المؤلف: جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري
الناشر: المكتبة المرتضويّة للإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: 0
الموضوع : الفقه
تاريخ النشر : 0 ه.ق
الصفحات: 415
المكتبة الإسلامية
كنز العرفان في فقه القرآن
للشيخ الأجل جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري
المتوفی سنة 826 رحمه اللّه
علق عليه المحقق البارع حجة الإسلام الشيخ محمد باقر (شريف زاده) مد ظله
وأشرف علی تصحيحه اخراج احاديثه محمد باقر البهبودي
من منشورات المكتبة المرتضوية لاحياء الآثار الجعفرية
حقوق الطبع بهذه الصورة محفوظة
1343 ش 1384 ق
الجزء الأول
ناشر: انتشارات مرتضوی (تهران)
تاريخ نشر: 1373
چاپخانه: حیدری
نوبت چاپ: پنجم
تیراژ: 3000
محرر الرقمي: محمّد علي ملك محمّد
ص: 1
بسمه تعالى
الحمد للَّه ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطَّاهرين.
وبعد : فان كتاب كنز العرفان في فقه القرآن تأليف المحقّق الوجيه المدقّق النبيه ، الشيخ الفاضل الفقيه ، جمال الدين ، وشرف المعتمدين ، أبي عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه السيوري المعروف عند الفقهاء الأعلام بالفاضل السيوريّ والفاضل المقداد ، لمّا كان من أحسن ما كتب في ذلك الفنّ ، مطلوب كلّ راغب ، وبغية كلّ طالب ، لكنّه مع عزّة نسخة المطبوعة ، وكثرة الطالبين لها ، لم يكن طبعاته مطبوع أهل الفضل ، عزمنا بحول اللّه وقوّته أن نطبعه بالطبعة الحروفيّة فطبعناه على أحسن ترتيب وأجمل صورة ، مزدانا بالتعاليق النافعة ، مذيّلاً بتخريج أحاديث والإشارة إلى مواضع آياته ، ليكون نفعه أتمّ وفيضه أعمّ.
فهذا هو المجلّد الأوّل منه بين يدي القرّاء الكرام ، من كتاب الطهارة إلى كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجاء بحمد اللّه يروق الناظرين ، يجده الطالب على ما كان يأمله من حسن النظم والتريب ، وجمال الطبع والأوراق.
وسننتشر المجلّد الثاني - إن شاء اللّه - من أوّل كتاب المكاسب إلى آخر الكتاب واللّه وليّ التوفيق ، وهو نعم الموفّق والرفيق.
الشيخ عبد الكريم المرتضوي
مدير المكتبة المرتضوية
ص: 2
باسمه تعالى الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين.
وبعد فيقول الغريق في بحر العصيان ابن محمّد محمّد باقر المدعوّ بشريف زاده گلپايگانى : إنّه سألني الأخ العزيز الحاج الشّيخ عبد الكريم المرتضوي أيّده اللّه تعالى بتأييداته ، عند ما حاول تجديد الطبع لكتاب كنز العرفان للفاضل المقداد السيوريّ ، أن أشرح بعض مطالبه ، وانقح بعض مباحثه ، وأبيّن بعض المكنون من نفائس محتوياته ، فأجبته شاكرا إقدامه على طبع الكتب الدينيّة ، ونشره العلوم الإسلاميّة ، راجيا من القارئين الكرام أن يعذروني إن وقفوا على خطاء أو سهو ، ويقيلوني إن وجدوا عثرة أو زلّة ، وأن لا يضنّوا عليّ بملاحظاتهم القيّمة فانّي أتقبّلها مع الشّكر الجزيل ، وأسأل اللّه أن يجعل ذلك ذخرا لي ليوم المعاد.
ص: 3
هو الشّيخ الفاضل الفقيه جمال الدّين وشرف المعتمدين أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه بن محمّد بن الحسين بن محمّد السيوريّ الحلّي الأسديّ الغرويّ المعروف بالفاضل السيوريّ والفاضل المقداد ، عند الفقهاء المتأخّرين ، كان من أجلّاء الأصحاب ، وعظماء مشايخ الرّجال جامعا بين المعقول والمنقول ، عالما فاضلا متكلّما محقّقا مدقّقا من أعاظم الفقهاء قد أثنى عليه كلّ من عنونه بالثناء الجميل ، والذّكر النبيل. أفاض اللّه على تربته سجال لطفه.
لكنّا لم نعثر في كتب الرّجال والتراجم على شرح حاله وكيفيّة حياته إلّا على أنّه سيوريّ ، أسديّ ، غرويّ من أجلّ تلامذة الشّهيد فالرّجل مع نبالته وعظم شأنه عند الأصحاب ، ورواج كتبه المؤلّفة في شتّى المواضيع ، لم يعرف إلّا بأنّه من سيور قرية من قرى حلّة (1) وأنّه كان من بني أسد المتوطّنين بالعراق
ص: 4
وتتلمّذ عند الشّهيد وسمع منه عند ما ارتحل الشّهيد إلى النّجف الغريّ ، وتوفّي رحمه اللّه سنة 826 الهجرية ودفن في مقابر النجف (1).
إلّا أنّه حيّ معروف بحياته العلميّة ، مذكور بكتبه القيّمة ، وقد اعتنى المترجمون بالبحث والتّنقيب عن كتبه ، والتطلّع على ما فيها من التحقيقات والعوائد ، والتدقيقات والفوائد ، يثنون عليه الثّناء الجميل. فليس لنا إلّا أن نعرّفه بحياته العلميّة ، ونسرد إليكم كتبه القيّمة الثمينة.
ص: 5
كان رحمه اللّه من أجلّاء تلامذة الشّهيد ، والرّاوين عنه ، وهو :
تاج الشّريعة ، وفخر الشّيعة ، علّامة المتقدّمين ، شمس الملّة والدّين ، أبو عبد اللّه محمّد بن الشّيخ جمال الدّين مكّيّ بن الشّيخ شمس الدّين محمّد بن حامد بن أحمد النبطيّ العامليّ الجزّينيّ - نسبة إلى جزّين من قرى جبل عامل - وهو المعروف بالشّهيد الأوّل قدّس اللّه سرّه ، ذو الفضل الباهر ، والثّناء العاطر ، أشهر وأعرف وأعظم من أن يعدّ فضائله في هذا المجال.
كان مؤلّفنا - أعلى اللّه مقامه - من مشاهير تلامذته والرّاوين عنه ، له اختصاص وحظوة عند الأستاذ ، وولع بالبحث والتّنقيب عنده ، ومن ذلك عمد إلى كتاب شيخه « القواعد الفقهيّة » فنضده ورتّبه على أحسن ترتيب وسمّاه « نضد القواعد » كما سيجي ء ، كما أنّه ساءله - أو كاتبه - في مسائل عديدة خلافيّة فأجاب عنها ، فسمّيت تلك المسائل مع أجوبتها بكتاب « المسائل المقداديّة » قال صاحب الرّوضات : وهو الّذي ينقل عنه في كتبنا الاستدلاليّة الفتاوي والخلافيّات وكان نسبة تلك المسائل إلى تلميذه الشّيخ مقداد السيوريّ قدس سره النوريّ (1).
وقد نقل رحمه اللّه كيفيّة شهادة أستاذه وشيخه الشهيد ننقله بعين عبارته المنقولة المكتوبة :
قال العلامة المجلسي في بحار الأنوار (2) : وجدت في بعض المواضع ما صورته : قال السيد عزّ الدّين بن حمزة بن محسن الحسينيّ رحمه اللّه : وجدت بخطّ شيخنا المرحوم المغفور له ، العالم العابد ، أبي عبد اللّه المقداد السيوريّ ما هذه صورته :
وقال صاحب اللؤلؤة (3) : ورأيت بخطّ شيخنا العلّامة أبي الحسن الشيخ
ص: 6
سليمان بن عبد اللّه البحرانيّ ما صورته : وجدت في بعض المجموعات بخطّ من أثق به منقولا من خطّ الشيخ العلّامة جعفر بن كمال الدّين البحرانيّ ما هذه صورته :وجدت بخطّ شيخنا المرحوم المبرور ، العالم العامل ، أبي عبد اللّه المقداد السيوريّ ما هذه صورته :
كانت وفاة شيخنا الأعظم ، الشّهيد الأكرم ، أعني شمس الدّين محمّد بن مكّيّ قدّس في حظيرة القدس سرّه ، تاسع عشر جمادى الأولى سنة ستّ وثمانين وسبعمائة قتل بالسيف ، ثمّ صلب ، ثمّ رجم ، ثمّ أحرق ببلدة دمشق ، لعن اللّه الفاعلين لذلك والرّاضين به ، في دولة بيد مرو ، وسلطنة برقوق ، بفتوى المالكيّ ، يسمّى برهان الدّين وعباد بن جماعة الشافعيّ ، وتعصّب عليه في ذلك جماعة كثيرة بعد أن حبس في القلعة الدمشقيّة سنة كاملة.
وكان سبب حبسه أن وشى به تقيّ الدّين الجبليّ - أو الخياميّ - بعد ظهور أمارات الارتداد منه ، وأنّه كان عاملا ثمّ بعد وفاة هذا الواشي [ الفاجر ] ، فأقام على طريقته شخص اسمه يوسف بن يحيى ، وارتدّ عن مذهب الإماميّة ، وكتب محضرا شنّع فيه على الشّيخ شمس الدّين محمّد بن مكّي بأقاويل شنيعة ، ومعتقدات فضيعة وأنّه كان أفتى بها الشّيخ محمّد بن مكّيّ ، وكتب في ذلك المحضر سبعون نفسا من أهل الجبل ، ممّن كان يقول بالإمامة والتشيّع ، وارتدّوا عن ذلك ، وكتبوا خطوطهم تعصّبا مع يوسف بن يحيى في هذا الشّأن ، وكتب في هذا ما يزيد على ألف من أهل السّواحل من المتسنّين ، وأثبتوا ذلك عند قاضي بيروت ، وقيل قاضي صيدا ، وأتوا بالمحضر إلى القاضي عبّاد بن جماعة لعنه اللّه بدمشق ، فنفذه إلى القاضي المالكيّ وقال له : تحكّم فيه بمذهبك وإلّا عزلتك.
فجمع الملك بيد مرو الأمراء والقضاة والشّيوخ ، لعنهم اللّه جميعا ، وأحضروا الشّيخ رحمه اللّه وأحضروا المحضر وقرئ عليه ، فأنكر ذلك وذكر أنّه غير معتقد له - مراعيا للتقيّة الواجبة - فلم يقبل منه وقيل له قد ثبت ذلك شرعا ولا ينتقض حكم القاضي.
ص: 7
فقال الشّيخ للقاضي عبّاد بن جماعة : إنّي شافعيّ المذهب وأنت إمام المذهب وقاضيه ، فاحكم في بمذهبك ، وإنّما قال الشّيخ ذلك لأنّ الشافعيّ يجوّز توبة المرتدّ ، فقال ابن جماعة لعنه اللّه : على مذهبي يجب حبسك سنة كاملة ثمّ استتابتك أمّا الحبس فقد حبست ، ولكن تب إلى اللّه واستغفر حتّى أحكم بإسلامك ، فقال الشّيخ : ما فعلت ما يوجب الاستغفار - خوفا من أن يستغفر فيثبت عليه الذنب - فاستغلظه ابن جماعة وأكّد عليه فأبى عن الاستغفار فسارّه ساعة ثمّ قال : قد استغفرت فثبت عليك الحقّ.
ثمّ قال للمالكيّ : قد استغفر والآن ما عاد الحكم إليّ ، غدرا منه وعنادا لأهل البيت عليهم السلام ، ثمّ قال عبّاد : الحكم عاد إلى المالكيّ فقام المالكيّ وتوضّأ وصلّى ركعتين ثمّ قال : قد حكمت بإهراق دمه ، فألبسوه اللباس ، وفعل به ما قلناه من القتل ، والصّلب ، والرّجم ، والإحراق ، وساعد في إحراقه شخص يقال له محمّد بن الترمذيّ مع أنّه ليس من أهل العلم وإنّما كان تاجرا فاجرا. انتهى
كان - رحمه اللّه - علما من الأعلام ، ووجها من وجوه أصحابنا ، يرود إليه طلّاب العلم ، وروّاد الفضل ، فهو شيخ من المشايخ العظام ، أسطوانة للفقه والكلام قد تخرّج عليه جمع من الفقهاء ، وسمع منه كثير من مشايخ الإجازة :
منهم : شيخ مشايخ الإماميّة في عصره ، أبو الحسن علي بن هلال الجزائري مولدا العراقيّ أصلا ومحتدا ، ففي إجازة المحقّق الكركيّ للقاضي صفيّ الدّين عيسى ، قال بعد ما أثنى على شيخه أبي الحسن عليّ بن هلال الجزائريّ ثناء بالغا :وهذا الشيخ الجليل يروي عن جماعة من الأساطين من أجلّاء تلامذة الشهيد الأوّل وفخر المحقّقين منهم الشّيخ مقداد بن عبد اللّه السيوريّ عن الشهيد (1).
ص: 8
2 - الشّيخ شمس الدّين محمّد بن الشجاع القطّان الأنصاريّ الحلّي العالم الكامل صاحب كتاب معالم الدّين في فقه آل ياسين المعروف بابن القطّان.
3 - رضيّ الدّين عبد الملك بن شمس الدّين إسحاق بن عبد الملك بن محمّد بن محمّد بن فتحان الحافظ القميّ محتدا القاسانيّ مولدا.
4 - الشّيخ الصالح العالم الفاضل زين الدّين عليّ بن الحسن بن علالة وكان من تلامذته أيضا أجازه في ثاني جمادى الآخرة سنة 822 قال صاحب الرّياض : رأيت كتاب الأربعين حديثا للمقداد رحمه اللّه في أردبيل في مجموعة بخطّ تلميذ المصنّف وعليه إجازته له صورتها :
« أنهى قراءة هذه الأحاديث الشّيخ الصالح العالم الفاضل زين الدّين عليّ بن حسن بن علالة وأجزت له روايتها عنّي عن مشايخي قدّس أرواحهم وكتب المقداد ابن عبد اللّه السيوريّ في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة 822 (1).
5 - الفاضل الفقيه والشاعر الأديب الشّيخ حسن بن راشد الحلّيّ ، وكان من تلامذته أيضا ، له ارجوزة في تاريخ الملوك والخلفاء ، وارجوزة في تاريخ القاهرة ، وارجوزة نظم فيها ألفيّة الشّهيد قدس سره المسمّاة « بالجمانة البهيّة في شرح الألفيّة » فرغ من نظمها سنة 825 وعدد الأبيات 653 ، وقد قرّظ منظومته الجمانة هذه شيخه المقداد تقريظا لطيفا ، وهو الّذي أرّخ وفاة شيخه المقداد لسنة 826 ، له أيضا قصائد تعرف بالحلّيّات وغير ذلك (2).
وكان رحمه اللّه معاصرا للشيخ فخر الدّين أحمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المتوّج البحرانيّ صاحب المؤلّفات الكثيرة الّتي منها « النّهاية في تفسير الخمسمائة آية » وهي آيات أحكام القرآن بمقتضى حصر الفقهاء المحقّقين (3). قال في اللؤلؤة عند
ص: 9
ذكره لابن المتوّج : كان معاصرا للشّيخ المقداد صاحب كنز العرفان وهو المعنيّ بقوله قال المعاصر (1)
أقول : قد عبّر المصنّف رحمه اللّه عنه بقوله : قال المعاصر في ص 108 و 143 و 222 و 390 وغير ذلك من طبعتنا هذه وكأنّه ينقل عن كتابه النّهاية في آيات الأحكام وهذا دليل على أنّ كتابه النّهاية كان عند المصنّف رحمه اللّه يطالعه فيبحث عنه ولذلك يقول : قال المعاصر. وأمّا ما ذكره الرّوضات : « والمعني بقوله فيه ( يعنى كتاب النّهاية ) قال المعاصر هو الشّيخ شرف الدّين مقداد بن عبد اللّه السيوريّ في كنز العرفان (2) » فالظاهر أنّه خلط لكلام صاحب اللؤلؤة كما لا يخفى.
وكان للمقداد رحمه اللّه ولد يسمّى عبد اللّه ولأجل ذلك كنّوه بأبي عبد اللّه وهو الّذي ألّف له المقداد كتاب الأربعين حديثا ، على ما صرّح به في رياض العلماء (3).
كان - رحمه اللّه - فاضلا محقّقا مدقّقا أديبا ، ذا رأى بديع ، وذوق لطيف فأتقن تآليفه وكتبه أحسن إتقان ، ورتّبها على أجمل ترتيب وأقوم برهان ، أودع فيها من لطائف التّحقيقات ، وبدائع الفوائد ، ما يروق النّاظر ، ويفيد الطّالب ، ويهديه إلى بغيته المطلوبة.
فمنها رسالة آداب الحجّ. قال في الرّياض : رأيته في مجموعة بخطّ تلميذ المصنّف رحمه اللّه الشيخ زين الدّين عليّ بن الحسن بن علالة ، وعلى ظهره إجازة المصنّف لتلميذه الكاتب المذكور ، وتاريخ الإجازة الخامس والعشرون من جمادى الآخرة سنة 822 (4).
ص: 10
ومنها الأدعية الثّلاثون. يحوي ثلاثين دعاء من أدعية النّبيّ والأئمّة المعصومين عليهم السلام ، قال في الذّريعة (1) : رأيت نسخة منه بخطّ جعفر بن محمّد بن بكّة الحسينيّ سنة 940 في كتب السّيد محمّد علي السّبزواري بالكاظميّة.
ومنها الأربعون حديثا. قال صاحب الرّياض : رأيته في أردبيل في مجموعة بخطّ تلميذ المصنّف - ره - وعليه إجازته له وقد ألّفه لولده الشّيخ عبد اللّه كما مرّ الإشارة إليه.
ومنها إرشاد الطّالبين : إلى نهج المسترشدين. هو شرح نهج المسترشدين في أصول الدّين تأليف العلامة الحلّي. شرحه المترجم له رحمه اللّه بعنوان « قال :أقول : » فرغ منه آخر نهار الخميس الحادي والعشرين من شعبان سنة 792 ، وطبع ببمبئى سنة 1303 (2).
ومنها شرح ألفيّة الشّهيد قدس سره (3) قال في اللؤلؤة نسبه إليه بعض مشايخنا المعاصرين نوّر اللّه مراقدهم (4).
ومنها الأنوار الجلاليّة : في شرح الفصول النصيريّة لخواجه نصير الدّين الطوسيّ. والفصول أصله فارسيّ قد ترجمه إلى العربيّة ركن الدّين محمّد بن عليّ الجرجانيّ تلميذ العلّامة الحلّي والمؤلّف رحمه اللّه قد شرح تلك النسخة المعرّبة بعنوان « قال أقول » وصدّره باسم الملك جلال الدّين عليّ بن شرف الدّين المرتضى العلويّ الحسيني الآوي ، وسمّاه باسمه. قال في الذّريعة : رأيت منه نسخا منها نسخة بخطّ عليّ بن هلال والظّاهر أنّه الكركيّ (5) المجاز من المحقّق الكركيّ
ص: 11
تاريخ كتابتها سنة 980 ، وقال في الرّوضات : وإنّما نقله إلى العربيّة ( يعني الفصول النصيريّة ) قريبا من عصر المصنّف شيخنا المحقّق ، المتقن المنصف ، ركن الملّة والدّين ، محمّد بن عليّ الفارسيّ الجرجانيّ الأصل والمحتد ، والأستراباديّ المنشأ والمولد ، كما استفيد لنا من شرحه الرّشيق الّذي كتبه على سبيل التّحرير والتّحقيق الشّيخ مقداد بن عبد اللّه السيوريّ الحلّيّ فيما وجدنا النسبة إليه - رحمه اللّه - على ظهر بعض نسخه الّذي شاهدناه ، وفيه أيضا أنّ قلم هذا الشّارح المؤيّد المسدّد ، خدم بشرحه ذلك جناب صاحب البلد ، والملك الأوحد الأمجد ، والرئيس الأجلّ الأنجب الأرشد الأسعد ، الأمير جلال الدّين أبي المعالي عليّ بن شرف الدّين المرتضى العلويّ الحسينيّ الآويّ ، وسمّاه من هذه الجهة ، والعلّة الغائيّة ، بالأنوار الجلاليّة للفصول النصيرية (1).
ومنها تجويد البراعة : في شرح تجريد البلاغة. في علمي المعاني والبيان المتن تأليف الشّيخ كمال الدّين ميثم بن عليّ بن ميثم البحرانيّ المتوفّى 679 ويقال له أصول البلاغة. وبلحاظ الجناس سمّى الفاضل المقداد شرحه له بتجويد البراعة في شرح تجريد البلاغة (2).
ومنها التنقيح الرائع : في شرح مختصر الشرائع. قال صاحب الرّوضات :وأمّا كتابه التنقيح ، الّذي هو في الحقيقة معلمه الوضيع ، فهو أمتن كتاب في الفقه الاستدلاليّ ، وأرزن خطاب ينتفع به الدّاني والعالي ، وفيه من الفوائد الخارجة شي ء كثيرا ومن الزوائد النافجة نبذ غفير ، منها ما نقل فيه عن ابن الجوزيّ أنّه قال في وجه تسمية أيّام البيض من أقسام الآونة في الشّهور : سمّيت بذلك لبياض لياليها والعامّة تقول : الأيّام البيض. حتّى أنّ بعض الفقهاء جرى في كتبه على طريق العامّة في ذلك وهو خطأ فإنّ الأيّام كلّها بيض لكنّ العرب يسمّي كلّ ثلاث ليال من الشّهر باسم وسيأتي تفصيلها في النكاح.
ص: 12
ثمّ ذكر في كتاب النّكاح أنّ العرب تسمّي كلّ ثلاث ليال من الشّهر باسم فلها حينئذ عشرة أسماء : غرر ، ثمّ نفل ، ثمّ تسع ، ثمّ عشر ، ثمّ بيض ، ثمّ درع ثمّ ظلم ، ثمّ حنادس ، ثمّ الدادي ، ثمّ محاق. » فذكر وجه تسمية الأيّام بتلك الأسماء فراجع (1)
وقال في الذريعة : التّنقيح الرائع من المختصر النافع الّذي هو اختصار الشّرائع. والتّنقيح شرح وبيان لوجه تردّداته في المختصر الّذي هو كأصله للمحقّق الحلّيّ المتوفّى 676 والشّرح للفاضل المقداد وهو شرح تامّ من الطهارة إلى الدّيات في مجلّدين بعنوان « قوله : قوله : » فرغ منه في تاسع ربيع الأوّل سنة 818 ونسخة عصر المؤلّف توجد في الخزانة الرضويّة كما في فهرسها كتبت في 821 (2)
ومنها الجامع الفوائد : في تلخيص القواعد. كما نسب إليه قدس سره (3) وكأنّه بعد ما نضّد كتاب شيخه الشهيد القواعد الفقهيّة وسماه نضد القواعد على ما يأتي ، لخّصه ثانيا وسمّاه الجامع الفوائد في تلخيص القواعد
ومنها شرح سى فصل : لخواجه نصير الدّين الطوسيّ في النجوم والتّقويم الرقميّ (4)
ومنها كنز العرفان : في فقه القرآن وسيأتي تمام البحث فيه.
ومنها اللّوامع الإلهيّة : في المباحث الكلاميّة قال في الرّوضات : من أحسن ما كتب في فنّ الكلام ، على أجمل الوضع وأسدّ النظام ، وهو في نحو من أربعة آلاف بيت ، ليس فيه موضع ليت كان كذا وليت (5).
ومنها النّافع يوم الحشر : في شرح الباب الحادي عشر ، للعلامة. وهو المتداول عند الطلاب المطبوع مرارا من بين الشّروح ، وقد كتبت عليه حواشي وتعليقات (6).
ص: 13
ومنها نضد القواعد الفقهيّة : على مذهب الإماميّة. قال في الرّوضات :
وهو كتاب بديع رتّب فيه قواعد شيخه الشّهيد على ترتيب أبواب الفقه والأصول من غير زيادة شي ء على أصل ذلك الكتاب ، غير ما رسّمه في مسألة القسمة منه.
قال قدس سره في ديباجة كتابه ذلك : أمّا بعد فإنّ اتباع الحسنة بالحسنة في العمر الّذي سنه منه سنة ، من أعظم الرغائب ، وأسنى المواهب ، ولمّا وفّق اللّه لزبر كتاب اللّوامع الإلهيّة ، في المباحث الكلاميّة ، رأيت اتباعه بكتاب في المسائل الفقهيّة ، والمباحث الفروعيّة ، إحدى الحسنيين ، وأجدى الموهبتين ، وكان شيخنا الشّهيد قدس سره قد جمع كتابا مشتملا على قواعد وفوائد في الفقه تأنيسا للطلبة بكيفيّة استخراج المنقول من المعقول ، وتدريبا لهم في اقتناص الفروع من الأصول لكنّه غير مرتّب ترتيبا يحصّله كلّ طالب ، وينتهز فرصة كلّ راغب ، فصرفت عنان العزم إلى ترتيبه وتهذيبه ، وتقرير ما اشتمل عليه وتقريبه ، وسمّيته نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الإماميّة إلخ (1)
وقد رتّبه على مقدّمة في تعريف الفقه وما يتعلّق بذلك ، وقطبين : الأوّل منهما في العبادات والثّاني في المعاملات وفيه أحكام العقود والإيقاعات.
وقد كان عندنا نسخة منه تفضّل بها الفاضل المحترم الأستاذ المكرّم مرتضى المدرّسيّ الچاردهيّ ، فنقلنا قاعدتين منه الاولى في ص 135 والثانية في ص 198 حيث أحال المصنّف رحمه اللّه توضيح المرام إلى كتابه النضد. فراجع.
ومنها نهج السّداد : في شرح واجب الاعتقاد ، للعلامة (2).
ومنها شرح مبادئ الأصول : للعلامة (3).
ومنها تفسير مغمضات القرآن (4).
ص: 14
قد ألّف الباحثون المدقّقون من أصحابنا رضوان اللّه عليهم مؤلّفات كثيرة في آيات الأحكام قديما وحديثا لكنّه لم يرزق واحد منها من الشّهرة والرّغبة والتّنافس في أخذه ونسخه وبحثه والتطلع عليه مثل ما رزق هذا السفر القيّم الّذي ألّفه الفاضل الفقيه ، والمحقّق النبيه ، الشيخ جمال الدّين ، وشرف المعتمدين ، أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه السيوريّ المعروف بالفاضل السيوريّ والفاضل المقداد ، وليس ذلك إلّا لفضله الباهر ، وبيانه القاهر ، وتحقيقاته العميقة ، وفوائده العامّة الأنيقة.
فطار صيت هذا المؤلّف كفضل مؤلّفه بين العامّ والخاصّ وتعاطي نسخه وكتابته الفضلاء والعلماء ، ورغب فيه كلّ باحث وطالب ، فترى نسخه الخطيّة وافرا موجودا في كلّ مكتبة ، وعندنا منه ثلاث نسخ خطيّة قابلنا عليها نسختنا المطبوعة هذه وسنعرّفها بعيد هذا.
وهذا السفر القيّم كنز العرفان في فقه القرآن في فضله واشتهار صيته يشبه مجمع البيان في تفسير القرآن لأمين الدّين الفضل بن الحسن الطبرسيّ. كما أنّه يشبهه في نسقه وترتيبه ، ونقل الأقوال ، وحسن الانسجام ، وبديع الجمال.
وقد اعتمد عليه مؤلّفنا أعلى اللّه مقامه فأكثر النقل منه عند بيان الأقوال ، ونقل الأحاديث والرّوايات (1) وشأن نزول الآيات ، كما ستعرف ذلك عند سبر
ص: 15
أوراق الكتاب مع ما أشرنا إليه في ذيلها من المصادر والمآخذ.
وكما اشتهر عند العامّة تفسير مجمع البيان للطبرسيّ اشتهر عندهم كنز العرفان للفاضل السيوريّ ، وقد عنونه بعض المتأخّرين من المعاصرين في كتابه « التّفسير والمفسّرون (1) ».
فجعل كتابه رابع أربعة بعد كتاب أحكام القرآن للجصّاص وابن العربيّ وقال : مؤلّف هذا التفسير هو مقداد بن عبد اللّه بن محمّد بن الحسين بن محمّد السيوريّ أحد علماء الإماميّة الاثنى عشريّة ، والمعروف بينهم بالعلم والفضل ، والتّحقيق والتّدقيق ، وله مؤلّفات كثيرة.
ثمّ قال : تحت عنوان « التّعريف بهذا التّفسير وطريقة مؤلّفة فيه » :
يتعرّض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط ، وهو لا يتمشّى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ، ذاكرا ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصّاص وابن العربيّ مثلا ، بل طريقته في تفسيره : أنّه يعقد أبوابا كأبواب
ص: 16
الفقه ، ويدرج في كلّ باب منها الآيات الّتي تدخل تحت موضوع واحد ، فمثلا يقول : باب الطّهارة ثمّ يذكر ما ورد في الطّهارة من الآيات القرآنيّة ، شارحا كلّ آية منها على حدة ، مبيّنا ما فيها من الأحكام ، على حسب ما يذهب إليه الإماميّة الاثنا عشريّة في فروعهم ، مع تعرّضه للمذاهب الأخرى وردّه على من يخالف ما يذهب إليه الإماميّة الاثنا عشريّة ، إلى آخر ما قال.
وقد اعتمدنا في تصحيح الكتاب ومقابلته على النسختين المطبوعتين من قبل إحداهما المستقلّة المطبوعة بالقطع الوزيري ، وثانيهما المطبوعة في هامش تفسير محمّد ابن القاسم الأستراباديّ المنسوب إلى الامام العسكري عليه السلام بالقطع الكبير.
وعلى نسخ خطّيّة نذكر منها ثلاث نسخ مصحّحة مع صورتها الفتوغرافيّة :
1 - نسخة عتيقة مصحّحة وعليها حواشي كثيرة غير أنّها ناقصة من ورق 125 إلى ورق 133 ومن ورق 267 إلى ورق 283 وهو آخر الكتاب وهكذا قد ضاع قدر سطر أو سطرين من ورق 184 إلى ورق 267 آخر النسخة العتيقة فرقّعها الوصّال وكتب عليها بخطّ آخر.
وقد كتب على ظهر النسخة محمّد الموسويّ الجزائريّ في 11 شعبان 1383 ما هذا لفظه :
هذا كتاب كنز العرفان في شرح آيات الأحكام للفاضل المقداد قدس سره وهو مطبوع ، والنسخة تمتاز بالتعليقات الّتي عليها للعلامة الشيخ يعقوب بن إبراهيم البختياري الحويزيّ المتوفّى حدود سنة 1150 المترجم في الإجازة الكبيرة لمعاصره العلّامة النابغة السيد عبد اللّه الجزائريّ المتوفى 1173 وقد كانت ناقصة فكمّلها الفاضل الشيخ حسين بن الحسن بن عليّ بن عليّ النجّار التستريّ ، والد العلّامة المجتهد الواعظ الشيخ جعفر الشهير وكانت لي فوهبتها لشيخنا العلّامة التقيّ ، الحاجّ الشيخ محمّد تقيّ حفيد الشّيخ المزبور وأرجو منه القبول ، وألتمس منه الدعاء. انتهى
ص: 17
2 - نسخة مصحّحة مخطوطة بخطّ جيّد كتبه مسعود بن حيدر الحسنيّ الزواري فرغ منها ليلة الأربعاء الرابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة تسع وتسعين وتسعمائة. (979). وعليها حواشي متفرّقة وفي أوّلها لوحة مذهّبة.
3 - نسخة مصحّحة مخطوطة بخطّ علي أكبر بن عين اللّه الويسي فرغ منها في شهر جمادى الآخرة من سنة 1041 وعليها أيضا حواشي متفرّقة.
وهاتان النسختان لمكتبة آية اللّه العلّامة الأستاذ أبي المعالي السيّد شهاب الدّين الحسينيّ المرعشيّ النجفيّ دامت بركاته.
والحمد لله أوّلا وآخرا
ربيع الثّاني 1384
محمد الباقر البهبودى
ص: 18
ص: 19
ص: 20
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الّذي أنزل (1) على عبده الكتاب لكلّ شي ء تبيانا ، وجعله لتصديق نبوّته وتأييد رسالته معجزا وبرهانا ، فنزّله نورا وهدى وعبرة للعالمين ، وضمنه جوامع الكلم فكان تبصرة وذكري للعالمين ، وأخرس بفصاحته ألسنة العرب العرباء (2) وأبكم ببلاغته مصاقع (3) البلغاء والخطباء ، وأتقن تهذيبه وأحكم ترتيبه غاية الإحكام ، وصيّره دليلا وحجّة للحكّام في اقتناص (4) الأحكام ، وعصم من تمسّك به
ص: 1
وبالعترة من الزّيغ والطّغيان ، ووعد على التمسّك بهما الفوز برضاه والخلود في الجنان.
والصّلوة على المكنّي عنه بالعبوديّة والنبوّة والإرسال ، المنعوت بالرّأفة الموصوف بالرّحمة المؤيّد بالعصمة في الأقوال والأفعال ، محمّد البشير النّذير ، والدّاعي إلى الحقّ والسّراج المنير ، وعلى آله المعصومين وعترته الأطهرين ، كنوز العلم ورعاته ودعاة الحقّ وولاته ما استدارت الخضراء على الغبراء ، واستنارت الغبراء من الخضراء.
أمّا بعد : فانّ القرآن بحر لا يفنى عجائبه ، ولجّ لا ينقضي غرائبه ، من طلب الهدى وجده في ظواهره وخوافيه ، ومن رام العصمة من العمى وجدها في منشورة ومطاويه ، علومه لا تعدّ ولا تحصى ، وفنونه لا تحصر ولا تستقصى ، وكان علم الأحكام الشرعيّة والمسائل الفقهيّة الّذي هو فنّ من فنونه وقطف (1) من غصونه أعمّ نفعا للعوامّ والخواصّ ، وأجدى عائدة وأولى بالاختصاص ، إذ به ينتظم قواعد المعاش في العاجلة ، ويتمّ سعادة المعاد في الآجلة ، وكانت الآيات الكريمة الّتي هي مرجع جملة من مسائله أجلّ حجج فتواه وأكبر دلائله ، قد اعتنى العلماء بالبحث عنها واستخراج السرّ الدّفين منها ، لكني لم أظفر بكتاب في تنقيح تلك الآيات بما يبرد الغليل ويشفي العليل ، ويحتوي على جملة ما يبغيه الراغب ، ويستطرفه الطّالب بل إمّا مسهب (2) بذكر الأقاويل والأخبار ، أو مقصّر قد ملّل بالايجاز والاختصار فحداني ذلك على وضع كتاب يشتمل على فوائد قد خلا عنها أكثر التّفاسير وفرائد لم يعثر عليها إلّا كلّ نحرير ، وضممت إلى ذلك فروعا فقهيّة تقتضيها نصوص تلك الآيات أو ظواهرها ، ونكات معان وعجيب غرائب يلمع لدى الفضلاء زواهرها ، يظهر بذلك من الآيات سرّها المكنون وجوهرها الثمين المصون بحيث يعجب بذلك النّاظرون وما يعقلها إلّا العالمون. وسمّيته : كنز العرفان في فقه القرآن والمسؤول
ص: 2
من ذي الجود والإفضال ، أن يجعله نورا في صحائف الأعمال ، أنّه بطوله وكرمه يسمع ويجيب ، وما توفيقي إلّا باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب.
وهو مرتّب على مقدّمة وكتب ، أما المقدّمة فيشتمل على فوائد (1).
الأولى : اللّفظ المفيد وضعا إن لم يحتمل غير ما فهم منه بالنّظر إليه فهو النصّ وإن احتمل فان ترجّح أحد الاحتمالين بالنّظر إليه أيضا فهو الظّاهر والمرجوح المؤوّل ، وإن تساوى الاحتمالان فهو المجمل ، والقدر المشترك بين النصّ والظّاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه. وقد يتركّب بعض هذه مع
ص: 3
بعض ، مثال النصّ : قوله تعالى ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) (1) إذ لا يحتمل غير الوحدانيّة مثال الظّاهر : قوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (2) مثال المؤوّل ( يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (3) في إرادة القدرة ، مثال المجمل ( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ) (4) في احتمال أقبل وأدبر.
الثّانية : اللّفظ الدّالّ على الماهيّة إمّا أن يدلّ عليها من حيث هي هي لا بقيد وحدة أو كثرة أولا ، والأوّل المطلق والثّاني إن دلّ بقيد وحدة فإمّا معيّنة فهو العلم كزيد والمضمر ، أو غير معيّنة وهو النكرة ويقال له أيضا الشّخص المنتشر ، وإن دلّ بقيد كثرة فامّا محصورة بالنّظر إليه وهو اسم العدد ، أو غير محصورة فامّا أن يكون شاملة لكلّ الأفراد فهو العامّ أو غير شاملة وهو الجمع المنكّر ، فالفرق حينئذ بين العامّ
ص: 4
والمطلق أنّ المطلق يدلّ على الماهيّة من حيث هي هي لا بقيد وحدة أو كثرة والعامّ يدلّ عليها مع قيد الكثرة الشاملة ، وألفاظ العموم : كلّ وجميع ومتى ومن وما وحيثما وأنّى والجمع المعرّف باللّام والجمع المضاف والحق غيرها وتحقيقه في الأصول.
ثمّ العام إن ورد [ عليه ] ما يدلّ على إخراج بعض ما يصحّ أن يتناوله اللّفظ سمّي ذلك المخرج مخصّصا والعام مخصوصا ، وكذا المطلق إن ورد ما يدلّ على الماهيّة بصفة زائدة سمّي ذلك مقيّدا والمطلق مقيّدا ، وكذلك المجمل إن ورد لفظ أو فعل مبيّن لأحد محتملاته سمّي ذلك مبيّنا والمجمل مبيّنا وتحقيق ذلك كلّه في أصول الفقه.
الثالثة : اشتهر بين القوم أنّ الآيات المبحوث عنها نحو من خمسمائة آية وذلك إنّما هو بالمتكرّر والمتداخل وإلّا فهي لا تبلغ ذلك ، فلا يظنّ من يقف على كتابنا هذا ويضبط عدد ما فيه : أنّا تركنا شيئا من الآيات فيسيئ الظنّ به ولم يعلم أنّ المعيار عند ذوي البصائر والأبصار ، إنّما هو التّحقيق والاعتبار ، لا الكثرة والاشتهار.
وعلى التقديرين يرد هنا سؤال تقريره أنّه ورد في الحديث عنهم عليهم السلام :القرآن أربعة أرباع ربع فينا وربع في عدوّنا وربع [ في ] فرائض وأحكام وربع في قصص وأمثال (1) والقرآن ستّة آلاف آية وستّمائة وستّة وستّون آية فكيف يكون خمسمائة وأقلّ ربعه؟ والجواب من وجهين :
الأوّل : ليس المراد الرّبع حقيقة وهو جزء من أربعة أجزاء متساوية في المقدار ، بل الرّبع باعتبار المعنى فلا يلزم أن يكون الأرباع متساوية من حيث المقدار.
الثّاني : أنّ الفرائض والأحكام قد تكون فقهيّة وقد تكون أصوليّة والآيات المذكورة فقهيّة لا غير فجاز كون تمام الرّبع في فرائض وأحكام غير فقهيّة إذا تقرّر هذا فلنشرع في الكتب.
ص: 5
وفيه مقدّمة وآيات.
أمّا المقدّمة :فالطّهارة لغة النّزاهة قال اللّه تعالى ( يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ ) (1) أي نزّهك وشرعا تطلق حقيقة عند بعضهم على رافع الحدث أو المبيح للصّلوة فتعريفها حينئذ هو ما يبيح الدّخول في الصّلوة وإن أطلقت على غير المبيح فمجاز كغسل الجمعة والوضوء المجدّد وعند الأكثر تطلق عليهما حقيقة فأجود تعريفاتها حينئذ استعمال طهور مشروط بالنيّة ، وقد تطلق مجازا بالاتّفاق على إزالة الخبث إمّا عن الثّوب أو عن البدن لأنّ إزالة الخبث في التّحقيق أمر عدميّ فلا حظّ له في المعاني الوجوديّة حقيقة ، وهل إطلاقها في المعنى الحقيقيّ متواط أو مشكّك؟ فيه خلاف ، ومقصود الكتاب هنا ذكر الطّهارة بسائر اعتباراتها المذكورة حقيقة ومجازا.
وأمّا الآيات ، فالأولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (2).
هنا مسائل :
1 - : قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) مورد سؤال تقريره أنّه يلزم اختصاص الوجوب بالمؤمنين مع أنّ عندكم الكافر مكلّف بالفروع؟. (3) جوابه :
ص: 6
اللّزوم من حيث مفهوم المخالفة وليس بحجّة عندنا ، ووجه التخصيص بالذين آمنوا أنّهم المتهيّئون للامتثال ، المنتفعون بالأعمال.
2 - : قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ ) ، قيام الصّلاة قسمان قيام للدّخول فيها وقيام للتهيّؤ لها ، والمراد هنا الثّاني وإلّا لزم تأخّر الوضوء عن الصّلوة وهو باطل إجماعا ، فلذلك قيل : المراد على الأوّل : إذا أردتم القيام كقوله تعالى ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ) (1) عبّر عن إرادة الفعل بالفعل المسبّب عنها فهو من إطلاق المسبّب على السّبب [ له ] كقولهم « كما تدين تدان » وفيه نظر لأنّ معنى الإرادة مفهوم من العقل لا من اللّغة بل ما من فعل إلّا وهو مسبّب عن الإرادة فتخصيص القيام يفتقر
ص: 7
إلى مخصّص وليس ، وقيل : المراد إذا قصدتم الصّلوة ، لأنّ القيام إلى الشي ء والتوجّه إليه يستلزم القصد إليه فيكون من إطلاق الملزوم وإرادة (1) اللّازم والأولى أنّ ذلك كلّه يخرج « إلى » عن موضوعها الحقيقي وهو كونها للغاية الزمانيّة أو المكانيّة والحقيقيّ (2) أولى ، وذلك مستلزم لتقدير زمان هي موضوعة لغايته فيكون التّقدير : إذا قمتم زمانا ينتهي إلى الصّلوة ، فيكون القيام على حقيقته ، فالمقدّر هو الزّمان الّذي يقتضيه لفظة إلى والفعل معا.
ثمّ اعلم أنّ ظاهر الخطاب يعمّ كلّ قائم محدثا كان أو غيره وهو باطل لأنّه خلاف الإجماع ، ولأنّه صلى اللّه عليه وآله صلّى الخمس في يوم فتح مكّة بوضوء واحد فقال عمر : صنعت ما لم تصنعه؟ فقال صلى اللّه عليه وآله : عمدا فعلته (3) وقيل : كان كذلك و [ قد ] نسخ ، وهو ضعيف أيضا لقوله عليه السلام : « المائدة آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها » (4).
والحقّ أنّ المراد : إذا قمتم إلى الصّلوة محدثين ، فهو مطلق أريد به التّقييد (5).
3 - ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) : الأمر حقيقة في الوجوب على قول الأكثر وتحقيقه في الأصول أي أمرّوا الماء على وجوهكم ، وفيه دلالة على عدم جواز التولية
ص: 8
بل المباشرة. ولا حاجة إلى الدلك خلافا لمالك والوجه (1) اسم لما يقع به المواجهة فلا يجب تخليل الشّعور الكثيفة عليه بخلاف الخفيفة فإنّ المواجهة تقع بما تحتها.
4 - ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) قيل : إلى بمعنى مع كما في « مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ » (2) فيدخل المرفق ضرورة وقيل : إلى على حقيقتها وهو انتهاء الغاية ، فقيل بدخول المرفق أيضا لأنّه لمّا لم يتميّز الغاية عن ذي الغاية بمحسوس وجب دخولها والحقّ أنّها للغاية ولا يقتضي دخول ما بعدها فيما قبلها ولا خروجه لوروده معهما أمّا الدّخول فكقولك : حفظت القرآن من أوّله إلى آخره ومنه ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) (3) وأمّا الخروج : فك ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (4) و ( فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (5). وحينئذ لا دلالة له على دخول المرفق ولذلك حكم داود الأصبهانيّ الظّاهريّ (6) وزفر (7) بعدم وجوب غسلهما وكذا
ص: 9
لا دلالة على الابتداء بالمرفق ولا بالأصابع ، لأنّ الغاية قد تكون للغسل وقد تكون للمغسول وهو المراد هنا ، بل كلّ من الابتداء والدّخول مستفاد من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه توضّأ وابتدأ بأعلى الوجه وبالمرفقين وأدخلهما ، وإلّا لكان خلاف ذلك هو المتعيّن لأنّه قال صلى اللّه عليه وآله : هذا وضوء لا يقبل اللّه الصّلوة إلّا به (1). أي بمثله فلا يكون الابتداء بالأعلى (2) وبالمرفقين وعدم دخولهما مجزيا بل يكون بدعه ، لكنّ الإجماع على خلافه.
5 - ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) . قيل : الباء للتّبعيض (3) لأنّه الفارق بين مسحت بالمنديل ومسحت المنديل وقيل : زائدة لأنّ المسح متعدّ بنفسه ولذلك أنكر أهل العربيّة إفادة التّبعيض. والتّحقيق أنّها تدلّ على تضمين الفعل معنى الإلصاق ، فكأنّه قال : الصقوا المسح برؤسكم وذلك لا يقتضي الاستيعاب ولا عدمه ، بخلاف :امسحوا رؤوسكم ، فإنّه كقوله ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) .
ثمّ اختلف في القدر الواجب مسحه فقال أصحابنا : أقلّ ما يقع عليه اسم المسح أخذا بالمتيقّن ، ولنصّ أئمّتهم عليهم السلام ، وبه قال الشّافعي. وقال أبو حنيفة : ربع
ص: 10
الرّأس لأنّه عليه السلام مسح على ناصيته وهو قريب من الرّبع وهو غلط. ومالك يمسح الجميع (1).
ص: 11
1 - : المسح عندنا مختصّ بالمقدّم لوقوع ذلك في البيان فيكون متعيّنا ، ولأنّه مجزئ بالإجماع لأنّ جميع الفقهاء قالوا بالتخيير أيّ موضع شاء.
2 - : الحقّ أنّه لا يجب الابتداء بالأعلى لإطلاق المسح ، ولقول أحدهما عليهما السلام : « لا بأس بالمسح مقبلا ولا مدبرا » (1).
3 - : أنّه لا يتقدّر بثلاثة أصابع لما بيّنّاه من الإطلاق ، ولقول الباقر عليه السلام :« إذا مسحت بشي ء من رأسك أو بشي ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك (2) ، نعم بثلاث أصابع أفضل ».
4 – ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص بالنّصب عطفا على محلّ برؤوسكم ، إذ الجارّ والمجرور محلّه النّصب على المفعوليّة كقولهم :مررت بزيد وعمروا. وقرئ : « تنبت بالدّهن وصبغا للآكلين » (3). وكقول الشاعر :
معاوي إنّنا بشر فأسجح *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا (4)
ص: 12
وقرأ الباقون بالجرّ عطفا على رؤسكم وهو ظاهر. فإذا القرائتان دالّتان على معنى واحد وهو وجوب المسح كما هو مذهب أصحابنا الإماميّة ويؤيّده ما رووه عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنّه توضّأ ومسح قدميه ونعليه (1) :
ومثله عن عليّ عليه السلام وابن عبّاس وأيضا عن ابن عبّاس : أنّه وصف وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فمسح رجليه (2) وإجماع أئمّة أهل البيت عليهم السلام على ذلك ، قال
ص: 13
الصّادق عليه السلام : يأتي على الرّجل الستّون أو السّبعون ما قبل اللّه منه صلاة ، قيل له : وكيف ذلك؟ قال : لأنّه يغسل ما أمر اللّه بمسحه (1). وغير ذلك من الرّوايات وقال ابن عبّاس وقد سئل عن الوضوء : غسلتان ومسحتان (2) وقال الفقهاء الأربعة بوجوب الغسل ، محتجّين بقراءة النصب عطفا على وجوهكم ، أو أنّه منصوب بفعل مقدّر - أي : « فاغسلوا أرجلكم » كقولهم : علّفتها تبنا وماء باردا (3). أراد وسقيتها - وقوله : متقلّدا سيفا ورمحا (4) أي و
ص: 14
معتقلا رمحا - (1) ويؤيّده قراءة وأرجلكم بالرّفع - أي وأرجلكم مغسولة - وأمّا قراءة الجرّ فيه فبالمجاورة كقوله تعالى ( عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) (2). بجرّ أليم وقراءة حمزة ( وَحُورٌ عِينٌ ) (3) فإنّه ليس معطوفا على قوله ( وَلَحْمِ طَيْرٍ ) (4) وما قبله وإلّا لكان تقديره يطوف عليهم ولدان مخلّدون بحور عين لكنّه غير مراد ، بل هم الطّائفون
ص: 15
لا المطوف بهم (1) فيكون جرّه على مجاورة لحم طير ، ولأنّ القول بالغسل قول أكثر الأمّة.
والجواب عن الأوّل : بأنّ العطف على وجوهكم حينئذ مستهجن إذ لا يقال : ضربت زيدا وعمروا وأكرمت خالدا وبكرا ويجعل بكرا عطفا على زيدا وعمرا المضروبين هذا ، مع أنّ الكلام إذا وجد فيه عاملان عطف على الأقرب منهما كما هو مذهب البصريّين ، وشواهده مشهورة خصوصا مع عدم المانع كما في المسئلة ، فانّ العطف على الرّؤس لا مانع منه لغة ولا شرعا. وأمّا النّصب بفعل مقدّر فإنّه إنّما يجوز ويضطرّ إلى التّقدير إذا لم يمكن حمله على اللّفظ المذكور كما مثّلتم. وأمّا هيهنا فلا ، لما قلنا من العطف على المحلّ. وأمّا قراءة الرفع فيحتمل أيضا مذهبنا : أي وأرجلكم ممسوحة ، بل هو أولى لقرب القرينة. وعن الثّاني : بأنّ إعراب المجاورة ضعيف جدّا لا يليق بكتاب اللّه خصوصا وقد أنكره أكثر أهل العربيّة هذا ، مع أنّه إنّما يجوّز بشرطين (2) :
ص: 16
الأوّل : عدم الالتباس كقولهم : جحر ضبّ خرب ، فإنّه لا التباس في أنّ الخرب صفة للجحر ، بخلافه هنا ، فإنّ الأرجل يمكن أن يكون ممسوحة ومغسولة.
إن قلت الالتباس زائل بالتحديد بالغاية ، فإنّ التحديد إنّما هو للمغسول كالأيدي إلى المرافق. قلت : جاز في شرعنا اختلاف المتّفقات في الحكم وبالعكس فلا يزول الالتباس (1).
الثّاني : أن لا يكون معه حرف عطف كالمثال وهنا حرف عطف.
إن قلت : قد جاء مع العطف كقوله :
فهل أنت إن ماتت أتانك راحل *** إلى آل بسطام بن قيس فخاطب (2)
جرّ خاطبا مع حرف العطف وهو الفاء قلت : إنّ المراد رفع خاطب عطفا على راحل ، وإنّما جرّه وهما أو إقواء (3) ، أو أنّ المراد فخاطب فعل أمر لا أنّه اسم فاعل وكسره للقافية. وأمّا قراءة أليم ، فلعدم الالتباس بيوم. وحور عين مجرور عطفا على جنّات أي المقرّبون في جنات ومصاحبة حور عين ، وذلك لأنّ الجرّ بالجوار مع الواو ممنوع.
وعن الثالث : بالمنع من كونه حجّة مع مخالفة علماء أهل البيت ، خصوصا وقد بيّنّا وروده من طرقكم ، ولهذا كان الجبائيّ يغسل ويمسح ويفتي بالجمع بينهما ثمّ الكلام في إلى كالّذي تقدّم في احتمال المعيّة والغاية والأقوى عندي الثّاني ، والغاية للممسوح فلا دلالة على الابتداء ، وفروع المسح المتقدّمة آتية هنا فيجوز
ص: 17
ولو بإصبع ومنكوسا وغير مستقيم ، نعم محلّه ظاهر القدم للبيان. وأمّا الكعبان : فملتقى الساق والقدم (1) والناتيان لا شاهد لهما لغة ولا عرفا ولا شرعا وقيل : لو أريد ملتقى الساق والقدم لقال : إلى الكعاب إذ كلّ رجل لها كعبان. أجيب بأنّ المراد الكعبان من كلّ رجل. وبأنّ أبا عبيدة قال : الكعب هو الّذي في أصل القدم ينتهي إليه الساق بمنزلة كعاب القنا (2).
ص: 18
فائدة : إن قلنا : أنّ واو العطف يفيد الترتيب كما هو رأي الفرّاء وبعض النّحاة والفقهاء فدلالة الآية على التّرتيب ظاهر ، وإن قلنا بعدمه كما هو المشهور
ص: 19
وهو الحقّ فنقول : يجب الابتداء بغسل الوجه لإتيانه بفاء التعقيب وكلّ من قال بذلك قال بوجوب التّرتيب ، ولأنّه محتمل للوجهين ، والوضوء البيانيّ وقع فيه
ص: 20
الترتيب وإلّا لكان خلافه متعيّنا وهو باطل (1).
أخرى : إن كان الأمر للفور فالموالاة واجبة قطعا ، وإلّا فمستفادة
ص: 21
من خارج (1) كقوله تعالى ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) ونحوه.
7 - ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) الجنب جنس يصدق على الواحد والجمع
ص: 22
مذكّرا ومؤنّثا كعدل ورضى ، وهو اسم جرى مجرى المصدر - أعني الإجناب وهو لغة بمعنى الإبعاد ، وشرعا هو من بعد عن أحكام الطّاهرين ، إمّا لجماع أو خروج منيّ يقظة أو نوما قيل : الجملة معطوفة على ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) أي إذا قمتم إلى الصّلوة فإن كنتم محدثين فتوضّأوا وإن كنتم جنبا فاغتسلوا ، فعلى هذا الغسل واجب لغيره ولا يفتقر إلى ضمّ الوضوء ، لأنّه جعله قسيما له والأولى أنّها جملة شرطية معطوفة على مثلها. أي : يا أيّها الّذين آمنوا إن كنتم جنبا فاطّهّروا ، أي اغتسلوا وحينئذ يكون الغسل واجبا لنفسه لا للصّلوة ، لعدم تقييد ( فَاطَّهَّرُوا ) بالقيام إلى الصّلوة ، ويجب حصول المسبّب وهو الطّهارة عند حصول السّبب وهو الجنابة (1) ويؤيّد هذا قول علي عليه السلام في قضيّة الأنصار : أتوجبون عليه الحدّ والمهر ولا توجبون عليه صاعا من الماء (2) وقول الصّادق عليه السلام : إذا أدخله فقد وجب الغسل. (3) وغير ذلك (4) وإنّما قلنا المراد اغتسلوا لأنّه أمر بالتّطهير على الإطلاق بحيث لم يكن مخصوصا بعضو معيّن فكان أمرا بتطهير كلّ البدن ، ولأنّ الوضوء لمّا كان مخصوصا ببعض الأعضاء ذكرها على التّعيين ، وهنا لمّا لم يذكر عضوا معيّنا علم إرادة الإطلاق ، ولأنّ المراد ليس هو
ص: 23
الوضوء بالإجماع ، ولا هو مع الغسل ، وإلّا لزم استعمال المشترك في كلا معنييه وهو باطل لما تقرّر في الأصول ، فلم يبق إلّا الغسل ، وكذا في قوله فيما بعد : ليطهّركم.
8 - ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) . ذكر أمورا يباح عندها التيمّم :
أحدها : المريض المتضرّر باستعمال الماء أو العاجز عن السّعي إليه.
وثانيها : المسافر الّذي لا يجد الماء في سفره ، وعلى هنا تفيد الحال : أي حال سفركم ، كقولهم : زرت فلانا على شدّته أي على حال كربته ، وتخصيص السّفر للأغلبيّة لا لاختصاصه بالإباحة ، بل يباح سفرا وحضرا مع عدم الماء ، وبه قال مالك ، وقال الشّافعيّ : الحاضر يتيمّم ويعيد الصّلوة مع الوجدان. وقال زفر (1) بمنع التيمّم بل يصبر حتّى يجد الماء. وعن أبي حنيفة القولان. والحقّ ما قلناه من العموم ، إذ المفهوم المخالف ليس بحجّة والنصوص عامّة.
وثالثها : المجي ء من الغائط ، أي الموضع المطمئنّ من الأرض ، كنى بذلك عن الحدث : أي الخارج من دبر الإنسان من العذرة ، وسمّي شرعا غائطا تسمية الحالّ باسم محلّه. ومن للتّبيين : أي جاء موضعا من الغائط ، وعند الأخفش هي زائدة لتجويزه الزّيادة في الإثبات فلا حاجة عنده إلى تقدير المفعول والمعنى : إن كنتم محدثين بأحد الأحداث أي البول والغائط والرّيح ، وأو ، هنا بمعنى الواو ، وأمّا الحدث بغير الثلاثة فيستفاد من غير الآية (2).
ص: 24
ورابعها « أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ » قرأ الكسائي لمستم كقوله « لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ». والباقون لامستم بالألف لأنّ فاعل قد جاء بمعنى فعل كعاقب بمعنى عقب ، واللّمس والملامسة كنايتان عن الجماع ، قاله ابن عبّاس والحسن ومجاهد وقتادة وإنّما كنى به عنه لأنّه به يتوصّل إليه ، واختاره أصحابنا الإماميّة وقال الشّافعيّ : تلاقي بشرتي ذكر وأنثى مطلقا في غير المحارم موجب للوضوء. وقال مالك : إن كان ذلك بشهوة انتقض الوضوء وإلّا فلا. وقال أبو حنيفة إن انتشر عضوه انتقض وإلّا فلا. والحقّ الأوّل لإجماع أصحابنا ولقول الباقر عليه السلام وقد سئل عن معنى الآية : ما يعني
ص: 25
إلّا المواقعة في الفرج (1) [ دون اللّمس ]. ووجه التّقسيم المذكور أنّ المرخّص له في التيمّم إمّا محدث أو جنب والحال المقتضية له في الغالب إمّا مرض أو سفر ، فكان المعنى إن كنتم جنبا أو محدثين أو كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء.
9 - « فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ » الفاء هنا ليست جوابا للشّرط بل عاطفة على كنتم ، لأنّ لم تقلب المضارع ماضيا وتنفيه ، بل الجواب فتيمّموا ، والمعنى : فلم تتمكّنوا من استعمال الماء - لأنّ الممنوع من الشي ء كالفاقد له - فتيمّموا أي فتعمّدوا واقصدوا صعيدا أي شيئا من وجه الأرض كقوله ( صَعِيداً زَلَقاً ) (2) طيّبا أي طاهرا ولذلك قال أصحابنا : لو ضرب المتيمّم يده على حجر صلب ومسح أجزأه. وبه قال الحنفيّة. وقالت الشّافعيّة
ص: 26
لا بدّ أن يعلّق باليد شي ء لقوله « فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ». وفيه نظر لجواز أن يكون من هنا ابتدائيّة. (1) والوجه المراد به بعضه وهو الجبهة عند أكثر أصحابنا إمّا لكون الباء للتّبعيض أو للنّصوص عن أهل البيت عليهم السلام فيمسح الجبهة إلى طرف أنفه الأعلى. وكذا المراد باليدين ظهر الكفّ من الزّند إلى أطراف الأصابع.
10 - ( ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
ختم الآية بثلاثة أحكام تشتمل على ذكر ألطاف عظيمة :
1 - : ما يريد بالأمر بالوضوء والغسل ثمّ التيمّم بدلهما إلّا التّوسعة عليكم والتّخفيف لا الحرج وهو التّضييق ، ومن ههنا مبيّنة ، وكذا اللّام في ليطهّركم لبيان المراد.
2 – ( وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) . واختلف في هذا. فقال الحنفيّة : إنّ المحدث نجس نجاسة حكميّة فالتّطهير إزالة تلك النّجاسة ، ومنع الشّافعيّة من ذلك وقالوا لو كان نجسا حكما ، لكان مع كون أعضائه رطبة يتنجّس الملاقي بإصابتها ، ولكان إذا حمله إنسان وصلّى بطلت صلوته ، بل المراد طهارة القلب عن صفة التمرّد عن طاعة اللّه لأنّ الأمر بتطهير الطاهر يجعل العبد في مظنّة التمرّد ، لأنّه غير
ص: 27
معقول المعنى ، فإذا انقاد وتعبّد به زال عن قلبه آثار التمرّد ، وفيه نظر لأنّه جهل بحقيقة النّجاسة الحكميّة فإنّ الّذي ذكروه حكم النّجاسة العينيّة وأيضا الطّهارة الشّرعيّة حقيقة في إزالة النّجاسة الحكميّة لا غير ذلك ، فإذن الأولى ما قال الحنفيّة ، ويمكن أيضا أن يكون الثّاني مرادا.
3 – ( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) بشرعه لكم كيفيّة (1) أحكامه بتطهير أبدانكم وقلوبكم وما هو تكفير لذنوبكم. ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . لعلّة [ الغاية ] أنّكم تقومون بالشّكر على تلك النّعمة ، وفي ذلك إيماء إلى كون العبادات تقع شكرا ، وهو قول البلخي وتحقيقه في الكلام.
الثّانية : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ) (2).
الواو في وأنتم للحال وكذلك نصب جنبا بالعطف عليه ، وقرئ سكرى جمعا كهلكى ، والسّكر [ من السّكر ] بمعنى السدّ ، قيل : المراد : لا تقربوها ( وَأَنْتُمْ سُكارى ) من خمر أو غيره حتّى تعلموا ما تقولون ، والنّهي متوجّه إلى الثّمل أي الّذي لم يزل عقله بعد ، وقيل : المراد النّاعس ، وقيل : المراد النّهي عن السّكر نفسه أي : لا تسكروا وأنتم مخاطبون بالصّلوة ، وهما ضعيفان ، أمّا الأوّل : فلأنّه خروج عن الحقيقة ، وأمّا الثّاني : فلأنّ أكثر المفسّرين قالوا : نزلت قبل تحريم الخمر عندهم ، وأيضا النّهي هنا صريح عن قرب الصّلوة لا السّكر.
وقيل : المراد : لا تقربوا مواضع الصّلوة وهي المساجد وهو المرويّ عن
ص: 28
الباقر عليه السلام (1) وهو الحقّ ، ويؤيّده قوله تعالى ( إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) . إذ العبور حقيقة في الجواز المكانيّ.
فعلى الأوّل يكون قوله « وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ » أي مسافرين سفرا يقع فيه التيمّم فتصلّون كذلك. وعلى الثّاني : إلّا مجتازين في المساجد من غير استقرار ، وهو مذهبنا ومذهب الشّافعيّة ، خلافا لأبي حنيفة فإنّه منع من الجواز إلّا إذا كان فيه الماء أو الطّريق ، وفيه دلالة على عدم جواز الاستقرار في المساجد وهو استثناء من قوله « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ». أي لا تقربوا المساجد للصّلوة وغيرها إلّا عابري سبيل لكون الطّريق في المسجد ، وهذا العامّ مخصوص عندنا بما عدا المسجدين وأمّا هما فلا يجوز عبورهما ، وقد تقدّم في الآية الأولى تفسير باقي الأحكام.
واعلم أنّ عندنا أنّه إذا فقد الماء وجب طلبه في الحزنة غلوة سهم ، وفي السّهلة غلوة سهمين من أربع جوانب ليتحقّق عدم الوجدان ، ويجب ضربة واحدة للوضوء واثنتان للغسل. وقال أبو حنيفة والشّافعيّ : ضربتان فيهما للوجه ضربة ولليدين اخرى ، وكذا ، قال الشّافعيّ : إنّ المراد بالوجه كلّه ، وباليدين من رؤس الأصابع إلى المرفقين قياسا على الوضوء. ولما روي : أنّه عليه السلام تيمّم ومسح يديه إلى مرفقيه (2). وروايات أهل البيت (3) عليهم السلام تدفع ذلك.
وقوله تعالى ( إِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ) . أي لم يؤاخذكم بذنوبكم فيشدّد
ص: 29
عليكم التّكاليف كما شدّدها على اليهود من قبلكم ، بل يسرّها عليكم ورخّصها لكم.
وفي الآية أحكام كثيرة.
1 - : تحريم السّكر لكونه منافيا للواجب (1)
2 - : نقضه الوضوء.
3 - : إبطاله الصّلوة.
4 - : وجوب قضاء صلاة وقعت حالة السّكر.
ص: 30
5 - : كون عدم التعقّل مبطلا للطهارة فيدخل فيه النّوم والإغماء والجنون
6 - : كون ذلك مبطلا للصّلوة.
7 - : كون الجنابة ناقضة للوضوء.
8 - : كونها مبطلة للصّلوة.
9 - : كونها موجبة للغسل.
10 - : كون التيمّم لا يرفع حدث الجنابة ، بل يبيح معها الصّلوة.
11 - : احترام المساجد.
12 - : منع السّكران وشبهه من دخولها.
13 - : منع الجنب من الاستقرار فيها.
14 - : تسويغ الجواز فيها.
15 - : كون الغسل رافعا لحكم الجنابة.
16 - : عدم افتقار الغسل إلى الوضوء لقوله تعالى ( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) . وإلّا لكان بعض الغاية غاية وهو باطل
17 - : تسويغ التيمّم.
18 - : كونه بحيث يقع بدلا من كلّ واحد من الوضوء والغسل.
19 - : إباحته حال المرض المتضرّر باستعمال الماء.
20 - : كونه مباحا إمّا للعجز عن الماء بالضّرر من استعماله أو لعدمه
21 - : كون وجود الماء ناقضا للتيمّم.
22 - : كون الغائط ناقضا للوضوء موجبا له.
23 - : كون الجنابة تقع بمجرّد الوطي من غير إنزال.
24 - : وجوب كون التيمّم بالتّراب.
25 - : جوازه بالحجر الصّلب لصدق اسم الصعيد عليه.
26 - : وجوب كون الصّعيد طاهرا.
27 - : وجوب كونه مباحا.
ص: 31
28 - : وجوب مسح الوجه واليدين.
29 - : كون الوجه يراد به بعضه لمكان الباء عند القائل بذلك وكذا اليد لعطفها على الوجه.
30 - : وجوب الابتداء بمسح الوجه لفاء التعقيب.
31 - : وجوب الموالاة إن قلنا : الأمر للفور.
الثالثة ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(1).
دلّت على وجوب النيّة في كلّ عبادة ، فيدخل الطّهارات الثّلاث المتقدّمة ، ومعنى الإخلاص هو المراد بالقربة الّتي يذكرها أصحابنا في نيّاتهم ، وهو إيقاع الطّاعة خالصة لله تعالى وحده ، ويؤيّده قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الحديث القدسيّ : من عمل لي عملا أشرك فيه غيري تركته لشريكه (2). فقيل : معنى كونه له تعالى : أن يفعله خوفا من عقابه ورجاء لثوابه. وقيل : يفعله حياء منه أو حبّا له ، وقيل :تعظيما له ومهابة وانقيادا ولا يخطر بباله غرض آخر سواه ، ويقرب من هذا قول عليّ عليه السلام : ما عبدتك خوفا من نارك ولا شوقا إلى جنّتك ، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك (3). وهو الأقوى لأنّ ما عدا ذلك شرك مناف للإخلاص ، فعلى هذا لا يجوز في النيّة ضمّ الرياء ولا ضمّ التبرّد أو التسخّن بالماء أو إزالة الكسل أو الوسخ ، لأنّ منطوق الآية يدلّ على أنّ الأمر منحصر في العبادة المخلصة ، والأمر بالشي ء نهي أو مستلزم للنّهي عن الضدّ فيكون كلّ ما ليس بمخلص [ منها ] منهيّا عنه فيكون فاسدا
ص: 32
لما تقرّر في الأصول.
واعلم أنّ الشافعيّ وأحمد ومالكا وافقونا في اشتراط النيّة في الطّهارات وإن خالفونا في الكيفيّة وأبو حنيفة خصّ الشّرط بالترابيّة لا غير (1) لقوله تعالى :
ص: 33
( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) أي اقصدوا ، والحقّ الأوّل لقوله عليه السلام « إنّما الأعمال بالنيّات » (1) والجمع المعرّف للعموم ولقوله عليه السلام « وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » (2) ومن طريق الأصحاب ما ورد من قول الرّضا عليه السلام : « لا قول إلّا بالعمل ولا عمل إلّا بالنيّة ولا قول ولا عمل إلّا بإصابة السنّة (3).
ثمّ اعلم أنّ شرعيّة النيّة لغرض تميّز الفعل عن غيره فيجب أن يتصوّر فيها تصوّرا قلبيّا حقيقة الفعل المنويّ من كونه وضوءا أو صلاة أو صوما أو غير ذلك ونوعه ليمتاز عن نوع آخر كالإباحة للوضوء والظهر للصلاة ورمضان للصوم والماليّة أو الفطرة للزّكوة والتمتّع أو غيره للحجّ ووصفه الفارق بين أفراد نوعه كالوجوب للواجب والنّدب للمندوب ووقته المحدود له بالشّخص إن كان موقّتا فينوي الأداء إن فعله فيه والقضاء إن فعله خارجا عنه ثمّ الرّكن الأعظم الّذي هو الإخلاص وقد مرّ معناه.
الرابعة ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (4)
كريم أي حسن مرضيّ في جنسه وقيل : كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمّة في المعاش والمعاد. ( فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) أي مصون مستور عن الخلق في لوحه المحفوظ.
وقيل : المصحف الّذي بيد الناس والضمير في « لا يَمَسُّهُ » يعود إلى الكتاب لأنّه أقرب ، فعلى القول الأوّل : لا يمسّه إلّا الملائكة المطهّرون من الذّنوب وعلى
ص: 34
الثّاني : لا يمسّه إلّا المطهّرون من الأحداث والخباثات وهو مرويّ عن الباقر عليه السلام (1) وجماعة من المفسّرين ومذهب مالك والشافعيّ وأبي حنيفة وزاد الشافعيّ حتّى الحاشية ويكون المراد النّهي عن مسّه (2) لا نفي المسّ الّذي هو خبر وإلّا لزم الكذب لأنّا نعلم ضرورة أنّه يمسّه من ليس بمطهّر.
ويؤيّده الرواية عن الصادق عليه السلام وقد قال لولده إسماعيل : « اقرأ المصحف قال : لست على وضوء فقال لا تمسّ الكتابة ومسّ الورق (3) » وإذا لم يجز لغير المتوضّي مسّه فللجنب أولى ، وهل يمنع الجنب والحائض من قرائته؟ فقال أصحابنا بمنع سور العزائم الأربع لا غير وجواز السّبع بغير كراهيّة وما فوقها على كراهيّة وتشتدّ بزيادة القراءة وتضعف بقلّتها لعموم قوله تعالى ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) (4) خرج العزائم من العموم وبقي ما عداها على الجواز وقال الشافعيّ : لا يجوز مطلقا وكذا أحمد وجوّز أبو حنيفة دون الآية وما لك للجنب الآية والآيتين على سبيل التعوّذ وللحائض أن تقرأ ما شاءت وكذا قال داود للجنب ويحتجّ عليهم في الجواز بكتاب النبيّ (5) صلى اللّه عليه وآله إلى هرقل عظيم الرّوم المتضمّن لقوله تعالى ( يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) (6) الآية وهو كافر مجنب فيقرء الكتاب ضرورة وإلّا لانتفت فائدة بعثته.
الخامسة ( فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) (7)
ص: 35
قال الحسن البصري : المراد الطّهارة من الذّنوب والأكثر : أنّها الطّهارة من النّجاسات فقيل : نزلت في أهل قباء ، روي ذلك عن الباقر والصّادق عليهما السلام (1) ( يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) بالماء عن الغائط. روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال لهم : « ماذا تفعلون في طهركم فإنّ اللّه قد أحسن عليكم الثّناء؟ فقالوا نغسل أثر الغائط بالماء (2) ».
واعلم أنّ الغائط إن تعدّى المخرج تحتّم الماء لإزالته وإن لم يتعدّ فللمكلّف الخيار بين استعمال ثلاثة أحجار وشبهها طاهرة مزيلة للعين وبين الماء والجمع بينهما أفضل لاجتماع إزالة العين والأثر وفي قولهم : نغسل أثر الغائط. إشارة إلى هذا لدلالته على زوال العين قبل تغيّر الماء وإزالة الأثر بالماء وكذا ورد في رواية أخرى أنّهم قالوا : نتبع الغائط بالأحجار ثمّ نتبع الأحجار بالماء (3) وأمّا البول فلا يجزي فيه إلّا الماء خاصّة تعدّى أو لم يتعدّ.
وقال الشافعيّ : الاستنجاء منهما واجب بالماء أو الأحجار وأوجب إعادة الصلاة على من لم يستنج وبه قال مالك وقال أبو حنيفة هو مستحبّ غير واجب.
قوله ( يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) المحبّة تأكيد الإرادة ولذلك لم يقل يريدون لشدّة إرادتهم وقابل سبحانه محبّتهم بمحبّته بالمعنى المذكور فقال ( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) .
ثمّ اعلم أنّه يمكن عندي أن يستدلّ بهذه الآية على استحباب الكون على
ص: 36
الطّهارة لأنّ الطهارة شرعا حقيقة في رافع الحدث ، والثّناء والمحبّة وتأكيد الإرادة والإتيان بلفظ المبالغة مشعر بالتكرّر ودوام حصول المعنى وكلّ ذلك دليل على ما قلناه واللّه أعلم.
السّادسة ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (1).
هنا فوائد.
1 - لا ريب أنّ الطّهور لغة ورد لأمور :
أحدها : مبالغة في الطّاهر فيكون صفة للماء وسبب الوصف أن يعلم أنّ الطّهارة صفة ذاتيّة له.
وثانيها : اسم لما يتطهّر به كالبخور لما يتبخّر به والوقود لما يتوقّد به.
وثالثها : بمعنى الطّهارة كقوله عليه السلام : « لا صلاة إلّا بطهور » (2).
إذا تقرّر هذا فقال بعض الحنفيّة أنّه في الآية والاستعمال بالمعنى الأوّل لا غير لأنّ فعولا يفيد المبالغة في فاعل كما يقال ضروب وأكول لزيادة الضّرب والأكل ولا يفيد شيئا مغايرا له فعلى هذا لا يكون بمعنى المطهّر عنده لأنّ كونه مطهّرا مغاير لمعنى الطّاهر فلا يتناوله المبالغة ولأنّه قد يستعمل فيما لا يفيد التّطهير كقوله تعالى ( وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) (3) وقول الشّاعر : « عذاب الثّنايا ريقهنّ طهورا ».
وقالت الشافعيّة وأصحابنا أنّه بمعنى المطهّر فيكون مأخوذا من الوضع الثّاني واستدلّوا بالنّقل والاستعمال :
أمّا الأوّل فلما ذكره اليزيديّ حيث قال : الطّهور بالفتح من الأسماء المتعدّية وهو المطهّر غيره وأمّا الثاني فلأنّه مراد فيه فيكون حقيقة إمّا إرادته فلقوله عليه السلام :
ص: 37
« جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا (1) » ولو أراد الطّاهر لم يكن له مزيّة ولقوله عليه السلام أيضا وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال : « هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته » (2) ولو لم يرد كونه مطهّرا لم يصلح جوابا ولأنّ فعولا للمبالغة ولا يتحقّق إلّا مع إفادة التطهير ولأنّهم يقولون ماء طهور ولا يقولون ثوب طهور فلا بدّ من فائدة تختصّ بالماء ولا يظهر الفائدة إلّا مع إفادة التطهير لغيره.
والحقّ أنّه بالنظر إلى القياس اللّفظيّ كما قال الحنفيّ لأنّ التعدّي في الحقيقة لمطهّر وألحقوا طهورا به توقيفا لا قياسا وليس الطهور من مطهّر بمنزلة ضروب من ضارب لأنّك تقول هذا ضارب زيدا كما تقول ضروب زيدا وتقول الماء مطهّر من الحدث ولا تقول طهور من الحدث وأمّا بالنظر إلى الاستعمال فكما قال أصحابنا والشافعيّة فإن منع ذلك الحنفيّ فهو مكابرة.
2 - ما يزيل عنه الطّهارة والطهوريّة ، فعند أبي حنيفة مخالطة النجاسة يقينا أو ظنّا وإن لم يتغيّر وجوّز استعمال ما لا يتحرّك بحركة الأجزاء المتنجّس وقدّره بعشرة أذرع في مثلها وعند مالك التغيير في أحد أوصافه قليلا أو كثيرا وعند الشّافعيّ في الكثير التغيّر وفي القليل الملاقاة وعند أصحابنا كذلك (3) إلّا أنّ الكثير عنده
ص: 38
قلّتان : نحو خمسمائة رطل وعندنا كرّ وهو ألف ومائتا رطل بالعراقي الّذي هو أحد وتسعون مثقالا قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وقد سئل عن بئر بضاعة فقال : الماء طهور لا ينجّسه إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه (1) وروى الشّيخ مرسلا عنه صلى اللّه عليه وآله : إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا (2) وعن الصّادق عليه السلام : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء » (3) قالوا : الحديث الأوّل مكّيّ فيكون إطلاقه منسوخا فيقيّد بالكثير.
هذا كلّه في الماء الرّاكد أمّا الجاري فلا ينجس إلّا بالتغيّر والأولى اشتراط بلوغه كرا إلّا أن يكون جاريا عن مادّة فلا يشترط وقال الشافعي : الماء الّذي قبل النجاسة طاهر وما بعدها إن لم يصل النجاسة إليه طاهر وما يجاوره ويخالطه النجاسة
ص: 39
إن كان أكثر من قلّتين فطاهر وإن كان أقلّ فنجس.
3 - إذا زالت عنه الطهوريّة فعندنا يطهر بإلقاء كرّ عليه دفعة يزيل تغيّره إن كان متغيّرا فان لم يزل فكرّ آخر وهكذا حتّى يزول التغيّر وغير المتغيّر يكفي إلقاء الكرّ المذكور أو اتّصاله بالكرّ أو وقوع الغيث السّاكب عليه. وقال الشافعي : تزول النجاسة بأمور الأوّل : ورود ماء طاهر يزيل التغيّر ولم يقدّره الثّاني : زوال التغيّر من نفسه ، الثّالث : أن ينبع من تحته ما يزيل تغيّره ، الرّابع : أن يستقى منه ما يزيل تغيّره ، الخامس : ما ذكر بعض أصحابه وهو وقوع تراب يزيل تغيّره وكلّ هذه تحكّمات لا دليل عليها فيجب الاعراض عنها.
السابعة : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) (1).
هنا مسئلتان :
1 - إنّ غير الماء من المائعات لا يطهّر لا من الحدث ولا من الخبث (2) أمّا
ص: 40
الحدث فإجماع إلّا من أبي حنيفة في الوضوء بالنّبيذ مطبوخا مع عدم الماء في السّفر وأمّا الخبث فأكثر أصحابنا (1) على ذلك وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة كلّ مائع مزيل للعين يجوز إزالة النجاسة به ، حجّتنا أنّ صريح الآية يدلّ على الامتنان بكون الماء مطهّرا فلا يكون غيره كذلك وإلّا لما تمّ الامتنان بل كان ذكر الأعمّ وهو المائع أولى.
2 - ( وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) قيل هو الجنابة ، والرّجز النّجاسة وقيل العذاب وقيل الوسوسة فإنّه لمّا نزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه أقدامهم على غير ماء [ وناموا ] فاحتلم أكثرهم والمشركون سبقوهم إلى الماء فتمثّل لهم إبليس وقال تصلّون على غير وضوء وعلى جنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحقّ لما غلبكم هؤلاء على الماء. فحزنوا حزنا شديدا فمطروا ليلا حتّى جرى الوادي وتلبّد الرمل حتّى ثبتت عليه الأقدام وطابت النفوس. فعلى القول الأوّل فيه دلالة على نجاسة المنيّ ولذلك قرئ رجس وهو مرادف للنجاسة.
الثامنة : ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (2).
ص: 41
المحيض يجي ء مصدرا كالمجي ء والمبيت واسم زمان واسم مكان فالمحيض الأوّل مصدر لا غير لعود الضّمير إليه لقوله هو أذى أي مستقذر وأمّا الثّاني فيحتمل المصدر فيكون فيه تقدير مضاف أي في زمان الحيض ويحتمل اسم الزمان أو المكان فلا يحتاج إلى تقدير مضاف. ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ ) أي لا تجامعوهنّ عرفا لا لغة حتّى يطهّرن بالتّشديد على قراءة حمزة والكسائي أي يغتسلن وقرأ الباقون بالتّخفيف أي ينقين من الدّم وحيث ظرف مكان.
إذا عرفت هذا ففي الآية أحكام.
1 - إنّ الحيض نجس لقوله أذى وهو المستقذر وهو إجماع أهل العلم.
2 - إنّ نجاسته مغلّظة لقوله « هُوَ أَذىً » مبالغة فيه بالقذارة بالإتيان باسم الظّاهر أوّلا ثمّ بالضّمير الّذي كنى به عنه ثمّ بتنكير خبره ووصفه بالأذى وكلّ ذلك أمارة غلظة نجاسته فيجب إزالة قليله وكثيره عندنا وإلّا لما كان لغلظته فائدة زائدة وكذا النّفاس لأنّه حيض كان محتبسا.
3 - إنّ دم الحيض من الأحداث الموجبة للغسل لإطلاق الطّهارة المتعلّقة به وقد تقدّم أنّ ذلك يراد به الغسل وأقلّ مدّته الّتي يصير بها موجبا للغسل عندنا ثلاثة أيّام وأكثره عشرة وبه قالت الحنفيّة وقال الشافعي : أقلّه يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما.
4 - وجوب اعتزال النّساء في مكان الحيض (1) وهو القبل أي ترك مجامعتهنّ
ص: 42
إذ الأمر حقيقة في الوجوب والإجماع يؤيّده وفي وصفه بالأذى وترتيبه الحكم عليه بالفاء إشعار بأنّه العلّة. وفي كيفية الاعتزال عندهم خلاف فقال محمّد بن الحسن كما قلناه إنّه القبل وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي هو ما اشتمل عليه الإزار.
روي أنّ أهل الجاهليّة كانوا لا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يساكنونها في البيت كفعل اليهود والمجوس فلمّا نزلت الآية أخذ المسلمون بظاهرها ففعلوا كذلك فقال أناس من الأعراب : يا رسول اللّه البرد شديد والثياب قليلة فان آثرناهنّ بالثّياب هلك سائر أهل البيت وإن استأثرناها هلكت الحيض فقال عليه السلام : إنّما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ولم آمركم بإخراجهنّ كفعل الأعاجم.
وقيل : إنّ النّصارى كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض واليهود كانوا يعتزلونهنّ في كلّ شي ء فأمر اللّه تعالى بالاقتصاد بين الأمرين.
5 - اختلف في مدّة زمان الاعتزال وغايتها فقال الشافعيّ حتّى تغتسل ويحتجّ بأنّه جمع بين القرائتين ولقوله ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ) فعنده لا يجوز وطيها حتّى تطهر وتتطهّر. وقال أبو حنيفة بالجمع بين القرائتين (1) بأنّ له أن يطأها في أكثر
ص: 43
الحيض بعد الانقطاع وإن لم تغتسل وفي أقلّه لا يقربها بعد الانقطاع إلّا مع الاغتسال
ص: 44
وأمّا أصحابنا فجمعوا بينهما بأنّه قبل الغسل جائز على كراهيّة وبعده لا على كراهية وقال بعض أصحابنا بقول الشافعيّ وليس بشي ء لأنّ تفعّل قد جاء بمعنى فعل كالمتكبّر في أسمائه تعالى وكقولك تطعّمت الطعام بمعنى طعمته.
6 - ( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) الأمر هنا ليس للوجوب مطلقا بل قد يكون للوجوب كما لو كان قد اعتزلها أربعة أشهر آخرها أوّل رمان الانقطاع والغسل وكذا لو وافق انقضاء مدّة التربّص في الإيلاء والظهار وقد يكون للندب كما في اقتضاء الحال ذلك فهو إذا لمطلق الرّجحان واختلف في معنى « مِنْ حَيْثُ » قيل عن ابن عبّاس أنّه من حيث أمركم اللّه بتجنّبه وهو محلّ الحيض أعني القبل وقيل من حيث الطهر دون الحيض وقال محمّد بن الحنفيّة من قبل النكاح دون الفجور ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ) عن النجاسات الباطنة وهي الذنوب ( وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) من النجاسات الظاهرة.
التاسعة ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (1).
إنّما للحصر معناه لا نجس من الإنسان غير المشركين (2) والنجس مصدر في
ص: 45
الأصل تقول نجس بكسر العين ينجس بفتحها نجسا بفتحتين فهو نجس بفتح العين وكسرها وإذا استعمل مع الرّجس كسر أوّله ويقال رجس نجس بكسر أوّلهما وسكون الجيم قاله الفرّاء وقرئ به شاذا ولكون النّجس مصدرا في الأصل لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث قال ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ولم يقل نجسون والمراد بالمسجد الحرام قيل هو جملة الحرم سمّي به تسمية للشي ء باسم أشرف أجزائه ( فَلا يَقْرَبُوا ) قيل المراد أمر المؤمنين أن لا يمكّنوهم منه ولذلك صدّر الآية بيا أيّها الّذين آمنوا والنهي عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع من دخول الحرم وذلك العام قبل سنة حجّة الوداع والأصحّ أنّه سنة تسع لمّا بعث أبا بكر ببراءة ثمّ أمره اللّه بردّها وأن لا يقرأها إلّا هو أو أحد من أهله فبعث عليّا عليه السلام ويدلّ عليه قول عليّ عليه السلام « لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك » (1) وبه قال أبو حنيفة وفي الآية أحكام :
1 - إنّ المشركين أنجاس نجاسة عينيّة لا حكميّة وهو مذهب أصحابنا (2)
ص: 46
وبه قال ابن عبّاس قال : إنّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير وقال الحسن : من صافح مشركا توضّأ. والوضوء قد يطلق على غسل اليد وخالف باقي الفقهاء (1) في ذلك وقالوا معنى كونهم نجسا أنّهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتجنّبون النجاسات أو كناية عن خبث اعتقادهم.
واعلم أنّ تعليق الحكم على المشتقّ يدلّ على أنّ المشتقّ منه علّة في الحكم كقولك : « أكرم العلماء » أي لعلمهم و « أهن الجهّال » أي لجهلهم فلو غسلوا أبدانهم سبعين مرّة لم يزيدوا إلّا نجاسة وروايات أهل البيت عليهم السلام وإجماعهم على نجاستهم مشهورة (2).
2 - إنّهم إذا كانوا أنجاسا فأسئارهم وكلّما باشروه برطوبة نجس أيضا (3) و
ص: 47
هو ظاهر ، أمّا قوله تعالى ( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (1) فالمراد به الحنطة والشعير والحبوب (2) وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام (3) وسيأتي تمام البحث
ص: 48
في الأطعمة إنشاء اللّه تعالى.
3 - أنّه لا يجوز دخولهم المسجد الحرام وكذا باقي المساجد عندنا لنصوص أهل البيت عليهم السلام (1) وبه قال مالك واقتصر الشافعيّ على المسجد الحرام وهو عجيب فهلّا قاس ما عداه عليه لأنّه قائل بالقياس والعلّة وهي النّجاسة حاصلة وأبو حنيفة لا يمنعهم دخوله ولا دخول غيره ويقول : إنّ النهي عن حجّهم لقوله عليه السلام : « لا يحجّنّ بعد العام مشرك » وذلك لا يستلزم النّهي عن الدخول. (2) وهو فاسد لأنّ دخولهم يستلزم القرب المنهيّ عنه.
4 - أنّه لا فرق بينهم وبين باقي الكفّار عندنا في جميع ما تقدّم للإجماع
ص: 49
المركّب (1) فانّ كلّ من قال بنجاستهم عينا قال بنجاسة كلّ كافر ولأنّ أهل الذمّة مشركون لقوله تعالى ( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ) إلى قوله ( سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (2) وكلّ مشرك نجس بالآية.
ص: 50
العاشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1).
استدلّ أصحابنا القائلون بنجاسة الخمر (2) بهذه الآية ووجه الاستدلال بها من وجهين :
ص: 51
1 - أنّه وصفه بالرّجس وهو وصف النّجاسة لترادفهما ولذلك يؤكّد الرجس بالنّجس فيقال : رجس نجس.
2 - أنّه أمر باجتنابه وهو موجب للتّباعد المستلزم للمنع من الاقتراب بسائر أنواعه لأنّ معنى الاجتناب كون كلّ منهما في جانب وهو مستلزم للهجران ويؤيّد ذلك أيضا روايات عن أهل البيت عليهم السلام في طرقها ضعف ينجبر بموافقة القرآن (1).
1 - كلّ مسكر حكمه حكم الخمر في النجاسة (2) لأنّه خمر فكلّ خمر نجس أمّا الكبرى فقد تقدّمت وأمّا الصغرى فلأنّ الخمر إنّما سمّي خمرا لأنّه يخمر العقل أي يستره فكلّ ما يساويه في هذا المعنى فهو مساو له في الاسم ولقول أبي جعفر عليه السلام « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كلّ مسكر حرام وكلّ مسكر خمر » (3) ومثله
ص: 52
رواية ابن عمر عنه صلى اللّه عليه وآله (1).
2 - العصير من العنب قبل غليانه طاهر حلال وبعد غليانه واشتداده نجس حرام وذلك إجماع من فقهائنا أمّا بعد غليانه وقبل اشتداده فحرام إجماعا منّا وأمّا النّجاسة فعند بعضنا أنّه نجس أيضا وعند آخرين أنّه طاهر (2) والأوّل أحوط والمراد بالاشتداد صيرورة أعلاه أسفله أو أن يصير له قوام ، هذا إذا لم يذهب ثلثاه بالغليان وإلّا فهو طاهر حلال.
3 - الفقّاع عندنا حكمه حكم الخمر في النجاسة والتحريم لما ورد من طريقهم عن ضميرة قال : الغبيراء الّتي نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عنها هي الفقّاع. (3) ومن طريقنا عن سليم بن جعفر « قال قلت للرضا عليه السلام : ما تقول في شرب الفقّاع فقال هو خمر مجهول (4) » وعن الوشّاء « قال كتبت إليه يعني الرّضا عليه السلام أسأله عن الفقّاع فقال هو حرام وهو خمر (5) » وعنه عليه السلام « هي خمر استصغرها النّاس (6) » قال ابن الجنيد
ص: 53
من أصحابنا : تحريمه من جهة نشيشه وضراوة إنائه إذا كرّر فيه العمل. وفي الآية المذكورة فوائد تأتي في باب الأطعمة.
الحادية عشر ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (1).
الأكثر على أنّ المراد الطّهارة من النّجاسات وقيل ثيابك فقصّر لأنّه أبعد من القذر والتّلف وترك لعادات العرب في طول ثيابهم المستهجن وقيل نفسك فطهّر من الرّذائل يقال فلان طاهر الثوب نقيّ الجيب ومنه قول عنترة الشّاعر :
وشككت بالرّمح الأصمّ ثيابه *** ليس الكريم على القنا بمحرّم
كنّى بما يشتمل على البدن عنه وهو أمر باستكمال قوّته العملية.
وفي الآية أحكام :
1 - أنّ الأمر بالتّطهير واجب لأنّه حقيقة في الوجوب.
2 - أنّه واجب لأجل الصّلاة لا لذاته أمّا أوّلا فللإجماع وأمّا ثانيا فلقرينة ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (2) فإنّ المراد تكبير الافتتاح كما سيجي ء.
3 - أنّ هذا العموم مخصوص لما ورد في النقل بالعفو عن الدّم غير المغلّظ الّذي يقصر عن الدّرهم والجروح والقروح الّتي لا ترقأ أو حال الضّرورة ولا يمكن النّزع أو كون الملبوس لا تتمّ الصّلاة فيه وحده أو غير ذلك من الرّخص.
4 - أنّ التّطهير لغير الصّلاة ليس بواجب بل يستحبّ للتهيّأ لها وللتمرّن عليه فيسهل عند إرادتها :
5 - الرّجز إمّا العذاب لقول الأكثر فيكون أمره بهجرانه أمرا بهجران أسبابه الموجبة له وهو أمارة وجوب تطهير الثّياب ، أو النّجاسة فهو حينئذ صريح في وجوب توقّي النّجاسة حال الصّلاة.
ص: 54
الثانية عشر ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (1).
قيل هي خمس (2) في الرّأس وخمس في البدن أمّا الرّأس فالمضمضة والاستنشاق والفرق وقصّ الشّارب والسّواك وأمّا البدن فالختان وحلق العانة وتقليم الأظفار ونتف الإبطين والاستنجاء بالماء. وإذا كانت هذه من شريعة إبراهيم عليه السلام كانت أيضا من شريعة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ) (3) ولقوله تعالى ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) (4) أي اتّبعوها فهنا أحكام :
1 - المضمضة والاستنشاق مستحبّان في الطّهارتين الصّغرى والكبرى (5) ويبدأ بالمضمضة ثلاثا بثلاث أكفّ من الماء ومع الإعواز بكفّ واحد ويدير الماء في فيه ثمّ يمجّه وليبالغ فيها بإيصال الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللّثات ويمرّ إصبعه عليها وكذا الاستنشاق ثلاثا بثلاث أكفّ لكنّ الصّائم لا يبالغ فيهما.
2 - الفرق يكون لمن اتّخذ شعرا مستحبّا والرّواية بأنّه « إذا لم يفرّقه فرّق
ص: 55
بمنشار من نار (1) » محمول على شدّة الاستحباب أو على ترك اعتقاد المشروعيّة أو أنّه يمنع المسح في الوضوء على البشرة.
3 - السّواك مستحبّ لمن عدا النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأمّا هو عليه السلام فيجب عليه لقوله عليه السلام « ما زال جبرئيل يوصيني بالسّواك حتّى خشيت أن أحفي - أو أدرد (2) - » وهما رقّة الأسنان وتساقطها وقال عليه السلام : « لو لا أنّ أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند وضوء كلّ صلاة (3) » وفيه إشعار بأنّ الأمر للوجوب مع أنّ الندبيّة مجمع عليها واستحبابه عامّ للصّائم والمحرم وغيرهما وينبغي أن يكون عرضا ويكون بقضبان الأشجار عدا الرّمان والرّيحان ويجوز بالإصبع والخرقة لحصول المعنى ويكره في الخلإ ويستحبّ عند قراءة القرآن والقيام إلى الصّلاة وعند تغير النّكهة إمّا لنوم أو لطول سكوت أو ترك أكل أو أكل شي ء كريه الرّائحة أو وسخ الأسنان أو أبخرة المعدة.
4 - الختان حال الصّغر مستحبّ للذّكر وللأنثى الخفض ومع البلوغ يجب على الذّكر فعله فيعاقب لو تركه متمكّنا ولا يصحّ طوافه وأمّا صلوته فان تمكّن من كشف الغلفة للتطهير من البول وجب ومع تركه يبطل الصّلاة وإن لم يتمكّن فلا ويحتمل ضعيفا بطلانها مطلقا لنجاسة الغلفة إذ هي في حكم المنفصلة وفي القدوة بالأغلف تفصيل حرّرناه في بعض رسائلنا.
5 - حلق العانة مستحبّ بل تنوير البدن كلّه في كلّ خمسة عشر يوما مرّة وأكثره أربعون يوما.
6 - حلق الإبطين أفضل من النّتف والإطلاء بالنّورة أفضل من الحلق.
7 - الاستنجاء لغة استفعال من النجوة وهو ما ارتفع من الأرض وأصله للسباع لأنّها تقصد النّجوات عند الحاجة وقيل من نجوت الشّجرة أي قطعتها كأنّه يقطع
ص: 56
الأذى عنه ويسمّى أيضا استطابة وشرعا هو واجب في محلّ البول بالماء لا غير عندنا وعند الجمهور يجوز فيه الاستجمار ما لم يتعدّ المخرج وأمّا الغائط فمع التعدّي يتعيّن الماء فيه إجماعا ومع عدم التعدّي يتخيّر المكلّف بين الحجارة والماء ولا يجزي أقلّ من ثلاثة أحجار. وقال أبو حنيفة لا يجب إذا لم يتعدّ.
وهي لغة الدّعاء (1) قال اللّه تعالى ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) أي ادع لهم وقال الأعشى :
عليك مثل الّذي صلّيت فاغتمضي *** نوما فانّ لجنب المرء مضطجعا
وقيل أصلها من رفع الصّلاة في الرّكوع وهو عظم في العجز وشرعا قيل هي أذكار معهودة مقترنة بحركات وسكنات يتقرّب بها إلى اللّه تعالى. قيل هو منقوض طردا بأذكار الطواف وعكسا بصلاة الأخرس والأولى أنّها أفعال معهودة يجب فيها القيام اختيارا افتتاحها التّكبير واختتامها التسليم يتقرّب بها إلى اللّه تعالى. فصلاة الجنازة صلاة بحسب المجاز.
واعلم أنّ أكثر المحقّقين على ثبوت الحقيقة الشرعيّة (2) لوجود خواصّها
ص: 57
وقد قرّر ذلك في الأصول فعلى هذا هل إطلاق لفظ الصّلاة على المعنى المذكور من باب النقل أو من باب المجاز؟ قيل بالأوّل وقيل بالثّاني وهو الأصحّ لأنّ المعنى اللّغويّ موجود في الحقيقة الشرعيّة قطعا على القولين ثمّ البحث هنا يتنوّع أنواعا.
وفيه آيات :
الاولى ( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (1).
كتابا أي مكتوبا فإنّ الكتاب مصدر كالقتال والضّراب والمصدر قد يراد به المفعول أي المكتوب وهو يرادف الفرض ومنه ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) (2) أي فرض والموقوت أي المحدود بأوقات لا تزيد فيها ولا تنقص ولا يجوز التقديم عليها ولا التأخير. وفي الآية أحكام :
1 - أنّها واجبة وفرض على كلّ مؤمن.
2 - أنّها تدلّ بظاهرها على أنّ الوجوب يختصّ بمن له صفة التعقّل إذ الإيمان
ص: 58
التّصديق فالمؤمنون هم المصدّقون والتّصديق لا يصدر إلّا عن تصوّر وجزم وإذعان وذلك غير متصوّر إلّا فيمن له تعقّل فلا يجب على الصبيّ ولا على المجنون ولا على المغمى عليه.
3 - أنّ الصّلاة ليست من العبادات المطلقة غير المحدودة بحدّ ووقت بل هي محدودة بحدود وشرائط وأوقات لا يجوز تغييرها وتبديلها.
4 - ربّما يذهب بعض الأفهام إلى اختصاص الوجوب بالمؤمنين فلا يجب على الكافر كما هو مذهب أبي حنيفة وهو خلاف مذهبنا ومذهب الشافعيّ والجواب أنّ التخصيص بالذّكر لا يدلّ على نفي ما عداه إلّا بدلالة مفهوم المخالفة وليس بحجّة عندنا هذا مع أنّ غير هذه من الآيات تنادي بالوجوب عليهم وأنّهم يعاقبون على تركها كقوله تعالى ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) إلى قوله ( وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) (1) وهو صريح في إرادة الكفّار بالخطاب.
الثّانية ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (2).
المحافظة عليها هي شدّة الاعتناء بإيقاعها وعدم تضييعها في أوقاتها والوسطى إمّا بمعنى التوسّط أي بين الصلوات أو الفضلي أي الكثيرة الفضل والقنوت قيل هي المداومة على الشي ء أي قوموا لله مداومين على القيام وقيل الدّعاء قائما وقيل الخشوع أي قوموا لله خاشعين والشائع عند الفقهاء هو الدّعاء في الصّلاة مع رفع اليدين فالأولى الحمل على ذلك ولذلك قال ابن المسيّب المراد به القنوت في الصّبح والرّجال جمع راجل كالقيام جمع قائم وكذا الرّكبان جمع راكب.
ص: 59
( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ ) أي فصلّوا صلاة أمن واشكروا لله كما علّمكم ثمّ إن قلنا أنّ الذّكر هو الصّلاة يكون معناه صلّوا كما علّمكم من الصّلاة وكيفيّتها وإن قلنا أنّه الشّكر يكون معناه فاشكروه شكرا مماثلا لإنعامه عليكم بتعليمكم ما لا تهتدي إليه عقولكم من كيفيّة الصّلاة حال الأمن وحال الخوف وفيها أحكام :
1 - وجوب المحافظة على الصّلوات الموجب ذلك للثّناء الجميل والأجر الجزيل كما قال في موضع آخر ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) (1) وفي موضع آخر ( الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) (2) فقيل المحافظة متعلّقها الأفعال والحدود والشّرائط (3) والمداومة متعلّقها التكرّر بحسب الأوقات وقيل المحافظة على الفرائض والمداومة على النّوافل وهو مرويّ عن الباقر والصّادق عليهما السلام (4) كلّ ذلك فرارا - من التّرادف والتّأكيد غير المفيد - فائدة زائدة - إلى التأسيس المفيد.
2 - يمكن أن يستدلّ بهذه الآية وما قبلها على وجوب الصّلوات التّسع المشهورة (5) وبيان ذلك أنّهما دلّتا على وجوب الإتيان بكلّ ما يصدق عليه اسم الصّلاة
ص: 60
شرعا ، خرج من ذلك ما لم يدّع وجوبه وما اجمع على ندبه فيبقى الباقي داخلا وهو المطلوب.
3 - تخصيص الصّلاة الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مع أنّها داخلة في الصّلوات إذ اللّام فيها للاستغراق لاختصاصها بمزيد فضل يقتضي رفع شأنها وإفرادها بالذّكر كأفراد النّخل والرمّان عن الفاكهة وجبرئيل وميكائيل عن الملائكة.
واختلف فيها على أقوال (1) فقيل الصّبح لتوسّطها بين صلاتي النّهار وصلاتي
ص: 61
اللّيل وبين الظّلام والضّياء ولأنّها لا يجتمع مع غيرها فهي منفردة بين مجتمعتين ولأنّها يشهدها ملائكة اللّيل والنّهار فتكتب في العملين معا قال الشّافعيّ ولذلك عقّبها بذكر القنوت إذ القنوت عنده مشروع في الصّبح.
وقيل الظّهر وبه قال جماعة وروي ذلك عن الباقر والصّادق (1) عليهما السلام لأنّها وسط النّهار ووقت الحرّ فكانت أشقّ عليهم فكانت أفضل لقوله عليه السلام « أفضل العبادات أحمزها (2) » ولأنّها أوّل صلاة فرضت ولأنّها في السّاعة الّتي يفتح اللّه فيها أبواب السّماء ولا تغلق حتّى يصلّى الظهر ويستجاب الدّعاء فيها.
ص: 62
وقيل العصر لأنّها بين صلاتي اللّيل والنّهار ولأنّها تقع حال اشتغال النّاس بمعاشهم فيكون الاشتغال بها أشقّ عليهم ولقوله صلى اللّه عليه وآله « من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله » (1) وفي رواية « حبط عمله » ولما روي أنّه صلى اللّه عليه وآله « قال يوم الأحزاب : « شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر » (2) فان صحّ ذلك فهو صريح فيها.
وقيل المغرب لتوسّطها عددا بين ثنائيّ ورباعيّ ووقتا بين ليليّة ونهاريّة.
وقيل العشاء لتوسّطها بين ليليّة ونهاريّة وقيل إنّ اللّه تعالى أخفاها ليحافظ على جميعها كإخفاء ليلة القدر وإخفاء الاسم الأعظم والوليّ وساعة الإجابة وعن بعض أئمّة الزيديّة أنّها صلاة الجمعة يوم الجمعة والظّهر في سائر الأيّام (3).
4 - وجوب القيام في الصّلاة لصيغة الأمر.
5 - شرعيّة القنوت في الصّلوات كلّها لذكره عقيب الأمر بالمحافظة على جملتها وعطف القيام حال القنوت على ذلك.
6 - جواز الصّلاة حال الخوف مشيا وركوبا.
7 - جوازها حال المسايفة كيف كان وبه قال الشافعيّ خلافا لأبي حنيفة فإنّه قال : لا يصلّى حالة المشي والمسايفة ما لم يتمكّن من الوقوف
الثّالثة ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) (4).
في هذه الآية الكريمة فوائد :
1 - أمره صلى اللّه عليه وآله أن يأمر أهله بالصّلاة أي صلّ وأمرهم بها فيجب علينا أيضا أمر أهالينا بها لدلالة التأسّي به صلى اللّه عليه وآله ويؤيّده قوله تعالى ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
ص: 63
ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (1) قال الباقر عليه السلام : « أمره اللّه تعالى أن يخصّ أهله دون النّاس ليعلم النّاس أنّ لأهله عند اللّه منزلة ليست للنّاس فأمرهم مع الناس عامّة ثمّ أمرهم خاصّة » (2).
2 - اصطبر عليها أي احمل نفسك على الصّلاة ومشاقّها وإن نازعتك الطّبيعة إلى تركها طلبا للرّاحة فاقهرها واقصد الصّلاة مبالغا في الصّبر ليصير ذلك ملكة لك ولذلك عدل عن الصّبر إلى الاصطبار لأنّ الافتعال فيه زيادة معنى ليس في الثّلاثيّ وهو القصد والتّصرف ولذلك قال [ اللّه ] تعالى ( لَها ما كَسَبَتْ ) بأيّ نوع كان من الفعل ( وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (3) بالقصد والتّصرف والمبالغة رحمة منه تعالى بعباده وإذا وجب عليه صلى اللّه عليه وآله الاصطبار وجب أيضا علينا لما قلناه والقائم بذلك يحصّل أعلى المراتب إذا لم يكن متحرّجا منها ومستعظما لها كما قال اللّه تعالى ( وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلّا عَلَى الْخاشِعِينَ ) (4).
3 - لمّا كان قبل هذه الآية النّهي عن النّظر إلى زخارف الدّنيا (5) وكان المقصود بالذّات من الأمر بالصّلاة الاشتغال بها عن النّظر إلى تلك الزّخارف الدنيويّة فلا ينبغي أن يكون بشي ء من ذلك مشتغلا عن الصّلاة بل إذا عرض في النّفس شي ء من الميل إليها ينبغي الإقبال على الصّلاة والاصطبار عليها ليكون ذلك صادّا للطبيعة عن الميل إلى خلافه ولذلك كان عروة بن الزّبير إذا رأى الزّخارف عند الملوك قرأ هذه الآية ثمّ نادى الصّلاة الصّلاة رحمكم اللّه.
4 - لمّا كان النّهي عن النّظر إلى الزّخارف والأمر بالصّلاة يمكن أن يقال معه أنّ من جملة ذلك الرّزق الّذي لا بدّ منه أردف ذلك بقوله « لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً » إي طلب رزق بل اكتف برزق يأتيك ولا تكلّف نفسك بالطّلب فإنّه يشغلك عن الآخرة
ص: 64
وأطلبها بالعبادة والهداية نحن نرزقك ، إذا قنعت بما يأتيك كفيناك مؤنة الطّلب.
إن قلت : إذا منع صلى اللّه عليه وآله من طلب الرّزق فنحن أيضا كذلك لدلالة التأسّي لكنّه ليس كذلك بالإجماع.
قلت : الطّلب على قدر المطلوب ولمّا كان مطلوبه صلى اللّه عليه وآله أعلى المطالب جاز تكليفه بما لم يكلّف به غيره فيكون ذلك من خواصّه الّتي لا يجب التأسّي به فيها.
5 - أنّه لمّا كانت الزّخارف المنهيّ عن النّظر إليها قد تستعقب فائدة وعاقبة أردف ذلك بأنّ تلك ليست في الحقيقة فائدة ولا عاقبة بل هي عدم بالنّظر إلى عواقب العبادات اللّذيذة الدّائمة وإنّما العاقبة بالحقيقة أو العاقبة المحمودة لذوي التّقوى.
الرّابعة ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (1).
في الآية دلالة على وجوب الصّلاة وبشرى فاعلها بالفلاح الّذي هو الفوز بأمانيّهم والظّفر بمطلوبهم من الخلاص من عذاب اللّه والبقاء على دوام رحمته لهم و « قد » مثبتة للمتوقّع كما أنّ « لمّا » تنفيه ولمّا كان المؤمنون متوقّعين ذلك صدّرت بها لبشارتهم وأصل الفلاح لغة الشقّ ومنه الفلاحة لشقّ الأرض بالزّراعة. قوله ( فِي صَلاتِهِمْ ) أضافها إليهم لأنّهم المنتفعون بها وأمّا المصلّي له فغنيّ عنها والخشوع خشية القلب وعلامتها التزام كلّ جارحة بما أمر به في الصّلاة من النّظر والوضع.
قيل : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يصلّي رافعا بصره إلى السّماء فلمّا نزلت التزم بنظره إلى موضع سجوده (2) ونظر صلى اللّه عليه وآله إلى رجل يصلّي ويعبث بلحيته فقال : لو خشع قلبه لخشعت جوارحه (3).
ص: 65
وفيه آيات :
الاولى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) (1).
إقامة الصّلاة هو تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في أفعالها ، من أقام العود إذا قوّمه وقيل المواظبة عليها ، مأخوذة من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة ، قال الشّاعر :
أقامت غزالة سوق الضّراب *** لأهل العراقين حولا قميطا (2)
فإنّه إذا حوفظ عليها كانت كالنّافق الّذي يرغب فيه وإذا ضيّعت كانت كالكاسد المرغوب عنه وقيل التشمّر لأدائها من غير فتور ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه وتجلّد وضدّه قعد وتقاعد وقيل أداؤها ، عبّر عنه بالإقامة لاشتمالها على القيام كما عبّر عنها بالرّكوع والسّجود والقنوت والكلّ هنا محتمل وأمّا في قوله « يُقِيمُونَ الصَّلاةَ » في معرض المدح فالأولى أن يراد به الأوّل لأنّه أقرب إلى الحقيقة وأفيد لتضمّنه التّنبيه على أنّ المستحقّ للمدح هو من حاله كذا.
ص: 66
والدّلوك الزّوال نصّ عليه الجوهريّ من الدّلك لأنّ النّاظر إليها يدلك عينيه ليدفع شعاعها وقيل الغروب وتمسّك بقول الشاعر :
هذا مقام قدمي رباح *** دبّب حتّى دلكت براح(1)
وبراح علم للشّمس كقطام وحذام لمرأتين والحقّ أنّه لا دلالة فيه على المدّعى لاحتمال إرادة زوالها وكذا على الرّواية الأخرى « غدوة حتّى دلكت براح » وعلى تقدير الدّلالة لا ينافي كونه بمعنى الزوال لاحتمال الاشتراك.
والغسق أوّل ظلمة اللّيل وذلك حين يغيب الشّفق ولذلك قال الجوهريّ :الغاسق اللّيل إذا غاب الشّفق وقيل غسق اللّيل شدّة ظلمته وذلك إنّما يكون في نصف اللّيل والتهجّد تكلّف السّهر للصّلاة والتهجّد والهجود من أسماء الأضداد لأنّهما يأتيان بمعنى النّوم والسّهر وفي الآية أحكام(2) :
1 - إذا حمل الدّلوك على الغروب خرج الظّهران والأولى حمله على الزّوال
ص: 67
ص: 68
ص: 69
ص: 70
إذ أصل التركيب للانتقال (1) ومنه الدّلك (2) لأنّ الدّالك لا تستقرّ يده وكذا كلّما يتركّب من الدّال واللّام وما يتبعهما من الحروف كدلج ودلع (3) وبه قال ابن عبّاس وروي ذلك عن الباقر والصّادق عليهما السلام (4) ويؤيّده قول النّبي صلى اللّه عليه وآله : « أتاني جبرئيل لدلوك الشّمس حين الزّوال فصلّى بي الظّهر (5) » فعلى هذا يكون الأربع الصّلوات : الظّهر والعصر والمغرب والعشاء ، داخلة في الآية واللّام في « لِدُلُوكِ » للتّوقيت مثلها في لثلاث خلون.
2 - في الآية دلالة على امتداد وقت الأربع من الزّوال إلى الغسق فيكون أوقاتها موسّعة لأنّ اللّام قد قلنا أنّه للوقت وإلى لانتهاء الغاية فيكون الوقت ممتدّا من الزّوال إلى نصف اللّيل أو ذهاب الشّفق على الخلاف ومن المعلوم أنّ الصلوات الأربع يسعها بعض ذلك للأداء فلم يبق إلّا أن يكون المراد اتّساع وقتها بمعنى أنّ كلّ جزء منه صالح للأداء على سبيل الوجوب.
وخالف أبو حنيفة في ذلك حيث قال : الوجوب مختصّ بآخر الوقت لأنّ المكلّف مخيّر قبل ذلك والتّخيير ينافي الوجوب وجوابه لا نسلّم أنّ التّخيير ينافي الوجوب وإنّما ينافيه الوجوب المضيّق وأمّا الموسّع فلا ، ويكون معنى التّخيير إمّا العزم على الإتيان به كما قاله السيّد أو كون جزئيّات الوقت يتعلّق الوجوب
ص: 71
فيها بالإيقاع على سبيل التّخيير كما في الواجبات المخيّرة.
3 - في الآية دلالة على أنّ الظّهر هي الصّلاة الأولى لأنّ الانتهاء يستدعي ابتداء هو الدّلوك.
4 - أنّ آخر وقت العشاء نصف اللّيل على أحد التفسيرين للغسق وهو الأولى وهو مرويّ عن الباقر والصّادق عليهما السلام (1).
5 - « قُرْآنَ الْفَجْرِ » إشارة إلى صلاة الصبح تسمية للكلّ باسم جزئه وقال بعض الحنفيّة فيه دلالة على ركنيّة القراءة كما دلّ تسميتها ركوعا وسجودا على كونهما ركنين وليس بشي ء لأنّ التسمية لغويّة وكونها ركنا أو غيره شرعيّة فإنّ القراءة جزء سواء كانت ركنا أو غيره فالركنيّة مستفادة من دليل خارج.
وكان قرآنها مشهودا لأنّ الملائكة الليليّة والنهاريّة مجتمعون فيه فيكتب في الدّيوانين معا.
6 - كون نافلة اللّيل من خواصّه صلى اللّه عليه وآله أي وجوبها زائدا على فرائضك مختص بك ، من النفل وهو الزّيادة ومنه الأنفال بمعنى أنّها تجب له صلى اللّه عليه وآله وإلّا فالنّدبيّة ثابتة في حقّ كلّ الأمّة وإنّما عبّر عنها بالنّافلة لكونها تسمّى كذلك بالنّسبة إلى كلّ الأمّة.
7 - أنّه ضمّن « يَبْعَثَكَ » معنى يقيمك « مَقاماً مَحْمُوداً » وهو مقام الشّفاعة لأمّته وكان محمودا لأنّه يحمده كلّ من عرفه.
الثّانية ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ ) (2).
قال ابن عبّاس والحسن والجبائيّ : أنّ « طَرَفَيِ النَّهارِ » وقت صلاة الفجر والمغرب
ص: 72
وقال مجاهد : وقت صلاة الغداة والظّهر والعصر ، بناء على أنّ ما بعد الزّوال يعدّ من العشاء و « زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ » العشاءان ويحتمل قولا ثالثا بناء على أنّ النهار اسم لما بين الصّبح الثّاني وذهاب الشّفق المغربيّ وأنّ المراد ب « طَرَفَيِ النَّهارِ » نصف النّهار وصلاة الفجر في النّصف الأوّل وباقي الصّلوات الفرائض في النّصف الثّاني.
« وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ » أي قربا منه أي طاعات يتقرّب بها في بعض اللّيل فيكون المراد نوافل اللّيل فيكون زلفا عطفا على الصّلاة لا على طرفي النّهار وعلى الأوّلين يكون عطفا على طرفي النّهار ، والزّلف جمع زلفة كظلم جمع ظلمة والزّلفى بمعنى الزلفة من أزلفه إذا قرّبه فيكون المعنى ساعات متقاربة من اللّيل ويكون من هنا للتّبيين فيكون المعنى ساعات المغرب والعشاء القريبة من النّهار. واعلم أنّ دلالة الآية على اتّساع الوقت ظاهرة.
قوله « إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ » الأكثر على أنّ المراد بالحسنات هي الصّلوات الخمس وفي معنى إذهابها للسيّئات قولان الأوّل أنّها لطف في ترك السيّئات كما قال سبحانه وتعالى ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (1) الثّاني أنّها تكفّر الخطيئات الحاصلة من العبد بمعنى عدم مؤاخذته بها وعدم العقاب عليها وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة أحسنها ما رواه أبو حمزة الثماليّ عن أحدهما عليهما السلام في حديث طويل (2) عن عليّ عليه السلام :
« قال : سمعت حبيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : أرجى آية في كتاب اللّه « أَقِمِ
ص: 73
الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ » إلى آخرها والّذي بعثني بالحقّ بشيرا ونذيرا إنّ أحدكم ليقوم في وضوئه فيتساقط عن جوارحه الذّنوب فإذا استقبل اللّه بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شي ء كما ولدته أمّه فإن أصاب شيئا بين الصّلوتين كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصّلوات الخمس ثمّ قال : يا عليّ إنّما منزلة الصّلوات الخمس لأمّتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظنّ أحدكم لو كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك واللّه الصّلوات الخمس لأمّتي ».
قوله « ذلِكَ » إشارة إلى ما ذكره من إقامة الصّلاة فإنّ ذلك سبب لذكر اللّه وذكر اللّه سبب لدوام فيض الرّحمة على العباد المستعدّين لها كما قال اللّه تعالى : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) (1).
قوله « ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ » أي عظة للمتّعظين حيث علموا أنّ ذكرهم لله سبب لذكر اللّه إيّاهم.
الثّالثة ( فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ) (2).
أخبار في معنى الأمر بالتّنزيه لله تعالى والثّناء عليه في هذه الأوقات فيكون سبحان مصدرا بمعنى الأمر أي سبّحوا سئل ابن عبّاس هل تجد الصّلوات الخمس في القرآن قال نعم وقرأ هذه الآية ، تمسون صلاة المغرب والعشاء ، وتصبحون صلاة الفجر ، وعشيّا صلاة العصر ، وتظهرون صلاة الظّهر.
ووجه تسمية الصّلاة بالتسبيح أنّ التسبيح تنزيه [ ا ] لله تعالى عن صفات المخلوقين لأنّ المخلوق لا يستحقّ العبادة وكما أنّه منزّه عن صفات المخلوقين كذلك هو متّصف بصفات الكمال الّتي لا يتّصف بها المخلوقون ومن كان كذلك استحقّ مطلق
ص: 74
الحمد والثّناء ولذلك قرن الحمد بالتّسبيح وقال « وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ».
وقوله « وَعَشِيًّا » يجوز نصبه على الظّرف عطفا على معنى « فِي السَّماواتِ » لأنّه أقرب ويجوز عطفه على « حِينَ تُمْسُونَ » فيكون « وَلَهُ الْحَمْدُ » اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه فعلى الأوّل يكون تسمية صلاة النّهار حمدا لأنّ الإنسان يتقلّب [ في النهار ] ظ في أحوال توجب الحمد وفي اللّيل على أحوال توجب تنزيه اللّه تعالى عنها كالنّوم وتوابعه.
قال الحسن : إنّ هذه السورة أعني الروم مكيّة إلّا هذه الآية فإنّها مدنيّة وذلك لأنّ الصلوات الخمس إنّما فرضت بالمدينة وكان الواجب في مكّة ركعتين ركعتين فلمّا هاجر أقرّت صلاة السفر وزيدت في الحضر الزيادات المشهورة وأكثر الأقوال على خلافه وأنّ الصلوات كلّها فرضت بمكّة.
واعلم أنّه يقال أمسى إذا دخل في المساء وكذا أصبح وكذا الباقي فعلى هذا يمكن أن يحتجّ بها من يجعل الوجوب مختصّا بأوّل الوقت على التضيّق لتقييد الوجوب بالحينيّة المختصّة بحال الدّخول في المساء والصباح وليس بشي ء لأنّ ذلك إشارة إلى أوّل الوقت فانّ لكلّ صلاة وقتين أوّل للفضيلة وآخر للإجزاء.
ثمّ الذي يدلّ على التوسعة ما تقدّم في قوله « إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ » ورواية ابن عبّاس « عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّ جبرئيل عليه السلام صلّى به في اليوم الأوّل حين صار ظلّ كلّ شي ء مثله وفي اليوم الثّاني حين صار ظلّ كلّ شي ء مثليه وقال ما بينهما وقت » (1) ورواية محمّد بن مسلم « قال ربّما دخلت على أبي جعفر عليه السلام وقد صلّيت الظّهر والعصر فيقول : صلّيت الظّهر؟ فأقول نعم والعصر أيضا فيقول : ما صلّيت الظّهر ، فيقوم مسترسلا غير مستعجل فيغتسل أو يتوضّأ ثمّ يصلّي الظّهر ثمّ [ يصلّي ] العصر » (2).
ص: 75
الرّابعة ( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) (1).
أي فاصبر على ما يقولون من أنّك ساحر أو شاعر فإنّه لا يضرّك وأقبل على ما ينفعك فعله ويضرّك تركه وهو ذكر اللّه من التّسبيح وغيره ، والباء بمعنى مع أي سبّح مع حمد ربّك على هدايته وتوفيقه ، إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - قال المفسّرون : المراد من هذه الآية إقامة الصّلوات الخمس في هذه الأوقات فقبل طلوع الشّمس إشارة إلى الفجر وقبل غروبها إشارة إلى الظّهرين لكونهما في النّصف الأخير من النّهار ومن آناء اللّيل إشارة إلى العشائين وآناء اللّيل ساعاته جمع إنى بالكسر والقصر وآناء بالفتح والمدّ.
2 - أنّ « من » في « وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ » للابتداء وفيه تنبيه على أنّ ابتداء وقت العشائين من أوّل اللّيل وإنّما قدّم الزمان هنا لاختصاصه بمزيد الفضل فانّ القلب فيه أجمع لتفرّغه عن هموم المعاش أو لأنّ النّفس أميل إلى طلب الاستراحة من تعب الكدّ في النّهار فكان العبادة فيه أحمز ، ولذلك قال اللّه تعالى ( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ) (2) وقال ابن عبّاس : إنّ المراد من آناء اللّيل صلاة اللّيل كلّه.
3 - اختلف في أطراف النّهار فقيل الفجر والمغرب وفيه نظر لأنّ طرفي الشي ء منه لا خارج عنه ، وصلاة المغرب تقع في اللّيل فكيف يكون في النّهار اللّهمّ إلّا على الاحتمال المتقدّم. وقيل الظّهر لأنّ وقته عند الزّوال وهو طرف النّصف الأوّل نهاية وطرف الثّاني بداية ، وقيل العصر أعادها لأنّها الوسطى كما تقدّم وإنّما قال أطراف النّهار لأنّ أوقات العصر تقع في النّصف الأخير من النهار فيصدق على كلّ ساعة منه أنّها طرف أو أنّه جمعه للأمن من الالتباس نحو قوله تعالى ( صَغَتْ قُلُوبُكُما ) (3).
ص: 76
وقول الشّاعر : ظهراهما مثل ظهور الترسين.
4 - أنّ في الآية نصّا صريحا بسعة الوقت للصّبح والظّهرين لأنّه ذكر أواخر أوقاتها إذ ليس مرادنا بالتّوسعة إلّا أنّ الصّبح يمتدّ إلى طلوع الشّمس وأنّ الظّهرين يمتدّ وقتهما إلى غروبها وأمّا العشاءان فإنّ جعل اللّيل طرفا لهما صريح باتّساع وقتهما.
سؤال : ما ذكرتم من اتّساع الوقت هنا وفيما تقدّم صريح في مذهب ابن بابويه بأنّ الوقت مشترك بين الفرضين من ابتدائه إلى انتهائه إلّا أنّ هذه قبل هذه وأنتم لا تقولون بذلك بل تقولون إنّ الوقت يختصّ من أوّله بالظّهر قدر أدائها ومن آخره بالعصر قدر أدائها وكذا المغرب والعشاء؟.
جواب : لا ريب أنّ ظاهر هذا الكلام بل وظاهر أكثر روايات أهل البيت عليهم السلام يقتضي الاشتراك والدّليل والبحث والإجماع يقتضي الاختصاص وحينئذ يجب الجمع والتوفيق بوجوه : الأوّل أن يراد بالاشتراك ما بعد الاختصاص وقبله.
الثّاني أنه لمّا لم يكن للظّهر وقت مقدّر بل أيّ وقت أدّيت فيه فهو مختصّ بها فإنّها لو كانت تسبيحة كصلاة الشدّة كانت العصر بعدها وأيضا لو ظنّ دخول الوقت وصلّى ولم يكن دخل حين ابتدائه ثمّ دخل فيه قبل إكمالها بلحظة فإنّ أكثر الأصحاب يفتون بالصحّة وحينئذ يصلّي العصر في أوّل الوقت إلّا ذلك القدر فلقلّة الوقت وعدم ضبطه عبّر عنه في الآيات والرّوايات بالاشتراك.
الثّالث أنّ ذلك مطلق قابل للتقييد فيقيّد بما رواه داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن الصّادق عليه السلام « قال إذا زالت الشّمس دخل وقت الظّهر فإذا مضى قدر أربع ركعات دخل وقت الظّهر والعصر حتّى يبقى عن مغرب الشّمس قدر أربع فيخرج وقت الظّهر ويبقى العصر حتّى تغرب الشّمس » (1) ويمكن أيضا أن يكون قوله في الآية السّابقة ( فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ) إلى آخرها إشارة إلى الوقت المختصّ لأنّ الإمساء حال الدّخول في المساء وكذا الإصباح والإظهار
ص: 77
فيقيّد به إطلاق غيرها من الآيات.
الخامسة ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ ) (1).
وتقرب منها الآية في الطّور ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ ) (2).
الكلام في الآيتين متقارب وبحثه يعلم ممّا تقدّم فلا وجه لإعادته.
بقي ههنا فوائد نوردها مختصرة :
1 - المراد بأدبار السجود التعقيب بعد الصّلوات بالتّسبيح والدّعاء عن ابن عبّاس ، وعن عليّ عليه السلام الركعتان بعد المغرب وعن الصّادق عليه السلام أنّه الوتر آخر اللّيل (3) وعن الجبائيّ النوافل بعد المفروضات وعندي أنّ حمله على العموم أولى والأدبار جمع دبر وقرأ حمزة بكسر الهمزة مصدرا مضافا والكلّ من أدبرت الصّلاة أي انقضت نحو أتيتك خفوق النّجم والمراد هنا وقت انقضاء الصّلاة.
2 - « حين تقوم » قيل : المراد تقوم من مجلسك بأنّه يقول : « سبحانك اللّهمّ وبحمدك لا إله إلّا أنت اغفر لي كلّ ذنب وتب عليّ » عن سعيد بن جبير ، ولذلك ورد مرفوعا أنّه كفّارة المجلس (4) وعن عليّ عليه السلام : « من أحبّ أن يكتال حسناته بالمكيال الأوفى فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه « سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » (5).
وقيل : تقوم في اللّيل من النّوم ، في الحديث عن الباقر والصّادق عليهما السلام أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يقوم من اللّيل ثلاث مرّات فينظر في آفاق السّماء ويقرأ الخمس من آخر
ص: 78
آل عمران إلى قوله « إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ » ثمّ يفتتح صلاة اللّيل (1) وقيل تقوم إلى الصّلاة فعلى هذا يمكن أن يحتجّ به على التوجّه إلى الصّلاة بالأذكار المشهورة.
3 - « إِدْبارَ النُّجُومِ » أي أعقاب النّجوم والمراد حين يسترها ضوء الصّبح ، فقيل المراد صلاة الفجر وعن الباقر والصّادق عليهما السلام الركعتان قبل صلاة الفجر (2) وبه قال ابن عبّاس وقيل المراد لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا ومساء وعلى كلّ حال.
وفيه آيات :
الاولى ( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (3).
أتى بفعل الاستقبال إخبارا عمّا يجي ء أعدادا للجواب إذ قبل الرّمي يراش السّهم أو لتوطين النّفس على المكروه لأنّ المفاجأة به شديدة والسّفهاء خفاف العقول الّذين ألفوا التّقليد وأعرضوا عن النّظر ، والقبلة مثل الجلسة للحال الّتي يقابل الشّي ء غيره عليها كما أنّ الجلسة للحال الّتي يجلس عليها وكان يقال هو لي قبلة وأنا له قبلة ثمّ صار علما للجهة الّتي تستقبل في الصّلاة « ولّاهم » أي صرفهم.
روى عليّ بن إبراهيم بإسناده عن الصّادق عليه السلام : حوّلت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبيّ صلى اللّه عليه وآله بمكّة ثلاث عشر سنة إلى البيت المقدّس وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إليه أيضا بستّة أشهر - وقيل تسعة وقيل عشرة وقيل ثلاثة عشر
ص: 79
شهرا وقيل تسعة عشر - قال ثمّ وجّهه اللّه إلى الكعبة وذلك أنّ اليهود عيّروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بأنّه تابع لهم ويصلّي إلى قبلتهم فاغتمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من ذلك غمّا شديدا وخرج في جوف اللّيل ينظر إلى آفاق السّماء ينتظر من اللّه في ذلك أمرا فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظّهر وكان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظّهر ركعتين فنزل جبرئيل عليه السلام فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة وأنزل عليه « قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ » فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام » وكان قد صلّى ركعتين إلى البيت المقدّس وركعتين إلى الكعبة. فقالت اليهود « ما وَلّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ » إنكارا منهم للنسخ (1).
وقيل القائل منافقوا المدينة حرصا منهم على الطّعن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقيل مشركو مكّة فقالوا إنّه اشتاق إلى مولده وقبلة آبائه وسيرجع إلى دينهم فنزل.
« قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ » أي مالك لهما ولسائر الأمكنة يشرّف ما شاء منهما بالتّوجه إليه بحسب ما يراه من المصلحة أو أنّه تعالى ليس في جهة حتّى إذا انحرف المصلّي عنها انحرف عن اللّه تعالى بل نسبته إلى أمكنة الشّرق والغرب على السّواء وهي نسبة التملّك وإنّما الاعتبار بتوجّه قلب المصلّي إلى اللّه سبحانه ، وتوجّه وجه المصلّي إلى جهة عنوان لتوجّه قلبه ، وحيث إنّ الجهات كلّها متساوية في ذلك فالمرجّح هو الأمر لا خصوصيّة الجهة والمراد بالمشرق والمغرب ما ينقسم من الأرض إليهما ولا واسطة بينهما.
وقال الزمخشريّ المراد بلاد المشرق والمغرب ، فيلزمه أن لا يكون البراري والخربان منهما وليس كذلك.
قوله تعالى ( يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي الطّريق المستقيم بحسب ما يقتضيه المصلحة والحكمة تارة إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ، ووجه كون التوجّه إلى الكعبة صراطا مستقيما أنّه غير مائل إلى قبلة اليهود وهو بيت المقدس
ص: 80
ولا إلى قبلة النّصارى وهو المشرق فإنّ اليمين والشّمال مضلّة لأنّ التوجّه إليهما مظنّة أنّ العبادة للشّمس وفي الآية دلالة على جواز النّسخ ووقوعه.
الثّانية ( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (1)
هنا فوائد :
1 - « وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ » يحتمل وجهين :أحدهما أنّه ضمن الجعل معنى التّحويل أو أنّه من باب إطلاق العامّ على الخاصّ والمراد وما حوّلنا إذ التحويل جعل أيضا وهذا بناء على أنّه صلى اللّه عليه وآله كان يتوجّه في مكّة قبل هجرته إلى البيت المقدّس كما نقلناه عن الصّادق عليه السلام ورواه ابن عبّاس إلّا أنّه كان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس في الصّلاة وثانيهما أنّ الموصوف محذوف والتقدير وما جعلنا القبلة الجهة الّتي كنت عليها وهي الكعبة ويكون « الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها » هو المفعول الثّاني « لَجَعَلْنا » لا أنّه صفة للقبلة كما قيل وهذا بناء على أنّه كان يصلّي بمكّة إلى الكعبة كما قاله بعض المفسّرين وإنّما صلّى إلى الصخرة في المدينة تألّفا لليهود فالمخبر به على الأوّل المنسوخ وعلى الثّاني النّاسخ والأوّل أصحّ لأنّه قول علماء أهل البيت عليهم السلام.
2 - « إِلّا لِنَعْلَمَ » (2) ضمّن العلم معنى التّمييزأي لنتميّز بالعلم فانّ العلم صفة
ص: 81
تقتضي تميّز المعلوم فيتميّز النّاس التّابعون لك والنّاكصون عنك وذلك إمّا بمكّة فأمرناك ببيت المقدس ليمتاز من يتّبعك من مشركي مكّة لأنّهم ألفوا التوجّه إلى الكعبة وإمّا بالمدينة فأمرناك بالكعبة ليمتاز منافقوا اليهود لأنّهم كانوا يتوجّهون إلى البيت المقدّس ، وقيل المراد بذلك : لنعلم ذلك علما يتعلّق به الجزاء ، أي لنعلمه موجودا قاله الزّمخشريّ وفيه ضعف لا يخفى. « مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ » أي يرتدّ عن دينك وفي ذلك دلالة على كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض.
3 - « وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً » أي التّحويلة خصلة كبيرة على ضعفاء العقول والإيمان لعدم فهمهم الحكمة فيها وقد بيّن ذلك بقوله « إِلّا لِنَعْلَمَ » وهذا كما ميّز بين الصّادقين في الإيمان وبين غيرهم من امّة طالوت وداود بقوله ( إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ) (1) الآية. « إِلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ » إلى معرفة حكمته في أحكامه.
4 - « وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ » أي ثبات أيمانكم أو إيمانكم بتحويل القبلة وحكمته أو ما رواه ابن عبّاس أنّ القبلة لمّا حوّلت قال النّاس : كيف بمن مات قبل التّحويل من إخواننا فنزلت (2) واللّام في « لَكَبِيرَةً » هي الفاصلة بين إن المخفّفة والنّافية وفي « لِيُضِيعَ » لام تأكيد النّفي وينتصب الفعل بتقدير أن لكن لا يجوز إظهارها « إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ » لا يضيع أجورهم ولا يغفل عن
ص: 82
مصالحهم وقدّم الرّؤف وهو أبلغ لتوافق الفواصل.
الثّالثة ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ ) (1).
في الآية فوائد :
1 - المشهور أنّ « قَدْ نَرى » معناه ربّما نرى ومعناه التّكثيركقوله « قد أنرك القرن مصفرا أنامله » (2) والتّحقيق أنّه على أصل التّقليل في دخوله على المضارع وإنّما قلّل الرّؤية لتقلّل المرئيّ فإنّ الفعل كما يقلّ في نفسه فكذلك يقلّ لقلّة متعلّقه ولا يلزم من قلّة الفعل المتعلّق قلّة الفعل المطلق لأنّه لا يلزم من عدم المقيّد عدم المطلق وكذا القول في ( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ) (3) وكذا في البيت المراد تقليل التّرك لقلّة متعلّقه فلا ينافي كثرة مطلق التّرك المقصود للشّاعر.
2 - « تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ » أي تردّد وجهك وتصرّف نظرك تطلّعا للوحي كذا قيل والتّحقيق أنّه لا يجوز تعلّق « فِي السَّماءِ » ب « نرى » لتنزّه الرّائي عن المكان ولا بالتّقلّب لأنّ تقلّب الوجه ليس في السّماء ولا بصفة مقدّرة أي وجهك الكائن في السّماء لما قلناه بل تقديره تقلّب مطارح شعاع عين وجهك في السّماء ومطارح شعاع العين في السّماء.
بيان غلط : ظهر لك ممّا قرّرناه غلط من استدلّ بهذه الآية على كون الباري تعالى في جهة السّماء من حيث توقّعه صلى اللّه عليه وآله نزول الحكم من السّماء والحكم يجي ء من عند اللّه تعالى فيكون في السّماء وأقرّ على ذلك من غير إنكار. جوابه أنّه كان ينتظر الوحي من جهتها على لسان جبرئيل عليه السلام ولا يلزم من ذلك كون الباري فيها وإلّا
ص: 83
لزم من صعود الملائكة بالأمر من الأرض أن يكون اللّه فيها وهو باطل.
3 - ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) تقدّم أنّه أمر بالتوجّه إلى الصخرة تألّفا لليهود وكان صلى اللّه عليه وآله يحبّ التوجّه إلى الكعبة لأنّها قبلة أبيه إبراهيم أو لما تقدّم أنّ اليهود قالوا يخالفنا محمّد في ديننا ويصلّي إلى قبلتنا فقال صلى اللّه عليه وآله لجبرئيل وددت أن يحوّلني اللّه إلى الكعبة فقال جبرئيل عليه السلام إنّما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فاسأل أنت فإنّك عند اللّه بمكان فعرج جبرئيل وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يديم النّظر إلى السّماء رجاء أن ينزل جبرئيل بما يحبّ من أمر القبلة فنزلت ، وقيل كان قد وعد بالتّحويل فكان ينتظره ويترقّبه لموافقته لمحبّته الطّبيعيّة ولا يلزم كونه ساخطا للقبلة الاولى.
« فَلَنُوَلِّيَنَّكَ » من قولهم ولّيت فلانا الأمر أي مكّنته منه وحكّمته فيه « وترضاها » صفة ل « قبلة » أي مرضيّة لك.
4 - ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) هو النّاسخ للتوجّه إلى الصخرة وكان ذلك في رجب قبل قتال بدر بشهرين قال ابن عبّاس هو أوّل نسخ وقع في القرآن وقيل هو نسخ للسنّة بالكتاب فإنّه ليس في القرآن أمر بالتوجّه إلى الصخرة صريحا. ثمّ اعلم أنّ الأمر هنا على التحتّم والجزم لا على التّخيير كما قيل لانعقاد الإجماع على بطلان التوجّه إلى الصخرة والشّطر هو النّحو والجهة قاله الجوهريّ وأنشد :
أقول لامّ زنباع أقيمي *** وجوه العيس شطر بني تميم (1)
وقرأ أبيّ « تلقاء المسجد الحرام » وقول الجبّائي إنّ الشّطر النّصف باطل باتّفاق المفسّرين وإنّما كان حراما لحرمة القتال فيه أو لمنعه من الظّلمة أن يتعرّضوه.
ص: 84
تحقيق : المحقّقون من أصحابنا على أنّ القبلة هي الكعبة بالحقيقة لمن كان مشاهدا لها أو في حكمه كالأعمى ومن كان بينه وبينها ما لو أزيل لشاهدها وأمّا من ليس كذلك فقبلته الجهة وبه قال جملة الفقهاء وهو الحقّ لوجوه الأوّل إجماع العلماء على وجوب استقبالها لمن هو مشاهد لها دون شي ء من أجزاء المسجد فتكون هي القبلة الثّاني رواية أسامة بن زيد أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله صلّى قبل الكعبة وقال هذه القبلة (1) الثّالث رواية الأصحاب عن أحدهما عليهما السلام أنّ بني عبد الأشهل أتوا وهم في الصّلاة وقد صلّوا ركعتين إلى البيت المقدّس فقيل إنّ نبيّكم قد صرف إلى الكعبة فتحوّل النساء مكان الرّجال والرّجال مكان النّساء وجعلوا الرّكعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلّوا صلاة واحدة إلى القبلتين فلذلك سمّوا مسجدهم مسجد القبلتين ، وغير ذلك من الرّوايات (2).
سؤال : على قولكم هذا لم قال « فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » أليس كان ينبغي أن يقول : فولّ وجهك إلى الكعبة.
جواب : قال اللّه تعالى ذلك وهو صلى اللّه عليه وآله في المدينة ولا ريب أنّ البعيد فرضه الجهة لا العين لأنّه حرج وأيضا لو كان الواجب التوجّه إلى المسجد أو جهته عملا بظاهر الآية لوجب ذلك أيضا للحاضر المشاهد واللّازم كالملزوم في البطلان وبيان الملازمة ظاهر إن قلت ذلك مسلّم لولا المخصّص قلت الجواب بضعف المخصّص إذ رواته بعضها عاميّ المذهب وبعضها زيديّ وبعضها مرسل وأمّا رواية المفضّل بن عمر
ص: 85
الجعفيّ فقد طعن الكشّيّ فيه بفساد العقيدة (1).
تنبيه : في تعبيره بالشّطر بمعنى الجهة إيماء إلى أنّ أمر القبلة مبنيّ على المساهلة والمقاربة دون التّحقيق فإنّ العراقيّ والخراسانيّ [ علامة ] قبلتهم واحدة مع أنّه إذا حقّق كان توجّه العراقيّ إلى غير موضع الخراساني لاختلاف البلدان في العروض.
5 - « وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ » خصّه صلى اللّه عليه وآله بالأمر أوّلا تعظيما لشأنه وإجابة لرغبته ثمّ عمّم بالأمر تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة وحضّا للأمّة على المتابعة ، وحيثما للمكان أي في أيّ مكان كنتم ويلزم من ذلك أن
ص: 86
يكون أهل العالم في صلواتهم على دوائر حول المسجد بعضها صغيرة قريبة وبعضها كبيرة بعيدة.
6 - ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) الضمير عائد إلى التّحويل أو التوجّه لأنّهم يعلمون جملة أنّ كلّ شريعة لا بدّ لها من قبلة وتفصيلا لتضمّن كتبهم أنّه صلى اللّه عليه وآله يصلّي إلى القبلتين لكنّهم لا يعترفون بذلك لشدّة عنادهم « وَمَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ » بالياء - وعيد لأهل الكتاب وبالتّاء وعد لهذه الأمّة.
الرّابعة ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ) (1).
في هذه الآية إخبارات يلزمها أحكام :
ص: 87
1 - أنّه أخبره أنّ أهل الكتاب لا يسلمون ولا يتّبعون قبلته فقوله « وَلَئِنْ أَتَيْتَ » اللّام موطّئة لقسم محذوف و « الَّذِينَ » مع صلته مفعول به والباء في « بِكُلِّ آيَةٍ » للمصاحبة نحو قولك أتيت الأمير بحجّتي أي مع حجّتي و « ما تَبِعُوا » جواب القسم واستغني به عن جواب الشّرط لأنّهما في المعنى واحد والغرض من الكلام قطع طمعه صلى اللّه عليه وآله في صلاحهم لأنّهم لم يتركوا متابعته لشبهة حتّى تزول ببرهان ودليل بل عنادا ولذلك قال علماء الحكمة العمليّة : إنّ علاج الجهل المركّب غير ممكن. وهل هذا عامّ في أهل الكتاب أو خاصّ بالمعاندين منهم الأولى الثاني لأنّ منهم من أسلم وتبع قبلته ولا بعد في ذلك لأنّ العامّ قابل للتّخصيص قال ابن عبّاس ما من عامّ إلّا وقد خصّ إلّا قوله « وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » مع أنّ من جملة الحكماء وغيرهم قوما قالوا لا يعلم ذاته ولا الجزئيّ الزمانيّ.
2 - أخبر أنّه صلى اللّه عليه وآله ليس بتابع قبلتهم وفيه قطع لأطماعهم لأنّهم قالوا لو ثبت على قبلتنا لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا ، وإنّما وحّد القبلة مع أنّ لليهود بيت المقدس وللنصارى مطلع الشمس إرادة لمعنى الجنس الصّادق في حالتي الإفراد وغيره.
3 - أنّ كلّ واحد من أهل القبلتين لا يتّبع قبلة الأخرى بدلالة قوله تعالى ( وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) وكذا قوله عنهم ( وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ ) (1).
4 - أنّه توعّده صلى اللّه عليه وآله على اتّباع أهوائهم بأنه يكون في عداد الظّالمين مبالغة في قطع طمعهم والشّرطية قد يتركّب من محالين كقولنا إن كان زيد حجرا فهو جماد.
قوله ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) (2) أي لكلّ شخص والتّنوين بدل المضاف إليه والوجهة والجهة بمعنى واحد ويقرب أن يكون المراد منه أنّ لكلّ نبيّ جهة يتعبّد بالتوجّه إليها أو يكون المراد أنّ لأهل كلّ إقليم من المسلمين جهة من جهات الكعبة يتوجّهون إليها كالّذي فيه الحجر لأهل العراق والّذي مقابله لأهل
ص: 88
المغرب واليماني لأهل اليمن والّذي مقابله لأهل الشام. قوله « هُوَ مُوَلِّيها » أي ولّاه اللّه إيّاها أي أمره بتولّيها [ وقرئ « هو مولاها » أي هو مولّى تلك الجهة ظ ] وهي قراءة ابن عامر والباقون « مولّيها » بالياء أي هو مولّيها وجهه حذف المفعول الثّاني أو الضّمير لله أي اللّه مولّيها.
الخامسة ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ ) (1).
لمّا أمره بالتوجّه إلى جهة المسجد الحرام أمرا مطلقا محتملا للتقييد وعدمه بيّن له أنّ ذلك واجب في كلّ مكان وعلى كلّ حالة فقال « وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ » أي من أيّ مكان خرجت وصلّيت ( فَوَلِّ وَجْهَكَ ) والضّمير في إنّه عائد إلى الأمر أي أمرك بذلك هو الحقّ وأكّده بالإتيان بالجملة الاسميّة وإنّ واللّام في خبرها ووصفه بالحقّ أي الثابت الّذي لا يزول كلّ ذلك دافع لاحتمال النّسخ.
السّادسة ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (2).
تقدّم البحث في صدر هذه الآية بقي فيها فوائد :
1 - سبب التّكرار، ذكر له وجوه : الأوّل أنّه من باب التّأكيد اللّفظيّ فإنّه يجي ء في المفرد والجملة. الثّاني تأكيد أمر القبلة في دفع احتمال النّسخ فانّ كلّ حكم شرعيّ في مظنّة أن ينسخ. الثّالث أنّه أعيد ليتعلّق عليه ما بعده من الكلام كما في قوله هنا « لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ » إلخ وكذا ما تقدّم. الرّابع أنّه مهما أمكن حمل الكلام على معنى فلا يعدل عنها إلّا للضرورة وإذا كان كذلك فلا تكرار كما تقول هنا : إنّ الراد من الأوّل إذا خرجت مترقّبا للوحي في أمر القبلة طالبا للصّلاة
ص: 89
في مسجدك فولّ وجهك وكذلك أصحابك حيث كانوا من المواضع في المدينة ومن الثّاني إذا خرجت إلى السّفر وأردت الصّلاة ومن الثّالث أيّ مكان كنتم من البلاد فولّوا وجوهكم أو على أيّ حالة كنتم حاضرين أو مسافرين. الخامس أنّه كرّره لتعدّد علله فإنّه ذكر للتّحويل ثلاث علل تعظيم الرّسول بابتغاء مرضاته وجري العادة الإلهيّة أنّه يولّي كلّ صاحب دعوة وأهل كلّ ملّة جهة يستقبلها ويتميّز بها عن غيره ودفع حجّة المخالفين على ما بيّنه وقرن بكل علّة معلولها كما يقرن المدلول بكلّ واحد من دلائله.
2 - « لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ » أي أمرتم بالتوجّه إلى الكعبة لئلّا يكون ، فإنّ العرب يقولون إنّه على ملّة إبراهيم كما يزعم وقبلة إبراهيم الكعبة واليهود عندهم في التورية أنّه يصلّي إلى الكعبة بعد صلوته إلى الصّخرة فلو دمتم على بيت المقدس لتوجّه ذلك الإيراد من الطّائفتين عليكم « إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ » أي المعاندين من أولئك « فَلا تَخْشَوْهُمْ » فانّي من ورائكم « وَاخْشَوْنِي » بمخالفتكم وسمّى شبهة الّذين ظلموا حجّة بالنّسبة إلى اعتقاد موردها.
3 - « وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ » عطف على قوله « لِئَلّا يَكُونَ » أي وجوب التّولية ليتمّ نعمتي عليكم فانّ قبلتكم وسط كما أنّ نبيّكم وسط وشريعتكم وسط وأنتم أمّة وسط « وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » سبب ثالث غائيّ للتّولية.
السّابعة : ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (1).
قيل : إنّها نزلت ردّا على اليهود في اعتراضهم على النّبيّ صلى اللّه عليه وآله في توجّهه إلى الكعبة وقيل إنّه كان في مبدء الإسلام مخيّرا في التوجّه إلى الصخرة أو الكعبة بهذه الآية فنسخ بقوله « فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » وقيل نزلت في الدّعاء والأذكار وعن الباقر والصّادق عليهما السلام أنّ هذه الآية في النّافلة سفرا حيث توجّهت
ص: 90
الرّاحلة وقوله « فَوَلِّ وَجْهَكَ » في الفريضة لا يجوز فيها غير ذلك (1) فهذه الآية خاصّة بالنّافلة سفرا.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه مهما أمكن تكثير الفائدة مع بقاء اللّفظ على عمومه كان أولى فعلى هذا يمكن أن يحتجّ بالآية في الفريضة على مسائل :
1 - صحّة صلاة الظانّ أو النّاسي فتبيّن خطاؤه وهو في الصّلاة غير مستدبر ولا مشرّق ولا مغرّب فيستدير.
2 - صلاة الظّانّ فتبيّن خطاؤه بعد فراغه وكان التّوجّه بين المشرق والمغرب فتصحّ.
3 - الصّورة بحالها وكانت صلاته إلى المشرق أو المغرب والتبيّن بعد خروج الوقت.
4 - المتحيّر الفاقد الامارات يصلّي إلى أربع جهات وتصحّ صلوته.
5 - صحّة صلاة شدّة الخوف حيث توجّه المصلّي.
6 - صحّة صلاة الماشي ضرورة عند ضيق الوقت متوجّها إلى غير القبلة.
7 - صحّة صلاة مريض لا يمكنه التوجّه بنفسه ولم يوجد غيره عنده يوجّهه.
وأمّا الاحتجاج بها على صحّة النّافلة حضرا ففيه نظر لمخالفته فعل النّبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه لم ينقل عنه فعل ذلك ولا أمره به ولا تقريره فيكون إدخالا في الشّرع ما ليس منه نعم يحتجّ بها على موضع الإجماع وهو حال السّفر والحرب ويكون ذلك مخصّصا لعموم قوله تعالى ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ ) بما عدا ذلك وهو المطلوب.
قوله « إِنَّ اللّهَ واسِعٌ » أي واسع الرّحمة لعباده لم يشدّد عليهم « عَلِيمٌ » أي بمصالحهم وغيرها فيدبّرهم بعلمه.
ص: 91
الثّامنة ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).
سمّيت كعبة لتربيعها وكان المربّع مكعّبا لنتوء زواياه وقرأ ابن عامر « قيما » والباقون « قياما » مصدرا كالصّيام والعياذ والمعنى أنّ اللّه جعلها لتقويم النّاس والتوجّه إليها في متعبّداتهم ومعاشهم أمّا المتعبّدات فالصّلاة إليها والطّواف حولها والتوجّه إليها في ذبائحهم واحتضار موتاهم وغسلهم ودفنهم ودعائهم وقضاء [ أ ] حكامهم وهنا قيل بالعكس وأمّا معاشهم فآمنهم عندها من المخاوف وأذى الظّالمين وتحصيل الرّزق عندها بالمعاش والاجتماع العامّ عندها بجملة الخلق الّذي هو أحد أسباب انتظام معاشهم إلى غير ذلك من الفوائد قوله « ذلِكَ » أي ذلك الجعل « لِتَعْلَمُوا » أنّه تعالى عالم بكلّ معلوم فيعلم أسرار الموجودات وعواقب أمرها فيدبّرها بعلمه وحكمته.
وفيه آيات :
الاولى ( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (2).
في الآية فوائد :
1 - إنّما قال أنزلنا لأنّ التّأثير بسبب العلويّات أو عند مقابلاتها وملاقياتها
ص: 92
على اختلاف الرأيين والتأثّر للسفليّات ويجوز عليكم باعتبار التّأثير وإليكم باعتبار التأثّر.
2 - اللّباس اسم لما يلبس والمواراة السّتر والسوءة العورة وإنّما سمّيت سوءة لأنّ صاحبها يسوؤه كشفها لاقتضاء طبيعة الإنسان ذلك ليتميّز عن باقي الحيوانات والرّيش مصدر قولهم رشت فلانا إذا أصلحت حاله ثمّ استعمل اسما بمعنى الثّوب الفاخر الّذي يتجمّل به وقرأ عثمان في الشواذّ رياشا وهو بمعنى ريش بشهادة الجوهريّ مثل اللّبس واللّباس.
وقال الزّمخشريّ : إنّه جمع ريش كشعب وشعاب وفيه نظر لأنّ الجمع غير مراد هنا وقرأ ابن عامر والكسائيّ لباس التّقوى بالنّصب عطفا على لباسا ويجوز على ريشا وقرأ الباقون بالرّفع خبر مبتدأ ويجي ء الكلام عليه.
3 - أنّه تعالى ذكر لحكمة إنزال اللّباس ثلاثة أغراض :
أحدها ستر العورة وينقسم أقساما الأوّل أن يكون واجبا مطلقا عن كلّ ناظر محترم وغيره حتّى عن نفسه وهو حالة الصّلاة والمراد بذلك للرّجل القبل والدّبر وهو قول أكثر علمائنا وقال شاذّ منهم أنّه ما بين السرّة والركبة وأمّا المرأة فجسدها كلّه عورة عدا الوجه والكفّين والقدمين وقال ابن عباس في قوله تعالى : ( إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها ) (1) المراد الوجه والكفّان الثّاني أن يكون واجبا لا مطلقا بل عن كلّ ناظر محترم غير مكفوف بعمي وغيره لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لعن الناظر والمنظور إليه (2) كما في غير الصّلاة من سائر الحالات الثّالث أن يكون مستحبّا وهو في الصّلاة وهو ستر ما بين السرّة والرّكبة وأفضل منه ستر البدن كلّه وفي غير الصّلاة مستحبّا مطلقا ولو في الخلوة حتّى وهو في الماء.
وثانيها التجمّل به بين النّاس فانّ اللّه يحبّ أن يرى آثار نعمه على عبده وقد لبس زين العابدين عليه السلام ثوبين للصيف بخمسمائة درهم وأصيب الحسين عليه السلام و
ص: 93
عليه الخز ولبس الصّادق عليه السلام الخزّ (1).
وثالثها كونه للتّقوى قيل المراد به ما يحترز به عن الضّرر كالحرّ والبرد وحال الحرب وليس بشي ء إذ التقوى عرفا وشرعا يراد بها الطّاعة وقيل ما يقصد به العبادة أو الخشية من اللّه تعالى والتّواضع له كالصّوف والشّعر.
4 - يظهر من كلام الزمخشريّ كون الأغراض الثّلاثة لثلاثة أثواب وفيه تكلّف والأولى أنّ اللّباس يوصف بالصّفات الثلاث لإمكان كون الثوب الواحد يجتمع فيه الأغراض الثّلاثة فيكون أبلغ في الحكمة فعلى هذا يكون قراءة الرفع في « ولباس » على أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو أيضا لباس التقوى.
