المؤلف: جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري
الناشر: المكتبة المرتضويّة للإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: 0
الموضوع : الفقه
تاريخ النشر : 1385 ه.ق
الصفحات: 398
المكتبة الإسلامية
كنز العرفان في فقه القرآن
للشيخ الأجل جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري
المتوفی سنة 826 رحمه اللّه
علق عليه المحقق البارع حجة الإسلام الشيخ محمد باقر (شريف زاده) مد ظله
وأشرف علی تصحيحه اخراج احاديثه محمد باقر البهبودي
عنيت بنشره المكتبة المرتضوية
الجزء الثاني
لإحياء الآثار الجعفرية
طهران - بين الحرمين رقم التليفون
المحرر الرقمي: محمّد علي ملك محمّد
ص: 1
بسم اللّه الرحمن الرحیم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين .
أما بعد فهذا هو المجلد الثاني من كتاب كنز العرفان في فقه القرآن ، للشيخ الفاضل الفقيه ، جمال الدین ، شرف المعتمدين أبي عبداللّه المقداد بن عبد اللّه السيوري المعروف بالفاضل المقداد، وهو من أول كتاب المكاسب إلى آخر الكتاب ، مع مافيه من التعليقات النافعة والاشارة إلى مواضع الآيات وتخريج الأحاديث الواردة فيها فقد جاء بحمد اللّه وحسن توفيقه بحيث يروق الناظرين بحسن نظمه وجمال طبعه . وقد اعتمدنا في تصحيح الكتاب وتحقيق ألفاظه على عدة نسخ مطبوعة ومخطوطة مر شرحها وصورها الفتوغرافية في صدر المجلد الأول وأما عند طبع هذا المجلد فقد ظفر نا بنسخة ثمينة غالية تم كتابتها في حياة المؤلف قبل وفاته بشهرين فان تاريخ كتابتها بخط مقصود بن زين العابدين بن يحيى بن محمد [بن] حسين بن عبد الحسني الحسيني المرعشي في شهر ربيع الأول سنة 826 ، وقد توفي المؤلف قدس سره في 26 من شهر جمادى الآخرة من تلك السنة .
وهذه النسخة قد ملكها الفاضل التحرير والباحث الخبير الشيخ حمد القمي الرباني سنة 1306 الهجرية ، فصححها قبالة من سنة 1307 - 1308 وعليها بلاغات مورخة بخط يده و حواش أيضاً منه رحمه اللّه ، كما ترى في الصورة الفتوغرافية .
وقال أيضاً في ظهر النسخة ما هذا لفظه :
« تنبيه ، هذا الكتاب مقروء على الشيخ المحقق العلامة أزهد أهل عصره بل
ص: 2
كل الأعصار مولانا عبد اللّه بن الحسين التستري طاب ثراه (1) و عليه حواش نافعة بخطه الشريف كما صرح به في واحدة ، و هو من أنفس الجواهر ، حرره تحمل القمي ».
وهذه النسخة النفيسة - التي رمز نا إليها به «نص» - اليوم في خزانة كتب الفاضل النقاد الميرزا فخر الدين النصيري الأميني حفظه اللّه تعالى لحفظ كتب السلف عن الضياع و التلف ، فقد تفضل بالنسخة كرامة وأودعها عندي نحوسنة كاملة خدمة للدين وأهله فجزاه اللّه عنا وعن المسلمين خير الجزاء .
