المائدة المشتملة على آية الوضوء إلّا آية واحدة وهي قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ. ) - المائدة2. إذ قال بعضهم بنسخها دون ما سواها. وأكثر أهل السّنة قائلون بالجواز ، وهم بين قائل بالجواز مطلقا سفرا وحضرا وقائل بالجواز في السّفر وبعضهم ذكر شروطا لا يهمّنا التّعرض له بعد القطع بعدم الجواز وما استدلّوا عليه من روايات الجواز من طرقهم مع أنّها متعارضة مخالف الكتاب وروى الإمام الرّازي في تفسير هذه الآية عن النّبي صلى اللّه عليه وآله : إذا روى لكم عنّى حديث فاعرضوه على كتاب اللّه فان وافقه فاقبلوه والّا فردّوه. وعائشة تنكر المسح على الخفّين. وقال ابن عباس : لان امسح على جلد الحمار أحبّ إلىّ من ان امسح على الخفّين بل قال الرّازي : كان ابن عمر أيضا يخالف المسح على الخفّين والجمهور يعجبهم حديث جرير ص 195 نيل الأوطار المجلّد الأوّل : إذ بال وتوضّأ فمسح على خفّيه فقيل له : تفعل هذا؟ قال : نعم رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بال ثم توضأ فمسح على خفّيه قالوا : كان إسلام جرير بعد نزول المائدة ومع قطع النّظر عن القدح في جرير حيث فارق عليّا عليه السلام كما تراه في المعارف لابن قتيبة ص 127 وفي مروج الذّهب جلد 2 ص 382 - نقول : انّ إسلام جرير كان قبل نزول المائدة ، كيف وقد أخرج الطّبراني كما في الإصابة - جلد 1 ص 234 - في ترجمته قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : انّ أخاكم النّجاشي قد مات. ولا شبهة في انّ موت النّجاشي كان قبل نزول المائدة إذ كان قبل سنة عشر كما صرّح به في الإصابة. الثّانية : قد أجمع الإمامية على عدم جواز المسح على العمامة ، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وخالف في ذلك احمد بن محمّد بن حنبل وأبو ثور والقاسم بن سلام وجماعة كما في بداية المجتهد - ج 1 ص 13 - والأوزاعي والثوري كما في تفسير الإمام الرّازي في تفسير هذه الآية ، فقالوا بالجواز قياسا على الخفّ وعملا بحديث المغيرة بن شعبة انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مسح بناصيته وعلى العمامة ، وفي بعض طرقه انّه مسح على العمامة ولم يذكر الناصية ، وأنت خبير بأنّ دين اللّه لا يصاب بالقياس ، وانّ المغيرة بن شعبة هو الّذي شهد عليه أبو بكرة الصحابي العظيم القدر بما هو مسطور مفصّلا في وفيات الأعيان ترجمة يزيد بن زياد الحميري. وقد نصّ ابن رشد في البداية ج 1 ص 10 - بانّ حديث المغيرة معلول ، فحسبنا كتاب اللّه ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) حيث انّه لا دلالة في الآية الّا على المسح بالرّأس فلم يجز المسح على العمامة لأنّه لا دليل عليه ، واخبار العترة الثّقل الثاني أيضا دالّ على عدم الجواز راجع الوسائل ب 15 و 24 و 37 وغيرها من أبواب الوضوء. الثالثة : قد أجمع الإماميّة على انّ مسح الأذنين ليس من الوضوء في شي ء إذ لا دليل عليه من كتاب أو سنّة أو إجماع أو عقل. وقال الحنابلة : بافتراض المسح على الأذنين مع صماخيهما انظر المغني لابن قدامة ج 1 ص 132 - ونقل ابن رشد هذا القول عن أبي حنيفة انظر بداية المجتهد - الجزء الأول ص 13. وقال الشافعيّ ومالك : انّ مسحهما سنّة. واحتجّوا باخبار لم يأت بها الشيخان البخاري ومسلم لضعفها. قال الشوكانى في نيل الأوطار ج 1 - ص 177 - واعتذر القائلون بأنّهما ليسا من الرّأس بضعف الرّوايات الّتي فيها : الأذنان من الرّأس ، حتّى قال ابن الصّلاح : انّ ضعفها كثير لا ينجبر بكثرة الطرق. وحسبنا الرّوايات الواردة عن الأئمّة الهدى أحد الثّقلين الّذين أمرنا بالتمسك بهما ، فراجع الوسائل ب 18 من أبواب الوضوء وفي الخلاف - ص 13 جلد 1 - روى ابن بكير عن زرارة قال : سئلت أبا جعفر عليه السلام انّ أناسا يقولون انّ بطن الأذنين من الوجه وظهرهما من الرّأس فقال عليه السلام : ليس عليهما غسل ولا مسح. الرّابعة : قد أجمع الإماميّة على اشتراط الإطلاق في ماء الوضوء والغسل سواء كان في الحضر أم في السفر ومع تعذّر الماء يتعين التيمّم على الصعيد وعليه الشافعي ومالك واحمد. وذهب الإمام أبو حنيفة وسفيان الثوري إلى جواز الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع فقد الماء وكرهه الحسن البصري وأبو العالية. وقال عطاء بن ابى رياح : التّيمّم أحبّ الىّ من الوضوء بالحليب واللّبن. وجوّز الأوزاعي الوضوء بسائر الأنبذة بل بسائر المائعات الطاهرة ، والعجب من عبد اللّه بن عمرو بن العاص حيث لم يجوّز الوضوء بماء البحر انظر تفسير الرّازي لاية الوضوء من المائدة. وحسبنا كتاب اللّه دليلا حيث قال عزّ من قائل ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) إذ أطلق الأمر بالتّيمّم مع فقد الماء. واحتجّ أبو حنيفة والثّوري ومن رأى رأيهما بما روى عن ابن مسعود من طريقين أوّلهما : عن ابن عبّاس عن ابن مسعود : انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال له ليلة الجن : معك ماء قال : لا الّا نبيذا في سطيحة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : تمرة طيبة وماء طهور ، صب علىّ فصببت عليه فتوضّأ به - سنن ابن ماجه ج 1 ص 136 رقم 385 - وصرّح محمّد فؤاد عبد الباقي بضعفه لأنّ في سنده ابن لهيعة. والطّريق الثّاني ينتهي الى ابى زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال ليلة الجن : عندك ماء قال : لا الّا نبيذا في اداوة قال : تمرة طيبة وماء طهور فتوضّأ. أخرجه ابن ماجه رقم 384 ص 135 وصرّح بضعفه محمّد فؤاد عبد الباقي. والترمذي وأبو داود في سننه - ص 20 ج 1 - وليس فيما رواه أبو داود فتوضّأ. صرّح بضعف الحديث محمّد فؤاد عبد الباقي في شرحه على ابن ماجه. وشرح احمد محمد الشاكي في المجلد الأول من سنن الترمذي ص 147 و 148 شرحا مبسوطا في ضعف الرواية بابن زيد. فكيف يمكن الاستناد بمثل هذا الحديث على الحكم بما يخالف الكتاب. سلمنا لكن ليلة الجن كانت في مكة قبل الهجرة وآية التيمم مدنية بلا خلاف.

فائدة : إن قلنا : أنّ واو العطف يفيد الترتيب كما هو رأي الفرّاء وبعض النّحاة والفقهاء فدلالة الآية على التّرتيب ظاهر ، وإن قلنا بعدمه كما هو المشهور

ص: 19

وهو الحقّ فنقول : يجب الابتداء بغسل الوجه لإتيانه بفاء التعقيب وكلّ من قال بذلك قال بوجوب التّرتيب ، ولأنّه محتمل للوجهين ، والوضوء البيانيّ وقع فيه

ص: 20

الترتيب وإلّا لكان خلافه متعيّنا وهو باطل (1).

أخرى : إن كان الأمر للفور فالموالاة واجبة قطعا ، وإلّا فمستفادة

ص: 21


1- قد أجمع الإمامية على اشتراط الترتيب على نسق ما هو مرتب في الآية الكريمة وبه قال الشّافعية مستظهرا بإفادة الواو التّرتيب ، كما عليه الكوفيّون ومن البصريّين قطرب وغير واحد من النحاة. وبما فصّله الإمام الرازي في تفسيره ولا يهمّنا التّعرض له. والقول بإفادة الواو التّرتيب ، والاستدلال به على وجوب الترتيب في الوضوء معروف عن الشافعي ، وليس في الأم ذلك فراجع ص 30 ج 1. نعم فيه الاستدلال بقوله صلّى - اللّه عليه وآله : ابدؤا بما بدأ اللّه ، وهو استدلال جيّد لأنّ الحديث وإن كان في مناسك الحجّ الّا انّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص المورد. والحنابلة أيضا على وجوب التّرتيب وبه قال أبو ثور وأبو عبيد وقد تنبّه ابن قدامة في المغني بأنّ قول النّبي صلى اللّه عليه وآله : هذا وضوء لا يقبل اللّه الصّلوة إلّا به - الوسائل ب 31 من أبواب الوضوء حديث 11 - مع تسلّم الترتيب في الوضوء البياني المحكي عن النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلم دالّ على وجوب التّرتيب. وذهب المالكيّة والحنفيّة وسفيان الثوري وداود على عدم اشتراطه وعدم وجوبه واعتبروه سنّة لا يبطل الوضوء بمخالفتها وقالوا بصحّة وضوء المتعرض إن ابتدأ بغسل رجله اليسرى ونهيا من الوضوء بغسل وجهه على عكس الآية في كل أفعاله. فراجع البداية ج 1 ص 16 والمغني لابن قدامة ص 136 ج 1. والاخبار عن الأئمة المعصومين عليهم السلام على لزوم التّرتيب مستفيضة راجع الوسائل. وقد اجتمعت الأمّة على انّه صلى اللّه عليه وآله لم يتوضّأ قطّ الّا مرتّبا ، ولو لا اشتراط التّرتيب وافتراضه في الوضوء ، لخالفه ولو مرّة واحدة ، أو صرح بجواز المخالفة. على انّ الأصل العملي يوجب إحراز الشّي ء المشكوك في شرطيّته لكونه من باب الشّك في المحصّل واستصحاب الحدث جار مع عدم إحرازه.

من خارج (1) كقوله تعالى ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) ونحوه.

7 - ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) الجنب جنس يصدق على الواحد والجمع

ص: 22


1- وجوب الموالاة إجماعيّ كما عن الخلاف والمنتهى والتذكرة والمفاتيح والمدارك وغيرها ، وفسّرها الاخبار بعدم جفاف الأعضاء السابقة قبل الشروع في اللاحقة. بهذا المفاد اخبار : منها : صحيح معاوية قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ربما توضّأت فنفد الماء ، فدعوت الجارية فأبطأت على ، فيجفّ وضوئي ، فقال عليه السلام : أعد. الوسائل ب 33 من أبواب الوضوء الحديث 3 - وفي الباب ستة أحاديث. وذهب الشافعيّة والحنفيّة : الى انّ الموالاة ليست بفرض ولا بشرط ولا بواجب وانّما هي سنّة ، فيكره عندهم التّفريق بين الأعضاء بغير عذر. وذهب المالكيّة : الى انّ الموالاة فرض مع الذّكر ساقطة مع النسيان والعذر البداية ج 1 ص 17 ولم يرو عن النّبي صلى اللّه عليه وآله التّراخي في أفعال الوضوء ولو لا اشتراطها لتركها ولو مرّة واحدة ، أو صرّح بجواز تركها بيانا للحكم الشرعيّ. واستصحاب الحدث جار مع عدم إحراز شرط الوضوء. وقد تنبّه ابن قدامة في المغني ص 138 بأنّ عدم وضوئه الّا متواليا مع بيانه صلى اللّه عليه وآله كيفيّته وتفسير مجمله بفعله ، وامره - حيث أمر تارك الموالاة بإعادة الوضوء - دالّ على لزوم الموالاة.
2- آل عمران 133.

مذكّرا ومؤنّثا كعدل ورضى ، وهو اسم جرى مجرى المصدر - أعني الإجناب وهو لغة بمعنى الإبعاد ، وشرعا هو من بعد عن أحكام الطّاهرين ، إمّا لجماع أو خروج منيّ يقظة أو نوما قيل : الجملة معطوفة على ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) أي إذا قمتم إلى الصّلوة فإن كنتم محدثين فتوضّأوا وإن كنتم جنبا فاغتسلوا ، فعلى هذا الغسل واجب لغيره ولا يفتقر إلى ضمّ الوضوء ، لأنّه جعله قسيما له والأولى أنّها جملة شرطية معطوفة على مثلها. أي : يا أيّها الّذين آمنوا إن كنتم جنبا فاطّهّروا ، أي اغتسلوا وحينئذ يكون الغسل واجبا لنفسه لا للصّلوة ، لعدم تقييد ( فَاطَّهَّرُوا ) بالقيام إلى الصّلوة ، ويجب حصول المسبّب وهو الطّهارة عند حصول السّبب وهو الجنابة (1) ويؤيّد هذا قول علي عليه السلام في قضيّة الأنصار : أتوجبون عليه الحدّ والمهر ولا توجبون عليه صاعا من الماء (2) وقول الصّادق عليه السلام : إذا أدخله فقد وجب الغسل. (3) وغير ذلك (4) وإنّما قلنا المراد اغتسلوا لأنّه أمر بالتّطهير على الإطلاق بحيث لم يكن مخصوصا بعضو معيّن فكان أمرا بتطهير كلّ البدن ، ولأنّ الوضوء لمّا كان مخصوصا ببعض الأعضاء ذكرها على التّعيين ، وهنا لمّا لم يذكر عضوا معيّنا علم إرادة الإطلاق ، ولأنّ المراد ليس هو

ص: 23


1- وهو مختار العلّامة في المنتهى والمختلف والتّحرير ووالده وولده والأردبيلي وغيرهم ، وقد أوضح العلّامة البحث في المختلف ص 29 ج 1 والمنتهى بما لا مزيد عليه ، ولم يأت متأخّر والمتأخّرين القائلون بعدم الوجوب النّفسي بشي ء يركن اليه النّفس فالحقّ ما اختاره قدس سره.
2- الوسائل ب 6 من أبواب الجنابة ح 5.
3- الوسائل كتاب الطّهارة ب 6 من أبواب الجنابة ح 1.
4- مثل قوله عليه السلام إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل - الوسائل أبواب الجنابة ب 6 ح 2 - وقوله عليه السلام : في جواب - متى يجب الغسل على الرّجل والمرأة - : إذا أدخله فقد وجب الغسل والمهر والرّجم. الوسائل ب 6 من أبواب الجنابة ح 4. وقوله عليه السلام : إذا التقى الختان على الختان وجب الغسل. الوسائل باب 6 من أبواب الجنابة ح 3.

الوضوء بالإجماع ، ولا هو مع الغسل ، وإلّا لزم استعمال المشترك في كلا معنييه وهو باطل لما تقرّر في الأصول ، فلم يبق إلّا الغسل ، وكذا في قوله فيما بعد : ليطهّركم.

8 - ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) . ذكر أمورا يباح عندها التيمّم :

أحدها : المريض المتضرّر باستعمال الماء أو العاجز عن السّعي إليه.

وثانيها : المسافر الّذي لا يجد الماء في سفره ، وعلى هنا تفيد الحال : أي حال سفركم ، كقولهم : زرت فلانا على شدّته أي على حال كربته ، وتخصيص السّفر للأغلبيّة لا لاختصاصه بالإباحة ، بل يباح سفرا وحضرا مع عدم الماء ، وبه قال مالك ، وقال الشّافعيّ : الحاضر يتيمّم ويعيد الصّلوة مع الوجدان. وقال زفر (1) بمنع التيمّم بل يصبر حتّى يجد الماء. وعن أبي حنيفة القولان. والحقّ ما قلناه من العموم ، إذ المفهوم المخالف ليس بحجّة والنصوص عامّة.

وثالثها : المجي ء من الغائط ، أي الموضع المطمئنّ من الأرض ، كنى بذلك عن الحدث : أي الخارج من دبر الإنسان من العذرة ، وسمّي شرعا غائطا تسمية الحالّ باسم محلّه. ومن للتّبيين : أي جاء موضعا من الغائط ، وعند الأخفش هي زائدة لتجويزه الزّيادة في الإثبات فلا حاجة عنده إلى تقدير المفعول والمعنى : إن كنتم محدثين بأحد الأحداث أي البول والغائط والرّيح ، وأو ، هنا بمعنى الواو ، وأمّا الحدث بغير الثلاثة فيستفاد من غير الآية (2).

ص: 24


1- مضى ترجمته ص 9.
2- قد أجمعت الأمّة على ناقضيّة الأحداث الثلاثة : الرّبح والبول والغائط ، للوضوء وان اختلفوا في بعض الشقوق ، ولا يهمّنا التّعرض له والنّاقض للوضوء غير الثّلاثة عند الإماميّة انّما هو النّوم والمسكر بل كل مزيل للعقل وموجب الغسل ، وسيأتي في كلام المصنّف في تفسير الآية الثّانية الإشارة بناقضيّة المسكر وموجب الغسل فالّذي يحقّ علينا شرح ناقضيّة النّوم ومباحثه فنقول : الإماميّة على ناقضيّة النّوم الغالب على السّمع والبصر دون الخفقة والخفقتين ، وبه الرّوايات الواردة عن الأئمّة عليهم السلام - الوسائل ب 3 من أبواب نواقض الوضوء وربما نسب الى الصّدوق عدم النقض بالنّوم قاعدا مع عدم الانفراج ونسبته إليه أيضا في التزام ، ولعلّه لرواية رواه في الفقيه ، الّا انّ شهادة غير واحد من الأساطين بعدوله عمّا ذكر في صدر كتابه من انّه لا يذكر فيه الّا ما يعتمد عليه ويكون حجّة بينه وبين ربّه يريبنا في تلك النسبة فلا تغفل. والأقوال الأخر يرتقي إلى ثمانية أقوال : الأوّل : انّه ينقض الوضوء على اىّ حال. وهو محكيّ عن ابى موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابى مجلز وحميد الأعرج. الثّاني : انّه ينقض قليله وكثيره وهو مذهب الحسن البصري والمزني والقاسم بن سلام وإسحاق بن راهويه. وهو قول غريب للشّافعي. الثّالث : انّ كثير النوم ينقض وقليله لا ينقض ، وهذا مذهب الزهري وربيعة والأوزاعي ومالك واحدى الرّوايتين عن احمد ، وهو مختار ابن قدامة في المغني. الرّابع : إذا نام على هيئة من هيئات المصلّى كالرّاكع والسّاجد والقائم لا ينقض وان نام مضطجعا أو مستلقيا انتقض الوضوء ، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وقول غريب للشّافعي. الخامس : انّه لا ينقض الا نوم الرّاكع والسّاجد ونسب ذلك إلى أحمد وكذالك الى صاحب سبل السّلام ، والّذي في سبل السلام ص 63 ج 1 اختيار نقض النّوم المستغرق. السّادس : لا ينقض الّا نوم السّاجد روى ذلك أيضا عن احمد. السّابع : انّه لا ينقض النّوم في الصّلوة وينقض النّوم خارج الصّلوة ، نسب ذلك الى زيد بن على وابى حنيفة. الثّامن : انّه إذا نام جالسا ممكنا مقعدته من الأرض لم ينقض ، سواء قلّ أو كثر ، كان في الصّلوة أو خارجا عنها ، قاله النّووي وهذا مذهب الشّافعي. فراجع نيل الأوطار ج 1 ص 210 وشرح النّووي على صحيح مسلم ج 4 ص 71 الى 74. ثمّ انّ نقض المزيل للعقل لعلّه مما اتّفقت عليه الأمّة حيث نقل الإجماع عليه غير واحد من الإماميّة ومن أهل السنّة قال النّووي في شرحه على صحيح مسلم ج 4 ص 4 : واتّفقوا على انّ زوال العقل بالجنون والإغماء والسّكر والخمر والنّبيذ أو البنج أو الدّواء ينقض الوضوء ، سواء قلّ أو كثر ، وسواء كان ممكن المقعدة أو غير ممكنها ، وفي اخبار الإماميّة أيضا ما يدلّ عليه. واعلم انّ النّووي نقل من خصائص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنه لا ينقض وضوؤه بالنّوم مضطجعا ، لما عن ابن عبّاس قال : نام رسول اللّه حتّى سمعت غطيطه ثم صلّى ولم يتوضّأ. وخصائص النّبي الّتي ذكروها ممّا لم يثبت كلّها ، ولا يهمّنا البحث عنها وقد شرح العلّامة في تذكرته في كتاب النّكاح عدّة ممّا ادّعوه في خصائصه صلى اللّه عليه وآله.

ورابعها « أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ » قرأ الكسائي لمستم كقوله « لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ». والباقون لامستم بالألف لأنّ فاعل قد جاء بمعنى فعل كعاقب بمعنى عقب ، واللّمس والملامسة كنايتان عن الجماع ، قاله ابن عبّاس والحسن ومجاهد وقتادة وإنّما كنى به عنه لأنّه به يتوصّل إليه ، واختاره أصحابنا الإماميّة وقال الشّافعيّ : تلاقي بشرتي ذكر وأنثى مطلقا في غير المحارم موجب للوضوء. وقال مالك : إن كان ذلك بشهوة انتقض الوضوء وإلّا فلا. وقال أبو حنيفة إن انتشر عضوه انتقض وإلّا فلا. والحقّ الأوّل لإجماع أصحابنا ولقول الباقر عليه السلام وقد سئل عن معنى الآية : ما يعني

ص: 25

إلّا المواقعة في الفرج (1) [ دون اللّمس ]. ووجه التّقسيم المذكور أنّ المرخّص له في التيمّم إمّا محدث أو جنب والحال المقتضية له في الغالب إمّا مرض أو سفر ، فكان المعنى إن كنتم جنبا أو محدثين أو كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء.

9 - « فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ » الفاء هنا ليست جوابا للشّرط بل عاطفة على كنتم ، لأنّ لم تقلب المضارع ماضيا وتنفيه ، بل الجواب فتيمّموا ، والمعنى : فلم تتمكّنوا من استعمال الماء - لأنّ الممنوع من الشي ء كالفاقد له - فتيمّموا أي فتعمّدوا واقصدوا صعيدا أي شيئا من وجه الأرض كقوله ( صَعِيداً زَلَقاً ) (2) طيّبا أي طاهرا ولذلك قال أصحابنا : لو ضرب المتيمّم يده على حجر صلب ومسح أجزأه. وبه قال الحنفيّة. وقالت الشّافعيّة

ص: 26


1- الوسائل ب 9 من أبواب نواقض الوضوء ح 4. والعيّاشي ج 1 ص 243.
2- الكهف 41.

لا بدّ أن يعلّق باليد شي ء لقوله « فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ». وفيه نظر لجواز أن يكون من هنا ابتدائيّة. (1) والوجه المراد به بعضه وهو الجبهة عند أكثر أصحابنا إمّا لكون الباء للتّبعيض أو للنّصوص عن أهل البيت عليهم السلام فيمسح الجبهة إلى طرف أنفه الأعلى. وكذا المراد باليدين ظهر الكفّ من الزّند إلى أطراف الأصابع.

10 - ( ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )

ختم الآية بثلاثة أحكام تشتمل على ذكر ألطاف عظيمة :

1 - : ما يريد بالأمر بالوضوء والغسل ثمّ التيمّم بدلهما إلّا التّوسعة عليكم والتّخفيف لا الحرج وهو التّضييق ، ومن ههنا مبيّنة ، وكذا اللّام في ليطهّركم لبيان المراد.

2 – ( وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) . واختلف في هذا. فقال الحنفيّة : إنّ المحدث نجس نجاسة حكميّة فالتّطهير إزالة تلك النّجاسة ، ومنع الشّافعيّة من ذلك وقالوا لو كان نجسا حكما ، لكان مع كون أعضائه رطبة يتنجّس الملاقي بإصابتها ، ولكان إذا حمله إنسان وصلّى بطلت صلوته ، بل المراد طهارة القلب عن صفة التمرّد عن طاعة اللّه لأنّ الأمر بتطهير الطاهر يجعل العبد في مظنّة التمرّد ، لأنّه غير

ص: 27


1- بل الحقّ ما عليه الشافعيّة من لزوم علوق شي ء من التّراب باليدين. وقد خالف صاحب الكشّاف الحنفيّ المذهب أبا حنيفة في تلك المسئلة وقال بلزوم العلوق ، وقال : لا يفهم العرب من قول القائل : مسحت برأسي من الدّهن الّا التّبعيض المستفاد من الآية ، وصحيحة زرارة في الوسائل باب 13 من أبواب التّيمّم ح 1 دالّة على لزوم العلوق ، وهو مختار شيخنا البهائي ووالده والمحدّث الكاشاني وصاحب الحدائق وابن الجنيد. ولا ينافيه استحباب نفض اليدين كما نطقت به الاخبار ، إذ ليس في الاخبار لزوم المبالغة في النفض ، والاجزاء الصغار لا تتخلّص بمجرّد حصول المسمّى ، ولا كفاية الضّربة الواحدة ، والحكم بجواز التّيمّم بالحجر مع وجود التّراب خلاف الاحتياط.

معقول المعنى ، فإذا انقاد وتعبّد به زال عن قلبه آثار التمرّد ، وفيه نظر لأنّه جهل بحقيقة النّجاسة الحكميّة فإنّ الّذي ذكروه حكم النّجاسة العينيّة وأيضا الطّهارة الشّرعيّة حقيقة في إزالة النّجاسة الحكميّة لا غير ذلك ، فإذن الأولى ما قال الحنفيّة ، ويمكن أيضا أن يكون الثّاني مرادا.

3 – ( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) بشرعه لكم كيفيّة (1) أحكامه بتطهير أبدانكم وقلوبكم وما هو تكفير لذنوبكم. ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . لعلّة [ الغاية ] أنّكم تقومون بالشّكر على تلك النّعمة ، وفي ذلك إيماء إلى كون العبادات تقع شكرا ، وهو قول البلخي وتحقيقه في الكلام.

الثّانية : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ) (2).

الواو في وأنتم للحال وكذلك نصب جنبا بالعطف عليه ، وقرئ سكرى جمعا كهلكى ، والسّكر [ من السّكر ] بمعنى السدّ ، قيل : المراد : لا تقربوها ( وَأَنْتُمْ سُكارى ) من خمر أو غيره حتّى تعلموا ما تقولون ، والنّهي متوجّه إلى الثّمل أي الّذي لم يزل عقله بعد ، وقيل : المراد النّاعس ، وقيل : المراد النّهي عن السّكر نفسه أي : لا تسكروا وأنتم مخاطبون بالصّلوة ، وهما ضعيفان ، أمّا الأوّل : فلأنّه خروج عن الحقيقة ، وأمّا الثّاني : فلأنّ أكثر المفسّرين قالوا : نزلت قبل تحريم الخمر عندهم ، وأيضا النّهي هنا صريح عن قرب الصّلوة لا السّكر.

وقيل : المراد : لا تقربوا مواضع الصّلوة وهي المساجد وهو المرويّ عن

ص: 28


1- في نسخة مخطوطة : ليفيد.
2- النّساء 42.

الباقر عليه السلام (1) وهو الحقّ ، ويؤيّده قوله تعالى ( إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) . إذ العبور حقيقة في الجواز المكانيّ.

فعلى الأوّل يكون قوله « وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ » أي مسافرين سفرا يقع فيه التيمّم فتصلّون كذلك. وعلى الثّاني : إلّا مجتازين في المساجد من غير استقرار ، وهو مذهبنا ومذهب الشّافعيّة ، خلافا لأبي حنيفة فإنّه منع من الجواز إلّا إذا كان فيه الماء أو الطّريق ، وفيه دلالة على عدم جواز الاستقرار في المساجد وهو استثناء من قوله « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ». أي لا تقربوا المساجد للصّلوة وغيرها إلّا عابري سبيل لكون الطّريق في المسجد ، وهذا العامّ مخصوص عندنا بما عدا المسجدين وأمّا هما فلا يجوز عبورهما ، وقد تقدّم في الآية الأولى تفسير باقي الأحكام.

واعلم أنّ عندنا أنّه إذا فقد الماء وجب طلبه في الحزنة غلوة سهم ، وفي السّهلة غلوة سهمين من أربع جوانب ليتحقّق عدم الوجدان ، ويجب ضربة واحدة للوضوء واثنتان للغسل. وقال أبو حنيفة والشّافعيّ : ضربتان فيهما للوجه ضربة ولليدين اخرى ، وكذا ، قال الشّافعيّ : إنّ المراد بالوجه كلّه ، وباليدين من رؤس الأصابع إلى المرفقين قياسا على الوضوء. ولما روي : أنّه عليه السلام تيمّم ومسح يديه إلى مرفقيه (2). وروايات أهل البيت (3) عليهم السلام تدفع ذلك.

وقوله تعالى ( إِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ) . أي لم يؤاخذكم بذنوبكم فيشدّد

ص: 29


1- الوسائل ب 15 من أبواب الجنابة ح 20 والعيّاشي ج 1 ص 243 رقم 138.
2- سنن أبى داود ج 1 ص 79 والتّيسير ج 3 ص 87.
3- الوسائل ب 11 و 12 و 13 من أبواب التّيمّم. وكفاك عطف الأيدي في الآية الشّريفة على الوجه المراد منه البعض بقرينة الباء كافي صحيحة زرارة عن أبى جعفر عليه السلام - الوسائل أبواب التّيمّم ب 13 ح3. وإجماع الأمّة على قطع يد السّارق من فوق الرسغ الّا أنّ في صحيحة محمّد بن مسلم وصحيحة ليث ب 12 وموثّقة سماعة ب 13 ذكر الذّراع فما اختاره المحقّق قدس سره من جواز مسح الذّراع هو الاولى ، بل الحكم بالاستحباب لا يخلو عن قوّة ، وعلى كلّ حال الاقتصار في مسح اليدين على الكفّين مسلّم عند الإماميّة. نعم نسب الى علىّ بن بابويه وجوب مسح الذّراعين الى الذّراع احتياطا. وذهب عطاء ومكحول وسالم بن عبد اللّه وسفيان الثّوري ومالك وأبو حنيفة الى انّ الواجب المسح الى المرفقين. ونسبه في البحر الزّاخر الى الهادي انظر ج 1 ص 127. وذهب الزهري إلى انّه يجب المسح إلى الإبطين. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ما ملخّصه : انّ الأحاديث الواردة في صفة التّيمّم لم يصحّ سوى حديث أبى جهم وحديث عمّار ، امّا حديث أبى الجهم ففيه ذكر اليدين مطلقا. وأما حديث عمّار في الصحيحين ففيه ذكر الكفّين ، قال : وأمّا رواية المرفقين ونصف الذّراع ففيه مقال. وأمّا رواية الآباط فقال الشّافعي وغيره انّه ان كان بأمر النّبي صلى اللّه عليه وآله فكلّ تيمّم صحّ عن النّبي صلى اللّه عليه وآله ناسخ له ، وإن كان بغير أمره فالحجة فيما أمر به. ويقوى رواية عمار بما في الصّحيحين : من كون عمّار يفتي به بعد النّبي صلى اللّه عليه وآله وراوي الحديث اعرف بالمراد من غيره ولا سيّما الصّحابى المجتهد. وكذا صرّح في البحر الزّاخر بضعف احاديث الذّراعين انتهى ما في الفتح ملخّصا. وحيث انتهى الكلام إلى رواية عمّار بما في الصّحيحين فلا بأس بذكر الرّواية لما فيه من الفوائد : انّ رجلا أتى عمر فقال أجنبت فلم أجد الماء فقال لا تصلّ ، فقال عمّار : أما تذكّر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سريّة فاجنبنا فلم نجد الماء فأمّا أنت فلم تصلّ ، وأمّا انا فتمعكت في التّراب فصلّيت فقال النّبي صلى اللّه عليه وآله انّما كان يكفيك ان تضرب بيديك ثم تنفخ فيهما ، ثمّ تمسح بهما وجهك وكفّيك؟ فقال عمر : اتّق اللّه يا عمّار ، فقال : ان شئت لم أحدّث به ، وفي بعض الرّوايات انّه قال عمر : نولّيك ما تولّيت. انظر البداية ص 62 ج 1.

عليكم التّكاليف كما شدّدها على اليهود من قبلكم ، بل يسرّها عليكم ورخّصها لكم.

وفي الآية أحكام كثيرة.

1 - : تحريم السّكر لكونه منافيا للواجب (1)

2 - : نقضه الوضوء.

3 - : إبطاله الصّلوة.

4 - : وجوب قضاء صلاة وقعت حالة السّكر.

ص: 30


1- حرمة السكر وشرب كل مسكر ممّا عليه ضرورة الدّين الّا انّ استفادته من الآية مشكل جدّا.

5 - : كون عدم التعقّل مبطلا للطهارة فيدخل فيه النّوم والإغماء والجنون

6 - : كون ذلك مبطلا للصّلوة.

7 - : كون الجنابة ناقضة للوضوء.

8 - : كونها مبطلة للصّلوة.

9 - : كونها موجبة للغسل.

10 - : كون التيمّم لا يرفع حدث الجنابة ، بل يبيح معها الصّلوة.

11 - : احترام المساجد.

12 - : منع السّكران وشبهه من دخولها.

13 - : منع الجنب من الاستقرار فيها.

14 - : تسويغ الجواز فيها.

15 - : كون الغسل رافعا لحكم الجنابة.

16 - : عدم افتقار الغسل إلى الوضوء لقوله تعالى ( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) . وإلّا لكان بعض الغاية غاية وهو باطل

17 - : تسويغ التيمّم.

18 - : كونه بحيث يقع بدلا من كلّ واحد من الوضوء والغسل.

19 - : إباحته حال المرض المتضرّر باستعمال الماء.

20 - : كونه مباحا إمّا للعجز عن الماء بالضّرر من استعماله أو لعدمه

21 - : كون وجود الماء ناقضا للتيمّم.

22 - : كون الغائط ناقضا للوضوء موجبا له.

23 - : كون الجنابة تقع بمجرّد الوطي من غير إنزال.

24 - : وجوب كون التيمّم بالتّراب.

25 - : جوازه بالحجر الصّلب لصدق اسم الصعيد عليه.

26 - : وجوب كون الصّعيد طاهرا.

27 - : وجوب كونه مباحا.

ص: 31

28 - : وجوب مسح الوجه واليدين.

29 - : كون الوجه يراد به بعضه لمكان الباء عند القائل بذلك وكذا اليد لعطفها على الوجه.

30 - : وجوب الابتداء بمسح الوجه لفاء التعقيب.

31 - : وجوب الموالاة إن قلنا : الأمر للفور.

الثالثة ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(1).

دلّت على وجوب النيّة في كلّ عبادة ، فيدخل الطّهارات الثّلاث المتقدّمة ، ومعنى الإخلاص هو المراد بالقربة الّتي يذكرها أصحابنا في نيّاتهم ، وهو إيقاع الطّاعة خالصة لله تعالى وحده ، ويؤيّده قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الحديث القدسيّ : من عمل لي عملا أشرك فيه غيري تركته لشريكه (2). فقيل : معنى كونه له تعالى : أن يفعله خوفا من عقابه ورجاء لثوابه. وقيل : يفعله حياء منه أو حبّا له ، وقيل :تعظيما له ومهابة وانقيادا ولا يخطر بباله غرض آخر سواه ، ويقرب من هذا قول عليّ عليه السلام : ما عبدتك خوفا من نارك ولا شوقا إلى جنّتك ، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك (3). وهو الأقوى لأنّ ما عدا ذلك شرك مناف للإخلاص ، فعلى هذا لا يجوز في النيّة ضمّ الرياء ولا ضمّ التبرّد أو التسخّن بالماء أو إزالة الكسل أو الوسخ ، لأنّ منطوق الآية يدلّ على أنّ الأمر منحصر في العبادة المخلصة ، والأمر بالشي ء نهي أو مستلزم للنّهي عن الضدّ فيكون كلّ ما ليس بمخلص [ منها ] منهيّا عنه فيكون فاسدا

ص: 32


1- البيّنة 5.
2- بهذا المضمون أخبار كثيرة راجع الوسائل ب 7 و 8 من أبواب النّية وفي ب 12 في حديث لهشام بن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : يقول اللّه عزوجل أنا خير شريك فمن عمل لي ولغيري فهو لمن عمله غيري.
3- هذه العبارة مشهورة عن أمير المؤمنين عليه السلام كما في بحار الأنوار ج 41 ص 14 وما نقله في نهج البلاغة فهو بهذه العبارة : انّ قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التّجار ، وانّ قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد ، وانّ قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار. نهج البلاغة لفيض الإسلام جزء 6 ص 1182.

لما تقرّر في الأصول.

واعلم أنّ الشافعيّ وأحمد ومالكا وافقونا في اشتراط النيّة في الطّهارات وإن خالفونا في الكيفيّة وأبو حنيفة خصّ الشّرط بالترابيّة لا غير (1) لقوله تعالى :

ص: 33


1- وكذا قال في الوضوء بالنّبيذ وسؤر الحمار والبغل قال : لأنّ طهوريّة النّبيذ والسّؤرين تعبديّة كالصّعيد وقالوا في الوضوء والغسل بالماء المطلق : وجوبها ليس الّا توصّليا إلى الطّهارة الّتي تحصل بمجرّد سيلانه على الأعضاء ، سواء كان عن نيّة أو لم يكن عن نيّة بل ولا عن اختيار ، ولا ادرى من اين علموا انّ غرض الشّارع من الوضوء والغسل ليس إلا الطهارة المحسوسة الّتي توجد بسيلان الماء بمجرّد صبّه ، وقد علم كلّ مسلم ومسلمة ان الوضوء والغسل ، انّما هو لرفع اثر الحدث استباحة لما هو مشروط برفعه ، وهذا غير محسوس ولا مفهوم لو لا التّقيد بالأوامر المقدّسة الصّادرة من لدن حكيم مطلق ، ومجرّد حصول النّظافة والغسل لا يجعلهما توصّليّين ، كما انّ انعاش مستحقّ الزّكاة بأدائها السّهم من الزّكاة لا يخرجها عن العبادة. ولو كان الغرض من الوضوء والغسل مجرّد الطّهارة المحسوسة لما وجبا على المحدث إذا كان في غاية النّظافة والنقاء ، وهذا خرق لإجماع المسلمين ومخالف لما عن النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : « لا يقبل اللّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتّى يتوضّأ ». انظر ص 452 فيض القدير وقد نصّ السّيوطى بصحّة الحديث في الجامع الصّغير رقم 9979 « ولا يقبل اللّه صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول » انظر نيل الأوطار ج 1 ص 224 رواه الجماعة إلّا البخاري. وممّا تفرّد به أبو حنيفة بطلان الوضوء بالقهقهة في الصلاة. ولا ادرى أيّ كثافة ونجاسة ظاهرية تحصل للبدن بالقهقهة يجب رفعها بسيلان الماء المنقّى ظاهرا ، وهل هنا على مبناه وبطلان الوضوء بالقهقهة إلّا الحدث الغير المحسوس الواجب رفعه بالطّهارة التعبّديّة. واستدلّ ابن العربي في أحكام القرآن ص 440 على وجوب النّية بما ملخّصه انّ الوضوء عبادة لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : الوضوء شطر الايمان. وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : الوضوء على الوضوء نور على نور. وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : إذا توضّأ العبد خرجت خطاياه وهو استدلال حسن وامّا الاستدلال بآية البيّنة. « وَما أُمِرُوا إِلّا » ورواية إنّما الأعمال بالنيّات فلا يخفى عليك ما فيها للاستدلال على المقصود فانّ الآية ظاهرة في التّوحيد ، ويشهد له عطف الصّلوة والزّكاة وسياق نظائرها من الايات ، والنّبوي يجب حمله على نفى الجزاء حتى لا يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن.

( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) أي اقصدوا ، والحقّ الأوّل لقوله عليه السلام « إنّما الأعمال بالنيّات » (1) والجمع المعرّف للعموم ولقوله عليه السلام « وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » (2) ومن طريق الأصحاب ما ورد من قول الرّضا عليه السلام : « لا قول إلّا بالعمل ولا عمل إلّا بالنيّة ولا قول ولا عمل إلّا بإصابة السنّة (3).

ثمّ اعلم أنّ شرعيّة النيّة لغرض تميّز الفعل عن غيره فيجب أن يتصوّر فيها تصوّرا قلبيّا حقيقة الفعل المنويّ من كونه وضوءا أو صلاة أو صوما أو غير ذلك ونوعه ليمتاز عن نوع آخر كالإباحة للوضوء والظهر للصلاة ورمضان للصوم والماليّة أو الفطرة للزّكوة والتمتّع أو غيره للحجّ ووصفه الفارق بين أفراد نوعه كالوجوب للواجب والنّدب للمندوب ووقته المحدود له بالشّخص إن كان موقّتا فينوي الأداء إن فعله فيه والقضاء إن فعله خارجا عنه ثمّ الرّكن الأعظم الّذي هو الإخلاص وقد مرّ معناه.

الرابعة ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (4)

كريم أي حسن مرضيّ في جنسه وقيل : كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمّة في المعاش والمعاد. ( فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) أي مصون مستور عن الخلق في لوحه المحفوظ.

وقيل : المصحف الّذي بيد الناس والضمير في « لا يَمَسُّهُ » يعود إلى الكتاب لأنّه أقرب ، فعلى القول الأوّل : لا يمسّه إلّا الملائكة المطهّرون من الذّنوب وعلى

ص: 34


1- الوسائل ب 5 من أبواب النيّة ح 4 و 2. وصحيح البخاري كتاب الايمان ص 23.
2- الوسائل ب 5 من أبواب النيّة ح 4 و 2. وصحيح البخاري كتاب الايمان ص 23.
3- الوسائل ب 5 من أبواب النيّة ح 4 و 2. وصحيح البخاري كتاب الايمان ص 23.
4- سورة الواقعة : 76.

الثّاني : لا يمسّه إلّا المطهّرون من الأحداث والخباثات وهو مرويّ عن الباقر عليه السلام (1) وجماعة من المفسّرين ومذهب مالك والشافعيّ وأبي حنيفة وزاد الشافعيّ حتّى الحاشية ويكون المراد النّهي عن مسّه (2) لا نفي المسّ الّذي هو خبر وإلّا لزم الكذب لأنّا نعلم ضرورة أنّه يمسّه من ليس بمطهّر.

ويؤيّده الرواية عن الصادق عليه السلام وقد قال لولده إسماعيل : « اقرأ المصحف قال : لست على وضوء فقال لا تمسّ الكتابة ومسّ الورق (3) » وإذا لم يجز لغير المتوضّي مسّه فللجنب أولى ، وهل يمنع الجنب والحائض من قرائته؟ فقال أصحابنا بمنع سور العزائم الأربع لا غير وجواز السّبع بغير كراهيّة وما فوقها على كراهيّة وتشتدّ بزيادة القراءة وتضعف بقلّتها لعموم قوله تعالى ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) (4) خرج العزائم من العموم وبقي ما عداها على الجواز وقال الشافعيّ : لا يجوز مطلقا وكذا أحمد وجوّز أبو حنيفة دون الآية وما لك للجنب الآية والآيتين على سبيل التعوّذ وللحائض أن تقرأ ما شاءت وكذا قال داود للجنب ويحتجّ عليهم في الجواز بكتاب النبيّ (5) صلى اللّه عليه وآله إلى هرقل عظيم الرّوم المتضمّن لقوله تعالى ( يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) (6) الآية وهو كافر مجنب فيقرء الكتاب ضرورة وإلّا لانتفت فائدة بعثته.

الخامسة ( فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) (7)

ص: 35


1- الوسائل ب 12 من أبواب الوضوء ح 5 وفيه من الأحداث والجنابات.
2- فانّ الظّاهر منه كونه حكاية وصف خارجيّ لا إنشاء حكم تشريعيّ لا سيّما مع ظهور المطهّر بالفتح في المعصوم عليه السلام لا ما يعم المتطهّر فالمستند الأقوى للحكم الرّوايات ، ثم الحكم للجنب بطريق اولى والإجماع المدّعى في كلمات القوم.
3- الوسائل ب 12 من أبواب الوضوء ح 2.
4- المزّمّل : 20.
5- راجع مكاتيب الرّسول ج 1 ص 105.
6- آل عمران : 57.
7- التوبة : 109.

قال الحسن البصري : المراد الطّهارة من الذّنوب والأكثر : أنّها الطّهارة من النّجاسات فقيل : نزلت في أهل قباء ، روي ذلك عن الباقر والصّادق عليهما السلام (1) ( يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) بالماء عن الغائط. روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال لهم : « ماذا تفعلون في طهركم فإنّ اللّه قد أحسن عليكم الثّناء؟ فقالوا نغسل أثر الغائط بالماء (2) ».

واعلم أنّ الغائط إن تعدّى المخرج تحتّم الماء لإزالته وإن لم يتعدّ فللمكلّف الخيار بين استعمال ثلاثة أحجار وشبهها طاهرة مزيلة للعين وبين الماء والجمع بينهما أفضل لاجتماع إزالة العين والأثر وفي قولهم : نغسل أثر الغائط. إشارة إلى هذا لدلالته على زوال العين قبل تغيّر الماء وإزالة الأثر بالماء وكذا ورد في رواية أخرى أنّهم قالوا : نتبع الغائط بالأحجار ثمّ نتبع الأحجار بالماء (3) وأمّا البول فلا يجزي فيه إلّا الماء خاصّة تعدّى أو لم يتعدّ.

وقال الشافعيّ : الاستنجاء منهما واجب بالماء أو الأحجار وأوجب إعادة الصلاة على من لم يستنج وبه قال مالك وقال أبو حنيفة هو مستحبّ غير واجب.

قوله ( يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) المحبّة تأكيد الإرادة ولذلك لم يقل يريدون لشدّة إرادتهم وقابل سبحانه محبّتهم بمحبّته بالمعنى المذكور فقال ( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) .

ثمّ اعلم أنّه يمكن عندي أن يستدلّ بهذه الآية على استحباب الكون على

ص: 36


1- تفسير العيّاشي ج 2 ص 111 و 112.
2- راجع مجمع البيان ذيل الآية الشّريفة والوسائل ج 1 ب 34 من أبواب أحكام الخلوة ح 1.
3- قال البيضاوي قيل لمّا نزلت مشى رسول اللّه ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال أمؤمنون أنتم فسكتوا فأعادها فقال عمر انّهم مؤمنون وانّا معهم فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم أترضون بالقضاء قالوا نعم قال أتصبرون على البلاء قالوا نعم قال أتشكرون في الرّخاء قالوا نعم قال صلى اللّه عليه وآله : مؤمنون وربّ الكعبة فجلس ثم قال يا معشر الأنصار انّ اللّه عزوجل قد اثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط فقالوا : يا رسول اللّه نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء

الطّهارة لأنّ الطهارة شرعا حقيقة في رافع الحدث ، والثّناء والمحبّة وتأكيد الإرادة والإتيان بلفظ المبالغة مشعر بالتكرّر ودوام حصول المعنى وكلّ ذلك دليل على ما قلناه واللّه أعلم.

السّادسة ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (1).

هنا فوائد.

1 - لا ريب أنّ الطّهور لغة ورد لأمور :

أحدها : مبالغة في الطّاهر فيكون صفة للماء وسبب الوصف أن يعلم أنّ الطّهارة صفة ذاتيّة له.

وثانيها : اسم لما يتطهّر به كالبخور لما يتبخّر به والوقود لما يتوقّد به.

وثالثها : بمعنى الطّهارة كقوله عليه السلام : « لا صلاة إلّا بطهور » (2).

إذا تقرّر هذا فقال بعض الحنفيّة أنّه في الآية والاستعمال بالمعنى الأوّل لا غير لأنّ فعولا يفيد المبالغة في فاعل كما يقال ضروب وأكول لزيادة الضّرب والأكل ولا يفيد شيئا مغايرا له فعلى هذا لا يكون بمعنى المطهّر عنده لأنّ كونه مطهّرا مغاير لمعنى الطّاهر فلا يتناوله المبالغة ولأنّه قد يستعمل فيما لا يفيد التّطهير كقوله تعالى ( وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) (3) وقول الشّاعر : « عذاب الثّنايا ريقهنّ طهورا ».

وقالت الشافعيّة وأصحابنا أنّه بمعنى المطهّر فيكون مأخوذا من الوضع الثّاني واستدلّوا بالنّقل والاستعمال :

أمّا الأوّل فلما ذكره اليزيديّ حيث قال : الطّهور بالفتح من الأسماء المتعدّية وهو المطهّر غيره وأمّا الثاني فلأنّه مراد فيه فيكون حقيقة إمّا إرادته فلقوله عليه السلام :

ص: 37


1- الفرقان : 50.
2- الوسائل ب 1 من أبواب الوضوء ح 1.
3- الدّهر : 21.

« جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا (1) » ولو أراد الطّاهر لم يكن له مزيّة ولقوله عليه السلام أيضا وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال : « هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته » (2) ولو لم يرد كونه مطهّرا لم يصلح جوابا ولأنّ فعولا للمبالغة ولا يتحقّق إلّا مع إفادة التطهير ولأنّهم يقولون ماء طهور ولا يقولون ثوب طهور فلا بدّ من فائدة تختصّ بالماء ولا يظهر الفائدة إلّا مع إفادة التطهير لغيره.

والحقّ أنّه بالنظر إلى القياس اللّفظيّ كما قال الحنفيّ لأنّ التعدّي في الحقيقة لمطهّر وألحقوا طهورا به توقيفا لا قياسا وليس الطهور من مطهّر بمنزلة ضروب من ضارب لأنّك تقول هذا ضارب زيدا كما تقول ضروب زيدا وتقول الماء مطهّر من الحدث ولا تقول طهور من الحدث وأمّا بالنظر إلى الاستعمال فكما قال أصحابنا والشافعيّة فإن منع ذلك الحنفيّ فهو مكابرة.

2 - ما يزيل عنه الطّهارة والطهوريّة ، فعند أبي حنيفة مخالطة النجاسة يقينا أو ظنّا وإن لم يتغيّر وجوّز استعمال ما لا يتحرّك بحركة الأجزاء المتنجّس وقدّره بعشرة أذرع في مثلها وعند مالك التغيير في أحد أوصافه قليلا أو كثيرا وعند الشّافعيّ في الكثير التغيّر وفي القليل الملاقاة وعند أصحابنا كذلك (3) إلّا أنّ الكثير عنده

ص: 38


1- الوسائل ب 7 من أبواب التّيمم ح 1 - 4. سنن أبي داود ج 1 ص 114.
2- الوسائل ب 2 من أبواب الماء المطلق ح 2. سنن أبي داود ج 1 ص 19.
3- وادّعى الإجماع على انفعال الماء القليل بملاقاة النّجاسة. الّا انّه حكى عن ابن ابى عقيل القول بعدم الانفعال وأصرّ المحدّث الكاشاني في الوافي والمفاتيح على عدم الانفعال ، وأتمّ البيان بما لا مزيد عليه. والقواعد المؤسسة في الأصول لو روعيت في الفقه لاقتضت عدم النجاسة ، إذ بعد تعارض الأخبار الدّالة على الانفعال مع ما دلّ على عدم الانفعال ، يكون المرجع عند الإماميّة التّخيير ومقتضاه عدم لزوم الحكم بالانفعال هذا إذا لم يمكن الجمع بين الاخبار بحمل الظّاهر على الأظهر وحمل الأخبار الدّالة على الانفعال على التّنزيه. ولكنّ الإجماعات المنقولة والاخبار الّتي ادّعى بعض انّها تبلغ مأتين ، وادّعى بعضهم انّها تبلغ ثلاثمائة توحّشنا في الحكم بما حقّقه المحقّق الكاشاني وتبعه غير واحد الّا انّ للمحقّق الخراساني صاحب الكفاية هنا بيانا تاما دقيقا حقيقا بالتّلقي بالقبول فراجع ص 12 من كتابه اللمعات النيّرة في شرح تكملة التبصرة ننقله بعين عبارته : ثمّ انّ وجه تخصيص الحكم بأنّه ينجس بملاقاة عين النجاسة انّه لا إجماع على الانفعال بملاقاة المتنجس ولا خبر دل عليه خصوصا أو عموما منطوقا أو مفهوما ، لاختصاص الأخبار الخاصّة بعين النجاسة وانسباقها من الشي ء في الاخبار العامّة كما ادّعى في خبر « خلق اللّه الماء ». فلا يوجب تغيّره بالمتنجّس نجاسته ، ولا أقل انّه القدر المتيقّن منه ، ولو سلّم شمول المنطوق له فلا عموم في المفهوم ، فانّ الظاهر ان يكون مثل إذا بلغ الماء ، لتعليق العموم لا لتعليق كلّ فرد من افراد العام فيكون مفهومه إيجابا جزئيّا ، ونجاسته بشي ء والمتيقّن منه عين النجاسة ، لا إيجابا كلّيا ونجاسته بكل نجس أو متنجّر. ولو سلّم عدم ظهوره في تعليق العموم فلا ظهور له في تعليق افراد العام ، فلا يكون دليلا على الانفعال الّا بعين النجاسة ، فيكون عموم « خلق اللّه » مرجعا ودليلا على الطّهارة مضافا الى استصحابها وقاعدتها كما لا يخفى. انتهى كلامه. وهو تحقيق سنيّ لا غبار عليه ، نقىّ تامّ لا مزيد عليه حقيق بالقبول.

قلّتان : نحو خمسمائة رطل وعندنا كرّ وهو ألف ومائتا رطل بالعراقي الّذي هو أحد وتسعون مثقالا قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وقد سئل عن بئر بضاعة فقال : الماء طهور لا ينجّسه إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه (1) وروى الشّيخ مرسلا عنه صلى اللّه عليه وآله : إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا (2) وعن الصّادق عليه السلام : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء » (3) قالوا : الحديث الأوّل مكّيّ فيكون إطلاقه منسوخا فيقيّد بالكثير.

هذا كلّه في الماء الرّاكد أمّا الجاري فلا ينجس إلّا بالتغيّر والأولى اشتراط بلوغه كرا إلّا أن يكون جاريا عن مادّة فلا يشترط وقال الشافعي : الماء الّذي قبل النجاسة طاهر وما بعدها إن لم يصل النجاسة إليه طاهر وما يجاوره ويخالطه النجاسة

ص: 39


1- سنن أبى داود ج 1 ص 16.
2- راجع نيل الأوطار ص 41 ح 2 وفيه إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث رواه الخمسة وفي لفظ ابن ماجة ورواية لأحمد : لم ينجّسه شي ء.
3- الوسائل ب 9 من أبواب الماء المطلق ح 6 - 1.

إن كان أكثر من قلّتين فطاهر وإن كان أقلّ فنجس.

3 - إذا زالت عنه الطهوريّة فعندنا يطهر بإلقاء كرّ عليه دفعة يزيل تغيّره إن كان متغيّرا فان لم يزل فكرّ آخر وهكذا حتّى يزول التغيّر وغير المتغيّر يكفي إلقاء الكرّ المذكور أو اتّصاله بالكرّ أو وقوع الغيث السّاكب عليه. وقال الشافعي : تزول النجاسة بأمور الأوّل : ورود ماء طاهر يزيل التغيّر ولم يقدّره الثّاني : زوال التغيّر من نفسه ، الثّالث : أن ينبع من تحته ما يزيل تغيّره ، الرّابع : أن يستقى منه ما يزيل تغيّره ، الخامس : ما ذكر بعض أصحابه وهو وقوع تراب يزيل تغيّره وكلّ هذه تحكّمات لا دليل عليها فيجب الاعراض عنها.

السابعة : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) (1).

هنا مسئلتان :

1 - إنّ غير الماء من المائعات لا يطهّر لا من الحدث ولا من الخبث (2) أمّا

ص: 40


1- الأنفال : 11.
2- والدليل عليه هذه الآية والآية التي تذكر بعدتيك وآية التيمم ، ورواية أبي بصير وعبد اللّه بن المغيرة المرويتين في الوسائل ب 1 و 2 من أبواب الماء المضاف ، وفي اولى الروايتين : انما هو الماء والتراب. وفي الثانية : انما هو الماء والتيمم. وجوز ابن ابى ليلى والأصم الوضوء بالمياه المعتصرة. وأجاز الصدوق الوضوء والغسل بماء الورد استنادا الى ما رواه يونس عن ابى الحسن عليه السلام - ب 3 من أبواب الماء المضاف من الوسائل - : قلت له الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضأ به للصلاة ، قال عليه السلام : لا بأس بذالك. وأيده المحدث الكاشاني بأن اضافة الماء الى الورد ليست الا لمجرد اللفظ كماء السماء ، وبصدق الماء على ماء الورد ، وعلى ما حققه الكاشاني فالنزاع في الحقيقة لفظية. ويمكن ان يقال بأن ابن ابى عقيل والصدوق أيضا موافقان في عدم جواز رفع الحدث بالمضاف ، ويرون ماء الورد ماء مطلقا ، ولا مانع من القول به مع ورود الرواية وضمان الصدوق صحة ما رواه في الفقيه

الحدث فإجماع إلّا من أبي حنيفة في الوضوء بالنّبيذ مطبوخا مع عدم الماء في السّفر وأمّا الخبث فأكثر أصحابنا (1) على ذلك وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة كلّ مائع مزيل للعين يجوز إزالة النجاسة به ، حجّتنا أنّ صريح الآية يدلّ على الامتنان بكون الماء مطهّرا فلا يكون غيره كذلك وإلّا لما تمّ الامتنان بل كان ذكر الأعمّ وهو المائع أولى.

2 - ( وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) قيل هو الجنابة ، والرّجز النّجاسة وقيل العذاب وقيل الوسوسة فإنّه لمّا نزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه أقدامهم على غير ماء [ وناموا ] فاحتلم أكثرهم والمشركون سبقوهم إلى الماء فتمثّل لهم إبليس وقال تصلّون على غير وضوء وعلى جنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحقّ لما غلبكم هؤلاء على الماء. فحزنوا حزنا شديدا فمطروا ليلا حتّى جرى الوادي وتلبّد الرمل حتّى ثبتت عليه الأقدام وطابت النفوس. فعلى القول الأوّل فيه دلالة على نجاسة المنيّ ولذلك قرئ رجس وهو مرادف للنجاسة.

الثامنة : ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (2).

ص: 41


1- وقد خالف في ذلك السيّد والمفيد وابن ابى عقيل ، ووافقهم في ذلك المحدّث الكاشاني ، ويشهد لهم رواية غياث ابن إبراهيم عن ابى عبد اللّه عليه السلام عن أبيه عن على عليه السلام : لا بأس ان يغسل الدّم بالبصاق ( الوسائل ب 4 من أبواب الماء المضاف ح 1 ) ولو صحّت الرواية فهي مختصّة بموردها اعنى البصاق ، والاستدلال بانّ الغرض ازالة عين النجاسة ، يقتضي القول بعدم وجوب تطهير المتنجّس بعد ما لا يبقى عينه ، وينافيه النّصوص الإمرة بالتطهير فضلا عن النّصوص الظّاهرة في تعيّن الماء. وعن ابن ابى عقيل مطهريّة المضاف عند الاضطرار ولا دليل عليه.
2- البقرة : 222.

المحيض يجي ء مصدرا كالمجي ء والمبيت واسم زمان واسم مكان فالمحيض الأوّل مصدر لا غير لعود الضّمير إليه لقوله هو أذى أي مستقذر وأمّا الثّاني فيحتمل المصدر فيكون فيه تقدير مضاف أي في زمان الحيض ويحتمل اسم الزمان أو المكان فلا يحتاج إلى تقدير مضاف. ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ ) أي لا تجامعوهنّ عرفا لا لغة حتّى يطهّرن بالتّشديد على قراءة حمزة والكسائي أي يغتسلن وقرأ الباقون بالتّخفيف أي ينقين من الدّم وحيث ظرف مكان.

إذا عرفت هذا ففي الآية أحكام.

1 - إنّ الحيض نجس لقوله أذى وهو المستقذر وهو إجماع أهل العلم.

2 - إنّ نجاسته مغلّظة لقوله « هُوَ أَذىً » مبالغة فيه بالقذارة بالإتيان باسم الظّاهر أوّلا ثمّ بالضّمير الّذي كنى به عنه ثمّ بتنكير خبره ووصفه بالأذى وكلّ ذلك أمارة غلظة نجاسته فيجب إزالة قليله وكثيره عندنا وإلّا لما كان لغلظته فائدة زائدة وكذا النّفاس لأنّه حيض كان محتبسا.

3 - إنّ دم الحيض من الأحداث الموجبة للغسل لإطلاق الطّهارة المتعلّقة به وقد تقدّم أنّ ذلك يراد به الغسل وأقلّ مدّته الّتي يصير بها موجبا للغسل عندنا ثلاثة أيّام وأكثره عشرة وبه قالت الحنفيّة وقال الشافعي : أقلّه يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما.

4 - وجوب اعتزال النّساء في مكان الحيض (1) وهو القبل أي ترك مجامعتهنّ

ص: 42


1- قال في مجمع البيان : في هذه الآية دلالة على وجوب اعتزال المرأة في حال الحيض وفيها ذكر غاية التّحريم ويشتمل ذلك على فصول أحدها ذكر الحيض واقلّه وأكثره وعندنا أقلّه ثلاثة أيّام وأكثره عشرة أيّام وهو قول أهل العراق وعند الشّافعي وأكثر أهل المدينة أقلّه يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وثانيها حكم الوطي في حال الحيض فانّ عندنا ان كان في أوّله يلزمه دينار وان كان في وسطه فنصف دينار وان كان في آخره فربع دينار وقال ابن عبّاس عليه دينار ولم يفصل وقال الحسن يلزمه بدنة أو رقبة أو عشرون صاعا وثالثها غاية تحريم الوطي واختلف فيه فمنهم من جعل الغاية انقطاع الدّم ومنهم من قال إذا توضّأت أو غسلت فرجها حلّ وطيها عن عطا وطاوس وهو مذهبنا وان كان المستحب الّا يقربها الّا بعد الغسل ومنهم من قال إذا انقطع دمها فاغتسلت حلّ وطيها عن الشافعي ومنهم من قال إذا كان حيضها عشرا فنفس انقطاع الدّم يحلّلها للزّوج وان كان دون العشرة فلا يحلّ وطيها إلّا بعد الغسل أو التيمّم أو مضىّ وقت الصلاة عليها عن أبي حنيفة.

إذ الأمر حقيقة في الوجوب والإجماع يؤيّده وفي وصفه بالأذى وترتيبه الحكم عليه بالفاء إشعار بأنّه العلّة. وفي كيفية الاعتزال عندهم خلاف فقال محمّد بن الحسن كما قلناه إنّه القبل وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي هو ما اشتمل عليه الإزار.

روي أنّ أهل الجاهليّة كانوا لا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يساكنونها في البيت كفعل اليهود والمجوس فلمّا نزلت الآية أخذ المسلمون بظاهرها ففعلوا كذلك فقال أناس من الأعراب : يا رسول اللّه البرد شديد والثياب قليلة فان آثرناهنّ بالثّياب هلك سائر أهل البيت وإن استأثرناها هلكت الحيض فقال عليه السلام : إنّما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ولم آمركم بإخراجهنّ كفعل الأعاجم.

وقيل : إنّ النّصارى كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض واليهود كانوا يعتزلونهنّ في كلّ شي ء فأمر اللّه تعالى بالاقتصاد بين الأمرين.

5 - اختلف في مدّة زمان الاعتزال وغايتها فقال الشافعيّ حتّى تغتسل ويحتجّ بأنّه جمع بين القرائتين ولقوله ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ) فعنده لا يجوز وطيها حتّى تطهر وتتطهّر. وقال أبو حنيفة بالجمع بين القرائتين (1) بأنّ له أن يطأها في أكثر

ص: 43


1- قد أشرنا في بعض الحواشي السّابقة إلى إجمال البحث في القرائات المختلفة وعدم تواترها ونرشدك الان إلى مراجعة رسالة نفيسة أدرجها صاحب مفتاح الكرامة في مباحث القراءة ص 390 الى 396 من كتاب الصّلوة المجلّد الأوّل لا يستغنى الفقيه عن مراجعتها فراجع وانّ للعلامة آية اللّه السيد ابى القاسم الخويي دام ظلّه في مقدّمة كتابه البيان في التفسير بيانا تامّا في اسناد القراءات والخدشة في كلّها مستدلّا فراجعه من ص 92 الى ص 115 فإنّه مفيد جدّا. ونزيدك بيانا في عدم التّواتر واللّزوم للقرائات السّبع : انّه لم يكن عرفت في الأمصار الإسلاميّة ، حين بدء العلماء يؤلّفون في القراءات ، والسّابقون منهم كأبي عبيد القاسم بن سلام وابى جعفر الطّبري وابى حاتم السجستاني ذكروا في مصنّفاتهم أضعاف تلك القرائات وانّما كان ابن مجاهد هو الّذي قام على رأس الثّلاث مأة للهجرة في البغداد الّذي قالوا في حقّه : انّه تسبّع السّبعة ، وقد حظيت قراءة السّبعة من لدن ابن مجاهد بشهرة واسعة حتى توهّم عدّة رواية نزول القرآن بالأحرف السّبع ارادة القراءات السّبع. والحاصل انّ المتواتر من القرآن ليس الّا ما بين الدّفتين وانّ القراءات ليست بمتواترة بل انّما هي امّا اجتهاد من القرّاء ، أو نقل آحاد لم يثبت عن النّبي صلى اللّه عليه وآله فعليه يكون الآية بالنسبة إلى حكم الطاهرة غير المتطهّرة مجملة ، فيكون موردا لما شرحه الشّيخ الأنصاري في التّنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب وذكره المحقّق الخراساني في التّنبيه الثّالث. وحيث انّ حكم العام ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) ليس حكما مجعولا على نحو الدّوام والاستمرار بل جعل كلّ يوم بل كل آن من الآنات فردا لموضوع العام ، فالمتّبع في غير ما تيقّن تخصيصه هو العمل بالعام ، ونتيجته جواز الوطي بعد الطّهر. ولو فرض تواتر القراءات أيضا قلنا : انّه مع الفرض لا يكون بينهما تعارض بحسب السّند ، بل التّعارض بينهما بحسب الدّلالة. فإذا علمنا إجمالا انّ احد الظّاهرين غير مراد في الواقع فلا بدّ من القول بتساقطهما ، فإنّ أدلّة التّرجيح أو التّخيير انّما هو في تعارض الاخبار ، وبعد التساقط يكون عموم العام ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) متبعا. هذا من حيث الاستناد الى الكتاب. وامّا الاخبار فحيث إنّها متعارضة ، فالمتّبع هو التّخيير ، ولازمه جواز الأخذ بما دلّ على الإباحة. وحيث انّ اخبار المنع ليست بصريحة في الحرمة فالجمع بينهما بحمل ما دلّ على المنع على الكراهة جمعا عرفيّا أخرى فتدبّر. وقال العلّامة الحكيم مدّ ظلّه في المستمسك ( ج 3 ص 298 ) « وعلى قراءة التّخفيف بتعارض الصدر والذّيل لظهور الطّهارة في النقاء وكما يمكن التّصرف في الأوّل بحمل الطّهارة على الغسل يمكن في الثّاني بحمل التّطهّر على النّقاء أو حمل الأمر على الإباحة بالمعنى الأخصّ المقابل للحرمة والكراهة والأخير أقرب لما فيه من المحافظة على التعليل بالأذى المختص بالدّم وعلى اختلاف معنيي الفعل المجعول غاية والمجعول شرطا في الجملة الثانية الّذي يشهد به اختلافها في الهيئة. نعم الأقرب من ذلك كلّه تقييد إطلاق الغاية بمفهوم الشرطية ويتعيّن حينئذ الخروج عن ظاهرها بما عرفت من النصوص فتعيّن حمل الأمر على الإباحة بالمعنى الأخصّ ».

الحيض بعد الانقطاع وإن لم تغتسل وفي أقلّه لا يقربها بعد الانقطاع إلّا مع الاغتسال

ص: 44

وأمّا أصحابنا فجمعوا بينهما بأنّه قبل الغسل جائز على كراهيّة وبعده لا على كراهية وقال بعض أصحابنا بقول الشافعيّ وليس بشي ء لأنّ تفعّل قد جاء بمعنى فعل كالمتكبّر في أسمائه تعالى وكقولك تطعّمت الطعام بمعنى طعمته.

6 - ( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) الأمر هنا ليس للوجوب مطلقا بل قد يكون للوجوب كما لو كان قد اعتزلها أربعة أشهر آخرها أوّل رمان الانقطاع والغسل وكذا لو وافق انقضاء مدّة التربّص في الإيلاء والظهار وقد يكون للندب كما في اقتضاء الحال ذلك فهو إذا لمطلق الرّجحان واختلف في معنى « مِنْ حَيْثُ » قيل عن ابن عبّاس أنّه من حيث أمركم اللّه بتجنّبه وهو محلّ الحيض أعني القبل وقيل من حيث الطهر دون الحيض وقال محمّد بن الحنفيّة من قبل النكاح دون الفجور ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ) عن النجاسات الباطنة وهي الذنوب ( وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) من النجاسات الظاهرة.

التاسعة ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (1).

إنّما للحصر معناه لا نجس من الإنسان غير المشركين (2) والنجس مصدر في

ص: 45


1- التوبة : 28.
2- ظاهر الآية حصر أوصاف المشركين في النجاسة أي ليس لهم وصف إلا النجاسة فالحصر إضافي بالنسبة إلى الطهارة أي لا طهارة لهم فقول الفخر الرازي « حصر اللّه تعالى في هذه الآية الشريفة النجاسة في المشركين اى لا نجس غيرهم وعكس بعض الناس ذلك وقال لا نجس الا المسلم حيث ذهب الى ان الماء الذي استعمله المسلم في رفع الحدث مثل الوضوء والغسل نجس فالمنفصل من أعضائه من ذلك الماء حينئذ نجس بخلاف الماء الذي استعمله المشرك فإنه طاهر لعدم ازالة حدثه » باطل وأراد منه أبا حنيفة فإنه الذي ذهب الى ذلك على ما هو المشهور وفيه تعريض عظيم على ابى حنيفة حيث انه عكس ما قال اللّه تعالى مع أنه ليس في محله على ما عرفت. انتهى زبدة البيان.

الأصل تقول نجس بكسر العين ينجس بفتحها نجسا بفتحتين فهو نجس بفتح العين وكسرها وإذا استعمل مع الرّجس كسر أوّله ويقال رجس نجس بكسر أوّلهما وسكون الجيم قاله الفرّاء وقرئ به شاذا ولكون النّجس مصدرا في الأصل لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث قال ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ولم يقل نجسون والمراد بالمسجد الحرام قيل هو جملة الحرم سمّي به تسمية للشي ء باسم أشرف أجزائه ( فَلا يَقْرَبُوا ) قيل المراد أمر المؤمنين أن لا يمكّنوهم منه ولذلك صدّر الآية بيا أيّها الّذين آمنوا والنهي عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع من دخول الحرم وذلك العام قبل سنة حجّة الوداع والأصحّ أنّه سنة تسع لمّا بعث أبا بكر ببراءة ثمّ أمره اللّه بردّها وأن لا يقرأها إلّا هو أو أحد من أهله فبعث عليّا عليه السلام ويدلّ عليه قول عليّ عليه السلام « لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك » (1) وبه قال أبو حنيفة وفي الآية أحكام :

1 - إنّ المشركين أنجاس نجاسة عينيّة لا حكميّة وهو مذهب أصحابنا (2)

ص: 46


1- راجع الدّر المنثور والعيّاشي وغيرهما من التفاسير آيات أول براءة.
2- الإنصاف انّ دلالة الآية على نجاسة المشرك ظاهرة ، والاشكال عليه بان النجس مصدر لا يصح حمله على العين الّا بتقدير ذو ليكون في الإضافة أدنى ملابسة. مدفوع بصحة حمل المصدر على العين للمبالغة ، نحو زيد عدل ، ويشهد لإرادته المنع من دخولهم المساجد كلية ولا كلية في تلوّثهم بالنّجاسة الوصفيّة. مضافا الى انّ بعض أهل اللّغة صرّحوا بانّ النّجس بالفتح وصف كالنجس بالكسر ، ولو سلّم انّ المراد ذو نجاسة ، أمكن الاستدلال على النّجاسة الذّاتية بإطلاقه حيث يشملهم مع عدم ملاقاة الأعيان النجسة ، ومع استعمال المطهّر ، والإيراد بأنّه لم يثبت الحقيقة الشرعيّة للنجس مدفوع بثبوت الحقيقة المتشرّعة ، والألفاظ المستعملة في لسان الشّارع إذا تعذّر حملها على المعنى العرفي فإنّها تحمل على المفهوم عند المتشرعة والحمل على المعنى العرفي في الآية كما ذكره المقدّس الأردبيلي خلاف وظيفة الشارع وخلاف ما هو الواقع في كثير من المشركين ولا يختص بهم بل يشاركهم فيه غيرهم من المسلمين ، ولا يناسب الحكم المفرع عليه ولو جاز التشكيك المذكور في الآية لجاز مثله فيما ورد في الكلب من انه نجس ولم يحتمله احد بل عدوه من أصرح التعبير عن النجاسة. وقد أنصف الإمام الرازي في تفسير الآية وأذعن دلالتها على نجاسة المشركين وتعجب من ابى حنيفة كيف يقول بعدم نجاستهم مع القول بنجاسة الماء المستعمل في الوضوء والغسل ولازمه نجاسة المؤمن وتعقبه بما يناسب نقل عبارته بعينه قال : واعلم انّ قوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) يدلّ على فساد هذا القول لانّ كلمة انّما للحصر وهذا يقتضي ان لا نجس الّا المشرك ، فالقول بأنّ أعضاء المحدث نجسة مخالف للنصّ ، والعجب انّ هذا النّص صريح في انّ المشرك نجس وفي انّ المؤمن ليس بنجس ، ثمّ انّ أقواما قلّبوا القضيّة وقالوا : المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثا أو جنبا نجس وزعموا انّ المياه الّتي استعملها المشركون في اعضائهم بقيت طاهرة مطهرة ، والمياه الّتي يستعملها أكابر الأنبياء في اعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، وهذا من العجائب انتهى كلامه.

وبه قال ابن عبّاس قال : إنّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير وقال الحسن : من صافح مشركا توضّأ. والوضوء قد يطلق على غسل اليد وخالف باقي الفقهاء (1) في ذلك وقالوا معنى كونهم نجسا أنّهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتجنّبون النجاسات أو كناية عن خبث اعتقادهم.

واعلم أنّ تعليق الحكم على المشتقّ يدلّ على أنّ المشتقّ منه علّة في الحكم كقولك : « أكرم العلماء » أي لعلمهم و « أهن الجهّال » أي لجهلهم فلو غسلوا أبدانهم سبعين مرّة لم يزيدوا إلّا نجاسة وروايات أهل البيت عليهم السلام وإجماعهم على نجاستهم مشهورة (2).

2 - إنّهم إذا كانوا أنجاسا فأسئارهم وكلّما باشروه برطوبة نجس أيضا (3) و

ص: 47


1- قال قتادة : سمّاهم نجسا لأنهم يجنبون ولا يغتسلون ويحدثون ولا يتوضأون فمنعوا من دخول المسجد لانّ الجنب لا يجوز له دخول المسجد.
2- الوسائل ب 13 من أبواب النّجاسات.
3- نجاسة سؤرهم انّما هو على القول بانفعال الماء القليل ولذلك قالوا لا يحسن عد ابن ابى عقيل في عداد من يقول بطهارة أهل الكتاب مع تخصيصه عدم النّجاسة بأسئارهم وهو لا يقول بانفعال الماء القليل.

هو ظاهر ، أمّا قوله تعالى ( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (1) فالمراد به الحنطة والشعير والحبوب (2) وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام (3) وسيأتي تمام البحث

ص: 48


1- المائدة : 5.
2- والانصاف انّ هذه الآية لا تدلّ على طهارتهم ولتوضيح المرام نقول : قال المحقق الخراساني في مبحث الإطلاق « انّه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة كان يكون واردا في مقام البيان من جهة منها وفي مقام الإهمال أو الإجمال من اخرى فلا بدّ في حمله على الإطلاق بالنسبة إلى جهة من كونه بصدد البيان من تلك الجهة ولا يكفى كونه بصدده من جهة أخرى إلّا إذا كان بينهما ملازمة عقلا أو شرعا أو عادة ». وهذا الكلام متين ولأجله قالوا : لا يصحّ التّمسك بالإطلاق في قوله تعالى ( فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) لإثبات طهارة موضع عضّ الكلب إذ الآية واردة في مقام بيان الحلية من حيث التّذكية ولا ترتبط بحيثيّة الطّهارة والنّجاسة. وكذا نقول في هذه الآية انّها واردة في مقام بيان الحليّة من جهة إضافة الطّعام إليهم إضافة الملك بقرينة « وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ » لا اضافة العمل والمباشرة المؤدّية إلى سراية النّجاسة وهل تراك تقول بحليّة طعامهم ولو كان لحم خنزير أو مغصوبا بإطلاق الآية.
3- تفسير العيّاشي ج 1 ص 296. وهذا التّفسير الصّادر عن أهل البيت موافق لما ذكره أهل اللّغة فنقل ابن الأثير عن الخليل انّ الطعام في كلام العرب هو البرّ خاصة وقال الفيومي : إذا أطلق أهل الحجاز لفظ الطّعام عنوا به البرّ خاصّة. وقال ابن فارس في مقاييس اللّغة ( ج 3 ) كان بعض أهل اللّغة يقول الطّعام هو البرّ خاصّة وذكر حديث ابى سعيد كما في تيسير الوصول ( ج 2 ص 123 ) قال كنّا نخرج صدقة الفطرة على عهد رسول اللّه صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر. أخرجه السّتة ، وقال الرّاغب : وقد اختصّ بالبرّ فيما روى أبو سعيد ، ونقل الشّوكانى في ج 4 ص 192 عن الخطابي وغيره انّ المراد بالطّعام هنا الحنطة وانّه اسم خاصّ به وقد كانت تستعمل في الحنطة عند الإطلاق حتى إذا قيل اذهب الى سوق الطّعام فهم سوق القمح. وإذا راجعت شرح الموطإ للزّرقانى ( ج 2 ص 149 ) وشرح فتح القدير لابن همام الحنفي ( ج 2 ص 36 - 40 ) وكتب التفاسير في ذيل الآية ، والآية 184 من البقرة ( فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) والآية 95 المائدة ( كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ ) والآية 14 في عبس ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ) تجد صدق ذلك. وسيوافيك تمام الكلام مشروحا في الأطعمة إنشاء اللّه.

في الأطعمة إنشاء اللّه تعالى.

3 - أنّه لا يجوز دخولهم المسجد الحرام وكذا باقي المساجد عندنا لنصوص أهل البيت عليهم السلام (1) وبه قال مالك واقتصر الشافعيّ على المسجد الحرام وهو عجيب فهلّا قاس ما عداه عليه لأنّه قائل بالقياس والعلّة وهي النّجاسة حاصلة وأبو حنيفة لا يمنعهم دخوله ولا دخول غيره ويقول : إنّ النهي عن حجّهم لقوله عليه السلام : « لا يحجّنّ بعد العام مشرك » وذلك لا يستلزم النّهي عن الدخول. (2) وهو فاسد لأنّ دخولهم يستلزم القرب المنهيّ عنه.

4 - أنّه لا فرق بينهم وبين باقي الكفّار عندنا في جميع ما تقدّم للإجماع

ص: 49


1- روى في البحار ج 18 ص 127 من طبعة كمپانى ، عن نوادر الرّاوندي بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام عن النّبي صلى اللّه عليه وآله وفي ص 136 عن كتاب دعائم الإسلام عن على عليه السلام أنّه « قال : لتمنعن مساجدكم يهودكم ونصاراكم وصبيانكم ومجانينكم أو ليمسخن اللّه تعالى قردة وخنازير ركّعا سجّدا. ونقلهما في الحدائق ج 7 ص 279 طبعة النّجف وقال قدس سره : وحينئذ فما ورد في هذين الخبرين من اضافة المجانين والصبيان محمول على الكراهة ثم قال : ويكون النّهى هنا مستعملا في التحريم والكراهة واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه كثير في الاخبار. ولا يخفى عليك ما فيه الّا أنّ المتراءى من كلمات الأصحاب كون الحكم مجمعا عليه كما في مفتاح الكرامة ص 241 من المجلّد الأوّل من كتاب الصّلاة. واستدلّ أيضا بما عن النّبي صلى اللّه عليه وآله « جنّبوا مساجدكم النّجاسة » تراه في الوسائل ب 24 من أحكام المساجد ح 2 نقلا عن جماعة من أصحابنا في كتب الاستدلال وقال الشّهيد : لم أقف على اسناد الحديث.
2- ونقل عن الحنفيّة أيضا توقّف الدّخول على اذن المسلم مستدلّين بانّ المشركين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد لانّه لم تكن لهم ذمّة ، وليس بقوي حيث علّل المنع في الآية بالنّجاسة واستدلّوا أيضا بدخول ابى سفيان مسجد المدينة حين إقباله من مكّة لتجديد العهد قبل الفتح واستدلّ به الشّافعيّ أيضا على الجواز في غير مسجد الحرام والجواب انّه كان قبل نزول الآية وكذا ربط ثمامة بن أثال في المسجد كما نقل قصّته في الإصابة.

المركّب (1) فانّ كلّ من قال بنجاستهم عينا قال بنجاسة كلّ كافر ولأنّ أهل الذمّة مشركون لقوله تعالى ( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ) إلى قوله ( سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (2) وكلّ مشرك نجس بالآية.

ص: 50


1- ولكن عزّى الى الشّيخ في النّهاية والمفيد في المسائل الغريّة وابن الجنيد وابن ابى عقيل القول بطهارة أهل الكتاب ويستشمّ من صاحب المدارك والذّخيرة والمفاتيح الميل الى القول بالطّهارة ولصاحب المعالم في التّرديد في صحة الإسناد إلى الشّيخ بيان تجده في ص 249 - 251. من فقه المعالم كما نقله صاحب الحدائق بعين كلامه ص162 - 164 ج 5 من طبعة النجف.
2- التوبة 31 و 30 ولكن الاستدلال بها على نجاستهم مشكل إذ نسبة الإشراك إليهم ليست على الحقيقة فإنّ ذلك خلاف العرف عند المتشرّعة كما انّ المستفاد من الايات خلاف ذلك فمنها ما يجعل المشركين في مقابل أهل الكتاب كما في قوله تعالى ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ ) ومنها ما يفصل بينهم وبين أصناف أهل الكتاب كما في قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) فالمتعيّن عندئذ حمله على التّجوز في الاسناد وليس الكلام واردا في مقام جعل الحكم ليؤخذ بإطلاق التنزيل ويثبت حكم المشركين لهم مع انّه لا يطرد في من لا يقول منهم بذلك ولا في المجوس ولا في غيرهم من الكفّار. وكيف كان فأخبار الباب في ذلك مختلفة حيث انّ ظاهر جملة وافرة منها نجاسة أهل الكتاب وجملة وافرة اخرى طهارتهم قال المحقّق الخراساني في كتاب اللّمعات ص 107 ( بعد حمل الأخبار المصرّحة بعدم البأس في المؤاكلة معهم والصّلاة في ثيابهم وجواز التوضّي والشّرب من أسئارهم - مع التقييد بعدم العلم بنجاسة أيديهم وآنيتهم - امّا على عدم مباشرتهم للنّجس أو بعد غسل الأيدي قبل المباشرة كما في صحيحة إبراهيم بن ابى محمود المرويّة في الوسائل « قال قلت للرّضا عليه السلام : الجارية النّصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانيّة لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة؟ قال لا بأس تغسل يديها » فإنها قرينة على انّ النّهى في الاخبار النّاهية عن المصافحة والمؤاكلة للنّجاسة العرضيّة أو على أنّ النّهى فيها تنزيهيّ امّا لاحتمال عدم الخلوّ من النّجاسة غالبا أو لأجل خبثهم الذّاتي المقتضي للاجتناب الّا عند الاضطرار كما تضمّنه رواية علىّ بن جعفر المرويّة في الوسائل ) ما هذه عبارته : « وبالجملة قضيّة التّوفيق العرفي بين الاخبار حمل تلك الأخبار ( الدّالة على نجاستهم بظاهرها ) على احد هذه المحامل ومن الواضح أنّ الجمع العرفي كان مقدّما على التّرجيح سندا أو جهة والرّجوع الى المرجّحات للصّدور أو المرجّحات الجهتيّة انّما يكون بعد عدم إمكان الجمع عرفا فلا تكون موافقة الأخبار - المصرّحة بالطّهارة - للعامّة مانعة عن حمل تلك الاخبار على ما لا ينافيها كما جعله شيخنا العلّامة أعلى اللّه مقامه أحد الأمرين المانعين وثانيها موافقة تلك الأخبار للإجماعات المستفيضة. قال : أترى انّ هؤلاء لم يطّلعوا على هذه الرّوايات وهل وصلت إلينا الّا بواسطتهم؟ قلت لا ريب في أنّهم اطّلعوا عليها لكن من المحتمل ان يكون عدم عملهم بها لتوهّم كون موافقتها للعامّة مانعا عنه ولا بعد فيه بعد توهّمهم مثل جنابه قدّس سره كونها مانعا عن حمل تلك الاخبار مع انّ الجمع العرفي عنده على ما حقّقه في التعادل والتراجيح مقدّم على التّرجيح سندا المقدّم على التّرجيح جهة أو للظّفر بما قطعوا منه بالحكم بالنّجاسة ولذا ادّعوا الإجماع عليه ولكنّه لا ينفع الغير الّا ان يقول بحجّية الإجماع المنقول أو بتحقيقه ولا دليل على حجيّته وانّى لنا تحقيقه بعد احتمال ان يكون مدرك الفتاوى تلك الاخبار ومنشأ دعوى الإجماع الوهم في القطع. ومع ذلك كان الفتوى على خلافهم جسارة وجرءة والاحتياط طريق النجاة » انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه وهو كلام متين.

العاشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1).

استدلّ أصحابنا القائلون بنجاسة الخمر (2) بهذه الآية ووجه الاستدلال بها من وجهين :

ص: 51


1- المائدة : 93.
2- إشارة إلى الخلاف في ذلك ممّن قال بطهارته كالصّدوق وأبيه والجعفي والعماني وجماعة من المتأخّرين كالأردبيلي والمحقّق الخوانساري وصاحب المدارك والذّخيرة وقد قال بالطّهارة من غير أصحابنا أيضا ربيعة شيخ الامام مالك وداود الظاهري والشوكانى كما في مقدمة السيد رشيد رضا على المغني لابن قدامة ص 32 والباقون متفقون على النجاسة انظر الفقه على المذاهب ج 1 ص 18 وعن الحبل المتين انّه قال : أطبق علماؤنا الخاصّة والعامّة على نجاسة الخمر إلّا شرذمة منّا ومنهم لم يعتدّ الفريقان بمخالفتهم.

1 - أنّه وصفه بالرّجس وهو وصف النّجاسة لترادفهما ولذلك يؤكّد الرجس بالنّجس فيقال : رجس نجس.

2 - أنّه أمر باجتنابه وهو موجب للتّباعد المستلزم للمنع من الاقتراب بسائر أنواعه لأنّ معنى الاجتناب كون كلّ منهما في جانب وهو مستلزم للهجران ويؤيّد ذلك أيضا روايات عن أهل البيت عليهم السلام في طرقها ضعف ينجبر بموافقة القرآن (1).

( فروع )

1 - كلّ مسكر حكمه حكم الخمر في النجاسة (2) لأنّه خمر فكلّ خمر نجس أمّا الكبرى فقد تقدّمت وأمّا الصغرى فلأنّ الخمر إنّما سمّي خمرا لأنّه يخمر العقل أي يستره فكلّ ما يساويه في هذا المعنى فهو مساو له في الاسم ولقول أبي جعفر عليه السلام « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كلّ مسكر حرام وكلّ مسكر خمر » (3) ومثله

ص: 52


1- في الخمر طائفتان من الاخبار فطائفة تقرب من عشرين على النجاسة وطائفة تزيد على العشرين على الطّهارة وقد قيل في ترجيح إحدى الطائفتين على الأخرى وجوه والحقّ انّ في المسئلة روايتين مخصّصتين لعمومات التّعادل والتّراجيح أو حاكمتين عليها. الاولى ما رواه الكليني في الصحيح عن علىّ بن مهزيار قال قرأت في كتاب عبد اللّه بن محمّد الى ابى الحسن : جعلت فداك روى زرارة عن أبى جعفر وابى عبد اللّه في الخمر يصيب ثوب الرّجل انّهما قالا لا بأس بان يصلّى فيه انّما حرّم شربها وروى زرارة عن أبي عبد اللّه انّه قال : إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ فاغسله ان عرفت موضعه وان لم تعرف موضعه فاغسله كلّه وان صلّيت فيه فأعد صلاتك فأعلمني ما آخذ به؟ فوقع بخطّه وقرأته : خذ بقول أبى عبد اللّه عليه السلام. والثّانية عن خيران الخادم قال كتبت الى الرّجل أسأله عن الثّوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير يصلّى فيه أم لا فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم صلّ فيه فانّ اللّه انّما حرّم شربها وبعضهم قال لا تصلّ فيه ، فكتب عليه السلام لا تصلّ فيه فإنّه رجس. راجع الوسائل ب 38 من أبواب النّجاسات والحديثان تحت رقم 2 و 4.
2- سنشرح البحث عن ذلك في كتاب المطاعم والمشارب إنشاء اللّه.
3- الوسائل ب 27 من أبواب الأشربة المحرّمة.

رواية ابن عمر عنه صلى اللّه عليه وآله (1).

2 - العصير من العنب قبل غليانه طاهر حلال وبعد غليانه واشتداده نجس حرام وذلك إجماع من فقهائنا أمّا بعد غليانه وقبل اشتداده فحرام إجماعا منّا وأمّا النّجاسة فعند بعضنا أنّه نجس أيضا وعند آخرين أنّه طاهر (2) والأوّل أحوط والمراد بالاشتداد صيرورة أعلاه أسفله أو أن يصير له قوام ، هذا إذا لم يذهب ثلثاه بالغليان وإلّا فهو طاهر حلال.

3 - الفقّاع عندنا حكمه حكم الخمر في النجاسة والتحريم لما ورد من طريقهم عن ضميرة قال : الغبيراء الّتي نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عنها هي الفقّاع. (3) ومن طريقنا عن سليم بن جعفر « قال قلت للرضا عليه السلام : ما تقول في شرب الفقّاع فقال هو خمر مجهول (4) » وعن الوشّاء « قال كتبت إليه يعني الرّضا عليه السلام أسأله عن الفقّاع فقال هو حرام وهو خمر (5) » وعنه عليه السلام « هي خمر استصغرها النّاس (6) » قال ابن الجنيد

ص: 53


1- سنن أبى داود ج 2 ص 293.
2- وهو الحقّ إذ ليس في الاخبار ما يمكن الاستناد إليه في النّجاسة راجع المستمسك ج 1 ص 342 و 343.
3- روى مالك عن عطاء بن يساران رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله سئل عن الغبيراء فقال : « لا خير فيها » ونهى عنها ، قال مالك قال زيد بن أسلم هي السكركة راجع مختصر المزني ذيل الام ج 8 ص 437. وروى أبو داود عن عبد اللّه بن عمران النبي صلى اللّه عليه وآله نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وقال : « كلّ مسكر حرام » ثمّ نقل عن ابى عبيد ابن سلام انّه قال : الغبيراء السكركة تعمل من الذّرة شراب يعمله الحبشة راجع ج 2 ص 295. نعم قال الشّيخ في كتاب الخلاف المسألة السّادسة من كتاب الأشربة : روى أحمد بن حنبل بإسناده عن ضميرة أنّه قال : « الغبيراء الّتي نهى النّبي عنها هي السكركة » ثمّ نقل عن زيد بن أسلم أنّه قال : السكركة اسم يختص بالفقّاع.
4- الوسائل ب 28 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 3.
5- الوسائل ب 27 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 1 وفيه : قال فكتب إلخ.
6- الوسائل ب 28 من أبواب الأشربة المحرّمة ح 1.

من أصحابنا : تحريمه من جهة نشيشه وضراوة إنائه إذا كرّر فيه العمل. وفي الآية المذكورة فوائد تأتي في باب الأطعمة.

الحادية عشر ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (1).

الأكثر على أنّ المراد الطّهارة من النّجاسات وقيل ثيابك فقصّر لأنّه أبعد من القذر والتّلف وترك لعادات العرب في طول ثيابهم المستهجن وقيل نفسك فطهّر من الرّذائل يقال فلان طاهر الثوب نقيّ الجيب ومنه قول عنترة الشّاعر :

وشككت بالرّمح الأصمّ ثيابه *** ليس الكريم على القنا بمحرّم

كنّى بما يشتمل على البدن عنه وهو أمر باستكمال قوّته العملية.

وفي الآية أحكام :

1 - أنّ الأمر بالتّطهير واجب لأنّه حقيقة في الوجوب.

2 - أنّه واجب لأجل الصّلاة لا لذاته أمّا أوّلا فللإجماع وأمّا ثانيا فلقرينة ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (2) فإنّ المراد تكبير الافتتاح كما سيجي ء.

3 - أنّ هذا العموم مخصوص لما ورد في النقل بالعفو عن الدّم غير المغلّظ الّذي يقصر عن الدّرهم والجروح والقروح الّتي لا ترقأ أو حال الضّرورة ولا يمكن النّزع أو كون الملبوس لا تتمّ الصّلاة فيه وحده أو غير ذلك من الرّخص.

4 - أنّ التّطهير لغير الصّلاة ليس بواجب بل يستحبّ للتهيّأ لها وللتمرّن عليه فيسهل عند إرادتها :

5 - الرّجز إمّا العذاب لقول الأكثر فيكون أمره بهجرانه أمرا بهجران أسبابه الموجبة له وهو أمارة وجوب تطهير الثّياب ، أو النّجاسة فهو حينئذ صريح في وجوب توقّي النّجاسة حال الصّلاة.

ص: 54


1- المدّثّر : 4 و 5.
2- المدّثّر : 3.

الثانية عشر ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (1).

قيل هي خمس (2) في الرّأس وخمس في البدن أمّا الرّأس فالمضمضة والاستنشاق والفرق وقصّ الشّارب والسّواك وأمّا البدن فالختان وحلق العانة وتقليم الأظفار ونتف الإبطين والاستنجاء بالماء. وإذا كانت هذه من شريعة إبراهيم عليه السلام كانت أيضا من شريعة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ) (3) ولقوله تعالى ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) (4) أي اتّبعوها فهنا أحكام :

1 - المضمضة والاستنشاق مستحبّان في الطّهارتين الصّغرى والكبرى (5) ويبدأ بالمضمضة ثلاثا بثلاث أكفّ من الماء ومع الإعواز بكفّ واحد ويدير الماء في فيه ثمّ يمجّه وليبالغ فيها بإيصال الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللّثات ويمرّ إصبعه عليها وكذا الاستنشاق ثلاثا بثلاث أكفّ لكنّ الصّائم لا يبالغ فيهما.

2 - الفرق يكون لمن اتّخذ شعرا مستحبّا والرّواية بأنّه « إذا لم يفرّقه فرّق

ص: 55


1- البقرة : 124.
2- لا يخفى وهن هذا التّفسير كيف وهذه الخصال يسهل إتمامها لا ضعف الافراد ولا يعدّ امرا عظيما يستحقّ به الإمامة مع انّه لم يثبت فيه خبر لا من أحاديث الإماميّة ولا غيرهم والظّاهر انّ اللّه تبارك وتعالى عامل إبراهيم عليه السلام معاملة المبتلى اختبارا لتظهر حقيقة حاله فيترتّب عليها أثرها فلمّا أتمها ظهر فضله ولياقته للإمامة فالقرآن الكريم يبيّن الأثر وهو الإمامة ولا يبيّن حقيقة الكلمات لانّ الغرض غير متعلق بها. نعم روى في تفسير قوله تعالى ( وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) أنّ تلك العشرة من الحنيفيّة الّتي جاء بها إبراهيم عليه السلام ولا تنسخ الى يوم القيامة ( تفسير البرهان ذيل الآية الشّريفة ) كما روى أنّها من السّنن ( الوسائل ب 1 من أبواب السّواك ح 23 ) وكأنّ القائل خلط بين الآيتين وهما.
3- النّساء : 124.
4- الحج : 78.
5- وبه قال الشّافعي وقال الثّوري وأبو حنيفة هما واجبان في الغسل من الجنابة مسنونان في الوضوء وقال ابن ابى ليلى وإسحاق هما واجبان في الطّهارتين وقال احمد الاستنشاق واجب فيهما والمضمضة لا تجب راجع الخلاف المسئلة 21 من كتاب الطّهارة.

بمنشار من نار (1) » محمول على شدّة الاستحباب أو على ترك اعتقاد المشروعيّة أو أنّه يمنع المسح في الوضوء على البشرة.

3 - السّواك مستحبّ لمن عدا النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأمّا هو عليه السلام فيجب عليه لقوله عليه السلام « ما زال جبرئيل يوصيني بالسّواك حتّى خشيت أن أحفي - أو أدرد (2) - » وهما رقّة الأسنان وتساقطها وقال عليه السلام : « لو لا أنّ أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند وضوء كلّ صلاة (3) » وفيه إشعار بأنّ الأمر للوجوب مع أنّ الندبيّة مجمع عليها واستحبابه عامّ للصّائم والمحرم وغيرهما وينبغي أن يكون عرضا ويكون بقضبان الأشجار عدا الرّمان والرّيحان ويجوز بالإصبع والخرقة لحصول المعنى ويكره في الخلإ ويستحبّ عند قراءة القرآن والقيام إلى الصّلاة وعند تغير النّكهة إمّا لنوم أو لطول سكوت أو ترك أكل أو أكل شي ء كريه الرّائحة أو وسخ الأسنان أو أبخرة المعدة.

4 - الختان حال الصّغر مستحبّ للذّكر وللأنثى الخفض ومع البلوغ يجب على الذّكر فعله فيعاقب لو تركه متمكّنا ولا يصحّ طوافه وأمّا صلوته فان تمكّن من كشف الغلفة للتطهير من البول وجب ومع تركه يبطل الصّلاة وإن لم يتمكّن فلا ويحتمل ضعيفا بطلانها مطلقا لنجاسة الغلفة إذ هي في حكم المنفصلة وفي القدوة بالأغلف تفصيل حرّرناه في بعض رسائلنا.

5 - حلق العانة مستحبّ بل تنوير البدن كلّه في كلّ خمسة عشر يوما مرّة وأكثره أربعون يوما.

6 - حلق الإبطين أفضل من النّتف والإطلاء بالنّورة أفضل من الحلق.

7 - الاستنجاء لغة استفعال من النجوة وهو ما ارتفع من الأرض وأصله للسباع لأنّها تقصد النّجوات عند الحاجة وقيل من نجوت الشّجرة أي قطعتها كأنّه يقطع

ص: 56


1- الوسائل ب 62 من أبواب آداب الحمّام ح 1.
2- الوسائل ب 1 من أبواب السّواك ح 1 و 7.
3- الوسائل ب 3 من أبواب السّواك ح 4.

الأذى عنه ويسمّى أيضا استطابة وشرعا هو واجب في محلّ البول بالماء لا غير عندنا وعند الجمهور يجوز فيه الاستجمار ما لم يتعدّ المخرج وأمّا الغائط فمع التعدّي يتعيّن الماء فيه إجماعا ومع عدم التعدّي يتخيّر المكلّف بين الحجارة والماء ولا يجزي أقلّ من ثلاثة أحجار. وقال أبو حنيفة لا يجب إذا لم يتعدّ.

كتاب الصّلاة

اشارة

وهي لغة الدّعاء (1) قال اللّه تعالى ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) أي ادع لهم وقال الأعشى :

عليك مثل الّذي صلّيت فاغتمضي *** نوما فانّ لجنب المرء مضطجعا

وقيل أصلها من رفع الصّلاة في الرّكوع وهو عظم في العجز وشرعا قيل هي أذكار معهودة مقترنة بحركات وسكنات يتقرّب بها إلى اللّه تعالى. قيل هو منقوض طردا بأذكار الطواف وعكسا بصلاة الأخرس والأولى أنّها أفعال معهودة يجب فيها القيام اختيارا افتتاحها التّكبير واختتامها التسليم يتقرّب بها إلى اللّه تعالى. فصلاة الجنازة صلاة بحسب المجاز.

واعلم أنّ أكثر المحقّقين على ثبوت الحقيقة الشرعيّة (2) لوجود خواصّها

ص: 57


1- قال ابن هشام في المغني ( الجهة العاشرة من باب الخامس ) : الصّواب عندي انّ الصّلاة لغة بمعنى واحد وهو العطف ثمّ العطف بالنسبة الى اللّه تعالى الرّحمة والى الملائكة الاستغفار والى الآدميّين دعاء بعضهم لبعض وامّا قول الجماعة « بأنّ الصّلوة ان كانت من اللّه فهي الرّحمة وان كانت من الملائكة فهو الاستغفار وان كانت من الآدميّين فهو الدّعاء » فبعيد من جهات : منها انّا لا نعرف في العربيّة فعلا واحدا يختلف معناه باختلاف المسند إليه إذا كان الاسناد حقيقيّا ومنها انّ الرّحمة فعلها متعدّ والصّلاة فعلها قاصر ومنها انّه لو قيل مكان صلّى عليه ، دعا عليه ، انعكس المعنى. انتهى ملخّصا.
2- الحقّ في المسئلة أنّ نقل الألفاظ المتنازع فيها إلى المعاني المستحدثة بالوضع التّعيينيّ مقطوع العدم ولو كان لنقل ذلك إلينا ولم ينقل وامّا بالوضع التّعيني فلعله مما لا ريب فيه بالنّسبة إلى زمان أمير المؤمنين علىّ عليه السلام كما يحكم بذلك العادة عند استعمال لفظ عند قوم في لسان جماعة كثيرة زمانا معتدّا به وفي زمان النّبي صلى اللّه عليه وآله غير معلوم وان كان مظنونا بالنّسبة إلى أواخر أيّامه ولكن الظّن لا يغني من الحقّ شيئا الّا انّه لا اثر لهذا الجهل حيث انّ السّنة النّبويّة غير مبتلى بها الّا ما نقل لنا من طريق أهل البيت عليهم السلام على لسانهم وقد عرفت الحال في كلماتهم والأغلب ما ورد في القرآن المجيد من هذه الألفاظ وكلّها محفوفة بالقرائن المعيّنة. ثمّ انّ الألفاظ الشرعيّة ليست على نسق واحد فانّ بعضها كثير التّداول كالصّلاة والصّوم والزّكاة والحجّ ويبعد ان لا تصير حقائق في معانيها المستحدثة بأقرب وقت في زمانه صلى اللّه عليه وآله وبعضها ليست بهذه المثابة فاحفظ ذلك ولا تغفل فإنّه سينفعك إنشاء اللّه في المباحث الاتية.

وقد قرّر ذلك في الأصول فعلى هذا هل إطلاق لفظ الصّلاة على المعنى المذكور من باب النقل أو من باب المجاز؟ قيل بالأوّل وقيل بالثّاني وهو الأصحّ لأنّ المعنى اللّغويّ موجود في الحقيقة الشرعيّة قطعا على القولين ثمّ البحث هنا يتنوّع أنواعا.

النّوع الأوّل : ( في البحث عن الصّلاة بقول مطلق )

وفيه آيات :

الاولى ( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (1).

كتابا أي مكتوبا فإنّ الكتاب مصدر كالقتال والضّراب والمصدر قد يراد به المفعول أي المكتوب وهو يرادف الفرض ومنه ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) (2) أي فرض والموقوت أي المحدود بأوقات لا تزيد فيها ولا تنقص ولا يجوز التقديم عليها ولا التأخير. وفي الآية أحكام :

1 - أنّها واجبة وفرض على كلّ مؤمن.

2 - أنّها تدلّ بظاهرها على أنّ الوجوب يختصّ بمن له صفة التعقّل إذ الإيمان

ص: 58


1- النّساء : 102.
2- البقرة : 180.

التّصديق فالمؤمنون هم المصدّقون والتّصديق لا يصدر إلّا عن تصوّر وجزم وإذعان وذلك غير متصوّر إلّا فيمن له تعقّل فلا يجب على الصبيّ ولا على المجنون ولا على المغمى عليه.

3 - أنّ الصّلاة ليست من العبادات المطلقة غير المحدودة بحدّ ووقت بل هي محدودة بحدود وشرائط وأوقات لا يجوز تغييرها وتبديلها.

4 - ربّما يذهب بعض الأفهام إلى اختصاص الوجوب بالمؤمنين فلا يجب على الكافر كما هو مذهب أبي حنيفة وهو خلاف مذهبنا ومذهب الشافعيّ والجواب أنّ التخصيص بالذّكر لا يدلّ على نفي ما عداه إلّا بدلالة مفهوم المخالفة وليس بحجّة عندنا هذا مع أنّ غير هذه من الآيات تنادي بالوجوب عليهم وأنّهم يعاقبون على تركها كقوله تعالى ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) إلى قوله ( وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) (1) وهو صريح في إرادة الكفّار بالخطاب.

الثّانية ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (2).

المحافظة عليها هي شدّة الاعتناء بإيقاعها وعدم تضييعها في أوقاتها والوسطى إمّا بمعنى التوسّط أي بين الصلوات أو الفضلي أي الكثيرة الفضل والقنوت قيل هي المداومة على الشي ء أي قوموا لله مداومين على القيام وقيل الدّعاء قائما وقيل الخشوع أي قوموا لله خاشعين والشائع عند الفقهاء هو الدّعاء في الصّلاة مع رفع اليدين فالأولى الحمل على ذلك ولذلك قال ابن المسيّب المراد به القنوت في الصّبح والرّجال جمع راجل كالقيام جمع قائم وكذا الرّكبان جمع راكب.

ص: 59


1- المدّثّر : 75.
2- البقرة : 238 و 239.

( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ ) أي فصلّوا صلاة أمن واشكروا لله كما علّمكم ثمّ إن قلنا أنّ الذّكر هو الصّلاة يكون معناه صلّوا كما علّمكم من الصّلاة وكيفيّتها وإن قلنا أنّه الشّكر يكون معناه فاشكروه شكرا مماثلا لإنعامه عليكم بتعليمكم ما لا تهتدي إليه عقولكم من كيفيّة الصّلاة حال الأمن وحال الخوف وفيها أحكام :

1 - وجوب المحافظة على الصّلوات الموجب ذلك للثّناء الجميل والأجر الجزيل كما قال في موضع آخر ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) (1) وفي موضع آخر ( الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) (2) فقيل المحافظة متعلّقها الأفعال والحدود والشّرائط (3) والمداومة متعلّقها التكرّر بحسب الأوقات وقيل المحافظة على الفرائض والمداومة على النّوافل وهو مرويّ عن الباقر والصّادق عليهما السلام (4) كلّ ذلك فرارا - من التّرادف والتّأكيد غير المفيد - فائدة زائدة - إلى التأسيس المفيد.

2 - يمكن أن يستدلّ بهذه الآية وما قبلها على وجوب الصّلوات التّسع المشهورة (5) وبيان ذلك أنّهما دلّتا على وجوب الإتيان بكلّ ما يصدق عليه اسم الصّلاة

ص: 60


1- المؤمنون : 9 والمعارج : 34.
2- المعارج : 23.
3- قال في تفسير المنار : ولو لا أنّهم اتّفقوا على أنّها - اى الصّلاة الوسطى - احدى الخمس لكان يتبادر إلى فهمي من قوله ( وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) أنّ المراد بالصّلاة الفعل وبالوسطى الفضلي ، أى حافظوا على أفضل أنواع الصّلاة وهي الصلاة الّتي يحضر فيها القلب وتتوجّه بها النّفس الى اللّه تعالى وتحتشم لذكره وتدبّر كلامه لا صلاة المرائين ولا الغافلين. قال ويقوى هذا قوله بعدها ( وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) فهو بيان معنى الفضل في الفضلي وتأكيد له إذ قالوا انّ في القنوت معنى المداومة على الضّراعة والخشوع أى قوموا ملتزمين لخشية اللّه واستشعار هيبته وعظمته ولا تكمل الصّلاة ولا تكون حقيقة ينشأ عنها ما ذكر اللّه من فائدتها إلّا بهذا.
4- الوسائل ب 7 من أبواب أعداد الفرائض ح 3.
5- قالوا : هي : الصّلاة اليوميّة ، صلاة الجمعة ، صلاة العيدين ، صلاة الكسوف صلاة الخسوف ، صلاة سائر الايات ، الطّواف ، صلاة الأموات ، الصّلوات الملتزمة بنذر وشبهه ، وجعلها في اللّمعة سبعا بجعل الايات واحدة ويمكن أن نعدّ منها صلاة الاحتياط وصلاة القضاء ليكمل التّسع كما يمكن دخولها في اليوميّة لأنّ الأوّل مكمل لها لما يحتمل فواته ونقصانه منها والثّاني نفسها الّا أنّها تؤتى بها في غير وقتها.

شرعا ، خرج من ذلك ما لم يدّع وجوبه وما اجمع على ندبه فيبقى الباقي داخلا وهو المطلوب.

3 - تخصيص الصّلاة الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مع أنّها داخلة في الصّلوات إذ اللّام فيها للاستغراق لاختصاصها بمزيد فضل يقتضي رفع شأنها وإفرادها بالذّكر كأفراد النّخل والرمّان عن الفاكهة وجبرئيل وميكائيل عن الملائكة.

واختلف فيها على أقوال (1) فقيل الصّبح لتوسّطها بين صلاتي النّهار وصلاتي

ص: 61


1- الأقوال فيها ترتقي إلى سبعة عشر قولا : الأوّل أنّها الظّهر وعليه أكثر الإماميّة ان لم نقل كلّهم الّا السيّد المرتضى قدس سره وعليه أخبار كثيرة انظر البرهان ذيل الآية الشريفة ونسبه في نيل الأوطار ج 1 ص 336 الى ابى سعيد الخدري وعائشة ونقله في البحر الزّاخر من الزيديّة عن الهادي والقاسم وابى العبّاس وابى طالب ونقل ذلك أيضا عن أبي حنيفة. الثّاني انّها العصر وبه قال من الإماميّة علم الهدى قدس سره وادّعى عليه إجماع الطّائفة واليه ذهب جماعة منهم أبو حنيفة واحمد وداود بن المنذر وأبو ثور والحسن البصري والنّخعي وعليه أكثر اخبار أهل السّنة نعم يعارضها ما روى عن عائشة - رواه الجماعة إلّا البخاريّ وابن ماجة - وما عن حفصة - رواه مالك في الموطإ - حيث أمرتا بكتابة الآية : والصّلاة الوسطى وصلاة العصر والعطف يقتضي المغايرة انظر الموطإ بشرح الزّرقانى ج 1 ص 283 - 285. الثّالث انّها المغرب ذهب إليه قبيصة بن ذؤيب. الرّابع أنّها العشاء نسبه ابن سيد الناس الى البعض من العلماء. الخامس انها الصبح وهو مذهب الشافعي ونقله في نيل الأوطار عن جماعة منهم عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن عباس. السادس أنها الجمعة يوم الجمعة والظهر في سائر الأيام حكاه القاضي عياض عن البعض. السابع أنها احدى الخمس مبهمة رواه ابن سيد الناس عن زيد بن ثابت والربيع بن خثيم وسعيد بن المسيّب ونافع وشريح واليه أشار المصنّف حيث قال : وقيل انّ اللّه أخفاها إلخ. الثّامن انّها جميع الصّلوات الخمس حكاه النووي ورواه ابن سيد الناس عن البعض. التاسع أنها صلاتان العشاء والصبح نسب ذلك الى أبى الدّرداء. العاشر أنّها الصّبح والعصر نسب الى أبى بكر الأبهري. الحادي عشر إنّها الجماعة حكى ذلك عن المادرى. الثّاني عشر أنها صلاة الخسوف ذكره الدّمياطى. الثّالث عشر أنّها الوتر نسب الى السخاوي المقري. الرّابع عشر أنّها صلاة عيد الأضحى ذكره ابن سيد الناس. الخامس عشر صلاة عيد الفطر حكاه الدّمياطى. السّادس عشر أنّها الجمعة فقط ذكره النووي. السّابع عشر أنّها صلاة الضّحى رواه الدّمياطى عن بعض شيوخه ثمّ تردّد في الرّواية وهذه الصّلاة أعني صلاة الضّحى بدعة عند الإماميّة نعم لا بأس بإتيان النّافلة المبتدئة عند الضّحى.

اللّيل وبين الظّلام والضّياء ولأنّها لا يجتمع مع غيرها فهي منفردة بين مجتمعتين ولأنّها يشهدها ملائكة اللّيل والنّهار فتكتب في العملين معا قال الشّافعيّ ولذلك عقّبها بذكر القنوت إذ القنوت عنده مشروع في الصّبح.

وقيل الظّهر وبه قال جماعة وروي ذلك عن الباقر والصّادق (1) عليهما السلام لأنّها وسط النّهار ووقت الحرّ فكانت أشقّ عليهم فكانت أفضل لقوله عليه السلام « أفضل العبادات أحمزها (2) » ولأنّها أوّل صلاة فرضت ولأنّها في السّاعة الّتي يفتح اللّه فيها أبواب السّماء ولا تغلق حتّى يصلّى الظهر ويستجاب الدّعاء فيها.

ص: 62


1- الوسائل ب 5 من أبواب أعداد الفرائض. العيّاشي ج 1 ص 127.
2- راجع النّهاية لابن الأثير مادّة « حمز » قال في حديث ابن عبّاس : سئل رسول اللّه اىّ الأعمال أفضل؟ فقال أحمزها ، أى أفواها وأشدّها اه وقيل لا أصل له وردّ بأنّ معناه صحيح لما في الصّحيحين عن عائشة : الأجر على قدر التّعب.

وقيل العصر لأنّها بين صلاتي اللّيل والنّهار ولأنّها تقع حال اشتغال النّاس بمعاشهم فيكون الاشتغال بها أشقّ عليهم ولقوله صلى اللّه عليه وآله « من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله » (1) وفي رواية « حبط عمله » ولما روي أنّه صلى اللّه عليه وآله « قال يوم الأحزاب : « شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر » (2) فان صحّ ذلك فهو صريح فيها.

وقيل المغرب لتوسّطها عددا بين ثنائيّ ورباعيّ ووقتا بين ليليّة ونهاريّة.

وقيل العشاء لتوسّطها بين ليليّة ونهاريّة وقيل إنّ اللّه تعالى أخفاها ليحافظ على جميعها كإخفاء ليلة القدر وإخفاء الاسم الأعظم والوليّ وساعة الإجابة وعن بعض أئمّة الزيديّة أنّها صلاة الجمعة يوم الجمعة والظّهر في سائر الأيّام (3).

4 - وجوب القيام في الصّلاة لصيغة الأمر.

5 - شرعيّة القنوت في الصّلوات كلّها لذكره عقيب الأمر بالمحافظة على جملتها وعطف القيام حال القنوت على ذلك.

6 - جواز الصّلاة حال الخوف مشيا وركوبا.

7 - جوازها حال المسايفة كيف كان وبه قال الشافعيّ خلافا لأبي حنيفة فإنّه قال : لا يصلّى حالة المشي والمسايفة ما لم يتمكّن من الوقوف

الثّالثة ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) (4).

في هذه الآية الكريمة فوائد :

1 - أمره صلى اللّه عليه وآله أن يأمر أهله بالصّلاة أي صلّ وأمرهم بها فيجب علينا أيضا أمر أهالينا بها لدلالة التأسّي به صلى اللّه عليه وآله ويؤيّده قوله تعالى ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ

ص: 63


1- سنن ابى داود ج 1 ص 97.
2- سنن ابى داود ج 1 ص 98.
3- ونقله الطبرسي في المجمع عن علىّ عليه السلام راجع الوسائل ب 5 من أبواب أعداد الفرائض ح 4.
4- طه : 132.

ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (1) قال الباقر عليه السلام : « أمره اللّه تعالى أن يخصّ أهله دون النّاس ليعلم النّاس أنّ لأهله عند اللّه منزلة ليست للنّاس فأمرهم مع الناس عامّة ثمّ أمرهم خاصّة » (2).

2 - اصطبر عليها أي احمل نفسك على الصّلاة ومشاقّها وإن نازعتك الطّبيعة إلى تركها طلبا للرّاحة فاقهرها واقصد الصّلاة مبالغا في الصّبر ليصير ذلك ملكة لك ولذلك عدل عن الصّبر إلى الاصطبار لأنّ الافتعال فيه زيادة معنى ليس في الثّلاثيّ وهو القصد والتّصرف ولذلك قال [ اللّه ] تعالى ( لَها ما كَسَبَتْ ) بأيّ نوع كان من الفعل ( وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (3) بالقصد والتّصرف والمبالغة رحمة منه تعالى بعباده وإذا وجب عليه صلى اللّه عليه وآله الاصطبار وجب أيضا علينا لما قلناه والقائم بذلك يحصّل أعلى المراتب إذا لم يكن متحرّجا منها ومستعظما لها كما قال اللّه تعالى ( وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلّا عَلَى الْخاشِعِينَ ) (4).

3 - لمّا كان قبل هذه الآية النّهي عن النّظر إلى زخارف الدّنيا (5) وكان المقصود بالذّات من الأمر بالصّلاة الاشتغال بها عن النّظر إلى تلك الزّخارف الدنيويّة فلا ينبغي أن يكون بشي ء من ذلك مشتغلا عن الصّلاة بل إذا عرض في النّفس شي ء من الميل إليها ينبغي الإقبال على الصّلاة والاصطبار عليها ليكون ذلك صادّا للطبيعة عن الميل إلى خلافه ولذلك كان عروة بن الزّبير إذا رأى الزّخارف عند الملوك قرأ هذه الآية ثمّ نادى الصّلاة الصّلاة رحمكم اللّه.

4 - لمّا كان النّهي عن النّظر إلى الزّخارف والأمر بالصّلاة يمكن أن يقال معه أنّ من جملة ذلك الرّزق الّذي لا بدّ منه أردف ذلك بقوله « لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً » إي طلب رزق بل اكتف برزق يأتيك ولا تكلّف نفسك بالطّلب فإنّه يشغلك عن الآخرة

ص: 64


1- التّحريم : 6.
2- مجمع البيان : ج 7 ص 37.
3- البقرة : 286.
4- البقرة : 45.
5- وهي ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى ).

وأطلبها بالعبادة والهداية نحن نرزقك ، إذا قنعت بما يأتيك كفيناك مؤنة الطّلب.

إن قلت : إذا منع صلى اللّه عليه وآله من طلب الرّزق فنحن أيضا كذلك لدلالة التأسّي لكنّه ليس كذلك بالإجماع.

قلت : الطّلب على قدر المطلوب ولمّا كان مطلوبه صلى اللّه عليه وآله أعلى المطالب جاز تكليفه بما لم يكلّف به غيره فيكون ذلك من خواصّه الّتي لا يجب التأسّي به فيها.

5 - أنّه لمّا كانت الزّخارف المنهيّ عن النّظر إليها قد تستعقب فائدة وعاقبة أردف ذلك بأنّ تلك ليست في الحقيقة فائدة ولا عاقبة بل هي عدم بالنّظر إلى عواقب العبادات اللّذيذة الدّائمة وإنّما العاقبة بالحقيقة أو العاقبة المحمودة لذوي التّقوى.

الرّابعة ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (1).

في الآية دلالة على وجوب الصّلاة وبشرى فاعلها بالفلاح الّذي هو الفوز بأمانيّهم والظّفر بمطلوبهم من الخلاص من عذاب اللّه والبقاء على دوام رحمته لهم و « قد » مثبتة للمتوقّع كما أنّ « لمّا » تنفيه ولمّا كان المؤمنون متوقّعين ذلك صدّرت بها لبشارتهم وأصل الفلاح لغة الشقّ ومنه الفلاحة لشقّ الأرض بالزّراعة. قوله ( فِي صَلاتِهِمْ ) أضافها إليهم لأنّهم المنتفعون بها وأمّا المصلّي له فغنيّ عنها والخشوع خشية القلب وعلامتها التزام كلّ جارحة بما أمر به في الصّلاة من النّظر والوضع.

قيل : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يصلّي رافعا بصره إلى السّماء فلمّا نزلت التزم بنظره إلى موضع سجوده (2) ونظر صلى اللّه عليه وآله إلى رجل يصلّي ويعبث بلحيته فقال : لو خشع قلبه لخشعت جوارحه (3).

ص: 65


1- المؤمنون : 1 و 2.
2- فتح القدير ج 3 ص 460.
3- راجع سبل السّلام ج 1 ص 147 فيض القدير ج 5 ص 319 تحت رقم 7447.

النوع الثّاني : ( في دلائل الصّلوات الخمس وأوقاتها )

وفيه آيات :

الاولى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) (1).

إقامة الصّلاة هو تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في أفعالها ، من أقام العود إذا قوّمه وقيل المواظبة عليها ، مأخوذة من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة ، قال الشّاعر :

أقامت غزالة سوق الضّراب *** لأهل العراقين حولا قميطا (2)

فإنّه إذا حوفظ عليها كانت كالنّافق الّذي يرغب فيه وإذا ضيّعت كانت كالكاسد المرغوب عنه وقيل التشمّر لأدائها من غير فتور ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه وتجلّد وضدّه قعد وتقاعد وقيل أداؤها ، عبّر عنه بالإقامة لاشتمالها على القيام كما عبّر عنها بالرّكوع والسّجود والقنوت والكلّ هنا محتمل وأمّا في قوله « يُقِيمُونَ الصَّلاةَ » في معرض المدح فالأولى أن يراد به الأوّل لأنّه أقرب إلى الحقيقة وأفيد لتضمّنه التّنبيه على أنّ المستحقّ للمدح هو من حاله كذا.

ص: 66


1- أسرى : 78 و 79.
2- البيت مما استشهد به في الكشّاف ومجمع البيان عند تفسير الآية الثّانية من سورة البقرة قال محبّ الدّين افندى في شرح شواهد الكشّاف : غزالة اسم امرءة شبيب الخارجي قتله الحجّاج فحاربته سنة وفي ذلك قال الشّاعر في هجو حجّاج : اسد على وفي الحروب نعامة. البيت.

والدّلوك الزّوال نصّ عليه الجوهريّ من الدّلك لأنّ النّاظر إليها يدلك عينيه ليدفع شعاعها وقيل الغروب وتمسّك بقول الشاعر :

هذا مقام قدمي رباح *** دبّب حتّى دلكت براح(1)

وبراح علم للشّمس كقطام وحذام لمرأتين والحقّ أنّه لا دلالة فيه على المدّعى لاحتمال إرادة زوالها وكذا على الرّواية الأخرى « غدوة حتّى دلكت براح » وعلى تقدير الدّلالة لا ينافي كونه بمعنى الزوال لاحتمال الاشتراك.

والغسق أوّل ظلمة اللّيل وذلك حين يغيب الشّفق ولذلك قال الجوهريّ :الغاسق اللّيل إذا غاب الشّفق وقيل غسق اللّيل شدّة ظلمته وذلك إنّما يكون في نصف اللّيل والتهجّد تكلّف السّهر للصّلاة والتهجّد والهجود من أسماء الأضداد لأنّهما يأتيان بمعنى النّوم والسّهر وفي الآية أحكام(2) :

1 - إذا حمل الدّلوك على الغروب خرج الظّهران والأولى حمله على الزّوال

ص: 67


1- هذا البيت للرّاجز يصف رجلا استقى للإبل الى أن غابت الشّمس واستشهد به أبو عبيدة في مجاز القرآن والطّبري والشّيخ الطّوسي قدس سره في التّبيان والضبط « غدوة حتى دلكت » وكذا في الجمهرة ج 1 ص 218 وفي الصّحاح واللّسان « برح » والمنقول عن الفرّاء في فتح القدير للشّوكانى وأحكام القرآن لابن العربي في تفسير الآية « ذبب حتى دلكت » وفي مجمع البيان « للشّمس حتى دلكت » وفي تفسير الإمام الرّازي « وقفت حتى دلكت » وذبب بمعنى دفع وعليه فالمتناسب قراءة براح بكسر الباء كما قال العجاج : والشّمس قد كادت تكون دلفا *** أدفعها بالرّاح كي تزحلفا فأخبر أنّه يدفع شعاعها لينظر الى مغيبها بالرّاحة. ومن قرأ براح بفتح الباء فالمراد به الشّمس سمّيت بذلك لانتشارها وعلى هذه الرّواية يكون « ذبب » بمعنى طرد النّاس.
2- وقد استدلّ بالاية لجواز الجمع بين الصّلاتين ولم يذكره المصنّف في أحكام الآية الّا اشعارا من حيث اتّساع الوقت الّذي لازمه جواز الجمع وتنقيح البحث : انّه قد أجمع أهل القبلة على جواز الجمع للحجّاج بين الظهر والعصر بعرفة ويسمّونه جمع تقديم وبين المغرب والعشاء بمزدلفة ويسمّونه جمع تأخير وانّه من السّنن النّبويّة واختلفوا في جواز الجمع في ما عدا هذين بأدائهما معا في وقت إحداهما تقديما أو تأخيرا. وقد صدع الأئمّة من آل محمّد صلى اللّه عليه وآله - احد الثّقلين اللّذين أمرنا بالتّمسك بهما - بجوازه مطلقا فراجع الوسائل ب 31 و 32 من أبواب المواقيت فتبعهم في هذا شيعتهم في كل عصر ومصر يجمعون غالبا بين الظّهرين والعشائين لعذر أو لغير عذر سفرا وحضرا وجمع التّقديم والتأخير عندهم سواء. أما الحنفيّة فمنعوا الجمع فيما عدا جمعي عرفة والمزدلفة بقول مطلق مع توفر الصّحاح الصّريحة بجواز الجمع ولا سيما في السّفر لكنّهم تأوّلوها مع صراحتها على الجمع الصوري بأداء الظّهر آخر وقتها وتعجيل العصر أوّل وقتها وكذلك المغرب والعشاء. وأمّا الشّافعيّة والمالكيّة والحنبليّة فأجازوه في السّفر على خلاف بينهم فيما عداه من الاعذار كالمطر والطّين والمرض والخوف ، وعلى تنازع في السّفر المبيح له والتّفصيل في كتبهم الفقهيّة. حجّتنا الآية المباركة المفسّرة على تقدير إجمالها عن أئمّتنا ، فقد روى الشّيخ في التّهذيب عن عبيد بن زرارة عن أبى عبد اللّه عليه السلام في قوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) منها صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشّمس الى غروب الشّمس الّا أنّ هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشّمس الى انتصاف اللّيل الّا أنّ هذه قبل هذه. والاخبار المصرّحة بجواز الجمع مستفيضة ان لم تكن متواترة وهي مع ذلك موافقة لكتاب اللّه العزيز وقد أمرنا بالأخذ بما وافق الكتاب من اخبارهم. وقد اعترف بذلك الإمام الرّازي في تفسير الآية الشّريفة حيث قال بعد ما شرح معنى الدّلوك والغسق : « فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظّهر والعصر والمغرب والعشاء مطلقا الّا انّه دلّ الدّليل على انّ الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزا لعذر السّفر وعذر المطر وغير ذلك. » قلت : ما أكثر الصّحاح من طرقهم الّتي يظهر منها جواز الجمع مطلقا ونكتفي الان بذكر ما رواه ابن تيميّة في المنتقى على ما في ص 229 ج 3 من نيل الأوطار : عن ابن عبّاس انّ النّبي صلى اللّه عليه وآله بالمدينة سبعا وثمانيا الظّهر والعصر والمغرب والعشاء ( متّفق عليه ) وفي لفظ للجماعة الّا البخاري وابن ماجه : جمع بين الظّهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر قيل لابن عبّاس ما أراد بذلك قال : أراد أن لا يحرج أمّته ، وقال العلّامة في المنتقى لما رواه احمد مع البخاري ومسلم متّفق عليه وما رواه السّبعة : البخاري ومسلم وأحمد والتّرمذي والنّسائي وأبو داود وابن ماجة الجماعة فلا تغفل وفي الصّحاح أخبار أخر لا نطيل الكلام بذكرها. قال الترمذي في آخر كتابه ( كتاب العلل ج 2 ص 235 المطبوع بدهلى ) : جميع ما في هذا الكتاب فهو معمول به وقد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين : حديث ابن عبّاس انّ النّبي صلى اللّه عليه وآله جمع بين الظّهر والعصر بالمدينة والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر. وحديث النّبي صلى اللّه عليه وآله انّه قال إذا شرب الخمر فاجلدوه فان عاد في الرابعة فاقتلوه وقد بيّنا علة الحديثين جميعا في الكتاب. لكنّه لم يذكر في كتاب الصّلاة علّة لحديث ابن عبّاس بل ذكر حديثا يعارضه من طريق حنش وضعفه من أجله ، وأنت إذا راجعت أى شرح على أىّ كتاب من كتب السّنن يشتمل على حديث ابن عبّاس رأيت أنهم صحّحوه بكل طرقه. وقد ردّ النووي على الترمذي في شرح صحيح مسلم ج 5 ص 218 وقال : امّا حديث ابن عبّاس فلم يجمعوا على ترك العمل به بل لهم أقوال منهم من تأوّله على انّه جمع بعذر المطر وهذا مشهور عن جماعة من كبار المتقدّمين وهو ضعيف بالرّواية الأخرى « من غير خوف ولا مطر ». ومنهم من تأوّله على أنّه كان في غيم فصلّى الظّهر ثم انكشف الغيم وبان أنّ وقت العصر قد دخل فصلّاها ، وهذا أيضا باطل لانّه وان كان فيه ادنى احتمال في الظّهر والعصر لا احتمال فيه في المغرب والعشاء. ومنهم من تأوّله على تأخير الأوّل إلى آخر وقتها فصلّاها فيه فلمّا فرغ منها دخلت الثّانية فصارت صلاته صورة جمع وهذا أيضا ضعيف أو باطل لانّه مخالف للظّاهر مخالفة لا تحتمل وفعل ابن عبّاس الّذي ذكرناه حين خطب واستدلاله بالحديث لتصويب فعله وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره صريح في ردّ هذا التأويل. ومنهم من قال هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه ممّا في معناه من الاعذار وهذا قول احمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا وهو المختار في تأويله لظاهر الحديث ولفعل ابن عبّاس وموافقة أبي هريرة ولأن المشقّة فيه أشدّ من المطر. وذهب جماعة من الأئمّة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتّخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر ويؤيده ظاهر قول ابن عبّاس : « أراد أن لا يحرج أمته » فلم يعلّله بمرض ولا غيره انتهى ما في شرح النووي. ونزيدك بيانا لتضعيف التأوّل بالجمع الصوري بما تنبّه به ابن عبد البرّ والخطابي وغيرهما من أنّ الجمع رخصة فلو كان صوريّا لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأنّ أوائل الأوقات وأواخرها ممّا لا يدركه أكثر الخاصّة فضلا عن العامّة وقد قال ابن عبّاس : أراد أن لا يحرج أمّته. وقالوا أيضا : المتبادر الى الفهم من إطلاق لفظ الجمع في السّنن كلّها انّما هو أدائهما في وقت إحداهما. ثمّ نضعّف ما اختاره الخطابي نفسه من الجمع بعذر المرض بأنّه لو كان كذلك لما صلّى معه الّا من به المرض والظّاهر انّه صلى اللّه عليه وآله جمع بأصحابه. وقال شاة ولي اللّه الدهلوي في رسالة شرح تراجم أبواب صحيح البخاري المطبوع بكراچى ص 12 : وليعلم انّ ما وقع في الحديث من قوله : « صلّى بالمدينة » وهم من الرّاوي بل كان ذلك في سفر. قلت قد أطبق أهل السير وأرباب الحديث على انّه صلى اللّه عليه وآله لم يتمّ في السّفر ولم يزد على ركعتين انظر زاد المعاد لابن قيّم الجوزيّة ج 1 ص 128 ونيل الأوطار ج 3 ص 212 فكيف يصح قوله صلّى سبعا وثمانيا لو كان ذلك في السفر. وأنت إذا أمعنت النّظر في شرح النّووي على صحيح مسلم وشرح القسطلاني على البخاري وشرح الزّرقانى على موطإ مالك رأيتهم مائلين بجواز الجمع وكأنّهم لم يجترؤا على مبادهة العامّة ولذلك لم يصرّحوا بالفتوى ، ولقد أنصف أحمد محمد شاكر في ج 1 ص 358 من تعليقاته على جامع الترمذي حيث قال بعد نقل ما حكى عن ابن سيرين : وهذا هو الصّحيح الّذي يؤخذ من الحديث وأمّا التأوّل بالمرض أو العذر أو غيره فإنّه تكلّف لا دليل عليه ، وفي الأخذ بها رفع كثير من الحرج على أناس قد تضطرّهم أعمالهم أو ظروف قاهرة الى الجمع بين الصّلاتين ويتأثّمون من ذلك ففي هذا ترفيه لهم واعانة على الطّاعة ما لم يتّخذه عادة كما قال ابن سيرين.

ص: 68

ص: 69

ص: 70

إذ أصل التركيب للانتقال (1) ومنه الدّلك (2) لأنّ الدّالك لا تستقرّ يده وكذا كلّما يتركّب من الدّال واللّام وما يتبعهما من الحروف كدلج ودلع (3) وبه قال ابن عبّاس وروي ذلك عن الباقر والصّادق عليهما السلام (4) ويؤيّده قول النّبي صلى اللّه عليه وآله : « أتاني جبرئيل لدلوك الشّمس حين الزّوال فصلّى بي الظّهر (5) » فعلى هذا يكون الأربع الصّلوات : الظّهر والعصر والمغرب والعشاء ، داخلة في الآية واللّام في « لِدُلُوكِ » للتّوقيت مثلها في لثلاث خلون.

2 - في الآية دلالة على امتداد وقت الأربع من الزّوال إلى الغسق فيكون أوقاتها موسّعة لأنّ اللّام قد قلنا أنّه للوقت وإلى لانتهاء الغاية فيكون الوقت ممتدّا من الزّوال إلى نصف اللّيل أو ذهاب الشّفق على الخلاف ومن المعلوم أنّ الصلوات الأربع يسعها بعض ذلك للأداء فلم يبق إلّا أن يكون المراد اتّساع وقتها بمعنى أنّ كلّ جزء منه صالح للأداء على سبيل الوجوب.

وخالف أبو حنيفة في ذلك حيث قال : الوجوب مختصّ بآخر الوقت لأنّ المكلّف مخيّر قبل ذلك والتّخيير ينافي الوجوب وجوابه لا نسلّم أنّ التّخيير ينافي الوجوب وإنّما ينافيه الوجوب المضيّق وأمّا الموسّع فلا ، ويكون معنى التّخيير إمّا العزم على الإتيان به كما قاله السيّد أو كون جزئيّات الوقت يتعلّق الوجوب

ص: 71


1- قال ابن فارس في مقاييس اللّغة : الدّال واللّام والكاف أصل واحد يدلّ على زوال شي ء وعن شي ء ولا يكون الّا برفق ، يقال دلكت الشّمس زالت ويقال دلكت غابت والدّلك وقت دلوك الشّمس.
2- الدّلاك خ ل.
3- وزاد البيضاوي دلج ودلف ودله وزاد قاضى زاده في شرحه دلق. دلج بالدّلو إذا مشى بها من رأس البئر للصبّ ، ودلح بالمهلة إذا مشى مشيا متثاقلا ودلف إذا مشى مشى المقيّد ودلق إذا خرج المائع من مقرّه ودلع إذا أخرج لسانه ، ودله إذا ذهب عقله ، ففيه انتقال معنوي.
4- تفسير العيّاشي ج 2 ص 308. الوسائل ب 10 من أبواب المواقيت.
5- سنن ابى داود ج 1 ص 93. سيرة ابن هشام ج 1 ص 245.

فيها بالإيقاع على سبيل التّخيير كما في الواجبات المخيّرة.

3 - في الآية دلالة على أنّ الظّهر هي الصّلاة الأولى لأنّ الانتهاء يستدعي ابتداء هو الدّلوك.

4 - أنّ آخر وقت العشاء نصف اللّيل على أحد التفسيرين للغسق وهو الأولى وهو مرويّ عن الباقر والصّادق عليهما السلام (1).

5 - « قُرْآنَ الْفَجْرِ » إشارة إلى صلاة الصبح تسمية للكلّ باسم جزئه وقال بعض الحنفيّة فيه دلالة على ركنيّة القراءة كما دلّ تسميتها ركوعا وسجودا على كونهما ركنين وليس بشي ء لأنّ التسمية لغويّة وكونها ركنا أو غيره شرعيّة فإنّ القراءة جزء سواء كانت ركنا أو غيره فالركنيّة مستفادة من دليل خارج.

وكان قرآنها مشهودا لأنّ الملائكة الليليّة والنهاريّة مجتمعون فيه فيكتب في الدّيوانين معا.

6 - كون نافلة اللّيل من خواصّه صلى اللّه عليه وآله أي وجوبها زائدا على فرائضك مختص بك ، من النفل وهو الزّيادة ومنه الأنفال بمعنى أنّها تجب له صلى اللّه عليه وآله وإلّا فالنّدبيّة ثابتة في حقّ كلّ الأمّة وإنّما عبّر عنها بالنّافلة لكونها تسمّى كذلك بالنّسبة إلى كلّ الأمّة.

7 - أنّه ضمّن « يَبْعَثَكَ » معنى يقيمك « مَقاماً مَحْمُوداً » وهو مقام الشّفاعة لأمّته وكان محمودا لأنّه يحمده كلّ من عرفه.

الثّانية ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ ) (2).

قال ابن عبّاس والحسن والجبائيّ : أنّ « طَرَفَيِ النَّهارِ » وقت صلاة الفجر والمغرب

ص: 72


1- الوسائل ب 21 من أبواب المواقيت ح 2.
2- هود : 115.

وقال مجاهد : وقت صلاة الغداة والظّهر والعصر ، بناء على أنّ ما بعد الزّوال يعدّ من العشاء و « زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ » العشاءان ويحتمل قولا ثالثا بناء على أنّ النهار اسم لما بين الصّبح الثّاني وذهاب الشّفق المغربيّ وأنّ المراد ب « طَرَفَيِ النَّهارِ » نصف النّهار وصلاة الفجر في النّصف الأوّل وباقي الصّلوات الفرائض في النّصف الثّاني.

« وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ » أي قربا منه أي طاعات يتقرّب بها في بعض اللّيل فيكون المراد نوافل اللّيل فيكون زلفا عطفا على الصّلاة لا على طرفي النّهار وعلى الأوّلين يكون عطفا على طرفي النّهار ، والزّلف جمع زلفة كظلم جمع ظلمة والزّلفى بمعنى الزلفة من أزلفه إذا قرّبه فيكون المعنى ساعات متقاربة من اللّيل ويكون من هنا للتّبيين فيكون المعنى ساعات المغرب والعشاء القريبة من النّهار. واعلم أنّ دلالة الآية على اتّساع الوقت ظاهرة.

قوله « إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ » الأكثر على أنّ المراد بالحسنات هي الصّلوات الخمس وفي معنى إذهابها للسيّئات قولان الأوّل أنّها لطف في ترك السيّئات كما قال سبحانه وتعالى ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (1) الثّاني أنّها تكفّر الخطيئات الحاصلة من العبد بمعنى عدم مؤاخذته بها وعدم العقاب عليها وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة أحسنها ما رواه أبو حمزة الثماليّ عن أحدهما عليهما السلام في حديث طويل (2) عن عليّ عليه السلام :

« قال : سمعت حبيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : أرجى آية في كتاب اللّه « أَقِمِ

ص: 73


1- العنكبوت : 45.
2- صدر الرّواية هكذا : عن أبي حمزة الثّمالي قال سمعت أحدهما عليهما السلام يقول انّ عليا عليه السلام اقبل على النّاس فقال أىّ آية في كتاب اللّه أرجى عندكم فقال بعضهم انّ اللّه لا يغفر ان يشرك به إلخ فقال حسنة وليست ايّاها وقال بعضهم ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه إلخ قال حسنة وليست ايّاها وقال بعضهم قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إلخ قال حسنة وليست ايّاها وقال بعضهم والّذين إذا فعلوا فاحشة إلخ قال حسنة وليست ايّاها قال ثمّ أحجم النّاس فقال ما لكم يا معشر المسلمين فقالوا لا واللّه ما عندنا شي ء قال سمعت حبيبي إلخ راجع تفسير العيّاشي ج 2 ص 161.

الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ » إلى آخرها والّذي بعثني بالحقّ بشيرا ونذيرا إنّ أحدكم ليقوم في وضوئه فيتساقط عن جوارحه الذّنوب فإذا استقبل اللّه بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شي ء كما ولدته أمّه فإن أصاب شيئا بين الصّلوتين كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصّلوات الخمس ثمّ قال : يا عليّ إنّما منزلة الصّلوات الخمس لأمّتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظنّ أحدكم لو كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك واللّه الصّلوات الخمس لأمّتي ».

قوله « ذلِكَ » إشارة إلى ما ذكره من إقامة الصّلاة فإنّ ذلك سبب لذكر اللّه وذكر اللّه سبب لدوام فيض الرّحمة على العباد المستعدّين لها كما قال اللّه تعالى : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) (1).

قوله « ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ » أي عظة للمتّعظين حيث علموا أنّ ذكرهم لله سبب لذكر اللّه إيّاهم.

الثّالثة ( فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ) (2).

أخبار في معنى الأمر بالتّنزيه لله تعالى والثّناء عليه في هذه الأوقات فيكون سبحان مصدرا بمعنى الأمر أي سبّحوا سئل ابن عبّاس هل تجد الصّلوات الخمس في القرآن قال نعم وقرأ هذه الآية ، تمسون صلاة المغرب والعشاء ، وتصبحون صلاة الفجر ، وعشيّا صلاة العصر ، وتظهرون صلاة الظّهر.

ووجه تسمية الصّلاة بالتسبيح أنّ التسبيح تنزيه [ ا ] لله تعالى عن صفات المخلوقين لأنّ المخلوق لا يستحقّ العبادة وكما أنّه منزّه عن صفات المخلوقين كذلك هو متّصف بصفات الكمال الّتي لا يتّصف بها المخلوقون ومن كان كذلك استحقّ مطلق

ص: 74


1- البقرة : 152.
2- الرّوم : 17.

الحمد والثّناء ولذلك قرن الحمد بالتّسبيح وقال « وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ».

وقوله « وَعَشِيًّا » يجوز نصبه على الظّرف عطفا على معنى « فِي السَّماواتِ » لأنّه أقرب ويجوز عطفه على « حِينَ تُمْسُونَ » فيكون « وَلَهُ الْحَمْدُ » اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه فعلى الأوّل يكون تسمية صلاة النّهار حمدا لأنّ الإنسان يتقلّب [ في النهار ] ظ في أحوال توجب الحمد وفي اللّيل على أحوال توجب تنزيه اللّه تعالى عنها كالنّوم وتوابعه.

قال الحسن : إنّ هذه السورة أعني الروم مكيّة إلّا هذه الآية فإنّها مدنيّة وذلك لأنّ الصلوات الخمس إنّما فرضت بالمدينة وكان الواجب في مكّة ركعتين ركعتين فلمّا هاجر أقرّت صلاة السفر وزيدت في الحضر الزيادات المشهورة وأكثر الأقوال على خلافه وأنّ الصلوات كلّها فرضت بمكّة.

واعلم أنّه يقال أمسى إذا دخل في المساء وكذا أصبح وكذا الباقي فعلى هذا يمكن أن يحتجّ بها من يجعل الوجوب مختصّا بأوّل الوقت على التضيّق لتقييد الوجوب بالحينيّة المختصّة بحال الدّخول في المساء والصباح وليس بشي ء لأنّ ذلك إشارة إلى أوّل الوقت فانّ لكلّ صلاة وقتين أوّل للفضيلة وآخر للإجزاء.

ثمّ الذي يدلّ على التوسعة ما تقدّم في قوله « إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ » ورواية ابن عبّاس « عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّ جبرئيل عليه السلام صلّى به في اليوم الأوّل حين صار ظلّ كلّ شي ء مثله وفي اليوم الثّاني حين صار ظلّ كلّ شي ء مثليه وقال ما بينهما وقت » (1) ورواية محمّد بن مسلم « قال ربّما دخلت على أبي جعفر عليه السلام وقد صلّيت الظّهر والعصر فيقول : صلّيت الظّهر؟ فأقول نعم والعصر أيضا فيقول : ما صلّيت الظّهر ، فيقوم مسترسلا غير مستعجل فيغتسل أو يتوضّأ ثمّ يصلّي الظّهر ثمّ [ يصلّي ] العصر » (2).

ص: 75


1- سنن أبى داود ج 1 ص 93.
2- وبعده : وربما دخلت عليه ولم أصلّ الظهر فيقول : صلّيت الظّهر؟ فأقول : لا. فيقول : قد صلّيت الظّهر والعصر. الوسائل ب 7 من أبواب المواقيت ح 10.

الرّابعة ( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) (1).

أي فاصبر على ما يقولون من أنّك ساحر أو شاعر فإنّه لا يضرّك وأقبل على ما ينفعك فعله ويضرّك تركه وهو ذكر اللّه من التّسبيح وغيره ، والباء بمعنى مع أي سبّح مع حمد ربّك على هدايته وتوفيقه ، إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

1 - قال المفسّرون : المراد من هذه الآية إقامة الصّلوات الخمس في هذه الأوقات فقبل طلوع الشّمس إشارة إلى الفجر وقبل غروبها إشارة إلى الظّهرين لكونهما في النّصف الأخير من النّهار ومن آناء اللّيل إشارة إلى العشائين وآناء اللّيل ساعاته جمع إنى بالكسر والقصر وآناء بالفتح والمدّ.

2 - أنّ « من » في « وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ » للابتداء وفيه تنبيه على أنّ ابتداء وقت العشائين من أوّل اللّيل وإنّما قدّم الزمان هنا لاختصاصه بمزيد الفضل فانّ القلب فيه أجمع لتفرّغه عن هموم المعاش أو لأنّ النّفس أميل إلى طلب الاستراحة من تعب الكدّ في النّهار فكان العبادة فيه أحمز ، ولذلك قال اللّه تعالى ( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ) (2) وقال ابن عبّاس : إنّ المراد من آناء اللّيل صلاة اللّيل كلّه.

3 - اختلف في أطراف النّهار فقيل الفجر والمغرب وفيه نظر لأنّ طرفي الشي ء منه لا خارج عنه ، وصلاة المغرب تقع في اللّيل فكيف يكون في النّهار اللّهمّ إلّا على الاحتمال المتقدّم. وقيل الظّهر لأنّ وقته عند الزّوال وهو طرف النّصف الأوّل نهاية وطرف الثّاني بداية ، وقيل العصر أعادها لأنّها الوسطى كما تقدّم وإنّما قال أطراف النّهار لأنّ أوقات العصر تقع في النّصف الأخير من النهار فيصدق على كلّ ساعة منه أنّها طرف أو أنّه جمعه للأمن من الالتباس نحو قوله تعالى ( صَغَتْ قُلُوبُكُما ) (3).

ص: 76


1- طه : 130.
2- المزّمّل : 6.
3- التّحريم : 4.

وقول الشّاعر : ظهراهما مثل ظهور الترسين.

4 - أنّ في الآية نصّا صريحا بسعة الوقت للصّبح والظّهرين لأنّه ذكر أواخر أوقاتها إذ ليس مرادنا بالتّوسعة إلّا أنّ الصّبح يمتدّ إلى طلوع الشّمس وأنّ الظّهرين يمتدّ وقتهما إلى غروبها وأمّا العشاءان فإنّ جعل اللّيل طرفا لهما صريح باتّساع وقتهما.

سؤال : ما ذكرتم من اتّساع الوقت هنا وفيما تقدّم صريح في مذهب ابن بابويه بأنّ الوقت مشترك بين الفرضين من ابتدائه إلى انتهائه إلّا أنّ هذه قبل هذه وأنتم لا تقولون بذلك بل تقولون إنّ الوقت يختصّ من أوّله بالظّهر قدر أدائها ومن آخره بالعصر قدر أدائها وكذا المغرب والعشاء؟.

جواب : لا ريب أنّ ظاهر هذا الكلام بل وظاهر أكثر روايات أهل البيت عليهم السلام يقتضي الاشتراك والدّليل والبحث والإجماع يقتضي الاختصاص وحينئذ يجب الجمع والتوفيق بوجوه : الأوّل أن يراد بالاشتراك ما بعد الاختصاص وقبله.

الثّاني أنه لمّا لم يكن للظّهر وقت مقدّر بل أيّ وقت أدّيت فيه فهو مختصّ بها فإنّها لو كانت تسبيحة كصلاة الشدّة كانت العصر بعدها وأيضا لو ظنّ دخول الوقت وصلّى ولم يكن دخل حين ابتدائه ثمّ دخل فيه قبل إكمالها بلحظة فإنّ أكثر الأصحاب يفتون بالصحّة وحينئذ يصلّي العصر في أوّل الوقت إلّا ذلك القدر فلقلّة الوقت وعدم ضبطه عبّر عنه في الآيات والرّوايات بالاشتراك.

الثّالث أنّ ذلك مطلق قابل للتقييد فيقيّد بما رواه داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن الصّادق عليه السلام « قال إذا زالت الشّمس دخل وقت الظّهر فإذا مضى قدر أربع ركعات دخل وقت الظّهر والعصر حتّى يبقى عن مغرب الشّمس قدر أربع فيخرج وقت الظّهر ويبقى العصر حتّى تغرب الشّمس » (1) ويمكن أيضا أن يكون قوله في الآية السّابقة ( فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ) إلى آخرها إشارة إلى الوقت المختصّ لأنّ الإمساء حال الدّخول في المساء وكذا الإصباح والإظهار

ص: 77


1- الوسائل ب 4 من أبواب المواقيت ح 7.

فيقيّد به إطلاق غيرها من الآيات.

الخامسة ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ ) (1).

وتقرب منها الآية في الطّور ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ ) (2).

الكلام في الآيتين متقارب وبحثه يعلم ممّا تقدّم فلا وجه لإعادته.

بقي ههنا فوائد نوردها مختصرة :

1 - المراد بأدبار السجود التعقيب بعد الصّلوات بالتّسبيح والدّعاء عن ابن عبّاس ، وعن عليّ عليه السلام الركعتان بعد المغرب وعن الصّادق عليه السلام أنّه الوتر آخر اللّيل (3) وعن الجبائيّ النوافل بعد المفروضات وعندي أنّ حمله على العموم أولى والأدبار جمع دبر وقرأ حمزة بكسر الهمزة مصدرا مضافا والكلّ من أدبرت الصّلاة أي انقضت نحو أتيتك خفوق النّجم والمراد هنا وقت انقضاء الصّلاة.

2 - « حين تقوم » قيل : المراد تقوم من مجلسك بأنّه يقول : « سبحانك اللّهمّ وبحمدك لا إله إلّا أنت اغفر لي كلّ ذنب وتب عليّ » عن سعيد بن جبير ، ولذلك ورد مرفوعا أنّه كفّارة المجلس (4) وعن عليّ عليه السلام : « من أحبّ أن يكتال حسناته بالمكيال الأوفى فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه « سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » (5).

وقيل : تقوم في اللّيل من النّوم ، في الحديث عن الباقر والصّادق عليهما السلام أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يقوم من اللّيل ثلاث مرّات فينظر في آفاق السّماء ويقرأ الخمس من آخر

ص: 78


1- ق : 39 و 40.
2- الطّور : 49 و 50.
3- مجمع البيان ذيل الآية الشّريفة.
4- مجمع البيان ذيل الآية الشّريفة.
5- الوسائل ب 24 من أبواب التّعقيب ح 11.

آل عمران إلى قوله « إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ » ثمّ يفتتح صلاة اللّيل (1) وقيل تقوم إلى الصّلاة فعلى هذا يمكن أن يحتجّ به على التوجّه إلى الصّلاة بالأذكار المشهورة.

3 - « إِدْبارَ النُّجُومِ » أي أعقاب النّجوم والمراد حين يسترها ضوء الصّبح ، فقيل المراد صلاة الفجر وعن الباقر والصّادق عليهما السلام الركعتان قبل صلاة الفجر (2) وبه قال ابن عبّاس وقيل المراد لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا ومساء وعلى كلّ حال.

النوع الثّالث : ( في القبلة )

وفيه آيات :

الاولى ( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (3).

أتى بفعل الاستقبال إخبارا عمّا يجي ء أعدادا للجواب إذ قبل الرّمي يراش السّهم أو لتوطين النّفس على المكروه لأنّ المفاجأة به شديدة والسّفهاء خفاف العقول الّذين ألفوا التّقليد وأعرضوا عن النّظر ، والقبلة مثل الجلسة للحال الّتي يقابل الشّي ء غيره عليها كما أنّ الجلسة للحال الّتي يجلس عليها وكان يقال هو لي قبلة وأنا له قبلة ثمّ صار علما للجهة الّتي تستقبل في الصّلاة « ولّاهم » أي صرفهم.

روى عليّ بن إبراهيم بإسناده عن الصّادق عليه السلام : حوّلت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبيّ صلى اللّه عليه وآله بمكّة ثلاث عشر سنة إلى البيت المقدّس وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إليه أيضا بستّة أشهر - وقيل تسعة وقيل عشرة وقيل ثلاثة عشر

ص: 79


1- الوسائل ب 53 من أبواب المواقيت ح 1 - 4.
2- نقله عن مجمع البيان راجع الوسائل ب 17 من أبواب أعداد الفرائض ح 7.
3- البقرة : 142.

شهرا وقيل تسعة عشر - قال ثمّ وجّهه اللّه إلى الكعبة وذلك أنّ اليهود عيّروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بأنّه تابع لهم ويصلّي إلى قبلتهم فاغتمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من ذلك غمّا شديدا وخرج في جوف اللّيل ينظر إلى آفاق السّماء ينتظر من اللّه في ذلك أمرا فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظّهر وكان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظّهر ركعتين فنزل جبرئيل عليه السلام فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة وأنزل عليه « قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ » فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام » وكان قد صلّى ركعتين إلى البيت المقدّس وركعتين إلى الكعبة. فقالت اليهود « ما وَلّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ » إنكارا منهم للنسخ (1).

وقيل القائل منافقوا المدينة حرصا منهم على الطّعن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقيل مشركو مكّة فقالوا إنّه اشتاق إلى مولده وقبلة آبائه وسيرجع إلى دينهم فنزل.

« قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ » أي مالك لهما ولسائر الأمكنة يشرّف ما شاء منهما بالتّوجه إليه بحسب ما يراه من المصلحة أو أنّه تعالى ليس في جهة حتّى إذا انحرف المصلّي عنها انحرف عن اللّه تعالى بل نسبته إلى أمكنة الشّرق والغرب على السّواء وهي نسبة التملّك وإنّما الاعتبار بتوجّه قلب المصلّي إلى اللّه سبحانه ، وتوجّه وجه المصلّي إلى جهة عنوان لتوجّه قلبه ، وحيث إنّ الجهات كلّها متساوية في ذلك فالمرجّح هو الأمر لا خصوصيّة الجهة والمراد بالمشرق والمغرب ما ينقسم من الأرض إليهما ولا واسطة بينهما.

وقال الزمخشريّ المراد بلاد المشرق والمغرب ، فيلزمه أن لا يكون البراري والخربان منهما وليس كذلك.

قوله تعالى ( يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي الطّريق المستقيم بحسب ما يقتضيه المصلحة والحكمة تارة إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ، ووجه كون التوجّه إلى الكعبة صراطا مستقيما أنّه غير مائل إلى قبلة اليهود وهو بيت المقدس

ص: 80


1- مجمع البيان ج 1 ص 222. تفسير القمي ص 53 مع تقديم وتأخير وأخرجه في البرهان ج 1 ص 158.

ولا إلى قبلة النّصارى وهو المشرق فإنّ اليمين والشّمال مضلّة لأنّ التوجّه إليهما مظنّة أنّ العبادة للشّمس وفي الآية دلالة على جواز النّسخ ووقوعه.

الثّانية ( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (1)

هنا فوائد :

1 - « وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ » يحتمل وجهين :أحدهما أنّه ضمن الجعل معنى التّحويل أو أنّه من باب إطلاق العامّ على الخاصّ والمراد وما حوّلنا إذ التحويل جعل أيضا وهذا بناء على أنّه صلى اللّه عليه وآله كان يتوجّه في مكّة قبل هجرته إلى البيت المقدّس كما نقلناه عن الصّادق عليه السلام ورواه ابن عبّاس إلّا أنّه كان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس في الصّلاة وثانيهما أنّ الموصوف محذوف والتقدير وما جعلنا القبلة الجهة الّتي كنت عليها وهي الكعبة ويكون « الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها » هو المفعول الثّاني « لَجَعَلْنا » لا أنّه صفة للقبلة كما قيل وهذا بناء على أنّه كان يصلّي بمكّة إلى الكعبة كما قاله بعض المفسّرين وإنّما صلّى إلى الصخرة في المدينة تألّفا لليهود فالمخبر به على الأوّل المنسوخ وعلى الثّاني النّاسخ والأوّل أصحّ لأنّه قول علماء أهل البيت عليهم السلام.

2 - « إِلّا لِنَعْلَمَ » (2) ضمّن العلم معنى التّمييزأي لنتميّز بالعلم فانّ العلم صفة

ص: 81


1- البقرة : 143.
2- قال الطّبرسي في مجمع البيان : في معنى قوله تعالى ( لِنَعْلَمَ ) أقوال : أوّلها أن معناه ليعلم حزبنا من النّبي صلى اللّه عليه وآله والمؤمنين كما يقول الملك فتحنا بلد كذا وفعلنا كذا ، أى فتح أولياؤنا. والثّاني أنّ معناه ليحصل المعلوم موجودا وتقديره لنعلم انّه موجود ، ولا يصحّ وصفه بأنّه عالم بوجود المعلوم قبل وجوده والثّالث أنّ معناه لنعاملكم معاملة الممتحن الّذي كان لا يعلم إذ العدل يوجب ذلك من حيث لو عاملهم بما يعلم انّه يكون منهم قبل وقوعه كان ظلما والرّابع ما قاله علم الهدى المرتضى وهو ان قوله لنعلم يقتضي حقيقته ان يعلم هو وغيره ولا يحصل علمه مع علم غيره الّا بعد حصول علم الاتّباع فامّا قبل حصوله فيكون القديم تعالى هو المتفرّد بالعلم به فصحّ ظاهر الآية انتهى.

تقتضي تميّز المعلوم فيتميّز النّاس التّابعون لك والنّاكصون عنك وذلك إمّا بمكّة فأمرناك ببيت المقدس ليمتاز من يتّبعك من مشركي مكّة لأنّهم ألفوا التوجّه إلى الكعبة وإمّا بالمدينة فأمرناك بالكعبة ليمتاز منافقوا اليهود لأنّهم كانوا يتوجّهون إلى البيت المقدّس ، وقيل المراد بذلك : لنعلم ذلك علما يتعلّق به الجزاء ، أي لنعلمه موجودا قاله الزّمخشريّ وفيه ضعف لا يخفى. « مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ » أي يرتدّ عن دينك وفي ذلك دلالة على كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض.

3 - « وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً » أي التّحويلة خصلة كبيرة على ضعفاء العقول والإيمان لعدم فهمهم الحكمة فيها وقد بيّن ذلك بقوله « إِلّا لِنَعْلَمَ » وهذا كما ميّز بين الصّادقين في الإيمان وبين غيرهم من امّة طالوت وداود بقوله ( إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ) (1) الآية. « إِلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ » إلى معرفة حكمته في أحكامه.

4 - « وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ » أي ثبات أيمانكم أو إيمانكم بتحويل القبلة وحكمته أو ما رواه ابن عبّاس أنّ القبلة لمّا حوّلت قال النّاس : كيف بمن مات قبل التّحويل من إخواننا فنزلت (2) واللّام في « لَكَبِيرَةً » هي الفاصلة بين إن المخفّفة والنّافية وفي « لِيُضِيعَ » لام تأكيد النّفي وينتصب الفعل بتقدير أن لكن لا يجوز إظهارها « إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ » لا يضيع أجورهم ولا يغفل عن

ص: 82


1- البقرة : 249.
2- قال الطّبرسي في مجمع البيان : قيل فيه أقوال : أحدها انّه لما حوّلت القبلة قال أناس : كيف بأعمالنا الّتي كنا نعمل في قبلتنا الاولى فأنزل اللّه ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) عن ابن عبّاس وقتادة. وقيل انّهم قالوا : كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك وكان قد مات أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وكانا من النّقباء. راجع ج 1 ص 225.

مصالحهم وقدّم الرّؤف وهو أبلغ لتوافق الفواصل.

الثّالثة ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ ) (1).

في الآية فوائد :

1 - المشهور أنّ « قَدْ نَرى » معناه ربّما نرى ومعناه التّكثيركقوله « قد أنرك القرن مصفرا أنامله » (2) والتّحقيق أنّه على أصل التّقليل في دخوله على المضارع وإنّما قلّل الرّؤية لتقلّل المرئيّ فإنّ الفعل كما يقلّ في نفسه فكذلك يقلّ لقلّة متعلّقه ولا يلزم من قلّة الفعل المتعلّق قلّة الفعل المطلق لأنّه لا يلزم من عدم المقيّد عدم المطلق وكذا القول في ( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ) (3) وكذا في البيت المراد تقليل التّرك لقلّة متعلّقه فلا ينافي كثرة مطلق التّرك المقصود للشّاعر.

2 - « تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ » أي تردّد وجهك وتصرّف نظرك تطلّعا للوحي كذا قيل والتّحقيق أنّه لا يجوز تعلّق « فِي السَّماءِ » ب « نرى » لتنزّه الرّائي عن المكان ولا بالتّقلّب لأنّ تقلّب الوجه ليس في السّماء ولا بصفة مقدّرة أي وجهك الكائن في السّماء لما قلناه بل تقديره تقلّب مطارح شعاع عين وجهك في السّماء ومطارح شعاع العين في السّماء.

بيان غلط : ظهر لك ممّا قرّرناه غلط من استدلّ بهذه الآية على كون الباري تعالى في جهة السّماء من حيث توقّعه صلى اللّه عليه وآله نزول الحكم من السّماء والحكم يجي ء من عند اللّه تعالى فيكون في السّماء وأقرّ على ذلك من غير إنكار. جوابه أنّه كان ينتظر الوحي من جهتها على لسان جبرئيل عليه السلام ولا يلزم من ذلك كون الباري فيها وإلّا

ص: 83


1- البقرة : 144.
2- بعده : كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد ، والفرصاد الصبغ الأحمر أو التّوت الأحمر.
3- الأحزاب : 18.

لزم من صعود الملائكة بالأمر من الأرض أن يكون اللّه فيها وهو باطل.

3 - ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) تقدّم أنّه أمر بالتوجّه إلى الصخرة تألّفا لليهود وكان صلى اللّه عليه وآله يحبّ التوجّه إلى الكعبة لأنّها قبلة أبيه إبراهيم أو لما تقدّم أنّ اليهود قالوا يخالفنا محمّد في ديننا ويصلّي إلى قبلتنا فقال صلى اللّه عليه وآله لجبرئيل وددت أن يحوّلني اللّه إلى الكعبة فقال جبرئيل عليه السلام إنّما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فاسأل أنت فإنّك عند اللّه بمكان فعرج جبرئيل وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يديم النّظر إلى السّماء رجاء أن ينزل جبرئيل بما يحبّ من أمر القبلة فنزلت ، وقيل كان قد وعد بالتّحويل فكان ينتظره ويترقّبه لموافقته لمحبّته الطّبيعيّة ولا يلزم كونه ساخطا للقبلة الاولى.

« فَلَنُوَلِّيَنَّكَ » من قولهم ولّيت فلانا الأمر أي مكّنته منه وحكّمته فيه « وترضاها » صفة ل « قبلة » أي مرضيّة لك.

4 - ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) هو النّاسخ للتوجّه إلى الصخرة وكان ذلك في رجب قبل قتال بدر بشهرين قال ابن عبّاس هو أوّل نسخ وقع في القرآن وقيل هو نسخ للسنّة بالكتاب فإنّه ليس في القرآن أمر بالتوجّه إلى الصخرة صريحا. ثمّ اعلم أنّ الأمر هنا على التحتّم والجزم لا على التّخيير كما قيل لانعقاد الإجماع على بطلان التوجّه إلى الصخرة والشّطر هو النّحو والجهة قاله الجوهريّ وأنشد :

أقول لامّ زنباع أقيمي *** وجوه العيس شطر بني تميم (1)

وقرأ أبيّ « تلقاء المسجد الحرام » وقول الجبّائي إنّ الشّطر النّصف باطل باتّفاق المفسّرين وإنّما كان حراما لحرمة القتال فيه أو لمنعه من الظّلمة أن يتعرّضوه.

ص: 84


1- الصّحاح طبعة شربتلى ص 697. وفيه صدور العير. والبيت لأبي جندب الهذلي أخي أبي خراشة أوّل أبيات قالها يخاطب بها أمرته أمّ زنباع من بنى كلب بن عوف ، في قصّة نقلها في الأغاني. واستشهد بالبيت الشّيخ قدس سره في التّهذيب باب القبلة وفيه أقرئ صدور العيس والشّوكانى في فتح القدير عند تفسير الآية ونسبه في تفسير الرّازي إلى ساعدة بن جوية ، والعيس جمع عيساء كبيضاء الإبل البيض يخلط بياضها شقرة.

تحقيق : المحقّقون من أصحابنا على أنّ القبلة هي الكعبة بالحقيقة لمن كان مشاهدا لها أو في حكمه كالأعمى ومن كان بينه وبينها ما لو أزيل لشاهدها وأمّا من ليس كذلك فقبلته الجهة وبه قال جملة الفقهاء وهو الحقّ لوجوه الأوّل إجماع العلماء على وجوب استقبالها لمن هو مشاهد لها دون شي ء من أجزاء المسجد فتكون هي القبلة الثّاني رواية أسامة بن زيد أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله صلّى قبل الكعبة وقال هذه القبلة (1) الثّالث رواية الأصحاب عن أحدهما عليهما السلام أنّ بني عبد الأشهل أتوا وهم في الصّلاة وقد صلّوا ركعتين إلى البيت المقدّس فقيل إنّ نبيّكم قد صرف إلى الكعبة فتحوّل النساء مكان الرّجال والرّجال مكان النّساء وجعلوا الرّكعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلّوا صلاة واحدة إلى القبلتين فلذلك سمّوا مسجدهم مسجد القبلتين ، وغير ذلك من الرّوايات (2).

سؤال : على قولكم هذا لم قال « فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » أليس كان ينبغي أن يقول : فولّ وجهك إلى الكعبة.

جواب : قال اللّه تعالى ذلك وهو صلى اللّه عليه وآله في المدينة ولا ريب أنّ البعيد فرضه الجهة لا العين لأنّه حرج وأيضا لو كان الواجب التوجّه إلى المسجد أو جهته عملا بظاهر الآية لوجب ذلك أيضا للحاضر المشاهد واللّازم كالملزوم في البطلان وبيان الملازمة ظاهر إن قلت ذلك مسلّم لولا المخصّص قلت الجواب بضعف المخصّص إذ رواته بعضها عاميّ المذهب وبعضها زيديّ وبعضها مرسل وأمّا رواية المفضّل بن عمر

ص: 85


1- راجع المغني لابن قدامه ج 1 ص 439 وتفسير الطّبري ج 2 ص 23 عند تفسير الآية وفيهما : انّ النّبي صلى اللّه عليه وآله صلّى ركعتين قبل القبلة ثمّ قال هذه القبلة. نعم في رواية في تفسير الطّبري عن أسامة قال : خرج النّبي صلى اللّه عليه وآله من البيت فصلّى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة فقال هذه القبلة مرّتين. وأظنّ انّ كلمة « قبل القبلة » في المغني وبعض روايات الطّبري من سهو الناسخ.
2- الوسائل ب 2 من أبواب القبلة ح 1 و 12 وغيره.

الجعفيّ فقد طعن الكشّيّ فيه بفساد العقيدة (1).

تنبيه : في تعبيره بالشّطر بمعنى الجهة إيماء إلى أنّ أمر القبلة مبنيّ على المساهلة والمقاربة دون التّحقيق فإنّ العراقيّ والخراسانيّ [ علامة ] قبلتهم واحدة مع أنّه إذا حقّق كان توجّه العراقيّ إلى غير موضع الخراساني لاختلاف البلدان في العروض.

5 - « وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ » خصّه صلى اللّه عليه وآله بالأمر أوّلا تعظيما لشأنه وإجابة لرغبته ثمّ عمّم بالأمر تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة وحضّا للأمّة على المتابعة ، وحيثما للمكان أي في أيّ مكان كنتم ويلزم من ذلك أن

ص: 86


1- تلك الرّوايات مرويّة في الوسائل ب 3 و 4 من أبواب القبلة ، مفادها ان البيت قبلة المسجد والمسجد قبلة الحرم والحرم قبلة أهل الدنيا وإليك تفصيلها وما فيها : ألف - روى الشّيخ قدس سره في التهذيب ج 2 ص 44 عن محمد بن احمد بن يحيى عن الحسن بن الحسين عن عبد اللّه بن محمد الحجال عن بعض رجاله « عن أبى عبد اللّه عليه السلام انّ اللّه تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم وجعل الحرم قبلة لأهل الدّنيا » ورواها الصّدوق في العلل بهذا الطّريق وهي كما ترى مرسلة مع ما في رواية محمّد بن احمد بن يحيى عن الحسن بن الحسين وتضعيف ابن الوليد أمثالهما بل تضعيف ابن بابويه رواية الحسن مطلقا راجع ترجمته. ب - وبإسناده عن ابى العباس بن عقده عن الحسين بن محمد بن حازم عن تغلب بن الضحّاك قال حدثنا بشر بن جعفر الجعفي أبو الوليد « قال سمعت جعفر بن محمّد عليهما السلام يقول : البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة للنّاس جميعا ». وأصحاب الرّجال لم يعنونوا تغلب بن الضّحاك ولا ثعلبة بن الضّحاك ولا الحسين بن محمّد بن حازم وبشر بن جعفر مجهول وأبو العباس بن عقدة وهو احمد بن محمد بن سعيد الحافظ زيدي. ج - وبإسناده عن المفضّل بن عمر أنّه سال أبا عبد اللّه عليه السلام عن التّحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة وعن السّبب فيه ، فقال : « انّ الحجر الأسود لمّا انزل به من الجنّة ووضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر الأسود فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يسارها ثمانية أميال كلّه اثنى عشر ميلا فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حدّ القبلة لقلّة أنصاب الحرم وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عن حدّ القبلة » ، ورواها الصّدوق في العلل ص 114 والفقيه ج 1 ص 88. ومفضّل بن عمر هو الّذي ضعّفه جمهور الأصحاب. د - وروى الصّدوق ره في العلل ص 114 عن محمد بن الحسن الصّفار عن العبّاس بن معروف عن علىّ بن مهزيار عن الحسين بن سعيد عن إبراهيم بن ابى البلاد عن ابى غرة قال « قال أبو عبد اللّه عليه السلام البيت قبلة المسجد والمسجد قبلة مكة ومكة قبلة الحرم والحرم قبلة الدّنيا » ونقلها في الحدائق ج 7 ص 474 ، ورواتها كلّها ثقات إلّا أبي غرة فإنّه مجهول : لم يذكر له مدح ولا ذمّ. والرّجل إبراهيم بن عبيد الأنصاري عدّه الشّيخ من أصحاب الصّادق عليه السلام وفي الرّواية عدّ مكة قبلة الحرم وليس في غيرها ولم يقل به احد. ه - وروى عن مكحول عن عبد اللّه بن عبد الرّحمن قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « الكعبة قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الدّنيا » ذكره في المعتبر ص 144 والرّواية نبويّ.

يكون أهل العالم في صلواتهم على دوائر حول المسجد بعضها صغيرة قريبة وبعضها كبيرة بعيدة.

6 - ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) الضمير عائد إلى التّحويل أو التوجّه لأنّهم يعلمون جملة أنّ كلّ شريعة لا بدّ لها من قبلة وتفصيلا لتضمّن كتبهم أنّه صلى اللّه عليه وآله يصلّي إلى القبلتين لكنّهم لا يعترفون بذلك لشدّة عنادهم « وَمَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ » بالياء - وعيد لأهل الكتاب وبالتّاء وعد لهذه الأمّة.

الرّابعة ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ) (1).

في هذه الآية إخبارات يلزمها أحكام :

ص: 87


1- البقرة : 145.

1 - أنّه أخبره أنّ أهل الكتاب لا يسلمون ولا يتّبعون قبلته فقوله « وَلَئِنْ أَتَيْتَ » اللّام موطّئة لقسم محذوف و « الَّذِينَ » مع صلته مفعول به والباء في « بِكُلِّ آيَةٍ » للمصاحبة نحو قولك أتيت الأمير بحجّتي أي مع حجّتي و « ما تَبِعُوا » جواب القسم واستغني به عن جواب الشّرط لأنّهما في المعنى واحد والغرض من الكلام قطع طمعه صلى اللّه عليه وآله في صلاحهم لأنّهم لم يتركوا متابعته لشبهة حتّى تزول ببرهان ودليل بل عنادا ولذلك قال علماء الحكمة العمليّة : إنّ علاج الجهل المركّب غير ممكن. وهل هذا عامّ في أهل الكتاب أو خاصّ بالمعاندين منهم الأولى الثاني لأنّ منهم من أسلم وتبع قبلته ولا بعد في ذلك لأنّ العامّ قابل للتّخصيص قال ابن عبّاس ما من عامّ إلّا وقد خصّ إلّا قوله « وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » مع أنّ من جملة الحكماء وغيرهم قوما قالوا لا يعلم ذاته ولا الجزئيّ الزمانيّ.

2 - أخبر أنّه صلى اللّه عليه وآله ليس بتابع قبلتهم وفيه قطع لأطماعهم لأنّهم قالوا لو ثبت على قبلتنا لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا ، وإنّما وحّد القبلة مع أنّ لليهود بيت المقدس وللنصارى مطلع الشمس إرادة لمعنى الجنس الصّادق في حالتي الإفراد وغيره.

3 - أنّ كلّ واحد من أهل القبلتين لا يتّبع قبلة الأخرى بدلالة قوله تعالى ( وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) وكذا قوله عنهم ( وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ ) (1).

4 - أنّه توعّده صلى اللّه عليه وآله على اتّباع أهوائهم بأنه يكون في عداد الظّالمين مبالغة في قطع طمعهم والشّرطية قد يتركّب من محالين كقولنا إن كان زيد حجرا فهو جماد.

قوله ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) (2) أي لكلّ شخص والتّنوين بدل المضاف إليه والوجهة والجهة بمعنى واحد ويقرب أن يكون المراد منه أنّ لكلّ نبيّ جهة يتعبّد بالتوجّه إليها أو يكون المراد أنّ لأهل كلّ إقليم من المسلمين جهة من جهات الكعبة يتوجّهون إليها كالّذي فيه الحجر لأهل العراق والّذي مقابله لأهل

ص: 88


1- البقرة : 113.
2- البقرة : 148.

المغرب واليماني لأهل اليمن والّذي مقابله لأهل الشام. قوله « هُوَ مُوَلِّيها » أي ولّاه اللّه إيّاها أي أمره بتولّيها [ وقرئ « هو مولاها » أي هو مولّى تلك الجهة ظ ] وهي قراءة ابن عامر والباقون « مولّيها » بالياء أي هو مولّيها وجهه حذف المفعول الثّاني أو الضّمير لله أي اللّه مولّيها.

الخامسة ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ ) (1).

لمّا أمره بالتوجّه إلى جهة المسجد الحرام أمرا مطلقا محتملا للتقييد وعدمه بيّن له أنّ ذلك واجب في كلّ مكان وعلى كلّ حالة فقال « وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ » أي من أيّ مكان خرجت وصلّيت ( فَوَلِّ وَجْهَكَ ) والضّمير في إنّه عائد إلى الأمر أي أمرك بذلك هو الحقّ وأكّده بالإتيان بالجملة الاسميّة وإنّ واللّام في خبرها ووصفه بالحقّ أي الثابت الّذي لا يزول كلّ ذلك دافع لاحتمال النّسخ.

السّادسة ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (2).

تقدّم البحث في صدر هذه الآية بقي فيها فوائد :

1 - سبب التّكرار، ذكر له وجوه : الأوّل أنّه من باب التّأكيد اللّفظيّ فإنّه يجي ء في المفرد والجملة. الثّاني تأكيد أمر القبلة في دفع احتمال النّسخ فانّ كلّ حكم شرعيّ في مظنّة أن ينسخ. الثّالث أنّه أعيد ليتعلّق عليه ما بعده من الكلام كما في قوله هنا « لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ » إلخ وكذا ما تقدّم. الرّابع أنّه مهما أمكن حمل الكلام على معنى فلا يعدل عنها إلّا للضرورة وإذا كان كذلك فلا تكرار كما تقول هنا : إنّ الراد من الأوّل إذا خرجت مترقّبا للوحي في أمر القبلة طالبا للصّلاة

ص: 89


1- البقرة : 149.
2- البقرة : 150.

في مسجدك فولّ وجهك وكذلك أصحابك حيث كانوا من المواضع في المدينة ومن الثّاني إذا خرجت إلى السّفر وأردت الصّلاة ومن الثّالث أيّ مكان كنتم من البلاد فولّوا وجوهكم أو على أيّ حالة كنتم حاضرين أو مسافرين. الخامس أنّه كرّره لتعدّد علله فإنّه ذكر للتّحويل ثلاث علل تعظيم الرّسول بابتغاء مرضاته وجري العادة الإلهيّة أنّه يولّي كلّ صاحب دعوة وأهل كلّ ملّة جهة يستقبلها ويتميّز بها عن غيره ودفع حجّة المخالفين على ما بيّنه وقرن بكل علّة معلولها كما يقرن المدلول بكلّ واحد من دلائله.

2 - « لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ » أي أمرتم بالتوجّه إلى الكعبة لئلّا يكون ، فإنّ العرب يقولون إنّه على ملّة إبراهيم كما يزعم وقبلة إبراهيم الكعبة واليهود عندهم في التورية أنّه يصلّي إلى الكعبة بعد صلوته إلى الصّخرة فلو دمتم على بيت المقدس لتوجّه ذلك الإيراد من الطّائفتين عليكم « إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ » أي المعاندين من أولئك « فَلا تَخْشَوْهُمْ » فانّي من ورائكم « وَاخْشَوْنِي » بمخالفتكم وسمّى شبهة الّذين ظلموا حجّة بالنّسبة إلى اعتقاد موردها.

3 - « وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ » عطف على قوله « لِئَلّا يَكُونَ » أي وجوب التّولية ليتمّ نعمتي عليكم فانّ قبلتكم وسط كما أنّ نبيّكم وسط وشريعتكم وسط وأنتم أمّة وسط « وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » سبب ثالث غائيّ للتّولية.

السّابعة : ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (1).

قيل : إنّها نزلت ردّا على اليهود في اعتراضهم على النّبيّ صلى اللّه عليه وآله في توجّهه إلى الكعبة وقيل إنّه كان في مبدء الإسلام مخيّرا في التوجّه إلى الصخرة أو الكعبة بهذه الآية فنسخ بقوله « فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » وقيل نزلت في الدّعاء والأذكار وعن الباقر والصّادق عليهما السلام أنّ هذه الآية في النّافلة سفرا حيث توجّهت

ص: 90


1- البقرة : 116.

الرّاحلة وقوله « فَوَلِّ وَجْهَكَ » في الفريضة لا يجوز فيها غير ذلك (1) فهذه الآية خاصّة بالنّافلة سفرا.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه مهما أمكن تكثير الفائدة مع بقاء اللّفظ على عمومه كان أولى فعلى هذا يمكن أن يحتجّ بالآية في الفريضة على مسائل :

1 - صحّة صلاة الظانّ أو النّاسي فتبيّن خطاؤه وهو في الصّلاة غير مستدبر ولا مشرّق ولا مغرّب فيستدير.

2 - صلاة الظّانّ فتبيّن خطاؤه بعد فراغه وكان التّوجّه بين المشرق والمغرب فتصحّ.

3 - الصّورة بحالها وكانت صلاته إلى المشرق أو المغرب والتبيّن بعد خروج الوقت.

4 - المتحيّر الفاقد الامارات يصلّي إلى أربع جهات وتصحّ صلوته.

5 - صحّة صلاة شدّة الخوف حيث توجّه المصلّي.

6 - صحّة صلاة الماشي ضرورة عند ضيق الوقت متوجّها إلى غير القبلة.

7 - صحّة صلاة مريض لا يمكنه التوجّه بنفسه ولم يوجد غيره عنده يوجّهه.

وأمّا الاحتجاج بها على صحّة النّافلة حضرا ففيه نظر لمخالفته فعل النّبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه لم ينقل عنه فعل ذلك ولا أمره به ولا تقريره فيكون إدخالا في الشّرع ما ليس منه نعم يحتجّ بها على موضع الإجماع وهو حال السّفر والحرب ويكون ذلك مخصّصا لعموم قوله تعالى ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ ) بما عدا ذلك وهو المطلوب.

قوله « إِنَّ اللّهَ واسِعٌ » أي واسع الرّحمة لعباده لم يشدّد عليهم « عَلِيمٌ » أي بمصالحهم وغيرها فيدبّرهم بعلمه.

ص: 91


1- الوسائل ب 15 من أبواب القبلة ح 18 و 19 و 23. وراجع تفسير العيّاشي ج 1 ص 57.

الثّامنة ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).

سمّيت كعبة لتربيعها وكان المربّع مكعّبا لنتوء زواياه وقرأ ابن عامر « قيما » والباقون « قياما » مصدرا كالصّيام والعياذ والمعنى أنّ اللّه جعلها لتقويم النّاس والتوجّه إليها في متعبّداتهم ومعاشهم أمّا المتعبّدات فالصّلاة إليها والطّواف حولها والتوجّه إليها في ذبائحهم واحتضار موتاهم وغسلهم ودفنهم ودعائهم وقضاء [ أ ] حكامهم وهنا قيل بالعكس وأمّا معاشهم فآمنهم عندها من المخاوف وأذى الظّالمين وتحصيل الرّزق عندها بالمعاش والاجتماع العامّ عندها بجملة الخلق الّذي هو أحد أسباب انتظام معاشهم إلى غير ذلك من الفوائد قوله « ذلِكَ » أي ذلك الجعل « لِتَعْلَمُوا » أنّه تعالى عالم بكلّ معلوم فيعلم أسرار الموجودات وعواقب أمرها فيدبّرها بعلمه وحكمته.

النّوع الرّابع : ( في مقدمات أخر للصّلاة )

اشارة

وفيه آيات :

الاولى ( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (2).

في الآية فوائد :

1 - إنّما قال أنزلنا لأنّ التّأثير بسبب العلويّات أو عند مقابلاتها وملاقياتها

ص: 92


1- المائدة : 100.
2- الأعراف : 25.

على اختلاف الرأيين والتأثّر للسفليّات ويجوز عليكم باعتبار التّأثير وإليكم باعتبار التأثّر.

2 - اللّباس اسم لما يلبس والمواراة السّتر والسوءة العورة وإنّما سمّيت سوءة لأنّ صاحبها يسوؤه كشفها لاقتضاء طبيعة الإنسان ذلك ليتميّز عن باقي الحيوانات والرّيش مصدر قولهم رشت فلانا إذا أصلحت حاله ثمّ استعمل اسما بمعنى الثّوب الفاخر الّذي يتجمّل به وقرأ عثمان في الشواذّ رياشا وهو بمعنى ريش بشهادة الجوهريّ مثل اللّبس واللّباس.

وقال الزّمخشريّ : إنّه جمع ريش كشعب وشعاب وفيه نظر لأنّ الجمع غير مراد هنا وقرأ ابن عامر والكسائيّ لباس التّقوى بالنّصب عطفا على لباسا ويجوز على ريشا وقرأ الباقون بالرّفع خبر مبتدأ ويجي ء الكلام عليه.

3 - أنّه تعالى ذكر لحكمة إنزال اللّباس ثلاثة أغراض :

أحدها ستر العورة وينقسم أقساما الأوّل أن يكون واجبا مطلقا عن كلّ ناظر محترم وغيره حتّى عن نفسه وهو حالة الصّلاة والمراد بذلك للرّجل القبل والدّبر وهو قول أكثر علمائنا وقال شاذّ منهم أنّه ما بين السرّة والركبة وأمّا المرأة فجسدها كلّه عورة عدا الوجه والكفّين والقدمين وقال ابن عباس في قوله تعالى : ( إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها ) (1) المراد الوجه والكفّان الثّاني أن يكون واجبا لا مطلقا بل عن كلّ ناظر محترم غير مكفوف بعمي وغيره لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لعن الناظر والمنظور إليه (2) كما في غير الصّلاة من سائر الحالات الثّالث أن يكون مستحبّا وهو في الصّلاة وهو ستر ما بين السرّة والرّكبة وأفضل منه ستر البدن كلّه وفي غير الصّلاة مستحبّا مطلقا ولو في الخلوة حتّى وهو في الماء.

وثانيها التجمّل به بين النّاس فانّ اللّه يحبّ أن يرى آثار نعمه على عبده وقد لبس زين العابدين عليه السلام ثوبين للصيف بخمسمائة درهم وأصيب الحسين عليه السلام و

ص: 93


1- النور : 31.
2- الوسائل ب 3 من أبواب آداب الحمّام ح 5.

عليه الخز ولبس الصّادق عليه السلام الخزّ (1).

وثالثها كونه للتّقوى قيل المراد به ما يحترز به عن الضّرر كالحرّ والبرد وحال الحرب وليس بشي ء إذ التقوى عرفا وشرعا يراد بها الطّاعة وقيل ما يقصد به العبادة أو الخشية من اللّه تعالى والتّواضع له كالصّوف والشّعر.

4 - يظهر من كلام الزمخشريّ كون الأغراض الثّلاثة لثلاثة أثواب وفيه تكلّف والأولى أنّ اللّباس يوصف بالصّفات الثلاث لإمكان كون الثوب الواحد يجتمع فيه الأغراض الثّلاثة فيكون أبلغ في الحكمة فعلى هذا يكون قراءة الرفع في « ولباس » على أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو أيضا لباس التقوى.

5 - « ذلِكَ خَيْرٌ » يحتمل أن يكون « خير » أفعل التفضيل كما هو المشهور فيكون ذلك إشارة إمّا إلى لباس التّقوى أو إلى اللباس الجامع للصّفات الثلاث ويحتمل أن لا يكون أفعل التفضيل وتنكيره للتعظيم أي ذلك اللباس الجامع للصفات خير عظيم أنزل ولذلك أردفه بقوله « ذلِكَ مِنْ آياتِ اللّهِ » أي إنزال اللّباس الموصوف على نوع الإنسان آية عظيمة دالّة على غاية حكمة اللّه سبحانه ونهاية رحمته « لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » أي يتذكّرون ما دلّت عليه عقولهم الصّريحة من حكمة اللّه وعنايته الشّاملة لبريّته.

الثّانية ( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (2).

روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال كان العرب يطوفون بالبيت عراة ويعلّلون ذلك بأنّهم لا يطوفون في ثياب قد عصوا اللّه فيها فطافت امرأة وعلى فرجها خرقة أو سير وهي تقول :

ص: 94


1- تفسير العيّاشي : ج 2 ص 14 - 15. الوسائل ب 54 من أبواب لباس المصلى ، قرب الاسناد ص 157.
2- الأعراف : 30.

اليوم يبدو بعضه أو كلّه *** فما بدا منه فلا أحلّه

فنزلت. (1) واتّفق المفسّرون على أنّ المراد بأخذ الزّينة هو ستر العورة في الصّلاة وهنا أحكام :

1 - الستر واجب لصريح الأمر والأمر للوجوب.

2 - هل السّتر شرط في الصّحة مع الإمكان مطلقا أو مقيّدا بحال العمد ، الشّيخ وابن سعيد على الثّاني وابن الجنيد على الأوّل وهو الأقوى ويظهر الفائدة في الناسي وغير العالم بالكشف فأوجب ابن الجنيد الإعادة عليهما في الوقت خاصّة والحقّ الوجوب مطلقا لأنّ الإخلال بالشّرط الواجب مطلقا مبطل مطلقا كالطّهارة.

3 - لا يسقط الصّلاة مع عدم السّاتر بل يجب فإن أمن المطّلع صلّى قائما مؤميا ومع عدم أمنه جالسا مؤميا.

4 - يجب شراء السّاتر أو استيجاره ويقدّم ثمنه على ثمن الماء لو تعارضا إذ الماء له بدل وكذا يجب قبول إعارته وهبته لا قبول هبة ثمنه.

5 - يجب كونه غير ميتة لما يجي ء ولا جلد غير مأكول ولا صوفه ولا شعره ولا ريشه مطلقا إلّا الخزّ إجماعا والسّنجاب على قول ويزيد في الرّجل أن لا يكون حريرا محضا ولا ذهبا.

قوله « عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ » أي كلّ صلاة تسمية الحالّ باسم المحلّ وعن الباقر والصّادق عليهما السلام هو استحباب لبس أجمل الثياب في الجمع والأعياد (2) وفيه دليل على استحباب التحسّن في الصّلاة لا التّخشّن اللّهمّ إلّا أن يكون الخشن شعارا (3) كما فعل الرّضا عليه السلام في لبسه الخزّ فوق والصّوف تحت وقضيّته مع جهلة الصّوفية مشهورة (4).

ص: 95


1- راجع الدّر المنثور ومجمع البيان ذيل الآية.
2- تفسير العيّاشي ج 2 ص 13 والوسائل ب 54 من أبواب لباس المصلّى.
3- تفسير العيّاشي ج 2 ص 13 والوسائل ب 54 من أبواب لباس المصلّى.
4- دخل عليه بخراسان قوم من الصوفية فقالوا ان أمير المؤمنين المأمون نظر فيما ولّاه اللّه تعالى من الأمر فرآكم أهل البيت أولى النّاس بأن تؤموا النّاس ونظر فيكم أهل البيت فرآك أولى النّاس بالنّاس فرأى أن يرد هذا الأمر إليك والأمة تحتاج الى من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويركب الحمار ويعود المريض وكان الرّضا عليه السلام متّكئا فاستوى جالسا ثم قال : كان يوسف نبيّا يلبس أقبية الدّيباج المطرّزة بالذهب ويجلس على متّكئات آل فرعون ويحكم انّما يراد من الامام قسطه وعدله وإذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز انّ اللّه لم يحرم ملبوسا ولا مأكولا وتلا « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ». راجع كشف الغمّة ج 3 ص 147.

قوله ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) كان بنو عامر في أيّام حجّهم لا يأكلون الطّعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظّمون بذلك حجّهم فقال المسلمون نحن أحقّ بفعل ذلك فنزلت الآية.

واعلم أنّ خصوص السّبب لا يخصّ العامّ كما بيّن في الأصول فالآية حينئذ عامّة في الأمر بالأكل والشّرب وعدم الإسراف فيهما وفيه جمع لقواعد الطبّ البدنيّ في بعض آية وكذا جمع النبيّ صلى اللّه عليه وآله في قوله : « المعدة بيت الداء والحميّة رأس الدّواء وأعط كلّ بدن ما عوّدته » وقضيّة عليّ بن واقد بين يدي الرّشيد مع بختيشوع الطّبيب مشهورة (1).

الثّالثة ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (2).

لا ريب أنّ إسناد التّحريم إلى الذّوات ليس حقيقة لكونها غير مقدورة فلا بدّ من تقدير مضاف يتعلّق به التّحريم فقال قوم ليس بعض المقدّرات أولى من بعض

ص: 96


1- قال الزّمخشري في الكشّاف : يحكى أن الرّشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق فقال ذات يوم لعلىّ بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شي ء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان. فقال له قد جمع اللّه الطّب كلّه في نصف آية من كتابه قال وما هي؟ قال قوله « كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا » فقال النّصراني هل يؤثر من رسولكم شي ء في الطّب فقال قد جمع رسولنا صلى اللّه عليه وآله الطّب في ألفاظ يسيرة قال وما هي قال قوله « المعدة بيت الدّاء والحميّة رأس الدّواء وأعط كل بدن ما عودّته » فقال النّصراني ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا. راجع ج 2 ص 60.
2- المائدة : 4.

فيقدّر لفظ يعمّ الجميع وهو هنا الانتفاع وفيه نظر لأنّا نسلّم أنّه لا بدّ من تقدير لكنّ الذّهن يسبق عند الإطلاق إلى تقدير ما يراد من تلك الذّوات كما يسبق إلى الذّهن من إطلاق ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (1) تحريم النّكاح فعلى الأوّل تقدير الآية حرّمت عليكم وجوه الانتفاعات بالميتة فيدخل في ذلك لبس جلدها واستعمالها بسائر وجوه الاستعمال سواء دبّغ أولا (2) ويؤيّده قول الباقر عليه السلام وقد سئل عن جلد

ص: 97


1- النّساء : 22.
2- اختلف فقهاء الإسلام في حكم دباغ جلد الميتة على سبعة أقوال : القول الأوّل : أنه لا يطهر مطلقا وهو المشهور من مذهب الإماميّة لو لم يكن عليه الإجماع ويشهد له رواية أبي بصير المرويّة في الوسائل في الباب 61 من أبواب لباس المصلّى ح 1 : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصّلاة في الفراء فقال عليه السلام كان علىّ بن الحسين عليه السلام رجلا صردا لا يدفؤه فراء الحجاز لانّ دباغها بالقرظ فكان يبعث الى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصّلاة ألقاه وألقى القميص الذي عليه وكان يسأل عن ذلك فيقول : ان أهل العراق يستحلون لباس الجلود الميتة ويزعمون أنّ دباغه ذكاته. وخبر عبد الرّحمن بن الحجّاج المرويّة في الوسائل الباب 61 من أبواب النّجاسات ح 4 : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام انّى أدخل سوق المسلمين أعنى هذا الخلق الّذين يدعون الإسلام فأشتري منهم الفراء للتّجارة فأقول لصاحبها أليست هي ذكيّة؟ فيقول : بلى ، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة؟ فقال : لا ، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول : قد شرط لي الّذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة ، قلت : وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق للميتة وزعموا أن دباغ جلد الميتة ذكائة ثم لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك الّا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله. وأنت خبير بما في الروايتين من اضطراب المتن مع قطع النظر عن السّند ، أليس فيهما جواز البيع وبيع الميتة ممنوع نصّا وفتوى إجماعا منقولا ومحصّلا. أليس المأخوذ من يد المسلم محكوما بالتّذكية وقد نصّ الإمام في صحيح البزنطي : ليس عليكم المسألة انّ أبا جعفر كان يقول : أنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم انّ الدّين أوسع من ذلك؟ وكيف يمكن اسناد لبس الفراء الى الامام وهو متحرّز. فمع صحّة الرّوايتين لا بدّ من حمل الاولى على الاحتياط الاستحبابيّ أو الكراهة والثّانية على عدم جواز الاخبار بالتّذكية اعتمادا على اخبار البائع الا أنه يمكن القول بأنّ إطلاق النّصوص المتضمّنة عدم الانتفاع بالميتة غير شامل لما بعد الدبغ ولا أقل من الأصل. وقد خالف في المسئلة ابن الجنيد ونسب الى الصدوق أيضا وظاهره طهارته وان لم يدبغ أو نجاسته حكما بمعنى عدم التعدي لأنه قال في المقنع : « ولا بأس أن يتوضأ من الماء إذا كان في زق من جلد ميتة » ، وأرسل في الفقيه عن الصادق عليه السلام عند السؤال عن جلود الميتة : « لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن وتوضأ منه واشرب ولا تصل فيه » الا أنهم حملوه على ما بعد الدبغ ، قلت حمله على ميتة ما لا نفس له أولى ولعلّه كان عند السؤال عن الصّادق قرينة على ذلك اعتقدها الصدوق فأورد الخبر في سلك ما يجوز التّعويل عليه. وممن قال بالطّهارة بالدبغ المحدث الكاشاني في المفاتيح ومال إليه أيضا صاحب المدارك حيث قال : وبالجملة فالمسئلة محل تردّد لما بيناه فيما سبق من أنه ليس على نجاسة الميتة دليل يعتد به سوى الإجماع وهو انما انعقد على النجاسة قبل الدبغ لا بعده وعلى هذا يمكن القول بالطهارة تمسكا بمقتضى الأصل وتخرج الروايتان شاهدا » ، والرّوايتان إحداهما ما في الفقيه كما سمعتها والثانية ما رواه الشيخ في الصحيح الى الحسين بن زرارة ( وهو وان كان في كتب الرجال مهملا الا أنه يمكن استفادة مدحه من دعاء الصّادق عليه السلام له ولأخيه الحسن ) عن الصادق عليه السلام في جلد شاة ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن والماء فأشرب منه وأتوضّأ؟ قال نعم وقال يدبغ فينتفع به ولا يصلى فيه راجع الرّواية في الوسائل ب 33 من أبواب الأطعمة المحرّمة. وعلى كلّ فالمشهور عن الإماميّة هو القول ببقاء النجاسة وهو مذهب احمد بن محمّد بن حنبل على أشهر الروايتين ومذهب مالك على احدى الروايتين ونسبه النوويّ في شرح صحيح مسلم الى عمر بن الخطّاب ، وابنه عبد اللّه وعائشة ونسب أيضا الى عمران ابن الحصين. والمستند لهذا القول عند أهل السّنة ما عن عبد اللّه بن عليم ففي المنتقى على ما في نيل الأوطار ج 1 ص 76 عن عبد اللّه بن عكيم قال : كتب إلينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب رواه الخمسة ولم يذكر منهم المدّة إلّا أحمد وأبو داود ، قال الترمذي هذا حديث حسن ، وللدّارقطنى أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كتب الى جهينة انّى كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا جاء أحدكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وللبخاري في تاريخه عن عبد اللّه بن عكيم قال حدّثنا مشيخة لنا من جهينة أنّ النّبي صلى اللّه عليه وآله كتب إليهم إلا تنتفعوا من الميتة بشي ء. وحيث ان الرواية كانت قبل وفاة النبي بشهر أو شهرين أو أربعين يوما أو ثلاثة أيام على ما في نيل الأوطار ج 1 ص 78. قالوا : انّه ناسخ لما ورد من الحكم بالطّهارة ويؤيده ما صرّح به في رواية الدّارقطنى ، وهذا هو المطابق للقواعد الأصوليّة لأهل السنة فإنهم يحكمون عند تعارض الاخبار بناسخية المتأخر ان علم التاريخ والتساقط أو الترجيح ان لم يعلم ولا يخفى عليك ان المرجح للأخذ برواية ابن عكيم ومع قطع النّظر عن تأخره كما عرفت عمل الصحابة حيث قد عرفت عمل عمر وابنه وعمران وعائشة بها وإنكار عائشة لروايتها الطّهارة يوقظنا بأنّها كانت عالمة بنسخها ولذا لم تعمل بما روتها فقد عرفت حكاية النووي عنها الحكم بالنّجاسة وروايتها الطّهارة كما في المنتقى على ما في نيل الأوطار ج 1 ص 75 عن عائشة أنّ النّبي صلى اللّه عليه وآله أمران ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت رواه الخمسة إلّا الترمذي وللنسائى سئل النّبي صلى اللّه عليه وآله عن جلود الميتة فقال دباغها ذكاتها وللدارقطنى عنها عن النبي صلى اللّه عليه وآله قال : طهور كل أديم دباغه قال الدارقطنى إسناده كلهم ثقات. فعدم عملها بما روته يضعّف الحكم بما روته ويقوّى الحكم بالنّجاسة كما رواه ابن عكيم. وضعّف روايتها الطّهارة ابن التركمان في ص 11 ج 1 من الجوهر النقي بإبراهيم بن الهيثم. وما ذكرناه في حكم التعارض موافق لما في كتبهم الأصولية انظر جمع الجوامع للسبكى بشرح المحلّى وحاشية البناني وتيسير التّحرير للأمير پادشا والمنهاج والمختصر وغيرها من الكتب الأصولية ولبعضهم في وجوه الترجيح تقديم خبر الحظر على الإباحة وعليه فالترجيح أيضا لخبر ابن عكيم. القول الثاني : انّه يطهر بالدّباغ جميع جلود الميتة إلّا الكلب والخنزير والمتولّد منهما ظاهره وباطنه ويجوز استعماله في الأشياء اليابسة والمائعة من غير فرق بين مأكول اللحم وغيره ، والى هذا ذهب الشافعي واستدل على استثناء الخنزير بقوله تعالى « فَإِنَّهُ رِجْسٌ » وجعل الضمير عائدا إلى المضاف اليه وقاس الكلب عليه بجامع النجاسة ، واستدل أهل هذا المذهب على طهارة ما عداهما بما رووه عن ابن عباس على ما في المنتقى في ص 72 ج 1 من نيل الأوطار عن ابن عبّاس قال : تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت ، فمرّ بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : هلّا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا انّها ميتة ، فقال : انّما حرّم أكلها ، رواه الجماعة إلّا ابن ماجة قال فيه « من ميمونة » جعله من مسندها وليس فيه للبخاري والنّسائي ذكر الدباغ بحال. وغيرها ممّا هو مسطور في كتبهم. وقد أسلفنا لك في شرح المذهب الأوّل انّها معارضة بما عن ابن عكيم وبسطنا الكلام في وجوه ترجيح الثّاني ونزيدك هنا أنّه يمكن كون الميتة في تلك الرّوايات بالتّشديد وقد فرّق أهل اللّغة بين الميّت بالتشديد والتّخفيف وانشدوا : يسائلني تفسير ميت وميت *** فدونك قد فسرت ان كنت تعقل فمن كان ذا روح فذلك ميت *** وما الميّت الّا من الى القبر يحمل والشاهد لكون الميّت بالتّشديد لما لم يمت قوله تعالى ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقد أشار الشاطبي الى ذلك في فرش القراءات في البيت الخامس من سورة آل عمران : وميتا لدى الانعام والحجرات ( خ ) ذ *** وما لم يمت للكل جاء مثقلا راجع سراج القاري ص 179. وممّا يؤيّد هذا التّخريج من طرق الإماميّة ما روى في الكافي في الصحيح عن على بن المغيرة قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشي ء؟ قال لا قلت بلغنا انّ رسول اللّه مرّ بشاة ميتة فقال ما كان على أهل هذه الشّاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها قال عليه السلام تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوجة النّبي وكانت مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها ، أي تذكّى. وروى الشّيخ في الموثّق عن ابى مريم قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام السخلة التي مرّ بها رسول اللّه وهي ميتة فقال ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها؟ قال فقال أبو عبد اللّه عليه السلام لم تكن ميتة يا أبا مريم ولكنّها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها. راجع الوسائل ب 61 من أبواب النّجاسات ح 2 و 5 وب 43 من الأطعمة المحرّمة ح 3 و 1. القول الثّالث : انّه يطهر بالدّباغ جلد مأكول اللّحم دون غيره وهو مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق بن راهويه واحتجّوا بما في أخبارهم من جعل الدباغ في الإهاب كالزّكاة والزّكاة لا يحل لها غير المأكول وكذا المشبه لا يطهر غير المأكول. القول الرّابع : انّه يطهر بالدّباغ جميع جلود الميتات الّا الخنزير وهو مذهب أبي حنيفة. القول الخامس : انه يطهر بالدباغ الجميع ظاهر الجلد دون باطنه فلا ينتفع به في المائعات وهو مذهب مالك على المشهور ، قالوا لأنّ الأحاديث الدّالة على التّطهير لم يفرق فيها بين الكلب والخنزير وما عداهما واحتجاج الشافعي بالاية على إخراج الخنزير وقياس الكلب عليه انّما يتم عند جعل الضمير عائدا إلى المضاف اليه وهو ممنوع ولا أقل من احتمال رجوعه الى المضاف لو لم يكن راجحا ولو سلّم فهي مخصوصة بأحاديث الدباغ. القول السادس : انه يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة حتى الكلب والخنزير ظاهرا وباطنا وهو مذهب داود وأهل الظاهر وحكى أيضا عن ابى يوسف القول السابع : انه ينتفع بجلود الميتة وان لم يدبغ ويجوز استعمالها في المائعات واليابسات وهو مذهب الزّهري واستدلّ لذلك بحديث الشاة باعتبار الرّواية الّتي لم

ص: 98

ص: 99

ص: 100

الميتة أيلبس في الصّلاة إذا دبّغ فقال لا ولو دبّغ سبعين دبغة (1) ووافقنا في ذلك أحمد ابن حنبل وخالف الشافعيّ حيث قال : يجوز مع الدبغ مستثنيا للكلب والخنزير وأبو حنيفة استثنى الخنزير لا غير ، وقال مالك ويطهر ظاهره بالدبغ لا باطنه.

( فروع )

1 - يلزم من تحريم الانتفاع النّجاسة (2) إذ لو كان طاهرا لانتفع به وهو باطل.

ص: 101


1- الوسائل ب 61 من أبواب النّجاسات ح 1 وفي رواية ابن ابى عمير عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الميتة قال : لا نصل في شي ء منه ولا في شسع راجع ب 1 من أبواب لباس المصلى ح 2. واستشكلوا بأنّ المنع من الصّلاة أعمّ من النجاسة ولكنّ المأنوس من المتشرّعة أخذ حكم النّجاسة من ورود منع الصّلاة ونحوه من الاستعمالات المتوقّفة على الطّهارة.
2- وقد تظافرت الاخبار عليها بل تواترت والعجب من صاحب المدارك حيث قال : لا دليل عليها إلّا الإجماع كما قد أسلفنا في الحاشية السّابقة وقال مثله في المعالم قلت يدل على النجاسة أصناف من الاخبار : 1 - المستفيضة الواردة بإلقاء ما مات فيه الفارة من المرق. 2 - المستفيضة الناهية عن الأكل في أواني أهل الذمة معللة بأكلهم فيها الميتة والدم ولحم الخنزير 3 - المستفيضة الواردة في تنجس الماء القليل إذا مات فيه الفارة ، وكذا الكثير مع تغير الماء أو تفسخ الفارة. 4 - المستفيضة الناهية عن الانتفاع بشي ء من الميتة وسائر التقلبات فيها فان عموم التحريم. ظاهر في كونه للنجاسة 5 - المستفيضة الإمرة بغسل الثوب والبدن من ملاقاتها بالرطوبة 6 - مفهوم المستفيضة في ميتة ما لا نفس له من عدم البأس بما لا دم له. 7 - المستفيضة في الاجتناب عن القطعة المباءة من الحيوان بحبالة الصيد معللة بأنها ميتة. 8 - المستفيضة الواردة بأن الشعر إذا جز من ميتة فاغسله. 9 - أخبار كثيرة واردة في موارد مختلفة كالوارد بعدم البأس ببعض أجزاء الميتة معللة بأنه لا روح له. 10 - ويمكن الاستدلال أيضا بالمستفيضة في نزح ماء البئر بموت الحيوانات فيه ولا ينافي ذلك اختيار عدم تنجس ماء البئر لأن فيما تضمن نزح الجميع للتغير كفاية إذ ليس النزح الا للتطهير ولا ينجس الماء بالتغير من الجسم الطاهر ، وفيما ورد منه بنحو قوله عليه السلام : « يوما الى الليل فقد طهرت » زيادة دلالة ، فتلك عشرة كاملة من أصناف الأخبار الدالة على النجاسة تجدها منبثة في الوسائل في أبواب النجاسات وأبواب الأطعمة المحرمة وأبواب الأطعمة المباعة وأبواب لباس المصلى وأبواب الماء المضاف وأبواب الماء المطلق وأبواب الذبائح وأبواب الصيد وأبواب قواطع الصلاة وغيرها من الأبواب.

2 - استثني من الميتة مالا تحلّه الحيوة كالصّوف والشّعر والوبر والرّيش والظلف والظفر والسنّ والقرن والبيض مع القشر الأعلى والأنفحة والعظم إذ الموت فقدان الحيوة فما لا حيوة له لا تأثير للموت فيه وخالف الشافعيّ في العظم والشعر والصوف ويحتجّ عليه بقوله تعالى ( وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ ) (1) وهو أعمّ من كونه من حيّ أو من ميّت مع الجزّ فلا يكون نجسة.

3 - ما لا نفس له بسائلة لا ينجس بالموت.

4 - الدم ولحم الخنزير نجسان لعطفهما على الميتة فلا يجوز الصلاة معهما ويخرج من الدم دم ما لا نفس له وما لا يقذفه المذبوح.

ص: 102


1- النحل : 80.

5 - الخنزير عندنا نجس كلّه حتّى عظمه وشعره وإنّما خصّ اللّحم في الآية لأنّها في معرض تحريم الأكل ، واللّحم هو المقصود به ، وفي الآية فوائد آخر يأتي إنشاء اللّه تعالى.

الرّابعة والخامسة ( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) (1) ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ ) (2).

الدف ء مصدر تقول دفئنا اليوم دفأ والمراد به ما يدفأ به من الأكسية والملابس المأخوذة من صوفها وشعرها ووبرها والسكن أهل الدار ويقال أيضا لكلّ ما سكنت إليه وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « يوم ظعنكم » بتحريك العين والباقون بسكونها وهما لغتان كنهر ونهر ، والمراد بالبيوت قباب العرب المتّخذة من الأدم. والأثاث قال الجوهريّ : هو متاع البيت ، قال الفرّاء لا واحد له وقال أبو زيد الأثاث المال أجمع الواحدة أثاثة والأوّل أصحّ ويشهد بذلك العرف والأصل عدم النقل والفرق بين الأثاث والمتاع فرق ما بين الصفة والموصوف فإنّ الأثاث ما من شأنه أن ينتفع به في الدار والمتاع ما ينتفع به في الجملة أعمّ منه ولذلك قيل الأثاث ما يفرش في البيت والمتاع ما يتّجر فيه وفي الآية دلالة على أمور :

1 - جواز اتّخاذ الملابس من الصوف والشعر والوبر والصلاة فيها.

2 - جواز اتّخاذ الفرش والآلات من جلودها وأصوافها وإشعارها وجواز الصلاة عليها إلّا ما أخرجه الدليل من عدم جواز السجود على شي ء من ذلك بل إمّا

ص: 103


1- النحل : 5.
2- النحل : 80.

على الأرض أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس.

3 - طهارة الصوف والشعر والوبر ولو من الميتة مع أخذه منها جزّا لإطلاق اللّفظ من غير تقييد. إن قلت : فقد أطلق أيضا الجلود فينبغي أن يجوز من الميتة مع الدبغ. قلت : خرج الميتة بقوله « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ » وقد سبق (1)

السادسة ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) (2)

الظلال جمع ظلّ وهو ظلّ الشجر وغيره ممّا يستظلّ به عند الحرّ « أَكْناناً » جمع كنّ وهي غير ان الجبال للاكتنان من الحرّ والبرد والجارّ والمجرور حال من أكنانا وكان صفة فلمّا تقدّم صار حالا والسرابيل جمع سربال قال الزجّاج : هو كلّ ما يلبس « وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ » هي الدروع وعدم ذكر البرد لأنّ الخطاب لأهل البلاد الحارّة فالحرّ أهمّ عندهم أو اكتفى بأحد المتقابلين عن ذكر الآخر لاشتراكهما في العلّة. وفيها دلالة على أمور :

1 - جواز اتّخاذ الثياب من القطن والكتّان وغيرهما لأنّه ذكر أوّلا جواز اتّخاذ اللّباس من جلود الأنعام وأصوافها وإشعارها ثمّ عقّب ذلك بذكر سرابيل إلى آخره فدلّ ذلك على أنّ المذكور ثانيا غير المذكور أوّلا وإلّا لزم التكرار وهو مستهجن أو التأكيد والتأسيس خير منه لاشتماله على الفائدة إلّا ما أخرجه الدليل من الحرير والذّهب للرجال لقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « هذان محرّمان على ذكور أمّتي دون إناثهم » (3).

2 - جواز الصلاة في اللّباس المذكور وهو ظاهر.

ص: 104


1- راجع ص 96.
2- النحل : 81.
3- سنن أبى داود ج 2 ص 372.

3 - جواز الصلاة في بقاع الأرض والسجود عليها ينبّه على ذلك قوله تعالى : ( مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ) .

[ 4 - ] قوله « كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ » يريد أنّ إمتاعكم بالإمتاع المذكورة نعمة له وتنبيهكم على ذلك هو إتمام النعمة و « لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ » تعليل لإتمام النعمة وأتى بكلمة الترجّي لقلّة من يسلم منهم إسلاما حقيقيا بل يستسلمون خوفا من السيف. وقرأ ابن عباس تسلمون بفتح التاء من السلامة أي تسلمون من أذى الحرّ ومن القتل والجرح في الحرب بسبب السرابيل المذكورة.

السّابعة ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلّا خائِفِينَ ) (1).

في الآية فوائد :

1 - أنّ الاستفهام هنا على سبيل التقرير لظلم من فعل هذه الفعلة واستعظام ظلمه.

2 - « أن يذكر » مفعول ثان لمنع مثل قوله ( وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ) (2) ( وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ) (3) كلّ ذلك منصوب بنزع الخافض أي من أن يذكروا من أن نرسل وشرط النصب بنزع الخافض أن يكون الفعل متعدّيا إلى مفعول آخر وقال الزمخشريّ أنّه مفعول له أي كراهة أن يذكر وفيه نظر لأنّ « منع » تعقّله يتوقّف على متعلّقين ولا يمكن أن يقدّر غير الذكر فيها لأنّه هو الممنوع منه.

3 - « مَساجِدَ اللّهِ » عامّ في كلّ مسجد لأنّ الجمع المضاف للعموم كما بيّن في أصول الفقه إن قلت قيل إنّها نزلت في الرّوم لمّا خربوا البيت المقدّس وطرحوا

ص: 105


1- البقرة : 114.
2- اسرى : 59.
3- كهف : 56. أسرى : 94.

الأذى فيه ومنعوا من دخوله وأحرقوا التورية وقيل بل نزلت في المشركين لمّا منعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من دخول المسجد الحرام عام الحديبيّة قلت قد بيّن في الأصول أيضا أنّ خصوص السبب لا يخصّص العامّ بل الاعتبار بعموم اللّفظ.

4 - « ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلّا خائِفِينَ » يحتمل وجوها الأوّل ما كان لهم أن يدخلوها إلّا بخشية وخضوع فضلا أن يجترؤا على تخريبها. الثاني ما كان لهم أن يدخلوها إلّا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يمنعوهم كما وقع في عام الفتح ، وفي ذلك إخبار منه تعالى بنصرة نبيّه صلى اللّه عليه وآله. الثّالث ما كان لهم في علم اللّه فيكون ذلك وعدا للمؤمنين بالنصر واستخلاص المساجد منهم الرابع قيل معناه النهي عن تمكينهم من الدخول إلى المساجد وفيها أحكام :

1 - وجوب اتّخاذ المساجد لما فيه من إقامة مشاعر الدين لكن على الكفاية لأصالة عدم الوجوب على الكلّ.

2 - وجوب عمارة ما استهدم منها وإلّا لزم السعي في التخريب المنهيّ عنه.

3 - وجوب شغلها بالذكر وإلّا لزم التعطيل المنافي لعمارتها بذكر اسم اللّه تعالى فيها لكن على الكفاية أيضا.

4 - تحريم تخريبها ويرجع في ذلك إلى العرف فكلّ ما يعدّ تخريبا فهو حرام فمنه هدم جدرانها وأخذ فرشها وإطفاء السرج والإضواء فيها وشغلها بما ينافي العبادة وغير ذلك.

5 - استحباب اتّخاذها على الأعيان لأنّ كلّ واجب على الكفاية فهو مستحبّ على الأعيان قال النبيّ : صلى اللّه عليه وآله من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى اللّه له بيتا في الجنة (1) ».

6 - استحباب دخولها بالخضوع والخشوع والخشية من اللّه فإنّه في بيت اللّه فينبغي أن يكون حاله كحال العبد الواقف بين يدي سيّده.

ص: 106


1- راجع الوسائل ب 8 من أبواب أحكام المساجد ح 2 و 6. السراج المنير ج 3 ص 345 من حديث ابن عباس.

7 - روى زيد بن عليّ عن آبائه عليهم السلام أنّ المراد بالمساجد بقاع الأرض كلّها لقوله صلى اللّه عليه وآله « جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا » (1).

قيل إنّ عجز الآية ينافي ذلك وهو قوله « وَسَعى فِي خَرابِها » وأجاب بعض المعاصرين ممّن اعتنى بالآيات الكريمة بأنّه لا منافاة فإنّ المراد الوعيد على خراب الأرض بالظلم والجور لقوله تعالى ( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) (2).

قلت إنّ ذلك وإن أمكن حمله عليه لكن كيف يصنع بقوله « أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلّا خائِفِينَ » ومن هو في الأرض لا يقال دخلها إلّا مجازا والأصل عدمه.

الثامنة ( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) (3).

دلّت هذه الآية على غاية عناية اللّه تعالى بالمساجد وأنّ الّذين يسعون في عمارتها عنده في أعظم المنازل ولذلك وصفهم بالصفات الكماليّة وهي الإيمان به وباليوم الآخر وهو المعاد واقتصر على الايمان باللّه واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولم يذكر الايمان برسوله والعبادات الباقية لأنّ الإيمان باللّه يستلزم الإيمان بالرسول إذ حكمه يقتضي ذلك والصلاة أعظم العبادات البدنيّة وأشقّها والزكاة أعظم العبادات الماليّة وأصعبها ومن أتى بالأعظم الأصعب لم يترك ما دونه.

ثمّ اعلم أنّ عمارة المساجد فسّرت بمعنيين : الأول رمّها وكنسها والإسراج فيها وفرشها. الثاني شغلها بالعبادة وتنحية أعمال الدنيا واللّهو واللّغط وعمل الصنائع [ منها ]

ص: 107


1- مجمع البيان ج 1 ص 190. سنن أبى داود ج 1 ص 114. السراج المنير ج 2 ص 211.
2- المائدة : 36 و 67.
3- التوبة : 19.

وإكثار زيارتها قال اللّه تعالى ( وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) (1) قيل هو السعي إلى المساجد وقال صلى اللّه عليه وآله « قال اللّه تعالى إنّ بيوتي في الأرض المساجد وإنّ زوّاري فيها عمّارها فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره » (2) وقال عليه السلام « من ألف المسجد ألفه اللّه تعالى » (3) وقال عليه السلام « إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان (4) » وعنه عليه السلام « من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه » (5).

وهنا آيات أخر تتعلّق بالمساجد يحسن ذكرها تابعة لهذه الآية لا منفردة كما فعله المعاصر وغيره.

الاولى ( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (6).

معناها واللّه أعلم الأمر بالتوجّه إلى الصلاة في كلّ مسجد يتّفق كونه فيه وصلاة ما يتهيّأ له من الصّلوات إمّا تحيّة أو غيرها ويكون إقامة الوجه كناية عن الصلاة ثمّ أمرهم بالدعاء أيضا عند كلّ مسجد وفيه حضّ وحثّ على الدعاء في المساجد وأنّها محلّ الإجابة ثمّ أمرهم بإيقاع ذلك كلّه على وجه الإخلاص لا للرياء وغيره من الأغراض.

الثانية ( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (7).

ص: 108


1- يس : 12.
2- الوسائل ب 10 من أبواب الوضوء ح 4 و 5 والمحاسن ص 47.
3- السراج المنير ج 3 ص 341 من حديث ابى سعيد.
4- السراج المنير ج 1 ص 132 من حديث ابى سعيد الخدري قال وهو صحيح.
5- المحاسن ص 57.
6- الأعراف : 28.
7- يونس : 87.

يقال تبوّأت له منزلا أي اتّخذته وأصله الرجوع من باء إذا رجع سمّي المنزل مباءة لكون صاحبه يرجع إليه إذا خرج والمراد أن اجعلا مصر دار إقامتكما وإقامة قومكما واجعلا فيها بيوتا أي مرا لهم بذلك كما يقال بنى السلطان مسجدا أي أمر ببنائه « وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً » أي مسجدا فأطلق اسم الجزء على الكلّ أي صلّوا في بيوتكم ، أمروا بذلك لخوفهم من فرعون وقومه وفيه دلالة على جواز صلاة الإنسان في بيته إذا خاف من ظالم وغيره وإنّما ثنّى الضمير أوّلا لأنّ موسى وهارون كانا مقدّمين على قومهما والعادة جارية بتوجيه الخطاب إلى مقدّم القوم ليأمر قومه بالمأمور به وجمعه ثانيا لأنّ التكليف لم يختصّ بهما بل عمّ الجميع ووحّده ثالثا لأنّ المخبر بالبشارة لا يعمّ الجميع بل يختصّ بمن كان أقرب إلى اللّه وكان موسى أقرب إلى اللّه من غيره فاختصّ بذلك.