5 - « ذلِكَ خَيْرٌ » يحتمل أن يكون « خير » أفعل التفضيل كما هو المشهور فيكون ذلك إشارة إمّا إلى لباس التّقوى أو إلى اللباس الجامع للصّفات الثلاث ويحتمل أن لا يكون أفعل التفضيل وتنكيره للتعظيم أي ذلك اللباس الجامع للصفات خير عظيم أنزل ولذلك أردفه بقوله « ذلِكَ مِنْ آياتِ اللّهِ » أي إنزال اللّباس الموصوف على نوع الإنسان آية عظيمة دالّة على غاية حكمة اللّه سبحانه ونهاية رحمته « لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » أي يتذكّرون ما دلّت عليه عقولهم الصّريحة من حكمة اللّه وعنايته الشّاملة لبريّته.
الثّانية ( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (2).
روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال كان العرب يطوفون بالبيت عراة ويعلّلون ذلك بأنّهم لا يطوفون في ثياب قد عصوا اللّه فيها فطافت امرأة وعلى فرجها خرقة أو سير وهي تقول :
ص: 94
اليوم يبدو بعضه أو كلّه *** فما بدا منه فلا أحلّه
فنزلت. (1) واتّفق المفسّرون على أنّ المراد بأخذ الزّينة هو ستر العورة في الصّلاة وهنا أحكام :
1 - الستر واجب لصريح الأمر والأمر للوجوب.
2 - هل السّتر شرط في الصّحة مع الإمكان مطلقا أو مقيّدا بحال العمد ، الشّيخ وابن سعيد على الثّاني وابن الجنيد على الأوّل وهو الأقوى ويظهر الفائدة في الناسي وغير العالم بالكشف فأوجب ابن الجنيد الإعادة عليهما في الوقت خاصّة والحقّ الوجوب مطلقا لأنّ الإخلال بالشّرط الواجب مطلقا مبطل مطلقا كالطّهارة.
3 - لا يسقط الصّلاة مع عدم السّاتر بل يجب فإن أمن المطّلع صلّى قائما مؤميا ومع عدم أمنه جالسا مؤميا.
4 - يجب شراء السّاتر أو استيجاره ويقدّم ثمنه على ثمن الماء لو تعارضا إذ الماء له بدل وكذا يجب قبول إعارته وهبته لا قبول هبة ثمنه.
5 - يجب كونه غير ميتة لما يجي ء ولا جلد غير مأكول ولا صوفه ولا شعره ولا ريشه مطلقا إلّا الخزّ إجماعا والسّنجاب على قول ويزيد في الرّجل أن لا يكون حريرا محضا ولا ذهبا.
قوله « عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ » أي كلّ صلاة تسمية الحالّ باسم المحلّ وعن الباقر والصّادق عليهما السلام هو استحباب لبس أجمل الثياب في الجمع والأعياد (2) وفيه دليل على استحباب التحسّن في الصّلاة لا التّخشّن اللّهمّ إلّا أن يكون الخشن شعارا (3) كما فعل الرّضا عليه السلام في لبسه الخزّ فوق والصّوف تحت وقضيّته مع جهلة الصّوفية مشهورة (4).
ص: 95
قوله ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) كان بنو عامر في أيّام حجّهم لا يأكلون الطّعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظّمون بذلك حجّهم فقال المسلمون نحن أحقّ بفعل ذلك فنزلت الآية.
واعلم أنّ خصوص السّبب لا يخصّ العامّ كما بيّن في الأصول فالآية حينئذ عامّة في الأمر بالأكل والشّرب وعدم الإسراف فيهما وفيه جمع لقواعد الطبّ البدنيّ في بعض آية وكذا جمع النبيّ صلى اللّه عليه وآله في قوله : « المعدة بيت الداء والحميّة رأس الدّواء وأعط كلّ بدن ما عوّدته » وقضيّة عليّ بن واقد بين يدي الرّشيد مع بختيشوع الطّبيب مشهورة (1).
الثّالثة ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (2).
لا ريب أنّ إسناد التّحريم إلى الذّوات ليس حقيقة لكونها غير مقدورة فلا بدّ من تقدير مضاف يتعلّق به التّحريم فقال قوم ليس بعض المقدّرات أولى من بعض
ص: 96
فيقدّر لفظ يعمّ الجميع وهو هنا الانتفاع وفيه نظر لأنّا نسلّم أنّه لا بدّ من تقدير لكنّ الذّهن يسبق عند الإطلاق إلى تقدير ما يراد من تلك الذّوات كما يسبق إلى الذّهن من إطلاق ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (1) تحريم النّكاح فعلى الأوّل تقدير الآية حرّمت عليكم وجوه الانتفاعات بالميتة فيدخل في ذلك لبس جلدها واستعمالها بسائر وجوه الاستعمال سواء دبّغ أولا (2) ويؤيّده قول الباقر عليه السلام وقد سئل عن جلد
ص: 97
ص: 98
ص: 99
ص: 100
الميتة أيلبس في الصّلاة إذا دبّغ فقال لا ولو دبّغ سبعين دبغة (1) ووافقنا في ذلك أحمد ابن حنبل وخالف الشافعيّ حيث قال : يجوز مع الدبغ مستثنيا للكلب والخنزير وأبو حنيفة استثنى الخنزير لا غير ، وقال مالك ويطهر ظاهره بالدبغ لا باطنه.
2 - استثني من الميتة مالا تحلّه الحيوة كالصّوف والشّعر والوبر والرّيش والظلف والظفر والسنّ والقرن والبيض مع القشر الأعلى والأنفحة والعظم إذ الموت فقدان الحيوة فما لا حيوة له لا تأثير للموت فيه وخالف الشافعيّ في العظم والشعر والصوف ويحتجّ عليه بقوله تعالى ( وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ ) (1) وهو أعمّ من كونه من حيّ أو من ميّت مع الجزّ فلا يكون نجسة.
3 - ما لا نفس له بسائلة لا ينجس بالموت.
4 - الدم ولحم الخنزير نجسان لعطفهما على الميتة فلا يجوز الصلاة معهما ويخرج من الدم دم ما لا نفس له وما لا يقذفه المذبوح.
ص: 102
5 - الخنزير عندنا نجس كلّه حتّى عظمه وشعره وإنّما خصّ اللّحم في الآية لأنّها في معرض تحريم الأكل ، واللّحم هو المقصود به ، وفي الآية فوائد آخر يأتي إنشاء اللّه تعالى.
الرّابعة والخامسة ( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) (1) ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ ) (2).
الدف ء مصدر تقول دفئنا اليوم دفأ والمراد به ما يدفأ به من الأكسية والملابس المأخوذة من صوفها وشعرها ووبرها والسكن أهل الدار ويقال أيضا لكلّ ما سكنت إليه وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « يوم ظعنكم » بتحريك العين والباقون بسكونها وهما لغتان كنهر ونهر ، والمراد بالبيوت قباب العرب المتّخذة من الأدم. والأثاث قال الجوهريّ : هو متاع البيت ، قال الفرّاء لا واحد له وقال أبو زيد الأثاث المال أجمع الواحدة أثاثة والأوّل أصحّ ويشهد بذلك العرف والأصل عدم النقل والفرق بين الأثاث والمتاع فرق ما بين الصفة والموصوف فإنّ الأثاث ما من شأنه أن ينتفع به في الدار والمتاع ما ينتفع به في الجملة أعمّ منه ولذلك قيل الأثاث ما يفرش في البيت والمتاع ما يتّجر فيه وفي الآية دلالة على أمور :
1 - جواز اتّخاذ الملابس من الصوف والشعر والوبر والصلاة فيها.
2 - جواز اتّخاذ الفرش والآلات من جلودها وأصوافها وإشعارها وجواز الصلاة عليها إلّا ما أخرجه الدليل من عدم جواز السجود على شي ء من ذلك بل إمّا
ص: 103
على الأرض أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس.
3 - طهارة الصوف والشعر والوبر ولو من الميتة مع أخذه منها جزّا لإطلاق اللّفظ من غير تقييد. إن قلت : فقد أطلق أيضا الجلود فينبغي أن يجوز من الميتة مع الدبغ. قلت : خرج الميتة بقوله « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ » وقد سبق (1)
السادسة ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) (2)
الظلال جمع ظلّ وهو ظلّ الشجر وغيره ممّا يستظلّ به عند الحرّ « أَكْناناً » جمع كنّ وهي غير ان الجبال للاكتنان من الحرّ والبرد والجارّ والمجرور حال من أكنانا وكان صفة فلمّا تقدّم صار حالا والسرابيل جمع سربال قال الزجّاج : هو كلّ ما يلبس « وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ » هي الدروع وعدم ذكر البرد لأنّ الخطاب لأهل البلاد الحارّة فالحرّ أهمّ عندهم أو اكتفى بأحد المتقابلين عن ذكر الآخر لاشتراكهما في العلّة. وفيها دلالة على أمور :
1 - جواز اتّخاذ الثياب من القطن والكتّان وغيرهما لأنّه ذكر أوّلا جواز اتّخاذ اللّباس من جلود الأنعام وأصوافها وإشعارها ثمّ عقّب ذلك بذكر سرابيل إلى آخره فدلّ ذلك على أنّ المذكور ثانيا غير المذكور أوّلا وإلّا لزم التكرار وهو مستهجن أو التأكيد والتأسيس خير منه لاشتماله على الفائدة إلّا ما أخرجه الدليل من الحرير والذّهب للرجال لقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « هذان محرّمان على ذكور أمّتي دون إناثهم » (3).
2 - جواز الصلاة في اللّباس المذكور وهو ظاهر.
ص: 104
3 - جواز الصلاة في بقاع الأرض والسجود عليها ينبّه على ذلك قوله تعالى : ( مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ) .
[ 4 - ] قوله « كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ » يريد أنّ إمتاعكم بالإمتاع المذكورة نعمة له وتنبيهكم على ذلك هو إتمام النعمة و « لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ » تعليل لإتمام النعمة وأتى بكلمة الترجّي لقلّة من يسلم منهم إسلاما حقيقيا بل يستسلمون خوفا من السيف. وقرأ ابن عباس تسلمون بفتح التاء من السلامة أي تسلمون من أذى الحرّ ومن القتل والجرح في الحرب بسبب السرابيل المذكورة.
السّابعة ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلّا خائِفِينَ ) (1).
في الآية فوائد :
1 - أنّ الاستفهام هنا على سبيل التقرير لظلم من فعل هذه الفعلة واستعظام ظلمه.
2 - « أن يذكر » مفعول ثان لمنع مثل قوله ( وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ) (2) ( وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ) (3) كلّ ذلك منصوب بنزع الخافض أي من أن يذكروا من أن نرسل وشرط النصب بنزع الخافض أن يكون الفعل متعدّيا إلى مفعول آخر وقال الزمخشريّ أنّه مفعول له أي كراهة أن يذكر وفيه نظر لأنّ « منع » تعقّله يتوقّف على متعلّقين ولا يمكن أن يقدّر غير الذكر فيها لأنّه هو الممنوع منه.
3 - « مَساجِدَ اللّهِ » عامّ في كلّ مسجد لأنّ الجمع المضاف للعموم كما بيّن في أصول الفقه إن قلت قيل إنّها نزلت في الرّوم لمّا خربوا البيت المقدّس وطرحوا
ص: 105
الأذى فيه ومنعوا من دخوله وأحرقوا التورية وقيل بل نزلت في المشركين لمّا منعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من دخول المسجد الحرام عام الحديبيّة قلت قد بيّن في الأصول أيضا أنّ خصوص السبب لا يخصّص العامّ بل الاعتبار بعموم اللّفظ.
4 - « ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلّا خائِفِينَ » يحتمل وجوها الأوّل ما كان لهم أن يدخلوها إلّا بخشية وخضوع فضلا أن يجترؤا على تخريبها. الثاني ما كان لهم أن يدخلوها إلّا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يمنعوهم كما وقع في عام الفتح ، وفي ذلك إخبار منه تعالى بنصرة نبيّه صلى اللّه عليه وآله. الثّالث ما كان لهم في علم اللّه فيكون ذلك وعدا للمؤمنين بالنصر واستخلاص المساجد منهم الرابع قيل معناه النهي عن تمكينهم من الدخول إلى المساجد وفيها أحكام :
1 - وجوب اتّخاذ المساجد لما فيه من إقامة مشاعر الدين لكن على الكفاية لأصالة عدم الوجوب على الكلّ.
2 - وجوب عمارة ما استهدم منها وإلّا لزم السعي في التخريب المنهيّ عنه.
3 - وجوب شغلها بالذكر وإلّا لزم التعطيل المنافي لعمارتها بذكر اسم اللّه تعالى فيها لكن على الكفاية أيضا.
4 - تحريم تخريبها ويرجع في ذلك إلى العرف فكلّ ما يعدّ تخريبا فهو حرام فمنه هدم جدرانها وأخذ فرشها وإطفاء السرج والإضواء فيها وشغلها بما ينافي العبادة وغير ذلك.
5 - استحباب اتّخاذها على الأعيان لأنّ كلّ واجب على الكفاية فهو مستحبّ على الأعيان قال النبيّ : صلى اللّه عليه وآله من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى اللّه له بيتا في الجنة (1) ».
6 - استحباب دخولها بالخضوع والخشوع والخشية من اللّه فإنّه في بيت اللّه فينبغي أن يكون حاله كحال العبد الواقف بين يدي سيّده.
ص: 106
7 - روى زيد بن عليّ عن آبائه عليهم السلام أنّ المراد بالمساجد بقاع الأرض كلّها لقوله صلى اللّه عليه وآله « جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا » (1).
قيل إنّ عجز الآية ينافي ذلك وهو قوله « وَسَعى فِي خَرابِها » وأجاب بعض المعاصرين ممّن اعتنى بالآيات الكريمة بأنّه لا منافاة فإنّ المراد الوعيد على خراب الأرض بالظلم والجور لقوله تعالى ( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) (2).
قلت إنّ ذلك وإن أمكن حمله عليه لكن كيف يصنع بقوله « أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلّا خائِفِينَ » ومن هو في الأرض لا يقال دخلها إلّا مجازا والأصل عدمه.
الثامنة ( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) (3).
دلّت هذه الآية على غاية عناية اللّه تعالى بالمساجد وأنّ الّذين يسعون في عمارتها عنده في أعظم المنازل ولذلك وصفهم بالصفات الكماليّة وهي الإيمان به وباليوم الآخر وهو المعاد واقتصر على الايمان باللّه واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولم يذكر الايمان برسوله والعبادات الباقية لأنّ الإيمان باللّه يستلزم الإيمان بالرسول إذ حكمه يقتضي ذلك والصلاة أعظم العبادات البدنيّة وأشقّها والزكاة أعظم العبادات الماليّة وأصعبها ومن أتى بالأعظم الأصعب لم يترك ما دونه.
ثمّ اعلم أنّ عمارة المساجد فسّرت بمعنيين : الأول رمّها وكنسها والإسراج فيها وفرشها. الثاني شغلها بالعبادة وتنحية أعمال الدنيا واللّهو واللّغط وعمل الصنائع [ منها ]
ص: 107
وإكثار زيارتها قال اللّه تعالى ( وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) (1) قيل هو السعي إلى المساجد وقال صلى اللّه عليه وآله « قال اللّه تعالى إنّ بيوتي في الأرض المساجد وإنّ زوّاري فيها عمّارها فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره » (2) وقال عليه السلام « من ألف المسجد ألفه اللّه تعالى » (3) وقال عليه السلام « إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان (4) » وعنه عليه السلام « من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه » (5).
وهنا آيات أخر تتعلّق بالمساجد يحسن ذكرها تابعة لهذه الآية لا منفردة كما فعله المعاصر وغيره.
الاولى ( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (6).
معناها واللّه أعلم الأمر بالتوجّه إلى الصلاة في كلّ مسجد يتّفق كونه فيه وصلاة ما يتهيّأ له من الصّلوات إمّا تحيّة أو غيرها ويكون إقامة الوجه كناية عن الصلاة ثمّ أمرهم بالدعاء أيضا عند كلّ مسجد وفيه حضّ وحثّ على الدعاء في المساجد وأنّها محلّ الإجابة ثمّ أمرهم بإيقاع ذلك كلّه على وجه الإخلاص لا للرياء وغيره من الأغراض.
الثانية ( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (7).
ص: 108
يقال تبوّأت له منزلا أي اتّخذته وأصله الرجوع من باء إذا رجع سمّي المنزل مباءة لكون صاحبه يرجع إليه إذا خرج والمراد أن اجعلا مصر دار إقامتكما وإقامة قومكما واجعلا فيها بيوتا أي مرا لهم بذلك كما يقال بنى السلطان مسجدا أي أمر ببنائه « وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً » أي مسجدا فأطلق اسم الجزء على الكلّ أي صلّوا في بيوتكم ، أمروا بذلك لخوفهم من فرعون وقومه وفيه دلالة على جواز صلاة الإنسان في بيته إذا خاف من ظالم وغيره وإنّما ثنّى الضمير أوّلا لأنّ موسى وهارون كانا مقدّمين على قومهما والعادة جارية بتوجيه الخطاب إلى مقدّم القوم ليأمر قومه بالمأمور به وجمعه ثانيا لأنّ التكليف لم يختصّ بهما بل عمّ الجميع ووحّده ثالثا لأنّ المخبر بالبشارة لا يعمّ الجميع بل يختصّ بمن كان أقرب إلى اللّه وكان موسى أقرب إلى اللّه من غيره فاختصّ بذلك.
الثالثة ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) (1).
سبب نزولها على ما روي أنّ بني عمرو بن عوف لمّا بنوا مسجد قبا (2) بعثوا
ص: 109
إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدا إخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا نبني مسجدا ونرسل إلى رسول اللّه يصلّي فيه ويصلّي فيه أبو عامر الراهب أيضا وسيأتي
ص: 110
قصّته ليثبت لهم الفضل والزيادة فبنوا مسجدا بجنب مسجد قبا وقالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو يتجهّز إلى تبوك إنا قد بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة واللّيلة المطيرة واللّيلة الشاتية وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة ، فقال عليه السلام إنّي على جناح السفر وإذا قدمنا إن شاء اللّه أتيناكم فصلّينا لكم فيه.
فلمّا قدم من تبوك أنزلت الآية فأنفذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عاصم بن عوف العجلانيّ ومالك بن الدّخشم فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه. وروي أنه بعث عمّار بن ياسر ووحشيّا فحرّقاه وأمر النبيّ صلى اللّه عليه وآله بأن يتّخذ مكانه كناسة يلقى فيها الجيف قيل كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين وقيل خمسة عشر.
ثمّ إنه تعالى أخبر نبيّه صلى اللّه عليه وآله بقصدهم وهو أنّهم بنوه مضارّة لبني عمرو بن عوف وتفريقا بين المؤمنين لأنّهم كانوا يجتمعون في مسجد قبا وإرصادا لأبي عامر الراهب بحيث يقدم إليهم وكلّ هذه المقاصد قبيحة منافية للدين وفي ذلك دلالة على وجوب الإخلاص بعمارة المساجد لله لا لغرض آخر. ثمّ إنّه تعالى أخبر عن مجيئهم في أخبارهم بضدّ مقصدهم وأنّه تعالى شهد بكذبهم مؤكّدا ذلك بعدّة من التواكيد ولمّا نهاه سبحانه أن يقوم فيه أبدا أقسم أنّ غيره أحقّ وأولى بالقيام فيه وهو مسجد أسّس على التقوى فقيل هو مسجد قبا وقيل مسجده بالمدينة ومعنى « مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ » أي من أوّل يوم بني و « أحقّ » هنا إمّا بمعنى حقيق فإنّ أفعل التفضيل يجي ء بمعنى الصفة كقولهم : « الأشجّ والناقص أعدلا بني مروان » أو أنّه على بابه أي أحقّ من كلّ مكان حقيق بالصلاة فيه ، أو أنّ الصّلاة في مسجدهم باعتبار كونه أرضا خالية من المسجديّة يجوز فيها الصلاة فالقيام فيها حسن في نفسه وإنّما صار قبيحا باشتماله على مفسدة تزيد على حسنه.
قصة ابى عامر الراهب :
إنّه ترهّب في الجاهليّة (1) ولبس المسوح ، فلمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه وآله المدينة
ص: 111
حسده وحزّب عليه الأحزاب ، ثمّ هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام ولحق بالروم وتنصّر فسمّاه النبيّ صلى اللّه عليه وآله الفاسق ثمّ إنّه أنفذ إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا مسجدا فانّي أذهب إلى قيصر وآتى من عنده بجنود واخرج محمّدا من المدينة فكان أولئك المنافقون يتوقّعون قدومه فمات قبل أن يبلغ ملك الرّوم بأرض يقال لها قنّسرين. ثمّ إنّ هذا أبو عامر كان له ولد اسمه حنظلة وهو رجل مؤمن من خواصّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قتل معه يوم أحد وكان جنبا فغسلته الملائكة فسمّاه النبيّ صلى اللّه عليه وآله غسيل الملائكة رحمة اللّه عليه ولعنة اللّه تعالى على أبيه أبدا.
التاسعة ( وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ) (1)
اتّفق المفسّرون على أنّ المراد بالنداء هنا الأذان فيستدلّ بذلك على مشروعيّته وهو لغة إمّا من الأذن بمعنى العلم أو من الإذن بمعنى الإجازة وعلى التقديرين الأذان أصله الإئذان كالأمان بمعنى الإيمان والعطاء بمعنى الإعطاء وقيل إنّه فعال بمعنى التفعيل كالسّلام بمعنى التسليم والكلام بمعنى التكليم فأذان المؤذّن حينئذ بمعنى التأذين وهو أقرب.
واختلف في سبب الأذان فعند العامّة أنّ أبا محذورة (2) رأى في المنام أنّ
ص: 112
شخصا على حائط المسجد يورد هذه الألفاظ المشهورة فانتبه فقصّ الرؤيا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال له إنّه وحي انده على بلال فإنّه أندى منك صوتا (1)
وأنكر أئمّتنا ذلك وقالوا إنّه وحي من اللّه تعالى على لسان جبرئيل (2) وروى منصور بن حازم عن الصادق عليه السلام « قال لمّا هبط جبرئيل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
ص: 113
بالأذان كان رأسه في حجر عليّ عليه السلام فأذّن جبرئيل عليه السلام وأقام فلمّا انتبه رسول اللّه قال. يا عليّ هل سمعت؟ قال نعم. قال : حفظت؟ قال نعم. قال : ادع بلالا فعلّمه فدعا عليّ بلالا فعلّمه » (1) وفي رواية أخرى عن الفضيل بن يسار عن الصادق عليه السلام « قال لمّا اسري برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فبلغ البيت المعمور وحضرت الصلاة فأذّن جبرئيل وأقام فتقدّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصفّ الملائكة والنبيّون خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثمّ ذكر الأذان المشهورة » (2) ولا منافاة بين الحديثين لجواز حصوله عن جبرئيل عليه السلام مرّتين.
وهنا مزيد بحث (3) وهو أنّ الأذان تارة يكون لتكميل فضيلة الصلاة كأذان المنفرد وأذان المرأة في بيتها وقد يكون للإعلام لا غير كأذان المؤذّن في البلد على مرتفع وقد يكون لهما كأذان صلاة الجماعة وفي الحديث « من صلّى بأذان وإقامة صلّى خلفه صفّان من الملائكة فإن صلّى بإقامة لا غير صلّى خلفه صفّ واحد (4) ».
ص: 114
وفيه آيات :
الاولى ( وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) (1).
قد تقدّم ذكر هذه الجملة في ضمن صدر آيتها ولنذكر هنا فوائد :
1 - استدلّ الفقهاء بهذه الصيغة على وجوب القيام في الصلاة ويرد عليهم سؤال وهو أنّ قوله تعالى ( وَقُومُوا ) ليس فيه إشعار بكونه في الصلاة. أجيب بأنّ القيام في غير الصلاة ليس بواجب ولفظ الآية يدلّ على وجوبه فيصدق دليل هكذا : شي ء من القيام واجب+ ولا شي ء منه في غير الصلاة بواجب - فيكون وجوبه في الصلاة وهو المطلوب.
إن قلت الكبرى ممنوعة بأنّ القيام في الطواف واجب وهو ليس بصلاة فالجواب المنع من كون القيام في الطواف واجبا مطلقا بل إذا كان ماشيا وأمّا حال الركوب اختيارا فلا.
ثمّ إنّا نزيد هنا ونقول إنّما استدلّ على ذلك لوجهين أحدهما أنّه عطفه على الأمر بالمحافظة على الصلاة وذلك مقتض لكون القيام فيها وثانيهما أنّه ذكر معه قيدا حاليّا وهو كونهم قانتين والقنوت هو رفع اليدين بالدعاء في الصلاة في عرف الفقهاء فيكون القيام أيضا فيها وذلك هو المطلوب.
2 - في قوله « لله » إشارة وتنبيه على وجوب النيّة في الصلاة وكذلك قوله ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (2) وقوله ( فَادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ ) (3)
ص: 115
وقد تقدّم ذكر شي ء من ذلك في أحكام النيّة ونزيد هنا فنقول : النيّة لغة الإرادة ومنه قولهم نواك اللّه بخير أي أرادك به واصطلاحا إرادة أيضا لأصالة عدم النقل وحقيقتها إرادة قلبيّة لإيجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعا فهي هنا استحضار ماهيّة الصلاة المقصودة وصفتها المميّزة لها عن غيرها من الصلوات فان كان ذلك في وقتها قصد الأداء وفي خارجه قصد القضاء ويوقع ذلك لوجوبه أو ندبه إخلاصا لله وتقرّبا إلى رضاه كلّ ذلك بالقلب ولا يكفي اللّسان وحده ، ولو ضمّه إلى التصوّر القلبيّ لم يضرّ. وعند بعضهم أنّه مكروه لكونه كلاما بعد الإقامة وعندي في كراهته نظر لأنّ المكروه بعد الإقامة ما لم يتعلّق بالصلاة وهذا متعلّق بها خصوصا مع كونه معينا على الاستحضار القلبيّ.
3 - يجب القيام في حال النيّة والتحريم والقراءة والركوع.
4 - قال ابن عباس المراد بقانتين أي داعين والقنوت هو الدعاء في حال القيام وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام (1) وقيل خاشعين وقيل ساكتين وقال زيد ابن أرقم كنّا نتكلّم في الصلاة فنزلت (2) والأوّل أقرب إلى موضوعه العرفيّ ولذلك قال ابن المسيّب إنّ المراد به القنوت في الصبح.
الثانية والثالثة ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) (3).
وقوله ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (4).
ليس المراد بالحمد هنا معنى الشكر بل معنى الثناء المطلق الّذي يستحقّه
ص: 116
المحمود ولذلك لم يذكر بعده نعمته بل ذكر صفاته الدالّة على كامليّة ذاته :
الاولى : أنّه لم يتّخذ ولدا لنفسه لأنّه لو كان له ولد لكان بقاء نوعه بتعاقب أولاده كحال الحيوانات لكنّه ليس كذلك لأنّ بقاء نوعه ليس إلّا ببقاء شخصه لكونه واجب الوجود وأيضا لو كان له ولد لكان له صاحبة ولو كان له صاحبة لكان له شهوة الوقاع ولو كانت لكانت محتاجا إليها لكنّه غنيّ بالإطلاق.
الثانية : أنّه ليس له شريك في ملكه إذ لو كان لكان إمّا مخلوقا له فلم يكن حينئذ شريكا بل عبدا أو ليس مخلوقا له فيكون شريكا له في ذاته وهو محال لما ثبت من دلائل التوحيد.
الثالثة : ليس له وليّ من الذّلّ والوليّ هو الّذي يقوم مقامه في أمور تختصّ به لعجزه كوليّ الطفل والمجنون فيلزم أن يكون محتاجا إلى الوليّ وهو محال لكونه غنيّا مطلقا. وأيضا إن كان الوليّ محتاجا إليه تعالى لزم الدور المحال وإلّا لكان مشاركا له. وإنّما قيّده بكونه من الذلّ لأنّه لو لم يكن وليّا من الذلّ لم يكن وليّا في الحقيقة بل من الأسباب وهو تعالى مسبّب الأسباب.
إذا تقرّر هذا فنقول : دلّت الآيتان على وجوب شي ء من التكبير ولا خلاف في عدم الوجوب في غير الصلاة فيكون الوجوب في الصلاة وهو المطلوب فهنا مسائل :
1 - يجب صيغة « اللّه أكبر » لأنّه المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ التكبير.
2 - تجب مراعاة اللّفظ المذكور من غير تغيير لترتيبه ولا يجوز الإتيان بمرادفه ولا تعريف المنكّر ولا المدّ المخرج عن المعنى إلى الاستفهام كمدّ لفظ الجلالة أو إلى الجمع كما في لفظ أكبر إذ تصير جمع كبر وهو الطبل.
3 - لا يجوز الترجمة بغير العربيّة لأنّه ليس بكلام اللّه ولا رسوله وقول أبي حنيفة بجوازها محتجّا بقوله ( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى ) (1) علّق الصلاة على ذكر اسمه الّذي هو أعمّ من كونه عربيّا أو غيره باطل إذ المراد بالاسم الأذان خصوصا
ص: 117
وقد أتى بالصلاة عقيبه بالفاء المقتضية للمغايرة والترتيب مع أنّ التحريمة جزء داخل في الصلاة فلا يكون هي المعيّنة بالآية.
الرابعة ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ) (1) ومثلها ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) (2).
دلّنا على وجوب قراءة شي ء من القرآن فيصدق دليل هكذا : قراءة شي ء من القرآن واجب+ ولا شي ء. من القراءة في غير الصلاة بواجب - فيكون الوجوب في الصلاة وهو المطلوب أمّا الصغرى فلصيغة الأمر الدالّة على الوجوب وأمّا الكبرى فإجماعية.
إن قلت إنّ الكبرى ممنوعة وسند المنع أنّ الوجوب إمّا عينيّ ولا إشعار به في الكلام أو كفائيّ فعدمه في غير الصلاة ممنوع بل يجب لئلّا يندرس المعجزة قلت المراد بالوجوب العينيّ إذ هو الأغلب في التكاليف ولأنه المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق ولا شكّ أنها غير واجبة عينا في غير الصلاة إجماعا. هذا وما ذكرناه قول أكثر المفسّرين وقد قيل إنّ المراد بالقراءة الصلاة تسمية للشي ء ببعض أجزائه وعني به صلاة اللّيل ثمّ نسخ بالصلوات الخمس وقيل الأمر في غير الصلاة فقيل على الوجوب نظرا إلى بقاء المعجزة ووقوفا على دلائل التوحيد وإرسال الرسل وقيل على الاستحباب فقيل أقلّه في [ اليوم و ] اللّيلة خمسون آية وقيل مائة وقيل مائتان وقيل ثلث القرآن.
إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :
1 - القراءة الواجبة هنا مجملة علم بيانها بالسنّة النبويّة والمراد بها الفاتحة لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب » (3) وقوله صلى اللّه عليه وآله « كلّ صلاة لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج » (4) وبه قال الشافعيّ ومالك وأحمد وقال أبو حنيفة
ص: 118
بعدم تعيينها بل ثلاث آيات من أيّ القرآن شاء ويدفعه الحديثان المذكوران.
2 - يتعيّن الفاتحة في الأوليين ويتخيّر في الأخيرتين بينها وبين التسبيح وقال الشافعيّ ومالك وأحمد يجب في كلّ ركعة لنا ما رووه ورويناه عن عليّ عليه السلام أنّه قال « اقرأ في الأوليين وسبّح في الأخيرتين » (1) رواه الحارث عنه وكذا تواتر عن أهل البيت عليهم السلام (2).
3 - يجب قراءتها على الوجه المنقول ترتيبا ولفظا ولا يجوز ترجمتها بغير العربيّة لأنّ ذلك غير قرآن لأنّ القرآن عربيّ بالنصّ ولأنّه معجز بلفظه ونظمه والترجمة غيرهما وقول أبي حنيفة بالجواز لقوله تعالى ( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ] ) (3) ضعيف لعود الإشارة إلى الحكم وكذا لا يقرأ في خلالها من غيرها فمن خالف شيئا من ذلك عمدا بطلت صلوته وسهوا استأنف المتروك إن ذكر في موضع القراءة وإلّا فلا.
4 - البسملة آية من الحمد ومن كلّ سورة (4) وعليه إجماع علمائنا وبه قال الشافعيّ (5).
ص: 119
ونفاه مالك (1) وقال أبو حنيفة إنّها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها بل كتبت للتبرّك وللفصل بين السور (2).
لنا تواتر روايات أهل البيت عليهم السلام (3) ومن طرقهم (4) رواية أبي هريرة (5)
ص: 120
ص: 122
حتّى قال ابن عبّاس : من تركها فقد ترك مائة وبضع عشر آية من كتاب اللّه (1) »
5 - يجب عند أكثر أصحابنا قراءة سورة بعد الحمد في الأوليين وقال الأقلّ لا تجب (2) وبه قال الشافعيّ وغيره من الجمهور ، لنا ما تواتر من فعله صلى اللّه عليه وآله أنّه
ص: 123
كان يقرأ في الأوليين من الظهر بالفاتحة وسورتين (1) وقال صلى اللّه عليه وآله « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (2) وروايات أهل البيت عليهم السلام بذلك متظافرة (3) هذا في حال الاختيار أمّا حال الاضطرار فتركها جائز قطعا.
الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (4).
في الآية فوائد :
1 - الأمر بالركوع والسجود يفيد وجوبها والركوع لغة الانحناء قال الشاعر :
لا تهين الفقير علّك أن تركع
يوما والدهر قد رفعه (5)
ص: 124
وشرعا هو الانحناء قدر أن يصل معه الكفّان الركبتين والسجود لغة الخضوع قال الشاعر (1) « ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر » (2) وشرعا وضع شي ء مكشوف
ص: 125
من الجبهة أو ما قام مقامها على الأرض أو ما قام مقامها.
2 - يجب في الركوع الذكر وسيأتي والطمأنينة بقدره ورفع الرأس والطمأنينة بعده بمسمّاها وفي السجود الذكر والطمأنينة قدره والسجود على ستّة أخرى وهي الكفّان والركبتان وإبهاما الرّجلين ورفع الرأس بعدها والجلوس مطمئنّا مسمّاها ثمّ السجود ثانيا كالأوّل ورفع الرأس ولا يجب الجلوس بعده بل يستحبّ خلافا لأبي حنيفة حيث منع شرعيّته وحمل ما ورد من فعله صلى اللّه عليه وآله على الضعف للكبر وهو خطأ.
3 - الأمر بالعبادة وهي غاية الخضوع والتذلّل ومنه طريق معبّد أي مذلّل وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة ولذلك لا يستعمل إلّا لله تعالى والمراد بالذلّة تذليل النفس الأمّارة واللّوّامة لتطيعا النفس المطمئنّة فيحصل الترقّي إلى الكمال ورضى ذي الجلال وإنّما قال « ربّكم » إشارة إلى أنّ الموجب للعبادة هو مقام الربوبية.
4 - يمكن أن يكون هذه الآية دالّة على أربع عبادات : الصلاة وعبّر عنها بالركوع والسجود تسمية للشي ء باسم أعظم أجزائه ولم يقل صلّوا لئلّا يتوهّم إرادة الصلاة لغة وهو الدعاء « وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ » إشارة إلى الصوم والحجّ وإن كان نزولها بعد وجوبهما « وَافْعَلُوا الْخَيْرَ » إشارة إلى الزكاة ويكون قوله « وَجاهِدُوا » في الآية التالية لها إشارة إلى الجهاد.
5 - استدلّ الشافعيّ بهذه الآية على استحباب سجود التلاوة عندها محتجّا بقول عقبة بن عامر قال قلت للنبيّ صلى اللّه عليه وآله في سورة الحجّ سجدتان؟ قال نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما (1) ومنعه أبو حنيفة لأنّ قران الركوع بالسجود يدلّ
ص: 126
على أنّ المراد سجود الصلاة وفيه قوّة وحكم أصحابنا بالسجود هنا ندبا بالدليل خارج.
6 - قال ابن عبّاس إنّ فعل الخير إشارة إلى صلة الرحم ومكارم الأخلاق فيكون حثّا على سائر المندوبات والقربات.
السادسة ( وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (1).
روي أنّ المعتصم سأل أبا جعفر محمّد بن عليّ بن موسى عليهم السلام عنها فقال هي الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها وبه قال سعيد بن جبير والزجّاج والفرّاء (2) ويؤيّده قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أمرت أن أسجد على سبعة آراب » (3) أي أعضاء ومعنى « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً » لا تشركوا معه غيره في سجودكم عليها وقيل لا تراؤوا أحدا بصلاتكم وقيل المراد بها المساجد المعروفة فلا ينبغي أن يذكر فيها أحد غير اللّه وقيل [ المراد ] بقاع الأرض لقوله صلى اللّه عليه وآله « جعلت لي الأرض مسجدا [ وطهورا ] (4) وقيل المسجد الحرام وقيل جمع مسجد والمسجد مصدر بالميم بمعنى السجود والأوّل أولى.
السابعة ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (5)
ومثلها ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) (6)
باسم ربّك أي بذكر اسم ربّك أو الاسم الذكر أي سبّح بذكر ربّك « والعظيم » يحتمل كونه صفة للاسم أو للربّ و « سبّح اسم ربّك » أي نزّهه عمّا لا يجوز إطلاقه
ص: 127
عليه أو نزّهه عن إطلاق اسمه على غيره أو نزّهه عن ذكره لا على وجه التعظيم والأعلى صفة الربّ ويحتمل الاسم. إذا عرفت هذا فهنا مسائل :
1 - روى عقبة بن عامر قال : لمّا نزل « فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ » قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله اجعلوها في ركوعكم. ولمّا نزل « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى » قال اجعلوها في سجودكم » (1) ومثله من طرقنا رواية هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام « تقول في الركوع سبحان ربّي العظيم وفي السجود سبحان ربّي الأعلى الفريضة واحدة والسنة ثلاث » (2)
2 - حكم بعض فقهائنا بوجوب الذكر المعيّن عينا والأولى الندب وإجزاء مطلق الذكر لما رواه الهشامان عن الصادق عليه السلام « أيجزئ أن يقول مكان التسبيح في الركوع والسجود لا إله إلّا اللّه والحمد لله واللّه أكبر قال نعم كلّ هذا ذكر » (3) وفيه معنى التعليل فلو لم يكن الذكر كافيا لما سمّاه بالذكر نعم لفظ التسبيح أولى للآية والحديث.
1 - وافق أحمد على وجوب الذكر وقال الشافعيّ وأبو حنيفة باستحباب الذكر المقدّم وقال مالك : ليس في الركوع والسجود شي ء محدود. وسمعت أنّ فيهما التسبيح. دليلنا ما تقدّم.
4 - يجوز إضافة « وبحمده » في الذكرين استحبابا عندنا وأنكرها الشافعيّ وأبو حنيفة لأنّها زيادة لم تحفظ ، وتوقّف أحمد ، لنا رواية حذيفة عنه صلى اللّه عليه وآله أنّه قاله (4) ومن طرقنا رواية زرارة وغيره عن الباقر عليه السلام (5).
الثامنة ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) (6).
ص: 128
يحتمل وجوها الأول ولا تجهر بكلّ صلوتك ولا تخافت بكلّها بل اجهر بصلاة اللّيل والفجر وخافت بالظهرين.
الثاني عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يصلّي بمكّة فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن جاء به فنزلت (1) أي فلا تجهر فيسبّوك ولا تخافت فلا يسمعك أصحابك بل حالة وسطى.
الثالث أن يكون خطابا لكلّ واحد من المكلّفين أو من باب « إيّاك أعني واسمعي يا جارة » (2) أي لا تجهر بصلوتك أي لا تعلنها إعلانا يوهم الرّياء ولا تخافت بها أي لا تسرّ بها بحيث يظنّ تركها والتهاون بها.
الرابع أن يكون المراد بالصّلاة الدعاء.
الخامس أنّها منسوخة بقوله ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ) (3) والأولى الأوّل لقربه من ظاهر لفظ الآية وحينئذ يكون الآية من المجملات واستفيد بيانها من فعله صلى اللّه عليه وآله والمنقول تواترا أنّه فعل كما هو المشهور وحيث إنّ الأمر للوجوب فالواقع في بيانه واجب والسبيل المأمور به هو ذلك وهنا فوائد :
1 - المراد بالجهر أن يسمعه القريب الصحيح السمع إذا استمع وبالإخفات
ص: 129
أن يسمع نفسه ، ولا يكفي تخيّل الحروف عن السماع.
2 - أطبق الجمهور على استحباب الجهر والإخفات في مواضعهما وبه قال شاذّ منّا والحقّ الوجوب لما قلناه ومفصّله أنّه يجب على الرجل الجهر بالصبح وأوليي المغرب وأوليي العشاء والإخفات في البواقي أمّا المرأة ففرضها الإخفات في الكلّ ولو أمنت سماع الأجنبيّ صوتها هل يجوز لها الجهر في موضعه أم لا احتمالان أحوطهما العدم وأمّا الخنثى المشكل فالأولى مع أمن سماع الأجنبيّ أن يكون كالرّجل ومع عدمه كالمرأة
3 - أطبق أصحابنا على استحباب الجهر بالبسملة فيما فيه الإخفات وأكثر الجمهور على خلافه.
4 - الأذكار غير القراءة لا جهر فيها موظّف ولا إخفات لكنّ الأولى للإمام الجهر وللمأموم الإخفات. وللمنفرد التخيير.
5 - الصلوات غير اليوميّة أمّا واجبات أو مندوبات فالأولى المصلّي فيها بالخيار لأصالة عدم وجوب شي ء من الوصفين والثانية نوافل النهار إخفات واللّيل جهر.
التاسعة ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1).
قرئ برفع « ملائكته » فقال الكوفيّون بعطفها على أصل إنّ واسمها وقال البصريّون مرفوعة بالابتداء وخبر إنّ محذوف أي إنّ اللّه يصلّي وملائكته يصلّون فحذف للقرينة ونظائره كثيرة كقول الشاعر (2) :
ص: 130
نحن بما عندنا وأنت بما عندك
راض والأمر مختلف
(1) أي نحن راضون.
والصلاة وإن كانت من اللّه الرحمة فالمراد بها هنا هو الاعتناء (2) بإظهار شرفه ورفع شأنه ومن هنا قال بعضهم تشريف اللّه محمّدا صلى اللّه عليه وآله بقوله « إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ » أبلغ من تشريف آدم بالسّجود له.
والتسليم قيل المراد به التسليم بمعنى الانقياد له كما في قوله ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ
ص: 131
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1) وقيل هو قولهم السلام عليك أيّها النبي [ ورحمة اللّه وبركاته ] قاله الزمخشريّ والقاضي في تفسيريهما وذكره الشيخ في تبيانه وهو الحقّ لقضيّة العطف ولأنّه المتبادر إلى الذهن عرفا ولرواية كعب الآتية وغيرها.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - ذهب أصحابنا والشافعيّ وأحمد إلى وجوب الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الصلاة خلافا لأبي حنيفة ومالك فإنّهما لم يوجباها ولم يجعلاها شرطا في الصلاة واستدلّ بعض الفقهاء بما تقريره : شي ء من الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله واجب ولا شي ء من ذلك في غير الصلاة بواجب ينتج أنّها في الصّلاة واجبة أمّا الصغرى فلقوله « صَلُّوا » والأمر حقيقة في الوجوب وأمّا الكبرى فظاهرة وفيه نظر لمنع الكبرى كما يجي ء وحينئذ فالأولى الاستدلال على الوجوب بدليل خارج أمّا من طرقهم فما رووه عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول « لا تقبل صلاة إلّا بطهور وبالصلاة عليّ » (2) وكذا عن أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قال إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد اللّه ثمّ ليصلّ عليّ » (3) ومن طرقنا ما رواه أبو بصير وغيره عن الصادق عليه السلام : « قال من صلّى ولم يصلّ على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وتركه عمدا فلا صلاة له » (4) حتّى أنّ الشيخ جعلها ركنا
ص: 132
في الصلاة فإن عنى الوجوب والبطلان بتركها عمدا فهو صحيح وإن عنى تفسير الركن بأنّه ما يبطل الصلاة بتركه عمدا وسهوا فلا.
2 - قال علماؤنا أجمع : إنّ الصلاة على النبيّ واجب في التشهّدين معا وبه قال أحمد وقال الشافعيّ مستحبّ في الأوّل وواجب في الأخير وقال مالك وأبو - حنيفة هي مستحبّة فيهما دليل أصحابنا روايات كثيرة عن أئمّتهم عليهم السلام.
3 - هل يجب الصلاة على النبيّ في غير الصلاة أم لا؟ ذهب الكرخيّ إلى وجوبها في العمر مرّة وقال الطحاويّ كلّما ذكر واختاره الزمخشريّ ونقل عن ابن بابويه من أصحابنا وقال بعضهم في كلّ مجلس مرّة والمختار الوجوب كلّما ذكر لدلالة ذلك على التنويه بذكر شأنه والشكر لإحسانه المأمور بهما ولأنّه لولاه لكان كذكر بعضنا بعضا وهو منهيّ عنه في آية النور [ وهي قوله ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ ) » (1) الآية ] ولما روي عنه صلى اللّه عليه وآله « من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ فدخل النار فأبعده اللّه » (2) والوعيد إمارة الوجوب وروي أنّه قيل له يا رسول اللّه أرأيت قول اللّه « إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ » فقال عليه الصلاة والسلام « هذا من العلم المكنون ولو لا أنّكم سألتموني عنه لما أخبرتكم به إنّ اللّه وكل بي ملكين فلا اذكر عند مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال له ذلك الملكان غفر اللّه لك وقال اللّه وملائكته آمين ولا اذكر عند مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال له الملكان لا غفر اللّه لك وقال اللّه تعالى وملائكته آمين » (3) وأمّا عند عدم ذكره فيستحبّ استحبابا مؤكّدا لتظافر الروايات على أنّ الصلاة عليه وعلى آله تهدم الذنوب وتوجب إجابة الدعاء المقرون بها (4).
4 - روى كعب بن عجرة قال « لمّا نزلت الآية قلنا يا رسول اللّه هذا السلام
ص: 133
عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك فقال : قولوا اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد » (1) وعلى هذا الحديث سؤال مشهور بين
ص: 134
العلماء ذكرناه في نضد القواعد وذكرنا ما قيل في أجوبته من أراده وقف عليها هناك ففيه فوائد كثيرة (1).
ص: 135
ص: 136
5 - دلّ حديث كعب المذكور على مشروعية الصلاة على الآل تبعا له صلى اللّه عليه وآله
ص: 137
وعليه إجماع المسلمين (1) وهل يجوز الصلاة عليهم لا تبعا له بل إفرادا كقولنا اللّهمّ صلّ على آل محمّد بل الواحد منهم لا غير أم لا؟ قال أصحابنا بجواز ذلك وقال الجمهور (2) بكراهته لأنّ الصلاة على النبيّ صارت شعارا له فلا تطلق على غيره ولإيهامه الرفض (3)
ص: 138
والحقّ ما قاله الأصحاب لوجوه (1) :
الأوّل قوله تعالى مخاطبا للمؤمنين كافة ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) (2) وهو نصّ في الباب.
الثاني قوله ( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) (3) ولا ريب أنّ أهل البيت عليهم السلام أصيبوا بأعظم المصائب الّذي من جملتها اغتصابهم مقام إمامتهم.
الثالث أنّه لمّا أتى أبو أوفى بزكوته قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « اللّهمّ صلّ على أبي أوفى وآل أبي أوفى (4) » فيجوز على أهل البيت عليهم السلام بطريق أولى.
ص: 139
الرابع أنّ الصلاة من اللّه بمعنى الرحمة ويجوز الرحمة عليهم إجماعا ويجوز مرادفها لما تقرّر في الأصول أنّه يجوز إقامة أحد المترادفين مقام الآخر.
الخامس قولهم أنه صار شعارا للرسول صلى اللّه عليه وآله قلنا مصادرة على المطلوب لأنّها كما دلّت على الاعتناء برفع شأنه كذلك تدلّ على الاعتناء برفع شأن أهله القائمين مقامه ويكون الفرق بينهم وبينه وجوبها في حقّه صلى اللّه عليه وآله كلّما ذكر كما اخترناه إن قلت عادة السلف قصره على الأنبياء قلت العادة لا تخصّص كما تقرّر في الأصول هذا مع أنّ من أعظم السلف الباقر والصادق عليهما السلام ولم يقولا بذلك.
السادس أنّ قولهم : إنّ ذلك يوهم الرفض تعصّب محض وعناد ظاهر نظير قولهم من السنّة تسطيح القبور لكن لمّا اتّخذته الرافضة شعارا لقبورهم عدلنا عنه إلى التسنيم فعلى هذا كان يجب عليهم أن كلّ مسئلة قال بها الإماميّة أن يفتوا بخلافها وذلك هو محض التعصّب والعناد نعوذ باللّه من الأهواء المضلّة والآراء الفاسدة.
ص: 140
6 - مذهب علمائنا أجمع أنه يجب الصلاة على آل محمّد في التشهّدين وبه قال بعض الشافعيّة وفي إحدى الروايتين عن أحمد وقال الشافعيّ بالاستحباب لنا رواية كعب وقد تقدّمت في كيفيّة الصلاة عليه صلى اللّه عليه وآله وإذا كانت الصلاة عليه واجبة كانت كيفيّتها واجبة أيضا وروى كعب أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يقول ذلك في صلوته (1) و « قال صلى اللّه عليه وآله صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (2) وعن جابر الجعفي عن الباقر عليه السلام عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من صلّى صلاة ولم يصلّ فيها عليّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه » (3).
7 - الّذين تجب الصلاة عليهم في الصلاة ويستحبّ في غيرها هم الأئمّة المعصومون عليهم السلام لإطباق الأصحاب على أنّهم هم الآل ولأنّ الأمر بذلك مشعر بغاية التعظيم المطلق الّذي لا يستوجبه إلّا المعصومون وأمّا فاطمة عليها السلام فتدخل أيضا لأنها بضعة منه صلى اللّه عليه وآله.
8 - استدلّ بعض شيوخنا على وجوب التسليم المخرج عن الصلاة بما تقريره : الف شي ء من التسليم واجب ب ولا شي ء منه في غير الصلاة بواجب النتيجة فيكون وجوبه في الصلاة وهو المطلوب أمّا الصغرى فلقوله « وَسَلِّمُوا » الدالّ على الوجوب وأمّا الكبرى فللإجماع وفيه نظر لجواز كونه بمعنى الانقياد كما تقدّم ، سلّمنا لكنّه سلام على النبيّ صلى اللّه عليه وآله لسياق الكلام وقضيّة العطف وأنتم لا تقولون أنّه المخرج من الصلاة بل المخرج غيره.
9 - استدلّ بعض شيوخنا المعاصرين على أنه يجب إضافة « السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته » على التشهّد الأخير بما تقريره : السلام على النبيّ صلى اللّه عليه وآله واجب ولا شي ء منه في غير التشهّد الأخير بواجب - ينتج أنه فيه واجب. وبيان المقدّمتين قد تقدّم.
ص: 141
قيل عليه إنّه خرق الإجماع لنقل العلّامة الإجماع على استحبابه ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يعلّمه الأعرابيّ في كيفيّة التشهّد (1) ولا هو في حديث حمّاد في صفة الصلاة عن الصادق عليه السلام (2) فلو وجب لتأخّر البيان عن وقت الحاجة وهو باطل اتّفاقا ولضبط الأصحاب الواجبات في الصلاة ولم يعدّوه فيها ولعدم دلالة الآية عليه صريحا ولو دلّت لم تدلّ على الفوريّة ولا على التكرار ولا على كونه في الصلاة ولا على كونه آخرها ولا كونه بصيغة مخصوصة.
ويمكن الجواب عن الأوّل بمنع الإجماع على عدم وجوبه والإجماع المنقول على مشروعيّته وراجحيّته وهو أعمّ من الوجوب والندب وعن الثاني والثالث بأنّ عدم النقل لا يدلّ على العدم مع أنّ حديث حمّاد ليس فيه إشعار بالعبارة المتنازع فيها بالوجوب وجودا وعدما مع إمكان الدخول في التشهّد لأنّه « قال فلمّا فرغ من التشهّد سلّم » وعن الرابع بأنّه معارض بوجوب التسليم المخرج من الصلاة فإنّ كثيرا من الأصحاب لم يعدّه في الواجبات مع الفتوى بوجوبه وعن الخامس قد بيّنّا فيما تقدّم أنّ سياق الكلام وقضيّة العطف يدلّ على أنّ المراد السلام على النبيّ وعن السادس بأنّ الفوريّة والتكرار استفيدا من خارج الآية وهو أنّه لمّا ثبت كونه جزءا من الصلاة فكلّما دلّ على فوريّتها وتكرارها دلّ على فوريّته وتكراره تضمّنا وعن السابع والثامن والتاسع بما تقرّر في بيان الكبرى إذ لا قائل بالوجوب في غير الصلاة ولا في غير التشهّد الأخير ولا بغير الصيغة.
وبالجملة الّذي يغلب على ظنّي الوجوب ويؤيّده ما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام « قال إذا كنت إماما فإنّما التسليم أن تسلّم على النبيّ وتقول : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين » (3) وأيضا رواية الشيخ في التهذيب عن أبي كهمس
ص: 142
عن الصّادق عليه السلام « قال سألته إذا جلست للتشهّد فقلت وأنا جالس السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته انصراف هو قال عليه السلام لا ولكن إذا قلت السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين فهو انصراف (1) وهي ظاهرة في أنّه من التشهّد والإجماع حاصل منّا على وجوبه وعن الحلبي عن الصادق عليه السلام « قال كلّما ذكرت اللّه والنبيّ صلى اللّه عليه وآله فهو من الصلاة فإن قلت السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين فقد انصرفت » (2) دلّ ظاهر هذه الروايات على كون التسليم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله من الصلاة ودلّت الآية على الوجوب فيكون واجبا فيها وهو المطلوب.
وفيه آيات :
الاولى ( وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) (3).
قال المعاصر (4) ما هذا لفظه يمكن الاستدلال بهذه الآية على ندبيّة القنوت في الصلاة إذ لا قائل بوجوبه والأصل براءة الذمّة ولأنّ صيغة الأمر استعملت في الندب مثل قوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (5) أقول في هذا الكلام غلط من وجوه الأوّل أنّ قوله لا قائل بوجوب القنوت يدلّ على عدم الاطّلاع على النقل فانّ ابن بابويه وابن أبي عقيل قائلان بالوجوب وهما في الفقه بمكان عال الثاني أنّ أصالة البراءة إنّما يكون حجّة مع عدم الدليل لا مطلقا الثالث أنّ قوله صيغة الأمر استعملت
ص: 143
في الندب إن عنى بصيغة الأمر هنا لفظة « قُومُوا » فتلك للوجوب كما استدلّ هو وغيره بها على وجوب القيام في الصلاة وإذا كانت للوجوب لا تدلّ على الندب إذ لا يجوز استعمال المشترك في كلا معنييه كما تقرّر في الأصول وإن عنى لفظ « قانِتِينَ » فليس بأمر وهو ظاهر الرابع أنّ تمثيله للندب بقوله « وَأَشْهِدُوا » سهو فإنّ الأمر فيها للإرشاد إلى مصلحة دنيويّة لا أخرويّة بخلاف الندب فإنّه إشارة إلى مصلحة راجحة أخرويّة هي نيل الثواب.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه قد تقدّم الكلام في هذه الآية بما فيه كفاية فلا وجه لإعادته لكن نقول أكثر أصحابنا قالوا باستحباب القنوت وقال بعضهم بوجوبه كما تقدّم ومحلّه في جميع الصلوات الواجبة والمندوبة بعد قراءة السورة في الثانية وقبل ركوعها وفي الجمعة قنوتان في الأولى قبل الركوع وفي الثانية بعده وقال الشافعيّ باستحبابه في الصبح خاصّة بعد ركوع ثانيتها وما عداها يستحبّ إن نزلت نازلة [ من الخوف ] وإلّا فقولان وقال مالك باستحبابه في الوتر في النصف الأخير من رمضان لا غير وقال أبو حنيفة هو مكروه إلّا في الوتر خاصّة فإنّه مسنون قال أحمد إن في فلاو قال يقنت الجيوش ويحتجّ على المانع بأنه دعاء فيكون مأمورا به ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ ) (1) وبما رواه براء بن عازب قال « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لا يصلّي صلاة مكتوبة إلّا قنت فيها » (2) وروي أيضا أنّ عليا عليه السلام قنت في المغرب ودعا على أناس وأشياعهم (3) وقنت النبيّ عليه السلام في الصبح ودعا على جماعة وسمّاهم (4) ومن طرق الأصحاب روايات كثيرة (5).
ص: 144
وهنا فروع :
1 - يجوز الدعاء فيه لأمور الدنيا إجماعا منّا وأنكره أبو حنيفة وأحمد لأنه يشبه كلام الآدميّين ويحتجّ عليهم بما رووه أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال « إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد اللّه والثناء عليه ثمّ يصلّي عليّ ثمّ يدعو بعده بما شاء (1) » قوله بما شاء يعمّ أمور الدين والدنيا ومن طرق الأصحاب عن عبد الرحمن بن سيابة « قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام أدعو اللّه وأنا ساجد قال نعم ادع للدنيا والآخرة فإنّه ربّ الدنيا والآخرة (2) » وعن إسماعيل بن [ أبي ] الفضل عن الصادق عليه السلام أيضا « قال سألته عن القنوت وما يقال فيه فقال ما قضى اللّه على لسانك ولا أعلم فيه شيئا موقّتا (3) ».
2 - يجوز القنوت بالفارسيّة لقول الصادق عليه السلام « كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي (4) » ولم يرد هنا نهي ولقول الباقر عليه السلام « لا بأس أن يتكلّم الرجل في الصلاة بكلّ ما يناجي به ربّه (5) » وعن الصادق عليه السلام « كلّما ناجيت به ربّك في الصلاة فليس بكلام (6) » يريد ليس بكلام مبطل.
3 - قال الصدوق القنوت كلّه جهار وقال المرتضى وابن إدريس والعلّامة هو تابع للصلاة في الجهر والإخفات وقال الشافعيّ كلّه يخافت به لأنّه مسنون فأشبه التشهّد الأوّل وقياسه ممنوع أصلا وفرعا ويحتجّ الصدوق بما رواه عن زرارة عن الباقر عليه السلام « قال إنّ القنوت كلّه جهار (7) ».
4 - إذا نسي القنوت قضاه بعد الركوع لرواية محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السلام (8) ولو ذكر بعد ركوع الثالثة قال الشيخان قضاه بعد فراغه من الصلاة
ص: 145
لرواية أبي بصير عن الصادق عليه السلام (1) وفي الرواية الأولى « فان لم يذكر حتّى ينصرف فلا شي ء عليه ».
الثانية ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) (2).
أكثر المفسّرين على أنّ المراد صلاة العيد. والنحر الهدي أو التضحية قال أنس « كان النبيّ صلى اللّه عليه وآله ينحر قبل أن يصلّي الغداة فأمره اللّه أن يصلّي ثمّ ينحر » (3) وقيل معناه صلّ لربّك الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك يقول العرب منازلنا تتناحر أي هذا ينحر هذا أي يستقبله وأنشد :
أبا حكم ها أنت عمّ مجالد
وسيّد أهل الأبطح المتناحر (4)
أي ينحر بعضه بعضا قاله الفرّاء وروى الجمهور « عن علىّ عليه السلام أنّ معناه ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة (5) » وهذا نقل باطل عنه بل كذب وزور عليه لأنّ عترته الطاهرة مجمعون على خلافه والّذي ورد عنهم روايات (6) الاولى روى عمر بن يزيد « قال سمعت الصادق عليه السلام يقول في قوله تعالى ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) هو رفع يديك حذاء وجهك » الثانية عبد اللّه بن سنان عنه مثلها الثالثة عن جميل بن درّاج « قال قلت للصّادق عليه السلام ما معنى « فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ »؟ فقال بيده
ص: 146
هكذا يعني استقبل بيديه حذوة وجهه في افتتاح الصلاة ». الرابعة حمّاد بن عثمان قال « سألت الصادق عليه السلام ما النحر فرفع يديه إلى صدره فقال هكذا : ثمّ رفعهما فوق ذلك فقال هكذا يعني استقبل بيديه القبلة في افتتاح الصلاة ». الخامسة روى مقاتل بن حيّان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال « لمّا نزلت هذه السورة قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله لجبرئيل عليه السلام ما هذه النحيرة الّتي أمرني بها ربّي قال : ليست بنحيرة ولكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصّلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت فإنّه صلوتنا وصلاة الملائكة في السموات السبع وإنّ لكلّ شي ء زينة وزينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة. وقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله رفع الأيدي من الاستكانة قلت ما الاستكانة قال ألا تقرأ هذه الآية ( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ ) (1) أورده الثعلبي والواحدي في تفسيريهما.
إذا تقرّر هذا فنقول دلّت هذه الروايات على مندوبات الأوّل التكبير للركوع والسجود وضعا ورفعا الثاني استحباب رفع اليدين مع كلّ تكبيرة الثالث الاستقبال باليدين القبلة الرابع كون الرفع إلى حذاء الوجه.
الثالثة ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (2).
تقدّم الكلام في هذه الآية (3) قيل المراد بالخشوع غضّ الطرف والتذلّل وخفض الجناح وقيل المراد صرف النظر في كلّ حال إلى موضع معيّن كصرف النظر حال القيام إلى موضع سجوده وحال الركوع إلى ما بين رجليه وحال السجود إلى طرف أنفه وحال التشهّد إلى حجره وحال القنوت إلى باطن كفّيه
وقيل في قوله تعالى ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) (4) هو وضع الجبهة والأنف على الأرض والظاهر أنّ المراد : ذلّت وخضعت له خضوع العناة وهم الأسارى
ص: 147
في يد الملك القهّار ولفظ الوجوه يعطي العموم ويحتمل إرادة الخصوص وهي وجوه المجرمين لأنّ قبله « وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا يَوْماً وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ » فيكون اللّام بدل الإضافة كما في قوله تعالى ( وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) (1) أي مأواه ويؤيّد هذا الاحتمال قوله تعالى بعد ذلك ( وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ) .
الرابعة ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) (2).
أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ باللّه [ من الشيطان الرجيم ] أطلق الملزوم على لازمه فانّ كلّ فعل اختياريّ يلزمه الإرادة قال الزمخشريّ هي مثل قوله ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) (3) أي إذا أردتم القيام ، وفيه نظر لأنّ بين ابتداء القيام وبين ابتداء الصلاة زمانا هو زمان الطهارة المأمور بها مثل إذا قمت إلى الأمير فتجمّل في ثيابك فانّ بين قيامك ولقائه زمانا فيه لبس الثياب وليس كذا هنا وإلّا لقال إذا قمت إلى القراءة لا إذا قرأت فإنّ بينهما فرقا.
والاستعاذة طلب العياذ وهو اللّجاء والمراد الاستجارة أي أستجير باللّه دون غيره والشيطان كلّ متمرّد عن الطاعة إنسانا كان أو جنّا ووزنه فيعال من شطنت الدار إذا بعدت وقيل فعلان من شاط يشيط إذا بطل فالنّون على الأوّل أصليّ وعلى الثاني زائدة والرجيم فعيل بمعنى مفعول أي مرجوم من الرجم بمعنى الرمي فمعناه : البعيد من الخير المرميّ باللّعنة. إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - أنّ الخطاب حقيقة للنبيّ صلى اللّه عليه وآله ودخل فيه غيره لدليل التأسّي به.
2 - روى عبد اللّه بن مسعود عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قال قرأت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
ص: 148
فقلت أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي يا ابن أمّ عبد قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرئيل عن القلم عن اللّوح المحفوظ » (1) وهذا موافق للفظ القرآن وبالأوّل قرأ بعض القرّاء وفيه ما فيه.
3 - أكثر العلماء على أنّ الأمر هنا للاستحباب ونقل عن بعض علمائنا الوجوب والأوّل أقوى لأصالة البراءة ولأنّه قول الأكثر.
4 - أنّه يستحبّ الإسرار به ولو في الجهرية إجماعا قيل لأنّه ذكر بين التكبير والقراءة فليس فيه إلّا الإسرار كالاستفتاح وفيه ما فيه.
5 - أنّه عندنا في أوّل ركعة لا غير وقال غيرنا إنّه في كلّ ركعة لأنّ الحكم المرتّب على شرط يتكرّر بتكرّره قياسا ، قلنا لفظ القرآن للجنس فهو كالفعل الواحد فيكفي استعاذة واحدة ولأنّه صلى اللّه عليه وآله كذا فعل. هذا ولو تركه عمدا أو سهوا لم يتداركه في الثانية لفوات محلّه.
6 - قال بعض الحنفية إنّها من سنن الصلاة لا القراءة فعنده يستحبّ للمأموم وإن لم يقرأ وكذا للمسبوق وهو ممنوع لأنّ لفظ القرآن يدلّ على خلافه بل هي من سنن القراءة.
الخامسة : آيات متعددة ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ) (2).
أصل المزّمّل متزمّل أدغم التاء في الزاي من تزمّل أي تلفّف بثيابه سمّى به النبيّ صلى اللّه عليه وآله تهجينا لما كان عليه لأنّه كان نائما أو مرتعدا لما دهشة ابتداء الوحي فتزمّل
ص: 149
بقطيفة أو تحسينا له إذ روي أنّه كان يصلّي متلفّفا بمرط مفروش بعضه على عائشة فنزلت أو تشبيها له في تثاقله بالمتزمّل لأنّه لم يكن قد تمرّن بعد في قيام اللّيل أو من تزمّل الزمل إذا تحمّل الحمل أي الّذي تحمّل أعباء النبوّة أعني أثقالها.
« قُمِ اللَّيْلَ » أي إلى الصلاة والاستثناء من الليل ونصفه بدل من قليلا. أو بدل من اللّيل والاستثناء يكون من النصف والضمير في منه وعليه للأقلّ من النصف كالثلث فيكون التخيير بينه وبين الأقلّ منه كالرّبع والأكثر منه كالنصف أو يكون الضمير للنصف ويكون التخيير بين أن يقوم أقلّ منه على البتّ وأن يختار أحد الأمرين من الأقلّ والأكثر. وقيل الاستثناء من اللّيالي وهي ليالي العذر كالمرض ونحوه.
والترتيل القراءة على تؤدة بحيث يتبيّن الحروف بعضها من بعض كقولهم ثغر رتل ورتل أي مفلّج والقول الثقيل القرآن لما فيه من التكاليف الشاقّة و « ناشِئَةَ اللَّيْلِ » قيل النفس الناهضة من مضجعها إلى العبادة من نشأ من مكانه إذا نهض وقيل قيام اللّيل وقيل المراد العبادة الّتي تنشأ باللّيل أي تحدث وهو أقوى عندي إذ الإسناد إليها في قوله « أَشَدُّ وَطْئاً » حقيقة وقيل المراد ساعات اللّيل الحادثة واحدة بعد أخرى أو الساعات السابقة من نشأت إذا ابتدأت. وقرء أبو عمرو وابن عامر « أشدّ وطاء » أي مواطاة وموافقة والباقون وطأ أي كلفة أو ثبات قدم فعلى الأوّل قيل المراد موافقة القلب اللسان أو موافقة القلب لما يراد من الخشوع والإخلاص بموافقة السرّ العلانية وهو أولى لما روي عن الصادق عليه السلام « هي قيام الرجل عن فراشه لا يريد به إلّا اللّه » (1) وهو يؤيّد ما قلناه في الناشئة « وَأَقْوَمُ قِيلاً » أي أسدّ مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدوء الأصوات.
و « سَبْحاً طَوِيلاً » أي تصرّفا في المعاش والمهامّ وحيث الحال كذلك فعليك بالتهجّد ليلا فانّ مناجاة الحقّ يستدعي فراغا من الخلق والتبتيل الانقطاع أي انقطع إليه بالعبادة وجرّد نفسك عمّا سواء وقال « تَبْتِيلاً » والقياس تبتّلا لمراعاة
ص: 150
الفواصل. إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - قيل كان قيام اللّيل واجبا على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأصحابه في مكّة قبل فرض الصلوات الخمس ثمّ نسخ بالخمس عن ابن كيسان ومقاتل وعن عائشة أنّ اللّه تعالى فرض قيام اللّيل في أوّل هذه السورة فقام صلى اللّه عليه وآله وأصحابه حولا وأمسك اللّه خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتّى أنزل [ اللّه ] في آخر السورة التخفيف فصار قيام اللّيل تطوّعا بعد أن كان فريضة وعن ابن عبّاس لمّا نزل أوّل المزّمّل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان وكان بين أوّلها وآخرها سنة وعن سعيد بن جبير كان بين أوّلها وآخرها عشر سنين هذه أقوال المفسّرين.
2 - قيل في آخر السورة وهو قوله ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) (1) أنّ معنى « فَتابَ عَلَيْكُمْ » نسخ الحكم الأوّل بأن جعل قيام اللّيل تطوّعا بعد أن كان فرضا وقيل معناه لم يلزمكم إثما ولا تبعة وقيل خفّف عليكم ، لأنّهم كانوا يقومون اللّيل كلّه حتّى انتفخت أقدامهم فنسخ ذلك عنهم.
وعلّل هذا الترخّص بأمور : الأوّل أنّه يعسر عليكم ضبط أوقات اللّيل وحصر ساعاته بل اللّه سبحانه هو المقدّر لذلك أي العالم بمقداره الثاني أنّه ربما يكون منكم من هو مريض فيشقّ عليه قيام اللّيل. الثالث أنكم قد تكونون في سفر تجارة أو غزو. قال المعاصر وظاهر الآيات تدلّ على الندبيّة لأنّ أو معناها التخيير والواجب لا تخيير في مقداره قلت في كلامه نظر من وجوه : الأوّل أنّ الندبيّة إن استفيدت من دليل خارج فلا يكون ذلك من ظاهرها وإن استفيدت من لفظ « قُمِ اللَّيْلَ » فالأمر حقيقة في الوجوب عند الأكثر أو قدر مشترك فكيف يكون ظاهره الندب وإن استفيدت من التخيير فباطل لما يجي ء الثاني أنّ استدلاله على الندبيّة
ص: 151
بكون أو للتخيير وأنّ الواجب لا تخيير في مقداره فيه غلط ظاهر أمّا أوّلا فلأنّ انحصار معنى أو في التخيير باطل باتّفاق أهل العربيّة فإنّهم مجمعون على أنّها قد تكون للشكّ والإبهام والتقسيم والتخيير والإباحة فانحصار معناها في التخيير باطل وأمّا ثانيا فلأنّ قوله الواجب لا تخيير فيه باطل أيضا فإنّ التخيير قد وقع في الواجب بين الكلّ وألحن كتخيير المصلّي عندنا في الأماكن الأربعة بين ركعتين والأربع وكذا تخيير المصلّي في الأخيرتين بين التسبيح ثلاثا أو مرّة والتخيير بين الحمد والتسبيح مرّة واحدة وهي تقصر عن الحمد مقدارا والتخيير في الكسوف بين إتمام السورة بعد الحمد أو قراءة بعضها. الثالث أنّه ذكر فيما بعد أنّ المختار من الأقوال أنّ صلاة الليل كانت فرضا على النبيّ صلى اللّه عليه وآله ونافلة لأصحابه وحينئذ كيف يكون ظاهرها الندبيّة مطلقا.
3 - الترتيل في القراءة سنّة مؤكّدة واختلف في تفسيره قيل هو تبيين الحروف وإخراجها من مخارجها وتوفية حقّها من الحركات والإشباع وعن ابن عبّاس هو القراءة على هنيئتك وعنه قال لأن أقرء البقرة وأرتّلها أحبّ إلىّ من أن أقرء القرآن كلّه ليس كذلك وعن عليّ عليه السلام في معناه أنّه « قال بيّنه بيانا ولا تهذّه هذ الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن أقرع به القلوب القاسية ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة » (1) وعن الصادق عليه السلام « قال إذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فاسئل اللّه الجنّة وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوّذ باللّه من النار (2) » وقيل المراد التحزين به أي قراءته بصوت حزين ويؤيّده رواية أبي بصير عن الصادق عليه السلام في هذا « قال هو أن تتمكّث فيه وتحسّن به صوتك » (3) والتحقيق أنّ الغرض من الترتيل تدبّر القرآن والتفكّر في معانيه والايتمار عند أوامره والانزجار عند زواجره
ص: 152
4 - استدلّ بقوله « وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ » على وجوب البسملة في أوّل الحمد والسورة وقيل المراد بها الدعاء بذكر أسماء اللّه الحسنى وصفاته العليا ومنه قوله تعالى ( وَلِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) (1) ويستدلّ بذلك على جواز الدعاء في جميع الحالات وفي الصلاة للدّين والدنيا له ولإخوانه المؤمنين ولشخص بعينه وليس ذلك بعيدا عن الصواب لعموم قوله تعالى ( وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) (2).
5 - روى محمّد بن مسلم وحمران بن أعين عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّ التبتيل هنا رفع اليدين في الصلاة (3) وفي رواية أبي بصير « قال هو رفع يديك إلى اللّه وتضرّعك إليه » (4) ويمكن أن يكون ذلك علامة على الانقطاع إلى اللّه ، الّذي هو معنى التبتيل.
6 - قيل المراد بقوله تعالى ( وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (5) هو صلاة اللّيل وقيل الاستغفار آخر الوتر وفي معنى ذلك (6) قوله تعالى « كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (7).
والأولى حمله على الحقيقة وهو طلب المغفرة وخصّ الاستغفار بالسّحر الّذي هو آخر اللّيل لأنّ العبادة فيه أشقّ والنفس أصفى لعدم اشتغالها بتدبير
ص: 153
المأكول ولخلوّ المعدة عنه فيتوجّه النفس بكلّيّتها إلى حضرة الحقّ سبحانه و « ما » في قوله « ما يَهْجَعُونَ » قيل زائدة أي يهجعون في طائفة من اللّيل أو يهجعون هجوعا قليلا وقيل مصدريّة أو موصولة أي في قليل من اللّيل هجوعهم أو ما يهجعون فيه ولا يجوز أن تكون نافية لأنّ ما بعدها لا يعمل فيما قبلها. وفي الآية مبالغة في تقليل نومهم واستراحتهم في الليل الّذي هو وقت السبات وذكر الهجوع الّذي هو الغرار من النوم وفي الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وآله « من ختم له بقيام اللّيل ثمّ مات فله الجنّة » (1) و « جاء رجل إلى عليّ عليه السلام فقال إنّي قد حرمت صلاة اللّيل فقال له أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك » (2)
وفيه آيات :
الاولى ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً ) (3).
أصل تحيّة تحيية نقلت كسرة الياء إلى ما قبلها وأدغم الياء في الياء وتعدّي بتضعيف العين وإنّما قال بتحيّة بالباء لأنّه لم يرد بها المصدر بل المراد نوع من التحايا والتنوين فيها للنوعيّة واشتقاقها من الحياة لأنّ المسلّم إذا قال سلام عليكم فقد دعا للمخاطب بالسّلامة من كلّ مكروه والموت من أشدّ المكاره فدخل تحت الدعاء.
ص: 154
واعلم أنّه لم يرد بحيّيتم سلام عليكم بل كلّ تحيّة وبرّ وإحسان ويؤيّده ما ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السلام « أنّ المراد بالتحيّة في الآية السلام وغيره من البرّ (1) ».
والحسيب إمّا بمعنى الحفيظ لكلّ شي ء أو بمعنى المحاسب أي يحاسبكم على التحيّة وغيرها إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :
1 - السلام من السنن المؤكّدة والردّ فرض لصيغة الأمر الدالّة على الوجوب لكن على الكفاية لأصالة البراءة ولأنّ المقصود حصول المكافاة على التحيّة وقد حصل وللحديث (2) هذا إذا كان السلام على جماعة أمّا إذا سلّم على واحد فهو فرض عين عليه.
2 - اتّفق الجمهور من الفقهاء والمفسّرين على أنّه إذا قال المسلّم سلام عليكم فأجيب بقوله سلام عليكم ورحمة اللّه فهو أحسن منها ولو لم يقل ورحمة اللّه فهو ردّ لها بمثلها وإذا قال سلام عليكم ورحمة اللّه فأجيب بقوله سلام عليكم ورحمة اللّه فهو ردّ بالمثل ولو زيد وبركاته فهو أحسن وإذا قال سلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فليس فوقها ما يزيد عليها.
3 - قال ابن عبّاس إنّ المراد بقوله « بِأَحْسَنَ مِنْها » أي للمسلمين وبقوله « أَوْ رُدُّوها » أي لأهل الكتاب لا يزاد على قوله وقال غيره « أَوْ رُدُّوها » للمسلمين أيضا وأمّا الكتابيّ فيقال عليكم أو وعليكم لأنّهم ربّما قالوا السام عليكم أي الموت.
4 - إذا سلّم أحد على المصلّي وجب عليه الردّ لإطلاق الأمر بالردّ المتناول لحال الصلاة وغيرها وليس هو من كلام الآدميّين فيدخل تحت النهي لأنّ هذه الصيغة وردت في القرآن إن قلت إذا قصد الردّ خرج عن كونه قرآنا قلت ذلك ممنوع لأنّه قرآن باعتبار لفظه ونظمه وقصد الردّ لا يخرجه كما لا يخرج بقصد
ص: 155
الدعاء لو قال ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ) (1) وقال الشافعيّ لا يرد بلفظه بل بالإشارة برأسه أو بيده وبه قال مالك وأحمد ومنع أبو حنيفة الردّ مطلقا لفظا وإشارة [ في الصلاة ] دليلنا ما تقدّم وروايات الأصحاب عن أئمّتهم عليهم السلام (2).
5 - ذكر بعض الشافعيّة والحنفيّة أنّه يسقط وجوب الردّ إذا كان في حال الخطبة وقراءة القرآن وقضاء الحاجة وفي الحمّام وذلك ممنوع لأنّ الواجب لا يسقطه الاشتغال بمندوب نعم الأقوى عندي كراهة السلام على المصلّي لأنّه ربّما شغله عن القيام بالواجب إذا ردّ أو ترك الواجب إذا لم يردّ.
6 - لا يسلّم على اللّاعب بالنرد والشطرنج والمغنّي ومطير الحمام لهوا وكذا كلّ مشتغل بمعصية وكذا لا يسلّم على الأجنبيّة ولو سلّم عليها وجب عليها الردّ ولا يجب عليها قصد الإنشاء.
7 - ينبغي في مرتبة التسليم أن يسلّم القائم على القاعد والماشي على الواقف والراكب على الماشي وراكب الفرس على راكب الحمار والصغير على الكبير (3) ويجوز العكس تأسّيا به عليه الصلاة والسلام فإنّه كان يسلّم على الصبيان (4).
8 - حيث قلنا يجب الردّ من المصلّي لو سلّم عليه فلو أخلّ هل تبطل صلوته؟ قال بعض شيوخنا المعاصرين لا ، وقال غيره تبطل وهو قويّ عندي وربّما فصّل بعضهم بأنّه إن اشتغل لسانه بشي ء من القراءة أو الذكر زمان الردّ بطلت وإلّا فلا وليس ذلك بعيدا عن الصواب هذا إن سكت سكوتا غير طويل أمّا إذا طال وخرج عن العادة بطلت قطعا.
ص: 156
9 - هل يجوز الردّ بغير سلام عليكم بل بقوله عليكم السلام أم لا قيل نعم لأنّه دعاء ويجوز الدعاء بما شاء من الألفاظ وقيل لا لأنّه ليس من لفظ القرآن فيكون من كلام الآدميّين فلا يجوز في الصلاة ولمنع كونه دعاء بل ردّا للسلام وهذا أولى.
الثانية ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (1).
« نسكي » أي عبادتي كلّها وقيل أعمال الحجّ ومحياي أي جميع ما أنا عليه في حال حياتي من الايمان والطاعات كلّها وقيل المراد بمحياي الخيرات الّتي يفعل في الحياة منجّزة والممات الأفعال الّتي تعلّق على الموت كالوصيّة والتدبير وقيل المراد الحياة والممات أنفسهما « لله » أي مخلصة لله « وَبِذلِكَ أُمِرْتُ » أي بالإخلاص أو بالقول المذكور.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه يستدلّ بهذه الآية على أمور :
1 - وجوب الإخلاص بالعبادة لله تعالى وأنّه لا يجوز الإشراك معه فيها مطلقا سواء كان شركا ظاهرا كالعبادة للأصنام أو الكواكب أو غيرها أو خفيّا كالرياء بل أبلغ من ذلك وهو قصد الثواب بالعبادة لأنّ ذلك أيضا مناف للإخلاص كما تقدّم من كلام عليّ عليه السلام (2).
2 - أنّ الإخلاص المذكور من أحكام الإسلام الّتي يلزم كلّ مسلم وأنّ كلّ مسلم مأمور بذلك لقوله تعالى ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) .
3 - أنّ صحّة الصلاة بل وصحّة سائر العبادات متوقّفة على معرفة اللّه تعالى ووحدانيّته وكونه ربّا للعالمين أي مربّيا ومنشئا لهم فيستلزم ذلك وجوب العلم بكونه قادرا وعالما وحكيما إذ الإخلاص يستلزم ذلك ويتفرّع على ذلك عدم صحّة عبادة الكافر الجاحد لشي ء من هذه الأصول بل وعدم صحّة عبادة من لم يكن
ص: 157
عارفا باللّه تعالى هذه المعرفة بدليل وإن كان في الظاهر مسلما.
4 - أنّ في الآية إيماء إلى كون العبادة شكرا لنعمة التربية والإيجاد لذكر هذه الصّفة عقيب ذكر العبادة إشعارا بالعلّيّة.
5 - أنّه لا يجوز أن ينسب شيئا من هذه النعم إلى غيره مستقلّا أو مشاركا له كالكواكب والأفلاك والعقول الفعّالة وغيرها لقوله تعالى ( لا شَرِيكَ لَهُ ) .
6 - التنبيه على عظمة اللّه تعالى وكونه أهلا للعبادة ومستحقّا لها.
الثالثة ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (1).
ذكر متكلّمو الأصحاب في الكتب الكلاميّة في هذه الآية مباحث شريفة وأنّها دالّة على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام من أرادها وقف عليها (2) وذكرنا في كتابنا المسمّى باللّوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة في هذه الآية ما فيه كفاية للطالب وشفاء للعليل الراغب وأمّا هنا فنستدلّ بها على أمور :
1 - أنّ الفعل القليل لا يبطل الصلاة لأنّ قوله « وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ » إشارة إلى فعل عليّ عليه السلام لمّا تصدّق على السائل بخاتمه في حال ركوعه وذلك فعل قليل لا يؤثّر في بطلان الصلاة.
2 - أنّ النيّة فعل قلبيّ لا لسانيّ لأنّ فعله ذلك وهو في الصلاة يستلزم النيّة لأنّه عمل وكلّ عمل لا بدّ له من النيّة واللفظ في الصلاة بغير القرآن والدعاء مبطل فلم يقع منه حينئذ وإلّا لبطلت صلوته واللّازم كالملزوم في البطلان ويتفرّع على ذلك صحّة نيّة الزكاة احتسابا على الفقير غير الحاضر وصحّة نيّة الصوم
ص: 158
في الصلاة اللّيليّة ونيّة الوقوف بعرفات في الظهر ونيّة الوقوف بالمشعر في الصبح إلى غير ذلك من النيّات الممكنة حال الصلاة وأمّا نيّة الإحرام فيشترط اقترانها بالتلبية فهل يجوز التلبية في الصلاة يحتمل المنع إذ ليست من المعهود في الصلاة والأولى الجواز لأنّها ذكر وثناء على اللّه تعالى فيجوز حينئذ نيّة الإحرام أمّا لو قارن بالنيّة التسليم فوقعت التلبية بعده جاز قطعا.
3 - أنّ استحضار النيّة فعلا واستمرارها عينا غير شرط في العبادة لأنّه عليه السلام حال نيّة الزكاة لم يكن مستحضرا لنيّة الصلاة فلو كان شرطا لأثّر البطلان المستلزم للذمّ المنافي لهذا المدح العظيم ، ويتفرّع على ذلك الاكتفاء باستمرار النيّة حكما.
4 - تسمية الصدقة المندوبة زكاة إذ لا يجوز كون ذلك الخاتم من الزكاة الواجبة لأنّ إخراجها واجب مضيّق لا يجوز عليه الاشتغال عنه بواجب موسّع أو مندوب وحينئذ يكون ذلك من الصدقات المندوبة وهو المطلوب.
الرابعة ( إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (1).
ذكر الذات الشريفة ولفظ الوحدانيّة فيه إشعار بكونها سببا للعبادة والصلاة فإنّ ترتّب الحكم بالفاء مشعر بالعلّيّة كقولك فلان جواد فاسترفده قوله « أَكادُ أُخْفِيها » قال الجوهريّ الهمزة في اخفيها للإزالة نحو شكى زيد فأشكيته أي أزلت شكايته والمعنى أكاد أزيل خفاءها أي أقارب إظهارها وذلك أنّه أخبر بإتيانها جملة فالمقاربة من حيث إظهارها إجمالا وعدم الوقوع المستفاد من أكاد من حيث التفصيل « لِتُجْزى » اللّام تتعلّق بآتية أو أكاد على وجه التنازع أي إنّ الساعة آتية أو أكاد اخفيها لتجزى كلّ نفس على سعيها إن خيرا فخبر وإن شرّا فشرّ إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
ص: 159
1 - ذكر الزمخشريّ وبعض الفقهاء واختاره المعاصر أنّ المراد بقوله « لِذِكْرِي » أي لذكر الصلاة بعد نسيانها لقوله صلى اللّه عليه وآله « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها » (1) ويكون ذلك دليلا على وجوب قضاء الصلاة الفائتة وإنّما قال « لِذِكْرِي » ولم يقل لذكرها إمّا لأنّه إذا ذكر الصلاة ذكر اللّه أو لحذف المضاف أي لذكر صلوتي أو لأنّ خلق الذكر والنسيان منه تعالى.
وفيه نظر إذ هو خلاف الظاهر والأصل عدم التقدير وكونه إذا ذكر الصلاة فقد ذكر اللّه مسلّم لكنّ الكلام في العكس وهو أنّه إذا ذكر اللّه ذكر الصلاة لم قلت إنّه يذكر الصلاة والأولى أنّ اللّام يتعلّق بأحد الفعلين على طريق التنازع وهما « فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ » ويكون اللّام للتعليل أي تجب العبادة والصلاة لوجوب ذكري فإنّهما تستلزمانه وقال مجاهد معنى لذكري أي لذكري إيّاها في الكتب السالفة وليس بشي ء ويحتمل أيضا وجوها أخر : الأوّل لذكري في الصلاة على طريق التعظيم الثاني لذكري خاصّة لا تشوبه بذكر غيري أي للإخلاص لي لا للرّياء الثالث لتكون ذاكرا لي غير ناس الرابع لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة ويكون اللّام للتاريخ نحو جئتك لستّ ليال خلون.
2 - في قوله « إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ » إشارة إلى وجوب سرعة المبادرة إلى العبادة والصلاة لكون الساعة متوقّعة في كلّ آن.
3 - قو له ( لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (2) وقوله ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى ) (3) يدلّان على أنّه لا يجوز للإنسان تولية غيره شيئا من عباداته الواجبة البدنيّة حال حياته ممّا يتمكّن من مباشرته من طهارة أو صلاة أو صوم أو غيرها لأنّ ما
ص: 160
باشره غيره ليس من سعيه فلا يستحقّ عليه جزاء ولا يكون له أيضا أمّا حال العجز فقد جوّز الفقهاء أن يتولّى طهارته غيره ويتولّى هو النيّة وأمّا الصلاة فيأتي بها على القدر الممكن قائما مستندا أو قاعدا أو مضطجعا أو مستلقيا وممّا يشعر بجواز الصلاة حال العجز كذلك قوله تعالى ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) (1) وأمّا الصوم فيسقط أداؤه حال العجز عنه ويجب القضاء حال التمكّن بنفسه ولا يجوز النيابة وأمّا الحجّ الواجب مع العجز فيسقط حينئذ وهل يجوز النيابة فيه خلاف والأصحّ جوازه مع سبق الوجوب على العجز عنه وأمّا الجهاد فمع التعيّن لا يجوز النيابة ومع عدمه يجوز النيابة وهل يجب؟ فيه خلاف أظهره الوجوب مع القدرة والاستحباب مع العجز واليسار وأمّا العبادات الماليّة فيجوز التوكيل في إخراجها حال الحياة كالزكاة والخمس والنذورات وشبهها وقضاء الديون والكفّارات وغيرها وكذا يجوز في ذبح الهدي الواجب وأمّا المندوب من العبادات فالماليّة يجوز التوكيل فيها قطعا وأمّا البدنيّة فالحجّ يجوز النيابة فيه بلا خلاف فقد ورد أنّ عليّ بن يقطين رحمه اللّه صاحب الكاظم عليه السلام احصي له خمسمائة وخمسون رجلا يحجّون عنه بالنيابة أقلّهم بسبعمائة دينار ، وأكثرهم بعشرة آلاف درهم (2) وكذا يجوز النيابة في زيارات الأئمّة عليهم السلام.
وأمّا الصلاة والصيام فلم نظفر بدليل يدلّ على جواز النيابة فيهما فالأولى المنع لعموم الآيتين وأمّا بعد الموت فيجوز النيابة في الحجّ الواجب بلا خلاف وكذا في الصدقة بأنواعها الواجبة والمندوبة وأمّا الصوم والصلاة الواجبان فجوّزهما الأصحاب مجمعين على ذلك لتظافر رواياتهم عن أئمّتهم بذلك حتّى أنّه لم يرد حديث واحد بمنع ذلك وهو أقوى حجّة على الجواز إذ أكثر المسائل قد ورد فيها حديث يخالف مقتضاها إلّا هذه المسئلة.
فممّا ورد ما رواه ابن بابويه عن الصادق عليه السلام « من عمل من المؤمنين عن
ص: 161
ميّت عملا صالحا أضعف اللّه له أجره ونفع اللّه به الميّت (1) » وروى أيضا عنه عليه السلام وقد سئل أيصلّى عن الميّت « فقال نعم حتّى أنّه ليكون في ضيق فيوسّع عليه ذلك الضيق ثمّ يؤتى به فيقال له خفّف عنك هذا الضيق بصلاة فلان أخيك عنك » (2) إلى غير ذلك تمام أربعين حديثا خالية عن معارض وأكثر الجمهور يمنعونهما محتجّين بقوله تعالى ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى ) وبقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له » (3) وعلى هذين اعتمد الثوري والجواب عن الآية والحديث أنّهما عامّان مخصوصان بما اتّفق على جوازه كالحجّ والصدقة فما أجيب به فهو جوابنا على أنّا نقول الأعمال الواقعة عنه بعد الموت نتيجة سعيه في تحصيل الإيمان المسوّغ للنيابة عنه وأيضا الخبر يدلّ على انقطاع عمله ومحلّ النزاع أنّه يصل إليه من عمل غيره هذا مع أنّ صاحب الحاوي حكى عن عطاء ابن أبي رباح وإسحاق بن راهويه أنّهما قالا : يجوز الصلاة عن الميّت وابن أبي عصرون اختار ذلك في كتابه الانتصاف وفي صحيح البخاري في باب من مات وعليه نذر : أنّ ابن عمر أمر امرأة ماتت أمّها وعليها صلاة أن تصلّي عنها (4).
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه وقع الاتّفاق على أنّه يصل إلى الميّت ثواب الصدقة والحجّ والدّعاء والاستغفار وكذا غيرها عندنا لقول الصادق عليه السلام « تدخل على الميّت في قبره الصلاة والصوم والحجّ والصدقة والبرّ والدعاء ويكتب أجره للّذي فعله وللميّت » (5) وعنه عليه السلام أيضا « أنّ الميّت ليفرح بالترحّم عليه والاستغفار له كما يفرح الحيّ بالهديّة الّتي تهدى إليه » (6) وغير ذلك من الأحاديث وقد حكى شارح
ص: 162
صحيح مسلم من الشافعيّة أنّه يصل إلى الميّت ثواب جميع العبادات.
الخامسة ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) (1).
« خلفة » أي يخلف كلّ واحد منهما الآخر إذ لو دام أحدهما لاختلّ نظام الوجود ولم يكونا رحمة « لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ » أي يتذكّر بمقتضى العقل « أَوْ أَرادَ شُكُوراً » أي شكر من أنعم بهذه النعم وهو سبب غائيّ للجعل المذكور أي جعلت ذلك ليتذكّروا نعمتي ويشكروني عليها. وكلمة أو هنا ليست لمنع الجمع بل لمنع الخلوّ الّذي سمّاه النحاة بالإباحة ومثّلوه بقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين أي لا تخل من مجالستهما ويجوز لك الجمع بينهما.
إذا عرفت هذا فنقول : استدلّ الفقهاء بها على مشروعيّة قضاء فائتة اللّيل نهارا وفائتة النهار ليلا أي اللّيل خليفة النهار في وقوع ما فات فيه وبالعكس والقضاء هو الإتيان بمثل الفائت في غير وقته فيقضي التمام تماما والقصر قصرا والفائت أوّلا يأتي به أوّلا لقوله صلى اللّه عليه وآله « من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته » (2) ولا يحصل المماثلة إلّا بجميع وجوهها من الكيفيّة والكميّة والترتيب. مسئلتان :
ص: 163
1 - لم يشترط الشافعيّ الترتيب في الفائت فيجوز عنده العصر قبل الظهر والعشاء قبل المغرب قياسا على قضاء صوم رمضان ولأنّ وجوب الترتيب على خلاف الأصل فيكون منفيّا وقال أبو حنيفة يترتّب ما لم يدخل في التكرار وقال أصحابنا يترتّب وإن كثرت.
لنا ما تقدّم من الحديث المذكور آنفا (1) وما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام قال : « إذا كان عليك قضاء صلوات فابدء بأولاهنّ فأذّن لها وأقم » (2) وقياس الشافعيّ باطل لما تقدّم ولعدم الجامع ولوجود الفرق فانّ ترتّب الصلوات لمعنى فيها وترتّب أيّام رمضان لتحصيل أيّام الشهر لا لمعنى يختصّ بترتّب الأيّام وفرق أبي حنيفة تحكّم.
2 - أجمع العلماء على قضاء صلاة الحضر تماما حضرا وسفرا أمّا صلاة السفر فعندنا تقضى قصرا حضرا وسفرا وبه قال أبو حنيفة ومالك وقال أحمد : تقضى أربعا وهو أحد قولي الشافعيّ لأنّ القصر رخصة في السفر وقد زال محلّها.
لنا أنّ القصر عزيمة كما يجي ء فيقضي فائتته كذلك للحديث المتقدّم ولرواية زرارة عن الصادق عليه السلام « قال يقضيها كما فاتته إن كانت صلاة سفر أدّاها في الحضر مثلها » (3).
السادسة ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) (4).
ص: 164
استدلّ بهذه الآية على أنّ تارك الصلاة مستحلّا مرتدّ يجب قتله لأنّه علّق المنع من قتلهم على أمور هي التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأنّهم إذا فعلوا ذلك يخلّى سبيلهم ولا شكّ أنّ تركهم للصلاة كان على وجه الاستحلال لعدم تحقّق اعتقاد وجوبها من المشرك والحكم المعلّق على مجموع لا يتحقّق إلّا مع تحقّق المجموع ويكفي في حصول نقيضه فوات واحد من المجموع وذلك هو إباحة قتلهم.
السابعة ( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1).
هنا مسئلتان :
1 - أنّ الكافر عندنا وعند الشافعيّة مكلّف بفروع الإسلام لعموم الأدلّة المتناولة للمسلم والكافر كهذه الآية وغيرها فإنّ لفظ الناس عامّ ومنع أبو حنيفة من ذلك لأنّه لو كلّف بالفروع لكان فائدة التكليف الإتيان بها إمّا حال كفره وهو باطل إجماعا أو بعد إسلامه على وجه القضاء وهو أيضا باطل لقوله عليه الصلاة والسلام « الإسلام يجب ما قبله » (2) والجواب المنع من الحصر لجواز أن يكون الفائدة العقاب على تركها لو مات على كفره ويؤيّده قوله تعالى ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتّى أَتانَا الْيَقِينُ ) (3) والكلام عن الكفّار. ثمّ الّذي يؤيّد ما قلناه قوله تعالى ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) (4) والمراد الكفّار لقوله بعدها بلا فصل « إِلّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ».
ص: 165
2 - يجب على المرتدّ قضاء ما فات زمان ردّته ممّا كلّف به وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة ومالك لا يجب وعن أحمد روايتان لنا عموم الأدلّة على وجوب قضاء ما فات عن كلّ مكلّف اجتمعت فيه شرائط الوجوب أداء إذا لم يفعل ، خرج الكافر الأصلي بالإجماع وبقوله تعالى ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) (1) و « ما » للعموم فيبقى الباقي على عمومه ولأنّه وجب عليه أداؤها بعد اعتقاد وجوبها فيجب قضاؤها كغيره.
احتجّوا بعموم « الإسلام يجبّ ما قبله » (2) قلنا مخصوص اتّفاقا لوجوب أداء حقوق الناس كالديون والغرامات والقصاص فلا يكون حجّة في الباب.
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (3).
المراد بالنداء هنا الأذان « مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ » من هنا للتبيين وكان في اللّغة القديمة يسمّى ذلك اليوم عروبة وأوّل من سمّاها جمعة كعب بن لؤي الاجتماع الناس فيه إليه. وقال ابن سيرين إنّ أهل المدينة جمعوا قبل أن يقدم إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقبل أن ينزل الجمعة وذلك أنّهم قالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه وكذلك للنصارى
ص: 166
فلنجعل نحن [ لنا ] يوما نجتمع فيه بذكر اللّه تعالى فقالوا : لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلّى بهم فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاتا فتغدّوا وتعشّوا من شاة واحدة لقلّتهم فأنزل اللّه في ذلك « إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ » الآية فهي أوّل جمعة جمعت في الإسلام وأمّا أوّل جمعة جمعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فهي أنّه لمّا قدم مهاجرا حتّى نزل قباء على بني عمرو بن عوف فأقام عندهم ثلاثا ثمّ خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فنزل وخطب وجمع بهم فهي أوّل جمعة جمعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الإسلام وفي الحديث أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « قال اعملوا أنّ اللّه تعالى قد افترض عليكم الجمعة فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي ولهم إمام عادل استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع اللّه شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ألا ولا زكاة له ألا ولا حجّ له ألا ولا صوم له ألا ولا بركة له حتّى يتوب » (1).
إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :
1 - الجمعة واجبة لا وجوبا مطلقا بل وجوبا مشروطا اتّفاقا من العلماء نعم اختلف في ذلك الشرط على أقوال مذكورة تفصيلا في كتب الخلاف ونحن نذكر المهمّ من ذلك فاعلم أنّه روى محمّد بن مسلم وأبو بصير عن الصادق عليه السلام « أنّ اللّه فرض في كلّ أسبوع خمسا وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلّا خمسة : المريض والمملوك والمسافر والمرأة والصبيّ » (2) وروى زرارة عن الباقر عليه السلام قال « فرض اللّه على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها اللّه في جماعة وهي الجمعة ووضعها عن تسعة : الصغير و
ص: 167
الكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين » (1) وغير ذلك من الروايات.
2 - السلطان العادل أو نائبه شرط في وجوبها وهو إجماع علمائنا (2) وقال أبو حنيفة يشترط وجود إمام وإن كان جائرا ولم يشترط الشافعي إماما ومعتمد أصحابنا فعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه كان يعيّن لإمامة الجمعة وكذا الخلفاء كما يعيّنون القضاة وروايات أهل البيت عليهم السلام متظافرة بذلك (3) وأمّا اشتراط عدل الامام فلأنّ الاجتماع مظنّة النزاع ومثار الفتن فيجب أن يكون هناك حاكم عادل غير محتاج إلى مسدّد ، يرتدع بوجوده غيره ويكون وجوده حاسما لمادّة النزاع وقاطعا لمثار الفتن.
3 - أجمع العلماء على اشتراط العدد في الجمعة فقال الشافعيّ وأحمد أقلّهم أربعون وقال أبو حنيفة أربعة الإمام أحدهم ولم ينقل أصحاب مالك عنه تقديرا وأما أصحابنا فلهم قولان أحدهما سبعة والآخر خمسة وهو قول الأكثر وعليه أكثر الروايات ولأنّ الاجتماع معتبر فيعتبر جمع لو وقع بين اثنين نزاع كان عندهما شاهدان فيكون أربعة والحاكم ، ويؤيّد ذلك قوله تعالى ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) فإنّ الأمر بالسعي إلى الجمعة بصيغة الجمع الّذي أقلّ مدلوله ثلاثة والإمام هو المسعيّ إليه لأنّه الذاكر لله حال خطبته فيكون خارجا عن الجمع والمؤذّن هو المنادي الّذي السعي مشروط بندائه فيكون المجموع خمسة.
4 - اختلف في تفسير السعي مع الاتّفاق على كون الأمر به للوجوب فقيل هو الإسراع والأولى حمله على مطلق الذهاب إذ المستحبّ المضيّ على سكينة في البدن ووقار في النفس وقال الحسن : ليس السعي على الأقدام ولكن على النيّات وقرأ
ص: 168
ابن مسعود : « فامضوا إلى ذكر اللّه » وروي ذلك عن علي عليه السلام والباقر والصادق عليهما السلام قال ابن مسعود : لو علمت الإسراع لأسرعت حتّى يقع ردائي عن كتفي ونقل مثله عن عمر (1).
5 - قيل ذكر اللّه هو الصلاة هنا وقيل الخطبة والأولى حمله عليهما معا لاشتمالهما على ذكر اللّه فإنّ الخطبة يجب فيها حمد اللّه والصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله والوعظ وقراءة سورة من القرآن.
6 - لمّا أمروا بالسعي إلى ذكر اللّه استلزم ذلك وجوب ترك كلّ ما يشغل عنه ولمّا كان الأهمّ في عقل المعاش هو البيع خصّه بالذّكر وأوجب تركه ولأنّهم كانوا ينفضون (2) في ذلك اليوم من قراهم وبواديهم إلى البيع والشرى.
ألف - هل يجب ترك ما عداه من العقود كالإجارة والمزارعة وغيرهما من المعاملات أم لا أكثر أصحابنا بل لم ينقل خلاف بين المتقدّمين منهم أنّ البيع هو المختصّ بالنهي وقال بعض المتأخّرين بتعديته إلى كلّ معاملة وليس قياسا بل من باب اتّحاد طريق المسئلتين وهو الشغل عن ذكر اللّه وبه قال جماعة من الجمهور وليس بعيدا من الصواب.
ب - هل يقتضي النهي عن البيع فساده أم لا؟ قال مالك وأحمد نعم وبه قال الشيخ في المبسوط لمكان النهي وقال أكثر الجمهور والشيخ في الخلاف بعدم فساده وهو الحقّ لما تقرّر في الأصول أنّ النهي في المعاملات لا يدلّ على الفساد إذ لا مانع من أن يقول : حرّمت عليك البيع ولو بعت انعقد. ويكون المقصود بالنهي إيقاع الفعل لا ذاته بخلاف النهي عن العبادة فإنّه إذا تعلّق النهي بها أو بجزء منها أو بلازم من لوازمها فإنّها تفسد.
ص: 169
7 - في الآية إشارة إلى أنّ الخطاب مختصّ بالأحرار دون العبيد لأنّ العبد محجور عليه ممنوع من التصرّف.
8 - فيها أيضا دلالة على اختصاص الجمعة بمكان خاصّ يجب السعي إليه وهو قولنا أنّه لا يجمع جمعتان في فرسخ.
9 - « ذلِكُمْ » أي السعي إلى ذكر اللّه وترك البيع « خَيْرٌ لَكُمْ » فانّ نفع الآخرة خير وأبقى « إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » حقيقة الخير والشرّ أو تعلمون حقيقة السعي إلى ذكر اللّه.
الثانية ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1).
المراد هنا بقضاء الصلاة أداؤها فإنّ القضاء يقال على معان ثلاثة الأوّل بمعنى الفعل والإتيان بالشي ء وهو المراد هنا الثاني فعل العبادة ذات الوقت المحدود المعيّن بالشخص خارجا عنه الثالث فعل العبادة استدراكا لما وقع مخالفا لبعض الأوضاع المعتبرة فيها وقد يسمّى هذا إعادة والمراد بالانتشارفي الأرض التفرّق في جهاتها والابتغاء الطلب وهنا فوائد :
1 - اللّام في الصلاة للعهد أي الصلاة الّتي تقدّم ذكرها وهي الّتي وجب السعي إليها.
2 - اختلف الأصوليّون في الأمر الوارد عقيب النهي هل هو للوجوب أو للإباحة الرافعة للحظر؟ واحتجّ أصحاب القول الثاني بهذه الآية وهي « فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ » فإنّه أطلق لهم ما حرّمه من المعاملة ، والانتشار ليس بواجب اتّفاقا وكذا قوله ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) (2).
3 - في الأمر بالانتشار إشارة إلى كون الساعي الّذي وجبت عليه الجمعة
ص: 170
ممّن له القدرة على التصرّف في المعاش والاضطراب في طلب الرزق وكذا إذا فسرنا السعي بالإسراع في المشي ولمّا لم يكن الهمّ أي الشيخ الكبير والأعرج والمريض والأعمى كذلك دلّ على عدم الوجوب عليهم وكونهم غير مخاطبين بها.
4 - الابتغاء من فضل اللّه هو طلب الرّزق وعن الصادق والباقر عليهما السلام « الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت » (1) وقيل المراد طلب العلم عن سعيد بن جبير والحسن وروى أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ليس هو بطلب دنيا ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في اللّه » (2).
5 - « وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً » على إحسانه إليكم بالتوفيق وقيل المراد بالذكر الفكر كما قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « فكرة ساعة خير من عبادة سنة » (3) وقيل اذكروا اللّه في تجارتكم وليس بعيدا من الصواب أن يكون المراد : وابتغوا من فضل اللّه واذكروا أوامر اللّه ونواهيه في طلب الرزق فلا تأخذوا إلّا ما حلّ لكم أخذه لا ما حرّم [ لكم ] أو يكون المراد الذكر حال العقد فإنّه يستحبّ التكبير عنده والشهادتان واللّه أعلم.
الثالثة ( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) (4).
قال المقاتلان : ابن سليمان وابن قتادة (5) بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يخطب يوم
ص: 171
الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبيّ من الشأم بتجارة وكان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق إلّا أتته وكان يقدم إذا قدم بكلّ ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيرهما فينزل عند أحجار الزيت وهو مكان في سوق المدينة ثمّ يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قائم على المنبر يخطب فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلّا اثنى عشر رجلا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « لولا هؤلاء لسوّمت لهم الحجارة من السماء » وأنزل اللّه هذه الآية. وفي رواية أنّه صلى اللّه عليه وآله « قال والّذي نفسي بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا » (1) وعن ابن عباس : لم يبق إلّا ثمانية وعن ابن كيسان : أحد عشر.
فعلى هذا « اللّهو » هو الطبل وفي الأصل اللّهو كلّ ما ألهى عن ذكر اللّه و « انْفَضُّوا » أي تفرّقوا والضمير في « إِلَيْها » للتجارة وإنّما عاد إليها لا غير لأنّها هي المقصودة بالذات من الخروج وقيل التقدير إذا رأوا تجارة انفضّوا إليها أو لهوا انفضّوا إليه ، واكتفى بخبر أحدهما والترديد بأو للدلالة على أنّ منهم من خرج للتجارة ومنهم من خرج للهو وقدّم التجارة أوّلا للترقّي إذ التقدير أنّهم انفضّوا إلى التجارة مع حاجتهم إليها وذلك مذموم بل أبلغ من ذلك أنّهم انفضّوا إلى ما لا فائدة لهم فيه وأخّرها ثانيا لأنّ تقديره أنّ ما عند اللّه خير من اللّهو بل أبلغ من ذلك أنّه خير من التجارة المنتفع بها.
إذا تقرّر هذا فنقول : قيل المراد بقوله « وَتَرَكُوكَ قائِماً » أي تخطب وقيل قائما في الصلاة ، فعلى الأوّل يكون فيه دلالة على اشتراط القيام في الخطبة وأنّه لا يجوز فيها القعود اختيارا وبذلك قال الشافعيّ ولم يوجبه أبو حنيفة والحقّ الأوّل للآية ولرواية جابر بن سمرة قال « ما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خطب إلّا وهو قائم فمن
ص: 172
حدّثك أنّه خطب وهو جالس فكذّبه (1) » وسئل ابن مسعود « أكان النبيّ صلى اللّه عليه وآله يخطب قائما قال أما تقرأ « ( وَتَرَكُوكَ قائِماً ) (2) » وروى معاوية بن وهب عن الصادق عليه السلام « أوّل من خطب وهو جالس معاوية استأذن الناس في ذلك من وجع كان بركبتيه ثمّ قال عليه السلام : الخطبة وهو قائم خطبتان يجلس بينهما جلسة ثمّ لا يتكلّم فيها قدر ما يكون فصلا بين الخطبتين » (3).
وعلى الثاني يمكن أن يستدلّ به على أنّ الجماعة في الجمعة شرط في الابتداء لا الاستدامة بمعنى أنّه لو انقضت الجماعة بعد عقد النيّة والتحريم لم تبطل صلاة الإمام وأتمّها جمعة ، وهو أحد قولي الشافعيّ ، وقال أبو حنيفة : إن كان بعد أن صلّى ركعة أتمّها جمعة وإن كان قبل ذلك أتمّها ظهرا والحقّ الأوّل لانعقاد الصلاة فوجب إتمامها لتحقّق شرط الوجوب واشتراط الاستدامة منفيّ. هذا مع أنّ جعلها ظهرا إبطال لها وهو منفيّ بقوله تعالى ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (4).
الرابعة ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) (5).
قد ذكرنا هذه الآية وذكرنا ما فيها من الأقوال وتركنا قولا واحدا إلى هنا وهو أنّ المراد بالنحر نحر البدن للتضحية والمراد بالصلاة صلاة العيد ، وأجمع
ص: 173
علماؤنا على أنّها فرض عين محتجّين بعد إجماعهم بالآية فإنّ الأمر للوجوب ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله فعلها مواظبا عليها وقال « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (1) ولتظافر روايات الأصحاب بوجوبها (2) وقال أحمد بوجوبها على الكفاية وقال الشافعيّ ومالك هي سنّة وعن أبي حنيفة روايتان إحداهما أنّها سنّة والأخرى أنّها واجبة وليست فرضا.
واعلم أنّ شرائط وجوبها عندنا شرائط وجوب الجمعة ويقع الفرق بينهما بأمور : الأوّل أنّ هذه مع عدم الشرائط تكون مستحبّة بخلاف الجمعة الثاني أنّ هذه يسقط وجوبها بالترك لها عمدا أو نسيانا حتّى يخرج وقتها بخلاف الجمعة فإنّها تقضى ظهرا الثالث أنّ الخطبتين فيها مستحبّتان وفي الجمعة واجبتان ويجب استماعهما على خلاف. وأمّا هنا فيستحبّ استماعهما بلا خلاف الرابع أنّ الخطبتين هنا بعد الصلاة وتقديمهما بدعة وفي الجمعة قبلها الخامس أنّ صلاة العيد يجب فيها تكبيرات زائدة مع أدعية معها على أقوى القولين لنا وهي خمس في الأولى وأربع في الثانية غير تكبيرة الإحرام وتكبيرتي الركوع وقال الشافعيّ سبع في الاولى وخمس في الثانية عدا تكبيرة الافتتاح والركوعين وجعل أحمد تكبيرة الافتتاح من السبع وقال أبو حنيفة الزائد ثلاث في كلّ ركعة.
ومحلّ التكبير عندنا بعد القراءة وقبل الركوع في الموضعين وقال الشافعيّ وأحمد قبل القراءة فيهما وقال أبو حنيفة قبل القراءة في الاولى وبعدها في الثانية ومستند الكلّ روايات أوردوها لا تقوم لها عندنا حجّة (3) واستناد أصحابنا تظافر الروايات عن أئمّتهم عليهم السلام (4).
ص: 174
إذا نسي هذه التكبيرات أو بعضها حتّى ركع مضى في صلوته ولا قضاء عليه وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة يأتي بها في الركوع.
فائدة : يستحبّ التكبير (1) بعد صلاة ظهر الأضحى وما بعدها من الصلوات إلى تمام خمس عشرة صلاة لمن كان بمنى وإلى تمام عشرة لمن كان بغيرها لقوله تعالى ( وَاذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ ) (2) والمراد بها أيّام التشريق وليس فيها ذكر مأمور به سوى التكبير ، وعرفة ليس منها وبه قال مالك وهو المشهور عن الشافعيّ وقال أبو حنيفة يكبّر يوم عرفة والنحر إلى بعد عصره لقوله تعالى ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ ) (3) وهي عشر ذي الحجّة ولا تكبير قبل عرفة بالإجماع فيكون في عرفة والنحر وفي قوله نظر لاحتمال إرادة ذكر اللّه على الهدي والأضحيّة يوم النحر ويوم عرفة بالدعاء.
وفي عيد الفطر يستحبّ ليلة العيد عقيب المغرب والعشاء والفجر وصلاة العيد لقوله تعالى ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ ) (4) وهو مذهب أصحابنا ولم نسمع للعامّة في ذلك قولا.
الخامسة ( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ ) (5).
مات وقع صفة للنكرة وهو أحد وأتى بصيغة الماضي وإن كان متعلّق النهي
ص: 175
مستقبلا نظرا إلى وقت إيقاع الصلاة فإنّه بعد الموت فيكون الموت ماضيا بالنسبة إليه وإنّما قال أبدا وإن كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ليس بأبديّ لأنّ المراد لا تصلّ أنت ولا أمّتك أبدا أو يكون المراد أنّهم لا يستحقّون الصلاة أبدا لكفرهم والأولى أنّه قيّده بالتأبيد قطعا لأطماعهم في ذلك أو قطعا لتجويز النسخ « وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ » أي لأجل الدعاء وسؤال الرحمة لهم وقوله « إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ » تعليل من حيث المعنى للنهي عن الصلاة عليهم وفائدة قوله « وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ » أنّهم ثبتوا على الكفر إلى الموت لأنّ « كفروا » يدلّ على الحدوث لا على الثبوت إلى الموت والواو في « وماتوا » للحال أي على حال فسقهم والفسق هنا الكفر لأنّه أعمّ منه ويجوز إطلاق العامّ على الخاصّ.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - نقل أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يصلّي على المنافقين ويقوم على قبورهم ويدعو لهم تألّفا للأحياء منهم وترغيبا في تحقّق إسلامهم فلمّا مرض عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول بعث إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله ليأتيه فلمّا دخل عليه قال له أهلكك حبّ اليهود فقال يا رسول اللّه بعثت إليك لتستغفر لي لا لتوبخني وسأله أن يكفّنه في ثوبه الّذي لاقى جسده ويصلّي عليه فلمّا مات دعاه ابنه حباب إلى الجنازة فسأله عن اسمه فقال حباب فقال صلى اللّه عليه وآله : حباب اسم شيطان وأنا سمّيتك عبد اللّه بن عبد اللّه فلمّا همّ بالصلاة عليه نزلت الآية وجذبه جبرئيل عليه السلام عن الجنازة.
وروي أنّه كان قد أنفذ إليه قميصه فقيل له في ذلك فقال إنّ قميصي لا يغني عنه من اللّه شيئا وإنّي أؤمّل من اللّه أن يدخل بهذا السّبب في الإسلام خلق كثير فروي أنّه أسلم من الخزرج يومئذ ألف رجل.
وقيل إنّما فعل صلى اللّه عليه وآله بعبد اللّه ذلك مكافأة له على حسناه في الحديبيّة فإنّه لمّا قال المشركون لا نأذن لمحمّد ولكن نأذن لعبد اللّه فقال : لا ، لي أسوة برسول اللّه وأيضا لمّا أسر العبّاس يوم بدر ولم يجدوا له قميصا على طوله وكان طويلا كساه عبد اللّه هذا قميصا.
ص: 176
وقيل : فعل ذلك إكراما لولده فإنّه قال أسألك أن تكفّنه في بعض قمصانك وتنزل إلى قبره ولا تشمت بي الأعداء وفي بعض الروايات أنّه صلّى عليه فقال له عمر : أتصلّي على عدوّ اللّه؟ فقال له وما يدريك ما قلت فانّي قلت : اللّهمّ احش قبره نارا وسلّط عليه الحيّات والعقارب (1).
ص: 177
2 - الصلاة على الميّت خمس تكبيرات بعد الاولى الشهادتان وبعد الثانية
ص: 178
الصلاة على النبيّ وآله وبعد الثالثة الدعاء للمؤمنين وبعد الرابعة الدعاء للميّت إن كان مؤمنا والدعاء عليه إن كان منافقا وبدعاء المستضعفين إن كان مستضعفا. دلّ على ذلك روايات أهل البيت عليهم السلام وإجماعهم ولا يشترط عندنا فيها قراءة الفاتحة ولا التسليم ولا الطهارة لأنّها صلاة بحسب المجاز فلا ينصب عليها دليل « لا صلاة إلّا بطهور. ولا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب » (1).
وأجمع الفقهاء الأربعة على عدم وجوب التكبيرة الخامسة (2) ومن
ص: 179
الشافعيّة من جوّزها وقال لا تبطل بالخامسة ثمّ إنّهم أجمعوا على التسليم فيها كتسليم الصلاة وعلى اشتراط الطهارة ثمّ إنّ الشافعيّ عين الفاتحة عقيب الاولى وجعل الشهادتين والصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله عقيب الثانية وأبو حنيفة قال يحمد اللّه في الأولى.
3 - قد ظهر أنّ الصلاة على الميّت مجموع مركّب من التكبير والأذكار المذكورة والنهي في الآية يتعلّق بالمجموع من حيث هو مجموع لا بكلّ واحد من الأجزاء إلّا الدعاء للميّت الكافر فإنّ الكافر غير مغفور له فالدعاء له عبث وتسميتها صلاة تسمية الشي ء باسم بعض أجزائه والفرق بين الأمر بالمجموع وبين النهي عنه أنّ الأمر بالمجموع يستلزم الأمر بكلّ واحد من أجزائه بخلاف النهي. إن قلت : يجوز أن يكون المراد ب « لا تصلّ » لا تدع على أصل اللّغة كقوله ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (1) قلت المتبادر إلى الفهم من الصلاة على الميّت ما قلناه فيحمل عليه.
4 - في تعليل النهي بالكفر إشارة إلى وجوب الصلاة على كلّ مسلم ولذلك نقل أنّه لمّا مات النجاشي بالحبشة صلّى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لموضع إسلامه
ص: 180
الحقيقيّ (1) وهو الّذي نزلت فيه وفي أصحابه الآيات في المائدة (2) وهي قوله « ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ) » الآيات فقال المنافقون : أتصلّي على علج نصرانيّ فنزلت ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ ) (3) الآية واستدلّ الشافعي بذلك على جواز الصلاة على الميّت الغائب ومنعها أبو حنيفة وأصحابنا وحملوا ما ورد من الصلاة على الاستغفار على الميّت والدعاء له وعلى تقدير تسليمه نقل إنّ جنازته رفعت للنبيّ صلى اللّه عليه وآله حتّى شاهده على سريره.
5 - دلّ قوله تعالى « وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ » على مشروعيّة الوقوف على قبور الموتى من المؤمنين والترحّم عليهم وزيارة قبورهم والتردّد إليها وقد روي في ذلك أجر جزيل فما صحّ لنا روايته عن الرضا عليه السلام أنّه قال « من أتى قبر أخيه المؤمن وقرء عنده ( إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) سبع مرّات ودعا له أمن من الفزع الأكبر (4) » قيل : الآمن الميّت وقيل القاري وقيل هما معا قاله بعض شيوخنا وهو الأصحّ وورد أيضا غير ذلك من الروايات (5) وكانت زيارة القبور في أوّل الإسلام محرّمة ثمّ نسخ ذلك (6).
السادسة ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ) (7).
ص: 181
الضرب في الأرض هو السير فيها والجناح الإثم ونفي الجناح يستعمل في الواجب والندب والمباح وقصر الصلاة من القصور بمعنى النقص وهو قد يكون في كيفيّتها وفي كمّيّتها والفتنة قيل القتل والأصحّ أنّها التعرّض للمكروه.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - قصر الصلاة جائز إجماعا فقال الشافعيّ هو رخصة لقوله تعالى « فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ » (1) فهو من المخيّر عنده لكنّه قال القصر أفضل وقال المزنيّ من
ص: 182
أصحابه الإتمام أفضل وقال مالك وأبو حنيفة [ وأحمد ] وأصحابنا أنّه عزيمة (1) وبه قال عليّ عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام وابن عبّاس وجابر وابن عمر وغيرهم ونفي الجناح لا ينافي الوجوب فإنّه قد استعمل في الوجوب كما في قوله تعالى
ص: 183
( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ ) إلى قوله ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) (1) والطواف بهما واجب ، ولما روي عن يعلى بن أميّة وقد سأل عمر ما بالنا نقصر وقد أمنّا فقال عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : « تلك صدقة تصدّق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته » (2) والأمر للوجوب وغير ذلك من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام وغيرهم (3).
ص: 184
2 - ظاهر الآية (1) تدلّ على أنّ القصر مشروط بالخوف وليس كذلك بل الخوف خرج مخرج الأغلب لما قلناه من حديث عمر وتحقيق الحال هنا أن نقول ليس السفر والخوف شرطين على الجمع للإجماع ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قصر سفرا مع زوال الخوف (2) وإذا لم يكونا شرطين على الجمع فإمّا أن يكون أحدهما شرطا في الآخر دون العكس وهو باطل أمّا أوّلا فلاستلزام الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا ثانيا فلأنّ اشتراط السفر بالخوف باطل للإجماع المذكور والنصّ وعكسه أعني اشتراط الخوف بالسفر باطل أيضا لكونه ينفى سببيّة الخوف مطلقا ولأنّ السبب التامّ يستحيل أن يكون شرطا في سببيّة آخر وإذا بطل ذلك فلم يبق إلّا أن يكون كلّ واحد منهما سببا تامّا في وجوب القصر ولما صحّ عن الباقر عليه السلام أنّه « سئل عن صلاة الخوف وصلاة السفر أنقصر ان جميعا فقال نعم وصلاة الخوف أحقّ أن تقصر من
ص: 185
صلاة السفر الّذي ليس فيه خوف بانفراده » (1) جعل عليه السلام الخوف سببا أقوى من السفر الخالي عنه فيكون كلّ واحد منهما سببا تامّا منفردا وهذا تقرير لوجوب القصر فيهما معا.
3 - لم نسمع خلافا في أنّ القصر في السفر معلّق بالمسافة إلّا أنّ داود قال : أحكام السفر تتعلّق بالطويل والقصير وأطلق ثمّ المقدّرون اختلفوا (2) فقال الشافعيّ
ص: 186
مرحلتان ستّة عشر فرسخا وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة وأصحابه ثلاث مراحل أربعة وعشرون فرسخا وقال أصحابنا مرحلة ثمانية فراسخ أو مسير يوم متوسّط السير وبه قال الأوزاعيّ دليلنا بعد الإجماع منّا إطلاق الآية خرج ما دون الثمانية بالإجماع فيبقى ما عداه ولرواية عيص بن القاسم عن الصادق عليه السلام « قال التقصير حدّه أربعة وعشرون ميلا يكون ثمانية فراسخ » (1).
4 - حيث بيّنّا أنّ التقصير نقص من الصلاة كمّا أو كيفا فالنقص في الكمّ في الرباعيّات بتنصيفها وجعلها اثنتين وكذلك في حال الخوف غير الشديد وأمّا في حال الخوف المنتهى إلى الشدّة فإنّ النقص هناك في الكمّ والكيف معا أمّا الكمّ فكما قلنا وأمّا الكيف فبحسب الإمكان قائما وقاعدا ومؤميا بل ويقوم مقام الركعة تسبيحة واحدة وتفصيل ذلك في كتب الفقه.
5 - القصر المشار إليه سفرا وخوفا إنّما يكون فيما ساغ من السفر والأحوال واجبا كان أو مندوبا أو مباحا لا في غير السائغ وذلك لأنّه تخفيف وترفيه للمشقّة الّتي مظنّتها السفر فلا يحسن جعله للعاصي بسفره خصوصا على قولنا بحكمة الشارع وامتناع القبيح عليه نعم لا يشترط انتفاء المعصية في السفر بل كون السفر نفسه غير معصية أو غايته غير المعصية.
6 - وجوب القصر وإن كان عامّا لظاهر الآية لكنّه عندنا مخصوص بما عدا المواضع الأربعة مسجد مكّة والمدينة وجامع الكوفة والحائر الشريف على ساكنه الصلاة والسلام وعليه إجماع أكثر الأصحاب فإنّ الإتمام فيها أفضل لكونها مواضع شريفة تناسب التكثير من العبادة فيها.
السابعة ( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ
ص: 187
يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) (1).
الطائفة أقلّها واحد والسلاح اسم لما يدفع به الإنسان عن نفسه والجمع أسلحة كخمار وأخمرة وأخذ الحذر كناية عن شدّة الاحتراز عن العدوّ بالاستعداد له واللام في « فَلْتَقُمْ » و « لْيَأْخُذُوا » للأمر وهي ساكنة باتّفاق القرّاء وأصلها الكسر فسكنت استثقالا و « أَنْ تَضَعُوا » موضعه إمّا نصب بنزع الخافض إي لا إثم عليكم في أن تضعوا فسقطت في بعمل ما قبلها ، أو جرّ بإضمار حرف الجرّ وقال « طائِفَةٌ أُخْرى » ولم يقل آخرون وقال « لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا » ولم يقل لم تصلّ فلتصلّ حملا للكلام تارة على اللّفظ واخرى على المعنى كقوله « وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا » (2) ولم يقل اقتتلا.
إذا تقرّر هذا فلنورد كيفيّة صلاة الخوف على ما قاله الفقهاء ثمّ نذكر ما في الآية من الفوائد فنقول : الخوف إذا انتهى إلى حال لا يمكن معها الاستقرار وإيقاع الأفعال بل إلى المسايفة والمعانقة صلّى الناس فرادى بحسب إمكانهم كما تقدّم وإذا لم ينته إلى ذلك فقد ذكروا ثلاثة أنواع (3) :
ص: 188
الأوّل صلاة بطن النخل (1) وهي أن يكون العدوّ في جهة القبلة ويفرّق الامام أصحابه فرقتين فيصلّي بإحداهما ركعتين ويسلّم بهم والثانية تحرسهم ثمّ يصلّي بالثانية ركعتين نافلة له وهي فريضة لهم وهذه تصحّ أيضا مع الأمن.
الثاني صلاة عسفان (2) وهي أن يكون العدوّ في جهة القبلة أيضا فيرتّبهم صفّين ويحرّم بهما جميعا ويركع بهم ويسجد بالأوّل خاصّة ويقوم الثاني للحراسة فإذا قام الإمام بالأوّل سجد الثاني ثمّ ينتقل كلّ من الصفّين إلى مكان صاحبه فيركع الإمام بهما ثمّ يسجد بالّذي يليه ويقوم الثاني الّذي كان أوّلا لحراستهم فإذا جلس بهم سجدوا وسلّم بهم جميعا.
الثالث صلاة ذات الرقاع (3) وشروطها كون العدوّ في خلاف جهة القبلة أو
ص: 189
كونه في جهتها لكن بينه وبين المسلمين حائل يمنع من رؤيتهم لو هجموا وقوّة العدوّ بحيث يخاف هجومه وكثرة المسلمين بحيث يمكن افتراقهم فرقتين يقاوم كلّ فرقة العدوّ وعدم الاحتياج إلى زيادة التفريق : فينحاز الإمام بطائفة إلى حيث لا يبلغهم سهام العدوّ فيصلّي بهم ركعة فإذا قام إلى الثانية انفردوا واجبا وأنمّوا والأخرى تحرسهم ثمّ تأخذ الأولى مكان الثانية وتنحاز الثانية إلى الامام وهو ينتظرهم فيقتدون به في الركعة الثانية فإذا جلس في الثانية للتشهّد قاموا وأنمّوا ولحقوا به ويسلّم بهم ويطوّل الامام القراءة في انتظار الثانية والتشهّد في انتظار فراغها وفي المغرب يصلّي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة أو بالعكس.
فالآية الكريمة ، لم يقل أحد بحملها على صلاة عسفان بل إمّا على صلاة بطن النخل وهو قول الحسن البصري أو على صلاة ذات الرقاع وفيها قولان أحدهما قول أصحابنا والشافعيّة وهو أنّ الطائفة الأولى بعد فراغها من السجود تصلّي ركعة أخرى كما حكيناه وثانيهما أنّ الطائفة الأولى إذا فرغوا من الركعة يمضون إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة الأخرى ويصلّي بهم الركعة الثانية ويسلّم الإمام خاصّة ويعودون إلى وجه العدوّ ويأتي الاولى فيقضون ركعة بغير قراءة لأنّهم لاحقون ويسلّمون ويرجعون إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة الثانية ويقضون ركعة بقراءة لأنّهم مسبوقون وهو مذهب أبي حنيفة ومنقول عن عبد اللّه بن مسعود وفي الفرق بين الطائفتين بترك القراءة نوع تحكّم لا يصلح ما ذكروه لعلّته.
وقيل إنّ الطائفة الأولى تصلّي ركعة وتسلّم وتنصرف وكذا الثانية وهو قول جابر ومجاهد فعلى هذا يكون صلاة الخوف ركعة واحدة (1) فالسّجود في قوله « فَإِذا سَجَدُوا » على ظاهره عند أبي حنيفة وعلى قول أصحابنا وقول الشافعيّ بمعنى الصلاة ويعضده قوله تعالى ( وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ )
ص: 190
ولا خلاف في أنّ الطائفة الّتي تقابل العدوّ غير المصلّية تأخذ السلاح وأمّا المصلّية فقيل لا تأخذه وبه قال ابن عبّاس وقيل تأخذه وهو الصحيح لعود الضمير إليهم ظاهرا وهنا فوائد
1 - قيل (1) إنّ الصلاة على هذا الوجه تختصّ بحضرته صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ ) وليس بشي ء (2) لأنّ سائر الشرعيّات هو مقرّرها بأقواله وأفعاله مع عموم التكليف بها لوجوب التأسّي به مع أنّ مفهوم المخالفة ليس بحجّة عندنا.
2 - أخذ السلاح واجب لصيغة الأمر وقد تقرّر أنّه للوجوب.
3 - يجوز ترك أخذ السلاح مع المرض أو حصول الأذى به وكذا إذا منع أحد واجبات الصلاة لقوله « ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر ».
4 - في الآية دلالة على أرجحيّة صلاة الجماعة للأمر حالة الخوف بالمحافظة عليها.
5 - في قوله « وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ » إشارة
ص: 191
إلى علّة وجوب أخذ السلاح والحذر وهو أنّه إذا لم تفعلوا يميلون عليكم ميلة واحدة أي يشدّون عليكم شدّة واحدة.
6 - في الآية ونزولها معجزة له صلى اللّه عليه وآله وذلك أنّها نزلت والنبيّ صلى اللّه عليه وآله بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا فصلّى النبيّ صلى اللّه عليه وآله بأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود فهمّ المشركون أن يغيروا عليهم فقال بعضهم إنّ لهم صلاة أخرى أحبّ إليهم من هذه يعنون [ بها ] صلاة العصر فأنزل اللّه الآية المذكورة فصلّى بهم صلاة العصر صلاة الخوف (1).
7 - لمّا أمرهم بأخذ الحذر أو همهم أنّ العدوّ يوقع بهم ضررا لقوّة العدوّ [ أ ] وخداعه فأزال هذا الوهم بأنّ اللّه يهيمهم بسيف الإسلام فإنّه تعالى كثيرا ما يفعل الأشياء بأسبابها فقال « إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ».
إن قلت : تعليق الأخذ بالحذر مجاز وبالأسلحة حقيقة فإن أراد أحدهما لم يجز الآخر وإن أرادهما فباطل لأنّهم منعوا من استعمال اللّفظ في الحقيقة والمجاز معا قلت إنّما منعوه على وجه الحقيقة لا مطلقا فجاز إرادتهما معا مجازا أو يكون أحدهما منصوبا بالملفوظ والآخر بمقدّر على طريقة « علّفتها تبنا وماء باردا (2) أراد وسقيتها.
ص: 192
الثامنة ( فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (1).
المراد بالقضاء هنا فعل الشي ء والإتيان به أي إذا أتيتم بالصلاة كقوله تعالى ( فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ ) (2) فعلى هذا يكون المراد الأمر بالمداومة على الذكر في جميع الأحوال كما جاء في الحديث القدسيّ « يا موسى اذكرني فإنّ ذكري حسن على كلّ حال » (3) أو المراد التعقيب بالأدعية بعد الصلاة كما هو مذكور في مظانّه ويمكن أن يكون المراد التسبيح عقيب كلّ صلاة مقصورة ثلاثين مرّة « سبحان اللّه ، والحمد لله ، ولا إله إلّا اللّه ، واللّه أكبر » كما رواه أصحابنا فإنّه ذكر ذلك عقيب كلّ صلاة القصر (4)
وقيل : في الكلام إضمار أي إذا أردتم الإتيان بالصلاة فأتوا بها على حسب
ص: 193
أحوالكم في الإمكان بحسب ضعف الخوف وشدّته « قِياماً » أي مسايفين ومقارعين « وَقُعُوداً » أي مرامين « وَعَلى جُنُوبِكُمْ » أي مثخنين بالجراح ووجه هذا أنّها في معرض ذكر صلاة الخوف.
قوله « فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ » أي سكنتم وأقمتم في مدنكم « فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ » تقدّم معنى إقامة الصلاة أي أدّوها كاملة في كمّيّتها وكيفيّتها بأن تأتوا بها تماما لا قصرا وعلى إيفاء الكيفيّات حقّها لا كما هو حال الشدّة وباقي الآية تقدّم تفسيره في أوّل كتاب الصلاة (1)
التاسعة ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ ) (2).
لمّا تقرّر في أصول الفقه أنّ التأسيس أولى من التأكيد لاشتماله على مزيد فائدة لم يجز حمل قوله « وَارْكَعُوا » على الصلاة أي صلّوا مع المصلّين تسمية للصلاة باسم بعض أجزائها لكونه أوّل فعل يظهر منها كما قيل في ذلك سواء كان الخطاب لليهود لعدم الركوع في صلوتهم أو لغيرهم فإنّ الأمر بإقامة الصلاة يستلزم الأمر بأجزائها لأنّ الأمر بالكلّ أمر بكلّ واحد من أجزائه ضرورة وحينئذ فالأولى حمل الآية على الأمر بصلاة الجماعة فيكون راجحة إمّا وجوبا كما في الجمعة والعيدين أو استحبابا كما في باقي الصلوات الواجبة وهو قول أكثر المسلمين وقال أحمد بوجوبها على الكفاية.
وأمّا الجماعة في النوافل فأجمع علماء أهل البيت عليهم السلام على تحريمها إلّا في نفل أصله فرض كالإعادة والعيدين والاستسقاء لما فيها من غرض الاجتماع لإجابة الدعاء واحتجاج أحمد على وجوبها بأنّه صلى اللّه عليه وآله توعّد جماعة تركوها بإحراق بيوتهم (3)
ص: 194
لا يدلّ على مطلوبه لاحتمال اعتقادهم عدم المشروعيّة أو إصرارهم على ترك السنن أو على شدّة الاستحباب الّذي لا نزاع فيه فانّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفدّ بخمس وعشرين صلاة كما ورد في الحديث النبويّ (1) وهو دليل على استحباب الجماعة معتضدا بأصالة البراءة من الوجوب وأمّا مبالغة داود في جعلها واجبة عينا فأظهر في المنع.
العاشرة ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )(2).
لم أجد أحدا من المفسّرين فرّق بين الاستماع والإنصات والّذي يظهر لي أنّ استمع بمعنى سمع والإنصات توطين النفس على الاستماع مع السكوت فظاهر الآية يدلّ على راجحيّته إذا قرئ القرآن إمّا وجوبا أو استحبابا واختلف في سبب نزولها (3) فقال ابن عبّاس وجماعة أخرى إنّهم كانوا يتكلّمون في صلوتهم أوّل فرضها فكان الرجل يجي ء وهم في الصلاة فيقول كم صلّيتم فيقولون كذا وكذا وقال الزهريّ كان النبيّ صلى اللّه عليه وآله يقرء فيعارضه فتى من الأنصار فيقرء معه فنزلت وقيل كان أصحابه كلّما قرأ قرؤا معه رافعين أصواتهم فيخلطون عليه وقال ابن جبير نزلت في الإنصات والإمام يخطب في الجمعة وقيل هو أمر بالاستماع نظرا في المعجزة النبويّة وهو قويّ وقال الصادق عليه السلام المراد استحباب الاستماع في الصلاة وغيرها (4) وهو المختار لإطلاق اللّفظ وأصالة البراءة من الوجوب وهنا فوائد :
- استدلّ أصحابنا والحنفيّة على سقوط القراءة عن المأموم بالآية فإنّ الإنصات لا يتمّ إلّا بالسّكوت وخالفت الشافعيّة في ذلك حيث استحبّوا له قراءة
ص: 195
الفاتحة مطلقا وربّما فصّل أصحابنا بأنّ في الجهريّة الأولى ترك القراءة لما قلناه من الإنصات وأمّا الإخفاتيّة والجهريّة إذا لم يسمع ولا همهمة فيستحبّ قراءة الفاتحة وقيل بل يستحبّ الذكر في النفس تسبيحا أو تحميدا أو تهليلا أو تكبيرا وهو الأولى ويؤيده رواية زرارة عن أحدهما عليه السلام « إذا كنت خلف إمامه تأتمّ به فأنصت وسبّح في نفسك » (1) يعني فيما [ لا ] يجهر به وإليه أشار في الآية التالية لهذه بقوله ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ) (2).
2 - ينبغي لكلّ واحد من قارئ القرآن ومستمعه تخلية سرّه وتحزين قلبه والاستشفاء به من داء جهله وتفريطه وأن يجعل نفسه هي المخاطبة بجملة أوامره ونواهيه وأنّها المؤاخذة بوعيده والمرغّبة بوعده.
3 - ينبغي ترك الكلام حينئذ واستشعار الذلّة والخضوع وتصوّر عظمة المتكلّم به وهو اللّه تعالى وقراءته قائما وجالسا متأدّبا كالحاصل بين يدي ملك عظيم لا يشغل عنه شاغل وتحرّي الخلوة بقرائته فإنّها نعم العون على ذلك كلّه.
الحادية عشرة ( إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) (3).
حكم أصحابنا بوجوب السجود عند قراءة هذه الآية واستماعها وفي سماعها خلاف أحوطه الوجوب وكذا في حم عند قوله ( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) (4) وآخر اقرأ : ( وَاسْجُدْ
ص: 196
وَاقْتَرِبْ ) (1) وعند آخر النجم ( فَاسْجُدُوا لِلّهِ وَاعْبُدُوا ) (2) وسمّوها بسور العزائم الأربع مستدلّين بعد إجماع الفرقة بقول عليّ عليه السلام « عزائم السجود أربع » (3) وقول الصادق عليه السلام « إذا قرئ شي ء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد وإن كنت على غير وضوء وإن كنت جنبا وإن كانت المرأة لا تصلّي وسائر القرآن أنت فيه بالخيار » (4) ولأنّها واردة بصيغة الأمر الدالّ على الوجوب.
إن قلت : نمنع كون كلّها بصيغة الأمر فإنّها هنا في الآية المذكورة ليست بصيغة الأمر مع أنّه يلزمكم وجوب السجود في آخر الحجّ لكونه بصيغة الأمر وأنتم لا تقولون به قلت الجواب أمّا عن الأولى فلأنّها إن لم يكن بصيغة الأمر لكنّها علامة على كمال الإيمان المشعر ذلك بوجوبها وأمّا عن الثانية فلأنّها سجود الصلاة بدليل اقترانها بالركوع فهي واجبة في الصلاة والنزاع في سجود ليس في الصلاة هذا مع أنّه مختلف في مشروعيّتها كما يجي ء.
وما عدا هذه الأربع من السجود مندوب لأصالة البراءة من الوجوب ولما ذكرنا من قول الصادق عليه السلام ، وهي إحدى عشرة : في الأعراف والرعد والنحل وبني إسرائيل ومريم والحجّ في موضعين والفرقان والنمل وص وإذا السماء انشقّت.
وقال الشافعيّ إنّها كلّها مسنونة وأسقط ص وقال أبو حنيفة كلّها واجبة وأسقط ثانية الحجّ فهي عندهما أربعة عشرة.
فائدة : يجب في السجدات المذكورة وضع الجبهة والسجود على الأعضاء السبعة ولا يجب فيها طهارة ولا ذكر ولا تشهّد ولا تسليم ولا استقبال على الأصحّ
ص: 197
نعم الذكر فيها مندوب صورته على ما رواه ابن بابويه في أماليه « لا إله إلّا اللّه حقّا حقّا لا إله إلّا اللّه تعبّدا ورقّا لا إله إلّا اللّه إيمانا وصدقا سجدت لك يا رب تعبّدا ورقّا لا مستنكفا ولا مستكبرا (1) [ ولا متعظّما بل أنا عبد ذليل خائف مستجير ].
وهو لغة قيل قيام بلا عمل قاله الخليل وقال الجوهريّ الصوم الإمساك وشرعا قيل هو الإمساك عن أشياء مخصوصة في زمان مخصوص ممّن هو على صفات مخصوصة ونقض بأنّ الإمساك عدميّ مع إبهام الأشياء المخصوصة وإطلاقها وقيل هو الكفّ عن المفطرات مع النيّة وفيه نظر إذ الكفّ يشمل اللّيل وذلك ليس بصوم مع أنّ التناول سهوا ليس بمناف فلا بدّ من قيد العمد فاذن هو ليس بمانع لدخول الأوّل ولا جامع لخروج الثاني. هذا مع أنّ كفّ الكافر والمسافر والحائض والجنب عن المفطرات مع النيّة ليس بصوم فلا بدّ من قيد يخرج أمثال ذلك ، وربّما زيد التوطين فقيل توطين النفس على الكفّ إلى آخره وهو أيضا غير سديد ويرد عليه ما قلناه أيضا.
فالأولى أن يقال هو كفّ شرعيّ عن تعمّد تناول كلّ مزدرد والجماع وما في حكمها يوما أو حكمه مع النيّة ، وفيه أجر جزيل بل هو من أفضل الأعمال ففي الحديث القدسيّ « كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به » (2) وفي توجيه هذا الحديث أقوال ذكرناها في النّضد من أرادها وقف عليها (3).
ص: 198
وهنا آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1).
ص: 199
كتب أي فرض عليكم والّذين من قبلنا هم الأنبياء وأممهم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدنا « لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » أي تتّقون المعاصي فإنّ الصوم يكسر الشهوة كما جاء في الحديث عنه صلى اللّه عليه وآله « من لم يستطع الباه فليصم فإنّ الصوم له وجاء » (1) أو لعلّكم تنتظمون في زمرة المتّقين فانّ الصوم شعارهم وهنا فوائد :
1 - في قوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » تنبيه على عدم الوجوب على الصبيّ والمجنون والمغمى عليه إذ الإيمان هو التصديق والإذعان بعد تصوّر الأطراف وذلك لا يحصل إلّا من عاقل.
2 - حيث إنّ الصوم تشبّه بالملائكة وحسم لمادّة الشيطان وكسر للقوّة الشهوية الحيوانيّة ونصر للقوّة العاقلة الملكيّة كتب علينا كما كتب على الّذين من قبلنا من الأنبياء والأمم الماضين.
3 - قيل إنّ النصارى كتب عليهم شهر رمضان فأصابهم موتان فزادوا عشرا قبله وعشرا بعده فصار صومهم خمسين يوما وقيل كان وقوعه في الحرّ الشديد أو البرد الشديد فشقّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم فحوّلوه إلى الربيع وزادوا فيه عشرين يوما كفّارة للتحويل وعن الباقر عليه السلام « إنّ شهر رمضان كان واجبا على كلّ نبيّ دون أمّته وإنّما وجب على امّة محمّد صلى اللّه عليه وآله محبّة لهم » (2).
4 - في قوله « لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » إشارة إلى أنّ التكاليف السمعيّة ألطاف مقرّبة إلى طاعات أخر وإلى اجتناب كثير من المعاصي كما قال ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (3).
5 - فائدة إعلامنا بتكليف من قبلنا بالصوم إمّا تأكيد للحكم فإنّه إذا كان
ص: 200
مستمرّا في جميع الملل تأكّد الانبعاث إلى القيام به أو تنبيه لنا على علّة مشروعيّته بوقوع التكليف به عامّا أو تطييب للنفس وتسهيل عليها.
الثانية ( أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1).
« أَيّاماً » منصوب على أنّه ظرف لفعل مقدّر يدلّ عليه الصيام أي صوموا أيّاما لا أنّه منصوب بالصّيام كما قال الزمخشريّ لأنّ المصدر إعماله مع اللام ضعيف والإضمار من محاسن الكلام « و ( مَعْدُوداتٍ ) » أي قلائل فإنّ الشي ء إذا كان قليلا يعدّ وإذا كان كثيرا يهال هيلا وفي قوله « أَيّامٍ أُخَرَ » وهي جمع اخرى تأنيث آخر سؤال فإنّ الأيّام جمع يوم وهو مذكّر وكان قياسه أواخر جمع آخر فلم قال أخر؟ أجيب عنه بأنّ كلّ صفة لموصوف مذكّر لا يعقل فأنت فيها بالخيار إن شئت عاملتها معاملة الجمع المذكّر وإن شئت [ عاملتها ] معاملة الجمع المؤنّث وإن شئت معاملة المفرد المؤنّث وعلى هذا جاز أن يقال أيّام أواخر وأخر واخرى لكون الأيّام لا تعقل بخلاف جائني رجال ورجال أخر لم يجز بل أواخر أو آخرون.
« وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ » أي يبلغونه أقصى طاقتهم والضمير للصوم وقرء نافع وابن عامر « فدية طعام مساكين » بإضافة فدية إلى طعام وجمع المساكين وقرأ الباقون « فدية » منوّنة « وطعام » بالرفع وإضافته إلى « مسكين » مفردا وقرأ حمزة يتطوع والباقون تطوّع : إذا تقرّر هذا ففي الآية مسائل :
1 - قال ابن عباس وجماعة « الأيّام المعدودات » هنا ثلاثة أيّام من كلّ شهر ويوم عاشوراء ثمّ نسخ بشهر رمضان وعنه أيضا أنّها شهر رمضان وبه قال الأكثر لأنّه مهما أمكن صيانة الحكم عن النسخ فهو أولى فيكون قد أوجب الصوم أوّلا فأجمله ثمّ بيّنه بأيّام معدودات ثمّ بيّنه بشهر رمضان وعلى القول الأوّل لا يلزم
ص: 201
عدم جواز صيام ثلاثة أيّام من الشهر فانّ رفع الوجوب لا يستلزم رفع الجواز.
2 - قيل مطلق المرض مبيح للإفطار حتّى أنّ ابن سيرين أفطر فقيل له فاعتذر بوجع إصبعه وقال مالك وقد سئل : الرجل يصيبه الرّمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه فقال إنّه في سعة من الإفطار وقال الشافعيّ لا يفطر حتّى يجهد الجهد الغير المحتمل والأصحّ عندنا أنّه ما يخاف معه الزيادة أو عسر البرء وأمّا السفر فقد تقدّم حدّه وشرائطه وزاد أكثر أصحابنا شرطا زائدا على شرائط قصر الصلاة فقال الشيخ هو تبييت النيّة من اللّيل للسفر وقال المفيد هو الخروج قبل الزوال وهو الأقوى وقال فقهاء العامّة عدا أحمد متى تلبّس بالصوم أوّل النهار ثمّ سافر في أثنائه لم يجز له الإفطار وقال أحمد يجوز.
3 - قوله « فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ » جواب للشرط أي ففرضه عدّة من أيّام أخر وفيه دلالة على وجوب الإفطار على المريض والمسافر لما ذكرناه ومن قدّر في الآية « فأفطر فعدّة » فقد خالف الظاهر ثمّ إنّ أكثر الصحابة (1) أوجبوا الإفطار سفرا وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام وعن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « الصائم في السفر كالمفطر في الحضر » (2) وروي ذلك عن الصادق عليه السلام (3) وسمّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله جماعة لم
ص: 202
يفطروا عصاة فقال وقد قيل له عنهم : « أولئك العصاة أولئك العصاة » (1).
4 - قوله تعالى ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ) قيل كان القادر على الصوم مخيّرا بينه وبين الفدية بكلّ يوم نصف صاع وقيل مدّ « فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً » أي زاد على الفدية « فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ » ولكن صوم هذا القادر خير له ثمّ نسخ ذلك بقوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وقيل إنّه غير منسوخ بل المراد بذلك الحامل المقرب والمرضع القليلة اللّبن والشيخ والشيخة فإنّه لمّا ذكر المرض المسقط للفرض وكان هناك أسباب أخر ليست بمرض عرفا لكن يشقّ معها الصوم ذكر حكمها فيكون تقديره وعلى الّذين يطيقونه ثمّ عرض لهم ما يمنع الطاقة
ص: 203
فدية وهذا روي عن الصادق عليه السلام (1) وهو أولى لأنّ التخصيص خير من النسخ ويؤيّد هذا القول ما قرئ شاذّا عن ابن عبّاس « يطوّقونه » أي يتكلّفونه وعلى قول من قال إنّ الآية بجملتها منسوخة لا منافاة لما قلناه لأنّ رفع الوجوب كما قلنا من قبل لا يستلزم رفع الجواز كما تقرّر في الأصول.
فإن قلت : فعلى هذا ما معنى قوله تعالى ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) قلت جاز أن يكون كلاما مبتدءا لا تعلّق له بما قبله وتقديره إنّ صومكم خير عظيم لكم إن كنتم تعلمون فضائل الصوم وخواصّه الّتي تقدّم ذكرها فإنّكم إذا علمتم ذلك علمتم أنّه خير لكم بالنظر العقليّ وإن لم تعلموا ذلك كنتم عالمين به بالسّمع لا غير وذلك نقص بالنسبة إلى من جمع بين العلمين.
الثالثة ( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (2).
سمّى الشهر شهرا لاشتهاره أي ظهوره برؤية الهلال وهو هنا من باب إضافة العامّ إلى الخاصّ كيوم الجمعة من باب حركة نقلة وقيل إنّ شهر رمضان معا علم لهذا الشهر ك « ابن داية » (3) ولهذا قال بعض أصحابنا نقلا عن أئمّتهم عليهم السلام « لا تقولوا رمضان بل [ قولوا ] شهر رمضان فإنّكم لا تدرون ما رمضان » (4) وفيه نظر
ص: 204
لأنّ الأعلام لا تتصرّف فيها وقد جاء في الحديث « من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه » (1) فان كان ولا بدّ فيحمل النهي على الكراهية لمخالفته لفظ القرآن وسمّي رمضان قيل لأنّ التسمية وافقت أيّام رمض الحرّ وقيل لارتماضهم في حرّ الجوع والأحسن ما قاله ابن السكّيت إنّه مأخوذ من رمضته أرمضه وأرمضه ورامضته إذا جعلته بين حجرين أملسين ثمّ دقّقته وذلك لأنّ الصائم يجعل طبيعته بين حجري الجوع والعطش لتليين الحواسّ للنفس كي لا تعارضها في مقتضاها والأجود في رفعه أنّه خبر مبتدا محذوف تقديره هي شهر رمضان أي الأيّام المعدودات وعلى القول بنسخها يكون مبتدأ خبره « فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ » لأنّ فيه معنى الشرط أي إذا حضر فمن شهد منكم. وقيل خبره الّذي أنزل وقيل إنّه مرفوع بالبدل من الصيام في كتب عليكم وفيه نظر لأنّ الصّيام ليس هو الشهر. وإذا قلنا إنّ القرآن اسم جنس كالماء والتراب فمعنى إنزال القرآن فيه ظاهر لأنّ كلّ ما اتّفق نزوله فيه فهو قرآن وإن جعلناه علما فقيل لأنّه أنزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثمّ انزل نجوما إلى الأرض أو إنّه ابتداء إنزال فيه أو إنّه نزل في شأنه.
ص: 205
« هُدىً » حال من القرآن أي هاديا لِلنّاسِ « وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى » أي من جملة الهدى وذكر البيّنات بعد الهدى ذكر الأخصّ من الشي ء معه فانّ كلّ بيّنة هدى ولا ينعكس ( وَالْفُرْقانِ ) ما يفرّق بين الحقّ والباطل وهو عطف على الهدى « فَمَنْ شَهِدَ » أي حضر بلده من الشهود أي الحضور وهو عامّ مخصوص بمن حصل له شرطه : البلوغ والعقل والخلوّ من الحيض والنفاس وذلك لأدلّة منفصلة كقوله عليه السلام « رفع القلم عن ثلاثة » (1) وأدلّة اشتراط الطهارة في الصوم وغير ذلك.
والشهر منصوب على الظرف وكذا الهاء في يصمه وقيل مفعول لشهد أخذا من المشاهدة أي المعاينة وفيه نظر فإنّ المسافر والمريض يشاهدان ولا يصومان وأجيب بأنّهما خصّا بالذكر نعم يرد الحائض وشبهها ويجاب [ عنه ] بأنّه عام خصّ بمنفصل كما تقدّم. واللّام في الشهر للعهد والمعهود نوع الشهر لا شخصه وتكرار ذكر المرض والسفر دليل على تأكيد الأمر بالإفطار وأنّه عزيمة فرض (2) لا يجوز
ص: 206
تركه ويؤيّده مع ما تقدّم قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ليس من البرّ الصيام في السفر » (1) وهو مذهب أصحابنا الإماميّة وقال الباقون إنّه رخصة واختلفوا فقيل الصوم أفضل وقيل الفطر أفضل واختلف في القضاء هل هو متتابع أم لا قال بعضهم بتتابعه ويروى عن عليّ عليه السلام والشعبيّ وعن ابن عمر يقضى كما فات متتابعا وقرأ أبيّ « أخر متتابعات » والأكثر على التخيير بين التفريق والمتابعة وهو الأصحّ لعدم
ص: 207
دلالة اللّفظ عليه والقراءة المذكورة شاذّة وهذا الحكم وهو وجوب القضاء مخصوص عند أكثر أصحابنا بمن لم يستمرّ مرضه إلى رمضان آخر أمّا من استمرّ فإنّه يسقط عنه القضاء ويكفّر عن الأوّل عن كلّ يوم بمدّ كما دلّت عليه الروايات.
قوله « يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ » إلى آخره جواب سؤال تقديره إنّ المريض والمسافر حيث سقط عنهما الفرض فلم يقضيان؟ أجاب بأنّه أراد بكم اليسر في البدن فأمركم بالفطر وأراد بكم القيام بالصوم لتفوزوا بالثواب فأوجب عليكم القضاء ولمّا
ص: 208
كان امتثال الأمر فرعا على تكبير الآمر وتعظيمه وأراد منكم امتثال أمره استلزم ذلك إرادة تعظيمه ولمّا كان من هذا وصفه منعما وجب شكره فأراد لكم الفوز بهذه الفضيلة فأمركم بشكره فلذلك عطف بعضها على بعض. وفي الآية إيماء إلى أنّ التكاليف تقع شكرا لله على نعمه كما هو مذهب بعض المتكلّمين.