محمد الباقر البهبودی
جمادى الاخرة 1385
ص: 3
الصورة
ص: 4
الصورة
ص: 5
الاحتجاج للطبرسي
احكام القرآن للجصاص
الاسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت الفقيد
الاصابة لابن حجر ط - 1358
الاستيعاب لابن عبد البر بذيل الاصابة
الأم للشافعي ط 1381
الامالي لشيخ الطائفة
الأمالي السيد المرتضى ط 1325
الارشاد للمفيد الطبعة الأولى
الاتقان للسيوطى ط 1370
اساس البلاغة الطبعة الاخيرة
اعيان الشيعة ط بيروت
الاربعين للشيخ البهائي ط تبريز
الاشباه والنظائر للسيوطى في الفقه
اعلام الورى للطبرسي ط 2
اعلام الموقعين ط مصر
الامامة والسياسة ط 2-1377
الاحكام لابن حزم
الامام الصادق والأئمة الاربعة الاسد حيدر
احكام القرآن لابن العربي
اسباب النزول المواحدى
الاكمال لابن ماكولا
اوائل المقالات المفيد ط 2 تبریز
الأمالي الصدوق الطبعة الأولى
الامالي لابن الشجرى
اسد الغابة
الاستبصار ط النجنب
الانساب للسمعاني ط حیدر آباد
ارشاد الساري المطبوع بهامشه شرح النووى
احسن الوديعة للسيد ابي تراب
الاشباه والنظائر للسيوطى في الادب
الأزمنة والأمكنة للمرزوقي
اصول الفقه المظفر ط النجف
الاعتصام للشاطبي
احقاق الحق ط الاسلامية
الامام الصادق لابي زهرة
الافعال لابن القطاع ط حیدر آباد
ص: 6
الافعال لابن القوطية ط مصر
ابو هريرة للصيد شرف الدين
اقرب الموارد
الانصاف لابن الانباری ط 1380
ايام العرب في الاسلام ط 1369
الاخبار الطوال ط بغداد
اصل الشيعة واصولها ط بيروت
الاتباع لعبد الواحد الحلبي
اجوبة المسائل لحجة الاسلام الشفتي
الاشارات والدلائل
اتحاف البررة بالمتون العشرة
ارشاد الطالبين للفاضل المقداد
بحار الانوار ط دار الكتب
البيان لآية اللّه الخوئى مقدمة في التفسير
البرهان للزركشى
بلغة الفقيه
البيان للشهيد الاول
البحر الزاخر في فقه الزيدية
البدء والتاريخ للمقدسي
تفسير مجمع البيان للطبرسي ط صيدا
التفسير الكبير للامام الرازي 32 جزءاً
تفسير الخازن وبهامشه تفسير النسفى
الاعلام للزركلي
اجوبة موسى جار اللّه ، له
الاشتقاق لابن دريد
ايام العرب في الجاهلية ط 1961
احكام القرآن للقرطبي
اتقان المقال ط نجف
الالفاظ المعربة للسيداوي
احياء العلوم للغزالي
اشارات الاصول للكلباسي
الاموال للقاسم بن سلام
اشهر مشاهير الاسلام
الاثنا عشرية في الفقه للمامقاني
البيان والتبيين ط 1380
بلوغ الارب للآلوسي
البرهان القاطع في الفقه
البركة في فضل السعي والحركة
بديع القرآن لابن أبي الاصبع
بديع اللغة للميبدى
تفسير الصافي للمحقق الكاشاني ط 1283
تفسير سواطع الاسهام لابي الفيض
تفسير الكشاف ط 1367
ص: 7
تفسير النيسابوري
« الطبري ط 1373
« التبيان طایران
« الطنطاوي
« فتح القدير للشوكاني
« ابي الفتوح ط الاسلامية
« العياشي
« الشيخ محمود شلتوت
« المنار الرشيد رضا
« الدر المنثور للسيوطي
التفسير المنسوب إلى ابن عباس ط 1370
تفسير الوجيز
تفسير غريب القرآن لابن قتيبة
التفسير والمفسرون
تقريب النشر لابن الجزري
التفسير العلمي للآيات الكونية
تفسیر فرات الكوفي
التاريخ الكامل لابن الاثير
تاريخ المسعودی (مروج الذهب) ط 1377
تاريخ الخلفاء السيوطي
تاريخ اللغات السامية للدكتور إسرائيل
تاريخ الفقه الجعفري
تاريخ ناسخ التواريخ
تحف العقول ط 1376
تفسير على بن ابراهيم القمى
« البيضاوي
« ابن كثير
« ابي السعود
« الميزان للطباطبائي
« التسهيل للجزى
« البرهان
« گازر