الثالثة ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) (1).

سبب نزولها على ما روي أنّ بني عمرو بن عوف لمّا بنوا مسجد قبا (2) بعثوا

ص: 109


1- التوبة : 108 و 109.
2- هكذا نقله الطبرسي في مجمع البيان وعليه عامة أهل التفسير والحق أن ذلك ساقط من وجهين : ألف - أن مسجد قبا انما بناء النبي صلى اللّه عليه وآله بيده الشريفة بعد قدومه في بني عمرو بن عوف بقباء عند مهاجرته من مكة إلى المدينة نص على ذلك أهل السير كلهم وذكر بعضهم أنّ رسول اللّه كان أول من وضع حجرا في قبلته ثم أخذ الناس في البنيان راجع سيرة ابن هشام ج 1 ص 494 وفي بحار الأنوار ج 19 ص 104 - 132 من طبعة دار الكتب نصوص جمة في ذلك فراجعها. وذكر ذلك الطبرسي أيضا في مجمع البيان في تفسير سورة الجمعة ج 10 ص 286. ب - أن الذين بنوا مسجدا ضرارا كانوا اثنى عشر رجلا كلهم من بنى عمرو بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء وأسماؤهم على ما أخرجه ابن هشام في السيرة ( ج 2 ص 530 ) والسيوطي في الدر المنثور عن ابن إسحاق : خدام بن خالد من بنى عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، وثعلبة بن حاطب ووديعة بن ثابت من بنى أمية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس ، ومعتب بن قشير وأبو حبيبة بن الازعر ونبتل بن الحارث وبخزج وبجاد بن عثمان وجارية بن عامر وأبناء مجمع وزيد من بنى ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بنى حبيش بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. فكما ترى ليس في أولئك المنافقين الذين أسسوا مسجدا ضرارا أحد من بنى غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقياء كيف وقباء انما هو من منازل الأوس لا الخزرج. فالقصة ساقطة من الأصل والصحيح أن مسجد قباء كان على أساسه التقوى مختلف المؤمنين من بنى عمرو بن عوف الى أن بنى المنافقون منهم في ناحية أخرى من قباء مسجدا آخر ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين. وجاؤا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عند ما يتجهز الى غزوة تبوك فاستدعوا أن يجي ء الى قباء ويفتتح المسجد فقال لهم رسول اللّه انى على جناح سفر ولو قد قدمنا ان شاء اللّه لاتيناكم فصلينا لكم فلما قفل من غزوة تبوك ونزل بذي أو ان أتاه خبر المسجد فدعا رسول اللّه مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدا أو أخاه عاصم بن عدا أخا بني العجلان فقال : انطلقا الى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه ، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ، ونزل فيهم من القرآن ما نزل. راجع سيرة ابن هشام ج 2 ص 529 و 530. ( ب )

إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدا إخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا نبني مسجدا ونرسل إلى رسول اللّه يصلّي فيه ويصلّي فيه أبو عامر الراهب أيضا وسيأتي

ص: 110

قصّته ليثبت لهم الفضل والزيادة فبنوا مسجدا بجنب مسجد قبا وقالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو يتجهّز إلى تبوك إنا قد بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة واللّيلة المطيرة واللّيلة الشاتية وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة ، فقال عليه السلام إنّي على جناح السفر وإذا قدمنا إن شاء اللّه أتيناكم فصلّينا لكم فيه.

فلمّا قدم من تبوك أنزلت الآية فأنفذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عاصم بن عوف العجلانيّ ومالك بن الدّخشم فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه. وروي أنه بعث عمّار بن ياسر ووحشيّا فحرّقاه وأمر النبيّ صلى اللّه عليه وآله بأن يتّخذ مكانه كناسة يلقى فيها الجيف قيل كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين وقيل خمسة عشر.

ثمّ إنه تعالى أخبر نبيّه صلى اللّه عليه وآله بقصدهم وهو أنّهم بنوه مضارّة لبني عمرو بن عوف وتفريقا بين المؤمنين لأنّهم كانوا يجتمعون في مسجد قبا وإرصادا لأبي عامر الراهب بحيث يقدم إليهم وكلّ هذه المقاصد قبيحة منافية للدين وفي ذلك دلالة على وجوب الإخلاص بعمارة المساجد لله لا لغرض آخر. ثمّ إنّه تعالى أخبر عن مجيئهم في أخبارهم بضدّ مقصدهم وأنّه تعالى شهد بكذبهم مؤكّدا ذلك بعدّة من التواكيد ولمّا نهاه سبحانه أن يقوم فيه أبدا أقسم أنّ غيره أحقّ وأولى بالقيام فيه وهو مسجد أسّس على التقوى فقيل هو مسجد قبا وقيل مسجده بالمدينة ومعنى « مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ » أي من أوّل يوم بني و « أحقّ » هنا إمّا بمعنى حقيق فإنّ أفعل التفضيل يجي ء بمعنى الصفة كقولهم : « الأشجّ والناقص أعدلا بني مروان » أو أنّه على بابه أي أحقّ من كلّ مكان حقيق بالصلاة فيه ، أو أنّ الصّلاة في مسجدهم باعتبار كونه أرضا خالية من المسجديّة يجوز فيها الصلاة فالقيام فيها حسن في نفسه وإنّما صار قبيحا باشتماله على مفسدة تزيد على حسنه.

قصة ابى عامر الراهب :

إنّه ترهّب في الجاهليّة (1) ولبس المسوح ، فلمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه وآله المدينة

ص: 111


1- واسم ابى عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان بن مالك بن أمية بن ضبيعة ابن زيد من بنى عمرو بن عوف راجع ترجمته في ج 1 ص 584 - 586 من سيرة ابن هشام والإصابة ج 1 ص 360 تحت ترجمة ابنه حنظلة ، والمصنف نقلها عن الطبرسي راجع مجمع البيان ج 5 ص 73 و 74 ( ب ).

حسده وحزّب عليه الأحزاب ، ثمّ هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام ولحق بالروم وتنصّر فسمّاه النبيّ صلى اللّه عليه وآله الفاسق ثمّ إنّه أنفذ إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا مسجدا فانّي أذهب إلى قيصر وآتى من عنده بجنود واخرج محمّدا من المدينة فكان أولئك المنافقون يتوقّعون قدومه فمات قبل أن يبلغ ملك الرّوم بأرض يقال لها قنّسرين. ثمّ إنّ هذا أبو عامر كان له ولد اسمه حنظلة وهو رجل مؤمن من خواصّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قتل معه يوم أحد وكان جنبا فغسلته الملائكة فسمّاه النبيّ صلى اللّه عليه وآله غسيل الملائكة رحمة اللّه عليه ولعنة اللّه تعالى على أبيه أبدا.

التاسعة ( وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ) (1)

اتّفق المفسّرون على أنّ المراد بالنداء هنا الأذان فيستدلّ بذلك على مشروعيّته وهو لغة إمّا من الأذن بمعنى العلم أو من الإذن بمعنى الإجازة وعلى التقديرين الأذان أصله الإئذان كالأمان بمعنى الإيمان والعطاء بمعنى الإعطاء وقيل إنّه فعال بمعنى التفعيل كالسّلام بمعنى التسليم والكلام بمعنى التكليم فأذان المؤذّن حينئذ بمعنى التأذين وهو أقرب.

واختلف في سبب الأذان فعند العامّة أنّ أبا محذورة (2) رأى في المنام أنّ

ص: 112


1- المائدة : 61.
2- الموجود في كتب أهل السنة اسناد الرؤيا الى عبد اللّه بن زيد بن عبدربه راجع سيرة ابن هشام ج 1 ص 508 والسيرة الحلبية ج 2 ص 101 ونيل الأوطار ج 2 ص 41 والتيسير ج 2 ص 198 وسنن ابى داود ج 1 ص 116 وغير ذلك. والموجود في كتب الشيعة أيضا أن أهل السنة نسبوه الى عبد اللّه بن زيد انظر المعتبر ص 161 والمنتهى ج 1 ص 263 ، ولكن في الوافي ج 5 ص 86 انهم نسبوه الى ابى ابن كعب أيضا وهو مروي في الكافي أواخر كتاب الصلاة ورواه في الوافي ج 5 ص 13 عن ابن أذينة عن الصادق عليه السلام ولم أقف في كتب أهل السنة نسبة المنام الى ابى ابن كعب. واما الذي يروونه عن أبي محذورة المؤذن هو كيفية الأذان والإقامة وتثنية فصولهما راجع المنتقى على ما في نيل الأوطار ج 2 ص 41 ، سنن أبى داود ج 1 ص 117. وكذا روى عن أبي محذورة اضافة « الصلاة خير من النوم » في أذان الغداة ( راجع ج 1 ص 117 من سنن أبى داود ) الّا أنّ مسلما لما لم يصح الإضافة عنده لم يذكره في الرواية عن أبي محذورة.

شخصا على حائط المسجد يورد هذه الألفاظ المشهورة فانتبه فقصّ الرؤيا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال له إنّه وحي انده على بلال فإنّه أندى منك صوتا (1)

وأنكر أئمّتنا ذلك وقالوا إنّه وحي من اللّه تعالى على لسان جبرئيل (2) وروى منصور بن حازم عن الصادق عليه السلام « قال لمّا هبط جبرئيل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله

ص: 113


1- وأنت إذا أمعنت النظر في كلمات أصحاب الحديث وأرباب السير ترى أنه لا يعجبهم هذا الحديث ولا اسناد تشريع الأذان إلى منام رجل ولذلك يتأولون الحديث ، مع أنه مناف لما نقله ابن هشام في ج 1 ص 509 عن عبيد بن عمير الليثي انه ائتمر النبي صلى اللّه عليه وآله وأصحابه بالناقوس للاجتماع للصلاة فبينما عمر بن الخطاب يريد أن يشترى خشبتين للناقوس إذ رأى عمر بن الخطاب في المنام : لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا للصلاة ، فذهب عمر إلى النبي صلى اللّه عليه وآله ليخبر بالذي رأى وقد جاء النبي صلى اللّه عليه وآله الوحي بذلك فما راع عمر الا بلال يؤذن ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حين أخبره بذلك : قد سبقك بذلك الوحي. وأخرج السيوطي في الدر المنثور روايات في تفسير آية 32 من سورة فصلت « وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللّهِ وَعَمِلَ صالِحاً » أنها نزلت في شأن المؤذنين ، والأذان إنما شرع في المدينة والآية نزلت بمكة فجعلها مما تأخر حكمه عن نزوله ، فاعترف بكون الأذان بالوحي.
2- وقد نقح البحث في ذلك المحقق العلامة السيد شرف الدين العاملي طاب ثراه في كتابه النص والاجتهاد ص 128 - 144 ببيان متين دقيق وتحقيق رشيق أنيق يحق لطالب الحق أن يراجعه.

بالأذان كان رأسه في حجر عليّ عليه السلام فأذّن جبرئيل عليه السلام وأقام فلمّا انتبه رسول اللّه قال. يا عليّ هل سمعت؟ قال نعم. قال : حفظت؟ قال نعم. قال : ادع بلالا فعلّمه فدعا عليّ بلالا فعلّمه » (1) وفي رواية أخرى عن الفضيل بن يسار عن الصادق عليه السلام « قال لمّا اسري برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فبلغ البيت المعمور وحضرت الصلاة فأذّن جبرئيل وأقام فتقدّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصفّ الملائكة والنبيّون خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثمّ ذكر الأذان المشهورة » (2) ولا منافاة بين الحديثين لجواز حصوله عن جبرئيل عليه السلام مرّتين.

وهنا مزيد بحث (3) وهو أنّ الأذان تارة يكون لتكميل فضيلة الصلاة كأذان المنفرد وأذان المرأة في بيتها وقد يكون للإعلام لا غير كأذان المؤذّن في البلد على مرتفع وقد يكون لهما كأذان صلاة الجماعة وفي الحديث « من صلّى بأذان وإقامة صلّى خلفه صفّان من الملائكة فإن صلّى بإقامة لا غير صلّى خلفه صفّ واحد (4) ».

ص: 114


1- الوسائل ب 1 من أبواب الأذان والإقامة ح 2 الوافي ج 5 ص 86.
2- الوافي ج 5 ص 86. الوسائل ب 19 من أبواب الأذان والإقامة ح 8.
3- ومما انفرد به الإمامية قول « حي على خير العمل » في الأذان والإقامة بعد « حي على الفلاح » وعليه الإجماع والاخبار به مستفيضة ان لم تكن متواترة راجع الوسائل ب 19 من أبواب الأذان ، ومن طرق أهل السنة أيضا روايات ففي السيرة الحلبية ج 2 ص 105 نقله مرسلا عن على بن الحسين وابن عمر ، ونقل في نيل الأوطار ج 2 ص 41 عن البيهقي بإسناد صحيح عن على بن الحسين وعبد اللّه بن عمر ، ونقل أيضا عن المحب الطبري رواية ابن حزم وسعيد بن منصور في سننه عن أبي أسامة بن سهل البدري ثم ذكر جواب الجمهور بأنه منسوخ بأحاديث الأذان لعدم ذكره فيها ، وقال : وأورد البيهقي حديثا في نسخ ذلك ولكنه من طريق لا يثبت النسخ بها. وقال علم الهدى قده في الانتصار : وقال العامة انه كان يقال بعض أيام النبي صلى اللّه عليه وآله ونسخ ، وعلى من ادعى النسخ الدلالة.
4- الوسائل ب 4 من أبواب الأذان ح 5 و 6 و 7.

النوع الخامس : في ( مقارنات الصلاة )

وفيه آيات :

الاولى ( وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) (1).

قد تقدّم ذكر هذه الجملة في ضمن صدر آيتها ولنذكر هنا فوائد :

1 - استدلّ الفقهاء بهذه الصيغة على وجوب القيام في الصلاة ويرد عليهم سؤال وهو أنّ قوله تعالى ( وَقُومُوا ) ليس فيه إشعار بكونه في الصلاة. أجيب بأنّ القيام في غير الصلاة ليس بواجب ولفظ الآية يدلّ على وجوبه فيصدق دليل هكذا : شي ء من القيام واجب+ ولا شي ء منه في غير الصلاة بواجب - فيكون وجوبه في الصلاة وهو المطلوب.

إن قلت الكبرى ممنوعة بأنّ القيام في الطواف واجب وهو ليس بصلاة فالجواب المنع من كون القيام في الطواف واجبا مطلقا بل إذا كان ماشيا وأمّا حال الركوب اختيارا فلا.

ثمّ إنّا نزيد هنا ونقول إنّما استدلّ على ذلك لوجهين أحدهما أنّه عطفه على الأمر بالمحافظة على الصلاة وذلك مقتض لكون القيام فيها وثانيهما أنّه ذكر معه قيدا حاليّا وهو كونهم قانتين والقنوت هو رفع اليدين بالدعاء في الصلاة في عرف الفقهاء فيكون القيام أيضا فيها وذلك هو المطلوب.

2 - في قوله « لله » إشارة وتنبيه على وجوب النيّة في الصلاة وكذلك قوله ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (2) وقوله ( فَادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ ) (3)

ص: 115


1- البقرة : 238.
2- البينة : 5.
3- المؤمن : 14.

وقد تقدّم ذكر شي ء من ذلك في أحكام النيّة ونزيد هنا فنقول : النيّة لغة الإرادة ومنه قولهم نواك اللّه بخير أي أرادك به واصطلاحا إرادة أيضا لأصالة عدم النقل وحقيقتها إرادة قلبيّة لإيجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعا فهي هنا استحضار ماهيّة الصلاة المقصودة وصفتها المميّزة لها عن غيرها من الصلوات فان كان ذلك في وقتها قصد الأداء وفي خارجه قصد القضاء ويوقع ذلك لوجوبه أو ندبه إخلاصا لله وتقرّبا إلى رضاه كلّ ذلك بالقلب ولا يكفي اللّسان وحده ، ولو ضمّه إلى التصوّر القلبيّ لم يضرّ. وعند بعضهم أنّه مكروه لكونه كلاما بعد الإقامة وعندي في كراهته نظر لأنّ المكروه بعد الإقامة ما لم يتعلّق بالصلاة وهذا متعلّق بها خصوصا مع كونه معينا على الاستحضار القلبيّ.

3 - يجب القيام في حال النيّة والتحريم والقراءة والركوع.

4 - قال ابن عباس المراد بقانتين أي داعين والقنوت هو الدعاء في حال القيام وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام (1) وقيل خاشعين وقيل ساكتين وقال زيد ابن أرقم كنّا نتكلّم في الصلاة فنزلت (2) والأوّل أقرب إلى موضوعه العرفيّ ولذلك قال ابن المسيّب إنّ المراد به القنوت في الصبح.

الثانية والثالثة ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) (3).

وقوله ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (4).

ليس المراد بالحمد هنا معنى الشكر بل معنى الثناء المطلق الّذي يستحقّه

ص: 116


1- الوسائل ب 8 من أبواب القنوت ح 1.
2- سنن ابى داود ج 1 ص 218.
3- أسرى : 111.
4- المدثر : 3.

المحمود ولذلك لم يذكر بعده نعمته بل ذكر صفاته الدالّة على كامليّة ذاته :

الاولى : أنّه لم يتّخذ ولدا لنفسه لأنّه لو كان له ولد لكان بقاء نوعه بتعاقب أولاده كحال الحيوانات لكنّه ليس كذلك لأنّ بقاء نوعه ليس إلّا ببقاء شخصه لكونه واجب الوجود وأيضا لو كان له ولد لكان له صاحبة ولو كان له صاحبة لكان له شهوة الوقاع ولو كانت لكانت محتاجا إليها لكنّه غنيّ بالإطلاق.

الثانية : أنّه ليس له شريك في ملكه إذ لو كان لكان إمّا مخلوقا له فلم يكن حينئذ شريكا بل عبدا أو ليس مخلوقا له فيكون شريكا له في ذاته وهو محال لما ثبت من دلائل التوحيد.

الثالثة : ليس له وليّ من الذّلّ والوليّ هو الّذي يقوم مقامه في أمور تختصّ به لعجزه كوليّ الطفل والمجنون فيلزم أن يكون محتاجا إلى الوليّ وهو محال لكونه غنيّا مطلقا. وأيضا إن كان الوليّ محتاجا إليه تعالى لزم الدور المحال وإلّا لكان مشاركا له. وإنّما قيّده بكونه من الذلّ لأنّه لو لم يكن وليّا من الذلّ لم يكن وليّا في الحقيقة بل من الأسباب وهو تعالى مسبّب الأسباب.

إذا تقرّر هذا فنقول : دلّت الآيتان على وجوب شي ء من التكبير ولا خلاف في عدم الوجوب في غير الصلاة فيكون الوجوب في الصلاة وهو المطلوب فهنا مسائل :

1 - يجب صيغة « اللّه أكبر » لأنّه المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ التكبير.

2 - تجب مراعاة اللّفظ المذكور من غير تغيير لترتيبه ولا يجوز الإتيان بمرادفه ولا تعريف المنكّر ولا المدّ المخرج عن المعنى إلى الاستفهام كمدّ لفظ الجلالة أو إلى الجمع كما في لفظ أكبر إذ تصير جمع كبر وهو الطبل.

3 - لا يجوز الترجمة بغير العربيّة لأنّه ليس بكلام اللّه ولا رسوله وقول أبي حنيفة بجوازها محتجّا بقوله ( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى ) (1) علّق الصلاة على ذكر اسمه الّذي هو أعمّ من كونه عربيّا أو غيره باطل إذ المراد بالاسم الأذان خصوصا

ص: 117


1- الأعلى : 15.

وقد أتى بالصلاة عقيبه بالفاء المقتضية للمغايرة والترتيب مع أنّ التحريمة جزء داخل في الصلاة فلا يكون هي المعيّنة بالآية.

الرابعة ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ) (1) ومثلها ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) (2).

دلّنا على وجوب قراءة شي ء من القرآن فيصدق دليل هكذا : قراءة شي ء من القرآن واجب+ ولا شي ء. من القراءة في غير الصلاة بواجب - فيكون الوجوب في الصلاة وهو المطلوب أمّا الصغرى فلصيغة الأمر الدالّة على الوجوب وأمّا الكبرى فإجماعية.

إن قلت إنّ الكبرى ممنوعة وسند المنع أنّ الوجوب إمّا عينيّ ولا إشعار به في الكلام أو كفائيّ فعدمه في غير الصلاة ممنوع بل يجب لئلّا يندرس المعجزة قلت المراد بالوجوب العينيّ إذ هو الأغلب في التكاليف ولأنه المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق ولا شكّ أنها غير واجبة عينا في غير الصلاة إجماعا. هذا وما ذكرناه قول أكثر المفسّرين وقد قيل إنّ المراد بالقراءة الصلاة تسمية للشي ء ببعض أجزائه وعني به صلاة اللّيل ثمّ نسخ بالصلوات الخمس وقيل الأمر في غير الصلاة فقيل على الوجوب نظرا إلى بقاء المعجزة ووقوفا على دلائل التوحيد وإرسال الرسل وقيل على الاستحباب فقيل أقلّه في [ اليوم و ] اللّيلة خمسون آية وقيل مائة وقيل مائتان وقيل ثلث القرآن.

إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :

1 - القراءة الواجبة هنا مجملة علم بيانها بالسنّة النبويّة والمراد بها الفاتحة لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب » (3) وقوله صلى اللّه عليه وآله « كلّ صلاة لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج » (4) وبه قال الشافعيّ ومالك وأحمد وقال أبو حنيفة

ص: 118


1- المزمل : 20.
2- المزمل : 20.
3- السراج المنير ج 3 ص 471.
4- سنن ابى داود ج 1 ص 188.

بعدم تعيينها بل ثلاث آيات من أيّ القرآن شاء ويدفعه الحديثان المذكوران.

2 - يتعيّن الفاتحة في الأوليين ويتخيّر في الأخيرتين بينها وبين التسبيح وقال الشافعيّ ومالك وأحمد يجب في كلّ ركعة لنا ما رووه ورويناه عن عليّ عليه السلام أنّه قال « اقرأ في الأوليين وسبّح في الأخيرتين » (1) رواه الحارث عنه وكذا تواتر عن أهل البيت عليهم السلام (2).

3 - يجب قراءتها على الوجه المنقول ترتيبا ولفظا ولا يجوز ترجمتها بغير العربيّة لأنّ ذلك غير قرآن لأنّ القرآن عربيّ بالنصّ ولأنّه معجز بلفظه ونظمه والترجمة غيرهما وقول أبي حنيفة بالجواز لقوله تعالى ( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ] ) (3) ضعيف لعود الإشارة إلى الحكم وكذا لا يقرأ في خلالها من غيرها فمن خالف شيئا من ذلك عمدا بطلت صلوته وسهوا استأنف المتروك إن ذكر في موضع القراءة وإلّا فلا.

4 - البسملة آية من الحمد ومن كلّ سورة (4) وعليه إجماع علمائنا وبه قال الشافعيّ (5).

ص: 119


1- الوسائل ب 51 من أبواب القراءة في الصلاة ح 5 نقلا عن المحقق في المعتبر ص 171.
2- الوسائل ب 42 وب 51 من أبواب القراءة في الصلاة.
3- الأعلى : 18 و 19.
4- الوسائل ب 11 من أبواب القراءة في الصلاة. ولا ريب أن مصاحف التابعين والصحابة قبل جمع عثمان وبعده كانت مشتملة على البسملة ولو لم تكن من القرآن لما أثبتوه في مصاحفهم كيف وان الصحابة منعت أن يدرج في المصحف ما ليس من القرآن حتى أن بعض المتقدمين منعوا عن تنقيط المصحف وتشكيله ، فإثبات البسملة في مصاحفهم شهادة منهم بأنها من القرآن كسائر الايات المتكررة فيه.
5- وجزم به قراء مكة والكوفة وحكى أيضا عن ابن عمر وابن الزبير وابى هريرة وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومكحول والزهري واحمد بن حنبل في رواية عنه وابى عبيد القاسم بن سلام وإسحاق بن راهويه ونسب الى بعض أصحاب الشافعي وحمزة أنها آية من فاتحة الكتاب خاصة دون غيرها ونسب ذلك الى أحمد بن حنبل أيضا.

ونفاه مالك (1) وقال أبو حنيفة إنّها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها بل كتبت للتبرّك وللفصل بين السور (2).

لنا تواتر روايات أهل البيت عليهم السلام (3) ومن طرقهم (4) رواية أبي هريرة (5)

ص: 120


1- واختلف في النقل عن مالك وابى حنيفة هل هي آية فذة ليست جزءا من فاتحة الكتاب ولا غيرها أو منها وليست من القرآن كتبت للفصل والمشهور عن مالك هو الأول وعن أبي حنيفة هو الثاني.
2- ويبطل هذه الدعوى إثبات البسملة في المصاحف في سورة الفاتحة وعدم إثباتها في أول سورة براءة ولو كانت للفصل بين السور لاثبت في الثانية ولم تثبت في الاولى.
3- مع ما في المجمع عن الصادق عليه السلام : ما لهم؟ عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه عزوجل فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها وهي بسم اللّه الرحمن الرحيم.
4- انظر الإتقان النوع 22 والدر المنثور حول البسملة وسبل السلام ج 1 ص 173 وسنن ابى داود ج 1 ص 181 تجد الروايات من طرقهم ان لم تكن متواترة فهي مستفيضة وذكر الإمام الرازي في أثناء الحجة الخامسة من حججه على الجهر بالبسملة : أن البيهقي روى الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم في سننه عن عمر بن الخطاب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير ثم قال : وأما أن على بن أبي طالب عليه السلام كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعلى بن أبى طالب فقد اهتدى. ثم قال : والدليل عليه قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله اللّهم أدر الحق مع على حيث ما دار. راجع ج 1 ص 205.
5- عن أبي هريرة كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يجهر في الصلاة ببسم اللّه الرحمن الرحيم. راجع تفسير الامام ج 1 ص 204 ومثله في سبل السلام ج 1 ص 173. وأما ما أخرجه مسلم على ما في ص 68 من مشكاة المصابيح ط كراچى وسنن ابى داود ج 1 ص 188 من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول قال اللّه عزوجل : قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين : فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول العبد الحمد لله رب العالمين يقول اللّه عزوجل حمدني عبدي. وإذا قال « إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ » قال اللّه فهذا بينى وبين عبدي فإذا قال « اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ » السورة - قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل » فلا دلالة فيه على ان التقسيم بحسب الألفاظ وعدد الايات بل الظاهر أنه بحسب المعنى والمراد أن أجزاء الصلاة بين ما يرجع الى الرب وما يرجع الى العبد مع انه لا دلالة على ان التقسيم بحسب عدد الايات فلعله باعتبار الكلمات فإنها مع احتساب البسملة يصير نصفين متساويين.

وأمّ سلمة (1) وغيرهما (2).

ص: 121


1- ففي المنتقى على ما في نيل الأوطار ج 2 ص 213 : وروى ابن جريج عن عبد اللّه بن أبي مليكة عن أم سلمة أنها سئلت عن قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت : كان يقطع قراءته آية آية : بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. رواه احمد وأبو داود.
2- ففي تيسير الوصول ج 1 ص 199 : وعن قتادة سألت أنسا رضى اللّه عنه عن قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : كان يمد مدا ثم قرأ : بسم اللّه الرحمن الرحيم يمد ببسم اللّه ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم. أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وفي أخرى عن عائشة قالت كان رسول اللّه يقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين يرتل آية آية. وفي سنن ابى داود ج 1 ص 181 عن المختار بن فلفل قال : سمعت انس بن مالك يقول : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنزلت على آنفا سورة فقرأ ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) حتى ختمها ، الحديث وفي ص 182 منه عن ابن عباس قال : كان النبي صلى اللّه عليه وآله لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم اللّه الرحمن الرحيم. وليس بإزاء هذه الروايات التي قرأناها عليكم والتي لم نقرأها الا روايتان : الاولى - عن قتادة عن انس بن مالك قال : صليت مع رسول اللّه وابى بكر وعثمان فلم أسمع أحدا يقرء بسم اللّه الرحمن الرحيم رواه احمد ومسلم على ما نقله نيل الأوطار ج 2 ص 205 عن المنتقى. وهي مع معارضتها بالروايات المتواترة معنى ، بل لما استفيض عن انس بن مالك نفسه ، مخالف لما اشتهر بين المسلمين من قراءتها في الصلاة حتى ان معاوية لما تركها في صلاة في يوم من أيام خلافته قال له المسلمون أسرقت أم نسيت انظر الام ج 1 ص 108 وممن روى هذه القصة هو انس بن مالك نفسه كما في الأم. وكيف كان لا يمكن التصديق بان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ومن بعده لم يقرؤها وعدم سماع الراوي أعم من عدم القراءة. قال الأمير في سبل السلام ج 1 ص 172 بعد بيان اضطراب حديث انس عن ابن عبد البر في الاستذكار أنه سئل أنس عن ذلك فقال : كبر سني ونسيت. ونظير ذلك ما في المنار ج 1 ص 88. وعندي أن الاضطراب والعلّة انّما هو من رواته لا من انس والدليل على ذلك أن أبا داود روى الحديث في سننه ج 1 ص 180 عن انس ولفظه : « أن النبي ( ص ) وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين » فإنما جعل أنس الحمد لله رب العالمين اسما للسورة على ما هو المعمول عندهم وأراد أنهم كانوا يفتتحون القراءة بفاتحة الكتاب لا بسورة أخرى فتوهم الراوي شهادته بأنهم كانوا يفتحون الفاتحة بالحمد لله رب العالمين بلا بسملة. ومثله ما رواه أبو داود في سننه ج 1 ص 180 عن عائشة قالت : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين الحديث. وهذا الذي قلناه في تفسير الحديث من تسمية الفاتحة بالحمد لله رب العالمين هو الحق الذي لا ريب فيه حيث ان أسماء السور لم تكن معروفة عندهم على ما هو اليوم وكانوا يعبرون عن السورة بالاية الاولى منها ، يشهد على ذلك ما روى أبو داود في سننه ج 1 ص 187 عن ابى عثمان النهدي أنه صلى خلف ابن مسعود المغرب فقرأ بقل هو اللّه أحد. وفيه عن رجل من جهينة أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وآله يقرأ في الصبح إذا زلزلت الأرض في الركعتين كلتيهما وفيه ص 191 عن عمران بن حصين أن النبي صلى اللّه عليه وآله صلى الظهر فجاء رجل فقرأ خلفه بسبح اسم ربك الأعلى الحديث وفي لفظ آخر : فلما انفتل قال صلى اللّه عليه وآله : أيكم قرأ بسبح اسم ربك الأعلى. الحديث وفيه ص 263 أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : ماذا كان يقرأ به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الأضحى والفطر؟ قال كان يقرأ فيهما ق والقرآن المجيد واقتربت الساعة وانشق القمر ، الى غير ذلك من الأحاديث. ولذلك ترى شيخ الإسلام الحفنى في حاشيته على السراج المنير ج 3 ص 179 يعلق على حديث أم سلمة : « كان صلى اللّه عليه وآله يقطع قراءته آية آية ( يقول ) ( الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ثم يقف ( ويقول ) ( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ثم يقف » بقوله : وهو بيان للتقطيع وهو سنة عندنا فيقف على البسملة وما بعدها وانما يطلب وصل البسملة بما بعدها خارج الصلاة. الثانية - ما رواه ابن عبد اللّه بن مغفل قال سمعنى أبى وانا أقول بسم اللّه الرحمن الرحيم فقال اى بنى إياك - قال ولم أر أحدا من أصحاب رسول اللّه كان أبغض إليه حدثا في الإسلام منه - فانى قد صليت مع رسول اللّه ومع ابى بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحدا يقولها فلا تقلها ، إذا أنت قرأت فقل الحمد لله رب العالمين. رواه الخمسة إلا أبا داود على ما في نيل الأوطار ج 2 ص 212 نقلا عن المنتقى وغيره. وهذه الرواية مع قطع النظر عن ضعف سندها بابن عبد اللّه وهو مجهول - وما يرد عليه مما ذكرنا في حديث انس - تتضمن ما يخالف ضرورة الإسلام فإنه لا يشك احد من المسلمين في استحباب التسمية قبل الحمد والسورة ولو بقصد التبرك لا لأن البسملة جزء فكيف ينهى عبد اللّه بن مغفل عنها بدعوى انها حدث في الإسلام ، قال الإمام الرازي ونحن وان شككنا في شي ء فلا نشك في أنه إذا وقع التعارض بين قول انس وابن مغفل وبين قول على بن أبى طالب عليه السلام الذي بقي عليه طول عمرة فإن الأخذ بقول على اولى - الى ان قال - ومن اتخذ عليا اماما لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه ، انظر ج 1 ص 206 و 207 من تفسيره الكبير.

ص: 122

حتّى قال ابن عبّاس : من تركها فقد ترك مائة وبضع عشر آية من كتاب اللّه (1) »

5 - يجب عند أكثر أصحابنا قراءة سورة بعد الحمد في الأوليين وقال الأقلّ لا تجب (2) وبه قال الشافعيّ وغيره من الجمهور ، لنا ما تواتر من فعله صلى اللّه عليه وآله أنّه

ص: 123


1- راجع مجمع البيان ج 1 ص ونقله في الكشاف واللفظ فيه : عن ابن عباس : من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب اللّه. وروى مثله الرازي عن عبد اللّه بن المبارك وفيه : فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية ، قال وروى مثله عن ابن عمر وابى هريرة.
2- وعليه الشيخ في النهاية والمحقق في المعتبر والسبط الجليل للشهيد الثاني في المدارك والمحقق السبزواري في الذخيرة والمحدث الكاشاني في المفاتيح وهو المنقول عن الإسكافي وابن ابى عقيل والديلمي. وأنت إذا أمعنت النظر في الاخبار الواردة في المسئلة ( الوسائل ب1- 6 وب 35 و 43 و 69 من أبواب القراءة ) رأيت أنّ ما استدلوا به على الوجوب غير ناهض الدلالة لإثباته وما استدلوا به على الاستحباب واضح الدلالة ، الا أن ملاحظة مواظبة النبي والأئمة عليهم السلام على قراءتها كما نقل يوحشنا عن الفتيا على خلاف المشهور والاحتياط طريق النجاة.

كان يقرأ في الأوليين من الظهر بالفاتحة وسورتين (1) وقال صلى اللّه عليه وآله « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (2) وروايات أهل البيت عليهم السلام بذلك متظافرة (3) هذا في حال الاختيار أمّا حال الاضطرار فتركها جائز قطعا.

الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (4).

في الآية فوائد :

1 - الأمر بالركوع والسجود يفيد وجوبها والركوع لغة الانحناء قال الشاعر :

لا تهين الفقير علّك أن تركع

يوما والدهر قد رفعه (5)

ص: 124


1- راجع سنن ابى داود ج 1 ص 184.
2- واستشكل بان مفاده مجمل الدلالة في نفسه على الوجوب والاستحباب وغيرها ضرورة اشتمال صلوته على بعض المندوبات والمباحات والتمييز محتاج إلى قرينة كانت موجودة وقت الخطاب غير ظاهرة لدينا.
3- قد عرفت حال الاخبار وقد نقح البحث صاحب المدارك وأتمه العلامة آية اللّه الحكيم مد ظله في المستمسك ج 6 ص 132 - 136 فراجعه فإنه مفيد جدا.
4- الحج : 77.
5- البيت كما قاله البكري ونسبه اليمنى في سمط اللآلي ص 326 للاضبط بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم رهط الزبرقان بن بدر ، جاهلي قديم ذكره السجستاني في المعمرين ص 11 ، وهو الذي أساء قومه مجاورته فانتقل منهم الى آخرين ففعلوا مثل ذلك فقال : أينما أوجه ألق سعدا. ترى المثل في مجمع الأمثال تحت الرقم 5. واستشهد بالبيت ابن الأنباري في كتابه الانصاف المسئلة 26 من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين ص 221 دليلا للبصريين حيث قالوا ان اللام في لعل زائدة الا أن نفسه اختار مذهب الكوفيين وهو أن اللام أصلية الا أن العرب تلعبت بهذه الكلمة فقالوا : لعل ولعلن ولعن - بالمهملة - ولغن - بالمعجمة - ورعن وعن وغن ولغل وغل. فلما كثرت هذه الكلمة في استعمالاتهم حذفوا اللام. والضبط في أمالي القالي ج 1 ص 107 « لا تعاد الفقير » وكذا في الحماسة لابن الشجري ص 137 والمشهور « لا تهين الفقير » ولذلك استشهد به في الباب الخامس من المغني على حذف نون التأكيد الخفيفة تخلصا من التقاء الساكنين وكذا ضبطه في الحماسة لأبي تمام راجع ص 1151 من شرح المرزوقي وضبطه في البيان والتبيين ج 3 ص 341 « لا تحقرن الفقير » واستشهد بالبيت أيضا أبو الفتوح الرازي عند تفسير الآية 41 من سورة البقرة والضبط فيه : « لا نذل الفقير ».

وشرعا هو الانحناء قدر أن يصل معه الكفّان الركبتين والسجود لغة الخضوع قال الشاعر (1) « ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر » (2) وشرعا وضع شي ء مكشوف

ص: 125


1- هو زيد الخيل ابن مهلهل بن منهب من طيئ كنيته أبو مكنف من أبطال الجاهلية لقب زيد الخيل لكثرة خيله أو لشجاعته وكان شاعرا حسنا وله مهاجاة مع كعب بن زهير ، أدرك الإسلام سنة 9 ه في وفد طيئ ، قال في الإصابة ج 1 ص 555 وسماه النبي زيد الخير ، قال ابن النديم في ترجمة المفجع البصري ص 129 : ان له كتاب غريب شعر زيد الخيل ، وكذا في إرشاد الاريب ج 17 ص 194 ، واسم المفجع محمد بن احمد.
2- صدر البيت على ما في تفسير الطبري ج 1 ص 365 عند تفسير قوله تعالى ( وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) ( البقرة : 7 ) : بجمع تضل البلق في حجراته. وكذا في المجمع ج 1 ص 141 وضبطه في الكامل ص 551 : « بجيش تضل » قال المبرد في معنى الشعر : تضل البلق : يقول لكثرته لا يرى فيه الأبلق والأبلق مشهور المنظر ، وحجراته : نواحيه. ترى الاكم يقول لكثرة الجيش يطحن الاكم حتى يلصقها بالأرض ، قال في المجمع فجعل ما ظهر في الاكم من آثار الحوافر وقلة مدافعتها لها كما يدافع الحجر الصلد سجودا لها ولو كانت الاكم في صلابة الحديد حتى تمتنع على الحوافر لم يقل أنها تسجد للحوافر. وقال ابن قتيبة في مشكل القرآن ص 322. ومن الأمثلة المبتذلة : أسجد للقرد في زمانه. يراد أخضع للسفلة واللئيم في دولته ، ولا يراد سجود الصلاة ثم انشد الشعر : بجمع تضل إلخ. وقال : يريد ان حوافر الخيل قد قلعت الاكم ووطئها حتى خشعت وانخفضت. وضبط البيت في تفسير الرازي ج 3 ص 131 : بخيل تضل. وفي التبيان بجمع تظل - بالظاء - ويصح من جهة المعنى ولا ضرورة لجعله من غلط الناسخ فان أظل بمعنى ستر ، نص عليه ابن القطاع في كتاب الافعال ج 2 ص 318 وقال ابن فارس في مقاييس اللغة : الظاء واللام : أصل واحد يدل على ستر شي ء بشي ء فيصير المعنى مع هذا الضبط نظير ما ذكره المبرد في ضبط تضل. وضبطه في الحماسة لابن الشجري ص 19 بجمع تلوح البلق.

من الجبهة أو ما قام مقامها على الأرض أو ما قام مقامها.

2 - يجب في الركوع الذكر وسيأتي والطمأنينة بقدره ورفع الرأس والطمأنينة بعده بمسمّاها وفي السجود الذكر والطمأنينة قدره والسجود على ستّة أخرى وهي الكفّان والركبتان وإبهاما الرّجلين ورفع الرأس بعدها والجلوس مطمئنّا مسمّاها ثمّ السجود ثانيا كالأوّل ورفع الرأس ولا يجب الجلوس بعده بل يستحبّ خلافا لأبي حنيفة حيث منع شرعيّته وحمل ما ورد من فعله صلى اللّه عليه وآله على الضعف للكبر وهو خطأ.

3 - الأمر بالعبادة وهي غاية الخضوع والتذلّل ومنه طريق معبّد أي مذلّل وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة ولذلك لا يستعمل إلّا لله تعالى والمراد بالذلّة تذليل النفس الأمّارة واللّوّامة لتطيعا النفس المطمئنّة فيحصل الترقّي إلى الكمال ورضى ذي الجلال وإنّما قال « ربّكم » إشارة إلى أنّ الموجب للعبادة هو مقام الربوبية.

4 - يمكن أن يكون هذه الآية دالّة على أربع عبادات : الصلاة وعبّر عنها بالركوع والسجود تسمية للشي ء باسم أعظم أجزائه ولم يقل صلّوا لئلّا يتوهّم إرادة الصلاة لغة وهو الدعاء « وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ » إشارة إلى الصوم والحجّ وإن كان نزولها بعد وجوبهما « وَافْعَلُوا الْخَيْرَ » إشارة إلى الزكاة ويكون قوله « وَجاهِدُوا » في الآية التالية لها إشارة إلى الجهاد.

5 - استدلّ الشافعيّ بهذه الآية على استحباب سجود التلاوة عندها محتجّا بقول عقبة بن عامر قال قلت للنبيّ صلى اللّه عليه وآله في سورة الحجّ سجدتان؟ قال نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما (1) ومنعه أبو حنيفة لأنّ قران الركوع بالسجود يدلّ

ص: 126


1- سنن ابى داود ج 1 ص 324 وفيه قال صلى اللّه عليه وآله : نعم ، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما ».

على أنّ المراد سجود الصلاة وفيه قوّة وحكم أصحابنا بالسجود هنا ندبا بالدليل خارج.

6 - قال ابن عبّاس إنّ فعل الخير إشارة إلى صلة الرحم ومكارم الأخلاق فيكون حثّا على سائر المندوبات والقربات.

السادسة ( وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (1).

روي أنّ المعتصم سأل أبا جعفر محمّد بن عليّ بن موسى عليهم السلام عنها فقال هي الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها وبه قال سعيد بن جبير والزجّاج والفرّاء (2) ويؤيّده قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أمرت أن أسجد على سبعة آراب » (3) أي أعضاء ومعنى « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً » لا تشركوا معه غيره في سجودكم عليها وقيل لا تراؤوا أحدا بصلاتكم وقيل المراد بها المساجد المعروفة فلا ينبغي أن يذكر فيها أحد غير اللّه وقيل [ المراد ] بقاع الأرض لقوله صلى اللّه عليه وآله « جعلت لي الأرض مسجدا [ وطهورا ] (4) وقيل المسجد الحرام وقيل جمع مسجد والمسجد مصدر بالميم بمعنى السجود والأوّل أولى.

السابعة ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (5)

ومثلها ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) (6)

باسم ربّك أي بذكر اسم ربّك أو الاسم الذكر أي سبّح بذكر ربّك « والعظيم » يحتمل كونه صفة للاسم أو للربّ و « سبّح اسم ربّك » أي نزّهه عمّا لا يجوز إطلاقه

ص: 127


1- الجن : 18.
2- راجع مجمع البيان ج 10 ص 372.
3- سنن ابى داود ج 1 ص 205 وآراب بالمد جمع ارب بالكسر والسكون هو العضو.
4- السراج المنير ج 2 ص 211. سنن ابى داود ج 1 ص 114.
5- الواقعة : 74 و 96 ، الحاقة : 52.
6- الأعلى : 1.

عليه أو نزّهه عن إطلاق اسمه على غيره أو نزّهه عن ذكره لا على وجه التعظيم والأعلى صفة الربّ ويحتمل الاسم. إذا عرفت هذا فهنا مسائل :

1 - روى عقبة بن عامر قال : لمّا نزل « فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ » قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله اجعلوها في ركوعكم. ولمّا نزل « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى » قال اجعلوها في سجودكم » (1) ومثله من طرقنا رواية هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام « تقول في الركوع سبحان ربّي العظيم وفي السجود سبحان ربّي الأعلى الفريضة واحدة والسنة ثلاث » (2)

2 - حكم بعض فقهائنا بوجوب الذكر المعيّن عينا والأولى الندب وإجزاء مطلق الذكر لما رواه الهشامان عن الصادق عليه السلام « أيجزئ أن يقول مكان التسبيح في الركوع والسجود لا إله إلّا اللّه والحمد لله واللّه أكبر قال نعم كلّ هذا ذكر » (3) وفيه معنى التعليل فلو لم يكن الذكر كافيا لما سمّاه بالذكر نعم لفظ التسبيح أولى للآية والحديث.

1 - وافق أحمد على وجوب الذكر وقال الشافعيّ وأبو حنيفة باستحباب الذكر المقدّم وقال مالك : ليس في الركوع والسجود شي ء محدود. وسمعت أنّ فيهما التسبيح. دليلنا ما تقدّم.

4 - يجوز إضافة « وبحمده » في الذكرين استحبابا عندنا وأنكرها الشافعيّ وأبو حنيفة لأنّها زيادة لم تحفظ ، وتوقّف أحمد ، لنا رواية حذيفة عنه صلى اللّه عليه وآله أنّه قاله (4) ومن طرقنا رواية زرارة وغيره عن الباقر عليه السلام (5).

الثامنة ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) (6).

ص: 128


1- سنن أبى داود ج 1 ص 201.
2- الوسائل ب 4 من أبواب الركوع ح 1.
3- الوسائل ب 7 من أبواب الركوع ح 1 و 2.
4- السراج المنير ج 3 ص 139. سنن أبى داود ج 1 ص 201 عن عقبة بن عامر
5- الوسائل أبواب الركوع ب 1 ح 1 وب 4 ح 5.
6- أسرى : 110.

يحتمل وجوها الأول ولا تجهر بكلّ صلوتك ولا تخافت بكلّها بل اجهر بصلاة اللّيل والفجر وخافت بالظهرين.

الثاني عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يصلّي بمكّة فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن جاء به فنزلت (1) أي فلا تجهر فيسبّوك ولا تخافت فلا يسمعك أصحابك بل حالة وسطى.

الثالث أن يكون خطابا لكلّ واحد من المكلّفين أو من باب « إيّاك أعني واسمعي يا جارة » (2) أي لا تجهر بصلوتك أي لا تعلنها إعلانا يوهم الرّياء ولا تخافت بها أي لا تسرّ بها بحيث يظنّ تركها والتهاون بها.

الرابع أن يكون المراد بالصّلاة الدعاء.

الخامس أنّها منسوخة بقوله ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ) (3) والأولى الأوّل لقربه من ظاهر لفظ الآية وحينئذ يكون الآية من المجملات واستفيد بيانها من فعله صلى اللّه عليه وآله والمنقول تواترا أنّه فعل كما هو المشهور وحيث إنّ الأمر للوجوب فالواقع في بيانه واجب والسبيل المأمور به هو ذلك وهنا فوائد :

1 - المراد بالجهر أن يسمعه القريب الصحيح السمع إذا استمع وبالإخفات

ص: 129


1- تفسير الطبري ج 15 ص 184 - 186 ومثله في البرهان ج 2 ص 453.
2- مثل يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئا غيره ، ذكره الميداني في مجمع الأمثال تحت الرقم 187 ، وأول من تكلم به سهل بن مالك الفزاري عند ما وقع في نفسه من أخت حارثة بن لام شي ء وكان ضيفها فجلس بفناء الخباء يوما وأنشد : يا أخت خير البدو والحضارة *** كيف ترين في فتى فزارة أصبح يهوى حرة معطارة *** إياك أعني واسمعي يا جارة فاجابتها بالنظم : انى أقول يا فتى فزارة *** لا أبتغي الزوج ولا الدعارة ولا فراق أهل هذى الجارة *** فارحل إلى أهلك باستخارة فاستحيى الفتى وارتحل.
3- الأعراف : 154.

أن يسمع نفسه ، ولا يكفي تخيّل الحروف عن السماع.

2 - أطبق الجمهور على استحباب الجهر والإخفات في مواضعهما وبه قال شاذّ منّا والحقّ الوجوب لما قلناه ومفصّله أنّه يجب على الرجل الجهر بالصبح وأوليي المغرب وأوليي العشاء والإخفات في البواقي أمّا المرأة ففرضها الإخفات في الكلّ ولو أمنت سماع الأجنبيّ صوتها هل يجوز لها الجهر في موضعه أم لا احتمالان أحوطهما العدم وأمّا الخنثى المشكل فالأولى مع أمن سماع الأجنبيّ أن يكون كالرّجل ومع عدمه كالمرأة

3 - أطبق أصحابنا على استحباب الجهر بالبسملة فيما فيه الإخفات وأكثر الجمهور على خلافه.

4 - الأذكار غير القراءة لا جهر فيها موظّف ولا إخفات لكنّ الأولى للإمام الجهر وللمأموم الإخفات. وللمنفرد التخيير.

5 - الصلوات غير اليوميّة أمّا واجبات أو مندوبات فالأولى المصلّي فيها بالخيار لأصالة عدم وجوب شي ء من الوصفين والثانية نوافل النهار إخفات واللّيل جهر.

التاسعة ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1).

قرئ برفع « ملائكته » فقال الكوفيّون بعطفها على أصل إنّ واسمها وقال البصريّون مرفوعة بالابتداء وخبر إنّ محذوف أي إنّ اللّه يصلّي وملائكته يصلّون فحذف للقرينة ونظائره كثيرة كقول الشاعر (2) :

ص: 130


1- الأحزاب : 56.
2- هو قيس بن الخطيم بن عدا الأوسي شاعر الأوس وأحد صناديدها في الجاهلية وله في يوم بعاث الذي كان بين الأوس والخزرج قبل الهجرة أشعار كثيرة ، انظر أيام العرب في الجاهلية من ص 79 الى 82. أدرك الإسلام وتريث في قبوله كما في الإصابة ج 3 ص 266 فمات قبل أن يدخل فيه ، شعره جيد وفي الأدباء من يفضله على شعر حسان والخطيم بالخاء المعجمة سمى به لجراحة أصابته على أنفه ذكره ابن شهاب الدين في شواهد المطول وكذا ضبطه في المشتبه للذهبى ص 267 والمؤتلف والمختلف للامدى ص 159 ونسب البيت في الإنصاف الى درهم بن زيد وفي جامع الشواهد احتمال نسبته الى عمرو بن امرئ القيس.

نحن بما عندنا وأنت بما عندك

راض والأمر مختلف

(1) أي نحن راضون.

والصلاة وإن كانت من اللّه الرحمة فالمراد بها هنا هو الاعتناء (2) بإظهار شرفه ورفع شأنه ومن هنا قال بعضهم تشريف اللّه محمّدا صلى اللّه عليه وآله بقوله « إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ » أبلغ من تشريف آدم بالسّجود له.

والتسليم قيل المراد به التسليم بمعنى الانقياد له كما في قوله ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ

ص: 131


1- استشهد بالبيت في تفسير الطبري ج 1 ص 122 عند تفسير الآية 34 من سورة التوبة وج 22 ص 100 عند تفسير الآية 37 من سورة سبأ وفي مجمع البيان عند تفسير الآية 37 من سورة البقرة ، وسيبويه في الكتاب ج 1 ص 38 باب الفاعلين والمفعولين وابن الأنباري في الإنصاف ص 95 في المسئلة 13 من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين من أن أى العاملين في التنازع أولى بالعمل ، وابن هشام في المغني فيما إذا دار الأمر بين كون المحذوف أولا أو ثانيا من الباب الخامس وهكذا الخطيب القزويني في تلخيص المفتاح.
2- قال الزمخشري والنيسابوري والبيضاوي والنسفي عند تفسير « هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ » ان أصل الصلاة التعطف وذلك أن المصلى يتعطف في ركوعه وسجوده كعائد المريض في انعطافه عليه والمرأة في حنوها على ولدها ، فاستعير لمن يتعطف على غيره حنوا وترؤفا ، وبينه قاضى زاده في شرحه على تفسير البيضاوي بأن أصله عطف صلو به : وهما عرقان في منتهى الفخذ ينعطفان من المنحني ومنه المصلى في خيول الحلبة لان رأسه محاذ لصلا ما يقدمه ثم تجوز بها عن الانعطاف الصوري الى الانعطاف المعنوي وهو الترحم والرأفة.

وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1) وقيل هو قولهم السلام عليك أيّها النبي [ ورحمة اللّه وبركاته ] قاله الزمخشريّ والقاضي في تفسيريهما وذكره الشيخ في تبيانه وهو الحقّ لقضيّة العطف ولأنّه المتبادر إلى الذهن عرفا ولرواية كعب الآتية وغيرها.

إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

1 - ذهب أصحابنا والشافعيّ وأحمد إلى وجوب الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الصلاة خلافا لأبي حنيفة ومالك فإنّهما لم يوجباها ولم يجعلاها شرطا في الصلاة واستدلّ بعض الفقهاء بما تقريره : شي ء من الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله واجب ولا شي ء من ذلك في غير الصلاة بواجب ينتج أنّها في الصّلاة واجبة أمّا الصغرى فلقوله « صَلُّوا » والأمر حقيقة في الوجوب وأمّا الكبرى فظاهرة وفيه نظر لمنع الكبرى كما يجي ء وحينئذ فالأولى الاستدلال على الوجوب بدليل خارج أمّا من طرقهم فما رووه عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول « لا تقبل صلاة إلّا بطهور وبالصلاة عليّ » (2) وكذا عن أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قال إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد اللّه ثمّ ليصلّ عليّ » (3) ومن طرقنا ما رواه أبو بصير وغيره عن الصادق عليه السلام : « قال من صلّى ولم يصلّ على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وتركه عمدا فلا صلاة له » (4) حتّى أنّ الشيخ جعلها ركنا

ص: 132


1- النساء : 64.
2- نيل الأوطار ج 2 ص 296 نقلا عن البيهقي والدارقطنى.
3- لم أر هذا الحديث من طريق أنس في كتاب إلا في المعتبر وانما هو عن فضالة بن عبيد كما في المنتقى على ما في نيل الأوطار ج 2 ص 299 نقلا عن الترمذي وكذا فيض القدير ج 1 ص 389 الرقم 717 نقلا عن الترمذي وابى داود ( أقول راجع ج 1 ص 341 ) وابن حبان والحاكم والبيهقي وجعل عليه رمز الصحة ، وفي المنتهى أيضا نقل الحديث عن فضالة وأظن ان لفظ أنس في الكتاب وفي المعتبر سهو من الناسخ. قال ابن حجر كما في فيض القدير : وهذا أقوى شي ء يحتج به للشافعي على وجوب الصلاة عليه في التشهد.
4- الوسائل ب 10 من أبواب التشهد ج 1 و 2.

في الصلاة فإن عنى الوجوب والبطلان بتركها عمدا فهو صحيح وإن عنى تفسير الركن بأنّه ما يبطل الصلاة بتركه عمدا وسهوا فلا.

2 - قال علماؤنا أجمع : إنّ الصلاة على النبيّ واجب في التشهّدين معا وبه قال أحمد وقال الشافعيّ مستحبّ في الأوّل وواجب في الأخير وقال مالك وأبو - حنيفة هي مستحبّة فيهما دليل أصحابنا روايات كثيرة عن أئمّتهم عليهم السلام.

3 - هل يجب الصلاة على النبيّ في غير الصلاة أم لا؟ ذهب الكرخيّ إلى وجوبها في العمر مرّة وقال الطحاويّ كلّما ذكر واختاره الزمخشريّ ونقل عن ابن بابويه من أصحابنا وقال بعضهم في كلّ مجلس مرّة والمختار الوجوب كلّما ذكر لدلالة ذلك على التنويه بذكر شأنه والشكر لإحسانه المأمور بهما ولأنّه لولاه لكان كذكر بعضنا بعضا وهو منهيّ عنه في آية النور [ وهي قوله ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ ) » (1) الآية ] ولما روي عنه صلى اللّه عليه وآله « من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ فدخل النار فأبعده اللّه » (2) والوعيد إمارة الوجوب وروي أنّه قيل له يا رسول اللّه أرأيت قول اللّه « إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ » فقال عليه الصلاة والسلام « هذا من العلم المكنون ولو لا أنّكم سألتموني عنه لما أخبرتكم به إنّ اللّه وكل بي ملكين فلا اذكر عند مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال له ذلك الملكان غفر اللّه لك وقال اللّه وملائكته آمين ولا اذكر عند مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال له الملكان لا غفر اللّه لك وقال اللّه تعالى وملائكته آمين » (3) وأمّا عند عدم ذكره فيستحبّ استحبابا مؤكّدا لتظافر الروايات على أنّ الصلاة عليه وعلى آله تهدم الذنوب وتوجب إجابة الدعاء المقرون بها (4).

4 - روى كعب بن عجرة قال « لمّا نزلت الآية قلنا يا رسول اللّه هذا السلام

ص: 133


1- النور : 63.
2- الوسائل ب 10 من أبواب التشهد ح 3 ومثله في السراج المنير ج 3 ص 357.
3- الدر المنثور ج 5 ص 218 من حديث الحسن بن على عليهما السلام.
4- الوسائل ب 36 من أبواب الدعاء وب 34 و 42 من أبواب الذكر.

عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك فقال : قولوا اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد » (1) وعلى هذا الحديث سؤال مشهور بين

ص: 134


1- الرواية كما في المتن رواها في الوسائل ب 35 من أبواب الذكر ح 2 ومجمع البيان ج 8 ص 369. عن ابن ابى ليلى عن كعب بن عجرة ، ومن طرق أهل السنة بهذه الكيفية من طريق ابن الهاد على ما في تفسير ابن كثير ج 3 ص 507 أخرجه النسائي ( انظر ج 3 ص 47 ) وابن ماجة ، وأما عن كعب بن عجرة فبغير ما في المتن روى المنتقى على ما في نيل الأوطار ج 2 ص 298 عن كعب بن عجرة قال قلنا يا رسول اللّه قد علمنا أو عرفنا كيف السلام عليك فكيف الصلاة قال : قولوا اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللّهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم رواه الجماعة الا أن الترمذي قال فيه على إبراهيم في الموضعين ( أقول ومثله أبو داود في سننه ج 1 ص 224 في لفظ ) وقال الشوكانى في رواية : وآل محمد بحذف على ونظير هذه الرواية في التيسير ج 2 ص 1. وللخمسة عن كعب بن عجرة ، ونظير تلك الرواية أيضا ما رواها في المنتقى ( نيل الأوطار ج 2 ص 294 ) عن ابى مسعود الأنصاري قال : أتانا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ونحن في مجلس سعد بن عبادة. فقال له بشير بن سعد أمرنا اللّه أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك قال فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثم قال : قولوا : اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. والسّلام كما قد علمتم ، رواه احمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه ولأحمد في لفظ آخر نحوه أيضا وأبو داود ( انظر ج 1 ص 225 ) وابن خزيمة وابن حبان والدارقطنى وحسنه والحاكم وصححه والبيهقي وصححه. وقد استحسن كثير من أهل السنة الاستدلال بحديث ابى مسعود على وجوب الصلاة حيث يستظهر منه أن وجوب الصلاة كان مفروغا عنه في الصلاة وسأل بشير بن سعد عن الكيفية على ما رواه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطنى والحاكم وأبو حاتم واحمد في رواية من زاد « إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا » ( انظر سراج المنير ج 3 ص 68 ) ومن أراد شرح الاستدلال فليراجع تفسير ابن كثير ج 3 ص 508. واستدل به في سبل السلام ج 1 ص 193 على وجوب ذكر الآل أيضا بأنه حيث أجاب عن السؤال عنها أنها الصلاة عليه وعلى آله ، فمن لم يأت بالآل فما صلى عليه بالكيفية التي أمر بها ، فلا يكون ممتثلا للأمر ، فلا يكون مصليا عليه ، وفيه أيضا : أنه قد صح عند أهل الحديث بلا ريب كيفية الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وآله وهم رواتها وكأنهم حذفوها خطأ تقية لما كان في الدولة الأموية من يكره ذكره ، ثم استمر عليه عمل الناس متابعة من الأخر للاول.

العلماء ذكرناه في نضد القواعد وذكرنا ما قيل في أجوبته من أراده وقف عليها هناك ففيه فوائد كثيرة (1).

ص: 135


1- قال قدس سره في ذاك الكتاب : قاعدة لا يتعلق الأمر والنهي والدعاء والإباحة والشرط والجزاء والوعد والوعيد والترجي والتمني الا بمستقبل فمتى وقع تشبيه بين لفظي دعاء أو أمر أو نهى أو واحد مع الأخر فإنما يقع في مستقبل وعلى هذا خرج بعضهم الجواب عن السؤال المشهور في قوله صلى اللّه عليه وآله « اللّهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وفي رواية كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. بأن التشبيه يعتمد على كون المشبه به أقوى في وجه الشبه أو مساويا والصلاة هنا الثناء أو العطاء أو المنحة التي هي من آثار الرحمة والرضوان فيستدعي أن يكون عطاء إبراهيم أو الثناء عليه فوق الثناء على محمد أو مساويا له ، وليس كذلك ، والا لكان أفضل منه ، والواقع خلافه - فان الدعاء انما يتعلق بالمستقبل ونبينا صلى اللّه عليه وآله كان الواقع قبل هذا الدعاء انه أفضل من إبراهيم وهذا الدعاء يطلب فيه زيادة على هذا الفضل مساوية لصلاته على إبراهيم فهما وان تساويا في الزيادة إلا أن الأصل المحفوظ خال عن معارضة الزيادة. وهو جواب احمد بن إدريس المالكي وفيه نظر لان ذلك بناء على أن الزيادة أمر يحصل بدعائنا وقد قال علماء الكلام في باب الدعاء حيث قسموه إلى أقسامه أن هذا القسم من أقسام الدعاء تعبد ونفعه عائد إلى الداعي لأن اللّه تعالى قد أعطى نبيه من علو القدر وارتفاع المنزلة ما لا يؤثر فيه دعاء داع ، فحينئذ يصير هذا كالاخبار عما أعطى اللّه نبيه كما يشهد به القرآن العزيز القويم والاخبار لا توقع فيه وأجيب بوجوه أخر : 1 - أن المشبه به المجموع المركب من الصلاة على إبراهيم وآله ومعظم الأنبياءهم آل إبراهيم والمشبه الصلاة على نبينا وآله ، وآل محمد ليسوا بأنبياء فكانت الصلاة على آل إبراهيم أبلغ من الصلاة على آل محمد صلى اللّه عليه وآله فيكون الفاضل من الصلاة على آل إبراهيم لمحمد ويزيد على آل إبراهيم. وهو جواب عز الدين عبد السلام وفيه نظر أيضا لأنه يشكل بأن ظاهر اللفظ تشبيه الصلاة على محمد بالصلاة على إبراهيم والصلاة على آله بالصلاة على آله ( حقيقة ) لا يراد كل منهما وآله فلا يقع المقابلة بالمجموع بل انما هي مقابلة الافراد ، مع ان في هذا الجواب هضما لآل محمد وقد قام الدليل على أفضلية على عليه السلام على خلق من الأنبياء وهو واحد من آل محمد فيكون السؤال عند الإمامية على حاله. 2 - انه تشبيه أصل الصلاة بالصلاة لا كميتها بكميتها ولا صفة من صفاتها بصفتها كما في قوله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أن المراد تشبيه أصل الصوم بأصل الصوم لا الوقت والعدد ، وفيه نظر لان الكاف في كما للتشبيه فهو اسم بمعنى مثل منصوب صفة لمصدر محذوف اى صلاة مماثلة للصلاة على إبراهيم ، والمصدر إذا وقع موصوفا استحال أن يشاربه إلى الماهية من حيث هي لأن الماهية من حيث هي لا يكون مقيدة بقيد والوصف قيد. 3 - ان المساواة في التشبيه وان كانت حاصلة فهي في الافراد بالنسبة الى كل مصل وصلاة على حدة فإذا جمع جميع المصلين في جميع الصلوات زاد ذلك أضعافا مضاعفة وهو جواب ابى الفتح القشيري ويشكل هذا بان التشبيه واقع في كل صلاة تذكر في حال كونها صلاة واحدة ، سلمنا لكن كان ينبغي مع توالى الصلوات في زمانه صلى اللّه عليه وآله أن يزيد المشبه على المشبه به كيف وهو متوال في جميع الأعصار إلى حين انقطاع التكليف. 4 - ان قوله اللّهم صل على محمد وآل محمد في قوة جملتين والتشبيه انما وقع في الثانية أعني الصلاة على الآل وهذا فيه بحث نحوي وهو ان العامل في المعطوف هل هو العامل في المعطوف عليه ، وهو القول بالانسحاب ، أولا ، ويدفعه سياق الكلام فان ذكر إبراهيم مقابل محمد صلى اللّه عليه وآله فالتشبيه واقع في الجملتين مع ان في هذا أيضا هضما لآل محمد وفيه ما فيه. 5 - ان مطلوب كل مصل المساواة لإبراهيم في الصلاة وكل منهم طالب صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم وإذا اجتمعت هذه الصلوات كانت زائدة على الصلاة على آل إبراهيم ، وهذا أيضا بناء على ان صلوتنا عليه تفيد زيادة في رفع الدرجة ومزيد الثواب وقد أنكر هذا جماعة من المتكلمين خصوصا الأصحاب ، وقد تقدم بيانه ، بل فائدة هذا الامتثال تعود الى المكلف نفسه فيستفيد به ثوابا كما جاء في الحديث « من صلى على واحدة صلى اللّه عليه عشرا ». فقد ظهر ضعف هذه الأجوبة لكن الاولى منها جواب تشبيه الأصل بالأصل ويلزم المساواة في الصلاتين ولكن تلك أمور موهبة فجاز تساويهما فيها وان التفاوت في الأمور الكسبية المقتضية للزيادة فإن الجزاء على الاعمال هو الذي تتفاضل فيه العمال لا المواهب التي يجوز نسبتها الى كل واحد تفضلا خصوصا على قواعد العدلية وهب ان الجزاء كله تفضل كما يقوله الأشعرية الا أن هنا موهبة محضة ليس باعتبار الجزاء ، والذي يسمى جزاء عند العمل وان لم يكن مسببا عن العمل هو الذي يتفاضلان فيه وهذا واضح. انتهى كلامه قدس سره نقلناه عن نسخة مخطوطة تفضل بإرسالها الأستاذ مرتضى المدرسى الچاردهى دام ظله. وفي حاشية الكتاب في الطبع الحجري نقلا عن كتاب مشكلات العلوم أنه سؤال : ان قيل : قد وقع الإجماع على ان محمدا صلى اللّه عليه وآله أفضل من إبراهيم وآله وقد ورد في الأدعية السؤال من اللّه سبحانه ان تصلى على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآله فكأنه سأل الحطيطة عن منزلتهم. والجواب انه ليس المراد أن يكون صلوته على محمد وآل محمد كصلوته على إبراهيم وآله بل المراد السؤال عنه سبحانه أن يفعل بمحمد وآله المستحق لهم من التعظيم والإجلال كما فعل بإبراهيم وآله ما استحقوه من ذلك. فالسؤال يقتضي التنجيز المستحق لهم منه تعالى وان كان أفضل مما استحقه إبراهيم وآله. ولهذا نظير من الكلام في المتعارف وهو أن يقول القائل لمن كسا عبده فيما مضى من الدهر وأحسن اليه : « اكس ولدك الان كما كسوت عبدك وأحسن إليه كما أحسنت إلى عبدك من « قبل » فإنه لا يريد مسئلة إلحاق الولد برتبة العبد في الإكرام والتسوية بينهما فيما به الكسوة والإحسان ومماثلتهما في القدر بل يريد به الجمع بينهما في الفعلية والوجود. ولو أن رجلا استأجر إنسانا بدرهم أعطاه إياه عند فراغه من عمله ثم عمل له أجير من بعد عملا يساوى أجرته عشرة دراهم يصح ان يقال له عند فراغ الإنسان من العمل : « أعط هذا الإنسان أجره كما أعطيت فلانا أجره » ويقول الأجير نفسه : « أوف أجرتي كما أوفيت أجيرك بالأمس أجره » ولا يقصد بذلك التمثيل بين الأجرتين في قدرهما ولا السؤال في إلحاق الثاني برتبة الأول على وجه الحط له عن منزلته والنقص له من حقه. فهكذا القول في مسئلتنا اللّه سبحانه الصلاة على محمد وآله كما صلى على إبراهيم وآله. انتهى

ص: 136

5 - دلّ حديث كعب المذكور على مشروعية الصلاة على الآل تبعا له صلى اللّه عليه وآله

ص: 137

وعليه إجماع المسلمين (1) وهل يجوز الصلاة عليهم لا تبعا له بل إفرادا كقولنا اللّهمّ صلّ على آل محمّد بل الواحد منهم لا غير أم لا؟ قال أصحابنا بجواز ذلك وقال الجمهور (2) بكراهته لأنّ الصلاة على النبيّ صارت شعارا له فلا تطلق على غيره ولإيهامه الرفض (3)

ص: 138


1- وأوجبه الشافعي في أحد قوليه كما في الصواعق المحرقة ص 146 وينسب اليه : يا أهل بيت رسول اللّه حبكم *** فرض من اللّه في القرآن أنزله كفاكم من عظيم القدر انكم *** من لم يصل عليكم لا صلاة له
2- وليس بمتفق عليه عندهم ، وحيث ان الآل يدخل فيه المضاف اليه كما سنبينه قال ابن القيم : يجوز الصلاة بلفظ آل منفردا بالاتفاق بأن يقال : اللّهم صل على آل محمد فإن الافراد فيه في اللفظ لا في المعنى ، واختلافهم انما هو فيما أفرد أحد بالذكر. وقد نقل الجواز ابن الفراء كما في جلاء الافهام ص 322 عن الحسن البصري وخصيف ومجاهد ومقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان واحمد على رواية وإسحاق بن راهويه وابى ثور ومحمد بن جرير الطبري. ثم ان أهل السنة اختلفوا أيضا في السلام ، هل هو في معنى الصلاة؟ فكرهه طائفة منهم أبو محمد الجويني ومنع أن يقال : « على عليه السلام » وفرق آخرون بينه وبين الصلاة فقالوا السلام بشرى في حق كل مؤمن حي وميت حاضر وغائب فإنك تقول بلغ فلانا السلام وهو تحية أهل الإسلام ولهذا يقول المصلى : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.
3- ففي الكشاف بعد ذكر أدلة جواز الصلاة على غير النبي صلى اللّه عليه وآله ج 2 ص 549 في تفسير الآية قال : وأما إذا أفرد أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه لان ذلك صار شعارا لذكر رسول اللّه ولانه يؤدى الى الاتهام بالرفض وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من كان يؤمن باللّه واليوم الأخر فلا يقفن مواقف التهم. قلت : ما أحوج المسلمين في هذا العصر الى توحيد الكلمة وتماسك جماعتهم وأن يقفوا صفا واحدا يصدون التهجمات عن أنفسهم كي لا يجد عدو الدين منفذا لاستقلالهم والسيطرة عليهم وان يقفوا من كل ما فيه شائبة الشتات والتفرقة موقف الحذر الفطن فحرى على إخواننا المسلمين أن يذكروا الآل عند ذكر النبي صلى اللّه عليه وآله بالصلاة كيف وليس ذكر الآل مختلفا فيه مع ذكر النبي صلى اللّه عليه وآله عند أحد من المسلمين كما قد عرفته بل أوجبه الشافعي في التشهد على رواية عنه. مالهم لا يصلون على محمد وآله معا في كتبهم المطبوعة؟ وانما يقولون صلى اللّه عليه وآله وسلم.

والحقّ ما قاله الأصحاب لوجوه (1) :

الأوّل قوله تعالى مخاطبا للمؤمنين كافة ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) (2) وهو نصّ في الباب.

الثاني قوله ( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) (3) ولا ريب أنّ أهل البيت عليهم السلام أصيبوا بأعظم المصائب الّذي من جملتها اغتصابهم مقام إمامتهم.

الثالث أنّه لمّا أتى أبو أوفى بزكوته قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « اللّهمّ صلّ على أبي أوفى وآل أبي أوفى (4) » فيجوز على أهل البيت عليهم السلام بطريق أولى.

ص: 139


1- ونزيدك عليها من الايات الآية 103 من سورة التوبة ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) . فكما أن أخذ الزكاة ليس مختصا بالنبي صلى اللّه عليه وآله فكذلك الصلاة فلا يصح ما قيل انه من خصائص النبي وانه لا يجوز أو يكره الصلاة على غير النبي لغير النبي صلى اللّه عليه وآله. ومن الاخبار ما في الجامع الصغير الرقم 1813 - 1817 والرقم 5077 مشتملة على ان اللّه وملائكته يصلون على أصناف من العباد كالمصلين في الصف الأول أومئا من الصفوف وغيرهم وما في سنن ابن ماجة تحت الرقم 1500 عن عوف بن مالك قال شهدت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله صلى على رجل من الأنصار فسمعته يقول : اللّهم صل عليه واغفر له وارحمه وما في كتاب جلاء الافهام لابن قيم الجوزية ص 323 عن جابر بن عبد اللّه ان امرأة قالت يا رسول اللّه صل على وعلى زوجي صلى اللّه عليك وسلم فقال صلى اللّه عليك وعلى زوجك قال رواه احمد وأبو داود ( انظر ج 1 ص 351 ) وفي تفسير ابن كثير ج 3 ص 7 - 5 مثل ذلك
2- الأحزاب : 43.
3- البقرة : 157.
4- ففي سنن ابى داود ج 1 ص 368 والمنتقى على ما في نيل الأوطار ج 3 ص 163 عن عبد اللّه بن أبي أوفى قال كان رسول اللّه إذا أتاه قومه بصدقة قال اللّهم صل عليهم فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال اللّهم صل على آل أبي أوفى. متفق عليه وأما بلفظ « اللّهم صل على أبى أوفى وآل أبي أوفى » فلم أره في الكتب وقد نقله هكذا في كتاب الزكاة. وأظنه من سهو الناسخ كيف وقد استدلوا بهذا الحديث على شمول الآل للشخص نفسه وجعلوه من الفروق بين الأهل والآل وقالوا : الآل إذا أفرد دخل فيه المضاف اليه بخلاف الأهل. وحيث انجرّ الكلام الى ذكر الآل فلا بأس بصرف العنان الى اشتقاق الآل فنقول : اختلفوا في اشتقاق الآل فقيل من الأهل بدليل تصغيره على اهيل ولا يعجبني هذا القول كيف وفي اللسان عن الفراء عن الكسائي مجي ء اويل تصغير آل وكذا في المطول فأهيل تصغير أهل ولو فرض عدم مجي ء اويل أيضا لم يلزم كون اهيل تصغير آل لجواز كون مصغر الآل مرفوضا. فالحق أن أصل الآل أول وان المادة موضوعة لأصل الشي ء وحقيقته ولذا سمى حقيقة الشي ء تأويله لأنها حقيقته التي ترجع إليها كما قال تعالى ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ) ( الأعراف 52 ) فتأويل ما أخبرته الرسل مجي ء حقيقته وتأويل الرؤيا حقيقته ومنه التأويل بمعنى العاقبة كما قال تعالى ( ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) ( النساء : 69 ) فان عواقب الأمور حقيقتها ومنه التأويل بمعنى التفسير لان التفسير بيان حقيقته. ومنه الأول لأنه أصل العدد ومنه الآل بمعنى الشخص فآل الرجل هم الذين يسوسهم ويوليهم فيكون أولهم اليه ونفسه أحق بذلك من غيره فهو أحق بالدخول في الآل فإذا أفرد دخل هو فيه قال تعالى ( أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ ) ( الزمر : 46 ) وعليه رواية اللّهم صل على آل أبي أوفى.

الرابع أنّ الصلاة من اللّه بمعنى الرحمة ويجوز الرحمة عليهم إجماعا ويجوز مرادفها لما تقرّر في الأصول أنّه يجوز إقامة أحد المترادفين مقام الآخر.

الخامس قولهم أنه صار شعارا للرسول صلى اللّه عليه وآله قلنا مصادرة على المطلوب لأنّها كما دلّت على الاعتناء برفع شأنه كذلك تدلّ على الاعتناء برفع شأن أهله القائمين مقامه ويكون الفرق بينهم وبينه وجوبها في حقّه صلى اللّه عليه وآله كلّما ذكر كما اخترناه إن قلت عادة السلف قصره على الأنبياء قلت العادة لا تخصّص كما تقرّر في الأصول هذا مع أنّ من أعظم السلف الباقر والصادق عليهما السلام ولم يقولا بذلك.

السادس أنّ قولهم : إنّ ذلك يوهم الرفض تعصّب محض وعناد ظاهر نظير قولهم من السنّة تسطيح القبور لكن لمّا اتّخذته الرافضة شعارا لقبورهم عدلنا عنه إلى التسنيم فعلى هذا كان يجب عليهم أن كلّ مسئلة قال بها الإماميّة أن يفتوا بخلافها وذلك هو محض التعصّب والعناد نعوذ باللّه من الأهواء المضلّة والآراء الفاسدة.

ص: 140

6 - مذهب علمائنا أجمع أنه يجب الصلاة على آل محمّد في التشهّدين وبه قال بعض الشافعيّة وفي إحدى الروايتين عن أحمد وقال الشافعيّ بالاستحباب لنا رواية كعب وقد تقدّمت في كيفيّة الصلاة عليه صلى اللّه عليه وآله وإذا كانت الصلاة عليه واجبة كانت كيفيّتها واجبة أيضا وروى كعب أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يقول ذلك في صلوته (1) و « قال صلى اللّه عليه وآله صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (2) وعن جابر الجعفي عن الباقر عليه السلام عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من صلّى صلاة ولم يصلّ فيها عليّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه » (3).

7 - الّذين تجب الصلاة عليهم في الصلاة ويستحبّ في غيرها هم الأئمّة المعصومون عليهم السلام لإطباق الأصحاب على أنّهم هم الآل ولأنّ الأمر بذلك مشعر بغاية التعظيم المطلق الّذي لا يستوجبه إلّا المعصومون وأمّا فاطمة عليها السلام فتدخل أيضا لأنها بضعة منه صلى اللّه عليه وآله.

8 - استدلّ بعض شيوخنا على وجوب التسليم المخرج عن الصلاة بما تقريره : الف شي ء من التسليم واجب ب ولا شي ء منه في غير الصلاة بواجب النتيجة فيكون وجوبه في الصلاة وهو المطلوب أمّا الصغرى فلقوله « وَسَلِّمُوا » الدالّ على الوجوب وأمّا الكبرى فللإجماع وفيه نظر لجواز كونه بمعنى الانقياد كما تقدّم ، سلّمنا لكنّه سلام على النبيّ صلى اللّه عليه وآله لسياق الكلام وقضيّة العطف وأنتم لا تقولون أنّه المخرج من الصلاة بل المخرج غيره.

9 - استدلّ بعض شيوخنا المعاصرين على أنه يجب إضافة « السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته » على التشهّد الأخير بما تقريره : السلام على النبيّ صلى اللّه عليه وآله واجب ولا شي ء منه في غير التشهّد الأخير بواجب - ينتج أنه فيه واجب. وبيان المقدّمتين قد تقدّم.

ص: 141


1- لم أعثر في كتبهم على هذا الحديث الا أن الشيخ نقله مرسلا في الخلاف المسئلة 128 من كتاب الصلاة وكأنه ناظر الى حديثه المتقدم المشهور.
2- صحيح البخاري ج 1 ص 117 ( باب الأذان للمسافر ح 3 ) وقد مر الحديث ص 124 فراجع.
3- أخرجه في المستدرك عن متشابه القرآن ج 1 ص 334. والشيخ في الخلاف المسئلة 133 من كتاب الصلاة.

قيل عليه إنّه خرق الإجماع لنقل العلّامة الإجماع على استحبابه ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يعلّمه الأعرابيّ في كيفيّة التشهّد (1) ولا هو في حديث حمّاد في صفة الصلاة عن الصادق عليه السلام (2) فلو وجب لتأخّر البيان عن وقت الحاجة وهو باطل اتّفاقا ولضبط الأصحاب الواجبات في الصلاة ولم يعدّوه فيها ولعدم دلالة الآية عليه صريحا ولو دلّت لم تدلّ على الفوريّة ولا على التكرار ولا على كونه في الصلاة ولا على كونه آخرها ولا كونه بصيغة مخصوصة.

ويمكن الجواب عن الأوّل بمنع الإجماع على عدم وجوبه والإجماع المنقول على مشروعيّته وراجحيّته وهو أعمّ من الوجوب والندب وعن الثاني والثالث بأنّ عدم النقل لا يدلّ على العدم مع أنّ حديث حمّاد ليس فيه إشعار بالعبارة المتنازع فيها بالوجوب وجودا وعدما مع إمكان الدخول في التشهّد لأنّه « قال فلمّا فرغ من التشهّد سلّم » وعن الرابع بأنّه معارض بوجوب التسليم المخرج من الصلاة فإنّ كثيرا من الأصحاب لم يعدّه في الواجبات مع الفتوى بوجوبه وعن الخامس قد بيّنّا فيما تقدّم أنّ سياق الكلام وقضيّة العطف يدلّ على أنّ المراد السلام على النبيّ وعن السادس بأنّ الفوريّة والتكرار استفيدا من خارج الآية وهو أنّه لمّا ثبت كونه جزءا من الصلاة فكلّما دلّ على فوريّتها وتكرارها دلّ على فوريّته وتكراره تضمّنا وعن السابع والثامن والتاسع بما تقرّر في بيان الكبرى إذ لا قائل بالوجوب في غير الصلاة ولا في غير التشهّد الأخير ولا بغير الصيغة.

وبالجملة الّذي يغلب على ظنّي الوجوب ويؤيّده ما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام « قال إذا كنت إماما فإنّما التسليم أن تسلّم على النبيّ وتقول : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين » (3) وأيضا رواية الشيخ في التهذيب عن أبي كهمس

ص: 142


1- ولا الأئمة عليهم السلام أصحابهم على ما في أحاديثنا نعم هو مذكور في أحاديثهم المروية لبيان التشهد مع تقديم وتأخير راجع سنن أبى داود ج 1 ص 221.
2- الوسائل ب 1 من أبواب أفعال الصلاة ح 1 و 2 أخرجه عن الفقيه والكافي.
3- الوسائل ب 2 من أبواب التسليم ح 8. أخرجه عن التهذيب.

عن الصّادق عليه السلام « قال سألته إذا جلست للتشهّد فقلت وأنا جالس السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته انصراف هو قال عليه السلام لا ولكن إذا قلت السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين فهو انصراف (1) وهي ظاهرة في أنّه من التشهّد والإجماع حاصل منّا على وجوبه وعن الحلبي عن الصادق عليه السلام « قال كلّما ذكرت اللّه والنبيّ صلى اللّه عليه وآله فهو من الصلاة فإن قلت السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين فقد انصرفت » (2) دلّ ظاهر هذه الروايات على كون التسليم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله من الصلاة ودلّت الآية على الوجوب فيكون واجبا فيها وهو المطلوب.

النوع السادس : ( في المندوبات )

وفيه آيات :

الاولى ( وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) (3).

قال المعاصر (4) ما هذا لفظه يمكن الاستدلال بهذه الآية على ندبيّة القنوت في الصلاة إذ لا قائل بوجوبه والأصل براءة الذمّة ولأنّ صيغة الأمر استعملت في الندب مثل قوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (5) أقول في هذا الكلام غلط من وجوه الأوّل أنّ قوله لا قائل بوجوب القنوت يدلّ على عدم الاطّلاع على النقل فانّ ابن بابويه وابن أبي عقيل قائلان بالوجوب وهما في الفقه بمكان عال الثاني أنّ أصالة البراءة إنّما يكون حجّة مع عدم الدليل لا مطلقا الثالث أنّ قوله صيغة الأمر استعملت

ص: 143


1- الوسائل ب 4 من أبواب التسليم ح 2.
2- الوسائل ب 4 من أبواب التسليم ح 1.
3- البقرة : 238.
4- هو احمد بن عبد اللّه بن المتوج البحراني كان معاصرا للشيخ المقداد صاحب كنز العرفان وهو المعنى بقوله قال المعاصر. لؤلؤة البحرين.
5- البقرة : 282.

في الندب إن عنى بصيغة الأمر هنا لفظة « قُومُوا » فتلك للوجوب كما استدلّ هو وغيره بها على وجوب القيام في الصلاة وإذا كانت للوجوب لا تدلّ على الندب إذ لا يجوز استعمال المشترك في كلا معنييه كما تقرّر في الأصول وإن عنى لفظ « قانِتِينَ » فليس بأمر وهو ظاهر الرابع أنّ تمثيله للندب بقوله « وَأَشْهِدُوا » سهو فإنّ الأمر فيها للإرشاد إلى مصلحة دنيويّة لا أخرويّة بخلاف الندب فإنّه إشارة إلى مصلحة راجحة أخرويّة هي نيل الثواب.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه قد تقدّم الكلام في هذه الآية بما فيه كفاية فلا وجه لإعادته لكن نقول أكثر أصحابنا قالوا باستحباب القنوت وقال بعضهم بوجوبه كما تقدّم ومحلّه في جميع الصلوات الواجبة والمندوبة بعد قراءة السورة في الثانية وقبل ركوعها وفي الجمعة قنوتان في الأولى قبل الركوع وفي الثانية بعده وقال الشافعيّ باستحبابه في الصبح خاصّة بعد ركوع ثانيتها وما عداها يستحبّ إن نزلت نازلة [ من الخوف ] وإلّا فقولان وقال مالك باستحبابه في الوتر في النصف الأخير من رمضان لا غير وقال أبو حنيفة هو مكروه إلّا في الوتر خاصّة فإنّه مسنون قال أحمد إن في فلاو قال يقنت الجيوش ويحتجّ على المانع بأنه دعاء فيكون مأمورا به ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ ) (1) وبما رواه براء بن عازب قال « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لا يصلّي صلاة مكتوبة إلّا قنت فيها » (2) وروي أيضا أنّ عليا عليه السلام قنت في المغرب ودعا على أناس وأشياعهم (3) وقنت النبيّ عليه السلام في الصبح ودعا على جماعة وسمّاهم (4) ومن طرق الأصحاب روايات كثيرة (5).

ص: 144


1- المؤمن : 60.
2- رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثقون على ما في مجمع الزوائد ج 2 ص 138 وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ج 1 ص 307.
3- راجع المستدرك ج 1 ص 320.
4- رواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس ورجاله ثقات وروى احمد والبزار نحو ذلك ورجاله موثقون راجع مجمع الزوائد ج 2 ص 137 و 139.
5- راجع الوسائل أبواب القنوت.

وهنا فروع :

1 - يجوز الدعاء فيه لأمور الدنيا إجماعا منّا وأنكره أبو حنيفة وأحمد لأنه يشبه كلام الآدميّين ويحتجّ عليهم بما رووه أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال « إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد اللّه والثناء عليه ثمّ يصلّي عليّ ثمّ يدعو بعده بما شاء (1) » قوله بما شاء يعمّ أمور الدين والدنيا ومن طرق الأصحاب عن عبد الرحمن بن سيابة « قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام أدعو اللّه وأنا ساجد قال نعم ادع للدنيا والآخرة فإنّه ربّ الدنيا والآخرة (2) » وعن إسماعيل بن [ أبي ] الفضل عن الصادق عليه السلام أيضا « قال سألته عن القنوت وما يقال فيه فقال ما قضى اللّه على لسانك ولا أعلم فيه شيئا موقّتا (3) ».

2 - يجوز القنوت بالفارسيّة لقول الصادق عليه السلام « كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي (4) » ولم يرد هنا نهي ولقول الباقر عليه السلام « لا بأس أن يتكلّم الرجل في الصلاة بكلّ ما يناجي به ربّه (5) » وعن الصادق عليه السلام « كلّما ناجيت به ربّك في الصلاة فليس بكلام (6) » يريد ليس بكلام مبطل.

3 - قال الصدوق القنوت كلّه جهار وقال المرتضى وابن إدريس والعلّامة هو تابع للصلاة في الجهر والإخفات وقال الشافعيّ كلّه يخافت به لأنّه مسنون فأشبه التشهّد الأوّل وقياسه ممنوع أصلا وفرعا ويحتجّ الصدوق بما رواه عن زرارة عن الباقر عليه السلام « قال إنّ القنوت كلّه جهار (7) ».

4 - إذا نسي القنوت قضاه بعد الركوع لرواية محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السلام (8) ولو ذكر بعد ركوع الثالثة قال الشيخان قضاه بعد فراغه من الصلاة

ص: 145


1- السراج المنير ج 1 ص 151 من حديث فضالة بن عبيد وهو حديث صحيح.
2- الوسائل ب 17 من أبواب السجود ح 2.
3- الوسائل ب 9 من أبواب القنوت ح 1. ونحوه ح 2 و 3 و 5.
4- الوسائل ب 19 من أبواب القنوت ح 1.
5- الوسائل ب 19 من أبواب القنوت ح 2.
6- الوسائل ب 19 من أبواب القنوت ح 3.
7- الفقيه ص 78 الرقم 50.
8- الوسائل ب 18 من أبواب القنوت ح 1 و 2 عن التهذيب.

لرواية أبي بصير عن الصادق عليه السلام (1) وفي الرواية الأولى « فان لم يذكر حتّى ينصرف فلا شي ء عليه ».

الثانية ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) (2).

أكثر المفسّرين على أنّ المراد صلاة العيد. والنحر الهدي أو التضحية قال أنس « كان النبيّ صلى اللّه عليه وآله ينحر قبل أن يصلّي الغداة فأمره اللّه أن يصلّي ثمّ ينحر » (3) وقيل معناه صلّ لربّك الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك يقول العرب منازلنا تتناحر أي هذا ينحر هذا أي يستقبله وأنشد :

أبا حكم ها أنت عمّ مجالد

وسيّد أهل الأبطح المتناحر (4)

أي ينحر بعضه بعضا قاله الفرّاء وروى الجمهور « عن علىّ عليه السلام أنّ معناه ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة (5) » وهذا نقل باطل عنه بل كذب وزور عليه لأنّ عترته الطاهرة مجمعون على خلافه والّذي ورد عنهم روايات (6) الاولى روى عمر بن يزيد « قال سمعت الصادق عليه السلام يقول في قوله تعالى ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) هو رفع يديك حذاء وجهك » الثانية عبد اللّه بن سنان عنه مثلها الثالثة عن جميل بن درّاج « قال قلت للصّادق عليه السلام ما معنى « فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ »؟ فقال بيده

ص: 146


1- الوسائل ب 16 من أبواب القنوت ح 2.
2- الكوثر : 1.
3- مجمع البيان ج 10 ص 550. الدر المنثور ج 6 ص 403.
4- البيت لرجل من بنى أسد أنشده الطبري والرازي والشوكانى عند تفسير الآية والضبط في الرازي : « هل أنت ».
5- أخرجه السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 403 نقل الطبرسي عن على عليه السلام نفسه أن معناه : ارفع يديك الى النحر في الصلاة.
6- والروايات الاتية رواها الطبرسي في مجمع البيان ج 10 ص 550 مرسلا وأخرج بعضها الحر العاملي في الوسائل ب 9 من أبواب تكبيرة الإحرام. والسيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 403.

هكذا يعني استقبل بيديه حذوة وجهه في افتتاح الصلاة ». الرابعة حمّاد بن عثمان قال « سألت الصادق عليه السلام ما النحر فرفع يديه إلى صدره فقال هكذا : ثمّ رفعهما فوق ذلك فقال هكذا يعني استقبل بيديه القبلة في افتتاح الصلاة ». الخامسة روى مقاتل بن حيّان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال « لمّا نزلت هذه السورة قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله لجبرئيل عليه السلام ما هذه النحيرة الّتي أمرني بها ربّي قال : ليست بنحيرة ولكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصّلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت فإنّه صلوتنا وصلاة الملائكة في السموات السبع وإنّ لكلّ شي ء زينة وزينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة. وقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله رفع الأيدي من الاستكانة قلت ما الاستكانة قال ألا تقرأ هذه الآية ( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ ) (1) أورده الثعلبي والواحدي في تفسيريهما.

إذا تقرّر هذا فنقول دلّت هذه الروايات على مندوبات الأوّل التكبير للركوع والسجود وضعا ورفعا الثاني استحباب رفع اليدين مع كلّ تكبيرة الثالث الاستقبال باليدين القبلة الرابع كون الرفع إلى حذاء الوجه.

الثالثة ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (2).

تقدّم الكلام في هذه الآية (3) قيل المراد بالخشوع غضّ الطرف والتذلّل وخفض الجناح وقيل المراد صرف النظر في كلّ حال إلى موضع معيّن كصرف النظر حال القيام إلى موضع سجوده وحال الركوع إلى ما بين رجليه وحال السجود إلى طرف أنفه وحال التشهّد إلى حجره وحال القنوت إلى باطن كفّيه

وقيل في قوله تعالى ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) (4) هو وضع الجبهة والأنف على الأرض والظاهر أنّ المراد : ذلّت وخضعت له خضوع العناة وهم الأسارى

ص: 147


1- المؤمنون : 77.
2- المؤمنون : 1 و 2.
3- راجع ص 65.
4- طه : 111.

في يد الملك القهّار ولفظ الوجوه يعطي العموم ويحتمل إرادة الخصوص وهي وجوه المجرمين لأنّ قبله « وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا يَوْماً وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ » فيكون اللّام بدل الإضافة كما في قوله تعالى ( وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) (1) أي مأواه ويؤيّد هذا الاحتمال قوله تعالى بعد ذلك ( وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ) .

الرابعة ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) (2).

أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ باللّه [ من الشيطان الرجيم ] أطلق الملزوم على لازمه فانّ كلّ فعل اختياريّ يلزمه الإرادة قال الزمخشريّ هي مثل قوله ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) (3) أي إذا أردتم القيام ، وفيه نظر لأنّ بين ابتداء القيام وبين ابتداء الصلاة زمانا هو زمان الطهارة المأمور بها مثل إذا قمت إلى الأمير فتجمّل في ثيابك فانّ بين قيامك ولقائه زمانا فيه لبس الثياب وليس كذا هنا وإلّا لقال إذا قمت إلى القراءة لا إذا قرأت فإنّ بينهما فرقا.

والاستعاذة طلب العياذ وهو اللّجاء والمراد الاستجارة أي أستجير باللّه دون غيره والشيطان كلّ متمرّد عن الطاعة إنسانا كان أو جنّا ووزنه فيعال من شطنت الدار إذا بعدت وقيل فعلان من شاط يشيط إذا بطل فالنّون على الأوّل أصليّ وعلى الثاني زائدة والرجيم فعيل بمعنى مفعول أي مرجوم من الرجم بمعنى الرمي فمعناه : البعيد من الخير المرميّ باللّعنة. إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

1 - أنّ الخطاب حقيقة للنبيّ صلى اللّه عليه وآله ودخل فيه غيره لدليل التأسّي به.

2 - روى عبد اللّه بن مسعود عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قال قرأت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله

ص: 148


1- النازعات : 40.
2- النحل : 98.
3- المائدة : 6.

فقلت أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي يا ابن أمّ عبد قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرئيل عن القلم عن اللّوح المحفوظ » (1) وهذا موافق للفظ القرآن وبالأوّل قرأ بعض القرّاء وفيه ما فيه.

3 - أكثر العلماء على أنّ الأمر هنا للاستحباب ونقل عن بعض علمائنا الوجوب والأوّل أقوى لأصالة البراءة ولأنّه قول الأكثر.

4 - أنّه يستحبّ الإسرار به ولو في الجهرية إجماعا قيل لأنّه ذكر بين التكبير والقراءة فليس فيه إلّا الإسرار كالاستفتاح وفيه ما فيه.

5 - أنّه عندنا في أوّل ركعة لا غير وقال غيرنا إنّه في كلّ ركعة لأنّ الحكم المرتّب على شرط يتكرّر بتكرّره قياسا ، قلنا لفظ القرآن للجنس فهو كالفعل الواحد فيكفي استعاذة واحدة ولأنّه صلى اللّه عليه وآله كذا فعل. هذا ولو تركه عمدا أو سهوا لم يتداركه في الثانية لفوات محلّه.

6 - قال بعض الحنفية إنّها من سنن الصلاة لا القراءة فعنده يستحبّ للمأموم وإن لم يقرأ وكذا للمسبوق وهو ممنوع لأنّ لفظ القرآن يدلّ على خلافه بل هي من سنن القراءة.

الخامسة : آيات متعددة ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ) (2).

أصل المزّمّل متزمّل أدغم التاء في الزاي من تزمّل أي تلفّف بثيابه سمّى به النبيّ صلى اللّه عليه وآله تهجينا لما كان عليه لأنّه كان نائما أو مرتعدا لما دهشة ابتداء الوحي فتزمّل

ص: 149


1- أخرجه في قلائد الدر ج 1 ص 184 ( طبعة النجف ) وفي المستدرك ج 1 ص 294 عن غوالي اللآلي.
2- المزمل : 1 - 6.

بقطيفة أو تحسينا له إذ روي أنّه كان يصلّي متلفّفا بمرط مفروش بعضه على عائشة فنزلت أو تشبيها له في تثاقله بالمتزمّل لأنّه لم يكن قد تمرّن بعد في قيام اللّيل أو من تزمّل الزمل إذا تحمّل الحمل أي الّذي تحمّل أعباء النبوّة أعني أثقالها.

« قُمِ اللَّيْلَ » أي إلى الصلاة والاستثناء من الليل ونصفه بدل من قليلا. أو بدل من اللّيل والاستثناء يكون من النصف والضمير في منه وعليه للأقلّ من النصف كالثلث فيكون التخيير بينه وبين الأقلّ منه كالرّبع والأكثر منه كالنصف أو يكون الضمير للنصف ويكون التخيير بين أن يقوم أقلّ منه على البتّ وأن يختار أحد الأمرين من الأقلّ والأكثر. وقيل الاستثناء من اللّيالي وهي ليالي العذر كالمرض ونحوه.

والترتيل القراءة على تؤدة بحيث يتبيّن الحروف بعضها من بعض كقولهم ثغر رتل ورتل أي مفلّج والقول الثقيل القرآن لما فيه من التكاليف الشاقّة و « ناشِئَةَ اللَّيْلِ » قيل النفس الناهضة من مضجعها إلى العبادة من نشأ من مكانه إذا نهض وقيل قيام اللّيل وقيل المراد العبادة الّتي تنشأ باللّيل أي تحدث وهو أقوى عندي إذ الإسناد إليها في قوله « أَشَدُّ وَطْئاً » حقيقة وقيل المراد ساعات اللّيل الحادثة واحدة بعد أخرى أو الساعات السابقة من نشأت إذا ابتدأت. وقرء أبو عمرو وابن عامر « أشدّ وطاء » أي مواطاة وموافقة والباقون وطأ أي كلفة أو ثبات قدم فعلى الأوّل قيل المراد موافقة القلب اللسان أو موافقة القلب لما يراد من الخشوع والإخلاص بموافقة السرّ العلانية وهو أولى لما روي عن الصادق عليه السلام « هي قيام الرجل عن فراشه لا يريد به إلّا اللّه » (1) وهو يؤيّد ما قلناه في الناشئة « وَأَقْوَمُ قِيلاً » أي أسدّ مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدوء الأصوات.

و « سَبْحاً طَوِيلاً » أي تصرّفا في المعاش والمهامّ وحيث الحال كذلك فعليك بالتهجّد ليلا فانّ مناجاة الحقّ يستدعي فراغا من الخلق والتبتيل الانقطاع أي انقطع إليه بالعبادة وجرّد نفسك عمّا سواء وقال « تَبْتِيلاً » والقياس تبتّلا لمراعاة

ص: 150


1- الوسائل ب 39 من أبواب الصلوات المندوبة ح 4.

الفواصل. إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

1 - قيل كان قيام اللّيل واجبا على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأصحابه في مكّة قبل فرض الصلوات الخمس ثمّ نسخ بالخمس عن ابن كيسان ومقاتل وعن عائشة أنّ اللّه تعالى فرض قيام اللّيل في أوّل هذه السورة فقام صلى اللّه عليه وآله وأصحابه حولا وأمسك اللّه خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتّى أنزل [ اللّه ] في آخر السورة التخفيف فصار قيام اللّيل تطوّعا بعد أن كان فريضة وعن ابن عبّاس لمّا نزل أوّل المزّمّل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان وكان بين أوّلها وآخرها سنة وعن سعيد بن جبير كان بين أوّلها وآخرها عشر سنين هذه أقوال المفسّرين.

2 - قيل في آخر السورة وهو قوله ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) (1) أنّ معنى « فَتابَ عَلَيْكُمْ » نسخ الحكم الأوّل بأن جعل قيام اللّيل تطوّعا بعد أن كان فرضا وقيل معناه لم يلزمكم إثما ولا تبعة وقيل خفّف عليكم ، لأنّهم كانوا يقومون اللّيل كلّه حتّى انتفخت أقدامهم فنسخ ذلك عنهم.

وعلّل هذا الترخّص بأمور : الأوّل أنّه يعسر عليكم ضبط أوقات اللّيل وحصر ساعاته بل اللّه سبحانه هو المقدّر لذلك أي العالم بمقداره الثاني أنّه ربما يكون منكم من هو مريض فيشقّ عليه قيام اللّيل. الثالث أنكم قد تكونون في سفر تجارة أو غزو. قال المعاصر وظاهر الآيات تدلّ على الندبيّة لأنّ أو معناها التخيير والواجب لا تخيير في مقداره قلت في كلامه نظر من وجوه : الأوّل أنّ الندبيّة إن استفيدت من دليل خارج فلا يكون ذلك من ظاهرها وإن استفيدت من لفظ « قُمِ اللَّيْلَ » فالأمر حقيقة في الوجوب عند الأكثر أو قدر مشترك فكيف يكون ظاهره الندب وإن استفيدت من التخيير فباطل لما يجي ء الثاني أنّ استدلاله على الندبيّة

ص: 151


1- المزمّل : 20.

بكون أو للتخيير وأنّ الواجب لا تخيير في مقداره فيه غلط ظاهر أمّا أوّلا فلأنّ انحصار معنى أو في التخيير باطل باتّفاق أهل العربيّة فإنّهم مجمعون على أنّها قد تكون للشكّ والإبهام والتقسيم والتخيير والإباحة فانحصار معناها في التخيير باطل وأمّا ثانيا فلأنّ قوله الواجب لا تخيير فيه باطل أيضا فإنّ التخيير قد وقع في الواجب بين الكلّ وألحن كتخيير المصلّي عندنا في الأماكن الأربعة بين ركعتين والأربع وكذا تخيير المصلّي في الأخيرتين بين التسبيح ثلاثا أو مرّة والتخيير بين الحمد والتسبيح مرّة واحدة وهي تقصر عن الحمد مقدارا والتخيير في الكسوف بين إتمام السورة بعد الحمد أو قراءة بعضها. الثالث أنّه ذكر فيما بعد أنّ المختار من الأقوال أنّ صلاة الليل كانت فرضا على النبيّ صلى اللّه عليه وآله ونافلة لأصحابه وحينئذ كيف يكون ظاهرها الندبيّة مطلقا.

3 - الترتيل في القراءة سنّة مؤكّدة واختلف في تفسيره قيل هو تبيين الحروف وإخراجها من مخارجها وتوفية حقّها من الحركات والإشباع وعن ابن عبّاس هو القراءة على هنيئتك وعنه قال لأن أقرء البقرة وأرتّلها أحبّ إلىّ من أن أقرء القرآن كلّه ليس كذلك وعن عليّ عليه السلام في معناه أنّه « قال بيّنه بيانا ولا تهذّه هذ الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن أقرع به القلوب القاسية ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة » (1) وعن الصادق عليه السلام « قال إذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فاسئل اللّه الجنّة وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوّذ باللّه من النار (2) » وقيل المراد التحزين به أي قراءته بصوت حزين ويؤيّده رواية أبي بصير عن الصادق عليه السلام في هذا « قال هو أن تتمكّث فيه وتحسّن به صوتك » (3) والتحقيق أنّ الغرض من الترتيل تدبّر القرآن والتفكّر في معانيه والايتمار عند أوامره والانزجار عند زواجره

ص: 152


1- أصول الكافي ج 2 ص 614. الدر المنثور ج 6 ص 277.
2- مجمع البيان ج 10 ص 378. راجع أيضا الوسائل ب 18 من أبواب القراءة في الصلاة وب 21 من أبواب قراءة القرآن.
3- مجمع البيان ج 10 ص 378. راجع أيضا الوسائل ب 18 من أبواب القراءة في الصلاة وب 21 من أبواب قراءة القرآن.

4 - استدلّ بقوله « وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ » على وجوب البسملة في أوّل الحمد والسورة وقيل المراد بها الدعاء بذكر أسماء اللّه الحسنى وصفاته العليا ومنه قوله تعالى ( وَلِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) (1) ويستدلّ بذلك على جواز الدعاء في جميع الحالات وفي الصلاة للدّين والدنيا له ولإخوانه المؤمنين ولشخص بعينه وليس ذلك بعيدا عن الصواب لعموم قوله تعالى ( وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) (2).

5 - روى محمّد بن مسلم وحمران بن أعين عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّ التبتيل هنا رفع اليدين في الصلاة (3) وفي رواية أبي بصير « قال هو رفع يديك إلى اللّه وتضرّعك إليه » (4) ويمكن أن يكون ذلك علامة على الانقطاع إلى اللّه ، الّذي هو معنى التبتيل.

6 - قيل المراد بقوله تعالى ( وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (5) هو صلاة اللّيل وقيل الاستغفار آخر الوتر وفي معنى ذلك (6) قوله تعالى « كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (7).

والأولى حمله على الحقيقة وهو طلب المغفرة وخصّ الاستغفار بالسّحر الّذي هو آخر اللّيل لأنّ العبادة فيه أشقّ والنفس أصفى لعدم اشتغالها بتدبير

ص: 153


1- الأعراف : 179.
2- المؤمن : 60.
3- مجمع البيان ج 10 ص 379. وروى غير ذلك راجع أصول الكافي ج 2 ص 479.
4- مجمع البيان ج 10 ص 379. وروى غير ذلك راجع أصول الكافي ج 2 ص 479.
5- الذاريات : 17.
6- يوهم كلامه ذلك ان الآية المذكورة « وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » غير ما ذكر مع قوله « كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ » مع أنه آية واحدة في الطور فقط. فاما أن يكون قوله « وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ » الثاني زائدا كما جعلناه بين المقوفتين واما أن يكون مراده التطبيق بين قوله ( الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ ) ( آل عمران : 7 ) مع ما في الطور بقرينة هجعة الليل فأثبت الآية سهوا.
7- الذاريات : 18.

المأكول ولخلوّ المعدة عنه فيتوجّه النفس بكلّيّتها إلى حضرة الحقّ سبحانه و « ما » في قوله « ما يَهْجَعُونَ » قيل زائدة أي يهجعون في طائفة من اللّيل أو يهجعون هجوعا قليلا وقيل مصدريّة أو موصولة أي في قليل من اللّيل هجوعهم أو ما يهجعون فيه ولا يجوز أن تكون نافية لأنّ ما بعدها لا يعمل فيما قبلها. وفي الآية مبالغة في تقليل نومهم واستراحتهم في الليل الّذي هو وقت السبات وذكر الهجوع الّذي هو الغرار من النوم وفي الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وآله « من ختم له بقيام اللّيل ثمّ مات فله الجنّة » (1) و « جاء رجل إلى عليّ عليه السلام فقال إنّي قد حرمت صلاة اللّيل فقال له أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك » (2)

النوع السابع : ( في أحكام متعددة تتعلق بالصلاة )

وفيه آيات :

الاولى ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً ) (3).

أصل تحيّة تحيية نقلت كسرة الياء إلى ما قبلها وأدغم الياء في الياء وتعدّي بتضعيف العين وإنّما قال بتحيّة بالباء لأنّه لم يرد بها المصدر بل المراد نوع من التحايا والتنوين فيها للنوعيّة واشتقاقها من الحياة لأنّ المسلّم إذا قال سلام عليكم فقد دعا للمخاطب بالسّلامة من كلّ مكروه والموت من أشدّ المكاره فدخل تحت الدعاء.

ص: 154


1- مستدرك الوسائل ج 1 ص 466 عن الجعفريات.
2- الوسائل ب 40 من أبواب بقية الصلوات المندوبة ح 5.
3- النساء : 85.

واعلم أنّه لم يرد بحيّيتم سلام عليكم بل كلّ تحيّة وبرّ وإحسان ويؤيّده ما ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السلام « أنّ المراد بالتحيّة في الآية السلام وغيره من البرّ (1) ».

والحسيب إمّا بمعنى الحفيظ لكلّ شي ء أو بمعنى المحاسب أي يحاسبكم على التحيّة وغيرها إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :

1 - السلام من السنن المؤكّدة والردّ فرض لصيغة الأمر الدالّة على الوجوب لكن على الكفاية لأصالة البراءة ولأنّ المقصود حصول المكافاة على التحيّة وقد حصل وللحديث (2) هذا إذا كان السلام على جماعة أمّا إذا سلّم على واحد فهو فرض عين عليه.

2 - اتّفق الجمهور من الفقهاء والمفسّرين على أنّه إذا قال المسلّم سلام عليكم فأجيب بقوله سلام عليكم ورحمة اللّه فهو أحسن منها ولو لم يقل ورحمة اللّه فهو ردّ لها بمثلها وإذا قال سلام عليكم ورحمة اللّه فأجيب بقوله سلام عليكم ورحمة اللّه فهو ردّ بالمثل ولو زيد وبركاته فهو أحسن وإذا قال سلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فليس فوقها ما يزيد عليها.

3 - قال ابن عبّاس إنّ المراد بقوله « بِأَحْسَنَ مِنْها » أي للمسلمين وبقوله « أَوْ رُدُّوها » أي لأهل الكتاب لا يزاد على قوله وقال غيره « أَوْ رُدُّوها » للمسلمين أيضا وأمّا الكتابيّ فيقال عليكم أو وعليكم لأنّهم ربّما قالوا السام عليكم أي الموت.

4 - إذا سلّم أحد على المصلّي وجب عليه الردّ لإطلاق الأمر بالردّ المتناول لحال الصلاة وغيرها وليس هو من كلام الآدميّين فيدخل تحت النهي لأنّ هذه الصيغة وردت في القرآن إن قلت إذا قصد الردّ خرج عن كونه قرآنا قلت ذلك ممنوع لأنّه قرآن باعتبار لفظه ونظمه وقصد الردّ لا يخرجه كما لا يخرج بقصد

ص: 155


1- مجمع البيان ج 1 ص 85.
2- أصول الكافي ج 2 ص 647.

الدعاء لو قال ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ) (1) وقال الشافعيّ لا يرد بلفظه بل بالإشارة برأسه أو بيده وبه قال مالك وأحمد ومنع أبو حنيفة الردّ مطلقا لفظا وإشارة [ في الصلاة ] دليلنا ما تقدّم وروايات الأصحاب عن أئمّتهم عليهم السلام (2).

5 - ذكر بعض الشافعيّة والحنفيّة أنّه يسقط وجوب الردّ إذا كان في حال الخطبة وقراءة القرآن وقضاء الحاجة وفي الحمّام وذلك ممنوع لأنّ الواجب لا يسقطه الاشتغال بمندوب نعم الأقوى عندي كراهة السلام على المصلّي لأنّه ربّما شغله عن القيام بالواجب إذا ردّ أو ترك الواجب إذا لم يردّ.

6 - لا يسلّم على اللّاعب بالنرد والشطرنج والمغنّي ومطير الحمام لهوا وكذا كلّ مشتغل بمعصية وكذا لا يسلّم على الأجنبيّة ولو سلّم عليها وجب عليها الردّ ولا يجب عليها قصد الإنشاء.

7 - ينبغي في مرتبة التسليم أن يسلّم القائم على القاعد والماشي على الواقف والراكب على الماشي وراكب الفرس على راكب الحمار والصغير على الكبير (3) ويجوز العكس تأسّيا به عليه الصلاة والسلام فإنّه كان يسلّم على الصبيان (4).

8 - حيث قلنا يجب الردّ من المصلّي لو سلّم عليه فلو أخلّ هل تبطل صلوته؟ قال بعض شيوخنا المعاصرين لا ، وقال غيره تبطل وهو قويّ عندي وربّما فصّل بعضهم بأنّه إن اشتغل لسانه بشي ء من القراءة أو الذكر زمان الردّ بطلت وإلّا فلا وليس ذلك بعيدا عن الصواب هذا إن سكت سكوتا غير طويل أمّا إذا طال وخرج عن العادة بطلت قطعا.

ص: 156


1- الحشر : 10.
2- راجع الوسائل ب 16 من أبواب قواطع الصلاة.
3- وذلك لروايات عن النبي وائمة أهل البيت عليهم السلام راجع أصول الكافي ج 2 ص 646 ، سنن ابى داود ج 2 ص 641.
4- وقد أدبه بذلك القرآن العزيز حيث يأمره بأن ( إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) ( الانعام : 54 ) ولذلك لم يسبقه أحد بالسلام.

9 - هل يجوز الردّ بغير سلام عليكم بل بقوله عليكم السلام أم لا قيل نعم لأنّه دعاء ويجوز الدعاء بما شاء من الألفاظ وقيل لا لأنّه ليس من لفظ القرآن فيكون من كلام الآدميّين فلا يجوز في الصلاة ولمنع كونه دعاء بل ردّا للسلام وهذا أولى.

الثانية ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (1).

« نسكي » أي عبادتي كلّها وقيل أعمال الحجّ ومحياي أي جميع ما أنا عليه في حال حياتي من الايمان والطاعات كلّها وقيل المراد بمحياي الخيرات الّتي يفعل في الحياة منجّزة والممات الأفعال الّتي تعلّق على الموت كالوصيّة والتدبير وقيل المراد الحياة والممات أنفسهما « لله » أي مخلصة لله « وَبِذلِكَ أُمِرْتُ » أي بالإخلاص أو بالقول المذكور.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه يستدلّ بهذه الآية على أمور :

1 - وجوب الإخلاص بالعبادة لله تعالى وأنّه لا يجوز الإشراك معه فيها مطلقا سواء كان شركا ظاهرا كالعبادة للأصنام أو الكواكب أو غيرها أو خفيّا كالرياء بل أبلغ من ذلك وهو قصد الثواب بالعبادة لأنّ ذلك أيضا مناف للإخلاص كما تقدّم من كلام عليّ عليه السلام (2).

2 - أنّ الإخلاص المذكور من أحكام الإسلام الّتي يلزم كلّ مسلم وأنّ كلّ مسلم مأمور بذلك لقوله تعالى ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) .

3 - أنّ صحّة الصلاة بل وصحّة سائر العبادات متوقّفة على معرفة اللّه تعالى ووحدانيّته وكونه ربّا للعالمين أي مربّيا ومنشئا لهم فيستلزم ذلك وجوب العلم بكونه قادرا وعالما وحكيما إذ الإخلاص يستلزم ذلك ويتفرّع على ذلك عدم صحّة عبادة الكافر الجاحد لشي ء من هذه الأصول بل وعدم صحّة عبادة من لم يكن

ص: 157


1- الانعام : 163.
2- راجع ص 32.

عارفا باللّه تعالى هذه المعرفة بدليل وإن كان في الظاهر مسلما.

4 - أنّ في الآية إيماء إلى كون العبادة شكرا لنعمة التربية والإيجاد لذكر هذه الصّفة عقيب ذكر العبادة إشعارا بالعلّيّة.

5 - أنّه لا يجوز أن ينسب شيئا من هذه النعم إلى غيره مستقلّا أو مشاركا له كالكواكب والأفلاك والعقول الفعّالة وغيرها لقوله تعالى ( لا شَرِيكَ لَهُ ) .

6 - التنبيه على عظمة اللّه تعالى وكونه أهلا للعبادة ومستحقّا لها.

الثالثة ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (1).

ذكر متكلّمو الأصحاب في الكتب الكلاميّة في هذه الآية مباحث شريفة وأنّها دالّة على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام من أرادها وقف عليها (2) وذكرنا في كتابنا المسمّى باللّوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة في هذه الآية ما فيه كفاية للطالب وشفاء للعليل الراغب وأمّا هنا فنستدلّ بها على أمور :

1 - أنّ الفعل القليل لا يبطل الصلاة لأنّ قوله « وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ » إشارة إلى فعل عليّ عليه السلام لمّا تصدّق على السائل بخاتمه في حال ركوعه وذلك فعل قليل لا يؤثّر في بطلان الصلاة.

2 - أنّ النيّة فعل قلبيّ لا لسانيّ لأنّ فعله ذلك وهو في الصلاة يستلزم النيّة لأنّه عمل وكلّ عمل لا بدّ له من النيّة واللفظ في الصلاة بغير القرآن والدعاء مبطل فلم يقع منه حينئذ وإلّا لبطلت صلوته واللّازم كالملزوم في البطلان ويتفرّع على ذلك صحّة نيّة الزكاة احتسابا على الفقير غير الحاضر وصحّة نيّة الصوم

ص: 158


1- المائدة : 58.
2- راجع بحار الأنوار ج 35 ص 183 - 206 من طبعة دار الكتب وإحقاق الحق ج 2 ص 399 - 415 من طبعة المكتبة الإسلامية.

في الصلاة اللّيليّة ونيّة الوقوف بعرفات في الظهر ونيّة الوقوف بالمشعر في الصبح إلى غير ذلك من النيّات الممكنة حال الصلاة وأمّا نيّة الإحرام فيشترط اقترانها بالتلبية فهل يجوز التلبية في الصلاة يحتمل المنع إذ ليست من المعهود في الصلاة والأولى الجواز لأنّها ذكر وثناء على اللّه تعالى فيجوز حينئذ نيّة الإحرام أمّا لو قارن بالنيّة التسليم فوقعت التلبية بعده جاز قطعا.

3 - أنّ استحضار النيّة فعلا واستمرارها عينا غير شرط في العبادة لأنّه عليه السلام حال نيّة الزكاة لم يكن مستحضرا لنيّة الصلاة فلو كان شرطا لأثّر البطلان المستلزم للذمّ المنافي لهذا المدح العظيم ، ويتفرّع على ذلك الاكتفاء باستمرار النيّة حكما.

4 - تسمية الصدقة المندوبة زكاة إذ لا يجوز كون ذلك الخاتم من الزكاة الواجبة لأنّ إخراجها واجب مضيّق لا يجوز عليه الاشتغال عنه بواجب موسّع أو مندوب وحينئذ يكون ذلك من الصدقات المندوبة وهو المطلوب.

الرابعة ( إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (1).

ذكر الذات الشريفة ولفظ الوحدانيّة فيه إشعار بكونها سببا للعبادة والصلاة فإنّ ترتّب الحكم بالفاء مشعر بالعلّيّة كقولك فلان جواد فاسترفده قوله « أَكادُ أُخْفِيها » قال الجوهريّ الهمزة في اخفيها للإزالة نحو شكى زيد فأشكيته أي أزلت شكايته والمعنى أكاد أزيل خفاءها أي أقارب إظهارها وذلك أنّه أخبر بإتيانها جملة فالمقاربة من حيث إظهارها إجمالا وعدم الوقوع المستفاد من أكاد من حيث التفصيل « لِتُجْزى » اللّام تتعلّق بآتية أو أكاد على وجه التنازع أي إنّ الساعة آتية أو أكاد اخفيها لتجزى كلّ نفس على سعيها إن خيرا فخبر وإن شرّا فشرّ إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

ص: 159


1- طه : 14.

1 - ذكر الزمخشريّ وبعض الفقهاء واختاره المعاصر أنّ المراد بقوله « لِذِكْرِي » أي لذكر الصلاة بعد نسيانها لقوله صلى اللّه عليه وآله « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها » (1) ويكون ذلك دليلا على وجوب قضاء الصلاة الفائتة وإنّما قال « لِذِكْرِي » ولم يقل لذكرها إمّا لأنّه إذا ذكر الصلاة ذكر اللّه أو لحذف المضاف أي لذكر صلوتي أو لأنّ خلق الذكر والنسيان منه تعالى.

وفيه نظر إذ هو خلاف الظاهر والأصل عدم التقدير وكونه إذا ذكر الصلاة فقد ذكر اللّه مسلّم لكنّ الكلام في العكس وهو أنّه إذا ذكر اللّه ذكر الصلاة لم قلت إنّه يذكر الصلاة والأولى أنّ اللّام يتعلّق بأحد الفعلين على طريق التنازع وهما « فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ » ويكون اللّام للتعليل أي تجب العبادة والصلاة لوجوب ذكري فإنّهما تستلزمانه وقال مجاهد معنى لذكري أي لذكري إيّاها في الكتب السالفة وليس بشي ء ويحتمل أيضا وجوها أخر : الأوّل لذكري في الصلاة على طريق التعظيم الثاني لذكري خاصّة لا تشوبه بذكر غيري أي للإخلاص لي لا للرّياء الثالث لتكون ذاكرا لي غير ناس الرابع لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة ويكون اللّام للتاريخ نحو جئتك لستّ ليال خلون.

2 - في قوله « إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ » إشارة إلى وجوب سرعة المبادرة إلى العبادة والصلاة لكون الساعة متوقّعة في كلّ آن.

3 - قو له ( لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (2) وقوله ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى ) (3) يدلّان على أنّه لا يجوز للإنسان تولية غيره شيئا من عباداته الواجبة البدنيّة حال حياته ممّا يتمكّن من مباشرته من طهارة أو صلاة أو صوم أو غيرها لأنّ ما

ص: 160


1- السراج المنير ج 3 ص 392 من حديث انس. سنن أبى داود ج 1 ص 103 من حديث أبي سريرة وله طرق كثيرة راجع مجمع الزوائد ج 1 ص 318 باب من نام عن صلاة أو نسيها.
2- طه : 15.
3- النجم : 39.

باشره غيره ليس من سعيه فلا يستحقّ عليه جزاء ولا يكون له أيضا أمّا حال العجز فقد جوّز الفقهاء أن يتولّى طهارته غيره ويتولّى هو النيّة وأمّا الصلاة فيأتي بها على القدر الممكن قائما مستندا أو قاعدا أو مضطجعا أو مستلقيا وممّا يشعر بجواز الصلاة حال العجز كذلك قوله تعالى ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) (1) وأمّا الصوم فيسقط أداؤه حال العجز عنه ويجب القضاء حال التمكّن بنفسه ولا يجوز النيابة وأمّا الحجّ الواجب مع العجز فيسقط حينئذ وهل يجوز النيابة فيه خلاف والأصحّ جوازه مع سبق الوجوب على العجز عنه وأمّا الجهاد فمع التعيّن لا يجوز النيابة ومع عدمه يجوز النيابة وهل يجب؟ فيه خلاف أظهره الوجوب مع القدرة والاستحباب مع العجز واليسار وأمّا العبادات الماليّة فيجوز التوكيل في إخراجها حال الحياة كالزكاة والخمس والنذورات وشبهها وقضاء الديون والكفّارات وغيرها وكذا يجوز في ذبح الهدي الواجب وأمّا المندوب من العبادات فالماليّة يجوز التوكيل فيها قطعا وأمّا البدنيّة فالحجّ يجوز النيابة فيه بلا خلاف فقد ورد أنّ عليّ بن يقطين رحمه اللّه صاحب الكاظم عليه السلام احصي له خمسمائة وخمسون رجلا يحجّون عنه بالنيابة أقلّهم بسبعمائة دينار ، وأكثرهم بعشرة آلاف درهم (2) وكذا يجوز النيابة في زيارات الأئمّة عليهم السلام.

وأمّا الصلاة والصيام فلم نظفر بدليل يدلّ على جواز النيابة فيهما فالأولى المنع لعموم الآيتين وأمّا بعد الموت فيجوز النيابة في الحجّ الواجب بلا خلاف وكذا في الصدقة بأنواعها الواجبة والمندوبة وأمّا الصوم والصلاة الواجبان فجوّزهما الأصحاب مجمعين على ذلك لتظافر رواياتهم عن أئمّتهم بذلك حتّى أنّه لم يرد حديث واحد بمنع ذلك وهو أقوى حجّة على الجواز إذ أكثر المسائل قد ورد فيها حديث يخالف مقتضاها إلّا هذه المسئلة.

فممّا ورد ما رواه ابن بابويه عن الصادق عليه السلام « من عمل من المؤمنين عن

ص: 161


1- آل عمران : 191.
2- المستدرك ج 2 ص 14 عن الكشي وفيه : « سبعمائة درهم ».

ميّت عملا صالحا أضعف اللّه له أجره ونفع اللّه به الميّت (1) » وروى أيضا عنه عليه السلام وقد سئل أيصلّى عن الميّت « فقال نعم حتّى أنّه ليكون في ضيق فيوسّع عليه ذلك الضيق ثمّ يؤتى به فيقال له خفّف عنك هذا الضيق بصلاة فلان أخيك عنك » (2) إلى غير ذلك تمام أربعين حديثا خالية عن معارض وأكثر الجمهور يمنعونهما محتجّين بقوله تعالى ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى ) وبقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له » (3) وعلى هذين اعتمد الثوري والجواب عن الآية والحديث أنّهما عامّان مخصوصان بما اتّفق على جوازه كالحجّ والصدقة فما أجيب به فهو جوابنا على أنّا نقول الأعمال الواقعة عنه بعد الموت نتيجة سعيه في تحصيل الإيمان المسوّغ للنيابة عنه وأيضا الخبر يدلّ على انقطاع عمله ومحلّ النزاع أنّه يصل إليه من عمل غيره هذا مع أنّ صاحب الحاوي حكى عن عطاء ابن أبي رباح وإسحاق بن راهويه أنّهما قالا : يجوز الصلاة عن الميّت وابن أبي عصرون اختار ذلك في كتابه الانتصاف وفي صحيح البخاري في باب من مات وعليه نذر : أنّ ابن عمر أمر امرأة ماتت أمّها وعليها صلاة أن تصلّي عنها (4).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه وقع الاتّفاق على أنّه يصل إلى الميّت ثواب الصدقة والحجّ والدّعاء والاستغفار وكذا غيرها عندنا لقول الصادق عليه السلام « تدخل على الميّت في قبره الصلاة والصوم والحجّ والصدقة والبرّ والدعاء ويكتب أجره للّذي فعله وللميّت » (5) وعنه عليه السلام أيضا « أنّ الميّت ليفرح بالترحّم عليه والاستغفار له كما يفرح الحيّ بالهديّة الّتي تهدى إليه » (6) وغير ذلك من الأحاديث وقد حكى شارح

ص: 162


1- الوسائل ب 28 من أبواب الاحتضار ح 1.
2- الوسائل ب 28 من أبواب الاحتضار ح 4.
3- السراج المنير ج 1 ص 179 من حديث أبي هريرة.
4- صحيح البخاري ج 4 ص 159.
5- الوسائل ب 12 من أبواب قضاء الصلوات ح 10.
6- الوسائل ب 28 من أبواب الاحتضار ح 2 و 3.

صحيح مسلم من الشافعيّة أنّه يصل إلى الميّت ثواب جميع العبادات.

الخامسة ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) (1).

« خلفة » أي يخلف كلّ واحد منهما الآخر إذ لو دام أحدهما لاختلّ نظام الوجود ولم يكونا رحمة « لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ » أي يتذكّر بمقتضى العقل « أَوْ أَرادَ شُكُوراً » أي شكر من أنعم بهذه النعم وهو سبب غائيّ للجعل المذكور أي جعلت ذلك ليتذكّروا نعمتي ويشكروني عليها. وكلمة أو هنا ليست لمنع الجمع بل لمنع الخلوّ الّذي سمّاه النحاة بالإباحة ومثّلوه بقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين أي لا تخل من مجالستهما ويجوز لك الجمع بينهما.

إذا عرفت هذا فنقول : استدلّ الفقهاء بها على مشروعيّة قضاء فائتة اللّيل نهارا وفائتة النهار ليلا أي اللّيل خليفة النهار في وقوع ما فات فيه وبالعكس والقضاء هو الإتيان بمثل الفائت في غير وقته فيقضي التمام تماما والقصر قصرا والفائت أوّلا يأتي به أوّلا لقوله صلى اللّه عليه وآله « من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته » (2) ولا يحصل المماثلة إلّا بجميع وجوهها من الكيفيّة والكميّة والترتيب. مسئلتان :

ص: 163


1- الفرقان : 62.
2- الرواية مشهورة مضبوطة في كتب الفقهاء بعنوان النبوية المشهورة وصرح المحقق السبزواري بعدم صحتها ولم أعثر عليها في كتب أهل السنة بل ليست فيها فإنهم استدلوا على وجوب قضاء العامد للترك بفحوى الخطاب مما ورد في قضاء الناسي والنائم بأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ولو كان عندهم رواية بعبارة « من فاتته » العام للناسي والعامد لتمسكوا به واستراحوا عما يرد على فحوى الخطاب بالفرق فان القضاء كفارة للناسي والنائم على ما عليه النص والكفارة قد يكون للخطإ أيضا وحيث لا نص على كونه كفارة للعامد فلا يسقط الإثم عنه فلا فائدة في القضاء إذا لم يكن عليه نص.

1 - لم يشترط الشافعيّ الترتيب في الفائت فيجوز عنده العصر قبل الظهر والعشاء قبل المغرب قياسا على قضاء صوم رمضان ولأنّ وجوب الترتيب على خلاف الأصل فيكون منفيّا وقال أبو حنيفة يترتّب ما لم يدخل في التكرار وقال أصحابنا يترتّب وإن كثرت.

لنا ما تقدّم من الحديث المذكور آنفا (1) وما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام قال : « إذا كان عليك قضاء صلوات فابدء بأولاهنّ فأذّن لها وأقم » (2) وقياس الشافعيّ باطل لما تقدّم ولعدم الجامع ولوجود الفرق فانّ ترتّب الصلوات لمعنى فيها وترتّب أيّام رمضان لتحصيل أيّام الشهر لا لمعنى يختصّ بترتّب الأيّام وفرق أبي حنيفة تحكّم.

2 - أجمع العلماء على قضاء صلاة الحضر تماما حضرا وسفرا أمّا صلاة السفر فعندنا تقضى قصرا حضرا وسفرا وبه قال أبو حنيفة ومالك وقال أحمد : تقضى أربعا وهو أحد قولي الشافعيّ لأنّ القصر رخصة في السفر وقد زال محلّها.

لنا أنّ القصر عزيمة كما يجي ء فيقضي فائتته كذلك للحديث المتقدّم ولرواية زرارة عن الصادق عليه السلام « قال يقضيها كما فاتته إن كانت صلاة سفر أدّاها في الحضر مثلها » (3).

السادسة ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) (4).

ص: 164


1- قد عرفت حال النبوي مع أن التشبيه لا يقتضي المماثلة من جميع الجهات حتى ما لا يعتبر في مهية الصلاة وليس الترتيب معتبرا في مهية الصلاة فإنه لو صلى سهوا على غير الترتيب صحت الصلاة.
2- الوسائل ب 1 من أبواب قضاء الصلوات ح 4.
3- الوسائل ب 6 من أبواب القضاء ح 1.
4- التوبة : 5.

استدلّ بهذه الآية على أنّ تارك الصلاة مستحلّا مرتدّ يجب قتله لأنّه علّق المنع من قتلهم على أمور هي التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأنّهم إذا فعلوا ذلك يخلّى سبيلهم ولا شكّ أنّ تركهم للصلاة كان على وجه الاستحلال لعدم تحقّق اعتقاد وجوبها من المشرك والحكم المعلّق على مجموع لا يتحقّق إلّا مع تحقّق المجموع ويكفي في حصول نقيضه فوات واحد من المجموع وذلك هو إباحة قتلهم.

السابعة ( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1).

هنا مسئلتان :

1 - أنّ الكافر عندنا وعند الشافعيّة مكلّف بفروع الإسلام لعموم الأدلّة المتناولة للمسلم والكافر كهذه الآية وغيرها فإنّ لفظ الناس عامّ ومنع أبو حنيفة من ذلك لأنّه لو كلّف بالفروع لكان فائدة التكليف الإتيان بها إمّا حال كفره وهو باطل إجماعا أو بعد إسلامه على وجه القضاء وهو أيضا باطل لقوله عليه الصلاة والسلام « الإسلام يجب ما قبله » (2) والجواب المنع من الحصر لجواز أن يكون الفائدة العقاب على تركها لو مات على كفره ويؤيّده قوله تعالى ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتّى أَتانَا الْيَقِينُ ) (3) والكلام عن الكفّار. ثمّ الّذي يؤيّد ما قلناه قوله تعالى ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) (4) والمراد الكفّار لقوله بعدها بلا فصل « إِلّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ».

ص: 165


1- البقرة : 21.
2- السراج المنير : ج 2 ص 131.
3- المدثر : 47 - 38.
4- مريم : 59.

2 - يجب على المرتدّ قضاء ما فات زمان ردّته ممّا كلّف به وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة ومالك لا يجب وعن أحمد روايتان لنا عموم الأدلّة على وجوب قضاء ما فات عن كلّ مكلّف اجتمعت فيه شرائط الوجوب أداء إذا لم يفعل ، خرج الكافر الأصلي بالإجماع وبقوله تعالى ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) (1) و « ما » للعموم فيبقى الباقي على عمومه ولأنّه وجب عليه أداؤها بعد اعتقاد وجوبها فيجب قضاؤها كغيره.

احتجّوا بعموم « الإسلام يجبّ ما قبله » (2) قلنا مخصوص اتّفاقا لوجوب أداء حقوق الناس كالديون والغرامات والقصاص فلا يكون حجّة في الباب.

النوع الثامن : ( فيما عدا اليومية من الصلوات وأحكام تلحق اليومية أيضا )

اشارة

وفيه آيات :

الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (3).

المراد بالنداء هنا الأذان « مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ » من هنا للتبيين وكان في اللّغة القديمة يسمّى ذلك اليوم عروبة وأوّل من سمّاها جمعة كعب بن لؤي الاجتماع الناس فيه إليه. وقال ابن سيرين إنّ أهل المدينة جمعوا قبل أن يقدم إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقبل أن ينزل الجمعة وذلك أنّهم قالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه وكذلك للنصارى

ص: 166


1- الأنفال : 39.
2- السراج المنير : ج 2 ص 131 ومثله في الدر المنثور ج 3 ص 184 ولفظه « ان الإسلام يهدم ما كان قبله ».
3- الجمعة : 9.

فلنجعل نحن [ لنا ] يوما نجتمع فيه بذكر اللّه تعالى فقالوا : لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلّى بهم فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاتا فتغدّوا وتعشّوا من شاة واحدة لقلّتهم فأنزل اللّه في ذلك « إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ » الآية فهي أوّل جمعة جمعت في الإسلام وأمّا أوّل جمعة جمعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فهي أنّه لمّا قدم مهاجرا حتّى نزل قباء على بني عمرو بن عوف فأقام عندهم ثلاثا ثمّ خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فنزل وخطب وجمع بهم فهي أوّل جمعة جمعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الإسلام وفي الحديث أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « قال اعملوا أنّ اللّه تعالى قد افترض عليكم الجمعة فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي ولهم إمام عادل استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع اللّه شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ألا ولا زكاة له ألا ولا حجّ له ألا ولا صوم له ألا ولا بركة له حتّى يتوب » (1).

إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :

1 - الجمعة واجبة لا وجوبا مطلقا بل وجوبا مشروطا اتّفاقا من العلماء نعم اختلف في ذلك الشرط على أقوال مذكورة تفصيلا في كتب الخلاف ونحن نذكر المهمّ من ذلك فاعلم أنّه روى محمّد بن مسلم وأبو بصير عن الصادق عليه السلام « أنّ اللّه فرض في كلّ أسبوع خمسا وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلّا خمسة : المريض والمملوك والمسافر والمرأة والصبيّ » (2) وروى زرارة عن الباقر عليه السلام قال « فرض اللّه على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها اللّه في جماعة وهي الجمعة ووضعها عن تسعة : الصغير و

ص: 167


1- رواه الشيخ في الوسائل ب 1 من أبواب صلاة الجمعة عن رسالة الشهيد في صلاة الجمعة ( ص 61 ) تحت رقم 28 وأخرجه النوري في مستدرك الوسائل ج 1 ص 408 عن غوالي اللئالى ومجمع الزوائد ج 2 ص 170 عن الطبراني في الأوسط.
2- الوسائل ب 1 من أبواب صلاة الجمعة ح 14.

الكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين » (1) وغير ذلك من الروايات.

2 - السلطان العادل أو نائبه شرط في وجوبها وهو إجماع علمائنا (2) وقال أبو حنيفة يشترط وجود إمام وإن كان جائرا ولم يشترط الشافعي إماما ومعتمد أصحابنا فعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه كان يعيّن لإمامة الجمعة وكذا الخلفاء كما يعيّنون القضاة وروايات أهل البيت عليهم السلام متظافرة بذلك (3) وأمّا اشتراط عدل الامام فلأنّ الاجتماع مظنّة النزاع ومثار الفتن فيجب أن يكون هناك حاكم عادل غير محتاج إلى مسدّد ، يرتدع بوجوده غيره ويكون وجوده حاسما لمادّة النزاع وقاطعا لمثار الفتن.

3 - أجمع العلماء على اشتراط العدد في الجمعة فقال الشافعيّ وأحمد أقلّهم أربعون وقال أبو حنيفة أربعة الإمام أحدهم ولم ينقل أصحاب مالك عنه تقديرا وأما أصحابنا فلهم قولان أحدهما سبعة والآخر خمسة وهو قول الأكثر وعليه أكثر الروايات ولأنّ الاجتماع معتبر فيعتبر جمع لو وقع بين اثنين نزاع كان عندهما شاهدان فيكون أربعة والحاكم ، ويؤيّد ذلك قوله تعالى ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) فإنّ الأمر بالسعي إلى الجمعة بصيغة الجمع الّذي أقلّ مدلوله ثلاثة والإمام هو المسعيّ إليه لأنّه الذاكر لله حال خطبته فيكون خارجا عن الجمع والمؤذّن هو المنادي الّذي السعي مشروط بندائه فيكون المجموع خمسة.

4 - اختلف في تفسير السعي مع الاتّفاق على كون الأمر به للوجوب فقيل هو الإسراع والأولى حمله على مطلق الذهاب إذ المستحبّ المضيّ على سكينة في البدن ووقار في النفس وقال الحسن : ليس السعي على الأقدام ولكن على النيّات وقرأ

ص: 168


1- الوسائل ب 1 من أبواب صلاة الجمعة ح 1.
2- وللشهيد الثاني قدس سره رسالة مفردة في صلاة الجمعة طبعت بالطبع الحجري في 1313 بتهران مع رسائل أخرى له وحري بالمحقّقين المراجعة إليها.
3- راجع الوسائل ب 2 من أبواب صلاة الجمعة ومستدركة ج 1 ص 408.

ابن مسعود : « فامضوا إلى ذكر اللّه » وروي ذلك عن علي عليه السلام والباقر والصادق عليهما السلام قال ابن مسعود : لو علمت الإسراع لأسرعت حتّى يقع ردائي عن كتفي ونقل مثله عن عمر (1).

5 - قيل ذكر اللّه هو الصلاة هنا وقيل الخطبة والأولى حمله عليهما معا لاشتمالهما على ذكر اللّه فإنّ الخطبة يجب فيها حمد اللّه والصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله والوعظ وقراءة سورة من القرآن.

6 - لمّا أمروا بالسعي إلى ذكر اللّه استلزم ذلك وجوب ترك كلّ ما يشغل عنه ولمّا كان الأهمّ في عقل المعاش هو البيع خصّه بالذّكر وأوجب تركه ولأنّهم كانوا ينفضون (2) في ذلك اليوم من قراهم وبواديهم إلى البيع والشرى.

( فرعان )

ألف - هل يجب ترك ما عداه من العقود كالإجارة والمزارعة وغيرهما من المعاملات أم لا أكثر أصحابنا بل لم ينقل خلاف بين المتقدّمين منهم أنّ البيع هو المختصّ بالنهي وقال بعض المتأخّرين بتعديته إلى كلّ معاملة وليس قياسا بل من باب اتّحاد طريق المسئلتين وهو الشغل عن ذكر اللّه وبه قال جماعة من الجمهور وليس بعيدا من الصواب.

ب - هل يقتضي النهي عن البيع فساده أم لا؟ قال مالك وأحمد نعم وبه قال الشيخ في المبسوط لمكان النهي وقال أكثر الجمهور والشيخ في الخلاف بعدم فساده وهو الحقّ لما تقرّر في الأصول أنّ النهي في المعاملات لا يدلّ على الفساد إذ لا مانع من أن يقول : حرّمت عليك البيع ولو بعت انعقد. ويكون المقصود بالنهي إيقاع الفعل لا ذاته بخلاف النهي عن العبادة فإنّه إذا تعلّق النهي بها أو بجزء منها أو بلازم من لوازمها فإنّها تفسد.

ص: 169


1- الأقوال مبسوطة في مجمع البيان ج 10 ص 288 ومثلها في الدر المنثور ج 6 ص 219.
2- يفيضون خ ل ينصبون خ ل.

7 - في الآية إشارة إلى أنّ الخطاب مختصّ بالأحرار دون العبيد لأنّ العبد محجور عليه ممنوع من التصرّف.

8 - فيها أيضا دلالة على اختصاص الجمعة بمكان خاصّ يجب السعي إليه وهو قولنا أنّه لا يجمع جمعتان في فرسخ.

9 - « ذلِكُمْ » أي السعي إلى ذكر اللّه وترك البيع « خَيْرٌ لَكُمْ » فانّ نفع الآخرة خير وأبقى « إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » حقيقة الخير والشرّ أو تعلمون حقيقة السعي إلى ذكر اللّه.

الثانية ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1).

المراد هنا بقضاء الصلاة أداؤها فإنّ القضاء يقال على معان ثلاثة الأوّل بمعنى الفعل والإتيان بالشي ء وهو المراد هنا الثاني فعل العبادة ذات الوقت المحدود المعيّن بالشخص خارجا عنه الثالث فعل العبادة استدراكا لما وقع مخالفا لبعض الأوضاع المعتبرة فيها وقد يسمّى هذا إعادة والمراد بالانتشارفي الأرض التفرّق في جهاتها والابتغاء الطلب وهنا فوائد :

1 - اللّام في الصلاة للعهد أي الصلاة الّتي تقدّم ذكرها وهي الّتي وجب السعي إليها.

2 - اختلف الأصوليّون في الأمر الوارد عقيب النهي هل هو للوجوب أو للإباحة الرافعة للحظر؟ واحتجّ أصحاب القول الثاني بهذه الآية وهي « فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ » فإنّه أطلق لهم ما حرّمه من المعاملة ، والانتشار ليس بواجب اتّفاقا وكذا قوله ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) (2).

3 - في الأمر بالانتشار إشارة إلى كون الساعي الّذي وجبت عليه الجمعة

ص: 170


1- الجمعة : 10.
2- البقرة : 222.

ممّن له القدرة على التصرّف في المعاش والاضطراب في طلب الرزق وكذا إذا فسرنا السعي بالإسراع في المشي ولمّا لم يكن الهمّ أي الشيخ الكبير والأعرج والمريض والأعمى كذلك دلّ على عدم الوجوب عليهم وكونهم غير مخاطبين بها.

4 - الابتغاء من فضل اللّه هو طلب الرّزق وعن الصادق والباقر عليهما السلام « الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت » (1) وقيل المراد طلب العلم عن سعيد بن جبير والحسن وروى أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ليس هو بطلب دنيا ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في اللّه » (2).

5 - « وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً » على إحسانه إليكم بالتوفيق وقيل المراد بالذكر الفكر كما قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « فكرة ساعة خير من عبادة سنة » (3) وقيل اذكروا اللّه في تجارتكم وليس بعيدا من الصواب أن يكون المراد : وابتغوا من فضل اللّه واذكروا أوامر اللّه ونواهيه في طلب الرزق فلا تأخذوا إلّا ما حلّ لكم أخذه لا ما حرّم [ لكم ] أو يكون المراد الذكر حال العقد فإنّه يستحبّ التكبير عنده والشهادتان واللّه أعلم.

الثالثة ( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) (4).

قال المقاتلان : ابن سليمان وابن قتادة (5) بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يخطب يوم

ص: 171


1- الوسائل ب 52 من أبواب صلاة الجمعة ح 2.
2- أخرجه ابن جرير على ما في الدر المنثور ج 6 ص 220.
3- السراج المنير : ج 3 ص 26.
4- الجمعة : 11.
5- كذا في النسخة المطبوعة وفي النسخ المخطوطة التي عندنا : « ابن سليمان وابن قياما » وفيه تصحيف والظاهر : مقاتل ابن سليمان ومقاتل بن حيان ، والمصنف انّما نقل القصة عن مجمع البيان ( ج 10 ص 287 ) وفيه « وقال المقاتلان بينا رسول اللّه » من دون تفصيل ، نعم أخرج القصة في الدر المنثور ( ج 6 ص 1 و 2 ) عن مقاتل ابن حيان مفصلا وعن قتادة وغيره ملخصا فراجع.

الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبيّ من الشأم بتجارة وكان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق إلّا أتته وكان يقدم إذا قدم بكلّ ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيرهما فينزل عند أحجار الزيت وهو مكان في سوق المدينة ثمّ يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قائم على المنبر يخطب فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلّا اثنى عشر رجلا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « لولا هؤلاء لسوّمت لهم الحجارة من السماء » وأنزل اللّه هذه الآية. وفي رواية أنّه صلى اللّه عليه وآله « قال والّذي نفسي بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا » (1) وعن ابن عباس : لم يبق إلّا ثمانية وعن ابن كيسان : أحد عشر.

فعلى هذا « اللّهو » هو الطبل وفي الأصل اللّهو كلّ ما ألهى عن ذكر اللّه و « انْفَضُّوا » أي تفرّقوا والضمير في « إِلَيْها » للتجارة وإنّما عاد إليها لا غير لأنّها هي المقصودة بالذات من الخروج وقيل التقدير إذا رأوا تجارة انفضّوا إليها أو لهوا انفضّوا إليه ، واكتفى بخبر أحدهما والترديد بأو للدلالة على أنّ منهم من خرج للتجارة ومنهم من خرج للهو وقدّم التجارة أوّلا للترقّي إذ التقدير أنّهم انفضّوا إلى التجارة مع حاجتهم إليها وذلك مذموم بل أبلغ من ذلك أنّهم انفضّوا إلى ما لا فائدة لهم فيه وأخّرها ثانيا لأنّ تقديره أنّ ما عند اللّه خير من اللّهو بل أبلغ من ذلك أنّه خير من التجارة المنتفع بها.

إذا تقرّر هذا فنقول : قيل المراد بقوله « وَتَرَكُوكَ قائِماً » أي تخطب وقيل قائما في الصلاة ، فعلى الأوّل يكون فيه دلالة على اشتراط القيام في الخطبة وأنّه لا يجوز فيها القعود اختيارا وبذلك قال الشافعيّ ولم يوجبه أبو حنيفة والحقّ الأوّل للآية ولرواية جابر بن سمرة قال « ما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خطب إلّا وهو قائم فمن

ص: 172


1- أخرجه عبد بن حميد عن الحسن كما في الدر المنثور ج 6 ص 221.

حدّثك أنّه خطب وهو جالس فكذّبه (1) » وسئل ابن مسعود « أكان النبيّ صلى اللّه عليه وآله يخطب قائما قال أما تقرأ « ( وَتَرَكُوكَ قائِماً ) (2) » وروى معاوية بن وهب عن الصادق عليه السلام « أوّل من خطب وهو جالس معاوية استأذن الناس في ذلك من وجع كان بركبتيه ثمّ قال عليه السلام : الخطبة وهو قائم خطبتان يجلس بينهما جلسة ثمّ لا يتكلّم فيها قدر ما يكون فصلا بين الخطبتين » (3).

وعلى الثاني يمكن أن يستدلّ به على أنّ الجماعة في الجمعة شرط في الابتداء لا الاستدامة بمعنى أنّه لو انقضت الجماعة بعد عقد النيّة والتحريم لم تبطل صلاة الإمام وأتمّها جمعة ، وهو أحد قولي الشافعيّ ، وقال أبو حنيفة : إن كان بعد أن صلّى ركعة أتمّها جمعة وإن كان قبل ذلك أتمّها ظهرا والحقّ الأوّل لانعقاد الصلاة فوجب إتمامها لتحقّق شرط الوجوب واشتراط الاستدامة منفيّ. هذا مع أنّ جعلها ظهرا إبطال لها وهو منفيّ بقوله تعالى ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (4).

الرابعة ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) (5).

قد ذكرنا هذه الآية وذكرنا ما فيها من الأقوال وتركنا قولا واحدا إلى هنا وهو أنّ المراد بالنحر نحر البدن للتضحية والمراد بالصلاة صلاة العيد ، وأجمع

ص: 173


1- مجمع البيان ج 10 ص 289 ، الدر المنثور ج 6 ص 221 وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن كعب بن عجرة انه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا فقال : انظروا الى هذا الخبيث يخطب قاعدا وقد قال اللّه ( وَتَرَكُوكَ قائِماً ) .
2- مجمع البيان ج 10 ص 289 ، الدر المنثور ج 6 ص 221 وفيه أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن كعب بن عجرة انه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا فقال : انظروا الى هذا الخبيث يخطب قاعدا وقد قال اللّه ( وَتَرَكُوكَ قائِماً ) .
3- الوسائل ب 16 من أبواب صلاة الجمعة ح 1. وروى عن موسى بن طلحة قال شهدت عثمان يخطب على المنبر قائما وشهدت معاوية يخطب قاعدا فقال اما انى لم أجهل السنة ولكني كبرت سني ورق عظمى وكثرت حوائجكم فأردت أن أقضي بعض حوائجكم قاعدا ثم أقوم فآخذ نصيبي من السنة راجع مجمع الزوائد ج 2 ص 187.
4- القتال : 33.
5- الكوثر : 2.

علماؤنا على أنّها فرض عين محتجّين بعد إجماعهم بالآية فإنّ الأمر للوجوب ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله فعلها مواظبا عليها وقال « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (1) ولتظافر روايات الأصحاب بوجوبها (2) وقال أحمد بوجوبها على الكفاية وقال الشافعيّ ومالك هي سنّة وعن أبي حنيفة روايتان إحداهما أنّها سنّة والأخرى أنّها واجبة وليست فرضا.

واعلم أنّ شرائط وجوبها عندنا شرائط وجوب الجمعة ويقع الفرق بينهما بأمور : الأوّل أنّ هذه مع عدم الشرائط تكون مستحبّة بخلاف الجمعة الثاني أنّ هذه يسقط وجوبها بالترك لها عمدا أو نسيانا حتّى يخرج وقتها بخلاف الجمعة فإنّها تقضى ظهرا الثالث أنّ الخطبتين فيها مستحبّتان وفي الجمعة واجبتان ويجب استماعهما على خلاف. وأمّا هنا فيستحبّ استماعهما بلا خلاف الرابع أنّ الخطبتين هنا بعد الصلاة وتقديمهما بدعة وفي الجمعة قبلها الخامس أنّ صلاة العيد يجب فيها تكبيرات زائدة مع أدعية معها على أقوى القولين لنا وهي خمس في الأولى وأربع في الثانية غير تكبيرة الإحرام وتكبيرتي الركوع وقال الشافعيّ سبع في الاولى وخمس في الثانية عدا تكبيرة الافتتاح والركوعين وجعل أحمد تكبيرة الافتتاح من السبع وقال أبو حنيفة الزائد ثلاث في كلّ ركعة.

ومحلّ التكبير عندنا بعد القراءة وقبل الركوع في الموضعين وقال الشافعيّ وأحمد قبل القراءة فيهما وقال أبو حنيفة قبل القراءة في الاولى وبعدها في الثانية ومستند الكلّ روايات أوردوها لا تقوم لها عندنا حجّة (3) واستناد أصحابنا تظافر الروايات عن أئمّتهم عليهم السلام (4).

ص: 174


1- صحيح البخاري : باب الأذان للمسافر ج 1 ص 117 ، وقد مر ص 124 بيان فيه فراجع.
2- الوسائل ب 1 من أبواب صلاة العيد.
3- راجع مجمع الزوائد ج 2 ص 204 ، سنن ابى داود ج 1 ص 262.
4- الوسائل ب 10 من أبواب صلاة العيد.
فرع

إذا نسي هذه التكبيرات أو بعضها حتّى ركع مضى في صلوته ولا قضاء عليه وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة يأتي بها في الركوع.

فائدة : يستحبّ التكبير (1) بعد صلاة ظهر الأضحى وما بعدها من الصلوات إلى تمام خمس عشرة صلاة لمن كان بمنى وإلى تمام عشرة لمن كان بغيرها لقوله تعالى ( وَاذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ ) (2) والمراد بها أيّام التشريق وليس فيها ذكر مأمور به سوى التكبير ، وعرفة ليس منها وبه قال مالك وهو المشهور عن الشافعيّ وقال أبو حنيفة يكبّر يوم عرفة والنحر إلى بعد عصره لقوله تعالى ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ ) (3) وهي عشر ذي الحجّة ولا تكبير قبل عرفة بالإجماع فيكون في عرفة والنحر وفي قوله نظر لاحتمال إرادة ذكر اللّه على الهدي والأضحيّة يوم النحر ويوم عرفة بالدعاء.

وفي عيد الفطر يستحبّ ليلة العيد عقيب المغرب والعشاء والفجر وصلاة العيد لقوله تعالى ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ ) (4) وهو مذهب أصحابنا ولم نسمع للعامّة في ذلك قولا.

الخامسة ( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ ) (5).

مات وقع صفة للنكرة وهو أحد وأتى بصيغة الماضي وإن كان متعلّق النهي

ص: 175


1- وصورته : « اللّه أكبر. اللّه أكبر. لا إله إلا اللّه. اللّه أكبر على ما هدانا » هذا في عيد الفطر ويزيد في الأضحى : « اللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الانعام » وروى غير ذلك.
2- البقرة : 203.
3- الحج : 28.
4- البقرة : 185.
5- التوبة : 85.

مستقبلا نظرا إلى وقت إيقاع الصلاة فإنّه بعد الموت فيكون الموت ماضيا بالنسبة إليه وإنّما قال أبدا وإن كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ليس بأبديّ لأنّ المراد لا تصلّ أنت ولا أمّتك أبدا أو يكون المراد أنّهم لا يستحقّون الصلاة أبدا لكفرهم والأولى أنّه قيّده بالتأبيد قطعا لأطماعهم في ذلك أو قطعا لتجويز النسخ « وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ » أي لأجل الدعاء وسؤال الرحمة لهم وقوله « إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ » تعليل من حيث المعنى للنهي عن الصلاة عليهم وفائدة قوله « وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ » أنّهم ثبتوا على الكفر إلى الموت لأنّ « كفروا » يدلّ على الحدوث لا على الثبوت إلى الموت والواو في « وماتوا » للحال أي على حال فسقهم والفسق هنا الكفر لأنّه أعمّ منه ويجوز إطلاق العامّ على الخاصّ.

إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

1 - نقل أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يصلّي على المنافقين ويقوم على قبورهم ويدعو لهم تألّفا للأحياء منهم وترغيبا في تحقّق إسلامهم فلمّا مرض عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول بعث إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله ليأتيه فلمّا دخل عليه قال له أهلكك حبّ اليهود فقال يا رسول اللّه بعثت إليك لتستغفر لي لا لتوبخني وسأله أن يكفّنه في ثوبه الّذي لاقى جسده ويصلّي عليه فلمّا مات دعاه ابنه حباب إلى الجنازة فسأله عن اسمه فقال حباب فقال صلى اللّه عليه وآله : حباب اسم شيطان وأنا سمّيتك عبد اللّه بن عبد اللّه فلمّا همّ بالصلاة عليه نزلت الآية وجذبه جبرئيل عليه السلام عن الجنازة.

وروي أنّه كان قد أنفذ إليه قميصه فقيل له في ذلك فقال إنّ قميصي لا يغني عنه من اللّه شيئا وإنّي أؤمّل من اللّه أن يدخل بهذا السّبب في الإسلام خلق كثير فروي أنّه أسلم من الخزرج يومئذ ألف رجل.

وقيل إنّما فعل صلى اللّه عليه وآله بعبد اللّه ذلك مكافأة له على حسناه في الحديبيّة فإنّه لمّا قال المشركون لا نأذن لمحمّد ولكن نأذن لعبد اللّه فقال : لا ، لي أسوة برسول اللّه وأيضا لمّا أسر العبّاس يوم بدر ولم يجدوا له قميصا على طوله وكان طويلا كساه عبد اللّه هذا قميصا.

ص: 176

وقيل : فعل ذلك إكراما لولده فإنّه قال أسألك أن تكفّنه في بعض قمصانك وتنزل إلى قبره ولا تشمت بي الأعداء وفي بعض الروايات أنّه صلّى عليه فقال له عمر : أتصلّي على عدوّ اللّه؟ فقال له وما يدريك ما قلت فانّي قلت : اللّهمّ احش قبره نارا وسلّط عليه الحيّات والعقارب (1).

ص: 177


1- ترى الروايات في الدر المنثور ج 3 ص 266 ، مجمع البيان ج 5 ص 57 وفي الاستيعاب والإصابة ترجمة عبد اللّه ابنه ج 2 ص 327. ومن ذلك ما في الدر المنثور قال : اخرج ابن ابى حاتم عن الشعبي أن عمر بن الخطاب قال : لقد أصبت في الإسلام هفوة ما أصبت مثلها قط أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ان يصلّى على عبد اللّه بن أبي فأخذت بثوبه فقلت : واللّه ما أمرك اللّه بهذا. لقد قال اللّه « اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ » فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قد خيرنى ربي فقال « اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ». فقعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على شفير القبر فجعل الناس يقولون لابنه : يا حباب افعل كذا يا حباب افعل كذا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الحباب اسم شيطان أنت عبد اللّه. وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس ان عبد اللّه ابن أبى قال له أبوه : اطلب لي ثوبا من ثياب النبي صلى اللّه عليه وآله فكفني فيه ومره أن يصلى على قال فأتاه فقال : يا رسول اللّه قد عرفت شرف عبد اللّه وهو يطلب إليك ثوبا من ثيابك نكفنه فيه وتصلى عليه فقال عمر يا رسول اللّه قد عرفت عبد اللّه ونفاقه أتصلي عليه وقد نهاك اللّه أن تصلى عليه؟. فقال واين؟ فقال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم أن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم. قال فانى سأزيد على سبعين فانزل اللّه : ( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ) الآية قال فأرسل الى عمر فأخبره بذلك وانزل اللّه : ( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ). وهاهنا كلام للعلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان ج 9 ذيل الآية الشريفة ننقلها لمزيد الفائدة : قال مد ظله بعد سرد الروايات في ذلك : وهذه الروايات على ما فيها من بعض التناقض والتدافع واشتمالها على التعارض فيما بينها ، يدفعها الايات الكريمة دفعا بينا لا مرية فيه : أما أولا فلظهور قوله تعالى ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ). ظهورا بينا في ان المراد بالاية بيان لغوية الاستغفار للمنافقين دون التخيير ، وأن العدد جي ء به لمبالغة الكثرة لا لخصوصية في السبعين بحيث ترجى المغفرة مع الزائد على السبعين. والنبي صلى اللّه عليه وآله أجل من أن يجهل هذه الدلالة فيحمل الآية على التخيير ثم يقول سأزيد على سبعين ثم يذكره غيره بمعنى الآية فيصر على جهله حتى ينهاه اللّه عن الصلاة وغيرها بآية أخرى ينزلها عليه. على أن جميع هذه الايات المتعرضة للاستغفار للمنافقين والصلاة عليهم كقوله : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وقوله : ( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) وقوله : ( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ). تعلل النهي واللغوية بكفرهم وفسقهم حتى قوله تعالى في النهي عن الاستغفار للمشركين ( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) ( الآية 113 من السورة ) ينهى عن الاستغفار معللا ذلك بالكفر وخلود النار وكيف يتصور مع ذلك جواز الاستغفار لهم والصلاة عليهم؟. وثانيا أن سياق الايات التي منها قوله « وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً » الآية صريح في أن هذه الآية انما نزلت والنبي في سفره الى تبوك ولما يرجع الى المدينة وذاك في سنة ثمان وقد وقع موت عبد اللّه بن أبي بالمدينة سنة تسع من الهجرة كل ذلك مسلم من طريق النقل. فما معنى قوله في هذه الروايات ان النبي صلى اللّه عليه وآله صلى على عبد اللّه وقام على قبره ثم أنزل اللّه عليه ولا تصل على احد منهم مات أبدا ، الآية؟. وأعجب منه ما في الرواية الأخيرة من نزول قوله ( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) » والآية من سورة المنافقون وقد نزلت بعد غزاة بني المصطلق وكانت في سنة خمس وعبد اللّه بن أبي حي عندئذ وقد حكى في السورة قوله ( لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ). وقد اشتمل بعض هذه الروايات وتعلق به بعض من انتصر لها على أن النبي صلى اللّه عليه وآله انما استغفر وصلّى على عبد اللّه ليستميل قلوب رجال منافقين من الخزرج إلى الإسلام وكيف يستقيم ذلك؟ وكيف يصح ان يخالف النبي صلى اللّه عليه وآله النص الصريح من الايات استمالة لقلوب المنافقين ومداهنة معهم؟ وقد هدده اللّه على ذلك بأبلغ التهديد في مثل قوله ( إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ) الآية. ( أسرى - 75 ) فالوجه أن هذه الروايات موضوعة يجب طرحها لمخالفة الكتاب.

2 - الصلاة على الميّت خمس تكبيرات بعد الاولى الشهادتان وبعد الثانية

ص: 178

الصلاة على النبيّ وآله وبعد الثالثة الدعاء للمؤمنين وبعد الرابعة الدعاء للميّت إن كان مؤمنا والدعاء عليه إن كان منافقا وبدعاء المستضعفين إن كان مستضعفا. دلّ على ذلك روايات أهل البيت عليهم السلام وإجماعهم ولا يشترط عندنا فيها قراءة الفاتحة ولا التسليم ولا الطهارة لأنّها صلاة بحسب المجاز فلا ينصب عليها دليل « لا صلاة إلّا بطهور. ولا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب » (1).

وأجمع الفقهاء الأربعة على عدم وجوب التكبيرة الخامسة (2) ومن

ص: 179


1- السراج المنير ج 3 ص 471.
2- ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء في اوّليّات عمر نقلا عن العسكري ص 137 ان عمر كان أول من جمع الناس في صلاة الجنائز ، وذكر ابن الشحنة في حوادث سنة 23 من تاريخه روضة المناظر المطبوع بهامش الكامل لابن الأثير ص 122 من ج 11 وكذا أبو الفداء في حوادث سنة 23 ص 141 من ج 1 والكامل في سيرة عمر ج 3 ان عمر كان أول من جمع الناس على أربع تكبيرات بعد أن كانوا يكبرون أربعا وخمسا وستا. والآثار في كتب أهل السنة أيضا تنبئ عن زيادة التكبير على الأربع. ففي المنتقى كما في نيل الأوطار ج 4 ص 62 عن عبد الرحمن بن ابى ليلى قال كان زيد بن أرقم يكبر على جنازة أربعا وانه كبر خمسا على جنازة فسألته فقال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يكبرها. رواه الجماعة إلّا البخاري. و ( في ص 64 ) عن حذيفة انه صلّى على جنازة فكبر خمسا ثم التفت فقال ما نسيت ولا وهمت ولكن كبّرت كما كبّر النبي صلى اللّه عليه وآله على جنازة فكبر خمسا رواه احمد. وعن على عليه السلام انه كبر على سهل بن حنيف ستا وقال انه شهد بدرا ، رواه البخاري. وعن الحكم بن عتيبة انه قال كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا ، رواه سعيد في سننه. ولابن قيم الجوزية في زاد المعاد ج 1 ص 141 بيان مبسوط يفيدك المراجعة اليه وفيه ذكر صحة الآثار بزيادة التكبير على أربع ثم قال ان الذي رووه ( من حديث ابن عباس ) ان آخر جنازة صلى عليه النبي صلى اللّه عليه وآله كبر أربعا. قال سئل الإمام أحمد عن حديث ابى المليح عن ميمون عن ابن عباس فقال أحمد هذا كذب ليس له أصل إنما رواه محمد بن زيادة الطحان وكان يضع الحديث. والمروي عن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام : الصلاة بالأربع للمتهم في دينه لانه لم يكن يدعو له فسقطت التكبيرة التي تتعقب الدعاء للميت. يبين ذلك ما رواه هشام ابن سالم وحماد بن عثمان عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يكبر على قوم خمسا وعلى آخرين أربعا فإذا كبر أربعا اتهم - يعنى الميت - ( انظر الوسائل ب 5 من أبواب صلاة الجنازة ح 1. ) وعن إسماعيل بن همام عن ابى الحسن عليه السلام قال قال أبو عبد اللّه عليه السلام صلّى رسول اللّه على جنازة فكبر خمسا وصلّى على اخرى فكبر أربعا فأما الذي كبر عليه خمسا فحمد اللّه ومجده في التكبيرة الاولى ودعا في الثانية للنبي صلى اللّه عليه وآله ودعا في الثالثة للمؤمنين والمؤمنات ودعا في الرابعة للميت وانصرف في الخامسة واما الذي كبر عليه أربعا فحمد اللّه ومجده في التكبيرة الاولى ودعا لنفسه وأهل بيته في الثانية ودعا للمؤمنين والمؤمنات في الثالثة وانصرف في الرابعة ولم يدع له لانه كان منافقا. انظر الوسائل ب 2 من أبواب صلاة الجنازة ح 9.

الشافعيّة من جوّزها وقال لا تبطل بالخامسة ثمّ إنّهم أجمعوا على التسليم فيها كتسليم الصلاة وعلى اشتراط الطهارة ثمّ إنّ الشافعيّ عين الفاتحة عقيب الاولى وجعل الشهادتين والصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله عقيب الثانية وأبو حنيفة قال يحمد اللّه في الأولى.

3 - قد ظهر أنّ الصلاة على الميّت مجموع مركّب من التكبير والأذكار المذكورة والنهي في الآية يتعلّق بالمجموع من حيث هو مجموع لا بكلّ واحد من الأجزاء إلّا الدعاء للميّت الكافر فإنّ الكافر غير مغفور له فالدعاء له عبث وتسميتها صلاة تسمية الشي ء باسم بعض أجزائه والفرق بين الأمر بالمجموع وبين النهي عنه أنّ الأمر بالمجموع يستلزم الأمر بكلّ واحد من أجزائه بخلاف النهي. إن قلت : يجوز أن يكون المراد ب « لا تصلّ » لا تدع على أصل اللّغة كقوله ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (1) قلت المتبادر إلى الفهم من الصلاة على الميّت ما قلناه فيحمل عليه.

4 - في تعليل النهي بالكفر إشارة إلى وجوب الصلاة على كلّ مسلم ولذلك نقل أنّه لمّا مات النجاشي بالحبشة صلّى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لموضع إسلامه

ص: 180


1- البراءة : 104.

الحقيقيّ (1) وهو الّذي نزلت فيه وفي أصحابه الآيات في المائدة (2) وهي قوله « ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ) » الآيات فقال المنافقون : أتصلّي على علج نصرانيّ فنزلت ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ ) (3) الآية واستدلّ الشافعي بذلك على جواز الصلاة على الميّت الغائب ومنعها أبو حنيفة وأصحابنا وحملوا ما ورد من الصلاة على الاستغفار على الميّت والدعاء له وعلى تقدير تسليمه نقل إنّ جنازته رفعت للنبيّ صلى اللّه عليه وآله حتّى شاهده على سريره.

5 - دلّ قوله تعالى « وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ » على مشروعيّة الوقوف على قبور الموتى من المؤمنين والترحّم عليهم وزيارة قبورهم والتردّد إليها وقد روي في ذلك أجر جزيل فما صحّ لنا روايته عن الرضا عليه السلام أنّه قال « من أتى قبر أخيه المؤمن وقرء عنده ( إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) سبع مرّات ودعا له أمن من الفزع الأكبر (4) » قيل : الآمن الميّت وقيل القاري وقيل هما معا قاله بعض شيوخنا وهو الأصحّ وورد أيضا غير ذلك من الروايات (5) وكانت زيارة القبور في أوّل الإسلام محرّمة ثمّ نسخ ذلك (6).

السادسة ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ) (7).

ص: 181


1- سنن ابى داود ج 2 ص 189 من حديث أبي هريرة.
2- راجع مجمع البيان ج 2 ص 561 والآية في المائدة : 85.
3- آل عمران : 199.
4- الوسائل ب 57 من أبواب الدفن ح 1.
5- راجع الوسائل ب 54 و 55 و 56 من أبواب الدفن.
6- قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فان في زيارتها تذكرة. راجع سنن ابى داود ج 2 ص 195.
7- النساء : 100.

الضرب في الأرض هو السير فيها والجناح الإثم ونفي الجناح يستعمل في الواجب والندب والمباح وقصر الصلاة من القصور بمعنى النقص وهو قد يكون في كيفيّتها وفي كمّيّتها والفتنة قيل القتل والأصحّ أنّها التعرّض للمكروه.

إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

1 - قصر الصلاة جائز إجماعا فقال الشافعيّ هو رخصة لقوله تعالى « فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ » (1) فهو من المخيّر عنده لكنّه قال القصر أفضل وقال المزنيّ من

ص: 182


1- وليس من المسلم ان الآية بصدد بيان التقصير في الركعات بل لعل المراد القصر عن حدود الصلاة كما نقله في المجمع عن ابن عباس وطاوس ، قال وهو الذي رواه أصحابنا في صلاة شدة الخوف وأنها تصلى إيماء والسجود أخفض من الركوع فان لم يقدر على ذلك فالتسبيح المخصوص كاف. ولم يثبت حقيقة شرعية للفظ القصر في قصر العدد وانا وان قوينا ثبوت الحقيقة الشرعية فيما اسلفناك من الحواشي لكنا قلنا أنها ثابتة في بعض الألفاظ كالصلاة والصوم لا في كلها ولم يثبت في مثل كلمة القنوت والقصر ، ولذلك يمكننا ان نقول في المسئلة أن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين ، وقيد ذلك بأمرين الضرب في الأرض والخوف فإذا وجد الأمران أبيح القصران فيصلون صلاة خوف مقصورا عددها وأركانها وان انتفى الأمران وكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران وان وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده : فان وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد وليس بغريب وقد نقل الشيخ في الخلاف ج 1 ص 253 المسئلة الثانية من صلاة الخوف عن عدة من أصحابنا الإمامية وجميع فقهاء أهل السنة عدم قصر العدد في صلاة الخوف في الحضر ونقل في ج 1 ص 257 المسئلة التاسعة قصر أركان الصلاة في شدة الخوف عن الفقهاء والإمامية مستدلا بالروايات ، فقصر الأركان واستيفاء العدد نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية. وان وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفيت الأركان وهذا أيضا نوع قصر وليس بالقصر المطلق.

أصحابه الإتمام أفضل وقال مالك وأبو حنيفة [ وأحمد ] وأصحابنا أنّه عزيمة (1) وبه قال عليّ عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام وابن عبّاس وجابر وابن عمر وغيرهم ونفي الجناح لا ينافي الوجوب فإنّه قد استعمل في الوجوب كما في قوله تعالى

ص: 183


1- ومما يدل على كونه عزيمة شدة نكير الصحابة على عثمان معين أتم بمنى وبعرفة فانظر الكامل لابن الأثير ج 3 حوادث سنة 29 وغيره من كتب التاريخ والحديث والتفسير وتأولوا فعله بما ننقله من النووي في شرح صحيح مسلم ج 5 ص 195 بعين عبارته قال : اختلف العلماء في تأويلهما ( يعنى عثمان وعائشة ) فالصحيح الذي عليه المحققون أنهما رأيا القصر جائزا والإتمام جائزا فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام ، وقيل لان عثمان امام المؤمنين وعائشة أمهم فكأنهما في منازلهما وأبطله المحققون بأن النبي كان اولى بذلك منهما وكذلك أبو بكر وعمر ، وقيل لان عثمان تأهل بمكة وأبطلوه بأن النبي سافر بأزواجه وقصر ، وقيل فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا لئلا يظنوا ان فرض الصلاة ركعتان أبدا حضرا وسفرا وأبطلوه بأن هذا المعنى كان موجودا في زمن النبي صلى اللّه عليه وآله بل اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان بأكثر مما كان ، وقيل لان عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج وأبطلوه بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجرين فوق ثلاث وقيل كان لعثمان أرض بمنى وأبطلوه بان ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة انتهى. أقول : ويبطل ما جعله الصحيح أولا انه لم يعتذر بذلك نفسه عند ما عاب عليه المسلمون مخالفته للسنة المعروفة المستفيضة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وعن الشيخين وعنه نفسه في صدر خلافته وقد أقبل عبد الرحمن بن عوف ( كما في الكامل والفتنة الكبرى ) وقال له : ألم تصل هنا مع النبي صلى اللّه عليه وآله ركعتين؟ قال بلى قال ألم تصل مع ابى بكر وعمر ركعتين؟ قال بلى قال الم تصل أنت بالناس هنا ركعتين؟ قال بلى قال فما هذا الحدث الذي أحدثته؟ قال فإني بلغني أن الاعراب والجفاة من أهل اليمن يقولون ان صلاة المقيم اثنتان فأجابه عبد الرحمن بان خوفك على الاعراب والجفاة في غير محله إذ صلّى النبي ركعتين ولم يكن الإسلام قد فشا ، وقد ضرب الإسلام الان بجرانه فما ينبغي لك أن تخاف.

( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ ) إلى قوله ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) (1) والطواف بهما واجب ، ولما روي عن يعلى بن أميّة وقد سأل عمر ما بالنا نقصر وقد أمنّا فقال عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : « تلك صدقة تصدّق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته » (2) والأمر للوجوب وغير ذلك من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام وغيرهم (3).

ص: 184


1- البقرة : 185.
2- رواه في المنتقى على ما في نيل الأوطار ج 3 ص 212. قال : رواه الجماعة إلا البخاري وتجده في سنن ابى داود ج 1 ص 274. والعجب استدلال من قال بالرخصة بتيك الرواية مستظهرا من قوله « صدقة » أن القصر رخصة فقط والجواب أن الأمر بقبولها يدل على أنه لا محيص عنها.
3- فمن الروايات من طرق أهل السنة : 1 - رواية عائشة المتفق عليها بألفاظ منها : فرضت الصلاة ركعتين ( ركعتين ) فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر وفي المنتقى كما في نيل الأوطار ج 1 ص 309 عن عائشة قالت فرضت الصلاة ركعتين ثم هاجر ففرضت أربعا وتركت صلاة السفر على الأول ، رواه أحمد والبخاري وهي دليل ناهض على الوجوب فإن صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها كما أنها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر وتأويل البغوي لها بان المراد فرضت لمن أراد الاقتصار عليها تأويل مستعسف. قالوا : انها معارضة بما روى من الإتمام ، قلت قد رد الروايتين ابن القيم الجوزية في زاد المعاد ج 1 ص 128 ، قال فيه : روى فيما روى عنها ان النبي كان يقصر ويتم ويفطر ويصوم ، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هو كذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله. قال وفيما روى أنه كان يقصر وتتم بالتاء المثناة من فوق قال شيخنا ابن تيمية وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم. ثم بين رد التأولات فراجع. 2 - ما رواه المنتقى عن ابن عباس كما في نيل الأوطار ج 3 ص 342 : فرض اللّه الصلاة على نبيكم صلى اللّه عليه وآله في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ، رواه احمد ومسلم وأبو داود والنسائي. فهذا الصحابي الجليل حكى أن اللّه فرض صلاة السفر ركعتين وهو أتقى لله وأخشى من أن يحكى ذلك بلا برهان. 3 - ما رواه المنتقى عن ابن عمر كما في نيل الأوطار ج 3 ص 217 : انه قال ان رسول اللّه أتانا ونحن ضلال فعلمنا فكان فيما علمنا أن اللّه عزوجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر ، رواه النسائي ، وغير ذلك من الروايات التي رووها في كتبهم. وأما من طرقنا الى أهل بيت الوحي الثقل الثاني الذي أمرنا بالتمسك به تجدها مبثوثة في الوسائل أبواب صلاة المسافر فراجع.

2 - ظاهر الآية (1) تدلّ على أنّ القصر مشروط بالخوف وليس كذلك بل الخوف خرج مخرج الأغلب لما قلناه من حديث عمر وتحقيق الحال هنا أن نقول ليس السفر والخوف شرطين على الجمع للإجماع ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قصر سفرا مع زوال الخوف (2) وإذا لم يكونا شرطين على الجمع فإمّا أن يكون أحدهما شرطا في الآخر دون العكس وهو باطل أمّا أوّلا فلاستلزام الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا ثانيا فلأنّ اشتراط السفر بالخوف باطل للإجماع المذكور والنصّ وعكسه أعني اشتراط الخوف بالسفر باطل أيضا لكونه ينفى سببيّة الخوف مطلقا ولأنّ السبب التامّ يستحيل أن يكون شرطا في سببيّة آخر وإذا بطل ذلك فلم يبق إلّا أن يكون كلّ واحد منهما سببا تامّا في وجوب القصر ولما صحّ عن الباقر عليه السلام أنّه « سئل عن صلاة الخوف وصلاة السفر أنقصر ان جميعا فقال نعم وصلاة الخوف أحقّ أن تقصر من

ص: 185


1- قد عرفت إمكان جعل القصر في الآية القصر المطلق المترتب على السفر والخوف معا ويمكن أن يكون الحكم في صلاة الخوف في السفر ركعة كما تضمنه خبر حريز وزرارة وإبراهيم بن عمر ( الوسائل ب 1 من أبواب صلاة الخوف ح 2 و 3 و 4 ) وقد قال به ابن الجنيد أيضا ونقله في المجمع عن جابر وحذيفة وزيد بن ثابت وابن عباس وابى هريرة وكعب وابن عمر وسعيد بن جبير ، الا أنّه خلاف المشهور وتأولها في المدارك بأن كل طائفة انما تصلى مع الإمام ركعة فكان صلاتها ردت إليها.
2- وذلك لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله سافر إلى ذي خشب وهو مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا فقصر وأفطر فصار سنة. أخرجه الشيخ الحر العاملي عن الفقيه والتهذيب في الوسائل ب 1 من أبواب صلاة المسافر ح 5 و 12.

صلاة السفر الّذي ليس فيه خوف بانفراده » (1) جعل عليه السلام الخوف سببا أقوى من السفر الخالي عنه فيكون كلّ واحد منهما سببا تامّا منفردا وهذا تقرير لوجوب القصر فيهما معا.

3 - لم نسمع خلافا في أنّ القصر في السفر معلّق بالمسافة إلّا أنّ داود قال : أحكام السفر تتعلّق بالطويل والقصير وأطلق ثمّ المقدّرون اختلفوا (2) فقال الشافعيّ

ص: 186


1- الوسائل ب 1 من أبواب صلاة الخوف ح 1
2- قال ابن رشد في البداية ص 162 ج 1 ما حاصله : السبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول من التقصير والإفطار في السفر للفظ المنقول في هذا الباب وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر والإفطار أنه لمكان المشقة فيه وإذا كان الأمر على ذلك فإنما يكونان حيث تكون المشقة ، وعند أبي حنيفة لا تكون المشقة إلا بقطع ثلاث مراحل ، وعند الشافعي وأحمد ومالك تكون بقطع ستة عشر فرسخا. قال : وأما من لا يراعى في ذلك الا اللفظ فقط فقد قال : قال النبي صلى اللّه عليه وآله ان اللّه وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة فكل من أطلق عليه اسم المسافر جاز له القصر والفطر ، وأيدوا ذلك بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى اللّه عليه وآله كان يقصر في نحو السبعة عشر ميلا انتهى ما أردنا نقله. وأنت خبير بأن أئمة المذاهب الأربعة على هذا لم يستندوا فيما حدوده من المسافة إلى دليل من أقوال النبي صلى اللّه عليه وآله وأفعاله وانما استندوا الى فلسفة أطلقوا عليها المعنى المعقول ، وذلك مما لا يطمئن إليه الإمامية في استنباط الأحكام الشرعية وكفاهم ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وقد ذكر المصنف منها رواية وتجد الباقي منها في الوسائل أبواب صلاة المسافر. ولسيد علمائنا الأعلام بحر العلوم طاب ثراه في مسئلة صلاة المسافر رسالة أدرجها في مفتاح الكرامة من ص 501 الى ص 542 من المجلد الثاني من كتاب الصلاة يحق لأهل العلم المراجعة إليها وسرح الطرف في رياضها وارواء القلب من حياضها قد نثر فيها من الفرائد ما يرصع به تيجان القوائد ، أنشأت من بحر مواج تلألأت عليه السراج الوهاج.

مرحلتان ستّة عشر فرسخا وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة وأصحابه ثلاث مراحل أربعة وعشرون فرسخا وقال أصحابنا مرحلة ثمانية فراسخ أو مسير يوم متوسّط السير وبه قال الأوزاعيّ دليلنا بعد الإجماع منّا إطلاق الآية خرج ما دون الثمانية بالإجماع فيبقى ما عداه ولرواية عيص بن القاسم عن الصادق عليه السلام « قال التقصير حدّه أربعة وعشرون ميلا يكون ثمانية فراسخ » (1).

4 - حيث بيّنّا أنّ التقصير نقص من الصلاة كمّا أو كيفا فالنقص في الكمّ في الرباعيّات بتنصيفها وجعلها اثنتين وكذلك في حال الخوف غير الشديد وأمّا في حال الخوف المنتهى إلى الشدّة فإنّ النقص هناك في الكمّ والكيف معا أمّا الكمّ فكما قلنا وأمّا الكيف فبحسب الإمكان قائما وقاعدا ومؤميا بل ويقوم مقام الركعة تسبيحة واحدة وتفصيل ذلك في كتب الفقه.

5 - القصر المشار إليه سفرا وخوفا إنّما يكون فيما ساغ من السفر والأحوال واجبا كان أو مندوبا أو مباحا لا في غير السائغ وذلك لأنّه تخفيف وترفيه للمشقّة الّتي مظنّتها السفر فلا يحسن جعله للعاصي بسفره خصوصا على قولنا بحكمة الشارع وامتناع القبيح عليه نعم لا يشترط انتفاء المعصية في السفر بل كون السفر نفسه غير معصية أو غايته غير المعصية.

6 - وجوب القصر وإن كان عامّا لظاهر الآية لكنّه عندنا مخصوص بما عدا المواضع الأربعة مسجد مكّة والمدينة وجامع الكوفة والحائر الشريف على ساكنه الصلاة والسلام وعليه إجماع أكثر الأصحاب فإنّ الإتمام فيها أفضل لكونها مواضع شريفة تناسب التكثير من العبادة فيها.

السابعة ( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ

ص: 187


1- الوسائل ب 1 من أبواب صلاة المسافر ح 14.

يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) (1).

الطائفة أقلّها واحد والسلاح اسم لما يدفع به الإنسان عن نفسه والجمع أسلحة كخمار وأخمرة وأخذ الحذر كناية عن شدّة الاحتراز عن العدوّ بالاستعداد له واللام في « فَلْتَقُمْ » و « لْيَأْخُذُوا » للأمر وهي ساكنة باتّفاق القرّاء وأصلها الكسر فسكنت استثقالا و « أَنْ تَضَعُوا » موضعه إمّا نصب بنزع الخافض إي لا إثم عليكم في أن تضعوا فسقطت في بعمل ما قبلها ، أو جرّ بإضمار حرف الجرّ وقال « طائِفَةٌ أُخْرى » ولم يقل آخرون وقال « لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا » ولم يقل لم تصلّ فلتصلّ حملا للكلام تارة على اللّفظ واخرى على المعنى كقوله « وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا » (2) ولم يقل اقتتلا.

إذا تقرّر هذا فلنورد كيفيّة صلاة الخوف على ما قاله الفقهاء ثمّ نذكر ما في الآية من الفوائد فنقول : الخوف إذا انتهى إلى حال لا يمكن معها الاستقرار وإيقاع الأفعال بل إلى المسايفة والمعانقة صلّى الناس فرادى بحسب إمكانهم كما تقدّم وإذا لم ينته إلى ذلك فقد ذكروا ثلاثة أنواع (3) :

ص: 188


1- النساء : 101.
2- الحجرات : 9.
3- وذكر في التذكرة صورا أربع : هذه الثلاثة وأضاف إليها صلاة شدة الخوف. وفي شرح النووي على صحيح مسلم ج 5 ص 126 : وروى أبو داود وغيره وجوها أخر في صلاة الخوف بحيث يبلغ مجموعها ستة عشر وجها ( أقول تجدها في ج 1 من سنن أبى داود ص 281 الى ص 287 وذكر ابن العربي في أحكام القرآن ص 491 أنها تبلغ أربعا وعشرين صفة ذكر نفسه ثمان صفات.

الأوّل صلاة بطن النخل (1) وهي أن يكون العدوّ في جهة القبلة ويفرّق الامام أصحابه فرقتين فيصلّي بإحداهما ركعتين ويسلّم بهم والثانية تحرسهم ثمّ يصلّي بالثانية ركعتين نافلة له وهي فريضة لهم وهذه تصحّ أيضا مع الأمن.

الثاني صلاة عسفان (2) وهي أن يكون العدوّ في جهة القبلة أيضا فيرتّبهم صفّين ويحرّم بهما جميعا ويركع بهم ويسجد بالأوّل خاصّة ويقوم الثاني للحراسة فإذا قام الإمام بالأوّل سجد الثاني ثمّ ينتقل كلّ من الصفّين إلى مكان صاحبه فيركع الإمام بهما ثمّ يسجد بالّذي يليه ويقوم الثاني الّذي كان أوّلا لحراستهم فإذا جلس بهم سجدوا وسلّم بهم جميعا.

الثالث صلاة ذات الرقاع (3) وشروطها كون العدوّ في خلاف جهة القبلة أو

ص: 189


1- قال ياقوت : بطن نخل جمع نخلة قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة بينهما الطرف على الطريق وهو بعد أبرق العزاف للقاصد إلى مكة. قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : ونخل بفتح النون وإسكان الخاء المعجمة وهو مكان من نجد من أرض غطفان.
2- قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : عسفان بعين مضمومة ثم سين ساكنة مهملتين قرية جامعة بها بئر وهي بين مكة والمدينة على نحو مرحلتين من مكة قال وأما قول صاحب المطالع ان بينهما ست وثلاثون ميلا فليس بمنقول.
3- بكسر الراء وآخره عين مهملة ، قيل هي اسم شجرة في موضع الغزوة سميت بها وقيل لأن أقدامهم نقبت من المشي فلفوا عليها الخرق هكذا فسره مسلم بن الحجاج وقيل بل سميت برقاع كانت في ألويتهم قاله ابن إسحاق وقيل ذات الرقاع جبل فيه سواد وبياض وحمرة فكأنها رقاع في الجبل قال ياقوت : الأصح أنها موضع لقول دعثور المحاربي « حتى إذا كنا بذات الرقاع » وكانت هذه الغزوة سنة أربع للهجرة. وقال الواقدي ذات الرقاع قريبة من النخيل بين السعد والشقرة وبئر أرما على ثلاثة أيام ( أميال ظ ) من المدينة وهي بئر جاهلية. وانما سموا هذه الثلاث بهذه الأسامي لما صلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بهم في هذه الأمكنة كذلك.

كونه في جهتها لكن بينه وبين المسلمين حائل يمنع من رؤيتهم لو هجموا وقوّة العدوّ بحيث يخاف هجومه وكثرة المسلمين بحيث يمكن افتراقهم فرقتين يقاوم كلّ فرقة العدوّ وعدم الاحتياج إلى زيادة التفريق : فينحاز الإمام بطائفة إلى حيث لا يبلغهم سهام العدوّ فيصلّي بهم ركعة فإذا قام إلى الثانية انفردوا واجبا وأنمّوا والأخرى تحرسهم ثمّ تأخذ الأولى مكان الثانية وتنحاز الثانية إلى الامام وهو ينتظرهم فيقتدون به في الركعة الثانية فإذا جلس في الثانية للتشهّد قاموا وأنمّوا ولحقوا به ويسلّم بهم ويطوّل الامام القراءة في انتظار الثانية والتشهّد في انتظار فراغها وفي المغرب يصلّي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة أو بالعكس.

فالآية الكريمة ، لم يقل أحد بحملها على صلاة عسفان بل إمّا على صلاة بطن النخل وهو قول الحسن البصري أو على صلاة ذات الرقاع وفيها قولان أحدهما قول أصحابنا والشافعيّة وهو أنّ الطائفة الأولى بعد فراغها من السجود تصلّي ركعة أخرى كما حكيناه وثانيهما أنّ الطائفة الأولى إذا فرغوا من الركعة يمضون إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة الأخرى ويصلّي بهم الركعة الثانية ويسلّم الإمام خاصّة ويعودون إلى وجه العدوّ ويأتي الاولى فيقضون ركعة بغير قراءة لأنّهم لاحقون ويسلّمون ويرجعون إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة الثانية ويقضون ركعة بقراءة لأنّهم مسبوقون وهو مذهب أبي حنيفة ومنقول عن عبد اللّه بن مسعود وفي الفرق بين الطائفتين بترك القراءة نوع تحكّم لا يصلح ما ذكروه لعلّته.

وقيل إنّ الطائفة الأولى تصلّي ركعة وتسلّم وتنصرف وكذا الثانية وهو قول جابر ومجاهد فعلى هذا يكون صلاة الخوف ركعة واحدة (1) فالسّجود في قوله « فَإِذا سَجَدُوا » على ظاهره عند أبي حنيفة وعلى قول أصحابنا وقول الشافعيّ بمعنى الصلاة ويعضده قوله تعالى ( وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ )

ص: 190


1- قد مر ما ورد فيه من طرق الإمامية وطرق أهل السنة وما به يتأول الروايات في حواشينا السالفة فراجع ص 185.

ولا خلاف في أنّ الطائفة الّتي تقابل العدوّ غير المصلّية تأخذ السلاح وأمّا المصلّية فقيل لا تأخذه وبه قال ابن عبّاس وقيل تأخذه وهو الصحيح لعود الضمير إليهم ظاهرا وهنا فوائد

1 - قيل (1) إنّ الصلاة على هذا الوجه تختصّ بحضرته صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ ) وليس بشي ء (2) لأنّ سائر الشرعيّات هو مقرّرها بأقواله وأفعاله مع عموم التكليف بها لوجوب التأسّي به مع أنّ مفهوم المخالفة ليس بحجّة عندنا.

2 - أخذ السلاح واجب لصيغة الأمر وقد تقرّر أنّه للوجوب.

3 - يجوز ترك أخذ السلاح مع المرض أو حصول الأذى به وكذا إذا منع أحد واجبات الصلاة لقوله « ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر ».

4 - في الآية دلالة على أرجحيّة صلاة الجماعة للأمر حالة الخوف بالمحافظة عليها.

5 - في قوله « وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ » إشارة

ص: 191


1- القائل على ما في شرح النووي على صحيح مسلم ج 5 ص 126 أبو يوسف والمزني ونقل الشيخ في الخلاف المسألة 1 من كتاب صلاة الخوف ج 1 ص 253 رجوع أبى يوسف فالمزنى منفرد في هذا القول.
2- واستدل الشيخ في الخلاف المسئلة الاولى من كتاب صلاة الخوف ج 1 ص 253 بما روى من صلاة النبي صلى اللّه عليه وآله بذات الرقاع وبطن نخل وعسفان ، وبما روى من صلاة أمير المؤمنين على عليه السلام صلاة الخوف ليلة الهرير ، وما روى من صلاة أبي موسى وصلاة أبي هريرة وكذا ما روى من أن الحسين بن على عليهما السلام صلّى عند مصابه صلاة الخوف بأصحابه ثم قال وكان سعيد بن العاص واليا على الجيش بطبرستان فأمر حذيفة فصلى بالناس صلاة الخوف فمن ادعى نسخ القرآن والإجماع والسنة فعليه الدلالة ولقد أجاد فيما أفاد قدس اللّه سره.

إلى علّة وجوب أخذ السلاح والحذر وهو أنّه إذا لم تفعلوا يميلون عليكم ميلة واحدة أي يشدّون عليكم شدّة واحدة.

6 - في الآية ونزولها معجزة له صلى اللّه عليه وآله وذلك أنّها نزلت والنبيّ صلى اللّه عليه وآله بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا فصلّى النبيّ صلى اللّه عليه وآله بأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود فهمّ المشركون أن يغيروا عليهم فقال بعضهم إنّ لهم صلاة أخرى أحبّ إليهم من هذه يعنون [ بها ] صلاة العصر فأنزل اللّه الآية المذكورة فصلّى بهم صلاة العصر صلاة الخوف (1).

7 - لمّا أمرهم بأخذ الحذر أو همهم أنّ العدوّ يوقع بهم ضررا لقوّة العدوّ [ أ ] وخداعه فأزال هذا الوهم بأنّ اللّه يهيمهم بسيف الإسلام فإنّه تعالى كثيرا ما يفعل الأشياء بأسبابها فقال « إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ».

( نكتة )

إن قلت : تعليق الأخذ بالحذر مجاز وبالأسلحة حقيقة فإن أراد أحدهما لم يجز الآخر وإن أرادهما فباطل لأنّهم منعوا من استعمال اللّفظ في الحقيقة والمجاز معا قلت إنّما منعوه على وجه الحقيقة لا مطلقا فجاز إرادتهما معا مجازا أو يكون أحدهما منصوبا بالملفوظ والآخر بمقدّر على طريقة « علّفتها تبنا وماء باردا (2) أراد وسقيتها.

ص: 192


1- راجع مجمع البيان ج 3 ص 103 ، سنن أبى داود ج 1 ص 282.
2- قد مر ذكر البيت في ص 14 وما قيل فيه وأن آخره حتى شتت همالة عيناها. وقال ابن عصفور : انهم ذهبوا الى أن الاسم الذي بعد الواو معطوف على الاسم الذي قبلها ويكون العامل في الاسم الذي قبل الواو قد ضمن في ذلك معنى يتسلط على الاسمين فيضمن علفتها معنى أطعمتها ، لأنه إذا علفها فقد أطعمها فكأنه قال أطعمتها تبنا وماء. وقد يقال أطعمت ماء ، قال اللّه تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ). وقائل البيت لم يعرف ونسبه بعضهم إلى ذي الرمة وليس في ديوانه واستشهد بالبيت في المغني كما مر ، والطبري ج 1 ص 114 عند تفسير الآية 7 من سورة البقرة وابن قتيبة في مشكل القرآن ص 165 باب الحذف والاختصاص وابن الأنباري في الإنصاف في المسئلة 84 من الخلاف بين البصريين والكوفيين في عامل الجزم في جواب الشرط ( ص 613 ) وابن قيم الجوزية في جلاء الافهام ص 330 والضبط فيه حتى غدت همالة ، والسيد المرتضى في المجلس 76 ، ونقل الشنقيطى في تذييله عليه انه روى البيت أيضا هكذا : حططت الرحل عنها واردا *** علفتها تبنا وماء باردا وروى أيضا : مشت همالة ، وروى أيضا بدت والمعنى واحد قاله الدسوقى في حاشيته على المغني. وهمالة صيغة مبالغة من هملت عين فلان إذا أرسلت دمعها.

الثامنة ( فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (1).

المراد بالقضاء هنا فعل الشي ء والإتيان به أي إذا أتيتم بالصلاة كقوله تعالى ( فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ ) (2) فعلى هذا يكون المراد الأمر بالمداومة على الذكر في جميع الأحوال كما جاء في الحديث القدسيّ « يا موسى اذكرني فإنّ ذكري حسن على كلّ حال » (3) أو المراد التعقيب بالأدعية بعد الصلاة كما هو مذكور في مظانّه ويمكن أن يكون المراد التسبيح عقيب كلّ صلاة مقصورة ثلاثين مرّة « سبحان اللّه ، والحمد لله ، ولا إله إلّا اللّه ، واللّه أكبر » كما رواه أصحابنا فإنّه ذكر ذلك عقيب كلّ صلاة القصر (4)

وقيل : في الكلام إضمار أي إذا أردتم الإتيان بالصلاة فأتوا بها على حسب

ص: 193


1- النساء : 103.
2- البقرة : 200.
3- أصول الكافي ج 2 ص 497 الرقم 8.
4- الوسائل ب 24 من أبواب صلاة المسافر ح 2.

أحوالكم في الإمكان بحسب ضعف الخوف وشدّته « قِياماً » أي مسايفين ومقارعين « وَقُعُوداً » أي مرامين « وَعَلى جُنُوبِكُمْ » أي مثخنين بالجراح ووجه هذا أنّها في معرض ذكر صلاة الخوف.

قوله « فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ » أي سكنتم وأقمتم في مدنكم « فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ » تقدّم معنى إقامة الصلاة أي أدّوها كاملة في كمّيّتها وكيفيّتها بأن تأتوا بها تماما لا قصرا وعلى إيفاء الكيفيّات حقّها لا كما هو حال الشدّة وباقي الآية تقدّم تفسيره في أوّل كتاب الصلاة (1)

التاسعة ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ ) (2).

لمّا تقرّر في أصول الفقه أنّ التأسيس أولى من التأكيد لاشتماله على مزيد فائدة لم يجز حمل قوله « وَارْكَعُوا » على الصلاة أي صلّوا مع المصلّين تسمية للصلاة باسم بعض أجزائها لكونه أوّل فعل يظهر منها كما قيل في ذلك سواء كان الخطاب لليهود لعدم الركوع في صلوتهم أو لغيرهم فإنّ الأمر بإقامة الصلاة يستلزم الأمر بأجزائها لأنّ الأمر بالكلّ أمر بكلّ واحد من أجزائه ضرورة وحينئذ فالأولى حمل الآية على الأمر بصلاة الجماعة فيكون راجحة إمّا وجوبا كما في الجمعة والعيدين أو استحبابا كما في باقي الصلوات الواجبة وهو قول أكثر المسلمين وقال أحمد بوجوبها على الكفاية.

وأمّا الجماعة في النوافل فأجمع علماء أهل البيت عليهم السلام على تحريمها إلّا في نفل أصله فرض كالإعادة والعيدين والاستسقاء لما فيها من غرض الاجتماع لإجابة الدعاء واحتجاج أحمد على وجوبها بأنّه صلى اللّه عليه وآله توعّد جماعة تركوها بإحراق بيوتهم (3)

ص: 194


1- راجع ص 58.
2- البقرة : 43.
3- روى أبو داود في سننه ج 1 ص 129 عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ، ثم انطلق معى برجال معهم حزم من حطب الى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار.

لا يدلّ على مطلوبه لاحتمال اعتقادهم عدم المشروعيّة أو إصرارهم على ترك السنن أو على شدّة الاستحباب الّذي لا نزاع فيه فانّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفدّ بخمس وعشرين صلاة كما ورد في الحديث النبويّ (1) وهو دليل على استحباب الجماعة معتضدا بأصالة البراءة من الوجوب وأمّا مبالغة داود في جعلها واجبة عينا فأظهر في المنع.

العاشرة ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )(2).

لم أجد أحدا من المفسّرين فرّق بين الاستماع والإنصات والّذي يظهر لي أنّ استمع بمعنى سمع والإنصات توطين النفس على الاستماع مع السكوت فظاهر الآية يدلّ على راجحيّته إذا قرئ القرآن إمّا وجوبا أو استحبابا واختلف في سبب نزولها (3) فقال ابن عبّاس وجماعة أخرى إنّهم كانوا يتكلّمون في صلوتهم أوّل فرضها فكان الرجل يجي ء وهم في الصلاة فيقول كم صلّيتم فيقولون كذا وكذا وقال الزهريّ كان النبيّ صلى اللّه عليه وآله يقرء فيعارضه فتى من الأنصار فيقرء معه فنزلت وقيل كان أصحابه كلّما قرأ قرؤا معه رافعين أصواتهم فيخلطون عليه وقال ابن جبير نزلت في الإنصات والإمام يخطب في الجمعة وقيل هو أمر بالاستماع نظرا في المعجزة النبويّة وهو قويّ وقال الصادق عليه السلام المراد استحباب الاستماع في الصلاة وغيرها (4) وهو المختار لإطلاق اللّفظ وأصالة البراءة من الوجوب وهنا فوائد :

 - استدلّ أصحابنا والحنفيّة على سقوط القراءة عن المأموم بالآية فإنّ الإنصات لا يتمّ إلّا بالسّكوت وخالفت الشافعيّة في ذلك حيث استحبّوا له قراءة

ص: 195


1- راجع مجمع الزوائد ج 2 ص 38.
2- الأعراف : 203.
3- راجع الأقوال في سبب نزولها في الدر المنثور ج 3 ص 153 و 154 ، مجمع البيان ج 4 ص 515.
4- تفسير العياشي ج 2 ص 144 الرقم 131.

الفاتحة مطلقا وربّما فصّل أصحابنا بأنّ في الجهريّة الأولى ترك القراءة لما قلناه من الإنصات وأمّا الإخفاتيّة والجهريّة إذا لم يسمع ولا همهمة فيستحبّ قراءة الفاتحة وقيل بل يستحبّ الذكر في النفس تسبيحا أو تحميدا أو تهليلا أو تكبيرا وهو الأولى ويؤيده رواية زرارة عن أحدهما عليه السلام « إذا كنت خلف إمامه تأتمّ به فأنصت وسبّح في نفسك » (1) يعني فيما [ لا ] يجهر به وإليه أشار في الآية التالية لهذه بقوله ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ) (2).

2 - ينبغي لكلّ واحد من قارئ القرآن ومستمعه تخلية سرّه وتحزين قلبه والاستشفاء به من داء جهله وتفريطه وأن يجعل نفسه هي المخاطبة بجملة أوامره ونواهيه وأنّها المؤاخذة بوعيده والمرغّبة بوعده.

3 - ينبغي ترك الكلام حينئذ واستشعار الذلّة والخضوع وتصوّر عظمة المتكلّم به وهو اللّه تعالى وقراءته قائما وجالسا متأدّبا كالحاصل بين يدي ملك عظيم لا يشغل عنه شاغل وتحرّي الخلوة بقرائته فإنّها نعم العون على ذلك كلّه.

الحادية عشرة ( إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) (3).

حكم أصحابنا بوجوب السجود عند قراءة هذه الآية واستماعها وفي سماعها خلاف أحوطه الوجوب وكذا في حم عند قوله ( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) (4) وآخر اقرأ : ( وَاسْجُدْ

ص: 196


1- تفسير العياشي ج 2 ص 44 الرقم 134.
2- الأعراف : 205.
3- الم السجدة : 15.
4- فصلت : 37.

وَاقْتَرِبْ ) (1) وعند آخر النجم ( فَاسْجُدُوا لِلّهِ وَاعْبُدُوا ) (2) وسمّوها بسور العزائم الأربع مستدلّين بعد إجماع الفرقة بقول عليّ عليه السلام « عزائم السجود أربع » (3) وقول الصادق عليه السلام « إذا قرئ شي ء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد وإن كنت على غير وضوء وإن كنت جنبا وإن كانت المرأة لا تصلّي وسائر القرآن أنت فيه بالخيار » (4) ولأنّها واردة بصيغة الأمر الدالّ على الوجوب.

إن قلت : نمنع كون كلّها بصيغة الأمر فإنّها هنا في الآية المذكورة ليست بصيغة الأمر مع أنّه يلزمكم وجوب السجود في آخر الحجّ لكونه بصيغة الأمر وأنتم لا تقولون به قلت الجواب أمّا عن الأولى فلأنّها إن لم يكن بصيغة الأمر لكنّها علامة على كمال الإيمان المشعر ذلك بوجوبها وأمّا عن الثانية فلأنّها سجود الصلاة بدليل اقترانها بالركوع فهي واجبة في الصلاة والنزاع في سجود ليس في الصلاة هذا مع أنّه مختلف في مشروعيّتها كما يجي ء.

وما عدا هذه الأربع من السجود مندوب لأصالة البراءة من الوجوب ولما ذكرنا من قول الصادق عليه السلام ، وهي إحدى عشرة : في الأعراف والرعد والنحل وبني إسرائيل ومريم والحجّ في موضعين والفرقان والنمل وص وإذا السماء انشقّت.

وقال الشافعيّ إنّها كلّها مسنونة وأسقط ص وقال أبو حنيفة كلّها واجبة وأسقط ثانية الحجّ فهي عندهما أربعة عشرة.

فائدة : يجب في السجدات المذكورة وضع الجبهة والسجود على الأعضاء السبعة ولا يجب فيها طهارة ولا ذكر ولا تشهّد ولا تسليم ولا استقبال على الأصحّ

ص: 197


1- العلق : 19.
2- النجم : 62.
3- رواه الطبراني في الأوسط عن على عليه السلام قال : عزائم السجود أربع الم تنزيل السجدة وحم السجدة والنجم واقرأ باسم ربك. راجع مجمع الزوائد ج 2 ص 285.
4- الوسائل ب 42 من أبواب قراءة القرآن ح 2.

نعم الذكر فيها مندوب صورته على ما رواه ابن بابويه في أماليه « لا إله إلّا اللّه حقّا حقّا لا إله إلّا اللّه تعبّدا ورقّا لا إله إلّا اللّه إيمانا وصدقا سجدت لك يا رب تعبّدا ورقّا لا مستنكفا ولا مستكبرا (1) [ ولا متعظّما بل أنا عبد ذليل خائف مستجير ].

كتاب الصوم

اشارة

وهو لغة قيل قيام بلا عمل قاله الخليل وقال الجوهريّ الصوم الإمساك وشرعا قيل هو الإمساك عن أشياء مخصوصة في زمان مخصوص ممّن هو على صفات مخصوصة ونقض بأنّ الإمساك عدميّ مع إبهام الأشياء المخصوصة وإطلاقها وقيل هو الكفّ عن المفطرات مع النيّة وفيه نظر إذ الكفّ يشمل اللّيل وذلك ليس بصوم مع أنّ التناول سهوا ليس بمناف فلا بدّ من قيد العمد فاذن هو ليس بمانع لدخول الأوّل ولا جامع لخروج الثاني. هذا مع أنّ كفّ الكافر والمسافر والحائض والجنب عن المفطرات مع النيّة ليس بصوم فلا بدّ من قيد يخرج أمثال ذلك ، وربّما زيد التوطين فقيل توطين النفس على الكفّ إلى آخره وهو أيضا غير سديد ويرد عليه ما قلناه أيضا.

فالأولى أن يقال هو كفّ شرعيّ عن تعمّد تناول كلّ مزدرد والجماع وما في حكمها يوما أو حكمه مع النيّة ، وفيه أجر جزيل بل هو من أفضل الأعمال ففي الحديث القدسيّ « كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به » (2) وفي توجيه هذا الحديث أقوال ذكرناها في النّضد من أرادها وقف عليها (3).

ص: 198


1- كتاب الأمالي ص 382 المجلس 93 ورواه في الفقيه ج 1 ص 83.
2- صحيح البخاري ج 1 ص 326 ، الوسائل ب 1 من أبواب الصوم المندوب ح 27.
3- قال قدس سره : قاعدة : كل الأعمال الصالحة لله فلم جاء في الخبر « كل عمل ابن آدم له الا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به » مع قوله صلى اللّه عليه وآله « أفضل أعمالكم الصلاة »؟. وأجيب بوجوه : 1 - انه اختص بترك الشهوات والملاذ في الفرج والبطن ، وذلك أمر عظيم يوجب التشريف وأجيب بالمعارضة بالجهاد فان فيه ترك الحياة فضلا عن الشهوات وبالحج إذ فيه الإحرام ومتروكاته كثيرة. 2 - انه أمر خفي لا يمكن الاطلاع عليه فلذلك شرف بخلاف الصلاة والجهاد وغيرهما أجيب بأن الايمان والإخلاص وأفعال القلب والخشية خفية مع تناول الحديث إياها. 3 - ان عدم إملاء الجوف تشبه بصفة الصمدية ، أجيب بأن طلب العلم فيه تشبه بأجل ( صفات ) الربوبية وهو العلم الذاتي وكذلك الإحسان إلى المؤمنين وتعظيم الأولياء والصالحين ، كل ذلك فيه التخلق تشبها بصفات اللّه تعالى. 4 - ان جميع العبادات وقع التقرب بها الى غير اللّه تعالى الا الصوم فإنه لم يتقرب به الا الى اللّه وحده ، أجيب بأن الصوم يفعله أصحاب استخدام الكواكب. 5 - ان الصوم توجب صفاء العقل والفكر بواسطة ضعف القوى الشهوية بسبب الجوع ولذلك قال عليه الصلاة والسلام « لا يدخل الحكمة جوفا ملي ء طعاما » وصفاء العقل والفكر يوجبان حصول المعارف الربانية التي هي أشرف أحوال النفس الإنسانية. أجيب بأن سائر العبادات إذا واظب عليها أورثت ذلك خصوصا الجهاد قال اللّه تعالى ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) وقال تعالى ( اتَّقُوا اللّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) قال بعضهم لم أر فيه فرقا تقربه العين وتسكن اليه القلب. ولقائل أن يقول هب أن كل واحد من هذه الأجوبة مدخول بما ذكر فلم لا يكون مجموعها هو الفارق فإنه لا يجتمع هذه الأمور المذكورة لغير الصوم. وهذا واضح.

وهنا آيات :

الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1).

ص: 199


1- البقرة : 183.

كتب أي فرض عليكم والّذين من قبلنا هم الأنبياء وأممهم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدنا « لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » أي تتّقون المعاصي فإنّ الصوم يكسر الشهوة كما جاء في الحديث عنه صلى اللّه عليه وآله « من لم يستطع الباه فليصم فإنّ الصوم له وجاء » (1) أو لعلّكم تنتظمون في زمرة المتّقين فانّ الصوم شعارهم وهنا فوائد :

1 - في قوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » تنبيه على عدم الوجوب على الصبيّ والمجنون والمغمى عليه إذ الإيمان هو التصديق والإذعان بعد تصوّر الأطراف وذلك لا يحصل إلّا من عاقل.

2 - حيث إنّ الصوم تشبّه بالملائكة وحسم لمادّة الشيطان وكسر للقوّة الشهوية الحيوانيّة ونصر للقوّة العاقلة الملكيّة كتب علينا كما كتب على الّذين من قبلنا من الأنبياء والأمم الماضين.

3 - قيل إنّ النصارى كتب عليهم شهر رمضان فأصابهم موتان فزادوا عشرا قبله وعشرا بعده فصار صومهم خمسين يوما وقيل كان وقوعه في الحرّ الشديد أو البرد الشديد فشقّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم فحوّلوه إلى الربيع وزادوا فيه عشرين يوما كفّارة للتحويل وعن الباقر عليه السلام « إنّ شهر رمضان كان واجبا على كلّ نبيّ دون أمّته وإنّما وجب على امّة محمّد صلى اللّه عليه وآله محبّة لهم » (2).

4 - في قوله « لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » إشارة إلى أنّ التكاليف السمعيّة ألطاف مقرّبة إلى طاعات أخر وإلى اجتناب كثير من المعاصي كما قال ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (3).

5 - فائدة إعلامنا بتكليف من قبلنا بالصوم إمّا تأكيد للحكم فإنّه إذا كان

ص: 200


1- من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء. راجع صحيح البخاري ج 1 ص 326.
2- الوسائل ب 1 من أبواب أحكام شهر رمضان ح 3.
3- العنكبوت : 45.

مستمرّا في جميع الملل تأكّد الانبعاث إلى القيام به أو تنبيه لنا على علّة مشروعيّته بوقوع التكليف به عامّا أو تطييب للنفس وتسهيل عليها.

الثانية ( أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1).

« أَيّاماً » منصوب على أنّه ظرف لفعل مقدّر يدلّ عليه الصيام أي صوموا أيّاما لا أنّه منصوب بالصّيام كما قال الزمخشريّ لأنّ المصدر إعماله مع اللام ضعيف والإضمار من محاسن الكلام « و ( مَعْدُوداتٍ ) » أي قلائل فإنّ الشي ء إذا كان قليلا يعدّ وإذا كان كثيرا يهال هيلا وفي قوله « أَيّامٍ أُخَرَ » وهي جمع اخرى تأنيث آخر سؤال فإنّ الأيّام جمع يوم وهو مذكّر وكان قياسه أواخر جمع آخر فلم قال أخر؟ أجيب عنه بأنّ كلّ صفة لموصوف مذكّر لا يعقل فأنت فيها بالخيار إن شئت عاملتها معاملة الجمع المذكّر وإن شئت [ عاملتها ] معاملة الجمع المؤنّث وإن شئت معاملة المفرد المؤنّث وعلى هذا جاز أن يقال أيّام أواخر وأخر واخرى لكون الأيّام لا تعقل بخلاف جائني رجال ورجال أخر لم يجز بل أواخر أو آخرون.

« وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ » أي يبلغونه أقصى طاقتهم والضمير للصوم وقرء نافع وابن عامر « فدية طعام مساكين » بإضافة فدية إلى طعام وجمع المساكين وقرأ الباقون « فدية » منوّنة « وطعام » بالرفع وإضافته إلى « مسكين » مفردا وقرأ حمزة يتطوع والباقون تطوّع : إذا تقرّر هذا ففي الآية مسائل :

1 - قال ابن عباس وجماعة « الأيّام المعدودات » هنا ثلاثة أيّام من كلّ شهر ويوم عاشوراء ثمّ نسخ بشهر رمضان وعنه أيضا أنّها شهر رمضان وبه قال الأكثر لأنّه مهما أمكن صيانة الحكم عن النسخ فهو أولى فيكون قد أوجب الصوم أوّلا فأجمله ثمّ بيّنه بأيّام معدودات ثمّ بيّنه بشهر رمضان وعلى القول الأوّل لا يلزم

ص: 201


1- البقرة : 184.

عدم جواز صيام ثلاثة أيّام من الشهر فانّ رفع الوجوب لا يستلزم رفع الجواز.

2 - قيل مطلق المرض مبيح للإفطار حتّى أنّ ابن سيرين أفطر فقيل له فاعتذر بوجع إصبعه وقال مالك وقد سئل : الرجل يصيبه الرّمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه فقال إنّه في سعة من الإفطار وقال الشافعيّ لا يفطر حتّى يجهد الجهد الغير المحتمل والأصحّ عندنا أنّه ما يخاف معه الزيادة أو عسر البرء وأمّا السفر فقد تقدّم حدّه وشرائطه وزاد أكثر أصحابنا شرطا زائدا على شرائط قصر الصلاة فقال الشيخ هو تبييت النيّة من اللّيل للسفر وقال المفيد هو الخروج قبل الزوال وهو الأقوى وقال فقهاء العامّة عدا أحمد متى تلبّس بالصوم أوّل النهار ثمّ سافر في أثنائه لم يجز له الإفطار وقال أحمد يجوز.

3 - قوله « فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ » جواب للشرط أي ففرضه عدّة من أيّام أخر وفيه دلالة على وجوب الإفطار على المريض والمسافر لما ذكرناه ومن قدّر في الآية « فأفطر فعدّة » فقد خالف الظاهر ثمّ إنّ أكثر الصحابة (1) أوجبوا الإفطار سفرا وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام وعن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « الصائم في السفر كالمفطر في الحضر » (2) وروي ذلك عن الصادق عليه السلام (3) وسمّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله جماعة لم

ص: 202


1- مثل عمر بن الخطاب وابنه عبد اللّه ، وعبد اللّه بن عباس وعبد الرحمن بن عوف وابى هريرة وعروة بن الزبير ، انظر الطبري في تفسير الآية والبحر والفتح ونيل الأوطار مسئلة الصوم في السفر وبه قال داود والزهري والنخعي وغيرهم.
2- ذكره بهذه العبارة في تفسير الطبري ج 2 ص 152 عن عبد الرحمن بن عوف واللفظ في سنن ابن ماجة الرقم 1666 والجامع الصغير الرقم 4974 عن النسائي عن ابن عوف « صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر » ووضع السيوطي عليه رمز الصحة وقال المناوى في شرحه فيض القدير ج 4 ص 187 : وأخذ بظاهره أبو حنيفة فأوجب الفطر.
3- مجمع البيان ج 2 ص 274 واللفظ : الصائم في شهر رمضان في السفر كالمفطر فيه في الحضر.

يفطروا عصاة فقال وقد قيل له عنهم : « أولئك العصاة أولئك العصاة » (1).

4 - قوله تعالى ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ) قيل كان القادر على الصوم مخيّرا بينه وبين الفدية بكلّ يوم نصف صاع وقيل مدّ « فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً » أي زاد على الفدية « فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ » ولكن صوم هذا القادر خير له ثمّ نسخ ذلك بقوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وقيل إنّه غير منسوخ بل المراد بذلك الحامل المقرب والمرضع القليلة اللّبن والشيخ والشيخة فإنّه لمّا ذكر المرض المسقط للفرض وكان هناك أسباب أخر ليست بمرض عرفا لكن يشقّ معها الصوم ذكر حكمها فيكون تقديره وعلى الّذين يطيقونه ثمّ عرض لهم ما يمنع الطاقة

ص: 203


1- فمن طريق الإمامية ما رواه في الوسائل ب 1 من أبواب من يصح منه الصوم وفيه تحت الرقم 7 عن العيص بن القاسم عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافرا أفطر وقال : ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلما انتهى الى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشربه وأفطر ثم أفطر الناس معه وتم ناس على صومهم فسماهم العصاة وانما يؤخذ بآخر أمر رسول اللّه. ومن طريق أهل السنة ففي تيسير الوصول الى جامع الأصول ج 2 ص 312 والمنتقى كما في ج 4 ص 239 من نيل الأوطار عن جابر : خرج رسول اللّه عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ثم شرب فقيل له ان بعض الناس قد صام فقال : « أولئك العصاة أولئك العصاة » وليس في المنتقى تكرار أولئك العصاة. نقله في الجامع عن مسلم والترمذي وفي المنتقى عنهما وعن النسائي. وفي نيل الأوطار : وفي رواية له : ان الناس قد شق عليهم الصيام وانما ينظرون إليك فيما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر الحديث ، قال الشوكانى وأجاب عنه الجمهور بأنه انما نسبهم الى العصيان لانه عزم عليهم فخالفوا ، انتهى قلت ليس في الروايات إلا إفطاره صلى اللّه عليه وآله ويستفاد أن تسميتهم العصاة من أجل بقائهم على الصوم كما هو ظاهر.

فدية وهذا روي عن الصادق عليه السلام (1) وهو أولى لأنّ التخصيص خير من النسخ ويؤيّد هذا القول ما قرئ شاذّا عن ابن عبّاس « يطوّقونه » أي يتكلّفونه وعلى قول من قال إنّ الآية بجملتها منسوخة لا منافاة لما قلناه لأنّ رفع الوجوب كما قلنا من قبل لا يستلزم رفع الجواز كما تقرّر في الأصول.

فإن قلت : فعلى هذا ما معنى قوله تعالى ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) قلت جاز أن يكون كلاما مبتدءا لا تعلّق له بما قبله وتقديره إنّ صومكم خير عظيم لكم إن كنتم تعلمون فضائل الصوم وخواصّه الّتي تقدّم ذكرها فإنّكم إذا علمتم ذلك علمتم أنّه خير لكم بالنظر العقليّ وإن لم تعلموا ذلك كنتم عالمين به بالسّمع لا غير وذلك نقص بالنسبة إلى من جمع بين العلمين.

الثالثة ( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (2).

سمّى الشهر شهرا لاشتهاره أي ظهوره برؤية الهلال وهو هنا من باب إضافة العامّ إلى الخاصّ كيوم الجمعة من باب حركة نقلة وقيل إنّ شهر رمضان معا علم لهذا الشهر ك « ابن داية » (3) ولهذا قال بعض أصحابنا نقلا عن أئمّتهم عليهم السلام « لا تقولوا رمضان بل [ قولوا ] شهر رمضان فإنّكم لا تدرون ما رمضان » (4) وفيه نظر

ص: 204


1- تفسير العياشي ج 1 ص 78 و 79.
2- البقرة : 185.
3- وهو اسم الغراب.
4- الوسائل ب 19 من أبواب أحكام شهر رمضان ح 1.