ص: 209
تتمة : قال بعضهم معنى « وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ » أنّ شهر رمضان لا ينقص أبدا وهو باطل فانّ الواقع خلافه بل ولتكملوا عدّة الشهر تامّا كان أو ناقصا.
الرّابعة ( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) (1)
هذه الآية ليس لها تعلّق بالصّوم وإنّما ذكرناها لما تضمّنت من ذكر الدعاء
ص: 210
وإجابته وجاء في الحديث « دعوة الصائم لا تردّ » (1) فصار [ ت ] من وظائف الصائم [ الدعاء ] بل من أعظم وظائفه خصوصا في شهر رمضان فإنّه ورد فيه من الأدعية والأعمال شي ء كثير ذكره أصحابنا في كتب تختصّ به روي أنّ سائلا سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية (2).
وقيل إنّ يهود المدينة قالوا : يا محمّد كيف يسمع ربّنا دعاءنا وأنت تزعم أنّ بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام وأنّ غلظ كلّ سماء مثل ذلك فنزلت وقيل وجه ذكر هاهنا أنّه لمّا أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدّة وحثّهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقّبه بهذه الآية الدالّة على أنّه خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم فقال إنّي قريب وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم كحال من قرب مكانه منهم.
والتحقيق أنّه لمّا ثبت تجرّده عن الموادّ الجسمانيّة كانت نسبته إلى الموجودات نسبة واحدة فكان محيطا بكلّ ذرّة من ذرّات الموجودات علما.
وقد اختلف المفسّرون في هذا المقام فقيل : الدعاء هو الطاعة والإجابة هو الثواب وكذا في قوله ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (3) وقيل الإجابة هي المتعارفة فورد هنا سؤال وهو أنّه كثيرا ما يقع الدعاء ولم تحصل الإجابة فقيل في الجواب أنّ تقديره إن شئت فيكون الإجابة مخصوصة بالمشيّة مثل قوله ( فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ
ص: 211
إِلَيْهِ إِنْ شاءَ ) (1) وقيل مشروطة بكونها خيرا وقيل أراد بالإجابة لازمها وهو السماع فإنّه من لوازم الإجابة فإنّه يجيب دعوة المؤمن في الحال ويؤخّر إعطاءه ليدعوه كثيرا ويسمع صوته فإنّه يحبّه وقيل إنّ للإجابة أسبابا وشرائط إن حصلت حصلت الإجابة وإلّا فلا ومعنى « فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي » أي إنّي أدعوهم إلى طاعتي فليطيعوني ( وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) وبرسولي « لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ » أي لكي يهتدوا بإصابة الحقّ.
الخامسة ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (2).
قرئ شاذّا أحلّ على البناء للفاعل ونصب الرفث والقراءة الصحيحة أحلّ على البناء للمفعول ورفع الرفث فقيل هو الفحش من القول عند الجماع والأصحّ أنّه الجماع لقوله تعالى ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (3) وهو المراد هنا وعدّاه بإلى لأنّه ضمّنه معنى الإفضاء وتسمية كلّ من الزوجين لباسا استعارة لما بينهما من الشبه فإنّ اللباس ما يواري البدن والعورة وكلّ من الزوجين يواري بدنه وعورته بصاحبه عند غيره فإنّه لولاه لانكشف عورته عند غيره.
وقال الزمخشريّ : لأنّ كلّ واحد يشتمل على صاحبه اشتمال اللّباس وفيه
ص: 212
نظر لأنّ الاشتمال فيه ممنوع والالتزاق لا يكفي فيه. وإنّما لم يعطفه لأنّه علّة للحكم وعلّة الشي ء لا تعطف عليه. والفرق بين خان واختان أنّ اختان يدلّ على الفعل مع القصد إليه بخلاف خان مثل كسب واكتسب ومعنى اختيان النفس هو نقصها من حظّها من الخير وباقي الألفاظ ظاهرة وهنا فوائد :
1 - كان في مبدء الإسلام يباح للصائم الأكل والجماع ليلا ما لم ينم فإذا نام حرم ذلك إلى القابلة وقيل الجماع كان محرّما ليلا ونهارا وروي عن الصادق عليه السلام « أنّ رجلا من أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وآله يقال له مطعم بن جبير وكان شيخا ضعيفا وكان صائما فأبطأت امرأته عليه بالطعام فنام قبل أن يفطر فلمّا انتبه قال لأهله : قد حرم عليّ الأكل في هذه اللّيلة فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فرق له (1). وروي أنّ القصّة مع قيس بن صرمة كان يعمل في أرض له وهو صائم فلمّا أصبح لاقى جهدا فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2). وكان شبّان من المسلمين ينكحون ليلا لغلبة شهوتهم وروي أنّ عمر أراد أن يواقع امرأته ليلا فقالت إنّي نمت فظنّ أنّها تعتلّ عليه فلم يقبل ثمّ أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت الآية » (3).
2 - الحلّ هنا مقابل التحريم وليس للوجوب إجماعا وقيل للندب ولذلك
ص: 213
روي (1) عن الباقر والصادق عليهما السلام كراهية الجماع أوّل ليلة من كلّ شهر واستحبابه أوّل ليلة من شهر رمضان لتنكسر شهوة الجماع نهارا. والظاهر أنّه لمطلق الحلّ الشامل للندب وغيره والمراد بليلة الصيام كلّ ليلة يصبح فيها صائما.
ثمّ اعلم أنّ ظاهر اللّفظ يدلّ على إباحة الجماع في أيّ وقت [ كان ] من اللّيل ولو قبل الفجر لكن لمّا اشترط أصحابنا الطهارة في الصوم من الجنابة وجب بقاء جزء من اللّيل ليقع فيه الغسل فكانت الإباحة مخصوصة بما عداه فلو خالف عالما فسد صومه وكان عليه القضاء والكفّارة ولو لم يعلم وظنّ بقاء الوقت من غير مراعاة فاتّفق خلافه كان عليه القضاء خاصّة ولو راعى لم يكن عليه شي ء وعلى التقديرين الأخيرين لو طلع عليه الفجر مجامعا وجب عليه النزع وصحّ صومه في الأخير خاصّة.
وقال الشافعيّ : إذا وافاه الفجر مجامعا فوقع النزع والطلوع معا لم يفسد صومه ولا قضاء ولا كفّارة وبه قال أبو حنيفة وقال المزنيّ : يفسد وعليه القضاء خاصّة وأمّا إذا وافاه مجامعا فلم ينزع وتمكّث فيه فهو بمنزلة من وافاه [ النهار ] فابتدأ بالإيلاج فإن كان جاهلا بالفجر فعليه القضاء خاصّة وإن كان عالما به فعليه لقضاء والكفّارة وقال أبو حنيفة بلا كفّارة وعلّله أصحابه بأنّه ما انعقد فالجماع لم يفسد صوما منعقدا فلا كفّارة ونحن نقول إنّه انعقد بالنيّة المتقدّمة فكان جماعه واردا على صوم منعقد وهو المطلوب.
3 - « عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ ». بيان لنعمته وإحسانه ورفعه الحرج في المستقبل.
4 - « فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ » قيل المراد بها الجماع وقيل هو ومقدّماته من القبلة وغيرها وأصل المباشرة إلصاق البشرة بالبشرة ثمّ كنى به عن الجماع تارة وعنه وعن مقدّماته تارة وهو نسخ للسنّة بالكتاب ونسخ الشي ء بما هو أسهل منه.
5 - قوله تعالى ( وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ) قيل اطلبوا الولد فإنّه الغرض
ص: 214
الأهمّ في نظر الشارع وقيل ابتغوا ما أحلّ اللّه لكم لا ما حرّم وهما محتملان.
6 - « وَكُلُوا وَاشْرَبُوا » إلخ هذا من باب ما خصّ بمتّصل وهو هنا الغاية أعني « حَتّى يَتَبَيَّنَ » وهل هي راجعة إلى جميع الجمل المتقدّمة أو إلى الأخيرة قال الشافعيّ بالأوّل وأبو حنيفة والمحقّقون منّا بالثاني وقال المرتضى صالحة للكلّ وللبعض ويتفرّع إباحة الجماع إلى الفجر فالغسل بعده على قول الشافعيّ فالطهارة غير شرط. قالوا ويدلّ أيضا على جواز النيّة نهارا لأنّه لمّا أباح المباشرة والأكل إلى الفجر كان ابتداء الصوم بعده والصوم ليس بمجرّد الإمساك بل مع النيّة فيكون الأمر بإيقاع النيّة بعد الفجر وفيه نظر لأنّه لو كان كذلك لوجبت بعد الفجر وليس كذلك إجماعا على أنّ نيّة الصوم معناها القصد إليه وقصد الشي ء متقدّم عليه وابتداؤه من الفجر فالنيّة قبله ، هذا مع أنّه يلزم وقوع جزء فيه بلا نيّة وهو باطل وعلى قولنا يرجع إلى « كُلُوا وَاشْرَبُوا » ويبقى حكم المباشرة يخصّ بمنفصل.
7 - الخيط الأبيض هو الفجر الثاني المعترض في الأفق كالخيط الممدود والخيط الأسود ما يمتدّ معه من الغبش تشبيها بخيطين أبيض وأسود وليسا بمستعارين لقوله « مِنَ الْفَجْرِ » لأنّ من شرط الاستعارة أن يجعل المستعار منه نسيا منسيّا. روى سهل الساعدي أنّها نزلت ولم يكن قوله « مِنَ الْفَجْرِ » فكان رجال إذا صاموا يشدّون في أرجلهم خيوطا بيضا وسودا فلم يزالوا يأكلون ويشربون حتّى يتبيّن لهم ثمّ نزل لهم البيان في قوله « مِنَ الْفَجْرِ » (1) فان صحّ هذا النقل ففيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وهو مذهب الأشاعرة ومنعه أبو الحسين محتجّا بأنّ الخطاب بما لا يفهم منه المراد عبث وهو قبيح لا يصدر عن الحكيم وفيه نظر لجواز أن يكون المراد بالخطاب هو استعداد الامتثال والعزم على فعل المأمور به بعد البيان فيثاب على العزم فلا يكون عبثا لكن ينبغي أن يكون هذا قبل دخول
ص: 215
رمضان وإلّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو باطل إجماعا.
8 - قوله تعالى ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) حدّ للصوم وبيان لآخر وقته ليعلم منه تحريم صوم اللّيل ويتبعه تحريم صوم الوصال لأنّه جعل اللّيل غاية الصوم وغاية الشي ء منفصلة فيكون الإفطار بعده وفيه نظر لأنّه غاية وجوب الصوم وأمّا أنّه لا يجوز فلا دلالة في الآية عليه.
إن قلت : لا يتحقّق مضيّ النهار حتّى يبدو اللّيل فيلزم صوم جزء منه. قلت : ذلك ليس بالأصل بل من باب مقدّمة الواجب والمراد باللّيل عندنا على القول الأقوى هو ذهاب الحمرة المشرقيّة وقال بعض أصحابنا وجملة فقهاء العامّة هو غيبوبة الشمس. ثمّ إنّ الأمر بإتمام الصوم يستلزم كون كلّ جزء من أجزاء النهار شرطا في الآخر فيجب الإتيان بجملتها.
ويتفرّع على ذلك فرعان :
ألف - لو نوى الإفطار في جزء من النهار بطل ذلك الصوم ولو عاد إلى النيّة.
ب - أنّه يجب إتمام الصوم الفاسد للأمر المذكور والإفساد غير مانع ثمّ إنّ الإفساد سبب لصوم آخر فيجب القضاء.
9 - « وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ » تقدّم معنى المباشرة فيحرم الجماع ومقدّماته على المعتكف وههنا أحكام :
ألف - تحريم المباشرة والقبلة وغيرها من مقدّمات الجماع.
ب - عموم اللّيل والنهار بالتحريم المذكور لأنّه معلّق بحال الاعتكاف.
ج - اشتراط الاعتكاف بالكون في المساجد وظاهر المساجد العموم لأنّه جمع معرّف باللّام وبه قال جملة الفقهاء وبعض أصحابنا ومنّا من قال كلّ مسجد جامع وفسّر بأنّه الأعظم وأكثر أصحابنا قالوا ما جمع فيه نبيّ أو وصيّ للمسلمين جمعة وقيل أو جماعة وهذا القول أحوط لحصول البراءة معه بيقين وفسّر ذلك بمسجد مكّة والمدينة وجامع الكوفة والبصرة فعلى هذا يكون الآية مخصوصة بخبر الواحد إن لم يكن الأخبار به متواترة.
ص: 216
د - أنّ الاعتكاف يبطل مع المباشرة المذكورة أمّا أوّلا فلأنّ النهي في العبادة مبطل كما تقرّر في الأصول وأمّا ثانيا فلأنّها تبطل الصوم والصوم عندنا شرط في الاعتكاف وبطلان الشرط مستلزم لبطلان المشروط وهنا مسئلتان :
ألف - أنّ الشافعي لا يشترط الصوم وأبو حنيفة يشترطه كقولنا.
ب - لم يحدّ الشافعيّ للاعتكاف حدّا فعنده يجوز وأو ساعة واحدة وأبو حنيفة حدّه بيوم [ واحد ] ومالك لا يجوّز أقلّ من عشرة أيّام وقال أصحابنا : لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام لرواياتهم الصحيحة عن أئمّتهم عليهم السلام (1).
10 - « تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ » إشارة إلى ما تقدّم من أحكام الصوم والاعتكاف « فَلا تَقْرَبُوها » وهو أبلغ من قوله فلا تفعلوها إذ النهي عن قرب الحدّ الحاجز بين الحقّ والباطل لئلّا يداني الباطل أبلغ من النهي عن فعله و « روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ألا وإنّ حمى اللّه محارمه فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه » (2).
« كَذلِكَ » أي مثل ذلك البيان « يُبَيِّنُ اللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ » مخالفة الأوامر والنواهي.
1 - قوله تعالى ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (3) قيل : المراد بالصبر الصوم ومنه سمّي شهر رمضان شهر الصبر أي استعينوا بهما على أهوال الدنيا والآخرة ثمّ إنّ الصوم له أقسام يدلّ عليها آيات تذكر في أماكنها إنشاء اللّه تعالى.
2 - قوله تعالى ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ ) (4) سأله صلى اللّه عليه وآله معاذ بن جبل ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ثمّ يزيد حتّى يستوي ثمّ
ص: 217
لا يزال ينقص حتّى يعود كما بدأ فنزلت (1) « هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ » أي يوقّتون الناس بها أمورهم ، ومعالم للعبادات الموقّتة كالصّيام والزكاة خصوصا الحجّ فانّ الوقت مراعى فيه أداء وقضاء وكون المبتدأ والخبر معرفتين من دلائل الحصر فلا يحصل التأقيت بدون الأهلّة فيكون علامة شهر رمضان رؤية الهلال لا غيره ممّا قيل [ من حساب التنجيم وغيره ].
وفيه مقدّمة وآيات :
فالزكاة لغة تقال لمعنيين أحدهما الطهارة ومنه ( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ) (2). أي طاهرة لم تجن ما يوجب قتلها وثانيهما النماء ومنه قوله تعالى ( ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) (3) أي أنمى لكم وإلّا لكان تأكيدا والتأسيس خير منه وشرعا قيل اسم لحقّ يجب في المال يعتبر في وجوبه النصاب ونقض في طرده بالخمس وفي عكسه بالمندوبة فبدّل يجب بيثبت فقيل حقّ يثبت في المال بشرائط يأتي ذكرها ويشكل بأنّه غير واضح والحدّ للإيضاح.
وقيل : صدقه راجحة مقدّرة بأصل الشرع ابتداء فالصدقة يخرج الخمس والراجحة يشمل المندوبة والمقدّرة يخرج بها برّ الاخوان ونحوه وبالأصالة تخرج المنذورة وشبهها والابتداء يخرج الكفّارة وفيه نظر أمّا أوّلا فلاشتماله على زيادة فإنّ الراجحة يغني عنها صدقة فإنّها لا تكون إلّا راجحة وأمّا ثانيا فلانّ من المندوبة ما هو مقدّر كقوله صلى اللّه عليه وآله « تصدّقوا ولو بصاع أو بعضه ولو بقبضة أو بعضها ولو بتمرة
ص: 218
ولو بشقّ تمرة » (1) وذلك ليس بزكاة اصطلاحا.
فالأولى أن يقال : صدقة متعلّقة بنصاب بالأصالة. فالصدقة تشمل الواجبة والمندوبة والفطرة والماليّة وبالتعلّق بالنصاب يخرج المنذور والتطوّعات المطلقة وبالأصالة يخرج ما نذر إخراجه من نصاب واستعمال لفظها إمّا للنقل أو للمجاز تسمية للسبب باسم المسبّب فإنّها سبب للطهارة والنماء في المال.
إن قلت : الطهارة من أيّ شي ء وكذا النماء في أيّ شي ء؟ قلت : أمّا الطهارة فمن إثم المنع أو نقول إذا لم يخرج الزكاة يبقى حقّ الفقراء في المال فإذا حمله شحّه على منعه فقد ارتكب التصرّف في الحرام والاتّصاف برذيلة البخل فإذا أخرجها فقد طهّر ما له من الحرام ونفسه من رذيلة البخل وأمّا النماء ففي البركة والثواب.
ثمّ البحث هنا ينقسم أقساما بحسب ما ورد من الآيات.
وفيه آيات :
الاولى ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (2).
ص: 219
قرأ حمزة وحفص عن عاصم « لَيْسَ الْبِرَّ » بالنصب على أنّه خبر ليس مقدّم على اسمها وهو ضعيف لجعل الاسم جملة وقرء الباقون بالرفع على الأصل وقرء نافع « وَلكِنَّ الْبِرَّ » بالتخفيف والرفع بجعلها عاطفة والباقون بالتشديد والنصب بجعلها من أخوات إنّ ورفع « الموفون » عطف على « من آمن » ونصب « الصابرين » على المدح.
والبرّ كلّ فعل مرضيّ قلبيّا كان أو لسانيّا أو جوارحيّا أو ماليّا والخطاب لأهل الكتاب فإنّهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّلت وادّعى كلّ فريق أنّ البرّ التوجّه إلى قبلته فردّ عليهم بأنّه ليس البرّ التوجّه إلى المشرق قبلة النصارى أو المغرب قبلة اليهود وقيل هو عامّ للمسلمين وغيرهم أي ليس البرّ مقصورا على أمر القبلة.
« وَلكِنَّ الْبِرَّ » إمّا بمعنى البارّ فإنّ المصدر يقام مقام الفاعل كزيد عدل أي عادل أو بحذف المضاف من الخبر أي برّ من آمن فاللّام في الكتاب للجنس أي كلّ كتبه وباقي مقاصد الآية ظاهر لكن نذكر ما تضمّنته من الأوامر وهي أقسام :
الأوّل : الايمان باللّه وبكلّ ما جاءت به كتبه وصحّة نبوّة أنبيائه وتصديقهم في كلّ ما أخبروا به.
الثاني : إخراج المال على حبّة أي حبّ اللّه وقيل حبّ الإيتاء أو حبّ المال والكلّ محتمل والأوّل أوجه لتضمّنه الكلّ ولدلالته على القربة والإخلاص والجهات المذكورة سيأتي تفسير أكثرها وأمّا ذوي القرابة (1) فقيل قرابة المعطي فيكون حثّا على صلة الأرحام ويدخل في ذلك النفقات الواجبة والمندوبة وغيرهما من الصلات وقيل قرابة النبيّ صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2) وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام (3) واليتيم صغير لا أب له والجمع يتامى و
ص: 220
أيتام وأبرزهم بالذكر وإن كانوا داخلين في القربى لشدّة الاعتناء بحالهم.
الثالث إقامة الصلاة الرابع إيتاء الزكاة واتّفق الكلّ [ على ] أنّ المراد بها الواجبة هنا وأمّا الإيتاء الأوّل فيشمل الواجب وغيره ولهذا قال ابن عباس في المال حقوق واجبة سوى الزكاة وقال الشعبيّ هي محمولة على حقوق واجبة غير الزكاة ممّا له سبب كالنفقة على من يجب نفقته وعلى الجائع المشرف بسدّ رمقه والنذور والكفّارات ويحتمل أن يكون المراد الزكاة المفروضة في الموضعين لكن الغرض من الأوّل بيان مصرفها ومن الثاني أداؤها والحثّ عليها وهذا عندي قويّ ليكون الآية مشتملة على الواجبات ولأنّه وقع بين الإيمان الواجب وإقامة الصلاة وهي واجبة أيضا.
الخامس : الوفاء بالعهد ويدخل فيه النذر وكلّما التزمه المكلّف من الأعمال مع اللّه تعالى ومع غيره وهو واجب أيضا.
السادس : الصبر وهو حبس النفس على المكروه امتثالا لأمر اللّه تعالى وهو من أفضل الأعمال حتّى قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « الايمان شطران شطر صبر وشطر شكر » (1) والبأساء ما يتعلّق بالمال كالفقر وغيره والضرّاء ما يتعلّق بالبدن كالمرض والعمى والزمانة وغيرها وحين البأس هو الحرب في الجهاد « أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا » أي في دعوى الإيمان « وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ » أي هم الجامعون لوظائف التقوى.
الثانية ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) (2).
هذه الآية الشريفة صريحة في وجوب الزكاة على الكافر للتوعّد على عدم إتيانها لكنّه لا يصحّ منه أداؤها حال كفره لعدم إخلاصه ولقوله تعالى ( وَما مَنَعَهُمْ
ص: 221
أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ ) (1) فإذا أسلم سقطت عنه لقوله صلى اللّه عليه وآله « الإسلام يجب ما قبله » (2) ولو تلفت حال كفره لم يضمنها.
قال المعاصر : ويمكن الاستدلال بها على أنّ مانع الزكاة مستحلّا مشرك وهو حقّ لأنّ من لا يعتقد وجوبها كافر قلت : في هذا الكلام خطأ لفظا ومعنى أمّا لفظا فقوله مشرك فانّ المشرك من يجعل مع اللّه شريكا ومعلوم أنّ ذلك غير لازم من منع الزكاة فلو قال كافر لكان أولى وأمّا معنى فلأنّ منطوقها أنّ المشرك لا يؤتى الزكاة ولا يلزم منه أنّ الّذي لا يؤتى الزكاة يكون مشركا لأنّ الموجبة الكلّيّة لا تنعكس كنفسها ولو انعكس جزئيّا فلا دلالة له على المطلوب بنفسه بل بدليل خارج وذلك كاف في المطلوب فلا يكون الآية هي الدالّة بل غيرها.
الثالثة ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (3).
اعلم أنّ الآيات العامّة في وجوب الزكاة في المال خصّت بقول الرسول صلى اللّه عليه وآله وتقريره [ يأتي ] واتّفق أصحابنا أنّ الزكاة تجب في تسعة أشياء لا غير هي : الإبل والبقر ، والغنم ، والذهب ، والفضّة ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب لروايات كثيرة من أهل البيت عليهم السلام منها رواية زرارة ومحمّد بن مسلم وغيرهما عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّهما قالا « أنزل اللّه الزكاة في كتابه فوضعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في تسعة وعفى عمّا عدا ذلك » (4) وأيضا أصالة البراءة وعموم قوله تعالى
ص: 222
( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) (1) يعمّان كلّ مال ، خرج من ذلك ما وقع الإجماع عليه فيبقى الباقي على أصله.
إن قلت : قوله تعالى ( وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (2) والزرع يعمّ كلّ ما أنبتت الأرض والضمير في حقّه وحصاده يرجع إلى الجميع فيكون واجبا فيه وهو المطلوب. قلت : الجواب من وجهين الأوّل أنّها مكّيّة وآية وجوب الزكاة مدنيّة فهي ناسخة للمكّيّة والمنسوخ لا دلالة فيه الثاني سلّمنا عدم نسخها لكن نمنع أنّ المراد بالحقّ (3) الزكاة أعني العشر ونصفه لجواز أن يراد ما يتصدّق به يوم الحصاد على المارّة وغيرهم من السؤال من إعطاء الضّغث والضغثين وهذا مرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام (4) ويؤيّده قوله تعالى ( وَلا تُسْرِفُوا ) وهو قول الشافعيّ أيضا.
فأيده : أوجب الشافعيّ الزكاة في كلّ ما أنبته الآدميّون (5) وكان مقتاتا حال ادّخاره بخلاف ما ينبت من نفسه كبزر قطونا أو أنبته الآدميّون ولا يقتات كالبطّيخ والقثّاء والخيار وغيرها من الخضراوات والبقول أو يقتات ولا ينبته الآدميّون كالبلّوط فانّ ذلك كلّه لا زكاة فيه وبه قال مالك وقال أبو حنيفة تجب في كلّ خارج قصد إنباته مقتاتا كان أو لا فيجب عنده في الخضراوات.
إذا تقرّر هذا فلنشرع في الآية فنقول : الآية صريحة في وجوب الزكاة في الذّهب والفضّة لكن بشرط كونهما مسكوكين بسكّة قد تعومل بها قديما أو حديثا وأن يكونا باقيين طول الحول أمّا ما تعومل به أو دير في البيع والشراء فلا
ص: 223
تجب لأصالة البراءة وأيضا روى زرارة في الصحيح قال كنت قاعدا عند الباقر عليه السلام وليس عنده غير ابنه جعفر عليه السلام فقال « يا زرارة إنّ أبا ذرّ وعثمان تنازعا في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال عثمان : كلّ مال من ذهب أو فضّة يدار ويعمل به ويتّجر به ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول وقال أبو ذرّ أمّا ما اتّجر به أو دير وعمل به فليس فيه زكاة إنّما الزكاة فيه إذا كان ركازا كنزا موضوعا فإذا حال عليه الحول فعليه الزكاة فاختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : القول ما قال أبو ذرّ » (1) وغير ذلك من الروايات.
واتّفق فقهاء العامّة على وجوب الزكاة فيهما مطلقا مسكوكا وغيره صحيحا ومكسورا تبرا ونقرة واختلفوا في جمع النصاب من النقدين فقال مالك وأبو حنيفة بالضمّ وخالف الشافعيّ وأحمد كما هو رأي أصحابنا ثمّ الأوّلون اختلفوا فقال مالك : الضمّ بالأجزاء وقال أبو حنيفة بالقيمة واتّفق العلماء كافّة على اشتراط الحول وأنّ النصاب الأوّل في الذهب عشرون مثقالا وفي الفضّة مائتا درهم ثمّ اتّفق العامّة على الوجوب في الزائد مطلقا إلّا أبا حنيفة فإنّه يقول بقولنا إنّه لا يجب حتّى يبلغ أربعة دنانير في الذهب وأربعين في الفضّة.
فائدة : أوجب أبو حنيفة لا غير الزكاة في الحليّ المباح واتّفقوا على وجوبها في الحرام وهنا فوائد :
1 - أنّ الكنز هو جمع المال تحت الأرض أو فوقها حفظا له وإنّما لم يقل ولا ينفقونهما إمّا لعود الضّمير إلى الكنوز وإن لم تكن مذكورة أو أنّه عائد إلى الفضّة والتقدير يكنزون الذهب ولا ينفقونه ويكنزون الفضّة ولا ينفقونها فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك *** راض والرأي مختلف (2)
2 - اعلم أنّ من يجمع المال للإنفاق على العيال أو بعد إخراج الحقوق
ص: 224
الماليّة خارج عن هذا الوعيد لأنه تعالى قيّد الكنز بعدم الإنفاق وإذا عدم القيد عدم الحكم ولما روي عنه عليه السلام أنه قال « ما أدّى زكوته فليس بكنز وإن كان باطنا وما بلغ أن يزكّى فلم يزكّ فهو كنز وإن كان ظاهرا » (1) وعن ابن عمر :كلّما أدّيت زكوته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين. وأمّا ما ورد عنه صلى اللّه عليه وآله أنه « لمّا نزلت قال تبّا للذهب والفضّة قالها ثلاثا فقالوا أيّ مال يتّخذ فقال لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا وزوجة تعين أحدكم على دينه » (2) وقال أيضا « من ترك صفراء وبيضاء كوي بهما » (3) فمحمول على مال لم يؤدّ حقّه أو على من ليس له أولاد ولا ورثة محتاجون وأمّا من له ورثة محتاجون فيجوز التبقية لهم جمعا بين قوله هذا وبين قوله لمن أوصى بماله في سبيل اللّه فنهاه [ عنه ] عليه السلام « فقال : النصف؟ فقال لا فقال الثلث؟ فقال عليه السلام : الثلث والثلث كثير ثمّ قال لأن تتركه لعيالك خير لك » (4).
3 - « يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها » منصوب على الظرف بعامل محذوف أي بعذاب أليم كائن يوم يحمى عليها وفائدة ذكر « عليها » المبالغة في الأحماء فانّ الجسم إذا سلّطت عليه النار حتّى تعمل فيه كان أشدّ حرارة من مروره بها.
4 - قيل إنّما خصّ هذه الأعضاء بالكيّ لأنّ أصحاب الكنوز إذا سألهم الفقير تعبّسوا في وجهه وأمالوها عنه فعبّر عنها بالجباه وإذا دار الفقير أعطوه جنوبهم فإذا دار أعطوه ظهورهم وقيل : لا زورار وجوههم عند الطلب وجعلهم الفقير وراء ظهورهم وأخذهم عن المعروف جانبا وقيل : لأنّها أشرف الأعضاء لاشتمالها على
ص: 225
الأعضاء الرئيسة الّتي هي الدماغ والقلب والكبد.
الرابعة ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (1).
حقّ معلوم أي يقدّرونه في أموالهم ويلزمون أنفسهم بإخراجه وليس المراد به ما أوجبه الشارع وإلّا لقال يؤدّون ما أوجبنا عليهم أو ندبنا إليه. والسائل المستجدي والمحروم الّذي يظنّ غنيّا لتعفّفه فيحرم وقيل : لا ينمي له مال. وقيل : الّذي لا كسب له.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ بعضهم على وجوب زكاة التجارة بهذه الآية وليس بشي ء لعدم دلالتها على محلّ النزاع لا نصّا ولا ظاهرا بل إنّما خرجت مخرج المدح لهم في سياق مدحهم بالقيام للعبادة ليلا والاستغفار الّذي هو من المندوبات الّتي ألزموا أنفسهم بها وتسمية ما التزموا إخراجه حقّا لا تدلّ على وجوبه لأنّ الحقّ قد يطلق على الوظيفة المقدّرة وإن لم تكن واجبة على أنّا لو سلّمنا أنّه يدلّ على الوجوب لكان دلالته على الزكاة العينيّة أولى.
وفيه آيات :
الاولى ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2).
روي أنّ جماعة تخلّفوا عن تبوك ولم يخرجوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله منهم أبو لبابة وهم الّذين شدّوا أنفسهم بالسّواري توبة وندما على فعلهم وكان سبب
ص: 226
تأخّرهم اشتغالهم بإصلاح أموالهم فلمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه وآله من تبوك دخل المسجد فصلّى ركعتين وكان ذلك دأبه إذا رجع من سفره فرأى الموثّقين بالسواري فسأل عنهم فقيل له إنّهم حلفوا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يحلّهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : إنّي لا أحلّهم حتّى أومر به فلمّا نزلت الآية وهي ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) (1) إلى آخرها أطلقهم وعذرهم (2).
ثمّ إنّه لمّا حلّهم قالوا يا رسول اللّه هذه أموالنا الّتي تخلّفنا لإصلاحها خذها وتصدّق بها وطهّرتا من الذنوب فقال صلى اللّه عليه وآله : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت فأخذ منهم الزكاة المقرّرة شرعا وعلى ذلك إجماع الأمّة.
ص: 227
و « من » للتبعيض أي بعض أموالهم و « تُطَهِّرُهُمْ » صفة للصدقة أي صدقة مطهّرة ويجوز كون التاء للخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أي تطهّرهم أنت « وَتُزَكِّيهِمْ » أي تنمي في أموالهم وقيل بمعنى تطهّرهم ليكون تأكيدا وقد عرفت أنّ التأسيس أولى وإنّما لم يجزم الفعلين ليكون جوابا للأمر لأنّ في جعلهما صفتين فائدة زائدة وهي أنّ المأمور به أخذ صدقة مطهّرة وهي الّتي تكون عن طيب نفس وانشراح صدر بنيّة خالصة لا مطلق الصدقة ومع الجزم لا يفيد إلّا مطلق الصدقة فعلى هذا لا يكون التاء للخطاب. والسكن ما يسكن إليه والمراد أنّهم تسكن نفوسهم بصلاته عليهم وتطيب قلوبهم بقبول صدقتهم « وَاللّهُ سَمِيعٌ » لدعائك لهم « عَلِيمٌ » بنيّاتهم فإنّها صدرت عن إخلاصهم من غير رياء ولا سمعة إذا عرفت هذا فهنا أحكام :
1 - أنّها تدلّ على اشتراط الملك للنصاب بقوله « أموالهم » والإضافة حقيقيّة للام الملك.
2 - فيها دلالة على وجوب أخذ الإمام الصدقة لصيغة الأمر وهل يجب حملها إليه ابتداء قيل نعم لأنّ الإيجاب عليه يستلزم الإيجاب عليهم والمشهور أنّه يجوز تولّي المالك إخراجها لكن حملها ابتداء مستحبّ لكونه أبصر بمواقعها ومع طلب الإمام يجب حملها إليه ولو فرّق حينئذ فالأقوى عدم إجزائها وقال الشافعيّ يجوز إخراج زكاة الأموال الباطنة قولا واحدا وأمّا الظاهرة فله قولان قال في الجديد يجوز أيضا وقال في القديم لا يجوز وبه قال مالك وأبو حنيفة.
3 - هل الصلاة منه صلى اللّه عليه وآله على المالك واجبة أو مستحبّة قال أكثر أصحابنا بالأوّل لقوله تعالى ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) وصيغة افعل للوجوب هذا مع عطفه على الواجب وتعليله بلفظه إنّ في لطفيّته للمكلّف واللّطف واجب فالموصل إليه كذلك وقال الآخرون بالثاني وهو قول عامّة الفقهاء للأصل ويضعّف بقيام الدليل على وجوبه.
4 - إذا قلنا بالوجوب على النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو الاستحباب فهو كذلك على
ص: 228
الإمام القائم مقامه بل والساعي والفقيه أيضا لوجوب التأسّي به ولحصول معنى اللطفيّة في الجميع.
5 - دلّت الآية الكريمة دلالة صريحة على لفظ الصلاة وفعله النبيّ صلى اللّه عليه وآله في حقّ أبي أوفى لمّا أتاه بصدقته « فقال اللّهمّ صلّ على أبي أوفى وعلى آل أبي أوفى » (1) كما نقل العامّة في الصحيحين فيكون جائزا نعم يجوز الدعاء بلفظ آخر غير الصلاة للترادف ولعدم القائل بالمنع ومنع أكثر العامّة من لفظ الصلاة بل يقول آجرك اللّه فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت ونحوه.
6 - قد تقرّر في أصول الفقه أنّ خصوص السبب لا يخصّص وقد نقلنا إنّ الآية نزلت في شأن من تخلّف عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله فلا يظنّ ظانّ قصرها عليهم بل هي على العموم في كلّ متصدّق وهو المطلوب.
7 - في قوله « مِنْ أَمْوالِهِمْ » دلالة على أنّ الزكاة في العين لا في الذمّة كما قال بعض الفقهاء من العامّة ويتفرّع أنّه لو مضى على النصاب الواحد حولان من غير إخراج زكّى لسنة واحدة على الأوّل ولكلّ حول زكاة على الثاني.
الثانية ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ) (2).
الاستفهام ههنا يحتمل معنيين : أحدهما التقرير والتنبيه على وجوب علمهم بأنّ اللّه هو يقبل التوبة وهو الّذي يأخذ الصدقة وهو مجاز عن الرضا بها والجزاء
ص: 229
عليها وإليه الإشارة في الحديث « إنّ الصدقة تقع في يد اللّه قبل أن تصل إلى يد السائل » (1) وإنّما وجب العلم بذلك ليكون داعيا ومقرّبا إلى وقوع التوبة وإعطاء الصدقة وثانيهما الإنكار لعدم علمهم وذلك أنّهم لمّا سألوا الرسول صلى اللّه عليه وآله أن يأخذ أموالهم ويقبل توبتهم كما تقدّم ذكره ولم يعلموا أنّه لا يقبل التوبة غير اللّه ، ولا يأخذ الصدقة إلّا هو ، أنكر ذلك عليهم وفايدة لفظ هو حصر أي لا يقبل إلّا هو وفي الآية من المبالغة في وجوب العلم بقبول التوبة وأخذ الصدقة وأنّه توّاب أي كثير القبول للتوبة ورحيم بعباده ما يظهر لمن تدبّر [ في ] تركيبها بإيراد الاستفهام بالمعنيين المذكورين وإردافه بالعلم ثمّ الإتيان بالجملة المؤكّدة بأنّ وأداة الحصر وذلك غاية في رأفته بعباده ورحمته لهم.
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (2).
هنا مسائل :
1 - يحتمل أن يراد بالطيّب هنا الحلال ولذلك « روي عن الصادق عليه السلام أنّها نزلت في قوم لهم مال من رباء الجاهليّة وكانوا يتصدّقون منه فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك وأمرهم بالصدقة بالحلال » (3) كما ورد في الحديث « إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا الطيّب » (4) ولما في الحرام من القبح الحاصل من التصرّف في ملك الغير الّذي هو
ص: 230
قبيح عقلا وشرعا. إن قلت : عندكم أنّ الحلال المختلط بالحرام ولا يتميّز مالكه ولا قدره يخرج منه الخمس وذلك من المجتمع من المالين فيكون إنفاقا وتصرّفا من الحرام وفيه وهو مناف لمنطوق الآية. قلت : نمنع أنّ ذلك تصرّف في الحرام لأنّا إنّما حكمنا بإخراج الخمس لمكان الضرورة الماسّة إلى التصرّف في الحلال لقوله صلى اللّه عليه وآله « الناس مسلّطون على أموالهم » (1) ولمّا جهل المالك وتعذّر رضاه أذن الشارع لا مطلقا بل بإخراج ما يمكن أن يكون عوضا للمالك يوم القيامة كما يأذن الحاكم في المعاوضة على مال الغائب والمحجور عليه وذلك لا يكون إنفاقا وتصرّفا من الحرام ولا فيه هذا ويحتمل أن يراد بالطيّب الجيّد من المال والمستحسن منه ولذلك قيل إنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف ويدخلونه في تمر الصدقة (2) روي ذلك عن علي عليه السلام (3) ويؤيّد ذلك قوله تعالى ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (4) فعلى هذا قيل إنّ المراد الصدقة الواجبة وهي الزكاة وقيل المندوبة والأصحّ العموم للقسمين بل سائر الإنفاق في سبيل الخير وأعمال البرّ.
إن قلت : لو كان النصاب النعمي كلّه مراضا لم يكلّف شراء صحيحه وكذا لو كان تمره محشفا لم يكلّف شراء غيره بل يخرج منهما فيكون إنفاقا من الرديّ وهو خلاف المأمور به. قلت : إن حمل الأمر على المندوب فذلك على الأفضل فخلافه غير ممنوع وإن حمل على الواجب فإنّما لم يكلّف شراء الصحيح والجيّد لئلّا يلزم الظلم في حقّ المالك لأنّ الزكاة تعلّقت بعين المال فلا تتناول غيره هذا ، مع أنّ الأفضل له إخراج الجيّد وفي الآية دلالة على أنّ إخراج الصدقة من كسب الإنسان أفضل من
ص: 231
غيره خصوصا ما كان بالجارحة فإنّه أشقّ تحصيلا فيكون أفضل.
ويمكن الاستدلال بها على استحباب زكاة التجارة بقرينة التكسّب ومن قال بوجوبها من العامّة يدفعه أصالة البراءة وما حكيناه من رواية أبي ذرّ.
ثمّ إنّ بعضهم قال : إنّ مال التجارة ما دام عروضا لا زكاة فيه ولو بقي أحوالا فإذا بيع زكّوه لسنة واحدة وهو قول مالك والشافعيّ في القديم وقال في الجديد وأبو حنيفة : بل كلّ حول يقوّم ويخرج عنه.
2 - « وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ » أي ومن طيّبات ما أخرجناوحذف المضاف لدلالة ما قبله عليه وإنّما أعاد الجارّ ولم يكتف بالعطف « على ما كسبتم » لزيادة الاعتناء بالإنفاق من الغلّات والثمار قيل والمعادن أيضا فإنّها تخرج من الأرض فعلى هذا يستدلّ بها على استحباب الزكاة في كلّ ما يخرج من الأرض خرج الخضر وما لا يكال ولا يوزن للإجماع فيبقى الباقي وكذا على وجوب إخراج الخمس من جميع أنواع الزرع ممّا يفضل عن مؤنة السنّة والمعدن كما يقوله أصحابنا إذا بلغ بعد المؤن ما قيمته عشرون دينارا وكلّ هذه مجملات يعلم تفاصيلها من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة عليهم السلام.
3 - « وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ » أي لا تتعمّدوا ، والخبيث هنا مقابل الطيّب فيكون هنا إمّا الحرام أو الرديّ ويؤيّد الثاني قوله « وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ » أي تتساهلوا [ فيه ] من أغمض بصره إذا غضّه.
وفي قوله « وَلا تَيَمَّمُوا » إشارة إلى أنّ المنهيّ عنه إنّما هو تعمّد إخراج الرديّ وأمّا ما كان لا عن تعمّد فلا حرج فيه ، وفيه أيضا دلالة على عدم وجوب شراء الجيّد لأنّه لم يتعمّد الرديّ فأخرج منه بل اتّفق ذلك عنده وعلى الأوّل يمكن أن يكون قوله « وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ » أي لستم بحال يجوز لكم أخذه والتصرّف فيه إلّا أن تتساهلوا في دينكم بعدم القيام بنواهيه فتغمضوا في أمر الحرام فتأخذونه وهذا وجه لا يدفعه اللّفظ ولا المعنى.
واستدلّ بعضهم بها على أنّه لا يجوز عتق الكافر وردّه المعاصر بأنّ العتق
ص: 232
ليس إنفاقا لأنّه قسيم له في [ نحو ] الكفّارات وقسيم الشي ء مغاير له. وفيه نظر أمّا أوّلا فللمنع من عدم كون العتق إنفاقا فانّ الأوامر الواردة بالإنفاق عامّة يصدق عليه فانّ الإنفاق هو بذل المال تقرّبا إلى اللّه تعالى وأمّا ثانيا فلأنّ وقوعه قسيما لانفاق خاصّ لا يستلزم عدم كونه قسما من الإنفاق العامّ نعم كون العبد الكافر خبيثا بأحد المعنيين المذكورين ممنوع فإنّه ليس حراما وإلّا لحرم بيعه وتملّكه ولا رديّا عرفا ولهذا جاز رفعه إلى الفقير صدقة لكونه مالا قابلا للتملّك والنقل « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ » عن صدقاتكم حقيق بالحمد منكم على إنعاماته الجليلة.
الرابعة ( وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (1).
لمّا أخبر سبحانه « أنّ ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (2) وفي موضع آخر ( كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) (3) أخبر هنا أنّ الّذين يؤتون الزكاة مخلصة لوجه اللّه هم الّذين يضعفون حسناتهم أي يجعلونها مضاعفة والاضعاف [ في ] زيادة الأجر والثواب إن قلت كيف الجمع بين هذه الاضعافات وبين قوله تعالى ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى ) (4) قلت المراد ليس له إلّا ما سعى من باب العدل وأمّا الاضعاف فمن قسم التفضّل وفي الآية دلالة على وجوب النيّة في الزكاة وإيقاعها على سبيل الإخلاص لله تعالى.
الخامسة ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (5).
ص: 233
لمّا عاب المنافقون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في قسمة الصدقات بأنّه يعطي من أحبّ ونزل فيهم ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ) (1) أي يعيبك - يقال لمزه يلمزه بكسر العين في المضارع وضمّها إذا عابه على وجه المساترة - أنزل اللّه هذه الآية قاطعة لأطماعهم وأتى بإنّما الّتي للحصر للدلالة على أنّه لا يستحقّها سوى هؤلاء المذكورين.
واختلف في اللّام في « لِلْفُقَراءِ » هل هي للتمليك أو لبيان المصرف؟ فقال الشافعيّ بالأوّل فيجب البسط على الأصناف ويعطي من كلّ صنف ثلاثة لا أقلّ منهم وقال مالك وأبو حنيفة بالثاني فلا يجب البسط بل لو أعطى زكوته واحدا من أيّ صنف كان جاز لكن أبو حنيفة لا يعطي ما يؤدّي إلى الغني فلو خالف فعل مكروها وملكه المعطى وبرئت الذمّة ومالك يجوّز ذلك إذا أمل غناءه وقال أصحابنا بجواز أيّ صنف كان ولو واحدا منهم لكنّ البسط أفضل وبذلك قال ابن عبّاس وحذيفة وغيرهما من الصحابة لأنّ كون اللّام للتمليك لا وجه له فانّ المستحقّ لا يملك قبل الأخذ ولأنّ حملها على بيان المصرف موافق لفعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله الّذي عابه المنافقون فيكون أولى.
إذا عرفت هذا فلنذكر الأقسام مفصّلة والخلاف فيها فنقول :
الأوّل الفقراء ، الثاني المساكين قيل إنّهما قسم واحد وإنّما أتى باللّفظين لا لتغاير المعنى بل لتأكيد أحدهما بالآخر كعطشان بطشان وقيل بالتغاير وبه قال الشافعيّ وأبو حنيفة فقيل الفقير متعفّف لا يسأل والمسكين بخلافه وقيل بالعكس ويؤيّد الأوّل قوله تعالى ( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً ) (2) ويؤيّد الثاني قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ليس المسكين الّذي تردّه الأكلة و
ص: 234
الأكلتان والتمرة والتمرتان ولكنّ المسكين الّذي لا يجد غنى فيغنيه ولا يسئل الناس شيئا ولا يفطن به فيتصدّق عليه (1) » وقيل الفقير الزمن المحتاج والمسكين الصحيح المحتاج قاله قتادة والتحقيق أنّهما يشتركان في معنى عدميّ وهو عدم ملك مؤنة السنّة له ولعياله الواجبي النفقة ولو كان غنيّا وهل أحدهما أسوء حالا من الآخر بمعنى أنّه لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته والآخر أجود حالا [ من ] له مال أو كسب يقع موقعا من حاجته لكن لا يكفيه للسنة؟ الأكثر على ذلك فقيل الفقير هو أسوء حالا للابتداء بذكره الدالّ على الاهتمام بحاله ولأنّه مشتق من فقار الظهر فكأنّ الحاجة قد كسرت فقار ظهره ولاستعاذة النبيّ صلى اللّه عليه وآله من الفقر [ وسؤاله المسكنة ] فقال « اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفقر وأسئلك المسكنة » (2) حتّى قال « كاد الفقر أن يكون كفرا » (3) وبهذا قال الشافعيّ وقيل المسكين هو الأسوء للتأكيد به ولأنّه من السكون كأنّ العجز أسكنه ولقوله تعالى ( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) (4) وبهذا قال أبو حنيفة ويرجّح الأوّل قوله تعالى ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) (5) وأجيب بأنّها لم يكن لهم ملكا بل كانوا اجراء فيها ويرجّح الثاني قول ابن السكّيت : الفقير الّذي له بلغة من العيش والمسكين لا شي ء له وأنشد قول ابن الراعي :
ص: 235
أمّا الفقير الّذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سبد (1)
والأقوى عندي هو الثاني لقول الصادق عليه السلام في رواية أبي بصير « الفقير الّذي لا يسئل والمسكين أجهد منه والبائس أجهد منهما » (2) وهو نصّ في الباب ولأنّه قول أئمّة اللّغة كابن السكّيت وابن دريد وأبي عبيدة وأبي زيد وقال يونس قيل لأعرابيّ أفقير أنت فقال لا واللّه بل مسكين ثمّ إنّ فائدة الخلاف لا تظهر في باب الزكاة لاجزاء إعطاء كلّ منهما بل في أفضليّة العطاء وفي الكفّارات والنذر والوقف والوصيّة وذكر أحدهما بلفظه بخلاف ما لو قال المحاويج فإنّه شامل للقسمين.
الثالث العاملون [ عليها ] وهم السعاة لجبايتها قولا واحدا.
الرابع المؤلّفة قلوبهم وهم كفّار أشراف في قومهم كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يعطيهم سهما من الزكاة يتألّفهم به على الإسلام ويستعين بهم على قتال العدوّ ، قال الشيخ ولا نعرف مؤلّفة غيرهم وقال المفيد بل ويكونون أيضا من المسلمين إمّا سادات لهم نظراء من المشركين إذا أعطوا رغب النظراء في الإسلام وإمّا سادات مطاعون يرجى بعطائهم قوّة أيمانهم ومساعدة قومهم في الجهاد وإمّا مسلمون في الأطراف منعوا الكفّار من الدخول وإمّا مسلمون إذا أعطوا أخذوا الزكاة من مانعيها.
وهل هذا السهم ثابت بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أم لا؟ قال الشافعيّ نعم وهو مرويّ عن الباقر عليه السلام إلّا أنّه « قال : من شرطه أن يكون هناك إمام عادل يتألّفهم على ذلك » (3) وقال أبو حنيفة هو مختصّ بزمانه صلى اللّه عليه وآله وفتوى أصحابنا حال الغيبة على الثاني.
ص: 236
الخامس الرقاب وهم المكاتبون وأضاف أصحابنا العبد المؤمن يكون في شدّة عند سيّده يشترى ويعتق وبه قال ابن عباس والحسن ومالك وأحمد وكذا جوّز أصحابنا مع عدم المستحقّ شراء العبد من الزكاة وعتقه.
السادس الغارمون وهم الّذين ركبتهم الديون في غير معصية بل إمّا في نفقة واجبة أو مندوبة أو معاش مباح ثمّ إنّ أبا حنيفة ومالك وأحمد قالوا لا يدفع إلى الغارم شي ء إلّا مع فقره وفصّل الشافعيّ فقال : إن كان لتحمّل دية عن الغير لإطفاء النائرة يعطي مطلقا وإن كان لا لذلك لا يعطى مع الغنى وما كان لمصلحة نفسه له قولان في القديم يعطى وفي الجديد لا [ يعطى ] وعندنا متى قصرت أمواله عن أداء ديونه اعطي أمّا لو استدان لإصلاح ذات البين فإنّه يعطى مطلقا وإن كان غنيّا.
السابع في سبيل اللّه قال الشيخ يختصّ بالجهاد وبه قال الشافعيّ ومالك وأبو حنيفة وقال أحمد والحجّ أيضا لكن خصّه أبو حنيفة بالفقير من الغزاة وقال الأوّلان وأحمد والغنيّ أيضا وقال أكثر أصحابنا وهو الحقّ أنّه يعمّ كلّ مصلحة للمسلمين كالحجّ وبناء القناطر وغيرهما وبه قال البلخي وعطا وابن عمر عملا بعموم اللّفظ فانّ السبيل لغة الطريق وهو هنا كذلك مجازا في كلّ ما يقرّب إلى اللّه سبحانه.
الثامن ابن السبيل وهو المنقطع به في الغربة وإن كان غنيّا في بلده وهل يعطى منشئ السفر من بلده؟ قال ابن الجنيد منّا والشافعيّ وأبو حنيفة نعم وهو ممنوع مع كونه غنيّا حينئذ نعم لو كان مضطرّا إلى السفر وهو فقير جاز لكن ذلك ليس من الباب وأمّا الضيف فقيل داخل في ابن السبيل والحقّ عندي أنّه إن كان
ص: 237
منقطعا به في غير بلده فهو داخل في المنقطع به ولا حاجة إلى ذكره وإلّا فنحن من وراء المنع من استحقاقه.
1 - لا فرق في السفر بين الواجب والمندوب والمباح ومنع ابن الجنيد المباح وليس بشي ء.
2 - لو نوى إقامة عشرة فصاعدا قال الشيخ يمنع لخروجه عن اسم السفر ولذلك لم يقصّر وقال ابن إدريس واختاره العلّامة إنّه لا يمنع وهو الحقّ لصدق الاسم.
3 - لو فضل مع ابن السبيل شي ء عند وصوله بلده استعيد لانتفاء علّة الاستحقاق.
4 - يقبل قوله في عدم المال وكذا يقبل قول الفقير في فقره وكذا لو قال كان لي مال فتلف وقال الشيخ يكلّف هنا البيّنة وليس بشي ء لأداء ذلك إلى ضرره إذ قد يخفى التلف وكذا لا يفتقر [ ان ] إلى اليمين وأمّا الغارم والمكاتب فالمشهور قبول قولهما إلّا مع تكذيب الغريم والسيّد وفي الآية فوائد :
1 - قيل إنّ الصدقات هنا للعموم فيشمل الواجبة والمندوبة ويشكل ذلك مع الحصر فإنّ المندوبة لا تنحصر في الفقراء والمساكين بل تجوز للغنيّ وحينئذ لا بدّ مع الحصر من الإضمار.
2 - هنا سؤال تقريره : لم قال في الأصناف الأربعة الأول باللّام وفي الباقية بفي ثمّ إنّه كرّرها فقال « وَفِي سَبِيلِ اللّهِ »؟ الجواب ذكروا وجوها :
الأوّل إنّما عدل إلى في عن اللّام المفيدة للاختصاص إيذانا بأنّهم أرسخ في الاستحقاق حيث جعلوا مظنّة وموضعا لها لأجل فكّ الرقاب وفكّ الغارمين من الغرم ولجمع الغازي بين الفقر والعبادة عند من يشترط فقره والمسافر بين الفقر والغربة وإنّما كرّر في الأخيرين لفضل ترجيح لهما.
الثاني أنّ الفرق من حيث إنّ ظاهر اللّام شمول التملّك للأشخاص وظاهر في عدم شموله كما إذا قيل المال لبني تميم فإنّه يفيد اشتراكهم فيه فإذا قيل في بني
ص: 238
تميم يفيد أنّ فيهم من يستحقّه ولذلك لم يسمع أنّ أحدا قال يجب البسط في الأربعة الأخيرة.
الثالث اعلم أنّ المستحقّ [ ين ] قسمان قسم يقبض لنفسه وهم الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلّفة وهؤلاء يصرفونه في أيّ جهة شاؤوا فهم مختصّون به فناسب ذلك [ ذكر ] اللّام وقسم يقبض لأجل جهة معيّنة يصرفه فيها ولا يجوز صرفه في غيرها وهم الرّقاب والغارمون وابن السبيل وأمّا سبيل اللّه فان كان لمعونة المجاهدين فإنّه يتعيّن صرف ما يقبضه في مصالح الجهاد خاصّة وكذا الحاجّ والزائرين وإن كان لغير ذلك فإنّه يتعيّن صرفه في تلك الجهة فناسب ذلك ذكر في لأنّه يعيّن صرفه في جهات معيّنة.
3 - فريضة منصوب على المصدر المؤكّد لما دلّت عليه [ هذه ] الآية نحو ( هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً ) (1) وقرئ شاذّا بالرفع أي هذه فريضة.
السادسة ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (2).
[ فنعمّا هي ] ظ : أي فنعم شيئا هي دلّت الآية على أنّ إظهار الصدقة حسن في نفسه وأنّ إخفائها أفضل لأنّه لا معنى للخيريّة إلّا الأفضليّة عند اللّه تعالى فقيل على العموم لكلّ صدقة لأنّه جمع معرّف باللّام وهو للعموم بلا خلاف ولذلك جاء في الحديث « صدقة السرّ تطفئ غضب الرب [ وتدفع الخطيئة ] كما يطفئ الماء النار وتدفع سبعين بابا من البلاء (3) » وعنه صلى اللّه عليه وآله « سبعة يظلّلهم اللّه بظلّه يوم لا ظلّ إلّا
ص: 239
ظلّه إمام عادل وشابّ نشأ في عبادة اللّه ورجل قلبه معلّق بالمسجد حتّى يعود إليه ورجلان تحابّا في اللّه اجتمعا على ذلك وتفرّقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنّي أخاف اللّه ورجل تصدّق بصدقة وأخفاها حتّى لا تعلم يمينه ما ينفق شماله ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه » (1).
وقال ابن عبّاس ورواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادق عليه السلام « إنّ الإخفاء تختصّ بالمندوبة وأمّا المفروضة فإظهارها أفضل لئلّا يتّهم بالمنع ولما فيه من الاقتداء به فانّ كثيرا من الناس تنبعث دواعيهم إذا رأوا من يفعل الطاعة ولأنّ الرياء لا يتطرّق إليها كتطرّقه إلى المندوبة » (2) والأوّل أشبه بمنطوق الآية ويؤيّد الثاني استحباب حمل الواجبة إلى الامام ابتداء ووجوبه عند الطلب مع أنّ تخصيص الكتاب بالسنّة جائز وقد ورد عن ابن عباس « صدقة السرّ في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة وعشرين ضعفا » (3) وعلّته ما ذكرناه.
وفي الآية دلالة على جواز تولّي المالك مباشرة إخراج الصدقة لقوله تعالى « وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ » قال العلّامة : إنّ لفظ أفعل [ التفضيل ] قد يرد للمساواة كما يرد للأفضليّة ولأنّ استحباب الحمل إلى الامام لا ينافي استحباب الإخفاء لإمكان الجمع بينهما بأن يدفع من غير إشعار أحد وفيه نظر أمّا أوّلا فلأنّ أفعل للأفضليّة حقيقة ولغيره مجازا فلا يعدل إليه إلّا لضرورة مع أنّ التخصيص خير من المجاز وأمّا ثانيا فلمنع عدم المنافاة فإنّ الإخفاء لا يصدق حينئذ ولأنّ موضوع الخيريّة مركّب من الإخفاء وإيتاء الفقراء والمركّب يعدم بعدم أحد أجزائه ، هذا وقوله
ص: 240
« نكفّر » قرئ بالرفع أي ونحن نكفّر وبالجزم عطفا على جواب الشرط ومن للتبعيض وقيل زائدة وهو ضعيف لضعف زيادتها في الإثبات.
وفيه آيات :
الاولى : ( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (1).
هنا ثلاثة أحكام :
1 - الحضّ على الإنفاق بأنّه (2) في الحقيقة عائد إلى المنفق فانّ الشخص إذا علم أنّ فائدة إنفاقه تعود إليه كان أشدّ انبعاثا على الإنفاق وأقوى داعية إليه والمراد بالخير هنا المال كقوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (3).
2 - ( وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ ) وهو نفي ويراد به النهي كقوله صلى اللّه عليه وآله « لا تنكح المرأة على عمّتها ولا خالتها » (4) ومراده هنا لا تنفقوا شيئا إلّا ابتغاء وجه اللّه أي طلب وجه اللّه وفيه نهي عن الرّياء وطلب السمعة بالإنفاق وأمر بالإخلاص لما في الكلام من النفي والإثبات.
فائدة : ليس المراد بالوجه هنا العضو لاستحالة الجسميّة عليه تعالى ولا الذات لأنّها قديمة والقديم لا يراد حصوله بل المراد بالوجه الرّضى وإنّما حسن الكناية به عن الرضا لأنّ الشخص إذا أراد شيئا أقبل بوجهه عليه وإذا كرهه أعرض بوجهه
ص: 241
عنه وكأنّ الفعل إذا أقبل عليه بالوجه حصل الرضا به فكان إطلاقه عليه من باب إطلاق السبب على المسبّب.
3 - الحكم بأنّهم إذا فعلوا الإنفاق ابتغاء وجه اللّه يوفّ إليهم أجرهم وفاء تامّا من غير نقص. والخير هنا إيصال المال وفي الكلام حذف تقديره : يوفّ إليكم جزاؤه.
الثانية ( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (1).
لمّا ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المنفق من الصفة ذكر الّذين ينبغي وصول النفقة إليهم واللّام متعلّقة بمحذوف يدلّ عليه ما تقدّم أي النفقة المذكورة للفقراء كأنّه سئل لمن هذه النفقة فأجيب « لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا » أي حبسوا أنفسهم للجهاد « لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ » أي سفرا للتكسّب وتحصيل المال أي إنّهم حبسوا أنفسهم للجهاد ولم يشتغلوا بغيره من التصرّفات التكسّبية حصر من لا يستطيع تصرّفا لا لعجزهم في نفس الأمر بل لرغبتهم في العبادة هكذا ينبغي أن يقال حتّى يكون في سياق مدحهم لا أنّهم تركوا الضرب لعجزهم بمرض أو خوف « يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ » بحالهم « أَغْنِياءَ » لتعفّفهم بعدم إظهارهم الحاجة والسؤال « تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ » أي لهم علامة يعرفون بها وهي صفرة اللّون ورثاثة الحال. والالحاف الإلحاح وهو أن يلازم المسؤول لا يفارقه إلّا بشي ء من قولهم لحفني فلان من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إنّ اللّه يحبّ الحييّ الحليم المتعفّف ويبغض البذيّ الشاكي الملحف » (2) ونفي السؤال على وجه الالحاف
ص: 242
لا يستلزم نفي مطلق السؤال فيجوز أن يكونوا سائلين على وجه اللّطف وعلى ذلك كان حالهم وهو منصوب على المصدر أي لا يسألون سؤالا إلحافا.
إذا عرفت هذا فقيل : إنّ هؤلاء قوم من مهاجري قريش لم يكن لهم شي ء من الدنيا ولا عشائر في المدينة وكانوا يسكنون في صفّة المسجد فيتعلّمون القرآن باللّيل ويلتقطون النّوى بالنهار يخرجون مع كلّ سريّة يبعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وكانوا نحوا من أربعمائة رجل فمن كان عنده فضل رزق يأتيهم به إذا أمسى.
وعن ابن عبّاس « وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يوما عليهم فرأى جهدهم وفقرهم وطيب قلوبهم بذلك فقال « أبشروا يا أصحاب الصفّة فمن بقي من أمّتي على النعت الّذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنّهم رفقائي » (1) بشّر (2) [ رسول اللّه ] إلى من يحبس نفسه على طلب العلم وتشييد معالم الدين في هذا الزمان قائما بوظيفة ما يجب عليه من العبادة ملتزما بولاية أهل البيت عليهم السلام فإنّه إنشاء اللّه أفضل من أولئك ثمّ أكّد سبحانه الحثّ على الإنفاق بإعادة قوله « وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ » الآية وفي الآية إشارة إلى استحباب إعطاء أهل التجمّل والتعفّف والتوصّل إليهم بإعطاء الصدقة خصوصا من اتّصف بمزيد علم أو ورع في دين.
الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (3).
نزلت في عمرو ابن الجموح وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال يا رسول اللّه بما ذا أتصدّق وعلى من أتصدّق فنزلت وقد عرفت أنّ خصوص السبب لا يخصّص العامّ بل هو على عمومه وليست منسوخة بآية الزكاة كما قال السدّي إذ لا مانع من إجراء حكمها ولا يقين بنسخها فيجوز حينئذ حملها على الصدقة الواجبة ولا ينافي ذكر الوالدين لوجوب نفقتهما المانع ذلك من إعطاء الواجبة لجواز إعطائهما لا في
ص: 243
جهة النفقة ولو من سهم الفقراء كاعطائهما ما يحتاجان إليه في طلب علم أو فعل عبادة زائدا عن قدر حاجتهما أو في مؤنة الزواج إذ لا يجب إعفاف الوالد والوجه حملها على العموم فيدخل الواجبة وغيرها من مندوبات الصدقات وواجبات النفقات وصلة الأرحام وغير ذلك وفي الآية إشارة إلى استحباب تخصيص القرابة [ بالإنفاق ] والخير هنا المال أيضا.
وهنا سؤال وهو أنّه سئل عمّا ينفق وأجاب بالمنفق عليهم والجواب قيل :إنّه من باب المغالطة وهو حمل كلام السائل على غير مطلوبه تنبيها على أنّه أولى به والأولى في الجواب هو أنّ سؤالهم لم يكن عن مطلق الإنفاق بل عن إنفاق المال النافع في الآخرة فالنافع هو فضل المسؤول عنه فأجاب بملزوم الفضل وهو أن يكون الإنفاق على المذكورين.
الرابعة ( وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) (1).
عن الصادق عليه السلام « أنّ العفو هو الوسط من غير إسراف ولا إقتار » (2) وعن الباقر عليه السلام « ما فضل عن قوت السنة قال ونسخ ذلك بآية الزكاة » (3) وعن ابن عبّاس ما فضل عن الأهل والعيال أو الفضل عن الغنى وقيل هو أفضل المال وأطيبه.
وقرئ العفو بالرفع على الخبريّة أي الّذي ينفقونه هو العفو وقرئ بالنصب على المفعوليّة أي أنفقوا العفو.
روي أنّ رجلا أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ببيضة من ذهب أصابها في بعض الغزوات فقال خذها منّي صدقة فأعرض عنه فأتاه من جانب آخر [ فقال له مثله ] فأعرض عنه ، ثمّ أتاه من جانب آخر [ فقال له مثله ] فأعرض عنه ثمّ قال له هاتها مغضبا فأخذها وحذف بها حذفا لو أصابته لشجّته أو عقرته ثمّ قال يجي ء أحدكم بماله كلّه فيتصدّق
ص: 244
به ويجلس يتكفّف الناس إنّما الصدقة عن ظهر غنى » (1).
وهنا فوائد :
1 - كلام الصادق عليه السلام يدلّ على الالتزام بالأوساط في الإنفاق كلّه واجبا كان أو مندوبا صدقة وغيرها وهو طريق السلامة والأمن من الإفراط والتفريط الموبقين.
2 - كلام الباقر عليه السلام يدلّ على استحباب الصدقة بما فضل عن القوت وبذلك وردت أخبار كثيرة وترغيبات عظيمة حتّى أنّ زين العابدين عليه السلام كان يتصدّق بفاضل كسوته.
3 - كلام ابن عبّاس يدلّ على كراهية الصدقة بما هو توسعة على العيال ولذلك قال عليه السلام « لا صدقة وذو رحم محتاج » (2) وعلى كراهية ما لم يبق غنى فان آل إلى الإعدام ولا كسب له ربّما يصير حراما خصوصا مع وجود العيال وعليه تحمل الرواية المذكورة لأداء ذلك إلى الإضرار الممنوع عقلا وشرعا وقال عليه السلام « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (3).
4 - القول الرابع يدلّ على أنّه يستحبّ الصدقة بالمال اللذيذ والشهيّ و
ص: 245
لذلك نقل عن الحسن عليه السلام (1) أنّه كان يتصدّق بالسكّر فقيل له في ذلك فقال : إنّي أحبّه وقال اللّه تعالى ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (2).
الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (3).
المنّ هو أن يقول له ألم أعطك كذا ألم أحسن إليك وشبه ذلك والأذى أن يقول أراحني اللّه منك أو يعبّس في وجهه أو يجبّهه بالكلام أو يتناقص به وبالجملة المنّ والأذى يشتركان في كلّ ما ينغّص الصنيعة ويكدّرها وإنّما كانا مبطلين للصدقة لأنّ صدورهما يكشف عن كون الفعل لم يقع خالصا لله تعالى وهو معنى بطلانه فانّ من كان موطّنا نفسه على طاعة اللّه وطلب مرضاته لا يصدر عنه إلّا الخيرات وذلك في هذا الباب إمّا إعطاء السائل أو ردّه بأحسن الردّ كأن يقول رزقك اللّه أو سهّل اللّه عليك وشبهه وإن صدر عن الفقير سوء كلام أو تعنيف في السؤال غفر له ولم يؤاخذه به وإلى الأوّل أشار من قبل بقوله « قَوْلٌ مَعْرُوفٌ » إشارة إلى حسن الردّ « وَمَغْفِرَةٌ » إشارة إلى العفو عن سوء يقع من السائل كما قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « إذا لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم » (4) ويحتمل أن يريد بالقول
ص: 246
المعروف والمغفرة ما هو أعمّ [ من ذلك ] كسائر الأخلاق الحسنة فيدخل حسن الردّ وغيره.
ثمّ إنّه تعالى جعل المانّ بصدقته والمؤذي لمن يتصدّق عليه كالمرائي بنفقته وكالمنفق الّذي لا يؤمن باللّه و [ لا ] باليوم الآخر فانّ قوله « كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ » صفة لمصدر محذوف أي إبطالا كابطال الّذي ينفق ماله فانّ كلّ واحد من الرياء والكفر سبب تامّ لعدم فائدة الإنفاق وفي الحقيقة يندرج المان والمؤذي والمرائي في عدم الايمان باللّه إذ لو كان مؤمنا به ومصدّقا بصفاته الكماليّة لما أشرك معه غيره فيما غايته الإخلاص له وطلب مرصاته ، هذا وإنّه تعالى جعل مثل الّذي ينفق ماله رئاء أو ينفقه ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر « كَمَثَلِ صَفْوانٍ » أي حجر أملس « عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ » أي مطر عظيم القطر « فَتَرَكَهُ صَلْداً » أي أجرد نقيّا بلا تراب فالصفوان مثل للنفس والتراب مثل للإنفاق والوابل مثل للرياء والكفر وزوال التراب عنه مثل لزوال فائدة الإنفاق وقوله « لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا » أي لا يجدون يوم القيامة شيئا من ثواب ما كسبوا « وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ » أي لا يلطف لهم لطفا يجبرهم على فعل الطاعة لمنافاة ذلك الحكمة.
وفي وضع الكافرين موضع المرائين تشديد عظيم لحال الرياء وأنّه والشرك في واد واحد ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « الشرك في أمّتي أخفى من [ دبيب ] النملة السوداء في اللّيلة الظلماء [ على الصخرة الصمّاء ] (1) » وقال صلى اللّه عليه وآله « إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قيل وما الشرك الأصغر قال الرياء » (2).
ص: 247
السادسة ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى ) (1).
قيل المراد بمن تزكّى أي [ من ] أدّى زكاة الفطرة وصلّى صلاة العيد وبه قال ابن عمر وأبو العالية وابن سيرين وروي ذلك مرفوعا عن أئمّتنا عليهم السلام (2) وتفصيلها وتفصيل ما تقدّم من الزكاة معلوم من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة عليهم السلام فلنقتصر على ذلك.
وهو اسم لحقّ يجب في المال يستحقّه بنو هاشم وله شروط وتفصيل وفيه آيات :
الاولى ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ) (3).
اعلم أنّ البحث في هذه الآية على أقسام ثلاثة :
الغنيمة في الأصل هي الفائدة المكتسبة والنفل واصطلح جماعة على أنّ ما أخذ من الكفّار إن كان من غير قتال فهو في ء وإن كان مع القتال فهو غنيمة و
ص: 248
هو مذهب أصحابنا والشافعيّ وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام (1) وقيل إنّهما بمعنى واحد. ثمّ إنّ عند أصحابنا أنّ الفي ء للإمام خاصّة والغنيمة يخرج منها الخمس كما يجي ء والباقي بعد المؤن للمقاتلين ومن حضر وسيأتي بيانه أمّا في باب الخمس فعمّم أصحابنا موضوعها بأنّه جميع ما يستفاد من أرباح التجارات والزراعات والصناعات زائدا عن مؤنة السنّة والكنوز والمعادن والغوص والحلال المختلط بالحرام ولا يتميّز المالك ولا قدر الحرام وأرض الذمّيّ الّذي اشتراه من مسلم وما يغنم من دار الحرب كما تقدّم.
وعند الفقهاء أنّ الغنيمة هنا هي ما أخذ من دار الحرب لا غير دون الأشياء المذكورة نعم أوجب الشافعيّ في معدن الذّهب والفضّة الخمس دون باقي المعادن وقال أبو حنيفة يجب في المنطبع خاصّة ، فقد ظهر لك أنّ أصحابنا عمّموا موضوع الخمس وعلى قولهم دلّت الروايات عن أئمّتهم عليهم السلام.
إن قلت قوله تعالى « من شي ء » يدلّ على وجوب الخمس في كلّ ما يغنم حتّى الخيط والمخيط كما قيل وهو لا يتوجّه على قولكم فإنّكم تشترطون النصاب في الكنز والمعدن والغوص قلت : اللّفظ وإن اقتضى العموم لكنّ البيان من الأئمّة عليهم السلام خصّصه وحصره.
في كيفيّة قسمته ويظهر منه من يستحقّه. فنقول اتّفق علماء الجمهور على أنّ اسم اللّه هنا للتبرّك وأنّ قسمة الخمس على الخمسة (2) المذكورين في الآية في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وأنّ المراد بذي القربى هم بنو هاشم وبنو [ عبد ] المطّلب دون بني عبد الشمس وبني نوفل لقوله عليه السلام « إنّ بني المطّلب ما فارقونا في جاهليّة
ص: 249
ولا إسلام وبنو هاشم وبنو المطّلب شي ء واحد وشبّك بين أصابعه وإنّ الثلاثة الباقية من باقي المسلمين » (1).
وأمّا بعد حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله فقال مالك : الأمر فيه إلى الامام يصرفه إلى ما يراه أهمّ من وجوه القرب وقال أبو حنيفة يسقط سهمه صلى اللّه عليه وآله وسهم ذي القربى وصار الكلّ مصروفا إلى الثلاثة الباقية من المسلمين وقال الشافعيّ إنّ سهم الرسول صلى اللّه عليه وآله يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين وقيل إلى الامام وقيل إلى الأقسام الأربعة ونقل الزمخشري في الكشّاف عن ابن عباس أنّه كان يقسّم على ستّة : لله والرسول سهمان وسهم لأقاربه حتّى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة وكذلك روي عن عمر وباقي الخلفاء بعده قال وروي أنّ أبا بكر منع بني هاشم من الخمس وقال إنّما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيّمكم ويخدم من لا خادم له منكم فأمّا الغنيّ منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنيّ لا يعطى من الصدقة شيئا ولا يتيم موسر ونقل عن عليّ عليه السلام أنّه قيل له إنّ اللّه تعالى يقول « وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ » فقال : « أيتامنا ومساكيننا » وعن الحسن البصريّ أنّ سهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لوليّ الأمر بعده هذا.
وقال أصحابنا الإماميّة إنّه يقسم ستّة أقسام ثلاثة للرسول صلى اللّه عليه وآله في حياته وبعده للإمام القائم مقامه وهو المعني بذي القربى والثلاثة الباقية لمن سمّاهم اللّه تعالى من بني عبد المطّلب خاصّة دون غيرهم وقولهم هو الحقّ أمّا أوّلا فلأنّه لا يلزمهم مخالفة الآية الكريمة بسبب إسقاط سهم اللّه من البين وكذا إسقاط سهم الرسول بعد حياته وأمّا ثانيا فلما ورد من النقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم السلام وكذا نقله الخصم عن عليّ عليه السلام وعن ابن عبّاس كما حكيناه عن الزمخشريّ وأمّا ثالثا فلأنّا إذا أعطيناه لفقراء ذوي القربى من اليتامى والمساكين وابن السبيل جاز بالإجماع
ص: 250
وبرئت الذمّة يقينا وإذا أعطيناه غيرهم لم يجز عند الإماميّة فكان التخصيص بذوي القربى أحوط.
إن قلت : لفظ الآية عامّ قلت : ما من عامّ إلّا وقد خصّ فهذا مخصوص بما رويناه عن أئمّة الهدى كزين العابدين والباقر والصادق وأولادهم عليهم السلام على أنّا نقول لفظ الآية عامّ مخصوص بالاتّفاق فانّ ذي القربى مخصوص ببني هاشم ، واليتامى والمساكين وابن السبيل عامّ في المشرك والذمّيّ وغيرهم مع أنّه مخصوص بمن ليس كذلك.
قال السيّد المرتضى : كون ذي القربى مفردا يدلّ على أنّه الإمام القائم مقام النبيّ صلى اللّه عليه وآله إذ لو أراد الجميع لقال ذوي [ القربى ] وفيه نظر لجواز إرادة الجنس. قوله إذ لو كان المراد جميع قرابات بني هاشم لزم أن يكون ما عطف عليه أعني اليتامى والمساكين وابن السبيل من غيرهم لا منهم لأنّ العطف يقتضي المغايرة وفيه نظر أيضا لجواز عطف الخاصّ على العامّ لمزيد فائدة ووفور عناية فالأولى حينئذ الاعتماد في هذه المجملات على بيانه صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة عليهم السلام بعده.
في الآية المذكورة من التواكيد ما ليس في غيرهافإنّه صدّرها بالأمر بالعلم أي يتحقّق عندكم ذلك حتّى أنّه لم يرد لها ناسخ اتّفاقا ثمّ أتى بأنّ المؤكّدة في موضعين ثمّ قال « إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ » وهو متعلّق بمحذوف أي كون الخمس لهؤلاء المذكورين واجب فأدّوه إن كنتم آمنتم بدليل « فاعلموا » لأنّ المراد هنا من العلم العمل بمقتضاها قال الواقديّ : نزل الخمس في غزاة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيّام للنصف من [ شهر ] شوّال على رأس عشرين شهرا من الهجرة وعن الكلبيّ نزلت ببدر.
قوله تعالى ( وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا ) أي محمّد صلى اللّه عليه وآله من النصر بالملائكة والفتح وغير ذلك من الآيات « يَوْمَ الْفُرْقانِ » وهو يوم بدر لأنّه فرّق بين الحقّ والباطل
ص: 251
و « يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ » بدل من « يَوْمَ الْفُرْقانِ » والجمعان أهل بدر وقريش وعن الصادق عليه السلام أنّه كان التاسع عشر من [ شهر ] رمضان والمشهور أنّه السابع عشر منه « وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ » أي قادر على نصر القليل على الكثير والذليل على القويّ.
الثانية ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (1).
وكذا قوله تعالى ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) (2).
اعلم أنّ المراد بذي القربى في هذه الآية وأمثالها هو قرابة الرسول صلى اللّه عليه وآله وإعطاؤه حقّه هو إعطاؤه ما وجب له من الخمس وغيره ، روى السدّيّ « قال : إنّ زين العابدين عليه السلام قال لرجل من أهل الشام حين بعث به عبيد اللّه بن زياد إلى يزيد ابن معاوية : أقرأت القرآن؟ قال نعم قال أما قرأت « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » قال وإنّكم ذوو القربى قال (3) نعم » وفي تفسير الثعلبيّ « عن منهال بن عمرو قال سألت زين العابدين عليه السلام عن الخمس فقال هو لنا فقلت إنّ اللّه يقول « وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ » قال يتامانا ومساكيننا » (4).
وروى العيّاشيّ عن الصادق عليه السلام قال : « كتب نجدة الحروريّ إلى ابن عباس يسئل عن موضع الخمس فكتب إليه ابن عبّاس أمّا الخمس فانّا نزعم أنّه لنا ويزعم قومنا أنّه ليس لنا فصبرنا » (5) وعن الصادق عليه السلام « قال : إنّ اللّه لمّا حرّم علينا
ص: 252
الصدقة أنزل لنا الخمس فالصدقة علينا حرام والخمس لنا فريضة والكرامة لنا حلال » (1) وعن الرضا عليه السلام « إنّ الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا وما نفكّ وما نشتري من أعراضنا ممّن نخاف سطوته فلا تزووه (2) عنّا ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه فانّ إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم والمسلم من لقي اللّه بما عاهد وليس المسلم من أجاب باللّسان وخالف بالقلب » (3).
وروى عليّ بن أسباط قال لما ورد الكاظم عليه السلام على المهديّ العبّاسيّ وجده يرد المظالم فقال : ما بال مظلمتنا لا تردّ. فقال وما هي يا أبا الحسن فقال إنّ اللّه لمّا فتح على نبيّه صلى اللّه عليه وآله فدكا وما والاها ممّا لم يوجف عليه أنزل اللّه عليه « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » فلم يدر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من هم فراجع جبرئيل عليه السلام في ذلك فسأل اللّه عزوجل فأوحى اللّه إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة عليها السلام فدعاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال لها إنّ اللّه أمرني أن أدفع إليك فدك فقالت قد قبلت يا رسول اللّه من اللّه ومنك وساق الحديث إلى أن ذكر قصّة أبي بكر وعمر معها فقال له المهديّ حدّها فحدّها فقال هذا كثير وأنظر فيه » (4).
ص: 253
الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (1).
اختلف في الأنفال ما هي فقال ابن عبّاس وجماعة إنّها غنيمة بدر وقال قوم هي أنفال السرايا وقيل هي ما شذّ من المشركين من عبد وجارية من غير قتال وقال قوم هي الخمس والصحيح ما قاله الباقر والصادق عليهما السلام أنّها ما أخذ من دار الحرب من غير قتال كالّذي انجلى عنها أهلها وهو المسمّى فيئا وميراث من لا وارث له وقطائع الملوك إذا لم تكن مغصوبة والآجام وبطون الأودية والموات فإنّها لله ولرسوله وبعده لمن قام مقامه يصرفه حيث يشاء من مصالحه ومصالح عياله (2) وقال الصادق عليه السلام « إنّ غنائم بدر كانت للنبيّ صلى اللّه عليه وآله خاصّة فقسّمها بينهم تفضّلا منه صلى اللّه عليه وآله » (3) وهو مذهب أصحابنا الإماميّة ويؤيّده أنّ الأنفال جمع نفل وهو الزيادة على شي ء سمّي به لكونه زائدا على الغنيمة كما سمّيت النافلة نافلة لزيادتها على الفرض وسمّي ولد الولد نافلة لزيادته على الأولاد وقيل سمّيت الغنيمة نفلا لأنّ هذه الأمّة فضّلت بها على سائر الأمم. وهنا فوائد :
1 - هل الآية منسوخة؟ قال جماعة من المفسّرين نعم نسخت بآية ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ) إلخ (4) وقال الطبريّ وأصحابنا ليست منسوخة وهو الحقّ لعدم المنافاة بينها وبين آية الخمس لما ذكرنا من المغايرة بين الموضوعين.
2 - هل حكم الأنفال باق بعد الرسول صلى اللّه عليه وآله قال سعيد بن المسيّب وجماعة لا نفل بعده ومنعه جماعة من الفقهاء وأصحابنا لما بيّنّا أنّها للإمام القائم مقامه.
ص: 254
3 - قال قوم : إنّها نزلت في غنائم بدر لاختلاف وقع بينهم فيها (1) وقيل : إنّ أصحابه سألوه غنيمة بدر فأعلمهم اللّه أنّ ذلك لله ولرسوله ليس لهم فيه شي ء وعن ابن عباس أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال يوم بدر من فعل كذا فله كذا فانبعث الشبّان وبقي الشيوخ تحت الرايات فلمّا كانت [ وقت ] (2) الغنيمة جاءت الشبّان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ لا تستأثروا علينا فانّا كنّا ردءا لكم فنزلت الآية فقسّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بينهم بالسويّة وقال عبادة بن الصامت اختلفنا في النفل وساءت فيه اختلافنا فنزعه اللّه من أيدينا فجعله إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقسّمه بيننا على السواء.
4 - فايدة الجمع بين اللّه و [ بين ] رسوله في الآية كفائدته في قوله تعالى ( فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) (3) أي ملكه لله ورسوله وتخصيصها علم بفعل الرسول صلى اللّه عليه وآله فإنّ فعله حجّة كقوله وقال الزمخشريّ إنّ حكمها يختصّ بهما : اللّه حاكم والرسول منفذ.
5 - « فَاتَّقُوا اللّهَ » أي في المنازعة في الأنفال « وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ » أي الحال الّتي بينكم من المنازعة وقال الزجّاج « ذاتَ بَيْنِكُمْ » أي حقيقة وصلكم ومنه ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) (4) أي وصلكم واجتماعكم على أوامر اللّه « وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ » إن كنتم كاملين في الإيمان أو أنّ طاعة اللّه ورسوله من لوازم الايمان فالتزموا باللّازم إن كنتم صادقين في الملزوم.
الرابعة (5) ( وَما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ
ص: 255
وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ) (1).
أي والّذي أفاءه اللّه أي ردّه إليه من أموال اليهود فذلك لم توجفوا أي لم تسيروا إليه بخيل - والإيجاف من الوجيف وهو سرعة السير - ولكن بقدرة اللّه تعالى وتسليطه لرسوله عليهم.
ثمّ قال ( ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) (2) بيان للأولى ولذلك لم يعطفه عليه « فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ » قيل كان قسمة الفي ء في مبدء الإسلام هكذا مسدّسة ثمّ نسخ ذلك بالآية المتقدّمة. ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ) (3) وقيل بل ذلك إشارة إلى قسمة غنيمة بدر الّتي كانت تختصّ بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وفيه نظر لأنّ هذه على تقدير كونها بيانا للأولى تكون في أحكام بني النضير والأولى واللّه أعلم أن لا تكون بيانا بل تكون إشارة إلى قسمة الخمس ستّة أقسام ويكون المذكورون مع الرسول هنا هم مستحقّي الخمس وقد تقدّم بيانهم وهذا أجود الوجوه ويكون قوله تعالى ( كَيْ لا يَكُونَ ) أي الّذي أفاءه اللّه على رسوله « دُولَةً » أي متداولا « بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ » فيمنعونه مستحقّه.
واعلم أنّ لمباحث الخمس تفصيلا وشروطا علمت من بيانه صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة [ المعصومين ] عليهم السلام مذكورة في كتب الفقه (4).
ص: 256
وهو لغة القصد المتكرّر وشرعا قيل هو القصد إلى بيت اللّه لأداء مناسك مخصوصة عنده وفيه نظر لاستلزامه خروج عرفة ومناسك منى من البين بل خروج سائر المناسك لانطباقه على من يقصد البيت لأداء المناسك ولم يؤدّها وقيل هو اسم لمجموع المناسك المؤدّاة في المشاعر المخصوصة وفيه أيضا نظر لأنّ من أخلّ ببعضها سهوا ممّا ليس بمبطل للحجّ يصحّ حجّه ويسمّى حاجّا مع أنّه ما أتى بمجموع المناسك ولأنّه إن أراد المناسك الصحيحة لم يحتج إلى قوله المؤدّاة في المشاعر المخصوصة لأنّ الصحيح لا يكون إلّا كذلك وإن أراد الأعمّ دخل الفاسد هذا مع انطباقه على كلّ عبادة مقيّدة بمكان.
والأولى أن يقال إنّه القصد إلى بيت اللّه بمكّة مع أداء مناسك مخصوصة في مشاعر مخصوصة هناك.
واعلم أنّ التعريف الثاني فيه استعمال النقل والأوّل والثالث فيهما التخصيص وهو خير من النقل.
والحجّ من أعظم أركان الإسلام وأفضلها لأنّه تكليف شاقّ جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرّد عن الشهوات والإقبال على اللّه وهو من المعلوم وجوبه ومشروعيّته من دين الإسلام ضرورة والبحث [ فيه ] هنا أنواع :
ص: 257
وفيه آيتان :
الاولى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (1).
اللّام في « لَلَّذِي » لام تأكيد وقع في خبر إنّ و « مُبارَكاً » منصوب على الحال قيل والعامل فيه وضع وقيل العامل متعلّق الجارّ والمجرور يعني « بِبَكَّةَ » أي استقرّ ببكّة مباركا فعلى الأوّل يجوز أن يكون قد وضع قبله بيت وعلى الثاني لا يجوز. وبكّة ومكّة لغتان (2) وقيل مكّة البلد كلّه وبكّة موضع المسجد وقيل هو مشتقّ من بكّة إذا زحمه سمّيت بذلك لازدحام الناس بها وقيل لأنّها تبك أعناق الجبابرة أي تدقّها إذا قصدوها بالأذى وهنا بحثان :
ص: 258
قوله « وُضِعَ لِلنّاسِ » أي لعبادتهم سئل النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن أوّل مسجد وضع فقال المسجد الحرام ثمّ بيت المقدس وسئل عليّ عليه السلام أهو أوّل بيت قال لا قد كان قبله بيوت لكنّه أوّل بيت وضع للناس وأوّل من بناه إبراهيم عليه السلام ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم ثمّ هدم فبنته العمالقة ثمّ هدم فبناه قريش وعن ابن عباس هو أوّل بيت حجّ بعد الطوفان وقيل أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماوات
ص: 259
والأرض خلقه اللّه قبل أن خلق الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء ثمّ دحيت الأرض من تحته وهذا القول محمول على مكان البيت نفسه وقيل أوّل بيت بناه آدم عليه السلام في الأرض وقيل [ إنّه ] لمّا اهبط آدم عليه السلام قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به الملائكة وقيل إنّه أوّل بيت بالشرف لا بالزمان (1)
وعن أبي خديجة « عن الصادق عليه السلام أنّ اللّه أنزله من الجنّة وكان درّة بيضاء فرفعه اللّه إلى السماء وبقي أساسه وبني بحيال هذا البيت يدخله كلّ يوم سبعون
ص: 260
ألف ملك ثمّ لا يرجعون إليه أبدا فأمر اللّه إبراهيم وإسماعيل ببنيان البيت على القواعد » (1).
« مُبارَكاً » كثير الخير والبركة لما يحصل لمن حجّه وعكف عنده من مضاعفة الثواب وتكفير الذنوب ولما يحصل لمن قصده من نفي الفقر وكثرة الرزق « وَهُدىً لِلْعالَمِينَ » لأنّه متعبّدهم « فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ » أي دلالات واضحات كإهلاك أصحاب الفيل وغيرهم واجتماع الظبي مع الكلب في حرمة فلا ينفر عنه مع نفرته في غيره وأنّ الطير لا تعلوه.
قوله تعالى « مَقامُ إِبْراهِيمَ » قيل هو عطف بيان لآيات ولذلك قرأ ابن عباس آية بيّنة والمشهور الجمع وعليه التواتر فعلى هذا كيف يصحّ بيان الجمع بالواحد أجيب إمّا بأن يكون بمنزلة الجمع نحو قوله ( إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ) (2) وفيه نظر لأنّه مجاز أو بأنّ المقام يشتمل على آيات كأثر رجليه في الحجر وغوصهما فيه إلى الكعبين ولأنه بعض الصخرة دون بعض وحفظه من المشركين مع كثرة أعدائه وإبقائه [ إلى ] مدّة من السّنين فساغ البيان به وفيه أيضا نظر لأنّ المقام نفسه ليس بآية بل فيه الآيات فلا يجوز جعل ما فيه الآيات عطف بيان لنفس الآيات لوجوب توارد البيان والمبيّن على ذات واحدة ، أو يكون « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » آية ثانية ويكون الآيتان جمعا أو الآيات الباقية مطويّة كقول جرير :
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم
من العبيد وثلث من مواليها(3)
ومنه قوله صلى اللّه عليه وآله « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرّة عيني في الصلاة » (4) وفيه أيضا نظر لأنّ الطيّ إنّما يكون إذا وجدت دلالة على المطويّ
ص: 261
كقول جرير فإنّه يعلم أنّ الثلث الباقي من الأوساط ليسوا من العبيد ولا الموالي ولا نسلّم أنّ قوله صلى اللّه عليه وآله من الطيّ.
والّذي يقوى في الظنّ أنّ « مَقامُ إِبْراهِيمَ » عطف بيان لخبر إنّ وهو « لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً » فانّ الحرم كلّه مقام إبراهيم فضلا عن البيت وحده كما يقال مكّة مقام فلان فإنّه لا يشترط مساواته للمقيم كما يقال فلان في السوق وفي المسجد ولذلك قيل إنّ سبب نزول الآية الردّ على اليهود في تفضيلهم بيت المقدس على المسجد الحرام والكعبة فعبّر سبحانه عن ذلك بمقام إبراهيم (1) وعلى هذا يكون الآيات مطويّة غير مذكورة وقد ذكرنا طرفا منها.
قوله « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » ليس معطوفا على « مقام » ليكونا عطف بيان لما عرفت من ضعفه بل هو عطف على ما سبق من كونه هدى وفيه آيات بيّنات وشرف آخر له وهو كونه أمنا لمن دخله وحينئذ يحتمل أن يكون خبرا عن إجابة دعاء إبراهيم في قوله تعالى ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (2) فانّ اللّه تعالى ألان قلوب العرب لحصول هذا الغرض حتّى أنّ الرجل منهم لو جنى أيّ جناية [ في غير الحرم ] ثمّ التجأ إلى الحرم لم يطلب.
ويحتمل أن يكون أمرا أي من دخله فليكن آمنا وذلك أيضا لا يخرجه عن الشرف لأنّ هذا الأمر معلّل بشرف ذلك المكان ولذلك حكم أصحابنا بأنّ من وجب عليه حدّ أو تعزير أو قتل ثمّ التجأ إلى الحرم لم يتعرّض بل يضيّق عليه
ص: 262
مطعما ومشربا حتّى يخرج وبه قال أبو حنيفة خلافا للشافعيّ وعن الباقر عليه السلام « من دخله عارفا بجميع ما أوجبه اللّه عليه كان آمنا في الآخرة من العذاب الدائم » (1).
قوله « ولله » أي هو حقّ له على المستطيع منهم. قوله « فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ » لمّا ذكر أنّه حقّ له أوهم أنّ ذلك للحاجة إليه فأزال ذلك الوهم بذكر الاستغناء وهذا البحث بطوله وإن لم يكن من الفقه لكنّه نافع فيه.
قوله « وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ » هنا مسائل :
1 - « عَلَى النّاسِ » عامّ أبدل منه « مَنِ اسْتَطاعَ » بدل البعض من الكلّ وهو عامّ للذكور والإناث والخناثى ، خصّ بمنفصل إمّا عقلا وهو اشتراط الفهم للخطاب لاستحالة تكليف غير الفاهم أو نقلا وهو قوله صلى اللّه عليه وآله « رفع القلم عن ثلاثة عن الصبيّ حتّى يبلغ والمجنون حتّى يفيق والنائم حتّى ينتبه » (2) فخرج حينئذ الصبيّ والمجنون عن الوجوب ولمّا كان العبد محجورا عليه لا قدرة له على التصرّف في نفسه لم يكن مستطيعا فخرج أيضا من العموم.
2 - لم نسمع خلافا في أنّ تخلية السرب واتّساع الزمان والسلامة من المرض المانع من السفر شروط في الاستطاعة فلا يجب على فاقد واحد منها لعدم استطاعته.
3 - ورد في الحديث عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه فسّر الاستطاعة بالزاد والراحلة
ص: 263
ولذلك قال الشافعيّ أنّها بالمال فأوجب الاستنابة على الزمن المقعد إذا وجد اجرة من ينوبه وقال مالك إنّها بالبدن فيجب عنده على من قدر على المشي والتكسّب في الطريق وقال أبو حنيفة إنّها بمجموع الأمرين فلم يوجب إلّا على من قدر على الزاد والراحلة ونفقة الذهاب والإياب فاضلا عن حوائجه الأصليّة ونفقة عياله إلى حين عوده وبذلك قال أصحابنا الإماميّة غير أنّ بعضهم يشترط مع ذلك الرجوع إلى كفاية من مال أو صناعة أو حرفة ويحتجّ على ذلك بما رواه أبو الربيع الشاميّ (1) « عن الصادق عليه السلام أنّه سئل ما الاستطاعة؟ فقال ما يقول هؤلاء؟ فقيل يقولون الزاد والراحلة فقال عليه السلام قد قيل ذلك لأبي جعفر عليه السلام فقال هلك الناس إذن إذا كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما ممّا يمون به عياله ويستغني عن الناس يجب عليه الحجّ ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفّه فقد هلك إذن ، فقيل له ما السبيل عندك يا ابن رسول اللّه فقال : السعة في المال وهو أن يكون له ما يحجّ ببعضه ويبقى بعضه يمون به عياله ثمّ قال أليس قد فرض اللّه الزكاة فلم يجعل إلّا على من ملك مائتي درهم ».
ص: 264
والجواب بالمنع من صحّة السند (1) وبتقدير صحّته نحملها على أن يبقى له ما يمون به عياله لذهابه وإيابه والأقوى الأوّل لظاهر الآية ولروايات كثيرة عن الباقر والصادق عليهما السلام ولمراعاة جانب الاحتياط.
فائدة : لا يشترط عندنا ملك الزاد والراحلة بل التمكّن من الانتفاع بهما فلو بذل له باذل وجب عليه لصدق الاستطاعة (2) في حقّه وقال أبو حنيفة وأحمد و
ص: 265
مالك لا يجب وللشافعيّ قولان.
4 - أنّ الوجوب المذكور على الفور تضيّقا لا يجوز معه التأخير وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعيّ إنّه واجب موسّع محتجّا بأنّ آية الحجّ نزلت ولم يحجّ عليه السلام إلّا في حجّة الوداع أجيب بأنّه أخّر لعدم الاستطاعة لأنّه كان قد هادن أهل مكّة أن لا يأتي إليهم فلمّا نزلت آية الحجّ سار إلى أن وصل الحديبية فصدّوه فحلق وأحلّ (1).
ثمّ الّذي يدلّ على أنّها على الفور عموم قوله تعالى ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) أي ما هو سبب المغفرة والحجّ كذلك ولقوله صلى اللّه عليه وآله « من وجب عليه الحجّ فلم يحجّ فليمت يهوديّا أو نصرانيّا » (3) أتى بفاء التعقيب ورتّب الوعيد وهو صريح في الفوريّة.
5 - أنّه يجب في العمر مرّة واحدة لأنّ اللّفظ المطلق يحمل على أقلّ مراتبه لأصالة البراءة من الزائد ولأنّ الأمر لا يقتضي التكرار ولما رواه ابن عباس « قال لمّا خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالحجّ قام إليه الأقرع بن حابس فقال أفي كلّ عام فقال عليه السلام لا ولو قلت نعم لوجب ولو وجب عليكم لم تعملوا بها ، الحجّ في العمر مرّة [ واحدة ] فمن زاد فتطوّع فنزلت ( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ) (4) الآية.
ص: 266
6 - أنّه تعالى ذكر في الآية [ أمورا ] من التوكيد لأمر الحجّ ما لم يذكره في غيرها من وجوه الأوّل إيراده بصيغة الخبر الثاني إيراده في صورة الاسميّة الثالث إيراده على وجه يفيد أنّه حقّ لله في رقاب الناس الرابع تعميم الحكم أوّلا ثمّ تخصيصه وهو كايضاح بعد إبهام وتثنية وتكرار للمراد فهو أبلغ من ذكره مرّة واحدة الخامس تسمية ترك الحجّ كفرا من حيث إنّه فعل الكفرة وأنّ تركه من أعظم الكبائر ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « فليمت » الخبر ، السادس ذكر الاستغناء فإنّه في هذا الموضع يدلّ على شدّة المقت والخذلان وعظم السخط السابع قوله « عَنِ الْعالَمِينَ » ولم يقل عنه لما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنّه إذا استغنى عن العالمين فقد استغنى عنه لا محالة ولأنّه يدلّ على الاستغناء الكامل فكان أدلّ على السخط.
7 - روى محمّد بن الفضيل « عن الكاظم عليه السلام في قوله ( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) (1) أنّهم الّذين يتمادون بحجّ الإسلام ويسوّفونه (2) وروى معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ) المراد من تحتّم عليه الحجّ ولم يحجّ [ أعمى أي ] أعمى عن طريق الخير » (3) وقيل في قوله تعالى ( فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ ) (4) أنّه أمر بالحجّ أي حجّوا إلى بيت اللّه وفيه دليل على أنّ الحجّ كفّارة للذنوب أي ففرّوا إلى اللّه من ذنوبكم.
ص: 267
الثانية ( وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (1).
قيل الخطاب لإبراهيم عليه السلام قال ابن عبّاس قام في المقام - وعنه أنّه قام على جبل أبي قبيس - ووضع إصبعيه في اذنيه وقال يا أيّها الناس أجيبوا ربّكم فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء وقال الحسن والجبائيّ الخطاب لرسول اللّه (2) وكذلك روي عن الصادق عليه السلام : « أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مناديه أن يؤذّن في الناس بالحجّ فاجتمع بالمدينة خلق كثير من الأعراب وغيرهم وأكثر أهل الأموال (3) من أهل المدينة وخرج لأربع بقين من ذي القعدة فلمّا انتهى إلى مسجد الشجرة وكان وقت الزوال اغتسل ونوى حجّ القرآن بعد أن صلّى الظهرين » (4) وسيأتي تمام الحديث. ثمّ هنا أحكام :
1 - « يَأْتُوكَ رِجالاً » مجزوم على جواب الأمرورجال جمع راجل كقيام جمع قائم أي يأتوك مشاة « وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ » أي كلّ جمل أو ناقة ضامر أي من شأنه أن يهزل من طول السّري (5) أي ركبانا على كلّ ضامر فهو حال معطوف على حال « ويأتين » صفة « لضامر » وقرئ شاذّا يأتون صفة لرجال وركبان.
ص: 268
والفجّ الطريق والعميق البعيد الأطراف أي من المفازات ومنه بئر عميق أي بعيد القعر وفيها دلالة على راجحيّة المشي في الحجّ من حيث ابتدء بذكره وهو يدلّ على الاهتمام به وأيضا أتى بلفظ يدلّ عليه صريحا ولكونه أشقّ فيكون أفضل ومنهم من فضّل الركوب لاشتماله على استخدام المال والبدن والحقّ أنّ المشي إذا لم يضعّف عن العبادة فهو أفضل لما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « للحاجّ الراكب بكلّ خطوة يخطوها راحلته سبعون حسنة وللحاجّ الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل وما حسنات الحرم قال الحسنة بمائة ألف » (1) وكان الحسن بن عليّ عليه السلام يمشي في الحجّ والبدن تساق بين يديه (2).
2 - « لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ » قيل هي التجارات وهي ترغيب فيها لكون مكّة واديا غير ذي زرع ولولا الترغيب لتضرّر سكّانها ولذلك قال إبراهيم عليه السلام ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (3) وقيل منافع الآخرة وهي الأجر والعفو والمغفرة وهو مرويّ عن [ الصادق و ] الباقر عليه السلام (4) ولو حمل على منفعتي الدنيا والآخرة لما كان بعيدا من الصواب ولذلك نكّر المنافع الدالّ ذلك على تكثيرها.
ص: 269
3 - « وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ » قال الحسن هي عشر ذي الحجّة وسمّيت معلومات للحرص على علمها من أجل وقت الحجّ وبه قال أبو حنيفة وقيل هي أيّام التشريق يوم النحر وثلاثة بعده وكذا الخلاف في المعدودات قيل هي العشرة وقيل هي الثلاثة وهو أقوى لقوله ( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (1) والتعجيل لا يتصوّر في العشرة ويؤيّد القول الثاني في المعلومات أنّ الذكر على البهيمة هو التسمية على ما يذبح أو ينحر وذلك يقع فيها وعن الصادق عليه السلام أنّ الذكر هنا هو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة أوّلها ظهر العيد (2) وهو أيضا مؤيّد للقول الثاني وهو المرويّ عن الباقر عليه السلام (3) هذا ويجب على الفقيه معرفة هذه من هذه ليفتي بها لو نذر شخص الصدقة أو الصلاة أو غيرهما في أحد الأيّامين.
4 - « بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ » هي الإبل والبقر والغنم من باب إضافة العامّ إلى الخاصّ كحركة نقلة وأصل البهيمة من الإبهام وهو عدم الإيضاح والذكر عليها هو التسمية والنيّة للتضحية والأمر بالأكل هنا للإباحة أو الندب والأمر في الإطعام للندب لا للوجوب هذا إن كان الذّبح لغير الهدي والتضحية وإلّا فالأمران في الهدي للوجوب وفي الأضحيّة للندب والبائس ذو ضرر من الفقر.
« ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ » عن ابن عباس ليقضوا مناسك الحجّ كلّها وعن الحسن ليزيلوا قشف الإحرام من تقليم ظفر وأخذ شعر وغسل رأس واستعمال طيب وفي الأوّل نظر لأنّه ذكره بعد الذّبح بكلمة « ثمّ » الدالّة على الترتيب والتراخي ولم يقع جميع المناسك [ للطواف ] بعد الذبح بالإجماع فيحمل على ما يفعل بعد الذبح من الحلق والرمي وغيرهما من المناسك ويكون عطف الطواف من باب « [ مَلائِكَتِهِ ] وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ » (4). و ( فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ ) (5).
ص: 270
6 - « وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ » أي ما نذروه من الحجّ أو غيره من الطاعات في تلك الأيّام فيضاعف لهم الثواب ، وفيه دلالة على وجوب إيفاء النذر مطلقا مع حصول شرائطه.
7 - « وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ » صريح في الأمر بالطواف بالبيت الدالّ على الوجوب اتّفاقا لكنّه مجمل علم بيانه من الرسول صلى اللّه عليه وآله لقوله صلى اللّه عليه وآله « خذوا عنّي مناسككم » (1) فيكون شاملا لطواف الزيارة والنساء وغيرهما من طواف العمرة فلا وجه [ حينئذ ] لحمله على طواف الزيارة لا غير أو النساء لا غير.
وسمّي البيت عتيقا لأنّ اللّه أعتقه من الغرق في الطوفان أو أعتقه من أيدي الجبابرة وحفظه منهم كما فعل بأبرهة لمّا قصده بالسوء فأهلكه ولا ينتقض بالحجّاج لعنه اللّه قيل لأنّه لم يقصد البيت وإنّما قصد أخذ ابن الزبير ولهذا لمّا قبضه بناه وليس بشي ء لأنّ إقدامه على تلك الفعلة قبيح ومخالف لقوله تعالى ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (2) بل الأولى في الجواب أنّه إنّما لم يهلكه لبركة سيّدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فانّ هذه الأمّة معصومة من عذاب الاستيصال في الدنيا وقيل سمّي عتيقا لقدم عهده فإنّه بناه آدم عليه السلام ثمّ إبراهيم عليه السلام وقيل لأنّه بيت كريم [ بناه كريم ] كما يقال عتاق الخيل [ والطير ] للكريم منهما.
ص: 271
وفيه آيات :
الاولى ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) (1).
في الآية أبحاث
تمام الحجّ والعمرة قيل هو أن يحرم بهما من دويرة أهله وقيل أن يفرد لكلّ واحد منهما سفرا وقيل أن يكون النفقة حلالا وقيل إخلاصهما للعبادة لا للمعاش والحقّ أنّ المراد أن يؤتى بجميع أجزائهما وكيفيّات تلك الأجزاء لكن [ ل ] كون كلّ واحد منهما مركّبا من أجزاء مختلفة ربّما يوهم أنّ من أتى ببعض تلك الأجزاء وأخلّ بالباقي عمدا يصحّ منه ذلك المأتيّ به ويجب عليه قضاء الباقي كمن صام بعض رمضان وترك الباقي وذلك وهم باطل فانّ كلّ واحد من تلك الأجزاء
ص: 272
شرط في صحّة الباقي كأجزاء الصلاة فإذا لم يأت الحاجّ أو المصلّي بكلّ الأجزاء بطل حجّه وصلوته بخلاف الصوم فانّ كلّ يوم من [ أيّام ] رمضان عبادة مستقلّة لا ارتباط لها بيوم آخر ولا شرطيّة لأحدهما بالآخر ولذلك قال المحقّقون من أصحابنا : إنّ كلّ يوم من أيّام رمضان يفتقر إلى نيّة مستقلّة.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه يلزم من ذلك أحكام :
1 - ما قاله أصحابنا أنّ من أفسد حجّه وجب عليه إتمامه والحجّ من قابل لوجوب إتمام الحجّ والإفساد غير مانع منه. ثمّ إنّ الإفساد عندنا سبب مستقلّ لوجوب الحجّ كغيره من الأسباب كالنذر والاستيجار فيجب حجّ آخر غير الأوّل ولو كان مندوبا وكذا نقول فيمن أفسد صومه الواجب المعين أنّه يجب إتمامه وقضاؤه.
2 - استدلّ أصحابنا بالآية أيضا على وجوب إتمام الحجّ والعمرة المندوبين وتقريره يعلم ممّا تقدّم
3 - أنّ الأمر باتمامهما قد يستدلّ به (1) على وجوب كلّ واحد منهما لأنّ
ص: 273
الأمر للوجوب ووجوب كلّ واحد من الأجزاء يستلزم وجوب الماهيّة المركّبة من
ص: 274
تلك الأجزاء ضرورة فتكون العمرة واجبة خلافا لأبي حنيفة فإنّه جعلها سنّة وكذا قال مالك وأوّلا الآية بأنّ المراد إذا شرعتم فيهما ، فانّ الشروع في الندب يوجب إتمامه عندهم أيضا.
4 - قوله تعالى « لِلّهِ » يدلّ صريحا على وجوب إيقاعهما خالصين لله تعالى لا للرّياء والسمعة ولا لقصد المعاش خاصّة وعلى وجوب النيّة في كلّ فعل من الأفعال وعلى عدم صحّة وقوعهما من الكافر لعدم الإخلاص منه وإن كانا واجبين عليه خلافا للشافعيّ فإنّه جعل الإسلام شرطا في وجوب الحجّ مع قوله إنّ الكافر مكلّف بالفروع.
5 - الحجّ والعمرة من المجملات المفتقرة إلى بيان الرسول صلى اللّه عليه وآله فلنذكر بيانهما على مذهب أصحابنا الناقلين ذلك عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام فنقول :
أفعال الحجّ الواجبة على سبيل الإجمال : الإحرام ، ووقوف عرفة ، ووقوف المشعر ، ثمّ مناسك منى الّتي هي الرمي ، والذّبح ، والحلق أو التقصير ، وطواف البيت ، وركعتاه والسعي بين الصفا والمروة ، وطواف النساء ، وركعتاه ، ثمّ المبيت بمنى ليالي التشريق الثلاث ، ورمي الجمار الثلاث في كلّ يوم.
وأفعال العمرة الواجبة : الإحرام ، والطواف ، [ وركعتاه ] والسعي ، والتقصير ويزيد في المفردة طواف النساء ، وركعتاه.
ثمّ إنّ الحجّ ينقسم ثلاثة أقسام (1) تمتّع وقران وإفراد فالتمتّع هو الّذي
ص: 275
تكون العمرة فيه مقدّمة على الحجّ بخلاف أخويه والقران هو أن يقرن بإحرامه سياق هدي (1) يعقد إحرامه بإشعاره أو تقليده وإن شاء بالتلبية والمفرد يقتصر على عقد إحرامه بالتلبية لا غير ثمّ يقع الفرق بين التمتّع وأخويه تفصيلا بوجوه :
الأوّل أنّ وجوب الهدي يختصّ بالمتمتّع بخلافهما الثاني أنّه لا يجب في عمرة التمتّع طواف النساء. الثالث أنّ ميقات (2) عمرة التمتّع.
ص: 276
لأهل العراق (1).
ص: 277
ص: 278
ص: 279
ص: 280
العقيق (1) ....
ص: 281
الجحفة (1) وهي ....
ص: 285
ميقات أهل الشام (1) اختيارا. وميقات حجّه مكّة وميقات حجّهما المواقيت المذكورة ومن كان منزله أقرب إلى عرفات فمنزله [ ميقاته ] وميقات عمرتهما الجعرانة (2) أو التنعيم (3) ....
ص: 286
أو الحديبية (1) الرابع أنّ المتمتّع يجب اتّحاد السنة لعمرته وحجّه بخلافهما الخامس أنّ المتمتّع لا يحلّ من عمرته إلّا بالتقصير والمفرد يتخيّر بينه وبين الحلق السادس أنّ عمرة المتمتّع في أشهر الحجّ بخلاف عمرتهما السابع أنّ المتمتّع لا يصحّ منه تقديم طواف حجّه على الموقفين اختيارا بخلافهما الثامن أنّ المتمتع يجب عليه طواف الحجّ وسعيه وطواف النساء في العاشر أو الحادي عشر فلو أخّر أثم وأجزأه وأمّا هما فيجوز لهما التأخير طول ذي الحجّة ولا إثم.
« فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ » فيه مسائل :
1 - يقال : أحصر الرّجل إذا منع من مراده بمرض أو عدوّ أو غيرهما قال اللّه تعالى ( الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (2) وحصر إذا حبسه عدوّ عن المضيّ أو سجن ومنه قيل للحبس الحصر وهما بمعنى المنع من كلّ شي ء مثل صدّه وأصدّه فعند أبي حنيفة كلّ منع بعدوّ أو مرض أو غيرهما يثبت له حكم الإحصار وعند مالك والشافعيّ وأحمد يختصّ [ الحصر ] بمنع العدوّ وحده وأمّا المنع بالمرض فقالوا يبقى على إحرامه ولا يتحلّل حتّى يصل إلى البيت فان فاته الحجّ فعل ما يفعله المفوّت من عمل العمرة والهدي والقضاء هذا إذا لم يشترط عندهم أمّا مع الشرط فالصدّ والحصر سواء.
وعند أصحابنا الإماميّة أنّ الإحصار يختصّ بالمرض والصدّ بالعدوّ وما ماثله لاشتراك الجميع في المنع من بلوغ المراد ولمّا كان لكلّ منهما حكم ليس للآخر اختصّ باسم فإنّ حكم الممنوع بالمرض أن يبعث هديه مع أصحابه ويواعدهم يوما
ص: 287
لذبحه فيتحلّل في ذلك اليوم من كلّ شي ء إلّا من النساء حتّى يحجّ في القابل إن كان حجّه واجبا أو يطاف عنه للنّساء إن كان حجّه ندبا والممنوع بالعدوّ يذبح هديه حينئذ ويحلّ له كلّ شي ء حتّى النساء.
ألف - يتحقّق الصدّ عندنا بالمنع عن الموقفين معا لا عن أحدهما مع حصول الآخر أمّا الصدّ عن مكّة مع حصول الموقفين خاصّة فإشكال أقربه عدم تحقّقه إن كان قد تحلّل فيبقى على إحرامه بالنسبة إلى الطيب والنساء والصيد لا غير حتّى يأتي بباقي المناسك وإن لم يتحلّل يتحقّق فيتحلّل ويعيد الحجّ من قابل وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعيّ في القديم وقال في الجديد وأحمد الإحصار في الكلّ متحقّق.
ب - هل الاشتراط يسقط الدّم ويفيد التحلّل عند حصول الشرط أم لا؟ قال الشافعيّ وأحمد نعم وقال مالك وجوده كعدمه لا يفيد شيئا وقال أبو حنيفة الشرط يفيد سقوط الدّم لا التحلّل لأنّ التحلّل يستفاد من الإطلاق [ في الآية ] عنده ولأصحابنا قولان : الأقوى بقاء الدم على حاله والتحلّل مع الشرط عزيمة ومع عدمه رخصة.
ج - هل لهدي التحلّل بدل أم لا؟ الأقوى عندنا أنّه لا بدل له مطلقا وبه قال أبو حنيفة والشافعيّ في أحد قوليه وقال في الآخر وأحمد بدله صوم عشرة أيّام ولا يتحلّل عندهما إلّا مع البدل.
2 - « فَمَا اسْتَيْسَرَ » بمعنى يسر وتيسّرمثل استصعب بمعنى صعب وتصعّب إمّا بدنة أو بقرة أو شاة والهدي جمع هدية كجدي جمع جدية السرج وهي ما يحشى تحت ظلفة الرّحل وقيل هو مفرد مؤنّثة هدية وجمعه هديّ بتشديد الياء واشتقاقه قيل من الهديّة وقيل من هداه إذا ساقه إلى الرشاد ، لأنّه يساق إلى الحرم وموضع « ما استيسر » رفع أي فعليكم أو نصب أي فاهدوا أو فاذبحوا.
3 - « وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ » أي لا تحلّوا ، كنى بالحلق عنه لكونه من لوازمه
ص: 288
« حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ » عند الشافعيّ حيث صدّ وأحصر لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله ذبح هديه في الحديبية وهي من الحلّ وعند أبي حنيفة محلّه الحرم مطلقا لصدّ وحصر وعند أصحابنا لا يراعى للصدّ زمان ولا مكان وأمّا الحصر فمكّة إن كان في عمرة ومنى إن كان في حجّ ولا خلاف [ في ] أنّه يجب القضاء في حجّ الفرض إلّا في رواية عن مالك وأمّا حجّ الندب فعندنا لا يجب وبه قال مالك والشافعيّ وقال أبو حنيفة يجب ولأحمد قولان والمحلّ بالكسر من الحلّ أي لا تحلقوا حتّى يذبح حيث يحلّ ذبحه فيه ولو كان من الحلول لقال محلّه بفتح الحاء.
4 - « فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً » يحتاج إلى حلق الشعر أو به أذى في رأسه وهو القمل فعليه فدية إذا حلق رأسه والفدية إمّا صيام ثلاثة أيّام أو إطعام ستّة مساكين لكلّ مسكين مدّان أو عشرة لكلّ مسكين مدّ أو شاة يذبحها ويعطيها الفقراء والنسك مصدر وقيل جمع نسيكة « روي أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال لكعب بن عجرة وقد كان قمل رأسه لعلّك أذاك هو أمّك قال نعم يا رسول اللّه قال له احلق رأسك وصم ثلاثة أيّام أو أطعم ستّة مساكين أو أنسك شاة ، فكان كعب يقول في نزلت هذه الآية وروي أنّه مرّ به النبيّ وقد قرح رأسه فقال صلى اللّه عليه وآله كفى بهذا أذى (1).
( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ) الآية. هنا فوائد :
الأولى : لمّا ذكر حكم المحصر ومن به أذى أو مرض قال « فَإِذا أَمِنْتُمْ » أي من المرض والعدوّ أو فإذا كنتم في حال أمن « فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ » أي انتفع بسببها قاصدا إلى الحج فعليه ما تهيّأ له من الهدي بدنة أو بقرة أو شاة والفاء في « فمن » جواب إذا وفي « فما » جواب من و « ما » موصولة وقد تقدّم وصف حجّ التمتّع والفرق بينه وبين أخويه.
ص: 289
ثمّ إنّ حجّ التمتّع قد يكون ابتداء كمن يحرم أوّلا بالعمرة ثمّ بعد قضاء مناسكها يحرم بالحجّ وذلك ممّا لا نزاع في مشروعيّته وقد يكون بالعدول عن حجّ الافراد (1) فإنّ من دخل مكّة محرما بحجّ الإفراد فالأفضل له أن يعدل بإحرامه
ص: 290
إلى عمرة التمتّع ويتمّ حجّ التمتّع وهذا منعه جميع فقهاء العامّة (1).
ثمّ إنّ جماعة من أصحابنا جوّزوا هذا العدول حتّى في فرض العين ومنهم
ص: 291
من منعه في فرض العين وجوّزه في الندب والفرض غير المتعين وحمل النصّ الوارد (1) على ذلك جمعا بين الدليلين وهو أولى.
فائدة : هذه هي الّتي منعها عمر (2) فقال : « متعتان كانتا على عهد رسول اللّه
ص: 292
صلى اللّه عليه وآله أنا احرّمهما وأعاقب عليهما » (1).
وأمّا من دخل قارنا فلا يجوز له العدول :
روى معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام وقد تقدّم صدر الرواية ثمّ ساق الحديث
====
(1)
ص: 293
إلى أن قال : « فلمّا وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالمروة بعد فراغه من السعي أقبل على الناس بوجهه فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال هذا جبرئيل - وأومى بيده إلى خلفه - يأمرني أن
ص: 294
آمر من لم يسق هديا أن يحلّ فلو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم ولكنّي سقت الهدى ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحلّ حتّى يبلغ الهدي محلّه فقال رجل من القوم - يعني عمر بن الخطّاب - (1) أنخرج حجّاجا ورؤسنا تقطر؟فقال : إنّك لن تؤمن بها أبدا ».
وفي رواية أخرى : أنحلّ ونواقع النساء وأنت أشعث أغبر.
« قال : فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم الكنانيّ (2) فقال يا رسول اللّه
ص: 295
علّمتنا ديننا فكأنّما خلقنا اليوم فهل الّذي أمرتنا به لعامنا هذا أو لما يستقبل؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : بل هو للأبد إلى يوم القيامة ثمّ شبّك بين أصابعه بعضها في بعض وقال : [ ا ] دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة هكذا » (1).
وكان ذلك في حجّة الوداع ومات صلى اللّه عليه وآله على ذلك وليس لأحد أن ينسخ حكما ثبت في زمانه فدعوى النسخ باطلة.
« وقدم عليّ عليه السلام من اليمن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو بمكّة فدخل على فاطمة عليها السلام وهي قد أحلّت فوجد ريحا طيّبة ووجد عليها ثيابا مصبوغة فقال لها : ما هذا يا فاطمة؟ قالت أمرني بهذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فخرج عليّ عليه السلام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مستفتيا محرّشا على فاطمة فقال : يا رسول اللّه إنّي رأيت فاطمة قد أحلّت وعليها ثياب مصبوغة؟ فقال أنا أمرت الناس بذلك وأنت يا عليّ بما أهللت؟ فقال : قلت يا رسول اللّه إهلالا كإهلال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كن على إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي » (2).
1 - لا خلاف في وجوب الهدي على المتمتّع ولكن هل هو نسك في نفسه أو جبران قال أصحابنا بالأوّل لظاهر التنزيل وقال الشافعيّ هو جبران لنقص إحرامه لوقوعه في غير المواقيت وليس بشي ء لأنّا نمنع كون ذلك نقصا بل ميقاته مكّة كما أنّ غيره ميقاته خارج عنها ويتفرّع على ذلك أنّ عند الشافعيّ لا يجوز الأكل منه كغيره من الكفّارات وعندنا وعند أبي حنيفة يجوز الأكل منه.
2 - يجب الهدي على المتمتّع بنفس إحرامه ويستقرّ في ذمّته لتعليق وجوبه على المتمتّع لقوله تعالى ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )
ص: 296
وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعيّ لا يجب حتّى يقف بعرفة وقال مالك لا يجب حتّى يرمي جمرة العقبة وكلاهما عدول عن الظاهر.
3 - لا يجوز إخراج الهدي قبل إحلال العمرة إجماعا وكذا بعد إحلالها قبل إحرام الحجّ عندنا وعند أبي حنيفة. وقال الشافعيّ في أحد قوليه يجوز وأمّا بعد إحرام الحجّ فجزء الشافعيّ بجواز إخراجه وقال أصحابنا محلّه يوم النحر وبه قال أبو حنيفة.
الثانية : إذا عدم الهدي ووجد ثمنه خلّفه عند ثقة ليشتريه له ويذبحه طول ذي الحجّة فإن تعذّر تعيّن الهدي في القابل وإذا عدم الثمن أيضا صام وعند بعض أصحابنا ينتقل إلى الصوم بعدم وجدان الهدي وإن وجد الثمن والأوّل أقوى وعليه دلّت الرواية (1) ثمّ الصوم في الحجّ هو أن يصوم يوما قبل التروية ويومها ويوم عرفة متتابعا وروي جوازها في أوّل ذي الحجّة مع تلبّسه بالمتعة وقال أبو حنيفة إذا أهلّ بالعمرة جاز الصوم إلى يوم النحر وقال الشافعيّ لا يجوز قبل إحرام الحجّ وقال الشيخ رحمه اللّه لا خلاف بين الطائفة أنّ الصوم المذكور مع الاختيار وأنّ الإحرام بالحجّ ينبغي أن يكون يوم التروية فخرج من ذلك جواز الصوم قبل الإحرام بالحجّ.
1 - لو وجد الهدي قبل الصوم تعيّن الذّبح ولم يجزئ الصوم وللشافعيّ أقوال منشؤها اعتبار حال الوجوب أو الأداء أو أغلظ الحالين.
2 - لو وجده بعد الشروع في الصوم لم يجب عليه الرجوع إلى الهدي لكنّه أفضل وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة بذلك إن وجده في السبعة وإن كان في الثلاثة أهدى وفيما بينهما إن كان قد أحلّ فالصوم وإلّا فالهدي.
3 - إذا لم يصم السابع والثامن والتاسع بل ابتدأ بالثامن صام الثالث بعد
ص: 297
أيّام التشريق ولا يجوز صومها في أيّام التشريق وبه قال الشافعيّ في الجديد وجوّز صومها في القديم.
4 - إذا لم يصمها في الذي تقدّم صامها بقيّة ذي الحجّة أداء فإذا أهلّ المحرّم ولم يصم تعيّن الهدي وقال أبو حنيفة إذا جاء النحر ولم يصم تعيّن الهدي في ذمّته وقال الشافعيّ في الجديد يصومها بعد أيّام التشريق باقي ذي الحجّة قضاء.
5 - يجب فيها التتابع ولذلك قرئ شاذّا « متتابعات » فلو أفطر لغير عذر في أثنائها استأنف إلّا في كون الثالث العيد ويصحّ صوم هذه ولو صدق عليه اسم السفر.
6 - السبعة يصومها [ إذا فرغ من أفعال الحجّ ] بعد الرجوع إلى أهله ولو أقام بمكّة انتظر قدر وصول صحبه أو مضيّ شهر وقال أبو حنيفة يصومها إذا فرع من أفعال الحجّ وللشافعيّ قولان لنا ظاهر الآية فإنّ الرجوع لا يفهم منه إلّا ذلك.
7 - لا يجب التتابع في السبعة على أصحّ القولين عندنا ويجوز صومها متتابعة للثلاثة إذا اتّفق الشرط.
فائدة : هنا سؤالان الأوّل : لم قال « تِلْكَ عَشَرَةٌ » فإنّ ذلك معلوم من ضمّ أحد العددين إلى الآخر. الثاني : لم قال « كامِلَةٌ » فإنّ صدق العشرة يستلزم كمالها.جواب الأوّل : لمّا كان الواو قد يجي ء بمعنى أو كما في قوله ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) (1) أمكن تصوّرها هنا فأزيل الوهم بذلك وجواب الثاني أنّها كاملة في بدليّة الهدي إجزاء وثوابا.
ص: 298
[ الثالثة ] (1) « ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ » قال الشافعيّ « ذلك » إشارة إلى الهدي أو الصيام والحقّ خلافه بل هو إشارة إلى التمتّع فانّ اللام في « ذلك » للبعيد وذكر التمتّع أبعد من الهدي وأيضا فإنّه أجمع فائدة من قوله.
ثمّ اختلف في « حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » فقال الشافعيّ من كان دون مسافة القصر وقال أبو حنيفة هم أهل الميقات فما دونه ولأصحابنا قولان أحدهما من كان على اثني عشر ميلا فما دون ولم نظفر له بدليل وثانيهما ثمانية وأربعون ميلا وهو الحقّ لما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام « قال قلت له [ ما معنى ] قول اللّه تعالى ( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) قال يعني أهل مكّة ليس عليهم متعة كلّ من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلا ذات عرق وعسفان وكلّما يدور حول مكّة فهو ممّن دخل في هذه الآية وكلّ من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة » (2).
إذا عرفت هذا فعندنا أنّ التمتّع فرض عين لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لا يجوز له الحجّ في فرض الإسلام بغيره اللّهمّ إلّا لضرورة تحوجه إلى العدول كضيق الوقت أو الحيض للمرأة وأمثاله وكذا عندنا أنّ القران والإفراد قرض عين لمن هو حاضر المسجد [ الحرام ] وليس له العدول إلى التمتّع إلّا لضرورة ومع العدول يجب الدّم خلافا للشافعيّ فإنّه لم يوجبه بناء على ما قاله من عود الضمير في ذلك إلى الهدي وقد عرفت ضعفه.
واتّفق الفقهاء الأربعة على أنّه ليس في الثلاثة فرض عين ثمّ اختلفوا في أيّها أفضل فقال مالك وأحمد : التمتّع أفضل وهو أحد قولي الشافعيّ وفي قوله الآخر
ص: 299
الإفراد أفضل ولذلك جعل الهدي جبرا لا نسكا وقال أبو حنيفة القران أفضل والحقّ عندنا أنّ التمتّع أفضل لما ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي » (1) تأسّفا منه صلى اللّه عليه وآله على فوات العمرة المتمتّع بها ولا تأسّف على فوات غير الأفضل ولأنّه مشتمل على نسكين العمرة والحجّ فيكون أفضل من نسك واحد ولما ورد عن الباقر عليه السلام « لو حججت ألفا وألفا لتمتّعت » (2).
الثانية ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ ) (3).
فيه فوائد :
1 - تقدير الآية زمان الحجّ أشهر، كقولهم البرد شهران « معلومات » أي معروفات للناس يريد أنّ زمان الحجّ لم يتغيّر في الشرع وهو ردّ على الجاهليّة في قولهم بالنسي ء كما يجي ء وهي شوّال وذو القعدة وذو الحجّة عند المحقّقين من أصحابنا وبه قال مالك وقيل تسعة من ذي الحجّة وبه قال الشافعيّ وقيل عشرة وبه قال أبو حنيفة والأوّل أصحّ لأنّ الأشهر جمع والجمع لا يصدق على أقلّ من ثلاثة وإطلاق الاسم على الكلّ حقيقة وعلى البعض مجاز والأصل عدمه.
هذا مع أنّ التحقيق هنا أن يقال إن أريد بزمان الحجّ ما يقع فيه أفعاله فهو كمال الشهر لأنّ بعض المناسك يقع فيه كالذّبح والطواف كما تقدّم وإن أريد ما يفوت الحجّ بفواته فهو إمّا التاسع أو العاشر وحينئذ يكون إطلاق الشهر
ص: 300
على بعضه مجازا أو نقول إنّ الفعل الواقع في ظرفه لا يجب مساواته كما تقول رأيت زيدا في الشهر الفلانيّ وإن لم يكن رؤيتك له إلّا في بعض ساعة.
2 - « فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ » أي ألزم نفسه به بإيقاع النيّة والتلبيات الأربع للمتمتّع والمفرد وأمّا القران فمخيّر كما تقدّم وفي هذا دلالة على أنّ إحرام الحجّ لا ينعقد إلّا في هذه الأشهر وبه قال الشافعيّ إذ لو انعقد في غيرها لزم كون المبتدأ أعمّ من خبره وهو باطل وخالف أبو حنيفة بتجويز عقده في غيرها لكنّه مكروه عنده وعمرة التمتّع لمّا كانت داخلة في الحجّ بالنصّ المتقدّم فهي جزء منه فكان حكمها حكمه في عدم انعقاد إحرامها في غير الأشهر المذكورة.
3 - « فَلا رَفَثَ » إلى آخره قيل الرّفث الفحش من الكلام والفسوق الخروج عن أحكام الشرع والجدال المراء والمنفيّات الثلاث منهيّات في المعنى لما تقدّم من إقامة الخبر مقام النهي وإنّما أبرزها في صورة النفي لينفى حقائقها من البين وخصّها بالحجّ وإن كانت واجبة الاجتناب في كلّ حال إلّا أنّه في الحجّ أسمج كلبس الحرير في الصلاة والتطريب بقراءة القرآن هذا وروى أصحابنا أنّ الرفث الجماع والفسوق الكذب والجدال الحلف بقول لا واللّه وبلى واللّه (1) وقيل الرفث المواعدة للجماع باللّسان والغمز بالعين له وقيل الجماع ومقدّماته والفسوق التنابز بالألقاب أو السباب لقوله صلى اللّه عليه وآله « سباب المؤمن فسوق » (2) وأنّ الجدال هو المراء بإغضاب على وجه اللّجاج والمماحكة.
قال الزمخشريّ : وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأوّلين بالرفع حملا لهما على النهي أي فلا يكوننّ رفث ولا فسوق والثالث كباقي القرّاء على معنى الاخبار
ص: 301
بانتفاء الجدال كأنّه قال لا شكّ ولا جدال في الحجّ وذلك أنّ قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر [ الحرام ] وسائر العرب يقفون بعرفة وكانوا يقدّمون الحجّ سنة ويؤخّرونه سنة فردّ إلى وقت واحد وردّ الوقوف إلى عرفة فأخبر اللّه أنّه قد ارتفع الخلاف في الحجّ.
واستدلّ على أنّ المنهيّ عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى اللّه عليه وآله :« من حجّ ولم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمّه » (1) وأنّه لم يذكر الجدال وفيه نظر لأنّه إذا حمل على الاخبار عن عدم الخلاف لزم الكذب لأنّه كم من خلاف قد وقع بين الفقهاء وغيرهم في الحجّ فانّ نفي الماهيّة يستلزم نفي جميع جزئيّاتها والأولى أن يقال إنّما نصب الثالث لأنّ الاهتمام بنفي الجدال أشدّ من الأوّلين لأنّ الرفث عبارة عن قضاء الشهوة والفسوق مخالفة أمر اللّه والجدال مشتمل عليهما فانّ المجادل يشتهي تمشية قوله ولا ينقاد للحقّ مع أنّه يشتمل على أمر زائد وهو الإقدام على الإيذاء المؤدّي إلى العداوة وأمّا الحديث المذكور فلا ينافي ما ذكرناه ولأنّه مركّب من المنفيّين.
4 - « وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ » حضّ وحثّ على فعل الخير عقيب نهيه عن الشرّ وإنّما لم يقل وما تفعلوا من شي ء ليكون شاملا للشرّ لأنّه لم يرد الإخبار عن علمه بل الحضّ على فعل الخير عقيب نهيه عن الشرّ ثمّ إنّ العاقل يستدلّ بذلك على علمه بالشرّ [ والخير ] لأنّهما متساويان في صحّة المعلوميّة.
[ 5 - ] « وَتَزَوَّدُوا » أي من العمل الصالح وقيل إنّ قوما من اليمن ما كانوا يتزوّدون في الحجّ ويقولون نحن متوكّلون ونحن نحجّ بيت اللّه أفلا يطعمنا فيكونون كلّا على الناس فنزلت (2) ويؤيّد الأوّل « فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى » والثاني سبب النزول.
ص: 302
الثالثة ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ ) (1).
هنا أحكام :
1 - أنّه لا حرج ولا إثم في طلب الرزق حال الحجّ أمّا بالتجارة أو الصنعة أو المكاراة أو غيرها إذ لا مانع من ذلك عقلا ولا شرعا وكان ناس من العرب يتأثّمون أن يتّجروا أيّام الحجّ وإذا دخل العشر كفّوا عن البيع والشرى فلم يقم لهم سوق ويسمّون من يخرج بالتجارة الداج ويقولون هؤلاء الداج وليسوا بالحاجّ فرفع اللّه عنهم ذلك التأثّم « وروى جابر عن الباقر عليه السلام : أن تبتغوا مغفرة من ربّكم » (2).
2 - « فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ » الإفاضة الدفع بكثرة من إفاضة الماء وهو صبّه بكثرة وأصله أفضتم أنفسكم [ و ] ترك ذكر المفعول وفيه دلالة على وجوب الكون بعرفة وأنّه من فرائض الحجّ لأنّه سبحانه أمر بالإفاضة منه بقوله « ثُمَّ أَفِيضُوا » وهو يستلزم الكون به ولا خلاف في وجوبه لقوله صلى اللّه عليه وآله « الحجّ عرفة » (3) وهو ركن يبطل الحجّ بتركه عمدا ووقته من الزوال يوم التاسع إلى الغروب هذا للمختار وأمّا للمضطرّ فإلى طلوع فجر النحر.
ص: 303
1 - لو أفاض قبل الغروب عامدا ولم يعد صحّ حجّه وعليه بدنة وقال أبو حنيفة وأحمد صحّ حجّه وعليه دم وللشافعيّ قولان أحدهما كقولهما والآخر لا شي ء وقال مالك إذا لم يعد بطل حجّة إلا أن يرجع قبل الفجر.
2 - عرفات اسم لبقعة سمّيت بالجمع كأذرعات وقنّسرين وحدّها من الأراك إلى ذي المجاز إلى ثويّة إلى [ بطن ] عرنة وسمّيت عرفات لأنّ إبراهيم عليه السلام عرّفها بعد وصفها له وقيل لأنّ آدم عليه السلام وحوّا اجتمعا فيه فتعارفا وقيل إنّ جبرئيل عليه السلام كان يري إبراهيم عليه السلام المناسك فيقول عرفت عرفت وقيل إنّ إبراهيم عليه السلام رأى ذبح ولده ليلة الثامن فأصبح يروّي يومه أجمع أي يفكّر : أهو أمر من اللّه أم لا؟ فسمّي يوم التروية ثمّ رأى اللّيلة التاسعة ذلك فلمّا أصبح عرف أنّه من اللّه وقيل إنّ آدم عليه السلام اعترف بذنبه بها وقيل سمّيت بذلك لعلوّها وارتفاعها ومنه عرف الديك لارتفاعه.
3 - « فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ » وفيه دلالة على وجوب الكون به كما يقوله أصحابنا خلافا للفقهاء وذلك لأنّ الذكر المأمور به عنده يستلزم الكون فيه فيكون واجبا وهو ركن كعرفة ولو أخلّ بهما سهوا بطل حجّه لا بأحدهما فيجتزئ بالآخر ووقته من طلوع فجر العاشر إلى طلوع شمسه للمختار وللمضطرّ إلى الزوال وحدّه من المأزمين إلى الحياض إلى وادي محسّر وسمّي مشعرا مفعلا من الشعارة وهي العلامة لأنّه معلم للعبادة وحراما لحرمته ويقال مزدلفة من ازدلف أي دنا لأنّ الناس يدنو بعضهم من بعض ويقال جمع لاجتماع آدم عليه السلام مع حوّا وللجمع بين الصلاتين والذكر هنا هو مطلق التسبيح والتحميد وما شاكلهما.
4 - « وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ » أي اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها وما مصدريّة أو كافّة ( وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ ) أي قبل الهداية أو قبل محمّد صلى اللّه عليه وآله « لَمِنَ الضّالِّينَ » أي الجاهلين بالايمان والطاعة و « إن » هي الخفيفة من الثقيلة واللّام هي الفارقة بينها وبين النافية.
ص: 304
الرابعة ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1)
هنا فوائد :
1 - اختلف في المراد بالإفاضة هنا على قولين : الأوّل نقل عن الباقر عليه السلام وابن عبّاس وجماعة أنّ المراد إفاضة عرفات وأنّ الأمر لقريش وحلفائهم ويقال لهم الحمس (2) لأنّهم كانوا لا يقفون بعرفات مع سائر العرب بل بالمزدلفة كأنّهم [ كانوا ] يرون لهم ترفّعا على الناس فلا تساوونهم في الموقف ويقولون نحن أهل حرم اللّه فلا نخرج منه فأمرهم اللّه بموافقة سائر العرب وقيل « الناس » هو إبراهيم عليه السلام أي أفيضوا من حيث أفاض هو وسمّاه بالناس كما سمّاه امّة وكما قال ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ
ص: 305
النّاسُ ) (1) والمراد نعيم ابن مسعود أو أنّه أراد إبراهيم وولديه فعلى هذا القول في الآية أمر بالكون بعرفة أصرح من الأوّل. الثّاني عن الصّادق عليه السلام أنّه إفاضة المشعر (2) واختاره الجبائيّ وهو الّذي يقوى في نفسي لأنّه ذكر إفاضة عرفات أوّلا فوجب كون هذه غير تلك تكثيرا للفائدة بتغاير الموضوع وأيضا يكون « ثُمَّ » على حقيقتها من المهلة والترتيب فيكون « أَفِيضُوا » معطوفا على « اذكروا » والمهلة هي من أوّل الوقت إلى آخره والمراد بالناس على هذا قيل هم الحمس كما حكينا وقوفهم بالمزدلفة وقيل هو إبراهيم عليه السلام وقيل آدم عليه السلام تنبيها على أنّ
ص: 306
الحجّ من السنن القديمة ولذلك قرئ شاذّا من حيث أفاض الناس بكسر السين أي الناسي من قوله ( فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (1).
2 - على القول الأوّل ما معنى الترتيب هنا فقيل في الكلام تقديم وتأخير وفيه ضعف وقيل معناه تفاوت ما بين الافاضتين وأنّ إحداهما صواب والأخرى خطأ والتحقيق هنا أنّ التراخي كما يكون في الزمان كذا يكون في الرتبة كقوله ( كَلّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (2) فإنّ مراتب العلم متفاوتة بحسب حال النفس في البعد عن العوائق كذلك نقول هنا إنّ مطلق الإفاضة المأمور به أوّلا يقصر رتبة عن الإفاضة المقيّدة المأمور بها ثانيا.
3 - « وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ » أي اطلبوا منه المغفرة تنبيها على أنّ الإتيان بأفعال الحجّ سبب معدّ لاستحقاق الغفران وإفاضة الرحمة.
الخامسة ( فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (3).
هذه الآية يحسن ذكرها هنا متابعة لنسق الكتاب ويحسن [ أيضا ] ذكرها بعد الطواف والسعي وغيرهما لقوله « مَناسِكَكُمْ » وهو جمع مضاف فيفيد العموم لكلّ المناسك الّتي هي أعمال الحجّ ورأينا مراعاة الأوّل أولى وهنا فوائد :
1 - لمّا اشتدّت عناية اللّه تعالى بعبيده بفعل الأصلح لهم وكان اللطف في ذلك يقع منه تارة ومن العبيد اخرى فما كان منه فعله بحكمته وما كان منهم اقتضت
ص: 307
الحكمة حضّهم عليه وإرشادهم إلى القيام به فلذلك كرّر الأمر بالذكر في هذه الآيات خمس مرّات وجعل محلّ الذكر الأزمنة الشريفة والأمكنة المنيفة ضمن العبادات العظيمة ليكثر لهم الجزاء كلّ ذلك إعلاما بشدّة العناية بعبيده وإلّا فالجناب القدسيّ أعظم من أن يعود إليه من ذلك نفع أو ينتفي عنه ضرر.
2 - الذكر يراد به اللّساني تارة والقلبيّ أخرى لكنّ المقصود بالذات هو الثاني وأمّا الأوّل فترجمان للثاني ومنبّه للقلب عليه لكونه في الأغلب مأسورا في يد الشواغل البدنيّة والموانع الطبيعيّة وهذا هو السرّ في تكرار الأذكار والتسبيحات والتحميدات وغيرها.
3 - لا يتوهّم أنّ ذكره تعالى ينقطع بانقطاع المناسك لتعليق الأمر بقضائها بل هو دائم مستمرّ لا ينبغي للمكلّف أن يغفل عنه ودلالة مفهوم المخالفة باطلة كما تقرّر في الأصول وإنّما سبب التعليق ما كانت العرب تعتاده بعد قضاء مناسكها من الوقوف بمنى وذكر محامد الآباء ومفاخرهم فأمرهم بالعدول عن ذلك الّذي لا يفيد إلى ما هو المفيد.
4 - إنّما جعل ذكر الآباء مشبّها به والغالب في التشبيه أنّ المشبّه به أقوى في الوجه مع أنّ ذكره تعالى ينبغي أن يكون أقوى ، جريا على الواقع فإنّ أكثر الناس لا يذكر اللّه إلّا أحيانا يسيرة ولا يغفل عن ذكر آبائه فكان ذكر الآباء أكثر وجودا فحسن جعله مشبّها به وإنّما ردّد بقوله « أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً » لتفاوت النفوس في مراتب القبول فإنّ منهم من لا يخلو عن الذكر طرفة عين ومنهم من لا يخطر بباله ذكر ربّه إلّا أن ينبّهه غيره وبينهما مراتب كثيرة ولذلك ردّد في خطابهم فقنع من قوم بذكر كذكر آبائهم كالعوامّ ومن قوم أشدّ من ذلك كالخواص.
5 - [ ثمّ ] انّه تعالى قسم الذاكرين إلى قسمين أحدهما من مطلوبه بذكره أغراض دنيويّة من المال والجاه والخدم والحشم وغيرها من الحظوظ « وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ » أي من حظّ ونصيب ومفعول « آتِنا » محذوف وإنّما حذفه لكونه فضلة ولاختلاف إرادات الناس فكان ذكر كلّ المرادات يطول وذكر البعض تخصيص من
ص: 308
غير مخصّص وذكرها بلفظ مجمل مستغنى عنه بدلالة الفعل (1) فلم يبق إلّا الحذف فهو مثل قولنا فلان يعطي ويمنع وثانيهما من مطلوبه أغراض أخرويّة فإن خطر أمر دنيويّ فلا يطلبه ولا يريده إلّا أن يكون عونا على أمر أخرويّ لا لذاته وقوله : « أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا » يحتمل عوده إلى القسم الثاني لقربه ويحتمل عوده إلى القسمين معا فإنّ قوله « مِمّا كَسَبُوا » شامل للحسنة والسيّئة معا ومعناه من قصد بذكره شيئا نال ذلك الشي ء من حسنة أو سيّئة وإلى ذلك أشير في الحديث عن الباقر عليه السلام : « ما يقف أحد على تلك الجبال برّ ولا فاجر إلّا استجاب اللّه له فأمّا البرّ فيستجاب له في آخرته ودنياه وأمّا الفاجر فيستجاب له في دنياه » (2).
قوله « وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ » أي [ في ] مجازاته لإعمال عبيده ولا يحتاج إلى فكر يعلم به ماذا يستحقّ المكلّف من ثواب أو عقاب أو لا يستحقّ وإذا لم يحتج إلى فكر كان سريع الحساب.
السادسة ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (3).
البيت من الأسماء الغالبة كالثريّا والصعق و « مَثابَةً » من ثاب إذا رجع وهو مفعول ثان « لجعلنا » وهو مصدر وكذا « أمنا » والمراد ذا أمن مثل رجل عدل أي ذو عدل وقد تقدّم ذكر كيفيّة الأمن فيه وقرأ نافع وابن عامر « واتّخذوا » على صيغة الماضي عطفا على « جعلنا » وباقي القرّاء على صيغة الأمر « ومقام إبراهيم » عرفا غالبا هو محلّ الصخرة الّتي فيها أثر قدميه وهو المراد هنا لا أنّه الحرم أو عرفة أو المشعر أو منى وغير ذلك وهنا أحكام :
ص: 309
1 - استحباب تكرار الحجّ لقوله « مثابة » أي مرجعا ومفهوم الرجوع يقتضي العود إلى ما كان عليه ولذلك ورد استحباب نيّة العود وورد في الحديث « من رجع من مكّة وهو ينوي الحجّ من قابل زيد في عمره ومن خرج من مكّة وهو لا ينوي العود إليها فقد قرب أجله » (1).
2 - وجوب الصلاة في مقام إبراهيم عليه السلام للأمر باتّخاذه مصلّى الدالّ على الوجوب وهو ركعتا الطواف إذ لا صلاة واجبة عنده غيرهما بلا خلاف وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام (2) وبه قال الحسن وقتادة والسدّيّ وعلى وجوب ركعتي الطواف إجماع أصحابنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال أحمد : هما سنّة وللشافعيّ قولان.
3 - في الآية إشارة إلى أرجحيّة الطواف بالبيت وقد تقدّم دليل وجوبه في قوله تعالى ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) وأنّه من المجملات المفتقرة إلى البيان من النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو الأئمّة عليهم السلام ثمّ الطواف عندنا ركن يبطل النسك بتركه عمدا لا سهوا بل يجب عليه العود للإتيان به فان تعذّر استناب فيه ويجب بعد السعي طواف النساء ولو تركه عمدا لم يبطل حجّه بل يجب عليه العود للإتيان به ولو تركه سهوا جاز أن يستنيب ولو مع القدرة.
4 - قوله « وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ » أي أمرناهما بالتطهير وفيه دلالة على وجوب تنحية النجاسات عن البيت والمسجد وقيل طهّراه من الأصنام وعبادة الأوثان.
5 - ظاهر الآية أنّ وجوب التطهير لأجل الطائفين والعاكفين فيكون واجبا لغيره لا لذاته مع أنّ ظاهر الفتوى أنّه تجب تنحية النجاسة عن المساجد لذاتها لقوله صلى اللّه عليه وآله « جنّبوا مساجدكم النجاسة » (3) ويمكن أن يجاب بجعل اللّام للعاقبة نحو
ص: 310
« لدوا للموت وابنوا للخراب ».
6 - إذا وجب إزالة النجاسة لأجل الطائف فوجوب إزالتها عنه (1) أولى فلا يجوز الطواف مع مقارنة شي ء من النجاسات العينيّة ولا الحكميّة وكذا الكلام في المعتكف والمصلّي فلو أخلّ المكلّف بشي ء من ذلك عمدا بطل طوافه واعتكافه وصلاته لما تقرّر أنّ النهي في العبادة يستلزم البطلان.
السابعة ( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ ) (2).
الصفا في أصل اللّغة الحجر الصلب الأملس والواحدة صفاة مثل الحصا والحصاة ونقل الجوهريّ عن الأصمعيّ أنّ المرو حجارة بيض برّاقة يقدح منها النار والواحدة مروة ثمّ صارا علمين لجبلين في مكّة مشهورين والشعائر قال الجوهريّ هي أعلام (3) الحجّ وكلّ ما كان علما لطاعة اللّه وواحدها عند الأصمعيّ شعيرة وعند بعضهم شعارة والجناح الإثم وأصله من الجنوح وهو الميل عن المقصد وأصل « يطّوّف » يتطوّف فأدغم التاء في الطاء وقرئ « أن يطوف » من طاف وإنّما قال « فلا جناح » لأنّ المسلمين كانوا في بدء الإسلام يرون أنّ فيه جناحا بسبب ما حكي أنّ أسافا ونائلة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين ووضعا على الصفا والمروة للاعتبار فلمّا طال الزمان توهّم أنّ الطواف كان تعظيما للصنمين فلمّا جاء الإسلام وكسرت الأصنام تحرّج المسلمون من السعي بينهما فرفع اللّه ذلك التحرّج وأصل التطوّع التبرّع من طاع يطوع طوعا : إذا تبرّع وقرأ حمزة والكسائيّ « يطّوّع » بالياء وتشديد الطاء وسكون العين والباقون بالتاء وفتح العين على أنّه فعل ماض وعلى الأوّل هو مضارع مجزوم بأداة الشرط إذا عرفت هذا فهنا أحكام :
ص: 311
1 - السعي عندنا واجب وركن من تركه عمدا بطل حجّه وبذلك قال مالك والشافعيّ لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قال اسعوا فإنّ اللّه كتب عليكم السعي » (1) ولنصوص أهل البيت عليهم السلام وقال أبو حنيفة واجب غير ركن وقال جماعة من المفسّرين والفقهاء هو سنّة لظاهر العبارة فإنّ رفع الجناح لا يستلزم الوجوب لأنّه أعمّ منه والعامّ لا يستلزم الخاصّ قلنا علم الاستلزام من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وبيان أهل بيته عليهم السلام.
2 - السعي سبعة أشواط من الصفا إلى المروة شوط وبالعكس وقال قوم من الصفا إلى الصفا شوط كما أنّ الطواف بالبيت من الحجر إلى الحجر شوط وهو باطل لعدم النصّ في بيانه عليه السلام.
3 - يجب البدءة بالصّفا وإن كانت الواو لا يفيد ترتيبا لكن لقوله صلى اللّه عليه وآله : « ابدؤا بما بدء اللّه به » (2) ولأنّه هكذا فعل في بيانه فيكون واجبا.
4 - قيل في قوله تعالى ( وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ) أي زاد في السعي بينهما بعد إتيانه بالواجب وليس بشي ء لأنّه لم يرد استحباب السعي ابتداء بل إذا زاد شوطا سهوا استحبّ له إكمال أسبوعين وحينئذ يكون المراد به من تطوّع بالحجّ أو العمرة بعد الإتيان بالواجب أو يكون المراد به الصعود على الصفا وإطالة الوقوف عليه فقد ورد (3) أنه يستحبّ الوقوف عليه قدر قراءة سورة البقرة في ترتيل وروي أنّه يورث الغنى وقال بعضهم إنّه على إطلاقه أي أيّ خير كان من القربات « فَإِنَّ اللّهَ » تعالى « شاكِرٌ » أي مجاز على الشكر بأضعافه من الثواب « عَلِيمٌ » بقدر ما يجب إيصاله من الجزاء.
الثامنة ( وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ
ص: 312
وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) (1).
البدن جمع بدنة وهي من الإبل خاصّة سمّيت بها لعظم بدنها ونصبها من باب ما أضمر عامله على شريطة التفسير والأصل بدن بضمّتين جمع بدن كثمرة وثمر « ومن » ههنا للتبعيض أي بعض شعائر اللّه ويتعلّق الجارّ والمجرور بفعل محذوف أي جعلناها لكم [ و ] جعلناها من شعائر اللّه « لَكُمْ فِيها خَيْرٌ » أي لكم فيها مال من ظهورها وبطونها والخير يطلق على المال كما يجي ء وإنّما ذكر ذلك لأنّه في المعنى تعليل لكون نحرها من شعائر اللّه بمعنى أنّ نحرها مع كونها كثيرة النفع والخير وشدّة محبّة الإنسان للمال من أدلّ الدلائل على قوّة الدين وشدّة تعظيم أمر اللّه وتقدّم معنى ذكر اسم اللّه « و ( صَوافَّ ) » أي قائمات في صفّ واحد وانتصابها على الحال وقرئ صوافي أي خوالص لله وقرئ أيضا صوافن و « وَجَبَتْ جُنُوبُها » أي سقطت إفطارها على الأرض وسكنت وبردت ومثله وجب الحائط إذا سقط وهنا فوائد :
1 - أنّ الأمر بالأكل منها يخرجها عن كونها كفّارة فإنّ الكفّارات تجب الصدقة بها بجملتها حتّى بجلودها وشعورها وحينئذ يكون هنا إمّا ضحايا أو هدي قران أو هدي تمتّع فالأكل من الأضحيّة ندب وكذا من هدي القران اتّفاقا واختلف في هدي التمتّع فقيل بالوجوب وقيل بالندب ويحتجّ من قال بالوجوب بظاهر قوله « فَكُلُوا مِنْها » فإنّه حقيقة في الوجوب على الرأي الأقوى وبقول الصادق عليه السلام « إذا ذبحت أو نحرت فكل وأطعم كما قال تعالى ( فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) (2) وهذا هو المختار.
ص: 313
فائدة : كانت الأمم من قبل شرعنا يمتنعون من أكل نسائكهم فرفع اللّه تعالى الحرج من أكلها في هذه الملّة.
2 - قال الجوهريّ « القانع » الراضي بما معه وبما يعطى من غير سؤال من قنع بالكسر يقنع قناعة فهو قانع وقيل من قنع يقنع بفتح العين فيهما قنوعا فهو قانع إذا خضع وسأل « والمعترّ » على الأوّل المتعرّض للسؤال بل السائل وعلى الثاني المتعرّض من غير سؤال وفي الروايات ما يدلّ على القولين إن قلت : قد تقدّم « وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ » وهنا « الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ » فما وجههما؟ قلت : لا منافاة لجواز اجتماع الوصفين في واحد بأن يكون ذا ضرّ من فقره يسأل أولا يسأل.
فائدة : ظاهر الروايات والفتيا على قسمة الهدي أثلاثا قيل وجوبا وقيل ندبا وهو الأشهر يتصدّق بثلثه ويهدي ثلثه ويأكل ثلثه ولو كان المأكول أقلّ من الثلث جاز.
3 - يجب كون الهدي الواجب تامّا غير مهزول والهزال أن لا يكون على كليتيه شحم وينبّه على ذلك قوله تعالى « لَكُمْ فِيها خَيْرٌ » والنّاقص والمهزول لا خير فيهما.