« في ظلال القرآن
« الجلالين السيوطي
تفسير لوامع التنزيل ط لاهور
تفسیر جوامع الجامع للطبرسي
تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة
تلخيص البيان في مجاز القرآن للسيد الرضي
تفسير آلاء الرحمن للبلاغى
التفسير القاهرة
تفسير غريب القرآن للطريحي
تاريخ ابي الفداء
تاريخ اليعقوبي ط 1379
تاریخ | القرآن للكردي
التاريخ الكبير البخاري
تاریخ الكعبة المعظمة
تاريخ روضة الصفا
تأسيس الشيعة للسيد الصدر
ص: 8
التمهيد للشهيد الاول
تيسير التحرير : شرح التحرير
التهذيب لشيخ الطائفة
التاج الجامع للاصول
تذكرة الفقهاء للعلامة الحلى
التحرير للعلامة الحلى
الترغيب والترهيب للمنذري
تحفة المحتاج لابن حجر
التصريح للأزهري ط مصر
تلخيص مجمع الآداب في معجم الالقاب
ترجمان اللغة للقزويني
توضيح الافكار للامير الصنعاني
***
ثواب الاعمال وعقاب الاعمال للمصدوق
***
الجرح والتعديل لابن ابی حاتم الرازي
الجواهر في الفقه ط الكاشاني
جامع الرواة للاردبيلي
جامع الشواهد
الجوامع الفقهية
جامع الشتات للمحقق القمى
جامع الانساب للروضاتي
جامع مسانيد الامام الاعظم للخوارزمي
الجامع الكبير للشيباني
تيسير الوصول إلى جامع الأصول
التعريفات للسيد الشريف الجرجاني
تهذيب الاسماء و اللغات للنووى
التنقيح الرائع للفاضل المقداد
تذكرة الموضوعات لابن القيسراني
تحفة العالم شرح خطبة المعالم
تلخيص الشافي لشيخ الطائفة
تدريب الراوى للسيوطي
التمهيد والبيان في مقتل عثمان للمالقى
تكملة إكمال الاكمال
تعجيل المنفعة لابن حجر
الجمهرة لابن دريد
جمهرة أنساب العرب لابن حزم
جامع المقاصد للمحقق الكركي
جلاء الافهام لابن القيم الجوزية
جمع الجوامع للسبكي
الجاسوس على القاموس
الجوهر النقى لابن التركماني
الجمع بين رجال البخاري ومسلم
الجامع العباسي للشيخ البهني
ص: 9
جواهر القرآن في علوم القرآن
حلية الأولياء لأبي نعيم
حسن المحاضرة للسيوطى
الحدائق الندية في شرح الصمدية
حاشية الدسوقى على المغنى
حاشية الطباطبائي على المكاسب
حقائق التأويل للسيد الرضي
الحماسة لابن الشجرى
حاشية المحقق الخراساني على الفرائد
الخصال المصدوق ط الاولى
الخلاف لشيخ الطائفة في مجلدين
الخلاصة للعلامة
الخراج للقاضي أبي يوسف
درر الفوائد للعلامة الحائري
الدراية للشهيد الثاني
دلائل الصدق للعلامة المظفر
دروس في فقه الشيعة تقرير درس آية اللّه الخوئي
الذخيرة للسبزواري
الذكرى المشهيد الاول
جامع المقال للطريحي
حاشية ملاصالح وسلطان العلماء على المعالم
حياة الحيوان للدميرى
الحدائق الناضرة في الفقه
حاشية الشمني على المغنى
الحاوي للفتاوى للسيوطى
حديث الثقلين لمحمد قوام الوشنوى
الحمائك في أخبار الملائك للسيوطي
حاشية الكمباني على الكفاية .
خزانة الادب للبغدادي
الخزائن للمدربندى
الخطط المقريزية ط لبنان
الخزائن للمراقي
الدعوة الاسلامية للخنيزي
الدراية لوالد الشيخ البهائي
الدرجات الرفيعة للسيد على خان
ذرائع الاحلام للمامقاني
ذخيرة المعاد الممازندراني
ص: 10
رجال النجاشي
رجال الشيخ ط النجف
رجال البرقي
ريحانة الادب
الروض الانف للسهيلي
روضة الكافي
الروض المربع في الفقه الحنبلي
الرسالة للشافعي
الرسائل للعلامة الانصاري
الرفع و التكميل في الجرح والتعديل
رحلة ابن بطوطة ط 1377
زبدة البيان للمحقق
الزواجر لابن حجر
الزواج والطلاق على المذاهب الخمسة
السيرة لابن هشام ط 1375
السيرة الحلبية ( انسان العيون ) .