لأنّ الأعلام لا تتصرّف فيها وقد جاء في الحديث « من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه » (1) فان كان ولا بدّ فيحمل النهي على الكراهية لمخالفته لفظ القرآن وسمّي رمضان قيل لأنّ التسمية وافقت أيّام رمض الحرّ وقيل لارتماضهم في حرّ الجوع والأحسن ما قاله ابن السكّيت إنّه مأخوذ من رمضته أرمضه وأرمضه ورامضته إذا جعلته بين حجرين أملسين ثمّ دقّقته وذلك لأنّ الصائم يجعل طبيعته بين حجري الجوع والعطش لتليين الحواسّ للنفس كي لا تعارضها في مقتضاها والأجود في رفعه أنّه خبر مبتدا محذوف تقديره هي شهر رمضان أي الأيّام المعدودات وعلى القول بنسخها يكون مبتدأ خبره « فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ » لأنّ فيه معنى الشرط أي إذا حضر فمن شهد منكم. وقيل خبره الّذي أنزل وقيل إنّه مرفوع بالبدل من الصيام في كتب عليكم وفيه نظر لأنّ الصّيام ليس هو الشهر. وإذا قلنا إنّ القرآن اسم جنس كالماء والتراب فمعنى إنزال القرآن فيه ظاهر لأنّ كلّ ما اتّفق نزوله فيه فهو قرآن وإن جعلناه علما فقيل لأنّه أنزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثمّ انزل نجوما إلى الأرض أو إنّه ابتداء إنزال فيه أو إنّه نزل في شأنه.

ص: 205


1- أخرجه السيوطي بهذا اللفظ عن ابن عباس في الجامع الصغير ( راجع السراج المنير ج 3 ص 366 ) ولكن رواه في المستدرك عن دعائم الإسلام ج 1 ص 570 وفيه « من صام شهر رمضان » ومثله في التهذيب عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : شهر رمضان شهر فرض اللّه عليكم صيامه فمن صامه ايمانا الحديث راجع الوسائل ب 1 من أبواب أحكام شهر رمضان ح 14. أقول وأكثر الروايات انما تعبر بلفظ « شهر رمضان » وفيها ما يعبر بلفظ رمضان فقط من دون اضافة وكأنّها من تعبير الرواة حيث انهم غفلوا عن ذلك وأسقطوا لفظ الشهر على ما هو المعروف بين النار. فلا دليل فيها. بل وفي بعض ألفاظ الحديث على ما في المستدرك ج 1 ص 578 نقلا عن الجعفريات انه عليه السلام كان يقول : « لا تقولوا رمضان فإنكم لا تدرون ما رمضان ومن قال فليتصدق وليصم كفارة لقوله ، ولكن قولوا كما قال اللّه ( شَهْرُ رَمَضانَ ) ».

« هُدىً » حال من القرآن أي هاديا لِلنّاسِ « وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى » أي من جملة الهدى وذكر البيّنات بعد الهدى ذكر الأخصّ من الشي ء معه فانّ كلّ بيّنة هدى ولا ينعكس ( وَالْفُرْقانِ ) ما يفرّق بين الحقّ والباطل وهو عطف على الهدى « فَمَنْ شَهِدَ » أي حضر بلده من الشهود أي الحضور وهو عامّ مخصوص بمن حصل له شرطه : البلوغ والعقل والخلوّ من الحيض والنفاس وذلك لأدلّة منفصلة كقوله عليه السلام « رفع القلم عن ثلاثة » (1) وأدلّة اشتراط الطهارة في الصوم وغير ذلك.

والشهر منصوب على الظرف وكذا الهاء في يصمه وقيل مفعول لشهد أخذا من المشاهدة أي المعاينة وفيه نظر فإنّ المسافر والمريض يشاهدان ولا يصومان وأجيب بأنّهما خصّا بالذكر نعم يرد الحائض وشبهها ويجاب [ عنه ] بأنّه عام خصّ بمنفصل كما تقدّم. واللّام في الشهر للعهد والمعهود نوع الشهر لا شخصه وتكرار ذكر المرض والسفر دليل على تأكيد الأمر بالإفطار وأنّه عزيمة فرض (2) لا يجوز

ص: 206


1- السراج المنير ج 2 ص 317 من حديث عائشة.
2- يستفاد وجوب الإفطار وكونه عزيمة من الآية من وجوه أربعة : 1 - الأمر بالصوم في الآية متوجه الى الحاضر كيف ولفظه « فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ » أى حضر في الشهر فليصمه ، وإذا فالمسافر غير مأمور بالصوم فصومه إدخال في الدين ما ليس فيه. 2 - المفهوم من قوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ) ان من لم يحضر الشهر لا يجب عليه الصوم ، ومفهوم الشرط حجة كما هو مقرر في الأصول. 3 - قال عز من قائل « وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ » إذا قرأت برفع عدة تقديره : فعليه عدة من أيام أخر ، وان قرأتها بالنصب كان التقدير فليصم عدة من أيام أخر ، وحيث لا قائل بالجمع بين الصوم والقضاء وجب الإفطار ، كيف والجمع ينافي اليسر المدلول عليه بالاية ، وتقدير هم « فأفطر » خلاف الظاهر كما لا يخفى. 4 - « يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ » واليسر انما هو الإفطار هنا كما أن العسر هو الصوم ، فمعنى الآية : يريد اللّه منكم الإفطار ولا يريد منكم الصوم.

تركه ويؤيّده مع ما تقدّم قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ليس من البرّ الصيام في السفر » (1) وهو مذهب أصحابنا الإماميّة وقال الباقون إنّه رخصة واختلفوا فقيل الصوم أفضل وقيل الفطر أفضل واختلف في القضاء هل هو متتابع أم لا قال بعضهم بتتابعه ويروى عن عليّ عليه السلام والشعبيّ وعن ابن عمر يقضى كما فات متتابعا وقرأ أبيّ « أخر متتابعات » والأكثر على التخيير بين التفريق والمتابعة وهو الأصحّ لعدم

ص: 207


1- رواه في الوسائل ب 1 من أبواب من يصح منه الصوم ح 10 و 11. واما من طرق أهل السنة فتراه في الحديث الثالث من تيسير الوصول الى جامع الأصول في إباحة الفطر وأحكامه ج 2 ص 312 عن جابر ، وفيه أخرجه الخمسة إلا الترمذي ، واللفظ فيه : أن تصوموا ، وفي لفظ : الصوم. ورواه في المنتقى باب الفطر والصوم في السفر الحديث الثالث كما في نيل الأوطار ج 4 ص 235 عن جابر ، وقال انه متفق عليه. ورواه أيضا في سنن ابن ماجة الرقم 1664 عن كعب بن عاصم والرقم 1665 عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وآله. ورواه في الجامع الصغير الرقم 7667 ( راجع ج 5 ص 381 من الفيض القدير ) عن مسند احمد والبخاري ومسلم وابى داود والنسائي عن جابر وابن ماجة عن ابن عمر وجعل عليه رمز الصحة ، ونقل المناوى عن السيوطي القول بتواتر الحديث. وذكره ابن هشام في المغني في الوجه الرابع من وجوه « أم » رواية النمر بن تولب : ليس من امبر امصيام في امسفر ، قال الشمنى في حاشيته أخرج هذا الحديث أحمد في مسنده والطبراني في الكبير من طريق كعب بن عاصم ورجاله رجال الصحيح ، قال الأزهري والوجه أن لا يثبت الألف في الكتاب لأنها ميم جعلت كالألف واللام. قالوا ان مورده انه صلى اللّه عليه وآله رأى رجلا قد ظلل عليه فقال ما به؟ قالوا صائم فقال ذلك ، فهو في حق من شق عليه ، قلنا لو سلم فالعبرة بعموم اللفظ لا خصوص السبب كما اعترف به ابن دقيق العبد ، قالوا : نفى البر لا يستلزم نفى صحة الصوم قلنا : إذا لم يكن برا لم يتعلق به أمر فيفسد ، وتأويلهم باباء الرخصة كما فعله الشافعي أو كون المراد الكامل الذي هو أعلى مراتب الصوم كما فعله غيره تعسف ظاهر لا احتياج عليه. ثم ان في المسئلة حديثا آخر ذكره في المنتقى كما في ج 4 ص 236 من نيل الأوطار ، وقد قال انه متفق عليه : عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وآله خرج من المدينة ومعه عشرة آلاف وذلك على رأس ثمانين ونصف من مقدمه المدينة فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون حتى إذا بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد أفطر وأفطروا ، وانما يؤخذ من أمر رسول اللّه بالاخر فالآخر ، وهذا الحديث حجة عليهم لما استندوا اليه من أخبارهم على جواز الصوم فإنها لو صحت فإنما كان قبل قوله صلى اللّه عليه وآله : ليس من البر الصيام في السفر ، وقيل قوله صلى اللّه عليه وآله عن الصائمين في السفر أولئك العصاة أولئك العصاة وحسبنا حجة لوجوب الإفطار في السفر كتاب اللّه وقد تقدم وجوه الاستدلال بالاية. أقول : وفي مجمع الزوائد ج 3 ص 159 - 161 روايات ننقل بعضها لمزيد الفائدة قال : وعن بشر بن حرب قال سألت ابن عمر ما تقول في الصوم في السفر قال تأخذ إن حدثتك؟ قلت نعم ، قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إذا خرج من هذه المدينة قصر الصلاة ولم يصم حتى يرجع ، رواه احمد وبشر فيه كلام وقد وثق. أقول : الظاهر من الحديث أنه كان هناك مانع من الأخذ بقوله اما من الحكام واما من العامة ولذا قال : « تأخذ إن حدثتك؟ » وفيه طعن على أحاديث تتضمن صوم النبي صلى اللّه عليه وآله كما لا يخفى. قال : وعن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ليس من البر الصيام في السفر. رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط وفيه رجل لم يسم. وعن كعب بن مالك الأشعري وكان من أهل السقيفة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول ليس من أم بر أم صيام فم سفر ، قلت رواه النسائي وابن ماجه من حديثه أيضا الا انه قال ليس من البر الصيام في السفر ، رواه أحمد والطبراني في الكبير ، ورجال أحمد رجال الصحيح. وعن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال : ليس من البر الصيام في السفر رواه البزار والطبراني في الكبير ورجال البزار رجال الصحيح ، وعن عبد اللّه بن عمر وقال : سافر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزل بأصحابه وإذا ناس قد جعلوا عريشا على صاحبهم وهو صائم فمر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال ما شأن صاحبكم أوجع؟ قالوا لا يا رسول اللّه ولكنه صائم وذلك في يوم حرور فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لا بر أن يصام في سفر ، رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح ، وعن عمار بن ياسر قال أقبلنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من غزوة فسرنا في يوم شديد الحر فنزلنا في بعض الطريق فانطلق رجل منا فدخل تحت شجرة فإذا أصحابه يلوذون به وهو مضطجع كهيئة الوجع فلما رآهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال ما بال صاحبكم؟ قالوا صائم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ليس من البر أن تصوموا في السفر عليكم بالرخصة التي أرخص اللّه لكم فاقبلوها. رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن. قال : وعن أم الدرداء - قال عبد الواحد لا أعلمه إلا عن أبى الدرداء - قال قال رسول اللّه : ليس من البر الصيام في السفر ، ورجاله رجال الصحيح. وعن معاوية أنه قال ليس من السنة الصوم في السفر ، وفيه من لم أعرفه. قال : وعن أبى الفيض قال خطبنا مسلمة بن عبد الملك فقال لا تصوموا رمضان في السفر فمن صام فليقضه ، قال أبو الفيض فلقيت أبا قرصافة واثلة بن الأسقع فسألته فقال لوما صمت ثم صمت ما قضيته ، رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. وعن أبي طعمة قال كنت عند ابن عمر فجاءه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن إني أقوى على الصيام في السفر فقال ابن عمر انى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول من لم يقبل رخصة اللّه عزوجل كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة. رواه أحمد والطبراني في الكبير وإسناد أحمد حسن ، وعن عقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من لم يقبل رخصة اللّه عزوجل كان عليه من الذنوب مثل جبال عرفة ، رواه أحمد والطبراني في الأوسط وفيه رزيق الثقفي ولم أجد من وثقه ولا جرحه وبقية رجاله ثقات. قال : وعن ابن عمران النبي صلى اللّه عليه وآله قال ان اللّه تبارك وتعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ، رواه احمد ورجاله رجال الصحيح ، والبزار والطبراني في الأوسط وإسناده حسن ، وعن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ان اللّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجال البزار ثقات وكذلك رجال الطبراني. أقول : الإفطار في السفر ، وصوم أيام أخر بعدد أيام السفر عزيمة على ما يدل عليه لفظ القرآن لا رخصة فمن أتى به في السفر خالف القرآن وأتى بما لم يؤمر به ولو قلنا بأنه رخصة وأتى به لم يتقبل منه ولم يثب عليه لان اللّه يحب أن تؤتى رخصة فإذا أحب أن تؤتى رخصه وكان هو الإفطار لم يكن ليحب ضده وهو الصوم. فلا يكون مستحبا.

دلالة اللّفظ عليه والقراءة المذكورة شاذّة وهذا الحكم وهو وجوب القضاء مخصوص عند أكثر أصحابنا بمن لم يستمرّ مرضه إلى رمضان آخر أمّا من استمرّ فإنّه يسقط عنه القضاء ويكفّر عن الأوّل عن كلّ يوم بمدّ كما دلّت عليه الروايات.

قوله « يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ » إلى آخره جواب سؤال تقديره إنّ المريض والمسافر حيث سقط عنهما الفرض فلم يقضيان؟ أجاب بأنّه أراد بكم اليسر في البدن فأمركم بالفطر وأراد بكم القيام بالصوم لتفوزوا بالثواب فأوجب عليكم القضاء ولمّا

ص: 208

كان امتثال الأمر فرعا على تكبير الآمر وتعظيمه وأراد منكم امتثال أمره استلزم ذلك إرادة تعظيمه ولمّا كان من هذا وصفه منعما وجب شكره فأراد لكم الفوز بهذه الفضيلة فأمركم بشكره فلذلك عطف بعضها على بعض. وفي الآية إيماء إلى أنّ التكاليف تقع شكرا لله على نعمه كما هو مذهب بعض المتكلّمين.

ص: 209

تتمة : قال بعضهم معنى « وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ » أنّ شهر رمضان لا ينقص أبدا وهو باطل فانّ الواقع خلافه بل ولتكملوا عدّة الشهر تامّا كان أو ناقصا.

الرّابعة ( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) (1)

هذه الآية ليس لها تعلّق بالصّوم وإنّما ذكرناها لما تضمّنت من ذكر الدعاء

ص: 210


1- البقرة : 186.

وإجابته وجاء في الحديث « دعوة الصائم لا تردّ » (1) فصار [ ت ] من وظائف الصائم [ الدعاء ] بل من أعظم وظائفه خصوصا في شهر رمضان فإنّه ورد فيه من الأدعية والأعمال شي ء كثير ذكره أصحابنا في كتب تختصّ به روي أنّ سائلا سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية (2).

وقيل إنّ يهود المدينة قالوا : يا محمّد كيف يسمع ربّنا دعاءنا وأنت تزعم أنّ بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام وأنّ غلظ كلّ سماء مثل ذلك فنزلت وقيل وجه ذكر هاهنا أنّه لمّا أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدّة وحثّهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقّبه بهذه الآية الدالّة على أنّه خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم فقال إنّي قريب وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم كحال من قرب مكانه منهم.

والتحقيق أنّه لمّا ثبت تجرّده عن الموادّ الجسمانيّة كانت نسبته إلى الموجودات نسبة واحدة فكان محيطا بكلّ ذرّة من ذرّات الموجودات علما.

وقد اختلف المفسّرون في هذا المقام فقيل : الدعاء هو الطاعة والإجابة هو الثواب وكذا في قوله ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (3) وقيل الإجابة هي المتعارفة فورد هنا سؤال وهو أنّه كثيرا ما يقع الدعاء ولم تحصل الإجابة فقيل في الجواب أنّ تقديره إن شئت فيكون الإجابة مخصوصة بالمشيّة مثل قوله ( فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ

ص: 211


1- عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : أربعة لا ترد لهم دعوة حتى تفتح لهم أبواب السماء أو يصير الى العرش ، الوالد لولده ، والمظلوم على من ظلمه ، والمعتمر حتى يرجع ، والصائم حتى يفطر ، راجع أصول الكافي ج 2 ص 510 وعن ابن عمرو عنه صلى اللّه عليه وآله : ان للصائم عند فطره لدعوة ما ترد. راجع السراج المنير ج 2 ص 10.
2- راجع مجمع البيان ج 2 ص 278 ، الدر المنثور ج 1 ص 194.
3- المؤمن : 60.

إِلَيْهِ إِنْ شاءَ ) (1) وقيل مشروطة بكونها خيرا وقيل أراد بالإجابة لازمها وهو السماع فإنّه من لوازم الإجابة فإنّه يجيب دعوة المؤمن في الحال ويؤخّر إعطاءه ليدعوه كثيرا ويسمع صوته فإنّه يحبّه وقيل إنّ للإجابة أسبابا وشرائط إن حصلت حصلت الإجابة وإلّا فلا ومعنى « فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي » أي إنّي أدعوهم إلى طاعتي فليطيعوني ( وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) وبرسولي « لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ » أي لكي يهتدوا بإصابة الحقّ.

الخامسة ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (2).

قرئ شاذّا أحلّ على البناء للفاعل ونصب الرفث والقراءة الصحيحة أحلّ على البناء للمفعول ورفع الرفث فقيل هو الفحش من القول عند الجماع والأصحّ أنّه الجماع لقوله تعالى ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (3) وهو المراد هنا وعدّاه بإلى لأنّه ضمّنه معنى الإفضاء وتسمية كلّ من الزوجين لباسا استعارة لما بينهما من الشبه فإنّ اللباس ما يواري البدن والعورة وكلّ من الزوجين يواري بدنه وعورته بصاحبه عند غيره فإنّه لولاه لانكشف عورته عند غيره.

وقال الزمخشريّ : لأنّ كلّ واحد يشتمل على صاحبه اشتمال اللّباس وفيه

ص: 212


1- الانعام : 41.
2- البقرة : 187.
3- البقرة : 197.

نظر لأنّ الاشتمال فيه ممنوع والالتزاق لا يكفي فيه. وإنّما لم يعطفه لأنّه علّة للحكم وعلّة الشي ء لا تعطف عليه. والفرق بين خان واختان أنّ اختان يدلّ على الفعل مع القصد إليه بخلاف خان مثل كسب واكتسب ومعنى اختيان النفس هو نقصها من حظّها من الخير وباقي الألفاظ ظاهرة وهنا فوائد :

1 - كان في مبدء الإسلام يباح للصائم الأكل والجماع ليلا ما لم ينم فإذا نام حرم ذلك إلى القابلة وقيل الجماع كان محرّما ليلا ونهارا وروي عن الصادق عليه السلام « أنّ رجلا من أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وآله يقال له مطعم بن جبير وكان شيخا ضعيفا وكان صائما فأبطأت امرأته عليه بالطعام فنام قبل أن يفطر فلمّا انتبه قال لأهله : قد حرم عليّ الأكل في هذه اللّيلة فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فرق له (1). وروي أنّ القصّة مع قيس بن صرمة كان يعمل في أرض له وهو صائم فلمّا أصبح لاقى جهدا فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2). وكان شبّان من المسلمين ينكحون ليلا لغلبة شهوتهم وروي أنّ عمر أراد أن يواقع امرأته ليلا فقالت إنّي نمت فظنّ أنّها تعتلّ عليه فلم يقبل ثمّ أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت الآية » (3).

2 - الحلّ هنا مقابل التحريم وليس للوجوب إجماعا وقيل للندب ولذلك

ص: 213


1- رواه على بن إبراهيم في تفسيره ص 56 ، وأخرجه الطبرسي في ج 2 ص 280 وفيه « مطعم بن جبير الذي كان رسول اللّه وكله بفم الشعب يوم احد » وروى مثله في رسالة المحكم والمتشابه ص 13 وأخرجهما الحر العاملي في الوسائل ب 43 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ح 4 و 5 وفيه مطعم بن جبير أيضا وهو تصحيف بل هو خوات بن جبير أخو عبد اللّه بن جبير كما في نسخة الكافي ج 4 ص 98 والعياشي ج 1 ص 83 وهكذا في نسخة التهذيب والفقيه فراجع وليس في الأصحاب من يسمى مطعم بن جبير اللّهم الا ان يكون جبير بن مطعم.
2- صحيح البخاري ج 1 ص 328.
3- هذا من تتمة الحديث المذكور قبلا راجع المصادر المذكورة ومثله في الدر المنثور ج 1 ص 197.

روي (1) عن الباقر والصادق عليهما السلام كراهية الجماع أوّل ليلة من كلّ شهر واستحبابه أوّل ليلة من شهر رمضان لتنكسر شهوة الجماع نهارا. والظاهر أنّه لمطلق الحلّ الشامل للندب وغيره والمراد بليلة الصيام كلّ ليلة يصبح فيها صائما.

ثمّ اعلم أنّ ظاهر اللّفظ يدلّ على إباحة الجماع في أيّ وقت [ كان ] من اللّيل ولو قبل الفجر لكن لمّا اشترط أصحابنا الطهارة في الصوم من الجنابة وجب بقاء جزء من اللّيل ليقع فيه الغسل فكانت الإباحة مخصوصة بما عداه فلو خالف عالما فسد صومه وكان عليه القضاء والكفّارة ولو لم يعلم وظنّ بقاء الوقت من غير مراعاة فاتّفق خلافه كان عليه القضاء خاصّة ولو راعى لم يكن عليه شي ء وعلى التقديرين الأخيرين لو طلع عليه الفجر مجامعا وجب عليه النزع وصحّ صومه في الأخير خاصّة.

وقال الشافعيّ : إذا وافاه الفجر مجامعا فوقع النزع والطلوع معا لم يفسد صومه ولا قضاء ولا كفّارة وبه قال أبو حنيفة وقال المزنيّ : يفسد وعليه القضاء خاصّة وأمّا إذا وافاه مجامعا فلم ينزع وتمكّث فيه فهو بمنزلة من وافاه [ النهار ] فابتدأ بالإيلاج فإن كان جاهلا بالفجر فعليه القضاء خاصّة وإن كان عالما به فعليه لقضاء والكفّارة وقال أبو حنيفة بلا كفّارة وعلّله أصحابه بأنّه ما انعقد فالجماع لم يفسد صوما منعقدا فلا كفّارة ونحن نقول إنّه انعقد بالنيّة المتقدّمة فكان جماعه واردا على صوم منعقد وهو المطلوب.

3 - « عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ ». بيان لنعمته وإحسانه ورفعه الحرج في المستقبل.

4 - « فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ » قيل المراد بها الجماع وقيل هو ومقدّماته من القبلة وغيرها وأصل المباشرة إلصاق البشرة بالبشرة ثمّ كنى به عن الجماع تارة وعنه وعن مقدّماته تارة وهو نسخ للسنّة بالكتاب ونسخ الشي ء بما هو أسهل منه.

5 - قوله تعالى ( وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ) قيل اطلبوا الولد فإنّه الغرض

ص: 214


1- مجمع البيان ج 2 ص 280.

الأهمّ في نظر الشارع وقيل ابتغوا ما أحلّ اللّه لكم لا ما حرّم وهما محتملان.

6 - « وَكُلُوا وَاشْرَبُوا » إلخ هذا من باب ما خصّ بمتّصل وهو هنا الغاية أعني « حَتّى يَتَبَيَّنَ » وهل هي راجعة إلى جميع الجمل المتقدّمة أو إلى الأخيرة قال الشافعيّ بالأوّل وأبو حنيفة والمحقّقون منّا بالثاني وقال المرتضى صالحة للكلّ وللبعض ويتفرّع إباحة الجماع إلى الفجر فالغسل بعده على قول الشافعيّ فالطهارة غير شرط. قالوا ويدلّ أيضا على جواز النيّة نهارا لأنّه لمّا أباح المباشرة والأكل إلى الفجر كان ابتداء الصوم بعده والصوم ليس بمجرّد الإمساك بل مع النيّة فيكون الأمر بإيقاع النيّة بعد الفجر وفيه نظر لأنّه لو كان كذلك لوجبت بعد الفجر وليس كذلك إجماعا على أنّ نيّة الصوم معناها القصد إليه وقصد الشي ء متقدّم عليه وابتداؤه من الفجر فالنيّة قبله ، هذا مع أنّه يلزم وقوع جزء فيه بلا نيّة وهو باطل وعلى قولنا يرجع إلى « كُلُوا وَاشْرَبُوا » ويبقى حكم المباشرة يخصّ بمنفصل.

7 - الخيط الأبيض هو الفجر الثاني المعترض في الأفق كالخيط الممدود والخيط الأسود ما يمتدّ معه من الغبش تشبيها بخيطين أبيض وأسود وليسا بمستعارين لقوله « مِنَ الْفَجْرِ » لأنّ من شرط الاستعارة أن يجعل المستعار منه نسيا منسيّا. روى سهل الساعدي أنّها نزلت ولم يكن قوله « مِنَ الْفَجْرِ » فكان رجال إذا صاموا يشدّون في أرجلهم خيوطا بيضا وسودا فلم يزالوا يأكلون ويشربون حتّى يتبيّن لهم ثمّ نزل لهم البيان في قوله « مِنَ الْفَجْرِ » (1) فان صحّ هذا النقل ففيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وهو مذهب الأشاعرة ومنعه أبو الحسين محتجّا بأنّ الخطاب بما لا يفهم منه المراد عبث وهو قبيح لا يصدر عن الحكيم وفيه نظر لجواز أن يكون المراد بالخطاب هو استعداد الامتثال والعزم على فعل المأمور به بعد البيان فيثاب على العزم فلا يكون عبثا لكن ينبغي أن يكون هذا قبل دخول

ص: 215


1- صحيح البخاري ج 1 ص 328.

رمضان وإلّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو باطل إجماعا.

8 - قوله تعالى ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) حدّ للصوم وبيان لآخر وقته ليعلم منه تحريم صوم اللّيل ويتبعه تحريم صوم الوصال لأنّه جعل اللّيل غاية الصوم وغاية الشي ء منفصلة فيكون الإفطار بعده وفيه نظر لأنّه غاية وجوب الصوم وأمّا أنّه لا يجوز فلا دلالة في الآية عليه.

إن قلت : لا يتحقّق مضيّ النهار حتّى يبدو اللّيل فيلزم صوم جزء منه. قلت : ذلك ليس بالأصل بل من باب مقدّمة الواجب والمراد باللّيل عندنا على القول الأقوى هو ذهاب الحمرة المشرقيّة وقال بعض أصحابنا وجملة فقهاء العامّة هو غيبوبة الشمس. ثمّ إنّ الأمر بإتمام الصوم يستلزم كون كلّ جزء من أجزاء النهار شرطا في الآخر فيجب الإتيان بجملتها.

ويتفرّع على ذلك فرعان :

ألف - لو نوى الإفطار في جزء من النهار بطل ذلك الصوم ولو عاد إلى النيّة.

ب - أنّه يجب إتمام الصوم الفاسد للأمر المذكور والإفساد غير مانع ثمّ إنّ الإفساد سبب لصوم آخر فيجب القضاء.

9 - « وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ » تقدّم معنى المباشرة فيحرم الجماع ومقدّماته على المعتكف وههنا أحكام :

ألف - تحريم المباشرة والقبلة وغيرها من مقدّمات الجماع.

ب - عموم اللّيل والنهار بالتحريم المذكور لأنّه معلّق بحال الاعتكاف.

ج - اشتراط الاعتكاف بالكون في المساجد وظاهر المساجد العموم لأنّه جمع معرّف باللّام وبه قال جملة الفقهاء وبعض أصحابنا ومنّا من قال كلّ مسجد جامع وفسّر بأنّه الأعظم وأكثر أصحابنا قالوا ما جمع فيه نبيّ أو وصيّ للمسلمين جمعة وقيل أو جماعة وهذا القول أحوط لحصول البراءة معه بيقين وفسّر ذلك بمسجد مكّة والمدينة وجامع الكوفة والبصرة فعلى هذا يكون الآية مخصوصة بخبر الواحد إن لم يكن الأخبار به متواترة.

ص: 216

د - أنّ الاعتكاف يبطل مع المباشرة المذكورة أمّا أوّلا فلأنّ النهي في العبادة مبطل كما تقرّر في الأصول وأمّا ثانيا فلأنّها تبطل الصوم والصوم عندنا شرط في الاعتكاف وبطلان الشرط مستلزم لبطلان المشروط وهنا مسئلتان :

ألف - أنّ الشافعي لا يشترط الصوم وأبو حنيفة يشترطه كقولنا.

ب - لم يحدّ الشافعيّ للاعتكاف حدّا فعنده يجوز وأو ساعة واحدة وأبو حنيفة حدّه بيوم [ واحد ] ومالك لا يجوّز أقلّ من عشرة أيّام وقال أصحابنا : لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام لرواياتهم الصحيحة عن أئمّتهم عليهم السلام (1).

10 - « تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ » إشارة إلى ما تقدّم من أحكام الصوم والاعتكاف « فَلا تَقْرَبُوها » وهو أبلغ من قوله فلا تفعلوها إذ النهي عن قرب الحدّ الحاجز بين الحقّ والباطل لئلّا يداني الباطل أبلغ من النهي عن فعله و « روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ألا وإنّ حمى اللّه محارمه فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه » (2).

« كَذلِكَ » أي مثل ذلك البيان « يُبَيِّنُ اللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ » مخالفة الأوامر والنواهي.

( فائدتان )

1 - قوله تعالى ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (3) قيل : المراد بالصبر الصوم ومنه سمّي شهر رمضان شهر الصبر أي استعينوا بهما على أهوال الدنيا والآخرة ثمّ إنّ الصوم له أقسام يدلّ عليها آيات تذكر في أماكنها إنشاء اللّه تعالى.

2 - قوله تعالى ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ ) (4) سأله صلى اللّه عليه وآله معاذ بن جبل ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ثمّ يزيد حتّى يستوي ثمّ

ص: 217


1- راجع الوسائل ب 4 من كتاب الاعتكاف.
2- صحيح البخاري ج 1 ص 19. سنن أبى داود ج 2 ص 218.
3- البقرة : 45 و 153.
4- البقرة : 189.

لا يزال ينقص حتّى يعود كما بدأ فنزلت (1) « هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ » أي يوقّتون الناس بها أمورهم ، ومعالم للعبادات الموقّتة كالصّيام والزكاة خصوصا الحجّ فانّ الوقت مراعى فيه أداء وقضاء وكون المبتدأ والخبر معرفتين من دلائل الحصر فلا يحصل التأقيت بدون الأهلّة فيكون علامة شهر رمضان رؤية الهلال لا غيره ممّا قيل [ من حساب التنجيم وغيره ].

كتاب الزكاة

اشارة

وفيه مقدّمة وآيات :

( أما المقدمة )

فالزكاة لغة تقال لمعنيين أحدهما الطهارة ومنه ( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ) (2). أي طاهرة لم تجن ما يوجب قتلها وثانيهما النماء ومنه قوله تعالى ( ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) (3) أي أنمى لكم وإلّا لكان تأكيدا والتأسيس خير منه وشرعا قيل اسم لحقّ يجب في المال يعتبر في وجوبه النصاب ونقض في طرده بالخمس وفي عكسه بالمندوبة فبدّل يجب بيثبت فقيل حقّ يثبت في المال بشرائط يأتي ذكرها ويشكل بأنّه غير واضح والحدّ للإيضاح.

وقيل : صدقه راجحة مقدّرة بأصل الشرع ابتداء فالصدقة يخرج الخمس والراجحة يشمل المندوبة والمقدّرة يخرج بها برّ الاخوان ونحوه وبالأصالة تخرج المنذورة وشبهها والابتداء يخرج الكفّارة وفيه نظر أمّا أوّلا فلاشتماله على زيادة فإنّ الراجحة يغني عنها صدقة فإنّها لا تكون إلّا راجحة وأمّا ثانيا فلانّ من المندوبة ما هو مقدّر كقوله صلى اللّه عليه وآله « تصدّقوا ولو بصاع أو بعضه ولو بقبضة أو بعضها ولو بتمرة

ص: 218


1- مجمع البيان ج 2 ص 283 ، الدر المنثور ج 1 ص 203.
2- الكهف : 75.
3- البقرة : 232.

ولو بشقّ تمرة » (1) وذلك ليس بزكاة اصطلاحا.

فالأولى أن يقال : صدقة متعلّقة بنصاب بالأصالة. فالصدقة تشمل الواجبة والمندوبة والفطرة والماليّة وبالتعلّق بالنصاب يخرج المنذور والتطوّعات المطلقة وبالأصالة يخرج ما نذر إخراجه من نصاب واستعمال لفظها إمّا للنقل أو للمجاز تسمية للسبب باسم المسبّب فإنّها سبب للطهارة والنماء في المال.

إن قلت : الطهارة من أيّ شي ء وكذا النماء في أيّ شي ء؟ قلت : أمّا الطهارة فمن إثم المنع أو نقول إذا لم يخرج الزكاة يبقى حقّ الفقراء في المال فإذا حمله شحّه على منعه فقد ارتكب التصرّف في الحرام والاتّصاف برذيلة البخل فإذا أخرجها فقد طهّر ما له من الحرام ونفسه من رذيلة البخل وأمّا النماء ففي البركة والثواب.

ثمّ البحث هنا ينقسم أقساما بحسب ما ورد من الآيات.

[ القسم ] الأول : ( في الوجوب ومحله )

وفيه آيات :

الاولى ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (2).

ص: 219


1- الكافي ج 4 ص 4 تحت الرقم 11.
2- البقرة : 177.

قرأ حمزة وحفص عن عاصم « لَيْسَ الْبِرَّ » بالنصب على أنّه خبر ليس مقدّم على اسمها وهو ضعيف لجعل الاسم جملة وقرء الباقون بالرفع على الأصل وقرء نافع « وَلكِنَّ الْبِرَّ » بالتخفيف والرفع بجعلها عاطفة والباقون بالتشديد والنصب بجعلها من أخوات إنّ ورفع « الموفون » عطف على « من آمن » ونصب « الصابرين » على المدح.

والبرّ كلّ فعل مرضيّ قلبيّا كان أو لسانيّا أو جوارحيّا أو ماليّا والخطاب لأهل الكتاب فإنّهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّلت وادّعى كلّ فريق أنّ البرّ التوجّه إلى قبلته فردّ عليهم بأنّه ليس البرّ التوجّه إلى المشرق قبلة النصارى أو المغرب قبلة اليهود وقيل هو عامّ للمسلمين وغيرهم أي ليس البرّ مقصورا على أمر القبلة.

« وَلكِنَّ الْبِرَّ » إمّا بمعنى البارّ فإنّ المصدر يقام مقام الفاعل كزيد عدل أي عادل أو بحذف المضاف من الخبر أي برّ من آمن فاللّام في الكتاب للجنس أي كلّ كتبه وباقي مقاصد الآية ظاهر لكن نذكر ما تضمّنته من الأوامر وهي أقسام :

الأوّل : الايمان باللّه وبكلّ ما جاءت به كتبه وصحّة نبوّة أنبيائه وتصديقهم في كلّ ما أخبروا به.

الثاني : إخراج المال على حبّة أي حبّ اللّه وقيل حبّ الإيتاء أو حبّ المال والكلّ محتمل والأوّل أوجه لتضمّنه الكلّ ولدلالته على القربة والإخلاص والجهات المذكورة سيأتي تفسير أكثرها وأمّا ذوي القرابة (1) فقيل قرابة المعطي فيكون حثّا على صلة الأرحام ويدخل في ذلك النفقات الواجبة والمندوبة وغيرهما من الصلات وقيل قرابة النبيّ صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2) وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام (3) واليتيم صغير لا أب له والجمع يتامى و

ص: 220


1- ذوي القربى خ ل.
2- الشورى : 23.
3- مجمع البيان ج 1 ص 263.

أيتام وأبرزهم بالذكر وإن كانوا داخلين في القربى لشدّة الاعتناء بحالهم.

الثالث إقامة الصلاة الرابع إيتاء الزكاة واتّفق الكلّ [ على ] أنّ المراد بها الواجبة هنا وأمّا الإيتاء الأوّل فيشمل الواجب وغيره ولهذا قال ابن عباس في المال حقوق واجبة سوى الزكاة وقال الشعبيّ هي محمولة على حقوق واجبة غير الزكاة ممّا له سبب كالنفقة على من يجب نفقته وعلى الجائع المشرف بسدّ رمقه والنذور والكفّارات ويحتمل أن يكون المراد الزكاة المفروضة في الموضعين لكن الغرض من الأوّل بيان مصرفها ومن الثاني أداؤها والحثّ عليها وهذا عندي قويّ ليكون الآية مشتملة على الواجبات ولأنّه وقع بين الإيمان الواجب وإقامة الصلاة وهي واجبة أيضا.

الخامس : الوفاء بالعهد ويدخل فيه النذر وكلّما التزمه المكلّف من الأعمال مع اللّه تعالى ومع غيره وهو واجب أيضا.

السادس : الصبر وهو حبس النفس على المكروه امتثالا لأمر اللّه تعالى وهو من أفضل الأعمال حتّى قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « الايمان شطران شطر صبر وشطر شكر » (1) والبأساء ما يتعلّق بالمال كالفقر وغيره والضرّاء ما يتعلّق بالبدن كالمرض والعمى والزمانة وغيرها وحين البأس هو الحرب في الجهاد « أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا » أي في دعوى الإيمان « وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ » أي هم الجامعون لوظائف التقوى.

الثانية ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) (2).

هذه الآية الشريفة صريحة في وجوب الزكاة على الكافر للتوعّد على عدم إتيانها لكنّه لا يصحّ منه أداؤها حال كفره لعدم إخلاصه ولقوله تعالى ( وَما مَنَعَهُمْ

ص: 221


1- أخرجه في الجامع الصغير عن انس كما في السراج المنير ج 2 ص 137 ولفظه : « الايمان نصفان فنصف في الصبر ونصف في الشكر ».
2- حم السجدة : 7.

أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ ) (1) فإذا أسلم سقطت عنه لقوله صلى اللّه عليه وآله « الإسلام يجب ما قبله » (2) ولو تلفت حال كفره لم يضمنها.

قال المعاصر : ويمكن الاستدلال بها على أنّ مانع الزكاة مستحلّا مشرك وهو حقّ لأنّ من لا يعتقد وجوبها كافر قلت : في هذا الكلام خطأ لفظا ومعنى أمّا لفظا فقوله مشرك فانّ المشرك من يجعل مع اللّه شريكا ومعلوم أنّ ذلك غير لازم من منع الزكاة فلو قال كافر لكان أولى وأمّا معنى فلأنّ منطوقها أنّ المشرك لا يؤتى الزكاة ولا يلزم منه أنّ الّذي لا يؤتى الزكاة يكون مشركا لأنّ الموجبة الكلّيّة لا تنعكس كنفسها ولو انعكس جزئيّا فلا دلالة له على المطلوب بنفسه بل بدليل خارج وذلك كاف في المطلوب فلا يكون الآية هي الدالّة بل غيرها.

الثالثة ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (3).

اعلم أنّ الآيات العامّة في وجوب الزكاة في المال خصّت بقول الرسول صلى اللّه عليه وآله وتقريره [ يأتي ] واتّفق أصحابنا أنّ الزكاة تجب في تسعة أشياء لا غير هي : الإبل والبقر ، والغنم ، والذهب ، والفضّة ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب لروايات كثيرة من أهل البيت عليهم السلام منها رواية زرارة ومحمّد بن مسلم وغيرهما عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّهما قالا « أنزل اللّه الزكاة في كتابه فوضعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في تسعة وعفى عمّا عدا ذلك » (4) وأيضا أصالة البراءة وعموم قوله تعالى

ص: 222


1- البراءة : 55.
2- قد مر في ص 166 فراجع.
3- البراءة : 36.
4- الوسائل ب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ح 4 وغيره.

( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) (1) يعمّان كلّ مال ، خرج من ذلك ما وقع الإجماع عليه فيبقى الباقي على أصله.

إن قلت : قوله تعالى ( وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (2) والزرع يعمّ كلّ ما أنبتت الأرض والضمير في حقّه وحصاده يرجع إلى الجميع فيكون واجبا فيه وهو المطلوب. قلت : الجواب من وجهين الأوّل أنّها مكّيّة وآية وجوب الزكاة مدنيّة فهي ناسخة للمكّيّة والمنسوخ لا دلالة فيه الثاني سلّمنا عدم نسخها لكن نمنع أنّ المراد بالحقّ (3) الزكاة أعني العشر ونصفه لجواز أن يراد ما يتصدّق به يوم الحصاد على المارّة وغيرهم من السؤال من إعطاء الضّغث والضغثين وهذا مرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام (4) ويؤيّده قوله تعالى ( وَلا تُسْرِفُوا ) وهو قول الشافعيّ أيضا.

فأيده : أوجب الشافعيّ الزكاة في كلّ ما أنبته الآدميّون (5) وكان مقتاتا حال ادّخاره بخلاف ما ينبت من نفسه كبزر قطونا أو أنبته الآدميّون ولا يقتات كالبطّيخ والقثّاء والخيار وغيرها من الخضراوات والبقول أو يقتات ولا ينبته الآدميّون كالبلّوط فانّ ذلك كلّه لا زكاة فيه وبه قال مالك وقال أبو حنيفة تجب في كلّ خارج قصد إنباته مقتاتا كان أو لا فيجب عنده في الخضراوات.

إذا تقرّر هذا فلنشرع في الآية فنقول : الآية صريحة في وجوب الزكاة في الذّهب والفضّة لكن بشرط كونهما مسكوكين بسكّة قد تعومل بها قديما أو حديثا وأن يكونا باقيين طول الحول أمّا ما تعومل به أو دير في البيع والشراء فلا

ص: 223


1- القتال : 36.
2- الانعام : 141.
3- بها حق ، خ.
4- تفسير العياشي ج 1 ص 377 رقم 97 - 114.
5- الأرضون خ ل.

تجب لأصالة البراءة وأيضا روى زرارة في الصحيح قال كنت قاعدا عند الباقر عليه السلام وليس عنده غير ابنه جعفر عليه السلام فقال « يا زرارة إنّ أبا ذرّ وعثمان تنازعا في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال عثمان : كلّ مال من ذهب أو فضّة يدار ويعمل به ويتّجر به ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول وقال أبو ذرّ أمّا ما اتّجر به أو دير وعمل به فليس فيه زكاة إنّما الزكاة فيه إذا كان ركازا كنزا موضوعا فإذا حال عليه الحول فعليه الزكاة فاختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : القول ما قال أبو ذرّ » (1) وغير ذلك من الروايات.

واتّفق فقهاء العامّة على وجوب الزكاة فيهما مطلقا مسكوكا وغيره صحيحا ومكسورا تبرا ونقرة واختلفوا في جمع النصاب من النقدين فقال مالك وأبو حنيفة بالضمّ وخالف الشافعيّ وأحمد كما هو رأي أصحابنا ثمّ الأوّلون اختلفوا فقال مالك : الضمّ بالأجزاء وقال أبو حنيفة بالقيمة واتّفق العلماء كافّة على اشتراط الحول وأنّ النصاب الأوّل في الذهب عشرون مثقالا وفي الفضّة مائتا درهم ثمّ اتّفق العامّة على الوجوب في الزائد مطلقا إلّا أبا حنيفة فإنّه يقول بقولنا إنّه لا يجب حتّى يبلغ أربعة دنانير في الذهب وأربعين في الفضّة.

فائدة : أوجب أبو حنيفة لا غير الزكاة في الحليّ المباح واتّفقوا على وجوبها في الحرام وهنا فوائد :

1 - أنّ الكنز هو جمع المال تحت الأرض أو فوقها حفظا له وإنّما لم يقل ولا ينفقونهما إمّا لعود الضّمير إلى الكنوز وإن لم تكن مذكورة أو أنّه عائد إلى الفضّة والتقدير يكنزون الذهب ولا ينفقونه ويكنزون الفضّة ولا ينفقونها فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه كقول الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما عندك *** راض والرأي مختلف (2)

2 - اعلم أنّ من يجمع المال للإنفاق على العيال أو بعد إخراج الحقوق

ص: 224


1- الوسائل ب 14 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ح 1.
2- قد مر فيما سبق راجع ص 130 و 131.

الماليّة خارج عن هذا الوعيد لأنه تعالى قيّد الكنز بعدم الإنفاق وإذا عدم القيد عدم الحكم ولما روي عنه عليه السلام أنه قال « ما أدّى زكوته فليس بكنز وإن كان باطنا وما بلغ أن يزكّى فلم يزكّ فهو كنز وإن كان ظاهرا » (1) وعن ابن عمر :كلّما أدّيت زكوته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين. وأمّا ما ورد عنه صلى اللّه عليه وآله أنه « لمّا نزلت قال تبّا للذهب والفضّة قالها ثلاثا فقالوا أيّ مال يتّخذ فقال لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا وزوجة تعين أحدكم على دينه » (2) وقال أيضا « من ترك صفراء وبيضاء كوي بهما » (3) فمحمول على مال لم يؤدّ حقّه أو على من ليس له أولاد ولا ورثة محتاجون وأمّا من له ورثة محتاجون فيجوز التبقية لهم جمعا بين قوله هذا وبين قوله لمن أوصى بماله في سبيل اللّه فنهاه [ عنه ] عليه السلام « فقال : النصف؟ فقال لا فقال الثلث؟ فقال عليه السلام : الثلث والثلث كثير ثمّ قال لأن تتركه لعيالك خير لك » (4).

3 - « يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها » منصوب على الظرف بعامل محذوف أي بعذاب أليم كائن يوم يحمى عليها وفائدة ذكر « عليها » المبالغة في الأحماء فانّ الجسم إذا سلّطت عليه النار حتّى تعمل فيه كان أشدّ حرارة من مروره بها.

4 - قيل إنّما خصّ هذه الأعضاء بالكيّ لأنّ أصحاب الكنوز إذا سألهم الفقير تعبّسوا في وجهه وأمالوها عنه فعبّر عنها بالجباه وإذا دار الفقير أعطوه جنوبهم فإذا دار أعطوه ظهورهم وقيل : لا زورار وجوههم عند الطلب وجعلهم الفقير وراء ظهورهم وأخذهم عن المعروف جانبا وقيل : لأنّها أشرف الأعضاء لاشتمالها على

ص: 225


1- سنن أبى داود ج 1 ص 358 ، السراج المنير ج 3 ص 263. ولفظ الحديث مختلف.
2- الدر المنثور ج 3 ص 232 مجمع البيان ج 5 ص 26. الجامع الصغير عن أبي هريرة كما في السراج المنير ج 2 ص 154.
3- الدر المنثور ج 3 ص 233 من حديث أبى ذر وأبى امامة ولفظه ما من رجل ترك صفراء ولا بيضاء إلا كوي بهما.
4- صحيح البخاري ج 2 ص 125 ، سنن أبى داود ج 2 ص 101.

الأعضاء الرئيسة الّتي هي الدماغ والقلب والكبد.

الرابعة ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (1).

حقّ معلوم أي يقدّرونه في أموالهم ويلزمون أنفسهم بإخراجه وليس المراد به ما أوجبه الشارع وإلّا لقال يؤدّون ما أوجبنا عليهم أو ندبنا إليه. والسائل المستجدي والمحروم الّذي يظنّ غنيّا لتعفّفه فيحرم وقيل : لا ينمي له مال. وقيل : الّذي لا كسب له.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ بعضهم على وجوب زكاة التجارة بهذه الآية وليس بشي ء لعدم دلالتها على محلّ النزاع لا نصّا ولا ظاهرا بل إنّما خرجت مخرج المدح لهم في سياق مدحهم بالقيام للعبادة ليلا والاستغفار الّذي هو من المندوبات الّتي ألزموا أنفسهم بها وتسمية ما التزموا إخراجه حقّا لا تدلّ على وجوبه لأنّ الحقّ قد يطلق على الوظيفة المقدّرة وإن لم تكن واجبة على أنّا لو سلّمنا أنّه يدلّ على الوجوب لكان دلالته على الزكاة العينيّة أولى.

القسم الثاني : ( في قبض الزكاة وإعطائها المستحق )

اشارة

وفيه آيات :

الاولى ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2).

روي أنّ جماعة تخلّفوا عن تبوك ولم يخرجوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله منهم أبو لبابة وهم الّذين شدّوا أنفسهم بالسّواري توبة وندما على فعلهم وكان سبب

ص: 226


1- المعارج : 24 ومثلها في الذاريات : 19.
2- البراءة : 104.

تأخّرهم اشتغالهم بإصلاح أموالهم فلمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه وآله من تبوك دخل المسجد فصلّى ركعتين وكان ذلك دأبه إذا رجع من سفره فرأى الموثّقين بالسواري فسأل عنهم فقيل له إنّهم حلفوا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يحلّهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : إنّي لا أحلّهم حتّى أومر به فلمّا نزلت الآية وهي ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) (1) إلى آخرها أطلقهم وعذرهم (2).

ثمّ إنّه لمّا حلّهم قالوا يا رسول اللّه هذه أموالنا الّتي تخلّفنا لإصلاحها خذها وتصدّق بها وطهّرتا من الذنوب فقال صلى اللّه عليه وآله : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت فأخذ منهم الزكاة المقرّرة شرعا وعلى ذلك إجماع الأمّة.

ص: 227


1- البراءة : 119.
2- قال أبو عمر في الاستيعاب ترجمة أبي لبابة بن عبد المنذر : اختلف في الحال التي أوجبت فعل أبي لبابة هذا بنفسه ( يعنى ربطه بالسارية ) وأحسن ما قيل في ذلك ما رواه معمر عن الزهري قال كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي صلى اللّه عليه وآله في غزوة تبوك فربط نفسه. القصة راجع الاستيعاب بذيل الإصابة ج 4 ص 197 لكنه خلاف ما عليه المفسرون وأهل السير فإنهم زعموا أن الآية « وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا » الآية نزلت فيمن تخلف عن تبوك وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن ربعي ( الربيع ) فلما رجع النبي صلى اللّه عليه وآله جاؤا اليه يعتذرون فلم يكلمهم النبي صلى اللّه عليه وآله ، وتقدم الى المسلمين ان لا يكلمهم احد فهجرهم الناس حتى الصبيان ونساؤهم فضاقت عليهم المدينة وخرجوا الى رؤس الجبال القصة راجع مجمع البيان ج 5 ص 79. الدر المنثور ج 3 ص 286 ، سيرة ابن هشام ج 2 ص 531. وأما قصة أبي لبابة وربطه نفسه بالسارية فإنما هو في غزوة بني قريظة ونصحه ليهود بني قريظة خلافا لرسول اللّه والمسلمين : أن لا ينزلوا على حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فإنهم إن نزلوا على حكمه فإنه الذبح اشارة بيده. فنزلت قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ ) الآية ( الأنفال : 27 ) عن الكلبي والزهري والعجب اختلاف الزهري في نقله القصة تارة كما مر عن الاستيعاب وتارة هكذا راجع سيرة ابن هشام ج 2 ص 236 ، مجمع البيان ج 4 ص 537 ، الدر المنثور ج 3 ص 178.

و « من » للتبعيض أي بعض أموالهم و « تُطَهِّرُهُمْ » صفة للصدقة أي صدقة مطهّرة ويجوز كون التاء للخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أي تطهّرهم أنت « وَتُزَكِّيهِمْ » أي تنمي في أموالهم وقيل بمعنى تطهّرهم ليكون تأكيدا وقد عرفت أنّ التأسيس أولى وإنّما لم يجزم الفعلين ليكون جوابا للأمر لأنّ في جعلهما صفتين فائدة زائدة وهي أنّ المأمور به أخذ صدقة مطهّرة وهي الّتي تكون عن طيب نفس وانشراح صدر بنيّة خالصة لا مطلق الصدقة ومع الجزم لا يفيد إلّا مطلق الصدقة فعلى هذا لا يكون التاء للخطاب. والسكن ما يسكن إليه والمراد أنّهم تسكن نفوسهم بصلاته عليهم وتطيب قلوبهم بقبول صدقتهم « وَاللّهُ سَمِيعٌ » لدعائك لهم « عَلِيمٌ » بنيّاتهم فإنّها صدرت عن إخلاصهم من غير رياء ولا سمعة إذا عرفت هذا فهنا أحكام :

1 - أنّها تدلّ على اشتراط الملك للنصاب بقوله « أموالهم » والإضافة حقيقيّة للام الملك.

2 - فيها دلالة على وجوب أخذ الإمام الصدقة لصيغة الأمر وهل يجب حملها إليه ابتداء قيل نعم لأنّ الإيجاب عليه يستلزم الإيجاب عليهم والمشهور أنّه يجوز تولّي المالك إخراجها لكن حملها ابتداء مستحبّ لكونه أبصر بمواقعها ومع طلب الإمام يجب حملها إليه ولو فرّق حينئذ فالأقوى عدم إجزائها وقال الشافعيّ يجوز إخراج زكاة الأموال الباطنة قولا واحدا وأمّا الظاهرة فله قولان قال في الجديد يجوز أيضا وقال في القديم لا يجوز وبه قال مالك وأبو حنيفة.

3 - هل الصلاة منه صلى اللّه عليه وآله على المالك واجبة أو مستحبّة قال أكثر أصحابنا بالأوّل لقوله تعالى ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) وصيغة افعل للوجوب هذا مع عطفه على الواجب وتعليله بلفظه إنّ في لطفيّته للمكلّف واللّطف واجب فالموصل إليه كذلك وقال الآخرون بالثاني وهو قول عامّة الفقهاء للأصل ويضعّف بقيام الدليل على وجوبه.

4 - إذا قلنا بالوجوب على النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو الاستحباب فهو كذلك على

ص: 228

الإمام القائم مقامه بل والساعي والفقيه أيضا لوجوب التأسّي به ولحصول معنى اللطفيّة في الجميع.

5 - دلّت الآية الكريمة دلالة صريحة على لفظ الصلاة وفعله النبيّ صلى اللّه عليه وآله في حقّ أبي أوفى لمّا أتاه بصدقته « فقال اللّهمّ صلّ على أبي أوفى وعلى آل أبي أوفى » (1) كما نقل العامّة في الصحيحين فيكون جائزا نعم يجوز الدعاء بلفظ آخر غير الصلاة للترادف ولعدم القائل بالمنع ومنع أكثر العامّة من لفظ الصلاة بل يقول آجرك اللّه فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت ونحوه.

6 - قد تقرّر في أصول الفقه أنّ خصوص السبب لا يخصّص وقد نقلنا إنّ الآية نزلت في شأن من تخلّف عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله فلا يظنّ ظانّ قصرها عليهم بل هي على العموم في كلّ متصدّق وهو المطلوب.

7 - في قوله « مِنْ أَمْوالِهِمْ » دلالة على أنّ الزكاة في العين لا في الذمّة كما قال بعض الفقهاء من العامّة ويتفرّع أنّه لو مضى على النصاب الواحد حولان من غير إخراج زكّى لسنة واحدة على الأوّل ولكلّ حول زكاة على الثاني.

الثانية ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ) (2).

الاستفهام ههنا يحتمل معنيين : أحدهما التقرير والتنبيه على وجوب علمهم بأنّ اللّه هو يقبل التوبة وهو الّذي يأخذ الصدقة وهو مجاز عن الرضا بها والجزاء

ص: 229


1- صحيح البخاري ج 1 ص 261 ولفظ الحديث : عن عبد اللّه بن أبي أوفى قال كان النبي صلى اللّه عليه وآله إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللّهم صل على آل فلان فأتاه أبى بصدقته فقال : اللّهم صل على آل أبي أوفى ، ونقله في المجمع ج 5 ص 68 ، الدر المنثور ج 3 ص 275 ، وقد مر سابقا راجع ص 139.
2- البراءة : 105.

عليها وإليه الإشارة في الحديث « إنّ الصدقة تقع في يد اللّه قبل أن تصل إلى يد السائل » (1) وإنّما وجب العلم بذلك ليكون داعيا ومقرّبا إلى وقوع التوبة وإعطاء الصدقة وثانيهما الإنكار لعدم علمهم وذلك أنّهم لمّا سألوا الرسول صلى اللّه عليه وآله أن يأخذ أموالهم ويقبل توبتهم كما تقدّم ذكره ولم يعلموا أنّه لا يقبل التوبة غير اللّه ، ولا يأخذ الصدقة إلّا هو ، أنكر ذلك عليهم وفايدة لفظ هو حصر أي لا يقبل إلّا هو وفي الآية من المبالغة في وجوب العلم بقبول التوبة وأخذ الصدقة وأنّه توّاب أي كثير القبول للتوبة ورحيم بعباده ما يظهر لمن تدبّر [ في ] تركيبها بإيراد الاستفهام بالمعنيين المذكورين وإردافه بالعلم ثمّ الإتيان بالجملة المؤكّدة بأنّ وأداة الحصر وذلك غاية في رأفته بعباده ورحمته لهم.

الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (2).

هنا مسائل :

1 - يحتمل أن يراد بالطيّب هنا الحلال ولذلك « روي عن الصادق عليه السلام أنّها نزلت في قوم لهم مال من رباء الجاهليّة وكانوا يتصدّقون منه فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك وأمرهم بالصدقة بالحلال » (3) كما ورد في الحديث « إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا الطيّب » (4) ولما في الحرام من القبح الحاصل من التصرّف في ملك الغير الّذي هو

ص: 230


1- تفسير العياشي ج 2 ص 107 ، الدر المنثور ج 3 ص 275. وفي لفظ قبل أن تقع.
2- البقرة : 267.
3- الكافي ج 4 ص 48 ، الرقم 10 تفسير العياشي ج 1 ص 149.
4- المستدرك عن درر اللآلي ج 1 ص 545. ولفظه : « ان اللّه يقبل الصدقات ولا يقبل منها الا الطيب » صحيح البخاري ج 1 ص 245 في حديث « ولا يقبل اللّه الا الطيّب ».

قبيح عقلا وشرعا. إن قلت : عندكم أنّ الحلال المختلط بالحرام ولا يتميّز مالكه ولا قدره يخرج منه الخمس وذلك من المجتمع من المالين فيكون إنفاقا وتصرّفا من الحرام وفيه وهو مناف لمنطوق الآية. قلت : نمنع أنّ ذلك تصرّف في الحرام لأنّا إنّما حكمنا بإخراج الخمس لمكان الضرورة الماسّة إلى التصرّف في الحلال لقوله صلى اللّه عليه وآله « الناس مسلّطون على أموالهم » (1) ولمّا جهل المالك وتعذّر رضاه أذن الشارع لا مطلقا بل بإخراج ما يمكن أن يكون عوضا للمالك يوم القيامة كما يأذن الحاكم في المعاوضة على مال الغائب والمحجور عليه وذلك لا يكون إنفاقا وتصرّفا من الحرام ولا فيه هذا ويحتمل أن يراد بالطيّب الجيّد من المال والمستحسن منه ولذلك قيل إنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف ويدخلونه في تمر الصدقة (2) روي ذلك عن علي عليه السلام (3) ويؤيّد ذلك قوله تعالى ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (4) فعلى هذا قيل إنّ المراد الصدقة الواجبة وهي الزكاة وقيل المندوبة والأصحّ العموم للقسمين بل سائر الإنفاق في سبيل الخير وأعمال البرّ.

إن قلت : لو كان النصاب النعمي كلّه مراضا لم يكلّف شراء صحيحه وكذا لو كان تمره محشفا لم يكلّف شراء غيره بل يخرج منهما فيكون إنفاقا من الرديّ وهو خلاف المأمور به. قلت : إن حمل الأمر على المندوب فذلك على الأفضل فخلافه غير ممنوع وإن حمل على الواجب فإنّما لم يكلّف شراء الصحيح والجيّد لئلّا يلزم الظلم في حقّ المالك لأنّ الزكاة تعلّقت بعين المال فلا تتناول غيره هذا ، مع أنّ الأفضل له إخراج الجيّد وفي الآية دلالة على أنّ إخراج الصدقة من كسب الإنسان أفضل من

ص: 231


1- أخرجه في البحار ج 2 ص 272 من طبعة دار الكتب عن غوالي اللئالي.
2- عن عوف بن مالك قال : دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله المسجد وبيده عصا وقد علق رجلا قنا حشفا فطعن بالعصا في ذلك القنو وقال : لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها وقال ان رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة. راجع سنن ابى داود ج 1 ص 372.
3- مجمع البيان ج 2 ص 380.
4- آل عمران : 192.

غيره خصوصا ما كان بالجارحة فإنّه أشقّ تحصيلا فيكون أفضل.

ويمكن الاستدلال بها على استحباب زكاة التجارة بقرينة التكسّب ومن قال بوجوبها من العامّة يدفعه أصالة البراءة وما حكيناه من رواية أبي ذرّ.

ثمّ إنّ بعضهم قال : إنّ مال التجارة ما دام عروضا لا زكاة فيه ولو بقي أحوالا فإذا بيع زكّوه لسنة واحدة وهو قول مالك والشافعيّ في القديم وقال في الجديد وأبو حنيفة : بل كلّ حول يقوّم ويخرج عنه.

2 - « وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ » أي ومن طيّبات ما أخرجناوحذف المضاف لدلالة ما قبله عليه وإنّما أعاد الجارّ ولم يكتف بالعطف « على ما كسبتم » لزيادة الاعتناء بالإنفاق من الغلّات والثمار قيل والمعادن أيضا فإنّها تخرج من الأرض فعلى هذا يستدلّ بها على استحباب الزكاة في كلّ ما يخرج من الأرض خرج الخضر وما لا يكال ولا يوزن للإجماع فيبقى الباقي وكذا على وجوب إخراج الخمس من جميع أنواع الزرع ممّا يفضل عن مؤنة السنّة والمعدن كما يقوله أصحابنا إذا بلغ بعد المؤن ما قيمته عشرون دينارا وكلّ هذه مجملات يعلم تفاصيلها من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة عليهم السلام.

3 - « وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ » أي لا تتعمّدوا ، والخبيث هنا مقابل الطيّب فيكون هنا إمّا الحرام أو الرديّ ويؤيّد الثاني قوله « وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ » أي تتساهلوا [ فيه ] من أغمض بصره إذا غضّه.

وفي قوله « وَلا تَيَمَّمُوا » إشارة إلى أنّ المنهيّ عنه إنّما هو تعمّد إخراج الرديّ وأمّا ما كان لا عن تعمّد فلا حرج فيه ، وفيه أيضا دلالة على عدم وجوب شراء الجيّد لأنّه لم يتعمّد الرديّ فأخرج منه بل اتّفق ذلك عنده وعلى الأوّل يمكن أن يكون قوله « وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ » أي لستم بحال يجوز لكم أخذه والتصرّف فيه إلّا أن تتساهلوا في دينكم بعدم القيام بنواهيه فتغمضوا في أمر الحرام فتأخذونه وهذا وجه لا يدفعه اللّفظ ولا المعنى.

واستدلّ بعضهم بها على أنّه لا يجوز عتق الكافر وردّه المعاصر بأنّ العتق

ص: 232

ليس إنفاقا لأنّه قسيم له في [ نحو ] الكفّارات وقسيم الشي ء مغاير له. وفيه نظر أمّا أوّلا فللمنع من عدم كون العتق إنفاقا فانّ الأوامر الواردة بالإنفاق عامّة يصدق عليه فانّ الإنفاق هو بذل المال تقرّبا إلى اللّه تعالى وأمّا ثانيا فلأنّ وقوعه قسيما لانفاق خاصّ لا يستلزم عدم كونه قسما من الإنفاق العامّ نعم كون العبد الكافر خبيثا بأحد المعنيين المذكورين ممنوع فإنّه ليس حراما وإلّا لحرم بيعه وتملّكه ولا رديّا عرفا ولهذا جاز رفعه إلى الفقير صدقة لكونه مالا قابلا للتملّك والنقل « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ » عن صدقاتكم حقيق بالحمد منكم على إنعاماته الجليلة.

الرابعة ( وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (1).

لمّا أخبر سبحانه « أنّ ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (2) وفي موضع آخر ( كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) (3) أخبر هنا أنّ الّذين يؤتون الزكاة مخلصة لوجه اللّه هم الّذين يضعفون حسناتهم أي يجعلونها مضاعفة والاضعاف [ في ] زيادة الأجر والثواب إن قلت كيف الجمع بين هذه الاضعافات وبين قوله تعالى ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى ) (4) قلت المراد ليس له إلّا ما سعى من باب العدل وأمّا الاضعاف فمن قسم التفضّل وفي الآية دلالة على وجوب النيّة في الزكاة وإيقاعها على سبيل الإخلاص لله تعالى.

الخامسة ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (5).

ص: 233


1- الروم : 39.
2- الانعام : 160.
3- البقرة : 261.
4- النجم : 39.
5- البراءة : 61.

لمّا عاب المنافقون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في قسمة الصدقات بأنّه يعطي من أحبّ ونزل فيهم ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ) (1) أي يعيبك - يقال لمزه يلمزه بكسر العين في المضارع وضمّها إذا عابه على وجه المساترة - أنزل اللّه هذه الآية قاطعة لأطماعهم وأتى بإنّما الّتي للحصر للدلالة على أنّه لا يستحقّها سوى هؤلاء المذكورين.

واختلف في اللّام في « لِلْفُقَراءِ » هل هي للتمليك أو لبيان المصرف؟ فقال الشافعيّ بالأوّل فيجب البسط على الأصناف ويعطي من كلّ صنف ثلاثة لا أقلّ منهم وقال مالك وأبو حنيفة بالثاني فلا يجب البسط بل لو أعطى زكوته واحدا من أيّ صنف كان جاز لكن أبو حنيفة لا يعطي ما يؤدّي إلى الغني فلو خالف فعل مكروها وملكه المعطى وبرئت الذمّة ومالك يجوّز ذلك إذا أمل غناءه وقال أصحابنا بجواز أيّ صنف كان ولو واحدا منهم لكنّ البسط أفضل وبذلك قال ابن عبّاس وحذيفة وغيرهما من الصحابة لأنّ كون اللّام للتمليك لا وجه له فانّ المستحقّ لا يملك قبل الأخذ ولأنّ حملها على بيان المصرف موافق لفعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله الّذي عابه المنافقون فيكون أولى.

إذا عرفت هذا فلنذكر الأقسام مفصّلة والخلاف فيها فنقول :

الأوّل الفقراء ، الثاني المساكين قيل إنّهما قسم واحد وإنّما أتى باللّفظين لا لتغاير المعنى بل لتأكيد أحدهما بالآخر كعطشان بطشان وقيل بالتغاير وبه قال الشافعيّ وأبو حنيفة فقيل الفقير متعفّف لا يسأل والمسكين بخلافه وقيل بالعكس ويؤيّد الأوّل قوله تعالى ( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً ) (2) ويؤيّد الثاني قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ليس المسكين الّذي تردّه الأكلة و

ص: 234


1- البراءة : 59.
2- البقرة : 273.

الأكلتان والتمرة والتمرتان ولكنّ المسكين الّذي لا يجد غنى فيغنيه ولا يسئل الناس شيئا ولا يفطن به فيتصدّق عليه (1) » وقيل الفقير الزمن المحتاج والمسكين الصحيح المحتاج قاله قتادة والتحقيق أنّهما يشتركان في معنى عدميّ وهو عدم ملك مؤنة السنّة له ولعياله الواجبي النفقة ولو كان غنيّا وهل أحدهما أسوء حالا من الآخر بمعنى أنّه لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته والآخر أجود حالا [ من ] له مال أو كسب يقع موقعا من حاجته لكن لا يكفيه للسنة؟ الأكثر على ذلك فقيل الفقير هو أسوء حالا للابتداء بذكره الدالّ على الاهتمام بحاله ولأنّه مشتق من فقار الظهر فكأنّ الحاجة قد كسرت فقار ظهره ولاستعاذة النبيّ صلى اللّه عليه وآله من الفقر [ وسؤاله المسكنة ] فقال « اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفقر وأسئلك المسكنة » (2) حتّى قال « كاد الفقر أن يكون كفرا » (3) وبهذا قال الشافعيّ وقيل المسكين هو الأسوء للتأكيد به ولأنّه من السكون كأنّ العجز أسكنه ولقوله تعالى ( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) (4) وبهذا قال أبو حنيفة ويرجّح الأوّل قوله تعالى ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) (5) وأجيب بأنّها لم يكن لهم ملكا بل كانوا اجراء فيها ويرجّح الثاني قول ابن السكّيت : الفقير الّذي له بلغة من العيش والمسكين لا شي ء له وأنشد قول ابن الراعي :

ص: 235


1- صحيح البخاري ج 1 ص 258. من حديث أبي هريرة.
2- روى صدره أبو داود في سننه ج 1 ص 354 والنسائي كما في مشكاة المصابيح ص 217 والسيوطي كما في السراج المنير ج 1 ص 325 ولفظه : اللّهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر. وروى ذيله أيضا كما في ص 298 ولفظه : اللّهم أحيني مسكينا وتوفني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين.
3- السراج المنير ج 3 ص 74 من حديث انس. وهو ضعيف.
4- البلد : 16.
5- الكهف : 80.

أمّا الفقير الّذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد (1)

والأقوى عندي هو الثاني لقول الصادق عليه السلام في رواية أبي بصير « الفقير الّذي لا يسئل والمسكين أجهد منه والبائس أجهد منهما » (2) وهو نصّ في الباب ولأنّه قول أئمّة اللّغة كابن السكّيت وابن دريد وأبي عبيدة وأبي زيد وقال يونس قيل لأعرابيّ أفقير أنت فقال لا واللّه بل مسكين ثمّ إنّ فائدة الخلاف لا تظهر في باب الزكاة لاجزاء إعطاء كلّ منهما بل في أفضليّة العطاء وفي الكفّارات والنذر والوقف والوصيّة وذكر أحدهما بلفظه بخلاف ما لو قال المحاويج فإنّه شامل للقسمين.

الثالث العاملون [ عليها ] وهم السعاة لجبايتها قولا واحدا.

الرابع المؤلّفة قلوبهم وهم كفّار أشراف في قومهم كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يعطيهم سهما من الزكاة يتألّفهم به على الإسلام ويستعين بهم على قتال العدوّ ، قال الشيخ ولا نعرف مؤلّفة غيرهم وقال المفيد بل ويكونون أيضا من المسلمين إمّا سادات لهم نظراء من المشركين إذا أعطوا رغب النظراء في الإسلام وإمّا سادات مطاعون يرجى بعطائهم قوّة أيمانهم ومساعدة قومهم في الجهاد وإمّا مسلمون في الأطراف منعوا الكفّار من الدخول وإمّا مسلمون إذا أعطوا أخذوا الزكاة من مانعيها.

وهل هذا السهم ثابت بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أم لا؟ قال الشافعيّ نعم وهو مرويّ عن الباقر عليه السلام إلّا أنّه « قال : من شرطه أن يكون هناك إمام عادل يتألّفهم على ذلك » (3) وقال أبو حنيفة هو مختصّ بزمانه صلى اللّه عليه وآله وفتوى أصحابنا حال الغيبة على الثاني.

ص: 236


1- نقله الشيخ في التبيان وفيه : أنا الفقير. ونقله في المجمع ج 5 ص 42 كما في المتن وقال بعض المحشين : قائله الراعي يمدح عبد الملك بن مروان ، ويشكو اليه سعاته ، والحلوبة الناقة التي تحلب ويقال : حلوبة فلان وفق عياله ، أى لها لبن قدر كفايتهم لا فضل فيه والسبد كناية عن القليل.
2- تفسير العياشي ج 2 ص 90.
3- رواه في مجمع البيان ج 5 ص 42 مرسلا وفي تفسير العياشي ج 2 ص 91 عن زرارة عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال قلت أرأيت قوله : انما الصدقات الآية كل هؤلاء يعطى ان كان لا يعرف؟ قال : ان الامام يعطي هؤلاء جميعا لأنهم يقرون له بالطاعة. الحديث وروى مثله في المستدرك ج 2 ص 521 عن دعائم الإسلام قال : وعن ابى جعفر عليه السلام انه قال في قول اللّه عزوجل ( وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) قال هم قوم يتألفون على الإسلام من رؤساء القبائل كان رسول اللّه يعطيهم ليتألفهم ويكون ذلك في كل زمان إذا احتاج الى ذلك الامام فعله.

الخامس الرقاب وهم المكاتبون وأضاف أصحابنا العبد المؤمن يكون في شدّة عند سيّده يشترى ويعتق وبه قال ابن عباس والحسن ومالك وأحمد وكذا جوّز أصحابنا مع عدم المستحقّ شراء العبد من الزكاة وعتقه.

السادس الغارمون وهم الّذين ركبتهم الديون في غير معصية بل إمّا في نفقة واجبة أو مندوبة أو معاش مباح ثمّ إنّ أبا حنيفة ومالك وأحمد قالوا لا يدفع إلى الغارم شي ء إلّا مع فقره وفصّل الشافعيّ فقال : إن كان لتحمّل دية عن الغير لإطفاء النائرة يعطي مطلقا وإن كان لا لذلك لا يعطى مع الغنى وما كان لمصلحة نفسه له قولان في القديم يعطى وفي الجديد لا [ يعطى ] وعندنا متى قصرت أمواله عن أداء ديونه اعطي أمّا لو استدان لإصلاح ذات البين فإنّه يعطى مطلقا وإن كان غنيّا.

السابع في سبيل اللّه قال الشيخ يختصّ بالجهاد وبه قال الشافعيّ ومالك وأبو حنيفة وقال أحمد والحجّ أيضا لكن خصّه أبو حنيفة بالفقير من الغزاة وقال الأوّلان وأحمد والغنيّ أيضا وقال أكثر أصحابنا وهو الحقّ أنّه يعمّ كلّ مصلحة للمسلمين كالحجّ وبناء القناطر وغيرهما وبه قال البلخي وعطا وابن عمر عملا بعموم اللّفظ فانّ السبيل لغة الطريق وهو هنا كذلك مجازا في كلّ ما يقرّب إلى اللّه سبحانه.

الثامن ابن السبيل وهو المنقطع به في الغربة وإن كان غنيّا في بلده وهل يعطى منشئ السفر من بلده؟ قال ابن الجنيد منّا والشافعيّ وأبو حنيفة نعم وهو ممنوع مع كونه غنيّا حينئذ نعم لو كان مضطرّا إلى السفر وهو فقير جاز لكن ذلك ليس من الباب وأمّا الضيف فقيل داخل في ابن السبيل والحقّ عندي أنّه إن كان

ص: 237

منقطعا به في غير بلده فهو داخل في المنقطع به ولا حاجة إلى ذكره وإلّا فنحن من وراء المنع من استحقاقه.

( فروع )

1 - لا فرق في السفر بين الواجب والمندوب والمباح ومنع ابن الجنيد المباح وليس بشي ء.

2 - لو نوى إقامة عشرة فصاعدا قال الشيخ يمنع لخروجه عن اسم السفر ولذلك لم يقصّر وقال ابن إدريس واختاره العلّامة إنّه لا يمنع وهو الحقّ لصدق الاسم.

3 - لو فضل مع ابن السبيل شي ء عند وصوله بلده استعيد لانتفاء علّة الاستحقاق.

4 - يقبل قوله في عدم المال وكذا يقبل قول الفقير في فقره وكذا لو قال كان لي مال فتلف وقال الشيخ يكلّف هنا البيّنة وليس بشي ء لأداء ذلك إلى ضرره إذ قد يخفى التلف وكذا لا يفتقر [ ان ] إلى اليمين وأمّا الغارم والمكاتب فالمشهور قبول قولهما إلّا مع تكذيب الغريم والسيّد وفي الآية فوائد :

1 - قيل إنّ الصدقات هنا للعموم فيشمل الواجبة والمندوبة ويشكل ذلك مع الحصر فإنّ المندوبة لا تنحصر في الفقراء والمساكين بل تجوز للغنيّ وحينئذ لا بدّ مع الحصر من الإضمار.

2 - هنا سؤال تقريره : لم قال في الأصناف الأربعة الأول باللّام وفي الباقية بفي ثمّ إنّه كرّرها فقال « وَفِي سَبِيلِ اللّهِ »؟ الجواب ذكروا وجوها :

الأوّل إنّما عدل إلى في عن اللّام المفيدة للاختصاص إيذانا بأنّهم أرسخ في الاستحقاق حيث جعلوا مظنّة وموضعا لها لأجل فكّ الرقاب وفكّ الغارمين من الغرم ولجمع الغازي بين الفقر والعبادة عند من يشترط فقره والمسافر بين الفقر والغربة وإنّما كرّر في الأخيرين لفضل ترجيح لهما.

الثاني أنّ الفرق من حيث إنّ ظاهر اللّام شمول التملّك للأشخاص وظاهر في عدم شموله كما إذا قيل المال لبني تميم فإنّه يفيد اشتراكهم فيه فإذا قيل في بني

ص: 238

تميم يفيد أنّ فيهم من يستحقّه ولذلك لم يسمع أنّ أحدا قال يجب البسط في الأربعة الأخيرة.

الثالث اعلم أنّ المستحقّ [ ين ] قسمان قسم يقبض لنفسه وهم الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلّفة وهؤلاء يصرفونه في أيّ جهة شاؤوا فهم مختصّون به فناسب ذلك [ ذكر ] اللّام وقسم يقبض لأجل جهة معيّنة يصرفه فيها ولا يجوز صرفه في غيرها وهم الرّقاب والغارمون وابن السبيل وأمّا سبيل اللّه فان كان لمعونة المجاهدين فإنّه يتعيّن صرف ما يقبضه في مصالح الجهاد خاصّة وكذا الحاجّ والزائرين وإن كان لغير ذلك فإنّه يتعيّن صرفه في تلك الجهة فناسب ذلك ذكر في لأنّه يعيّن صرفه في جهات معيّنة.

3 - فريضة منصوب على المصدر المؤكّد لما دلّت عليه [ هذه ] الآية نحو ( هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً ) (1) وقرئ شاذّا بالرفع أي هذه فريضة.

السادسة ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (2).

[ فنعمّا هي ] ظ : أي فنعم شيئا هي دلّت الآية على أنّ إظهار الصدقة حسن في نفسه وأنّ إخفائها أفضل لأنّه لا معنى للخيريّة إلّا الأفضليّة عند اللّه تعالى فقيل على العموم لكلّ صدقة لأنّه جمع معرّف باللّام وهو للعموم بلا خلاف ولذلك جاء في الحديث « صدقة السرّ تطفئ غضب الرب [ وتدفع الخطيئة ] كما يطفئ الماء النار وتدفع سبعين بابا من البلاء (3) » وعنه صلى اللّه عليه وآله « سبعة يظلّلهم اللّه بظلّه يوم لا ظلّ إلّا

ص: 239


1- البقرة : 91.
2- البقرة : 271 وقد قرأ عاصم وابن عامر « يكفر ».
3- رواه الطبرسي في المجمع ج 2 ص 385 وهكذا الشيخ الرازي أبو الفتوح في تفسيره ج 2 ص 381 مرسلا ولم أره في المسانيد بهذا اللفظ وكأنه جمع بين مضامين الأحاديث راجع السراج المنير ج 2 ص 383 ، أصول الكافي ج 4 ص 7 ، الوسائل ب 13 من أبواب الصدقة ومستدركة ج 1 ص 534.

ظلّه إمام عادل وشابّ نشأ في عبادة اللّه ورجل قلبه معلّق بالمسجد حتّى يعود إليه ورجلان تحابّا في اللّه اجتمعا على ذلك وتفرّقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنّي أخاف اللّه ورجل تصدّق بصدقة وأخفاها حتّى لا تعلم يمينه ما ينفق شماله ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه » (1).

وقال ابن عبّاس ورواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادق عليه السلام « إنّ الإخفاء تختصّ بالمندوبة وأمّا المفروضة فإظهارها أفضل لئلّا يتّهم بالمنع ولما فيه من الاقتداء به فانّ كثيرا من الناس تنبعث دواعيهم إذا رأوا من يفعل الطاعة ولأنّ الرياء لا يتطرّق إليها كتطرّقه إلى المندوبة » (2) والأوّل أشبه بمنطوق الآية ويؤيّد الثاني استحباب حمل الواجبة إلى الامام ابتداء ووجوبه عند الطلب مع أنّ تخصيص الكتاب بالسنّة جائز وقد ورد عن ابن عباس « صدقة السرّ في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة وعشرين ضعفا » (3) وعلّته ما ذكرناه.

وفي الآية دلالة على جواز تولّي المالك مباشرة إخراج الصدقة لقوله تعالى « وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ » قال العلّامة : إنّ لفظ أفعل [ التفضيل ] قد يرد للمساواة كما يرد للأفضليّة ولأنّ استحباب الحمل إلى الامام لا ينافي استحباب الإخفاء لإمكان الجمع بينهما بأن يدفع من غير إشعار أحد وفيه نظر أمّا أوّلا فلأنّ أفعل للأفضليّة حقيقة ولغيره مجازا فلا يعدل إليه إلّا لضرورة مع أنّ التخصيص خير من المجاز وأمّا ثانيا فلمنع عدم المنافاة فإنّ الإخفاء لا يصدق حينئذ ولأنّ موضوع الخيريّة مركّب من الإخفاء وإيتاء الفقراء والمركّب يعدم بعدم أحد أجزائه ، هذا وقوله

ص: 240


1- صحيح البخاري ج 1 ص 248. السراج المنير ج 2 ص 337، قال العزيزي في شرحه : ذكر السبع لا مفهوم له فقد روى الاظلال لذوي خصال أخر وتتبعها بعضهم فبلغت سبعين فمنها من أنظر معسرا أو وضع عنه إلخ.
2- أخرجه بغير هذا اللفظ في مجمع البيان ج 2 ص 384.
3- راجع مستدرك الوسائل ج 1 ص 534.

« نكفّر » قرئ بالرفع أي ونحن نكفّر وبالجزم عطفا على جواب الشرط ومن للتبعيض وقيل زائدة وهو ضعيف لضعف زيادتها في الإثبات.

القسم الثالث : ( في أمور تتبع الإخراج )

وفيه آيات :

الاولى : ( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (1).

هنا ثلاثة أحكام :

1 - الحضّ على الإنفاق بأنّه (2) في الحقيقة عائد إلى المنفق فانّ الشخص إذا علم أنّ فائدة إنفاقه تعود إليه كان أشدّ انبعاثا على الإنفاق وأقوى داعية إليه والمراد بالخير هنا المال كقوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (3).

2 - ( وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ ) وهو نفي ويراد به النهي كقوله صلى اللّه عليه وآله « لا تنكح المرأة على عمّتها ولا خالتها » (4) ومراده هنا لا تنفقوا شيئا إلّا ابتغاء وجه اللّه أي طلب وجه اللّه وفيه نهي عن الرّياء وطلب السمعة بالإنفاق وأمر بالإخلاص لما في الكلام من النفي والإثبات.

فائدة : ليس المراد بالوجه هنا العضو لاستحالة الجسميّة عليه تعالى ولا الذات لأنّها قديمة والقديم لا يراد حصوله بل المراد بالوجه الرّضى وإنّما حسن الكناية به عن الرضا لأنّ الشخص إذا أراد شيئا أقبل بوجهه عليه وإذا كرهه أعرض بوجهه

ص: 241


1- البقرة : 272.
2- لأنه خ.
3- العاديات : 8.
4- سنن ابى داود ج 1 ص 476.

عنه وكأنّ الفعل إذا أقبل عليه بالوجه حصل الرضا به فكان إطلاقه عليه من باب إطلاق السبب على المسبّب.

3 - الحكم بأنّهم إذا فعلوا الإنفاق ابتغاء وجه اللّه يوفّ إليهم أجرهم وفاء تامّا من غير نقص. والخير هنا إيصال المال وفي الكلام حذف تقديره : يوفّ إليكم جزاؤه.

الثانية ( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (1).

لمّا ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المنفق من الصفة ذكر الّذين ينبغي وصول النفقة إليهم واللّام متعلّقة بمحذوف يدلّ عليه ما تقدّم أي النفقة المذكورة للفقراء كأنّه سئل لمن هذه النفقة فأجيب « لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا » أي حبسوا أنفسهم للجهاد « لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ » أي سفرا للتكسّب وتحصيل المال أي إنّهم حبسوا أنفسهم للجهاد ولم يشتغلوا بغيره من التصرّفات التكسّبية حصر من لا يستطيع تصرّفا لا لعجزهم في نفس الأمر بل لرغبتهم في العبادة هكذا ينبغي أن يقال حتّى يكون في سياق مدحهم لا أنّهم تركوا الضرب لعجزهم بمرض أو خوف « يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ » بحالهم « أَغْنِياءَ » لتعفّفهم بعدم إظهارهم الحاجة والسؤال « تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ » أي لهم علامة يعرفون بها وهي صفرة اللّون ورثاثة الحال. والالحاف الإلحاح وهو أن يلازم المسؤول لا يفارقه إلّا بشي ء من قولهم لحفني فلان من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إنّ اللّه يحبّ الحييّ الحليم المتعفّف ويبغض البذيّ الشاكي الملحف » (2) ونفي السؤال على وجه الالحاف

ص: 242


1- البقرة : 273.
2- مجمع البيان ج 2 ص 387 الدر المنثور ج 1 ص 359 وتجده مجزئا في السراج المنير ج 1 ص 411 و 417 ولفظ الحديث ، ويبغض السائل الملحف.

لا يستلزم نفي مطلق السؤال فيجوز أن يكونوا سائلين على وجه اللّطف وعلى ذلك كان حالهم وهو منصوب على المصدر أي لا يسألون سؤالا إلحافا.

إذا عرفت هذا فقيل : إنّ هؤلاء قوم من مهاجري قريش لم يكن لهم شي ء من الدنيا ولا عشائر في المدينة وكانوا يسكنون في صفّة المسجد فيتعلّمون القرآن باللّيل ويلتقطون النّوى بالنهار يخرجون مع كلّ سريّة يبعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وكانوا نحوا من أربعمائة رجل فمن كان عنده فضل رزق يأتيهم به إذا أمسى.

وعن ابن عبّاس « وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يوما عليهم فرأى جهدهم وفقرهم وطيب قلوبهم بذلك فقال « أبشروا يا أصحاب الصفّة فمن بقي من أمّتي على النعت الّذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنّهم رفقائي » (1) بشّر (2) [ رسول اللّه ] إلى من يحبس نفسه على طلب العلم وتشييد معالم الدين في هذا الزمان قائما بوظيفة ما يجب عليه من العبادة ملتزما بولاية أهل البيت عليهم السلام فإنّه إنشاء اللّه أفضل من أولئك ثمّ أكّد سبحانه الحثّ على الإنفاق بإعادة قوله « وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ » الآية وفي الآية إشارة إلى استحباب إعطاء أهل التجمّل والتعفّف والتوصّل إليهم بإعطاء الصدقة خصوصا من اتّصف بمزيد علم أو ورع في دين.

الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (3).

نزلت في عمرو ابن الجموح وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال يا رسول اللّه بما ذا أتصدّق وعلى من أتصدّق فنزلت وقد عرفت أنّ خصوص السبب لا يخصّص العامّ بل هو على عمومه وليست منسوخة بآية الزكاة كما قال السدّي إذ لا مانع من إجراء حكمها ولا يقين بنسخها فيجوز حينئذ حملها على الصدقة الواجبة ولا ينافي ذكر الوالدين لوجوب نفقتهما المانع ذلك من إعطاء الواجبة لجواز إعطائهما لا في

ص: 243


1- رواه الفخر الرازي في ذيل الآية ج 7 ص 85.
2- يشير خ.
3- البقرة : 215.

جهة النفقة ولو من سهم الفقراء كاعطائهما ما يحتاجان إليه في طلب علم أو فعل عبادة زائدا عن قدر حاجتهما أو في مؤنة الزواج إذ لا يجب إعفاف الوالد والوجه حملها على العموم فيدخل الواجبة وغيرها من مندوبات الصدقات وواجبات النفقات وصلة الأرحام وغير ذلك وفي الآية إشارة إلى استحباب تخصيص القرابة [ بالإنفاق ] والخير هنا المال أيضا.

وهنا سؤال وهو أنّه سئل عمّا ينفق وأجاب بالمنفق عليهم والجواب قيل :إنّه من باب المغالطة وهو حمل كلام السائل على غير مطلوبه تنبيها على أنّه أولى به والأولى في الجواب هو أنّ سؤالهم لم يكن عن مطلق الإنفاق بل عن إنفاق المال النافع في الآخرة فالنافع هو فضل المسؤول عنه فأجاب بملزوم الفضل وهو أن يكون الإنفاق على المذكورين.

الرابعة ( وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) (1).

عن الصادق عليه السلام « أنّ العفو هو الوسط من غير إسراف ولا إقتار » (2) وعن الباقر عليه السلام « ما فضل عن قوت السنة قال ونسخ ذلك بآية الزكاة » (3) وعن ابن عبّاس ما فضل عن الأهل والعيال أو الفضل عن الغنى وقيل هو أفضل المال وأطيبه.

وقرئ العفو بالرفع على الخبريّة أي الّذي ينفقونه هو العفو وقرئ بالنصب على المفعوليّة أي أنفقوا العفو.

روي أنّ رجلا أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ببيضة من ذهب أصابها في بعض الغزوات فقال خذها منّي صدقة فأعرض عنه فأتاه من جانب آخر [ فقال له مثله ] فأعرض عنه ، ثمّ أتاه من جانب آخر [ فقال له مثله ] فأعرض عنه ثمّ قال له هاتها مغضبا فأخذها وحذف بها حذفا لو أصابته لشجّته أو عقرته ثمّ قال يجي ء أحدكم بماله كلّه فيتصدّق

ص: 244


1- البقرة : 219.
2- تفسير العياشي ج 1 ص 106 مجمع البيان ج 2 ص 316.
3- تفسير العياشي ج 1 ص 106 مجمع البيان ج 2 ص 316.

به ويجلس يتكفّف الناس إنّما الصدقة عن ظهر غنى » (1).

وهنا فوائد :

1 - كلام الصادق عليه السلام يدلّ على الالتزام بالأوساط في الإنفاق كلّه واجبا كان أو مندوبا صدقة وغيرها وهو طريق السلامة والأمن من الإفراط والتفريط الموبقين.

2 - كلام الباقر عليه السلام يدلّ على استحباب الصدقة بما فضل عن القوت وبذلك وردت أخبار كثيرة وترغيبات عظيمة حتّى أنّ زين العابدين عليه السلام كان يتصدّق بفاضل كسوته.

3 - كلام ابن عبّاس يدلّ على كراهية الصدقة بما هو توسعة على العيال ولذلك قال عليه السلام « لا صدقة وذو رحم محتاج » (2) وعلى كراهية ما لم يبق غنى فان آل إلى الإعدام ولا كسب له ربّما يصير حراما خصوصا مع وجود العيال وعليه تحمل الرواية المذكورة لأداء ذلك إلى الإضرار الممنوع عقلا وشرعا وقال عليه السلام « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (3).

4 - القول الرابع يدلّ على أنّه يستحبّ الصدقة بالمال اللذيذ والشهيّ و

ص: 245


1- سنن ابى داود ج 1 ص 389 وأخرجه في المستدرك ج 1 ص 544 عن غوالي اللئالي.
2- رواه في الاختصاص ص 219 عن الحسين بن على عليهما السلام ولفظه « سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : ابدء بمن تعول : أمك وأباك وأختك وأخاك ، ثم أدناك فأدناك ، وقال : لا صدقة وذو رحم محتاج ، وأخرجه في البحار ج 20 ص 39 وفي المستدرك ج 1 ص 536 وأخرج بمضمونه في الجامع الصغير على ما في السراج المنير ج 1 ص 22 ولفظه : ابدء بمن تعول وفي لفظ : ابدء بنفسك فتصدق عليها فان فضل شي ء فلا هلك فان فضل عن أهلك شي ء فلذي قرابتك فان فضل عن ذي قرابتك شي ء فهكذا وهكذا ( اى بين يديك وعن يمينك وشمالك - والحديث عن جابر ).
3- السراج المنير ج 3 ص 472.

لذلك نقل عن الحسن عليه السلام (1) أنّه كان يتصدّق بالسكّر فقيل له في ذلك فقال : إنّي أحبّه وقال اللّه تعالى ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (2).

الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (3).

المنّ هو أن يقول له ألم أعطك كذا ألم أحسن إليك وشبه ذلك والأذى أن يقول أراحني اللّه منك أو يعبّس في وجهه أو يجبّهه بالكلام أو يتناقص به وبالجملة المنّ والأذى يشتركان في كلّ ما ينغّص الصنيعة ويكدّرها وإنّما كانا مبطلين للصدقة لأنّ صدورهما يكشف عن كون الفعل لم يقع خالصا لله تعالى وهو معنى بطلانه فانّ من كان موطّنا نفسه على طاعة اللّه وطلب مرضاته لا يصدر عنه إلّا الخيرات وذلك في هذا الباب إمّا إعطاء السائل أو ردّه بأحسن الردّ كأن يقول رزقك اللّه أو سهّل اللّه عليك وشبهه وإن صدر عن الفقير سوء كلام أو تعنيف في السؤال غفر له ولم يؤاخذه به وإلى الأوّل أشار من قبل بقوله « قَوْلٌ مَعْرُوفٌ » إشارة إلى حسن الردّ « وَمَغْفِرَةٌ » إشارة إلى العفو عن سوء يقع من السائل كما قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « إذا لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم » (4) ويحتمل أن يريد بالقول

ص: 246


1- المروي في الكافي ج 4 ص 61 ح 4 إسناده الى ابى عبد اللّه عليه السلام ونقله في الدر المنثور ج 2 ص 51 عن ابن عمر.
2- آل عمران : 92.
3- البقرة : 264.
4- رواه في الجامع الصغير كما في السراج المنير ج 2 ص 39 ولفظه : انكم لا تسعون للناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ، ورواه في كتاب الأخلاق كما في المستدرك ج 2 ص 83 ولفظه : يا ايها الناس انى اعلم انكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن بالطلاقة وحسن الخلق. ورواه في مشكوة الأنوار كما في المستدرك أيضا ولفظه : يا بنى عبد المطلب انكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر.

المعروف والمغفرة ما هو أعمّ [ من ذلك ] كسائر الأخلاق الحسنة فيدخل حسن الردّ وغيره.

ثمّ إنّه تعالى جعل المانّ بصدقته والمؤذي لمن يتصدّق عليه كالمرائي بنفقته وكالمنفق الّذي لا يؤمن باللّه و [ لا ] باليوم الآخر فانّ قوله « كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ » صفة لمصدر محذوف أي إبطالا كابطال الّذي ينفق ماله فانّ كلّ واحد من الرياء والكفر سبب تامّ لعدم فائدة الإنفاق وفي الحقيقة يندرج المان والمؤذي والمرائي في عدم الايمان باللّه إذ لو كان مؤمنا به ومصدّقا بصفاته الكماليّة لما أشرك معه غيره فيما غايته الإخلاص له وطلب مرصاته ، هذا وإنّه تعالى جعل مثل الّذي ينفق ماله رئاء أو ينفقه ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر « كَمَثَلِ صَفْوانٍ » أي حجر أملس « عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ » أي مطر عظيم القطر « فَتَرَكَهُ صَلْداً » أي أجرد نقيّا بلا تراب فالصفوان مثل للنفس والتراب مثل للإنفاق والوابل مثل للرياء والكفر وزوال التراب عنه مثل لزوال فائدة الإنفاق وقوله « لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا » أي لا يجدون يوم القيامة شيئا من ثواب ما كسبوا « وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ » أي لا يلطف لهم لطفا يجبرهم على فعل الطاعة لمنافاة ذلك الحكمة.

وفي وضع الكافرين موضع المرائين تشديد عظيم لحال الرياء وأنّه والشرك في واد واحد ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « الشرك في أمّتي أخفى من [ دبيب ] النملة السوداء في اللّيلة الظلماء [ على الصخرة الصمّاء ] (1) » وقال صلى اللّه عليه وآله « إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قيل وما الشرك الأصغر قال الرياء » (2).

ص: 247


1- السراج المنير ج 2 ص 374 و 375. بألفاظ مختلفة.
2- الدر المنثور ج 4 ص 256. عن احمد والبيهقي.

السادسة ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى ) (1).

قيل المراد بمن تزكّى أي [ من ] أدّى زكاة الفطرة وصلّى صلاة العيد وبه قال ابن عمر وأبو العالية وابن سيرين وروي ذلك مرفوعا عن أئمّتنا عليهم السلام (2) وتفصيلها وتفصيل ما تقدّم من الزكاة معلوم من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة عليهم السلام فلنقتصر على ذلك.

كتاب الخمس

اشارة

وهو اسم لحقّ يجب في المال يستحقّه بنو هاشم وله شروط وتفصيل وفيه آيات :

الاولى ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ) (3).

اعلم أنّ البحث في هذه الآية على أقسام ثلاثة :

القسم الأول

الغنيمة في الأصل هي الفائدة المكتسبة والنفل واصطلح جماعة على أنّ ما أخذ من الكفّار إن كان من غير قتال فهو في ء وإن كان مع القتال فهو غنيمة و

ص: 248


1- الأعلى : 14 و 15.
2- راجع مجمع البيان ج 10 ص 476.
3- الأنفال : 41.

هو مذهب أصحابنا والشافعيّ وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام (1) وقيل إنّهما بمعنى واحد. ثمّ إنّ عند أصحابنا أنّ الفي ء للإمام خاصّة والغنيمة يخرج منها الخمس كما يجي ء والباقي بعد المؤن للمقاتلين ومن حضر وسيأتي بيانه أمّا في باب الخمس فعمّم أصحابنا موضوعها بأنّه جميع ما يستفاد من أرباح التجارات والزراعات والصناعات زائدا عن مؤنة السنّة والكنوز والمعادن والغوص والحلال المختلط بالحرام ولا يتميّز المالك ولا قدر الحرام وأرض الذمّيّ الّذي اشتراه من مسلم وما يغنم من دار الحرب كما تقدّم.

وعند الفقهاء أنّ الغنيمة هنا هي ما أخذ من دار الحرب لا غير دون الأشياء المذكورة نعم أوجب الشافعيّ في معدن الذّهب والفضّة الخمس دون باقي المعادن وقال أبو حنيفة يجب في المنطبع خاصّة ، فقد ظهر لك أنّ أصحابنا عمّموا موضوع الخمس وعلى قولهم دلّت الروايات عن أئمّتهم عليهم السلام.

إن قلت قوله تعالى « من شي ء » يدلّ على وجوب الخمس في كلّ ما يغنم حتّى الخيط والمخيط كما قيل وهو لا يتوجّه على قولكم فإنّكم تشترطون النصاب في الكنز والمعدن والغوص قلت : اللّفظ وإن اقتضى العموم لكنّ البيان من الأئمّة عليهم السلام خصّصه وحصره.

القسم الثاني

في كيفيّة قسمته ويظهر منه من يستحقّه. فنقول اتّفق علماء الجمهور على أنّ اسم اللّه هنا للتبرّك وأنّ قسمة الخمس على الخمسة (2) المذكورين في الآية في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وأنّ المراد بذي القربى هم بنو هاشم وبنو [ عبد ] المطّلب دون بني عبد الشمس وبني نوفل لقوله عليه السلام « إنّ بني المطّلب ما فارقونا في جاهليّة

ص: 249


1- راجع الوسائل أبواب الخمس والأنفال وأرسله في مجمع البيان ج 4 ص 543.
2- الجمل ، خ.

ولا إسلام وبنو هاشم وبنو المطّلب شي ء واحد وشبّك بين أصابعه وإنّ الثلاثة الباقية من باقي المسلمين » (1).

وأمّا بعد حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله فقال مالك : الأمر فيه إلى الامام يصرفه إلى ما يراه أهمّ من وجوه القرب وقال أبو حنيفة يسقط سهمه صلى اللّه عليه وآله وسهم ذي القربى وصار الكلّ مصروفا إلى الثلاثة الباقية من المسلمين وقال الشافعيّ إنّ سهم الرسول صلى اللّه عليه وآله يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين وقيل إلى الامام وقيل إلى الأقسام الأربعة ونقل الزمخشري في الكشّاف عن ابن عباس أنّه كان يقسّم على ستّة : لله والرسول سهمان وسهم لأقاربه حتّى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة وكذلك روي عن عمر وباقي الخلفاء بعده قال وروي أنّ أبا بكر منع بني هاشم من الخمس وقال إنّما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيّمكم ويخدم من لا خادم له منكم فأمّا الغنيّ منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنيّ لا يعطى من الصدقة شيئا ولا يتيم موسر ونقل عن عليّ عليه السلام أنّه قيل له إنّ اللّه تعالى يقول « وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ » فقال : « أيتامنا ومساكيننا » وعن الحسن البصريّ أنّ سهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لوليّ الأمر بعده هذا.

وقال أصحابنا الإماميّة إنّه يقسم ستّة أقسام ثلاثة للرسول صلى اللّه عليه وآله في حياته وبعده للإمام القائم مقامه وهو المعني بذي القربى والثلاثة الباقية لمن سمّاهم اللّه تعالى من بني عبد المطّلب خاصّة دون غيرهم وقولهم هو الحقّ أمّا أوّلا فلأنّه لا يلزمهم مخالفة الآية الكريمة بسبب إسقاط سهم اللّه من البين وكذا إسقاط سهم الرسول بعد حياته وأمّا ثانيا فلما ورد من النقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم السلام وكذا نقله الخصم عن عليّ عليه السلام وعن ابن عبّاس كما حكيناه عن الزمخشريّ وأمّا ثالثا فلأنّا إذا أعطيناه لفقراء ذوي القربى من اليتامى والمساكين وابن السبيل جاز بالإجماع

ص: 250


1- رواه أبو داود ج 2 ص 131 و 132 وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ج 3 ص 187 ورواه الشافعي كما في مشكاة المصابيح ص 351.

وبرئت الذمّة يقينا وإذا أعطيناه غيرهم لم يجز عند الإماميّة فكان التخصيص بذوي القربى أحوط.

إن قلت : لفظ الآية عامّ قلت : ما من عامّ إلّا وقد خصّ فهذا مخصوص بما رويناه عن أئمّة الهدى كزين العابدين والباقر والصادق وأولادهم عليهم السلام على أنّا نقول لفظ الآية عامّ مخصوص بالاتّفاق فانّ ذي القربى مخصوص ببني هاشم ، واليتامى والمساكين وابن السبيل عامّ في المشرك والذمّيّ وغيرهم مع أنّه مخصوص بمن ليس كذلك.

قال السيّد المرتضى : كون ذي القربى مفردا يدلّ على أنّه الإمام القائم مقام النبيّ صلى اللّه عليه وآله إذ لو أراد الجميع لقال ذوي [ القربى ] وفيه نظر لجواز إرادة الجنس. قوله إذ لو كان المراد جميع قرابات بني هاشم لزم أن يكون ما عطف عليه أعني اليتامى والمساكين وابن السبيل من غيرهم لا منهم لأنّ العطف يقتضي المغايرة وفيه نظر أيضا لجواز عطف الخاصّ على العامّ لمزيد فائدة ووفور عناية فالأولى حينئذ الاعتماد في هذه المجملات على بيانه صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة عليهم السلام بعده.

القسم الثالث

في الآية المذكورة من التواكيد ما ليس في غيرهافإنّه صدّرها بالأمر بالعلم أي يتحقّق عندكم ذلك حتّى أنّه لم يرد لها ناسخ اتّفاقا ثمّ أتى بأنّ المؤكّدة في موضعين ثمّ قال « إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ » وهو متعلّق بمحذوف أي كون الخمس لهؤلاء المذكورين واجب فأدّوه إن كنتم آمنتم بدليل « فاعلموا » لأنّ المراد هنا من العلم العمل بمقتضاها قال الواقديّ : نزل الخمس في غزاة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيّام للنصف من [ شهر ] شوّال على رأس عشرين شهرا من الهجرة وعن الكلبيّ نزلت ببدر.

قوله تعالى ( وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا ) أي محمّد صلى اللّه عليه وآله من النصر بالملائكة والفتح وغير ذلك من الآيات « يَوْمَ الْفُرْقانِ » وهو يوم بدر لأنّه فرّق بين الحقّ والباطل

ص: 251

و « يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ » بدل من « يَوْمَ الْفُرْقانِ » والجمعان أهل بدر وقريش وعن الصادق عليه السلام أنّه كان التاسع عشر من [ شهر ] رمضان والمشهور أنّه السابع عشر منه « وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ » أي قادر على نصر القليل على الكثير والذليل على القويّ.

الثانية ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (1).

وكذا قوله تعالى ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) (2).

اعلم أنّ المراد بذي القربى في هذه الآية وأمثالها هو قرابة الرسول صلى اللّه عليه وآله وإعطاؤه حقّه هو إعطاؤه ما وجب له من الخمس وغيره ، روى السدّيّ « قال : إنّ زين العابدين عليه السلام قال لرجل من أهل الشام حين بعث به عبيد اللّه بن زياد إلى يزيد ابن معاوية : أقرأت القرآن؟ قال نعم قال أما قرأت « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » قال وإنّكم ذوو القربى قال (3) نعم » وفي تفسير الثعلبيّ « عن منهال بن عمرو قال سألت زين العابدين عليه السلام عن الخمس فقال هو لنا فقلت إنّ اللّه يقول « وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ » قال يتامانا ومساكيننا » (4).

وروى العيّاشيّ عن الصادق عليه السلام قال : « كتب نجدة الحروريّ إلى ابن عباس يسئل عن موضع الخمس فكتب إليه ابن عبّاس أمّا الخمس فانّا نزعم أنّه لنا ويزعم قومنا أنّه ليس لنا فصبرنا » (5) وعن الصادق عليه السلام « قال : إنّ اللّه لمّا حرّم علينا

ص: 252


1- الاسراء : 26.
2- النحل : 90.
3- مجمع البيان ج 6 ص 411 ومثله في الدر المنثور ج 4 ص 176 قال أخرجه ابن جرير.
4- مجمع البيان ج 4 ص 545.
5- تفسير العياشي ج 2 ص 61 ومثله في الدر المنثور ج 3 ص 186 قال : أخرج الشافعي وعبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس. ثم قال وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن نجدة الحروري أرسل إليه يسأله عن سهم ذي القربى الذين ذكر اللّه فكتب إليه انا كنا نرى أناهم فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا : « قريش كلها ذوو قربى » ويقول لمن تراه فقال ابن عباس رضى اللّه عنهما هو لقربى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قسمه لهم رسول اللّه وقد كان عمر رضى اللّه عنه عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه وأبينا أن نقبله وكان عرض عليهم أن يعين ناكحهم وأن يقضى عن غارمهم وأن يعطى فقيرهم وأبى أن يزيدهم على ذلك.

الصدقة أنزل لنا الخمس فالصدقة علينا حرام والخمس لنا فريضة والكرامة لنا حلال » (1) وعن الرضا عليه السلام « إنّ الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا وما نفكّ وما نشتري من أعراضنا ممّن نخاف سطوته فلا تزووه (2) عنّا ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه فانّ إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم والمسلم من لقي اللّه بما عاهد وليس المسلم من أجاب باللّسان وخالف بالقلب » (3).

وروى عليّ بن أسباط قال لما ورد الكاظم عليه السلام على المهديّ العبّاسيّ وجده يرد المظالم فقال : ما بال مظلمتنا لا تردّ. فقال وما هي يا أبا الحسن فقال إنّ اللّه لمّا فتح على نبيّه صلى اللّه عليه وآله فدكا وما والاها ممّا لم يوجف عليه أنزل اللّه عليه « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » فلم يدر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من هم فراجع جبرئيل عليه السلام في ذلك فسأل اللّه عزوجل فأوحى اللّه إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة عليها السلام فدعاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال لها إنّ اللّه أمرني أن أدفع إليك فدك فقالت قد قبلت يا رسول اللّه من اللّه ومنك وساق الحديث إلى أن ذكر قصّة أبي بكر وعمر معها فقال له المهديّ حدّها فحدّها فقال هذا كثير وأنظر فيه » (4).

ص: 253


1- تفسير العياشي ج 2 ص 64.
2- فلا تذودوه خ.
3- الوسائل ب 3 من أبواب الأنفال ح 2.
4- أصول الكافي ج 1 ص 445.

الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (1).

اختلف في الأنفال ما هي فقال ابن عبّاس وجماعة إنّها غنيمة بدر وقال قوم هي أنفال السرايا وقيل هي ما شذّ من المشركين من عبد وجارية من غير قتال وقال قوم هي الخمس والصحيح ما قاله الباقر والصادق عليهما السلام أنّها ما أخذ من دار الحرب من غير قتال كالّذي انجلى عنها أهلها وهو المسمّى فيئا وميراث من لا وارث له وقطائع الملوك إذا لم تكن مغصوبة والآجام وبطون الأودية والموات فإنّها لله ولرسوله وبعده لمن قام مقامه يصرفه حيث يشاء من مصالحه ومصالح عياله (2) وقال الصادق عليه السلام « إنّ غنائم بدر كانت للنبيّ صلى اللّه عليه وآله خاصّة فقسّمها بينهم تفضّلا منه صلى اللّه عليه وآله » (3) وهو مذهب أصحابنا الإماميّة ويؤيّده أنّ الأنفال جمع نفل وهو الزيادة على شي ء سمّي به لكونه زائدا على الغنيمة كما سمّيت النافلة نافلة لزيادتها على الفرض وسمّي ولد الولد نافلة لزيادته على الأولاد وقيل سمّيت الغنيمة نفلا لأنّ هذه الأمّة فضّلت بها على سائر الأمم. وهنا فوائد :

1 - هل الآية منسوخة؟ قال جماعة من المفسّرين نعم نسخت بآية ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ) إلخ (4) وقال الطبريّ وأصحابنا ليست منسوخة وهو الحقّ لعدم المنافاة بينها وبين آية الخمس لما ذكرنا من المغايرة بين الموضوعين.

2 - هل حكم الأنفال باق بعد الرسول صلى اللّه عليه وآله قال سعيد بن المسيّب وجماعة لا نفل بعده ومنعه جماعة من الفقهاء وأصحابنا لما بيّنّا أنّها للإمام القائم مقامه.

ص: 254


1- الأنفال : 1.
2- تفسير العياشي ج 2 ص 47 ، الوسائل ب 1 من أبواب الأنفال فيه 33 حديثا.
3- مجمع البيان ج 4 ص 517.
4- الأنفال : 41.

3 - قال قوم : إنّها نزلت في غنائم بدر لاختلاف وقع بينهم فيها (1) وقيل : إنّ أصحابه سألوه غنيمة بدر فأعلمهم اللّه أنّ ذلك لله ولرسوله ليس لهم فيه شي ء وعن ابن عباس أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال يوم بدر من فعل كذا فله كذا فانبعث الشبّان وبقي الشيوخ تحت الرايات فلمّا كانت [ وقت ] (2) الغنيمة جاءت الشبّان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ لا تستأثروا علينا فانّا كنّا ردءا لكم فنزلت الآية فقسّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بينهم بالسويّة وقال عبادة بن الصامت اختلفنا في النفل وساءت فيه اختلافنا فنزعه اللّه من أيدينا فجعله إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقسّمه بيننا على السواء.

4 - فايدة الجمع بين اللّه و [ بين ] رسوله في الآية كفائدته في قوله تعالى ( فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) (3) أي ملكه لله ورسوله وتخصيصها علم بفعل الرسول صلى اللّه عليه وآله فإنّ فعله حجّة كقوله وقال الزمخشريّ إنّ حكمها يختصّ بهما : اللّه حاكم والرسول منفذ.

5 - « فَاتَّقُوا اللّهَ » أي في المنازعة في الأنفال « وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ » أي الحال الّتي بينكم من المنازعة وقال الزجّاج « ذاتَ بَيْنِكُمْ » أي حقيقة وصلكم ومنه ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) (4) أي وصلكم واجتماعكم على أوامر اللّه « وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ » إن كنتم كاملين في الإيمان أو أنّ طاعة اللّه ورسوله من لوازم الايمان فالتزموا باللّازم إن كنتم صادقين في الملزوم.

الرابعة (5) ( وَما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ

ص: 255


1- راجع الدر المنثور ج 3 ص 158 ، سيرة ابن هشام ج 1 ص 666.
2- فلما جمعت الغنيمة خ ل.
3- الأنفال : 41.
4- الأنعام : 94.
5- في النسختين المطبوعتين : « السادسة ( 6 - و ) قوله تعالى « وَما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ » أى والذي أفاءه اللّه » إلخ من دون ذكر الآية بتمامها وهو سهو والصحيح ما أثبتناه في الصلب وفقا للنسخ المخطوطة التي عندنا فإنها آية مستقلة كالثالثة معطوفة عليها.

وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ) (1).

أي والّذي أفاءه اللّه أي ردّه إليه من أموال اليهود فذلك لم توجفوا أي لم تسيروا إليه بخيل - والإيجاف من الوجيف وهو سرعة السير - ولكن بقدرة اللّه تعالى وتسليطه لرسوله عليهم.

ثمّ قال ( ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) (2) بيان للأولى ولذلك لم يعطفه عليه « فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ » قيل كان قسمة الفي ء في مبدء الإسلام هكذا مسدّسة ثمّ نسخ ذلك بالآية المتقدّمة. ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ) (3) وقيل بل ذلك إشارة إلى قسمة غنيمة بدر الّتي كانت تختصّ بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وفيه نظر لأنّ هذه على تقدير كونها بيانا للأولى تكون في أحكام بني النضير والأولى واللّه أعلم أن لا تكون بيانا بل تكون إشارة إلى قسمة الخمس ستّة أقسام ويكون المذكورون مع الرسول هنا هم مستحقّي الخمس وقد تقدّم بيانهم وهذا أجود الوجوه ويكون قوله تعالى ( كَيْ لا يَكُونَ ) أي الّذي أفاءه اللّه على رسوله « دُولَةً » أي متداولا « بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ » فيمنعونه مستحقّه.

واعلم أنّ لمباحث الخمس تفصيلا وشروطا علمت من بيانه صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة [ المعصومين ] عليهم السلام مذكورة في كتب الفقه (4).

ص: 256


1- الحشر : 6.
2- الحشر : 7.
3- الأنفال : 41.
4- لا يخفى أن في نسخة من النسخ المخطوطة التي عندنا وهي المؤرخة كتابتها بسنة 979 تأخير كتاب الصوم الى هنا فيكون ترتيبه بعد كتاب الصلاة : كتاب الزكاة ، كتاب الخمس ، كتاب الصوم ، كتاب الحج ، وباقي النسخ على ما أثبتناه كالمطبوعتين.

كتاب الحج

اشارة

وهو لغة القصد المتكرّر وشرعا قيل هو القصد إلى بيت اللّه لأداء مناسك مخصوصة عنده وفيه نظر لاستلزامه خروج عرفة ومناسك منى من البين بل خروج سائر المناسك لانطباقه على من يقصد البيت لأداء المناسك ولم يؤدّها وقيل هو اسم لمجموع المناسك المؤدّاة في المشاعر المخصوصة وفيه أيضا نظر لأنّ من أخلّ ببعضها سهوا ممّا ليس بمبطل للحجّ يصحّ حجّه ويسمّى حاجّا مع أنّه ما أتى بمجموع المناسك ولأنّه إن أراد المناسك الصحيحة لم يحتج إلى قوله المؤدّاة في المشاعر المخصوصة لأنّ الصحيح لا يكون إلّا كذلك وإن أراد الأعمّ دخل الفاسد هذا مع انطباقه على كلّ عبادة مقيّدة بمكان.

والأولى أن يقال إنّه القصد إلى بيت اللّه بمكّة مع أداء مناسك مخصوصة في مشاعر مخصوصة هناك.

واعلم أنّ التعريف الثاني فيه استعمال النقل والأوّل والثالث فيهما التخصيص وهو خير من النقل.

والحجّ من أعظم أركان الإسلام وأفضلها لأنّه تكليف شاقّ جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرّد عن الشهوات والإقبال على اللّه وهو من المعلوم وجوبه ومشروعيّته من دين الإسلام ضرورة والبحث [ فيه ] هنا أنواع :

ص: 257

[ النوع ] الأول : ( في وجوبه )

اشارة

وفيه آيتان :

الاولى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (1).

اللّام في « لَلَّذِي » لام تأكيد وقع في خبر إنّ و « مُبارَكاً » منصوب على الحال قيل والعامل فيه وضع وقيل العامل متعلّق الجارّ والمجرور يعني « بِبَكَّةَ » أي استقرّ ببكّة مباركا فعلى الأوّل يجوز أن يكون قد وضع قبله بيت وعلى الثاني لا يجوز. وبكّة ومكّة لغتان (2) وقيل مكّة البلد كلّه وبكّة موضع المسجد وقيل هو مشتقّ من بكّة إذا زحمه سمّيت بذلك لازدحام الناس بها وقيل لأنّها تبك أعناق الجبابرة أي تدقّها إذا قصدوها بالأذى وهنا بحثان :

ص: 258


1- آل عمران : 96.
2- لمكة زادها اللّه شرفا سبعة عشر اسما : 1 و 2 - مكة وبكة ، قال الماوردي في الأحكام السلطانية في الباب الرابع عشر ص 157 : اختلف الناس في هذين الاسمين فقال قوم هما لغتان والمسمى بهما واحد لان العرب تبدل الميم بالباء فتقول ضربة لازم وضربة لازب لقرب المخرجين وهذا قول مجاهد ، وقال آخرون : بل هما اسمان والمسمى بهما شيئان لأن الاختلاف في الأسماء موضوع لاختلاف المسمى ، ومن قال بهذا اختلف في المسمى بهما على قولين أحدهما ان مكة اسم للبلد كله وبكة اسم البيت وهذا قول إبراهيم النخعي ويحيى بن أبي أيوب ، والثاني أن مكة الحرم وبكة المسجد ، وهو قول الزهري وزيد بن أسلم انتهى ما في الأحكام السلطانية. وفي تفسير البرهان ج 2 ص 300 عن جابر عن ابى جعفر عليه السلام أن بكة موضع البيت وان مكة جميع ما اكتنفه الحرم وفيه عن الحلبي عن ابى عبد اللّه عليه السلام سألته : لم سميت بكة بكة؟ قال لان الناس يبك بعضهم بعضا بالأيدي ، وفي رواية عن موسى بن جعفر عليه السلام يعنى يدفع بعضهم بعضا بالأيدي في المسجد حول الكعبة. 3 - صلاح على وزن قطام ، قال الماوردي : سميت بها لا منها وأنشد : أبا مطر هلم الى صلاح *** فيكفيك التدامى من قريش وتنزل بلدة عزت قديما *** وتأمن أن يزورك رب جيش 4 - أم رحم ، قال الماوردي : لان الناس يتزاحمون بها ويتنازعون ، قلت وأظن أنه من غلط الناسخ والظاهر أن الأصل : لأن الناس يتراحمون فيها ويتوادعون ، وكذلك نقله النووي عنه في تهذيب الأسماء واللغات ، وأم رحم بالراء المهملة المضمومة والحاء المهملة الساكنة ، صرح به ياقوت في معجم البلدان. 5 - إلباسه ، قال الماوردي : لأنها تبس من ألحد ، أى تحطمه وتهلكه ، قال : ومنه « وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ». 6 - البساسة ، في الخصال ج 1 ص 131 أبواب الخمسة : عن أبى عبد اللّه عليه السلام أن أسماء مكة خمسة : أم القرى ، ومكة ، وبكة ، والبساسة ، إذا ظلموا بها بستهم أى أخرجتهم وأهلكتهم ، وأم رحم إذا لزموا رحموا. 7 - الناسة ، قال الماوردي معناه أنها تنس من ألحد فيها أى تطرده وتنفيه وقال الجوهري في صحاحه : قال الأصمعي : النس اليبس قال : ومنه قيل لمكة الناسة لقلة مائها. 8 - الحاطمة ، لحطمها الملحدين. 9 - الرأس ، قال ياقوت : لأنها مثل رأس الإنسان. 10 - كوبى ، باسم بقعة كانت منزل بنى عبد الدار ، ذكره ياقوت. 11 و 12 - القادس والمقدسة ، لأنها تقدس من الذنوب اى تطهر. 13 - العرش. 14 - المذهب ذكره ياقوت وأنشد معه شعرا. 15 و 16 و 17 - البلد ، والبلد الأمين ، وأم القرى. سماها اللّه تعالى كما تقرأ ( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ) الآية 92 سورة الانعام ، ( وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) الآية 3 سورة التين و ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) سورة البلد الآية الاولى. وفي تفسير البرهان ج 2 ص 540 عن العياشي ، عن على بن أسباط قال قلت لأبي جعفر عليه السلام لم سمي النبي الأمي قال نسب إلى مكة وذلك من قول اللّه تعالى ( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) وأم القرى مكة ومن حولها الطائف. قال الشريف الرضى في كتابه تلخيص البيان ص 36 : والمراد بأم القرى مكّة وانما سماها سبحانه بذلك لأنها كالأصل للقرى وكل قرية كأنما هي طارئة ومضافة إليها.
[ البحث ] الأول

قوله « وُضِعَ لِلنّاسِ » أي لعبادتهم سئل النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن أوّل مسجد وضع فقال المسجد الحرام ثمّ بيت المقدس وسئل عليّ عليه السلام أهو أوّل بيت قال لا قد كان قبله بيوت لكنّه أوّل بيت وضع للناس وأوّل من بناه إبراهيم عليه السلام ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم ثمّ هدم فبنته العمالقة ثمّ هدم فبناه قريش وعن ابن عباس هو أوّل بيت حجّ بعد الطوفان وقيل أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماوات

ص: 259

والأرض خلقه اللّه قبل أن خلق الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء ثمّ دحيت الأرض من تحته وهذا القول محمول على مكان البيت نفسه وقيل أوّل بيت بناه آدم عليه السلام في الأرض وقيل [ إنّه ] لمّا اهبط آدم عليه السلام قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به الملائكة وقيل إنّه أوّل بيت بالشرف لا بالزمان (1)

وعن أبي خديجة « عن الصادق عليه السلام أنّ اللّه أنزله من الجنّة وكان درّة بيضاء فرفعه اللّه إلى السماء وبقي أساسه وبني بحيال هذا البيت يدخله كلّ يوم سبعون

ص: 260


1- راجع الأقوال والروايات في الدر المنثور ج 2 ص 52 وفيه مزيد فائدة.

ألف ملك ثمّ لا يرجعون إليه أبدا فأمر اللّه إبراهيم وإسماعيل ببنيان البيت على القواعد » (1).

« مُبارَكاً » كثير الخير والبركة لما يحصل لمن حجّه وعكف عنده من مضاعفة الثواب وتكفير الذنوب ولما يحصل لمن قصده من نفي الفقر وكثرة الرزق « وَهُدىً لِلْعالَمِينَ » لأنّه متعبّدهم « فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ » أي دلالات واضحات كإهلاك أصحاب الفيل وغيرهم واجتماع الظبي مع الكلب في حرمة فلا ينفر عنه مع نفرته في غيره وأنّ الطير لا تعلوه.

قوله تعالى « مَقامُ إِبْراهِيمَ » قيل هو عطف بيان لآيات ولذلك قرأ ابن عباس آية بيّنة والمشهور الجمع وعليه التواتر فعلى هذا كيف يصحّ بيان الجمع بالواحد أجيب إمّا بأن يكون بمنزلة الجمع نحو قوله ( إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ) (2) وفيه نظر لأنّه مجاز أو بأنّ المقام يشتمل على آيات كأثر رجليه في الحجر وغوصهما فيه إلى الكعبين ولأنه بعض الصخرة دون بعض وحفظه من المشركين مع كثرة أعدائه وإبقائه [ إلى ] مدّة من السّنين فساغ البيان به وفيه أيضا نظر لأنّ المقام نفسه ليس بآية بل فيه الآيات فلا يجوز جعل ما فيه الآيات عطف بيان لنفس الآيات لوجوب توارد البيان والمبيّن على ذات واحدة ، أو يكون « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » آية ثانية ويكون الآيتان جمعا أو الآيات الباقية مطويّة كقول جرير :

كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم

من العبيد وثلث من مواليها(3)

ومنه قوله صلى اللّه عليه وآله « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرّة عيني في الصلاة » (4) وفيه أيضا نظر لأنّ الطيّ إنّما يكون إذا وجدت دلالة على المطويّ

ص: 261


1- هكذا رواه في المجمع ج 2 ص 477 واما في الكافي ج 4 ص 189 : ان اللّه أنزل الحجر لادم عليه السلام من الجنة وكان البيت درة بيضاء فرفعه اللّه عزوجل الى السماء الحديث.
2- النحل : 120.
3- البيت لجرير بن عطية من قصيدة له في ديوانه 599 و 600 وترى أشطرا منها في البيان والتبيين ج 3 ص 84 فراجع.
4- السراج المنير ج 2 ص 220.

كقول جرير فإنّه يعلم أنّ الثلث الباقي من الأوساط ليسوا من العبيد ولا الموالي ولا نسلّم أنّ قوله صلى اللّه عليه وآله من الطيّ.

والّذي يقوى في الظنّ أنّ « مَقامُ إِبْراهِيمَ » عطف بيان لخبر إنّ وهو « لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً » فانّ الحرم كلّه مقام إبراهيم فضلا عن البيت وحده كما يقال مكّة مقام فلان فإنّه لا يشترط مساواته للمقيم كما يقال فلان في السوق وفي المسجد ولذلك قيل إنّ سبب نزول الآية الردّ على اليهود في تفضيلهم بيت المقدس على المسجد الحرام والكعبة فعبّر سبحانه عن ذلك بمقام إبراهيم (1) وعلى هذا يكون الآيات مطويّة غير مذكورة وقد ذكرنا طرفا منها.

قوله « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » ليس معطوفا على « مقام » ليكونا عطف بيان لما عرفت من ضعفه بل هو عطف على ما سبق من كونه هدى وفيه آيات بيّنات وشرف آخر له وهو كونه أمنا لمن دخله وحينئذ يحتمل أن يكون خبرا عن إجابة دعاء إبراهيم في قوله تعالى ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (2) فانّ اللّه تعالى ألان قلوب العرب لحصول هذا الغرض حتّى أنّ الرجل منهم لو جنى أيّ جناية [ في غير الحرم ] ثمّ التجأ إلى الحرم لم يطلب.

ويحتمل أن يكون أمرا أي من دخله فليكن آمنا وذلك أيضا لا يخرجه عن الشرف لأنّ هذا الأمر معلّل بشرف ذلك المكان ولذلك حكم أصحابنا بأنّ من وجب عليه حدّ أو تعزير أو قتل ثمّ التجأ إلى الحرم لم يتعرّض بل يضيّق عليه

ص: 262


1- قال السيوطي في الدر المنثور : أخرج ابن المنذر والأزرقي عن ابن جريج قال بلغنا ان اليهود قالت بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ولأنه في الأرض المقدسة فقال المسلمون بل الكعبة أعظم فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وآله فنزلت ان أول بيت الآية الى قوله فيه آيات بينات ، مقام إبراهيم ، وليس ذلك في بيت المقدس ومن دخله كان آمنا وليس ذلك في بيت المقدس ولله على الناس حج البيت وليس ذلك لبيت المقدس. راجع ج 2 ص 52.
2- البقرة : 126.

مطعما ومشربا حتّى يخرج وبه قال أبو حنيفة خلافا للشافعيّ وعن الباقر عليه السلام « من دخله عارفا بجميع ما أوجبه اللّه عليه كان آمنا في الآخرة من العذاب الدائم » (1).

قوله « ولله » أي هو حقّ له على المستطيع منهم. قوله « فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ » لمّا ذكر أنّه حقّ له أوهم أنّ ذلك للحاجة إليه فأزال ذلك الوهم بذكر الاستغناء وهذا البحث بطوله وإن لم يكن من الفقه لكنّه نافع فيه.

البحث الثاني

قوله « وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ » هنا مسائل :

1 - « عَلَى النّاسِ » عامّ أبدل منه « مَنِ اسْتَطاعَ » بدل البعض من الكلّ وهو عامّ للذكور والإناث والخناثى ، خصّ بمنفصل إمّا عقلا وهو اشتراط الفهم للخطاب لاستحالة تكليف غير الفاهم أو نقلا وهو قوله صلى اللّه عليه وآله « رفع القلم عن ثلاثة عن الصبيّ حتّى يبلغ والمجنون حتّى يفيق والنائم حتّى ينتبه » (2) فخرج حينئذ الصبيّ والمجنون عن الوجوب ولمّا كان العبد محجورا عليه لا قدرة له على التصرّف في نفسه لم يكن مستطيعا فخرج أيضا من العموم.

2 - لم نسمع خلافا في أنّ تخلية السرب واتّساع الزمان والسلامة من المرض المانع من السفر شروط في الاستطاعة فلا يجب على فاقد واحد منها لعدم استطاعته.

3 - ورد في الحديث عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه فسّر الاستطاعة بالزاد والراحلة

ص: 263


1- أرسل مضمونه في المجمع ج 2 ص 478 والروايات بمضمونها في تفسير العياشي ج 1 ص 190.
2- السراج المنير ج 2 ص 317 من حديث عائشة وعمر ، وأخرجه في الوسائل عن الخصال ب 4 من أبواب مقدمة العبادات ح 11 وفي مستدركة عن دعائم الإسلام ج 1 ص 7.

ولذلك قال الشافعيّ أنّها بالمال فأوجب الاستنابة على الزمن المقعد إذا وجد اجرة من ينوبه وقال مالك إنّها بالبدن فيجب عنده على من قدر على المشي والتكسّب في الطريق وقال أبو حنيفة إنّها بمجموع الأمرين فلم يوجب إلّا على من قدر على الزاد والراحلة ونفقة الذهاب والإياب فاضلا عن حوائجه الأصليّة ونفقة عياله إلى حين عوده وبذلك قال أصحابنا الإماميّة غير أنّ بعضهم يشترط مع ذلك الرجوع إلى كفاية من مال أو صناعة أو حرفة ويحتجّ على ذلك بما رواه أبو الربيع الشاميّ (1) « عن الصادق عليه السلام أنّه سئل ما الاستطاعة؟ فقال ما يقول هؤلاء؟ فقيل يقولون الزاد والراحلة فقال عليه السلام قد قيل ذلك لأبي جعفر عليه السلام فقال هلك الناس إذن إذا كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما ممّا يمون به عياله ويستغني عن الناس يجب عليه الحجّ ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفّه فقد هلك إذن ، فقيل له ما السبيل عندك يا ابن رسول اللّه فقال : السعة في المال وهو أن يكون له ما يحجّ ببعضه ويبقى بعضه يمون به عياله ثمّ قال أليس قد فرض اللّه الزكاة فلم يجعل إلّا على من ملك مائتي درهم ».

ص: 264


1- رواه المشايخ الثلاثة تراه في الوسائل ب 9 من أبواب وجوب الحج ، ح 1 وأبو الربيع الشامي هو خالد بن أوفى أو خليد بن أوفى قال العلامة البهبهاني قدس سره في حواشيه الرجالية على منهج المقال ص 128 عند ترجمة خالد بن أوفى : الظاهر أنه خليد مصغر خالد فإنهم ربّما كانوا يصغرون كما في عثمان وسالم وعباس ونظائرها ويقولون عثيم وسليم وعبيس الى غير ذلك ، وربما كان في بعض المواد تصغيرهم أكثر وأشهر ، ولعل ما نحن فيه منه ، ثم قال وقال جدي بعد حكمه بالاتحاد : وكان يسمى بهما أو كان الاسم خالد فاشتهر بخليد نبزا في الألقاب وهو كثير في العرب. ثم ذكر قدس سره في حاشيته عند ترجمة ابى الربيع في الكنى ص 389 من منهج المقال : وحكم خالي بحسنه وفي باب حب الرئاسة حديث يدل على تشيعه ويستفاد ذم بالنسبة إليه انتهى ما أفاده البهبهاني قدس سره والراوي عن ابى الربيع هو خالد ابن جرير ، ويستفاد من الكشي حسنه انظر ص 295 طبعة النجف وان استشكل عليه الشهيد الثاني قدس سره ، الا أن الراوي عنه هذه الرواية الحسن بن محبوب وهو من أصحاب الإجماع.

والجواب بالمنع من صحّة السند (1) وبتقدير صحّته نحملها على أن يبقى له ما يمون به عياله لذهابه وإيابه والأقوى الأوّل لظاهر الآية ولروايات كثيرة عن الباقر والصادق عليهما السلام ولمراعاة جانب الاحتياط.

فائدة : لا يشترط عندنا ملك الزاد والراحلة بل التمكّن من الانتفاع بهما فلو بذل له باذل وجب عليه لصدق الاستطاعة (2) في حقّه وقال أبو حنيفة وأحمد و

ص: 265


1- قلت : لا إشكال في السند مع اعتماد القوم به وقد رواه المشايخ الثلاثة الا أن مفاده ليس إلا نفقة العيال حال السفر مع أن منصرف الحديث صورة العجز على نحو يؤدى الى الهلاك. وفي المسئلة حديث آخر أخرجه في الوسائل ب 9 من أبواب وجوب الحج ح 4 عن الخصال رواه عن الأعمش عن الصادق عليه السلام في تفسير السبيل بأنه هو الزاد والراحلة وأن يكون للإنسان ما يخلفه على عياله وما يرجع اليه من بعد حجه. ولا يخفى عليك انه مع قطع النظر عن السند ( وان كان السند عندي لا يخلو من قوة ) مجمل من حيث المدة وانها سنة أو أقل أو أكثر ، ومن حيث الكم وأنه قليل أو كثير ، وحمله على ما لا بد منه عند الرجوع بقرينة دليل نفى الحرج رجوع الى الدليل المذكور. وفي مجمع البيان أيضا أن المروي عن أئمتنا أنه الزاد والراحلة ونفقة من تلزمه نفقته والرجوع الى الكفاية اما من مال أو ضياع أو حرفة. ذكره في الوسائل ب 9 من أبواب وجوب الحج الرقم 5 ، ولا يخفى عليك أن عده من قسم الخبر لا يخلو عن اشكال لظهوره في كونه من باب بيان المضمون بحسب فهم الناقل فهو أشبه بالفتوى من الخبر ولا سيما مع تفرده في نقل ذلك دون غيره من ائمة الحديث. فالأقوى ما اختاره المصنف وفاقا لابن إدريس والمحقق والعلامة نعم ان كان مراد القائلين باعتبار الرجوع الى الكفاية في الاستطاعة ( كالشيخين والحليين وابني حمزة وسعيد وعدة من العلماء ) المعنى الذي يقتضيه دليل نفى الحرج فهو في محله وان كان مرادهم المعنى الذي يظهر من نفس الكلام فلا دليل عليه بل إطلاق أدلة الوجوب ينفيه.
2- ويشهد له جملة من النصوص كصحيح محمد بن مسلم المرادي في كتاب التوحيد : وسألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّه عزوجل ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) قال : يكون له ما يحج به ، قلت فمن عرض عليه الحج فاستحيى؟ قال : هو ممن يستطير. انظر الوسائل ب 10 من أبواب وجوب الحج.

مالك لا يجب وللشافعيّ قولان.

4 - أنّ الوجوب المذكور على الفور تضيّقا لا يجوز معه التأخير وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعيّ إنّه واجب موسّع محتجّا بأنّ آية الحجّ نزلت ولم يحجّ عليه السلام إلّا في حجّة الوداع أجيب بأنّه أخّر لعدم الاستطاعة لأنّه كان قد هادن أهل مكّة أن لا يأتي إليهم فلمّا نزلت آية الحجّ سار إلى أن وصل الحديبية فصدّوه فحلق وأحلّ (1).

ثمّ الّذي يدلّ على أنّها على الفور عموم قوله تعالى ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) أي ما هو سبب المغفرة والحجّ كذلك ولقوله صلى اللّه عليه وآله « من وجب عليه الحجّ فلم يحجّ فليمت يهوديّا أو نصرانيّا » (3) أتى بفاء التعقيب ورتّب الوعيد وهو صريح في الفوريّة.

5 - أنّه يجب في العمر مرّة واحدة لأنّ اللّفظ المطلق يحمل على أقلّ مراتبه لأصالة البراءة من الزائد ولأنّ الأمر لا يقتضي التكرار ولما رواه ابن عباس « قال لمّا خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالحجّ قام إليه الأقرع بن حابس فقال أفي كلّ عام فقال عليه السلام لا ولو قلت نعم لوجب ولو وجب عليكم لم تعملوا بها ، الحجّ في العمر مرّة [ واحدة ] فمن زاد فتطوّع فنزلت ( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ) (4) الآية.

ص: 266


1- لكنه لا يصح فيما بعد عام الفتح فإنه فتح مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة ولم يحج رسول اللّه لا في تلك السنة ولا في السنة التي بعدها وهي سنة تسع وقد حج في السنة التاسعة أمير المؤمنين على عليه السلام والمسلمون وقد أدى عنه آيات أول براءة ونبذ الى المشركين عهدهم اللّهم الا ان يكون التأخير لأجل دوران النسي ء.
2- آل عمران : 133.
3- رواه في الدر المنثور ج 2 ص 58 بألفاظ مختلفة وطرق متعددة.
4- المائدة : 104. والحديث رواه أبو داود في سننه ج 1 ص 400 ومثله في الدر المنثور ج 2 ص 335.

6 - أنّه تعالى ذكر في الآية [ أمورا ] من التوكيد لأمر الحجّ ما لم يذكره في غيرها من وجوه الأوّل إيراده بصيغة الخبر الثاني إيراده في صورة الاسميّة الثالث إيراده على وجه يفيد أنّه حقّ لله في رقاب الناس الرابع تعميم الحكم أوّلا ثمّ تخصيصه وهو كايضاح بعد إبهام وتثنية وتكرار للمراد فهو أبلغ من ذكره مرّة واحدة الخامس تسمية ترك الحجّ كفرا من حيث إنّه فعل الكفرة وأنّ تركه من أعظم الكبائر ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « فليمت » الخبر ، السادس ذكر الاستغناء فإنّه في هذا الموضع يدلّ على شدّة المقت والخذلان وعظم السخط السابع قوله « عَنِ الْعالَمِينَ » ولم يقل عنه لما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنّه إذا استغنى عن العالمين فقد استغنى عنه لا محالة ولأنّه يدلّ على الاستغناء الكامل فكان أدلّ على السخط.

7 - روى محمّد بن الفضيل « عن الكاظم عليه السلام في قوله ( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) (1) أنّهم الّذين يتمادون بحجّ الإسلام ويسوّفونه (2) وروى معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ) المراد من تحتّم عليه الحجّ ولم يحجّ [ أعمى أي ] أعمى عن طريق الخير » (3) وقيل في قوله تعالى ( فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ ) (4) أنّه أمر بالحجّ أي حجّوا إلى بيت اللّه وفيه دليل على أنّ الحجّ كفّارة للذنوب أي ففرّوا إلى اللّه من ذنوبكم.

ص: 267


1- الكهف : 104.
2- لم نعثر عليه. نعم روى محمد بن الفضل قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن قول اللّه عزوجل ( وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) ( الاسراء : 72 ) فقال : نزلت فيمن سوف الحج حجة الإسلام وعنده ما يحج به ، فقال : العام أحج ، العام أحج ، حتى يموت قبل أن يحج. ( راجع الوسائل ب 6 من أبواب وجوب الحج ح 8 تفسير العياشي ج 2 ص 305 ).
3- الوسائل ب 6 من أبواب وجوب الحج ح 2 والآية في طه : 124.
4- الذاريات : 50.

الثانية ( وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (1).

قيل الخطاب لإبراهيم عليه السلام قال ابن عبّاس قام في المقام - وعنه أنّه قام على جبل أبي قبيس - ووضع إصبعيه في اذنيه وقال يا أيّها الناس أجيبوا ربّكم فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء وقال الحسن والجبائيّ الخطاب لرسول اللّه (2) وكذلك روي عن الصادق عليه السلام : « أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مناديه أن يؤذّن في الناس بالحجّ فاجتمع بالمدينة خلق كثير من الأعراب وغيرهم وأكثر أهل الأموال (3) من أهل المدينة وخرج لأربع بقين من ذي القعدة فلمّا انتهى إلى مسجد الشجرة وكان وقت الزوال اغتسل ونوى حجّ القرآن بعد أن صلّى الظهرين » (4) وسيأتي تمام الحديث. ثمّ هنا أحكام :

1 - « يَأْتُوكَ رِجالاً » مجزوم على جواب الأمرورجال جمع راجل كقيام جمع قائم أي يأتوك مشاة « وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ » أي كلّ جمل أو ناقة ضامر أي من شأنه أن يهزل من طول السّري (5) أي ركبانا على كلّ ضامر فهو حال معطوف على حال « ويأتين » صفة « لضامر » وقرئ شاذّا يأتون صفة لرجال وركبان.

ص: 268


1- الحج : 27.
2- الدر المنثور ج 4 ص 354.
3- كذا في النسخ ولفظ الحديث « أهل العوالي » وهو الصحيح.
4- الوسائل ب 2 من أبواب أقسام الحج ح 4.
5- السير خ ل والسري : السير بالليل.

والفجّ الطريق والعميق البعيد الأطراف أي من المفازات ومنه بئر عميق أي بعيد القعر وفيها دلالة على راجحيّة المشي في الحجّ من حيث ابتدء بذكره وهو يدلّ على الاهتمام به وأيضا أتى بلفظ يدلّ عليه صريحا ولكونه أشقّ فيكون أفضل ومنهم من فضّل الركوب لاشتماله على استخدام المال والبدن والحقّ أنّ المشي إذا لم يضعّف عن العبادة فهو أفضل لما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « للحاجّ الراكب بكلّ خطوة يخطوها راحلته سبعون حسنة وللحاجّ الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل وما حسنات الحرم قال الحسنة بمائة ألف » (1) وكان الحسن بن عليّ عليه السلام يمشي في الحجّ والبدن تساق بين يديه (2).

2 - « لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ » قيل هي التجارات وهي ترغيب فيها لكون مكّة واديا غير ذي زرع ولولا الترغيب لتضرّر سكّانها ولذلك قال إبراهيم عليه السلام ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (3) وقيل منافع الآخرة وهي الأجر والعفو والمغفرة وهو مرويّ عن [ الصادق و ] الباقر عليه السلام (4) ولو حمل على منفعتي الدنيا والآخرة لما كان بعيدا من الصواب ولذلك نكّر المنافع الدالّ ذلك على تكثيرها.

ص: 269


1- الدر المنثور ج 4 ص 355. المحاسن ص 70.
2- مستدرك الوسائل ج 2 ص 6.
3- إبراهيم : 37. قال الشريف الرضى في تلخيص البيان ص 98 : وهذه من أحسن الاستعارات ، وحقيقة الهوى : من علو الى انخفاض كالهبوط ، والمراد هنا البلاغة في صفة الأفئدة بالنزوع الى المقيمين بذلك المكان ولو قال سبحانه « تحن إليهم » لم تكن فيه من الفائدة ما في قوله « تَهْوِي إِلَيْهِمْ » لأن الحنين قد يوصف به من هو مقيم في مكانه والهوى يفيد انزعاج الهاوي من مستقرة.
4- في نسخة من النسخ المخطوطة كما أثبتناه في الصلب : عن الصادق والباقر عليهما السلام وفي سائر النسخ المطبوعة والمخطوطة عن الباقر [ الصادق خ ل ] وكيف كان أرسله في المجمع ج 7 ص 81 عن الباقر عليه السلام ورواه في البرهان ج 3 ص 87 عن الصادق عليه السلام.

3 - « وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ » قال الحسن هي عشر ذي الحجّة وسمّيت معلومات للحرص على علمها من أجل وقت الحجّ وبه قال أبو حنيفة وقيل هي أيّام التشريق يوم النحر وثلاثة بعده وكذا الخلاف في المعدودات قيل هي العشرة وقيل هي الثلاثة وهو أقوى لقوله ( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (1) والتعجيل لا يتصوّر في العشرة ويؤيّد القول الثاني في المعلومات أنّ الذكر على البهيمة هو التسمية على ما يذبح أو ينحر وذلك يقع فيها وعن الصادق عليه السلام أنّ الذكر هنا هو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة أوّلها ظهر العيد (2) وهو أيضا مؤيّد للقول الثاني وهو المرويّ عن الباقر عليه السلام (3) هذا ويجب على الفقيه معرفة هذه من هذه ليفتي بها لو نذر شخص الصدقة أو الصلاة أو غيرهما في أحد الأيّامين.

4 - « بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ » هي الإبل والبقر والغنم من باب إضافة العامّ إلى الخاصّ كحركة نقلة وأصل البهيمة من الإبهام وهو عدم الإيضاح والذكر عليها هو التسمية والنيّة للتضحية والأمر بالأكل هنا للإباحة أو الندب والأمر في الإطعام للندب لا للوجوب هذا إن كان الذّبح لغير الهدي والتضحية وإلّا فالأمران في الهدي للوجوب وفي الأضحيّة للندب والبائس ذو ضرر من الفقر.

« ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ » عن ابن عباس ليقضوا مناسك الحجّ كلّها وعن الحسن ليزيلوا قشف الإحرام من تقليم ظفر وأخذ شعر وغسل رأس واستعمال طيب وفي الأوّل نظر لأنّه ذكره بعد الذّبح بكلمة « ثمّ » الدالّة على الترتيب والتراخي ولم يقع جميع المناسك [ للطواف ] بعد الذبح بالإجماع فيحمل على ما يفعل بعد الذبح من الحلق والرمي وغيرهما من المناسك ويكون عطف الطواف من باب « [ مَلائِكَتِهِ ] وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ » (4). و ( فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ ) (5).

ص: 270


1- البقرة : 203.
2- مجمع البيان ج 7 ص 81.
3- مجمع البيان ج 7 ص 81.
4- البقرة : 98.
5- الرحمن : 68.

6 - « وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ » أي ما نذروه من الحجّ أو غيره من الطاعات في تلك الأيّام فيضاعف لهم الثواب ، وفيه دلالة على وجوب إيفاء النذر مطلقا مع حصول شرائطه.

7 - « وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ » صريح في الأمر بالطواف بالبيت الدالّ على الوجوب اتّفاقا لكنّه مجمل علم بيانه من الرسول صلى اللّه عليه وآله لقوله صلى اللّه عليه وآله « خذوا عنّي مناسككم » (1) فيكون شاملا لطواف الزيارة والنساء وغيرهما من طواف العمرة فلا وجه [ حينئذ ] لحمله على طواف الزيارة لا غير أو النساء لا غير.

وسمّي البيت عتيقا لأنّ اللّه أعتقه من الغرق في الطوفان أو أعتقه من أيدي الجبابرة وحفظه منهم كما فعل بأبرهة لمّا قصده بالسوء فأهلكه ولا ينتقض بالحجّاج لعنه اللّه قيل لأنّه لم يقصد البيت وإنّما قصد أخذ ابن الزبير ولهذا لمّا قبضه بناه وليس بشي ء لأنّ إقدامه على تلك الفعلة قبيح ومخالف لقوله تعالى ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (2) بل الأولى في الجواب أنّه إنّما لم يهلكه لبركة سيّدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فانّ هذه الأمّة معصومة من عذاب الاستيصال في الدنيا وقيل سمّي عتيقا لقدم عهده فإنّه بناه آدم عليه السلام ثمّ إبراهيم عليه السلام وقيل لأنّه بيت كريم [ بناه كريم ] كما يقال عتاق الخيل [ والطير ] للكريم منهما.

ص: 271


1- سنن ابى داود ج 1 ص 456. ولفظه : لتأخذوا مناسككم فانى لا أدرى لعلي لا أحج بعد حجتي هذه.
2- آل عمران : 97.

النوع الثاني : ( في أفعاله وأنواعه وشي ء من احكامه )

اشارة

وفيه آيات :

الاولى ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) (1).

في الآية أبحاث

البحث الأول

تمام الحجّ والعمرة قيل هو أن يحرم بهما من دويرة أهله وقيل أن يفرد لكلّ واحد منهما سفرا وقيل أن يكون النفقة حلالا وقيل إخلاصهما للعبادة لا للمعاش والحقّ أنّ المراد أن يؤتى بجميع أجزائهما وكيفيّات تلك الأجزاء لكن [ ل ] كون كلّ واحد منهما مركّبا من أجزاء مختلفة ربّما يوهم أنّ من أتى ببعض تلك الأجزاء وأخلّ بالباقي عمدا يصحّ منه ذلك المأتيّ به ويجب عليه قضاء الباقي كمن صام بعض رمضان وترك الباقي وذلك وهم باطل فانّ كلّ واحد من تلك الأجزاء

ص: 272


1- البقرة : 196.

شرط في صحّة الباقي كأجزاء الصلاة فإذا لم يأت الحاجّ أو المصلّي بكلّ الأجزاء بطل حجّه وصلوته بخلاف الصوم فانّ كلّ يوم من [ أيّام ] رمضان عبادة مستقلّة لا ارتباط لها بيوم آخر ولا شرطيّة لأحدهما بالآخر ولذلك قال المحقّقون من أصحابنا : إنّ كلّ يوم من أيّام رمضان يفتقر إلى نيّة مستقلّة.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه يلزم من ذلك أحكام :

1 - ما قاله أصحابنا أنّ من أفسد حجّه وجب عليه إتمامه والحجّ من قابل لوجوب إتمام الحجّ والإفساد غير مانع منه. ثمّ إنّ الإفساد عندنا سبب مستقلّ لوجوب الحجّ كغيره من الأسباب كالنذر والاستيجار فيجب حجّ آخر غير الأوّل ولو كان مندوبا وكذا نقول فيمن أفسد صومه الواجب المعين أنّه يجب إتمامه وقضاؤه.

2 - استدلّ أصحابنا بالآية أيضا على وجوب إتمام الحجّ والعمرة المندوبين وتقريره يعلم ممّا تقدّم

3 - أنّ الأمر باتمامهما قد يستدلّ به (1) على وجوب كلّ واحد منهما لأنّ

ص: 273


1- إتمامهما لله دليل على انهما عبادتان يعتبر فيهما الإتيان بهما لله تقربا اليه والظاهر من سبك اللفظ ان قوله تعالى ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ) أمر وإيجاب لإيجادهما تامين بإجزائهما وشرائطهما المشروعة كقوله تعالى ( إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) ( الكهف : 30 ) أي أوجده حسنا ، وكقولهم : ضيق فم الركي ، وأطل جلفة قلمك وافرج بين سطورك ، وكثير من ذلك فمن مدلول الآية إيجاب العمرة كما في صحيح ابن أذينة عن أبى عبد اللّه عليه السلام ( رواه المشايخ الثلاثة راجع الوافي ج 5 ص 47 ) وفيه في قوله « وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ » يعني بتمامهما أداءهما واتقاء ما يتقى المحرم فيهما. وصحيح معاوية بن عمار عن الصادق عليه السلام ( رواه الكافي ج 4 ص 265 ) قال : العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج على من استطاع لان اللّه عزوجل يقول ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) وصحيح زرارة عن الباقر عليه السلام المروي في تفسير العياشي ج 1 ص 78 وفيه قال ان العمرة واجبة بمنزلة الحج لان اللّه تعالى يقول ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) هي واجبة مثل الحج وغيرها من الروايات تجدها في ب 1 من أبواب وجوب الحج وسائر الأبواب من كتاب حج الوسائل. ومن طرق أهل السنة قال في الدر المنثور ج 1 ص 209 : أخرج ابن عيينة والشافعي في الأم والبيهقي عن ابن عباس قال : واللّه انها لقرينتها في كتاب اللّه « وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ » وقال أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « ان الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت » وفيه أخبار أخر تدلّ على وجوب العمرة لا نطيل الكلام بذكرها. وقال الزمخشري في الكشاف ج 1 ص 261 في تفسير الآية عن عمر أن رجلا قال له انى وجدت الحج والعمرة مكتوبين على أهللت بهما جميعا فقال هديت؟؟؟ نبيك. وقد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبة مثال الحج. والعجب من صاحب الكشاف حيث قال في تفسير « أَتِمُّوا » أى ائتوا بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه اللّه ثم بعد ذلك حملهما على محض الأمر باتمامهما بعد الشروع فيهما ، واختار كون العمرة غير واجبة وأغرب في تأوله لحديث ابن عباس وعمر وقال ان الأمر بالإتمام للوجوب والندب كما تقول : صم شهر رمضان وستة من شوال ، تأمر بفرض وتطوع ، وقد قال في سورة المائدة في آية الوضوء ج 1 ص 448 ما معناه : لا يجوز ان يكون الأمر للوجوب والندب لان تناول الكلمتين لمعنيين مختلفين من باب الألغاز والتعمية. وقد نبه بهذا التدافع والغرابة في كلام صاحب الكشاف بما يعجب منه الناظر المحقق الأردبيلي قدس سره في زبدة البيان ص 128 وفيها مطالب مفيدة اخرى فراجع ، وأيد الإمام الرازي في تفسيره الكبير ج 5 ص 153 كون المراد بالإتمام الإتيان على نعت الكمال بلزوم كون الأمر على فرض كون المراد الإتمام بعد الشروع مشروطا وأنها أول آية نزلت في الحج وقال : حمل الأمر فيهما على إيجاب الحج أولى من حملهما على الإتمام بعد الشروع فيه. واستدل أيضا على وجوب العمرة بقوله تعالى ( يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) حيث يدل على على وجوب حج أصغر على ما عليه حقيقة أفعل وما ذاك إلا العمرة بالاتفاق وإذا ثبت أن العمرة حج وجب أن تكون واجبة لقوله تعالى ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ ) ولقوله ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ).

الأمر للوجوب ووجوب كلّ واحد من الأجزاء يستلزم وجوب الماهيّة المركّبة من

ص: 274

تلك الأجزاء ضرورة فتكون العمرة واجبة خلافا لأبي حنيفة فإنّه جعلها سنّة وكذا قال مالك وأوّلا الآية بأنّ المراد إذا شرعتم فيهما ، فانّ الشروع في الندب يوجب إتمامه عندهم أيضا.

4 - قوله تعالى « لِلّهِ » يدلّ صريحا على وجوب إيقاعهما خالصين لله تعالى لا للرّياء والسمعة ولا لقصد المعاش خاصّة وعلى وجوب النيّة في كلّ فعل من الأفعال وعلى عدم صحّة وقوعهما من الكافر لعدم الإخلاص منه وإن كانا واجبين عليه خلافا للشافعيّ فإنّه جعل الإسلام شرطا في وجوب الحجّ مع قوله إنّ الكافر مكلّف بالفروع.

5 - الحجّ والعمرة من المجملات المفتقرة إلى بيان الرسول صلى اللّه عليه وآله فلنذكر بيانهما على مذهب أصحابنا الناقلين ذلك عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام فنقول :

أفعال الحجّ الواجبة على سبيل الإجمال : الإحرام ، ووقوف عرفة ، ووقوف المشعر ، ثمّ مناسك منى الّتي هي الرمي ، والذّبح ، والحلق أو التقصير ، وطواف البيت ، وركعتاه والسعي بين الصفا والمروة ، وطواف النساء ، وركعتاه ، ثمّ المبيت بمنى ليالي التشريق الثلاث ، ورمي الجمار الثلاث في كلّ يوم.

وأفعال العمرة الواجبة : الإحرام ، والطواف ، [ وركعتاه ] والسعي ، والتقصير ويزيد في المفردة طواف النساء ، وركعتاه.

ثمّ إنّ الحجّ ينقسم ثلاثة أقسام (1) تمتّع وقران وإفراد فالتمتّع هو الّذي

ص: 275


1- قال في المدارك : ووجه التسمية اما في الافراد فلانفصاله عن العمرة وعدم ارتباطه بها وأما القران فلاقتران الإحرام بسياق الهدى وأما التمتع فهو لغة التلذذ والانتفاع وانما سمى هذا النوع بذلك لما يتحلل بين حجه وعمرته من التحلل المقتضى لجواز الانتفاع والتلذذ بما كان قد حرمه الإحرام قبله ، مع الارتباط بينهما وكونهما كالشي ء الواحد فيكون التمتع الواقع بينهما كأنه حاصل في أثناء الحج أو لأنه يربح ميقاتا لانه لو أحرم بالحج من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج الى أن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة وإذا تمتع استغنى عن الخروج لانه يحرم بالحج من جوف مكة انتهى.

تكون العمرة فيه مقدّمة على الحجّ بخلاف أخويه والقران هو أن يقرن بإحرامه سياق هدي (1) يعقد إحرامه بإشعاره أو تقليده وإن شاء بالتلبية والمفرد يقتصر على عقد إحرامه بالتلبية لا غير ثمّ يقع الفرق بين التمتّع وأخويه تفصيلا بوجوه :

الأوّل أنّ وجوب الهدي يختصّ بالمتمتّع بخلافهما الثاني أنّه لا يجب في عمرة التمتّع طواف النساء. الثالث أنّ ميقات (2) عمرة التمتّع.

ص: 276


1- والقران عند أهل السنة هو أن يحرم بالحج والعمرة جميعا ولا يجوز عند الإمامية الجمع بين النسكين بنية واحدة فيبطل عند الأكثر ، وقال الشيخ في الخلاف ج 1 ص 420 ينعقد إحرامه بالحج ، ونقل عن ابن عقيل جواز الجمع وجعله تفسيرا للقران مع سياق الهدى ، ولقد أتقن البيان في المسئلة المحقق قدس سره في المعتبر ص 338 فراجع.
2- الميقات أصله موقات بالواو فانقلبت ياء لانكسار ما قبلها ويكون للزمان والمكان فميقات الصلاة يراد به الزمان وميقات الحج يراد به المكان ، ولا ينعقد الإحرام قبل الميقات عند الإمامية بالإجماع والاخبار على المنع متظافرة بل أظنها متواترة راجع الوسائل أبواب أقسام الحج وأبواب المواقيت ب 1 و 9 و 10 و 11 وغيرها ، وفي صحيحة الحلبي ح 3 ب 1 من أبواب المواقيت قال أبو عبد اللّه عليه السلام : الإحرام من مواقيت خمسة وقتها رسول اللّه لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها الى آخر الحديث ، وفيه : ولا ينبغي لأحد ان يرغب عن مواقيت رسول اللّه. وفي ح 3 ب 11 ترى تمثيل الامام الباقر عليه السلام له بمن صلّى الظهر في السفر أربع ركعات ومثله ح 5 عن ابى عبد اللّه عليه السلام وفي ح 6 تمثيله بمن صلى العصر ست ركعات ، وغيرها من الروايات. والأكثر على صحة نذره قبل الميقات والأقرب عندي عدم الصحة كيف والإحرام عبادة شرعية يقف فعله على أمر الشارع به ، ولا ينعقد نذر عبادة غير مشروعة وما استندوا اليه لجواز النذر من حديث سماعة وعلى بن أبي حمزة تراهما في ب 13 من أبواب المواقيت ح 2 و 3 مردود بضعف السند وقد كشف القناع عن وجه الضعف المحقق في المعتبر ص 343 والعلامة في المختلف ص 93 من الجزء الثاني فلا نطيل الكلام فيه. واما الحديث الأول مما في ب 13 من أبواب المواقيت : محمد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد عن ( على ) الحلبي قال سألت أبا عبد اللّه عن رجل جعل لله عليه شكرا أن يحرم من الكوفة قال فليحرم من الكوفة وليف لله بما قال. فهو وان حكم بصحته في المنتهى وغيره لكن المحكي عن أكثر نسخ التهذيب أن الإسناد فيه هكذا : عن الحسين بن سعيد عن حماد عن على والظاهر انه ابن أبي حمزة ( راوي الحديث الثاني من باب 13 وقد عرفت ضعفه ) بل قيل ان نسخ التهذيب متفقة على ذلك وانما الحلبي بدله مذكور في نسخ الاستبصار ، مع أن السند فيه هكذا : الحسين بن سعيد عن حماد عن الحلبي ، والمعروف في الحلبي مطلقا عبيد اللّه وأخوه محمد وحماد ان كان ابن عيسى فتبعد روايته عن عبيد اللّه بلا واسطة وان كان ابن عثمان فتبعد رواية الحسين بن سعيد عنه بلا واسطة وتبعد ارادة عمران من الحلبي ولذلك حكم بضعف هذا الحديث أيضا في كشف اللثام فراجر. هذا ومع ذلك فهذه الأخبار مخالفة لما ورد النقل متواترا عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه وقت المواقيت المعينة ، وقد عرفت إباء سياق الاخبار عن التخصيص. ولعلك تورد علينا النقض بنذر الصوم في السفر ، ونجيبك بأنه ان ثبت إجماع في نذر الصوم كما يتراءى من كلمات القوم وذكرهم نفى الخلاف فهو المتبع والا فلا نقول به بمجرد رواية ابن مهزيار مع اضطرابها : سندا لجهالة بندار مولى إدريس وإضمار الرواية ، ومتنا لاشتمالها على كون كفارة النذر صيام سبعة وجواز الصوم حال المرض ومعارضتها بما هو أقوى منها سندا وعددا ، وكون سياق أخبار الناهية عن الصيام في السفر آبيا عن قبول التخصيص ، وعلى كل فليس في مسئلة نذر الإحرام قبل الميقات إجماع كيف وقد خالف فيه أساطين القوم كالعلامة في المختلف والمحقق في المعتبر وابن إدريس وغيرهم. ثم ان الحكم بعدم جواز الإحرام قبل الميقات مما انفرد به الإمامية وأهل السنة قائلون بالجواز بل قد قال أبو حنيفة بأن الإحرام قبل الميقات أفضل ، وقد غضب عمر لما سمع ان عمران بن الحصين أحرم من مصره ، ولام عثمان عبد اللّه بن عامر حيث أحرم من خراسان انظر المغني لابن قدامة ج 3 ص 264 و 265.

لأهل العراق (1).

ص: 277


1- لم يختلف أحد من أهل القبلة في المواقيت الأربعة الانية وأنه وقتها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ( وان اختلفوا في جهات ستتضح لك ) واختلفوا في ميقات أهل العراق من جهتين الاولى هل وقته رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أو ثبت بالقيار. والثانية في حده الذي يجوز الإحرام منه. اما الجهة الأولى فنقول : الإمامية على أنه وقته رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وبه الروايات عن الأئمة عليهم السلام فعن أبى عبد اللّه : وقت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لأهل العراق العقيق أوله المسلخ ووسطه غمرة وآخره ذات عرق ( الوسائل ب 1 من أبواب المواقيت ح 10 ) وعنه أيضا : وقت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لأهل المشرق العقيق ( الحديث ح 7 ب 1 من أبواب المواقيت ) وغيرها من الاخبار تجدها منبثة في أبواب المواقيت وأبواب أشهر الحج وغيرها ، وفي بعضها التصريح بأنه مما وقته رسول اللّه بعد السؤال عنهم هل هو وقت أقته رسول اللّه أو شي ء صنعه الناس؟. وقال طائفة من أهل السنة بمثل ما قلناه من انه أقته رسول اللّه وبه عدة من رواياتهم فمنها ما عن ابن عباس قال : وقت رسول اللّه لأهل المشرق العقيق تراه في سنن ابى داود ج 2 ص 196 الرقم 1740 وذيله عبد الحميد بأنه في المسند الرقم 3305 وفي سنن الترمذي ج 3 ص 194 الرقم 832 عن محمد بن على عن ابن عباس ان النبي وقت لأهل المشرق العقيق قال أبو عيسى هذا حديث حسن ومحمد بن على هو أبو جعفر محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب. ومنها ما تدل على أنه ذات عرق ففي سنن ابى داود ج 2 ص 195 الرقم 1739 عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقت لأهل العراق ذات عرق ومثله في سنن النسائي ج 5 ص 123 و 125 وفي صحيح مسلم ج 8 ص 84 بشرح النووي عن ابى الزبير انه سمع جابر بن عبد اللّه يسأل عن المهل فقال سمعته أحسبه رفع الى النبي فقال مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الأخر الجحفة ومهل أهل العراق من ذات عرق ومهل أهل نجد من قرن ومهل أهل اليمن من يلملم وفي الرقم 1915 ص 972 سنن ابن ماجة عن جابر قال خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الى أن قال : ومهل أهل المشرق من ذات عرق وذكر الشيخ قدس سره الروايتين في الخلاف عنهم ج 1 ص 429. وقال طائفة منهم أقته عمر بن الخطاب ففي صحيح البخاري ج 1 ص 207 طبع كراچى عن عبد اللّه بن عمر : لما فتح المصران أتوا عمر فقالوا يا أمير المؤمنين ان رسول اللّه حد لأهل نجد قرنا وهو جور عن طريقنا وان أردنا أن نأتي قرن شق علينا قال :فانظروا حذوها عن طريقكم فحد لهم ذات عرق ورواه ابن تيمية أيضا في المنتقى عن البخاري كما في ص 312 ج 3 من نيل الأوطار ، فلو صح الحديث يحمل على انه لم يبلغ عمر توقيت النبي صلى اللّه عليه وآله. وقال طائفة من أهل السنة انه ثبت قياسا قالوا لأن أهل العراق كانوا مشركين في زمن النبي صلى اللّه عليه وآله قال العلامة قدس سره في التذكرة ولا حجة فيه لعلمه صلى اللّه عليه وآله بأنهم يسلمون أو يمر على هذا الميقات مسلم كما عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال من تمام الحج والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقتها رسول اللّه لا تجاوزها وأنت محرم فإنه وقت لأهل العراق ولم يكن يومئذ عراق بطن العقيق الحديث ( الوسائل ب 1 من أبواب المواقيت ح 3 ) وفيه تصريح بأنه وقت العقيق لأهل العراق ولم يكونوا يومئذ مسلمين ، ولا إشكال في ذلك كما بينه العلامة فإن النبي صلى اللّه عليه وآله وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح وما أكثر الروايات من طرق الإمامية وأهل السنة من ذكر توقيته لأهل الشام الجحفة ومعلوم أن الشام لم يكن فتح يومئذ وقد ثبت أنه صلى اللّه عليه وآله أخبر بفتح الشام واليمن والعراق وأخبر بأنه زويت له مشارق الأرض ومغاربها وانهم سيفتحون مصر وغير ذلك مما يطول ذكره. والجهة الثانية التي اختلف فيها محل الإحرام فالامامية على أن الإحرام من أول العقيق وهو المسلخ أفضل كما ذكره المصنف ثم غمرة ثم ذات عرق والمشهور عندهم جواز الإحرام مختارا من ذات عرق ، قال العلامة في المختلف : ان كلام الشيخ على بن بابويه يشعر بأنه لا يجوز التأخير إلى ذات عرق الا لعليل أو تقية ، قلت وكذا كلام الشيخ في النهاية أيضا يشعر بذلك والروايات المانعة عن التأخير من المسلخ أو غمرة إلى ذات عرق قوية السند والدلالة الا أنه حيث لم يعمل الأصحاب بمضمونها بل أعرضوا عنها وأهملوها تسقط عن الحجية بل كاد أن تكون خلافا للاتفاق. وفي بعض الروايات : ان أول العقيق بريد البعث ففي الوسائل ب 2 من أبواب المواقيت ح 2 عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال أول العقيق بريد البعث وهو دون المسلخ بستة أميال مما يلي العراق وبينه وبين غمرة أربعة وعشرون ميلا بريدان. قال العلامة المجلسي في ج 3 مرآت العقول ص 285 ان في بعض النسخ البغث بالغين المعجمة وهو غير مذكور في كتب اللغة وصحح بعض الأفاضل البعث بالعين المهملة بمعنى الجيش ، قال لعله كان موضع بعث الجيوش وقرأ المسلح بالحاء المهملة أي الموضع الذي يترتب فيه السلاح. انتهى كلامه. قلت : البغث بالغين المعجمة مذكور في كتب المعاجم كمراصد الاطلاع ومعجم البلدان الا انه لا ينطبق على العقيق فإنه وبغيث مصغرا اسم واد في ظهر خيبر والابغث المكان الذي فيه رمل ، وقال في مجمع البحرين ويحكى ضبطه عن العلامة بريد النغب بالنون قبل الغين المعجمة والباء الموحدة أخيرا وهو خلاف ما اشتهر من الرواية. ثم البريد على ما في النهاية لابن الأثير كلمة فارسية يراد بها في الأصل البغل وأصلها « بريدة دم » أى محذوف الذنب لان بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة فأعربت وخففت ثم سمى الرسول الذي يركبه بريدا والمسافة التي بين السكتين بريدا والسكّة موضع كان يسكنه الفيوج المرتبون من بيت أوقبه أو رباط وكان يرتب في كل سكة بغال وبعد ما بين السكتين فرسخان وقيل أربعة فراسخ انتهى ما في النهاية وعلى كل فالظاهر ان الإحرام منه قبل العقيق خلاف الاحتياط. وفي رواية آخر العقيق أوطاس ( راجع الوسائل ب 2 من أبواب المواقيت ح 1 ) وأوطاس جمع وطس كاجبال جمع جبل من قولهم وطست الشي ء أوطسه إذا وطئته وطئا شديدا سمى المكان بذلك لأنه موطإ ملين وهو كما في معجم البلدان اسم واد في بلاد هوازن كانت فيه وقعة حنين للنبي صلى اللّه عليه وآله ببني هوازن ، وقال ابن شبيب الغورى من ذات عرق إلى أوطاس وأوطاس على نفس الطريق ونجد من حد أوطاس الى القريتين وعلى كل فلعل التأخير إلى أوطاس مخالف للإجماع وورد أيضا انه ليس من العقيق انظر الوسائل ب 2 من أبواب المواقيت ح 7. وفي رواية يونس بن عبد الرحمن انه قال كتبت الى أبى الحسن عليه السلام : انا نحرم من طريق البصرة ولسنا نعرف حد عرض العقيق فكتب أحرم من وجرة ( المصدر ح 4 ) وقال في المراصد : وجرة بالفتح ثم السكون منزل في طريق مكة من البصرة بينه وبين البصرة أربعون ميلا ليس بينهما منزل فهو مربى للوحش ، وقبل حرة ليلى ووجرة والسى مواضع قرب ذات عرق ببلاد سليم دون مكة بثلاث ليال وقيل هي بإزاء الغمر التي على جادة الكوفة منها يحرم أكثر الناس وهي سرة نجد ستون ميلا لا تخلو من شجر ومرعى ومياه والوحش فيها كثير وقيل هو من تهامة وأما أهل السنة : فقال ابن قدامة في المغني ج 3 ص 257 فأما ذات عرق فميقات أهل المشرق في قول أكثر أهل العلم وهو مذهب مالك وابى ثور وأصحاب الرأي وقال ابن عبد البر أجمع أهل العلم على ان إحرام العراق من ذات عرق إحرام من الميقات وروى عن أنس انه كان يحرم من العقيق واستحسنه الشافعي وكان الحسن بن صالح يحرم من الربذة وروى ذلك عن خصيف والقاسم بن عبد الرحمن وقد روى ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وآله وقت لأهل المشرق العقيق قال ابن عبد البر : العقيق أولى وأحوط من ذات عرق وذات عرق ميقاتهم بإجماع. انتهى ما أردنا نقله من المغني.

ص: 278

ص: 279

ص: 280

العقيق (1) ....

ص: 281


1- العقيق بفتح أوله وكسر ثانيه وقافان بينهما ياء مثناة وهو كل مسيل ماء شقه السيل في الأرض وأنهره ووسعه وفي ديار العرب أعقة فمنها عقيق عارض اليمامة يقال له عقيق تمرة ومنها عقيقان بناحية المدينة الأصغر والأكبر ومنها العقيق الذي بناحية بلاد بنى عقيل ومنها عقيق لا يدخلون عليه الالف واللام قرية قرب سواكن البحر يجلب منه التمر ومنها عقيق البصرة ومنها عقيق يدفع سيله في غور تهامة وهو أبعد من ذات عرق بقليل وهو مهل أهل العراق على ما عرفت تفصيله ( تلخيص مراصد الاطلاع معجم البلدان. تهذيب الأسماء وكتب اللغة ).

وأفضله المسلخ (1) ثمّ غمرة (2) ثمّ ذات عرق (3) ....

ص: 282


1- وبه الروايات ففي الوسائل ( ب 3 من أبواب المواقيت ح 4 ) قال الصادق عليه السلام وقت رسول اللّه لأهل العراق العقيق وأوله المسلخ ووسطه غمرة وآخره ذات عرق ، وأوله أفضل ( وكذا مفاد سائر الأحاديث في ذاك الباب ). قال العلامة المجلسي في ج 3 ص 285 مرآت العقول : وقال السيد رحمه اللّه انا لم نقف في ضبط المسلح وغمرة على شي ء يعتد به ، وقال في التنقيح المسلح بالسين والحاء المهملتين واحد المسالح وهي المواضع العالية ونقل جدي عن بعض الفقهاء أنه ضبطه بالخاء المعجمة من السلخ وهو النزع لانه ينزع فيه الثياب للإحرام ومقتضى ذلك تأخير تسميته عن وضعه ميقاتا انتهى. وفي مراصد الاطلاع : المسلح بالفتح ثم السكون وفتح اللام موضع من اعمال المدينة ، قلت ومسلح قبل ذات عرق بقليل وفي معجم ما استعجم للبكرى ص 1227 المسلح بكسر أوله وإسكان ثانيه بعدها حاء مهملة منزل على أربعة أميال من مكة قال أبو حاتم وابن قتيبة والعامة تقوله المسلح بفتح الميم وهو خطأ. والمظنون عندي مع ما نقله المجلسي عن التنقيح ومع ما ذكره في مراصد الاطلاع أنه بالحاء المهملة بل وهو المناسب للبعث أيضا كما قد عرفت.
2- قال ياقوت في معجم البلدان : الغمرة ما يغمر الشي ء ويعمه فهو يصلح للحق والباطل هو منهل من مناهل طريق مكة ومنزل من منازلها وهو فصل ما بين تهامة ونجد.
3- قال ياقوت في المعجم : هو الحد بين نجد وتهامة وقيل عرق جبل بطريق مكة ومنه ذات عرق وقال الأصمعي : ما ارتفع من بطن الرمة فهو نجد الى ثنايا ذات عرق وعرق هو الجبل المشرف على ذات عرق وقال ابن عيينة : إني سألت ذات عرق أمتهمون أنتم أم منجدون فقال : ما نحن بمتهمين ولا منجدين وقال بعض أهل ذات عرق : ونحن بسبب مشرف غير منجد *** ولا متهم فالعين بالدمع تذرع قال النووي في تهذيب اللغات هو على مرحلتين من مكة.

ولليمن يلملم (1) وللطائف قرن المنازل (2) ....

ص: 283


1- اليمن بالتحريك : قيل سميت به لتيامنهم لما تفرقت العرب من مكة كما سميت الشام لاخذهم الشمال والبحر يحيط بأرض اليمن من المشرق الى الجنوب ثم راجعا الى المغرب يفصل بينهما وبين باقي جزيرة العرب خط يأخذ من بحر الهند الى بحر اليمن عرضا في البرية من المشرق إلى جهة المغرب كذا في المراصد. وقال ياقوت : يلملم ويقال ألملم وململم المجموع موضع على ليلتين من مكة وهو ميقات أهل اليمن وفيه مسجد معاذ بن جبل. وفي شرح الزرقانى على موطإ مالك ج 2 ص 239 : وحكى ابن السيد فيه « يرمرم » برائين بدل اللامين ولم يختلف الاخبار من طرق الشيعة وأهل السنة في كونه ميقات أهل اليمن.
2- قال في معجم البلدان : والقرن قال الأصمعي : جبل مطل بعرفات وقال الغورى هو ميقات أهل اليمن والطائف يقال له قرن المنازل وقال عمر بن ربيعة : ألم تسأل الربع أن ينطقا *** بقرن المنازل قد أخلقا وقال القاضي عياض قرن المنازل وهو قرن الثعالب بسكون الراء ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة وهو قرن أيضا غير مضاف وأصله الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير ، ورواه بعضهم قرن بفتح الراء وهو غلط انما هو قبيلة من اليمن. قال الزرقانى في شرح موطإ مالك ج 2 ص 239 وفي أخبار مكة للقاكهى أن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى بينه وبين مني ألف وخمسمائة ذراع سمى قرن الثعالب لكثرة ما كان يأوي إليه الثعالب ، فقد ظهر أنه ليس من المواقيت وفي كشف اللثام أيضا أن قرن الثعالب غير قرن المنازل ، وفي مجمع البحرين والقرن موضع وهو ميقات أهل نجد ومنه أويس القرني وسمى أيضا قرن المنازل وقرن الثعالب وهذا من صاحب المجمع عجيب فقد اتفق العلماء على تغليط الجوهري في تحريكه ونسبة أويس القرني اليه وعلى كل فالنصوص الصحيحة على كونه ميقات أهل الطائف كصحيح الخزاز وصحيح معاوية بن عمار وصحيح الحلبي ( الوسائل ب 1 من أبواب المواقيت ح 1 و 2 و 3 ) وغيرها من الاخبار. الا أن في صحيح عمر بن يزيد ح 6 كونه ميقات أهل نجد وفي صحيح على بن رئاب وعلى بن جعفر ( ح 7 و 8 من المصدر ) كونه ميقات أهل اليمن ولا بد من توجيهها بان لنجد طريقين أحدهما يمر بالعقيق والأخر يمر يقرن المنازل ، ويوافق هذا أيضا ما في ياقوت في شرح نجد ، قال : وقيل نجد اسم للأرض العريضة التي أعلاها تهامة واليمن وأسفلها العراق والشام. وفي اخبار أهل السنة أيضا تعيين قرن لأهل نجد انظر نيل الأوطار ج 4 ص 310 الى 312 وكذا توجه صحيحي ابن رئاب وابن جعفر بأن لليمن طريقين ويوافق هذا ما ذكرناه عن مراصد الاطلاع في اليمن قبيل ذلك.

ولأهل المدينة مسجد الشجرة (1) وعند الضرورة (2) ....

ص: 284


1- اختلف عبارات الأصحاب في تعيين الميقات المذكور وأنه هل هو نفس المسجد أو مكان فيه المسجد ، وكذلك الأخبار ففي عدة منها أنه ذو الحليفة ( وهي ح 1 و 2 و 5 و 6 و 8 من ب 1 من أبواب المواقيت للوسائل ) وفي جملة منها انه مسجد الشجرة ( وهي ح 3 و 4 و 11 و 12 و 13 ) وفي بعضها أنه نفس الشجرة ( وهي ح 7 و 9 ) وعلى كل فالأحوط كما اختاره المصنف الاقتصار على المسجد كيف ولسان كثير من الاخبار المعينة للمسجد لسان التفسير لذي الحليفة ففي ح 3 و 11 و 12 ، أنه صلى اللّه عليه وآله وقت لأهل المدينة ذا الحليفة وهو مسجد الشجرة ، وكذا في ح 7 أنه الشجرة فهي حاكمة أو واردة على ما فيه تعيين ذي الحليفة من دون ذكر المسجد. وأما أخبار أهل السنة ففيها ذكر ذي الحليفة ( انظر نيل الأوطار ج 4 ص 310 - 312 ) ثم ذو الحليفة على ما في تهذيب الأسماء واللغات للنووي بضم الحاء المهملة وفتح اللام وإسكان الياء المثناة من تحت وبالفاء قال : وهو على نحو ستة أميال من المدينة : وقيل : سبعة وقيل أربعة ، وفي شرح مسلم لعياض : ذو الحليفة ماء لبني جشم وربما اشتبه هذا بالحليفة على لفظ الميقات وهي موضع بين حاذة وذات عرق من تهامة أو بحليقة بفتح الحاء وكسر اللام وبالقاف وهي منزل على اثنى عشر ميلا من المدينة بينها وبين ديار بنى سليم أو اشتبه بحليفة مثل الذي قبله ، الا انه بالفاء ، وهو جبل بمكة يشرف على أجبال ذكرهن عن الحازمي انتهى ما أردنا نقله عن تهذيب الأسماء.
2- وهذا هو الحق وعليه المشهور من عدم جواز تأخير الإحرام من ذي الحليفة بغير ضرورة ، وبه الاخبار ناطقة مصرحة ( راجع الوسائل ب 6 و 8 وغيرهما من أبواب المواقيت ) مضافا الى ما يستفاد من الاخبار المعينة لذي الحليفة أو مسجد الشجرة لأهل المدينة. وعن الجعفي وابن حمزة جواز الإحرام من الجحفة اختيارا ولعله يستدل لهما أولا بصحيح على بن رئاب ( ب 1 من أبواب المواقيت ح 5 ) وفيه : وأهل المدينة من ذي الحليفة والجحفة ، ويحمل على كون الجحفة ميقاتا اضطراريا - وثانيا بصحيح معاوية بن عمار ( ب 6 من أبواب المواقيت ح 1 ) أنه سأل أبا عبد اللّه عن رجل من أهل المدينة أحرم من الجحفة فقال لا بأس ويحمل على كون الرجل الذي أحرم من الجحفة من متوطني المدينة ويكون وجه السؤال توهم أن سكان المدينة لا بد أن يحرموا من ذي الحليفة وثالثا بصحيح الحلبي ( ب 6 من أبواب المواقيت ح 3 ) : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام من اين يحرم الرجل إذا جاوز الشجرة فقال من الجحفة ولا يجاوز الجحفة إلا محرما. ومورده كما ترى من جاوز الشجرة ، وليس فيه تعرض للمنع من مجاوزتها بدون إحرام. وما في خبر ابى بكر الحضرمي ( ح 5 من ذلك الباب ) عن ابى عبد اللّه عليه السلام : « وقد رخص رسول اللّه لمن كان مريضا أو ضعيفا ان يحرم من الجحفة » ظاهر في حصر الرخصة للمريض والضعيف ونفى الرخصة لغيرهما.

الجحفة (1) وهي ....

ص: 285


1- قال ياقوت : كانت قرية كبيرة ذات مبنى على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل وهي ميقات مصر والشام ان لم يمروا على المدينة ، وانما سميت الجحفة لأن السيل اجتحفها وحمل أهلها في بعض الأعوام وهي الان خراب وكان اسمها مهيعة وقال في لغة مهيعة هو بالفتح ثم السكون ثم ياء مفتوحة وعين مهملة وهو مفعلة من التهيع وهو الانبساط قال ومن قال انه فعيل فهو مخطئ لانه ليس في كلامهم فعيل بفتح أوله وطريق مهيع واضح وقيل هو قريب من الجحفة وفي شرح الزرقانى على موطإ مالك ج 2 ص 239 نقل مهيعة على وزن لطيفة وفي مرآت العقول ج 3 ص 385 عن السرائر المهيعة بالفتح مشتقة من المهيع وهو المكان الواسع ، وفي القاموس أن الجحفة على اثنين وثمانين ميلا من مكة وبها غدير خم ، قال البكري في معجم ما استعجم : وغدير خم على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة عن الطريق تصب فيه عين وحوله شجر ملتف وهي الغيضة التي تسمى خم وبين الغدير والعين مسجد النبي وهناك نخل المعلى وغيره وبغدير خم قال النبي صلى اللّه عليه وآله : من كنت مولاه فعلى مولاه اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه.

ميقات أهل الشام (1) اختيارا. وميقات حجّه مكّة وميقات حجّهما المواقيت المذكورة ومن كان منزله أقرب إلى عرفات فمنزله [ ميقاته ] وميقات عمرتهما الجعرانة (2) أو التنعيم (3) ....

ص: 286


1- بل ومصر والمغرب كما نطقت به الاخبار انظر ب 1 من أبواب المواقيت للوسائل وكذلك أخبار أهل السنة انظر نيل الأوطار ج 4 ص 310 - 312 وقد أسلفنا لك ان هذه معجزة من النبي صلى اللّه عليه وآله حيث وقتها لأهل الشام ومصر ولما فتحتا عندئذ. وقد نظم بعض الشعراء المواقيت الخمس في بيتين : عرق العراق يلملم اليمن *** وبذي الحليفة يحرم المدني والشام جحفة إن مررت بها *** ولأهل نجد قرن فاستبن
2- بكسر أوله وأصحاب الحديث يكسرون عينه ويشددون راءه وأهل الأدب يخطئونهم ويسكنون العين ويخففون الراء وحكى عن الشافعي انه قال المحدثون يخطأون في تشديد الجعرانة وتخفيف الحديبية ، وقال ياقوت في المعجم : والذي عندنا انهما روايتان جيدتان ، ثم نقل عن على بن المديني انه قال أهل المدينة يثقلونه ويثقلون الحديبية وأهل العراق يخففونهما ، وحكى ابن إدريس فتح الجيم وكسر العين وتشديد الراء أيضا. وعلى كل هي موضع بين مكة والطائف قال الفيومي انها على سبعة أميال من مكة ، وقال في كشف اللثام انه سهو في سهو فان الحرم من جهته تسعة أميال أو بريد وليس في معجم البلدان ولا في مراصد الاطلاع ذكر مقدار ما بينهما.
3- التنعيم بالفتح ثم السكون وكسر العين المهملة وياء ساكنة قال ياقوت في معجم البلدان : هو بين مكة وسرف على فرسخين من مكة وقيل على أربعة وسمى بذلك لان جبلا عن يمينه يقال له نعيم وآخر عن شماله يقال له ناعم والوادي نعمان. وبالتنعيم مساجد حول مسجد عائشة وميقات على طريق المدينة منه يحرم المكيون بالعمرة.

أو الحديبية (1) الرابع أنّ المتمتّع يجب اتّحاد السنة لعمرته وحجّه بخلافهما الخامس أنّ المتمتّع لا يحلّ من عمرته إلّا بالتقصير والمفرد يتخيّر بينه وبين الحلق السادس أنّ عمرة المتمتّع في أشهر الحجّ بخلاف عمرتهما السابع أنّ المتمتّع لا يصحّ منه تقديم طواف حجّه على الموقفين اختيارا بخلافهما الثامن أنّ المتمتع يجب عليه طواف الحجّ وسعيه وطواف النساء في العاشر أو الحادي عشر فلو أخّر أثم وأجزأه وأمّا هما فيجوز لهما التأخير طول ذي الحجّة ولا إثم.

البحث الثاني
اشارة

« فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ » فيه مسائل :

1 - يقال : أحصر الرّجل إذا منع من مراده بمرض أو عدوّ أو غيرهما قال اللّه تعالى ( الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (2) وحصر إذا حبسه عدوّ عن المضيّ أو سجن ومنه قيل للحبس الحصر وهما بمعنى المنع من كلّ شي ء مثل صدّه وأصدّه فعند أبي حنيفة كلّ منع بعدوّ أو مرض أو غيرهما يثبت له حكم الإحصار وعند مالك والشافعيّ وأحمد يختصّ [ الحصر ] بمنع العدوّ وحده وأمّا المنع بالمرض فقالوا يبقى على إحرامه ولا يتحلّل حتّى يصل إلى البيت فان فاته الحجّ فعل ما يفعله المفوّت من عمل العمرة والهدي والقضاء هذا إذا لم يشترط عندهم أمّا مع الشرط فالصدّ والحصر سواء.

وعند أصحابنا الإماميّة أنّ الإحصار يختصّ بالمرض والصدّ بالعدوّ وما ماثله لاشتراك الجميع في المنع من بلوغ المراد ولمّا كان لكلّ منهما حكم ليس للآخر اختصّ باسم فإنّ حكم الممنوع بالمرض أن يبعث هديه مع أصحابه ويواعدهم يوما

ص: 287


1- بضم الحاء وفتح الدال ، وقد عرفت الاختلاف في تشديد يائه الثانية وتخفيفها قال ياقوت : هي قرية متوسطة ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع رسول اللّه تحتها ، وقال الخطابي في أماليه : سميت الحديبية بشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع وبين الحديبية ومكة مرحلة وبينها وبين المدينة تسع مراحل.
2- البقرة. 276.

لذبحه فيتحلّل في ذلك اليوم من كلّ شي ء إلّا من النساء حتّى يحجّ في القابل إن كان حجّه واجبا أو يطاف عنه للنّساء إن كان حجّه ندبا والممنوع بالعدوّ يذبح هديه حينئذ ويحلّ له كلّ شي ء حتّى النساء.

وهنا فروع :

ألف - يتحقّق الصدّ عندنا بالمنع عن الموقفين معا لا عن أحدهما مع حصول الآخر أمّا الصدّ عن مكّة مع حصول الموقفين خاصّة فإشكال أقربه عدم تحقّقه إن كان قد تحلّل فيبقى على إحرامه بالنسبة إلى الطيب والنساء والصيد لا غير حتّى يأتي بباقي المناسك وإن لم يتحلّل يتحقّق فيتحلّل ويعيد الحجّ من قابل وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعيّ في القديم وقال في الجديد وأحمد الإحصار في الكلّ متحقّق.

ب - هل الاشتراط يسقط الدّم ويفيد التحلّل عند حصول الشرط أم لا؟ قال الشافعيّ وأحمد نعم وقال مالك وجوده كعدمه لا يفيد شيئا وقال أبو حنيفة الشرط يفيد سقوط الدّم لا التحلّل لأنّ التحلّل يستفاد من الإطلاق [ في الآية ] عنده ولأصحابنا قولان : الأقوى بقاء الدم على حاله والتحلّل مع الشرط عزيمة ومع عدمه رخصة.

ج - هل لهدي التحلّل بدل أم لا؟ الأقوى عندنا أنّه لا بدل له مطلقا وبه قال أبو حنيفة والشافعيّ في أحد قوليه وقال في الآخر وأحمد بدله صوم عشرة أيّام ولا يتحلّل عندهما إلّا مع البدل.

2 - « فَمَا اسْتَيْسَرَ » بمعنى يسر وتيسّرمثل استصعب بمعنى صعب وتصعّب إمّا بدنة أو بقرة أو شاة والهدي جمع هدية كجدي جمع جدية السرج وهي ما يحشى تحت ظلفة الرّحل وقيل هو مفرد مؤنّثة هدية وجمعه هديّ بتشديد الياء واشتقاقه قيل من الهديّة وقيل من هداه إذا ساقه إلى الرشاد ، لأنّه يساق إلى الحرم وموضع « ما استيسر » رفع أي فعليكم أو نصب أي فاهدوا أو فاذبحوا.

3 - « وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ » أي لا تحلّوا ، كنى بالحلق عنه لكونه من لوازمه

ص: 288

« حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ » عند الشافعيّ حيث صدّ وأحصر لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله ذبح هديه في الحديبية وهي من الحلّ وعند أبي حنيفة محلّه الحرم مطلقا لصدّ وحصر وعند أصحابنا لا يراعى للصدّ زمان ولا مكان وأمّا الحصر فمكّة إن كان في عمرة ومنى إن كان في حجّ ولا خلاف [ في ] أنّه يجب القضاء في حجّ الفرض إلّا في رواية عن مالك وأمّا حجّ الندب فعندنا لا يجب وبه قال مالك والشافعيّ وقال أبو حنيفة يجب ولأحمد قولان والمحلّ بالكسر من الحلّ أي لا تحلقوا حتّى يذبح حيث يحلّ ذبحه فيه ولو كان من الحلول لقال محلّه بفتح الحاء.

4 - « فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً » يحتاج إلى حلق الشعر أو به أذى في رأسه وهو القمل فعليه فدية إذا حلق رأسه والفدية إمّا صيام ثلاثة أيّام أو إطعام ستّة مساكين لكلّ مسكين مدّان أو عشرة لكلّ مسكين مدّ أو شاة يذبحها ويعطيها الفقراء والنسك مصدر وقيل جمع نسيكة « روي أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال لكعب بن عجرة وقد كان قمل رأسه لعلّك أذاك هو أمّك قال نعم يا رسول اللّه قال له احلق رأسك وصم ثلاثة أيّام أو أطعم ستّة مساكين أو أنسك شاة ، فكان كعب يقول في نزلت هذه الآية وروي أنّه مرّ به النبيّ وقد قرح رأسه فقال صلى اللّه عليه وآله كفى بهذا أذى (1).

البحث الثالث
اشارة

( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ) الآية. هنا فوائد :

الأولى : لمّا ذكر حكم المحصر ومن به أذى أو مرض قال « فَإِذا أَمِنْتُمْ » أي من المرض والعدوّ أو فإذا كنتم في حال أمن « فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ » أي انتفع بسببها قاصدا إلى الحج فعليه ما تهيّأ له من الهدي بدنة أو بقرة أو شاة والفاء في « فمن » جواب إذا وفي « فما » جواب من و « ما » موصولة وقد تقدّم وصف حجّ التمتّع والفرق بينه وبين أخويه.

ص: 289


1- صحيح البخاري ج 1 ص 310. الدر المنثور ج 1 ص 213.

ثمّ إنّ حجّ التمتّع قد يكون ابتداء كمن يحرم أوّلا بالعمرة ثمّ بعد قضاء مناسكها يحرم بالحجّ وذلك ممّا لا نزاع في مشروعيّته وقد يكون بالعدول عن حجّ الافراد (1) فإنّ من دخل مكّة محرما بحجّ الإفراد فالأفضل له أن يعدل بإحرامه

ص: 290


1- وفي الروضة البهية في المسئلة الاولى من مسائل الفصل الثاني في أنواع الحج بيان ننقله بعين عبارته قال : يجوز لمن حج ندبا مفردا العدول إلى عمرة التمتع اختيارا وهذه هي المتعة التي أنكرها الثاني لكن لا يلبى بعد طوافه وسعيه لأنهما محللان من العمرة في الجملة والتلبية عاقدة للإحرام فيتنافيان ولأن عمرة التمتع لا تلبية فيها بعد دخول مكة فلو لبى بعدهما بطلت متعته التي نقل إليها وبقي على حجه السابق لرواية إسحاق بن عمار عن الصادق عليه السلام ولان العدول كان مشروطا بعدم التلبية ولا ينافي ذلك الطواف والسعي لجواز تقديمهما للمفرد على الوقوف والحكم بذلك هو المشهور وان كان مستنده لا يخلو من شي ء ، وقيل والقائل ابن إدريس : لا اعتبار للرواية وعملا بالحكم الثابت من جواز النقل بالنية والتلبية ذكر لا أثر له في المنع ولا يجوز العدول للقارن تأسيا بالنبي صلى اللّه عليه وآله حيث بقي على حجه لكونه قارنا وأمر من لم يسق الهدى بالعدول. وقيل لا يختص جواز العدول بالافراد المندوب بل يجوز العدول عن الحج الواجب أيضا سواء كان متعينا أو مخيرا بينه وبين غيره كالناذر مطلقا وذي المنزلين المتساويين لعموم الأخبار الدالة على الجواز كما أمر به النبي صلى اللّه عليه وآله من لم يسق من الصحابة من غير تقييد بكون العدول عنه مندوبا أو غير مندوبا وهو قوى لكن فيه سؤال الفرق بين جواز العدول عن المعين اختيارا وعدم جوازه ابتداء بل ربما كان الابتداء أولى للأمر بإتمام الحج والعمرة لله ومن ثم خصه بعض الأصحاب بما إذا لم يتعين عليه الافراد وقسيميه كالمندوب والواجب المخير جمعا بين ما دل على الجواز مطلقا ، وما دل على اختصاص كل قوم بنوع وهو أولى ان لم نقل بجواز العدول عن الافراد الى التمتع ابتداء انتهى ما في الروضة.

إلى عمرة التمتّع ويتمّ حجّ التمتّع وهذا منعه جميع فقهاء العامّة (1).

ثمّ إنّ جماعة من أصحابنا جوّزوا هذا العدول حتّى في فرض العين ومنهم

ص: 291


1- قال في المعتبر ص 340 ما نصه : مسئلة : قال علماؤنا المفرد إذا دخل مكة جاز له فسخ حجه وجعله عمرة متمتع بها ولا يلب بعد طوافه وسعيه لئلا ينعقد إحرامه بالتلبية أما القارن فليس له العدول إلى المتعة وزعم فقهاء الجمهور ان نقل الحج المفرد الى التمتع منسوخ لنا ما اتفق عليه الرواة من أن النبي صلى اللّه عليه وآله أمر أصحابه حين دخلوا مكة محرمين بالحج فقال : « من لم يسق الهدى فليحل وليجعلها عمرة » فطافوا وسعوا وأحلوا وسئل عن نفسه فقال : « انى سقت الهدى ولا ينبغي لسائق الهدى أن يحل حتى يبلغ الهدى محله » وروى ذلك ومعناه جماعة منهم جابر وعائشة وأسماء بنت أبى بكر وقالت خرجنا مع رسول اللّه فلما قدمنا مكة قال رسول اللّه : « من لم يكن معه هدى فليحل » فأحللت وكان مع الزبير هدى فلبست ثيابي وخرجت فجلست الى جانب الزبير فقال : قومي عنى فقلت أتخشى أن أثب عليك؟. وأما النسخ الذي يدعونه فمنسوب الى عمر ولا يجوز ترك ما علم من النبي صلى اللّه عليه وآله متواترا بالرأي وقد رووا في الصحيح عن أبى موسى قال كنت ممن أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن أجعل ما أهللت به عمرة فأحللت بعمرة وكنت أفتى بذلك حتى قدم عمر فقلت يا أمير المؤمنين ما هذا الذي بلغني أنك أحدثت في النسك فقال نأخذ بكتاب اللّه تعالى قال اللّه تعالى ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ). والجواب أن النبي صلى اللّه عليه وآله أمر بفسخ الحج إلى العمرة في حجة الوداع ومات على ذلك ولا ينسخ بعد موته فاذن ما ذكروه لا يجوز المصير اليه مع شهادة الصحابة انه خلاف ما أمر به النبي وقد روى أبو بصير عن ابى عبد اللّه قال قال لي يا أبا محمد ان رهطا من أهل البصرة سألوني عن الحج فأخبرتهم بما صنع رسول اللّه وما أمر به فقالوا ان عمر قد أفرد للحج فقلت ان هذا رأى رآه عمر وليس رأى عمر كما صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله انتهى ما في المعتبر.

من منعه في فرض العين وجوّزه في الندب والفرض غير المتعين وحمل النصّ الوارد (1) على ذلك جمعا بين الدليلين وهو أولى.

فائدة : هذه هي الّتي منعها عمر (2) فقال : « متعتان كانتا على عهد رسول اللّه

ص: 292


1- الوسائل ب 5 من أبواب أقسام الحج وفيها حديث معاوية بن عمار وحديث عبد اللّه بن زرارة مصر حين بذلك.
2- اختلفوا في المتعة التي نهى عنها عمر هل هي العمرة قبل الحج في أشهر الحج ثم الحج من عامه أو هي فسخ الحج إلى العمرة للمفرد ونحن ننقل ما في الانتصار من علمائنا الإمامية وما في شرح النووي على صحيح مسلم من علماء أهل السنة بعين عبارتيهما : - قال السيد المرتضى علم الهدى قدس سره في الانتصار بعد ذكر التمتع للنائي كما هو مذهب الإمامية : فإن قيل قد نهى عن هذه المتعة مع متعة النساء عمر بن الخطاب وأمسكت الأمة عنه راضية بقوله ، قلنا نهى من ليس بمعصوم عن الفعال لا يدل على قبحه وو الإمساك عن النكير لا يدل عند أحد من العلماء على الرضا الا بعد أن يعلم أنه لا وجه له الا الرضا ، وقد بينا ذلك وبسطناه في كثير من كتبنا. وبعد فان الفقهاء والمحصلين من مخالفينا حملوا نهى عمر عن هذه المتعة على وجه الاستحباب لا على الحظر وقالوا في كتبهم المعروفة المخصوصة بأحكام القرآن أن نهى عمر يحتمل أن يكون لوجوه منها انه أراد أن يكون الحج في أشهر مخصوصة والعمرة في غير تلك الشهور ومنها أنه أحب عمارة البيت وأن يكثر زواره في غير الموسم ومنها أنه أراد إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس إليهم ورووا في تقوية هذه المعاني أخبارا موجودة في كتبهم لا معنى للتطويل بذكرها. وفيهم من حمل نهى عمر عن المتعة على فسخ الحج إذا طاف له قبل يوم النحر وقد روى عن ابن عباس - ره - أنه كان يذهب الى جواز ذلك وان النبي صلى اللّه عليه وآله كان أمر أصحابه في حجة الوداع بفسخ الحج من كان منهم لم يسق هديا ولم يحل هو صلى اللّه عليه وآله لانه كان ساق الهدى وزعموا ان ذلك منسوخ بقوله تعالى ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) وهذا التأويل الثاني بعيد عن الصواب لان فسخ الحج لا يسمى متعة وقد صارت هذه اللفظة بعرف الشرع مخصوصة بمن ذكرنا حاله وصفته وأما التأويل الأول فيبطله قوله : وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ، وتشدده في ذلك وتوعده يقتضي أن لا يكون خرج مخرج الاستحباب على أن نهيه عن متعة النساء كان مقرونا بنهيه عن متعة الحج فان كان نهيه عن متعة الحج استحبابا فالمتعة الأخر كذلك. انتهى ما في الانتصار. وقال النووي في شرح صحيح مسلم ج 8 ص 169 : قال المازري : اختلف في المتعة التي نهى عنها عمر في الحج فقيل هي فسخ الحج إلى العمرة وقيل هي العمرة في أشهر الحج ثم الحج من عامه وعلى هذا انما نهى عنها ترغيبا في الافراد الذي هو أفضل لا أنه يعتقد بطلانها أو تحريمها. وقال القاضي عياض : ظاهر حديث جابر وعمران وابى موسى ان المتعة التي اختلفوا فيها انما هي فسخ الحج إلى العمرة قال ولهذا كان عمر يضرب الناس عليها ولا يضربهم على مجرد التمتع في أشهر الحج وانما ضربهم على ما اعتقده هو وسائر الصحابة أن فسخ الحج إلى العمرة كان مخصوصا في تلك السنة للحكمة التي قدمنا ذكرها ، قال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء ان التمتع المراد بقول اللّه تعالى ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) هو الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج قال ومن التمتع أيضا القران لانه تمتع بسقوط سفره للنسك الأخر من بلده قال ومن التمتع أيضا فسخ الحج إلى العمرة هذا كلام القاضي. قلت : والمختار أن عمر وعثمان وغيرهما انما نهوا عن المتعة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ثم الحج من عامه ومرادهم نهى أولوية للترغيب في الافراد لكونه أفضل وقد انعقد الإجماع بعد هذا على جواز الافراد والتمتع والقران من غير كراهة وانما اختلفوا في الأفضل منها انتهى ما أردنا نقله من شرح النووي. ولابن قيم الجوزية في كتابه زاد المعاد ج 1 ص 202 - 218 بيان في المسئلة لا نطيل بذكره من شاء فليراجع فإنه مفيد.

صلى اللّه عليه وآله أنا احرّمهما وأعاقب عليهما » (1).

وأمّا من دخل قارنا فلا يجوز له العدول :

روى معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام وقد تقدّم صدر الرواية ثمّ ساق الحديث

====

(1)

ص: 293


1- رواه الجصاص في أحكام القرآن ج 1 ص 342 وهكذا ص 345 قال : قال عمر بن الخطاب متعتان كانتا على عهد رسول اللّه أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة الحج ومتعة النساء ورواه في وفيات الأعيان ج 2 ص 359 ( ط إيران ) في ترجمة يحيى ابن أكثم وزاد فيه : « وعلى عهد أبى بكر » ورواه الفخر الرازي في تفسيره ذيل قوله تعالى ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) ( ج 10 ص 50 ) قال : الحجة الثانية ما روى عن عمر انه قال في خطبة متعتان كانتا على عهد رسول اللّه أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما. وقال الطبرسي في مجمع البيان ج 3 ص 32 في ذيل قوله تعالى ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ ) الآية ومما يمكن التعلق به في هذه المسألة الرواية المشهورة عن عمر بن الخطاب أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه حلالا وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما. وذكره الجاحظ في كتابه الحيوان ج 4 ص 278 وهكذا في البيان والتبيين ج 2 ص 282 ( طبعة لجنة التأليف في 1380 ) قال : قال عمر بن الخطاب في جواب كلام قد تقدم وقول قد سلف عنه : « متعتان كانتا على عهد رسول اللّه أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما ». أقول : وكأنه يشير بقوله : « في جواب كلام قد تقدم ، وقول قد سلف عنه » الى ما في كتب السير والأحاديث من أن عمر بن الخطاب خالف النبي صلى اللّه عليه وآله في أمره بالإحلال واعترض على قوله فاستدعاه رسول اللّه وقال له مالي أراك يا عمر محرما أسقت هديا قال لم أسق قال فلم لا تحل وقد أمرت من لم يسق الهدي بالإحلال فقال واللّه يا رسول اللّه لا أحللت وأنت محرم فقال النبي صلى اللّه عليه وآله انك لن تؤمن بها حتى تموت راجع كتاب الإرشاد للمفيد ص 82 ، اعلام الورى ص 139. ولعله في معنى ذلك ما رواه في مجمع الزوائد ج 3 ص 237 قال : وعن على - يعنى ابن ابى طالب - قال : لا أعلمنا إلا خرجنا حجاجا مهلين بالحج ولم يحل رسول اللّه ولا عمر حتى طافوا بالبيت وبالصفا والمروة. قال قلت هكذا وجدته ولا ادرى ما معناه رواه الطبراني في الكبير وفيه عون بن محمد بن الحنفية ولم أجد من ترجمة.

إلى أن قال : « فلمّا وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالمروة بعد فراغه من السعي أقبل على الناس بوجهه فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال هذا جبرئيل - وأومى بيده إلى خلفه - يأمرني أن

ص: 294

آمر من لم يسق هديا أن يحلّ فلو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم ولكنّي سقت الهدى ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحلّ حتّى يبلغ الهدي محلّه فقال رجل من القوم - يعني عمر بن الخطّاب - (1) أنخرج حجّاجا ورؤسنا تقطر؟فقال : إنّك لن تؤمن بها أبدا ».

وفي رواية أخرى : أنحلّ ونواقع النساء وأنت أشعث أغبر.

« قال : فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم الكنانيّ (2) فقال يا رسول اللّه

ص: 295


1- قوله : « يعنى عمر بن الخطاب » من المصنف وكان الشيعة وفي مقدمهم الامام الباقر والصادق يكنون عنه بقولهم كما في هذا الحديث : « فقال رجل من القوم » وفي بعض الأحاديث « فقال رجل من بنى عدا » وكانت الصحابة يضربون عن اسم القائل ويقولون « قيل » أو « قالوا » مسند بن الخلاف الى جمع من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله ومرادهم الرجل وحده حشمة منه ومن أتباعه لأن المسلم من رواياتهم أن الناس كلهم أحلوا الا من ساق هديا وهم رسول اللّه وعلى بن أبى طالب والزبير أو طلحة ففي سنن ابى داود ج 1 ص 441 « فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى اللّه عليه وآله ومن كان معه هدى » من دون ايعاز الى الخلاف ، وفي صحيح البخاري ج 1 ص 286 في حديث جابر : قال أهل النبي صلى اللّه عليه وآله هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدى غير النبي صلى اللّه عليه وآله وطلحة وقدم على من اليمن ومعه هدى فقال أهللت بما أهل به النبي صلى اللّه عليه وآله فأمر النبي أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا الا من كان معه الهدى ، فقالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر فبلغ النبي صلى اللّه عليه وآله فقال لو استقبلت من امرئ ما استدبرت الحديث. وهذا القول الذي صرح به جابر « وذكر أحدنا يقطر » انما يناسب كلام رجل له شراسة وسوء خلق وجرءة للكلام خلافا لرسول اللّه وليس ذلك معهودا في أصحابه الا في عمر بن الخطاب ولكن الإمامين الباقر والصادق وأتباعهما بدلوا قوله ذات المقذع بقولهم « ورؤسنا تقطر » والمعنى واحد.
2- هذا هو الصحيح والرجل سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو بن تيم بن مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة الكناني المدلجي راجع الإصابة ج 2 ص 18 ، وما في بعض النسخ « خثعم » فهو تصحيف.

علّمتنا ديننا فكأنّما خلقنا اليوم فهل الّذي أمرتنا به لعامنا هذا أو لما يستقبل؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : بل هو للأبد إلى يوم القيامة ثمّ شبّك بين أصابعه بعضها في بعض وقال : [ ا ] دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة هكذا » (1).

وكان ذلك في حجّة الوداع ومات صلى اللّه عليه وآله على ذلك وليس لأحد أن ينسخ حكما ثبت في زمانه فدعوى النسخ باطلة.

« وقدم عليّ عليه السلام من اليمن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو بمكّة فدخل على فاطمة عليها السلام وهي قد أحلّت فوجد ريحا طيّبة ووجد عليها ثيابا مصبوغة فقال لها : ما هذا يا فاطمة؟ قالت أمرني بهذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فخرج عليّ عليه السلام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مستفتيا محرّشا على فاطمة فقال : يا رسول اللّه إنّي رأيت فاطمة قد أحلّت وعليها ثياب مصبوغة؟ فقال أنا أمرت الناس بذلك وأنت يا عليّ بما أهللت؟ فقال : قلت يا رسول اللّه إهلالا كإهلال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كن على إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي » (2).

( فروع )

1 - لا خلاف في وجوب الهدي على المتمتّع ولكن هل هو نسك في نفسه أو جبران قال أصحابنا بالأوّل لظاهر التنزيل وقال الشافعيّ هو جبران لنقص إحرامه لوقوعه في غير المواقيت وليس بشي ء لأنّا نمنع كون ذلك نقصا بل ميقاته مكّة كما أنّ غيره ميقاته خارج عنها ويتفرّع على ذلك أنّ عند الشافعيّ لا يجوز الأكل منه كغيره من الكفّارات وعندنا وعند أبي حنيفة يجوز الأكل منه.

2 - يجب الهدي على المتمتّع بنفس إحرامه ويستقرّ في ذمّته لتعليق وجوبه على المتمتّع لقوله تعالى ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )

ص: 296


1- الكافي ج 4 ص 246 ورواه في الوسائل ب 2 من أبواب أقسام الحج ح 4 ومثله في سنن ابى داود ج 1 ص 439.
2- الكافي ج 4 ص 246 ورواه في الوسائل ب 2 من أبواب أقسام الحج ح 4 ومثله في سنن ابى داود ج 1 ص 443.

وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعيّ لا يجب حتّى يقف بعرفة وقال مالك لا يجب حتّى يرمي جمرة العقبة وكلاهما عدول عن الظاهر.

3 - لا يجوز إخراج الهدي قبل إحلال العمرة إجماعا وكذا بعد إحلالها قبل إحرام الحجّ عندنا وعند أبي حنيفة. وقال الشافعيّ في أحد قوليه يجوز وأمّا بعد إحرام الحجّ فجزء الشافعيّ بجواز إخراجه وقال أصحابنا محلّه يوم النحر وبه قال أبو حنيفة.

الثانية : إذا عدم الهدي ووجد ثمنه خلّفه عند ثقة ليشتريه له ويذبحه طول ذي الحجّة فإن تعذّر تعيّن الهدي في القابل وإذا عدم الثمن أيضا صام وعند بعض أصحابنا ينتقل إلى الصوم بعدم وجدان الهدي وإن وجد الثمن والأوّل أقوى وعليه دلّت الرواية (1) ثمّ الصوم في الحجّ هو أن يصوم يوما قبل التروية ويومها ويوم عرفة متتابعا وروي جوازها في أوّل ذي الحجّة مع تلبّسه بالمتعة وقال أبو حنيفة إذا أهلّ بالعمرة جاز الصوم إلى يوم النحر وقال الشافعيّ لا يجوز قبل إحرام الحجّ وقال الشيخ رحمه اللّه لا خلاف بين الطائفة أنّ الصوم المذكور مع الاختيار وأنّ الإحرام بالحجّ ينبغي أن يكون يوم التروية فخرج من ذلك جواز الصوم قبل الإحرام بالحجّ.

فروع

1 - لو وجد الهدي قبل الصوم تعيّن الذّبح ولم يجزئ الصوم وللشافعيّ أقوال منشؤها اعتبار حال الوجوب أو الأداء أو أغلظ الحالين.

2 - لو وجده بعد الشروع في الصوم لم يجب عليه الرجوع إلى الهدي لكنّه أفضل وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة بذلك إن وجده في السبعة وإن كان في الثلاثة أهدى وفيما بينهما إن كان قد أحلّ فالصوم وإلّا فالهدي.

3 - إذا لم يصم السابع والثامن والتاسع بل ابتدأ بالثامن صام الثالث بعد

ص: 297


1- الكافي ج 4 ص 506.

أيّام التشريق ولا يجوز صومها في أيّام التشريق وبه قال الشافعيّ في الجديد وجوّز صومها في القديم.

4 - إذا لم يصمها في الذي تقدّم صامها بقيّة ذي الحجّة أداء فإذا أهلّ المحرّم ولم يصم تعيّن الهدي وقال أبو حنيفة إذا جاء النحر ولم يصم تعيّن الهدي في ذمّته وقال الشافعيّ في الجديد يصومها بعد أيّام التشريق باقي ذي الحجّة قضاء.

5 - يجب فيها التتابع ولذلك قرئ شاذّا « متتابعات » فلو أفطر لغير عذر في أثنائها استأنف إلّا في كون الثالث العيد ويصحّ صوم هذه ولو صدق عليه اسم السفر.

6 - السبعة يصومها [ إذا فرغ من أفعال الحجّ ] بعد الرجوع إلى أهله ولو أقام بمكّة انتظر قدر وصول صحبه أو مضيّ شهر وقال أبو حنيفة يصومها إذا فرع من أفعال الحجّ وللشافعيّ قولان لنا ظاهر الآية فإنّ الرجوع لا يفهم منه إلّا ذلك.

7 - لا يجب التتابع في السبعة على أصحّ القولين عندنا ويجوز صومها متتابعة للثلاثة إذا اتّفق الشرط.

فائدة : هنا سؤالان الأوّل : لم قال « تِلْكَ عَشَرَةٌ » فإنّ ذلك معلوم من ضمّ أحد العددين إلى الآخر. الثاني : لم قال « كامِلَةٌ » فإنّ صدق العشرة يستلزم كمالها.جواب الأوّل : لمّا كان الواو قد يجي ء بمعنى أو كما في قوله ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) (1) أمكن تصوّرها هنا فأزيل الوهم بذلك وجواب الثاني أنّها كاملة في بدليّة الهدي إجزاء وثوابا.

ص: 298


1- النساء : 3
البحث الرابع
اشارة

[ الثالثة ] (1) « ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ » قال الشافعيّ « ذلك » إشارة إلى الهدي أو الصيام والحقّ خلافه بل هو إشارة إلى التمتّع فانّ اللام في « ذلك » للبعيد وذكر التمتّع أبعد من الهدي وأيضا فإنّه أجمع فائدة من قوله.

ثمّ اختلف في « حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » فقال الشافعيّ من كان دون مسافة القصر وقال أبو حنيفة هم أهل الميقات فما دونه ولأصحابنا قولان أحدهما من كان على اثني عشر ميلا فما دون ولم نظفر له بدليل وثانيهما ثمانية وأربعون ميلا وهو الحقّ لما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام « قال قلت له [ ما معنى ] قول اللّه تعالى ( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) قال يعني أهل مكّة ليس عليهم متعة كلّ من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلا ذات عرق وعسفان وكلّما يدور حول مكّة فهو ممّن دخل في هذه الآية وكلّ من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة » (2).

إذا عرفت هذا فعندنا أنّ التمتّع فرض عين لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لا يجوز له الحجّ في فرض الإسلام بغيره اللّهمّ إلّا لضرورة تحوجه إلى العدول كضيق الوقت أو الحيض للمرأة وأمثاله وكذا عندنا أنّ القران والإفراد قرض عين لمن هو حاضر المسجد [ الحرام ] وليس له العدول إلى التمتّع إلّا لضرورة ومع العدول يجب الدّم خلافا للشافعيّ فإنّه لم يوجبه بناء على ما قاله من عود الضمير في ذلك إلى الهدي وقد عرفت ضعفه.

واتّفق الفقهاء الأربعة على أنّه ليس في الثلاثة فرض عين ثمّ اختلفوا في أيّها أفضل فقال مالك وأحمد : التمتّع أفضل وهو أحد قولي الشافعيّ وفي قوله الآخر

ص: 299


1- في بعض النسخ المخطوطة « الثالثة » وفي بعضها « الفائدة الثالثة » والأنسب ما في المطبوعة « البحث الرابع ».
2- أخرجه في الوسائل عن التهذيب ب 6 من أبواب أقسام الحج ح 3 ومثله في تفسير العياشي ج 1 ص 93.

الإفراد أفضل ولذلك جعل الهدي جبرا لا نسكا وقال أبو حنيفة القران أفضل والحقّ عندنا أنّ التمتّع أفضل لما ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي » (1) تأسّفا منه صلى اللّه عليه وآله على فوات العمرة المتمتّع بها ولا تأسّف على فوات غير الأفضل ولأنّه مشتمل على نسكين العمرة والحجّ فيكون أفضل من نسك واحد ولما ورد عن الباقر عليه السلام « لو حججت ألفا وألفا لتمتّعت » (2).

الثانية ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ ) (3).

فيه فوائد :

1 - تقدير الآية زمان الحجّ أشهر، كقولهم البرد شهران « معلومات » أي معروفات للناس يريد أنّ زمان الحجّ لم يتغيّر في الشرع وهو ردّ على الجاهليّة في قولهم بالنسي ء كما يجي ء وهي شوّال وذو القعدة وذو الحجّة عند المحقّقين من أصحابنا وبه قال مالك وقيل تسعة من ذي الحجّة وبه قال الشافعيّ وقيل عشرة وبه قال أبو حنيفة والأوّل أصحّ لأنّ الأشهر جمع والجمع لا يصدق على أقلّ من ثلاثة وإطلاق الاسم على الكلّ حقيقة وعلى البعض مجاز والأصل عدمه.

هذا مع أنّ التحقيق هنا أن يقال إن أريد بزمان الحجّ ما يقع فيه أفعاله فهو كمال الشهر لأنّ بعض المناسك يقع فيه كالذّبح والطواف كما تقدّم وإن أريد ما يفوت الحجّ بفواته فهو إمّا التاسع أو العاشر وحينئذ يكون إطلاق الشهر

ص: 300


1- صحيح البخاري ج 1 ص 287 في حديث جابر.
2- الوسائل ب 4 من أبواب أقسام الحج ح 21 عن أبى عبد اللّه عليه السلام.
3- البقرة : 197.

على بعضه مجازا أو نقول إنّ الفعل الواقع في ظرفه لا يجب مساواته كما تقول رأيت زيدا في الشهر الفلانيّ وإن لم يكن رؤيتك له إلّا في بعض ساعة.

2 - « فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ » أي ألزم نفسه به بإيقاع النيّة والتلبيات الأربع للمتمتّع والمفرد وأمّا القران فمخيّر كما تقدّم وفي هذا دلالة على أنّ إحرام الحجّ لا ينعقد إلّا في هذه الأشهر وبه قال الشافعيّ إذ لو انعقد في غيرها لزم كون المبتدأ أعمّ من خبره وهو باطل وخالف أبو حنيفة بتجويز عقده في غيرها لكنّه مكروه عنده وعمرة التمتّع لمّا كانت داخلة في الحجّ بالنصّ المتقدّم فهي جزء منه فكان حكمها حكمه في عدم انعقاد إحرامها في غير الأشهر المذكورة.

3 - « فَلا رَفَثَ » إلى آخره قيل الرّفث الفحش من الكلام والفسوق الخروج عن أحكام الشرع والجدال المراء والمنفيّات الثلاث منهيّات في المعنى لما تقدّم من إقامة الخبر مقام النهي وإنّما أبرزها في صورة النفي لينفى حقائقها من البين وخصّها بالحجّ وإن كانت واجبة الاجتناب في كلّ حال إلّا أنّه في الحجّ أسمج كلبس الحرير في الصلاة والتطريب بقراءة القرآن هذا وروى أصحابنا أنّ الرفث الجماع والفسوق الكذب والجدال الحلف بقول لا واللّه وبلى واللّه (1) وقيل الرفث المواعدة للجماع باللّسان والغمز بالعين له وقيل الجماع ومقدّماته والفسوق التنابز بالألقاب أو السباب لقوله صلى اللّه عليه وآله « سباب المؤمن فسوق » (2) وأنّ الجدال هو المراء بإغضاب على وجه اللّجاج والمماحكة.

قال الزمخشريّ : وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأوّلين بالرفع حملا لهما على النهي أي فلا يكوننّ رفث ولا فسوق والثالث كباقي القرّاء على معنى الاخبار

ص: 301


1- تفسير العياشي ج 1 ص 95.
2- السراج المنير ج 2 ص 335 ، عن ابن عباس وجابر ولفظه : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة دمه. ورواه في الكافي ج 2 ص 360 عن ابى جعفر عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه وآله ولفظه سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه معصية وحرمة ماله كحرمة دمه.

بانتفاء الجدال كأنّه قال لا شكّ ولا جدال في الحجّ وذلك أنّ قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر [ الحرام ] وسائر العرب يقفون بعرفة وكانوا يقدّمون الحجّ سنة ويؤخّرونه سنة فردّ إلى وقت واحد وردّ الوقوف إلى عرفة فأخبر اللّه أنّه قد ارتفع الخلاف في الحجّ.