4 - « لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها » أي لن ينال رضا اللّه لحوم هذه البدن ولا إراقة دمائها لينتفع بها الفقراء فقطّ بل ينال رضاه التقوى منكم بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه وإخراج تلك البدن من مال طيّب لا شبهة فيه عن سخاء نفس فانّ الطبيعة شحيحة ومخالفتها من التقوى والمراد بنيل الرضا تحصيله قيل إنّ الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لله لطخوا البيت بدمائها فأراد المسلمون أن يفعلوا [ ك ] ذلك فنهاهم اللّه بهذه الآية (1).
5 - « كَذلِكَ سَخَّرْناها » لمّا وصفها بأنّها بدن عظام لهم فيها منافع وأنّها قائمة أخبر بأنّه كما جعلها بتلك الأوصاف سخّرها لكم وذلك نعمة عظيمة يستحقّ بها الشكر وكرّر ذلك التسخير لأنّه ذكر أوّلا أنّ تسخيرها معلّل بالشكر ولم يبيّن
ص: 314
كيفيّة الشكر فضمّن التكبير معنى الشكر أي لتشكروه بالتكبير « عَلى ما هَداكُمْ » إلى ما هو سبب تقوى القلوب ، وقد تقدّم أنّ تعظيم المنعم الآمر من لوازم امتثال أمره.
التاسعة ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) (1).
قيل إنّ اللّه تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنّ المسلمين قد دخلوا المسجد الحرام فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلو مكّة في عامهم ذلك فلمّا صدّوا قال المنافقون ما حلقنا ولا قصّرنا ولا دخلنا المسجد حتّى قال عمر : « ما شككت منذ أسلمت إلّا يومئذ فأنزلت » (2) وكان دخولهم
ص: 315
في العام القابل وقوله « الرؤيا » نصب بنزع الخافض أي في الرؤيا و « بالحقّ » إمّا حال من الرؤيا أي متلبّسة بالحقّ أو يكون التقدير صدقا متلبّسا بالحقّ ويراد بالحقّ الحكمة وهي تمييز المحقّ من المبطل ولام « لَتَدْخُلُنَّ » جواب قسم محذوف ودخول الاستثناء في كلامه تعالى إمّا تعليما لعباده أو أنّه من الدخول فانّ منهم من مات قبله أي لتدخلنّ كلّكم إنشاء اللّه أو آمنين إنشاء اللّه قوله « فَعَلِمَ » أي فعلم في التأخير من الصلاح ما لم تعلموا أنتم « فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ » أي قبل الدخول
ص: 316
« فَتْحاً قَرِيباً » قيل هو فتح خيبر وقيل صلح الحديبيّة.
إذا عرفت هذا فنقول : يجب على الحاجّ يوم العاشر الرّمي ثمّ الذّبح للمتمتّع ثمّ الحلق أو التقصير فيحلّ بأحدهما من كلّ ما أحرم منه إلّا الطيب والنساء والصيد ثمّ إنّ بعض أصحابنا قال : إنّ الحلق متعيّن على الصرورة والملبّد لشعره وأمّا غيرهما فهو مخيّر بين الحلق والتقصير والخلق أفضل مستدلّين على ذلك
ص: 317
بروايتي أبي بصير ومعاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام (1) وقال الأكثر بالتخيير مطلقا لكنّ الحلق في حقّ الصرورة والملبّد آكد استدلالا بالآية فإنّه ليس المراد الجمع بينهما اتّفاقا بل [ المراد ] إمّا التخيير أو التفصيل والثاني بعيد وإلّا لزم الاجمال فتعيّن الأوّل ولقول الصادق عليه السلام : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « اللّهمّ اغفر للمحلّقين قيل والمقصّرين يا رسول اللّه قال والمقصّرين » (2) وفي الاستدلال بالآية نظر لأنّه لو أراد التخيير لأتى بأو فيكون الواو للجمع فيكون المراد التفصيل أي محلّقين على تقدير التلبيد والصرورة ومقصّرين على تقدير غيرهما ومعنى الجمع حاصل بالنسبة إلى الصنف وإن لم يحصل بالنسبة إلى كلّ شخص ، ولزوم الاجمال ليس محذورا بعد البيان.
ويمكن أن يجاب عنه بأنّ الواو فيه كما في قوله ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) (3) فيكون للتخيير وقوله الاجمال ليس محذورا بعد البيان قلنا ليس في الآية بيان ولا في أحاديث متواترة بل آحاد معارضة بمثلها معتضدة بالأصل.
1 - التقصير هنا غير متعيّن من الرأس وإن كان ظاهر الآية ذلك بل هو من سائر البدن كما في العمرة.
2 - أنّ الحلق مختصّ بالرجال وحرام على النساء ويتعيّن عليهنّ التقصير وكذا يتعيّن على الخنثى فلو حلقا أثما ولم يجزئهما.
3 - يجب في الحلق أن يحلق جميع الرأس ولا يجزئ بعضه أمّا التقصير فيجزئ مسمّاه
ص: 318
4 - الأصلع والأقرع الأمردان يمرّان الموسى على رؤسهما وجوبا وكذا كلّ من لا شعر على رأسه.
5 - يجب كونه بمنى فلو رحل قبله وجب العود والحلق أو التقصير بها فان تعذّر خلق مكانه وبعث بشعره ليدفن بها استحبابا.
العاشرة ( وَاذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (1).
هذه الأيّام هي أيّام التشريق وهي الحادي عشر ويسمّى يوم القرّ والثاني عشر ويسمّى يوم الصدر والثالث عشر ويسمّى يوم النفر وسمّيت أيّام التشريق لتشرّق لحوم الأضاحي فيها وقيل : لشروق القمر فيها طول اللّيل وقال ابن الأعرابي لأنّ الهدي لا ينحر حتّى تشرق الشمس وقيل : لقولهم « أشرق ثبير كيما نغير » وهنا أحكام :
1 - الذكر في هذه الأيّام [ و ] قد تقدّم أنّه التكبير عقيب خمس عشرة صلاة لمن كان بمنى وعقيب عشر لمن كان بغيرها وصورته « اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه واللّه أكبر اللّه أكبر ولله الحمد اللّه أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا واللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام ».
2 - وجوب الكون بمنى تلك اللّيالي ويستحبّ النهار وهو لازم عن الأمر بالذكر فيها وعن قوله « فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » فيستلزم ثبوت الإثم للمستعجل (2) قبل ذلك.
3 - أنّ وجوب الكون في الثلاثة تخييريّ بينها وبين اليومين الأوّلين خاصّة
ص: 319
لكنّ اليوم الثاني عشر له حكمان أحدهما أنّه لا يجوز النفر فيه إلّا بعد الزوال والثاني أنّه متى غربت الشمس وهو بمنى تحتّم عليه المبيت بها اللّيلة الثالثة لأنّ التعجيل محلّه النهار فإذا مضى ولم يتعجّل فلو تعجّل في اللّيلة الثالثة لزم كون تعجيله ليس في اليومين فيكون آثما وهو المطلوب.
4 - أنّ ذلك التخيير ليس مطلقا بالنسبة إلى كلّ حاجّ بل هو لمن اتّقى واختلف فيه على قولين قيل : معناه اتّقى الصيد والنساء في إحرامه وقيل اتّقى سائر المحرّمات في الإحرام والأوّل هو المرويّ (1) والفتوى عليه.
5 - أنّ غير المتّقي يتحتّم عليه الكون في اللّيالي الثلاث ويكون نفره يوم الثالث عشر ولا يجوز قبله.
6 - أنّ من بات اللّيلة الثالث عشر لا ينفر حتّى تطلع الشمس ويرمي الجمار وكذا في النفر الأوّل لا ينفر إلّا بعد رمي الجمار ووقته بعد طلوع الشمس أيضا وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة ينفر قبل طلوع الفجر قيل : كان في الجاهليّة منهم من تأثّم بالتعجيل ومنهم من تأثّم بالتأخير فجاء القرآن برفع الإثم عنهما معا.
فائدة : قيل في قوله تعالى ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) هي أعمال الحجّ من الموقفين والطواف (2) والسعي وغيرها « فَأَتَمَّهُنَّ » أي وفى بإيقاعها وقيل هي التكاليف العقليّة والشرعيّة وقيل هي السنن العشرة وقد تقدّم في باب الطهارة ذكر أحكامها (3).
ص: 320
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (1).
هنا فوائد أربع :
1 - أنّه خاطب المؤمنين وإن كان التكليف عامّا لأنّهم القابلون لذلك المنتفعون به بأنّه يبلوهم أي يختبرهم ليتميّز مطيعهم من عاصيهم واللّام للابتداء أو التأكيد « بِشَيْ ءٍ مِنَ » جنس « الصَّيْدِ » ومن هنا للبيان كما ابتلي قوم موسى بتحريم صيد السمك يوم السبت ثمّ إنّه كان يجيئهم ذلك اليوم حتّى يدخل بيوتهم فإذا خرج السبت لم يبق منه شي ء وكما ابتلي قوم طالوت بالنهر.
2 - أنّ ذلك الصيد المبتلى به ليس بعيدا عنهم ولا ما يصعب عليهم تناوله فانّ ذلك ممّا لا فائدة في الاختبار به كما لا يبتلي [ اللّه ] العنّين بالحسناء والأخشم (2) بلذيذ الرائحة بل بما هو قريب منهم تناله أيديهم ورماحهم وكان قد كثر الصيد عندهم بالحديبية وهم محرمون بحيث يدخل في أمتعتهم حتّى كانوا يتمكّنون من قبضه بأيديهم وقيل المراد بما تناله أيديهم الصغار ورماحهم الكبار عن الصادق عليه السلام وابن عباس وقيل (3) بل الأوّل صيد الحرم لأنسه بهم والثاني صيد الحلّ لنفوره عنهم.
3 - أنّ ذلك الابتلاء ليس عبثا لصيانة أفعال الحكيم عن ذلك كما دلّ عليه
ص: 321
الدليل بل لغاية مقصودة وهي تميّز (1) من يخافه بالغيب أي في القيامة ممّن لا يخافه وقيل الغيب حال انفراد المكلّف عن الناس إن قلت : إنّه تعالى عالم قبل الابتلاء فما فائدة الابتلاء قلت إنّه عالم بالكلّيّات أزلا وأبدا وأمّا الجزئيّات فلا يتعلّق علمه بها متميّزة إلّا بعد وجودها (2) لأنّ التعلّق نسبة بين المتعلّق والمتعلّق به والنسبة متأخّرة عن المنتسبين أو يكون المراد ليتميّز فانّ العلم يقتضي التمييز فأطلق العلم وأراد لازمه.
4 - « فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ » الابتلاء وخالف « فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ » أي مؤلم وفي تنكير العذاب وإبهامه تشديد لحال الصيد.
الثانية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ) (3).
الصيد يجي ء مصدرا واسما للمصيد وهو المراد هنا والحرم جمع حرام وهو أيضا مصدر سمّي به المحرم مجازا لأنّ الحرام في الحقيقة يوصف به الفعل وقرأ أهل الكوفة « فَجَزاءٌ » منوّنا ورفع « مثل » تقديره فالواجب جزاء فيكون خبرا أو فعليه جزاء فيكون مبتدأ « ومثل » صفة على التقديرين والباقون بضمّ جزاء و
ص: 322
إضافته إلى مثل و « يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ » إمّا صفة جزاء أو حال من ضميره و « هَدْياً » منصوب على الحال من الهاء في به « و ( بالِغَ ) » صفة هديا ولمّا كانت إضافته لفظيّة لم يتعرّف بالإضافة وقرأ نافع وابن عامر « أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ » بالإضافة للتبيين كخاتم فضّة والباقون « كفّارة » بالتنوين و « طعام » عطف بيان أو بدل و « صياما » منصوب على التمييز من العدل والفاء في « فَيَنْتَقِمُ [ اللّهُ مِنْهُ ] » جواب الشرط تقديره فهو ينتقم اللّه منه إذا تقرّر هذا فهنا أحكام :
1 - اختلف في الصيد المعنيّ بالنهي فقيل هو ما أكل لحمه وهو قول الشافعيّ محتجّا بأنّه الغالب عرفا قالوا ويؤيّده قوله عليه السلام : « خمس يقتلن في الحلّ والحرم الحدأة والغراب والعقرب والفارة والكلب العقور » (1) وفي رواية الحيّة بدل العقرب وفيه تنبيه على قتل كلّ موذ وقال أبو حنيفة كلّ وحشيّ أكل أولا ، وأمّا أصحابنا فقالوا : إنّ المحلّل حرام مطلقا وأمّا المحرّم فقالوا بتحريم الأسد والثعلب والأرنب والضبّ واليربوع والقنفذ لتظافر الروايات عن أهل البيت عليهم السلام بذلك (2).
2 - إنّما قال « لا تَقْتُلُوا » ولم يقل لا تذبحوا للتعميم (3) واختلف في المذبوح المأكول منه هل هو لاحق بحكم الذبائح المنهيّ عنها كالّذي ذبحه الوثنيّ فيكون كالميتة أو يكون لاحقا بمحرّم التصرّف كالمغصوب إذا ذبحه الغاصب الحقّ عندنا الأول فهو عندنا حرام على المحلّ والمحرم وجلده جلد ميتة لا يطهر بالدبغ وبالجملة حكمه حكم سائر الميتات.
3 - أنّ الصيد يحرم في كلّ إحرام بحجّ كان أو بعمرة واجبا كان الحجّ والعمرة أو نفلا لعموم اللّفظ.
ص: 323
4 - أنّ الصيد يجب جزاؤه بجميع أنواع الإتلاف عمدا كان أو خطاء أو نسيانا ذاكرا لإحرامه حال العمد أولا وقال قوم إذا تعمّد القتل وهو ذاكر لإحرامه فلا كفّارة لعظم الذنب فلا يكفّره شي ء وليس قولهم بشي ء وإنّما قيّد القتل بالعمد في الآية لأنّ سبب نزولها فيمن تعمّد فقد روي أنّه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل إنّك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت (1) أو لأنّ الأصل فعل المتعمّد والحق به الخطاء للتغليظ ويدلّ عليه قوله تعالى ( لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ ) قال الزهريّ نزل الكتاب بالعمد ووردت السنّة بالخطاء وقال ابن جبير لا أرى في الخطاء شيئا أخذا باشتراط العمد في الآية وعن الحسن روايتان.
5 - قال أبو حنيفة المراد بالمماثلة القيمة فعنده يقوّم الصيد فان بلغت قيمته ثمن هدي تخيّر بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وبين أن يشتري بقيمته طعاما فيعطي كلّ مسكين من البرّ نصف صاع ومن غيره صاعا وإن شاء صام عن إطعام كلّ مسكين يوما فان لم يبلغ ثمن هدي أو لم يبلغ إطعام مسكين صام يوما أو تصدّق به وقال مالك والشافعيّ وأكثر المفسّرين والفقهاء المثل في الخلقة والهيئة فيجب نظيره من النعم.
وأمّا أصحابنا فقسموا الصيد إلى ما له مثل من النعم كالنعامة مثلها البدنة والحمار الوحشيّ مثله البقرة والظبي مثله الشاة فهذا يجب فيه مماثله وإلى ما لا مثل له من النعم فمنه ما عيّن جزاؤه فيجب ذلك المعيّن ومنه ما لم يعيّن فيجب فيه القيمة.
6 - على قولنا وقول الشافعيّ هل المماثلة شخصيّة فيفدي الصغير بصغير والكبير بكبير والذكر بذكر والأنثى بالأنثى أو نوعيّة فيجزئ الصغير عن الكبير والذكر عن الأنثى احتمالان والثاني أظهر في الفتوى لكنّ الأفضل الأوّل لتيقّن حصول البراءة نعم لا يجزي المعيب عن الصحيح ويجزي عن مثله بعينه فلا يجزي الأعرج عن الأعور وإذا كان المقتول حاملا فداه بحامل لا بحائل ومع التعذّر يقوّم الجزاء حاملا.
ص: 324
7 - يجب أن يحكم في ذلك الجزاء بالمماثلة والتقويم « ذَوا عَدْلٍ » أي رجلان صالحان فقيهان عارفان بالصيد ومثله وقيمة مثله ولو كان أحدهما القاتل جاز إن كان القتل خطأ ولا كذا لو كان عمدا لأنّه فاسق وفي قراءة الباقر والصادق عليهما السلام « ذو عدل » وفسّر بالإمام (1) وقال ابن جنّي أراد من يعدل و « من » يكون للاثنين كما يكون للواحد كقول الشاعر « نكن مثل من يا ذئب يصطحبان » (2) وقوله « منكم » أي من المسلمين.
وهنا سؤال تقريره أنّ العدالة تستلزم الإسلام وذكرها يغني عن ذكره فلم قال « منكم » والجواب أنّه زيادة في الإيضاح أو لئلّا يتوهّم جواز حكم العدل في دينه وإن لم يكن مسلما.
8 - « هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ » قيل معناه يذبح [ الهدي ] في الحرم وأمّا الصدقة به ففي الحرم أيضا عند الشافعيّ وعند أبي حنيفة حيث يشاء وأمّا أصحابنا فقالوا إن كان في إحرام العمرة ذبح في الحرم بفناء الكعبة في الحزورة وتصدّق به هناك وإن كان في إحرام الحجّ ذبح بمنى وتصدّق به فيها.
9 - قال أصحابنا : إذا قتل نعامة كان عليه بدنة فان عجز قوّم البدنة وفضّ ثمنها على البرّ وأطعم ستّين مسكينا لكلّ مسكين نصف صاع فلو لم يف بالستّين كفاه ولو زاد لم يلزمه الزائد وكان له فان عجز عن الإطعام صام عن كلّ مسكين يوما ولو قتل حمارا وحشيّا أو شبهه فعليه بقرة أهليّة ومع العجز يفضّ ثمنها على
ص: 325
ثلاثين والحكم كما تقدّم وإن قتل ظبيا فعليه شاة ومع العجز يفضّ ثمنها على عشرة والحكم أيضا كما تقدّم والعبرة بقيمة هذه النعم في منى إن كان في حجّ وفي مكّة إن كان في عمرة.
قالوا وأمّا غير هذه الثلاثة فما قدّر فيه جزاء فقيمة الجزاء مع التعذّر وقت الإخراج وما لم يقدّر فيه جزاء فقيمة الصيد وقت إتلافه.
10 - هل الإبدال في الأقسام الثلاثة على التخيير لظاهر الآية لمكان « أو » أو على الترتيب حتّى لا ينتقل إلى الإطعام إلّا مع العجز عن البدنة وشبهها ولا ينتقل إلى الصوم إلّا مع العجز عن الإطعام؟ قولان : قال أبو حنيفة والشافعيّ وبعض المفسّرين بالأوّل وقال ابن عباس في إحدى الروايتين وجماعة بالثاني وكلا القولين رواه أصحابنا فقال المفيد وابن إدريس بالتخيير والشيخ وابن بابويه بالترتيب والعمل به أحوط لحصول تيقّن البراءة وعلى القول الأوّل قيل التخيير للقاتل وهو الأقوى وقيل للحكمين.
11 - قد حكينا عن أصحابنا أنّ التقويم إنّما هو للنعم وبه قال عطا وجماعة وقال قتادة يقوّم الصيد المقتول حيّا ويجعل ثمنه طعاما وكذا اختلف في الصيام فقال الشافعيّ يصوم عن كلّ مدّ يوما وبه قال عطا وقال أصحابنا عن كلّ مدّين يوما وبه قال أبو حنيفة وجماعة.
قوله « أَوْ عَدْلُ ذلِكَ » أي عدل الإطعام وقرئ شادّا عدل بكسر العين ويستعمل الكسر في المساوي مقدارا والفتح في المساوي حكما وإن لم يكن من جنسه.
قوله « لِيَذُوقَ [ وَبالَ أَمْرِهِ ] » متعلّق بقوله « فجزاؤ » أي فعليه كذا ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام والوبال المكروه والضرر في العاقبة ومنه قوله ( فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ) (1) والطعام الوبيل ما يثقل على المعدة.
قوله « عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ » أي سلف قبل نزول [ هذه ] الآية وقيل قبل مراجعة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسؤاله وقيل قبل الإسلام ويمكن أن يفهم من قوله « لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ »
ص: 326
أنّ الكفّارة تقع عقوبة لا مكفّرة وهذا ظاهر من التعليل.
12 - « وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ » أي ومن عاد إلى قتل الصيد بعد هذا النهي فهو ممّن ينتقم اللّه منه وهل ذلك مانع من وجوب الكفّارة عليه أم لا قال ابن عباس نعم وبه قال أكثر أصحابنا وقال الحسن وابن جبير وعامّة الفقهاء لا بل تجب وبه قال بعض أصحابنا وهو الحق.
وتحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول : إذا تكرّر في عامين في إحرامين لا كلام في لزوم الكفّارة أمّا في العام الواحد في إحرامين فيحتمل أن يكون كالأوّل أعني لزوم الكفّارة لتحقّق الإحلال بينهما وهو الظاهر وأن لا يكون فيقع فيه الخلاف. ثمّ التكرار أقسام : الأوّل : خطأ أو سهو عقيب عمد. الثاني : خطأ أو سهو عقيب مثلهما ، ولا كلام ولا خلاف في لزوم الكفّارة فيهما ، الثالث : عمد عقيب خطأ أو سهو. الرابع : عمد عقيب عمد وفيهما الخلاف فقال المرتضى وأبو الصلاح وابن إدريس والشيخ في الخلاف والمبسوط بلزوم الكفّارة لعموم « وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً » وهو عامّ بحسب الأشخاص وقوله « وَمَنْ عادَ » غير صالح للتخصيص إذ لا منافاة بينهما الّتي هي شرط في التخصيص لما قرّرناه من قبل أنّ الكفّارة عقوبة فلا يكون منافية للانتقام ولقول الصادق عليه السلام في صحيحة ابن أبي عمير « عليه كلّما عاد كفّارة » (1) وهي عامّة بحسب الزمان وقوله عليه السلام أيضا في حسنة معاوية ابن عمّار « عليه الكفّارة في كلّ ما أصاب » (2) وهي عامّة بحسب الأحوال إن كانت
ص: 327
ما مصدريّة وبحسب أشخاص المصيد إن كانت موصولة أو موصوفة.
وقال الشيخ في النهاية وابن البرّاج لا يلزم العائد كفّارة لقوله « وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ » والتفصيل قاطع للشركة فكما لا انتقام في الأوّل فلا جزاء في الثاني والجواب قد بيّنّا أنّه لا منافاة بينهما وأنّ الكفّارة عقوبة لقوله تعالى « لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ » ولأنّ التكرار في الخطاء لازم قطعا فيكون في العمد أولى من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
قوله « وَاللّهُ عَزِيزٌ » أي ليس ممّن يعصى ويغلب بل هو الغالب على من سواه « ذُو انْتِقامٍ » أي ليس ممّن يجهل السياسة ويهمل تأديب من يحتاج إلى التأديب بل ينتقم منه بقدر الاستحقاق.
الثالثة ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (1).
حيوان البحر (2) ما لا يمكن أن يعيش إلّا في الماء فقيل كلّه حلال لقوله عليه السلام « هو الطهور ماؤه والحلّ ميتته » (3) وهو مذهب الشافعيّ ومالك وقيل يحلّ السّمك وماله مثل في البرّ يؤكل وقال أبو حنيفة لا يحلّ إلّا السّمك وعندنا لا يحلّ إلّا سمك له فلس لا غير والمراد بطعامه قيل هو ما قذفه البحر ميّتا وهو باطل عندنا وعن ابن عبّاس أنّه المملوح وهو الموافق لمذهب أهل البيت عليهم السلام وإنّما سمّي طعاما لأنّه يدّخر ليطعم فيصير كالمقتات من الأغذية فعلى هذا الصيد ما كان
ص: 328
طريّا والطعام ما كان مملوحا.
قوله « مَتاعاً » بمعنى تمتيعا كالسراح بمعنى التسريح والسلام بمعنى التسليم وهو مفعول له أي أحلّ لكم تمتيعا أي لأجل تمتيعكم وانتفاعكم والسيّارة المسافرون يتزوّدون من السّمك طريّا وقديدا وصيد البرّ ما يبيض ويفرخ في البرّ وإن كان يعيش في بعض الأوقات في الماء.
ثمّ اعلم أنّه لا خلاف [ في ] أنّ ما صاده المحرم فهو حرام عليه وعلى غيره من محرم آخر وأمّا ما صاده المحلّ فعندنا يحرم أيضا على المحرم وبه قال ابن عمر وابن عبّاس وقال عطا ومجاهد وابن جبير : لا يحرم إلّا أن يدلّ عليه أو يشير إليه وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وعند مالك والشافعيّ وأحمد : لا يباح له ما صيد لأجله وكذا الخلاف فيما صاده المحرم قبل إحرامه وما قلناه في المسئلتين دليله ظاهر فانّ المراد بالصيد هنا المصيد لا الاصطياد وإلّا لزم أن لا يحرم ما صاده المحرم لكنّه يحرم بلا خلاف وقد تقدّم هذا.
واعلم أنّ مذهب أصحابنا أنّه يحرم على المحرم مطلقا مصيد البرّ اصطيادا وأكلا وذبحا وإشارة ودلالة [ عليه ] وإغلاقا وبيعا وشراء وتملّكا وإمساكا وإغراء للحيوان به ويمكن أن يستدلّ على ذلك كلّه بقوله « وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً » وعلى هذا يظهر أنّه لا تكرار لتحريم الصيد على المحرم بل المذكور ثانيا أعمّ.
فائدة : الحرم يحرّم أيضا ما حرّمه الإحرام من المصيد إلّا أكل ما صيد خارج الحرم فإنّه مباح للمحلّ في الحرم ويمكن أن يستدلّ على الحكم الأوّل بالآية الاولى وهي قوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ » لعموم حالتي الإحرام ودخول الحرم وغيرهما فيخرج الثالث بالإجماع فيبقى الأوّلان داخلين تحت العموم ومنهم من استدلّ بقوله « وَأَنْتُمْ حُرُمٌ » وبقوله « ما دُمْتُمْ حُرُماً » فانّ الحرم جمع حرام ويقال رجل حرام ومحرم ، وأحرم إذا أهلّ بالحجّ أو العمرة
ص: 329
وأحرم إذا دخل الحرم وأحرم [ إذا ] دخل في الشهر الحرام وفيه ضعف.
وللصيد أحكام وتفاصيل مستفادة من البيان النبويّ مذكورة في كتب الفقه فليطلب هناك.
الرابعة ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).
قد تقدّم شي ء من بحث هذه الآية في الصلاة (2) بقي هنا فوائد :
1 - قيل معنى قوله « قِياماً لِلنّاسِ » أي في معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف ويربح عنده التجّار ويكثر مكاسبهم ، الحاصل ذلك من الاجتماع عندها من سائر أطراف الأرض. وقيل معناه لو تركوه عاما واحدا لا يحجّونه لهلكوا رواه علي بن إبراهيم عنهم عليهم السلام « قال ما دامت الكعبة يحجّ الناس إليها لم يهلكوا فإذا هدمت أو تركوا الحجّ هلكوا » (3).
2 - « الشَّهْرَ الْحَرامَ » اللّام فيه للجنس وهو أربع ثلاثة سرد [ وهو ] ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم وواحد فرد وهو رجب وهي الأشهر الحرم المشار إليها في قوله « مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ » (4) وسمّيت بذلك لتحريمهم القتال فيها وكانوا ينصلون أسنّتهم ويتفرّغون لمعايشهم وصلاح أحوالهم.
3 - « وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ » أي وجعل الهدي والقلائد مشروعين لانتفاع
ص: 330
المحاويج والمساكين ، والقلائد البدن وشبهها الّتي علّق عليها النعل لتتميّز عن غيرها ويعلم أنّها صدقة.
4 - « ذلِكَ لِتَعْلَمُوا » أي جعل ذلك لتعلموا بمعنى أنّكم إذا اطّلعتم على الحكمة في جعل الكعبة قياما للنّاس وما في معنى الحجّ إليها وحكمة مناسك الحجّ وكيفيّتها علمتم أنّ اللّه يعلم ما في السماوات وما في الأرض من الجواهر والأجسام والأعراض كلّيّاتها وجزئيّاتها لاستحالة صدور تلك الحكم عمّن يجهل الأشياء وتلك الحكم وإن لم تعلم تفصيلا فهي معلومة إجمالا من كون الأحكام إنّما شرّعت لدفع المضارّ وجلب المنافع أو لكونها ألطافا في العقليّات أو في غيرها من الشرعيّات.
قوله « وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق وهو من أحسن الانتقالات في الكلام.
الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) (1).
قيل نزلت في رجل يقال له الحطم بن هند البكريّ حين أتى النبيّ وخلّف خيله خارج المدينة فقال له : إلى ما تدعو [ الناس ] قال : أدعو إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال حسن فأنظرني لعلّي أسلم ولي من أشاوره وكان النبي صلى اللّه عليه وآله قد قال لأصحابه : يدخل عليكم اليوم من يتكلّم بلسان شيطان فلمّا خرج قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لقد دخل بوجه كافر وخرج بعزم غادر فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به وهو يرتجز [ شعرا ] :
قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم *** ليس براعي إبل ولا غنم
ص: 331
ولا بجزّار على ظهر وضم *** باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلّج الساقين ممسوح القدم
ثمّ أقبل من عام قابل حاجّا قد قلّد هديا فأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يبعث إليه فنزلت : ولا آمّين [ البيت ] ». (1)
وقيل : إنّه لم ينسخ من هذه السورة أعني المائدة غير هذه وعن الحسن ليس في المائدة منسوخ وقد تقدّم ذكر الشهر الحرام والقلائد ، وقيل الشعائر هنا جميع معالم الحلال والحرام والمراد بإحلالها عدم العمل بمقتضاها وإبطالها وقيل المراد مناسك الحجّ وقيل الحرم وقيل معالمه وإحلال الشهر الحرام هو إباحة القتال فيه وإحلال الهدي والقلائد عدم صرفها في جهاتها أو منع أهلها من ذلك بالصدّ أو الغصب أو السرقة وعطف القلائد على الهدي وهي من جملته لأنّها أشرف أقسامه.
« وَلَا آمِّينَ » أي قاصدين البيت وهو أعمّ من أن يكونوا مسلمين أو كفّارا فإنّ الكفّار كانوا يحجّون في الجاهليّة ثمّ نسخ ذلك ب ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (2) وبقوله ( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (3).
قوله « يَبْتَغُونَ » إلى آخره جملة وقعت صفة لآمّين أي يطلبون « فَضْلاً » هو الربح في التجارة « وَرِضْواناً » أي رضا منه تعالى بنسكهم ، وصفهم اللّه بما كانوا يظنّونه في أنفسهم من أنّهم على سداد في الدّين وأنّ حجّهم يقرّبهم إلى اللّه وقيل لم ينسخ من هذه الآية شي ء لأنّه لا يجوز أن يبدأ المشركون بالقتال في الأشهر الحرم إلّا إذا قاتلوا قاله ابن جريج وهو المرويّ عن الباقر عليه السلام (4) وهو أيضا موافق لما ورد « أنّ المائدة
ص: 332
آخر ما نزلت » (1) وقال عليه السلام « أحلّوا حلالها وحرّموا حرامها » (2) وأيضا أنّ التخصيص خير من النسخ.
قوله تعالى ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) أمر إباحة بعد أن كان الصيد حراما في حال الإحرام قوله « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ » أي لا يحملنكم على الجرم ومن قرأ يجرمنّكم بضمّ الياء جعله متعدّيا لأنّ جرم مثل كسب يتعدّى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته ادخل عليه الهمزة يقال أجرمته أي حملته على الجريمة ومراده لا يحملنكم بغض قوم لأنّهم صدّوكم عن المسجد الحرام على أنّكم تعتدون وتتجاوزون حكم اللّه. وباقي مقصد الآية ظاهر.
السادسة ( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (3).
الأحسن في « ذلك » أن يكون فصل خطاب كقوله أيضا ( وَإِنَّ لِلطّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) (4) قوله ( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ ) ابتداء كلام وحرمات اللّه ما حرّمه اللّه من ترك الواجبات وفعل المحرّمات ومثله قوله ( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (5) وتعظيم الحرمات والشعائر هو اعتقاد الحكمة فيها وأنّها واقعة على الوجه الحقّ المطابق ولذلك نسبها إلى القلوب ويلزم من ذلك الاعتقاد شدّة التحرّز من الوقوع فيها وجعلها كالشي ء المحتمى عنه كالمرعى الوبيل وإلى هذا المعنى أشار النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الحديث : « ألا وإنّ لكلّ ملك حمى وإنّ حمى اللّه محارمه فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه (6) وقيل حرمات اللّه خمس البيت الحرام
ص: 333
والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والحرم وهنا فوائد :
1 - قوله « وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ » أي حال إحرامكم وليس حكمها حكم الصيد « إِلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ » أي إلّا ما حرّمه اللّه في المائدة من الميتة والدّم وسيجي ء ذكرها مفصّلة.
2 - « فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ » لمّا كان الرجس أعمّ من الأوثان أتى بمن المبيّنة وهو إشارة إلى الشرك باللّه وقيل « قَوْلَ الزُّورِ » هو الشرك باللّه أيضا عطفه عليه لمغايرتهما بالاعتبار فإنّ المشرك قائل بالزور لأنّه يكذّب على اللّه وقيل هو أعمّ من ذلك وهو شهادة الزور وقيل هو أعمّ من ذلك وهو الكذب مطلقا والبهتان وقيل هو قول الجاهليّة :
« لبّيك لا شريك لك. إلّا شريك هو لك. تملكه وما ملك »
3 - قيل قوله « فَهُوَ خَيْرٌ » ليس هو للتفضيل بل هو اسم نكرة وتنكيره للتعظيم وقيل بل هو أفعل التفضيل لأنّه حقيقة فيه وهو الأجود.
السابعة ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) (1).
عطف المضارع على الماضي لأنّ المراد من شأنهم الصدّ وقيل كفروا في الماضي وهم الآن يصدّون إشارة إلى صدّهم له عليه السلام عام الحديبية والإلحاد الميل عن القصد ومنه اللحد لأنّه مائل عن سمت القبر وهنا مسائل :
1 - قيل المسجد الحرام هو المسجد نفسه وبه قال الشافعيّ وبعض أصحابنا وقيل بل مكّة كلّها لقوله تعالى : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
ص: 334
[ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ] ) (1) وكان الإسراء من مكّة لأنّه صلى اللّه عليه وآله كان في بيت خديجة وقيل في الشعب أو في بيت أمّ هانئ وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحابنا ويتفرّع على هذا جواز بيع بيوت مكّة وجواز سكنى الحاجّ فيها وإن لم يرض أهلها فعلى الأوّل يجوز (2) لعدم تناول النصّ لها وعلى الثاني لا يجوز لقوله « سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ » والعاكف المقيم والبادي الطاري ويضعّف الثاني بأنّه على تقدير صحّة النقل فالتسمية مجاز والأصل في الكلام الحقيقة فلذلك نقل عن بعض الصحابة أنّه اشترى فيها دارا وقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ما ترك لنا عقيل من دار ».
2 - قوله « وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ » مفعول يرد محذوف و « بِإِلْحادٍ » و « بِظُلْمٍ » صفتان له اقيما مقامه أي من يرد فيه أمرا بإلحاد وبظلم فقيل الإلحاد هو الميل عن قانون الأدب كالبزاق وعمل الصنائع وغيرهما والظلم ما يتجاوز فيه قواعد الشرع والحاصل من هذا القول أنّ الإلحاد فعل المكروهات والظلم فعل المحرّمات وقيل هو قول لا واللّه وبلى واللّه وقيل هو الاحتكار وهو بناء على أنّ المراد بالمسجد مكّة وقيل هو دخولها بغير إحرام.
3 - يمكن أن يستفاد من الآية أنّ من أحدث في الحرم ما يوجب حدّا أو تعزيرا يعاقب زيادة على ذلك لقوله « نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ».
الثامنة ( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (3).
« بَلَداً آمِناً » تسمية المحلّ باسم الحالّ فيه فإنّ الا من في الحقيقة هو أهل البلد فهو كقولهم فلان ليله قائم ونهاره صائم ويحتمل أن يكون تقديره ذا أمن
ص: 335
كقولهم لابن وتأمر أي ذو لبن وذو تمر « وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ » دعاء لهم بالرفاهية وطيب العيش لأنّه أسكنهم بواد غير ذي زرع قوله « مَنْ آمَنَ » بدل من « أهله » بدل البعض من الكلّ وفيه تصريح بأنّه خصّ دعاءه بالمؤمنين فقال اللّه سبحانه في جوابه ( وَمَنْ كَفَرَ [ فَأُمَتِّعُهُ ] ) » أي وأرزق من كفر أيضا على وجه الاستدراج لأنّي خلقتهم والتزمت برزقهم فيكون « مَنْ كَفَرَ » في موضع النصب ويجوز أن يكون « من » للشرط ولذلك دخل الفاء على خبره وعلى الأوّل الفاء للاستيناف قوله « ثُمَّ أَضْطَرُّهُ » إنّما أتى بكلمة التراخي إشعارا بأنّ زمان تمتيعه ليس قليلا لا تقوم فيه الحجّة بل هو طويل والاضطرار يقع بعد مهلة وقال « أَضْطَرُّهُ » لأنّه تعالى إذا علم عدم انتفاعهم بالآيات ودلائل العقل والألطاف والزواجر تركهم في يد الطبيعة حتّى تجرّهم إلى أسفل سافلين ولا ريب أنّ الشي ء يجب وجوده عند سببه التامّ وهو معنى الاضطرار والسبب هو دواعي الطبيعة وعدم مواقع الألطاف الإلهيّة.
إذا تقرّر هذا فنقول هنا فوائد :
1 - قيل المراد بالأمن هنا هو أنّه لا يصاد صيده ولا يقطع شجره ولا يختلا خلاه وإلى هذا أشار الصادق عليه السلام « من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن من سخط اللّه ومن دخله من الوحش والطير كان آمنا من أن يهاج أو يوذى حتّى يخرج من الحرم » (1) وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يوم الفتح « إنّ اللّه حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي ولم تحلّ لي إلّا ساعة من النهار » (2) وقيل : المراد الأمن من الجدب والقحط لأنّه أسكنهم بواد غير ذي زرع.
2 - في الآية دلالة على جواز سؤال اللّه تعالى الرزق وتوسعته بل سؤال الرفاهية في المعيشة وحسن الحال وطيب المآكل لقوله « مِنَ الثَّمَراتِ » إذ لو كان المراد القوت
ص: 336
وهو ما يسدّ الخلّة لما أحوج إلى ذكر الثمرات وعن الصادق عليه السلام : هو ثمرات القلوب أي حبّبهم إلى الناس ليثوبوا إليهم وعن الباقر عليه السلام أنّ المراد أنّ الثمرات تحمل إليهم من الآفاق وقد استجاب اللّه له حتّى لا يوجد في بلاد الشرق والغرب ثمرة إلّا وتوجد فيها حتّى حكى أنّه يوجد فيها في يوم واحد فواكه ربيعيّة وصيفيّة وخريفيّة وشتائيّة.
3 - الوصف لمكّة بالأمن وللبيت أيضا والدعاء لأهلها بكثرة الرزق وغير ذلك من النعم أمور مشعرة بأفضليّتها وأفضليّة المجاورة فيها وحينئذ يرد سؤال وهو أنّه لم كانت المجاورة فيها مكروهة فيجاب بأنّه ذكر للكراهية أسباب الأوّل خوف عدم احترامها وسقوط محلّها من القلوب الثاني حذر مقارفة الذنب فيها فإنّه عظيم موجب لتضاعف العقاب الثالث أنّ المداومة على صحبتها يورث الملالة ومفارقتها تبعث على الشوق إليها والحصول بها.
4 - قيل إنّ مكّة كانت آمنة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام من لدن آدم عليه السلام من الخسف والزلازل والطوفان وغيرها من أنواع المهلكات وإنّما تأكّد ذلك بدعائه عليه السلام وقيل بل كانت قبل دعوته عليه السلام كسائر البلاد واستدلّ على ذلك بقول نبيّنا صلى اللّه عليه وآله « إنّ إبراهيم عليه السلام حرّم مكّة وإنّي حرّمت المدينة » (1).
التاسعة ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (2).
« يرفع » فعل مضارع وقع حكاية حال [ الماضي ] وقيل إنّه خبر يراد به الأمر وليس بشي ء لأنّه مجاز والأصل عدمه و « القواعد » جمع قاعدة وهي السافات ولذلك
ص: 337
جمعها فإنّ كلّ ساف قاعدة بالإضافة إلى ما فوقه وبناء بالإضافة إلى ما تحته ومعنى يرفع أي يثبت ويبني فإنّ كلّ ساف إذا فرغ منه يتّصف بالثبوت ورفع البناء أمر لازم لثبوته فأطلق اللازم وأراد ملزومه وهو أفصح من قولنا يبني على القواعد ولم يقل قواعد البيت لأنّ البيان بعد الإبهام أفصح من البيان ابتداء لأنّ الإبهام يوجب ألما والبيان يوجب لذّة واللذّة بعد الألم أقوى « وإسماعيل » مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره وإسماعيل يناوله والواو للحال وحذف الخبر للعلم به فانّ بناء البيت يحتاج إلى من يناول ما يبنى به « ربّنا » أي قائلين ربّنا وكذلك قرأ عبد اللّه ابن مسعود (1) « إنّك أنت السميع » أي لدعائنا « العليم » بضمائرنا ونيّاتنا.
وهنا فوائد :
1 - قال مجاهد إنّ أوّل من بناه إبراهيم عليه السلام ولذلك قال الحسن إنّ أوّل من حجّ البيت إبراهيم والقولان ضعيفان والحقّ أنّ البيت كان قبل إبراهيم عليه السلام فقد روي « أنّ اللّه أنزله ياقوتة من يواقيت الجنّة له بابان [ من زمرّد ] شرقا وغربا وقال اللّه لآدم عليه السلام قد أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي فتوجّه آدم عليه السلام من الهند يمشي إلى مكّة فتلقّته الملائكة فقالوا برّ حجّك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام » وقيل حجّ آدم عليه السلام أربعين حجّة على رجليه من الهند وفي رواياتنا عن الباقر عليه السلام « أتى آدم هذا البيت ألف أتية على قدميه منها سبعمائة حجّة وثلاثمائة عمرة وكان يأتيه من ناحية الشام وكان يحجّ على ثور » (2).
2 - لمّا كان الطوفان رفع البيت إلى السماء الرابعة وهو البيت المعمور ثمّ أمر اللّه إبراهيم عليه السلام فبناه وعرّفه جبرئيل مكانه وقيل بعث اللّه سبحانه سحابة أظلّته ونودي أن ابن على ظلّها لا تزد ولا تنقص وروي أنّه بناه من خمسة أجبل طور سينا وطور زيتا ولبنان والجوديّ وأسّه من حراء ثمّ جاءه جبرئيل عليه السلام بالحجر الأسود من السماء وقيل تمخّض أبو قبيس فانشقّ عنه وكان مخبّئا فيه أيّام الطوفان
ص: 338
وكان ياقوتة بيضاء ثمّ اسودّ بملامسة الحيّض له في الجاهلية (1).
3 - في قوله « ربّنا تقبّل منّا » دلالة على أنّهما بنياه للعبادة لا للسكنى فانّ سؤال التقبّل لا يتصوّر إلّا فيما وقع عبادة واستدلّ بعض حشويّة العامّة بهذه الآية على أنّ الإجزاء قد ينفكّ عن القبول فانّ المجزئ ما وقع على الوجه المأمور به شرعا وبه يخرج عن العهدة والقبول ما يترتّب عليه الثواب فإنّهما عليهما السلام سألا التقبّل مع أنّهما لا يفعلان إلّا فعلا صحيحا مجزئا فكان ذلك السؤال لحصول استحقاق الثواب وهذا نظر فاسد فإنّ السؤال قد يكون بالواقع كما في قوله « ربّ احكم بالحقّ » أو يكون على وجه الانقطاع إليه تعالى.
العاشرة ( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ) (2).
هذا السؤال أيضا انقطاع إلى اللّه سبحانه ومرادهما اجعلنا منقادين لأوامرك ونواهيك وثبّتنا على الإسلام في المستقبل والتحقيق أنّ هذا الكلام يقع إمّا في حال السلوك فمعناه زدنا إذعانا وإخلاصا أو بعد الوصول فمعناه ثبّتنا و « من » هنا يحتمل التبيين والتبعيض وعلى التقديرين إنّما خصّا الذرّيّة لأنّهم أحقّ بالشفقة والنصيحة كما قال ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (3) قيل أراد أمّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وعن الصادق عليه السلام أراد بني هاشم خاصّة و « أرنا مناسكنا » أي عرّفنا مواضع عبادتنا في الحجّ فأجاب اللّه دعاءهما وبعث جبرئيل عليه السلام وأراهما المناسك من أوّلها إلى يوم عرفة فلمّا بلغ عرفات قال يا إبراهيم عرفت؟ قال نعم فسمّي الوقت عرفة والموضع عرفات « وتب علينا » من ترك ما هو الأولى بنا فعله كترك المندوبات والاشتغال بالمباحات لأنّ عصمتهما مانعة من الإقدام على معصيته.
ص: 339
فائدة :قيل قوله ( وَأَذانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) (1) يريد بالحجّ يوم عرفة لأنّ موقف عرفة يسمّى الحجّ ومنه قوله صلى اللّه عليه وآله « الحجّ يوم عرفة » (2) وروي ذلك عن عليّ عليه السلام وقال عطا الحجّ الأكبر ما فيه الوقوف والحجّ الأصغر ما ليس فيه وقوف وهو العمرة وقيل يوم النحر عن عليّ عليه السلام وابن عبّاس وروي عن الصادق عليه السلام (3) وقيل جميع أيّام الحجّ وعن الحسن هو يوم اتّفق فيه ثلاثة أعياد عيد المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى روي أنّه لم يتّفق ذلك فيما مضى ولا يتّفق بعده إلى يوم القيامة.
وهو لغة فعال من الجهد وهو المشقّة البالغة والجهاد بكسر الجيم مصدر جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة وبفتح الجيم الأرض الصلبة والجهد بفتح الجيم وضمّها الطاقة ومنه قوله تعالى ( وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلّا جُهْدَهُمْ ) (4) قرئ بهما وشرعا إن أخذ من الأوّل فهو بلوغ المشقّة في النفس والمال وإن أخذ من الثاني فهو بذل الطاقة من النفس والمال وعلى التقديرين فهو بذل النفس والمال لإعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان فيدخل في الأوّل قتال الكفّار وفي الثاني قتال البغاة وهو من أعظم أركان الإسلام قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « فوق كلّ برّ برّ حتّى يقتل الرجل في سبيل اللّه فليس فوقه برّ » (5) وقال عليّ عليه السلام « ألا وإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لأوليائه » (6) هذا وهو من فروض الكفايات لم نسمع وجوبه
ص: 340
على الأعيان إلّا عن سعيد بن المسيّب وله شروط وأحكام تذكر في كتب الفقه والمقصود هنا ذكر آيات تتعلّق به وهي أنواع :
وفيه آيات :
الاولى ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).
كتب بمعنى وجب وفرض والكره بضمّ الكاف وفتحها مصدر بمعنى المكروه كاللّفظ بمعنى الملفوظ لا أنّه كالخبز بمعنى المخبوز لأنّ الخبز بضمّ الخاء اسم لا مصدر وإنّما المصدر بفتح الخاء وإنّما كان القتال مكروها لأنّه على خلاف الطبع [ وكلّما كان على خلاف الطبع ] فهو مكروه ولهذا استحقّ عليه الثواب قال [ النبي ] صلى اللّه عليه وآله : « حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النار بالشّهوات » (2).
قوله « وعسى أن تكرهوا شيئا » إلى آخره لا شكّ أنّ نسبة الشارع إلى المكلّف كنسبة الطبيب إلى المريض وكما أنّ ما يأمر به الطبيب مكروه له وما ينهاه عنه محبوب له كذلك الشارع بالنسبة إلى نفس المكلّف ولذلك علّل سبحانه بقوله : « واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون ».
إذا عرفت هذا فهنا أحكام :
1 - أنّه واجب على الكفاية للأصل ولإجماع الصحابة وغيرهم ولانتفاء
ص: 341
المسبّب عند انتفاء السّبب وذهب قوم إلى أنّه واجب على الأعيان لقوله صلى اللّه عليه وآله : « من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق » (1) وليس بدالّ على مطلوبهم.
2 - أنّ الواجب على الكفاية قد يصير واجبا على الأعيان بحسب الأحوال المقتضية لذلك وهو هنا إمّا بقصور القائمين عن الكفاية أو تعيين صاحب الأمر أو غير ذلك.
3 - ذهب قوم إلى أنّ الوجوب مختصّ بالصحابة لتوجّه الخطاب إليهم وهو باطل لعموم قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا - إلى قوله - وَجاهِدُوا ) (2) ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (3) وللإجماع.
4 - الخيريّة في الجهاد ظاهرة أمّا في العاجلة الغنيمة والغلبة ولذّة الظفر والعزّة وأمّا في الآخرة فالثواب والفوز بمنازل الشهداء وفي تركه أضداد ذلك من الفقر والذلّة والخذلان والعقاب ودركات الأشقياء.
الثانية ( وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (4).
هذه أيضا دالّة على وجوب الجهاد لصيغة الأمر الدالّ على الوجوب ثمّ اعلم أنّ الجهاد هنا يحتمل ثلاثة معان الأوّل الجهاد مع الكفّار في نصرة الإسلام وإعلاء كلمة اللّه الثاني الجهاد مع النفس الأمّارة واللّوّامة في نصرة النفس العاقلة المطمئنّة وهو الجهاد الأكبر ولذلك ورد عنه صلى اللّه عليه وآله : « أنّه رجع عن بعض غزواته فقال رجعنا
ص: 342
من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (1) » الثالث الجهاد بمعنى رتبة الإحسان كما قال سبحانه ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (2) ومعنى رتبة الإحسان هو أن تعبد ربّك كأنّك تراه فان لم تكن تراه فإنّه يراك ولذلك قال « حقّ جهاده » أي جهادا حقّا كما ينبغي بجدّ النفس وخلوصها عن شوائب الرياء والسمعة مع الخشوع والخضوع وقوله « في اللّه » أي في عبادة اللّه « هو اجتباكم » أي اختاركم على الموجودات وجعلكم خلائف في الأرض وسلّم إليكم مفتاح الخير والشرّ.
قوله « وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » أي صعوبة وضيق جواب سؤال مقدّر تقديره أنّ حقّ جهاده إنّما يتمكّن منه بعض الناس لا كلّهم بل لا يكاد يقدر عليها أحد كما قال صلى اللّه عليه وآله « لا احصي ثناء عليك » (3) فكيف يؤمر به الكلّ أجاب بأنّه لم يجعل عليكم حرجا و « من » زائدة بل كلّ واحد عليه الاجتهاد قدر تمكّنه و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (4).
الثالثة ( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (5).
هذه أيضا صريحة في الأمر بالقتال قيل هي أوّل آية نزلت في القتال ولذلك قال « الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ » ليخرج الكافّون عن القتال فانّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان بعد الهجرة يكفّ عن الكافّين عنه وعلى هذا القول هي منسوخة بقوله ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (6) وقيل أراد بالّذين يقاتلون الّذين هم من أهل القتال ليخرج الشيوخ
ص: 343
والصبيان والنساء وهو أولى لأنّ النسخ على خلاف الأصل وقولهم إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يكفّ عمّن يكفّ عنه ممنوع بل كان ينتظر الفرصة وحصول الشرائط قوله « وَلا تَعْتَدُوا » معناه على الأوّل لا تبدأوا بقتال من لم يقاتلكم وعلى الثاني لا تقتلوا من لا يجوز قتاله كالنساء والصبيان.
الرابعة ( الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (1).
كان أهل مكّة قد منعوا النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن الدخول عام الحديبية سنة ستّ في ذي القعدة وهتكوا الشهر الحرام فأجاز اللّه للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وأصحابه أن يدخلوا في سنة سبع في ذي القعدة لعمرة القضاء ويكون ذلك مقابلا لمنعهم في العام الأوّل ثمّ قال « وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ » أي يجوز القصاص في كلّ شي ء حتّى في هتك حرمة الشهر ثمّ عمّم الحكم فقال : « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ » فانّ دفع الشرّ خير وتسمية المجازي معتديا مجاز تسمية للشي ء باسم مقابله « وَاتَّقُوا اللّهَ » في أخذكم ممّن اعتدى عليكم بحيث لا يتجاوز مثل فعلهم وفي الآية أحكام :
1 - إباحة القتال في الشهر الحرام لمن لا يرى له حرمة أعمّ من أن يكون ممّن كان يرى الحرمة أولا لأنّه إذا جاز قتال من يرى حرمته فقتال غيره أولى.
2 - أنّه يجوز مقاتلة المحارب المعتدي بمثل فعله لقوله « والحرمات قصاص ».
3 - أنّه إذا دهم المسلمين داهم من عدوّ يخشى منه على بيضة الإسلام يجوز قتاله ويكون ذلك واجبا لا أنّ الجهاد من خاصيّته أنّه إذا كان جائزا كان واجبا سواء كان الامام حاضرا أولا.
ص: 344
4 - أنه إذا كان الإنسان بين قوم ودهمهم عدوّ فخشي منه على نفسه جاز قتال ذلك العدوّ ويكون قصده الدفاع عن نفسه لقوله « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ».
5 - أنه يجوز أيضا بمقتضى الآية أنّ الغاصب والظالم إذا لم يردّ المظلمة أن يؤخذ من ماله قدر ما غصب سواء كان بحكم الحاكم أولا.
6 - أنّ المجازي منصور إذا اتّقى في مجازاته التعدّي لأنّ اللّه معه.
الخامسة ( وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) (1).
كان قوم من المسلمين بمكّة قد عجزوا عن الهجرة فاجتهد الكفّار على افتتانهم عن دينهم وتوعدوهم بالمكروه استضعافا فدعا أولئك المستضعفون ربّهم أن يخلّصهم منهم وينصرهم عليهم فأنزل اللّه هذه الآية حضّا للمؤمنين وحثا لهم على الجهاد وتخليص إخوانهم من أيدي الكفّار والاستفهام هنا مشوب بالتحضيض قوله « وَالْمُسْتَضْعَفِينَ » منصوب عطفا على محلّ « فِي سَبِيلِ اللّهِ » وقيل المضاف محذوف أي وفي نصرة المستضعفين أو إعزاز المستضعفين « والقرية » هي مكّة فلمّا فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مكّة كان لهم وليّا فاستعمل عليهم عتّاب ابن أسيد فكان لهم نصيرا وفي الآية دلالة على وجوب الهجرة عن دار الشرك وعذر العاجزين عن ذلك ووجوب السعي على المؤمنين في تخليصهم من أيدي الكفّار وفيها أيضا أخبار بإجابة الدعاء خصوصا لمن هو في حال الضرورة والعجز وفيها أيضا دلالة على وجوب المدافعة عن المؤمن العاجز عن دفع من يظلمه لأنّه من باب الحسبة.
ص: 345
السادسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ) (1).
الخطاب للمسلمين من المنافقين والمؤمنين المخلصين بدليل قوله فيما بعد « وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ » أي يثبّطنّ « و خُذُوا حِذْرَكُمْ » أي خذوا طريق الاحتياط واسلكوه واجعلوا الحذر ملكة في دفع ضرر الأعداء عنكم والحذر والحذر بمعنى واحد كالإثر والأثر « فَانْفِرُوا » أي سيروا إلى العدوّ « ثُباتٍ » أي جماعة بعد جماعة وهي السرايا « أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً » أي جيشا واحدا وقيل الحذر السلاح عن الباقر عليه السلام قال الطبرسيّ وهو الأصحّ لأنه أوفق بقياس كلام العرب ويكون من باب حذف المضاف أي آلات حذركم (2) وفيه نظر لأنّه في غير هذه الآية عطف السلاح على الحذر كما تقدّم (3) والعطف يقتضي المغايرة وقوله إنّه من باب حذف المضاف خروج عن القول المنقول لأنّه فسّر الحذر بأنّه السلاح ولو قال إنّه سمّي السلاح حذرا لأنّه به يحصل الحذر لكان أصوب وعلى هذا يكون قوله « خُذُوا » مستعملا في موضوعه أي تناولوا وفي الآية حثّ على الاستعداد للجهاد وإيجاب النفور إلى الأعداء للجهاد.
السابعة ( فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (4).
لمّا أمر المسلمين كافّة بالجهاد في سبيله أخبر هنا بأنّ الأمر في الحقيقة إنّما يتوجّه إلى السعداء المخلصين وهم الّذين يبيعون الحياة الدنيا بالحياة الآخرة أي
ص: 346
يستبدلون تلك بهذه رضى وإيثارا كما يرضى البائع بالثمن عوضا عن سلعته والشرى يستعمل بمعنى البيع وبمعنى الاشتراء والأوّل أظهر في الاستعمال وهو المراد هنا ثمّ إنّه تعالى حثّ على الجهاد حثا عظيما بأنّ المجاهد لا بدّ له من الفوز بإحدى الحسنيين (1) إمّا الأخروية فلازمة حتما فإنّها تابعة لقصده ونيّته سواء غلب أو غلب وأمّا الدنيويّة فإنّها حاصلة مع الظفر قطعا ومع عدمه يتخلّص من الملامة والمذمّة ويحصل [ على ] المدح والثناء.
ومثل هذه الآية قوله تعالى ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (2) وسبب نزولها أنّه لمّا بايعت الأنصار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ليلة العقبة وهم سبعون رجلا قال عبد اللّه بن رواحة : اشترط لربّك ولنفسك ما شئت فقال أشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال الجنّة قال [ عبد اللّه ] ربح البيع لا نقيله ولا نستقيله فنزلت (3).
وفيها أيضا حثّ على الجهاد وعظم فائدته ومعناه إنّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم الحيوانيّة الأمّارة [ بالسّوء ] بالجنّة فالبائع هي أنفسهم العاقلة والمشتري هو اللّه والسلعة هي النفس الحيوانيّة والثمن هو الجنّة والمراد بالاشتراء هو إبدال أنفسهم الحيوانيّة بالجنّة فاستعار له الاشتراء والاستعارة مبالغة في التشبيه تقول زيد كالأسد فإذا بالغت قلت زيد الأسد وليس شراء حقيقيّا لأنّ اللّه هو المالك للثمن والسلعة والبائع إلّا أنّ للبائع اختصاصا بالسّلعة كاختصاص المستعير بالعين المعارة وكما لا يصحّ أن يبيع المستعير العين على مالكها فكذلك هنا ولمّا كانت السلعة غير حاضرة
ص: 347
احتاج إلى رهن يثق به البائع وهو هنا تأكيد الوعد فلذلك قال « وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا » وهو مصدر مؤكّد لمضمون الجملة وهو « أنّ لهم الجنّة » و « حقّا » صفته.
قوله « وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ » استفهام على وجه الإنكار وأوفى للتفضيل أي ليس أحد أكثر وفاء ولا أصحّه من اللّه وكيف لا وخلف الوعد قبيح والقبيح محال عليه سبحانه « فَاسْتَبْشِرُوا » أي خذوا حظّكم من الغبطة والسرور في هذه المبايعة وكيف لا وقد أعطيتم الشي ء الحقير الفاني وأخذتم الخطير الباقي « وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ».
روي أنّ رجلا قال لزين العابدين عليه السلام إنّك قد آثرت الحجّ على الجهاد واللّه يقول « إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ » فقال عليه السلام فاقرأ ما بعدها « التّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ » إذا رأيت هؤلاء فالجهاد معهم أفضل من الحجّ (1) إشارة منه عليه السلام إلى أنّ الجهاد المأمور به هو الجهاد مع الامام المعصوم لا أيّ جهاد كان تنبيها للسائل على جهله فإنّه ليس ممّن له الاعتراض على مثل هذا الرجل العظيم الشأن العالم بشرائط العبادات وأسرار الطاعات.
الثامنة ( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (2).
المراد بأهل المدينة من سكنها من المهاجرين والأنصار و « الأعراب » جمع
ص: 348
عرب كالأعجام جمع عجم وهم الّذين يسكنون البوادي يقال رجل عربيّ إذا كان من العرب وإن سكن البلاد وأعرابيّ إذا سكن في البادية والظمأ شدّة العطش والنصب التعب والمخمصة الجوع والموطئ في قوله « وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً » إمّا مصدر أو مكان الوطي والمراد الوطي بالقدم والحافر وقيل الإيقاع والابادة كقوله عليه السلام « آخر وطأه وطئها اللّه » (1) وفيه نظر لأنّه مجاز وما قلناه حقيقة ولا ضرورة للنقل عنه ولا قرينة والنيل مصدر ومعناه كلّما يسوؤهم ويضرّهم من قول أو فعل والنفقة الصغيرة هي القليلة فإنّ القليل صغير أيضا فإنّ الصغير يقال بالنسبة إلى الحجم والقليل بالنسبة إلى الثقل والوزن وبينهما تلازم ولذلك يستعمل أحدهما مكان الآخر وكذا الكلام في الكبير والكثير والوادي في الأصل كلّ منفرج بين الجبال والآكام يكون مجمعا للسيل وهو اسم فاعل من ودى إذا سال وهو صفة للماء فيسمّى المكان به تسمية المحلّ باسم الحالّ وقد يستعمل الوادي في مطلق المكان ويمكن أن يكون هو المراد هنا.
إذا عرفت هذا ففي الآية تحريم التخلّف عن الجهاد وعدم الخروج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لقوله « ما كان » أي ما كان لهم في حكم اللّه وشرعه أن يتخلّفوا وكذلك ما كان لهم أن يرغبوا في حفظ أنفسهم عن متاعب السفر وما لاقوه من العسرة عن نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أي ليست أنفسهم بأعزّ من نفسه ثمّ إنّ ذلك التحريم له فائدتان كلّيّة وجزئيّة أمّا الكليّة فلم يصرّح بها في الآية وهي إهانة الكفّار وإذلالهم وكسر شوكتهم فيحصل بذلك إعزاز الدين وأهله وأيضا لو لم ينفروا إليهم ولا يطأوا أرضهم لجاز أنّ المشركين يطأون أرض المسلمين ويحصل الفساد العظيم وأمّا الجزئيّة فإنّ المجاهدين يكتب لهم ثواب الجهاد بمجرّد النيّة وإن لم يحصل قتال وثواب ما يحصل لهم من عطش أو تعب أو جوع وغير ذلك فإنّ ذلك كلّه إحسان « إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ » وهنا فوائد :
1 - سبب نزول الآيت [ ين ] أنّه لمّا تخلّف جماعة عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله في غزاة تبوك بغير
ص: 349
إذن منه فقرّعهم [ اللّه ] على تخلّفهم ووبّخهم بآيات كثيرة كقوله ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ ) (1) وغيرها اعتذر بعضهم بأنّه لم يكن في تلك الغزاة قتال ولا حرب فأيّ فائدة كانت تحصل بالخروج فنزلت ، ولذلك استدلّ أبو حنيفة بها على أنّ المدد الّذي يلحق العسكر بعد الفراغ من القتال يسهم لهم من الغنيمة بمجرّد قصدهم وهو مذهب أصحابنا أيضا خلافا للشافعيّة.
2 - استدلّ بعضهم بالآية على أنّ الجهاد واجب على الأعيان وفيه نظر لجواز أنّه كان في مبدء الإسلام حيث كان في المسلمين قلّة فلمّا كثروا نسخ عنهم (2) ولذلك قال بعدها « وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ».
3 - قال قتادة هذا الحكم مختصّ بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله لا يجوز التخلّف عنه في غزاة من الغزوات إلّا لعذر وأمّا غيره من الأئمّة فيجوز التخلّف عنهم وقال الأوزاعيّ وابن المبارك إنّ هذا الحكم عامّ لأوّل الأمّة وآخرها وهو موافق لمذهبنا من قيام الإمام مقام الرسول في كلّ الأحكام نعم إنّ الجهاد من فروض الكفايات إذا قام به بعض فيه كفاية سقط عن الباقين.
4 - في الآية دلالة على أنّ كلّ تعب وظماء وجوع وإنفاق يحصل في حجّ أو جهاد أو زيارة أحد المعصومين عليهم السلام أو طلب علم أو أيّ طاعة كانت فإنّ ذلك يكتب لصاحبه وإن لم تحصل غايته وتعذّرت من غير جهته.
التاسعة ( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (3).
ص: 350
قرئ « غير » بالحركات الثلاث أمّا الرفع فصفة للقاعدون أو بدل وأمّا النصب فعلى الاستثناء وقال الزجّاج حال من القاعدون أي لا يستوي القاعدون حال خلوّهم من الضرر وأمّا الجرّ فهو صفة للمؤمنين أو بدل منه « ودرجة » نصب على المصدر أو على التميز « وكلّا » منصوب على المفعوليّة قدّم على عامله لكونه أهمّ و « أجرا » أيضا منصوب إمّا على المصدر أو على التميز.
واعلم أنّ القاعدين عن الجهاد من المؤمنين قسمان أحدهما من لا ضرر به لكنّه قعد للاذن له في ذلك أو لقيام من فيه كفاية وثانيهما من به ضرر يمنعه عن الخروج ولولاه لخرج فنفي المساواة وقع بين القسم الأوّل وبين المجاهدين في الآية صريحا وأمّا القسم الثاني فنفي المساواة بين المجاهدين وبينه أيضا حاصل لأنّ النيّة مشتركة بينهما ويزيد المجاهدون بالفعل فلا مساواة أيضا ثمّ لمّا كان نفي المساواة مجملا أردفه بالبيان وهو قوله « فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً » ولمّا قضت الضرورة أنّ من قعد لعذر ليس كمن قعد لا لعذر وجب كون التفضيل على الأوّل أعني من قعد لعذر أقلّ وإليه أشار بقوله « درجة » وعلى الثاني وهو من قعد لا لعذر أكثر وإليه أشار بقوله « أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً » أي للذنوب « وَرَحْمَةً » أي تفضّلا زائدا على المستحقّ بحسب مشيّته تعالى.
وقيل : المجاهدون الأوّلون من يجاهد الكفّار والآخرون من بجاهد نفسه وعليه دلّ قوله صلى اللّه عليه وآله « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (1) وقيل بل الدرجة ارتفاع شأنهم عند اللّه والدرجات منازلهم في الجنّة وقيل الدرجة ما حصل لهم في الدنيا من الثناء الحسن والغنيمة والدرجات في الآخرة. قوله « وَكُلًّا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى » أي المثوبة الحسنى وهي الجنّة والتنوين عوض من المضاف إليه أي كلّ واحد من المذكورين. وفي الآية فوائد :
1 - التصريح بأنّ الجهاد ليس فرض عين وإلّا لما كان القاعد لا لضرورة معذورا وهو باطل.
ص: 351
2 - سقوطه عمّن به ضرر كالعمى والعرج والإقعاد وكبر السنّ والفقر لأنّ جميع ذلك يشمله لفظ الضرر.
3 - « روى زيد بن ثابت أنّه لم يكن في الآية « غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ » فجاء ابن أمّ مكتوم وهو أعمى وهو يبكي وقال يا رسول اللّه كيف بمن لا يستطيع الجهاد فغشيه الوحي ثانيا ثمّ سري عنه فقال اقرأ « غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ » فألحقتها والّذي نفسي بيده لكأنّي أنظر إلى ملحقها عند صدع [ الوحي ] في الكتف (1) وفيه دلالة على [ جواز ] تأخير البيان عن وقت الخطاب.
العاشرة ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (2).
هذه الآية صريحة في عدم وجوب الجهاد على هؤلاء المذكورين « والضعفاء » هم الهرمى والزمنى والنصح لله ورسوله هو الإيمان الحقيقيّ بهما وفي الآية دلالة على نفي الحرج عن العاجز مطلقا أي بنفسه وبماله فلا يجب عليه الاستنابة ولو قدر عليها بماله ، وقال بعض أصحابنا يجب على العاجز بنفسه القادر بماله أن يستنيب عنه غيره لقوله تعالى ( وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) ذمّهم على عدم إنفاقهم أموالهم مع القدرة عليها وليس ذلك مع الجهاد بالنفس وإلّا لكان إنفاقه على نفسه فيكون لا معه وهو المطلوب وفيه قوّة وفي الآية دلالة أيضا على عدم وجوبه على العبد لقوله « لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ » والعبد لا يملك شيئا عندنا فلم يحصل الشرط في حقّه.
ص: 352
وفيه آيات :
الاولى ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ] ) (1).
قتال مجرور على أنّه [ م ] بدل بدل الاشتمال من « الشهر الحرام » و « صدّ عن سبيل اللّه » أي منع عن طاعة اللّه و « كفر به » أي باللّه « والمسجد » ليس معطوفا على « به » بل مجرور عطفا على « سبيل اللّه » أي صدّ عن المسجد [ الحرام ] « وإخراج » مرفوع عطفا على صدّ وهما مرفوعان بالابتداء « وأكبر » خبر عن الجميع لأنّ أفعل التفضيل يستوي فيه المفرد والمثنّى والمجموع « والفتنة » هو ما ارتكبوه من الإخراج أو الشرك.
قيل سبب نزولها أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعث سريّة أميرها عبد اللّه بن جحش الأسديّ - وكان ابن عمّته صلى اللّه عليه وآله - قبل قتال بدر بشهرين في جمادى الآخرة يرصدون عير القريش عليها تجارة من الطائف وكان في العير [ عمرو بن ] عبد اللّه الحضرميّ
ص: 353
وثلاثة معه فالتقوا بهم أوّل يوم من رجب وهم يظنّونه من جمادى الآخرة فقتلوا [ عمرو بن ] عبد اللّه واستأسروا اثنين من أصحابه واستاقوا العير فقالت قريش قد استحلّ محمّد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف فردّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله العير والأسارى وكتب قريش إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله يسألونه عن القتال في الشهر الحرام تشنيعا وتبكيتا (1).
وقيل : السائل المسلمون وأهل السريّة تألّما ممّا وقع منهم وقالوا لا نبرح حتّى تنزل توبتنا وعن ابن عبّاس لمّا نزلت أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الغنيمة وأخرج خمسها وهو أوّل خمس وغنيمة في الإسلام وقسم الباقي بعد الخمس في السريّة (2) وفيه دلالة على إخراج الخمس من أصل الغنيمة ونقل الطبرسيّ أنّه صلى اللّه عليه وآله عقل ابن الحضرميّ أي أدّى ديته وفي الآية أحكام :
1 - تحريم القتال في الشهر الحرام لقوله تعالى ( قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) أي ذنب كبير لكن عند أصحابنا ليس ذلك على إطلاقه بل التحريم بالنسبة إلى من يرى حرمة الشهر إذا لم يبدأ أمّا من لا يرى له حرمة أو يرى ويبدأ فيجوز القتال ولذلك قال [ اللّه ] تعالى « قتال » بالتنكير والنكرة في الإثبات لا تعمّ وقال الأكثر إنّه كان حراما مطلقا ثمّ نسخ وقال عطا بل التحريم باق لم ينسخ.
2 - أنّه لمّا اعترض المشركون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بفعل السريّة أمره اللّه تعالى بمقابلتهم بأعظم ممّا فعلته السريّة على غير قصد وذلك هو صدّهم عن سبيل اللّه وكفرهم به وإخراج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأتباعه من المسجد الحرام وصدّهم له عام الحديبيّة و [ أنّ ] ذلك أعظم عند اللّه من قتل ذلك الشخص.
3 - أنّ أهل السريّة لمّا عظم عليهم ما فعلوه وتابوا منه ظنّ قوم أنّهم إن خلصوا من الإثم فليس لهم من الأجر شي ء فأنزل اللّه تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ ) (3).
ص: 354
4 - أخبر سبحانه بإصرار أهل الكفر على عداوة المسلمين وأنّهم لا يزالون على ذلك حتّى يرجعوهم عن دينهم و « حتّى » هنا للتعليل وقوله « إِنِ اسْتَطاعُوا » استبعاد لاستطاعتهم كقولك لعدوّك إن ظفرت بي فلا تبق عليّ وأنت واثق بعدم ظفره.
5 - لمّا ذكر الارتداد استطرد حكمه فقال « وَمَنْ يَرْتَدِدْ » واختلف [ في أنّه ] هل نفس الردّة محبط للعمل أو مع الموت عليها قال أبو حنيفة بالأوّل والشافعيّ بالثاني وبه قال أصحابنا وهو الحقّ سواء كان ارتداده عن فطرة أولا فإنّ الموافاة عندنا بالإيمان شرط في استحقاق الثواب.
الثانية ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) (1).
يقال ثقفت الرجل إذا وجدته وأنت متمكّن منه حاذق على ذلك وأصله الحذق للشي ء علما وعملا وهذه الآية ناسخة لكلّ آية فيها أمر بالموادعة أو الكفّ عن القتال كقوله تعالى ( وَدَعْ أَذاهُمْ ) (2) وقوله ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (3) وأمثاله لأنّ حيث للمكان أي في أيّ مكان أدركتموهم من حلّ أو حرم وكان القتال في الحرم محرّما ثمّ نسخ بهذه الآية وأمثالها فصدرها ناسخ لعجزها قوله « وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ » أي من مكّة فإنّهم أخرجوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وجماعة من المسلمين من الحرم وكذلك صدّوهم عن الدخول عام الحديبية فلا جناح في إخراجهم لأنّ البادي أظلم وقد فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عام الفتح كذلك « وَالْفِتْنَةُ » أي المحنة والبليّة بإخراجهم عن وطنهم « أَشَدُّ » عليهم من قتلهم لدوام التألّم بذلك وقيل
ص: 355
الشرك أي شركهم في الحرم أشدّ عليهم من قتلكم لهم ومن إخراجهم من الحرم.
قوله « وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » قيل سبب نزولها أنّ المسلمين لمّا وقع صلح الحديبية خافوا أنّهم إذا رجعوا في العام المقبل أن لا يفي المشركون بعهدهم فيضطرّون إلى قتالهم في الحرم في الشهر الحرام فأمرهم اللّه بقتالهم إن لم يفوا فإنّ جزاء السيّئة سيّئة.
فائدة :في حكم هذه الآية قوله تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وفيه زيادة (1) تحريص للنبيّ صلى اللّه عليه وآله عليهم بقوله « وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ».
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (2).
« يَلُونَكُمْ » أي يقربون منكم أي قاتلوا الكفّار كلّهم الأقرب فالأقرب لأنّ قتالهم مع تباين أمكنتهم دفعة واحدة من المحالات فلا بدّ من الترتيب والأحوط البدأة بالأقرب ما لم يكن الأبعد أشدّ خطرا من الأقرب ولذلك قاتل النبيّ صلى اللّه عليه وآله بني قريظة وبني النضير أوّلا وفتح مكّة قبل حرب هوازن ولم يحارب أهل فارس لبعدهم وسئل ابن عمر عن قتال الديلم فقال عليكم بالروم. والغلظة الشدّة وخلاف اللّين « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ » لأنّه أمر بالتقوى ومن المحال أن يأمر بشي ء ويكون مع ضدّه ويجوز أن يريد المتّقين عن الفشل واللّين والفرار لأنّه أمر بأضدادها.
الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (3).
ص: 356
قيل : المراد بالزحف الجيش الدهم الّذي يرى لكثرته كأنّه يزحف وقيل الزحف الدنوّ يسيرا يسيرا من زحف الصبيّ إذا دبّ على مقعده وهو مصدر منصوب على الحال نحو جاء زيد ركضا وهو إمّا حال من المفعول وهو ظاهر الآية أو حال من الفاعل أو منهما معا والتحرّف الميل إلى حرف أي طرف ومنه التحرّف إلى طلب الرزق وهو الميل إلى جهة يظنّ فيها الرزق قوله « لقتال » أي لا يكون للفرار بل لحضانة الموضع وقيل هو الكرّ بعد الفرّ والتحيّز الميل إلى حيّز والفئة قيل هي الجماعة من الناس المنقطعة عن غيرها وقيل هو رئيس العسكر سمّي به لأنّ أصحابه يرجعون إليه في حوائجهم وانتصابهما على الحال أي ومن يولّ دبره فقد باء بغضب من اللّه إلّا في هذين الحالين ويحتمل نصبهما على الاستثناء وفيها أحكام :
1 - أنّه يحرم الفرار من قتال الكفّار بعد الالتقاء بهم إلّا في حالتي التحرّف أو التحيّز.
2 - أنّ الخطاب عامّ في كلّ الكفّار وكلّ المسلمين وقيل مختصّ بحرب بدر لأنّها نزلت في تلك الواقعة وقد عرفت مرارا أنّ خصوص السبب لا يخصّص.
3 - أنّ وجوب الثبات وحرمة الفرار ليس مطلقا بل مقيّد بعدم زيادة العدوّ على الضعف إذ مع زيادته يجوز الفرار لما يأتي.
4 - أنّه إذا لم يزد على الضعف وتحقّق العطب هل يجب الثبات ويحرم الفرار أم لا ، الحقّ الأوّل لعموم قوله ( إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ) (1) وقيل بالثاني لقوله ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (2) وفيه ضعف لأنّ التغرير في الحرب من لوازمه.
5 - التحرّف للقتال الاستعداد له بأن يصلح لأمته أو يطلب ماء لمكان عطشه أو مأكولا لجوعه أو تكون الشمس في مقابلته ويتأذّى بها أو غير ذلك ويشترط في ألفية صلاحيّتها للاستنجاد بدونه أو معه قريبة كانت أو بعيدة اللّهمّ إلّا أن يفرط
ص: 357
البعد بحيث يعد فرارا.
6 - الفرار هنا مع الشرائط كبيرة للتوعّد عليه بالنار والتوبة منه العود إلى مركزه وإظهار الندم والعزم على القتال.
7 - (1) في معنى الآية قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (2) في العموم والتقييد بعدم الزيادة على الضعف وقوله « وَاذْكُرُوا اللّهَ » أي اذكروا عظمة اللّه لتستعظموا مخالفته بعدم الثبات كي تفلحوا بذلك.
الخامسة ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ ) (3).
التحريض والتحضيض والتحريص بمعنى واحد وهو الترغيب والحثّ على الشي ء ومدلول الآية الأولى أمر اللّه لرسوله أن يرغّب المؤمنين في القتال ووعدهم النصر على ذلك وإن كثر العدوّ حتّى يقاوم العشرة مائة ولفظه خبر ومعناه الأمر وكان ذلك تكليفهم في مبدء الإسلام ثم نسخ ذلك عنهم بعد مدّة بالآية الثانية وهي قوله « الْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ » وهو من باب النسخ بالأخفّ وسببه أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعث حمزة عليه السلام في ثلاثين راكبا فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب فثقل ذلك
ص: 358
عليهم وضجّوا منه فخفّف اللّه عنهم بمقاومة الواحد الاثنين وهنا فوائد :
1 - لمّا كان مطلوب الكفّار في القتال ضدّ مطلوب اللّه كانوا مغالبين لله ومن غالب اللّه غلبه اللّه ولمّا كان المؤمنون مطلوبهم مطلوب اللّه كان اللّه ناصرهم ومن نصره اللّه لن يخذل أبدا ولذلك علم بالاستقراء أنّ الباغي مصروع دائما ولهذا السرّ قال تعالى ( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) أي لا يفقهون أنّهم مغالبون اللّه تعالى ومغالبة مغلوب. ووجه آخر وهو أنّ من لا يعرف الآخرة فالحياة عنده لا تكون إلّا هذه الدنيوية فهو يشحّ بها فيجين [ ويفرّ ] ومن اعتقد الآخرة وأنّ سعادته فيها لم يبال بهذه الحياة [ الدنيا الفانية ] فيخوض الغمرات ويقاتل الجماعات.
2 - المراد بالضعف الضعف البدنيّ لا في البصيرة في الدين كما قال الطبرسي أما أوّلا فلأنّه المتبادر إلى الذهن فيكون حقيقة فيه وأمّا ثانيا فلأنّ قرينة التخفيف تدلّ على ذلك وأمّا ثالثا فلأنّ الضعف البدنيّ مناسب للتخفيف والنسخ بخلاف الضعف في البصيرة.
3 - الفرق بين الحكمين أنّ المسلمين لمّا كان فيهم قلّة كلّفهم بمقاومة عشرة لمائة وإن علم فيهم ضعفا ولمّا كثروا زال المانع فخفّف عنهم لسعة رحمته وقرئ بفتح الضاد وضمّها للسبعة وقرأ أبو جعفر ضعفاء جمعا.
4 - إنّما كرّر العدد في الناسخ والمنسوخ لأنّ الحال قد يتفاوت في المقاومة فربّما لا يقاوم العشرة المائة ويقاوم المائة الألف وكذلك قد لا يقاوم المائة المائتين ويقاوم الألف الألفين فالتكرار للدلالة على وقوع الغلبة للمؤمنين مع قلّتهم وكثرتهم وبعبارة اخرى إنّما ذكرت القرينة الثانية للدلالة على أنّ غلبة المؤمنين متحقّقة وإن ازداد الكفّار بتلك النسبة أضعافا مضاعفة.
5 - أنّ مدلول الآية وجوب ثبات الجمع لمثليه وأنّه لا يجب لو كان العدوّ أكثر من الضعف فعلى هذا هل يجوز انهزام مائة بطل عن مائتي ضعيف وواحد من اثنين أم لا؟ الأولى لا يجوز لأنّ العدد معتبر مع تقارب الأوصاف فعلى هذا يجوز هرب مائة ضعيف من المسلمين من مائة بطل مع ظنّ العجز وفيه نظر.
ص: 359
6 - لو زاد الكفّار على الضعف وظنّ السلامة استحبّ الثبات ولو ظنّ العجز وجب الهرب لقوله ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (1).
7 - لو انفرد اثنان بواحد هل يجب الثبات احتمالان من كونهما لم يزيدا على الضعف ومن جواز اختصاص الحكم في الآية بالجماعة إذ الهيئة الاجتماعيّة لها أثر في المقاومة وهو الأقرب.
السادسة ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (2).
قال ابن عباس : جهاد الكفّار بالسيف وجهاد المنافقين باللّسان يريد بإقامة الحجّة عليهم والوعظ لهم واختاره الجبائيّ وقال الحسن وقتادة جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وفيه نظر فانّ الحدود تقام أيضا على الفسّاق من المسلمين مع أنّ ذلك لا يسمّى جهادا « وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ » أي أسمعهم الكلام الغليظ ولا تحابّهم ولا ترقّ لهم وعن ابن مسعود إن لم يستطع بيده فبلسانه فان لم يستطع فليكفهرّ في وجهه فان لم يستطع فبقلبه بالبغض له والتبرّي منه وفي قراءة أهل البيت عليهم السلام « جاهد الكفّار بالمنافقين » قالوا لأنّه لم يكن عليه السلام يجاهد منافقا بل يتألّفه (3) فان صحّ هذا النقل فهم أعلم بما قالوه وإلّا فالقراءة المشهورة المنقولة تواترا معها الدليل ولها الحجّة فإنّ تألّف المنافقين لم يكن مقصودا لذاته بل ليكون وسيلة إلى تليين قلوبهم فتقبل ما يرد عليها من الحجّة والموعظة وإقامة الأدلّة على دفع الشبهات عنهم وذلك هو الجهاد المأمور به وفي الآية فوائد :
1 - الأمر بجهاد الكفّار ، وهم قسمان من له كتاب أو شبهة فهؤلاء يقاتلون
ص: 360
حتّى يسلموا أو يلتزموا بشرائط الذمّة وإن لم يحصل منهم أحد الأمرين قتلوا وسيأتي حكمهم ومن ليس له كتاب ولا شبهة فهؤلاء يقاتلون حتّى يسلموا وإلّا [ ي ] قتلوا وسيأتي أيضا حكمهم.
2 - الأمر بجهاد المنافقين بإقامة الحجّة فيدخل فيه جهاد كلّ مبتدع ومعتقد خلاف الحقّ قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه ومن لم يفعل فعليه لعنة اللّه » (1).
3 - الأمر بالغلظة شامل للقسمين فتجب الغلظة على الكفّار وإهانتهم وكذا على المنافقين وأرباب البدع ومعتقدي خلاف الحقّ إلّا لتقيّة تمنع من ذلك أو لخوف ضرر.
السابعة ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) (2).
هذه [ الآية ] إشارة إلى قتال أهل الكتاب وقد وصفهم بصفات أربع كلّ واحدة منها توجب قتالهم الأولى أنّهم لا يؤمنون باللّه في نفس الأمر لأنّهم يعتقدون اللّه على صفة يستحيل أن يوصف بها كقولهم ( عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ) - و ( الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ) (3) ولذلك وصفهم بالاشراك الثانية أنّهم لا يؤمنون باليوم الآخر كما يجب كقولهم ( لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً ) (4) الثالثة أنّهم لا يحرّمون ما حرّم اللّه كشرب الخمر ونكاح المحرّمات وإباحة لحم الخنزير الرابعة أنّهم لا يدينون دين الحقّ والدين إمّا
ص: 361
الإسلام أو الطاعة أي [ إنّهم ] إن كانوا يدّعون دينا أو يفعلون طاعة فهي غير مطابقة للحقّ لتحريفهم كتابهم وانتحالهم أمورا غير مشروعة إذا عرفت هذا فهنا مسائل :
1 - أهل الكتاب هم اليهود والنصارى حقيقة وأمّا المجوس فلهم شبهة كتاب وقيل ليسوا بأهل الكتاب لقوله ( إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ) (1).
وإنّما للحصر والجواب أنّ لهم شبهة وقد ورد في أخبارنا أنّه كان لهم نبيّ فقتلوه وكتاب فحرّقوه ولهذا قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب » (2) و « من » في الآية للبيان.
2 - تقدّم أنّ أهل الكتاب يقاتلون حتّى يلتزموا بأحد الأمرين إمّا الإسلام وأحكامه أو شرائط الذمّة وإنّما اقتصر هنا في غاية القتال على أداء الجزية ولم يذكر الإسلام ولا باقي الشرائط لأنّ الإسلام معلوم الإرادة ولأنّهم وصفوا بالأوصاف الأربعة وفيه قطع لطمع الإسلام منهم وأمّا الاقتصار على ذكر الجزية فلأنّها الركن الأعظم في الشرائط وإذا أخلّوا بها ولم ينقادوا لأحكام الإسلام خرقوا الذمّة.
3 - شرائط الذمّة هي قبول الجزية وأن يجري عليهم أحكام الإسلام وأن لا يؤذوا المسلمين في أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأن لا يحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا يضربوا ناقوسا وأن لا يتظاهروا بشي ء من المحرّمات وأن لا يتناقصوا دين الإسلام بذكر اللّه سبحانه ونبيّه بما لا يجوز وبمخالفة الأوّلين يخرجون عن الذمّة.
4 - الجزية فعلة كجلسة وهي اسم للنوع أي لنوع من الجزاء وعندنا أنّها غير مقدّرة بل بحسب ما يراه إمام المسلمين لأنّه أنسب بالصغار وعند أبي حنيفة يؤخذ في أوّل كلّ سنة من الفقير المكتسب اثنى عشر درهما ومن المتوسّط أربعة وعشرون ومن الغنيّ ثمانية وأربعون ولا يؤخذ من الفقير الّذي لا كسب له وعند الشافعيّ يؤخذ في آخر كلّ سنة من كلّ واحد دينارا فقيرا كان أو غنيّا ولم يفصّل
ص: 362
الفقير إلى المكتسب وغيره.
5 - لا تؤخذ الجزية من النساء والصبيان لأنّهم ليسوا من أهل القتال وهل تؤخذ من الشيوخ؟ قيل نعم للاستسعاد (1) برأيهم وقيل لا ، لعجزهم عن القتال والأوّل أنسب.
6 - اختلف في معنى « عَنْ يَدٍ » قيل أن يعطوها نقدا لا نسية كما يقال بعته يدا بيد أي نقدا بنقد وقيل أن يعطوها بأيديهم لا بنائب فإنّه أنسب بذلّتهم وهو أقرب وقيل عن قدرة وقهر لكم عليهم وقيل اليد هنا النعمة أي عن إنعام لكم عليهم بقبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم.
7 - « وَهُمْ صاغِرُونَ » من الصغار وهو الذلّة والواو للحال أي يعطونها حال ذلّتهم قيل هو أن يدفع ويقهر بحيث تظهر ذلّته وقيل أن يجي ء ماشيا يسلّمها وهو قائم والآخذ جالس ويقال له أدّ الجزية وأنت صاغر ويصفع على قفاه صفيعة.
وقال فقهاؤنا : إنّه التزام أحكام الإسلام وأن تجري عليهم وأن لا يقدّر الجزية عليهم فيوطّنوا أنفسهم على حال وقيل أن يأخذهم بما لا يطيقون حتّى يسلموا وقال الصادق عليه السلام « إنّ اللّه تعالى يقول « حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ » وللإمام أن يأخذهم بما لا يطيقون حتّى يسلموا وإلّا كيف يكون صاغرا وهو لا يكترث بما يؤخذ منه » (2).
8 - قال أبو حنيفة تؤخذ الجزية عن كلّ كافر حربيّا كان أو ذمّيا عابد وثن أو عابد كوكب إلّا من مشركي العرب لقوله عليه السلام لأهل مكّة « هل لكم في كلمة إذا قلتموها ذلّت (3) لكم العرب وأدّت إليكم العجم الجزية » (4) وعند الشافعيّ لا تؤخذ من مشركي العجم وعند أصحابنا إنّما تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس.
ص: 363
الثامنة ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ) (1).
هنا فوائد :
1 - اللّقاء هنا في الحرب « فضرب » أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدّم المصدر نائبا منا به مضافا إلى المفعول هذا ، مع التأكيد والاختصار ، والتعبير به عن القتل إشعار [ ا ] بأنّه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة إن اختاره الامام عندنا وفيه أيضا تصوير له بأشنع صورة والإثخان قيل إكثار القتل وإغلاظه من الثخين وهو
ص: 364
الغليظ وقيل إكثار الجراح بحيث لا يتمكّن من النهوض والوثاق بفتح الواو وكسرها ما يوثق به « فَشُدُّوا الْوَثاقَ » كناية عن الأسر « فَإِمّا مَنًّا [ بَعْدُ ] » أي تمنّون منّا أو تفدون فداء و « أوزار الحرب » آلاتها وأثقالها الّتي لا تقوم إلّا بها كالسّلاح والكراع أي تنقضي الحرب والإسناد مجازيّ أي يضع أهل الحرب وقيل آثامها ومعناه حتّى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم ظاهرا بحيث لم يبق إلّا مسلم أو مسالم « ذلك » أي الأمر ذلك فيكون فصل خطاب أو مفعول أي افعلوا ذلك.
2 - قالت الشافعية إذا أسر الحرّ الذكر المكلّف تخيّر الامام بين القتل والمنّ والفداء والاسترقاق وقالت الحنفيّة يتخيّر بين القتل والاسترقاق فعلى قولهم الآية منسوخة أو مخصوصة بواقعة بدر وظاهر الآية قريب من مذهب الشافعيّة وفي التحقيق الآية تمنع القتل بعد الإثخان والأسر لتقييد المنّ والفداء بكونه بعد الأسر ولم يذكر معهما القتل وعلى التقادير فالاسترقاق علم بالسنّة هذا وقد قيل إنّ الأسر كان محرّما لقوله ( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ) (1) الآية ثمّ نسخ بهذه الآية وقال الحسن البصريّ إنّ الامام مخيّر بين المنّ والفداء والاسترقاق وليس له القتل بعد الأسر وكأنّه جعل في الآية تقديما وتأخيرا تقديره « فَضَرْبَ الرِّقابِ ) ، ( حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) » ثمّ قال « ( حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً ) » وقيل حكم الآية منسوخ بآية السيف وليس بشي ء لأصالة عدم النسخ والتخصيص خير منه.
3 - المنقول عن أهل البيت عليهم السلام (2) أنّ الأسير إن أخذ والحرب قائمة تعيّن قتله إمّا بضرب عنقه أو قطع يديه ورجليه ويترك حتّى ينزف ويموت وإن أخذ بعد تقضّي الحرب يتخيّر الامام بين المنّ والفداء والاسترقاق ولا يجوز القتل ولو حصل منه الإسلام في الحالين منع القتل خاصّة فعلى هذا يكون قول الحسن موافقا لمذهبنا ويقوى القول بالتقديم والتأخير ولا حرج في ذلك.
ص: 365
4 - اختلف القائلون بأنّ الآية لا تقديم فيها ولا تأخير في قوله « حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها » قيل هو غاية لضرب الرقاب وقيل غاية لشدّ الوثاق وقيل للمنّ والفداء وقيل للمجموع بمعنى أنّ هذه الأحكام جارية فيهم حتّى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم وقيل حتّى لا يبقى أحد من المشركين وقيل حتّى لا يبقى دين غير الإسلام وقيل حتّى ينزل عيسى عليه السلام.
5 - أخبر سبحانه أنّه لو يشاء استأصل الكفّار باهلاكهم من غير توسّط فعلكم ولكن أمركم بذلك ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب الجزيل والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم فينقلبوا إلى العذاب الوبيل.
6 - ثمّ أخبر أنّ « الذين قاتلوا في سبيل اللّه » وقرأ البصري وحفص « قتلوا » « فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ » أي لن يضيعها ويهديهم إلى الثواب أو يثيبهم « وَيُصْلِحُ بالَهُمْ » أي شأنهم في الدنيا « وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ » تفصيل لعاقبتهم بعد الاجمال « عَرَّفَها لَهُمْ » في الدنيا فاشتاقوا إليها وعملوا لها أو بيّنها لهم فيعرف كلّ واحد منزله ويهتدي إليه كأنّه كان ساكنه منذ خلق أو طيّبها من العرف وهو طيب الرائحة.
التاسعة ( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).
ص: 366
خمس آيات « ما كان » ما هنا للجحد وكان ناقصة واسمها « أن يكون » على تقدير المصدر أي لا يجوز كون الأسرى عند نبيّ وقرأ أبو جعفر أسارى والباقون أسرى والإثخان هو تكثير القتل وقيل الغلبة على البلدان والتذليل لأهلها « وعرض الدنيا » متاعها سمّي به لعروضه وعدم بقائه إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 – روي (1) أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله أخذ سبعين أسيرا يوم بدر وفيهم العبّاس عمّه وعقيل ابن عمّه أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال قومك وأهلك استبقهم لعلّ اللّه يتوب عليهم وخذ منهم فدية يتقوّى بها أصحابك فقال : عمر كذّبوك [ ونبذوك ] وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم فإنّهم أئمّة الكفر ولا تأخذ منهم الفداء مكّن عليّا من عقيل وحمزة من العبّاس ومكّنّي من فلان وفلان لنسب له فيهم فقال [ له رسول اللّه ] إنّ اللّه يلين قلوب رجال حتّى تكون ألين من اللّين ويقسّي قلوب رجال حتّى تكون أشدّ من الحجارة فمثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال « فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام إذ قال « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً » ثمّ قال صلى اللّه عليه وآله لأصحابه : إن شئتم قتلتم وإن شئتم فاديتم ويستشهد منكم بعدّتهم فقالوا بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بعدّتهم بأحد كما قال صلى اللّه عليه وآله.
ونقل عليّ بن إبراهيم أنّه لمّا قتل النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسرى فقالوا يا رسول اللّه قتلنا سبعين وهم قومك واسرتك أتجذّ أصلهم فخذ يا رسول اللّه منهم الفداء وكان [ أكثر ] الفداء أربعة آلاف درهم وأقلّه ألف درهم وقيل كان فداء كلّ واحد عشرين أوقية وقال ابن سيرين مائة أوقيّة والأوقية أربعون درهما وروي عن الصادق عليه السلام أنّ الفداء كان أربعين أوقيّة والأوقيّة أربعون مثقالا إلّا العباس فانّ فداءه كان مائة أوقيّة وكان قد أخذ منه حين أسر عشرين أوقيّة ذهبا فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذلك غنيمة ففاد نفسك
ص: 367
وابني أخيك نوفلا وعقيلا فقال يا محمّد ليس معي شي ء تتركني أتكفّف الناس ما بقيت؟ فقال أين الذهب الّذي دفعته إلى أمّ الفضل حين خروجك من مكّة وقلت لها ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فان حدث بي حدث فهو لك ولعبد اللّه ولعبيد اللّه والفضل [ وقثم ] فقال العبّاس وما يدريك به فقال أخبرني به ربّي فقال العباس أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك عبده ورسوله واللّه لم يطّلع عليه أحد إلّا اللّه ولقد دفعته إليها في سواد اللّيل قال : فلمّا أخذوا الفداء نزلت الآية وروي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يكره أخذ الفداء ولمّا رأى سعد بن معاذ كراهته في وجهه قال يا رسول اللّه هذا أوّل حرب لقينا فيه المشركين أردت أن تثخن فيهم القتل حتّى لا يطمع أحد منهم في خلافك وقتالك فقال كرهت ما كرهت ولكن رأيت ما صنع القوم واستدلّ جماعة من مخالفينا كأحمد بن حنبل وغيره بهذه القصة على جواز الاجتهاد على النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّ أخذ الفداء لم يكن بالوحي وإلّا لما أنكره اللّه والجواب جاز أنّه كان مخيّرا بين القتل والفداء وكان القتل أولى والعتاب على تركه وأيضا قد نقلنا أنّه كان كارها للفداء فالعتاب كان لغيره.
2 - قال ابن عبّاس وقتادة إنكار الفداء كان من عذر لقلّة المسلمين فلمّا كثروا أذن لهم فيه فنزلت « فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً » وسبب ذلك أنّ اللّه تعالى أراد إرهاب الكفّار وإلقاء الرعب في قلوبهم لإعزاز دينه ونصرة رسوله ولا يتأتّى ذلك إلّا بتكثير القتل فلمّا كثر المسلمون حصل المقصود بسبب كثرتهم فاذن لهم في المفاداة.
3 - قوله « لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ » قال مجاهد معناه لو لا أنّه لا يعذّب على ذنب إلّا بعد النهي عنه لعذّبكم لكن لم يسبق منه نهي فلم يعذّبكم وقال الجبائيّ لو لا ما سبق في حكمه أنّه لا يعذّب على الصغائر لعذّبكم وقال ابن جبير لو لا ما سبق أنّه يحلّ لكم الفداء فيما بعد لعذّبكم قلت ويحتمل معنيين آخرين أحدهما لولا ما سبق في حكمه أنّ أمّة محمّد صلى اللّه عليه وآله لا يعذّبون في الدنيا على ذنب كما كانت الأمم الماضية لعذّبكم وثانيهما لو لا ما كتب لكم أنّكم لا تؤاخذون على خطأ في الاجتهاد لعذّبكم وبيان خطائهم أنّهم قالوا لا مصلحة في قتلهم لرجاء إسلامهم وفي
ص: 368
أخذ الفداء منهم مصلحة للمسلمين لأنّ أكثرهم كانوا فقراء لا مركوب لهم ولا زاد ولا شكّ أنّ مصلحة المسلمين جزئيّة والإثخان في الأرض مصلحة كلّيّة فإذا تعارضتا فالكلّية أولى كما إذا وقعت آكلة في عضو فإنّه يجب قطعه لئلّا يتعدّى إلى البدن كلّه والخطاب لمن أخذ الفداء لا له صلى اللّه عليه وآله لعصمته من الخطاء ولما نقلنا من كراهته لأخذ الفداء وقال الجبائيّ إنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله عصى في هذه القضيّة إجماعا ولم يعيّن والظاهر أنّه في ترك القتل والإثخان وقوله باطل لما ثبت من عصمته مطلقا هذا وقد نقلنا كراهته لأخذ الفداء حتّى قال البلخيّ أجلّاء الصحابة [ كانوا ] برآء من أخذ الفداء وإنّما رغّب فيه غيرهم.
4 - « فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً » إشارة إلى إباحة المغنم قال صلى اللّه عليه وآله : « فضّلت على الأنبياء بخمس بعثت إلى الكافّة وأحلّ لي المغنم ونصرت بالرعب وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وخصّصت بالشفاعة » (1) والغنيمة ما أخذ من الكفّار قهرا وهل الفداء من الغنيمة قيل نعم والمراد بها هنا هو الفداء لأنّ الكلام فيه وقيل لا ، لأنّ الفداء ما أخذ عوضا من النفس وهو غير الغنيمة وفائدة الخلاف في وجوب الخمس وعدمه وأصل الحلال من حلّ العقد ولا فرق بينه وبين المباح في المعنى إلّا أنّ المباح ليس مسبوقا بالحظر بخلاف الحلال لما قلناه أنّه من حلّ العقد ولمّا كانت الغنائم محرّمة على الأمم السالفة قال حلالا والمباح مأخوذ من باحة الدار وسعتها فكونه مباحا معناه موسّع فيه والطيّب ما كان موافقا للطبع و « من » في « مِمّا غَنِمْتُمْ » للتبعيض ولولاها لأوهم تحريم الانتفاعات الباقية وتخصيص الأكل لكونه أعظم الانتفاعات.
5 - [ ثمّ ] إنّه تعالى بشّر الأسرى عقيب أخذ الفداء منهم بأنّه إذا صلحت نيّاتهم وخلص الإسلام في قلوبهم أن يؤتيهم خيرا ممّا أخذ منهم من الفداء وروي عن العبّاس أنّه قال أبدلني اللّه خيرا ممّا أخذ منّي أملك الآن عشرين عبدا وإنّ
ص: 369
أدناهم ليضرب بعشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحبّ أنّ لي بها جميع أموال مكّة وأنا أنتظر المغفرة.
وأنذرهم أنّهم إن يريدوا خيانة الرسول بالردّة عن الإسلام فقد خانوا اللّه من قبل بالشرك ومعاونة المشركين فأمكن منهم بالقدرة عليهم ، كذلك إذا ارتدّوا يمكّن منهم ثانيا كما مكّن منهم أوّلا كما وقع لدريد بن الصمّة ومن ضارعه ممّن أسلم ثمّ ارتدّ وخرج على النبيّ صلى اللّه عليه وآله مع المشركين.
العاشرة ( فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) (1).
الضمير عائد إلى الّذين نقضوا عهدهم وهم بنو قريظة عاهدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على أن لا ينصروا قريشا فأعانوا مشركي مكّة يوم الخندق فلمّا عرّفهم نقضهم قالوا نسينا وأخطأنا فأمره اللّه بمكافاتهم « وإن » شرطية « وما » زائدة لتأكيد الشرط والنون للتوكيد في الفعل أيضا ومعناه إن صادفتهم يا محمّد في الحرب فشرّد بهم من خلفهم أي نكّل بهم تنكيلا تشرّد غيرهم من ناقضي العهود خوفا أن ينكل به قاله أكثر المفسّرين « لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » أي إذا فعلت ذلك كان عظة لغيرهم فيعلمون أنّ عاقبة الغدر وخيمة « وَإِمّا تَخافَنَّ » أيضا جملة شرطيّة كما تقدّم أي إن خفت « مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً » أي نقض عهد « فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ » عهدهم أي ألق إليهم عهدهم واقتصر على ذلك ولا تحاربهم قوله « عَلى سَواءٍ » أي على عدل فإنّهم إذا نقضوا العهد فنبذت إليهم عهدهم لتساويتم لكنّهم لمّا بدءوا استحقّوا الذمّ فعلى هذا نكون الآية الاولى في حال من تكرّر منهم نقض العهد لقوله قبلها « الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ » وهذه لمن ظهر منه أمارات النقض لأنّ التفصيل قاطع للشركة.
ص: 370
لكن يرد هنا سؤال وهو أنّ أهل مكّة حاربهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مع عدم تكرار النقض منهم فيجاب بأنّ معنى الآية الثانية ظهور أمارة النقض وظنّ ذلك وأهل مكّة نقضوا العهد بالفعل وقتلوا رجلا من خزاعة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وفرق بين ظنّ النقض وبين تيقّنه أو يكون المراد أنّ النقض بغير القتل ولم يتكرّر فيقتصر معه على نبذ العهد وبالقتل كأهل مكّة أو مع التكرار كبني قريظة تجوز المحاربة فيكون ممّا خصّ بمنفصل.
قوله « إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ » عدم المحبّة أعمّ من البغضة لجواز أن لا يحبّ ولا يبغض كما أنّ ظهور أمارة النقض أعمّ من نقضه بالفعل ومن عدمه.
الحادية عشر ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (1).
روي في سبب نزولها أنّ رجلا يقال له مرداس من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سريّة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأميرهم غالب العبسي (2) فهربوا و
ص: 371
بقي مرداس متّكلا على إسلامه فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد فلمّا تلاحقوا وكبّروا كبّر ونزل وقالت لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه فأخبروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بذلك فوجد وجدا شديدا وقال قتلتموه إرادة ما معه فنزلت وقيل كان أمير السريّة المقداد وقرأ حمزة وابن عامر « السلم » بغير الألف والباقون « السلام » بالألف ومعناهما واحد قوله « لَسْتَ مُؤْمِناً » أي لست مصدّقا بالإسلام عن قصد وإنّما قلتها خوفا [ من القتل ] « كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ » أي كنتم كفّارا فلمّا أظهرتم الإسلام قبل منكم وقيل كنتم مستخفين بالإسلام خوفا على أنفسكم كذلك مرداس « فَتَبَيَّنُوا » أعادها للتأكيد وقرأ الكسائيّ « فتثبّتوا » بالثاء المنقّطة ثلاثا والباقون بالتاء فوقها نقطتان وهنا فوائد :
1 - أنّ كلمة الإسلام تحقن الدّم والمال على أيّ حال حصلت.
2 - أنّ أسامة بن زيد لم يخرج بتلك الفعلة عن الايمان لمخاطبته به وأنّه لم يقتله إلّا طمعا في ماله لا غير لا لله تعالى ولا إنكارا لإيمانه.
3 - روى ابن عبّاس أنّه لمّا نزلت هذه الآية حلف أسامة أنّه لا يقتل رجلا يقول لا إله إلّا اللّه وبهذا اعتذر إلى عليّ عليه السلام لمّا تخلّف عنه ، وهو عذر غير مقبول لأنّه قام الدليل على وجوب إطاعته في محاربة من حاربه من البغاة خصوصا وقد سمع النبيّ صلى اللّه عليه وآله يقول « يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي » (1) ولكن كرم
ص: 372
علي عليه السلام ستر خطيئته « والعذر عند كرام الناس مقبول ».
4 - في الآية إشارة إلى التثبّت في الأمور والنهي عن العجلة حذرا من سوء عاقبتها.
الثانية عشر ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ) (1).
هذه [ الآية ] إشارة إلى قصّة بدر ومضمونها أنّ جبرئيل عليه السلام أخبر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّ عيرا لقريش أقبلت من الشأم وهي خمس مائة بعير موقّرة عن أمتعة الشأم وفيها أربعون راكبا وإنّ فيها أبا سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام فأخبر المسلمين بذلك وأمرهم بالخروج إليها وقال لعلّ اللّه أن ينفلكموها فخفّ بعضهم وثقل بعض ولم يظنّوا أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يلقى حربا فخرجوا لا يريدون إلّا العير ، فسمع أبو سفيان بخروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فاستأجر رجلا يقال له ضمضم بعشرة دنانير وبعثه إلى مكّة يخبر قريشا بذلك وكانت عاتكة بنت عبد المطّلب قد رأت قبل ذلك في المنام أنّ رجلا صعد على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه فما ترك دارا من دور قريش إلّا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة وأخبرت العباس [ بذلك ] وبلغ ذلك أبا جهل فقال هذه نبيّة ثانية في بني عبد المطّلب ف [ ل ] ما كان اليوم الثالث من الرؤيا [ حتّى ] جاء ضمضم يصيح بأعلى صوته يا آل غالب اللطيمة اللطيمة العير العير إنّ محمّدا وأصحابه قد خرجوا يتعرّضون لعيركم فخرج أبو جهل ينادي النجا النجا عيركم وأموالكم إن أصابها محمّد لن تفلحوا ، فخرجوا بأجمعهم وهم النفير وفي المثل السائر « لا يعدّ في العير ولا في النفير » (2).
ص: 373
وأخرجوا معهم القيان يضربون بالدفوف فأخبروا أنّ العير أخذت الساحل ونجت وقيل لأبي جهل نرجع إلى مكّة قال لا واللّه لا يكون ذلك حتّى ننحر الجزور ونشرب الخمور فيتسامع العرب أنّ محمّدا لم يصب عيرنا فمضى بهم إلى بدر وهي ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنّة.
فنزل جبرئيل عليه السلام فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالقصّة وأنّ اللّه وعده إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا النفير فاستشار النبيّ صلى اللّه عليه وآله أصحابه أيّهما أحبّ إليكم فقالوا العير فتغيّر وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقال إنّ العير قد مضت وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا عليك بالعير فاشتدّ غضبه صلى اللّه عليه وآله فقام أبو بكر وعمر فتكلّما بكلام مضمونه إنّها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت ولا ذلّت منذ عزّت فقال لهما اجلسا فجلسا فقام المقداد رحمه اللّه فقال إنّا نشهد بأنّ ما جئتنا به حقّ واللّه لو أمرتنا أن نخوض الجمر لخضناه معك لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ) (1) بل نقول امض لأمر ربّك إنّا معك [ م ] مقاتلون فجزّاه رسول اللّه خيرا.
فاستبشر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثمّ قال أشيروا عليّ ويريد
ص: 374
بذلك الأنصار لأنّهم كانوا أكثر الناس يومئذ ولأنّهم كانوا بايعوه بالعقبة فقالوا إنّا برآء من ذمّتك حتّى تصل إلى دارنا ثمّ أنت في ذمّتنا نمنعك ما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا وكان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يتخوّف أن لا يرى الأنصار نصرته إلّا على عدوّ دهمه بالمدينة لا غير ، فقام سعد بن معاذ فقال كأنّك أردتنا يا رسول اللّه! قال : نعم ، فقال : إنّا آمنا بك وصدّفناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، إنّا لصبر عند الحرب وصدق عند اللّقاء واللّه لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ولعلّ اللّه أن يريك ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة اللّه. ففرح بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقال سيروا على بركة اللّه وعونه إنّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه وعده واللّه لكأنّي أنظر إلى مصرع أبي جهل وعتبة بن ربيعة وفلان وفلان.
ثمّ أمر بالرحيل إلى بدر فأقبلت قريش وبعثت عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقالوا من أنتم قالوا نحن عبيد قريش قالوا فأين العير قالوا لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يصلّي فانفتل من صلاته وقال إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم [ عليّ بهم ] فأتوه بهم فقال من أنتم قالوا يا محمّد نحن عبيد قريش قال كم القوم قالوا لا علم لنا بعددهم قال كم ينحرون في كلّ يوم من جزور قالوا تسعة إلى عشرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله القوم تسعمائة إلى ألف رجل وأمر عليه السلام بحبسهم فحبسوا ، وبلغ ذلك قريشا ففزعوا وندموا على مسيرهم ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختريّ بن هشام قال أما ترى هذا البغي واللّه ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا [ على محمّد وأصحابه ] واللّه ما أفلح قوم بغوا قطّ ولوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير.
فقال له أبو البختري إنّك سيّد من سادات قريش فسر في الناس وتحمّل العير الّتي أصابها محمّد وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرميّ فإنّه حليفك فقال له عليّ ذلك وما على أحد منّا خلاف إلّا ابن الحنظليّة - يعني أبا جهل - فسر إليه وأعلمه
ص: 375
أنّي تحمّلت العير ودم ابن الحضرميّ وهو حليفي وعليّ عقله.
قال [ أبو البختري ] فقصدت خباءه وأبلغته ذلك فقال إنّ عتبة يتعصّب لمحمّد فإنّه من بني عبد مناف وابنه معه فيريد أن نخذل بين الناس لا واللّات والعزّى حتّى نهجم عليهم بيثرب أو نأخذهم أسارى فندخلهم مكّة ويتسامع العرب بذلك وكان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وكان أبو سفيان لمّا جاز بالعير بعث إلى قريش : قد نجّى اللّه عيركم فارجعوا ودعوا محمّدا والعرب وادفعوه بالسراح ما اندفع وإن لم ترجعوا فردّوا القيان فلحقهم الرسول بالجحفة فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم وردّوا القيان من الجحفة قال وفزع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لمّا بلغهم كثرة قريش واستغاثوا وتضرّعوا فأنزل اللّه تعالى ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) (1) قال ابن عبّاس فلمّا اصطفّ القوم قال أبو جهل اللّهمّ أولانا بالنصر فانصره وقيل إنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لمّا نظر الكثرة من المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال « اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض » فما زال يهتف ربّه مادّا يديه حتّى سقط رداؤه [ عن منكبيه ] قال ولمّا أمسى رسول اللّه وجنّه الليل ألقى اللّه على أصحابه النعاس وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا يثبت فيه قدم فأنزل اللّه المطر رذاذا حتّى اشتدّ وتثبّت أقدامهم وكان المطر على قريش مثل العزالى وألقى اللّه في قلوبهم الرّعب كما قال سبحانه ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) (2).
فعبّأ رسول اللّه أصحابه وكان معه فرسان لا غير أحدهما للزبير ابن العوّام والأخرى للمقداد وسبعون جملا يتعاقبون عليها وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعليّ بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنويّ يتعاقبون على جمل لمرثد وكان مع قريش أربعمائة فرس وقيل مائتان وقيل خمسمائة فلمّا نظروا إلى قلّة المسلمين قال أبو -
ص: 376
جهل ما هم إلّا أكله رأس ولو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد فقال له عتبة أترى لهم كمينا في الحرب أو مددا فبعثوا عمرو بن وهب فجال بفرسه حول المسلمين فرجع فقال : ما لهم كمين ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون ويتلمّظون تلمّظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلّا سيوفهم وما أراهم يألون حتّى يقتلوا ولا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم فقال أبو جهل كذبت وجبنت.
فأنزل اللّه تعالى « وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها » (1) فبعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يا معشر قريش إنّي أكره أن أبدأ بكم فخلّوني والعرب وارجعوا فقال عتبة ما ردّ هذا قوم قطّ فأفلحوا ثمّ ركب جملا له أحمر فنظر إليه رسول اللّه وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال فقال عليه السلام إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر فان يطيعوه يرشدوا فخطب عتبة فقال أطيعوني اليوم واعصوني الدهر كلّه إنّ محمّدا له إلّ وذمّة وهو ابن عمّكم فخلّوه والعرب فان يك صادقا فأنتم أعلى عينا به وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره فقال له أبو جهل جبنت وانتفخ سحرك (2) فقال يا مصفّر استه (3) أمثلي يجبن ستعلم قريش أيّنا الأم وأجبن
ص: 377
وأيّنا المفسد لقومه ولبس درعه وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد وقالوا يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار فانتسبوا لهم فقالوا ارجعوا إنّما نريد الأكفاء فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إلى عبيدة ابن الحارث وكان له يومئذ سبعون سنة فقال له قم يا عبيدة ونظر إلى حمزة وقال قم يا عمّ ثمّ نظر إلى عليّ بن أبي طالب وهو أصغر القوم فقال قم يا عليّ واطلبوا بحقّكم الّذي جعله اللّه لكم فلقد جائت قريش بخيلائها وفخرها « يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ».
ثمّ قال يا عبيدة عليك بعتبة ويا حمزة عليك بشيبة ويا عليّ عليك بالوليد فمرّوا حتّى انتهوا إلى القوم فقالوا أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأظنّها فسقطا جميعا وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتّى انثلما وحمل أمير المؤمنين عليه السلام على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه فقال عليّ عليه السلام لقد أخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها على هامتي فظننت أنّ السماء وقعت على الأرض.
ثمّ اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون يا عليّ أما ترى الكلب قد بهر عمّك فحمل عليه عليّ عليه السلام ثمّ قال يا عمّ طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه عليّ عليه السلام فطرح نصفه ثمّ جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز
ص: 378
عليه وحمل عبيدة حمزة وعليّ حتّى أتيا به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فاستعبر فقال يا رسول اللّه ألست شهيدا قال : أنت أوّل شهيد من أهل بيتي.
وقال أبو جهل لقريش لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتّى ندخلهم مكّة فنعرّفهم ضلالتهم وجاء إبليس في صورة سراقة مالك بن جعشم فقال لهم إنّي جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم فدفعوا إليه راية الميسرة وكانت الراية مع بني عبد الدار فنظر إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال لأصحابه « غضّوا أبصاركم وعضّوا على النواجذ » ورفع يديه فقال « يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد » ثمّ أصابه الغشي فسري عنه وهو يسكب العرق عن وجهه فقال « هذا جبرئيل عليه السلام قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين ».
وروي عن سهل بن حنيف قال لقد رأينا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه من جسده قبل أن يصل إليه السيف وقتل ذلك اليوم من المشركين اثنان وسبعون من صناديدهم قتل عليّ عليه السلام منهم ستّة وثلاثين والملائكة وباقي المسلمين ستّة وثلاثين ولمّا ظفر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وفرغ من الحرب قال له بعض أصحابه يا رسول اللّه عليك بالعير فإنّه ليس دونها ذائد فقال العباس وهو في القيد لا يصلح لك فقال عليه السلام ولم ذلك فقال إنّ اللّه وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك وهذه القصّة وقعت في البين (1).
وهنا فوائد :
1 - أنّ المراد بإحدى الطائفتين العير أو النفير وذات الشوكة هي النفير وغير ذات الشوكة [ هي ] العير والشوكة القوّة.
ص: 379
2 - أنّه أخبرهم إجمالا أنّه وعدهم إحدى الطائفتين وأشار إلى أنّ الواقع هو الظفر بذات الشوكة لأنّه قال « وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ » وقال « وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ » وقطع دابرهم هو الظفر بذات الشوكة وإذا أراد اللّه أمرا وجب وقوعه خصوصا إذا كان من أفعال نفسه وكانت إرادة العبد لا أثر لها ومن هذا المعنى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كأنّي أنظر إلى مصارع القوم. وقال العبّاس لا يصلح لك الظفر بالعير.
3 - معنى قوله « يُحِقَّ الْحَقَّ » أي يثبته ويظهره « بِكَلِماتِهِ » أي آياته المنزلة أو أفعاله الخارقة للعادة كانزال الملائكة وقذف الرّعب في قلوب الكفّار وضرب الملائكة أعناقهم وقطع أيديهم. وقطع دابر الكافرين أي استيصالهم ودابر الإنسان عرقوبه ودابر الطائر كالإصبع يضرب بها وهذه الآية ليس فيها شي ء من فقه الجهاد ولكنّي ذكرتها وذكرت القصّة متابعة لمن تقدّمني ولما فيها من معجزة الرسول صلى اللّه عليه وآله.
الثالثة عشر ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (1).
جنح أي مال والسلم المسالمة أي المصالحة قال ابن عباس هي منسوخة بقوله ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (2) وقال الحسن وقتادة ومجاهد منسوخة بقوله ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (3) والحقّ أنّها غير منسوخة لتعلّق الصلح برأي الامام وبحسب المصالح المتجدّدة ويدلّ على عدم نسخها أنّ قوله « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ » نزلت في سنة تسع وبعث بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إلى مكّة ثمّ صالح أهل نجران على ألفي حلّة ألف في صفر وألف في رجب.
واعلم أنّ الصلح ويقال له الهدنة جائز شرعا لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله صالح أهل مكّة عام الحديبية وكأنّ الآية إشارة إلى ذلك ثم إنّه إنّما يجوز مع رعاية المصلحة
ص: 380
للمسلمين وقد يجب مع الحاجة إليها إمّا لقلّتهم أو لرجاء إسلام جماعة مع الصبر أو لحصول ما يحصل به الاستظهار (1) فان لم يكن حاجة ولا ضرورة ولا مصلحة فلا يجوز ومع حصول أحدها فأقلّ زمانها أربعة أشهر لقوله تعالى ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) (2) وفي طرف الكثرة لا تجوز الزيادة على سنة وفيما بينهما خلاف أقربه اعتبار الأصلح ولا بدّ من تعيين المدّة فلو شرط مدّة مجهولة لم يصحّ ويجب الوفاء بالهدنة الصحيحة ولا يجوز النقض إلّا مع انقضاء المدّة أو ظهور خيانة من الكفّار ولو استشعر الخيانة جاز نبذ العهد إليهم وينذرهم ولا يجوز مع التهمة وكذا يجب الوفاء بالشروط الصحيحة ولو كانت فاسدة فلا يجوز الاغتيال إلّا بعد الإنذار.
الرابعة عشر ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) (3).
قال ابن عبّاس لمّا وقع صلح الحديبية [ وكتبوا كتابا بطريق الصلح ] تضمّن
ص: 381
أنّ من جاء منهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يردّه عليهم ومن أتاهم من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يردّ فقدمت سبيعة بنت الحارث الأسلميّة مسلمة بعد ختم الكتاب فقدم زوجها مسافر وقيل صيفيّ ابن الراهب وكان كافرا فقال يا محمّد اردد عليّ امرأتي فإنّك شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا وهذه طينة الكتاب لم تجفّ فنزلت الآية (1) وقد تضمّنت أحكاما :
1 - قد تقدّم وجوب الوفاء بما تضمّنه عقد الصلح من الشروط الصحيحة لا الفاسدة وصلح الحديبية وإن تضمّن ردّ من أتا [ نا ] منهم لكنّه مطلق قابل للتقييد بعدم الاشتمال على المفسدة فلذلك كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يردّ من الرجال من له عشيرة يمنعونه من الفتنة عن دينه وأمّا من ليس له عشيرة يمنعونه فلم يردّه خوفا من الفتنة وكذا لم يردّ المرأة مطلقا وإن كان لها عشيرة لأنّهم لا يمنعونها من التزويج بالكافر وحينئذ لا تؤمن فتنتها من زوجها فإنّ المرأة تأخذ من دين بعلها.
2 - إذا قدمت المرأة مسلمة تمتحن بمقتضى الآية أي تختبر قال ابن عباس هو أن تستحلف أنّها ما خرجت من بغض زوج [ ها ] ولا رغبة في أرض ولا التماس دنيا ولا عشقا لرجل منّا وإنّما خرجت حبّا لله ولرسوله وبالجملة إذا تحقّق إسلامها لم تردّ وقوله « اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ » أي أنتم مكلّفون بما يظهر لكم من حالها وحقيقة إيمانها معلومة لله سبحانه.
3 - « فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ » أراد الظنّ المتاخم للعلم لا العلم حقيقة فإنّه غير ممكن وعبّر عن الظنّ بالعلم إيذانا بأنّه كهو في وجوب العمل به « فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ » فيه تصريح بوقوع فسخ النكاح من غير طلاق بمجرّد إسلامها لكن ذلك إن كان قبل الدخول وقع الفسخ في الحال وإن كان بعده توقّف استقراره على انقضاء العدّة فلو أسلم الزوج في العدّة فهو أحقّ بها هذا في غير الكتابيّين أمّا هما فان كان الإسلام من الزوج فهو على نكاحه وإن كان من الزوجة فكما تقدّم والتكرار للتأكيد أو الأوّل للفرقة والثاني لتحريم الاستيناف.
ص: 382
4 - إذا قدمت مسلمة ولها زوج فجاء في طلبها فمنعناه وجب على الإمام أو نائبه أن يدفع إليه ما سلّمه إليها من مهر خاصّة دون ما أنفقه عليها من مأكل وغيره ولو كان المهر محرّما كخمر أو خنزير أو لم يكن قد دفع إليها شيئا لم يدفع إليه شي ء ولا قيمة المحرّم وإن قبضته ولو جاء أبوه أو أخوه لم يدفع إليه شي ء هذا ويدفع الإمام أو نائبه ذلك المهر من بيت المال لأنّه من المصالح ولو قدمت بلدا ليس فيه الامام ولا نايبه لم يدفع إلى الزوج شي ء وإن منعناه زوجته [ و ] هذا كلّه في زمان الهدنة أمّا لو قدمت لا مع الهدنة فلا يدفع إليه شي ء لأنّه حربيّ يقهر على ماله.
5 - « وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ » أي لا جناح في نكاح المؤمنات المهاجرات لوقوع الفسخ في نكاحهنّ واستدلّ أبو حنيفة بذلك على أنّه إذا خرج إلينا أحد الزوجين مسلما أو بذمّة وبقي الآخر حربيّا وقعت الفرقة ولا يرى العدّة على المهاجرة ويصحّ نكاحها إلّا أن يكون حاملا وليس بشي ء لجواز اشتراطه بالعدّة كما في حقّ الحامل عنده.
قوله « إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » أي مهورهنّ وفايدة ذكر ذلك إعلام أنّ ما أخذه الأزواج من المهور لا يكفى عن مهر آخر لنكاح مستأنف.
6 - « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » أي لا تتمسّكوا بنكاح الكافرات والعصمة ما يتمسّك به من عقد أو ملك في النكاح وسمّي النكاح عصمة لأنّها لغة المنع والمرأة بالنكاح تكون ممنوعة من غير زوجها وفيه دلالة على أنّه لا يجوز نكاح الكافرة مطلقا حربيّة وذمّيّة دائما ومنقطعا وسيأتي تحقيقه قال مجاهد هو أمر بطلاق من بقي مع الكفّار وقال النخعيّ هي المرأة تلحق بدار الحرب فترتدّ وقال ابن عباس من كانت له امرأة [ كافرة ] بمكّة فلا يعتدّ بها من نسائه لأنّ اختلاف الدارين قطع عصمتها [ وحلّ عقدتها ] وكلّ ذلك تخصيص لعموم اللّفظ من غير دليل وكذا قول من قال : إنّ المراد بالكوافر الوثنيّات لسبب النزول ، باطل أيضا لما عرفت أنّ العبرة بعموم اللّفظ وأنّ السبب لا يخصّص.
7 - « وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا » أي إذا لحقت امرأة منكم بأهل
ص: 383
العهد مرتدّة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها وهم أيضا فليفعلوا ذلك « ذلِكُمْ » أي ما ذكر في الآية « حُكْمُ اللّهِ » في شرعه « يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ » لأنّه عليم بحقائق الأمور محكم لأفعاله.
8 - « وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ » لمّا أمر بأداء المهر إلى الزوج الكافر فقبل ذلك المسلمون وأمر الكفّار بأداء مهر اللّاحقة بهم مرتدّة فلم يقبلوا نزلت هذه « وَإِنْ فاتَكُمْ » أي سبقكم وانفلت منكم « شَيْ ءٌ » أي أحد « مِنْ أَزْواجِكُمْ » إلى الكفّار « فَعاقَبْتُمْ » قيل معناه فغزوتم فأصبتم من الكفّار عقبى وهي الغنيمة فأعطوا الزوج الّذي فاتته امرأته إلى الكفّار من رأس الغنيمة ما أنفقه من مهرها وقيل معناه من العقبة وهي النوبة شبّه أداء كلّ مهر نساء الآخرين بأمر يتعاقبون عليه أي فان جائت عقبتكم من أداء المهر فآتوا من فاتته امرأته إلى الكفّار مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر وقال الزجّاج « فَعاقَبْتُمْ » أي فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتّى غنمتم فآتوا الّذي ذهبت زوجته من الغنيمة المهر قال وقرئ « فأعقبتم » و « فعقّبتم » بتشديد القاف و « فعقبتم » بتخفيف القاف وفتحها وكسرها والجميع معناه واحد فكانت العقبى لكم أي الغلبة حتّى غنمتم.
وكان جميع من لحق بالكفّار ستّ نساء لا غير فأعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أزواجهنّ مهورهنّ من الغنيمة.
الخامسة عشر ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).
نزلت يوم فتح مكّة ، لمّا فرغ النبيّ صلى اللّه عليه وآله من مبايعة الرجال جاءه النساء
ص: 384
يبايعنه قيل كانت مبايعتهنّ بأن يغمس يده في قدح من ماء ثمّ يغمسن أيديهنّ فيه وقيل كان يصافحهنّ وعلى يده ثوب ويشترط عليهنّ الشروط الستّة المذكورة في الآية والقتل إشارة إلى وأد البنات واللّفظ في الآية أعمّ والبهتان قيل إلحاق الولد بزوجها ولم يكن منه وكانت المرأة تلتقط الولد فتقول لزوجها هذا ولدي منك وقيل هو أن تحمل به من الزناء لأنّ بطنها الّذي تحمله بين يديها وفرجها الذي تقذفه بين رجليها ، والمعروف هو كلّ طاعة يؤمر بها وقيل عني به النهي عن النوح وتمزيق الثياب وجزّ الشعر وشقّ الجيب وخمش الوجه والدعاء بالويل واللّفظ أعم من ذلك كلّه.
قوله « وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ » أي فيما فعلنه في حال الكفر وفيه دلالة على أنّ الكافر يعاقب على ترك الفروع وأنّ الإسلام يسقط الإثم عنه وروي (1) أنّه صلى اللّه عليه وآله بايعهنّ على الصفا وكان عمر أسفل منه وهند بنت عتبة متنقبّة متنكّرة مع النساء خوفا من أن يعرفها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : « أبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا » فقالت هند إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال وذلك أنّه بائع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقطّ فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ولا تسرقن » فقالت هند إن أبا سفيان رجل ممسك وإنّي أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أم لا فقال أبو - سفيان ما أصبت من شي ء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعرفها فقال لها وإنّك لهند بنت عتبة فقالت نعم فاعف عمّا سلف يا نبيّ اللّه عفى اللّه عنك فقال « ولا تزنين » فقالت هند أو تزني الحرّة فتبسّم عمر بن الخطّاب لما جرى بينه وبينها في الجاهليّة فقال عليه السلام « ولا تقتلن أولادكنّ » فقالت هند ربّيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة ابن أبي سفيان قتله عليّ بن أبي طالب عليه السلام يوم بدر فضحك عمر حتّى استلقى [ على قفاه ] وتبسّم النبيّ صلى اللّه عليه وآله ولمّا قال « ولا تأتين ببهتان تفترينه » قالت هند : واللّه إنّ البهتان قبيح وما تأمرنا إلّا بالرشد
ص: 385
ومكارم الأخلاق ولمّا قال « ولا تعصينني في معروف » (1) قالت هند ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شي ء.
وفيه آيات :
الاولى ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (2).
استدلّ بهذه الآية المعاصر على قتال البغاة وهو خطاء فإنّ الباغي هو من خرج على الإمام العادل بتأويل باطل وحاربه وهو عندنا كافر لقوله صلى اللّه عليه وآله لعليّ عليه السلام « يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي » (3) فكيف يكون الباغي المذكور مؤمنا حتّى يكون داخلا في الآية ولا يلزم من ذكر لفظ البغي في الآية أن يكون المراد بذلك البغاة المعهودين عند أهل الفقه كما قال الشافعيّ ما عرفنا أحكام البغاة إلّا من فعل عليّ عليه السلام يريد فعله في حرب البصرة والشام والخوارج من أنّه لم يتبع مدبري أهل البصرة والخوارج ولم يجهّز على جريحهم لأنّهم ليس لهم فئة وتبع مدبري أهل الشام وأجهز على جريحهم ، ولذلك لم يجعلها الراونديّ حجّة على قتال البغاة بل
ص: 386
جعلها في قسم من يكون من المسلمين أو المؤمنين فيقع بينهم قتال وتعدّى بعض على بعض فيكون البغي بمعنى التعدّي فيقاتل المتعدّي حتّى يرجع عن تعدّيه إلى طاعة اللّه وامتثال أوامره.
قال الراونديّ ذكر الطبريّ أنّها نزلت في طائفتين من الأنصار وقع بينهما حرب وقتال ، نعم استدلّ الراونديّ على قتال أهل البغي بقوله تعالى ( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (1) أي انفروا شبّانا وشيوخا وأغنياء وفقراء ومشاتا وركبانا. قال وظاهر الآية يقتضي قتال البغاة وهو أيضا غلط فإنّ أيّ ظاهر فيها يدلّ على قتال البغاة حتّى يكون حجّة على المطلوب بل ظاهرها يفيد تأكيد الأمر بالجهاد والمبالغة في ذلك كذا ذكره الطبرسيّ وغيره فيكون المراد بذلك جهاد الكفّار المعهود [ ين ] نعم إن كان ولا بدّ يستدلّ على قتال البغاة بعموم وجوب طاعة اولي الأمر في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2) أو بقوله ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) (3) والمنافق من ظاهره الإسلام والباغي كذلك لاظهاره الإسلام وخروجه عنه ببغيه على إمامه فهو حقيق باسم النفاق ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله لعليّ « لا يحبّك إلّا مؤمن [ تقيّ ] ولا يبغضك إلّا منافق [ شقيّ ] » (4) رواه النسائيّ في صحيحه ورويناه نحن أيضا في أخبارنا ومن يحاربه لا يحبّه قطعا فيكون منافقا وهو المطلوب ولا يلزم من عدم جهاد النبيّ صلى اللّه عليه وآله للمنافقين عدم ذلك بعده ولذلك قال عليّ عليه السلام يوم الجمل : « واللّه ما قوتل أهل هذه الآية إلّا اليوم » يريد به قوله تعالى ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) الآية. (5)
ص: 387
الثانية ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (1).
الإعداد والاستعداد بمعنى واحد قوله « مِنْ قُوَّةٍ » أي ما هو سببها وسبب الانتصار على عدوّكم من العدد والعدد والآية صريحة في الأمر بالرباط وهو حفظ الثغر من هجوم العدوّ [ أ ] وإرهابه ولذلك قال « تُرْهِبُونَ » وكأنّه جواب سؤال مقدّر تقديره لم نعدّ لهم ما استطعنا والعدوّ غائب عنّا؟ فأجاب بأنّ إعداد القوّة لأجل الترهيب لا القتال حتّى يشترط حضوره ويحتمل أن يكون حالا من « أَعِدُّوا » أي [ أعدّوا ] مرهّبين به من الترهيب وهو الإخافة والضمير في « بِهِ » يرجع إلى ما استطعتم و « عَدُوَّ اللّهِ » قيل هم أهل مكّة لأنّها في حال حرب قريش وفيه ما فيه لما عرفت من أنّ خصوص السّبب لا يقتضي خصوص الحكم بل هو عامّ في كلّ عدوّ لله.
« وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ » قيل هم بنو قريظة وقال السدّيّ أهل فارس وقال الحسن هم المنافقون وهو أجود لقوله « لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ » وليس بعيدا أن يكون إشارة إلى البغاة لأنّ الضمير في « مِنْ دُونِهِمْ » عائد إلى « عَدُوَّ اللّهِ » وقال الطبرسيّ إنّهم الجنّ أي الكفرة منهم وقد ورد أنّ صهيل الخيل يؤذيهم وهنا فوائد.
1 - قيل المراد بالقوّة الرمي رواه عقبة بن عامر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وعن عكرمة هي الحصون وفسّر ابن سيرين الحصون بالخيل وقيل له : رجل أوصى بثلث ماله في الحصون فقال يشترى به خيل وتربط في سبيل اللّه يغزى عليها فقيل له إنّما أوصى في الحصون فقال ألم تسمع قول الشاعر « إنّ الحصون الخيل لا مدر القرى » وفيه ركاكة فإنّ إطلاق الحصون على الخيل مجاز ولا يصرف اللّفظ إليه إلّا لقرينة ولا قرينة ظاهرة هنا.
ص: 388
2 - الخيل من أعظم عدد القتال « قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ارتبطوا الخيل فانّ ظهورها لكم عزّ وأجوافها لكم كنز » (1) وعطفها على « قوّة » من باب عطف أعظم أجزاء الشي ء عليه ك [ قوله ( فِيهِما ] فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ ) (2).
3 - قيل في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا ) (3) أنّ قوله رابطوا من الرباط المذكور لأنّه المتبادر إلى الفهم ويحتمل أن يكون المراد في قوله « اصْبِرُوا » أي على الطاعات « وَصابِرُوا » أي أنفسكم على مخالفة الهوى و [ « رابِطُوا » أي ] رابطوها على ذلك أو صابروا الأعداء ورابطوا أبدانكم وخيولكم في الثغور ويحتمل المرابطة على سائر الطاعات قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة » (4) وعنه صلى اللّه عليه وآله « من رابط في سبيل اللّه يوما وليلة كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه ولا يفطر ولا ينفتل عن صلاة إلّا لحاجة » (5).
4 - المرابطة جائزة مع ظهور الامام بلا خلاف وهل يجوز حال الغيبة؟ منع الشيخ منها معتمدا على رواية (6) والأجود جوازها لعموم الأمر ولأنّها ليست جهادا حتّى تكون مشروطة بالإمام بل هي إرصاد لحفظ الثغر وهو واجب على المسلمين على الكفاية والرواية لاشتمالها على الكتابة تضعف عن مقاومة الدليل.
5 - من لم يرابط بنفسه فليساعد المرابطة بماله ففي ذلك أجر جزيل ولذلك أردف الأمر بالمرابطة بقوله « وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ » أي لا تنقصون [ من أجوركم ] شيئا.
ص: 389
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (1).
قال الراونديّ والمعاصر : إنّها نزلت في أهل البصرة ونقلا ذلك عن الباقر عليه السلام وابن عباس وعمّار وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال يوم الجمل : « واللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم » (2) وتلا الآية. وعن حذيفة مثله وعندي فيه نظر بل هي أعمّ من ذلك وإنّما هي خطاب لكافّة المؤمنين في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وإعلام منه تعالى أنّ منهم من يرتد بعد وفاته بالقيام والتمالؤ على وصيّه صلى اللّه عليه وآله وإنكارهم النصّ عليه وذلك هو ما يقوله جمهور أصحابنا أنّ دافعي النصّ كفرة والارتداد هو قطع الإسلام بما يوجب الكفر فيكون ذلك شاملا لأهل البصرة وغيرهم.
وقول عليّ عليه السلام « واللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم » حقّ وصدق فانّ منكري إمامته من المتقدّمين لم يقع بينه وبينهم قتال بل أوّل قتال وقع له عليه السلام بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه وآله هو حرب الجمل فلذلك قال ما قال وقد عرفت أنّه مهما أمكن حمل الكلام على عمومه فهو أولى.
ويدلّ على أنّ الارتداد بإنكار النصّ والقيام على أمير المؤمنين عليه السلام ذكر أوصافه في متن الآية بقوله « يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ » فهو كقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله يوم خيبر : « لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله كرّار غير فرّار » (3)
ص: 390
وقوله « أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ » أي من شدّة تواضعهم ولين جانبهم يكونون كالذليل وقوله « أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ » أي من شدّتهم في ذات اللّه ودينه يكونون على الكافرين كالقاهر والغالب على من بيده (1) وكذا قوله « يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ » وقوله « وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ » فهذه الصفات الخمس نصوص على أنّه عليه الصلاة والسلام هو المراد بذلك ولذلك أردفه أيضا بقوله ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (2) ولا يشكّ في ذلك كلّه إلّا مكابر.
قوله « ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ » أي تلك الأوصاف هبة ومنحة من اللّه سبحانه يخصّ بها من يشاء من عباده ممّن علم منه قبول الألطاف الإلهيّة واستعدّ للمنح الربّانيّة لاستحالة العبث عليه تعالى.
الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3).
« اتَّقُوا اللّهَ » باجتناب معاصيه « وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ » بفعل طاعاته ولمّا كان هذان القسمان إنّما يتمّان بقهر القوّة الغضبيّة والشهوانيّة والمحاربة مع النفس الأمّارة واللّوّامة أردفه بالأمر بالجهاد معهما في سبيل اللّه أي جهادا حاصلا في طريقه وطلب مرضاته لا لغير ذلك من الأغراض إذ لو لا ذلك الجهاد لم يحصل التقوى والوسيلة فلم يحصل الفوز برضوان اللّه واستحقاق دخول جنانه كما قال سبحانه ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (4) والاستفهام على سبيل الإنكار.
ص: 391
الخامسة ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (1).
اعلم أنّه لا يجوز المحاربة والمقاتلة للكفّار والبغاة إلّا بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام وإقامة الحجّة عليهم كما قال سبحانه ( لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى ) (2) وكأنّ الآية إشارة إلى وجوب دعاء الكفّار إلى الدّين أوّلا قبل محاربتهم فقيل المراد بالحكمة الكتاب والموعظة الحسنة وصف ثان له والجدل دليل العقل والتحقيق أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يدعو الناس على قدر استعدادهم كما قال صلى اللّه عليه وآله « أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس على قدر؟؟؟؟؟؟ ثلاثة أقسام لأنّه لا يخلو المخاطب إمّا أن يكون له قدرة على إدراك المطلوب بالبرهان أولا والثاني إمّا أن يكون له قوّة الجدال والمغالبة أو لا فغاية [ أمر ] النبيّ صلى اللّه عليه وآله ومن قام مقامه في هداية الخلق مع الفرقة الأولى إقامة البرهان وإيقاع التصديق الجازم في أذهانهم وغايته مع الفرقة الثانية الإلزام ليلتزموا بما أمروا به وغايته مع الفرقة الثالثة إيقاع المقدّمات الاقناعيّة في أذهانهم لينقادوا للحقّ لقصورهم عن رتبة البرهان والجدال.
فالحكمة إشارة إلى البرهان والموعظة الحسنة إشارة إلى الخطابة « وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » إشارة إلى علم الجدل ، وإنّما قدّم الخطابة على الجدل لأنّ المنتفعين به أكثر لأنّهم أغلب الناس أو لأنّ الواو لا يفيد الترتيب. ووصف الموعظة بالحسنة أي يظهر لهم حسنها والجدال بالّتي هي أحسن أي بالرفق والخلق (3)
ص: 392
الحسن والكلام الطيّب فانّ ذلك أقرب إلى القبول والانقياد لا على وجه السفاهة والغلظة.
قوله « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ » أي ليس عليك أن توقع فيهم الهداية ولا أن تردّهم عن الضلالة وإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب واللّه أعلم.
السادسة ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (1).
« مَنْ » مبتدأ و « فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ » خبره و « إِلّا مَنْ أُكْرِهَ » مستثنى من قوله « فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ » وقوله « وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً » في المعنى بيان للكفرة أي الّذين كفروا باللّه [ و ] هم الّذين تطيب (2) به قلوبهم لا بإكراه قيل إنّ جماعة ممّن أسلم من أهل مكّة فتنوا وارتدّوا عن الإسلام طوعا وبعضهم اكرهوا وهم عمّار وأبواه ياسر وسميّة وصهيب وبلال وخبّاب أمّا سميّة فربطت بين بعيرين ووجئ في قبلها بحربة وقيل لها إنّك أسلمت طلبا للرجال فقتلت وقتل ياسر معها وأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه ونجا [ منهم ] ثمّ أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بذلك وقال قوم كفر عمّار فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : كلّا إنّ عمّارا ملي ء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه وجاء عمّار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو يبكي فقال صلى اللّه عليه وآله ما وراءك قال شرّ يا رسول اللّه ما تركت حتّى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يمسح عينيه ويقول له : فان عادوا لك فعدلهم بما قلت (3).
ثمّ اعلم أنّ هنا فوائد :
1 - دلّت الآية الكريمة على جواز التقيّة في الجملة وكذا قوله تعالى ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي
ص: 393
شَيْ ءٍ إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (1) وقرئ تقيّة ولأنّها دافعة للضرر لأنّه الغرض ودفع الضرر وإن لم يكن واجبا فلا أقلّ من جوازه ولأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله محي اسمه يوم الحديبية وأعطاهم أمورا هو محارب عليها في الباطن وهو قريب من النقيّة ولأنّ البخاريّ نقل في باب الإكراه عن الحسن البصريّ « التقيّة إلى يوم القيمة » يعني أنّها باقية أو جائزة إلى يوم القيمة ولأنّ [ الفقهاء ] الأربعة عدا أبي حنيفة (2) يفتون بأنّ طلاق المكره لا يقع وقالوا من اكره على شرب الخمر والزناء فلا إثم عليه ولا حدّ وقال جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام « التقية ديني ودين آبائي » (3).
واحتجّ المخالف بأنّها نفاق لأنّ كلّ واحد منهما إبطان أمر وإظهار خلافه دفعا للضرر والنفاق حرام ، ولأنّها لو جازت لجاز على الأنبياء إظهار كلمة الكفر تقيّة واللازم كالملزوم في البطلان.
وأجيب عن الأوّل بالفرق بينهما فانّ النفاق إبطان الكفر واعتقاده وهو حرام والتقيّة إبطان الإيمان واعتقاده وهو واجب فلا يكون أحدهما هو الآخر وعن الثاني بأنّه خارج بالإجماع وبأنّه لو جاز لزم انعدام الدين بالكليّة لأنّه لو جاز لكان أولى الأوقات به ابتداء الدعوة لكثرة العدوّ والمنكر حينئذ وذلك باطل.
2 - قسم أصحابنا التقيّة إلى ثلاثة أقسام الأوّل حرام وهو في الدماء فإنّه لا تقيّة فيها فكلّ ما يستلزم إباحة دم من لا يجوز قتله لا يجوز التقيّة فيه لأنّها إنّما وجبت حقنا للدّم فلا تكون سببا في إباحته الثاني مباح وهو في إظهار كلمة الكفر فإنّه يباح الأمران استدلالا بقضيّة عمّار وأبويه فإنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله صوّب الفعلين معا كما نقل. الثالث واجب وهو ما عدا هذين القسمين فإنّ الأدلّة المذكورة تقتضي ذلك ولأنّ إجماع الطائفة على ذلك هذا مع تحقّق الضرر بتركها أمّا لو لم يتحقّق ضرر فيكون فعلها مباحا أو مستحبّا.
ص: 394
3 - اختلف أيّهما أفضل (1) فعل عمّار أو فعل أبويه؟ فقيل فعل أبويه أفضل
ص: 395
لأنّ في ترك التقيّة إعزازا للدين وتشييدا له ولما روي أنّ مسيلمة الكذّاب أخذ
ص: 396
رجلين من المسلمين فقال لأحدهما : ما تقول في محمّد؟ قال : رسول اللّه [ حقّا ] قال
ص: 397
فما تقول في؟ قال [ له ] أنت أيضا فخلّاه وقال للآخر : ما تقول في محمّد؟ قال :
ص: 398
رسول اللّه قال : فما تقول في؟ قال أنا أصمّ فأعاد عليه ثلاثا فأعاد جوابه الأوّل فقتله
ص: 399
فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : أمّا الأوّل فقد أخذ يرخصه اللّه وأمّا الثاني فقد
ص: 400
صدع بالحقّ فهنيئا له (1).
وقيل بل فعل عمّار أفضل لأنّ التقيّة دين اللّه ومن ترك التقيّة فقتل فكأنّما هو قتل نفسه ومن قتل نفسه فقد قتل نفسا معصومة ويؤيّده قوله تعالى ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (2) والرواية خبر واحد لا يتحقّق صحّته فلا تعارض ما ذكرناه.
4 - التبرّي من الأئمّة عليهم السلام حرام تباح التقيّة فيه ولو تركها وصبر كان أفضل ولذلك قال عليّ عليه السلام في كلام له « أمّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة وأمّا البراءة فلا تتبرّؤا منّي فإنّي ولدت على الفطرة [ وسبقت بالإسلام ] وفي رواية أخرى وأمّا البراءة فمدّوا دونها الأعناق » (3) وذلك دليل [ على ] الأفضليّة
ص: 401
ص: 402
خصوصا إذا كان ممّن يقتدى به وفعل يعقوب ابن السكّيت (1) رحمه اللّه مع المتوكّل حيث لم يفضّل ولديه على الحسنين عليهما السلام من هذا الباب فانّ تفصيل الفاسق عليهما صلّى اللّه عليهما في قوّة البراءة بل هو تكذيب للرسول صلى اللّه عليه وآله لقوله « هما سيّدا شباب أهل الجنّة »
ص: 403
السابعة ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ) (1).
دلت الآية على حكمين :
1 - أنّهم إذا أسلموا يغفر لهم ما قد سلف منهم من حقوق اللّه من [ فعل ] المعاصي وترك الواجبات وهو دليل على أنّهم مكلّفون بذلك حال كفرهم.
2 - أنّهم إذا ارتدّوا بعد إسلامهم أخذوا بالعذاب والنكال كما هو دأب اللّه في الأمم [ الماضية ] وفيه دليل على جواز قتل المرتدّ لكن ذلك بعد استتابته ثلاثة أيّام وإنّما خصّصنا الأوّل بحقوق اللّه لقيام الدليل على عدم سقوط حقّ الآدميّ فهو عامّ خصّ بمنفصل.
[ و ] الأمر طلب مستعل فعلا من غيره والنهي طلبه كفّا من غيره. والمعروف : الفعل الحسن المشتمل على صفة راجحة والمنكر الفعل القبيح ولا خلاف في وجوبهما شرعا وإنّما اختلف في وجوبهما عقلا فقال الشيخ به وهو حقّ لكونهما لطفين وكلّ لطف واجب ومنع السيّد وإلّا لزم وقوع كلّ معروف وارتفاع كلّ منكر أو إخلاله تعالى بالواجب وهما باطلان والملازمة تظهر بأنّ الواجب العقليّ لا يختلف بالمنسوب إليه.
وفيه نظر لأنّ الواجب مختلف فانّ القادر يجبان عليه بالقلب واللّسان والعاجز يجبان عليه بالقلب لا غير وإذا اختلف بالنسبة إلينا جاز اختلافه هنا فانّ الواجب عليه تعالى التخويف والإنذار لئلّا يبطل التكليف. وكذا اختلف هل الوجوب
ص: 404
عينيّ أو كفائيّ الشيخ على الأوّل والسيّد على الثاني ثمّ إنّ الوجوب هنا ليس مطلقا بل مشروط بالعلم بكون المعروف معروفا والمنكر منكرا وإصرار الفاعل وتجويز تأثير الأمر والنهي والأمن من الضرر اللّاحق بغير مستحقّ له بسبب ذلك ومراتب الأمر مختلفة بالتقديم والتأخير وضابط ذلك تقديم الأسهل فالأسهل من الفعل والقول فان انتهى إلى ما يفتقر إلى جرح أو قتل فتلك وظيفة إماميّة (1) هذا وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوائد عظيمة وثواب جزيل قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر وإلّا تولّى عليكم شراركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم » (2) وقال عليّ عليه السلام « هما خلقان من أخلاق اللّه تعالى » (3) وكفى بذلك فضيلة لمن اتّصف بهما.
إذا عرفت هذا فهنا آيات :
الاولى ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ ) (4).
كان تامّة بمعنى وجدتم و « خَيْرَ أُمَّةٍ » منصوب على الحال المقيّدة « أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ » أي من العدم إلى الوجود لنفع الناس أي لنفع بعضكم بعضا وهو إجمال تفصيله « تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » وهو حال أيضا لا من « كنتم » بل من « خير امّة » فيكون وجودهم مقيّدا بالخيرية والخيرية مقيّدة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمراد من ذلك أنّ من شأنهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس المراد حصول الصّفة لهم بالفعل وإلّا لزم أنّهم حال النوم و
ص: 405
السكوت عن الأمر والنهي لا يكونون خير أمّة.
وإنّما اقتصر على الايمان باللّه ولم يقل وبجميع ما أتى به الرسول صلى اللّه عليه وآله لأنّ الإيمان بالبعض دون البعض ليس بايمان باللّه لقوله « وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ » إلى قوله ( أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ) (1).
وهنا فوائد :
1 - قيل قوله تعالى ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) جملة مستأنفة وأنّه خبر يراد به الأمر كقوله ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ) (2).
2 - ظاهر الآية على التقديرين يدلّ على وجوب الأمر والنهي على الأعيان لإطلاقه وهو الأصحّ وليس المراد به بعد تأثير الأمر [ الأوّل ] والنهي لفقد شرطه وهو الإصرار بل وجوب مبادرة الكلّ إلى الإنكار وإن علم قيام غيره مقامه.
3 - استدلّ بعض مخالفينا بالآية على كون الإجماع حجّة من حيث إنّ اللام في المعروف والمنكر للاستغراق أي تأمرون بكلّ معروف وتنهون عن كلّ منكر فلو اجمع على خطأ لم يتحقّق واحدة من الكلّيّتين وهو المطلوب وأجيب بمنع كون اللّام في اسم الجنس للاستغراق وإن سلّم فنحمله على المعصومين لعدم تحقّق ما ذكرتم في غيرهم وبذلك ورد النقل أيضا عن أئمّتنا عليهم السلام قالوا : « وكيف يكونون خير امّة وقد قتل فيها ابن بنت نبيّها صلى اللّه عليه وآله ».
الثانية ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (3).
هذه الآية صريحة في الأمر واستدلّ بها من قال بوجوب الكفاية لكون « من » هنا للتبعيض وقيل للبيان وهو ضعيف لأنّ البيان لا يتقدّم على المبيّن و
ص: 406
إذا كانت للتبعيض تكون صريحة في ما قلناه وهو معارض بعمومات القرآن ومطلقاته.
وهنا فوائد :
1 - الأمر والنهي من وظائف العلماء فانّ الجاهل ربّما أمر بمنكر ونهى عن معروف وربما يكون شي ء منكرا في مذهب الآمر غير منكر في مذهب المأمور بأن تكون المسئلة فرعيّة يجوز اختلاف المجتهدين فيها وأيضا الجاهل ربّما يغلظ في موضع اللّين وبالعكس.
2 - أنّهما يوجّهان إلى من يؤثّران عنده إمّا لجهله أو لدخوله في المنكر اضطرارا من غير تعمّد أو لدخول شبهة عليه أمّا من دخل في المنكر عن قصد وعلم به واختيار وإذعان فإنّه لا يجب أمره ولا نهيه بل يجوز فان تحقّق ضرره أو خيف ذلك فلا جواز أيضا ومن هذا ورد في الخبر عنهم عليهم السلام « من علّق سوطا أو سيفا فلا يؤمر ولا ينهى » (1).
3 - يجب الابتداء فيهما بالأيسر فالأيسر من القول والفعل ويدلّ على الترتيب قوله « فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما » ثمّ قال « فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ » (2) فقدّم الإصلاح على المقاتلة.
4 - المعروف لاختصاصه بصفة راجحة يشمل الواجب والندب فينقسم الأمر حينئذ بانقسامه فيكون تارة واجبا وتارة مندوبا ويحتمل في النهي انقسامه باعتبار التحريم والكراهية فيكون أيضا واجبا ومندوبا.
5 - المعروف والمنكر قد يكونان معلومين بالضّرورة فيعمّان كلّ أحد وقد يكونان معلومين بالاستدلال فيختصّ وجوبهما بمن ظهر له ذلك بالدليل ولا يجب
ص: 407
على غيره النظر ليجبا عليه لكون وجوبهما مشروطا فلا يجب تحصيل شرطه.
6 - لا يشترط في المأمور به والمنهيّ عنه أن يكون مكلّفا فانّ غير المكلّف إذا علم إضراره لغيره منع من ذلك وكذلك الصبيّ ينهى عن المحرّمات لئلّا يتعوّذها ويؤمر بالطاعات ليتمرّن عليها.
7 - من ارتكب حراما أو ترك واجبا لا يسقط عنه وجوب الأمر والنهي لأنّه لا يسقط بترك أحد الواجبين الواجب الآخر وعن السلف : « مروا بالخير وإن لم تفعلوه » ولقوله ( لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (1).
الثالثة : آيات كثيرة تدل على ذلك كقوله ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) (2).
وغير ذلك :
ثمّ إنّه تعالى جعل الوجوب مقولا بالشدّة والضعف كقوله تعالى ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (3) وقوله ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (4) وغير ذلك فإنّه أكّد الأمر الدالّ على الوجوب هنا لشدّته وأولويّته.