السنن لابی داود
السنن لابن ماجه
سراج القارى، شرح الشاطبية
سبائك الذهب في أنساب العرب
السرائر لابن ادريس الحلي
سعد السعود المسيد بن طاووس
رجال الكشي ط النجف
رجال على بن داود
روضات الجنات - النجف
رياض المسائل شرح مختصر النافع
الروضة البهية - شرح اللمعة
الرواشح السماوية للسيد الداماد
روض الجنان للشهيد الثاني
رسالة الاسلام ط دار التقريب
الروح لابن القيم الجوزية
رسائل الجاحظ ط 1324
زاد المعاد لابن القيم الجوزية
الزينة لابي حاتم الرازي
السراج المنير : شرح الجامع الصغير
السنن للترمذى
السنن النسائي
السامي في الاسامى للميداني
سبل السلام : شرح بلاع المرام
سماء المقال في تحقيق علم الرجال للكلباسي
السراج الوهاج
ص: 11
شرح القواعد للزنجاني
شرح المقامات الحريرية للمطرزي
شرح القصائد العشر للتبريزي
شرح السيوطى على موطأ مالك
شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف لابي أحمد العسكري
الشعر والشعراء لابن قتيبة
شرح ملا صالح على الكافي
شرح الاربعين للخاتون آبادي
شرح الصحيفة للجزائري
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد الطبعة الأخيرة في 20 جزءاً
شرح نهج البلاغة لابن ميثم
شرح حماسة ابي تمام للمرزوقي
شفاء الاسقام للسبكي
الشافي للمحدث الكاشاني
الشمائل المحمدية للترمذي
شرح الكافية للجامي
شرح الشافية للنظام
التجريد للقوشجي ط 1301
شرح الالفية لابن عقيل
شرح الباب الحادى عشر للفاضل المقداد
شفاء الغليل فيما للعرب من الدخيل للخفاجي
شرح الزبدة للفاضل الجواد
شرح تبصرة المتعلمين
شرح المقامات الحريرية للشريشي
شرح المعلقات للزوزني
شرح الزرقاني على موطأ مالك
شرح المفاتيح للعلامة البهبهاني
أحمد العسكرى
شرح الصاوى على ديوان الفرزدق
شرح فتح القدير لابن الهمام في الفقه الحنفي
شرح الصحيفة السجادية للسيد عليخان
شرح نهج البلاعة للخوئى
شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده
شرح ديوان المتنبي للعكبرى
شرح المواقف للسيد الشريف
الشافي للسيد المرتضى علم الهدى
شرح الكافية للرضى الاسترابادي
شرح الشافية للرضى
شرح الشافية لنقره كار
شرح الالفية للسيوطي
شرح من لا يحضره الفقيه للمجلسي الأول
شرح شذور الذهب لابن هشام
شرح القواعد للمظفر ط النجف
ص: 12
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
التكسّب ضروريّ للإنسان من حيث افتقاره في بقاء شخصه إلى الغذاء والملبس والمسكن الّتي لم تجر العادة بخلقها له ابتداء فيجب السعي في تحصيلها على القادر عليه بطريق لا يؤدي إلى فسخ القواعد العقليّة وهتك التقديرات الشرعيّة وأمّا من ليس بقادر فقد اقتضت العناية الإلهيّة وجوب ذلك على غيره من القادرين الأولى فالأولى وسيأتي تفصيل ذلك. ثمّ إنّ الطرق للقادر كثيرة أفضلها ما كان بالاضطراب في البيع والشراء والصناعة فقد أوحى اللّه سبحانه إلى داود « إنّك نعم العبد لو لا أنك تأكل من بيت المال » فبكى داود عليه السلام فأوحى اللّه إليه « إنّي قد ألنت لك الحديد فكان يعمل من ذلك دروعا ويبيعها ويقتات من أثمانها ويتصدّق بالباقي (1).
ثمّ البحث هنا قسمان :
وفيه آيات :
الاولى ( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (1).
ص: 1
مضمون الآية الأخبار بكون الأرض محلّ المعاش والارتزاق والامتنان على عباده بإباحة ذلك لهم وفيها فوائد :
1 - « الأرض » منصوبة بعامل محذوف يفسّره الظاهر (1) ومدّها هو
ص: 2
بسطها (1) وجعلها مسكنا ومستقرا ومنتعشا للحيوان وإن كانت كرة عند بعضهم فذلك غير مناف لبسطها لأنّها لعظم جرمها لا ينافي بسطها كريتها.