واستدلّ على أنّ المنهيّ عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى اللّه عليه وآله :« من حجّ ولم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمّه » (1) وأنّه لم يذكر الجدال وفيه نظر لأنّه إذا حمل على الاخبار عن عدم الخلاف لزم الكذب لأنّه كم من خلاف قد وقع بين الفقهاء وغيرهم في الحجّ فانّ نفي الماهيّة يستلزم نفي جميع جزئيّاتها والأولى أن يقال إنّما نصب الثالث لأنّ الاهتمام بنفي الجدال أشدّ من الأوّلين لأنّ الرفث عبارة عن قضاء الشهوة والفسوق مخالفة أمر اللّه والجدال مشتمل عليهما فانّ المجادل يشتهي تمشية قوله ولا ينقاد للحقّ مع أنّه يشتمل على أمر زائد وهو الإقدام على الإيذاء المؤدّي إلى العداوة وأمّا الحديث المذكور فلا ينافي ما ذكرناه ولأنّه مركّب من المنفيّين.

4 - « وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ » حضّ وحثّ على فعل الخير عقيب نهيه عن الشرّ وإنّما لم يقل وما تفعلوا من شي ء ليكون شاملا للشرّ لأنّه لم يرد الإخبار عن علمه بل الحضّ على فعل الخير عقيب نهيه عن الشرّ ثمّ إنّ العاقل يستدلّ بذلك على علمه بالشرّ [ والخير ] لأنّهما متساويان في صحّة المعلوميّة.

[ 5 - ] « وَتَزَوَّدُوا » أي من العمل الصالح وقيل إنّ قوما من اليمن ما كانوا يتزوّدون في الحجّ ويقولون نحن متوكّلون ونحن نحجّ بيت اللّه أفلا يطعمنا فيكونون كلّا على الناس فنزلت (2) ويؤيّد الأوّل « فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى » والثاني سبب النزول.

ص: 302


1- صحيح البخاري ج 1 ص 312. السراج المنير ج 3 ص 352.
2- الدر المنثور ج 1 ص 221 صحيح البخاري ج 1 ص 265.

الثالثة ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ ) (1).

هنا أحكام :

1 - أنّه لا حرج ولا إثم في طلب الرزق حال الحجّ أمّا بالتجارة أو الصنعة أو المكاراة أو غيرها إذ لا مانع من ذلك عقلا ولا شرعا وكان ناس من العرب يتأثّمون أن يتّجروا أيّام الحجّ وإذا دخل العشر كفّوا عن البيع والشرى فلم يقم لهم سوق ويسمّون من يخرج بالتجارة الداج ويقولون هؤلاء الداج وليسوا بالحاجّ فرفع اللّه عنهم ذلك التأثّم « وروى جابر عن الباقر عليه السلام : أن تبتغوا مغفرة من ربّكم » (2).

2 - « فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ » الإفاضة الدفع بكثرة من إفاضة الماء وهو صبّه بكثرة وأصله أفضتم أنفسكم [ و ] ترك ذكر المفعول وفيه دلالة على وجوب الكون بعرفة وأنّه من فرائض الحجّ لأنّه سبحانه أمر بالإفاضة منه بقوله « ثُمَّ أَفِيضُوا » وهو يستلزم الكون به ولا خلاف في وجوبه لقوله صلى اللّه عليه وآله « الحجّ عرفة » (3) وهو ركن يبطل الحجّ بتركه عمدا ووقته من الزوال يوم التاسع إلى الغروب هذا للمختار وأمّا للمضطرّ فإلى طلوع فجر النحر.

ص: 303


1- البقرة : 198.
2- مجمع البيان ج 2 ص 295.
3- السراج المنير ج 2 ص 236 وذيله : من جاء قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد أدرك الحج أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه وأخرجه في مجمع الزوائد ج 3 ص 251 ولفظه : الحج عرفات قال رواه الطبراني في الأوسط.
فائدتان :

1 - لو أفاض قبل الغروب عامدا ولم يعد صحّ حجّه وعليه بدنة وقال أبو حنيفة وأحمد صحّ حجّه وعليه دم وللشافعيّ قولان أحدهما كقولهما والآخر لا شي ء وقال مالك إذا لم يعد بطل حجّة إلا أن يرجع قبل الفجر.

2 - عرفات اسم لبقعة سمّيت بالجمع كأذرعات وقنّسرين وحدّها من الأراك إلى ذي المجاز إلى ثويّة إلى [ بطن ] عرنة وسمّيت عرفات لأنّ إبراهيم عليه السلام عرّفها بعد وصفها له وقيل لأنّ آدم عليه السلام وحوّا اجتمعا فيه فتعارفا وقيل إنّ جبرئيل عليه السلام كان يري إبراهيم عليه السلام المناسك فيقول عرفت عرفت وقيل إنّ إبراهيم عليه السلام رأى ذبح ولده ليلة الثامن فأصبح يروّي يومه أجمع أي يفكّر : أهو أمر من اللّه أم لا؟ فسمّي يوم التروية ثمّ رأى اللّيلة التاسعة ذلك فلمّا أصبح عرف أنّه من اللّه وقيل إنّ آدم عليه السلام اعترف بذنبه بها وقيل سمّيت بذلك لعلوّها وارتفاعها ومنه عرف الديك لارتفاعه.

3 - « فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ » وفيه دلالة على وجوب الكون به كما يقوله أصحابنا خلافا للفقهاء وذلك لأنّ الذكر المأمور به عنده يستلزم الكون فيه فيكون واجبا وهو ركن كعرفة ولو أخلّ بهما سهوا بطل حجّه لا بأحدهما فيجتزئ بالآخر ووقته من طلوع فجر العاشر إلى طلوع شمسه للمختار وللمضطرّ إلى الزوال وحدّه من المأزمين إلى الحياض إلى وادي محسّر وسمّي مشعرا مفعلا من الشعارة وهي العلامة لأنّه معلم للعبادة وحراما لحرمته ويقال مزدلفة من ازدلف أي دنا لأنّ الناس يدنو بعضهم من بعض ويقال جمع لاجتماع آدم عليه السلام مع حوّا وللجمع بين الصلاتين والذكر هنا هو مطلق التسبيح والتحميد وما شاكلهما.

4 - « وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ » أي اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها وما مصدريّة أو كافّة ( وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ ) أي قبل الهداية أو قبل محمّد صلى اللّه عليه وآله « لَمِنَ الضّالِّينَ » أي الجاهلين بالايمان والطاعة و « إن » هي الخفيفة من الثقيلة واللّام هي الفارقة بينها وبين النافية.

ص: 304

الرابعة ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1)

هنا فوائد :

1 - اختلف في المراد بالإفاضة هنا على قولين : الأوّل نقل عن الباقر عليه السلام وابن عبّاس وجماعة أنّ المراد إفاضة عرفات وأنّ الأمر لقريش وحلفائهم ويقال لهم الحمس (2) لأنّهم كانوا لا يقفون بعرفات مع سائر العرب بل بالمزدلفة كأنّهم [ كانوا ] يرون لهم ترفّعا على الناس فلا تساوونهم في الموقف ويقولون نحن أهل حرم اللّه فلا نخرج منه فأمرهم اللّه بموافقة سائر العرب وقيل « الناس » هو إبراهيم عليه السلام أي أفيضوا من حيث أفاض هو وسمّاه بالناس كما سمّاه امّة وكما قال ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ

ص: 305


1- البقرة : 199.
2- قال ابن إسحاق ( ج 1 ص 199 - 202 من سيرته ) وقد كانت قريش - لا أدرى أقبل الفيل أم بعده - ابتدعت رأى الحمس ، رأيا رأوا وأداروه فقالوا : نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة وساكنها فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا ، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم. فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها ، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها وأن يفيضوا منها الا انهم قالوا نحن أهل الحرم فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمز. والحمس أهل الحرم ، ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم ، يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم ، وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك. ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن لهم حتى قالوا لا ينبغي للحمس أن يأتقطوا الأقط ولا يسألوا السمن وهم حرم ولا يدخلوا بيتا من شعر ولا يستظلوا ان استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرما ، ثم رفعوا في ذلك فقالوا : لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤا به معهم من الحل الى الحرم إذا جاؤا حجاجا أو عمارا ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمر. فان لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة ، فان تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة ولم يجد ثياب الحمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل ألقاها إذا فرغ من طوافه ثم لم ينتفع بها ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا. فكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقى فحملوا على ذلك العرب فدانت به ووقفوا على عرفات وأفاضوا منها وطافوا بالبيت عراة أما الرجال فيطوفون عراة واما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها الا درعا مفرجا عليها ثم تطوف فيه انتهى ما أردنا نقله. وقال في معجم قبائل العرب ( ج 1 ص 301 ) : الحمس قبائل من العرب قد تشددت في دينها فكانت لا تستظل أيام منى ولا تدخل البيوت من أبوابها وهي قريش وكنانة ومن دان بدينهم من بنى عامر بن صعصعة ، قال أبو عمرو بن العلاء : الحمس من بنى عامر : كلاب وكعب وعامر بنو ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وقال البكري : الحمس هم قريش كلها كنانة وما ولدت الهون ابن خزيمة والغوث وثقيف وخزاعة وعدوان وبنو ربيعة بن عامر بن صعصعة من قبل الولادة. وفي كتب الأحاديث نحو الدر المنثور ج 1 ص 226 أحاديث في ذلك فراجع.

النّاسُ ) (1) والمراد نعيم ابن مسعود أو أنّه أراد إبراهيم وولديه فعلى هذا القول في الآية أمر بالكون بعرفة أصرح من الأوّل. الثّاني عن الصّادق عليه السلام أنّه إفاضة المشعر (2) واختاره الجبائيّ وهو الّذي يقوى في نفسي لأنّه ذكر إفاضة عرفات أوّلا فوجب كون هذه غير تلك تكثيرا للفائدة بتغاير الموضوع وأيضا يكون « ثُمَّ » على حقيقتها من المهلة والترتيب فيكون « أَفِيضُوا » معطوفا على « اذكروا » والمهلة هي من أوّل الوقت إلى آخره والمراد بالناس على هذا قيل هم الحمس كما حكينا وقوفهم بالمزدلفة وقيل هو إبراهيم عليه السلام وقيل آدم عليه السلام تنبيها على أنّ

ص: 306


1- آل عمران : 172.
2- لم نعثر على رواية تدل على ذلك.

الحجّ من السنن القديمة ولذلك قرئ شاذّا من حيث أفاض الناس بكسر السين أي الناسي من قوله ( فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (1).

2 - على القول الأوّل ما معنى الترتيب هنا فقيل في الكلام تقديم وتأخير وفيه ضعف وقيل معناه تفاوت ما بين الافاضتين وأنّ إحداهما صواب والأخرى خطأ والتحقيق هنا أنّ التراخي كما يكون في الزمان كذا يكون في الرتبة كقوله ( كَلّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (2) فإنّ مراتب العلم متفاوتة بحسب حال النفس في البعد عن العوائق كذلك نقول هنا إنّ مطلق الإفاضة المأمور به أوّلا يقصر رتبة عن الإفاضة المقيّدة المأمور بها ثانيا.

3 - « وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ » أي اطلبوا منه المغفرة تنبيها على أنّ الإتيان بأفعال الحجّ سبب معدّ لاستحقاق الغفران وإفاضة الرحمة.

الخامسة ( فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (3).

هذه الآية يحسن ذكرها هنا متابعة لنسق الكتاب ويحسن [ أيضا ] ذكرها بعد الطواف والسعي وغيرهما لقوله « مَناسِكَكُمْ » وهو جمع مضاف فيفيد العموم لكلّ المناسك الّتي هي أعمال الحجّ ورأينا مراعاة الأوّل أولى وهنا فوائد :

1 - لمّا اشتدّت عناية اللّه تعالى بعبيده بفعل الأصلح لهم وكان اللطف في ذلك يقع منه تارة ومن العبيد اخرى فما كان منه فعله بحكمته وما كان منهم اقتضت

ص: 307


1- طه : 115.
2- التكاثر : 3 و 4.
3- البقرة : 200 - 202.

الحكمة حضّهم عليه وإرشادهم إلى القيام به فلذلك كرّر الأمر بالذكر في هذه الآيات خمس مرّات وجعل محلّ الذكر الأزمنة الشريفة والأمكنة المنيفة ضمن العبادات العظيمة ليكثر لهم الجزاء كلّ ذلك إعلاما بشدّة العناية بعبيده وإلّا فالجناب القدسيّ أعظم من أن يعود إليه من ذلك نفع أو ينتفي عنه ضرر.

2 - الذكر يراد به اللّساني تارة والقلبيّ أخرى لكنّ المقصود بالذات هو الثاني وأمّا الأوّل فترجمان للثاني ومنبّه للقلب عليه لكونه في الأغلب مأسورا في يد الشواغل البدنيّة والموانع الطبيعيّة وهذا هو السرّ في تكرار الأذكار والتسبيحات والتحميدات وغيرها.

3 - لا يتوهّم أنّ ذكره تعالى ينقطع بانقطاع المناسك لتعليق الأمر بقضائها بل هو دائم مستمرّ لا ينبغي للمكلّف أن يغفل عنه ودلالة مفهوم المخالفة باطلة كما تقرّر في الأصول وإنّما سبب التعليق ما كانت العرب تعتاده بعد قضاء مناسكها من الوقوف بمنى وذكر محامد الآباء ومفاخرهم فأمرهم بالعدول عن ذلك الّذي لا يفيد إلى ما هو المفيد.

4 - إنّما جعل ذكر الآباء مشبّها به والغالب في التشبيه أنّ المشبّه به أقوى في الوجه مع أنّ ذكره تعالى ينبغي أن يكون أقوى ، جريا على الواقع فإنّ أكثر الناس لا يذكر اللّه إلّا أحيانا يسيرة ولا يغفل عن ذكر آبائه فكان ذكر الآباء أكثر وجودا فحسن جعله مشبّها به وإنّما ردّد بقوله « أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً » لتفاوت النفوس في مراتب القبول فإنّ منهم من لا يخلو عن الذكر طرفة عين ومنهم من لا يخطر بباله ذكر ربّه إلّا أن ينبّهه غيره وبينهما مراتب كثيرة ولذلك ردّد في خطابهم فقنع من قوم بذكر كذكر آبائهم كالعوامّ ومن قوم أشدّ من ذلك كالخواص.

5 - [ ثمّ ] انّه تعالى قسم الذاكرين إلى قسمين أحدهما من مطلوبه بذكره أغراض دنيويّة من المال والجاه والخدم والحشم وغيرها من الحظوظ « وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ » أي من حظّ ونصيب ومفعول « آتِنا » محذوف وإنّما حذفه لكونه فضلة ولاختلاف إرادات الناس فكان ذكر كلّ المرادات يطول وذكر البعض تخصيص من

ص: 308

غير مخصّص وذكرها بلفظ مجمل مستغنى عنه بدلالة الفعل (1) فلم يبق إلّا الحذف فهو مثل قولنا فلان يعطي ويمنع وثانيهما من مطلوبه أغراض أخرويّة فإن خطر أمر دنيويّ فلا يطلبه ولا يريده إلّا أن يكون عونا على أمر أخرويّ لا لذاته وقوله : « أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا » يحتمل عوده إلى القسم الثاني لقربه ويحتمل عوده إلى القسمين معا فإنّ قوله « مِمّا كَسَبُوا » شامل للحسنة والسيّئة معا ومعناه من قصد بذكره شيئا نال ذلك الشي ء من حسنة أو سيّئة وإلى ذلك أشير في الحديث عن الباقر عليه السلام : « ما يقف أحد على تلك الجبال برّ ولا فاجر إلّا استجاب اللّه له فأمّا البرّ فيستجاب له في آخرته ودنياه وأمّا الفاجر فيستجاب له في دنياه » (2).

قوله « وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ » أي [ في ] مجازاته لإعمال عبيده ولا يحتاج إلى فكر يعلم به ماذا يستحقّ المكلّف من ثواب أو عقاب أو لا يستحقّ وإذا لم يحتج إلى فكر كان سريع الحساب.

السادسة ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (3).

البيت من الأسماء الغالبة كالثريّا والصعق و « مَثابَةً » من ثاب إذا رجع وهو مفعول ثان « لجعلنا » وهو مصدر وكذا « أمنا » والمراد ذا أمن مثل رجل عدل أي ذو عدل وقد تقدّم ذكر كيفيّة الأمن فيه وقرأ نافع وابن عامر « واتّخذوا » على صيغة الماضي عطفا على « جعلنا » وباقي القرّاء على صيغة الأمر « ومقام إبراهيم » عرفا غالبا هو محلّ الصخرة الّتي فيها أثر قدميه وهو المراد هنا لا أنّه الحرم أو عرفة أو المشعر أو منى وغير ذلك وهنا أحكام :

ص: 309


1- العقل خ.
2- الكافي ج 4 ص 262 تحت الرقم 38.
3- البقرة : 125.

1 - استحباب تكرار الحجّ لقوله « مثابة » أي مرجعا ومفهوم الرجوع يقتضي العود إلى ما كان عليه ولذلك ورد استحباب نيّة العود وورد في الحديث « من رجع من مكّة وهو ينوي الحجّ من قابل زيد في عمره ومن خرج من مكّة وهو لا ينوي العود إليها فقد قرب أجله » (1).

2 - وجوب الصلاة في مقام إبراهيم عليه السلام للأمر باتّخاذه مصلّى الدالّ على الوجوب وهو ركعتا الطواف إذ لا صلاة واجبة عنده غيرهما بلا خلاف وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام (2) وبه قال الحسن وقتادة والسدّيّ وعلى وجوب ركعتي الطواف إجماع أصحابنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال أحمد : هما سنّة وللشافعيّ قولان.

3 - في الآية إشارة إلى أرجحيّة الطواف بالبيت وقد تقدّم دليل وجوبه في قوله تعالى ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) وأنّه من المجملات المفتقرة إلى البيان من النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو الأئمّة عليهم السلام ثمّ الطواف عندنا ركن يبطل النسك بتركه عمدا لا سهوا بل يجب عليه العود للإتيان به فان تعذّر استناب فيه ويجب بعد السعي طواف النساء ولو تركه عمدا لم يبطل حجّه بل يجب عليه العود للإتيان به ولو تركه سهوا جاز أن يستنيب ولو مع القدرة.

4 - قوله « وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ » أي أمرناهما بالتطهير وفيه دلالة على وجوب تنحية النجاسات عن البيت والمسجد وقيل طهّراه من الأصنام وعبادة الأوثان.

5 - ظاهر الآية أنّ وجوب التطهير لأجل الطائفين والعاكفين فيكون واجبا لغيره لا لذاته مع أنّ ظاهر الفتوى أنّه تجب تنحية النجاسة عن المساجد لذاتها لقوله صلى اللّه عليه وآله « جنّبوا مساجدكم النجاسة » (3) ويمكن أن يجاب بجعل اللّام للعاقبة نحو

ص: 310


1- الوسائل ب 57 من أبواب وجوب الحج ح 3.
2- تفسير العياشي ج 1 ص 58.
3- أرسله الفقهاء في كتبهم بهذا اللفظ ولفظه على ما روى مسندا : جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم كما في السراج المنير ج 2 ص 212 وقد مر في ص 49.

« لدوا للموت وابنوا للخراب ».

6 - إذا وجب إزالة النجاسة لأجل الطائف فوجوب إزالتها عنه (1) أولى فلا يجوز الطواف مع مقارنة شي ء من النجاسات العينيّة ولا الحكميّة وكذا الكلام في المعتكف والمصلّي فلو أخلّ المكلّف بشي ء من ذلك عمدا بطل طوافه واعتكافه وصلاته لما تقرّر أنّ النهي في العبادة يستلزم البطلان.

السابعة ( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ ) (2).

الصفا في أصل اللّغة الحجر الصلب الأملس والواحدة صفاة مثل الحصا والحصاة ونقل الجوهريّ عن الأصمعيّ أنّ المرو حجارة بيض برّاقة يقدح منها النار والواحدة مروة ثمّ صارا علمين لجبلين في مكّة مشهورين والشعائر قال الجوهريّ هي أعلام (3) الحجّ وكلّ ما كان علما لطاعة اللّه وواحدها عند الأصمعيّ شعيرة وعند بعضهم شعارة والجناح الإثم وأصله من الجنوح وهو الميل عن المقصد وأصل « يطّوّف » يتطوّف فأدغم التاء في الطاء وقرئ « أن يطوف » من طاف وإنّما قال « فلا جناح » لأنّ المسلمين كانوا في بدء الإسلام يرون أنّ فيه جناحا بسبب ما حكي أنّ أسافا ونائلة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين ووضعا على الصفا والمروة للاعتبار فلمّا طال الزمان توهّم أنّ الطواف كان تعظيما للصنمين فلمّا جاء الإسلام وكسرت الأصنام تحرّج المسلمون من السعي بينهما فرفع اللّه ذلك التحرّج وأصل التطوّع التبرّع من طاع يطوع طوعا : إذا تبرّع وقرأ حمزة والكسائيّ « يطّوّع » بالياء وتشديد الطاء وسكون العين والباقون بالتاء وفتح العين على أنّه فعل ماض وعلى الأوّل هو مضارع مجزوم بأداة الشرط إذا عرفت هذا فهنا أحكام :

ص: 311


1- عنده ، خ.
2- البقرة : 158.
3- أعمال خ.

1 - السعي عندنا واجب وركن من تركه عمدا بطل حجّه وبذلك قال مالك والشافعيّ لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قال اسعوا فإنّ اللّه كتب عليكم السعي » (1) ولنصوص أهل البيت عليهم السلام وقال أبو حنيفة واجب غير ركن وقال جماعة من المفسّرين والفقهاء هو سنّة لظاهر العبارة فإنّ رفع الجناح لا يستلزم الوجوب لأنّه أعمّ منه والعامّ لا يستلزم الخاصّ قلنا علم الاستلزام من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وبيان أهل بيته عليهم السلام.

2 - السعي سبعة أشواط من الصفا إلى المروة شوط وبالعكس وقال قوم من الصفا إلى الصفا شوط كما أنّ الطواف بالبيت من الحجر إلى الحجر شوط وهو باطل لعدم النصّ في بيانه عليه السلام.

3 - يجب البدءة بالصّفا وإن كانت الواو لا يفيد ترتيبا لكن لقوله صلى اللّه عليه وآله : « ابدؤا بما بدء اللّه به » (2) ولأنّه هكذا فعل في بيانه فيكون واجبا.

4 - قيل في قوله تعالى ( وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ) أي زاد في السعي بينهما بعد إتيانه بالواجب وليس بشي ء لأنّه لم يرد استحباب السعي ابتداء بل إذا زاد شوطا سهوا استحبّ له إكمال أسبوعين وحينئذ يكون المراد به من تطوّع بالحجّ أو العمرة بعد الإتيان بالواجب أو يكون المراد به الصعود على الصفا وإطالة الوقوف عليه فقد ورد (3) أنه يستحبّ الوقوف عليه قدر قراءة سورة البقرة في ترتيل وروي أنّه يورث الغنى وقال بعضهم إنّه على إطلاقه أي أيّ خير كان من القربات « فَإِنَّ اللّهَ » تعالى « شاكِرٌ » أي مجاز على الشكر بأضعافه من الثواب « عَلِيمٌ » بقدر ما يجب إيصاله من الجزاء.

الثامنة ( وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ

ص: 312


1- مجمع الزوائد ج 3 ص 347.
2- الدر المنثور ج 1 ص 160.
3- راجع الكافي ج 4 ص 431.

وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) (1).

البدن جمع بدنة وهي من الإبل خاصّة سمّيت بها لعظم بدنها ونصبها من باب ما أضمر عامله على شريطة التفسير والأصل بدن بضمّتين جمع بدن كثمرة وثمر « ومن » ههنا للتبعيض أي بعض شعائر اللّه ويتعلّق الجارّ والمجرور بفعل محذوف أي جعلناها لكم [ و ] جعلناها من شعائر اللّه « لَكُمْ فِيها خَيْرٌ » أي لكم فيها مال من ظهورها وبطونها والخير يطلق على المال كما يجي ء وإنّما ذكر ذلك لأنّه في المعنى تعليل لكون نحرها من شعائر اللّه بمعنى أنّ نحرها مع كونها كثيرة النفع والخير وشدّة محبّة الإنسان للمال من أدلّ الدلائل على قوّة الدين وشدّة تعظيم أمر اللّه وتقدّم معنى ذكر اسم اللّه « و ( صَوافَّ ) » أي قائمات في صفّ واحد وانتصابها على الحال وقرئ صوافي أي خوالص لله وقرئ أيضا صوافن و « وَجَبَتْ جُنُوبُها » أي سقطت إفطارها على الأرض وسكنت وبردت ومثله وجب الحائط إذا سقط وهنا فوائد :

1 - أنّ الأمر بالأكل منها يخرجها عن كونها كفّارة فإنّ الكفّارات تجب الصدقة بها بجملتها حتّى بجلودها وشعورها وحينئذ يكون هنا إمّا ضحايا أو هدي قران أو هدي تمتّع فالأكل من الأضحيّة ندب وكذا من هدي القران اتّفاقا واختلف في هدي التمتّع فقيل بالوجوب وقيل بالندب ويحتجّ من قال بالوجوب بظاهر قوله « فَكُلُوا مِنْها » فإنّه حقيقة في الوجوب على الرأي الأقوى وبقول الصادق عليه السلام « إذا ذبحت أو نحرت فكل وأطعم كما قال تعالى ( فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) (2) وهذا هو المختار.

ص: 313


1- الحج : 36 و 37.
2- أخرجه في الوسائل عن التهذيب ب 40 من أبواب الذبح ح 1.

فائدة : كانت الأمم من قبل شرعنا يمتنعون من أكل نسائكهم فرفع اللّه تعالى الحرج من أكلها في هذه الملّة.

2 - قال الجوهريّ « القانع » الراضي بما معه وبما يعطى من غير سؤال من قنع بالكسر يقنع قناعة فهو قانع وقيل من قنع يقنع بفتح العين فيهما قنوعا فهو قانع إذا خضع وسأل « والمعترّ » على الأوّل المتعرّض للسؤال بل السائل وعلى الثاني المتعرّض من غير سؤال وفي الروايات ما يدلّ على القولين إن قلت : قد تقدّم « وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ » وهنا « الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ » فما وجههما؟ قلت : لا منافاة لجواز اجتماع الوصفين في واحد بأن يكون ذا ضرّ من فقره يسأل أولا يسأل.

فائدة : ظاهر الروايات والفتيا على قسمة الهدي أثلاثا قيل وجوبا وقيل ندبا وهو الأشهر يتصدّق بثلثه ويهدي ثلثه ويأكل ثلثه ولو كان المأكول أقلّ من الثلث جاز.

3 - يجب كون الهدي الواجب تامّا غير مهزول والهزال أن لا يكون على كليتيه شحم وينبّه على ذلك قوله تعالى « لَكُمْ فِيها خَيْرٌ » والنّاقص والمهزول لا خير فيهما.

4 - « لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها » أي لن ينال رضا اللّه لحوم هذه البدن ولا إراقة دمائها لينتفع بها الفقراء فقطّ بل ينال رضاه التقوى منكم بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه وإخراج تلك البدن من مال طيّب لا شبهة فيه عن سخاء نفس فانّ الطبيعة شحيحة ومخالفتها من التقوى والمراد بنيل الرضا تحصيله قيل إنّ الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لله لطخوا البيت بدمائها فأراد المسلمون أن يفعلوا [ ك ] ذلك فنهاهم اللّه بهذه الآية (1).

5 - « كَذلِكَ سَخَّرْناها » لمّا وصفها بأنّها بدن عظام لهم فيها منافع وأنّها قائمة أخبر بأنّه كما جعلها بتلك الأوصاف سخّرها لكم وذلك نعمة عظيمة يستحقّ بها الشكر وكرّر ذلك التسخير لأنّه ذكر أوّلا أنّ تسخيرها معلّل بالشكر ولم يبيّن

ص: 314


1- راجع الدر المنثور ج 4 ص 363.

كيفيّة الشكر فضمّن التكبير معنى الشكر أي لتشكروه بالتكبير « عَلى ما هَداكُمْ » إلى ما هو سبب تقوى القلوب ، وقد تقدّم أنّ تعظيم المنعم الآمر من لوازم امتثال أمره.

التاسعة ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) (1).

قيل إنّ اللّه تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنّ المسلمين قد دخلوا المسجد الحرام فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلو مكّة في عامهم ذلك فلمّا صدّوا قال المنافقون ما حلقنا ولا قصّرنا ولا دخلنا المسجد حتّى قال عمر : « ما شككت منذ أسلمت إلّا يومئذ فأنزلت » (2) وكان دخولهم

ص: 315


1- الفتح : 27.
2- قال السيوطي في الدر المنثور ج 6 ص 68 : أخرج أحمد والبخاري ( تراه في صحيحه ج 3 ص 45 ) والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في سفر فسألته عن شي ء ثلاث مرات ( وسيتضح أنه راجع وأنكر عليه في ثلاث موارد في الأحاديث الاتية ) فلم يرد على فقلت في نفسي ثكلتك أمك يا ابن الخطاب نزرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثلاث مرات فلم يرد عليك فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شي ء فقال النبي صلى اللّه عليه وآله : لقد أنزلت على الليلة سورة أحب الى من الدنيا وما فيها « إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ». قال : وأخرج البيهقي عن عروة عنه قال : اقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : واللّه ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا وعكف رسول اللّه بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا فبلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قول رجال من أصحابه أن هذا ليس بفتح فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بئس الكلام هذا أعظم الفتح - الى أن قال - فهذا أعظم الفتح أنسيتم يوم أحد ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ) وأنا أدعوكم في اخراكم » أنسيتم يوم الأحزاب « إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا » قال المسلمون صدق اللّه ورسوله هو أعظم الفتوح واللّه يا نبي اللّه ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت اعلم باللّه وبالأمور منا فانزل اللّه سورة الفتح. وقال : وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ( تراه في صحيحه ج 2 ص 122 ) وأبو داود ( ج 2 ص 87 ) والنسائي وابن جرير وابن المنذر عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا في حديث طويل بعد أمر الهدنة وتمام الصلح : فقال عمر بن الخطاب واللّه ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي فقلت : ألست نبي اللّه؟ قال : بلى. فقلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : بلى. قلت فلم نعطي الدنية في ديننا اذن؟ قال : انى رسول اللّه ولست أعصيه وهو ناصري. قلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت : لا. قال : فإنك آتيه ومطوف به. فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر! أليس هذا نبي اللّه حقا؟ قال : بلى. قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : بلى. قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا اذن؟ قال : أيها الرجل انه رسول اللّه وليس يعصى ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه تفز حتى تموت فو اللّه انه لعلي الحق ، قلت : أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : بلى. أفأخبرك أنا نأتيه العام قلت : لا ، قال فإنك آتيه ومطوف به. قال عمر : فعملت لذلك اعمالا. فلمّا فرغ من قضية الكتاب قال رسول اللّه لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا فو اللّه ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات الحديث. أقول : وقد مر في الحديث الأول انه راجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثلاث مرات وفي هذه الأحاديث قصة نكيره على الرؤيا بالحق وقصة نكيره على أمر الصلح والهدنة وكان الثالث هو نكيره على الحلق والنحر فلم يذكروه إلا في بعض إشارات كلامهم ومن ذلك ما رواه في الدر المنثور ج 6 ص 81 قال. وأخرج أحمد عن مالك ابن ربيعة أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول اللّهم اغفر للمعلّقين ثلاثا قال رجل والمقصرين فقال في الثالثة أو الرابعة والمقصرين وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : اللّهم اغفر للمحلقين - قالها ثلاثا - فقالوا : يا رسول اللّه ما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم؟ قال انهم لم يشكوا : وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس انه قيل له لم ظاهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة فقال : انهم لم يشكوا. وقال ابن إسحاق في سيرته بعد ذكره قصة الصلح ونكير عمر عليه بمثل ما مر ( راجع ج 2 ص 317 و 319 ) : حدثني عبد اللّه بن ابى نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يرحم اللّه المحلقين : قالوا : والمقصرين يا رسول اللّه؟ قال : يرحم اللّه المحلقين ، قالوا : والمقصرين يا رسول اللّه؟ قال : يرحم اللّه المحلقين ، قالوا والمقصرين يا رسول اللّه؟ قال : والمقصرين ، فقالوا : يا رسول اللّه فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال : لم يشكوا. أقول : والقصة مشهورة مذكورة في كتب السير والتواريخ والحديث والتفسير نقلنا نبذة منها ولعل بعض ألفاظها أفحش وأقذع من ذلك.

في العام القابل وقوله « الرؤيا » نصب بنزع الخافض أي في الرؤيا و « بالحقّ » إمّا حال من الرؤيا أي متلبّسة بالحقّ أو يكون التقدير صدقا متلبّسا بالحقّ ويراد بالحقّ الحكمة وهي تمييز المحقّ من المبطل ولام « لَتَدْخُلُنَّ » جواب قسم محذوف ودخول الاستثناء في كلامه تعالى إمّا تعليما لعباده أو أنّه من الدخول فانّ منهم من مات قبله أي لتدخلنّ كلّكم إنشاء اللّه أو آمنين إنشاء اللّه قوله « فَعَلِمَ » أي فعلم في التأخير من الصلاح ما لم تعلموا أنتم « فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ » أي قبل الدخول

ص: 316

« فَتْحاً قَرِيباً » قيل هو فتح خيبر وقيل صلح الحديبيّة.

إذا عرفت هذا فنقول : يجب على الحاجّ يوم العاشر الرّمي ثمّ الذّبح للمتمتّع ثمّ الحلق أو التقصير فيحلّ بأحدهما من كلّ ما أحرم منه إلّا الطيب والنساء والصيد ثمّ إنّ بعض أصحابنا قال : إنّ الحلق متعيّن على الصرورة والملبّد لشعره وأمّا غيرهما فهو مخيّر بين الحلق والتقصير والخلق أفضل مستدلّين على ذلك

ص: 317

بروايتي أبي بصير ومعاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام (1) وقال الأكثر بالتخيير مطلقا لكنّ الحلق في حقّ الصرورة والملبّد آكد استدلالا بالآية فإنّه ليس المراد الجمع بينهما اتّفاقا بل [ المراد ] إمّا التخيير أو التفصيل والثاني بعيد وإلّا لزم الاجمال فتعيّن الأوّل ولقول الصادق عليه السلام : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « اللّهمّ اغفر للمحلّقين قيل والمقصّرين يا رسول اللّه قال والمقصّرين » (2) وفي الاستدلال بالآية نظر لأنّه لو أراد التخيير لأتى بأو فيكون الواو للجمع فيكون المراد التفصيل أي محلّقين على تقدير التلبيد والصرورة ومقصّرين على تقدير غيرهما ومعنى الجمع حاصل بالنسبة إلى الصنف وإن لم يحصل بالنسبة إلى كلّ شخص ، ولزوم الاجمال ليس محذورا بعد البيان.

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ الواو فيه كما في قوله ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) (3) فيكون للتخيير وقوله الاجمال ليس محذورا بعد البيان قلنا ليس في الآية بيان ولا في أحاديث متواترة بل آحاد معارضة بمثلها معتضدة بالأصل.

( فروع )

1 - التقصير هنا غير متعيّن من الرأس وإن كان ظاهر الآية ذلك بل هو من سائر البدن كما في العمرة.

2 - أنّ الحلق مختصّ بالرجال وحرام على النساء ويتعيّن عليهنّ التقصير وكذا يتعيّن على الخنثى فلو حلقا أثما ولم يجزئهما.

3 - يجب في الحلق أن يحلق جميع الرأس ولا يجزئ بعضه أمّا التقصير فيجزئ مسمّاه

ص: 318


1- الكافي ج 4 ص 502 الرقم 6 و 7.
2- الوسائل ب 5 من أبواب التقصير ح 1. وفيه انه صلى اللّه عليه وآله قال في الثانية وللمقصرين وقد عرفت لفظ الحديث فيما سبق انه صلى اللّه عليه وآله قالها في الثالثة بل الرابعة.
3- النساء : 3.

4 - الأصلع والأقرع الأمردان يمرّان الموسى على رؤسهما وجوبا وكذا كلّ من لا شعر على رأسه.

5 - يجب كونه بمنى فلو رحل قبله وجب العود والحلق أو التقصير بها فان تعذّر خلق مكانه وبعث بشعره ليدفن بها استحبابا.

العاشرة ( وَاذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (1).

هذه الأيّام هي أيّام التشريق وهي الحادي عشر ويسمّى يوم القرّ والثاني عشر ويسمّى يوم الصدر والثالث عشر ويسمّى يوم النفر وسمّيت أيّام التشريق لتشرّق لحوم الأضاحي فيها وقيل : لشروق القمر فيها طول اللّيل وقال ابن الأعرابي لأنّ الهدي لا ينحر حتّى تشرق الشمس وقيل : لقولهم « أشرق ثبير كيما نغير » وهنا أحكام :

1 - الذكر في هذه الأيّام [ و ] قد تقدّم أنّه التكبير عقيب خمس عشرة صلاة لمن كان بمنى وعقيب عشر لمن كان بغيرها وصورته « اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه واللّه أكبر اللّه أكبر ولله الحمد اللّه أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا واللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام ».

2 - وجوب الكون بمنى تلك اللّيالي ويستحبّ النهار وهو لازم عن الأمر بالذكر فيها وعن قوله « فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » فيستلزم ثبوت الإثم للمستعجل (2) قبل ذلك.

3 - أنّ وجوب الكون في الثلاثة تخييريّ بينها وبين اليومين الأوّلين خاصّة

ص: 319


1- البقرة : 203.
2- لمن تعجل خ ، للمتعجل خ.

لكنّ اليوم الثاني عشر له حكمان أحدهما أنّه لا يجوز النفر فيه إلّا بعد الزوال والثاني أنّه متى غربت الشمس وهو بمنى تحتّم عليه المبيت بها اللّيلة الثالثة لأنّ التعجيل محلّه النهار فإذا مضى ولم يتعجّل فلو تعجّل في اللّيلة الثالثة لزم كون تعجيله ليس في اليومين فيكون آثما وهو المطلوب.

4 - أنّ ذلك التخيير ليس مطلقا بالنسبة إلى كلّ حاجّ بل هو لمن اتّقى واختلف فيه على قولين قيل : معناه اتّقى الصيد والنساء في إحرامه وقيل اتّقى سائر المحرّمات في الإحرام والأوّل هو المرويّ (1) والفتوى عليه.

5 - أنّ غير المتّقي يتحتّم عليه الكون في اللّيالي الثلاث ويكون نفره يوم الثالث عشر ولا يجوز قبله.

6 - أنّ من بات اللّيلة الثالث عشر لا ينفر حتّى تطلع الشمس ويرمي الجمار وكذا في النفر الأوّل لا ينفر إلّا بعد رمي الجمار ووقته بعد طلوع الشمس أيضا وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة ينفر قبل طلوع الفجر قيل : كان في الجاهليّة منهم من تأثّم بالتعجيل ومنهم من تأثّم بالتأخير فجاء القرآن برفع الإثم عنهما معا.

فائدة : قيل في قوله تعالى ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) هي أعمال الحجّ من الموقفين والطواف (2) والسعي وغيرها « فَأَتَمَّهُنَّ » أي وفى بإيقاعها وقيل هي التكاليف العقليّة والشرعيّة وقيل هي السنن العشرة وقد تقدّم في باب الطهارة ذكر أحكامها (3).

ص: 320


1- تفسير العياشي ج 1 ص 100 تحت الرّقم 286 من حديث حماد ولقد روى ما يدل على القول الثاني ص 99 تحت الرقم 280 فراجع.
2- الوقوفين خ ، الطوافين خ.
3- قد مر في ص 55.

النوع الثالث : ( في أشياء من أحكام الحج وتوابعه )

وفيه آيات :

الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (1).

هنا فوائد أربع :

1 - أنّه خاطب المؤمنين وإن كان التكليف عامّا لأنّهم القابلون لذلك المنتفعون به بأنّه يبلوهم أي يختبرهم ليتميّز مطيعهم من عاصيهم واللّام للابتداء أو التأكيد « بِشَيْ ءٍ مِنَ » جنس « الصَّيْدِ » ومن هنا للبيان كما ابتلي قوم موسى بتحريم صيد السمك يوم السبت ثمّ إنّه كان يجيئهم ذلك اليوم حتّى يدخل بيوتهم فإذا خرج السبت لم يبق منه شي ء وكما ابتلي قوم طالوت بالنهر.

2 - أنّ ذلك الصيد المبتلى به ليس بعيدا عنهم ولا ما يصعب عليهم تناوله فانّ ذلك ممّا لا فائدة في الاختبار به كما لا يبتلي [ اللّه ] العنّين بالحسناء والأخشم (2) بلذيذ الرائحة بل بما هو قريب منهم تناله أيديهم ورماحهم وكان قد كثر الصيد عندهم بالحديبية وهم محرمون بحيث يدخل في أمتعتهم حتّى كانوا يتمكّنون من قبضه بأيديهم وقيل المراد بما تناله أيديهم الصغار ورماحهم الكبار عن الصادق عليه السلام وابن عباس وقيل (3) بل الأوّل صيد الحرم لأنسه بهم والثاني صيد الحلّ لنفوره عنهم.

3 - أنّ ذلك الابتلاء ليس عبثا لصيانة أفعال الحكيم عن ذلك كما دلّ عليه

ص: 321


1- المائدة : 94.
2- الأخشم : من لا يكاد يشم شيئا لسدة في خياشيمه.
3- عنى بالأول ، خ ل.

الدليل بل لغاية مقصودة وهي تميّز (1) من يخافه بالغيب أي في القيامة ممّن لا يخافه وقيل الغيب حال انفراد المكلّف عن الناس إن قلت : إنّه تعالى عالم قبل الابتلاء فما فائدة الابتلاء قلت إنّه عالم بالكلّيّات أزلا وأبدا وأمّا الجزئيّات فلا يتعلّق علمه بها متميّزة إلّا بعد وجودها (2) لأنّ التعلّق نسبة بين المتعلّق والمتعلّق به والنسبة متأخّرة عن المنتسبين أو يكون المراد ليتميّز فانّ العلم يقتضي التمييز فأطلق العلم وأراد لازمه.

4 - « فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ » الابتلاء وخالف « فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ » أي مؤلم وفي تنكير العذاب وإبهامه تشديد لحال الصيد.

الثانية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ) (3).

الصيد يجي ء مصدرا واسما للمصيد وهو المراد هنا والحرم جمع حرام وهو أيضا مصدر سمّي به المحرم مجازا لأنّ الحرام في الحقيقة يوصف به الفعل وقرأ أهل الكوفة « فَجَزاءٌ » منوّنا ورفع « مثل » تقديره فالواجب جزاء فيكون خبرا أو فعليه جزاء فيكون مبتدأ « ومثل » صفة على التقديرين والباقون بضمّ جزاء و

ص: 322


1- وهو ليتميز له ، خ ل.
2- وذلك مبنى على قولهم ان علمه تعالى بالأشياء علم حضوري بمعنى حضور المدرك عند المدرك لكن الذي قدر الأشياء بقدرها وحدها بحدودها يعلمها قبل الإيجاد وبعده « وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ».
3- المائدة : 95.

إضافته إلى مثل و « يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ » إمّا صفة جزاء أو حال من ضميره و « هَدْياً » منصوب على الحال من الهاء في به « و ( بالِغَ ) » صفة هديا ولمّا كانت إضافته لفظيّة لم يتعرّف بالإضافة وقرأ نافع وابن عامر « أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ » بالإضافة للتبيين كخاتم فضّة والباقون « كفّارة » بالتنوين و « طعام » عطف بيان أو بدل و « صياما » منصوب على التمييز من العدل والفاء في « فَيَنْتَقِمُ [ اللّهُ مِنْهُ ] » جواب الشرط تقديره فهو ينتقم اللّه منه إذا تقرّر هذا فهنا أحكام :

1 - اختلف في الصيد المعنيّ بالنهي فقيل هو ما أكل لحمه وهو قول الشافعيّ محتجّا بأنّه الغالب عرفا قالوا ويؤيّده قوله عليه السلام : « خمس يقتلن في الحلّ والحرم الحدأة والغراب والعقرب والفارة والكلب العقور » (1) وفي رواية الحيّة بدل العقرب وفيه تنبيه على قتل كلّ موذ وقال أبو حنيفة كلّ وحشيّ أكل أولا ، وأمّا أصحابنا فقالوا : إنّ المحلّل حرام مطلقا وأمّا المحرّم فقالوا بتحريم الأسد والثعلب والأرنب والضبّ واليربوع والقنفذ لتظافر الروايات عن أهل البيت عليهم السلام بذلك (2).

2 - إنّما قال « لا تَقْتُلُوا » ولم يقل لا تذبحوا للتعميم (3) واختلف في المذبوح المأكول منه هل هو لاحق بحكم الذبائح المنهيّ عنها كالّذي ذبحه الوثنيّ فيكون كالميتة أو يكون لاحقا بمحرّم التصرّف كالمغصوب إذا ذبحه الغاصب الحقّ عندنا الأول فهو عندنا حرام على المحلّ والمحرم وجلده جلد ميتة لا يطهر بالدبغ وبالجملة حكمه حكم سائر الميتات.

3 - أنّ الصيد يحرم في كلّ إحرام بحجّ كان أو بعمرة واجبا كان الحجّ والعمرة أو نفلا لعموم اللّفظ.

ص: 323


1- السراج المنير ج 2 ص 256. صحيح البخاري ج 1 ص 314.
2- راجع الوسائل ومستدركة أبواب كفارات الصيد.
3- بل لأن النهي كالنفى ترد على الإثبات فلو قال : لا تذبحوا ، أو لا تذكوا. فعصى كان ذلك ذبحا وتذكية محرمة لا ميتة وأما إذا قال : لا تقتلوا. فعصى كان ذلك قتلا محرما لا تذكية وذبحا ، فيكون الصيد ميتة كالنطيحة فافهمه.

4 - أنّ الصيد يجب جزاؤه بجميع أنواع الإتلاف عمدا كان أو خطاء أو نسيانا ذاكرا لإحرامه حال العمد أولا وقال قوم إذا تعمّد القتل وهو ذاكر لإحرامه فلا كفّارة لعظم الذنب فلا يكفّره شي ء وليس قولهم بشي ء وإنّما قيّد القتل بالعمد في الآية لأنّ سبب نزولها فيمن تعمّد فقد روي أنّه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل إنّك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت (1) أو لأنّ الأصل فعل المتعمّد والحق به الخطاء للتغليظ ويدلّ عليه قوله تعالى ( لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ ) قال الزهريّ نزل الكتاب بالعمد ووردت السنّة بالخطاء وقال ابن جبير لا أرى في الخطاء شيئا أخذا باشتراط العمد في الآية وعن الحسن روايتان.

5 - قال أبو حنيفة المراد بالمماثلة القيمة فعنده يقوّم الصيد فان بلغت قيمته ثمن هدي تخيّر بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وبين أن يشتري بقيمته طعاما فيعطي كلّ مسكين من البرّ نصف صاع ومن غيره صاعا وإن شاء صام عن إطعام كلّ مسكين يوما فان لم يبلغ ثمن هدي أو لم يبلغ إطعام مسكين صام يوما أو تصدّق به وقال مالك والشافعيّ وأكثر المفسّرين والفقهاء المثل في الخلقة والهيئة فيجب نظيره من النعم.

وأمّا أصحابنا فقسموا الصيد إلى ما له مثل من النعم كالنعامة مثلها البدنة والحمار الوحشيّ مثله البقرة والظبي مثله الشاة فهذا يجب فيه مماثله وإلى ما لا مثل له من النعم فمنه ما عيّن جزاؤه فيجب ذلك المعيّن ومنه ما لم يعيّن فيجب فيه القيمة.

6 - على قولنا وقول الشافعيّ هل المماثلة شخصيّة فيفدي الصغير بصغير والكبير بكبير والذكر بذكر والأنثى بالأنثى أو نوعيّة فيجزئ الصغير عن الكبير والذكر عن الأنثى احتمالان والثاني أظهر في الفتوى لكنّ الأفضل الأوّل لتيقّن حصول البراءة نعم لا يجزي المعيب عن الصحيح ويجزي عن مثله بعينه فلا يجزي الأعرج عن الأعور وإذا كان المقتول حاملا فداه بحامل لا بحائل ومع التعذّر يقوّم الجزاء حاملا.

ص: 324


1- رواه الزمخشري في الكشاف ذيل الآية ج 1 ص 364.

7 - يجب أن يحكم في ذلك الجزاء بالمماثلة والتقويم « ذَوا عَدْلٍ » أي رجلان صالحان فقيهان عارفان بالصيد ومثله وقيمة مثله ولو كان أحدهما القاتل جاز إن كان القتل خطأ ولا كذا لو كان عمدا لأنّه فاسق وفي قراءة الباقر والصادق عليهما السلام « ذو عدل » وفسّر بالإمام (1) وقال ابن جنّي أراد من يعدل و « من » يكون للاثنين كما يكون للواحد كقول الشاعر « نكن مثل من يا ذئب يصطحبان » (2) وقوله « منكم » أي من المسلمين.

وهنا سؤال تقريره أنّ العدالة تستلزم الإسلام وذكرها يغني عن ذكره فلم قال « منكم » والجواب أنّه زيادة في الإيضاح أو لئلّا يتوهّم جواز حكم العدل في دينه وإن لم يكن مسلما.

8 - « هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ » قيل معناه يذبح [ الهدي ] في الحرم وأمّا الصدقة به ففي الحرم أيضا عند الشافعيّ وعند أبي حنيفة حيث يشاء وأمّا أصحابنا فقالوا إن كان في إحرام العمرة ذبح في الحرم بفناء الكعبة في الحزورة وتصدّق به هناك وإن كان في إحرام الحجّ ذبح بمنى وتصدّق به فيها.

9 - قال أصحابنا : إذا قتل نعامة كان عليه بدنة فان عجز قوّم البدنة وفضّ ثمنها على البرّ وأطعم ستّين مسكينا لكلّ مسكين نصف صاع فلو لم يف بالستّين كفاه ولو زاد لم يلزمه الزائد وكان له فان عجز عن الإطعام صام عن كلّ مسكين يوما ولو قتل حمارا وحشيّا أو شبهه فعليه بقرة أهليّة ومع العجز يفضّ ثمنها على

ص: 325


1- تفسير العياشي ج 1 ص 344 ، فيه أربعة أحاديث أولها : عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه « يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ » قال : العدل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله والامام من بعده ، ثم قال : وهذا مما أخطأت به الكتاب. أقول : يعنى من خطأ الكتاب رسمهم الالف الزائدة بعد واو الجمع هناك فكتبوا « ذو عدل » « ذوا عدل » ولما لم يكن الواو معهودا هناك جعلها القراء ألف تثنية.
2- من أبيات لفرزدق واسمه همام بن غالب التميمي يخاطب ذئبا أوله : تعال ( تعش خ ل ) فان عاهدتنى لا تخوننى.

ثلاثين والحكم كما تقدّم وإن قتل ظبيا فعليه شاة ومع العجز يفضّ ثمنها على عشرة والحكم أيضا كما تقدّم والعبرة بقيمة هذه النعم في منى إن كان في حجّ وفي مكّة إن كان في عمرة.

قالوا وأمّا غير هذه الثلاثة فما قدّر فيه جزاء فقيمة الجزاء مع التعذّر وقت الإخراج وما لم يقدّر فيه جزاء فقيمة الصيد وقت إتلافه.

10 - هل الإبدال في الأقسام الثلاثة على التخيير لظاهر الآية لمكان « أو » أو على الترتيب حتّى لا ينتقل إلى الإطعام إلّا مع العجز عن البدنة وشبهها ولا ينتقل إلى الصوم إلّا مع العجز عن الإطعام؟ قولان : قال أبو حنيفة والشافعيّ وبعض المفسّرين بالأوّل وقال ابن عباس في إحدى الروايتين وجماعة بالثاني وكلا القولين رواه أصحابنا فقال المفيد وابن إدريس بالتخيير والشيخ وابن بابويه بالترتيب والعمل به أحوط لحصول تيقّن البراءة وعلى القول الأوّل قيل التخيير للقاتل وهو الأقوى وقيل للحكمين.

11 - قد حكينا عن أصحابنا أنّ التقويم إنّما هو للنعم وبه قال عطا وجماعة وقال قتادة يقوّم الصيد المقتول حيّا ويجعل ثمنه طعاما وكذا اختلف في الصيام فقال الشافعيّ يصوم عن كلّ مدّ يوما وبه قال عطا وقال أصحابنا عن كلّ مدّين يوما وبه قال أبو حنيفة وجماعة.

قوله « أَوْ عَدْلُ ذلِكَ » أي عدل الإطعام وقرئ شادّا عدل بكسر العين ويستعمل الكسر في المساوي مقدارا والفتح في المساوي حكما وإن لم يكن من جنسه.

قوله « لِيَذُوقَ [ وَبالَ أَمْرِهِ ] » متعلّق بقوله « فجزاؤ » أي فعليه كذا ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام والوبال المكروه والضرر في العاقبة ومنه قوله ( فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ) (1) والطعام الوبيل ما يثقل على المعدة.

قوله « عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ » أي سلف قبل نزول [ هذه ] الآية وقيل قبل مراجعة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسؤاله وقيل قبل الإسلام ويمكن أن يفهم من قوله « لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ »

ص: 326


1- المزمل : 16.

أنّ الكفّارة تقع عقوبة لا مكفّرة وهذا ظاهر من التعليل.

12 - « وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ » أي ومن عاد إلى قتل الصيد بعد هذا النهي فهو ممّن ينتقم اللّه منه وهل ذلك مانع من وجوب الكفّارة عليه أم لا قال ابن عباس نعم وبه قال أكثر أصحابنا وقال الحسن وابن جبير وعامّة الفقهاء لا بل تجب وبه قال بعض أصحابنا وهو الحق.

وتحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول : إذا تكرّر في عامين في إحرامين لا كلام في لزوم الكفّارة أمّا في العام الواحد في إحرامين فيحتمل أن يكون كالأوّل أعني لزوم الكفّارة لتحقّق الإحلال بينهما وهو الظاهر وأن لا يكون فيقع فيه الخلاف. ثمّ التكرار أقسام : الأوّل : خطأ أو سهو عقيب عمد. الثاني : خطأ أو سهو عقيب مثلهما ، ولا كلام ولا خلاف في لزوم الكفّارة فيهما ، الثالث : عمد عقيب خطأ أو سهو. الرابع : عمد عقيب عمد وفيهما الخلاف فقال المرتضى وأبو الصلاح وابن إدريس والشيخ في الخلاف والمبسوط بلزوم الكفّارة لعموم « وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً » وهو عامّ بحسب الأشخاص وقوله « وَمَنْ عادَ » غير صالح للتخصيص إذ لا منافاة بينهما الّتي هي شرط في التخصيص لما قرّرناه من قبل أنّ الكفّارة عقوبة فلا يكون منافية للانتقام ولقول الصادق عليه السلام في صحيحة ابن أبي عمير « عليه كلّما عاد كفّارة » (1) وهي عامّة بحسب الزمان وقوله عليه السلام أيضا في حسنة معاوية ابن عمّار « عليه الكفّارة في كلّ ما أصاب » (2) وهي عامّة بحسب الأحوال إن كانت

ص: 327


1- الكافي ج 4 ص 395 والمنقول صدر الحديث وتمام لفظه : قال ابن أبي عمير عن بعض أصحابه : إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه أبدا في كل ما أصاب الكفارة وإذا أصابه متعمدا فان عليه الكفارة ، فإن عاد فأصاب ثانيا متعمدا فليس عليه الكفارة ، وهو ممن قال اللّه عزوجل « وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ » ورواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن يعقوب بن يزيد عن ابن ابى عمير عن بعض أصحابه عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال : إذا أصاب المحرم الصيد خطا فعليه كفارة فإن أصابه ثانية خطأ فعليه الكفارة أبدا إذا كان خطأ ، فإن أصابه متعمدا كان عليه الكفارة ، فإن أصابه ثانية متعمدا فهو ممن ينتقم اللّه منه والنقمة في الآخرة ، ولم يكن عليه الكفارة. ( راجع الوسائل ب 48 ح 3 من أبواب كفارات الصيد ) فكما ترى الحديث نص في المقام يفصل بين العود خطا وبين العود عمدا فهو المحكم.
2- الكافي ج 4 ص 395 والمنقول صدر الحديث وتمام لفظه : قال ابن أبي عمير عن بعض أصحابه : إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه أبدا في كل ما أصاب الكفارة وإذا أصابه متعمدا فان عليه الكفارة ، فإن عاد فأصاب ثانيا متعمدا فليس عليه الكفارة ، وهو ممن قال اللّه عزوجل « وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ » ورواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن يعقوب بن يزيد عن ابن ابى عمير عن بعض أصحابه عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال : إذا أصاب المحرم الصيد خطا فعليه كفارة فإن أصابه ثانية خطأ فعليه الكفارة أبدا إذا كان خطأ ، فإن أصابه متعمدا كان عليه الكفارة ، فإن أصابه ثانية متعمدا فهو ممن ينتقم اللّه منه والنقمة في الآخرة ، ولم يكن عليه الكفارة. ( راجع الوسائل ب 48 ح 3 من أبواب كفارات الصيد ) فكما ترى الحديث نص في المقام يفصل بين العود خطا وبين العود عمدا فهو المحكم.

ما مصدريّة وبحسب أشخاص المصيد إن كانت موصولة أو موصوفة.

وقال الشيخ في النهاية وابن البرّاج لا يلزم العائد كفّارة لقوله « وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ » والتفصيل قاطع للشركة فكما لا انتقام في الأوّل فلا جزاء في الثاني والجواب قد بيّنّا أنّه لا منافاة بينهما وأنّ الكفّارة عقوبة لقوله تعالى « لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ » ولأنّ التكرار في الخطاء لازم قطعا فيكون في العمد أولى من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.

قوله « وَاللّهُ عَزِيزٌ » أي ليس ممّن يعصى ويغلب بل هو الغالب على من سواه « ذُو انْتِقامٍ » أي ليس ممّن يجهل السياسة ويهمل تأديب من يحتاج إلى التأديب بل ينتقم منه بقدر الاستحقاق.

الثالثة ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (1).

حيوان البحر (2) ما لا يمكن أن يعيش إلّا في الماء فقيل كلّه حلال لقوله عليه السلام « هو الطهور ماؤه والحلّ ميتته » (3) وهو مذهب الشافعيّ ومالك وقيل يحلّ السّمك وماله مثل في البرّ يؤكل وقال أبو حنيفة لا يحلّ إلّا السّمك وعندنا لا يحلّ إلّا سمك له فلس لا غير والمراد بطعامه قيل هو ما قذفه البحر ميّتا وهو باطل عندنا وعن ابن عبّاس أنّه المملوح وهو الموافق لمذهب أهل البيت عليهم السلام وإنّما سمّي طعاما لأنّه يدّخر ليطعم فيصير كالمقتات من الأغذية فعلى هذا الصيد ما كان

ص: 328


1- المائدة : 96.
2- صيد البحر حيوان لا يمكن ، خ.
3- الدر المنثور ج 2 ص 331 ، وقد مر في كتاب الطهارة ص 38.

طريّا والطعام ما كان مملوحا.

قوله « مَتاعاً » بمعنى تمتيعا كالسراح بمعنى التسريح والسلام بمعنى التسليم وهو مفعول له أي أحلّ لكم تمتيعا أي لأجل تمتيعكم وانتفاعكم والسيّارة المسافرون يتزوّدون من السّمك طريّا وقديدا وصيد البرّ ما يبيض ويفرخ في البرّ وإن كان يعيش في بعض الأوقات في الماء.

ثمّ اعلم أنّه لا خلاف [ في ] أنّ ما صاده المحرم فهو حرام عليه وعلى غيره من محرم آخر وأمّا ما صاده المحلّ فعندنا يحرم أيضا على المحرم وبه قال ابن عمر وابن عبّاس وقال عطا ومجاهد وابن جبير : لا يحرم إلّا أن يدلّ عليه أو يشير إليه وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وعند مالك والشافعيّ وأحمد : لا يباح له ما صيد لأجله وكذا الخلاف فيما صاده المحرم قبل إحرامه وما قلناه في المسئلتين دليله ظاهر فانّ المراد بالصيد هنا المصيد لا الاصطياد وإلّا لزم أن لا يحرم ما صاده المحرم لكنّه يحرم بلا خلاف وقد تقدّم هذا.

واعلم أنّ مذهب أصحابنا أنّه يحرم على المحرم مطلقا مصيد البرّ اصطيادا وأكلا وذبحا وإشارة ودلالة [ عليه ] وإغلاقا وبيعا وشراء وتملّكا وإمساكا وإغراء للحيوان به ويمكن أن يستدلّ على ذلك كلّه بقوله « وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً » وعلى هذا يظهر أنّه لا تكرار لتحريم الصيد على المحرم بل المذكور ثانيا أعمّ.

فائدة : الحرم يحرّم أيضا ما حرّمه الإحرام من المصيد إلّا أكل ما صيد خارج الحرم فإنّه مباح للمحلّ في الحرم ويمكن أن يستدلّ على الحكم الأوّل بالآية الاولى وهي قوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ » لعموم حالتي الإحرام ودخول الحرم وغيرهما فيخرج الثالث بالإجماع فيبقى الأوّلان داخلين تحت العموم ومنهم من استدلّ بقوله « وَأَنْتُمْ حُرُمٌ » وبقوله « ما دُمْتُمْ حُرُماً » فانّ الحرم جمع حرام ويقال رجل حرام ومحرم ، وأحرم إذا أهلّ بالحجّ أو العمرة

ص: 329

وأحرم إذا دخل الحرم وأحرم [ إذا ] دخل في الشهر الحرام وفيه ضعف.

وللصيد أحكام وتفاصيل مستفادة من البيان النبويّ مذكورة في كتب الفقه فليطلب هناك.

الرابعة ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).

قد تقدّم شي ء من بحث هذه الآية في الصلاة (2) بقي هنا فوائد :

1 - قيل معنى قوله « قِياماً لِلنّاسِ » أي في معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف ويربح عنده التجّار ويكثر مكاسبهم ، الحاصل ذلك من الاجتماع عندها من سائر أطراف الأرض. وقيل معناه لو تركوه عاما واحدا لا يحجّونه لهلكوا رواه علي بن إبراهيم عنهم عليهم السلام « قال ما دامت الكعبة يحجّ الناس إليها لم يهلكوا فإذا هدمت أو تركوا الحجّ هلكوا » (3).

2 - « الشَّهْرَ الْحَرامَ » اللّام فيه للجنس وهو أربع ثلاثة سرد [ وهو ] ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم وواحد فرد وهو رجب وهي الأشهر الحرم المشار إليها في قوله « مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ » (4) وسمّيت بذلك لتحريمهم القتال فيها وكانوا ينصلون أسنّتهم ويتفرّغون لمعايشهم وصلاح أحوالهم.

3 - « وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ » أي وجعل الهدي والقلائد مشروعين لانتفاع

ص: 330


1- المائدة : 97.
2- راجع ص : 92.
3- مجمع البيان ج 3 ص 247.
4- براءة : 33.

المحاويج والمساكين ، والقلائد البدن وشبهها الّتي علّق عليها النعل لتتميّز عن غيرها ويعلم أنّها صدقة.

4 - « ذلِكَ لِتَعْلَمُوا » أي جعل ذلك لتعلموا بمعنى أنّكم إذا اطّلعتم على الحكمة في جعل الكعبة قياما للنّاس وما في معنى الحجّ إليها وحكمة مناسك الحجّ وكيفيّتها علمتم أنّ اللّه يعلم ما في السماوات وما في الأرض من الجواهر والأجسام والأعراض كلّيّاتها وجزئيّاتها لاستحالة صدور تلك الحكم عمّن يجهل الأشياء وتلك الحكم وإن لم تعلم تفصيلا فهي معلومة إجمالا من كون الأحكام إنّما شرّعت لدفع المضارّ وجلب المنافع أو لكونها ألطافا في العقليّات أو في غيرها من الشرعيّات.

قوله « وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق وهو من أحسن الانتقالات في الكلام.

الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) (1).

قيل نزلت في رجل يقال له الحطم بن هند البكريّ حين أتى النبيّ وخلّف خيله خارج المدينة فقال له : إلى ما تدعو [ الناس ] قال : أدعو إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال حسن فأنظرني لعلّي أسلم ولي من أشاوره وكان النبي صلى اللّه عليه وآله قد قال لأصحابه : يدخل عليكم اليوم من يتكلّم بلسان شيطان فلمّا خرج قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لقد دخل بوجه كافر وخرج بعزم غادر فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به وهو يرتجز [ شعرا ] :

قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم *** ليس براعي إبل ولا غنم

ص: 331


1- المائدة : 2.

ولا بجزّار على ظهر وضم *** باتوا نياما وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلّج الساقين ممسوح القدم

ثمّ أقبل من عام قابل حاجّا قد قلّد هديا فأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يبعث إليه فنزلت : ولا آمّين [ البيت ] ». (1)

وقيل : إنّه لم ينسخ من هذه السورة أعني المائدة غير هذه وعن الحسن ليس في المائدة منسوخ وقد تقدّم ذكر الشهر الحرام والقلائد ، وقيل الشعائر هنا جميع معالم الحلال والحرام والمراد بإحلالها عدم العمل بمقتضاها وإبطالها وقيل المراد مناسك الحجّ وقيل الحرم وقيل معالمه وإحلال الشهر الحرام هو إباحة القتال فيه وإحلال الهدي والقلائد عدم صرفها في جهاتها أو منع أهلها من ذلك بالصدّ أو الغصب أو السرقة وعطف القلائد على الهدي وهي من جملته لأنّها أشرف أقسامه.

« وَلَا آمِّينَ » أي قاصدين البيت وهو أعمّ من أن يكونوا مسلمين أو كفّارا فإنّ الكفّار كانوا يحجّون في الجاهليّة ثمّ نسخ ذلك ب ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (2) وبقوله ( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (3).

قوله « يَبْتَغُونَ » إلى آخره جملة وقعت صفة لآمّين أي يطلبون « فَضْلاً » هو الربح في التجارة « وَرِضْواناً » أي رضا منه تعالى بنسكهم ، وصفهم اللّه بما كانوا يظنّونه في أنفسهم من أنّهم على سداد في الدّين وأنّ حجّهم يقرّبهم إلى اللّه وقيل لم ينسخ من هذه الآية شي ء لأنّه لا يجوز أن يبدأ المشركون بالقتال في الأشهر الحرم إلّا إذا قاتلوا قاله ابن جريج وهو المرويّ عن الباقر عليه السلام (4) وهو أيضا موافق لما ورد « أنّ المائدة

ص: 332


1- الدر المنثور ج 2 ص 254 ، مجمع البيان ج 3 ص 153 عن تفسير السدى.
2- براءة : 5.
3- براءة : 28.
4- مجمع البيان ج 3 ص 155.

آخر ما نزلت » (1) وقال عليه السلام « أحلّوا حلالها وحرّموا حرامها » (2) وأيضا أنّ التخصيص خير من النسخ.

قوله تعالى ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) أمر إباحة بعد أن كان الصيد حراما في حال الإحرام قوله « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ » أي لا يحملنكم على الجرم ومن قرأ يجرمنّكم بضمّ الياء جعله متعدّيا لأنّ جرم مثل كسب يتعدّى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته ادخل عليه الهمزة يقال أجرمته أي حملته على الجريمة ومراده لا يحملنكم بغض قوم لأنّهم صدّوكم عن المسجد الحرام على أنّكم تعتدون وتتجاوزون حكم اللّه. وباقي مقصد الآية ظاهر.

السادسة ( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (3).

الأحسن في « ذلك » أن يكون فصل خطاب كقوله أيضا ( وَإِنَّ لِلطّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) (4) قوله ( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ ) ابتداء كلام وحرمات اللّه ما حرّمه اللّه من ترك الواجبات وفعل المحرّمات ومثله قوله ( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (5) وتعظيم الحرمات والشعائر هو اعتقاد الحكمة فيها وأنّها واقعة على الوجه الحقّ المطابق ولذلك نسبها إلى القلوب ويلزم من ذلك الاعتقاد شدّة التحرّز من الوقوع فيها وجعلها كالشي ء المحتمى عنه كالمرعى الوبيل وإلى هذا المعنى أشار النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الحديث : « ألا وإنّ لكلّ ملك حمى وإنّ حمى اللّه محارمه فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه (6) وقيل حرمات اللّه خمس البيت الحرام

ص: 333


1- الدر المنثور ج 2 ص 252 وقد مر ص 8 فراجع.
2- الدر المنثور ج 2 ص 252 وقد مر ص 8 فراجع.
3- الحج : 30.
4- ص : 55.
5- الحج : 32.
6- صحيح البخاري ج 1 ص 19.

والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والحرم وهنا فوائد :

1 - قوله « وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ » أي حال إحرامكم وليس حكمها حكم الصيد « إِلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ » أي إلّا ما حرّمه اللّه في المائدة من الميتة والدّم وسيجي ء ذكرها مفصّلة.

2 - « فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ » لمّا كان الرجس أعمّ من الأوثان أتى بمن المبيّنة وهو إشارة إلى الشرك باللّه وقيل « قَوْلَ الزُّورِ » هو الشرك باللّه أيضا عطفه عليه لمغايرتهما بالاعتبار فإنّ المشرك قائل بالزور لأنّه يكذّب على اللّه وقيل هو أعمّ من ذلك وهو شهادة الزور وقيل هو أعمّ من ذلك وهو الكذب مطلقا والبهتان وقيل هو قول الجاهليّة :

« لبّيك لا شريك لك. إلّا شريك هو لك. تملكه وما ملك »

3 - قيل قوله « فَهُوَ خَيْرٌ » ليس هو للتفضيل بل هو اسم نكرة وتنكيره للتعظيم وقيل بل هو أفعل التفضيل لأنّه حقيقة فيه وهو الأجود.

السابعة ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) (1).

عطف المضارع على الماضي لأنّ المراد من شأنهم الصدّ وقيل كفروا في الماضي وهم الآن يصدّون إشارة إلى صدّهم له عليه السلام عام الحديبية والإلحاد الميل عن القصد ومنه اللحد لأنّه مائل عن سمت القبر وهنا مسائل :

1 - قيل المسجد الحرام هو المسجد نفسه وبه قال الشافعيّ وبعض أصحابنا وقيل بل مكّة كلّها لقوله تعالى : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ

ص: 334


1- الحج : 25.

[ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ] ) (1) وكان الإسراء من مكّة لأنّه صلى اللّه عليه وآله كان في بيت خديجة وقيل في الشعب أو في بيت أمّ هانئ وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحابنا ويتفرّع على هذا جواز بيع بيوت مكّة وجواز سكنى الحاجّ فيها وإن لم يرض أهلها فعلى الأوّل يجوز (2) لعدم تناول النصّ لها وعلى الثاني لا يجوز لقوله « سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ » والعاكف المقيم والبادي الطاري ويضعّف الثاني بأنّه على تقدير صحّة النقل فالتسمية مجاز والأصل في الكلام الحقيقة فلذلك نقل عن بعض الصحابة أنّه اشترى فيها دارا وقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ما ترك لنا عقيل من دار ».

2 - قوله « وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ » مفعول يرد محذوف و « بِإِلْحادٍ » و « بِظُلْمٍ » صفتان له اقيما مقامه أي من يرد فيه أمرا بإلحاد وبظلم فقيل الإلحاد هو الميل عن قانون الأدب كالبزاق وعمل الصنائع وغيرهما والظلم ما يتجاوز فيه قواعد الشرع والحاصل من هذا القول أنّ الإلحاد فعل المكروهات والظلم فعل المحرّمات وقيل هو قول لا واللّه وبلى واللّه وقيل هو الاحتكار وهو بناء على أنّ المراد بالمسجد مكّة وقيل هو دخولها بغير إحرام.

3 - يمكن أن يستفاد من الآية أنّ من أحدث في الحرم ما يوجب حدّا أو تعزيرا يعاقب زيادة على ذلك لقوله « نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ».

الثامنة ( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (3).

« بَلَداً آمِناً » تسمية المحلّ باسم الحالّ فيه فإنّ الا من في الحقيقة هو أهل البلد فهو كقولهم فلان ليله قائم ونهاره صائم ويحتمل أن يكون تقديره ذا أمن

ص: 335


1- اسرى : 1.
2- يعنى يجوز بيع بيوت مكة ويتفرع عليه عدم جواز سكنى الحاج فيها من دون رضايتهم ، وكلامه رحمه اللّه لا يخلو من تخليط.
3- البقرة : 126.

كقولهم لابن وتأمر أي ذو لبن وذو تمر « وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ » دعاء لهم بالرفاهية وطيب العيش لأنّه أسكنهم بواد غير ذي زرع قوله « مَنْ آمَنَ » بدل من « أهله » بدل البعض من الكلّ وفيه تصريح بأنّه خصّ دعاءه بالمؤمنين فقال اللّه سبحانه في جوابه ( وَمَنْ كَفَرَ [ فَأُمَتِّعُهُ ] ) » أي وأرزق من كفر أيضا على وجه الاستدراج لأنّي خلقتهم والتزمت برزقهم فيكون « مَنْ كَفَرَ » في موضع النصب ويجوز أن يكون « من » للشرط ولذلك دخل الفاء على خبره وعلى الأوّل الفاء للاستيناف قوله « ثُمَّ أَضْطَرُّهُ » إنّما أتى بكلمة التراخي إشعارا بأنّ زمان تمتيعه ليس قليلا لا تقوم فيه الحجّة بل هو طويل والاضطرار يقع بعد مهلة وقال « أَضْطَرُّهُ » لأنّه تعالى إذا علم عدم انتفاعهم بالآيات ودلائل العقل والألطاف والزواجر تركهم في يد الطبيعة حتّى تجرّهم إلى أسفل سافلين ولا ريب أنّ الشي ء يجب وجوده عند سببه التامّ وهو معنى الاضطرار والسبب هو دواعي الطبيعة وعدم مواقع الألطاف الإلهيّة.

إذا تقرّر هذا فنقول هنا فوائد :

1 - قيل المراد بالأمن هنا هو أنّه لا يصاد صيده ولا يقطع شجره ولا يختلا خلاه وإلى هذا أشار الصادق عليه السلام « من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن من سخط اللّه ومن دخله من الوحش والطير كان آمنا من أن يهاج أو يوذى حتّى يخرج من الحرم » (1) وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يوم الفتح « إنّ اللّه حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي ولم تحلّ لي إلّا ساعة من النهار » (2) وقيل : المراد الأمن من الجدب والقحط لأنّه أسكنهم بواد غير ذي زرع.

2 - في الآية دلالة على جواز سؤال اللّه تعالى الرزق وتوسعته بل سؤال الرفاهية في المعيشة وحسن الحال وطيب المآكل لقوله « مِنَ الثَّمَراتِ » إذ لو كان المراد القوت

ص: 336


1- الكافي ج 4 ص 226 الرقم 1.
2- صحيح البخاري ج 1 ص 315. وروى من طرقنا في الكافي ج 4 ص 225 3.

وهو ما يسدّ الخلّة لما أحوج إلى ذكر الثمرات وعن الصادق عليه السلام : هو ثمرات القلوب أي حبّبهم إلى الناس ليثوبوا إليهم وعن الباقر عليه السلام أنّ المراد أنّ الثمرات تحمل إليهم من الآفاق وقد استجاب اللّه له حتّى لا يوجد في بلاد الشرق والغرب ثمرة إلّا وتوجد فيها حتّى حكى أنّه يوجد فيها في يوم واحد فواكه ربيعيّة وصيفيّة وخريفيّة وشتائيّة.

3 - الوصف لمكّة بالأمن وللبيت أيضا والدعاء لأهلها بكثرة الرزق وغير ذلك من النعم أمور مشعرة بأفضليّتها وأفضليّة المجاورة فيها وحينئذ يرد سؤال وهو أنّه لم كانت المجاورة فيها مكروهة فيجاب بأنّه ذكر للكراهية أسباب الأوّل خوف عدم احترامها وسقوط محلّها من القلوب الثاني حذر مقارفة الذنب فيها فإنّه عظيم موجب لتضاعف العقاب الثالث أنّ المداومة على صحبتها يورث الملالة ومفارقتها تبعث على الشوق إليها والحصول بها.

4 - قيل إنّ مكّة كانت آمنة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام من لدن آدم عليه السلام من الخسف والزلازل والطوفان وغيرها من أنواع المهلكات وإنّما تأكّد ذلك بدعائه عليه السلام وقيل بل كانت قبل دعوته عليه السلام كسائر البلاد واستدلّ على ذلك بقول نبيّنا صلى اللّه عليه وآله « إنّ إبراهيم عليه السلام حرّم مكّة وإنّي حرّمت المدينة » (1).

التاسعة ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (2).

« يرفع » فعل مضارع وقع حكاية حال [ الماضي ] وقيل إنّه خبر يراد به الأمر وليس بشي ء لأنّه مجاز والأصل عدمه و « القواعد » جمع قاعدة وهي السافات ولذلك

ص: 337


1- الكافي ج 4 ص 564 ، مجمع الزوائد ج 3 ص 301 و 303. واللفظ في مجمع البيان ج 1 ص 206.
2- البقرة : 127.

جمعها فإنّ كلّ ساف قاعدة بالإضافة إلى ما فوقه وبناء بالإضافة إلى ما تحته ومعنى يرفع أي يثبت ويبني فإنّ كلّ ساف إذا فرغ منه يتّصف بالثبوت ورفع البناء أمر لازم لثبوته فأطلق اللازم وأراد ملزومه وهو أفصح من قولنا يبني على القواعد ولم يقل قواعد البيت لأنّ البيان بعد الإبهام أفصح من البيان ابتداء لأنّ الإبهام يوجب ألما والبيان يوجب لذّة واللذّة بعد الألم أقوى « وإسماعيل » مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره وإسماعيل يناوله والواو للحال وحذف الخبر للعلم به فانّ بناء البيت يحتاج إلى من يناول ما يبنى به « ربّنا » أي قائلين ربّنا وكذلك قرأ عبد اللّه ابن مسعود (1) « إنّك أنت السميع » أي لدعائنا « العليم » بضمائرنا ونيّاتنا.

وهنا فوائد :

1 - قال مجاهد إنّ أوّل من بناه إبراهيم عليه السلام ولذلك قال الحسن إنّ أوّل من حجّ البيت إبراهيم والقولان ضعيفان والحقّ أنّ البيت كان قبل إبراهيم عليه السلام فقد روي « أنّ اللّه أنزله ياقوتة من يواقيت الجنّة له بابان [ من زمرّد ] شرقا وغربا وقال اللّه لآدم عليه السلام قد أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي فتوجّه آدم عليه السلام من الهند يمشي إلى مكّة فتلقّته الملائكة فقالوا برّ حجّك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام » وقيل حجّ آدم عليه السلام أربعين حجّة على رجليه من الهند وفي رواياتنا عن الباقر عليه السلام « أتى آدم هذا البيت ألف أتية على قدميه منها سبعمائة حجّة وثلاثمائة عمرة وكان يأتيه من ناحية الشام وكان يحجّ على ثور » (2).

2 - لمّا كان الطوفان رفع البيت إلى السماء الرابعة وهو البيت المعمور ثمّ أمر اللّه إبراهيم عليه السلام فبناه وعرّفه جبرئيل مكانه وقيل بعث اللّه سبحانه سحابة أظلّته ونودي أن ابن على ظلّها لا تزد ولا تنقص وروي أنّه بناه من خمسة أجبل طور سينا وطور زيتا ولبنان والجوديّ وأسّه من حراء ثمّ جاءه جبرئيل عليه السلام بالحجر الأسود من السماء وقيل تمخّض أبو قبيس فانشقّ عنه وكان مخبّئا فيه أيّام الطوفان

ص: 338


1- فإنه قرأ : « ويقولان ربنا » الآية.
2- الوسائل ب 45 من أبواب وجوب الحج ح 18 و 34.

وكان ياقوتة بيضاء ثمّ اسودّ بملامسة الحيّض له في الجاهلية (1).

3 - في قوله « ربّنا تقبّل منّا » دلالة على أنّهما بنياه للعبادة لا للسكنى فانّ سؤال التقبّل لا يتصوّر إلّا فيما وقع عبادة واستدلّ بعض حشويّة العامّة بهذه الآية على أنّ الإجزاء قد ينفكّ عن القبول فانّ المجزئ ما وقع على الوجه المأمور به شرعا وبه يخرج عن العهدة والقبول ما يترتّب عليه الثواب فإنّهما عليهما السلام سألا التقبّل مع أنّهما لا يفعلان إلّا فعلا صحيحا مجزئا فكان ذلك السؤال لحصول استحقاق الثواب وهذا نظر فاسد فإنّ السؤال قد يكون بالواقع كما في قوله « ربّ احكم بالحقّ » أو يكون على وجه الانقطاع إليه تعالى.

العاشرة ( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ) (2).

هذا السؤال أيضا انقطاع إلى اللّه سبحانه ومرادهما اجعلنا منقادين لأوامرك ونواهيك وثبّتنا على الإسلام في المستقبل والتحقيق أنّ هذا الكلام يقع إمّا في حال السلوك فمعناه زدنا إذعانا وإخلاصا أو بعد الوصول فمعناه ثبّتنا و « من » هنا يحتمل التبيين والتبعيض وعلى التقديرين إنّما خصّا الذرّيّة لأنّهم أحقّ بالشفقة والنصيحة كما قال ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (3) قيل أراد أمّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وعن الصادق عليه السلام أراد بني هاشم خاصّة و « أرنا مناسكنا » أي عرّفنا مواضع عبادتنا في الحجّ فأجاب اللّه دعاءهما وبعث جبرئيل عليه السلام وأراهما المناسك من أوّلها إلى يوم عرفة فلمّا بلغ عرفات قال يا إبراهيم عرفت؟ قال نعم فسمّي الوقت عرفة والموضع عرفات « وتب علينا » من ترك ما هو الأولى بنا فعله كترك المندوبات والاشتغال بالمباحات لأنّ عصمتهما مانعة من الإقدام على معصيته.

ص: 339


1- ترى روايات الباب في الدر المنثور ج 1 ص 125 - 136.
2- البقرة : 128.
3- التحريم : 6.

فائدة :قيل قوله ( وَأَذانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) (1) يريد بالحجّ يوم عرفة لأنّ موقف عرفة يسمّى الحجّ ومنه قوله صلى اللّه عليه وآله « الحجّ يوم عرفة » (2) وروي ذلك عن عليّ عليه السلام وقال عطا الحجّ الأكبر ما فيه الوقوف والحجّ الأصغر ما ليس فيه وقوف وهو العمرة وقيل يوم النحر عن عليّ عليه السلام وابن عبّاس وروي عن الصادق عليه السلام (3) وقيل جميع أيّام الحجّ وعن الحسن هو يوم اتّفق فيه ثلاثة أعياد عيد المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى روي أنّه لم يتّفق ذلك فيما مضى ولا يتّفق بعده إلى يوم القيامة.

كتاب الجهاد

اشارة

وهو لغة فعال من الجهد وهو المشقّة البالغة والجهاد بكسر الجيم مصدر جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة وبفتح الجيم الأرض الصلبة والجهد بفتح الجيم وضمّها الطاقة ومنه قوله تعالى ( وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلّا جُهْدَهُمْ ) (4) قرئ بهما وشرعا إن أخذ من الأوّل فهو بلوغ المشقّة في النفس والمال وإن أخذ من الثاني فهو بذل الطاقة من النفس والمال وعلى التقديرين فهو بذل النفس والمال لإعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان فيدخل في الأوّل قتال الكفّار وفي الثاني قتال البغاة وهو من أعظم أركان الإسلام قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « فوق كلّ برّ برّ حتّى يقتل الرجل في سبيل اللّه فليس فوقه برّ » (5) وقال عليّ عليه السلام « ألا وإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لأوليائه » (6) هذا وهو من فروض الكفايات لم نسمع وجوبه

ص: 340


1- براءة : 3.
2- أخرجه في المستدرك ج 2 ص 166 عن غوالي اللئالى ولفظه الحج عرفة وقد مر ص 303 وأنه رواه مجمع الزوائد ج 3 ص 251 عن ابن عباس ولفظه الحج عرفات.
3- تفسير العياشي ج 2 ص 76.
4- براءة : 80.
5- الوسائل ب 1 من أبواب جهاد العدو ح 21.
6- نهج البلاغة الخطبة 27.

على الأعيان إلّا عن سعيد بن المسيّب وله شروط وأحكام تذكر في كتب الفقه والمقصود هنا ذكر آيات تتعلّق به وهي أنواع :

النوع الأول : ( في وجوبه )

وفيه آيات :

الاولى ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).

كتب بمعنى وجب وفرض والكره بضمّ الكاف وفتحها مصدر بمعنى المكروه كاللّفظ بمعنى الملفوظ لا أنّه كالخبز بمعنى المخبوز لأنّ الخبز بضمّ الخاء اسم لا مصدر وإنّما المصدر بفتح الخاء وإنّما كان القتال مكروها لأنّه على خلاف الطبع [ وكلّما كان على خلاف الطبع ] فهو مكروه ولهذا استحقّ عليه الثواب قال [ النبي ] صلى اللّه عليه وآله : « حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النار بالشّهوات » (2).

قوله « وعسى أن تكرهوا شيئا » إلى آخره لا شكّ أنّ نسبة الشارع إلى المكلّف كنسبة الطبيب إلى المريض وكما أنّ ما يأمر به الطبيب مكروه له وما ينهاه عنه محبوب له كذلك الشارع بالنسبة إلى نفس المكلّف ولذلك علّل سبحانه بقوله : « واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون ».

إذا عرفت هذا فهنا أحكام :

1 - أنّه واجب على الكفاية للأصل ولإجماع الصحابة وغيرهم ولانتفاء

ص: 341


1- البقرة : 216.
2- ومثله في نهج البلاغة الخطبة 174.

المسبّب عند انتفاء السّبب وذهب قوم إلى أنّه واجب على الأعيان لقوله صلى اللّه عليه وآله : « من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق » (1) وليس بدالّ على مطلوبهم.

2 - أنّ الواجب على الكفاية قد يصير واجبا على الأعيان بحسب الأحوال المقتضية لذلك وهو هنا إمّا بقصور القائمين عن الكفاية أو تعيين صاحب الأمر أو غير ذلك.

3 - ذهب قوم إلى أنّ الوجوب مختصّ بالصحابة لتوجّه الخطاب إليهم وهو باطل لعموم قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا - إلى قوله - وَجاهِدُوا ) (2) ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (3) وللإجماع.

4 - الخيريّة في الجهاد ظاهرة أمّا في العاجلة الغنيمة والغلبة ولذّة الظفر والعزّة وأمّا في الآخرة فالثواب والفوز بمنازل الشهداء وفي تركه أضداد ذلك من الفقر والذلّة والخذلان والعقاب ودركات الأشقياء.

الثانية ( وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (4).

هذه أيضا دالّة على وجوب الجهاد لصيغة الأمر الدالّ على الوجوب ثمّ اعلم أنّ الجهاد هنا يحتمل ثلاثة معان الأوّل الجهاد مع الكفّار في نصرة الإسلام وإعلاء كلمة اللّه الثاني الجهاد مع النفس الأمّارة واللّوّامة في نصرة النفس العاقلة المطمئنّة وهو الجهاد الأكبر ولذلك ورد عنه صلى اللّه عليه وآله : « أنّه رجع عن بعض غزواته فقال رجعنا

ص: 342


1- سنن أبى داود ج 2 ص 10.
2- الحج : 77 و 78.
3- أخرجه المجلسي في بحار الأنوار ج 2 ص 271 من طبعة دار الكتب الإسلامية عن غوالي اللئالي.
4- الحج : 78.

من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (1) » الثالث الجهاد بمعنى رتبة الإحسان كما قال سبحانه ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (2) ومعنى رتبة الإحسان هو أن تعبد ربّك كأنّك تراه فان لم تكن تراه فإنّه يراك ولذلك قال « حقّ جهاده » أي جهادا حقّا كما ينبغي بجدّ النفس وخلوصها عن شوائب الرياء والسمعة مع الخشوع والخضوع وقوله « في اللّه » أي في عبادة اللّه « هو اجتباكم » أي اختاركم على الموجودات وجعلكم خلائف في الأرض وسلّم إليكم مفتاح الخير والشرّ.

قوله « وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » أي صعوبة وضيق جواب سؤال مقدّر تقديره أنّ حقّ جهاده إنّما يتمكّن منه بعض الناس لا كلّهم بل لا يكاد يقدر عليها أحد كما قال صلى اللّه عليه وآله « لا احصي ثناء عليك » (3) فكيف يؤمر به الكلّ أجاب بأنّه لم يجعل عليكم حرجا و « من » زائدة بل كلّ واحد عليه الاجتهاد قدر تمكّنه و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (4).

الثالثة ( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (5).

هذه أيضا صريحة في الأمر بالقتال قيل هي أوّل آية نزلت في القتال ولذلك قال « الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ » ليخرج الكافّون عن القتال فانّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان بعد الهجرة يكفّ عن الكافّين عنه وعلى هذا القول هي منسوخة بقوله ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (6) وقيل أراد بالّذين يقاتلون الّذين هم من أهل القتال ليخرج الشيوخ

ص: 343


1- مستدرك الوسائل ج 2 ص 270.
2- العنكبوت : 69.
3- السراج المنير ج 1 ص 320 ولفظه « اللّهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك ، لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ».
4- البقرة : 286.
5- البقرة : 190.
6- براءة : 5.

والصبيان والنساء وهو أولى لأنّ النسخ على خلاف الأصل وقولهم إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يكفّ عمّن يكفّ عنه ممنوع بل كان ينتظر الفرصة وحصول الشرائط قوله « وَلا تَعْتَدُوا » معناه على الأوّل لا تبدأوا بقتال من لم يقاتلكم وعلى الثاني لا تقتلوا من لا يجوز قتاله كالنساء والصبيان.

الرابعة ( الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (1).

كان أهل مكّة قد منعوا النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن الدخول عام الحديبية سنة ستّ في ذي القعدة وهتكوا الشهر الحرام فأجاز اللّه للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وأصحابه أن يدخلوا في سنة سبع في ذي القعدة لعمرة القضاء ويكون ذلك مقابلا لمنعهم في العام الأوّل ثمّ قال « وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ » أي يجوز القصاص في كلّ شي ء حتّى في هتك حرمة الشهر ثمّ عمّم الحكم فقال : « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ » فانّ دفع الشرّ خير وتسمية المجازي معتديا مجاز تسمية للشي ء باسم مقابله « وَاتَّقُوا اللّهَ » في أخذكم ممّن اعتدى عليكم بحيث لا يتجاوز مثل فعلهم وفي الآية أحكام :

1 - إباحة القتال في الشهر الحرام لمن لا يرى له حرمة أعمّ من أن يكون ممّن كان يرى الحرمة أولا لأنّه إذا جاز قتال من يرى حرمته فقتال غيره أولى.

2 - أنّه يجوز مقاتلة المحارب المعتدي بمثل فعله لقوله « والحرمات قصاص ».

3 - أنّه إذا دهم المسلمين داهم من عدوّ يخشى منه على بيضة الإسلام يجوز قتاله ويكون ذلك واجبا لا أنّ الجهاد من خاصيّته أنّه إذا كان جائزا كان واجبا سواء كان الامام حاضرا أولا.

ص: 344


1- البقرة : 194.

4 - أنه إذا كان الإنسان بين قوم ودهمهم عدوّ فخشي منه على نفسه جاز قتال ذلك العدوّ ويكون قصده الدفاع عن نفسه لقوله « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ».

5 - أنه يجوز أيضا بمقتضى الآية أنّ الغاصب والظالم إذا لم يردّ المظلمة أن يؤخذ من ماله قدر ما غصب سواء كان بحكم الحاكم أولا.

6 - أنّ المجازي منصور إذا اتّقى في مجازاته التعدّي لأنّ اللّه معه.

الخامسة ( وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) (1).

كان قوم من المسلمين بمكّة قد عجزوا عن الهجرة فاجتهد الكفّار على افتتانهم عن دينهم وتوعدوهم بالمكروه استضعافا فدعا أولئك المستضعفون ربّهم أن يخلّصهم منهم وينصرهم عليهم فأنزل اللّه هذه الآية حضّا للمؤمنين وحثا لهم على الجهاد وتخليص إخوانهم من أيدي الكفّار والاستفهام هنا مشوب بالتحضيض قوله « وَالْمُسْتَضْعَفِينَ » منصوب عطفا على محلّ « فِي سَبِيلِ اللّهِ » وقيل المضاف محذوف أي وفي نصرة المستضعفين أو إعزاز المستضعفين « والقرية » هي مكّة فلمّا فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مكّة كان لهم وليّا فاستعمل عليهم عتّاب ابن أسيد فكان لهم نصيرا وفي الآية دلالة على وجوب الهجرة عن دار الشرك وعذر العاجزين عن ذلك ووجوب السعي على المؤمنين في تخليصهم من أيدي الكفّار وفيها أيضا أخبار بإجابة الدعاء خصوصا لمن هو في حال الضرورة والعجز وفيها أيضا دلالة على وجوب المدافعة عن المؤمن العاجز عن دفع من يظلمه لأنّه من باب الحسبة.

ص: 345


1- النساء : 74.

السادسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ) (1).

الخطاب للمسلمين من المنافقين والمؤمنين المخلصين بدليل قوله فيما بعد « وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ » أي يثبّطنّ « و خُذُوا حِذْرَكُمْ » أي خذوا طريق الاحتياط واسلكوه واجعلوا الحذر ملكة في دفع ضرر الأعداء عنكم والحذر والحذر بمعنى واحد كالإثر والأثر « فَانْفِرُوا » أي سيروا إلى العدوّ « ثُباتٍ » أي جماعة بعد جماعة وهي السرايا « أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً » أي جيشا واحدا وقيل الحذر السلاح عن الباقر عليه السلام قال الطبرسيّ وهو الأصحّ لأنه أوفق بقياس كلام العرب ويكون من باب حذف المضاف أي آلات حذركم (2) وفيه نظر لأنّه في غير هذه الآية عطف السلاح على الحذر كما تقدّم (3) والعطف يقتضي المغايرة وقوله إنّه من باب حذف المضاف خروج عن القول المنقول لأنّه فسّر الحذر بأنّه السلاح ولو قال إنّه سمّي السلاح حذرا لأنّه به يحصل الحذر لكان أصوب وعلى هذا يكون قوله « خُذُوا » مستعملا في موضوعه أي تناولوا وفي الآية حثّ على الاستعداد للجهاد وإيجاب النفور إلى الأعداء للجهاد.

السابعة ( فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (4).

لمّا أمر المسلمين كافّة بالجهاد في سبيله أخبر هنا بأنّ الأمر في الحقيقة إنّما يتوجّه إلى السعداء المخلصين وهم الّذين يبيعون الحياة الدنيا بالحياة الآخرة أي

ص: 346


1- النساء : 70.
2- مجمع البيان ج 3 ص 73.
3- يعنى قوله تعالى « وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ » راجع ص 188.
4- النساء : 73.

يستبدلون تلك بهذه رضى وإيثارا كما يرضى البائع بالثمن عوضا عن سلعته والشرى يستعمل بمعنى البيع وبمعنى الاشتراء والأوّل أظهر في الاستعمال وهو المراد هنا ثمّ إنّه تعالى حثّ على الجهاد حثا عظيما بأنّ المجاهد لا بدّ له من الفوز بإحدى الحسنيين (1) إمّا الأخروية فلازمة حتما فإنّها تابعة لقصده ونيّته سواء غلب أو غلب وأمّا الدنيويّة فإنّها حاصلة مع الظفر قطعا ومع عدمه يتخلّص من الملامة والمذمّة ويحصل [ على ] المدح والثناء.

ومثل هذه الآية قوله تعالى ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (2) وسبب نزولها أنّه لمّا بايعت الأنصار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ليلة العقبة وهم سبعون رجلا قال عبد اللّه بن رواحة : اشترط لربّك ولنفسك ما شئت فقال أشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال الجنّة قال [ عبد اللّه ] ربح البيع لا نقيله ولا نستقيله فنزلت (3).

وفيها أيضا حثّ على الجهاد وعظم فائدته ومعناه إنّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم الحيوانيّة الأمّارة [ بالسّوء ] بالجنّة فالبائع هي أنفسهم العاقلة والمشتري هو اللّه والسلعة هي النفس الحيوانيّة والثمن هو الجنّة والمراد بالاشتراء هو إبدال أنفسهم الحيوانيّة بالجنّة فاستعار له الاشتراء والاستعارة مبالغة في التشبيه تقول زيد كالأسد فإذا بالغت قلت زيد الأسد وليس شراء حقيقيّا لأنّ اللّه هو المالك للثمن والسلعة والبائع إلّا أنّ للبائع اختصاصا بالسّلعة كاختصاص المستعير بالعين المعارة وكما لا يصحّ أن يبيع المستعير العين على مالكها فكذلك هنا ولمّا كانت السلعة غير حاضرة

ص: 347


1- الحياتين ، خ ل.
2- براءة : 112.
3- الدر المنثور ج 3 ص 280.

احتاج إلى رهن يثق به البائع وهو هنا تأكيد الوعد فلذلك قال « وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا » وهو مصدر مؤكّد لمضمون الجملة وهو « أنّ لهم الجنّة » و « حقّا » صفته.

قوله « وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ » استفهام على وجه الإنكار وأوفى للتفضيل أي ليس أحد أكثر وفاء ولا أصحّه من اللّه وكيف لا وخلف الوعد قبيح والقبيح محال عليه سبحانه « فَاسْتَبْشِرُوا » أي خذوا حظّكم من الغبطة والسرور في هذه المبايعة وكيف لا وقد أعطيتم الشي ء الحقير الفاني وأخذتم الخطير الباقي « وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ».

روي أنّ رجلا قال لزين العابدين عليه السلام إنّك قد آثرت الحجّ على الجهاد واللّه يقول « إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ » فقال عليه السلام فاقرأ ما بعدها « التّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ » إذا رأيت هؤلاء فالجهاد معهم أفضل من الحجّ (1) إشارة منه عليه السلام إلى أنّ الجهاد المأمور به هو الجهاد مع الامام المعصوم لا أيّ جهاد كان تنبيها للسائل على جهله فإنّه ليس ممّن له الاعتراض على مثل هذا الرجل العظيم الشأن العالم بشرائط العبادات وأسرار الطاعات.

الثامنة ( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (2).

المراد بأهل المدينة من سكنها من المهاجرين والأنصار و « الأعراب » جمع

ص: 348


1- مجمع البيان ج 3 ص 76. تفسير القمي ص 281.
2- براءة : 121.

عرب كالأعجام جمع عجم وهم الّذين يسكنون البوادي يقال رجل عربيّ إذا كان من العرب وإن سكن البلاد وأعرابيّ إذا سكن في البادية والظمأ شدّة العطش والنصب التعب والمخمصة الجوع والموطئ في قوله « وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً » إمّا مصدر أو مكان الوطي والمراد الوطي بالقدم والحافر وقيل الإيقاع والابادة كقوله عليه السلام « آخر وطأه وطئها اللّه » (1) وفيه نظر لأنّه مجاز وما قلناه حقيقة ولا ضرورة للنقل عنه ولا قرينة والنيل مصدر ومعناه كلّما يسوؤهم ويضرّهم من قول أو فعل والنفقة الصغيرة هي القليلة فإنّ القليل صغير أيضا فإنّ الصغير يقال بالنسبة إلى الحجم والقليل بالنسبة إلى الثقل والوزن وبينهما تلازم ولذلك يستعمل أحدهما مكان الآخر وكذا الكلام في الكبير والكثير والوادي في الأصل كلّ منفرج بين الجبال والآكام يكون مجمعا للسيل وهو اسم فاعل من ودى إذا سال وهو صفة للماء فيسمّى المكان به تسمية المحلّ باسم الحالّ وقد يستعمل الوادي في مطلق المكان ويمكن أن يكون هو المراد هنا.

إذا عرفت هذا ففي الآية تحريم التخلّف عن الجهاد وعدم الخروج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لقوله « ما كان » أي ما كان لهم في حكم اللّه وشرعه أن يتخلّفوا وكذلك ما كان لهم أن يرغبوا في حفظ أنفسهم عن متاعب السفر وما لاقوه من العسرة عن نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أي ليست أنفسهم بأعزّ من نفسه ثمّ إنّ ذلك التحريم له فائدتان كلّيّة وجزئيّة أمّا الكليّة فلم يصرّح بها في الآية وهي إهانة الكفّار وإذلالهم وكسر شوكتهم فيحصل بذلك إعزاز الدين وأهله وأيضا لو لم ينفروا إليهم ولا يطأوا أرضهم لجاز أنّ المشركين يطأون أرض المسلمين ويحصل الفساد العظيم وأمّا الجزئيّة فإنّ المجاهدين يكتب لهم ثواب الجهاد بمجرّد النيّة وإن لم يحصل قتال وثواب ما يحصل لهم من عطش أو تعب أو جوع وغير ذلك فإنّ ذلك كلّه إحسان « إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ » وهنا فوائد :

1 - سبب نزول الآيت [ ين ] أنّه لمّا تخلّف جماعة عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله في غزاة تبوك بغير

ص: 349


1- النهاية لابن الأثير ج 4 ص 218.

إذن منه فقرّعهم [ اللّه ] على تخلّفهم ووبّخهم بآيات كثيرة كقوله ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ ) (1) وغيرها اعتذر بعضهم بأنّه لم يكن في تلك الغزاة قتال ولا حرب فأيّ فائدة كانت تحصل بالخروج فنزلت ، ولذلك استدلّ أبو حنيفة بها على أنّ المدد الّذي يلحق العسكر بعد الفراغ من القتال يسهم لهم من الغنيمة بمجرّد قصدهم وهو مذهب أصحابنا أيضا خلافا للشافعيّة.

2 - استدلّ بعضهم بالآية على أنّ الجهاد واجب على الأعيان وفيه نظر لجواز أنّه كان في مبدء الإسلام حيث كان في المسلمين قلّة فلمّا كثروا نسخ عنهم (2) ولذلك قال بعدها « وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ».

3 - قال قتادة هذا الحكم مختصّ بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله لا يجوز التخلّف عنه في غزاة من الغزوات إلّا لعذر وأمّا غيره من الأئمّة فيجوز التخلّف عنهم وقال الأوزاعيّ وابن المبارك إنّ هذا الحكم عامّ لأوّل الأمّة وآخرها وهو موافق لمذهبنا من قيام الإمام مقام الرسول في كلّ الأحكام نعم إنّ الجهاد من فروض الكفايات إذا قام به بعض فيه كفاية سقط عن الباقين.

4 - في الآية دلالة على أنّ كلّ تعب وظماء وجوع وإنفاق يحصل في حجّ أو جهاد أو زيارة أحد المعصومين عليهم السلام أو طلب علم أو أيّ طاعة كانت فإنّ ذلك يكتب لصاحبه وإن لم تحصل غايته وتعذّرت من غير جهته.

التاسعة ( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (3).

ص: 350


1- براءة : 82.
2- وفيه روايات راجع الدر المنثور ج 3 ص 292.
3- النساء : 95.

قرئ « غير » بالحركات الثلاث أمّا الرفع فصفة للقاعدون أو بدل وأمّا النصب فعلى الاستثناء وقال الزجّاج حال من القاعدون أي لا يستوي القاعدون حال خلوّهم من الضرر وأمّا الجرّ فهو صفة للمؤمنين أو بدل منه « ودرجة » نصب على المصدر أو على التميز « وكلّا » منصوب على المفعوليّة قدّم على عامله لكونه أهمّ و « أجرا » أيضا منصوب إمّا على المصدر أو على التميز.

واعلم أنّ القاعدين عن الجهاد من المؤمنين قسمان أحدهما من لا ضرر به لكنّه قعد للاذن له في ذلك أو لقيام من فيه كفاية وثانيهما من به ضرر يمنعه عن الخروج ولولاه لخرج فنفي المساواة وقع بين القسم الأوّل وبين المجاهدين في الآية صريحا وأمّا القسم الثاني فنفي المساواة بين المجاهدين وبينه أيضا حاصل لأنّ النيّة مشتركة بينهما ويزيد المجاهدون بالفعل فلا مساواة أيضا ثمّ لمّا كان نفي المساواة مجملا أردفه بالبيان وهو قوله « فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً » ولمّا قضت الضرورة أنّ من قعد لعذر ليس كمن قعد لا لعذر وجب كون التفضيل على الأوّل أعني من قعد لعذر أقلّ وإليه أشار بقوله « درجة » وعلى الثاني وهو من قعد لا لعذر أكثر وإليه أشار بقوله « أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً » أي للذنوب « وَرَحْمَةً » أي تفضّلا زائدا على المستحقّ بحسب مشيّته تعالى.

وقيل : المجاهدون الأوّلون من يجاهد الكفّار والآخرون من بجاهد نفسه وعليه دلّ قوله صلى اللّه عليه وآله « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (1) وقيل بل الدرجة ارتفاع شأنهم عند اللّه والدرجات منازلهم في الجنّة وقيل الدرجة ما حصل لهم في الدنيا من الثناء الحسن والغنيمة والدرجات في الآخرة. قوله « وَكُلًّا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى » أي المثوبة الحسنى وهي الجنّة والتنوين عوض من المضاف إليه أي كلّ واحد من المذكورين. وفي الآية فوائد :

1 - التصريح بأنّ الجهاد ليس فرض عين وإلّا لما كان القاعد لا لضرورة معذورا وهو باطل.

ص: 351


1- قد مر في ص 343.

2 - سقوطه عمّن به ضرر كالعمى والعرج والإقعاد وكبر السنّ والفقر لأنّ جميع ذلك يشمله لفظ الضرر.

3 - « روى زيد بن ثابت أنّه لم يكن في الآية « غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ » فجاء ابن أمّ مكتوم وهو أعمى وهو يبكي وقال يا رسول اللّه كيف بمن لا يستطيع الجهاد فغشيه الوحي ثانيا ثمّ سري عنه فقال اقرأ « غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ » فألحقتها والّذي نفسي بيده لكأنّي أنظر إلى ملحقها عند صدع [ الوحي ] في الكتف (1) وفيه دلالة على [ جواز ] تأخير البيان عن وقت الخطاب.

العاشرة ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (2).

هذه الآية صريحة في عدم وجوب الجهاد على هؤلاء المذكورين « والضعفاء » هم الهرمى والزمنى والنصح لله ورسوله هو الإيمان الحقيقيّ بهما وفي الآية دلالة على نفي الحرج عن العاجز مطلقا أي بنفسه وبماله فلا يجب عليه الاستنابة ولو قدر عليها بماله ، وقال بعض أصحابنا يجب على العاجز بنفسه القادر بماله أن يستنيب عنه غيره لقوله تعالى ( وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) ذمّهم على عدم إنفاقهم أموالهم مع القدرة عليها وليس ذلك مع الجهاد بالنفس وإلّا لكان إنفاقه على نفسه فيكون لا معه وهو المطلوب وفيه قوّة وفي الآية دلالة أيضا على عدم وجوبه على العبد لقوله « لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ » والعبد لا يملك شيئا عندنا فلم يحصل الشرط في حقّه.

ص: 352


1- الدر المنثور ج 2 ص 203.
2- براءة : 92.

النوع الثاني : ( في كيفية القتال ووقته وشي ء من احكامه )

وفيه آيات :

الاولى ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ] ) (1).

قتال مجرور على أنّه [ م ] بدل بدل الاشتمال من « الشهر الحرام » و « صدّ عن سبيل اللّه » أي منع عن طاعة اللّه و « كفر به » أي باللّه « والمسجد » ليس معطوفا على « به » بل مجرور عطفا على « سبيل اللّه » أي صدّ عن المسجد [ الحرام ] « وإخراج » مرفوع عطفا على صدّ وهما مرفوعان بالابتداء « وأكبر » خبر عن الجميع لأنّ أفعل التفضيل يستوي فيه المفرد والمثنّى والمجموع « والفتنة » هو ما ارتكبوه من الإخراج أو الشرك.

قيل سبب نزولها أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعث سريّة أميرها عبد اللّه بن جحش الأسديّ - وكان ابن عمّته صلى اللّه عليه وآله - قبل قتال بدر بشهرين في جمادى الآخرة يرصدون عير القريش عليها تجارة من الطائف وكان في العير [ عمرو بن ] عبد اللّه الحضرميّ

ص: 353


1- البقرة : 217.

وثلاثة معه فالتقوا بهم أوّل يوم من رجب وهم يظنّونه من جمادى الآخرة فقتلوا [ عمرو بن ] عبد اللّه واستأسروا اثنين من أصحابه واستاقوا العير فقالت قريش قد استحلّ محمّد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف فردّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله العير والأسارى وكتب قريش إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله يسألونه عن القتال في الشهر الحرام تشنيعا وتبكيتا (1).

وقيل : السائل المسلمون وأهل السريّة تألّما ممّا وقع منهم وقالوا لا نبرح حتّى تنزل توبتنا وعن ابن عبّاس لمّا نزلت أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الغنيمة وأخرج خمسها وهو أوّل خمس وغنيمة في الإسلام وقسم الباقي بعد الخمس في السريّة (2) وفيه دلالة على إخراج الخمس من أصل الغنيمة ونقل الطبرسيّ أنّه صلى اللّه عليه وآله عقل ابن الحضرميّ أي أدّى ديته وفي الآية أحكام :

1 - تحريم القتال في الشهر الحرام لقوله تعالى ( قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) أي ذنب كبير لكن عند أصحابنا ليس ذلك على إطلاقه بل التحريم بالنسبة إلى من يرى حرمة الشهر إذا لم يبدأ أمّا من لا يرى له حرمة أو يرى ويبدأ فيجوز القتال ولذلك قال [ اللّه ] تعالى « قتال » بالتنكير والنكرة في الإثبات لا تعمّ وقال الأكثر إنّه كان حراما مطلقا ثمّ نسخ وقال عطا بل التحريم باق لم ينسخ.

2 - أنّه لمّا اعترض المشركون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بفعل السريّة أمره اللّه تعالى بمقابلتهم بأعظم ممّا فعلته السريّة على غير قصد وذلك هو صدّهم عن سبيل اللّه وكفرهم به وإخراج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأتباعه من المسجد الحرام وصدّهم له عام الحديبيّة و [ أنّ ] ذلك أعظم عند اللّه من قتل ذلك الشخص.

3 - أنّ أهل السريّة لمّا عظم عليهم ما فعلوه وتابوا منه ظنّ قوم أنّهم إن خلصوا من الإثم فليس لهم من الأجر شي ء فأنزل اللّه تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ ) (3).

ص: 354


1- مجمع البيان ج 2 ص 312. الدر المنثور ج 1 ص 250.
2- سيرة ابن هشام ج 1 ص 605.
3- البقرة : 218.

4 - أخبر سبحانه بإصرار أهل الكفر على عداوة المسلمين وأنّهم لا يزالون على ذلك حتّى يرجعوهم عن دينهم و « حتّى » هنا للتعليل وقوله « إِنِ اسْتَطاعُوا » استبعاد لاستطاعتهم كقولك لعدوّك إن ظفرت بي فلا تبق عليّ وأنت واثق بعدم ظفره.

5 - لمّا ذكر الارتداد استطرد حكمه فقال « وَمَنْ يَرْتَدِدْ » واختلف [ في أنّه ] هل نفس الردّة محبط للعمل أو مع الموت عليها قال أبو حنيفة بالأوّل والشافعيّ بالثاني وبه قال أصحابنا وهو الحقّ سواء كان ارتداده عن فطرة أولا فإنّ الموافاة عندنا بالإيمان شرط في استحقاق الثواب.

الثانية ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) (1).

يقال ثقفت الرجل إذا وجدته وأنت متمكّن منه حاذق على ذلك وأصله الحذق للشي ء علما وعملا وهذه الآية ناسخة لكلّ آية فيها أمر بالموادعة أو الكفّ عن القتال كقوله تعالى ( وَدَعْ أَذاهُمْ ) (2) وقوله ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (3) وأمثاله لأنّ حيث للمكان أي في أيّ مكان أدركتموهم من حلّ أو حرم وكان القتال في الحرم محرّما ثمّ نسخ بهذه الآية وأمثالها فصدرها ناسخ لعجزها قوله « وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ » أي من مكّة فإنّهم أخرجوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وجماعة من المسلمين من الحرم وكذلك صدّوهم عن الدخول عام الحديبية فلا جناح في إخراجهم لأنّ البادي أظلم وقد فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عام الفتح كذلك « وَالْفِتْنَةُ » أي المحنة والبليّة بإخراجهم عن وطنهم « أَشَدُّ » عليهم من قتلهم لدوام التألّم بذلك وقيل

ص: 355


1- البقرة : 191.
2- الأحزاب : 48.
3- الكافرون : 6.

الشرك أي شركهم في الحرم أشدّ عليهم من قتلكم لهم ومن إخراجهم من الحرم.

قوله « وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » قيل سبب نزولها أنّ المسلمين لمّا وقع صلح الحديبية خافوا أنّهم إذا رجعوا في العام المقبل أن لا يفي المشركون بعهدهم فيضطرّون إلى قتالهم في الحرم في الشهر الحرام فأمرهم اللّه بقتالهم إن لم يفوا فإنّ جزاء السيّئة سيّئة.

فائدة :في حكم هذه الآية قوله تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وفيه زيادة (1) تحريص للنبيّ صلى اللّه عليه وآله عليهم بقوله « وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ».

الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (2).

« يَلُونَكُمْ » أي يقربون منكم أي قاتلوا الكفّار كلّهم الأقرب فالأقرب لأنّ قتالهم مع تباين أمكنتهم دفعة واحدة من المحالات فلا بدّ من الترتيب والأحوط البدأة بالأقرب ما لم يكن الأبعد أشدّ خطرا من الأقرب ولذلك قاتل النبيّ صلى اللّه عليه وآله بني قريظة وبني النضير أوّلا وفتح مكّة قبل حرب هوازن ولم يحارب أهل فارس لبعدهم وسئل ابن عمر عن قتال الديلم فقال عليكم بالروم. والغلظة الشدّة وخلاف اللّين « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ » لأنّه أمر بالتقوى ومن المحال أن يأمر بشي ء ويكون مع ضدّه ويجوز أن يريد المتّقين عن الفشل واللّين والفرار لأنّه أمر بأضدادها.

الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (3).

ص: 356


1- براءة : 5.
2- براءة : 124.
3- الأنفال : 16.

قيل : المراد بالزحف الجيش الدهم الّذي يرى لكثرته كأنّه يزحف وقيل الزحف الدنوّ يسيرا يسيرا من زحف الصبيّ إذا دبّ على مقعده وهو مصدر منصوب على الحال نحو جاء زيد ركضا وهو إمّا حال من المفعول وهو ظاهر الآية أو حال من الفاعل أو منهما معا والتحرّف الميل إلى حرف أي طرف ومنه التحرّف إلى طلب الرزق وهو الميل إلى جهة يظنّ فيها الرزق قوله « لقتال » أي لا يكون للفرار بل لحضانة الموضع وقيل هو الكرّ بعد الفرّ والتحيّز الميل إلى حيّز والفئة قيل هي الجماعة من الناس المنقطعة عن غيرها وقيل هو رئيس العسكر سمّي به لأنّ أصحابه يرجعون إليه في حوائجهم وانتصابهما على الحال أي ومن يولّ دبره فقد باء بغضب من اللّه إلّا في هذين الحالين ويحتمل نصبهما على الاستثناء وفيها أحكام :

1 - أنّه يحرم الفرار من قتال الكفّار بعد الالتقاء بهم إلّا في حالتي التحرّف أو التحيّز.

2 - أنّ الخطاب عامّ في كلّ الكفّار وكلّ المسلمين وقيل مختصّ بحرب بدر لأنّها نزلت في تلك الواقعة وقد عرفت مرارا أنّ خصوص السبب لا يخصّص.

3 - أنّ وجوب الثبات وحرمة الفرار ليس مطلقا بل مقيّد بعدم زيادة العدوّ على الضعف إذ مع زيادته يجوز الفرار لما يأتي.

4 - أنّه إذا لم يزد على الضعف وتحقّق العطب هل يجب الثبات ويحرم الفرار أم لا ، الحقّ الأوّل لعموم قوله ( إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ) (1) وقيل بالثاني لقوله ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (2) وفيه ضعف لأنّ التغرير في الحرب من لوازمه.

5 - التحرّف للقتال الاستعداد له بأن يصلح لأمته أو يطلب ماء لمكان عطشه أو مأكولا لجوعه أو تكون الشمس في مقابلته ويتأذّى بها أو غير ذلك ويشترط في ألفية صلاحيّتها للاستنجاد بدونه أو معه قريبة كانت أو بعيدة اللّهمّ إلّا أن يفرط

ص: 357


1- الأنفال : 46.
2- البقرة : 195.

البعد بحيث يعد فرارا.

6 - الفرار هنا مع الشرائط كبيرة للتوعّد عليه بالنار والتوبة منه العود إلى مركزه وإظهار الندم والعزم على القتال.

7 - (1) في معنى الآية قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (2) في العموم والتقييد بعدم الزيادة على الضعف وقوله « وَاذْكُرُوا اللّهَ » أي اذكروا عظمة اللّه لتستعظموا مخالفته بعدم الثبات كي تفلحوا بذلك.

الخامسة ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ ) (3).

التحريض والتحضيض والتحريص بمعنى واحد وهو الترغيب والحثّ على الشي ء ومدلول الآية الأولى أمر اللّه لرسوله أن يرغّب المؤمنين في القتال ووعدهم النصر على ذلك وإن كثر العدوّ حتّى يقاوم العشرة مائة ولفظه خبر ومعناه الأمر وكان ذلك تكليفهم في مبدء الإسلام ثم نسخ ذلك عنهم بعد مدّة بالآية الثانية وهي قوله « الْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ » وهو من باب النسخ بالأخفّ وسببه أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعث حمزة عليه السلام في ثلاثين راكبا فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب فثقل ذلك

ص: 358


1- في بعض النسخ : فائدة.
2- الأنفال : 46.
3- الأنفال : 65.

عليهم وضجّوا منه فخفّف اللّه عنهم بمقاومة الواحد الاثنين وهنا فوائد :

1 - لمّا كان مطلوب الكفّار في القتال ضدّ مطلوب اللّه كانوا مغالبين لله ومن غالب اللّه غلبه اللّه ولمّا كان المؤمنون مطلوبهم مطلوب اللّه كان اللّه ناصرهم ومن نصره اللّه لن يخذل أبدا ولذلك علم بالاستقراء أنّ الباغي مصروع دائما ولهذا السرّ قال تعالى ( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) أي لا يفقهون أنّهم مغالبون اللّه تعالى ومغالبة مغلوب. ووجه آخر وهو أنّ من لا يعرف الآخرة فالحياة عنده لا تكون إلّا هذه الدنيوية فهو يشحّ بها فيجين [ ويفرّ ] ومن اعتقد الآخرة وأنّ سعادته فيها لم يبال بهذه الحياة [ الدنيا الفانية ] فيخوض الغمرات ويقاتل الجماعات.

2 - المراد بالضعف الضعف البدنيّ لا في البصيرة في الدين كما قال الطبرسي أما أوّلا فلأنّه المتبادر إلى الذهن فيكون حقيقة فيه وأمّا ثانيا فلأنّ قرينة التخفيف تدلّ على ذلك وأمّا ثالثا فلأنّ الضعف البدنيّ مناسب للتخفيف والنسخ بخلاف الضعف في البصيرة.

3 - الفرق بين الحكمين أنّ المسلمين لمّا كان فيهم قلّة كلّفهم بمقاومة عشرة لمائة وإن علم فيهم ضعفا ولمّا كثروا زال المانع فخفّف عنهم لسعة رحمته وقرئ بفتح الضاد وضمّها للسبعة وقرأ أبو جعفر ضعفاء جمعا.

4 - إنّما كرّر العدد في الناسخ والمنسوخ لأنّ الحال قد يتفاوت في المقاومة فربّما لا يقاوم العشرة المائة ويقاوم المائة الألف وكذلك قد لا يقاوم المائة المائتين ويقاوم الألف الألفين فالتكرار للدلالة على وقوع الغلبة للمؤمنين مع قلّتهم وكثرتهم وبعبارة اخرى إنّما ذكرت القرينة الثانية للدلالة على أنّ غلبة المؤمنين متحقّقة وإن ازداد الكفّار بتلك النسبة أضعافا مضاعفة.

5 - أنّ مدلول الآية وجوب ثبات الجمع لمثليه وأنّه لا يجب لو كان العدوّ أكثر من الضعف فعلى هذا هل يجوز انهزام مائة بطل عن مائتي ضعيف وواحد من اثنين أم لا؟ الأولى لا يجوز لأنّ العدد معتبر مع تقارب الأوصاف فعلى هذا يجوز هرب مائة ضعيف من المسلمين من مائة بطل مع ظنّ العجز وفيه نظر.

ص: 359

6 - لو زاد الكفّار على الضعف وظنّ السلامة استحبّ الثبات ولو ظنّ العجز وجب الهرب لقوله ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (1).

7 - لو انفرد اثنان بواحد هل يجب الثبات احتمالان من كونهما لم يزيدا على الضعف ومن جواز اختصاص الحكم في الآية بالجماعة إذ الهيئة الاجتماعيّة لها أثر في المقاومة وهو الأقرب.

السادسة ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (2).

قال ابن عباس : جهاد الكفّار بالسيف وجهاد المنافقين باللّسان يريد بإقامة الحجّة عليهم والوعظ لهم واختاره الجبائيّ وقال الحسن وقتادة جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وفيه نظر فانّ الحدود تقام أيضا على الفسّاق من المسلمين مع أنّ ذلك لا يسمّى جهادا « وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ » أي أسمعهم الكلام الغليظ ولا تحابّهم ولا ترقّ لهم وعن ابن مسعود إن لم يستطع بيده فبلسانه فان لم يستطع فليكفهرّ في وجهه فان لم يستطع فبقلبه بالبغض له والتبرّي منه وفي قراءة أهل البيت عليهم السلام « جاهد الكفّار بالمنافقين » قالوا لأنّه لم يكن عليه السلام يجاهد منافقا بل يتألّفه (3) فان صحّ هذا النقل فهم أعلم بما قالوه وإلّا فالقراءة المشهورة المنقولة تواترا معها الدليل ولها الحجّة فإنّ تألّف المنافقين لم يكن مقصودا لذاته بل ليكون وسيلة إلى تليين قلوبهم فتقبل ما يرد عليها من الحجّة والموعظة وإقامة الأدلّة على دفع الشبهات عنهم وذلك هو الجهاد المأمور به وفي الآية فوائد :

1 - الأمر بجهاد الكفّار ، وهم قسمان من له كتاب أو شبهة فهؤلاء يقاتلون

ص: 360


1- البقرة : 195.
2- براءة : 73 ، التحريم : 9.
3- مجمع البيان ج 5 ص 50.

حتّى يسلموا أو يلتزموا بشرائط الذمّة وإن لم يحصل منهم أحد الأمرين قتلوا وسيأتي حكمهم ومن ليس له كتاب ولا شبهة فهؤلاء يقاتلون حتّى يسلموا وإلّا [ ي ] قتلوا وسيأتي أيضا حكمهم.

2 - الأمر بجهاد المنافقين بإقامة الحجّة فيدخل فيه جهاد كلّ مبتدع ومعتقد خلاف الحقّ قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه ومن لم يفعل فعليه لعنة اللّه » (1).

3 - الأمر بالغلظة شامل للقسمين فتجب الغلظة على الكفّار وإهانتهم وكذا على المنافقين وأرباب البدع ومعتقدي خلاف الحقّ إلّا لتقيّة تمنع من ذلك أو لخوف ضرر.

السابعة ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) (2).

هذه [ الآية ] إشارة إلى قتال أهل الكتاب وقد وصفهم بصفات أربع كلّ واحدة منها توجب قتالهم الأولى أنّهم لا يؤمنون باللّه في نفس الأمر لأنّهم يعتقدون اللّه على صفة يستحيل أن يوصف بها كقولهم ( عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ) - و ( الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ) (3) ولذلك وصفهم بالاشراك الثانية أنّهم لا يؤمنون باليوم الآخر كما يجب كقولهم ( لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً ) (4) الثالثة أنّهم لا يحرّمون ما حرّم اللّه كشرب الخمر ونكاح المحرّمات وإباحة لحم الخنزير الرابعة أنّهم لا يدينون دين الحقّ والدين إمّا

ص: 361


1- الكافي ج 1 ص 54 الرقم 2.
2- براءة : 30.
3- براءة : 31.
4- البقرة : 80.

الإسلام أو الطاعة أي [ إنّهم ] إن كانوا يدّعون دينا أو يفعلون طاعة فهي غير مطابقة للحقّ لتحريفهم كتابهم وانتحالهم أمورا غير مشروعة إذا عرفت هذا فهنا مسائل :

1 - أهل الكتاب هم اليهود والنصارى حقيقة وأمّا المجوس فلهم شبهة كتاب وقيل ليسوا بأهل الكتاب لقوله ( إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ) (1).

وإنّما للحصر والجواب أنّ لهم شبهة وقد ورد في أخبارنا أنّه كان لهم نبيّ فقتلوه وكتاب فحرّقوه ولهذا قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب » (2) و « من » في الآية للبيان.

2 - تقدّم أنّ أهل الكتاب يقاتلون حتّى يلتزموا بأحد الأمرين إمّا الإسلام وأحكامه أو شرائط الذمّة وإنّما اقتصر هنا في غاية القتال على أداء الجزية ولم يذكر الإسلام ولا باقي الشرائط لأنّ الإسلام معلوم الإرادة ولأنّهم وصفوا بالأوصاف الأربعة وفيه قطع لطمع الإسلام منهم وأمّا الاقتصار على ذكر الجزية فلأنّها الركن الأعظم في الشرائط وإذا أخلّوا بها ولم ينقادوا لأحكام الإسلام خرقوا الذمّة.

3 - شرائط الذمّة هي قبول الجزية وأن يجري عليهم أحكام الإسلام وأن لا يؤذوا المسلمين في أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأن لا يحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا يضربوا ناقوسا وأن لا يتظاهروا بشي ء من المحرّمات وأن لا يتناقصوا دين الإسلام بذكر اللّه سبحانه ونبيّه بما لا يجوز وبمخالفة الأوّلين يخرجون عن الذمّة.

4 - الجزية فعلة كجلسة وهي اسم للنوع أي لنوع من الجزاء وعندنا أنّها غير مقدّرة بل بحسب ما يراه إمام المسلمين لأنّه أنسب بالصغار وعند أبي حنيفة يؤخذ في أوّل كلّ سنة من الفقير المكتسب اثنى عشر درهما ومن المتوسّط أربعة وعشرون ومن الغنيّ ثمانية وأربعون ولا يؤخذ من الفقير الّذي لا كسب له وعند الشافعيّ يؤخذ في آخر كلّ سنة من كلّ واحد دينارا فقيرا كان أو غنيّا ولم يفصّل

ص: 362


1- الانعام : 156.
2- راجع الوسائل ب 49 من أبواب جهاد العدو ح 9 ، الدر المنثور ج 3 ص 228 و 229.

الفقير إلى المكتسب وغيره.

5 - لا تؤخذ الجزية من النساء والصبيان لأنّهم ليسوا من أهل القتال وهل تؤخذ من الشيوخ؟ قيل نعم للاستسعاد (1) برأيهم وقيل لا ، لعجزهم عن القتال والأوّل أنسب.

6 - اختلف في معنى « عَنْ يَدٍ » قيل أن يعطوها نقدا لا نسية كما يقال بعته يدا بيد أي نقدا بنقد وقيل أن يعطوها بأيديهم لا بنائب فإنّه أنسب بذلّتهم وهو أقرب وقيل عن قدرة وقهر لكم عليهم وقيل اليد هنا النعمة أي عن إنعام لكم عليهم بقبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم.

7 - « وَهُمْ صاغِرُونَ » من الصغار وهو الذلّة والواو للحال أي يعطونها حال ذلّتهم قيل هو أن يدفع ويقهر بحيث تظهر ذلّته وقيل أن يجي ء ماشيا يسلّمها وهو قائم والآخذ جالس ويقال له أدّ الجزية وأنت صاغر ويصفع على قفاه صفيعة.

وقال فقهاؤنا : إنّه التزام أحكام الإسلام وأن تجري عليهم وأن لا يقدّر الجزية عليهم فيوطّنوا أنفسهم على حال وقيل أن يأخذهم بما لا يطيقون حتّى يسلموا وقال الصادق عليه السلام « إنّ اللّه تعالى يقول « حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ » وللإمام أن يأخذهم بما لا يطيقون حتّى يسلموا وإلّا كيف يكون صاغرا وهو لا يكترث بما يؤخذ منه » (2).

8 - قال أبو حنيفة تؤخذ الجزية عن كلّ كافر حربيّا كان أو ذمّيا عابد وثن أو عابد كوكب إلّا من مشركي العرب لقوله عليه السلام لأهل مكّة « هل لكم في كلمة إذا قلتموها ذلّت (3) لكم العرب وأدّت إليكم العجم الجزية » (4) وعند الشافعيّ لا تؤخذ من مشركي العجم وعند أصحابنا إنّما تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس.

ص: 363


1- للاستعانة ، خ.
2- تفسير القمي ص 264.
3- دانت ، خ.
4- قاله صلى اللّه عليه وآله حين اجتمع أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش عند أبى طالب في مرضه فقالوا ان ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت اليه فنهيته فبعث اليه فجاء النبي صلى اللّه عليه وآله فدخل البيت وبينهم وبين ابى طالب قدر مجلس فخشي أبو جهل ان جلس الى ابى طالب أن يكون ارق عليه فوثب وجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مجلسا قرب عمه وجلس عند الباب. فقال له أبو طالب عليه السلام اى ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون انك تشتم آلهتهم وتقول وتقول. قال فأكثروا عليه من القول وتكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال : « أو هل لهم في كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم بها العجم الجزية » ففزعوا لكلمته ولقوله فقال القوم نعم وأبيك عشرا فما هي؟ قال : لا إله إلا اللّه ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : أجعل الالهة إلها واحدا ان هذا لشي ء عجاب الآية راجع الدر المنثور ج 5 ص 295. البحار ج 18 ( من طبعة دار الكتب ) ص 238 نقلا من روضة الكافي. فراجع.

الثامنة ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ) (1).

هنا فوائد :

1 - اللّقاء هنا في الحرب « فضرب » أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدّم المصدر نائبا منا به مضافا إلى المفعول هذا ، مع التأكيد والاختصار ، والتعبير به عن القتل إشعار [ ا ] بأنّه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة إن اختاره الامام عندنا وفيه أيضا تصوير له بأشنع صورة والإثخان قيل إكثار القتل وإغلاظه من الثخين وهو

ص: 364


1- القتال : 4.

الغليظ وقيل إكثار الجراح بحيث لا يتمكّن من النهوض والوثاق بفتح الواو وكسرها ما يوثق به « فَشُدُّوا الْوَثاقَ » كناية عن الأسر « فَإِمّا مَنًّا [ بَعْدُ ] » أي تمنّون منّا أو تفدون فداء و « أوزار الحرب » آلاتها وأثقالها الّتي لا تقوم إلّا بها كالسّلاح والكراع أي تنقضي الحرب والإسناد مجازيّ أي يضع أهل الحرب وقيل آثامها ومعناه حتّى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم ظاهرا بحيث لم يبق إلّا مسلم أو مسالم « ذلك » أي الأمر ذلك فيكون فصل خطاب أو مفعول أي افعلوا ذلك.

2 - قالت الشافعية إذا أسر الحرّ الذكر المكلّف تخيّر الامام بين القتل والمنّ والفداء والاسترقاق وقالت الحنفيّة يتخيّر بين القتل والاسترقاق فعلى قولهم الآية منسوخة أو مخصوصة بواقعة بدر وظاهر الآية قريب من مذهب الشافعيّة وفي التحقيق الآية تمنع القتل بعد الإثخان والأسر لتقييد المنّ والفداء بكونه بعد الأسر ولم يذكر معهما القتل وعلى التقادير فالاسترقاق علم بالسنّة هذا وقد قيل إنّ الأسر كان محرّما لقوله ( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ) (1) الآية ثمّ نسخ بهذه الآية وقال الحسن البصريّ إنّ الامام مخيّر بين المنّ والفداء والاسترقاق وليس له القتل بعد الأسر وكأنّه جعل في الآية تقديما وتأخيرا تقديره « فَضَرْبَ الرِّقابِ ) ، ( حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) » ثمّ قال « ( حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً ) » وقيل حكم الآية منسوخ بآية السيف وليس بشي ء لأصالة عدم النسخ والتخصيص خير منه.

3 - المنقول عن أهل البيت عليهم السلام (2) أنّ الأسير إن أخذ والحرب قائمة تعيّن قتله إمّا بضرب عنقه أو قطع يديه ورجليه ويترك حتّى ينزف ويموت وإن أخذ بعد تقضّي الحرب يتخيّر الامام بين المنّ والفداء والاسترقاق ولا يجوز القتل ولو حصل منه الإسلام في الحالين منع القتل خاصّة فعلى هذا يكون قول الحسن موافقا لمذهبنا ويقوى القول بالتقديم والتأخير ولا حرج في ذلك.

ص: 365


1- الأنفال : 67.
2- راجع الوسائل ب 23 من أبواب جهاد العدو.

4 - اختلف القائلون بأنّ الآية لا تقديم فيها ولا تأخير في قوله « حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها » قيل هو غاية لضرب الرقاب وقيل غاية لشدّ الوثاق وقيل للمنّ والفداء وقيل للمجموع بمعنى أنّ هذه الأحكام جارية فيهم حتّى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم وقيل حتّى لا يبقى أحد من المشركين وقيل حتّى لا يبقى دين غير الإسلام وقيل حتّى ينزل عيسى عليه السلام.

5 - أخبر سبحانه أنّه لو يشاء استأصل الكفّار باهلاكهم من غير توسّط فعلكم ولكن أمركم بذلك ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب الجزيل والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم فينقلبوا إلى العذاب الوبيل.

6 - ثمّ أخبر أنّ « الذين قاتلوا في سبيل اللّه » وقرأ البصري وحفص « قتلوا » « فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ » أي لن يضيعها ويهديهم إلى الثواب أو يثيبهم « وَيُصْلِحُ بالَهُمْ » أي شأنهم في الدنيا « وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ » تفصيل لعاقبتهم بعد الاجمال « عَرَّفَها لَهُمْ » في الدنيا فاشتاقوا إليها وعملوا لها أو بيّنها لهم فيعرف كلّ واحد منزله ويهتدي إليه كأنّه كان ساكنه منذ خلق أو طيّبها من العرف وهو طيب الرائحة.

التاسعة ( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).

ص: 366


1- الأنفال : 67 - 71.

خمس آيات « ما كان » ما هنا للجحد وكان ناقصة واسمها « أن يكون » على تقدير المصدر أي لا يجوز كون الأسرى عند نبيّ وقرأ أبو جعفر أسارى والباقون أسرى والإثخان هو تكثير القتل وقيل الغلبة على البلدان والتذليل لأهلها « وعرض الدنيا » متاعها سمّي به لعروضه وعدم بقائه إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

1 – روي (1) أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله أخذ سبعين أسيرا يوم بدر وفيهم العبّاس عمّه وعقيل ابن عمّه أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال قومك وأهلك استبقهم لعلّ اللّه يتوب عليهم وخذ منهم فدية يتقوّى بها أصحابك فقال : عمر كذّبوك [ ونبذوك ] وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم فإنّهم أئمّة الكفر ولا تأخذ منهم الفداء مكّن عليّا من عقيل وحمزة من العبّاس ومكّنّي من فلان وفلان لنسب له فيهم فقال [ له رسول اللّه ] إنّ اللّه يلين قلوب رجال حتّى تكون ألين من اللّين ويقسّي قلوب رجال حتّى تكون أشدّ من الحجارة فمثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال « فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام إذ قال « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً » ثمّ قال صلى اللّه عليه وآله لأصحابه : إن شئتم قتلتم وإن شئتم فاديتم ويستشهد منكم بعدّتهم فقالوا بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بعدّتهم بأحد كما قال صلى اللّه عليه وآله.

ونقل عليّ بن إبراهيم أنّه لمّا قتل النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسرى فقالوا يا رسول اللّه قتلنا سبعين وهم قومك واسرتك أتجذّ أصلهم فخذ يا رسول اللّه منهم الفداء وكان [ أكثر ] الفداء أربعة آلاف درهم وأقلّه ألف درهم وقيل كان فداء كلّ واحد عشرين أوقية وقال ابن سيرين مائة أوقيّة والأوقية أربعون درهما وروي عن الصادق عليه السلام أنّ الفداء كان أربعين أوقيّة والأوقيّة أربعون مثقالا إلّا العباس فانّ فداءه كان مائة أوقيّة وكان قد أخذ منه حين أسر عشرين أوقيّة ذهبا فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذلك غنيمة ففاد نفسك

ص: 367


1- ترى القصة وما يليها في الدر المنثور ج 3 ص 201 ، مجمع البيان ج 4 ص 559. فراجع.

وابني أخيك نوفلا وعقيلا فقال يا محمّد ليس معي شي ء تتركني أتكفّف الناس ما بقيت؟ فقال أين الذهب الّذي دفعته إلى أمّ الفضل حين خروجك من مكّة وقلت لها ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فان حدث بي حدث فهو لك ولعبد اللّه ولعبيد اللّه والفضل [ وقثم ] فقال العبّاس وما يدريك به فقال أخبرني به ربّي فقال العباس أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك عبده ورسوله واللّه لم يطّلع عليه أحد إلّا اللّه ولقد دفعته إليها في سواد اللّيل قال : فلمّا أخذوا الفداء نزلت الآية وروي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يكره أخذ الفداء ولمّا رأى سعد بن معاذ كراهته في وجهه قال يا رسول اللّه هذا أوّل حرب لقينا فيه المشركين أردت أن تثخن فيهم القتل حتّى لا يطمع أحد منهم في خلافك وقتالك فقال كرهت ما كرهت ولكن رأيت ما صنع القوم واستدلّ جماعة من مخالفينا كأحمد بن حنبل وغيره بهذه القصة على جواز الاجتهاد على النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّ أخذ الفداء لم يكن بالوحي وإلّا لما أنكره اللّه والجواب جاز أنّه كان مخيّرا بين القتل والفداء وكان القتل أولى والعتاب على تركه وأيضا قد نقلنا أنّه كان كارها للفداء فالعتاب كان لغيره.

2 - قال ابن عبّاس وقتادة إنكار الفداء كان من عذر لقلّة المسلمين فلمّا كثروا أذن لهم فيه فنزلت « فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً » وسبب ذلك أنّ اللّه تعالى أراد إرهاب الكفّار وإلقاء الرعب في قلوبهم لإعزاز دينه ونصرة رسوله ولا يتأتّى ذلك إلّا بتكثير القتل فلمّا كثر المسلمون حصل المقصود بسبب كثرتهم فاذن لهم في المفاداة.

3 - قوله « لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ » قال مجاهد معناه لو لا أنّه لا يعذّب على ذنب إلّا بعد النهي عنه لعذّبكم لكن لم يسبق منه نهي فلم يعذّبكم وقال الجبائيّ لو لا ما سبق في حكمه أنّه لا يعذّب على الصغائر لعذّبكم وقال ابن جبير لو لا ما سبق أنّه يحلّ لكم الفداء فيما بعد لعذّبكم قلت ويحتمل معنيين آخرين أحدهما لولا ما سبق في حكمه أنّ أمّة محمّد صلى اللّه عليه وآله لا يعذّبون في الدنيا على ذنب كما كانت الأمم الماضية لعذّبكم وثانيهما لو لا ما كتب لكم أنّكم لا تؤاخذون على خطأ في الاجتهاد لعذّبكم وبيان خطائهم أنّهم قالوا لا مصلحة في قتلهم لرجاء إسلامهم وفي

ص: 368

أخذ الفداء منهم مصلحة للمسلمين لأنّ أكثرهم كانوا فقراء لا مركوب لهم ولا زاد ولا شكّ أنّ مصلحة المسلمين جزئيّة والإثخان في الأرض مصلحة كلّيّة فإذا تعارضتا فالكلّية أولى كما إذا وقعت آكلة في عضو فإنّه يجب قطعه لئلّا يتعدّى إلى البدن كلّه والخطاب لمن أخذ الفداء لا له صلى اللّه عليه وآله لعصمته من الخطاء ولما نقلنا من كراهته لأخذ الفداء وقال الجبائيّ إنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله عصى في هذه القضيّة إجماعا ولم يعيّن والظاهر أنّه في ترك القتل والإثخان وقوله باطل لما ثبت من عصمته مطلقا هذا وقد نقلنا كراهته لأخذ الفداء حتّى قال البلخيّ أجلّاء الصحابة [ كانوا ] برآء من أخذ الفداء وإنّما رغّب فيه غيرهم.

4 - « فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً » إشارة إلى إباحة المغنم قال صلى اللّه عليه وآله : « فضّلت على الأنبياء بخمس بعثت إلى الكافّة وأحلّ لي المغنم ونصرت بالرعب وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وخصّصت بالشفاعة » (1) والغنيمة ما أخذ من الكفّار قهرا وهل الفداء من الغنيمة قيل نعم والمراد بها هنا هو الفداء لأنّ الكلام فيه وقيل لا ، لأنّ الفداء ما أخذ عوضا من النفس وهو غير الغنيمة وفائدة الخلاف في وجوب الخمس وعدمه وأصل الحلال من حلّ العقد ولا فرق بينه وبين المباح في المعنى إلّا أنّ المباح ليس مسبوقا بالحظر بخلاف الحلال لما قلناه أنّه من حلّ العقد ولمّا كانت الغنائم محرّمة على الأمم السالفة قال حلالا والمباح مأخوذ من باحة الدار وسعتها فكونه مباحا معناه موسّع فيه والطيّب ما كان موافقا للطبع و « من » في « مِمّا غَنِمْتُمْ » للتبعيض ولولاها لأوهم تحريم الانتفاعات الباقية وتخصيص الأكل لكونه أعظم الانتفاعات.

5 - [ ثمّ ] إنّه تعالى بشّر الأسرى عقيب أخذ الفداء منهم بأنّه إذا صلحت نيّاتهم وخلص الإسلام في قلوبهم أن يؤتيهم خيرا ممّا أخذ منهم من الفداء وروي عن العبّاس أنّه قال أبدلني اللّه خيرا ممّا أخذ منّي أملك الآن عشرين عبدا وإنّ

ص: 369


1- السراج المنير ج 3 ص 23

أدناهم ليضرب بعشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحبّ أنّ لي بها جميع أموال مكّة وأنا أنتظر المغفرة.

وأنذرهم أنّهم إن يريدوا خيانة الرسول بالردّة عن الإسلام فقد خانوا اللّه من قبل بالشرك ومعاونة المشركين فأمكن منهم بالقدرة عليهم ، كذلك إذا ارتدّوا يمكّن منهم ثانيا كما مكّن منهم أوّلا كما وقع لدريد بن الصمّة ومن ضارعه ممّن أسلم ثمّ ارتدّ وخرج على النبيّ صلى اللّه عليه وآله مع المشركين.

العاشرة ( فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) (1).

الضمير عائد إلى الّذين نقضوا عهدهم وهم بنو قريظة عاهدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على أن لا ينصروا قريشا فأعانوا مشركي مكّة يوم الخندق فلمّا عرّفهم نقضهم قالوا نسينا وأخطأنا فأمره اللّه بمكافاتهم « وإن » شرطية « وما » زائدة لتأكيد الشرط والنون للتوكيد في الفعل أيضا ومعناه إن صادفتهم يا محمّد في الحرب فشرّد بهم من خلفهم أي نكّل بهم تنكيلا تشرّد غيرهم من ناقضي العهود خوفا أن ينكل به قاله أكثر المفسّرين « لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » أي إذا فعلت ذلك كان عظة لغيرهم فيعلمون أنّ عاقبة الغدر وخيمة « وَإِمّا تَخافَنَّ » أيضا جملة شرطيّة كما تقدّم أي إن خفت « مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً » أي نقض عهد « فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ » عهدهم أي ألق إليهم عهدهم واقتصر على ذلك ولا تحاربهم قوله « عَلى سَواءٍ » أي على عدل فإنّهم إذا نقضوا العهد فنبذت إليهم عهدهم لتساويتم لكنّهم لمّا بدءوا استحقّوا الذمّ فعلى هذا نكون الآية الاولى في حال من تكرّر منهم نقض العهد لقوله قبلها « الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ » وهذه لمن ظهر منه أمارات النقض لأنّ التفصيل قاطع للشركة.

ص: 370


1- الأنفال : 59.

لكن يرد هنا سؤال وهو أنّ أهل مكّة حاربهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مع عدم تكرار النقض منهم فيجاب بأنّ معنى الآية الثانية ظهور أمارة النقض وظنّ ذلك وأهل مكّة نقضوا العهد بالفعل وقتلوا رجلا من خزاعة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وفرق بين ظنّ النقض وبين تيقّنه أو يكون المراد أنّ النقض بغير القتل ولم يتكرّر فيقتصر معه على نبذ العهد وبالقتل كأهل مكّة أو مع التكرار كبني قريظة تجوز المحاربة فيكون ممّا خصّ بمنفصل.

قوله « إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ » عدم المحبّة أعمّ من البغضة لجواز أن لا يحبّ ولا يبغض كما أنّ ظهور أمارة النقض أعمّ من نقضه بالفعل ومن عدمه.

الحادية عشر ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (1).

روي في سبب نزولها أنّ رجلا يقال له مرداس من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سريّة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأميرهم غالب العبسي (2) فهربوا و

ص: 371


1- النساء : 97.
2- كذا في النسخ وفي بعضها « البستي » خ ل والمذكور في الإصابة المذيل بالاستيعاب ج 3 ص 181 غالب بن عبد اللّه بن مسعر بن جعفر بن كليب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة الكلبي ثم الليثي ، بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله سنة خمس في ستين راكبا إلى بني الملوح بالكديد وأمره أن يغير عليهم فخرج الحديث. وقال ابن إسحاق ( ج 2 ص 622 من سيرته ) : بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله غالب بن عبد اللّه الكلبي إلى أرض بنى مرة فأصاب بها مرداس بن نهيك حليفا لهم من الحرقة قتله أسامة بن زيد وذكر هشام بن الكلبي ان النبي صلى اللّه عليه وآله بعثه إلى فدك فاستشهد دون فدك – قال ابن حجر : قلت المبعوث الى فدك غيره واسمه أيضا غالب لكن : ابن فضالة الكناني. وقد قيل في نزولها أقوال وروى فيها روايات راجع الدر المنثور ج 2 ص 199 ، مجمع البيان ج 3 ص 95.

بقي مرداس متّكلا على إسلامه فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد فلمّا تلاحقوا وكبّروا كبّر ونزل وقالت لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه فأخبروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بذلك فوجد وجدا شديدا وقال قتلتموه إرادة ما معه فنزلت وقيل كان أمير السريّة المقداد وقرأ حمزة وابن عامر « السلم » بغير الألف والباقون « السلام » بالألف ومعناهما واحد قوله « لَسْتَ مُؤْمِناً » أي لست مصدّقا بالإسلام عن قصد وإنّما قلتها خوفا [ من القتل ] « كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ » أي كنتم كفّارا فلمّا أظهرتم الإسلام قبل منكم وقيل كنتم مستخفين بالإسلام خوفا على أنفسكم كذلك مرداس « فَتَبَيَّنُوا » أعادها للتأكيد وقرأ الكسائيّ « فتثبّتوا » بالثاء المنقّطة ثلاثا والباقون بالتاء فوقها نقطتان وهنا فوائد :

1 - أنّ كلمة الإسلام تحقن الدّم والمال على أيّ حال حصلت.

2 - أنّ أسامة بن زيد لم يخرج بتلك الفعلة عن الايمان لمخاطبته به وأنّه لم يقتله إلّا طمعا في ماله لا غير لا لله تعالى ولا إنكارا لإيمانه.

3 - روى ابن عبّاس أنّه لمّا نزلت هذه الآية حلف أسامة أنّه لا يقتل رجلا يقول لا إله إلّا اللّه وبهذا اعتذر إلى عليّ عليه السلام لمّا تخلّف عنه ، وهو عذر غير مقبول لأنّه قام الدليل على وجوب إطاعته في محاربة من حاربه من البغاة خصوصا وقد سمع النبيّ صلى اللّه عليه وآله يقول « يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي » (1) ولكن كرم

ص: 372


1- راجع مجمع البيان ج 3 ص 95 ، إحقاق الحق ج 4 ص 483 ، الطبعة الحديثة.

علي عليه السلام ستر خطيئته « والعذر عند كرام الناس مقبول ».

4 - في الآية إشارة إلى التثبّت في الأمور والنهي عن العجلة حذرا من سوء عاقبتها.

الثانية عشر ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ) (1).

هذه [ الآية ] إشارة إلى قصّة بدر ومضمونها أنّ جبرئيل عليه السلام أخبر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّ عيرا لقريش أقبلت من الشأم وهي خمس مائة بعير موقّرة عن أمتعة الشأم وفيها أربعون راكبا وإنّ فيها أبا سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام فأخبر المسلمين بذلك وأمرهم بالخروج إليها وقال لعلّ اللّه أن ينفلكموها فخفّ بعضهم وثقل بعض ولم يظنّوا أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يلقى حربا فخرجوا لا يريدون إلّا العير ، فسمع أبو سفيان بخروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فاستأجر رجلا يقال له ضمضم بعشرة دنانير وبعثه إلى مكّة يخبر قريشا بذلك وكانت عاتكة بنت عبد المطّلب قد رأت قبل ذلك في المنام أنّ رجلا صعد على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه فما ترك دارا من دور قريش إلّا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة وأخبرت العباس [ بذلك ] وبلغ ذلك أبا جهل فقال هذه نبيّة ثانية في بني عبد المطّلب ف [ ل ] ما كان اليوم الثالث من الرؤيا [ حتّى ] جاء ضمضم يصيح بأعلى صوته يا آل غالب اللطيمة اللطيمة العير العير إنّ محمّدا وأصحابه قد خرجوا يتعرّضون لعيركم فخرج أبو جهل ينادي النجا النجا عيركم وأموالكم إن أصابها محمّد لن تفلحوا ، فخرجوا بأجمعهم وهم النفير وفي المثل السائر « لا يعدّ في العير ولا في النفير » (2).

ص: 373


1- الأنفال : 7.
2- العير أصله قافلة الحمير مؤنثة ثم كثرت حتى سميت بها كل قافلة تحمل الميرة وغيرها للتجارة ، والنفير هم القوم ينفرون للقتال ويتنافرون فيه ، وكانت اهتمام قريش على أمرين : أمر المعاش والتجارة ، والذين يهمون به مع القوافل هم العير ، وأمر الدفاع عن حريمهم ، والذين يهمون به من الشبان والفوارس هم النفير ، وكانت في بدر رئاسة العير الى ابى سفيان ورئاسة النفير إلى عتبة بن ربيعة وبعد بدر لما لم يبق لهم من رجال الرئاسة إلا أبا سفيان صار على العير والنفير. فهم إذا أرادوا أن يوبخوا أحدا بأنه لا يصلح لأي مهم قالوا : لا في العير ولا في النفير ، ومنه قول الشاعر : إذا ما فضلت عليا قريش *** فلا في العير أنت ولا النفير

وأخرجوا معهم القيان يضربون بالدفوف فأخبروا أنّ العير أخذت الساحل ونجت وقيل لأبي جهل نرجع إلى مكّة قال لا واللّه لا يكون ذلك حتّى ننحر الجزور ونشرب الخمور فيتسامع العرب أنّ محمّدا لم يصب عيرنا فمضى بهم إلى بدر وهي ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنّة.

فنزل جبرئيل عليه السلام فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالقصّة وأنّ اللّه وعده إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا النفير فاستشار النبيّ صلى اللّه عليه وآله أصحابه أيّهما أحبّ إليكم فقالوا العير فتغيّر وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقال إنّ العير قد مضت وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا عليك بالعير فاشتدّ غضبه صلى اللّه عليه وآله فقام أبو بكر وعمر فتكلّما بكلام مضمونه إنّها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت ولا ذلّت منذ عزّت فقال لهما اجلسا فجلسا فقام المقداد رحمه اللّه فقال إنّا نشهد بأنّ ما جئتنا به حقّ واللّه لو أمرتنا أن نخوض الجمر لخضناه معك لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ) (1) بل نقول امض لأمر ربّك إنّا معك [ م ] مقاتلون فجزّاه رسول اللّه خيرا.

فاستبشر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثمّ قال أشيروا عليّ ويريد

ص: 374


1- المائدة : 27.

بذلك الأنصار لأنّهم كانوا أكثر الناس يومئذ ولأنّهم كانوا بايعوه بالعقبة فقالوا إنّا برآء من ذمّتك حتّى تصل إلى دارنا ثمّ أنت في ذمّتنا نمنعك ما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا وكان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يتخوّف أن لا يرى الأنصار نصرته إلّا على عدوّ دهمه بالمدينة لا غير ، فقام سعد بن معاذ فقال كأنّك أردتنا يا رسول اللّه! قال : نعم ، فقال : إنّا آمنا بك وصدّفناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، إنّا لصبر عند الحرب وصدق عند اللّقاء واللّه لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ولعلّ اللّه أن يريك ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة اللّه. ففرح بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقال سيروا على بركة اللّه وعونه إنّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه وعده واللّه لكأنّي أنظر إلى مصرع أبي جهل وعتبة بن ربيعة وفلان وفلان.

ثمّ أمر بالرحيل إلى بدر فأقبلت قريش وبعثت عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقالوا من أنتم قالوا نحن عبيد قريش قالوا فأين العير قالوا لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يصلّي فانفتل من صلاته وقال إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم [ عليّ بهم ] فأتوه بهم فقال من أنتم قالوا يا محمّد نحن عبيد قريش قال كم القوم قالوا لا علم لنا بعددهم قال كم ينحرون في كلّ يوم من جزور قالوا تسعة إلى عشرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله القوم تسعمائة إلى ألف رجل وأمر عليه السلام بحبسهم فحبسوا ، وبلغ ذلك قريشا ففزعوا وندموا على مسيرهم ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختريّ بن هشام قال أما ترى هذا البغي واللّه ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا [ على محمّد وأصحابه ] واللّه ما أفلح قوم بغوا قطّ ولوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير.

فقال له أبو البختري إنّك سيّد من سادات قريش فسر في الناس وتحمّل العير الّتي أصابها محمّد وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرميّ فإنّه حليفك فقال له عليّ ذلك وما على أحد منّا خلاف إلّا ابن الحنظليّة - يعني أبا جهل - فسر إليه وأعلمه

ص: 375

أنّي تحمّلت العير ودم ابن الحضرميّ وهو حليفي وعليّ عقله.

قال [ أبو البختري ] فقصدت خباءه وأبلغته ذلك فقال إنّ عتبة يتعصّب لمحمّد فإنّه من بني عبد مناف وابنه معه فيريد أن نخذل بين الناس لا واللّات والعزّى حتّى نهجم عليهم بيثرب أو نأخذهم أسارى فندخلهم مكّة ويتسامع العرب بذلك وكان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وكان أبو سفيان لمّا جاز بالعير بعث إلى قريش : قد نجّى اللّه عيركم فارجعوا ودعوا محمّدا والعرب وادفعوه بالسراح ما اندفع وإن لم ترجعوا فردّوا القيان فلحقهم الرسول بالجحفة فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم وردّوا القيان من الجحفة قال وفزع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لمّا بلغهم كثرة قريش واستغاثوا وتضرّعوا فأنزل اللّه تعالى ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) (1) قال ابن عبّاس فلمّا اصطفّ القوم قال أبو جهل اللّهمّ أولانا بالنصر فانصره وقيل إنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لمّا نظر الكثرة من المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال « اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض » فما زال يهتف ربّه مادّا يديه حتّى سقط رداؤه [ عن منكبيه ] قال ولمّا أمسى رسول اللّه وجنّه الليل ألقى اللّه على أصحابه النعاس وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا يثبت فيه قدم فأنزل اللّه المطر رذاذا حتّى اشتدّ وتثبّت أقدامهم وكان المطر على قريش مثل العزالى وألقى اللّه في قلوبهم الرّعب كما قال سبحانه ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) (2).

فعبّأ رسول اللّه أصحابه وكان معه فرسان لا غير أحدهما للزبير ابن العوّام والأخرى للمقداد وسبعون جملا يتعاقبون عليها وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعليّ بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنويّ يتعاقبون على جمل لمرثد وكان مع قريش أربعمائة فرس وقيل مائتان وقيل خمسمائة فلمّا نظروا إلى قلّة المسلمين قال أبو -

ص: 376


1- الأنفال : 9.
2- الأنفال : 12.

جهل ما هم إلّا أكله رأس ولو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد فقال له عتبة أترى لهم كمينا في الحرب أو مددا فبعثوا عمرو بن وهب فجال بفرسه حول المسلمين فرجع فقال : ما لهم كمين ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون ويتلمّظون تلمّظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلّا سيوفهم وما أراهم يألون حتّى يقتلوا ولا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم فقال أبو جهل كذبت وجبنت.

فأنزل اللّه تعالى « وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها » (1) فبعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يا معشر قريش إنّي أكره أن أبدأ بكم فخلّوني والعرب وارجعوا فقال عتبة ما ردّ هذا قوم قطّ فأفلحوا ثمّ ركب جملا له أحمر فنظر إليه رسول اللّه وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال فقال عليه السلام إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر فان يطيعوه يرشدوا فخطب عتبة فقال أطيعوني اليوم واعصوني الدهر كلّه إنّ محمّدا له إلّ وذمّة وهو ابن عمّكم فخلّوه والعرب فان يك صادقا فأنتم أعلى عينا به وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره فقال له أبو جهل جبنت وانتفخ سحرك (2) فقال يا مصفّر استه (3) أمثلي يجبن ستعلم قريش أيّنا الأم وأجبن

ص: 377


1- منخرك ، خ ل.
2- الأنفال : 62.
3- قيل في شرح هذا الكلام ذيل سيرة ابن هشام ج 1 ص 624 : قال السهيلي : « قوله » « مصفر استه » كلمة لم يخترعها عتبة ولا هو بأبى عذرتها : قد قيلت قبله لقابوس بن النعمان أو القابوس بن المنذر لانه كان مرفها لا يغزو في الحروب فقيل له صفر استه يريدون صفرة الخلوق والطيب وقد قال هذه الكلمة قيس بن زهير في حذيفة يوم الهباءة ولم يقل أحد ان حذيفة كان مستوها فإذا لا يصح قول من قال في أبي جهل من قول عتبة فيه هذه الكلمة أنه كان مستوها. وسادة العرب لا تستعمل الخلوق والطيب إلا في الدعة والخفض وتعيبه في الحرب أشد العيب وأحسب أن أبا جهل لما سلمت العير وأراد أن ينحر الجزر ويشرب الخمر ببدر وتعزف عليه القيان بها استعمل الطيب أو هم به فلذلك قال له عتبة هذه المقالة ، ألا ترى الى قول الشاعر في بني مخزوم : ومن جهل أبو جهل أخوكم *** غزا بدرا بمجمرة وتور يريد انه تبخر وتطيب في الحرب وقوله « مصفر استه » انما أراد مصفر بدنه ، ولكنه قصد المبالغة في الذم ، فخص منه بالذكر ما يسوء أن يذكر ». انتهى وهذا كما ترى معنى بعيد من الكلام غاية البعد وعندي ان معنى قوله « مصفر استه » أن أبا جهل خاف وذعر من القتال حتى سلح وصفر استه بالعذرة فكما أن الجبان الذي ذعر ودهشة القتال ينتفخ سحرة ورئته حتى لا يتمكن من التنفس العادي بل يخفق قلبه ، قد يكون يسلح ويبول على نفسه فيصفر استه ثم إزاره أو سروا له ، وهذا معروف عند الناس بالكناية والتعبير لكنه مقذع.

وأيّنا المفسد لقومه ولبس درعه وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد وقالوا يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار فانتسبوا لهم فقالوا ارجعوا إنّما نريد الأكفاء فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إلى عبيدة ابن الحارث وكان له يومئذ سبعون سنة فقال له قم يا عبيدة ونظر إلى حمزة وقال قم يا عمّ ثمّ نظر إلى عليّ بن أبي طالب وهو أصغر القوم فقال قم يا عليّ واطلبوا بحقّكم الّذي جعله اللّه لكم فلقد جائت قريش بخيلائها وفخرها « يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ».

ثمّ قال يا عبيدة عليك بعتبة ويا حمزة عليك بشيبة ويا عليّ عليك بالوليد فمرّوا حتّى انتهوا إلى القوم فقالوا أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأظنّها فسقطا جميعا وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتّى انثلما وحمل أمير المؤمنين عليه السلام على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه فقال عليّ عليه السلام لقد أخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها على هامتي فظننت أنّ السماء وقعت على الأرض.

ثمّ اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون يا عليّ أما ترى الكلب قد بهر عمّك فحمل عليه عليّ عليه السلام ثمّ قال يا عمّ طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه عليّ عليه السلام فطرح نصفه ثمّ جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز

ص: 378

عليه وحمل عبيدة حمزة وعليّ حتّى أتيا به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فاستعبر فقال يا رسول اللّه ألست شهيدا قال : أنت أوّل شهيد من أهل بيتي.

وقال أبو جهل لقريش لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتّى ندخلهم مكّة فنعرّفهم ضلالتهم وجاء إبليس في صورة سراقة مالك بن جعشم فقال لهم إنّي جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم فدفعوا إليه راية الميسرة وكانت الراية مع بني عبد الدار فنظر إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال لأصحابه « غضّوا أبصاركم وعضّوا على النواجذ » ورفع يديه فقال « يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد » ثمّ أصابه الغشي فسري عنه وهو يسكب العرق عن وجهه فقال « هذا جبرئيل عليه السلام قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين ».

وروي عن سهل بن حنيف قال لقد رأينا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه من جسده قبل أن يصل إليه السيف وقتل ذلك اليوم من المشركين اثنان وسبعون من صناديدهم قتل عليّ عليه السلام منهم ستّة وثلاثين والملائكة وباقي المسلمين ستّة وثلاثين ولمّا ظفر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وفرغ من الحرب قال له بعض أصحابه يا رسول اللّه عليك بالعير فإنّه ليس دونها ذائد فقال العباس وهو في القيد لا يصلح لك فقال عليه السلام ولم ذلك فقال إنّ اللّه وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك وهذه القصّة وقعت في البين (1).

وهنا فوائد :

1 - أنّ المراد بإحدى الطائفتين العير أو النفير وذات الشوكة هي النفير وغير ذات الشوكة [ هي ] العير والشوكة القوّة.

ص: 379


1- ترى تفصيلها في كتب السير وكتب التفاسير ذيل الآية الشريفة راجع سيرة ابن هشام ج 1 ص 606 - 715. مجمع البيان ج 3 ص521 - 528. بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج 19 ص202 - 367. الدر المنثور ج 3 ص164 - 170.

2 - أنّه أخبرهم إجمالا أنّه وعدهم إحدى الطائفتين وأشار إلى أنّ الواقع هو الظفر بذات الشوكة لأنّه قال « وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ » وقال « وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ » وقطع دابرهم هو الظفر بذات الشوكة وإذا أراد اللّه أمرا وجب وقوعه خصوصا إذا كان من أفعال نفسه وكانت إرادة العبد لا أثر لها ومن هذا المعنى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كأنّي أنظر إلى مصارع القوم. وقال العبّاس لا يصلح لك الظفر بالعير.

3 - معنى قوله « يُحِقَّ الْحَقَّ » أي يثبته ويظهره « بِكَلِماتِهِ » أي آياته المنزلة أو أفعاله الخارقة للعادة كانزال الملائكة وقذف الرّعب في قلوب الكفّار وضرب الملائكة أعناقهم وقطع أيديهم. وقطع دابر الكافرين أي استيصالهم ودابر الإنسان عرقوبه ودابر الطائر كالإصبع يضرب بها وهذه الآية ليس فيها شي ء من فقه الجهاد ولكنّي ذكرتها وذكرت القصّة متابعة لمن تقدّمني ولما فيها من معجزة الرسول صلى اللّه عليه وآله.

الثالثة عشر ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (1).

جنح أي مال والسلم المسالمة أي المصالحة قال ابن عباس هي منسوخة بقوله ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (2) وقال الحسن وقتادة ومجاهد منسوخة بقوله ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (3) والحقّ أنّها غير منسوخة لتعلّق الصلح برأي الامام وبحسب المصالح المتجدّدة ويدلّ على عدم نسخها أنّ قوله « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ » نزلت في سنة تسع وبعث بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إلى مكّة ثمّ صالح أهل نجران على ألفي حلّة ألف في صفر وألف في رجب.

واعلم أنّ الصلح ويقال له الهدنة جائز شرعا لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله صالح أهل مكّة عام الحديبية وكأنّ الآية إشارة إلى ذلك ثم إنّه إنّما يجوز مع رعاية المصلحة

ص: 380


1- الأنفال : 62.
2- براءة : 30.
3- براءة : 5.

للمسلمين وقد يجب مع الحاجة إليها إمّا لقلّتهم أو لرجاء إسلام جماعة مع الصبر أو لحصول ما يحصل به الاستظهار (1) فان لم يكن حاجة ولا ضرورة ولا مصلحة فلا يجوز ومع حصول أحدها فأقلّ زمانها أربعة أشهر لقوله تعالى ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) (2) وفي طرف الكثرة لا تجوز الزيادة على سنة وفيما بينهما خلاف أقربه اعتبار الأصلح ولا بدّ من تعيين المدّة فلو شرط مدّة مجهولة لم يصحّ ويجب الوفاء بالهدنة الصحيحة ولا يجوز النقض إلّا مع انقضاء المدّة أو ظهور خيانة من الكفّار ولو استشعر الخيانة جاز نبذ العهد إليهم وينذرهم ولا يجوز مع التهمة وكذا يجب الوفاء بالشروط الصحيحة ولو كانت فاسدة فلا يجوز الاغتيال إلّا بعد الإنذار.

الرابعة عشر ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) (3).

قال ابن عبّاس لمّا وقع صلح الحديبية [ وكتبوا كتابا بطريق الصلح ] تضمّن

ص: 381


1- الاستطاعة خ ل.
2- براءة : 1.
3- الممتحنة : 10 و 11.

أنّ من جاء منهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يردّه عليهم ومن أتاهم من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يردّ فقدمت سبيعة بنت الحارث الأسلميّة مسلمة بعد ختم الكتاب فقدم زوجها مسافر وقيل صيفيّ ابن الراهب وكان كافرا فقال يا محمّد اردد عليّ امرأتي فإنّك شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا وهذه طينة الكتاب لم تجفّ فنزلت الآية (1) وقد تضمّنت أحكاما :

1 - قد تقدّم وجوب الوفاء بما تضمّنه عقد الصلح من الشروط الصحيحة لا الفاسدة وصلح الحديبية وإن تضمّن ردّ من أتا [ نا ] منهم لكنّه مطلق قابل للتقييد بعدم الاشتمال على المفسدة فلذلك كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يردّ من الرجال من له عشيرة يمنعونه من الفتنة عن دينه وأمّا من ليس له عشيرة يمنعونه فلم يردّه خوفا من الفتنة وكذا لم يردّ المرأة مطلقا وإن كان لها عشيرة لأنّهم لا يمنعونها من التزويج بالكافر وحينئذ لا تؤمن فتنتها من زوجها فإنّ المرأة تأخذ من دين بعلها.

2 - إذا قدمت المرأة مسلمة تمتحن بمقتضى الآية أي تختبر قال ابن عباس هو أن تستحلف أنّها ما خرجت من بغض زوج [ ها ] ولا رغبة في أرض ولا التماس دنيا ولا عشقا لرجل منّا وإنّما خرجت حبّا لله ولرسوله وبالجملة إذا تحقّق إسلامها لم تردّ وقوله « اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ » أي أنتم مكلّفون بما يظهر لكم من حالها وحقيقة إيمانها معلومة لله سبحانه.

3 - « فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ » أراد الظنّ المتاخم للعلم لا العلم حقيقة فإنّه غير ممكن وعبّر عن الظنّ بالعلم إيذانا بأنّه كهو في وجوب العمل به « فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ » فيه تصريح بوقوع فسخ النكاح من غير طلاق بمجرّد إسلامها لكن ذلك إن كان قبل الدخول وقع الفسخ في الحال وإن كان بعده توقّف استقراره على انقضاء العدّة فلو أسلم الزوج في العدّة فهو أحقّ بها هذا في غير الكتابيّين أمّا هما فان كان الإسلام من الزوج فهو على نكاحه وإن كان من الزوجة فكما تقدّم والتكرار للتأكيد أو الأوّل للفرقة والثاني لتحريم الاستيناف.

ص: 382


1- مجمع البيان ج 9 ص 273.

4 - إذا قدمت مسلمة ولها زوج فجاء في طلبها فمنعناه وجب على الإمام أو نائبه أن يدفع إليه ما سلّمه إليها من مهر خاصّة دون ما أنفقه عليها من مأكل وغيره ولو كان المهر محرّما كخمر أو خنزير أو لم يكن قد دفع إليها شيئا لم يدفع إليه شي ء ولا قيمة المحرّم وإن قبضته ولو جاء أبوه أو أخوه لم يدفع إليه شي ء هذا ويدفع الإمام أو نائبه ذلك المهر من بيت المال لأنّه من المصالح ولو قدمت بلدا ليس فيه الامام ولا نايبه لم يدفع إلى الزوج شي ء وإن منعناه زوجته [ و ] هذا كلّه في زمان الهدنة أمّا لو قدمت لا مع الهدنة فلا يدفع إليه شي ء لأنّه حربيّ يقهر على ماله.

5 - « وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ » أي لا جناح في نكاح المؤمنات المهاجرات لوقوع الفسخ في نكاحهنّ واستدلّ أبو حنيفة بذلك على أنّه إذا خرج إلينا أحد الزوجين مسلما أو بذمّة وبقي الآخر حربيّا وقعت الفرقة ولا يرى العدّة على المهاجرة ويصحّ نكاحها إلّا أن يكون حاملا وليس بشي ء لجواز اشتراطه بالعدّة كما في حقّ الحامل عنده.

قوله « إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » أي مهورهنّ وفايدة ذكر ذلك إعلام أنّ ما أخذه الأزواج من المهور لا يكفى عن مهر آخر لنكاح مستأنف.

6 - « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » أي لا تتمسّكوا بنكاح الكافرات والعصمة ما يتمسّك به من عقد أو ملك في النكاح وسمّي النكاح عصمة لأنّها لغة المنع والمرأة بالنكاح تكون ممنوعة من غير زوجها وفيه دلالة على أنّه لا يجوز نكاح الكافرة مطلقا حربيّة وذمّيّة دائما ومنقطعا وسيأتي تحقيقه قال مجاهد هو أمر بطلاق من بقي مع الكفّار وقال النخعيّ هي المرأة تلحق بدار الحرب فترتدّ وقال ابن عباس من كانت له امرأة [ كافرة ] بمكّة فلا يعتدّ بها من نسائه لأنّ اختلاف الدارين قطع عصمتها [ وحلّ عقدتها ] وكلّ ذلك تخصيص لعموم اللّفظ من غير دليل وكذا قول من قال : إنّ المراد بالكوافر الوثنيّات لسبب النزول ، باطل أيضا لما عرفت أنّ العبرة بعموم اللّفظ وأنّ السبب لا يخصّص.

7 - « وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا » أي إذا لحقت امرأة منكم بأهل

ص: 383

العهد مرتدّة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها وهم أيضا فليفعلوا ذلك « ذلِكُمْ » أي ما ذكر في الآية « حُكْمُ اللّهِ » في شرعه « يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ » لأنّه عليم بحقائق الأمور محكم لأفعاله.

8 - « وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ » لمّا أمر بأداء المهر إلى الزوج الكافر فقبل ذلك المسلمون وأمر الكفّار بأداء مهر اللّاحقة بهم مرتدّة فلم يقبلوا نزلت هذه « وَإِنْ فاتَكُمْ » أي سبقكم وانفلت منكم « شَيْ ءٌ » أي أحد « مِنْ أَزْواجِكُمْ » إلى الكفّار « فَعاقَبْتُمْ » قيل معناه فغزوتم فأصبتم من الكفّار عقبى وهي الغنيمة فأعطوا الزوج الّذي فاتته امرأته إلى الكفّار من رأس الغنيمة ما أنفقه من مهرها وقيل معناه من العقبة وهي النوبة شبّه أداء كلّ مهر نساء الآخرين بأمر يتعاقبون عليه أي فان جائت عقبتكم من أداء المهر فآتوا من فاتته امرأته إلى الكفّار مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر وقال الزجّاج « فَعاقَبْتُمْ » أي فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتّى غنمتم فآتوا الّذي ذهبت زوجته من الغنيمة المهر قال وقرئ « فأعقبتم » و « فعقّبتم » بتشديد القاف و « فعقبتم » بتخفيف القاف وفتحها وكسرها والجميع معناه واحد فكانت العقبى لكم أي الغلبة حتّى غنمتم.

وكان جميع من لحق بالكفّار ستّ نساء لا غير فأعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أزواجهنّ مهورهنّ من الغنيمة.

الخامسة عشر ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).

نزلت يوم فتح مكّة ، لمّا فرغ النبيّ صلى اللّه عليه وآله من مبايعة الرجال جاءه النساء

ص: 384


1- الممتحنة : 12.

يبايعنه قيل كانت مبايعتهنّ بأن يغمس يده في قدح من ماء ثمّ يغمسن أيديهنّ فيه وقيل كان يصافحهنّ وعلى يده ثوب ويشترط عليهنّ الشروط الستّة المذكورة في الآية والقتل إشارة إلى وأد البنات واللّفظ في الآية أعمّ والبهتان قيل إلحاق الولد بزوجها ولم يكن منه وكانت المرأة تلتقط الولد فتقول لزوجها هذا ولدي منك وقيل هو أن تحمل به من الزناء لأنّ بطنها الّذي تحمله بين يديها وفرجها الذي تقذفه بين رجليها ، والمعروف هو كلّ طاعة يؤمر بها وقيل عني به النهي عن النوح وتمزيق الثياب وجزّ الشعر وشقّ الجيب وخمش الوجه والدعاء بالويل واللّفظ أعم من ذلك كلّه.

قوله « وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ » أي فيما فعلنه في حال الكفر وفيه دلالة على أنّ الكافر يعاقب على ترك الفروع وأنّ الإسلام يسقط الإثم عنه وروي (1) أنّه صلى اللّه عليه وآله بايعهنّ على الصفا وكان عمر أسفل منه وهند بنت عتبة متنقبّة متنكّرة مع النساء خوفا من أن يعرفها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : « أبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا » فقالت هند إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال وذلك أنّه بائع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقطّ فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ولا تسرقن » فقالت هند إن أبا سفيان رجل ممسك وإنّي أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أم لا فقال أبو - سفيان ما أصبت من شي ء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعرفها فقال لها وإنّك لهند بنت عتبة فقالت نعم فاعف عمّا سلف يا نبيّ اللّه عفى اللّه عنك فقال « ولا تزنين » فقالت هند أو تزني الحرّة فتبسّم عمر بن الخطّاب لما جرى بينه وبينها في الجاهليّة فقال عليه السلام « ولا تقتلن أولادكنّ » فقالت هند ربّيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة ابن أبي سفيان قتله عليّ بن أبي طالب عليه السلام يوم بدر فضحك عمر حتّى استلقى [ على قفاه ] وتبسّم النبيّ صلى اللّه عليه وآله ولمّا قال « ولا تأتين ببهتان تفترينه » قالت هند : واللّه إنّ البهتان قبيح وما تأمرنا إلّا بالرشد

ص: 385


1- مجمع البيان ج 9 ص 276.

ومكارم الأخلاق ولمّا قال « ولا تعصينني في معروف » (1) قالت هند ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شي ء.

النوع الثالث : ( في أنواع أخر من الجهاد )

وفيه آيات :

الاولى ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (2).

استدلّ بهذه الآية المعاصر على قتال البغاة وهو خطاء فإنّ الباغي هو من خرج على الإمام العادل بتأويل باطل وحاربه وهو عندنا كافر لقوله صلى اللّه عليه وآله لعليّ عليه السلام « يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي » (3) فكيف يكون الباغي المذكور مؤمنا حتّى يكون داخلا في الآية ولا يلزم من ذكر لفظ البغي في الآية أن يكون المراد بذلك البغاة المعهودين عند أهل الفقه كما قال الشافعيّ ما عرفنا أحكام البغاة إلّا من فعل عليّ عليه السلام يريد فعله في حرب البصرة والشام والخوارج من أنّه لم يتبع مدبري أهل البصرة والخوارج ولم يجهّز على جريحهم لأنّهم ليس لهم فئة وتبع مدبري أهل الشام وأجهز على جريحهم ، ولذلك لم يجعلها الراونديّ حجّة على قتال البغاة بل

ص: 386


1- ولا تعصينك في معروف ، خ.
2- الحجرات : 9.
3- راجع إحقاق الحق ج 6 ص 439 - 441 وقد مر ص 372.

جعلها في قسم من يكون من المسلمين أو المؤمنين فيقع بينهم قتال وتعدّى بعض على بعض فيكون البغي بمعنى التعدّي فيقاتل المتعدّي حتّى يرجع عن تعدّيه إلى طاعة اللّه وامتثال أوامره.

قال الراونديّ ذكر الطبريّ أنّها نزلت في طائفتين من الأنصار وقع بينهما حرب وقتال ، نعم استدلّ الراونديّ على قتال أهل البغي بقوله تعالى ( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (1) أي انفروا شبّانا وشيوخا وأغنياء وفقراء ومشاتا وركبانا. قال وظاهر الآية يقتضي قتال البغاة وهو أيضا غلط فإنّ أيّ ظاهر فيها يدلّ على قتال البغاة حتّى يكون حجّة على المطلوب بل ظاهرها يفيد تأكيد الأمر بالجهاد والمبالغة في ذلك كذا ذكره الطبرسيّ وغيره فيكون المراد بذلك جهاد الكفّار المعهود [ ين ] نعم إن كان ولا بدّ يستدلّ على قتال البغاة بعموم وجوب طاعة اولي الأمر في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2) أو بقوله ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) (3) والمنافق من ظاهره الإسلام والباغي كذلك لاظهاره الإسلام وخروجه عنه ببغيه على إمامه فهو حقيق باسم النفاق ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله لعليّ « لا يحبّك إلّا مؤمن [ تقيّ ] ولا يبغضك إلّا منافق [ شقيّ ] » (4) رواه النسائيّ في صحيحه ورويناه نحن أيضا في أخبارنا ومن يحاربه لا يحبّه قطعا فيكون منافقا وهو المطلوب ولا يلزم من عدم جهاد النبيّ صلى اللّه عليه وآله للمنافقين عدم ذلك بعده ولذلك قال عليّ عليه السلام يوم الجمل : « واللّه ما قوتل أهل هذه الآية إلّا اليوم » يريد به قوله تعالى ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) الآية. (5)

ص: 387


1- براءة : 42.
2- النساء : 58.
3- براءة : 74.
4- شرح النهج لابن ابى الحديد ج 4 ص 358 ، الإرشاد ص 18 ، أمالي الشيخ الطوسي : 129 ، المحاسن 150. والحديث متفق عليه تراه في النسائي ج 8 ص 116.
5- براءة : 11.

الثانية ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (1).

الإعداد والاستعداد بمعنى واحد قوله « مِنْ قُوَّةٍ » أي ما هو سببها وسبب الانتصار على عدوّكم من العدد والعدد والآية صريحة في الأمر بالرباط وهو حفظ الثغر من هجوم العدوّ [ أ ] وإرهابه ولذلك قال « تُرْهِبُونَ » وكأنّه جواب سؤال مقدّر تقديره لم نعدّ لهم ما استطعنا والعدوّ غائب عنّا؟ فأجاب بأنّ إعداد القوّة لأجل الترهيب لا القتال حتّى يشترط حضوره ويحتمل أن يكون حالا من « أَعِدُّوا » أي [ أعدّوا ] مرهّبين به من الترهيب وهو الإخافة والضمير في « بِهِ » يرجع إلى ما استطعتم و « عَدُوَّ اللّهِ » قيل هم أهل مكّة لأنّها في حال حرب قريش وفيه ما فيه لما عرفت من أنّ خصوص السّبب لا يقتضي خصوص الحكم بل هو عامّ في كلّ عدوّ لله.

« وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ » قيل هم بنو قريظة وقال السدّيّ أهل فارس وقال الحسن هم المنافقون وهو أجود لقوله « لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ » وليس بعيدا أن يكون إشارة إلى البغاة لأنّ الضمير في « مِنْ دُونِهِمْ » عائد إلى « عَدُوَّ اللّهِ » وقال الطبرسيّ إنّهم الجنّ أي الكفرة منهم وقد ورد أنّ صهيل الخيل يؤذيهم وهنا فوائد.

1 - قيل المراد بالقوّة الرمي رواه عقبة بن عامر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وعن عكرمة هي الحصون وفسّر ابن سيرين الحصون بالخيل وقيل له : رجل أوصى بثلث ماله في الحصون فقال يشترى به خيل وتربط في سبيل اللّه يغزى عليها فقيل له إنّما أوصى في الحصون فقال ألم تسمع قول الشاعر « إنّ الحصون الخيل لا مدر القرى » وفيه ركاكة فإنّ إطلاق الحصون على الخيل مجاز ولا يصرف اللّفظ إليه إلّا لقرينة ولا قرينة ظاهرة هنا.

ص: 388


1- الأنفال : 61.

2 - الخيل من أعظم عدد القتال « قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ارتبطوا الخيل فانّ ظهورها لكم عزّ وأجوافها لكم كنز » (1) وعطفها على « قوّة » من باب عطف أعظم أجزاء الشي ء عليه ك [ قوله ( فِيهِما ] فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ ) (2).

3 - قيل في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا ) (3) أنّ قوله رابطوا من الرباط المذكور لأنّه المتبادر إلى الفهم ويحتمل أن يكون المراد في قوله « اصْبِرُوا » أي على الطاعات « وَصابِرُوا » أي أنفسكم على مخالفة الهوى و [ « رابِطُوا » أي ] رابطوها على ذلك أو صابروا الأعداء ورابطوا أبدانكم وخيولكم في الثغور ويحتمل المرابطة على سائر الطاعات قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة » (4) وعنه صلى اللّه عليه وآله « من رابط في سبيل اللّه يوما وليلة كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه ولا يفطر ولا ينفتل عن صلاة إلّا لحاجة » (5).

4 - المرابطة جائزة مع ظهور الامام بلا خلاف وهل يجوز حال الغيبة؟ منع الشيخ منها معتمدا على رواية (6) والأجود جوازها لعموم الأمر ولأنّها ليست جهادا حتّى تكون مشروطة بالإمام بل هي إرصاد لحفظ الثغر وهو واجب على المسلمين على الكفاية والرواية لاشتمالها على الكتابة تضعف عن مقاومة الدليل.

5 - من لم يرابط بنفسه فليساعد المرابطة بماله ففي ذلك أجر جزيل ولذلك أردف الأمر بالمرابطة بقوله « وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ » أي لا تنقصون [ من أجوركم ] شيئا.

ص: 389


1- رواه في المجمع ج 4 ص 555. وأخرجه في المستدرك ج 2 ص 266 عن غوالي اللئالي.
2- الرحمن : 68.
3- آل عمران : 200.
4- الدر المنثور ج 2 ص 113. مستدرك الوسائل ج 2 ص 246.
5- الدر المنثور ج 2 ص 115. مستدرك الوسائل ج 2 ص 246.
6- الوسائل ب 7 من أبواب جهاد العدو ح 1.

الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (1).

قال الراونديّ والمعاصر : إنّها نزلت في أهل البصرة ونقلا ذلك عن الباقر عليه السلام وابن عباس وعمّار وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال يوم الجمل : « واللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم » (2) وتلا الآية. وعن حذيفة مثله وعندي فيه نظر بل هي أعمّ من ذلك وإنّما هي خطاب لكافّة المؤمنين في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وإعلام منه تعالى أنّ منهم من يرتد بعد وفاته بالقيام والتمالؤ على وصيّه صلى اللّه عليه وآله وإنكارهم النصّ عليه وذلك هو ما يقوله جمهور أصحابنا أنّ دافعي النصّ كفرة والارتداد هو قطع الإسلام بما يوجب الكفر فيكون ذلك شاملا لأهل البصرة وغيرهم.

وقول عليّ عليه السلام « واللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم » حقّ وصدق فانّ منكري إمامته من المتقدّمين لم يقع بينه وبينهم قتال بل أوّل قتال وقع له عليه السلام بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه وآله هو حرب الجمل فلذلك قال ما قال وقد عرفت أنّه مهما أمكن حمل الكلام على عمومه فهو أولى.

ويدلّ على أنّ الارتداد بإنكار النصّ والقيام على أمير المؤمنين عليه السلام ذكر أوصافه في متن الآية بقوله « يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ » فهو كقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله يوم خيبر : « لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله كرّار غير فرّار » (3)

ص: 390


1- المائدة : 57.
2- راجع مجمع البيان ج 3 ص 208.
3- حديث متفق عليه راجع صحيح البخاري ج 2 ص 299 وج 3 ص 51 ، مشكاة المصابيح ص 563. سيرة ابن هشام ج 2 ص 334.

وقوله « أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ » أي من شدّة تواضعهم ولين جانبهم يكونون كالذليل وقوله « أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ » أي من شدّتهم في ذات اللّه ودينه يكونون على الكافرين كالقاهر والغالب على من بيده (1) وكذا قوله « يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ » وقوله « وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ » فهذه الصفات الخمس نصوص على أنّه عليه الصلاة والسلام هو المراد بذلك ولذلك أردفه أيضا بقوله ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (2) ولا يشكّ في ذلك كلّه إلّا مكابر.

قوله « ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ » أي تلك الأوصاف هبة ومنحة من اللّه سبحانه يخصّ بها من يشاء من عباده ممّن علم منه قبول الألطاف الإلهيّة واستعدّ للمنح الربّانيّة لاستحالة العبث عليه تعالى.

الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3).

« اتَّقُوا اللّهَ » باجتناب معاصيه « وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ » بفعل طاعاته ولمّا كان هذان القسمان إنّما يتمّان بقهر القوّة الغضبيّة والشهوانيّة والمحاربة مع النفس الأمّارة واللّوّامة أردفه بالأمر بالجهاد معهما في سبيل اللّه أي جهادا حاصلا في طريقه وطلب مرضاته لا لغير ذلك من الأغراض إذ لو لا ذلك الجهاد لم يحصل التقوى والوسيلة فلم يحصل الفوز برضوان اللّه واستحقاق دخول جنانه كما قال سبحانه ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (4) والاستفهام على سبيل الإنكار.

ص: 391


1- نبذه ، خ.
2- المائدة : 58.
3- المائدة : 38.
4- آل عمران : 142.

الخامسة ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (1).

اعلم أنّه لا يجوز المحاربة والمقاتلة للكفّار والبغاة إلّا بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام وإقامة الحجّة عليهم كما قال سبحانه ( لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى ) (2) وكأنّ الآية إشارة إلى وجوب دعاء الكفّار إلى الدّين أوّلا قبل محاربتهم فقيل المراد بالحكمة الكتاب والموعظة الحسنة وصف ثان له والجدل دليل العقل والتحقيق أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يدعو الناس على قدر استعدادهم كما قال صلى اللّه عليه وآله « أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس على قدر؟؟؟؟؟؟ ثلاثة أقسام لأنّه لا يخلو المخاطب إمّا أن يكون له قدرة على إدراك المطلوب بالبرهان أولا والثاني إمّا أن يكون له قوّة الجدال والمغالبة أو لا فغاية [ أمر ] النبيّ صلى اللّه عليه وآله ومن قام مقامه في هداية الخلق مع الفرقة الأولى إقامة البرهان وإيقاع التصديق الجازم في أذهانهم وغايته مع الفرقة الثانية الإلزام ليلتزموا بما أمروا به وغايته مع الفرقة الثالثة إيقاع المقدّمات الاقناعيّة في أذهانهم لينقادوا للحقّ لقصورهم عن رتبة البرهان والجدال.

فالحكمة إشارة إلى البرهان والموعظة الحسنة إشارة إلى الخطابة « وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » إشارة إلى علم الجدل ، وإنّما قدّم الخطابة على الجدل لأنّ المنتفعين به أكثر لأنّهم أغلب الناس أو لأنّ الواو لا يفيد الترتيب. ووصف الموعظة بالحسنة أي يظهر لهم حسنها والجدال بالّتي هي أحسن أي بالرفق والخلق (3)

ص: 392


1- النحل : 125.
2- طه : 134.
3- مجمع البيان ج 6 ص 393.

الحسن والكلام الطيّب فانّ ذلك أقرب إلى القبول والانقياد لا على وجه السفاهة والغلظة.

قوله « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ » أي ليس عليك أن توقع فيهم الهداية ولا أن تردّهم عن الضلالة وإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب واللّه أعلم.

السادسة ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (1).

« مَنْ » مبتدأ و « فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ » خبره و « إِلّا مَنْ أُكْرِهَ » مستثنى من قوله « فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ » وقوله « وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً » في المعنى بيان للكفرة أي الّذين كفروا باللّه [ و ] هم الّذين تطيب (2) به قلوبهم لا بإكراه قيل إنّ جماعة ممّن أسلم من أهل مكّة فتنوا وارتدّوا عن الإسلام طوعا وبعضهم اكرهوا وهم عمّار وأبواه ياسر وسميّة وصهيب وبلال وخبّاب أمّا سميّة فربطت بين بعيرين ووجئ في قبلها بحربة وقيل لها إنّك أسلمت طلبا للرجال فقتلت وقتل ياسر معها وأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه ونجا [ منهم ] ثمّ أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بذلك وقال قوم كفر عمّار فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : كلّا إنّ عمّارا ملي ء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه وجاء عمّار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو يبكي فقال صلى اللّه عليه وآله ما وراءك قال شرّ يا رسول اللّه ما تركت حتّى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يمسح عينيه ويقول له : فان عادوا لك فعدلهم بما قلت (3).

ثمّ اعلم أنّ هنا فوائد :

1 - دلّت الآية الكريمة على جواز التقيّة في الجملة وكذا قوله تعالى ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي

ص: 393


1- النحل : 106.
2- تطمئن ، خ.
3- راجع الدر المنثور ج 4 ص 132.

شَيْ ءٍ إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (1) وقرئ تقيّة ولأنّها دافعة للضرر لأنّه الغرض ودفع الضرر وإن لم يكن واجبا فلا أقلّ من جوازه ولأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله محي اسمه يوم الحديبية وأعطاهم أمورا هو محارب عليها في الباطن وهو قريب من النقيّة ولأنّ البخاريّ نقل في باب الإكراه عن الحسن البصريّ « التقيّة إلى يوم القيمة » يعني أنّها باقية أو جائزة إلى يوم القيمة ولأنّ [ الفقهاء ] الأربعة عدا أبي حنيفة (2) يفتون بأنّ طلاق المكره لا يقع وقالوا من اكره على شرب الخمر والزناء فلا إثم عليه ولا حدّ وقال جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام « التقية ديني ودين آبائي » (3).

واحتجّ المخالف بأنّها نفاق لأنّ كلّ واحد منهما إبطان أمر وإظهار خلافه دفعا للضرر والنفاق حرام ، ولأنّها لو جازت لجاز على الأنبياء إظهار كلمة الكفر تقيّة واللازم كالملزوم في البطلان.

وأجيب عن الأوّل بالفرق بينهما فانّ النفاق إبطان الكفر واعتقاده وهو حرام والتقيّة إبطان الإيمان واعتقاده وهو واجب فلا يكون أحدهما هو الآخر وعن الثاني بأنّه خارج بالإجماع وبأنّه لو جاز لزم انعدام الدين بالكليّة لأنّه لو جاز لكان أولى الأوقات به ابتداء الدعوة لكثرة العدوّ والمنكر حينئذ وذلك باطل.

2 - قسم أصحابنا التقيّة إلى ثلاثة أقسام الأوّل حرام وهو في الدماء فإنّه لا تقيّة فيها فكلّ ما يستلزم إباحة دم من لا يجوز قتله لا يجوز التقيّة فيه لأنّها إنّما وجبت حقنا للدّم فلا تكون سببا في إباحته الثاني مباح وهو في إظهار كلمة الكفر فإنّه يباح الأمران استدلالا بقضيّة عمّار وأبويه فإنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله صوّب الفعلين معا كما نقل. الثالث واجب وهو ما عدا هذين القسمين فإنّ الأدلّة المذكورة تقتضي ذلك ولأنّ إجماع الطائفة على ذلك هذا مع تحقّق الضرر بتركها أمّا لو لم يتحقّق ضرر فيكون فعلها مباحا أو مستحبّا.

ص: 394


1- آل عمران : 28.
2- أبا حنيفة ، خ.
3- الكافي ج 2 ص 224 الرقم 8.

3 - اختلف أيّهما أفضل (1) فعل عمّار أو فعل أبويه؟ فقيل فعل أبويه أفضل

ص: 395


1- أقول - : قد نزل في التقية آيتان أولاهما في النحل : 106 « مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ». المراد بالكفر هو التكلم بكلمة الكفر بقرينة الاستثناء وانما جعل التكلم بكلمة الكفر كفرا ، فإنها لو خلى وطبعها تكشف عن اعتقاد الكفر كما جعل التكلم بكلمة الايمان ايمانا لأنها تكشف عن اعتقاده. لكنه من يكفر باللّه كذلك اما يكون مكرها عليه بالجبر والتعذيب فيتلفظ به ضيقا حرجا صدره وقلبه مطمئن بالإيمان يعرج على كلمة التوحيد ، واما يكون منشرح الصدر به مبتهجا بذلك. وقد يكون خائضا مع الخائضين يتلفظ به لهوا ولعبا. فقوله تعالى ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ ) عنوان عام يشمل الأقسام الثلاثة وقوله « إِلّا مَنْ أُكْرِهَ » يخرج القسم الأول ، وقوله « وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً » استدراك بياني يبين المراد من قوله « مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ » ويخصه بالقسم الثاني. فلما اقتحم الاستثناء ثم الاستدراك بين المبتدأ وهو قوله « مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ » وبين خبره وهو « فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ » وطال البعد بينهما لزم دخول الفاء على الخبر ، ومعنى الآية « من تكلم بكلمة الكفر ولا أريد به من اكره على ذلك ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ) الآية. وانما فصل البحث وخص الحكم بالقسمين الأولين وأضرب عن القسم الثالث بيانا وحكما لانه من آثار النفاق وسفاسف المنافقين ولم يظهروا إلا بالمدينة ولذلك نزلت فيهم بالمدينة في التوبة 65 و 74 « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ». ( يَحْلِفُونَ بِاللّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) الآية. واما الاستثناء بقوله « إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ » فالظاهر منه هو الرخصة في التكلم بكلمة الكفر باللّه ، منة على العباد بالحنيفية السهلة ، وإبقاء على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وإذا كان الكفر باللّه تعالى عزوجل مرخصا فيه عند الاضطرار والإكراه فالكفر بالنبي صلى اللّه عليه وآله أو الأئمة الهداة المهديين عليهم السلام أو سبهم أو البراءة منهم أو ما شابه ذلك أولى بالرخصة والجواز. وثانيهما في آل عمران : 28 ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ ). والآية تنهى عن أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء : يأتمرون بأوامرهم ويتناهون عن نواهيهم ، ويصدرون ويخرجون طلبا لمرضاتهم وغير ذلك مما هو من شؤن الولاية التي تنشأ بالعهد أو الحلف أو الالتزام. ومنها الاستخدام المعهود في عصرنا الحاضر للكافرين بأحكام القرآن المعاندين لها من دول الضلال. فمن يفعل ذلك فليس من اللّه في شي ء من ولايته فان اللّه ولي المؤمنين يخرجهم من الظلمات الى النور والكافرون أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم ( إياهم مع من في ولايتهم وعهدهم ) من النور الى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فلا يجتمع هاتان الولايتان في مورد. اللّهم الا أن يتقوا منهم تقيّة فيدخلون في ولايتهم حذرا منهم وتقية ودفعا لنقماتهم المتوجهة إليهم ان خالفوهم. لكنه انما يختص بما اضطروا اليه أو أكرهوا عليه فلو رضوا منهم بالايتمار بأوامرهم ليس لهم أن يتناهوا عن نواهيهم أيضا أو يجلبوا إليهم المنافع وهكذا. فاللّه يحذرهم نفسه إذا خرجوا عن ولايته ودخلوا في ولاية الكفار من دون اضطرار اليه والى اللّه المصير يؤاخذ الناس وهم مسئولون. والظاهر من الاستثناء هو الرخصة في الدخول في ولايتهم وإطاعتهم منة على العباد بالحنيفية السمحة ، وإبقاء على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم عند طرو الاضطرار والتقية كما مر في الآية السالفة وهذه الرخصة إنما وردت طبقا لحكم الفطرة وجريا على سيرة العقلاء ( فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ ). وهذا الصنف من الرخصة إنما تجعل للأخذ بها لا للاعراض عنها والرغبة منها ولو لا ذلك لما خلق الناس مفطورا عليها بل اللّه عزوجل يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه وقد مر شطر من تلك الأحاديث في ص 210 عند البحث عن الرخصة في الإفطار في السفر فراجع. ولا يتوهم متوهم أن فائدة هذه الرخصة إنما ترجع الى المكلفين فقط وأن الرخصة إنما جعلت إبقاء لأنفسهم وأعراضهم وأموالهم وإشفاقا عليهم من أن يصيروا بمخالفتهم تلك العزائم كافرين مخلدين في النار ، فيحكم بأن عدم الأخذ بهذه الرخصة هو الأفضل فإن فيه إعزاز الدين والمؤمنين إلخ. فان في جعل هذه الرخصة حقيقة إبقاء الحق والدين بإبقاء أهله فلو كان الأخذ بالعزيمة هو الاولى والأفضل مطلقا ولم يأخذ أحد من أهل الحق بهذه الرخصة أو أخذ بها من لا حريجة له في الدين أو من لا فائدة في بقائه للحق ، لاضمحل الحق باضمحلال أهله. ولو كان الأخذ بالعزيمة هو الاولى وأخذ بها على وأهل بيته بعد النبي صلى اللّه عليه وآله واقتفى به الخواص من أصحابهم ممن يرى ويعتقد الحق لما وجد اليوم أهل حق ابدا ولانقرض الحق بانقراض أهل بيت النبي صلى اللّه عليه وآله. ولذلك ترى أهل بيت النبي صلى اللّه عليه وآله فيما تواتر عنهم من الحديث يخطئون من لا يرى الأخذ بالتقية ويجبهونهم بأنه « من لا تقية له لا دين له. التقية ديني ودين آبائي ، اتقوا اللّه على دينكم واحجبوه بالتقية فإنه لا ايمان لمن لا تقية له انما أنتم في الناس كالنحل في الطير ولو ان الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شي ء إلا أكلته ولو ان الناس علموا في أجوافكم أنكم تحبونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السر والعلانية ». ولو لم ينكروا على شيعتهم - الخاصة بهم الحاملة لا رأيهم وفتاواهم إلينا - حبهم للجهاد ورأيهم في الثورة على أهل الضلال لاستئصلوا عن آخرهم في تلك الفتن ولا وردوا أهل بيت نبيهم عليهم السلام موارد الهلكة والاستئصال. لكن مع ذلك كله ، الرخصة لا تخرج عن كونها رخصة إلى العزيمة فالعزيمة انما جعلت عزيمة لا رخصة والرخصة إنما جعلت رخصة لا عزيمة ، فإذا كانت الفتنة بحيث تجلب إلى المؤمن ذلة وحقارة عند المؤمنين وحطة عن شرافته ومقامه وتلبسه خزيا وعارا وشنارا ولم يكن عنده حق مكتوم أو كان في حياة غيره كفاية ، له بل عليه ان يعرج على قوله الحق ويتفانى دونه ويعرض نفسه وأمواله للنهب والقتل ، عليه ان يستبدل الحياة الفانية الموهونة الحقيرة في ولاية الظالمين الكافرين بالحياة الآخرة الباقية عند اللّه ويلحق بالرفيق الأعلى. ففي الوسائل باب كراهة التعرض للذل روايات في ذلك منها ما رواه عن محمد بن يعقوب الكليني بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : ان اللّه فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض اليه أن يكون ذليلا ، أما تسمع اللّه عزوجل يقول ( وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) فالمؤمن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا ، يعزه اللّه بالايمان والإسلام. فهذا أبو عبد اللّه الحسين بن على بن ابى طالب صلوات اللّه عليه صدر الاعزة ورأس أباه الضيم يقول في خطبته : « ألا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى اللّه لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ، ونفوس أبيه ، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ، الأواني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر ». وهو الذي يقول : « اما بعد فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ولم يبق منها الا صبابة كصبابة الإماء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء اللّه فانى لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما ». وهو الذي يقول : « لا واللّه لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد ، عباد اللّه انى عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ». ( راجع مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق الموسوي المقرم ص 263 و 210 و 257 ). هذا تمام البحث في مفاد الآيتين وأما الروايات الواردة في الباب فعلى أنواع تذكر من كل نوع واحدة ونذيلها بكلمة موجزة توضيحا للمرام. فمنها ما عن هشام بن سالم عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال : ان مثل ابى طالب مثل أصحاب الكهف أسروا الايمان وأظهروا الشرك فآتاهم اللّه أجرهم مرتين. أقول : هذه الرواية وما شابهها واردة في ظرف لم يأخذ الحق نصابه ولو كان أبو طالب أظهر الإيمان لما اتيح له الذب عنه صلى اللّه عليه وآله. ومنها ما عن عبد اللّه بن عجلان عنه عليه السلام قال : سألته فقلت له ان الضحاك قد ظهر بالكوفة ويوشك أن ندعى إلى البراءة من على عليه السلام فكيف نصنع؟. قال : فابرء منه قلت : أى شي ء أحب إليك؟. قال : أن تمضوا علي ما مضى عليه عمار بن ياسر ، أخذ بمكة فقالوا له : ابرء من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فبرئ منه فأنزل اللّه عزوجل : « إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ». أقول : والروايات بمضمونها كثيرة ، وانما كانت الرخصة أحب إليهم عليهم السلام لمحبوبيتها بحكم الفطرة والشرع ولان على الامام بما أنه قدوة المجتمع والحافظ على بيضة الحق أن يقدم مصالح المجتمع على مصلحة الفرد ومصالح المجتمع والحق في ذاك الظرف بقاء أهل الحق وحملة علوم أهل البيت وتكثير النسل حتى يضرب الحق بجرانه ويتحول اقلية الشيعة إلى أكثرية تذب عن نفسها وعن حقها ، ومصلحة الفرد هو الاستشهاد والدخول إلى الجنة انما تخصه وترجع الى نفسه وليس الإمام الأمة أن يرغب لأحد في ذلك فيدع مصالح الاجتماع إلى مصلحة الفرد ويعرض شيعته على القتل والنهب. ومنها ما عن عبد اللّه بن عطا قال : قلت لأبي جعفر عليه السلام : رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما ابرئا عن أمير المؤمنين فبرئ واحد منهما وأبى الأخر فخلى سبيل الذي بري ء وقتل الأخر فقال : اما الذي بري ء فرجل فقيه في دينه واما الذي لم يبرء فرجل تعجل إلى الجنة. أقول : ومثلها ما روى في عمار وأبيه قبل نزول الآية وما روى في صاحبي مسيلمة كما ذكر في متن الكتاب بعد نزول الآيتين ، والظاهر من الرواية هو فرض رجلين كذلك لا ان القصة وقعت في زمن أبى جعفر عليه السلام فإنه بعيد جدا. وأما كون الآخذ بالرخصة رجلا فقيها فلانه أخذ بحكم الفطرة أو بحكم اللّه عزوجل في كتابه ، وأما كون التارك لها متعجلا إلى الجنة فإنه تارك للرخصة إلى العزيمة فلا يكون عاصيا مرتكبا لكبيرة بل هو رجل مسلم قد اضطهد في دينه ولم يرض أن يتفوه بكلمة الكفر أو السب والبراءة من مولاه فاختار لقاء اللّه واستشهد بأيدي الجبابرة الكفار. ومن يحكم بان تارك الرخصة تيك عاص قد ألقى نفسه إلى التهلكة بيديه ، له أن يوجه دخولهم الجنة بأن ياسرا أبا عمار لم يتنبه ولم يكترث بها اعتقادا بأن ذلك غير مرخص فيه بلسان الشرع المتبع فاستشهد وتعجل إلى الجنة وان هذا الرجل المفروض في الحديث لعله سمع ما اشتهر واستفاض عن على عليه السلام أنه قال : « وأما البراءة فلا تبرؤا منى » فلم يتبرء بحكم مولاه واستشهد وتعجل إلى الجنة ، وأن صاحب مسيلمة الكذاب الذي صدع بالحق لعله لم يسمع الآيتين. غير انه يلزمه أن يقول في فعل يعقوب بن السكيت بدخوله النار ، أعاذنا اللّه منه. ومنها ما عن يوسف بن عمران الميثمي قال : سمعت ميثم النهرواني يقول : دعاني أمير المؤمنين على بن ابى طالب عليه السلام وقال : كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعي بنى أمية عبيد اللّه بن زياد إلى البراءة مني؟ فقلت : يا أمير المؤمنين انا واللّه لا ابرء منك قال : إذا واللّه يقتلك ويصلبك قلت أصبر فذاك في اللّه قليل فقال : يا ميثم إذا تكون معي في درجتي. أقول : وقد روى أصحاب السير والتواريخ نحوا من ذلك في رشيد الهجري وكميل بن زياد النخعي وقنبر وأمثالهم من حواري أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ونقل أنهم لم يبرؤا منه حين عرض البراءة عليهم فصلبوا وقتلوا وقطعت أيديهم وأرجلهم ولسانهم لكنه لم يشك احد من الفقهاء في أنهم قد دخلوا الجنة مع أوليائهم الأبرار وحسن أولئك رفيقا. وانما صدعوا بالحق ولم يبرؤا منه بظاهر من القول ، لاختصاصهم به عليه السلام أشد اختصاص معروفين بصداقته وحبه العميق فلو تبرؤا منه عليه السلام إيثارا على أنفسهم المقبوضة غدا أو بعد غد كان ذلك موجبا لهوانهم وحط منزلتهم وقدرهم حيث كانوا يفرون من الموت كفرار من أخلد إلى الأرض واتبع هواه وكان أمره فرطا. فهم على اختصاصهم به عليه السلام وكونهم من حواريه وأصحاب سره لا يليق بهم أن يرغبوا بأنفسهم عن إعزازه عند الاعداء ويجعلوا أنفسهم سخريّة عند المحب والعدو بالتفوه بالسب أو البراءة أو النيل منه على رؤس الاشهاد ولو أنهم أخذوا بالرخصة وآثروا الحياة الدنيا الفانية لنزلوا عن درجته عليه السلام في الجنة إلى الدرجات النازلة المنحطة ان لم يصيروا بذلك مصداقا لتأويل قوله تعالى ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ). وعندي ان عملهم ذلك دعا الناس الى أن توهموا عليه قوله عليه السلام : « ستدعون إلى سبى والبراءة مني أما السب فسبوني وأما البراءة فلا تبرؤا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت الى الايمان والهجرة » وذلك لان السب أفحش من البراءة ومتضمن له فكيف يرخص في السب ولا يرخص في البراءة أكان هو عليه السلام أعلى كعبا من النبي صلى اللّه عليه وآله حيث نزل في ترخيص البراءة عنه آية من القرآن أم كان شيعته عليه السلام في ذاك الزمان وهم المعنيون بقوله : « يا أشباه الرجال ولا رجال » أخص به من عمار برسول اللّه وقد ملئ ايمانا من قرنه الى قدمه أم كيف يعلل ذلك بأنه ولد على الفطرة والناس يعتقدون أن كل مولود يولد على الفطرة بل كيف يقول بأنه سبق إلى الهجرة والناس ينكرون عليه ذلك. ولذلك ورد عن ابى عبد اللّه عليه السلام أنه قال : ما منع ميثم رحمه اللّه من التقية ، فو اللّه لقد علم ان هذه الآية نزلت في عمار وأصحابه « إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ». نعم ذكر المحقق ابن ميثم البحراني وابن أبى الحديد وجوها في الفرق بين السب والبراءة. واحتمل صاحب الوسائل كون تكذيب الامام للكلام المنقول عن على عليه السلام متعلقا بكون النهي تحريميا فراجع. هذا تمام البحث في التقية ، والروايات منقولة من كتاب الوسائل أبواب 24 - 29 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما - إن شئت فراجع.

لأنّ في ترك التقيّة إعزازا للدين وتشييدا له ولما روي أنّ مسيلمة الكذّاب أخذ

ص: 396

رجلين من المسلمين فقال لأحدهما : ما تقول في محمّد؟ قال : رسول اللّه [ حقّا ] قال

ص: 397

فما تقول في؟ قال [ له ] أنت أيضا فخلّاه وقال للآخر : ما تقول في محمّد؟ قال :

ص: 398

رسول اللّه قال : فما تقول في؟ قال أنا أصمّ فأعاد عليه ثلاثا فأعاد جوابه الأوّل فقتله

ص: 399

فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : أمّا الأوّل فقد أخذ يرخصه اللّه وأمّا الثاني فقد

ص: 400

صدع بالحقّ فهنيئا له (1).

وقيل بل فعل عمّار أفضل لأنّ التقيّة دين اللّه ومن ترك التقيّة فقتل فكأنّما هو قتل نفسه ومن قتل نفسه فقد قتل نفسا معصومة ويؤيّده قوله تعالى ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (2) والرواية خبر واحد لا يتحقّق صحّته فلا تعارض ما ذكرناه.

4 - التبرّي من الأئمّة عليهم السلام حرام تباح التقيّة فيه ولو تركها وصبر كان أفضل ولذلك قال عليّ عليه السلام في كلام له « أمّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة وأمّا البراءة فلا تتبرّؤا منّي فإنّي ولدت على الفطرة [ وسبقت بالإسلام ] وفي رواية أخرى وأمّا البراءة فمدّوا دونها الأعناق » (3) وذلك دليل [ على ] الأفضليّة

ص: 401


1- المستدرك ج 2 ص 378 عن غوالي اللئالي.
2- البقرة : 195.
3- قال في النهج ( ط عبده 1 : 114 ) من كلام له عليه السلام لأصحابه : « أما انه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم ، مندحق البطن يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ولن تقتلوه ، ألا وانه سيأمركم بسبي والبراءة مني أما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة وأما البراءة فلا تبرؤا مني ، فإني ولدت على الفطرة ، وسبقت الى الايمان والهجرة ». وقال الشيخ المفيد في الإرشاد ( ص 152 ) من معجزات أمير المؤمنين عليه السلام ما استفاض عنه من قوله : « انكم ستعرضون من بعدي على سبي فسبوني ، فإن عرض عليكم البراءة منى فلا تبرؤا مني فإني ولدت على الإسلام ، فمن عرض عليه البراءة فليمدد عنقه فمن تبرأ منى فلا دنيا له ولا آخرة ». وكان الأمر في ذلك كما قال. ورواه الشيخ الطوسي في أماليه ( ص 131 ) عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده عليهم السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : « ستدعون إلى سبي فسبوني ، وتدعون إلى البراءة مني ، فمدوا الرقاب ، فانى على الفطرة ». وهناك روايات أخر تنفي ذلك : ففي الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة قال : قيل لأبي عبد اللّه عليه السلام : ان الناس يروون أن عليا قال على منبر الكوفة : « أيها الناس انكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة منى فلا تبرؤا منى » فقال عليه السلام : ما أكثر ما يكذب الناس على على عليه السلام ، ثم قال : انما قال : « انكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني وانى لعلى دين محمد » ولم يقل : « ولا تبرؤا منى » فقال له السائل : أرايت ان اختار القتل دون البراءة فقال : واللّه ما ذلك عليه وماله ، الا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان فأنزل اللّه عزوجل فيه ( إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله عندها : يا عمار : ان عادوا فعد ، فقد انزل اللّه عذرك وأمرك أن تعود ان عادوا. ورواه العياشي في تفسيره ج 2 ص 271 عن معمر بن يحيى وبعض ألفاظه مختلف. وقال ابن أبى الحديد : ( شرح النهج ج 1 ص 462 ) وروى صاحب كتاب الغارات عن يوسف بن كليب المسعودي عن يحيى بن سليمان العبدي عن ابى مريم الأنصاري عن محمد بن على الباقر عليه السلام قال : خطب على عليه السلام على منبر الكوفة فقال « سيعرض عليكم سبى وستذبحون عليه ، فان عرض عليكم سبي فسبوني وان عرض عليكم البراءة مني فإني على دين محمد صلى اللّه عليه وآله » ولم يقل « فلا تبرؤا منى ». فكما ترى هذه الروايات واردة على المشهورة المستفيضة عنه « اما السب فسبوني واما البراءة فلا تبرؤا منى » تنفى قوله عليه السلام بذلك والحق أن المشهورة المستفيضة بالفاظها المختلفة « أما السب فسبوني واما البراءة فلا تبرؤا منى » « ستعرضون على سبي فسبوني فإن عرض عليكم البراءة منى فلا تبرؤا منى » « ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني فمدوا الأعناق » كلام متصل يستدعي صدره ذيله ويستلزم ذيله صدره ويترتب آخره على أوله للتفصيل القاطع للشركة فلو صح انه قد قال عليه السلام : « اما السب فسبوني واما البراءة » أو « ستدعون إلى سبي فسبوني فإن عرض عليكم البراءة مني » لا يصلح بعده الا أن يقول : « فلا تبرؤا منى » للزوم التقابل بين طرفي التفصيل من حيث الحكم ولو كان حكم البراءة عنده عليه السلام حكم السب لم يأت بالتفصيل بين البراءة والسب. لكنك قد عرفت فيما سبق أن كلامه عليه الصلاة والسلام ذلك متوهم عليه ومنشأ التوهم لذلك عدم براءة حواريه وخواصه عنه عليه السلام مع ما قاسوه ولاقوه في ذلك فراجع. أو كون النهي تنزيهيا كما احتمله صاحب الوسائل في توجيه رواية مسعدة بن صدقة أو كون المراد بالتبري التبري القلبي ليناسب التعليل.

ص: 402

خصوصا إذا كان ممّن يقتدى به وفعل يعقوب ابن السكّيت (1) رحمه اللّه مع المتوكّل حيث لم يفضّل ولديه على الحسنين عليهما السلام من هذا الباب فانّ تفصيل الفاسق عليهما صلّى اللّه عليهما في قوّة البراءة بل هو تكذيب للرسول صلى اللّه عليه وآله لقوله « هما سيّدا شباب أهل الجنّة »

ص: 403


1- السكيت بكسر السين وتشديد الكاف وهو أبو يوسف يعقوب ابن إسحاق الدورقي الأهوازي الإمامي النحوي اللغوي الأديب وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز باللّه. قتل في خامس رجب سنة 244 وسببه أن المتوكل قال له يوما : أيما أحب إليك ابناي هذان - يعنى المعتز والمؤيد - أم الحسن والحسين؟ فقال ابن السكيت : واللّه ان قنبرا خادم على بن ابى طالب خير منك ومن ابنيك ، وقيل بل اثنى على الحسن وو الحسين عليهما السلام ولم يذكر ابنيه فأمر المتوكل الأتراك فسلوا لسانه وداسوا بطنه فحمل الى داره فمات بعد غد ذلك. راجع الكنى والألقاب ج 1 ص 309 ).

السابعة ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ) (1).

دلت الآية على حكمين :

1 - أنّهم إذا أسلموا يغفر لهم ما قد سلف منهم من حقوق اللّه من [ فعل ] المعاصي وترك الواجبات وهو دليل على أنّهم مكلّفون بذلك حال كفرهم.

2 - أنّهم إذا ارتدّوا بعد إسلامهم أخذوا بالعذاب والنكال كما هو دأب اللّه في الأمم [ الماضية ] وفيه دليل على جواز قتل المرتدّ لكن ذلك بعد استتابته ثلاثة أيّام وإنّما خصّصنا الأوّل بحقوق اللّه لقيام الدليل على عدم سقوط حقّ الآدميّ فهو عامّ خصّ بمنفصل.

كتاب الأمر بالمعروف ( والنهي عن المنكر )

[ و ] الأمر طلب مستعل فعلا من غيره والنهي طلبه كفّا من غيره. والمعروف : الفعل الحسن المشتمل على صفة راجحة والمنكر الفعل القبيح ولا خلاف في وجوبهما شرعا وإنّما اختلف في وجوبهما عقلا فقال الشيخ به وهو حقّ لكونهما لطفين وكلّ لطف واجب ومنع السيّد وإلّا لزم وقوع كلّ معروف وارتفاع كلّ منكر أو إخلاله تعالى بالواجب وهما باطلان والملازمة تظهر بأنّ الواجب العقليّ لا يختلف بالمنسوب إليه.

وفيه نظر لأنّ الواجب مختلف فانّ القادر يجبان عليه بالقلب واللّسان والعاجز يجبان عليه بالقلب لا غير وإذا اختلف بالنسبة إلينا جاز اختلافه هنا فانّ الواجب عليه تعالى التخويف والإنذار لئلّا يبطل التكليف. وكذا اختلف هل الوجوب

ص: 404


1- الأنفال : 39.

عينيّ أو كفائيّ الشيخ على الأوّل والسيّد على الثاني ثمّ إنّ الوجوب هنا ليس مطلقا بل مشروط بالعلم بكون المعروف معروفا والمنكر منكرا وإصرار الفاعل وتجويز تأثير الأمر والنهي والأمن من الضرر اللّاحق بغير مستحقّ له بسبب ذلك ومراتب الأمر مختلفة بالتقديم والتأخير وضابط ذلك تقديم الأسهل فالأسهل من الفعل والقول فان انتهى إلى ما يفتقر إلى جرح أو قتل فتلك وظيفة إماميّة (1) هذا وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوائد عظيمة وثواب جزيل قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر وإلّا تولّى عليكم شراركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم » (2) وقال عليّ عليه السلام « هما خلقان من أخلاق اللّه تعالى » (3) وكفى بذلك فضيلة لمن اتّصف بهما.

إذا عرفت هذا فهنا آيات :

الاولى ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ ) (4).

كان تامّة بمعنى وجدتم و « خَيْرَ أُمَّةٍ » منصوب على الحال المقيّدة « أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ » أي من العدم إلى الوجود لنفع الناس أي لنفع بعضكم بعضا وهو إجمال تفصيله « تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » وهو حال أيضا لا من « كنتم » بل من « خير امّة » فيكون وجودهم مقيّدا بالخيرية والخيرية مقيّدة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمراد من ذلك أنّ من شأنهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس المراد حصول الصّفة لهم بالفعل وإلّا لزم أنّهم حال النوم و

ص: 405


1- الامام ، خ.
2- السراج المنير ج 3 ص 191.
3- مستدرك الوسائل ج 2 ص 358. وذيله : « فمن نصرهما أعزه اللّه ومن خذلهما خذله اللّه ».
4- آل عمران : 110.

السكوت عن الأمر والنهي لا يكونون خير أمّة.

وإنّما اقتصر على الايمان باللّه ولم يقل وبجميع ما أتى به الرسول صلى اللّه عليه وآله لأنّ الإيمان بالبعض دون البعض ليس بايمان باللّه لقوله « وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ » إلى قوله ( أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ) (1).

وهنا فوائد :

1 - قيل قوله تعالى ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) جملة مستأنفة وأنّه خبر يراد به الأمر كقوله ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ) (2).

2 - ظاهر الآية على التقديرين يدلّ على وجوب الأمر والنهي على الأعيان لإطلاقه وهو الأصحّ وليس المراد به بعد تأثير الأمر [ الأوّل ] والنهي لفقد شرطه وهو الإصرار بل وجوب مبادرة الكلّ إلى الإنكار وإن علم قيام غيره مقامه.