[ تمّ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتلوه ]
[ كتاب المكاسب إن شاء اللّه ]
ص: 408
رقم الآية / العنوان / الصفحة
مقدمة الكتاب 1
بيان في تفسير القرآن 3
* ( كتاب الطهارة ) *
1 - أبحاث في الوضوء والغسل والتيمم 6
في أن الكافر مكلف بالفروع 7
في المسح وأنه على بعض الممسوح 10
مباحث في مسح الرجلين وقراءة « وأرجلكم » بالجر 12
في المعنى المراد من الكعبين 18
في المسح على الخفين 19
في نواقض الوضوء 24
في لزوم العلوق في التيمم 27
2 - أبحاث أخر في الوضوء والغسل والتيمم 28
في حد التيمم 29
3 - أبحاث في النية 32
4 - في الطهارة لمس كتابة القرآن 34
5 - في الاستنجاء 35
6 - أبحاث في معنى الطهور 37
أحكام الكر والماء القليل 39
7 - بحث في الماء المضاف 40
8 - أبحاث في الحيض وأحكامه 41
في وجوب الاعتزال وكفارة الوطئ 42
بحث في عدم تواتر القراءات 43
9 - أبحاث في نجاسة المشرك 45
دلالة الآية على نجاستهم العينية 46
نجاسة الكفار من أهل الكتاب؟ 48
10 - أبحاث في حرمة الخمر والميسر 51
نجاسة الخمر والفقاع 53
11 - في طهارة الثوب والبدن 54
12 - سنن الوضوء والغسل 55
* ( كتاب الصلاة ) *
1 - في البحث عن الصلاة بقول مطلق
1 - في وجوب الصلاة 58
2 - في المحافظة على الصلوات 59
المراد بالصلاة الوسطى 63-60
3 - في الاصطبار على الصلاة 63
4 - في الخضوع والخشوع 65
ص: 409
رقم الآية / العنوان / الصفحة
2 - في دلائل الصلاة الخمس وأوقاتها
1 - في مواقيت الصلاة الخمس 66
جواز الجمع بين الصلاتين 70-67
2 - ميقات صلاة المغرب والعشاء 73
إن الصلاة تكفر الخطيئة 74
3 - في تسمية الصلاة الخمس بالتسبيحات 74
4 - أيضا في مواقيت الصلاة 76
5 - في التعقيب 78
3 - في القبلة
1 - في وجه تحويل القبلة 79
2 - في الغرض من تحويل القبلة 81
3 - في أن الكعبة هي القبلة 83
4 - لكل ملة قبلة تخصها 88
5 - عود إلى أن الكعبة هي القبلة 89
6 - أيضا عود إلى ذلك مع وجه التحويل 89
7 - في قبلة المتحير - ما بين المشرق والمغرب 90
8 - بالكعبة قيام الناس وقوام عبادتهم 92
2 و 3 - في التكبيرات - تكبيرة الاحرام 116
إن البسملة آية من كل سورة 121
في قراءة السورة 123
4 - في مقدمات آخر للصلاة
1 - في نزول اللباس والساتر 92
2 - أحكام الستر والساتر 94
3 - في طهارة الستر والساتر 96
نجاسة الميتة ودباغها 101-97
4 و 5 - ما يتخذ منه اللباس 103
6 - أيضا فيما يتخذ منه اللباس 104
7 - أحكام المساجد 105
8 - في المعنى المراد من تعميرها 107
* آيات آخر تتعلق بالمساجد *
1 - الصلاة في المساجد 108
2 - مسجد الضرار ومسجد قبا 109
بحث في شأن نزول الآية 110
9 - في نداء الصلاة وهو الأذان 112
بدء الأذان والقصة في ذلك 113
5 - في مقارنات الصلاة
1 - قيام الصلاة - القنوت 115
4 - في القراءة 118
ص: 410
رقم الآية / العنوان / الصفحة
5 - في الركوع والسجود 124
6 - في أعضاء السجدة 127
7 - في أذكار الركوع والسجود 127
8 - الجهر والاخفات 128
9 - في الصلاة على النبي وآله 130
مباحث في وجوب الصلاة على النبي وآله في الصلاة 131
جواز الصلاة على غير النبي 139
في وجوب التسليم 141
6 - في المندوبات
1 - القنوت واستحبابه 143
2 - رفع اليدين عند التكبيرات 146
3 - في الخشوع في الصلاة 147
4 - في الاستعاذة 148
5 - في صلاة الليل وميقاتها 149
7 - في أحكام متعددة تتعلق بالصلاة
1 - في رد السلام في الصلاة 154
2 - النية في العبادات 157
3 - مما يتعلق بالنية - جواز الفعل القليل كاعطاء خاتم 158
4 - قضاء الصلاة بعد نسيانها 159
النيابة في العبادات 160
5 - وقت القضاء 163
6 - تارك الصلاة مستحلا مرتد 164
7 - الكافر مكلف بالفروع 165
8 - فيما عدا اليومية من الصلاة
1 - أبحاث في صلاة الجمعة 166
2 - وقت الانتشار والابتغاء من فضل اللّه 170
3 - وجوب الاعراض عن اللّهو والتجارة عند النداء 171
4 - صلاة العيد الأضحى 172
5 - صلاة الجنائز 175
بحث في صلاة النبي على عبد اللّه بن أبي بن سلول المنافق 177
عدد التكبير في صلاة الجنائز 179
6 - أبحاث في صلاة المسافر 181
في أن التقصير عزيمة لا رخصة 183
7 - أبحاث في صلاة الخوف وكيفيته وأنواعه 188
8 - الصلاة بعد الاطمئنان والأمنة 193
في صلاة الجماعة 194
10 - الانصات في الجماعة 195
11 - في سجدة العزائم 196
ص: 411
رقم الآية / العنوان / الصفحة
* ( كتاب الصوم ) *
1 - في أن الصوم مكتوب على كل ملة 199
2 - شرائط وجوب الصوم وأيامه 201
بحث في أن الافطار للمريض عزيمة لا رخصة 203
3 - أيام الصوم أيام شهر رمضان 204
بحث في الافطار للمسافر عزيمة لا رخصة 206
4 - في الحث على الدعاء 210
5 - مفطرات الصوم - وبعض أحكام الاعتكاف 212
* ( كتاب الزكاة ) *
1 - في الوجوب ومحله
1 - إثناء الزكاة من البر 219
2 - وجوب الزكاة على الكافر 221
3 - زكاة الذهب والفضة 222
4 - الزكاة المندوبة في الأموال 226
2 - في قبض الزكاة واعطائها المستحق
1 - الدعاء عند قبض الزكاة للمزكي بالبركة والرحمة 226
2 - إن اللّه تعالى هو الآخذ للصدقات 229
3 - الانفاق من الطيبات لا من الخبيثات 230
4 - في النية والاخلاص فيها 233
5 - أصناف المستحقين 234
6 - صدقة السر والعلانية 239
3 - في أمور تتبع الاخراج
1 - الانفاق لوجه اللّه 241
2 - الانفاق على المتعففين 242
3 - الانفاق على الوالدين والأقربين و ... 243
4 - إنفاق العفو 244
5 - الرياء والمن في الزكاة 246
6 - زكاة الفطرة 248
* ( كتاب الخمس ) *
1 - وجوب الخمس وأصناف المستوجبين له 248
2 - في قرابة النبي صلى اللّه عليه وآله 252
3 - في الأنفال 254
4 - في معنى الأنفال والمستوجبين لها 256
ص: 412
رقم الآية / العنوان / الصفحة
* ( كتاب الحج ) *
1 - في وجوبه
1 - أول بيت وضع للناس 258
بحث في أسامي مكة المكرمة 258
بحث في الاستطاعة 263
2 - مباحث في مناسك الحج 268
2 - في أفعاله وأنواعه
1 - تمام الحج والعمرة وبيان مناسكهما 272
بحث في وجوب العمرة كالحج 273
الميقات قبل الاحرام 276
مواقيت الحج والعمرة 276
في الإحصار والصد 287
أبحاث في وجوب الهدي 289
أبحاث في العدول عن حج الإفراد 290
المتعة التي نهى عنها عمر بن الخطاب 292
وجوب الهدي على المتمتع 296
2 - أشهر الحج ومناسكه 300
3 - الإفاضة من عرفات إلى المشعر 303
4 - الإفاضة من المشعر 305
بحث في معنى الحمس وأفعالهم 306
5 - الذكر عند قضاء المناسك 307
6 - صلاة الطواف 309
7 - السعي بالصفا والمروة 311
8 - البدن وأحكامها 313
9 - عمرة الحديبية 315
بحث في خلاف عمر على النبي صلى اللّه عليه وآله في الحديبية 316
10 - أيام التشريق والتعجيل من منى 319
3 - في أشياء من أحكام الحج
1 - أحكام الصيد 321
2 - كفارة الصيد بالهدي 322
3 - إحلال صيد البحر وتحريم صيد البر 328
4 - الشهر الحرام والهدي والقلائد 330
5 - شعائر اللّه وحرمتها 331
6 - تعظيم حرمات اللّه 333
7 - الصد والالحاد بظلم في المسجد الحرام 334
8 - دعاء إبراهيم لأهل مكة 335
ص: 413
رقم الآية / العنوان / الصفحة
9 - رفع قواعد البيت 337
10 - إراءة مناسك الحج لإبراهيم وإسماعيل 339
* ( كتاب الجهاد ) *
1 - في وجوبه
1 - وجوب القتال وكونه مكتوبا 341
2 - الجهاد حق الجهاد 342
3 - حرمة الاعتداء 343
4 - الحرمات قصاص 344
5 - القتال لتخليص المستضعفين 345
6 - الغزوات والسرايا 346
7 - الجهاد اشتراء الحياة الآخرة بالحياة الدنيا 346
8 - تحريم التخلف عن الجهاد 348
9 - فضل المجاهدين على القاعدتين 350
10 - إنما على الضعفاء والمرضى الانصاح لا الجهاد 352
2 - كيفية القتال ووقته
1 - القتال في الشهر الحرام 353
2 - القتال عند المسجد الحرام 355
3 - قتال الأقرب فالأقرب 356
4 - الفرار من الزحف 356
5 - مقاومة المسلمين عند القتال 358
6 - جهاد الكفار والمنافقين 360
7 - قتال أهل الكتاب وأخذ الجزية منهم 361
8 - أخذ الأسير بعد الاثخان ثم الفداء أو المن 364
9 - أحكام الأسر والأسير 366
10 - العهد ونقضه بالنبذ إلى الكفار على سواء 370
11 - كلمة الاسلام تحقن الدم وتحرم القتال 371
12 - غزوة بدر الكبرى 380-373
13 - السلم والمهادنة 380
14 - امتحان المهاجرات 381
15 - مبايعة النساء وشرائط البيعة 384
3 - أنواع آخر من الجهاد
1 - قتال أهل البغي والمراد منهم 386
2 - إعداد القوة ورباط الخيل لسد الثغر 388
3 - قتال أهل الردة 390
4 - الجهاد مع النفس 391
ص: 414
الصورة
ص: 415
الصورة
ص: 416
المؤلف: جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري
الناشر: المكتبة المرتضويّة للإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: 0
الموضوع : الفقه
تاريخ النشر : 1385 ه.ق
الصفحات: 398
المكتبة الإسلامية
كنز العرفان في فقه القرآن
للشيخ الأجل جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري
المتوفی سنة 826 رحمه اللّه
علق عليه المحقق البارع حجة الإسلام الشيخ محمد باقر (شريف زاده) مد ظله
وأشرف علی تصحيحه اخراج احاديثه محمد باقر البهبودي
عنيت بنشره المكتبة المرتضوية
الجزء الثاني
لإحياء الآثار الجعفرية
طهران - بين الحرمين رقم التليفون
المحرر الرقمي: محمّد علي ملك محمّد
ص: 1
بسم اللّه الرحمن الرحیم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .
أما بعد فهذا هو المجلد الثاني من كتاب كنز العرفان في فقه القرآن ، للشيخ الفاضل الفقيه ، جمال الدین ، شرف المعتمدين أبي عبداللّه المقداد بن عبد اللّه السيوري المعروف بالفاضل المقداد، وهو من أول كتاب المكاسب إلى آخر الكتاب ، مع مافيه من التعليقات النافعة والاشارة إلى مواضع الآيات وتخريج الأحاديث الواردة فيها فقد جاء بحمد اللّه وحسن توفيقه بحيث يروق الناظرين بحسن نظمه وجمال طبعه . وقد اعتمدنا في تصحيح الكتاب وتحقيق ألفاظه على عدة نسخ مطبوعة ومخطوطة مر شرحها وصورها الفتوغرافية في صدر المجلد الأول وأما عند طبع هذا المجلد فقد ظفر نا بنسخة ثمينة غالية تم كتابتها في حياة المؤلف قبل وفاته بشهرين فان تاريخ كتابتها بخط مقصود بن زين العابدين بن يحيى بن محمد [بن] حسين بن عبد الحسني الحسيني المرعشي في شهر ربيع الأول سنة 826 ، وقد توفي المؤلف قدس سره في 26 من شهر جمادى الآخرة من تلك السنة .
وهذه النسخة قد ملكها الفاضل التحرير والباحث الخبير الشيخ حمد القمي الرباني سنة 1306 الهجرية ، فصححها قبالة من سنة 1307 - 1308 وعليها بلاغات مورخة بخط يده و حواش أيضاً منه رحمه اللّه ، كما ترى في الصورة الفتوغرافية .
وقال أيضاً في ظهر النسخة ما هذا لفظه :
« تنبيه ، هذا الكتاب مقروء على الشيخ المحقق العلامة أزهد أهل عصره بل
ص: 2
كل الأعصار مولانا عبد اللّه بن الحسين التستري طاب ثراه (1) و عليه حواش نافعة بخطه الشريف كما صرح به في واحدة ، و هو من أنفس الجواهر ، حرره تحمل القمي ».
وهذه النسخة النفيسة - التي رمز نا إليها به «نص» - اليوم في خزانة كتب الفاضل النقاد الميرزا فخر الدين النصيري الأميني حفظه اللّه تعالى لحفظ كتب السلف عن الضياع و التلف ، فقد تفضل بالنسخة كرامة وأودعها عندي نحوسنة كاملة خدمة للدين وأهله فجزاه اللّه عنا وعن المسلمين خير الجزاء .
محمد الباقر البهبودی
جمادى الاخرة 1385
ص: 3
الصورة
ص: 4
الصورة
ص: 5
الاحتجاج للطبرسي
احكام القرآن للجصاص
الاسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت الفقيد
الاصابة لابن حجر ط - 1358
الاستيعاب لابن عبد البر بذيل الاصابة
الأم للشافعي ط 1381
الامالي لشيخ الطائفة
الأمالي السيد المرتضى ط 1325
الارشاد للمفيد الطبعة الأولى
الاتقان للسيوطى ط 1370
اساس البلاغة الطبعة الاخيرة
اعيان الشيعة ط بيروت
الاربعين للشيخ البهائي ط تبريز
الاشباه والنظائر للسيوطى في الفقه
اعلام الورى للطبرسي ط 2
اعلام الموقعين ط مصر
الامامة والسياسة ط 2-1377
الاحكام لابن حزم
الامام الصادق والأئمة الاربعة الاسد حيدر
احكام القرآن لابن العربي
اسباب النزول المواحدى
الاكمال لابن ماكولا
اوائل المقالات المفيد ط 2 تبریز
الأمالي الصدوق الطبعة الأولى
الامالي لابن الشجرى
اسد الغابة
الاستبصار ط النجنب
الانساب للسمعاني ط حیدر آباد
ارشاد الساري المطبوع بهامشه شرح النووى
احسن الوديعة للسيد ابي تراب
الاشباه والنظائر للسيوطى في الادب
الأزمنة والأمكنة للمرزوقي
اصول الفقه المظفر ط النجف
الاعتصام للشاطبي
احقاق الحق ط الاسلامية
الامام الصادق لابي زهرة
الافعال لابن القطاع ط حیدر آباد
ص: 6
الافعال لابن القوطية ط مصر
ابو هريرة للصيد شرف الدين
اقرب الموارد
الانصاف لابن الانباری ط 1380
ايام العرب في الاسلام ط 1369
الاخبار الطوال ط بغداد
اصل الشيعة واصولها ط بيروت
الاتباع لعبد الواحد الحلبي
اجوبة المسائل لحجة الاسلام الشفتي
الاشارات والدلائل
اتحاف البررة بالمتون العشرة
ارشاد الطالبين للفاضل المقداد
بحار الانوار ط دار الكتب
البيان لآية اللّه الخوئى مقدمة في التفسير
البرهان للزركشى
بلغة الفقيه
البيان للشهيد الاول
البحر الزاخر في فقه الزيدية
البدء والتاريخ للمقدسي
تفسير مجمع البيان للطبرسي ط صيدا
التفسير الكبير للامام الرازي 32 جزءاً
تفسير الخازن وبهامشه تفسير النسفى
الاعلام للزركلي
اجوبة موسى جار اللّه ، له
الاشتقاق لابن دريد
ايام العرب في الجاهلية ط 1961
احكام القرآن للقرطبي
اتقان المقال ط نجف
الالفاظ المعربة للسيداوي
احياء العلوم للغزالي
اشارات الاصول للكلباسي
الاموال للقاسم بن سلام
اشهر مشاهير الاسلام
الاثنا عشرية في الفقه للمامقاني
البيان والتبيين ط 1380
بلوغ الارب للآلوسي
البرهان القاطع في الفقه
البركة في فضل السعي والحركة
بديع القرآن لابن أبي الاصبع
بديع اللغة للميبدى
تفسير الصافي للمحقق الكاشاني ط 1283
تفسير سواطع الاسهام لابي الفيض
تفسير الكشاف ط 1367
ص: 7
تفسير النيسابوري
« الطبري ط 1373
« التبيان طایران
« الطنطاوي
« فتح القدير للشوكاني
« ابي الفتوح ط الاسلامية
« العياشي
« الشيخ محمود شلتوت
« المنار الرشيد رضا
« الدر المنثور للسيوطي
التفسير المنسوب إلى ابن عباس ط 1370
تفسير الوجيز
تفسير غريب القرآن لابن قتيبة
التفسير والمفسرون
تقريب النشر لابن الجزري
التفسير العلمي للآيات الكونية
تفسیر فرات الكوفي
التاريخ الكامل لابن الاثير
تاريخ المسعودی (مروج الذهب) ط 1377
تاريخ الخلفاء السيوطي
تاريخ اللغات السامية للدكتور إسرائيل
تاريخ الفقه الجعفري
تاريخ ناسخ التواريخ
تحف العقول ط 1376
تفسير على بن ابراهيم القمى
« البيضاوي
« ابن كثير
« ابي السعود
« الميزان للطباطبائي
« التسهيل للجزى
« البرهان
« گازر
« في ظلال القرآن
« الجلالين السيوطي
تفسير لوامع التنزيل ط لاهور
تفسیر جوامع الجامع للطبرسي
تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة
تلخيص البيان في مجاز القرآن للسيد الرضي
تفسير آلاء الرحمن للبلاغى
التفسير القاهرة
تفسير غريب القرآن للطريحي
تاريخ ابي الفداء
تاريخ اليعقوبي ط 1379
تاریخ | القرآن للكردي
التاريخ الكبير البخاري
تاریخ الكعبة المعظمة
تاريخ روضة الصفا
تأسيس الشيعة للسيد الصدر
ص: 8
التمهيد للشهيد الاول
تيسير التحرير : شرح التحرير
التهذيب لشيخ الطائفة
التاج الجامع للاصول
تذكرة الفقهاء للعلامة الحلى
التحرير للعلامة الحلى
الترغيب والترهيب للمنذري
تحفة المحتاج لابن حجر
التصريح للأزهري ط مصر
تلخيص مجمع الآداب في معجم الالقاب
ترجمان اللغة للقزويني
توضيح الافكار للامير الصنعاني
***
ثواب الاعمال وعقاب الاعمال للمصدوق
***
الجرح والتعديل لابن ابی حاتم الرازي
الجواهر في الفقه ط الكاشاني
جامع الرواة للاردبيلي
جامع الشواهد
الجوامع الفقهية
جامع الشتات للمحقق القمى
جامع الانساب للروضاتي
جامع مسانيد الامام الاعظم للخوارزمي
الجامع الكبير للشيباني
تيسير الوصول إلى جامع الأصول
التعريفات للسيد الشريف الجرجاني
تهذيب الاسماء و اللغات للنووى
التنقيح الرائع للفاضل المقداد
تذكرة الموضوعات لابن القيسراني
تحفة العالم شرح خطبة المعالم
تلخيص الشافي لشيخ الطائفة
تدريب الراوى للسيوطي
التمهيد والبيان في مقتل عثمان للمالقى
تكملة إكمال الاكمال
تعجيل المنفعة لابن حجر
الجمهرة لابن دريد
جمهرة أنساب العرب لابن حزم
جامع المقاصد للمحقق الكركي
جلاء الافهام لابن القيم الجوزية
جمع الجوامع للسبكي
الجاسوس على القاموس
الجوهر النقى لابن التركماني
الجمع بين رجال البخاري ومسلم
الجامع العباسي للشيخ البهني
ص: 9
جواهر القرآن في علوم القرآن
حلية الأولياء لأبي نعيم
حسن المحاضرة للسيوطى
الحدائق الندية في شرح الصمدية
حاشية الدسوقى على المغنى
حاشية الطباطبائي على المكاسب
حقائق التأويل للسيد الرضي
الحماسة لابن الشجرى
حاشية المحقق الخراساني على الفرائد
الخصال المصدوق ط الاولى
الخلاف لشيخ الطائفة في مجلدين
الخلاصة للعلامة
الخراج للقاضي أبي يوسف
درر الفوائد للعلامة الحائري
الدراية للشهيد الثاني
دلائل الصدق للعلامة المظفر
دروس في فقه الشيعة تقرير درس آية اللّه الخوئي
الذخيرة للسبزواري
الذكرى المشهيد الاول
جامع المقال للطريحي
حاشية ملاصالح وسلطان العلماء على المعالم
حياة الحيوان للدميرى
الحدائق الناضرة في الفقه
حاشية الشمني على المغنى
الحاوي للفتاوى للسيوطى
حديث الثقلين لمحمد قوام الوشنوى
الحمائك في أخبار الملائك للسيوطي
حاشية الكمباني على الكفاية .
خزانة الادب للبغدادي
الخزائن للمدربندى
الخطط المقريزية ط لبنان
الخزائن للمراقي
الدعوة الاسلامية للخنيزي
الدراية لوالد الشيخ البهائي
الدرجات الرفيعة للسيد على خان
ذرائع الاحلام للمامقاني
ذخيرة المعاد الممازندراني
ص: 10
رجال النجاشي
رجال الشيخ ط النجف
رجال البرقي
ريحانة الادب
الروض الانف للسهيلي
روضة الكافي
الروض المربع في الفقه الحنبلي
الرسالة للشافعي
الرسائل للعلامة الانصاري
الرفع و التكميل في الجرح والتعديل
رحلة ابن بطوطة ط 1377
زبدة البيان للمحقق
الزواجر لابن حجر
الزواج والطلاق على المذاهب الخمسة
السيرة لابن هشام ط 1375
السيرة الحلبية ( انسان العيون ) .
السنن لابی داود
السنن لابن ماجه
سراج القارى، شرح الشاطبية
سبائك الذهب في أنساب العرب
السرائر لابن ادريس الحلي
سعد السعود المسيد بن طاووس
رجال الكشي ط النجف
رجال على بن داود
روضات الجنات - النجف
رياض المسائل شرح مختصر النافع
الروضة البهية - شرح اللمعة
الرواشح السماوية للسيد الداماد
روض الجنان للشهيد الثاني
رسالة الاسلام ط دار التقريب
الروح لابن القيم الجوزية
رسائل الجاحظ ط 1324
زاد المعاد لابن القيم الجوزية
الزينة لابي حاتم الرازي
السراج المنير : شرح الجامع الصغير
السنن للترمذى
السنن النسائي
السامي في الاسامى للميداني
سبل السلام : شرح بلاع المرام
سماء المقال في تحقيق علم الرجال للكلباسي
السراج الوهاج
ص: 11
شرح القواعد للزنجاني
شرح المقامات الحريرية للمطرزي
شرح القصائد العشر للتبريزي
شرح السيوطى على موطأ مالك
شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف لابي أحمد العسكري
الشعر والشعراء لابن قتيبة
شرح ملا صالح على الكافي
شرح الاربعين للخاتون آبادي
شرح الصحيفة للجزائري
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الطبعة الأخيرة في 20 جزءاً
شرح نهج البلاغة لابن ميثم
شرح حماسة ابي تمام للمرزوقي
شفاء الاسقام للسبكي
الشافي للمحدث الكاشاني
الشمائل المحمدية للترمذي
شرح الكافية للجامي
شرح الشافية للنظام
التجريد للقوشجي ط 1301
شرح الالفية لابن عقيل
شرح الباب الحادى عشر للفاضل المقداد
شفاء الغليل فيما للعرب من الدخيل للخفاجي
شرح الزبدة للفاضل الجواد
شرح تبصرة المتعلمين
شرح المقامات الحريرية للشريشي
شرح المعلقات للزوزني
شرح الزرقاني على موطأ مالك
شرح المفاتيح للعلامة البهبهاني
أحمد العسكرى
شرح الصاوى على ديوان الفرزدق
شرح فتح القدير لابن الهمام في الفقه الحنفي
شرح الصحيفة السجادية للسيد عليخان
شرح نهج البلاعة للخوئى
شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده
شرح ديوان المتنبي للعكبرى
شرح المواقف للسيد الشريف
الشافي للسيد المرتضى علم الهدى
شرح الكافية للرضى الاسترابادي
شرح الشافية للرضى
شرح الشافية لنقره كار
شرح الالفية للسيوطي
شرح من لا يحضره الفقيه للمجلسي الأول
شرح شذور الذهب لابن هشام
شرح القواعد للمظفر ط النجف
ص: 12
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
التكسّب ضروريّ للإنسان من حيث افتقاره في بقاء شخصه إلى الغذاء والملبس والمسكن الّتي لم تجر العادة بخلقها له ابتداء فيجب السعي في تحصيلها على القادر عليه بطريق لا يؤدي إلى فسخ القواعد العقليّة وهتك التقديرات الشرعيّة وأمّا من ليس بقادر فقد اقتضت العناية الإلهيّة وجوب ذلك على غيره من القادرين الأولى فالأولى وسيأتي تفصيل ذلك. ثمّ إنّ الطرق للقادر كثيرة أفضلها ما كان بالاضطراب في البيع والشراء والصناعة فقد أوحى اللّه سبحانه إلى داود « إنّك نعم العبد لو لا أنك تأكل من بيت المال » فبكى داود عليه السلام فأوحى اللّه إليه « إنّي قد ألنت لك الحديد فكان يعمل من ذلك دروعا ويبيعها ويقتات من أثمانها ويتصدّق بالباقي (1).
ثمّ البحث هنا قسمان :
وفيه آيات :
الاولى ( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (1).
ص: 1
مضمون الآية الأخبار بكون الأرض محلّ المعاش والارتزاق والامتنان على عباده بإباحة ذلك لهم وفيها فوائد :
1 - « الأرض » منصوبة بعامل محذوف يفسّره الظاهر (1) ومدّها هو
ص: 2
بسطها (1) وجعلها مسكنا ومستقرا ومنتعشا للحيوان وإن كانت كرة عند بعضهم فذلك غير مناف لبسطها لأنّها لعظم جرمها لا ينافي بسطها كريتها.
2 - ( أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ) أي جبالا رأسيه أي ثابتة وعلّل أرباب الهيئة ذلك بأنّها كرة حاصلة في الماء وإنّما الطالع منها ربعها المسكون فلو كانت حقيقيّة (2) لم تثبت على وضع واحد لأنّ بعض أوضاعها ليس أولى من بعض فخلقت الجبال عليها لتخرجها عن كونها حقيقيّة وتثبت ولا تضطرب ، ولأنّ الجبال إذا ثبتت ثبتت الأرض بثباتها ولذلك سمّيت الجبال أوتادا على جهة الاستعارة فإنّ الوتد يوجب ثبات ما يربط به.
واعلم أنّه لا ينافي ذلك قولنا إنها ساكنة بفعل الفاعل المختار لأنّه تعالى قد يفعل بالسبب.
3 - المراد بالموزون (3) المعتدل أي أنبتنا فيها أنواعا من النبات كلّ نوع
ص: 3
منها معتدل باعتدال يختص به بحيث لو تغيّر لبطل ، والوزن عبارة عن اعتدال الأجزاء لا بمعنى تساويها فإنّه لم يوجد [ المعتدل الحقيقي ] بل بإضافته إلى ذلك النوع وما يليق به وأمّا اختلاف أنواع النبات فبحسب اختلاف أجزائها وكيفيّاتها وقال الحسن وابن زيد : المراد الأشياء التي توزن كالذّهب والفضّة والمعادن وليس بشي ء.
4 - إنّه جعل لنا فيها معايش أي أسباب معايش من أنواع الزرع والغرس فيضطربون فيها بالمزارعة والمساقاة والإجارة على الاعمال في ذلك والبيع للنبات وشرائه ، والاكتساب بسائر وجوهه السائغة وقياس « معايش » أن لا تهمز لأنّ الياء فيها أصليّة وإنّما تهمز الياء إذا كانت زائدة بعد ألف التكسير كصحائف ووسائل وعجائز ومن همزها على ضعف ، شبّهها بغيرها.
5 - قوله ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) الواو بمعنى مع نحو مالك وزيدا لامتناع العطف على المضمر المجرور (1) في « لكم » إلّا بعد إعادة الجارّ ، والمراد به
ص: 4
ص: 5
الحيوانات (1) الّتي ليس الإنسان سببا لرزقها كالوحوش والطيور وحيوانات البرّ والبحر لا أنّ المراد العيال والخدم بمعنى أنّكم تحسبون أنّكم ترزقونهم بل اللّه يرزقهم لأنّ هؤلاء من جملة المخاطبين بقوله « جَعَلْنا لَكُمْ » وكون الرازق في الحقيقة هو اللّه لا يمنع من إطلاقه على من هو سببه فإنّ أكثر أفعاله بالأسباب ويجوز إسناد الفعل إلى السبب القريب والبعيد ولذلك سمّى سبحانه نفسه بخير الرازقين.
ص: 6
6 - أخبر سبحانه أنّه ما من شي ء من الأشياء الممكنة من جميع الأنواع إلّا وهو قادر على إيجاده فخزائنه كناية عن مقدوراته ومفتاح هذه الخزائن هي كلمة كن وكلمة كن مرهونة بالوقت فإذا جاء الوقت قال له كن فيكون وإنّما جمع خزائن مع أنّ إفرادها كان يفيد العموم لأنّ مقدوراته غير متناهية فلو أفرد لأوهم تناهيها.
7 - إنّه وإن كان كلّ شي ء عنده خزائنه وهو كريم ونحن محتاجون إليه لكن أفعاله على حسب المصالح وعدم المفاسد ، ولذلك اختلف الناس في بسط الرزق وتقديره لجواز كون الرزق وبسطه مصلحة لشخص دون آخر كما ورد في الحديث القدسيّ « إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك (1).
الثانية ( وَلَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) (2)
« مَكَّنّاكُمْ » أي حكّمناكم « وقليلا » منصوب على التميز (3) وهي كالّتي
ص: 7
قبلها في الامتنان ، وجعل أسباب المعيشة كلّها في الأرض ظاهر لمن تدبّره.
الثالثة ( يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (1)
مفعول « كُلُوا » محذوف أي كلوا شيئا ومن في « مِمّا » للتبعيض و « حَلالاً طَيِّباً » صفتان للمفعول المحذوف وقيل حالان منه ، وأريد بالطيّب ما يكون بالنسبة إلى الطبع وإلّا لكان ترادفا والأصل عدمه « وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ » أي لا تقتدروا به في تناول المحرمات وفي الآية دلالة على إباحة ما علمت إباحته.
قيل : وفيه دلالة على إباحة أكل ما يمر به الإنسان من الثمرة إذا لم يقصده ولم يحمل معه شيئا ولم يعلم كراهية المالك. وفيه نظر لأنّا بيّنّا أنّها تدلّ على إباحة ما علم إباحته لا ما لم يعلم إباحته فلو جعل دليلا على إباحة ما ذكر لكان مصادرة على المطلوب.
فإن قيل : إنّه علم بالبيان من النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام إباحة ذلك قلنا يكون ذلك هو الدليل لا الآية مع أنّا نقول : الأولى عدم جواز أكل ما ذكر من الثمرة لأصالة عصمة مال المسلم إلّا عن طيب نفس منه وما ورد من أخبار الآحاد الموهمة لا يعارض ذلك وسبب نزول الآية أن قوما حرّموا على أنفسهم أشياء من المباحات اللّذيذة زهدا فنزلت (2).
ص: 8
الرابعة ( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ) (1).
« من » للبيان والطيّب الحلال وفيه دلالة على إباحة التكسّب وطلب الرزق وأن لا يشتمل على الطغيان إمّا بتجاوز الحدود الشرعيّة في جهات التكسّب وإمّا في حالات المكتسب بعد حصول المال له ، من منع الفقراء حقوقهم والتكبّر عليهم واستشعار الفخر والتجبّر كما قال اللّه تعالى « إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى » (2) وقرئ يحلّ بضمّ الحاء أي ينزل وبكسرها من الحلال أي الحلال العقليّ وقيل : بمعنى الوجوب من قولهم حلّ الدّين أي وجب أداؤه و « هوى » أي سقط والمراد لازم السقوط وهو الهلاك.
الخامسة ( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) (3).
« مُبارَكاً » كثير المنافع « وَحَبَّ الْحَصِيدِ » من باب إضافة الموصوف إلى صفته كبقلة الحمقاء والمراد به الحنطة والشعير وما شابههما من [ الخضراوات ] المحصودات « باسِقاتٍ » أي طوالا وقيل : حوامل من قولهم بسقت الشاة إذا حملت والنضيد بمعنى المنضود أي بعضه فوق بعض و « رِزْقاً » منصوب على المفعول له وهو علّة لأنبتنا أو مصدر والبلدة الميتة أي المجدبة وفي الآية دلالة على أنه خلق هذه الأشياء لأجل انتفاع العباد بها بسائر وجوه الانتفاعات فتكون مباحة لهم إلّا ما ورد النهي عن استعماله.
السادسة ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا
ص: 9
مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (1).
« ذَلُولاً » أي لينة يسهل لكم السلوك فيها و « مَناكِبِها » جبالها أو جوانبها وهو مثل لفرط التذلّل فإنّ منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب ولا يتذلّل له فإذا جعل الأرض في الذلّ بحيث يمشي في مناكبها لم يبق شي ء منها لم يتذلّل وفي الآية دلالة على جواز طلب الرزق خلافا للصوفية حيث منعوا من ذلك لاشتماله على مساعدة الظلمة بإعطاء التمغاء والباج وهو جهل منهم فإنّ ذلك الإعطاء غير مقصود بالذات بل لو أمكن المنع لما أعطوا شيئا وفي الحديث أنّه لمّا نزل « وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ » (2) انقطع رجال من الصحابة في بيوتهم واشتغلوا بالعبادة وثوقا بما ضمن اللّه لهم فعلم النبيّ صلى اللّه عليه وآله بذلك فعاب عليهم ذلك وقال : إنّي لأبغض الرجل فاغرا فاه إلى ربّه يقول اللّهمّ ارزقني ويترك الطلب » (3).
ثمّ طلب الرزق ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة واجب وهو ما اضطرّ الإنسان إليه ولا جهة له غيره ، وندب وهو ما قصد به زيادة [ في ] المال للتوسعة على العيال وإعطاء المحاويج والافضال على الغير ، ومباح وهو ما قصد به جمع المال الخالي عن جهة منهيّ عنها ، ومكروه وهو ما اشتمل على ما ينبغي التنزه عنه ، وحرام وهو ما اشتمل على وجه قبح.
وفي طلب الحلال للعود على العيال أجر عظيم قال النبي صلى اللّه عليه وآله : « الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه (4) ».
ص: 10
وفيه آيات :
الاولى ( قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (1).
أي خزائن أرض مصر واللّام للعهد لأنّه لم [ يكن ] يملك سواها. لمّا قال له الملك « إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ » فوصفه بوصفين صالحين للولاية ، وجد فرصة للسؤال فسأل الولاية وقال « إِنِّي حَفِيظٌ » أي حافظ لما تستحفظنيه « عَلِيمٌ » أي عالم بوجوه التصرفات.
واستدلّ الفقهاء بهذه الآية على جواز الولاية من قبل الظالم إذا عرف المتولّي من حال نفسه وحال المنوب [ عنه ] أنّه يتمكّن من العدل ولا يخالفه المنوب عنه كحال يوسف عليه السلام مع ملك مصر ، والّذي يظهر لي أنّ نبيّ اللّه أجل قدرا من أن ينسب إليه طلب الولاية من الظالم وإنّما قصد إيصال الحقّ إلى مستحقّه لأنه وظيفته.
واعلم أنّ الولاية تنقسم أقساما : الأوّل : أن تكون من قبل الامام العادل إلزاما فيجب قبولها الثاني : أن يأمره لا إلزاما فيستحب قبولها الثالث : أن لا يأمره بها ويكون مستعدّ لها وليس هناك مستعدّ سواه ولم يعلم به الامام فيستحبّ طلبها الرابع : الفرض بحاله ويكون هناك مستعدّ آخر فيباح طلبها ولا يستحبّ لجواز أن لا يكون صالحا لها من جهة لا يعلمها الخامس : أن لا يكون مستعدّا [ لها ] ولم يأمره الإمام بها فيكره له طلبها بل قد يحرم للزوم القبح لو ولّاه أو العبث إن لم يولّه ، السادس الولاية من قبل الجائر ولم يتمكّن من العدل ولم يلزمه بها فيحرم
ص: 11
طلبها ، السابع : الفرض بحاله ويتمكّن من العدل فيباح طلبها ولا يستحبّ الثامن : الفرض بحاله وألزمه إلزاما يخشى بمخالفته الضرر فيجب قبولها ، التاسع : الفرض بحاله ولم يخش الضرر بالمخالفة فيستحب قبولها العاشر : الفرض بحاله ولم يتمكّن من العدل وألزمه إلزاما يخشى الضّرر الكثير بالمخالفة فيباح إلّا في قتل غير سائغ فيحرم إذ لا تقيّة في الدماء ، ولو كان الضرر يسيرا ولم يستلزم الحكم قتلا كره قبولها.
الثانية ( سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ) (1).
روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّ السّحت هو الرشوة في الحكم وعن عليّ عليه السلام هو الرشوة في الحكم ومهر البغيّ وكسب الحجّام وعسيب الفحل وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستعمال (2) في المعصية وعن الصادق عليه السلام [ أنّ ] السحت أنواع كثيرة فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه (3) وهنا فوائد :
1 - حاصل تفسير السحت أنّه كل ما لا يحل كسبه ، واشتقاقه من السّحت وهو الاستئصال يقال : سحته وأسحته أي استأصله وسمّي الحرام به لأنه يعقّب عذاب الاستئصال وقيل لأنّه لا بركة فيه وقيل لأنه يسحت مروءة الإنسان.
2 - لمّا كان الرشا في الحكم يجمع عدّة قبائح فإنّه يأخذه بقصد إبطال الحقّ فيستلزم ذلك الكذب على اللّه وعلى رسوله ، والعمل بشهادة الزور ، وأخذ المال من مستحقّه وإعطاؤه غير مستحقّه ، وسماع شهادة الفسّاق ، والخيانة لله ولرسوله وعدم المروّة ، ومخالفة حسن الظنّ ممّن احتكم إليه ، وغير ذلك فلذلك فسّر عليه السلام السحت بالرّشوة.
ص: 12
3 - دافع الرشوة إن توصّل بها إلى باطل فهو كآخذها في فعل الحرام وإن توصّل بها إلى حقّ لا يمكنه تحصيله إلّا به فليس فاعلا للحرام وأمّا آخذها فهو فاعل حرام سواء حكم بحقّ أو بباطل للدافع أو عليه.
4 - القاضي إذا لم يوجد غيره في البلد ممّن يقوم بوظيفته يتعيّن عليه القضاء ويكون بالقضاء مؤديا للواجب فلا يجوز أخذ الأجرة على ذلك وهل يجوز لهذا أخذ الرزق من بيت المال فنقول : إن كان ذا كفاية فلا وإلّا جاز.
5 - إن لم يتعيّن عليه القضاء فلا يجوز [ أخذ ] الأجرة [ عليه ] أيضا فإن كان ذا كفاية فالأفضل له ترك الرزق من بيت المال وإن لم يكن جاز لأنه من المصالح.
الثالثة ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).
يستدلّ بهذه الآية على تحريم أجر الزانية وكان ذلك سنة في الجاهليّة ولذلك كان سبب نزولها أنّ عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين كان له جوار يكرههنّ على الزنى ويضرب عليهنّ ضرائب فاشتكت منهنّ اثنتان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت الآية (2) وهنا فوائد :
1 - أجر الزانية حرام سواء كانت حرّة أو أمة مكرهة أو غير مكرهة للإجماع على ذلك.
2 - التحريم شامل للزانية وغيرها ممّن يعلم ذلك وإلّا فلا ، نعم يكره معاملة من هذه سيرتها.
3 - تحريم الإكراه مع إرادة التحصّن خرج مخرج الغالب ولعدم تحقق الإكراه بدون الإرادة وإلّا فالإكراه مطلقا حرام سواء أردن التحصّن أو لم يردن وسواء كان لطلب عرض الدّنيا أو لا.
ص: 13
4 - قوله « فَإِنَّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ » أي لهنّ لأنّهنّ مكرهات والإكراه رافع للإثم كما قال صلى اللّه عليه وآله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه (1) » ولذلك قرأ عبد اللّه بن عباس « فانّ اللّه لهنّ غفور رحيم » وأمّا المكرهون فهم أيضا مغفورون عند الوعيديّة مع التوبة وعندنا يجوز لا معها تفضّلا من اللّه لمن يشاء.
الرابعة والخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) (2).
هاتان آيتان اشتملتا على محرمات وهي آخر آية نزلت في شأن الخمر (3) وقد أكد التحريم في الآية بتسعة أمور الأوّل : تصديرها بانّما المؤكّدة الثاني : ضم
ص: 14
ص: 15
ص: 16
الخمر إلى الأصنام في وجوب اجتنابها الثالث : تسميتها رجسا الرابع : جعلها من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلّا الشرّ الخامس : أنه أمر باجتنابها الشامل لجميع أوصافها السادس : أنه جعل الاجتناب موجبا للفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الركون إليه خيبة السابع : أنه ذكر ما ينتج منها وهو العداوة والبغضاء. الثامن : أنها تصدّ عن ذكر اللّه والصلاة التاسع : إنّ فيه وعيدا بقوله ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) ؟ وهو مبالغة في الوعيد والتهديد وهو أبلغ من « انتهوا » عرفا وسيأتي في الخمر مزيد كلام. والضمير في « فَاجْتَنِبُوهُ » يعود إلى « الرّجس » أو إلى « عمل الشيطان » وعمل الشيطان أعمّ من الرجس والرجس أعمّ من الخمر والميسر والنهي عن العامّ يستلزم النهي عن الخاصّ وإنّما خصّ العداوة والبغضاء بالخمر والميسر ، لأنّ الخمر موجب لزوال العقل والميسر موجب لزوال المال وزوال العقل والمال موجبان للعداوة والبغضاء بخلاف الأنصاب والأزلام فإنّهما يوجبان سخط اللّه والنار لا العداوة بين العابدين إذا عرفت هذا فهنا أحكام :
1 - يحرم التكسّب بالخمر وسائر المسكرات (1) فانّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه كما قال صلى اللّه عليه وآله « لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها » (2).
ص: 17
وكذا الأجرة على عمل يتعلّق بها من حمل أو عصر أو سقي أو غير ذلك « روى جابر أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لعن الخمر وشاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها فقام إليه أعرابيّ فقال يا رسول اللّه إنّي كنت رجلا هذه تجارتي فحصل لي من بيع الخمر مال فهل ينفعني المال إن عملت به طاعة؟ فقال صلى اللّه عليه وآله : « لو أنفقته في حجّ أو جهاد لم يعدل عند اللّه جناح بعوضة إنّ اللّه لا يقبل إلّا الطيّب فنزل « قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) (1) ».
2 - « الميسر » هو القمار بسائر أنواعه كالنرد والشطرنج قاله جل المفسّرين وهو المرويّ عن أهل البيت عليهم السلام حتّى قالوا : إنّ لعب الصبيان بالجوز من القمار فيحرم التكسّب به وعمل آلاته وبيعها والجلوس على مجلس يكون فيه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « اللّاعب بالنرد شير كمن غمس يده في لحم الخنزير ودمه » (2) وقال الصادق عليه السلام « اللّعب بالشطرنج شرك والسلام على اللّاهي به معصية (3) » ولا خلاف في تحريم النرد (4) وكذا الشطرنج إلّا ما نقل عن بعض الشافعيّة من جوازه إلّا حال إلهائه عن الصلاة.
3 - « الأنصاب » قيل هي الأصنام الّتي كانوا يعبدونها ويحرم أيضا التكسّب بعملها وبيع الخشب وشبهه ليعمل صنما قال الشيخ : وكذا يحرم بيعه على من عهد منه عملها وكذا بيع العنب على من يعمل الخمر والمشهور كراهية ذلك إلّا مع الشرط فيحرم.
4 - « الأزلام » جمع زلم بفتح الزاء وضمّها كحمل وصرد وهي قداح لا ريش لها ولا نصل كانوا يتفاءلون بها في أسفارهم وأعمالهم مكتوب على بعضها أمرني ربّي وعلى بعضها نهاني ربّي وبعضها غفل لم يكتب عليها شي ء فإذا أرادوا أمرا أجالوا تلك القداح فان خرج الّذي عليه أمرني ربّي مضى الرجل لحاجته وإن
ص: 18
خرج الّذي فيه النهي لم يمض وإن خرج ما ليس عليه شي ء أعادوها.
هذا قول جماعة من المفسّرين.
ونقل عليّ بن إبراهيم عن الصادق (1) عليه السلام أنّها عشرة سبعة لها أنصباء وثلاثة لا أنصباء لها فالسبعة هي الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلّى ، فالفذ له سهم والتوأم له سهمان والرقيب له ثلاثة والحلس له أربعة والنافس له خمسة والمسبل له ستّة والمعلّى له سبعة والثلاثة الباقية هي السفيح والمنيح والوغد ، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّؤنه أجزاء ثمّ يجتمعون عليه
ص: 19
فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل ، وثمن الجزور على من لم يخرج له شي ء من الغفل وهو القمار.
ونقل الزمخشريّ أنّهم كانوا يجعلون الأجزاء عشرة وقيل ثمانية وعشرون ولا شي ء للغفل ومن خرج له سهم من ذوات الأنصباء أخذ ما سمّى له ذلك القدح وكانوا يدفعون ذلك إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئا ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل معهم فيه ويسمّونه البرم وقد جمع بعض الفضلاء (1) أسماء القداح في أبيات وهي هذه شعر :
هي فذّ وتوأم ورقيب *** ثمّ حلس ونافس ثمّ مسبل
والمعلّى والوغد ثمّ سفيح *** ومنيح وذي الثلاثة تهمل
ولكلّ ممّا عداها نصيب *** مثله أن تعدّ أوّل أوّل
إذا عرفت هذا فاعلم أنه تعالى حرم العمل بهذه الأزلام أما على الأوّل فلأنّه نوع من التكهّن من غير إذن من اللّه فيه وأما القرعة الشرعيّة (2) كما نقل
ص: 20
ص: 21
ص: 22
ص: 23
ص: 24
ص: 25
ص: 26
ص: 27
« أنه صلى اللّه عليه وآله كان إذا أراد سفرا يقرع بين نسائه في استصحاب إحداهنّ » (1) فليست من هذا القسم لكون الرسول صلى اللّه عليه وآله أخذ ذلك باذن من اللّه ، فالقرعة كاشفة عن معلوم اللّه وكذا ما يتداولها الأصحاب من الاستخارة في الرقاع والحصى والسبحة وما نستعمله الفقهاء في الأمور المشكلة من القرعة كما نقل عن أهل البيت (2) عليهم السلام « كلّ أمر
ص: 28
مشكل فيه القرعة » وكل ذلك أمر متلقّى من الشارع فلا مطعن فيه وأمّا على الثاني فلأنّه قمار منهي عنه.
5 - كما يحرم استعمال هذه الأمور الأربعة كذا يحرم اقتناء آلاتها بل يجب إتلافها وإخراجها عن صورها وكذا الخمر يجب إهراقه ويحرم اقتناؤه اللّهمّ إلّا أن يقصد التخليل ولو بعلاج فانّ ذلك سائغ.
ص: 29
السادسة ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (1).
استدلّ الفقهاء بهذه الآية على جواز التصرّف بالأكل لا غير من بيوت الأقارب المذكورين باعتبار رفع الجناح المستلزم للإباحة لكن يشترط عدم كراهة الملّاك وعدم الإسراف في التصرف ، سواء كان الملّاك حاضرين أو غائبين وبعضهم شرط في الإباحة كون الملّاك أمروهم بالحضور في بيوتهم وظاهر الآية عدم التقييد بأمرهم بالدّخول وبعضهم وهو الجبائيّ جعلها منسوخة بقوله « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه » (2) والمنقول عن أهل البيت عليهم السلام استثناء هذه من العموم بالشرط المذكور ويكون من باب تخصيص السنّة بالكتاب.
وهنا سؤال تقريره : إذا كان شرط الإباحة عدم كراهة الملّاك فأيّ فرق بين بيوت المذكورين ، وبين بيوت غيرهم؟ جوابه الفرق هو أنّ بيوت غيرهم يشترط العلم بعدم الكراهة أي العلم بالرّضى ، وأمّا بيوت الأقارب المذكورين فيكفي عدم العلم بالكراهة وكفى بذلك فرقا.
ولنتمّم الكلام في الآية بفوائد :
ص: 30
1 - ذكر ذوي الأعذار الثلاثة هنا ، عن ابن المسيّب أنّ جماعة خرجوا إلى الغزاة فسلّموا بيوتهم لهؤلاء فكانوا يتحرّجون من الأكل [ والشرب ] من تلك البيوت فنزلت وهذا أجود ما قيل في سببها وقيل بل كان ذووا القرابات يستصحبونهم إلى بيوت قراباتهم إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ثمّ تحرّجوا من ذلك فنزلت وقيل : كانوا يتوقّون مؤاكلتهم خوف انظلامهم أو كراهة ذلك طبعا فنزلت (1).
2 - أنّه لم يذكر الأولاد ، قيل لأنّ ذلك معلوم بالمفهوم لأنّ مدلولها جواز الأكل من بيت الأبعد فمن بيت الأقرب أولى ، وقيل إنهم المرادون من « بيوتكم » لأنّ بيوتهم بيوت آبائهم لأنّ مال الولد مال الوالد لقوله صلى اللّه عليه وآله « أنت ومالك لأبيك » ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « أطيب ما أكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه (2) » ولذلك لم يثبت الربا بينهما لكون مالهما واحدا وكذا البحث في الزّوج والزوجة.
3 - قيل : المراد ب « ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ » بيوت المماليك وليس بشي ء لأنّ العبد لا يملك لأنّ ماله لسيّده ، وقيل المراد الوكيل في حفظ البيت أو البستان يجوز له أن يأكل منه لأنّه كالأجير الخاص الّذي نفقته على مستأجره ، والمفاتح قيل هي الخزائن كقوله ( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ ) (3) وقيل جمع مفتاح.
4 - « أَوْ صَدِيقِكُمْ » أي بيوت صديقكم بحذف المضاف ، عن الصادق عليه السلام « هو واللّه الرجل يدخل في بيت صديقه فيأكل طعامه بغير إذنه (4) وحكي عنه عليه السلام « أيدخل أحدكم يده إلى كمّ صاحبه أو كيسه فيأخذ منه؟ فقالوا لا قال فلستم بأصدقاء (5) » والأصل أنه إذا تأكّدت الصداقة علم الرضا وبالأكل فيقوم العلم مقام الإذن.
ص: 31
وعن ابن عبّاس أنّ الصداقة أقوى من النسب فإنّ أهل النار لا يستغيثون بالآباء ولا الأمّهات بل بالأصدقاء ، فيقولون ( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (1).
5 - كانوا يتحرّجون أن يأكلوا وحدانا كما كان دأب العرب وربما قعد الرجل ينتظر من يأكل معه من الصباح إلى الرواح فإذا أيس أكل للضرورة فنزل ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ) وعن عكرمة : نزلت في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلّا معه ، فنزلت رخصة لهم أن يأكلوا كيف شاؤا.
6 - « فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً » قيل المتقدّمة وقيل : المساجد والعموم أولى وعن الصادق عليه السلام « هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثمّ يردّون عليه فهو سلامكم على أنفسكم (2) » وعن الحسن : ليسلّم بعضهم على بعض ، والمراد أنّ الداخل ذا سلّم على صاحب المنزل فردّ عليه ، فيكون سلامه سببا للردّ لأنّ فاعل السّبب فاعل المسبّب قوله « تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ » فإنّه الآمر بها أو أنّها دعاء وإجابة الدعاء من عند اللّه ، وهي مصدر من غير لفظ التسليم ، ووصفها بالبركة لأنّها تغرس المحبّة في القلوب وتوجب البسط وحسن الخلق ، وتؤذن بالأمن من شرّ الملاقي.
وعن أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « متى لقيت من أمّتي أحدا فسلّم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلّم عليهم يكثر خير بيتك (3) ».
7 - أنّه تعالى بيّن في هذه الآية مكارم الأخلاق تنزيلها لهم عن رذيلة البخل وعدم الايتلاف فقال ( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ ) .
ص: 32
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) (1).
الخطاب عام والمراد لا تأكلوا أموال بعضكم ، فحذف المضاف للعلم به ، ويحتمل عدم الحذف وتكون الإضافة لا للتمليك بل لمطلق الاختصاص كقوله ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) (2) هذا.
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على ثلاثة أحكام :
1 - النهي عن أكل الأموال بالباطل أي بالسبب الباطل فيعمّ كلّ ما لم يبحه الشارع من الغصب والسرقة والخيانة والعقود الفاسدة ، سواء اشتملت على الربا أو لا بل يكون فسادها بسبب آخر كما هو مذكور في الكتب الفقهيّة ويدخل في الباطل أيضا ما لم يكن بعقد كالقمار وأجر الزانية وغير ذلك ، وبالجملة هذا من المجملات المفتقرة إلى بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام وخصّ الأكل لأنه أعظم المنافع ، أو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللّازم وهو التصرّف فيعم سائر التصرّفات.
2 - إباحة ما كان بسبب التجارة ، والاستثناء هنا منقطع والمراد بالتجارة التملّك بعقد معاوضة ماليّة محضة ، وخص التجارة لأنّها الأغلب في طرق الكسب ولقوله صلى اللّه عليه وآله « الرزق عشرة أجزاء تسعة منها في التجارة » (3).
ص: 33
وهنا فروع :
1 - شرط في التجارة كونها عن تراض ، أي صادرة عن تراض من المتعاقدين فيخرج ما لم يكن كذلك عن الإباحة.
2 - قال مالك وأبو حنيفة : المراد تراضي المتعاقدين حال العقد فإذا حصل تمّ البيع ولزم ، فلا خيار قبل التفرق عندهما وقال الشافعي : المراد التفرّق عن تراض فلهما الخيار قبل التفرق ، وهو مذهب الأصحاب لقوله صلى اللّه عليه وآله « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا (1) ».
3 - عقد المكره باطل : نعم لو أجاز فيما بعد صحّ لحصول الرّضا [ به ].
4 - الرضا يراد به المعتبر شرعا فلا اعتبار برضى الصبيّ والمجنون والسكران والسفيه والمفلّس ، فلا يصحّ عقودهم ، ولو أجازوا بعد زوال المانع ، والفرق بينهم وبين المكره اعتبار عقده لو لا الإكراه ، فالإكراه مانع الحكم لا مانع السبب.
5 - الرّضا شرط في سائر العقود للإجماع على عدم الفرق ، نعم خيار المجلس مختصّ بالبيع.
6 - لا يكفي في التملّك حصول الرضا من غير عقد سواء كان المبيع جليلا أو حقيرا ، لاشتراطه في الإباحة حصول التجارة الصادرة عن التراضي ، والتجارة تستلزم العقد ، فلا يكون الرضا بمجرّدة كافيا ، وقال أبو حنيفة : يكفي في المحقّرات الرضا وحده ، والأصح عند أصحابه الاكتفاء به مطلقا.
7 - حصول الرضا بعقد الفضوليّ بعده كاف عند جماعة منّا ، وهو المشهور عندهم ، وعليه الفتوى وقال جماعة : لا يكفي بعده لقبح التصرّف في مال الغير عقلا ولقوله صلى اللّه عليه وآله « لا تبع ما ليس عندك » وقوله « لا بيع إلّا فيما تملك (2) » ويعضد الأوّل قضيّة عروة البارقيّ والنبيّ صلى اللّه عليه وآله لا يقرّر على الباطل ، والنهي في المعاملات لا يقتضي البطلان ، ونفي الحقيقة يراد به نفي صفة من صفاتها أي لا بيع لازم
ص: 34
وإلا لما صحّ بيع الوليّ والوكيل ، ولو حمل على ظاهره فيكون المراد لا بيع إلّا فيما هو ملك أو كالملك ، بسبب الرضا أو الاذن ، واشتراط التقدم ممنوع يحتاج مثبتة إلى دليل.
8 - ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) فإنّه إذا قتل غيره قتل به قصاصا فصار هو القاتل لنفسه ، أو المضاف محذوف أي أنفس غيركم فحذف لعدم الاشتباه ، وقيل الكلام على ظاهره لأنّه تعالى كلّف بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ليكون القتل توبة لهم عن ذنوبهم ، فرفع ذلك عن امّة محمّد صلى اللّه عليه وآله رحمة لهم ، ولذلك قال ( إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) .
ويحتمل أن يكون المراد لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الإثم في أكل المال بالباطل ، وهو وجه حسن ليكون الكلام بعضه آخذا بحجزة بعض.
الثانية ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) (1).
كان الرجل في الجاهلية إذا حل له مال على غيره وطالبه به ، يقول له الغريم : زد لي في الأجل حتّى أزيدك في المال ، فيفعلان ذلك ويقولان سواء علينا الزيادة في أوّل البيع بالربح أو عند المحلّ لأجل التأخير ، فردّ اللّه عليهم بقوله « لا يَقُومُونَ » أي من قبورهم إلّا قياما كقيام المصروع ، زعمت العرب أنّ المصروع يخبطه الشيطان فيصرعه ، والخبط حركة على غير النحو الطبيعيّ وعلى غير اتّساق كخبط العشواء « مِنَ الْمَسِّ » أي من مسّ الشيطان والجار متعلّق ب « لا يَقُومُونَ » أي لا يقومون من المسّ الّذي بهم إلّا كما يقوم المصروع : بمعنى أنّ نهوضهم و
ص: 35
قيامهم كقيام المصروع ، لأنّه تعالى أربى في بطونهم ما أكلوه ، فأثقلهم فهو سيماهم الذي يعرفون بها يوم البعث ، والموعظة دليل التحريم ، قوله ( وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ) أي يجازيه على أعماله بحسب ما علم منه في صدق نيّته في الانتهاء.
إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - الرّبا لغة هو الزيادة ، وشرعا هو الزيادة على رأس المال من أحد المتساويين جنسا ممّا يكال أو يوزن فقيل يحرم الزيادة لا غير ، وقيل : هي مع المزيد عليه وهو الصحيح خصوصا مع عدم التميز ، ولا يحصل الملك لما اقتضاه العقد من العوضين لما تقرّر أن العقد الفاسد لا يترتّب عليه أثره.
2 - المراد بالجنس هنا هو الحقيقة النوعيّة ، ويتحقّق ذلك بكون الأفراد يشملها اسم خاصّ ، والزيادة قد تكون عينيّة وهو ظاهر ، وحكميّة كبيع أحد المتجانسين بمساويه قدرا نسيئة ، والمراد بالكيل والوزن ما كان حاصلا في عهد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وكلما علم له حال بني عليه وما لم يعلم يرجع فيه إلى العادة ، فلو اختلفت [ البلدان ]؟ قيل : لكلّ بلد حكم نفسه ، وقيل : يغلب التحريم احتياطا وهو أولى.
3 - الربا يثبت في النسيئة إجماعا لقوله صلى اللّه عليه وآله « إنّما الربا في النسيئة (1) » واقتصر عليه ابن عبّاس للحصر المذكور ، وقال الباقون بعمومه للنقد أيضا وهو الحقّ والحصر للمبالغة.
واعلم أنّ الإجماع حصل على وقوع الربا في ستّة نصّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله عليها هي : الذهب ، والفضّة ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والملح.
واختلف العامّة بعد ذلك في العلّة فيما عداها فقال أبو حنيفة الجنسيّة والتقدير وقال الشافعيّ مع ذلك الطعم والثمنيّة وقال مالك : القوت والادّخار ، وعن أحمد روايتان إحداهما كأبي حنيفة ، والأخرى الكيل والمأكوليّة ، ولا يكفي الوزن
ص: 36
عنده ، وأمّا أصحابنا فقد عرفت رأيهم.
4 - هل المراد بقوله « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا » أنّهم قاسوا الربا على البيع أم لا؟ قيل بالأوّل لأنّهم قالوا يجوز أن يشتري الإنسان شيئا يساوي درهما لا غير بدرهمين ، فيجوز أن يبيع درهما بدرهمين ، فردّ اللّه عليهم بالنصّ على تحليل البيع وتحريم الربا ، إبطالا لقياسهم ، فانّ القياس المخالف للنصّ باطل اتّفاقا.
قيل : فعلى هذا كان ينبغي أن يقال « إنّما الربا مثل البيع » لأنّ الربا محل الخلاف أجيب أنّه جاء مبالغة في أنّه بلغ من اعتقادهم في حلّ الربا أنّهم جعلوه أصلا يقاس عليه.
وقيل بالثاني لجواز أن يكون قوله ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) من تتمّة كلامهم على وجه الردّ ، أي إنّ اللّه فرّق بين المتساويين ، وذلك غير جائز ، وسبب غلطهم الجهل بحكم الربا.
ووجه الجواب المنع من المساواة فإنّ تحريم الربا معلّل بعلّة غير حاصلة في البيع.
تذنيب : في قوله « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ » دلالة على إباحة سائر أقسامه ، من النقد والنسيئة والسلف ، وأنواعه من بيع المرابحة والمواضعة والتولية والمساومة وأنواع المبيعات من الثمار والحيوان والصرف وغير ذلك ممّا ورد به البيان النبوي.
5 - قيل في قوله « فَلَهُ ما سَلَفَ » دلالة على أنّه لا تجب إعادة الربا مع الجهل بتحريمه بل يكفي مع ورود العلم الانتهاء وهو التوبة لا غير ، وفيه نظر لجواز أن يكون المراد به سقوط الإثم بالتوبة لا سقوط حقّ الغير لأنّه لا يسقطه إلّا أداؤه.
6 - الربا من الكبائر للتوعّد عليه بالنار في آخر الآية ، ولقول الصادق عليه السلام « درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعين زنية بذات محرم في بيت اللّه الحرام » (1) وقال أيضا عليه السلام « إنّما شدّد اللّه في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا ورفدا (2) » وقال عليّ عليه السلام « لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الربا خمسة : آكله
ص: 37
وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه (1).
7 - أنّه تعالى لم يكتف في النهي عن الربا والتنفير عنه بوعيد النار حتّى أخبر أنّه لا خير [ فيه ] ولا بركة فيه وأنه يذهب ويذهب لقوله تعالى فيما بعد ( يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (2) فانّ المحق هو نقصان الشي ء ، حتّى يذهب ثمّ قال ( وَاللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ ) تغليظا لشأن الربا فانّ آخذه بمنزلة الكافر والأثيم : الكثير الإثم ، وكذا في حكمه بخلود العائد في النار الّذي هو من أحكام الكفّار.
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (3).
عن الباقر عليه السلام أنّ الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهليّة ، وبقي له بقايا على ثقيف ، فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت ، وقيل كان العبّاس وخالد شريكين في الجاهليّة يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة فأنزل اللّه الآية « فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع ، وأوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب وكلّ دم في الجاهليّة موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب (4) » وهنا فوائد :
1 - « ذَرُوا ما بَقِيَ » أي اتركوا وقوله « إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » مبالغة اخرى
ص: 38
في تشديد أمر الربا أي إن كنتم آمنتم بما انزل على محمّد فالتزموا (1) بأحكام الإيمان الّذي من جملتها تحريم الربا ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون الكافر مكلّفا بتحريم الربا ، لأنّ الكافر لا يطالب حال كفره بأحكام الايمان أوّلا بل به.
2 - ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ ) أي اعلموا بها من أذن بالشي ء إذا علم به وقرء حمزة وأبو بكر « فآذنوا » أي أعلموا غيركم ، وهو من الاذن وهو الاستماع وحرب اللّه هو حرب رسوله ، وقيل حرب اللّه بالنار وحرب الرسول بالقتال ، وإنّما لم يقل بحرب اللّه لأنّ المراد : بنوع من الحرب عظيم لكون التنوين للنوعيّة وفي هذا الكلام أيضا مبالغة زائدة على ما تقدّم.
3 - ( وَإِنْ تُبْتُمْ ) إلى آخر الآية قال الزمخشريّ والقاضي إن لم يتب يكون مصرّا على التحليل ، فيكون مرتدّا وماله في ء ، وليس بشي ء لأنّا نمنع أنّه إذا لم يتب يكون مرتدّا الجواز أن يفعله ويعتقد تحريمه والحقّ أنّه يجب ردّه على مالكه ، أمّا مع العلم بتحريمه فبالإجماع ، تاب أو لم يتب ، فان جهل صاحبه وعرف الربا تصدّق به ، وإن عرفه وجهل الربا صالح عليه ، وإن مزجه بالحلال وجهل المالك والقدر تصدّق بخمسه وأمّا مع الجهل فقد تقدّم الكلام فيه.
4 - لا ريب في أنّ قوله تعالى ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) وقوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ) صريحتان في أنّه لا يجب ردّ الربا السابق على نزول التحريم ، ونحن قد قرّرنا أنه يجب ردّ الربا مع العلم والجهل ، فما وجه الجمع بين الكلامين؟
فنقول : وجه الجمع أنّه لا يجب على الكافر رد ما أخذه حال كفره إلّا أن يكون عينه موجودة ، فإذا أسلم حرم عليه أخذ ما بقي له عند معامليه ، وأمّا المسلم فيجب عليه ردّ الربا مطلقا ، سواء علم بالتحريم أو لم يعلم على الأصحّ لأنّ الموعظة جائت إليه ، وعدم علمه ليس عذرا لتمكّنه من العلم.
ص: 39
قوله « لا تَظْلِمُونَ » أي بأخذ ما هو زائد على رؤوس أموالكم ، ( وَلا تُظْلَمُونَ ) بنقص حقّكم.
الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1).
فيها تصريح بالنهي عن أكل الربا زيادة على ما تقدّم ، وكان الرجل إذا حلّ له الدين زاد فيه وأخّره إلى أجل آخر ، ثمّ إذا حلّ زاد فيه أيضا وأخّره وهكذا ، فكان يستغرق بالشي ء الطفيف مال المديون ، فنهاهم عن ذلك ، وقيل معنى الاضعاف المضاعفة أي لا تزيدوا به أموالكم فتصير أضعافا مضاعفة ، وخصّ النهي بالأكل وإن كان المراد سائر التصرّفات ، لأنّه المقصود غالبا من التناول وباقي مقاصد الآية ظاهر.
تذنيب : أجمعت الإماميّة على أنّ آيات تحريم الربا مخصوصة ليست على عمومها لما ثبت عندهم عن أئمتهم عليهم السلام من إباحة الربا بين الوالد وولده ، والزّوج وزوجته والسيد وعبده ، والمسلم والحربي.
الخامسة ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) (2).
التطفيف البخس في الكيل والوزن ، لأنّ ما يبخس شي ء طفيف أي حقير و « على » هنا إمّا بمعنى « من » أي اكتالوا من الناس أو يتعلّق ب « يستوفون » قدّم للاختصاص أي يستوفون على الناس خاصّة وأمّا أنفسهم فيستوفون لها أو يكون التقدير : اكتالوا ما على الناس. كلّ ذلك محتمل.
( وَإِذا كالُوهُمْ ) أي كالوا للناس أو وزنوا لهم فحذف الجارّ كقوله :
ص: 40
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا *** ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
أي جنيت لك ، أو على حذف المضاف أي كالوا مكيلهم أو موزونهم ، وإنّما لم يقل « أو اتّزنوا » في الأوّل لأن الاكتيال أمكن لهم بالسرقة بالملأ من الاتّزان وهنا فوائد :
1 - روي أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا فنزلت فأحسنوا ، وعن ابن عبّاس أنّه صلى اللّه عليه وآله قدم المدينة وبها رجل يقال له أبو - جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت الآية في حاله (1).
2 - دلّت الآية على وجوب إيفاء الكيل والوزن ، وتحريم النقص منهما لأنّ « ويل » يستعمل للذمّ وقيل « ويل » واد في جهنّم.
3 - حيث إنّ إيفاء الكيل والوزن واجب ، ندب إلى إعطاء الراجح حذرا من النقص المحرّم ، ومن ذلك قال صلى اللّه عليه وآله : « يا وزّان زن وأرجح » (2).
4 - في معنى الآية آيات كثيرة كقوله ( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ) (3) وقوله ( وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ) (4) وغير ذلك والجميع مشترك في تحريم نقص الكيل والوزن ووجوب إيفائه.
السادسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (5).
في الآية دلالتان إحداهما على أرجحيّة الإنفاق من كسب الحلال ، والنهي عن الإنفاق من كسب الحرام ، وثانيها على وجوب التفقّه قبل الاتّجار ليعلم الحلال
ص: 41
والحرام ، ويؤيده قوله صلى اللّه عليه وآله « من اتّجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا (1) » وقد تقدّم ، في هذه الآية فوائد :
السابعة : قيل ان قوله تعالى :
( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) (2).
يدل على أمرين أحدهما كراهية الربح على المؤمن إلّا مع الضرورة ، وأنّ ترك الربح من الإحسان ، فيكون من العرف ، وثانيهما كراهة معاملة الأدنين والسفلة الّذين لا يبالون ما قيل لهم وما قيل فيهم لأنّ الأمر بالاعراض عنهم يستلزم ترك معاملتهم بسائر أنواع المعاملة.
وفيهما نظر لأنّ العامّ لا دلالة له على الخاص بنفسه ، بل بدليل من خارج فيكون ذلك كافيا مع أنّ الاعراض عن الجاهلين يراد به التجاوز والعفو عن سيّئاتهم لا عدم معاملتهم ، ولذلك قيل : لمّا نزلت سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله جبرئيل عليه السلام عن معناها فقال لا أدري حتّى أسأل ربّك ، ثمّ رجع فقال : يا محمد إنّ ربّك أمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك (3) » وقال الصادق عليه السلام : « أمر اللّه نبيّه فيها بمكارم الأخلاق ».
الثامنة ( إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها ) (4)
قيل إنّها تدل على كراهية الدخول في سوم المؤمن لأنّ الأكثر على أنّ داود عليه السلام خطب على خطبة أوريا فعوتب على ذلك ، والكلام فيها كما تقدّم في
ص: 42
الاولى ، لكنّ الدلالة هنا قريبة ، وإن كان الاعتماد على نصّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام أولى.
التاسعة : قال الراوندي ان قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (1).
تدل على النهي عن الاحتكار ، وفيه نظر لأنّ قولهم مسنا الضر أعمّ من الحاجة إلى القوت ، أو إلى ثمنه التامّ فلا دلالة حينئذ وكذا قال في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (2) أنها تدلّ على تحريم كتمان العيب ووجوب إعلام المشتري ، والكلام فيه أيضا كما تقدّم ولنذكر هنا حكمين :
1 - قيل : الاحتكار مكروه لقول الصادق عليه السلام « مكروه أن تحتكر الطعام وتذر الناس لا شي ء لهم (3) » وقيل حرام وهو الأصح لقوله صلى اللّه عليه وآله « الجالب مرحوم والمحتكر ملعون (4) » وإنّما يكون حراما بشرطين أحدهما حبس القوت الّذي هو الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح طلبا للزيادة في الثمن وثانيهما أن لا يوجد باذل سواه ، فيجبر حينئذ على البيع وهل يسعّر عليه؟ قيل نعم ، وإلّا لا نتفت فائدة الجبر ، وقيل لا ، وهو الأصح لقوله عليه السلام « النّاس مسلّطون على أموالهم » (5) وقوله أيضا « الأسعار إلى اللّه (6) » اللّهمّ إلّا أن يطلب شططا فيسعّر عليه.
2 - العيب إمّا أن يخفى على المشتري أو لا؟ والثاني يجوز البيع مع عدم ذكره للمشتري ، نعم يكره ذلك وكذا يكره البيع في موضع يستتر فيه ، والأوّل
ص: 43
يجب ذكره إلّا أن يبيع بالبراءة من العيب إجمالا أو تفصيلا ، وعلى الأوّل لو باع ولم يتبرّأ صحّ البيع ، ويكون المشتري بالخيار بين الردّ والأرش ، وفيه تمام بحث مذكور في كتب الفقه.
العاشرة ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (1).
الفقهاء يستدلّون بهذه الآية على مسائل :
1 - أنّ الكافر إذا أسلم عبده ، قهر على بيعه من مسلم ، فان امتنع باعه الحاكم وسلّم الثمن إليه.
2 - أنّه لا يصحّ بيع العبد المسلم على الكافر.
3 - لا يصح إيجار العبد المسلم من كافر ، وهل يصح إيجار الحرّ نفسه من كافر؟ إمّا للخدمة فلا يجوز ، وأمّا لا لها ، فامّا لعمل مطلق ، فيصحّ لأنّه كالدّين وإما أجيرا خاصّا فاحتمالان أحدهما المنع للآية ، والآخر الجواز لعدم استقرار السبيل وهو قوي
4 - رهن العبد المسلم عنده أمّا مع قبضه له فلا يجوز ، وأمّا مع عدم قبضه فالأصح جوازه.
5 - كون الكافر وكيلا على مسلم سواء كان الموكّل مسلما أو كافرا لا يجوز.
6 - كذا لا يصح كونه وصيّا على صبيّ مسلم.
7 - لا يصح إعارة العبد المسلم للكافر.
8 - إذا أسلمت أمّ ولده يجوز بيعها على أقوى الوجهين.
9 - لا تصحّ الوصيّة بالعبد المسلم للكافر وكذا لا يصحّ وقفه عليه ، ولا هبته له ، وبالجملة كلّما يستلزم إدخاله في ملكه أو السلطنة عليه فهو باطل للآية.
ص: 44
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلّا تَرْتابُوا إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ، وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).
« تَدايَنْتُمْ » أي تفاعلتم بالدّين إمّا بالسلم أو بالنسيئة أو الإجارة ، وفي الجملة كلّ معاملة أحد العوضين فيها مؤجّل ، وقال الزمخشريّ معناه إذا داين بعضكم
ص: 45
بعضا ، يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين ، وفيه نظر المفرق بين التفاعل والمفاعلة فإنّ الأوّل لازم والثاني متعدّ ، تقول تضارب زيد وعمرو ، وضارب زيد عمروا فلا يجوز تفسير أحدهما بالآخر.
إن قيل : قوله « بِدَيْنٍ » لم يكن محتاجا إليه لأنّ الدين معلوم من لفظ « تَدايَنْتُمْ » ولو لم يذكره لكان الضمير عائدا إلى مصدر « تَدايَنْتُمْ » أجاب الزمخشري بأنّه لو لم يذكره لوجب أن يقول « فاكتبوا الدين » ولا يجي ء بحسن ما ذكر من النظم وفيه نظر لأنّا نمنع وجوب ذكر الدين لما قلنا من عود الضمير إلى المصدر.
ويحتمل في الجواب أنّه لو لم يذكر الدّين وأعاد الضمير إلى المصدر ، لكان ينبغي أن يكتب المعاملة بالدين ، مع أنه لا حاجة إلى كتابتها ، بل يكتفي بكتابة الدين ، فلو باع نسيئة ليكتب المشتري للبائع الدين إلى أجل معلوم ، ولم يحتج إلى ذكر المبايعة وفيه أيضا نظر لأنّ كتبة المعاملة بالدّين أحرز وأضبط لدفع الدعوى بإنكار سبب الدين
وقيل : ذكره تأكيدا كقوله تعالى « ( طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) (1) » وقيل ليرفع احتمال [ كون ] التداين من المجازاة كقولهم « كما تدين تدان » فيزول الاشتراك وهو حسن.
إذا عرفت هذا ففي الآية أحد وعشرون حكما بل ربّما يذكر فيها فوائد تزيد على ذلك :
1 - إباحة الاستدانة لأنّها ممّا قد يضطرّ الإنسان إليه في معاشه ، فتكون سائغة ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله استدان ، وكذا عليّ عليه السلام وجماعة من الأئمّة عليهم السلام نعم هو من غير ضرورة مكروه لقوله صلى اللّه عليه وآله « إيّاكم والدين فإنّه مذلّة بالنهار ، ومهمّة باللّيل (2) » وقد يحرم إذا لم يكن له ما يقضيه به ، فإنّه خديعة ، قاله
ص: 46
التقيّ (1) ويقوى عندي ذلك إذا لم يكن الدائن مطلعا على حاله ، وإلّا فالكراهية شديدة ، وقبول الصدقة له أولى من الاستدانة ، ولو كان له وليّ يقضيه خفّت الكراهية وحكم ابن إدريس ببقاء الكراهية مع الوليّ لعدم وجوبه عليه ممنوع لأنّ عدم الوجوب لا يرفع الجواز.
2 - إباحة التأجيل بقوله « إِلى أَجَلٍ » لأنّ الدين حقّ يثبت في الذمّة ، فهو أعمّ من المؤجّل وغيره قال ابن عبّاس نزلت في السلم خاصّة ، وهو بيع مضمون إلى أجل معلوم ، والأكثر على أنّها أعمّ من ذلك.
3 - وجوب كون الأجل مضبوطا لقوله « مُسَمًّى » كاليوم والشهر والسّنة لا ما يحتمل الزيادة والنقيصة ، كإدراك الثمرة وقدوم الحاجّ.
4 - الأمر بكتابة الدين لئلّا يذهب مال المسلم بعوارض النّسيان ، والموت والجحود ، والأمر هنا عند مالك للوجوب والأصح أنّه إمّا للندب أو الإرشاد إلى المصلحة.
5 - وجوب كون الكاتب أمينا لقوله « بِالْعَدْلِ » وهو صفة « الكاتب » أي موصوف بالعدل كيلا يزيد وينقص أو يفعل خلاف ما تراضى به المتعاملان ، ويعلم منه اشتراط كونه فقيها عالما بدقائق تلك المعاملة ، ليكمل المقصود منها.
6 - « وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ » قيل النهي للتحريم ، فيكون الكتابة واجبة لكن على الكفاية ، قاله الشعبيّ وجماعة ، وقيل : فرض عين مع عدم غيره ممّن له علم بها ، أو مع ضرر صاحب الدين بترك الكتابة ، وقيل : كانت واجبة عينا فنسخ بقوله « وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ » والأجود أنّها مستحبّة على الأعيان العارفين بها ، لأنها من باب « ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) (2) » واجبة على الكفاية ليتمّ نظام النوع.
فرعان :
ألف : إذا وجد بيت المال اعطي الكاتب رزقه منه ، لأنّه من المصالح ، وإلّا
ص: 47
جاز له أخذ الأجرة من الآمر بالكتابة لأصالة عدم وجوب بذل المنفعة مجّانا.
ب : أخذ المداد من بيت المال ، وكذا الورق المكتوب فيه لأنّه من المصالح أيضا وإن لم يوجد فمع أخذ الكاتب الأجرة يجب عليه المداد ، ولا يجب عليه القرطاس بل هو على صاحب الدين لأنّه لمصلحته ، ولا يجب على المديون قطعا.
7 - « كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ » قيل : هو متعلّق ب « يَأْبَ » أي لا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه اللّه ، فيكون « فَلْيَكْتُبْ » أمرا بعد النهي تأكيدا كقولك لعبدك لا تقعد هنا قم ، ويحتمل أن يكون متعلّقا بالأمر أي فليكتب كما علّمه اللّه وحينئذ يحتمل معنيين :
أحدهما كما علّمه اللّه تفضّلا منه فليتشبّه بأخلاق اللّه ، وليتفضّل بكتابة الدين كما تفضّل اللّه عليه كقوله تعالى ( وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ ) (1).
وثانيهما أمره بأن يكتب كما علّمه اللّه من الفقه في تلك المعاملة بحيث لا يكتب شيئا يخالف مقتضاها ممّا فيه ضرر أو بخس على المتعاملين ، فعلى الأوّل الأمر للندبيّة وعلى الثاني للوجوب وعلى الاحتمال الأوّل يكون النهي السابق مقيّدا وعلى الثاني يكون مطلقا.
8 - « وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ » الإملال والإملاء بمعنى واحد وقد ورد بهما القرآن كقوله ( فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ ) (2) وإنّما وجب كون المملل : الّذي عليه الحقّ ، لأنّه المشهود عليه ، ثمّ إنّ هذا المملي يجب عليه تقوى اللّه فيما يملله ، ولا يبخس من الحقّ الّذي عليه شيئا ، والبخس النقص ، وإنّما أمره ونهاه لجواز أن يكون صاحب الحقّ أمّيا مغفّلا لا خبرة له بالأمور ، فلو لم يستعمل المديون الورع في إملائه لزم إضرار الدائن وهو حرام.
9 - « فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ » السفيه المبذّر وهو الّذي يصرف أمواله في غير الأغراض
ص: 48
الصحيحة أو ينخدع في المعاملة « والضعيف » أي في العقل بأن كان صبيّا أو كبيرا لا عقل له ، والّذي لا يستطيع الإملاء فهو إمّا لبكم أو خرس فليملل أولياء هؤلاء وقيل الضمير في « وليّه » يرجع إلى الحقّ أي وليّ الحقّ أي صاحبه لأنّه أعلم بدينه ، والأوّل أولى ، لعود الضمير إلى الأقرب ، ولأنّه أنسب بالمقام.
وهنا فروع يتضمّن أحكاما مستخرجة من الآية :
ألف - شرعيّة الولاية على السفهاء والأصاغر ، وتدخل المجانين بطريق الأولى.
ب - عدم صحّة استقلالهم بعقود المعاملة إذ لا يصحّ إملالهم ، فلا يصحّ استقلالهم بالعقد بطريق الأولى.
ج - جواز استدانة الوليّ لمن له عليه ولاية ، مع الحاجة إلى ذلك.
د - صلاحية ذمّة الصبيّ والمجنون والسفيه لتعلّق الدّين بها ، لكن لا مطلقا بل مع مباشرة الوليّ سبب الدين ، فلا يرد أرش الجناية إذا لم يكن له مال.
ه- - أنّه يجب على الوليّ مراعاة المصلحة للمولّى عليه ، وعدم بخسة لقوله تعالى « بِالْعَدْلِ » أي في الإملاء ففي المعاملة بطريق الأولى.
و - الوليّ للصبيّ والمجنون أمّا الأب أو الجدّ له ، ومع عدمهما الوصي عن أحدهما ، ومع عدمه الحاكم ، وأمّا السفيه ، فان كان سفهه مستمرّا عقيب الصبا فوليّه الأب والجد كما تقدّم ، وإن كان طارئا فوليّه الحاكم.
ز - تجوز الترجمة عن الأخرس والأبكم والأعجمي لاشتراكهم في عدم [ إمكان ] استقلالهم باملال الحقّ.
ح - وجوب كون المترجم عدلا لاشتراط إملاله بالعدل المستلزم ذلك لعدالته.
ط - صحّة الشهادة على الأخرس (1) والأعجميّ مع الترجمة عنهما ، ويكون الشاهد أصلا لا فرعا لتعقيب الإملال بالاستشهاد.
ى - الوليّ في الآية يراد به القدر المشترك ، بين كلّ من قام مقام غيره في حق على ذلك الغير ، فيشمل الوكيل أيضا ، فيجوز الشهادة على الوكيل باستدانته
ص: 49
لموكّله ، فيجوز للشاهد أن يشهد على الموكّل مع ثبوت الوكالة حالة الشهادة ، وقد يمكن استخراج فروع أخر غير هذه ، وبذلك يظهر سرّ قوله صلى اللّه عليه وآله « أوتيت جوامع الكلم ».
10 - « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ » السين للطلب أي اطلبوا شهيدين ، والفرق بين الشاهد والشهيد أنّ الأوّل بمعنى الحدوث والثاني بمعنى الثبوت ، فإنّه إذا تحمّل الشهادة فهو شاهد باعتبار حدوث تحمّله ، وإذا ثبت تحمّله لها زمانين أو أكثر فهو شهيد.
ثم يطلق الشاهد عليه بعد تحمّله مجازا تسمية الشي ء بما كان عليه ، كما يطلق الشهيد قبل تحمّله لها مجازا كما في الآية ، فإنّ الطلب إنّما يكون قبل حصول المطلوب ، وهذا حكم باشتراط الاثنينيّة في الشهادة بالدين فيدلّ على عدم قبول الواحد أمّا مع انضمام اليمين من المدّعي فيقبل عندنا ، وعند الشافعيّ (1)
ص: 50
لقضاء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وعليّ عليه السلام بذلك :
11 - « مِنْ رِجالِكُمْ » أي من المؤمنين ويفهم من ذلك حكمان :
1 - اشتراط البلوغ في الشاهد لقوله « مِنْ رِجالِكُمْ ».
2 - اشتراط الايمان فلا تقبل شهادة الصبيّ ويدخل المجنون بطريق الأولى لعدم تعقله ، ولا الكافر إلّا على تفصيل يأتي في الوصيّة ، وجوّز أبو حنيفة شهادة الكفّار بعضهم على بعض ، على اختلاف الملل.
12 - « فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ » فيه دلالة على جواز شهادة النساء منضمّات إلى الرجال ، لكن في الديون والمعاملات ، وكلّ ما يقصد فيه المال وفي قوله فيما بعد « أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما » إشارة إلى جواب سؤال مقدّر ، تقريره
ص: 51
لم جعل امرأتان مقام رجل؟ فأجاب [ بأن ] جعل ذلك مخافة أن تضلّ إحداهما أي تنسى فإنهنّ لضعف عقولهنّ وبرد مزاجهنّ أميل إلى النسيان ، بخلاف الرجال ، فإنّهم أبعد عن النسيان لزيادة عقولهم وحرارة مزاجهم وقرأ حمزة « إن تضلّ » على أنّها حرف الشرط وجوابه ، فتذكّر ، والباقون بفتح الهمزة بأنّها منصوبة المحلّ على أنّها مفعول له والعامل محذوف.
قال الزمخشريّ : ومن بدع التفاسير « فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا » أي فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا بمعنى أنّهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر والقائل به سفيان بن عيينة.
قيل : والضمير في إحداهما الاولى ، يرجع إلى الشهادة أي أن تضيع إحدى الشهادتين من قوله تعالى « ضَلُّوا عَنّا » أي ضاعوا فتذكّر إحدى المرأتين الأخرى فيكون الضمير في الثانية للمرأتين لئلّا يلزم التكرار من غير فائدة وفيه تعسّف.
ص: 52
13 - « مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ » أي من الرجال المرضيّين ، والنساء المرضيّات في الدين ، وفي ذلك إشارة إلى اشتراط العدالة ، فإنّ الفاسق غير مرضيّ ويدلّ على بطلان قول أبي حنيفة في قبول شهادة الكفّار ، ويلزم من اشتراط الرضا بهم أن يكون الشاهد ممّن يحسن الظنّ به في صدقه في شهادته ، فلا تقبل شهادة المتّهم ، فإنّه يدفع ضررا أو يجلب نفعا ولم يقل من المرضيّين من الشهداء إشارة إلى الاكتفاء بظاهر العدالة ، وعدم اشتراطها في نفس الأمر وإلّا لتعذّر الاستشهاد. فهنا إذن ثلاثة أحكام فشرائط الشهادة حينئذ خمسة : البلوغ ، والعقل ، والايمان والعدالة ، وارتفاع التهمة.
واختلف في شهادة العبد فمنعه الفقهاء الأربعة : ورووه عن عليّ عليه السلام وقبلها ابن سيرين وشريح وعثمان البستيّ وعن أهل البيت روايات أشهرها وأقواها القبول إلّا على سيّده خاصّة فتقبل لسيّده ولغيره وعلى غيره.
ص: 53
14 - « وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا » قيل : ذلك في التحمّل وقيل في الإقامة وقيل فيهما معا والأوّل أنسب لأنّ الكلام في التحمّل لا في الإقامة ، ولو حمل عليهما لزم استعمال المشترك في معنييه معا وهو ممنوع ، والنهي عن الإباء يستلزم الأمر بالتحمّل لكنّه فرض على الكفاية ، فان لم يوجد غير ذينك الشاهدين. صار فرض عين.
15 - « وَلا تَسْئَمُوا » أي لا تملّوا « أَنْ تَكْتُبُوهُ » الضمير للدين « صَغِيراً » أي
ص: 54
سواء كان الدين قليلا أو كثيرا وقيل المراد الكاتب فانّ البلوغ ليس بشرط في الكاتب وقيل الكتاب أي مختصرا كان أو مطوّلا وكل ذلك تعسّف والأوّل أولى ، وفي ذلك دلالة على استحباب كتابة الدين والاشهاد به.
ثمّ ذكر سبحانه لرجحانه ثلاثة أسباب الأوّل أنّه « أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ » أي أعدل الثاني أنّه « أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ » أي أعون لها لأنّ المكتوب أبعد زوالا من الحفظ الثالث أنه « أَدْنى أَلّا تَرْتابُوا » أي أقرب في انتفاء الريب أي الشكّ لأنّ عدم الكتابة سبب لريب أحد الغريمين في أنّه صادق أو كاذب.
16 - « إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً » هذا استثناء من الأمر بالكتابة أي إن كانت المعاملة بينكم في تجارة حاضرة يدا بيد من غير غيبة لأحد العوضين ، فليس عليكم جناح أن لا تكتبوا تلك المعاملة ، فإنّه لا يتوقّع فيها شكّ استقبالي.
17 - « وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ » أي إذا لم يكن المبايعة بالدّين وإلّا لزم التكرار وإنّما أمر بالإشهاد عند المبايعة إرشادا إلى رعاية مصلحتها لأنّه لولاه لجاز أن يندم أحد المتبايعين على البيع أو يقع نزاع في كميّة أحد العوضين ، أو شرط أو خيار أو غير ذلك فالأمر هنا للإرشاد ، وقال داود : إنّه للوجوب ، وليس بشي ء لما قلناه من ترتّب المصلحة الدنيويّة.
18 - « وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ » فيه قراءتان (1) : إحداهما « لا يضارر » بالإظهار والكسر والبناء للفاعل قرأ به أبو عمرو ، فعلى هذا يكون المعنى لا يجوز
ص: 55
وقوع المضارّة من الكاتب بأن يمتنع من الإجابة أو يحرّف بالزيادة والنقصان ، وكذا الشهيد لا يمتنع إذا دعي للتحمّل أو الإقامة ، ولا يكتم شيئا ممّا شهد به ، أو يزيد أو ينقص بما فيه ضرر على المشهود عليه.
وثانيهما قراءة الباقين « لا يضارّ » بالإدغام والفتح ، والبناء للمفعول ، فعلى هذا يكون المعنى لا يفعل بالكاتب ولا الشهيد ضرر بأن يكلّفا قطع مسافة مشقّة من غير تكلّف مؤنتهما أو لا يعطى الكاتب أجرته وافية أو غير ذلك من أسباب المضارّة.
19 - « وَإِنْ تَفْعَلُوا » أي تلك المضارّة على أحد التقديرين « فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ » أي خروج عن أوامر اللّه سبحانه.
20 - « وَاتَّقُوا اللّهَ » أي اعتمدوا التقوى في كلّ ما أمركم اللّه به في أمور دينكم ودنياكم.
21 - « وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ » أي هذه الأحكام المذكورة كلها من تعليم اللّه لكم ما فيه مصالحكم فلا ترتابوا في شي ء من ذلك لأنّه بكلّ شي ء عليم وفي ذلك دلالة على أنّ الأحكام كلّها بتعليم اللّه سبحانه لا بالقياس والاستحسان.
وذكر علي بن إبراهيم في تفسيره أنّ في البقرة خمس مائة حكم وفي هذه الآية خاصّة خمسة عشر حكما وأنت فقد ظهر لك أكثر من ذلك.
الثانية ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1).
كان هنا تامّة لا تفتقر إلى خبر كقول الربيع ابن ضبع الفزاريّ (2)
إذا كان الشتاء فأدفئوني *** فانّ الشيخ يهدمه الشتاء
أي إن وجد ذو عسرة والفاء جواب الشرط ، والنظرة بمعنى الانظار وهو
ص: 56
التأخير ، والمراد بالمعسر عندنا من يعجز عن أداء ما عليه من الدّين ، ولا يحسب عليه قوت يومه ودست ثوبه ودار سكناه وخادمه المعتاد ، فانّ ذلك لا يجب صرفه في الدّين ، فإذا تحقّق العجز عمّا عدا ذلك وجب الانظار. وحرم المطالبة والحبس ومع القدرة تحلّ المطالبة ويجوز الحبس قال صلى اللّه عليه وآله « لي الواجد يحلّ عقوبته وعرضه (1) » واللّي المطل ، والعقوبة الحبس ، والعرض المطالبة.
قوله « وَأَنْ تَصَدَّقُوا » أي تسقطوا عن المعسرالدّين « فهو خَيْرٌ لَكُمْ » وفيه فوائد :
1 - أنّ الإبراء صدقة فيستلزم قصد القربة.
2 - أنّ الإبراء لا رجوع فيه كالصدقة.
3 - عدم اشتراط القبول فيه فيقع وإن لم يقبل المديون فلا يشترط حضوره ولا مشافهته.
4 - فهم بعضهم من هذا أنّ المندوب أفضل من الواجب لأنّ الانظار واجب والإبراء ندب ، وقد جعله خيرا فيكون أفضل ، وهو غلط فإنّ الإبراء جامع للنظرة والصدقة ، فالخيريّة باعتبارهما معا.
قوله « إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » أي إن علمتم حقيقة الصدقة ، علمتم خيريّتها فانّ
ص: 57
العلم التصديقي مسبوق بالعلم التصوّريّ وموقوف عليه لأنّ المراد إن كنتم تعلمون أنّه خير لكم ، كما قاله الزمخشريّ.
الثالثة ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) (1).
وفي معناها ثلاث آيات أخرى :
ألف - ( إِنْ تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ ) (2).
ب - ( وَأَقْرِضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) (3).
ج - ( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) (4).
هذه أربع آيات استدلّ المعاصر بها على أرجحيّة القرض للمؤمن ، وأنّ فيه أجرا عظيما وأنّ اللّه هو المكافى ء عليه إذ الحقيقة ممنوعة لاستحالة الحاجة عليه تعالى ، فيحمل على إقراض عبيده.
وعندي في ذلك نظر فإنّ إطلاق القرض الّذي هو إعطاء شي ء ليستعيد عوضه وقتا آخر استعارة للأعمال الصالحة فإنّ الأعمال الصالحة يفعلها العبد ويحصل له العوض في الدار الآخرة وحينئذ لا دلالة في الآية على مشروعيّة القرض ، وقوله « إنّ الحقيقة ليست مرادة » مسلّم ، لكن حمله على إقراض المؤمنين من غير دلالة حمل من غير دليل ، ولا ضرورة إليه مع إمكان المجاز الّذي ذكرناه.
فان قال : حيث صدق لفظ القرض ومعناه بين اللّه وبين عبادة ، دلّ ذلك على مشروعيّته. قلنا فحينئذ كان ينبغي له أن يتعرّض لذلك في دليله ولم يفعل.
ص: 58
هذا مع أنّه لا وجه للملازمة خصوصا مع الفرق بين القرضين ، فانّ قرض العبد للربّ ليستعيض أضعافه ، والقرض بين العبيد يحرم فيه الزيادة على المثل.
ولو استدلّ عليه بغير ذلك من العمومات القرآنيّة كقوله ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) (1) وقوله ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (2) وقوله ( إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ) (3) » وعن الصادق عليه السلام أنّ المعروف القرض (4) لكان أولى واللّه أعلم.
وهو لغة الثبات والدوام ومنه نعمة راهنة واللّغة الغالبة الكثيرة « رهن » وأما « أرهن » فلغة قليلة ، وشرعا وثيقة للمدين يستوفي منه دينه وفيه آية واحدة وهي :
( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ، فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) (5).
في الآية فوائد :
1 - الارتهان جائز مطلقا وتقييده في الآية بالسّفر وعدم وجدان الكاتب خرج مخرج الأغلب ، فإنّ السفر مظنّة إعواز الكاتب ، ولأنّ التقييد بالسّفر لا
ص: 59
يدل على شرعيّته في الحضر ولا عدم شرعيّته إلّا بدليل خارجيّ ، وقد وجد وهو فعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه رهن درعه وهو حاضر عند يهوديّ (1) والإجماع فإنّه لا خلاف في جوازه مطلقا.
وقال مجاهد والضحّاك بعدم جوازه إلّا في السفر وقد أبطل قولهما الإجماع.
2 - الجمهور على أنّه يشترط القبض في الرهن إلّا مالكا فإنّه اكتفى بالإيجاب والقبول ، وبالأوّل قال أكثر أصحابنا مستدلّين بالآية ، وبقول الباقر عليه السلام فيما رواه محمّد بن قيس « لا رهن إلّا مقبوضا » (2).
وقال المحقّقون منهم بالثاني لأصالة عدم الاشتراط ولعموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » والآية إنّما تدل بدليل الخطاب ، وهو باطل ، ولأنّها لو دلّت على شرطيّة القبض لزم التكرار ، ولا فائدة فيه ، وبيان الملازمة أنّه سمّاها رهنا قبل ذكر القبض فلو كان شرطا لما حسنت التسمية بدونه ، كما لا يقال : رهن مقبولة ، والمجاز وإن أمكن لكنّه خلاف الأصل ، والرواية ضعيفة ، لأنّ في طريقها محمّد بن قيس وهو مشترك بين الضعيف وغيره وفي الكلّ نظر وقد بيّنّاه في التنقيح.
3 - أكثر من يشترط القبض لا يشترط دوامه ، بل يكفي مسمّاه ، ولو أعاده جاز وحصل الرهن ، وقال أبو حنيفة : استدامته شرط.
4 - يجوز أخذ الرهن على كلّ حقّ ثابت في الذمّة سلما كان أو غيره وهو إجماع ولأنّ آية الدين عامّة.
5 - الرهن أمانة لا تضمن (3) إلّا مع تعد أو تفريط ، وقال أبو حنيفة : إنّه
ص: 60
مضمون بأقلّ الأمرين من قيمته وقدر الدين ، لنا أصالة البراءة من الضمان ، ولرواية سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال « لا يغلق الرهن الرهن من صاحبه الّذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه (1) » يعني بقوله « من صاحبه »
ص: 61
أي من ضمانه ومعنى لا يغلق أي لا يملكه المرتهن وإن شرط له ذلك عند الحلول.
6 - نبه في الآية بأخذ الرهن على الدين على حفظ المال وعدم التهوين به لما في ذلك من الدخول في حيّز التبذير وإهمال المصلحة المنافي ذلك لأفعال العقلاء.
ص: 62
ويؤيّده قوله صلى اللّه عليه وآله « إنّ اللّه يكره القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال (1) ».
وقوله « فرهن » أو « فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ » على القراءتين تقديره فالّذي يستوثق به رهن أو ينبغي أخذ رهن ، ووصفها بالقبض إذ لولاه لم يحصل كمال التوثّق لجواز إنكار الراهن أو النسيان أو الزيادة أو النقصان.
وفيه أيضا إشارة إلى كون الرهن عينا يمكن قبضها فلا يصح رهن الدين لعدم إمكان قبضه حالته (2) ويصحّ بيعها وإلّا لم يحصل الاستيثاق لو تعذّر الأداء.
7 - قوله « فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً » أي فان أمن بعض الدائنين بعض المدينين وحسن ظنّه به ، ولم يأخذ منه رهنا فليؤدّ ذلك [ المؤتمن ] المرتهن أمانته وسمّى الدين أمانة باعتبار عدم أخذ الرهن عليه ، وائتمان المديون عليه ، كذا قيل.
ولو قيل بأنّ المراد فإن أمن بعض الراهنين بعض المرتهنين ولم يأخذ منه الرهن بيده بل جعله في قبضه فليؤدّ ذلك أمانته لكان حسنا. وبالجملة في الكلام دلالة على وجوب أداء الأمانة والتزام التقوى في أدائها بعدم الخيانة وعدم التعدّي والتفريط.
8 - يحرم كتمان الشهادة ويجب أداؤها وهذا العموم مخصوص بما لم يشتمل
ص: 63
على ضرر غير مستحقّ يصل إلى الشاهد أمّا مع حصوله فلا يجب الأداء حينئذ ثمّ إنّه تعالى لم يقتصر على النهي عن كتمانها المستلزم للإثم بل أكّد ذلك مبالغة بالنصّ على الوصف بالإثم بقوله « فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » وفائدة ذكر « قلبه » أنّ كتمان الشهادة من أفعال النفس الأمّارة الّتي هي النفس الحيوانيّة والقلب محلّها فإسناد الإثم إلى القلب من باب إسناد فعل الشي ء إلى محلّه كقولهم جرى الميزاب أي ماء الميزاب وقال الزمخشريّ : إنّه من باب إسناد الفعل إلى الجارحة الّتي يعمل بها كقولهم هذا ممّا أبصرته عيني وفعلته يدي. وفيه نظر لانّه لو كان كذلك قال آثم لسانه لأنّ إقامة الشهادة آلتها اللّسان وكذا كتمانها.
وفي النظر نظر لأنّه حينئذ لا يكون في الكلام مبالغة ، والأحسن أن يقال إنّما ذكر القلب لئلّا يظنّ أنّ كتمان الشهادة من الآثام المتعلّقة باللّسان فقطّ بل القلب أصل متعلّقه ومعدن اقترافه واللّسان ترجمان عنه وهنا مسائل :
1 - حيث تقدّم جواز ثبوت الدين على الصبيّ والسفيه وأمثالهما جاز أخذ الرهن من أموالهم وجاز للوليّ فعل ذلك للمصلحة لأنّه من توابع الدّين.
2 - عقد الرهن لازم من طرف الراهن ، وإلّا لانتفت فائدته ، وجائز من طرف المرتهن لأنّه لمصلحته.
3 - لا يصحّ الارتهان على ما ليس ثابتا في الذمّة كالأمانات وكذا لا يصحّ على الإجارة المتعلّقة بالعين ويصح على العمل المطلق ، وهل يصحّ على الأعيان المضمونة الأقوى ذلك.
4 - لا يشترط ملكيّة الراهن للرهن ، بل جواز تصرّفه فيه فيجوز الاستعارة للرهن ، ويدخل في ضمان الراهن بقبضه من المعير ، وإن لم يقع العقد بعد على الأصحّ ، ولا يضمنه المرتهن وإن قبضه.
5 - المرتهن إن كان وكيلا للمالك باع مع حلول دينه واستوفى ، وكذا لو كان وصيّة وإن لم يكن أحدهما فله إلزام المالك أو وارثه بالبيع أو أداء الحقّ بل وله ذلك أيضا وإن كان وكيلا أو وصيّا ومع تعذر الكلّ يستأذن الحاكم في البيع.
ص: 64
وفيه آيتان :
الاولى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (1).
الثانية ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) (2).
الزعامة والكفالة والضمان مترادفة وهنا فوائد :
1 - الضمان عندنا بنقل المال من ذمّة إلى ذمّة ، وقيل ضم ذمّة إلى ذمّة ، وهو قول الفقهاء الأربعة ، فعلى هذا يكون المضمون له مخيّرا في مطالبة أيّهما شاء ، والحقّ الأوّل لما ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه حضرته جنازة فقال « على صاحبكم دين؟قالوا نعم درهمان ، فقال صلّوا على صاحبكم فقال عليّ عليه السلام هما عليّ يا رسول اللّه وأنا لهما ضامن فصلّى عليه النبيّ صلى اللّه عليه وآله ثمّ أقبل على عليّ عليه السلام فقال جزاك اللّه عن الإسلام خيرا ، وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك (3) » وهذا الحكم كان في صدر الإسلام أنّه لم يصلّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله على من لم يخلف وفاء دينه ثمّ نسخ بقوله تعالى « النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (4) » دلّت هذه الرواية على أنّ الميّت قد انتقل الحقّ من ذمّته.
ص: 65
2 - مورد الضمان هو كل ما صحّ أخذ الرهن عليه فلا يصحّ ضمان الأمانات ولا العمل المتعلّق بالعين.
3 - لا يشترط العلم بقدر المضمون حالة الضمان فاللازم حينئذ ما تقوم به البيّنة بتاريخ سابق عليه ، لا [ على ] ما تأخّر تاريخه أو يقرّ به الغريم وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعيّ وأحمد لا يصح ضمان المجهول ، وبه قال بعض الأصحاب لئلّا يلزم الغرر ، والحق الأوّل لعموم قوله صلى اللّه عليه وآله « الزعيم غارم (1) » والغرر يندفع بما تقوم به البيّنة.
4 - الضمان عقد يشترط فيه رضى الضامن قطعا ولا يشترط رضى المضمون عنه وأمّا المضمون له فالأصحّ اشتراط رضاه وللشافعيّ [ فيه ] قولان لنا أنه إثبات حقّ له في ذمّة غير من هو عليه ، فلا بدّ من رضاه وقال الشيخ : لا يشترط محتجا بقضيّة علي عليه السلام ويمكن أن يجاب بإمكان أنّه كان حاضرا فرضي أو اختصاص ذلك بالميّت أو رضى الرسول صلى اللّه عليه وآله قام مقامه لأنّه وليّ المؤمنين.
5 - حيث لا اعتبار برضى المضمون عنه فلو أدّى الضامن وكان ضمانه بغير إذنه فلا رجوع له به ، ولو كان الأداء بإذن المضمون عنه ، ولو أذن في الضمان رجع الضامن بما أدّاه ولو كان الأداء بغير إذنه [ ولو كان بسؤاله رجع عليه بالأقلّ ممّا أدّى وممّا ضمن به ] (2).
6 - في صدر الآية الأولى حكمان :
1 - مشروعيّة الجعالة وهي تقع على كلّ عمل محلّل مقصود وإن كان مجهولا.
2 - شرعيّة ضمان مالها لأنّه وإن لم يكن لازما لكنّه آئل إليه واستدلّ بعضهم بجواز ضمان مالها على لزومها إذ غير اللّازم لا يصحّ ضمان ماله وفيه نظر إذ جواز الضمان مشروط بتمام العمل وحينئذ يصير لازما فصحّ ضمانه لذلك.
ص: 66
( الصلح )
وفيه آيات ستّ :
الاولى ( فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) (1).
الثانية ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ ) (2).
الثالثة ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (3).
الرابعة ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما ) (4).
الخامسة ( فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) (5).
السادسة ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (6).
إذا عرفت هذا ففي هذه الآيات فوائد :
1 - مشروعيّة الصلح ويؤكّده قوله صلى اللّه عليه وآله « الصلح جائز بين المسلمين إلّا ما
ص: 67
حرّم حلالا أو حلّل حراما (1).
2 - في الآيات دلالة على أنّه شرّع لقطع التنازع. فهو المقصود [ منه ] بالذات وإن أفاد أمرا زائدا على ذلك فبحسب ما ينضم إليه من القرائن.
3 - أنّه يصحّ مع الإقرار والإنكار ، وعلى المعلوم والمجهول ، وعلى الدين والعين ، والمنفعة ، وعلى إطفاء النائرة ، وحقن الدماء ، وإصلاح ذات البين ، وإصلاح حال الزّوجين ، فموضوعه أعمّ من موضوع باقي العقود ، فلذلك اشتهر بين الأنام أنّه سيّد الأحكام.
4 - حيث ظهر لك أنّه أعمّ موضوعا فاعلم أنه عقد قائم بنفسه ليس فرعا على غيره وإن أفاد فائدته.
5 - يشترط فيه مراعاة الأمور الشرعيّة المعتبرة في العقود وسيأتي تفصيل شي ء من مجملات كلّيّاتها.
6 - في الصلح نفع عظيم إذ مع قطع النزاع يحصل تمام نظام النوع ، وفوائد المعاش ، فلذلك وصفه سبحانه بأنه « خير » أي خير عظيم والسعي فيه لإصلاح ذات البين فيه أجر جزيل قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام (2) » وقال الباقر عليه السلام « إنّ الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهما عن ذنبه فإذا فعلا ذلك استلقى على قفاه ومدّ يده وقال فزت. فرحم اللّه امرءا ألّف بين وليين لنا ، يا معشر المؤمنين تآلفوا وتعاطفوا (3) ».
ص: 68
وهي لغة مشتقّة من وكل إليه الأمر أي فوّضه إليه ، وشرعا استنابة في التصرّف ، واستدلّ الراونديّ والمعاصر على مشروعيّتها بثلاث آيات :
الأولى ( إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (1).
قال : وهو شامل للوليّ ، والوصيّ في موضع ، والوكيل.
الثانية ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) (2).
أي أعطوه دراهمكم وأقيموه مقام أنفسكم في الابتياع.
الثالثة ( فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا ) (3).
والعرب تسمّي الوكيل والخادم فتى ، والمراد في الآية هو يوشع عليه السلام وليس خادما فتعيّن كونه وكيلا فدلّ [ ت الآيات ] على مشروعيّة الوكالة وعندي في الاستدلال بهذه الآيات نظر.
أمّا الاولى فلأنّ المراد بالّذي بيده عقدة النكاح الوليّ الإجباريّ أو الزّوج وسيأتي تحقيقه.
وأمّا الثانية فإنّها حكاية حال غير مشرّع ولا معصوم فلا يكون حجّة.
وأمّا الثالثة فلأنّ المراد بالفتى العبد والخادم ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله : « ليقل
ص: 69
أحدكم فتاي وفتأتي ولا يقل عبدي ولا أمتي (1) » وبالجملة ليس في الآيات المذكورة نصوصيّة على مشروعيّة الوكالة في هذه الشريعة فلا يكون حجّة اللّهمّ إلّا الآية الثانية فإنّها حكاية فعل قوم صالحين في سياق مدحهم ، فلو لم يكن سائغا لما حسن ذكره ، وفي آية بعث الحكمين (2) إشارة إلى مشروعيّتها ، ولذلك قيل : إنّ البعث توكيل.
واعلم أنّ متعلّق الوكالة هو كلّ ما لم يتعلّق غرض الشارع بإيقاعه من مباشر بعينه وهو سائر العقود والفسوخ والإيقاعات ، إلّا الظهار والإيلاء واللّعان والنذر والعهد واليمين ولا تصح فيما تعلّق حكم الشارع بوقوعه من مباشر بعينه ، كالقسم بين الزوجات ومباشرة المعاصي وأمّا العبادات فقد تقدّم لنا فيها تفصيل واف وفي صحّة التوكيل بإثبات اليد على المباحات خلاف أقربه الجواز وللوكالة أحكام تفاصيلها معلومة في كتب الفقه.
ص: 70
وفيه مقدّمة وأبحاث :
أمّا المقدّمة ففيها آية واحدة تشتمل على أحكام كلّية وهي :
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1).
قيل : كلّ آية صدّرت ب « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » فهي مدنيّة وب « يا أَيُّهَا النّاسُ » فهي مكية والأصحّ أنّ هذا على الأغلب يقال : وفي بعهده وأوفى بمعنى واحد والمراد بالعقود كلّ ما يعقده الناس في معاملاتهم ، وقيل المراد بالعقود العهود الّتي عقدها اللّه على عباده والأولى حمله على الجميع لعموم اللفظ وعدم ثبوت المخصّص فهنا فوائد :
1 - الوفاء بالعقد : القيام بمقتضاه ، فان كان لازما وجب الوفاء بلزومه ، وإن كان جائزا وجب الوفاء بجوازه ، وحينئذ يكون في العقد إجمال يعلم حاله من البيان النبويّ أو الإماميّ.
2 - العقد شرعا اسم للإيجاب والقبول :
وهو قد يكون لازما من طرفيه كالإجارة ، والمزارعة ، والمساقاة ، والصلح والوقف ، والنكاح ، والهبة في بعض صورها ، والكتابة بنوعيها ، على الأقوى وعقد السبق على قول ، والضمان.
وقد يكون جائزا من طرفيه كالوديعة ، والعارية ، والقراض ، والشركة والوكالة ، والوصيّة ، والقرض ، والجعالة ، والهبة ، في بعض صورها.
وقد يكون لازما من طرف وجائزا من آخر كالرهن وكفالة البدن (2) وعقد الذمّة ، والأمان ، وقيل : والهبة من ذي الرحمن أو مع القربة أو مع التعويض أو التصرّف
ص: 71
والأولى اللّزوم من الطرفين إذ لا يجب على الواهب القبول بفسخ المتّهب ولأنّه ملك جديد.
وقد يكون جائزا في مبدئه ثمّ يؤول إلى اللزوم كالهبة بعد القبض ، وقبل أحد الثلاثة السابقة ، والوصيّة قبل الموت والقبول وتلزم بعدهما.
وقد يكون لازما في مبدئه ثمّ يصير جائزا كالبيع إذا طرء عليه فسخ بخيار أو فوات شرط معيّن أو وصف كذلك أو انفساخ كلف مبيع قبل قبضه أو ثمن كذلك أو غير ذلك.
3 - كلّ عقد لازم يجب فيه أمور الأوّل : أن يكون إيجابه وقبوله لفظيين الثاني : أن يوقعا بالعربيّة اختيارا. الثالث : أن يوقعا بصيغة الماضي ، الرابع : فوريّة القبول ومطابقته بما يعدّ كذلك عرفا وكذا يجب في الرهن على الأولى الخامس تنجيزه فلا يصحّ معلّقا ولا يجب في الجائز شي ء من ذلك بل اللّفظ الدال على المقصود منها مع القرينة.
4 - يجب في كلّ عقد صدوره عن مالك أو [ من في ] حكمه كالأب أو الجدّ له أو الوكيل أو الوصيّ أو الحاكم أو الأمين أو القاضي أو ناظر الوقف أو الملتقط إذا خاف هلاك اللّفظة وتعذّر الحاكم وكذا الودعيّ في الوديعة أو بعض المؤمنين في مال الطفل عند تعذّر الوليّ.
5 - يجب في كلّ عقد اشتماله على مقتضاه فلو شرط فيه غير مقتضاه كان باطلا فيما يكون ركنا فيه وما لم يكن ركنا فيه ويشتمل على غرر أو محرّم فكذلك وإلّا فجائز.
وحكم العقد الصحيح ترتّب أثره وتوابعه ، وحكم غير الصحيح عدم ترتّب أثره وتوابعه ، والشرط اللّازم الوفاء هو ما يقع بين الإيجاب والقبول فلو تقدّم على العقد أو تأخّر فلا أثر له.
7 - حيث أخذنا العقود بالمعنى الأعمّ ، تصلح الآية للاستدلال بها على
ص: 72
وجوب إيفاء النذر والعهد واليمين ، بما عقده مع ربّه أو مع غيره ، ممّا لم يخالف المشروع كالمزارعة والمساقاة والسكنى والإجارة وغير ذلك من الأحكام والإيقاعات فلنذكر ما ورد من الآيات في مشروعيّة شي ء منها نصا أو ظاهرا وذلك أنواع :
وفيها آيتان :
قوله تعالى ( يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ) (1).
وقوله تعالى ( عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) (2).
دلّتا على مشروعيّة الإجارة. وإن كانت في شرع غيرنا لأصالة عدم النسخ مع اشتمال عقدها على كونه من متممات (3) نظام النوع ، لأنه ممّا يضطرّ إليه لما تقرّر في العلوم الحقيقيّة أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش وحده ، فيفتقر إلى التعاضد وذلك غير واجب على الغير القيام به ، فيجوز أخذ العوض عليه ، فتشرّع المعاوضة على المنفعة وذلك هو المطلوب ، وفي الآية الثانية إشارة إلى وجوب ضبط العمل بالمدّة إن قدّر بها وإلّا فبغيرها من الضوابط.
وذكر المعاصر وغيره ثلاث آيات :
الاولى ( فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ) (4).
ص: 73
دلّت على اشتراك الغانمين في الغنيمة لجمعهم في الخطاب.
الثانية قوله في المواريث ( فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ) (1).
وكذا باقيها لاقتضائها الشركة التزاما.
الثالثة ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) . الآية (2).
على قول من يقول بوجوب البسط على الأصناف والأصحّ أنّها لبيان المصرف فلا تدلّ على الشركة وهذه الآيات تدلّ على حصول معنى الشركة ، فيجوز تعاطيها بإيجاد أسبابها ، وهي يتحقّق بأمور :
1 - مزج المتساويين بحيث لا تمايز لأحدهما عن الآخر.
2 - تملّك الشخصين سلعة واحدة بالبيع أو بما يشبهه من العقود.
3 - حيازتهما معا سلعة واحدة دفعة وفي معناها قبضهما سلعة واحدة من دينهما ولا حكم للشركة بغير ذلك من الوجوه والمفاوضة والأبدان.
الثالثة ( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ ) (1).
قال المعاصر : يمكن أن يستدلّ بها على جواز المضاربة لأنّها دلّت على رجحان التكسّب ولم يفرّق بين كونه بمال المكتسب أو بمال غيره وعندي في الاستدلال بها نظر يعلم ممّا تقدّم في باب القرض ، ولأنّ الضرب في الأرض هو التصرّف فيها وهو أعم من المتنازع والعام لا دلالة له على الخاصّ وأيضا المضاربة يكون حضرا وسفرا فالاستدلال بهذه يخصّص موضوعها.
وهو أن يدفع الإنسان إلى غيره مالا ليبتاع له به متاعا ولا حصّة له في ربحه وفي مشروعيّتها ثلاث آيات :
الاولى ( وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ ) (2).
الثانية ( وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (3).
الثالثة ( وَلَمّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) (4).
والبضاعة في هذه الآيات هي ثمن طعام اشتروه من يوسف ، وفي العرف لا يطلق إلّا على ما وقع فيه التجارة ، وفي اصطلاح الفقهاء يقال على ما ذكرناه.
ثمّ اعلم أنّ عامل البضاعة حيث لا حصّة له في الربح فان تبرّع بالعمل فلا اجرة له أيضا وإلّا كان له اجرة مثل عمله في تلك البضاعة.
ص: 75
وفيه آيات :
الاولى ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (1).
الثانية ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ) (2).
الثالثة ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ) (3).
وهنا فوائد :
1 - الأمانة مشتقّة من الأمن الحاصل من حسن الظنّ بالمستأمن ، فيجب عليه أن يكون كذلك ، فيحرم عليه الخيانة ، والتعدّي والتفريط بإهمال أسباب حفظها من المؤذيات ، ويختلف ذلك بحسب اختلاف الأمانة في كيفية حفظها عرفا.
2 - الأمانة نسبة إلى يد غير المالك تقتضي عدم الضمان ، وهي قد تكون من المالك كالوديعة والعارية والرهن والإجارة وغيرها ، وقد تكون من الشرع ، وهي المسمّاة بالأمانة الشرعيّة فالآية الأولى شاملة للقسمين والأخيرتان تختصّان بالقسم الأوّل.
3 - يجب في الأمانة الشرعيّة المبادرة إلى إعلام المالك مع المكنة فإن تمكّن وأهمل ضمن ، وإلّا فالظاهر عدم الضمان ولها صور :
ص: 76
الاولى : إطارة الريح الثوب إلى داره ، فيجب الإعلام أو أخذه وردّه إلى مالكه.
الثانية : انتزاع الصيد من المحرم أو من محلّ أخذه من المحرم.
الثالثة : انتزاع المغصوب من الغاصب بطريق الحسبة.
الرابعة : أخذ الوديعة من صبي أو مجنون خوف إتلافها.
الخامسة : تخليص الصيد من جارح ليداويه أو من شبكة في الحرم.
السادسة : لو تلاعب الصبيان بالجوز أو البيض وصار في يد أحدهما جوز الآخر أو بيضه وعلم به الوليّ فإنّه يجب ردّه على وليّ الآخر ، ولو تلف في يد الصبيّ قبل علم الوليّ ضمنه في ماله ، ولا عبرة بعلم غير الوليّ كأمّ أو أخ لأنّه ليس قيّما عليه ، فلو أخذه أحدهما بنية الرد على المالك أمكن إلحاقه بالأمانة ، ولو كان أحد المتلاعبين بالغا ضمن ما أخذه من الصبيّ ، وهل يضمن الصبيّ ، المأخوذ من البالغ؟ فيه نظر أقر به عدم الضمان لتسليطه إيّاه على إتلافه.
السابعة : لو ظفر المقاصّ بغير جنس حقّه ، فهل هو أمانة شرعيّة حتّى يباع؟ الأقوى [ عدم ] (1) الضمان عند بعض الأصحاب ، وهو جيّد ، لكن في قدر حقّه أمّا الزائد على قدر حقّه إذا لم يمكن التوصّل إلى حقّه إلّا به ، فالأجود عدم الضمان كمن كان له مائة فلم يجد إلّا دابّة تساوي مائتين.
الثامنة : لو مات المودع ولم يعلم الوارث بالأمان ، وكذا لو أودع الوكيل مالا ليوصل إلى المالك. فوصل الودعيّ إلى بلده ولم يعلم المالك بها ، وكذا الولي لو بلغ الطفل ورشد ولم يعلم بماله. وأمثال ذلك كثيرة ، أمّا الكتب المرسلة فيقوى فيها ذلك ، ويحتمل العدم لأنّها ملك المرسل. والأمر بإيصالها لا يقتضي الفوريّة شرعا ويضعّف بأنّ العرف يقتضيه ، والشرع وإن لم يقتضيه ، فلم يقتض عدمه ومن هنا هل يجب رد الرقاع على ورثة المرسل؟ يحتمل ذلك لملكه لها فتنتقل إلى ورثته ، ويحتمل العدم للعادة ، هذا مع بقاء عينها وإلّا فلا ضمان قطعا.
4 - تشترك الأمانتان في عدم الضمان بغير التعدّي والتفريط ، وفي وجوب
ص: 77
الردّ مضيّقا إلى المالك أو وكيله أو وليه مع الطلب ، وتفترقان في وجوب الاعلام فورا في الشرعيّة وعدم قبول قوله في ردّها بخلاف غير الشرعيّة في الحكمين.
قوله في الثانية « فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ » الأمر هنا للوجوب بشرط الطلب من المالك أو من بحكمه وفي الآيتين حثّ على وجوب ردّ الأمانة ، وتهديد صريح ، ووعظ على عدم ذلك لقوله في آخر الآية الاولى ( إِنَّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) والوعظ هو التحذير من عقاب اللّه ، والترغيب في ثوابه ، وقوله في الثانية « وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ».
5 - الممدوح بأداء الأمانة في الآية الثالثة هم النصارى ، والمذموم هم اليهود لأنّ النصارى لا يستحلّون أموال من يخالفهم في الاعتقاد بخلاف اليهود فإنّهم يستحلّون أموال من يخالفهم بدليل قوله تعالى حكاية عنهم « لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) (1) والمراد بالاميّين من ليس على دينهم فكذّبهم اللّه في مقالتهم هذه بقوله « وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » بأنّه كذب وقوله « إِلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً » أي إلّا مدّة إقامتك على رأسه مبالغا بالتقاضي والمطالبة.
وهي إذن في الانتفاع بالعين تبرّعا وموضوعها كلّ عين ينتفع بها مع بقائها.
واشتقاقها إمّا من العري لعرائها من العوض أو من « عار » إذا ذهب ورجع ومنه قول الشاعر :
أعيروا خيلكم ثمّ اركضوها *** أحقّ الخيل بالركض المعار (2)
ص: 78
وذكر المعاصر لمشروعيّتها آيتين :
الاولى ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (1).
الثانية ( وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) (2).
ومدلول الأولى الأمر بالتعاون على البرّ ، وهو صريح في العارية ، لما قلناه من الاذن فيها تبرّعا ، ومدلول الثانية أنّه عطفه على أمور مذمومة ، وهي السهو عن الصلاة والرياء بها ، فيكون المنع من الماعون وهو ما يتعاون به عادة مذموما أيضا قضيّة للعطف ، فيكون عدم المنع في معرض المدح ، وذلك هو المطلوب وهنا فوائد :
ص: 79
1 - العارية أمانة وليست مضمونة خلافا للشافعيّ محتجّا بقوله صلى اللّه عليه وآله لمّا استعار من صفوان بن أميّة أدرعا فقال أغصبا يا رسول اللّه! فقال « لا بل عارية مضمونة (1) » وليس بحجّة بل هو اشتراط لضمانها ، ونحن نقول به وإلّا لكان تأكيدا والتأسيس خير منه.
2 - العارية تضمن بأمور الأوّل : اشتراط الضمان ، الثاني : التعدّي والتفريط الثالث : الاستعارة من غاصب الرابع : استعارة المحرم للصيد ، الخامس : كون العين [ المعارة ] ذهبا أو فضّة ، السادس : الاستعارة للرهن.
3 - ينتفع بالعين في كلّ ما جرت العادة به عرفا ولو عيّن المالك نوعا اقتصر عليه ولو خالف المستعير ذلك ضمن ، ولو تلفت بالاستعمال لا مع المخالفة ، لم يضمن.
وفي مشروعيّتهما مصلحة جليلة وهي الارتياض لممارسة القتال مع الكفّار لإعزاز كلمة الإسلام ، وإلّا فهي في الأصل رهان وقمار وفي الحديث « إنّ الملائكة لتنفر من الرهان وتلعن صاحبه ، إلّا في النصل والريش والخفّ والحافر (2) » ويدخل في النصل الرّمح والسيف والسهم ، وفي الخفّ الإبل والفيلة ، وفي الحافر الفرس والبغل والحمار ، وهنا آيات :
الاولى ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) (3).
ص: 80
وردّ بأنّ المراد بالقوّة الرمي.
الثانية ( إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ) (1).
والأصل بقاء المشروعيّة وعدم النسخ.
الثالثة ( فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) (2).
أي ما أجريتم عليه ، من الوجيف وهو سرعة السير.
واشتقاقها إمّا من الشفع وهو الزّوج كأنّ المشفوع كان فردا فصار زوجا أو من الشفاعة وليس في الآيات الكريمة ما يدلّ عليها صريحا بخصوصيّتها بل لمّا كان مشروعيّتها لازالة الضّيق والضرر والمضاغنة الحاصلة من الشركة ، جاز أن يستدلّ عليها حينئذ بآيات تدلّ على رفع ذلك كقوله تعالى :
( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3).
وقوله ( وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ) (4).
وقوله ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (5).
وموضوعها عندنا كلّ عقار مشترك بين اثنين فيبيع أحدهما حصّته فللآخر الانتزاع من المشتري مع بذل الثمن له ، ولها شروط نذكر منها كلّياتها وهي ثمانية :
ص: 81
1 - كون الشركة في عقار ثابت لا ما ينتقل من المبيعات.
2 - انتقال الحصّة بالبيع لا بغيره من العقود.
3 - عدم زيادة الشركاء على اثنين.
4 - بقاء الشركة بالجزء المشاع ، فلو قسم وميّز فلا شفعة إلّا مع بقائها في الطريق أو النهر.
5 - قدرة الشفيع على الثمن.
6 - أن لا يكون كافرا والمشتري مسلما.
7 - كون العقار قابلا للقسمة فلا شفعة في العضائد الضيّقة.
8 - المطالبة على الفور لقوله صلى اللّه عليه وآله « الشفعة لمن واثبها » (1) ولا تثبت عندنا بالجوار ولا في غير ما ذكرنا من المبيعات ولا مع زيادة الشركاء على اثنين ولا غير ذلك ممّا قيل ، لأنّ هذا الانتزاع على خلاف الأصل فيقتصر فيه على محلّ الوفاق.
وهي إمّا إنسان أو حيوان أو مال أو غير ذلك ولم يرد في الكتاب في شرعنا نصوصيّة عليها بل عموم :
( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (2).
وقوله ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (3).
ولا ريب أنّ أخذ اللّقيط في موضع الحاجة برّ وإحسان إليه فلو لا مشروعيّته لأدّى إلى تلفه المنافي لحكمة الصانع الجواد الكريم الرؤف الرحيم وقد ورد حكاية اللّقطة في القرآن العزيز عن القرون الماضية كقوله :
ص: 82
( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ) (1).
وقوله ( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيّارَةِ ) (2).
وهاتان وإن لم يكن في ظاهرهما أمر لكن في مضمونهما تنبيه وإشارة إلى هذه الوظيفة المناسبة للشفقة على خلق اللّه تعالى.
واعلم أنّ أخذ اللّقيط واجب لظاهر قوله تعالى ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) لكن على الكفاية لحصول المقصود بقيام من يحضنه وأمّا الحيوان والمال فلهما أحكام وتفاصيل علمت من السنّة الشريفة النبويّة والإماميّة تذكر في غير هذا المكان.
وهو الاستيلاء على مال الغير بغير حقّ وقد ورد في النهي عنه آيات كثيرة منها ما يدلّ بعمومه كقوله تعالى :
( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (3).
وقوله ( إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ ) (4).
ومنها ما يدلّ بخصوصه ويدلّ على جواز المقاصّة والاستيفاء كقوله :
( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (5).
وقوله ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (6).
ص: 83
وقوله ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (1).
وتفاصيل ذلك وأحكامه مذكور في المطوّلات من كتب الفقه. فلتطلب منها لكنّا نذكر هنا فوائد.
1 - الاعتداء قد يكون بالاستيلاء ، وقد يكون بالإتلاف للمنفعة أو العين مباشرة أو تسبيبا من العامد أو المخطئ.
2 - يجب على الغاصب والمعتدي ردّ ما غصبه أو أتلفه أو عوض ذلك مع التعذر فان لم يفعل تسلّط المالك على الانتزاع وسمّاه اعتداء وسيّئة مجازا تسمية للشي ء بمقابله.
3 - مع وجود العين ، للمالك انتزاعها ، وإن لم يرض الغاصب ، ومع تلفها وبذل الغاصب واعترافه لا يسلّط على أخذ العوض إلّا برضى الغاصب لأنّ له الخيار في جهات القضاء من أيّ أمواله شاء ، فان ماطل أو أنكر ولا بيّنة أو كانت على الأصحّ فللمالك الأخذ من أيّ أمواله اتّفق ، لكنّ المماثل أولى فان لم يجد أخذ المخالف.
4 - المثل في الآية يمكن حمله على المساوي في الحقيقة ، وعلى المساوي في الحكم ، وعلى المساوي في الماليّة ، وقد يعبّر عن الأوّل بما يشترك جزؤه وكلّه في صدق الاسم وهو المراد بالمثليّ في عبارة الفقهاء.
5 - المغصوب إن كان مثليّا بالمعنى الأوّل تعيّن مع فقده مثله ، ولا اعتبار بتفاوت الأسعار في الزيادة والنقصان عن حال الغصب ، فان تعذّر فقيمته حين الإعواز وإن لم يكن مثليّا بالمعنى المذكور ، وهو المعبّر عنه بأنّه من ذوات القيم يضمن بقيمته العليا من حين الغصب إلى حين التلف.
6 - فوائد المغصوب ومنافعه مضمونة على الغاصب كالأصل بأعلى القيم كما قلناه ، سواء انتفع الغاصب بها أولا ، والحرّ المعتقل (2) يضمن منافعه بالتفويت لا
ص: 84
الفوات والعبد كغيره من الأموال يضمن فوائده فواتا وتفويتا.
7 - مع تعاقب الأيدي على المغصوب يرجع المالك على من شاء ببدل واحد أو على الجميع ببدل واحد ، فان كان المرجوع عليه مغرورا رجع على من غرّه وإلّا فلا.
8 - يجب ردّ المغصوب وإن تعسّر كالساجة في البناء واللّوح في السفينة وإن أدّى إلى تلف مال الغاصب أمّا لو خشي غرق الغاصب أو حيوان محترم أو مال لغير الغاصب لم ينزع اللّوح وشبهه ، وكذا لو خيط بالمغصوب جرح حيوان له حرمة وخيف التلف بالنزع لم ينزع ، وضمن في الجميع القيمة ، ولو أمكن في اللّوح الصبر إلى الساحل انتزع فيه وأخذ الأجرة ، والخيار للمالك ، ولو طرء على المغصوب نقص انتزع مع أرشه ، ولو خلطه الغاصب بمساويه أو أجود ولم يمكن التميز تشاركا ولو كان بالأردء ضمن وكذا لو خلطه بغير جنسه كالزيت والشيرج.
9 - زوائد المغصوب وإن كانت بفعل الغاصب مضمونة إن كانت متقوّمة عرفا وإلّا فلا ، ولو عدم المقوّم ووجد غيره لم يجبر الأوّل ، وكانا مضمومين أمّا لو كان الزائد بعين من الغاصب كالصنع كلّف الفصل وضمن النقص.
10 - المقبوض بالبيع الفاسد حكمه حكم المغصوب في الضمان بعينه وكذا فوائده وزوائده وبالجملة كلّ مضمون بعقد صحيح فهو مضمون بالفاسد ، وما لا فلا.
وهو إخبار عن حقّ لازم للمخبر فالأخبار جنس وقولنا لازم للمخبر يخرج الشهادة فإنّها إخبار عن حقّ لكنّه لازم لغير المخبر ثمّ الحقّ قد يكون مالا وقد يكون عقوبة ، وقد يكون نسبا ، والمال قد يكون معلوما فيتّبع مدلول لفظه شرعا فان فقد فعرفا ، فان فقد فلغة ، وقد يكون مجهولا فيرجع إلى تفسير المقر بالمحتمل والعقوبة إن عيّنها لزمته ، وإن أبهم رجع إليه ، سواء كانت العقوبة عليه لقذف أو
ص: 85
لجناية على غيره والنسب يلزم مع الشرائط وانتفاء الموانع حسّا وشرعا وفيه آيات :
الاولى ( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ) (1).
والاعتراف افتعال من المعرفة ويقال عرفا [ على ] الإقرار مع المعرفة بما أقر به فلو لم يكن دليلا لما رتّب الذمّ والدعاء عليهم بقوله ( فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ ) أي بعدا لهم من رحمة اللّه من أسحقه إذا أبعده.
الثانية ( وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) (2).
وشهادة الإنسان على نفسه إقرار منه بما شهد به.
الثالثة ( قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا ) (3).
ودلالتها على لزوم الحكم للمقرّ ظاهرة.
لو قال : لي عندك كذا فقال : أنا مقرّ لك به ، لزمه قطعا أمّا لو قال أنا مقرّ هل يلزمه ذلك أم لا؟ قيل لا يلزم لاحتمال إضمار غير ما تقدّم أي مقر بالوحدانيّة أو النبوّة أو ببطلان دعواك فلا يكون صريحا في الجواب إذ هو أعم ، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ وقيل يكون إقرارا لوجوده عقيب الدعوى ، فيكون منصرفا إليها للعرف وللآية فإنّهم لم يقولوا أقررنا بذلك.
إن قلت : إنّما ترك ذكر المتعلّق لعلمه تعالى بقصدهم ذلك ولذلك ترك ذكره في السؤال بقوله « أَأَقْرَرْتُمْ » ولم يقل « بذلك » قلت مراده تعالى إلزامهم بإقرارهم وكلامهم ولذلك قال « فَاشْهَدُوا » أي ليشهد بعضكم على بعض ، فيكون المراد إقرارهم لا قصدهم لعلمه بذلك.
ص: 86
ثمّ اعلم أنّ الصور المفروضة هنا لفظا أربعة :
1 - أنا مقرّ لك به وهو صريح في الإقرار.
2 - أنا مقرّ لك ولم يقل به ، وفي هذا احتمال أنه مقرّ لك بغيره فلا يكون صريحا في الجواب.
3 - أنا مقرّ به ولم يقل لك قال العلّامة يكون إقرارا وظاهر كلام الشهيد يكون إقرارا لاحتمال إقراره به لغيره لا له.
4 - أنا مقر لا غير ولم يذكر الضميرين وفيه الاحتمالان المتقدّمان. فظاهر الآية يدل على كون كلّ إقرارا وحذف الضمير الدالّ على الربط لا يضرّ هنا لأنّه كثيرا مّا يحذف الضمير للعلم به ، ويؤيّده العرف ، وقرينة الخطاب ، ولأنّه لو قال : نعم ، في هذه الصور - لكان إقرارا فكذا فيما قلناه.
الرابعة ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) (1).
وتقريره كما تقدّم.
الخامسة ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى ) (2).
وكذا قوله ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) (3).
يستدلّ بهاتين الآيتين وشبههما على كون حرف الإيجاب يصلح إقرارا وأن بلى إيجاب بعد النفي و « نعم » تقرير لما سبق ، إن نفيا فنفيا وإن إيجابا فايجابا ولذلك قال ابن عبّاس في الآية الثانية لو قالوا نعم لكفروا ، أي نعم لست بربنا وفيه نظر لأنّ أهل العرف يستعملون نعم بمعنى بلى ويدلّ عليه قول الشاعر :
أليس اللّه يجمع أمّ عمرو *** وإيّانا فذاك بنا تداني
ص: 87
نعم وترى الهلال كما أراه *** ويعلوها النهار كما علاني(1)
والحقّ عندي التفصيل وهو أنّ الكلام إن صدر عن أهل اللّغة لم يكن إقرارا وإن صدر عن أهل العرف كان إقرارا وهنا فوائد :
1 - في الآية الأولى إشارة إلى كون المقرّ ذا معرفة بما أقرّ به ، فيدخل في ذلك اشتراط بلوغه وعقله ورشده.
2 - في الآية الثانية والثالثة إشارة إلى وجوب الحكم على المقرّ بما أقرّ به مطلقا كما يجب الحكم بالبيّنة ولهذا سمّاه شهادة ، فيكون الإقرار أحد أدلّة الحكم.
ص: 88
3 - في الآية الرابعة إشارة إلى وجوب الإقرار بالحقّ اللّازم للمقرّ لقوله ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ ) أي بالعدل ، والأمر للوجوب.
4 - في الآية الثالثة ( وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي ) أي عهدي ، سمّى العهد إصرا لأنّه يوصر أي يشدّ ، والآثار ما يعقد به الشي ء ويشدّ ، أو لأنّ الوفاء به شديد.
وهي لغة مشتقّة من وصى يصي أي يصل (1) يقال أوصى يوصي إيصاء ، ووصّى يوصّي توصية ، والاسم الوصيّة والوصاية ، وشرعا هو تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة وسمّي ذلك وصيّة لأنّ الموصى يصل تصرفه بعد الموت بما قبله.
وفيه آيات ثلاثة :
الأولى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (2).
وهنا فوائد :
1 - « كتب » أي فرض وفاعله « الوصيّة » وإنّما ذكّره لكون تأنيث الوصيّة غير حقيقيّ أو لوجود الفصل أو لأنّ معناها أن يوصي ، ومعناه المصدر ، وحضور الموت ظهور أسبابه وأماراته ، والخير المال بدليل قوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (3).
ص: 89
2 - قيل الآية منسوخة بآية الإرث وبقوله صلى اللّه عليه وآله « إنّ اللّه تعالى أعطى كلّ ذي حق حقّه ألا لا وصيّة لوارث (1) » قلنا الأصل عدم النسخ ولأنّ شرطه المنافاة ولا منافاة بين الوصيّة والإرث ، إذ هو زيادة في الصلة ولو سلّم النسخ فهو رافع للوجوب لا الجواز ، وذلك لأنّ رفع المركّب لا يستلزم رفع جميع أجزائه ، كما بيّن في الأصول ، وأمّا الحديث فنمنع صحّته ولو سلّم فآحاد لا ينسخ الكتاب عند الأكثر ، ولو سلّم جواز النسخ به ، لكان لنا هنا أن نحمله على التخصيص بما زاد على الثلث ، والتخصيص خير من النسخ ، لما تقرر في الأصول أو نحمله على الإضمار الّذي هو خير أيضا أي لا وصيّة واجبة لوارث.
وبالجملة الإجماع منعقد على مشروعيّة الوصيّة فلا تكون منسوخة فيكون الحديث على تقدير صحّته مخصّصا وليس تخصيص الوارث بعدم الوصيّة له مطلقا أولى من تخصيصه بما زاد على الثلث ، وقد روى أصحابنا عن الباقر عليه السلام أنّه سئل هل يجوز الوصيّة للوارث؟ فقال : نعم ، وتلا هذه الآية (2) وأمّا رواية السكونيّ عن عليّ عليه السلام أنّه قال « من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية (3) » فضعيفة لكون السكونيّ عاميّا ومع تسليمها فلا تنفي الوصيّة للوارث إلّا من حيث مفهوم المخالفة وليس بحجّة.
3 - دلالة الآية على جواز الوصيّة للوارث ظاهرة لأنّ الوالدين وارثان قطعا وكذا قوله « وَالْأَقْرَبِينَ » يعمّ كلّ قريب وارثا كان مع الوالدين كالأولاد إجماعا والاخوة عند الخصم ، أو غير وارث لأنّ الجمع المعرّف باللّام للعموم ، كما تقرر في الأصول.
ص: 90
فائدة : الأقارب الّذين يرثون لكن معهم من يحجبهم مثل الأخت (1) مع الأب أو مع الولد يستحب الوصيّة لهم وبه قال جميع الفقهاء وعامّة الصحابة ، وقال قوم يجب الوصيّة لهؤلاء وهو ضعيف.
4 - اختلف في المال المتروك الّذي تعلّق الأمر بحصوله فقال الزهريّ كل ما يقع عليه اسم المال قليلا كان أو كثيرا وقال النخعيّ من ألف إلى خمسمائة درهم وقال ابن عبّاس ثمان مائة درهم ، « وروي عن عليّ عليه السلام أنه دخل على مولى له في مرضه وله سبع مائة أو ستّمائة درهم ، فقال ألا اوصي؟ فقال : لا إنّما قال اللّه تعالى ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) وليس لك كثير مال (2) » قال الراوندي وبهذا نأخذ.
5 - قوله « بِالْمَعْرُوفِ » قيل المراد به المعلوم فعلى هذا لا تصح الوصيّة بالمجهول ، وهو باطل عندنا فإنّه لو أوصى بشي ء أو بجزء أو نصيب صحّ لعموم الآية الثانية ، ورجع في غير المنصوص إلى الوارث ، وقيل المراد به بالعدل وهو أولى فيحتمل وجوها : الأوّل : أنّه ممّا لا يزيد على الثلث الثاني : أن يوصي للفقير والأشدّ حاجة ولا يفضّل الغنيّ على الفقير ، الثالث : أن لا يضرّ بورثته لو كانوا فقراء ، ولو أوصى بما دون الثلث ، الرابع : أن يقلّل في الوصيّة ولو كان الوارث غنيّا فالرّبع أفضل من الثلث ، والخمس أفضل من الربع ، والسدس أفضل من الخمس ، لما ورد عن سعد بن أبي وقّاص قال : مرضت فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يعودني فقلت : يا رسول اللّه اوصي بمالي كلّه؟ قال : لا ، قلت النصف؟ قال : لا ، قلت : الثلث؟ قال الثلث ، والثلث كثير إنّك إن تدع ذرّيتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس بأيديهم (3) » قوله « حَقًّا » مصدر أي حقّ ذلك حقّا.
ص: 91
6 - « فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ » إلى آخره ، الوصيّة وإن كانت جائزة لكن يجب العمل بها بعد الموصى من غير تغيير ولا تبديل ، ولذلك قال « فَمَنْ بَدَّلَهُ » أي بدّل ذلك الإيصاء من وصيّ وشاهد ووارث وحاكم وغيرهم بعد ما سمعه وتحقّقه فإنّما إثم ذلك التبديل على المبدّل ، والضمير في « بدّله » راجع إلى مصدر أوصى وهو الإيصاء وفي « إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » وعيد للمبدّل والمغيّر ، أي يسمع ويعلم التبديل والتغيير ، ولا يفوته شي ء.
7 - « فَمَنْ خافَ » أي توقّع أو علم من قولهم أخاف أن يرسل السماء « مِنْ مُوصٍ » قرء حمزة والكسائي وأبو بكر « موص » من وصى بالتشديد والباقون موص بالتخفيف من أوصى يوصي والضمير في « خاف » يرجع إلى « من » والجنف الميل إلى إفراط أو تفريط « أَوْ إِثْماً » بأن يوصي بالباطل أي بما لا يجوز الوصيّة به كالمحرّمات فعلى هذا الجنف هو الوصيّة بزائد على الثالث أو بما فيه إضرار بالوارث « فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ » أي بين الوارث والموصى له « فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » وفي الكلام تنبيه على أنّ مطلق التبديل والتغيير غير منهيّ عنه ، بل التبديل بالباطل عن الحقّ أمّا عن الباطل إلى الحقّ فجائز.
قيل : كان الأوصياء يمضون الوصيّة بعد نزول قوله ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) ولو كان الوصيّة بهما كانت ولو بالمال كلّه فنسخ بقوله « فَمَنْ خافَ » إلى آخره.
وقيل : المراد فمن خاف من موص في حال مرضه الّذي يريد الوصيّة فيه جنفا أو إثما فلا جناح عليه أن يردّه عن ذلك ، ويشير عليه بالنهج الصحيح ، ويصلح بين الموصى والورثة والموصى له ، بحيث لا يقع بينهم خلاف يؤدّي إلى الإثم ويكون الخوف على ظاهره ، ولا يكون مترقّبا ولا متوقّعا ، وهو وجه حسن جيّد مطابق غير أن الأوّل عليه الأكثر ، وبه قال الباقر والصادق عليهما السلام وكفى بقولهما مرجّحا له. قوله ( إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وعد لمن بدّل الباطل بالحقّ مقابل لوعيد من بدل الحقّ بالباطل.
ص: 92
الثانية ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) .
وكذا قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) .
وقوله ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1).
دلّت هذه الآيات ونظائرها على تأخير الميراث عن الوصيّة والدين وبقي هنا سؤال تقريره لم قدّم الوصيّة على الدين مع أنّ الفقهاء مجمعون على تقديم مؤنة التجهيز من أصل التركة ، ثمّ الدين من الأصل أيضا ثمّ الوصيّة من الثلث وأيضا الدين يجب أداؤه سواء أوصى به الميّت أو لا ، والوصيّة لا يجب إلّا إذا أوصى بها والجواب أنّ « أو » هنا بمعنى « إلّا » تقديره من بعد وصيّة إلّا أن يكون هناك دين.
فان قلت : إنّ « أو » لا يكون بمعنى « إلّا » أو « إلى » إلّا إذا دخلت على فعل مضارع ، وهنا ليس كذلك. قلنا : الفعل هنا مقدّر ، وهو يحصل أو يكون أو يوجد وإنّما قدّرنا ذلك لئلّا يلزم حمل القرآن على الركاكة.
فإن قلت : إذا كانت بهذا المعنى يجب أن يكون جوابا لأحد الأمور الثمانية وليس ها هنا شي ء منها ، قلت : هي هنا جواب الأمر إذ تقدير « يُوصِيكُمُ اللّهُ » أعطوا أولادكم ، وهذا أحسن من قول من قال إنّ أو هنا للإباحة ، ليدلّ على أنّ لوصيّة والدين واجبان يستحقّان التقديم على قسمة التركة مجتمعين ومنفردين ، وإنّه إنّما قدّم الوصيّة لأنّها مشتبهة بالميراث ، شاقّة على الورثة ، مندوب إليها ، لأنّ ما قلناه مطابق للقاعدة الشرعيّة منصور بالدليل اللّغويّ وهنا فوائد :
1 - دلّت هذه الآية على مشروعيّة الوصيّة مطلقا ، لوارث وغيره وأنّها مقدّمة على الميراث.
2 - ظاهر الآية يقتضي وجوب العمل بالوصيّة مطلقا ، والإجماع والأحاديث خصّا ذلك بالثلث ، فما دون ، وأنّ الزائد موقوف على إجازة الوارث.
3 - استدلّ الشافعيّة وبعض الفقهاء بالآية على أنّ الموصى له يملك الوصيّة
ص: 93
بالموت ، لأنّه جعل الإرث بعدها فلو لم ينتقل إلى الموصى له بقي بغير مالك ، لأنّ الميّت زال ملكه بالموت ، ولأنّ الملك يستحيل كونه بلا مالك لأنّه نسبة بينه وبين المملوك ، ويستحيل ثبوته للميّت ، فانّ الموت علّة في زوال الاملاك عنه ، ويستحيل أيضا ثبوته للوارث وإلّا لتلقّى الموصى له الملك عنهم ، وهو باطل إجماعا فعلى هذا يكون القبول كاشفا.
وقال جماعة : إنّ القبول سبب في الملك لأنّ الملك حادث لا بدّ له من سبب وليس هو الموت وحده ، وإلّا لكفى من غير قبول ، ولا الإيجاب وحده لذلك أيضا ولا هما معا لأنّهما لو كفئا لما صحّ الردّ بعدهما قبل القبول ، كما لا يصح بعد القبول ، لكنّه يقع الردّ بعدهما ، ولا يقع بعد القبول ، وليس الفارق إلّا حصول الملك في الثاني دون الأوّل.
فعلى هذا يكون الملك قبل القبول للوارث لكنّه غير مستقرّ كما يملك المشتري المبيع في زمن الخيار ، فان وقع الفسخ عاد الملك إلى البائع كذا هنا إذا قبل الموصى له عاد الملك إليه ، وإلّا استقرّ ملك الوارث ، ولأنّ الملك قبل القبول وبعد الموت لا بدّ له من مالك ليس هو الميّت لعدم صلاحيّته ، ولا الموصى له لعدم قبوله ، فيكون للوارث وهو المطلوب.
ويجاب عن الآية بأنّ المراد بعد وصيّته كاملة ، وهي المشتملة على الإيجاب والقبول ، وهذا القول يقوى في نفسي ويتفرّع عليه ملك النماء قبل القبول. فعلى الثاني يكون للوارث وعلى الأوّل يكون للموصى له.
4 - إطلاق الآية يقتضي عدم اشتراط تعيين الموصى به ، ولا الموصى له ، كما لو أوصى لأحد هذين فإنّه يعيّن الوارث ، ولو أوصى بعتق أحد هذين ، فإنّه يعيّن الوارث أيضا نعم يستحبّ القرعة لازالة التهمة.
الثالثة ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) (1).
ص: 94
وقوله ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) (1).
لو أوصى بجزء من ما له قال الشافعيّ ليس فيه مقدّر والأمر فيه إلى الورثة وأجمع أصحابنا على خلافه لكن اختلفوا :
فقال الشيخ وجماعة إنّه العشر استدلالا برواية ابن سنان (2) عن الصادق عليه السلام صحيحا « قال إنّ امرأة أوصت إليّ وقالت : ثلثي تقضى به ديني وجزء منه لفلانة فسألت ابن أبي ليلى فقال ما أرى لها شيئا ما أدري ما الجزء فسألت الصادق عليه السلام بعد ذلك وأخبرته الخبر فقال : كذب ابن أبي ليلى لها عشر الثلث إنّ اللّه أمر إبراهيم عليه السلام وقال له ( اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) وكانت الجبال يومئذ عشرة ، فالجزء هو العشر » ومثله رواية أبان بن تغلب عن الباقر عليه السلام (3).
وقال المفيد وسلّار إنّه السبع استدلالا برواية [ ابن ] أبي نصر قال سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل أوصى بجزء ماله فقال : واحد من سبعة إنّ اللّه يقول ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) ومثله رواية إسماعيل بن همام عن الرضا عليه السلام (4).
والأقوى العمل على الأوّل لأن الأصل بقاء الملك على الوارث خولف في العشر لأنّه أقل ما قيل ، ولولاه لحمل على أقلّ ما يتملّك كما لو أوصى بنصيب وشبهه وكذا قال الشيخ لو أوصى بسهم كان ثمنا لأنّه أقلّ السهام المفروضة ، وبشي ء ، كان سدسا حملا على آية الخمس ، فإنّه يقسم ستّة أقسام وهو ضعيف وقال الشافعيّ هنا كما قال في الجزء.
ص: 95
الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) (1).
هنا فوائد :
1 - روي أنّ تميما الداريّ وعدّي بن بدّاء خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلمّا قدموا الشام مرض بديل فدوّن ما معه في صحيفة ، وطرحها إلى متاعه ، ولم يخبرهما به ، وأوصى إليهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ، ففتّشاه وأخذا منه إناء من فضّة وزنه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذّهب ، فغيباه.
فأصاب أهله الصحيفة وطالبوهما بالإناء فجحدوا فترافعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فحلفهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعد صلاة العصر عند المنبر وخلّا سبيلهما.
ثمّ وجد الإناء في أيديهما فأتاهم بنوسهم في ذلك فقالا قد اشتريناه منه ، ولكن لم يكن لنا عليه بيّنة فكرهنا أن نقرّ به ، فرفعوهما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت ( فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً ) فقام عمرو بن العاص والمطّلب بن أبي وداعة السهميّان
ص: 96
فحلفا وأخذا الإناء (1).
2 - في تفسير الآيتين وحلّ تركيبهما : قوله « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » مبتدأ خبره محذوف أي عليكم شهادة بينكم و « اثْنانِ » فاعل فعل محذوف أي يشهد اثنان وفائدة الإبهام والتفسير تقرير الحكم في النفس مرّتين ولمّا قال « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » كأنّ قائلا يسأل من يشهد؟ فقال « اثْنانِ » أي يشهد اثنان لا أنّ « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » مبتدأ خبره « اثْنانِ » لأنّ شرط الاخبار وبالمفرد أن يجمعهما ذات واحدة و « إِذا حَضَرَ » ظرف لمتعلّق الجارّ والمجرور ، أي عليكم شهادة بينكم إذا حضر أحدكم أسباب الموت و « حِينَ الْوَصِيَّةِ » بدل منه وقوله « مِنْكُمْ » أي من المسلمين « و ( غَيْرِكُمْ ) » أي غير المسلمين ، وقيل « مِنْكُمْ » أي من أقاربكم و « غَيْرِكُمْ » أي من الأجانب ، وقد وقع الجارّان والمجروران هنا صفة للاثنان « تَحْبِسُونَهُما » أي تقفونهما وهو صفة لآخران ، والشرط مع جوابه المحذوف المدلول عليه بقوله « أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ » اعتراض فائدته الدلالة على أنّه ينبغي أن يشهد منكم اثنان فان تعذّر كما في السفر فآخران من غيركم والأولى أنّ « تَحْبِسُونَهُما » لا تعلّق لهما بما قبلهما لفظا ولا محلّ لها من الاعراب ، والمراد بالصلاة صلاة العصر ، لأنّه وقت اجتماع الناس ، أو أنّها وقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار ، فاللّام فيها للعهد وقيل أيّ صلاة كان فاللّام للجنس وهو أولى.
وقوله « لا نَشْتَرِي بِهِ » هو المقسم عليه « وإِنِ ارْتَبْتُمْ » أي ارتاب الوارث ، وهو اعتراض فائدته اختصاص القسم بحال الريبة ، والمعنى لا نستبدل بالقسم أو باللّه عرضا من الدنيا ، أي لا نحلف باللّه كذبا لأجل طمع ولو كان المقسم له ذا قربى ، و
ص: 97
جوابه محذوف أي لا نستبدل « وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ » أي اللّه الّذي قد أمرنا بإقامتها ف « إِنّا إِذاً » أي إذا كتمناها « لَمِنَ الْآثِمِينَ » وكان الشعبيّ يقف على « شهادة » ويبتدئ ب « آلله » بالمدّ على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام عنه ، « فَإِنْ عُثِرَ » أي اطّلع على أنّهما فعلا ما يوجب إثما فشاهدان آخران « مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ » وهم الورثة ، وقرأ حفص استحقّ على البناء للفاعل ، والأوليان أي الأحقّان بالشهادة ، لقرابتهما وهو خبر مبتدأ محذوف أي هما الأوليان أو خبر « آخران » أو بدل منهما أو من الضمير في « يقومان » وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم « الأوّلين » على أنّه صفة للّذين أو بدل منه.
قوله « لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما » أي يميننا أصدق من يمينهما لخيانتهما وكذبهما في يمينهما. وإطلاق الشهادة على اليمين مجاز لوقوعها وموقعها كما في اللّعان.
قوله « ذلِكَ » أي الحكم الّذي تقدّم أن تحليف الشاهد قوله « عَلى وَجْهِها » أي على نحو ما حملوها من غير تحريف ولا خيانة فيها ، وقوله « أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ » أي تردّ اليمين على المدّعين بعد إيمانهم فيفتضحون بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنّما جمع الضمير لأنّه حكم يعمّ الشهود كلّهم.
3 - في هذه الآية أحكام :
1 - أنّ الّذي يحضره أسباب الموت ينبغي أن يشهد عدلين على وصيّته إمّا من ذوي نسبه أو من أهل دينه ، وهو الإسلام ، فإن تعذّر ذلك عليه بأن كان في سفر فآخران من الأجانب أو أهل الذمة.
2 - أنّه إذا حمل الضمير في « مِنْكُمْ » على المسلمين وفي « غَيْرِكُمْ » على غيرهم (1) هل الحكم باق غير منسوخ أو لا؟ قال أصحابنا بالأوّل ، وجوّزوا شهادة أهل الذمة
ص: 98
مع تعذّر المسلمين في الوصيّة ، وقال جماعة من الفقهاء بالثاني وأنّ الآية منسوخة والأصحّ الأوّل لأصالة عدم النسخ ، وتكون الآية مخصّصة لأدلّة اشتراط الايمان والعدالة في الشاهد بما عدا الوصيّة ، نعم يشترط عدالتهم في دينهم ، ويرجّحون على فسّاق المسلمين.
3 - أنه إذا حمل الضمير في « مِنْكُمْ » على الأقارب ، دلّ على قبول شهادة القريب على قريبه مطلقا ، وفيه ردّ على من منع ذلك من المخالفين ، وسيأتي تمام ذلك في كتاب القضاء والشّهادات.
4 - أنّه على قول أصحابنا بقبول شهادة الذّمّي في الوصيّة مع عدم عدول المسلمين هل يشترط السّفر كما في ظاهر الآية أم لا؟ الأصحّ العدم وبالاشتراط رواية مطروحة.
5 - يرد على قول أصحابنا بقبول شهادة أهل الذمّة في الوصيّة [ مع عدم عدول المسلمين ] على ظاهر الآية وعدم نسخها سؤال وهو أنّ الآية دلّت على أنّه إذا وقع ارتياب يحلّف الشاهدان والإجماع منعقد على عدم تحليف الشاهد فلا يكون الحكم بشهادتهما باقيا فيكون منسوخا.
والجواب على تقدير كون الآية حجّة على المدّعى وبقاء حكمهما جاز أن يكون التحليف مختصّا بهذه الصّورة فكما أنه جاز قبول شهادة الذّمي جاز تحليفه ولهذا أفتى العلّامة بوجوب التحليف بعد العصر أو نقول لا نسلم أنّ تحليفهما لمكان شهادتهما حتّى يلزم تحليف الشاهد الّذي هو خلاف الإجماع ، بل إنّما حلّفا على تقدير دعوى خيانتهما ، ولم يكن لهما بيّنة بصدق قولهما فتوجّه اليمين عليهما وهذا أسد في الجواب.
6 - ردّ اليمين على الورثة ، قيل سببه ظهور خيانة الوصيين ، فانّ تصديق الوصيّ باليمين على تقدير أمانته ، وعدم ظهور خيانته ، وهنا ظهر خيانتهما والوجه إنّه إنما ردّ اليمين لأنّ الوصيّين ادّعيا الشراء عن الميّت فأنكر الورثة الشراء فتوجّه عليهما اليمين على نفي العلم بالشراء.
ص: 99
7 - جواز شهادة أهل الذّمة في الوصيّة عند أصحابنا مختص بالمال ، فلا تسمع في الولاية إجماعا.
8 - في جعل « حِينَ الْوَصِيَّةِ » بدلا من « إِذا حَضَرَ » تنبيه على الحضّ والحثّ على الوصيّة ، ووجوب الاشهاد بها لأنّ البدل هو المقصود بالنسبة.
9 - في الآية دلالة على جواز التغليظ في اليمين بالوقت لقوله « بعد الصلاة » وفي القصّة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حلّفهما عند المنبر وفيه دلالة على التغليظ بالمكان.
10 - قد يفهم من القصّة أنه يجوز الدعوى لظاهر الظنّ أو لقرينة كالكتابة وكذا يجوز التحليف أيضا للظنّ مع عدم البيّنة لأنّ الورثة ادّعوا على الوصيّين بمجرد الكتاب الّذي وجدوه في متاع الميّت.
وفيه نظر لجواز استناد دعواهم إلى علم غير الكتابة أو إلى إخبار محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم.
11 - أنّ الآية يقتضي جواز الدعوى بعد الإحلاف ، وهو خلاف الفتوى ومناف لقوله عليه السلام « من حلف فليصدّق ، ومن حلف له فليرض ، ومن لم يرض فليس من اللّه في شي ء (1).
ويمكن أن يجاب عنه بأنّ الدعوى إنّما توجّهت بعد اعتراف المدّعى عليهما بالإناء ، وأنّه كان للميّت ، ومع اعتراف الحالف يجوز المطالبة ثمّ لمّا جازت المطالبة لمكان اعترافهما بملكيّة الميّت الّتي حلّفا على نفيها أوّلا وبراءة ذمّتهما ، ادّعيا الشراء ، فأنكر الورثة فحلّفوا على نفي العلم وروي أنّ تميما الداريّ لمّا أسلم كان يقول ، صدق اللّه ورسوله إنّا أخذنا الإناء فأتوب إليه تعالى وأستغفره.
12 - فهم بعضهم من ظاهر الآية جواز الاستدلال بها على ردّ اليمين من المنكر على المدّعي خلافا لأبي حنيفة فإنّه لم يجوّزه ، وفيه نظر لأنّ الردّ هنا مجاز والتحقيق ما قلناه من دعوى الشراء وإنكار الورثة ، فتوجّه عليهم اليمين لمكان إنكارهم وحلفهم على عدم العلم.
ص: 100
واعلم أنّ الوصيّة كما تكون بمال كذا تكون بالولاية ، والولاية إمّا بإخراج حقّ على الميّت ، كدين أو أداء أمانة ، أو بالنظر في حال أولاده الأصاغر وحفظ أموالهم والسعي في تنميتها ، وهو البحث عن اليتامى فلنتبع هذا الفصل بذلك. والمراد باليتيم هو الصغير الّذي لا أب له من اليتم وهو الانفراد ومنه الدّرّة اليتيمة ، والاشتقاق يقتضي صدقه على الصغير والكبير لكنّ العرف خصصه بالصغير وهذا البحث فيه آيات.
الاولى ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً ) (1).
الابتلاء الاختبار ، و « آنَسْتُمْ » أي أبصرتم وأدركتم و « حَتّى » حرف ابتداء لأنّ بعده جملة شرطيّة ، وهو « إِذا بَلَغُوا » والجزاء جملة أخرى شرطيّة وهي « فَإِنْ آنَسْتُمْ » فالفاء الاولى جواب الشرط الأوّل ، والثانية للثاني « و ( إِسْرافاً وَبِداراً ) » منصوبين على الحال أي مسرفين ومبادرين ، والأولى أنّهما مصدران لأنّهما نوعان للأكل ، لا أنّهما مفعول لهما كما قال الزمخشري لأنّ الشي ء لا يعلّل بنوعيه « و ( أَنْ يَكْبَرُوا ) » مفعول به ، لبدارا ، أي لا تبادروا كبرهم بالأكل بمعنى أن تأكلوها خوفا أن يكبروا فيأخذوها منكم « ويستعفف » بمعنى يعفّ مثل يستقر بمعنى يقرّ وقال الزمخشريّ أنّه أبلغ من يعفّ لأنّه يطلب بالسين زيادة العفّة وفيه نظر لأنّ السّين يطلب بها الفاعل أصل الفعل لا زيادته نحو استكتب.
إذا تقرر هذا فهنا أحكام :
ص: 101
1 - دلّ الأمر بابتلائهم على وجوب الحجر عليهم في التصرفات وإلّا لانتفت فائدة الابتلاء الّذي يترتّب عليه وجوب دفع الأموال إليهم.
2 - الآية ظاهرة في تقدم الابتلاء على البلوغ ، وفائدته عدم الاحتياج إلى اختبار آخر ، بل يسلّم إليه ماله إن علم رشده ، وقال بعض الجمهور إنّه بعد البلوغ وهو باطل وإلّا لزم الحجر على البالغ الرشيد ، وهو باطل إجماعا.
3 - اختلف في معنى ابتلائهم فقال أبو حنيفة هو أن يدفع إليه ما يتصرّف فيه ، وقال أصحابنا والشافعيّ ومالك هو تتبع أحواله في ضبط أمواله وحسن تصرّفه بأن يكل إليه مقدّمات البيع لكن العقد لو وقع منه كان باطلا ويلزم على قول أبي حنيفة أن يكون العقد صحيحا.
4 - أنه أشار إلى غاية الحجر بقوله « حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ » وهو حال البلوغ أي أوان يصلح له أن ينكح بأن يحتلم أو يبلغ خمسة عشر سنة عندنا ، وعند الشافعيّة لقوله صلى اللّه عليه وآله « إذا استكمل المولود خمسة عشر سنة كتب ماله وعليه وأقيمت عليه الحدود (1) وعند أبي حنيفة ثمانية عشر سنة هذا في الذّكر والخنثى وأمّا الأنثى فعندنا تسع سنين ، وقال الشافعي كالذكر وقال أبو حنيفة سبعة عشر سنة ، وقال صاحباه كالذّكر وقال مالك كما حكي عنه : البلوغ أن يغلظ الصّوت أو ينشقّ الغضروف وهو رأس الأنف قال وأمّا السن فلا تعلّق له بالبلوغ.
وقال داود : الحكم بالبلوغ بالسنّ ورواية ابن عمر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنه ردّه عن الجهاد عام بدر وله ثلاثة عشر سنة (2) ثمّ ردّه في أحد وله أربع عشر سنة ، و
ص: 102
عرض عليه في الخندق وله خمسة عشر سنة تدل على قولنا.
وهل يحصل البلوغ بالإنبات ، قال أصحابنا : نعم مطلقا وقال أبو حنيفة لا مطلقا وقال الشافعيّ هو دلالة في حقّ المشركين وأمّا المسلمين ففيه قولان ، وقضيّة سعد بن معاذ وأمره بأن يكشف عن مؤتزرهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت فهو من الذراري فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وآله فقال « لقد حكمت بحكم اللّه من فوق سبع أرقعة (1) » يصدّق ما قلناه وهو عام.
5 - انه لا بدّ مع البلوغ من إيناس الرشد ، وهو عندنا عقله للمعاش ، بأن لا ينخدع في المعاملات والتصرفات اللّائقة به ، وهل يشترط صلاح الدين أيضا؟ قال الشافعي : نعم ، فيحجر عنده على الفاسق وقال أبو حنيفة : لا حجر عليه ، وبه قال أكثر أصحابنا اللّهمّ إلّا أن يكون فسقه بإتلاف ما له فالحجر باق.
وقال الشيخ بمقالة الشافعيّ ومنشأ القولين خلو كلام المفسّرين من قيد العدالة ، قال ابن عباس : الرشد أن يكون ذا وقار وعقل وعلم ، ولم يذكر العدالة
ص: 103
وقال قتادة العقل والدّين ، وهو غير دالّ على العدالة أيضا إذ يكفي في صلاح الدين حسن الاعتقاد.
احتجّ الشيخ بوجوه الأوّل أنّ الرشد والغيّ صفتان متباينتان والفاسق موصوف بالغيّ فلا يكون موصوفا بالرّشد ، الثاني أنّ الفاسق سفيه ، فلا يجوز أن يعطى ماله للآية. الثالث أنّ الحجر متحقّق فلا يزول إلّا بدليل ولا دليل.
ويمكن أن يجاب عن الأوّل بالمنع من أنّ وصفه بالغيّ يمنع من وصفه بالرّشد ، لأنّهما وإن تضادّا مفهوما ، لم يتضادّا متعلّقا ، لأنّهما يطلقان في أمور المعاش وأمور المعاد ، والمراد بالرشد في الآية في أمور المعاش فجاز أن يكون الفاسق غاويا في أمور معاده رشيدا في أمور معاشه نعم يلزم المنافاة ، لو كانا متناقضين لكنّه ليس كذا.
وعن الثاني بأنّ الفاسق سفيه في معاده لا في معاشه وعن الثالث أنّ الدّليل على زوال الحجر هو الآية مع ما ذكرناه من جواب الشبهة.
6 - علّق دفع المال على الرشد فإذا لم يحصل الرشد بقي على الحجر عندنا وعند الشافعيّ وأصحاب أبي حنيفة ، ولو طعن في السنّ ، عملا بانتفاء المشروط لانتفاء شرطه ولأنّه سفيه فلا يعطى شيئا للآية.
وقال أبو حنيفة : يزاد على زمان بلوغه سبع سنين ثمّ يعطى ماله رشد أو لا محتجّا بقوله صلى اللّه عليه وآله « مروهم بالصوم والصلاة وهم أبناء سبع (1) » فانّ هذه المدّة هي مدّة تتغيّر أحواله فيها ، وهذا عليه لا له. لأنّه يقتضي أن يكون البلوغ في أربع عشر سنة أو في أحد وعشرين.
7 - يجب دفع المال عند تحقّق البلوغ والرشد على الفور ولا يجوز التأخير لحصول سبب الدّفع وهو البلوغ والرّشد ، ولإتيانه بالفاء الدالة على التعقيب.
8 - قوله « وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً » فيه إيماء إلى جواز الأكل بوجه وهو قوله
ص: 104
( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قيل هو أن يأكل قدر كفايته وما لا بدّ له منه وقيل على قدر عمله وقيل أقلّ الأمرين ، وهو أجود لقوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1) ولا ريب أنّ هذا أحسن ، وفي الحديث أنّ رجلا قال للنبيّ صلى اللّه عليه وآله إنّ في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال : بالمعروف غير متأثّل مالا ولا واق مالك بماله ، فقال : أفأضربه؟ قال : ممّا كنت ضاربا منه ولدك (2).
وعن ابن عبّاس أنّ وليّ يتيم قال له أفاشرب من لبن إبله؟ قال إن كنت تبغي ضالّتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضرّ بنسل ولا ناهك في الحلب (3).
وروى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال : سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخ له يتيم في حجره أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ قال إن كان يلوط حياضها ويقوم على مهنتها ويرد نادتها فليشرب من ألبانها غير منهك للحلاب ولا مضرّ بالولد (4).
9 - الغنيّ : ذو الملاءة ، وظاهر الآية يقتضي عدم جواز أخذه شيئا من مال اليتيم على عمله لقوله « فَلْيَسْتَعْفِفْ » أي يعف كما قلناه والأمر للوجوب ، وهل يجب على الفقير إذا صار غنيّا رد ما أخذه حال فقره أم لا؟ قال بعض المفسّرين نعم ، والأولى عدم الوجوب ويحمل ما ورد من ذلك على الندب أو على أخذه زائدا عن مستحقّه فيجب رده حينئذ ، وأمّا ما أخذه بحقّ فقد ملكه والأصل البراءة من وجوب الردّ.
10 - إذا دفع الوليّ إلى اليتيم المال ، فليشهد عليه بقبضه ، وهو على الندب
ص: 105
أو الإرشاد إلى المصلحة ، فإنّ له فائدتين : أحدهما دفع التهمة عن الوليّ بأكل مال اليتيم وثانيهما سقوط الضمان لو أنكر القبض أو سقوط اليمين لو ادّعى الولي التلف بغير تفريط ، وظاهر الآية يقتضي عدم تصديق الوليّ في قوله إلّا بالبيّنة ، وبه قال الشافعيّ ومالك والحقّ فيه التفصيل كما قلناه ، وهو قبول قوله في التلف بغير تفريط ، وفي النفقة على الطفل بما جرت العادة به ، أمّا تسليم المال فلا يقبل قوله فيه إلّا بالبينة ، وهذا الأمر بالإشهاد من حسن نظر اللّه للأولياء وكمال لطفه في حقّهم.
قوله ( وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً ) أي كافيا في الشهادة عليهم بالدّفع ، كذا قيل والأولى أنّ معناه كفى باللّه محاسبا فانّ الاشهاد في الظّاهر وأمّا براءة الذمة في الباطن فا [ نّ ا ] لله متولّيه يوم القيامة.
الثانية ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ) (1).
المأمور بتسليم أموالهم إليهم إمّا البالغون لما تقدّم في الآية الاولى وسمّاهم هنا يتامى تسمية للشي ء باسم ما كان عليه لقرب عهدهم بالصّغر حثّا على أن يدفع إليهم أموالهم أوّل زمان بلوغهم ، ولذلك أمر بابتلائهم صغارا أو غير البالغين فيكون الحكم مقيّدا ببلوغهم وإيناس الرشد منهم قوله « وَلا تَتَبَدَّلُوا » أي لا تستبدلوا مثل لا تتعجلوا بمعنى لا تستعجلوا « والخبيث » المال الحرام و « الطيّب » المال الحلال وقيل المراد بالطيّب هنا ما أعدّ في الجنّة لمن عفّ عن مال الأيتام ، وقيل المراد بالخبيث الرّدي وبالطيّب الجيّد قال السدّي كانوا يجعلون الشاة المهزولة مكان السمينة قيل هذا تبديل لا استبدال اللّهمّ إلّا أن يكون مكرمة مع الأصدقاء فيأخذ من الصّديق عجفاء ويعطيه من مال اليتيم سمينة.
ص: 106
قوله ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ) أي ضامّين إلى أموالكم وقيل « إلى » هنا بمعنى « مع » والمنهي عنه هنا هو ما ليس على وجه الأجرة بالمعروف كما تقدّم وعبّر بالأكل لأنّه أعظم وجوه الانتفاع والتصرف ، حيث يصير بدل ما يتحلّل.
قوله ( إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ) أي ذنبا كبيرا.
وروي أنّ الآية نزلت في رجل كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم فلمّا بلغ اليتيم طلب المال فمنعه منه فترافعا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فنزلت فلمّا سمعها العم قال أطعنا اللّه وأطعنا الرسول ، ونعوذ باللّه من الحوب الكبير ، ودفع إليه ماله فقال صلى اللّه عليه وآله : ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنّه يحل داره أي الجنّة ولمّا أخذ الفتى ماله أنفقه في سبيل اللّه فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله ثبت الأجر وبقي الوزر ، فقيل له كيف يا رسول اللّه فقال ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على الوالد (1).
قال بعض الفضلاء هذا الخبر يحمل على أنّ والده لم يكن يحترز في تحصيل المال من الشبهات أو لم يخرج الحقوق المالية وعندي في هذا الحمل نظر إذ مقتضاه أنّ في المال حقوقا يجب إيصالها إلى أربابها فكان يجب على النبيّ صلى اللّه عليه وآله الأمر بتسليمها إلى مستحقّها ولا يدع الغلام يتصرّف فيها إذا لا يجوز له صلى اللّه عليه وآله أن يقرر على الباطل.
فالأولى أن يقال : الوزر قد يراد به الثقل كما ورد التعبير عن مثل ذلك بالعب كما جاء في حديث آخر « إلهنا لغيره والعب ء على ظهره » وحينئذ يكفي في الثقل ندم الميّت وأسفه على فوات ثوابه بصرفه في وجوه القرب ، وعدم انتفاعه به في آخرته أو أنّه إذا شاهد ما حصل لوارثه ممّا كدّ حينئذ في تحصيله تألّم بذلك.
وأمّا السؤال المشهور هنا وهو أنّ أكل مال اليتيم حرام قطعا منفردا أو منضما فلم خصّ النهي بأكله منضما؟ فأجاب عنه الزمخشريّ بأنهم لمّا كانوا أغنياء فأكل مال اليتيم منهم أقبح ، وأيضا كانوا يفعلون كذلك فنهوا عنه نغيا عليهم وتسميعا (2).
ص: 107
وقيل : لا وجه للسؤال لأنّ قوله ( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) نهي عن أكل مال اليتيم وحده لما تقدّم في التفسير الأوّل ، أي لا تتبدلوا أموالهم مكان أموالكم ولا تأكلوها منضمّة إلى أموالكم فقد استوفى النهي القسمين معا.
الثالثة ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) (1).
قيل : المراد بالآية الأولى الّذين يجلسون عند المريض ويقولون إنّ أولادك لا يغنون عنك من اللّه شيئا فقدّم مالك في سبيل اللّه فيفعل المريض بقولهم فيبقى أولاده ضائعين كلّا على الناس : فأمر [ اللّه تعالى ] هؤلاء بأن يخافوا اللّه في هذا القول ويقدّرون أنّ أولادهم هم المخلّفون ويفعلون بهم ما أشاروا به.
ويقوّي هذا القول قوله ( فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) أي موافقا بأن لا يشيروا بزائد على الثلث بل بأقلّ ، وقصّة سعد بن أبي وقّاص المتقدّمة تدلّ على هذا المعنى ، فيكون الأمر هنا على الندب.
وقيل : هو للأوصياء بأن يخشوا اللّه في القيام بأمر اليتامى ، وليقدّروا أنّهم لو كانوا هم الموتى وذرّيتهم للضعفاء تحت ولاية أوصيائهم ، كيف كانوا يخافون عليهم من الضياع ، ويريدون من الأوصياء أن يفعلوا بأبنائهم؟ فليكونوا هم في ولاية اليتامى كذلك.
ثمّ إنّه تعالى أكّد النهي عن تناول مال اليتامى زيادة عن تناول مال غيرهم لمكان ضعفهم وعجزهم وغفلتهم فقال ( إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) أي سببا للنار والتنوين فيه للنوعيّة أي نوعا من النار ، لا أيّ نار كانت ، وفي ذلك غاية التهديد قوله ( وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) إعادة ليعلم أنّ أكل مال اليتيم سبب تامّ لدخول النار
ص: 108
لا أنّه سبب ناقص صغير ، بل هو كبيرة من الكبائر.
وسئل الرضا عليه السلام كم أدنى ما يدخل به النار آكل مال اليتيم؟ فقال : قليله وكثيرة واحد إذا كان من نيّته أن لا يردّه إليهم (1).
وعنه أيضا عليه السلام أنّه قال إنّ في مال اليتيم عقوبتين اثنتين إمّا إحداهما فعقوبة الدنيا وهو قوله « وَلْيَخْشَ الَّذِينَ » الآية وأمّا ثانيتهما فعقوبة الآخرة وهو « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً » الآية (2).
وعن الصادق عليه السلام قال في كتاب عليّ عليه السلام أنّ آكل مال اليتيم سيدركه وبال ذلك في عقبه ويلحقه وبال ذلك في الآخرة وذكر الآيتين (3).
ولنتبع هذا البحث بآيتين :
إحداهما ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (4).
قال الضحّاك المراد « بالسّفهاء » النساء فإنّهنّ من أسفه السفهاء إذ السفه خفّة العقل ، وهنّ نواقص العقول كما جاء في الحديث ، وسواء كنّ أزواجا أو بنات أو أخوات أو جواري أو غير ذلك : وفيه نظر ، لأنّه عدول عن الظاهر ، وخروج عن الحقيقة ، وتخصيص للعموم.
وقيل : هو نهي لكلّ ذي مال أن يسلّم ماله إلى السّفهاء الّذين لا يقومون بحفظ المال ، وحسن رعايته ، بل يفسدونه بتصرفاتهم الفاسدة لقوله ( أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً ) أي تقومون بها قياما لأنّكم لو ضيّعتموها بإعطاء السّفهاء ، لضعفتم
ص: 109
واحتجم. وقرئ قيّما بمعنى قياما وفي الشواذّ قواما وقوام الشي ء ما يقام به كما يقال هو ملاك الأمر لما يملك به.
وقال الفقهاء ومحقّقوا المفسّرين : إنّ الخطاب للأولياء أمروا بأن يمسكوا أموال اليتامى إلى وقت بلوغهم ورشدهم ، وينفقوا عليهم ويؤيّده قوله « وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ » وإنّما أضاف الأموال إليهم لأنّها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما قال اللّه تعالى « وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ » وهذا أقرب وأولى ، لأنّه ملائم للآيات المتقدمة والمتأخّرة ، وأيضا هو حمل اللّفظ على حقيقته العرفيّة فإنّ السفيه في عرف الفقهاء هو الّذي يصرف أمواله في غير الأغراض الصّحيحة وذلك مناسب للحجر عليه ، وإنّما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنّها في تصرفهم وتحت ولايتهم فالإضافة لمطلق الاختصاص.
وقوله « وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً » هو الوعد بالتسليم إليهم عند رشدهم وحضّهم على سولك طريق الصّواب في تصرفاتهم وهنا فوائد :
1 - إنّما ذكر الحجر على السّفيه منفردا بآية مع أنّ ذلك معلوم من قوله « فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً » للدلالة على أنّ السّفه علية برأسه في الحجر ، سواء كان للصبيّ أو البالغ ، وسواء كان تابعا للصبي أو طارئا بعد البلوغ والرشد ، خلافا لأبي حنيفة فإنّه لا يحجر على البالغ العاقل للسّفه والتبذير وخالفه صاحباه ، وتصرّفه عنده جائز وإن لم يوافق مصلحته.
2 - تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّيّة عند الأكثر ، فهل بمجرّد ظهور السفه يقع الحجر به أو لا بدّ من حكم الحاكم؟ قيل بالأوّل لحصول العلّة ، وقيل بالثاني لأنّها مسئلة اجتهاديّة فتفتقر إلى نظر وضبط فيتوقّف على الحاكم ، وكذا الخلاف في أنّه هل يزول الحجر بزواله ، أو لا بدّ من الحكم ، والحقّ الأوّل في المسئلتين مع التحقّق.
3 - الحجر على السفيه مختصّ بالتصرف الماليّ عملا بالعلّة ، فيقع تصرفه في غير المال كاستيفاء القصاص والطلاق وغيرهما بخلاف الصّبيّ والبالغ غير الرشد
ص: 110
فإنّه ممنوع من التصرّف مطلقا.
4 - تصرف السّفيه في المال مع نظر الوليّ أو إذنه فيه مع موافقته للمصلحة جائز ماض بخلاف الصبيّ والمجنون ، فانّ تصرّفهما باطل ولو أذن الولي ووافق المصلحة.
5 - في قوله « وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ » دون « منها » فائدة وهي أن يرزقوهم من ربحها لا من أصلها (1) لئلّا يأكلها الاتفاق أو أن الرزق من اللّه فيها بمعنى أنّ اللّه جعل رزقكم ورزقهم فيها فعلى الأوّل يمكن أن يحتجّ بالآية على وجوب التكسّب بمال المولّى عليه ، لظاهر الأمر ، ولئلا يأكلها النفقة ، ويحتمل عدم الوجوب للأصل ، ولأنّه اكتساب ولا يجب ، والحقّ أنّه يجب استنماؤه قدر النفقة ، فأمّا الزيادة على ذلك فندب.
وثانيتهما ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) (2).
أي عبدا لله و « مَمْلُوكاً » أي للناس « لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ » أي على شي ء من التصرّفات ، والجملة صفة « للمملوك » صفة تخصيص ليخرج المكاتب والمأذون في التصرف ، فإنّهما يقدران على التصرف في المال ، ويحتجّ بها على حكمين :
1 - الحجر على المملوك في تصرّفاته بمعنى عدم صحّة شي ء منها إلّا بإذن سيّده ، لكن هذا العموم مخصوص بصحّة تصرّفه في طلاق زوجته وبنفوذ إقراره بالمال ، ويتبع به بعد عتقه ، وكذا يقبل قول المأذون فيما هو من ضروريّات التجارة أمّا لو أقرّ المملوك بقصاص أو حدّ فعندنا لا ينفذ في الحال خلافا لأبي حنيفة اللّهمّ إلّا أن يوافقه السيد فينفذ.
2 - أنّه لا يملك شيئا سواء ملّكه مولاه أو لا ، وبه قال الشافعيّ في الجديد وأحمد وأكثر أهل العلم ، وقال في القديم يملك إذا ملّكه مولاه وقال مالك يملك
ص: 111
وإن لم يملّكه مولاه ووجه ما قلناه أنه ليس المراد من الآية نفي القدرة على الفعل لأنّه معلوم البطلان ضرورة ، فيكون المراد أنّه لا يملك وهو المطلوب وأيضا نفى عنه القدرة عموما لأنّ النكرة في النّفي يعم ، خرج من ذلك ما أخرجه الدليل فيبقى الباقي على النفي.
إن قلت : إنّ النفي وإن كان عاما لكنّه متعلّق بعبد منكّر ، وهو لا يدل على العموم فلا يلزم عدم تملّك العبيد كلّهم.
قلت : تعليق الحكم على المشتقّ يدل على كون المشتقّ منه علّة في الحكم كقولك أكرم العلماء فإنّه يدل على أنّ علّة إكرامهم علمهم ، فيعمّ أينما وجد المشتقّ منه ، وصورة النزاع كذلك ، فيعم أينما وجد الملك.
وأيضا يؤيّد ما قلناه قوله تعالى ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) (1) شبّه حاله مع عباده في نفي المشاركة في الملك بحال السادات مع مماليكهم ، ومعلوم أنّ عبادة لا يشاركون اللّه في الملك ، فكذا المماليك.
احتجّ من قال بملكه بقوله تعالى ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (2) وجه الدّلالة أنّه لو لم يصحّ تملّكهم لم يصحّ إغناؤهم ، لكن صحّ فصحّ ، وبما روي أنّ سلمان كان عبدا فأتى النبيّ صلى اللّه عليه وآله بشي ء فقال : هو صدقة فردّه فأتاه ثانيا وقال : هذه هديّة فقبله فلو كان لا يملك لما قبله منه.
وأجاب الشيخ عن الأوّل بجواز أن يريد اللّه أن يغنيهم بالعتق ، وعن الثاني بالمنع من كون سلمان مملوكا حقيقة بل كان محكوما عليه من غير التملّك الشرعيّ وإن سلّم جاز أن يكون الهديّة بإذن سيّده ، وعلم النبيّ صلى اللّه عليه وآله ذلك فقبلها.
وفي الجواب الأوّل نظر لأنّه إن توجّه فإنّما يتوجّه على تقدير تزويج
ص: 112
العبيد والإماء بالأحرار ، لأنّه ربما يؤدّي إلى عتقهم بسبب أولادهم ، وأمّا إذا زوّجوا بأمثالهم فلا ، وأيضا لو كان العتق غنى كان الرّق فقرا وحينئذ كان فقر العبد متحقّقا فيكون حجّة لنا وكلمة « إن » وإن كان محلّها المحتمل لكن جاز استعمالها في المتحقّق مثل قوله تعالى ( وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) (1).
في العطايا المنجزة كالوقف والسّكنى والصّدقة والهبة وغير ذلك وليس في الكتاب آيات مختصّة بذلك بل آيات تدلّ بعمومها وظواهرها على الحضّ على فعل الخيرات ، فيدخل في ذلك ما ذكرناه وقد ذكر الراونديّ والمعاصر من ذلك آيات :
الاولى ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (2).
الثانية ( وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ) (3).
الثالثة ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ - الى قوله وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ ) (4).
وقد مضى البحث في ذلك فلا وجه لإعادته ، وتمام البحث في الأمور الأربعة مستوفى في كتب الفقه.
ص: 113
وفيه أبحاث :
وفيه آيتان :
الاولى ( وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) (1).
« ما » موصولة وهي مبتدأ ولتضمنها معنى الشرط دخل الفاء في خبره ، ومعناه وما أنفقتم من نفقة في الطّاعات أو في المعاصي فإنّ اللّه يعلم ذلك فيجازي على عمله من الثواب والعقاب بقدر علمه ، فإنه لا يفوته شي ء من خفيّات الأمور وكذلك حكم ما نذرتم من نذر في طاعة أو معصية.
والضمير في « يَعْلَمُهُ » عائد إلى لفظة ما ، ولذلك ذكّره ، « وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ » أي ليس للّذين يمنعون الصّدقات أو ينفقون في المعاصي أو لا يوفون بالنذر أنصار يوم القيامة وهنا فوائد :
1 - في ذكر العلم بعد الإنفاق والنذر ، وإردافه بالظلم بسبب المخالفة دلالة على وجوب الوفاء بالنذر وذلك هو المطلوب.
2 - النذر قد يكون مطلقا كقوله « لله عليّ أن أفعل كذا من الطاعات » وقد يكون مشروطا بحصول أمر واجب أو مندوب أو مباح أو انزجار عن محرّم أو مكروه فيقول : إن كان كذا فعليّ كذا من الطاعة الواجبة أو المندوبة ، ولا خلاف في انعقاد
ص: 114
الثاني وفي الأوّل خلاف والأصح انعقاده لعموم « ( إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ) (1) » وعموم قوله صلى اللّه عليه وآله « من نذر أن يطع اللّه فليطعه (2) ».
وقال المرتضى بعدم انعقاده مدّعيا الإجماع ولأنّ غلام ثعلب نقل أنّ النذر لغة وعد بشرط ، فيكون كذلك شرعا لأنّه جاء بلغتهم والأصل عدم النقل ، وأجاب القائل بانعقاده بمنع الإجماع لعدم تحقّقه ، ومنع النقل فإنّه نقل أنّه وعد بغير شرط وقد وجد في أشعارهم كقول جميل :
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي *** وهمّوا بقتلي يا بثين لقوني (3)
3 - النذر عبادة لفظيّة ، وكذا العهد واليمين ولا تكفي النيّة القلبيّة ، وإن كانت شرطا من غير تلفّظ ، وقال بعض الفقهاء بالاكتفاء وليس بشي ء.
الثانية ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (4).
نزلت هذه الآية الكريمة في عليّ وفاطمة عليهما السلام وقصّتهما مشهورة والاستدلال بها من وجهين :
1 - أنّها خرجت مخرج المدح لهم عليهم السلام ، وذلك دليل رجحان الوفاء بالنذر.
2 - إرداف الوفاء بخوف شر يوم القيامة ، وفيه دلالة على وجوب الوفاء إذ المندوب لا يخاف من تركه العقاب ، و « المستطير » المنتشر.
ص: 115
وفيه آيات.
الاولى ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) (1).
دلّت على وجوب الوفاء بالعهد من وجهين :
1 - صيغة الأمر في قوله « وَأَوْفُوا » والأمر للوجوب.
2 - كون العهد مسئولا ولا يسئل عن غير الواجب ، فيكون الوفاء به واجبا.
الثانية ( وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (2).
وهذه أيضا فيها أمر صريح بالوفاء فيكون واجبا ، وأكّد ذلك الوجوب بأنّه وصاهم به وفيه حضّ عظيم على الوفاء وعلّله بقوله « لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » أي لتتّعظوا به لتنالوا به مرتب التّقوى.
الثالثة ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ ) (3).
عهد اللّه هنا أعم من أن يكون بنذر أو عهد أو يمين ولذلك قال « وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها » وفي الآية حكمان :
1 - وجوب الوفاء بالعهد.
ص: 116
2 - وجوب الوفاء بمقتضى اليمين ، وأكّد ذلك بعدّة تواكيد :
الأوّل « جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً » أي رقيبا فانّ الكفيل يراعي حال المكفول فهو حفيظ عليه.
الثاني « إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ » من الوفاء وعدمه ، وفيه تهديد عظيم على النكث وحضّ على الوفاء.
الثالث : شبّههم في نقضهم وعدم وفائهم بحال « الّتي ( نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) » جمع نكث بكسر النون ، في خرقها وقلّة عقلها وهي امرأة يقال لها ريطة بنت سعد بن تميم وكانت خرقاء اتّخذت مغزلا قدر ذراع ، وصنارة مثل إصبع ، وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن.
الرابع : وبّخهم في نقضهم بقوله « تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ » بفتح العين قال الجوهريّ : هو المكر والخديعة ، وهو منقول من قولهم فلان دخل في بني فلان إذا انتسب إليهم ، ولم يكن منهم ، وانتصابه على أنّه مفعول ثان « وتتّخذون » حال من « لا تنقضوا » أي لا تتّخذوا أيمانكم متّخذين لها دخلا بينكم « أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ » أي لأجل أنّ امّة هي أكثر من امّة نفسا أو مالا أو عزّا أو جاها أي إنّكم إذا حلفتم على أمر لقلّتكم وضعفكم ، ثمّ كثّر اللّه عددكم أو مالكم لا تنقضوا الأيمان واثبتوا عليها و « أربى » منصوب المحلّ لكونه خبرا « وهي » ضمير فصل ، وقال الزجّاج إنّه مرفوع المحلّ على أنّه خبر المبتدأ و « هي » مبتدأ ولا يجوز الفصل بين نكرتين.
الخامس « إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ » أي يختبركم اللّه بالأمر بالوفاء بالعهد ليجازيكم في القيامة على الوفاء والنكث وهنا أحكام :
1 - في الآية إشارة إلى أنّ حكم اليمين والعهد واحد ولهذا عبّر عن العهد باليمين بقوله « وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ » عقيب قوله « وَأَوْفُوا ».
ص: 117
2 - أنّ النذر والعهد واليمين تشترك في كونها تكون مطلقة ومشروطة. وفي كون الشرط طاعة أو مباحا أو زجرا عن محرم أو مكروه ويخالف الأخيران الأوّل في كون الجزاء في الأوّل لا يكون إلّا طاعة ، وجزاء الأخيرين أعمّ فإنّه قد يكون مباحا مع تساوي طرفيه دينا ودنيا فيأتي بمقتضى عهده أو يمينه ، أمّا لو ترجّح أحد طرفيه فيهما ، فان كان ذلك هو المتعلّق وجب الوفاء به ، وإن كان غيره جازت المخالفة ، لقوله صلى اللّه عليه وآله « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذي هو خير » (1) ولا كفّارة عندنا خلافا للقوم.
3 - يتبع في متعلّق الثلاثة مدلول لفظه شرعا ، فان لم يكن فمدلوله عرفا فان لم يكن فمدلوله لغة.
4 - النقض هو مخالفة ما وقع العهد واليمين عليه ، فانّ الفعل أو الترك يصير واجبا باليمين والعهد ، وترك الواجب حرام.
5 - قوله « بَعْدَ تَوْكِيدِها » أي توثيقها بذكر اللّه ، وفيه دلالة على أنّ الحالف والناذر إذا لم يذكر اللّه لم يصر المحلوف عليه والمعاهد واجبا ، ويجوز مخالفته على كراهية أمّا لو حلف أو عاهد على فعل محرّم ، فيجب مخالفته.
وفيه آيات :
الاولى : ( وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2).
العرضة فعلة من العرض ، والفعلة للمقدار كالخطوة ، أي مقدار ما يعرض من
ص: 118
أيّ شي ء كان ، سواء كان العارض حاجزا بين الشيئين كما يقال فلان عرضة دوننا أو لم يكن بل يكون معرضا للشي ء كما يقال فلان عرضة للناس ، أي نصب للوقوع فيه.
فعلى هذا يحتمل أن يكون الآية من المعنى الأوّل أي لا تجعلوا اللّه حاجزا لأيمانكم أي حاجزا لما حلفتم عليه ، وسمّي المحلوف عليه يمينا لتلبّسه باليمين كقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله لعبد الرّحمن بن سمرة « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير » (1) ويكون « أَنْ تَبَرُّوا » نصبا على أنه عطف بيان « لِأَيْمانِكُمْ » أي للأمور المحلوف عليها الّتي هي البرّ والتقوى والإصلاح ، كذا قيل ، وفيه نظر لأنّ حمل الأيمان على المحلوف عليه إن صحّ كان مجازا ولا يصار إليه إلّا مع تعذر الحقيقة ، وليست متعذّرة لجواز أن يكون الآية من المعنى الثاني أي لا تجعلوا اللّه معرضا لأيمانكم أي لا تكثروا الحلف به حتى في المحقّرات ، وفي غير المهمّات الضروريّة ، ولذلك ذمّ الحلّاف بقوله « وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلّافٍ مَهِينٍ » (2) ويكون « أَنْ تَبَرُّوا » علّة للنهي أي أنهاكم عن ذلك إرادة برّكم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس ، فانّ الحلّاف مجترئ على اللّه والمجترئ ، لا يكون بارّا ولا متّفقا ولا موثوقا به في إصلاح ذات البين.
ويستفاد من التأويل الأوّل أنّه متى تضمن اليمين ترك برّ أو تقوى أو إصلاح ، فإنّها باطلة لا يجب العمل بمضمونها ، ويجوز مخالفتها ومن الثاني النهي عن كثرة الأيمان ، وإن كانت صادقة.
وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة وهذا الّذي فسّرنا به الآية هو تحقيق ما قاله المفسّرون ، ولهم هنا أقوال في الآية أعرضنا عنها لعدم تحقيقها.
الثانية ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ
ص: 119
قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (1).
يمكن أن يكون هذا جواب سؤال مقدّر ، تقديره إذا نهى عن جعل اللّه عرضة للأيمان ، هلك الناس لكثرة حلفهم باللّه ، فأجاب بقوله « لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ » و « اللغو » لغة هو الساقط أو ما لا فائدة فيه ، واختلف في المراد بالآية فقال طاوس هي يمين الغضبان ، وقال الحسن هي يمين الظانّ ، وهو أن يحلف على شي ء يظنّه أنه على ما حلف عليه ولم يكن ، وبه قال أبو حنيفة وقال ابن عبّاس هو قول الرّجل لا واللّه وبلى واللّه ممّا يؤكّد به كلامه من غير قصد إلى القسم حتّى لو قيل له إنّك حلفت قال لا ، وبه قال الشافعيّ وأصحابنا وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام (2).
وقال مالك هي الحلف على الماضي وهي الغموس ، والمراد بعدم المؤاخذة هو عدم العقاب ، وعدم الكفّارة معا ، وقال الزّمخشري : يكفي عدم أحدهما ، وفيه نظر لأنّه لو ثبت أحدهما لثبت المؤاخذة ، لكنّه ليس فليس.
قوله « وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ » الفرق بين كسب اللّسان وكسب القلب أنّ القلب لا يخالف النفس المكلّفة بخلاف اللّسان ، فإنّه فضوليّ قد يخالفها ، ويصدر منه ما لم يأذن به النفس ، فلا يليق بالحكيم المؤاخذة بما لم تأذن النفس في فعله ، وفي هذا الكلام إشارة إلى اشتراط القصد في اليمين والنيّة ، فلا يقع يمين الغضبان ، غضبا يرتفع معه القصد ، وكذا الساهي والغافل « وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ » يغفر لكم ما لم يكسبه قلوبكم ، ويحلم عنكم بعدم المؤاخذة.
الثالثة ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ
ص: 120
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1).
هنا فوائد :
1 - قد تقدّم معنى يمين اللّغو ونزيد هنا فنقول : الحقّ أنّه ما يسبق إلى اللسان من غير قصد ، وسئل الحسن عنه فقال الفرزدق وكان حاضرا دعني أجبه يا أبا سعيد فقال :
وليست بمأخوذ بلغو تقوله *** إذا لم تعمّد عاقدات العزائم
وهو الّذي أردناه ، وذلك أنّ حكم الأيمان حكم الايمان ، فكما أنّ الايمان باللّسان ليس إيمانا في الحقيقة ما لم يعقده بقلبه كذلك الأيمان باللّسان ليس بأيمان يوجب كفّارة [ ولا ] إثما.
2 - قرأ حمزة والكسائيّ « عَقَّدْتُمُ » بالتخفيف وقرء ابن عامر « عاقدتم » وهو من فاعل بمعنى فعل كعافاه اللّه ، والباقون بالتشديد ، ومعنى الجميع وثّقتم أيمانكم بالقصد والنيّة.
ومنع الطبري من قراءة التشديد لأنّه لا يكون إلّا مع تكرير اليمين ، والحال أنّ المؤاخذة تحصل باليمين الواحدة وأجيب بوجوه :
الأوّل : أنّ التعقيد أن يعقدها بقلبه ولسانه ، ولو عقد بأحدهما لا غير لم يكن تعقيدا ، الثاني قال أبو علي الفارسي أنه لتكثير الفعل ولمّا كان مخاطبا للكثرة يقوله « لا يُؤاخِذُكُمُ » اقتضى كثرة اليمين والتعقيد كقوله « ( وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ) (2) » قال أو يكون « عقّد » مثل ضعّف فإنّه لا يراد به التكثير كما أنّ ضاعف لا يراد به فعل من اثنين ، الثالث قال الحسن بن علي المغربي : في التكثير فائدة وهو أنّه إذا كرّر اليمين على المحلوف الواحد ، ثمّ حنث لم يلزمه إلّا كفّارة واحدة ، على خلاف بين الفقهاء.
ص: 121
قوله « وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » فيه حذف تقديره بنكث ما عقّدتم الإيمان أو يكون التقدير وحنثتم « فَكَفّارَتُهُ » أي كفّارة حنثه.
3 - إذا حنث الحالف عمدا اختيارا ، وجبت عليه الكفّارة المذكورة في الآية وهي جامعة بين التخيير في الثلاثة الأول ، والترتيب بعد العجز بوجوب الصيام.
وهنا أحكام :
1 - الإطعام يصدق إمّا بالتسليم إليهم ، أو بإحضارهم ، وجعل الطعام بين أيديهم ليأكلوا.
2 - اختلف في قدره ما يعطى المسكين ، فقال أبو حنيفة : نصف صاع من برّ أو صاع من غيره ، أو يغدّيه ويعشّيه ، وقال الشافعي لكل مسكين مدّ وهو قول أصحابنا.
3 - المراد بالأوسط إمّا في النوع أو القدر والظاهر الأوّل.
4 - لا يجزي إطعام مسكين عشرة أيّام ، لعدم صدق العشرة على الواحد ولاختصاص الكثرة بمزيد فائدة وكذا في الظهار خلافا لأبي حنيفة فيهما.
5 - المسكين هو الّذي يجوز دفع الزكاة الواجبة إليه ، وقد تقدّم تحقيق معناه ولا يجوز إطعام أهل الذمّة خلافا لأبي حنيفة.
6 - كسوة الفقير : قيل ثوبان ، والحق أنّه يكفي الواحد ولو غسيلا ولا يكفي النعل ولا القلنسوة ، وبه قال الشافعيّ وقال مالك : إن أعطى رجلا كفى الواحد ، وإن أعطى امرأة لا يجزي إلّا ما يجوز فيه الصلاة وهو ثوبان قميص ومقنعة ، وقال أبو يوسف لا يجوز السراويل وقرأ سعيد بن المسيّب أو كاسوتهم (1) بمعنى أو مثلما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا.
7 - يشترط في الرّقبة الإيمان أو حكمه حملا للمطلق على المقيّد في كفّارة القتل ، وبه قال الشافعي ، قياسا على القتل ، وقال أبو حنيفة : يجوز عتق الكافر
ص: 122
وهو باطل لأنّه خبيث لا يتقرّب بمثله كما تقدّم.
8 - يشترط في الصيام التتابع ، وبه قال أبو حنيفة ، وبذلك قرأ ابن مسعود « ثلاثة أيّام متتابعات » ولأنّه أحوط وتحصيل البراءة معه يقينا وقال مالك : هو مخيّر إن شاء تابع ، وإن شاء فرّق ، وللشافعيّ القولان ، واختيار أصحابنا وإجماعهم على الأوّل.
4 - قوله « ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ » أي إذا حلفتم وحنثتم :
وهنا أحكام :
1 - أنّ الكفّارة مختصّة بالحنث في المستقبل ، ولا يجب في الغموس (1) صادقا كان أو كاذبا ، عامدا كان أو ناسيا.
وبه قال مالك ، وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد ، وقال قوم : إن كان كاذبا عالما لزمته الكفّارة قولا واحدا وإن كان ناسيا فقولان ، وهو مذهب الشافعيّ.
دليلنا : أخبار أهل البيت عليهم السلام وحينئذ يكون ظاهر الآية مخصوصا بما قلناه 2 - لا يجوز تقديم الكفّارة على الحنث إذ لا يتقدّم المسبب على السبب وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعيّ : يجوز التقديم بالمال لا الصيام لأنّه بدل عنه.
3 - إنّما تجب الكفّارة بالمخالفة ، عمدا اختيارا إجماعا ، ولا تجب بالمخالفة نسيانا عندنا ، وللشافعيّ قولان ، لنا عموم قوله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان (2) » ولم يثبت المخصّص.
5 - قوله « وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ » أي من الحنث ، وذلك إذا كان المحلوف عليه ، فعل واجب أو مندوب ، أو ترك محرّم أو مكروه أو مباح متساوي الطّرفين.
ويحتمل أن يكون المراد بحفظ اليمين عدم ابتذالها في كلّ أمر فإنّ كثرتها مكروهة ، ولذلك تقدّم « وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ » وورد في بعض الأحاديث عن الصادق عليه السلام « لا تحلفوا باللّه لا صادقين ولا كاذبين » (3)
ص: 123
قوله « كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ » أي ما تحتاجون إليه « لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » نعمته على ذلك.
فائدة :
لو حلف لا يكلّمه حينا فهو ستّة أشهر لقوله تعالى « تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ ) (1) » وعليه إجماع الإماميّة ، والزمان عندهم خمسة أشهر وقال أبو حنيفة : الحين والزّمان ستّة أشهر وقال الشافعيّ لا حدّ لهما. والحقب قال أصحابنا لا حدّ له ، وبه قال الشافعيّ وقال مالك أربعون سنة ، وقال أبو حنيفة ثمانون لما روي عن ابن عباس أنّه قال في قوله تعالى « لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) (2) » الحقب ثمانون عاما وروي أنّ الأحقاب الدّهور ، وقيل غير ذلك ، ولو نذر عتق كلّ عبد له قديم ، عنق من له في ملكة ستّة أشهر وهي رواية صحيحة عن الرّضا عليه السلام مستدلا بقوله تعالى : « ( حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (3) ».
وهنا فرع :
وهو أنه هل يجري تفسير القديم في غير ذلك من الأحكام كالإقرار أم لا ، وسيجي ء توجيه الاحتمالين ، ولو نذر الصّدقة بمال كثير كان ثمانين ، وهي واقعة أمّ المتوكّل ، لمّا نذرت ذلك ، فجمع المتوكّل الفقهاء فكلّ قال قولا ثمّ إنّ المتوكل قال له بعض جلسائه وكان الرّجل إماميّا : هل عند الأسود في هذا علم؟ يعني الهادي عليه السلام ، وكان به ادمة.
فقال المتوكّل : ويحك من تعني؟ قال : ابن الرّضا عليه السلام ، فقال وهل يحسن من هذا شيئا فقال يا أمير المؤمنين إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا ، وإلّا فاضربني مائة مقرعة ، فقال رضيت ، ثمّ قال : يا جعفر بن محمّد (4) امض إليه فاسأله
ص: 124
فقال له في الجواب : الكثير ثمانون ، فقال يا مولاي إذا قال لي : من أين له ذلك؟ فما أقول؟ فقال قل له لقوله تعالى « ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ) (1) » فعدّدنا تلك المواطن ، فكانت ثمانين.
1 - قال الصدوق يتصدّق بثمانين ، ولم يعيّن درهما وقال الشيخان ثمانون درهما ، وفصّل ابن إدريس بأنّه إن كان في عرفهم المعاملة بالدراهم ، فثمانون درهما ، وإن كان بالدنانير فثمانون دينارا ، والتفصيل حسن ، لكن قول الشيخين أقوى لما تقرر في الأصول أنّه يحتمل المطلق على المقيّد وفي رواية الحضرميّ عن الصادق عليه السلام قيّد بالدّراهم (2).
2 - لو قال بكثير من الغنم أو البقر ، كان ثمانين أيضا ، وكذا لو قال صوم كثير ، أو غير ذلك من المقيّد بالكثرة.
3 - هل يتعدى الكثير إلى الإقرار ، حتّى لو قال : « له عليّ مال كثير » كان ثمانين كما قلنا هنا أولا ، يحتمل ذلك للعلّة والاستعمال ، والأصل الحقيقة ويحتمل العدم لعدم التحديد لغة وعرفا ، ووروده في النذر لا يستلزم كونه حقيقة في المعيّن ، لأنّ الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ، خصوصا مع وروده في صور كثيرة من غير تقدير بثمانين كقوله « و ( اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً ) (3) » و « ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) (4) » وبالأوّل قال الشيخان ، وبالثاني قال ابن إدريس والفاضلان.
ص: 125
وفيه آيات :
الاولى ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) (1).
إنعام اللّه هو توفيقه للإسلام ، وإنعام النبيّ صلى اللّه عليه وآله هو العتق له ، وتخليصه من ذلّ الرّقيّة ، والمشار إليه بذلك هو زيد بن حارثة ، وكان من قصّته أنّه أسر في بعض الغزوات في جملة أسارى فجاء قومه يستفكّون أسراهم من جملتهم أبو حارثة فطلب من النبيّ صلى اللّه عليه وآله افتكاكه بثمن ، وكان قد وقع في سهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2) فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وآله اذهب إليه فإن أرادك فهو لك بغير شي ء.
ص: 126
فلمّا أتاه أبى متابعته ، وكره مفارقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فعظم ذلك على أبيه فتبرأ منه ، فخبّر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فوهبه وأعتقه وجعله ولدا له ، فكان يدعى زيد بن محمّد ، وسيأتي تمام الآية والبحث عنها ، والغرض هنا بيان مشروعيّة العتق ، وسمّاه اللّه أنعاما إذ العتق سبب لإيجاد العتيق لنفسه ففيه شبه إيجاد بعد العدم وذلك نعمة لا توازى.
واعلم أنّ العتق يحصل بأمور :
1 - مباشرة منجّزة بغير عوض ، وهو العتق بقول مطلق ، وله عبارتان التحرير بلا خلاف ، كقوله « أنت حرّ لوجه اللّه » والإعتاق على خلاف كقوله « أنت عتيق أو معتق لوجه اللّه » ولا بدّ فيه من اللّفظ والنيّة وقصد القربة ، لكونه عبادة عظيمة قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « من أعتق نسمة مؤمنة عتق اللّه العزيز الجبّار بكلّ عضو منها عضوا منه من النار (1) ».
2 - مباشرة معلّقة على الموت بغير عوض ، وهو المسمّى في اصطلاح الفقهاء تدبيرا ، وليس في الكتاب ما فيه دلالة عليه بل هو مستفاد من السنّة الشريفة.
3 - مباشرة بعوض منجّم وهذا هو المسمّى كتابة وسيأتي بحثها.
ص: 127
4 - ملك الرّجل أحد العمودين ، أو أحد المحرّمات عليه نسبا بغير خلاف ورضاعا على خلاف ، والحقّ فيه العتق ، وملك المرأة أحد العمودين خاصّة.
واستدلّ بعضهم على هذا الحكم من الكتاب بقوله تعالى ( أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ) (1).
ووجه الاستدلال به أنّه جعل بين البنوّة والعبوديّة منافاة لأنه نفى البنوّة وأثبت العبوديّة فلا يجتمعان وإلّا لكان المثبت عين المنفيّ ، وفيه نظر لأنّ المنافاة بينهما من خواصّه تعالى ، وذلك لأنّ الابن من نوع الأب ، فلو كان له ولد لكان من نوعه ولا شكّ أنّ الحقيقة الواجبة تنافي صفة الاحتياج الّتي هي لازمة للعبوديّة فالتنافي بين العبوديّة وبين البنوّة لتنافي لازميهما ، وذلك غير متحقّق إلّا في الواجب سبحانه ، فلا يكون الاستدلال تامّا في المطلوب.
وأمّا المحرّمات فاستدلّ بقوله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (2) ووجه الاستدلال أنّها تضمنت إباحة وطي ملك اليمين فلو ملكن لأبيح وطئهنّ ، واللّازم كالملزوم في البطلان ، وبيان الملازمة بأنّ « ما » من أدوات العموم وفيه أيضا نظر لأنّا نمنع أنّ كلّ مملوكة يصحّ وطيها فإنّه لو وطئ إحدى الأختين حرمت الثانية ، وكذا لو لاط بأخ مملوكته أو ابنها أو أبيها حرم وطؤها مع كونها مملوكة ، وكذا لو ملك موطوءة أبيه أو ابنه ولو استدلّ على ذلك بالسنّة الشريفة كان أليق.
5 - مباشرة عتق نصيبه من المشترك يوجب عتق الباقي عليه ، ويلزمه القيمة مع يساره بها فاضلا عن قوت يومه ، ودست ثوبه ، لقوله صلى اللّه عليه وآله « من أعتق شركا له من عبد وله مال قوّم عليه (3) » وكذا لو أعتق بعض عبده سرى عليه بطريق الأولى ولأنّ رجلا أعتق بعض غلامه فقال عليّ عليه السلام « هو حرّ ليس لله شريك (4) ».
ص: 128
6 - لو نكّل بعبده عتق عليه.
7 - إذا عمي العبد أو أقعد أو أجذم عتق عليه.
8 - إذا أسلم العبد وخرج إلى دار الإسلام عتق على سيّده.
9 - إذا استولد أمة كان ذلك موجبا لعتقها بعد موته على ولدها من نصيبه وقال العامّة أنّه لا يجوز بيعها ولا التصرف في رقبتها بوجه ، وتعتق عليه عتقا مشروطا بوفاته والحق مذهب أصحابنا لأصالة بقاء الملك على حاله ولأنّه يجوز عنقها ، فلو لم تكن ملكا لم يصحّ ، نعم على مذهبنا لا يجوز نقلها (1) ما دام ولدها حيّا إلّا في مواضع :
الأوّل : ثمن رقبتها مع الإعسار به ، الثّاني أن يفلس مولاها قبل علوقها الثّالث أن تكون مرهونة ولحق الاستيلاد ، الرّابع أن تجني جناية تستغرق قيمتها الخامس أن تسلم في يد سيّدها الكافر ، السّادس أن يموت قريبها ولا وارث سواها السّابع أن يعجز المولى عن نفقتها ، الثّامن موت سيّدها مع استغراق الدّين لتركته التاسع بيعها على من تنعتق عليه ، العاشر بيعها بشرط العتق على الأقرب.
الثانية ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ ) (2).
نقل أنّ حويطب بن عبد العزّى كان له عبد يسمّى صبيحا سأله أن يكاتبه فأبى فنزلت (3).
قوله « يبتغون » أي يطلبون و « الكتاب » بمعنى المكاتبة ، وهي مشتقّة من الكتب ، وهو الجمع كأنه قد جمع عليه نجوما وفي الآية أحكام :
1 - الأمر بها وفيه بيان لمشروعيّتها ، وهي مستحبّة مع الأمانة والكسب
ص: 129
فإن سألها العبد تأكّد الاستحباب ، ولو لم يكن العبد أمينا ولا كسوبا فهي مباحة ، وقال أحمد تكون مكروهة حينئذ وليس بشي ء.
2 - الأمر في الآية للندب لأصالة عدم الوجوب ، سواء سأل الكتابة بقيمته أو بأزيد أو بأنقص ، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعيّ ، وقال بعض أهل الظاهر : إن سألها بقيمته أو أكثر وجب إجابته ، وليس بشي ء لعموم قوله صلى اللّه عليه وآله « الناس مسلّطون على أموالهم (1) ».
3 - الكتابة معاملة مستقلّة ليست بيعا للعبد من نفسه ، لانتفاء لوازم البيع المتقدّمة والمتأخّرة ، ولا عتقا بصفة إذا العتق غير قابل للتعليق حال الحياة.
4 - عبارة الكتابة أن يقول السيد « كاتبتك على أن تؤدّي إليّ كذا في وقت كذا فإذا أدّيت فأنت حرّ » فيقبل العبد ، فان اقتصر في العقد على ذلك ، فهي مطلقة ، وإن قال « فان عجزت فأنت رقّ » فهي مشروطة ، وحكم الاولى أنه يتحرّر منه بقدر ما يؤدّي ، وحكم الثانية أنه رق ما بقي عليه شي ء ، وهي بنوعيها لازمة وبه قال مالك وأبو حنيفة ، لكن مالك لا يجبر العاجز على التكسّب وأبو حنيفة يجبره ، وقيل المشروطة جائزة من الطرفين وقيل بل جائزة من طرف العبد خاصّة وبه قال الشافعيّ ، والأصح الأوّل « لعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) ».
5 - قد بيّنا في العبارة أنّه يقول « فإذا أدّيت فأنت حرّ » قال أبو حنيفة ذلك ليس بشرط لا نية ولا لفظا ، وقال أصحابنا : لا بدّ مع ذلك من نيّة ، وبه قال الشافعيّ وأما اللّفظ ، فقال بعض أصحابنا والشافعيّ باشتراطه أيضا ، فلو عدما أو أحدهما ، لم ينعتق ، ولا شكّ أنّ ذلك أحوط.
6 - في قوله « وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ » إشارة إلى اشتراط بلوغ العبد وعقله ، إذ الصبي والمجنون لا قصد لهما معتبر ، وكذا يشترط جواز تصرّفه.
ص: 130
وهل يشترط في المال التأجيل؟ قيل : لا ، فيجوز حالا ، وفيه نظر لجهالة وقت الحصول ، ولعدم ملك العبد حالة العقد ، إذ ما بيده لمولاه ، وتجويز حصول الزكاة والهبة تعليق للواجب بالجائز ، وقيل نعم ، وبالأوّل قال أبو حنيفة ومالك وبعض أصحابنا ، وبالثاني قال الشافعيّ وأكثر الأصحاب ، وهو أولى ، نعم شرط الشافعيّ تعدّد الأجل ، وليس بشي ء بل يكفي واحد لحصول الغرض به.
7 - الخير ورد بمعنيين الأوّل ما يرجع إلى الأمور الدينيّة كقوله تعالى : ( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (1) وأمثاله والثاني ما يرجع إلى الأمور الدّنيويّة كقوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (2) وقوله ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) (3) واختلف في المراد هنا ، فقال الشيخ : هما معا ، بناء على حمل المشترك على كلا معنييه ، وبه قال الشافعي ومالك ، وقال ابن عبّاس هو الأوّل فقط أعني الأمانة ، وقال الحسن البصريّ والثوريّ هو الثاني أعني الاكتساب فقط.
ويتفرّع عليه صحّة كتابة العبد الكافر ، فعلى الأوّلين لا يصح ، وعلى الثّاني يصح ، والأوّل أقوى ، إذ الكافر لا خير فيه ، ولأنّ فيه تسليطا للكافر على المسلمين ، ولأنّه يعطى من الزكاة ، والكافر لا يعطى منها ، ولا يرد المؤلّف قلبه إذ إعطاؤه لغرض التقوي به على الجهاد.
فرع : المراد بالعلم ههنا الظنّ المتاخم للعلم.
8 - قال المفسّرون في قوله « وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ » إنّ المراد ضعوا عنهم شيئا من نجومهم ، فقيل الربع وقيل ليس بمقدّر ، وقال الفقهاء : السيّد إن وجب عليه الزكاة ، وجب عليه إعانة مكاتبه منها ، لقوله « مِنْ مالِ اللّهِ » أي من الزكاة كما تقدّم في قوله « وَفِي الرِّقابِ » وإن لم يجب عليه استحبّ إعانته من مال نفسه ، وهذا قول أكثر أصحابنا.
ص: 131
وقال بعضهم يجب الإيتاء مطلقا ، وبه قال الشافعيّ وقيل يستحب مطلقا ، وبه قال أبو حنيفة ، ولبعض متأخّري الأصحاب تفصيل لا وجه له وهو : وجوب إيتاء من يموت مكاتبا مطلقا عاجزا وكون المؤتي يجب عليه الزكاة ، وإن كان غير سيّده ، وبه قال بعض المفسّرين ومثار (1) هذه الأقوال من أصلين هنا :
الأوّل : هل الأمر للوجوب أو الاستحباب ، قيل بالأوّل لأنّه حقيقة فيه كما تقرّر في الأصول وبه قال الأكثر ، وقيل بالثّاني لأصالة البراءة ، ولأنّ أصل الكتابة ليس بواجب ، فلا يجب تابعه.
الثاني : هل المراد بمال اللّه هو الزكاة لأنّه المتبادر إلى الفهم؟ أو المال مطلقا لأنّ اللّه هو المالك لجميع الأشياء ، ونحن المنتفعون خاصّة ، قيل بالأوّل وقيل بالثاني.
إذا عرفت هذا فنقول : من قال بوجوب الإعانة مطلقا ، قال إنّ الأمر هنا للوجوب ، وإنّ المال ليس هو الزكاة ، ومن قال بالاستصحاب مطلقا ، قال إنّ الأمر للندب ، والمال ليس هو الزكاة ، ومن قال بأنّ المال هو الزكاة والأمر للوجوب ، فذلك ظاهر ، ومن قال إنّ المال هو الزكاة والأمر للندب جعل تخصيص مكاتبه أولى ، لأنّه إعانة له على فكّ رقبته
والحق ما ذكرناه أوّلا لأنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، فيكون مشروطا بوجوب حصول مال ، وهو الزكاة ، لأنّ شرط الواجب واجب ، وأمّا إذا لم يجب الزكاة بوجه استحبّ الإيتاء ، لأنّه تعاون على البرّ والتقوى ، فيدخل تحت قوله ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (2) » ولأنّه فكّ رقبة ، فيدخل تحت قوله « ( فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ) (3) ».
1 - لا يتقدر ما يعطيه السيّد قلّة وكثرة لإطلاق اللّفظ.
ص: 132
2 - لا يتعيّن زمانه ، نعم يتضيّق إذا بقي على العبد ما يسمّى مالا.
3 - لو أخلّ بالإيتاء حتّى انعتق بالأداء ، هل يجب القضاء ، الحقّ نعم ، لأنّه واجب أخلّ به في وقته ، فيجب قضاؤه ، ولو انعتق بغير الأداء لم يجب.
4 - يجب على المكاتب القبول إذا كان من عين مال الكتابة أو مثله ، وإن كان من غير جنسه فخلاف ، والحقّ أنّه كذلك.
5 - لو دفع إلى مكاتبه المشروط شيئا من الزكاة الواجبة عليه ، ثمّ عجز فردّه رقّا ، وجب على السيد ردّ المال ، وصرفه إلى المستحقّين ، ولو كان من زكاة غيره ردّه على مالكه ليصرفه في مستحقّيه ، ولو كان من المندوبة من السيّد ، فله وكذا إن كان من غيره.
فائدة إعرابيّة هنا ، قوله « الَّذِي آتاكُمْ » يحتمل أن يكون صفة للمضاف أعني « مال اللّه » وأن يكون صفة للمضاف إليه فعلى الأوّل يكون المفعول الثاني لآتاكم ضمير محذوفا أي آتاكموه ، ويجوز حذف ضمير جملة الصلة إذا كان مفعولا وهذا الوجه أظهر في الاعراب ، وعلى الثاني يكون مفعوله نكرة عامّة أي آتاكم كلّ شي ء.
وفيه مقدّمة وأبحاث.
أما المقدمة : فقال المعاصر : النكاح لغة الالتقاء ، وهو سهو إذ لم يذكر ذلك أحد من أهل اللّغة ، بل الالتقاء التناوح لا التناكح ، والحق أنّ النكاح لغة هو الوطي ويقال على العقد فقيل مشترك بينهما ، وقيل حقيقة في الوطي ، مجاز في العقد ، وهو أولى إذ المجاز خير من الاشتراك عند الأكثر.
وشرعا عقد لفظيّ مملّك للوطي ابتداء ، وهو من المجاز تسمية للسبب باسم المسبّب ، وفيه فضل كثير قال صلى اللّه عليه وآله « تناكحوا تناسلوا تكثروا فإنّي أباهي بكم
ص: 133
الأمم يوم القيامة ولو بالسقط (1) » وقال صلى اللّه عليه وآله « شرار موتاكم العزّاب (2) » وغير ذلك من الأحاديث وهل هو أفضل من التخلّي للعبادة أم العكس ، ولا قائل بالمساواة والحقّ الأوّل لقول الصادق عليه السلام « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ما استفاد امرء فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله (3) » وغير ذلك ولأنّه أصل للعبادة ، وسبب لها مع كونه عبادة ولاشتماله على بقاء النوع مع العبادة ، بخلاف باقي المندوبات.
وأمّا الأبحاث فتتنوّع أنواعا.
وفيه آيات :
الاولى ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (4).
« الأيامى » مثل اليتامى في كونهما من المقلوبات جمع أيّم ويتيم وأصلهما أيايم ويتايم والأيّم الّتي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيّبا وكذلك الرّجل قال الشّاعر :
ص: 134
فان تنكحي أنكح وإن تتأيّمي *** وإن كنت أفتى منكم أتأيّم (1)
وقال جميل :
أحب الأيامى إذ بثينة أيّم *** وأحببت لمّا أن غنيت الغوانيا (2)
والخطاب للأولياء والسّادات بأن يزوّجوا من لا زوج له من الحرائر والإماء ، والأحرار والعبيد ، وأتى بجمع المذكّر في الصالحين تغليبا فانّ المراد الذكور والإناث وقيّد الصلاح لأنه يحصن دينهم وقيل لأنّه حينئذ يشفق عليهم ساداتهم ، وقيل : المراد بالصلاح القيام بحقوق النكاح.
وفي الكلّ نظر فإنّ الأوّلين لا يوجبان التخصيص ، والثالث خلاف الظاهر والأولى أنّه ترغيب في الصّلاح ، لأنّهم إذا علموا ذلك ، رغبوا في الصلاح ، أو من باب تسمية الشي ء باسم ما يؤول إليه ، فإنّ الفاسق إذا زوّج استغنى بالحلال عن الحرام.
( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ ) قضيّة مهملة في قوّة الجزئيّة ، أي قد يكون إذا كانوا فقراء يغنهم اللّه من فضله لا كلّما كانوا فقراء يغنهم اللّه ، فلا يرد ما يقال : فلان كان غنيّا أفقره النكاح. ويؤيّده قوله ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ) (3) إلخ
ص: 135
إذا تقرر هذا فهنا أحكام :
1 - قيل : الأمر هنا للوجوب ، ولذلك قال داود بوجوب النكاح للقادر على طول حرّة ، ومن لم يقدر فلينكح أمة ، وكذلك المرأة يجب عليها أن تتزوّج عنده وقيل على الكفاية ، وهما ضعيفان لأصالة البراءة ، ولإجماع أكثر الفقهاء على خلافه ولأنّه لو وجب لما خيّر بينه وبين ملك اليمين في قوله ( فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (1) واللازم باطل فكذا الملزوم ، وبيان الملازمة بأنّه لا تخيير بين الواجب والمباح ولا شكّ في إباحة ملك اليمين ، وأنه ليس بواجب عند داود ، ولا يقوم مقام النكاح الواجب عنده ، نعم النكاح قد يجب إذا خشي الوقوع في الزنا كما سيجي ء.
2 - النّكاح مستحبّ لمن تاقت نفسه إجماعا ، ومن لم يتق ، قال أكثر الفقهاء باستحبابه أيضا لعموم الآية ، وقوله صلى اللّه عليه وآله « تناكحوا تكثروا » وقال الشيخ تركه لهذا مستحبّ لقوله تعالى ( سَيِّداً وَحَصُوراً ) (2) مدحه على الترك فيكون راجحا وفيه نظر لاحتمال اختصاصه بشرع غيرنا (3) وقال بعض فقهائنا كلّما اجتمعت
ص: 136
القدرة على النّكاح والشهوة له استحبّ للرّجل والمرأة ، وكلّما فقدا معا كره وإن افترقا بأن كان قادرا غير تائق أو تائقا غير قادر ، لا يكره ولا يستحب ، وفيه نظر لعموم الأمر في الآية والحديث ، ولما صحّ عنه « من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي ومن سنّتي النكاح (1) ».
3 - أنّ استحباب النكاح والإنكاح شامل للرّجل والمرأة ، الغنيّ والفقير التائق وغيره ، وقيل : بل المراد إن كانوا فقراء إلى النكاح والظاهر يدفعه.
4 - في الآية دلالة على أنّ المهر والنفقة ، ليس بشرط في النكاح ، وهو ظاهر ولذلك لا يجوز لها الفسخ مع عجزه ، نعم القدرة المذكورة شرط في وجوب الإجابة للكفو.
ص: 137
5 - فيه إشارة إلى أنّ العبد والأمة لا يستبدّان بالنكاح ، وإلّا لما أمر الوليّ بانكاحهما وأنّ للمولى ولاية الإجبار.
6 - فيه إشعار بأنّ الفقر ليس مانعا من الرّغبة في النكاح خوف العيلة ، فإنّ خزائن فضله تعالى لا تنقص ولا تغيض ، ولذلك عقّبه بقوله ( وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) تعليلا للأغنياء بسعة قدرته عليه وعلمه بما يصلح عباده.
الثانية ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1).
أي إن كان الفقير يخاف زيادة الفقر بالنكاح ، فليجتهد في قمع الشهوة ، وطلب العفّة بالرياضة لتسكين شهوته ، كما قال صلى اللّه عليه وآله « يا معشر الشبّان من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء (2) ».
قوله « لا يَجِدُونَ نِكاحاً » أي أسبابه إذ المراد بالنكاح ما ينكح به ، أو المراد بالوجدان التمكّن منه ، فعلى الأوّل « نكاحا » منصوب على المفعوليّة ، وعلى الثاني بنزع الخافض ، أي من النكاح حتّى يغنيهم اللّه من فضله فإنّ الأمور مرتهنة بأوقاتها.
ص: 138
ولا يرد لزوم التناقض بين الكلامين ، فإنّه أمر في الأولى بالتزويج مع الفقر وفي الثانية أمر بالصبر عنه مع الفقر لأنّا نقول إنّ الاولى وردت للنّهي عن ردّ المؤمن لأجل فقره ، وترك تزويج المرأة لأجل فقرها ، والثانية وردت لأمر الفقير بالصبر على ترك النكاح ، حذرا من تعبه به حالة الزواج ، فلا تناقض حينئذ على أنا نقول إنّهما مهملتان فلا يتناقضان.
الثالثة ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلّا تَعُولُوا ) (1)
قسط يقسط قسوطا إذا جار وأقسط إذا عدل فهو مقسط ومنه « إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » فكان الهمزة في أقسط للإزالة نحو أشكيته أي أزلت شكايته ، والمراد بما طاب لكم قيل ما وافق طباعكم من الحلال منهنّ ، وقيل : المراد ما حلّ. ولا شكّ أنّ الطيّب حقيقة فيما وافق الطبيعة ، ومجاز في الحلال.
فعلى الأوّل يلزم الإضمار ، وعلى الثّاني المجاز ، فقيل هما سواء ، وقيل الإضمار أولى وتحقيقه في الأصول ، وإنّما قال « ما » ولم يقل « من » لأنّ لفظة « ما » موضوعة لمعنى شي ء أعمّ من « من » فيصدق على ذوي العقل وغيرهم والأعداد المذكورة معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاث ثلاث ، وأربع أربع « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا » بين الأعداد المذكورة فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم ، ولم يقل « من » لما تقدّم « ذلك » أي التخيير بين الواحدة وما ملكت أيمانكم أقرب أن لا تمونوا ولا تنفقوا ، يقال عال الرّجل عياله ، إذا مانهم وأنفق عليهم والمعنى
ص: 139
أنّ اقتصاركم على الواحدة أو ملك اليمين مظنّة لقلّة إنفاقكم بسبب قلّة عيالكم ، وقيل : أن لا تجوروا ، من قولهم : عال الحاكم في حكمه ، إذا جار ، وهو مأخوذ من قولهم عال الميزان إذا مال ، فإنّ الجائر مائل عن الحقّ.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد يتبعها أحكام :
1 - قيل في سبب نزولها أقوال الأوّل أنّهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرّجون من الزنا فقيل لهم : إن تحرّجتم من ذنب فينبغي أن تحرّجوا من مثله ، لاشتراكهما في وجه القبح ، الثاني : أنّه لمّا نزل أنّ في أكل أموال اليتامى حوبا تحرّجوا من ولايتهم ، ولم يتحرّجوا من تكثير النّساء وإضاعة حقوقهنّ فقيل لهم ذلك ، تقليلا للنساء المستلزم لسهولة العدل بينهنّ ، الثالث : أنّ الرجل كان يجد يتيمة ذات جمال ومال ، فيتزوّجها ضنّا بها ، فيجتمع عنده منهنّ عدّة ولا يقدر على القيام بحقوقهنّ ، فنزلت (1) أي إن خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى فتزوّجوا غيرهنّ والكلّ محتمل.
2 - الأمر هنا كالأمر في الآية المتقدّمة ، والبحث فيه كما تقدّم.
3 - إذا فسّرنا الطيّب بما وافق الطبيعة ، فعموم الآية مخصوص بآية المحرّمات كما يجي ء.
4 - قال الزّمخشري : إنّما أتى بصيغة المعدول دون الأصل لأنّ الخطاب للجميع ، فوجب التكرير ، ليصيب الاذن لكلّ ناكح يريد الجمع ، لما شاء من العدد الّذي أطلق له ، كما تقول لجماعة أقسموا هذا المال درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولو أفردت كما تقول اثنين وثلاثة وأربعة ، فهم منه أن يجمع بين اثنين وثلاثة وأربعة ، لأنّ الواو للجمع ، ولم يفد التوزيع ، أي وجود كلّ عدد بدلا عن صاحبه.
والأولى أن نقول : لو قال كذلك لفهم منه ، أنّه إذا اختلّ العدد المقدور
ص: 140
عليه المأمون فيه الجواز بالموت أو الطلاق ، لم يجز له تكميل ذلك العدد لأنّه استوفى العدد المباح له ، بخلاف الألفاظ المأتيّ بها فإنّه حينئذ يفيد جواز تكميل ذلك العدد وأنّه لا جناح عليه.
5 - أكثر الفقهاء والمفسّرين على أنّ الواو هنا ليست على حالها ، وإلّا لزم الجمع بين تسع نسوة ، لكون الواو للجمع ، ومن الناس من جعل الواو بحاله وجوّز الجمع بين التسع ، وكلّ ذلك جهل وخبط ، فانّ الجمع في الحكم لا يستلزم الجمع في الزمان لأنك تقول : رأيت زيدا اليوم ، وعمرا أمس ، ولو قال بلفظ « أو » لتوهّم أنّه لا يجوز لمن يقدر على عدد منها أن ينتقل إلى عدد آخر ، وليس كذلك لأنّ من زاد تمكّنه ، فله أن يزيد ما لم يتجاوز الأربع ، ومن نقص تمكّنه فله أن ينقص بلا حرج ، لكون الواو للجمع بخلاف « أو » فافهم ذلك فيجوز للرّجل أن ينكح الأعداد المذكورة في أزمنة متعاقبة.
6 - الحصر في الأربع وعدم جواز الزائد في النكاح الدائم إجماعي ولقول الصادق عليه السلام « لا يحلّ لماء الرّجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر (1) » ولمّا أسلم غيلان (2) وعنده عشرة نسوة قال له النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أمسك أربعا وفارق سائرهنّ » أي باقيهنّ ونقل عن القاسميّة من الزيديّة جواز التسع لمكان الواو
ص: 141
كما قلنا ، بل يلزمهم جواز ثمانية عشر لأنّ قوله مثنى معناه ثنتين ، وكذا البواقي ، كذا نقل عنهم ولكنّهم ينكرونه (1).
7 - هذا العدد مباح للرّجل في الحرائر ، وأمّا العبد فلا يجوز له نكاح أكثر من حرّتين غبطة أو أربع إماء عندنا ، وقال قوم : إنّه كالحرّ ، وبه قال مالك وداود وأبو ثور ، وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد : مباح له ثنتان لا غير حرّتين كانتا أو أمتين ، لنا قوله تعالى ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) (2) نفى المساواة بين السيد وعبده ، وذلك على عمومه إلّا ما خصّ بدليل.
8 - أجمع أصحابنا على جواز نكاح المتعة وأنّه لا حصر لها (3) في عدد للحرّ
ص: 142
والعبد ، وسيأتي البحث في جوازها.
9 - أجمع المسلمون على أنّ ملك اليمين لا ينحصر في عدد ، وعموم لفظ الآية يؤيّده فإنّ « ما » من ألفاظ العموم ، وكذا الحديث المتقدّم عن الصادق عليه السلام لتقييده بالحرائر ، ولا يرد عليه منع جواز الزائد في المتعة ، لدخولها في الأزواج وإلّا لما كانت مباحة ، والأزواج لا يجوز فيها تعدّي النّصاب ، فلا يجوز في المتعة لأنّا نقول إنّه محمول على الدائم لأغلبيّته.
ص: 143
10 - الاقتصار على الواحدة غير مشترط لخوف عدم العدل ، بل يجوز مطلقا وإنّما سوّى بين الحرّة الواحدة ، وبين الإماء ، وإن كثرن ، لأنّهنّ أخفّ مؤنة ولا عدل بينهنّ في القسم ، مع جواز العزل عنهنّ ، ولذلك أطلق إباحتهنّ ولم يقيّدها بعدد ، وفيه دلالة على عدم وجوب القسمة لملك اليمين.
الرابعة ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (1).
أي يضبطونها ويمنعونها عن المباشرة ، واللّام لا يقوّى بها العامل الضعيف عن العمل ، ولذلك لا يؤتى بها في فعل تأخّر عنه مفعوله ، لا يقال ضربت لزيد ، ويقال لزيد ضربت ، وكذا « عمرو لزيد ضارب » لتقدم المفعول على الفعل وكون اسم الفاعل في العمل فرعا على الفعل فقد ضعف بالوجهين معا.
قوله « إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ » إلخ أي لا يضبطونها على أزواجهم وإمائهم ، وعدّاه بعلى كما يقال « حفظت على زيد ماله » استعلاء للحافظ على المحفوظ عليه ، لأنّه متفضّل عليه به.
وذكر الزّمخشريّ أنه في موضع الحال أي إلّا والين على أزواجهم أي إنّهم حافظون في كافّة أحوالهم إلّا في حال تزويجهم وتسرّيهم ، أو أنّهم يلامون إلّا على أزواجهم « فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ » أي فمن طلب نكاح غير الصّنفين ، فهم متجاوزون حدود اللّه ، وفائدة الفصل ب « هم » الحصر أي لا عادي كاملا في العدوان سواهم ، ولا يلزم من نفي كمال العدوان ، نفي العدوان من غيرهم.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - العبارة صريحة في الرّجال لتذكير الضمير ويكون حكم النساء مستفادا من دليل خارج ، كما أنّ حكم أهل عصرنا مستفاد من بيان الرسول صلى اللّه عليه وآله والإجماع لقبح خطاب المعدوم وتكليفه وحينئذ لا يلزم جواز نكاح العبد لمالكته.
ص: 144
وقيل : المراد الصنفان معا ، وغلب المذكّر ويلزم حينئذ جواز نكاح العبد لمالكته ، بحكم الاستثناء ، فيحتاج إلى منعه بدليل فكان الأوّل أولى لأنّه استعمال حقيقيّ.
2 - أنّ الآية صريحة في انحصار سبب الإباحة في القسمين المذكورين ، وهما الزواج وملك اليمين ، على سبيل الانفصال الحقيقيّ ، أي إمّا زواج أو ملك يمين بحيث لا يجتمعان ، ولا يرتفعان ، وأكّد ذلك بقوله « فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ».
3 - لمّا حكم أصحابنا بإباحة المتعة ، وتحليل الأمة للغير ، وجب دخولهما في المنفصلة المذكورة ، وإلّا لكانا باطلين ، فالمتعة داخلة في الأزواج وأمّا التحليل فقال بعضهم إنّه داخل في الأزواج ، ويجعل التحليل كالعقد المنقطع ، فيفتقر حينئذ إلى مهر وتقدير مدّة ، والحق خلافه ، بل هو داخل في ملك اليمين ، لأنّ الملك يشمل العين والمنفعة ، والتحليل تمليك منفعة ، ولذلك قال « أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ » لأنّها لا يشترط في مدلولها العقل ، ولو أراد ملك العين ، لقال « من ملكت أيمانهم » ويؤيّده روايات الأصحاب المتظافرة وحينئذ نقول : ملك المنفعة أعمّ من أن يكون تابعا لملك الأصل أو منفردا.
إن قلت : يلزم على قولك إباحتها في الإجارة ، وغير ذلك من العقود المملّكة للمنافع؟ قلت : خرج ذلك بالإجماع.
4 - ظهر ممّا ذكرناه أنّ البضع لا يتبعّض ، فلو ملك بعض أمة لم يحلّ له له العقد على باقيها ، وإلّا لزم التبعيض ، فيستبيح بعضها بالملك ، وبعضها بالعقد وهو باطل ، واختلف الأصحاب في تحليل الشريك له حصّته هل يبيحه الوطي أم لا؟ قال جماعة لا يبيح ، وإلّا لزم التبعيض وقيل : يبيح وهو قول ابن إدريس ، واختاره الشهيد وهو الأقوى عندي. لما قلنا إنّ الإباحة داخلة في الملك ، فيكون مستبيحا لها بالملك ، ولا يضرنا كون بعضه تبعا للعين ، وبعضه منفردا لأنّ الملك له أسباب كالشراء والاتّهاب والإرث ، ومن جملتها التحليل ، إلّا أنّه سبب ملك
ص: 145
منفعة البضع وتبعّض سبب الملك ليس بضارّ ، وإلّا لزم تحريم بعضها إذا كان بعضها بالشراء وبعضها بالإرث ، وليس كذلك اتّفاقا.
5 - دلّ قوله « فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ » على تحريم كلّ إيلاج في غير زوج أو ملك ، حتّى جلد غيره فإنه أيضا ممّا وراء ذلك
6 - حيث إنّ الزواج حكم شرعيّ حادث ، فلا بد له من دليل يدل على حصوله ، وهو العقد اللفظي المتلقّى من النصّ ، وهو إيجاب من المرأة أو من قام مقامها ، وقبول من الزوج أو من قام مقامه ، وألفاظ الإيجاب ثلاثة الأوّل « أنكحتك » لقوله تعالى ( حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (1) الثاني « زوّجتك » لقوله « ( زَوَّجْناكَها ) (2) » الثالث « متعتك » لقوله « ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) (3) » والقبول كلّ لفظ دالّ عليه.
الخامسة ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (4).
« أحلّ » أي أحلّ اللّه وقرئ ( أُحِلَّ ) عطفا على « حُرِّمَتْ » - « ما وَراءَ ذلِكُمْ » أي ما عدا تلك المحرّمات المذكورة قبل هذه ، وسيجي ء و « ما » موصولة بمعنى اللّاتي منصوبة المحلّ على القراءة المشهورة ، وعلى الثانية مرفوعة و « أَنْ تَبْتَغُوا » بدل من « ما وَراءَ ذلِكُمْ » بدل الاشتمال أي أحلّ لكم ابتغاء ما شئتم من الحلائل عدا المحرّمات المذكورة.
وقال الزمخشريّ : مفعول له ، وهو فاسد ، لأنّ المفعول له شرطه أن يكون
ص: 146
فعلا لفاعل الفعل المعلّل ، وليس الابتغاء فعلا لفاعل « أُحِلَّ » والتقدير غير محتاج إليه مع أنّه خلاف الأصل « مُحْصِنِينَ » حال من « أَنْ تَبْتَغُوا » وقال « غَيْرَ مُسافِحِينَ » ولم يستغن بقوله « مُحْصِنِينَ » لانّ المحصن بهند مثلا يمكنه أن يسافح بغيرها و « المسافحة » من السفح ، وهو صب المنيّ ، ومعناها المغالبة في صبّه ، هذا في اللغة ثمّ خصّ شرعا بالزنا لأنّ الزاني لا يحصل له بفعله إلّا صبّ المنيّ في رحم الزانية قال الجوهريّ استمتع بمعنى تمتّع ، والاسم متعة ، وما موصولة ، فقيل : المعنى : الّذي انتفعتم به من النساء ، من الجماع والتقبيل والنظر ، فآتوهنّ أجورهنّ ، وهو فاسد كما يجي ء بل المراد نكاح المتعة.
قوله « وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ » إلى آخره إشارة إلى أنّ المتعاقدين بعد انقضاء المدّة (1) إن شاء أرادا في الأجرة والأجل أو تفارقا ، لا أنّ المراد لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من الإبراء (2) عن المهر والافتداء ، بناء على أنّ المراد به
ص: 147
العقد الدائم لما يجي ء تقريره « إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً » في الأزل بمصالحكم ، ومن جملة ذلك نكاح المتعة « حَكِيماً » واضعا للأشياء مواضعها ، فوضع عقد المتعة لكم لئلا تقعوا في الزنا واللّواط كما قال عليّ عليه السلام « لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا الأشقياء (1) ويروى « إلّا شقيّ (2) ».
ص: 148
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الآية تدل صريحا على إباحة عقد المتعة من وجوه :
1 - أنّ اللفظ الشرعيّ يحمل إذا ورد على الحقيقة الشرعيّة كما تقرّر في الأصول ، ولا خلاف في أنّ النكاح المشروط بالأجل والمهر ، يسمّى متعة ، وفاعله متمتّع ، ويؤيده ما نقلناه عن الجوهريّ وقد تقدّم.
إن قلت : لم لا يجوز أن يراد به الدائم هنا لأنّه يحصل به الانتفاع فيسمّى متعة بذلك الاعتبار ، ويؤيّد هذا صدر الآية فإنّه يتضمّن انتفاء الإحصان ، ومعلوم أنّ المتعة لا تحصن عندكم.
قلت : الجواب عن الأوّل قد بيّنّا أنّ ذلك حقيقة في المتعة فلو دلّ على غيره لزم المجاز أو الاشتراك ، وهما خلاف الأصل ، ولو دلّ على القدر المشترك لم يفهم أحدهما بعينه ، وعن الثاني بالمنع من إرادة الإحصان الّذي يثبت معه الرّجم بل معنى التعفّف ويؤيّده قوله « غَيْرَ مُسافِحِينَ » سلّمنا لكن بعض أصحابنا حصّن به.
2 - لو لم يكن المراد المتعة المذكورة ، لم يلزم شي ء من المهر من لا ينتفع
ص: 149
من المرأة الدائمة بشي ء ، واللّازم باطل فكذا الملزوم ، أمّا بطلان اللّازم ، فللإجماع على أنّه لو طلّقها قبل أن يراها وجب نصف مهرها.
وأمّا بيان الملازمة ، فإنّه علّق وجوب إيتاء الأجرة بالاستمتاع ، فلا يجب بدونه.
إن قلت : لم لا يجوز أن يراد المهر المستقر ومعلوم أنّه لا يستقر إلّا مع الدخول فعبّر بالاستمتاع عن الدّخول.
قلت : لم يتعرّض في الآية للاستقرار ، بل لوجوب الإيتاء ، على أنّا نقول الاستمتاع أعمّ من الدّخول وعدمه ، والعامّ لا دلالة له على الخاصّ ، ويكون حينئذ تقدير الآية : فالذي استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ مجموع أجورهنّ ، لأنّ الأجرة في الكلّ حقيقة وفي بعضه مجاز ، فكان يجب الاستقرار ولو بتقبيله أو نظرة بشهوة وهو باطل.
3 - قرأ ابن عبّاس (1) وابن جبير وأبيّ بن كعب وابن مسعود وجماعة
ص: 150
كثيرة « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فآتوهن أجورهنّ فريضة » وذلك صريح في إرادة المتعة المذكورة وقد روى الثعلبي عن جبير بن أبي ثابت قال أعطاني ابن عبّاس مصحفا فقال هذا على قراءة أبيّ فرأيت فيه « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ».
ص: 151
إن قلت : إنّ ذلك وإن أثبته هؤلاء ، فقد أنكره غيرهم ، على أنّه لو ثبت لكان قرآنا والقرآن لا يثبت بالآحاد.
قلت : الجواب عن الأوّل أنّ المثبت يقدّم على النافي ، إذ قد يخفى على إنسان ما يظهر لغيره ، ولأنّه فيه صيانة للمسلم الظاهر العدالة عن الكذب ، وعن الثاني أنّه إذا لم يثبت قرآنا فما المانع أن يثبت به الحكم ، ونحن نقنع بخبر الواحد
ص: 152
في هذه الصورة ، خصوصا مع تأكّده بإجماع أهل البيت ورواياتهم ، والخصم يحتجّ بأضعف من رواية هؤلاء المعظّمين ، بل منهم من ينسخ به الأحكام الثابتة ، هذا تقرير الآية ويدل أيضا على إباحة هذا العقد وجوه أخر :
1 - إجماع أهل البيت عليهم السلام ورواياتهم به مشهورة ، مذكورة في كتب أحاديثهم ولو لا خوف الإطالة لذكرت نبذة منها ، وإجماعهم حجّة كما تقرّر في الأصول ، و
ص: 153
قال صلى اللّه عليه وآله « إنّي تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا (1).
2 - نقل الخاصّة والعامّة عن ابن عباس (2) أنّه كان يفتي بها ويعمل و
ص: 154
مناظرته مع عبد اللّه ابن الزبير في ذلك مشهورة (1) وقول ابن عباس في ذلك حجّة
ص: 155
كما قال [ رسول اللّه ] صلى اللّه عليه وآله « إنّه كنيف ملي ء علما (1) » ودعوى الخصم رجوعه عن ذلك ممنوع (2).
3 - اشتهرت الروايات عن عمر بن الخطّاب أنّه قال : متعتان كانتا على عهد
ص: 156
ص: 157
رسول اللّه أنا محرّمهما ومعاقب عليهما : متعة الحجّ ومتعة النساء (1)
وروى الطبري عنه في كتاب المستنير أنّه قال : ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنا محرّمهنّ ومعاقب عليهنّ : متعة الحجّ ومتعة النساء ، وحيّ على خير العمل في الأذان (2) فهذه شهادة منه أنّها كانت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ومعلوم
ص: 158
أنّ عمر ليس له تحليل ولا تحريم (1).
4 - أنّه لا نزاع ولا خلاف في أنّها كانت مشروعة ، والخصم يقول إنّها نسخت قلنا المشروعيّة دراية ، والنسخ رواية ، ولا تطرح الدراية بالرّواية.
5 - أنّها منفعة خالية من جهات القبح ، ولا نعلم فيها ضررا عاجلا ولا آجلا وكل ما هذا شأنه فهو مباح ، فالمتعة مباحة أمّا الكبرى فإجماعيّة وأمّا الصغرى فلأنّا نتكلّم على تقديره ، ولأنّه لو كان فيها شي ء من المفاسد لكان إمّا عقليا وهو منتف اتّفاقا وإمّا شرعيا وليس ، وإلّا لكان أحد متمسّكات الخصم ، ولكن ليس فليس.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل بقوله ( فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) والمتمتّع بها ليست زوجة ولا ملكا أمّا الثاني فاتّفاقي وأمّا الأوّل فلأنّها لو كانت زوجة لثبت لها النفقة والإرث والقسم ، ولوقع بها طلاق ، وغير ذلك من أحكام الزّوجات ، واللّازم باطل باتّفاق الإماميّة فكذا الملزوم.
الثاني الرّوايات منها ما رواه عبد اللّه والحسن ابنا محمّد بن عليّ عن أبيهما عن عليّ عليه السلام (2) عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن الحمر
ص: 159
ص: 160
ص: 161
الإنسيّة (1) ومنها ما رواه الربيع بن سبرة عن أبيه قال (2) شكونا العزبة في حجّة الوداع فقال « استمتعوا من هذه النساء » فما بيّن إلّا أن نجعل بيننا وبينهنّ أجلا فتزوّجت امرأة فمكثت عندها تلك اللّيلة ثمّ غدوت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو قائم
ص: 162
بين الركن والمقام وهو يقول « إنّي كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع ألا وإنّ اللّه قد حرّمها إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهنّ شي ء فليخلّ سبيلها ولا تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا.
ومنها ما روي عن عمر بن الخطّاب (1) أنّه قال اذن لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في المتعة
ص: 163
ص: 164
ثلاثا ثمّ حرّمها واللّه لا أعلم أنّ رجلا تمتّع وهو محصن إلّا رجمته بالحجارة إلّا أن يأتي بأربعة يشهدون أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أحلّها بعد إذ حرمها (1).
الثالث : الإجماع ، فإنّ فتوى الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار على اختلاف الأعصار على منعها.
والجواب عن الأوّل بالمنع من كونها ليست زوجة أمّا عندنا فبالإجماع ، وأمّا عند الجمهور (2) فبالرواية المذكورة عن الربيع بن سبرة فإنّه قال : فتزوّجت امرأة
ص: 165
قولهم لو كانت زوجة لثبت لها النفقة إلى آخره ، قلنا نمنع الملازمة لصدق الزوجيّة مع عدم لزوم هذه الأحكام فإنّ النفقة تسقط مع النشوز ، والميراث يسقط مع الرقّ والقتل والكفر ، والإحصان لا يثبت قبل الدّخول بالزوجة ، والقسم لا يجب دائما ويسقط في السفر واللّعان لا يقع بين الحرّ والأمة عند كثير منهم ، فقد انتفت هذه الأمور مع صدق الزوجيّة فكما خصّت تلك العمومات بوجود الدلالة فكذا هنا.
وعن الثاني أمّا الرّواية عن عليّ عليه السلام فباطلة لأنّا نعلم بالضرورة من مذهبه ومذهب أولاده خلافها فمحال أن يروي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ما يخالفه ، على أنّ خبر ابن سبرة دلّ على أنّ الاذن في حجّة الوداع ، وخبر عليّ عليه السلام في يوم خيبر وحجة الوداع متأخّرة عن خيبر فلو كان النهي الّذي نسب إلى علي عليه السلام على التحريم لزم نسخها مرّتين ولا قائل بذلك ، وأيضا خبر ابن سبرة يرفع النهي الّذي تضمنه خبر عليّ عليه السلام فسقط الاحتجاج به.
وأمّا خبر ابن سبرة فبالطعن في سنده أوّلا (1) وباختلاف ألفاظه الدالّ على
ص: 166
ص: 167
ص: 168
ص: 169
ص: 170
اضطراب روايته ثانيا (1) وبمعارضته بأخبار أهل البيت عليهم السلام عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بالإباحة ثالثا ، وبأنّه خبر واحد فيما يعم به البلوى رابعا ، وأمّا قول عمر فلا حجّة فيه
ص: 171
فإنّه رجوع إلى قول صحابيّ وهو معارض بقول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما.
وعن الثالث بالمنع من تحقّق الإجماع مع مخالفة الشيعة بأجمعها وفيهم فضلاء أهل البيت وساداتهم عليهم السلام.
ص: 172
السادسة ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).
« من » شرطية و « يستطع » مجزوم بلم لفظا وبمن محلّا ، ولم يعكس لقرب « لم » والقريب أولى باللّفظ من البعيد و « من » في « منكم » للتبعيض وتركيب « طولا » كيف استعمل ، للزيادة لكن مع استعماله في المقادير فمصدره الطّول بضمّ الطاء ، والصّفة طويل وفي غير المقادير مصدره الطّول بفتحها والصفة طائل ومراده من لم يكن له زيادة مال لنكاح الحرائر فلينكح الإماء بعقد عليهنّ لأنّهنّ أخف مئونة من الحرائر. والفتيات المملوكات ، لقول العرب للأمة فتاة وللعبد فتى ، والمراد بالمحصنات هنا العفيفات أي أحصنّ أنفسهنّ بعقلهنّ التامّ وكذا المراد بقوله « مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ » والأخدان الأصدقاء أي آخذات أصدقاء تنكحوهنّ سرّا ، والفرق بينهنّ وبين مسافحات فرق ما بين العامّ والخاصّ ، فانّ المسافحات يكنّ جهرا وسرّا ، ومتّخذات الأخدان يكنّ سرّا وقوله « فَإِذا أُحْصِنَّ » أي تزوّجن وصرن محصنات بالأزواج.
وفسّر الزّمخشري « المحصنات » في أوّل الآية بالحرائر لأنّه أثبت عند تعذّر نكاحهنّ نكاح الإماء ، فلا بدّ أن يكون المراد منهن كالضدّ ، وسمين محصنات
ص: 173
لاحصانهنّ عن أحوال الإماء من الابتذال والامتهان وفيه نظر لأنّه عدول عن ظاهر اللّفظ ، وجعل الموصوف محذوفا أي الحرائر المحصنات أولى.
إذا تقرّر هذا فهنا أحكام :
1 - ظاهر الآية أنّ إباحة نكاح الإماء بالعقد مشروطة بعدم الطّول وخشية العنت واحتجّ به الشافعيّ على تحريم نكاحهنّ بدون الشرطين ، وخالف أبو حنيفة وجعل ذلك على الأفضل لا أنّه يكون محرّما بدونهما وجوّز نكاحهنّ للغنيّ ، وبالأوّل قال بعض أصحابنا محتجّا بالشرطيّة المذكورة ، ويقول الباقر عليه السلام وقد سئل عن الرّجل يتزوّج المملوكة قال : إذا اضطرّ إليها فلا بأس (1) والحقّ الثاني لعموم قوله « وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ » (2) وقوله تعالى ( وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ) (3).
والجواب عن الآية بالمنع من دلالتها على التحريم بل هي دالّة على جواز نكاحهنّ عند عدم الاستطاعة ، وليس لها تعرض لعدم الجواز إلّا بدليل الخطاب ، وليس بحجّة عندنا ، وعلى تقدير حجّيّته ليس دلالتها على التحريم بأولى من دلالتها على الكراهية ، ويؤيّد الكراهية قوله « وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ » وكذا الجواب عن الرواية.
ألف - على القول بالتحريم ، يجوز نكاح الواحدة قطعا ، وتحرم الثانية لانتفاء أحد الشرطين وعلى القول بالكراهية تباح الثانية.
ب - يقبل قول الزّوج في عدم الطّول ، وخوف العنت ، ولو كان في يده مال وادّعى أنّه ليس له أو عليه دين بقدره ولا يملك غيره قبل.
ص: 174
ج - لو تجدّد عدم الشرطين بعد النكاح لا ترتفع الإباحة ، ولو كان السابق العقد خاصّة.
د - قال بعض المحرّمين : إنّ التحريم راجع إلى الوطي والعقد يتبعه ، وقال بعضهم بل يرجع إلى العقد أيضا بالذات لكن لا يحرم.
ه- - لو تزوّج أمتين دفعة على القول بالتحريم قيل يتخيّر واحدة والحقّ البطلان لأنّ العقد نسبة إليهما على السواء فلا يصح في إحداهما دون الأخرى وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح.
2 - اختلف في تفسير الطّول فقيل الزيادة في المال ، وقيل ليس له حدّ معيّن بل الإنسان أعرف بنفسه وما يكفيه له ولعياله ، فان عرف العجز عن ذلك ، جاز له نكاح الأمة ، وقال محقّقوا أصحابنا هو مهر الحرّة ونفقتها ووجودها ، وإمكان وطيها قبلا ، فعلى هذه الأقوال يكون قوله « أن ينكح » إما مفعول فعل محذوف وهو صفة طولا أي يبلغ به أن ينكح أو يكون مجرورا بلام جرّ مقدّرة ، قبل « أن » لأنّها تحذف كثيرا قبلها تقديره ومن لم يستطع منكم طولا لأن ينكح.
وقال أبو حنيفة : الطول القوّة والفضل ، وجعل قوله « أن ينكح » « أن يطأ » وجعله بدلا عن « طولا » بدل الكلّ لأنّ النكاح قوّة وفضل ، فيكون معنى الآية على قوله من لا يملك وطي الحرّة وفراشها ، فلينكح أمة ، فإذا كان الشخص غنيّا ولا يكون في فراشه حرّة جاز له أن ينكح أمة.
3 - قيل : الآية ظاهرة في تحريم نكاح غير المؤمنات من الكتابيات وغيرهنّ من الحرائر والإماء لتكرار الوصف فيهما وبه قال أهل الحجاز وقال أهل العراق الأفضل نكاح المؤمنات وترك نكاح الكتابيّات ، والحقّ عندنا الأوّل وسيأتي تحقيقه.
4 - قوله « وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ » فيه إشارة إلى الاكتفاء بظاهر الايمان وأنه لا يجب أن يكون على التحقيق فيجوز نكاح المنافق حينئذ وفيه دلالة على أنّ
ص: 175
الكفاءة يكفي فيه التساوي في الايمان بين الغنيّ والفقير والحرّ والرقّ ، ولذلك عقّبه بقوله « بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ » أي الجميع منكم ومن أقاربكم ، من نسل آدم عليه السلام لا مزيّة لأحدكم على رقيقه.
5 - قوله « فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ » فيه دلالة على عدم استقلال الأمة بالعقد على نفسها بل لا بدّ من إذن السيّد ، لأنّها مملوكة عينها ومنافعها للسيّد ، ومن جملتها منفعة البضع ، فلا يصحّ التصرّف فيها إلّا بإذنه أو برضاه بعده العقد على خلاف في صحّة عقد الفضوليّ ، وليس فيه دلالة على قول أبي حنيفة بجواز مباشرتهنّ العقد حتّى يحتجّ له به.
واعلم أنّه لا فرق بين العبد والأمة في ذلك ، وكذا لا فرق بين كون السيّد رجلا أو امرأة ، ولا بين كون النكاح دائما أو منقطعا.
6 - قوله ( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) أي مهورهنّ ، وسمّى المهر أجرا ، لأنّ الأجر يقال في عوض والبضع منفعة قوله « بِالْمَعْرُوفِ » أي بسهولة وطيب نفس من غير مطل ولا سوء خلق.
وهنا سؤال وهو أنّ المهر ملك السيّد ، فهلّا قال : فآتوا مواليهنّ أجورهنّ.
جواب قيل الأداء إليهنّ أداء إلى السادات لأنّهن وما في أيديهنّ ملك السادات أو أنّ المضاف محذوف ، أي فآتوا مواليهنّ وفيهما نظر ، أمّا الأوّل فلأنّ كونهنّ ملكا لهم مسلّم لكن كون التسليم إليهنّ تسليما إلى الموالي ممنوع ، وأمّا الثاني فلأنّ المضاف لا يحذف مع الاشتباه والاشتباه موجود هنا.
والأولى في الجواب أنّه كان من عوائدهم مهور الأزواج ، فيكون الاذن في النكاح مستلزما للإذن في قبض المهر.
7 - في ذكر الإحصان بمعنى العفّة ونفي السّفاح ، دلالة على المنع من نكاح الزانية إمّا تحريمها على قول من يحرّمه أو كراهة على الأقوى ، وسيأتي تحقيقه ، وقوله « مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ » محال منهنّ أي فانكحوهنّ حال إحصانهنّ وعدم سفاحهنّ.
8 - « فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ » أي فإذا تزوّجن ثمّ أتين بالزنا فعليهنّ
ص: 176
نصف حدّ الحرائر « والعذاب » هو الحد بدليل قوله « وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » وغير ذلك ، والمراد به الجلد خاصّة لا الرّجم للإجماع ولأنّه إهلاك أموال وهنّ أموال لمواليهنّ فلا يجوز إضرارهم بذنب غيره ولأنّ الرجم لا ينتصف كما ينتصف الجلد.
إن قيل فما الفائدة في قوله « فَإِذا أُحْصِنَّ » لأنّ الجلد واجب عليهنّ مطلقا إذا زنين وإن لم يحصن قلت : ذهب قوم إلى عدم وجوب الجلد عليهنّ إلّا مع الإحصان لهذه الشبهة ، والأكثر على خلافه لأنّه لا دلالة له على عدم الحدّ إلّا بدليل الخطاب وليس بحجّة على أنّه لا يلزم من عدم دلالة الآية على وجوب الحدّ عليهنّ عدم الوجوب لأنهنّ يدخلن في آية « الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » (1) فتكون هذه الآية مخصّصة لتلك بالأحرار والحرائر واعلم أنّ الإجماع انعقد على أنّه لا فرق بين العبد والأمة في تنصيف الحدّ.
9 - قوله « ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ » ذلك إشارة إلى نكاح الإماء ، فظهر به أنّه مشروط بشرطين واختلف في تفسير « العنت » قيل الوقوع في الزنا لأنّه في الأصل انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكلّ مشقّة وضرر ولا ضرر أعظم من الوقوع في الإثم بأفحش القبائح وقيل الحد.
10 - قوله « وَأَنْ تَصْبِرُوا » أي عن نكاح الإماء « خَيْرٌ لَكُمْ » وإنّما كان خيرا قيل لئلّا يجي ء الولد رقا كما هو مذهب الشافعيّ وليس بشي ء لأنّ الولد يتبع أشرف الطرفين. والحريّة أشرف ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « لا يرقّ ولد حرّ » (2) وقيل لئلّا يتبع سادتها وأهلها ولئلّا يفرق السيّد بينهما بوجه ، والأولى أنّه خير لئلّا يعيّر الولد بأنّه ولد أمة الغير ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « الحرائر صلاح البيت والإماء
ص: 177
هلاكه » قوله « وَاللّهُ غَفُورٌ » عمّا سلف من خلاف هذه الأحكام « رَحِيمٌ » بالرّخصة في نكاح الإماء.
في أسباب التحريم(1)
وفيه آيات :
الاولى ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً ) (2).
قال الطبري : مراده ولا تنكحوا نكاح آبائكم أي مثله من الأنكحة الفاسدة ويكون « ما » مصدريّة والأولى خلاف ذلك ، بل مراده ولا تنكحوا منكوحات آبائكم ويكون « ما » موصولة وضمير المفعول محذوف تخفيفا لأنّه هو المتبادر إلى الفهم والاستثناء هنا قيل منقطع تقديره لكن ما قد سلف ، فإنّه لا مؤاخذة فيه وليس ببعيد وقيل متّصل والاستثناء من اللفظ تقديره إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يحلّ لكم غيره ، وذلك غير ممكن والغرض المبالغة في التحريم وسدّ الطريق إلى إباحته كما تعلّق بالمحال للتأبيد في قولهم حتّى يبيضّ القادر.
والأجود : أنه استثناء من محذوف أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم ، فإنّه قبيح حرام معاقب عليه ، إلّا ما قد سلف في الجاهليّة ، فإنّكم معذورون فيه ، ونفّر عن فعله زيادة على النهي بتوصيفه بثلاثة أوصاف :
الأوّل كونه « فاحِشَةً » مبالغة في قبحه فإنّه مناف لما يجب من تعظيم الآباء بالتهجّم على فراشهم ، وأتى بكان إيذانا بأنّه لم يكن حلال في ملّة سالفة.
الثاني كونه « مَقْتاً » أي موجبا لمقت اللّه أو ممقوتا فانّ ذوي المروءات منهم
ص: 178
كانوا يمقتون فاعل ذلك أي يبغضونه ، ويسمّون الولد الحاصل منه بالمقتيّ.
الثالث كونه « ساءَ سَبِيلاً » أي بئس طريقا فعلى هذا ، الضمير راجع إلى نكاح منكوحات الآباء ، وإن لم يجر له ذكر ، لكون الكلام دالا عليه ، وعلى قول الطبريّ : الضمير راجع إلى نكاح الجاهليّة المشبّه به ، والأجود ما قلناه فهنا أحكام :
1 - إن جعلنا النكاح حقيقة في العقد كما هو المشهور ، فيكون النهي صريحا في المعقود عليها سواء دخل بها أو لا ، ولا تدخل من وطئت لا بعقد إلّا بدليل خارجيّ وإن جعلناه حقيقة في الوطي دخل كل موطوءة بعقد وغيره ، وكذا إن قلنا أنّه مشترك ، والعمل بهذا أحوط ، وإن كان الأوّل أقوى ، لما تقرّر في الأصول من وجوب حمل اللّفظ على الحقيقة الشرعيّة.
2 - الأجود دخول الموطوءة بالشبهة لما تقرّر عند الأكثر أنّ حكم الشبهة كالصحيح في أغلب الأحكام فهنا كذلك.
3 - قيل لا تدخل المزنيّ بها في الآية إمّا لأنّ النكاح حقيقة في العقد ، وهذه ليست معقودا عليها ، أو لأنّ الزنا لا حرمة له ، ولهذا تنكح وهي حامل بعد مضيّ أربعة أشهر وعشر ، وتنقضي عدّتها بالأشهر أو الإظهار من غير اعتبار بوضع حملها ، فلا تكون محرّمة بالنّسبة إلى ولد الزاني ، والحقّ التحريم إلّا مع سبق عقد الابن فإنّه لا يحرم.
4 - تحرم منكوحة الجدّ ، وإن علا لقوله « آباؤُكُمْ » والجد أب هنا ، وكذا تحرم موطوءة الجدّ للامّ ومن عقد عليها.
5 - كل من قال بتحريم المعقود عليها على ابن العاقد ، قال بتحريم الموطوءة بالملك ، فهي إجماعيّة من سائر الفقهاء ، وكذا عندنا من عقد عليها متعة أو وطئها بالتحليل.
ص: 179
الثانية ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (1).
المضاف هنا مقدّر أي نكاح أمّهاتكم ، فحذف لقرينة استحالة تحريم الذّوات لكونها غير مقدورة فلا بدّ من تقدير فقدّر ما يراد منهنّ وهو النكاح كما قدّر في « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ » أي أكله لأنّ المراد من اللّحم الأكل وكذا نظائره ، وذهب قوم وهم بعض الأصوليين إلى أنّ الآية مجملة وليس بشي ء لسبق المراد إلى الفهم كما قلناه والمجمل لا يسبق إلى فهم الإنسان شي ء من معانيه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية محرّمات تنقسم أقساما ثلاثة :
وهو سبعة :
1 - الأم وإن علت ، أي امّه وأم أبيه وأم جدّه وأمّ امّه وأم أبيها سواء كان النسب صحيحا أو فاسدا.
2 - البنت وإن نزلت أي بنته ، وبنت بنته ، وبنت ابنه ، سواء كان الولادة
ص: 180
عن نكاح صحيح أو شبهة أو زنا ، ولا خلاف في الأوّلين ووافق أبو حنيفة أصحابنا في تحريم بنت الزنا لصدق البنت لغة فيتبعه التحريم ، وقال الشافعيّ لا تحرم البنت المخلوقة من الزنا لعدم لحوق نسبها شرعا.
3 - الأخت لأب كانت أو لامّ أولهما.
4 - العمّة وهي أخت الأب ، وكذا إذا علت أي أخت الجدّ لأب كان أو لامّ وليس المراد بعلوّها كونها عمّة العمّة لأنّ عمة العمّة قد لا تحرم فانّ أخت زيد لامّه عمّة لابنه وعمّتها لا تحرم على ابن زيد.
5 - الخالة وهي أخت الأمّ ، وكذا إذا علت أي أخت الجدّة لأب كانت أو لام ، وكذا ليس المراد بعلوّها كونها خالة الخالة لأنّها قد لا تحرم.
6 - بنت الأخ وإن نزلت أي بنت ابنه وبنت بنته وهكذا.
7 - بنت الأخت وإن نزلت أي بنت بنتها وبنت ابنها.
إن قلت : ولد الولد غير ولد حقيقة لصدق النفي إذ يقال ليس ولدي لكنّه ولد ولدي ، وإذا كان كذلك لا يتناوله النص إذ اللّفظ يحمل على حقيقته دون مجازه.
قلت : الإجماع دلّ على اعتبار المجاز هنا ، على أنّا نقول المراد مطلق التولّد أعم من أن يكون بالذات أو بالواسطة وكذا البحث في جانب العلو على أنّ إيراد ذلك بصيغة الجمع يشعر باعتبار المرتبتين.
ص: 181
وهو اثنان :
1 - الامّ.
2 - الأخت. للنصّ عليهما ، وأمّا تحريم البنت فبالتنبيه بالأدنى على الأعلى لأنّ الأخت إذا حرمت فالبنت أولى وأما العمّة والخالة فبالسنّة كما يجي ء وأمّا الجدّة فأمّ تدخل في إطلاق النصّ فهنا فوائد :
1 - قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب (1) » فعلى هذا كل ما تقدّم ذكره من المحرّمات نسبا يحرم مثله من الرّضاع ، فهو نسب ثان.
2 - الرضاع كما يحرّم سابقا كذا يحرم لاحقا ، فلو زوّج رضيعا بامرأة ثمّ ارتضع من أمّها حرمت عليه زوجته ، وانفسخ النكاح وكذا في سائر الفروض.
3 - قال الزمخشريّ : قالوا تحريم الرّضاع كتحريم النسب إلّا في مسئلتين إحداهما أنّه لا يجوز للرّجل أن يتزوّج أخت ابنه من النسب ، والعلّة وطي أمّها (2) وهذا المعنى غير موجود في الرّضاع ، وثانيتهما لا يجوز للرجل أن يتزوّج أمّ أخته من النسب ويجوز من الرّضاع لأنّ المانع في النسب وطي الأب إيّاها وهذا المعنى غير موجود في الرضاع.
وكذا استثني مسئلتان أخريان إحداهما أمّ الحفدة ، وثانيتهما جدّة الولد فإنّهما محرّمتان من النسب دون الرضاع ، أمّا أم الحفدة ، فلأنّها بنتك أو زوجة
ص: 182
ابنك ، ولو أرضعت أجنبيّة ولد ولدك لم تحرم ، وأمّا جدّه الولد فإنّها أمّك أو أم زوجتك ولو أرضعت أجنبيّة ولدك كانت أمّها جدّة ولدك ، ولم تحرم عليك.
وفي استثناء هذه الصور نظر ، لأنّ النصّ إنّما دلّ على أنّ جهة الحرمة في النسب جهة الحرمة في الرّضاع ، والجهات الّتي في هذه الصور ليست جهات الحرمة في النسب فإنّ جهة أختيّة الابن مثلا لم تعتبر من جهات الحرمة بل المعتبر فيها إمّا كونها ربيبة ، وإمّا كونها بنتا ، وأيّة جهة من هاتين الجهتين لو وجدت في الرّضاع كانت محرّمة.
وتوضيحه أنّ أخت الابن إذا كانت بنتا تكون لها جهتان جهة الأختيّة للابن وجهة البنتيّة لك ، ولا شكّ في تغايرهما والنصّ دلّ على الحرمة من جهة البنتيّة لا من جهة الأختيّة للابن ، وكذا إذا كانت ربيبة كان لها جهتان : جهة الأختيّة للابن ، وكونها ربيبة ، وجهة الحرمة منهما ليست إلّا كونها ربيبة.
على أنّ جهة الحرمة بحسب المصاهرة لا بحسب النسب فلا يصحّ الاستثناء من جهة حرمة النسب.
4 - الرّضاع له شرائط بمعرفتها يتقيّد إطلاق الآية ، وهي إمّا بحسب المقدار فعند الأكثر منّا خمسة عشر رضعة ، أو ما أنبت اللّحم وشدّ العظم أو رضاع يوم وليلة ، لأصالة الحلّ ، وما ذكرناه مجمع على تحريمه النكاح ولتضافر روايات أهل البيت عليهم السلام.
واكتفى الشافعيّ وأحمد بخمس لا أقلّ ومن الصحابة من قال بثلاث ، واكتفى مالك وأبو حنيفة بالرّضعة الواحدة.
وأمّا بحسب الزمان فهو أن يكون في الحولين لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا رضاع بعد فصال (1) » فلو وقع بعضه في الحولين وبعضه خارجا عنهما لم ينشر حرمة ، وبه قال الشافعي وهو أحد قولي مالك ، والآخر خمسة وعشرون شهرا وقال أبو حنيفة
ص: 183
ثلاثون شهرا ، وقال زفر ثلاث سنين.
وأمّا بحسب كيفيّة الرّضعة فهو أن يلتقم [ من ] ثدي المرأة الحيّة المنكوحة ويشرب منه لبنا خالصا حتى يروّي ويتركه باختياره ، فلو وجر أو سعط به أو حقن لم ينشر ، وقال الفقهاء ينشر ، وفي الرّضاع مسائل كثيرة تذكر في كتب الفقه.
وقد ذكر أربعا والمصاهرة أن يطأ الرّجل امرأة أو يعقد عليها فيحرم عليه نكاح امرءة أخرى أو يحرم نكاحها على غيره فهنا مسائل :
1 - أمّ الزّوجة وإن علت تحرم على الزّوج تحريما مؤبدا ويدلّ على تحريم الأمّ العالية صيغة الجمع في الأمّهات وهذه تحرم بمجرّد العقد على بنتها لما يجي ء.
2 - بنت الزوجة وإن نزلت أي بنتها ، وبنت بنتها ، وبنت ابنها ، وهكذا وإليهنّ أشار بالرّبائب جمع ربيبة لأنّ الرجل في الأغلب يكون يربّي ابنة زوجته في حجره.
3 - حلائل الأبناء جمع حليلة إمّا من الحلّ ضدّ الحرمة ، لأنّه يحل له وطيها. أو من الحلول ، لأنّها تحل معه في فراشه. أو من الحلّ ضدّ العقد ، لأنّه يحلّ إزارها عند الجماع ، ففعيل ، على الثاني فاعل ، وعلى الثالث مفعول ، وقيّد بكون الابن للصّلب احترازا من الولد المتبنّى ولذلك قيل نزلت ردّا على المنافقين لمّا تزوّج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بزينب بنت جحش زوجة زيد ، والأبناء هنا أيضا شامل لولد الولد ، لأنه ولد [ ك ] لكن بواسطة.
4 - الجمع بين الأختين في النكاح والتحريم هنا ليس تحريم عين ، فلو فارق
ص: 184
إحداهما بفسخ أو طلاق أو موت حلّت الأخرى ، ولذلك قيّد التحريم بالجمع وهنا فوائد :
1 - المملوكة الموطوءة تحرم أمّها وإن علت لأنّها أيضا من نسائه فتحرم أمّها وكذا بنتها وإن سفلت.
2 - الدخول المشار إليه كناية عن الجماع لا أنه يدخل معها الستر أو الحجلة وعند أبي حنيفة أنّ اللّمس ونحوه ملحق بالجماع ونقل عن عمر أنه خلا بجاريته فجردها فاستوهبها ابنه فقال لا يحل لك وطيها.
وعن عطا : إذا نظر الرجل إلى فرج امرأة فلا ينكح أمّها ولا بنتها والحق ما ذكرناه أوّلا وبه قال ابن عباس وعلماء أهل البيت عليهم السلام إلّا من شد كابن الجنيد ومن تابعه لأصالة الحلّ الخالي عن موجب التحريم بغير الجماع ولقوله « فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ » واللّامس والناظر غير داخلين.
3 - بنت الزّوجة تحرم سواء كانت في حجره أو لا ، وسواء ولدتها بعد مفارقته أو قبل نكاحه ، والتقييد للأغلبية كما قلنا. وقال داود الظاهريّ : إنّ التحريم يختص بمن ولدتها بعد مفارقته والإجماع على خلافه.
4 - قوله « اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ » يحتمل أن يكون بيانا « لأمّهات نسائكم » في الجملة الاولى ، وأن يكون بيانا ل « نسائكم » في الثانية وأن يكون بيانا لهما معا ، ولذلك اختلف الصّحابة فيه :
فقال ابن عبّاس وزيد وابن عمر وابن الزبير بالأوّل حتّى أنهم قرأوا « أمّهات نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ » وهي قراءة شاذة وقال عمر وعمران بن حصين بالثاني ، وهو قول أكثر علماء أهل البيت عليهم السلام ولذلك حرم عندهم الام بمجرّد العقد على بنتها ، وهو الحقّ وروايات أهل البيت عليهم السلام متضافرة به
وروى الجمهور عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله في رجل تزوّج امرأة ثمّ طلقها قبل أن يدخل بها أنّه قال « لا بأس أن يتزوّج بنتها ولا يحل له أن يتزوّج أمّها (1) » ويؤيّده اعتبار
ص: 185
القرب في الصّفة الّتي يأتي بعد الجمل المتعدّدة.
لا يقال الربائب غنية عن البيان لأنهنّ لا يكنّ في حجره إلّا بعد الدخول بالأمّ فيكون قوله « مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ » تأكيدا والتأكيد مرجوح بالنسبة إلى التأسيس لأنّا نقول نمنع الأوّل فإنّ التقييد خرج مخرج الأغلبيّة.
وأمّا الثّالث وهو كونه بيانا لهما فضعيف لأنّ « من » إذا تعلّقت بالربائب كانت ابتدائيّة ، وإذا تعلّقت بالأمّهات كانت بيانيّة ، والكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء مع أنّ هذا قال به بعض علمائنا.
واستدلّ بحديثين عن الصادق عليه السلام قال الشيخ إنهما محمولان على التقيّة لأنّهما مخالفان للكتاب [ والسنّة ] لأنه تعالى عمّم تحريم « أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ » وقيّد تحريم الربائب بالدخول بامّهاتهنّ ، فيكون الأوّل على عمومه ، ويؤيّده ما رواه إسحاق بن عمّار عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّ عليّا عليه السلام كان يقول في الآية : أبهموا ما أبهم اللّه (1) وتردّد العلّامة في مختلفة في الاحتمالين ، وبعض المتأخّرين حكم بكراهة أمّ غير المدخول بها والأجود التحريم للاحتياط إذ الفروج مبنيّة على الاحتياط التامّ.
5 - حليلة الابن من الرضاع محرّمة إجماعا ولا دلالة في الآية على المنع بقوله « مِنْ أَصْلابِكُمْ » لما قلنا أنّه لإخراج ولد التبني ، وهل حكم الملموسة والمنظورة بالشهوة حكم الجماع في التحريم؟ قال أبو حنيفة : نعم ، وهو قول أكثر أصحابه كما حكيناه ، وبه قال بعض أصحابنا أيضا لما رواه محمّد بن إسماعيل عن أبي الحسن عليه السلام وقد سأله عن الرّجل يكون له الجارية فيقبّلها هل تحلّ لولده فقال بشهوة؟ قلت : نعم ، قال ما ترك شيئا إذا قبّلها بشهوة ، ثمّ قال ابتدءا منه : إذا نظر إلى فرجها وجسدها بشهوة حرمت على أبيه وابنه قلت إذا نظر إلى جسدها؟ قال
ص: 186
إذا نظر إلى فرجها وجسدها حرمت عليه (1) وبه قال العلّامة في مختلفة.
6 - الجمع بين الأختين المعقود عليهما حرام إجماعا وهل يحرم الجمع بين الموطوءتين بالملك؟ الحقّ ذلك لظاهر الآية ، وعن عليّ عليه السلام وعثمان أحلّتهما آية وهي قوله « أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » وحرّمتهما آية وهي هذه ، ورجّح عليّ عليه السلام التحريم وعثمان التحليل ، وقول عليّ عليه السلام أحقّ أن يتّبع لأنّ الحقّ يدور معه كيف ما دار ، ويؤيّده أيضا أنّ آية التحليل مخصوصة بلا خلاف فلا يكون قاطعة في الاستدلال ، هذا وقد قال صلى اللّه عليه وآله « ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال (2) ».
7 - لا خلاف في أنّ النسب الحاصل من وطي الشبهة صحيح موجب لحرمة النكاح ، وكذا لا خلاف في أنّ الزنا لا يحصل به التحاق النسب ، ولقوله صلى اللّه عليه وآله « الولد للفراش وللعاهر الحجر (3) » وهل يحرم النكاح فلا يجوز نكاح بنته ولا أخته من الزنا أم لا؟ تقدّم الخلاف فيه.
8 - أكثر أصحابنا والشافعيّة على أن الوطي بالشبهة ينشر حرمة المصاهرة لحصول النسب به ، ولأنّه أحوط وأمّا الزنا فهل ينشر حرمة المصاهرة فلا يجوز نكاح بنت المزنيّ بها ولا أمّها وتحرم على ابنه وأبيه أم لا؟ فيه خلاف.
قال بعض أصحابنا لا ينشر لعموم قوله تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) وقوله ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ولرواية هشام بن المثنّى عن الصّادق عليه السلام قال كنت عنده فقال له رجل : رجل فجر بامرأة أتحل له بنتها أم لا؟ قال نعم إنّ
ص: 187
الحرام لا يفسد الحلال (1) وقال الأكثر بالتحريم إن كان سابقا لروايات كثيرة عن العيص بن القاسم عن الصادق عليه السلام وكذا عن منصور بن حازم عنه عليه السلام ومحمّد ابن مسلم عن أحدهما عليهما السلام (2) ولأنّه أحوط ولأنّه تصدق على المزنيّ بها اسم نسائه إذ الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ككوكب الخرقاء وهذا أجود للاحتياط في الفروج.
والجواب عن الآيتين أمّا الأولى فلأنّها مخصوصة فلا يكون حجّة قاطعة وأمّا الثانية فلأنّ المراد بما طاب ما حلّ ، وعن الرواية أنّ الفجور أعمّ من الزنا واللّمس وغيره ، مع أنّ في قوله « إنّ الحرام لا يفسد الحلال » إشارة إلى ما قلناه.
9 - الوطي بالملك حكمه حكم العقد سواء ، في نشر الحرمة بالمصاهرة ، وكذا الوطي بالعقد المنقطع عندنا.
10 - لو زنا بعمّته أو بخالته حرمت عليه بناتهما عندنا تحريما مؤبدا ، ولو تزوّج امرأة حرمت عليه بنت أختها وبنت أخيها مع عدم رضاها إجماعا ومع إذنها قال أصحابنا يحلّ عليه إحداهما خلافا لباقي الفقهاء ولو جمع بين الامّ وبنتها في عقد فسد العقد ، وجاز نكاح البنت خاصّة فيما بعد ، ولو جمع بين الأختين في العقد فسد وجاز له استينافه على إحداهما.
وههنا فائدة حسنة جليلة غفل عن التنبيه عليها كثير وهي أنّ الاجتماع مطلوب لله سبحانه وتعالى ، ولذلك ندب الناس إلى الاجتماع في العبادات ليحصل لهم مع عبادة اللّه الكمال الممكن لهم ، وهو خروج ما بالقوّة إلى الفعل ، فكان بقاء الأشخاص ملزوما لذلك الاجتماع ، وحيث كان بقاء النوع ببقاء أشخاصه كان نوع الإنسان لا يحصل بقاؤه إلّا ببقاء أشخاصه وذلك لا يحصل إلّا بالتناكح ، و
ص: 188
التناكح لا يحصل إلّا بالمحبّة بين الزوجين ، ولذلك جعل سبحانه وتعالى المودّة بينهما من الآيات حيث قال ( وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) (1) والمحبّة لا تحصل إلّا بالإنس والاجتماع ، فكان الانس والاجتماع مطلوبين له.
ولمّا كان النسب موجبا للمودّة والمحبّة ، لم يكن الاجتماع فيه مطلوبا لحصوله ، فلذلك لم يشرع نكاح الأقارب لحصول المودّة والاجتماع بينهم بدون النكاح ، وأمّا الأجانب فحيث فاتهم اجتماع النسب ندب إلى اجتماع السبب النكاحيّ لهم ، ولو ندب الأنساب إلى ذلك لكان ضائعا لا فائدة فيه لحصوله مع حرمان الأجانب [ عن ] ذلك ، فيفوت الاجتماع المطلوب لله من الناس.
ولذلك إذا ضعف الاجتماع النسبي كبنات العمّ والخال ، وبنات العمّة والخالة ، جبر الضعف بالإذن في نكاحهنّ ، ولمّا كان الرضاع موجبا لانفعال المزاج عن لبن المرضعة ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « الرضاع يغيّر الطباع » (2) كان فيه اجتماع أيضا مشابه لاجتماع النسب فكان حكمه حكمه في تحريم النكاح.
ولمّا كانت الطباع تنفر عن المشاركة في الخيرات وتحبّ الاختصاص بها كانت المشاركة ملزومة للتباغض المنافي للمحبّة ، ولذلك حرّم الجمع بين الأختين
ص: 189
لئلّا يقع التباغض بينهما ، وتنغص العيش على الرجل.
الثالثة ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ) (1).
« الْمُحْصَناتُ » مرفوع عطفا على قوله « أُمَّهاتُكُمْ » أي وحرّمت المحصنات أى المزوّجات ما دمن في نكاح أزواجهنّ فهنّ على غيره حرام وكذلك ما حكمه حكم النكاح كالمعتدّات وقرئ بفتح الصّاد كما قلناه ، وبكسرها على أنّه اسم الفاعل لأنهنّ أحصنّ فروجهنّ بالتزوج ، قوله « إِلّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » استثناء من الإماء المزوّجات ، ثمّ يحدث لهنّ استرقاق إمّا باشتراء أو اتّهاب أو ميراث أو سبي أو غير ذلك ، فانّ المالك الجديد له فسخ النكاح والوطي بعد العدّة ، ويدخل فيه أيضا الأمة المزوّجة بمملوك السيّد ، فانّ له فسخ نكاحها ، فيجوز له وطيها بعد العدّة.
وقال أبو حنيفة : إنّ السبي لا يرفع النكاح ، ولا يحلّ بذلك للسابي ، وإطلاق الآية حجّة عليه ، وكذا خبر أبي سعيد الخدري يدل على ذلك ، وهو أنّ المسلمين أصابوا في غزاة أوطاس سبايا ، ولهنّ أزواج في دار الحرب ، فنادى منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن ، ولا غير الحبالى حتّى يستبرئن بحيضة (2) وقد أشار الفرزدق (3) في شعره إلى ذلك بقوله :
ص: 190
ص: 191
وذات حليل أنكحتها رماحنا *** حلال لمن يبني بها لم تطلّق (1)
ص: 192
قوله « كِتابَ اللّهِ » مصدر مؤكّد أي كتب اللّه عليكم تحريم المذكورات كتابا.
فائدة : الإحصان يقال على معان الأوّل بمعنى العفّة كقوله تعالى « ( أَحْصَنَتْ فَرْجَها ) (1) » الثاني بمعنى الزواج كالمذكور في الآية ، الثالث بمعنى الحرّيّة كقوله ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ ) (2) على قول تقدّم ، الرابع : بمعنى الإسلام كقوله ( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ ) (3) على أحد التفسيرين.
الرابعة ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ ) (4).
هل اسم المشرك مختصّ بمن ليس بكتابيّ من الكفّار أو هو شامل لكلّ كافر منكر لنبوّة نبيّنا محمّد صلى اللّه عليه وآله؟ قيل بالأوّل للعطف على أهل الكتاب في قوله « لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ » (5) والعطف يقتضي
ص: 193
ص: 194
ص: 195
المغايرة ، وفيه نظر لأنّا نمنع كون العطف يقتضي المغايرة مطلقا بل إذا لم يدع إلى العطف فائدة أمّا معها فلا كقوله « جِبْرِيلَ وَمِيكالَ ) (1) » و « نَخْلٌ وَرُمّانٌ ) (2) » مع أنا نقول : إنّ العطف هنا للعامّ على الخاصّ ، وهو موافق للقاعدة ، وهو وجوب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه ، والحال هنا كذلك فانّ المشرك أعم من الكتابيّ.
وقيل بالثّاني لقوله « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (3) » ولا شكّ في كراهة أهل الكتاب لنبوّته عليه السلام ولقوله تعالى في حقّهم « وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ » إلى قوله « سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ » (4) ولقول النصارى بالتثليث.
فعلى الأوّل الآية عامّة باقية الحكم ، غير منسوخة اتّفاقا ، فيحرم نكاح المشركة وإنكاح المشرك ، وعلى الثاني قيل : هي أيضا عامّة ولا يحل نكاح الكتابيات أيضا ويؤيّده قوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » (5) فتكون ناسخة للاية
ص: 196
في المائدة وهي قوله « وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ ] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (1) الآية.
وقيل بعدم نسخ آية المائدة لأنّ المائدة آخر ما نزل كما قيل ، ولأنّ الأصل عدم النّسخ فعلى هذا يكون هذه مخصّصة بآية المائدة لما تقرّر في الأصول أن التخصيص خير من النسخ ، فلذلك حكم بعض أصحابنا بتحريم الكتابيّات مطلقا على الأوّل من الثاني ، وبعضهم حكم بحلّ الكتابيّات مطلقا على الثاني منه وهو قول شاذّ ينسب إلى ابن الجنيد.
والمتأخّرون من الأصحاب حكموا بحلّ الكتابيّات متعة لا غير لأنّ آية المائدة لا تدل على إباحة نكاح الدّوام بل نكاح المتعة لقوله تعالى « إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » ولم يقل مهورهنّ ، وعوض المتعة سمّي اجرا لقوله « فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » (2)
وفي هذا القول نظر أمّا أوّلا فلأنّ آية المائدة منسوخة بقوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » كما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام ونمنع كون المائدة آخر القرآن نزولا لعدم الدلالة القاطعة عليه ، وعلى تقديره جاز أن يكون أكثرها هو الأخير نزولا عن جملة السورة ، ويكون هذه الآية ضمّت إليها بعد نسخها ، وتكون من الّذي نسخ حكمه دون تلاوته كآية عدّة الوفاة بالحول وأمّا ثانيا فلأنّا نمنع دلالتها على المتعة فإنّ المهر مطلقا يسمّى أجرا كقوله « عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ » (3).
ويمكن أن يجاب أمّا عن الأوّل فلأنّها جزء من المائدة قطعا ، وتأخّر المائدة مشهور (4) وقرائن أحكامها تدل عليه مع أصالة عدم النسخ وأمّا عن الثاني
ص: 197
فلأنّ اشتراط إيتاء المهر في الحلّ دليل على إرادة المتعة لعدم اشتراط ذلك في صحّة الدائم نعم الأجود تحريم الكتابيّات اختيارا مطلقا لوجوه :
الأوّل أنّها مشركات ولا شي ء من المشركات يحل نكاحهنّ والمقدّمتان تقدّم تقريرهما.
الثاني أنّ الكتابية لا تواد ، وكلّ زوجة تواد ، فلا شي ء من الكتابيّة
ص: 198
بزوجة أمّا الصغرى فلقوله « لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1) » وهي محادّة وأمّا الكبرى فلقوله تعالى « وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » (2).
الثالث أنّها كافرة ولا شي ء من الكافرة بذات عصمة أمّا الصغرى فظاهرة ، وأمّا الكبرى فلقوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » (3) والنكاح عصمة وهو ظاهر وأمّا حال الاضطرار وهو حصول المشقّة بالترك ، وخوف الوقوع في العنت ، فيجوز المتعة بهنّ وعليه يحمل آية المائدة فيكون مخصّصة لما تقدّم ، وكذا تحمل الروايات الواردة بالإباحة.
واعلم أنّ ملك اليمين هنا كالمتعة في الجواز عند الصرورة وأمّا حال الاختيار فحكمه كالعقد في المنع وأطبق فقهاء العامّة على إباحة الكتابيّات مطلقا وهنا فوائد :
ص: 199
1 - قال الراوندي : في الآية دلالة على جواز نكاح الأمة مطلقا من غير شرط عدم الطول وخشية العنت ، وفيه نظر لأنّ المطلق يحمل على المقيّد مع المعارضة كما تقرّر في الأصول.
2 - في الآية إشارة إلى اشتراط الايمان في النكاح لوجهين أحدهما قوله « وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ». « وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ » وثانيهما تعليله بأنّ « أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ » ولا شبهة أنّ المخالف يدعو إلى النار فلا يجوز نكاحه وإنكاحه نعم لما كانت المرأة سريعة الانفعال ضعيفة العقل ، جاز نكاح المؤمن المخالفة دون العكس ، ولهذا قيل : المرأة تأخذ من دين بعلها.
3 - في تعليله بأنّ « أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ » إشارة إلى كونه كبيرة وأيضا فإنّ النكاح يستلزم إرادة دوامه ولا صغيرة مع الإصرار.
4 - قيل : النهي في الآية لا شكّ في إفادته التحريم لكن نمنع إفادته الفساد لما تقرّر أنّ النهي في غير العبادات لا يفسده أجيب : قد تقرّر في الأصول أنّ النهي في المعاملة إن كان عن الشي ء لذاته أو لجزئه أو للازمه ، أفاد الفساد كبيع الحصاة والملاقيح والرّبا وحينئذ نقول : وإن كان النكاح حقيقة في العقد أو الوطي أو مشتركا فالنهي متوجّه إلى الشي ء لذاته أو للازمه ، فيكون مفيدا للفساد وهو المطلوب.
5 - أنه لا خلاف في أنّ الذميّ إذا أسلم فهو باق على نكاحه ، فيكون مخصّصا لعموم « وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ». « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » بالإجماع والنّصّ الحديثيّ.
6 - لقائل أن يقول إنّ « خيرا » في قوله « خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ » و « خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ » أفعل التفضيل ، المستلزم للمشاركة ، فيفيد زيادة خيريّة نكاح المؤمنة وإنكاح المؤمن ، فيكون في خلافهما خيريّة مّا ، فلو كان فاسدا لما كان كذلك فيجاب بأنّ الخيرية في هذه ليست باعتبار صحّة النكاح وفساده ، بل لمّا كان الجمال والحسب والمال بواعث على النكاح ، وتلك خيرات دنيويّة ، فهي مشاركة للخيرات الدينيّة الحاصلة في نكاح المؤمنين ، في مطلق الخيريّة ، لكن الخيارات الدّينيّة
ص: 200
أعظم لكونها أمورا حقيقية دائمة لا وهميّة زائلة ، فلذلك ساغ إيراد صيغة التفضيل.
7 - الواو في « ولو » للحال ، و « لو » بمعنى « إن » وهو كثير ، والإعجاب في الحسن والمال والجاه وفيه إشارة إلى كراهة قصد الجمال والمال في النكاح بل السنّة والدّين كما قال عليه السلام « عليك بذات الدّين تربت يداك (1) » والمراد بدعائهم إلى النار أي إلى أسبابها فانّ بسبب المخالطة قد يكتسب الصاحب من صاحبه دينه ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل » (2) وهنا محرّمات أخر تذكر في كتب الفقه ، مستفادة من السنّة فلنقتصر على ما في الكتاب.
ديانة فيكون مفعولا له ، وقيل نحلة من اللّه وتفضّلا منه عليهنّ ، فيكون نصبا على الحال من الصدقات ، وقيل النحلة بكسر النون العطيّة الّتي تكون عن طيب النفس من غير طلب وقيل هو من غير عوض والفعل منه نحل ينحل نحلا ، فعلى هذا يكون نصبا على المصدر من غير لفظه ، و « نفسا » نصب على التميز من الجملة ، والهني ء والمري ء صفتان لمحذوف أي أكلا هنيئا مريئا يقال هنوء الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا نقص فيه ، وقيل الهني ء ما يلذه الآكل والمري ء ما تحمد عاقبة ، إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - أنّ الخطاب هنا للأزواج وهو الأصحّ لذكره عقيب الأمر بالنّكاح وقيل للأولياء لأنّهم كانوا يأخذون مهور بناتهم ، فكان إذا ولد لأحدهم بنت يهنّئونه ويقولون هنيئا لك النافجة يعنون به أنّ أخذ مهرها ينفج به ماله أي يعظّمه.
2 - في قوله « فَإِنْ طِبْنَ » دلالة على عدم جواز غصبها أو خديعتها أو إكراها على عطيّته وكان قوم يتحرّجون من قبول شي ء ممّا ساقه إلى زوجته فنزلت والضمير في « منه » راجع إلى المهر لسبق ذكر معناه.
3 - روى العياشيّ أنّ رجلا جاء إلى أمير المؤمنين فشكى إليه وجع بطنه فقال عليه السلام ألك زوجة؟ قال : نعم ، قال استوهب منها شيئا طيّبة به نفسها من مالها ثمّ اشتر به عسلا ثمّ اسكب عليه من ماء السماء ، ثمّ اشربه فإنّي سمعت اللّه تعالى يقول « وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً » وقال « يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ » وقال « فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً » فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهني ء والمري ء شفيت إن شاء اللّه تعالى قال ففعل ذلك فشفي (1).
الثانية ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى
ص: 202
بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) (1).
القنطار المال الكثير ، والبهتان هو أن ينسب الإنسان غيره إلى فعل أو قول يسوؤه إذا سمعه ، وهو بري ء منه ، وانتصابه وانتصاب « إِثْماً » على المفعول له إلّا أنّ « بُهْتاناً » سبب فاعليّ و « الإثم » سبب غائيّ بمعنى أنّ سبب أخذ المال بهتانه على زوجته ، ويؤول أخذه إلى الإثم ، فاللّام المقدّرة في « إثما » لام العاقبة لأنّ أخذ المال ليس لأجل الإثم ، لا أنّهما حالان بمعنى باهتين وآثمين كما قال الزمخشري لأنّ الأخذ ليس في حال البهتان بل مسبوق به والاستفهام على سبيل الإنكار و « مبينا » أي مظهرا لخساسة أنفسكم ثمّ أعاد الإنكار بقوله و « كَيْفَ » والحال أنّه « قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ » والإفضاء الوصول وهو هنا كناية عن الجماع ، والميثاق الغليظ العهد الوثيق ، وقيل هو عقد النكاح ، وقيل هو حق الصّحبة والممازجة ، وقد قيل صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف صحبة الزوجين ، وقيل الميثاق هو ما أوثق اللّه عليه في قوله « فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ » وقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أخذتموهنّ بأمانة اللّه واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه (2) [ عن الباقر عليه السلام ] إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - في الآية دلالة على عدم تقدير المهر بقدر بل بحسب ما يتراضيان عليه ولذلك لمّا منع عمر عن المغالاة في الصّداق على المنبر قالت له امرأة : أتمنعنا ما جعله اللّه لنا وتلت الآية ، فقال كل أفقه من عمر حتّى النساء ورجع عن رأيه (3).
2 - فيها دلالة على استقرار المهر بالدخول لتعليل الإنكار بالإفضاء.
3 - روي أنّ الرّجل منهم كان إذا أراد أن يتزوّج جديدة بهت الّتي تحته بالفاحشة حتّى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليجعله مهرا للجديدة ، فنهوا عن
ص: 203
ذلك فالتقييد للنهي بحال الاستبدال لأجل السّبب وقد تقرّر في الأصول أنّ خصوص السبب لا يخصص.
4 - قيل الآية منسوخة بقوله « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (1) » وقيل : بل هي محكمة غير منسوخة ، وهو قول الأكثر وهو الأصحّ لأنّ النهي فيها مقيّد بالبهتان ، وهو نوع من الإكراه ولا كلام أنّ مع إكراه الزوجة على الافتداء ، لا يقع الملك ولا يتم الخلع.
الثالثة ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) (2).
المراد بالمسّ الجماع والفرض التقدير ، والمراد بالفريضة المهر المقدّر ، ففعيل هنا بمعنى مفعول ، والتاء لنقل اللّفظ إلى الاسميّة ، والمتعة والإمتاع بمعنى النفع والفائدة وأوسع الرّجل إذا صار ذا سعة من المال ، وأقتر إذا صار ذا إقتار ، بمعنى الضيق ضدّ السّعة أو صار ذا قترة ، وهي الغبار ومنه قوله تعالى ( تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) (3) كأنه لفقره يتغيّر حليته فكأنّ عليه غبارا و « ما » هنا بمعنى المدّة أي مدّة لم تمسّوهنّ و « مَتاعاً » اسم للمصدر بمعنى التمتيع كالسلام بمعنى التسليم وهو منصوب على المصدرية و « حَقًّا » صفة له إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - أنّ « أو » في « أَوْ تَفْرِضُوا » يحتمل أن يكون بمعنى الواو ، وأن يكون للترديد ، وأن يكون بمعنى « إلّا أن » فعلى الأوّل يكون منطوق الآية أنّكم إن طلّقتم النّساء قبل مسّهنّ وقبل فرضكم لهنّ مهرا فلا جناح عليكم ، قدّم جواب الشرط عليه.
ص: 204
وإنّما نفى الجناح لأنّ في الطلاق مظنّة الجناح لكون النكاح مطلوبا لله فيكون تركه مظنّة الكراهة ، خصوصا قبل الدّخول ، وأمّا بعد الدّخول فقد حصل الامتثال فضعّفت الكراهية للترك ، فلذلك خصّ النفي بما قبل المسّ ، أو لأنّ الطلاق بعد الدّخول يفتقر إلى الاستبراء وقبله لا وقيل : المعنى لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولم يسمّ لها مهرا إذ لو كانت ممسوسة لكان عليه المسمّى أو مهر المثل ، ولو كانت غير ممسوسة وقد سمّي لها مهرا كان لها نصفه ، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الاولى ، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين.
وفيه نظر لأنّه لو كان ذلك هو المراد لما حسن نفي الجناح مطلقا ، لأنّه وإن لم يجب عليه المهر كملا فإنّه يجب عليه المتعة فكان ينبغي فيه التقييد لكنّه لم يقيّد فلم يكن ذلك هو المراد.
وعلى الثاني يكون المنطوق نفي الجناح قبل المسّ مطلقا أي مع الفرض وعدمه وقبل الفرض مطلقا أي مع المسّ وعدمه ، فيثبت المتعة على الأحوال الأربعة فتكون واجبة مع الطّلاق منضمّة إلى نصف المهر وإلى مهر المثل لكن ذلك لم يقل به أحد من أصحابنا لكنّه قول الشافعيّ كما يجي ء.
وعلى الثالث يكون المنطوق نفي الجناح وثبوت المتعة مع عدم الفرض فيكون الحكم كالأوّل وهو الّذي عليه الفتوى.
2 - « وَمَتِّعُوهُنَّ » أي حيث لا جناح عليكم في ذلك فمتّعوهنّ جبرا لا يحاش الطّلاق بشي ء من أموالكم ، وذلك الشي ء يختلف باعتبار حال الزّوج فالغنيّ يجب عليه دابّة أو ثوب رفيع أو عشرة دنانير من الذّهب ، والمتوسّط خمسة أو ثوب متوسّط ، والفقير دينار أو خاتم ، وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة إن نقص مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل.
3 - لا متعة عندنا لغير هذه ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه و
ص: 205
في القول الآخر ألحق بها الممسوسة المفروضة وغيرها قياسا ، وهو مقدّم على المفهوم عنده.
4 - لو تراضيا على تقدير مهر بعد العقد ، لزم ، ولو طلّقها بعد ذلك لزم نصف المقدّر.
5 - في الآية دلالة صريحة على صحّة عقد الدوام من غير ذكر مهر مطلقا ويسمّى ذلك تفويض البضع ، وقد يقال تفويض المهر ، وهو أن يتزوّجها بمهر مجمل كأن يفوّض تقديره إلى أحدهما أو إلى أجنبيّ ، فيلزم ما يقدّره ، لكن إن كان هو الزّوج لزم كلّ ما يقدّره بما يتملّك ، وإن كانت الزّوجة لزم ما لم يتجاوز مهر السنّة ، وهو خمسمائة درهم أو خمسون دينارا ، والأجنبيّ حكمه تابع لمن هو من قبله ، فإذا طلّق مفوّضة البضع لزمته المتعة كما قلناه ، ولو طلّق مفوّضة المهر لزم نصف ما يحكم به من إليه الحكم ، ولو لم يكن حكم الزم الحكم ، فيلزم نصفه.
6 - لو مات الزّوج قبل الدخول ، ففي مفوّضة البضع لا شي ء ، وفي مفوّضة المهر ، قيل لها المتعة للرواية عن الباقر عليه السلام رواها محمد بن مسلم (1) وقيل لا شي ء لعدم الموجب.
7 - في الآية دلالة على تملّك المهر المقدّر بالعقد لوصفه بالفريضة أي المفروضة فلو لم يجب كلّه لم يكن مفروضا مطلقا.
8 - قوله « بِالْمَعْرُوفِ » أي بما يعرفه أهل العقل والمروءة ، من حال الزّوج كما قلنا ، ووصف التمتّع بالحقّ دلالة على وجوبه ، وسمّى الأزواج ب « الْمُحْسِنِينَ » أي إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى جبر وحشة الطلاق للمسارعة ترغيبا وتحريصا.
الرابعة ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا
ص: 206
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (1).
قوله « فَنِصْفُ » أي فالواجب نصف واللّام في النكاح للعهد الذهنيّ « و ( يَعْفُونَ ) » جمع معتل يستوي فيه المذكّر والمؤنّث لفظا وهو هنا للمؤنّث وهو مبني غير معرب إذا عرفت هذا فنقول دلّت هذه الآية على أحكام :
1 - تنصيف المهر بالطّلاق.
2 - أنّ النّساء إذا عفون لم يكن لهنّ على الزّوج شي ء والمراد بالعفو هنا إمّا الهبة إن كان المهر عينا أو الإبراء إن كان دينا ، وهل يقعان بلفظ العفو؟ التحقيق هنا أن نقول : المهر إن كان دينا في ذمّة الزّوج صحّ بلفظ العفو ، ولفظ الهبة ولفظ الإبراء ، ولفظ الاسقاط ، وهل يشترط القبول؟ فيه خلاف الأصح عدمه وإن كان عينا فيصحّ بلفظ الهبة إجماعا ولا يصحّ بلفظ الإبراء إجماعا ، وهل يصحّ بلفظ العفو؟ قيل نعم ، لعموم اللّفظ في الآية ، وقيل لا ، لأنّه لا مجال له في الأعيان كلفظ الإبراء ، فإنّه لا يقع على العين ، وهو الأصح ، ولا بدّ من القبول هنا قطعا وبالجملة حكمه في العين حكم الهبة ، وتمام البحث في كتب الفقه.
3 - أنّه كما يجوز للمرأة العفو عن حقّها ، كذا يجوز لوليّها وهو المشار إليه بقوله « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » واختلف في الوليّ فقال أصحابنا هو الولي الإجباري أعني الأب والجد له ، بالنسبة إلى الصّغيرة ، وهو قول الشافعيّ في القديم ، وألحق به بعض أصحابنا الوكيل الّذي تولّيه أمرها ، وفيه نظر لأنّ الوكيل ليس بيده عقدة النكاح أصالة ، بل بيدها ، والإطلاق ينصرف إلى الأصالة نعم لو أذنت للوكيل في العفو جاز قطعا.