3 - استدلّ بعض مخالفينا بالآية على كون الإجماع حجّة من حيث إنّ اللام في المعروف والمنكر للاستغراق أي تأمرون بكلّ معروف وتنهون عن كلّ منكر فلو اجمع على خطأ لم يتحقّق واحدة من الكلّيّتين وهو المطلوب وأجيب بمنع كون اللّام في اسم الجنس للاستغراق وإن سلّم فنحمله على المعصومين لعدم تحقّق ما ذكرتم في غيرهم وبذلك ورد النقل أيضا عن أئمّتنا عليهم السلام قالوا : « وكيف يكونون خير امّة وقد قتل فيها ابن بنت نبيّها صلى اللّه عليه وآله ».

الثانية ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (3).

هذه الآية صريحة في الأمر واستدلّ بها من قال بوجوب الكفاية لكون « من » هنا للتبعيض وقيل للبيان وهو ضعيف لأنّ البيان لا يتقدّم على المبيّن و

ص: 406


1- النساء : 149.
2- البقرة : 233.
3- آل عمران : 104.

إذا كانت للتبعيض تكون صريحة في ما قلناه وهو معارض بعمومات القرآن ومطلقاته.

وهنا فوائد :

1 - الأمر والنهي من وظائف العلماء فانّ الجاهل ربّما أمر بمنكر ونهى عن معروف وربما يكون شي ء منكرا في مذهب الآمر غير منكر في مذهب المأمور بأن تكون المسئلة فرعيّة يجوز اختلاف المجتهدين فيها وأيضا الجاهل ربّما يغلظ في موضع اللّين وبالعكس.

2 - أنّهما يوجّهان إلى من يؤثّران عنده إمّا لجهله أو لدخوله في المنكر اضطرارا من غير تعمّد أو لدخول شبهة عليه أمّا من دخل في المنكر عن قصد وعلم به واختيار وإذعان فإنّه لا يجب أمره ولا نهيه بل يجوز فان تحقّق ضرره أو خيف ذلك فلا جواز أيضا ومن هذا ورد في الخبر عنهم عليهم السلام « من علّق سوطا أو سيفا فلا يؤمر ولا ينهى » (1).

3 - يجب الابتداء فيهما بالأيسر فالأيسر من القول والفعل ويدلّ على الترتيب قوله « فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما » ثمّ قال « فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ » (2) فقدّم الإصلاح على المقاتلة.

4 - المعروف لاختصاصه بصفة راجحة يشمل الواجب والندب فينقسم الأمر حينئذ بانقسامه فيكون تارة واجبا وتارة مندوبا ويحتمل في النهي انقسامه باعتبار التحريم والكراهية فيكون أيضا واجبا ومندوبا.

5 - المعروف والمنكر قد يكونان معلومين بالضّرورة فيعمّان كلّ أحد وقد يكونان معلومين بالاستدلال فيختصّ وجوبهما بمن ظهر له ذلك بالدليل ولا يجب

ص: 407


1- عن أبى عبد اللّه عليه السلام قال : إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن فيتعظ ، أو جاهل فيتعلم ، فأما صاحب سوط أو سيف فلا. راجع الوسائل ب 2 من أبواب الأمر والنهي ح 3 وأخرجه الجزائري بلفظة في قلائد الدرر ج 2 ص 202 فراجع.
2- الحجرات : 9.

على غيره النظر ليجبا عليه لكون وجوبهما مشروطا فلا يجب تحصيل شرطه.

6 - لا يشترط في المأمور به والمنهيّ عنه أن يكون مكلّفا فانّ غير المكلّف إذا علم إضراره لغيره منع من ذلك وكذلك الصبيّ ينهى عن المحرّمات لئلّا يتعوّذها ويؤمر بالطاعات ليتمرّن عليها.

7 - من ارتكب حراما أو ترك واجبا لا يسقط عنه وجوب الأمر والنهي لأنّه لا يسقط بترك أحد الواجبين الواجب الآخر وعن السلف : « مروا بالخير وإن لم تفعلوه » ولقوله ( لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (1).

الثالثة : آيات كثيرة تدل على ذلك كقوله ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) (2).

وغير ذلك :

ثمّ إنّه تعالى جعل الوجوب مقولا بالشدّة والضعف كقوله تعالى ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (3) وقوله ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (4) وغير ذلك فإنّه أكّد الأمر الدالّ على الوجوب هنا لشدّته وأولويّته.

[ تمّ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتلوه ]

[ كتاب المكاسب إن شاء اللّه ]

ص: 408


1- البقرة : 286.
2- الحج : 41.
3- الشعراء : 214.
4- التحريم : 6.

الفهرس

رقم الآية / العنوان / الصفحة

مقدمة الكتاب 1

بيان في تفسير القرآن 3

* ( كتاب الطهارة ) *

1 - أبحاث في الوضوء والغسل والتيمم 6

في أن الكافر مكلف بالفروع 7

في المسح وأنه على بعض الممسوح 10

مباحث في مسح الرجلين وقراءة « وأرجلكم » بالجر 12

في المعنى المراد من الكعبين 18

في المسح على الخفين 19

في نواقض الوضوء 24

في لزوم العلوق في التيمم 27

2 - أبحاث أخر في الوضوء والغسل والتيمم 28

في حد التيمم 29

3 - أبحاث في النية 32

4 - في الطهارة لمس كتابة القرآن 34

5 - في الاستنجاء 35

6 - أبحاث في معنى الطهور 37

أحكام الكر والماء القليل 39

7 - بحث في الماء المضاف 40

8 - أبحاث في الحيض وأحكامه 41

في وجوب الاعتزال وكفارة الوطئ 42

بحث في عدم تواتر القراءات 43

9 - أبحاث في نجاسة المشرك 45

دلالة الآية على نجاستهم العينية 46

نجاسة الكفار من أهل الكتاب؟ 48

10 - أبحاث في حرمة الخمر والميسر 51

نجاسة الخمر والفقاع 53

11 - في طهارة الثوب والبدن 54

12 - سنن الوضوء والغسل 55

* ( كتاب الصلاة ) *

1 - في البحث عن الصلاة بقول مطلق

1 - في وجوب الصلاة 58

2 - في المحافظة على الصلوات 59

المراد بالصلاة الوسطى 63-60

3 - في الاصطبار على الصلاة 63

4 - في الخضوع والخشوع 65

ص: 409

رقم الآية / العنوان / الصفحة

2 - في دلائل الصلاة الخمس وأوقاتها

1 - في مواقيت الصلاة الخمس 66

جواز الجمع بين الصلاتين 70-67

2 - ميقات صلاة المغرب والعشاء 73

إن الصلاة تكفر الخطيئة 74

3 - في تسمية الصلاة الخمس بالتسبيحات 74

4 - أيضا في مواقيت الصلاة 76

5 - في التعقيب 78

3 - في القبلة

1 - في وجه تحويل القبلة 79

2 - في الغرض من تحويل القبلة 81

3 - في أن الكعبة هي القبلة 83

4 - لكل ملة قبلة تخصها 88

5 - عود إلى أن الكعبة هي القبلة 89

6 - أيضا عود إلى ذلك مع وجه التحويل 89

7 - في قبلة المتحير - ما بين المشرق والمغرب 90

8 - بالكعبة قيام الناس وقوام عبادتهم 92

2 و 3 - في التكبيرات - تكبيرة الاحرام 116

إن البسملة آية من كل سورة 121

في قراءة السورة 123

4 - في مقدمات آخر للصلاة

1 - في نزول اللباس والساتر 92

2 - أحكام الستر والساتر 94

3 - في طهارة الستر والساتر 96

نجاسة الميتة ودباغها 101-97

4 و 5 - ما يتخذ منه اللباس 103

6 - أيضا فيما يتخذ منه اللباس 104

7 - أحكام المساجد 105

8 - في المعنى المراد من تعميرها 107

* آيات آخر تتعلق بالمساجد *

1 - الصلاة في المساجد 108

2 - مسجد الضرار ومسجد قبا 109

بحث في شأن نزول الآية 110

9 - في نداء الصلاة وهو الأذان 112

بدء الأذان والقصة في ذلك 113

5 - في مقارنات الصلاة

1 - قيام الصلاة - القنوت 115

4 - في القراءة 118

ص: 410

رقم الآية / العنوان / الصفحة

5 - في الركوع والسجود 124

6 - في أعضاء السجدة 127

7 - في أذكار الركوع والسجود 127

8 - الجهر والاخفات 128

9 - في الصلاة على النبي وآله 130

مباحث في وجوب الصلاة على النبي وآله في الصلاة 131

جواز الصلاة على غير النبي 139

في وجوب التسليم 141

6 - في المندوبات

1 - القنوت واستحبابه 143

2 - رفع اليدين عند التكبيرات 146

3 - في الخشوع في الصلاة 147

4 - في الاستعاذة 148

5 - في صلاة الليل وميقاتها 149

7 - في أحكام متعددة تتعلق بالصلاة

1 - في رد السلام في الصلاة 154

2 - النية في العبادات 157

3 - مما يتعلق بالنية - جواز الفعل القليل كاعطاء خاتم 158

4 - قضاء الصلاة بعد نسيانها 159

النيابة في العبادات 160

5 - وقت القضاء 163

6 - تارك الصلاة مستحلا مرتد 164

7 - الكافر مكلف بالفروع 165

8 - فيما عدا اليومية من الصلاة

1 - أبحاث في صلاة الجمعة 166

2 - وقت الانتشار والابتغاء من فضل اللّه 170

3 - وجوب الاعراض عن اللّهو والتجارة عند النداء 171

4 - صلاة العيد الأضحى 172

5 - صلاة الجنائز 175

بحث في صلاة النبي على عبد اللّه بن أبي بن سلول المنافق 177

عدد التكبير في صلاة الجنائز 179

6 - أبحاث في صلاة المسافر 181

في أن التقصير عزيمة لا رخصة 183

7 - أبحاث في صلاة الخوف وكيفيته وأنواعه 188

8 - الصلاة بعد الاطمئنان والأمنة 193

في صلاة الجماعة 194

10 - الانصات في الجماعة 195

11 - في سجدة العزائم 196

ص: 411

رقم الآية / العنوان / الصفحة

* ( كتاب الصوم ) *

1 - في أن الصوم مكتوب على كل ملة 199

2 - شرائط وجوب الصوم وأيامه 201

بحث في أن الافطار للمريض عزيمة لا رخصة 203

3 - أيام الصوم أيام شهر رمضان 204

بحث في الافطار للمسافر عزيمة لا رخصة 206

4 - في الحث على الدعاء 210

5 - مفطرات الصوم - وبعض أحكام الاعتكاف 212

* ( كتاب الزكاة ) *

1 - في الوجوب ومحله

1 - إثناء الزكاة من البر 219

2 - وجوب الزكاة على الكافر 221

3 - زكاة الذهب والفضة 222

4 - الزكاة المندوبة في الأموال 226

2 - في قبض الزكاة واعطائها المستحق

1 - الدعاء عند قبض الزكاة للمزكي بالبركة والرحمة 226

2 - إن اللّه تعالى هو الآخذ للصدقات 229

3 - الانفاق من الطيبات لا من الخبيثات 230

4 - في النية والاخلاص فيها 233

5 - أصناف المستحقين 234

6 - صدقة السر والعلانية 239

3 - في أمور تتبع الاخراج

1 - الانفاق لوجه اللّه 241

2 - الانفاق على المتعففين 242

3 - الانفاق على الوالدين والأقربين و ... 243

4 - إنفاق العفو 244

5 - الرياء والمن في الزكاة 246

6 - زكاة الفطرة 248

* ( كتاب الخمس ) *

1 - وجوب الخمس وأصناف المستوجبين له 248

2 - في قرابة النبي صلى اللّه عليه وآله 252

3 - في الأنفال 254

4 - في معنى الأنفال والمستوجبين لها 256

ص: 412

رقم الآية / العنوان / الصفحة

* ( كتاب الحج ) *

1 - في وجوبه

1 - أول بيت وضع للناس 258

بحث في أسامي مكة المكرمة 258

بحث في الاستطاعة 263

2 - مباحث في مناسك الحج 268

2 - في أفعاله وأنواعه

1 - تمام الحج والعمرة وبيان مناسكهما 272

بحث في وجوب العمرة كالحج 273

الميقات قبل الاحرام 276

مواقيت الحج والعمرة 276

في الإحصار والصد 287

أبحاث في وجوب الهدي 289

أبحاث في العدول عن حج الإفراد 290

المتعة التي نهى عنها عمر بن الخطاب 292

وجوب الهدي على المتمتع 296

2 - أشهر الحج ومناسكه 300

3 - الإفاضة من عرفات إلى المشعر 303

4 - الإفاضة من المشعر 305

بحث في معنى الحمس وأفعالهم 306

5 - الذكر عند قضاء المناسك 307

6 - صلاة الطواف 309

7 - السعي بالصفا والمروة 311

8 - البدن وأحكامها 313

9 - عمرة الحديبية 315

بحث في خلاف عمر على النبي صلى اللّه عليه وآله في الحديبية 316

10 - أيام التشريق والتعجيل من منى 319

3 - في أشياء من أحكام الحج

1 - أحكام الصيد 321

2 - كفارة الصيد بالهدي 322

3 - إحلال صيد البحر وتحريم صيد البر 328

4 - الشهر الحرام والهدي والقلائد 330

5 - شعائر اللّه وحرمتها 331

6 - تعظيم حرمات اللّه 333

7 - الصد والالحاد بظلم في المسجد الحرام 334

8 - دعاء إبراهيم لأهل مكة 335

ص: 413

رقم الآية / العنوان / الصفحة

9 - رفع قواعد البيت 337

10 - إراءة مناسك الحج لإبراهيم وإسماعيل 339

* ( كتاب الجهاد ) *

1 - في وجوبه

1 - وجوب القتال وكونه مكتوبا 341

2 - الجهاد حق الجهاد 342

3 - حرمة الاعتداء 343

4 - الحرمات قصاص 344

5 - القتال لتخليص المستضعفين 345

6 - الغزوات والسرايا 346

7 - الجهاد اشتراء الحياة الآخرة بالحياة الدنيا 346

8 - تحريم التخلف عن الجهاد 348

9 - فضل المجاهدين على القاعدتين 350

10 - إنما على الضعفاء والمرضى الانصاح لا الجهاد 352

2 - كيفية القتال ووقته

1 - القتال في الشهر الحرام 353

2 - القتال عند المسجد الحرام 355

3 - قتال الأقرب فالأقرب 356

4 - الفرار من الزحف 356

5 - مقاومة المسلمين عند القتال 358

6 - جهاد الكفار والمنافقين 360

7 - قتال أهل الكتاب وأخذ الجزية منهم 361

8 - أخذ الأسير بعد الاثخان ثم الفداء أو المن 364

9 - أحكام الأسر والأسير 366

10 - العهد ونقضه بالنبذ إلى الكفار على سواء 370

11 - كلمة الاسلام تحقن الدم وتحرم القتال 371

12 - غزوة بدر الكبرى 380-373

13 - السلم والمهادنة 380

14 - امتحان المهاجرات 381

15 - مبايعة النساء وشرائط البيعة 384

3 - أنواع آخر من الجهاد

1 - قتال أهل البغي والمراد منهم 386

2 - إعداد القوة ورباط الخيل لسد الثغر 388

3 - قتال أهل الردة 390

4 - الجهاد مع النفس 391

ص: 414

الصورة

ص: 415

الصورة

ص: 416

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري

الناشر: المكتبة المرتضويّة للإحياء الآثار الجعفريّة

المطبعة: الحيدري

الطبعة: 0

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1385 ه.ق

الصفحات: 398

المكتبة الإسلامية

كنز العرفان في فقه القرآن

للشيخ الأجل جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري

المتوفی سنة 826 رحمه اللّه

علق عليه المحقق البارع حجة الإسلام الشيخ محمد باقر (شريف زاده) مد ظله

وأشرف علی تصحيحه اخراج احاديثه محمد باقر البهبودي

عنيت بنشره المكتبة المرتضوية

الجزء الثاني

لإحياء الآثار الجعفرية

طهران - بين الحرمين رقم التليفون

المحرر الرقمي: محمّد علي ملك محمّد

ص: 1

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحیم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .

أما بعد فهذا هو المجلد الثاني من كتاب كنز العرفان في فقه القرآن ، للشيخ الفاضل الفقيه ، جمال الدین ، شرف المعتمدين أبي عبداللّه المقداد بن عبد اللّه السيوري المعروف بالفاضل المقداد، وهو من أول كتاب المكاسب إلى آخر الكتاب ، مع مافيه من التعليقات النافعة والاشارة إلى مواضع الآيات وتخريج الأحاديث الواردة فيها فقد جاء بحمد اللّه وحسن توفيقه بحيث يروق الناظرين بحسن نظمه وجمال طبعه . وقد اعتمدنا في تصحيح الكتاب وتحقيق ألفاظه على عدة نسخ مطبوعة ومخطوطة مر شرحها وصورها الفتوغرافية في صدر المجلد الأول وأما عند طبع هذا المجلد فقد ظفر نا بنسخة ثمينة غالية تم كتابتها في حياة المؤلف قبل وفاته بشهرين فان تاريخ كتابتها بخط مقصود بن زين العابدين بن يحيى بن محمد [بن] حسين بن عبد الحسني الحسيني المرعشي في شهر ربيع الأول سنة 826 ، وقد توفي المؤلف قدس سره في 26 من شهر جمادى الآخرة من تلك السنة .

وهذه النسخة قد ملكها الفاضل التحرير والباحث الخبير الشيخ حمد القمي الرباني سنة 1306 الهجرية ، فصححها قبالة من سنة 1307 - 1308 وعليها بلاغات مورخة بخط يده و حواش أيضاً منه رحمه اللّه ، كما ترى في الصورة الفتوغرافية .

وقال أيضاً في ظهر النسخة ما هذا لفظه :

« تنبيه ، هذا الكتاب مقروء على الشيخ المحقق العلامة أزهد أهل عصره بل

ص: 2

كل الأعصار مولانا عبد اللّه بن الحسين التستري طاب ثراه (1) و عليه حواش نافعة بخطه الشريف كما صرح به في واحدة ، و هو من أنفس الجواهر ، حرره تحمل القمي ».

وهذه النسخة النفيسة - التي رمز نا إليها به «نص» - اليوم في خزانة كتب الفاضل النقاد الميرزا فخر الدين النصيري الأميني حفظه اللّه تعالى لحفظ كتب السلف عن الضياع و التلف ، فقد تفضل بالنسخة كرامة وأودعها عندي نحوسنة كاملة خدمة للدين وأهله فجزاه اللّه عنا وعن المسلمين خير الجزاء .

محمد الباقر البهبودی

جمادى الاخرة 1385

ص: 3


1- المتوفى سنة 1021 ، تری ترجمته مستوفاة فى ريحانة الادب ج 1 ص 217 ، مستدرك الوسائل ج 3 ص 313 ، روضات الجنات من 359 ، نقد الرجال ص 197 فراجع.

الصورة

ص: 4

الصورة

ص: 5

مراجع التخريج والتعليق

الاحتجاج للطبرسي

احكام القرآن للجصاص

الاسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت الفقيد

الاصابة لابن حجر ط - 1358

الاستيعاب لابن عبد البر بذيل الاصابة

الأم للشافعي ط 1381

الامالي لشيخ الطائفة

الأمالي السيد المرتضى ط 1325

الارشاد للمفيد الطبعة الأولى

الاتقان للسيوطى ط 1370

اساس البلاغة الطبعة الاخيرة

اعيان الشيعة ط بيروت

الاربعين للشيخ البهائي ط تبريز

الاشباه والنظائر للسيوطى في الفقه

اعلام الورى للطبرسي ط 2

اعلام الموقعين ط مصر

الامامة والسياسة ط 2-1377

الاحكام لابن حزم

الامام الصادق والأئمة الاربعة الاسد حيدر

احكام القرآن لابن العربي

اسباب النزول المواحدى

الاكمال لابن ماكولا

اوائل المقالات المفيد ط 2 تبریز

الأمالي الصدوق الطبعة الأولى

الامالي لابن الشجرى

اسد الغابة

الاستبصار ط النجنب

الانساب للسمعاني ط حیدر آباد

ارشاد الساري المطبوع بهامشه شرح النووى

احسن الوديعة للسيد ابي تراب

الاشباه والنظائر للسيوطى في الادب

الأزمنة والأمكنة للمرزوقي

اصول الفقه المظفر ط النجف

الاعتصام للشاطبي

احقاق الحق ط الاسلامية

الامام الصادق لابي زهرة

الافعال لابن القطاع ط حیدر آباد

ص: 6

الافعال لابن القوطية ط مصر

ابو هريرة للصيد شرف الدين

اقرب الموارد

الانصاف لابن الانباری ط 1380

ايام العرب في الاسلام ط 1369

الاخبار الطوال ط بغداد

اصل الشيعة واصولها ط بيروت

الاتباع لعبد الواحد الحلبي

اجوبة المسائل لحجة الاسلام الشفتي

الاشارات والدلائل

اتحاف البررة بالمتون العشرة

ارشاد الطالبين للفاضل المقداد

بحار الانوار ط دار الكتب

البيان لآية اللّه الخوئى مقدمة في التفسير

البرهان للزركشى

بلغة الفقيه

البيان للشهيد الاول

البحر الزاخر في فقه الزيدية

البدء والتاريخ للمقدسي

تفسير مجمع البيان للطبرسي ط صيدا

التفسير الكبير للامام الرازي 32 جزءاً

تفسير الخازن وبهامشه تفسير النسفى

الاعلام للزركلي

اجوبة موسى جار اللّه ، له

الاشتقاق لابن دريد

ايام العرب في الجاهلية ط 1961

احكام القرآن للقرطبي

اتقان المقال ط نجف

الالفاظ المعربة للسيداوي

احياء العلوم للغزالي

اشارات الاصول للكلباسي

الاموال للقاسم بن سلام

اشهر مشاهير الاسلام

الاثنا عشرية في الفقه للمامقاني

البيان والتبيين ط 1380

بلوغ الارب للآلوسي

البرهان القاطع في الفقه

البركة في فضل السعي والحركة

بديع القرآن لابن أبي الاصبع

بديع اللغة للميبدى

تفسير الصافي للمحقق الكاشاني ط 1283

تفسير سواطع الاسهام لابي الفيض

تفسير الكشاف ط 1367

ص: 7

تفسير النيسابوري

« الطبري ط 1373

« التبيان طایران

« الطنطاوي

« فتح القدير للشوكاني

« ابي الفتوح ط الاسلامية

« العياشي

« الشيخ محمود شلتوت

« المنار الرشيد رضا

« الدر المنثور للسيوطي

التفسير المنسوب إلى ابن عباس ط 1370

تفسير الوجيز

تفسير غريب القرآن لابن قتيبة

التفسير والمفسرون

تقريب النشر لابن الجزري

التفسير العلمي للآيات الكونية

تفسیر فرات الكوفي

التاريخ الكامل لابن الاثير

تاريخ المسعودی (مروج الذهب) ط 1377

تاريخ الخلفاء السيوطي

تاريخ اللغات السامية للدكتور إسرائيل

تاريخ الفقه الجعفري

تاريخ ناسخ التواريخ

تحف العقول ط 1376

تفسير على بن ابراهيم القمى

« البيضاوي

« ابن كثير

« ابي السعود

« الميزان للطباطبائي

« التسهيل للجزى

« البرهان

« گازر

« في ظلال القرآن

« الجلالين السيوطي

تفسير لوامع التنزيل ط لاهور

تفسیر جوامع الجامع للطبرسي

تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة

تلخيص البيان في مجاز القرآن للسيد الرضي

تفسير آلاء الرحمن للبلاغى

التفسير القاهرة

تفسير غريب القرآن للطريحي

تاريخ ابي الفداء

تاريخ اليعقوبي ط 1379

تاریخ | القرآن للكردي

التاريخ الكبير البخاري

تاریخ الكعبة المعظمة

تاريخ روضة الصفا

تأسيس الشيعة للسيد الصدر

ص: 8

التمهيد للشهيد الاول

تيسير التحرير : شرح التحرير

التهذيب لشيخ الطائفة

التاج الجامع للاصول

تذكرة الفقهاء للعلامة الحلى

التحرير للعلامة الحلى

الترغيب والترهيب للمنذري

تحفة المحتاج لابن حجر

التصريح للأزهري ط مصر

تلخيص مجمع الآداب في معجم الالقاب

ترجمان اللغة للقزويني

توضيح الافكار للامير الصنعاني

***

ثواب الاعمال وعقاب الاعمال للمصدوق

***

الجرح والتعديل لابن ابی حاتم الرازي

الجواهر في الفقه ط الكاشاني

جامع الرواة للاردبيلي

جامع الشواهد

الجوامع الفقهية

جامع الشتات للمحقق القمى

جامع الانساب للروضاتي

جامع مسانيد الامام الاعظم للخوارزمي

الجامع الكبير للشيباني

تيسير الوصول إلى جامع الأصول

التعريفات للسيد الشريف الجرجاني

تهذيب الاسماء و اللغات للنووى

التنقيح الرائع للفاضل المقداد

تذكرة الموضوعات لابن القيسراني

تحفة العالم شرح خطبة المعالم

تلخيص الشافي لشيخ الطائفة

تدريب الراوى للسيوطي

التمهيد والبيان في مقتل عثمان للمالقى

تكملة إكمال الاكمال

تعجيل المنفعة لابن حجر

الجمهرة لابن دريد

جمهرة أنساب العرب لابن حزم

جامع المقاصد للمحقق الكركي

جلاء الافهام لابن القيم الجوزية

جمع الجوامع للسبكي

الجاسوس على القاموس

الجوهر النقى لابن التركماني

الجمع بين رجال البخاري ومسلم

الجامع العباسي للشيخ البهني

ص: 9

جواهر القرآن في علوم القرآن

حلية الأولياء لأبي نعيم

حسن المحاضرة للسيوطى

الحدائق الندية في شرح الصمدية

حاشية الدسوقى على المغنى

حاشية الطباطبائي على المكاسب

حقائق التأويل للسيد الرضي

الحماسة لابن الشجرى

حاشية المحقق الخراساني على الفرائد

الخصال المصدوق ط الاولى

الخلاف لشيخ الطائفة في مجلدين

الخلاصة للعلامة

الخراج للقاضي أبي يوسف

درر الفوائد للعلامة الحائري

الدراية للشهيد الثاني

دلائل الصدق للعلامة المظفر

دروس في فقه الشيعة تقرير درس آية اللّه الخوئي

الذخيرة للسبزواري

الذكرى المشهيد الاول

جامع المقال للطريحي

حاشية ملاصالح وسلطان العلماء على المعالم

حياة الحيوان للدميرى

الحدائق الناضرة في الفقه

حاشية الشمني على المغنى

الحاوي للفتاوى للسيوطى

حديث الثقلين لمحمد قوام الوشنوى

الحمائك في أخبار الملائك للسيوطي

حاشية الكمباني على الكفاية .

خزانة الادب للبغدادي

الخزائن للمدربندى

الخطط المقريزية ط لبنان

الخزائن للمراقي

الدعوة الاسلامية للخنيزي

الدراية لوالد الشيخ البهائي

الدرجات الرفيعة للسيد على خان

ذرائع الاحلام للمامقاني

ذخيرة المعاد الممازندراني

ص: 10

رجال النجاشي

رجال الشيخ ط النجف

رجال البرقي

ريحانة الادب

الروض الانف للسهيلي

روضة الكافي

الروض المربع في الفقه الحنبلي

الرسالة للشافعي

الرسائل للعلامة الانصاري

الرفع و التكميل في الجرح والتعديل

رحلة ابن بطوطة ط 1377

زبدة البيان للمحقق

الزواجر لابن حجر

الزواج والطلاق على المذاهب الخمسة

السيرة لابن هشام ط 1375

السيرة الحلبية ( انسان العيون ) .

السنن لابی داود

السنن لابن ماجه

سراج القارى، شرح الشاطبية

سبائك الذهب في أنساب العرب

السرائر لابن ادريس الحلي

سعد السعود المسيد بن طاووس

رجال الكشي ط النجف

رجال على بن داود

روضات الجنات - النجف

رياض المسائل شرح مختصر النافع

الروضة البهية - شرح اللمعة

الرواشح السماوية للسيد الداماد

روض الجنان للشهيد الثاني

رسالة الاسلام ط دار التقريب

الروح لابن القيم الجوزية

رسائل الجاحظ ط 1324

زاد المعاد لابن القيم الجوزية

الزينة لابي حاتم الرازي

السراج المنير : شرح الجامع الصغير

السنن للترمذى

السنن النسائي

السامي في الاسامى للميداني

سبل السلام : شرح بلاع المرام

سماء المقال في تحقيق علم الرجال للكلباسي

السراج الوهاج

ص: 11

شرح القواعد للزنجاني

شرح المقامات الحريرية للمطرزي

شرح القصائد العشر للتبريزي

شرح السيوطى على موطأ مالك

شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف لابي أحمد العسكري

الشعر والشعراء لابن قتيبة

شرح ملا صالح على الكافي

شرح الاربعين للخاتون آبادي

شرح الصحيفة للجزائري

شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الطبعة الأخيرة في 20 جزءاً

شرح نهج البلاغة لابن ميثم

شرح حماسة ابي تمام للمرزوقي

شفاء الاسقام للسبكي

الشافي للمحدث الكاشاني

الشمائل المحمدية للترمذي

شرح الكافية للجامي

شرح الشافية للنظام

التجريد للقوشجي ط 1301

شرح الالفية لابن عقيل

شرح الباب الحادى عشر للفاضل المقداد

شفاء الغليل فيما للعرب من الدخيل للخفاجي

شرح الزبدة للفاضل الجواد

شرح تبصرة المتعلمين

شرح المقامات الحريرية للشريشي

شرح المعلقات للزوزني

شرح الزرقاني على موطأ مالك

شرح المفاتيح للعلامة البهبهاني

أحمد العسكرى

شرح الصاوى على ديوان الفرزدق

شرح فتح القدير لابن الهمام في الفقه الحنفي

شرح الصحيفة السجادية للسيد عليخان

شرح نهج البلاعة للخوئى

شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده

شرح ديوان المتنبي للعكبرى

شرح المواقف للسيد الشريف

الشافي للسيد المرتضى علم الهدى

شرح الكافية للرضى الاسترابادي

شرح الشافية للرضى

شرح الشافية لنقره كار

شرح الالفية للسيوطي

شرح من لا يحضره الفقيه للمجلسي الأول

شرح شذور الذهب لابن هشام

شرح القواعد للمظفر ط النجف

ص: 12

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كتاب المكاسب

اشارة

التكسّب ضروريّ للإنسان من حيث افتقاره في بقاء شخصه إلى الغذاء والملبس والمسكن الّتي لم تجر العادة بخلقها له ابتداء فيجب السعي في تحصيلها على القادر عليه بطريق لا يؤدي إلى فسخ القواعد العقليّة وهتك التقديرات الشرعيّة وأمّا من ليس بقادر فقد اقتضت العناية الإلهيّة وجوب ذلك على غيره من القادرين الأولى فالأولى وسيأتي تفصيل ذلك. ثمّ إنّ الطرق للقادر كثيرة أفضلها ما كان بالاضطراب في البيع والشراء والصناعة فقد أوحى اللّه سبحانه إلى داود « إنّك نعم العبد لو لا أنك تأكل من بيت المال » فبكى داود عليه السلام فأوحى اللّه إليه « إنّي قد ألنت لك الحديد فكان يعمل من ذلك دروعا ويبيعها ويقتات من أثمانها ويتصدّق بالباقي (1).

ثمّ البحث هنا قسمان :


1- الكافي ج 5 ص 74 تحت الرقم 5.

الأول : في البحث عن الاكتساب بقول مطلق

وفيه آيات :

الاولى ( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (1).

ص: 1


1- الحجر : 21.

مضمون الآية الأخبار بكون الأرض محلّ المعاش والارتزاق والامتنان على عباده بإباحة ذلك لهم وفيها فوائد :

1 - « الأرض » منصوبة بعامل محذوف يفسّره الظاهر (1) ومدّها هو

ص: 2


1- هذا مذهب البصريين والمسألة من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين ترى تفصيل البحث في المسئلة الثانية عشر من مسائل الخلاف من كتاب الانصاف لابن الأنباري ج 1 ص 82 وص 162 من شرح الرضى على الكافية وج 1 ص 292 من تصريح خالد الأزهري وسائر الكتب الأدبية مثل الاشمونى وشرح المفصل والحدائق الندية في شرح الصمدية للسيد عليخان مبحث الاشتغال. وخلاصة الكلام أن البصريين يرون نصب الاسم المشغول عنه بالفعل المقدر من لفظ المفسر كما في زيدا ضربته أو ما يناسبه بالترادف أو اللزوم كما في زيدا مررت به اى جاوزته أو ضربت أخاه اى اهنت زيدا وأما الكوفيون فيرون ناصب الاسم المشغول عنه نفس المفعول المذكور ، اما لذاته كما في زيدا ضربته واما لغيره كما في زيدا مررت به لسده مسد جاوزته. ثم ان الكسائي يقول بكون الضمير ملغى والفراء تلميذه يقول ان الفعل المذكور عامل فيهما لأنهما في المعنى كشي ء واحد فهو كقولهم أكرمت أباك زيدا ، ويرد عليه أنه لو جعل الضمير مثلا تأكيدا أو بدلا أو عطف بيان لوجب ان يكون الضمير مثل الظاهر في الاعراب ولا يتم ذلك في زيدا مررت به وزيدا ضربت غلامه وصححه المحقق الشارح الرضى طاب ثراه بأنه يمكن أن يقال : الضمير أو متعلقة بدل الكل من المنصوب المتقدم فالضمير في زيدا ضربته بدل من زيد وكذا الجار والمجرور في زيدا مررت به ، إذ المعنى جاوزته وكذا أخاه في زيدا ضربت أخاه بدل من زيد بحذف مضاف اى متعلق زيد ضربت وكذا في قولك زيدا ضربت عمروا في داره وزيدا لقيت عمروا أخاه بتقدير ملابس زيد ضربت وملابس زيد لقيت ، ثم بينت الملابس بقولك عمرا في داره فإنه ملابس زيد بكونه في دار زيد وبقولك عمرا أخاه فإنه ملابس زيد بكونه ملاقيا لك هو وأخو زيد وهناك أبحاث لا نطيل الكلام بذكرها.

بسطها (1) وجعلها مسكنا ومستقرا ومنتعشا للحيوان وإن كانت كرة عند بعضهم فذلك غير مناف لبسطها لأنّها لعظم جرمها لا ينافي بسطها كريتها.

2 - ( أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ) أي جبالا رأسيه أي ثابتة وعلّل أرباب الهيئة ذلك بأنّها كرة حاصلة في الماء وإنّما الطالع منها ربعها المسكون فلو كانت حقيقيّة (2) لم تثبت على وضع واحد لأنّ بعض أوضاعها ليس أولى من بعض فخلقت الجبال عليها لتخرجها عن كونها حقيقيّة وتثبت ولا تضطرب ، ولأنّ الجبال إذا ثبتت ثبتت الأرض بثباتها ولذلك سمّيت الجبال أوتادا على جهة الاستعارة فإنّ الوتد يوجب ثبات ما يربط به.

واعلم أنّه لا ينافي ذلك قولنا إنها ساكنة بفعل الفاعل المختار لأنّه تعالى قد يفعل بالسبب.

3 - المراد بالموزون (3) المعتدل أي أنبتنا فيها أنواعا من النبات كلّ نوع

ص: 3


1- ولحنفى احمد بيان مبسوط في بحث مد الأرض وتمهيدها وجعل وإلقاء الرواسي فيها ، تراه من ص 378 الى ص 421 من كتابه « التفسير العلمي للايات الكونية للقرآن » من أراد فليراجع.
2- نص : خفيفة.
3- وللعلامة آية اللّه الخويي مد ظله في مقدمة تفسيره « البيان » عند سرده وجوه الاعجاز للقرآن بيان في ص 45 ننقله بعين عبارته : « ومن هذه الأسرار التي كشف عنها الوحي السماوي وتنبه عليها المتأخرون ما في قوله تعالى ( وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ ) فقد دلت هذه الآية الكريمة على أن كل ما ينبت في الأرض له وزن خاص وقد ثبت أخيرا أن كل نوع من أنواع النبات مركب من اجزاء خاصة على وزن مخصوص بحيث لو زيد في بعض اجزائه أو نقص لكان ذلك مركبا آخر وأن نسبة بعض الاجزاء الى بعض من الدقة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقا بأدق الموازين المعروفة انتهى ما أردنا نقله من البيان. وللطنطاوى بيان مبسوط في شرح هذا البحث من ص16 - 22 من ج 11 من تفسيره الجواهر من أراد فليراجع.

منها معتدل باعتدال يختص به بحيث لو تغيّر لبطل ، والوزن عبارة عن اعتدال الأجزاء لا بمعنى تساويها فإنّه لم يوجد [ المعتدل الحقيقي ] بل بإضافته إلى ذلك النوع وما يليق به وأمّا اختلاف أنواع النبات فبحسب اختلاف أجزائها وكيفيّاتها وقال الحسن وابن زيد : المراد الأشياء التي توزن كالذّهب والفضّة والمعادن وليس بشي ء.

4 - إنّه جعل لنا فيها معايش أي أسباب معايش من أنواع الزرع والغرس فيضطربون فيها بالمزارعة والمساقاة والإجارة على الاعمال في ذلك والبيع للنبات وشرائه ، والاكتساب بسائر وجوهه السائغة وقياس « معايش » أن لا تهمز لأنّ الياء فيها أصليّة وإنّما تهمز الياء إذا كانت زائدة بعد ألف التكسير كصحائف ووسائل وعجائز ومن همزها على ضعف ، شبّهها بغيرها.

5 - قوله ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) الواو بمعنى مع نحو مالك وزيدا لامتناع العطف على المضمر المجرور (1) في « لكم » إلّا بعد إعادة الجارّ ، والمراد به

ص: 4


1- هذا على مذهب البصريين وهو من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين ذكره ابن الأنباري في المسئلة 65 من مسائل الخلاف من كتاب الانصاف ص 463 وترى البحث مبسوطا في الانصاف وشرح الرضى وشرح المفصل والحدائق الندية والتصريح وسائر الكتب الأدبية وكذلك في كتب التفسير عند تفسير الآية الاولى من سورة النساء. وخلاصة الكلام أن البصريين يقولون بعدم جواز العطف على الضمير المخفوض من دون اعادة الجار وعللوه بان ضمير الجر شبيه بالتنوين ومعاقب له فلم يجز العطف عليه كالتنوين وبأن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يصلحا لحلول كل واحد منهما محل الأخر وضمير الجر لا يصلح لذلك فامتنع إلا بإعادة الجار ولا يخفى عليك ما في تعليلهم فان شبه الضمير بالتنوين لو منع من العطف عليه لمنع من توكيده والبدل مع أن ذلك جائز بالاتفاق ولو كان الحلول شرطا في صحة العطف لم يجز « رب رجل وأخيه » لامتناع دخول « رب » على المعرفة ، والكوفيون ويونس واخفش والزجاج. يجوزونه ووافقهم الشلوبينى وصححه ابن مالك وأبو حيان وجرى عليه ابن هشام في بعض كتبه.قال ابن مالك وعود خافض لدى عطف على *** ضمير خفض لازما قد جعلا وليس عندي لازما إذ قد أتى *** في النظم والنشر الصحيح مثبتا وعلى كل فالحق مع الكوفيين فإنه قد جاء في التنزيل وكلام العرب قال اللّه عز من قائل ( وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ ) بخفض الأرحام ، وهو قراءة أحد القراء السبعة وهو حمزة الزيات ، وقراءة إبراهيم النخعي وقتادة ويحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش ورواية الأصفهاني والحلبي عن عبد الوارث وقراءة ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وابى رزين. وقال أيضا عز من قائل ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) سورة النساء الآية 127 فما في موضع خفض لانه عطف على الضمير المخفوض في « فيهن » ، وقال أيضا ( لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ » الآية 167 سورة النساء ، فالمقيمين في موضع خفض بالعطف على الكاف في « إليك » أو الكاف في « من قبلك ». وقول بعضهم : انه روى عثمان وعائشة انهما قالا « ان في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها » جرءة في الكلام والمصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول اللّه لا يمكن ثبوت اللحن فيه ، نعم لو جعلنا المقيمين عطفا على « ما » في « ما أنزل إليك » لكان متينا من القول وعليه فالمراد بالمقيمين الملائكة واهتمام الايات للايمان بالملائكة غير خفي وقال أيضا ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ » فعطف المسجد الحرام على الهاء في « به » ومن قال بكونه عطفا على سبيل اللّه فقد تولى محذور الفصل بين جزئي الصلة بأجنبي ومن جعله عطفا على الشهر الحرام فقد أفسد المعنى إذ لم يقع سؤال عن القتال في المسجد الحرام. وفي هذه الآية المبحوث عنها « من » في موضع خفض عطفا على الضمير المخفوض في لكم وقال الشاعر : فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا *** فاذهب فما بك والأيام من عجب أنشده سيبويه نفسه انظر الكتاب ج 1 ص 392 وأنشدوا أشعارا أخر لا نطيل الكلام بذكرها. ونقل قطرب « ما فيها غيره وفرسه » بجر فرسه. وقد أطنب المفسرون الكلام في هذه المسئلة عند تفسير الآية الاولى من سورة النساء والعجب من بعضهم حيث أورد على قراءة الجر بأنه يستلزم جواز الحلف بغير اللّه وأنت خبير بأن التساؤل بالأرحام ليس قسما بل المراد بالتساؤل قولهم سألتك باللّه وبالرحم وناشدتك باللّه وبالرحم كما نقله الطبري عن معمر عن الحسن ونقله الشيخ في التبيان عن إبراهيم النخعي وغيره انه من قولهم نشدتك باللّه وبالرحم وقد أفصح عن هذا البحث ابن تيمية ، انظر ص 334 - 338 من ج 4 تفسير المنار. ثم ان المصنف تفرد في التنبه بأن محل « من » في هذه الآية ان لم نجز الجر نصب على كونه مفعولا معه وأما الآخرون فجعلوا محلها نصبا بجعلنا أو بفعل محذوف تقديره وأعشنا كما في إعراب القرآن لابن البقاء ونقل في المجمع عن المبرد جواز كون موضعها رفعا لان الكلام قد تم ويكون التقدير « ويكون لكم فيها من لستم له برازقين » والأرجح ما تفرد المصنف بالتنبه له كما ذكره المعربون في « مالك وزيدا » إلا أنك قد عرفت عدم المانع من كون محلها خفضا.

ص: 5

الحيوانات (1) الّتي ليس الإنسان سببا لرزقها كالوحوش والطيور وحيوانات البرّ والبحر لا أنّ المراد العيال والخدم بمعنى أنّكم تحسبون أنّكم ترزقونهم بل اللّه يرزقهم لأنّ هؤلاء من جملة المخاطبين بقوله « جَعَلْنا لَكُمْ » وكون الرازق في الحقيقة هو اللّه لا يمنع من إطلاقه على من هو سببه فإنّ أكثر أفعاله بالأسباب ويجوز إسناد الفعل إلى السبب القريب والبعيد ولذلك سمّى سبحانه نفسه بخير الرازقين.

ص: 6


1- وعليه فالتعبير بمن مكان ما اما لان من وما يتقارضان معنييهما وقال اللّه : ومنهم من يمشى على بطنه واما على التشبيه بمن يعقل ونظيره قوله تعالى ( يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ) » بصيغة جمع العقلاء وقوله في الأصنام « فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي » وقوله تعالى ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) » ونظيره ( وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) » الآية 84 من سورة آل عمران على بعض الوجوه.

6 - أخبر سبحانه أنّه ما من شي ء من الأشياء الممكنة من جميع الأنواع إلّا وهو قادر على إيجاده فخزائنه كناية عن مقدوراته ومفتاح هذه الخزائن هي كلمة كن وكلمة كن مرهونة بالوقت فإذا جاء الوقت قال له كن فيكون وإنّما جمع خزائن مع أنّ إفرادها كان يفيد العموم لأنّ مقدوراته غير متناهية فلو أفرد لأوهم تناهيها.

7 - إنّه وإن كان كلّ شي ء عنده خزائنه وهو كريم ونحن محتاجون إليه لكن أفعاله على حسب المصالح وعدم المفاسد ، ولذلك اختلف الناس في بسط الرزق وتقديره لجواز كون الرزق وبسطه مصلحة لشخص دون آخر كما ورد في الحديث القدسيّ « إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك (1).

الثانية ( وَلَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) (2)

« مَكَّنّاكُمْ » أي حكّمناكم « وقليلا » منصوب على التميز (3) وهي كالّتي

ص: 7


1- الكافي
2- الأعراف : 9
3- هذا مما تفرد بالتنبه له المصنف حيث جعل نصب قليلا في أمثال هذا التركيب : فقليلا ما يؤمنون ( البقرة الآية 88 ) قليلا ما تذكرون ( الآية 3 سورة الأعراف ) قليلا ما تشكرون هذه الآية على التمييز ، وعلامة صحة كون الكلمة تمييزا صحة جعله فاعلا عند إضافته الى ما هو فاعل في اللفظ مثلا يصح في « طاب زيد نفسا » أن تقول طاب نفس زيد ويصح في الآية ان تقول يشكر قليلكم وكذا في الايات الأخر يؤمن قليلكم ويتذكر قليلكم ، وعندي ان ما صنعه المصنف من جعل نصب قليلا على التميز أمتن وأنسب مما صنعه غيره ، من كونه صفة لمفعول مطلق محذوف ، أى شكرا قليلا ، أو ظرف محذوف اى زمانا قليلا لوضوح كون المراد ان المؤمن والشاكر والمتذكر منهم قليل لا أنهم يؤمنون ايمانا قليلا أو في زمن قليل. نعم يرد على المصنف انه جعل ابن هشام في المغني في الباب الرابع رابع الوجوه. مما افترق فيه الحال والتميز أنه لا يقدم التميز على عامله ، والجواب أنه جوز التقديم أساطين الأدب كالكسائى والمبرد والمازني وابن مالك وتأول المانعون ما استشهد به المجوزون مثل : « أنفسا تطيب بنيل المعنى ». « وما ارعويت ورأسي شيبا اشتملا » و « إذا المرء عينا قر بالعيش مشريا » بكون التميز للفعل المقدر المفسر بالمذكور قلنا وهذا التأويل بعينه جار في الايات. وذكر أبو الفتوح الرازي احتمال كون النصب على الحال وذكر معمر كونه بنزع الخافض.

قبلها في الامتنان ، وجعل أسباب المعيشة كلّها في الأرض ظاهر لمن تدبّره.

الثالثة ( يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (1)

مفعول « كُلُوا » محذوف أي كلوا شيئا ومن في « مِمّا » للتبعيض و « حَلالاً طَيِّباً » صفتان للمفعول المحذوف وقيل حالان منه ، وأريد بالطيّب ما يكون بالنسبة إلى الطبع وإلّا لكان ترادفا والأصل عدمه « وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ » أي لا تقتدروا به في تناول المحرمات وفي الآية دلالة على إباحة ما علمت إباحته.

قيل : وفيه دلالة على إباحة أكل ما يمر به الإنسان من الثمرة إذا لم يقصده ولم يحمل معه شيئا ولم يعلم كراهية المالك. وفيه نظر لأنّا بيّنّا أنّها تدلّ على إباحة ما علم إباحته لا ما لم يعلم إباحته فلو جعل دليلا على إباحة ما ذكر لكان مصادرة على المطلوب.

فإن قيل : إنّه علم بالبيان من النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام إباحة ذلك قلنا يكون ذلك هو الدليل لا الآية مع أنّا نقول : الأولى عدم جواز أكل ما ذكر من الثمرة لأصالة عصمة مال المسلم إلّا عن طيب نفس منه وما ورد من أخبار الآحاد الموهمة لا يعارض ذلك وسبب نزول الآية أن قوما حرّموا على أنفسهم أشياء من المباحات اللّذيذة زهدا فنزلت (2).

ص: 8


1- البقرة : 168.
2- راجع مجمع البيان ج 1 ص 252.

الرابعة ( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ) (1).

« من » للبيان والطيّب الحلال وفيه دلالة على إباحة التكسّب وطلب الرزق وأن لا يشتمل على الطغيان إمّا بتجاوز الحدود الشرعيّة في جهات التكسّب وإمّا في حالات المكتسب بعد حصول المال له ، من منع الفقراء حقوقهم والتكبّر عليهم واستشعار الفخر والتجبّر كما قال اللّه تعالى « إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى » (2) وقرئ يحلّ بضمّ الحاء أي ينزل وبكسرها من الحلال أي الحلال العقليّ وقيل : بمعنى الوجوب من قولهم حلّ الدّين أي وجب أداؤه و « هوى » أي سقط والمراد لازم السقوط وهو الهلاك.

الخامسة ( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) (3).

« مُبارَكاً » كثير المنافع « وَحَبَّ الْحَصِيدِ » من باب إضافة الموصوف إلى صفته كبقلة الحمقاء والمراد به الحنطة والشعير وما شابههما من [ الخضراوات ] المحصودات « باسِقاتٍ » أي طوالا وقيل : حوامل من قولهم بسقت الشاة إذا حملت والنضيد بمعنى المنضود أي بعضه فوق بعض و « رِزْقاً » منصوب على المفعول له وهو علّة لأنبتنا أو مصدر والبلدة الميتة أي المجدبة وفي الآية دلالة على أنه خلق هذه الأشياء لأجل انتفاع العباد بها بسائر وجوه الانتفاعات فتكون مباحة لهم إلّا ما ورد النهي عن استعماله.

السادسة ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا

ص: 9


1- طه : 81.
2- العلق : 6.
3- ق : 11.

مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (1).

« ذَلُولاً » أي لينة يسهل لكم السلوك فيها و « مَناكِبِها » جبالها أو جوانبها وهو مثل لفرط التذلّل فإنّ منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب ولا يتذلّل له فإذا جعل الأرض في الذلّ بحيث يمشي في مناكبها لم يبق شي ء منها لم يتذلّل وفي الآية دلالة على جواز طلب الرزق خلافا للصوفية حيث منعوا من ذلك لاشتماله على مساعدة الظلمة بإعطاء التمغاء والباج وهو جهل منهم فإنّ ذلك الإعطاء غير مقصود بالذات بل لو أمكن المنع لما أعطوا شيئا وفي الحديث أنّه لمّا نزل « وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ » (2) انقطع رجال من الصحابة في بيوتهم واشتغلوا بالعبادة وثوقا بما ضمن اللّه لهم فعلم النبيّ صلى اللّه عليه وآله بذلك فعاب عليهم ذلك وقال : إنّي لأبغض الرجل فاغرا فاه إلى ربّه يقول اللّهمّ ارزقني ويترك الطلب » (3).

ثمّ طلب الرزق ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة واجب وهو ما اضطرّ الإنسان إليه ولا جهة له غيره ، وندب وهو ما قصد به زيادة [ في ] المال للتوسعة على العيال وإعطاء المحاويج والافضال على الغير ، ومباح وهو ما قصد به جمع المال الخالي عن جهة منهيّ عنها ، ومكروه وهو ما اشتمل على ما ينبغي التنزه عنه ، وحرام وهو ما اشتمل على وجه قبح.

وفي طلب الحلال للعود على العيال أجر عظيم قال النبي صلى اللّه عليه وآله : « الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه (4) ».

ص: 10


1- الملك : 15.
2- الطلاق : 3.
3- أخرجه في المستدرك عن غوالي اللئالي ج 2 ص 415.
4- الكافي ج 5 ص 88.

القسم الثاني : في البحث عن أشياء يحرم التكسب بها أشير إليها في القرآن

وفيه آيات :

الاولى ( قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (1).

أي خزائن أرض مصر واللّام للعهد لأنّه لم [ يكن ] يملك سواها. لمّا قال له الملك « إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ » فوصفه بوصفين صالحين للولاية ، وجد فرصة للسؤال فسأل الولاية وقال « إِنِّي حَفِيظٌ » أي حافظ لما تستحفظنيه « عَلِيمٌ » أي عالم بوجوه التصرفات.

واستدلّ الفقهاء بهذه الآية على جواز الولاية من قبل الظالم إذا عرف المتولّي من حال نفسه وحال المنوب [ عنه ] أنّه يتمكّن من العدل ولا يخالفه المنوب عنه كحال يوسف عليه السلام مع ملك مصر ، والّذي يظهر لي أنّ نبيّ اللّه أجل قدرا من أن ينسب إليه طلب الولاية من الظالم وإنّما قصد إيصال الحقّ إلى مستحقّه لأنه وظيفته.

واعلم أنّ الولاية تنقسم أقساما : الأوّل : أن تكون من قبل الامام العادل إلزاما فيجب قبولها الثاني : أن يأمره لا إلزاما فيستحب قبولها الثالث : أن لا يأمره بها ويكون مستعدّ لها وليس هناك مستعدّ سواه ولم يعلم به الامام فيستحبّ طلبها الرابع : الفرض بحاله ويكون هناك مستعدّ آخر فيباح طلبها ولا يستحبّ لجواز أن لا يكون صالحا لها من جهة لا يعلمها الخامس : أن لا يكون مستعدّا [ لها ] ولم يأمره الإمام بها فيكره له طلبها بل قد يحرم للزوم القبح لو ولّاه أو العبث إن لم يولّه ، السادس الولاية من قبل الجائر ولم يتمكّن من العدل ولم يلزمه بها فيحرم

ص: 11


1- يوسف : 55.

طلبها ، السابع : الفرض بحاله ويتمكّن من العدل فيباح طلبها ولا يستحبّ الثامن : الفرض بحاله وألزمه إلزاما يخشى بمخالفته الضرر فيجب قبولها ، التاسع : الفرض بحاله ولم يخش الضرر بالمخالفة فيستحب قبولها العاشر : الفرض بحاله ولم يتمكّن من العدل وألزمه إلزاما يخشى الضّرر الكثير بالمخالفة فيباح إلّا في قتل غير سائغ فيحرم إذ لا تقيّة في الدماء ، ولو كان الضرر يسيرا ولم يستلزم الحكم قتلا كره قبولها.

الثانية ( سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ) (1).

روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّ السّحت هو الرشوة في الحكم وعن عليّ عليه السلام هو الرشوة في الحكم ومهر البغيّ وكسب الحجّام وعسيب الفحل وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستعمال (2) في المعصية وعن الصادق عليه السلام [ أنّ ] السحت أنواع كثيرة فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه (3) وهنا فوائد :

1 - حاصل تفسير السحت أنّه كل ما لا يحل كسبه ، واشتقاقه من السّحت وهو الاستئصال يقال : سحته وأسحته أي استأصله وسمّي الحرام به لأنه يعقّب عذاب الاستئصال وقيل لأنّه لا بركة فيه وقيل لأنه يسحت مروءة الإنسان.

2 - لمّا كان الرشا في الحكم يجمع عدّة قبائح فإنّه يأخذه بقصد إبطال الحقّ فيستلزم ذلك الكذب على اللّه وعلى رسوله ، والعمل بشهادة الزور ، وأخذ المال من مستحقّه وإعطاؤه غير مستحقّه ، وسماع شهادة الفسّاق ، والخيانة لله ولرسوله وعدم المروّة ، ومخالفة حسن الظنّ ممّن احتكم إليه ، وغير ذلك فلذلك فسّر عليه السلام السحت بالرّشوة.

ص: 12


1- المائدة : 45.
2- الاستكتاب خ ل ، الاستكساب خ ل ، وفي المجمع : الاستجعال.
3- الكافي ج 5 ص 126 ، مجمع البيان ج 3 ص 196.

3 - دافع الرشوة إن توصّل بها إلى باطل فهو كآخذها في فعل الحرام وإن توصّل بها إلى حقّ لا يمكنه تحصيله إلّا به فليس فاعلا للحرام وأمّا آخذها فهو فاعل حرام سواء حكم بحقّ أو بباطل للدافع أو عليه.

4 - القاضي إذا لم يوجد غيره في البلد ممّن يقوم بوظيفته يتعيّن عليه القضاء ويكون بالقضاء مؤديا للواجب فلا يجوز أخذ الأجرة على ذلك وهل يجوز لهذا أخذ الرزق من بيت المال فنقول : إن كان ذا كفاية فلا وإلّا جاز.

5 - إن لم يتعيّن عليه القضاء فلا يجوز [ أخذ ] الأجرة [ عليه ] أيضا فإن كان ذا كفاية فالأفضل له ترك الرزق من بيت المال وإن لم يكن جاز لأنه من المصالح.

الثالثة ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).

يستدلّ بهذه الآية على تحريم أجر الزانية وكان ذلك سنة في الجاهليّة ولذلك كان سبب نزولها أنّ عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين كان له جوار يكرههنّ على الزنى ويضرب عليهنّ ضرائب فاشتكت منهنّ اثنتان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت الآية (2) وهنا فوائد :

1 - أجر الزانية حرام سواء كانت حرّة أو أمة مكرهة أو غير مكرهة للإجماع على ذلك.

2 - التحريم شامل للزانية وغيرها ممّن يعلم ذلك وإلّا فلا ، نعم يكره معاملة من هذه سيرتها.

3 - تحريم الإكراه مع إرادة التحصّن خرج مخرج الغالب ولعدم تحقق الإكراه بدون الإرادة وإلّا فالإكراه مطلقا حرام سواء أردن التحصّن أو لم يردن وسواء كان لطلب عرض الدّنيا أو لا.

ص: 13


1- النور : 33.
2- مجمع البيان ج 7 ص 141.

4 - قوله « فَإِنَّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ » أي لهنّ لأنّهنّ مكرهات والإكراه رافع للإثم كما قال صلى اللّه عليه وآله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه (1) » ولذلك قرأ عبد اللّه بن عباس « فانّ اللّه لهنّ غفور رحيم » وأمّا المكرهون فهم أيضا مغفورون عند الوعيديّة مع التوبة وعندنا يجوز لا معها تفضّلا من اللّه لمن يشاء.

الرابعة والخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) (2).

هاتان آيتان اشتملتا على محرمات وهي آخر آية نزلت في شأن الخمر (3) وقد أكد التحريم في الآية بتسعة أمور الأوّل : تصديرها بانّما المؤكّدة الثاني : ضم

ص: 14


1- السراج المنير ج 2 ص 317.
2- المائدة : 91 و 90.
3- قال الابشيهى في المستطرف ج 2 ص 229 الباب الرابع والسبعون في تحريم الخمر وذمها والنهي عنها : قد انزل اللّه في الخمر ثلاث آيات الاولى قوله تعالى : ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ ) الآية فكان من المسلمين من شارب وتارك الى أن شرب رجل فدخل في الصلاة فهجر فنزل قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها حتى شربها عمر فأخذ بلحى بعير وشج به رأس عبد الرحمن بن عوف ثم قعد ينوح على قتلي بدر بشعر الأسود بن يعفر يقول : وكائن بالقليب قليب بدر *** من الفتيان والعرب الكرام أيوعدني ابن كبشة أن سنحيى *** وكيف حياة أصداء وهام أيعجز ان يرد الموت عنى *** وينشرنى إذا بليت عظامي الا من مبلغ الرحمن عين *** بأني تارك شهر الصيام فقل لله يمنعني شرابي *** وقل لله يمنعني طعامي فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فخرج مغضبا يجر رداءه فرفع شيئا كان في يده فضربه به ، فقال : أعوذ باللّه من غضبه وغضب رسوله فانزل اللّه تعالى ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فقال عمر : انتهينا انتهينا. وذكر القصة في تفسير البرهان ص 498 عند تفسير الآية نقلا عن الزمخشري في ربيع الأبرار مع تفاوت في نقل الاشعار ونظيره ما في تفسير الطبري مع تغيير في الاشعار عند تفسير الآية 219 من سورة البقرة ج 2 ص 362 وفيه مكان عمر في الموضع الأول رجل. وفي تيسير الوصول ج 1 ص 121 وعن عمر بن الخطاب انه قال : اللّهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت التي في البقرة ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) فدعى عمر فقرئت عليه فقال : اللّهم بين لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت التي في النساء ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) الآية ، فدعى عمر فقرئت عليه فقال اللّهم بين لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت التي في المائدة ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فدعى عمر فقرئت عليه فقال انتهينا انتهينا ، أخرجه أصحاب السنن ومثله ما في تفسير الطبري والرازي والخازن والدر المنثور وغيرها في تفسير احدى آيات تحريم الخمر والظاهر مما يرى في كثير من كتب أهل السنة أن عمر مع ذلك لم ينته : ففي أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 565 عن الشعبي عن سعيد وعلقمة أن أعرابيا شرب من شراب عمر ، فجلده عمر الحد ، فقال الأعرابي انما شربت من شرابك فدعا عمر شرابه فكسره بالماء ثم شرب منه وقال من رابه شي ء فليكسر بالماء. قال ورواه إبراهيم النخعي عن عمر نحوه وقال انه شرب منه بعد ما ضرب الأعرابي وفيه أيضا حدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال شهدت عمر بن الخطاب حين طعن وقد أتى بالنبيذ فشربه وفي العقد الفريد ج 4 ص 339 عن الشعبي : شرب أعرابي من إداوة عمر فأغشى فحده عمر وانما حده للسكر لا للشرب. وفي جامع مسانيد الإمام الأعظم للخوارزمي ج 2 ص 192 عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم ان عمر بن الخطاب اتى بأعرابي قد سكر فطلب له عذرا فلما أعياه قال : فاحبسوه فان صحا فاجلدوه ، ودعا عمر بفضله ودعا بماء فصبه عليه فكسره ثم شرب وسقى جلساءه ثم قال : هكذا فاكسروه بالماء إذا غلبكم شيطانه ، قال : وكان يحب الشراب الشديد. قال وأخرجه الحافظ الحسين بن محمد خسرو في مسنده عن ابى القاسم أحمد بالإسناد السابق الى ابى حنيفة وأخرجه الإمام محمد بن الحسن في الآثار فرواه عن الإمام أبي حنيفة وأخرجه الحسن بن زياد في مسنده عن أبي حنيفة. وفي الجوهر النقي لابن التركمانى ج 2 ص 192 في مصنف عبد الرزاق ثنا جريح خبرني إسماعيل ان رجلا عب في شراب منبذ لعمر بطريق المدينة فسكر فتركه عمر حتى أفاق فحده ثم أوجعه عمر بالماء فشرب منه وفي سنن النسائي ج 8 ص 326 : ومما احتجوا به فعل عمر بن الخطاب : أخبرنا سويد قال أنبأنا عبد اللّه عن السري بن يحيى قال حدثنا أبو حفص امام لنا وكان من أسنان الحسن عن ابى رافع أن عمر بن الخطاب قال : إذا خشيتم من نبيذ شدته فاكسروه بالماء ، قال عبد اللّه من قبل أن يشتد ، ثم ذكر حديثا أخرجه يحيى بن سعيد : سمع سعيد بن المسيب يقول : تلقت ثقيف عمر بشراب فدعا به فلما قربه الى فيه كرهه فدعا به فكسره بالماء فقال : هكذا فافعلوا. وذكر في تفسير المنار رواية نحوه عن البيهقي. ثم تأوله صاحب المنار ج 7 ص 96 بان المراد كسر النبيذ بالماء إذا أخذ في الاشتداد والتغيير خشية أن يصير مسكرا ، قال : ويمكن أن يحمل على هذا التفسير كل ما ورد في الاشتداد على طريقة العرب في التعبير بالفعل عن قرب وقوعه. قلت : وهذا التأويل لا يتم فيما سردناه قبيل ذلك ، وقد تنبه ابن التركمانى لهذا عند الكلام في تأويل البيهقي نظير ما ذكره في المنار وقال بعد ذكر ما في مصنف عبد الرزاق : فقوله « فسكر » يضعف تأويل البيهقي ولا يمكنهم القول بان اسم الخمر عنده كان مختصا بما يؤخذ من العنب فإنه هو الذي صعد المنبر وقال : اما بعد ايها الناس انه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل. نقل في المنتقى كما في نيل الأوطار ج 8 ص 180 وقال انه متفق عليه ونقل الشوكانى في شرحه عن الفتح انه قال هذا الحديث أورده أصحاب المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة لأن له عندهم حكم الرفع لانه خبر صحابي شهد التنزيل وأخبر عن سبب وقد خطب به عمر على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن احد منهم إنكاره وأراد عمر بنزول تحريم الخمر نزول قوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) الآية فأراد عمر التنبيه على ان المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصا بالمتخذ من العنب بل يتناول المتخذ من غيره. انتهى. وقد ورد عن النبي صلى اللّه عليه وآله : ما أسكر قليله فكثيرة حرام. وما أسكر منه الفرق فمل ء الكف منه حرام. انظر سنن ابى داود الرقم 3681 و 3687 ونقل في تيسير الوصول ج 2 ص 163 عن الترمذي : فالحسوة منه حرام. قال : الفرق بفتح الراء وسكونها إناء واسع يسع ستة عشر رطلا والحسوة الجرعة من الماء ، وسيوافيك تتمة الكلام منافي البحث في كتاب الأطعمة والأشربة.

ص: 15

ص: 16

الخمر إلى الأصنام في وجوب اجتنابها الثالث : تسميتها رجسا الرابع : جعلها من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلّا الشرّ الخامس : أنه أمر باجتنابها الشامل لجميع أوصافها السادس : أنه جعل الاجتناب موجبا للفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الركون إليه خيبة السابع : أنه ذكر ما ينتج منها وهو العداوة والبغضاء. الثامن : أنها تصدّ عن ذكر اللّه والصلاة التاسع : إنّ فيه وعيدا بقوله ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) ؟ وهو مبالغة في الوعيد والتهديد وهو أبلغ من « انتهوا » عرفا وسيأتي في الخمر مزيد كلام. والضمير في « فَاجْتَنِبُوهُ » يعود إلى « الرّجس » أو إلى « عمل الشيطان » وعمل الشيطان أعمّ من الرجس والرجس أعمّ من الخمر والميسر والنهي عن العامّ يستلزم النهي عن الخاصّ وإنّما خصّ العداوة والبغضاء بالخمر والميسر ، لأنّ الخمر موجب لزوال العقل والميسر موجب لزوال المال وزوال العقل والمال موجبان للعداوة والبغضاء بخلاف الأنصاب والأزلام فإنّهما يوجبان سخط اللّه والنار لا العداوة بين العابدين إذا عرفت هذا فهنا أحكام :

1 - يحرم التكسّب بالخمر وسائر المسكرات (1) فانّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه كما قال صلى اللّه عليه وآله « لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها » (2).

ص: 17


1- المذكورات ، خ ل.
2- المستدرك ج 2 ص 452.

وكذا الأجرة على عمل يتعلّق بها من حمل أو عصر أو سقي أو غير ذلك « روى جابر أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لعن الخمر وشاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها فقام إليه أعرابيّ فقال يا رسول اللّه إنّي كنت رجلا هذه تجارتي فحصل لي من بيع الخمر مال فهل ينفعني المال إن عملت به طاعة؟ فقال صلى اللّه عليه وآله : « لو أنفقته في حجّ أو جهاد لم يعدل عند اللّه جناح بعوضة إنّ اللّه لا يقبل إلّا الطيّب فنزل « قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) (1) ».

2 - « الميسر » هو القمار بسائر أنواعه كالنرد والشطرنج قاله جل المفسّرين وهو المرويّ عن أهل البيت عليهم السلام حتّى قالوا : إنّ لعب الصبيان بالجوز من القمار فيحرم التكسّب به وعمل آلاته وبيعها والجلوس على مجلس يكون فيه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « اللّاعب بالنرد شير كمن غمس يده في لحم الخنزير ودمه » (2) وقال الصادق عليه السلام « اللّعب بالشطرنج شرك والسلام على اللّاهي به معصية (3) » ولا خلاف في تحريم النرد (4) وكذا الشطرنج إلّا ما نقل عن بعض الشافعيّة من جوازه إلّا حال إلهائه عن الصلاة.

3 - « الأنصاب » قيل هي الأصنام الّتي كانوا يعبدونها ويحرم أيضا التكسّب بعملها وبيع الخشب وشبهه ليعمل صنما قال الشيخ : وكذا يحرم بيعه على من عهد منه عملها وكذا بيع العنب على من يعمل الخمر والمشهور كراهية ذلك إلّا مع الشرط فيحرم.

4 - « الأزلام » جمع زلم بفتح الزاء وضمّها كحمل وصرد وهي قداح لا ريش لها ولا نصل كانوا يتفاءلون بها في أسفارهم وأعمالهم مكتوب على بعضها أمرني ربّي وعلى بعضها نهاني ربّي وبعضها غفل لم يكتب عليها شي ء فإذا أرادوا أمرا أجالوا تلك القداح فان خرج الّذي عليه أمرني ربّي مضى الرجل لحاجته وإن

ص: 18


1- المائدة : 103 ، راجع. المستدرك ج 2 ص 426.
2- سنن ابى داود ج 2 ص 582 والنرد منسوب الى أردشير من ملوك العجم ولذلك قيل نرد شير.
3- الوسائل أبواب ما يكتسب به باب 103 ح 4.
4- نص : تحريم الخمر.

خرج الّذي فيه النهي لم يمض وإن خرج ما ليس عليه شي ء أعادوها.

هذا قول جماعة من المفسّرين.

ونقل عليّ بن إبراهيم عن الصادق (1) عليه السلام أنّها عشرة سبعة لها أنصباء وثلاثة لا أنصباء لها فالسبعة هي الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلّى ، فالفذ له سهم والتوأم له سهمان والرقيب له ثلاثة والحلس له أربعة والنافس له خمسة والمسبل له ستّة والمعلّى له سبعة والثلاثة الباقية هي السفيح والمنيح والوغد ، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّؤنه أجزاء ثمّ يجتمعون عليه

ص: 19


1- لم أجد الرواية من طريق على ابن إبراهيم عن الصادق عليه السلام وانما هي عن الباقر عليه السلام انظر البرهان ص 433 عند تفسير الآية 3 من سورة المائدة ج 2 ونظيره ما رواه في التهذيب والفقيه عن أبى جعفر محمد بن على الرضا صلوات اللّه عليه تراه في البرهان الحديث 1 وفي الوافي ص 17 من الجزء 15 الباب 12 الاضطرار إلى الميتة. ثم ان ترتيب القداح التي لها أنصباء في رواية التهذيب والفقيه : الفذ ، والتوأم والنافس ، والحلس ، والمسبل ، والمعلى ، والرقيب. وفي رواية على بن إبراهيم على ما في البرهان : الفذ ، والتوأم ، والمسبل ، والنافس ، والحلس ، والرقيب ، والمعلى. والمذكور في تفسير فتح القدير للشوكانى عند تفسير الآية 219 سورة البقرة في ترتيب ما له أنصباء : الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، والنافس ، والمسبل والمعلى. ومثله ما في بلوغ الارب للالوسى ج 3 ص 58 وتاريخ اليعقوبي ج 1 ص 259 ط بيروت. وعلى كل فالفذ بفتح الفاء بعدها معجمه مشدودة والتوأم بفتح المثناة الفوقانية وسكون الواو وفتح الهمزة والحلس بمهملتين الاولى مكسورة واللام ساكنة والنافس بالنون والفاء والمهملة ، ويقال : النافر بالراء المهملة مكان السين. والمسبل بضم الميم وسكون المهملة وفتح الباء الموحدة. والمعلى بضم الميم وفتح المهملة وتشديد اللام المفتوحة. وفي الوافي بسكون العين. والرقيب على وزن فعيل وكذا السفيح والمنيح ، والأول بالسين والحاء المهملتين والثاني بالنون والحاء المهملة والوغد بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة. وزاد في فتح القدير على ما لا أنصباء لها : الضعف بالمعجمة بعدها مهملة ثم فاء. وجعل السهام أحد عشر.

فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل ، وثمن الجزور على من لم يخرج له شي ء من الغفل وهو القمار.

ونقل الزمخشريّ أنّهم كانوا يجعلون الأجزاء عشرة وقيل ثمانية وعشرون ولا شي ء للغفل ومن خرج له سهم من ذوات الأنصباء أخذ ما سمّى له ذلك القدح وكانوا يدفعون ذلك إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئا ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل معهم فيه ويسمّونه البرم وقد جمع بعض الفضلاء (1) أسماء القداح في أبيات وهي هذه شعر :

هي فذّ وتوأم ورقيب *** ثمّ حلس ونافس ثمّ مسبل

والمعلّى والوغد ثمّ سفيح *** ومنيح وذي الثلاثة تهمل

ولكلّ ممّا عداها نصيب *** مثله أن تعدّ أوّل أوّل

إذا عرفت هذا فاعلم أنه تعالى حرم العمل بهذه الأزلام أما على الأوّل فلأنّه نوع من التكهّن من غير إذن من اللّه فيه وأما القرعة الشرعيّة (2) كما نقل

ص: 20


1- نسبها في بلوغ الارب ج 3 ص 58 الى ابن الحاجب وذكر جمعها في تفسير المنار في أبيات أخر عند تفسير الآية 219 سورة البقرة ج 2 ص 325. كل سهام الياسرين عشرة *** فأودعوها صحفا منشرة لها فروض ولها نصيب *** الفذ والتوأم والرقيب والحلس يتلوهن ثم النافس *** وبعده مسبلهن السادس ثم المعلى كاسمه المعلى *** صاحبه في الياسرين الأعلى والوغد والسفيح والمنيح *** غفل فما فيها يرى ربيح وجمعها على بن محمد الهمداني على ما ذكره الآلوسي في بلوغ الارب في بيتين هكذا : يلي الفذ منها توأم ثم بعده *** رقيب وحلس بعده ثم نافس ومسبلها ثم المعلى فهذه السهام *** التي دارت عليه المجالس
2- حكم القرعة ثابت بالكتاب والسنة والإجماع : أما الكتاب فقد قال اللّه تعالى ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) وقال عز من قائل : ( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) . ( أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) تدل الآيتان على ثبوت القرعة في الشرائع السابقة في الجملة وقد ثبت أنه يعمل بما ثبت في الشرائع السابقة ما لم يعلم نسخه وعليه ابتناء مسائل في الفروع الفقهية يستفاد حكمها بما ثبت في الشرائع السابقة : مثل استفادة وجوب نية الإخلاص في الواجب من قوله ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ومثل استفادة جواز الجهالة في الجعالة وجواز الضمان ما لم يجب من قوله حكاية عن مؤذن يوسف عليه السلام « وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ » ومثل استفادة رجحان التعفف على التزويج من قوله حكاية عن يحيى ( وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ ) حيث دل على مدح يحيى بكونه حصورا أى ممتنعا عن مباشرة النسوان ومثل استفادة جواز بر اليمين على ضرب المستحق مائة بالضرب بالضغث من قوله تعالى ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) ومثل استفادة حكم من قلع عين ذي العين الواحدة من قوله ( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ) ومثل استفادة حكم من جعل عمله صداق المرأة من قوله تعالى حكاية عن شعيب ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) وان كان استفادة تمام الأحكام المذكورة من الايات محل تأمل ليس هنا محل البحث عنها. واما السنة فقد سرد المحقق النراقي في كتاب عوائد الأيام نيفا وأربعين حديثا فيها الصحاح والحسان والموثق فلا وجه لما ذكره في القوامع ص 509 من الحكم بضعفها وترى أحد وعشرين حديثا في كتاب الوسائل الباب 13 من كتاب القضاء أبواب كيفية الدعوى وأحاديث أخر في سائر الأبواب. واما الإجماع ، فقال الشيخ في الخلاف ج 2 ص 638 مسئلة تعارض البينتين : إجماع الفرقة على ان القرعة تستعمل في كل أمر مجهول مشتبه وجعلها في ص 645 مسئلة تداعى الرجلين في ولد من مقتضيات مذهبنا ، وقال الشهيد في كتاب القواعد ص 273 : ثبت عندنا قولهم : « كل أمر مجهول فيه القرعة ». ولا يبقى للفقيه عند تتبع الفتاوى شك في كون العمل بالقرعة من الأصول الشرعية في المجهولات ، فقد عمل بها الأصحاب باتفاق أو خلاف في أئمة الجماعة مع عدم المرجح. وفي اشتباه القبلة عند ابن طاوس. وفي قصور المال عن الحجتين الإسلامية والنذرية. وفي إخراج الواحد من المحرمين للحج نيابة ، وفي اختلاط الموتى في الجهاد. وفي تزاحم الطلبة عند المدرس والمستفتى. أو المترافعين الى المجتهد مع عدم السابق وفي القسمة. وفي التزاحم على مباح أو مشترك كمعدن أو رباط مع عدم قبوله القسمة. وفي المأذونين في شراء كل منهما صاحبه وفي صورة تساوى بينتي الخارجين. وفي تلف واحد من دراهم أحدهما لواحد والباقي للآخر وديعة. وفي تنازع صاحب العلو والسفل في السقف المتوسط. وفي الخزانة التي تحت الدرج. وفي بينتي المتزارعين إذا تعارضا في المدة والحصة. وفي الوصية بالمشترك اللفظي وبالثلث من العبيد أو العدد المبهم وفي الوصية بما لا يسعه الثلث مع العلم بالترتيب والشك في السابق أو مع الشك في السبق والاقتران وفي ابتداء قسمة الزوجات وفي حق الحضانة. وفي إخراج المطلقة مطلقا أو إذا مات ولم يعين وفي إخراج المنذور عنقه بقوله أول ما تلده فولدت جماعة. وفي إخراج مقدار الثلث مع تعدد المدبر. وفي المتداعيين في الالتقاط أو في بنوة اللقيط. أو في الإقرار. وفي تساوى البينتين في اللقطة ، وفي اشتباه موطوء الإنسان. وفي تعدد السيف والمصحف في الحبوة. وفي ميراث الخامسة مع المشتبهة بالمطلقة. وفي ميراث الخنثى على قول ومن ليس له فرج على الأشهر. وغير ذلك مما لا يبقى شك في كونها في الجملة متفقا عليه فاللازم صرف عنان الكلام في عموم حجيتها وضبط مواردها ولا يعجبني اعراض متأخري المتأخرين عن البحث عنها استنادا الى عدم عمل الأصحاب ، كما ترى في أواخر بحث الاستصحاب من الفرائد للعلامة الأنصاري قدس سره ، واقتفى أثره المحقق الخراساني في الكفاية والعلامة الحائري في درر الفوائد قدس سرهما وعلى كل فنقول : المضبوط في معاقد الإجماع كما في الخلاف والقواعد وبعض الروايات كالحديث العاشر من روايات الوسائل عن ابن بابويه والسابع عشر عن النهاية ب 13 من كتاب القضاء أبواب كيفية الدعوى : « ان القرعة لكل أمر مجهول » وكذا الحديث المتداول في السنة الفقهاء « ان القرعة لكل أمر مشكل أو مشتبه » وان لم أظفر على مستند له. بل يستفاد العموم من كثير من روايات القرعة وان لم يكن اللفظ فيها أنها لكل أمر مجهول كمرسلة الفقيه ح 12 من ب 13 من قضاء الوسائل وفيها ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم الى اللّه الا خرج سهم المحق ، وقال : اى قضية أعدل إذا فوض الأمر الى اللّه ، وكذا المستفاد من رواية ابن هلال ح 4 من الباب 4 من أبواب ميراث الغرقى والمهدوم عليهم وجواب زرارة للطيار وصحيحة أبي بصير ومرسلة عاصم ح 4 و 5 من ب 13 من أبواب كيفية الدعوى ، فان فيها مضمون ان كل قوم فوضوا أمرهم الى اللّه خرج سهم المحق ، والظاهر من كلها ان كل مقام فرض فيه اختلاف في شي ء إذا أقرع فيه فعلى اللّه ان يبين فيه الواقع ويحكم بالعدل ومقتضاها كون القرعة مميزة بين الحق والباطل بجعل الحكيم على الإطلاق. وكل ما كان كذلك فهو حجة ولا اختصاص بالمتنازعين إذ في كل اختلاف فهناك محق ومبطل يتميزان بمقتضى الروايات المذكورة بالقرعة. ويكفي في حجية هذه العمومات تلقى الأصحاب لها بالقبول وتمسكهم في الموارد التي عددناها ويظهر من تعليلاتهم كون هذه العمومات مظنونة الصدور عندهم بل مقطوعا بها في الجملة. ثم نقول : المراد من المشكل والمشتبه على ما هو المتداول في الألسنة والمجهول على ما هو مورد النص أمر واحد وهو كونه من حيث هو كذلك بمعنى كون الشي ء مشتبها ومجهولا مطلقا لا سبيل الى رفع ذلك بطريق معتبر شرعا حتى يكون مخرجا للحكم في تلك الواقعة وبالخلاصة كون حكم الشي ء مجهولا ومشتبها واقعا وظاهرا فمتى كان له سبيل لم يكن من مورد القرعة في شي ء وعليه فلا ريب ان شبهة الحكم ليست داخلة تحت المشكل والمجهول المذكور في رواية القرعة إذ لا إشكال في الأحكام الشرعية بعد ملاحظة أدلتها والأصول المقررة المعتبرة في مقام الشبهات فإنها رافعة لذلك ويكون أدلتها واردة على أدلة القرعة ، فلو كان شي ء مشتبها حكمه فلا ريب في انه داخل في عنوان أصالة الإباحة أو البراءة أو الاستصحاب أو قاعدة الاحتياط على مذهب من يعمل به على الإطلاق أو في مقامات خاصة وكذلك الأحكام الوضعية فإنها أيضا منقحة بعد ملاحظة أصالة الفساد أو أصالة العدم أو قاعدة الاشتغال. وبالجملة لا نجد شيئا يشتبه فيه نفس الحكم الشرعي لا مخرج له من الشرع معتبر يعتمد عليه ، فلا وجه لإعمال القرعة في ذلك لانه ليس بمشكل وليس بمجهول واقعا وظاهرا حتى يكون مورد القرعة. وادعى الشهيد قدس سره في القواعد ص 201 الإجماع على أنها لا تستعمل في الفتاوى والأحكام الشرعية والسر فيه ما ذكرناه وليس ذلك تخصيصا لقاعدة القرعة بل انما هو اختصاص وعدم شمول من أصله ، فبذلك ظهر انه لا وجه لقولهم : ان القرعة قد تخصصت في موارد كثيرة وكثرة التخصيص موجبة لوهنها ، وذلك لان الموارد التي لم يعمل بالقرعة انما هو لعدم جهل الحكم الظاهري لا لأجل تخصيص أدلة القرعة ، فلم تثبت كثرة التخصيص فيها الموجبة لوهنها. ولعلك تقول : أدلة أصل البراءة معلقة على كون الشي ء مجهولا أو مما لا يعلم أو مما لا دليل عليه ، فما الفرق بينهما وبين أدلة القرعة؟ ولم يجعل أدلة البراءة مخرجة للفرض من أدلة القرعة وواردة عليها؟! والجواب ان دليل البراءة معلق بما لم يرد فيه أمر ولا نهى ، وبما لا يعلمون ، وهذا غير معنى الاشكال ، ولم يعلق على المجهول أو المشكل أو المشتبه ، ولو تنزلنا لنقول بكون أدلة البراءة أخص مطلقا من دليل القرعة فيقدم عليه على ان الظاهر من الأمر فيما علق حكم القرعة على أمر مجهول ارادة شبهة الموضوع ولو سلم فالإجماع قائم على تقديم دليل البراءة على القرعة كما قد عرفت. ونقل في البحار ج 1 ص 169 ط تبريز في باب أن لكل شي ء حدا ، عن بصائر الدرجات روايات خلاصتها ان عليا كان إذا ورد عليه أمر لم يجي ء به كتاب أو سنة رجم به يعنى ساهم وأصاب ، فاحتمل المجلسي كونها في الأحكام الجزئية واحتمل كونها في الأحكام الكلية وكونها من خصائصهم لأن قرعة الإمام لا يخطئ أبدا. وعلى كل فعدم شرعية الاقتراع لإثبات الاحكام عندهم من المسلمات. واما الشبهة في الموضوع فان كانت راجعة إلى إجمال اللفظ فهو كالشبهة الحكمية لها طرق شرعية ، وان كانت شبهة الموضوع الصرف ، فان كان مجرى من مجاري الأصول الشرعية ، من أصالة الإباحة أو البراءة ، فلا إشكال في خروجه عن موضوع القرعة لأن موضوعها ما هو مجهول حكمه الواقعي والظاهري من جميع الجهات ، ولا يشمل مجاري الأصول ولا ينتقض بما دلت على اعمال القرعة في شاة موطوءة مشتبهة في قطيع فإنه مخصص لدليل الاشتغال ، وارد في مورده ، والكلام في أدلة القرعة العامة لا ما ورد في موارد مخصوصا ، وأدلتها العامة لا تشمل ما يكون حكمه معينا ولو بالحكم الظاهري. نعم لو دعت الحاجة الى معرفة نفس الموضوع بحيث لا يمكن اندفاعها الا بمعرفتها فالحكم هو القرعة ، ولتوضيح المقصود نقول : لو اشتبهت الأجنبية بأخت الرجل فالحكم الاجتناب من نكاح كل واحد منهما ، وليس من موضوع القرعة في شي ء فان مات الرجل وكان الوارث الأخت اعمل القرعة حتى تتميز. فان لم يكن مورد مجرى أصل من الأصول العملية ، الا أنه قام الدليل فيه على الأخذ بأحد الطرفين أو الأطراف ، نأخذ بالدليل كما في ترجيح أئمة الجماعة ، وتقديم السابق في المرافعة أو الاستفتاء أو في المزاحمة على المباح ، وفي ترجيح البينات وتقديم قول ذي اليد والعمل ببينة الخارج وما ورد في تفسير الشي ء والجزء ونحوهما في الوصية وفي أمارات الخنثى والعمل بالإقرار وغيره من المثبتات شرعا وغير ذلك من الموارد المنتشرة في أبواب الفقه. فهذا القسم أيضا خارج عن مورد القرعة إذ مع وجود الدليل على الأخذ بأحد الجوانب يخرج الموضوع عن حيز المجهول والمشكل والمشتبه ، ويدخل في الواضحات ويكون أدلة أحكام هذا القسم أيضا واردة على أدلة القرعة كما تقدم. ثم المجهول والمشتبه قسمان : أحدهما ما كان مجهولا ومشتبها ظاهرا وواقعا كما في أئمة الجماعة إذ لم يدل دليل على استحقاق واحد منهما في الواقع حتى يكون الاشتباه ظاهريا وقصور المال عن الحجتين وتعدد المحرمين نيابة عن واحد والمتزاحمين في مباح أو مشترك عند مدرس أو حاكم ، وفي الوصية بثلث العبيد بالعتق أو العدد المبهم وفي قسمة الزوجات وعوز النفقة على المنفق عليهم وتعدد السيف والمصحف في الحبوة وأمثاله. القسم الثاني ما كان مجهولا ومشتبها ظاهرا ، معينا واقعا - كما في اختلاط الموتى في الجهاد ، والمأذونين في شراء كل منهما صاحبه وفي تعارض البينتين وفي تلف درهم من الوديعتين وفي الوصية بما لا يسعه الثلث مع العلم بالسبق دون السابق وفي إخراج المطلقة أو المنذور عتقه وفي المتداعيين في بنوة لقيط أو التقاطه وفي الخنثى والممسوح بناء على عدم كونهما طبيعة ثالثة والوصية بالمشترك اللفظي. وعلى كل فالموجود في كلام بعض الأصحاب وغالبا في كلام الشهيد الثاني قدس سره اختصاص حكم القرعة بالقسم الثاني فإن ادعوا الانصراف الى ذلك نمنعه ، وان ادعوا التخصيص نطالبهم بالدليل ، وان ادعوا عدم لزوم التعيين في القسم الأول وإمكان العمل بالتخيير ، والقرعة فيما لا مخرج له كما تقدم نورد عليهم النقض بموارد التنازع والتداعي. وفي كثير من موارد النصوص الخاصة ما هو مجهول ومشتبه ظاهرا وواقعا كما في صحيحة محمد بن مسلم في الوصية بعتق ثلث المماليك ح 1 ، الباب 66 من كتاب العتق من الوسائل ( وان أمكن كون الحكم فيها استحبابيا لعدم إشكال في الثلث لانه متواط قاض بالتخيير ) وصحيحة الحلبي ورواية فضالة فيمن قال أول مملوك ملكه فهو حر. فملك مماليك ح 1 و 2 ، الباب 57 من كتاب العتق من الوسائل ورواية سيابة وإبراهيم بن عمر ح 2 من الباب 13 من أبواب كيفية الحكم. والإتيان أيضا في القسمين حيث ان الاستهام للمدحض من قبيل القسم الثاني والاستهام لكافل مريم من قبيل القسم الأول. ثم الحق اختصاص القرعة بالإمام أو نائبه ، فإن إطلاق ما يتوهم منه الإطلاق من أدلة القرعة موهون بأنها مسوقة لبيان المشروعية ، فيقتصر على المتيقن ولو فرض فيها إطلاق يقيدها ما يدل على التقييد كمرسلة حماد ح 5 من الباب 13 ، أبواب كيفية الحكم « القرعة لا تكون إلا للإمام » ورواية يونس ح 1 من الباب 34 من كتاب العتق « ولا يستخرجه إلا الامام » وصحيحة معاوية بن عمار ح 13 من الباب 13 ، أبواب كيفية الحكم « أقرع الوالي بينهم » والروايات في الخنثى ح 1 و 3 و 4 ، الباب 4 من أبواب ميراث الخنثى وفيها « يجلس الامام ويجلس ناس عنده » وفي ح 2 صحيحة الفضيل « يقرع عليه الإمام أو المقرع » ويستظهر التقييد أيضا من الروايات في قضاء على عليه السلام وفيها : « فأسهم أو يسهم على ». والقرعة مستلزمة لترتب أحكام مخالفة للأصل ، والأصل عدم لحوقها الا بالمتيقن مع أن الغالب في المثبتات كالبينة واليمين ونحو ذلك من الشياع ونحوه عند الحاكم فكذلك القرعة. وللحاكم الشرعي نائبه العام أيضا ذلك ، لعموم أدلة القرعة ، ولفظ الوالي والمقرع في صحيحة معاوية وفضيل وعموم أدلة نيابته. ثم ان قولنا بالاختصاص بالحاكم انما هو بالنسبة إلى عمومات القرعة ، ولا ينافي ذلك قولنا بعدم لزوم الإمام في موارد مخصوصة كما في القسم بين الزوجات ، وتعيين الموطوء من قطيع أو اقتراع المدرس لتقديم بعض المتعلمين. ومما اختلفوا فيه في مسألة القرعة ، أنها عزيمة أو رخصة ، والتحقيق أن ما كان للحكم فيه مخرج من الطرق الشرعية ، وورد في مورده القرعة فهي رخصة كما في رواية محمد بن مروان ح 2 الباب 66 من كتاب العتق في فعل ابى عبد اللّه عليه السلام في عتق ابى جعفر عليه السلام ثلث عبيده ، حيث ان الثلث كلى متواطئ الصدق على الافراد ، ومقتضاه التخيير فليس موردا لعمومات القرعة كما قد عرفته ، والنص الوارد يحمل على الندب أو يحمل على أنها كان الثلث معينا واقعا فعرض الاشتباه حيث لا يكون عندئذ مخرج سوى القرعة. وعلى كل فعند ما لا مخرج له ، فالظاهر كون القرعة عزيمة لظاهر أعلب النصوص ان لم تعد صريحة مع أنه مع ترك القرعة اما ان يترك الحكم والإفتاء فيلزم الهرج والمرج والتعطيل وتلف الأموال والنفوس وضياع الحقوق ، واما أن يتهجم على أحد الاحتمالين تشهيا فهو قول بما لا يعلم ، وقضاء بغير حق ، مستلزم لإثارة الفتنة والتهمة على الحاكم ، ومفاسد أخر. ومما تكلموا فيه أنه بعد إعمال القرعة هل يجب العمل بها فلا ينفسخ الا مع العلم بمخالفة الواقع أو لا يجب ، والتحقيق فيه أيضا عدم الوجوب فيما استظهرنا فيه كون حكم القرعة ندبيا كما في ثلث العبيد ، فإن الأصل بقاء التخيير ، بعد إعمال القرعة أيضا وكون الخارج بالقرعة محقا لا ينافي كون غيره أيضا محقا لانه من أفراد المتواطى ، فليس في تغيير القرعة ابطال للحق. وأما فيما يجب اعمالها فظاهر النصوص لزوم ترتيب الأثر عليها بعد اعمالها وظاهر الأصحاب الإجماع عليه ، مع أنه لو لم يؤخذ بمقتضاها فاما ان يترك الواقعة بغير حكم فيلزم التعطيل المحرم ، أو يؤخذ بخلاف ما أخرجته القرعة فيلزم ترجيح المرجوح أو تعاد مرة ثانية ، فيعود الكلام السابق ، وترجيح العمل بالثاني على العمل بالأول فاسد ، فتعين العمل عليها بعد اعمالها. هذا مجمل الكلام في القرعة ، والمتلخص منه شرعية القرعة لكل ما هو مجهول ومشتبه ظاهرا وواقعا في الشبهات الموضوعية ، وان الاقتراع انما يكون للحاكم ، وأنها عزيمة ويجب العمل بها بعد اعمالها ، ومن أراد التفصيل أكثر مما أوردنا ، فليراجع عوائد الأيام للنراقى من ص 222 الى 232 وعناوين الأصول للسيد فتاح من ص 108 الى ص 119 العنوان الحادي عشر ، والخزائن للدربندى في تحقيق الحال في تعارض الاستصحاب والقرعة ، وكتب الفقه المبسوطة في المسائل التي سردنا أول البحث. ثم انا أعرضنا عن البحث في كيفيتها لان هذه اللفظة من المبينات فكلما يصدق عليه القرعة يشمله الإطلاقات ويجتزى به ، والأصل عدم شرطية شي ء آخر ، ولا إجمال في معناها حتى نلتزم بالأخذ بالمتيقن. نعم الظاهر اشتراط الدعاء لما في رواية يونس من أن له كلاما في وقت القرعة ودعاء ، وصحيحة فضيل المشتملة على الدعاء الظاهرة في بيان أصل الكيفية ، والأجود عدم اعتبار الدعاء المخصوص لاختلاف النصوص لكن الاقتصار على ما في صحيحة فضيل أحوط. راجع ح 2 من الباب 4 من أبواب ميراث الخنثى من الوسائل.

ص: 21

ص: 22

ص: 23

ص: 24

ص: 25

ص: 26

ص: 27

« أنه صلى اللّه عليه وآله كان إذا أراد سفرا يقرع بين نسائه في استصحاب إحداهنّ » (1) فليست من هذا القسم لكون الرسول صلى اللّه عليه وآله أخذ ذلك باذن من اللّه ، فالقرعة كاشفة عن معلوم اللّه وكذا ما يتداولها الأصحاب من الاستخارة في الرقاع والحصى والسبحة وما نستعمله الفقهاء في الأمور المشكلة من القرعة كما نقل عن أهل البيت (2) عليهم السلام « كلّ أمر

ص: 28


1- أخرجه السيوطي في الجامع الصغير الرقم 6551 ج 5 ص 95 فيض القدير نقلا عن البخاري ومسلم وأبى داود وابن ماجه واللفظ : كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، ومثله في البحار ج 6 ص 551 الباب 49 في قصة الافك عن الزهري ، وكذا في المجمع ج 7 ص 130 تفسير الآية 11 من سورة النور.
2- لم أظفر في الجوامع الحديثية على حديث فيه « كل أمر مشكل فيه القرعة » نعم يرسله الفقهاء في الكتب الفقهية ، والوارد في كتب الحديث « كل أمر مجهول فيه القرعة » كما تراه في الوسائل ح 10 و 17 من الباب 13 من أبواب كيفية الدعوى وذكر في عناوين الأصول ص 121 انه المنقول عن العامة ، وقد تصفحت كتبهم الحديثية والفقهية وراجعت الأقوال المختلفة في مسائل يذكر فيها القرعة ولم أر من استند أو ذكر رواية عامة مفادها « كل أمر مشكل أو مشتبه فيه القرعة » وشنع ابن حزم في ج 9 ص 268 من كتابه المحلى على الحنفية حيث لم يجوزوا القرعة في من أوصى بعتق رقيق لا يملك غيرهم استنادا بأنها من القمار والميسر مع ما ورد من أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأقرع بينهم رسول اللّه فأعتق اثنين وأرق أربعة ، تراه في المنتقى على ما في نيل الأوطار ج 6 ص 45 عن ابى زيد الأنصاري رواه احمد وأبو داود ومضمونه عن عمران بن الحصين رواه الجماعة إلا البخاري وكذا في الأم للشافعي ج 8 ص 4 وفيه : اما قال أوصى عند موته واما قال أعتق عند موته ، ثم نقل ابن حزم عنهم بان « هذا قضاء النبي وليس عموم اسم يتناول ما تحته » فأورد عليهم بأنه كيف قضيتم بجواز الوضوء بالنبيذ في خبر مكذوب ثم هو فعل وليس عموم اسم ، وشدد النكير عليهم لا نطيل الكلام بنقل كل ما ذكره. والمقصود انه لو كان عندهم رواية عامة بلفظ « القرعة لكل أمر مشكل » لذكرها واستند إليها ، ونقل الآلوسي في ج 3 من كتاب بلوغ الارب ص 69 و 70 بعض ما استدل به ابن قيم الجوزية على صحة القرعة في كتابه الطرق الحكمية ، ولم يذكر رواية عامة كذلك ، وفي كتاب الأم للشافعي ج 8 ص 3 - 9 بحث مبسوط في مسئلة القرعة وفيه الاستدلال بالآيتين والاخبار في القرعة ولم يذكر حديثا عاما باللفظ المذكور فراجع.

مشكل فيه القرعة » وكل ذلك أمر متلقّى من الشارع فلا مطعن فيه وأمّا على الثاني فلأنّه قمار منهي عنه.

5 - كما يحرم استعمال هذه الأمور الأربعة كذا يحرم اقتناء آلاتها بل يجب إتلافها وإخراجها عن صورها وكذا الخمر يجب إهراقه ويحرم اقتناؤه اللّهمّ إلّا أن يقصد التخليل ولو بعلاج فانّ ذلك سائغ.

ص: 29

السادسة ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (1).

استدلّ الفقهاء بهذه الآية على جواز التصرّف بالأكل لا غير من بيوت الأقارب المذكورين باعتبار رفع الجناح المستلزم للإباحة لكن يشترط عدم كراهة الملّاك وعدم الإسراف في التصرف ، سواء كان الملّاك حاضرين أو غائبين وبعضهم شرط في الإباحة كون الملّاك أمروهم بالحضور في بيوتهم وظاهر الآية عدم التقييد بأمرهم بالدّخول وبعضهم وهو الجبائيّ جعلها منسوخة بقوله « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه » (2) والمنقول عن أهل البيت عليهم السلام استثناء هذه من العموم بالشرط المذكور ويكون من باب تخصيص السنّة بالكتاب.

وهنا سؤال تقريره : إذا كان شرط الإباحة عدم كراهة الملّاك فأيّ فرق بين بيوت المذكورين ، وبين بيوت غيرهم؟ جوابه الفرق هو أنّ بيوت غيرهم يشترط العلم بعدم الكراهة أي العلم بالرّضى ، وأمّا بيوت الأقارب المذكورين فيكفي عدم العلم بالكراهة وكفى بذلك فرقا.

ولنتمّم الكلام في الآية بفوائد :

ص: 30


1- النور : 61 - 62.
2- راجع مجمع البيان ج 7 ص 156.

1 - ذكر ذوي الأعذار الثلاثة هنا ، عن ابن المسيّب أنّ جماعة خرجوا إلى الغزاة فسلّموا بيوتهم لهؤلاء فكانوا يتحرّجون من الأكل [ والشرب ] من تلك البيوت فنزلت وهذا أجود ما قيل في سببها وقيل بل كان ذووا القرابات يستصحبونهم إلى بيوت قراباتهم إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ثمّ تحرّجوا من ذلك فنزلت وقيل : كانوا يتوقّون مؤاكلتهم خوف انظلامهم أو كراهة ذلك طبعا فنزلت (1).

2 - أنّه لم يذكر الأولاد ، قيل لأنّ ذلك معلوم بالمفهوم لأنّ مدلولها جواز الأكل من بيت الأبعد فمن بيت الأقرب أولى ، وقيل إنهم المرادون من « بيوتكم » لأنّ بيوتهم بيوت آبائهم لأنّ مال الولد مال الوالد لقوله صلى اللّه عليه وآله « أنت ومالك لأبيك » ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « أطيب ما أكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه (2) » ولذلك لم يثبت الربا بينهما لكون مالهما واحدا وكذا البحث في الزّوج والزوجة.

3 - قيل : المراد ب « ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ » بيوت المماليك وليس بشي ء لأنّ العبد لا يملك لأنّ ماله لسيّده ، وقيل المراد الوكيل في حفظ البيت أو البستان يجوز له أن يأكل منه لأنّه كالأجير الخاص الّذي نفقته على مستأجره ، والمفاتح قيل هي الخزائن كقوله ( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ ) (3) وقيل جمع مفتاح.

4 - « أَوْ صَدِيقِكُمْ » أي بيوت صديقكم بحذف المضاف ، عن الصادق عليه السلام « هو واللّه الرجل يدخل في بيت صديقه فيأكل طعامه بغير إذنه (4) وحكي عنه عليه السلام « أيدخل أحدكم يده إلى كمّ صاحبه أو كيسه فيأخذ منه؟ فقالوا لا قال فلستم بأصدقاء (5) » والأصل أنه إذا تأكّدت الصداقة علم الرضا وبالأكل فيقوم العلم مقام الإذن.

ص: 31


1- الدر المنثور ج 5 ص 58.
2- سنن أبى داود ج 2 ص 259 من حديث عائشة.
3- الانعام : 59.
4- مجمع البيان ج 7 ص 156.
5- أصول الكافي ج 2 ص 174. قال أبو جعفر عليه السلام : أيجي ء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت : ما أعرف ذلك فينا ، فقال أبو جعفر عليه السلام : فلا شي ء إذا ، قلت فالهلاك إذا؟ فقال : ان القوم لم يعطوا أحلامهم بعد.

وعن ابن عبّاس أنّ الصداقة أقوى من النسب فإنّ أهل النار لا يستغيثون بالآباء ولا الأمّهات بل بالأصدقاء ، فيقولون ( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (1).

5 - كانوا يتحرّجون أن يأكلوا وحدانا كما كان دأب العرب وربما قعد الرجل ينتظر من يأكل معه من الصباح إلى الرواح فإذا أيس أكل للضرورة فنزل ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ) وعن عكرمة : نزلت في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلّا معه ، فنزلت رخصة لهم أن يأكلوا كيف شاؤا.

6 - « فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً » قيل المتقدّمة وقيل : المساجد والعموم أولى وعن الصادق عليه السلام « هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثمّ يردّون عليه فهو سلامكم على أنفسكم (2) » وعن الحسن : ليسلّم بعضهم على بعض ، والمراد أنّ الداخل ذا سلّم على صاحب المنزل فردّ عليه ، فيكون سلامه سببا للردّ لأنّ فاعل السّبب فاعل المسبّب قوله « تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ » فإنّه الآمر بها أو أنّها دعاء وإجابة الدعاء من عند اللّه ، وهي مصدر من غير لفظ التسليم ، ووصفها بالبركة لأنّها تغرس المحبّة في القلوب وتوجب البسط وحسن الخلق ، وتؤذن بالأمن من شرّ الملاقي.

وعن أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « متى لقيت من أمّتي أحدا فسلّم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلّم عليهم يكثر خير بيتك (3) ».

7 - أنّه تعالى بيّن في هذه الآية مكارم الأخلاق تنزيلها لهم عن رذيلة البخل وعدم الايتلاف فقال ( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ ) .

ص: 32


1- الشعراء 101.
2- مجمع البيان ج 7 ص 157.
3- أخرجه البيهقي في شعب الايمان عن أنس في حديث كما في الدر المنثور ج 5 60.

كتاب البيع

وفيه آيات :

الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) (1).

الخطاب عام والمراد لا تأكلوا أموال بعضكم ، فحذف المضاف للعلم به ، ويحتمل عدم الحذف وتكون الإضافة لا للتمليك بل لمطلق الاختصاص كقوله ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) (2) هذا.

وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على ثلاثة أحكام :

1 - النهي عن أكل الأموال بالباطل أي بالسبب الباطل فيعمّ كلّ ما لم يبحه الشارع من الغصب والسرقة والخيانة والعقود الفاسدة ، سواء اشتملت على الربا أو لا بل يكون فسادها بسبب آخر كما هو مذكور في الكتب الفقهيّة ويدخل في الباطل أيضا ما لم يكن بعقد كالقمار وأجر الزانية وغير ذلك ، وبالجملة هذا من المجملات المفتقرة إلى بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام وخصّ الأكل لأنه أعظم المنافع ، أو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللّازم وهو التصرّف فيعم سائر التصرّفات.

2 - إباحة ما كان بسبب التجارة ، والاستثناء هنا منقطع والمراد بالتجارة التملّك بعقد معاوضة ماليّة محضة ، وخص التجارة لأنّها الأغلب في طرق الكسب ولقوله صلى اللّه عليه وآله « الرزق عشرة أجزاء تسعة منها في التجارة » (3).

ص: 33


1- النساء : 28.
2- البقرة : 29.
3- تراه في الوسائل أبواب مقدمات التجارة باب 1 ح 4 و 5.

وهنا فروع :

1 - شرط في التجارة كونها عن تراض ، أي صادرة عن تراض من المتعاقدين فيخرج ما لم يكن كذلك عن الإباحة.

2 - قال مالك وأبو حنيفة : المراد تراضي المتعاقدين حال العقد فإذا حصل تمّ البيع ولزم ، فلا خيار قبل التفرق عندهما وقال الشافعي : المراد التفرّق عن تراض فلهما الخيار قبل التفرق ، وهو مذهب الأصحاب لقوله صلى اللّه عليه وآله « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا (1) ».

3 - عقد المكره باطل : نعم لو أجاز فيما بعد صحّ لحصول الرّضا [ به ].

4 - الرضا يراد به المعتبر شرعا فلا اعتبار برضى الصبيّ والمجنون والسكران والسفيه والمفلّس ، فلا يصحّ عقودهم ، ولو أجازوا بعد زوال المانع ، والفرق بينهم وبين المكره اعتبار عقده لو لا الإكراه ، فالإكراه مانع الحكم لا مانع السبب.

5 - الرّضا شرط في سائر العقود للإجماع على عدم الفرق ، نعم خيار المجلس مختصّ بالبيع.

6 - لا يكفي في التملّك حصول الرضا من غير عقد سواء كان المبيع جليلا أو حقيرا ، لاشتراطه في الإباحة حصول التجارة الصادرة عن التراضي ، والتجارة تستلزم العقد ، فلا يكون الرضا بمجرّدة كافيا ، وقال أبو حنيفة : يكفي في المحقّرات الرضا وحده ، والأصح عند أصحابه الاكتفاء به مطلقا.

7 - حصول الرضا بعقد الفضوليّ بعده كاف عند جماعة منّا ، وهو المشهور عندهم ، وعليه الفتوى وقال جماعة : لا يكفي بعده لقبح التصرّف في مال الغير عقلا ولقوله صلى اللّه عليه وآله « لا تبع ما ليس عندك » وقوله « لا بيع إلّا فيما تملك (2) » ويعضد الأوّل قضيّة عروة البارقيّ والنبيّ صلى اللّه عليه وآله لا يقرّر على الباطل ، والنهي في المعاملات لا يقتضي البطلان ، ونفي الحقيقة يراد به نفي صفة من صفاتها أي لا بيع لازم

ص: 34


1- راجع الكافي ج 5 ص 170.
2- أخرجه النوري في المستدرك ج 2 ص 460 عن غوالي اللئالى.

وإلا لما صحّ بيع الوليّ والوكيل ، ولو حمل على ظاهره فيكون المراد لا بيع إلّا فيما هو ملك أو كالملك ، بسبب الرضا أو الاذن ، واشتراط التقدم ممنوع يحتاج مثبتة إلى دليل.

8 - ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) فإنّه إذا قتل غيره قتل به قصاصا فصار هو القاتل لنفسه ، أو المضاف محذوف أي أنفس غيركم فحذف لعدم الاشتباه ، وقيل الكلام على ظاهره لأنّه تعالى كلّف بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ليكون القتل توبة لهم عن ذنوبهم ، فرفع ذلك عن امّة محمّد صلى اللّه عليه وآله رحمة لهم ، ولذلك قال ( إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) .

ويحتمل أن يكون المراد لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الإثم في أكل المال بالباطل ، وهو وجه حسن ليكون الكلام بعضه آخذا بحجزة بعض.

الثانية ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) (1).

كان الرجل في الجاهلية إذا حل له مال على غيره وطالبه به ، يقول له الغريم : زد لي في الأجل حتّى أزيدك في المال ، فيفعلان ذلك ويقولان سواء علينا الزيادة في أوّل البيع بالربح أو عند المحلّ لأجل التأخير ، فردّ اللّه عليهم بقوله « لا يَقُومُونَ » أي من قبورهم إلّا قياما كقيام المصروع ، زعمت العرب أنّ المصروع يخبطه الشيطان فيصرعه ، والخبط حركة على غير النحو الطبيعيّ وعلى غير اتّساق كخبط العشواء « مِنَ الْمَسِّ » أي من مسّ الشيطان والجار متعلّق ب « لا يَقُومُونَ » أي لا يقومون من المسّ الّذي بهم إلّا كما يقوم المصروع : بمعنى أنّ نهوضهم و

ص: 35


1- البقرة : 275.

قيامهم كقيام المصروع ، لأنّه تعالى أربى في بطونهم ما أكلوه ، فأثقلهم فهو سيماهم الذي يعرفون بها يوم البعث ، والموعظة دليل التحريم ، قوله ( وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ) أي يجازيه على أعماله بحسب ما علم منه في صدق نيّته في الانتهاء.

إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

1 - الرّبا لغة هو الزيادة ، وشرعا هو الزيادة على رأس المال من أحد المتساويين جنسا ممّا يكال أو يوزن فقيل يحرم الزيادة لا غير ، وقيل : هي مع المزيد عليه وهو الصحيح خصوصا مع عدم التميز ، ولا يحصل الملك لما اقتضاه العقد من العوضين لما تقرّر أن العقد الفاسد لا يترتّب عليه أثره.

2 - المراد بالجنس هنا هو الحقيقة النوعيّة ، ويتحقّق ذلك بكون الأفراد يشملها اسم خاصّ ، والزيادة قد تكون عينيّة وهو ظاهر ، وحكميّة كبيع أحد المتجانسين بمساويه قدرا نسيئة ، والمراد بالكيل والوزن ما كان حاصلا في عهد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وكلما علم له حال بني عليه وما لم يعلم يرجع فيه إلى العادة ، فلو اختلفت [ البلدان ]؟ قيل : لكلّ بلد حكم نفسه ، وقيل : يغلب التحريم احتياطا وهو أولى.

3 - الربا يثبت في النسيئة إجماعا لقوله صلى اللّه عليه وآله « إنّما الربا في النسيئة (1) » واقتصر عليه ابن عبّاس للحصر المذكور ، وقال الباقون بعمومه للنقد أيضا وهو الحقّ والحصر للمبالغة.

واعلم أنّ الإجماع حصل على وقوع الربا في ستّة نصّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله عليها هي : الذهب ، والفضّة ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والملح.

واختلف العامّة بعد ذلك في العلّة فيما عداها فقال أبو حنيفة الجنسيّة والتقدير وقال الشافعيّ مع ذلك الطعم والثمنيّة وقال مالك : القوت والادّخار ، وعن أحمد روايتان إحداهما كأبي حنيفة ، والأخرى الكيل والمأكوليّة ، ولا يكفي الوزن

ص: 36


1- أخرجه في مشكاة المصابيح ص 245 من حديث أسامة بن زيد ولفظه : « الربا في النسيئة وفي رواية قال صلى اللّه عليه وآله : « لا ربا فيما كان يدا بيد ».

عنده ، وأمّا أصحابنا فقد عرفت رأيهم.

4 - هل المراد بقوله « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا » أنّهم قاسوا الربا على البيع أم لا؟ قيل بالأوّل لأنّهم قالوا يجوز أن يشتري الإنسان شيئا يساوي درهما لا غير بدرهمين ، فيجوز أن يبيع درهما بدرهمين ، فردّ اللّه عليهم بالنصّ على تحليل البيع وتحريم الربا ، إبطالا لقياسهم ، فانّ القياس المخالف للنصّ باطل اتّفاقا.

قيل : فعلى هذا كان ينبغي أن يقال « إنّما الربا مثل البيع » لأنّ الربا محل الخلاف أجيب أنّه جاء مبالغة في أنّه بلغ من اعتقادهم في حلّ الربا أنّهم جعلوه أصلا يقاس عليه.

وقيل بالثاني لجواز أن يكون قوله ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) من تتمّة كلامهم على وجه الردّ ، أي إنّ اللّه فرّق بين المتساويين ، وذلك غير جائز ، وسبب غلطهم الجهل بحكم الربا.

ووجه الجواب المنع من المساواة فإنّ تحريم الربا معلّل بعلّة غير حاصلة في البيع.

تذنيب : في قوله « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ » دلالة على إباحة سائر أقسامه ، من النقد والنسيئة والسلف ، وأنواعه من بيع المرابحة والمواضعة والتولية والمساومة وأنواع المبيعات من الثمار والحيوان والصرف وغير ذلك ممّا ورد به البيان النبوي.

5 - قيل في قوله « فَلَهُ ما سَلَفَ » دلالة على أنّه لا تجب إعادة الربا مع الجهل بتحريمه بل يكفي مع ورود العلم الانتهاء وهو التوبة لا غير ، وفيه نظر لجواز أن يكون المراد به سقوط الإثم بالتوبة لا سقوط حقّ الغير لأنّه لا يسقطه إلّا أداؤه.

6 - الربا من الكبائر للتوعّد عليه بالنار في آخر الآية ، ولقول الصادق عليه السلام « درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعين زنية بذات محرم في بيت اللّه الحرام » (1) وقال أيضا عليه السلام « إنّما شدّد اللّه في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا ورفدا (2) » وقال عليّ عليه السلام « لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الربا خمسة : آكله

ص: 37


1- الكافي ج 5 ص 144. تحت الرقم 7.
2- الكافي ج 5 ص 144. تحت الرقم 7.

وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه (1).

7 - أنّه تعالى لم يكتف في النهي عن الربا والتنفير عنه بوعيد النار حتّى أخبر أنّه لا خير [ فيه ] ولا بركة فيه وأنه يذهب ويذهب لقوله تعالى فيما بعد ( يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (2) فانّ المحق هو نقصان الشي ء ، حتّى يذهب ثمّ قال ( وَاللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ ) تغليظا لشأن الربا فانّ آخذه بمنزلة الكافر والأثيم : الكثير الإثم ، وكذا في حكمه بخلود العائد في النار الّذي هو من أحكام الكفّار.

الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (3).

عن الباقر عليه السلام أنّ الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهليّة ، وبقي له بقايا على ثقيف ، فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت ، وقيل كان العبّاس وخالد شريكين في الجاهليّة يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة فأنزل اللّه الآية « فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع ، وأوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب وكلّ دم في الجاهليّة موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب (4) » وهنا فوائد :

1 - « ذَرُوا ما بَقِيَ » أي اتركوا وقوله « إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » مبالغة اخرى

ص: 38


1- الوسائل ب 4 من أبواب الربا ، ح 3 و 4. ومثله في سنن ابى داود ج 2 ص 219 من حديث عبد اللّه بن مسعود.
2- البقرة : 280.
3- البقرة : 278 و 279.
4- مجمع البيان ج 2 ص 392 ، سنن ابى داود ج 2 ص 219. سيرة ابن هشام ج 2 ص 603 في خطبته صلى اللّه عليه وآله.

في تشديد أمر الربا أي إن كنتم آمنتم بما انزل على محمّد فالتزموا (1) بأحكام الإيمان الّذي من جملتها تحريم الربا ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون الكافر مكلّفا بتحريم الربا ، لأنّ الكافر لا يطالب حال كفره بأحكام الايمان أوّلا بل به.

2 - ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ ) أي اعلموا بها من أذن بالشي ء إذا علم به وقرء حمزة وأبو بكر « فآذنوا » أي أعلموا غيركم ، وهو من الاذن وهو الاستماع وحرب اللّه هو حرب رسوله ، وقيل حرب اللّه بالنار وحرب الرسول بالقتال ، وإنّما لم يقل بحرب اللّه لأنّ المراد : بنوع من الحرب عظيم لكون التنوين للنوعيّة وفي هذا الكلام أيضا مبالغة زائدة على ما تقدّم.

3 - ( وَإِنْ تُبْتُمْ ) إلى آخر الآية قال الزمخشريّ والقاضي إن لم يتب يكون مصرّا على التحليل ، فيكون مرتدّا وماله في ء ، وليس بشي ء لأنّا نمنع أنّه إذا لم يتب يكون مرتدّا الجواز أن يفعله ويعتقد تحريمه والحقّ أنّه يجب ردّه على مالكه ، أمّا مع العلم بتحريمه فبالإجماع ، تاب أو لم يتب ، فان جهل صاحبه وعرف الربا تصدّق به ، وإن عرفه وجهل الربا صالح عليه ، وإن مزجه بالحلال وجهل المالك والقدر تصدّق بخمسه وأمّا مع الجهل فقد تقدّم الكلام فيه.

4 - لا ريب في أنّ قوله تعالى ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) وقوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ) صريحتان في أنّه لا يجب ردّ الربا السابق على نزول التحريم ، ونحن قد قرّرنا أنه يجب ردّ الربا مع العلم والجهل ، فما وجه الجمع بين الكلامين؟

فنقول : وجه الجمع أنّه لا يجب على الكافر رد ما أخذه حال كفره إلّا أن يكون عينه موجودة ، فإذا أسلم حرم عليه أخذ ما بقي له عند معامليه ، وأمّا المسلم فيجب عليه ردّ الربا مطلقا ، سواء علم بالتحريم أو لم يعلم على الأصحّ لأنّ الموعظة جائت إليه ، وعدم علمه ليس عذرا لتمكّنه من العلم.

ص: 39


1- نص : فلتؤمنوا.

قوله « لا تَظْلِمُونَ » أي بأخذ ما هو زائد على رؤوس أموالكم ، ( وَلا تُظْلَمُونَ ) بنقص حقّكم.

الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1).

فيها تصريح بالنهي عن أكل الربا زيادة على ما تقدّم ، وكان الرجل إذا حلّ له الدين زاد فيه وأخّره إلى أجل آخر ، ثمّ إذا حلّ زاد فيه أيضا وأخّره وهكذا ، فكان يستغرق بالشي ء الطفيف مال المديون ، فنهاهم عن ذلك ، وقيل معنى الاضعاف المضاعفة أي لا تزيدوا به أموالكم فتصير أضعافا مضاعفة ، وخصّ النهي بالأكل وإن كان المراد سائر التصرّفات ، لأنّه المقصود غالبا من التناول وباقي مقاصد الآية ظاهر.

تذنيب : أجمعت الإماميّة على أنّ آيات تحريم الربا مخصوصة ليست على عمومها لما ثبت عندهم عن أئمتهم عليهم السلام من إباحة الربا بين الوالد وولده ، والزّوج وزوجته والسيد وعبده ، والمسلم والحربي.

الخامسة ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) (2).

التطفيف البخس في الكيل والوزن ، لأنّ ما يبخس شي ء طفيف أي حقير و « على » هنا إمّا بمعنى « من » أي اكتالوا من الناس أو يتعلّق ب « يستوفون » قدّم للاختصاص أي يستوفون على الناس خاصّة وأمّا أنفسهم فيستوفون لها أو يكون التقدير : اكتالوا ما على الناس. كلّ ذلك محتمل.

( وَإِذا كالُوهُمْ ) أي كالوا للناس أو وزنوا لهم فحذف الجارّ كقوله :

ص: 40


1- آل عمران : 130.
2- المطففين : 1 - 3.

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا *** ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

أي جنيت لك ، أو على حذف المضاف أي كالوا مكيلهم أو موزونهم ، وإنّما لم يقل « أو اتّزنوا » في الأوّل لأن الاكتيال أمكن لهم بالسرقة بالملأ من الاتّزان وهنا فوائد :

1 - روي أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا فنزلت فأحسنوا ، وعن ابن عبّاس أنّه صلى اللّه عليه وآله قدم المدينة وبها رجل يقال له أبو - جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت الآية في حاله (1).

2 - دلّت الآية على وجوب إيفاء الكيل والوزن ، وتحريم النقص منهما لأنّ « ويل » يستعمل للذمّ وقيل « ويل » واد في جهنّم.

3 - حيث إنّ إيفاء الكيل والوزن واجب ، ندب إلى إعطاء الراجح حذرا من النقص المحرّم ، ومن ذلك قال صلى اللّه عليه وآله : « يا وزّان زن وأرجح » (2).

4 - في معنى الآية آيات كثيرة كقوله ( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ) (3) وقوله ( وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ) (4) وغير ذلك والجميع مشترك في تحريم نقص الكيل والوزن ووجوب إيفائه.

السادسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (5).

في الآية دلالتان إحداهما على أرجحيّة الإنفاق من كسب الحلال ، والنهي عن الإنفاق من كسب الحرام ، وثانيها على وجوب التفقّه قبل الاتّجار ليعلم الحلال

ص: 41


1- الدر المنثور ج 6 ص 324 مجمع البيان ج 10 ص 452.
2- في هامش نص : قال لأبي ذر : زن وأرجح. خ ل.
3- في أربعة مواضع منها الانعام : 152.
4- هود : 83.
5- البقرة : 267.

والحرام ، ويؤيده قوله صلى اللّه عليه وآله « من اتّجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا (1) » وقد تقدّم ، في هذه الآية فوائد :

السابعة : قيل ان قوله تعالى :

( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) (2).

يدل على أمرين أحدهما كراهية الربح على المؤمن إلّا مع الضرورة ، وأنّ ترك الربح من الإحسان ، فيكون من العرف ، وثانيهما كراهة معاملة الأدنين والسفلة الّذين لا يبالون ما قيل لهم وما قيل فيهم لأنّ الأمر بالاعراض عنهم يستلزم ترك معاملتهم بسائر أنواع المعاملة.

وفيهما نظر لأنّ العامّ لا دلالة له على الخاص بنفسه ، بل بدليل من خارج فيكون ذلك كافيا مع أنّ الاعراض عن الجاهلين يراد به التجاوز والعفو عن سيّئاتهم لا عدم معاملتهم ، ولذلك قيل : لمّا نزلت سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله جبرئيل عليه السلام عن معناها فقال لا أدري حتّى أسأل ربّك ، ثمّ رجع فقال : يا محمد إنّ ربّك أمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك (3) » وقال الصادق عليه السلام : « أمر اللّه نبيّه فيها بمكارم الأخلاق ».

الثامنة ( إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها ) (4)

قيل إنّها تدل على كراهية الدخول في سوم المؤمن لأنّ الأكثر على أنّ داود عليه السلام خطب على خطبة أوريا فعوتب على ذلك ، والكلام فيها كما تقدّم في

ص: 42


1- رواه في الكافي ج 5 ص 154 من حديث على عليه السلام.
2- الأعراف : 198.
3- أخرجه ابن مردويه من حديث جابر كما في الدر المنثور ج 3 ص 153.
4- ص : 23.

الاولى ، لكنّ الدلالة هنا قريبة ، وإن كان الاعتماد على نصّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام أولى.

التاسعة : قال الراوندي ان قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (1).

تدل على النهي عن الاحتكار ، وفيه نظر لأنّ قولهم مسنا الضر أعمّ من الحاجة إلى القوت ، أو إلى ثمنه التامّ فلا دلالة حينئذ وكذا قال في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (2) أنها تدلّ على تحريم كتمان العيب ووجوب إعلام المشتري ، والكلام فيه أيضا كما تقدّم ولنذكر هنا حكمين :

1 - قيل : الاحتكار مكروه لقول الصادق عليه السلام « مكروه أن تحتكر الطعام وتذر الناس لا شي ء لهم (3) » وقيل حرام وهو الأصح لقوله صلى اللّه عليه وآله « الجالب مرحوم والمحتكر ملعون (4) » وإنّما يكون حراما بشرطين أحدهما حبس القوت الّذي هو الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح طلبا للزيادة في الثمن وثانيهما أن لا يوجد باذل سواه ، فيجبر حينئذ على البيع وهل يسعّر عليه؟ قيل نعم ، وإلّا لا نتفت فائدة الجبر ، وقيل لا ، وهو الأصح لقوله عليه السلام « النّاس مسلّطون على أموالهم » (5) وقوله أيضا « الأسعار إلى اللّه (6) » اللّهمّ إلّا أن يطلب شططا فيسعّر عليه.

2 - العيب إمّا أن يخفى على المشتري أو لا؟ والثاني يجوز البيع مع عدم ذكره للمشتري ، نعم يكره ذلك وكذا يكره البيع في موضع يستتر فيه ، والأوّل

ص: 43


1- يوسف : 88.
2- الأنفال : 27.
3- الكافي ج 5 ص 165.
4- الكافي ج 5 ص 165.
5- أخرجه في البحار ( الطبعة الحديثة ) ج 2 ص 271 عن غوالي اللئالي.
6- الوسائل ب 30 من أبواب آداب التجارة ح 1.

يجب ذكره إلّا أن يبيع بالبراءة من العيب إجمالا أو تفصيلا ، وعلى الأوّل لو باع ولم يتبرّأ صحّ البيع ، ويكون المشتري بالخيار بين الردّ والأرش ، وفيه تمام بحث مذكور في كتب الفقه.

العاشرة ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (1).

الفقهاء يستدلّون بهذه الآية على مسائل :

1 - أنّ الكافر إذا أسلم عبده ، قهر على بيعه من مسلم ، فان امتنع باعه الحاكم وسلّم الثمن إليه.

2 - أنّه لا يصحّ بيع العبد المسلم على الكافر.

3 - لا يصح إيجار العبد المسلم من كافر ، وهل يصح إيجار الحرّ نفسه من كافر؟ إمّا للخدمة فلا يجوز ، وأمّا لا لها ، فامّا لعمل مطلق ، فيصحّ لأنّه كالدّين وإما أجيرا خاصّا فاحتمالان أحدهما المنع للآية ، والآخر الجواز لعدم استقرار السبيل وهو قوي

4 - رهن العبد المسلم عنده أمّا مع قبضه له فلا يجوز ، وأمّا مع عدم قبضه فالأصح جوازه.

5 - كون الكافر وكيلا على مسلم سواء كان الموكّل مسلما أو كافرا لا يجوز.

6 - كذا لا يصح كونه وصيّا على صبيّ مسلم.

7 - لا يصح إعارة العبد المسلم للكافر.

8 - إذا أسلمت أمّ ولده يجوز بيعها على أقوى الوجهين.

9 - لا تصحّ الوصيّة بالعبد المسلم للكافر وكذا لا يصحّ وقفه عليه ، ولا هبته له ، وبالجملة كلّما يستلزم إدخاله في ملكه أو السلطنة عليه فهو باطل للآية.

ص: 44


1- النساء : 140.

كتاب الدين ( وتوابعه )

اشارة

وفيه آيات :

الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلّا تَرْتابُوا إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ، وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).

« تَدايَنْتُمْ » أي تفاعلتم بالدّين إمّا بالسلم أو بالنسيئة أو الإجارة ، وفي الجملة كلّ معاملة أحد العوضين فيها مؤجّل ، وقال الزمخشريّ معناه إذا داين بعضكم

ص: 45


1- البقرة : 282.

بعضا ، يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين ، وفيه نظر المفرق بين التفاعل والمفاعلة فإنّ الأوّل لازم والثاني متعدّ ، تقول تضارب زيد وعمرو ، وضارب زيد عمروا فلا يجوز تفسير أحدهما بالآخر.

إن قيل : قوله « بِدَيْنٍ » لم يكن محتاجا إليه لأنّ الدين معلوم من لفظ « تَدايَنْتُمْ » ولو لم يذكره لكان الضمير عائدا إلى مصدر « تَدايَنْتُمْ » أجاب الزمخشري بأنّه لو لم يذكره لوجب أن يقول « فاكتبوا الدين » ولا يجي ء بحسن ما ذكر من النظم وفيه نظر لأنّا نمنع وجوب ذكر الدين لما قلنا من عود الضمير إلى المصدر.

ويحتمل في الجواب أنّه لو لم يذكر الدّين وأعاد الضمير إلى المصدر ، لكان ينبغي أن يكتب المعاملة بالدين ، مع أنه لا حاجة إلى كتابتها ، بل يكتفي بكتابة الدين ، فلو باع نسيئة ليكتب المشتري للبائع الدين إلى أجل معلوم ، ولم يحتج إلى ذكر المبايعة وفيه أيضا نظر لأنّ كتبة المعاملة بالدّين أحرز وأضبط لدفع الدعوى بإنكار سبب الدين

وقيل : ذكره تأكيدا كقوله تعالى « ( طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) (1) » وقيل ليرفع احتمال [ كون ] التداين من المجازاة كقولهم « كما تدين تدان » فيزول الاشتراك وهو حسن.

إذا عرفت هذا ففي الآية أحد وعشرون حكما بل ربّما يذكر فيها فوائد تزيد على ذلك :

1 - إباحة الاستدانة لأنّها ممّا قد يضطرّ الإنسان إليه في معاشه ، فتكون سائغة ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله استدان ، وكذا عليّ عليه السلام وجماعة من الأئمّة عليهم السلام نعم هو من غير ضرورة مكروه لقوله صلى اللّه عليه وآله « إيّاكم والدين فإنّه مذلّة بالنهار ، ومهمّة باللّيل (2) » وقد يحرم إذا لم يكن له ما يقضيه به ، فإنّه خديعة ، قاله

ص: 46


1- الانعام : 38.
2- الكافي ج 5 ص 95.

التقيّ (1) ويقوى عندي ذلك إذا لم يكن الدائن مطلعا على حاله ، وإلّا فالكراهية شديدة ، وقبول الصدقة له أولى من الاستدانة ، ولو كان له وليّ يقضيه خفّت الكراهية وحكم ابن إدريس ببقاء الكراهية مع الوليّ لعدم وجوبه عليه ممنوع لأنّ عدم الوجوب لا يرفع الجواز.

2 - إباحة التأجيل بقوله « إِلى أَجَلٍ » لأنّ الدين حقّ يثبت في الذمّة ، فهو أعمّ من المؤجّل وغيره قال ابن عبّاس نزلت في السلم خاصّة ، وهو بيع مضمون إلى أجل معلوم ، والأكثر على أنّها أعمّ من ذلك.

3 - وجوب كون الأجل مضبوطا لقوله « مُسَمًّى » كاليوم والشهر والسّنة لا ما يحتمل الزيادة والنقيصة ، كإدراك الثمرة وقدوم الحاجّ.

4 - الأمر بكتابة الدين لئلّا يذهب مال المسلم بعوارض النّسيان ، والموت والجحود ، والأمر هنا عند مالك للوجوب والأصح أنّه إمّا للندب أو الإرشاد إلى المصلحة.

5 - وجوب كون الكاتب أمينا لقوله « بِالْعَدْلِ » وهو صفة « الكاتب » أي موصوف بالعدل كيلا يزيد وينقص أو يفعل خلاف ما تراضى به المتعاملان ، ويعلم منه اشتراط كونه فقيها عالما بدقائق تلك المعاملة ، ليكمل المقصود منها.

6 - « وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ » قيل النهي للتحريم ، فيكون الكتابة واجبة لكن على الكفاية ، قاله الشعبيّ وجماعة ، وقيل : فرض عين مع عدم غيره ممّن له علم بها ، أو مع ضرر صاحب الدين بترك الكتابة ، وقيل : كانت واجبة عينا فنسخ بقوله « وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ » والأجود أنّها مستحبّة على الأعيان العارفين بها ، لأنها من باب « ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) (2) » واجبة على الكفاية ليتمّ نظام النوع.

فرعان :

ألف : إذا وجد بيت المال اعطي الكاتب رزقه منه ، لأنّه من المصالح ، وإلّا

ص: 47


1- هو أبو الصلاح تقى بن نجم الحلبي أحد أعيان الفقهاء ، له كتب جيدة.
2- المائدة : 3.

جاز له أخذ الأجرة من الآمر بالكتابة لأصالة عدم وجوب بذل المنفعة مجّانا.

ب : أخذ المداد من بيت المال ، وكذا الورق المكتوب فيه لأنّه من المصالح أيضا وإن لم يوجد فمع أخذ الكاتب الأجرة يجب عليه المداد ، ولا يجب عليه القرطاس بل هو على صاحب الدين لأنّه لمصلحته ، ولا يجب على المديون قطعا.

7 - « كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ » قيل : هو متعلّق ب « يَأْبَ » أي لا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه اللّه ، فيكون « فَلْيَكْتُبْ » أمرا بعد النهي تأكيدا كقولك لعبدك لا تقعد هنا قم ، ويحتمل أن يكون متعلّقا بالأمر أي فليكتب كما علّمه اللّه وحينئذ يحتمل معنيين :

أحدهما كما علّمه اللّه تفضّلا منه فليتشبّه بأخلاق اللّه ، وليتفضّل بكتابة الدين كما تفضّل اللّه عليه كقوله تعالى ( وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ ) (1).

وثانيهما أمره بأن يكتب كما علّمه اللّه من الفقه في تلك المعاملة بحيث لا يكتب شيئا يخالف مقتضاها ممّا فيه ضرر أو بخس على المتعاملين ، فعلى الأوّل الأمر للندبيّة وعلى الثاني للوجوب وعلى الاحتمال الأوّل يكون النهي السابق مقيّدا وعلى الثاني يكون مطلقا.

8 - « وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ » الإملال والإملاء بمعنى واحد وقد ورد بهما القرآن كقوله ( فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ ) (2) وإنّما وجب كون المملل : الّذي عليه الحقّ ، لأنّه المشهود عليه ، ثمّ إنّ هذا المملي يجب عليه تقوى اللّه فيما يملله ، ولا يبخس من الحقّ الّذي عليه شيئا ، والبخس النقص ، وإنّما أمره ونهاه لجواز أن يكون صاحب الحقّ أمّيا مغفّلا لا خبرة له بالأمور ، فلو لم يستعمل المديون الورع في إملائه لزم إضرار الدائن وهو حرام.

9 - « فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ » السفيه المبذّر وهو الّذي يصرف أمواله في غير الأغراض

ص: 48


1- القصص : 77.
2- الفرقان : 5.

الصحيحة أو ينخدع في المعاملة « والضعيف » أي في العقل بأن كان صبيّا أو كبيرا لا عقل له ، والّذي لا يستطيع الإملاء فهو إمّا لبكم أو خرس فليملل أولياء هؤلاء وقيل الضمير في « وليّه » يرجع إلى الحقّ أي وليّ الحقّ أي صاحبه لأنّه أعلم بدينه ، والأوّل أولى ، لعود الضمير إلى الأقرب ، ولأنّه أنسب بالمقام.

وهنا فروع يتضمّن أحكاما مستخرجة من الآية :

ألف - شرعيّة الولاية على السفهاء والأصاغر ، وتدخل المجانين بطريق الأولى.

ب - عدم صحّة استقلالهم بعقود المعاملة إذ لا يصحّ إملالهم ، فلا يصحّ استقلالهم بالعقد بطريق الأولى.

ج - جواز استدانة الوليّ لمن له عليه ولاية ، مع الحاجة إلى ذلك.

د - صلاحية ذمّة الصبيّ والمجنون والسفيه لتعلّق الدّين بها ، لكن لا مطلقا بل مع مباشرة الوليّ سبب الدين ، فلا يرد أرش الجناية إذا لم يكن له مال.

ه- - أنّه يجب على الوليّ مراعاة المصلحة للمولّى عليه ، وعدم بخسة لقوله تعالى « بِالْعَدْلِ » أي في الإملاء ففي المعاملة بطريق الأولى.

و - الوليّ للصبيّ والمجنون أمّا الأب أو الجدّ له ، ومع عدمهما الوصي عن أحدهما ، ومع عدمه الحاكم ، وأمّا السفيه ، فان كان سفهه مستمرّا عقيب الصبا فوليّه الأب والجد كما تقدّم ، وإن كان طارئا فوليّه الحاكم.

ز - تجوز الترجمة عن الأخرس والأبكم والأعجمي لاشتراكهم في عدم [ إمكان ] استقلالهم باملال الحقّ.

ح - وجوب كون المترجم عدلا لاشتراط إملاله بالعدل المستلزم ذلك لعدالته.

ط - صحّة الشهادة على الأخرس (1) والأعجميّ مع الترجمة عنهما ، ويكون الشاهد أصلا لا فرعا لتعقيب الإملال بالاستشهاد.

ى - الوليّ في الآية يراد به القدر المشترك ، بين كلّ من قام مقام غيره في حق على ذلك الغير ، فيشمل الوكيل أيضا ، فيجوز الشهادة على الوكيل باستدانته

ص: 49


1- نص : عن الأخرس.

لموكّله ، فيجوز للشاهد أن يشهد على الموكّل مع ثبوت الوكالة حالة الشهادة ، وقد يمكن استخراج فروع أخر غير هذه ، وبذلك يظهر سرّ قوله صلى اللّه عليه وآله « أوتيت جوامع الكلم ».

10 - « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ » السين للطلب أي اطلبوا شهيدين ، والفرق بين الشاهد والشهيد أنّ الأوّل بمعنى الحدوث والثاني بمعنى الثبوت ، فإنّه إذا تحمّل الشهادة فهو شاهد باعتبار حدوث تحمّله ، وإذا ثبت تحمّله لها زمانين أو أكثر فهو شهيد.

ثم يطلق الشاهد عليه بعد تحمّله مجازا تسمية الشي ء بما كان عليه ، كما يطلق الشهيد قبل تحمّله لها مجازا كما في الآية ، فإنّ الطلب إنّما يكون قبل حصول المطلوب ، وهذا حكم باشتراط الاثنينيّة في الشهادة بالدين فيدلّ على عدم قبول الواحد أمّا مع انضمام اليمين من المدّعي فيقبل عندنا ، وعند الشافعيّ (1)

ص: 50


1- قد بسط الشافعي الكلام في الأم ج 7 من ص 7 - 12 وذكر فيه مكالماته مع من رده ، وكذا في مواضع أخر من الام ، وممن قال بالقضاء بالشاهد واليمين : مالك وفقهاء المدينة وأبو ثور وربيعة وشريح وعمر بن عبد العزيز والشعبي وأبو سلمة وعبد اللّه بن عتبة وإياس والحسن ويحيى بن يعمر وابن ابى ليلى وأبو الزناد وهو رأي الحنبلية أيضا وحكاه الشوكانى في نيل الأوطار عن الهادويه والناصر. وحكى عن زيد بن على والزهري وحكم وعطاء والنخعي وابن شبرمة والامام يحيى والثوري. وأبو حنيفة وأصحابه والكوفيون وجمهور أهل العراق والليث من أصحاب مالك على ما في بداية المجتهد أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين ، وحكاه في سبيل السّلام عن الهادويه أيضا. وقد ورد النص بالقضاء بالشاهد واليمين ، ترى اثنين وعشرين حديثا في الباب 14 من أبواب كيفية الحكم من الوسائل ، وفيها أنه نزل به جبرئيل كما في ح 17 و 21 و 22. وذكر في المنتقى كما في ص 292 و 293 من نيل الأوطار ج 8 روايات أهل السنة عن جعفر بن محمد وعن جابر وعن ابن عباس وعن أبي هريرة قضاء رسول اللّه بالشاهد واليمين ، وسرد في نيل الأوطار أحد وعشرين صحابيا روى عنهم قضاء النبي صلى اللّه عليه وآله بالشاهد واليمين مضافا الى ما روى من قضاء على عليه السلام بذلك كما في ح 3 من المنتقى. واحتج أبو حنيفة ومتابعوه بهذه الآية ، « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ » وقالوا : الحكم بشاهد ويمين بمقتضى الروايات زيادة على القرآن بالسنة ، والزيادة على القرآن نسخ وأخبار الآحاد لا تنسخ القرآن. قال ابن قدامة في المغني ص 152 ج 9 : وقولهم ان الزيادة في النص نسخ ، غير صحيح ، لان النسخ : الرفع والإزالة ، والزيادة في الشي ء تقرير له لا رفع ، والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه ولأن الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه ، لم ترفعه ، ولم تكن نسخا وكذلك إذا انفصلت ، ولان الآية وردت في التحمل دون الأداء ، ولهذا قال « أَنْ تَضِلَّ » الآية ، والنزاع في الأداء. انتهى ما في المغني. وقال ابن العربي في ص 253 من أحكام القرآن : وسلك علماؤنا في الرد عليهم مسلكين : أحدهما أن هذا ليس من قسم الشهادة وانما الحكم هنالك باليمين ، وحظ الشاهد ترجيح جنبة المدعى ، وهو الذي اختاره أهل خراسان وقال آخرون وهو الذي عول عليه مالك ان القوم قد قال يقضى بالنكول وهو قسم ثالث ليس له في القرآن ذكر كذلك يحكم بالشاهد واليمين وان لم يجر له ذكر ، لقيام الدليل. ثم قال : والمسلك الأول مسلك الشرع ، والمسلك الثاني يتعلق بمناقصة الخصم والمسلك الأول أقوى وأدل. انتهى. وقال الشوكانى في نيل الأوطار ج 8 : وأقول : جميع ما أورده المانعون من الحكم بشاهد ويمين غير نافق في سوق المناظرة عند من له أدنى إلمام بالمعارف العلمية وأقل نصيب من انصاف ، والحق أن احاديث العمل بشاهد ويمين زيادة على ما دل عليه قوله « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ » الآية وعلى ما دل قوله صلى اللّه عليه وآله « شاهداك ويمينه » غير منافية لأصل ، فقبولها متحتم ، وغاية ما يقال على فرض التعارض وان كان فرضا فاسدا أن الآية والحديث المذكورين يدلان بمفهوم العدد على عدم قبول الشاهد واليمين ، والحكم بمجردهما ، وهذا المفهوم المردود عند أكثر أهل الأصول لا يعارض المنطوق وهو ما ورد في العمل بشاهد ويمين. على أنه يقال : العمل بشهادة المرأتين مع الرجل مخالف لمفهوم حديث شاهداك أو يمينه ، فان قالوا : قدمنا على هذا المفهوم منطوق الآية الكريمة قلنا ونحن قدمنا على ذلك المفهوم منطوق احاديث الباب ، هذا على فرض أن الخصم يعمل بمفهوم العدد فان كان لا يعمل به أصلا فالحجة عليه أوضح وأتم ، انتهى. أقول : ونظيره ما بينه الشافعي في ص 86 ج 7 من الام فراجع. هذا وقد أخذ من رد الحكم بشاهد ويمين لكونه زيادة على القرآن بأحاديث كثيرة في أحكام كثيرة كلها زائدة على القرآن كالوضوء من النبيذ ، والوضوء من القهقهة ومن القي ء وترك قطع من سرق ما يسرع اليه الفساد ، ولا قود الا بالسيف ، ولا جمعة إلا في مصر جامع ولا يرث الكافر المسلم ، ولا يقتل الوالد بالولد ، ولا يرث القاتل من القتيل وغير ذلك من الأمثلة التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب ، وقد بسط الكلام ابن قيم الجوزية في إعلام الموقعين من ص 288 - 294 آخر المجلد الثاني وفي المجلد الثالث الى ص 14 وشنع على من رد أحكاما استنادا إلى أنها زيادة على القرآن. ثم القضاء بالشاهد واليمين يختص بالأموال وما في حكمها وعليه إجماع المسلمين ممن يقول بالقضاء بالشاهد واليمين مع اختلاف يسير في موارده ، لا يهمنا التعرض له. وهل يقضى باليمين مع المرأتين؟ نقل الشيخ في الخلاف المسئلة السابعة من مسائل كتاب الشهادات ج 2 ص 607 الحكم به عن الإمامية وإجماعهم فيه وبه قال مالك كما في بداية المجتهد ج 2 ص 457 قال لان المرأتين اقيمتنا مقام الواحد وقال الشافعي : لا يجوز لأنه إنما أقيمتا مقام الواحد مع الشاهد الواحد لا مفردة ولا مع غيره. واختار العلامة قدس سره أيضا في المختلف ج 2 ص 164 ما قواه الشيخ في الخلاف والنهاية والمبسوط من جواز القضاء واختاره أيضا ابن إدريس في باب القضاء الا انه رجع عنه في باب الشهادات وقال قدس سره على ما نقل عنه في المختلف : الذي يقتضيه الأدلة ويحكم بصحته النظر الصحيح أنه لا يقبل شهادة امرئتين مع يمين المدعى ، وجعلهما بمنزلة الرجل في هذا الموضوع يحتاج الى دليل شرعي والأصل ان لا يشرع ، وحملهما على الرجال قياس وهو عندنا باطل ، والإجماع غير منعقد والاخبار غير متواترة فإن وجدت فهي نوادر وشواذ ، والأصل براءة الذمم ، فمن أثبت بشهادتهما حكما شرعيا فإنه يحتاج إلى أدلة قاهرة أما إجماع أو تواتر أخبار أو قرآن ، وجميع ذلك خال منه فيبقى دليل العقل ومقتضاه ما اخترناه ، انتهى كلامه. قال العلامة : لنا ان شهادة المرأتين كشهادة رجل واحد ، وقد أثبت الحق بشهادة الواحد مع اليمين فكذا مساويه. قلت وهل هذا الا القياس الذي لا نقول به ، فالامتن الاستدلال على الجواز بالروايات كما تراه في ح 1 و 3 و 4 من الباب 15 من أبواب كيفية الحكم وح 34 من الباب 24 من كتاب الشهادات من الوسائل ، بل وكذا ح 4 من الباب 24 من كتاب الشهادات وقد حكم بصحة بعضها وحسن آخر منها في الجواهر ولذلك قال قدس سره في ص 45 من ج 6 ( ط - الحاج محمد حسين الكاشاني ) وتنقح من جميع ما ذكرنا اتحاد موضوع الثلاثة أي الشاهد واليمين ، والشاهد والمرأتين ، والمرأتين مع اليمين وهو كل حق آدمي أو المالى منه خاصة على البحث الذي قدمناه في الشاهد واليمين انتهى كلامه رفع مقامه ، ومع ذلك كله فالمسئلة عندي محل تأمل.

لقضاء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وعليّ عليه السلام بذلك :

11 - « مِنْ رِجالِكُمْ » أي من المؤمنين ويفهم من ذلك حكمان :

1 - اشتراط البلوغ في الشاهد لقوله « مِنْ رِجالِكُمْ ».

2 - اشتراط الايمان فلا تقبل شهادة الصبيّ ويدخل المجنون بطريق الأولى لعدم تعقله ، ولا الكافر إلّا على تفصيل يأتي في الوصيّة ، وجوّز أبو حنيفة شهادة الكفّار بعضهم على بعض ، على اختلاف الملل.

12 - « فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ » فيه دلالة على جواز شهادة النساء منضمّات إلى الرجال ، لكن في الديون والمعاملات ، وكلّ ما يقصد فيه المال وفي قوله فيما بعد « أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما » إشارة إلى جواب سؤال مقدّر ، تقريره

ص: 51

لم جعل امرأتان مقام رجل؟ فأجاب [ بأن ] جعل ذلك مخافة أن تضلّ إحداهما أي تنسى فإنهنّ لضعف عقولهنّ وبرد مزاجهنّ أميل إلى النسيان ، بخلاف الرجال ، فإنّهم أبعد عن النسيان لزيادة عقولهم وحرارة مزاجهم وقرأ حمزة « إن تضلّ » على أنّها حرف الشرط وجوابه ، فتذكّر ، والباقون بفتح الهمزة بأنّها منصوبة المحلّ على أنّها مفعول له والعامل محذوف.

قال الزمخشريّ : ومن بدع التفاسير « فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا » أي فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا بمعنى أنّهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر والقائل به سفيان بن عيينة.

قيل : والضمير في إحداهما الاولى ، يرجع إلى الشهادة أي أن تضيع إحدى الشهادتين من قوله تعالى « ضَلُّوا عَنّا » أي ضاعوا فتذكّر إحدى المرأتين الأخرى فيكون الضمير في الثانية للمرأتين لئلّا يلزم التكرار من غير فائدة وفيه تعسّف.

ص: 52

13 - « مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ » أي من الرجال المرضيّين ، والنساء المرضيّات في الدين ، وفي ذلك إشارة إلى اشتراط العدالة ، فإنّ الفاسق غير مرضيّ ويدلّ على بطلان قول أبي حنيفة في قبول شهادة الكفّار ، ويلزم من اشتراط الرضا بهم أن يكون الشاهد ممّن يحسن الظنّ به في صدقه في شهادته ، فلا تقبل شهادة المتّهم ، فإنّه يدفع ضررا أو يجلب نفعا ولم يقل من المرضيّين من الشهداء إشارة إلى الاكتفاء بظاهر العدالة ، وعدم اشتراطها في نفس الأمر وإلّا لتعذّر الاستشهاد. فهنا إذن ثلاثة أحكام فشرائط الشهادة حينئذ خمسة : البلوغ ، والعقل ، والايمان والعدالة ، وارتفاع التهمة.

واختلف في شهادة العبد فمنعه الفقهاء الأربعة : ورووه عن عليّ عليه السلام وقبلها ابن سيرين وشريح وعثمان البستيّ وعن أهل البيت روايات أشهرها وأقواها القبول إلّا على سيّده خاصّة فتقبل لسيّده ولغيره وعلى غيره.

ص: 53

14 - « وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا » قيل : ذلك في التحمّل وقيل في الإقامة وقيل فيهما معا والأوّل أنسب لأنّ الكلام في التحمّل لا في الإقامة ، ولو حمل عليهما لزم استعمال المشترك في معنييه معا وهو ممنوع ، والنهي عن الإباء يستلزم الأمر بالتحمّل لكنّه فرض على الكفاية ، فان لم يوجد غير ذينك الشاهدين. صار فرض عين.

15 - « وَلا تَسْئَمُوا » أي لا تملّوا « أَنْ تَكْتُبُوهُ » الضمير للدين « صَغِيراً » أي

ص: 54

سواء كان الدين قليلا أو كثيرا وقيل المراد الكاتب فانّ البلوغ ليس بشرط في الكاتب وقيل الكتاب أي مختصرا كان أو مطوّلا وكل ذلك تعسّف والأوّل أولى ، وفي ذلك دلالة على استحباب كتابة الدين والاشهاد به.

ثمّ ذكر سبحانه لرجحانه ثلاثة أسباب الأوّل أنّه « أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ » أي أعدل الثاني أنّه « أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ » أي أعون لها لأنّ المكتوب أبعد زوالا من الحفظ الثالث أنه « أَدْنى أَلّا تَرْتابُوا » أي أقرب في انتفاء الريب أي الشكّ لأنّ عدم الكتابة سبب لريب أحد الغريمين في أنّه صادق أو كاذب.

16 - « إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً » هذا استثناء من الأمر بالكتابة أي إن كانت المعاملة بينكم في تجارة حاضرة يدا بيد من غير غيبة لأحد العوضين ، فليس عليكم جناح أن لا تكتبوا تلك المعاملة ، فإنّه لا يتوقّع فيها شكّ استقبالي.

17 - « وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ » أي إذا لم يكن المبايعة بالدّين وإلّا لزم التكرار وإنّما أمر بالإشهاد عند المبايعة إرشادا إلى رعاية مصلحتها لأنّه لولاه لجاز أن يندم أحد المتبايعين على البيع أو يقع نزاع في كميّة أحد العوضين ، أو شرط أو خيار أو غير ذلك فالأمر هنا للإرشاد ، وقال داود : إنّه للوجوب ، وليس بشي ء لما قلناه من ترتّب المصلحة الدنيويّة.

18 - « وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ » فيه قراءتان (1) : إحداهما « لا يضارر » بالإظهار والكسر والبناء للفاعل قرأ به أبو عمرو ، فعلى هذا يكون المعنى لا يجوز

ص: 55


1- قال الطبرسي في المجمع : وقرأ أبو جعفر « ولا يضار » بتشديد الراء وتسكينها والباقون « لا يضار » بالنصب والتشديد. ثم قال في وجهه : واما قوله « لا يُضَارَّ » ففيه قولان : أحدهما أن أصله لا يضارر - بالكسر - فأدغمت الراء في الراء وفتحت لالتقاء الساكنين فيكون معناه : لا يكتب الكاتب الا بالحق ولا يشهد الشاهد الا بالحق ، الثاني : ان أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى فأدغمت فيكون المعنى لا يدع الكاتب على وجه يضر به وكذلك الشاهد ، والأول أبين واما قراءة أبي جعفر بتسكين الراء مع التشديد ففيه نظر ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف اه فتدبر.

وقوع المضارّة من الكاتب بأن يمتنع من الإجابة أو يحرّف بالزيادة والنقصان ، وكذا الشهيد لا يمتنع إذا دعي للتحمّل أو الإقامة ، ولا يكتم شيئا ممّا شهد به ، أو يزيد أو ينقص بما فيه ضرر على المشهود عليه.

وثانيهما قراءة الباقين « لا يضارّ » بالإدغام والفتح ، والبناء للمفعول ، فعلى هذا يكون المعنى لا يفعل بالكاتب ولا الشهيد ضرر بأن يكلّفا قطع مسافة مشقّة من غير تكلّف مؤنتهما أو لا يعطى الكاتب أجرته وافية أو غير ذلك من أسباب المضارّة.

19 - « وَإِنْ تَفْعَلُوا » أي تلك المضارّة على أحد التقديرين « فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ » أي خروج عن أوامر اللّه سبحانه.

20 - « وَاتَّقُوا اللّهَ » أي اعتمدوا التقوى في كلّ ما أمركم اللّه به في أمور دينكم ودنياكم.

21 - « وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ » أي هذه الأحكام المذكورة كلها من تعليم اللّه لكم ما فيه مصالحكم فلا ترتابوا في شي ء من ذلك لأنّه بكلّ شي ء عليم وفي ذلك دلالة على أنّ الأحكام كلّها بتعليم اللّه سبحانه لا بالقياس والاستحسان.

وذكر علي بن إبراهيم في تفسيره أنّ في البقرة خمس مائة حكم وفي هذه الآية خاصّة خمسة عشر حكما وأنت فقد ظهر لك أكثر من ذلك.

الثانية ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1).

كان هنا تامّة لا تفتقر إلى خبر كقول الربيع ابن ضبع الفزاريّ (2)

إذا كان الشتاء فأدفئوني *** فانّ الشيخ يهدمه الشتاء

أي إن وجد ذو عسرة والفاء جواب الشرط ، والنظرة بمعنى الانظار وهو

ص: 56


1- البقرة : 280.
2- هو كما في سمط اللآلي ص 802 والإصابة الرقم 2728 والمعمرين ص 8 الربيع بن ضبع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدا بن فزارة قال أبو حاتم : عاش ثلاثمائة سنة وأربعين سنة ولم يسلم ، وقال حين بلغ مائتي سنة أبياتا منها إذا كان إلخ. وترى الأبيات في نوادر أبى على ج 3 ص 217 وبعده : إذا عاش الفتى مائتين عاما *** فقد ذهب المسرة والفتاء والمشهور في ضبط الربيع مصغرا وروى كأمير وروى بعضهم ربيع بن ضبيع بتصغيرهما. وذكر في أيام العرب في الجاهلية ص 122 قصة مصاحبته مع امرئ القيس.

التأخير ، والمراد بالمعسر عندنا من يعجز عن أداء ما عليه من الدّين ، ولا يحسب عليه قوت يومه ودست ثوبه ودار سكناه وخادمه المعتاد ، فانّ ذلك لا يجب صرفه في الدّين ، فإذا تحقّق العجز عمّا عدا ذلك وجب الانظار. وحرم المطالبة والحبس ومع القدرة تحلّ المطالبة ويجوز الحبس قال صلى اللّه عليه وآله « لي الواجد يحلّ عقوبته وعرضه (1) » واللّي المطل ، والعقوبة الحبس ، والعرض المطالبة.

قوله « وَأَنْ تَصَدَّقُوا » أي تسقطوا عن المعسرالدّين « فهو خَيْرٌ لَكُمْ » وفيه فوائد :

1 - أنّ الإبراء صدقة فيستلزم قصد القربة.

2 - أنّ الإبراء لا رجوع فيه كالصدقة.

3 - عدم اشتراط القبول فيه فيقع وإن لم يقبل المديون فلا يشترط حضوره ولا مشافهته.

4 - فهم بعضهم من هذا أنّ المندوب أفضل من الواجب لأنّ الانظار واجب والإبراء ندب ، وقد جعله خيرا فيكون أفضل ، وهو غلط فإنّ الإبراء جامع للنظرة والصدقة ، فالخيريّة باعتبارهما معا.

قوله « إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » أي إن علمتم حقيقة الصدقة ، علمتم خيريّتها فانّ

ص: 57


1- رواه الطوسي في المجالس ص 331 وبعده ما لم يكن دينه فيما يكره اللّه عزوجل.

العلم التصديقي مسبوق بالعلم التصوّريّ وموقوف عليه لأنّ المراد إن كنتم تعلمون أنّه خير لكم ، كما قاله الزمخشريّ.

الثالثة ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) (1).

وفي معناها ثلاث آيات أخرى :

ألف - ( إِنْ تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ ) (2).

ب - ( وَأَقْرِضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) (3).

ج - ( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) (4).

هذه أربع آيات استدلّ المعاصر بها على أرجحيّة القرض للمؤمن ، وأنّ فيه أجرا عظيما وأنّ اللّه هو المكافى ء عليه إذ الحقيقة ممنوعة لاستحالة الحاجة عليه تعالى ، فيحمل على إقراض عبيده.

وعندي في ذلك نظر فإنّ إطلاق القرض الّذي هو إعطاء شي ء ليستعيد عوضه وقتا آخر استعارة للأعمال الصالحة فإنّ الأعمال الصالحة يفعلها العبد ويحصل له العوض في الدار الآخرة وحينئذ لا دلالة في الآية على مشروعيّة القرض ، وقوله « إنّ الحقيقة ليست مرادة » مسلّم ، لكن حمله على إقراض المؤمنين من غير دلالة حمل من غير دليل ، ولا ضرورة إليه مع إمكان المجاز الّذي ذكرناه.

فان قال : حيث صدق لفظ القرض ومعناه بين اللّه وبين عبادة ، دلّ ذلك على مشروعيّته. قلنا فحينئذ كان ينبغي له أن يتعرّض لذلك في دليله ولم يفعل.

ص: 58


1- البقرة : 245 الحديد : 11
2- التغابن : 17.
3- المزمل : 20.
4- الحديد : 18.

هذا مع أنّه لا وجه للملازمة خصوصا مع الفرق بين القرضين ، فانّ قرض العبد للربّ ليستعيض أضعافه ، والقرض بين العبيد يحرم فيه الزيادة على المثل.

ولو استدلّ عليه بغير ذلك من العمومات القرآنيّة كقوله ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) (1) وقوله ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (2) وقوله ( إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ) (3) » وعن الصادق عليه السلام أنّ المعروف القرض (4) لكان أولى واللّه أعلم.

توابع الدين أنواع

النوع الأول : الرهن :

وهو لغة الثبات والدوام ومنه نعمة راهنة واللّغة الغالبة الكثيرة « رهن » وأما « أرهن » فلغة قليلة ، وشرعا وثيقة للمدين يستوفي منه دينه وفيه آية واحدة وهي :

( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ، فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) (5).

في الآية فوائد :

1 - الارتهان جائز مطلقا وتقييده في الآية بالسّفر وعدم وجدان الكاتب خرج مخرج الأغلب ، فإنّ السفر مظنّة إعواز الكاتب ، ولأنّ التقييد بالسّفر لا

ص: 59


1- المائدة : 3.
2- البقرة : 195.
3- النساء : 113.
4- تفسير العياشي ج 1 ص 275.
5- البقرة : 283.

يدل على شرعيّته في الحضر ولا عدم شرعيّته إلّا بدليل خارجيّ ، وقد وجد وهو فعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه رهن درعه وهو حاضر عند يهوديّ (1) والإجماع فإنّه لا خلاف في جوازه مطلقا.

وقال مجاهد والضحّاك بعدم جوازه إلّا في السفر وقد أبطل قولهما الإجماع.

2 - الجمهور على أنّه يشترط القبض في الرهن إلّا مالكا فإنّه اكتفى بالإيجاب والقبول ، وبالأوّل قال أكثر أصحابنا مستدلّين بالآية ، وبقول الباقر عليه السلام فيما رواه محمّد بن قيس « لا رهن إلّا مقبوضا » (2).

وقال المحقّقون منهم بالثاني لأصالة عدم الاشتراط ولعموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » والآية إنّما تدل بدليل الخطاب ، وهو باطل ، ولأنّها لو دلّت على شرطيّة القبض لزم التكرار ، ولا فائدة فيه ، وبيان الملازمة أنّه سمّاها رهنا قبل ذكر القبض فلو كان شرطا لما حسنت التسمية بدونه ، كما لا يقال : رهن مقبولة ، والمجاز وإن أمكن لكنّه خلاف الأصل ، والرواية ضعيفة ، لأنّ في طريقها محمّد بن قيس وهو مشترك بين الضعيف وغيره وفي الكلّ نظر وقد بيّنّاه في التنقيح.

3 - أكثر من يشترط القبض لا يشترط دوامه ، بل يكفي مسمّاه ، ولو أعاده جاز وحصل الرهن ، وقال أبو حنيفة : استدامته شرط.

4 - يجوز أخذ الرهن على كلّ حقّ ثابت في الذمّة سلما كان أو غيره وهو إجماع ولأنّ آية الدين عامّة.

5 - الرهن أمانة لا تضمن (3) إلّا مع تعد أو تفريط ، وقال أبو حنيفة : إنّه

ص: 60


1- أخرجه في مشكاة المصابيح ص 250 من حديث عائشة وقال متفق عليه.
2- رواه في التهذيب ج 2 ص 166.
3- وعليه الإجماع من الإمامية نقلا وتحصيلا كما شرحه في مفتاح الكرامة ج 7 ص 179 والعجب من صاحب الدروس حيث قال : لا يضمن على الأشهر مع أنا لم نقف على مخالف له من الإمامية والاخبار به مستفيضة ، وفيها الصحاح انظر الوسائل الباب 6 من أبواب كتاب الرهن. وعلى أى قال في الخلاف المسئلة 66 من مسائل الرهن ج 2 ص 616 : « وهو مذهب على عليه السلام » : ، ثم قال : وهو مذهب عطاء بن ابى رباح واليه ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل والأوزاعي وأبو عبيد أبو ثور ، وهو اختيار أبي بكر بن المنذر. وذهب أبو حنيفة وسفيان الثوري الى أن الرهن مضمون بأقل الأمرين من قيمته أو الدين وبه قال عمر بن الخطاب وذهب شريح والشعبي والنخعي والحسن البصري الى أن الرهن مضمون بجميع الدين انتهى. ونقل ابن رشد في بداية المجتهد ج 2 ص 272 عن مالك : الفرق بين ما لا يغلب عليه مثل الحيوان والعقار مما لا يخفى ، فالمرتهن فيه مؤتمن ، وما يغلب عليه من العروض فهو له ضامن. قال ابن حزم في المحلى ص 113 ج 8 : قال أبو محمد : أما تفريق مالك بين ما يخفى وبين ما لا يخفى فقول لا برهان على صحته لا من قرآن ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ولا قياس ولا قول أحد نعلمه قبله فسقط ، وانما بنوه على التهمة والتهمة ظن كاذب يأثم صاحبه ولا يحل القول به والتهمة متوجهة الى كل أحد وفي كل شي ء انتهى.

مضمون بأقلّ الأمرين من قيمته وقدر الدين ، لنا أصالة البراءة من الضمان ، ولرواية سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال « لا يغلق الرهن الرهن من صاحبه الّذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه (1) » يعني بقوله « من صاحبه »

ص: 61


1- أخرجه في المنتفى على ما في نيل الأوطار ج 5 ص 249 نقلا عن الشافعي والدار قطني واللفظ فيه : « لا يغلق الرهن من صاحبه » إلخ ثم ذكر في نيل الأوطار أنه أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وابن حبان في صحيحه وأخرجه أيضا ابن ماجة.قلت وتراه في ص 816 الرقم 2441 منه ونقل عنه أيضا في الجامع الصغير الرقم 9976 ص 451 ج 6 من فيض القدير واللفظ : « لا يغلق الرهن » فقط وليس فيه بقية الحديث وعلى كل قال في نيل الأوطار : وصحح أبو داود والبزار والدار قطني وابن القطان إرساله عن سعيد بن المسيب بدون ذكر أبي هريرة. قلت وكذا في الأم للشافعي ج 3 ص 186 واللفظ فيه كما في الكتاب وكذا في كثير من كتبهم الفقهية على ما رأيته وأظن ما في المنتفي فيه سقط من الناسخ وعلى كل « فيغلق » على ما في مفتاح الكرامة بفتح الياء واللام ، وكذا نقله في فيض القدير عن الطيبي ، ومعنى غلق الرهن على ما في القاموس كفرح استحقه المرتهن ونظيره ما ذكره الشيخ في الخلاف قال : لا يغلق الرهن أى لا يملكه ، وقال الأزهري على ما في نيل الأوطار الغلق في الرهن ضد الفك فإذا فك الراهن الرهن فقد أطلقه من وثاقه عند مرتهنه. وروى عبد الرزاق أيضا على ما في نيل الأوطار عن معمر أنه فسر غلق الرهن بما إذا قال الرجل : ان لم آتك بمالك فالرهن لك ، قال : ثم بلغني عنه أنه قال : ان هلك لم يذهب حق هذا ، انما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه ، ثم « لا » في « لا يغلق الرهن » نافية أو ناهية ، وقال الشافعي في الأم ص 186 ج 3 و « غنمه » سلامته وزيادته و « غرمه » عطبه ونقصه. وذكر السيد الرضى قدس سره في كتابه حقائق التأويل في متشابه التنزيل ص 295 عند شرح ما عابه المفسرون وأهل الأدب على الشافعي في معنى العول في الآية من سورة النساء ( ذلِكَ أَدْنى أَلّا تَعُولُوا ) » : والشافعي وان كان له موضع من العلم لا ينكر ، وحق لا يدفع ، فليس ينبغي أن يعجب من وهمه ، ثم سرد مواضع أخذ على الشافعي في كتبه ولا يقولها الا من لا حظ له في علم اللغة وذكر منها نقلا عن أبى عبد اللّه محمد بن يحيى بن مهدي الجرجاني الفقيه العراقي المتقدم في الفقه أن الشافعي فسر قول النبي صلى اللّه عليه وآله في الرهن « له غنمه وعليه غرمه » بأن الغرم ههنا يريد هلاك الرهن وخطأ هذا القول غير خاف وذلك أنه لم يقل أحد من أهل اللغة أن الغرم بمعنى الهلاك وانما هو عندهم بمعنى اللزوم والالظاظ بالشي ء ثم صار في العرف عبارة عما يلزم الإنسان الخروج منه من حق أو غيره وفيه ثلم له ونقص من ماله. ومن ذلك سمى الغريم غريما لثباته مع المطالب وحصولهما جميعا في حكم الثابتين وان اختلفت حالا ثبوتهما ، فصاحب الدين مانع مطالب. والذي عليه الدين ممنوع مطالب ، ولذلك قيل تلازما وان كان لم يعطيا المفاعلة حقها ، فان من حقها أن يفعل كل واحد من الاثنين بصاحبه مثل الذي يفعله به صاحبه ، وقد علمنا أن من عليه الدين الا يلازم ولا يثابت بل مراده أن يفلت من الربقة ويخلص من الضغطة وانما قيل تلازما على المعنى الذي ذكرناه ، ألا ترى الى قول العرجى وهو عبد اللّه بن عمرو بن عثمان بن عفان : فتلازما عند الفراق صبابة *** أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر فبين أن صاحب الدين هو المانع الحابس ، والمعسر هو الممنوع المحتبس وقول اللّه تعالى ( إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) معناه دائما لازما. وقد يحتج أصحاب الوعيد بذلك على خلود الفساق في النار نعوذ باللّه منها انتهى كلام الرضى قدس سره. وذكر ابن التركمانى أيضا في الجوهر النقي ج 2 ص 24 الإنكار على الشافعي في هذا التأويل قال : فحكى عن أبى عمرو غلام ثعلب أنه قال أخطأ من قال : الغرم الهلاك ، بل الغرم اللزوم ومنه الغريم لانه لزمه الدين وقال تعالى ( إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ) اى لازما ، وفي الصحاح : الغرامة ما يلزم أداؤه وكذا المغرم والغرم وفي كتاب الافعال « غرمت غرما لزمني مالا يجب على » قلت : والضبط في كتاب الافعال لابن القطاع ج 2 ص 419 وغرمت غرما لزمك مالا يجب عليك.

أي من ضمانه ومعنى لا يغلق أي لا يملكه المرتهن وإن شرط له ذلك عند الحلول.

6 - نبه في الآية بأخذ الرهن على الدين على حفظ المال وعدم التهوين به لما في ذلك من الدخول في حيّز التبذير وإهمال المصلحة المنافي ذلك لأفعال العقلاء.

ص: 62

ويؤيّده قوله صلى اللّه عليه وآله « إنّ اللّه يكره القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال (1) ».

وقوله « فرهن » أو « فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ » على القراءتين تقديره فالّذي يستوثق به رهن أو ينبغي أخذ رهن ، ووصفها بالقبض إذ لولاه لم يحصل كمال التوثّق لجواز إنكار الراهن أو النسيان أو الزيادة أو النقصان.

وفيه أيضا إشارة إلى كون الرهن عينا يمكن قبضها فلا يصح رهن الدين لعدم إمكان قبضه حالته (2) ويصحّ بيعها وإلّا لم يحصل الاستيثاق لو تعذّر الأداء.

7 - قوله « فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً » أي فان أمن بعض الدائنين بعض المدينين وحسن ظنّه به ، ولم يأخذ منه رهنا فليؤدّ ذلك [ المؤتمن ] المرتهن أمانته وسمّى الدين أمانة باعتبار عدم أخذ الرهن عليه ، وائتمان المديون عليه ، كذا قيل.

ولو قيل بأنّ المراد فإن أمن بعض الراهنين بعض المرتهنين ولم يأخذ منه الرهن بيده بل جعله في قبضه فليؤدّ ذلك أمانته لكان حسنا. وبالجملة في الكلام دلالة على وجوب أداء الأمانة والتزام التقوى في أدائها بعدم الخيانة وعدم التعدّي والتفريط.

8 - يحرم كتمان الشهادة ويجب أداؤها وهذا العموم مخصوص بما لم يشتمل

ص: 63


1- راجع المستدرك ج 1 ص 541 أخرجه من تفسير أبى الفتوح.
2- نص : خالية.

على ضرر غير مستحقّ يصل إلى الشاهد أمّا مع حصوله فلا يجب الأداء حينئذ ثمّ إنّه تعالى لم يقتصر على النهي عن كتمانها المستلزم للإثم بل أكّد ذلك مبالغة بالنصّ على الوصف بالإثم بقوله « فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » وفائدة ذكر « قلبه » أنّ كتمان الشهادة من أفعال النفس الأمّارة الّتي هي النفس الحيوانيّة والقلب محلّها فإسناد الإثم إلى القلب من باب إسناد فعل الشي ء إلى محلّه كقولهم جرى الميزاب أي ماء الميزاب وقال الزمخشريّ : إنّه من باب إسناد الفعل إلى الجارحة الّتي يعمل بها كقولهم هذا ممّا أبصرته عيني وفعلته يدي. وفيه نظر لانّه لو كان كذلك قال آثم لسانه لأنّ إقامة الشهادة آلتها اللّسان وكذا كتمانها.

وفي النظر نظر لأنّه حينئذ لا يكون في الكلام مبالغة ، والأحسن أن يقال إنّما ذكر القلب لئلّا يظنّ أنّ كتمان الشهادة من الآثام المتعلّقة باللّسان فقطّ بل القلب أصل متعلّقه ومعدن اقترافه واللّسان ترجمان عنه وهنا مسائل :

1 - حيث تقدّم جواز ثبوت الدين على الصبيّ والسفيه وأمثالهما جاز أخذ الرهن من أموالهم وجاز للوليّ فعل ذلك للمصلحة لأنّه من توابع الدّين.

2 - عقد الرهن لازم من طرف الراهن ، وإلّا لانتفت فائدته ، وجائز من طرف المرتهن لأنّه لمصلحته.

3 - لا يصحّ الارتهان على ما ليس ثابتا في الذمّة كالأمانات وكذا لا يصحّ على الإجارة المتعلّقة بالعين ويصح على العمل المطلق ، وهل يصحّ على الأعيان المضمونة الأقوى ذلك.

4 - لا يشترط ملكيّة الراهن للرهن ، بل جواز تصرّفه فيه فيجوز الاستعارة للرهن ، ويدخل في ضمان الراهن بقبضه من المعير ، وإن لم يقع العقد بعد على الأصحّ ، ولا يضمنه المرتهن وإن قبضه.

5 - المرتهن إن كان وكيلا للمالك باع مع حلول دينه واستوفى ، وكذا لو كان وصيّة وإن لم يكن أحدهما فله إلزام المالك أو وارثه بالبيع أو أداء الحقّ بل وله ذلك أيضا وإن كان وكيلا أو وصيّا ومع تعذر الكلّ يستأذن الحاكم في البيع.

ص: 64

النوع الثاني : ( الضمان )

وفيه آيتان :

الاولى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (1).

الثانية ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) (2).

الزعامة والكفالة والضمان مترادفة وهنا فوائد :

1 - الضمان عندنا بنقل المال من ذمّة إلى ذمّة ، وقيل ضم ذمّة إلى ذمّة ، وهو قول الفقهاء الأربعة ، فعلى هذا يكون المضمون له مخيّرا في مطالبة أيّهما شاء ، والحقّ الأوّل لما ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه حضرته جنازة فقال « على صاحبكم دين؟قالوا نعم درهمان ، فقال صلّوا على صاحبكم فقال عليّ عليه السلام هما عليّ يا رسول اللّه وأنا لهما ضامن فصلّى عليه النبيّ صلى اللّه عليه وآله ثمّ أقبل على عليّ عليه السلام فقال جزاك اللّه عن الإسلام خيرا ، وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك (3) » وهذا الحكم كان في صدر الإسلام أنّه لم يصلّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله على من لم يخلف وفاء دينه ثمّ نسخ بقوله تعالى « النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (4) » دلّت هذه الرواية على أنّ الميّت قد انتقل الحقّ من ذمّته.

ص: 65


1- يوسف : 72 وصدره « قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ؟ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ » الآية.
2- القلم : 40.
3- أخرجه النوري في المستدرك ج 2 ص 491 عن غوالي اللئالى ورواه الشيخ في الخلاف عن ابى سعيد الخدري كما في الوسائل ب 3 ح 2 من كتاب الضمان.
4- الأحزاب : 6.

2 - مورد الضمان هو كل ما صحّ أخذ الرهن عليه فلا يصحّ ضمان الأمانات ولا العمل المتعلّق بالعين.

3 - لا يشترط العلم بقدر المضمون حالة الضمان فاللازم حينئذ ما تقوم به البيّنة بتاريخ سابق عليه ، لا [ على ] ما تأخّر تاريخه أو يقرّ به الغريم وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعيّ وأحمد لا يصح ضمان المجهول ، وبه قال بعض الأصحاب لئلّا يلزم الغرر ، والحق الأوّل لعموم قوله صلى اللّه عليه وآله « الزعيم غارم (1) » والغرر يندفع بما تقوم به البيّنة.

4 - الضمان عقد يشترط فيه رضى الضامن قطعا ولا يشترط رضى المضمون عنه وأمّا المضمون له فالأصحّ اشتراط رضاه وللشافعيّ [ فيه ] قولان لنا أنه إثبات حقّ له في ذمّة غير من هو عليه ، فلا بدّ من رضاه وقال الشيخ : لا يشترط محتجا بقضيّة علي عليه السلام ويمكن أن يجاب بإمكان أنّه كان حاضرا فرضي أو اختصاص ذلك بالميّت أو رضى الرسول صلى اللّه عليه وآله قام مقامه لأنّه وليّ المؤمنين.

5 - حيث لا اعتبار برضى المضمون عنه فلو أدّى الضامن وكان ضمانه بغير إذنه فلا رجوع له به ، ولو كان الأداء بإذن المضمون عنه ، ولو أذن في الضمان رجع الضامن بما أدّاه ولو كان الأداء بغير إذنه [ ولو كان بسؤاله رجع عليه بالأقلّ ممّا أدّى وممّا ضمن به ] (2).

6 - في صدر الآية الأولى حكمان :

1 - مشروعيّة الجعالة وهي تقع على كلّ عمل محلّل مقصود وإن كان مجهولا.

2 - شرعيّة ضمان مالها لأنّه وإن لم يكن لازما لكنّه آئل إليه واستدلّ بعضهم بجواز ضمان مالها على لزومها إذ غير اللّازم لا يصحّ ضمان ماله وفيه نظر إذ جواز الضمان مشروط بتمام العمل وحينئذ يصير لازما فصحّ ضمانه لذلك.

ص: 66


1- أخرجه في المستدرك ج 2 ص 489 و 497 عن غوالي اللئالي.
2- كذا في هامش نص مع رمز خ.
النوع الثالث

( الصلح )

وفيه آيات ستّ :

الاولى ( فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) (1).

الثانية ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ ) (2).

الثالثة ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (3).

الرابعة ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما ) (4).

الخامسة ( فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) (5).

السادسة ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (6).

إذا عرفت هذا ففي هذه الآيات فوائد :

1 - مشروعيّة الصلح ويؤكّده قوله صلى اللّه عليه وآله « الصلح جائز بين المسلمين إلّا ما

ص: 67


1- الأنفال : 1.
2- النساء : 113.
3- الحجرات : 10.
4- النساء : 34.
5- الحجرات : 9.
6- النساء : 127.

حرّم حلالا أو حلّل حراما (1).

2 - في الآيات دلالة على أنّه شرّع لقطع التنازع. فهو المقصود [ منه ] بالذات وإن أفاد أمرا زائدا على ذلك فبحسب ما ينضم إليه من القرائن.

3 - أنّه يصحّ مع الإقرار والإنكار ، وعلى المعلوم والمجهول ، وعلى الدين والعين ، والمنفعة ، وعلى إطفاء النائرة ، وحقن الدماء ، وإصلاح ذات البين ، وإصلاح حال الزّوجين ، فموضوعه أعمّ من موضوع باقي العقود ، فلذلك اشتهر بين الأنام أنّه سيّد الأحكام.

4 - حيث ظهر لك أنّه أعمّ موضوعا فاعلم أنه عقد قائم بنفسه ليس فرعا على غيره وإن أفاد فائدته.

5 - يشترط فيه مراعاة الأمور الشرعيّة المعتبرة في العقود وسيأتي تفصيل شي ء من مجملات كلّيّاتها.

6 - في الصلح نفع عظيم إذ مع قطع النزاع يحصل تمام نظام النوع ، وفوائد المعاش ، فلذلك وصفه سبحانه بأنه « خير » أي خير عظيم والسعي فيه لإصلاح ذات البين فيه أجر جزيل قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام (2) » وقال الباقر عليه السلام « إنّ الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهما عن ذنبه فإذا فعلا ذلك استلقى على قفاه ومدّ يده وقال فزت. فرحم اللّه امرءا ألّف بين وليين لنا ، يا معشر المؤمنين تآلفوا وتعاطفوا (3) ».

ص: 68


1- رواه الصدوق في الفقيه ج 2 ص 12. وأخرجه في الوسائل كتاب الصلح ب 3 ح 2.
2- رواه الشيخ في التهذيب كما في المستدرك ج 1 ص 498.
3- تراه في أصول الكافي ج 2 ص 345 باب الهجرة ح 6 وفيه : ما لم يرجع أحدهم عن دينه [ ذنبه ] فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه وتمدد إلخ ».
النوع الرابع : الوكالة

وهي لغة مشتقّة من وكل إليه الأمر أي فوّضه إليه ، وشرعا استنابة في التصرّف ، واستدلّ الراونديّ والمعاصر على مشروعيّتها بثلاث آيات :

الأولى ( إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (1).

قال : وهو شامل للوليّ ، والوصيّ في موضع ، والوكيل.

الثانية ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) (2).

أي أعطوه دراهمكم وأقيموه مقام أنفسكم في الابتياع.

الثالثة ( فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا ) (3).

والعرب تسمّي الوكيل والخادم فتى ، والمراد في الآية هو يوشع عليه السلام وليس خادما فتعيّن كونه وكيلا فدلّ [ ت الآيات ] على مشروعيّة الوكالة وعندي في الاستدلال بهذه الآيات نظر.

أمّا الاولى فلأنّ المراد بالّذي بيده عقدة النكاح الوليّ الإجباريّ أو الزّوج وسيأتي تحقيقه.

وأمّا الثانية فإنّها حكاية حال غير مشرّع ولا معصوم فلا يكون حجّة.

وأمّا الثالثة فلأنّ المراد بالفتى العبد والخادم ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله : « ليقل

ص: 69


1- البقرة : 237.
2- الكهف : 19.
3- الكهف : 63.

أحدكم فتاي وفتأتي ولا يقل عبدي ولا أمتي (1) » وبالجملة ليس في الآيات المذكورة نصوصيّة على مشروعيّة الوكالة في هذه الشريعة فلا يكون حجّة اللّهمّ إلّا الآية الثانية فإنّها حكاية فعل قوم صالحين في سياق مدحهم ، فلو لم يكن سائغا لما حسن ذكره ، وفي آية بعث الحكمين (2) إشارة إلى مشروعيّتها ، ولذلك قيل : إنّ البعث توكيل.

واعلم أنّ متعلّق الوكالة هو كلّ ما لم يتعلّق غرض الشارع بإيقاعه من مباشر بعينه وهو سائر العقود والفسوخ والإيقاعات ، إلّا الظهار والإيلاء واللّعان والنذر والعهد واليمين ولا تصح فيما تعلّق حكم الشارع بوقوعه من مباشر بعينه ، كالقسم بين الزوجات ومباشرة المعاصي وأمّا العبادات فقد تقدّم لنا فيها تفصيل واف وفي صحّة التوكيل بإثبات اليد على المباحات خلاف أقربه الجواز وللوكالة أحكام تفاصيلها معلومة في كتب الفقه.

ص: 70


1- سنن ابى داود ج 2 ص 591 ولفظه : لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ، ولا يقولن المملوك ربي وربتى ، وليقل المالك فتاي وفتاتي ، وليقل المملوك سيدي وسيدتي ، فإنكم المملوكون ، والرب : اللّه جل جلاله.
2- يريد قوله تعالى ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) النساء : 34.

كتاب فيه جملة من العقود

اشارة

وفيه مقدّمة وأبحاث :

أمّا المقدّمة ففيها آية واحدة تشتمل على أحكام كلّية وهي :

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1).

قيل : كلّ آية صدّرت ب « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » فهي مدنيّة وب « يا أَيُّهَا النّاسُ » فهي مكية والأصحّ أنّ هذا على الأغلب يقال : وفي بعهده وأوفى بمعنى واحد والمراد بالعقود كلّ ما يعقده الناس في معاملاتهم ، وقيل المراد بالعقود العهود الّتي عقدها اللّه على عباده والأولى حمله على الجميع لعموم اللفظ وعدم ثبوت المخصّص فهنا فوائد :

1 - الوفاء بالعقد : القيام بمقتضاه ، فان كان لازما وجب الوفاء بلزومه ، وإن كان جائزا وجب الوفاء بجوازه ، وحينئذ يكون في العقد إجمال يعلم حاله من البيان النبويّ أو الإماميّ.

2 - العقد شرعا اسم للإيجاب والقبول :

وهو قد يكون لازما من طرفيه كالإجارة ، والمزارعة ، والمساقاة ، والصلح والوقف ، والنكاح ، والهبة في بعض صورها ، والكتابة بنوعيها ، على الأقوى وعقد السبق على قول ، والضمان.

وقد يكون جائزا من طرفيه كالوديعة ، والعارية ، والقراض ، والشركة والوكالة ، والوصيّة ، والقرض ، والجعالة ، والهبة ، في بعض صورها.

وقد يكون لازما من طرف وجائزا من آخر كالرهن وكفالة البدن (2) وعقد الذمّة ، والأمان ، وقيل : والهبة من ذي الرحمن أو مع القربة أو مع التعويض أو التصرّف

ص: 71


1- المائدة : 1.
2- في نص : وكفاية الدين.

والأولى اللّزوم من الطرفين إذ لا يجب على الواهب القبول بفسخ المتّهب ولأنّه ملك جديد.

وقد يكون جائزا في مبدئه ثمّ يؤول إلى اللزوم كالهبة بعد القبض ، وقبل أحد الثلاثة السابقة ، والوصيّة قبل الموت والقبول وتلزم بعدهما.

وقد يكون لازما في مبدئه ثمّ يصير جائزا كالبيع إذا طرء عليه فسخ بخيار أو فوات شرط معيّن أو وصف كذلك أو انفساخ كلف مبيع قبل قبضه أو ثمن كذلك أو غير ذلك.

3 - كلّ عقد لازم يجب فيه أمور الأوّل : أن يكون إيجابه وقبوله لفظيين الثاني : أن يوقعا بالعربيّة اختيارا. الثالث : أن يوقعا بصيغة الماضي ، الرابع : فوريّة القبول ومطابقته بما يعدّ كذلك عرفا وكذا يجب في الرهن على الأولى الخامس تنجيزه فلا يصحّ معلّقا ولا يجب في الجائز شي ء من ذلك بل اللّفظ الدال على المقصود منها مع القرينة.

4 - يجب في كلّ عقد صدوره عن مالك أو [ من في ] حكمه كالأب أو الجدّ له أو الوكيل أو الوصيّ أو الحاكم أو الأمين أو القاضي أو ناظر الوقف أو الملتقط إذا خاف هلاك اللّفظة وتعذّر الحاكم وكذا الودعيّ في الوديعة أو بعض المؤمنين في مال الطفل عند تعذّر الوليّ.

5 - يجب في كلّ عقد اشتماله على مقتضاه فلو شرط فيه غير مقتضاه كان باطلا فيما يكون ركنا فيه وما لم يكن ركنا فيه ويشتمل على غرر أو محرّم فكذلك وإلّا فجائز.

وحكم العقد الصحيح ترتّب أثره وتوابعه ، وحكم غير الصحيح عدم ترتّب أثره وتوابعه ، والشرط اللّازم الوفاء هو ما يقع بين الإيجاب والقبول فلو تقدّم على العقد أو تأخّر فلا أثر له.

7 - حيث أخذنا العقود بالمعنى الأعمّ ، تصلح الآية للاستدلال بها على

ص: 72

وجوب إيفاء النذر والعهد واليمين ، بما عقده مع ربّه أو مع غيره ، ممّا لم يخالف المشروع كالمزارعة والمساقاة والسكنى والإجارة وغير ذلك من الأحكام والإيقاعات فلنذكر ما ورد من الآيات في مشروعيّة شي ء منها نصا أو ظاهرا وذلك أنواع :

النوع الأول : الإجارة

وفيها آيتان :

قوله تعالى ( يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ) (1).

وقوله تعالى ( عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) (2).

دلّتا على مشروعيّة الإجارة. وإن كانت في شرع غيرنا لأصالة عدم النسخ مع اشتمال عقدها على كونه من متممات (3) نظام النوع ، لأنه ممّا يضطرّ إليه لما تقرّر في العلوم الحقيقيّة أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش وحده ، فيفتقر إلى التعاضد وذلك غير واجب على الغير القيام به ، فيجوز أخذ العوض عليه ، فتشرّع المعاوضة على المنفعة وذلك هو المطلوب ، وفي الآية الثانية إشارة إلى وجوب ضبط العمل بالمدّة إن قدّر بها وإلّا فبغيرها من الضوابط.

النوع الثاني : الشركة

وذكر المعاصر وغيره ثلاث آيات :

الاولى ( فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ) (4).

ص: 73


1- القصص : 26.
2- القصص : 27.
3- في نص : مهمات.
4- الأنفال : 69.

دلّت على اشتراك الغانمين في الغنيمة لجمعهم في الخطاب.

الثانية قوله في المواريث ( فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ) (1).

وكذا باقيها لاقتضائها الشركة التزاما.

الثالثة ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) . الآية (2).

على قول من يقول بوجوب البسط على الأصناف والأصحّ أنّها لبيان المصرف فلا تدلّ على الشركة وهذه الآيات تدلّ على حصول معنى الشركة ، فيجوز تعاطيها بإيجاد أسبابها ، وهي يتحقّق بأمور :

1 - مزج المتساويين بحيث لا تمايز لأحدهما عن الآخر.

2 - تملّك الشخصين سلعة واحدة بالبيع أو بما يشبهه من العقود.

3 - حيازتهما معا سلعة واحدة دفعة وفي معناها قبضهما سلعة واحدة من دينهما ولا حكم للشركة بغير ذلك من الوجوه والمفاوضة والأبدان.

النوع الثالث : المضاربة

وهي أن يدفع الشخص إلى غيره مالا من أحد النقدين المسكوكين لتصرّف في ذلك بالبيع والشراء على أنّ له حصّة معيّنة من ربحه وفيه ثلاث آيات :

الاولى ( فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ ) (3).

الثانية ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) (4).

ص: 74


1- النساء : 11.
2- براءة : 61.
3- الجمعة : 10.
4- النساء : 100.

الثالثة ( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ ) (1).

قال المعاصر : يمكن أن يستدلّ بها على جواز المضاربة لأنّها دلّت على رجحان التكسّب ولم يفرّق بين كونه بمال المكتسب أو بمال غيره وعندي في الاستدلال بها نظر يعلم ممّا تقدّم في باب القرض ، ولأنّ الضرب في الأرض هو التصرّف فيها وهو أعم من المتنازع والعام لا دلالة له على الخاصّ وأيضا المضاربة يكون حضرا وسفرا فالاستدلال بهذه يخصّص موضوعها.

النوع الرابع : الإبضاع

وهو أن يدفع الإنسان إلى غيره مالا ليبتاع له به متاعا ولا حصّة له في ربحه وفي مشروعيّتها ثلاث آيات :

الاولى ( وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ ) (2).

الثانية ( وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (3).

الثالثة ( وَلَمّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) (4).

والبضاعة في هذه الآيات هي ثمن طعام اشتروه من يوسف ، وفي العرف لا يطلق إلّا على ما وقع فيه التجارة ، وفي اصطلاح الفقهاء يقال على ما ذكرناه.

ثمّ اعلم أنّ عامل البضاعة حيث لا حصّة له في الربح فان تبرّع بالعمل فلا اجرة له أيضا وإلّا كان له اجرة مثل عمله في تلك البضاعة.

ص: 75


1- المزمل : 20.
2- يوسف : 62.
3- يوسف : 88.
4- يوسف : 65.

النوع الخامس : الإيداع

وفيه آيات :

الاولى ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (1).

الثانية ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ) (2).

الثالثة ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ) (3).

وهنا فوائد :

1 - الأمانة مشتقّة من الأمن الحاصل من حسن الظنّ بالمستأمن ، فيجب عليه أن يكون كذلك ، فيحرم عليه الخيانة ، والتعدّي والتفريط بإهمال أسباب حفظها من المؤذيات ، ويختلف ذلك بحسب اختلاف الأمانة في كيفية حفظها عرفا.

2 - الأمانة نسبة إلى يد غير المالك تقتضي عدم الضمان ، وهي قد تكون من المالك كالوديعة والعارية والرهن والإجارة وغيرها ، وقد تكون من الشرع ، وهي المسمّاة بالأمانة الشرعيّة فالآية الأولى شاملة للقسمين والأخيرتان تختصّان بالقسم الأوّل.

3 - يجب في الأمانة الشرعيّة المبادرة إلى إعلام المالك مع المكنة فإن تمكّن وأهمل ضمن ، وإلّا فالظاهر عدم الضمان ولها صور :

ص: 76


1- النساء : 57.
2- البقرة : 283.
3- آل عمران : 75.

الاولى : إطارة الريح الثوب إلى داره ، فيجب الإعلام أو أخذه وردّه إلى مالكه.

الثانية : انتزاع الصيد من المحرم أو من محلّ أخذه من المحرم.

الثالثة : انتزاع المغصوب من الغاصب بطريق الحسبة.

الرابعة : أخذ الوديعة من صبي أو مجنون خوف إتلافها.

الخامسة : تخليص الصيد من جارح ليداويه أو من شبكة في الحرم.

السادسة : لو تلاعب الصبيان بالجوز أو البيض وصار في يد أحدهما جوز الآخر أو بيضه وعلم به الوليّ فإنّه يجب ردّه على وليّ الآخر ، ولو تلف في يد الصبيّ قبل علم الوليّ ضمنه في ماله ، ولا عبرة بعلم غير الوليّ كأمّ أو أخ لأنّه ليس قيّما عليه ، فلو أخذه أحدهما بنية الرد على المالك أمكن إلحاقه بالأمانة ، ولو كان أحد المتلاعبين بالغا ضمن ما أخذه من الصبيّ ، وهل يضمن الصبيّ ، المأخوذ من البالغ؟ فيه نظر أقر به عدم الضمان لتسليطه إيّاه على إتلافه.

السابعة : لو ظفر المقاصّ بغير جنس حقّه ، فهل هو أمانة شرعيّة حتّى يباع؟ الأقوى [ عدم ] (1) الضمان عند بعض الأصحاب ، وهو جيّد ، لكن في قدر حقّه أمّا الزائد على قدر حقّه إذا لم يمكن التوصّل إلى حقّه إلّا به ، فالأجود عدم الضمان كمن كان له مائة فلم يجد إلّا دابّة تساوي مائتين.

الثامنة : لو مات المودع ولم يعلم الوارث بالأمان ، وكذا لو أودع الوكيل مالا ليوصل إلى المالك. فوصل الودعيّ إلى بلده ولم يعلم المالك بها ، وكذا الولي لو بلغ الطفل ورشد ولم يعلم بماله. وأمثال ذلك كثيرة ، أمّا الكتب المرسلة فيقوى فيها ذلك ، ويحتمل العدم لأنّها ملك المرسل. والأمر بإيصالها لا يقتضي الفوريّة شرعا ويضعّف بأنّ العرف يقتضيه ، والشرع وإن لم يقتضيه ، فلم يقتض عدمه ومن هنا هل يجب رد الرقاع على ورثة المرسل؟ يحتمل ذلك لملكه لها فتنتقل إلى ورثته ، ويحتمل العدم للعادة ، هذا مع بقاء عينها وإلّا فلا ضمان قطعا.

4 - تشترك الأمانتان في عدم الضمان بغير التعدّي والتفريط ، وفي وجوب

ص: 77


1- زيادة يقتضيها السياق.

الردّ مضيّقا إلى المالك أو وكيله أو وليه مع الطلب ، وتفترقان في وجوب الاعلام فورا في الشرعيّة وعدم قبول قوله في ردّها بخلاف غير الشرعيّة في الحكمين.

قوله في الثانية « فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ » الأمر هنا للوجوب بشرط الطلب من المالك أو من بحكمه وفي الآيتين حثّ على وجوب ردّ الأمانة ، وتهديد صريح ، ووعظ على عدم ذلك لقوله في آخر الآية الاولى ( إِنَّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) والوعظ هو التحذير من عقاب اللّه ، والترغيب في ثوابه ، وقوله في الثانية « وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ».

5 - الممدوح بأداء الأمانة في الآية الثالثة هم النصارى ، والمذموم هم اليهود لأنّ النصارى لا يستحلّون أموال من يخالفهم في الاعتقاد بخلاف اليهود فإنّهم يستحلّون أموال من يخالفهم بدليل قوله تعالى حكاية عنهم « لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) (1) والمراد بالاميّين من ليس على دينهم فكذّبهم اللّه في مقالتهم هذه بقوله « وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » بأنّه كذب وقوله « إِلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً » أي إلّا مدّة إقامتك على رأسه مبالغا بالتقاضي والمطالبة.

النوع السادس : العارية

وهي إذن في الانتفاع بالعين تبرّعا وموضوعها كلّ عين ينتفع بها مع بقائها.

واشتقاقها إمّا من العري لعرائها من العوض أو من « عار » إذا ذهب ورجع ومنه قول الشاعر :

أعيروا خيلكم ثمّ اركضوها *** أحقّ الخيل بالركض المعار (2)

ص: 78


1- آل عمران : 75.
2- هكذا ضبطه في المحكم لابن سيده ج 2 ص 170 وقال فيه : المعار : المسمن ثم أنشد البيت ونقله في ذيله عن المفضليات واللسان والتاج وكتاب سيبويه قال هو لبشر ابن ابى حازم ونسبه في اللسان الى طرماح بن حكيم. قلت وكذا نسبه في الصحاح الى طرماح والضبط فيه : وجدنا في كتاب بنى تميم *** أحق الخيل بالركض المعار وكذا ضبطه في الكتاب ص 65 ج 2 باب الحكاية وقال الشنتمرى في شرحه على أشعار الكتاب : والمعار السمين كذا فسر ، وهو غير معروف والأشبه عندي أن يكون بمعنى المستعار ، ويكون المعنى أنهم جائرون في وصيتهم لأنهم يرون العارية أحق بالابتذال والاستعمال مما في أيديهم ، ويحتمل أن يريد أن العارية أحق بالاستعجال فيها ليرد سريعا من معيرها كما قال : كأن خفيف منخره إذا ما *** كتمن الربو كير مستعار ويروى المغار بالغين المعجمة وهو الشديد الخلق ، من قولك : أغرت الحبل : إذا أحكمت فتله ، انتهى. ونقل في الصحاح عن أبى عبيدة أن الناس يرونه المعار من العارية وهو خطأ وذكر في الصحاح في معناه ما يقارب ما ذكره المصنف ، قال : وعار الفرس أى انفلت وذهب ههنا وههنا من مرحه ، وأعاره صاحبه فهو معار ، ومنه قول الطرماح ، ثم أنشد البيت.

وذكر المعاصر لمشروعيّتها آيتين :

الاولى ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (1).

الثانية ( وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) (2).

ومدلول الأولى الأمر بالتعاون على البرّ ، وهو صريح في العارية ، لما قلناه من الاذن فيها تبرّعا ، ومدلول الثانية أنّه عطفه على أمور مذمومة ، وهي السهو عن الصلاة والرياء بها ، فيكون المنع من الماعون وهو ما يتعاون به عادة مذموما أيضا قضيّة للعطف ، فيكون عدم المنع في معرض المدح ، وذلك هو المطلوب وهنا فوائد :

ص: 79


1- آل عمران : 3.
2- الماعون : 7.

1 - العارية أمانة وليست مضمونة خلافا للشافعيّ محتجّا بقوله صلى اللّه عليه وآله لمّا استعار من صفوان بن أميّة أدرعا فقال أغصبا يا رسول اللّه! فقال « لا بل عارية مضمونة (1) » وليس بحجّة بل هو اشتراط لضمانها ، ونحن نقول به وإلّا لكان تأكيدا والتأسيس خير منه.

2 - العارية تضمن بأمور الأوّل : اشتراط الضمان ، الثاني : التعدّي والتفريط الثالث : الاستعارة من غاصب الرابع : استعارة المحرم للصيد ، الخامس : كون العين [ المعارة ] ذهبا أو فضّة ، السادس : الاستعارة للرهن.

3 - ينتفع بالعين في كلّ ما جرت العادة به عرفا ولو عيّن المالك نوعا اقتصر عليه ولو خالف المستعير ذلك ضمن ، ولو تلفت بالاستعمال لا مع المخالفة ، لم يضمن.

النوع السابع : السبق والرماية

وفي مشروعيّتهما مصلحة جليلة وهي الارتياض لممارسة القتال مع الكفّار لإعزاز كلمة الإسلام ، وإلّا فهي في الأصل رهان وقمار وفي الحديث « إنّ الملائكة لتنفر من الرهان وتلعن صاحبه ، إلّا في النصل والريش والخفّ والحافر (2) » ويدخل في النصل الرّمح والسيف والسهم ، وفي الخفّ الإبل والفيلة ، وفي الحافر الفرس والبغل والحمار ، وهنا آيات :

الاولى ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) (3).

ص: 80


1- ذكره ابن هشام في السيرة ج 2 ص 440 وفيه : بل عارية ومضمونة حتى نؤديها إليك ».
2- رواه الصدوق في الفقيه ج 2 ص 216 وأخرجه في المستدرك ج 2 ص 516 عن أصل زيد النرسي.
3- الأنفال : 61.

وردّ بأنّ المراد بالقوّة الرمي.

الثانية ( إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ) (1).

والأصل بقاء المشروعيّة وعدم النسخ.

الثالثة ( فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) (2).

أي ما أجريتم عليه ، من الوجيف وهو سرعة السير.

النوع الثامن : الشفعة

واشتقاقها إمّا من الشفع وهو الزّوج كأنّ المشفوع كان فردا فصار زوجا أو من الشفاعة وليس في الآيات الكريمة ما يدلّ عليها صريحا بخصوصيّتها بل لمّا كان مشروعيّتها لازالة الضّيق والضرر والمضاغنة الحاصلة من الشركة ، جاز أن يستدلّ عليها حينئذ بآيات تدلّ على رفع ذلك كقوله تعالى :

( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3).

وقوله ( وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ) (4).

وقوله ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (5).

وموضوعها عندنا كلّ عقار مشترك بين اثنين فيبيع أحدهما حصّته فللآخر الانتزاع من المشتري مع بذل الثمن له ، ولها شروط نذكر منها كلّياتها وهي ثمانية :

ص: 81


1- يوسف : 17.
2- الحشر : 60.
3- الحج : 78.
4- البقرة : 220.
5- البقرة : 185.

1 - كون الشركة في عقار ثابت لا ما ينتقل من المبيعات.

2 - انتقال الحصّة بالبيع لا بغيره من العقود.

3 - عدم زيادة الشركاء على اثنين.

4 - بقاء الشركة بالجزء المشاع ، فلو قسم وميّز فلا شفعة إلّا مع بقائها في الطريق أو النهر.

5 - قدرة الشفيع على الثمن.

6 - أن لا يكون كافرا والمشتري مسلما.

7 - كون العقار قابلا للقسمة فلا شفعة في العضائد الضيّقة.

8 - المطالبة على الفور لقوله صلى اللّه عليه وآله « الشفعة لمن واثبها » (1) ولا تثبت عندنا بالجوار ولا في غير ما ذكرنا من المبيعات ولا مع زيادة الشركاء على اثنين ولا غير ذلك ممّا قيل ، لأنّ هذا الانتزاع على خلاف الأصل فيقتصر فيه على محلّ الوفاق.

النوع التاسع : اللقطة

وهي إمّا إنسان أو حيوان أو مال أو غير ذلك ولم يرد في الكتاب في شرعنا نصوصيّة عليها بل عموم :

( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (2).

وقوله ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (3).

ولا ريب أنّ أخذ اللّقيط في موضع الحاجة برّ وإحسان إليه فلو لا مشروعيّته لأدّى إلى تلفه المنافي لحكمة الصانع الجواد الكريم الرؤف الرحيم وقد ورد حكاية اللّقطة في القرآن العزيز عن القرون الماضية كقوله :

ص: 82


1- أخرجه في المستدرك ج 3 ص 149 عن غوالي اللآلي ولفظه « الشفعة لمن يأتيها ».
2- آل عمران : 3.
3- البقرة : 148 والمائدة : 51.

( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ) (1).

وقوله ( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيّارَةِ ) (2).

وهاتان وإن لم يكن في ظاهرهما أمر لكن في مضمونهما تنبيه وإشارة إلى هذه الوظيفة المناسبة للشفقة على خلق اللّه تعالى.

واعلم أنّ أخذ اللّقيط واجب لظاهر قوله تعالى ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) لكن على الكفاية لحصول المقصود بقيام من يحضنه وأمّا الحيوان والمال فلهما أحكام وتفاصيل علمت من السنّة الشريفة النبويّة والإماميّة تذكر في غير هذا المكان.

النوع العاشر : الغصب

وهو الاستيلاء على مال الغير بغير حقّ وقد ورد في النهي عنه آيات كثيرة منها ما يدلّ بعمومه كقوله تعالى :

( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (3).

وقوله ( إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ ) (4).

ومنها ما يدلّ بخصوصه ويدلّ على جواز المقاصّة والاستيفاء كقوله :

( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (5).

وقوله ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (6).

ص: 83


1- القصص : 8.
2- يوسف : 10.
3- البقرة : 188 والنساء : 28.
4- براءة : 35.
5- البقرة : 194.
6- الشورى : 60.

وقوله ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (1).

وتفاصيل ذلك وأحكامه مذكور في المطوّلات من كتب الفقه. فلتطلب منها لكنّا نذكر هنا فوائد.

1 - الاعتداء قد يكون بالاستيلاء ، وقد يكون بالإتلاف للمنفعة أو العين مباشرة أو تسبيبا من العامد أو المخطئ.

2 - يجب على الغاصب والمعتدي ردّ ما غصبه أو أتلفه أو عوض ذلك مع التعذر فان لم يفعل تسلّط المالك على الانتزاع وسمّاه اعتداء وسيّئة مجازا تسمية للشي ء بمقابله.

3 - مع وجود العين ، للمالك انتزاعها ، وإن لم يرض الغاصب ، ومع تلفها وبذل الغاصب واعترافه لا يسلّط على أخذ العوض إلّا برضى الغاصب لأنّ له الخيار في جهات القضاء من أيّ أمواله شاء ، فان ماطل أو أنكر ولا بيّنة أو كانت على الأصحّ فللمالك الأخذ من أيّ أمواله اتّفق ، لكنّ المماثل أولى فان لم يجد أخذ المخالف.

4 - المثل في الآية يمكن حمله على المساوي في الحقيقة ، وعلى المساوي في الحكم ، وعلى المساوي في الماليّة ، وقد يعبّر عن الأوّل بما يشترك جزؤه وكلّه في صدق الاسم وهو المراد بالمثليّ في عبارة الفقهاء.

5 - المغصوب إن كان مثليّا بالمعنى الأوّل تعيّن مع فقده مثله ، ولا اعتبار بتفاوت الأسعار في الزيادة والنقصان عن حال الغصب ، فان تعذّر فقيمته حين الإعواز وإن لم يكن مثليّا بالمعنى المذكور ، وهو المعبّر عنه بأنّه من ذوات القيم يضمن بقيمته العليا من حين الغصب إلى حين التلف.

6 - فوائد المغصوب ومنافعه مضمونة على الغاصب كالأصل بأعلى القيم كما قلناه ، سواء انتفع الغاصب بها أولا ، والحرّ المعتقل (2) يضمن منافعه بالتفويت لا

ص: 84


1- الشورى : 41.
2- نص : المعقد.

الفوات والعبد كغيره من الأموال يضمن فوائده فواتا وتفويتا.

7 - مع تعاقب الأيدي على المغصوب يرجع المالك على من شاء ببدل واحد أو على الجميع ببدل واحد ، فان كان المرجوع عليه مغرورا رجع على من غرّه وإلّا فلا.

8 - يجب ردّ المغصوب وإن تعسّر كالساجة في البناء واللّوح في السفينة وإن أدّى إلى تلف مال الغاصب أمّا لو خشي غرق الغاصب أو حيوان محترم أو مال لغير الغاصب لم ينزع اللّوح وشبهه ، وكذا لو خيط بالمغصوب جرح حيوان له حرمة وخيف التلف بالنزع لم ينزع ، وضمن في الجميع القيمة ، ولو أمكن في اللّوح الصبر إلى الساحل انتزع فيه وأخذ الأجرة ، والخيار للمالك ، ولو طرء على المغصوب نقص انتزع مع أرشه ، ولو خلطه الغاصب بمساويه أو أجود ولم يمكن التميز تشاركا ولو كان بالأردء ضمن وكذا لو خلطه بغير جنسه كالزيت والشيرج.

9 - زوائد المغصوب وإن كانت بفعل الغاصب مضمونة إن كانت متقوّمة عرفا وإلّا فلا ، ولو عدم المقوّم ووجد غيره لم يجبر الأوّل ، وكانا مضمومين أمّا لو كان الزائد بعين من الغاصب كالصنع كلّف الفصل وضمن النقص.

10 - المقبوض بالبيع الفاسد حكمه حكم المغصوب في الضمان بعينه وكذا فوائده وزوائده وبالجملة كلّ مضمون بعقد صحيح فهو مضمون بالفاسد ، وما لا فلا.

النوع الحادي عشر : الإقرار

اشارة

وهو إخبار عن حقّ لازم للمخبر فالأخبار جنس وقولنا لازم للمخبر يخرج الشهادة فإنّها إخبار عن حقّ لكنّه لازم لغير المخبر ثمّ الحقّ قد يكون مالا وقد يكون عقوبة ، وقد يكون نسبا ، والمال قد يكون معلوما فيتّبع مدلول لفظه شرعا فان فقد فعرفا ، فان فقد فلغة ، وقد يكون مجهولا فيرجع إلى تفسير المقر بالمحتمل والعقوبة إن عيّنها لزمته ، وإن أبهم رجع إليه ، سواء كانت العقوبة عليه لقذف أو

ص: 85

لجناية على غيره والنسب يلزم مع الشرائط وانتفاء الموانع حسّا وشرعا وفيه آيات :

الاولى ( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ) (1).

والاعتراف افتعال من المعرفة ويقال عرفا [ على ] الإقرار مع المعرفة بما أقر به فلو لم يكن دليلا لما رتّب الذمّ والدعاء عليهم بقوله ( فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ ) أي بعدا لهم من رحمة اللّه من أسحقه إذا أبعده.

الثانية ( وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) (2).

وشهادة الإنسان على نفسه إقرار منه بما شهد به.

الثالثة ( قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا ) (3).

ودلالتها على لزوم الحكم للمقرّ ظاهرة.

تفريع

لو قال : لي عندك كذا فقال : أنا مقرّ لك به ، لزمه قطعا أمّا لو قال أنا مقرّ هل يلزمه ذلك أم لا؟ قيل لا يلزم لاحتمال إضمار غير ما تقدّم أي مقر بالوحدانيّة أو النبوّة أو ببطلان دعواك فلا يكون صريحا في الجواب إذ هو أعم ، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ وقيل يكون إقرارا لوجوده عقيب الدعوى ، فيكون منصرفا إليها للعرف وللآية فإنّهم لم يقولوا أقررنا بذلك.

إن قلت : إنّما ترك ذكر المتعلّق لعلمه تعالى بقصدهم ذلك ولذلك ترك ذكره في السؤال بقوله « أَأَقْرَرْتُمْ » ولم يقل « بذلك » قلت مراده تعالى إلزامهم بإقرارهم وكلامهم ولذلك قال « فَاشْهَدُوا » أي ليشهد بعضكم على بعض ، فيكون المراد إقرارهم لا قصدهم لعلمه بذلك.

ص: 86


1- الملك : 11.
2- الانعام : 130 والأعراف : 36.
3- آل عمران : 81.

ثمّ اعلم أنّ الصور المفروضة هنا لفظا أربعة :

1 - أنا مقرّ لك به وهو صريح في الإقرار.

2 - أنا مقرّ لك ولم يقل به ، وفي هذا احتمال أنه مقرّ لك بغيره فلا يكون صريحا في الجواب.

3 - أنا مقرّ به ولم يقل لك قال العلّامة يكون إقرارا وظاهر كلام الشهيد يكون إقرارا لاحتمال إقراره به لغيره لا له.

4 - أنا مقر لا غير ولم يذكر الضميرين وفيه الاحتمالان المتقدّمان. فظاهر الآية يدل على كون كلّ إقرارا وحذف الضمير الدالّ على الربط لا يضرّ هنا لأنّه كثيرا مّا يحذف الضمير للعلم به ، ويؤيّده العرف ، وقرينة الخطاب ، ولأنّه لو قال : نعم ، في هذه الصور - لكان إقرارا فكذا فيما قلناه.

الرابعة ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) (1).

وتقريره كما تقدّم.

الخامسة ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى ) (2).

وكذا قوله ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) (3).

يستدلّ بهاتين الآيتين وشبههما على كون حرف الإيجاب يصلح إقرارا وأن بلى إيجاب بعد النفي و « نعم » تقرير لما سبق ، إن نفيا فنفيا وإن إيجابا فايجابا ولذلك قال ابن عبّاس في الآية الثانية لو قالوا نعم لكفروا ، أي نعم لست بربنا وفيه نظر لأنّ أهل العرف يستعملون نعم بمعنى بلى ويدلّ عليه قول الشاعر :

أليس اللّه يجمع أمّ عمرو *** وإيّانا فذاك بنا تداني

ص: 87


1- النساء : 134.
2- الملك : 8.
3- الأعراف : 171.

نعم وترى الهلال كما أراه *** ويعلوها النهار كما علاني(1)

والحقّ عندي التفصيل وهو أنّ الكلام إن صدر عن أهل اللّغة لم يكن إقرارا وإن صدر عن أهل العرف كان إقرارا وهنا فوائد :

1 - في الآية الأولى إشارة إلى كون المقرّ ذا معرفة بما أقرّ به ، فيدخل في ذلك اشتراط بلوغه وعقله ورشده.

2 - في الآية الثانية والثالثة إشارة إلى وجوب الحكم على المقرّ بما أقرّ به مطلقا كما يجب الحكم بالبيّنة ولهذا سمّاه شهادة ، فيكون الإقرار أحد أدلّة الحكم.

ص: 88


1- البيتان من قصيدة لجحدر العكلي وكان لصا مبزا أى غالبا فأخذه الحجاج فحبسه فقالها في الحبس وأنشدها أبو على القالي في الأمالي ج 1 ص 277 وص 278 وأنشد أشطرا من أبياتها المبرد في الكامل ص 126. ثم ان الحجاج على ما نقل البكري أرسل على جحدر أسدا قد جوعه له ثلاثا فبطش جحدر بالأسد فقتله ، فعفا عنه الحجاج ووصله ، لما رأى من جرئته وشدته. وأنشد البيتين أبو عبيد البكري في سمط اللآلي ص 617 ونقل الميمنى في ذيله أن البيتين للمعلوك في العيون 1 : 149 والشعراء 267 والنوبرى 2 : 258 قال البكري هذا أيسر ما يقنع به المتشوق ويتعلق به المتتوق كما قال جميل : أقلب طرفي في السماء لعلها *** يوافق طرفي طرفها حين تنظر وأنشد البيتين في المغني ناسبا الى جحدر في الباب الأول كلمة نعم وأنشدهما الرضى غير ناسب في شرح الكافية في حروف الإيجاب ج 2 ص 382 ط اسلامبول. والضبط في الأمالي والسمط والمغني وشرح الكافية « أليس الليل يجمع أم عمرو » وهو المناسب وأظن أن ضبط « أليس اللّه كما في الكتاب من غلط الناسخ وعلى أى فهو كذلك في النسخ المخطوطة التي راجعناه. ثم ان ضبط البيت الثاني في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة ص 169 ناسبا الى المعلوك هكذا : أرى وضح الهلال كما تراه *** ويعلوها النهار كما علاني والوضح : الضوء والبياض جمعه أوضاح كسبب وأسباب.

3 - في الآية الرابعة إشارة إلى وجوب الإقرار بالحقّ اللّازم للمقرّ لقوله ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ ) أي بالعدل ، والأمر للوجوب.

4 - في الآية الثالثة ( وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي ) أي عهدي ، سمّى العهد إصرا لأنّه يوصر أي يشدّ ، والآثار ما يعقد به الشي ء ويشدّ ، أو لأنّ الوفاء به شديد.

النوع الثاني عشر : الوصية

وهي لغة مشتقّة من وصى يصي أي يصل (1) يقال أوصى يوصي إيصاء ، ووصّى يوصّي توصية ، والاسم الوصيّة والوصاية ، وشرعا هو تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة وسمّي ذلك وصيّة لأنّ الموصى يصل تصرفه بعد الموت بما قبله.

وفيه آيات ثلاثة :

الأولى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (2).

وهنا فوائد :

1 - « كتب » أي فرض وفاعله « الوصيّة » وإنّما ذكّره لكون تأنيث الوصيّة غير حقيقيّ أو لوجود الفصل أو لأنّ معناها أن يوصي ، ومعناه المصدر ، وحضور الموت ظهور أسبابه وأماراته ، والخير المال بدليل قوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (3).

ص: 89


1- نص : وصل.
2- البقرة : 180.
3- العاديات : 9.

2 - قيل الآية منسوخة بآية الإرث وبقوله صلى اللّه عليه وآله « إنّ اللّه تعالى أعطى كلّ ذي حق حقّه ألا لا وصيّة لوارث (1) » قلنا الأصل عدم النسخ ولأنّ شرطه المنافاة ولا منافاة بين الوصيّة والإرث ، إذ هو زيادة في الصلة ولو سلّم النسخ فهو رافع للوجوب لا الجواز ، وذلك لأنّ رفع المركّب لا يستلزم رفع جميع أجزائه ، كما بيّن في الأصول ، وأمّا الحديث فنمنع صحّته ولو سلّم فآحاد لا ينسخ الكتاب عند الأكثر ، ولو سلّم جواز النسخ به ، لكان لنا هنا أن نحمله على التخصيص بما زاد على الثلث ، والتخصيص خير من النسخ ، لما تقرر في الأصول أو نحمله على الإضمار الّذي هو خير أيضا أي لا وصيّة واجبة لوارث.

وبالجملة الإجماع منعقد على مشروعيّة الوصيّة فلا تكون منسوخة فيكون الحديث على تقدير صحّته مخصّصا وليس تخصيص الوارث بعدم الوصيّة له مطلقا أولى من تخصيصه بما زاد على الثلث ، وقد روى أصحابنا عن الباقر عليه السلام أنّه سئل هل يجوز الوصيّة للوارث؟ فقال : نعم ، وتلا هذه الآية (2) وأمّا رواية السكونيّ عن عليّ عليه السلام أنّه قال « من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية (3) » فضعيفة لكون السكونيّ عاميّا ومع تسليمها فلا تنفي الوصيّة للوارث إلّا من حيث مفهوم المخالفة وليس بحجّة.

3 - دلالة الآية على جواز الوصيّة للوارث ظاهرة لأنّ الوالدين وارثان قطعا وكذا قوله « وَالْأَقْرَبِينَ » يعمّ كلّ قريب وارثا كان مع الوالدين كالأولاد إجماعا والاخوة عند الخصم ، أو غير وارث لأنّ الجمع المعرّف باللّام للعموم ، كما تقرر في الأصول.

ص: 90


1- رواه أبو داود ( ج 2 ص 102 ) وابن ماجة كما في مشكاة المصابيح ص 265 وروى عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال : لا وصية لوارث الا أن يشاء الورثة.
2- راجع الكافي ج 7 ص 9 باب الوصية للوارث.
3- رواه في التهذيب ج 2 ص 382 ورواه في الفقيه ج 2 ص 266 وترك قوله « ممن لا يرث ».

فائدة : الأقارب الّذين يرثون لكن معهم من يحجبهم مثل الأخت (1) مع الأب أو مع الولد يستحب الوصيّة لهم وبه قال جميع الفقهاء وعامّة الصحابة ، وقال قوم يجب الوصيّة لهؤلاء وهو ضعيف.

4 - اختلف في المال المتروك الّذي تعلّق الأمر بحصوله فقال الزهريّ كل ما يقع عليه اسم المال قليلا كان أو كثيرا وقال النخعيّ من ألف إلى خمسمائة درهم وقال ابن عبّاس ثمان مائة درهم ، « وروي عن عليّ عليه السلام أنه دخل على مولى له في مرضه وله سبع مائة أو ستّمائة درهم ، فقال ألا اوصي؟ فقال : لا إنّما قال اللّه تعالى ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) وليس لك كثير مال (2) » قال الراوندي وبهذا نأخذ.

5 - قوله « بِالْمَعْرُوفِ » قيل المراد به المعلوم فعلى هذا لا تصح الوصيّة بالمجهول ، وهو باطل عندنا فإنّه لو أوصى بشي ء أو بجزء أو نصيب صحّ لعموم الآية الثانية ، ورجع في غير المنصوص إلى الوارث ، وقيل المراد به بالعدل وهو أولى فيحتمل وجوها : الأوّل : أنّه ممّا لا يزيد على الثلث الثاني : أن يوصي للفقير والأشدّ حاجة ولا يفضّل الغنيّ على الفقير ، الثالث : أن لا يضرّ بورثته لو كانوا فقراء ، ولو أوصى بما دون الثلث ، الرابع : أن يقلّل في الوصيّة ولو كان الوارث غنيّا فالرّبع أفضل من الثلث ، والخمس أفضل من الربع ، والسدس أفضل من الخمس ، لما ورد عن سعد بن أبي وقّاص قال : مرضت فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يعودني فقلت : يا رسول اللّه اوصي بمالي كلّه؟ قال : لا ، قلت النصف؟ قال : لا ، قلت : الثلث؟ قال الثلث ، والثلث كثير إنّك إن تدع ذرّيتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس بأيديهم (3) » قوله « حَقًّا » مصدر أي حقّ ذلك حقّا.

ص: 91


1- في بعض النسخ : مثل الاخوة.
2- تراه في الدر المنثور ج 1 ص 174. وقال : أخرجه عبد الرزاق والفريابى وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن عروة.
3- أخرجه في مشكاة المصابيح ص 265 وقال : متفق عليه.

6 - « فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ » إلى آخره ، الوصيّة وإن كانت جائزة لكن يجب العمل بها بعد الموصى من غير تغيير ولا تبديل ، ولذلك قال « فَمَنْ بَدَّلَهُ » أي بدّل ذلك الإيصاء من وصيّ وشاهد ووارث وحاكم وغيرهم بعد ما سمعه وتحقّقه فإنّما إثم ذلك التبديل على المبدّل ، والضمير في « بدّله » راجع إلى مصدر أوصى وهو الإيصاء وفي « إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » وعيد للمبدّل والمغيّر ، أي يسمع ويعلم التبديل والتغيير ، ولا يفوته شي ء.

7 - « فَمَنْ خافَ » أي توقّع أو علم من قولهم أخاف أن يرسل السماء « مِنْ مُوصٍ » قرء حمزة والكسائي وأبو بكر « موص » من وصى بالتشديد والباقون موص بالتخفيف من أوصى يوصي والضمير في « خاف » يرجع إلى « من » والجنف الميل إلى إفراط أو تفريط « أَوْ إِثْماً » بأن يوصي بالباطل أي بما لا يجوز الوصيّة به كالمحرّمات فعلى هذا الجنف هو الوصيّة بزائد على الثالث أو بما فيه إضرار بالوارث « فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ » أي بين الوارث والموصى له « فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » وفي الكلام تنبيه على أنّ مطلق التبديل والتغيير غير منهيّ عنه ، بل التبديل بالباطل عن الحقّ أمّا عن الباطل إلى الحقّ فجائز.

قيل : كان الأوصياء يمضون الوصيّة بعد نزول قوله ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) ولو كان الوصيّة بهما كانت ولو بالمال كلّه فنسخ بقوله « فَمَنْ خافَ » إلى آخره.

وقيل : المراد فمن خاف من موص في حال مرضه الّذي يريد الوصيّة فيه جنفا أو إثما فلا جناح عليه أن يردّه عن ذلك ، ويشير عليه بالنهج الصحيح ، ويصلح بين الموصى والورثة والموصى له ، بحيث لا يقع بينهم خلاف يؤدّي إلى الإثم ويكون الخوف على ظاهره ، ولا يكون مترقّبا ولا متوقّعا ، وهو وجه حسن جيّد مطابق غير أن الأوّل عليه الأكثر ، وبه قال الباقر والصادق عليهما السلام وكفى بقولهما مرجّحا له. قوله ( إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وعد لمن بدّل الباطل بالحقّ مقابل لوعيد من بدل الحقّ بالباطل.

ص: 92

الثانية ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) .

وكذا قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) .

وقوله ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1).

دلّت هذه الآيات ونظائرها على تأخير الميراث عن الوصيّة والدين وبقي هنا سؤال تقريره لم قدّم الوصيّة على الدين مع أنّ الفقهاء مجمعون على تقديم مؤنة التجهيز من أصل التركة ، ثمّ الدين من الأصل أيضا ثمّ الوصيّة من الثلث وأيضا الدين يجب أداؤه سواء أوصى به الميّت أو لا ، والوصيّة لا يجب إلّا إذا أوصى بها والجواب أنّ « أو » هنا بمعنى « إلّا » تقديره من بعد وصيّة إلّا أن يكون هناك دين.

فان قلت : إنّ « أو » لا يكون بمعنى « إلّا » أو « إلى » إلّا إذا دخلت على فعل مضارع ، وهنا ليس كذلك. قلنا : الفعل هنا مقدّر ، وهو يحصل أو يكون أو يوجد وإنّما قدّرنا ذلك لئلّا يلزم حمل القرآن على الركاكة.

فإن قلت : إذا كانت بهذا المعنى يجب أن يكون جوابا لأحد الأمور الثمانية وليس ها هنا شي ء منها ، قلت : هي هنا جواب الأمر إذ تقدير « يُوصِيكُمُ اللّهُ » أعطوا أولادكم ، وهذا أحسن من قول من قال إنّ أو هنا للإباحة ، ليدلّ على أنّ لوصيّة والدين واجبان يستحقّان التقديم على قسمة التركة مجتمعين ومنفردين ، وإنّه إنّما قدّم الوصيّة لأنّها مشتبهة بالميراث ، شاقّة على الورثة ، مندوب إليها ، لأنّ ما قلناه مطابق للقاعدة الشرعيّة منصور بالدليل اللّغويّ وهنا فوائد :

1 - دلّت هذه الآية على مشروعيّة الوصيّة مطلقا ، لوارث وغيره وأنّها مقدّمة على الميراث.

2 - ظاهر الآية يقتضي وجوب العمل بالوصيّة مطلقا ، والإجماع والأحاديث خصّا ذلك بالثلث ، فما دون ، وأنّ الزائد موقوف على إجازة الوارث.

3 - استدلّ الشافعيّة وبعض الفقهاء بالآية على أنّ الموصى له يملك الوصيّة

ص: 93


1- الايات الثلاث في صورة النساء : 10 و 11.

بالموت ، لأنّه جعل الإرث بعدها فلو لم ينتقل إلى الموصى له بقي بغير مالك ، لأنّ الميّت زال ملكه بالموت ، ولأنّ الملك يستحيل كونه بلا مالك لأنّه نسبة بينه وبين المملوك ، ويستحيل ثبوته للميّت ، فانّ الموت علّة في زوال الاملاك عنه ، ويستحيل أيضا ثبوته للوارث وإلّا لتلقّى الموصى له الملك عنهم ، وهو باطل إجماعا فعلى هذا يكون القبول كاشفا.

وقال جماعة : إنّ القبول سبب في الملك لأنّ الملك حادث لا بدّ له من سبب وليس هو الموت وحده ، وإلّا لكفى من غير قبول ، ولا الإيجاب وحده لذلك أيضا ولا هما معا لأنّهما لو كفئا لما صحّ الردّ بعدهما قبل القبول ، كما لا يصح بعد القبول ، لكنّه يقع الردّ بعدهما ، ولا يقع بعد القبول ، وليس الفارق إلّا حصول الملك في الثاني دون الأوّل.

فعلى هذا يكون الملك قبل القبول للوارث لكنّه غير مستقرّ كما يملك المشتري المبيع في زمن الخيار ، فان وقع الفسخ عاد الملك إلى البائع كذا هنا إذا قبل الموصى له عاد الملك إليه ، وإلّا استقرّ ملك الوارث ، ولأنّ الملك قبل القبول وبعد الموت لا بدّ له من مالك ليس هو الميّت لعدم صلاحيّته ، ولا الموصى له لعدم قبوله ، فيكون للوارث وهو المطلوب.

ويجاب عن الآية بأنّ المراد بعد وصيّته كاملة ، وهي المشتملة على الإيجاب والقبول ، وهذا القول يقوى في نفسي ويتفرّع عليه ملك النماء قبل القبول. فعلى الثاني يكون للوارث وعلى الأوّل يكون للموصى له.

4 - إطلاق الآية يقتضي عدم اشتراط تعيين الموصى به ، ولا الموصى له ، كما لو أوصى لأحد هذين فإنّه يعيّن الوارث ، ولو أوصى بعتق أحد هذين ، فإنّه يعيّن الوارث أيضا نعم يستحبّ القرعة لازالة التهمة.

الثالثة ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) (1).

ص: 94


1- البقرة : 260.

وقوله ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) (1).

لو أوصى بجزء من ما له قال الشافعيّ ليس فيه مقدّر والأمر فيه إلى الورثة وأجمع أصحابنا على خلافه لكن اختلفوا :

فقال الشيخ وجماعة إنّه العشر استدلالا برواية ابن سنان (2) عن الصادق عليه السلام صحيحا « قال إنّ امرأة أوصت إليّ وقالت : ثلثي تقضى به ديني وجزء منه لفلانة فسألت ابن أبي ليلى فقال ما أرى لها شيئا ما أدري ما الجزء فسألت الصادق عليه السلام بعد ذلك وأخبرته الخبر فقال : كذب ابن أبي ليلى لها عشر الثلث إنّ اللّه أمر إبراهيم عليه السلام وقال له ( اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) وكانت الجبال يومئذ عشرة ، فالجزء هو العشر » ومثله رواية أبان بن تغلب عن الباقر عليه السلام (3).

وقال المفيد وسلّار إنّه السبع استدلالا برواية [ ابن ] أبي نصر قال سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل أوصى بجزء ماله فقال : واحد من سبعة إنّ اللّه يقول ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) ومثله رواية إسماعيل بن همام عن الرضا عليه السلام (4).

والأقوى العمل على الأوّل لأن الأصل بقاء الملك على الوارث خولف في العشر لأنّه أقل ما قيل ، ولولاه لحمل على أقلّ ما يتملّك كما لو أوصى بنصيب وشبهه وكذا قال الشيخ لو أوصى بسهم كان ثمنا لأنّه أقلّ السهام المفروضة ، وبشي ء ، كان سدسا حملا على آية الخمس ، فإنّه يقسم ستّة أقسام وهو ضعيف وقال الشافعيّ هنا كما قال في الجزء.

ص: 95


1- الحجر : 44.
2- رواية عبد اللّه بن سنان عن عبد الرحمن بن سيابة كما في الكافي ج 7 ص 39.
3- ورواية معاوية بن عمار أيضا ، راجع الكافي ج 7 ص 40.
4- أخرجهما في الوسائل كتاب الوصايا ، ب 54 ح 12 و 14. عن التهذيب والاستبصار.

الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) (1).

هنا فوائد :

1 - روي أنّ تميما الداريّ وعدّي بن بدّاء خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلمّا قدموا الشام مرض بديل فدوّن ما معه في صحيفة ، وطرحها إلى متاعه ، ولم يخبرهما به ، وأوصى إليهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ، ففتّشاه وأخذا منه إناء من فضّة وزنه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذّهب ، فغيباه.

فأصاب أهله الصحيفة وطالبوهما بالإناء فجحدوا فترافعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فحلفهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعد صلاة العصر عند المنبر وخلّا سبيلهما.

ثمّ وجد الإناء في أيديهما فأتاهم بنوسهم في ذلك فقالا قد اشتريناه منه ، ولكن لم يكن لنا عليه بيّنة فكرهنا أن نقرّ به ، فرفعوهما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت ( فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً ) فقام عمرو بن العاص والمطّلب بن أبي وداعة السهميّان

ص: 96


1- المائدة : 106 - 108.

فحلفا وأخذا الإناء (1).

2 - في تفسير الآيتين وحلّ تركيبهما : قوله « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » مبتدأ خبره محذوف أي عليكم شهادة بينكم و « اثْنانِ » فاعل فعل محذوف أي يشهد اثنان وفائدة الإبهام والتفسير تقرير الحكم في النفس مرّتين ولمّا قال « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » كأنّ قائلا يسأل من يشهد؟ فقال « اثْنانِ » أي يشهد اثنان لا أنّ « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » مبتدأ خبره « اثْنانِ » لأنّ شرط الاخبار وبالمفرد أن يجمعهما ذات واحدة و « إِذا حَضَرَ » ظرف لمتعلّق الجارّ والمجرور ، أي عليكم شهادة بينكم إذا حضر أحدكم أسباب الموت و « حِينَ الْوَصِيَّةِ » بدل منه وقوله « مِنْكُمْ » أي من المسلمين « و ( غَيْرِكُمْ ) » أي غير المسلمين ، وقيل « مِنْكُمْ » أي من أقاربكم و « غَيْرِكُمْ » أي من الأجانب ، وقد وقع الجارّان والمجروران هنا صفة للاثنان « تَحْبِسُونَهُما » أي تقفونهما وهو صفة لآخران ، والشرط مع جوابه المحذوف المدلول عليه بقوله « أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ » اعتراض فائدته الدلالة على أنّه ينبغي أن يشهد منكم اثنان فان تعذّر كما في السفر فآخران من غيركم والأولى أنّ « تَحْبِسُونَهُما » لا تعلّق لهما بما قبلهما لفظا ولا محلّ لها من الاعراب ، والمراد بالصلاة صلاة العصر ، لأنّه وقت اجتماع الناس ، أو أنّها وقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار ، فاللّام فيها للعهد وقيل أيّ صلاة كان فاللّام للجنس وهو أولى.

وقوله « لا نَشْتَرِي بِهِ » هو المقسم عليه « وإِنِ ارْتَبْتُمْ » أي ارتاب الوارث ، وهو اعتراض فائدته اختصاص القسم بحال الريبة ، والمعنى لا نستبدل بالقسم أو باللّه عرضا من الدنيا ، أي لا نحلف باللّه كذبا لأجل طمع ولو كان المقسم له ذا قربى ، و

ص: 97


1- ترى القصة في الكافي ج 7 ص 5 ، وهكذا أخرجها المفسرون عند تفسير الآية كما في مجمع البيان ج 3 ص 256 و 259 والدر المنصور ج 2 ص 343 وذكره العسقلاني تارة في ترجمة عدا بن بداء ج 2 ص 460 وتارة في ترجمة بديل ابن ابى مريم ج 1 ص 145 وتارة في ترجمة تميم الداري ج 1 ص 186. وذكره أبو داود في سننه ج 2 ص 276 باب شهادة أهل الذمة.

جوابه محذوف أي لا نستبدل « وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ » أي اللّه الّذي قد أمرنا بإقامتها ف « إِنّا إِذاً » أي إذا كتمناها « لَمِنَ الْآثِمِينَ » وكان الشعبيّ يقف على « شهادة » ويبتدئ ب « آلله » بالمدّ على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام عنه ، « فَإِنْ عُثِرَ » أي اطّلع على أنّهما فعلا ما يوجب إثما فشاهدان آخران « مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ » وهم الورثة ، وقرأ حفص استحقّ على البناء للفاعل ، والأوليان أي الأحقّان بالشهادة ، لقرابتهما وهو خبر مبتدأ محذوف أي هما الأوليان أو خبر « آخران » أو بدل منهما أو من الضمير في « يقومان » وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم « الأوّلين » على أنّه صفة للّذين أو بدل منه.

قوله « لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما » أي يميننا أصدق من يمينهما لخيانتهما وكذبهما في يمينهما. وإطلاق الشهادة على اليمين مجاز لوقوعها وموقعها كما في اللّعان.

قوله « ذلِكَ » أي الحكم الّذي تقدّم أن تحليف الشاهد قوله « عَلى وَجْهِها » أي على نحو ما حملوها من غير تحريف ولا خيانة فيها ، وقوله « أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ » أي تردّ اليمين على المدّعين بعد إيمانهم فيفتضحون بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنّما جمع الضمير لأنّه حكم يعمّ الشهود كلّهم.

3 - في هذه الآية أحكام :

1 - أنّ الّذي يحضره أسباب الموت ينبغي أن يشهد عدلين على وصيّته إمّا من ذوي نسبه أو من أهل دينه ، وهو الإسلام ، فإن تعذّر ذلك عليه بأن كان في سفر فآخران من الأجانب أو أهل الذمة.

2 - أنّه إذا حمل الضمير في « مِنْكُمْ » على المسلمين وفي « غَيْرِكُمْ » على غيرهم (1) هل الحكم باق غير منسوخ أو لا؟ قال أصحابنا بالأوّل ، وجوّزوا شهادة أهل الذمة

ص: 98


1- كذا في النسخ كلها وحق العبارة أن يقول : « إذا حمل الضمير في منكم على المسلمين و « غَيْرِكُمْ » على غيرهم ، والا فالضميران مطابقان على القولين.

مع تعذّر المسلمين في الوصيّة ، وقال جماعة من الفقهاء بالثاني وأنّ الآية منسوخة والأصحّ الأوّل لأصالة عدم النسخ ، وتكون الآية مخصّصة لأدلّة اشتراط الايمان والعدالة في الشاهد بما عدا الوصيّة ، نعم يشترط عدالتهم في دينهم ، ويرجّحون على فسّاق المسلمين.

3 - أنه إذا حمل الضمير في « مِنْكُمْ » على الأقارب ، دلّ على قبول شهادة القريب على قريبه مطلقا ، وفيه ردّ على من منع ذلك من المخالفين ، وسيأتي تمام ذلك في كتاب القضاء والشّهادات.

4 - أنّه على قول أصحابنا بقبول شهادة الذّمّي في الوصيّة مع عدم عدول المسلمين هل يشترط السّفر كما في ظاهر الآية أم لا؟ الأصحّ العدم وبالاشتراط رواية مطروحة.

5 - يرد على قول أصحابنا بقبول شهادة أهل الذمّة في الوصيّة [ مع عدم عدول المسلمين ] على ظاهر الآية وعدم نسخها سؤال وهو أنّ الآية دلّت على أنّه إذا وقع ارتياب يحلّف الشاهدان والإجماع منعقد على عدم تحليف الشاهد فلا يكون الحكم بشهادتهما باقيا فيكون منسوخا.

والجواب على تقدير كون الآية حجّة على المدّعى وبقاء حكمهما جاز أن يكون التحليف مختصّا بهذه الصّورة فكما أنه جاز قبول شهادة الذّمي جاز تحليفه ولهذا أفتى العلّامة بوجوب التحليف بعد العصر أو نقول لا نسلم أنّ تحليفهما لمكان شهادتهما حتّى يلزم تحليف الشاهد الّذي هو خلاف الإجماع ، بل إنّما حلّفا على تقدير دعوى خيانتهما ، ولم يكن لهما بيّنة بصدق قولهما فتوجّه اليمين عليهما وهذا أسد في الجواب.

6 - ردّ اليمين على الورثة ، قيل سببه ظهور خيانة الوصيين ، فانّ تصديق الوصيّ باليمين على تقدير أمانته ، وعدم ظهور خيانته ، وهنا ظهر خيانتهما والوجه إنّه إنما ردّ اليمين لأنّ الوصيّين ادّعيا الشراء عن الميّت فأنكر الورثة الشراء فتوجّه عليهما اليمين على نفي العلم بالشراء.

ص: 99

7 - جواز شهادة أهل الذّمة في الوصيّة عند أصحابنا مختص بالمال ، فلا تسمع في الولاية إجماعا.

8 - في جعل « حِينَ الْوَصِيَّةِ » بدلا من « إِذا حَضَرَ » تنبيه على الحضّ والحثّ على الوصيّة ، ووجوب الاشهاد بها لأنّ البدل هو المقصود بالنسبة.

9 - في الآية دلالة على جواز التغليظ في اليمين بالوقت لقوله « بعد الصلاة » وفي القصّة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حلّفهما عند المنبر وفيه دلالة على التغليظ بالمكان.

10 - قد يفهم من القصّة أنه يجوز الدعوى لظاهر الظنّ أو لقرينة كالكتابة وكذا يجوز التحليف أيضا للظنّ مع عدم البيّنة لأنّ الورثة ادّعوا على الوصيّين بمجرد الكتاب الّذي وجدوه في متاع الميّت.

وفيه نظر لجواز استناد دعواهم إلى علم غير الكتابة أو إلى إخبار محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم.

11 - أنّ الآية يقتضي جواز الدعوى بعد الإحلاف ، وهو خلاف الفتوى ومناف لقوله عليه السلام « من حلف فليصدّق ، ومن حلف له فليرض ، ومن لم يرض فليس من اللّه في شي ء (1).

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ الدعوى إنّما توجّهت بعد اعتراف المدّعى عليهما بالإناء ، وأنّه كان للميّت ، ومع اعتراف الحالف يجوز المطالبة ثمّ لمّا جازت المطالبة لمكان اعترافهما بملكيّة الميّت الّتي حلّفا على نفيها أوّلا وبراءة ذمّتهما ، ادّعيا الشراء ، فأنكر الورثة فحلّفوا على نفي العلم وروي أنّ تميما الداريّ لمّا أسلم كان يقول ، صدق اللّه ورسوله إنّا أخذنا الإناء فأتوب إليه تعالى وأستغفره.

12 - فهم بعضهم من ظاهر الآية جواز الاستدلال بها على ردّ اليمين من المنكر على المدّعي خلافا لأبي حنيفة فإنّه لم يجوّزه ، وفيه نظر لأنّ الردّ هنا مجاز والتحقيق ما قلناه من دعوى الشراء وإنكار الورثة ، فتوجّه عليهم اليمين لمكان إنكارهم وحلفهم على عدم العلم.

ص: 100


1- تراه في الكافي ج 7 ص 438.

واعلم أنّ الوصيّة كما تكون بمال كذا تكون بالولاية ، والولاية إمّا بإخراج حقّ على الميّت ، كدين أو أداء أمانة ، أو بالنظر في حال أولاده الأصاغر وحفظ أموالهم والسعي في تنميتها ، وهو البحث عن اليتامى فلنتبع هذا الفصل بذلك. والمراد باليتيم هو الصغير الّذي لا أب له من اليتم وهو الانفراد ومنه الدّرّة اليتيمة ، والاشتقاق يقتضي صدقه على الصغير والكبير لكنّ العرف خصصه بالصغير وهذا البحث فيه آيات.

الاولى ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً ) (1).

الابتلاء الاختبار ، و « آنَسْتُمْ » أي أبصرتم وأدركتم و « حَتّى » حرف ابتداء لأنّ بعده جملة شرطيّة ، وهو « إِذا بَلَغُوا » والجزاء جملة أخرى شرطيّة وهي « فَإِنْ آنَسْتُمْ » فالفاء الاولى جواب الشرط الأوّل ، والثانية للثاني « و ( إِسْرافاً وَبِداراً ) » منصوبين على الحال أي مسرفين ومبادرين ، والأولى أنّهما مصدران لأنّهما نوعان للأكل ، لا أنّهما مفعول لهما كما قال الزمخشري لأنّ الشي ء لا يعلّل بنوعيه « و ( أَنْ يَكْبَرُوا ) » مفعول به ، لبدارا ، أي لا تبادروا كبرهم بالأكل بمعنى أن تأكلوها خوفا أن يكبروا فيأخذوها منكم « ويستعفف » بمعنى يعفّ مثل يستقر بمعنى يقرّ وقال الزمخشريّ أنّه أبلغ من يعفّ لأنّه يطلب بالسين زيادة العفّة وفيه نظر لأنّ السّين يطلب بها الفاعل أصل الفعل لا زيادته نحو استكتب.

إذا تقرر هذا فهنا أحكام :

ص: 101


1- النساء : 5.

1 - دلّ الأمر بابتلائهم على وجوب الحجر عليهم في التصرفات وإلّا لانتفت فائدة الابتلاء الّذي يترتّب عليه وجوب دفع الأموال إليهم.

2 - الآية ظاهرة في تقدم الابتلاء على البلوغ ، وفائدته عدم الاحتياج إلى اختبار آخر ، بل يسلّم إليه ماله إن علم رشده ، وقال بعض الجمهور إنّه بعد البلوغ وهو باطل وإلّا لزم الحجر على البالغ الرشيد ، وهو باطل إجماعا.

3 - اختلف في معنى ابتلائهم فقال أبو حنيفة هو أن يدفع إليه ما يتصرّف فيه ، وقال أصحابنا والشافعيّ ومالك هو تتبع أحواله في ضبط أمواله وحسن تصرّفه بأن يكل إليه مقدّمات البيع لكن العقد لو وقع منه كان باطلا ويلزم على قول أبي حنيفة أن يكون العقد صحيحا.

4 - أنه أشار إلى غاية الحجر بقوله « حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ » وهو حال البلوغ أي أوان يصلح له أن ينكح بأن يحتلم أو يبلغ خمسة عشر سنة عندنا ، وعند الشافعيّة لقوله صلى اللّه عليه وآله « إذا استكمل المولود خمسة عشر سنة كتب ماله وعليه وأقيمت عليه الحدود (1) وعند أبي حنيفة ثمانية عشر سنة هذا في الذّكر والخنثى وأمّا الأنثى فعندنا تسع سنين ، وقال الشافعي كالذكر وقال أبو حنيفة سبعة عشر سنة ، وقال صاحباه كالذّكر وقال مالك كما حكي عنه : البلوغ أن يغلظ الصّوت أو ينشقّ الغضروف وهو رأس الأنف قال وأمّا السن فلا تعلّق له بالبلوغ.

وقال داود : الحكم بالبلوغ بالسنّ ورواية ابن عمر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنه ردّه عن الجهاد عام بدر وله ثلاثة عشر سنة (2) ثمّ ردّه في أحد وله أربع عشر سنة ، و

ص: 102


1- أخرجه في نيل الأوطار ج 5 ص 263 قال : وفي الباب عن أنس عند البيهقي بلفظ إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه ، وأقيمت عليه الحدود ، وهكذا أخرجه الشيخ في الخلاف ج 1 ص 626.
2- هكذا نقله الشيخ في الخلاف كتاب الحجر المسئلة الثانية ج 1 ص 626 والظاهر أن ذكر عام بدر اقتحم في الحديث بلا تفطن ، فان عام بدر انما خرج المسلمون لاغارة العير ، ولم يكن عزمهم على القتال ، حتى يعرضوا على النبي صلى اللّه عليه وآله فيرد الذرية ويجيز المقاتلة ، مع أن أسماء من خرج الى بدر مضبوطة في كتب السير ، وليس فيها ذكر لابن عمر. فالصحيح من لفظ الحديث ما أخرجه في مشكاة المصابيح ص 292 ، « عن ابن عمر قال : عرضت على رسول اللّه عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ، ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازنى » فقال عمر بن عبد العزيز : هذا فرق ما بين المقاتلة والذرية ، متفق عليه. أقول : ومثله في سنن ابى داود ج 2 ص 453 وذكره ابن هشام في السيرة ج 2 ص 66 أيضا على التفصيل ، فراجع.

عرض عليه في الخندق وله خمسة عشر سنة تدل على قولنا.

وهل يحصل البلوغ بالإنبات ، قال أصحابنا : نعم مطلقا وقال أبو حنيفة لا مطلقا وقال الشافعيّ هو دلالة في حقّ المشركين وأمّا المسلمين ففيه قولان ، وقضيّة سعد بن معاذ وأمره بأن يكشف عن مؤتزرهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت فهو من الذراري فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وآله فقال « لقد حكمت بحكم اللّه من فوق سبع أرقعة (1) » يصدّق ما قلناه وهو عام.

5 - انه لا بدّ مع البلوغ من إيناس الرشد ، وهو عندنا عقله للمعاش ، بأن لا ينخدع في المعاملات والتصرفات اللّائقة به ، وهل يشترط صلاح الدين أيضا؟ قال الشافعي : نعم ، فيحجر عنده على الفاسق وقال أبو حنيفة : لا حجر عليه ، وبه قال أكثر أصحابنا اللّهمّ إلّا أن يكون فسقه بإتلاف ما له فالحجر باق.

وقال الشيخ بمقالة الشافعيّ ومنشأ القولين خلو كلام المفسّرين من قيد العدالة ، قال ابن عباس : الرشد أن يكون ذا وقار وعقل وعلم ، ولم يذكر العدالة

ص: 103


1- أخرجه في المستدرك ج 2 ص 268 عن دعائم الإسلام وأخرجه في ج 1 ص 7 عن غوالي اللئالى وفيه بدل قوله « لقد حكمت بحكم اللّه » : « فصوبه النبي صلى اللّه عليه وآله ». ونقله الشيخ في الخلاف كتاب الحجر المسئلة الاولى ج 1 ص 626 وهكذا نقله ابن هشام في السيرة ج 2 ص 240.

وقال قتادة العقل والدّين ، وهو غير دالّ على العدالة أيضا إذ يكفي في صلاح الدين حسن الاعتقاد.

احتجّ الشيخ بوجوه الأوّل أنّ الرشد والغيّ صفتان متباينتان والفاسق موصوف بالغيّ فلا يكون موصوفا بالرّشد ، الثاني أنّ الفاسق سفيه ، فلا يجوز أن يعطى ماله للآية. الثالث أنّ الحجر متحقّق فلا يزول إلّا بدليل ولا دليل.

ويمكن أن يجاب عن الأوّل بالمنع من أنّ وصفه بالغيّ يمنع من وصفه بالرّشد ، لأنّهما وإن تضادّا مفهوما ، لم يتضادّا متعلّقا ، لأنّهما يطلقان في أمور المعاش وأمور المعاد ، والمراد بالرشد في الآية في أمور المعاش فجاز أن يكون الفاسق غاويا في أمور معاده رشيدا في أمور معاشه نعم يلزم المنافاة ، لو كانا متناقضين لكنّه ليس كذا.

وعن الثاني بأنّ الفاسق سفيه في معاده لا في معاشه وعن الثالث أنّ الدّليل على زوال الحجر هو الآية مع ما ذكرناه من جواب الشبهة.

6 - علّق دفع المال على الرشد فإذا لم يحصل الرشد بقي على الحجر عندنا وعند الشافعيّ وأصحاب أبي حنيفة ، ولو طعن في السنّ ، عملا بانتفاء المشروط لانتفاء شرطه ولأنّه سفيه فلا يعطى شيئا للآية.

وقال أبو حنيفة : يزاد على زمان بلوغه سبع سنين ثمّ يعطى ماله رشد أو لا محتجّا بقوله صلى اللّه عليه وآله « مروهم بالصوم والصلاة وهم أبناء سبع (1) » فانّ هذه المدّة هي مدّة تتغيّر أحواله فيها ، وهذا عليه لا له. لأنّه يقتضي أن يكون البلوغ في أربع عشر سنة أو في أحد وعشرين.

7 - يجب دفع المال عند تحقّق البلوغ والرشد على الفور ولا يجوز التأخير لحصول سبب الدّفع وهو البلوغ والرّشد ، ولإتيانه بالفاء الدالة على التعقيب.

8 - قوله « وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً » فيه إيماء إلى جواز الأكل بوجه وهو قوله

ص: 104


1- راجع المستدرك ج 1 ص 171.

( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قيل هو أن يأكل قدر كفايته وما لا بدّ له منه وقيل على قدر عمله وقيل أقلّ الأمرين ، وهو أجود لقوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1) ولا ريب أنّ هذا أحسن ، وفي الحديث أنّ رجلا قال للنبيّ صلى اللّه عليه وآله إنّ في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال : بالمعروف غير متأثّل مالا ولا واق مالك بماله ، فقال : أفأضربه؟ قال : ممّا كنت ضاربا منه ولدك (2).

وعن ابن عبّاس أنّ وليّ يتيم قال له أفاشرب من لبن إبله؟ قال إن كنت تبغي ضالّتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضرّ بنسل ولا ناهك في الحلب (3).

وروى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال : سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخ له يتيم في حجره أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ قال إن كان يلوط حياضها ويقوم على مهنتها ويرد نادتها فليشرب من ألبانها غير منهك للحلاب ولا مضرّ بالولد (4).

9 - الغنيّ : ذو الملاءة ، وظاهر الآية يقتضي عدم جواز أخذه شيئا من مال اليتيم على عمله لقوله « فَلْيَسْتَعْفِفْ » أي يعف كما قلناه والأمر للوجوب ، وهل يجب على الفقير إذا صار غنيّا رد ما أخذه حال فقره أم لا؟ قال بعض المفسّرين نعم ، والأولى عدم الوجوب ويحمل ما ورد من ذلك على الندب أو على أخذه زائدا عن مستحقّه فيجب رده حينئذ ، وأمّا ما أخذه بحقّ فقد ملكه والأصل البراءة من وجوب الردّ.

10 - إذا دفع الوليّ إلى اليتيم المال ، فليشهد عليه بقبضه ، وهو على الندب

ص: 105


1- الانعام : 152 وأسرى : 34.
2- أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عمر كما في الدر المنثور ج 2 ص 122.
3- رواه الطبرسي في مجمع البيان ج 3 ص 10
4- أخرجه في الوسائل ب 72 من أبواب ما يكتسب به ح 6

أو الإرشاد إلى المصلحة ، فإنّ له فائدتين : أحدهما دفع التهمة عن الوليّ بأكل مال اليتيم وثانيهما سقوط الضمان لو أنكر القبض أو سقوط اليمين لو ادّعى الولي التلف بغير تفريط ، وظاهر الآية يقتضي عدم تصديق الوليّ في قوله إلّا بالبيّنة ، وبه قال الشافعيّ ومالك والحقّ فيه التفصيل كما قلناه ، وهو قبول قوله في التلف بغير تفريط ، وفي النفقة على الطفل بما جرت العادة به ، أمّا تسليم المال فلا يقبل قوله فيه إلّا بالبينة ، وهذا الأمر بالإشهاد من حسن نظر اللّه للأولياء وكمال لطفه في حقّهم.

قوله ( وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً ) أي كافيا في الشهادة عليهم بالدّفع ، كذا قيل والأولى أنّ معناه كفى باللّه محاسبا فانّ الاشهاد في الظّاهر وأمّا براءة الذمة في الباطن فا [ نّ ا ] لله متولّيه يوم القيامة.

الثانية ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ) (1).

المأمور بتسليم أموالهم إليهم إمّا البالغون لما تقدّم في الآية الاولى وسمّاهم هنا يتامى تسمية للشي ء باسم ما كان عليه لقرب عهدهم بالصّغر حثّا على أن يدفع إليهم أموالهم أوّل زمان بلوغهم ، ولذلك أمر بابتلائهم صغارا أو غير البالغين فيكون الحكم مقيّدا ببلوغهم وإيناس الرشد منهم قوله « وَلا تَتَبَدَّلُوا » أي لا تستبدلوا مثل لا تتعجلوا بمعنى لا تستعجلوا « والخبيث » المال الحرام و « الطيّب » المال الحلال وقيل المراد بالطيّب هنا ما أعدّ في الجنّة لمن عفّ عن مال الأيتام ، وقيل المراد بالخبيث الرّدي وبالطيّب الجيّد قال السدّي كانوا يجعلون الشاة المهزولة مكان السمينة قيل هذا تبديل لا استبدال اللّهمّ إلّا أن يكون مكرمة مع الأصدقاء فيأخذ من الصّديق عجفاء ويعطيه من مال اليتيم سمينة.

ص: 106


1- النساء : 2.

قوله ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ) أي ضامّين إلى أموالكم وقيل « إلى » هنا بمعنى « مع » والمنهي عنه هنا هو ما ليس على وجه الأجرة بالمعروف كما تقدّم وعبّر بالأكل لأنّه أعظم وجوه الانتفاع والتصرف ، حيث يصير بدل ما يتحلّل.

قوله ( إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ) أي ذنبا كبيرا.

وروي أنّ الآية نزلت في رجل كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم فلمّا بلغ اليتيم طلب المال فمنعه منه فترافعا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فنزلت فلمّا سمعها العم قال أطعنا اللّه وأطعنا الرسول ، ونعوذ باللّه من الحوب الكبير ، ودفع إليه ماله فقال صلى اللّه عليه وآله : ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنّه يحل داره أي الجنّة ولمّا أخذ الفتى ماله أنفقه في سبيل اللّه فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله ثبت الأجر وبقي الوزر ، فقيل له كيف يا رسول اللّه فقال ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على الوالد (1).

قال بعض الفضلاء هذا الخبر يحمل على أنّ والده لم يكن يحترز في تحصيل المال من الشبهات أو لم يخرج الحقوق المالية وعندي في هذا الحمل نظر إذ مقتضاه أنّ في المال حقوقا يجب إيصالها إلى أربابها فكان يجب على النبيّ صلى اللّه عليه وآله الأمر بتسليمها إلى مستحقّها ولا يدع الغلام يتصرّف فيها إذا لا يجوز له صلى اللّه عليه وآله أن يقرر على الباطل.

فالأولى أن يقال : الوزر قد يراد به الثقل كما ورد التعبير عن مثل ذلك بالعب كما جاء في حديث آخر « إلهنا لغيره والعب ء على ظهره » وحينئذ يكفي في الثقل ندم الميّت وأسفه على فوات ثوابه بصرفه في وجوه القرب ، وعدم انتفاعه به في آخرته أو أنّه إذا شاهد ما حصل لوارثه ممّا كدّ حينئذ في تحصيله تألّم بذلك.

وأمّا السؤال المشهور هنا وهو أنّ أكل مال اليتيم حرام قطعا منفردا أو منضما فلم خصّ النهي بأكله منضما؟ فأجاب عنه الزمخشريّ بأنهم لمّا كانوا أغنياء فأكل مال اليتيم منهم أقبح ، وأيضا كانوا يفعلون كذلك فنهوا عنه نغيا عليهم وتسميعا (2).

ص: 107


1- الدر المنثور ج 2 ص 117.
2- في بعض النسخ : تعييبا عليهم وتشنيعا ، ومعناهما متشابه.

وقيل : لا وجه للسؤال لأنّ قوله ( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) نهي عن أكل مال اليتيم وحده لما تقدّم في التفسير الأوّل ، أي لا تتبدلوا أموالهم مكان أموالكم ولا تأكلوها منضمّة إلى أموالكم فقد استوفى النهي القسمين معا.

الثالثة ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) (1).

قيل : المراد بالآية الأولى الّذين يجلسون عند المريض ويقولون إنّ أولادك لا يغنون عنك من اللّه شيئا فقدّم مالك في سبيل اللّه فيفعل المريض بقولهم فيبقى أولاده ضائعين كلّا على الناس : فأمر [ اللّه تعالى ] هؤلاء بأن يخافوا اللّه في هذا القول ويقدّرون أنّ أولادهم هم المخلّفون ويفعلون بهم ما أشاروا به.

ويقوّي هذا القول قوله ( فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) أي موافقا بأن لا يشيروا بزائد على الثلث بل بأقلّ ، وقصّة سعد بن أبي وقّاص المتقدّمة تدلّ على هذا المعنى ، فيكون الأمر هنا على الندب.

وقيل : هو للأوصياء بأن يخشوا اللّه في القيام بأمر اليتامى ، وليقدّروا أنّهم لو كانوا هم الموتى وذرّيتهم للضعفاء تحت ولاية أوصيائهم ، كيف كانوا يخافون عليهم من الضياع ، ويريدون من الأوصياء أن يفعلوا بأبنائهم؟ فليكونوا هم في ولاية اليتامى كذلك.

ثمّ إنّه تعالى أكّد النهي عن تناول مال اليتامى زيادة عن تناول مال غيرهم لمكان ضعفهم وعجزهم وغفلتهم فقال ( إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) أي سببا للنار والتنوين فيه للنوعيّة أي نوعا من النار ، لا أيّ نار كانت ، وفي ذلك غاية التهديد قوله ( وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) إعادة ليعلم أنّ أكل مال اليتيم سبب تامّ لدخول النار

ص: 108


1- النساء : 9

لا أنّه سبب ناقص صغير ، بل هو كبيرة من الكبائر.

وسئل الرضا عليه السلام كم أدنى ما يدخل به النار آكل مال اليتيم؟ فقال : قليله وكثيرة واحد إذا كان من نيّته أن لا يردّه إليهم (1).

وعنه أيضا عليه السلام أنّه قال إنّ في مال اليتيم عقوبتين اثنتين إمّا إحداهما فعقوبة الدنيا وهو قوله « وَلْيَخْشَ الَّذِينَ » الآية وأمّا ثانيتهما فعقوبة الآخرة وهو « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً » الآية (2).

وعن الصادق عليه السلام قال في كتاب عليّ عليه السلام أنّ آكل مال اليتيم سيدركه وبال ذلك في عقبه ويلحقه وبال ذلك في الآخرة وذكر الآيتين (3).

ولنتبع هذا البحث بآيتين :

إحداهما ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (4).

قال الضحّاك المراد « بالسّفهاء » النساء فإنّهنّ من أسفه السفهاء إذ السفه خفّة العقل ، وهنّ نواقص العقول كما جاء في الحديث ، وسواء كنّ أزواجا أو بنات أو أخوات أو جواري أو غير ذلك : وفيه نظر ، لأنّه عدول عن الظاهر ، وخروج عن الحقيقة ، وتخصيص للعموم.

وقيل : هو نهي لكلّ ذي مال أن يسلّم ماله إلى السّفهاء الّذين لا يقومون بحفظ المال ، وحسن رعايته ، بل يفسدونه بتصرفاتهم الفاسدة لقوله ( أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً ) أي تقومون بها قياما لأنّكم لو ضيّعتموها بإعطاء السّفهاء ، لضعفتم

ص: 109


1- راجع تفسير البرهان ج 1 ص 347 ، تفسير العياشي ج 1 ص 224.
2- تفسير العياشي ج 1 ص 223.
3- عقاب الاعمال : 20 تفسير العياشي ج 1 ص 223.
4- النساء : 5.

واحتجم. وقرئ قيّما بمعنى قياما وفي الشواذّ قواما وقوام الشي ء ما يقام به كما يقال هو ملاك الأمر لما يملك به.

وقال الفقهاء ومحقّقوا المفسّرين : إنّ الخطاب للأولياء أمروا بأن يمسكوا أموال اليتامى إلى وقت بلوغهم ورشدهم ، وينفقوا عليهم ويؤيّده قوله « وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ » وإنّما أضاف الأموال إليهم لأنّها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما قال اللّه تعالى « وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ » وهذا أقرب وأولى ، لأنّه ملائم للآيات المتقدمة والمتأخّرة ، وأيضا هو حمل اللّفظ على حقيقته العرفيّة فإنّ السفيه في عرف الفقهاء هو الّذي يصرف أمواله في غير الأغراض الصّحيحة وذلك مناسب للحجر عليه ، وإنّما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنّها في تصرفهم وتحت ولايتهم فالإضافة لمطلق الاختصاص.

وقوله « وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً » هو الوعد بالتسليم إليهم عند رشدهم وحضّهم على سولك طريق الصّواب في تصرفاتهم وهنا فوائد :

1 - إنّما ذكر الحجر على السّفيه منفردا بآية مع أنّ ذلك معلوم من قوله « فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً » للدلالة على أنّ السّفه علية برأسه في الحجر ، سواء كان للصبيّ أو البالغ ، وسواء كان تابعا للصبي أو طارئا بعد البلوغ والرشد ، خلافا لأبي حنيفة فإنّه لا يحجر على البالغ العاقل للسّفه والتبذير وخالفه صاحباه ، وتصرّفه عنده جائز وإن لم يوافق مصلحته.

2 - تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّيّة عند الأكثر ، فهل بمجرّد ظهور السفه يقع الحجر به أو لا بدّ من حكم الحاكم؟ قيل بالأوّل لحصول العلّة ، وقيل بالثاني لأنّها مسئلة اجتهاديّة فتفتقر إلى نظر وضبط فيتوقّف على الحاكم ، وكذا الخلاف في أنّه هل يزول الحجر بزواله ، أو لا بدّ من الحكم ، والحقّ الأوّل في المسئلتين مع التحقّق.

3 - الحجر على السفيه مختصّ بالتصرف الماليّ عملا بالعلّة ، فيقع تصرفه في غير المال كاستيفاء القصاص والطلاق وغيرهما بخلاف الصّبيّ والبالغ غير الرشد

ص: 110

فإنّه ممنوع من التصرّف مطلقا.

4 - تصرف السّفيه في المال مع نظر الوليّ أو إذنه فيه مع موافقته للمصلحة جائز ماض بخلاف الصبيّ والمجنون ، فانّ تصرّفهما باطل ولو أذن الولي ووافق المصلحة.

5 - في قوله « وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ » دون « منها » فائدة وهي أن يرزقوهم من ربحها لا من أصلها (1) لئلّا يأكلها الاتفاق أو أن الرزق من اللّه فيها بمعنى أنّ اللّه جعل رزقكم ورزقهم فيها فعلى الأوّل يمكن أن يحتجّ بالآية على وجوب التكسّب بمال المولّى عليه ، لظاهر الأمر ، ولئلا يأكلها النفقة ، ويحتمل عدم الوجوب للأصل ، ولأنّه اكتساب ولا يجب ، والحقّ أنّه يجب استنماؤه قدر النفقة ، فأمّا الزيادة على ذلك فندب.

وثانيتهما ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) (2).

أي عبدا لله و « مَمْلُوكاً » أي للناس « لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ » أي على شي ء من التصرّفات ، والجملة صفة « للمملوك » صفة تخصيص ليخرج المكاتب والمأذون في التصرف ، فإنّهما يقدران على التصرف في المال ، ويحتجّ بها على حكمين :

1 - الحجر على المملوك في تصرّفاته بمعنى عدم صحّة شي ء منها إلّا بإذن سيّده ، لكن هذا العموم مخصوص بصحّة تصرّفه في طلاق زوجته وبنفوذ إقراره بالمال ، ويتبع به بعد عتقه ، وكذا يقبل قول المأذون فيما هو من ضروريّات التجارة أمّا لو أقرّ المملوك بقصاص أو حدّ فعندنا لا ينفذ في الحال خلافا لأبي حنيفة اللّهمّ إلّا أن يوافقه السيد فينفذ.

2 - أنّه لا يملك شيئا سواء ملّكه مولاه أو لا ، وبه قال الشافعيّ في الجديد وأحمد وأكثر أهل العلم ، وقال في القديم يملك إذا ملّكه مولاه وقال مالك يملك

ص: 111


1- في بعض النسخ : من صلبها.
2- النخل : 75.

وإن لم يملّكه مولاه ووجه ما قلناه أنه ليس المراد من الآية نفي القدرة على الفعل لأنّه معلوم البطلان ضرورة ، فيكون المراد أنّه لا يملك وهو المطلوب وأيضا نفى عنه القدرة عموما لأنّ النكرة في النّفي يعم ، خرج من ذلك ما أخرجه الدليل فيبقى الباقي على النفي.

إن قلت : إنّ النفي وإن كان عاما لكنّه متعلّق بعبد منكّر ، وهو لا يدل على العموم فلا يلزم عدم تملّك العبيد كلّهم.

قلت : تعليق الحكم على المشتقّ يدل على كون المشتقّ منه علّة في الحكم كقولك أكرم العلماء فإنّه يدل على أنّ علّة إكرامهم علمهم ، فيعمّ أينما وجد المشتقّ منه ، وصورة النزاع كذلك ، فيعم أينما وجد الملك.

وأيضا يؤيّد ما قلناه قوله تعالى ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) (1) شبّه حاله مع عباده في نفي المشاركة في الملك بحال السادات مع مماليكهم ، ومعلوم أنّ عبادة لا يشاركون اللّه في الملك ، فكذا المماليك.

احتجّ من قال بملكه بقوله تعالى ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (2) وجه الدّلالة أنّه لو لم يصحّ تملّكهم لم يصحّ إغناؤهم ، لكن صحّ فصحّ ، وبما روي أنّ سلمان كان عبدا فأتى النبيّ صلى اللّه عليه وآله بشي ء فقال : هو صدقة فردّه فأتاه ثانيا وقال : هذه هديّة فقبله فلو كان لا يملك لما قبله منه.

وأجاب الشيخ عن الأوّل بجواز أن يريد اللّه أن يغنيهم بالعتق ، وعن الثاني بالمنع من كون سلمان مملوكا حقيقة بل كان محكوما عليه من غير التملّك الشرعيّ وإن سلّم جاز أن يكون الهديّة بإذن سيّده ، وعلم النبيّ صلى اللّه عليه وآله ذلك فقبلها.

وفي الجواب الأوّل نظر لأنّه إن توجّه فإنّما يتوجّه على تقدير تزويج

ص: 112


1- الروم : 28.
2- النور : 32.

العبيد والإماء بالأحرار ، لأنّه ربما يؤدّي إلى عتقهم بسبب أولادهم ، وأمّا إذا زوّجوا بأمثالهم فلا ، وأيضا لو كان العتق غنى كان الرّق فقرا وحينئذ كان فقر العبد متحقّقا فيكون حجّة لنا وكلمة « إن » وإن كان محلّها المحتمل لكن جاز استعمالها في المتحقّق مثل قوله تعالى ( وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) (1).

النوع الثالث عشر

في العطايا المنجزة كالوقف والسّكنى والصّدقة والهبة وغير ذلك وليس في الكتاب آيات مختصّة بذلك بل آيات تدلّ بعمومها وظواهرها على الحضّ على فعل الخيرات ، فيدخل في ذلك ما ذكرناه وقد ذكر الراونديّ والمعاصر من ذلك آيات :

الاولى ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (2).

الثانية ( وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ) (3).

الثالثة ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ - الى قوله وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ ) (4).

وقد مضى البحث في ذلك فلا وجه لإعادته ، وتمام البحث في الأمور الأربعة مستوفى في كتب الفقه.

ص: 113


1- المؤمن : 28.
2- آل عمران : 92.
3- المزمل : 20.
4- البقرة : 177.

النوع الرابع عشر : في النذر والعهد واليمين

اشارة

وفيه أبحاث :

البحث الأول : النذر

وفيه آيتان :

الاولى ( وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) (1).

« ما » موصولة وهي مبتدأ ولتضمنها معنى الشرط دخل الفاء في خبره ، ومعناه وما أنفقتم من نفقة في الطّاعات أو في المعاصي فإنّ اللّه يعلم ذلك فيجازي على عمله من الثواب والعقاب بقدر علمه ، فإنه لا يفوته شي ء من خفيّات الأمور وكذلك حكم ما نذرتم من نذر في طاعة أو معصية.

والضمير في « يَعْلَمُهُ » عائد إلى لفظة ما ، ولذلك ذكّره ، « وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ » أي ليس للّذين يمنعون الصّدقات أو ينفقون في المعاصي أو لا يوفون بالنذر أنصار يوم القيامة وهنا فوائد :

1 - في ذكر العلم بعد الإنفاق والنذر ، وإردافه بالظلم بسبب المخالفة دلالة على وجوب الوفاء بالنذر وذلك هو المطلوب.

2 - النذر قد يكون مطلقا كقوله « لله عليّ أن أفعل كذا من الطاعات » وقد يكون مشروطا بحصول أمر واجب أو مندوب أو مباح أو انزجار عن محرّم أو مكروه فيقول : إن كان كذا فعليّ كذا من الطاعة الواجبة أو المندوبة ، ولا خلاف في انعقاد

ص: 114


1- البقرة : 270.

الثاني وفي الأوّل خلاف والأصح انعقاده لعموم « ( إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ) (1) » وعموم قوله صلى اللّه عليه وآله « من نذر أن يطع اللّه فليطعه (2) ».

وقال المرتضى بعدم انعقاده مدّعيا الإجماع ولأنّ غلام ثعلب نقل أنّ النذر لغة وعد بشرط ، فيكون كذلك شرعا لأنّه جاء بلغتهم والأصل عدم النقل ، وأجاب القائل بانعقاده بمنع الإجماع لعدم تحقّقه ، ومنع النقل فإنّه نقل أنّه وعد بغير شرط وقد وجد في أشعارهم كقول جميل :

فليت رجالا فيك قد نذروا دمي *** وهمّوا بقتلي يا بثين لقوني (3)

3 - النذر عبادة لفظيّة ، وكذا العهد واليمين ولا تكفي النيّة القلبيّة ، وإن كانت شرطا من غير تلفّظ ، وقال بعض الفقهاء بالاكتفاء وليس بشي ء.

الثانية ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (4).

نزلت هذه الآية الكريمة في عليّ وفاطمة عليهما السلام وقصّتهما مشهورة والاستدلال بها من وجهين :

1 - أنّها خرجت مخرج المدح لهم عليهم السلام ، وذلك دليل رجحان الوفاء بالنذر.

2 - إرداف الوفاء بخوف شر يوم القيامة ، وفيه دلالة على وجوب الوفاء إذ المندوب لا يخاف من تركه العقاب ، و « المستطير » المنتشر.

ص: 115


1- آل عمران : 35.
2- وبعده : ومن نذر أن يعصى اللّه فلا يعصه. رواه البخاري ج 4 ص 159.
3- البيت في قصيدة لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة ، أحد عشاق العرب المشهورين ، وترى ترجمته في الخزانة للبغدادى ص 268 - 270 ج 1 عند شرح الشاهد الثاني والستين ، وفيه أن ترجمة جميل في الأغاني طويلة جدا ، وأنشد القصيدة القالي في الأمالي ج 1 ص 201 وضبط البيت فيه : ونبت قوما فيك قد نذروا دمي *** فليت الرجال الموعدين لقوني وقوله « يا بثين » منادي مرخم ، أصله. « يا بثينة » وقد صحفت الكلمة في النسخ بأنحاء شتى.
4- الدهر : 7.
البحث الثاني : العهد

وفيه آيات.

الاولى ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) (1).

دلّت على وجوب الوفاء بالعهد من وجهين :

1 - صيغة الأمر في قوله « وَأَوْفُوا » والأمر للوجوب.

2 - كون العهد مسئولا ولا يسئل عن غير الواجب ، فيكون الوفاء به واجبا.

الثانية ( وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (2).

وهذه أيضا فيها أمر صريح بالوفاء فيكون واجبا ، وأكّد ذلك الوجوب بأنّه وصاهم به وفيه حضّ عظيم على الوفاء وعلّله بقوله « لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » أي لتتّعظوا به لتنالوا به مرتب التّقوى.

الثالثة ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ ) (3).

عهد اللّه هنا أعم من أن يكون بنذر أو عهد أو يمين ولذلك قال « وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها » وفي الآية حكمان :

1 - وجوب الوفاء بالعهد.

ص: 116


1- اسرى : 34.
2- الانعام : 152.
3- النحل : 91.

2 - وجوب الوفاء بمقتضى اليمين ، وأكّد ذلك بعدّة تواكيد :

الأوّل « جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً » أي رقيبا فانّ الكفيل يراعي حال المكفول فهو حفيظ عليه.

الثاني « إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ » من الوفاء وعدمه ، وفيه تهديد عظيم على النكث وحضّ على الوفاء.

الثالث : شبّههم في نقضهم وعدم وفائهم بحال « الّتي ( نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) » جمع نكث بكسر النون ، في خرقها وقلّة عقلها وهي امرأة يقال لها ريطة بنت سعد بن تميم وكانت خرقاء اتّخذت مغزلا قدر ذراع ، وصنارة مثل إصبع ، وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن.

الرابع : وبّخهم في نقضهم بقوله « تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ » بفتح العين قال الجوهريّ : هو المكر والخديعة ، وهو منقول من قولهم فلان دخل في بني فلان إذا انتسب إليهم ، ولم يكن منهم ، وانتصابه على أنّه مفعول ثان « وتتّخذون » حال من « لا تنقضوا » أي لا تتّخذوا أيمانكم متّخذين لها دخلا بينكم « أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ » أي لأجل أنّ امّة هي أكثر من امّة نفسا أو مالا أو عزّا أو جاها أي إنّكم إذا حلفتم على أمر لقلّتكم وضعفكم ، ثمّ كثّر اللّه عددكم أو مالكم لا تنقضوا الأيمان واثبتوا عليها و « أربى » منصوب المحلّ لكونه خبرا « وهي » ضمير فصل ، وقال الزجّاج إنّه مرفوع المحلّ على أنّه خبر المبتدأ و « هي » مبتدأ ولا يجوز الفصل بين نكرتين.

الخامس « إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ » أي يختبركم اللّه بالأمر بالوفاء بالعهد ليجازيكم في القيامة على الوفاء والنكث وهنا أحكام :

1 - في الآية إشارة إلى أنّ حكم اليمين والعهد واحد ولهذا عبّر عن العهد باليمين بقوله « وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ » عقيب قوله « وَأَوْفُوا ».

ص: 117

2 - أنّ النذر والعهد واليمين تشترك في كونها تكون مطلقة ومشروطة. وفي كون الشرط طاعة أو مباحا أو زجرا عن محرم أو مكروه ويخالف الأخيران الأوّل في كون الجزاء في الأوّل لا يكون إلّا طاعة ، وجزاء الأخيرين أعمّ فإنّه قد يكون مباحا مع تساوي طرفيه دينا ودنيا فيأتي بمقتضى عهده أو يمينه ، أمّا لو ترجّح أحد طرفيه فيهما ، فان كان ذلك هو المتعلّق وجب الوفاء به ، وإن كان غيره جازت المخالفة ، لقوله صلى اللّه عليه وآله « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذي هو خير » (1) ولا كفّارة عندنا خلافا للقوم.

3 - يتبع في متعلّق الثلاثة مدلول لفظه شرعا ، فان لم يكن فمدلوله عرفا فان لم يكن فمدلوله لغة.

4 - النقض هو مخالفة ما وقع العهد واليمين عليه ، فانّ الفعل أو الترك يصير واجبا باليمين والعهد ، وترك الواجب حرام.

5 - قوله « بَعْدَ تَوْكِيدِها » أي توثيقها بذكر اللّه ، وفيه دلالة على أنّ الحالف والناذر إذا لم يذكر اللّه لم يصر المحلوف عليه والمعاهد واجبا ، ويجوز مخالفته على كراهية أمّا لو حلف أو عاهد على فعل محرّم ، فيجب مخالفته.

البحث الثالث : اليمين
اشارة

وفيه آيات :

الاولى : ( وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2).

العرضة فعلة من العرض ، والفعلة للمقدار كالخطوة ، أي مقدار ما يعرض من

ص: 118


1- المستدرك ج 3 ص 52 ، سنن ابى داود ج 2 ص 204 وهكذا ص 205.
2- البقرة : 224.

أيّ شي ء كان ، سواء كان العارض حاجزا بين الشيئين كما يقال فلان عرضة دوننا أو لم يكن بل يكون معرضا للشي ء كما يقال فلان عرضة للناس ، أي نصب للوقوع فيه.

فعلى هذا يحتمل أن يكون الآية من المعنى الأوّل أي لا تجعلوا اللّه حاجزا لأيمانكم أي حاجزا لما حلفتم عليه ، وسمّي المحلوف عليه يمينا لتلبّسه باليمين كقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله لعبد الرّحمن بن سمرة « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير » (1) ويكون « أَنْ تَبَرُّوا » نصبا على أنه عطف بيان « لِأَيْمانِكُمْ » أي للأمور المحلوف عليها الّتي هي البرّ والتقوى والإصلاح ، كذا قيل ، وفيه نظر لأنّ حمل الأيمان على المحلوف عليه إن صحّ كان مجازا ولا يصار إليه إلّا مع تعذر الحقيقة ، وليست متعذّرة لجواز أن يكون الآية من المعنى الثاني أي لا تجعلوا اللّه معرضا لأيمانكم أي لا تكثروا الحلف به حتى في المحقّرات ، وفي غير المهمّات الضروريّة ، ولذلك ذمّ الحلّاف بقوله « وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلّافٍ مَهِينٍ » (2) ويكون « أَنْ تَبَرُّوا » علّة للنهي أي أنهاكم عن ذلك إرادة برّكم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس ، فانّ الحلّاف مجترئ على اللّه والمجترئ ، لا يكون بارّا ولا متّفقا ولا موثوقا به في إصلاح ذات البين.

ويستفاد من التأويل الأوّل أنّه متى تضمن اليمين ترك برّ أو تقوى أو إصلاح ، فإنّها باطلة لا يجب العمل بمضمونها ، ويجوز مخالفتها ومن الثاني النهي عن كثرة الأيمان ، وإن كانت صادقة.

وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة وهذا الّذي فسّرنا به الآية هو تحقيق ما قاله المفسّرون ، ولهم هنا أقوال في الآية أعرضنا عنها لعدم تحقيقها.

الثانية ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ

ص: 119


1- تراه في مشكاة المصابيح ص 296 وقال : متفق عليه.
2- القلم : 10.

قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (1).

يمكن أن يكون هذا جواب سؤال مقدّر ، تقديره إذا نهى عن جعل اللّه عرضة للأيمان ، هلك الناس لكثرة حلفهم باللّه ، فأجاب بقوله « لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ » و « اللغو » لغة هو الساقط أو ما لا فائدة فيه ، واختلف في المراد بالآية فقال طاوس هي يمين الغضبان ، وقال الحسن هي يمين الظانّ ، وهو أن يحلف على شي ء يظنّه أنه على ما حلف عليه ولم يكن ، وبه قال أبو حنيفة وقال ابن عبّاس هو قول الرّجل لا واللّه وبلى واللّه ممّا يؤكّد به كلامه من غير قصد إلى القسم حتّى لو قيل له إنّك حلفت قال لا ، وبه قال الشافعيّ وأصحابنا وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام (2).

وقال مالك هي الحلف على الماضي وهي الغموس ، والمراد بعدم المؤاخذة هو عدم العقاب ، وعدم الكفّارة معا ، وقال الزّمخشري : يكفي عدم أحدهما ، وفيه نظر لأنّه لو ثبت أحدهما لثبت المؤاخذة ، لكنّه ليس فليس.

قوله « وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ » الفرق بين كسب اللّسان وكسب القلب أنّ القلب لا يخالف النفس المكلّفة بخلاف اللّسان ، فإنّه فضوليّ قد يخالفها ، ويصدر منه ما لم يأذن به النفس ، فلا يليق بالحكيم المؤاخذة بما لم تأذن النفس في فعله ، وفي هذا الكلام إشارة إلى اشتراط القصد في اليمين والنيّة ، فلا يقع يمين الغضبان ، غضبا يرتفع معه القصد ، وكذا الساهي والغافل « وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ » يغفر لكم ما لم يكسبه قلوبكم ، ويحلم عنكم بعدم المؤاخذة.

الثالثة ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ

ص: 120


1- البقرة : 225.
2- الكافي ج 7 ص 443.

وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1).

هنا فوائد :

1 - قد تقدّم معنى يمين اللّغو ونزيد هنا فنقول : الحقّ أنّه ما يسبق إلى اللسان من غير قصد ، وسئل الحسن عنه فقال الفرزدق وكان حاضرا دعني أجبه يا أبا سعيد فقال :

وليست بمأخوذ بلغو تقوله *** إذا لم تعمّد عاقدات العزائم

وهو الّذي أردناه ، وذلك أنّ حكم الأيمان حكم الايمان ، فكما أنّ الايمان باللّسان ليس إيمانا في الحقيقة ما لم يعقده بقلبه كذلك الأيمان باللّسان ليس بأيمان يوجب كفّارة [ ولا ] إثما.

2 - قرأ حمزة والكسائيّ « عَقَّدْتُمُ » بالتخفيف وقرء ابن عامر « عاقدتم » وهو من فاعل بمعنى فعل كعافاه اللّه ، والباقون بالتشديد ، ومعنى الجميع وثّقتم أيمانكم بالقصد والنيّة.

ومنع الطبري من قراءة التشديد لأنّه لا يكون إلّا مع تكرير اليمين ، والحال أنّ المؤاخذة تحصل باليمين الواحدة وأجيب بوجوه :

الأوّل : أنّ التعقيد أن يعقدها بقلبه ولسانه ، ولو عقد بأحدهما لا غير لم يكن تعقيدا ، الثاني قال أبو علي الفارسي أنه لتكثير الفعل ولمّا كان مخاطبا للكثرة يقوله « لا يُؤاخِذُكُمُ » اقتضى كثرة اليمين والتعقيد كقوله « ( وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ) (2) » قال أو يكون « عقّد » مثل ضعّف فإنّه لا يراد به التكثير كما أنّ ضاعف لا يراد به فعل من اثنين ، الثالث قال الحسن بن علي المغربي : في التكثير فائدة وهو أنّه إذا كرّر اليمين على المحلوف الواحد ، ثمّ حنث لم يلزمه إلّا كفّارة واحدة ، على خلاف بين الفقهاء.

ص: 121


1- المائدة : 89.
2- يوسف : 23.

قوله « وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » فيه حذف تقديره بنكث ما عقّدتم الإيمان أو يكون التقدير وحنثتم « فَكَفّارَتُهُ » أي كفّارة حنثه.

3 - إذا حنث الحالف عمدا اختيارا ، وجبت عليه الكفّارة المذكورة في الآية وهي جامعة بين التخيير في الثلاثة الأول ، والترتيب بعد العجز بوجوب الصيام.

وهنا أحكام :

1 - الإطعام يصدق إمّا بالتسليم إليهم ، أو بإحضارهم ، وجعل الطعام بين أيديهم ليأكلوا.

2 - اختلف في قدره ما يعطى المسكين ، فقال أبو حنيفة : نصف صاع من برّ أو صاع من غيره ، أو يغدّيه ويعشّيه ، وقال الشافعي لكل مسكين مدّ وهو قول أصحابنا.

3 - المراد بالأوسط إمّا في النوع أو القدر والظاهر الأوّل.

4 - لا يجزي إطعام مسكين عشرة أيّام ، لعدم صدق العشرة على الواحد ولاختصاص الكثرة بمزيد فائدة وكذا في الظهار خلافا لأبي حنيفة فيهما.

5 - المسكين هو الّذي يجوز دفع الزكاة الواجبة إليه ، وقد تقدّم تحقيق معناه ولا يجوز إطعام أهل الذمّة خلافا لأبي حنيفة.

6 - كسوة الفقير : قيل ثوبان ، والحق أنّه يكفي الواحد ولو غسيلا ولا يكفي النعل ولا القلنسوة ، وبه قال الشافعيّ وقال مالك : إن أعطى رجلا كفى الواحد ، وإن أعطى امرأة لا يجزي إلّا ما يجوز فيه الصلاة وهو ثوبان قميص ومقنعة ، وقال أبو يوسف لا يجوز السراويل وقرأ سعيد بن المسيّب أو كاسوتهم (1) بمعنى أو مثلما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا.

7 - يشترط في الرّقبة الإيمان أو حكمه حملا للمطلق على المقيّد في كفّارة القتل ، وبه قال الشافعي ، قياسا على القتل ، وقال أبو حنيفة : يجوز عتق الكافر

ص: 122


1- في بعض النسخ المخطوطة : « ككسوتهم » وهو تحريف.

وهو باطل لأنّه خبيث لا يتقرّب بمثله كما تقدّم.

8 - يشترط في الصيام التتابع ، وبه قال أبو حنيفة ، وبذلك قرأ ابن مسعود « ثلاثة أيّام متتابعات » ولأنّه أحوط وتحصيل البراءة معه يقينا وقال مالك : هو مخيّر إن شاء تابع ، وإن شاء فرّق ، وللشافعيّ القولان ، واختيار أصحابنا وإجماعهم على الأوّل.

4 - قوله « ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ » أي إذا حلفتم وحنثتم :

وهنا أحكام :

1 - أنّ الكفّارة مختصّة بالحنث في المستقبل ، ولا يجب في الغموس (1) صادقا كان أو كاذبا ، عامدا كان أو ناسيا.

وبه قال مالك ، وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد ، وقال قوم : إن كان كاذبا عالما لزمته الكفّارة قولا واحدا وإن كان ناسيا فقولان ، وهو مذهب الشافعيّ.

دليلنا : أخبار أهل البيت عليهم السلام وحينئذ يكون ظاهر الآية مخصوصا بما قلناه 2 - لا يجوز تقديم الكفّارة على الحنث إذ لا يتقدّم المسبب على السبب وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعيّ : يجوز التقديم بالمال لا الصيام لأنّه بدل عنه.

3 - إنّما تجب الكفّارة بالمخالفة ، عمدا اختيارا إجماعا ، ولا تجب بالمخالفة نسيانا عندنا ، وللشافعيّ قولان ، لنا عموم قوله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان (2) » ولم يثبت المخصّص.

5 - قوله « وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ » أي من الحنث ، وذلك إذا كان المحلوف عليه ، فعل واجب أو مندوب ، أو ترك محرّم أو مكروه أو مباح متساوي الطّرفين.

ويحتمل أن يكون المراد بحفظ اليمين عدم ابتذالها في كلّ أمر فإنّ كثرتها مكروهة ، ولذلك تقدّم « وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ » وورد في بعض الأحاديث عن الصادق عليه السلام « لا تحلفوا باللّه لا صادقين ولا كاذبين » (3)

ص: 123


1- يريد الحلف على الماضي بأن يقول : واللّه فعلت كذا وكذا -
2- السراج المنير ج 2 ص 317.
3- الكافي ج 7 ص 434 باب كراهية اليمين تحت الرقم 1.

قوله « كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ » أي ما تحتاجون إليه « لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » نعمته على ذلك.

فائدة :

لو حلف لا يكلّمه حينا فهو ستّة أشهر لقوله تعالى « تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ ) (1) » وعليه إجماع الإماميّة ، والزمان عندهم خمسة أشهر وقال أبو حنيفة : الحين والزّمان ستّة أشهر وقال الشافعيّ لا حدّ لهما. والحقب قال أصحابنا لا حدّ له ، وبه قال الشافعيّ وقال مالك أربعون سنة ، وقال أبو حنيفة ثمانون لما روي عن ابن عباس أنّه قال في قوله تعالى « لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) (2) » الحقب ثمانون عاما وروي أنّ الأحقاب الدّهور ، وقيل غير ذلك ، ولو نذر عتق كلّ عبد له قديم ، عنق من له في ملكة ستّة أشهر وهي رواية صحيحة عن الرّضا عليه السلام مستدلا بقوله تعالى : « ( حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (3) ».

وهنا فرع :

وهو أنه هل يجري تفسير القديم في غير ذلك من الأحكام كالإقرار أم لا ، وسيجي ء توجيه الاحتمالين ، ولو نذر الصّدقة بمال كثير كان ثمانين ، وهي واقعة أمّ المتوكّل ، لمّا نذرت ذلك ، فجمع المتوكّل الفقهاء فكلّ قال قولا ثمّ إنّ المتوكل قال له بعض جلسائه وكان الرّجل إماميّا : هل عند الأسود في هذا علم؟ يعني الهادي عليه السلام ، وكان به ادمة.

فقال المتوكّل : ويحك من تعني؟ قال : ابن الرّضا عليه السلام ، فقال وهل يحسن من هذا شيئا فقال يا أمير المؤمنين إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا ، وإلّا فاضربني مائة مقرعة ، فقال رضيت ، ثمّ قال : يا جعفر بن محمّد (4) امض إليه فاسأله

ص: 124


1- إبراهيم : 25.
2- النبإ : 23.
3- يس : 39.
4- في نسخة الكافي : يا جعفر بن محمود .

فقال له في الجواب : الكثير ثمانون ، فقال يا مولاي إذا قال لي : من أين له ذلك؟ فما أقول؟ فقال قل له لقوله تعالى « ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ) (1) » فعدّدنا تلك المواطن ، فكانت ثمانين.

وفي هذه فروع :

1 - قال الصدوق يتصدّق بثمانين ، ولم يعيّن درهما وقال الشيخان ثمانون درهما ، وفصّل ابن إدريس بأنّه إن كان في عرفهم المعاملة بالدراهم ، فثمانون درهما ، وإن كان بالدنانير فثمانون دينارا ، والتفصيل حسن ، لكن قول الشيخين أقوى لما تقرر في الأصول أنّه يحتمل المطلق على المقيّد وفي رواية الحضرميّ عن الصادق عليه السلام قيّد بالدّراهم (2).

2 - لو قال بكثير من الغنم أو البقر ، كان ثمانين أيضا ، وكذا لو قال صوم كثير ، أو غير ذلك من المقيّد بالكثرة.

3 - هل يتعدى الكثير إلى الإقرار ، حتّى لو قال : « له عليّ مال كثير » كان ثمانين كما قلنا هنا أولا ، يحتمل ذلك للعلّة والاستعمال ، والأصل الحقيقة ويحتمل العدم لعدم التحديد لغة وعرفا ، ووروده في النذر لا يستلزم كونه حقيقة في المعيّن ، لأنّ الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ، خصوصا مع وروده في صور كثيرة من غير تقدير بثمانين كقوله « و ( اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً ) (3) » و « ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) (4) » وبالأوّل قال الشيخان ، وبالثاني قال ابن إدريس والفاضلان.

ص: 125


1- التوبة : 25 ، والحديث في الكافي ج 7 ص 464 ، آخر كتاب الفروع.
2- ومثله رواية يوسف بن السخت كما في العياشي ج 2 ص 84.
3- الأحزاب : 41.
4- البقرة : 249.

النوع الخامس عشر : العتق وتوابعه

اشارة

وفيه آيات :

الاولى ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) (1).

إنعام اللّه هو توفيقه للإسلام ، وإنعام النبيّ صلى اللّه عليه وآله هو العتق له ، وتخليصه من ذلّ الرّقيّة ، والمشار إليه بذلك هو زيد بن حارثة ، وكان من قصّته أنّه أسر في بعض الغزوات في جملة أسارى فجاء قومه يستفكّون أسراهم من جملتهم أبو حارثة فطلب من النبيّ صلى اللّه عليه وآله افتكاكه بثمن ، وكان قد وقع في سهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2) فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وآله اذهب إليه فإن أرادك فهو لك بغير شي ء.

ص: 126


1- الأحزاب : 37.
2- أقول : هو زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى ، وأمه سعدى بنت ثعلبة بن عبد عامر بن أفلت من بنى معن من طيئ ، أصابه سبي في الجاهلية ، لأن أمه خرجت به تزور قومها بنى معن فأغارت عليهم خيل بنى القين ابن جسر ، فأخذوا زيدا فقدموا به سوق عكاظ وقيل سوق حباشة ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد فوهبته للنبي صلى اللّه عليه وآله بمكة قبل النبوة وهو ابن ثماني سنين. وكان أبوه شراحيل قد وجد لفقده وجدا شديدا فقال فيه : بكيت على زيد ولم أدر ما فعل *** أحي يرجى أم أتى دونه الأجل إلى آخر أبيات ذكرها في أسد الغابة ج 2 ص 225 ، والإصابة ج 1 ص 545 والاستيعاب بذيله ج 1 ص 525. ثم ان أناسا من كلب حجوا فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه ، فقال لهم أبلغوا عنى أهلي فانى اعلم أنهم جزعوا على ، فانطلقوا فأعلموا أباه ووصفوا موضعه ، وعند من هو ، فخرج حارثة وأخوه كعب ابنا شراحيل لفدائه ، فقدما مكة فدخلا على النبي صلى اللّه عليه وآله فقالا : يا ابن عبد المطلب يا ابن هشام يا بن سيد قومه : جئناك في ابننا عندك ، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه ، فقال : من هو؟ قالوا : زيد بن حارثة ، فقال رسول اللّه : فهلا غير ذلك ، قالوا : ما هو؟. قال : ادعوه وخيروه فان اختاركم فهو لكم ، وان اختارني فو اللّه ما أنا بالذي اختار على من اختارني أحدا ، قالا : قد زدتنا في النصف وأحسنت فدعاه رسول اللّه فقال : هل تعرف هؤلاء؟. قال : نعم هذا ابى وهذا عمى قال فأنا من قد عرفت ورأيت صحبتي لك فاخترنى أو اخترهما. فلما اختار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وحزن لذلك أبوه وعمه ، أخرجه رسول اللّه الى الحجر فقال : يا من حضر ، اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وإرثه ، فطابت نفس أبيه وعمه فانصرفا ، فدعى زيد بن محمد ، حتى جاء اللّه بالإسلام.

فلمّا أتاه أبى متابعته ، وكره مفارقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فعظم ذلك على أبيه فتبرأ منه ، فخبّر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فوهبه وأعتقه وجعله ولدا له ، فكان يدعى زيد بن محمّد ، وسيأتي تمام الآية والبحث عنها ، والغرض هنا بيان مشروعيّة العتق ، وسمّاه اللّه أنعاما إذ العتق سبب لإيجاد العتيق لنفسه ففيه شبه إيجاد بعد العدم وذلك نعمة لا توازى.

واعلم أنّ العتق يحصل بأمور :

1 - مباشرة منجّزة بغير عوض ، وهو العتق بقول مطلق ، وله عبارتان التحرير بلا خلاف ، كقوله « أنت حرّ لوجه اللّه » والإعتاق على خلاف كقوله « أنت عتيق أو معتق لوجه اللّه » ولا بدّ فيه من اللّفظ والنيّة وقصد القربة ، لكونه عبادة عظيمة قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « من أعتق نسمة مؤمنة عتق اللّه العزيز الجبّار بكلّ عضو منها عضوا منه من النار (1) ».

2 - مباشرة معلّقة على الموت بغير عوض ، وهو المسمّى في اصطلاح الفقهاء تدبيرا ، وليس في الكتاب ما فيه دلالة عليه بل هو مستفاد من السنّة الشريفة.

3 - مباشرة بعوض منجّم وهذا هو المسمّى كتابة وسيأتي بحثها.

ص: 127


1- الكافي ج 6 ص 180 باب ثواب العتق الرقم 2 و 3 وأخرجه في مشكاة المصابيح ص 292 وقال : متفق عليه.

4 - ملك الرّجل أحد العمودين ، أو أحد المحرّمات عليه نسبا بغير خلاف ورضاعا على خلاف ، والحقّ فيه العتق ، وملك المرأة أحد العمودين خاصّة.

واستدلّ بعضهم على هذا الحكم من الكتاب بقوله تعالى ( أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ) (1).

ووجه الاستدلال به أنّه جعل بين البنوّة والعبوديّة منافاة لأنه نفى البنوّة وأثبت العبوديّة فلا يجتمعان وإلّا لكان المثبت عين المنفيّ ، وفيه نظر لأنّ المنافاة بينهما من خواصّه تعالى ، وذلك لأنّ الابن من نوع الأب ، فلو كان له ولد لكان من نوعه ولا شكّ أنّ الحقيقة الواجبة تنافي صفة الاحتياج الّتي هي لازمة للعبوديّة فالتنافي بين العبوديّة وبين البنوّة لتنافي لازميهما ، وذلك غير متحقّق إلّا في الواجب سبحانه ، فلا يكون الاستدلال تامّا في المطلوب.

وأمّا المحرّمات فاستدلّ بقوله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (2) ووجه الاستدلال أنّها تضمنت إباحة وطي ملك اليمين فلو ملكن لأبيح وطئهنّ ، واللّازم كالملزوم في البطلان ، وبيان الملازمة بأنّ « ما » من أدوات العموم وفيه أيضا نظر لأنّا نمنع أنّ كلّ مملوكة يصحّ وطيها فإنّه لو وطئ إحدى الأختين حرمت الثانية ، وكذا لو لاط بأخ مملوكته أو ابنها أو أبيها حرم وطؤها مع كونها مملوكة ، وكذا لو ملك موطوءة أبيه أو ابنه ولو استدلّ على ذلك بالسنّة الشريفة كان أليق.

5 - مباشرة عتق نصيبه من المشترك يوجب عتق الباقي عليه ، ويلزمه القيمة مع يساره بها فاضلا عن قوت يومه ، ودست ثوبه ، لقوله صلى اللّه عليه وآله « من أعتق شركا له من عبد وله مال قوّم عليه (3) » وكذا لو أعتق بعض عبده سرى عليه بطريق الأولى ولأنّ رجلا أعتق بعض غلامه فقال عليّ عليه السلام « هو حرّ ليس لله شريك (4) ».

ص: 128


1- مريم : 91 - 93.
2- المؤمنون : 6.
3- راجع سنن ابن داود ج 2 ص 348 ، مستدرك الوسائل ج 3 ص 40.
4- راجع سنن ابن داود ج 2 ص 348 ، مستدرك الوسائل ج 3 ص 40.

6 - لو نكّل بعبده عتق عليه.

7 - إذا عمي العبد أو أقعد أو أجذم عتق عليه.

8 - إذا أسلم العبد وخرج إلى دار الإسلام عتق على سيّده.

9 - إذا استولد أمة كان ذلك موجبا لعتقها بعد موته على ولدها من نصيبه وقال العامّة أنّه لا يجوز بيعها ولا التصرف في رقبتها بوجه ، وتعتق عليه عتقا مشروطا بوفاته والحق مذهب أصحابنا لأصالة بقاء الملك على حاله ولأنّه يجوز عنقها ، فلو لم تكن ملكا لم يصحّ ، نعم على مذهبنا لا يجوز نقلها (1) ما دام ولدها حيّا إلّا في مواضع :

الأوّل : ثمن رقبتها مع الإعسار به ، الثّاني أن يفلس مولاها قبل علوقها الثّالث أن تكون مرهونة ولحق الاستيلاد ، الرّابع أن تجني جناية تستغرق قيمتها الخامس أن تسلم في يد سيّدها الكافر ، السّادس أن يموت قريبها ولا وارث سواها السّابع أن يعجز المولى عن نفقتها ، الثّامن موت سيّدها مع استغراق الدّين لتركته التاسع بيعها على من تنعتق عليه ، العاشر بيعها بشرط العتق على الأقرب.

الثانية ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ ) (2).

نقل أنّ حويطب بن عبد العزّى كان له عبد يسمّى صبيحا سأله أن يكاتبه فأبى فنزلت (3).

قوله « يبتغون » أي يطلبون و « الكتاب » بمعنى المكاتبة ، وهي مشتقّة من الكتب ، وهو الجمع كأنه قد جمع عليه نجوما وفي الآية أحكام :

1 - الأمر بها وفيه بيان لمشروعيّتها ، وهي مستحبّة مع الأمانة والكسب

ص: 129


1- بيعها ، خ.
2- النور : 33.
3- راجع الدر المنثور ج 5 ص 45.

فإن سألها العبد تأكّد الاستحباب ، ولو لم يكن العبد أمينا ولا كسوبا فهي مباحة ، وقال أحمد تكون مكروهة حينئذ وليس بشي ء.

2 - الأمر في الآية للندب لأصالة عدم الوجوب ، سواء سأل الكتابة بقيمته أو بأزيد أو بأنقص ، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعيّ ، وقال بعض أهل الظاهر : إن سألها بقيمته أو أكثر وجب إجابته ، وليس بشي ء لعموم قوله صلى اللّه عليه وآله « الناس مسلّطون على أموالهم (1) ».

3 - الكتابة معاملة مستقلّة ليست بيعا للعبد من نفسه ، لانتفاء لوازم البيع المتقدّمة والمتأخّرة ، ولا عتقا بصفة إذا العتق غير قابل للتعليق حال الحياة.

4 - عبارة الكتابة أن يقول السيد « كاتبتك على أن تؤدّي إليّ كذا في وقت كذا فإذا أدّيت فأنت حرّ » فيقبل العبد ، فان اقتصر في العقد على ذلك ، فهي مطلقة ، وإن قال « فان عجزت فأنت رقّ » فهي مشروطة ، وحكم الاولى أنه يتحرّر منه بقدر ما يؤدّي ، وحكم الثانية أنه رق ما بقي عليه شي ء ، وهي بنوعيها لازمة وبه قال مالك وأبو حنيفة ، لكن مالك لا يجبر العاجز على التكسّب وأبو حنيفة يجبره ، وقيل المشروطة جائزة من الطرفين وقيل بل جائزة من طرف العبد خاصّة وبه قال الشافعيّ ، والأصح الأوّل « لعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) ».

5 - قد بيّنا في العبارة أنّه يقول « فإذا أدّيت فأنت حرّ » قال أبو حنيفة ذلك ليس بشرط لا نية ولا لفظا ، وقال أصحابنا : لا بدّ مع ذلك من نيّة ، وبه قال الشافعيّ وأما اللّفظ ، فقال بعض أصحابنا والشافعيّ باشتراطه أيضا ، فلو عدما أو أحدهما ، لم ينعتق ، ولا شكّ أنّ ذلك أحوط.

6 - في قوله « وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ » إشارة إلى اشتراط بلوغ العبد وعقله ، إذ الصبي والمجنون لا قصد لهما معتبر ، وكذا يشترط جواز تصرّفه.

ص: 130


1- راجع ص 43 من هذا المجلد.
2- المائدة : 1.

وهل يشترط في المال التأجيل؟ قيل : لا ، فيجوز حالا ، وفيه نظر لجهالة وقت الحصول ، ولعدم ملك العبد حالة العقد ، إذ ما بيده لمولاه ، وتجويز حصول الزكاة والهبة تعليق للواجب بالجائز ، وقيل نعم ، وبالأوّل قال أبو حنيفة ومالك وبعض أصحابنا ، وبالثاني قال الشافعيّ وأكثر الأصحاب ، وهو أولى ، نعم شرط الشافعيّ تعدّد الأجل ، وليس بشي ء بل يكفي واحد لحصول الغرض به.

7 - الخير ورد بمعنيين الأوّل ما يرجع إلى الأمور الدينيّة كقوله تعالى : ( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (1) وأمثاله والثاني ما يرجع إلى الأمور الدّنيويّة كقوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (2) وقوله ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) (3) واختلف في المراد هنا ، فقال الشيخ : هما معا ، بناء على حمل المشترك على كلا معنييه ، وبه قال الشافعي ومالك ، وقال ابن عبّاس هو الأوّل فقط أعني الأمانة ، وقال الحسن البصريّ والثوريّ هو الثاني أعني الاكتساب فقط.

ويتفرّع عليه صحّة كتابة العبد الكافر ، فعلى الأوّلين لا يصح ، وعلى الثّاني يصح ، والأوّل أقوى ، إذ الكافر لا خير فيه ، ولأنّ فيه تسليطا للكافر على المسلمين ، ولأنّه يعطى من الزكاة ، والكافر لا يعطى منها ، ولا يرد المؤلّف قلبه إذ إعطاؤه لغرض التقوي به على الجهاد.

فرع : المراد بالعلم ههنا الظنّ المتاخم للعلم.

8 - قال المفسّرون في قوله « وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ » إنّ المراد ضعوا عنهم شيئا من نجومهم ، فقيل الربع وقيل ليس بمقدّر ، وقال الفقهاء : السيّد إن وجب عليه الزكاة ، وجب عليه إعانة مكاتبه منها ، لقوله « مِنْ مالِ اللّهِ » أي من الزكاة كما تقدّم في قوله « وَفِي الرِّقابِ » وإن لم يجب عليه استحبّ إعانته من مال نفسه ، وهذا قول أكثر أصحابنا.

ص: 131


1- البقرة : 197.
2- القارعة : 8.
3- البقرة : 180.

وقال بعضهم يجب الإيتاء مطلقا ، وبه قال الشافعيّ وقيل يستحب مطلقا ، وبه قال أبو حنيفة ، ولبعض متأخّري الأصحاب تفصيل لا وجه له وهو : وجوب إيتاء من يموت مكاتبا مطلقا عاجزا وكون المؤتي يجب عليه الزكاة ، وإن كان غير سيّده ، وبه قال بعض المفسّرين ومثار (1) هذه الأقوال من أصلين هنا :

الأوّل : هل الأمر للوجوب أو الاستحباب ، قيل بالأوّل لأنّه حقيقة فيه كما تقرّر في الأصول وبه قال الأكثر ، وقيل بالثّاني لأصالة البراءة ، ولأنّ أصل الكتابة ليس بواجب ، فلا يجب تابعه.

الثاني : هل المراد بمال اللّه هو الزكاة لأنّه المتبادر إلى الفهم؟ أو المال مطلقا لأنّ اللّه هو المالك لجميع الأشياء ، ونحن المنتفعون خاصّة ، قيل بالأوّل وقيل بالثاني.

إذا عرفت هذا فنقول : من قال بوجوب الإعانة مطلقا ، قال إنّ الأمر هنا للوجوب ، وإنّ المال ليس هو الزكاة ، ومن قال بالاستصحاب مطلقا ، قال إنّ الأمر للندب ، والمال ليس هو الزكاة ، ومن قال بأنّ المال هو الزكاة والأمر للوجوب ، فذلك ظاهر ، ومن قال إنّ المال هو الزكاة والأمر للندب جعل تخصيص مكاتبه أولى ، لأنّه إعانة له على فكّ رقبته

والحق ما ذكرناه أوّلا لأنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، فيكون مشروطا بوجوب حصول مال ، وهو الزكاة ، لأنّ شرط الواجب واجب ، وأمّا إذا لم يجب الزكاة بوجه استحبّ الإيتاء ، لأنّه تعاون على البرّ والتقوى ، فيدخل تحت قوله ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (2) » ولأنّه فكّ رقبة ، فيدخل تحت قوله « ( فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ) (3) ».

فروع

1 - لا يتقدر ما يعطيه السيّد قلّة وكثرة لإطلاق اللّفظ.

ص: 132


1- في بعض النسخ : منشأ.
2- المائدة : 2.
3- البلد : 14.

2 - لا يتعيّن زمانه ، نعم يتضيّق إذا بقي على العبد ما يسمّى مالا.

3 - لو أخلّ بالإيتاء حتّى انعتق بالأداء ، هل يجب القضاء ، الحقّ نعم ، لأنّه واجب أخلّ به في وقته ، فيجب قضاؤه ، ولو انعتق بغير الأداء لم يجب.

4 - يجب على المكاتب القبول إذا كان من عين مال الكتابة أو مثله ، وإن كان من غير جنسه فخلاف ، والحقّ أنّه كذلك.

5 - لو دفع إلى مكاتبه المشروط شيئا من الزكاة الواجبة عليه ، ثمّ عجز فردّه رقّا ، وجب على السيد ردّ المال ، وصرفه إلى المستحقّين ، ولو كان من زكاة غيره ردّه على مالكه ليصرفه في مستحقّيه ، ولو كان من المندوبة من السيّد ، فله وكذا إن كان من غيره.

فائدة إعرابيّة هنا ، قوله « الَّذِي آتاكُمْ » يحتمل أن يكون صفة للمضاف أعني « مال اللّه » وأن يكون صفة للمضاف إليه فعلى الأوّل يكون المفعول الثاني لآتاكم ضمير محذوفا أي آتاكموه ، ويجوز حذف ضمير جملة الصلة إذا كان مفعولا وهذا الوجه أظهر في الاعراب ، وعلى الثاني يكون مفعوله نكرة عامّة أي آتاكم كلّ شي ء.

كتاب النكاح

اشارة

وفيه مقدّمة وأبحاث.

أما المقدمة : فقال المعاصر : النكاح لغة الالتقاء ، وهو سهو إذ لم يذكر ذلك أحد من أهل اللّغة ، بل الالتقاء التناوح لا التناكح ، والحق أنّ النكاح لغة هو الوطي ويقال على العقد فقيل مشترك بينهما ، وقيل حقيقة في الوطي ، مجاز في العقد ، وهو أولى إذ المجاز خير من الاشتراك عند الأكثر.

وشرعا عقد لفظيّ مملّك للوطي ابتداء ، وهو من المجاز تسمية للسبب باسم المسبّب ، وفيه فضل كثير قال صلى اللّه عليه وآله « تناكحوا تناسلوا تكثروا فإنّي أباهي بكم

ص: 133

الأمم يوم القيامة ولو بالسقط (1) » وقال صلى اللّه عليه وآله « شرار موتاكم العزّاب (2) » وغير ذلك من الأحاديث وهل هو أفضل من التخلّي للعبادة أم العكس ، ولا قائل بالمساواة والحقّ الأوّل لقول الصادق عليه السلام « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ما استفاد امرء فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله (3) » وغير ذلك ولأنّه أصل للعبادة ، وسبب لها مع كونه عبادة ولاشتماله على بقاء النوع مع العبادة ، بخلاف باقي المندوبات.

وأمّا الأبحاث فتتنوّع أنواعا.

النوع الأول : في شرعيته وأقسامه وغير ذلك

اشارة

وفيه آيات :

الاولى ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (4).

« الأيامى » مثل اليتامى في كونهما من المقلوبات جمع أيّم ويتيم وأصلهما أيايم ويتايم والأيّم الّتي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيّبا وكذلك الرّجل قال الشّاعر :

ص: 134


1- أخرجه في الجامع الصغير تحت الرقم 2366 كما في ص 269 ج 3 من فيض القدير نقلا عن عبد الرزاق في الجامع عن سعيد بن ابى هلال مرسلا.
2- راجع الكافي ج 5 ص 329.
3- الكافي ج 5 ص 327.
4- النور : 32.

فان تنكحي أنكح وإن تتأيّمي *** وإن كنت أفتى منكم أتأيّم (1)

وقال جميل :

أحب الأيامى إذ بثينة أيّم *** وأحببت لمّا أن غنيت الغوانيا (2)

والخطاب للأولياء والسّادات بأن يزوّجوا من لا زوج له من الحرائر والإماء ، والأحرار والعبيد ، وأتى بجمع المذكّر في الصالحين تغليبا فانّ المراد الذكور والإناث وقيّد الصلاح لأنه يحصن دينهم وقيل لأنّه حينئذ يشفق عليهم ساداتهم ، وقيل : المراد بالصلاح القيام بحقوق النكاح.

وفي الكلّ نظر فإنّ الأوّلين لا يوجبان التخصيص ، والثالث خلاف الظاهر والأولى أنّه ترغيب في الصّلاح ، لأنّهم إذا علموا ذلك ، رغبوا في الصلاح ، أو من باب تسمية الشي ء باسم ما يؤول إليه ، فإنّ الفاسق إذا زوّج استغنى بالحلال عن الحرام.

( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ ) قضيّة مهملة في قوّة الجزئيّة ، أي قد يكون إذا كانوا فقراء يغنهم اللّه من فضله لا كلّما كانوا فقراء يغنهم اللّه ، فلا يرد ما يقال : فلان كان غنيّا أفقره النكاح. ويؤيّده قوله ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ) (3) إلخ

ص: 135


1- أنشده الطبري في ج 18 ص 125 ومجاز القرآن لأبي عبيدة ج 2 ص 65 وتفسير الرازي الطبعة الأخيرة ج 23 ص 210 والكشاف ج 2 ص 386. وقال المحب الأفندي في شرح شواهده : قوله : وان كنت أفتى منكم ، اعتراض يخاطب محبوبته ، ويقول لها : أوافقك على حالتي التزويج والتأيم وضبط الشعر الثاني في اللسان لغة « ا ى م » ومجمع البيان ج 7 ص 139 هكذا : يد الدهر ما لم تنحكى أتأيم.
2- البيت لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة ، وقد مر الإشارة إلى ترجمته ص 115 فيما سبق ، وأنشده الطبري في ج 18 ص 125 ، ومجمع البيان ج 7 ص 139 واللسان والصحاح في « غ ن ى » وقال في الصحاح الغانية : الجارية التي غنيت بالزوج.
3- النور : 33.

إذا تقرر هذا فهنا أحكام :

1 - قيل : الأمر هنا للوجوب ، ولذلك قال داود بوجوب النكاح للقادر على طول حرّة ، ومن لم يقدر فلينكح أمة ، وكذلك المرأة يجب عليها أن تتزوّج عنده وقيل على الكفاية ، وهما ضعيفان لأصالة البراءة ، ولإجماع أكثر الفقهاء على خلافه ولأنّه لو وجب لما خيّر بينه وبين ملك اليمين في قوله ( فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (1) واللازم باطل فكذا الملزوم ، وبيان الملازمة بأنّه لا تخيير بين الواجب والمباح ولا شكّ في إباحة ملك اليمين ، وأنه ليس بواجب عند داود ، ولا يقوم مقام النكاح الواجب عنده ، نعم النكاح قد يجب إذا خشي الوقوع في الزنا كما سيجي ء.

2 - النّكاح مستحبّ لمن تاقت نفسه إجماعا ، ومن لم يتق ، قال أكثر الفقهاء باستحبابه أيضا لعموم الآية ، وقوله صلى اللّه عليه وآله « تناكحوا تكثروا » وقال الشيخ تركه لهذا مستحبّ لقوله تعالى ( سَيِّداً وَحَصُوراً ) (2) مدحه على الترك فيكون راجحا وفيه نظر لاحتمال اختصاصه بشرع غيرنا (3) وقال بعض فقهائنا كلّما اجتمعت

ص: 136


1- النساء : 3
2- آل عمران : 39.
3- قلت : وفيما أفاده نظر ، وقد أسلفنا لك في مبحث القرعة أن أحكام الشرائع السابقة تتبع ما لم يعلم نسخها ، واستشكل العلامة النائيني قدس سره في استصحاب أحكام الشرائع السابقة بما حاصله : ان تبدل الشريعة السابقة بالشريعة اللاحقة ، ان كان بمعنى نسخ جميع أحكام الشريعة السابقة بحيث لو كان حكم موافقا لما في الشريعة السابقة كان المجعول في اللاحقة مماثلا للمجعول في السابقة ، لا بقاء له ، فعدم جريان الاستصحاب عند الشك في النسخ واضح ، وان كان بمعنى تبدل بعضها فبقاء الحكم الذي كان في الشريعة السابقة وان كان محتملا الا انه يحتاج إلى الإمضاء في الشريعة اللاحقة ، ولا يمكن إثبات الإمضاء بالاستصحاب الا على القول بالأصل المثبت. قلت : نفس أدلة الاستصحاب كافية في إثبات الإمضاء ، وليس من الأصل المثبت فإن الأصل المثبت انما هو فيما إذا وقع التعبد بما هو خارج عن مفاد الاستصحاب ، وفي المقام نفس دليل الاستصحاب دليل على الإمضاء ولو تنزلنا فنقول يستدل بانسحاب أحكام الشرائع السابقة بخصوص ما ورد من الأئمة من الاستدلال لحكم بما ورد في القرآن من ثبوته في الشرائع السابقة انظر البرهان ح 2 و 3 تفسير الآية ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ ) وح 4 و 5 و 6 من تفسير الآية ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) وح 10 تفسير الآية ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ) وغيرها من الأحاديث التي استدل الامام بحكم ثبت في القرآن في الشريعة السابقة. واستدل الجزائري أيضا في « قلائد الدرر » ج 2 ص 291 بقوله تعالى ( فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ ) فالأدلة المذكورة إمضاء لبقاء حكم ما لم نعلم نسخه ، فإن أبيت عن تسمية ذلك استصحابا وقلت ان الأدلة المذكورة تجعلها ممضاة من الشارع ، فلا يكون هناك شك حتى يكون مورد الاستصحاب ، قلنا سمه ما شئت والمقصود انسحاب الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة في هذه الشريعة ما لم يعلم نسخه. فالأقوى في جواب الشيخ ان يقال : ما يستفاد من الآية حسن ذلك ، لا على ارجحيته من المباشرة لمصالح أخر فإن مدح زيد مثلا بكونه صائم النهار قائم الليل ، لا يدل رجحانهما على الإفطار وترك التهجد للاشتغال بما هو أهم.

القدرة على النّكاح والشهوة له استحبّ للرّجل والمرأة ، وكلّما فقدا معا كره وإن افترقا بأن كان قادرا غير تائق أو تائقا غير قادر ، لا يكره ولا يستحب ، وفيه نظر لعموم الأمر في الآية والحديث ، ولما صحّ عنه « من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي ومن سنّتي النكاح (1) ».

3 - أنّ استحباب النكاح والإنكاح شامل للرّجل والمرأة ، الغنيّ والفقير التائق وغيره ، وقيل : بل المراد إن كانوا فقراء إلى النكاح والظاهر يدفعه.

4 - في الآية دلالة على أنّ المهر والنفقة ، ليس بشرط في النكاح ، وهو ظاهر ولذلك لا يجوز لها الفسخ مع عجزه ، نعم القدرة المذكورة شرط في وجوب الإجابة للكفو.

ص: 137


1- رواه في المستدرك ج 2 ص 530 ، بهذا اللفظ ، وفي الكافي ج 5 ص 329 : من أحب ان يتبع سنتي فإن من سنتي التزويج.

5 - فيه إشارة إلى أنّ العبد والأمة لا يستبدّان بالنكاح ، وإلّا لما أمر الوليّ بانكاحهما وأنّ للمولى ولاية الإجبار.

6 - فيه إشعار بأنّ الفقر ليس مانعا من الرّغبة في النكاح خوف العيلة ، فإنّ خزائن فضله تعالى لا تنقص ولا تغيض ، ولذلك عقّبه بقوله ( وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) تعليلا للأغنياء بسعة قدرته عليه وعلمه بما يصلح عباده.

الثانية ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1).

أي إن كان الفقير يخاف زيادة الفقر بالنكاح ، فليجتهد في قمع الشهوة ، وطلب العفّة بالرياضة لتسكين شهوته ، كما قال صلى اللّه عليه وآله « يا معشر الشبّان من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء (2) ».

قوله « لا يَجِدُونَ نِكاحاً » أي أسبابه إذ المراد بالنكاح ما ينكح به ، أو المراد بالوجدان التمكّن منه ، فعلى الأوّل « نكاحا » منصوب على المفعوليّة ، وعلى الثاني بنزع الخافض ، أي من النكاح حتّى يغنيهم اللّه من فضله فإنّ الأمور مرتهنة بأوقاتها.

ص: 138


1- النور : 33.
2- أخرجه بهذا اللفظ في المستدرك ج 1 ص 591 عن لب اللباب لقطب الراوندي ورواه في مشكاة المصابيح ص 267 ولفظه : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ثم قال : متفق عليه. أقول : تراه في صحيح البخاري ج 1 ص 326 كتاب الصوم وهكذا ج 3 ص 238 كتاب النكاح ، وفي سنن ابى داود ج 1 ص 472 تحت الرقم 2046 ورواه أحمد في المسند مطولا ومختصرا تحت الرقم 3592 و 4023 و 4112 وأخرجه في اللؤلؤ والمرجان تحت الرقم 886. والشباب والشبان كلاهما جمع شاب ، والباءة الموضع الذي يأوي إليه الإنسان وكنى به عن النكاح وما يستتبعه ، و « وجاء » اى قاطع لشهوته ، وأصله رض الأنثيين لتذهب شهوة الجماع.

ولا يرد لزوم التناقض بين الكلامين ، فإنّه أمر في الأولى بالتزويج مع الفقر وفي الثانية أمر بالصبر عنه مع الفقر لأنّا نقول إنّ الاولى وردت للنّهي عن ردّ المؤمن لأجل فقره ، وترك تزويج المرأة لأجل فقرها ، والثانية وردت لأمر الفقير بالصبر على ترك النكاح ، حذرا من تعبه به حالة الزواج ، فلا تناقض حينئذ على أنا نقول إنّهما مهملتان فلا يتناقضان.

الثالثة ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلّا تَعُولُوا ) (1)

قسط يقسط قسوطا إذا جار وأقسط إذا عدل فهو مقسط ومنه « إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » فكان الهمزة في أقسط للإزالة نحو أشكيته أي أزلت شكايته ، والمراد بما طاب لكم قيل ما وافق طباعكم من الحلال منهنّ ، وقيل : المراد ما حلّ. ولا شكّ أنّ الطيّب حقيقة فيما وافق الطبيعة ، ومجاز في الحلال.

فعلى الأوّل يلزم الإضمار ، وعلى الثّاني المجاز ، فقيل هما سواء ، وقيل الإضمار أولى وتحقيقه في الأصول ، وإنّما قال « ما » ولم يقل « من » لأنّ لفظة « ما » موضوعة لمعنى شي ء أعمّ من « من » فيصدق على ذوي العقل وغيرهم والأعداد المذكورة معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاث ثلاث ، وأربع أربع « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا » بين الأعداد المذكورة فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم ، ولم يقل « من » لما تقدّم « ذلك » أي التخيير بين الواحدة وما ملكت أيمانكم أقرب أن لا تمونوا ولا تنفقوا ، يقال عال الرّجل عياله ، إذا مانهم وأنفق عليهم والمعنى

ص: 139


1- النساء : 3 ، وللسيد الرضى قدس سره في تفسير هذه الآية بيان متين دقيق في كتابه حقائق التأويل في متشابه التنزيل ص 291 - 313 ، يحق لطالبي الحق المراجعة إليها.

أنّ اقتصاركم على الواحدة أو ملك اليمين مظنّة لقلّة إنفاقكم بسبب قلّة عيالكم ، وقيل : أن لا تجوروا ، من قولهم : عال الحاكم في حكمه ، إذا جار ، وهو مأخوذ من قولهم عال الميزان إذا مال ، فإنّ الجائر مائل عن الحقّ.

إذا تقرّر هذا فهنا فوائد يتبعها أحكام :

1 - قيل في سبب نزولها أقوال الأوّل أنّهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرّجون من الزنا فقيل لهم : إن تحرّجتم من ذنب فينبغي أن تحرّجوا من مثله ، لاشتراكهما في وجه القبح ، الثاني : أنّه لمّا نزل أنّ في أكل أموال اليتامى حوبا تحرّجوا من ولايتهم ، ولم يتحرّجوا من تكثير النّساء وإضاعة حقوقهنّ فقيل لهم ذلك ، تقليلا للنساء المستلزم لسهولة العدل بينهنّ ، الثالث : أنّ الرجل كان يجد يتيمة ذات جمال ومال ، فيتزوّجها ضنّا بها ، فيجتمع عنده منهنّ عدّة ولا يقدر على القيام بحقوقهنّ ، فنزلت (1) أي إن خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى فتزوّجوا غيرهنّ والكلّ محتمل.

2 - الأمر هنا كالأمر في الآية المتقدّمة ، والبحث فيه كما تقدّم.

3 - إذا فسّرنا الطيّب بما وافق الطبيعة ، فعموم الآية مخصوص بآية المحرّمات كما يجي ء.

4 - قال الزّمخشري : إنّما أتى بصيغة المعدول دون الأصل لأنّ الخطاب للجميع ، فوجب التكرير ، ليصيب الاذن لكلّ ناكح يريد الجمع ، لما شاء من العدد الّذي أطلق له ، كما تقول لجماعة أقسموا هذا المال درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولو أفردت كما تقول اثنين وثلاثة وأربعة ، فهم منه أن يجمع بين اثنين وثلاثة وأربعة ، لأنّ الواو للجمع ، ولم يفد التوزيع ، أي وجود كلّ عدد بدلا عن صاحبه.

والأولى أن نقول : لو قال كذلك لفهم منه ، أنّه إذا اختلّ العدد المقدور

ص: 140


1- راجع الدر المنثور ج 2 ص 118 و 119.

عليه المأمون فيه الجواز بالموت أو الطلاق ، لم يجز له تكميل ذلك العدد لأنّه استوفى العدد المباح له ، بخلاف الألفاظ المأتيّ بها فإنّه حينئذ يفيد جواز تكميل ذلك العدد وأنّه لا جناح عليه.

5 - أكثر الفقهاء والمفسّرين على أنّ الواو هنا ليست على حالها ، وإلّا لزم الجمع بين تسع نسوة ، لكون الواو للجمع ، ومن الناس من جعل الواو بحاله وجوّز الجمع بين التسع ، وكلّ ذلك جهل وخبط ، فانّ الجمع في الحكم لا يستلزم الجمع في الزمان لأنك تقول : رأيت زيدا اليوم ، وعمرا أمس ، ولو قال بلفظ « أو » لتوهّم أنّه لا يجوز لمن يقدر على عدد منها أن ينتقل إلى عدد آخر ، وليس كذلك لأنّ من زاد تمكّنه ، فله أن يزيد ما لم يتجاوز الأربع ، ومن نقص تمكّنه فله أن ينقص بلا حرج ، لكون الواو للجمع بخلاف « أو » فافهم ذلك فيجوز للرّجل أن ينكح الأعداد المذكورة في أزمنة متعاقبة.

6 - الحصر في الأربع وعدم جواز الزائد في النكاح الدائم إجماعي ولقول الصادق عليه السلام « لا يحلّ لماء الرّجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر (1) » ولمّا أسلم غيلان (2) وعنده عشرة نسوة قال له النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أمسك أربعا وفارق سائرهنّ » أي باقيهنّ ونقل عن القاسميّة من الزيديّة جواز التسع لمكان الواو

ص: 141


1- تفسير العياشي ج 1 ص 218.
2- هو غيلان بن سلمة بن معتب أحد وجوه ثقيف ومقدمهم وهو ممن وفد على كسرى وخبره معه عجيب ، قال له كسرى : اى ولدك أحب إليك؟ قال : الصغير حتى يكبر والمريض حتى يبرأ ، والغائب حتى يقدم ، فقال كسرى : مالك ولهذا الكلام وهو كلام الحكماء وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم ، فما غذاؤك؟ قال : خبز البر ، قال : هذا العقل من البر ، لا من اللبن والتمر. أسلم بعد فتح الطائف وكان تحته عشر نسوة في الجاهلية أسلمن معه ، فأمره رسول اللّه أن يختار منهن أربعا ، روى ذلك ابن الأثير في أسد الغابة ج 4 ص 172 بإسناده عن عبد اللّه بن عمر.

كما قلنا ، بل يلزمهم جواز ثمانية عشر لأنّ قوله مثنى معناه ثنتين ، وكذا البواقي ، كذا نقل عنهم ولكنّهم ينكرونه (1).

7 - هذا العدد مباح للرّجل في الحرائر ، وأمّا العبد فلا يجوز له نكاح أكثر من حرّتين غبطة أو أربع إماء عندنا ، وقال قوم : إنّه كالحرّ ، وبه قال مالك وداود وأبو ثور ، وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد : مباح له ثنتان لا غير حرّتين كانتا أو أمتين ، لنا قوله تعالى ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) (2) نفى المساواة بين السيد وعبده ، وذلك على عمومه إلّا ما خصّ بدليل.

8 - أجمع أصحابنا على جواز نكاح المتعة وأنّه لا حصر لها (3) في عدد للحرّ

ص: 142


1- ذكر في المستمسك ج 12 ص 76 انه قد وردنا في هذه الأيام من العلويين في اللاذقية سؤال عن ميت مات عن ثمان ، ولعله لم يكن عن اعتقاد اشتراعه وذكر ابن همام في فتح القريب ج 2 ص 379 أنه حكى عن بعض الناس اباحة أى عدد شاء بلا حصر مستدلين بالعمومات ومنها هذه الآية « فَانْكِحُوا » الآية قالوا : ولفظ مثنى الى آخره تعداد عرفي له لا قيد كما يقال : خذ من البحر ما شئت قربة وقربتين وثلاثا وقد تزوج النبي صلى اللّه عليه وآله تسعا والأصل عدم الخصوصية. ثم أجاب عن استدلالهم فقال والحجة عليهم أن آية الإحلال ههنا ، وهي قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) لم تسق الا لبيان العدد المحلل ، لا لبيان نفس الحل لانه عرف من غيرها قبل نزولها كتابا وسنة ، فكان ذكره هنا معقبا بالعدد ، ليس الا لبيان قصر الحل عليه ، أو هي لبيان الحل المقيد بالعدد ، لا مطلقا ، كيف وهو حال من « ما طابَ » فيكون قيدا في العامل وهو الإحلال المفهوم من « فَانْكِحُوا ». انتهى ما أردنا نقله.
2- الروم : 28.
3- قلت : ليس الحكم إجماعيا عند أصحابنا ، كيف وقد خالفهم ابن البراج على ما نقل عنه العلامة في المختلف والشهيد في الروضة ، مستدلا بعموم ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) وبما رواه عمار الساباطي عن الصادق عليه السلام عن المتعة قال : هي من الأربع. وما في الصحيح عن أحمد بن محمد بن ابى نصر عن ابى الحسن الرضا عليه السلام قال : سألته عن الرجل يكون عنده المرأة أيحل له أن يتزوج بأختها متعة؟ قال : لا ، قلت حكى زرارة عن ابى جعفر عليه السلام انما هي مثل الإماء يتزوج ما شاء ، قال : لا ، هن من الأربع. وقال الشهيد الثاني في الروضة البهية بعد ذكر أدلة القائلين بعدم الحصر ، وفيه نظر لأن الأصل قد عدل بالدليل الاتى والاخبار المذكورة وغيرها في هذا الباب ضعيفة أو مجهولة السند أو مقطوعة فإثبات مثل هذا الحكم المخالف للاية الشريفة وإجماع باقي فقهاء الإسلام مشكل ولكنه مشهور حتى ان كثيرا من الأصحاب لم ينقل فيه خلافا فان ثبت اجتماع كما ادعاه ابن إدريس ، والا فالأمر كما ترى انتهى. وقال المصنف نفسه في التنقيح : وادعى ابن إدريس عليه الإجماع ، وأيضا روى زرارة عن الصادق عليه السلام قال ذكر له المتعة أهي من الأربع؟ قال تزوج منهن ألفا فإنهن مستأجرات ، ثم قال المصنف ، وقال القاضي : لا يجوز للمتزوج متعة أن يزيد على الأربع من النساء ، قال ، وذكر أن له أن يتزوج ما شاء ، والأحوط ما ذكرناه ، ومستنده رواية البزنطي عن ابى الحسن عليه السلام وحملها الشيخ على الاحتياط كما رواه البزنطي أيضا صحيحا عن ابى الحسن عليه السلام قال : قال أبو جعفر عليه السلام : اجعلوهن من الأربع ، فقال صفوان بن يحيى على الاحتياط؟ قال : نعم ، انتهى ما في التنقيح. أقول وما ذكره في الروضة من أنه مخالف لإجماع باقي الفقهاء منقوض بما حكوه مستفيضا من تزوج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج أبى خالد المكي نحوا من تسعين امرءة بنكاح المتعة ، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ الرقم 164 ص 170 قال ابن عبد الحكم : سمعت الشافعي يقول : استمتع ابن جريج بتسعين امرأة حتى انه كان يحتقن في الليلة بأوقية من شيرج طلبا للجماع.

والعبد ، وسيأتي البحث في جوازها.

9 - أجمع المسلمون على أنّ ملك اليمين لا ينحصر في عدد ، وعموم لفظ الآية يؤيّده فإنّ « ما » من ألفاظ العموم ، وكذا الحديث المتقدّم عن الصادق عليه السلام لتقييده بالحرائر ، ولا يرد عليه منع جواز الزائد في المتعة ، لدخولها في الأزواج وإلّا لما كانت مباحة ، والأزواج لا يجوز فيها تعدّي النّصاب ، فلا يجوز في المتعة لأنّا نقول إنّه محمول على الدائم لأغلبيّته.

ص: 143

10 - الاقتصار على الواحدة غير مشترط لخوف عدم العدل ، بل يجوز مطلقا وإنّما سوّى بين الحرّة الواحدة ، وبين الإماء ، وإن كثرن ، لأنّهنّ أخفّ مؤنة ولا عدل بينهنّ في القسم ، مع جواز العزل عنهنّ ، ولذلك أطلق إباحتهنّ ولم يقيّدها بعدد ، وفيه دلالة على عدم وجوب القسمة لملك اليمين.

الرابعة ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (1).

أي يضبطونها ويمنعونها عن المباشرة ، واللّام لا يقوّى بها العامل الضعيف عن العمل ، ولذلك لا يؤتى بها في فعل تأخّر عنه مفعوله ، لا يقال ضربت لزيد ، ويقال لزيد ضربت ، وكذا « عمرو لزيد ضارب » لتقدم المفعول على الفعل وكون اسم الفاعل في العمل فرعا على الفعل فقد ضعف بالوجهين معا.

قوله « إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ » إلخ أي لا يضبطونها على أزواجهم وإمائهم ، وعدّاه بعلى كما يقال « حفظت على زيد ماله » استعلاء للحافظ على المحفوظ عليه ، لأنّه متفضّل عليه به.

وذكر الزّمخشريّ أنه في موضع الحال أي إلّا والين على أزواجهم أي إنّهم حافظون في كافّة أحوالهم إلّا في حال تزويجهم وتسرّيهم ، أو أنّهم يلامون إلّا على أزواجهم « فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ » أي فمن طلب نكاح غير الصّنفين ، فهم متجاوزون حدود اللّه ، وفائدة الفصل ب « هم » الحصر أي لا عادي كاملا في العدوان سواهم ، ولا يلزم من نفي كمال العدوان ، نفي العدوان من غيرهم.

إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

1 - العبارة صريحة في الرّجال لتذكير الضمير ويكون حكم النساء مستفادا من دليل خارج ، كما أنّ حكم أهل عصرنا مستفاد من بيان الرسول صلى اللّه عليه وآله والإجماع لقبح خطاب المعدوم وتكليفه وحينئذ لا يلزم جواز نكاح العبد لمالكته.

ص: 144


1- المؤمنون : 5 و 6.

وقيل : المراد الصنفان معا ، وغلب المذكّر ويلزم حينئذ جواز نكاح العبد لمالكته ، بحكم الاستثناء ، فيحتاج إلى منعه بدليل فكان الأوّل أولى لأنّه استعمال حقيقيّ.

2 - أنّ الآية صريحة في انحصار سبب الإباحة في القسمين المذكورين ، وهما الزواج وملك اليمين ، على سبيل الانفصال الحقيقيّ ، أي إمّا زواج أو ملك يمين بحيث لا يجتمعان ، ولا يرتفعان ، وأكّد ذلك بقوله « فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ».

3 - لمّا حكم أصحابنا بإباحة المتعة ، وتحليل الأمة للغير ، وجب دخولهما في المنفصلة المذكورة ، وإلّا لكانا باطلين ، فالمتعة داخلة في الأزواج وأمّا التحليل فقال بعضهم إنّه داخل في الأزواج ، ويجعل التحليل كالعقد المنقطع ، فيفتقر حينئذ إلى مهر وتقدير مدّة ، والحق خلافه ، بل هو داخل في ملك اليمين ، لأنّ الملك يشمل العين والمنفعة ، والتحليل تمليك منفعة ، ولذلك قال « أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ » لأنّها لا يشترط في مدلولها العقل ، ولو أراد ملك العين ، لقال « من ملكت أيمانهم » ويؤيّده روايات الأصحاب المتظافرة وحينئذ نقول : ملك المنفعة أعمّ من أن يكون تابعا لملك الأصل أو منفردا.

إن قلت : يلزم على قولك إباحتها في الإجارة ، وغير ذلك من العقود المملّكة للمنافع؟ قلت : خرج ذلك بالإجماع.

4 - ظهر ممّا ذكرناه أنّ البضع لا يتبعّض ، فلو ملك بعض أمة لم يحلّ له له العقد على باقيها ، وإلّا لزم التبعيض ، فيستبيح بعضها بالملك ، وبعضها بالعقد وهو باطل ، واختلف الأصحاب في تحليل الشريك له حصّته هل يبيحه الوطي أم لا؟ قال جماعة لا يبيح ، وإلّا لزم التبعيض وقيل : يبيح وهو قول ابن إدريس ، واختاره الشهيد وهو الأقوى عندي. لما قلنا إنّ الإباحة داخلة في الملك ، فيكون مستبيحا لها بالملك ، ولا يضرنا كون بعضه تبعا للعين ، وبعضه منفردا لأنّ الملك له أسباب كالشراء والاتّهاب والإرث ، ومن جملتها التحليل ، إلّا أنّه سبب ملك

ص: 145

منفعة البضع وتبعّض سبب الملك ليس بضارّ ، وإلّا لزم تحريم بعضها إذا كان بعضها بالشراء وبعضها بالإرث ، وليس كذلك اتّفاقا.

5 - دلّ قوله « فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ » على تحريم كلّ إيلاج في غير زوج أو ملك ، حتّى جلد غيره فإنه أيضا ممّا وراء ذلك

6 - حيث إنّ الزواج حكم شرعيّ حادث ، فلا بد له من دليل يدل على حصوله ، وهو العقد اللفظي المتلقّى من النصّ ، وهو إيجاب من المرأة أو من قام مقامها ، وقبول من الزوج أو من قام مقامه ، وألفاظ الإيجاب ثلاثة الأوّل « أنكحتك » لقوله تعالى ( حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (1) الثاني « زوّجتك » لقوله « ( زَوَّجْناكَها ) (2) » الثالث « متعتك » لقوله « ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) (3) » والقبول كلّ لفظ دالّ عليه.

الخامسة ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (4).

« أحلّ » أي أحلّ اللّه وقرئ ( أُحِلَّ ) عطفا على « حُرِّمَتْ » - « ما وَراءَ ذلِكُمْ » أي ما عدا تلك المحرّمات المذكورة قبل هذه ، وسيجي ء و « ما » موصولة بمعنى اللّاتي منصوبة المحلّ على القراءة المشهورة ، وعلى الثانية مرفوعة و « أَنْ تَبْتَغُوا » بدل من « ما وَراءَ ذلِكُمْ » بدل الاشتمال أي أحلّ لكم ابتغاء ما شئتم من الحلائل عدا المحرّمات المذكورة.

وقال الزمخشريّ : مفعول له ، وهو فاسد ، لأنّ المفعول له شرطه أن يكون

ص: 146


1- البقرة : 230.
2- الأحزاب : 37.
3- النساء : 24.
4- النساء : 24.

فعلا لفاعل الفعل المعلّل ، وليس الابتغاء فعلا لفاعل « أُحِلَّ » والتقدير غير محتاج إليه مع أنّه خلاف الأصل « مُحْصِنِينَ » حال من « أَنْ تَبْتَغُوا » وقال « غَيْرَ مُسافِحِينَ » ولم يستغن بقوله « مُحْصِنِينَ » لانّ المحصن بهند مثلا يمكنه أن يسافح بغيرها و « المسافحة » من السفح ، وهو صب المنيّ ، ومعناها المغالبة في صبّه ، هذا في اللغة ثمّ خصّ شرعا بالزنا لأنّ الزاني لا يحصل له بفعله إلّا صبّ المنيّ في رحم الزانية قال الجوهريّ استمتع بمعنى تمتّع ، والاسم متعة ، وما موصولة ، فقيل : المعنى : الّذي انتفعتم به من النساء ، من الجماع والتقبيل والنظر ، فآتوهنّ أجورهنّ ، وهو فاسد كما يجي ء بل المراد نكاح المتعة.

قوله « وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ » إلى آخره إشارة إلى أنّ المتعاقدين بعد انقضاء المدّة (1) إن شاء أرادا في الأجرة والأجل أو تفارقا ، لا أنّ المراد لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من الإبراء (2) عن المهر والافتداء ، بناء على أنّ المراد به

ص: 147


1- كما دلت عليه الاخبار ، ففي الكافي ج 5 ص 458 عن أبان بن تغلب قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام جعلت فداك الرجل يتزوج المرأة متعة فيتزوجها على الشهر ثم انها تقع في قلبه فيحب أن يكون شرطه أكثر من شهر فهل يجوز أن يزيدها في أجرها وتزداد في الأيام قبل أن تنقضي أيامه التي شرط عليها؟ فقال : لا ، لا يجوز شرطان في شرط قلت : فكيف يصنع؟ قال : يتصدق عليها بما بقي من الأيام ثم يستأنف شرطا جديدا. ونظيره ما رواه أبو بصير عن ابى جعفر عليه السلام. ونقل العلامة في المختلف جواز الزيادة في الأجل والمهر قبل انقضاء المدة أيضا وأجازه السدى أيضا ، قال الطبري : فأما الذي قاله السدى فقول لا معنى له لفساد القول بإحلال جماع امرءة بغير نكاح ، ولا ملك يمين. قلت : المقصود إحلاله بعقد جديد مزدادا في الأجل والمهر.
2- كيف ولا يحتاج الإبراء والافتداء والحط إلى التراضي ، وكذا المقام ، والفراق على ما قيل ، وأما الزيادة في المهر فلم يجوزها غير أبي حنيفة ، بل لم يقبل قوله حتى زفر من أصحابه. قال الإمام الرازي : والدليل القاطع على بطلان هذه الزيادة أن هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان اما مع بقاء العقد الأول أو بعد زوال العقد الأول. والأول باطل لان العقد لما انعقد على القدر الأول فلو انعقد مرة أخرى على القدر الثاني لكان ذلك تكوينا لذلك العقد بعد ثبوته ، وذلك يقتضي تحصيل الحاصل وهو محال. والثاني باطل لانعقاد الإجماع على أن عند إلحاق الزيادة ، لا يرتفع العقد الأول فثبت فساد ما قالوه. انتهى. فحكم الآية مختص بالمتعة.

العقد الدائم لما يجي ء تقريره « إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً » في الأزل بمصالحكم ، ومن جملة ذلك نكاح المتعة « حَكِيماً » واضعا للأشياء مواضعها ، فوضع عقد المتعة لكم لئلا تقعوا في الزنا واللّواط كما قال عليّ عليه السلام « لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا الأشقياء (1) ويروى « إلّا شقيّ (2) ».

ص: 148


1- كذا في النسخ ، والظاهر أنها مصحف : « إلا شفى ». وسيأتي وجهه.
2- روى الطبري في تفسيره ج 5 ص 13 عن شعبة عن الحكم قال : سألته عن هذه الآية « وَالْمُحْصَناتُ - الى - فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ » أمنسوخة هي؟ قال : لا ، قال الحكم قال على رضى اللّه عنه : لو لا أن عمر رضي اللّه عنه نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي. وأخرجه الإمام الرازي عن ابن جرير ص 50 ج 10 ( الطبعة الأخيرة ) والنيسابوري ج 1 ص 421 طبع إيران وأخرجه في الدر المنثور ج 2 ص 140 عن عبد الرزاق وابى داود في ناسخه وابن جرير. وذكر ابن ابى الحديد ج 12 ص 253 في شرح الخطبة 223 من النهج نقلا عن السيد المرتضى قدس سره أنه قال : وروى عمر بن سعيد الهمداني عن حبيش بن المعتمر قال : سمعت عليا عليه السلام يقول لو لا ما سبق من ابن الخطاب في المتعة ما زنى إلا شقي ، وروى أبو بصير قال : سمعت أبا جعفر محمد بن على الباقر عليه السلام يروى عن جده أمير المؤمنين عليه السلام لو لا ما سبق به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي. قلت : وترى الرواية مع تغيير يسير من طريق الإمامية في الوسائل ب 1 من أبواب المتعة ح 2 و 18 و 23 وفي الحديث 24 ما زنى مؤمن ، واللفظ في روايات أهل السنة من كلام على عليه السلام « الا شقي » بالقاف ، نعم في روايات ابن عباس « إلا شفى » بالفاء. قال العلامة المجلسي رضوان اللّه عليه في مرآت العقول ج 3 ص 491 : وصححه ابن إدريس في السرائر إلا شفى ، بالفاء وكذلك نقله في قلائد الدرر ج 3 ص 67 عن ابن إدريس في السرائر بالفاء. وقال الجزري في النهاية ، وفي حديث ابن عباس ما كانت المتعة الا رحمة رحم اللّه بها امة محمد ، لو لا نهيه عنها ما احتاج الى الزنا الا شفا أى قليلا من الناس ، من قولهم : غابت الشمس إلا شفى ، الى الا قليلا من ضوئها ، عند غروبها ، وقال الأزهري قوله : « إلا شفى » أي الا ان يشفي يعنى يشرف على الزنا ولا يواقعه ، فأقام الاسم وهو الشفاء مقام المصدر الحقيقي وهو الاشفاء على الشي ء. انتهى. أقول : والمضبوط في كثير من كتب أهل السنة عن ابن عباس قبل قوله « ما كانت المتعة » : « رحم اللّه عمر ». انظر الجصاص ج 2 ص 179 وبداية المجتهد ج 2 ص 58 ، والدر المنثور ج 2 ص 141 وغيرها والمضبوط في بعضها « إلا شقي » وفي بعضها « إلا شفى » والضبط في بداية المجتهد : « ولو لا نهى عمر عنها ».

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الآية تدل صريحا على إباحة عقد المتعة من وجوه :

1 - أنّ اللفظ الشرعيّ يحمل إذا ورد على الحقيقة الشرعيّة كما تقرّر في الأصول ، ولا خلاف في أنّ النكاح المشروط بالأجل والمهر ، يسمّى متعة ، وفاعله متمتّع ، ويؤيده ما نقلناه عن الجوهريّ وقد تقدّم.

إن قلت : لم لا يجوز أن يراد به الدائم هنا لأنّه يحصل به الانتفاع فيسمّى متعة بذلك الاعتبار ، ويؤيّد هذا صدر الآية فإنّه يتضمّن انتفاء الإحصان ، ومعلوم أنّ المتعة لا تحصن عندكم.

قلت : الجواب عن الأوّل قد بيّنّا أنّ ذلك حقيقة في المتعة فلو دلّ على غيره لزم المجاز أو الاشتراك ، وهما خلاف الأصل ، ولو دلّ على القدر المشترك لم يفهم أحدهما بعينه ، وعن الثاني بالمنع من إرادة الإحصان الّذي يثبت معه الرّجم بل معنى التعفّف ويؤيّده قوله « غَيْرَ مُسافِحِينَ » سلّمنا لكن بعض أصحابنا حصّن به.

2 - لو لم يكن المراد المتعة المذكورة ، لم يلزم شي ء من المهر من لا ينتفع

ص: 149

من المرأة الدائمة بشي ء ، واللّازم باطل فكذا الملزوم ، أمّا بطلان اللّازم ، فللإجماع على أنّه لو طلّقها قبل أن يراها وجب نصف مهرها.

وأمّا بيان الملازمة ، فإنّه علّق وجوب إيتاء الأجرة بالاستمتاع ، فلا يجب بدونه.

إن قلت : لم لا يجوز أن يراد المهر المستقر ومعلوم أنّه لا يستقر إلّا مع الدخول فعبّر بالاستمتاع عن الدّخول.

قلت : لم يتعرّض في الآية للاستقرار ، بل لوجوب الإيتاء ، على أنّا نقول الاستمتاع أعمّ من الدّخول وعدمه ، والعامّ لا دلالة له على الخاصّ ، ويكون حينئذ تقدير الآية : فالذي استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ مجموع أجورهنّ ، لأنّ الأجرة في الكلّ حقيقة وفي بعضه مجاز ، فكان يجب الاستقرار ولو بتقبيله أو نظرة بشهوة وهو باطل.

3 - قرأ ابن عبّاس (1) وابن جبير وأبيّ بن كعب وابن مسعود وجماعة

ص: 150


1- راجع تفسير الطبري ج 5 ص 12 ، تفسير الإمام الرازي ج 10 ص 51 ، أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 178 وغيرها من كتب التفسير ، بل الكتب الفقهية ، وأرسل الزمخشري في كشافه هذه القراءة عن ابن عباس إرسال المسلمات ، وقال الإمام الرازي بعد نقلها عن ابى بن كعب وابن عباس. والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة ، فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة ، هذا نص كلامه. ونقل القاضي عياض عن المازري كما في ج 9 ص 179 من صحيح مسلم بشرح النووي أن ابن مسعود قرأ « فما استمتعتم به منهن إلى أجل » وصرح عمران بن حصين كما في تفسير الرازي بنزول هذه في المتعة ، وأنها لم تنسخ حتى قال رجل فيها برأيه ما شاء ، قال الإمام الرازي : يريد به عمر ، ونص على نزول الآية في المتعة مجاهد والسدى فيما أخرجه الطبري فراجع ص 12 ج 5. وترى القراءة كذلك من طرق الإمامية في البرهان ح 29 و 10 و 11 نقلا عن الامام عليه السلام وفي ح 8 نقلا عن ابن عباس. فلو أن أحدا قال : يلزم من ذلك تحريف القرآن ، وقد صرح الأساطين الاعلام من أهل السنة والشيعة الإمامية على عدم التحريف في القرآن ، وما أحسن ما أفاده امام المتبحرين الشيخ جعفر كاشف الغطاء نور اللّه مضجعه في البحث الثامن من كتاب القرآن في كتابه كشف الغطاء حيث قال : لا ريب أن القرآن محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان كما دل عليه صريح القرآن وإجماع العلماء في جميع الأزمان إلى آخر ما أفاده قدس سره الشريف. قلنا : ان هذا لزيادة من أقسام اختلاف القراءات ، وقد ثبت هذه القراءة عن عدة من الصحابيين كما قد عرفته ومنهم ابن عباس حبر الأمة الصحابي الجليل القدر ، فالإجماع حاصل على صحة هذه القراءة كما أفاده الإمام الرازي ، ولابن قتيبة في ص 28 و 29 من كتابه مشكل القرآن بيان في وجوه اختلاف القراءات ننقله بعين عبارته قال : وقد تدبرت وجوه الخلاف في القراءات فوجدتها على سبعة أوجه أولها الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركة بنائها ، بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب ، ولا يغير معناها نحو قوله تعالى ( هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) و « أطهر لكم » و « هَلْ نُجازِي » و « هل يجازى الا الكفور » و « يَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ » و « بالبخل » « فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » و « الى ميسرة ». والوجه الثاني أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها في الكتاب ، نحو قوله تعالى ( رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) و « ربنا باعد بين أسفارنا » و ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ) وتَلقونه بألسنتكم و ( ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ) و « بعد امة ». والوجه الثالث أن يكون الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها ولا يزيل صورتها نحو قوله « وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها » و « ننشرها » ونحو قوله « حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ » و « فرغ ». والوجه الرابع أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتاب ولا يغير معناها نحو قوله « ان كانت الا زقية واحدة » و « صيحة » و « كالصوف المنفوش » و « كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ». والوجه الخامس أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها ومعناها نحو قوله « وطلع منضود » في موضع « وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ » والوجه السادس ان يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو قوله « وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ » وفي موضع آخر « وجاءت سكرة الحق بالموت ». والوجه السابع أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو قوله « وما عملت أيديهم » « وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ » ونحو قوله « إِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ » و « ان اللّه الغنى الحميد » وقرأ بعض السلف : « ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة أنثى » و « ان الساعة آتية أكاد أخفيها من نفسي فكيف أظهرها لكم ». ثم قال : وكل هذه الحروف كلام اللّه نزل به الروح الأمين على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ونقله ابن الجزري في كتابه النشر في القراءات العشر ج 1 ص 27 بعد نقله نظيره عن ابى الفضل الرازي واستحسن ما ذكره ابن قتيبة ، الا انه جعل الأحسن في تمثيله بطلع منضود ، وطلح منضود التمثيل بقوله « بِضَنِينٍ » بالضاد ، و « بظنين » بالظاء ، و « أَشَدَّ مِنْكُمْ » و « أشد منهم ». ثم قال : انه قد فاته كما فات غيره أكثر أصول القراءات كالادغام والإظهار والإخفاء والإمالة والتفخيم وبين بين المد والقصر وبعض أحكام الهمز على اختلاف أنواعه ، وكل ذلك من اختلاف القراءات وتغاير الألفاظ مما اختلف فيه أئمة القراء ثم قال : ويمكن أن يكون هذا من القسم الأول فيشمل الأوجه السبعة. والمقصود أن الاختلاف بالزيادة والنقصان من وجوه اختلاف القراءة ، وليس من التحريف بشي ء ، كيف وصدور القراءة مما تسلمه القوم كما قد عرفت ، وقد استدل فقهاؤهم بنظائره مع عدم كون القراءة فيها بذلك التسلم. فاستدلوا بقراءة سعد بن ابى وقاص : « وله أخ أو أخت من أم » في المسئلة المعروفة بالحمارية لجعل الثلث لإخوة الأم كما ذهب إليه أبو حنيفة وأحمد بن حنبل وداود ، واستدلوا بقراءة « أو تحرير رقبة مؤمنة » في كفارة الحنث باشتراط الايمان فيها كما ذهب إليه الشافعي أو جعلوها مؤيدة لما ذهبوا اليه ، انظر النشر ج 1 ص 28 مع أن هذه القراءات ليست بمتواترة قطعا وأما قراءة ابن عباس « إلى أجل مسمى » فلعلها تعد من المتواترات ، وقد ادعى الإمام الرازي الإجماع على صحة هذه القراءة. ولو قيل : ان الصحابة ربما كانوا يدخلون التفسير في القراءة إيضاحا وبيانا ، لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي صلى اللّه عليه وآله قرآنا ، آمنون من الالتباس ، وربما كان بعضهم يكتبه معه. قلنا : مع أن المنقول ان ابن مسعود كان يكره ذلك ويمنع منه فروى مسروق عنه كما في النشر ج 1 ص 32 انه كان يكره التفسير في القرآن ، وروى غيره عنه : جردوا القرآن ولا تلبسوا به ما ليس منه ، ليس ذلك بمخل فيما نحن بصدده ، من الاستدلال على أن الآية وردت في المتعة فإن الصحابيين كابن عباس وهو حبر الأمة وابن مسعود لا يدخلون فيه تفسيرا غير مطمئنين بكونه المقصود ، وغير متعلقين من النبي صلى اللّه عليه وآله حاشا وهل هذا الاسوء الظن بمثل هؤلاء الصحابيين؟ كيف وقد ثبت أنهم فعلوا المتعة مستندين بالاية المتلقاة مع البيان منه صلى اللّه عليه وآله.

كثيرة « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فآتوهن أجورهنّ فريضة » وذلك صريح في إرادة المتعة المذكورة وقد روى الثعلبي عن جبير بن أبي ثابت قال أعطاني ابن عبّاس مصحفا فقال هذا على قراءة أبيّ فرأيت فيه « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ».

ص: 151

إن قلت : إنّ ذلك وإن أثبته هؤلاء ، فقد أنكره غيرهم ، على أنّه لو ثبت لكان قرآنا والقرآن لا يثبت بالآحاد.

قلت : الجواب عن الأوّل أنّ المثبت يقدّم على النافي ، إذ قد يخفى على إنسان ما يظهر لغيره ، ولأنّه فيه صيانة للمسلم الظاهر العدالة عن الكذب ، وعن الثاني أنّه إذا لم يثبت قرآنا فما المانع أن يثبت به الحكم ، ونحن نقنع بخبر الواحد

ص: 152

في هذه الصورة ، خصوصا مع تأكّده بإجماع أهل البيت ورواياتهم ، والخصم يحتجّ بأضعف من رواية هؤلاء المعظّمين ، بل منهم من ينسخ به الأحكام الثابتة ، هذا تقرير الآية ويدل أيضا على إباحة هذا العقد وجوه أخر :

1 - إجماع أهل البيت عليهم السلام ورواياتهم به مشهورة ، مذكورة في كتب أحاديثهم ولو لا خوف الإطالة لذكرت نبذة منها ، وإجماعهم حجّة كما تقرّر في الأصول ، و

ص: 153

قال صلى اللّه عليه وآله « إنّي تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا (1).

2 - نقل الخاصّة والعامّة عن ابن عباس (2) أنّه كان يفتي بها ويعمل و

ص: 154


1- الحديث أخرجه أكابر علماء المذاهب قديما وحديثا في كتبهم الصحاح والسنن والمسانيد والتفاسير والتواريخ واللغة ، فلعله يعد من المتواترات. وسرد السيد هاشم البحراني قدس سره في الباب 28 من كتابه غاية المرام ص211 - 217 تسعة وثلاثين حديثا من طرق أهل السنة في نص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على وجوب التمسك بالثقلين ، وفي الباب 29 ص 217 - 235 ، اثنين وثمانين حديثا من طرق الشيعة الإمامية. وقد خص العلامة آية اللّه مير سيد حامد حسين أعلى اللّه مقامه الشريف المجلد الثاني عشر من المنهج الثاني من كتابه عبقات الأنوار بتحقيق هذا الحديث وقد طبع بلكهنو جدد طبعه بايران في 1159 صفحة في ستة مجلدات ، فرواه عن جماعة تقرب من مائتين من أكابر علماء المذاهب من المائة الثانية ، إلى المائة الثالثة عشرة ، ومن الصحابة والصحابيات أكثر من ثلاثين رجلا وامرءة كلهم رووا هذا الحديث الشريف عن النبي صلى اللّه عليه وآله وللفاضل الشيخ محمد قوام الدين القمي الوشنوي دامت بركاته رسالة موجزة في تحقيق حديث الثقلين مستوعبة جميع رواة الحديث وأسانيده نشرها دار التقريب بين المذاهب الإسلامية وفي القاهرة رجب 1373. فراجع.
2- بل عليه غيره أيضا من الصحابة وغيرهم ، قال ابن حزم في المحلى ج 1 ص 633 وقد ثبت على تحليلها بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله جماعة من السلف منهم : من الصحابة رضى اللّه عنهم : أسماء بنت ابى بكر الصديق ، وجابر بن عبد اللّه ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومعاوية بن ابى سفيان ، وعمرو بن حريث ، وأبو سعيد الخدري ، وسلمة ومعبد ابنا أمية بن خلف. ورواه جابر بن عبد اللّه من جميع الصحابة مدة رسول اللّه ومدة أبي بكر وعمر ، الى قرب آخر خلافة عمر ، واختلف في إباحتها عن ابن الزبير ، وعن على فيها توقف ، وعن عمر بن الخطاب انه انما أنكرها إذا لم يشهد عليها عدلان فقط وإباحتها بشهادة عدلين ومن التابعين : طاوس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وسائر فقهاء مكة - اعزها اللّه - وقد تقصينا الآثار المذكورة في كتابنا المرسوم بالإيصال وصح تحريمها عن ابن عمر وابى عمرة الأنصاري ، واختلف فيها عن على وعمرو ابن عباس وابن الزبير. وممن قال بتحريمها وفسخ عقدها من المتأخرين أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو سليمان وقال زفر يصح العقد ويبطل الشرط انتهى ما أردنا نقله. وقال برهان الدين في العناية المطبوع مع فتح القدير ج 2 ص 385 : وقال مالك رحمه اللّه : هو جائز لأنه كان مباحا فيبقى الى أن يظهر ناسخه ، قلنا ثبت النسخ بإجماع الصحابة ، وفي شرح العناية بهامش فتح القدير : وقيل في نسبة الجواز الى مالك نظر لانه روى الحديث في الموطإ عن ابن شهاب عن عبد اللّه والحسين ابني محمد بن على بن ابى طالب ان رسول اللّه نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية وقال في المدونة : ولا يجوز النكاح إلى أجل قريب أو بعيد ، وان سمى صداقا ، وهذه المتعة ، وأقول : يجوز أن يكون شمس الأئمة الذي أخذ منه المصنف قد اطلع على خلاف ما في المدونة وليس كل من يروى حديثا يكون واجب العمل به لجواز أن يكون عنده ما يعارضه أو يرجح عليه. ونقل نسبة الجواز الى مالك عن الزرقانى في شرح مختصر أبى الضياء والتفتازاني في شرح المقاصد والعسقلاني في فتح الباري ، ونسب ابن كثير جوازها عند الضرورة إلى أحمد بن محمد بن حنبل في رواية ج 1 ص 474 ، وقد سمعت ما نقله الذهبي في تذكرة الحفاظ الرقم 164 في ص 143 ، فراجع.

مناظرته مع عبد اللّه ابن الزبير في ذلك مشهورة (1) وقول ابن عباس في ذلك حجّة

ص: 155


1- ففي صحيح مسلم عن أبي نضرة قال : كنت عند جابر بن عبد اللّه فأتاه آت فقال : ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين ، فقال جابر فعلناهما مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثم نهانا عنهما عمر ، فلم نعدلهما ، راجع صحيح مسلم بشرح النووي ج 9 ص 184. وعن أبي نضرة أيضا قال : قلت : ان ابن الزبير ينهى عن المتعة وان ابن عباس يأمر بها قال - يعنى جابرا - على يدي جرى الحديث ، تمتعنا مع رسول اللّه ، ومع ابى بكر فلما ولى عمر خطب الناس فقال : ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله هذا الرسول ، وان القرآن هذا القرآن ، وانهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما إحداهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرءة إلى أجل إلا غيبته بالحجارة ، نقلها آية اللّه العلامة الخويي مد ظله في البيان ص 221 عن سنن البيهقي ج 7 ص 206 باب نكاح المتعة. ونقل مناظرته مع ابن الزبير ابن ابى الحديد ج 20 ص 130 ، وكذا ابن عبد البر ج 2 ص 320 في فرش كتاب المجنبة في الأجوبة ، مجاوبة بنى هاشم لابن الزبير ، وفيه : أول مجمر سطح في المتعة مجمر آل الزبير وسيأتي كلام فيه بعد ذلك.

كما قال [ رسول اللّه ] صلى اللّه عليه وآله « إنّه كنيف ملي ء علما (1) » ودعوى الخصم رجوعه عن ذلك ممنوع (2).

3 - اشتهرت الروايات عن عمر بن الخطّاب أنّه قال : متعتان كانتا على عهد

ص: 156


1- لم أظفر على هذا الحديث في شأن ابن عباس ، نعم في النهاية لابن الأثير : ومنه حديث عمر أنه قال لابن مسعود : « كنيف ملي ء علما » وهو تصغير تعظيم للكنف وفي القاموس : وكزبير : علم ككانف ولقب ابن مسعود لقبه عمر تشبيها بوعاء الوحي.
2- لم يخرج حديث رجوع ابن عباس من أصحاب الصحاح الستة الا الترمذي صرح به محمد فؤاد عبد الباقي في تذييله على الحديث. والحديث في سنن الترمذي بالرقم 1122 ج 3 ص 430 من الطبعة الأخيرة هكذا : حدثنا محمود بن غيلان حدثنا سفيان بن عقبة أخو قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال : اما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم ، فتحفظ له متاعه وتصلح شية حتى إذا نزلت الآية « إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ » قال ابن عباس فكل فرج سوى هذين فهو حرام. وفي حواشي الترمذي طبع دهلي ج 1 ص 133 في لفظ « تصلح شية » نقلا عن اللمعات : هكذا يوجد هذا اللفظ في هذه النسخ بفتح المعجمة وتشديد التحتية ، ولا يدرى صريح المراد به الا ان يجعل من الشواء يقال شوى اللحم شيئا فاشتوى ، فيكون الشي ء بمعنى المشوي ، والمراد طعامه ومأكوله ، والظاهر أنه مخفف مهموز ، اى تصلح أشياءه وأمواله ، وهكذا في النسخة من حديث الترمذي مصححة بخط العرب. انتهى. وكفى يكون موسى بن عبيدة في طريق الحديث ضعفا ، ففي التاريخ الكبير للبخاري القسم الأول من الجزء الرابع ص 291 الرقم 1242 أنه منكر الحديث ، قاله احمد بن حنبل ، وقال على بن المديني عن القطان قال : كنا نتقيه تلك الأيام ، وفي القسم الأول من المجلد الرابع من الجرح والتعديل لابن ابى حاتم الرازي الرقم 686 بسط كلام في تضعيفه فتقل عن أحمد بن حنبل أنه قال : نتقيه ، وقال : لا يشتمل به وقال : لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة ، ونقل عن ابن معين أيضا أنه : قال : موسى بن عبيدة لا يحتج بحديثه ، وقال : موسى بن عبيدة ضعيف ، ونقل عن عبد الرحمن عن أبيه أنه قال منكر الحديث ، وعن أبى زرعة أنه قال : ليس بقوي الحديث ، ونقل أيضا تضعيفه عن على بن المديني بنحو ما ذكره البخاري. وصرح بضعف حديث الترمذي بموسى بن عبيدة أيضا الشوكانى في نيل الأوطار ج 6 ص 144. وفي طريق الحديث أيضا سفيان بن عقبة وفي القسم الأول من المجلد الثاني من كتاب الجرح والتعديل الرقم 985 حدثنا عبد الرحمن انا يعقوب بن إسحاق فيما كتب الى قال أنا عثمان بن سعيد قال : سألت يحيى بن معين عن سفيان بن عقبة قال : لا أعرفه ، ونظيره ما في ميزان الاعتدال ج 2 ص 168 ، الرقم 3325. ومع ذلك كله فهو مضطرب المتن ، إذ فيه نسخ حكم المتعة بآية « إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ » وهي في سورة المؤمنون والمعارج ، وهما مكيتان ، ويبعد غفلة مثل ابن عباس حبر الأمة عن انه لا تصلح المكية لإثبات نسخ حكم المتعة. على انه معارض بما رواه مسلم ج 9 ص 188 من صحيحه بشرح النووي عن عروة بن الزبير ان عبد اللّه بن الزبير قام بمكة فقال : ان ناسا أعمى اللّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل فقال انك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد امام المتقين يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال له ابن الزبير فو اللّه لان فعلتها لأرجمنك بأحجارك ، ورواه النسائي أيضا. ولا تردد في ان ابن عباس هو الرجل لمعرض به فالظاهر بقاؤه على حل المتعة في زمن عبد اللّه الزبير في زمان كف بصره أواخر عمره ، وتنبه لذلك أيضا ابن الهمام في فتح القدير ج 2 ص 386 ويبعد رجوعه في تلك المدة القليلة ولم يك بين قيام عبد اللّه بن الزبير سنة 64 ( مع ما نقل ابن ابى الحديد عن المدائني انه كان سنة 65 ) ووفاة ابن عباس سنة 68 كما هو الأصح أكثر من أربع سنوات ، أو ثلاث ونقل نظير ما في صحيح مسلم ابن ابى الحديد عند شرح الرقم 458 من الحكم ج 20 ص 130 ما زال الزبير رجلا منا إلخ. وفيه ذكر جواب ابن عباس له : وأما المتعة فسل أمك إذا نزلت عن بردي عوسجة وفيه : فلما عاد ابن الزبير سألها عن بردي عوسجة فقالت : ألم أنهك عن ابن عباس وعن بنى هاشم فإنهم كعم الجواب إذا بدهوا ، فقال : بلى وعصيتك ، فقالت : يا بني احذر هذا الأعمى الذي ما أطاقته الانس والجن. وعزى إلى البخاري رواية عن أبي حمزة قال : سألت ابن عباس عن متعة النساء فرخص ، فقال له مولى له : انما ذلك في الحال الشديد ، وفي النساء قلة أو نحوه فقال ابن عباس نعم. فقد أنكر العزو بعض ، نقله الشوكانى في نيل الأوطار ج 6 ص 144 عن الحافظ في التلخيص ونقل عنه أنه استغفر به ابن الأثير في جامع الأصول فعزاه الى رزين وحده ثم مع صحة العزو ، فليس فيه قوة دلالة على رجوعه ، وليس فيه تصريح بالمنع في غير حال الشدة.

ص: 157

رسول اللّه أنا محرّمهما ومعاقب عليهما : متعة الحجّ ومتعة النساء (1)

وروى الطبري عنه في كتاب المستنير أنّه قال : ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنا محرّمهنّ ومعاقب عليهنّ : متعة الحجّ ومتعة النساء ، وحيّ على خير العمل في الأذان (2) فهذه شهادة منه أنّها كانت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ومعلوم

ص: 158


1- قد ذكرنا في ج 1 ص 293 و 294 من هذا الكتاب مصادر كلامه وأن قوله ذلك مشهور مستفيض أضف الى ذلك شرح ابن ابى الحديد فقد ذكر كلامه في ج 1 ص 182 ( الطبعة الأخيرة ) في شرح الخطبة الشقشقية أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا محرمها ومعاقب عليها : متعة النساء ومتعة الحج. ثم قال : وهذا الكلام وان كان ظاهره منكرا فله مخرج وتأويل ، وقد ذكره أصحابنا الفقهاء في كتبهم. ونقله في ج 12 ص 251 شرح الخطبة 223 ولفظه : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وانا أنهى عنهما وأعاقب عليهما. فراجع.
2- كما ذكره القوشجي في شرحه على تجريد الكلام ص 408 طبع إيران في سنة 1301 وسيوافيك منا نقل عبارته.

أنّ عمر ليس له تحليل ولا تحريم (1).

4 - أنّه لا نزاع ولا خلاف في أنّها كانت مشروعة ، والخصم يقول إنّها نسخت قلنا المشروعيّة دراية ، والنسخ رواية ، ولا تطرح الدراية بالرّواية.

5 - أنّها منفعة خالية من جهات القبح ، ولا نعلم فيها ضررا عاجلا ولا آجلا وكل ما هذا شأنه فهو مباح ، فالمتعة مباحة أمّا الكبرى فإجماعيّة وأمّا الصغرى فلأنّا نتكلّم على تقديره ، ولأنّه لو كان فيها شي ء من المفاسد لكان إمّا عقليا وهو منتف اتّفاقا وإمّا شرعيا وليس ، وإلّا لكان أحد متمسّكات الخصم ، ولكن ليس فليس.

احتجّوا بوجوه :

الأوّل بقوله ( فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) والمتمتّع بها ليست زوجة ولا ملكا أمّا الثاني فاتّفاقي وأمّا الأوّل فلأنّها لو كانت زوجة لثبت لها النفقة والإرث والقسم ، ولوقع بها طلاق ، وغير ذلك من أحكام الزّوجات ، واللّازم باطل باتّفاق الإماميّة فكذا الملزوم.

الثاني الرّوايات منها ما رواه عبد اللّه والحسن ابنا محمّد بن عليّ عن أبيهما عن عليّ عليه السلام (2) عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن الحمر

ص: 159


1- قال العلامة المجلسي رضوان اللّه عليه في مرآت العقول ج 3 ص 481. وما أحسن ما وجدته في كتب الجمهور ان رجلا كان يفعلها ، فقيل له : عمن أخذت حلها؟ فقال : عن عمر ، فقالوا : كيف ذلك وعمر هو الذي نهى وعاقب على فعلها ، فقال : لقوله متعتان كانتا على عهد رسول اللّه أنا أحرمهما وأعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء فأنا أقبل روايته في شرعيتها على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وما اقبل نهيه من قبل نفسه. ونقل نظير ما ذكره المجلسي قدس سره في الجواهر ص 133 ج 5 طبع حاج محمد حسين الكاشاني ، عن محاضرات الراغب.
2- قال في المنتقى على ما في ص 143 ج 6 من نيل الأوطار بعد ذكر الرواية بلفظيها متفق عليهما بمعنى أنه أخرجهما أحمد والبخاري ومسلم ، واللفظ في أحدهما : « نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر » والثاني : « نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية ». قال السهيلي في روض الأنف ج 2 ص 238 : فصل : ومما يتصل بحديث النهي عن أكل الحمر تنبيه على اشكال في رواية مالك عن ابن شهاب فإنه قال فيها : « نهى النبي عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية » وهذا شي ء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر ، ان المتعة حرمت يوم خيبر. وقال في نيل الأوطار ج 6 ص 146 : وروى ابن عبد البر أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة ان النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر ، قال ابن عبد البر : وعلى هذا أكثر الناس ، وقال أبو عوانة في صحيحه : سمعت أهل العلم يقولون معنى حديث على انه نهى يوم خيبر عن لحموم الحمر الأهلية وأما المتعة فسكت عنها ، وانما نهى يوم الفتح. انتهى. ونقل نظير ذلك أيضا ابن القيم الجوزية في ج 2 ص 183 من زاد المعاد ثم قال الصحيح أن المتعة إنما حرمت عام الفتح ، لانه قد ثبت في صحيح مسلم أنهم استمتعوا عام الفتح باذنه ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرتين وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة ولا يقع مثله فيها. وأيضا فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات ، وانما كن يهوديات ، واباحة نساء أهل الكتاب لم يكن يثبت انما ابحن بعد ذلك في سورة المائدة « الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ » الآية ، وهذا فمتصل بقوله ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) وبقوله ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) وهذا كان آخر الأمر بعد حجة الوداع أو فيهما ، فلم تكن اباحة نساء أهل الكتاب ثابتة زمن خيبر ، ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع بنساء عدوهم قبل الفتح وبعد الفتح ، استرق من استرق منهن وصرن إماء للمسلمين. ثم وجه الرواية بأن النبي صلى اللّه عليه وآله نهى عن نكاح المتعة ، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف لتحريمهن فرواه حرم رسول اللّه المتعة زمن خيبر والحمر الأهلية. واقتصر بعضهم على رواية بعض الحديث فقال حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله المتعة زمن خيبر ، فجاء بالغلط البين. قلت : ولأجل هذا قال القاضي على ما في شرح النووي لصحيح مسلم ج 9 ص 180 في رواية سفيان أنه نهى عن المتعة ، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، فقال بعضهم هذا الكلام فيه انفصال ، ومعناه أنه حرم المتعة ولم يبين زمن تحريمها ثم قال : ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، فيكون يوم خيبر لتحريم الحمر خاصة ولم يبين وقت تحريم المتعة ليجمع بين الروايات. قلت : فأي فائدة في الجمع بين التحريمين إذا لم يكونا قد وقعا في وقت واحد ، وأين المتعة من تحريم الحمر ، ثم لفظ النهي في الرواية ولو في رواية سفيان لم يذكر الإمرة واحدة ، فلا بد وأن يتعلق الظرف به ، فالذي يقول : « أكرمت زيدا وعمرا يوم الجمعة » لا بدو أن يكون مراده أنه اكرمهما يوم الجمعة ، فإن كان مراده أن إكرامه لعمرو بخصوصه كان يوم الجمعة فلا بد له أن يقول : « أكرمت زيدا وأكرمت عمرا يوم الجمعة ». هذا وقد عرفت عن المنتفى أن اللفظ للبخاري وأحمد ومسلم في رواية « نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن لحوم الحمر الإنسية » وترى هذا الفظ للبخاري في الذبائح من طريق مالك وفي مسلم من طريق ابن عيينة ، ولأجل تسلم عدم نهى عن المتعة في زمن خيبر التجأ بعض الى ادعاء ان كلمة خيبر تصحيف وكان أصله « حنين » وكذلك رواه النسائي ج 6 ص 126 نقلا عن ابن المثنى ، وقال هكذا أحدثنا عبد الوهاب. وقال في نيل الأوطار : وذكره الدار قطني عن يحيى بن سعيد بلفظ « حنين » ومع ذلك لم يتسلمه علماؤهم بالقبول ، فقد قال في نيل الأوطار بعد ذلك بقليل ، وأما غزوة حنين فهو تصحيف ، والأصل خيبر. وقال الأمير باشا في سبل السلام ج 3 ص 126 خيبر بالخاء المعجمة أوله والراء آخره ، وقد وهم من رواه عام حنين بمهملة أوله ونون آخره أخرجه النسائي والدار قطني ونبه على أنه وهم. والحاصل ان الرواية بجميع ألفاظها لا يصح انتسابها الى على عليه السلام كيف وهي مع ذلك معارضة بما روى عنه عليه السلام من طرقهم بجوازها كما قد سمعته في ص 148 فراجع.

ص: 160

ص: 161

الإنسيّة (1) ومنها ما رواه الربيع بن سبرة عن أبيه قال (2) شكونا العزبة في حجّة الوداع فقال « استمتعوا من هذه النساء » فما بيّن إلّا أن نجعل بيننا وبينهنّ أجلا فتزوّجت امرأة فمكثت عندها تلك اللّيلة ثمّ غدوت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو قائم

ص: 162


1- قال النووي في شرح صحيح مسلم : قوله « الإنسية » ضبطوه بوجهين أحدهما كسر الهمزة وإسكان النون ، والثاني : فتحهما جميعا ، وصرح القاضي بترجيح الفتح ، وأنه رواية الأكثرين.
2- لم أجد فيما حضرني من الكتب في روايات سبرة ما يوافق مع ما رواه المصنف بلفظه ، والظاهر ان ما رواه المصنف مأخوذ عما رواه ابن ماجة مع حذف واختصار ، وعلى كل فاللفظ لابن ماجة تحت الرقم 1962 ص 631 هكذا : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبدة بن سليمان عن عبد العزيز بن عمر بن الربيع بن سبرة عن أبيه قال : خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في حجة الوداع فقالوا يا رسول اللّه ان العزبة قد اشتدت علينا قال فاستمتعوا من هذه النساء فأتيناهن فأبين أن ينكحننا الا ان نجعل بيننا وبينهن أجلا فذكروا ذلك للنبي صلى اللّه عليه وآله فقال : اجعلوا بينكم وبينهن أجلا ، فخرجت أنا وابن عم لي معه برد ومعى برد ، وبرده أجود من بردي ، وأنا أشب منه ، فأتينا على امرءة فقالت برد كبرد ، فتزوجتها فمكثت عندها تلك الليلة ثم غدوت ورسول اللّه قائم بين الركن والباب وهو يقول انى كنت أذنت لكم في الاستمتاع الا وان اللّه قد حرمها الى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شي ء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. وأخرج روايات سبرة مسلم والنسائي وأحمد بن حنبل وأبو داود بألفاظ مختلفة وطرق متعددة وقد سرد أكثرها آية اللّه المرحوم السيد محسن أمين أعلى اللّه مقامه في كتابه نقض الوشيعة ص 372 - 377 فراجع ونحن نكتفي بذكر رواية من مسلم ورواية من المسند : ففي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة أن أباه غزا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فتح مكة قال : فأقمنا خمس عشرة ثلاثين بين يوم وليلة فأذن لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في متعة النساء فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو أقرب من دمامة مع كل واحد منا برد ، فبردى خلق وأما برد ابن عمى فبرد جديد غض حتى إذا كنا بأسفل مكة أو بأعلاها فتلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطنة فقلنا لها هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ قالت وما ذا تبذلان؟ فنشر كل واحد منها برده فجعلت تنظر الى الرجلين ويراها صاحبي ينظر الى عطفها فقال ان برد هذا خلق وبردي جديد غض ، فتقول : برد هذا لا بأس به ، قالت مرة أو مرتين ثم استمتعت منها فلم أخرج حتى حرمها رسول اللّه. انظر ص 372 من نقض الوشيعة ، وهي في صحيح مسلم بشرح النووي ج 9 ص 185. وفي مسند الامام أحمد بن حنبل بسنده عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فأقمنا خمس عشرة من بين ليلة ويوم ، فأذن لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في المتعة وخرجت أنا وابن عم لي في أسفل مكة أو قال في أعلى مكة فلقينا فتاة من بنى عامر بن صعصعة كأنها البكرة العنطنطنة وأنا قريب من الدمامة وعلى برد جديد غض وعلى ابن عمى برد خلق فقلنا لها هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ فقالت وهل يصلح ذلك؟ قلنا نعم فجعلت تنظر الى ابن عمى فقلت لها ان بردي هذا جديد وبرد ابن عمى هذا خلق ، قالت برد ابن عمك هذا لا بأس به فاستمتع منها فلم نخرج من مكة حتى حرمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، راجع نقض الوشيعة ص 374.

بين الركن والمقام وهو يقول « إنّي كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع ألا وإنّ اللّه قد حرّمها إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهنّ شي ء فليخلّ سبيلها ولا تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا.

ومنها ما روي عن عمر بن الخطّاب (1) أنّه قال اذن لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في المتعة

ص: 163


1- هذا الحديث مما تفرد به ابن ماجة في الجوامع الحديثية الصحاح وفي المنار ج 5 ص 15 ، أنه أخرجه أيضا ابن المنذر والبيهقي ، وفي الدر المنثور ج 2 ص 141 نقل ما هو بمعناه وعلى كل فالطريق واللفظ في ابن ماجة ج 1 ص 631 تحت الرقم 1963 هكذا : حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ثنا الفاريابي عن أبان بن أبى حازم عن ابى بكر بن حفص عن ابن عمر قال : لما ولى عمر بن الخطاب خطب الناس فقال : ان رسول اللّه اذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها ، واللّه لا أعلم أحدا يتمتع وهو محصن الا رجمته بالحجارة الا أن يأتيني بأربعة يشهدون ان رسول اللّه أحلها بعد إذ حرمها. وذكر محمد فؤاد عبد الباقي في ذيله نقلا عن الزوائد أن أبا بكر بن حفص اسمه إسماعيل الايابى قال : وكان أبوه يكذب. أقول : الظاهر أنه اشتباه من محمد فؤاد عبد الباقي أو من النساخ ، فان إسماعيل بن حفص هو الابلى ، على ما صرح به في التقريب بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام لا الايابى ، وعلى كل فقال ابن ابى حاتم في ص 165 من القسم الأول من المجلد الأوّل من كتاب الجرح والتعديل الرقم 556 : إسماعيل بن حفص بن عمر بن ميمون الابلى ( وفي الذيل نقلا عن التقريب : عمرو بن ميمون ) روى عن ابى بكر بن عياش وحفص ويحيى بن يمان وغندر ، سمع ابى منه بالبصرة في الرحلة الثالثة وسألته عنه فقال كتبت عنه وعن أبيه ، وكان أبوه يكذب ، وهو بخلاف أبيه ، قلت لا بأس به؟ قال : لا يمكنني أن أقول : لا بأس به. وقال الذهبي في ميزان الاعتدال ج 1 ص 225 تحت الرقم 863 في ترجمته : إسماعيل بن حفص الابلى عن ابى بكر بن عياش ، ونحوه قال أبو حاتم لا بأس به وقال الساجي هو ابن حفص بن عمر بن ميمون الابلى ، لحقه ضعف أبيه. قلت : قد عرفت أنا أبا حاتم أيضا قال فيه : لا يمكنني أن أقول لا بأس به ، فالحديث غريب ضعيف السند ، ومع ذلك فهو معارض بما استفاض من عمر أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما واضرب عليهما ، ولو كان عنده رواية عن النبي لما أسند النهي إلى نفسه ، والشارح القوشجي لما نقل في شرح التجريد عنه أنه صعد المنبر وقال : « ايها الناس ثلاث كن على عهد رسول اللّه أنا أنهى عنهن واحرمهن وأعاقب عليهن : وهي متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحي على خير العمل » اعتذر بأن ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه فان مخالفة المجتهد لغيره في المسائل ليس ببدع كما قد عرفته في ص 158. ولو صح رواية عن عمر في تحريم النبي صلى اللّه عليه وآله لاستند إليها ولم يحتج الى ذكر عذر غير متجه ، فان ما ذكره القوشجي من عدم القدح في مخالفة المجتهد انما هو في مخالفة المجتهدين مع أنفسهم لا مع النبي صلى اللّه عليه وآله.

ص: 164

ثلاثا ثمّ حرّمها واللّه لا أعلم أنّ رجلا تمتّع وهو محصن إلّا رجمته بالحجارة إلّا أن يأتي بأربعة يشهدون أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أحلّها بعد إذ حرمها (1).

الثالث : الإجماع ، فإنّ فتوى الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار على اختلاف الأعصار على منعها.

والجواب عن الأوّل بالمنع من كونها ليست زوجة أمّا عندنا فبالإجماع ، وأمّا عند الجمهور (2) فبالرواية المذكورة عن الربيع بن سبرة فإنّه قال : فتزوّجت امرأة

ص: 165


1- واستدلوا أيضا بما رواه إياس بن سلمة عن أبيه قال : رخص لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها. أخرجه مسلم كما في ج 9 ص 182 من صحيحه بشرح النووي ، وأخرجه في الدر المنثور ج 2 ص 140 عن ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم واللفظ فيه : « ثلاثة أيام ، ثم نهى عنها بعدها » وهو مع انه معارض بما روى سلمة نفسه كما في الصحيح ج 9 ص 182، وعن جابر قالا : خرج علينا منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : ان رسول اللّه قد أذن لكم أن تستمتعوا - يعني متعة النساء - ليس فيه ظهور في ان النهي كان من النبي صلى اللّه عليه وآله فمن المحتمل ان لفظ نهى في الرواية بصيغة المبني للمفعول ، وأريد منه نهى عمر ، واللفظ في صحيح مسلم - ثلاثا - ومعناه تكرار التصريح بالاذن ثلاث مرات.
2- قال الزمخشري في الكشاف عند تفسير سورة المؤمنون : فإن قلت : هل فيه دليل على تحريم المتعة ، قلت لا ، لأن المنكوحة نكاح المتعة من جملة الأزواج إذا صح النكاح. انتهى. والعجب ممن جعل الآية ناسخة لحكم المتعة كيف وسورة المؤمنون وكذا المعارج مكية ، وسورة النساء مدنية ، وهل ينسخ المدني بالمكي؟ مع ما في رواية ابن مسعود : « ثم رخص لنا أن ننكح بالثوب » وهو تعبير عن المتعة بالنكاح. قال القاضي عياض : واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحا إلى أجل ، ثم قال : وأجمعوا على أنه ان وقع نكاح المتعة الان حكم ببطلانه ، وحكى عن الأوزاعي التعبير بنكاح المتعة ، وقال المازري ثبت أن نكاح المتعة كان جائزا في أول الإسلام. والمراد بالنكاح : الزواج ، فعقد المتعة يحدث زوجية ، فكيف لا تكون داخلة في جملة الأزواج في الآية الشريفة.

قولهم لو كانت زوجة لثبت لها النفقة إلى آخره ، قلنا نمنع الملازمة لصدق الزوجيّة مع عدم لزوم هذه الأحكام فإنّ النفقة تسقط مع النشوز ، والميراث يسقط مع الرقّ والقتل والكفر ، والإحصان لا يثبت قبل الدّخول بالزوجة ، والقسم لا يجب دائما ويسقط في السفر واللّعان لا يقع بين الحرّ والأمة عند كثير منهم ، فقد انتفت هذه الأمور مع صدق الزوجيّة فكما خصّت تلك العمومات بوجود الدلالة فكذا هنا.

وعن الثاني أمّا الرّواية عن عليّ عليه السلام فباطلة لأنّا نعلم بالضرورة من مذهبه ومذهب أولاده خلافها فمحال أن يروي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ما يخالفه ، على أنّ خبر ابن سبرة دلّ على أنّ الاذن في حجّة الوداع ، وخبر عليّ عليه السلام في يوم خيبر وحجة الوداع متأخّرة عن خيبر فلو كان النهي الّذي نسب إلى علي عليه السلام على التحريم لزم نسخها مرّتين ولا قائل بذلك ، وأيضا خبر ابن سبرة يرفع النهي الّذي تضمنه خبر عليّ عليه السلام فسقط الاحتجاج به.

وأمّا خبر ابن سبرة فبالطعن في سنده أوّلا (1) وباختلاف ألفاظه الدالّ على

ص: 166


1- إذ الراوي في كل الروايات الربيع بن سبرة عن أبيه ، وسبرة وان كان صحابيا إلا انا لا نرى في المعاجم وما ألف في تراجم الصحابة ما يوجب وثوقنا به ، وليس للبخاري عن سبرة بل ولا عن ابنه الربيع ولا عن ابني الربيع عبد الملك وعبد العزيز رواية ، انظر كتاب الجمع بين رجال الصحيحين الأرقام 520 ، 783 ، 1185 ، ترى المذكورين فيه من أفراد مسلم. وعلى كل فمجرد كون الرجل صحابيا لا يكفي في كونه مأمونا عدلا ما لم نتعاهد حاله ، ويثبت لنا وثاقته كيف وقد قال اللّه العزيز الحكيم ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ ) ، الآية 101 سورة التوبة ، ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ) ؟ أنشدكم باللّه من المنافقون هل كانوا الا صحابيين؟ وقال الرّسول العزيز وقد شهد له الرب الجليل بأنه صلى اللّه عليه وآله ما ينطق عن الهوى : أنا فرطكم على الحوض وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجن دوني فأقول يا رب أصحابي فيقال : انك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، انظر الروايات من الرقم 1475 - الى 1487 من كتاب اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق فيه الشيخان ، مجموع محمد فؤاد عبد الباقي ج 3 ص 123 - 129 والروايات بهذا المضمون عن النبي صلى اللّه عليه وآله وأنه يحال بينهم وبين رسول اللّه ، عند ورود الحوض وينادى بهم الى النار مستفيضة. بل اعترف بتواترها القسطلاني في إرشاد الساري في شرح البخاري كما في ج 9 ص 320 ، حيث أخرج مضمونه البخاري في باب الحوض من سبعة من الصحابة وكذا مسلم وأحمد وابن ماجة والطبراني مسندا عن اثنى عشر من الصحابة. وقد تضافرت الاخبار عن أمير المؤمنين عليه السلام في التظلم من قريش والعرب الذين هم من وجوه الصحابة ، ليس لإنكارها سبيل ، وهو عليه السلام أجل قدرا من أن يقول غير الحق وقد شهد اللّه العزيز بطهارته وإذهاب الرجس عنه ، ومن أصدق من اللّه قيلا؟. وكفاك بخطبته المشهورة بالشقشقية تظلما وتألما وشكوى ، وقد ذكر ابن ابى الحديد عن مصدق بن شبيب أنه سأل عن شيخه ابن الخشاب : أتقول انها منحولة؟ فقال : لا واللّه وانى لا علم انها له عليه السلام ، راجع ج 1 ص 205 ( الطبعة الأخيرة ). فهبني قلت ان الصبح ليل *** أيعمى العالمون عن الضياء قالوا : سوء الظن بالصحابة من الرفض ، قلت فعليه فالفاروق الأعظم عمر بن الخطاب أرفض الناس ، بل امام الروافض ، ألم يأمر بضرب أعناق أهل الشورى ان أخروا فصل حال الأمة؟ ( الكامل ج 3 ص 43 ). ألم يقل على جمع حاشد من المسلمين انما كانت بيعة ابى بكر فلتة ولكن وقى اللّه شرها؟ ( البخاري باب رجم الحبلى ص 1009 من طبع كراچى وج 4 ص 180 من طبع دار احياء الكتب العربية ). ألم ينتصب لسماع الدعوى واقامة الشهود على المغيرة بن شعبة حيث ادعى عليه بالزنا وأقبل يقول : يا مغيرة ذهب ربعك يا مغيرة ذهب نصفك ، يا مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك حتى اضطرب الرابع فجلد الثلاثة واثنان منهم صحابيان : أبو بكرة وهو من فضلاء أصحابه وحملة الآثار النبوية ، ونافع بن الحارث أخوه؟ ( وفيات الأعيان ترجمة يزيد بن زياد الحميري ج 2 طبع إيران ص 455 ). فهلا أنكر عمر ذلك ، ولم لم يقل هذا محال وباطل ، هذا صحابي لا يجوز عليه الزنا وهلا قال المغيرة لعمر : كيف تسمع قول هؤلاء وأنا من الصحابة؟ بل كيف درأ الحد عن المغيرة بن شعبة مع أنه جلد صحابين آخرين حد القذف؟ ثم قال للشهود : توبوا الى اللّه فتاب اثنان وامتنع أبو بكرة أن يتوب. وهلا درأ الحد عن قدامة بن مظعون لما شرب الخمر ولم يقل إنه صحابي؟ بل قال له لما قرأ عليه الآية ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) أخطأت التأويل ، أنت إذا اتقيت اجتنبت ما حرم اللّه ، ( الإصابة الرقم 7090 ج 3 ص 220 ترجمة قدامة ). بل الصديق الأكبر أبو بكر أيضا رافضي : ألم يقل في مرض موته للصحابة فلما استخلفت عليكم خيركم في نفسي - يعني عمر - فكلكم ورم أنفه ، يريد أن يكون الأمر له ، لما رأيتم الدنيا ، واللّه لتتخذن الديباج والصنائد ( السياسة والإمامة ج 1 ص 28 ). بل عثمان ذو النورين أيضا رافضي حيث فتق بطن عمار وكسر ضلع ابن مسعود ( الإمامة والسياسة ج 1 ص 31 ). وعائشة أم المؤمنين أيضا رافضية حيث خرجت بقميص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله تقول : لم يبل قميص رسول اللّه وهذا عثمان قد أبلى سننه ، اقتلوا نعثلا قتل اللّه نعثلا ( تاريخ ابى الفداء ، الإمامة والسياسة ، النهاية لابن الأثير كلمة نعثل ). بل في شرح النهج لابن ابى الحديد ج 20 ص 22 : انها لم ترض بذلك حتى قالت : أشهد أن عثمان جيفة على الصراط. بل الصحابة كلهم رافضيون ، ألم يخذلوا عثمان حين حصر ، بل كان من حاصر به أيضا الصحابة وهو من وجوه الصحابة ، ثم من أشرافهم ، وهو مع ذلك امام المسلمين والمختار منهم للخلافة ، وللإمام حق على رعيته. ونقل ابن ابى الحديد في ج 20 ص 12 - 34 في شرح كلام أمير المؤمنين على عليه السلام من الحكم 413 لعمار في شأن المغيرة : دعه يا عمار إلخ كلاما من ابى جعفر يحيى بن محمد العلوي البصري في جواب أبي المعالي الجويني في شأن الصحابة يحق لأهل الفضل والانصاف المراجعة اليه ، والمداقة في مضامينه. وقد صدع أمير المؤمنين بالحق من ذلك في الخطبة 203 ج 11 ص 38 من شرح ابن ابى الحديد الطبعة الأخيرة وبين أن الصحبة غير كافية في قبول الخبر ، حيث قال في جواب السائل عن اختلاف الناس في الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « إنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس. ورجل منافق - الى أن قال - : لكنهم قالوا صاحب رسول اللّه رآه وسمع منه ، الى آخر الخطبة. وملخص الكلام انه ليست الصحابة في الموضع الذي وضعتها أهل السنة والخطأ جائز على آحاد الصحابة كما يجوز على آحاد غيرهم ، فليس ينبغي أن نكتفي بكون راوي الحديث صحابيا ما لم نتعاهد حاله ، ولم نر في كتب تراجم الصحابة ما يوجب لنا الاطمئنان بكون سبرة عادلا مأمونا. سلمنا وأعرضنا عن التكلم في الصحابي ، فالراوي عن سبرة انما هو ابنه الربيع ولم يكن صحابيا ، ولم نر في كتب الرجال ما يوجب لنا الاطمئنان بأحاديثه ، الا انه ابن الصحابي ، كما نرى ان ابن حجر يدافع عن عمر بن سعد ويقول : لا نرى سره الا كونه ابن الصحابي ( التقريب ع م ر ). ثم الراوي عن الربيع ابناه عبد العزيز وعبد الملك ، قال الذهبي في ترجمة عبد الملك ج 2 ص 654 ، الرقم 5205 ضعفه يحيى بن معين فقط وقال ابن خيثمة سئل ابن معين عن أحاديثه عن أبيه عن جده فقال ضعاف ، وقال ابن القطان وان كان مسلم أخرج لعبد الملك فغير محتج به. وفي الجرح والتعديل القسم الثاني من المجلد الثاني ص 350 - الرقم 1653 سئل يحيى بن معين عن أحاديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده فقال : ضعاف. ومن رواة الحديث عن الربيع عبد العزيز بن عمر ، فان كان المراد عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز كما صرح به في ص 183 ج 2 من أحكام القرآن للجصاص فذكره في ميزان الاعتدال ج 2 ص 632 الرقم 5118 وقال : عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي وثقه جماعة وضعفه أبو مسهر وحده ، وان كان المراد عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، فذكر في لسان الميزان ج 4 ص 36 الرقم 98 ، وقال قال ابن القطان مجهول الحال. وممن صرح بضعف السند في أحاديث سبرة ، ابن قيم الجوزية في زاد المعاد ج 2 ص 184 قال : فان قيل : فما تصنعون بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد اللّه قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق ، الأيام على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حتى نهى عمر في شأن عمرو بن حريث ، وفيما ثبت عن عمر أنه قال : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأنا أنهى عنهما : متعة النساء ومتعة الحج. قيل : الناس في هذا طائفتان : طائفة تقول : ان عمر هو الذي حرمها ونهى عنها وقد أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله باتباع ما سنه الخلفاء الراشدون ، ولم تر هذه الطائفة تصحيح حديث سبرة بن معبد في تحريم المتعة عام الفتح فإنه من رواته عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده ، وقد تكلم فيه ابن معين ، ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه مع شدة الحاجة اليه ، وكونه أصلا من أصول الإسلام ، ولو صح عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به. قالوا : ولو صح حديث سبرة ، لم يخف على ابن مسعود حتى يروى أنهم فعلوها ويحتج بالاية ، وأيضا لو صح لم يقل عمر انها كانت على عهد رسول اللّه وانما أنهى عنها وأعاقب عليها ، بل كان يقول : انه صلى اللّه عليه وآله حرمها ونهى عنها ، قالوا : ولو صح لم تفعل على عهد الصديق وهو عهد خلافة النبوة حقا. والطائفة الثانية رأيت صحة حديث سبرة ، ولو لم يصح فقد صح حديث على ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حرم متعة النساء ، فوجب حمل حديث جابر على أن الذي أخبر بفعلها لم يبلغه التحريم ولم يكن قد اشتهر حتى كان زمن عمر فلما وقع فيه النزاع ظهر تحريمها واشتهر قال : وبهذا تألف الأحاديث الواردة فيها. انتهى ما في زاد المعاد. قلت : قد عرفت الكلام على حديث على عليه السلام وكان مقصودنا من نقل هذا الكلام بطوله أن ضعف احاديث سبرة مسلم عند أهل السنة أيضا.

ص: 167

ص: 168

ص: 169

ص: 170

اضطراب روايته ثانيا (1) وبمعارضته بأخبار أهل البيت عليهم السلام عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بالإباحة ثالثا ، وبأنّه خبر واحد فيما يعم به البلوى رابعا ، وأمّا قول عمر فلا حجّة فيه

ص: 171


1- فان راويها عنه شخص واحد وهو ابنه الربيع بن سبرة ، وهي متحدة في أكثر الخصوصيات مثل خروجه مع رجل ، وعرضهما أنفسهما على المرأة ، ورفيقه دميم أكبر منه سنة ، وهو جميل شاب ، وتردد المرأة بينهما لذلك. واختيارها الشاب ، وكونها من بنى عامر ، وكونها مثل البركة العنطنطنة أو العيطاء التي هي بمعناها ، فهي حكاية لواقعة واحدة مع شخص واحد. ثم نرى أنها مختلفة في تاريخ الإباحة والنسخ ، ففي بعضها من روايات مسلم وابن حنبل أنهما كانا يوم الفتح ، وفي بعضها من روايات ابن حنبل وابن ماجة أنها كانا في حجة الوداز. وفي بعضها من روايتيهما لم يعين الوقت. ثم نرى ان مفاد بعضها ان سبرة كان جميلا وبرده خلق وصاحبه من قومه كان قريبا من الدمامة وبرده جيد ، وان الذي تمتع بها هو سبرة دون صاحبه وبعضها ان القريب من الدمامة هو سبرة وبرده جديد غض وبرد ابن عمه خلق وان الذي تمتع بها هو ابن عمه لا هو ، ثم في بعضها ان الاذن كان بعد خمسة عشر يوما من دخول مكة ، وفي بعضها أن الترخيص كان حين دخول مكة. ثم في بعضها ان سبرة خرج مع رجل من قومه ابن عم له ، وفي بعضها خرج مع صاحب له من بنى سليم وسبرة من جهينة ولا يتوهم متوهم عالم بالأنساب ان بنى سليم من جهينة ، فإن جميع العرب يرجعون الى عدنان وقحطان وقضاعة وجهينة أبو بطن من قضاعة ، وسليم ان كان سليم بن منصور فهو بطن من مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، وان كان سليم بن فهم فهو أبو بطن من دوس ، ودوس فرقة من غسان بطن من قحطان وان كان سليم بن نمرة فهو أيضا من قحطان انظر ص 261 و 379 و 408 و 444 من جمهرة أنساب العرب لابن حزم وسائر كتب الأنساب يتضح لك ما بيناه. وما ذكرناه من كون قضاعة جذما مستقلا مثل جذم قحطان وعدنان هو قول أكثر النسابين ولو فرض اختيار القولين الآخرين أحدهما أن يكون ابن معد بن عدنان والثاني ان يكون ابن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فمع ضعفهما أيضا لا يمكن كون الجهني سليميا ، ولا يصح تعبير الجهني عن السليمى بابن العم الا بضرب من التأويل البعيد ، من جهة الاتصال بعدنان أو قحطان ، وعليه فيمكن التعبير عن كل احد بابن العم باعتبار اتصال النسب بآدم ، وهو بعيد في استعمال العرف غاية البعد. ثم ان في بعض روايات سبرة انه تمتع بامرأة من بنى عامر ببرد واحد وفي بعضها ببردين أحمرين فكل الروايات يكذب بعضها بعضها بل في بعض الروايات ما يكذب نفسها فان فيها ان النبي صلى اللّه عليه وآله أعلن التحريم خطيبا بين الركن والمقام ، أو بين الباب والمقام ، وكيف يمكن هذا بجمع حاشد من المسلمين لا يسمعه ولا يرويه غير سبرة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا يلتقطون كل شاردة وواردة ، من أقوال النبي صلى اللّه عليه وآله وأفعاله ، ويهتمون بحفظ إشارات يد النبي صلى اللّه عليه وآله وعينه ، ثم يحتاج عمر إلى اسناد التحريم الى نفسه ، ولا يكون معه دليل على كونه من إعلان النبي صلى اللّه عليه وآله.

فإنّه رجوع إلى قول صحابيّ وهو معارض بقول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما.

وعن الثالث بالمنع من تحقّق الإجماع مع مخالفة الشيعة بأجمعها وفيهم فضلاء أهل البيت وساداتهم عليهم السلام.

ص: 172

السادسة ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).

« من » شرطية و « يستطع » مجزوم بلم لفظا وبمن محلّا ، ولم يعكس لقرب « لم » والقريب أولى باللّفظ من البعيد و « من » في « منكم » للتبعيض وتركيب « طولا » كيف استعمل ، للزيادة لكن مع استعماله في المقادير فمصدره الطّول بضمّ الطاء ، والصّفة طويل وفي غير المقادير مصدره الطّول بفتحها والصفة طائل ومراده من لم يكن له زيادة مال لنكاح الحرائر فلينكح الإماء بعقد عليهنّ لأنّهنّ أخف مئونة من الحرائر. والفتيات المملوكات ، لقول العرب للأمة فتاة وللعبد فتى ، والمراد بالمحصنات هنا العفيفات أي أحصنّ أنفسهنّ بعقلهنّ التامّ وكذا المراد بقوله « مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ » والأخدان الأصدقاء أي آخذات أصدقاء تنكحوهنّ سرّا ، والفرق بينهنّ وبين مسافحات فرق ما بين العامّ والخاصّ ، فانّ المسافحات يكنّ جهرا وسرّا ، ومتّخذات الأخدان يكنّ سرّا وقوله « فَإِذا أُحْصِنَّ » أي تزوّجن وصرن محصنات بالأزواج.

وفسّر الزّمخشري « المحصنات » في أوّل الآية بالحرائر لأنّه أثبت عند تعذّر نكاحهنّ نكاح الإماء ، فلا بدّ أن يكون المراد منهن كالضدّ ، وسمين محصنات

ص: 173


1- النساء : 25.

لاحصانهنّ عن أحوال الإماء من الابتذال والامتهان وفيه نظر لأنّه عدول عن ظاهر اللّفظ ، وجعل الموصوف محذوفا أي الحرائر المحصنات أولى.

إذا تقرّر هذا فهنا أحكام :

1 - ظاهر الآية أنّ إباحة نكاح الإماء بالعقد مشروطة بعدم الطّول وخشية العنت واحتجّ به الشافعيّ على تحريم نكاحهنّ بدون الشرطين ، وخالف أبو حنيفة وجعل ذلك على الأفضل لا أنّه يكون محرّما بدونهما وجوّز نكاحهنّ للغنيّ ، وبالأوّل قال بعض أصحابنا محتجّا بالشرطيّة المذكورة ، ويقول الباقر عليه السلام وقد سئل عن الرّجل يتزوّج المملوكة قال : إذا اضطرّ إليها فلا بأس (1) والحقّ الثاني لعموم قوله « وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ » (2) وقوله تعالى ( وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ) (3).

والجواب عن الآية بالمنع من دلالتها على التحريم بل هي دالّة على جواز نكاحهنّ عند عدم الاستطاعة ، وليس لها تعرض لعدم الجواز إلّا بدليل الخطاب ، وليس بحجّة عندنا ، وعلى تقدير حجّيّته ليس دلالتها على التحريم بأولى من دلالتها على الكراهية ، ويؤيّد الكراهية قوله « وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ » وكذا الجواب عن الرواية.

فههنا فروع :

ألف - على القول بالتحريم ، يجوز نكاح الواحدة قطعا ، وتحرم الثانية لانتفاء أحد الشرطين وعلى القول بالكراهية تباح الثانية.

ب - يقبل قول الزّوج في عدم الطّول ، وخوف العنت ، ولو كان في يده مال وادّعى أنّه ليس له أو عليه دين بقدره ولا يملك غيره قبل.

ص: 174


1- الكافي ج 5 ص 359 باب الحر يتزوج الأمة الرقم : 1.
2- النور : 32.
3- البقرة : 221.

ج - لو تجدّد عدم الشرطين بعد النكاح لا ترتفع الإباحة ، ولو كان السابق العقد خاصّة.

د - قال بعض المحرّمين : إنّ التحريم راجع إلى الوطي والعقد يتبعه ، وقال بعضهم بل يرجع إلى العقد أيضا بالذات لكن لا يحرم.

ه- - لو تزوّج أمتين دفعة على القول بالتحريم قيل يتخيّر واحدة والحقّ البطلان لأنّ العقد نسبة إليهما على السواء فلا يصح في إحداهما دون الأخرى وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح.

2 - اختلف في تفسير الطّول فقيل الزيادة في المال ، وقيل ليس له حدّ معيّن بل الإنسان أعرف بنفسه وما يكفيه له ولعياله ، فان عرف العجز عن ذلك ، جاز له نكاح الأمة ، وقال محقّقوا أصحابنا هو مهر الحرّة ونفقتها ووجودها ، وإمكان وطيها قبلا ، فعلى هذه الأقوال يكون قوله « أن ينكح » إما مفعول فعل محذوف وهو صفة طولا أي يبلغ به أن ينكح أو يكون مجرورا بلام جرّ مقدّرة ، قبل « أن » لأنّها تحذف كثيرا قبلها تقديره ومن لم يستطع منكم طولا لأن ينكح.

وقال أبو حنيفة : الطول القوّة والفضل ، وجعل قوله « أن ينكح » « أن يطأ » وجعله بدلا عن « طولا » بدل الكلّ لأنّ النكاح قوّة وفضل ، فيكون معنى الآية على قوله من لا يملك وطي الحرّة وفراشها ، فلينكح أمة ، فإذا كان الشخص غنيّا ولا يكون في فراشه حرّة جاز له أن ينكح أمة.

3 - قيل : الآية ظاهرة في تحريم نكاح غير المؤمنات من الكتابيات وغيرهنّ من الحرائر والإماء لتكرار الوصف فيهما وبه قال أهل الحجاز وقال أهل العراق الأفضل نكاح المؤمنات وترك نكاح الكتابيّات ، والحقّ عندنا الأوّل وسيأتي تحقيقه.

4 - قوله « وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ » فيه إشارة إلى الاكتفاء بظاهر الايمان وأنه لا يجب أن يكون على التحقيق فيجوز نكاح المنافق حينئذ وفيه دلالة على أنّ

ص: 175

الكفاءة يكفي فيه التساوي في الايمان بين الغنيّ والفقير والحرّ والرقّ ، ولذلك عقّبه بقوله « بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ » أي الجميع منكم ومن أقاربكم ، من نسل آدم عليه السلام لا مزيّة لأحدكم على رقيقه.

5 - قوله « فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ » فيه دلالة على عدم استقلال الأمة بالعقد على نفسها بل لا بدّ من إذن السيّد ، لأنّها مملوكة عينها ومنافعها للسيّد ، ومن جملتها منفعة البضع ، فلا يصحّ التصرّف فيها إلّا بإذنه أو برضاه بعده العقد على خلاف في صحّة عقد الفضوليّ ، وليس فيه دلالة على قول أبي حنيفة بجواز مباشرتهنّ العقد حتّى يحتجّ له به.

واعلم أنّه لا فرق بين العبد والأمة في ذلك ، وكذا لا فرق بين كون السيّد رجلا أو امرأة ، ولا بين كون النكاح دائما أو منقطعا.

6 - قوله ( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) أي مهورهنّ ، وسمّى المهر أجرا ، لأنّ الأجر يقال في عوض والبضع منفعة قوله « بِالْمَعْرُوفِ » أي بسهولة وطيب نفس من غير مطل ولا سوء خلق.

وهنا سؤال وهو أنّ المهر ملك السيّد ، فهلّا قال : فآتوا مواليهنّ أجورهنّ.

جواب قيل الأداء إليهنّ أداء إلى السادات لأنّهن وما في أيديهنّ ملك السادات أو أنّ المضاف محذوف ، أي فآتوا مواليهنّ وفيهما نظر ، أمّا الأوّل فلأنّ كونهنّ ملكا لهم مسلّم لكن كون التسليم إليهنّ تسليما إلى الموالي ممنوع ، وأمّا الثاني فلأنّ المضاف لا يحذف مع الاشتباه والاشتباه موجود هنا.

والأولى في الجواب أنّه كان من عوائدهم مهور الأزواج ، فيكون الاذن في النكاح مستلزما للإذن في قبض المهر.

7 - في ذكر الإحصان بمعنى العفّة ونفي السّفاح ، دلالة على المنع من نكاح الزانية إمّا تحريمها على قول من يحرّمه أو كراهة على الأقوى ، وسيأتي تحقيقه ، وقوله « مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ » محال منهنّ أي فانكحوهنّ حال إحصانهنّ وعدم سفاحهنّ.

8 - « فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ » أي فإذا تزوّجن ثمّ أتين بالزنا فعليهنّ

ص: 176

نصف حدّ الحرائر « والعذاب » هو الحد بدليل قوله « وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » وغير ذلك ، والمراد به الجلد خاصّة لا الرّجم للإجماع ولأنّه إهلاك أموال وهنّ أموال لمواليهنّ فلا يجوز إضرارهم بذنب غيره ولأنّ الرجم لا ينتصف كما ينتصف الجلد.

إن قيل فما الفائدة في قوله « فَإِذا أُحْصِنَّ » لأنّ الجلد واجب عليهنّ مطلقا إذا زنين وإن لم يحصن قلت : ذهب قوم إلى عدم وجوب الجلد عليهنّ إلّا مع الإحصان لهذه الشبهة ، والأكثر على خلافه لأنّه لا دلالة له على عدم الحدّ إلّا بدليل الخطاب وليس بحجّة على أنّه لا يلزم من عدم دلالة الآية على وجوب الحدّ عليهنّ عدم الوجوب لأنهنّ يدخلن في آية « الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » (1) فتكون هذه الآية مخصّصة لتلك بالأحرار والحرائر واعلم أنّ الإجماع انعقد على أنّه لا فرق بين العبد والأمة في تنصيف الحدّ.

9 - قوله « ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ » ذلك إشارة إلى نكاح الإماء ، فظهر به أنّه مشروط بشرطين واختلف في تفسير « العنت » قيل الوقوع في الزنا لأنّه في الأصل انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكلّ مشقّة وضرر ولا ضرر أعظم من الوقوع في الإثم بأفحش القبائح وقيل الحد.

10 - قوله « وَأَنْ تَصْبِرُوا » أي عن نكاح الإماء « خَيْرٌ لَكُمْ » وإنّما كان خيرا قيل لئلّا يجي ء الولد رقا كما هو مذهب الشافعيّ وليس بشي ء لأنّ الولد يتبع أشرف الطرفين. والحريّة أشرف ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « لا يرقّ ولد حرّ » (2) وقيل لئلّا يتبع سادتها وأهلها ولئلّا يفرق السيّد بينهما بوجه ، والأولى أنّه خير لئلّا يعيّر الولد بأنّه ولد أمة الغير ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « الحرائر صلاح البيت والإماء

ص: 177


1- النور : 2.
2- لم نظفر بلفظ الحديث ، نعم في الكافي ج 5 ص 492 ، أحاديث متعددة عن أهل البيت عليهم السلام في ذلك فراجع.

هلاكه » قوله « وَاللّهُ غَفُورٌ » عمّا سلف من خلاف هذه الأحكام « رَحِيمٌ » بالرّخصة في نكاح الإماء.

النوع الثاني : في أسباب التحريم

اشارة

في أسباب التحريم(1)

وفيه آيات :

الاولى ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً ) (2).

قال الطبري : مراده ولا تنكحوا نكاح آبائكم أي مثله من الأنكحة الفاسدة ويكون « ما » مصدريّة والأولى خلاف ذلك ، بل مراده ولا تنكحوا منكوحات آبائكم ويكون « ما » موصولة وضمير المفعول محذوف تخفيفا لأنّه هو المتبادر إلى الفهم والاستثناء هنا قيل منقطع تقديره لكن ما قد سلف ، فإنّه لا مؤاخذة فيه وليس ببعيد وقيل متّصل والاستثناء من اللفظ تقديره إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يحلّ لكم غيره ، وذلك غير ممكن والغرض المبالغة في التحريم وسدّ الطريق إلى إباحته كما تعلّق بالمحال للتأبيد في قولهم حتّى يبيضّ القادر.

والأجود : أنه استثناء من محذوف أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم ، فإنّه قبيح حرام معاقب عليه ، إلّا ما قد سلف في الجاهليّة ، فإنّكم معذورون فيه ، ونفّر عن فعله زيادة على النهي بتوصيفه بثلاثة أوصاف :

الأوّل كونه « فاحِشَةً » مبالغة في قبحه فإنّه مناف لما يجب من تعظيم الآباء بالتهجّم على فراشهم ، وأتى بكان إيذانا بأنّه لم يكن حلال في ملّة سالفة.

الثاني كونه « مَقْتاً » أي موجبا لمقت اللّه أو ممقوتا فانّ ذوي المروءات منهم

ص: 178


1- في المحرمات. خ ل.
2- النساء : 22.

كانوا يمقتون فاعل ذلك أي يبغضونه ، ويسمّون الولد الحاصل منه بالمقتيّ.

الثالث كونه « ساءَ سَبِيلاً » أي بئس طريقا فعلى هذا ، الضمير راجع إلى نكاح منكوحات الآباء ، وإن لم يجر له ذكر ، لكون الكلام دالا عليه ، وعلى قول الطبريّ : الضمير راجع إلى نكاح الجاهليّة المشبّه به ، والأجود ما قلناه فهنا أحكام :

1 - إن جعلنا النكاح حقيقة في العقد كما هو المشهور ، فيكون النهي صريحا في المعقود عليها سواء دخل بها أو لا ، ولا تدخل من وطئت لا بعقد إلّا بدليل خارجيّ وإن جعلناه حقيقة في الوطي دخل كل موطوءة بعقد وغيره ، وكذا إن قلنا أنّه مشترك ، والعمل بهذا أحوط ، وإن كان الأوّل أقوى ، لما تقرّر في الأصول من وجوب حمل اللّفظ على الحقيقة الشرعيّة.

2 - الأجود دخول الموطوءة بالشبهة لما تقرّر عند الأكثر أنّ حكم الشبهة كالصحيح في أغلب الأحكام فهنا كذلك.

3 - قيل لا تدخل المزنيّ بها في الآية إمّا لأنّ النكاح حقيقة في العقد ، وهذه ليست معقودا عليها ، أو لأنّ الزنا لا حرمة له ، ولهذا تنكح وهي حامل بعد مضيّ أربعة أشهر وعشر ، وتنقضي عدّتها بالأشهر أو الإظهار من غير اعتبار بوضع حملها ، فلا تكون محرّمة بالنّسبة إلى ولد الزاني ، والحقّ التحريم إلّا مع سبق عقد الابن فإنّه لا يحرم.

4 - تحرم منكوحة الجدّ ، وإن علا لقوله « آباؤُكُمْ » والجد أب هنا ، وكذا تحرم موطوءة الجدّ للامّ ومن عقد عليها.

5 - كل من قال بتحريم المعقود عليها على ابن العاقد ، قال بتحريم الموطوءة بالملك ، فهي إجماعيّة من سائر الفقهاء ، وكذا عندنا من عقد عليها متعة أو وطئها بالتحليل.

ص: 179

الثانية ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (1).

المضاف هنا مقدّر أي نكاح أمّهاتكم ، فحذف لقرينة استحالة تحريم الذّوات لكونها غير مقدورة فلا بدّ من تقدير فقدّر ما يراد منهنّ وهو النكاح كما قدّر في « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ » أي أكله لأنّ المراد من اللّحم الأكل وكذا نظائره ، وذهب قوم وهم بعض الأصوليين إلى أنّ الآية مجملة وليس بشي ء لسبق المراد إلى الفهم كما قلناه والمجمل لا يسبق إلى فهم الإنسان شي ء من معانيه.

وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية محرّمات تنقسم أقساما ثلاثة :

القسم الأول : ما يحرم بالنسب

وهو سبعة :

1 - الأم وإن علت ، أي امّه وأم أبيه وأم جدّه وأمّ امّه وأم أبيها سواء كان النسب صحيحا أو فاسدا.

2 - البنت وإن نزلت أي بنته ، وبنت بنته ، وبنت ابنه ، سواء كان الولادة

ص: 180


1- النساء : 23.

عن نكاح صحيح أو شبهة أو زنا ، ولا خلاف في الأوّلين ووافق أبو حنيفة أصحابنا في تحريم بنت الزنا لصدق البنت لغة فيتبعه التحريم ، وقال الشافعيّ لا تحرم البنت المخلوقة من الزنا لعدم لحوق نسبها شرعا.

3 - الأخت لأب كانت أو لامّ أولهما.

4 - العمّة وهي أخت الأب ، وكذا إذا علت أي أخت الجدّ لأب كان أو لامّ وليس المراد بعلوّها كونها عمّة العمّة لأنّ عمة العمّة قد لا تحرم فانّ أخت زيد لامّه عمّة لابنه وعمّتها لا تحرم على ابن زيد.

5 - الخالة وهي أخت الأمّ ، وكذا إذا علت أي أخت الجدّة لأب كانت أو لام ، وكذا ليس المراد بعلوّها كونها خالة الخالة لأنّها قد لا تحرم.

6 - بنت الأخ وإن نزلت أي بنت ابنه وبنت بنته وهكذا.

7 - بنت الأخت وإن نزلت أي بنت بنتها وبنت ابنها.

إن قلت : ولد الولد غير ولد حقيقة لصدق النفي إذ يقال ليس ولدي لكنّه ولد ولدي ، وإذا كان كذلك لا يتناوله النص إذ اللّفظ يحمل على حقيقته دون مجازه.

قلت : الإجماع دلّ على اعتبار المجاز هنا ، على أنّا نقول المراد مطلق التولّد أعم من أن يكون بالذات أو بالواسطة وكذا البحث في جانب العلو على أنّ إيراد ذلك بصيغة الجمع يشعر باعتبار المرتبتين.

ص: 181

القسم الثاني : ما يحرم بالرضاع

وهو اثنان :

1 - الامّ.

2 - الأخت. للنصّ عليهما ، وأمّا تحريم البنت فبالتنبيه بالأدنى على الأعلى لأنّ الأخت إذا حرمت فالبنت أولى وأما العمّة والخالة فبالسنّة كما يجي ء وأمّا الجدّة فأمّ تدخل في إطلاق النصّ فهنا فوائد :

1 - قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب (1) » فعلى هذا كل ما تقدّم ذكره من المحرّمات نسبا يحرم مثله من الرّضاع ، فهو نسب ثان.

2 - الرضاع كما يحرّم سابقا كذا يحرم لاحقا ، فلو زوّج رضيعا بامرأة ثمّ ارتضع من أمّها حرمت عليه زوجته ، وانفسخ النكاح وكذا في سائر الفروض.

3 - قال الزمخشريّ : قالوا تحريم الرّضاع كتحريم النسب إلّا في مسئلتين إحداهما أنّه لا يجوز للرّجل أن يتزوّج أخت ابنه من النسب ، والعلّة وطي أمّها (2) وهذا المعنى غير موجود في الرّضاع ، وثانيتهما لا يجوز للرجل أن يتزوّج أمّ أخته من النسب ويجوز من الرّضاع لأنّ المانع في النسب وطي الأب إيّاها وهذا المعنى غير موجود في الرضاع.

وكذا استثني مسئلتان أخريان إحداهما أمّ الحفدة ، وثانيتهما جدّة الولد فإنّهما محرّمتان من النسب دون الرضاع ، أمّا أم الحفدة ، فلأنّها بنتك أو زوجة

ص: 182


1- أخرجه في المستدرك ج 2 ص 572 عن غوالي اللئالي بعين لفظه ولفظ أبى داود : يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ، راجع سننه ج 1 ص 474.
2- في بعض النسخ : إحداهما : أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز في الرضاع لان المانع في النسب وطى الأب لامها إلخ.

ابنك ، ولو أرضعت أجنبيّة ولد ولدك لم تحرم ، وأمّا جدّه الولد فإنّها أمّك أو أم زوجتك ولو أرضعت أجنبيّة ولدك كانت أمّها جدّة ولدك ، ولم تحرم عليك.

وفي استثناء هذه الصور نظر ، لأنّ النصّ إنّما دلّ على أنّ جهة الحرمة في النسب جهة الحرمة في الرّضاع ، والجهات الّتي في هذه الصور ليست جهات الحرمة في النسب فإنّ جهة أختيّة الابن مثلا لم تعتبر من جهات الحرمة بل المعتبر فيها إمّا كونها ربيبة ، وإمّا كونها بنتا ، وأيّة جهة من هاتين الجهتين لو وجدت في الرّضاع كانت محرّمة.

وتوضيحه أنّ أخت الابن إذا كانت بنتا تكون لها جهتان جهة الأختيّة للابن وجهة البنتيّة لك ، ولا شكّ في تغايرهما والنصّ دلّ على الحرمة من جهة البنتيّة لا من جهة الأختيّة للابن ، وكذا إذا كانت ربيبة كان لها جهتان : جهة الأختيّة للابن ، وكونها ربيبة ، وجهة الحرمة منهما ليست إلّا كونها ربيبة.

على أنّ جهة الحرمة بحسب المصاهرة لا بحسب النسب فلا يصحّ الاستثناء من جهة حرمة النسب.

4 - الرّضاع له شرائط بمعرفتها يتقيّد إطلاق الآية ، وهي إمّا بحسب المقدار فعند الأكثر منّا خمسة عشر رضعة ، أو ما أنبت اللّحم وشدّ العظم أو رضاع يوم وليلة ، لأصالة الحلّ ، وما ذكرناه مجمع على تحريمه النكاح ولتضافر روايات أهل البيت عليهم السلام.

واكتفى الشافعيّ وأحمد بخمس لا أقلّ ومن الصحابة من قال بثلاث ، واكتفى مالك وأبو حنيفة بالرّضعة الواحدة.

وأمّا بحسب الزمان فهو أن يكون في الحولين لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا رضاع بعد فصال (1) » فلو وقع بعضه في الحولين وبعضه خارجا عنهما لم ينشر حرمة ، وبه قال الشافعي وهو أحد قولي مالك ، والآخر خمسة وعشرون شهرا وقال أبو حنيفة

ص: 183


1- الكافي ج 5 ص 443 ولفظه : لا رضاع بعد فطام.

ثلاثون شهرا ، وقال زفر ثلاث سنين.

وأمّا بحسب كيفيّة الرّضعة فهو أن يلتقم [ من ] ثدي المرأة الحيّة المنكوحة ويشرب منه لبنا خالصا حتى يروّي ويتركه باختياره ، فلو وجر أو سعط به أو حقن لم ينشر ، وقال الفقهاء ينشر ، وفي الرّضاع مسائل كثيرة تذكر في كتب الفقه.

القسم الثالث : ما يحرم بالمصاهرة

وقد ذكر أربعا والمصاهرة أن يطأ الرّجل امرأة أو يعقد عليها فيحرم عليه نكاح امرءة أخرى أو يحرم نكاحها على غيره فهنا مسائل :

1 - أمّ الزّوجة وإن علت تحرم على الزّوج تحريما مؤبدا ويدلّ على تحريم الأمّ العالية صيغة الجمع في الأمّهات وهذه تحرم بمجرّد العقد على بنتها لما يجي ء.

2 - بنت الزوجة وإن نزلت أي بنتها ، وبنت بنتها ، وبنت ابنها ، وهكذا وإليهنّ أشار بالرّبائب جمع ربيبة لأنّ الرجل في الأغلب يكون يربّي ابنة زوجته في حجره.

3 - حلائل الأبناء جمع حليلة إمّا من الحلّ ضدّ الحرمة ، لأنّه يحل له وطيها. أو من الحلول ، لأنّها تحل معه في فراشه. أو من الحلّ ضدّ العقد ، لأنّه يحلّ إزارها عند الجماع ، ففعيل ، على الثاني فاعل ، وعلى الثالث مفعول ، وقيّد بكون الابن للصّلب احترازا من الولد المتبنّى ولذلك قيل نزلت ردّا على المنافقين لمّا تزوّج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بزينب بنت جحش زوجة زيد ، والأبناء هنا أيضا شامل لولد الولد ، لأنه ولد [ ك ] لكن بواسطة.

4 - الجمع بين الأختين في النكاح والتحريم هنا ليس تحريم عين ، فلو فارق

ص: 184

إحداهما بفسخ أو طلاق أو موت حلّت الأخرى ، ولذلك قيّد التحريم بالجمع وهنا فوائد :

1 - المملوكة الموطوءة تحرم أمّها وإن علت لأنّها أيضا من نسائه فتحرم أمّها وكذا بنتها وإن سفلت.

2 - الدخول المشار إليه كناية عن الجماع لا أنه يدخل معها الستر أو الحجلة وعند أبي حنيفة أنّ اللّمس ونحوه ملحق بالجماع ونقل عن عمر أنه خلا بجاريته فجردها فاستوهبها ابنه فقال لا يحل لك وطيها.

وعن عطا : إذا نظر الرجل إلى فرج امرأة فلا ينكح أمّها ولا بنتها والحق ما ذكرناه أوّلا وبه قال ابن عباس وعلماء أهل البيت عليهم السلام إلّا من شد كابن الجنيد ومن تابعه لأصالة الحلّ الخالي عن موجب التحريم بغير الجماع ولقوله « فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ » واللّامس والناظر غير داخلين.

3 - بنت الزّوجة تحرم سواء كانت في حجره أو لا ، وسواء ولدتها بعد مفارقته أو قبل نكاحه ، والتقييد للأغلبية كما قلنا. وقال داود الظاهريّ : إنّ التحريم يختص بمن ولدتها بعد مفارقته والإجماع على خلافه.

4 - قوله « اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ » يحتمل أن يكون بيانا « لأمّهات نسائكم » في الجملة الاولى ، وأن يكون بيانا ل « نسائكم » في الثانية وأن يكون بيانا لهما معا ، ولذلك اختلف الصّحابة فيه :

فقال ابن عبّاس وزيد وابن عمر وابن الزبير بالأوّل حتّى أنهم قرأوا « أمّهات نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ » وهي قراءة شاذة وقال عمر وعمران بن حصين بالثاني ، وهو قول أكثر علماء أهل البيت عليهم السلام ولذلك حرم عندهم الام بمجرّد العقد على بنتها ، وهو الحقّ وروايات أهل البيت عليهم السلام متضافرة به

وروى الجمهور عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله في رجل تزوّج امرأة ثمّ طلقها قبل أن يدخل بها أنّه قال « لا بأس أن يتزوّج بنتها ولا يحل له أن يتزوّج أمّها (1) » ويؤيّده اعتبار

ص: 185


1- أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وآله كما في الدر المنثور ج 2 ص 135

القرب في الصّفة الّتي يأتي بعد الجمل المتعدّدة.

لا يقال الربائب غنية عن البيان لأنهنّ لا يكنّ في حجره إلّا بعد الدخول بالأمّ فيكون قوله « مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ » تأكيدا والتأكيد مرجوح بالنسبة إلى التأسيس لأنّا نقول نمنع الأوّل فإنّ التقييد خرج مخرج الأغلبيّة.

وأمّا الثّالث وهو كونه بيانا لهما فضعيف لأنّ « من » إذا تعلّقت بالربائب كانت ابتدائيّة ، وإذا تعلّقت بالأمّهات كانت بيانيّة ، والكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء مع أنّ هذا قال به بعض علمائنا.

واستدلّ بحديثين عن الصادق عليه السلام قال الشيخ إنهما محمولان على التقيّة لأنّهما مخالفان للكتاب [ والسنّة ] لأنه تعالى عمّم تحريم « أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ » وقيّد تحريم الربائب بالدخول بامّهاتهنّ ، فيكون الأوّل على عمومه ، ويؤيّده ما رواه إسحاق بن عمّار عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّ عليّا عليه السلام كان يقول في الآية : أبهموا ما أبهم اللّه (1) وتردّد العلّامة في مختلفة في الاحتمالين ، وبعض المتأخّرين حكم بكراهة أمّ غير المدخول بها والأجود التحريم للاحتياط إذ الفروج مبنيّة على الاحتياط التامّ.

5 - حليلة الابن من الرضاع محرّمة إجماعا ولا دلالة في الآية على المنع بقوله « مِنْ أَصْلابِكُمْ » لما قلنا أنّه لإخراج ولد التبني ، وهل حكم الملموسة والمنظورة بالشهوة حكم الجماع في التحريم؟ قال أبو حنيفة : نعم ، وهو قول أكثر أصحابه كما حكيناه ، وبه قال بعض أصحابنا أيضا لما رواه محمّد بن إسماعيل عن أبي الحسن عليه السلام وقد سأله عن الرّجل يكون له الجارية فيقبّلها هل تحلّ لولده فقال بشهوة؟ قلت : نعم ، قال ما ترك شيئا إذا قبّلها بشهوة ، ثمّ قال ابتدءا منه : إذا نظر إلى فرجها وجسدها بشهوة حرمت على أبيه وابنه قلت إذا نظر إلى جسدها؟ قال

ص: 186


1- الوسائل ب 20 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح 2.

إذا نظر إلى فرجها وجسدها حرمت عليه (1) وبه قال العلّامة في مختلفة.

6 - الجمع بين الأختين المعقود عليهما حرام إجماعا وهل يحرم الجمع بين الموطوءتين بالملك؟ الحقّ ذلك لظاهر الآية ، وعن عليّ عليه السلام وعثمان أحلّتهما آية وهي قوله « أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » وحرّمتهما آية وهي هذه ، ورجّح عليّ عليه السلام التحريم وعثمان التحليل ، وقول عليّ عليه السلام أحقّ أن يتّبع لأنّ الحقّ يدور معه كيف ما دار ، ويؤيّده أيضا أنّ آية التحليل مخصوصة بلا خلاف فلا يكون قاطعة في الاستدلال ، هذا وقد قال صلى اللّه عليه وآله « ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال (2) ».

7 - لا خلاف في أنّ النسب الحاصل من وطي الشبهة صحيح موجب لحرمة النكاح ، وكذا لا خلاف في أنّ الزنا لا يحصل به التحاق النسب ، ولقوله صلى اللّه عليه وآله « الولد للفراش وللعاهر الحجر (3) » وهل يحرم النكاح فلا يجوز نكاح بنته ولا أخته من الزنا أم لا؟ تقدّم الخلاف فيه.

8 - أكثر أصحابنا والشافعيّة على أن الوطي بالشبهة ينشر حرمة المصاهرة لحصول النسب به ، ولأنّه أحوط وأمّا الزنا فهل ينشر حرمة المصاهرة فلا يجوز نكاح بنت المزنيّ بها ولا أمّها وتحرم على ابنه وأبيه أم لا؟ فيه خلاف.

قال بعض أصحابنا لا ينشر لعموم قوله تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) وقوله ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ولرواية هشام بن المثنّى عن الصّادق عليه السلام قال كنت عنده فقال له رجل : رجل فجر بامرأة أتحل له بنتها أم لا؟ قال نعم إنّ

ص: 187


1- المصدر ب 3 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح 1 وفيه : ثم قال ابتداء منه : ان جردها ونظر إليها بشهوة حرمت على أبيه وابنه قلت : إذا نظر الى جسدها ، فقال : إذا نظر الى فرجها وجسدها حرمت عليه.
2- أخرجه العلامة المجلسي في البحار ( الطبعة الحديثة ج 2 ص 172 ) عن غوالي اللئالي.
3- صحيح البخاري ج 4 ص 177.

الحرام لا يفسد الحلال (1) وقال الأكثر بالتحريم إن كان سابقا لروايات كثيرة عن العيص بن القاسم عن الصادق عليه السلام وكذا عن منصور بن حازم عنه عليه السلام ومحمّد ابن مسلم عن أحدهما عليهما السلام (2) ولأنّه أحوط ولأنّه تصدق على المزنيّ بها اسم نسائه إذ الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ككوكب الخرقاء وهذا أجود للاحتياط في الفروج.

والجواب عن الآيتين أمّا الأولى فلأنّها مخصوصة فلا يكون حجّة قاطعة وأمّا الثانية فلأنّ المراد بما طاب ما حلّ ، وعن الرواية أنّ الفجور أعمّ من الزنا واللّمس وغيره ، مع أنّ في قوله « إنّ الحرام لا يفسد الحلال » إشارة إلى ما قلناه.

9 - الوطي بالملك حكمه حكم العقد سواء ، في نشر الحرمة بالمصاهرة ، وكذا الوطي بالعقد المنقطع عندنا.

10 - لو زنا بعمّته أو بخالته حرمت عليه بناتهما عندنا تحريما مؤبدا ، ولو تزوّج امرأة حرمت عليه بنت أختها وبنت أخيها مع عدم رضاها إجماعا ومع إذنها قال أصحابنا يحلّ عليه إحداهما خلافا لباقي الفقهاء ولو جمع بين الامّ وبنتها في عقد فسد العقد ، وجاز نكاح البنت خاصّة فيما بعد ، ولو جمع بين الأختين في العقد فسد وجاز له استينافه على إحداهما.

وههنا فائدة حسنة جليلة غفل عن التنبيه عليها كثير وهي أنّ الاجتماع مطلوب لله سبحانه وتعالى ، ولذلك ندب الناس إلى الاجتماع في العبادات ليحصل لهم مع عبادة اللّه الكمال الممكن لهم ، وهو خروج ما بالقوّة إلى الفعل ، فكان بقاء الأشخاص ملزوما لذلك الاجتماع ، وحيث كان بقاء النوع ببقاء أشخاصه كان نوع الإنسان لا يحصل بقاؤه إلّا ببقاء أشخاصه وذلك لا يحصل إلّا بالتناكح ، و

ص: 188


1- رواه في التهذيب ج 2 ص 207. الاستبصار ج 3 ص 165.
2- راجع الكافي ج 5 ص 415 باب الرجل يفجر بالمرءة الرقم 1 و 2 و 5.

التناكح لا يحصل إلّا بالمحبّة بين الزوجين ، ولذلك جعل سبحانه وتعالى المودّة بينهما من الآيات حيث قال ( وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) (1) والمحبّة لا تحصل إلّا بالإنس والاجتماع ، فكان الانس والاجتماع مطلوبين له.

ولمّا كان النسب موجبا للمودّة والمحبّة ، لم يكن الاجتماع فيه مطلوبا لحصوله ، فلذلك لم يشرع نكاح الأقارب لحصول المودّة والاجتماع بينهم بدون النكاح ، وأمّا الأجانب فحيث فاتهم اجتماع النسب ندب إلى اجتماع السبب النكاحيّ لهم ، ولو ندب الأنساب إلى ذلك لكان ضائعا لا فائدة فيه لحصوله مع حرمان الأجانب [ عن ] ذلك ، فيفوت الاجتماع المطلوب لله من الناس.

ولذلك إذا ضعف الاجتماع النسبي كبنات العمّ والخال ، وبنات العمّة والخالة ، جبر الضعف بالإذن في نكاحهنّ ، ولمّا كان الرضاع موجبا لانفعال المزاج عن لبن المرضعة ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « الرضاع يغيّر الطباع » (2) كان فيه اجتماع أيضا مشابه لاجتماع النسب فكان حكمه حكمه في تحريم النكاح.

ولمّا كانت الطباع تنفر عن المشاركة في الخيرات وتحبّ الاختصاص بها كانت المشاركة ملزومة للتباغض المنافي للمحبّة ، ولذلك حرّم الجمع بين الأختين

ص: 189


1- الروم : 21.
2- أخرجه الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2 ص 296 - الرقم 3809 في ترجمة صالح بن عبد الجبار ، وقال أتى بخبر منكر جدا - ثم ساق الحديث وهكذا أخرجه في لسان الميزان ج 3 ص 172 - الرقم 698 ، وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير كما في فيض القدير ج 4 ص 55 - الرقم 4525 ، والسراج المنير ج 2 ص 296 ، نقله عن القضاعي عن ابن عباس وجعل عليه رمز الضعف ، وقال المناوى في شرحه قال شارح الشهاب حديث حسن ، وقال العزيزي في شرح الحديث يعنى أن الرضاع بغير الصبي عن لحوقه بطبع والدية للطف مزاجه ، فينبغي للوالدين طلب مرضعة طيبة الأصل حسنة الأخلاق. وأخرجه في الوسائل ب 87 من أبواب أحكام الأولاد ح 5 عن على عليه السلام : انه كان يقول : تخيروا للرضاع كما تخيرون للنكاح فان الرضاع بغير الطباع.

لئلّا يقع التباغض بينهما ، وتنغص العيش على الرجل.

الثالثة ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ) (1).

« الْمُحْصَناتُ » مرفوع عطفا على قوله « أُمَّهاتُكُمْ » أي وحرّمت المحصنات أى المزوّجات ما دمن في نكاح أزواجهنّ فهنّ على غيره حرام وكذلك ما حكمه حكم النكاح كالمعتدّات وقرئ بفتح الصّاد كما قلناه ، وبكسرها على أنّه اسم الفاعل لأنهنّ أحصنّ فروجهنّ بالتزوج ، قوله « إِلّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » استثناء من الإماء المزوّجات ، ثمّ يحدث لهنّ استرقاق إمّا باشتراء أو اتّهاب أو ميراث أو سبي أو غير ذلك ، فانّ المالك الجديد له فسخ النكاح والوطي بعد العدّة ، ويدخل فيه أيضا الأمة المزوّجة بمملوك السيّد ، فانّ له فسخ نكاحها ، فيجوز له وطيها بعد العدّة.