وقال الشافعيّ في الجديد وأحمد وأصحاب الرأي أنّ الّذي بيده عقدة النكاح هو الزّوج ، لأنه مالك لعقده وحلّه ، فعلى هذا القول يكون الطلاق قبل المسّ مخيّرا للزوج ، بين دفعه كملا وبين تشطيره ، فلا يكون الطّلاق مشطّرا بنفسه
ص: 207
والأوّل أصح لأنّه لمّا ذكر عفو النّساء عن نصيبهنّ اقتضى أن يكون « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » وليّا لهنّ ليكون العفو في الجهتين واحدا ولأنّه بدأ بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله « وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ » ثمّ قال « يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي » وهما خطاب لغير حاضر ، فيتغايران.
1 - أنّ الزوجة لها العفو عن كلّ حقّها ، وأمّا وليّها فليس له العفو إلّا عن بعضه لا غير.
2 - حيث جاز للوليّ العفو عن بعض حقّها ، فهل له إنكاحها ابتداء بدون مهر مثلها قيل لا ، فلو زوّجها بدون مهر المثل صحّ النّكاح وفسد المسمّى ، ويكون بمنزلة من لم يسمّ لها ، لأنّ معاوضات المولّى عليه يشترط في فعلها مساواة العوض وإذا فسد المسمى ثبت لها مهر المثل بنفس العقد.
وقيل : له ذلك ، لأنّه كما جاز له أن يعفو عن بعض ما وجب لها ، جاز له في الابتداء قبل الوجوب ، ولأنّه منصوب لنظر المصلحة ، فجاز أن يرى في ذلك مصلحة ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله زوّج بنته بخمسمائة درهم (1) ومعلوم أنّ مهر بنته لا يكون هذا القدر.
وفي هذا نظر لأنّ نظر النّبوّة يقيني ولأنّه « أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ » ولأنّه جاز أن يكون باذنها ، وأيضا فإنّه إذا فسد المسمّى ثبت مهر المثل ، وهو لا يتجاوز مهر السنّة وهذا مهر السنّة ، والأصحّ أنه إن تعلّق بذلك مصلحة عائدة إليها جاز وإلّا فلا.
3 - في الآية دلالة على ثبوت الولاية في النكاح على المرأة أصالة لقوله « بِيَدِهِ » أي في ملكه لأنّ اليد تدل على الملك عرفا ، وهذا من المجملات الّتي بينها السنّة الشريفة فعند أصحابنا ناقلين عن أئمتهم عليهم السلام أنّ الولاية أربعة أقسام :
ص: 208
الأوّل القرابة وهي منحصرة في الأب والجدّ للأب خاصّة ، دون باقي الأقارب من العصبات ، وغيرهم لكن ذلك على الصّغيرين ، ومن عرض له الجنون حال الصّغر مستمرّا إلى البلوغ دون من تجدّد جنونه سواء كانت المرأة بكرا أو ثيّبا ، واختلف في البكر البالغة الرشيدة فالأقوى والأقرب سقوط الولاية عنها لسقوط الولاية في المال ، فتسقط في النكاح ولعموم « حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ » وللروايات المتضافرة عن الباقر والصادق عليهما السلام ثمّ إنّ ولاية الأب والجدّ كلّ منهما مستبدّة وولاية إجباريّة ليس للمولّى عليه الاختيار (1).
الثّاني ولاية الحاكم وهي تختص بمن بلغ فاسد العقل ، وليس له وليّ أو فسد عقله ورأيه بعد بلوغه ورشده ، ويراعي في كلّ ذلك مصلحة المولّى عليه في النكاح.
الثالث ولاية الوصيّ عن الأب أو الجدّ له ، لكنّها مختصّة بمن بلغ فاسد العقل دون غيره ، ويراعي المصلحة أيضا.
الرابع ولاية الملك وهي ثابتة على الرقيقين ذكرا كان المالك أو أنثى وكذا المملوك بالغا كان أو غيره ، عاقلا كان أو غيره ، وهي أقوى الولايات فإنّها مقدّمة على ولاية القرابة والحكم ، وقالت العامّة بما قلناه وزادوا ولاية العصوبة وهي باطلة عندنا ، لإطباق علماء أهل البيت عليهم السلام على ذلك وكفى به حجّة.
4 - قوله « وَأَنْ تَعْفُوا » خطاب للأزواج إجماعا لكن عند من فسّر « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » بالزوج قال إنّه أعاد خطابهم تأكيدا وعندنا لمّا ذكر عفو المرأة ووليّها ذكر عفو الرّجل وجمعه مطابقة لجمع النّساء ولأنّه خطاب لكلّ زوج.
ونقل الطبرسيّ أنّه خطاب للزّوج والمرأة معا عن ابن عبّاس قال : وهو أقوى لعمومه وفيه نظر أما أوّلا فلأنّ اجتماع العفوين غير ممكن لو أراده لأنّه وصف العفو بكونه أقرب للتقوى ، فيكون ترغيبا لهما ، وأمّا ثانيا فلأنّ تعفو هنا خطاب للمذكّر حقيقة بحذف نونه ، وجعله معربا بالناصب فلا يتناول المؤنّث.
ص: 209
إن قلت : التغليب جائز. قلت : هو خلاف الأصل.
إذا عرفت هذا فعفو الزّوج أنواع :
الأوّل أن يكون قد سلّم المهر إليها جملة ، وهو موجود بيدها فيهبها الزائد عن النصف لو طلّقها ، ويشترط قبولها.
الثاني أن يكون قد سلّمه وتصرّفت فيه ولم يبق عينه ، فعفوه إبراء ولا يشترط القبول.
الثالث : أن يكون موجودا بيده فيدفعه إليها جملة بعد الطلاق ، فيكون واهبا للزائد عن النصف فيشترط قبولها.
الرابع أن يكون في ذمّته دينا فعفوه إحضاره وتعيينه ، وتمليكها الزائد فيشترط أيضا قبولها.
ففي النوع الثاني يصح بأيّ لفظ شاء من الأربعة المتقدّمة وفي البواقي لا يقع إلّا بألفاظ الهبة ، وأمّا لفظ العفو فقد تقدّم الخلاف فيه ، نعم لفظ العفو لو حصل لم يفد ملكا بل إباحة وروي عن جبير بن مطعم أنّه تزوّج امرأة وطلّقها قبل الدّخول فأكمل لها الصداق فقال : أنا أحقّ بالعفو (1).
وقوله « أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » أي اتّقاء الظلم ، فانّ الباذل لغيره حقّه فقد استبرأ لذمته واحتاط ، أو لاتّقاء الكلام في عرضه ، بأن يقال إنّه طلّقها وأدخل عليها ذلّ الخذلان وبخس المهر.
5 - نقل عن سعيد بن المسيب أنّ هذه الآية ناسخة لحكم المتعة في الآية السابقة وليس بشي ء لأنّ النسخ إنّما يتصوّر مع المنافاة بين الحكمين ، ولا منافاة هنا لأنّ محلّ المتعة الطلاق قبل الدخول مع عدم الفرض ، وهنا ثبوت النصف مع الفرض ، فلا منافاة نعم أقول : لو قلنا بثبوت المتعة لكلّ مطلّقة على الاحتمال الثاني في « أو » كما تقدّم يكون هذه الآية مخصّصة لذلك العموم ، والتخصيص
ص: 210
خير من النسخ مع معارضتهما.
قوله « وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » أي لا تتركوا الأخذ بالفضل بينكم والإحسان ، ويمكن أن يستفاد من هذا استحباب الأخذ ناقصا والإعطاء راجحا في سائر المعاوضات.
الخامسة ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللّهُ وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ) (1).
القنوت لزوم الطاعة والمداومة عليها ، والنشوز الارتفاع ، والمراد هنا الارتفاع عن مطاوعة الأزواج فيما يجب لهم ، وسبب نزول هذه الآية أنّ سعد بن الرّبيع وكان من الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد فلطمها فانطلق بها أبوها إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال أفرشته كريمتي فلطمها! فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله لتقتصّ من زوجها ، فانصرفت لتقتصّ منه فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ارجعوا هذا جبرئيل أتاني وأنزل هذه الآية فقال النبي صلى اللّه عليه وآله أردنا أمرا وأراد اللّه أمرا والّذي أراد اللّه خير ورفع القصاص. ثمّ إنّ الآية فيها أحكام :
1 - أنّ « الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ » أي لهم عليهنّ قيام الولاية والسّياسة وعلّل ذلك بأمرين أحدهما موهبيّ من اللّه وهو أنّ اللّه فضّل الرّجال عليهنّ بأمور كثيرة من كمال العقل وحسن التّدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات ، ولذلك خصّوا بالنبوّة والإمامة والولاية ، وإقامة الشعائر والجهاد ، وقبول شهادتهم في كلّ الأمور ، ومزيد النصيب في الإرث وغير ذلك. وثانيهما كسبيّ وهو أنّهم ينفقون عليهنّ ويعطوهنّ المهور ، مع أنّ فائدة النكاح مشتركة بينهما.
ص: 211
والباء في قوله « بِما فَضَّلَ اللّهُ » وفي قوله « وَبِما أَنْفَقُوا » للسببيّة ، وما مصدريّة أي بسبب تفضيل اللّه وبسبب إنفاقهم ، وإنّما لم يقل بما فضّلهم عليهنّ؟ قال بعض الفضلاء لأنّه لم يفضّل كلّ واحد من الرّجال على كلّ واحدة من النساء لأنّه كم من امرأة أفضل من كثير من الرجال وإنّما جاء بضمير المذكّر تغليبا فيدخل الرّجل المفضّل والمرأة المفضّلة قال : ولا يلزم من تفضيل الصّنف على الصنف تفضيل الشخص على الشخص.
قلت : فحينئذ لا يكون في الآية دليل على تفضيل الصّنف الّذي هو عين المدّعى ، لأنّه إذا كان بعض اشخاص الرجال أفضل من بعض أشخاص النساء وبالعكس فأيّ دليل على تفضيل الصنف على الصنف الآخر الّذي هو المراد فالسؤال باق على حاله.
2 - أنّه لمّا فضّل الرّجال ، أراد جبر قلوب النساء فقال « فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ » أي مطيعات قائمات بما عليهنّ لأزواجهنّ « حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ » أي حافظات لما يكون بينهنّ وبين أزواجهنّ في الخلوات من الأسرار ، وقيل : حافظات لفروجهنّ ولأموال أزواجهنّ ولأولادهنّ كما جاء في الحديث.
وفيه نظر وإلّا لقال حافظات في الغيب لا للغيب على تقدير حذف المفعول به.
قوله « بِما حَفِظَ اللّهُ » أي بما حفظهنّ اللّه حين أوصى بهنّ الأزواج ، وأوجب لهنّ عليهم المهر والنفقة ، فالباء حينئذ للمقابلة والجزاء والمراد بسبب حفظ اللّه لهنّ وتوفقه لهنّ أو بحفظه لهنّ بتعويضه للثواب على فعلهنّ.
3 - بيان حكم النشوز ، وأصله الارتفاع كما قلنا ثمّ نقل شرعا إلى العصيان للزّوج ، وأتى بالفاء في الخبر ، لتضمّن المبتدأ معنى الشرط والجزاء ، لكونه موصولا والوعظ التخويف باللّه وبالعواقب ، والهجر في المضاجع ، قيل هو أن لا يجامعها ، وقيل أن يولّيها ظهره في الفراش ، وقيل أن لا يبيت معها في الفراش بل في فراش آخر « وَاضْرِبُوهُنَّ » أي ضربا غير جارح لحما ولا كاسر عظما ، وهل تترتّب الثلاثة لترتّبهما في الذكر؟ الوجه نعم ، لا من حيث اللّفظ فانّ الواو
ص: 212
لا يفيد الترتيب ، بل من حيث المعنى لأنّه يترتّب الأخفّ فالثقيل فالأثقل ، كما يجب في النهي عن المنكر.
قيل قوله « تَخافُونَ » بمعنى تعلمون وليس بشي ء ، وقيل : معناه إن ظهرت أمارة النشوز « فَعِظُوهُنَّ » وإن أظهرن النشوز « وَاهْجُرُوهُنَّ » وإن استمرّ نشوزهنّ « وَاضْرِبُوهُنَّ ». قوله « فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ » أي إن رجعن عن نشوزهنّ إلى الطاعة ، فلا تتعرّضوا لهنّ بشي ء من الأذى لزوال سببه ، فانّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
قوله « إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً » أي إنّه مع علوّ شأنه في ذاته وصفاته تعصونه ويعفو عنكم إذا تبتم ، فكذلك يجب عليكم أن تقبلوا توبتهنّ إذا تبن أو معناه أنّه يتعالى أن يظلم أحدا أو يبطل حقّه.
السادسة ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً ) (1).
يريد إن خفتم استمرار الشقاق ، لأنّ الشقاق الماضي لا يخاف منه ، والمستقبل لا يعلم ، وكذا تقول في قوله « وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ » فانّ الاستمرار هو المخوف ، وأمّا إذا لم يستمرّ فلا يتعلّق به حكم لزواله ، وحاصل الشقاق الاختلاف وعدم الاجتماع على رأي واحد ، كأنّهما باختلافهما كلّ واحد في شقّ أي في جانب.
قوله « فَابْعَثُوا » هنا مسائل :
1 - قيل : الخطاب في قوله « فَابْعَثُوا » للزّوجين ، وقيل أهل الزّوجين وقيل للحكّام المتداعي عندهم ، وهو المنقول عن الباقر والصادق عليهما السلام ، وهو الأصح لأنّ أوّل الكلام في « خِفْتُمْ » يدل عليه.
ص: 213
2 - هل يشترط رضي الزّوجين بهما بحيث يكون إلزاما لهما بما يحكمان به أم لا؟ قيل نعم ، ومنهم من لا يشترط ذلك وهو مذهب مالك.
3 - هل بعثهما تحكيم أو توكيل ، قال بعض أصحابنا بالثاني لأنّ البضع حقّ للزوج ، والمال حقّ للمرأة ، فليس لأحدهما التصرف فيهما إلّا بإذنهما وفيه نظر لأنّه استبعاد في ثبوت الولاية على الرّشيد حين امتناعه من أداء حقّ عليه كما يقضى دين المماطل بغير اختياره.
وقال أكثر أصحابنا بالأوّل محتجّين بأنه قد ورد أنّ لهما الإصلاح من غير استيذان ، وليس لهما التفريق إلّا بإذنهما ، ولو كان توكيلا لكان ذلك تابعا للوكالة ويدل عليه قوله « فَابْعَثُوا » فإنّه خاطب الحكّام ، وسمّاهما حكمين ، ولو كان توكيلا لخاطب الزّوجين ، وقال « فابعثا » وأصل الخلاف مبنيّ على أنّه هل يشترط رضي الزّوجين أم لا؟ فمن شرط رضاهما ، قال : هو توكيل ، ومن لا يشترط قال هو تحكيم.
4 - هل يجوز البعث لحكمين من غير أهل الزّوجين؟ قيل لا ، لأنّ الأهل أعرف بحال الزّوجين وكيفيّة صلاحهما ومحبّتهما وكراهتهما ، ولأنّ الأهل يسكن إليه ويطمئنّ إلى حكمه ، بخلاف الأجنبيّ ، وللآية ، وقيل يجوز لأنّ الغرض حصول الصّلاح وتقييد الآية للأغلبية ، وهذا هو المشهور بين الأصحاب.
5 - هل للحكمين الجمع والتفريق بغير إذن الزوجين أم لا؟ قيل نعم بناء على اشتراط رضاهما وأنّهما وكيلان ، وقيل لهما الجمع وليس لهما التفريق إلّا بعد استيذان المرأة في البذل ، والرّجل في الطلاق إن كان خلعا وهذا هو المشهور بين الأصحاب وعليه الفتوى.
وقال بعض أصحابنا : إن جعل الحاكم الإصلاح والطلاق إليهما أنفذا ما رأياه صلاحا ، وإن أطلق القول لم يجز التفريق إلّا بعد مراجعتهما وهو كلام حسن بناء على أنّ بعث الحاكم الحكمين بإذنهما واختيارهما ، فإنّ الإذن أوّلا كالاذن أخيرا.
ص: 214
6 - لو اختلف الحكمان : بأن اختيار أحدهما الإصلاح ، والآخر التفريق لم يمض حكمهما قطعا ، وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح أو الجمع بين النقيضين.
7 - يشترط في الحكمين : العقل والبلوغ والعدالة والحرّية والذكورة ويلزم كل ما شرطاه من أمر سائغ وإلّا نقض ويلزم الحكم بالصلح ، وإن كان أحد الزّوجين غائبا ، وقيل لا يلزم ، وهو ضعيف فانّ الحكم على الغائب جائز عندنا.
8 - اختلف في ضمير « إِنْ يُرِيدا » وفي « بَيْنِهِما » قيل هما معا للحكمين أي إن قصدا الإصلاح يوفّق اللّه بينهما ليتّفق كلمتهما ، ويحصل المقصود وقيل للزّوجين فيهما أي إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق بينهما أوقع اللّه الألفة والوفاق ، وفيه تنبيه على أنّ من أصلح نيّته فيما يتحرّاه أصلح اللّه مبتغاه.
وقيل : الأوّل للحكمين والثاني للزّوجين ، ومعناه إن اتّفق الحكمان على الإصلاح يوقع اللّه الوفاق بين الزّوجين ، لأنّ الأمور بأسبابها ، وأما إذا أرادا الفساد أو اختلفا ، فلا يوفّق اللّهب بينهما لعدم سبب الوفاق ولا يستبعد أن يكون إرادتهما للإصلاح سببا للاتّفاق ، لأنّ الأعمال بالنيّات.
قوله « عَلِيماً » أي بالكلّيات « خَبِيراً » أي بالجزئيّات.
السابعة ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (1).
أي لن تستطيعوا أن تعدلوا بين أزواجكم عدلا حقيقيّا بحيث يتساوين في المحبّة والتعهّد والنظر والميل القلبيّ « وَلَوْ حَرَصْتُمْ » أي بذلتم جهدكم في حصوله ، ولذلك كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقسم بين نسائه ويقول « اللّهم هذه قسمتي
ص: 215
فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك (1).
قوله « فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ » أي حيث لا يمكن العدل الحقيقيّ ، فلا يترك جملة ، بحيث تميلوا كلّ الميل ، فانّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.
« فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ » أي ليست ذات بعل ولا مطلّقة ، دلّت هذه على وجوب القسمة بين النساء والتسوية بينهنّ فيها لكن على سبيل الاجمال ، والسنّة الشريفة بيّنت ذلك فنقول : صاحب النكاح الدائم إمّا أن يكون له زوجة واحدة فلها ليلة واحدة من الأربع والثلاث له يضعها حيث يشاء ، وإن كان له زوجتان فلهما ليلتان وله ليلتان ، وإن كان له ثلاث فله واحدة وإن كان له أربع فلا يفضل له شي ء ويجوز القسمة أكثر من ليلة أمّا أقلّ فلا ، لما فيه من التنغيص.
قوله « وَإِنْ تُصْلِحُوا » يعني بين الأزواج وتسوّوا بينهنّ ( وَتَتَّقُوا ) الجور في ذلك « فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً » لكم ما مضى « رَحِيماً » بكم.
روي عن الصّادق عليه السلام أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به عليهنّ وروي أنّ عليّا عليه السلام كان له امرأتان فإذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى (2)
الثامنة ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (3).
كانت بنت محمّد بن مسلمة عند رافع بن خديج وقد دخلت في السنّ وكانت عنده امرأة شابّة سواها فطلّقها تطليقة حتّى إذا بقي من أجلها يسير قال لها : إن شئت
ص: 216
راجعتك وصبرت على الأثرة ، وإن شئت تركتك ، فقالت : بل راجعني وأصبر على الأثرة ، فراجعها بذلك الصلح روي ذلك عن الباقر عليه السلام.
وقيل إنّ سودة بنت زمعة زوجة النبيّ صلى اللّه عليه وآله خشيت أن يطلّقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت : لا تطلّقني وأجلسني مع نسائك ولا تقسم لي واجعل يومي لعائشة ، فنزلت الآية عن ابن عباس رضي اللّه عنه (1) وقد تقدّم معنى خوف النشوز والاعراض وفي الآية دلالة على جواز الصّلح عن ترك القسمة ، وجعل عوض الصلح منفعة.
ثمّ قال « وَالصُّلْحُ خَيْرٌ » و « خير » يحتمل أن يكون هنا أفعل التفضيل ، أي خير من الفرقة. ويحتمل أن تكون جملة معترضة أي خير عظيم أو خير من الخيرات كما أنّ الخصومة شرّ من الشرور.
قوله « وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ » جملة معترضة أيضا ، ولذلك لم يجانس ما قبلها ، والجملة الأولى مرغّبة في الصّلح ، والثانية لتمهيد العذر في المماكسة ومعنى إحضار الأنفس الشحّ كونها مطبوعة عليه ، فلا يكاد تسمح المرأة بالاعراض عنها والتقصير في حقّها ، ولا الرّجل بالإمساك لها والإنفاق عليها مع كراهية لها وتمام الآية ظاهر.
التاسعة ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ) (2).
أي أسكنوهنّ مكانا من سكناكم قوله « مِنْ وُجْدِكُمْ » أي من وسعكم ممّا تطيقون ولا تضاروهنّ في السّكنى لتضيّقوا عليهنّ فتلجئوهنّ إلى الخروج ، و
ص: 217
التعاسر التضايق ، وهنا أحكام :
1 - وجوب [ كون ] السكنى للمطلّقات إجمالا من غير بيان كونه رجعيّا أو بائنا لكنّ السنّة الشريفة بيّنت ذلك فنقول : المطلقة الحائل إمّا رجعيّة وسيأتي بيان الرّجعي إن شاء اللّه ، فهذه يستحقّ الإنفاق والإسكان كما كانت ، مدّة العدّة ، ويدل عليه إطلاق الآية ، وإمّا بائنة فقال أبو حنيفة لها أيضا النفقة والسكنى ، وهو مرويّ عن عمرو ابن مسعود وقال الشافعي إنّ لها السّكنى لا غير ، وقال الحسن وأبو ثور إنّه لا سكنى لها ولا نفقة ، وهو مذهب أصحابنا نقلا عن الأئمّة عليهم السلام وأيضا نقل ذلك من طريق الجمهور عن الشعبيّ والزّهري في قضيّة فاطمة بنت قيس ، فيكون إطلاق الآية مخصوصة بالمطلّقة الرجعيّة.
2 - أنّه يجب أن يكون المسكن ممّا يليق بها كافيا لينتفي المضارّة المنهيّ عنها بقوله « وَلا تُضآرُّوهُنَّ ».
3 - المطلقة الحامل تستحقّ السكنى والنفقة إجماعا ، بائنا كانت أو رجعيّة لإطلاق الآية من غير تقييد.
ثمّ اختلف الفقهاء في نفقة الحامل البائن ، هل النفقة لها أو للحمل؟ فقيل :
النفقة للحمل إذ لولاه لما كان لها شي ء ، فقد دار الوجوب مع الحمل وجودا وعدما وهو الأقوى ، وقيل : للحامل بشرط الحمل ، ويظهر الفائدة في مسائل كثيرة منها عدم وجوب قضائها على الأوّل ، ومنها وجوبها على الجدّ وغير ذلك.
4 - أنّ الحامل إذا وضعت وانقضت عدّتها لا يجب عليها إرضاع الولد وسقطت نفقتها بخروج العدّة ، فإن تبرّعت بإرضاع الولد فلا بحث وإلّا يجب على الأب أجرة رضاعه لقوله تعالى ( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) وفيه دلالة على جواز الاستيجار على الرضاع قوله « وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ » أي ليأمر بعضكم بعضا بالجميل في إرضاع الولد بأن لا يقع بخس على الوالد : بأن يؤخذ منه أزيد من الأجر ، ولا الوالدة بأن ينقص من أجرها ، ولا الولد بأن يرضع أقلّ من المقدّر الشرعيّ.
ص: 218
5 - قوله « وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى » فيه دلالة على جواز أخذ الولد من الام واستيجار مرضعة أخرى ، وذلك ليس على إطلاقه بل إن تبرّعت فهي أحق ، وكذا إن رضيت بما يرضى به الغير ، وأمّا إذا لم يرض وهو المراد بالتعاسر ، فيقدّم حق الزّوج ، لأصالة البراءة ويسلمه إلى أخرى ترضعه ، وهل يسقط ذلك حضانة الأمّ؟ فيه خلاف ، قيل نعم ، لحصول الحرج ، وقيل لا ، لتغاير الموضوعين.
العاشرة ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) (1).
هنا فوائد :
1 - رجحان التوسعة على العيال لقوله « مِنْ سَعَتِهِ ».
2 - الأمر بالاقتصاد للمعسرين لقوله « وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ » أي ضيق عليه رزقه « فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ ».
3 - الإخبار بأنّ اللّه « لا يكلّف نفسا ( إِلّا ما آتاها » وفيه دلالة على سقوط النّفقة في الحال عن المعسر.
4 - الوعد باليسر بعد العسر ، وفيه تطيب لنفس المنفق والمنفق عليه.
5 - قال المعاصر : في هذه والّتي قبلها دلالة على أنّ المعتبر في النفقة حال الزوج لا حال الزوجة ، ولذلك أكّده بقوله « لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها » إذ لو كان المعتبر حال الزوجة ، لأدّى ذلك في بعض الأوقات إلى تكليف ما لا يطاق ، بأن تكون ذات شرف والزّوج معسر.
وعندي فيه نظر : أما أوّلا فلفتوى الأصحاب أنّه يجب القيام بما يحتاج إليه المرأة من إطعام أو كسوة وإدام وإسكان تبعا لعادة أمثالها. وأمّا ثانيا فللمنع من دلالة الآيتين على المدّعى أمّا الأولى فلأنّه نهى فيها عن المضارة لهنّ فلو
ص: 219
اعتبرنا حال الزوج لزم مضارّتها في بعض الأحوال كما قال في الزّوج بأن يكون معسرا وهي شريفة وهو خلاف مدلول الآية وأمّا الثانية فلأنّ قوله « لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها » قابل للتقييد أي في الحال الّتي قدر فيها الرزق ، وحينئذ جاز أن يكون الواجب عليه ما هو عادة أمثالها فيؤدّي ما قدر عليه الآن ، ويبقى الباقي دينا عليه ، ولذلك اتّبع الكلام بقوله « سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ».
وفيه آيات :
الاولى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) (1).
غضّ البصر هو ترك النظر ، والمراد هنا ترك النظر إلى الأجنبيّات ومقول القول محذوف أي قل لهم غضّوا يغضّوا ، فيكون يغضّوا في الآية جوابا للأمر المحذوف وكذلك « يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ » تقديره قل لهم احفظوا فروجهم يحفظوا.
و « من » عند الأخفش زائدة ، وهو ضعيف لضعف زيادتها في الإثبات إلّا شاذا وعند سيبويه هي للتبعيض وهو الحقّ فإنه لا يجب الغض عن جميع المحرّمات فإنّه قد يجوز النظر إلى ما عدا عورة المحارم وإلى ما يظهر في العادة من وجوه الأجنبيّات وأكفّهنّ حال الضّرورة ، وكذا إلى وجوه الإماء المستعرضات للبيع وكذا الطبيب للعلاج ، والشاهد لتحمّل الشهادة وإقامتها ، والنظر إلى المخطوبة مع إمكان نكاحها شرعا وعرفا ، ويقتصر على نظر الوجه ، وكذا النظرة الاولى من
ص: 220
غير لذّة أو ريبة لقوله صلى اللّه عليه وآله (1) « لكم أوّل نظرة فلا تتبعوها بالثانية فتهلكوا ».
وأمّا حفظ الفرج فهو أضيق من الغضّ لاختصاص التحريم بمن عدا الزّوجة وملك اليمين ، فلذلك لم يقل : من فروجهم ، ولمّا كان المستثنى من الفرج كالشاذّ النادر ، أطلقه ولم يقيّده بخلاف الغضّ.
وقيل : إنّ المراد هنا بحفظ الفرج ستره ، بحيث لا ينظر إليه أحد ، وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام « ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ » أي الغضّ والحفظ أطهر لهم من النجاسات النفسانيّة ، لأنّ النظر يدعو إلى الجماع وتوابعه وكلّها من الأجنبيّات محرّم ، قوله « إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ » فيه نوع من التهديد.
الثانية ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (2).
هنا فوائد :
1 - أنّ حكم النساء حكم الرّجال في وجوب غضّ الطّرف وحفظ الفرج
ص: 221
وقد تقدّم تفسير ذلك وعلّة الإتيان بمن في الأوّل دون الثاني.
روي عن أمّ سلمة أنّها قالت كنت أنا وميمونة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فدخل علينا ابن أمّ مكتوم بعد آية الحجاب ، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله لنا : احتجبا فقلنا : يا رسول اللّه إنّه أعمى؟ فقال : أفعميا وان أنتما؟ ألستما تبصرانه (1) وإنّما قدّم غضّ الطرف على حفظ الفرج لكونه مقدّما عليه داعيا إلى الجماع.
2 - تحريم إبداء الزينة ، فقيل المراد مواقعها على حذف المضاف لأنفس الزينة ، لأنّ ذلك يحل النظر إليه كالحليّ والثياب والأصباغ ، وقيل : المراد نفسها ويظهر لي أنّ المراد نفس الزينة ، وإنّما حرم النظر إليها إذ لو أبيح لكان وسيلة إلى النظر إلى مواضعها ، وأمّا ما ظهر منها فليس بمحرّم ، للزوم الحرج المنفيّ في الدّين.
3 - قيل المراد بالظاهرة الثّياب فقط وهو الأصحّ عندي لإطباق الفقهاء على أنّ بدن المرأة كلّها عورة إلّا على الزّوج والمحارم ، فعلى هذا المراد بالباطنة الخلخال والسوار والقرط ، وجميع ما هو مباشر للبدن ويستلزم نظره نظر البدن.
وأمّا باقي الأقوال في ذلك ، فهي أنّه الوجه والكفّان ، أو الكحل والخضاب أو الخاتم ، وأنّه إنّما تسومح فيها للحاجة إلى كشفها ، فضعيفة لا تحقيق لها ، فإنّه إن حصل ضرورة ولزم حرج فذلك هو المبيح لا الآية ، وإلّا فلا وجه لذلك.
4 - الخمر جمع خمار وهي المقنعة ، والمراد بضربها إسدالها على الصدر والعنق سترا لهما ، وتغييرا لعادة الجاهليّة في لبس المخانق ، مع كشف الصدر وما فوقه.
5 - أنّه لمّا نهى عن إظهار الزينة مطلقا عدا الظاهرة ، أشار إلى تخصيص ذلك بإباحته للبعولة والمحارم المذكورين أمّا البعولة فلأنّ ذلك يدعو إلى المباشرة
ص: 222
المقصودة وأمّا المحارم فوجه اختصاصهم احتياجهم إلى مداخلتهم ، وعدم خوف الفتنة من جهتهم ، لما في الطباع من النفرة عن مماستهم ، واحتياج المرأة إلى مصاحبتهم في الأسفار للركوب والنزول ، ويدخل أجداد البعولة وأحفادهم لأنّهم أيضا آباء وأبناء وإنّما لم يذكر الأعمام والأخوال؟ قيل لئلّا يصفها العمّ والخال لا بينهما فيكون الوصف كالنظر ، وقيل لأنّهم في معنى الاخوان.
6 - إنّه أباح إظهار الزينة لنسائهنّ أي النساء المسلمات دون الكافرات لأنهنّ لا يتحرّجن من وصفهنّ للرجال.
7 - اختلف في المراد بملك اليمين هنا ، فقيل بعمومه الذكر والأنثى ، وهو رأي عائشة ، وبه قال الشافعيّة ، وقال سعيد بن المسيّب أنّه الإماء خاصّة ، ولا يباح نظر المذكّر سواء كان فحلا أو خصيّا وبه قال أبو حنيفة حتّى قال إنّه لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم وينبغي أن يحمل ذلك على بيعهم لأجل إدخالهم على النساء ، لأنّ ما كان لأجل المحرّم فهو محرّم ، كبيع العنب ليعمل خمرا ، والفتوى على الثاني.
إن قلت : على تفسيركم هذا يكون تكرارا لأنّ الإماء يدخلن في نسائهنّ قلت : قد بيّنّا أنّ المراد المسلمات دون الكافرات ، فعلى هذا يكون نظر الإماء مباحا وإن كنّ كافرات ، فإنهنّ لدخولهنّ تحت القهر لا يحكين ما يرين.
8 - أنّه يباح النظر للتابعين (1) وهم الّذين يتبعون لأجل العافية والانتفاع والخدمة وقيل المراد الشيوخ الّذين سقطت شهوتهم ، وليس لهم حاجة إلى النساء وهو المروي عن الكاظم عليه السلام.
والإربة ، قيل هي الحاجة وقيل هم البله الّذين لا يعرفون شيئا من أمور النساء ، وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام وابن عباس ، وعن الشافعيّ هو الخصيّ المجبوب ، ولم يسبق إلى هذا القول ، وعن أبي حنيفة هم العبيد الصغار ، وقرئ
ص: 223
« غير » بالنصب على الحال ، وبالجرّ صفة للتابعين.
قوله « أَوِ الطِّفْلِ » ذلك يصدق على الواحد والجمع كقوله تعالى « ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً » قوله « لَمْ يَظْهَرُوا » أي لم يطّلعوا على العورة ، فيميّزون بينها وبين غيرها.
9 - كانت الجاهليّات يضربن بأرجلهنّ على الأرض ليسمع صوت خلخالهنّ فنهى المسلمات عن ذلك لأنّه في حكم النظر فإنّه قد يورث ميلا في الرجال فهو أبلغ في النهي عن إظهار الزينة ، قوله « وَتُوبُوا » أي عن إبداء الزينة وغلّب التذكير في العبارة.
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).
هنا فوائد :
1 - أنّه خاطب المؤمنين أن يأمروا عبيدهم وأطفالهم المميّزين [ بين ] العورة وغيرها حيث أمرهم إليهم ، بأن يستأذنوا في دخولهم عليهم في هذه الأوقات الثلاثة ، فهو بالنسبة إلى البالغين تكليف ، وبالنسبة إلى الأطفال تمرين ، وكان قد تقدّم الأمر بالاستيذان العامّ وهذا استيذان خاصّ وهل الإماء أيضا مأمورات؟ قيل نعم وغلب المذكّرين بقوله « الّذين » وقيل : لا ، وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام.
2 - إنّما اختصّت هذه الأوقات الثلاثة لأنّها مظنّة كشف العورة أمّا قبل الفجر ، فإنّه وقت القيام من المضجع ، وتبديل لبس اللّيل بلبس النهار ، وأمّا
ص: 224
وقت الظهيرة فإنّه وقت القيلولة ومظنّة ظهور العورة وأمّا وقت العشاء فإنّه وقت تبديل لبس النهار بلبس اللّيل.
3 - قوله « لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ » جواب سؤال [ مقدّر ] محذوف تقديره : وما حكم الأوقات الأخر وراء هذه الأوقات؟ أجاب بأنّه ليس عليكم ولا عليهم جناح في ترك الاستيذان ، لزوال سبب الاستيذان وهو مظنّة كشف العورة والضمير في « بَعْدَهُنَّ » للأوقات الثلاث.
4 - قوله « طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ » هو تعليل في المعنى لعدم الاستيذان فيما عدا الأوقات الثلاثة ، لاستلزام الاستئذان في ذلك الحرج ، لأنّه لا بدّ من المخالطة بين هؤلاء وهؤلاء للخدمة والاستخدام ، والاستيذان حينئذ مستلزم للحرج « وطوّافون » خبر مبتدأ محذوف أي هم : طوّافون ، وإنّما لم يكتف بهذا بل قال « بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ » لأنّه ليس أحد الفريقين أولى بالطواف دون الآخر بل هو شامل لهما معا هؤلاء لطلب الخدمة ، وهؤلاء لطلب الاستخدام ، فانّ الخادم إذا غاب عن عين مخدومه واحتاج المخدوم إليه ، لا بدّ أن يطوف ويطلبه وكذا حكم الأطفال للتربية فيكون « بعضكم » بدلا من « طوّافون » والمبدل منه ساقط لا أنّه مرفوع بالابتداء وخبره على بعض ، كما قيل ، وقرأ أهل الكوفة غير حفص « ثلاث » بالرفع خبرا للمبتدإ المحذوف أي هذه ، والباقون بالنصب بدلا « من ثلاث مرات » لاشتمال هذه الأوقات على ثلاث كشفات للعورة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الاعراب والجمع.
الرابعة ( وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).
« منكم » في موضع النصب على الحال أي كائنين منكم ، والخطاب للأحرار
ص: 225
لأن بلوغ الأحرار يوجب رفع الحكم المذكور في تخصيص الاستيذان بالأوقات الثلاثة وأما بلوغ الأرقّاء ، فالحكم باق كما كان في التخصيص لأجل بقاء السبب المذكور.
قوله « مِنْ قَبْلِهِمْ » معناه كالّذين بلغوا من قبلهم وهم الأحرار البالغون لا الّذين ذكروا من قبلهم في قوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ) (1) » كما قال الزمخشريّ والطبرسيّ لعدم القرينة في هذه الإضمار ، وأمّا قرينة البلوغ فموجودة وهي قوله « وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ».
وظنّ قوم أنّ الآية منسوخة ، وليست كذلك قال ابن جبير : يقولون : هي منسوخة ، لا واللّه ما هي منسوخة لكنّ النّاس تهاونوا بها ، وقيل للشعبيّ : إنّ الناس لا يعملون بها ، فقال : اللّه المستعان.
الخامسة ( وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2).
المراد به اللّاتي يئسن من المحيض والولد ، ولا يطمعن في نكاح لكبر سنّهنّ فقد قعدن عن التزويج لعدم الرغبة فيهنّ ، والمراد بالثياب ما يلبس فوق الخمار من الملاحف وغيرها ، فإنّه رخّص لهنّ وضع هذه الثياب للأجانب لعدم رغبتهم فيهنّ وزوال التهمة والتبرّج : التبرّز ، وهو من الأفعال اللّازمة.
قوله « غير » هو نصب على الحال من « أن يضعن » والمعنى أنّهنّ إذا خرجن
ص: 226
من بيوتهنّ بالزينة الّتي يجب سترها من الحليّ وثياب التجمل ، لا يترخّص لهنّ وضع ثيابهنّ « وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ » أي العفاف بالستر خير لهنّ لأنّ وضع ثيابهنّ رخصة لهنّ فتركها خير ، وفي ضمنه أنهنّ لو تبرّجن بغير زينة لا جناح عليهنّ إذا لم يضعن ثيابهنّ ، والباء في « بزينة » ليس للتعدية ، بل للمصاحبة وذلك لأنّ خروجهنّ بالزينة يدل على أنهنّ متبرّجات وداعيات للشوابّ إلى التبرّج لا طالبات لحاجاتهنّ.
السادسة ( يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (1).
قال المعاصر : في هذه دلالة على أنه إذا خطب المؤمن القادر على النفقة يجب إجابته وإن كان أخفض نسبا وكذا يجب على الوليّ إلّا مع العدول إلى الأفضل من الخاطبين ، وعندي في دلالتها على ذلك نصّا أو ظاهرا نظر ، أمّا النصّ فظاهر وأمّا الظاهر فلأنّ دلالتها ظاهرا ليس إلّا على تساوي الأشخاص من حيث المادّة والصورة النسبيّة ، وأنّه لا فضل لأخذ على غيره إلّا بالتقوى ، وذلك ليس بنفسه دالّا على وجوب الإجابة عند الخطبة بل مع انضمام دليل آخر إليه وهو قوله صلى اللّه عليه وآله في خطبته لمّا قال : يا أيّها الناس هذا جبرئيل يخبرني أنّ البنات كالثمر وأنّ الثمر إذا أدرك ولم يقطف فسد ، كذلك البنات إذا بلغن ولم يزوّجن فسدن. فقالوا لمن نزوّج يا رسول اللّه؟ قال الأكفاء قالوا : وما الأكفاء؟ قال : إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه ، (2) فدلّ على أرجحية الأتقى على غيره في المنزلة وأنه إذا تعارض خاطبان متساويان في الدّين استحبّ إجابة الأتقى منهما لقوله « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ ».
ص: 227
السابعة : قوله ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (1).
قال المعاصر قيل : أريد بالثياب الزّوجات لقوله « هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ » فينبغي أن يتخيّر لنفسه من النساء العفيفة الكريمة الأصل ، ويؤيّده قوله ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلّا نَكِداً ) (2).
قلت وعندي فيه نظر لمنع دلالتها على ذلك ، فانّ الثياب حقيقة في الساتر للجسد ، واستعمال اللّباس في النساء مجازا في موضع لا يستلزم استعماله في غيره لأنّ المجاز لا يطّرد كما تقرّر في الأصول وأيضا الطهارة حقيقة في استعمال الماء فاستعمالها في غير ذلك مجاز ، والأصل عدمه ، نعم يدلّ على المطلوب قوله صلى اللّه عليه وآله « تخيّروا لنطفكم » (3) وكذا قوله ( الزّانِي لا يَنْكِحُ إِلّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) (4) أي لا يرغب إلّا في نكاح الزانية ، وفي ذلك دلالة على استحباب اختيار العفيفة ، وكراهة اختيار غيرها ، وكذلك قوله ( الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ ) (5) وهو خبر في معنى الأمر.
الثامنة ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (6).
قالوا : فيها دلالة على جواز الوطي في الدّبر ، وتحرير القول هنا أن نقول :أكثر المخالفين منعوا منه ، وأجازه مالك قال : ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنّ وطي المرأة في دبرها حلال ثمّ قرأ الآية المذكورة.
وأمّا أصحابنا فلهم في ذلك روايتان إحداهما التحريم ، وهو قول الصّادق
ص: 228
عليه السلام قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « محاشّ النساء على أمّتي حرام » (1) وثانيتها الحلّ وهو رواية عبد اللّه بن أبي يعفور في الصحيح عن الصادق عليه السلام قال سألته عن الرّجل يأتي المرأة في دبرها قال لا بأس (2) وأفتى به أكثر علمائنا.
واحتجّوا لتأييد ذلك بآيات :
1 - هذه الآية ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) ولفظ « أنّى » للمكان كائن يقال اجلس أنّى شئت أي أيّ موضع شئت.
إن قيل : يحمل على القبل لكونه موضع الحرث ، قلنا إنّما يصح ذلك أن لو كان الحرث اسما للقبل ، وأمّا إذا كان اسما للنساء فلا ، كيف ولو حمل على القبل فقطّ لزم تحريم التفخيذ أيضا ولا قائل به.
2 - قوله ( هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) (3) وجه الاستدلال أنّه علم رغبتهم في الدّبر فيكون الاذن مصروفا إلى تلك الرغبة.
3 - قوله ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) (4) وفي هذين نظر لجواز أن يكون أمرهم بالاستغناء بالنساء لأنّ قضاء الوطر يحصل بهنّ وإن لم يكن مماثلا كما يقال : استغن بالحلال عن الحرام ، وأيضا فإنّه غير شرعنا فلا يكون حجّة في شرعنا.
4 - قوله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (5) وجه الاستدلال أنّه أمر بحفظ الفروج مطلقا ثمّ
ص: 229
استثنى الأزواج فيسقط التحفّظ في الطرفين مطلقا ولأنّه منفعة تتوق النفس إليها عارية عن مانع عقلي أو شرعي ، فتكون مباحة ، أمّا الأولى فلأنّه الفرض ، وأمّا الثانية فظاهر إذ لا مانع عقليّ وأمّا الشرعيّ فلما يأتي في جواب المانع.
احتجّوا بقوله ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) (1) والمأمور به هو القبل ، برواية أبي هريرة عنه صلى اللّه عليه وآله « لا ينظر اللّه إلى رجل جامع امرأته في دبرها » (2) وبرواية خزيمة عنه صلى اللّه عليه وآله « أنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ » قالها ثلاثا « لا تأتوا النّساء في أدبارهنّ » (3).
والجواب عن الآية المنع من دلالتها على موضع النزاع ، فانّ المراد بالأمر الإباحة ، والمكروه مباح ، فيكون التقدير من حيث أباحكم ، إن قيل إنّ الأمر حقيقة في الوجوب قلنا فحينئذ يكون المأمور به القبل ولا يدلّ على المنع من إباحة الآخر على أنّا نقول إنّ ذلك متروك الظاهر بالإجماع ، فإنّه لا يجب أن يطأ عقيب الطهارة ، بل ولا يستحبّ بل يباح وأبو هريرة كذّاب ويروى أنّ عمر أدّبه على كذبه بالدّرّة ، مع أنّه لا يلزم منه التحريم ، لجواز عدم النظر ، لكراهته وخبر خزيمة خبر واحد ، مع أنّه معارض بأخبار كثيرة من طرق أهل البيت عليهم السلام (4).
قوله : و « قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ » قيل : المراد التسمية عند الجماع ، وقيل :
ص: 230
الدّعاء عند الجماع ، وقيل طلب الولد ، فانّ اقتناء الولد الصالح تقديم لثواب عظيم « قال صلى اللّه عليه وآله إذا مات المؤمن انقطع عمله إلّا من ثلاث : ولد صالح يدعو له وصدقة جارية بعده ، وعلم ينتفع به » (1) وباقي الآية ظاهر.
التاسعة ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (2).
في هذه الآية أحكام :
1 - أنّ الوالدات ينبغي لهنّ أن يرضعن أولادهنّ لأنّ هذه الجملة خبر في معنى الأمر تقديره ليرضعن أولادهنّ إذ لا جائز أن يكون على الخبريّة ، وإلا لزم الكذب ، فإنّه قد يرضعن أزيد وأنقص ، وليس الأمر للوجوب لأصالة البراءة بل لمطلق الرجحان ، الشامل له وللندب ، فقد يكون واجبا كما إذا لم يرتضع الصبيّ إلّا من امّه ، أو لم يوجد ظئر ، أو عجز الوالد عن الاستيجار أو إرضاع اللّباء وهو أوّل لبن يجي ء بعد الولادة فإنّه يجب عليها إرضاعه إيّاه ، قيل لأنّه لا يعيش بدونه ، وقد يكون مندوبا كما إذا لم يحصل أحد الأسباب الموجبة فإنّه أفضل ما يرضع لبن امّه ، ويستحب لها أن تفعل ذلك.
ص: 231
2 - أنّ مدّة الرّضاع حولان ، وإنّما قيدهما بالكمال؟ قيل : للتأكيد لجواز إطلاق الحول على بعضه ، وقيل : لأنّ الحول قسمان تام وهو الشمسي وناقص وهو القمري لنقصان بعض أشهره ، لأنّ التأسيس لا يعدل عنه إلى التأكيد إلّا مع تعذّره ، ولم يتعذّر هيهنا.
ويظهر لي أنّ الحول قد استعمل شرعا في أحد عشر شهرا ويوم من الثاني عشر كما في الزكاة ، وقد استعمل مع تمام الثاني عشر كما في الدّين المؤجّل حولا فأزال الاحتمال الأوّل بقوله « كاملين ».
3 - قوله « لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » اللّام متعلّقة بيرضعن كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، فانّ إرضاعهنّ لأجل أزواجهنّ ، لأنّ نفقة الولد على والده ، وكذلك يجب أن يتّخذ للولد ظئرا ترضعه إذا امتنعت الامّ من الرضاعة ويجوز فتح راء الرّضاعة وكسرها وقرئ بهما.
وفي ذلك دلالة على أنّ أقصى مدّة الرّضاع حولان وأنّه لا حكم له بعدهما في تحريم النكاح ولا استحقاق الأجرة لو أرضعت بعد استيجاره للرضاع الشرعيّ وأنّه يجوز أن ينقص عن ذلك.
ثمّ اختلف هل هذا التحديد لكلّ مولود أم لا؟ قال ابن عبّاس رضي اللّه عنه : ليس لكلّ مولود ، ولكن لمن ولد لستّة أشهر وإن ولد لسبعة فثلاثة وعشرون شهرا ، وإن ولد لتسعة فأحد وعشرون شهرا ، وروى أصحابنا أنّ ما نقص عن أحد وعشرين فهو جور على الصبيّ ، وقال الثوريّ وجماعة : هو لازم لكلّ مولود وأنّه إذا اختلف والداه ، رجع إلى ذلك ، وتفصيل ابن عبّاس حسن ، لما فيه من الجمع بين الآيات في قوله « وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً » وقوله « وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ » وبين [ مدد ] الوقوع فإنّ مدّة الحمل تكون ستّة ، وتكون سبعة ، وتكون تسعة ، وهو الغالب في الوقوع والولد يعيش في هذه المدد ، وأمّا في الثمانية فقالوا إنّه لا يعيش.
وعلّل [ ذلك بأنّ الحمل إذا كان له سبعة أشهر ، طلب الخروج فيضطرب
ص: 232
اضطرابا شديدا ، فإذا أفضت حركته إلى الخروج فذاك ، وإلّا ضعف بدنه لذلك فان خرج في الثامن خرج ضعيفا فلا يعيش غالبا وإذا استمرّت تلك المدّة يعيش من ضعفه وقوي على البروز في التاسع فيخرج صحيحا (1) ].
4 - أنّه يجب على الوالد اجرة الرضاع لقوله تعالى « وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ » و « على » تستعمل للوجوب كما يقال على فلان دين ، وإنّما لم يقل على الزوج لأنّه قد يكون على غير الزّوج كالمطلّق ، وفي قوله « الْمَوْلُودِ لَهُ » إشارة إلى أنّ الولد في الحقيقة للأب ، ولهذا ينسب إليه ، ويجب عليه نفقته ابتداء. قوله « رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ » أي كمال المؤنة لهنّ والرزق المأكول وقوله « بِالْمَعْرُوفِ » أي بما يعرفه أهل العرف من حقّها ، وفيه إشارة إلى وجوب اجرة مثلها ، وأنّه ليس لها إلّا قدرها ، ولا ينقص أيضا عن قدرها ولذلك قال « لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها ، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ » فيكون الباء حينئذ للسببيّة ، وقيل فيه وجهان آخران :
الأوّل : أي لا توقع به الضرر ، بأن تترك إرضاعه تعنّتا أو غيظا على أبيه فإنّها أشفق عليه من الأجنبيّة ، ولا يوقع الأب أيضا الضرر بولده بأن ينزعه من امّه ويمنعها من إرضاعه ، فتكون المضارّة على هذا بمعنى الإضرار ، واتي بفعل المفاعلة الواقعة بين الاثنين مبالغة.
الثاني : أنّ المراد لا يضارّ الوالدة بأن يترك جماعها خوفا من الحمل ، ولا هي تمتنع من الجماع خوفا من الحمل أيضا فتضر بالأب ، عن الباقر والصادق عليهما السلام (2).
وفي قوله « وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ » إلى آخره إشارة إلى جواز المعاوضة على الرّضاع من الزّوج وهل يجوز استيجارها للرضاع أم لا؟ قال
ص: 233
أصحابنا والشافعي بجوازه ، ومنع أبو حنيفة ذلك ما دامت زوجته أو معتدّة عن نكاح ، قال : لأنّ الزّوج يملك منافعها كالأجير الخاصّ. فلا يجوز أن يوقع عليها عقد إجارة ، ونحن نمنع تملّكه لمنافعها ، ولا يلزم من استحقاقه لمنفعة البضع ملكه لجميع منافعها.
وقيل : في قوله « لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّا وُسْعَها » إشارة إلى أنّ النّفقة تعتبر بحال الزّوج وقد تقدّم كلامنا فيه.
5 - أنّ اجرة المرضعة واجبة أيضا على الطفل إذا كان له مال وإليه الإشارة بقوله « وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ » أي وارث الأب وهو الصبي بأن يقوم الوصي أو الحاكم بمؤنتها عوضا عن إرضاعها عند موت الأب من مال يرثه من أبيه.
إن قلت : إن كان للولد مال حياة أبيه كانت المؤنة ثابتة في ماله ، فأي فائدة في تقييده بالوارث؟ قلت : الأغلبيّة.
وقيل : الوارث هو الباقي من الأبوين يجب عليه مؤنة إرضاعه ، فإنّ الوارث يعبّر به عن الباقي كما في قوله عليه السلام « اللّهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منّا (1) » وهو صحيح عندنا لأنّ مع عدم الأب وآبائه يجب النفقة على الامّ ، وهو موافق لمذهب الشافعيّ فإنّ عنده لا نفقة على غير الأبوين.
وقيل : إنّ المراد الوارث للصبيّ أو الوارث للأب يجب عليهما ما كان يجب على الأب ، وهو بناء على وجوب النفقة على كلّ وارث وهو مذهب ابن أبي ليلي.
وعند أبي حنيفة يجب الإنفاق على الوارث المحرم ، وقيل على العصبات وما ذكرناه اولى.
6 - وأنّه لمّا قرّر أنّ مدة الرضاع حولان ، أشار إلى أنّه يجوز أيضا الاقتصار على أقلّ من ذلك بقوله « فَإِنْ أَرادا فِصالاً » وإنّما قيّده بالتراضي
ص: 234
والتشاور منهما مراعاة لمصلحة الطفل ، إذ لو اقتصر على رأي أحدهما جاز أن يقدم على ما يضربه الطفل لغرض مّا وحينئذ يكون للآخر منعه. والتشاور : المشاورة والمشورة والشورى ، وهو استخراج الرأي من شرت العسل أي استخرجته.
7 - أنّه لمّا قرّر أنّ « الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ » أوهم وجوب كونهنّ كذلك وأنّه لا يجوز استرضاع غيرهنّ مطلقا ، فأزال ذلك بقوله : وإن أردتم أن تسترضعوا المراضع أولادكم يقال : أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إيّاه تعدّى إلى مفعولين : حذف الأوّل للاستغناء عنه ، وإطلاقه يدل على أنّ للزوج أن يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع ، لكن ذلك مناف لقوله « لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها » فيكون هنا مقيّدا بقيد ، وهو تعذّر استرضاع الامّ كانقطاع اللّبن أو غير ذلك.
قوله « إِذا سَلَّمْتُمْ » أي أعطيتم المراضع ما أردتم إيتاءه للوالدات ، وليس التسليم للأجرة شرطا في جواز الاسترضاع ، بل الغرض التنبيه على أنّ المرضعة ينبغي أن يكون طيّبة النفس ، لتقبل على الطفل بقلبها ، وتراعي مصلحته حقّ المراعاة.
قوله « وَاتَّقُوا اللّهَ » مبالغة في المحافظة على ما شرّع في أمر الأطفال والمراضع وقوله « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » حثّ وتهديد.
فائدة : دلّ قوله « وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً » وقوله « وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ » وقوله « حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر لأنّا إذا أسقطنا حولين ، وهما أربعة وعشرون شهرا من ثلاثين شهرا بقي ستّة أشهر ، وما أظن أحدا خالف في ذلك وأمّا أكثر الحمل فعندنا عشرة أشهر وعند أبي حنيفة ثلاثون شهرا ، ويتأوّل الآية بأنّ كلّ واحد من حمله وفصاله ثلاثون شهرا وعند الشافعيّ أربع سنين ، وعند أحمد ومالك ستّة سنين ، والكلّ من أقوالهم مناف للوقوع.
ص: 235
العاشرة ( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (1).
قال أهل البلاغة : التعريض هو إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا ويرادفه التلويح ، كقول السائل : جئتك لا سلّم عليك ، والكناية هي الدّلالة على الشي ء بذكر لوازمه ، كقولك فلان طويل النجاد ، كثير الرّماد ، إذا عرفت هذا فالآية تشتمل على جمل تتضمّن أحكاما :
1 - أنّه لا حرج في التعريض للمعتدّات بالخطبة ، والمراد به هنا كلام يفهم منه الرّغبة في النساء من غير تصريح كقوله ربّ راغب فيك وإنّك لجميلة ، وإنّ اللّه لسائق إليك خيرا وأمثاله ، ونفي الحرج في التعريض يستلزم ثبوته في التصريح لهنّ بالخطبة ، وهذا فيه إجمال علم تفصيله وبيانه من السنّة الشريفة فنقول :
المعتدّة رجعيّة يحرم التعريض والتصريح لها من الأجنبيّ ، وكذا يحرمان لكلّ محرّمة أبدا كالملاعنة والمطلقة تسعا للعدّة من الزوج أمّا من غيره فيجوز التعريض لا التصريح والمعتدّة بائنا يحرم التصريح لها في العدّة من غير الزّوج ويجوز التعريض ، وأمّا منه فيجوز له التعريض مطلقا ، وأمّا التصريح فيجوز للمختلعة والمفسوخة بعيب أو تدليس ولا يجوز للمطلّقة ثلاثا لا في العدّة ولا بعدها إلّا بعد أن تنكح ، وحكم التعريض حكم الاكنان في النفس أي الستر والإضمار ، يقال : كنفته أي سترته.
2 - قوله « عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ » أي في القلب فاذكروهنّ لأنّ تركه غير مقدور ، ثمّ إنّه نهى عن المواعدة سرّا أي جماعا ووطيا ، لأنّه يسر أي يفعل
ص: 236
سرّا ، لكونه كلاما فحشا ولا يجوز الخطبة به مطلقا ، ثمّ استثنى من قوله « لا تُواعِدُوهُنَّ » القول المعروف أي ما فيه تعريض أي لا تواعدوهنّ إلّا مواعدة معروفة أو بقول معروف ، وقيل الاستثناء منقطع من قوله « سِرًّا » وهو ضعيف لأدائه إلى قولك لا تواعدوهنّ إلا التعريض وهو غير موعود.
3 - « وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ » هو نهي عن عقدة نكاح المعتدات بالنهي عن لازمه لأنّ الفعل الاختياريّ من لوازمه العزم عليه ، والنهي عن اللّازم يستلزم النّهي عن ملزومه ، وأصل العزم القطع فانّ العازم قاطع لا يجوّز نقيض مراده والكتاب المكتوب من العدّة ، وأجله منتهاه وهنا مسائل :
1 - لا تحرم المخطوبة بتحريم الخطبة.
2 - لو عقد على المعتدّة عالما بالتحريم والعدّة حرمت أبدا مطلقا وإن كان جاهلا ودخل ، فكذلك وإلّا فلا.
3 - خصّ الشافعيّة الآية بعدّة الوفاة واختلفوا في عدّة الفراق ، وعندنا لا خلاف فيها.
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) (1).
ص: 237
ذكر لنزولها وجهان : أحدهما في تفسير ينسب إلى الصادق عليه السلام أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لمّا حصل له الغنائم من خيبر قالت له نساؤه أعطنا من هذه الغنيمة قال قسمتها بين المسلمين بأمر اللّه فغضبن وقلن لعلّك تظن إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك ، فأمر اللّه تعالى باعتزاله لهنّ والجلوس في مشربة أمّ إبراهيم حتّى حضن فطهرن ثمّ أنزل اللّه هذه الآية (1).
وثانيهما ، قال المفسّرون (2) أنّ أزواجه سألنه شيئا من عرض الدّنيا وطلبن زيادة في النفقة ، وآذينه لغيرة بعضهنّ من بعض فآلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله منهنّ شهرا فنزلت آية التخيير. وهي هذه ، وكنّ يومئذ تسعا : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة فهؤلاء من قريش ، وصفيّة بنت حيّ الخيبريّة ، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة ، وزينب بنت جحش الأسديّة ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة.
فلمّا نزلت طلبهنّ وخيّرهنّ في المفارقة والبقاء ، فاخترنه عليه السلام وأصل « تعال » أن يكون الآمر في مكان مرتفع والمأمور في مكان مستقل ثمّ كثروا ستعير للآمر بإقبال القلب وهو المراد هنا.
والسراح كالسّلام والكلام ، بمعنى التسريح والتكليم (3) وهو كناية عن الطلاق ووصفه بالجميل أي يكون لا عن مشاجرة ومخاصمة بين الزّوجين ، أو أن يكون من غير إضرار وبدعة ، وهنا فوائد :
1 - أنّ التخيير لنسائه بين المقام والمفارقة على التقديرين المذكورين واجب عليه لقوله « قل » والأمر للوجوب ، والتخيير هنا كناية عن الطلاق ، فمن اختارت الدنيا انفسخ نكاحها وهو من خواصّه.
2 - قيل إنّ المتعة لا يكون إلّا للمطلّقة قبل الدّخول وقبل فرض المهر
ص: 238
كما تقدّم ، وأزواج النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يكنّ كذلك فما وجه هذه المتعة؟ قلنا يحتمل هنا وجوها
الأوّل : أن لا يكون المراد تلك المتعة المعهودة ، بل مطلق النّفع ، بأن يزيدهنّ على المهور أو يعطيهنّ ما كان عندهنّ من أثاث وغيره.
الثاني : أنّه قد تقدّم أنّ المتعة لكلّ مطلقة عند قوم [ وعند قوم ] إلّا المختلعة والمباراة فعلى هذا يكون المراد المتعة المعهودة.
الثالث : جاز أن يكون من خواصّه صلى اللّه عليه وآله وجوب التمتّع كما وجب عليه التخيير. وهذا أولى في الجواب.
3 - اختلف العلماء في حكم التخيير على أقوال :
الأوّل : أنّ الرجل إذا خيّر امرأته فاختارت زوجها فلا شي ء وإن اختارت نفسها فهي تطليقة واحدة وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة وأصحابه.
الثاني : أنّه إذا اختارت نفسها فهي ثلاث تطليقات وإن اختارت زوجها وقعت واحدة ، وهو قول زيد ومذهب مالك.
الثالث : أنّه إن نوى بالتخيير الطلاق كان طلاقا وإلّا فلا ، وهو مذهب الشافعيّ.
الرّابع : أنّه لا يقع بذلك طلاق وإنما كان ذلك من خواصّه عليه السلام ولو اخترن أنفسهنّ لمّا خيّرهنّ لبنّ منه فأمّا غيره فلا يجوز له ذلك وهو المروي عن الصّادق عليه السلام حيث قال « ما للناس والخيار؟ وإنّما هذا شي ء خصّ اللّه تعالى به رسوله » (1).
قال ابن الجنيد وابن أبي عقيل منّا بوقوعه طلاقا مع نيّته واختيارها نفسها على الفور ، فلو تأخّر اختيارها لحظة لم يكن شيئا
والأكثر منّا على خلاف قولهما لقول الصادق عليه السلام إنّما الطلاق أن يقول لها : « أنت طالق » (2).
ص: 239
الثانية ( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) (1).
هذه أيضا تدل على خاصّة أخرى له صلى اللّه عليه وآله وهو أضعاف العذاب لنسائه على السيّئات ، وإيتاء الأجر مرّتين على الطاعات.
أمّا الأوّل فلأنّ العذاب على قدر قبح المعصية ، وقبح المعصية على قدر العلم به ونساء النبيّ صلى اللّه عليه وآله أشد صحبة له صلى اللّه عليه وآله ويشاهدن الوحي كأنّ علمهنّ بالأحكام كالضروريّ ، فأضعف لهنّ العذاب لذلك.
وأمّا الثاني فظاهر لأنّه لمّا كان عقابهنّ مضاعفا اقتضى العدل كون ثوابهنّ كذلك ، وعلم من ذلك كون الضعف مثلا واحدا والمراد بالفاحشة الخطيئة الكبيرة والمبيّنة الظاهرة الفحش ، والقنوت هنا المداومة على الطاعة ، وإن استعمل في غير ذلك كالدعاء في الصّلاة وطول العبادة.
الثالثة ( وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيماً ) (2).
هذه أيضا تدل على خاصّة أخرى له صلى اللّه عليه وآله وهو عدم جواز نكاح نسائه بعد وفاته إجماعا فقيل لكونهنّ أمّهات لقوله « وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ » وهو باطل وإلّا لحرم بناتهنّ لأنّهنّ أخوات بل تسميتهنّ أمّهات لأجل تحريم نكاحهنّ ، فالأولى كونه من خواصّه صلى اللّه عليه وآله وحذرا من غيرته لذلك ، فيكون إيذاء له وسبب نزولها أنّه لمّا نزلت آية الحجاب قال طلحة بن عبد اللّه أينهانا أن نتكلّم بنات عمّنا إلّا من وراء
ص: 240
الحجاب لئن مات لأتزوّجنّ فلانة (1).
وعندنا أنّ من فارقها بطلاق أو فسخ كذلك ، سواء دخل بها أو لا ، وللشافعيّة هنا ثلاثة أوجه الأوّل التحريم مطلقا لأنّهنّ أمّهات ، الثاني الإباحة مطلقا وإلّا لم يكن للبينونة فائدة ، الثالث الحلّ في الّتي لم يدخل بها لما روي أنّ أشعث بن قيس تزوّج المستعيذة في أيّام عمر ، فهمّ برجمها فأخبر بأنّه صلى اللّه عليه وآله فارقها قبل أن يدخل بها ، فترك (2) فيكون التحريم ثابتا في المدخول بها.
وكذا لهم هذه الوجوه في سراريه وعموم الآية يدفع هذه الاحتمالات.
الرابعة ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) (3).
ص: 241
هذه أيضا تشتمل على ذكر ما هو من خواصّه ، وهو استباحة الوطي بالهبة والدّليل على كونه من خواصّه قوله « خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ » واختلف في أنّ ذلك هل وقع أم لا؟ قال ابن عبّاس لم يكن أحد عنده صلى اللّه عليه وآله بالهبة ، وقال غيره بل وقع وعدوّا أربعا : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت حزام : أمّ المساكين الأنصاريّة ، وخولة بنت حكيم.
قيل : إنّ هذه لمّا وهبت نفسها له صلى اللّه عليه وآله قالت عائشة : ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟ فنزلت الآية ، فقالت عائشة : ما أرى اللّه إلّا أن يسارع في هواك فقال صلى اللّه عليه وآله فإنّك إن أطعت اللّه سارع في هواك ، والرابعة قيل أمّ شريك بنت جابر من بني أسد ، عن عليّ بن الحسين وهنا فوائد :
1 - جوّز الكرخيّ وقوع النكاح بلفظ الإجارة لقوله ( اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) والأجر يختصّ بالإجارة ، وليس بشي ء لجواز أن يكون الأجر مستعارا للمهر وقال أبو بكر الرازيّ لا يجوز بالإجارة ، لأنّ الإجارة عقد موقت وعقد النكاح مؤبّد فهما متنافيان.
2 - قيل يجوز وقوعه أيضا بلفظ الهبة لغير النبيّ صلى اللّه عليه وآله وليس بشي ء أيضا لقوله تعالى ( خالِصَةً لَكَ ) وهو مذهب أصحابنا والشافعيّة.
3 - أيّ فائدة في القيود الثلاثة وهي ( اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) و ( اللّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ) و ( مِمّا أَفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ ) فانّ الإحلال حاصل بدونها؟ قلت فائدتها أنّها
ص: 242
كانت حاصلة ولا يلزم من ذكرها عدم إحلال غيرها إلّا بدليل الخطاب وليس حجّة وقيل فائدتها أنّ اللّه أحلّ له صلى اللّه عليه وآله ما هو الأفضل ، وفيه نظر لأنّه يقتضي أن لا يحصل الإحلال للمذكورات إلّا بالقيود الثلاثة وليس كذلك وأيضا لو كان كذلك لكان ينبغي أن يأتي بعبارة تدلّ على إرادة الأفضل وقول القاضي يحتمل أن يكون من خواصّه ، ويؤيّده قول أمّ هانئ بنت أبي طالب خطبني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فاعتذرت إليه فعذرني ثمّ أنزل اللّه هذه الآية فلم أحلّ له ، لأنّي لم أهاجر معه ، وكنت من الطلقاء ، ضعيف ، لأنّه لم ينقل أنّه من خواصّه ، وقولها فلم أحلّ له فهمته من دليل الخطاب وليس بحجّة ، وقال الطبرسيّ كان ذلك قبل تحليل غير المهاجرات ثمّ نسخ شرط الهجرة في التحليل ، وهو ضعيف لأنّ ذلك وإن تمّ في المهاجرات فلا يتمّ في القيدين الأخيرين فالأولى ما قلناه ، فانّ الوصف كما يكون للتخصيص يكون للتوضيح.
الخامسة ( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً ) (1).
الإرجاء التأخير ، يقال أرجأت بالهمزة ، وأرجيت بغير همز لغتان ، بمعنى واحد ، وقرئ في الآية بالهمز وعدمه ، والعبارة تحتمل وجوها :
1 - تطلّق من تشاء وتترك طلاق من تشاء.
2 - تدعو من تشاء إلى الفراش ، وترجئ من تشاء ، فلا تدعوها.
3 - ترجئ من تشاء فلا تقسم لهنّ ، وتؤوي إليك من تشاء ، فتقسم لهنّ فأرجأ سودة ، وجويرية ، وصفيّة ، وميمونة ، وأمّ حبيبة ، وكان يقسم بينهنّ
ص: 243
ما شاء ، وآوى عائشة ، وحفصة ، وأمّ سلمة ، وزينب ، فكان يقسم بينهنّ ، فاستدلّ به من قال بعدم وجوب القسمة عليه ، وأنّ ذلك من خواصّه وإنّما كان ما يفعله من القسمة تفضّلا منه ، وطلبا للعدل ، وأن لا ينسب إليه الجور ، وهذا هو المشهور عند أصحابنا.
4 - أنّ ذلك راجع إلى الواهبات ، أي ترجئ من تشاء من الواهبات وتؤوي إليك من تشاء منهنّ.
قوله ( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ) أي إنّ المعزولات لك أن تؤويهنّ وبعد ابتغائك إيّاهنّ وإيوائك لهنّ. لك أيضا أن ترجئ من تشاء منهنّ وتؤوي ، ولا جناح عليك في ذلك كلّه.
قوله ( ذلِكَ أَدْنى ) إشارة إلى أنّ التخيير بين إيواء من تشاء ، وتأخير من تشاء ، أقرب إلى قرّة أعينهنّ ، وعدم حزنهنّ ورضاهنّ ، لأنّه حكم كلّهنّ يتساوين فيه ، ثمّ إن سوّيت بينهنّ وجدن ذلك تفضّلا وإحسانا منك ، وإن رجّحت بعضهنّ على بعض علمن أنّه بحكم اللّه فتطمئنّ قلوبهنّ.
وقيل : إنّ ذلك إشارة إلى جواز ردّ المعزولات إليك ، فإنّهنّ إذا علمن بذلك علمن أنّهنّ غير مطلّقات ورجون أنّك ترجعهنّ إليك وباقي الآية معلوم.
السادسة ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً ) (1).
قيل : إنّها منسوخة بقوله ( إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ ) (2) الآية وهو فتوى أصحابنا وقيل بقوله ( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ ) على الوجه الأوّل ، فإنّهما وإن تقدّمتا قراءة فمتأخّرتان نزولا كآية العدّة فإنّه أبيح له بعد ذلك تزويج ما شاء ، وروي عن عائشة أنّها قالت : ما فارق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حتّى حلّل له ما أراد من النساء ، وقيل بعدم ذلك
ص: 244
فإنّها باقية الحكم لأصالة عدم النسخ.
ثمّ اختلف في تأويلها بسبب قوله « مِنْ بَعْدُ » على وجوه الأوّل من بعد التّسع اللّاتي كنّ عنده ومات عنهنّ وقد تقدّم أسماؤهنّ وأنّ التّسع في حقّه كالأربع في حقّنا ، الثاني من بعد النساء اللّاتي ذكرن في الآية المتقدّمة ، وهي ( إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ ) وهي ستّة أجناس غير المملوكات ، فعلى هذا يباح له فوق التّسع ، إذ الجمع من كلّ جنس أقلّه ثلاثة ، الثالث روي عن الصادق عليه السلام أنّ المراد بعد المحرّمات في سورة النساء (1) فعلى هذا لا يكون فيها شي ء من خواصّه صلى اللّه عليه وآله وعلى الأوّل لا يجوز له طلاق واجدة منهنّ ، ولا التبدّل بها لو ماتت ، و « من » في قوله ( مِنْ أَزْواجٍ ) زائدة ، للاستغراق.
قوله ( وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ) أي ليس لك أن تطلّق بعضهنّ وتتزوّج بدلها وإن كان البدل أحسن ( إِلّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) فإنّه لا حصر فيهنّ ، وقيل إنّه استثناء من النساء ، لأنّه يتناول الأزواج والإماء ، وعلى ما قلنا من رأي أصحابنا إنّها منسوخة ، كلّ هذه الوجوه لا فائدة فيها إلّا الوقوف عليها والرواية المذكورة عن الصادق عليه السلام ضعيفة لمخالفتها الحكم المجمع عليه من جواز تبديله لنسائه وجواز تبديل أمته بالطلاق والفسخ.
السابعة ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ) (2).
ص: 245
روي أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خطب زينب بنت جحش الأسديّة وكانت أمّها أميمة بنت عبد المطّلب عمّة رسول اللّه لزيد بن حارثة ، وعندها أنّه يخطب لنفسه فلمّا علمت أنّه لزيد أبت وأنكرت ذلك لعلوّ نسبها ، فنزلت ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (1) فقالت : رضيت يا رسول اللّه فأنكحها لزيد ، فدخل بها وساق إليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عشرة دنانير وستّين درهما مهرا ، وخمارا ، وملحفة ، ودرعا وإزارا ، وخمسين مدّا من الطعام ، وثلاثين صاعا من تمر.
وروى عليّ بن إبراهيم في تفسيره (2) أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان شديد الحبّ لزيد ، وكان إذا أبطأ عليه زيد أتى إلى منزله فيسأل عنه ، فأبطأ عليه يوما فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله منزله فإذا زينب جالسة في وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها ، فدفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الباب فلمّا نظر إليها قال « سبحان اللّه خالق النّور تبارك اللّه أحسن الخالقين » ورجع ، فجاء زيد فأخبرته زينب بما كان ، فقال لها : ولعلّك وقعت في قلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فهل لك أن أطلّقك حتّى يتزوّجك رسول اللّه؟ فقالت أخشى أن تطلّقني ولا يتزوّجني ، فجاء زيد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال إنّ زينب تتكبّر عليّ وتؤذيني بلسانها ، فأريد أن أطلّقها ، فقال « أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّهَ » ثمّ طلّقها بعد ذلك. وروي أنّها لمّا اعتدّت قال لزيد ما أجد في نفسي أحدا أوثق منك اخطب لي زينب فقال فجئت إليها وهي تخمر عجينها فلمّا رأيتها عظمت في نفسي حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذكرها ، فولّيتها ظهري وقلت : يا زينب أبشري إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يخطبك ، ففرحت بذلك ، وقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربّي ، فقامت إلى مسجدها فنزلت الآية فتزوّجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ودخل بها وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها : ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللّحم حتّى اشتدّ النهار.
ص: 246
إذا عرفت هذا فنقول قوله ( اتَّقِ اللّهَ ) نهي تنزيه لا تحريم ، لأنّ الطّلاق ليس بحرام ، بل مبغوض لله ، لأنّه ضدّ النكاح المندوب إليه ، وقيل : معناه لا تذمّها بسبب تكبّرها وأذى زوجها.
ثمّ اختلف فيما أخفاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على وجوه الأوّل أنّ اللّه أعلمه أنّها من نسائه ، وأنّ زيدا سيطلّقها ، فلمّا جاء زيد وأراد أن يطلّقها قال له أمسك عليك زوجك فقال له سبحانه لم تقول له أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنّها تكون من أزواجك عن عليّ بن الحسين عليهما السلام وهذا مطابق للآية لأنّه تعالى أعلمه أنه يبدي ما أخفاه ولم يظهر غير التزويج فقال ( زَوَّجْناكَها ) ولو كان غير ذلك لأبداه ، فعاتبه اللّه على ذلك.
الثاني : أنّه الميل الطبيعيّ إليها وذلك لا يوصف بالإباحة والتحريم ، لكونه بغير الاختبار لكنّه صلى اللّه عليه وآله كره إظهاره للناس لبشاعته وربّما كان المنافقون يقولون إنّه قد عشق وأذن اللّه في تزويجه بما عشقه ، وذلك مناف لما هو بصدده من تبليغ الرّسالة وهداية الخلق ، ولم يعلموا أنّ ذلك أمر جبلّيّ غير مقدور.
الثّالث : أنّه أضمر أنّه إن طلّقها زيد يتزوّجها من حيث إنّها ابنة عمّه فأراد ضمّها إلى نفسه لئلّا يصيبها ضيعة ، كما يفعل الرّجل بأقاربه ، وليكون جبرا لقلبها حيث زوّجها مولاه أوّلا مع كراهتها مع أنّه قال ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ) .
الرّابع : أنّه كان يريد نكاحها مع مفارقة زيد ليكون مبطلا لستّة الجاهليّة في تنزيل الأدعياء منزلة الأبناء ، لكنّه عزم على عدم ذلك مخافة أن يطعنوا عليه بأنّه تزوّج امرأة ابنه فأنزل اللّه الآية لكيلا يمتنع عن فعل المباح خشية الناس ولذلك عقّب الكلام بقوله ( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ ) .
قوله ( وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) أي تخشى مقالتهم واعتراضهم عليك بغير حقّ ، واللّه أحقّ أن تخشاه في إيقاع أوامره الحقّة ، قوله ( فَلَمّا قَضى زَيْدٌ ) إلى آخره أي فرغ من إرادته لها وإعطاء شهوته منها مقتضاها.
قوله ( وَكانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ) أي ما أراد اللّه أن يكون من فعله لا بد أن
ص: 247
يقع ، لوجود الداعي ، وعدم الصارف ، بخلاف ما أراد اللّه من فعل غيره فإنّه قد وقد.
إذا تقرّر هذا فقد استفيد من هذه القصّة أحكام :
1 - أنّ التساوي في النسب غير شرط في النكاح فانّ زينب كانت أشرف من زيد ولهذا زوّج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ضباعة بنت الزّبير بن عبد المطلّب ابن عمّه بالمقداد ابن عمرو ، وهو عاميّ النسب (1).
2 - وجوب الإنفاق على الزوجة وكيفيّة الكسوة ، من الدّرع وهو القميص والخمار ، وهو المقنعة ، والملحفة وهو الإزار ، ويمكن أن يعنى به السراويل وضمّ الأدم إلى القوت كضمّ التمر إلى الطعام ، لأنّ ذلك وقع في بيان الواجب فيكون واجبا.
3 - وجوب مفارقة زوج المرأة لها إذا رغب فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.
4 - عدم جواز الخطبة في العدّة لأنّه لمّا انقضت عدّتها أمر زيدا بخطبتها ويدلّ عليه من الكتاب قوله ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ ) (2) وقد تقدّم (3).
5 - كون النكاح يقع بلفظ التزويج ، ووجوب كونه بصيغة الماضي.
6 - استحباب الوليمة عند الزفاف ، ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « لا وليمة إلّا في خمس : عرس أو خرس أو ختان أو وكاز أو ركاز ». والخرس : النفاس ، والوكاز : بناء الدار ، والركاز : قدوم الحاجّ.
ص: 248
وهي أقسام :
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) (1).
الطلاق لغة اسم للتطليق أو الإطلاق بمعنى إزالة القيد ، وشرعا إزالة قيد النكاح وهو إمّا من قبيل التخصيص أو النقل ، والأوّل أولى لما تقرّر في الأصول ولا يقع عندنا إلّا بلفظه الصّريح الدالّ على الجملة بالمواطاة ، لما تقدّم من قول الباقر عليه السلام و « إنّما » (2) للحصر كقولك أنت أو هذه أو فلانة طالق ، فخرج ما لا يكون منه كسائر الكنايات كخليّة وبريّة وغيرهما ، وما يكون من لفظه ، و
ص: 249
لكن لا تدلّ بالمواطاة كقوله أنت طلاق أو الطلاق أو من المطلقات وغير ذلك من العبارات المختلفة ، وللمخالفين هنا أقوال ليس هنا موضع ذكرها ، إذا عرفت هذا فهنا أحكام يتبعها فوائد :
1 - قيل : خصّ الخطاب بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وعمّ الحكم ، لأنّه إمام أمّته ، فنداؤه كندائهم ، وقيل لأنّ الحكم يعمّه ، وهم تابعون له ، وعن الجبائيّ تقديره : قل إذا طلّقتم ، وهذا أحسن الوجوه ، ولا يلزم خروجه صلى اللّه عليه وآله عن الحكم على هذا الوجه لأنّه إنّما جعله صلى اللّه عليه وآله آمرا تنزيها له عن فعل المكروه لغير داع يدعو إليه ، فإنّ الطلاق من غير داع مكروه ، لكونه خلاف النكاح المطلوب ، ولما رواه الثعلبيّ في تفسيره عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال « تزوّجوا ولا تطلّقوا فانّ المطلق يهتزّ منه العرش » (1) وعن ثوبان يرفعه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أيّما امرأة سألت من زوجها الطلاق من غير ما به بأس فحرام عليها رائحة الجنّة » (2) وعن أبي موسى الأشعريّ عنه صلى اللّه عليه وآله « لا تطلّقوا النساء إلّا من ريبة إنّ اللّه لا يحبّ الذوّاقين والذوّاقات (3) وعن أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلّا منافق (4).
2 - قوله ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) أي لوقت عدّتهنّ ، فانّ اللام للتأقيت وفيه دلالة على وجوب إيقاع الطّلاق في طهر لأنّ الأقراء هي الأطهار لما يجي ء ، وهو مذهب أصحابنا والشافعيّ لكن عندنا لو فعل خلاف ذلك بطل ، وعند الشافعيّ وباقي الفقهاء فعل حراما وصحّ طلاقه (5) أمّا الحرمة ، فلأنّ الأمر بالشي ء يستلزم
ص: 250
النهي عن ضدّه ، وأمّا الصحّة فلأنّ النهي لا يستلزم الفساد ، ونحن نمنع الثانية فإنّ النهي عن نفس الطلاق وقد تقدّم أنّ عند المحقّقين أنّ النهي عن الشي ء نفسه أو جزئه أو لازمه يدلّ على الفساد وقال أبو حنيفة إنّ الأقراء هي الحيض ، فتقدير الكلام عنده لمستقبل عدّتهنّ ، وقبل عدّتهنّ.
ثمّ إنّ هذا العموم مخصوص بأمرين أحدهما غير المدخول بها ، وثانيهما الغائب عنها زوجها غيبة يعلم انتقالها من طهر إلى آخر ، أو خرج عنها في طهر لم يقربها فيه بجماع ، فانّ هاتين يصحّ طلاقهما من غير تحريم ، وعلى ذلك إجماع أصحابنا وتضافر أخبارهم ، ويدلّ على الأوّل آية الأحزاب وسيأتي.
3 - قوله ( وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء ، وقيل : عدّوا أوقات الأقراء لتطلّقوا للعدّة ، فعلى الأوّل فائدة الأمر بالإحصاء أنّها يتعلّق بها حقوق النّكاح أمّا للزّوجة ، فالنفقة والسكنى ، وأمّا للزّوج فالرّجوع إذا شاء مع بقائها لا مع خروجها ، ولذلك له منعها من الأزواج ، وأيضا إلحاق النسب لو أتت بولد يمكن إلحاقه به في العدّة وتحريم الخطبة فيها تصريحا إلى غير ذلك.
وعلى الثاني ففائدته العلم بزمان الحيض وزمان الطّهر ، ومع الدم يعلم مع الضبط وقت الحيض ، فلا يقع فيه طلاق ، ووقت الاستحاضة فيقع فيه ، إلى غير ذلك.
وأمر سبحانه وتعالى بالتقوى في ضبط العدّة ، بحيث لا يخالف في ذلك أوامره ويحتمل تعلّقه بما بعده أي بقوله ( لا تُخْرِجُوهُنَّ ) .
4 - أنّه لمّا ذكر سبحانه العدّة ذكر بعض أحكامها وهي أنّه لا يجوز إخراج المرأة المطلقة من البيت الّذي طلّقت فيه ، والإضافة هنا للاختصاص كقولك : جلّ الفرس ، وكذلك لا يجوز لها أيضا الخروج وإن لم يخرجها الزّوج لقوله ( وَلا يَخْرُجْنَ ) كلّ ذلك في عدّة الطلاق الرّجعيّ ، بخلاف البائن ، فإنّه يجوز خروجها وإخراجها ، واستثنى سبحانه من ذلك إتيانهنّ بالفاحشة فقيل : هي الزنا ، فتخرج
ص: 251
لإقامة الحدّ عليها ، وعن الباقر والصادق عليهما السلام هي البذاءة على أهله وأذاهم وشتمهم ، وعن ابن عبّاس رضي اللّه عنه روايتان إحداهما كقول السيّدين والأخرى أنّ كلّ معصية لله فهي فاحشة فيحتمل كون الاستثناء من الأوّل كما قلناه ، ويحتمل أن يكون من الثاني أي قوله ( لا يَخْرُجْنَ ) للمبالغة في النهي ، أي أنّ خروجها فاحشة وفيه قوّة لو لا النقل.
5 - ثمّ إنّه تعالى بيّن أنّ الأحكام المذكورة أمور محدودة مقدّرة واجبة الوقوع وأنّ مخالفها يستحقّ الذمّ والعقاب ، لقوله ( فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) وذلك ملزوم لهما.
7 - قوله ( لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) أي بعد الطلاق أمرا هو الرّغبة في المطلقة ، والرّجوع عن عزمه الأوّل على المفارقة ، وهو كالتعليل لعدم الإخراج والخروج من البيت ، وفيه دلالة على كون المراد بذلك الطلاق الرجعيّ لا البائن.
8 - روى البخاريّ ومسلم عن قتيبة عن ليث بن سعد عن نافع عن عبد اللّه ابن عمر أنّه طلّق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر وتحيض عنده حيضة أخرى ، ثمّ يمهلها حتّى تطهر من حيضها فإذا أراد أن يطلّقها فليطلّقها حين تطهر ، من غير أن يجامعها ، فتلك العدّة الّتي أمر اللّه أن يطلّق بها النساء (1).
وروى البخاري عن سليمان بن حرب وروى مسلم عن عبد الرّحمن بن بشير عن فهر وكلاهما عن شعبة عن أنس بن سيرين قال : سمعت أنّ ابن عمر طلّق امرأته وهي حائض ، فذكر ذلك عمر للنبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال : مره فليراجعها وإذا طهرت فليطلّقها إن شاء (2).
وفي هذه الرواية إشارة إلى أنّه يشترط الطهر في الطلاق وفي الأوّل إشارة
ص: 252
إلى أنه يشترط أن لا يقربها فيه بجماع.
واحتجّ الفقهاء من الجمهور على وقوع طلاق الحائض وإن كان حراما بهذين الحديثين من حيث قوله صلى اللّه عليه وآله « مره فليراجعها » في الثاني وفي الأوّل « أمر أن يراجعها » فالمراجعة تدلّ على وقوع الطلاق.
وفيه نظر فإنّه لا دلالة في ذلك لأنّه كما يحتمل الأمر بالمراجعة وقوع الطلاق يحتمل أيضا أن يراد بالمراجعة التمسّك بمقتضى العقد ، وبقاء الزوجيّة فانّ من طلّق طلاقا فاسدا وظنّ أنّه واقع فاعتزل زوجته صحّ أن يقال له راجعها فيكون المراد حينئذ المراجعة اللغويّة لا الاصطلاحيّة بمعنى بعد الطلاق.
الثانية ( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (1).
المراد بالأجل هنا العدّة ، ومراده ببلوغه مقاربته ومشارفة انقضائه ، لا انقضاؤه ، وإلّا لما كان للزّوج رجوع وهنا حكمان :
1 - جواز الرّجوع في العدّة وإليه أشار بقوله ( فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) أي بحسن عشرة وإنفاق مناسب وقوله ( أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) بأن تتركوهنّ حتّى يخرجن من العدّة فيبنّ منكم لا بغير معروف بأن يراجعها ثمّ يطلّقها تطويلا للعدّة وقصدا للمضارّة.
2 - قوله ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) قيل : هو راجع إلى الرّجعة قاله الشافعيّة ، وذلك عندهم على الندب ، ونقل عن الشافعيّ وجوبه ، وقال أصحابنا : هو راجع إلى الطّلاق ، وذلك على الوجوب وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام لكون الكلام في الطلاق فيكون ذلك قرينة دالّة على رجوعه إليه.
ص: 253
لا يقال : إنّه راجع إلى الإمساك المراد به المراجعة ، لأنّه أقرب من الطّلاق لأنّا نقول الأقربيّة لو كانت مرجّحة لكان عوده إلى الفراق لكونه أقرب أولى.
إن قلت : إنّ الفراق هنا ترك الرّجعة ، وترك الشي ء لا يحتاج إلى الإشهاد لكونه أصلا بعد وقوع الطّلاق فلهذا الوجه لا يرجع إلى الفراق ، قلت : إنّ ما ذكرتم من اعتبار القرينة هو عين مرادنا ، إذ هو خروج عن دعوى كون القرب مرجّحا ورجوع إلى القرينة ، وإذا كان الاعتبار بالقرينة فهي حاصلة في الطلاق لاحتياجه إلى الإشهاد غاية الاحتياج ، لجواز وقوع النزاع في وقوعه وعدمه ، فيحتاج إلى طريق في إثباته لو ادّعى وقوعه ، وذلك بالإشهاد إذ ليس غيره إلّا اعتراف الزوجة ، فيجوز عدمه ، أو يمينها فيجوز أيضا عدم علمها ، أو ردّ اليمين على الزّوج فيجوز موته ، ويكون النزاع مع ورثته.
ولا يستبعد رجوعه إلى الطلاق وإن كان بعيدا مع وجود القرينة وعدم الفصل بكلام أجنبيّ ، فإنّ القصّة واحدة ، ونظيره في الكلام أن يقول الرّجل لوكيله « اشتر من فلان سلعة كذا ، وبع على فلان سلعة كذا ، واقبض الثمن ، وسلّمه إلى البائع ، وأهد السلعة إلى فلان ، وأشهد عليه ذوي عدل » في أنّ الإشهاد يعود إلى ما يحتاج إلى الإشهاد هذا مع أنّه يمكن عود الأمر بالإشهاد إليهما معا.
إن قلت : عوده إليهما يستلزم تساوي الطّلاق والرّجعة في وجوب الإشهاد واستحبابه ، وأنتم لا تقولون به ، بل بالوجوب في الطلاق والاستحباب في الرّجعة.
قلنا فحينئذ يكون من المجملات الّتي بيّنها العترة الطاهرة بتفصيل أحكامها بأن يكون لمطلق الرجحان ، فمع قيد عدم جواز الترك يكون في الطّلاق ومع قيد جوازه يكون في الرّجعة ، ثمّ إنّه تعالى أمر بإقامة الشهادة لله لا لرغبة أو رهبة وأخبر بأنّ ذلك المنتفع بالأمر هو المؤمن باللّه واليوم الآخر.
الثالثة ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
ص: 254
بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).
استفيد من هذه أحكام :
1 - أنّ عدّة مستقيمة الحيض ثلاثة أقراء ، وهو ليس على عمومه بل مخصوص بالمدخول بهنّ ، لما يأتي أنّ غير المدخول بها لا عدّة عليها ، وكذا الآئسة والصّغيرة وكذا الحكم يختصّ بالحرّة ، فانّ الأمة عدّتها قرءان ، إذا كانت مستقيمة الحيض ولمّا كان القرء مشتركا بين الحيض والطّهر لإطلاقه عليهما أمّا على الحيض فلقوله صلى اللّه عليه وآله : دعي الصّلاة أيّام أقرائك (2) وأمّا على الطهر فلقول الأعشى (3)
ص: 255
وفي كلّ عام أنت جاشم غزوة *** تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا (1)
اختلف هل المراد هنا الطهر أو الحيض؟ قال أصحابنا والشافعيّة إنّها الطّهر لوجوه الأوّل : قوله تعالى ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) وقد تقدّم أنّ الطّلاق المشروع لا يكون في الحيض ، الثاني قضيّة ابن عمر ، وقد تقدّم ذكرها
ص: 256
دلّت على أنّه الطهر ، الثالث أنّه قال « ثَلاثَةَ قُرُوءٍ » وإلحاق التاء بالعدد يراد به المذكّر ، والطهر مذكّر والحيض مؤنّثة.
الرابع روى أصحابنا عن زرارة قال سمعت ربيعة الرأي يقول إنّ من رأيي أنّ الأقراء هي الأطهار بين الحيضتين ، وليس بالحيض فدخلت على الباقر عليه السلام فحدّثته بما قال فقال عليه السلام « كذب لم يقل برأيه وإنّما بلغه عن عليّ عليه السلام » فقلت أصلحك اللّه أكان عليّ عليه السلام يقول ذلك؟ قال نعم كان يقول إنّما القرء الطهر يقرء فيه الدّم فيجمعه فإذا جاء الحيض قذفته ، قلت أصلحك اللّه رجل طلّق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين ، قال إذا دخلت في الحيضة الثّالثة فقد انقضت عدّتها وحلّت للأزواج قال قلت إنّ أهل العراق يروون عنه عليه السلام أنّه كان يقول : هو أحقّ برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، قال كذبوا (1).
وقال أبو حنيفة إنّه الحيض لقوله صلى اللّه عليه وآله طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان (2) وأجيب بأنّه غير معلوم الصحة.
2 - أنّه يرجع إلى قول المرأة في طهرها وحيضها لأنّه قال سبحانه ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ) فلو لم يكن القول قولها لما حرّم عليها كتمانه ، فقيل : المراد الحيض وقيل الحمل ، وقيل هما معا وهو أولى لعموم اللّفظ لهما ولقول الصادق عليه السلام قد فوّض اللّه إلى النساء ثلاثة الحيض والطّهر والحمل (3) ، وإنّما لم يحلّ لهنّ كتمان ذلك لأنّ فيه إبطالا لحقّ الزوج.
3 - أنّ الزّوج أحقّ بالرّجعة ما دامت في العدّة لقوله ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) لكن مع كون الطّلاق رجعيّا للآية الّتي تتلوها فالضّمير أخصّ من المرجوع إليه وهو المطلقات الّذي هو من صيغ العموم ، ولا امتناع في ذلك كما لو كرّر الظّاهر ثمّ خصّصه ، وهل يتخصّص العامّ بذلك؟ خلاف ، وتحقيقه في
ص: 257
الأصول وقوله ( إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً ) ليس شرطا للرّجعة ، بل حضّا للزّوج على إرادة الإصلاح للنّساء ، وعدم المضارّة لهنّ.
4 - أنّ لكلّ واحد من الزّوجين حقّا على الآخر لقوله ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ ) والمماثلة في الوجوب لا الجنس ، وأمّا حقّ المرأة فالمهر والنفقة والإسكان والكسوة ، وعدم إضرارها ، وأمّا حقّه عليها فالطاعة له وعدم التبرّم لحوائجه ، وأن لا تدخل فراشه غيره ، وأن تحفظ ماءه ، ولا يحتال في إسقاطه.
روي أنّ امرأة معاذ قالت يا رسول اللّه ما حقّ الزّوجة على زوجها؟ قال أن لا يضرب وجهها ، ولا يقبحها ، وأن يطعمها ممّا يأكل ويلبسها ممّا يلبس ولا يهجرها (1) ».
وعن الباقر عليه السلام « قال جاءت امرأة فقالت يا رسول اللّه ما حقّ الزّوج على المرأة؟ فقال تطيعه ولا تعصيه ، ولا تتصدّق بشي ء من بيتها إلّا باذنه ، ولا تصوم تطوّعا إلّا باذنه ، ولا تمنعه نفسها ، وإن كانت على ظهر قتب ، ولا تخرج من بيتها إلّا بإذنه فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السّماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتّى ترجع ، قالت من أعظم الناس حقّا على المرأة؟ قال زوجها قالت فمالي من الحقّ مثل ماله عليّ؟ قال : لا ولا من كلّ مائة واحدة قالت والّذي بعثك بالحقّ لا يملك رقبتي رجل أبدا (2).
وقال صلى اللّه عليه وآله لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها (3).
قوله ( وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) أي زيادة في الحقّ ، وفضل فيه ، لأنّهم يشاركونهنّ في غاية النكاح ، ويختصّون بزيادة وجوب المهر والإنفاق والرعاية وغير ذلك.
5 - استفيد من ذكر الحقّ أنّه يجب على المرأة عقيب مراجعة الزّوج الانقياد
ص: 258
له والدخول في طاعته وذلك سبب ذكره هنا.
6 - إن قلنا باجتماع الحيض مع الحمل فالآية مخصوصة بمن عدا الحامل وإلّا فلا يكون الآية شاملة للحامل لانتفاء شرط حكمها وهو حصول القرء.
الرابعة ( وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ) (1).
روي أنّه لمّا نزلت الآية السابقة في عدّة ذوات الأقراء قيل فما عدّة اللّائي لم يحضن؟ فنزلت هذه الآية ، واختلف في أيّ شي ء وقعت الرّيبة؟ قيل في كون انقطاع حيضهنّ لكبر أم لعارض ، وقيل في حكمهنّ فلا تدرون ما الحكم فيهنّ والأوّل موافق لمذهب أكثر الأصحاب من كون الآئسة لا عدّة لها لما رواه جماعة منهم عبد الرحمن بن الحجّاج « عن الصادق عليه السلام ثلاث يتزوّجن على كلّ حال الّتي لم تحض ومثلها لا تحيض ، قال قلت وما حدّها؟ قال إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين ، والّتي لم يدخل بها والّتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض قال قلت وما حدّها؟ قال إذا كان لها خمسون سنة (2).
فعلى هذا تكون العدّة المذكورة أعني الأشهر الثلاثة لمن هي في سنّ من تحيض وانقطع منها الحيض لعارض ، من مرض أو رضاع أو غير ذلك سواء كان ذلك الانقطاع مع الشكّ في سنّها أو لا معه؟ بل الشّكّ في سبب الانقطاع وهو المشار إليه بقوله ( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) أو لا للشكّ بل مع القطع بانقطاعه والجزم بسببه ، وهو المشار إليه بقوله ( وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) .
فعلى هذا يكون المراد بقوله ( وَاللّائِي يَئِسْنَ ) أي حصل لهنّ صفة الآئسات
ص: 259
وهو انقطاع الحيض إمّا مع الريبة أو مع القطع ، فعدّتهنّ ثلاثة أشهر ، ولا يكون حينئذ في الآية دليل على عدم العدّة في اليائسة والصّغيرة ولا على وجودها نعم الحقّ أن لا عدّة عليهما لأنّ الغاية والحكمة في شرعيّتها العلم باستبراء الرّحم وهو منتف فيهما.
والثاني هو قول أكثر المفسّرين وبه قال السيّد المرتضى رضي اللّه عنه : أنّ الارتياب في وجوب العدّة لا في السّنّ ، وأنّ المراد باللّائي لم يحضن أي لم يبلغن سنّ الحيض ، عدّتهن ثلاثة أشهر حذف الخبر لدلالة ما تقدّم عليه واحتجّ بوجهين الأوّل سبب النّزول وهو أنّ أبيّ بن كعب قال يا رسول اللّه إنّ عددا من عدّة النساء لم تذكر في الكتاب الصّغار والكبار وأولات الأحمال فنزلت. الثاني أنّه لو أراد ما ذكره الأصحاب من الشكّ في ارتفاع الحيض لقال إن ارتبتنّ لأنّ المرجع في الحيض إليهنّ والجواب عن الأوّل أنّه لو كان المراد ما ذكره لقال إن جهلتم ولم يقل إن ارتبتم لأنّ سبب النزول كما ذكر يوجب ذلك لأنّ أبيّا لم يشكّ في عدّتهنّ بل جهل وعن الثّاني أنه أتى بالضّمير مذكّرا لكون الخطاب مع الرّجال لقوله ( وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ) ولأنّ النساء يرجعن في تعرّف أحكامهنّ إلى رجالهنّ وإلى العلماء ، فكان الخطاب لهم لا للنساء ، لأنّهنّ يأخذن الحكم منهم.
قوله ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ ) أي أجلهنّ مدّة وضع الحمل فإنّ « أن » مع الفعل في تقدير المصدر ، وهذا لا خلاف فيه في الطلاق ، وهل هو كذلك في الوفاة ، بمعنى أنّه لو تقدّم الوضع على أربعة أشهر وعشر ، يكون العدّة منقضية بذلك أم لا؟
قال أصحابنا لا بل عدّتها أبعد الأجلين وهو قول عليّ عليه السلام وابن عبّاس وقال الفقهاء الأربعة والأوزاعي بالأوّل محتجّين بعموم الآية.
واحتجّ أصحابنا بدخولها في عموم قوله ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) فقد دخل تحت عامّين ، ولا وجه للجمع بينهما إلّا بالقول بأبعد الأجلين
ص: 260
ولطريقة الاحتياط ولاختصاص آية الوضع بالمطلّقات ، ولو سلّم عمومها فهي مخصوصة بإجماع الإماميّة لدخول المعصوم فيهم.
وقال الجمهور : آية الوضع عمومها بالذات « وأزواجا » عمومها بالعرض وهو وقوعها تبعا للعامّ ، وهو « الّذين » والمحافظة على العموم الأوّل أولى ، ولأنّ الحكم معلّل بالوضع الموجب لنقاء الرّحم من ماء الميّت الّذي تعتدّ لأجله بخلاف آية ( أَزْواجاً ) ولأنّها متأخّرة نزولا فتقديمها تخصيص وتقديم تلك بناء للعامّ على الخاصّ والأوّل أرجح للاتّفاق عليه.
والجواب عن الأوّل بأنّه لا فرق بينهما عند الأصوليّين وعن الثاني بأنّ العلّة حاصلة على قولنا أيضا على أنّا نمنع أنّ الوضع علّة وعن الثّالث بأنّ التخصيص والبناء معا دليلان ، فلا فرق بينهما.
وهنا فوائد تتضمّن أحكاما :
1 - أنّها تبين بالوضع بعد الطلاق ولو بلحظة.
2 - أنّه لا يشترط في الوضع التماميّة فلو وضعت علقة بانت بها.
3 - لو كانت حاملا باثنين فوضعت واحدا بانت لكن لا تنكح حتّى تضع الآخر إلّا أن يكون الناكح الزّوج بعقد جديد.
4 - أنّ الوضع للحمل يتساوى فيه الحرّة والأمة ، وأمّا الأشهر فعدّة الأمة فيها النصف.
قوله ( وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ ) أي من النساء والرّجال في أحكام العدّة يسهّل عليه أموره.
الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) (1).
ص: 261
هنا فوائد :
1 - أنّ النكاح لم يجي ء في القرآن إلّا بمعنى العقد وهو دليل على كونه حقيقة فيه شرعا ، ولأنّه لو استعمل في الوطء لكان تصريحا بكونه حقيقة فيه لغة لا شرعا لأنّ من دأب القرآن التعبير عنه بالملامسة والمماسّة والمقاربة والتغشّي والإتيان والدخول والوطء والكلّ كناية وليس الصّريح فيه لغة إلّا النيك.
2 - أنّ المراد بقوله ( مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ) أي تنيكوهنّ ، وليست الخلوة الخالية عن ذلك قائمة مقامه في إسقاط العدّة واستقرار المهر جملة خلافا لأبي حنيفة.
3 - في قوله ( فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ) تنبيه على أنّ العدّة حقّ للزّوج لكون الرجوع للزوج فيها لا بعدها والزّوجة وإن كان لها حقّ النفقة والإسكان لكن حقّه أقوى ، لأنّ المنع من التزويج بغيره لأجله لا لها.
4 - قوله ( تَعْتَدُّونَها ) بمعنى تستوفون عددها ، من عددت لهم الدّراهم فاعتدّها ، كقولك كلته فاكتال ووزنته فاتّزن.
5 - أنّ الأمر بالتمتّع إمّا على الندب إذ لا متعة لغير المفروضة عند الأكثر أو المراد به نصف المهر أو الأمر مقيّد بعدم الفرض ، وليس المراد بالسراح هنا الطلاق إجماعا بل المراد به الإخراج من المنزل ، لعدم وجوب العدّة هنا فلا يجب الإسكان وكونه « جميلا » أى من غير إضرار ولا إخلال بحقّ.
والآية صريحة في عدم وجوب العدّة على غير المدخول بها.
السادسة ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (1).
( الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ) مبتدأ ( يَتَرَبَّصْنَ ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره أزواجهم
ص: 262
يتربّصن حذف لقرينة قوله تعالى ( وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) وتقدير الكلام والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا أزواجهم يتربّصن ، والمبتدأ الثاني مع خبره خبر للمبتدإ الأوّل.
وقيل : إنّ التقدير أزواج الّذين يتوفّون ، فحذف المضاف وأقيم المضاف » إليه مقامه ، وفيه نظر لأنّه لو كان كذلك لم يحتج إلى قوله ( وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) لأنّ ذلك يعلم من تأنيث الضّمير. وتأنيث العشر باعتبار اللّيالي لأنّها غرر الشهور والأيّام ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قطّ حتّى أنّهم يقولون صمت عشرا ويدلّ عليه قوله تعالى ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا عَشْراً ) (1) ثمّ قال ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا يَوْماً ) إذا عرفت هذا ففي الآية أحكام :
1 - أنّها ناسخة للآية الّتي بعدها في الترتيب وهي قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ) فإنّ ذلك كان في أوّل الإسلام أعني العدّة سنة والنفقة والإسكان ، ثمّ نسخ ، وهو قول أبي حنيفة وعند الشافعيّ الإسكان ثابت لم ينسخ ، وقال أبو مسلم الأصفهانيّ إنّ حكمها باق في الحامل.
وقال شاذّ من فقهاء العامّة وهو أبو حذيفة أنّه إن أوصى للزّوجة بشي ء وأنفق الورثة عليها فالحول ، وإن لم يوص وامتنع الورثة من الإنفاق كان لها أن يتصرّف في نفسها كيف شاءت بعد أربعة أشهر وعشر ، وهذان القولان انعقد الإجماع على بطلانهما ، نعم تضمّنت الآية الوصيّة للزّوجة فعند فقهاء العامّة أنّها منسوخة أيضا بآية الإرث من الثمن والرّبع ، ولقوله صلى اللّه عليه وآله « لا وصيّة لوارث » وعندنا الوصيّة جائزة لها وإن كانت وارثة لما يأتي من جواز الوصيّة للوارث.
2 - أنّها عامّة في المدخول بها وغيرها ، الصغيرة والكبيرة والحامل والحائل لكنّ الحامل بأبعد الأجلين كما تقدّم ، وكذا حكمها ثابت في الدائم والمنقطع
ص: 263
على الأقوى ، وهل حكمها ثابت في الأمة ، كما في الحرّة؟ للأصحاب قولان بعضهم أجرى في الأمة عمومها. وهو قول الشافعيّ والأصمّ وبعض جعل عدّتها النصف من ذلك وهو الأقوى أمّا أمّ الولد يموت سيّدها فحكم الأمة غير ثابت فيها قطعا (1) لكونها حال الاعتداد حرّة.
3 - هذه العدّة ليس فيها إنفاق ولا إسكان ، فلها أن تبيت حيث شاءت نعم يجب فيها الحداد وهو ترك الزينة لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت أكثر من ثلاثة أيّام إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا (2) فهل ذلك واجب على الأمة؟ قيل : نعم ، لعموم الحديث وقيل لا ، لأصالة البراءة والحديث عن الباقر عليه السلام كما رواه زرارة « الحرّة تحدّ والأمة لا تحد » (3) وعليه الفتوى.
4 - العدّة في الطلاق مبدأها وقوعه لأنّه السبب فلا يتأخّر مسبّبه أمّا هذه فمبدؤها للحاضر الموت ، وللغائب بلوغ الخبر ، ولو بخبر واحد فاسق لأنّه تكليف يكفي في ثبوته الظنّ لكن لا تنكح حتّى تثبت الموت بشاهدين عدلين أو بالشياع.
5 - علّل بعضهم التقدير بالأربعة أشهر وعشر بأنّ الجنين في الغالب يتحرّك بثلاثة أشهر إن كان ذكرا ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما يضعف حركته في المبادي فلا يحسّ بها.
6 - قوله ( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) أي انقضى أجلهنّ ( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ) من التعرّض للأزواج ، وعدم الحداد وغير ذلك ، إذا فعلن ذلك ( بِالْمَعْرُوفِ ) أي الوجه الّذي لا ينكره العقل ولا الشّرع. دلّ مفهومه على وجوب الإنكار عليهنّ لو فعلن خلاف المعروف.
ص: 264
السابعة ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) (1).
قالت الشافعيّة المراد التطليق الرّجعيّ اثنان لما روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله سئل أين الثالثة فقال عليه السلام « أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » وقال أصحابنا والحنفيّة (2) المراد
ص: 265
ص: 266
ص: 267
ص: 268
ص: 269
ص: 270
ص: 271
ص: 272
ص: 273
ص: 274
التطليق الشرعيّ تطليقة بعد تطليقة على التفريق كقوله تعالى ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) (1) أي كرّة بعد كرّة ومثله لبّيك وسعديك ، ولذلك قالوا : الجمع بين الطّلقتين أو الثلاث بدعة ، واحتجّ أصحابنا بعد أخبارهم الّتي رووها عن أهل البيت عليهم السلام بما روي في حديث ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال « إنّما السنّة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلّقها لكلّ قرء تطليقة » (2) وبأنّ هذا الكلام أعني « الطلاق
ص: 275
مرّتان » ليس إخبارا وإلّا لزم الكذب ، بل بمعنى الأمر أي ليكن الطّلاق مرّتين مثل قوله تعالى ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (1) أي يجب أن تؤمنوه.
ثمّ إنّ الأصحاب لمّا حكموا بتحريم الثلاث المرسلة ، والثنتين المرسلتين ، وأنّ ذلك بدعة اختلفوا في أنّه هل يقع واحدة بقوله « أنت طالق » وتلغو الضميمة والتفسير؟ أم لا يقع شي ء؟ قال جماعة بالأوّل وهو الحق (2) لأنّ قصد الكلّ
ص: 276
قصد لكلّ واحد من أجزائه ، فالواحدة إذن مقصودة صادرة من أهلها في محلّها فيكون واقعة وهو المطلوب.
وقال جماعة بالثاني (1) للنهي عن الجملة فتكون فاسدة قلنا النهي عن الجملة ليس نهيا عن كلّ فرد ، وقد حقّق في الأصول.
فائدة : قوله ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) يدلّ على مشروعيّة الرجعة لأنّ طلاق المطلقة غير متصوّر عقلا لأنّه إزالة قيد النّكاح ، ولا نكاح هنا ، وهو مثل الأمر بالعتق المتوقّف على الملك ، فهو من باب دلالة الاقتضاء ، قوله ( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ) أي على وجه سائغ ، وهو كناية عن ردّها إلى النكاح إمّا بالرّجعة إن كانت العدّة باقية ، أو باستيناف العقد إن انقضت.
واختلف في معنى التسريح بالإحسان ، فقيل هي الطلقة الثالثة ، لما تقدّم من قوله صلى اللّه عليه وآله ، وقال السّدى والضحّاك هو ترك المعتدّة حتّى تبين بانقضاء العدّة وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام وهو الأصحّ لأنّ الطّلاق لا يقع عندنا بالكناية بل بالتصريح.
الثامنة ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (2).
ص: 277
هذه إشارة إلى الطّلقة الثالثة ، وبه قال الباقر والصادق عليهما السلام والسدّى والضحّاك والنظّام وقال مجاهد : هو تفسير قوله ( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) فإنّ ذلك عنده هو الثالثة ، وبه قال الطبريّ والحقّ الأوّل إذا تقرّر هذا فهنا أحكام :
1 - مدلول الآية أنّه إذا طلّقها الزّوج عقيب الطّلقتين الأوليين ، والإمساك بعدهما ، طلقة ثالثة ، حرمت عليه حتّى تنكح زوجا غير ذلك المطلق ، وهذا الحكم عند أصحابنا مخصوص بما عدا طلاق العدّة ، فإنّ ذلك تحرم في التاسعة أبدا وطلاق العدّة هو أن يطلّق المدخول بها على الشرائط ثمّ يراجعها في العدّة ويطأها ثمّ يطلّقها مرّة ثانية ويفعل كما فعل أوّلا ثمّ يطلّقها ثالثة فإذا فعل ذلك ثلاثة أدوار حرمت عليه عندهم أبدا.
2 - يشترط في الزّوج الثاني شروط :
الأوّل أن يطأها بالعقد الدّائم فلو وطئ بالمنقطع (1) أو بالملك أو بالتحليل لم يفد إباحة.
الثاني أنّ العقد بمجرّده غير كاف عن الوطء لقوله صلى اللّه عليه وآله (2) لزوجة رفاعة (3)
ص: 278
لمّا حلّلها عبد الرّحمن بن الزّبير بفتح الزاء (1) فقالت إنّ له هدبة كهدبة الثوب (2) فقال صلى اللّه عليه وآله أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك (3) » والآية مطلقة قيّدتها السنّة الشريفة.
ص: 279
واقتصر ابن المسيّب على مجرّد العقد عملا بإطلاقها ، والإجماع على خلافه ويمكن تفسير النّكاح هنا بالإصابة ، ويكون العقد مستفادا من لفظ الزّوج.
الثالث : أن يطأها وهو بالغ مسلم (1) فلو وطئ صبيّا أو حال ارتداده لم تحلّل.
الرّابع : الوطي في القبل وهو مستفاد من ذوق العسيلة (2) نعم لا يشترط الإنزال إذ المراد بالعسيلة اللّذة ، وهي تحصل من دونه.
فرعان :
ألف - لو وطئ حراما بعد عقد صحيح كالوطي صائما أو مع الحيض هل يحلّل أم لا؟ إشكال من أنّه منهيّ عنه فلا يكون مأمورا به ، ومن صدق الوطي بعقد صحيح
ص: 280
وبه قال أكثر أهل العلم ، وقال مالك إنّ الوطي في الحيض لا يحلّل وإن أوجب العدّة وكلّ المهر.
ب - النكاح المعقود بشرط التحليل أي بشرط أن ينكحها ثمّ يطلّقها لتحلّ على الزّوج الأوّل قال الأكثر إنّه فاسد ، وجوّزه أبو حنيفة مع الكراهية ، وعنه أيضا إن أضمرا التحليل ولم يصرّحا به فلا كراهية.
3 - قوله ( فَإِنْ طَلَّقَها ) أي الزّوج الثّاني ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) أي على الزوجة والزّوج الأوّل ( أَنْ يَتَراجَعا ) أي بعقد جديد ومهر لأنّه نسبة إليهما فكان مشترطا برضاهما فيكون عقدا إذ الرّجعة لا يشترط فيها رضاها.
قوله ( إِنْ ظَنّا ) أي إن ترجّح عندهما بقرائن الأحوال وما يظهر من أخلاقهما أنّهما يقيمان حدود اللّه في حقوق الزوجيّة ، وذلك ليس بشرط في صحّة العقد لجواز الغفلة عن الطّرفين ، والظنّ هنا على حقيقته وهو الاعتقاد الراجح لا أنّه بمعنى العلم إذ العواقب غير معلومة إلّا لله. واعلم أنّه يستفاد من قوله ( فَإِنْ طَلَّقَها ) اشتراط كون عقد المحلّل دائما لا منقطعا ولا بشبهة ، لعدم دخول الطلاق فيهما.
تتمة : هذا الحكم وهو التحريم في الثّالثة إلّا مع التحليل يختصّ بالحرّة أمّا الأمة فيكفي في تحريمها طلقتان ، فيفتقر إلى المحلّل سواء كان زوجها حرّا أو عبدا ، للعلم بذلك من السنّة الشريفة وبيان أهل البيت عليهم السلام.
التاسعة ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (1).
بلوغ الشي ء هو الوصول إليه ، وقد يقال للدّنوّ منه وهو على الاتّساع ، وهو المراد هنا ، والأجل يقال للمدّة كلّها ، ولمنتهاها وغايتها ، والمعنى حينئذ في
ص: 281
الآية إذا قاربن انتهاء العدّة لأنّ بعد انتهائها لا إمساك ( فَأَمْسِكُوهُنَّ ) أي أرجعوهنّ إلى النّكاح ( أَوْ سَرِّحُوهُنَّ ) أي أبقوهنّ على حكم العدّة ، ويكون الأمران بالمعروف : أي على وجه لا ضرر فيه ، ولا مخالفة لأوامر اللّه ، وهذا الحكم قد تقدّم لكنّه أعاده للاهتمام به.
قوله ( وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً ) أي لا تراجعوهنّ إرادة الإضرار بهنّ كالتقصير في النفقة أو المسكن أو لتطويل المدّة في حبالكم ، ويكون ذلك مكروها لها. قوله ( لِتَعْتَدُوا ) أي لتظلموهنّ بالتطويل عندكم أو بالإلجاء إلى الافتداء بالمهر ، واللّام متعلّقة بالضرار إذ المراد تقييده ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ) أي الإمساك للضرار ( فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) بإيقاعها في الإثم واستحقاق العقاب.
العاشرة ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).
البلوغ هنا هو الوصول إلى الشي ء تامّا ، والأجل هو المدّة كلّها ، فقد دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين ، والعضل بالضاد المعجمة الحبس والتضييق ومنه عضلت الدجاجة إذا نشبت بيضها فلم تخرج ، قيل نزلت هذه في الأولياء لما روي أنّ معقل بن يسار عضل أخته أن ترجع إلى زوجها بعد طلاقه لها فنزلت ، وقال السدىّ نزلت في جابر بن عبد اللّه عضل بنت عمّة له ، واستدلّ الشافعيّة بذلك على ثبوت الولاية على المرأة ، وأنّها لا تزوّج نفسها إذ لو تمكّنت لم يكن لعضل الوليّ معنى وارتضاه المعاصر وقال الراوندي إنّ الخطاب للأزواج لقوله ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) ولأنّه لا ولاية عندنا على البالغة الرشيدة ، ولإسناد النكاح إليها في قوله ( أَنْ يَنْكِحْنَ ) فعلى هذا يكون المعنى ولا تعضلوهنّ بأن تراجعوهنّ عند قرب انقضاء
ص: 282
الأجل لا للرغبة فيهنّ بل للإضرار ومنعهنّ من التزويج هذا آخر كلامه.
وفيه نظر من وجوه الأوّل أنّ هذا المعنى على قوله قد تقدّم ، فيكون إعادته تأكيدا والتأسيس أولى ، الثّاني أنّ بلوغ الشي ء هو إدراكه بتمامه والأجل حقيقة في المدّة فحمل البلوغ على المقاربة عدول عن الظاهر من غير ضرورة ، ولا يرد حملنا البلوغ في السابقة على المقاربة لأنّ ذلك لدليل وهو الأمر بالإمساك ، الثالث أنّ النكاح في العدّة باطل والخطبة فيها حرام ، وعلى قوله يلزم وقوع النكاح أو الخطبة في العدّة ، فلا يجوز توجّه النهي إلى المنع من الحرام والباطل [ و] لأنّ العضل على ما ذكر يستلزم إضمار المراجعة [ في العدّة ] والأصل عدمه ، ولا ضرورة إليه.
فإذن الأولى أن يكون الخطاب للمطلّقين ، ويكون العضل للنساء لا بالمراجعة في العدّة بل تعدّيا وظلما ويكون ذلك بعد انقضاء العدّة وتسمية الخطّاب أزواجا تسمية الشي ء بما يؤل إليه على جهة المجاز.
ثمّ قال الراونديّ : ويجوز أن يحمل العضل في الآية على الجبر والحيلولة بينهنّ وبين التزويج دون ما يتعلّق بالولاية لأنّ العضل هو الحبس والمنع والضيق وهذا الوجه حقّ.
قلت : ولا يكون الخطاب حينئذ للأولياء ولا للأزواج ، لإطلاق كلامه لكن ما قلناه لقوله ( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) أولى.
قوله ( ذلِكَ ) أي الخطاب المذكور يوعظ به المؤمنون لأنّهم هم المنتفعون به دون غيرهم ، كقوله ( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) وقوله ( ذلِكُمْ ) أي عملكم بمقتضى ما ذكر ( أَزْكى لَكُمْ ) أي أنفع ( وَأَطْهَرُ ) لنفوسكم من دنس الآثام.
ص: 283
وفيه آية واحدة :
وهي قوله ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (1).
الخطاب للأزواج جملة ثمّ ثنّاه بالنسبة إلى كلّ زوجين ، والمراد بما آتيتموهنّ المهور ، والضمير في ( فَإِنْ خِفْتُمْ ) للحكّام لأنّهم الآمرون بذلك ، روي أنّ جميلة بنت عبد اللّه بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت تبغضه وهو يحبّها فأتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت يا رسول اللّه لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شي ء [ واحد ] واللّه ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكنّني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضا إنّي رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدّهم سوادا وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجها فنزلت الآية ، وكان قد أصدقها حديقة فقال ثابت يا رسول اللّه مرها فلتردّ عليّ الحديقة ، فقال صلى اللّه عليه وآله ما تقولين؟ قالت نعم وأزيده قال لا حديقته فقطّ فقال صلى اللّه عليه وآله لثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها ، فاختلعت منه بها وهو أوّل خلع كان في الإسلام.
إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - دلّت الآية الكريمة على عدم جواز أخذ شي ء ممّا أمهر به النساء إلّا في
ص: 284
صورة الافتداء ، وهو أن تكره المرأة الرجل ، فتبذل له صداقها أو غيره أو الصداق مع غيره ليخلعها ويطلّقها بذلك فيجيب الزّوج على الفور إلى مطلوبها ويسمّى خلعا أيضا لأنّ المرأة كاللّباس لقوله ( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ) (1) فمفارقتها كخلع اللّباس.
2 - إذا كانت الكراهة من الزوجة يسمّى خلعا وإن كانت منهما معا يسمّى مباراة ويختلف حكمهما بوجوه :
الأوّل : ما ذكر من اختصاص الكراهية بالزوجة في الخلع كما دلّ عليه حديث ثابت بن قيس والمبارأة الكراهة منهما كما دلّ عليه ظاهر الآية.
الثّاني : أنّ المبارأة لا بدّ فيها من الاتباع بلفظ الطلاق ، وأمّا الخلع ففيه خلاف أجود القولين الاتباع احتياطا.
الثالث : لا يجوز في المبارأة أخذ الزائد عمّا دفع ، بخلاف الخلع فإنّ أكثر الفقهاء على جواز الزائد فيه وكرّهه أبو حنيفة وابن المسيّب قال لا يجوز إلّا البعض لا الكلّ ولا الزائد وكأنّه نظر إلى قوله ( مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ ) ومن هنا يحتمل التبعيض وقوله صلى اللّه عليه وآله في حديث ثابت « لا حديقته فقط » لا يمنع الزائد لأنّه حكاية حال مطلوب زوجها فإنّه لم يطلب سوى الحديقة.
3 - الطلاق يقع بالفدية ويفيد فائدة الخلع والمبارأة وحكمه حكمهما في أخذ الزائد وعدمه.
4 - يشترط فيهما شرائط الطلاق كلّها من غير فرق.
5 - قيل يجب الخلع إذا قال لأدخلنّ عليك من تكرهه أو لأوطئنّ فراشك من تكرهه والحقّ عدمه ، بل يستحبّ ذلك استحبابا مؤكّدا لمكان الحميّة والنخوة وقبح الصّبر على المعاشرة مع ذلك الخطاب.
6 - الفرقة في هذا الباب فرقة بينونة لا يصحّ للزّوج الرّجوع بعدها إلّا أن ترجع الزّوجة في البذل والعدّة باقية ، فللزوج حينئذ أن يرجع.
ص: 285
7 - يرد على قوله تعالى ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) سؤال وهو أنّ المرأة تعطي ما هو لها فأيّ جناح عليها في ذلك حتّى ينفى ، وأجيب بوجوه :
الأوّل جواب الراونديّ وهو أنّه لو خصّ الرّجل بالذكر لأوهم أنّها عاصية وأن كانت الفدية له جائزة ، فبيّن الاذن لهما لئلّا يوهم أنه كالربا المحرّم على الآخذ والمعطي.
الثاني : جواب الفرّاء أنّه كقوله تعالى ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (1) والإخراج إنّما هو من الملح دون العذب فجاز للاتّساع.
الثالث ما قاله الراونديّ أيضا الّذي يليق بمذهبنا أنّ المبيح للخلع هو ما لولاه ، لكانت المرأة به عاصية ، فهما مشتركان في أن لا يكون عليهما جناح إذا كانت تعطي ما نفى عن الزّوج فيه الإثم فاشتركت فيه لأنّها إذا أعطت ما يطرح الإثم احتاجت هي إلى مثل ذلك أي أنّها نفت عن نفسها الإثم بأن افتدت لأنّها لو أقامت على النشوز والإضرار لأثمت ، وكان عليها جناح في النشوز فخرجت عنه بالافتداء.
الرّابع ما خطر لهذا الضعيف وهو أنّه لمّا كان النكاح مرغّبا فيه ومندوبا إليه ، بل ربّما آل إلى الوجوب فالساعي في رفعه على حدّ الخطيئة والجناح فالمرأة لمّا بذلت الفدية ورغّبته في فراقها فقد شاركته في إزالة ذلك الفعل المرغّب فيه المندوب إليه ، بل ربّما ألجأته إلى ذلك بإظهار كراهيتها له فنفى عنها الجناح لموضع الافتداء.
8 - لا يحلّ للزّوج أخذ الفدية لو كان هو سببا لكراهتها له ، بأن يكرهها بالتقصير في حقوقها ليحملها على كراهيتها له فتبذل الفدية ، واستفيد من قوله ( فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) أنّه لا يقع ذلك من المتبرّع وأنّه لا بدّ فيه من المعلوميّة لاقتضاء عقود المعاوضات العلم بالعوضين وأنّه يكون مملوكا لها أيضا لعدم جواز التصرّف في ملك الغير.
ص: 286
ولنتبع هذا الباب بهذه الآية وهي
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) (1).
اشتملت هذه الآية على أحكام ثلاثة :
1 - النهي عن إمساك الزّوجة مع عدم القيام بحقوقها على وجه المضارّة بها حتّى تموت فيرثها فعلى هذا يكون ( كَرْهاً ) منصوبا على الحال أي وهنّ كارهات لذلك ، والمصدر بمعنى الحال وقيل : كان الرّجل إذا مات وله قريب من أب أو أخ أو حميم عن امرأة ألقى ثوبه عليها ، وقال أنا أحقّ بها من كلّ أحد فقيل ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) أي تأخذوهنّ على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهنّ كارهات لذلك ، على قراءة كرها بالفتح ، أو مكرهات على قراءة كرها بالضمّ فعلى الأوّل الموروث نفسها وعلى الثاني مالها (2) وقيل الخطاب للأولياء والأقرباء ، لأنّهم كانوا يمنعون المرأة القريبة من التزويج ليكون مالها لهم من غير مشارك.
2 - قوله ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ) أي تحبسوهنّ عندكم لا لرغبة فيهنّ بل مضارّة لتفتدي نفسها منه بالمهر كلّه أو بعضه وظاهرها يدلّ على قول ابن المسيّب.
3 - أنّها مع الإتيان بالفاحشة ، يجوز عضلها ، فقيل الفاحشة الزنا وقيل سوء العشرة ، وشكاسة الخلق ، وإيذاء الزّوج والأصحّ الأوّل فإذا ثبت ذلك فيها شرعا جاز حبسها ومضارّتها لتفتدي نفسها وقيل نسخ ذلك بوجوب الحدّ ، وبه قال قتادة.
ص: 287
وهو تشبيه الرّجل زوجته المنكوحة دائما أو منقطعا على قول بظهر امّه أو إحدى المحرّمات نسبا أو رضاعا. واشتقاقه من الظهر ، وكان ذلك طلاقا في الجاهليّة فجاء الإسلام بتحريمه ، لكن مع ترتّب الأحكام عليه كما يجي ء ونزل فيه آيات أربع هي قوله في أوّل سورة المجادلة بكسر الدّال وفتحها :
( قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (1)
روي أنّ خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت أخي عبادة جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابّة مرغوبة فلمّا علا سنّي ونثرت بطني أي كثر ولدي ، جعلني [ إليه ] كأمّه وإنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا
ص: 288
وإن ضممتهم إليّ جاعوا فقال صلى اللّه عليه وآله « ما عندي في أمرك شي ء » وروي أنه قال لها « حرمت عليه » فقالت يا رسول اللّه ما ذكر طلاقا وإنّما هو أبو أولادي وأحبّ الناس إليّ فقال عليه السلام حرمت عليه فقالت فأشكو إلى اللّه فاقتي ووحدتي ، وكلّما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « حرمت عليه » هتفت وشكت إلى اللّه فنزلت الآيات فطلبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وخيّره بين الطلاق والإمساك فاختار إمساكها (1).
إذا عرفت هذا فهنا فوائد تتبعها أحكام :
1 - لمّا أتت المرأة في خطاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالمقدّمات المشهورة [ المسلّمة ] الّتي ليست حجّة في نفس الأمر على الأحكام الشرعيّة سمّى كلامها مجادلة إذ القياس الجدليّ مركّب من المقدّمات المشهورة أو المسلّمة والتحاور التراجع في الكلام سؤالا وجوابا والإتيان بالجملة المضارعيّة أي ( وَاللّهُ يَسْمَعُ ) بعد أن قال ( قَدْ سَمِعَ اللّهُ ) كأنّه جواب لتوقّع الرسول صلى اللّه عليه وآله أو المرأة سماع اللّه ذلك الخطاب ثمّ أكّد ذلك وعلّله بقوله ( إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ ) أي للأقوال ( بَصِيرٌ ) أي بالأحوال.
2 - المظاهرة كما قلنا عبارة عن قول الرّجل لزوجته : « أنت عليّ كظهر أمّي » ويشترط فيه شروط الطلاق كلّها من الطهارة من الحيض ، وسماع العدلين وغير ذلك ، وهل يقع لو شبّهها بغير الظهر كالبطن والفخذ وغير ذلك من الأعضاء؟ الأقوى عندنا عدم الوقوع وكذا لو شبّه عضوا من زوجته بظهر أمّه الأقرب عدم وقوعه أيضا اقتصارا على منطوق النصّ وجمودا في التحريم على ما اجمع عليه وقال الفقهاء إذا شبّهها بجزء يحرم النظر إليه كالبطن والفخذ وقع.
3 - في قوله ( ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ) إشارة إلى أنّه مع التشبيه المذكور لا تصير الزوجة امّا حقيقة وعلّله بقوله ( إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ ) وقد يستفاد من هذا التعليل عدم الوقوع لو شبّهها بالأمّ من الرضاع ، لعدم التوليد والأصحّ عدمه لقوله صلى اللّه عليه وآله « يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب (2) » نعم لو شبّهها بغير الامّ
ص: 289
من المحرّمات النسبيّة كالأخت وقع على الأصحّ ، وفاقا من أبي حنيفة والنخعيّ والحسن والأوزاعيّ لكن عندنا إن أتى بصيغة الظهر وقع وإلّا فلا ، خلافا للشافعيّ فإنّه قصّره على الامّ ، وبه قال قتادة والشعبيّ ولو شبّهها بمحرّمات المصاهرة مؤبّدا أو غيره لم يقع عندنا خلافا للحنفيّة.
4 - الظهار المذكور حرام لوصفه بالمنكر ، نعم لا عقاب فيه لتعقّبه بذكر المغفرة والرّحمة ، فهو ملحق بالصغائر الّتي تقع مكفّرة ، والزّور المحرّف من القول.
5 - إذا حصل الظهار بشرائطه فإن صبرت المرأة فلا كلام ، وإن رفعت أمرها إلى الحاكم طلبه وخيّره بين الطلاق والإمساك ، فإن اختار الطّلاق وطلّق وقع رجعيّا وإن اختار الإمساك أمره بالتكفير قبل العود ، فإذا كفّر ساغ له العود إليها وإن امتنع من الأمرين معا أنظره ثلاثة أشهر ثمّ طلبه وأمره بما أمر به أوّلا فإن أصرّ ضيّق عليه في المطعم والمشرب وحبسه حتّى يختار أحدهما ، ويجب كون الكفّارة قبل المسيس إجماعا ، وصريح الآية يدلّ عليه ، وأنّه يحرم الوطء قبلها فلو فعل وجب كفّارة أخرى عليه عندنا ، وعند القوم يستغفر اللّه لا غير ، وليس عليه سوى كفّارة الظهار.
6 - الآية صريحة في كون الكفّارة مرتّبة ومن حقّ المرتّبة أن لا ينتقل إلى الثانية إلّا بعد العجز عن الاولى ، وقد تقدّم وصف الرّقبة والإطعام ، ويشترط في الصيام المتابعة بين الشهرين ، لوصفهما في الآية بذلك نعم لو صام يوما من الشهر الثاني ثمّ أفطر كفى في صدق المتابعة ، لكن لا يباح حينئذ الوطء حتّى يتمّ الصّوم وكذا في أثناء الإطعام.
7 - قوله ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) إلخ فيه وجوه :
الأوّل أنّ الّذين كانت عادتهم هذا القول في الجاهليّة ثمّ قطعوه بالإسلام ثمّ قالوه بعد الإسلام فكفّارته كذا.
الثّاني : يعودون إلى ما قالوه بالاستدراك لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه
ص: 290
ومنه المثل عاد غيث على ما أفسده أي تداركه بالإصلاح ، أي ينقض ما اقتضاه قوله « وذلك » عند الشافعيّ أن يمسكها زمانا يمكنه مفارقتها فيه وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظره بشهوة وعند مالك بالعزم على الجماع ، والمعنى أنّ تدارك هذا القول وتلافيه بالتكفير.
الثّالث أن يراد بما قالوا ما حرّموه على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلا للقول منزلة المقول فيه ، نحو قوله تعالى ( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) (1) والمعنى؟؟؟؟ يريدون العود للتماسّ ، والمماسّة كناية عن الجماع ، وهذا القول أجود لأنّه الموافق لقول أصحابنا من تفسير العود بإرادة الوطي ، وإضمار الإرادة هنا كاضمارها في قوله ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ) (2).
الرابع قول الظاهريّة وهو تكرار الظّهار وليس ببعيد لأنّ عندنا يتكرّر الكفّارة بتكرّر الصيغة ، لكن يلزمه بدليل الخطاب أن لا تجب الكفّارة إلّا مع تكرار الصّيغة ، ولا تجب بدونه ، وليس كذلك.
الخامس قول أبي مسلم يعني أن يحلف على ما قال.
السّادس أن يعود إلى المقول فيها ، بإمساكها أو استباحة استمتاعها.
8 - إنّما ذكر كون العتق والصّيام قبل المسيس ، ولم يقيّده في الإطعام لكونه بدلا عنهما فالقيد فيهما قيد فيه.
9 - روي أنّه صلى اللّه عليه وآله لمّا طلب الأوس واختار الإمساك فقال له صلى اللّه عليه وآله « كفّر بعتق رقبة » فقال ما لي غيرها ، وأشار إلى رقبته ، فقال « صم شهرين متتابعين » فقال لا طاقة لي بذلك ، فقال « أطعم ستّين مسكينا » فقال ما بين لابتيها أشدّ مسكنة منّي فأمر له النبيّ صلى اللّه عليه وآله بشي ء من مال الصدقة وأمره أن يطعمه عن كفّارته فشكى خصاصة حاله وأنه أشدّ فاقة وضرورة ممّن أمر بدفعه إليهم فضحك النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأمره بالاستغفار ، وأباح له العود إليها (3) وفيها دلالة على أنّه مع العجز عن
ص: 291
الكفّارة يستغفر اللّه ويعود ويؤيّده رواية عمّار موثّقا عن الصادق عليه السلام أنّ الظهار إذا عجز صاحبه عن الكفّارة فليستغفر ربّه ولينو أن لا يعود ، فحسبه بذلك كفّارة.
وبعض أصحابنا قال إذا لم يطق إطعام ستّين مسكينا صام ثمانية عشر يوما. ومنهم من قدّم الصوم الثمانية عشر على الإطعام ، واجتزأ بها عن الإطعام والأولى أنّه مع العجز عن الخصال المنصوصة في الكتاب ينتقل إلى الاستغفار.
وهو الحلف باللّه على ترك الوطء للزوجة المنكوحة بالعقد مضارّة لها إمّا مطلقا أو مؤبّدا أو مقيّدا بمدّة يزيد على أربعة أشهر أو مضافا إلى فعل لا يقع إلّا بعد انقضاء مدّة التربّص قطعا أو ظنّا وفيه آيتان هما :
قوله تعالى ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1).
هنا مسائل :
1 - إذا وقع الإيلاء على الوجه المذكور إن صبرت المرأة فلا كلام وإن رفعت أمرها إلى الحاكم أمره بالكفّارة والعود ، فان أبى أنظره أربعة أشهر ثمّ ألزمه إمّا الطّلاق أو الفئة والتكفير ، فان امتنع منهما معا حبسه وضيّق عليه في المطعم والمشرب حتّى يختار أحدهما ولا يأمره الحاكم بذلك إلّا مع مرافعتها (2) وكذا في الظّهار ، والجارّ والمجرور في قوله « للّذين » خبر والمبتدأ « التربّص » وهو الانتظار و « من » متعلّق بتربّص لأنّه يتضمّن معنى التعدّي فعدّي « بمن »
ص: 292
وإن كان في الأصل يعدّى بعلى ، ويجوز أن يراد : لهم من نسائهم تربّص أربعة أشهر كقولك : لي منك نصر ومعونة.
2 - المراد بالفئة هو الجماع إن كان قادرا عليه ولا مانع منه شرعا ولا عرفا فلو عجز أو حصل المانع الشرعيّ أو العرفيّ ففئته إظهار العزم على ذلك ، وتعقيب ذلك بالغفران والرحمة ، لما في ذلك من الإثم بقصد إضرار الزّوجة.
3 - استفيد من تقدير المدّة بأربعة أشهر أنّه لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر ، وإلّا لما جاز لها المرافعة والمطالبة.
4 - دلّ قوله « وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ » على عدم وقوعه بالمستمتع بها إذ لا طلاق في نكاحها ومنهم من يقول بوقوعه بها ويقدّر في الكلام إضمارا أي وإن عزموا الطّلاق فيمن يقع بها فانّ اللّه سميع عليم ، وهو ضعيف لأصالة عدم التقدير وانتفاء الضرورة ، ولفظ « نسائهم » وإن كان جمعا مضافا وهو من صيغ العموم فقد خصّ بأخبار أهل البيت عليهم السلام وفي قوله « فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » تهديد ، والعزم تصميم الإرادة على أن يفعل الشي ء.
وهو لغة الطرد والإبعاد وشرعا مباهلة بين الزّوجين سببها قذف الرّجل امرأته بالزنا مع دعوى المشاهدة وعدم البينة أو نفي ولد ولد على فراشه مع شرائط إلحاقه به ، وفيه آيات أربع هي قوله :
( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ
ص: 293
لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ ) (1).
روى الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه قال لمّا نزلت ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) الآية قال سعد بن عبادة يا رسول اللّه إنّي لأعلم أنّها حقّ من عند اللّه تعالى لكن تعجّبت أن لو وجدت لكاع يفخذها لم يكن لي أن أهيجه ولا أحرّكه حتّى آتي بأربعة شهداء ، فو اللّه إنّي لا آتي بهم حتّى يقضي حاجته؟ فما لبثوا حتّى جاء هلال بن أميّة فقال يا رسول اللّه إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت عليها رجلا يقال له شريك بن السّحماء فرأيت بعينيّ وسمعت باذنيّ فكره النبيّ صلى اللّه عليه وآله ذلك فقال سعد : الآن يضرب النبيّ صلى اللّه عليه وآله هلال بن أميّة ويبطل شهادته في المسلمين فقال هلال لرسول اللّه : واللّه إنّي لأرجو أن يجعل اللّه لي منها مخرجا فبينا هم كذلك إذ نزلت « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ » الآيات فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أبشر يا هلال فقد جعل اللّه لك فرجا ومخرجا.
وروي أنّ المعترض هو عاصم ابن عدي الأنصاري فقال جعلني اللّه فداك إن وجد رجل مع امرأته رجلا فأخبر جلد ثمانين جلدة وردّت شهادته أبدا وإن ضربه بالسّيف قتل به ، وإن سكت سكت على غيظ وإلى أن يجي ء بأربعة شهداء فقد قضى حاجته ومضى ، اللّهم افتح وخرج ، فاستقبله هلال بن أميّة فأتيا النبيّ صلى اللّه عليه وآله فأخبر عاصم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وكلّم خولة زوجة هلال فقالت لا أدري الغيرة أدركته أم بخلا بالطعام ، وكان الرّجل نزيلهم ، فقال هلال لقد رأيته على بطنها فنزلت الآية فلاعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بينهما وقال لها إن كنت ألممت بذنب فاعترفي به فالرّجم عليك أهون من غضب اللّه فانّ غضبه هو النار ثمّ قال إن جاءت به اصيهب اثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك ، وإن جاءت به أورق جعدا جماليّا خدلّج السّاقين فهو لغير الّذي رميت به قال ابن عبّاس رضي اللّه عنه جاءت بأشبه خلق اللّه بشريك فقال صلى اللّه عليه وآله لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن وروي أيضا أنّ عويمر العجلانيّ
ص: 294
رمى زوجته فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله البيّنة وإلّا حد في ظهرك ، فنزلت (1)
إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - الكلام المذكور ليس على ظاهره ، وذلك لأنّ فيه مشاكلة وحذفا أمّا المشاكلة فلأنّ المراد بالشهادة هنا القسم سمّي بها لقيامها مقام شهادة الشهداء كما هو في باقي القضايا الشرعيّة ، ولتطابق قوله « وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ » وأمّا الحذف فلأنّ تقديره وإن لم يكن لهم شهداء فشهادة أحدهم أي يمينه يقوم مقام الشهداء وقرئ « أربع » بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف أي هنّ أربع وقرئ بالنّصب على أنّ فعله محذوف أي يشهد أربع ، ومن عرف عادة القرآن في الحذف والاكتفاء بسياق الكلام لا ينكر ذلك وقيل الرفع على أنّه خبر « شهادة » أي فواجب شهادة أحدهم والنصب على المصدر وهو ضعيف أمّا الأوّل فلا قرينة تدل عليه والثاني لا نظير له في كلامهم فانّ المصدر لا ينصب بالمصدر.
2 - صورة اللّعان أن يبدء الرّجل فيقول أشهد باللّه إنّي لمن الصّادقين فيما رميتها به ، ويكرّر ذلك أربع مرات مع الاولى ثمّ يقول إنّ لعنة اللّه عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به ، ثمّ تقول المرأة أربع مرّات : أشهد باللّه إنّه لمن الكاذبين فيما رماني به ، وتقول في الخامسة إنّ غضب اللّه عليّ إن كان من الصادقين فيما رماني به. عملا بصورة النصّ ، ويجب إيقاعه بهذه الألفاظ من غير تغيير ولا تبديل مراعيا للاعراب والترتيب والموالاة ، فلو غيّر كلمة أو حرفا بدلا عن المذكور لم يكن لعانا صحيحا ويجب كونه بالعربيّة ، وعند الحاكم ، وتعيين المرأة بالإشارة أو التسمية الصريحة.
3 - إذا تمّ اللّعان وقعت الفرقة بينهما تحريما مؤبّدا ولا يفتقر إلى طلاق الحاكم ولا حكمه بالفرقة عندنا وبه قال الشافعيّ ولقوله صلى اللّه عليه وآله المتلاعنان لا يجتمعان
ص: 295
أبدا (1) وقال أبو حنيفة تقع الفرقة بحكم الحاكم فرقة طلاق بائن ولا يتأبّد التحريم فلو أكذب نفسه جاز له أن يتزوّجها عنده.
4 - اشترط أكثر الأصحاب كونها مدخولا بها وعقدها دائم ، فلو لم يدخل. أو كان النكاح منقطعا فعليه الحد للقذف ولا لعان ، واستدلّوا بالأحاديث ، وقال جماعة بعدم ذلك عملا بعموم اللّفظ فإنّ « أزواجهم » جمع مضاف وهو للعموم ، والتحقيق أن نقول إن صحّ تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، فالقول هو الأوّل وإن لم يصحّ فالقول هو الثاني هذا في القذف بالزنا ، أما نفي الولد فلا بدّ من الدّخول. ليحصل شرط الإلحاق.
5 - يشترط كونها زوجة أو في حكمها حال القذف ، فلو قذف أجنبيّة أو مطلّقة بائنة فالحدّ ولا لعان أما المرمي به (2) فهل يشترط كونه حال الزوجيّة أم يكفي ولو كان سابقا على النكاح قولان منشؤهما من عموم « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ » وهو أعم من السابق وغيره ، ولأنّه يصدق أنه قذف زوجته فيدخل في الآية ، ومن. عموم « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً » (3) والأقوى الأوّل فلو قذف زوجته ثمّ أبانها كان له اللّعان.
6 - دلّ قوله « وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ » على اشتراط عدم حصول الشهداء إذ الجملة حاليّة أي والحال أنّه لم يكن لهم شهداء إلّا أنفسهم ، فلا لعان مع. وجود الشهداء ، فلو عدل عن الشّهادة هل له أن يلاعن؟ قيل نعم والحقّ عدمه أمّا. أوّلا فللآية ، والمشروط عدم عند عدم شرطه إذ المبتدأ هنا فيه معنى الشرط ، وأمّا أوّلا فللآية ، والمشروط عدم عند عدم شرطه إذا المبتدأ هنا فيه معنى الشرط ، وأمّا. ثانيا فلأنّ اللّعان على خلاف الأصل فإنّ شهادة الإنسان لنفسه أو يمينه لنفسه غير مقبولين فاقتصر على مورد النصّ.
7 - لمّا قذف وجب عليه حدّ القذف فلمّا لاعن سقط عنه ووجب عليها حد
ص: 296
الزنا لأنّ أيمانه شهادات فلمّا لاعنت سقط عنها لقوله « وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ » وهو الحد هنا فلو أكذب نفسه لم يزل حكم اللّعان ، نعم هل يحدّ للقذف؟ قيل لا لسقوطه بلعانه ، وقيل : نعم ، لزيادة الهتك وتكرار القذف ، وهو قويّ ولو أكذبت نفسها فإشكال : من قوله « وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ » ولا موجب للعود ، ومن عموم « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (1) » فإذا أقرّت أربعا وجب الحد.
8 - لمّا ثبت في الأصول أنّ خصوص السّبب لا يخصّص وثبت قوله صلى اللّه عليه وآله « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (2) كان حكم آية اللّعان عامّا باقيا وكذا الكلام في الظّهار.
وهو قطع الإسلام بقول كإنكار ما علم من الدّين ضرورة أو عمل كالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات وغير ذلك ممّا علم من الدّين ضرورة وجوب تعظيمه ويستدلّ على قطعه النكاح بآيات تحريم المشركين والمشركات ، وبقوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (3) » وقد تقدّم بيان ذلك ثمّ الارتداد له أحكام مذكورة في كتب الفقه فلتطلب هناك ولنقتصر من كتاب النّكاح على هذا.
ص: 297
والآيات هنا أقسام.
وهو آيات :
الاولى ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (1).
امتنّ على عباده بأنّه خلق جميع ما في الأرض لهم ، والمراد به ما ينتفع به لأنّ ما فيه إضرار أو خلا عن نفع لا يقع به امتنان ثمّ إنّ ذلك المنتفع به ، لو لم يكن محلّلا لما حسن أيضا الامتنان إذ لا يمتنّ أحد على أحد بشي ء حال بينه وبينه لقبحه في نظر العقل ، فيكون الأشياء كلّها على أصالة الإباحة وهو المطلوب ، وإن خالف هنا قوم فقولهم باطل ، وقد تبين ذلك في الأصول.
الثانية ( يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) (2).
قيل : نزلت في قوم حرّموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس والأمر هنا للإباحة وأمّا « حَلالاً » فيحتمل نصبه على مفعوليّة « كُلُوا » والأجود أنّه صفة مصدر محذوف والأجود منه أنّه حال « مِمّا فِي الْأَرْضِ » والطيّب يقال لمعان الأوّل : ما هو مستلذ الثاني : ما حلّله الشارع ، الثّالث : ما كان طاهرا ، الرّابع : ما خلا عن الأذى في النفس والبدن ، وهو حقيقة في الأوّل لتبادره إلى الذهن وهو المراد هنا
ص: 298
لئلّا يلزم التكرار لو أريد الثاني أي كلوا ما جمع وصفي الحلّ واللّذّة ثمّ الخبيث يقال في مقابلة الطيّب في معانيه وهنا فوائد :
1 - ظاهر الآية إباحة الانتفاع بالأشياء المحلّلة المستلذّة لكنّه على الاجمال فبيانه إمّا بالكتاب أو السنة.
2 - يحتمل أن يراد بالطيب هنا المعنى الرابع ، فيدلّ على تحريم ما فيه أذى في البدن إمّا مرض أو هلاك أو في النفس إما إذهاب عقل أو شي ء من الإدراكات فعلى هذا لو كان قليله لا يؤذي في البدن بل كثيره حرم القدر المؤذي لا غير أمّا ما يذهب العقل كثيره دون قليله فيحرم كلّه لاقتضاء الحكمة المحافظة على العقل ولأنّه لو أبيح القليل لأدّى إلى الاشتمال ، وعدم المبالاة لغلبة الشهوة على النفس بخلاف الأذى البدني فانّ الحيوان بطبعه يحاذر على بدنه ، ويمتنع من المؤذي له ، فلم يحتج إلى تأكيد تحريم ما يؤذيه.
3 - « مِمّا فِي الْأَرْضِ » « من » للتبعيض و « ما » للعموم ، فيشمل النبات والحيوان والمعدن وقد خصّ ذلك العموم الكتاب والسنّة بتحريم أشياء يأتي بعضها هنا.
4 - قيل إنّ اللّه تعالى حافظ كلّ شريعة بحفظ خمسة أشياء الأوّل النفوس بشرع القصاص ، الثّاني : الدين بعقاب المرتدّ ، الثّالث : النسب بتحريم الزّنا ووجوب الحدّ عليه ، الرّابع الأموال بتضمين الغاصب والسّارق وتعزير الأوّل وقطع الثّاني الخامس : العقول بتحريم المسكرات وإيجاب الحدّ في تناولها.
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) (1).
ص: 299
المعنى هنا قريب ممّا تقدّم ، وذكر الأمر بالشكر دليل على كون الطيّب هنا منتفعا به حسنا وإلّا لما وجب الشكر في مقابله ، لأنّ الشكر إنّما يجب في مقابلة النعمة ، وفيه إشارة إلى كون العبادة قد يقع شكرا.
وفيه آيات :
الاولى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ) (1).
قد تقدّم البحث في صدر هذه الآية في كتاب الصّلاة فلا وجه لإعادته فلنذكر المهمّ منها فنقول أشار في هذه الآية إلى تحريم أشياء كانت الجاهليّة لا تحرّمها :
1 - الميتة وهي ما فاتت حياته لا على وجه التذكية الشرعيّة ، واستثنى النبيّ صلى اللّه عليه وآله من ذلك السّمك والجراد بقوله « أحلّ لكم ميتتان ودمان » (2).
2 - الدّم وكانوا يأكلونه أنواعا من الأكل منها العلهز ، كما قال عليّ عليه السلام في بعض كلامه تقريعا للعرب ، وبيانا لنعمة اللّه عليهم بتحريم الخبائث بقوله « تأكلون العلهز » وهو أن يجعل الدّم في المصارين والمباعر ويشوونها ويأكلونها ثمّ إنّ الدّم استثنى منه الطحال على قول ، والأولى تحريمه نعم الدّم المستخلف في تضاعيف اللّحم حلال طاهر لإجماع الفقهاء عليه ، وقيل التحريم في موضع آخر بكونه مسفوحا أي سائلا وذلك إنّما يكون ممّا في العروق ، ويلزم من ذلك أنّ
ص: 300
ما لم يكن في العروق ، أو بقي فيها وتخلّف في اللحم أن لا يكون محرّما وكأنّه تقييد للمطلق.
3 - لحم الخنزير ، خصّ اللّحم وإن كان شحمه وكلّ أجزائه محرّما لأنّه المقصود بالأكل وغيره تابع له.
4 - « ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ » أي ما ذبح على اسم الصّنم ولم يذكر عليه اسم اللّه ، والإهلال لغة رفع الصوت ، فيدخل في ذلك كلّ ذبيحة لم يذكر عليها اسم الحقّ تعالى سواء كان من كافر أو مسلم غير محقّ كالمجسّمة صريحا والمشبّهة.
5 - « الْمُنْخَنِقَةُ » أي الّتي ماتت بالخنق ، سواء كان بخنق من غيرها أو اختنفت من نفسها لعارض.
6 - « الْمَوْقُوذَةُ » وهي المضروبة بخشب أو حجر ونحو ذلك من المثقل حتّى يموت ، من قولك وقذته : إذا ضربته.
7 - « الْمُتَرَدِّيَةُ » أي تردّت من علو إلى بئر فماتت.
8 - « النَّطِيحَةُ » أي التي تنطحها اخرى فتموت ، ففعيل هنا بمعنى المفعول والتاء فيها للنّقل من الوصفيّة إلى الاسميّة.
9 - « ما أَكَلَ السَّبُعُ » أي ما أكل منه السبع وبقي منه بقيّة فيها حياة غير مستقرّة فإن كانت مستقرّة جاز أكله بعد التذكية ، وهو المراد بالاستثناء والتذكية هي قطع الأعضاء الأربعة ، وهي الحلقوم ، والمري والودجان ، بحديد أو ما في حكمه ، هذا في غير الإبل أمّا في الإبل فذكاتها النحر ، وهو الطعن في لبّة الثغرة وهي الوهدة المنخفضة ، وقيل الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدّم ممّا يقبل التّذكية وهي الستّة المتأخّرة ، وهو قول عليّ عليه السلام وابن عباس وإدراك الذّكاة على هذا قيل أن يدرك وذنبه يتحرّك أو رجله أو يطرف عينيه ، وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام وقيل هو أن يمكن أن يعيش اليوم أو الأيّام ، وقيل الاستثناء هنا منقطع ليس فيه إخراج والكل حسن.
قوله « وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ » أي وحرّم عليكم ما ذبح على النصب قيل هو
ص: 301
مفرد مثل عنق وجمعه أنصاب كأعناق وهي حجارة منصوبة حول البيت كانوا يذبحون عليها ويشرحون اللّحم عليها ، يعظّمونها بذلك ويتقرّبون به إليها وقيل هي الأصنام و « على » إمّا بمعنى اللّام وإمّا على أصلها ، فتقديره وما ذبح مسمّى على الأصنام والاستقسام طلب معرفة ما قسّم له ممّا لم يقسّم « والأزلام » تقدّم معناها.
وهنا فوائد :
1 - أنّ الأشياء الّتي ذكرها من المنخنقة والموقوذة إلى آخرها إمّا أن يكون ميتة ، أولا؟ فإن كان الأوّل فذكر الميتة أغنى عن ذكرها ، وإن كان الثاني لزم وجود واسطة بين الميّت والحيّ وهو باطل ، والجواب : إنما ذكرها لأنّهم ما كانوا يعدّونها ميتة بل من قسم المذبوحات ، ويخصّون الميتة بما يموت حتف أنفه فعرّفهم أنّ حكم الجميع واحد.
2 - لهذه الآية نظير وهي قوله في البقرة « إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ » (1) وهنا وفي الأنعام والنحل قال « لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ » فهل بينهما فرق أم لا؟ قيل الأصل هو الأوّل لأنّ الباء المعدّية للفعل بمنزلة جزء منه ، فيكون أحقّ بالتقديم ، بخلاف ما يتعدّى باللّام ، فإنّه ليس كالجزء ثمّ لمّا كان الإهلال بالمذبوح لا يستنكر إلّا إذا كان لغير اللّه ، فيكون ذلك المستنكر ممّا يتعلّق الاهتمام به قدّم في الموضعين الآخرين.