وقال أبو حنيفة : إنّ السبي لا يرفع النكاح ، ولا يحلّ بذلك للسابي ، وإطلاق الآية حجّة عليه ، وكذا خبر أبي سعيد الخدري يدل على ذلك ، وهو أنّ المسلمين أصابوا في غزاة أوطاس سبايا ، ولهنّ أزواج في دار الحرب ، فنادى منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن ، ولا غير الحبالى حتّى يستبرئن بحيضة (2) وقد أشار الفرزدق (3) في شعره إلى ذلك بقوله :

ص: 190


1- النساء : 24.
2- مجمع البيان ج 3 ص 30 سنن أبى داود ج 1 ص 497.
3- هو همام بن غالب بن صعصعة ، ينتهي نسبه الى تميم باثنتي عشرة واسطة ، وتميم أبو قبيلة معروفة ينتهى نسبه الى الياس بن مضر. وكنيته أبو فراس شهير بالفرزدق شاعر من النبلاء من أهل البصرة عظيم الأثر في اللغة ، وكان يقال : لو لا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب ، وترى ترجمته من ص 497 - الى 500 باب الفاء روضات الجنات ، وص 68 ج 9 من كتاب الاعلام ، ومن ص 169 204 ج 2 من كتاب الهجاء والهجاؤن ، والخزانة للبغدادى من ص 150 - 154 في شرح الشاهد الثلاثين والدرجات الرفيعة ص 541 - 556. ولقد اثنى عليه السيد المرتضى في المجلس الخامس من الأمالي من ص 43 - 49 وقال والفرزدق مع تقدمه في الشعر وبلاغته في الذروة العليا والغاية القصوى ، شريف الإباء ، كريم البيت ، له ولابائه مآثر لا تدفع ولا تجحد. والفرزدق هو الذي قال القصيدة الغراء المعروفة بين الفريقين في مدح سيدنا المظلوم الامام زين العابدين عليه وعلى آبائه آلاف التحية والسلام ، أنشدها الكشي أيضا في رجاله انظر ص 118 - 121 ( طبع النجف ) ومطلعها : هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحل والحرم وفيه : فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق ، فحبس بعسفان بين مكة والمدينة : فبلغ ذلك على بن الحسين عليه السلام فبعث إليه باثني عشر ألف درهم ، وقال : أعذرنا يا أبا فراس فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك ، فردها وقال : يا ابن رسول اللّه ما قلت الذي قلت إلا غضبا لله ورسوله ، وما كنت لازرء عليه شيئا ، فردها عليه وقال : بحقي عليك لما قبلتها فقد رأى اللّه مكانك وعلم نيتك فقبلها. - وفي رواية ابن خلكان قال. مدحته لله لا للعطاء ، فقال : انا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيد ، فقبلها. فجعل الفرزدق يهجو هشاما وهو في الحبس فبعث إليه فأخرجه. قال العلامة البهبهاني في حواشيه الرجالية على منهج المقال ص 259 قال جدي رحمه اللّه تعالى : وذكر عبد الرحمن الجامى في سلسلة الذهب هذه القصيدة منظومة بالفارسية وذكر أن كوفية رأت في النوم الفرزدق وقالت له : ما فعل اللّه بك. قال : غفر اللّه لي بقصيدة على بن الحسين ، قال الجامى وبالحرى ان يغفر اللّه للعالمين بهذه القصيدة. مع اشتهاره بالنصب والعداوة. وقد صدع العلامة السيد عليخان المدني الشيرازي في الدرجات الرفيعة بالرد على من زعم أن القصيدة للحزين الليثي قالها في قثم بن العباس ، وان الفرزدق أنشدها في على بن الحسين عليه السلام قال قدس سره : اما كون القصيدة بتمامها في قثم بن العباس فأمر يشهد بعض أبيات القصيدة باستحالته ، كما تراه وأما انشاد الغرزدق لها في علي بن الحسين عليه السلام فقد ذكره كثير من الرواة من الرواة والمؤرخين. وفي الخزانه قال صاحب العباب قال الليث الفرزدق الرغيف الذي يسقط في التنور ويقال أيضا الفرزدقة قال وقال بعضهم هوفتات الخبز وقال غيره الفرزدق القطعة من العجين واصلها بالفارسية برازده وقال ابن فارس هذه كلمة منحونة من كلمتين من فرز ومن دق لانه دقيق يعجن ثم افرزت منه قطعة فهي من الافراز والدقيق انتهي ثم قال البغدادي فلقب لاحد هذه المعاني وشرح شواهدها كلها فراجع.

ص: 191

وذات حليل أنكحتها رماحنا *** حلال لمن يبني بها لم تطلّق (1)

ص: 192


1- أنشده البيضاوي عند تفسير الآية ، وقال الشهاب في شرحه ج 3 ص 123 : الحليل : الزوج ، وإسناد الإنكاح الى الرماح مجاز ، وحلال صفة ذات تجرى على إعرابه ، وذكر لانه مصدر أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هي حلال ولمن يبنى بها اى يدخل عليها ، متعلق بحلال ، وهو من شواهد الكشاف أيضا عند تفسير الآية ج 1 ص 391. وقال الأفندي في شرحه على شواهد الكشاف ص 132 : روى انه قيل للحسن وعنده الفرزدق : ما تقول فيمن يقول : لا واللّه وبلى واللّه؟ فقال : أما سمعت قولي ذلك ، قال الحسن : ما قلت؟ قال : قلت : فلست بمأخوذ بلغو تقوله *** إذا لم تعمد عاقدات العزائم فقال الحسن : أحسنت ، ( أقول قد مر هذا البيت فيما استشهد به المصنف قدس سره ص 121 فراجع ). ثم قيل : ما تقول فيمن سبى امرءة ولها حليل؟ فقال : أما سمعت قولي وانشد : وذات حليل إلخ ، فقال الحسن : كنت أراك أشعر ، فإذا أنت أشعر وأفقه أيضا. وقال الصاوى في شرحه على ديوان الفرزدق ج 2 ص 576 : روى صاحب العمدة أن الفرزدق كان يجلس عند الحسن البصري فجاءه رجل فقال : يا أبا سعيد انا نكون في هذه البعوث والسرايا فنصيب المرأة من العدو ، وهي ذات زوج ، أفتحل لنا من قبل أن يطلقها زوجها؟ فقال الفرزدق : قلت أنا مثل هذا في شعري ، وقال الحسن : وما قلت؟ فأنشده هذا البيت ، وذات حليل إلخ. فقال الحسن : صدق فحكم بظاهر قوله. وقال صاحب العمدة : وما أظن الفرزدق إلا أراد مذهب الجاهلية في السبايا. وأنشد البيت أيضا الشوكانى في نيل الأوطار ج 6 ص 176 فراجع.

قوله « كِتابَ اللّهِ » مصدر مؤكّد أي كتب اللّه عليكم تحريم المذكورات كتابا.

فائدة : الإحصان يقال على معان الأوّل بمعنى العفّة كقوله تعالى « ( أَحْصَنَتْ فَرْجَها ) (1) » الثاني بمعنى الزواج كالمذكور في الآية ، الثالث بمعنى الحرّيّة كقوله ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ ) (2) على قول تقدّم ، الرابع : بمعنى الإسلام كقوله ( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ ) (3) على أحد التفسيرين.

الرابعة ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ ) (4).

هل اسم المشرك مختصّ بمن ليس بكتابيّ من الكفّار أو هو شامل لكلّ كافر منكر لنبوّة نبيّنا محمّد صلى اللّه عليه وآله؟ قيل بالأوّل للعطف على أهل الكتاب في قوله « لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ » (5) والعطف يقتضي

ص: 193


1- الأنبياء : 91 ، التحريم : 12.
2- النساء : 25.
3- النساء : 25.
4- البقرة : 221. وتمامه واللّه يدعو إلى الجنة والمغفرة باذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ، وقد يوجد في بعض النسخ.
5- البينة : 1. وكذا في قوله تعالى « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ » الآية : 7 ، البينة ، وكذا في قوله تعالى : ( لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً ) ، الآية 195 آل عمران ، وكذا في قوله تعالى ( ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ ) الآية 155 ، البقرة ، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا ، الآية 96 البقرة وكذا قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) ، الآية 17 ، الحج ، وكذا قوله تعالى ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ) الآية 82 ، المائدة ، وقد تقدم كلام لنا في التذييل على المجلد الأول ص 50 فراجع. ثم انه للعلامة الطباطبائي مد ظله بيان متين في كتابه الميزان في تفسير القرآن ج 2 ص 211 - 213 ، حقيق بان ننقله لمزيد الفائدة : قال مد ظله العالي : والمشركات اسم فاعل من الإشراك بمعنى اتخاذ الشريك لله سبحانه ، ومن المعلوم أنه ذو مراتب مختلفة بحسب الظهور والخفاء نظير الكفر والايمان ، فالقول بتعدد الإله واتخاذ الأصنام والشفعاء شرك ظاهر ، وأخفى منه ما عليه أهل الكتاب من الكفر بالنبوة - وخاصة - انهم قالوا ( عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ) أو ( الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ) ، وقالوا ( نَحْنُ أَبْناءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ ) وهو شرك ، وأخفى منه القول باستقلال الأسباب والركون إليها وهو شرك ، الى أن ينتهي الى ما لا ينجو منه الا المخلصون وهو الغفلة عن اللّه والالتفات الى غير اللّه عزت ساحته فكل ذلك من الشرك ، غير أن إطلاق الفعل غير إطلاق الوصف والتسمية به ، كما أن من ترك من المؤمنين شيئا من الفرائض فقد كفر به لكنه لا يسمى كافرا. قال تعالى : « وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الى أن قال وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ » آل عمران 97. وليس تارك الحج كافرا بل هو فاسق كفر بفريضة واحدة. ولو أطلق عليه الكافر قيل كافر بالحج ، وكذا سائر الصفات المستعملة في القرآن كالصالحين والقانتين والشاكرين والمتطهرين ، وكالفاسقين والظالمين الى غير ذلك لا تعادل الافعال المشاركة لها في مادتها ، وهو ظاهر ، فللتوصيف والتسمية حكم ، ولإسناد الفعل حكم آخر. على أن لفظ المشركين في القرآن غير ظاهر الإطلاق على أهل الكتاب بخلاف لفظ الكافرين بل إنما أطلق فيما يعلم مصداقه على غيرهم من الكفار كقوله تعالى « لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ » البينة - 1 وقوله تعالى « إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ » التوبة - 29 وقوله تعالى « كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ » التوبة - 8 وقوله تعالى « وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً » التوبة - 37 وقوله تعالى « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » التوبة - 6. الى غير ذلك من الموارد. وأما قوله تعالى « وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » البقرة - 135 فليس المراد بالمشركين في الآية اليهود والنصارى ليكون تعريضا بهم بل الظاهر أنهم غيرهم بقرينة قوله تعالى « ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » آل عمران - 67. ففي إثبات الحنف له عليه السلام تعريض لأهل الكتاب ، وتبرئة لساحة إبراهيم عن الميل عن حلق الوسط إلى مادية اليهود محضا والى معنوية النصارى محضا بل هو عليه السلام غير يهودي ولا نصراني ومسلم لله غير متخذ له شريكا كالمشركين عبدة الأوثان. وكذا قوله تعالى « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ » يوسف - 106 وقوله تعالى « وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ » فصلت - 6 وقوله تعالى « إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ » النحل - 100. فان هذه الايات ليست في مقام التسمية بحيث يعد المورد الذي يصدق وصف الشرك عليه مشركا غير مؤمن ، والشاهد على ذلك صدقه على بعض طبقات المؤمنين ، بل على جميعهم غير النادر الشاذ منهم وهم الأولياء المقربون من صالحي عباد اللّه. فقد ظهر من هذا البيان على طوله : أن ظاهر الآية أعنى قوله تعالى ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) قصر التحريم على المشركات والمشركين من الوثنيين دون أهل الكتاب. ومن هنا يظهر : فساد القول بأن الآية ناسخة لاية المائدة وهي قوله تعالى « الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) الآية » المائدة - 6. أو أن الآية أعنى قوله تعالى ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) ، وآية الممتحنة أعني قوله تعالى « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » الممتحنة - 20 ناسختان الآية المائدة ، وكذا القول بأن آية المائدة ناسخة لآيتي البقرة والممتحنة. وجه الفساد : أن هذه الآية أعنى آية البقرة بظاهرها لا تشمل أهل الكتاب وآية المائدة لا تشمل إلا الكتابية فلا نسبة بين الآيتين بالتنافي حتى تكون آية البقرة ناسخة لاية المائدة أو منسوخة بها ، وكذا آية الممتحنة وان أخذ فيها عنوان والكوافر وهو أعم من المشركات ويشمل أهل الكتاب ، فان الظاهر أن إطلاق الكافر يشمل الكتابي بحسب التسمية بحيث يوجب صدقه عليه انتفاء صدق المؤمن عليه كما يشهد به قوله تعالى : « مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ » البقرة - 98 الا أن ظاهر الآية كما سيأتي إنشاء اللّه العزيز أن من آمن من الرجال وتحته زوجة كافرة يحرم عليه الإمساك بعصمتها أى إبقائها على الزوجية السابقة إلا أن تؤمن فتمسك بعصمتها ، فلا دلالة لها على النكاح الابتدائي للكتابية. ولو سلم دلالة الآيتين أعنى : آية البقرة وآية الممتحنة على تحريم نكاح الكتابية ابتداء لم تكونا بحسب السياق ناسختين لاية المائدة ، وذلك لان آية المائدة واردة مورد الامتنان والتخفيف ، على ما يعطيه التدبر في سياقها ، فهي آبية عن المنسوخية بل التخفيف المفهوم منها هو الحاكم على التشديد المفهوم من آية البقرة ، فلو بنى على النسخ كانت آية المائدة هي الناسخة. على أن سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة بعد الهجرة ، وسورة الممتحنة نزلت بالمدينة قبل فتح مكة ، وسورة المائدة آخر سورة نزلت على رسول اللّه ناسخة غير منسوخة ولا معنى لنسخ السابق اللاحق. انتهى

ص: 194

ص: 195

المغايرة ، وفيه نظر لأنّا نمنع كون العطف يقتضي المغايرة مطلقا بل إذا لم يدع إلى العطف فائدة أمّا معها فلا كقوله « جِبْرِيلَ وَمِيكالَ ) (1) » و « نَخْلٌ وَرُمّانٌ ) (2) » مع أنا نقول : إنّ العطف هنا للعامّ على الخاصّ ، وهو موافق للقاعدة ، وهو وجوب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه ، والحال هنا كذلك فانّ المشرك أعم من الكتابيّ.

وقيل بالثّاني لقوله « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (3) » ولا شكّ في كراهة أهل الكتاب لنبوّته عليه السلام ولقوله تعالى في حقّهم « وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ » إلى قوله « سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ » (4) ولقول النصارى بالتثليث.

فعلى الأوّل الآية عامّة باقية الحكم ، غير منسوخة اتّفاقا ، فيحرم نكاح المشركة وإنكاح المشرك ، وعلى الثاني قيل : هي أيضا عامّة ولا يحل نكاح الكتابيات أيضا ويؤيّده قوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » (5) فتكون ناسخة للاية

ص: 196


1- البقرة : 98 ( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ ) .
2- الرحمن : 68 ( فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ ) .
3- براءة : 33 - الصف : 9.
4- براءة : 30.
5- الممتحنة : 10.

في المائدة وهي قوله « وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ ] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (1) الآية.

وقيل بعدم نسخ آية المائدة لأنّ المائدة آخر ما نزل كما قيل ، ولأنّ الأصل عدم النّسخ فعلى هذا يكون هذه مخصّصة بآية المائدة لما تقرّر في الأصول أن التخصيص خير من النسخ ، فلذلك حكم بعض أصحابنا بتحريم الكتابيّات مطلقا على الأوّل من الثاني ، وبعضهم حكم بحلّ الكتابيّات مطلقا على الثاني منه وهو قول شاذّ ينسب إلى ابن الجنيد.

والمتأخّرون من الأصحاب حكموا بحلّ الكتابيّات متعة لا غير لأنّ آية المائدة لا تدل على إباحة نكاح الدّوام بل نكاح المتعة لقوله تعالى « إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » ولم يقل مهورهنّ ، وعوض المتعة سمّي اجرا لقوله « فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » (2)

وفي هذا القول نظر أمّا أوّلا فلأنّ آية المائدة منسوخة بقوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » كما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام ونمنع كون المائدة آخر القرآن نزولا لعدم الدلالة القاطعة عليه ، وعلى تقديره جاز أن يكون أكثرها هو الأخير نزولا عن جملة السورة ، ويكون هذه الآية ضمّت إليها بعد نسخها ، وتكون من الّذي نسخ حكمه دون تلاوته كآية عدّة الوفاة بالحول وأمّا ثانيا فلأنّا نمنع دلالتها على المتعة فإنّ المهر مطلقا يسمّى أجرا كقوله « عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ » (3).

ويمكن أن يجاب أمّا عن الأوّل فلأنّها جزء من المائدة قطعا ، وتأخّر المائدة مشهور (4) وقرائن أحكامها تدل عليه مع أصالة عدم النسخ وأمّا عن الثاني

ص: 197


1- المائدة : 5.
2- النساء : 24.
3- القصص : 27.
4- بل مروي في كتب الشيعة وأهل السنة ، فقد روى العياشي عن زرارة عن ابى جعفر عليه السلام قال قال على بن أبى طالب صلوات اللّه عليه : نزلت المائدة قبل أن يقبض النبي صلى اللّه عليه وآله بشهرين أو ثلاثة ، وفي رواية أخرى عن زرارة عن ابى جعفر عليه السلام مثله. وعن عيسى بن عبد اللّه عن أبيه عن جده عن على عليه السلام قال : كان القرآن ينسخ بعضه بعضا ، وانما كان يؤخذ من أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بآخره ، فكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة فنسخت ما قبلها ، ولم ينسخها شي ء. لقد نزلت عليه وهو على بغلته الشهباء ، وثقل عليه الوحي ، حتى وقفت وتدلى بطنها ، حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض ، وأغمي على رسول اللّه حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب الجمحي ، ثم رفع ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقرأ علينا سورة المائدة ، فعمل رسول اللّه وعلمنا. ( انظر العياشي ج 1 ص 288 ، البحار ج 19 ص 69 ، البرهان ج 1 ص 430 ). وروى الشيخ في التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حماد عن حريز عن زرارة قال : سمعته يقول : جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله وفيهم على عليه السلام فقال : ما تقولون في المسح على الخفين فقام المغيرة بن شعبة فقال : رأيت رسول اللّه يمسح على الخفين فقال على : قبل المائدة أو بعدها؟ فقال : لا أدرى فقال على عليه السلام : سبق الكتاب الخفين انما نزلت المائدة قبل ان يقبض النبي صلى اللّه عليه وآله بشهرين أو ثلاثة ، انظر التهذيب ص 361 ج 1 ، الرقم 1091 وفي الرقم 1088 و 1092 من حديث أبى عبد اللّه وابى جعفر عليهما السلام أيضا حكاية قول على عليه السلام « سبق الكتاب الخفين ». واما من طرق أهل السنة ، فقد نقل الشوكانى في عدة روايات بطرق مختلفة تدل على كون المائدة آخر القرآن نزولا ، وفي بعضها « لم تنسخ منها الا آية القلائد » وفي بعضها إلا آية القلائد ، وقوله « فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ ». وقد نص المصنف أيضا - رحمه اللّه - بكونها آخر القرآن نزولا في ص 8 ج 1 من هذه الطبعة ، وسبق منا كلام في ص 18 و 19 من ج 1 فراجع.

فلأنّ اشتراط إيتاء المهر في الحلّ دليل على إرادة المتعة لعدم اشتراط ذلك في صحّة الدائم نعم الأجود تحريم الكتابيّات اختيارا مطلقا لوجوه :

الأوّل أنّها مشركات ولا شي ء من المشركات يحل نكاحهنّ والمقدّمتان تقدّم تقريرهما.

الثاني أنّ الكتابية لا تواد ، وكلّ زوجة تواد ، فلا شي ء من الكتابيّة

ص: 198

بزوجة أمّا الصغرى فلقوله « لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1) » وهي محادّة وأمّا الكبرى فلقوله تعالى « وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » (2).

الثالث أنّها كافرة ولا شي ء من الكافرة بذات عصمة أمّا الصغرى فظاهرة ، وأمّا الكبرى فلقوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » (3) والنكاح عصمة وهو ظاهر وأمّا حال الاضطرار وهو حصول المشقّة بالترك ، وخوف الوقوع في العنت ، فيجوز المتعة بهنّ وعليه يحمل آية المائدة فيكون مخصّصة لما تقدّم ، وكذا تحمل الروايات الواردة بالإباحة.

واعلم أنّ ملك اليمين هنا كالمتعة في الجواز عند الصرورة وأمّا حال الاختيار فحكمه كالعقد في المنع وأطبق فقهاء العامّة على إباحة الكتابيّات مطلقا وهنا فوائد :

ص: 199


1- المجادلة : 22 ، ولا يخفى عليك أن الظاهر من الآية موادة المحاد من حيث المحادة لتعلقها على الوصف الظاهر في العلية ، ولا يصح الحمل على اللوازم لجواز صلة المحاد لقوله تعالى « وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً » وقوله صلى اللّه عليه وآله : لكل كبد حراء أجر ، ولا ريب في تحريم الموادة من حيث المحادة ، بل منافاتها للايمان. فالظاهر أن الغرض من هذا الحكم نفى الايمان عن الذين كانوا يدعون الايمان ويضمرون الموادة للكفار المعلنين بالكفر وهم المنافقون الذين كان يعرفهم النبي صلى اللّه عليه وآله بلحن القول وإشارات الوحي ، وترك التصريح لان الكناية أبلغ من التصريح وادعى الى الرجوع الى الحق ، وأمنع من تظاهرهم بالأمر ولحوقهم بالكفار.
2- الروم : 21. وفيه منع كون التزويج موادة ، فإنه ربما كان للحاجة دون المودة والآية محمولة على الغالب لتحقق النشوز والشقاق المنافيين للمودة ، مع ما قد عرفت بما لا مزيد عليه ، أن المودة المنهي عنها انما هو موادة المحاد من حيث المحادة.
3- الممتحنة : 10 ، ولا يخفى عليك ان المتبادر من الآية ولفظ الإمساك : النهي عن البقاء على نكاح الكوافر واستدامته ، كما نص عليه المفسرون ، وقد أجمع الفقهاء على بقاء النكاح إذا أسلم زوج الذمية دونها كما سيصرح به المصنف ، فالاية مخصوصة بالكوافر غير الكتابيات ، ولا يمكن أن تكون ناسخة لحل الكتابيات ، ولا يجدى أولوية المنع عن الابتداء ، بعد انتفاء حكم الأصل.

1 - قال الراوندي : في الآية دلالة على جواز نكاح الأمة مطلقا من غير شرط عدم الطول وخشية العنت ، وفيه نظر لأنّ المطلق يحمل على المقيّد مع المعارضة كما تقرّر في الأصول.

2 - في الآية إشارة إلى اشتراط الايمان في النكاح لوجهين أحدهما قوله « وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ». « وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ » وثانيهما تعليله بأنّ « أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ » ولا شبهة أنّ المخالف يدعو إلى النار فلا يجوز نكاحه وإنكاحه نعم لما كانت المرأة سريعة الانفعال ضعيفة العقل ، جاز نكاح المؤمن المخالفة دون العكس ، ولهذا قيل : المرأة تأخذ من دين بعلها.

3 - في تعليله بأنّ « أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ » إشارة إلى كونه كبيرة وأيضا فإنّ النكاح يستلزم إرادة دوامه ولا صغيرة مع الإصرار.

4 - قيل : النهي في الآية لا شكّ في إفادته التحريم لكن نمنع إفادته الفساد لما تقرّر أنّ النهي في غير العبادات لا يفسده أجيب : قد تقرّر في الأصول أنّ النهي في المعاملة إن كان عن الشي ء لذاته أو لجزئه أو للازمه ، أفاد الفساد كبيع الحصاة والملاقيح والرّبا وحينئذ نقول : وإن كان النكاح حقيقة في العقد أو الوطي أو مشتركا فالنهي متوجّه إلى الشي ء لذاته أو للازمه ، فيكون مفيدا للفساد وهو المطلوب.

5 - أنه لا خلاف في أنّ الذميّ إذا أسلم فهو باق على نكاحه ، فيكون مخصّصا لعموم « وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ». « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » بالإجماع والنّصّ الحديثيّ.

6 - لقائل أن يقول إنّ « خيرا » في قوله « خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ » و « خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ » أفعل التفضيل ، المستلزم للمشاركة ، فيفيد زيادة خيريّة نكاح المؤمنة وإنكاح المؤمن ، فيكون في خلافهما خيريّة مّا ، فلو كان فاسدا لما كان كذلك فيجاب بأنّ الخيرية في هذه ليست باعتبار صحّة النكاح وفساده ، بل لمّا كان الجمال والحسب والمال بواعث على النكاح ، وتلك خيرات دنيويّة ، فهي مشاركة للخيرات الدينيّة الحاصلة في نكاح المؤمنين ، في مطلق الخيريّة ، لكن الخيارات الدّينيّة

ص: 200

أعظم لكونها أمورا حقيقية دائمة لا وهميّة زائلة ، فلذلك ساغ إيراد صيغة التفضيل.

7 - الواو في « ولو » للحال ، و « لو » بمعنى « إن » وهو كثير ، والإعجاب في الحسن والمال والجاه وفيه إشارة إلى كراهة قصد الجمال والمال في النكاح بل السنّة والدّين كما قال عليه السلام « عليك بذات الدّين تربت يداك (1) » والمراد بدعائهم إلى النار أي إلى أسبابها فانّ بسبب المخالطة قد يكتسب الصاحب من صاحبه دينه ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل » (2) وهنا محرّمات أخر تذكر في كتب الفقه ، مستفادة من السنّة فلنقتصر على ما في الكتاب.

النوع الثالث : في لوازم النكاح من المهر والنفقة وغير ذلك

اشارة

وفيه آيات :

الاولى ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) (3).

الصدقة اسم المهر ، والنحلة (4) قيل من انتحل كذا إذا دان به أي آتوهنّ

ص: 201


1- الكافي ج 5 ص 332.
2- الكافي ج 2 ص 642.
3- النساء : 4.
4- قال السيد الرضى قدس سره في ص 313 من حقائق التأويل : وربما سألوا بعد ذلك فقالوا : كيف قال اللّه تعالى ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) ، والنحلة هبة والصداق واجب ، فالجواب أنه سبحانه فرض الصداق للنساء ، فكان هبة منه سبحانه لهن ، لا هبة من أزواجهن ، وقد كان الإباء يأخذون ذلك لنفوسهم ألا ترى الى قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) » فاستخدمه بمهر ابنته ، فجعل تعالى ذلك للنساء دون آبائهن ، وذلك واضح بمشيئة اللّه.

ديانة فيكون مفعولا له ، وقيل نحلة من اللّه وتفضّلا منه عليهنّ ، فيكون نصبا على الحال من الصدقات ، وقيل النحلة بكسر النون العطيّة الّتي تكون عن طيب النفس من غير طلب وقيل هو من غير عوض والفعل منه نحل ينحل نحلا ، فعلى هذا يكون نصبا على المصدر من غير لفظه ، و « نفسا » نصب على التميز من الجملة ، والهني ء والمري ء صفتان لمحذوف أي أكلا هنيئا مريئا يقال هنوء الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا نقص فيه ، وقيل الهني ء ما يلذه الآكل والمري ء ما تحمد عاقبة ، إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

1 - أنّ الخطاب هنا للأزواج وهو الأصحّ لذكره عقيب الأمر بالنّكاح وقيل للأولياء لأنّهم كانوا يأخذون مهور بناتهم ، فكان إذا ولد لأحدهم بنت يهنّئونه ويقولون هنيئا لك النافجة يعنون به أنّ أخذ مهرها ينفج به ماله أي يعظّمه.

2 - في قوله « فَإِنْ طِبْنَ » دلالة على عدم جواز غصبها أو خديعتها أو إكراها على عطيّته وكان قوم يتحرّجون من قبول شي ء ممّا ساقه إلى زوجته فنزلت والضمير في « منه » راجع إلى المهر لسبق ذكر معناه.

3 - روى العياشيّ أنّ رجلا جاء إلى أمير المؤمنين فشكى إليه وجع بطنه فقال عليه السلام ألك زوجة؟ قال : نعم ، قال استوهب منها شيئا طيّبة به نفسها من مالها ثمّ اشتر به عسلا ثمّ اسكب عليه من ماء السماء ، ثمّ اشربه فإنّي سمعت اللّه تعالى يقول « وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً » وقال « يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ » وقال « فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً » فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهني ء والمري ء شفيت إن شاء اللّه تعالى قال ففعل ذلك فشفي (1).

الثانية ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى

ص: 202


1- العياشي ج 1 ص 218 ، تحت الحديث المرقم 15 من هذه السورة.

بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) (1).

القنطار المال الكثير ، والبهتان هو أن ينسب الإنسان غيره إلى فعل أو قول يسوؤه إذا سمعه ، وهو بري ء منه ، وانتصابه وانتصاب « إِثْماً » على المفعول له إلّا أنّ « بُهْتاناً » سبب فاعليّ و « الإثم » سبب غائيّ بمعنى أنّ سبب أخذ المال بهتانه على زوجته ، ويؤول أخذه إلى الإثم ، فاللّام المقدّرة في « إثما » لام العاقبة لأنّ أخذ المال ليس لأجل الإثم ، لا أنّهما حالان بمعنى باهتين وآثمين كما قال الزمخشري لأنّ الأخذ ليس في حال البهتان بل مسبوق به والاستفهام على سبيل الإنكار و « مبينا » أي مظهرا لخساسة أنفسكم ثمّ أعاد الإنكار بقوله و « كَيْفَ » والحال أنّه « قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ » والإفضاء الوصول وهو هنا كناية عن الجماع ، والميثاق الغليظ العهد الوثيق ، وقيل هو عقد النكاح ، وقيل هو حق الصّحبة والممازجة ، وقد قيل صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف صحبة الزوجين ، وقيل الميثاق هو ما أوثق اللّه عليه في قوله « فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ » وقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أخذتموهنّ بأمانة اللّه واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه (2) [ عن الباقر عليه السلام ] إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

1 - في الآية دلالة على عدم تقدير المهر بقدر بل بحسب ما يتراضيان عليه ولذلك لمّا منع عمر عن المغالاة في الصّداق على المنبر قالت له امرأة : أتمنعنا ما جعله اللّه لنا وتلت الآية ، فقال كل أفقه من عمر حتّى النساء ورجع عن رأيه (3).

2 - فيها دلالة على استقرار المهر بالدخول لتعليل الإنكار بالإفضاء.

3 - روي أنّ الرّجل منهم كان إذا أراد أن يتزوّج جديدة بهت الّتي تحته بالفاحشة حتّى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليجعله مهرا للجديدة ، فنهوا عن

ص: 203


1- النساء : 20.
2- أخرجه ابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد كما في الدر المنثور ج 2 ص 134. وتراه في المعاني للصدوق ص 212.
3- الدر المنثور ج 2 ص 133.

ذلك فالتقييد للنهي بحال الاستبدال لأجل السّبب وقد تقرّر في الأصول أنّ خصوص السبب لا يخصص.

4 - قيل الآية منسوخة بقوله « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (1) » وقيل : بل هي محكمة غير منسوخة ، وهو قول الأكثر وهو الأصحّ لأنّ النهي فيها مقيّد بالبهتان ، وهو نوع من الإكراه ولا كلام أنّ مع إكراه الزوجة على الافتداء ، لا يقع الملك ولا يتم الخلع.

الثالثة ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) (2).

المراد بالمسّ الجماع والفرض التقدير ، والمراد بالفريضة المهر المقدّر ، ففعيل هنا بمعنى مفعول ، والتاء لنقل اللّفظ إلى الاسميّة ، والمتعة والإمتاع بمعنى النفع والفائدة وأوسع الرّجل إذا صار ذا سعة من المال ، وأقتر إذا صار ذا إقتار ، بمعنى الضيق ضدّ السّعة أو صار ذا قترة ، وهي الغبار ومنه قوله تعالى ( تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) (3) كأنه لفقره يتغيّر حليته فكأنّ عليه غبارا و « ما » هنا بمعنى المدّة أي مدّة لم تمسّوهنّ و « مَتاعاً » اسم للمصدر بمعنى التمتيع كالسلام بمعنى التسليم وهو منصوب على المصدرية و « حَقًّا » صفة له إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

1 - أنّ « أو » في « أَوْ تَفْرِضُوا » يحتمل أن يكون بمعنى الواو ، وأن يكون للترديد ، وأن يكون بمعنى « إلّا أن » فعلى الأوّل يكون منطوق الآية أنّكم إن طلّقتم النّساء قبل مسّهنّ وقبل فرضكم لهنّ مهرا فلا جناح عليكم ، قدّم جواب الشرط عليه.

ص: 204


1- البقرة : 229.
2- البقرة : 236.
3- عبس : 41.

وإنّما نفى الجناح لأنّ في الطلاق مظنّة الجناح لكون النكاح مطلوبا لله فيكون تركه مظنّة الكراهة ، خصوصا قبل الدّخول ، وأمّا بعد الدّخول فقد حصل الامتثال فضعّفت الكراهية للترك ، فلذلك خصّ النفي بما قبل المسّ ، أو لأنّ الطلاق بعد الدّخول يفتقر إلى الاستبراء وقبله لا وقيل : المعنى لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولم يسمّ لها مهرا إذ لو كانت ممسوسة لكان عليه المسمّى أو مهر المثل ، ولو كانت غير ممسوسة وقد سمّي لها مهرا كان لها نصفه ، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الاولى ، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين.

وفيه نظر لأنّه لو كان ذلك هو المراد لما حسن نفي الجناح مطلقا ، لأنّه وإن لم يجب عليه المهر كملا فإنّه يجب عليه المتعة فكان ينبغي فيه التقييد لكنّه لم يقيّد فلم يكن ذلك هو المراد.

وعلى الثاني يكون المنطوق نفي الجناح قبل المسّ مطلقا أي مع الفرض وعدمه وقبل الفرض مطلقا أي مع المسّ وعدمه ، فيثبت المتعة على الأحوال الأربعة فتكون واجبة مع الطّلاق منضمّة إلى نصف المهر وإلى مهر المثل لكن ذلك لم يقل به أحد من أصحابنا لكنّه قول الشافعيّ كما يجي ء.

وعلى الثالث يكون المنطوق نفي الجناح وثبوت المتعة مع عدم الفرض فيكون الحكم كالأوّل وهو الّذي عليه الفتوى.

2 - « وَمَتِّعُوهُنَّ » أي حيث لا جناح عليكم في ذلك فمتّعوهنّ جبرا لا يحاش الطّلاق بشي ء من أموالكم ، وذلك الشي ء يختلف باعتبار حال الزّوج فالغنيّ يجب عليه دابّة أو ثوب رفيع أو عشرة دنانير من الذّهب ، والمتوسّط خمسة أو ثوب متوسّط ، والفقير دينار أو خاتم ، وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة إن نقص مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل.

3 - لا متعة عندنا لغير هذه ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه و

ص: 205

في القول الآخر ألحق بها الممسوسة المفروضة وغيرها قياسا ، وهو مقدّم على المفهوم عنده.

4 - لو تراضيا على تقدير مهر بعد العقد ، لزم ، ولو طلّقها بعد ذلك لزم نصف المقدّر.

5 - في الآية دلالة صريحة على صحّة عقد الدوام من غير ذكر مهر مطلقا ويسمّى ذلك تفويض البضع ، وقد يقال تفويض المهر ، وهو أن يتزوّجها بمهر مجمل كأن يفوّض تقديره إلى أحدهما أو إلى أجنبيّ ، فيلزم ما يقدّره ، لكن إن كان هو الزّوج لزم كلّ ما يقدّره بما يتملّك ، وإن كانت الزّوجة لزم ما لم يتجاوز مهر السنّة ، وهو خمسمائة درهم أو خمسون دينارا ، والأجنبيّ حكمه تابع لمن هو من قبله ، فإذا طلّق مفوّضة البضع لزمته المتعة كما قلناه ، ولو طلّق مفوّضة المهر لزم نصف ما يحكم به من إليه الحكم ، ولو لم يكن حكم الزم الحكم ، فيلزم نصفه.

6 - لو مات الزّوج قبل الدخول ، ففي مفوّضة البضع لا شي ء ، وفي مفوّضة المهر ، قيل لها المتعة للرواية عن الباقر عليه السلام رواها محمد بن مسلم (1) وقيل لا شي ء لعدم الموجب.

7 - في الآية دلالة على تملّك المهر المقدّر بالعقد لوصفه بالفريضة أي المفروضة فلو لم يجب كلّه لم يكن مفروضا مطلقا.

8 - قوله « بِالْمَعْرُوفِ » أي بما يعرفه أهل العقل والمروءة ، من حال الزّوج كما قلنا ، ووصف التمتّع بالحقّ دلالة على وجوبه ، وسمّى الأزواج ب « الْمُحْسِنِينَ » أي إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى جبر وحشة الطلاق للمسارعة ترغيبا وتحريصا.

الرابعة ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا

ص: 206


1- الكافي باب نوادر المهر الرقم 2 ، راجع ج 5 ص 279.

أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (1).

قوله « فَنِصْفُ » أي فالواجب نصف واللّام في النكاح للعهد الذهنيّ « و ( يَعْفُونَ ) » جمع معتل يستوي فيه المذكّر والمؤنّث لفظا وهو هنا للمؤنّث وهو مبني غير معرب إذا عرفت هذا فنقول دلّت هذه الآية على أحكام :

1 - تنصيف المهر بالطّلاق.

2 - أنّ النّساء إذا عفون لم يكن لهنّ على الزّوج شي ء والمراد بالعفو هنا إمّا الهبة إن كان المهر عينا أو الإبراء إن كان دينا ، وهل يقعان بلفظ العفو؟ التحقيق هنا أن نقول : المهر إن كان دينا في ذمّة الزّوج صحّ بلفظ العفو ، ولفظ الهبة ولفظ الإبراء ، ولفظ الاسقاط ، وهل يشترط القبول؟ فيه خلاف الأصح عدمه وإن كان عينا فيصحّ بلفظ الهبة إجماعا ولا يصحّ بلفظ الإبراء إجماعا ، وهل يصحّ بلفظ العفو؟ قيل نعم ، لعموم اللّفظ في الآية ، وقيل لا ، لأنّه لا مجال له في الأعيان كلفظ الإبراء ، فإنّه لا يقع على العين ، وهو الأصح ، ولا بدّ من القبول هنا قطعا وبالجملة حكمه في العين حكم الهبة ، وتمام البحث في كتب الفقه.

3 - أنّه كما يجوز للمرأة العفو عن حقّها ، كذا يجوز لوليّها وهو المشار إليه بقوله « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » واختلف في الوليّ فقال أصحابنا هو الولي الإجباري أعني الأب والجد له ، بالنسبة إلى الصّغيرة ، وهو قول الشافعيّ في القديم ، وألحق به بعض أصحابنا الوكيل الّذي تولّيه أمرها ، وفيه نظر لأنّ الوكيل ليس بيده عقدة النكاح أصالة ، بل بيدها ، والإطلاق ينصرف إلى الأصالة نعم لو أذنت للوكيل في العفو جاز قطعا.

وقال الشافعيّ في الجديد وأحمد وأصحاب الرأي أنّ الّذي بيده عقدة النكاح هو الزّوج ، لأنه مالك لعقده وحلّه ، فعلى هذا القول يكون الطلاق قبل المسّ مخيّرا للزوج ، بين دفعه كملا وبين تشطيره ، فلا يكون الطّلاق مشطّرا بنفسه

ص: 207


1- البقرة : 237.

والأوّل أصح لأنّه لمّا ذكر عفو النّساء عن نصيبهنّ اقتضى أن يكون « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » وليّا لهنّ ليكون العفو في الجهتين واحدا ولأنّه بدأ بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله « وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ » ثمّ قال « يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي » وهما خطاب لغير حاضر ، فيتغايران.

ويتفرّع على قولنا فروع :

1 - أنّ الزوجة لها العفو عن كلّ حقّها ، وأمّا وليّها فليس له العفو إلّا عن بعضه لا غير.

2 - حيث جاز للوليّ العفو عن بعض حقّها ، فهل له إنكاحها ابتداء بدون مهر مثلها قيل لا ، فلو زوّجها بدون مهر المثل صحّ النّكاح وفسد المسمّى ، ويكون بمنزلة من لم يسمّ لها ، لأنّ معاوضات المولّى عليه يشترط في فعلها مساواة العوض وإذا فسد المسمى ثبت لها مهر المثل بنفس العقد.

وقيل : له ذلك ، لأنّه كما جاز له أن يعفو عن بعض ما وجب لها ، جاز له في الابتداء قبل الوجوب ، ولأنّه منصوب لنظر المصلحة ، فجاز أن يرى في ذلك مصلحة ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله زوّج بنته بخمسمائة درهم (1) ومعلوم أنّ مهر بنته لا يكون هذا القدر.

وفي هذا نظر لأنّ نظر النّبوّة يقيني ولأنّه « أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ » ولأنّه جاز أن يكون باذنها ، وأيضا فإنّه إذا فسد المسمّى ثبت مهر المثل ، وهو لا يتجاوز مهر السنّة وهذا مهر السنّة ، والأصحّ أنه إن تعلّق بذلك مصلحة عائدة إليها جاز وإلّا فلا.

3 - في الآية دلالة على ثبوت الولاية في النكاح على المرأة أصالة لقوله « بِيَدِهِ » أي في ملكه لأنّ اليد تدل على الملك عرفا ، وهذا من المجملات الّتي بينها السنّة الشريفة فعند أصحابنا ناقلين عن أئمتهم عليهم السلام أنّ الولاية أربعة أقسام :

ص: 208


1- الكافي ج 5 ص 376 باب السنة في المهور الرقم 6 ، والمراد سائر بناته لا فاطمة الزهراء ، فإنها زوجت على درع حطمية يسوى ثلاثين درهما.

الأوّل القرابة وهي منحصرة في الأب والجدّ للأب خاصّة ، دون باقي الأقارب من العصبات ، وغيرهم لكن ذلك على الصّغيرين ، ومن عرض له الجنون حال الصّغر مستمرّا إلى البلوغ دون من تجدّد جنونه سواء كانت المرأة بكرا أو ثيّبا ، واختلف في البكر البالغة الرشيدة فالأقوى والأقرب سقوط الولاية عنها لسقوط الولاية في المال ، فتسقط في النكاح ولعموم « حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ » وللروايات المتضافرة عن الباقر والصادق عليهما السلام ثمّ إنّ ولاية الأب والجدّ كلّ منهما مستبدّة وولاية إجباريّة ليس للمولّى عليه الاختيار (1).

الثّاني ولاية الحاكم وهي تختص بمن بلغ فاسد العقل ، وليس له وليّ أو فسد عقله ورأيه بعد بلوغه ورشده ، ويراعي في كلّ ذلك مصلحة المولّى عليه في النكاح.

الثالث ولاية الوصيّ عن الأب أو الجدّ له ، لكنّها مختصّة بمن بلغ فاسد العقل دون غيره ، ويراعي المصلحة أيضا.

الرابع ولاية الملك وهي ثابتة على الرقيقين ذكرا كان المالك أو أنثى وكذا المملوك بالغا كان أو غيره ، عاقلا كان أو غيره ، وهي أقوى الولايات فإنّها مقدّمة على ولاية القرابة والحكم ، وقالت العامّة بما قلناه وزادوا ولاية العصوبة وهي باطلة عندنا ، لإطباق علماء أهل البيت عليهم السلام على ذلك وكفى به حجّة.

4 - قوله « وَأَنْ تَعْفُوا » خطاب للأزواج إجماعا لكن عند من فسّر « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » بالزوج قال إنّه أعاد خطابهم تأكيدا وعندنا لمّا ذكر عفو المرأة ووليّها ذكر عفو الرّجل وجمعه مطابقة لجمع النّساء ولأنّه خطاب لكلّ زوج.

ونقل الطبرسيّ أنّه خطاب للزّوج والمرأة معا عن ابن عبّاس قال : وهو أقوى لعمومه وفيه نظر أما أوّلا فلأنّ اجتماع العفوين غير ممكن لو أراده لأنّه وصف العفو بكونه أقرب للتقوى ، فيكون ترغيبا لهما ، وأمّا ثانيا فلأنّ تعفو هنا خطاب للمذكّر حقيقة بحذف نونه ، وجعله معربا بالناصب فلا يتناول المؤنّث.

ص: 209


1- الخيار ، خ.

إن قلت : التغليب جائز. قلت : هو خلاف الأصل.

إذا عرفت هذا فعفو الزّوج أنواع :

الأوّل أن يكون قد سلّم المهر إليها جملة ، وهو موجود بيدها فيهبها الزائد عن النصف لو طلّقها ، ويشترط قبولها.

الثاني أن يكون قد سلّمه وتصرّفت فيه ولم يبق عينه ، فعفوه إبراء ولا يشترط القبول.

الثالث : أن يكون موجودا بيده فيدفعه إليها جملة بعد الطلاق ، فيكون واهبا للزائد عن النصف فيشترط قبولها.

الرابع أن يكون في ذمّته دينا فعفوه إحضاره وتعيينه ، وتمليكها الزائد فيشترط أيضا قبولها.

ففي النوع الثاني يصح بأيّ لفظ شاء من الأربعة المتقدّمة وفي البواقي لا يقع إلّا بألفاظ الهبة ، وأمّا لفظ العفو فقد تقدّم الخلاف فيه ، نعم لفظ العفو لو حصل لم يفد ملكا بل إباحة وروي عن جبير بن مطعم أنّه تزوّج امرأة وطلّقها قبل الدّخول فأكمل لها الصداق فقال : أنا أحقّ بالعفو (1).

وقوله « أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » أي اتّقاء الظلم ، فانّ الباذل لغيره حقّه فقد استبرأ لذمته واحتاط ، أو لاتّقاء الكلام في عرضه ، بأن يقال إنّه طلّقها وأدخل عليها ذلّ الخذلان وبخس المهر.

5 - نقل عن سعيد بن المسيب أنّ هذه الآية ناسخة لحكم المتعة في الآية السابقة وليس بشي ء لأنّ النسخ إنّما يتصوّر مع المنافاة بين الحكمين ، ولا منافاة هنا لأنّ محلّ المتعة الطلاق قبل الدخول مع عدم الفرض ، وهنا ثبوت النصف مع الفرض ، فلا منافاة نعم أقول : لو قلنا بثبوت المتعة لكلّ مطلّقة على الاحتمال الثاني في « أو » كما تقدّم يكون هذه الآية مخصّصة لذلك العموم ، والتخصيص

ص: 210


1- أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه كما في الدر المنثور ج 1 ص 293.

خير من النسخ مع معارضتهما.

قوله « وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » أي لا تتركوا الأخذ بالفضل بينكم والإحسان ، ويمكن أن يستفاد من هذا استحباب الأخذ ناقصا والإعطاء راجحا في سائر المعاوضات.

الخامسة ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللّهُ وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ) (1).

القنوت لزوم الطاعة والمداومة عليها ، والنشوز الارتفاع ، والمراد هنا الارتفاع عن مطاوعة الأزواج فيما يجب لهم ، وسبب نزول هذه الآية أنّ سعد بن الرّبيع وكان من الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد فلطمها فانطلق بها أبوها إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال أفرشته كريمتي فلطمها! فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله لتقتصّ من زوجها ، فانصرفت لتقتصّ منه فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ارجعوا هذا جبرئيل أتاني وأنزل هذه الآية فقال النبي صلى اللّه عليه وآله أردنا أمرا وأراد اللّه أمرا والّذي أراد اللّه خير ورفع القصاص. ثمّ إنّ الآية فيها أحكام :

1 - أنّ « الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ » أي لهم عليهنّ قيام الولاية والسّياسة وعلّل ذلك بأمرين أحدهما موهبيّ من اللّه وهو أنّ اللّه فضّل الرّجال عليهنّ بأمور كثيرة من كمال العقل وحسن التّدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات ، ولذلك خصّوا بالنبوّة والإمامة والولاية ، وإقامة الشعائر والجهاد ، وقبول شهادتهم في كلّ الأمور ، ومزيد النصيب في الإرث وغير ذلك. وثانيهما كسبيّ وهو أنّهم ينفقون عليهنّ ويعطوهنّ المهور ، مع أنّ فائدة النكاح مشتركة بينهما.

ص: 211


1- النساء : 34.

والباء في قوله « بِما فَضَّلَ اللّهُ » وفي قوله « وَبِما أَنْفَقُوا » للسببيّة ، وما مصدريّة أي بسبب تفضيل اللّه وبسبب إنفاقهم ، وإنّما لم يقل بما فضّلهم عليهنّ؟ قال بعض الفضلاء لأنّه لم يفضّل كلّ واحد من الرّجال على كلّ واحدة من النساء لأنّه كم من امرأة أفضل من كثير من الرجال وإنّما جاء بضمير المذكّر تغليبا فيدخل الرّجل المفضّل والمرأة المفضّلة قال : ولا يلزم من تفضيل الصّنف على الصنف تفضيل الشخص على الشخص.

قلت : فحينئذ لا يكون في الآية دليل على تفضيل الصّنف الّذي هو عين المدّعى ، لأنّه إذا كان بعض اشخاص الرجال أفضل من بعض أشخاص النساء وبالعكس فأيّ دليل على تفضيل الصنف على الصنف الآخر الّذي هو المراد فالسؤال باق على حاله.

2 - أنّه لمّا فضّل الرّجال ، أراد جبر قلوب النساء فقال « فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ » أي مطيعات قائمات بما عليهنّ لأزواجهنّ « حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ » أي حافظات لما يكون بينهنّ وبين أزواجهنّ في الخلوات من الأسرار ، وقيل : حافظات لفروجهنّ ولأموال أزواجهنّ ولأولادهنّ كما جاء في الحديث.

وفيه نظر وإلّا لقال حافظات في الغيب لا للغيب على تقدير حذف المفعول به.

قوله « بِما حَفِظَ اللّهُ » أي بما حفظهنّ اللّه حين أوصى بهنّ الأزواج ، وأوجب لهنّ عليهم المهر والنفقة ، فالباء حينئذ للمقابلة والجزاء والمراد بسبب حفظ اللّه لهنّ وتوفقه لهنّ أو بحفظه لهنّ بتعويضه للثواب على فعلهنّ.

3 - بيان حكم النشوز ، وأصله الارتفاع كما قلنا ثمّ نقل شرعا إلى العصيان للزّوج ، وأتى بالفاء في الخبر ، لتضمّن المبتدأ معنى الشرط والجزاء ، لكونه موصولا والوعظ التخويف باللّه وبالعواقب ، والهجر في المضاجع ، قيل هو أن لا يجامعها ، وقيل أن يولّيها ظهره في الفراش ، وقيل أن لا يبيت معها في الفراش بل في فراش آخر « وَاضْرِبُوهُنَّ » أي ضربا غير جارح لحما ولا كاسر عظما ، وهل تترتّب الثلاثة لترتّبهما في الذكر؟ الوجه نعم ، لا من حيث اللّفظ فانّ الواو

ص: 212

لا يفيد الترتيب ، بل من حيث المعنى لأنّه يترتّب الأخفّ فالثقيل فالأثقل ، كما يجب في النهي عن المنكر.

قيل قوله « تَخافُونَ » بمعنى تعلمون وليس بشي ء ، وقيل : معناه إن ظهرت أمارة النشوز « فَعِظُوهُنَّ » وإن أظهرن النشوز « وَاهْجُرُوهُنَّ » وإن استمرّ نشوزهنّ « وَاضْرِبُوهُنَّ ». قوله « فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ » أي إن رجعن عن نشوزهنّ إلى الطاعة ، فلا تتعرّضوا لهنّ بشي ء من الأذى لزوال سببه ، فانّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

قوله « إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً » أي إنّه مع علوّ شأنه في ذاته وصفاته تعصونه ويعفو عنكم إذا تبتم ، فكذلك يجب عليكم أن تقبلوا توبتهنّ إذا تبن أو معناه أنّه يتعالى أن يظلم أحدا أو يبطل حقّه.

السادسة ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً ) (1).

يريد إن خفتم استمرار الشقاق ، لأنّ الشقاق الماضي لا يخاف منه ، والمستقبل لا يعلم ، وكذا تقول في قوله « وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ » فانّ الاستمرار هو المخوف ، وأمّا إذا لم يستمرّ فلا يتعلّق به حكم لزواله ، وحاصل الشقاق الاختلاف وعدم الاجتماع على رأي واحد ، كأنّهما باختلافهما كلّ واحد في شقّ أي في جانب.

قوله « فَابْعَثُوا » هنا مسائل :

1 - قيل : الخطاب في قوله « فَابْعَثُوا » للزّوجين ، وقيل أهل الزّوجين وقيل للحكّام المتداعي عندهم ، وهو المنقول عن الباقر والصادق عليهما السلام ، وهو الأصح لأنّ أوّل الكلام في « خِفْتُمْ » يدل عليه.

ص: 213


1- النساء : 35.

2 - هل يشترط رضي الزّوجين بهما بحيث يكون إلزاما لهما بما يحكمان به أم لا؟ قيل نعم ، ومنهم من لا يشترط ذلك وهو مذهب مالك.

3 - هل بعثهما تحكيم أو توكيل ، قال بعض أصحابنا بالثاني لأنّ البضع حقّ للزوج ، والمال حقّ للمرأة ، فليس لأحدهما التصرف فيهما إلّا بإذنهما وفيه نظر لأنّه استبعاد في ثبوت الولاية على الرّشيد حين امتناعه من أداء حقّ عليه كما يقضى دين المماطل بغير اختياره.

وقال أكثر أصحابنا بالأوّل محتجّين بأنه قد ورد أنّ لهما الإصلاح من غير استيذان ، وليس لهما التفريق إلّا بإذنهما ، ولو كان توكيلا لكان ذلك تابعا للوكالة ويدل عليه قوله « فَابْعَثُوا » فإنّه خاطب الحكّام ، وسمّاهما حكمين ، ولو كان توكيلا لخاطب الزّوجين ، وقال « فابعثا » وأصل الخلاف مبنيّ على أنّه هل يشترط رضي الزّوجين أم لا؟ فمن شرط رضاهما ، قال : هو توكيل ، ومن لا يشترط قال هو تحكيم.

4 - هل يجوز البعث لحكمين من غير أهل الزّوجين؟ قيل لا ، لأنّ الأهل أعرف بحال الزّوجين وكيفيّة صلاحهما ومحبّتهما وكراهتهما ، ولأنّ الأهل يسكن إليه ويطمئنّ إلى حكمه ، بخلاف الأجنبيّ ، وللآية ، وقيل يجوز لأنّ الغرض حصول الصّلاح وتقييد الآية للأغلبية ، وهذا هو المشهور بين الأصحاب.

5 - هل للحكمين الجمع والتفريق بغير إذن الزوجين أم لا؟ قيل نعم بناء على اشتراط رضاهما وأنّهما وكيلان ، وقيل لهما الجمع وليس لهما التفريق إلّا بعد استيذان المرأة في البذل ، والرّجل في الطلاق إن كان خلعا وهذا هو المشهور بين الأصحاب وعليه الفتوى.

وقال بعض أصحابنا : إن جعل الحاكم الإصلاح والطلاق إليهما أنفذا ما رأياه صلاحا ، وإن أطلق القول لم يجز التفريق إلّا بعد مراجعتهما وهو كلام حسن بناء على أنّ بعث الحاكم الحكمين بإذنهما واختيارهما ، فإنّ الإذن أوّلا كالاذن أخيرا.

ص: 214

6 - لو اختلف الحكمان : بأن اختيار أحدهما الإصلاح ، والآخر التفريق لم يمض حكمهما قطعا ، وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح أو الجمع بين النقيضين.

7 - يشترط في الحكمين : العقل والبلوغ والعدالة والحرّية والذكورة ويلزم كل ما شرطاه من أمر سائغ وإلّا نقض ويلزم الحكم بالصلح ، وإن كان أحد الزّوجين غائبا ، وقيل لا يلزم ، وهو ضعيف فانّ الحكم على الغائب جائز عندنا.

8 - اختلف في ضمير « إِنْ يُرِيدا » وفي « بَيْنِهِما » قيل هما معا للحكمين أي إن قصدا الإصلاح يوفّق اللّه بينهما ليتّفق كلمتهما ، ويحصل المقصود وقيل للزّوجين فيهما أي إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق بينهما أوقع اللّه الألفة والوفاق ، وفيه تنبيه على أنّ من أصلح نيّته فيما يتحرّاه أصلح اللّه مبتغاه.

وقيل : الأوّل للحكمين والثاني للزّوجين ، ومعناه إن اتّفق الحكمان على الإصلاح يوقع اللّه الوفاق بين الزّوجين ، لأنّ الأمور بأسبابها ، وأما إذا أرادا الفساد أو اختلفا ، فلا يوفّق اللّهب بينهما لعدم سبب الوفاق ولا يستبعد أن يكون إرادتهما للإصلاح سببا للاتّفاق ، لأنّ الأعمال بالنيّات.

قوله « عَلِيماً » أي بالكلّيات « خَبِيراً » أي بالجزئيّات.

السابعة ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (1).

أي لن تستطيعوا أن تعدلوا بين أزواجكم عدلا حقيقيّا بحيث يتساوين في المحبّة والتعهّد والنظر والميل القلبيّ « وَلَوْ حَرَصْتُمْ » أي بذلتم جهدكم في حصوله ، ولذلك كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقسم بين نسائه ويقول « اللّهم هذه قسمتي

ص: 215


1- النساء : 129.

فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك (1).

قوله « فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ » أي حيث لا يمكن العدل الحقيقيّ ، فلا يترك جملة ، بحيث تميلوا كلّ الميل ، فانّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.

« فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ » أي ليست ذات بعل ولا مطلّقة ، دلّت هذه على وجوب القسمة بين النساء والتسوية بينهنّ فيها لكن على سبيل الاجمال ، والسنّة الشريفة بيّنت ذلك فنقول : صاحب النكاح الدائم إمّا أن يكون له زوجة واحدة فلها ليلة واحدة من الأربع والثلاث له يضعها حيث يشاء ، وإن كان له زوجتان فلهما ليلتان وله ليلتان ، وإن كان له ثلاث فله واحدة وإن كان له أربع فلا يفضل له شي ء ويجوز القسمة أكثر من ليلة أمّا أقلّ فلا ، لما فيه من التنغيص.

قوله « وَإِنْ تُصْلِحُوا » يعني بين الأزواج وتسوّوا بينهنّ ( وَتَتَّقُوا ) الجور في ذلك « فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً » لكم ما مضى « رَحِيماً » بكم.

روي عن الصّادق عليه السلام أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به عليهنّ وروي أنّ عليّا عليه السلام كان له امرأتان فإذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى (2)

الثامنة ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (3).

كانت بنت محمّد بن مسلمة عند رافع بن خديج وقد دخلت في السنّ وكانت عنده امرأة شابّة سواها فطلّقها تطليقة حتّى إذا بقي من أجلها يسير قال لها : إن شئت

ص: 216


1- سنن ابى داود ج 1 ص 492 ، ورواه الطبرسي في المجمع ج 3 ص 121.
2- رواه الطبرسي في المجمع ج 3 ص 121.
3- النساء : 128.

راجعتك وصبرت على الأثرة ، وإن شئت تركتك ، فقالت : بل راجعني وأصبر على الأثرة ، فراجعها بذلك الصلح روي ذلك عن الباقر عليه السلام.

وقيل إنّ سودة بنت زمعة زوجة النبيّ صلى اللّه عليه وآله خشيت أن يطلّقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت : لا تطلّقني وأجلسني مع نسائك ولا تقسم لي واجعل يومي لعائشة ، فنزلت الآية عن ابن عباس رضي اللّه عنه (1) وقد تقدّم معنى خوف النشوز والاعراض وفي الآية دلالة على جواز الصّلح عن ترك القسمة ، وجعل عوض الصلح منفعة.

ثمّ قال « وَالصُّلْحُ خَيْرٌ » و « خير » يحتمل أن يكون هنا أفعل التفضيل ، أي خير من الفرقة. ويحتمل أن تكون جملة معترضة أي خير عظيم أو خير من الخيرات كما أنّ الخصومة شرّ من الشرور.

قوله « وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ » جملة معترضة أيضا ، ولذلك لم يجانس ما قبلها ، والجملة الأولى مرغّبة في الصّلح ، والثانية لتمهيد العذر في المماكسة ومعنى إحضار الأنفس الشحّ كونها مطبوعة عليه ، فلا يكاد تسمح المرأة بالاعراض عنها والتقصير في حقّها ، ولا الرّجل بالإمساك لها والإنفاق عليها مع كراهية لها وتمام الآية ظاهر.

التاسعة ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ) (2).

أي أسكنوهنّ مكانا من سكناكم قوله « مِنْ وُجْدِكُمْ » أي من وسعكم ممّا تطيقون ولا تضاروهنّ في السّكنى لتضيّقوا عليهنّ فتلجئوهنّ إلى الخروج ، و

ص: 217


1- راجع الدر المنثور ج 2 ص 232 ، مجمع البيان ج 3 ص 120.
2- الطلاق : 6.

التعاسر التضايق ، وهنا أحكام :

1 - وجوب [ كون ] السكنى للمطلّقات إجمالا من غير بيان كونه رجعيّا أو بائنا لكنّ السنّة الشريفة بيّنت ذلك فنقول : المطلقة الحائل إمّا رجعيّة وسيأتي بيان الرّجعي إن شاء اللّه ، فهذه يستحقّ الإنفاق والإسكان كما كانت ، مدّة العدّة ، ويدل عليه إطلاق الآية ، وإمّا بائنة فقال أبو حنيفة لها أيضا النفقة والسكنى ، وهو مرويّ عن عمرو ابن مسعود وقال الشافعي إنّ لها السّكنى لا غير ، وقال الحسن وأبو ثور إنّه لا سكنى لها ولا نفقة ، وهو مذهب أصحابنا نقلا عن الأئمّة عليهم السلام وأيضا نقل ذلك من طريق الجمهور عن الشعبيّ والزّهري في قضيّة فاطمة بنت قيس ، فيكون إطلاق الآية مخصوصة بالمطلّقة الرجعيّة.

2 - أنّه يجب أن يكون المسكن ممّا يليق بها كافيا لينتفي المضارّة المنهيّ عنها بقوله « وَلا تُضآرُّوهُنَّ ».

3 - المطلقة الحامل تستحقّ السكنى والنفقة إجماعا ، بائنا كانت أو رجعيّة لإطلاق الآية من غير تقييد.

ثمّ اختلف الفقهاء في نفقة الحامل البائن ، هل النفقة لها أو للحمل؟ فقيل :

النفقة للحمل إذ لولاه لما كان لها شي ء ، فقد دار الوجوب مع الحمل وجودا وعدما وهو الأقوى ، وقيل : للحامل بشرط الحمل ، ويظهر الفائدة في مسائل كثيرة منها عدم وجوب قضائها على الأوّل ، ومنها وجوبها على الجدّ وغير ذلك.

4 - أنّ الحامل إذا وضعت وانقضت عدّتها لا يجب عليها إرضاع الولد وسقطت نفقتها بخروج العدّة ، فإن تبرّعت بإرضاع الولد فلا بحث وإلّا يجب على الأب أجرة رضاعه لقوله تعالى ( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) وفيه دلالة على جواز الاستيجار على الرضاع قوله « وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ » أي ليأمر بعضكم بعضا بالجميل في إرضاع الولد بأن لا يقع بخس على الوالد : بأن يؤخذ منه أزيد من الأجر ، ولا الوالدة بأن ينقص من أجرها ، ولا الولد بأن يرضع أقلّ من المقدّر الشرعيّ.

ص: 218

5 - قوله « وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى » فيه دلالة على جواز أخذ الولد من الام واستيجار مرضعة أخرى ، وذلك ليس على إطلاقه بل إن تبرّعت فهي أحق ، وكذا إن رضيت بما يرضى به الغير ، وأمّا إذا لم يرض وهو المراد بالتعاسر ، فيقدّم حق الزّوج ، لأصالة البراءة ويسلمه إلى أخرى ترضعه ، وهل يسقط ذلك حضانة الأمّ؟ فيه خلاف ، قيل نعم ، لحصول الحرج ، وقيل لا ، لتغاير الموضوعين.

العاشرة ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) (1).

هنا فوائد :

1 - رجحان التوسعة على العيال لقوله « مِنْ سَعَتِهِ ».

2 - الأمر بالاقتصاد للمعسرين لقوله « وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ » أي ضيق عليه رزقه « فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ ».

3 - الإخبار بأنّ اللّه « لا يكلّف نفسا ( إِلّا ما آتاها » وفيه دلالة على سقوط النّفقة في الحال عن المعسر.

4 - الوعد باليسر بعد العسر ، وفيه تطيب لنفس المنفق والمنفق عليه.

5 - قال المعاصر : في هذه والّتي قبلها دلالة على أنّ المعتبر في النفقة حال الزوج لا حال الزوجة ، ولذلك أكّده بقوله « لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها » إذ لو كان المعتبر حال الزوجة ، لأدّى ذلك في بعض الأوقات إلى تكليف ما لا يطاق ، بأن تكون ذات شرف والزّوج معسر.

وعندي فيه نظر : أما أوّلا فلفتوى الأصحاب أنّه يجب القيام بما يحتاج إليه المرأة من إطعام أو كسوة وإدام وإسكان تبعا لعادة أمثالها. وأمّا ثانيا فللمنع من دلالة الآيتين على المدّعى أمّا الأولى فلأنّه نهى فيها عن المضارة لهنّ فلو

ص: 219


1- الطلاق : 7.

اعتبرنا حال الزوج لزم مضارّتها في بعض الأحوال كما قال في الزّوج بأن يكون معسرا وهي شريفة وهو خلاف مدلول الآية وأمّا الثانية فلأنّ قوله « لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها » قابل للتقييد أي في الحال الّتي قدر فيها الرزق ، وحينئذ جاز أن يكون الواجب عليه ما هو عادة أمثالها فيؤدّي ما قدر عليه الآن ، ويبقى الباقي دينا عليه ، ولذلك اتّبع الكلام بقوله « سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ».

النوع الرابع : في أشياء من توابع النكاح

وفيه آيات :

الاولى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) (1).

غضّ البصر هو ترك النظر ، والمراد هنا ترك النظر إلى الأجنبيّات ومقول القول محذوف أي قل لهم غضّوا يغضّوا ، فيكون يغضّوا في الآية جوابا للأمر المحذوف وكذلك « يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ » تقديره قل لهم احفظوا فروجهم يحفظوا.

و « من » عند الأخفش زائدة ، وهو ضعيف لضعف زيادتها في الإثبات إلّا شاذا وعند سيبويه هي للتبعيض وهو الحقّ فإنه لا يجب الغض عن جميع المحرّمات فإنّه قد يجوز النظر إلى ما عدا عورة المحارم وإلى ما يظهر في العادة من وجوه الأجنبيّات وأكفّهنّ حال الضّرورة ، وكذا إلى وجوه الإماء المستعرضات للبيع وكذا الطبيب للعلاج ، والشاهد لتحمّل الشهادة وإقامتها ، والنظر إلى المخطوبة مع إمكان نكاحها شرعا وعرفا ، ويقتصر على نظر الوجه ، وكذا النظرة الاولى من

ص: 220


1- النور : 30.

غير لذّة أو ريبة لقوله صلى اللّه عليه وآله (1) « لكم أوّل نظرة فلا تتبعوها بالثانية فتهلكوا ».

وأمّا حفظ الفرج فهو أضيق من الغضّ لاختصاص التحريم بمن عدا الزّوجة وملك اليمين ، فلذلك لم يقل : من فروجهم ، ولمّا كان المستثنى من الفرج كالشاذّ النادر ، أطلقه ولم يقيّده بخلاف الغضّ.

وقيل : إنّ المراد هنا بحفظ الفرج ستره ، بحيث لا ينظر إليه أحد ، وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام « ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ » أي الغضّ والحفظ أطهر لهم من النجاسات النفسانيّة ، لأنّ النظر يدعو إلى الجماع وتوابعه وكلّها من الأجنبيّات محرّم ، قوله « إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ » فيه نوع من التهديد.

الثانية ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (2).

هنا فوائد :

1 - أنّ حكم النساء حكم الرّجال في وجوب غضّ الطّرف وحفظ الفرج

ص: 221


1- لم نعثر على لفظ الحديث وانما وجدنا قوله صلى اللّه عليه وآله : يا على! لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الاولى وليست لك الآخرة كما في سنن ابى داود ج 1 ص 496 ومثله في الوسائل ب 104 من أبواب مقدمات النكاح.
2- النور : 31.

وقد تقدّم تفسير ذلك وعلّة الإتيان بمن في الأوّل دون الثاني.

روي عن أمّ سلمة أنّها قالت كنت أنا وميمونة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فدخل علينا ابن أمّ مكتوم بعد آية الحجاب ، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله لنا : احتجبا فقلنا : يا رسول اللّه إنّه أعمى؟ فقال : أفعميا وان أنتما؟ ألستما تبصرانه (1) وإنّما قدّم غضّ الطرف على حفظ الفرج لكونه مقدّما عليه داعيا إلى الجماع.

2 - تحريم إبداء الزينة ، فقيل المراد مواقعها على حذف المضاف لأنفس الزينة ، لأنّ ذلك يحل النظر إليه كالحليّ والثياب والأصباغ ، وقيل : المراد نفسها ويظهر لي أنّ المراد نفس الزينة ، وإنّما حرم النظر إليها إذ لو أبيح لكان وسيلة إلى النظر إلى مواضعها ، وأمّا ما ظهر منها فليس بمحرّم ، للزوم الحرج المنفيّ في الدّين.

3 - قيل المراد بالظاهرة الثّياب فقط وهو الأصحّ عندي لإطباق الفقهاء على أنّ بدن المرأة كلّها عورة إلّا على الزّوج والمحارم ، فعلى هذا المراد بالباطنة الخلخال والسوار والقرط ، وجميع ما هو مباشر للبدن ويستلزم نظره نظر البدن.

وأمّا باقي الأقوال في ذلك ، فهي أنّه الوجه والكفّان ، أو الكحل والخضاب أو الخاتم ، وأنّه إنّما تسومح فيها للحاجة إلى كشفها ، فضعيفة لا تحقيق لها ، فإنّه إن حصل ضرورة ولزم حرج فذلك هو المبيح لا الآية ، وإلّا فلا وجه لذلك.

4 - الخمر جمع خمار وهي المقنعة ، والمراد بضربها إسدالها على الصدر والعنق سترا لهما ، وتغييرا لعادة الجاهليّة في لبس المخانق ، مع كشف الصدر وما فوقه.

5 - أنّه لمّا نهى عن إظهار الزينة مطلقا عدا الظاهرة ، أشار إلى تخصيص ذلك بإباحته للبعولة والمحارم المذكورين أمّا البعولة فلأنّ ذلك يدعو إلى المباشرة

ص: 222


1- أخرجه أبو داود والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي في سننه عن أم سلمة كما في الدر المنثور - ج 5 ص 42.

المقصودة وأمّا المحارم فوجه اختصاصهم احتياجهم إلى مداخلتهم ، وعدم خوف الفتنة من جهتهم ، لما في الطباع من النفرة عن مماستهم ، واحتياج المرأة إلى مصاحبتهم في الأسفار للركوب والنزول ، ويدخل أجداد البعولة وأحفادهم لأنّهم أيضا آباء وأبناء وإنّما لم يذكر الأعمام والأخوال؟ قيل لئلّا يصفها العمّ والخال لا بينهما فيكون الوصف كالنظر ، وقيل لأنّهم في معنى الاخوان.

6 - إنّه أباح إظهار الزينة لنسائهنّ أي النساء المسلمات دون الكافرات لأنهنّ لا يتحرّجن من وصفهنّ للرجال.

7 - اختلف في المراد بملك اليمين هنا ، فقيل بعمومه الذكر والأنثى ، وهو رأي عائشة ، وبه قال الشافعيّة ، وقال سعيد بن المسيّب أنّه الإماء خاصّة ، ولا يباح نظر المذكّر سواء كان فحلا أو خصيّا وبه قال أبو حنيفة حتّى قال إنّه لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم وينبغي أن يحمل ذلك على بيعهم لأجل إدخالهم على النساء ، لأنّ ما كان لأجل المحرّم فهو محرّم ، كبيع العنب ليعمل خمرا ، والفتوى على الثاني.

إن قلت : على تفسيركم هذا يكون تكرارا لأنّ الإماء يدخلن في نسائهنّ قلت : قد بيّنّا أنّ المراد المسلمات دون الكافرات ، فعلى هذا يكون نظر الإماء مباحا وإن كنّ كافرات ، فإنهنّ لدخولهنّ تحت القهر لا يحكين ما يرين.

8 - أنّه يباح النظر للتابعين (1) وهم الّذين يتبعون لأجل العافية والانتفاع والخدمة وقيل المراد الشيوخ الّذين سقطت شهوتهم ، وليس لهم حاجة إلى النساء وهو المروي عن الكاظم عليه السلام.

والإربة ، قيل هي الحاجة وقيل هم البله الّذين لا يعرفون شيئا من أمور النساء ، وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام وابن عباس ، وعن الشافعيّ هو الخصيّ المجبوب ، ولم يسبق إلى هذا القول ، وعن أبي حنيفة هم العبيد الصغار ، وقرئ

ص: 223


1- الى التابعين ، خ ل.

« غير » بالنصب على الحال ، وبالجرّ صفة للتابعين.

قوله « أَوِ الطِّفْلِ » ذلك يصدق على الواحد والجمع كقوله تعالى « ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً » قوله « لَمْ يَظْهَرُوا » أي لم يطّلعوا على العورة ، فيميّزون بينها وبين غيرها.

9 - كانت الجاهليّات يضربن بأرجلهنّ على الأرض ليسمع صوت خلخالهنّ فنهى المسلمات عن ذلك لأنّه في حكم النظر فإنّه قد يورث ميلا في الرجال فهو أبلغ في النهي عن إظهار الزينة ، قوله « وَتُوبُوا » أي عن إبداء الزينة وغلّب التذكير في العبارة.

الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).

هنا فوائد :

1 - أنّه خاطب المؤمنين أن يأمروا عبيدهم وأطفالهم المميّزين [ بين ] العورة وغيرها حيث أمرهم إليهم ، بأن يستأذنوا في دخولهم عليهم في هذه الأوقات الثلاثة ، فهو بالنسبة إلى البالغين تكليف ، وبالنسبة إلى الأطفال تمرين ، وكان قد تقدّم الأمر بالاستيذان العامّ وهذا استيذان خاصّ وهل الإماء أيضا مأمورات؟ قيل نعم وغلب المذكّرين بقوله « الّذين » وقيل : لا ، وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام.

2 - إنّما اختصّت هذه الأوقات الثلاثة لأنّها مظنّة كشف العورة أمّا قبل الفجر ، فإنّه وقت القيام من المضجع ، وتبديل لبس اللّيل بلبس النهار ، وأمّا

ص: 224


1- النور : 58.

وقت الظهيرة فإنّه وقت القيلولة ومظنّة ظهور العورة وأمّا وقت العشاء فإنّه وقت تبديل لبس النهار بلبس اللّيل.

3 - قوله « لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ » جواب سؤال [ مقدّر ] محذوف تقديره : وما حكم الأوقات الأخر وراء هذه الأوقات؟ أجاب بأنّه ليس عليكم ولا عليهم جناح في ترك الاستيذان ، لزوال سبب الاستيذان وهو مظنّة كشف العورة والضمير في « بَعْدَهُنَّ » للأوقات الثلاث.

4 - قوله « طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ » هو تعليل في المعنى لعدم الاستيذان فيما عدا الأوقات الثلاثة ، لاستلزام الاستئذان في ذلك الحرج ، لأنّه لا بدّ من المخالطة بين هؤلاء وهؤلاء للخدمة والاستخدام ، والاستيذان حينئذ مستلزم للحرج « وطوّافون » خبر مبتدأ محذوف أي هم : طوّافون ، وإنّما لم يكتف بهذا بل قال « بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ » لأنّه ليس أحد الفريقين أولى بالطواف دون الآخر بل هو شامل لهما معا هؤلاء لطلب الخدمة ، وهؤلاء لطلب الاستخدام ، فانّ الخادم إذا غاب عن عين مخدومه واحتاج المخدوم إليه ، لا بدّ أن يطوف ويطلبه وكذا حكم الأطفال للتربية فيكون « بعضكم » بدلا من « طوّافون » والمبدل منه ساقط لا أنّه مرفوع بالابتداء وخبره على بعض ، كما قيل ، وقرأ أهل الكوفة غير حفص « ثلاث » بالرفع خبرا للمبتدإ المحذوف أي هذه ، والباقون بالنصب بدلا « من ثلاث مرات » لاشتمال هذه الأوقات على ثلاث كشفات للعورة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الاعراب والجمع.

الرابعة ( وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).

« منكم » في موضع النصب على الحال أي كائنين منكم ، والخطاب للأحرار

ص: 225


1- النور : 59.

لأن بلوغ الأحرار يوجب رفع الحكم المذكور في تخصيص الاستيذان بالأوقات الثلاثة وأما بلوغ الأرقّاء ، فالحكم باق كما كان في التخصيص لأجل بقاء السبب المذكور.

قوله « مِنْ قَبْلِهِمْ » معناه كالّذين بلغوا من قبلهم وهم الأحرار البالغون لا الّذين ذكروا من قبلهم في قوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ) (1) » كما قال الزمخشريّ والطبرسيّ لعدم القرينة في هذه الإضمار ، وأمّا قرينة البلوغ فموجودة وهي قوله « وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ».

وظنّ قوم أنّ الآية منسوخة ، وليست كذلك قال ابن جبير : يقولون : هي منسوخة ، لا واللّه ما هي منسوخة لكنّ النّاس تهاونوا بها ، وقيل للشعبيّ : إنّ الناس لا يعملون بها ، فقال : اللّه المستعان.

الخامسة ( وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2).

المراد به اللّاتي يئسن من المحيض والولد ، ولا يطمعن في نكاح لكبر سنّهنّ فقد قعدن عن التزويج لعدم الرغبة فيهنّ ، والمراد بالثياب ما يلبس فوق الخمار من الملاحف وغيرها ، فإنّه رخّص لهنّ وضع هذه الثياب للأجانب لعدم رغبتهم فيهنّ وزوال التهمة والتبرّج : التبرّز ، وهو من الأفعال اللّازمة.

قوله « غير » هو نصب على الحال من « أن يضعن » والمعنى أنّهنّ إذا خرجن

ص: 226


1- النور : 27.
2- النور : 60.

من بيوتهنّ بالزينة الّتي يجب سترها من الحليّ وثياب التجمل ، لا يترخّص لهنّ وضع ثيابهنّ « وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ » أي العفاف بالستر خير لهنّ لأنّ وضع ثيابهنّ رخصة لهنّ فتركها خير ، وفي ضمنه أنهنّ لو تبرّجن بغير زينة لا جناح عليهنّ إذا لم يضعن ثيابهنّ ، والباء في « بزينة » ليس للتعدية ، بل للمصاحبة وذلك لأنّ خروجهنّ بالزينة يدل على أنهنّ متبرّجات وداعيات للشوابّ إلى التبرّج لا طالبات لحاجاتهنّ.

السادسة ( يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (1).

قال المعاصر : في هذه دلالة على أنه إذا خطب المؤمن القادر على النفقة يجب إجابته وإن كان أخفض نسبا وكذا يجب على الوليّ إلّا مع العدول إلى الأفضل من الخاطبين ، وعندي في دلالتها على ذلك نصّا أو ظاهرا نظر ، أمّا النصّ فظاهر وأمّا الظاهر فلأنّ دلالتها ظاهرا ليس إلّا على تساوي الأشخاص من حيث المادّة والصورة النسبيّة ، وأنّه لا فضل لأخذ على غيره إلّا بالتقوى ، وذلك ليس بنفسه دالّا على وجوب الإجابة عند الخطبة بل مع انضمام دليل آخر إليه وهو قوله صلى اللّه عليه وآله في خطبته لمّا قال : يا أيّها الناس هذا جبرئيل يخبرني أنّ البنات كالثمر وأنّ الثمر إذا أدرك ولم يقطف فسد ، كذلك البنات إذا بلغن ولم يزوّجن فسدن. فقالوا لمن نزوّج يا رسول اللّه؟ قال الأكفاء قالوا : وما الأكفاء؟ قال : إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه ، (2) فدلّ على أرجحية الأتقى على غيره في المنزلة وأنه إذا تعارض خاطبان متساويان في الدّين استحبّ إجابة الأتقى منهما لقوله « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ ».

ص: 227


1- الحجرات : 13.
2- الكافي ج 5 ص 337.

السابعة : قوله ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (1).

قال المعاصر قيل : أريد بالثياب الزّوجات لقوله « هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ » فينبغي أن يتخيّر لنفسه من النساء العفيفة الكريمة الأصل ، ويؤيّده قوله ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلّا نَكِداً ) (2).

قلت وعندي فيه نظر لمنع دلالتها على ذلك ، فانّ الثياب حقيقة في الساتر للجسد ، واستعمال اللّباس في النساء مجازا في موضع لا يستلزم استعماله في غيره لأنّ المجاز لا يطّرد كما تقرّر في الأصول وأيضا الطهارة حقيقة في استعمال الماء فاستعمالها في غير ذلك مجاز ، والأصل عدمه ، نعم يدلّ على المطلوب قوله صلى اللّه عليه وآله « تخيّروا لنطفكم » (3) وكذا قوله ( الزّانِي لا يَنْكِحُ إِلّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) (4) أي لا يرغب إلّا في نكاح الزانية ، وفي ذلك دلالة على استحباب اختيار العفيفة ، وكراهة اختيار غيرها ، وكذلك قوله ( الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ ) (5) وهو خبر في معنى الأمر.

الثامنة ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (6).

قالوا : فيها دلالة على جواز الوطي في الدّبر ، وتحرير القول هنا أن نقول :أكثر المخالفين منعوا منه ، وأجازه مالك قال : ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنّ وطي المرأة في دبرها حلال ثمّ قرأ الآية المذكورة.

وأمّا أصحابنا فلهم في ذلك روايتان إحداهما التحريم ، وهو قول الصّادق

ص: 228


1- المدثر : 4.
2- الأعراف : 58.
3- الكافي ج 5 ص 332 باب اختيار الزوجة الرقم 2.
4- النور : 3.
5- النور : 26.
6- البقرة : 223.

عليه السلام قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « محاشّ النساء على أمّتي حرام » (1) وثانيتها الحلّ وهو رواية عبد اللّه بن أبي يعفور في الصحيح عن الصادق عليه السلام قال سألته عن الرّجل يأتي المرأة في دبرها قال لا بأس (2) وأفتى به أكثر علمائنا.

واحتجّوا لتأييد ذلك بآيات :

1 - هذه الآية ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) ولفظ « أنّى » للمكان كائن يقال اجلس أنّى شئت أي أيّ موضع شئت.

إن قيل : يحمل على القبل لكونه موضع الحرث ، قلنا إنّما يصح ذلك أن لو كان الحرث اسما للقبل ، وأمّا إذا كان اسما للنساء فلا ، كيف ولو حمل على القبل فقطّ لزم تحريم التفخيذ أيضا ولا قائل به.

2 - قوله ( هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) (3) وجه الاستدلال أنّه علم رغبتهم في الدّبر فيكون الاذن مصروفا إلى تلك الرغبة.

3 - قوله ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) (4) وفي هذين نظر لجواز أن يكون أمرهم بالاستغناء بالنساء لأنّ قضاء الوطر يحصل بهنّ وإن لم يكن مماثلا كما يقال : استغن بالحلال عن الحرام ، وأيضا فإنّه غير شرعنا فلا يكون حجّة في شرعنا.

4 - قوله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (5) وجه الاستدلال أنّه أمر بحفظ الفروج مطلقا ثمّ

ص: 229


1- الفقيه ج 2 ص 152 ، التهذيب ج 2 ص 230.
2- التهذيب ج 2 ص 230.
3- هود : 78.
4- الشعراء : 165.
5- المؤمنون : 6.

استثنى الأزواج فيسقط التحفّظ في الطرفين مطلقا ولأنّه منفعة تتوق النفس إليها عارية عن مانع عقلي أو شرعي ، فتكون مباحة ، أمّا الأولى فلأنّه الفرض ، وأمّا الثانية فظاهر إذ لا مانع عقليّ وأمّا الشرعيّ فلما يأتي في جواب المانع.

احتجّوا بقوله ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) (1) والمأمور به هو القبل ، برواية أبي هريرة عنه صلى اللّه عليه وآله « لا ينظر اللّه إلى رجل جامع امرأته في دبرها » (2) وبرواية خزيمة عنه صلى اللّه عليه وآله « أنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ » قالها ثلاثا « لا تأتوا النّساء في أدبارهنّ » (3).

والجواب عن الآية المنع من دلالتها على موضع النزاع ، فانّ المراد بالأمر الإباحة ، والمكروه مباح ، فيكون التقدير من حيث أباحكم ، إن قيل إنّ الأمر حقيقة في الوجوب قلنا فحينئذ يكون المأمور به القبل ولا يدلّ على المنع من إباحة الآخر على أنّا نقول إنّ ذلك متروك الظاهر بالإجماع ، فإنّه لا يجب أن يطأ عقيب الطهارة ، بل ولا يستحبّ بل يباح وأبو هريرة كذّاب ويروى أنّ عمر أدّبه على كذبه بالدّرّة ، مع أنّه لا يلزم منه التحريم ، لجواز عدم النظر ، لكراهته وخبر خزيمة خبر واحد ، مع أنّه معارض بأخبار كثيرة من طرق أهل البيت عليهم السلام (4).

قوله : و « قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ » قيل : المراد التسمية عند الجماع ، وقيل :

ص: 230


1- البقرة : 222.
2- رواه في شرح السنة على ما في مشكاة المصابيح ص 276 وقد روى مثله عن ابن عباس.
3- أخرجه الشافعي في الأم وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن المنذر والبيهقي في سننه من طرق راجع الدر المنثور ج 1 ص 264.
4- راجع الوسائل ب 73 من أبواب مقدمات النكاح ، وقد روى من طرق أهل السنة روايات كثيرة في الجواز كما في الدر المنثور ج 1 ص 265 - 267.

الدّعاء عند الجماع ، وقيل طلب الولد ، فانّ اقتناء الولد الصالح تقديم لثواب عظيم « قال صلى اللّه عليه وآله إذا مات المؤمن انقطع عمله إلّا من ثلاث : ولد صالح يدعو له وصدقة جارية بعده ، وعلم ينتفع به » (1) وباقي الآية ظاهر.

التاسعة ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (2).

في هذه الآية أحكام :

1 - أنّ الوالدات ينبغي لهنّ أن يرضعن أولادهنّ لأنّ هذه الجملة خبر في معنى الأمر تقديره ليرضعن أولادهنّ إذ لا جائز أن يكون على الخبريّة ، وإلا لزم الكذب ، فإنّه قد يرضعن أزيد وأنقص ، وليس الأمر للوجوب لأصالة البراءة بل لمطلق الرجحان ، الشامل له وللندب ، فقد يكون واجبا كما إذا لم يرتضع الصبيّ إلّا من امّه ، أو لم يوجد ظئر ، أو عجز الوالد عن الاستيجار أو إرضاع اللّباء وهو أوّل لبن يجي ء بعد الولادة فإنّه يجب عليها إرضاعه إيّاه ، قيل لأنّه لا يعيش بدونه ، وقد يكون مندوبا كما إذا لم يحصل أحد الأسباب الموجبة فإنّه أفضل ما يرضع لبن امّه ، ويستحب لها أن تفعل ذلك.

ص: 231


1- مجمع البيان ج 2 ص 321.
2- البقرة : 233.

2 - أنّ مدّة الرّضاع حولان ، وإنّما قيدهما بالكمال؟ قيل : للتأكيد لجواز إطلاق الحول على بعضه ، وقيل : لأنّ الحول قسمان تام وهو الشمسي وناقص وهو القمري لنقصان بعض أشهره ، لأنّ التأسيس لا يعدل عنه إلى التأكيد إلّا مع تعذّره ، ولم يتعذّر هيهنا.

ويظهر لي أنّ الحول قد استعمل شرعا في أحد عشر شهرا ويوم من الثاني عشر كما في الزكاة ، وقد استعمل مع تمام الثاني عشر كما في الدّين المؤجّل حولا فأزال الاحتمال الأوّل بقوله « كاملين ».

3 - قوله « لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » اللّام متعلّقة بيرضعن كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، فانّ إرضاعهنّ لأجل أزواجهنّ ، لأنّ نفقة الولد على والده ، وكذلك يجب أن يتّخذ للولد ظئرا ترضعه إذا امتنعت الامّ من الرضاعة ويجوز فتح راء الرّضاعة وكسرها وقرئ بهما.

وفي ذلك دلالة على أنّ أقصى مدّة الرّضاع حولان وأنّه لا حكم له بعدهما في تحريم النكاح ولا استحقاق الأجرة لو أرضعت بعد استيجاره للرضاع الشرعيّ وأنّه يجوز أن ينقص عن ذلك.

ثمّ اختلف هل هذا التحديد لكلّ مولود أم لا؟ قال ابن عبّاس رضي اللّه عنه : ليس لكلّ مولود ، ولكن لمن ولد لستّة أشهر وإن ولد لسبعة فثلاثة وعشرون شهرا ، وإن ولد لتسعة فأحد وعشرون شهرا ، وروى أصحابنا أنّ ما نقص عن أحد وعشرين فهو جور على الصبيّ ، وقال الثوريّ وجماعة : هو لازم لكلّ مولود وأنّه إذا اختلف والداه ، رجع إلى ذلك ، وتفصيل ابن عبّاس حسن ، لما فيه من الجمع بين الآيات في قوله « وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً » وقوله « وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ » وبين [ مدد ] الوقوع فإنّ مدّة الحمل تكون ستّة ، وتكون سبعة ، وتكون تسعة ، وهو الغالب في الوقوع والولد يعيش في هذه المدد ، وأمّا في الثمانية فقالوا إنّه لا يعيش.

وعلّل [ ذلك بأنّ الحمل إذا كان له سبعة أشهر ، طلب الخروج فيضطرب

ص: 232

اضطرابا شديدا ، فإذا أفضت حركته إلى الخروج فذاك ، وإلّا ضعف بدنه لذلك فان خرج في الثامن خرج ضعيفا فلا يعيش غالبا وإذا استمرّت تلك المدّة يعيش من ضعفه وقوي على البروز في التاسع فيخرج صحيحا (1) ].

4 - أنّه يجب على الوالد اجرة الرضاع لقوله تعالى « وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ » و « على » تستعمل للوجوب كما يقال على فلان دين ، وإنّما لم يقل على الزوج لأنّه قد يكون على غير الزّوج كالمطلّق ، وفي قوله « الْمَوْلُودِ لَهُ » إشارة إلى أنّ الولد في الحقيقة للأب ، ولهذا ينسب إليه ، ويجب عليه نفقته ابتداء. قوله « رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ » أي كمال المؤنة لهنّ والرزق المأكول وقوله « بِالْمَعْرُوفِ » أي بما يعرفه أهل العرف من حقّها ، وفيه إشارة إلى وجوب اجرة مثلها ، وأنّه ليس لها إلّا قدرها ، ولا ينقص أيضا عن قدرها ولذلك قال « لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها ، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ » فيكون الباء حينئذ للسببيّة ، وقيل فيه وجهان آخران :

الأوّل : أي لا توقع به الضرر ، بأن تترك إرضاعه تعنّتا أو غيظا على أبيه فإنّها أشفق عليه من الأجنبيّة ، ولا يوقع الأب أيضا الضرر بولده بأن ينزعه من امّه ويمنعها من إرضاعه ، فتكون المضارّة على هذا بمعنى الإضرار ، واتي بفعل المفاعلة الواقعة بين الاثنين مبالغة.

الثاني : أنّ المراد لا يضارّ الوالدة بأن يترك جماعها خوفا من الحمل ، ولا هي تمتنع من الجماع خوفا من الحمل أيضا فتضر بالأب ، عن الباقر والصادق عليهما السلام (2).

وفي قوله « وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ » إلى آخره إشارة إلى جواز المعاوضة على الرّضاع من الزّوج وهل يجوز استيجارها للرضاع أم لا؟ قال

ص: 233


1- ما بين العلامتين يوجد في هامش النسخة المطبوعة ، وهكذا في متن نسخة مخطوطة عتيقة أوعزنا إليها في مقدمة هذه الطبعة تحت الرقم 1 ، وأرينا صفحة منها بالفتوغرافية ص 19 من المقدمة فراجع وأما سائر النسخ فخالية عن هذه الزيادة.
2- تفسير العياشي ج 1 ص 120 تحت الرقم 381 و 382 من سورة البقرة.

أصحابنا والشافعي بجوازه ، ومنع أبو حنيفة ذلك ما دامت زوجته أو معتدّة عن نكاح ، قال : لأنّ الزّوج يملك منافعها كالأجير الخاصّ. فلا يجوز أن يوقع عليها عقد إجارة ، ونحن نمنع تملّكه لمنافعها ، ولا يلزم من استحقاقه لمنفعة البضع ملكه لجميع منافعها.

وقيل : في قوله « لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّا وُسْعَها » إشارة إلى أنّ النّفقة تعتبر بحال الزّوج وقد تقدّم كلامنا فيه.

5 - أنّ اجرة المرضعة واجبة أيضا على الطفل إذا كان له مال وإليه الإشارة بقوله « وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ » أي وارث الأب وهو الصبي بأن يقوم الوصي أو الحاكم بمؤنتها عوضا عن إرضاعها عند موت الأب من مال يرثه من أبيه.

إن قلت : إن كان للولد مال حياة أبيه كانت المؤنة ثابتة في ماله ، فأي فائدة في تقييده بالوارث؟ قلت : الأغلبيّة.

وقيل : الوارث هو الباقي من الأبوين يجب عليه مؤنة إرضاعه ، فإنّ الوارث يعبّر به عن الباقي كما في قوله عليه السلام « اللّهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منّا (1) » وهو صحيح عندنا لأنّ مع عدم الأب وآبائه يجب النفقة على الامّ ، وهو موافق لمذهب الشافعيّ فإنّ عنده لا نفقة على غير الأبوين.

وقيل : إنّ المراد الوارث للصبيّ أو الوارث للأب يجب عليهما ما كان يجب على الأب ، وهو بناء على وجوب النفقة على كلّ وارث وهو مذهب ابن أبي ليلي.

وعند أبي حنيفة يجب الإنفاق على الوارث المحرم ، وقيل على العصبات وما ذكرناه اولى.

6 - وأنّه لمّا قرّر أنّ مدة الرضاع حولان ، أشار إلى أنّه يجوز أيضا الاقتصار على أقلّ من ذلك بقوله « فَإِنْ أَرادا فِصالاً » وإنّما قيّده بالتراضي

ص: 234


1- راجع سراج المنير ج 1 ص 316.

والتشاور منهما مراعاة لمصلحة الطفل ، إذ لو اقتصر على رأي أحدهما جاز أن يقدم على ما يضربه الطفل لغرض مّا وحينئذ يكون للآخر منعه. والتشاور : المشاورة والمشورة والشورى ، وهو استخراج الرأي من شرت العسل أي استخرجته.

7 - أنّه لمّا قرّر أنّ « الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ » أوهم وجوب كونهنّ كذلك وأنّه لا يجوز استرضاع غيرهنّ مطلقا ، فأزال ذلك بقوله : وإن أردتم أن تسترضعوا المراضع أولادكم يقال : أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إيّاه تعدّى إلى مفعولين : حذف الأوّل للاستغناء عنه ، وإطلاقه يدل على أنّ للزوج أن يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع ، لكن ذلك مناف لقوله « لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها » فيكون هنا مقيّدا بقيد ، وهو تعذّر استرضاع الامّ كانقطاع اللّبن أو غير ذلك.

قوله « إِذا سَلَّمْتُمْ » أي أعطيتم المراضع ما أردتم إيتاءه للوالدات ، وليس التسليم للأجرة شرطا في جواز الاسترضاع ، بل الغرض التنبيه على أنّ المرضعة ينبغي أن يكون طيّبة النفس ، لتقبل على الطفل بقلبها ، وتراعي مصلحته حقّ المراعاة.

قوله « وَاتَّقُوا اللّهَ » مبالغة في المحافظة على ما شرّع في أمر الأطفال والمراضع وقوله « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » حثّ وتهديد.

فائدة : دلّ قوله « وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً » وقوله « وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ » وقوله « حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر لأنّا إذا أسقطنا حولين ، وهما أربعة وعشرون شهرا من ثلاثين شهرا بقي ستّة أشهر ، وما أظن أحدا خالف في ذلك وأمّا أكثر الحمل فعندنا عشرة أشهر وعند أبي حنيفة ثلاثون شهرا ، ويتأوّل الآية بأنّ كلّ واحد من حمله وفصاله ثلاثون شهرا وعند الشافعيّ أربع سنين ، وعند أحمد ومالك ستّة سنين ، والكلّ من أقوالهم مناف للوقوع.

ص: 235

العاشرة ( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (1).

قال أهل البلاغة : التعريض هو إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا ويرادفه التلويح ، كقول السائل : جئتك لا سلّم عليك ، والكناية هي الدّلالة على الشي ء بذكر لوازمه ، كقولك فلان طويل النجاد ، كثير الرّماد ، إذا عرفت هذا فالآية تشتمل على جمل تتضمّن أحكاما :

1 - أنّه لا حرج في التعريض للمعتدّات بالخطبة ، والمراد به هنا كلام يفهم منه الرّغبة في النساء من غير تصريح كقوله ربّ راغب فيك وإنّك لجميلة ، وإنّ اللّه لسائق إليك خيرا وأمثاله ، ونفي الحرج في التعريض يستلزم ثبوته في التصريح لهنّ بالخطبة ، وهذا فيه إجمال علم تفصيله وبيانه من السنّة الشريفة فنقول :

المعتدّة رجعيّة يحرم التعريض والتصريح لها من الأجنبيّ ، وكذا يحرمان لكلّ محرّمة أبدا كالملاعنة والمطلقة تسعا للعدّة من الزوج أمّا من غيره فيجوز التعريض لا التصريح والمعتدّة بائنا يحرم التصريح لها في العدّة من غير الزّوج ويجوز التعريض ، وأمّا منه فيجوز له التعريض مطلقا ، وأمّا التصريح فيجوز للمختلعة والمفسوخة بعيب أو تدليس ولا يجوز للمطلّقة ثلاثا لا في العدّة ولا بعدها إلّا بعد أن تنكح ، وحكم التعريض حكم الاكنان في النفس أي الستر والإضمار ، يقال : كنفته أي سترته.

2 - قوله « عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ » أي في القلب فاذكروهنّ لأنّ تركه غير مقدور ، ثمّ إنّه نهى عن المواعدة سرّا أي جماعا ووطيا ، لأنّه يسر أي يفعل

ص: 236


1- البقرة : 235.

سرّا ، لكونه كلاما فحشا ولا يجوز الخطبة به مطلقا ، ثمّ استثنى من قوله « لا تُواعِدُوهُنَّ » القول المعروف أي ما فيه تعريض أي لا تواعدوهنّ إلّا مواعدة معروفة أو بقول معروف ، وقيل الاستثناء منقطع من قوله « سِرًّا » وهو ضعيف لأدائه إلى قولك لا تواعدوهنّ إلا التعريض وهو غير موعود.

3 - « وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ » هو نهي عن عقدة نكاح المعتدات بالنهي عن لازمه لأنّ الفعل الاختياريّ من لوازمه العزم عليه ، والنهي عن اللّازم يستلزم النّهي عن ملزومه ، وأصل العزم القطع فانّ العازم قاطع لا يجوّز نقيض مراده والكتاب المكتوب من العدّة ، وأجله منتهاه وهنا مسائل :

1 - لا تحرم المخطوبة بتحريم الخطبة.

2 - لو عقد على المعتدّة عالما بالتحريم والعدّة حرمت أبدا مطلقا وإن كان جاهلا ودخل ، فكذلك وإلّا فلا.

3 - خصّ الشافعيّة الآية بعدّة الوفاة واختلفوا في عدّة الفراق ، وعندنا لا خلاف فيها.

النوع الخامس : ( في أشياء تتعلق بنكاح النبي صلى اللّه عليه وآله وأزواجه )

وفيه آيات :

الاولى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) (1).

ص: 237


1- الأحزاب : 28.

ذكر لنزولها وجهان : أحدهما في تفسير ينسب إلى الصادق عليه السلام أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لمّا حصل له الغنائم من خيبر قالت له نساؤه أعطنا من هذه الغنيمة قال قسمتها بين المسلمين بأمر اللّه فغضبن وقلن لعلّك تظن إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك ، فأمر اللّه تعالى باعتزاله لهنّ والجلوس في مشربة أمّ إبراهيم حتّى حضن فطهرن ثمّ أنزل اللّه هذه الآية (1).

وثانيهما ، قال المفسّرون (2) أنّ أزواجه سألنه شيئا من عرض الدّنيا وطلبن زيادة في النفقة ، وآذينه لغيرة بعضهنّ من بعض فآلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله منهنّ شهرا فنزلت آية التخيير. وهي هذه ، وكنّ يومئذ تسعا : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة فهؤلاء من قريش ، وصفيّة بنت حيّ الخيبريّة ، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة ، وزينب بنت جحش الأسديّة ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة.

فلمّا نزلت طلبهنّ وخيّرهنّ في المفارقة والبقاء ، فاخترنه عليه السلام وأصل « تعال » أن يكون الآمر في مكان مرتفع والمأمور في مكان مستقل ثمّ كثروا ستعير للآمر بإقبال القلب وهو المراد هنا.

والسراح كالسّلام والكلام ، بمعنى التسريح والتكليم (3) وهو كناية عن الطلاق ووصفه بالجميل أي يكون لا عن مشاجرة ومخاصمة بين الزّوجين ، أو أن يكون من غير إضرار وبدعة ، وهنا فوائد :

1 - أنّ التخيير لنسائه بين المقام والمفارقة على التقديرين المذكورين واجب عليه لقوله « قل » والأمر للوجوب ، والتخيير هنا كناية عن الطلاق ، فمن اختارت الدنيا انفسخ نكاحها وهو من خواصّه.

2 - قيل إنّ المتعة لا يكون إلّا للمطلّقة قبل الدّخول وقبل فرض المهر

ص: 238


1- تفسير القمي ص 529.
2- مجمع البيان ج 8 ص 353.
3- كذا في جميع النسخ : والسياق يقتضي زيادة « والتسليم ».

كما تقدّم ، وأزواج النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يكنّ كذلك فما وجه هذه المتعة؟ قلنا يحتمل هنا وجوها

الأوّل : أن لا يكون المراد تلك المتعة المعهودة ، بل مطلق النّفع ، بأن يزيدهنّ على المهور أو يعطيهنّ ما كان عندهنّ من أثاث وغيره.

الثاني : أنّه قد تقدّم أنّ المتعة لكلّ مطلقة عند قوم [ وعند قوم ] إلّا المختلعة والمباراة فعلى هذا يكون المراد المتعة المعهودة.

الثالث : جاز أن يكون من خواصّه صلى اللّه عليه وآله وجوب التمتّع كما وجب عليه التخيير. وهذا أولى في الجواب.

3 - اختلف العلماء في حكم التخيير على أقوال :

الأوّل : أنّ الرجل إذا خيّر امرأته فاختارت زوجها فلا شي ء وإن اختارت نفسها فهي تطليقة واحدة وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة وأصحابه.

الثاني : أنّه إذا اختارت نفسها فهي ثلاث تطليقات وإن اختارت زوجها وقعت واحدة ، وهو قول زيد ومذهب مالك.

الثالث : أنّه إن نوى بالتخيير الطلاق كان طلاقا وإلّا فلا ، وهو مذهب الشافعيّ.

الرّابع : أنّه لا يقع بذلك طلاق وإنما كان ذلك من خواصّه عليه السلام ولو اخترن أنفسهنّ لمّا خيّرهنّ لبنّ منه فأمّا غيره فلا يجوز له ذلك وهو المروي عن الصّادق عليه السلام حيث قال « ما للناس والخيار؟ وإنّما هذا شي ء خصّ اللّه تعالى به رسوله » (1).

قال ابن الجنيد وابن أبي عقيل منّا بوقوعه طلاقا مع نيّته واختيارها نفسها على الفور ، فلو تأخّر اختيارها لحظة لم يكن شيئا

والأكثر منّا على خلاف قولهما لقول الصادق عليه السلام إنّما الطلاق أن يقول لها : « أنت طالق » (2).

ص: 239


1- الكافي ج 6 ص 237.
2- الكافي ج 6 ص 69.

الثانية ( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) (1).

هذه أيضا تدل على خاصّة أخرى له صلى اللّه عليه وآله وهو أضعاف العذاب لنسائه على السيّئات ، وإيتاء الأجر مرّتين على الطاعات.

أمّا الأوّل فلأنّ العذاب على قدر قبح المعصية ، وقبح المعصية على قدر العلم به ونساء النبيّ صلى اللّه عليه وآله أشد صحبة له صلى اللّه عليه وآله ويشاهدن الوحي كأنّ علمهنّ بالأحكام كالضروريّ ، فأضعف لهنّ العذاب لذلك.

وأمّا الثاني فظاهر لأنّه لمّا كان عقابهنّ مضاعفا اقتضى العدل كون ثوابهنّ كذلك ، وعلم من ذلك كون الضعف مثلا واحدا والمراد بالفاحشة الخطيئة الكبيرة والمبيّنة الظاهرة الفحش ، والقنوت هنا المداومة على الطاعة ، وإن استعمل في غير ذلك كالدعاء في الصّلاة وطول العبادة.

الثالثة ( وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيماً ) (2).

هذه أيضا تدل على خاصّة أخرى له صلى اللّه عليه وآله وهو عدم جواز نكاح نسائه بعد وفاته إجماعا فقيل لكونهنّ أمّهات لقوله « وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ » وهو باطل وإلّا لحرم بناتهنّ لأنّهنّ أخوات بل تسميتهنّ أمّهات لأجل تحريم نكاحهنّ ، فالأولى كونه من خواصّه صلى اللّه عليه وآله وحذرا من غيرته لذلك ، فيكون إيذاء له وسبب نزولها أنّه لمّا نزلت آية الحجاب قال طلحة بن عبد اللّه أينهانا أن نتكلّم بنات عمّنا إلّا من وراء

ص: 240


1- الأحزاب : 30.
2- الأحزاب : 53.

الحجاب لئن مات لأتزوّجنّ فلانة (1).

وعندنا أنّ من فارقها بطلاق أو فسخ كذلك ، سواء دخل بها أو لا ، وللشافعيّة هنا ثلاثة أوجه الأوّل التحريم مطلقا لأنّهنّ أمّهات ، الثاني الإباحة مطلقا وإلّا لم يكن للبينونة فائدة ، الثالث الحلّ في الّتي لم يدخل بها لما روي أنّ أشعث بن قيس تزوّج المستعيذة في أيّام عمر ، فهمّ برجمها فأخبر بأنّه صلى اللّه عليه وآله فارقها قبل أن يدخل بها ، فترك (2) فيكون التحريم ثابتا في المدخول بها.

وكذا لهم هذه الوجوه في سراريه وعموم الآية يدفع هذه الاحتمالات.

الرابعة ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) (3).

ص: 241


1- أخرجه ابن ابى حاتم عن السدى وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة. كما في الدر المنثور ج 5 ص 214.
2- أنوار التنزيل ج 2 ص 279 عند تفسير الآية.
3- الأحزاب : 50. وفي الآية سؤال عن وجه افراد العم والخال ، وجمع العمة والخالة ، قال الشوكانى في فتح القدير ج 4 ص 288 : ووجه افراد العم والخال ، وجمع العمة والخالة ، ما ذكره القرطبي : أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس كالشاعر والراجز ، وليس كذلك العمة والخالة ، قال : وهذا عرف لغوي ، فجاء الكلام عليه بغاية البيان ، وحكاه عن ابن العربي ، وقال ابن كثير : انه وحد لفظ الذكر لشرفه وجمع الاثنى كقوله : عن اليمين وعن الشمائل ، وقوله : يخرجهم من الظلمات الى النور ، وجعل الظلمات والنور ، وله نظائر كثيرة. انتهى. وقال النيسابوري : وانما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتهما مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد ، ولم يحسن هذا الاختصار في العمة والخالة لا مكان سبق الوهم الى أن التاء فيهما للوحدة انتهى. وكل وجه من هذه الوجوه يحتمل المناقشة بالنقض والمعارضة ، وأحسنهما تعليلا تعليل جمع العمة والخالة بسبق الوهم الى أن التاء للوحدة ، وليس في العم والخال ما يسبق الوهم إليه بأنه أريد به الوحدة إلا مجرد صيغة الافراد ، وهي لا تقتضي ذلك بعد إضافتها ، لما تقرر من عموم أسماء الأجناس المضافة ، على أن هذا الوجه لا يخلو عن شوب المناقشة. انتهى ما في فتح القدير.

هذه أيضا تشتمل على ذكر ما هو من خواصّه ، وهو استباحة الوطي بالهبة والدّليل على كونه من خواصّه قوله « خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ » واختلف في أنّ ذلك هل وقع أم لا؟ قال ابن عبّاس لم يكن أحد عنده صلى اللّه عليه وآله بالهبة ، وقال غيره بل وقع وعدوّا أربعا : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت حزام : أمّ المساكين الأنصاريّة ، وخولة بنت حكيم.

قيل : إنّ هذه لمّا وهبت نفسها له صلى اللّه عليه وآله قالت عائشة : ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟ فنزلت الآية ، فقالت عائشة : ما أرى اللّه إلّا أن يسارع في هواك فقال صلى اللّه عليه وآله فإنّك إن أطعت اللّه سارع في هواك ، والرابعة قيل أمّ شريك بنت جابر من بني أسد ، عن عليّ بن الحسين وهنا فوائد :

1 - جوّز الكرخيّ وقوع النكاح بلفظ الإجارة لقوله ( اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) والأجر يختصّ بالإجارة ، وليس بشي ء لجواز أن يكون الأجر مستعارا للمهر وقال أبو بكر الرازيّ لا يجوز بالإجارة ، لأنّ الإجارة عقد موقت وعقد النكاح مؤبّد فهما متنافيان.

2 - قيل يجوز وقوعه أيضا بلفظ الهبة لغير النبيّ صلى اللّه عليه وآله وليس بشي ء أيضا لقوله تعالى ( خالِصَةً لَكَ ) وهو مذهب أصحابنا والشافعيّة.

3 - أيّ فائدة في القيود الثلاثة وهي ( اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) و ( اللّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ) و ( مِمّا أَفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ ) فانّ الإحلال حاصل بدونها؟ قلت فائدتها أنّها

ص: 242

كانت حاصلة ولا يلزم من ذكرها عدم إحلال غيرها إلّا بدليل الخطاب وليس حجّة وقيل فائدتها أنّ اللّه أحلّ له صلى اللّه عليه وآله ما هو الأفضل ، وفيه نظر لأنّه يقتضي أن لا يحصل الإحلال للمذكورات إلّا بالقيود الثلاثة وليس كذلك وأيضا لو كان كذلك لكان ينبغي أن يأتي بعبارة تدلّ على إرادة الأفضل وقول القاضي يحتمل أن يكون من خواصّه ، ويؤيّده قول أمّ هانئ بنت أبي طالب خطبني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فاعتذرت إليه فعذرني ثمّ أنزل اللّه هذه الآية فلم أحلّ له ، لأنّي لم أهاجر معه ، وكنت من الطلقاء ، ضعيف ، لأنّه لم ينقل أنّه من خواصّه ، وقولها فلم أحلّ له فهمته من دليل الخطاب وليس بحجّة ، وقال الطبرسيّ كان ذلك قبل تحليل غير المهاجرات ثمّ نسخ شرط الهجرة في التحليل ، وهو ضعيف لأنّ ذلك وإن تمّ في المهاجرات فلا يتمّ في القيدين الأخيرين فالأولى ما قلناه ، فانّ الوصف كما يكون للتخصيص يكون للتوضيح.

الخامسة ( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً ) (1).

الإرجاء التأخير ، يقال أرجأت بالهمزة ، وأرجيت بغير همز لغتان ، بمعنى واحد ، وقرئ في الآية بالهمز وعدمه ، والعبارة تحتمل وجوها :

1 - تطلّق من تشاء وتترك طلاق من تشاء.

2 - تدعو من تشاء إلى الفراش ، وترجئ من تشاء ، فلا تدعوها.

3 - ترجئ من تشاء فلا تقسم لهنّ ، وتؤوي إليك من تشاء ، فتقسم لهنّ فأرجأ سودة ، وجويرية ، وصفيّة ، وميمونة ، وأمّ حبيبة ، وكان يقسم بينهنّ

ص: 243


1- الأحزاب : 51.

ما شاء ، وآوى عائشة ، وحفصة ، وأمّ سلمة ، وزينب ، فكان يقسم بينهنّ ، فاستدلّ به من قال بعدم وجوب القسمة عليه ، وأنّ ذلك من خواصّه وإنّما كان ما يفعله من القسمة تفضّلا منه ، وطلبا للعدل ، وأن لا ينسب إليه الجور ، وهذا هو المشهور عند أصحابنا.

4 - أنّ ذلك راجع إلى الواهبات ، أي ترجئ من تشاء من الواهبات وتؤوي إليك من تشاء منهنّ.

قوله ( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ) أي إنّ المعزولات لك أن تؤويهنّ وبعد ابتغائك إيّاهنّ وإيوائك لهنّ. لك أيضا أن ترجئ من تشاء منهنّ وتؤوي ، ولا جناح عليك في ذلك كلّه.

قوله ( ذلِكَ أَدْنى ) إشارة إلى أنّ التخيير بين إيواء من تشاء ، وتأخير من تشاء ، أقرب إلى قرّة أعينهنّ ، وعدم حزنهنّ ورضاهنّ ، لأنّه حكم كلّهنّ يتساوين فيه ، ثمّ إن سوّيت بينهنّ وجدن ذلك تفضّلا وإحسانا منك ، وإن رجّحت بعضهنّ على بعض علمن أنّه بحكم اللّه فتطمئنّ قلوبهنّ.

وقيل : إنّ ذلك إشارة إلى جواز ردّ المعزولات إليك ، فإنّهنّ إذا علمن بذلك علمن أنّهنّ غير مطلّقات ورجون أنّك ترجعهنّ إليك وباقي الآية معلوم.

السادسة ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً ) (1).

قيل : إنّها منسوخة بقوله ( إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ ) (2) الآية وهو فتوى أصحابنا وقيل بقوله ( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ ) على الوجه الأوّل ، فإنّهما وإن تقدّمتا قراءة فمتأخّرتان نزولا كآية العدّة فإنّه أبيح له بعد ذلك تزويج ما شاء ، وروي عن عائشة أنّها قالت : ما فارق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حتّى حلّل له ما أراد من النساء ، وقيل بعدم ذلك

ص: 244


1- الأحزاب : 52.
2- الأحزاب : 50.

فإنّها باقية الحكم لأصالة عدم النسخ.

ثمّ اختلف في تأويلها بسبب قوله « مِنْ بَعْدُ » على وجوه الأوّل من بعد التّسع اللّاتي كنّ عنده ومات عنهنّ وقد تقدّم أسماؤهنّ وأنّ التّسع في حقّه كالأربع في حقّنا ، الثاني من بعد النساء اللّاتي ذكرن في الآية المتقدّمة ، وهي ( إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ ) وهي ستّة أجناس غير المملوكات ، فعلى هذا يباح له فوق التّسع ، إذ الجمع من كلّ جنس أقلّه ثلاثة ، الثالث روي عن الصادق عليه السلام أنّ المراد بعد المحرّمات في سورة النساء (1) فعلى هذا لا يكون فيها شي ء من خواصّه صلى اللّه عليه وآله وعلى الأوّل لا يجوز له طلاق واجدة منهنّ ، ولا التبدّل بها لو ماتت ، و « من » في قوله ( مِنْ أَزْواجٍ ) زائدة ، للاستغراق.

قوله ( وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ) أي ليس لك أن تطلّق بعضهنّ وتتزوّج بدلها وإن كان البدل أحسن ( إِلّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) فإنّه لا حصر فيهنّ ، وقيل إنّه استثناء من النساء ، لأنّه يتناول الأزواج والإماء ، وعلى ما قلنا من رأي أصحابنا إنّها منسوخة ، كلّ هذه الوجوه لا فائدة فيها إلّا الوقوف عليها والرواية المذكورة عن الصادق عليه السلام ضعيفة لمخالفتها الحكم المجمع عليه من جواز تبديله لنسائه وجواز تبديل أمته بالطلاق والفسخ.

السابعة ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ) (2).

ص: 245


1- الكافي باب ما أحل للنبي من كتاب النكاح تحت الرقم 1 - 4 و 7. راجع ج 5 ص387 - 391 من الطبعة الحديثة.
2- الأحزاب : 37.

روي أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خطب زينب بنت جحش الأسديّة وكانت أمّها أميمة بنت عبد المطّلب عمّة رسول اللّه لزيد بن حارثة ، وعندها أنّه يخطب لنفسه فلمّا علمت أنّه لزيد أبت وأنكرت ذلك لعلوّ نسبها ، فنزلت ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (1) فقالت : رضيت يا رسول اللّه فأنكحها لزيد ، فدخل بها وساق إليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عشرة دنانير وستّين درهما مهرا ، وخمارا ، وملحفة ، ودرعا وإزارا ، وخمسين مدّا من الطعام ، وثلاثين صاعا من تمر.

وروى عليّ بن إبراهيم في تفسيره (2) أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان شديد الحبّ لزيد ، وكان إذا أبطأ عليه زيد أتى إلى منزله فيسأل عنه ، فأبطأ عليه يوما فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله منزله فإذا زينب جالسة في وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها ، فدفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الباب فلمّا نظر إليها قال « سبحان اللّه خالق النّور تبارك اللّه أحسن الخالقين » ورجع ، فجاء زيد فأخبرته زينب بما كان ، فقال لها : ولعلّك وقعت في قلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فهل لك أن أطلّقك حتّى يتزوّجك رسول اللّه؟ فقالت أخشى أن تطلّقني ولا يتزوّجني ، فجاء زيد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال إنّ زينب تتكبّر عليّ وتؤذيني بلسانها ، فأريد أن أطلّقها ، فقال « أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّهَ » ثمّ طلّقها بعد ذلك. وروي أنّها لمّا اعتدّت قال لزيد ما أجد في نفسي أحدا أوثق منك اخطب لي زينب فقال فجئت إليها وهي تخمر عجينها فلمّا رأيتها عظمت في نفسي حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذكرها ، فولّيتها ظهري وقلت : يا زينب أبشري إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يخطبك ، ففرحت بذلك ، وقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربّي ، فقامت إلى مسجدها فنزلت الآية فتزوّجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ودخل بها وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها : ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللّحم حتّى اشتدّ النهار.

ص: 246


1- الأحزاب : 36.
2- تفسير القمي ص 514.

إذا عرفت هذا فنقول قوله ( اتَّقِ اللّهَ ) نهي تنزيه لا تحريم ، لأنّ الطّلاق ليس بحرام ، بل مبغوض لله ، لأنّه ضدّ النكاح المندوب إليه ، وقيل : معناه لا تذمّها بسبب تكبّرها وأذى زوجها.

ثمّ اختلف فيما أخفاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على وجوه الأوّل أنّ اللّه أعلمه أنّها من نسائه ، وأنّ زيدا سيطلّقها ، فلمّا جاء زيد وأراد أن يطلّقها قال له أمسك عليك زوجك فقال له سبحانه لم تقول له أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنّها تكون من أزواجك عن عليّ بن الحسين عليهما السلام وهذا مطابق للآية لأنّه تعالى أعلمه أنه يبدي ما أخفاه ولم يظهر غير التزويج فقال ( زَوَّجْناكَها ) ولو كان غير ذلك لأبداه ، فعاتبه اللّه على ذلك.

الثاني : أنّه الميل الطبيعيّ إليها وذلك لا يوصف بالإباحة والتحريم ، لكونه بغير الاختبار لكنّه صلى اللّه عليه وآله كره إظهاره للناس لبشاعته وربّما كان المنافقون يقولون إنّه قد عشق وأذن اللّه في تزويجه بما عشقه ، وذلك مناف لما هو بصدده من تبليغ الرّسالة وهداية الخلق ، ولم يعلموا أنّ ذلك أمر جبلّيّ غير مقدور.

الثّالث : أنّه أضمر أنّه إن طلّقها زيد يتزوّجها من حيث إنّها ابنة عمّه فأراد ضمّها إلى نفسه لئلّا يصيبها ضيعة ، كما يفعل الرّجل بأقاربه ، وليكون جبرا لقلبها حيث زوّجها مولاه أوّلا مع كراهتها مع أنّه قال ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ) .

الرّابع : أنّه كان يريد نكاحها مع مفارقة زيد ليكون مبطلا لستّة الجاهليّة في تنزيل الأدعياء منزلة الأبناء ، لكنّه عزم على عدم ذلك مخافة أن يطعنوا عليه بأنّه تزوّج امرأة ابنه فأنزل اللّه الآية لكيلا يمتنع عن فعل المباح خشية الناس ولذلك عقّب الكلام بقوله ( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ ) .

قوله ( وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) أي تخشى مقالتهم واعتراضهم عليك بغير حقّ ، واللّه أحقّ أن تخشاه في إيقاع أوامره الحقّة ، قوله ( فَلَمّا قَضى زَيْدٌ ) إلى آخره أي فرغ من إرادته لها وإعطاء شهوته منها مقتضاها.

قوله ( وَكانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ) أي ما أراد اللّه أن يكون من فعله لا بد أن

ص: 247

يقع ، لوجود الداعي ، وعدم الصارف ، بخلاف ما أراد اللّه من فعل غيره فإنّه قد وقد.

إذا تقرّر هذا فقد استفيد من هذه القصّة أحكام :

1 - أنّ التساوي في النسب غير شرط في النكاح فانّ زينب كانت أشرف من زيد ولهذا زوّج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ضباعة بنت الزّبير بن عبد المطلّب ابن عمّه بالمقداد ابن عمرو ، وهو عاميّ النسب (1).

2 - وجوب الإنفاق على الزوجة وكيفيّة الكسوة ، من الدّرع وهو القميص والخمار ، وهو المقنعة ، والملحفة وهو الإزار ، ويمكن أن يعنى به السراويل وضمّ الأدم إلى القوت كضمّ التمر إلى الطعام ، لأنّ ذلك وقع في بيان الواجب فيكون واجبا.

3 - وجوب مفارقة زوج المرأة لها إذا رغب فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.

4 - عدم جواز الخطبة في العدّة لأنّه لمّا انقضت عدّتها أمر زيدا بخطبتها ويدلّ عليه من الكتاب قوله ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ ) (2) وقد تقدّم (3).

5 - كون النكاح يقع بلفظ التزويج ، ووجوب كونه بصيغة الماضي.

6 - استحباب الوليمة عند الزفاف ، ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « لا وليمة إلّا في خمس : عرس أو خرس أو ختان أو وكاز أو ركاز ». والخرس : النفاس ، والوكاز : بناء الدار ، والركاز : قدوم الحاجّ.

ص: 248


1- رواه في الكافي ج 5 ص 344 في حديثين.
2- البقرة : 235.
3- راجع ص 236.

النوع السادس : ( في روافع النكاح )

اشارة

وهي أقسام :

القسم الأول : ( الطلاق )

وفيه آيات :

الاولى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) (1).

الطلاق لغة اسم للتطليق أو الإطلاق بمعنى إزالة القيد ، وشرعا إزالة قيد النكاح وهو إمّا من قبيل التخصيص أو النقل ، والأوّل أولى لما تقرّر في الأصول ولا يقع عندنا إلّا بلفظه الصّريح الدالّ على الجملة بالمواطاة ، لما تقدّم من قول الباقر عليه السلام و « إنّما » (2) للحصر كقولك أنت أو هذه أو فلانة طالق ، فخرج ما لا يكون منه كسائر الكنايات كخليّة وبريّة وغيرهما ، وما يكون من لفظه ، و

ص: 249


1- الطلاق : 1.
2- اى قوله كما نقل فيما سبق ص 239 انما الطلاق أن تقول لها : أنت طالق.

لكن لا تدلّ بالمواطاة كقوله أنت طلاق أو الطلاق أو من المطلقات وغير ذلك من العبارات المختلفة ، وللمخالفين هنا أقوال ليس هنا موضع ذكرها ، إذا عرفت هذا فهنا أحكام يتبعها فوائد :

1 - قيل : خصّ الخطاب بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وعمّ الحكم ، لأنّه إمام أمّته ، فنداؤه كندائهم ، وقيل لأنّ الحكم يعمّه ، وهم تابعون له ، وعن الجبائيّ تقديره : قل إذا طلّقتم ، وهذا أحسن الوجوه ، ولا يلزم خروجه صلى اللّه عليه وآله عن الحكم على هذا الوجه لأنّه إنّما جعله صلى اللّه عليه وآله آمرا تنزيها له عن فعل المكروه لغير داع يدعو إليه ، فإنّ الطلاق من غير داع مكروه ، لكونه خلاف النكاح المطلوب ، ولما رواه الثعلبيّ في تفسيره عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال « تزوّجوا ولا تطلّقوا فانّ المطلق يهتزّ منه العرش » (1) وعن ثوبان يرفعه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أيّما امرأة سألت من زوجها الطلاق من غير ما به بأس فحرام عليها رائحة الجنّة » (2) وعن أبي موسى الأشعريّ عنه صلى اللّه عليه وآله « لا تطلّقوا النساء إلّا من ريبة إنّ اللّه لا يحبّ الذوّاقين والذوّاقات (3) وعن أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلّا منافق (4).

2 - قوله ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) أي لوقت عدّتهنّ ، فانّ اللام للتأقيت وفيه دلالة على وجوب إيقاع الطّلاق في طهر لأنّ الأقراء هي الأطهار لما يجي ء ، وهو مذهب أصحابنا والشافعيّ لكن عندنا لو فعل خلاف ذلك بطل ، وعند الشافعيّ وباقي الفقهاء فعل حراما وصحّ طلاقه (5) أمّا الحرمة ، فلأنّ الأمر بالشي ء يستلزم

ص: 250


1- مجمع البيان ج 10 ص 304 ، عن تفسير الثعلبي.
2- سنن ابى داود ج 1 ص 516 باب في الخلع. ورواه أحمد والترمذي وابن ماجة والدارمي كما في مشكاة المصابيح ص 283.
3- مجمع البيان ج 10 ص 304 ، عن تفسير الثعلبي.
4- مجمع البيان ج 10 ص 304 ، عن تفسير الثعلبي.
5- وقد أفصح الشيخ في الخلاف عن البحث في ذلك راجع ج 2 ص 226 ولابن القيم الجوزية أيضا بيان مبسوط في إثبات بطلان الطلاق في زاد المعاد ج 4 ص 43 - 51 فراجع.

النهي عن ضدّه ، وأمّا الصحّة فلأنّ النهي لا يستلزم الفساد ، ونحن نمنع الثانية فإنّ النهي عن نفس الطلاق وقد تقدّم أنّ عند المحقّقين أنّ النهي عن الشي ء نفسه أو جزئه أو لازمه يدلّ على الفساد وقال أبو حنيفة إنّ الأقراء هي الحيض ، فتقدير الكلام عنده لمستقبل عدّتهنّ ، وقبل عدّتهنّ.

ثمّ إنّ هذا العموم مخصوص بأمرين أحدهما غير المدخول بها ، وثانيهما الغائب عنها زوجها غيبة يعلم انتقالها من طهر إلى آخر ، أو خرج عنها في طهر لم يقربها فيه بجماع ، فانّ هاتين يصحّ طلاقهما من غير تحريم ، وعلى ذلك إجماع أصحابنا وتضافر أخبارهم ، ويدلّ على الأوّل آية الأحزاب وسيأتي.

3 - قوله ( وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء ، وقيل : عدّوا أوقات الأقراء لتطلّقوا للعدّة ، فعلى الأوّل فائدة الأمر بالإحصاء أنّها يتعلّق بها حقوق النّكاح أمّا للزّوجة ، فالنفقة والسكنى ، وأمّا للزّوج فالرّجوع إذا شاء مع بقائها لا مع خروجها ، ولذلك له منعها من الأزواج ، وأيضا إلحاق النسب لو أتت بولد يمكن إلحاقه به في العدّة وتحريم الخطبة فيها تصريحا إلى غير ذلك.

وعلى الثاني ففائدته العلم بزمان الحيض وزمان الطّهر ، ومع الدم يعلم مع الضبط وقت الحيض ، فلا يقع فيه طلاق ، ووقت الاستحاضة فيقع فيه ، إلى غير ذلك.

وأمر سبحانه وتعالى بالتقوى في ضبط العدّة ، بحيث لا يخالف في ذلك أوامره ويحتمل تعلّقه بما بعده أي بقوله ( لا تُخْرِجُوهُنَّ ) .

4 - أنّه لمّا ذكر سبحانه العدّة ذكر بعض أحكامها وهي أنّه لا يجوز إخراج المرأة المطلقة من البيت الّذي طلّقت فيه ، والإضافة هنا للاختصاص كقولك : جلّ الفرس ، وكذلك لا يجوز لها أيضا الخروج وإن لم يخرجها الزّوج لقوله ( وَلا يَخْرُجْنَ ) كلّ ذلك في عدّة الطلاق الرّجعيّ ، بخلاف البائن ، فإنّه يجوز خروجها وإخراجها ، واستثنى سبحانه من ذلك إتيانهنّ بالفاحشة فقيل : هي الزنا ، فتخرج

ص: 251

لإقامة الحدّ عليها ، وعن الباقر والصادق عليهما السلام هي البذاءة على أهله وأذاهم وشتمهم ، وعن ابن عبّاس رضي اللّه عنه روايتان إحداهما كقول السيّدين والأخرى أنّ كلّ معصية لله فهي فاحشة فيحتمل كون الاستثناء من الأوّل كما قلناه ، ويحتمل أن يكون من الثاني أي قوله ( لا يَخْرُجْنَ ) للمبالغة في النهي ، أي أنّ خروجها فاحشة وفيه قوّة لو لا النقل.

5 - ثمّ إنّه تعالى بيّن أنّ الأحكام المذكورة أمور محدودة مقدّرة واجبة الوقوع وأنّ مخالفها يستحقّ الذمّ والعقاب ، لقوله ( فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) وذلك ملزوم لهما.

7 - قوله ( لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) أي بعد الطلاق أمرا هو الرّغبة في المطلقة ، والرّجوع عن عزمه الأوّل على المفارقة ، وهو كالتعليل لعدم الإخراج والخروج من البيت ، وفيه دلالة على كون المراد بذلك الطلاق الرجعيّ لا البائن.

8 - روى البخاريّ ومسلم عن قتيبة عن ليث بن سعد عن نافع عن عبد اللّه ابن عمر أنّه طلّق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر وتحيض عنده حيضة أخرى ، ثمّ يمهلها حتّى تطهر من حيضها فإذا أراد أن يطلّقها فليطلّقها حين تطهر ، من غير أن يجامعها ، فتلك العدّة الّتي أمر اللّه أن يطلّق بها النساء (1).

وروى البخاري عن سليمان بن حرب وروى مسلم عن عبد الرّحمن بن بشير عن فهر وكلاهما عن شعبة عن أنس بن سيرين قال : سمعت أنّ ابن عمر طلّق امرأته وهي حائض ، فذكر ذلك عمر للنبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال : مره فليراجعها وإذا طهرت فليطلّقها إن شاء (2).

وفي هذه الرواية إشارة إلى أنّه يشترط الطهر في الطلاق وفي الأوّل إشارة

ص: 252


1- رواهما في مشكاة المصابيح ص 283 وقال متفق عليه ، راجع صحيح البخاري ج 3 ص 268 ، سنن أبى داود ج 1 ص 504.
2- رواهما في مشكاة المصابيح ص 283 وقال متفق عليه ، راجع صحيح البخاري ج 3 ص 268 ، سنن أبى داود ج 1 ص 504.

إلى أنه يشترط أن لا يقربها فيه بجماع.

واحتجّ الفقهاء من الجمهور على وقوع طلاق الحائض وإن كان حراما بهذين الحديثين من حيث قوله صلى اللّه عليه وآله « مره فليراجعها » في الثاني وفي الأوّل « أمر أن يراجعها » فالمراجعة تدلّ على وقوع الطلاق.

وفيه نظر فإنّه لا دلالة في ذلك لأنّه كما يحتمل الأمر بالمراجعة وقوع الطلاق يحتمل أيضا أن يراد بالمراجعة التمسّك بمقتضى العقد ، وبقاء الزوجيّة فانّ من طلّق طلاقا فاسدا وظنّ أنّه واقع فاعتزل زوجته صحّ أن يقال له راجعها فيكون المراد حينئذ المراجعة اللغويّة لا الاصطلاحيّة بمعنى بعد الطلاق.

الثانية ( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (1).

المراد بالأجل هنا العدّة ، ومراده ببلوغه مقاربته ومشارفة انقضائه ، لا انقضاؤه ، وإلّا لما كان للزّوج رجوع وهنا حكمان :

1 - جواز الرّجوع في العدّة وإليه أشار بقوله ( فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) أي بحسن عشرة وإنفاق مناسب وقوله ( أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) بأن تتركوهنّ حتّى يخرجن من العدّة فيبنّ منكم لا بغير معروف بأن يراجعها ثمّ يطلّقها تطويلا للعدّة وقصدا للمضارّة.

2 - قوله ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) قيل : هو راجع إلى الرّجعة قاله الشافعيّة ، وذلك عندهم على الندب ، ونقل عن الشافعيّ وجوبه ، وقال أصحابنا : هو راجع إلى الطّلاق ، وذلك على الوجوب وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام لكون الكلام في الطلاق فيكون ذلك قرينة دالّة على رجوعه إليه.

ص: 253


1- الطلاق : 2.

لا يقال : إنّه راجع إلى الإمساك المراد به المراجعة ، لأنّه أقرب من الطّلاق لأنّا نقول الأقربيّة لو كانت مرجّحة لكان عوده إلى الفراق لكونه أقرب أولى.

إن قلت : إنّ الفراق هنا ترك الرّجعة ، وترك الشي ء لا يحتاج إلى الإشهاد لكونه أصلا بعد وقوع الطّلاق فلهذا الوجه لا يرجع إلى الفراق ، قلت : إنّ ما ذكرتم من اعتبار القرينة هو عين مرادنا ، إذ هو خروج عن دعوى كون القرب مرجّحا ورجوع إلى القرينة ، وإذا كان الاعتبار بالقرينة فهي حاصلة في الطلاق لاحتياجه إلى الإشهاد غاية الاحتياج ، لجواز وقوع النزاع في وقوعه وعدمه ، فيحتاج إلى طريق في إثباته لو ادّعى وقوعه ، وذلك بالإشهاد إذ ليس غيره إلّا اعتراف الزوجة ، فيجوز عدمه ، أو يمينها فيجوز أيضا عدم علمها ، أو ردّ اليمين على الزّوج فيجوز موته ، ويكون النزاع مع ورثته.

ولا يستبعد رجوعه إلى الطلاق وإن كان بعيدا مع وجود القرينة وعدم الفصل بكلام أجنبيّ ، فإنّ القصّة واحدة ، ونظيره في الكلام أن يقول الرّجل لوكيله « اشتر من فلان سلعة كذا ، وبع على فلان سلعة كذا ، واقبض الثمن ، وسلّمه إلى البائع ، وأهد السلعة إلى فلان ، وأشهد عليه ذوي عدل » في أنّ الإشهاد يعود إلى ما يحتاج إلى الإشهاد هذا مع أنّه يمكن عود الأمر بالإشهاد إليهما معا.

إن قلت : عوده إليهما يستلزم تساوي الطّلاق والرّجعة في وجوب الإشهاد واستحبابه ، وأنتم لا تقولون به ، بل بالوجوب في الطلاق والاستحباب في الرّجعة.

قلنا فحينئذ يكون من المجملات الّتي بيّنها العترة الطاهرة بتفصيل أحكامها بأن يكون لمطلق الرجحان ، فمع قيد عدم جواز الترك يكون في الطّلاق ومع قيد جوازه يكون في الرّجعة ، ثمّ إنّه تعالى أمر بإقامة الشهادة لله لا لرغبة أو رهبة وأخبر بأنّ ذلك المنتفع بالأمر هو المؤمن باللّه واليوم الآخر.

الثالثة ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ

ص: 254

بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).

استفيد من هذه أحكام :

1 - أنّ عدّة مستقيمة الحيض ثلاثة أقراء ، وهو ليس على عمومه بل مخصوص بالمدخول بهنّ ، لما يأتي أنّ غير المدخول بها لا عدّة عليها ، وكذا الآئسة والصّغيرة وكذا الحكم يختصّ بالحرّة ، فانّ الأمة عدّتها قرءان ، إذا كانت مستقيمة الحيض ولمّا كان القرء مشتركا بين الحيض والطّهر لإطلاقه عليهما أمّا على الحيض فلقوله صلى اللّه عليه وآله : دعي الصّلاة أيّام أقرائك (2) وأمّا على الطهر فلقول الأعشى (3)

ص: 255


1- البقرة : 228.
2- خطابه صلى اللّه عليه وآله لفاطمة بنت أبى حبيش ، راجع مشكاة المصابيح ص 57 ، الوسائل.
3- الأعشى في اللغة من لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار ، وعدة من هو أعشى من الشعراء سبعة عشر شاعرا سردهم الآمدي في المؤتلف والمختلف من ص 10 - 121 وأبو أحمد العسكري في كتاب شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف 433 - 436. وقائل البيتين هو أعشى قيس : ميمون بن قيس الوائلى المكنى بابى بصير ، ذكر نسبه التبريزي في شرح القصائد العشر الى عدنان ص 288 وترى ترجمته في الخزانة للعبدي ص 120 - 122 في شرح الشاهد الثالث والعشرين ، وفي الإعلام للزركلى ص 300 ج 8 وبلوغ الارب ج 3 ص 129 - 133 ، والشعر والشعراء ص 79 - 84. كان شاعرا جاهليا أدرك الإسلام ، ولما يسلم حتى سقط من بعيره فمات ، كان من فحول شعراء الجاهلية ، سلك في شعره كل مسلك ، يفد على الملوك ، وفي الخزانة : قال المفضل : من زعم أن أحدا أشعر من الأعشى فليس يعرف الشعر ، وقال الآلوسي في بلوغ الارب عند ترجمة زهير ابن ابى سلمى ج 3 ص 97 هو أحد الأربعة الذين وقع عليهم الاتفاق على أنهم أشعر العرب ، وهم امرؤ القيس ، وزهير ، والنابغة ، والأعشى ، فاما الاختلاف في تفضيل بعضهم على بعض فقائم على ساق ، وكان يقال أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب وزهير إذا رغب ، والنابغة إذا رهب ، والأعشى إذا طرب.

وفي كلّ عام أنت جاشم غزوة *** تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا

مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا (1)

اختلف هل المراد هنا الطهر أو الحيض؟ قال أصحابنا والشافعيّة إنّها الطّهر لوجوه الأوّل : قوله تعالى ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) وقد تقدّم أنّ الطّلاق المشروع لا يكون في الحيض ، الثاني قضيّة ابن عمر ، وقد تقدّم ذكرها

ص: 256


1- أنشد البيتين كما في المتن أبو الفتوح الرازي عند تفسير الآية من سورة البقرة ج 2 ص 225 ، والجصاص في أحكام القرآن ج 1 ص 431 ، والكامل ص 238 ، وأنشد البيت الأخير كما في المتن ابن دريد في الجمهرة ج 2 ص 276 ، العمود الثاني ، وكذا البيضاوي. وأنشدهما الطبري في ج 2 ص 444. وضبط الشطر الثالث « وفي الذكر رفعة » وضبط في مجمع البيان ج 2 ص 325 والتبيان ج 1 ص 241 ط إيران « وفي الأرض رفعة » وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة ج 1 ص 74 « وفي الأصل رفعة » كما في الصحاح - ق رء - وفيه البيت الأخير فقط وضبط الشطر الأول في حاشية الشهاب على البيضاوي ج 2 ص 311 « جاشم رحلة » والشطر الثالث « وفي المجد رفعة ». وضبط البيتين في شرح شواهد الكشاف للافندى المطبوع في آخر الكشاف ص 138 هكذا. أفي كل عام أنت جاشم غزوة *** تشد لا قصاها عظيم عزاتكا مؤثلة ما لا وفي الحي رفعة *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا ثم قال في شرحه : الشاعر هو الأعشى يخاطب جارا له غازيا ويقول له : تجشم لتكلف نفسك كل عام غزوة ، وتوثق عليها عزيمة الصبر ، لتكثر فيها مال الغنيمة ، وتريد الرفعة في الحي لما ضاع في تلك الأيام من عدة نسائك. أراد أنه يخرج في كل سنة الى الغزو ولا يغشى نساءه فتضيع أقراؤهن. واللام في « لما » كما في قوله تعالى ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) وتوجيه الاستدلال أن المراد بالقروء : الاطهار ، لأنها هي الضائعة على الزوج ، إذ الزوجة في محل الاستمتاع بخلاف الحيض.

دلّت على أنّه الطهر ، الثالث أنّه قال « ثَلاثَةَ قُرُوءٍ » وإلحاق التاء بالعدد يراد به المذكّر ، والطهر مذكّر والحيض مؤنّثة.

الرابع روى أصحابنا عن زرارة قال سمعت ربيعة الرأي يقول إنّ من رأيي أنّ الأقراء هي الأطهار بين الحيضتين ، وليس بالحيض فدخلت على الباقر عليه السلام فحدّثته بما قال فقال عليه السلام « كذب لم يقل برأيه وإنّما بلغه عن عليّ عليه السلام » فقلت أصلحك اللّه أكان عليّ عليه السلام يقول ذلك؟ قال نعم كان يقول إنّما القرء الطهر يقرء فيه الدّم فيجمعه فإذا جاء الحيض قذفته ، قلت أصلحك اللّه رجل طلّق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين ، قال إذا دخلت في الحيضة الثّالثة فقد انقضت عدّتها وحلّت للأزواج قال قلت إنّ أهل العراق يروون عنه عليه السلام أنّه كان يقول : هو أحقّ برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، قال كذبوا (1).

وقال أبو حنيفة إنّه الحيض لقوله صلى اللّه عليه وآله طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان (2) وأجيب بأنّه غير معلوم الصحة.

2 - أنّه يرجع إلى قول المرأة في طهرها وحيضها لأنّه قال سبحانه ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ) فلو لم يكن القول قولها لما حرّم عليها كتمانه ، فقيل : المراد الحيض وقيل الحمل ، وقيل هما معا وهو أولى لعموم اللّفظ لهما ولقول الصادق عليه السلام قد فوّض اللّه إلى النساء ثلاثة الحيض والطّهر والحمل (3) ، وإنّما لم يحلّ لهنّ كتمان ذلك لأنّ فيه إبطالا لحقّ الزوج.

3 - أنّ الزّوج أحقّ بالرّجعة ما دامت في العدّة لقوله ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) لكن مع كون الطّلاق رجعيّا للآية الّتي تتلوها فالضّمير أخصّ من المرجوع إليه وهو المطلقات الّذي هو من صيغ العموم ، ولا امتناع في ذلك كما لو كرّر الظّاهر ثمّ خصّصه ، وهل يتخصّص العامّ بذلك؟ خلاف ، وتحقيقه في

ص: 257


1- تفسير العياشي ج 1 ص 114 تحت الرقم 351 من سورة البقرة.
2- سنن ابى داود ج 1 ص 506.
3- راجع مجمع البيان ج 2 ص 326.

الأصول وقوله ( إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً ) ليس شرطا للرّجعة ، بل حضّا للزّوج على إرادة الإصلاح للنّساء ، وعدم المضارّة لهنّ.

4 - أنّ لكلّ واحد من الزّوجين حقّا على الآخر لقوله ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ ) والمماثلة في الوجوب لا الجنس ، وأمّا حقّ المرأة فالمهر والنفقة والإسكان والكسوة ، وعدم إضرارها ، وأمّا حقّه عليها فالطاعة له وعدم التبرّم لحوائجه ، وأن لا تدخل فراشه غيره ، وأن تحفظ ماءه ، ولا يحتال في إسقاطه.

روي أنّ امرأة معاذ قالت يا رسول اللّه ما حقّ الزّوجة على زوجها؟ قال أن لا يضرب وجهها ، ولا يقبحها ، وأن يطعمها ممّا يأكل ويلبسها ممّا يلبس ولا يهجرها (1) ».

وعن الباقر عليه السلام « قال جاءت امرأة فقالت يا رسول اللّه ما حقّ الزّوج على المرأة؟ فقال تطيعه ولا تعصيه ، ولا تتصدّق بشي ء من بيتها إلّا باذنه ، ولا تصوم تطوّعا إلّا باذنه ، ولا تمنعه نفسها ، وإن كانت على ظهر قتب ، ولا تخرج من بيتها إلّا بإذنه فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السّماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتّى ترجع ، قالت من أعظم الناس حقّا على المرأة؟ قال زوجها قالت فمالي من الحقّ مثل ماله عليّ؟ قال : لا ولا من كلّ مائة واحدة قالت والّذي بعثك بالحقّ لا يملك رقبتي رجل أبدا (2).

وقال صلى اللّه عليه وآله لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها (3).

قوله ( وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) أي زيادة في الحقّ ، وفضل فيه ، لأنّهم يشاركونهنّ في غاية النكاح ، ويختصّون بزيادة وجوب المهر والإنفاق والرعاية وغير ذلك.

5 - استفيد من ذكر الحقّ أنّه يجب على المرأة عقيب مراجعة الزّوج الانقياد

ص: 258


1- مجمع البيان ج 2 ص 327.
2- الكافي ج 5 ص 511 ، عن أبى عبد اللّه عليه السلام ورواه في الفقيه عن الباقر عليه السلام.
3- مشكاة المصابيح ص 283 قال رواه أبو داود وأحمد.

له والدخول في طاعته وذلك سبب ذكره هنا.

6 - إن قلنا باجتماع الحيض مع الحمل فالآية مخصوصة بمن عدا الحامل وإلّا فلا يكون الآية شاملة للحامل لانتفاء شرط حكمها وهو حصول القرء.

الرابعة ( وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ) (1).

روي أنّه لمّا نزلت الآية السابقة في عدّة ذوات الأقراء قيل فما عدّة اللّائي لم يحضن؟ فنزلت هذه الآية ، واختلف في أيّ شي ء وقعت الرّيبة؟ قيل في كون انقطاع حيضهنّ لكبر أم لعارض ، وقيل في حكمهنّ فلا تدرون ما الحكم فيهنّ والأوّل موافق لمذهب أكثر الأصحاب من كون الآئسة لا عدّة لها لما رواه جماعة منهم عبد الرحمن بن الحجّاج « عن الصادق عليه السلام ثلاث يتزوّجن على كلّ حال الّتي لم تحض ومثلها لا تحيض ، قال قلت وما حدّها؟ قال إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين ، والّتي لم يدخل بها والّتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض قال قلت وما حدّها؟ قال إذا كان لها خمسون سنة (2).

فعلى هذا تكون العدّة المذكورة أعني الأشهر الثلاثة لمن هي في سنّ من تحيض وانقطع منها الحيض لعارض ، من مرض أو رضاع أو غير ذلك سواء كان ذلك الانقطاع مع الشكّ في سنّها أو لا معه؟ بل الشّكّ في سبب الانقطاع وهو المشار إليه بقوله ( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) أو لا للشكّ بل مع القطع بانقطاعه والجزم بسببه ، وهو المشار إليه بقوله ( وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) .

فعلى هذا يكون المراد بقوله ( وَاللّائِي يَئِسْنَ ) أي حصل لهنّ صفة الآئسات

ص: 259


1- الطلاق : 4.
2- الكافي ج 6 ص 85.

وهو انقطاع الحيض إمّا مع الريبة أو مع القطع ، فعدّتهنّ ثلاثة أشهر ، ولا يكون حينئذ في الآية دليل على عدم العدّة في اليائسة والصّغيرة ولا على وجودها نعم الحقّ أن لا عدّة عليهما لأنّ الغاية والحكمة في شرعيّتها العلم باستبراء الرّحم وهو منتف فيهما.

والثاني هو قول أكثر المفسّرين وبه قال السيّد المرتضى رضي اللّه عنه : أنّ الارتياب في وجوب العدّة لا في السّنّ ، وأنّ المراد باللّائي لم يحضن أي لم يبلغن سنّ الحيض ، عدّتهن ثلاثة أشهر حذف الخبر لدلالة ما تقدّم عليه واحتجّ بوجهين الأوّل سبب النّزول وهو أنّ أبيّ بن كعب قال يا رسول اللّه إنّ عددا من عدّة النساء لم تذكر في الكتاب الصّغار والكبار وأولات الأحمال فنزلت. الثاني أنّه لو أراد ما ذكره الأصحاب من الشكّ في ارتفاع الحيض لقال إن ارتبتنّ لأنّ المرجع في الحيض إليهنّ والجواب عن الأوّل أنّه لو كان المراد ما ذكره لقال إن جهلتم ولم يقل إن ارتبتم لأنّ سبب النزول كما ذكر يوجب ذلك لأنّ أبيّا لم يشكّ في عدّتهنّ بل جهل وعن الثّاني أنه أتى بالضّمير مذكّرا لكون الخطاب مع الرّجال لقوله ( وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ) ولأنّ النساء يرجعن في تعرّف أحكامهنّ إلى رجالهنّ وإلى العلماء ، فكان الخطاب لهم لا للنساء ، لأنّهنّ يأخذن الحكم منهم.

قوله ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ ) أي أجلهنّ مدّة وضع الحمل فإنّ « أن » مع الفعل في تقدير المصدر ، وهذا لا خلاف فيه في الطلاق ، وهل هو كذلك في الوفاة ، بمعنى أنّه لو تقدّم الوضع على أربعة أشهر وعشر ، يكون العدّة منقضية بذلك أم لا؟

قال أصحابنا لا بل عدّتها أبعد الأجلين وهو قول عليّ عليه السلام وابن عبّاس وقال الفقهاء الأربعة والأوزاعي بالأوّل محتجّين بعموم الآية.

واحتجّ أصحابنا بدخولها في عموم قوله ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) فقد دخل تحت عامّين ، ولا وجه للجمع بينهما إلّا بالقول بأبعد الأجلين

ص: 260

ولطريقة الاحتياط ولاختصاص آية الوضع بالمطلّقات ، ولو سلّم عمومها فهي مخصوصة بإجماع الإماميّة لدخول المعصوم فيهم.

وقال الجمهور : آية الوضع عمومها بالذات « وأزواجا » عمومها بالعرض وهو وقوعها تبعا للعامّ ، وهو « الّذين » والمحافظة على العموم الأوّل أولى ، ولأنّ الحكم معلّل بالوضع الموجب لنقاء الرّحم من ماء الميّت الّذي تعتدّ لأجله بخلاف آية ( أَزْواجاً ) ولأنّها متأخّرة نزولا فتقديمها تخصيص وتقديم تلك بناء للعامّ على الخاصّ والأوّل أرجح للاتّفاق عليه.

والجواب عن الأوّل بأنّه لا فرق بينهما عند الأصوليّين وعن الثاني بأنّ العلّة حاصلة على قولنا أيضا على أنّا نمنع أنّ الوضع علّة وعن الثّالث بأنّ التخصيص والبناء معا دليلان ، فلا فرق بينهما.

وهنا فوائد تتضمّن أحكاما :

1 - أنّها تبين بالوضع بعد الطلاق ولو بلحظة.

2 - أنّه لا يشترط في الوضع التماميّة فلو وضعت علقة بانت بها.

3 - لو كانت حاملا باثنين فوضعت واحدا بانت لكن لا تنكح حتّى تضع الآخر إلّا أن يكون الناكح الزّوج بعقد جديد.

4 - أنّ الوضع للحمل يتساوى فيه الحرّة والأمة ، وأمّا الأشهر فعدّة الأمة فيها النصف.

قوله ( وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ ) أي من النساء والرّجال في أحكام العدّة يسهّل عليه أموره.

الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) (1).

ص: 261


1- الأحزاب : 49.

هنا فوائد :

1 - أنّ النكاح لم يجي ء في القرآن إلّا بمعنى العقد وهو دليل على كونه حقيقة فيه شرعا ، ولأنّه لو استعمل في الوطء لكان تصريحا بكونه حقيقة فيه لغة لا شرعا لأنّ من دأب القرآن التعبير عنه بالملامسة والمماسّة والمقاربة والتغشّي والإتيان والدخول والوطء والكلّ كناية وليس الصّريح فيه لغة إلّا النيك.

2 - أنّ المراد بقوله ( مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ) أي تنيكوهنّ ، وليست الخلوة الخالية عن ذلك قائمة مقامه في إسقاط العدّة واستقرار المهر جملة خلافا لأبي حنيفة.

3 - في قوله ( فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ) تنبيه على أنّ العدّة حقّ للزّوج لكون الرجوع للزوج فيها لا بعدها والزّوجة وإن كان لها حقّ النفقة والإسكان لكن حقّه أقوى ، لأنّ المنع من التزويج بغيره لأجله لا لها.

4 - قوله ( تَعْتَدُّونَها ) بمعنى تستوفون عددها ، من عددت لهم الدّراهم فاعتدّها ، كقولك كلته فاكتال ووزنته فاتّزن.

5 - أنّ الأمر بالتمتّع إمّا على الندب إذ لا متعة لغير المفروضة عند الأكثر أو المراد به نصف المهر أو الأمر مقيّد بعدم الفرض ، وليس المراد بالسراح هنا الطلاق إجماعا بل المراد به الإخراج من المنزل ، لعدم وجوب العدّة هنا فلا يجب الإسكان وكونه « جميلا » أى من غير إضرار ولا إخلال بحقّ.

والآية صريحة في عدم وجوب العدّة على غير المدخول بها.

السادسة ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (1).

( الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ) مبتدأ ( يَتَرَبَّصْنَ ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره أزواجهم

ص: 262


1- البقرة : 234.

يتربّصن حذف لقرينة قوله تعالى ( وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) وتقدير الكلام والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا أزواجهم يتربّصن ، والمبتدأ الثاني مع خبره خبر للمبتدإ الأوّل.

وقيل : إنّ التقدير أزواج الّذين يتوفّون ، فحذف المضاف وأقيم المضاف » إليه مقامه ، وفيه نظر لأنّه لو كان كذلك لم يحتج إلى قوله ( وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) لأنّ ذلك يعلم من تأنيث الضّمير. وتأنيث العشر باعتبار اللّيالي لأنّها غرر الشهور والأيّام ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قطّ حتّى أنّهم يقولون صمت عشرا ويدلّ عليه قوله تعالى ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا عَشْراً ) (1) ثمّ قال ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا يَوْماً ) إذا عرفت هذا ففي الآية أحكام :

1 - أنّها ناسخة للآية الّتي بعدها في الترتيب وهي قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ) فإنّ ذلك كان في أوّل الإسلام أعني العدّة سنة والنفقة والإسكان ، ثمّ نسخ ، وهو قول أبي حنيفة وعند الشافعيّ الإسكان ثابت لم ينسخ ، وقال أبو مسلم الأصفهانيّ إنّ حكمها باق في الحامل.

وقال شاذّ من فقهاء العامّة وهو أبو حذيفة أنّه إن أوصى للزّوجة بشي ء وأنفق الورثة عليها فالحول ، وإن لم يوص وامتنع الورثة من الإنفاق كان لها أن يتصرّف في نفسها كيف شاءت بعد أربعة أشهر وعشر ، وهذان القولان انعقد الإجماع على بطلانهما ، نعم تضمّنت الآية الوصيّة للزّوجة فعند فقهاء العامّة أنّها منسوخة أيضا بآية الإرث من الثمن والرّبع ، ولقوله صلى اللّه عليه وآله « لا وصيّة لوارث » وعندنا الوصيّة جائزة لها وإن كانت وارثة لما يأتي من جواز الوصيّة للوارث.

2 - أنّها عامّة في المدخول بها وغيرها ، الصغيرة والكبيرة والحامل والحائل لكنّ الحامل بأبعد الأجلين كما تقدّم ، وكذا حكمها ثابت في الدائم والمنقطع

ص: 263


1- طه : 103 و 104.

على الأقوى ، وهل حكمها ثابت في الأمة ، كما في الحرّة؟ للأصحاب قولان بعضهم أجرى في الأمة عمومها. وهو قول الشافعيّ والأصمّ وبعض جعل عدّتها النصف من ذلك وهو الأقوى أمّا أمّ الولد يموت سيّدها فحكم الأمة غير ثابت فيها قطعا (1) لكونها حال الاعتداد حرّة.

3 - هذه العدّة ليس فيها إنفاق ولا إسكان ، فلها أن تبيت حيث شاءت نعم يجب فيها الحداد وهو ترك الزينة لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت أكثر من ثلاثة أيّام إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا (2) فهل ذلك واجب على الأمة؟ قيل : نعم ، لعموم الحديث وقيل لا ، لأصالة البراءة والحديث عن الباقر عليه السلام كما رواه زرارة « الحرّة تحدّ والأمة لا تحد » (3) وعليه الفتوى.

4 - العدّة في الطلاق مبدأها وقوعه لأنّه السبب فلا يتأخّر مسبّبه أمّا هذه فمبدؤها للحاضر الموت ، وللغائب بلوغ الخبر ، ولو بخبر واحد فاسق لأنّه تكليف يكفي في ثبوته الظنّ لكن لا تنكح حتّى تثبت الموت بشاهدين عدلين أو بالشياع.

5 - علّل بعضهم التقدير بالأربعة أشهر وعشر بأنّ الجنين في الغالب يتحرّك بثلاثة أشهر إن كان ذكرا ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما يضعف حركته في المبادي فلا يحسّ بها.

6 - قوله ( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) أي انقضى أجلهنّ ( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ) من التعرّض للأزواج ، وعدم الحداد وغير ذلك ، إذا فعلن ذلك ( بِالْمَعْرُوفِ ) أي الوجه الّذي لا ينكره العقل ولا الشّرع. دلّ مفهومه على وجوب الإنكار عليهنّ لو فعلن خلاف المعروف.

ص: 264


1- فحكم الآية ثابت فيها قطعا خ.
2- أخرجه في المستدرك ج 3 ص 21 عن غوالي اللئالي.
3- الكافي ج 6 ص 170.

السابعة ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) (1).

قالت الشافعيّة المراد التطليق الرّجعيّ اثنان لما روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله سئل أين الثالثة فقال عليه السلام « أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » وقال أصحابنا والحنفيّة (2) المراد

ص: 265


1- البقرة : 229.
2- الا ان الحنفية قائلون بأنه إذا طلقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثا دفعة واحدة أو متفرقة فعل محرما وعصى وأثم ، الا أن ذلك واقع ، وبه قال مالك أيضا والإمامية قائلون بعدم الوقوع كما سيصرح به المصنف رضوان اللّه عليه. وعلى كل ، فكفانا كتاب اللّه العزيز وقد قال : الطلاق مرتان - الى آخر الآية - إذ لا يفهم منه الا وقوع الطلاق مرة بعد مرة ، وهذا يقتضي أن تكون تطليقتين متفرقتين لأنهما ان كانا مجتمعتين لم يكن مرتين ، وتعريف الطلاق بالألف واللام أيضا لبيان أن الطلاق المشروع مرتان ، فما جاء على هذا فليس بمشروع. ثم قوله سبحانه في آخر الآية ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) كالصريح في أن الطلاق الذي يمنع عن الرجوع هو الثالث الواقع بعد المرتين اللتين كان الزوج فيهما مخيرا بين الإمساك والتسريح بإحسان ، أي تركها وشأنها مع الإحسان إليها حتى في هذه المرحلة الأخيرة من حياتهما الزوجية. قال الزمخشري في تفسير الآية ص 278 ج 1 من الكشاف : التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ، ولم يرد بالمرتين التثنية ، ولكن التكرير كقوله ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) أي كرة بعد كرة ، لا كرتين اثنتين انتهى ما أردنا نقله. أقول : ولأجل ذلك جعل النبي صلى اللّه عليه وآله خلاف ذلك تلاعبا بكتاب اللّه ففي سنن النسائي ج 6 ص 142 : أخبرنا سليمان بن داود عن ابن وهب قال : أخبرني مخرمة عن أبيه قال : سمعت محمود بن لبيد قال : أخبر رسول اللّه عن رجل طلق امرءته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال : أيلعب بكتاب اللّه وأنا بين أظهركم حتى قام رجل وقال : يا رسول اللّه ألا أقتله؟. قال السندي في شرحه « أيلعب بكتاب اللّه » يحتمل بناء الفاعل أو المفعول ، أى يستهزء به ، والمراد به قوله تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ - الى قوله - وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُواً ) فان معناه التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال مرة واحدة ، ولم يرد بالمرتين التثنية ومثله قوله تعالى ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) اى كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين. ثم بين معنى الإمساك بمعروف ، ثم قال : وقوله ( لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُواً ) أى بالجمع بين الثلاث ، والزيادة عليها ، فكلاهما لعب واستهزاء ، والحد والعزيمة ان يطلق واحدا ، وان أراد الثلاث ينبغي أن يفرق. ثم قال : « ألا أقتله؟ » لان اللعب بكتاب اللّه كفر ، ولم يرد ان المقصود الزجر والتوبيخ وليس المراد حقيقة الكلام. ثم قال : ثم اختلفوا في الجمع بين الثلاث ، فقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي والليث : هو بدعة ، وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : ليس بحرام لكن الاولى التفريق ، وظاهر الحديث التحريم ، والجمهور على أنه إذا جمع بين الثلاث يقع الثلاث ولا عبرة بخلاف ذلك عندهم أصلا انتهى ما أردنا نقله. وعلى أى ، فالقرآن الكريم ناطق بعدم وقوع الثلاث كما عرفت ، وإلزام الزوج بما ألزم به نفسه على حد زعمهم اجتهاد في مقابلة النص. وقد أجازه الرسول العزيز أيضا واحدة ففي بداية المجتهد ج 2 ص 61 : انه روى ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال : طلق ركانة زوجه ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، فسأله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كيف طلقتها؟ قال طلقتها ثلاثا في مجلس واحد ، قال : انما تلك طلقة واحدة فارتجعها. ونقل قريبا منه في سبل السلام ج 3 ص 174 وقال : قد حققنا في ثمرات النظر في علم أهل الأثر ، وفي إرشاد النقاد الى تيسير الاجتهاد عدم صحة القدح في محمد بن إسحاق بما يجرح روايته ، ونقله الجصاص أيضا ج 1 ص 459 ، ونقله أيضا في الدر المنثور ج 1 ص 279 عن البيهقي عن ابن عباس وقال الشوكانى في نيل الأوطار ص 256 ج 6 : أنه أخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه. ونقل المرحوم العلامة آية اللّه السيد شرف الدين طاب ثراه في ص 146 من كتابه النص والاجتهاد عن مجلة المنار ( المجلد الرابع ص 210 ) : ومن قضاء النبي بخلافه ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس قال : طلق ركانة زوجته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كيف طلقتها؟ قال : ثلاثا ، قال : في مجلس واحد؟ قال : نعم ، قال صلى اللّه عليه وآله : فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت وذكر في ذيله انه ذكره ابن إسحاق في ص 191 من الجزء الثاني من سيرته. وفي الترمذي الرقم 1177 وابن ماجه الرقم 2051 وأبو داود الرقم 2206 و 2208 القصة بنحو آخر ، واللفظ كما جمعه في تيسير الوصول ج 3 ص 141 : وعن عبد اللّه بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول اللّه انى طلقت امرأتي البتة فقال ما أردت بها؟ قلت واحدة ، فقال : واللّه ما أردت بها إلا واحدة؟ قلت : واللّه ما أردت بها إلا واحدة ، فقال : هو ما أردت فردها اليه ، فطلقها الثانية في زمن عمر ، والثالثة في زمن عثمان ، أخرجه أبو داود والترمذي. قلت : وليس في الترمذي وكذا في ابن ماجة قصة الطلاق الثاني والثالث. واستدل به على أنه لو أراد الثلاث لوقعت ، وأجيب بأن الثابت في رواية في أنه صلى اللّه عليه وآله قال له : ارجعها بعد أن قال له انه طلقها ثلاثا كما قد عرفت وعرفت تصحيحه بهذا الوجه. وأما باللفظ الأخر ففي سنده الزبير بن سعيد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد ، ومع ذلك لا صراحة فيه على وقوع الثلاث عند ارادته. والثابت عند المحدثين من أهل السنة ان النبي صلى اللّه عليه وآله لم يجزه إلا واحدة ومضى على ذلك في عهد أبى بكر وثلاث سنين من خلافة عمر بن الخطاب ، ثم الزم الناس عليه ثلاثا لما رأى تتابع الناس عليه ، فقال : أجيزوه عليهم ، فأقره عمر ثلاثا لان الناس قد التزموا به ، عقوبة لهم بعد أن كان بإجماع المسلمين لا يقع إلا واحدة ، في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وشطرا من الزمن بعده. فعن ابن عباس من عدة طرق كلها صحيحة قال : كان الطلاق على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر ، طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب ان الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج 10 ص 70 ، والدر المنثور ج 1 ص 279 ، ونقله العلامة آية اللّه السيد شرف الدين طاب ثراه في النص والاجتهاد ص 146 عن الحاكم في مستدركة مصرحا بصحته بشرط الشيخين والذهبي في تلخيص المستدرك معترفا بصحته بشرطهما ص 196 من الجزء الثاني كتاب الطلاق ، وكذا عن المسند ص 314 ج 1 والبيهقي ص 336 من الجزء السابع من سننه والقرطبي ص 130 ج 3 من تفسيره. قلت : ونقله أيضا في سبل السلام ج 3 ص 173 ثم قال ( في سبل السلام ) وقد استشكل أنه كيف يصح من عمر مخالفة ما كان في عصره صلى اللّه عليه وآله ثم في عصر أبى بكر ثم في أول أيامه ، وظاهر كلام ابن عباس أنه كان الإجماع على ذلك ، ثم ذكر أجوبة ستة وضعفها كلها ثم قال : والأقرب ان هذا رأى من عمر ترجح له كما منع من متعة الحج وغيرها ، وكل أحد يؤخذ ويترك غير رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وكونه خالف ما كان على عهده صلى اللّه عليه وآله فهو نظير متعة الحج بلا ريب والتكلفات في الأجوبة ليوافق ما ثبت في عصر النبوة لا يليق فقد ثبت عن عمر اجتهادات يعسر تطبيقها على ذلك نعم ان أمكن التطبيق على وجه صحيح فهو المراد. وعن طاوس قال : ان أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم انما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول اللّه وأبى بكر وثلاثا من أمارة عمر؟ فقال ابن عباس نعم. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج 10 ص 71 ، والدر المنثور ج 1 ص 279 ، وأحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 459 ، وأبا داود الرقم 2200 ، وسنن النسائي ج 6 ص 145 عند عنوانه باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة. وذكر السندي في شرحه : أن هذا الحديث بظاهره يدل على عدم وقوع الثلاث دفعة بل تقع واحدة فأشار المصنف في الترجمة إلى تأويله بأن يحمل الثلاث في الحديث على الثلاث المتفرقة لغير المدخول بها. ثم قال بعيد ذلك : وعلى هذا اندفع الاشكال عن الجمهور - الى أن قال - وهذا محمل دقيق لهذا الحديث الا أنه لا يوافق ما جاء في هذا الحديث أن عمر بعد ذلك أمضى الثلاث ، إذ هو ما أمضى الثلاث المتفرقة لغير المدخول بها ، بل أمضى الثلاث دفعة للمدخول بها وغير المدخول بها ، فليتأمل ، ثم قال : فالوجه في الجواب أنه منسوخ ، وقد قررناه في حاشية مسلم وحاشية أبي داود. قلت : ويضعف ما ذكره من النسخ ما ذكره في سبل السلام عند الكلام في الأجوبة الستة فقال في الجواب بالنسخ : أنه يضعفه قول عمر : ان الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة إلخ ، فإنه واضح في انه رأى محض لا سنة فيه ، ثم قال : وما في بعض ألفاظه عند مسلم انه قال ابن عباس لأبي الصهباء : لما تتابع الناس في الطلاق في عهد عمر فأجازه عليهم. قلت : ولعله إشارة الى ما أخرجه مسلم في صحيحه بشرح النووي ج 10 ص 72 عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم تكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأبى بكر واحدة؟ فقال : قد كان ذلك ، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق ، فأجازه عليهم. قال النووي في شرحه : كانت لهم فيه أناة : هو بفتح الهمزة أى مهملة وبقية استمتاع لانتظار المراجعة و « تتابع » هو بياء مثناة من تحت بين الالف والعين هذه رواية الجمهور وضبطه بعضهم بالموحدة ، وهما بمعنى ، ومعناه أكثروا منه وأسرعوا إليه ، لكن بالمثناة إنما يستعمل في الشر ، وبالموحدة يستعمل في الخير والشر. فالمثناة هنا أجود. وقوله « هات من هناتك » هو بكسر التاء من هات والمراد بهناتك إخبارك وأمورك المستغربة. والحاصل أن النص القرآنى الصريح والسنة الثابتة عند المحدثين عن النبي صلى اللّه عليه وآله وإجماع المسلمين المتحقق في زمانه وشطرا من الزمن بعد وفاته على أنه لا يتحقق إلا واحدة. قال ابن القيم الجوزية في ص 44 - 46 ج 3 من أعلام الموقعين : ان قوله تعالى : ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) لا يفهم منه الا وقوع الطلاق مرّة بعد مرة ، وأيد ذلك بقوله تعالى ( سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ) وبقول الرسول صلى اللّه عليه وآله « لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين » فالعرف واللغة لا يفهمان من ذلك الا التعدد ووقوع الفعل مرة بعد اخرى ، وبعد أن ذكر أن الآية لا تدل على البينونة بمجرد قول الزوج لزوجته : أنت طالق ثلاثا قال : فهذا كتاب اللّه ، وهذه سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وهذه لغة العرب ، وهذا عرف التخاطب ، وهذا خليفة رسول اللّه والصحابة كلهم في عصره ، وهم يزيدون على الالف قطعا على هذا المذهب ، ثم استعرض جماعة من التابعين وتابعي التابعين يفتون بوقوعه واحدة. وقد أطال ابن القيم في إعلام الموقعين القول في المسئلة ، والأحاديث فيها والدلائل وأوضح معنى قوله تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) بالآيات والأحاديث وهو أن معناها أنه يكون مرة بعد مرة. ثم قال : وما كان مرة لم يملك المكلف إيقاع مراته كلها جملة كاللعان ، فإنه لو قال أشهد باللّه أربع شهادات انى لمن الصادقين كان مرة واحدة ، ولو حلف في القسامة وقال : اقسم باللّه خمسين يمينا أن هذا قالته كان ذلك يمينا واحدة ، ولو قال المقر بالزنا : أنا أقر أربع مرات أنى زنيت ، كان مرة واحدة ، فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارا واحدا ، ثم ذكر آيات وأحاديث أخرى كالاستيذان ثلاث مرات. ثم ذكر أن الصحابة كانوا مجمعين على أنه لا يقع الطلاق بالثلاث مجتمعة إلا واحدة من أول الإسلام إلى ثلاث سنين من خلافة عمر ، وان هذا الإجماع لم ينقضه إجماع بعد. ثم سمى بعض من أفتى من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ، وأن الفتوى بذلك تتابعت في كل عصر وكان من أتباع الأئمة من أفتى بذلك فبعد ما ذكر أتباع التابعين قال : فأفتى به داود بن على وأكثر أصحابه وأفتى به بعض الحنفية ، وأفتى به بعض أتباع أحمد. ثم لما كان ظاهر قضاء عمر في ذلك تلاعبا بكتاب اللّه وسنة نبيه ، بل وإجماع المسلمين فتأوله ابن القيم الجوزية فبين أن اجازة عمر الثلاث لما تتابع الناس في الطلاق تأديب لهم على مخالفة ما شرعه اللّه في الطلاق من كونه يوقع المرة بعد المرة ، ليرجعوا إلى السنة ووجه ذلك بالنسبة الى ذلك الوقت وذكر روايات في تأييده. ثم بين أن المصلحة الان تقتضي الرجوع إلى الكتاب ، وما مضت به السنة في عهد النبي صلى اللّه عليه وآله والخليفة الأول ، فرارا من مفاسد التحليل التي هي من أكبر العار على المسلمين - الى آخر ما قال. ولابن القيم أيضا بيان مبسوط في المسئلة من ص 51 - 63 من كتابه زاد المعاد ج 4 ، من أراد فليراجعه ، وفيه : وأمير المؤمنين عمر رضى اللّه عنه لم يقل لهم : ان هذا عن رسول اللّه وانما هو رأى رآه مصلحة للأمة يكفهم بها عن التسارع إلى إلقاء الثلاث ولهذا قال : فلو أنا أمضيناه عليهم ، وفي رواية : فاجيزوهن عليهم ، وساق الكلام الى أن قال : فهذا نظر أمير المؤمنين رضى اللّه عنه ، ومن معه من الصحابة ، لا انه رضى اللّه عنه غير أحكام اللّه وجعل حلالها حراما. وللشوكانى في نيل الأوطار ج 6 ص 244 - 248 تفصيل مقال من أراد فليراجعه وقال في فذلكة البحث. والحاصل ان القائلين بالتتابع قد استكثروا من الأجوبة على حديث ابن عباس ، وكلها غير خارجة عن دائرة التعسف ، والحق أحق بالاتباع ، فان كانت تلك المحاماة لأجل مذهب الاسلاف فهي احقر وأقل من ان تؤثر على السنة المطهرة ، وان كانت لأجل عمر بن الخطاب فأين يقع المسكين من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله. ثم اى مسلم من المسلمين يستحسن عقله وعلمه ترجيح قول صحابي على قول المصطفى. انتهى. ونقل في المنار ج 2 ص 385 أن له - اى الشوكانى - رسالة خاصة في تفنيد أدلة الجمهور واجوبتهم عن الحديث الصحيح ، قال : ولشيخ الإسلام ابن تيمية مؤلف خاص فيها. وقال في المنار أيضا ج 2 ص 387 عند ذكره ان أكثر القضاة مع اطلاعهم على النصوص في كتب الحديث لا يبالون بها لان العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللّه وسنة رسوله صلى اللّه عليه وآله. الا أن محاكم مصر الشرعية قد خالفت مذهب الحنفية بعد استقلال البلاد دون الدولة العثمانية في كثير من أحكام الزوجية ومنها هذه المسئلة. ولقد أنصف الشيخ الفقيد الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر في المسئلة ، ففي رسالة الإسلام العدد الأول من السنة الحادية عشر ص 108 : « لا إنسي أنى درست المقارنة بين المذاهب بكلية الشرق ، فكنت أعرض إيراد المذاهب في المسئلة الواحدة ، وأبرز من بينها مذهب الشيعة ، وكثيرا ما كنت أرجح مذهبهم خضوعا لقوة الدليل ، ولا إنسي أنى كنت أفتى في كثير من المسائل بمذهب الشيعة وأخص منها بالذكر ما تضمنه قانون الأحوال الشخصية الأخير ، ومنه على سبيل المثال المسائل الاتية. أولا : الطلاق الثلاث بلفظ واحد ، فإنه يقع في المذاهب السنية ثلاثا ، ولكنه في مذهب الشيعة يقع واحدة رجعية ، وقد رأى القانون العمل به ، وأصبحت الفتوى بمذهب أهل السنة لا يقام لها وزن في نظر القضاة الشرعي السنة؟؟؟؟. ثانيا : رأى قانون الأحوال الشخصية في تنظيمه الأخير أن الطلاق المعلق منه ما يقع ومنه ما لا يقع ، تبعا لقصد التطليق أو قصد التهديد ، ولكن مذهب الشيعة يرى أن التعليق مطلقا - قصد به التهديد أو التطليق - لا يقع به الطلاق ، وقد رجحت هذا الرأي وكثيرا ما أفتيت به ، وكثيرا ما أذعته في أحاديثي المتعلقة بالطلاق وأجوبة السائلين عن إيقاع الطلاق. والباحث المستوعب سيجد كثيرا في مذهب الشيعة ما يقوى دليله ، ويلتئم مع أهداف الشريعة من إصلاح الأسرة والمجتمع ويدفعه إلى الأخذ به ، والإرشاد إليه. انتهى. وقال الشيخ شلتوت في كتابه الإسلام عقيدة وشريعة ص 186 : واذن فالطلاق الثلاث في كلمة واحدة لا يقع إلا واحدة ، وكما رسم الإسلام في الطلاق التفريق على هذا الوجه وجعل الجمع لغوا لا يقع به شي ء كذلك رسم فيه أن يكون منجزا أى موقعا بالفعل ليس معلقا على شي ء بفعل منه أو منها ، كأن يقول : ان فعلت كذا فأنت طالق. ثم قال : وكذلك رسم فيه أن لا يتخذه يمينا على شي ء يفعله أولا يفعله ، كأن يقول : على الطلاق أن هذه السلعة بكذا ، أو : امرأتي طالق إذا لم تكن السلعة من نوع كذا. وهكذا من الايمان التي تجري بين الناس وهم في أسواقهم ومجتمعاتهم دون أن يكون لزوجاتهم شأن بها. وكذلك رسم أن يكون الطلاق في طهر لم يمسها فيه ، فان طلقها في طهر مسها فيه فإنه يكون لغوا ولا تأثير له على الحياة الزوجية ، وكذلك إذا طلقها في غير طهر وهكذا وضع الإسلام للطلاق الذي مع قيودا بالنظر الى لفظه وبالنظر الى أهلية الزوج ، وبالنظر الى حالة الزوجة؟؟؟؟؟ ضاقت الدائرة التي يقع فيها الطلاق ويكون له تأثير على الحياة الزوجية التي استقرت وأخذت حظها من الوجود. وفي ص 310 من كتاب الفتاوى له - ( للشيخ شلتوت ) عند ذكره فتاوى المفتين للمقلدين وضررها : هذه ناحية ، أما الناحية الأخرى ، وهي ناحية الفتوى بوقوع الطلاق أو الحكم بوقوعه فقد جرينا نحن المفتين والقضاة على الإفتاء أو الحكم بوقوع الطلاق على مذاهب معينة قد تشهد الحجة القوية لغيرها في عدم وقوعه والرأي أن لا نفتي ولا نحكم بوقوع طلاق إلا إذا كان مجمعا من الأئمة على وقوعه ، فإن الحياة الزوجية ثابتة بيقين ، وما يثبت لا يرفع الا بيقين مثله ، ولا يقين في طلاق مختلف فيه. وعلى هذا فلا نحكم بوقوع الطلاق إلا إذا كان مرة مرة ، وكان منجزا مقصودا للتفريق في طهر لم يقع فيه طلاق ولا إفضاء وكان الزوج بحاله تكمل فيها مسئوليته. وبهذا لا نحكم بوقوع الثلاث دفعة واحدة إذا قالت : أنت طالق ثلاثا ، ولا نحكم بوقوع الطلاق إذا كان معلقا كأن يقول : ان فعلت كذا فأنت طالق ، وهو لا يحب الطلاق ولا يريده. ولا بوقوعه في قول اللاعب الهازل مع زوجه أو غيرها أنت طالق أو هي طالق ، ولا في قول البائع علىّ الطلاق أن هذه السلعة بكذا. أو امرأتي طالق إذا لم تكن السلعة من نوع كذا أو علىّ الطلاق لا بد أن تأكل أو تفعل كذا ، ولا يقع والمرأة في حيض أو نفاس أو طهر اتصل بها فيه. ولو أوقع عليها طلاقا في طهر لم يتصل بها فيه ثم أوقع عليها طلقة أخرى في الطهر نفسه لا تقع تلك الطلقة الثانية ، وكذلك لا يقع طلاق وهو في حالة سكر أو غضب يملك عليه اختياره. ثم قال : والذي يؤسف له انه على الرغم من أن قانون المحاكم الشرعية الحالي ألغى وقوع الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث وجعله واحدة رجعية ، وألغى وقوع الطلاق المعلق إذا قصد به الحمل على شي ء أو تركه ، فان أكثر العلماء أو أكثر المتصدين لفتوى الناس لا يفتون الا بمذاهبهم الخاصة التي تعلموها ودانوا بها فضلا عن الحالات التي لم يأخذ بها القانون ( وترى المذاهب الأخرى عدم الوقوع فيها تضييقا لدائرة الطلاق بقدر الإمكان ). وكانت النتيجة لموقف هؤلاء المفتين أن يأخذ المطلق الفتوى بالوقوع عن لسانهم ويذهب مؤمنا لها إلى المأذون فيحكي أنه طلق امرأته ثلاثا فيبادر إلى إخراج قيمة الطلاق وفيها : حضر فلان وأقر بأنه طلق زوجته ثلاثا مكملا للثلاث ، وبهذه الورقة الرسمية تبين الزوجة من زوجها ، ويقع الزوجان في ارتباك ، وتتمثل أمامها مشاهد التشرد المولم للأبناء ، وقد أدركهما سوء الحظ بالتزام الإفتاء على المذهب المعين ، ثم ان هذه الورقة الرسمية قد لا يكون لها واقع صحيح. وقال أيضا في ص 313 من الفتاوى الفقهية : شرع الإسلام الطلاق حينما تشتد الخصومة بين الزوجين وتسوء بينهما العشرة إلى حد لا تجدي فيه محاولة الإصلاح ، وبه تسير الحياة الزوجية نارا تلتهم مزايا الزواج الاجتماعية من السكن والمودة والرحمة والتعاون على تكوين أسره يصان فيها الحقوق وتترعرع في احضانها الأطفال الذين يكونون بعد رجالا عالمين في الحياة. ولهذا شرع الإسلام وقد عرف الناس الطلاق من قديم غير أنهم كانوا بأهوائهم وبطغيانهم على المرأة وأذلالها كثيرا ما يقصدون به إيذاءها واضرارها ، فكان الرجل يطلق زوجتها ثم يراجعها قبل انقضاء العدة ، ثم يطلقها الى غير حد : تطليق فمراجعة تطليق فمراجعة ، وهكذا ، لا تتركها تتزوج غيره فتستريح ، ولا يثوب الى رشده فيحسن عشرتها فتستريح وانما يتخذها ألعوبة بيده يطلقها متى شاء على حسب ما يهوى ويشتهي. فأنزل اللّه انقاذا للمرءة من هذا السوء قوله تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) والمعنى أن الطلاق المشروع عند تحقق ما يبيح الطلاق أن يكون على مرتين مرة بعد مرة اى دفعة بعد دفعة. فإذا ما طلق الرجل المرة الأولى أو الثانية كان عليه اما ردها الى عصمته مع إحسان عشرتها فتستمر الحياة بينهما طيبة سعيدة ، وذلك هو الإمساك بالمعروف ، واما تركها حتى تنقضي عدتها وتنقطع علاقتها به ويزول سلطانه عليها فتتزوج غيره ان شاءت وذلك هو التسريح بالإحسان. فإن عاد الزوج بعد أن راجعها من الطلاق الثاني وطلقها ثالثة حرمت عليه ، ولا يملك مراجعتها إلا إذا تزوجت بغيره زواجا صحيحا مقصودا به ما يقصد بالزواج وهو العشرة الدائمة بالسكن والمودة ، لا يجدى في ذلك ما اخترعه بعض الناس من الزواج بغيره على قصد التحليل ، فان هذا منكر واحتيال لا تحل به للاول ، وقد لعن الرسول صلى اللّه عليه وآله فاعله وسماه التيس المستعار. وقد تضمن ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية « فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ » ومن هذا يتبين ان الطلاق الثلاث مرة واحدة ليس مشروعا ، وأن الطلاق المشروع انما هي الطلقة الاولى والثانية ، أما الطلقة الثالثة فإنه لا يملك مراجعتها ولا تحل له الا إذا تزوجت غيره زواجا غير مقصود منه التحليل ثم يطلقها ذلك الغير أو يموت عنها وتمضي عدتها منه وعندئذ فقط تحل لزوجها الأول بعقد جديد ومهر جديد ، وهذا هو معنى الآية وما بعدها. انتهى. والمقصود أن أعلام أهل السنة المتأخرين أيضا تنبهوا لما هو الحق في المسئلة وأن الطلاق بلفظ الثلاث لا يقع إلا واحدة.

ص: 266

ص: 267

ص: 268

ص: 269

ص: 270

ص: 271

ص: 272

ص: 273

ص: 274

التطليق الشرعيّ تطليقة بعد تطليقة على التفريق كقوله تعالى ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) (1) أي كرّة بعد كرّة ومثله لبّيك وسعديك ، ولذلك قالوا : الجمع بين الطّلقتين أو الثلاث بدعة ، واحتجّ أصحابنا بعد أخبارهم الّتي رووها عن أهل البيت عليهم السلام بما روي في حديث ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال « إنّما السنّة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلّقها لكلّ قرء تطليقة » (2) وبأنّ هذا الكلام أعني « الطلاق

ص: 275


1- الملك : 5.
2- أخرجه الشيخ في الخلاف ج 2 ص 226 المسئلة الثالثة من كتاب الطلاق قال : وروى ابن عمر قال : طلقت زوجتي وهي حائض فقال لي النبي صلى اللّه عليه وآله ما هكذا أمرك ربك ، إنما السنة ان تستقبل بها الطهر فتطلقها في كل قرء تطليقة ، وكذلك لفظ الحديث في تفسير الإمام الرازي ج 3 ص 30 الطبعة الأخيرة ، والكشاف ج 3 ص 240. وأما في المنتقى على ما في ص 241 ج 6 من نيل الأوطار فلفظ الحديث هكذا : وعن الحسن قال حدثنا عبد اللّه بن عمر انه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين آخرتين عند القرئين فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال يا ابن عمر ما هكذا أمرك اللّه تعالى : انك أخطأت السنة ، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء. وقال : فأمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فراجعتها ، ثم قال : إذا هي طهرت فطلق عند ذلك ، فقلت يا رسول اللّه أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها قال : لا كانت تبين منك وتكون معصية رواه الدارقطنى. قلت ومثله في أحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 451. قال في نيل الأوطار : وقد استدل القائلون بأن الثلاث تقع بأحاديث من جملتها هذا الحديث وأجاب عنه القائلون بأنها تقع واحدة فقط ، بعدم صلاحيته للاحتجاج لما سلف على أن لفظ الثلاث محتمل ( يعنى يحتمل بالتفاريق ). وقال الشيخ في الخلاف المسئلة الثانية من كتاب الطلاق ( ج 2 ص 226 ) فأما قول النبي حين سأله « لو طلقتها ثلاثا؟ قال : بانت امرأتك وعصيت ربك » ليس في ظاهره أنه قال : « لو طلقتها ثلاثا وهي حائض » بل لا يمتنع انه أراد لو طلقها ثلاثا للسنة بانت منه وعصى ربه إذا كان الطلاق مكروها بأن تكون الحال حال سلامة ، وارتكاب المكروه يقال فيه أنه عصى ربه كما بين في غير موضع.

مرّتان » ليس إخبارا وإلّا لزم الكذب ، بل بمعنى الأمر أي ليكن الطّلاق مرّتين مثل قوله تعالى ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (1) أي يجب أن تؤمنوه.

ثمّ إنّ الأصحاب لمّا حكموا بتحريم الثلاث المرسلة ، والثنتين المرسلتين ، وأنّ ذلك بدعة اختلفوا في أنّه هل يقع واحدة بقوله « أنت طالق » وتلغو الضميمة والتفسير؟ أم لا يقع شي ء؟ قال جماعة بالأوّل وهو الحق (2) لأنّ قصد الكلّ

ص: 276


1- آل عمران : 97.
2- ولأن صيغة الطلاق بعد أن وقعت من الزوج ، لا يكون الضميمة موجبة لبطلانها بل تكون مؤكدة لها ، أو لغوا من القول ، وقد وردت الروايات عن أهل البيت عليهم السلام بذلك ، ففي صحيحة جميل بن دراج عن أحدهما أنه سئل عن الذي طلق في حال الطهر في مجلس واحد ثلاثا ، قال عليه السلام : هي واحدة ، راجع الوافي الجزء الثاني عشر ص 159 ح 1 و 2 ، وأخبار أخر تجدها فيه وفي الوسائل وغيرهما من كتب الاخبار.

قصد لكلّ واحد من أجزائه ، فالواحدة إذن مقصودة صادرة من أهلها في محلّها فيكون واقعة وهو المطلوب.

وقال جماعة بالثاني (1) للنهي عن الجملة فتكون فاسدة قلنا النهي عن الجملة ليس نهيا عن كلّ فرد ، وقد حقّق في الأصول.

فائدة : قوله ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) يدلّ على مشروعيّة الرجعة لأنّ طلاق المطلقة غير متصوّر عقلا لأنّه إزالة قيد النّكاح ، ولا نكاح هنا ، وهو مثل الأمر بالعتق المتوقّف على الملك ، فهو من باب دلالة الاقتضاء ، قوله ( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ) أي على وجه سائغ ، وهو كناية عن ردّها إلى النكاح إمّا بالرّجعة إن كانت العدّة باقية ، أو باستيناف العقد إن انقضت.

واختلف في معنى التسريح بالإحسان ، فقيل هي الطلقة الثالثة ، لما تقدّم من قوله صلى اللّه عليه وآله ، وقال السّدى والضحّاك هو ترك المعتدّة حتّى تبين بانقضاء العدّة وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام وهو الأصحّ لأنّ الطّلاق لا يقع عندنا بالكناية بل بالتصريح.

الثامنة ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (2).

ص: 277


1- وهم السيد المرتضى قدس سره في المحكي عن انتصاره ، قال في الجواهر ج 5 ص 292 ( ط - حاج محمد حسن ) وان كنا لم نتحققه ، وابنا أبى عقيل وحمزة وسلار ، ويحيى بن سعيد على ما في الجواهر. أقول : قال السيد في الانتصار عند ما يبحث عن المسئلة في آخر كلام له : « فإن المطلقة ثلاثا بلفظ واحد يقع تطليقة واحدة على الصحيح من مذهبنا » فعده من القائلين بالوجه الثاني وهم.
2- البقرة : 229.

هذه إشارة إلى الطّلقة الثالثة ، وبه قال الباقر والصادق عليهما السلام والسدّى والضحّاك والنظّام وقال مجاهد : هو تفسير قوله ( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) فإنّ ذلك عنده هو الثالثة ، وبه قال الطبريّ والحقّ الأوّل إذا تقرّر هذا فهنا أحكام :

1 - مدلول الآية أنّه إذا طلّقها الزّوج عقيب الطّلقتين الأوليين ، والإمساك بعدهما ، طلقة ثالثة ، حرمت عليه حتّى تنكح زوجا غير ذلك المطلق ، وهذا الحكم عند أصحابنا مخصوص بما عدا طلاق العدّة ، فإنّ ذلك تحرم في التاسعة أبدا وطلاق العدّة هو أن يطلّق المدخول بها على الشرائط ثمّ يراجعها في العدّة ويطأها ثمّ يطلّقها مرّة ثانية ويفعل كما فعل أوّلا ثمّ يطلّقها ثالثة فإذا فعل ذلك ثلاثة أدوار حرمت عليه عندهم أبدا.

2 - يشترط في الزّوج الثاني شروط :

الأوّل أن يطأها بالعقد الدّائم فلو وطئ بالمنقطع (1) أو بالملك أو بالتحليل لم يفد إباحة.

الثاني أنّ العقد بمجرّده غير كاف عن الوطء لقوله صلى اللّه عليه وآله (2) لزوجة رفاعة (3)

ص: 278


1- وبه الروايات ، انظر الوافي ص 47 ج 12 ، الباب 44 من أبواب بدو النكاح باب تحليل المطلقة لزوجها ، واستدل الامام عليه السلام بالاية ، ففي الرواية الثالثة من الباب المذكور عن التهذيب عن الصيقل عن أبى عبد اللّه عليه السلام قلت : رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فتزوجها رجل متعة ، أتحل للاول ، قال : لا ، لان اللّه تعالى يقول ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها ) والمتعة ليس فيها طلاق.
2- أخرج الحديث في المنتقى ج 6 ص 268 من نيل الأوطار عن عائشة ، وفيه رواه الجماعة لكن لأبي داود معناه من غير تسمية الزوجين. أقول : واللفظ في صحيح مسلم كما في ج 10 ص 2 بشرح النووي : « فتبسم رسول اللّه وقال : أتريدين » إلخ ، قال النووي في شرحه : قال العلماء : ان التبسم للتعجب من جهرها وتصريحها بهذا الذي تستحي النساء منه في العادة ، أو لرغبتها في زوجها الأول وكراهة الثاني.
3- قيل اسمها تميمة وقيل سهيمة ، وقيل أميمة ، ورفاعة القرظي بضم القاف وفتح الراء والظاء المعجمة نسبة الى بني قريظة.

لمّا حلّلها عبد الرّحمن بن الزّبير بفتح الزاء (1) فقالت إنّ له هدبة كهدبة الثوب (2) فقال صلى اللّه عليه وآله أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك (3) » والآية مطلقة قيّدتها السنّة الشريفة.

ص: 279


1- قال النووي في شرح صحيح مسلم ج 10 ص 2 : هو بفتح الزاء وكسر الباء بلا خلاف ، ابن باطاء ويقال باطياء ، وكان عبد الرحمن صحابيا والزبير قتل يهوديا في غزوة بني قريظة ، وهذا الذي ذكرنا من أن عبد الرحمن بن الزبير بن باطاء القرظي هو الذي تزوج امرءة رفاعة القرظي هو الذي ذكر أبو عمر بن عبد البر والمحققون ، وقال ابن مندة وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما في معرفة الصحابة : انما هو عبد الرحمن بن الزبير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف ابن مالك بن أوس ، والصواب الأول. انتهى.
2- في النسخة المطبوعة « كهدبة الثور » وهو تصحيف والصحيح ما في الصلب وفاقا للنسخ المخطوطة التي عندنا والهدبة بفتح الهاء وسكون المهملة بعدها باء موحدة مفتوحة ، هي طرف الثوب الذي لم ينسج مأخوذ من هدب العين وهو شعر الجفن ، هكذا في الفتح ، وفي القاموس : الهدب بضم وبضمتين شعر أشعار العين ، وخمل الثوب واحدتها بهاء ، وكذا في مجمع البحار ، نقلا عن النووي أنها بضم هاء وسكون دال وأرادت أن ذكره يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار. واستدل به على أن وطء الزوجة الثاني لا يكون محللا ارتجاع الزوج الأول الا ان كان حال وطئه منتشرا ، فلو لم يكن كذلك ، أو كان عنينا أو طفلا لم يكف على الأصح من قولي أهل العلم انتهى ما في نيل الأوطار ج 6 ص 269. أقول : وقد وردت الرواية من أهل البيت على عدم كفاية غير البالغ كما ستعرف.
3- قال في نيل الأوطار ج 6 ص 270 : العسيلة مصغرة في الموضعين ، واختلف في توجيهه فقيل هو تصغير العسل ، لان العسل مؤنث جزم بذلك القزاز؟ قال : وأحسب التذكير لغة ، وقال الأزهري يذكر ويؤنث ، وقيل لان العرب إذا حقرت الشي ء أدخلت فيه هاء التأنيث ، وقيل المراد قطعة من العسل والتصغير للتقليل إشارة الى أن القدر القليل كاف في تحصيل ذلك بأن يقع تغيب الحشفة في الفرج ، وقيل معنى العسيلة النطفة ، وهذا يوافق قول الحسن البصري. وقال جمهور العلماء : ذوق العسيلة كناية عن الجماع ، وهو تغيب حشفة الرجل في فرج المرأة ، وحديث عائشة المذكور في الباب يدل على ذلك ، وزاد الحسن البصري حصول الانزال ، قال ابن بطال : شذ الحسن في هذا ، وخالف سائر الفقهاء ، وقالوا : يكفى ما يوجب الحد ويحصن الشخص ويوجب كمال الصداق ، ويفسد الحج والصوم وقال أبو عبيدة : العسيلة : لذة الجماع ، والعرب تسمى كل شي ء تستلذه عسلا.

واقتصر ابن المسيّب على مجرّد العقد عملا بإطلاقها ، والإجماع على خلافه ويمكن تفسير النّكاح هنا بالإصابة ، ويكون العقد مستفادا من لفظ الزّوج.

الثالث : أن يطأها وهو بالغ مسلم (1) فلو وطئ صبيّا أو حال ارتداده لم تحلّل.

الرّابع : الوطي في القبل وهو مستفاد من ذوق العسيلة (2) نعم لا يشترط الإنزال إذ المراد بالعسيلة اللّذة ، وهي تحصل من دونه.

فرعان :

ألف - لو وطئ حراما بعد عقد صحيح كالوطي صائما أو مع الحيض هل يحلّل أم لا؟ إشكال من أنّه منهيّ عنه فلا يكون مأمورا به ، ومن صدق الوطي بعقد صحيح

ص: 280


1- أما البلوغ فاشتراطه مروي ، انظر الباب 8 من أبواب أقسام الطلاق من الوسائل واما الإسلام ، فصرح الشيخ في الخلاف ج 2 ص 250 بعدم الاشتراط ، وهو الحق لعدم دليل صالح عليه ، ولا طلاق ( حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) مثال المسئلة ذمية مطلقة تزوجت بذمي فطلقها فتحل للاول عند من أجاز العقد عليهن ، وقد قدمنا أنه الأصح.
2- واستدل بعض بإطلاق الذوق لهما على اشتراط علم الزوجين به حتى لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم يكف ذلك وان انزل هو ، قلت : ليس في اخبار الشيعة قيد ذوقها عسيلته ، وانما هي قيد ذوق عسيلتها ، انظر الوسائل الباب 7 من أبواب أقسام الطلاق الحديث 1 - 3 ، وفي الاخبار تصريح بعدم كفاية غير البالغ والخصى ، الباب 8 - 10 ولعل السر عدم ذوقه عسيلتها مع الخصاء أو عدم البلوغ ، ولذلك قال الشيخ في الخلاف ج 2 ص 249 بكفاية تزويج المراهق الذي ينتشر عليه ويعرف لذة الجماع مستدلا بقوله « حتى يذوق عسيلتها » وهذا قد ذاق ، قال : ولا يلزم عليه غير المراهق لانه لا يعرف العسيلة.

وبه قال أكثر أهل العلم ، وقال مالك إنّ الوطي في الحيض لا يحلّل وإن أوجب العدّة وكلّ المهر.

ب - النكاح المعقود بشرط التحليل أي بشرط أن ينكحها ثمّ يطلّقها لتحلّ على الزّوج الأوّل قال الأكثر إنّه فاسد ، وجوّزه أبو حنيفة مع الكراهية ، وعنه أيضا إن أضمرا التحليل ولم يصرّحا به فلا كراهية.

3 - قوله ( فَإِنْ طَلَّقَها ) أي الزّوج الثّاني ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) أي على الزوجة والزّوج الأوّل ( أَنْ يَتَراجَعا ) أي بعقد جديد ومهر لأنّه نسبة إليهما فكان مشترطا برضاهما فيكون عقدا إذ الرّجعة لا يشترط فيها رضاها.

قوله ( إِنْ ظَنّا ) أي إن ترجّح عندهما بقرائن الأحوال وما يظهر من أخلاقهما أنّهما يقيمان حدود اللّه في حقوق الزوجيّة ، وذلك ليس بشرط في صحّة العقد لجواز الغفلة عن الطّرفين ، والظنّ هنا على حقيقته وهو الاعتقاد الراجح لا أنّه بمعنى العلم إذ العواقب غير معلومة إلّا لله. واعلم أنّه يستفاد من قوله ( فَإِنْ طَلَّقَها ) اشتراط كون عقد المحلّل دائما لا منقطعا ولا بشبهة ، لعدم دخول الطلاق فيهما.

تتمة : هذا الحكم وهو التحريم في الثّالثة إلّا مع التحليل يختصّ بالحرّة أمّا الأمة فيكفي في تحريمها طلقتان ، فيفتقر إلى المحلّل سواء كان زوجها حرّا أو عبدا ، للعلم بذلك من السنّة الشريفة وبيان أهل البيت عليهم السلام.

التاسعة ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (1).

بلوغ الشي ء هو الوصول إليه ، وقد يقال للدّنوّ منه وهو على الاتّساع ، وهو المراد هنا ، والأجل يقال للمدّة كلّها ، ولمنتهاها وغايتها ، والمعنى حينئذ في

ص: 281


1- البقرة : 231.

الآية إذا قاربن انتهاء العدّة لأنّ بعد انتهائها لا إمساك ( فَأَمْسِكُوهُنَّ ) أي أرجعوهنّ إلى النّكاح ( أَوْ سَرِّحُوهُنَّ ) أي أبقوهنّ على حكم العدّة ، ويكون الأمران بالمعروف : أي على وجه لا ضرر فيه ، ولا مخالفة لأوامر اللّه ، وهذا الحكم قد تقدّم لكنّه أعاده للاهتمام به.

قوله ( وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً ) أي لا تراجعوهنّ إرادة الإضرار بهنّ كالتقصير في النفقة أو المسكن أو لتطويل المدّة في حبالكم ، ويكون ذلك مكروها لها. قوله ( لِتَعْتَدُوا ) أي لتظلموهنّ بالتطويل عندكم أو بالإلجاء إلى الافتداء بالمهر ، واللّام متعلّقة بالضرار إذ المراد تقييده ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ) أي الإمساك للضرار ( فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) بإيقاعها في الإثم واستحقاق العقاب.

العاشرة ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).

البلوغ هنا هو الوصول إلى الشي ء تامّا ، والأجل هو المدّة كلّها ، فقد دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين ، والعضل بالضاد المعجمة الحبس والتضييق ومنه عضلت الدجاجة إذا نشبت بيضها فلم تخرج ، قيل نزلت هذه في الأولياء لما روي أنّ معقل بن يسار عضل أخته أن ترجع إلى زوجها بعد طلاقه لها فنزلت ، وقال السدىّ نزلت في جابر بن عبد اللّه عضل بنت عمّة له ، واستدلّ الشافعيّة بذلك على ثبوت الولاية على المرأة ، وأنّها لا تزوّج نفسها إذ لو تمكّنت لم يكن لعضل الوليّ معنى وارتضاه المعاصر وقال الراوندي إنّ الخطاب للأزواج لقوله ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) ولأنّه لا ولاية عندنا على البالغة الرشيدة ، ولإسناد النكاح إليها في قوله ( أَنْ يَنْكِحْنَ ) فعلى هذا يكون المعنى ولا تعضلوهنّ بأن تراجعوهنّ عند قرب انقضاء

ص: 282


1- البقرة : 232.

الأجل لا للرغبة فيهنّ بل للإضرار ومنعهنّ من التزويج هذا آخر كلامه.

وفيه نظر من وجوه الأوّل أنّ هذا المعنى على قوله قد تقدّم ، فيكون إعادته تأكيدا والتأسيس أولى ، الثّاني أنّ بلوغ الشي ء هو إدراكه بتمامه والأجل حقيقة في المدّة فحمل البلوغ على المقاربة عدول عن الظاهر من غير ضرورة ، ولا يرد حملنا البلوغ في السابقة على المقاربة لأنّ ذلك لدليل وهو الأمر بالإمساك ، الثالث أنّ النكاح في العدّة باطل والخطبة فيها حرام ، وعلى قوله يلزم وقوع النكاح أو الخطبة في العدّة ، فلا يجوز توجّه النهي إلى المنع من الحرام والباطل [ و] لأنّ العضل على ما ذكر يستلزم إضمار المراجعة [ في العدّة ] والأصل عدمه ، ولا ضرورة إليه.

فإذن الأولى أن يكون الخطاب للمطلّقين ، ويكون العضل للنساء لا بالمراجعة في العدّة بل تعدّيا وظلما ويكون ذلك بعد انقضاء العدّة وتسمية الخطّاب أزواجا تسمية الشي ء بما يؤل إليه على جهة المجاز.

ثمّ قال الراونديّ : ويجوز أن يحمل العضل في الآية على الجبر والحيلولة بينهنّ وبين التزويج دون ما يتعلّق بالولاية لأنّ العضل هو الحبس والمنع والضيق وهذا الوجه حقّ.

قلت : ولا يكون الخطاب حينئذ للأولياء ولا للأزواج ، لإطلاق كلامه لكن ما قلناه لقوله ( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) أولى.

قوله ( ذلِكَ ) أي الخطاب المذكور يوعظ به المؤمنون لأنّهم هم المنتفعون به دون غيرهم ، كقوله ( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) وقوله ( ذلِكُمْ ) أي عملكم بمقتضى ما ذكر ( أَزْكى لَكُمْ ) أي أنفع ( وَأَطْهَرُ ) لنفوسكم من دنس الآثام.

ص: 283

القسم الثاني : ( الخلع والمباراة )

وفيه آية واحدة :

وهي قوله ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (1).

الخطاب للأزواج جملة ثمّ ثنّاه بالنسبة إلى كلّ زوجين ، والمراد بما آتيتموهنّ المهور ، والضمير في ( فَإِنْ خِفْتُمْ ) للحكّام لأنّهم الآمرون بذلك ، روي أنّ جميلة بنت عبد اللّه بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت تبغضه وهو يحبّها فأتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت يا رسول اللّه لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شي ء [ واحد ] واللّه ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكنّني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضا إنّي رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدّهم سوادا وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجها فنزلت الآية ، وكان قد أصدقها حديقة فقال ثابت يا رسول اللّه مرها فلتردّ عليّ الحديقة ، فقال صلى اللّه عليه وآله ما تقولين؟ قالت نعم وأزيده قال لا حديقته فقطّ فقال صلى اللّه عليه وآله لثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها ، فاختلعت منه بها وهو أوّل خلع كان في الإسلام.

إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

1 - دلّت الآية الكريمة على عدم جواز أخذ شي ء ممّا أمهر به النساء إلّا في

ص: 284


1- البقرة : 229.

صورة الافتداء ، وهو أن تكره المرأة الرجل ، فتبذل له صداقها أو غيره أو الصداق مع غيره ليخلعها ويطلّقها بذلك فيجيب الزّوج على الفور إلى مطلوبها ويسمّى خلعا أيضا لأنّ المرأة كاللّباس لقوله ( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ) (1) فمفارقتها كخلع اللّباس.

2 - إذا كانت الكراهة من الزوجة يسمّى خلعا وإن كانت منهما معا يسمّى مباراة ويختلف حكمهما بوجوه :

الأوّل : ما ذكر من اختصاص الكراهية بالزوجة في الخلع كما دلّ عليه حديث ثابت بن قيس والمبارأة الكراهة منهما كما دلّ عليه ظاهر الآية.

الثّاني : أنّ المبارأة لا بدّ فيها من الاتباع بلفظ الطلاق ، وأمّا الخلع ففيه خلاف أجود القولين الاتباع احتياطا.

الثالث : لا يجوز في المبارأة أخذ الزائد عمّا دفع ، بخلاف الخلع فإنّ أكثر الفقهاء على جواز الزائد فيه وكرّهه أبو حنيفة وابن المسيّب قال لا يجوز إلّا البعض لا الكلّ ولا الزائد وكأنّه نظر إلى قوله ( مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ ) ومن هنا يحتمل التبعيض وقوله صلى اللّه عليه وآله في حديث ثابت « لا حديقته فقط » لا يمنع الزائد لأنّه حكاية حال مطلوب زوجها فإنّه لم يطلب سوى الحديقة.

3 - الطلاق يقع بالفدية ويفيد فائدة الخلع والمبارأة وحكمه حكمهما في أخذ الزائد وعدمه.

4 - يشترط فيهما شرائط الطلاق كلّها من غير فرق.

5 - قيل يجب الخلع إذا قال لأدخلنّ عليك من تكرهه أو لأوطئنّ فراشك من تكرهه والحقّ عدمه ، بل يستحبّ ذلك استحبابا مؤكّدا لمكان الحميّة والنخوة وقبح الصّبر على المعاشرة مع ذلك الخطاب.

6 - الفرقة في هذا الباب فرقة بينونة لا يصحّ للزّوج الرّجوع بعدها إلّا أن ترجع الزّوجة في البذل والعدّة باقية ، فللزوج حينئذ أن يرجع.

ص: 285


1- النساء : 19.

7 - يرد على قوله تعالى ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) سؤال وهو أنّ المرأة تعطي ما هو لها فأيّ جناح عليها في ذلك حتّى ينفى ، وأجيب بوجوه :

الأوّل جواب الراونديّ وهو أنّه لو خصّ الرّجل بالذكر لأوهم أنّها عاصية وأن كانت الفدية له جائزة ، فبيّن الاذن لهما لئلّا يوهم أنه كالربا المحرّم على الآخذ والمعطي.

الثاني : جواب الفرّاء أنّه كقوله تعالى ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (1) والإخراج إنّما هو من الملح دون العذب فجاز للاتّساع.

الثالث ما قاله الراونديّ أيضا الّذي يليق بمذهبنا أنّ المبيح للخلع هو ما لولاه ، لكانت المرأة به عاصية ، فهما مشتركان في أن لا يكون عليهما جناح إذا كانت تعطي ما نفى عن الزّوج فيه الإثم فاشتركت فيه لأنّها إذا أعطت ما يطرح الإثم احتاجت هي إلى مثل ذلك أي أنّها نفت عن نفسها الإثم بأن افتدت لأنّها لو أقامت على النشوز والإضرار لأثمت ، وكان عليها جناح في النشوز فخرجت عنه بالافتداء.

الرّابع ما خطر لهذا الضعيف وهو أنّه لمّا كان النكاح مرغّبا فيه ومندوبا إليه ، بل ربّما آل إلى الوجوب فالساعي في رفعه على حدّ الخطيئة والجناح فالمرأة لمّا بذلت الفدية ورغّبته في فراقها فقد شاركته في إزالة ذلك الفعل المرغّب فيه المندوب إليه ، بل ربّما ألجأته إلى ذلك بإظهار كراهيتها له فنفى عنها الجناح لموضع الافتداء.

8 - لا يحلّ للزّوج أخذ الفدية لو كان هو سببا لكراهتها له ، بأن يكرهها بالتقصير في حقوقها ليحملها على كراهيتها له فتبذل الفدية ، واستفيد من قوله ( فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) أنّه لا يقع ذلك من المتبرّع وأنّه لا بدّ فيه من المعلوميّة لاقتضاء عقود المعاوضات العلم بالعوضين وأنّه يكون مملوكا لها أيضا لعدم جواز التصرّف في ملك الغير.

ص: 286


1- الرحمن : 22.

ولنتبع هذا الباب بهذه الآية وهي

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) (1).

اشتملت هذه الآية على أحكام ثلاثة :

1 - النهي عن إمساك الزّوجة مع عدم القيام بحقوقها على وجه المضارّة بها حتّى تموت فيرثها فعلى هذا يكون ( كَرْهاً ) منصوبا على الحال أي وهنّ كارهات لذلك ، والمصدر بمعنى الحال وقيل : كان الرّجل إذا مات وله قريب من أب أو أخ أو حميم عن امرأة ألقى ثوبه عليها ، وقال أنا أحقّ بها من كلّ أحد فقيل ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) أي تأخذوهنّ على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهنّ كارهات لذلك ، على قراءة كرها بالفتح ، أو مكرهات على قراءة كرها بالضمّ فعلى الأوّل الموروث نفسها وعلى الثاني مالها (2) وقيل الخطاب للأولياء والأقرباء ، لأنّهم كانوا يمنعون المرأة القريبة من التزويج ليكون مالها لهم من غير مشارك.

2 - قوله ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ) أي تحبسوهنّ عندكم لا لرغبة فيهنّ بل مضارّة لتفتدي نفسها منه بالمهر كلّه أو بعضه وظاهرها يدلّ على قول ابن المسيّب.

3 - أنّها مع الإتيان بالفاحشة ، يجوز عضلها ، فقيل الفاحشة الزنا وقيل سوء العشرة ، وشكاسة الخلق ، وإيذاء الزّوج والأصحّ الأوّل فإذا ثبت ذلك فيها شرعا جاز حبسها ومضارّتها لتفتدي نفسها وقيل نسخ ذلك بوجوب الحدّ ، وبه قال قتادة.

ص: 287


1- النساء : 24.
2- بل بالعكس.
القسم الثالث : ( الظهار )

وهو تشبيه الرّجل زوجته المنكوحة دائما أو منقطعا على قول بظهر امّه أو إحدى المحرّمات نسبا أو رضاعا. واشتقاقه من الظهر ، وكان ذلك طلاقا في الجاهليّة فجاء الإسلام بتحريمه ، لكن مع ترتّب الأحكام عليه كما يجي ء ونزل فيه آيات أربع هي قوله في أوّل سورة المجادلة بكسر الدّال وفتحها :

( قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (1)

روي أنّ خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت أخي عبادة جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابّة مرغوبة فلمّا علا سنّي ونثرت بطني أي كثر ولدي ، جعلني [ إليه ] كأمّه وإنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا

ص: 288


1- المجادلة : 1 - 4.

وإن ضممتهم إليّ جاعوا فقال صلى اللّه عليه وآله « ما عندي في أمرك شي ء » وروي أنه قال لها « حرمت عليه » فقالت يا رسول اللّه ما ذكر طلاقا وإنّما هو أبو أولادي وأحبّ الناس إليّ فقال عليه السلام حرمت عليه فقالت فأشكو إلى اللّه فاقتي ووحدتي ، وكلّما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « حرمت عليه » هتفت وشكت إلى اللّه فنزلت الآيات فطلبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وخيّره بين الطلاق والإمساك فاختار إمساكها (1).

إذا عرفت هذا فهنا فوائد تتبعها أحكام :

1 - لمّا أتت المرأة في خطاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالمقدّمات المشهورة [ المسلّمة ] الّتي ليست حجّة في نفس الأمر على الأحكام الشرعيّة سمّى كلامها مجادلة إذ القياس الجدليّ مركّب من المقدّمات المشهورة أو المسلّمة والتحاور التراجع في الكلام سؤالا وجوابا والإتيان بالجملة المضارعيّة أي ( وَاللّهُ يَسْمَعُ ) بعد أن قال ( قَدْ سَمِعَ اللّهُ ) كأنّه جواب لتوقّع الرسول صلى اللّه عليه وآله أو المرأة سماع اللّه ذلك الخطاب ثمّ أكّد ذلك وعلّله بقوله ( إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ ) أي للأقوال ( بَصِيرٌ ) أي بالأحوال.

2 - المظاهرة كما قلنا عبارة عن قول الرّجل لزوجته : « أنت عليّ كظهر أمّي » ويشترط فيه شروط الطلاق كلّها من الطهارة من الحيض ، وسماع العدلين وغير ذلك ، وهل يقع لو شبّهها بغير الظهر كالبطن والفخذ وغير ذلك من الأعضاء؟ الأقوى عندنا عدم الوقوع وكذا لو شبّه عضوا من زوجته بظهر أمّه الأقرب عدم وقوعه أيضا اقتصارا على منطوق النصّ وجمودا في التحريم على ما اجمع عليه وقال الفقهاء إذا شبّهها بجزء يحرم النظر إليه كالبطن والفخذ وقع.

3 - في قوله ( ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ) إشارة إلى أنّه مع التشبيه المذكور لا تصير الزوجة امّا حقيقة وعلّله بقوله ( إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ ) وقد يستفاد من هذا التعليل عدم الوقوع لو شبّهها بالأمّ من الرضاع ، لعدم التوليد والأصحّ عدمه لقوله صلى اللّه عليه وآله « يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب (2) » نعم لو شبّهها بغير الامّ

ص: 289


1- راجع مجمع البيان ج 9 ص 346 ، الدر المنثور ج 6 ص 180.
2- راجع ص 182 فيما سبق.

من المحرّمات النسبيّة كالأخت وقع على الأصحّ ، وفاقا من أبي حنيفة والنخعيّ والحسن والأوزاعيّ لكن عندنا إن أتى بصيغة الظهر وقع وإلّا فلا ، خلافا للشافعيّ فإنّه قصّره على الامّ ، وبه قال قتادة والشعبيّ ولو شبّهها بمحرّمات المصاهرة مؤبّدا أو غيره لم يقع عندنا خلافا للحنفيّة.

4 - الظهار المذكور حرام لوصفه بالمنكر ، نعم لا عقاب فيه لتعقّبه بذكر المغفرة والرّحمة ، فهو ملحق بالصغائر الّتي تقع مكفّرة ، والزّور المحرّف من القول.

5 - إذا حصل الظهار بشرائطه فإن صبرت المرأة فلا كلام ، وإن رفعت أمرها إلى الحاكم طلبه وخيّره بين الطلاق والإمساك ، فإن اختار الطّلاق وطلّق وقع رجعيّا وإن اختار الإمساك أمره بالتكفير قبل العود ، فإذا كفّر ساغ له العود إليها وإن امتنع من الأمرين معا أنظره ثلاثة أشهر ثمّ طلبه وأمره بما أمر به أوّلا فإن أصرّ ضيّق عليه في المطعم والمشرب وحبسه حتّى يختار أحدهما ، ويجب كون الكفّارة قبل المسيس إجماعا ، وصريح الآية يدلّ عليه ، وأنّه يحرم الوطء قبلها فلو فعل وجب كفّارة أخرى عليه عندنا ، وعند القوم يستغفر اللّه لا غير ، وليس عليه سوى كفّارة الظهار.

6 - الآية صريحة في كون الكفّارة مرتّبة ومن حقّ المرتّبة أن لا ينتقل إلى الثانية إلّا بعد العجز عن الاولى ، وقد تقدّم وصف الرّقبة والإطعام ، ويشترط في الصيام المتابعة بين الشهرين ، لوصفهما في الآية بذلك نعم لو صام يوما من الشهر الثاني ثمّ أفطر كفى في صدق المتابعة ، لكن لا يباح حينئذ الوطء حتّى يتمّ الصّوم وكذا في أثناء الإطعام.

7 - قوله ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) إلخ فيه وجوه :

الأوّل أنّ الّذين كانت عادتهم هذا القول في الجاهليّة ثمّ قطعوه بالإسلام ثمّ قالوه بعد الإسلام فكفّارته كذا.

الثّاني : يعودون إلى ما قالوه بالاستدراك لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه

ص: 290

ومنه المثل عاد غيث على ما أفسده أي تداركه بالإصلاح ، أي ينقض ما اقتضاه قوله « وذلك » عند الشافعيّ أن يمسكها زمانا يمكنه مفارقتها فيه وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظره بشهوة وعند مالك بالعزم على الجماع ، والمعنى أنّ تدارك هذا القول وتلافيه بالتكفير.

الثّالث أن يراد بما قالوا ما حرّموه على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلا للقول منزلة المقول فيه ، نحو قوله تعالى ( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) (1) والمعنى؟؟؟؟ يريدون العود للتماسّ ، والمماسّة كناية عن الجماع ، وهذا القول أجود لأنّه الموافق لقول أصحابنا من تفسير العود بإرادة الوطي ، وإضمار الإرادة هنا كاضمارها في قوله ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ) (2).

الرابع قول الظاهريّة وهو تكرار الظّهار وليس ببعيد لأنّ عندنا يتكرّر الكفّارة بتكرّر الصيغة ، لكن يلزمه بدليل الخطاب أن لا تجب الكفّارة إلّا مع تكرار الصّيغة ، ولا تجب بدونه ، وليس كذلك.

الخامس قول أبي مسلم يعني أن يحلف على ما قال.

السّادس أن يعود إلى المقول فيها ، بإمساكها أو استباحة استمتاعها.

8 - إنّما ذكر كون العتق والصّيام قبل المسيس ، ولم يقيّده في الإطعام لكونه بدلا عنهما فالقيد فيهما قيد فيه.

9 - روي أنّه صلى اللّه عليه وآله لمّا طلب الأوس واختار الإمساك فقال له صلى اللّه عليه وآله « كفّر بعتق رقبة » فقال ما لي غيرها ، وأشار إلى رقبته ، فقال « صم شهرين متتابعين » فقال لا طاقة لي بذلك ، فقال « أطعم ستّين مسكينا » فقال ما بين لابتيها أشدّ مسكنة منّي فأمر له النبيّ صلى اللّه عليه وآله بشي ء من مال الصدقة وأمره أن يطعمه عن كفّارته فشكى خصاصة حاله وأنه أشدّ فاقة وضرورة ممّن أمر بدفعه إليهم فضحك النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأمره بالاستغفار ، وأباح له العود إليها (3) وفيها دلالة على أنّه مع العجز عن

ص: 291


1- مريم : 80.
2- النحل : 98.
3- رواه على ابن إبراهيم في تفسير السورة ونقله في الكافي ج 6 ص 155.

الكفّارة يستغفر اللّه ويعود ويؤيّده رواية عمّار موثّقا عن الصادق عليه السلام أنّ الظهار إذا عجز صاحبه عن الكفّارة فليستغفر ربّه ولينو أن لا يعود ، فحسبه بذلك كفّارة.

وبعض أصحابنا قال إذا لم يطق إطعام ستّين مسكينا صام ثمانية عشر يوما. ومنهم من قدّم الصوم الثمانية عشر على الإطعام ، واجتزأ بها عن الإطعام والأولى أنّه مع العجز عن الخصال المنصوصة في الكتاب ينتقل إلى الاستغفار.

القسم الرابع : الإيلاء

وهو الحلف باللّه على ترك الوطء للزوجة المنكوحة بالعقد مضارّة لها إمّا مطلقا أو مؤبّدا أو مقيّدا بمدّة يزيد على أربعة أشهر أو مضافا إلى فعل لا يقع إلّا بعد انقضاء مدّة التربّص قطعا أو ظنّا وفيه آيتان هما :

قوله تعالى ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1).

هنا مسائل :

1 - إذا وقع الإيلاء على الوجه المذكور إن صبرت المرأة فلا كلام وإن رفعت أمرها إلى الحاكم أمره بالكفّارة والعود ، فان أبى أنظره أربعة أشهر ثمّ ألزمه إمّا الطّلاق أو الفئة والتكفير ، فان امتنع منهما معا حبسه وضيّق عليه في المطعم والمشرب حتّى يختار أحدهما ولا يأمره الحاكم بذلك إلّا مع مرافعتها (2) وكذا في الظّهار ، والجارّ والمجرور في قوله « للّذين » خبر والمبتدأ « التربّص » وهو الانتظار و « من » متعلّق بتربّص لأنّه يتضمّن معنى التعدّي فعدّي « بمن »

ص: 292


1- البقرة : 226.
2- في المطبوعة : مواقعتها.

وإن كان في الأصل يعدّى بعلى ، ويجوز أن يراد : لهم من نسائهم تربّص أربعة أشهر كقولك : لي منك نصر ومعونة.

2 - المراد بالفئة هو الجماع إن كان قادرا عليه ولا مانع منه شرعا ولا عرفا فلو عجز أو حصل المانع الشرعيّ أو العرفيّ ففئته إظهار العزم على ذلك ، وتعقيب ذلك بالغفران والرحمة ، لما في ذلك من الإثم بقصد إضرار الزّوجة.

3 - استفيد من تقدير المدّة بأربعة أشهر أنّه لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر ، وإلّا لما جاز لها المرافعة والمطالبة.

4 - دلّ قوله « وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ » على عدم وقوعه بالمستمتع بها إذ لا طلاق في نكاحها ومنهم من يقول بوقوعه بها ويقدّر في الكلام إضمارا أي وإن عزموا الطّلاق فيمن يقع بها فانّ اللّه سميع عليم ، وهو ضعيف لأصالة عدم التقدير وانتفاء الضرورة ، ولفظ « نسائهم » وإن كان جمعا مضافا وهو من صيغ العموم فقد خصّ بأخبار أهل البيت عليهم السلام وفي قوله « فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » تهديد ، والعزم تصميم الإرادة على أن يفعل الشي ء.

القسم الخامس : اللعان

وهو لغة الطرد والإبعاد وشرعا مباهلة بين الزّوجين سببها قذف الرّجل امرأته بالزنا مع دعوى المشاهدة وعدم البينة أو نفي ولد ولد على فراشه مع شرائط إلحاقه به ، وفيه آيات أربع هي قوله :

( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ

ص: 293

لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ ) (1).

روى الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه قال لمّا نزلت ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) الآية قال سعد بن عبادة يا رسول اللّه إنّي لأعلم أنّها حقّ من عند اللّه تعالى لكن تعجّبت أن لو وجدت لكاع يفخذها لم يكن لي أن أهيجه ولا أحرّكه حتّى آتي بأربعة شهداء ، فو اللّه إنّي لا آتي بهم حتّى يقضي حاجته؟ فما لبثوا حتّى جاء هلال بن أميّة فقال يا رسول اللّه إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت عليها رجلا يقال له شريك بن السّحماء فرأيت بعينيّ وسمعت باذنيّ فكره النبيّ صلى اللّه عليه وآله ذلك فقال سعد : الآن يضرب النبيّ صلى اللّه عليه وآله هلال بن أميّة ويبطل شهادته في المسلمين فقال هلال لرسول اللّه : واللّه إنّي لأرجو أن يجعل اللّه لي منها مخرجا فبينا هم كذلك إذ نزلت « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ » الآيات فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أبشر يا هلال فقد جعل اللّه لك فرجا ومخرجا.

وروي أنّ المعترض هو عاصم ابن عدي الأنصاري فقال جعلني اللّه فداك إن وجد رجل مع امرأته رجلا فأخبر جلد ثمانين جلدة وردّت شهادته أبدا وإن ضربه بالسّيف قتل به ، وإن سكت سكت على غيظ وإلى أن يجي ء بأربعة شهداء فقد قضى حاجته ومضى ، اللّهم افتح وخرج ، فاستقبله هلال بن أميّة فأتيا النبيّ صلى اللّه عليه وآله فأخبر عاصم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وكلّم خولة زوجة هلال فقالت لا أدري الغيرة أدركته أم بخلا بالطعام ، وكان الرّجل نزيلهم ، فقال هلال لقد رأيته على بطنها فنزلت الآية فلاعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بينهما وقال لها إن كنت ألممت بذنب فاعترفي به فالرّجم عليك أهون من غضب اللّه فانّ غضبه هو النار ثمّ قال إن جاءت به اصيهب اثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك ، وإن جاءت به أورق جعدا جماليّا خدلّج السّاقين فهو لغير الّذي رميت به قال ابن عبّاس رضي اللّه عنه جاءت بأشبه خلق اللّه بشريك فقال صلى اللّه عليه وآله لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن وروي أيضا أنّ عويمر العجلانيّ

ص: 294


1- النور : 6.

رمى زوجته فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله البيّنة وإلّا حد في ظهرك ، فنزلت (1)

إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

1 - الكلام المذكور ليس على ظاهره ، وذلك لأنّ فيه مشاكلة وحذفا أمّا المشاكلة فلأنّ المراد بالشهادة هنا القسم سمّي بها لقيامها مقام شهادة الشهداء كما هو في باقي القضايا الشرعيّة ، ولتطابق قوله « وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ » وأمّا الحذف فلأنّ تقديره وإن لم يكن لهم شهداء فشهادة أحدهم أي يمينه يقوم مقام الشهداء وقرئ « أربع » بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف أي هنّ أربع وقرئ بالنّصب على أنّ فعله محذوف أي يشهد أربع ، ومن عرف عادة القرآن في الحذف والاكتفاء بسياق الكلام لا ينكر ذلك وقيل الرفع على أنّه خبر « شهادة » أي فواجب شهادة أحدهم والنصب على المصدر وهو ضعيف أمّا الأوّل فلا قرينة تدل عليه والثاني لا نظير له في كلامهم فانّ المصدر لا ينصب بالمصدر.

2 - صورة اللّعان أن يبدء الرّجل فيقول أشهد باللّه إنّي لمن الصّادقين فيما رميتها به ، ويكرّر ذلك أربع مرات مع الاولى ثمّ يقول إنّ لعنة اللّه عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به ، ثمّ تقول المرأة أربع مرّات : أشهد باللّه إنّه لمن الكاذبين فيما رماني به ، وتقول في الخامسة إنّ غضب اللّه عليّ إن كان من الصادقين فيما رماني به. عملا بصورة النصّ ، ويجب إيقاعه بهذه الألفاظ من غير تغيير ولا تبديل مراعيا للاعراب والترتيب والموالاة ، فلو غيّر كلمة أو حرفا بدلا عن المذكور لم يكن لعانا صحيحا ويجب كونه بالعربيّة ، وعند الحاكم ، وتعيين المرأة بالإشارة أو التسمية الصريحة.

3 - إذا تمّ اللّعان وقعت الفرقة بينهما تحريما مؤبّدا ولا يفتقر إلى طلاق الحاكم ولا حكمه بالفرقة عندنا وبه قال الشافعيّ ولقوله صلى اللّه عليه وآله المتلاعنان لا يجتمعان

ص: 295


1- الروايات في شأن نزول الآية مروية في تفسير الدر المنثور ج 5 ص 21 مجمع البيان ج 7 ص 138 وهكذا في سنن ابى داود ج 1 ص 520 - 525.

أبدا (1) وقال أبو حنيفة تقع الفرقة بحكم الحاكم فرقة طلاق بائن ولا يتأبّد التحريم فلو أكذب نفسه جاز له أن يتزوّجها عنده.

4 - اشترط أكثر الأصحاب كونها مدخولا بها وعقدها دائم ، فلو لم يدخل. أو كان النكاح منقطعا فعليه الحد للقذف ولا لعان ، واستدلّوا بالأحاديث ، وقال جماعة بعدم ذلك عملا بعموم اللّفظ فإنّ « أزواجهم » جمع مضاف وهو للعموم ، والتحقيق أن نقول إن صحّ تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، فالقول هو الأوّل وإن لم يصحّ فالقول هو الثاني هذا في القذف بالزنا ، أما نفي الولد فلا بدّ من الدّخول. ليحصل شرط الإلحاق.

5 - يشترط كونها زوجة أو في حكمها حال القذف ، فلو قذف أجنبيّة أو مطلّقة بائنة فالحدّ ولا لعان أما المرمي به (2) فهل يشترط كونه حال الزوجيّة أم يكفي ولو كان سابقا على النكاح قولان منشؤهما من عموم « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ » وهو أعم من السابق وغيره ، ولأنّه يصدق أنه قذف زوجته فيدخل في الآية ، ومن. عموم « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً » (3) والأقوى الأوّل فلو قذف زوجته ثمّ أبانها كان له اللّعان.

6 - دلّ قوله « وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ » على اشتراط عدم حصول الشهداء إذ الجملة حاليّة أي والحال أنّه لم يكن لهم شهداء إلّا أنفسهم ، فلا لعان مع. وجود الشهداء ، فلو عدل عن الشّهادة هل له أن يلاعن؟ قيل نعم والحقّ عدمه أمّا. أوّلا فللآية ، والمشروط عدم عند عدم شرطه إذ المبتدأ هنا فيه معنى الشرط ، وأمّا أوّلا فللآية ، والمشروط عدم عند عدم شرطه إذا المبتدأ هنا فيه معنى الشرط ، وأمّا. ثانيا فلأنّ اللّعان على خلاف الأصل فإنّ شهادة الإنسان لنفسه أو يمينه لنفسه غير مقبولين فاقتصر على مورد النصّ.

7 - لمّا قذف وجب عليه حدّ القذف فلمّا لاعن سقط عنه ووجب عليها حد

ص: 296


1- أخرجه الشيخ الطوسي في الخلاف ج 2 ص 287 عن ابن عباس.
2- أما المزني بها ، خ.
3- النور : 5.

الزنا لأنّ أيمانه شهادات فلمّا لاعنت سقط عنها لقوله « وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ » وهو الحد هنا فلو أكذب نفسه لم يزل حكم اللّعان ، نعم هل يحدّ للقذف؟ قيل لا لسقوطه بلعانه ، وقيل : نعم ، لزيادة الهتك وتكرار القذف ، وهو قويّ ولو أكذبت نفسها فإشكال : من قوله « وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ » ولا موجب للعود ، ومن عموم « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (1) » فإذا أقرّت أربعا وجب الحد.

8 - لمّا ثبت في الأصول أنّ خصوص السّبب لا يخصّص وثبت قوله صلى اللّه عليه وآله « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (2) كان حكم آية اللّعان عامّا باقيا وكذا الكلام في الظّهار.

القسم السادس : من روافع النكاح الارتداد

وهو قطع الإسلام بقول كإنكار ما علم من الدّين ضرورة أو عمل كالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات وغير ذلك ممّا علم من الدّين ضرورة وجوب تعظيمه ويستدلّ على قطعه النكاح بآيات تحريم المشركين والمشركات ، وبقوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (3) » وقد تقدّم بيان ذلك ثمّ الارتداد له أحكام مذكورة في كتب الفقه فلتطلب هناك ولنقتصر من كتاب النّكاح على هذا.

ص: 297


1- أخرجه في المستدرك ج 3 ص 48 عن غوالي اللئالى من كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.
2- أخرجه في البحار ( الطبعة الحديثة ) ج 2 ص 271 ، عن غوالي اللئالي.
3- الممتحنة : 10

كتاب المطاعم والمشارب

اشارة

والآيات هنا أقسام.

القسم الأول : ما يدل على أصالة إباحة كل ما ينتفع به خاليا عن مفسدة

وهو آيات :

الاولى ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (1).

امتنّ على عباده بأنّه خلق جميع ما في الأرض لهم ، والمراد به ما ينتفع به لأنّ ما فيه إضرار أو خلا عن نفع لا يقع به امتنان ثمّ إنّ ذلك المنتفع به ، لو لم يكن محلّلا لما حسن أيضا الامتنان إذ لا يمتنّ أحد على أحد بشي ء حال بينه وبينه لقبحه في نظر العقل ، فيكون الأشياء كلّها على أصالة الإباحة وهو المطلوب ، وإن خالف هنا قوم فقولهم باطل ، وقد تبين ذلك في الأصول.

الثانية ( يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) (2).

قيل : نزلت في قوم حرّموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس والأمر هنا للإباحة وأمّا « حَلالاً » فيحتمل نصبه على مفعوليّة « كُلُوا » والأجود أنّه صفة مصدر محذوف والأجود منه أنّه حال « مِمّا فِي الْأَرْضِ » والطيّب يقال لمعان الأوّل : ما هو مستلذ الثاني : ما حلّله الشارع ، الثّالث : ما كان طاهرا ، الرّابع : ما خلا عن الأذى في النفس والبدن ، وهو حقيقة في الأوّل لتبادره إلى الذهن وهو المراد هنا

ص: 298


1- البقرة : 29.
2- البقرة : 168.

لئلّا يلزم التكرار لو أريد الثاني أي كلوا ما جمع وصفي الحلّ واللّذّة ثمّ الخبيث يقال في مقابلة الطيّب في معانيه وهنا فوائد :

1 - ظاهر الآية إباحة الانتفاع بالأشياء المحلّلة المستلذّة لكنّه على الاجمال فبيانه إمّا بالكتاب أو السنة.

2 - يحتمل أن يراد بالطيب هنا المعنى الرابع ، فيدلّ على تحريم ما فيه أذى في البدن إمّا مرض أو هلاك أو في النفس إما إذهاب عقل أو شي ء من الإدراكات فعلى هذا لو كان قليله لا يؤذي في البدن بل كثيره حرم القدر المؤذي لا غير أمّا ما يذهب العقل كثيره دون قليله فيحرم كلّه لاقتضاء الحكمة المحافظة على العقل ولأنّه لو أبيح القليل لأدّى إلى الاشتمال ، وعدم المبالاة لغلبة الشهوة على النفس بخلاف الأذى البدني فانّ الحيوان بطبعه يحاذر على بدنه ، ويمتنع من المؤذي له ، فلم يحتج إلى تأكيد تحريم ما يؤذيه.

3 - « مِمّا فِي الْأَرْضِ » « من » للتبعيض و « ما » للعموم ، فيشمل النبات والحيوان والمعدن وقد خصّ ذلك العموم الكتاب والسنّة بتحريم أشياء يأتي بعضها هنا.

4 - قيل إنّ اللّه تعالى حافظ كلّ شريعة بحفظ خمسة أشياء الأوّل النفوس بشرع القصاص ، الثّاني : الدين بعقاب المرتدّ ، الثّالث : النسب بتحريم الزّنا ووجوب الحدّ عليه ، الرّابع الأموال بتضمين الغاصب والسّارق وتعزير الأوّل وقطع الثّاني الخامس : العقول بتحريم المسكرات وإيجاب الحدّ في تناولها.

الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) (1).

ص: 299


1- البقرة : 172.

المعنى هنا قريب ممّا تقدّم ، وذكر الأمر بالشكر دليل على كون الطيّب هنا منتفعا به حسنا وإلّا لما وجب الشكر في مقابله ، لأنّ الشكر إنّما يجب في مقابلة النعمة ، وفيه إشارة إلى كون العبادة قد يقع شكرا.

القسم الثاني : ما فيه إشارة إلى تحريم أشياء على التعيين

وفيه آيات :

الاولى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ) (1).

قد تقدّم البحث في صدر هذه الآية في كتاب الصّلاة فلا وجه لإعادته فلنذكر المهمّ منها فنقول أشار في هذه الآية إلى تحريم أشياء كانت الجاهليّة لا تحرّمها :

1 - الميتة وهي ما فاتت حياته لا على وجه التذكية الشرعيّة ، واستثنى النبيّ صلى اللّه عليه وآله من ذلك السّمك والجراد بقوله « أحلّ لكم ميتتان ودمان » (2).

2 - الدّم وكانوا يأكلونه أنواعا من الأكل منها العلهز ، كما قال عليّ عليه السلام في بعض كلامه تقريعا للعرب ، وبيانا لنعمة اللّه عليهم بتحريم الخبائث بقوله « تأكلون العلهز » وهو أن يجعل الدّم في المصارين والمباعر ويشوونها ويأكلونها ثمّ إنّ الدّم استثنى منه الطحال على قول ، والأولى تحريمه نعم الدّم المستخلف في تضاعيف اللّحم حلال طاهر لإجماع الفقهاء عليه ، وقيل التحريم في موضع آخر بكونه مسفوحا أي سائلا وذلك إنّما يكون ممّا في العروق ، ويلزم من ذلك أنّ

ص: 300


1- المائدة : 3.
2- أخرجه في مشكاة المصابيح ص 361 والدمان : الكبد والطحال ، والميتتان : الجراد والحوت.

ما لم يكن في العروق ، أو بقي فيها وتخلّف في اللحم أن لا يكون محرّما وكأنّه تقييد للمطلق.

3 - لحم الخنزير ، خصّ اللّحم وإن كان شحمه وكلّ أجزائه محرّما لأنّه المقصود بالأكل وغيره تابع له.

4 - « ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ » أي ما ذبح على اسم الصّنم ولم يذكر عليه اسم اللّه ، والإهلال لغة رفع الصوت ، فيدخل في ذلك كلّ ذبيحة لم يذكر عليها اسم الحقّ تعالى سواء كان من كافر أو مسلم غير محقّ كالمجسّمة صريحا والمشبّهة.

5 - « الْمُنْخَنِقَةُ » أي الّتي ماتت بالخنق ، سواء كان بخنق من غيرها أو اختنفت من نفسها لعارض.

6 - « الْمَوْقُوذَةُ » وهي المضروبة بخشب أو حجر ونحو ذلك من المثقل حتّى يموت ، من قولك وقذته : إذا ضربته.

7 - « الْمُتَرَدِّيَةُ » أي تردّت من علو إلى بئر فماتت.

8 - « النَّطِيحَةُ » أي التي تنطحها اخرى فتموت ، ففعيل هنا بمعنى المفعول والتاء فيها للنّقل من الوصفيّة إلى الاسميّة.

9 - « ما أَكَلَ السَّبُعُ » أي ما أكل منه السبع وبقي منه بقيّة فيها حياة غير مستقرّة فإن كانت مستقرّة جاز أكله بعد التذكية ، وهو المراد بالاستثناء والتذكية هي قطع الأعضاء الأربعة ، وهي الحلقوم ، والمري والودجان ، بحديد أو ما في حكمه ، هذا في غير الإبل أمّا في الإبل فذكاتها النحر ، وهو الطعن في لبّة الثغرة وهي الوهدة المنخفضة ، وقيل الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدّم ممّا يقبل التّذكية وهي الستّة المتأخّرة ، وهو قول عليّ عليه السلام وابن عباس وإدراك الذّكاة على هذا قيل أن يدرك وذنبه يتحرّك أو رجله أو يطرف عينيه ، وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام وقيل هو أن يمكن أن يعيش اليوم أو الأيّام ، وقيل الاستثناء هنا منقطع ليس فيه إخراج والكل حسن.

قوله « وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ » أي وحرّم عليكم ما ذبح على النصب قيل هو

ص: 301

مفرد مثل عنق وجمعه أنصاب كأعناق وهي حجارة منصوبة حول البيت كانوا يذبحون عليها ويشرحون اللّحم عليها ، يعظّمونها بذلك ويتقرّبون به إليها وقيل هي الأصنام و « على » إمّا بمعنى اللّام وإمّا على أصلها ، فتقديره وما ذبح مسمّى على الأصنام والاستقسام طلب معرفة ما قسّم له ممّا لم يقسّم « والأزلام » تقدّم معناها.

وهنا فوائد :

1 - أنّ الأشياء الّتي ذكرها من المنخنقة والموقوذة إلى آخرها إمّا أن يكون ميتة ، أولا؟ فإن كان الأوّل فذكر الميتة أغنى عن ذكرها ، وإن كان الثاني لزم وجود واسطة بين الميّت والحيّ وهو باطل ، والجواب : إنما ذكرها لأنّهم ما كانوا يعدّونها ميتة بل من قسم المذبوحات ، ويخصّون الميتة بما يموت حتف أنفه فعرّفهم أنّ حكم الجميع واحد.

2 - لهذه الآية نظير وهي قوله في البقرة « إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ » (1) وهنا وفي الأنعام والنحل قال « لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ » فهل بينهما فرق أم لا؟ قيل الأصل هو الأوّل لأنّ الباء المعدّية للفعل بمنزلة جزء منه ، فيكون أحقّ بالتقديم ، بخلاف ما يتعدّى باللّام ، فإنّه ليس كالجزء ثمّ لمّا كان الإهلال بالمذبوح لا يستنكر إلّا إذا كان لغير اللّه ، فيكون ذلك المستنكر ممّا يتعلّق الاهتمام به قدّم في الموضعين الآخرين.

فالحاصل أنّ في البقرة قدّم الباء لأنّه الأصل ولأنّه كالجزء وفي الآخرين قدّم « لِغَيْرِ اللّهِ » لشدّة الاهتمام كما يقدّم بعض المفعولات على فاعله.

3 - لمّا كان الحكم اللّاحق بالجملة لمعنى يوجد في شي ء من أجزائها ألحق. بالميتة ما أبين من حيّ ، لوجود معنى التحريم ، وهو الموت وفقد الحياة.

الثانية ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ

ص: 302


1- البقرة : 173 ، الانعام : 145 ، النحل : 115.

يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (1)

تقدّم ما يغني عن تفسير هذه ، و « فِسْقاً » منصوب ، عطفا على « مَيْتَةً » وقوله « أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ » محلّه النصب صفة لفسقا.

وهنا سؤال : وهو أنّه قد وجد كثير من المحرّمات ، وهو غير مذكور في الآية فكيف يقول لا أجد إلّا كذا الدالّ على الحصر ، وكذا في قوله « إِنَّما حَرَّمَ » وإنّما للحصر.

والجواب أنّ اوحي فعل ماض « وأجد » للحال فمنطوقها لا أجد فيما اوحي إلىّ في الماضي غير هذه الأربعة ، وليست هذه الآية آخر ما نزل عليه صلى اللّه عليه وآله فجاز أن يكون جاءه تحريم أشياء بعد نزولها ، وكذا الكلام في « إنّما » فانّ الحصر فيها للحكم الحاليّ.

قوله « فَإِنَّهُ رِجْسٌ » الضّمير للحم الخنزير ، وهو نص في نجاسته وهي معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.

فائدة : روي أنّ ابن عبّاس وعائشة استدلا بهذه الآية على حلّ لحم الحمار وهو قريب وكذا تدلّ على حلّ لحم الخيل والبغال لأنّ منطوقها أنّ ما عدا المذكور حلال ، فمن ادّعى التحريم المتجدّد فعليه الدّلالة ، وقال بعض فقهاء العامّة يدلّ على تحريم الثلاثة قوله « وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً » (2) ووجه الدلالة أنّه علّل خلقها بالرّكوب والزينة ، فلا يكون لها فائدة غيرهما. وهو غلط فإنّه لا يلزم من تعليل الشي ء بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غير ذلك أصلا ، هذا وكونها زينة ومركوبة لا ينافي حلّها كما في الإبل فإنّ الأمرين حاصلان فيها مع حلّ لحمها.

ص: 303


1- الانعام : 145.
2- النحل : 8.

الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) (1).

الخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره سمّي به عصير العنب والتمر إذا غلا واشتدّ لأنّه يخمر العقل أي يستره كما سمّي مسكرا لأنّه يسكره أي يحجزه وهو حرام إجماعا مطلقا وكذا كلّ ما أسكر في الجملة وإن لم يسكر قليله عندنا وقال أبو حنيفة نقيع الزّبيب والتمر إذا طبخ حتّى ذهب ثلثاه حلّ شربه إلّا ما ورث السكر والحقّ خلافه لما تقدّم.

ثمّ اعلم أنّ مذهب الإماميّة أنّ الخمر محرّمة في جميع الشرائع وما أبيحت في شريعة قط وكذا كل مسكر ، وأوردوا في ذلك أخبارا عن أئمتهم عليهم السلام وأمّا المفسّرون فقالوا نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكّة « وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً (2) » وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثمّ إنّ عمرو معاذا ونفرا من الصّحابة قالوا : يا رسول اللّه أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل ، مسلبة للمال ، فنزلت « فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ » فشربها قوم ، وتركها آخرون ، ثمّ دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ « قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون » فنزلت « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى (3) » فقلّ من يشربها ثمّ دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقّاص ، فلمّا شربوا وسكروا افتخروا وتناشدوا حتّى أنشد سعد شعرا فيها هجاء الأنصار ، فضربه أنصاريّ بلحى بعير فشجّه موضحة فشكا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال عمر : اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت « إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ »

ص: 304


1- البقرة : 219.
2- النحل : 67.
3- النساء : 43.

إلى قوله « فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » (1) فقال عمر انتهينا يا ربّ.

وعن علي عليه السلام لو وقعت قطرة في بئر فبنيت منارة مكانها لم أؤذّن عليها ولو وقعت في بحر ثمّ جفّ ونبتت فيه الكلا لم أرعه.

قال المحقّقون ويمكن الاستدلال على تحريمها جزما بكلّ واحدة من هذه الآيات أما الأولى فلأنّه قال « تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً » فوصف الرزق الّذي هو قسيم للسكر بالحسن من أدلّ الدّلائل على أنّ المسكر ليس بحلال ، وإلّا لم يختصّ الوصف بالرزق إن قلت إنّ الآية وردت في معرض الامتنان ، وهو سبحانه لا يمتن بالمحرّم قلت الامتنان بخلق أصولها من الثمرات ، وكونها صالحة للانتفاع بها على وجوه متعدّدة.

وأما الثانية فلأنّه أخبر أنّ فيها إثما كبيرا ، والإثم هو الكبيرة بدليل قوله « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً » (2).

وأمّا الثالثة فلأنّه بيّن منافاة السكر للصّلاة ، والصلاة واجبة ، ووجوب أحد المتنافيين يستلزم تحريم الآخر ، لأنّ الأمر بالشي ء يستلزم النهي عن ضدّه كما قرّر في الأصول.

وأمّا الرابعة فلما تقدّم في المكاسب.

ثمّ إنّ السيّد المرتضى رضي اللّه عنه وجماعة استدلّوا على تحريم الخمر وكلّ مسكر بآية خامسة وهي قوله في الأعراف « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ » (3) والإثم هنا الخمر (4) لقول الشاعر

ص: 305


1- المائدة : 90.
2- النساء : 112.
3- الأعراف : 33.
4- ففي الكافي : أبو على الأشعري عن بعض أصحابنا وعلى بن إبراهيم عن أبيه جميعا عن على بن أبي حمزة عن أبيه عن على بن يقطين قال : سئل المهدي أبا الحسن عليه السلام عن الخمر ، هل هي محرمة في كتاب اللّه ، فان الناس انما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها ، فقال له أبو الحسن عليه السلام : بل هي محرمة في كتاب اللّه ، فقال : في أي موضع محرمة في كتاب اللّه جل اسمه يا أبا الحسن؟ فقال : قول اللّه عزوجل ( إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ). فأما قوله « ما ظَهَرَ مِنْها » يعنى الزناء المعلن ونصب الرايات التي كانت تعرف بها الفواحش في الجاهلية ، وأما قوله « وَما بَطَنَ » يعنى ما نكح آباؤكم لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي صلى اللّه عليه وآله إذا كان للرجل زوجة وماتت منها تزوج بها ابنه من بعده إذا لم تكن أمة ، فحرم اللّه عزوجل ذلك. واما الإثم فإنها الخمر بعينها ، وقد قال اللّه عزوجل في موضع آخر « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ » فأما الإثم في كتاب اللّه هي الخمر والميسر « وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » كما قال اللّه تعالى. قال فقال المهدي يا على بن يقطين هذه فتوى هاشمية ، قال : قلت له : صدقت واللّه يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت ، قال فو اللّه ما صبر المهدي الى أن قال لي صدقت يا رافضي. قال العلامة المجلسي قدس سره في مرآت العقول ج 4 ص 93 : المراد بالإثم ما يوجبه ، وحاصل الاستدلال أنه تعالى حكم في تلك الآية بكون ما يوجب الإثم محرما وحكم في الآية الأخرى بكون الخمر والميسر مما يوجب الإثم ، فثبت بمقتضاهما تحريمهما فنقول : الخمر مما يوجب الإثم. وكلما يوجب الإثم فهو محرم : فالخمر محرم. وبمضمونها في الكافي حديث آخر عن بعض أصحابنا ، والحديث مبسوط ، وفيه : ثم قال في الآية الرابعة « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ » فخبر عزوجل أن الإثم في الخمر وغيرها وأنه حرام.

شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي *** كذاك الإثم يفعل بالعقول (1)

والمراد بما ظهر زنا وذوات الأعلام ، وما بطن زنا المستترات واللّواط ، هذا وقوله « وَالْمَيْسِرِ » هو مصدر كالموعد سمّي به القمار لأنّه أخذ من مال الغير بيسر

ص: 306


1- أنشده في مقاييس اللغة ج 1 ص 61 والضبط كما في الكتاب الا أن في المقابيس تفعل بصيغة التأنيث ، وأنشده في التبيان ج 1 ص 703 - ط تهران - وتفسير أبى الفتوح ج 5 ص 149 والضبط فيهما « كذلك الإثم يصنع بالرجال » وأنشده في المجمع ج 4 ص 414 والخازن ج 2 ص 84 وأحكام القرآن لابن العربي ص 774 والضبط « يذهب بالعقول » وكذا في الصحاح واللسان - ا ث م - الا أن الضبط فيهما « تذهب » بصيغة التأنيث ، وكذا في الفتح القريب للشوكانى ج 2 ص 191. وفي تفسير الخازن : وأما الإثم فقد قيل انه اسم من أسماء الخمر ، وهو قول الحسن وعطاء ، قال الجوهري : وقد تسمى الخمر اثما واستدل عليه بقول الشاعر شربت إلخ ، وقال ابن سيده صاحب المحكم : وعندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لان شربها اثم ، وبهذا المعنى يظهر الفرق بين اللفظين ، وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم ، قال لان العرب ما سمته اثما في جاهلية ولا في الإسلام ولكن قد يكون الخمر داخلا تحت الإثم لقوله تعالى « قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ». لكن الشيخ قدس سره نقل في التبيان إنشاد ابن الأنباري للبيت في ان الإثم هو الخمر.

أو سلب يساره ، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما قل فيهما إثم كبير وقرئ « كثير » ضد القليل ، وعلى القراءتين هي محرّمة جدّا ، والمنافع قيل ما هي يربحون فيهما من التجارة في الخمر وكسب المال في القمار ، وقيل هي المال والطرب والاستلذاذ ومصادقة الفتيان ، وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان ، وتوفير المروّة وتقوية الطبيعة.

قوله « وَإِثْمُهُما » أي الخطاء والقبح والمفاسد الّتي ينشأ منهما أعظم من المنافع المتوقّعة ، منهما ولذلك قلنا إنّ هذه الآية محرّمة لهما فإنّ المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضيت تحريم الفعل.

وأمّا ما ذكره المفسرون والفقهاء من كونها كانت قبل حلالا فباطل بإجماعنا والنقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم السلام وقوله صلى اللّه عليه وآله « كلّ مسكر حرام » وأنّه صلى اللّه عليه وآله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها ، وقال صلى اللّه عليه وآله « شارب الخمر كعابد الوثن » وغير ذلك من الأخبار.

ص: 307

القسم الثالث : في أشياء من المباحات

وفيه آيات :

الاولى ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (1).

لمّا حرّم عليهم الأشياء المتقدّمة من الميتة والدّم ولحم الخنزير والمنخنقة وغير ذلك ، سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أي شي ء أحلّ. لهم ولم يقل أحلّ لنا على سبيل الحكاية لأنّ يسألونك للغيبة فوافق بينهما مع أنّ كلا الوجهين سائغ وفي الآية فوائد :

1 - قوله « أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ » أي المستلذّات وقد تقدّم أقسام الطيّب ويمكن حمل الطيّبات على كلّ واحدة منها لكنّ هذا العامّ مخصوص عندنا بتحريم أشياء وردت به السنّة الشريفة النبويّة والإماميّة ، واستدلّ الشافعيّ بهذه المفهوم على تحريم ما استخبثته العرب والمفهوم عندنا غير حجّة.

2 - « وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ » والمراد بها المكاسب والكواسب من سباع الطير والبهائم ، و « ما » هنا يحتمل كونها موصولة والواو عاطفة فتقدير الكلام حينئذ « وصيد ما علّمتم » أي أحلّ لكم صيد ما علّمتم ويحتمل كونها شرطيّة فيكون الواو ابتدائيّة وجواب الشرط قوله « فَكُلُوا » ويستفاد هذا أحكام :

1 - أنّه لا يباح أكل صيد غير المعلّم.

2 - إباحة تعليم الجوارح كلّها والصيد بها.

ص: 308


1- المائدة : 4.

3 - أنّه لا بدّ في إباحة الصيد من العقر والجرح لمدلول « الجوارح » هذا ومعنى مكلّبين قيل مؤدّبين ، وفيه نظر لأنّه لا يصحّ « وما علّمتم مؤدّبين » لأنّ التعليم سر التأديب والأولى أنّ معناه حاذقين في التعليم وهو نصب على الحال ، وفيه إيماء إلى أنّه لا يكون التعليم إلّا للكلب ، لأنّ المكلّب صاحب الكلب ، والكلب وإن أطلق على كلّ سبع لقوله صلى اللّه عليه وآله « سلّط عليه كلبا من كلابك » (1) لكنّه حقيقة في هذا المعهود ، فيكون الاشتقاق منه فيكون مقيّدا مخصّصا لما سبق ولذلك قسم أصحابنا صيد الجوارح إلى قسمين ما أدرك ذكاته فلا يحل إلّا بالتذكية مطلقا وما لم يدرك ذكاته إن كان مقتول الكلب فهو حلال وإلّا فهو حرام ، صيد أيّ الجوارح كان وهو المنقول عن الصادق والباقر عليهم السلام.

فائدة : قيل نزل جبرئيل إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فوقف بالباب فاستأذن فأذن له فلم يدخل فخرج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وقال قد أذنّا لك فقال عليه السلام إنّا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم كلب فقال صلى اللّه عليه وآله لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته فهربت الكلاب حتّى بلغت العوالي فلمّا نزلت الآية قالوا : يا رسول اللّه كيف نصيد بها وقد أمرت بقتلها؟ فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فجاءه الوحي بالإذن في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها فاستثنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث ، وأذن في اتّخاذها (2)

4 - « تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ » فيه دلالة على كون التعليم أمرا مستفادا كيفيّته من الشارع فقال أصحابنا نقلا عن أئمّتهم عليهم السلام أنّ التعليم يحصل بأمور الأوّل : الاسترسال إذا أخرى. الثاني : الانزجار إذا زجر الثالث : أن لا يعتاد أكل

ص: 309


1- قاله صلى اللّه عليه وآله في عتبة بن أبى لهب : بعد ما نزل والنجم إذا هوى جاء الى رسول اللّه وطلق ابنته وقال : كفرت بالنجم وبرب النجم فدعا عليه صلى اللّه عليه وآله وقال اللّهم سلط عليه كلبا من كلابك فخرج عتبة الى الشام فافترسه أسد في بعض الطريق ليلا راجع مناقب آل أبى طالب ج 1 ص 71 ، مجمع البيان ج 9 ص 172.
2- راجع الدر المنثور ج 2 ص 259 ، مجمع البيان ج 3 ص 160.

صيده الرابع : الاستمرار على ذلك غالبا ولا اعتبار بالندرة نفيا أو إثباتا.

4 - « فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » فيه دلالة على أنّه لا يباح ما أكل منه الكلب ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله لعديّ بن حاتم « وإن أكل منه فلا تأكله لأنّه أمسك على نفسه » (1) وهو قول أصحابنا وأكثر الفقهاء وقال بعضهم يعتبر ذلك في سباع البهائم لا الطير لتعذّر تأديبها إلى هذا الحدّ ، وقال قوم منهم مالك وسعد بن أبي وقّاص لا يعتبر ذلك مطلقا وإن أكل ثلثه ، والحقّ ما ذكرناه وفيها دلالة على أنّه لا يباح أكل ما غاب عن النظر لأنّه إذا غاب لم يكن قد أمسكه على صاحبه بل على نفسه ، وهو الإنماء قال صلى اللّه عليه وآله « كل ما أصميت ودع ما أنميت » (2) سواء وجد به أثر الكلب من جرح أو غض أو لا.

و « من » في قوله « ممّا » الأصحّ أنّها للتبعيض إذ لا يباح كلّما يمسكه الكلب بل بعضه.

[ وهو ] أمّا من نفس الحيوان المباح فإنّه يحرم الدم والفرث والغدد والطحال والمشيمة والعلباء وذات الأشاجع والفرج والقضيب والأنثيان والمرارة والنخاع والحدقة وخرزة الدّماغ.

وأمّا من غيره فإنّه يحرم عندنا الأرنب والثعلب والضبّ واليربوع وغيرها من المصيدات ممّا ورد النصّ بتحريمه وقيل هي زائدة وهو باطل لشذوذ زيادتها في الإثبات وإنما قال : « عليكم » وعدّاه بعلى لأنّ فيه معنى التفضيل أي ممّا تفضّلن عليكم بإمساكه وفيه دلالة على تحريم ما اصطاده للكافر (3) لقوله « عليكم » بالخطاب للمسلمين.

5 - قوله « وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ » الضمير راجع إلى « ما عَلَّمْتُمْ » والمعنى سموا عليه عند إرساله أو إلى ما أمسكن بمعنى سمّوا عليه إذا أدركتم ذكاته و

ص: 310


1- سنن أبي داود ج 2 ص 97 و 98.
2- السراج المنير ج 3 ص 99.
3- ما صاده الكافر خ.

الكلّ محتمل لكنّ الأوّل أوفق للمذهب ، ثمّ يستفاد من ظاهرها أحكام :

1 - وجوب التسمية لأنّ الأمر للوجوب.

2 - أنّه لو تركها نسيانا فلا جناح.

3 - لا يباح صيد الكافر لأنّه لا يعرف اللّه حتّى يذكر اسمه ، سواء كان معلّم الكلب مسلما أو كافرا كما أنه مع تسمية المسلم لا اعتبار بمعلّم الكلب وإن كان كافرا ، نعم يكره الصيد بما علّمه مجوسيّ ثمّ اعلم أنّه يجوز أكل ما صاده الصبيّ المميز من الأولاد المسلمين إلحاقا بالأبوين.

قوله « وَاتَّقُوا اللّهَ » أي اجتنبوا أكل ما نهيتم عن أكله فإنّ اللّه يحاسبكم عليه.

الثانية ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) (1).

حمل فقهاء الجمهور قوله و « طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » على عمومه بحيث يدخل فيه الذبائح وغيرها ممّا يصيدونه (2) قالوا واستثنى عليّ عليه السلام منهم نصارى بني تغلب ، وقال : ليسوا على النصرانيّة ولم يأخذوا منها إلّا شرب الخمر ، وكذا قالوا لا يلحق بهم المجوس وإن الحقوا في تقرير الجزية لقوله صلى اللّه عليه وآله « سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب غيرنا كحي نسائهم ، ولا آكلي ذبائحهم » (3) وأمّا أصحابنا فحملوا الطعام هيهنا على الحبوب وشبهها من الجامدات أمّا أو لا فلحكمهم بنجاستهم المانعة من أكل ما يباشرونه وأما ثانيا فلقوله « وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (4) » وذبائحهم لم يذكر اسم اللّه عليها لكونهم غير عارفين به لوصفهم بالشرك في قوله :

ص: 311


1- المائدة : 5.
2- نص : يصنعونه.
3- أخرجه في المستدرك ج 2 ص 262 عن العياشي.
4- الانعام : 121.

« وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ » إلى قوله ( سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (1) ولأنّهم إذا ذكروا اسم اللّه اعتقدوا أنّه أبّد شرع موسى عليه السلام وأنّه والد عيسى عليه السلام وأنّه لم يرسل محمدا صلى اللّه عليه وآله.

إن قلت قوله « وَطَعامُ الَّذِينَ » إلى آخره عامّ وقوله « وَلا تَأْكُلُوا » عام أيضا فليس تخصيص عامّنا بعامّكم أولى من العكس ، قلت : تخصيص عامّكم لا محذور فيه وأمّا تخصيص عامّنا ففيه محذور ، وهو أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، وأيضا قد دللنا على وجوب التّسمية عند إرسال آلة الصيد (2) وعند الذبيحة وأنّ من تركها عمدا لا يحل ذبيحته ، وكلّ من قال بذلك قال بتحريم ذبائح أهل الكتاب وأنّ قوله « وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » مخصوص ، فلو قلنا بالأوّل ولم نقل بالثاني كان خرقا للإجماع.

هذا تقرير ما ذكره الفريقان ، غير أنّ عندي في كلام الأصحاب إشكالا تقريره أنّ الحبوب وغيرها من الجامدات داخلة في الطيّبات في قوله « الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ » وعطف الخاصّ على العامّ نصّ أهل البلاغة أنّه لا يجوز إلّا لنكتة أو فضيلة كعطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة ، فأيّ نكتة هنا اقتضت الإخراج والعطف على قولكم ، نعم النكتة متوجّهة على قول الخصم. وذلك أنّه لمّا ذكر أنه حرّم ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، وأنّ أهل الكتاب مشركون وأنّهم يكفّرون أهل السلام وأنّهم من أهل الخبائث أمكن أن يقال إنّ طعامهم مطلقا ليس من الطيّبات فناسب ذلك إخراجه وعطفه بيانا للرّخصة ، وأمّا على قولكم فانّ ذلك عزيمة وللرخصة مزية في بيان الأحكام ، خصوصا فيما ورد في معرض الامتنان ، وهو هذه الآية ، وأرجو من اللّه أن يفتح عليّ الجواب عن هذا الاشكال بكرمه ومنه.

الثالثة ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا ) (3)

ص: 312


1- التوبة : 30.
2- عند إرسال الكلب الى الصيد خ.
3- النحل : 14.

وفي آية أخرى :

( وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا ) (1).

دلّت الآيتان الكريمتان على إباحة أكل ما يصاد من السّمك ، وتقييده بالطريّ ليس مخصّصا له بالتحليل ، للإجماع على إباحة غيره ، وإنّما قيّده بالطراوة لأنّ طيبته في طراوته ، فإذا لبث تغير طراوته ، وذهب طيبه. والآية الكريمة خرجت مخرج الامتنان ، فلا يليق إلّا بما هو لذيذ ، ثمّ اللام في الآية الأولى يجوز أن يكون للتعليل بمعنى أنّ السبب الغائيّ بخلق البحر انتفاع الإنسان به ، ويجوز أن يكون للعاقبة ، بأن يكون خلقه لسبب آخر لكن آل الأمر إلى انتفاعنا به.

واعلم أنّه استدلّ بعض الفقهاء بالآية على أنّ السمك لحم ، وأنه إذا حلف أحد لا يأكل لحما يحنث بالسمك وليس بشي ء لأنّه لحم لغة لا عرفا ، والأيمان مبنيّة على الحقيقة العرفيّة لا اللّغويّة لما تقرّر في الأصول من تقديم العرف على اللّغة لكونه طارئا ناسخا لحكمها.

الرابعة ( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ ) (2).

وأمثالها من الآيات الدالة على الامتنان بخلق الماء ، وإنزاله من السماء فإنّ الجميع دالّ على إباحته وحلّه ، إذ لا امتنان بالممنوع من الانتفاع به شرعا.

الخامسة ( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً

ص: 313


1- فاطر : 13.
2- الأنبياء : 30.

يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).

دلّت الآيتان على أمور :

1 - إباحة العسل وهو المعني بالشراب.

2 - كونه شفاء من الأمراض لأنّه يقال في مقابلة المرض كقوله « وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ » (2) ويؤيّده قوله صلى اللّه عليه وآله « شفاء أمّتي في ثلاثة : آية من كتاب اللّه ، ومشراط حجّام ، ولعقة من عسل (3) » وفي توجيه الحديث فائدة وهو أنّه صلى اللّه عليه وآله أخبر أنّ شفاء أمّته في هذه الثلاثة أمّا الآية فعلى وجه الخاصية فإنّ لكلامه تعالى خواصّ لا ينكرها من له بصيرة ، فإنّ كلامه تعالى فعل من أفعاله فلا ينكر اشتماله على خاصيّة ليست لغيره كما في باقي أفعاله فإنّ جذب المغناطيس للحديد لا ينكره عاقل ، وأمّا المشراط فعند هيجان الدّم ، وأمّا العسل فإنّه مع الأدوية الحارّة شفاء من البلغم ، وقد يكفي فيه وحده ، ومع الحموضات شفاء من الصفراء ومع الأدهان شفاء من السوداء.

قال بعضهم قلّ معجون يركّبه الأطبّاء يخلو من العسل ، وروي أنّ رجلا قال لرسول اللّه إنّ أخي يشتكي بطنه قال اسقه العسل فذهب ثمّ جاء فقال سقيته فما نفع فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله اسقه عسلا فقد صدق اللّه وكذب بطن أخيك ، فسقاه فبرأ (4).

واعلم أن العسل وإن لم يكن شفاء من كلّ داء لكنّه شفاء من كثير منها ، والحديث المذكور في البطن لا يدلّ على أنّه شفاء من كلّ داء ، لجواز أن يكون قد

ص: 314


1- النحل : 68 و 69.
2- الشعراء : 80.
3- راجع الدر المنثور ج 4 ص 122.
4- المصدر نفسه.

عرف صلى اللّه عليه وآله من جهة الوحي أنّ داء أخيه ممّا ينفعه العسل ، فالتنكير في « شفاء » إمّا للتبعيض أو للتكثير مبالغة فيدل على الأكثريّة الكليّة.

3 - في الآية إيماء إلى جواز العلاج من الأمراض فإنّ إباحة الخاصّ لعلّة تستلزم إباحة خاصّ آخر توجد فيه تلك العلّة إلّا ما ورد فيه النهي كقوله صلى اللّه عليه وآله : لا شفاء في محرّم. وهنا فوائد :

1 - الوحي هنا بمعنى الإلهام وقد يقال بمعنى الإشارة كقوله « فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً (1) » وبمعنى الاسرار كقوله « يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً » (2) والوحي الحقيقيّ وحي النبوّة ، والجامع لهذه المعاني كلّها إلقاء شي ء إلى الغير على وجه السرّ.

2 - « من » في « مِنَ الْجِبالِ » للتبعيض أي بعض الجبال ، وبعض الشجر ، وبعض ما يعرشون : أي يسقّفون وسمّى ما تبنيه بيتا تشبيها له ببيت الإنسان ، لما فيه من حسن الصنعة وصحّة القسمة الّتي لا يقوى عليها حذّاق المهندسين ، والثمرات :الأزهار والأنوار ، فإنّ الثمرة اسم لكلّ فائدة يحصل من الشجرة للإنسان أو غيره وقد يستدلّ بذلك على جواز المساقاة شرعا على ما لا فائدة له إلّا الورق والزهر والنّور ، لصدق الثمرة عليه ، وقوله « فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً » أي طرقا موصلة لمأكولك إلى صورة العسل وفيه دلالة على كونه تعالى يفعل بالسبب أو طرقا توصلك إلى الأزهار و « ذُلُلاً » جمع ذلول أي الموطّأة للسلوك ، وقال قتادة إنّها صفة للنحل أو حال عن الضمير في « اسلكي » أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به.

3 - « يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها » فيه التفات عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه في محلّ الانعام عليهم ، قوله « شَرابٌ » احتجّ به من قال أنّ النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة ، فيستحيل في باطنها عسلا ثمّ تقيئه ادّخارا للشتاء ومنهم من زعم أنّها تلتقط بأفواهها أجزاء طيّبة حلوة صغيرة متفرّقة على الأوراق

ص: 315


1- مريم : 11.
2- الانعام : 112.

والأزهار وتضعها في بيوتها ادّخارا للشتاء فإذا اجتمع في بيوتها شي ء كثير منها كان العسل ، وكأنّ هذا القائل فسّر البطون بالأفواه ، وجعل في الكلام إضمارا أي أفواه بطونها أو فسّر البطون بالأفواه مجازا قوله « إِنَّ فِي ذلِكَ » أي في ذلك التدبير من أقدارها على بناء البيوت المحكمة ، وتصيير غذائها المختلف في المرارة والحموضة عسلا حلوا مختلفا ألوانه متّحدا في صورته وطبعه « لَآيَةً » ودلالات على صانع مختار حكيم عالم بالجزئيات والكلّيّات « لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » في أنّه لو كان صادرا عن موجب لما اختلف آثاره ، بل كانت كلّها على نهج واحد.

السادسة ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (1).

أي ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المباحات إذا ما اتّقوا المحرّم ، وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة ثمّ هنا فوائد :

1 - قيل سبب نزولها أنّه لمّا نزلت آيات تحريم الخمر قالت الصحابة يا رسول اللّه كيف بإخواننا الّذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون من الميسر فنزلت والأصح أنّها نزلت في القوم الّذين تعاهدوا على ترك الطيّبات كعثمان بن مظعون وأصحابه بمعنى أنّه ليس عليهم جناح في تناول الطيّبات والمستلذّات إذا ما داوموا على الإيمان وعمل الصّالحات واتّقاء المحرّمات.

2 - في التكرار المذكور وجوه :

الأوّل : على قول من يقول بقبول الإيمان للزيادة والنقص ، والمراد بالتكرار تزيد الإيمان ، وتفاوت مراتبه.

الثاني : أنّه كرّره ثلاثا باعتبار الأوقات الثلاثة الماضي والحال والاستقبال.

ص: 316


1- المائدة : 93.

الثالث : أنّه باعتبار الأحوال الثلاث : الاولى باعتبار حاله مع نفسه ، والثانية : باعتبار حاله مع الناس ، والثالثة : باعتبار حاله مع اللّه ، ولذلك بدّل الايمان بالإحسان ، إشارة إلى قوله صلى اللّه عليه وآله في تفسير الإحسان « أن تعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ».

الرابع : باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والمنتهى والوسط.

الخامس : أنّه باعتبار ما يتّقى فإنّه يتّقى ترك المحرّمات حذرا من العقاب وترك الشبهات تحرّزا من الوقوع في الحرام وهي مرتبة الورع وترك بعض المباحات وهي ما يفيد تحفّظا للنفس عن الخسّة ، وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة.

السادس : أنّ المراد تجديد الإيمان والعزم على التقوى ، لتقوى الداعية للمكلّف ويصير الايمان والتقوى ملكتين راسختين في النفس ليس للشبهات عليه فيهما مجال ، بخلاف ما إذا لم يكونا ملكتين ، فإنّ للشبهة والجناح عليه مجالا.

3 - في الآية دلالة على أنّ الأشياء على الإباحة ما لم يعلم فيها وجه من وجوه القبح ، قوله « وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » فيه دلالة على أنّ من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار محبوبا لله.

4 - روي أنّ قدامة بن مظعون شرب الخمر على عهد عمر ، فأراد أن يحدّه فقال له قدامة : إنّه لا يجب عليّ الحدّ وتلا الآية ، فدرأ عنه الحدّ فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فأتى المسجد وفيه عمر فقال له : لم تركت إقامة الحدّ على قدامة فقال تلا عليّ آية وذكرها عمر ، فقال عليه السلام ليس قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرّم اللّه ، إنّ الّذين آمنوا لا يستحلّون حراما فاردد قدامة فاستتبه ممّا قال : فإن تاب فأقم عليه الحدّ وإن لم يتب فاقتله فإنّه قد خرج عن الملّة ، فعرف قدامة الخبر فأظهر التوبة (1).

ص: 317


1- راجع مجمع البيان ج 3 ص 242 ، وذكرت القصة في ترجمته كما في أسد الغابة ج 4 ص 199.

السابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (1).

روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله جلس للناس ووصف لهم يوم القيامة ، ولم يزدهم على التخويف ، فرقّ الناس وبكوا ، واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا اللّيل ، ولا يناموا على الفراش ، ولا يأكلوا اللحم ، ولا الودك ، ولا يقربوا النساء ولا الطيب ، ويلبسوا المسوح ويرفضّوا الدّنيا ويسبحوا في الأرض ويترهّبوا ويحبّوا المذاكير.

فبلغ ذلك النبيّ صلى اللّه عليه وآله فأتى منزل عثمان فلم يجده فقال لامرأته : أحقّ ما بلغني؟ فكرهت أن تكذّب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأن تبدي على زوجها فقالت يا رسول اللّه إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فأخبرت عثمان بذلك فأتى هو وأصحابه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال لهم ألم أنبّأ أنّكم اتّفقتم على كذا وكذا؟فقالوا : ما أردنا إلّا الخير فقال إنّي لم أومر بذلك ثمّ قال إنّ لأنفسكم عليكم حقّا فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا فانّي أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.

ثمّ جمع الناس وخطبهم وقال : ما بال أقوام حرّموا النساء والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين ورهبانا إنّه ليس في ديني ترك اللّحم والنساء ولا اتّخاذ الصوامع إن سياحة أمّتي الصوم ، ورهبانيّتها الجهاد اعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا وحجّوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا شهر رمضان واستقيموا يستقيم لكم فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم فأولئك بقاياهم في الديرات والصوامع ، فأنزل اللّه الآية (2) إذا عرفت هذا فاعلم أنّ في الآية والقصّة دلالة على أمور :

ص: 318


1- المائدة : 77.
2- الدر المنثور ج 2 ص 308 مجمع البيان ج 3 ص 236.

1 - أنّه لا يجوز تحريم ما أحلّه اللّه من الطيّبات ، ولا تحليل ما حرّم اللّه من الخبائث.

2 - أنّ الترهّب والتقشّف ليس من سنن هذه الشريعة الشريفة ، بل من سننها تناول الطيّبات والمستلذّات المحلّلة.

3 - أنّه لا ينعقد العهد واليمين على ترك المندوب ، ولا على ترك مباح الاولى فعله

الثامنة ( كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (1).

قيل لنزولها أسباب :

1 - أنّه لمّا منع اليهود مشروعيّة النسخ نزلت تكذيبا لهم وبيانا لوقوعه.

2 - لمّا نزل قوله تعالى « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » وقوله و « عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ » (2) قالوا لسنا بأوّل من حرّمت عليه هذه الأشياء ، وما هو إلّا تحريم قديم كانت محرّمة على نوح وإبراهيم ومن بعده ، وهلم جرّا إلى أن انتهى التحريم إلينا ، وغرضهم تكذيب شهادة اللّه عليهم بالظلم والبغي وأكل الرّبا فقال تعالى « فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ».

3 - أنّهم طعنوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في تحليل لحوم (3) الإبل وألبانها ودعواه موافقة إبراهيم عليه السلام فنزلت إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

1 - الحل مصدر حلّ الشي ء يحلّ حلّا ولذلك استوى فيه المذكّر والمؤنّث والواحد والمثنّى والمجموع قال اللّه تعالى « لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ » (4)

ص: 319


1- آل عمران : 93.
2- النساء ، 160 ، الانعام : 146.
3- شحوم خ ، وهكذا فيما يأتي.
4- الممتحنة : 10.

والمراد كلّ المطاعم لم تزل حلالا لهم قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرّم اللّه عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، ولم يحرّم منها إلّا ما حرمه إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام.

2 - المراد بما حرّمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها. وسبب تحريمه قيل كان به عرق النساء فنذر إن شفي لم يأكل أحبّ الطعام إليه وكان ذلك أحبّه إليه وقيل فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطبّاء.

3 - احتج من جوّز الاجتهاد على الأنبياء بقوله « إِلّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ » حيث أسند التحريم إليه ، ولمانع أن يقول : ذلك بإذن من اللّه سبحانه فهو كتحريمه ابتداء.

التاسعة ( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنّا لَصادِقُونَ ) (1).

هنا فوائد :

المراد بذي الظفر هو كلّ ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والبطّ والإوز ، وقيل كلّ ذي مخلب وحافر ، وسمّى الحافر ظفرا مجازا ، أخبر سبحانه أنّه حرّم عليهم كلّ ذي ظفر بجميع أجزائه وأمّا البقر والغنم فحرّم منهما الشحوم واستثنى من الشحوم ثلاثة أنواع الأوّل ما على الظهر ، الثاني ما على الحوايا وهي الأمعاء ، الثالث : ما اختلط بعظم ، وهو شحم الجنب والألية ، لأنّها مركّبة (2) على العصعص وقيل في « الحوايا » أنّها عطف على الشحوم ، و « أو » بمعنى الواو ، فتكون محرّمة والأجود ما قلناه ، وهو عطفها على الظهور فتكون مرفوعة وتكون داخلة في المستثنى لقربه.

ص: 320


1- النساء : 160.
2- مرتبة خ.

2 - في الآية دلالة على حلّ هذه الأشياء في هذه الشريعة ، وإلّا لما كان لتخصيص اليهود بالتحريم فائدة.

3 - في الآية دلالة على جواز النسخ وكونه تابعا للمصلحة واللطفيّة (1).

4 - في قوله « ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ » دلالة على جواز ضم العقاب الدنيويّ إلى العقاب الأخرويّ ، بل وعلى جواز العقاب على الذّنب في الدنيا لا غير ، على قول من يقول بانقطاع عقاب المعاصي كما هو مذهب الحق ، وفيه دلالة على كون التضييق والمشاقّ ألطافا ، وعلى جواز كون منع المنافع لأجل العصيان كما قال صلى اللّه عليه وآله « إنّ الإنسان ليحرم الرّزق بذنب يصيبه (2).

5 - في قوله « وَإِنّا لَصادِقُونَ » من المبالغة والتأكيد في الردّ عليهم ما لا يخفى ، لإتيانه بالجملة الاسميّة ، والتصدير بانّ المؤكّدة للإسناد ، واتباعها باللّام في خبرها : [ لصادقون ]

العاشرة ( وَما لَكُمْ أَلّا تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) (3)

أي أيّ سبب حصل لكم فيه؟ أي لا سبب لكم في ترك أكل ما ذكر اسم اللّه عليه ، والواو في « وَقَدْ فَصَّلَ » للحال أي لأيّ سبب تركتم أكله ، والحال أنّ اللّه قد فصّل لكم الحلال من الحرام ، وليس هذا من جملته ، وهو إشارة إلى قوله « ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) (4) » الآية « إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ » من الحرام فهو حلال

ص: 321


1- والغبطة ، خ.
2- الكافي ج 2 ص 268 باب الذنوب.
3- الانعام : 119.
4- المائدة : 3.

لكم على وجه الرخصة ، وإنّ كثيرا من الناس ليضلّون فيحرّمون ما أحلّه اللّه بمجرّد أهوائهم لا مستندين إلى علم « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ » أي المتجاوزين الحقّ إلى الباطل ، والحلال إلى الحرام ، وهنا فوائد :

1 - دلّت الآية الكريمة على إباحة ما ذكر اسم اللّه عليه ، وتحريم ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، ودلّ على الثاني قوله تعالى فيما بعد « وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ » وهو نصّ في تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا وإليه ذهب داود وأحمد وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله صلى اللّه عليه وآله « ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم اللّه عليه » (1) وقال أصحابنا وأبو حنيفة بتحريم ما تركت التسمية فيه عمدا لا نسيانا لقوله صلى اللّه عليه وآله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان » (2) والحديث محمول على النسيان هذا إن صحّ سنده وأما الآية فأوّلها الحنفيّة بالميتة ، وجعلوا التسمية اسما للمذكّى أو أنّها محمولة على ما أحلّ لغير اللّه به ، لقوله « وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ » فإنّ الفسق عبّر به عن ذلك كما تقدّم ، والأولى حملها على إضمار العمد أو التخصيص به ، لما تقرّر في الأصول أنّها خير من النقل.

2 - الواجب في التسمية ذكر اللّه تعالى مع التعظيم مثل بسم اللّه أو اللّه أكبر أو سبحان اللّه أو الحمد لله أو لا إله إلّا اللّه ولو اقتصر على لفظة « اللّه » لم يجز على الأقرب ويجب كونها بالعربيّة مع الاختيار ، وصادرة عن الذابح فلو سمّى غيره لم يحلّ.

3 - المراد بالاضطرار المستثنى في الآية ما يخاف معه التلف أو المرض أو الضّعف عن متابعة الرفقة مع الضرورة إلى المرافقة ، أو عن الركوب مع الضرورة إليه ولا يشترط الاشراف على الموت ، بل يباح إذا خيف ذلك وإذا أبيح له وجب ذلك لوجوب حفظ النفس ثمّ يتناول قدر ما يزول معه الضرر من غير زيادة عملا بالعلّة.

4 - هذا العام وهو قوله « إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ » مخصوص بالنسبة إلى الفاعل

ص: 322


1- أخرجه عبد بن حميد عن راشد بن سعد كما في الدر المنثور ج 3 ص 42.
2- راجع السراج المنير ج 2 ص 317.

وإلى المستباح : أمّا الأوّل بأن لا يكون باغيا ولا عاديا لقوله « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » والباغي هو الخارج على الإمام أو الّذي يبغي الميتة أي الراغب في أكلها والعادي هو قاطع الطريق أو الّذي يعدو شبعه ، ونقل الطبرسي أنّه باغي اللّذّة والعادي سدّ الجوعة ، أو عاد بالمعصية أو باغ في الإفراط في التقصير ، وعلى التفسير بالمعصية لا يباح للعاصي بسفره كطالب الصيد لهوا وطربا ، وتابع الجائر والآبق ، ولو اكره على الأكل فهو كخائف التلف وأمّا الثاني فهو كلّ ما لا يؤدّي إلى قتل معصوم الدّم كمسلم أو ذمّي أو معاهد لا ما أباح الشارع دمه كاللّائط والزاني المحصن والحربيّ والمرتدّ عن فطرة أمّا الخمر فيحرم التداوي بها إجماعا بسيطا ومركّبا وأمّا دفع التلف فقيل بالمنع أيضا والحق عدمه بل يباح دفعا للتلف وكذا باقي المسكرات ، نعم لو وجد الخمر وباقي المسكرات أخّر الخمر ، هذا كلّه مع عدم قيام غير الخمر مقامه وأما مع القيام فلا يجوز مطلقا.

كتاب المواريث

وفيه آيات :

الاولى ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً ) (1).

الموالي هنا الورّاث فالتقدير حينئذ : جعلنا لكلّ إنسان موالي يرثونه ممّا ترك ، ومن للتعدية ، والضمير في « ترك » للإنسان الميّت أي يرثونه ممّا تركه و « الوالدان » خبر مبتدأ محذوف أي هم الوالدان والأقربون ويترتّبون (2) الأقرب فالأقرب ، لقرينة معنى القرب ، وقال الزمخشري : تقديره ولكلّ شي ء [ جعلنا ] ممّا

ص: 323


1- النساء : 33.
2- يرثون ، خ.

ترك الوالدان والأقربون موالي يرثونه ويحوزونه أو تقديره ولكلّ قوم جعلناهم موالي نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون وفيهما نظر (1) أمّا الأوّل فلأنّه يفهم منه حينئذ أنّ لكلّ صنف من أصناف التركة وارثا وهو فاسد ، لأنّ الورّاث مشتركون في كلّ جزء من كلّ صنف من التركة وأمّا الثاني فلأنّ الوالدين والأقربين هم الورّاث لا الموتى ، بدليل أنّه عطف عليهم « وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ » وهم الورّاث لأنّه قال « فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » وقرئ عقدت وعاقدت ، والمعنى واحد والأيمان هنا جمع يمين اليد لأنّهم كانوا عند العهد يمسحون اليمنى باليمنى ، فيقول العاقد : دمك دمي ، وثأرك ثاري ، وحربك حربي ، وسلمك سلمي : ترثني وأرثك ، وتطلب بي واطلب بك وتعقل عنّي وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث حليفه وهذا من باب إسناد الفعل إلى آلته ، وقيل جمع يمين الحلف فيكون من باب إسناد الفعل إلى سببه إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

1 - كانوا في الجاهليّة يتوارثون بهذا العقد دون الأقارب ، فأقرّهم اللّه عليه في مبدء الإسلام ثمّ نسخ ذلك فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة فروي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله آخى بين المهاجرين والأنصار لمّا قدم المدينة فكان المهاجري يرث الأنصاري وبالعكس ولم يرث القريب ممّن لم يهاجر ونزل في ذلك « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّى يُهاجِرُوا (2) » ثم نسخ ذلك بالقرابة والرحم والأنساب والأسباب لقوله « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ (3) ».

2 - هذا الحكم أعني الميراث بالمعاهدة والمعاقدة ، وهو المسمّى بضمان الجريرة

ص: 324


1- كذا في جميع النسخ المخطوطة وفي المطبوعة « وكلاهما ضعيفان ».
2- الأنفال : 72.
3- الأنفال : 75.

منسوخ عند الشافعيّ مطلقا لا إرث له ، وعند أصحابنا ليس كذلك ، بل هو ثابت عندنا عند عدم الوارث النسبيّ والسّببيّ لما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنّه خطب يوم الفتح فقال ما كان من حلف في الجاهليّة فتمسّكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلّا شدّة ولا تحدثوا حلفا في الإسلام (1) » وعند أبي حنيفة إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صحّ.

3 - على ما قلناه من بقاء حكم الإرث بالتعاهد ، يكون الآية غير منسوخة جملة بل تكون محكمة لكنّ الإرث فيها مجمل يفتقر إلى شرائط ومخصّصات تعلم من موضع آخر من الكتاب أو من السنّة الشّريفة.

وقال بعضهم : المعاقدة هنا هي المصاهرة ، فيكون إشارة إلى إرث الزّوجين واحتاره المعاصر ، وفيه بعد لأنّه عدول عن الظاهر ، وعن قول الأكثر.

الثانية ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ) (2).

قد ذكرنا أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يورّثهم بالهجرة لا بالقرابة تأليفا لقلوبهم كإسهام الكفّار من الصّدقة وأنّه نسخ ذلك بهذه الآية ، وبآيات الإرث ، والمعنى أنّ اولي الأرحام بعضهم أولى بميراث بعضهم من المهاجرين وغيرهم ، ثمّ استثنى الوصيّة للأولياء بقوله « إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً » أي أصدقائكم من المؤمنين والمعروف الوصيّة وعدّى الفعل بإلى لتضمّنه معنى الاسداء ، وقال بعضهم في الآية دلالة على أنّه لا وصيّة لوارث وليس بشي ء.

الثالثة ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ) (3).

ص: 325


1- أخرجه الطبرسي في مجمع البيان ج 3 ص 42.
2- الأحزاب : 6.
3- النساء : 7.

كان الجاهليّة لا يورّثون إلّا من ذاد عن الحريم بالصفاح ، وطاعن عنهم بالرماح وقيل كانوا يورّثون الرجال دون النساء ، فنزلت هذه الآية وأمثالها ردّا عليهم ، وسبب نزولها أنّ الأوس بن ثابت الأنصاريّ مات وترك زوجة مسمّاة بأمّ كحّة وثلاث بنات ، فقام ابنا عمّه سويد وعرفجة ، وهما وصيّاه وأخذا ماله ولم يعطيا زوجته وبناته شيئا وكانوا كما قلنا عنهم لا يورّثون النساء ، ولا الصغار.

فجاءت أمّ كحّة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في مسجد الفضيخ وحكت القصّة ، واشتكت من حاجتهنّ إلى النفقة ، فدعاهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالا يا رسول اللّه ولدها لا يركب فرسا ولا ينكأ عدوّا فنزلت ، وأثبت لهنّ الميراث في الجملة ، ولم يتبيّن كيفيّة التوارث ، فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لا تحدثا في مال أوس شيئا حتّى انظر ما ينزّل اللّه فانّ اللّه جعل لهنّ ميراثا ولم يبين كم هو؟ فنزل « يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ » الآية.

وفي الآية دلالة على بطلان التعصيب لأنّه فرض الإرث لصنفي الرجال والنساء فلو جاز أن يقال للنساء لا يرثن في موضع لجاز أن يقال للرجال لا يرثون واللّازم باطل وكذا الملزوم ، وبيان الملازمة بنصّ الآية ، وقوله « مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً » يؤكّد ذلك ، أي النصيب ثابت في كلّ جزء ممّا ترك.

إن قلت : هذا وارد عليكم لأنكم تقولون إنّ الأخ لا يرث مع البنت ، قلنا إنّما قلنا ذلك لبعد الدرجة والآية يراد بها توارثهما مع التساوي في الدرجة لا مطلقا.

الرابعة ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ

ص: 326

آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (1).

هنا أبحاث :

1 - في تفسير الآية وكلماتها :

« يُوصِيكُمُ » أي يأمركم ويعهد إليكم في ميراث أولادكم وإنّما لم يقل للذكر من أولادكم لأنّ الحكم المبهم إذا أبهم ثمّ فسير كان أوقع في النفس وأحفظ لجواز فوات المقصود لو وقع مفسّرا ابتداء وتقديره للذكر منهم ، فحذفت لدلالة الكلام عليه كما حذف في قولهم « البرّ الكرّ بستّين » وقدّم الذّكر لشرفه ولذلك ضوعف حظّه كما ضوعف عقله ودينه والضمير في « كُنَّ نِساءً » للورثة وتأنيثه بتأنيث الخبر كما في قولهم من كانت أمّك وإنما قال « كانَتْ واحِدَةً » ولم يقل بنتاكما قال « نساء » لأن الغرض هنا الامتياز في العدد ، وهناك الامتياز في الصنف ، والضمير في « أبويه » للميّت يفسّره سياق الكلام. و « لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا » بدل منه بدل البعض عن الكلّ وباقي الفوائد تأتي في محلّها.

2 - دلّت الآية الكريمة على اجتماع الأولاد والأبوين في الميراث فيكون النوعان في مرتبة واحدة ، يرث كل واحد من النوعين مع صاحبه ، ولو انفرد أحد النوعين عن الآخر حاز الإرث ، ثمّ إنّه تعالى ذكر أحوال الذكور مع الإناث وأحوال الإناث منفردات وحال الأبوين منفردين وحال الأبوين مع الأولاد ، ولم يذكر حال الذكور منفردين ، فيرد سؤال عن علّته والجواب أنه لمّا ذكر الإناث منفردات ، وفصل بين الواحدة والأكثر ، علم أنّ الذكور يتساوون وإلّا لفصّلهم كما فصّل الإناث وحينئذ لم يحتج إلى ذكرهم.

3 - أنّه ذكر أنّ الواحدة من الإناث لها النصف ، وأنّ النساء فوق اثنتين

ص: 327


1- النساء : 2.

لهنّ الثلثان ، ولم يذكر الاثنين فما وجهه ، والجواب أنّهم اختلفوا فيهما فقال ابن عبّاس لهما النصف لظاهر الآية وهو قوله « فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ » وقال الباقون وهو الحق أنّ حكمهما حكم ما زاد وهو أنّه لهما الثلثان لوجوه الأوّل النص عن أهل البيت عليهم السلام وإجماع الطائفة بل إجماع الأمّة الثاني : أنّه لو كان لهما النصف لكان التقييد بالواحدة ضائعا الثالث أنّ البنت الواحدة لهما مع أخيها الثلث إذا انفردت فبالأولى أن يكون لها مع أختها الثلث فيكمل لهما الثلثان الرّابع أنّه أوجب للأختين الثلثين ، والبنات أقرب وأمسّ رحما من الأختين فيكون لهما أيضا الثلثان على وجه الأولى.

4 - ولد الولد يقوم مقام أبيه ، ويرث ميراثه ، قيل لأنّه ولد ، ولهذا حرمت بنت البنت وبنت الابن لدخولهما في حكم « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ (1) » ولأنّه تحرم زوجته على جدّه وكذا تحرم عليه منكوحة الجدّ ، ولدخوله في في الوقف الآن لو وقف على بني هاشم وبني عليّ وإلّا لبطل الوقف ولا قائل به ، وكذا نقول في الوصيّة.

كذا قال الراونديّ والمعاصر وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنّه لو كان ولدا حقيقة لشارك الولد في الميراث ، واللّازم باطل إجماعا فكذا الملزوم وأمّا ثانيا فلصدق النّفي عليه وهو ينافي الحقيقة ، وأمّا ثالثا فلضعف متمسّكهم فانّ التحريم فيما ذكروه مستفاد من خارج وكذا الدخول في الوقف مستفاد من القرينة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يرث كلّ منهم نصيب من يتقرّب به ، فلبنت الابن الثلثان ، ولابن البنت الثلث لو اجتمعا ، وقال المرتضى بالعكس والأكثر على ما قلناه لتضافر الروايات بذلك ، وانعقاد الإجماع بعده على ما قلناه.

5 - أنّه جعل للأبوين لكلّ واحد منهما مجتمعا أو منفردا السدس مع وجود الولد ، سواء كان ذكرا أو أنثى. لإطلاق لفظه ، ثمّ الولد إن كان ذكرا حاز الباقي إجماعا وإن كان أنثى واحدة ، فلها نصف الأصل ، يبقى السدس يردّ عندنا

ص: 328


1- النساء : 12.

على الأبوين والبنت ، أخماسا إلّا مع الاخوة ، فيرد أرباعا على البنت والأب ، وقال الفقهاء إن كان الأب موجودا كان الباقي له ، لأنّه عصبة ، وإلّا فإنّه يكون للعصبة من الاخوة والأخوات والأعمام وأولادهم الذكور إلّا أولاد الأخت فإنّهم ليسوا عصبة وسيأتي دليلهم على التعصيب ، وأمّا مع الاثنتين فصاعدا فلا فاضل في التركة إلا مع فقد أحدهما فيكون الزائد عندهم للعصبة.

واعلم أنّ ولد الولد يقوم أيضا مقام أبيه في مقاسمة الأبوين خلافا لبعض أصحابنا فإنّهم خصّوا الإرث بالأبوين والإجماع على خلافه.

6 - مع عدم الولد وإن نزل الأمّ الثلث كما نصّت الآية الكريمة عليه إلا أن يكون هناك إخوة أقلّهم ذكران أو أربع إناث ، أو أربع خناثى ، أو ذكر وأنثيان فيكون لها السدس من الأصل فيهما والباقي بعد السدس والثلث في الصورتين يكون للأب لإجماع أصحابنا ، ولما يأتي من بطلان التعصيب.

هذا لو وجد الأبوان أمّا مع فقد أحدهما فإن كان الموجود الأب فالمال له إجماعا وإن كان الام فلها الثلث والباقي يردّ عليها عندنا ، وقال الفقهاء إنّ الزائد على الثلث يكون للاخوة بناء على قولهم بالتعصيب ، فعندهم أنّ الاخوة يحجبون الأمّ لأنفسهم إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

1 - يشترط عندنا لحجب الاخوة شروط : الأوّل : وجود الأب ، الثاني :العدد المذكور ، الثالث أن لا يكونوا كفرة ولا قتلة ولا رقّا الرابع : إن يكونوا كلّهم منفصلين لا حملا ، الخامس : كونهم للأبوين أو للأب.

2 - إنّما حجبوا الامّ توفيرا لنصيب الأب لكونه ذا عيلة بوجودهم ، فاقتضت الحكمة التوفير عليه لمكان نفقتهم.

3 - يرد هنا سؤال ، وهو أنّكم قلتم إنّ الأخوين يحجبان ، وهو مناف اللفظ الجمع الّذي هو منطوق الآية وأجيب بأنّه لمّا حصل الإجماع على ذلك وجب التأويل بأنّه لو أتى بلفظ التثنية لم يتناول الجمع لا حقيقة ولا مجازا بخلاف لفظ الجمع فإنّه يغلب على المثنّى كما يغلب المذكّر على المؤنّث ، والمخاطب على الغائب ، و

ص: 329

في الجملة الأشرف على الأخسّ والجمع أشرف لأنّ فيه معنى الزيادة ، ولذلك شرط في جمع السلامة ما لا يشترط في المثنّى من العقل وغيره ، لا أنّ المثنى جمع لغة كما قال الزمخشري لأنّ العرف طار على اللّغة ، وقد ثبت في الأصول تقدم الحقيقة العرفيّة ، ولذلك إذا قال زيد : « فلانة طالق » حمل على إزالة قيد النكاح لا غير ، من إزالة الرقّ والحبس وغير ذلك ، هذا ونقل عن ابن عبّاس أنّه لم يحجب إلّا بثلاثة فما زاد ، والإجماع على خلافة.

4 - قوله « لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً » الحق أنّه أراد النفع الأخرويّ بأن يشفع بعضهم في بعض ، فان كان الوالد أرفع درجة شفع أن يرفع ولده إليه ، وإن كان الولد أرفع سأل اللّه بأن يرفع أباه إليه ، وقيل النفع الدنيوي وقيل المراد وجوب النفقة من الطرفين إذا كان أحدهما محتاجا دون الآخر أعني الأب والابن وقيل لا تدرون أيّكم يموت قبل صاحبه فينتفع الآخر بما له.

الخامسة ( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1).

لمّا فرغ من ميراث الوالدين والأولاد ، شرع في بيان إرث الأزواج والكلالات ، وقدّم الأزواج لأنّهم ورّاث مع جميع الطبقات ، والزوج يطلق لغة على الرّجل والمرأة بالإضافة إلى الآخر ، وفي العرف يخصّ بالرّجل وتتميّز الأنثى بالتاء ، فيقال زوج وزوجة ، وإنما جعل للزوج النصف وللمرأة الربع للعلّة المتقدّمة ، وأجاب الأئمّة عليهم السلام بوجوه :

ص: 330


1- النساء : 12.

الأوّل جواب الصادق عليه السلام لمّا سأله ابن أبي العوجاء : أنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عقل إنما ذلك على الرّجال.

الثّاني جواب الرّضا عليه السلام أنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت يعني المهر والرجل يعطي فلذلك وفّر على الرّجل ولأنّ الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت وعليه أن يعولها وعليه نفقتها وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفّر على الرّجال لذلك وذلك قوله تعالى « الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ » الآية (1).

الثالث جواب الصادق عليه السلام لمّا سأله عبد اللّه بن سنان عن ذلك فقال عليه السلام لما جعل لها من الصّداق (2).

الرابع جواب العسكريّ عليه السلام لمّا سأله الفهفكيّ على ما رواه أبو هاشم الجعفري ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما ويأخذ الرّجل القوي سهمين؟

فأجاب عليه السلام لأنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة وإنما ذلك على الرّجال قال السائل فقلت في نفسي قد كان قيل لي أنّ ابن أبي العوجاء سأل الصادق عليه السلام فأجابه بمثل هذا الجواب ، فأقبل عليه السلام عليّ فقال : نعم هذه مسئلة ابن أبي العوجاء والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسئلة واحدا (3) إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

1 - المراد بالولد في قوله « إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ » أعم من أن يكون الولد من الزّوج الوارث أو من غيره من الأزواج وكذلك الولد من الزّوج أعم من أن يكون من المرأة الوارثة أو من غيرها من الزوجات أو الإماء ، وكذلك أعمّ من كونه ذكرا أو أنثى وكذا ولد الولد يقوم مقام أبيه.

2 - يشترط في الولد هنا أن يكون وارثا فلو كان كافرا أو قاتلا أو رقّا لم يكن لوجوده تأثير.

3 - نصيب الزوجة إن كانت واحدة فهو لها ، وإن كنّ أزيد اشتركن فيه ربعا كان أو ثمنا ، لظاهر الآية والإجماع.

ص: 331


1- علل الشرائع ج 2 ص 257 الطبعة الحروفية بقم.
2- علل الشرائع ج 2 ص 257 الطبعة الحروفية بقم.
3- الكافي ج 7 ص 85.

4 - استحقاق الزّوجة عندنا مخصوص بالزّوجية الدائمة فلا ترث بالمنقطع على الأصح.

5 - إن كانت الزوجة ذات ولد من الميّت ورثت من جميع تركته وإن لم يكن لها ولد منه ورثت ممّا عدا العقار عينا وأمّا العقار فلا ترث من رقبة الأرض شيئا لا عينا ولا قيمة ، وأمّا الأبنية والأخشاب والأشجار فيعطى منها القيمة ربعا أو ثمنا على القول الأصحّ لأصحابنا ، وهذا تخصيص انفردت به الإماميّة لما دلت عليه رواياتهم عن أئمتهم عليهم السلام.

6 - إرث الزوجة عندنا غير مشروط ببقاء الزوجيّة إلى الموت فإنّها قد ترث وإن ارتفعت الزوجيّة كما في المريض يطلّق في مرضه فانّ زوجته المطلقة ترث ما لم تخرج السنة أو يبرء من مرضه أو تتزوج ، على ذلك إجماع الإمامية.

السادسة ( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) (1).

الكلالة القرابة ، واشتقاقها إمّا من الكلال وهو نقصان القوّة الجسمانيّة أو من الاكليل الّذي يحيط بالرأس والوسط خال ، ويطلق على الوارث والموروث من جهة أنّ كلّا منهما منتسب إلى الآخر ، وانتصابها هنا قيل خبرا لكان و « رجل » اسمها و « يورث » صفة الرّجل ، وقيل على أنّه مفعول له ، مثل قعدت عن الحرب جنبا ، والأجود أنّه على التميز لأنّ « يورث » يحتمل وجوها رفع إبهامه بقوله « كلالة ».

ثمّ إطلاقها على الموروث بمعنى أنّه لم يخلّف والدا ولا ولدا ، وعلى الوارث فقيل من ليس بوالد ولا ولد ، والأصح أنّه القرابة من جهة العرض لا لطول كالاخوة

ص: 332


1- النساء : 12.

والأخوات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات وأولاد الجميع ، والمراد هنا هم الاخوة ممّن يتقرّب بالأمّ خاصّة أمّا أولا فلقراءة أبيّ وسعيد بن مالك « وله أخ أو أخت من الامّ » وأمّا ثانيا فلأنّه تعالى جعل للكلالة في آخر السّورة كما يجي ء للأختين الثلثين ، وللإخوة الكلّ ، وهنا جعل للواحد السدس وللأكثر الثلث فعلم أنّ الاخوة هنا غير الاخوة هناك ، وحيث إنّ المقدّر هنا نصيب الامّ كما تقدّم ناسب أن يكون المراد هنا الإخوة من قبلها ، وأمّا ثالثا فلروايات أصحابنا المتضافرة وأمّا رابعا فلأنّه إجماعيّ وهنا فوائد :

1 - أنّ الزائد عن المذكور من السدس والثلث يرد على الوارث منهم إذا لم يكن سواه عندنا وعند الفقهاء لأقرب عصبته كما يجي ء.

2 - هذه المرتبة أعني مرتبة الاخوة هي المرتبة الثانية ، بعد مرتبة الأبوين والأولاد ، لا ينتقل الإرث إليها إلّا بعد عدم المرتبة الأولى بكلّيّتهم ، وكذا لا ينتقل عن هذه إلى الثالثة إلّا بعد عدمها بكلّيّتها.

3 - قد تكرّر ذكر الوصيّة وأنّها مقدّمة على الميراث تأكيدا لحالها وقوله « غَيْرَ مُضَارٍّ » حال من يوصي بها و « المضارّة في الوصيّة » هو أن يوصي بأكثر من ثلث ماله أو يقرّ بدين ليس بحقّ عليه ، قصدا لمضارّة الوارث ودفعه عن الإرث.

4 - قوله « وَصِيَّةً مِنَ اللّهِ » نصب على المصدريّة » أي يوصيكم اللّه وصيّة كقوله فيما تقدّم « فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ ». « وَاللّهُ عَلِيمٌ » بنيّاتكم أي يعلم قصدكم في الوصيّة أنّها لوجه اللّه أو لأجل المضارّة « حَلِيمٌ » أي يتجاوز عن قصدكم المضارّة ولا يستعجل بعقوبتكم.

السابعة ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ

ص: 333

الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).

الكلالة قد عرفت أنّها قد تصدق على الإخوة من الأبوين وعلى الاخوة من أحدهما ، وقد تقدّم ذكر كلالة الأم ، والمراد هنا على الاخوة من الأبوين أو من الأب فنقول إذا اجتمع الكلالات كلّهم كان لمن تقرّب بالأمّ السدس إن كان واحدا والثلث إن كانوا أكثر ، والباقي للمتقرّب بالأبوين ويسقط المتقرّب بالأب ، لكنّه يقوم مقام المتقرّب بالأبوين عند عدمهم ، ويرث نصيبهم وإن عدم المتقرّب بالأمّ كان المال للمتقرّب بالأبوين ، ومع عدمهم للمتقرّب بالأب كما قلناه.

وقد قلنا فيما مضى أنّه إذا لم يكن سوى المتقرّب بالأمّ أخذ ما سمّي له من الثلث أو السدس فرضا والباقي بالردّ عليه عند أصحابنا ، وعند الفقهاء للعصبة ، وكذا نحن نقول أيضا في الأخت الواحدة من الأبوين ، أو الأختين فصاعدا لها أو لهنّ النصف أو الثلثان والباقي يرد عليها أو عليهنّ ، وعندهم للعصبة.

وهنا فوائد :

1 - في قوله « وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ » دلالة على بطلان قول العامّة بارث الأخ النصف مع البنت لأنّه شرط في إرثه انتفاء الولد ، والبنت ولد بدليل قوله « يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » فلا يكون الأخ وارثا مطلقا حينئذ لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه ، فلو ورث النصف لزم مخالفة الكتاب.

2 - في قوله « وَهُوَ يَرِثُها » دلالة على أنّ الأخ يرث بالفرض للنصّ على أنّه مع عدم الولد يكون إرثها كلّه له ، فيكون من أصحاب الفروض.

3 - أولاد الاخوة والأخوات عندنا يقومون مقام آبائهم ، ويرث كلّ نصيب من يتقرّب به.

4 - الأجداد عندنا في مرتبة الاخوة ، فإذا اجتمعوا معهم كان الجدّ للأب

ص: 334


1- النساء : 176.

كالأخ له ، والجدّة له كالأخت له ، والجد للأمّ كالأخ منها ، وكذا الجدّة.

5 - المرتبة الثالثة من مراتب الإرث الإمام والأخوال عندنا وعند بعض فقهاء العامة ، ليس في الكتاب دلالة صريحة على إرثهم ، نعم يمكن الاستدلال على ذلك بآية اولي الأرحام فإنّها عامّة في كلّ ذي رحم ، وهؤلاء ذوو أرحام ، وكذا هذه الآية دليل على الردّ على أرباب الفروض ، ولإجماع الكلّ على أنّها إذا دلّت على الإرث وجب مراعاة الأقرب فالأقرب ، ولا أقرب من أرباب الفروض ، وإلّا لقدّمه اللّه عليهم هذا خلف وأمّا دلالتها على الإرث فقد تقدّم ، هذا مع إجماع الطائفة المحقّة الّذين دخل فيهم المعصوم على ذلك ودلالة المتواتر من الأحاديث عن الأئمّة عليهم السلام أيضا على ذلك ، وأمّا تفاصيل إرثهم فعلم من السنّة الشريفة ، ومن بيان الأئمة عليهم السلام.

الثامنة ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (1).

مساواة التركة للسهام ممّا لا بحث فيه كأبوين وابنتين ، وأمثالهما وإنّما البحث فيما إذا زادت التركة عن السهام أو نقصت.

والأول مسئلة التعصيب ، وهو الرد على العصبة دون أرباب الفرض ، كما قاله المخالفون ، واستدلّوا عليه بهذه الآية ، ووجه الدلالة أنّ زكريّا عليه السلام سأل وليّا ولو لا التعصيب لم يخصّ السؤال به ، بل قال وليا أو وليّه فلمّا خصّصه به دلّ على أنّ بني عمّه يرثونه مع الوليّه ، فلذلك لم يطلبها ، واستدلّوا أيضا بما رووه عن طاوس عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال « ألحقوا بالأموال الفرائض فما أبقت الفريضة فلأولى عصبة ذكر (2) ».

ص: 335


1- مريم : 5.
2- راجع مشكاة المصابيح ص 263 وقال : متفق عليه ، ولفظه فلأولى رجل ذكر كما في سنن أبى داود ج 2 ص 110 ، وبلفظه رواه الشيخ في الخلاف المسئلة 80 من كتاب الفرائض.

والجواب عن الآية أن تخصيص السؤال لفوائد الاولى أنّ الذّكر أحبّ إلى طباع البشر من الأنثى ، الثانية أنّه طلبه للإرث ، والقيام بأعباء النبوّة معا ، ولا شك أنّ ذلك غير متصوّر في النساء لأنّهنّ ناقصات عقل وحظّ ودين ، الثالثة : أنّه أراد الجنس الشامل للذّكر والأنثى ، وعن الخبر بأنّه مطعون على سنده ، وقد أنكره ابن عبّاس كما رواه قاربة بن مضرب ، قال قلت لابن عباس روى أهل العراق عنك وعن طاوس أنّ ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر؟ قال من أهل العراق أنت؟ قلت : نعم؟ قال أبلغ أنّي أقول أنّ قول اللّه عزوجل « آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ » وقوله « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ » وهل هما إلّا فريضتان وهل أبقتا شيئا؟ ما قلت بهذا ولا طاوس يرويه ، قال قاربة : فلقيت طاووسا فقال : لا واللّه ما رويت هذا وإنّما الشيطان إلقاء على ألسنتهم (1) وهذه الرواية لم ترو إلّا عن طاوس.

والثاني مسئلة العول كأبوين وبنتين وزوج أو زوجة وأمثاله فإنّ أصل الفريضة من ستّة فأصحابنا يعطون الأبوين السدسين والزوج الرّبع ، ولا ربع صحيح هنا فيصير من أربعة وعشرين للأبوين ثمانية ، وللزّوج ستّة إن كان وللزوجة ثلاثة إن كانت والباقي وهو عشرة أو ثلاثة عشر للبنتين فيدخل النقص عليهما وأمّا المخالف فيعيل الفريضة على تقدير الزوج إلى ثلاثين فيعطي البنتين ستّة عشر والأبوين ثمانية ، والزّوج ستّة ، وعلى تقدير الزّوجة إلى سبعة وعشرين للأبوين ما تقدّم ، وللزّوجة ثلاثة ، فيصير ثمنها تسعا

ويستدلّون على ذلك بالقياس على تركة لا تفي بالدّيون ، فإنّه يدخل النقص على الجميع ، وبما رواه سماك ابن حرب عن عبيدة السّلمانيّ قال كان عليّ عليه السلام على المنبر فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين رجل مات عن ابنتيه وأبويه وزوجة فقال علىّ عليه السلام « صار ثمن المرأة تسعا » وبأنّ عمر حكم بالعول ولم ينكر عليه أحد فصار إجماعا.

ص: 336


1- نقله الشيخ في الخلاف في المسألة 80 من كتاب الفرائض عن أبى طالب الأنباري.

واستدلّ أصحابنا بوجوه الأوّل أنّه لا بد من مخالفة ظاهر آيات الإرث وكلّما كانت المخالفة أقلّ كان أولى ، وهو قولنا. الثاني : إجماع الطائفة المحقّة وهو حجة عندنا الثالث : تواتر الأحاديث عن الباقر والصّادق عليهما السلام وأنّ ذلك في كتاب الفرائض بإملاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وخطّ علي عليه السلام وأنّ فيه أنّ السهام لا تعول. الرابع : أنّ كل واحد من الأبوين والزّوجين له سهمان أعلى وأدنى ، وليس للبنت والبنتين والأختين كما قلنا إلّا سهم واحد ، فإذا دخل النقص عليهما استوى ذوو السهام في ذلك.

وأجابوا عن حجّة الخصم أمّا عن القياس فببطلانه عندنا وعلى تقدير تسليمه نقول إنّما دخل النقص في الديون لأمر غير حاصل هنا وهو الترجيح من غير مرجّح وأمّا هنا فالمرجّح موجود ، وهو ما ذكرناه من أنّ البنتين ليس لهما النصيب الأدنى بخلاف الزّوجين والأبوين ، وأمّا عن الخبر فانّ عليا عليه السلام أجاب على جهة الإنكار على القائلين بالعول ، لإجماع أهل بيته عليهم السلام على أنّه لم يكن قائلا بالعول بل منكرا له ، وأمّا حكاية عمر فبمنع الإجماع ، وبأنّ السكوت لا يدل على الموافقة ولا ظهار ابن عبّاس المخالفة بعد عمر ، وقال هبته وكان رجلا مهيبا.

التاسعة ( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (1).

قيل : هذه الآية منسوخة بآية الإرث بالنسب وقيل بل هي محكمة وإنّه يستحب للورثة حين اقتسامهم الرّضخ لمن لا سهم له من الأقارب والجيران والمساكين واليتامى وعن سعيد بن جبير أنّ أناسا يقولون نسخت ، واللّه ما نسخت ولكنّه ممّا يتهاون به الناس ، وقيل : إنّ ذلك مختصّ بالعين أمّا الأرضون والرقيق فلا ، بل يقولون حينئذ القول المعروف هو الاعتذار ، وقيل العذر عن مال الطفل لو كان فيهم صغير يعتذر وليه بأنّه لو كان لي لأعطيتكم ، وقيل الخطاب للمريض إذا حضرته أمارات

ص: 337


1- النساء : 8.

الموت وأراد قسمة أمواله والإيصاء بها أن يفعل ذلك ، والأوّل أشهر وقرينة الخطاب تدلّ عليه.

واعلم أنه وقع الإجماع ، ودلّت السنّة الشريفة ، وبيان الأئمّة الصادقين على شرائط الإرث وعلى موانع له كالكفر والرقّ والقتل ، فيكون فوات الشرط ووجود المانع كالمخصّص لعموم الآيات المذكورة ، فتكون من العمومات المخصّصة وهو المطلوب.

كتاب الحدود

اشارة

الحدّ يقال لغة الحاجز بين الشيئين ، ويقال أيضا للمنع ومنه قيل للبوّاب حدّاد ، ويقال لمنتهى الشي ء ، ومنه يقال حددت الدار أحدّها حدّا أي بيّنت منتهاها ، وشرعا هو إيقاع عقوبة قدّرها الشارع للمكلّف على ارتكاب معصية ، ويمكن أخذه من المعنى الأوّل لكونه حاجزا بين أكثر العقلاء وبين ارتكاب المعصية ومن الثاني لأنّ فيه معنى المنع ، وعن الثالث لأنّه عقوبة لها قدر وغاية لا يجوز التجاوز عنه وهو أقسام :

القسم الأول : حد الزناء

وفيه آيات :

الاولى ( وَاللّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) (1).

ص: 338


1- النساء : 15.

هنا فوائد تتبعها أحكام :

1 - قيل المراد بالفاحشة المساحقة ، والأكثر أنّ المراد الزنا ، فعلى هذا قيل المراد المحصنة وهي المراد بالثّيب (1) لأنّه أضافهنّ إضافة زوجيّة إذ لو أراد غير الزوجات لقال من النساء.

2 - ( فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) فيه دلالة على نصاب الشهادة ، واشتراط الإسلام والذكورة على تفصيل يأتي.

3 - « فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ » قيل المراد صيانتهنّ عن مثل فعلهنّ والإمساك كناية عنه ، والأكثر أنّه على وجه الحدّ على الزنا ، وكان ذلك في أوّل الإسلام ثمّ نسخ بآية الجلد ، وقوله « حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ » أي ملك الموت ، حذف المضاف (2) للعلم به ، بقرينة استحالة استناد التوفّي إلى الموت لكونهما بمعنى واحد.

4 - « أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً » قيل السبيل النكاح المغني من السّفاح ، وهذا لا يتم على تقدير إرادة المحصنات وقيل السبيل الحكم الناسخ ، ولهذا لما نزلت آية الجلد قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قد جعل اللّه لهنَّ سبيلا » واحتمال كونه التوبة لا دليل عليه لكنّه محتمل والجعل حينئذ كناية عن التوفيق.

الثانية ( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً ) (3).

هنا فوائد :

1 - قال أبو مسلم : المراد اللّواط ، لإتيانه بلفظ التذكير ، وأكثر المفسّرين على إرادة إتيان الزّنا والتثنية للفاعل والمرأة وغلب التذكير في العبارة.

ص: 339


1- كذا في جميع النسخ المخطوطة ، وفي المطبوعة « وهي المراد بالنساء ».
2- في المطبوعة « والمضاف محذوف ».
3- النساء : 16.

2 - قيل المراد بالأذى التوبيخ والاستخفاف فعلى هذا لا يكون منسوخا لأنّه حكم ثابت مطلقا بل المنسوخ الاقتصار عليه ، وعلى قول أبي مسلم يمكن حمله على القتل لأنّه حدّ اللواط ، وإطلاق الأذى ينصرف إلى أبلغ مراتبه ، وهو القتل وقال الفرّاء إن هذه ناسخة للآية السّابقة ، وقيل بل بالعكس ، وأمر بوضعها في التلاوة بعدها وإن كانت قبلها نزولا ، وقيل : المراد به حد البكر ، وهو الجلد والتغريب ، كما أنّ حدّ الثيّب الجلد والرّجم.

3 - « فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما » فيه دلالة على أنّ الزاني إذا تاب قبل الرّفع إلى الحاكم لا يحدّ وأمّا بعد الرفع والحضور ، فان ثبت بالإقرار تخيّر الامام ، وإن ثبت بالبينة تحتّم الحد ، والمراد بالإصلاح الاستمرار على التوبة قوله « إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً » أي كثير القبول للتوبة وهو تعليل للإعراض ، وإردافه بالرّحمة ، فيه إشارة إلى أنّ قبول التوبة تفضّل ، وقيل المراد باللّذان الشاهدان بالزنا قبل كمال نصاب الشهادة ، والمراد بالأذى حدهما حدّ الفرية وهو ضعيف.

الثالثة ( الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (1).

الاسمان مرفوعان بالابتداء ، وخبرهما محذوف عند الخليل وسيبويه ، أي مما فرض اللّه حكم الزانية والزاني ، وقوله « فَاجْلِدُوا » جملة أخرى معطوفة على الاولى وعند المبرّد أنّهما جملة واحدة ، إلّا أنّ المبتدأ لمّا تضمّن معنى الشرط والمبتدأ موصول بفعل أتى بالفاء أي الّتي زنت والّذي زنى فاجلدوا.

وإذا تقرّر هذا فقد اشتملت على أحكام ثلاثة :

1 - الأمر بالجلد مائة ، والجلد ضرب الجلد بحيث لا يتجاوز ألمه إلى اللّحم

ص: 340


1- النور : 2.

وهذا الحكم مخصوص بالسنّة والكتاب أمّا السنّة فبالزيادة تارة كما في حقّ البكر الذكر ، فإنّه يزداد التغريب سنة لقوله عليه السلام « البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام (1) » ومنعه أبو حنيفة والخبر يبطل قوله ، وكذا عمل الصّحابة ، وقوله إنّ الآية ناسخة للخبر ضعيف لأنّ عدم ذكر التغريب ليس ذكرا لعدمه ، لتكون ناسخة له وفعل الصحابة متأخّر عن الآية فكيف يكون التغريب منسوخا بها ، وبالإبدال تارة كما في حقّ المحصن والمحصنة ، فانّ حدّهما الرّجم هذا إن قلنا بعدم ضمّ الجلد إلى الرّجم ، وإلّا فهو أيضا زيادة ، نعم قيل الضمّ في حقّ الشيخين خاصّة وقيل عامّ وهو الحق لأنّ عليا عليه السلام جلد سراجة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنّة رسول اللّه (2) وكانت سراجة شابّة وفعله عليه السلام حجّة.

والمراد بالمحصن من له فرج مملوك بالعقد الدائم أو ملك اليمين تغدو عليه وتروح ، وبالمحصنة من لها زوج بالعقد الدائم يغدو عليها ويروح والبكر قيل هو ما عدا المحصن ، وقيل من أملك ولم يدخل ، والطلاق رجعيّا لا ينافي الإحصان مع بقاء العدّة بخلاف البائن ، وإن بقيت ، وعندنا لا جزّ على المرأة ولا تغريب وأمّا الكتاب فينصّف الجلد في حقّ الأمة لقوله « فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) (3) واختلف في العبد فقيل كالحرّ وقيل كالأمة ، وهو الأقوى.

2 - قوله « وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ » والرأفة الرحمة وفيها لغتان فعالة وفعلة نحو كأبة وكآبة وشأمة وشآمة والخطاب هنا وفي قوله « فَاجْلِدُوا » للأئمّة والحكّام ، قوله « فِي دِينِ اللّهِ » أي في حفظه ، وقوله « إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ » معناه أنّ حفظ دين اللّه من لوازم الإيمان ، فمن أتى بالملزوم يلزمه الإتيان بلازمه ، وإلّا لم يكن مؤمنا فإنّ عدم اللّازم ملزوم لعدم ملزومه ، وهذا على سبيل المبالغة في الحكم

ص: 341


1- سنن ابى داود ج 2 ص 455 من حديث عبادة بن الصامت.
2- المستدرك ج 3 ص 222.
3- النساء : 25.

وتشديدا لأمر الزنا ، وحسما لمادته ليتحفّظ النسب ، ويجري الأحكام الشرعيّة المترتبة عليه على أصولها ، ولذلك « قال صلى اللّه عليه وآله يا معشر الناس اتّقوا الزنا فإنّ فيه ستّ خصال ثلاث في الدّنيا وثلاث في الآخرة أمّا اللاتي في الدنيا فإنّه يذهب البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأمّا اللاتي في الآخرة فإنّه يوجب السخط ، وسوء الحساب ، والخلود في النار (1) وفي الآية دلالة على أنّه يضرب أشدّ الضرب وأنّه لا ينقص من الحدّ شي ء ، وأنّه لا يجوز الشفاعة في إسقاطه ، وفي الحديث عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا فيقول رحمة لعبادك فيقول له : أنت أرحم بهم منّي؟ فيؤمر به إلى النار ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول : لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار (2).

3 - « وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » أي ليحضر لأجل التشهير ليرتدع الناس عن مثل فعلهما ، وقيّد الطائفة بالمؤمنين لئلّا يكون إقامة الحدّ مانعة للكفّار عن الإسلام ، ولذلك كره إقامته في أرض العدوّ واختلف في الطائفة فعن الباقر عليه السلام أقلّها واحد ، وبه قال مجاهد وإبراهيم ، وقال عكرمة اثنان وقتادة والزهريّ ثلاثة وابن عباس أربعة لأنّ بهذا العدد يثبت هذا الحد وهو قريب لكن قول الباقر عليه السلام أقوى ويؤيّده أنّ الفرقة جمع وأقلّه ثلاثة ، والطائفة بعضها فيكون واحدا.

الرابعة ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) (3).

ص: 342


1- المستدرك ج 2 ص 566 ، والكافي ج 5 ص 541.
2- المستدرك ج 3 ص 221.
3- المائدة : 41.

أي لا يحزنك صنع الّذين يسارعون في الكفر أي يقعون فيه سريعا وقسمهم إلى المنافقين وهم الّذين قالوا آمنّا إلى آخره ، وإلى اليهود المتّبعين للكذب ، وهو ما حرّفوه من أحكام التوراة وهم أيضا مطيعون لقوم آخرين لم يحضروا مجلسك بغضا لك ، وقوله « يُحَرِّفُونَ » صفة أخرى لهم ، قيل نزلت هذه في يهود خيبر حيث أرسلوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله يسألونه عن محصن زنى ، وقالوا لرسلهم : إن أفتاكم محمّد بالجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه ، وذلك لأنّهم حرّفوا حكم التوراة برجم المحصن إلى أنّه يجلد أربعين سوطا ويسوّد وجهه ويشهر على حمار.

وعن الباقر عليه السلام إنّ خيبريّة من أشرافهم زنت فكرهوا رجمها فأرسلوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله يستفتونه طمعا في رخصة تكون في دينه ، فقال صلى اللّه عليه وآله : أترضون بحكمي؟ فقالوا : نعم ، فأفتاهم بالرّجم ، فأبوا أن يقبلوا فقال جبرئيل عليه السلام للنبيّ صلى اللّه عليه وآله : سلهم عن ابن صوريا واجعله بينك وبينهم حكما فقال لهم : أتعرفون ابن صوريا؟ قالوا نعم ، وأثنوا عليه وعظّموه ، فأرسل إليه فأتى فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنشدك اللّه هل تجدون في كتابكم الّذي جاء به موسى عليه السلام الرّجم على المحصن فقال نعم ، ولو لا مخافتي من ربّ التوراة إن كتمت لما اعترفت ، فنزلت « يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (1) فقام ابن صوريا وسأله أن يذكر الكثير الّذي أمر بالعفو عنه ، فأعرض عن ذلك ، واسم ابن صوريا عبد اللّه وكان شابّا أمرد أعور ، وكان أعلم يهوديّ في زمانه.

ونقل الزمخشري أنّهم أرسلوا الزانيين مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول اللّه عن أمرهم ، وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا ، فأمرهم بالرّجم فأبوا عنه ، فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم فقال له : أنشدك اللّه الّذي لا إله إلّا هو الّذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والّذي أنزل عليكم كتابا وبيّن حلاله وحرامه

ص: 343


1- المائدة : 15 ، راجع مجمع البيان ج 3 ص 193.

هل تجد فيه الرّجم على من أحصن؟ فقال : نعم ، فوثبوا عليه ، فقال : خفت إن كذّبته أن ينزل علينا العذاب فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالزانيين فرجما عند باب المسجد ولنتبع هذا البحث بفوائد :

1 - قد نقلنا أنّ حدّ اللواط يدلّ عليه الآية الثانية على قول ، وحد المساحقة يدل عليه الاولى ، فيكونان أيضا ثابتين بالكتاب لكنّ المراد باللّواط الموجب للقتل هو الّذي فيه إيقاب لا غيره وفي المساحقة الجلد مائة (1) وروى محمّد بن حمزة عن الصادق عليه السلام أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة عنهنّ عن السّحق ، فقال : حده حد الزنا فقالت المرأة ما ذكر اللّه ذلك في كتابه؟ فقال : بلى ، قالت : وأين؟ قال : هنّ أصحاب الرسّ (2).

2 - روي أنّ المتوكّل بعث إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكريّ عليهما السلام من سأله عن نصراني فجر بامرءة مسلمة ، فلمّا أخذ ليقام عليه الحدّ أسلم؟ فأجاب عليه السلام إنّ الحكم فيه أن يضرب حتّى يموت لأنّ اللّه تعالى يقول « فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ » وفي هذه دلالة على أنّ الكافر إذا زنى بمسلمة فحده القتل (3).

3 - روي أنّ امرأة أتت عمر فقالت : إنّي فجرت فأقم عليّ حدّ اللّه ، فأمر برجمها وكان عليّ عليه السلام حاضرا فقال له : سلها كيف فجرت؟ فقالت كنت في فلاة من الأرض أصابني عطش شديد فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت فيها أعرابيا فسألته الماء فأبى عليّ أن يسقيني إلّا أن أمكّنه من نفسي ، فوليت منها هاربة ، فاشتدّ بي العطش

ص: 344


1- كذا في نص وهكذا المطبوعة ، وفي بعض النسخ المخطوطة : « بل فيه الجلد مائة ».
2- الكافي ج 7 ص 202.
3- رواه ابن شهرآشوب في المناقب ج 4 ص 405 وأخرجه في المستدرك ج 3 ص 227 ، والآية في سورة المؤمن 84 و 85.

حتّى غارت عيناي فلمّا بلغ منّي أتيته فسقاني ووقع عليّ فقال عليّ عليه السلام هذه الّتي قال اللّه تعالى « ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (1) » غير باغية ولا عادية فخلّ سبيلها ، وفيه دلالة على أنّ المكره لا حدّ عليه.

4 - لو كان من يجب عليه الحد مريضا يخشى تلفه تخير الحاكم بين الصبر حتى يبرأ وبين الضرب بالضغث المشتمل على العدد ، لأنّه روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله اتي بمستسق قد زنا بامرأة فأمر صلى اللّه عليه وآله بعرجون فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة ثمّ خلّى سبيله (2) وهذا يمكن أن يكون مأخوذا من قوله « وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) (3) ».

القسم الثاني : حد القذف

وفيه آيتان :

الاولى ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (4).

قال سعيد بن جبير : إنّها نزلت في قصّة عائشة وقال الضحّاك بل في سائر نساء المؤمنين وهو أولى لأنّه أعمّ فائدة ، ولو سلّمنا فهي أيضا عامّة لما عرفت أن خصوص السبب لا يخصّص وقد دلّت على أحكام :

1 - أنّ القذف هو الرمي بالزنا ، لما تقدم أنّه يثبت بأربعة شهداء فقال

ص: 345


1- البقرة : 173 ، والحديث في تفسير العياشي ج 1 ص 74.
2- مجمع البيان ج 8 ص 478 عن العياشي.
3- ص : 44.
4- النور : 4.

هنا « ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ » فعلم أنّ المراد الرّمي بالزنا والإجماع على ذلك.

2 - يشترط في الحدّ عفّة المقذوفة وإليه أشار بقوله « الْمُحْصَناتِ » ولم يرده بالمعنى السابق في الزناء للإجماع على ثبوت الحدّ بالقذف لغير الزوجة ، أمّا غير العفيفة فإنّه يجب التعزير إلّا أن يبلغ حالها إلى الاشتهار بالزّناء بحيث لا يستنكف من المخاطبة به فحينئذ لا حدّ ولا تعزير.

3 - أنّه إنّما يجب الحد إذا ثبت عند الحاكم وثبوته إمّا بالإقرار أربعا أو بأربعة شهود في مجلس واحد غير متفرّقين بل متّفقين على الفعل الواحد بالوصف الواحد مع اتّحاد الزّمان وإمكان ، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يشترط اتّحاد مجلس الشهود وقال أصحابنا يثبت أيضا بثلاثة رجال وامرأتين أو رجلين وأربع نسوة على تفصيل يذكر في كتب الفقه.

4 - أنّ القاذف يجلد ثمانين جلدة ، حرّا كان أو عبدا ، رجلا كان أو امرأة لعموم اللّفظ والتصنيف في العبد إنّما جاء في الزنا.

5 - أنّه لا تقبل شهادته ، والمراد به ما دام فاسقا.

6 - أنّه محكوم بفسقه وهو دليل على كونه كبيرة.

7 - أنّه إذا تاب قبلت شهادته عندنا وعند الشافعيّ بناء على أنّ الاستثناء من قوله « وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً » والواو للعطف على جزاء الشرط ، فيكون من جملة الجزاء ، وهو قول أكثر التابعين وروي عن عمر أنّه قال لأبي بكرة في شهادته على المغيرة أن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يكذّب نفسه وقال أبو حنيفة لا يقبل شهادته أبدا إلّا أن يشهد قبل إقامة الحدّ عليه أو قبل تمامه ، بناء على أنّ الواو في قوله « وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » للاستيناف ، والاستثناء عن « الفاسقين » وهو قول ابن جريج وابن المسيّب والحسن والمراد بالإصلاح المعطوف على التوبة هو الاستمرار عليها ، وقيل لا بدّ من عمل وإن قلّ ثمّ هنا فوائد :

1 - لا فرق في كون المقذوف ذكرا أو أنثى ، ولفظ التأنيث في الآية لخصوص الواقعة ، وقد عرفت أنّه غير مخصّص.

ص: 346

2 - القذف باللّواط كالقذف بالزنا ، من غير فرق ، وكذا السحق أمّا القذف بالكفر أو الشرب وغير ذلك من المعاصي فيوجب تعزيرا.

3 - أنّه يجلد بثيابه بخلاف حدّ الزنا فإنّه يجلد عريانا وقيل في الزنا يجلد كما وجد ، والضرب في القذف متوسّط ، وقال الباقر عليه السلام « يجلد الرّجل قائما والمرأة قاعدة (1) ».

4 - يشترط في المقذوف الحرّيّة والبلوغ والإسلام ، ولو كان بخلاف ذلك عزّر قاذفه.

5 - حد القذف حق الآدميّ يتوقف إقامته على المطالبة ، ولا يسقطه التوبة مطلقا إلّا مع العفو من المقذوف قبل الثبوت لا بعده ، ورضاه جزء من التوبة وحدّها إكذاب نفسه إن كان كاذبا والتخطئة إن كان صادقا فلا يقبل شهادته بدون ذلك.

6 - قال بعضهم أشدّ الضرب يكون في التعزير ، ثمّ بعده في الزنا ، ثمّ بعده في الشرب ، ثمّ بعده في القذف ، لأنّ القاذف قد يكون صادقا فيما قاله ، وإنّما عوقب صيانة للأعراض ، وقد حافظ الشارع على صيانتها بقوله « وَلا تَجَسَّسُوا » وبقوله ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (2).

الثانية ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (3).

« الْمُحْصَناتِ » العفائف « الْغافِلاتِ » السّليمات القلوب من الخبائث النفسانيّة وإنّما جمع وإن كان السّبب واحدا وهي عائشة ليعلم عموم الحكم في كلّ محصنة قذفت بالزّنا وقد شدّد اللّه أمر القذف ما لم يشدّد في غيره حيث جعل القاذفين ملعونين

ص: 347


1- الكافي ج 7 ص 183.
2- الحجرات 12 ، والنور : 19.
3- النور : 23.

في الدّنيا والآخرة ، وتوعّدهم بالعذاب الأليم وأوجب عليهم الحدّ في الدّنيا.

فائدة قد تقدّم حديث قدامة لمّا شرب الخمر وقول عليّ عليه السلام لعمر : إن تاب أقم عليه الحدّ فلمّا أظهر لتوبة لم يدر عمر كيف يحدّه ، فقال لأمير المؤمنين عليه السلام أشر عليّ في حدّه فقال : حدّه ثمانين لأنّ شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذي ، وإذا هذي افترى قال اللّه تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) إلى آخرها فدلّ ذلك على أنّ حدّ المسكر ثمانون ، وهذا ليس قياسا منه عليه السلام لأنّ مذهبه تحريم القياس ، بل بيانا للعلّة كما سمعه عن النبي صلى اللّه عليه وآله ولذلك لمّا سكر الوليد فأراد عثمان بن عفان حدّه وكان رأيه في الحدّ أربعين فأشار إلى علىّ عليه السلام بضربه فضربه بدرّة لها رأسان أربعين جلدة فكانت ثمانين.

القسم الثالث : ( حد السرقة )

وفيه آيتان :

الاولى ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).

إعراب السارق والسارقة كما تقدّم في الزاني والزانية من المذهبين « وجزاء » و « نكالا » منصوبان على المفعول له والنكال العذاب ولا شكّ أن الآية مشتملة على أحكام كلّها مجملة تفتقر إلى بيان من النبيّ صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (2) وعندنا أنّ الأئمّة عليهم السلام كذلك لما ثبت من كونهم حفظة للشرع بعده صلى اللّه عليه وآله.

1 - « السّارِقُ وَالسّارِقَةُ » سواء قلنا إنّ اسم الجنس المعرّف باللّام للعموم

ص: 348


1- المائدة : 38.
2- النحل : 44.

أو لم نقل ، فإنّه مجمل يحتمل عموم كلّ سارق وبعضه ، لكنّ البيان النبويّ والإماميّ عليهم السلام أخرج الأب إذا سرق مال ولده ، والعبد [ إذا سرق ] مال سيّده والغانم من الغنيمة ، والشريك من المشترك ما يظنّه حقّه ، وكلّ ذي شبهة محتملة.

2 - قوله « فَاقْطَعُوا » القطع قد يراد به الشق من غير إبانة نحو برئت القلم فقطعت السكّين يدي ، وقد يراد مع الإبانة فهو حينئذ محتمل للقسمين لكنّ البيان الشرعيّ حكم بإرادة الثاني.

3 - وقع الإجماع على أنّه لا يقطع إلّا يد واحدة ، وهي محتملة لإرادة اليمين واليسار ، لصدق اليد على كلّ واحد منهما ، لكنّ البيان المذكور خصّ اليمين وإنّما قال « أَيْدِيَهُما » ولم يقل يديهما لعدم الاشتباه ، نحو قوله تعالى « فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) (1) ».

4 - اليد أطلقت لغة وعرفا على الجارحة المخصوصة من الكتف إلى رؤس الأصابع ، وشرعا من المرفق إلى الرؤس كما في آية الوضوء ، ومن الزّند إلى الرؤس كما في التيمّم عندنا وعلى الأصابع لا غير كما في قوله « فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ) (2) » ولم يبيّن في الآية المراد وحينئذ ليس أحد الاحتمالات أولى من الآخر فيكون اللفظ مجملا وقيل إنّه غير مجمل لأنّ اليد حقيقة في الأوّل ، مجاز في الباقي ، ولذلك يصح أن يقال لما دون المنكب بعض اليد فيكون اللّفظ ظاهرا في جملة اليد ، ولذلك قال به الخوارج فلا يكون مجملا.

والحق الأوّل لأنّ القطع من المنكب غير مراد إجماعا ، لأنّ قول الخوارج باطل لكفرهم بانكارهم ما علم من الدين ضرورة فلا يكون الحقيقة حينئذ مرادة فيحمل على بعض اليد من الأقسام المذكورة ، وليس بعضها أولى من بعض بالنسبة إلى اللّفظ فيثبت الاجمال وهو المطلوب.

إذا عرفت هذا فالمشهور عند الفقهاء القطع من مفصل الكفّ عن الساعد ، و

ص: 349


1- التحريم : 4.
2- البقرة : 79.

عند أصحابنا هو قطع الأصابع الأربع من اليد اليمنى ، ويترك له الراحة والإبهام فإن عاد ثانيا مع الشرائط والقطع أوّلا قطعت رجله اليسرى ، ويترك له العقب فان عاد ثالثا بعد قطع الرّجل خلّد في السجن حتى يموت فان سرق في السجن قتل. واعتمدوا في ذلك على نقلهم المتواتر عن أئمّتهم عليهم السلام وعلى أنه يصدق على ذلك اسم اليد كما قلناه وعلى أصالة عدم التهجّم على أكثر من ذلك إلّا بدليل ولم يثبت.

إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :

1 - النصاب الّذي يجب القطع بأخذه عندنا ربع دينار ذهبا خالصا مسكوكا أو ما قيمته ذلك وبه قال مالك والشافعيّ وبه حكم الخلفاء الأربعة ، وقال أبو حنيفة عشرة دراهم وقال الحسن البصريّ درهم ، وقال الطبري لا حدّ له بل أيّ شي ء كان من قليل أو كثير.

2 - يشترط مع ما تقدّم الأخذ خفية لا مشاهدة ، والإخراج بنفسه لا بغيره ولا مع غيره إلّا أن يبلغ حصّته نصابا.

3 - يشترط أيضا الإخراج من حرز ، وحدّه أصحابنا بأنّه ما ليس لغير المالك الدخول إليه وقال الجبائي هو أن يكون في بيت أو دار يغلق عليه وله من يراعيه والأولى أن يرجع فيه إلى العرف فلكلّ شي ء حرز يخصّه.

4 - يثبت هذا الحدّ بالإقرار مرّتين أو شهادة عدلين فلو أقرّ مرّة لا غير ثبت المال لا غير ، وكذا لو شهد واحد وحلف المدّعي.

الثانية ( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).

المراد هنا بظلمه سرقته و « الإصلاح » الاستمرار على التوبة ، ولا كلام في سقوط العقاب الأخرويّ بذلك وأمّا الحد فهل يسقط بها أو لا؟ قال أبو حنيفة لا يسقط وهو أحد قولي الشافعيّ ، وقال أصحابنا بسقوطه بالتوبة قبل الثبوت عند الحاكم أمّا بعده فإن ثبت بالبيّنة فلا سقوط ، وبالإقرار قيل يتحتّم الحد كما في البيّنة

ص: 350


1- المائدة : 39.

وقيل يتخيّر الامام لفعل علىّ عليه السلام لمّا وهب يد السارق المقرّ بسرقته ثمّ تاب فقال عليه السلام له : هل تحفظ شيئا من القرآن فقال نعم سورة البقرة قال : وهبت يدك بسورة البقرة فقال له الأشعث أتعطّل حدّا من حدود اللّه؟ فقال له وما يدريك إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن يعفو ، قال اللّه تعالى « الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ » وإذا أقرّ الرجل على نفسه بسرقة فذاك إلى الامام ، إن شاء عفى ، وإن شاء عاقب (1) هذا وأمّا حقّ المالك فلا يسقط بالتوبة مطلقا إلّا مع تصريحه بالإبراء ، وكذا لا يسقط المال بالقطع بل يجب ردّه بعينه أو قيمته وقال أبو حنيفة لا يجب عليه القطع والغرامة معا بل إن قطعت سقطت عنه وإن غرم سقط القطع وهو فرق ضعيف ومع ثبوت التوبة الحقيقية تقبل شهادته لقوله تعالى « إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »

القسم الرابع : حد المحارب

وفيه آيتان :

الأولى ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (2).

محاربة اللّه ورسوله محاربة المسلمين ، جعل محاربتهم محاربة اللّه ورسوله تعظيما للفعل ، وأصل الحرب السلب ، ومنه حرب الرّجل ماله أي سلبه فهو محروب وحريب وعند الفقهاء كلّ من جرّد السلاح لإخافة الناس في برّ أو بحر ، ليلا أو نهارا ، ضعيفا كان أو قويّا ، من أهل الريبة كان أو لم يكن ، ذكرا كان أو أنثى فهو محارب ، ويدخل

ص: 351


1- راجع تفسير العياشي ج 2 ص 114 ، والآية في براءة 112.
2- المائدة : 33.

في ذلك قاطع الطريق والمكابر على المال أو البضع و « فسادا » منصوب صفة لمصدر محذوف أي سعيا فسادا أو على الحال أي مفسدين أو على أنّه مفعول له.

واختلف في حدّه فقيل على التخيير لظاهر الآية إذ المجاز والإضمار على خلاف الأصل فيتخيّر الامام بين الأقسام الأربعة على أيّ فعل صدر منه من قتل أو أخذ مال أو جرح أو إخافة فعلى هذا يصلب حيّا قطعا ، وقيل بالترتيب والتفصيل وهو أقسام الأوّل : يقتل إن قتل خاصّة ، فلو عفى الولي قتل حدّا ولا معه قصاصا الثاني إن أخذ المال وقتل ، استرجع المال ، وقطع مخالفا ثمّ قتل وصلب ، الثالث إن أخذ المال خاصّة قطع مخالفا ونفي ، الرابع : إن جرح ولم يأخذ شيئا اقتصّ منه ونفي ، الخامس : إن أشهر السلاح وأخاف خاصّة نفي لا غير.

ومن العجيب قول الراوندي إنّ هذا التفصيل يدلّ عليه الآية وليت شعري من أيّ طريق ندل الآية و « أو » صريحة في التخيير بين الأقسام الأربعة اللّهمّ إلا مع إضمار ، وقد قلنا إنّ الأصل عدمه ، فان دلّ دليل على تقديره فيكون الدّلالة مستفادة من ذلك الدليل ، لا من الآية فإذا ألحق القول بالتخيير وهنا فوائد :

1 - الصّلب على القول الأوّل يكون وهو حيّ قطعا وعلى الثاني قيل يقتل ثمّ يصلب ، وقيل بل يصلب حيّا ويترك حتّى يموت ، وقيل يصلب وينجع حتى يموت.

2 - القطع مخالفا وهو أن يقطع يمناه أوّلا حيّا ثمّ يقطع رجله اليسرى وقد تقدّم كيفيّة القطع.

3 - فسّر أبو حنيفة النفي بالحبس وقال الشافعيّ وأصحابنا هو النفي من بلده وأيّ بلد يستقر فيه أو يقصده يكتب إليهم أنّه محارب فلا يبايع ولا يعامل ولا يعاشر ، وقيل بل يقتصر على نفيه من بلده لا غير.

الثانية ( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1)

ص: 352


1- المائدة : 34.

عندنا وعند الشافعيّ أنّ هذا الاستثناء من حقوقه تعالى ، أمّا حق الآدميّ من القتل والجرح والمال ، فلا يسقطه إلّا القصاص والأداء ، سواء كان المال موجودا بعينه أو تلف فيلزمه حينئذ قيمته ، وقال بعضهم الاستثناء من كلّ حقّ ، إلّا أن يوجد عين المال فيؤخذ منه ، وتقييد التوبة بكونها قبل القدرة يدلّ على أنّها لو حصلت بعد القدرة لم يسقط الحد وإن سقط العقاب الأخرويّ.

كتاب الجنايات

وفيه آيات :

الاولى ( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ) (1).

يقال من أجل ذلك فعلت ، بفتح الهمزة وكسرها أي بسببه ، سواء كان السبب فاعليّا أو غائيا و « من » لابتداء الغاية فإنّ الشي ء يبتدئ من سببه وقد يبدل « من » باللّام فيقال لأجل ذلك وهو إشارة إلى ما تقدّم من قتل قابيل وهابيل ، وقوله « بِغَيْرِ نَفْسٍ » إلى آخره أي لا على وجه القصاص ، ولا على فساد يصدر منها موجب لقتلها.

واختلف في التشبيه الأوّل على أقوال الأوّل أنّ التشبيه معناه أنّه بمنزلة من قتل الناس جميعا في أنّهم خصومة في قتل ذلك الإنسان الثاني : أنّ معناه في تعظيم الوزر والإثم ، والثالث أنّه كأنّما قتل الناس جميعا عند المقتول الرابع أنّه يجب عليه من القتل والقود ، مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعا.

وكذا في التشبيه الثاني أقوال الأوّل أنّه كمن أحيا الناس جميعا عند المستنقذ

ص: 353


1- المائدة : 32.

الثاني أنّه من نجّاها من غرق أو حرق فأجره كأجر من أحيا الناس جميعا الثالث أنّه من عفى قتلها وقد وجب عليها القود (1) الرّابع أنّه من زجر عن قتلها ونهى عنه ، بما فيه حياتها ، أو حال بين من يريد قتلها وبينها (2).

وإنّما قال « أَحْياها » على جهة المجاز من إطلاق السبب على المسبّب والتحقيق هنا في الموضعين أنّه تشبيه على سبيل المبالغة تعظيما لشأن القتل ، وتهويلا لأمره ، وكذلك في طرف الاحياء ، وإلّا فالتشبيه الحقيقي هنا لا وجه له ، لمنافاته الحسّ والعقل والعدل.

الثانية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (3).

هنا فوائد :

1 - أنّه كان بين حيّين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما على الآخر طول فأقسموا ليقتلنّ الحرّ بالعبد ، والذكر بالأنثى ، والرّجلين بالرّجل ، فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت فأمرهم أن يتساووا أي يتكافؤا ، والقصاص من قصّ الأثر وهو الاتّباع ، فإنّ الوليّ في القصاص يتبع أثر الجاني ، ويفعل كفعله ، وحينئذ لا يرد سؤال أنّ الوليّ له الخيار في العفو وأخذ الدية والقصاص ، فلم قال كتب ومعناه وجب كما تقدم لأنّ المراد بيان ما هو

ص: 354


1- اى كان كمن عفى عن جميع الناس.
2- اى كان كمن فعل ذلك بالجميع.
3- البقرة : 178.

واجب في الأصل ونفس الأمر ، وأمّا العفو وأخذ الدّية ففرعان على الاستحقاق ولذلك لا يجب على الجاني قبول أداء الدّية عندنا وهو مذهب أبي حنيفة ، وقال الشافعيّ للوليّ الخيار بين الدية والقصاص ، وإن لم يرض الجاني إذ المراد بالوجوب عدم جواز التعدي إلى غير المكافي كما حكيناه من حكاية الحيين.

2 - قوله تعالى « الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى » قيل هذا منسوخ بقوله « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنّه حكاية ما في التورية فلا ينسخ القرآن وأمّا ثانيا فلأصالة عدم النسخ إذ لا منافاة بينهما وأمّا ثالثا فلأنّ قوله « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » عام وهذا خاص ، وقد تقرّر في الأصول بناء العامّ على الخاصّ مع التنافي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يجوز قتل العبد بالحرّ والأنثى بالذكر إجماعا ، ولعدم دلالة الآية على منعه ، ولأنّه إذا جاز قتل القاتل بمثله فبالأشرف أولى ، وهل يجوز قتل الحرّ بالعبد والذّكر بالأنثى أم لا؟ جوّزه أبو حنيفة عملا بعموم « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » ومنعه مالك والشافعي لا لمفهوم « الْحُرُّ بِالْحُرِّ » إلى آخره لأنّ المفهوم إنّما يكون حجّة حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم ، وقد بيّنا الغرض وهو دفع حكم الحيّين بل منعناه لما رواه عليّ عليه السلام أنّ رجلا قتل عبده فجلده رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ونفاه سنة ولم يقد منه (1) ولما روي أنّه صلى اللّه عليه وآله قال « لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حرّ بعبد (2) » ولفعل الصحابة من غير نكير وهو مذهب أصحابنا لعدم العمل بالمفهوم مطلقا ولدلالة الأحاديث من أئمتهم عليهم السلام.

بقي هنا كلام وهو أنّه إنّما يقتل الحر بالحرّ مع التكافي وهو التساوي في الإسلام والعقل وأن لا يكون القاتل أبا للمقتول خلافا لمالك في الأخير ، وهل حكم الامّ حكم الأب؟ عندنا ليس كذلك ، بل تقتل بالولد وعند الفقهاء حكمها حكم الأب ، أمّا قتل الولد بأبيه فجائز إجماعا وكذا الإجماع على قتل الجماعة بالواحد

ص: 355


1- سنن ابى داود ج 2 ص 488 ، المستدرك ج 3 ص 257.
2- أخرجه العلامة النوري عن غوالي اللئالى في مستدركة راجع ج 3 ص 258.

ولقوله صلى اللّه عليه وآله « لو اجتمعت ربيعة ومضر على قتل مسلم قيدوا به (1) » نعم عندنا يرد عليهم فاضل الدية.

3 - قوله تعالى « فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ » إلى آخره ، قيل عفي بمعنى ترك وشي ء مفعول به ، وهو ضعيف إذ لم ينقل عفى الشي ء بمعنى تركه ، بل أعفاه وقال الزمخشريّ تقديره فمن عفي له من أخيه شي ء أي شي ء من العفو لأنّ عفي لازم لا يتعدّى بنفسه ، وفائدته الإشعار بأنّ بعض العفو كالعفو التامّ في إسقاط القصاص فعلى الأوّل يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذّنب ، قال اللّه تعالى « عَفَا اللّهُ عَنْكَ » و « عَفَا اللّهُ عَنْها » (2) فإذا عدّي إليهما عدّي باللّام إلى الجاني وعليه الآية كأنّه قال فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني وليّ الدّم وذكره بلفظ الاخوّة الثابتة بينهما من الجنسيّة والإسلام ليرقّ له ويعطف عليه.

ثمّ العفو تارة يكون مطلقا بأن يعفو ولا يشترط شيئا وحينئذ لا يلزم الجاني شي ء ، وتارة يكون مع اشتراط الدية وإلى الأخير أشار بقوله « فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ » أي فالأمر اتّباع أو فليكن اتّباع ، وهو وصيّة للعافي بأن يطلب الدية بالمعروف ولا يطلبه بالزيادة ولا يعنّفه ووصيّة للجاني بأن يؤدّيها بإحسان ، وهو أن لا يماطل ولا يبخس بل يشكره على عفوه وأكثر العلماء من الصّحابة والتابعين على أنّ أخذ الدية مشروط برضا القاتل وقيل غير مشروط به ، وقيل الوصيّة للجاني لا غير ، أي فعليه اتّباع إلى آخره وعلى الأوّل يمكن أن يكون فيه دلالة على تأجيل الدية سنة ، وقيل في الآية دليل على أنّ الدية أحد مقتضي العمد وإلّا لما رتّب الأمر بأدائها على مطلق العفو ، بل كان ينبغي أن يقيّده بالعفو عن الخطاء وليس بشي ء.

4 - قوله « ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ » أي ذلك الحكم بترك القصاص وأخذ الدية تخفيف من اللّه لهذه الأمّة وذلك لأنّ حكم التوراة القصاص لا غير وحكم الإنجيل العفو مطلقا من غير دية وخيّر هذه الأمّة بين الثلاثة تيسيرا عليهم.

ص: 356


1- راجع المستدرك ج 3 ص 250.
2- براءة : 43 ، المائدة : 101.

5 - قوله « فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ » أي بعد العفو أو الدية ، بأن يقتل الجاني « فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ » في الآخرة وقيل في الدّنيا بأن يقتل بجنايته لسقوط حقّه بالعفو أو الصلح على الدية.

الثالثة ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1).

ظاهر هذا الكلام أنّه كالمتناقض لأنّ القصاص هو القتل فكيف يكون القتل حياة؟ وفي التحقيق تحته من الحكمة البالغة ما يعجز عن مثله كلام الآدميين ، فإنّه أوجز الكلام وأفصحه.

أما أنّه أوجز فإنّه نتيجة مقدّمات ، فانّ القصاص ردع عن القتل ، وفي الرّدع ارتفاع عنه ، وفي الارتفاع عنه عدم القتل ، وعدم القتل حياة ، ينتج : القصاص حياة.

وأمّا أنّه أفصح فلأنّ من كلام العرب القتل أنفى للقتل ، وقد رجح أهل البلاغة كلامه تعالى على كلامهم بوجوه متعدّدة لكونه أقلّ حروفا ودلالته على الحياة بالمطابقة وتنكيرها الدالّ على التعظيم ، وعدم التكرار ، وغير ذلك ممّا ذكرناه في كتابنا المسمّى بتجويد البراعة.

وكانوا يقتلون الجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم ، فلمّا جاء شرع القصاص وقرّرت قواعده ارتفعت تلك الفتن.

وقيل : المراد بالحياة هي الأخرويّة فإنّ القاتل إذا اقتصّ منه في الدّنيا لم يؤاخذ به في الآخرة وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنّه خلاف المتبادر إلى الفهم ، وثانيا فلأنّ القصاص حقّ للوارث للحيلولة بينه وبين مورثه ، وحقّ للميّت بإدخال الألم عليه [ فان ] لم يؤخذ ما يقابله فكيف يكون ساقطا بالقصاص وليس كذلك المال وإنّما القتل من الآلام الداخلة على الإنسان الّتي أعواضها مختصّة به غير منتقلة عنه ، نعم يمكن أن يكون مع التوبة النصوح والإتيان بالكفّارة يتفضّل اللّه على

ص: 357


1- البقرة : 179.

الجاني بأعواض مكافئة لفعله ، ثمّ ينقلها إلى المقتول.

قوله « يا أُولِي الْأَلْبابِ » أي أولى العقول الكاملة ، ناداهم بصفة العقل للتأمّل في حكم القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس « لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » في المخافة على القصاص فيكفّوا عن القتل.

الرابعة ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) (1).

هنا فوائد :

1 - المفعول في قوله « حَرَّمَ اللّهُ » محذوف أي قتلها ، قوله « إِلّا بِالْحَقِّ » أي بإحدى ثلاث إمّا زنى بعد إحصان ، أو كفر بعد إيمان ، أو قتل المؤمن عمدا كلما ، والمظلوم من قتل بغير استحقاق.

2 - « فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً » إلى آخر ، المراد بالوليّ من يلي أمره وهو الوارث ومن قام مقامه والسلطان يراد به هنا الحكم والتسلّط على الجاني أو العاقلة أمّا بالعفو أو أخذ الدّية أو القصاص في موضعه.

3 - « فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ » قيل : الضّمير للقاتل بأن يقتل من لا يجوز قتله فانّ العاقل لا يفعل ما فيه هلاكه وقيل الضمير للوليّ أي فلا يسرف الولي بأن يقتل غير القاتل ، أو يقتل الجماعة بالواحد ، أو الرّجل بالمرأة من غير ردّ للزائد عن حقّه ، فإنّ دية المرأة على النصف من دية الرجل (2) فإذا قتلها الرّجل فللوليّ قتله

ص: 358


1- الاسراء : 33.
2- هذا الحكم - حكم انتصاف دية المرأة من الرجل - متفق عليه في النفس ، وأما في الشجاج والأطراف فمذهب الإمامية على انها تعاقل الرجل الى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجع الى النصف ، ونقل الشيخ في الخلاف الإجماع عليه. ونقل عن الشيخ في النهاية والعلامة في الإرشاد وابن إدريس في السرائر ، اشتراط التجاوز عن الثلث للتنصيف وانى راجعت عبائرهم في تلك الكتب فلم أتحقق النقل فإنها وان كانت توهم ذلك ، الا انها غير واضحة الدلالة في ذلك كالروايات التي يستشم منها اشتراط التجاوز عن الثلث. ففي صحيح الحلبي : الرجال والنساء في القصاص سواء : السن بالسن والشجة بالشجة والإصبع بالإصبع سواء حتى تبلغ الجراحات ثلث الدية ، فإذا جازت الثلث صيرت دية الرجال في الجراحات ثلثي الدية ، ودية النساء ثلث الدية ( ح 6 ب 1 من أبواب قصاص الطرف من الوسائل ، الوافي الجزء التاسع ب 91 ص 89 عن الكافي والتهذيب ). والخبر عن رجل قطع إصبع امرءته؟ قال : تقطع إصبعه حتى ينتهي إلى ثلث المرأة فإذا جاز الثلث أضعف الرجل. ( ح 4 ب 1 من أبواب قصاص الطرف من الوسائل ، والوافي الجزء التاسع ب 91 ص 89 عن الكافي والتهذيب ). إذ ليست دلالتها الا من حيث مفهوم اشتراط الجواز في الذيل ، وهو معارض بمفهوم الغاية في الصدر ، والجمع بينهما كما يمكن بصرف مفهوم الغاية إلى الشرط ، كذا يمكن العكس فتصير الرواية مجملة الدلالة ، ولا يمكن الاستدلال بها ، فتصير الأخبار الدالة على كفاية بلوغ الثلث بلا معارض. ففي الصحيحين عن المرأة بينها وبين الرجل قصاص؟ قال :نعم في الجراحات حتى تبلغ الثلث سواء ، فإذا بلغت الثلث سواء ، ارتفع الرجل وسفلت المرأة ( الوسائل ح 3 ب 1 من أبواب قصاص الطرف والوافي الجزء التاسع ب 91 ص 89 عن التهذيب والكافي والفقيه عن جميل ومحمد بن حمران ). وفي الصحيح عن أبان بن تغلب قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة كم فيها؟ قال عشر من الإبل ، قلت : قطع اثنين؟ قال : عشرون قلت : قطع ثلاثا؟ قال : ثلاثون ، قلت : قطع أربعا؟ قال : عشرون ، قلت سبحان اللّه يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟ ان هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرء ممن قاله ونقول : « ان الذي جاء به شيطان؟ » فقال : مهلا يا أبان! هذا حكم رسول اللّه ، ان المرأة تعاقل الرجل الى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت الى النصف يا أبان! إنك أخذتني بالقياس والسنة إذا قيست محق الدين. ( الوسائل ح 1 ب 45 من أبواب ديات الأعضاء ، والوافي الجزء التاسع ب 91 ص 89 عن الكافي والتهذيب والفقيه ). وأورد هذا الحديث الأستاذ أبو زهرة في كتابه الامام الصادق نقلا عن الصدوق ص 516 واستغربه وادعى انه مكذوب على الامام عليه السلام زعما منه أنه مخالف مخالفة مطلقة لحكم العقل ، ونحن ننقله بعين عبارته ، قال : « واننا نرى ان هذا الخبر غريب في نسبته الى الصادق رضى اللّه عنه بلا نسبته إلى النبي صلى اللّه عليه وآله وذلك لانه مخالف مخالفة مطلقة للعقل ، ولا يمكن أن يكون التكليف فيه تعبديا وقد قصد به الجريمة ، لأن الدية في حقيقتها قصاص في المعنى واللّه تعالى يقول « وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ». وقد نقلنا من قبل من مصادرهم المعتبرة أن كل الشريعة متفقة مع العقل وأنه إذا كان الحكم تعبديا قصد به الاختبار ، فان العقل يقر هذا الاختبار. وفي الجملة كل ما جاء به الشارع فهو مصلحة في ذات الأمر موضع التكليف أو في التكليف ، وذلك الأخير يكون في الأمور التعبدية ، ولا يمكن أن يكون التعبد في أمور العباد ، لأن أمور العباد تقوم على الإصلاح ، انما التعبدات تكون في العبادات ولا تكون العبادات إلا أمورا تعبدية لاختبار أصل الطاعة لله تعالى والقيام بحق شكره. لذلك نرى نسبة هذا الحكم الى الصادق أمرا غريبا ، وان الأوضح في هذا أن يكون قطع الأصابع الأربع يزيد إلى أربعين بدل أن ينزل الى عشرين » انتهى. أقول : هذا الاستغراب من الأستاذ أبي زهرة مستغرب ، والذي يسهل الخطب ويهون الأمر أن نظن أن الأستاذ المذكور لم يتفحص اخبار أهل السنة ولم يستقرء أقوال علمائهم ، ولم يستقص ما في المسئلة فزعم ان الحكم من متفردات الإمامية ، والرواية به من متفردات مروياتهم ، وليس كذلك فان هذا الحكم مما اتفق عليه الصحابة كما ستعرف من نقل ابن قدامة في المغني وعليه مالك ، ونقله أيضا عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب ، وبه قال الشافعي في القديم وأحمد في أظهر روايتيه ، ولذلك اختار الخرقي أيضا ذلك كما ستعرف ، وهو قول فقهاء المدينة. قال ابن قدامة في المغني ص 797 ج 7. مسئلة : وتساوى جراح المرأة جراح الرجل الى الثلث الدية ، فإن جاوز الثلث فعلى النصف ( الى هنا عبارة الخرقي ثم بعده شرح ابن قدامة ) وروى هذا عن عمر ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وبه قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير والزهري وقتادة والأعرج وربيعة ومالك قال ابن عبد البر : وهو قول فقهاء المدينة السبعة ، وجمهور أهل المدينة وحكى عن الشافعي في القديم وقال الحسن : يستويان الى النصف. وروى عن على رضى اللّه عنه أنها على النصف فيما قل وكثر ، وروى ذلك عن ابن سيرين وبه قال الثوري والليث وابن أبى ليلى وابن شبرمة وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور في الظاهر من مذهبه ، واختاره ابن المنذر لأنهما شخصان تختلف ديتهما فاختلف أرش أطرافهما كالمسلم والكافر ، ولأنها جناية لها أرش مقدر فكان من المرأة على النصف من الرجل كاليد. وروى عن ابن مسعود انه قال : تعاقل المرأة الرجل الى نصف عشر الدية ، فإذا زاد على ذلك فهو على النصف ، لأنها تساويه في الموضحة. ولنا ما روى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها ، أخرجه النسائي ( راجع ج 8 ص 44 ) وهو نص يقدم على ما سواه. وقال ربيعة لسعيد بن المسيب : كم في إصبع المرأة قال : عشر ، قلت ففي إصبعين قال : عشرون ، قلت : ففي ثلاث أصابع؟ قال : ثلاثون. قلت : ففي أربع قال : عشرون قال : قلت : لما عظمت مصيبتها قل عقلها؟ قال : هكذا السنة يا ابن أخي ، وهذا مقتضى سنة رسول اللّه. رواه سعيد بن منصور ( راجع الموطإ ص 673 طبع نور محمد كراجى شرح الزرقانى ج 4 ص 187 ، تنوير الحوالك ج 2 ص 186 ). ولأنه إجماع الصحابة رضى اللّه عنهم إذ لم ينقل خلاف ذلك الا عن على ، ولا نعلم ثبوت ذلك عنه ، ولان ما دون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى بدليل الجنين فإنه يستوي فيه الذكر والأنثى. ثم قال : فاما الثلث نفسه ، فهل يستويان فيه؟ على روايتين : أحدهما يستويان فيه لانه لم يعتبر حد القلة ، ولهذا صحت الوصية به ، وروى أنها يختلفان ، وهو الصحيح لقوله « حتى يبلغ الثلث » وحتى للغاية فيجب أن تكون مخالفة لما قبلها ، لقول اللّه « حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ » ولان الثلث في حد الكثرة لقوله صلى اللّه عليه وآله : « الثلث والثلث كثير » انتهى ما في المغني. ونظيره في نقل الأقوال بأدنى تفاوت ما في بداية المجتهد ج 2 ص 417 ، ورحمة الأمة بهامش ميزان الشعراني ص 115 ، وسبل السلام ج 3 ص 252 ، ونيل الأوطار ج 7 ص 71 ، وفي الأخير بعد نقل تساوى الجراح في القليل والكثير عن على عليه السلام : وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه ، وفيه انقطاع ، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه ، وأخرجه أيضا من وجه آخر عنه وعن عمر قوله « عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من دية الرجل » فيه دليل على ان أرش المرأة يساوى أرش الرجل في الجراحات التي لا يبلغ أرشها إلى ثلث دية الرجل ، وفيما بلغ أرشه إلى مقدار الثلث من الجراحات كنصف أرش الرجل - الى آخر ما قال. والمقصود ان الحكم الذي استغربه الأستاذ أبو زهرة ، هو الذي كان عليه إجماع الصحابة من غير مخالف ، إذ قد عرفت في كلماتهم ان الحديث على ان عليا عليه السلام قال بالنصف في القليل والكثير مما لم يثبت ، بل ثبت خلافه ، ولم ينقل عن احد من الصحابة غير الحكم بالتساوي إلى ثلث الدية. والسنة الثابتة النبوية أيضا على ذلك إذ قد عرفت في كلام ابن قدامة ما أخرجه النسائي ونقله عنه أيضا في بلوغ المرام كما تراه في ج 3 ص 251 من سبل السلام وانه صححه ابن خزيمة قال في سبل السلام عند شرحه ، لكنه قال ابن كثير انه من رواية إسماعيل ابن عياش وهو إذا روى من غير الشاميين لا يحتج به عند جمهور الأئمة وهذا منه. ثم قال ( في سبل السلام ) تعنتوا في إسماعيل بن عياش إذا روى عن غير الشاميين وقبوله في الشاميين والذي يرجح عند الظن قبوله مطلقا لثقته وضبطه ، وكأنه لذلك صحح ابن خزيمة هذه الرواية ، وهي عن إسماعيل عن ابن جريح وابن جريح ليس بشامى. قلت تسلمهم صحة رواياته عن الشاميين يدل على كونه صدوقا عندهم ( انظر التاريخ الكبير للبخاري ج 1 ، القسم الأول ص 369 الرقم 1169 والجرح والتعديل القسم الأول ص 191 ، الرقم 650 ، وميزان الاعتدال للذهبى ج 1 ص 240 ، وتذكرة الحفاظ ص 253 الرقم 240 ) فالفرق بين روايته عن الشامي وغير الشامي انما هو من الخلط والاشتباه ، وقد صرح غير واحد بحفظه ، ففي الجرح والتعديل : حدثنا عبد الرحمن - الى قوله - سمعت يزيد بن هارون يقول : ما رأيت شاميا ولا عراقيا احفظ من إسماعيل بن عياش وفيه أيضا. سئل يحيى بن معين عن إسماعيل بن عياش قال : لا بأس به وفي ميزان الاعتدال : وقال أبو داود سمعت ابن معين يقول : إسماعيل بن عياش ثقة ، بل في أول ترجمته في الميزان : إسماعيل بن عياش أبو عتبة العنسي الحمصي عالم أهل الشام مات ولم يخلف مثله. فما في سبيل السلام من قبول روايته من غير فرق بين كونها عن الشامي وغير الشامي أمتن. وفي زاد المعاد لابن القيم الجوزية ص 205 ج 3 وقضى صلى اللّه عليه وآله أن عقل المرأة مثل عقل الرجل الى الثلث من ديتها ، ذكره النسائي ، فتصير على النصف من ديته ، وفي كشف الغطاء - الحواشي على موطإ مالك ص 670 طبع نور محمد كراچى - وأخرج البيهقي قال : جراحات الرجال والنساء سواء الى الثلث فما زاد فعلى النصف. فالثابت إذا بإجماع الصحابة ، والسنة النبوية : تساوى الرجل والمرأة الى ثلث الدية وتنصيفها للمرءة بعد بلوغ الثلث ، فلا أدرى كيف اجترأ الأستاذ أبو زهرة على نسبته إلى الصحابة الكبار أنهم حكموا بحكم مخالف مخالفة مطلقة لحكم العقل وكيف ظن أن عقله فاق عقل الفاروق الأعظم ، وقد ثبت الحكم بذلك عنه ، صرح به غير واحد من فقهائهم وقد عرفت ، وكيف أنكره لمجرد مخالفته لعقول القياسيين الذين يبنون الاحكام على استنباط العلل والاجتهاد في تخريج المصالح وموجبات الاحكام ، ولذلك قد وقعوا في المخالفات الكثيرة التي لا تتفق مع منطق التشريع. سامح اللّه أبا زهرة ، كيف اجترأ أن ينسب إلى النبي صلى اللّه عليه وآله أنه حكم بحكم يخالف العقل مخالفة مطلقة وقد قال اللّه العزيز الكريم ومن أصدق من اللّه قيلا : « وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ».

ص: 359

ص: 360

ص: 361

ص: 362

ص: 363

ويرد عليه نصف الدية (1) وكذا يرد على الزائد عن الواحد لو قتل بالواحد جماعة فانّ للوليّ قتلهم كلّهم ، ويردّ عليهم الفاضل ، أو يقتل بعضهم ويردّ الباقون قدر جنايتهم ويتمّ الوليّ ما بقي ، أمّا لو قتلت المرأة رجلا فليس للوليّ إلّا قتلها لقوله

ص: 364


1- هذا الحكم متفق عليه عند الإمامية في النفس وفي الطرف إذا بلغ ثلث الدية وما لم يبلغ فلا رد. ونقل الشيخ قدس سره في الخلاف ج 2 ص 341 عن جميع الفقهاء غير الإمامية أنه يقتل بها ولا يرد أولياؤها شيئا ، ونقل في البحر الزاخر ج 5 ص 217 عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعكرمة وعطاء ومالك وأحد قولي الشافعي انه لا يقتل الرجل بالمرءة وانما تجب الدية. والثابت عن أبي حنيفة وأتباعه أنه يقول لا قصاص في الطرف بين مختلفي البدل ، فلا يقطع الكامل بالناقص ولا الناقص بالكامل ، ولا الرجل بالمرءة ولا المرأة بالرجل. انظر المغني لابن قدامة ج 7 ص 679 وسائر الكتب المرتبطة ، ولذلك قال قاضى زاده افندى في تكملة فتح القدير ج 8 ص 307 في مسئلة تساوى الرجل والمرأة الى ثلث الدية الذي أنكره اتباع أبي حنيفة : ثم ان صاحب العناية قال في تعليل قوله فكذا في أطرافها وأجزائها اعتبارا بها وبالثلث وما فوق لئلا يلزم مخالفة التبع للأصل وتبعه العيني ، أقول : لا مانع ان يمنع بطلان اللازم ، إذ لا محذور في مخالفة التبع الذي هو الأطراف للأصل الذي هو النفس في بعض الأحكام ، الا يرى ان القصاص يجرى بين الرجل والمرأة ، ولا يجرى فيما دون النفس عندنا كما مر في كتاب الجنايات فلم لا يجوز المخالفة بين النفس وما دونها في حكم الدية أيضا انتهى. وفي نيل الأوطار ج 7 ص 18 : وأخرج البيهقي عن أبى الزناد أنه قال : كان من أدركته من فقهائنا الذين ينتهي إلى قولهم منهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم ابن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة وسليمان بن يسار في مشيخة جلة من سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل : ان المرأة تقاد من الرجل عينا بعين وأذنا بإذن وكل شي ء من الجراح على ذلك وان قتلها قتل بها ، ورويناه عن الزهري وغيره وعن النخعي والشعبي وعمر بن عبد العزير. قال البيهقي ، وروينا عن الشعبي وإبراهيم خلافه فيما دون النفس واختلف الجمهور هل يتوفى ورثة الرجل من ورثة المرأة أم لا؟ فذهب الهادي والقاسم والناصر وأبو العباس وأبو طالب إلى أنهم يتوفون نصف دية الرجل ، وحكاه البيهقي عن عثمان البتي وحكاه أيضا السعد في حاشية الكشاف عن مالك ، وذهبت الشافعية والحنفية وزيد بن على والمؤيد باللّه والامام يحيى إلى أنه يقتل الرجل ولا توفية انتهى ما في نيل الأوطار.

صلى اللّه عليه وآله « لا يجني الجاني على أكثر من نفسه » (1).

وكذا لو قتل الواحد جماعة ليس لأوليائهم إلّا قتله ، وكذا لو قتل العبد حرّا ليس لوليّه إلّا قتل العبد ولا سبيل له على مولاه وقرأ ابن عامر وحمزة « فلا تسرف » بالتاء جريا على أنّه خطاب إمّا للقاتل أو للوليّ ، وقيل الخطاب للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وفيه ضعف.

4 - « إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً » الضمير للوليّ بمعنى أنّ اللّه نصره بشرع القصاص وقيل للمقتول بمعنى أنّ اللّه نصره في الدّنيا بالقصاص وفي الآخرة بالثواب العظيم وقيل للمقتول إسرافا بمعنى أنّ اللّه ينصره بإيجاب القصاص ، فيما تعدّى به الوليّ وثبوت الوزر على المسرف.

الخامسة ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً ) (2)

ص: 365


1- الكافي ج 7 ص 299.
2- النساء : 96.

عظّم اللّه شأن قتل المؤمن وبالغ في التوعّد عليه حتى أنّه ذكر هنا خمس توعّدات كلّ واحد منها كاف في عظم الجرم إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :

1 - اختلف في قتل العمد ما هو؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه هو ما كان بحديد لا بغيره ، وهو أحد قولي الشافعيّ وقال في الآخر وأصحابنا إنّ كلّ من قصد قتل غيره بما يقتل مثله غالبا سواء كان بحديد حادّ أو مثقّل أو خنق أو سمّ أو إحراق أو تغريق أو ضرب بعصا أو بحجر أو غير ذلك فإنّه عامد ، وكذا لو قصد القتل بما لا يقتل غالبا فاتّفق الموت فإنّه عمد أيضا على الأصحّ.

أمّا ما لا قصد فيه أصلا ، لا القتل ولا غيره فيتّفق الموت فذلك هو الخطاء ، وما كان فيه قصد لا للقتل بل لتأديب أو لغيره فيتّفق الموت فذاك شبه عمد ولازم الأوّل القصاص كما تقدّم والثاني الدية على العاقلة كما يجي ء والثالث الدّية في مال الجاني خاصّة وكذا دية العمد لو عفي عنها ، فإنّها أيضا على الجاني ، ولو هرب العامد حتّى يموت ولم يقدر عليه فانّ الدية يلزم من تركته على الأصحّ لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا يبطل دم امرء مسلم » (1)

2 - ثبت في علم الكلام بطلان الإحباط ، وثبت أنّ عصاه المؤمنين عقابهم غير دائم ، وظاهر الآية ينافي ذلك وأجيب بوجوه :

الأوّل ما روي عن الصّادق عليه السلام أنه قتله على دينه ولإيمانه ولا شكّ أنّ ذلك كفر من القاتل موجب لتخليده.

الثاني أنّه مخصوص بغير التائب وليس بشي ء لأنّه محلّ النزاع لأنّه مع التوبة لا عقاب أصلا.

الثالث أنه قتله مستحلّا لقتله قاله عكرمة ويؤيّده أنّه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول اللّه أن يدفعوا إليه ديته ثمّ حمل على مسلم وقتله ، ورجع إلى مكّة مرتدّا.

ص: 366


1- المستدرك ج 3 ص 260.

الرّابع أن يراد بالخلود المكث الطويل جمعا بين الدليلين.

3 - توبة القاتل عمدا الندم الخالص والكفّارة الجامعة للخصال الثلاث وهو عتق رقبة ، وصيام شهرين متتابعين ، وإطعام ستّين مسكينا ، والانقياد للورثة إمّا يقتلونه أو يرضون بالدّية أو يعفون.

السادسة ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ وَكانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (1).

أي ما جاز لمؤمن أو ما ثبت في حكم اللّه لمؤمن ، والاستثناء منقطع ونصب « خطاء » على أنّه صفة لمصدر محذوف أي إلّا قتلا خطاء لا أنّه مفعول له ، ولا حال كما قال الزمخشريّ لأنّ الخطاء ليس بسبب فاعليّ ولا غائيّ عند التأمّل [ فلا يكون مفعولا له ] ولا هو صفة للفاعل ولا للمفعول ، والحال يجب أن يكون صفة لأحدهما.

قوله « فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » أي فيجب عليه ، و « توبة » منصوب على التميز عن الجملة إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الآية مشتملة على أحكام :

1 - أنّ القاتل خطاء يجب عليه كفّارة [ و] هي تحرير رقبة ولا خلاف في اشتراط إيمانها ، وهذه واجبة في مال القاتل ، بلا خلاف ، ووجه هذا أنّ القاتل لمّا أخرج المقتول عن قيد الحياة لزمه أن يخرج نفسا من قيد العبوديّة فإنّه كالأحياء إذ العبد كالميّت في أنّه لا حكم في نفسه وتصرّفاته.

2 - تسليم الدية إلى أهل المقتول أعني ورثته ، وهم كلّ من يرث المال إلّا الإخوة والأخوات من قبل الامّ لروايات متضافرة ، وقيل والأخوات أيضا من الأب

ص: 367


1- النساء : 95.

وقيل بل يرثها وارث المال لعموم آية الإرث ، والأقرب منع قرابة الأمّ مطلقا إخوة وغيرهم.

ثمّ هذه الدية ليست لازمة للجاني في ماله بل لعاقلته ، وهم الأب والأولاد ومن يتقرّب بالأبوين أو بالأب خاصّة من الذكور ، دون الامّ ومن يتقرّب بها ويقسمها الامام عليهم على حسب ما يراه الأقرب فالأقرب ، فإن قصرت الأقارب واتّسعت الدية ، دخل فيهم مولى النعمة ، ثمّ ضامن الجريرة ، ثمّ الامام على ترتيب الإرث.

والدية في الأقسام الثلاثة إمّا ألف مثقال من الذهب المسكوك الخالص أو عشرة آلاف درهم أو ألف شاة أو مائتا حلّة من برود اليمن كلّ حلّة ثوبان أو مائتا بقرة أو مائة من الإبل ، لكن يقع الفرق في أمرين الأوّل أنّه في العمد يستأدى في سنة وفي شبهه في سنتين ، وفي الخطاء المحض في ثلاث سنين الثاني في أسنان الإبل ، فإنّها في العمد من المسانّ أي من الكبار ، وفي الشبيه ثلاثة وثلاثون بنت لبون ، ومثلها من الحقائق وأربع وثلاثون ثنيّة طروقة الفحل ، وفي الخطاء عشرون بنت مخاض ومثلها من أبناء اللّبون وثلاثون حقّة ، ومثلها من بنات اللّبون.

قوله « إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا » أي الورثة إذا أبرؤا ذمّة العاقلة برئت ، جعل الإبراء صدقة كما تقدّم في آية الدّين تحريصا على الفعل.

واعلم أنّ الدية حكمها حكم أموال الميّت يقضى منها ديونه ، وينفذ وصاياه من أيّ الأقسام كانت ، نعم دية العمد لا يجب على الورثة أخذها وصرفها في الدّيون والوصايا ، بل لهم القصاص وإن لم يضمنوا الدّين على الأصحّ ، فإن اصطلحوا على أخذها كانت من التركة ، ودلّ على ذلك البيان النبويّ صلى اللّه عليه وآله والتبليغ الإماميّ كما تضافرت به الروايات.

3 - أنّ المقتول خطاء إذا كان من قوم أهل حرب لكنّه هو مؤمن فإنّه يجب الكفّارة لا غير لأجل إيمانه ، ولا يجب الدّية لكونهم كفرة لا يستحقّون في دية (1) المسلم شيئا.

ص: 368


1- ذمة المسلم. خ.

4 - أنّ المقتول خطأ إذا كان بين قوم معاهدين أمّا أهل كتاب لهم ذمّة أو قوم كفّار لهم عهد فاختلف في هذا المقتول ، قيل هو كافر إلّا أنّ ديته تلزم لمكان العهد مع قومه فديته عندنا على هذا التقدير ثمان مائة درهم وعليه إجماع أصحابنا واختلف الفقهاء منهم ، فقال أبو حنيفة كدية المسلم لظاهر الآية وإطلاق لفظ الدية وقيل النصف ، وقال الشافعيّ الثلث ، وقيل أربعة آلاف درهم ولا خلاف عندهم أنّ دية المجوسيّ ثمانمائة درهم وقيل هو مؤمن وهو المرويّ في أخبارنا ويؤيّده وجوب الكفّارة بقتله لأنّه لا كفّارة بقتل الكافر وأيضا سياق الآية يدلّ عليه لعطفه على قوله « وَهُوَ مُؤْمِنٌ » في الجملة المتقدّمة ، لكنّ الدّية هنا إنّما تعطى لورثته من المسلمين خاصّة وحينئذ يكون ظاهر الآية مخصوصا بالمسلمين إذ الكافر لا يرث المسلم لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا توارث بين أهل ملّتين (1) ».

5 - قوله « فَمَنْ لَمْ يَجِدْ » يشير إلى أنّ الكفّارة هنا مرتّبة لإتيانه بالفاء الموجبة للتعقيب ، والمراد بعدم الوجدان هو أن لا يملك الرقبة ولا ثمنها ، فاضلا عن قوت يومه ودست ثوبه ودار سكناه ، وكذا يحكم بعدم وجدانه لو كان مريضا يفتقر إلى الخدمة أو من أهل الإخدام وإن لم يكن مريضا مع حاجته إلى الخدمة ، أمّا من جرت عادته بخدمة نفسه فإنّه يعتق عليه إلّا مع المرض ، والمراد بتتابع الشهرين أن يصوم شهرا ومن الثاني ولو يوما لوقوع التتابع صفة للشهرين لا للأيّام ، فلو أفطر في الأوّل لعذر بنى عند زواله هذا ، وقيل عدم الوجدان راجع إلى عدم وجدان الدّية ، وقيل إلى عدم وجدان الدّية والرقبة معا وكلاهما شاذّان لأنّ الدية على العاقلة ، لا الجاني حتّى يوصف بعدم الوجدان.

واعلم أنّه مع عدم القدرة على الصوم ينتقل إلى إطعام ستّين مسكينا كما تقدّم مثله ثمّ اعلم أنّ الكفّارة واجبة على الفور أمّا أوّلا فلأنّها كالتوبة الواجبة على الفور ، وأمّا ثانيا فلإتيانه بالفاء عقيب قوله « وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » إلى آخره.

ص: 369


1- سنن أبى داود ج 2 ص 113.

قوله ( تَوْبَةً مِنَ اللّهِ ) أي شرع هذا الحكم كلّه أو الانتقال إلى الصوم رحمة من اللّه لكم لكونه ( عَلِيماً ) بحالكم ( حَكِيماً ) واضعا لكلّ شي ء في موضعه.

السابعة ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ ) (1).

( وَكَتَبْنا ) عدّاه بعلى لتضمّنه معنى الحكم أي حكمنا عليهم بذلك والباء للبدليّة كقولك هذا بهذا أي هذا كائن بدل هذا وتقدير الكلام حكمنا على بني إسرائيل في التوراة أنّ النفس تكون بدل النفس المعصومة إذا قتلت ، وكذا البواقي وهنا فوائد :

1 - لا يقال حكم هذه الآية معمول به في هذه الشريعة مع الإجماع على كون التوراة منسوخة بهذه فكيف يعمل بما هو منسوخ؟ وأيضا أكثر الأصوليّين على أنّه صلى اللّه عليه وآله غير متعبّد بشرع من قبله فكيف نعبّد بهذا الحكم مع كونه شريعة لموسى لأنّا نقول لا شكّ أنّ الشريعة السابقة منسوخة بالشريعة المسبوقة بمعنى أنّ مجموع أحكام المسبوقة من حيث المجموع لا من حيث كلّ واحد واحد [ من الأحكام ] ناسخ لمجموع أحكام السابقة من حيث المجموع ، ولا يلزم من ذلك أن يكون كلّ واحد واحد من الأحكام ناسخا ومنسوخا لأنّ النسخ هو الرّفع ، ورفع المجموع من حيث المجموع لا يستلزم رفع كلّ واحد بل واحد منها لا بعينه ، والتعيين إلى الشارع ثمّ إنّ كلّ واحد من أحكام المسبوقة إمّا أن يكون منافيا لحكم من أحكام السابقة أو لا فان كان الأوّل كان ناسخا له وإن كان الثاني فإمّا أن يكون موافقا له أو لا فان كان الأوّل كان ذلك من جملة الاتّفاقات في الأحكام وإن كان الثاني وهو أن لا يكون منافيا ولا موافقا لم يجز التعبّد به إلّا بدليل خارجيّ وعلى التقادير الثلاثة

ص: 370


1- المائدة : 45.

لا يكون النبيّ صلى اللّه عليه وآله متعبّدا بأحكام الشريعة السابقة ولذلك قال سبحانه ( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) (1).

2 - لا شكّ أنّ ما تضمّنه الآية وإن كان معمولا به في شرعنا ، لكنّه من العمومات المخصوصة لاشتراط القصاص نفسا وطرفا بالتساوي في الإسلام والحرّيّة وقد حكينا ما في ذلك من الخلاف وكذلك يشترط في الأطراف التساوي في المحلّ والصفات ، فلا تفقأ العين اليمنى باليسرى ولا تصمّ الاذن اليمنى باليسرى ولا يقلع السّنّ بغير مقابله ، ولا يجدع الأنف الصّحيح بالأشلّ ، ولا تؤخذ العين الصّحيحة بالعمياء ولا السنّ الصّحيح بالأسود ، ولا الاذن الصحيحة بالشلّاء إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في الفقه المستفادة من البيان النبويّ صلى اللّه عليه وآله والتبليغ الإماميّ.

3 - قرئ بنصب « الجروح » وكذا السوابق عليها نحو « والعين والأنف » إلى آخرها وقرئ بالرفع فيها كلّها أمّا النصب فبالعطف على لفظ اسم « أنّ » وأمّا الرّفع فبالعطف على محلّ اسمها. قوله ( وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) أي ذات قصاص وهو أيضا من المخصوصات فانّ الجرح إذا كان مشتملا على غرر وخطر لا قصاص فيه بل ينتقل إلى الدّية كالهاشمة والمنقّلة والمأمومة والجائفة بخلاف ما لا غرر ولا خطر فيه فانّ حكم القصاص فيه ثابت كالحارصة والدامية والمتلاحمة والسمحاقة ويراعى في ذلك أيضا التساوي في المحلّ والقدر طولا وعرضا لا نزولا ، بل يكفي صدق الاسم فيه ، ويشترط أيضا ما تقدّم من التساوي في الإسلام والحرّية.

4 - قوله ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ ) أي بالقصاص ( فَهُوَ ) أي التصدّق « كَفّارَةٌ لَهُ » أي لذنبه ، والضمير للمتصدّق لأنّه المالك للقصاص ، ولعود الضمير إلى « من » الّذي هو المذكور ، وقيل يرجع إلى المتصدّق عليه لأنّ العفو قائم مقام أخذ الحقّ منه وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنه خلاف الظاهر ، وأمّا ثانيا فلأنّه نوع تأكيد والتأسيس خير منه ، وأما ثالثا فلأنّه لو كان كذلك لما وجبت الكفّارة على القاتل بالعفو واللّازم باطل فكذا الملزوم والملازمة ظاهرة هذا.

ص: 371


1- المائدة : 48.

واعلم أنّ مذهبنا بطلان الإحباط والتكفير لقيام الدّليل على ذلك كما هو مقرر في علم الكلام وحينئذ يجب حمل ما ورد من تكفير السيّئات بالحسنات كما ذكر هنا وكقوله صلى اللّه عليه وآله « الصلوات الخمس كفّارة لما بينهنّ من الذّنوب (1) » وقول عليّ عليه السلام « الحجّ والعمرة يد حضان الذّنب (2) » إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث على أنّ اللّه تعالى يتفضّل على فاعل الحسنات بإسقاط عقاب سيّئاته لعظم محلّ تلك الحسنة ، وكذا نقول في قوله ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (3) أنّ اللّه يتفضّل على مجتنب الكبيرة بالعفو عن صغائره لعظم محلّه باجتناب الكبائر.

الثامنة ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (4).

فيها دلالة على أنّه من أوقع به ظلم في نفس أو طرف أو شجاج أو مال فانتصر بعد ظلمه أي استوفي حقّه فليس عليه سبيل من المعاقبة واللّوم ، « ومن » زائدة لكونها بعد النفي وفيها أيضا دلالة على أنّه يجوز الاقتصاص من غير حكم حاكم في طرف أو جرح أو مال ممّن يماطل ، بعد أن يراعى في ذلك عدم التجاوز إلى غير حقّه.

التاسعة ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ ) (5).

هذه تدلّ على أمور ثلاثة :

1 - ما دلّت عليه السابقة وسمّي الجزاء مع كونه حسنا « سيّئة » إمّا على

ص: 372


1- السراج المنير ج 2 ص 405.
2- لم نعثر عليه بلفظه ، وبمضمونه أحاديث كثيرة ، راجع الكافي باب فضل الحج والعمرة ج 4 ص 252 - 264.
3- النساء : 31.
4- الشورى : 41.
5- الشورى : 40.

المجاز تسمية الشي ء باسم مقابله أو لأنّها تسوء من توقع به.

2 - تدل على حسن العفو عن السيّئة وأنّه يستحق في مقابله أجر عظيم لا يدرى كهنة ، لإبهامه وعدم تعيينه.

3 - أنّه يجب في الاقتصاص الاقتصار على المثل ، وعدم التجاوز عنه لقوله تعالى « إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ » ومثل هذه الآية في الدلالة قوله ( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ ) (1) وقيل نزلت هذه لما قتل حمزة عليه السلام ونظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إليه وقد شقّ بطنه وجدع أنفه وأذناه فقال لو لا أن يكون سنّة بعدي لتركته حتّى يبعثه اللّه من بطون السّباع والطير ولأقتلنّ مكانه سبعين رجلا ثمّ دعا ببردة فغطّى بها وجهه فخرجت رجلاه فجعل على رجليه شيئا من الإذخر ، ثمّ قدّمه فكبّر عليه سبعين تكبيرة فنزلت الآية ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : بل نصبر يا ربّ.

العاشرة ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (2).

لنذكر شرحها أوّلا ثمّ نذكر غرض الفقهاء منها فنقول : الخلق التقدير إمّا لأجزاء المخلوق أو لهيئة تركيبها لأوقاته ، ومنه « خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ » (3) والمراد بالإنسان الهيكل المحسوس والفعالة موضوعة لمقدار ما يفصل عن شي ء سواء كان من شأنه أن يرمى به كالقلامة والنجارة أو يتمسّك به ويتحفّظ كالخلاصة والسلالة ، و « من » في الموضعين لابتداء الغاية فإنّ آدم عليه السلام خلق من سلالة مخلوقة

ص: 373


1- النحل : 126.
2- المؤمنون : 13 - 15.
3- الملك : 2.

من الطين لا أنّ الثانية للبيان ، كما قال الزمخشري لأنّ كونها لابتداء الغاية يغني عن البيان « ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً » أي أولاده من نطفة فانتصابها بنزع الخافض والقرار المكين أي محكم وهو ظهر الأقرب والجارّ والمجرور صفة لنطفة لا أنّ المقرّ بطن الامّ كما قال ، وإلّا لكان يجب أن يقول « ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً » لأنّ مبدء خلقة العلقة لا يتراخى في بطن الامّ عن النطفة بل عن كونها نطفة في ظهر الأب « ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً » أي بعد انتقالها من ظهر الأب إلى الرّحم ، ولذلك قال « ثمّ » لأنّ النطفة موجودة قبل انتقالها وحال الانتقال إلى أن يستقرّ في الرّحم

« فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ » أتي بالفاء نظرا إلى استعداد كونها مضغة فإنّه يتعقّب العلقة ولا يتراخى زمانا وكذلك الانتقالات بعده « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » أي نفخنا فيه الرّوح فصار إنسانا بمعنى آخر ، بعد أن كان بدنا له ، وأتى بثمّ لأنّ في العادة أنّ تركيب شي ء من شيئين محتاج إلى توسط زمان بينهما ، وهو قول ابن عبّاس ومجاهد وقيل هو إنبات الشعر والأسنان وقيل كونه ذكرا أو أنثى والعلقة قطعة دم ثخين والمضغة قطعة لحم واحتجّ أبو حنيفة على مذهبه أنّه لو غصب أحد بيضا فصار عنده فرخا أو حبّا فصار دقيقا أنّه يملكه ، وليس عليه غير البيض والحبّ بقوله « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » وهو غير مصيب في قوله ، لأنّ الصورة تتبع المادّة ، والمادّة لغيره ، وهب أنه ملك الصورة فكيف يملك المادّة نعم يصح في خمر غصبه مسلم من مسلم فصار خلا في يد الثاني أنه له لأنّه ملكه باليد لعدم تملّك الأوّل له.

إذا عرفت هذا فنقول استدلّ معظم الفقهاء بالآية على توزيع الدّية على هذه الحالات فأوجبوا في النطفة بعد استقرارها في الرّحم عشرين دينارا لأنّ فيها عشرة قبل وقوعها فيه ، بدليل أنّه لو أفزع مجامعا فعزل ضمن المفزع عشرة وكذا لو عزل الزّوج من حرّة بعقد الدوام كان عليه عشرة دنانير فيستفيد بالوقوع في الرّحم حالة أخرى زائدة ، فلها دية. وأوجبوا في العلقة أربعين وفي المضغة ستّين وفي العظم ثمانين وإذا اكتسى اللّحم ولم تلجه الرّوح مائة ، وإذا ولجته الرّوح الدية الكاملة للذكر ونصفها للأنثى فان لم يعلم فنصف الدّيتين ، وقيل بالقرعة.

ص: 374

إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

1 - قيل بين كلّ حالة سابقه وما بعدها عشرون يوما ، ولا ينافي ذلك الإتيان بالفاء لما قلناه من التعقيب الاستعداديّ فيكون لكلّ يوم دينار ، فإذا لبثت النطفة عشرين يوما كان فيها عشرون دينارا وفي أحد وعشرين يوما أحد وعشرون دينارا وفي ثلاثين يوما ثلاثون دينارا وعلى هذا ، وهو مشهور ، لكن لا يعلم مستنده ، نعم روى الشيخ في التهذيب عن يونس الشيبانيّ قال قلت للصادق عليه السلام فإذا خرج من النطفة قطرة دم ، قال القطرة غير النطفة ، فيها اثنان وعشرون دينارا ، قال قلت فان قطرت قطرتين؟ قال : أربعة وعشرون دينارا ، قلت : فان قطرت ثلاثا قال ستّة وعشرون قلت فأربع قال ثمانية وعشرون دينارا وفي خمس ثلاثون دينارا وما زاد على النصف فعلى حساب ذلك حتى يصير علقة ، فإذا صار علقة ففيها أربعون وفي طريقها صالح بن عقبة وهو كذّاب غال له مناكير.

2 - قال بعض فقهائنا في الجنين قبل أن تلجه الرّوح غرّة عبد أو أمة ، وقدّر ابن الجنيد قيمة الغرّة بنصف عشر الدّية.

3 - روي أنّ الصحابة اختلفوا في الموؤدة ما هي؟ وهل الاعتزال وأد؟ وهل إسقاط المرأة جنينها عمدا وأد؟ فقال عليّ عليه السلام إنّها لا تكون موؤده حتى يأتي عليه التارات السّبع ، فقال له عمر صدقت أطال اللّه بقاءك ، وأراد عليه السلام طبقات الخلق السبع المبنيّة في الآية المذكورة فأشار عليه السلام إلى أنّه إذا استهلّ بعد الولادة ثمّ دفن فهو وأد فلا يكون الحامل المسقط قد وأدت.

ص: 375

كتاب القضاء والشهادات

كتاب القضاء والشهادات (1) وفيه آيات :

الاولى ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) (2).

الخليفة يراد بها عرفا لمعنيين إمّا كونه خلقا لمن كان قبله من الرسل أو كونه مدبّرا للأمور من قبل غيره وقد دلّت الآية على أمور :

1 - مشروعيّة القضاء والحكم وقد تقدّم أقسام الولاية في باب المكاسب.

2 - وجوب الحكم بالحقّ أي بما هو مطابق لما في نفس الأمر بحسب ما يقود إليه الدليل أو الأمارة.

3 - أنه لا ينبغي اتّباع الهوى أي الميل بمجرّد الحظّ النفساني ، ويدخل في ذلك وجوب الانصاف والإنصات والتسوية بين الخصوم في السلام والكلام وأنواع الإكرام أمّا الميل القلبيّ إلى أحدهما مع الحكم بالحقّ فذاك مكروه.

الثانية ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) (3).

دلّت هذه على ما دلّت عليه السابقة.

الثالثة ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (4).

ص: 376


1- في نص : كتاب أدب القضاء.
2- ص : 26.
3- المائدة : 49.
4- النساء : 65.

كما وجب على الحاكم الحكم بالحقّ ، كذلك يجب على المحكوم عليه الانقياد والإذعان وأكّد ذلك بالقسم المتبوع بعدم أيمانهم ، إن لم يحكّموا وينقادوا للحقّ ظاهرا وباطنا ، قوله « فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ » أي اختلف ، يقال تشاجر القوم إذا اختلفوا والحرج الضيق ، وقيل الشك لأنّ الشاكّ في ضيق من أمره والتسليم الانقياد.

الرابعة ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) . ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) . ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (1).

قيل هذه الثلاث حيث وردت في حكاية ما أنزل اللّه على أهل الكتاب فهي مختصّة بهم ، وليس بشي ء ، بل هو عامّ في كلّ ملة لأنّ خصوص السّبب لا يخصّص ثمّ الحاكم بغير ما أنزل اللّه إن كان مع اعتقاده لذلك الحكم فهو كافر ، وإن كان لا مع اعتقاده فهو ظالم أو فاسق.

الخامسة ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (2).

تقدم ذكر صدرها وأمّا عجزها فيدل على وجوب العدل في الحكم بين الناس صريحا.

السادسة ( إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) (3).

ص: 377


1- المائدة : 44 و 45 و 47.
2- النساء : 58.
3- النساء : 105.

الانزال هو نقل الشي ء من مكان عال أو رتبة عالية إلى ما دونهما ، والكتاب القرآن ، وبالحقّ أي بالسبب الحقّ أو متلبّسا بالحقّ وقد دلّت على أمرين :

1 - خطابه صلى اللّه عليه وآله بأن يحكم بما أراده اللّه أي أعلمه بالوحي ، وليس من الرؤية بمعنى العلم ، وإلّا لاستدعى ثلاثة مفاعيل ، وفيه دلالة على أنّه لا يجوز الحكم بغير علم.

2 - خطابه صلى اللّه عليه وآله بأن لا يجادل أي لا يخاصم لأجل الخائنين ، بحيث يذبّ عنهم خصومهم البريئين ، وفيه دلالة على عدم جواز المجادلة عن أحد الخصمين ، وعدم جواز تلقينه ما يستظهر به على خصمه.

السابعة ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (1).

دلّت على أنّه إذا تحاكم أهل الذمة إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو إلى من يقوم مقامه من الأئمّة عليهم السلام أو الفقهاء تخيّر الحاكم بين أن يحكم بينهم بمذهب الإسلام وبين أن يردّهم إلى حكّامهم ، قيل : إنّ هذا التخيير منسوخ بقوله « أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ » وهو مرويّ عن مجاهد وابن عبّاس ، وقال ما نسخ من المائدة سوى هذه وسوى قوله « لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ » نسخها قوله « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ».

وقيل : ليس بمنسوخ بل الأمر بالعكس ، والتخيير باق ، وهو مذهب أصحابنا لكنّه ليس على إطلاقه بل إذا كان الخصمان من ملّة واحدة ، أمّا إذا كان أحدهما مسلما فلا يجوز للحاكم رد الحكم فيه إلى أهل الذمّة قطعا ولو كانا متغايرين في الملّة كاليهوديّ والنصرانيّ يحتمل الرد إلى الناسخ والأقوى تحتّم الحكم بينهما بمذهب الإسلام ، لأنّ ردّهما إلى أحد الملّتين موجب لإثارة الفتنة.

الثامنة ( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ

ص: 378


1- المائدة : 42.

الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) (1).

قيل الحرث الزّرع وقيل الكرم وقد تدلّت عما قيده ، والنفش الرعي ليلا والهمل يكون ليلا ونهارا ، حكم داود عليه السلام بأن يسلّم الغنم إلى صاحب الحرث عوضا عمّا أفسدته ، ونظيره حكم أبي حنيفة في العبد الجاني يسلّم إلى المجنيّ عليه فقال سليمان عليه السلام وهو ابن أحد عشر سنة : يا نبيّ اللّه غير هذا أوفق لهما فعزم داود عليه ليحكمنّ بينهما فقال أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بألبانها وأولادها وأصوافها ، والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم بإصلاحه حتّى يعود كما كان ثمّ يترادّان ، فقال : القضاء ما قضيت ، ونظيره قول الشافعيّ يغرم الأجرة للحيلولة للعبد المغصوب ، وحكم الحرث المذكور في شرعنا ضمان صاحب الغنم قيمة التالف إن فرّط في حفظها ، وإلّا فلا ، وقال الشافعيّ يجب ضمان ما تلف ليلا إذ المعتاد وجوب ضبط الدّوابّ ليلا ولذلك قضى النبيّ صلى اللّه عليه وآله لمّا دخلت ناقة البراءة حائطا فأفسدت ، فقال على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل الماشية حفظها باللّيل (2) وهو قول جماعة من أصحابنا وعند أبي حنيفة لا ضمان إلّا أن يكون معها حافظ لقوله صلى اللّه عليه وآله : جرح العجماء جبار (3) وهنا سؤالات :

1 - هل كان حكمهما بوحي أو اجتهاد؟ الجواب الحقّ عندنا أنّه بوحي والثاني ناسخ [ للإذن الأوّل ] وهو قول الجبّائي قيل عليه : الوقت كان واحدا فيكون بداء وهو غير جائز ، ومن جوّز على الأنبياء الاجتهاد قال كان الحكمان باجتهاد وبعض فضلائنا جوّز الاجتهاد للنبيّ إذا حضرت الواقعة وفقد الوحي ، وكان

ص: 379


1- الأنبياء : 78.
2- الدر المنثور : ج 4 ص 325 في تفسير الآية. وهكذا في سنن ابى داود ج 2 ص 267.
3- سنن ابى داود ج 2 ص 502.

تأخير الحكم ضررا ، ولا يلزم العمل بالظنّ مع إمكان العلم إذ الفرض عدمه ، قلت إنّ الحكم حينئذ ليس بالاجتهاد لدلالة الوحي على نفي الضّرر ، فيكون حكما بالنصّ النوعيّ.

2 - ظاهر الكلام أنّ الحكمين صوابان لقوله تعالى « وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً » مع أنّ بينهما منافاة ، والصواب لا يكون في المتنافيين والجواب المنع من المنافاة ، لجواز أن يكون قيمة الغنم بقدر ما فات من الحرث ، ولذلك حكم بتسليم الغنم إذ لا يجب عليه الصّبر ، فيكون حكمه صوابا. لكن حكم سليمان كان أصوب لأنّه راعى مصلحة الجانبين والصبر وإن لم يكن واجبا لكنّه ندب من قسم التفضّل ، فلا منافاة كما لا منافاة بين المصلحة والأصلح والفصيح والأفصح.

قلت فعلى هذا لا يكون الثاني ناسخا للأوّل إذ لا منافاة بين الأوّل والثاني والنسخ شرطه المنافاة بل يكون بيان شرع زائدة وقد تقرّر في الأصول أنّ الزيادة على النصّ ليس نسخا على الأصحّ ، وعلى هذا يخرج الجواب عن السؤال الأوّل وعن القول بلزوم البداء.

3 - على قول من قال إنّ حكمهما كان بالاجتهاد ، يرد سؤال ، إنّه لا يجوز للمجتهد أن يرجع عن اجتهاده لأجل اجتهاد غيره الجواب أنّه رجع لاجتهاد ثان له ، وهو جائز اتّفاقا.

واعلم أنّ قوله « فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ » أي الفتوى أو الحكومة ، فيه دلالة على أنّه لم يكن باجتهاد بل بوحي فبطل قول من استدلّ بها على تصويب قول كلّ مجتهد لأنّه مخالف لمدلولها قوله « لِحُكْمِهِمْ » أضاف الحكم إلى الحاكمين والمتحاكمين.

التاسعة ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1).

دلّت هذا الآية على النّهي عن جملتين :

ص: 380


1- البقرة : 188.

1 - النهي عن أكل أموال الناس بالسبب الباطل. إن قلت إنّه أضاف الأموال إلى المخاطبين ، فكيف يكون باطلا ، فانّ مال الرّجل حلال له ولا شي ء من الحلال بباطل قلت هذا مجاز من باب إطلاق الكلّ على البعض ، والمراد لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل كالنهب والسرقة والتزوير وغير ذلك.

2 - « تُدْلُوا بِها » أي لا تدلوا حذف « لا » اعتمادا على العطف ، ومعناه لا تعطوا الحكّام أموالكم ليحكموا لكم ، وهو مستعار من قولهم أدلى دلوه إذا أرسلها والرشوة ترسل إلى الحكّام. قوله « لِتَأْكُلُوا » علّة غائيّة للادلاء قوله « فَرِيقاً » أي طائفة « مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ » أي بالظلم الّذي هو سبب الإثم ، « وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » الواو للحال أي والحال أنّكم تعلمون أنّها باطلة ، وإنّما قيّد الحكم بالعلم ، لأنّ التكليف مشروط بالعلم.

روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال لخصمين اختصما عنده : إنّما أنا بشر مثلكم فلعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشي ء من حقّ أخيه فإنّما أقضي له قطعة من النار (1).

العاشرة ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) (2).

قيل نزلت في شأن رجل منافق ورجل يهودي كان بينهما خصومة ، فطلب المنافق المحاكمة إلى كعب بن الأشرف وطلب اليهودي المحاكمة إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فنزلت « والطاغوت » هنا من يحكم بالباطل ، وسمّي به لفرط طغيانه وقال عليّ عليه السلام كلّ حاكم يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت وقرء الآية » (3) وعن أبي بصير

ص: 381


1- سنن ابى داود ج 2 ص 171.
2- النساء : 60.
3- المستدرك ج 3 ص 171.

عن الصادق عليه السلام أنّه قال يا أبا محمّد إنّه لو كان لك على رجل حق فتدعوه إلى حاكم أهل العدل فيأبى عليك إلّا أن يحاكمك ويرافعك إلى حاكم الجور فإنّه ممّن حاكم إلى الطاغوت ، وهو قول اللّه عزوجل « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ » الآية ، وقال وإيّاكم وأن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم قاضيا ، فانّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه وقال عليه السلام لما ولّى عليّ عليه السلام شريحا اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتّى يعرضه عليه ، وورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة (1).

الحادية عشرة ( وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ ) (2).

« وَشَدَدْنا مُلْكَهُ » أي عقدناه عقدا لا يقدر أحد على حلّه ، قيل كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه وقيل ألقى اللّه هيبته في قلوب الناس بسبب أنّ رجلا ادّعى على رجل بدعوى ولم يكن له بها بيّنة فرأى داود عليه السلام في منامه أن اقتل المدّعى عليه فقال في نفسه إنّه منام ، ولم يقتله حتّى أوحى اللّه إليه في اليقظة وأعلمه داود عليه السلام فاعترف الرّجل أنّه قتل أبا المدّعي وهو سبب هيبته ، فاشتدّ ملكه بذلك وإذا أراد اللّه أمرا هيّا سببه ، ولعليّ عليه السلام أحكام كثيرة تضاهي أحكام داود عليه السلام بل أعظم ، وصورها في المطوّلات من كتب الأحاديث ، وفي أحكام داود وعليّ عليهما السلام دلالة على جواز حكم الحاكم بعلمه وإن لم يقم بيّنة.

قوله « وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ » هي الزبور ، وقيل كلّ كلام وافق الحقّ ، وامّا « فَصْلَ الْخِطابِ » فقيل هو الكلام الفاصل بين الحقّ والباطل ، والصحيح والفاسد في الحكومات وغيرها ، وقيل هو الفصل في الكلام في موضعه والوصل في موضعه ونقل الزمخشريّ عن عليّ عليه السلام هو قوله عليه السلام البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى

ص: 382


1- ترى روايات الباب في الكافي ج 7 ص 406 و 412 وهكذا تفسير العياشي ج 1 ص 254.
2- ص : 10.

عليه وذلك لأنّه فاصل بين المدّعيين ، وأوّل من اوتي هذا الحكم داود عليه السلام.

وقد ذكر المعاصر والراوندي في هذه القصّة أشياء لا تعلّق لها بالفقه ، أعرضنا عنها ، نعم ذكرنا في كتابنا المسمّى باللّوامع في علم الكلام قصّة داود عليه السلام على وجه مستوفى فليطالع ثمّة ، ومن جملة ما فيها أنّ موضع الخطيئة منه عليه السلام قيل هو قوله « لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ » فإنّه وصفه بالظلم قبل التفحّص عن حاله فعوتب عليه ، وعلى هذا ينبغي للحاكم التثبّت في الحكم ، وأن لا يسارع إلى التخطئة والتصويب ، إلّا بعد الاستكشاف.

الثانية عشرة ( وَإِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) (1).

قيل نزلت في بشر المنافق واليهودي اللّذين تقدّم ذكرهما وقيل كانت المنازعة بين عليّ عليه السلام والمغيرة بن وائل في أرض وبناء وأبى المغيرة المحاكمة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقال إنّه يبغضني وأخاف أن يحيف عليّ وقال البلخي أنّ المنازعة كانت بين عليّ عليه السلام وعثمان في أرض اشتراها عثمان منه فخرج فيها أحجار وأراد عثمان ردّها بالعيب وأبى علي عليه السلام وقال بيني وبينك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال الحكم بن أبي العاص : إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له ، فلا تحاكمه فنزلت.

قوله « وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ » ومعناه أنّ هؤلاء المنافقين إذا دعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعلموا أنّ الحقّ معهم ، ينقادون إلى المجي ء ، وإن علموا أنّهم مبطلون لا يأتونه ، لعلمهم أنّه لا يحكم إلّا بالحقّ ، وفي الآية توبيخ ونعي على من لا يجيب إلى الحكم بالحقّ ، ويأبى عنه ، وأما قصّة الأرض والحجارة فانّ الحقّ كان مع عليّ عليه السلام لأنّ الحجارة إذا كانت مخلوقة ولا ضرر على المشتري فلا خيار له.

ص: 383


1- النور : 48.

الثالثة عشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1).

قرئ « فتبيّنوا » أي تفحصوا وقرئ فتثبّتوا أي تثبّتوا إلى أن يتبيّن لكم الحال والفسق لغة الخروج عن الشي ء وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من بيتها واصطلاحا الخروج عن طاعة اللّه تعالى مع الايمان به والنّبإ الخبر ، فان كان الإخبار عن الغير ، فهو شهادة وإلّا فهو إقرار.

قوله « أَنْ تُصِيبُوا » أي كراهة أن تصيبوا « قَوْماً بِجَهالَةٍ » أي جاهلين بحالهم إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

1 - في الآية دلالة على اشتراط العدالة لأنّها ملزومة لعدم الفسق ، وقد عرّفها الفقهاء بأنّها ملكة تبعث على ملازمة التقوى والمروّة ، وتزول بمواقعة كبيرة أو إصرار على صغيرة ، إذ بواحد من ذينك يدخل في حيّز الفسق ، ووجه الدّلالة أنّه تعالى أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق ويلزم منه أن لا يجب التثبّت عند إخبار العدل ، أمّا أوّلا فللإجماع ، وأمّا ثانيا فلأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه وحينئذ نقول إمّا أن تقبل شهادة الفاسق أو لا؟ فان كان الأوّل لزم أن يكون أعظم مرتبة من العدل ، وهو باطل وإن كان الثاني فهو المطلوب.

2 - الكبيرة المشار إليها هنا وفي قوله تعالى « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » (2) قيل كلّ ذنب رتّب الشارع عليه حدّ أو صرّح بالوعيد فيه ، وقيل ما علم حرمته بدليل قاطع وعن النبيّ صلى اللّه عليه وآله إنّها سبع : الإشراك باللّه ، وقتل النفس الّتي حرّم اللّه ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والربا ، والفرار من الزّحف ، وعقوق الوالدين (3) ، وعن ابن عبّاس هي إلى سبعمائة أقرب منها

ص: 384


1- الحجرات : 6.
2- النساء : 31.
3- الكافي ج 2 ص 276 ، باب الكبائر.

إلى سبع ، وقال بعض أصحابنا الذنوب كلّها كبائر ، وإنّما صغر الذنب وكبره بالإضافة إلى ما فوقه وما تحته ، فأكبر الكبائر الشرك باللّه ، وأصغر الصّغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران ، فالقبلة بالنسبة إلى الزّنا صغيرة وبالنسبة إلى النظر كبيرة ، فمعنى التكفير في الآية أنّ المكلّف متى عن له أمران منها ودعته نفسه إليهما بحيث لا يتمالك إلّا أن يكفها عن الأكبر منهما يكفّر عنه ما ارتكب لا للاحباط بل بما استحقّ من الثواب على اجتناب الأكبر.

3 - الإصرار على الصّغيرة إمّا فعلي وهو المداومة على نوع واحد منها بلا توبة ، أو الإكثار من جنس الصّغائر بلا توبة ، وإمّا حكميّ وهو العزم على فعل تلك الصّغيرة بعد الفراغ منها أمّا من فعل صغيرة ولم يخطر بباله بعدها توبة ولا عزم على فعلها فالظاهر أنه غير مصرّ ، ولعلّه مما يكفّره الأعمال الصالحة كما تقدّم توجيهه.

4 - المروّة المشار إليها فيما تقدّم هي تنزيه النفس عن الدناءة الّتي لا يليق بأمثاله كالسخرية والمزاح الكثير ، وكشف العورة الّتي يتأكّد استحباب سترها في الصّلاة والأكل في الأسواق غالبا ، ولبس الفقيه لباس الجنديّ بحيث يسخر منه وبالعكس ، وبالجملة المباحات الّتي يستخفّ بفاعلها ، وليس من ذلك الصنائع الدّنيّة كالكنس والحجامة والحياكة وإن استغنى عنها.

الرابعة عشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (1).

يريد كونوا مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته « شُهَداءَ لِلّهِ » أي تقيمون الشهادة لوجه اللّه وهو خبر كان أو حال « وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ » أي ولو كان ذلك بإقراركم

ص: 385


1- النساء : 135.

على أنفسكم (1) لأنّ الشهادة بيان الحقّ سواء كان عليه أو على غيره وسواء كان المشهود له أو عليه غنيّا أو فقيرا فلا تمتنعوا من الشهادة أو لا تجوروا فيها ميلا إلى الغنيّ أو ترحّما على الفقير ، فانّ اللّه هو المتولّي لهما ، والعارف بمصالحهما ، وتثنية الضّمير في « بِهِما » لرجوعه إلى ما دلّ عليه المذكور ، وهو جنسا الفقير والغنىّ ، لا إليه وإلا لوحّد ، ويدلّ عليه أنّه قرئ شاذّا « فَاللّهُ أَوْلى بِهِما ».

قوله « أَنْ تَعْدِلُوا » أي لأن تعدلوا عن الحقّ ، أو كراهة أن تعدلوا ، قوله « وَإِنْ تَلْوُوا » ألسنتكم عن شهادة الحقّ أو حكومة العدل « أَوْ تُعْرِضُوا » عن أدائها « فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً » فيجازيكم عليه وفيه نوع تهديد ومبالغة.

إذا عرفت هذا فقد دلّت الآية على أمور :

1 - وجوب إقامة العدل في الحكومات مطلقا على نفسه أو على غيره.

2 - وجوب إقرار الإنسان على نفسه بحقّ يكون ثابتا في ذمّته.

3 - وجوب إقامة الشّهادة على الوالدين ، وهو مذهب المرتضى (2) وابن

ص: 386


1- وذلك لان الدعوة والشهادة والإقرار يشترك جميعها في الاخبار عن حق لأحد على أحد ، غير أن الدعوى اخبار عن حق لنفسه على الغير والإقرار للغير على نفسه ، والشهادة للغير على الغير.
2- نسبه اليه ابن إدريس في السرائر ، ولكن تردد صاحب الجواهر وغيره في صحة النسبة ، قالوا لان عبارته في الانتصار غير ظاهرة في ذلك ، ونقل عنه في الموصليات انه ادعى الإجماع على عدم القبول وعبارته في الانتصار كذلك : « ومما انفردت به الإمامية القول بجواز شهادة ذوي الأرحام والقرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا من غير استثناء لأحد ، إلا ما يذهب اليه بعض أصحابنا معتمدا على خبر يروونه من أنه لا يجوز شهادة الولد على الوالد ، وان جازت شهادته له ». قلت عبارته كما سمعتها وان لم تكن صريحة الا أنها ظاهرة فيما نسبه ابن إدريس وغيره اليه ثم انها تشعر بكونه مختار عدة من الأصحاب أيضا فتوهن الإجماعات المنقولة على عدم القبول.

الجنيد (1) ويدل عليه أيضا رواية داود بن الحصين (2) وغيره (3) وقال الشيخ وأكثر الأصحاب (4) لا يقبل شهادة الولد على والده ، لاستلزام ذلك تكذيب والده ، وهو

ص: 387


1- نسبته الى ابن الجنيد مشهورة لكن في المسالك : وكثير من المتقدمين كابن الجنيد وابن ابى عقيل لم يتعرضوا للحكم بنفي ولا إثبات ، وفي المختلف ص 68 كتاب القضاء : ولم أقف لابن الجنيد ولا لابن ابى عقيل على شي ء من ذلك بالنصوصية. وعلى كل فلو ترددوا في النسبة إلى السيد والإسكافي ، فلا ترديد في عبارة الدروس وانه اختار القبول كعدة ممن تأخر عنه كالكفاية والمفاتيح وشرحه والمسالك وشرح الإرشاد وعدة ممن تقدم عليه أيضا كما هو ظاهر التحرير حيث نسب القول بالمنع إلى الأشهر. بل قد عرفت من ظاهر كلام السيد انه اختيار عدة من الأصحاب أيضا ، وعلى اى فعبارة الدروس على ما حكاه في الجواهر هكذا : عاشرها انتفاء توهم العقوق فلو شهد الولد على والده ردت عند الأكثر ، ونقل الشيخ الإجماع والآية وخبر داود بن الحصين وعلى بن سويد يعطى القبول واختاره المرتضى وهو قوى ، والإجماع حجة على من عرفه ، وفي حكمه الجد وان علا على الأقرب.
2- راجع الوافي الجزء التاسع ص 152 ، الباب 139 من كتاب القضاء.
3- كرواية على بن سويد السائي - نسبة الى ساية من قرى المدينة - ومثلها رواية إسماعيل بن مهران كما في الوافي نقلا عن الكافي والتهذيب والفقيه ، راجع الكافي ج 7 ص 381.
4- ونقل في الجواهر عن موصليات المرتضى والخلاف والغنية والسرائر الإجماع عليه ، وقد عرفت حال الإجماع قبيل ذلك وليس هناك رواية تدل على عدم القبول ، سوى ما في الفقيه ص 396 ط - طهران وفي خبر آخر انه « لا تقبل شهادة الولد على والده » ومثله في النهاية. وفي الخلاف ج 2 ص 623 « دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم فإنهم لا يختلفون فيه » وقد سمعت من عبارة السيد في الانتصار « الا ما يذهب اليه بعض أصحابنا معتمدا على خبر يروونه » ولا يخفى عليك ما في التمسك بالخبر المرسل بهذا الحد من الإرسال وتخصيص الكتاب بمثل ذلك الخبر.

عقوق (1) يمنع قبول الشهادة ، ووجوب الإقامة الّذي هو مدلول الآية لا يستلزم القبول (2) لأنّ الإقامة صدوع بالحقّ وهو أعمّ من القبول وعدمه ، وهل حكم الجدّ للأب (3) حكمه؟ الأقرب ذلك أمّا الأم (4) فيقبل شهادة الولد عليها ولها وكذا للأب

ص: 388


1- هذا الاستدلال للعلامة في المختلف ج 2 ص 168 ، واستدل أيضا بقوله تعالى « وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً » قال وليس من المعروف الشهادة عليه والرد لقوله وإظهار تكذيبه فيكون ارتكاب ذلك عقوقا مانعا عن الشهادة. قال في المسالك ولا يخفى عليك ضعف هذه الحجة ، فإن قول الحق ورده عن الباطل وتخليص ذمته من الحق عين المعروف كما ينبه عليه قوله « انصر أخاك ظالما أو مظلوما » فقيل يا رسول اللّه كيف نصره ظالما؟ قال : رده عن ظلمه فذلك نصرك إياه ، ولأن إطلاق النهي عن عصيان الوالد يستلزم وجوب طاعته عند أمره بارتكاب الفواحش وترك الواجبات وهو معلوم البطلان وأضاف في قلائد الدرر ج 3 ص 444 ط النجف قوله لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وعموم لزوم إنكار المنكر. وعندي أنه ينتقض أيضا بالشهادة على الأم فإنها مقبولة كما سيصرح المصنف به عن قريب.
2- واستشكل في المسالك على هذا التقرير بلزوم العبث في إقامتها ، وبأنه معطوف على المقبول وهو الشهادة على نفسه ، ومعطوف عليه المقبول وهو الشهادة على الأقربين فلو كان غير مقبول لزم عدم انتظام الكلام. وقال في المستند ج 2 ص 655 لزوم العبث ممنوع لانه يمكن أن يصير جزءا لعدد الاستفاضة العلمية ، أو قرينة لإفادة العلم فيما إذا حصلت أمور أخر ، وقال في جواب عدم انتظام الكلام انه لا يلزم تطابق المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأحوال والأوصاف الا ترى انه يقبل الشهادة على النفس مطلقا ، ولا كذلك الشهادة على الوالدين والأقربين فيشترط فيهما العدالة وضم عدل آخر أو اليمين.
3- وهو المتراءى من عبارة الدروس التي نقلناها قبيل ذلك ، وفي الكفاية : والأقرب انه لا يستحب حكم المنع فيمن علا من الإباء ، ونزل من الأبناء.
4- قد عرفت أن المستند لرد الشهادة على الأب لو كان هو العقوق لشمل الشهادة على الأم أيضا.

ويقبل أيضا شهادة الأب للولد وعليه ، لعموم أدلّة وجوب الإقامة (1) ووجوب القبول من غير معارض.

4 - وجوب الإقامة على الأقارب كلّهم وكذا لهم ، من غير فرق بينهم ، وخالف الفقهاء في ذلك (2) لما فيه من التهمة المانعة من القبول ، ولأنّ الولد بعض الوالد

ص: 389


1- اتفقت الإمامية على قبول شهادة الوالد لولده وعليه ، ومن الولد لوالده والأخ لأخيه بل الزوج لامرءته والزوجة لزوجها وقيد الشيخ في النهاية وكذا ابن البراج وابن حمزة على ما في المختلف ص 168 كتاب القضاء بما إذا كان معه غيره من أهل الشهادة وقال ابن إدريس والمفيد وأبو الصلاح بالإطلاق وكذا الشيخ في الخلاف والمبسوط. وعلى اى فالدليل على الحكم العمومات وخصوص المستفيضة كالصحاح للحلبي وعمار بن مروان والموثقين لسماعة ورواية السكوني ، ففي الوافي الجزء 9 ص 147 عن الكافي والتهذيب عن الحلبي عن ابى عبد اللّه عليه السلام قال : تجوز شهادة الرجل لامرءته والمرأة لزوجها إذا كان معها غيرها وتجوز شهادة الولد لوالده والوالد لولده والأخ لأخيه. وعن الكافي والتهذيب والفقيه عن عمار بن مروان قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام أو قال سأله بعض أصحابنا عن الرجل يشهد لامرءته؟ قال : إذا كان خيرا جازت شهادته ، وعن الرجل يشهد لأبيه أو الأب يشهد لابنه أو الأخ لأخيه قال : لا بأس بذلك إذا كان خيرا جازت شهادته لأبيه ، والأب لابنه والأخ لأخيه. وعن الكافي والتهذيب عن سماعة عن ابى بصير قال سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن شهادة الوالد لولده ، والولد لوالده والأخ لأخيه فقال : تجوز. وعن التهذيب عن سماعة قال سألته عن شهادة الوالد لولده ، والولد لوالده والأخ لأخيه قال : نعم ، وعن شهادة الرجل لامرءته قال : نعم ، والمرأة لزوجها قال : لا ، الا أن يكون معها غيرها. وعن التهذيب عن السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما السلام ان شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضيا ومعه شاهد آخر.
2- وخلاصة الكلام ملخصا من الخلاف ج 2 ص 623 ، والانتصار المطبوع مع الجوامع الفقهية وبداية المجتهد ج 2 ص 452 و 453 والمغني لابن قدامة ج 9 ص 191 - 194 ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة المطبوع بحاشية الميزان للشعراني ج 2 ص 214 ، ونيل الأوطار ج 8 ص 303 ، والبحر الزاخر ج 5 ص 35 و 36 ، والام للشافعي ج 7 ص 46 والمحلى لابن حزم ج 9 ص 506 - 510 ، والاحكام في أصول الأحكام له أيضا ص 755 واعلام الموقعين لابن القيم الحوزية ج 1 ص 111 - 118 ، وأحكام القرآن لابن العربي ص 255 و 505 - 508 ، وأحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 605 - 607 ، وشرح فتح القدير لابن الهمام الحنفي ج 6 ص 31 - 33. ان هنا مسائل أربع الأولى شهادة الوالد لولده والولد لوالده فأجازه عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وابن حزم ، بل جميع الظاهرية وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وإياس بن معاوية وعثمان البتي والمزني وأبو سليمان وأبو ثور على رواية والأوزاعي على رواية وإسحاق بن راهويه وعن الشافعي روايتان والمشهور منه المنع وهو المذكور في الأم ج 7 ص 46. وعن أحمد أربع روايات أحدها المنع والثانية تقبل شهادة الأب له ، لان مال الابن في حكم مال الأب ، وروى ذلك عن الحسن والشعبي وابن ابى ليلى وسفيان الثوري أيضا والثالثة تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه ما لم تجر اليه نفعا وهي إحدى الروايتين عن الحسن والشعبي والرابعة لا تقبل من الأب للابن ، ولا من الابن للأب ، ولكن تقبل من الجد وله ، ونسب هذا القول إلى الأوزاعي والثوري وابى عبيد وعن شريح روايتان أشهرهما الجواز. ومنعه أبو حنيفة ومالك وقالا : لا تقبل شهادة الوالدين للولدين ولا شهادة الولدين للوالدين ، الذكور والإناث ، بعدوا أو قربوا ، ونسب هذا القول الى الحسن والشعبي أيضا والى شريح والثوري وابى ثور وإسحاق وابى عبيد وزيد بن على والامام يحيى. وروى عن الزهري انه قال : لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ولا الأخ لأخيه ، ولا الزوج لامرءته ، ثم دخل الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم إذا كان من قرابة وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة لم يتهم هؤلاء إلا في آخر الزمان. وهذه الرواية كما ترى شهادة من الزهري بإجماع الصحابة على الجواز. المسئلة الثانية : شهادة الأخ لأخيه فأجمع أهل العلم الا مالكا على جوازها ، وقال مالك لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النسب ، وتجوز في الحقوق ، ونقل عنه أنه قال لا تجوز شهادة الأخ لأخيه إذا كان منقطعا إليه في صلته وبره ، لانه متهم في حقه وحكى عن ابن المنذر عن الثوري انه قال : لا تقبل شهادة كل ذي رحم محرم ، وحكاه في بداية المجتهد ، والبحر الزاخر عن الأوزاعي أيضا. المسئلة الثالثة : شهادة أحد الزوجين للآخر فمنعها مالك وأشهر الروايتين عن أحمد وعنه رواية بالجواز ، وأجازها الشافعي وأبو ثور والحسن وعن الشافعي أيضا رواية على عدم الجواز والمشهور منه الأول وهو الموجود في الأم. وقال ابن ابى ليلى : تقبل شهادة الزوج لزوجته ، ولا تقبل شهادتها له ، وبه قال النخعي ، وحكاه ابن حزم عن سفيان الثوري ، قالوا : لان لها حقا في ماله لوجوب نفقته وتقبل شهادة الزوج لعدم التهمة. المسئلة الرابعة شهادة أحد الصديقين للآخر ، إذا كان بينهما مهاداة ، وأنها تقبل في قول عامة أهل العلم الا مالكا فقال : لا تقبل شهادة الصديق الملاطف لانه يجر الى نفسه بها نفعا فهو متهم. وعلى اى حال فعمدة مستندهم للمنع في المسائل الأربع حصول التهمة وهذه التهمة انما أعملها الشرع في الفاسق ومنع إعمالها في العادل ، ولا تجتمع العدالة مع التهمة ، ولذلك ترى في أحاديث الشيعة عند سرد الامام « الظنين والخصم والمتهم » في من يرد شهادته يسأله الراوي عن الفاسق والخائن فيجيبه الإمام بأن كل هذا يدخل في الظنين راجع الوافي الباب 134 ج 9 ص 147. وقد روى في الموطإ عن عمر : لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ، انظر الرقم 1464 في ج 3 ص 388 من شرح الزرقانى على الموطإ ، وقد عرفت ان عمر بن الخطاب كان يرى قبول شهادة الأقرباء ، فليس ذلك إلا لأن شهادة القريب مع عدالته ليس من شهادة الظنين عنده. ولهم حديث آخر تراه في الترمذي ج 2 ص 53 طبع دهلي عن قتيبة عن مروان بن معاوية الغزاري عن يزيد بن زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا مجلودة ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب شهادة ولا القانع أهل البيت لهم ، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة. قال الفزاري : القانع : التابع ، وتراه في عدة من الكتب الفقهية لهم بألفاظ مختلفة قريبة المضمون ، كلها عن يزيد بن ابى زياد عن الزهري. قال السيد قدس سره في الانتصار : ان الساجي قد قال في هذا الخبر انه رواية غير ثابتة عند أهل النقل ، وراوي هذا الخبر عن الزهري يزيد بن ابى زياد وحكى أن شعبة قال : ان يزيد كان رفاعا اى يرفع إلى النبي صلى اللّه عليه وآله ما لا أصل له ، وضعف هذا الحديث من وجوه معروفة. قلت وضعفه الترمذي نفسه أيضا عند إخراجه وبالغ ائمة الرجال في التشنيع على يزيد بن [ ابى ] زياد ، راجع ميزان الاعتدال ج 4 ص 425 ، الرقم 9696 ، والتاريخ الكبير للبخاري القسم الثاني من المجلد الرابع ص 334 ، الرقم 3221 ، والجرح والتعديل لابن ابى حاتم الرازي القسم الثاني من المجلد الرابع ص 262 ، الرقم 1109. وذكر ابن حزم بعد ذكر ضعف الحديث أنه لو صح لكانوا أول مخالف لتفريقهم بين الأخ والأب وبين العم وابن الأخ وبين الأب والابن ، وكلهم سواء ، إذ هم متقاربون في التهمة بالقرابة. وعلى اى فأكثرهم لا يعتمد على الرواية ، ويستندون للحكم بحصول التهمة ، وقد عرفت حاله ، واستند الشافعي في الأم بحصول البعضية في الأب والابن ، وجوابه مضافا الى ما سيذكره المصنف أن هذه البعضية لا توجب أن تكون كبعضه في الاحكام لا في أحكام الدنيا ولا في أحكام الثواب والعقاب ، فلا يعاقب أحدهما بذنب الأخر ، ولا يثاب بحسناته ولا يجب عليه الزكاة ولا الحج بغني الأخر والاملاك بينهما متميزة ، والأيدي متحيزة : كل يد في حيز غير حيز الأخر. وقد اجمع الناس على صحة بيعه منه وإجارته ومضاربته ومشاركته ، فلو امتنعت شهادته له ، لكونه جزءه فيكون شاهدا لنفسه كما ذكره الشافعي في الأم لانتفت هذه العقود إذ يكون عاقدا لنفسه. واستدل من خص المنع بشهادة الأب للابن ، بما ورد عن النبي صلى اللّه عليه وآله « أنت ومالك لأبيك » قال ابن حزم : فنحن كلنا لله وقد أمرنا بالشهادة لله ، واللام في الحديث ليس للملك قطعا. واستدل من رد شهادة الزوجين بارث أحدهما من الأخر ، فكان جرا للنفع ، قلت : ويلزمهم رد شهادة العصبة ، ولا يقولون به.

لكونه مخلوقا من نطفته ، والوالد مادّة للولد ، فهو كالجزء منه ، فيكون كل واحد منهما شاهدا لنفسه ، وكذا الكلام في الأقارب والحقّ خلاف ذلك أمّا أولا فلنصّ الآية الكريمة ، وأمّا ثانيا فلأنّ التهمة مدفوعة بالعدالة ، فلا تكون معارضة للأدلة العامّة ، وأمّا ثالثا فلأنّ البعضيّة ليست حقيقة بل مجازا ، ولكلّ واحد منهما حكم نفسه ، ولذلك قد يكون أحدهما حرّا وإن كان الآخر رقّا.

ص: 390

ص: 391

ص: 392

الخامسة عشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) (1)

أمر سبحانه وتعالى بجعل الحركات وكالأفعال كلّها له أي لوجهه ، بحيث لا يكون فعل من الأفعال إلّا ويوقع إخلاصا لله ، وأمر أيضا بإيقاع الشهادة بالعدل إذ به قوام الدّنيا والآخرة ، قوله « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ » أي لا يحملنكم بغض قوم على

ص: 393


1- المائدة : 12.

ترك العدل فيهم ، وذلك مستلزم للعدل ، لكن لمّا كانت دلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام ، أمر بالعدل ثانيا ، وقوله « هُوَ » أي العدل « أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » أي إليها ، وفي ذلك مبالغة عظيمة في العدل حيث جعله أقرب إلى حصول مفهومها.

هذا وفي الآية أيضا تأكيد للأمر بإقامة الشهادة ، رعاية لمصالح عباده كما قال وليّ اللّه أمير المؤمنين عليه السلام « فرض اللّه الشهادات استظهارا على المجاحدات » (1) وقال عليه السلام إذا كان الغدر طباعا فالثقة إلى كلّ أحد عجز.

ولنقطع الكلام حامدين لله على جميل إحسانه شاكرين له على توفيقه وامتنانه

ص: 394


1- هذه من جملة ما في الرقم 249 من باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة ، وشرحه ابن ابى الحديد ج 19 ص 86 - 90 الطبعة الأخيرة ونحن نختم الكلام بذكر تمام بيان الامام ، ليكون المسك له الختام قال عليه السلام : فرض اللّه الايمان تطهيرا من الشرك ، والصلاة تنزيها عن الكبر ، والزكاة تسبيبا للرزق ، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق ، والحج تقوية للدين ، والجهاد عزا للإسلام ، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام ، والنهي عن المنكر ردعا للسفهاء ، وصلة الرحم منماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء ، واقامة الحدود إعظاما للمحارم ، وترك شرب الخمر تحصينا للنسب ، وترك اللواط تكثيرا للنسل ، والشهادات استظهارا على المجاحدات وترك الكذب تشريفا للصدق ، والسلام أمانا من المخاوف ، والامانة نظاما للأمة ، والطاعة تعظيما للإمامة. يقول العبد ابن محمد محمد باقر المدعو بشريف زاده گلپايگاني قدوقع الفراغ في الرابع عشر من شهر جمادي الاولى سنة 1385 هجرية وانى واللّه معترف بقصر الباع وكثرة الزلل ولكن فضل اللّه وكرمه لايعلل شئ من العلل فأسأله من فضله أن يجعلها في حيز القبول فأنه كريم يعطي خيرمأمول. والمرجو ممن اطلع عليها ان يدعو لقليل البضاعة بالخير والمباعدة عن كل شر وضير وأن يقيل العثرات ويعفو عن التساهلات. وما توفيقنا الا باللّه ، عليه توكلنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قائلين ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربّنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الّذين من قبلنا ، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنّا ، واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.

سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على أكرم المرسلين وأشرف الأوّلين والآخرين محمّد خاتم النبيين وآله الطيّبين الطاهرين.

الصورة

ص: 395

فهرس الكتاب

الموضوع / الصفحة

كتاب المكاسب

البحث عن الاكتساب بقول مطلق 1

البحث عن أشياء يحرم التكسب بها 11

في تحريم الخمر والميسر 15

البحث في القرعة وأن حكمها ثابت بالكتاب والسنة والاجماع 21

كتاب البيع

أكل الأموال بالباطل 33

الربا 35

ايفاء الكيل 41

الاحتكار 43

كتاب الدين وتوابعه

جواز الاستدانة 45

استدانة الولي للمولى عليه 49

الاستشهاد عند المبايعة والدين 51

شرائط الشهادة 53

إنظار المعسر وإبراء ذمته 57

الرهن

أحكام الرهن وشرائطه 59

الضمان

أحكام الضمان وشرائطه 65

الصلح

أحكام الصلح 67

الوكالة

أحكام الوكالة 69

كتاب فيه جملة من العقود

وجوب الوفاء بالعقد 71

الإجارة. الشركة 73

المضاربة 74

الابضاع 75

الايداع 76

العارية 78

السبق والرماية 80

الشفعة 81

اللقطة 82

الغصب 83

الاقرار 85

الوصية وأحكامها 89

ص: 396

الموضوع / الصفحة

الاشهاد على الوصية 96

أحكام الحجر 101

الوقف والسكنى والصدقة والهبة 113

النذر وأحكامه 114

العهد وأحكامه 116

اليمين وأحكامه 118

العتق وتوابعه 126

كتاب النكاح

أقسام النكاح 134

في عدد الأزواج 139

الزواج وملك اليمين 145

في إباحة المتعة 149

نكاح الإماء 173

في أسباب التحريم

نكاح الأمهات 178

ما يحرم بالنسب 180

ما يحرم بالرضاع 182

ما يحرم بالمصاهرة 184

نكاح المحصنات 190

نكاح المشركات 193

نكاح الكتابيات 199

لوازم النكاح

المهر والصداق والنفقة 201

أقسام الولاية 209

الرجال قوامون على النساء 211

النشوز وبعث الحكمين 213

توابع النكاح

حفظ الفروج والحجاب 220

استيذان العبيد 224

النكاح في الدبر 229

أحكام الرضاع 231

فيما يتعلق بنكاح النبي وأزواجه صلى اللّه عليه وآله 237

روافع النكاح

الطلاق وأحكامه 249

الطلاق الثلاث 265

في التحليل 279

الخلع والمبارات 284

الظهار 288

الايلاء 292

اللعان 293

الارتداد 297

كتاب المطاعم والمشارب

أصل الإباحة 298

ما يحرم على التعيين : الميتة والدم ولحم الخنزير 300

ص: 397

الموضوع / الصفحة

الخمر والميسر 304

في أشياء من المباحات 308

كتاب المواريث

ميراث النسب والولاء 323

طبقات الوراث 326

ميراث الأبوين 329

ميراث الأزواج 331

ميراث الكلالة 332

العول والتعصيب 335

كتاب الحدود

حد الزناء 338

حد القذف 345

حد السرقة 348

حد المحارب 351

كتاب الجنايات

قتل النفس 353

دية المرأة والرجل 359

قتل الخطاء 369

القصاص 371

دية الجنين 375

كتاب القضاء والشهادات

الحكم بغير ما أنزل اللّه 376

حكم داود وسليمان في الغنم 379

تحريم الرشوة 381

وجوب الانقياد للحكم 383

الشهادة بالعدل 385

شهادة القريب للقريب وعليه 387

ص: 398

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.