فالحاصل أنّ في البقرة قدّم الباء لأنّه الأصل ولأنّه كالجزء وفي الآخرين قدّم « لِغَيْرِ اللّهِ » لشدّة الاهتمام كما يقدّم بعض المفعولات على فاعله.
3 - لمّا كان الحكم اللّاحق بالجملة لمعنى يوجد في شي ء من أجزائها ألحق. بالميتة ما أبين من حيّ ، لوجود معنى التحريم ، وهو الموت وفقد الحياة.
الثانية ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ
ص: 302
يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (1)
تقدّم ما يغني عن تفسير هذه ، و « فِسْقاً » منصوب ، عطفا على « مَيْتَةً » وقوله « أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ » محلّه النصب صفة لفسقا.
وهنا سؤال : وهو أنّه قد وجد كثير من المحرّمات ، وهو غير مذكور في الآية فكيف يقول لا أجد إلّا كذا الدالّ على الحصر ، وكذا في قوله « إِنَّما حَرَّمَ » وإنّما للحصر.
والجواب أنّ اوحي فعل ماض « وأجد » للحال فمنطوقها لا أجد فيما اوحي إلىّ في الماضي غير هذه الأربعة ، وليست هذه الآية آخر ما نزل عليه صلى اللّه عليه وآله فجاز أن يكون جاءه تحريم أشياء بعد نزولها ، وكذا الكلام في « إنّما » فانّ الحصر فيها للحكم الحاليّ.
قوله « فَإِنَّهُ رِجْسٌ » الضّمير للحم الخنزير ، وهو نص في نجاسته وهي معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.
فائدة : روي أنّ ابن عبّاس وعائشة استدلا بهذه الآية على حلّ لحم الحمار وهو قريب وكذا تدلّ على حلّ لحم الخيل والبغال لأنّ منطوقها أنّ ما عدا المذكور حلال ، فمن ادّعى التحريم المتجدّد فعليه الدّلالة ، وقال بعض فقهاء العامّة يدلّ على تحريم الثلاثة قوله « وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً » (2) ووجه الدلالة أنّه علّل خلقها بالرّكوب والزينة ، فلا يكون لها فائدة غيرهما. وهو غلط فإنّه لا يلزم من تعليل الشي ء بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غير ذلك أصلا ، هذا وكونها زينة ومركوبة لا ينافي حلّها كما في الإبل فإنّ الأمرين حاصلان فيها مع حلّ لحمها.
ص: 303
الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) (1).
الخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره سمّي به عصير العنب والتمر إذا غلا واشتدّ لأنّه يخمر العقل أي يستره كما سمّي مسكرا لأنّه يسكره أي يحجزه وهو حرام إجماعا مطلقا وكذا كلّ ما أسكر في الجملة وإن لم يسكر قليله عندنا وقال أبو حنيفة نقيع الزّبيب والتمر إذا طبخ حتّى ذهب ثلثاه حلّ شربه إلّا ما ورث السكر والحقّ خلافه لما تقدّم.
ثمّ اعلم أنّ مذهب الإماميّة أنّ الخمر محرّمة في جميع الشرائع وما أبيحت في شريعة قط وكذا كل مسكر ، وأوردوا في ذلك أخبارا عن أئمتهم عليهم السلام وأمّا المفسّرون فقالوا نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكّة « وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً (2) » وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثمّ إنّ عمرو معاذا ونفرا من الصّحابة قالوا : يا رسول اللّه أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل ، مسلبة للمال ، فنزلت « فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ » فشربها قوم ، وتركها آخرون ، ثمّ دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ « قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون » فنزلت « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى (3) » فقلّ من يشربها ثمّ دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقّاص ، فلمّا شربوا وسكروا افتخروا وتناشدوا حتّى أنشد سعد شعرا فيها هجاء الأنصار ، فضربه أنصاريّ بلحى بعير فشجّه موضحة فشكا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال عمر : اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت « إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ »
ص: 304
إلى قوله « فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » (1) فقال عمر انتهينا يا ربّ.
وعن علي عليه السلام لو وقعت قطرة في بئر فبنيت منارة مكانها لم أؤذّن عليها ولو وقعت في بحر ثمّ جفّ ونبتت فيه الكلا لم أرعه.
قال المحقّقون ويمكن الاستدلال على تحريمها جزما بكلّ واحدة من هذه الآيات أما الأولى فلأنّه قال « تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً » فوصف الرزق الّذي هو قسيم للسكر بالحسن من أدلّ الدّلائل على أنّ المسكر ليس بحلال ، وإلّا لم يختصّ الوصف بالرزق إن قلت إنّ الآية وردت في معرض الامتنان ، وهو سبحانه لا يمتن بالمحرّم قلت الامتنان بخلق أصولها من الثمرات ، وكونها صالحة للانتفاع بها على وجوه متعدّدة.
وأما الثانية فلأنّه أخبر أنّ فيها إثما كبيرا ، والإثم هو الكبيرة بدليل قوله « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً » (2).
وأمّا الثالثة فلأنّه بيّن منافاة السكر للصّلاة ، والصلاة واجبة ، ووجوب أحد المتنافيين يستلزم تحريم الآخر ، لأنّ الأمر بالشي ء يستلزم النهي عن ضدّه كما قرّر في الأصول.
وأمّا الرابعة فلما تقدّم في المكاسب.
ثمّ إنّ السيّد المرتضى رضي اللّه عنه وجماعة استدلّوا على تحريم الخمر وكلّ مسكر بآية خامسة وهي قوله في الأعراف « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ » (3) والإثم هنا الخمر (4) لقول الشاعر
ص: 305
شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي *** كذاك الإثم يفعل بالعقول (1)
والمراد بما ظهر زنا وذوات الأعلام ، وما بطن زنا المستترات واللّواط ، هذا وقوله « وَالْمَيْسِرِ » هو مصدر كالموعد سمّي به القمار لأنّه أخذ من مال الغير بيسر
ص: 306
أو سلب يساره ، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما قل فيهما إثم كبير وقرئ « كثير » ضد القليل ، وعلى القراءتين هي محرّمة جدّا ، والمنافع قيل ما هي يربحون فيهما من التجارة في الخمر وكسب المال في القمار ، وقيل هي المال والطرب والاستلذاذ ومصادقة الفتيان ، وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان ، وتوفير المروّة وتقوية الطبيعة.
قوله « وَإِثْمُهُما » أي الخطاء والقبح والمفاسد الّتي ينشأ منهما أعظم من المنافع المتوقّعة ، منهما ولذلك قلنا إنّ هذه الآية محرّمة لهما فإنّ المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضيت تحريم الفعل.
وأمّا ما ذكره المفسرون والفقهاء من كونها كانت قبل حلالا فباطل بإجماعنا والنقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم السلام وقوله صلى اللّه عليه وآله « كلّ مسكر حرام » وأنّه صلى اللّه عليه وآله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها ، وقال صلى اللّه عليه وآله « شارب الخمر كعابد الوثن » وغير ذلك من الأخبار.
ص: 307
وفيه آيات :
الاولى ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (1).
لمّا حرّم عليهم الأشياء المتقدّمة من الميتة والدّم ولحم الخنزير والمنخنقة وغير ذلك ، سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أي شي ء أحلّ. لهم ولم يقل أحلّ لنا على سبيل الحكاية لأنّ يسألونك للغيبة فوافق بينهما مع أنّ كلا الوجهين سائغ وفي الآية فوائد :
1 - قوله « أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ » أي المستلذّات وقد تقدّم أقسام الطيّب ويمكن حمل الطيّبات على كلّ واحدة منها لكنّ هذا العامّ مخصوص عندنا بتحريم أشياء وردت به السنّة الشريفة النبويّة والإماميّة ، واستدلّ الشافعيّ بهذه المفهوم على تحريم ما استخبثته العرب والمفهوم عندنا غير حجّة.
2 - « وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ » والمراد بها المكاسب والكواسب من سباع الطير والبهائم ، و « ما » هنا يحتمل كونها موصولة والواو عاطفة فتقدير الكلام حينئذ « وصيد ما علّمتم » أي أحلّ لكم صيد ما علّمتم ويحتمل كونها شرطيّة فيكون الواو ابتدائيّة وجواب الشرط قوله « فَكُلُوا » ويستفاد هذا أحكام :
1 - أنّه لا يباح أكل صيد غير المعلّم.
2 - إباحة تعليم الجوارح كلّها والصيد بها.
ص: 308
3 - أنّه لا بدّ في إباحة الصيد من العقر والجرح لمدلول « الجوارح » هذا ومعنى مكلّبين قيل مؤدّبين ، وفيه نظر لأنّه لا يصحّ « وما علّمتم مؤدّبين » لأنّ التعليم سر التأديب والأولى أنّ معناه حاذقين في التعليم وهو نصب على الحال ، وفيه إيماء إلى أنّه لا يكون التعليم إلّا للكلب ، لأنّ المكلّب صاحب الكلب ، والكلب وإن أطلق على كلّ سبع لقوله صلى اللّه عليه وآله « سلّط عليه كلبا من كلابك » (1) لكنّه حقيقة في هذا المعهود ، فيكون الاشتقاق منه فيكون مقيّدا مخصّصا لما سبق ولذلك قسم أصحابنا صيد الجوارح إلى قسمين ما أدرك ذكاته فلا يحل إلّا بالتذكية مطلقا وما لم يدرك ذكاته إن كان مقتول الكلب فهو حلال وإلّا فهو حرام ، صيد أيّ الجوارح كان وهو المنقول عن الصادق والباقر عليهم السلام.
فائدة : قيل نزل جبرئيل إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فوقف بالباب فاستأذن فأذن له فلم يدخل فخرج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وقال قد أذنّا لك فقال عليه السلام إنّا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم كلب فقال صلى اللّه عليه وآله لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته فهربت الكلاب حتّى بلغت العوالي فلمّا نزلت الآية قالوا : يا رسول اللّه كيف نصيد بها وقد أمرت بقتلها؟ فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فجاءه الوحي بالإذن في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها فاستثنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث ، وأذن في اتّخاذها (2)
4 - « تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ » فيه دلالة على كون التعليم أمرا مستفادا كيفيّته من الشارع فقال أصحابنا نقلا عن أئمّتهم عليهم السلام أنّ التعليم يحصل بأمور الأوّل : الاسترسال إذا أخرى. الثاني : الانزجار إذا زجر الثالث : أن لا يعتاد أكل
ص: 309
صيده الرابع : الاستمرار على ذلك غالبا ولا اعتبار بالندرة نفيا أو إثباتا.
4 - « فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » فيه دلالة على أنّه لا يباح ما أكل منه الكلب ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله لعديّ بن حاتم « وإن أكل منه فلا تأكله لأنّه أمسك على نفسه » (1) وهو قول أصحابنا وأكثر الفقهاء وقال بعضهم يعتبر ذلك في سباع البهائم لا الطير لتعذّر تأديبها إلى هذا الحدّ ، وقال قوم منهم مالك وسعد بن أبي وقّاص لا يعتبر ذلك مطلقا وإن أكل ثلثه ، والحقّ ما ذكرناه وفيها دلالة على أنّه لا يباح أكل ما غاب عن النظر لأنّه إذا غاب لم يكن قد أمسكه على صاحبه بل على نفسه ، وهو الإنماء قال صلى اللّه عليه وآله « كل ما أصميت ودع ما أنميت » (2) سواء وجد به أثر الكلب من جرح أو غض أو لا.
و « من » في قوله « ممّا » الأصحّ أنّها للتبعيض إذ لا يباح كلّما يمسكه الكلب بل بعضه.
[ وهو ] أمّا من نفس الحيوان المباح فإنّه يحرم الدم والفرث والغدد والطحال والمشيمة والعلباء وذات الأشاجع والفرج والقضيب والأنثيان والمرارة والنخاع والحدقة وخرزة الدّماغ.
وأمّا من غيره فإنّه يحرم عندنا الأرنب والثعلب والضبّ واليربوع وغيرها من المصيدات ممّا ورد النصّ بتحريمه وقيل هي زائدة وهو باطل لشذوذ زيادتها في الإثبات وإنما قال : « عليكم » وعدّاه بعلى لأنّ فيه معنى التفضيل أي ممّا تفضّلن عليكم بإمساكه وفيه دلالة على تحريم ما اصطاده للكافر (3) لقوله « عليكم » بالخطاب للمسلمين.
5 - قوله « وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ » الضمير راجع إلى « ما عَلَّمْتُمْ » والمعنى سموا عليه عند إرساله أو إلى ما أمسكن بمعنى سمّوا عليه إذا أدركتم ذكاته و
ص: 310
الكلّ محتمل لكنّ الأوّل أوفق للمذهب ، ثمّ يستفاد من ظاهرها أحكام :
1 - وجوب التسمية لأنّ الأمر للوجوب.
2 - أنّه لو تركها نسيانا فلا جناح.
3 - لا يباح صيد الكافر لأنّه لا يعرف اللّه حتّى يذكر اسمه ، سواء كان معلّم الكلب مسلما أو كافرا كما أنه مع تسمية المسلم لا اعتبار بمعلّم الكلب وإن كان كافرا ، نعم يكره الصيد بما علّمه مجوسيّ ثمّ اعلم أنّه يجوز أكل ما صاده الصبيّ المميز من الأولاد المسلمين إلحاقا بالأبوين.
قوله « وَاتَّقُوا اللّهَ » أي اجتنبوا أكل ما نهيتم عن أكله فإنّ اللّه يحاسبكم عليه.
الثانية ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) (1).
حمل فقهاء الجمهور قوله و « طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » على عمومه بحيث يدخل فيه الذبائح وغيرها ممّا يصيدونه (2) قالوا واستثنى عليّ عليه السلام منهم نصارى بني تغلب ، وقال : ليسوا على النصرانيّة ولم يأخذوا منها إلّا شرب الخمر ، وكذا قالوا لا يلحق بهم المجوس وإن الحقوا في تقرير الجزية لقوله صلى اللّه عليه وآله « سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب غيرنا كحي نسائهم ، ولا آكلي ذبائحهم » (3) وأمّا أصحابنا فحملوا الطعام هيهنا على الحبوب وشبهها من الجامدات أمّا أو لا فلحكمهم بنجاستهم المانعة من أكل ما يباشرونه وأما ثانيا فلقوله « وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (4) » وذبائحهم لم يذكر اسم اللّه عليها لكونهم غير عارفين به لوصفهم بالشرك في قوله :
ص: 311
« وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ » إلى قوله ( سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (1) ولأنّهم إذا ذكروا اسم اللّه اعتقدوا أنّه أبّد شرع موسى عليه السلام وأنّه والد عيسى عليه السلام وأنّه لم يرسل محمدا صلى اللّه عليه وآله.
إن قلت قوله « وَطَعامُ الَّذِينَ » إلى آخره عامّ وقوله « وَلا تَأْكُلُوا » عام أيضا فليس تخصيص عامّنا بعامّكم أولى من العكس ، قلت : تخصيص عامّكم لا محذور فيه وأمّا تخصيص عامّنا ففيه محذور ، وهو أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، وأيضا قد دللنا على وجوب التّسمية عند إرسال آلة الصيد (2) وعند الذبيحة وأنّ من تركها عمدا لا يحل ذبيحته ، وكلّ من قال بذلك قال بتحريم ذبائح أهل الكتاب وأنّ قوله « وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » مخصوص ، فلو قلنا بالأوّل ولم نقل بالثاني كان خرقا للإجماع.
هذا تقرير ما ذكره الفريقان ، غير أنّ عندي في كلام الأصحاب إشكالا تقريره أنّ الحبوب وغيرها من الجامدات داخلة في الطيّبات في قوله « الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ » وعطف الخاصّ على العامّ نصّ أهل البلاغة أنّه لا يجوز إلّا لنكتة أو فضيلة كعطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة ، فأيّ نكتة هنا اقتضت الإخراج والعطف على قولكم ، نعم النكتة متوجّهة على قول الخصم. وذلك أنّه لمّا ذكر أنه حرّم ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، وأنّ أهل الكتاب مشركون وأنّهم يكفّرون أهل السلام وأنّهم من أهل الخبائث أمكن أن يقال إنّ طعامهم مطلقا ليس من الطيّبات فناسب ذلك إخراجه وعطفه بيانا للرّخصة ، وأمّا على قولكم فانّ ذلك عزيمة وللرخصة مزية في بيان الأحكام ، خصوصا فيما ورد في معرض الامتنان ، وهو هذه الآية ، وأرجو من اللّه أن يفتح عليّ الجواب عن هذا الاشكال بكرمه ومنه.
الثالثة ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا ) (3)
ص: 312
وفي آية أخرى :
( وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا ) (1).
دلّت الآيتان الكريمتان على إباحة أكل ما يصاد من السّمك ، وتقييده بالطريّ ليس مخصّصا له بالتحليل ، للإجماع على إباحة غيره ، وإنّما قيّده بالطراوة لأنّ طيبته في طراوته ، فإذا لبث تغير طراوته ، وذهب طيبه. والآية الكريمة خرجت مخرج الامتنان ، فلا يليق إلّا بما هو لذيذ ، ثمّ اللام في الآية الأولى يجوز أن يكون للتعليل بمعنى أنّ السبب الغائيّ بخلق البحر انتفاع الإنسان به ، ويجوز أن يكون للعاقبة ، بأن يكون خلقه لسبب آخر لكن آل الأمر إلى انتفاعنا به.
واعلم أنّه استدلّ بعض الفقهاء بالآية على أنّ السمك لحم ، وأنه إذا حلف أحد لا يأكل لحما يحنث بالسمك وليس بشي ء لأنّه لحم لغة لا عرفا ، والأيمان مبنيّة على الحقيقة العرفيّة لا اللّغويّة لما تقرّر في الأصول من تقديم العرف على اللّغة لكونه طارئا ناسخا لحكمها.
الرابعة ( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ ) (2).
وأمثالها من الآيات الدالة على الامتنان بخلق الماء ، وإنزاله من السماء فإنّ الجميع دالّ على إباحته وحلّه ، إذ لا امتنان بالممنوع من الانتفاع به شرعا.
الخامسة ( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً
ص: 313
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).
دلّت الآيتان على أمور :
1 - إباحة العسل وهو المعني بالشراب.
2 - كونه شفاء من الأمراض لأنّه يقال في مقابلة المرض كقوله « وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ » (2) ويؤيّده قوله صلى اللّه عليه وآله « شفاء أمّتي في ثلاثة : آية من كتاب اللّه ، ومشراط حجّام ، ولعقة من عسل (3) » وفي توجيه الحديث فائدة وهو أنّه صلى اللّه عليه وآله أخبر أنّ شفاء أمّته في هذه الثلاثة أمّا الآية فعلى وجه الخاصية فإنّ لكلامه تعالى خواصّ لا ينكرها من له بصيرة ، فإنّ كلامه تعالى فعل من أفعاله فلا ينكر اشتماله على خاصيّة ليست لغيره كما في باقي أفعاله فإنّ جذب المغناطيس للحديد لا ينكره عاقل ، وأمّا المشراط فعند هيجان الدّم ، وأمّا العسل فإنّه مع الأدوية الحارّة شفاء من البلغم ، وقد يكفي فيه وحده ، ومع الحموضات شفاء من الصفراء ومع الأدهان شفاء من السوداء.
قال بعضهم قلّ معجون يركّبه الأطبّاء يخلو من العسل ، وروي أنّ رجلا قال لرسول اللّه إنّ أخي يشتكي بطنه قال اسقه العسل فذهب ثمّ جاء فقال سقيته فما نفع فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله اسقه عسلا فقد صدق اللّه وكذب بطن أخيك ، فسقاه فبرأ (4).
واعلم أن العسل وإن لم يكن شفاء من كلّ داء لكنّه شفاء من كثير منها ، والحديث المذكور في البطن لا يدلّ على أنّه شفاء من كلّ داء ، لجواز أن يكون قد
ص: 314
عرف صلى اللّه عليه وآله من جهة الوحي أنّ داء أخيه ممّا ينفعه العسل ، فالتنكير في « شفاء » إمّا للتبعيض أو للتكثير مبالغة فيدل على الأكثريّة الكليّة.
3 - في الآية إيماء إلى جواز العلاج من الأمراض فإنّ إباحة الخاصّ لعلّة تستلزم إباحة خاصّ آخر توجد فيه تلك العلّة إلّا ما ورد فيه النهي كقوله صلى اللّه عليه وآله : لا شفاء في محرّم. وهنا فوائد :
1 - الوحي هنا بمعنى الإلهام وقد يقال بمعنى الإشارة كقوله « فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً (1) » وبمعنى الاسرار كقوله « يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً » (2) والوحي الحقيقيّ وحي النبوّة ، والجامع لهذه المعاني كلّها إلقاء شي ء إلى الغير على وجه السرّ.
2 - « من » في « مِنَ الْجِبالِ » للتبعيض أي بعض الجبال ، وبعض الشجر ، وبعض ما يعرشون : أي يسقّفون وسمّى ما تبنيه بيتا تشبيها له ببيت الإنسان ، لما فيه من حسن الصنعة وصحّة القسمة الّتي لا يقوى عليها حذّاق المهندسين ، والثمرات :الأزهار والأنوار ، فإنّ الثمرة اسم لكلّ فائدة يحصل من الشجرة للإنسان أو غيره وقد يستدلّ بذلك على جواز المساقاة شرعا على ما لا فائدة له إلّا الورق والزهر والنّور ، لصدق الثمرة عليه ، وقوله « فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً » أي طرقا موصلة لمأكولك إلى صورة العسل وفيه دلالة على كونه تعالى يفعل بالسبب أو طرقا توصلك إلى الأزهار و « ذُلُلاً » جمع ذلول أي الموطّأة للسلوك ، وقال قتادة إنّها صفة للنحل أو حال عن الضمير في « اسلكي » أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به.
3 - « يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها » فيه التفات عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه في محلّ الانعام عليهم ، قوله « شَرابٌ » احتجّ به من قال أنّ النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة ، فيستحيل في باطنها عسلا ثمّ تقيئه ادّخارا للشتاء ومنهم من زعم أنّها تلتقط بأفواهها أجزاء طيّبة حلوة صغيرة متفرّقة على الأوراق
ص: 315
والأزهار وتضعها في بيوتها ادّخارا للشتاء فإذا اجتمع في بيوتها شي ء كثير منها كان العسل ، وكأنّ هذا القائل فسّر البطون بالأفواه ، وجعل في الكلام إضمارا أي أفواه بطونها أو فسّر البطون بالأفواه مجازا قوله « إِنَّ فِي ذلِكَ » أي في ذلك التدبير من أقدارها على بناء البيوت المحكمة ، وتصيير غذائها المختلف في المرارة والحموضة عسلا حلوا مختلفا ألوانه متّحدا في صورته وطبعه « لَآيَةً » ودلالات على صانع مختار حكيم عالم بالجزئيات والكلّيّات « لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » في أنّه لو كان صادرا عن موجب لما اختلف آثاره ، بل كانت كلّها على نهج واحد.
السادسة ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (1).
أي ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المباحات إذا ما اتّقوا المحرّم ، وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة ثمّ هنا فوائد :
1 - قيل سبب نزولها أنّه لمّا نزلت آيات تحريم الخمر قالت الصحابة يا رسول اللّه كيف بإخواننا الّذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون من الميسر فنزلت والأصح أنّها نزلت في القوم الّذين تعاهدوا على ترك الطيّبات كعثمان بن مظعون وأصحابه بمعنى أنّه ليس عليهم جناح في تناول الطيّبات والمستلذّات إذا ما داوموا على الإيمان وعمل الصّالحات واتّقاء المحرّمات.
2 - في التكرار المذكور وجوه :
الأوّل : على قول من يقول بقبول الإيمان للزيادة والنقص ، والمراد بالتكرار تزيد الإيمان ، وتفاوت مراتبه.
الثاني : أنّه كرّره ثلاثا باعتبار الأوقات الثلاثة الماضي والحال والاستقبال.
ص: 316
الثالث : أنّه باعتبار الأحوال الثلاث : الاولى باعتبار حاله مع نفسه ، والثانية : باعتبار حاله مع الناس ، والثالثة : باعتبار حاله مع اللّه ، ولذلك بدّل الايمان بالإحسان ، إشارة إلى قوله صلى اللّه عليه وآله في تفسير الإحسان « أن تعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ».
الرابع : باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والمنتهى والوسط.
الخامس : أنّه باعتبار ما يتّقى فإنّه يتّقى ترك المحرّمات حذرا من العقاب وترك الشبهات تحرّزا من الوقوع في الحرام وهي مرتبة الورع وترك بعض المباحات وهي ما يفيد تحفّظا للنفس عن الخسّة ، وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة.
السادس : أنّ المراد تجديد الإيمان والعزم على التقوى ، لتقوى الداعية للمكلّف ويصير الايمان والتقوى ملكتين راسختين في النفس ليس للشبهات عليه فيهما مجال ، بخلاف ما إذا لم يكونا ملكتين ، فإنّ للشبهة والجناح عليه مجالا.
3 - في الآية دلالة على أنّ الأشياء على الإباحة ما لم يعلم فيها وجه من وجوه القبح ، قوله « وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » فيه دلالة على أنّ من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار محبوبا لله.
4 - روي أنّ قدامة بن مظعون شرب الخمر على عهد عمر ، فأراد أن يحدّه فقال له قدامة : إنّه لا يجب عليّ الحدّ وتلا الآية ، فدرأ عنه الحدّ فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فأتى المسجد وفيه عمر فقال له : لم تركت إقامة الحدّ على قدامة فقال تلا عليّ آية وذكرها عمر ، فقال عليه السلام ليس قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرّم اللّه ، إنّ الّذين آمنوا لا يستحلّون حراما فاردد قدامة فاستتبه ممّا قال : فإن تاب فأقم عليه الحدّ وإن لم يتب فاقتله فإنّه قد خرج عن الملّة ، فعرف قدامة الخبر فأظهر التوبة (1).
ص: 317
السابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (1).
روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله جلس للناس ووصف لهم يوم القيامة ، ولم يزدهم على التخويف ، فرقّ الناس وبكوا ، واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا اللّيل ، ولا يناموا على الفراش ، ولا يأكلوا اللحم ، ولا الودك ، ولا يقربوا النساء ولا الطيب ، ويلبسوا المسوح ويرفضّوا الدّنيا ويسبحوا في الأرض ويترهّبوا ويحبّوا المذاكير.
فبلغ ذلك النبيّ صلى اللّه عليه وآله فأتى منزل عثمان فلم يجده فقال لامرأته : أحقّ ما بلغني؟ فكرهت أن تكذّب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأن تبدي على زوجها فقالت يا رسول اللّه إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فأخبرت عثمان بذلك فأتى هو وأصحابه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال لهم ألم أنبّأ أنّكم اتّفقتم على كذا وكذا؟فقالوا : ما أردنا إلّا الخير فقال إنّي لم أومر بذلك ثمّ قال إنّ لأنفسكم عليكم حقّا فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا فانّي أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.
ثمّ جمع الناس وخطبهم وقال : ما بال أقوام حرّموا النساء والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين ورهبانا إنّه ليس في ديني ترك اللّحم والنساء ولا اتّخاذ الصوامع إن سياحة أمّتي الصوم ، ورهبانيّتها الجهاد اعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا وحجّوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا شهر رمضان واستقيموا يستقيم لكم فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم فأولئك بقاياهم في الديرات والصوامع ، فأنزل اللّه الآية (2) إذا عرفت هذا فاعلم أنّ في الآية والقصّة دلالة على أمور :
ص: 318
1 - أنّه لا يجوز تحريم ما أحلّه اللّه من الطيّبات ، ولا تحليل ما حرّم اللّه من الخبائث.
2 - أنّ الترهّب والتقشّف ليس من سنن هذه الشريعة الشريفة ، بل من سننها تناول الطيّبات والمستلذّات المحلّلة.
3 - أنّه لا ينعقد العهد واليمين على ترك المندوب ، ولا على ترك مباح الاولى فعله
الثامنة ( كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (1).
قيل لنزولها أسباب :
1 - أنّه لمّا منع اليهود مشروعيّة النسخ نزلت تكذيبا لهم وبيانا لوقوعه.
2 - لمّا نزل قوله تعالى « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » وقوله و « عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ » (2) قالوا لسنا بأوّل من حرّمت عليه هذه الأشياء ، وما هو إلّا تحريم قديم كانت محرّمة على نوح وإبراهيم ومن بعده ، وهلم جرّا إلى أن انتهى التحريم إلينا ، وغرضهم تكذيب شهادة اللّه عليهم بالظلم والبغي وأكل الرّبا فقال تعالى « فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ».
3 - أنّهم طعنوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في تحليل لحوم (3) الإبل وألبانها ودعواه موافقة إبراهيم عليه السلام فنزلت إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - الحل مصدر حلّ الشي ء يحلّ حلّا ولذلك استوى فيه المذكّر والمؤنّث والواحد والمثنّى والمجموع قال اللّه تعالى « لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ » (4)
ص: 319
والمراد كلّ المطاعم لم تزل حلالا لهم قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرّم اللّه عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، ولم يحرّم منها إلّا ما حرمه إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام.
2 - المراد بما حرّمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها. وسبب تحريمه قيل كان به عرق النساء فنذر إن شفي لم يأكل أحبّ الطعام إليه وكان ذلك أحبّه إليه وقيل فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطبّاء.
3 - احتج من جوّز الاجتهاد على الأنبياء بقوله « إِلّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ » حيث أسند التحريم إليه ، ولمانع أن يقول : ذلك بإذن من اللّه سبحانه فهو كتحريمه ابتداء.
التاسعة ( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنّا لَصادِقُونَ ) (1).
هنا فوائد :
المراد بذي الظفر هو كلّ ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والبطّ والإوز ، وقيل كلّ ذي مخلب وحافر ، وسمّى الحافر ظفرا مجازا ، أخبر سبحانه أنّه حرّم عليهم كلّ ذي ظفر بجميع أجزائه وأمّا البقر والغنم فحرّم منهما الشحوم واستثنى من الشحوم ثلاثة أنواع الأوّل ما على الظهر ، الثاني ما على الحوايا وهي الأمعاء ، الثالث : ما اختلط بعظم ، وهو شحم الجنب والألية ، لأنّها مركّبة (2) على العصعص وقيل في « الحوايا » أنّها عطف على الشحوم ، و « أو » بمعنى الواو ، فتكون محرّمة والأجود ما قلناه ، وهو عطفها على الظهور فتكون مرفوعة وتكون داخلة في المستثنى لقربه.
ص: 320
2 - في الآية دلالة على حلّ هذه الأشياء في هذه الشريعة ، وإلّا لما كان لتخصيص اليهود بالتحريم فائدة.
3 - في الآية دلالة على جواز النسخ وكونه تابعا للمصلحة واللطفيّة (1).
4 - في قوله « ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ » دلالة على جواز ضم العقاب الدنيويّ إلى العقاب الأخرويّ ، بل وعلى جواز العقاب على الذّنب في الدنيا لا غير ، على قول من يقول بانقطاع عقاب المعاصي كما هو مذهب الحق ، وفيه دلالة على كون التضييق والمشاقّ ألطافا ، وعلى جواز كون منع المنافع لأجل العصيان كما قال صلى اللّه عليه وآله « إنّ الإنسان ليحرم الرّزق بذنب يصيبه (2).
5 - في قوله « وَإِنّا لَصادِقُونَ » من المبالغة والتأكيد في الردّ عليهم ما لا يخفى ، لإتيانه بالجملة الاسميّة ، والتصدير بانّ المؤكّدة للإسناد ، واتباعها باللّام في خبرها : [ لصادقون ]
العاشرة ( وَما لَكُمْ أَلّا تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) (3)
أي أيّ سبب حصل لكم فيه؟ أي لا سبب لكم في ترك أكل ما ذكر اسم اللّه عليه ، والواو في « وَقَدْ فَصَّلَ » للحال أي لأيّ سبب تركتم أكله ، والحال أنّ اللّه قد فصّل لكم الحلال من الحرام ، وليس هذا من جملته ، وهو إشارة إلى قوله « ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) (4) » الآية « إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ » من الحرام فهو حلال
ص: 321
لكم على وجه الرخصة ، وإنّ كثيرا من الناس ليضلّون فيحرّمون ما أحلّه اللّه بمجرّد أهوائهم لا مستندين إلى علم « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ » أي المتجاوزين الحقّ إلى الباطل ، والحلال إلى الحرام ، وهنا فوائد :
1 - دلّت الآية الكريمة على إباحة ما ذكر اسم اللّه عليه ، وتحريم ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، ودلّ على الثاني قوله تعالى فيما بعد « وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ » وهو نصّ في تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا وإليه ذهب داود وأحمد وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله صلى اللّه عليه وآله « ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم اللّه عليه » (1) وقال أصحابنا وأبو حنيفة بتحريم ما تركت التسمية فيه عمدا لا نسيانا لقوله صلى اللّه عليه وآله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان » (2) والحديث محمول على النسيان هذا إن صحّ سنده وأما الآية فأوّلها الحنفيّة بالميتة ، وجعلوا التسمية اسما للمذكّى أو أنّها محمولة على ما أحلّ لغير اللّه به ، لقوله « وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ » فإنّ الفسق عبّر به عن ذلك كما تقدّم ، والأولى حملها على إضمار العمد أو التخصيص به ، لما تقرّر في الأصول أنّها خير من النقل.
2 - الواجب في التسمية ذكر اللّه تعالى مع التعظيم مثل بسم اللّه أو اللّه أكبر أو سبحان اللّه أو الحمد لله أو لا إله إلّا اللّه ولو اقتصر على لفظة « اللّه » لم يجز على الأقرب ويجب كونها بالعربيّة مع الاختيار ، وصادرة عن الذابح فلو سمّى غيره لم يحلّ.
3 - المراد بالاضطرار المستثنى في الآية ما يخاف معه التلف أو المرض أو الضّعف عن متابعة الرفقة مع الضرورة إلى المرافقة ، أو عن الركوب مع الضرورة إليه ولا يشترط الاشراف على الموت ، بل يباح إذا خيف ذلك وإذا أبيح له وجب ذلك لوجوب حفظ النفس ثمّ يتناول قدر ما يزول معه الضرر من غير زيادة عملا بالعلّة.
4 - هذا العام وهو قوله « إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ » مخصوص بالنسبة إلى الفاعل
ص: 322
وإلى المستباح : أمّا الأوّل بأن لا يكون باغيا ولا عاديا لقوله « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » والباغي هو الخارج على الإمام أو الّذي يبغي الميتة أي الراغب في أكلها والعادي هو قاطع الطريق أو الّذي يعدو شبعه ، ونقل الطبرسي أنّه باغي اللّذّة والعادي سدّ الجوعة ، أو عاد بالمعصية أو باغ في الإفراط في التقصير ، وعلى التفسير بالمعصية لا يباح للعاصي بسفره كطالب الصيد لهوا وطربا ، وتابع الجائر والآبق ، ولو اكره على الأكل فهو كخائف التلف وأمّا الثاني فهو كلّ ما لا يؤدّي إلى قتل معصوم الدّم كمسلم أو ذمّي أو معاهد لا ما أباح الشارع دمه كاللّائط والزاني المحصن والحربيّ والمرتدّ عن فطرة أمّا الخمر فيحرم التداوي بها إجماعا بسيطا ومركّبا وأمّا دفع التلف فقيل بالمنع أيضا والحق عدمه بل يباح دفعا للتلف وكذا باقي المسكرات ، نعم لو وجد الخمر وباقي المسكرات أخّر الخمر ، هذا كلّه مع عدم قيام غير الخمر مقامه وأما مع القيام فلا يجوز مطلقا.
وفيه آيات :
الاولى ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً ) (1).
الموالي هنا الورّاث فالتقدير حينئذ : جعلنا لكلّ إنسان موالي يرثونه ممّا ترك ، ومن للتعدية ، والضمير في « ترك » للإنسان الميّت أي يرثونه ممّا تركه و « الوالدان » خبر مبتدأ محذوف أي هم الوالدان والأقربون ويترتّبون (2) الأقرب فالأقرب ، لقرينة معنى القرب ، وقال الزمخشري : تقديره ولكلّ شي ء [ جعلنا ] ممّا
ص: 323
ترك الوالدان والأقربون موالي يرثونه ويحوزونه أو تقديره ولكلّ قوم جعلناهم موالي نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون وفيهما نظر (1) أمّا الأوّل فلأنّه يفهم منه حينئذ أنّ لكلّ صنف من أصناف التركة وارثا وهو فاسد ، لأنّ الورّاث مشتركون في كلّ جزء من كلّ صنف من التركة وأمّا الثاني فلأنّ الوالدين والأقربين هم الورّاث لا الموتى ، بدليل أنّه عطف عليهم « وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ » وهم الورّاث لأنّه قال « فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » وقرئ عقدت وعاقدت ، والمعنى واحد والأيمان هنا جمع يمين اليد لأنّهم كانوا عند العهد يمسحون اليمنى باليمنى ، فيقول العاقد : دمك دمي ، وثأرك ثاري ، وحربك حربي ، وسلمك سلمي : ترثني وأرثك ، وتطلب بي واطلب بك وتعقل عنّي وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث حليفه وهذا من باب إسناد الفعل إلى آلته ، وقيل جمع يمين الحلف فيكون من باب إسناد الفعل إلى سببه إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - كانوا في الجاهليّة يتوارثون بهذا العقد دون الأقارب ، فأقرّهم اللّه عليه في مبدء الإسلام ثمّ نسخ ذلك فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة فروي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله آخى بين المهاجرين والأنصار لمّا قدم المدينة فكان المهاجري يرث الأنصاري وبالعكس ولم يرث القريب ممّن لم يهاجر ونزل في ذلك « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّى يُهاجِرُوا (2) » ثم نسخ ذلك بالقرابة والرحم والأنساب والأسباب لقوله « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ (3) ».
2 - هذا الحكم أعني الميراث بالمعاهدة والمعاقدة ، وهو المسمّى بضمان الجريرة
ص: 324
منسوخ عند الشافعيّ مطلقا لا إرث له ، وعند أصحابنا ليس كذلك ، بل هو ثابت عندنا عند عدم الوارث النسبيّ والسّببيّ لما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنّه خطب يوم الفتح فقال ما كان من حلف في الجاهليّة فتمسّكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلّا شدّة ولا تحدثوا حلفا في الإسلام (1) » وعند أبي حنيفة إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صحّ.
3 - على ما قلناه من بقاء حكم الإرث بالتعاهد ، يكون الآية غير منسوخة جملة بل تكون محكمة لكنّ الإرث فيها مجمل يفتقر إلى شرائط ومخصّصات تعلم من موضع آخر من الكتاب أو من السنّة الشّريفة.
وقال بعضهم : المعاقدة هنا هي المصاهرة ، فيكون إشارة إلى إرث الزّوجين واحتاره المعاصر ، وفيه بعد لأنّه عدول عن الظاهر ، وعن قول الأكثر.
الثانية ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ) (2).
قد ذكرنا أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يورّثهم بالهجرة لا بالقرابة تأليفا لقلوبهم كإسهام الكفّار من الصّدقة وأنّه نسخ ذلك بهذه الآية ، وبآيات الإرث ، والمعنى أنّ اولي الأرحام بعضهم أولى بميراث بعضهم من المهاجرين وغيرهم ، ثمّ استثنى الوصيّة للأولياء بقوله « إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً » أي أصدقائكم من المؤمنين والمعروف الوصيّة وعدّى الفعل بإلى لتضمّنه معنى الاسداء ، وقال بعضهم في الآية دلالة على أنّه لا وصيّة لوارث وليس بشي ء.
الثالثة ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ) (3).
ص: 325
كان الجاهليّة لا يورّثون إلّا من ذاد عن الحريم بالصفاح ، وطاعن عنهم بالرماح وقيل كانوا يورّثون الرجال دون النساء ، فنزلت هذه الآية وأمثالها ردّا عليهم ، وسبب نزولها أنّ الأوس بن ثابت الأنصاريّ مات وترك زوجة مسمّاة بأمّ كحّة وثلاث بنات ، فقام ابنا عمّه سويد وعرفجة ، وهما وصيّاه وأخذا ماله ولم يعطيا زوجته وبناته شيئا وكانوا كما قلنا عنهم لا يورّثون النساء ، ولا الصغار.
فجاءت أمّ كحّة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في مسجد الفضيخ وحكت القصّة ، واشتكت من حاجتهنّ إلى النفقة ، فدعاهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالا يا رسول اللّه ولدها لا يركب فرسا ولا ينكأ عدوّا فنزلت ، وأثبت لهنّ الميراث في الجملة ، ولم يتبيّن كيفيّة التوارث ، فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لا تحدثا في مال أوس شيئا حتّى انظر ما ينزّل اللّه فانّ اللّه جعل لهنّ ميراثا ولم يبين كم هو؟ فنزل « يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ » الآية.
وفي الآية دلالة على بطلان التعصيب لأنّه فرض الإرث لصنفي الرجال والنساء فلو جاز أن يقال للنساء لا يرثن في موضع لجاز أن يقال للرجال لا يرثون واللّازم باطل وكذا الملزوم ، وبيان الملازمة بنصّ الآية ، وقوله « مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً » يؤكّد ذلك ، أي النصيب ثابت في كلّ جزء ممّا ترك.
إن قلت : هذا وارد عليكم لأنكم تقولون إنّ الأخ لا يرث مع البنت ، قلنا إنّما قلنا ذلك لبعد الدرجة والآية يراد بها توارثهما مع التساوي في الدرجة لا مطلقا.
الرابعة ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ
ص: 326
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (1).
هنا أبحاث :
1 - في تفسير الآية وكلماتها :
« يُوصِيكُمُ » أي يأمركم ويعهد إليكم في ميراث أولادكم وإنّما لم يقل للذكر من أولادكم لأنّ الحكم المبهم إذا أبهم ثمّ فسير كان أوقع في النفس وأحفظ لجواز فوات المقصود لو وقع مفسّرا ابتداء وتقديره للذكر منهم ، فحذفت لدلالة الكلام عليه كما حذف في قولهم « البرّ الكرّ بستّين » وقدّم الذّكر لشرفه ولذلك ضوعف حظّه كما ضوعف عقله ودينه والضمير في « كُنَّ نِساءً » للورثة وتأنيثه بتأنيث الخبر كما في قولهم من كانت أمّك وإنما قال « كانَتْ واحِدَةً » ولم يقل بنتاكما قال « نساء » لأن الغرض هنا الامتياز في العدد ، وهناك الامتياز في الصنف ، والضمير في « أبويه » للميّت يفسّره سياق الكلام. و « لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا » بدل منه بدل البعض عن الكلّ وباقي الفوائد تأتي في محلّها.
2 - دلّت الآية الكريمة على اجتماع الأولاد والأبوين في الميراث فيكون النوعان في مرتبة واحدة ، يرث كل واحد من النوعين مع صاحبه ، ولو انفرد أحد النوعين عن الآخر حاز الإرث ، ثمّ إنّه تعالى ذكر أحوال الذكور مع الإناث وأحوال الإناث منفردات وحال الأبوين منفردين وحال الأبوين مع الأولاد ، ولم يذكر حال الذكور منفردين ، فيرد سؤال عن علّته والجواب أنه لمّا ذكر الإناث منفردات ، وفصل بين الواحدة والأكثر ، علم أنّ الذكور يتساوون وإلّا لفصّلهم كما فصّل الإناث وحينئذ لم يحتج إلى ذكرهم.
3 - أنّه ذكر أنّ الواحدة من الإناث لها النصف ، وأنّ النساء فوق اثنتين
ص: 327
لهنّ الثلثان ، ولم يذكر الاثنين فما وجهه ، والجواب أنّهم اختلفوا فيهما فقال ابن عبّاس لهما النصف لظاهر الآية وهو قوله « فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ » وقال الباقون وهو الحق أنّ حكمهما حكم ما زاد وهو أنّه لهما الثلثان لوجوه الأوّل النص عن أهل البيت عليهم السلام وإجماع الطائفة بل إجماع الأمّة الثاني : أنّه لو كان لهما النصف لكان التقييد بالواحدة ضائعا الثالث أنّ البنت الواحدة لهما مع أخيها الثلث إذا انفردت فبالأولى أن يكون لها مع أختها الثلث فيكمل لهما الثلثان الرّابع أنّه أوجب للأختين الثلثين ، والبنات أقرب وأمسّ رحما من الأختين فيكون لهما أيضا الثلثان على وجه الأولى.
4 - ولد الولد يقوم مقام أبيه ، ويرث ميراثه ، قيل لأنّه ولد ، ولهذا حرمت بنت البنت وبنت الابن لدخولهما في حكم « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ (1) » ولأنّه تحرم زوجته على جدّه وكذا تحرم عليه منكوحة الجدّ ، ولدخوله في في الوقف الآن لو وقف على بني هاشم وبني عليّ وإلّا لبطل الوقف ولا قائل به ، وكذا نقول في الوصيّة.
كذا قال الراونديّ والمعاصر وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنّه لو كان ولدا حقيقة لشارك الولد في الميراث ، واللّازم باطل إجماعا فكذا الملزوم وأمّا ثانيا فلصدق النّفي عليه وهو ينافي الحقيقة ، وأمّا ثالثا فلضعف متمسّكهم فانّ التحريم فيما ذكروه مستفاد من خارج وكذا الدخول في الوقف مستفاد من القرينة.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يرث كلّ منهم نصيب من يتقرّب به ، فلبنت الابن الثلثان ، ولابن البنت الثلث لو اجتمعا ، وقال المرتضى بالعكس والأكثر على ما قلناه لتضافر الروايات بذلك ، وانعقاد الإجماع بعده على ما قلناه.
5 - أنّه جعل للأبوين لكلّ واحد منهما مجتمعا أو منفردا السدس مع وجود الولد ، سواء كان ذكرا أو أنثى. لإطلاق لفظه ، ثمّ الولد إن كان ذكرا حاز الباقي إجماعا وإن كان أنثى واحدة ، فلها نصف الأصل ، يبقى السدس يردّ عندنا
ص: 328
على الأبوين والبنت ، أخماسا إلّا مع الاخوة ، فيرد أرباعا على البنت والأب ، وقال الفقهاء إن كان الأب موجودا كان الباقي له ، لأنّه عصبة ، وإلّا فإنّه يكون للعصبة من الاخوة والأخوات والأعمام وأولادهم الذكور إلّا أولاد الأخت فإنّهم ليسوا عصبة وسيأتي دليلهم على التعصيب ، وأمّا مع الاثنتين فصاعدا فلا فاضل في التركة إلا مع فقد أحدهما فيكون الزائد عندهم للعصبة.
واعلم أنّ ولد الولد يقوم أيضا مقام أبيه في مقاسمة الأبوين خلافا لبعض أصحابنا فإنّهم خصّوا الإرث بالأبوين والإجماع على خلافه.
6 - مع عدم الولد وإن نزل الأمّ الثلث كما نصّت الآية الكريمة عليه إلا أن يكون هناك إخوة أقلّهم ذكران أو أربع إناث ، أو أربع خناثى ، أو ذكر وأنثيان فيكون لها السدس من الأصل فيهما والباقي بعد السدس والثلث في الصورتين يكون للأب لإجماع أصحابنا ، ولما يأتي من بطلان التعصيب.
هذا لو وجد الأبوان أمّا مع فقد أحدهما فإن كان الموجود الأب فالمال له إجماعا وإن كان الام فلها الثلث والباقي يردّ عليها عندنا ، وقال الفقهاء إنّ الزائد على الثلث يكون للاخوة بناء على قولهم بالتعصيب ، فعندهم أنّ الاخوة يحجبون الأمّ لأنفسهم إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - يشترط عندنا لحجب الاخوة شروط : الأوّل : وجود الأب ، الثاني :العدد المذكور ، الثالث أن لا يكونوا كفرة ولا قتلة ولا رقّا الرابع : إن يكونوا كلّهم منفصلين لا حملا ، الخامس : كونهم للأبوين أو للأب.
2 - إنّما حجبوا الامّ توفيرا لنصيب الأب لكونه ذا عيلة بوجودهم ، فاقتضت الحكمة التوفير عليه لمكان نفقتهم.
3 - يرد هنا سؤال ، وهو أنّكم قلتم إنّ الأخوين يحجبان ، وهو مناف اللفظ الجمع الّذي هو منطوق الآية وأجيب بأنّه لمّا حصل الإجماع على ذلك وجب التأويل بأنّه لو أتى بلفظ التثنية لم يتناول الجمع لا حقيقة ولا مجازا بخلاف لفظ الجمع فإنّه يغلب على المثنّى كما يغلب المذكّر على المؤنّث ، والمخاطب على الغائب ، و
ص: 329
في الجملة الأشرف على الأخسّ والجمع أشرف لأنّ فيه معنى الزيادة ، ولذلك شرط في جمع السلامة ما لا يشترط في المثنّى من العقل وغيره ، لا أنّ المثنى جمع لغة كما قال الزمخشري لأنّ العرف طار على اللّغة ، وقد ثبت في الأصول تقدم الحقيقة العرفيّة ، ولذلك إذا قال زيد : « فلانة طالق » حمل على إزالة قيد النكاح لا غير ، من إزالة الرقّ والحبس وغير ذلك ، هذا ونقل عن ابن عبّاس أنّه لم يحجب إلّا بثلاثة فما زاد ، والإجماع على خلافة.
4 - قوله « لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً » الحق أنّه أراد النفع الأخرويّ بأن يشفع بعضهم في بعض ، فان كان الوالد أرفع درجة شفع أن يرفع ولده إليه ، وإن كان الولد أرفع سأل اللّه بأن يرفع أباه إليه ، وقيل النفع الدنيوي وقيل المراد وجوب النفقة من الطرفين إذا كان أحدهما محتاجا دون الآخر أعني الأب والابن وقيل لا تدرون أيّكم يموت قبل صاحبه فينتفع الآخر بما له.
الخامسة ( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1).
لمّا فرغ من ميراث الوالدين والأولاد ، شرع في بيان إرث الأزواج والكلالات ، وقدّم الأزواج لأنّهم ورّاث مع جميع الطبقات ، والزوج يطلق لغة على الرّجل والمرأة بالإضافة إلى الآخر ، وفي العرف يخصّ بالرّجل وتتميّز الأنثى بالتاء ، فيقال زوج وزوجة ، وإنما جعل للزوج النصف وللمرأة الربع للعلّة المتقدّمة ، وأجاب الأئمّة عليهم السلام بوجوه :
ص: 330
الأوّل جواب الصادق عليه السلام لمّا سأله ابن أبي العوجاء : أنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عقل إنما ذلك على الرّجال.
الثّاني جواب الرّضا عليه السلام أنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت يعني المهر والرجل يعطي فلذلك وفّر على الرّجل ولأنّ الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت وعليه أن يعولها وعليه نفقتها وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفّر على الرّجال لذلك وذلك قوله تعالى « الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ » الآية (1).
الثالث جواب الصادق عليه السلام لمّا سأله عبد اللّه بن سنان عن ذلك فقال عليه السلام لما جعل لها من الصّداق (2).
الرابع جواب العسكريّ عليه السلام لمّا سأله الفهفكيّ على ما رواه أبو هاشم الجعفري ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما ويأخذ الرّجل القوي سهمين؟
فأجاب عليه السلام لأنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة وإنما ذلك على الرّجال قال السائل فقلت في نفسي قد كان قيل لي أنّ ابن أبي العوجاء سأل الصادق عليه السلام فأجابه بمثل هذا الجواب ، فأقبل عليه السلام عليّ فقال : نعم هذه مسئلة ابن أبي العوجاء والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسئلة واحدا (3) إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - المراد بالولد في قوله « إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ » أعم من أن يكون الولد من الزّوج الوارث أو من غيره من الأزواج وكذلك الولد من الزّوج أعم من أن يكون من المرأة الوارثة أو من غيرها من الزوجات أو الإماء ، وكذلك أعمّ من كونه ذكرا أو أنثى وكذا ولد الولد يقوم مقام أبيه.
2 - يشترط في الولد هنا أن يكون وارثا فلو كان كافرا أو قاتلا أو رقّا لم يكن لوجوده تأثير.
3 - نصيب الزوجة إن كانت واحدة فهو لها ، وإن كنّ أزيد اشتركن فيه ربعا كان أو ثمنا ، لظاهر الآية والإجماع.
ص: 331
4 - استحقاق الزّوجة عندنا مخصوص بالزّوجية الدائمة فلا ترث بالمنقطع على الأصح.
5 - إن كانت الزوجة ذات ولد من الميّت ورثت من جميع تركته وإن لم يكن لها ولد منه ورثت ممّا عدا العقار عينا وأمّا العقار فلا ترث من رقبة الأرض شيئا لا عينا ولا قيمة ، وأمّا الأبنية والأخشاب والأشجار فيعطى منها القيمة ربعا أو ثمنا على القول الأصحّ لأصحابنا ، وهذا تخصيص انفردت به الإماميّة لما دلت عليه رواياتهم عن أئمتهم عليهم السلام.
6 - إرث الزوجة عندنا غير مشروط ببقاء الزوجيّة إلى الموت فإنّها قد ترث وإن ارتفعت الزوجيّة كما في المريض يطلّق في مرضه فانّ زوجته المطلقة ترث ما لم تخرج السنة أو يبرء من مرضه أو تتزوج ، على ذلك إجماع الإمامية.
السادسة ( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) (1).
الكلالة القرابة ، واشتقاقها إمّا من الكلال وهو نقصان القوّة الجسمانيّة أو من الاكليل الّذي يحيط بالرأس والوسط خال ، ويطلق على الوارث والموروث من جهة أنّ كلّا منهما منتسب إلى الآخر ، وانتصابها هنا قيل خبرا لكان و « رجل » اسمها و « يورث » صفة الرّجل ، وقيل على أنّه مفعول له ، مثل قعدت عن الحرب جنبا ، والأجود أنّه على التميز لأنّ « يورث » يحتمل وجوها رفع إبهامه بقوله « كلالة ».
ثمّ إطلاقها على الموروث بمعنى أنّه لم يخلّف والدا ولا ولدا ، وعلى الوارث فقيل من ليس بوالد ولا ولد ، والأصح أنّه القرابة من جهة العرض لا لطول كالاخوة
ص: 332
والأخوات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات وأولاد الجميع ، والمراد هنا هم الاخوة ممّن يتقرّب بالأمّ خاصّة أمّا أولا فلقراءة أبيّ وسعيد بن مالك « وله أخ أو أخت من الامّ » وأمّا ثانيا فلأنّه تعالى جعل للكلالة في آخر السّورة كما يجي ء للأختين الثلثين ، وللإخوة الكلّ ، وهنا جعل للواحد السدس وللأكثر الثلث فعلم أنّ الاخوة هنا غير الاخوة هناك ، وحيث إنّ المقدّر هنا نصيب الامّ كما تقدّم ناسب أن يكون المراد هنا الإخوة من قبلها ، وأمّا ثالثا فلروايات أصحابنا المتضافرة وأمّا رابعا فلأنّه إجماعيّ وهنا فوائد :
1 - أنّ الزائد عن المذكور من السدس والثلث يرد على الوارث منهم إذا لم يكن سواه عندنا وعند الفقهاء لأقرب عصبته كما يجي ء.
2 - هذه المرتبة أعني مرتبة الاخوة هي المرتبة الثانية ، بعد مرتبة الأبوين والأولاد ، لا ينتقل الإرث إليها إلّا بعد عدم المرتبة الأولى بكلّيّتهم ، وكذا لا ينتقل عن هذه إلى الثالثة إلّا بعد عدمها بكلّيّتها.
3 - قد تكرّر ذكر الوصيّة وأنّها مقدّمة على الميراث تأكيدا لحالها وقوله « غَيْرَ مُضَارٍّ » حال من يوصي بها و « المضارّة في الوصيّة » هو أن يوصي بأكثر من ثلث ماله أو يقرّ بدين ليس بحقّ عليه ، قصدا لمضارّة الوارث ودفعه عن الإرث.
4 - قوله « وَصِيَّةً مِنَ اللّهِ » نصب على المصدريّة » أي يوصيكم اللّه وصيّة كقوله فيما تقدّم « فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ ». « وَاللّهُ عَلِيمٌ » بنيّاتكم أي يعلم قصدكم في الوصيّة أنّها لوجه اللّه أو لأجل المضارّة « حَلِيمٌ » أي يتجاوز عن قصدكم المضارّة ولا يستعجل بعقوبتكم.
السابعة ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
ص: 333
الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).
الكلالة قد عرفت أنّها قد تصدق على الإخوة من الأبوين وعلى الاخوة من أحدهما ، وقد تقدّم ذكر كلالة الأم ، والمراد هنا على الاخوة من الأبوين أو من الأب فنقول إذا اجتمع الكلالات كلّهم كان لمن تقرّب بالأمّ السدس إن كان واحدا والثلث إن كانوا أكثر ، والباقي للمتقرّب بالأبوين ويسقط المتقرّب بالأب ، لكنّه يقوم مقام المتقرّب بالأبوين عند عدمهم ، ويرث نصيبهم وإن عدم المتقرّب بالأمّ كان المال للمتقرّب بالأبوين ، ومع عدمهم للمتقرّب بالأب كما قلناه.
وقد قلنا فيما مضى أنّه إذا لم يكن سوى المتقرّب بالأمّ أخذ ما سمّي له من الثلث أو السدس فرضا والباقي بالردّ عليه عند أصحابنا ، وعند الفقهاء للعصبة ، وكذا نحن نقول أيضا في الأخت الواحدة من الأبوين ، أو الأختين فصاعدا لها أو لهنّ النصف أو الثلثان والباقي يرد عليها أو عليهنّ ، وعندهم للعصبة.
وهنا فوائد :
1 - في قوله « وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ » دلالة على بطلان قول العامّة بارث الأخ النصف مع البنت لأنّه شرط في إرثه انتفاء الولد ، والبنت ولد بدليل قوله « يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » فلا يكون الأخ وارثا مطلقا حينئذ لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه ، فلو ورث النصف لزم مخالفة الكتاب.
2 - في قوله « وَهُوَ يَرِثُها » دلالة على أنّ الأخ يرث بالفرض للنصّ على أنّه مع عدم الولد يكون إرثها كلّه له ، فيكون من أصحاب الفروض.
3 - أولاد الاخوة والأخوات عندنا يقومون مقام آبائهم ، ويرث كلّ نصيب من يتقرّب به.
4 - الأجداد عندنا في مرتبة الاخوة ، فإذا اجتمعوا معهم كان الجدّ للأب
ص: 334
كالأخ له ، والجدّة له كالأخت له ، والجد للأمّ كالأخ منها ، وكذا الجدّة.
5 - المرتبة الثالثة من مراتب الإرث الإمام والأخوال عندنا وعند بعض فقهاء العامة ، ليس في الكتاب دلالة صريحة على إرثهم ، نعم يمكن الاستدلال على ذلك بآية اولي الأرحام فإنّها عامّة في كلّ ذي رحم ، وهؤلاء ذوو أرحام ، وكذا هذه الآية دليل على الردّ على أرباب الفروض ، ولإجماع الكلّ على أنّها إذا دلّت على الإرث وجب مراعاة الأقرب فالأقرب ، ولا أقرب من أرباب الفروض ، وإلّا لقدّمه اللّه عليهم هذا خلف وأمّا دلالتها على الإرث فقد تقدّم ، هذا مع إجماع الطائفة المحقّة الّذين دخل فيهم المعصوم على ذلك ودلالة المتواتر من الأحاديث عن الأئمّة عليهم السلام أيضا على ذلك ، وأمّا تفاصيل إرثهم فعلم من السنّة الشريفة ، ومن بيان الأئمة عليهم السلام.
الثامنة ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (1).
مساواة التركة للسهام ممّا لا بحث فيه كأبوين وابنتين ، وأمثالهما وإنّما البحث فيما إذا زادت التركة عن السهام أو نقصت.
والأول مسئلة التعصيب ، وهو الرد على العصبة دون أرباب الفرض ، كما قاله المخالفون ، واستدلّوا عليه بهذه الآية ، ووجه الدلالة أنّ زكريّا عليه السلام سأل وليّا ولو لا التعصيب لم يخصّ السؤال به ، بل قال وليا أو وليّه فلمّا خصّصه به دلّ على أنّ بني عمّه يرثونه مع الوليّه ، فلذلك لم يطلبها ، واستدلّوا أيضا بما رووه عن طاوس عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال « ألحقوا بالأموال الفرائض فما أبقت الفريضة فلأولى عصبة ذكر (2) ».
ص: 335
والجواب عن الآية أن تخصيص السؤال لفوائد الاولى أنّ الذّكر أحبّ إلى طباع البشر من الأنثى ، الثانية أنّه طلبه للإرث ، والقيام بأعباء النبوّة معا ، ولا شك أنّ ذلك غير متصوّر في النساء لأنّهنّ ناقصات عقل وحظّ ودين ، الثالثة : أنّه أراد الجنس الشامل للذّكر والأنثى ، وعن الخبر بأنّه مطعون على سنده ، وقد أنكره ابن عبّاس كما رواه قاربة بن مضرب ، قال قلت لابن عباس روى أهل العراق عنك وعن طاوس أنّ ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر؟ قال من أهل العراق أنت؟ قلت : نعم؟ قال أبلغ أنّي أقول أنّ قول اللّه عزوجل « آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ » وقوله « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ » وهل هما إلّا فريضتان وهل أبقتا شيئا؟ ما قلت بهذا ولا طاوس يرويه ، قال قاربة : فلقيت طاووسا فقال : لا واللّه ما رويت هذا وإنّما الشيطان إلقاء على ألسنتهم (1) وهذه الرواية لم ترو إلّا عن طاوس.
والثاني مسئلة العول كأبوين وبنتين وزوج أو زوجة وأمثاله فإنّ أصل الفريضة من ستّة فأصحابنا يعطون الأبوين السدسين والزوج الرّبع ، ولا ربع صحيح هنا فيصير من أربعة وعشرين للأبوين ثمانية ، وللزّوج ستّة إن كان وللزوجة ثلاثة إن كانت والباقي وهو عشرة أو ثلاثة عشر للبنتين فيدخل النقص عليهما وأمّا المخالف فيعيل الفريضة على تقدير الزوج إلى ثلاثين فيعطي البنتين ستّة عشر والأبوين ثمانية ، والزّوج ستّة ، وعلى تقدير الزّوجة إلى سبعة وعشرين للأبوين ما تقدّم ، وللزّوجة ثلاثة ، فيصير ثمنها تسعا
ويستدلّون على ذلك بالقياس على تركة لا تفي بالدّيون ، فإنّه يدخل النقص على الجميع ، وبما رواه سماك ابن حرب عن عبيدة السّلمانيّ قال كان عليّ عليه السلام على المنبر فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين رجل مات عن ابنتيه وأبويه وزوجة فقال علىّ عليه السلام « صار ثمن المرأة تسعا » وبأنّ عمر حكم بالعول ولم ينكر عليه أحد فصار إجماعا.
ص: 336
واستدلّ أصحابنا بوجوه الأوّل أنّه لا بد من مخالفة ظاهر آيات الإرث وكلّما كانت المخالفة أقلّ كان أولى ، وهو قولنا. الثاني : إجماع الطائفة المحقّة وهو حجة عندنا الثالث : تواتر الأحاديث عن الباقر والصّادق عليهما السلام وأنّ ذلك في كتاب الفرائض بإملاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وخطّ علي عليه السلام وأنّ فيه أنّ السهام لا تعول. الرابع : أنّ كل واحد من الأبوين والزّوجين له سهمان أعلى وأدنى ، وليس للبنت والبنتين والأختين كما قلنا إلّا سهم واحد ، فإذا دخل النقص عليهما استوى ذوو السهام في ذلك.
وأجابوا عن حجّة الخصم أمّا عن القياس فببطلانه عندنا وعلى تقدير تسليمه نقول إنّما دخل النقص في الديون لأمر غير حاصل هنا وهو الترجيح من غير مرجّح وأمّا هنا فالمرجّح موجود ، وهو ما ذكرناه من أنّ البنتين ليس لهما النصيب الأدنى بخلاف الزّوجين والأبوين ، وأمّا عن الخبر فانّ عليا عليه السلام أجاب على جهة الإنكار على القائلين بالعول ، لإجماع أهل بيته عليهم السلام على أنّه لم يكن قائلا بالعول بل منكرا له ، وأمّا حكاية عمر فبمنع الإجماع ، وبأنّ السكوت لا يدل على الموافقة ولا ظهار ابن عبّاس المخالفة بعد عمر ، وقال هبته وكان رجلا مهيبا.
التاسعة ( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (1).
قيل : هذه الآية منسوخة بآية الإرث بالنسب وقيل بل هي محكمة وإنّه يستحب للورثة حين اقتسامهم الرّضخ لمن لا سهم له من الأقارب والجيران والمساكين واليتامى وعن سعيد بن جبير أنّ أناسا يقولون نسخت ، واللّه ما نسخت ولكنّه ممّا يتهاون به الناس ، وقيل : إنّ ذلك مختصّ بالعين أمّا الأرضون والرقيق فلا ، بل يقولون حينئذ القول المعروف هو الاعتذار ، وقيل العذر عن مال الطفل لو كان فيهم صغير يعتذر وليه بأنّه لو كان لي لأعطيتكم ، وقيل الخطاب للمريض إذا حضرته أمارات
ص: 337
الموت وأراد قسمة أمواله والإيصاء بها أن يفعل ذلك ، والأوّل أشهر وقرينة الخطاب تدلّ عليه.
واعلم أنه وقع الإجماع ، ودلّت السنّة الشريفة ، وبيان الأئمّة الصادقين على شرائط الإرث وعلى موانع له كالكفر والرقّ والقتل ، فيكون فوات الشرط ووجود المانع كالمخصّص لعموم الآيات المذكورة ، فتكون من العمومات المخصّصة وهو المطلوب.
الحدّ يقال لغة الحاجز بين الشيئين ، ويقال أيضا للمنع ومنه قيل للبوّاب حدّاد ، ويقال لمنتهى الشي ء ، ومنه يقال حددت الدار أحدّها حدّا أي بيّنت منتهاها ، وشرعا هو إيقاع عقوبة قدّرها الشارع للمكلّف على ارتكاب معصية ، ويمكن أخذه من المعنى الأوّل لكونه حاجزا بين أكثر العقلاء وبين ارتكاب المعصية ومن الثاني لأنّ فيه معنى المنع ، وعن الثالث لأنّه عقوبة لها قدر وغاية لا يجوز التجاوز عنه وهو أقسام :
وفيه آيات :
الاولى ( وَاللّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) (1).
ص: 338
هنا فوائد تتبعها أحكام :
1 - قيل المراد بالفاحشة المساحقة ، والأكثر أنّ المراد الزنا ، فعلى هذا قيل المراد المحصنة وهي المراد بالثّيب (1) لأنّه أضافهنّ إضافة زوجيّة إذ لو أراد غير الزوجات لقال من النساء.
2 - ( فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) فيه دلالة على نصاب الشهادة ، واشتراط الإسلام والذكورة على تفصيل يأتي.
3 - « فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ » قيل المراد صيانتهنّ عن مثل فعلهنّ والإمساك كناية عنه ، والأكثر أنّه على وجه الحدّ على الزنا ، وكان ذلك في أوّل الإسلام ثمّ نسخ بآية الجلد ، وقوله « حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ » أي ملك الموت ، حذف المضاف (2) للعلم به ، بقرينة استحالة استناد التوفّي إلى الموت لكونهما بمعنى واحد.
4 - « أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً » قيل السبيل النكاح المغني من السّفاح ، وهذا لا يتم على تقدير إرادة المحصنات وقيل السبيل الحكم الناسخ ، ولهذا لما نزلت آية الجلد قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قد جعل اللّه لهنَّ سبيلا » واحتمال كونه التوبة لا دليل عليه لكنّه محتمل والجعل حينئذ كناية عن التوفيق.
الثانية ( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً ) (3).
هنا فوائد :
1 - قال أبو مسلم : المراد اللّواط ، لإتيانه بلفظ التذكير ، وأكثر المفسّرين على إرادة إتيان الزّنا والتثنية للفاعل والمرأة وغلب التذكير في العبارة.
ص: 339
2 - قيل المراد بالأذى التوبيخ والاستخفاف فعلى هذا لا يكون منسوخا لأنّه حكم ثابت مطلقا بل المنسوخ الاقتصار عليه ، وعلى قول أبي مسلم يمكن حمله على القتل لأنّه حدّ اللواط ، وإطلاق الأذى ينصرف إلى أبلغ مراتبه ، وهو القتل وقال الفرّاء إن هذه ناسخة للآية السّابقة ، وقيل بل بالعكس ، وأمر بوضعها في التلاوة بعدها وإن كانت قبلها نزولا ، وقيل : المراد به حد البكر ، وهو الجلد والتغريب ، كما أنّ حدّ الثيّب الجلد والرّجم.
3 - « فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما » فيه دلالة على أنّ الزاني إذا تاب قبل الرّفع إلى الحاكم لا يحدّ وأمّا بعد الرفع والحضور ، فان ثبت بالإقرار تخيّر الامام ، وإن ثبت بالبينة تحتّم الحد ، والمراد بالإصلاح الاستمرار على التوبة قوله « إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً » أي كثير القبول للتوبة وهو تعليل للإعراض ، وإردافه بالرّحمة ، فيه إشارة إلى أنّ قبول التوبة تفضّل ، وقيل المراد باللّذان الشاهدان بالزنا قبل كمال نصاب الشهادة ، والمراد بالأذى حدهما حدّ الفرية وهو ضعيف.
الثالثة ( الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (1).
الاسمان مرفوعان بالابتداء ، وخبرهما محذوف عند الخليل وسيبويه ، أي مما فرض اللّه حكم الزانية والزاني ، وقوله « فَاجْلِدُوا » جملة أخرى معطوفة على الاولى وعند المبرّد أنّهما جملة واحدة ، إلّا أنّ المبتدأ لمّا تضمّن معنى الشرط والمبتدأ موصول بفعل أتى بالفاء أي الّتي زنت والّذي زنى فاجلدوا.
وإذا تقرّر هذا فقد اشتملت على أحكام ثلاثة :
1 - الأمر بالجلد مائة ، والجلد ضرب الجلد بحيث لا يتجاوز ألمه إلى اللّحم
ص: 340
وهذا الحكم مخصوص بالسنّة والكتاب أمّا السنّة فبالزيادة تارة كما في حقّ البكر الذكر ، فإنّه يزداد التغريب سنة لقوله عليه السلام « البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام (1) » ومنعه أبو حنيفة والخبر يبطل قوله ، وكذا عمل الصّحابة ، وقوله إنّ الآية ناسخة للخبر ضعيف لأنّ عدم ذكر التغريب ليس ذكرا لعدمه ، لتكون ناسخة له وفعل الصحابة متأخّر عن الآية فكيف يكون التغريب منسوخا بها ، وبالإبدال تارة كما في حقّ المحصن والمحصنة ، فانّ حدّهما الرّجم هذا إن قلنا بعدم ضمّ الجلد إلى الرّجم ، وإلّا فهو أيضا زيادة ، نعم قيل الضمّ في حقّ الشيخين خاصّة وقيل عامّ وهو الحق لأنّ عليا عليه السلام جلد سراجة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنّة رسول اللّه (2) وكانت سراجة شابّة وفعله عليه السلام حجّة.
والمراد بالمحصن من له فرج مملوك بالعقد الدائم أو ملك اليمين تغدو عليه وتروح ، وبالمحصنة من لها زوج بالعقد الدائم يغدو عليها ويروح والبكر قيل هو ما عدا المحصن ، وقيل من أملك ولم يدخل ، والطلاق رجعيّا لا ينافي الإحصان مع بقاء العدّة بخلاف البائن ، وإن بقيت ، وعندنا لا جزّ على المرأة ولا تغريب وأمّا الكتاب فينصّف الجلد في حقّ الأمة لقوله « فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) (3) واختلف في العبد فقيل كالحرّ وقيل كالأمة ، وهو الأقوى.
2 - قوله « وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ » والرأفة الرحمة وفيها لغتان فعالة وفعلة نحو كأبة وكآبة وشأمة وشآمة والخطاب هنا وفي قوله « فَاجْلِدُوا » للأئمّة والحكّام ، قوله « فِي دِينِ اللّهِ » أي في حفظه ، وقوله « إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ » معناه أنّ حفظ دين اللّه من لوازم الإيمان ، فمن أتى بالملزوم يلزمه الإتيان بلازمه ، وإلّا لم يكن مؤمنا فإنّ عدم اللّازم ملزوم لعدم ملزومه ، وهذا على سبيل المبالغة في الحكم
ص: 341
وتشديدا لأمر الزنا ، وحسما لمادته ليتحفّظ النسب ، ويجري الأحكام الشرعيّة المترتبة عليه على أصولها ، ولذلك « قال صلى اللّه عليه وآله يا معشر الناس اتّقوا الزنا فإنّ فيه ستّ خصال ثلاث في الدّنيا وثلاث في الآخرة أمّا اللاتي في الدنيا فإنّه يذهب البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأمّا اللاتي في الآخرة فإنّه يوجب السخط ، وسوء الحساب ، والخلود في النار (1) وفي الآية دلالة على أنّه يضرب أشدّ الضرب وأنّه لا ينقص من الحدّ شي ء ، وأنّه لا يجوز الشفاعة في إسقاطه ، وفي الحديث عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا فيقول رحمة لعبادك فيقول له : أنت أرحم بهم منّي؟ فيؤمر به إلى النار ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول : لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار (2).
3 - « وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » أي ليحضر لأجل التشهير ليرتدع الناس عن مثل فعلهما ، وقيّد الطائفة بالمؤمنين لئلّا يكون إقامة الحدّ مانعة للكفّار عن الإسلام ، ولذلك كره إقامته في أرض العدوّ واختلف في الطائفة فعن الباقر عليه السلام أقلّها واحد ، وبه قال مجاهد وإبراهيم ، وقال عكرمة اثنان وقتادة والزهريّ ثلاثة وابن عباس أربعة لأنّ بهذا العدد يثبت هذا الحد وهو قريب لكن قول الباقر عليه السلام أقوى ويؤيّده أنّ الفرقة جمع وأقلّه ثلاثة ، والطائفة بعضها فيكون واحدا.
الرابعة ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) (3).
ص: 342
أي لا يحزنك صنع الّذين يسارعون في الكفر أي يقعون فيه سريعا وقسمهم إلى المنافقين وهم الّذين قالوا آمنّا إلى آخره ، وإلى اليهود المتّبعين للكذب ، وهو ما حرّفوه من أحكام التوراة وهم أيضا مطيعون لقوم آخرين لم يحضروا مجلسك بغضا لك ، وقوله « يُحَرِّفُونَ » صفة أخرى لهم ، قيل نزلت هذه في يهود خيبر حيث أرسلوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله يسألونه عن محصن زنى ، وقالوا لرسلهم : إن أفتاكم محمّد بالجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه ، وذلك لأنّهم حرّفوا حكم التوراة برجم المحصن إلى أنّه يجلد أربعين سوطا ويسوّد وجهه ويشهر على حمار.
وعن الباقر عليه السلام إنّ خيبريّة من أشرافهم زنت فكرهوا رجمها فأرسلوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله يستفتونه طمعا في رخصة تكون في دينه ، فقال صلى اللّه عليه وآله : أترضون بحكمي؟ فقالوا : نعم ، فأفتاهم بالرّجم ، فأبوا أن يقبلوا فقال جبرئيل عليه السلام للنبيّ صلى اللّه عليه وآله : سلهم عن ابن صوريا واجعله بينك وبينهم حكما فقال لهم : أتعرفون ابن صوريا؟ قالوا نعم ، وأثنوا عليه وعظّموه ، فأرسل إليه فأتى فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنشدك اللّه هل تجدون في كتابكم الّذي جاء به موسى عليه السلام الرّجم على المحصن فقال نعم ، ولو لا مخافتي من ربّ التوراة إن كتمت لما اعترفت ، فنزلت « يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (1) فقام ابن صوريا وسأله أن يذكر الكثير الّذي أمر بالعفو عنه ، فأعرض عن ذلك ، واسم ابن صوريا عبد اللّه وكان شابّا أمرد أعور ، وكان أعلم يهوديّ في زمانه.
ونقل الزمخشري أنّهم أرسلوا الزانيين مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول اللّه عن أمرهم ، وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا ، فأمرهم بالرّجم فأبوا عنه ، فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم فقال له : أنشدك اللّه الّذي لا إله إلّا هو الّذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والّذي أنزل عليكم كتابا وبيّن حلاله وحرامه
ص: 343
هل تجد فيه الرّجم على من أحصن؟ فقال : نعم ، فوثبوا عليه ، فقال : خفت إن كذّبته أن ينزل علينا العذاب فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالزانيين فرجما عند باب المسجد ولنتبع هذا البحث بفوائد :
1 - قد نقلنا أنّ حدّ اللواط يدلّ عليه الآية الثانية على قول ، وحد المساحقة يدل عليه الاولى ، فيكونان أيضا ثابتين بالكتاب لكنّ المراد باللّواط الموجب للقتل هو الّذي فيه إيقاب لا غيره وفي المساحقة الجلد مائة (1) وروى محمّد بن حمزة عن الصادق عليه السلام أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة عنهنّ عن السّحق ، فقال : حده حد الزنا فقالت المرأة ما ذكر اللّه ذلك في كتابه؟ فقال : بلى ، قالت : وأين؟ قال : هنّ أصحاب الرسّ (2).
2 - روي أنّ المتوكّل بعث إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكريّ عليهما السلام من سأله عن نصراني فجر بامرءة مسلمة ، فلمّا أخذ ليقام عليه الحدّ أسلم؟ فأجاب عليه السلام إنّ الحكم فيه أن يضرب حتّى يموت لأنّ اللّه تعالى يقول « فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ » وفي هذه دلالة على أنّ الكافر إذا زنى بمسلمة فحده القتل (3).
3 - روي أنّ امرأة أتت عمر فقالت : إنّي فجرت فأقم عليّ حدّ اللّه ، فأمر برجمها وكان عليّ عليه السلام حاضرا فقال له : سلها كيف فجرت؟ فقالت كنت في فلاة من الأرض أصابني عطش شديد فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت فيها أعرابيا فسألته الماء فأبى عليّ أن يسقيني إلّا أن أمكّنه من نفسي ، فوليت منها هاربة ، فاشتدّ بي العطش
ص: 344
حتّى غارت عيناي فلمّا بلغ منّي أتيته فسقاني ووقع عليّ فقال عليّ عليه السلام هذه الّتي قال اللّه تعالى « ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (1) » غير باغية ولا عادية فخلّ سبيلها ، وفيه دلالة على أنّ المكره لا حدّ عليه.
4 - لو كان من يجب عليه الحد مريضا يخشى تلفه تخير الحاكم بين الصبر حتى يبرأ وبين الضرب بالضغث المشتمل على العدد ، لأنّه روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله اتي بمستسق قد زنا بامرأة فأمر صلى اللّه عليه وآله بعرجون فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة ثمّ خلّى سبيله (2) وهذا يمكن أن يكون مأخوذا من قوله « وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) (3) ».
وفيه آيتان :
الاولى ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (4).
قال سعيد بن جبير : إنّها نزلت في قصّة عائشة وقال الضحّاك بل في سائر نساء المؤمنين وهو أولى لأنّه أعمّ فائدة ، ولو سلّمنا فهي أيضا عامّة لما عرفت أن خصوص السبب لا يخصّص وقد دلّت على أحكام :
1 - أنّ القذف هو الرمي بالزنا ، لما تقدم أنّه يثبت بأربعة شهداء فقال
ص: 345
هنا « ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ » فعلم أنّ المراد الرّمي بالزنا والإجماع على ذلك.
2 - يشترط في الحدّ عفّة المقذوفة وإليه أشار بقوله « الْمُحْصَناتِ » ولم يرده بالمعنى السابق في الزناء للإجماع على ثبوت الحدّ بالقذف لغير الزوجة ، أمّا غير العفيفة فإنّه يجب التعزير إلّا أن يبلغ حالها إلى الاشتهار بالزّناء بحيث لا يستنكف من المخاطبة به فحينئذ لا حدّ ولا تعزير.
3 - أنّه إنّما يجب الحد إذا ثبت عند الحاكم وثبوته إمّا بالإقرار أربعا أو بأربعة شهود في مجلس واحد غير متفرّقين بل متّفقين على الفعل الواحد بالوصف الواحد مع اتّحاد الزّمان وإمكان ، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يشترط اتّحاد مجلس الشهود وقال أصحابنا يثبت أيضا بثلاثة رجال وامرأتين أو رجلين وأربع نسوة على تفصيل يذكر في كتب الفقه.
4 - أنّ القاذف يجلد ثمانين جلدة ، حرّا كان أو عبدا ، رجلا كان أو امرأة لعموم اللّفظ والتصنيف في العبد إنّما جاء في الزنا.
5 - أنّه لا تقبل شهادته ، والمراد به ما دام فاسقا.
6 - أنّه محكوم بفسقه وهو دليل على كونه كبيرة.
7 - أنّه إذا تاب قبلت شهادته عندنا وعند الشافعيّ بناء على أنّ الاستثناء من قوله « وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً » والواو للعطف على جزاء الشرط ، فيكون من جملة الجزاء ، وهو قول أكثر التابعين وروي عن عمر أنّه قال لأبي بكرة في شهادته على المغيرة أن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يكذّب نفسه وقال أبو حنيفة لا يقبل شهادته أبدا إلّا أن يشهد قبل إقامة الحدّ عليه أو قبل تمامه ، بناء على أنّ الواو في قوله « وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » للاستيناف ، والاستثناء عن « الفاسقين » وهو قول ابن جريج وابن المسيّب والحسن والمراد بالإصلاح المعطوف على التوبة هو الاستمرار عليها ، وقيل لا بدّ من عمل وإن قلّ ثمّ هنا فوائد :
1 - لا فرق في كون المقذوف ذكرا أو أنثى ، ولفظ التأنيث في الآية لخصوص الواقعة ، وقد عرفت أنّه غير مخصّص.
ص: 346
2 - القذف باللّواط كالقذف بالزنا ، من غير فرق ، وكذا السحق أمّا القذف بالكفر أو الشرب وغير ذلك من المعاصي فيوجب تعزيرا.
3 - أنّه يجلد بثيابه بخلاف حدّ الزنا فإنّه يجلد عريانا وقيل في الزنا يجلد كما وجد ، والضرب في القذف متوسّط ، وقال الباقر عليه السلام « يجلد الرّجل قائما والمرأة قاعدة (1) ».
4 - يشترط في المقذوف الحرّيّة والبلوغ والإسلام ، ولو كان بخلاف ذلك عزّر قاذفه.
5 - حد القذف حق الآدميّ يتوقف إقامته على المطالبة ، ولا يسقطه التوبة مطلقا إلّا مع العفو من المقذوف قبل الثبوت لا بعده ، ورضاه جزء من التوبة وحدّها إكذاب نفسه إن كان كاذبا والتخطئة إن كان صادقا فلا يقبل شهادته بدون ذلك.
6 - قال بعضهم أشدّ الضرب يكون في التعزير ، ثمّ بعده في الزنا ، ثمّ بعده في الشرب ، ثمّ بعده في القذف ، لأنّ القاذف قد يكون صادقا فيما قاله ، وإنّما عوقب صيانة للأعراض ، وقد حافظ الشارع على صيانتها بقوله « وَلا تَجَسَّسُوا » وبقوله ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (2).
الثانية ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (3).
« الْمُحْصَناتِ » العفائف « الْغافِلاتِ » السّليمات القلوب من الخبائث النفسانيّة وإنّما جمع وإن كان السّبب واحدا وهي عائشة ليعلم عموم الحكم في كلّ محصنة قذفت بالزّنا وقد شدّد اللّه أمر القذف ما لم يشدّد في غيره حيث جعل القاذفين ملعونين
ص: 347
في الدّنيا والآخرة ، وتوعّدهم بالعذاب الأليم وأوجب عليهم الحدّ في الدّنيا.
فائدة قد تقدّم حديث قدامة لمّا شرب الخمر وقول عليّ عليه السلام لعمر : إن تاب أقم عليه الحدّ فلمّا أظهر لتوبة لم يدر عمر كيف يحدّه ، فقال لأمير المؤمنين عليه السلام أشر عليّ في حدّه فقال : حدّه ثمانين لأنّ شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذي ، وإذا هذي افترى قال اللّه تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) إلى آخرها فدلّ ذلك على أنّ حدّ المسكر ثمانون ، وهذا ليس قياسا منه عليه السلام لأنّ مذهبه تحريم القياس ، بل بيانا للعلّة كما سمعه عن النبي صلى اللّه عليه وآله ولذلك لمّا سكر الوليد فأراد عثمان بن عفان حدّه وكان رأيه في الحدّ أربعين فأشار إلى علىّ عليه السلام بضربه فضربه بدرّة لها رأسان أربعين جلدة فكانت ثمانين.
وفيه آيتان :
الاولى ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).
إعراب السارق والسارقة كما تقدّم في الزاني والزانية من المذهبين « وجزاء » و « نكالا » منصوبان على المفعول له والنكال العذاب ولا شكّ أن الآية مشتملة على أحكام كلّها مجملة تفتقر إلى بيان من النبيّ صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (2) وعندنا أنّ الأئمّة عليهم السلام كذلك لما ثبت من كونهم حفظة للشرع بعده صلى اللّه عليه وآله.
1 - « السّارِقُ وَالسّارِقَةُ » سواء قلنا إنّ اسم الجنس المعرّف باللّام للعموم
ص: 348
أو لم نقل ، فإنّه مجمل يحتمل عموم كلّ سارق وبعضه ، لكنّ البيان النبويّ والإماميّ عليهم السلام أخرج الأب إذا سرق مال ولده ، والعبد [ إذا سرق ] مال سيّده والغانم من الغنيمة ، والشريك من المشترك ما يظنّه حقّه ، وكلّ ذي شبهة محتملة.
2 - قوله « فَاقْطَعُوا » القطع قد يراد به الشق من غير إبانة نحو برئت القلم فقطعت السكّين يدي ، وقد يراد مع الإبانة فهو حينئذ محتمل للقسمين لكنّ البيان الشرعيّ حكم بإرادة الثاني.
3 - وقع الإجماع على أنّه لا يقطع إلّا يد واحدة ، وهي محتملة لإرادة اليمين واليسار ، لصدق اليد على كلّ واحد منهما ، لكنّ البيان المذكور خصّ اليمين وإنّما قال « أَيْدِيَهُما » ولم يقل يديهما لعدم الاشتباه ، نحو قوله تعالى « فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) (1) ».
4 - اليد أطلقت لغة وعرفا على الجارحة المخصوصة من الكتف إلى رؤس الأصابع ، وشرعا من المرفق إلى الرؤس كما في آية الوضوء ، ومن الزّند إلى الرؤس كما في التيمّم عندنا وعلى الأصابع لا غير كما في قوله « فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ) (2) » ولم يبيّن في الآية المراد وحينئذ ليس أحد الاحتمالات أولى من الآخر فيكون اللفظ مجملا وقيل إنّه غير مجمل لأنّ اليد حقيقة في الأوّل ، مجاز في الباقي ، ولذلك يصح أن يقال لما دون المنكب بعض اليد فيكون اللّفظ ظاهرا في جملة اليد ، ولذلك قال به الخوارج فلا يكون مجملا.
والحق الأوّل لأنّ القطع من المنكب غير مراد إجماعا ، لأنّ قول الخوارج باطل لكفرهم بانكارهم ما علم من الدين ضرورة فلا يكون الحقيقة حينئذ مرادة فيحمل على بعض اليد من الأقسام المذكورة ، وليس بعضها أولى من بعض بالنسبة إلى اللّفظ فيثبت الاجمال وهو المطلوب.
إذا عرفت هذا فالمشهور عند الفقهاء القطع من مفصل الكفّ عن الساعد ، و
ص: 349
عند أصحابنا هو قطع الأصابع الأربع من اليد اليمنى ، ويترك له الراحة والإبهام فإن عاد ثانيا مع الشرائط والقطع أوّلا قطعت رجله اليسرى ، ويترك له العقب فان عاد ثالثا بعد قطع الرّجل خلّد في السجن حتى يموت فان سرق في السجن قتل. واعتمدوا في ذلك على نقلهم المتواتر عن أئمّتهم عليهم السلام وعلى أنه يصدق على ذلك اسم اليد كما قلناه وعلى أصالة عدم التهجّم على أكثر من ذلك إلّا بدليل ولم يثبت.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - النصاب الّذي يجب القطع بأخذه عندنا ربع دينار ذهبا خالصا مسكوكا أو ما قيمته ذلك وبه قال مالك والشافعيّ وبه حكم الخلفاء الأربعة ، وقال أبو حنيفة عشرة دراهم وقال الحسن البصريّ درهم ، وقال الطبري لا حدّ له بل أيّ شي ء كان من قليل أو كثير.
2 - يشترط مع ما تقدّم الأخذ خفية لا مشاهدة ، والإخراج بنفسه لا بغيره ولا مع غيره إلّا أن يبلغ حصّته نصابا.
3 - يشترط أيضا الإخراج من حرز ، وحدّه أصحابنا بأنّه ما ليس لغير المالك الدخول إليه وقال الجبائي هو أن يكون في بيت أو دار يغلق عليه وله من يراعيه والأولى أن يرجع فيه إلى العرف فلكلّ شي ء حرز يخصّه.
4 - يثبت هذا الحدّ بالإقرار مرّتين أو شهادة عدلين فلو أقرّ مرّة لا غير ثبت المال لا غير ، وكذا لو شهد واحد وحلف المدّعي.
الثانية ( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).
المراد هنا بظلمه سرقته و « الإصلاح » الاستمرار على التوبة ، ولا كلام في سقوط العقاب الأخرويّ بذلك وأمّا الحد فهل يسقط بها أو لا؟ قال أبو حنيفة لا يسقط وهو أحد قولي الشافعيّ ، وقال أصحابنا بسقوطه بالتوبة قبل الثبوت عند الحاكم أمّا بعده فإن ثبت بالبيّنة فلا سقوط ، وبالإقرار قيل يتحتّم الحد كما في البيّنة
ص: 350
وقيل يتخيّر الامام لفعل علىّ عليه السلام لمّا وهب يد السارق المقرّ بسرقته ثمّ تاب فقال عليه السلام له : هل تحفظ شيئا من القرآن فقال نعم سورة البقرة قال : وهبت يدك بسورة البقرة فقال له الأشعث أتعطّل حدّا من حدود اللّه؟ فقال له وما يدريك إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن يعفو ، قال اللّه تعالى « الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ » وإذا أقرّ الرجل على نفسه بسرقة فذاك إلى الامام ، إن شاء عفى ، وإن شاء عاقب (1) هذا وأمّا حقّ المالك فلا يسقط بالتوبة مطلقا إلّا مع تصريحه بالإبراء ، وكذا لا يسقط المال بالقطع بل يجب ردّه بعينه أو قيمته وقال أبو حنيفة لا يجب عليه القطع والغرامة معا بل إن قطعت سقطت عنه وإن غرم سقط القطع وهو فرق ضعيف ومع ثبوت التوبة الحقيقية تقبل شهادته لقوله تعالى « إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »
وفيه آيتان :
الأولى ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (2).
محاربة اللّه ورسوله محاربة المسلمين ، جعل محاربتهم محاربة اللّه ورسوله تعظيما للفعل ، وأصل الحرب السلب ، ومنه حرب الرّجل ماله أي سلبه فهو محروب وحريب وعند الفقهاء كلّ من جرّد السلاح لإخافة الناس في برّ أو بحر ، ليلا أو نهارا ، ضعيفا كان أو قويّا ، من أهل الريبة كان أو لم يكن ، ذكرا كان أو أنثى فهو محارب ، ويدخل
ص: 351
في ذلك قاطع الطريق والمكابر على المال أو البضع و « فسادا » منصوب صفة لمصدر محذوف أي سعيا فسادا أو على الحال أي مفسدين أو على أنّه مفعول له.
واختلف في حدّه فقيل على التخيير لظاهر الآية إذ المجاز والإضمار على خلاف الأصل فيتخيّر الامام بين الأقسام الأربعة على أيّ فعل صدر منه من قتل أو أخذ مال أو جرح أو إخافة فعلى هذا يصلب حيّا قطعا ، وقيل بالترتيب والتفصيل وهو أقسام الأوّل : يقتل إن قتل خاصّة ، فلو عفى الولي قتل حدّا ولا معه قصاصا الثاني إن أخذ المال وقتل ، استرجع المال ، وقطع مخالفا ثمّ قتل وصلب ، الثالث إن أخذ المال خاصّة قطع مخالفا ونفي ، الرابع : إن جرح ولم يأخذ شيئا اقتصّ منه ونفي ، الخامس : إن أشهر السلاح وأخاف خاصّة نفي لا غير.
ومن العجيب قول الراوندي إنّ هذا التفصيل يدلّ عليه الآية وليت شعري من أيّ طريق ندل الآية و « أو » صريحة في التخيير بين الأقسام الأربعة اللّهمّ إلا مع إضمار ، وقد قلنا إنّ الأصل عدمه ، فان دلّ دليل على تقديره فيكون الدّلالة مستفادة من ذلك الدليل ، لا من الآية فإذا ألحق القول بالتخيير وهنا فوائد :
1 - الصّلب على القول الأوّل يكون وهو حيّ قطعا وعلى الثاني قيل يقتل ثمّ يصلب ، وقيل بل يصلب حيّا ويترك حتّى يموت ، وقيل يصلب وينجع حتى يموت.
2 - القطع مخالفا وهو أن يقطع يمناه أوّلا حيّا ثمّ يقطع رجله اليسرى وقد تقدّم كيفيّة القطع.
3 - فسّر أبو حنيفة النفي بالحبس وقال الشافعيّ وأصحابنا هو النفي من بلده وأيّ بلد يستقر فيه أو يقصده يكتب إليهم أنّه محارب فلا يبايع ولا يعامل ولا يعاشر ، وقيل بل يقتصر على نفيه من بلده لا غير.
الثانية ( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1)
ص: 352
عندنا وعند الشافعيّ أنّ هذا الاستثناء من حقوقه تعالى ، أمّا حق الآدميّ من القتل والجرح والمال ، فلا يسقطه إلّا القصاص والأداء ، سواء كان المال موجودا بعينه أو تلف فيلزمه حينئذ قيمته ، وقال بعضهم الاستثناء من كلّ حقّ ، إلّا أن يوجد عين المال فيؤخذ منه ، وتقييد التوبة بكونها قبل القدرة يدلّ على أنّها لو حصلت بعد القدرة لم يسقط الحد وإن سقط العقاب الأخرويّ.
وفيه آيات :
الاولى ( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ) (1).
يقال من أجل ذلك فعلت ، بفتح الهمزة وكسرها أي بسببه ، سواء كان السبب فاعليّا أو غائيا و « من » لابتداء الغاية فإنّ الشي ء يبتدئ من سببه وقد يبدل « من » باللّام فيقال لأجل ذلك وهو إشارة إلى ما تقدّم من قتل قابيل وهابيل ، وقوله « بِغَيْرِ نَفْسٍ » إلى آخره أي لا على وجه القصاص ، ولا على فساد يصدر منها موجب لقتلها.
واختلف في التشبيه الأوّل على أقوال الأوّل أنّ التشبيه معناه أنّه بمنزلة من قتل الناس جميعا في أنّهم خصومة في قتل ذلك الإنسان الثاني : أنّ معناه في تعظيم الوزر والإثم ، والثالث أنّه كأنّما قتل الناس جميعا عند المقتول الرابع أنّه يجب عليه من القتل والقود ، مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعا.
وكذا في التشبيه الثاني أقوال الأوّل أنّه كمن أحيا الناس جميعا عند المستنقذ
ص: 353
الثاني أنّه من نجّاها من غرق أو حرق فأجره كأجر من أحيا الناس جميعا الثالث أنّه من عفى قتلها وقد وجب عليها القود (1) الرّابع أنّه من زجر عن قتلها ونهى عنه ، بما فيه حياتها ، أو حال بين من يريد قتلها وبينها (2).
وإنّما قال « أَحْياها » على جهة المجاز من إطلاق السبب على المسبّب والتحقيق هنا في الموضعين أنّه تشبيه على سبيل المبالغة تعظيما لشأن القتل ، وتهويلا لأمره ، وكذلك في طرف الاحياء ، وإلّا فالتشبيه الحقيقي هنا لا وجه له ، لمنافاته الحسّ والعقل والعدل.
الثانية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (3).
هنا فوائد :
1 - أنّه كان بين حيّين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما على الآخر طول فأقسموا ليقتلنّ الحرّ بالعبد ، والذكر بالأنثى ، والرّجلين بالرّجل ، فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت فأمرهم أن يتساووا أي يتكافؤا ، والقصاص من قصّ الأثر وهو الاتّباع ، فإنّ الوليّ في القصاص يتبع أثر الجاني ، ويفعل كفعله ، وحينئذ لا يرد سؤال أنّ الوليّ له الخيار في العفو وأخذ الدية والقصاص ، فلم قال كتب ومعناه وجب كما تقدم لأنّ المراد بيان ما هو
ص: 354
واجب في الأصل ونفس الأمر ، وأمّا العفو وأخذ الدّية ففرعان على الاستحقاق ولذلك لا يجب على الجاني قبول أداء الدّية عندنا وهو مذهب أبي حنيفة ، وقال الشافعيّ للوليّ الخيار بين الدية والقصاص ، وإن لم يرض الجاني إذ المراد بالوجوب عدم جواز التعدي إلى غير المكافي كما حكيناه من حكاية الحيين.
2 - قوله تعالى « الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى » قيل هذا منسوخ بقوله « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنّه حكاية ما في التورية فلا ينسخ القرآن وأمّا ثانيا فلأصالة عدم النسخ إذ لا منافاة بينهما وأمّا ثالثا فلأنّ قوله « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » عام وهذا خاص ، وقد تقرّر في الأصول بناء العامّ على الخاصّ مع التنافي.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يجوز قتل العبد بالحرّ والأنثى بالذكر إجماعا ، ولعدم دلالة الآية على منعه ، ولأنّه إذا جاز قتل القاتل بمثله فبالأشرف أولى ، وهل يجوز قتل الحرّ بالعبد والذّكر بالأنثى أم لا؟ جوّزه أبو حنيفة عملا بعموم « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » ومنعه مالك والشافعي لا لمفهوم « الْحُرُّ بِالْحُرِّ » إلى آخره لأنّ المفهوم إنّما يكون حجّة حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم ، وقد بيّنا الغرض وهو دفع حكم الحيّين بل منعناه لما رواه عليّ عليه السلام أنّ رجلا قتل عبده فجلده رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ونفاه سنة ولم يقد منه (1) ولما روي أنّه صلى اللّه عليه وآله قال « لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حرّ بعبد (2) » ولفعل الصحابة من غير نكير وهو مذهب أصحابنا لعدم العمل بالمفهوم مطلقا ولدلالة الأحاديث من أئمتهم عليهم السلام.
بقي هنا كلام وهو أنّه إنّما يقتل الحر بالحرّ مع التكافي وهو التساوي في الإسلام والعقل وأن لا يكون القاتل أبا للمقتول خلافا لمالك في الأخير ، وهل حكم الامّ حكم الأب؟ عندنا ليس كذلك ، بل تقتل بالولد وعند الفقهاء حكمها حكم الأب ، أمّا قتل الولد بأبيه فجائز إجماعا وكذا الإجماع على قتل الجماعة بالواحد
ص: 355
ولقوله صلى اللّه عليه وآله « لو اجتمعت ربيعة ومضر على قتل مسلم قيدوا به (1) » نعم عندنا يرد عليهم فاضل الدية.
3 - قوله تعالى « فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ » إلى آخره ، قيل عفي بمعنى ترك وشي ء مفعول به ، وهو ضعيف إذ لم ينقل عفى الشي ء بمعنى تركه ، بل أعفاه وقال الزمخشريّ تقديره فمن عفي له من أخيه شي ء أي شي ء من العفو لأنّ عفي لازم لا يتعدّى بنفسه ، وفائدته الإشعار بأنّ بعض العفو كالعفو التامّ في إسقاط القصاص فعلى الأوّل يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذّنب ، قال اللّه تعالى « عَفَا اللّهُ عَنْكَ » و « عَفَا اللّهُ عَنْها » (2) فإذا عدّي إليهما عدّي باللّام إلى الجاني وعليه الآية كأنّه قال فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني وليّ الدّم وذكره بلفظ الاخوّة الثابتة بينهما من الجنسيّة والإسلام ليرقّ له ويعطف عليه.
ثمّ العفو تارة يكون مطلقا بأن يعفو ولا يشترط شيئا وحينئذ لا يلزم الجاني شي ء ، وتارة يكون مع اشتراط الدية وإلى الأخير أشار بقوله « فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ » أي فالأمر اتّباع أو فليكن اتّباع ، وهو وصيّة للعافي بأن يطلب الدية بالمعروف ولا يطلبه بالزيادة ولا يعنّفه ووصيّة للجاني بأن يؤدّيها بإحسان ، وهو أن لا يماطل ولا يبخس بل يشكره على عفوه وأكثر العلماء من الصّحابة والتابعين على أنّ أخذ الدية مشروط برضا القاتل وقيل غير مشروط به ، وقيل الوصيّة للجاني لا غير ، أي فعليه اتّباع إلى آخره وعلى الأوّل يمكن أن يكون فيه دلالة على تأجيل الدية سنة ، وقيل في الآية دليل على أنّ الدية أحد مقتضي العمد وإلّا لما رتّب الأمر بأدائها على مطلق العفو ، بل كان ينبغي أن يقيّده بالعفو عن الخطاء وليس بشي ء.
4 - قوله « ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ » أي ذلك الحكم بترك القصاص وأخذ الدية تخفيف من اللّه لهذه الأمّة وذلك لأنّ حكم التوراة القصاص لا غير وحكم الإنجيل العفو مطلقا من غير دية وخيّر هذه الأمّة بين الثلاثة تيسيرا عليهم.
ص: 356
5 - قوله « فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ » أي بعد العفو أو الدية ، بأن يقتل الجاني « فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ » في الآخرة وقيل في الدّنيا بأن يقتل بجنايته لسقوط حقّه بالعفو أو الصلح على الدية.
الثالثة ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1).
ظاهر هذا الكلام أنّه كالمتناقض لأنّ القصاص هو القتل فكيف يكون القتل حياة؟ وفي التحقيق تحته من الحكمة البالغة ما يعجز عن مثله كلام الآدميين ، فإنّه أوجز الكلام وأفصحه.
أما أنّه أوجز فإنّه نتيجة مقدّمات ، فانّ القصاص ردع عن القتل ، وفي الرّدع ارتفاع عنه ، وفي الارتفاع عنه عدم القتل ، وعدم القتل حياة ، ينتج : القصاص حياة.
وأمّا أنّه أفصح فلأنّ من كلام العرب القتل أنفى للقتل ، وقد رجح أهل البلاغة كلامه تعالى على كلامهم بوجوه متعدّدة لكونه أقلّ حروفا ودلالته على الحياة بالمطابقة وتنكيرها الدالّ على التعظيم ، وعدم التكرار ، وغير ذلك ممّا ذكرناه في كتابنا المسمّى بتجويد البراعة.
وكانوا يقتلون الجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم ، فلمّا جاء شرع القصاص وقرّرت قواعده ارتفعت تلك الفتن.
وقيل : المراد بالحياة هي الأخرويّة فإنّ القاتل إذا اقتصّ منه في الدّنيا لم يؤاخذ به في الآخرة وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنّه خلاف المتبادر إلى الفهم ، وثانيا فلأنّ القصاص حقّ للوارث للحيلولة بينه وبين مورثه ، وحقّ للميّت بإدخال الألم عليه [ فان ] لم يؤخذ ما يقابله فكيف يكون ساقطا بالقصاص وليس كذلك المال وإنّما القتل من الآلام الداخلة على الإنسان الّتي أعواضها مختصّة به غير منتقلة عنه ، نعم يمكن أن يكون مع التوبة النصوح والإتيان بالكفّارة يتفضّل اللّه على
ص: 357
الجاني بأعواض مكافئة لفعله ، ثمّ ينقلها إلى المقتول.
قوله « يا أُولِي الْأَلْبابِ » أي أولى العقول الكاملة ، ناداهم بصفة العقل للتأمّل في حكم القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس « لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » في المخافة على القصاص فيكفّوا عن القتل.
الرابعة ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) (1).
هنا فوائد :
1 - المفعول في قوله « حَرَّمَ اللّهُ » محذوف أي قتلها ، قوله « إِلّا بِالْحَقِّ » أي بإحدى ثلاث إمّا زنى بعد إحصان ، أو كفر بعد إيمان ، أو قتل المؤمن عمدا كلما ، والمظلوم من قتل بغير استحقاق.
2 - « فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً » إلى آخر ، المراد بالوليّ من يلي أمره وهو الوارث ومن قام مقامه والسلطان يراد به هنا الحكم والتسلّط على الجاني أو العاقلة أمّا بالعفو أو أخذ الدّية أو القصاص في موضعه.
3 - « فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ » قيل : الضّمير للقاتل بأن يقتل من لا يجوز قتله فانّ العاقل لا يفعل ما فيه هلاكه وقيل الضمير للوليّ أي فلا يسرف الولي بأن يقتل غير القاتل ، أو يقتل الجماعة بالواحد ، أو الرّجل بالمرأة من غير ردّ للزائد عن حقّه ، فإنّ دية المرأة على النصف من دية الرجل (2) فإذا قتلها الرّجل فللوليّ قتله
ص: 358
ص: 359
ص: 360
ص: 361
ص: 362
ص: 363
ويرد عليه نصف الدية (1) وكذا يرد على الزائد عن الواحد لو قتل بالواحد جماعة فانّ للوليّ قتلهم كلّهم ، ويردّ عليهم الفاضل ، أو يقتل بعضهم ويردّ الباقون قدر جنايتهم ويتمّ الوليّ ما بقي ، أمّا لو قتلت المرأة رجلا فليس للوليّ إلّا قتلها لقوله
ص: 364
صلى اللّه عليه وآله « لا يجني الجاني على أكثر من نفسه » (1).
وكذا لو قتل الواحد جماعة ليس لأوليائهم إلّا قتله ، وكذا لو قتل العبد حرّا ليس لوليّه إلّا قتل العبد ولا سبيل له على مولاه وقرأ ابن عامر وحمزة « فلا تسرف » بالتاء جريا على أنّه خطاب إمّا للقاتل أو للوليّ ، وقيل الخطاب للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وفيه ضعف.
4 - « إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً » الضمير للوليّ بمعنى أنّ اللّه نصره بشرع القصاص وقيل للمقتول بمعنى أنّ اللّه نصره في الدّنيا بالقصاص وفي الآخرة بالثواب العظيم وقيل للمقتول إسرافا بمعنى أنّ اللّه ينصره بإيجاب القصاص ، فيما تعدّى به الوليّ وثبوت الوزر على المسرف.
الخامسة ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً ) (2)
ص: 365
عظّم اللّه شأن قتل المؤمن وبالغ في التوعّد عليه حتى أنّه ذكر هنا خمس توعّدات كلّ واحد منها كاف في عظم الجرم إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :
1 - اختلف في قتل العمد ما هو؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه هو ما كان بحديد لا بغيره ، وهو أحد قولي الشافعيّ وقال في الآخر وأصحابنا إنّ كلّ من قصد قتل غيره بما يقتل مثله غالبا سواء كان بحديد حادّ أو مثقّل أو خنق أو سمّ أو إحراق أو تغريق أو ضرب بعصا أو بحجر أو غير ذلك فإنّه عامد ، وكذا لو قصد القتل بما لا يقتل غالبا فاتّفق الموت فإنّه عمد أيضا على الأصحّ.
أمّا ما لا قصد فيه أصلا ، لا القتل ولا غيره فيتّفق الموت فذلك هو الخطاء ، وما كان فيه قصد لا للقتل بل لتأديب أو لغيره فيتّفق الموت فذاك شبه عمد ولازم الأوّل القصاص كما تقدّم والثاني الدية على العاقلة كما يجي ء والثالث الدّية في مال الجاني خاصّة وكذا دية العمد لو عفي عنها ، فإنّها أيضا على الجاني ، ولو هرب العامد حتّى يموت ولم يقدر عليه فانّ الدية يلزم من تركته على الأصحّ لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا يبطل دم امرء مسلم » (1)
2 - ثبت في علم الكلام بطلان الإحباط ، وثبت أنّ عصاه المؤمنين عقابهم غير دائم ، وظاهر الآية ينافي ذلك وأجيب بوجوه :
الأوّل ما روي عن الصّادق عليه السلام أنه قتله على دينه ولإيمانه ولا شكّ أنّ ذلك كفر من القاتل موجب لتخليده.
الثاني أنّه مخصوص بغير التائب وليس بشي ء لأنّه محلّ النزاع لأنّه مع التوبة لا عقاب أصلا.
الثالث أنه قتله مستحلّا لقتله قاله عكرمة ويؤيّده أنّه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول اللّه أن يدفعوا إليه ديته ثمّ حمل على مسلم وقتله ، ورجع إلى مكّة مرتدّا.
ص: 366
الرّابع أن يراد بالخلود المكث الطويل جمعا بين الدليلين.
3 - توبة القاتل عمدا الندم الخالص والكفّارة الجامعة للخصال الثلاث وهو عتق رقبة ، وصيام شهرين متتابعين ، وإطعام ستّين مسكينا ، والانقياد للورثة إمّا يقتلونه أو يرضون بالدّية أو يعفون.
السادسة ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ وَكانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (1).
أي ما جاز لمؤمن أو ما ثبت في حكم اللّه لمؤمن ، والاستثناء منقطع ونصب « خطاء » على أنّه صفة لمصدر محذوف أي إلّا قتلا خطاء لا أنّه مفعول له ، ولا حال كما قال الزمخشريّ لأنّ الخطاء ليس بسبب فاعليّ ولا غائيّ عند التأمّل [ فلا يكون مفعولا له ] ولا هو صفة للفاعل ولا للمفعول ، والحال يجب أن يكون صفة لأحدهما.
قوله « فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » أي فيجب عليه ، و « توبة » منصوب على التميز عن الجملة إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الآية مشتملة على أحكام :
1 - أنّ القاتل خطاء يجب عليه كفّارة [ و] هي تحرير رقبة ولا خلاف في اشتراط إيمانها ، وهذه واجبة في مال القاتل ، بلا خلاف ، ووجه هذا أنّ القاتل لمّا أخرج المقتول عن قيد الحياة لزمه أن يخرج نفسا من قيد العبوديّة فإنّه كالأحياء إذ العبد كالميّت في أنّه لا حكم في نفسه وتصرّفاته.
2 - تسليم الدية إلى أهل المقتول أعني ورثته ، وهم كلّ من يرث المال إلّا الإخوة والأخوات من قبل الامّ لروايات متضافرة ، وقيل والأخوات أيضا من الأب
ص: 367
وقيل بل يرثها وارث المال لعموم آية الإرث ، والأقرب منع قرابة الأمّ مطلقا إخوة وغيرهم.
ثمّ هذه الدية ليست لازمة للجاني في ماله بل لعاقلته ، وهم الأب والأولاد ومن يتقرّب بالأبوين أو بالأب خاصّة من الذكور ، دون الامّ ومن يتقرّب بها ويقسمها الامام عليهم على حسب ما يراه الأقرب فالأقرب ، فإن قصرت الأقارب واتّسعت الدية ، دخل فيهم مولى النعمة ، ثمّ ضامن الجريرة ، ثمّ الامام على ترتيب الإرث.
والدية في الأقسام الثلاثة إمّا ألف مثقال من الذهب المسكوك الخالص أو عشرة آلاف درهم أو ألف شاة أو مائتا حلّة من برود اليمن كلّ حلّة ثوبان أو مائتا بقرة أو مائة من الإبل ، لكن يقع الفرق في أمرين الأوّل أنّه في العمد يستأدى في سنة وفي شبهه في سنتين ، وفي الخطاء المحض في ثلاث سنين الثاني في أسنان الإبل ، فإنّها في العمد من المسانّ أي من الكبار ، وفي الشبيه ثلاثة وثلاثون بنت لبون ، ومثلها من الحقائق وأربع وثلاثون ثنيّة طروقة الفحل ، وفي الخطاء عشرون بنت مخاض ومثلها من أبناء اللّبون وثلاثون حقّة ، ومثلها من بنات اللّبون.
قوله « إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا » أي الورثة إذا أبرؤا ذمّة العاقلة برئت ، جعل الإبراء صدقة كما تقدّم في آية الدّين تحريصا على الفعل.
واعلم أنّ الدية حكمها حكم أموال الميّت يقضى منها ديونه ، وينفذ وصاياه من أيّ الأقسام كانت ، نعم دية العمد لا يجب على الورثة أخذها وصرفها في الدّيون والوصايا ، بل لهم القصاص وإن لم يضمنوا الدّين على الأصحّ ، فإن اصطلحوا على أخذها كانت من التركة ، ودلّ على ذلك البيان النبويّ صلى اللّه عليه وآله والتبليغ الإماميّ كما تضافرت به الروايات.
3 - أنّ المقتول خطاء إذا كان من قوم أهل حرب لكنّه هو مؤمن فإنّه يجب الكفّارة لا غير لأجل إيمانه ، ولا يجب الدّية لكونهم كفرة لا يستحقّون في دية (1) المسلم شيئا.
ص: 368
4 - أنّ المقتول خطأ إذا كان بين قوم معاهدين أمّا أهل كتاب لهم ذمّة أو قوم كفّار لهم عهد فاختلف في هذا المقتول ، قيل هو كافر إلّا أنّ ديته تلزم لمكان العهد مع قومه فديته عندنا على هذا التقدير ثمان مائة درهم وعليه إجماع أصحابنا واختلف الفقهاء منهم ، فقال أبو حنيفة كدية المسلم لظاهر الآية وإطلاق لفظ الدية وقيل النصف ، وقال الشافعيّ الثلث ، وقيل أربعة آلاف درهم ولا خلاف عندهم أنّ دية المجوسيّ ثمانمائة درهم وقيل هو مؤمن وهو المرويّ في أخبارنا ويؤيّده وجوب الكفّارة بقتله لأنّه لا كفّارة بقتل الكافر وأيضا سياق الآية يدلّ عليه لعطفه على قوله « وَهُوَ مُؤْمِنٌ » في الجملة المتقدّمة ، لكنّ الدّية هنا إنّما تعطى لورثته من المسلمين خاصّة وحينئذ يكون ظاهر الآية مخصوصا بالمسلمين إذ الكافر لا يرث المسلم لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا توارث بين أهل ملّتين (1) ».
5 - قوله « فَمَنْ لَمْ يَجِدْ » يشير إلى أنّ الكفّارة هنا مرتّبة لإتيانه بالفاء الموجبة للتعقيب ، والمراد بعدم الوجدان هو أن لا يملك الرقبة ولا ثمنها ، فاضلا عن قوت يومه ودست ثوبه ودار سكناه ، وكذا يحكم بعدم وجدانه لو كان مريضا يفتقر إلى الخدمة أو من أهل الإخدام وإن لم يكن مريضا مع حاجته إلى الخدمة ، أمّا من جرت عادته بخدمة نفسه فإنّه يعتق عليه إلّا مع المرض ، والمراد بتتابع الشهرين أن يصوم شهرا ومن الثاني ولو يوما لوقوع التتابع صفة للشهرين لا للأيّام ، فلو أفطر في الأوّل لعذر بنى عند زواله هذا ، وقيل عدم الوجدان راجع إلى عدم وجدان الدّية ، وقيل إلى عدم وجدان الدّية والرقبة معا وكلاهما شاذّان لأنّ الدية على العاقلة ، لا الجاني حتّى يوصف بعدم الوجدان.
واعلم أنّه مع عدم القدرة على الصوم ينتقل إلى إطعام ستّين مسكينا كما تقدّم مثله ثمّ اعلم أنّ الكفّارة واجبة على الفور أمّا أوّلا فلأنّها كالتوبة الواجبة على الفور ، وأمّا ثانيا فلإتيانه بالفاء عقيب قوله « وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » إلى آخره.
ص: 369
قوله ( تَوْبَةً مِنَ اللّهِ ) أي شرع هذا الحكم كلّه أو الانتقال إلى الصوم رحمة من اللّه لكم لكونه ( عَلِيماً ) بحالكم ( حَكِيماً ) واضعا لكلّ شي ء في موضعه.
السابعة ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ ) (1).
( وَكَتَبْنا ) عدّاه بعلى لتضمّنه معنى الحكم أي حكمنا عليهم بذلك والباء للبدليّة كقولك هذا بهذا أي هذا كائن بدل هذا وتقدير الكلام حكمنا على بني إسرائيل في التوراة أنّ النفس تكون بدل النفس المعصومة إذا قتلت ، وكذا البواقي وهنا فوائد :
1 - لا يقال حكم هذه الآية معمول به في هذه الشريعة مع الإجماع على كون التوراة منسوخة بهذه فكيف يعمل بما هو منسوخ؟ وأيضا أكثر الأصوليّين على أنّه صلى اللّه عليه وآله غير متعبّد بشرع من قبله فكيف نعبّد بهذا الحكم مع كونه شريعة لموسى لأنّا نقول لا شكّ أنّ الشريعة السابقة منسوخة بالشريعة المسبوقة بمعنى أنّ مجموع أحكام المسبوقة من حيث المجموع لا من حيث كلّ واحد واحد [ من الأحكام ] ناسخ لمجموع أحكام السابقة من حيث المجموع ، ولا يلزم من ذلك أن يكون كلّ واحد واحد من الأحكام ناسخا ومنسوخا لأنّ النسخ هو الرّفع ، ورفع المجموع من حيث المجموع لا يستلزم رفع كلّ واحد بل واحد منها لا بعينه ، والتعيين إلى الشارع ثمّ إنّ كلّ واحد من أحكام المسبوقة إمّا أن يكون منافيا لحكم من أحكام السابقة أو لا فان كان الأوّل كان ناسخا له وإن كان الثاني فإمّا أن يكون موافقا له أو لا فان كان الأوّل كان ذلك من جملة الاتّفاقات في الأحكام وإن كان الثاني وهو أن لا يكون منافيا ولا موافقا لم يجز التعبّد به إلّا بدليل خارجيّ وعلى التقادير الثلاثة
ص: 370
لا يكون النبيّ صلى اللّه عليه وآله متعبّدا بأحكام الشريعة السابقة ولذلك قال سبحانه ( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) (1).
2 - لا شكّ أنّ ما تضمّنه الآية وإن كان معمولا به في شرعنا ، لكنّه من العمومات المخصوصة لاشتراط القصاص نفسا وطرفا بالتساوي في الإسلام والحرّيّة وقد حكينا ما في ذلك من الخلاف وكذلك يشترط في الأطراف التساوي في المحلّ والصفات ، فلا تفقأ العين اليمنى باليسرى ولا تصمّ الاذن اليمنى باليسرى ولا يقلع السّنّ بغير مقابله ، ولا يجدع الأنف الصّحيح بالأشلّ ، ولا تؤخذ العين الصّحيحة بالعمياء ولا السنّ الصّحيح بالأسود ، ولا الاذن الصحيحة بالشلّاء إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في الفقه المستفادة من البيان النبويّ صلى اللّه عليه وآله والتبليغ الإماميّ.
3 - قرئ بنصب « الجروح » وكذا السوابق عليها نحو « والعين والأنف » إلى آخرها وقرئ بالرفع فيها كلّها أمّا النصب فبالعطف على لفظ اسم « أنّ » وأمّا الرّفع فبالعطف على محلّ اسمها. قوله ( وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) أي ذات قصاص وهو أيضا من المخصوصات فانّ الجرح إذا كان مشتملا على غرر وخطر لا قصاص فيه بل ينتقل إلى الدّية كالهاشمة والمنقّلة والمأمومة والجائفة بخلاف ما لا غرر ولا خطر فيه فانّ حكم القصاص فيه ثابت كالحارصة والدامية والمتلاحمة والسمحاقة ويراعى في ذلك أيضا التساوي في المحلّ والقدر طولا وعرضا لا نزولا ، بل يكفي صدق الاسم فيه ، ويشترط أيضا ما تقدّم من التساوي في الإسلام والحرّية.
4 - قوله ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ ) أي بالقصاص ( فَهُوَ ) أي التصدّق « كَفّارَةٌ لَهُ » أي لذنبه ، والضمير للمتصدّق لأنّه المالك للقصاص ، ولعود الضمير إلى « من » الّذي هو المذكور ، وقيل يرجع إلى المتصدّق عليه لأنّ العفو قائم مقام أخذ الحقّ منه وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنه خلاف الظاهر ، وأمّا ثانيا فلأنّه نوع تأكيد والتأسيس خير منه ، وأما ثالثا فلأنّه لو كان كذلك لما وجبت الكفّارة على القاتل بالعفو واللّازم باطل فكذا الملزوم والملازمة ظاهرة هذا.
ص: 371
واعلم أنّ مذهبنا بطلان الإحباط والتكفير لقيام الدّليل على ذلك كما هو مقرر في علم الكلام وحينئذ يجب حمل ما ورد من تكفير السيّئات بالحسنات كما ذكر هنا وكقوله صلى اللّه عليه وآله « الصلوات الخمس كفّارة لما بينهنّ من الذّنوب (1) » وقول عليّ عليه السلام « الحجّ والعمرة يد حضان الذّنب (2) » إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث على أنّ اللّه تعالى يتفضّل على فاعل الحسنات بإسقاط عقاب سيّئاته لعظم محلّ تلك الحسنة ، وكذا نقول في قوله ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (3) أنّ اللّه يتفضّل على مجتنب الكبيرة بالعفو عن صغائره لعظم محلّه باجتناب الكبائر.
الثامنة ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (4).
فيها دلالة على أنّه من أوقع به ظلم في نفس أو طرف أو شجاج أو مال فانتصر بعد ظلمه أي استوفي حقّه فليس عليه سبيل من المعاقبة واللّوم ، « ومن » زائدة لكونها بعد النفي وفيها أيضا دلالة على أنّه يجوز الاقتصاص من غير حكم حاكم في طرف أو جرح أو مال ممّن يماطل ، بعد أن يراعى في ذلك عدم التجاوز إلى غير حقّه.
التاسعة ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ ) (5).
هذه تدلّ على أمور ثلاثة :
1 - ما دلّت عليه السابقة وسمّي الجزاء مع كونه حسنا « سيّئة » إمّا على
ص: 372
المجاز تسمية الشي ء باسم مقابله أو لأنّها تسوء من توقع به.
2 - تدل على حسن العفو عن السيّئة وأنّه يستحق في مقابله أجر عظيم لا يدرى كهنة ، لإبهامه وعدم تعيينه.
3 - أنّه يجب في الاقتصاص الاقتصار على المثل ، وعدم التجاوز عنه لقوله تعالى « إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ » ومثل هذه الآية في الدلالة قوله ( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ ) (1) وقيل نزلت هذه لما قتل حمزة عليه السلام ونظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إليه وقد شقّ بطنه وجدع أنفه وأذناه فقال لو لا أن يكون سنّة بعدي لتركته حتّى يبعثه اللّه من بطون السّباع والطير ولأقتلنّ مكانه سبعين رجلا ثمّ دعا ببردة فغطّى بها وجهه فخرجت رجلاه فجعل على رجليه شيئا من الإذخر ، ثمّ قدّمه فكبّر عليه سبعين تكبيرة فنزلت الآية ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : بل نصبر يا ربّ.
العاشرة ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (2).
لنذكر شرحها أوّلا ثمّ نذكر غرض الفقهاء منها فنقول : الخلق التقدير إمّا لأجزاء المخلوق أو لهيئة تركيبها لأوقاته ، ومنه « خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ » (3) والمراد بالإنسان الهيكل المحسوس والفعالة موضوعة لمقدار ما يفصل عن شي ء سواء كان من شأنه أن يرمى به كالقلامة والنجارة أو يتمسّك به ويتحفّظ كالخلاصة والسلالة ، و « من » في الموضعين لابتداء الغاية فإنّ آدم عليه السلام خلق من سلالة مخلوقة
ص: 373
من الطين لا أنّ الثانية للبيان ، كما قال الزمخشري لأنّ كونها لابتداء الغاية يغني عن البيان « ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً » أي أولاده من نطفة فانتصابها بنزع الخافض والقرار المكين أي محكم وهو ظهر الأقرب والجارّ والمجرور صفة لنطفة لا أنّ المقرّ بطن الامّ كما قال ، وإلّا لكان يجب أن يقول « ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً » لأنّ مبدء خلقة العلقة لا يتراخى في بطن الامّ عن النطفة بل عن كونها نطفة في ظهر الأب « ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً » أي بعد انتقالها من ظهر الأب إلى الرّحم ، ولذلك قال « ثمّ » لأنّ النطفة موجودة قبل انتقالها وحال الانتقال إلى أن يستقرّ في الرّحم
« فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ » أتي بالفاء نظرا إلى استعداد كونها مضغة فإنّه يتعقّب العلقة ولا يتراخى زمانا وكذلك الانتقالات بعده « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » أي نفخنا فيه الرّوح فصار إنسانا بمعنى آخر ، بعد أن كان بدنا له ، وأتى بثمّ لأنّ في العادة أنّ تركيب شي ء من شيئين محتاج إلى توسط زمان بينهما ، وهو قول ابن عبّاس ومجاهد وقيل هو إنبات الشعر والأسنان وقيل كونه ذكرا أو أنثى والعلقة قطعة دم ثخين والمضغة قطعة لحم واحتجّ أبو حنيفة على مذهبه أنّه لو غصب أحد بيضا فصار عنده فرخا أو حبّا فصار دقيقا أنّه يملكه ، وليس عليه غير البيض والحبّ بقوله « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » وهو غير مصيب في قوله ، لأنّ الصورة تتبع المادّة ، والمادّة لغيره ، وهب أنه ملك الصورة فكيف يملك المادّة نعم يصح في خمر غصبه مسلم من مسلم فصار خلا في يد الثاني أنه له لأنّه ملكه باليد لعدم تملّك الأوّل له.
إذا عرفت هذا فنقول استدلّ معظم الفقهاء بالآية على توزيع الدّية على هذه الحالات فأوجبوا في النطفة بعد استقرارها في الرّحم عشرين دينارا لأنّ فيها عشرة قبل وقوعها فيه ، بدليل أنّه لو أفزع مجامعا فعزل ضمن المفزع عشرة وكذا لو عزل الزّوج من حرّة بعقد الدوام كان عليه عشرة دنانير فيستفيد بالوقوع في الرّحم حالة أخرى زائدة ، فلها دية. وأوجبوا في العلقة أربعين وفي المضغة ستّين وفي العظم ثمانين وإذا اكتسى اللّحم ولم تلجه الرّوح مائة ، وإذا ولجته الرّوح الدية الكاملة للذكر ونصفها للأنثى فان لم يعلم فنصف الدّيتين ، وقيل بالقرعة.
ص: 374
إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - قيل بين كلّ حالة سابقه وما بعدها عشرون يوما ، ولا ينافي ذلك الإتيان بالفاء لما قلناه من التعقيب الاستعداديّ فيكون لكلّ يوم دينار ، فإذا لبثت النطفة عشرين يوما كان فيها عشرون دينارا وفي أحد وعشرين يوما أحد وعشرون دينارا وفي ثلاثين يوما ثلاثون دينارا وعلى هذا ، وهو مشهور ، لكن لا يعلم مستنده ، نعم روى الشيخ في التهذيب عن يونس الشيبانيّ قال قلت للصادق عليه السلام فإذا خرج من النطفة قطرة دم ، قال القطرة غير النطفة ، فيها اثنان وعشرون دينارا ، قال قلت فان قطرت قطرتين؟ قال : أربعة وعشرون دينارا ، قلت : فان قطرت ثلاثا قال ستّة وعشرون قلت فأربع قال ثمانية وعشرون دينارا وفي خمس ثلاثون دينارا وما زاد على النصف فعلى حساب ذلك حتى يصير علقة ، فإذا صار علقة ففيها أربعون وفي طريقها صالح بن عقبة وهو كذّاب غال له مناكير.
2 - قال بعض فقهائنا في الجنين قبل أن تلجه الرّوح غرّة عبد أو أمة ، وقدّر ابن الجنيد قيمة الغرّة بنصف عشر الدّية.
3 - روي أنّ الصحابة اختلفوا في الموؤدة ما هي؟ وهل الاعتزال وأد؟ وهل إسقاط المرأة جنينها عمدا وأد؟ فقال عليّ عليه السلام إنّها لا تكون موؤده حتى يأتي عليه التارات السّبع ، فقال له عمر صدقت أطال اللّه بقاءك ، وأراد عليه السلام طبقات الخلق السبع المبنيّة في الآية المذكورة فأشار عليه السلام إلى أنّه إذا استهلّ بعد الولادة ثمّ دفن فهو وأد فلا يكون الحامل المسقط قد وأدت.
ص: 375
كتاب القضاء والشهادات (1) وفيه آيات :
الاولى ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) (2).
الخليفة يراد بها عرفا لمعنيين إمّا كونه خلقا لمن كان قبله من الرسل أو كونه مدبّرا للأمور من قبل غيره وقد دلّت الآية على أمور :
1 - مشروعيّة القضاء والحكم وقد تقدّم أقسام الولاية في باب المكاسب.
2 - وجوب الحكم بالحقّ أي بما هو مطابق لما في نفس الأمر بحسب ما يقود إليه الدليل أو الأمارة.
3 - أنه لا ينبغي اتّباع الهوى أي الميل بمجرّد الحظّ النفساني ، ويدخل في ذلك وجوب الانصاف والإنصات والتسوية بين الخصوم في السلام والكلام وأنواع الإكرام أمّا الميل القلبيّ إلى أحدهما مع الحكم بالحقّ فذاك مكروه.
الثانية ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) (3).
دلّت هذه على ما دلّت عليه السابقة.
الثالثة ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (4).
ص: 376
كما وجب على الحاكم الحكم بالحقّ ، كذلك يجب على المحكوم عليه الانقياد والإذعان وأكّد ذلك بالقسم المتبوع بعدم أيمانهم ، إن لم يحكّموا وينقادوا للحقّ ظاهرا وباطنا ، قوله « فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ » أي اختلف ، يقال تشاجر القوم إذا اختلفوا والحرج الضيق ، وقيل الشك لأنّ الشاكّ في ضيق من أمره والتسليم الانقياد.
الرابعة ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) . ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) . ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (1).
قيل هذه الثلاث حيث وردت في حكاية ما أنزل اللّه على أهل الكتاب فهي مختصّة بهم ، وليس بشي ء ، بل هو عامّ في كلّ ملة لأنّ خصوص السّبب لا يخصّص ثمّ الحاكم بغير ما أنزل اللّه إن كان مع اعتقاده لذلك الحكم فهو كافر ، وإن كان لا مع اعتقاده فهو ظالم أو فاسق.
الخامسة ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (2).
تقدم ذكر صدرها وأمّا عجزها فيدل على وجوب العدل في الحكم بين الناس صريحا.
السادسة ( إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) (3).
ص: 377
الانزال هو نقل الشي ء من مكان عال أو رتبة عالية إلى ما دونهما ، والكتاب القرآن ، وبالحقّ أي بالسبب الحقّ أو متلبّسا بالحقّ وقد دلّت على أمرين :
1 - خطابه صلى اللّه عليه وآله بأن يحكم بما أراده اللّه أي أعلمه بالوحي ، وليس من الرؤية بمعنى العلم ، وإلّا لاستدعى ثلاثة مفاعيل ، وفيه دلالة على أنّه لا يجوز الحكم بغير علم.
2 - خطابه صلى اللّه عليه وآله بأن لا يجادل أي لا يخاصم لأجل الخائنين ، بحيث يذبّ عنهم خصومهم البريئين ، وفيه دلالة على عدم جواز المجادلة عن أحد الخصمين ، وعدم جواز تلقينه ما يستظهر به على خصمه.
السابعة ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (1).
دلّت على أنّه إذا تحاكم أهل الذمة إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو إلى من يقوم مقامه من الأئمّة عليهم السلام أو الفقهاء تخيّر الحاكم بين أن يحكم بينهم بمذهب الإسلام وبين أن يردّهم إلى حكّامهم ، قيل : إنّ هذا التخيير منسوخ بقوله « أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ » وهو مرويّ عن مجاهد وابن عبّاس ، وقال ما نسخ من المائدة سوى هذه وسوى قوله « لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ » نسخها قوله « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ».
وقيل : ليس بمنسوخ بل الأمر بالعكس ، والتخيير باق ، وهو مذهب أصحابنا لكنّه ليس على إطلاقه بل إذا كان الخصمان من ملّة واحدة ، أمّا إذا كان أحدهما مسلما فلا يجوز للحاكم رد الحكم فيه إلى أهل الذمّة قطعا ولو كانا متغايرين في الملّة كاليهوديّ والنصرانيّ يحتمل الرد إلى الناسخ والأقوى تحتّم الحكم بينهما بمذهب الإسلام ، لأنّ ردّهما إلى أحد الملّتين موجب لإثارة الفتنة.
الثامنة ( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
ص: 378
الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) (1).
قيل الحرث الزّرع وقيل الكرم وقد تدلّت عما قيده ، والنفش الرعي ليلا والهمل يكون ليلا ونهارا ، حكم داود عليه السلام بأن يسلّم الغنم إلى صاحب الحرث عوضا عمّا أفسدته ، ونظيره حكم أبي حنيفة في العبد الجاني يسلّم إلى المجنيّ عليه فقال سليمان عليه السلام وهو ابن أحد عشر سنة : يا نبيّ اللّه غير هذا أوفق لهما فعزم داود عليه ليحكمنّ بينهما فقال أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بألبانها وأولادها وأصوافها ، والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم بإصلاحه حتّى يعود كما كان ثمّ يترادّان ، فقال : القضاء ما قضيت ، ونظيره قول الشافعيّ يغرم الأجرة للحيلولة للعبد المغصوب ، وحكم الحرث المذكور في شرعنا ضمان صاحب الغنم قيمة التالف إن فرّط في حفظها ، وإلّا فلا ، وقال الشافعيّ يجب ضمان ما تلف ليلا إذ المعتاد وجوب ضبط الدّوابّ ليلا ولذلك قضى النبيّ صلى اللّه عليه وآله لمّا دخلت ناقة البراءة حائطا فأفسدت ، فقال على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل الماشية حفظها باللّيل (2) وهو قول جماعة من أصحابنا وعند أبي حنيفة لا ضمان إلّا أن يكون معها حافظ لقوله صلى اللّه عليه وآله : جرح العجماء جبار (3) وهنا سؤالات :
1 - هل كان حكمهما بوحي أو اجتهاد؟ الجواب الحقّ عندنا أنّه بوحي والثاني ناسخ [ للإذن الأوّل ] وهو قول الجبّائي قيل عليه : الوقت كان واحدا فيكون بداء وهو غير جائز ، ومن جوّز على الأنبياء الاجتهاد قال كان الحكمان باجتهاد وبعض فضلائنا جوّز الاجتهاد للنبيّ إذا حضرت الواقعة وفقد الوحي ، وكان
ص: 379
تأخير الحكم ضررا ، ولا يلزم العمل بالظنّ مع إمكان العلم إذ الفرض عدمه ، قلت إنّ الحكم حينئذ ليس بالاجتهاد لدلالة الوحي على نفي الضّرر ، فيكون حكما بالنصّ النوعيّ.
2 - ظاهر الكلام أنّ الحكمين صوابان لقوله تعالى « وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً » مع أنّ بينهما منافاة ، والصواب لا يكون في المتنافيين والجواب المنع من المنافاة ، لجواز أن يكون قيمة الغنم بقدر ما فات من الحرث ، ولذلك حكم بتسليم الغنم إذ لا يجب عليه الصّبر ، فيكون حكمه صوابا. لكن حكم سليمان كان أصوب لأنّه راعى مصلحة الجانبين والصبر وإن لم يكن واجبا لكنّه ندب من قسم التفضّل ، فلا منافاة كما لا منافاة بين المصلحة والأصلح والفصيح والأفصح.
قلت فعلى هذا لا يكون الثاني ناسخا للأوّل إذ لا منافاة بين الأوّل والثاني والنسخ شرطه المنافاة بل يكون بيان شرع زائدة وقد تقرّر في الأصول أنّ الزيادة على النصّ ليس نسخا على الأصحّ ، وعلى هذا يخرج الجواب عن السؤال الأوّل وعن القول بلزوم البداء.
3 - على قول من قال إنّ حكمهما كان بالاجتهاد ، يرد سؤال ، إنّه لا يجوز للمجتهد أن يرجع عن اجتهاده لأجل اجتهاد غيره الجواب أنّه رجع لاجتهاد ثان له ، وهو جائز اتّفاقا.
واعلم أنّ قوله « فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ » أي الفتوى أو الحكومة ، فيه دلالة على أنّه لم يكن باجتهاد بل بوحي فبطل قول من استدلّ بها على تصويب قول كلّ مجتهد لأنّه مخالف لمدلولها قوله « لِحُكْمِهِمْ » أضاف الحكم إلى الحاكمين والمتحاكمين.
التاسعة ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1).
دلّت هذا الآية على النّهي عن جملتين :
ص: 380
1 - النهي عن أكل أموال الناس بالسبب الباطل. إن قلت إنّه أضاف الأموال إلى المخاطبين ، فكيف يكون باطلا ، فانّ مال الرّجل حلال له ولا شي ء من الحلال بباطل قلت هذا مجاز من باب إطلاق الكلّ على البعض ، والمراد لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل كالنهب والسرقة والتزوير وغير ذلك.
2 - « تُدْلُوا بِها » أي لا تدلوا حذف « لا » اعتمادا على العطف ، ومعناه لا تعطوا الحكّام أموالكم ليحكموا لكم ، وهو مستعار من قولهم أدلى دلوه إذا أرسلها والرشوة ترسل إلى الحكّام. قوله « لِتَأْكُلُوا » علّة غائيّة للادلاء قوله « فَرِيقاً » أي طائفة « مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ » أي بالظلم الّذي هو سبب الإثم ، « وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » الواو للحال أي والحال أنّكم تعلمون أنّها باطلة ، وإنّما قيّد الحكم بالعلم ، لأنّ التكليف مشروط بالعلم.
روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال لخصمين اختصما عنده : إنّما أنا بشر مثلكم فلعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشي ء من حقّ أخيه فإنّما أقضي له قطعة من النار (1).
العاشرة ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) (2).
قيل نزلت في شأن رجل منافق ورجل يهودي كان بينهما خصومة ، فطلب المنافق المحاكمة إلى كعب بن الأشرف وطلب اليهودي المحاكمة إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فنزلت « والطاغوت » هنا من يحكم بالباطل ، وسمّي به لفرط طغيانه وقال عليّ عليه السلام كلّ حاكم يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت وقرء الآية » (3) وعن أبي بصير
ص: 381
عن الصادق عليه السلام أنّه قال يا أبا محمّد إنّه لو كان لك على رجل حق فتدعوه إلى حاكم أهل العدل فيأبى عليك إلّا أن يحاكمك ويرافعك إلى حاكم الجور فإنّه ممّن حاكم إلى الطاغوت ، وهو قول اللّه عزوجل « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ » الآية ، وقال وإيّاكم وأن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم قاضيا ، فانّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه وقال عليه السلام لما ولّى عليّ عليه السلام شريحا اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتّى يعرضه عليه ، وورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة (1).
الحادية عشرة ( وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ ) (2).
« وَشَدَدْنا مُلْكَهُ » أي عقدناه عقدا لا يقدر أحد على حلّه ، قيل كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه وقيل ألقى اللّه هيبته في قلوب الناس بسبب أنّ رجلا ادّعى على رجل بدعوى ولم يكن له بها بيّنة فرأى داود عليه السلام في منامه أن اقتل المدّعى عليه فقال في نفسه إنّه منام ، ولم يقتله حتّى أوحى اللّه إليه في اليقظة وأعلمه داود عليه السلام فاعترف الرّجل أنّه قتل أبا المدّعي وهو سبب هيبته ، فاشتدّ ملكه بذلك وإذا أراد اللّه أمرا هيّا سببه ، ولعليّ عليه السلام أحكام كثيرة تضاهي أحكام داود عليه السلام بل أعظم ، وصورها في المطوّلات من كتب الأحاديث ، وفي أحكام داود وعليّ عليهما السلام دلالة على جواز حكم الحاكم بعلمه وإن لم يقم بيّنة.
قوله « وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ » هي الزبور ، وقيل كلّ كلام وافق الحقّ ، وامّا « فَصْلَ الْخِطابِ » فقيل هو الكلام الفاصل بين الحقّ والباطل ، والصحيح والفاسد في الحكومات وغيرها ، وقيل هو الفصل في الكلام في موضعه والوصل في موضعه ونقل الزمخشريّ عن عليّ عليه السلام هو قوله عليه السلام البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى
ص: 382
عليه وذلك لأنّه فاصل بين المدّعيين ، وأوّل من اوتي هذا الحكم داود عليه السلام.
وقد ذكر المعاصر والراوندي في هذه القصّة أشياء لا تعلّق لها بالفقه ، أعرضنا عنها ، نعم ذكرنا في كتابنا المسمّى باللّوامع في علم الكلام قصّة داود عليه السلام على وجه مستوفى فليطالع ثمّة ، ومن جملة ما فيها أنّ موضع الخطيئة منه عليه السلام قيل هو قوله « لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ » فإنّه وصفه بالظلم قبل التفحّص عن حاله فعوتب عليه ، وعلى هذا ينبغي للحاكم التثبّت في الحكم ، وأن لا يسارع إلى التخطئة والتصويب ، إلّا بعد الاستكشاف.
الثانية عشرة ( وَإِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) (1).
قيل نزلت في بشر المنافق واليهودي اللّذين تقدّم ذكرهما وقيل كانت المنازعة بين عليّ عليه السلام والمغيرة بن وائل في أرض وبناء وأبى المغيرة المحاكمة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقال إنّه يبغضني وأخاف أن يحيف عليّ وقال البلخي أنّ المنازعة كانت بين عليّ عليه السلام وعثمان في أرض اشتراها عثمان منه فخرج فيها أحجار وأراد عثمان ردّها بالعيب وأبى علي عليه السلام وقال بيني وبينك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال الحكم بن أبي العاص : إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له ، فلا تحاكمه فنزلت.
قوله « وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ » ومعناه أنّ هؤلاء المنافقين إذا دعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعلموا أنّ الحقّ معهم ، ينقادون إلى المجي ء ، وإن علموا أنّهم مبطلون لا يأتونه ، لعلمهم أنّه لا يحكم إلّا بالحقّ ، وفي الآية توبيخ ونعي على من لا يجيب إلى الحكم بالحقّ ، ويأبى عنه ، وأما قصّة الأرض والحجارة فانّ الحقّ كان مع عليّ عليه السلام لأنّ الحجارة إذا كانت مخلوقة ولا ضرر على المشتري فلا خيار له.
ص: 383
الثالثة عشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1).
قرئ « فتبيّنوا » أي تفحصوا وقرئ فتثبّتوا أي تثبّتوا إلى أن يتبيّن لكم الحال والفسق لغة الخروج عن الشي ء وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من بيتها واصطلاحا الخروج عن طاعة اللّه تعالى مع الايمان به والنّبإ الخبر ، فان كان الإخبار عن الغير ، فهو شهادة وإلّا فهو إقرار.
قوله « أَنْ تُصِيبُوا » أي كراهة أن تصيبوا « قَوْماً بِجَهالَةٍ » أي جاهلين بحالهم إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - في الآية دلالة على اشتراط العدالة لأنّها ملزومة لعدم الفسق ، وقد عرّفها الفقهاء بأنّها ملكة تبعث على ملازمة التقوى والمروّة ، وتزول بمواقعة كبيرة أو إصرار على صغيرة ، إذ بواحد من ذينك يدخل في حيّز الفسق ، ووجه الدّلالة أنّه تعالى أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق ويلزم منه أن لا يجب التثبّت عند إخبار العدل ، أمّا أوّلا فللإجماع ، وأمّا ثانيا فلأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه وحينئذ نقول إمّا أن تقبل شهادة الفاسق أو لا؟ فان كان الأوّل لزم أن يكون أعظم مرتبة من العدل ، وهو باطل وإن كان الثاني فهو المطلوب.
2 - الكبيرة المشار إليها هنا وفي قوله تعالى « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » (2) قيل كلّ ذنب رتّب الشارع عليه حدّ أو صرّح بالوعيد فيه ، وقيل ما علم حرمته بدليل قاطع وعن النبيّ صلى اللّه عليه وآله إنّها سبع : الإشراك باللّه ، وقتل النفس الّتي حرّم اللّه ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والربا ، والفرار من الزّحف ، وعقوق الوالدين (3) ، وعن ابن عبّاس هي إلى سبعمائة أقرب منها
ص: 384
إلى سبع ، وقال بعض أصحابنا الذنوب كلّها كبائر ، وإنّما صغر الذنب وكبره بالإضافة إلى ما فوقه وما تحته ، فأكبر الكبائر الشرك باللّه ، وأصغر الصّغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران ، فالقبلة بالنسبة إلى الزّنا صغيرة وبالنسبة إلى النظر كبيرة ، فمعنى التكفير في الآية أنّ المكلّف متى عن له أمران منها ودعته نفسه إليهما بحيث لا يتمالك إلّا أن يكفها عن الأكبر منهما يكفّر عنه ما ارتكب لا للاحباط بل بما استحقّ من الثواب على اجتناب الأكبر.
3 - الإصرار على الصّغيرة إمّا فعلي وهو المداومة على نوع واحد منها بلا توبة ، أو الإكثار من جنس الصّغائر بلا توبة ، وإمّا حكميّ وهو العزم على فعل تلك الصّغيرة بعد الفراغ منها أمّا من فعل صغيرة ولم يخطر بباله بعدها توبة ولا عزم على فعلها فالظاهر أنه غير مصرّ ، ولعلّه مما يكفّره الأعمال الصالحة كما تقدّم توجيهه.
4 - المروّة المشار إليها فيما تقدّم هي تنزيه النفس عن الدناءة الّتي لا يليق بأمثاله كالسخرية والمزاح الكثير ، وكشف العورة الّتي يتأكّد استحباب سترها في الصّلاة والأكل في الأسواق غالبا ، ولبس الفقيه لباس الجنديّ بحيث يسخر منه وبالعكس ، وبالجملة المباحات الّتي يستخفّ بفاعلها ، وليس من ذلك الصنائع الدّنيّة كالكنس والحجامة والحياكة وإن استغنى عنها.
الرابعة عشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (1).
يريد كونوا مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته « شُهَداءَ لِلّهِ » أي تقيمون الشهادة لوجه اللّه وهو خبر كان أو حال « وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ » أي ولو كان ذلك بإقراركم
ص: 385
على أنفسكم (1) لأنّ الشهادة بيان الحقّ سواء كان عليه أو على غيره وسواء كان المشهود له أو عليه غنيّا أو فقيرا فلا تمتنعوا من الشهادة أو لا تجوروا فيها ميلا إلى الغنيّ أو ترحّما على الفقير ، فانّ اللّه هو المتولّي لهما ، والعارف بمصالحهما ، وتثنية الضّمير في « بِهِما » لرجوعه إلى ما دلّ عليه المذكور ، وهو جنسا الفقير والغنىّ ، لا إليه وإلا لوحّد ، ويدلّ عليه أنّه قرئ شاذّا « فَاللّهُ أَوْلى بِهِما ».
قوله « أَنْ تَعْدِلُوا » أي لأن تعدلوا عن الحقّ ، أو كراهة أن تعدلوا ، قوله « وَإِنْ تَلْوُوا » ألسنتكم عن شهادة الحقّ أو حكومة العدل « أَوْ تُعْرِضُوا » عن أدائها « فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً » فيجازيكم عليه وفيه نوع تهديد ومبالغة.
إذا عرفت هذا فقد دلّت الآية على أمور :
1 - وجوب إقامة العدل في الحكومات مطلقا على نفسه أو على غيره.
2 - وجوب إقرار الإنسان على نفسه بحقّ يكون ثابتا في ذمّته.
3 - وجوب إقامة الشّهادة على الوالدين ، وهو مذهب المرتضى (2) وابن
ص: 386
الجنيد (1) ويدل عليه أيضا رواية داود بن الحصين (2) وغيره (3) وقال الشيخ وأكثر الأصحاب (4) لا يقبل شهادة الولد على والده ، لاستلزام ذلك تكذيب والده ، وهو
ص: 387
عقوق (1) يمنع قبول الشهادة ، ووجوب الإقامة الّذي هو مدلول الآية لا يستلزم القبول (2) لأنّ الإقامة صدوع بالحقّ وهو أعمّ من القبول وعدمه ، وهل حكم الجدّ للأب (3) حكمه؟ الأقرب ذلك أمّا الأم (4) فيقبل شهادة الولد عليها ولها وكذا للأب
ص: 388
ويقبل أيضا شهادة الأب للولد وعليه ، لعموم أدلّة وجوب الإقامة (1) ووجوب القبول من غير معارض.
4 - وجوب الإقامة على الأقارب كلّهم وكذا لهم ، من غير فرق بينهم ، وخالف الفقهاء في ذلك (2) لما فيه من التهمة المانعة من القبول ، ولأنّ الولد بعض الوالد
ص: 389
لكونه مخلوقا من نطفته ، والوالد مادّة للولد ، فهو كالجزء منه ، فيكون كل واحد منهما شاهدا لنفسه ، وكذا الكلام في الأقارب والحقّ خلاف ذلك أمّا أولا فلنصّ الآية الكريمة ، وأمّا ثانيا فلأنّ التهمة مدفوعة بالعدالة ، فلا تكون معارضة للأدلة العامّة ، وأمّا ثالثا فلأنّ البعضيّة ليست حقيقة بل مجازا ، ولكلّ واحد منهما حكم نفسه ، ولذلك قد يكون أحدهما حرّا وإن كان الآخر رقّا.
ص: 390
ص: 391
ص: 392
الخامسة عشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) (1)
أمر سبحانه وتعالى بجعل الحركات وكالأفعال كلّها له أي لوجهه ، بحيث لا يكون فعل من الأفعال إلّا ويوقع إخلاصا لله ، وأمر أيضا بإيقاع الشهادة بالعدل إذ به قوام الدّنيا والآخرة ، قوله « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ » أي لا يحملنكم بغض قوم على
ص: 393
ترك العدل فيهم ، وذلك مستلزم للعدل ، لكن لمّا كانت دلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام ، أمر بالعدل ثانيا ، وقوله « هُوَ » أي العدل « أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » أي إليها ، وفي ذلك مبالغة عظيمة في العدل حيث جعله أقرب إلى حصول مفهومها.
هذا وفي الآية أيضا تأكيد للأمر بإقامة الشهادة ، رعاية لمصالح عباده كما قال وليّ اللّه أمير المؤمنين عليه السلام « فرض اللّه الشهادات استظهارا على المجاحدات » (1) وقال عليه السلام إذا كان الغدر طباعا فالثقة إلى كلّ أحد عجز.
ولنقطع الكلام حامدين لله على جميل إحسانه شاكرين له على توفيقه وامتنانه
ص: 394
قائلين ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربّنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الّذين من قبلنا ، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنّا ، واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على أكرم المرسلين وأشرف الأوّلين والآخرين محمّد خاتم النبيين وآله الطيّبين الطاهرين.
الصورة
ص: 395
الموضوع / الصفحة
كتاب المكاسب
البحث عن الاكتساب بقول مطلق 1
البحث عن أشياء يحرم التكسب بها 11
في تحريم الخمر والميسر 15
البحث في القرعة وأن حكمها ثابت بالكتاب والسنة والاجماع 21
كتاب البيع
أكل الأموال بالباطل 33
الربا 35
ايفاء الكيل 41
الاحتكار 43
كتاب الدين وتوابعه
جواز الاستدانة 45
استدانة الولي للمولى عليه 49
الاستشهاد عند المبايعة والدين 51
شرائط الشهادة 53
إنظار المعسر وإبراء ذمته 57
الرهن
أحكام الرهن وشرائطه 59
الضمان
أحكام الضمان وشرائطه 65
الصلح
أحكام الصلح 67
الوكالة
أحكام الوكالة 69
كتاب فيه جملة من العقود
وجوب الوفاء بالعقد 71
الإجارة. الشركة 73
المضاربة 74
الابضاع 75
الايداع 76
العارية 78
السبق والرماية 80
الشفعة 81
اللقطة 82
الغصب 83
الاقرار 85
الوصية وأحكامها 89
ص: 396
الموضوع / الصفحة
الاشهاد على الوصية 96
أحكام الحجر 101
الوقف والسكنى والصدقة والهبة 113
النذر وأحكامه 114
العهد وأحكامه 116
اليمين وأحكامه 118
العتق وتوابعه 126
كتاب النكاح
أقسام النكاح 134
في عدد الأزواج 139
الزواج وملك اليمين 145
في إباحة المتعة 149
نكاح الإماء 173
في أسباب التحريم
نكاح الأمهات 178
ما يحرم بالنسب 180
ما يحرم بالرضاع 182
ما يحرم بالمصاهرة 184
نكاح المحصنات 190
نكاح المشركات 193
نكاح الكتابيات 199
لوازم النكاح
المهر والصداق والنفقة 201
أقسام الولاية 209
الرجال قوامون على النساء 211
النشوز وبعث الحكمين 213
توابع النكاح
حفظ الفروج والحجاب 220
استيذان العبيد 224
النكاح في الدبر 229
أحكام الرضاع 231
فيما يتعلق بنكاح النبي وأزواجه صلى اللّه عليه وآله 237
روافع النكاح
الطلاق وأحكامه 249
الطلاق الثلاث 265
في التحليل 279
الخلع والمبارات 284
الظهار 288
الايلاء 292
اللعان 293
الارتداد 297
كتاب المطاعم والمشارب
أصل الإباحة 298
ما يحرم على التعيين : الميتة والدم ولحم الخنزير 300
ص: 397
الموضوع / الصفحة
الخمر والميسر 304
في أشياء من المباحات 308
كتاب المواريث
ميراث النسب والولاء 323
طبقات الوراث 326
ميراث الأبوين 329
ميراث الأزواج 331
ميراث الكلالة 332
العول والتعصيب 335
كتاب الحدود
حد الزناء 338
حد القذف 345
حد السرقة 348
حد المحارب 351
كتاب الجنايات
قتل النفس 353
دية المرأة والرجل 359
قتل الخطاء 369
القصاص 371
دية الجنين 375
كتاب القضاء والشهادات
الحكم بغير ما أنزل اللّه 376
حكم داود وسليمان في الغنم 379
تحريم الرشوة 381
وجوب الانقياد للحكم 383
الشهادة بالعدل 385
شهادة القريب للقريب وعليه 387
ص: 398