2 - ( أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ) أي جبالا رأسيه أي ثابتة وعلّل أرباب الهيئة ذلك بأنّها كرة حاصلة في الماء وإنّما الطالع منها ربعها المسكون فلو كانت حقيقيّة (2) لم تثبت على وضع واحد لأنّ بعض أوضاعها ليس أولى من بعض فخلقت الجبال عليها لتخرجها عن كونها حقيقيّة وتثبت ولا تضطرب ، ولأنّ الجبال إذا ثبتت ثبتت الأرض بثباتها ولذلك سمّيت الجبال أوتادا على جهة الاستعارة فإنّ الوتد يوجب ثبات ما يربط به.
واعلم أنّه لا ينافي ذلك قولنا إنها ساكنة بفعل الفاعل المختار لأنّه تعالى قد يفعل بالسبب.
3 - المراد بالموزون (3) المعتدل أي أنبتنا فيها أنواعا من النبات كلّ نوع
ص: 3
منها معتدل باعتدال يختص به بحيث لو تغيّر لبطل ، والوزن عبارة عن اعتدال الأجزاء لا بمعنى تساويها فإنّه لم يوجد [ المعتدل الحقيقي ] بل بإضافته إلى ذلك النوع وما يليق به وأمّا اختلاف أنواع النبات فبحسب اختلاف أجزائها وكيفيّاتها وقال الحسن وابن زيد : المراد الأشياء التي توزن كالذّهب والفضّة والمعادن وليس بشي ء.
4 - إنّه جعل لنا فيها معايش أي أسباب معايش من أنواع الزرع والغرس فيضطربون فيها بالمزارعة والمساقاة والإجارة على الاعمال في ذلك والبيع للنبات وشرائه ، والاكتساب بسائر وجوهه السائغة وقياس « معايش » أن لا تهمز لأنّ الياء فيها أصليّة وإنّما تهمز الياء إذا كانت زائدة بعد ألف التكسير كصحائف ووسائل وعجائز ومن همزها على ضعف ، شبّهها بغيرها.
5 - قوله ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) الواو بمعنى مع نحو مالك وزيدا لامتناع العطف على المضمر المجرور (1) في « لكم » إلّا بعد إعادة الجارّ ، والمراد به
ص: 4
ص: 5
الحيوانات (1) الّتي ليس الإنسان سببا لرزقها كالوحوش والطيور وحيوانات البرّ والبحر لا أنّ المراد العيال والخدم بمعنى أنّكم تحسبون أنّكم ترزقونهم بل اللّه يرزقهم لأنّ هؤلاء من جملة المخاطبين بقوله « جَعَلْنا لَكُمْ » وكون الرازق في الحقيقة هو اللّه لا يمنع من إطلاقه على من هو سببه فإنّ أكثر أفعاله بالأسباب ويجوز إسناد الفعل إلى السبب القريب والبعيد ولذلك سمّى سبحانه نفسه بخير الرازقين.
ص: 6
6 - أخبر سبحانه أنّه ما من شي ء من الأشياء الممكنة من جميع الأنواع إلّا وهو قادر على إيجاده فخزائنه كناية عن مقدوراته ومفتاح هذه الخزائن هي كلمة كن وكلمة كن مرهونة بالوقت فإذا جاء الوقت قال له كن فيكون وإنّما جمع خزائن مع أنّ إفرادها كان يفيد العموم لأنّ مقدوراته غير متناهية فلو أفرد لأوهم تناهيها.
7 - إنّه وإن كان كلّ شي ء عنده خزائنه وهو كريم ونحن محتاجون إليه لكن أفعاله على حسب المصالح وعدم المفاسد ، ولذلك اختلف الناس في بسط الرزق وتقديره لجواز كون الرزق وبسطه مصلحة لشخص دون آخر كما ورد في الحديث القدسيّ « إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك (1).
الثانية ( وَلَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) (2)
« مَكَّنّاكُمْ » أي حكّمناكم « وقليلا » منصوب على التميز (3) وهي كالّتي
ص: 7
قبلها في الامتنان ، وجعل أسباب المعيشة كلّها في الأرض ظاهر لمن تدبّره.
الثالثة ( يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (1)
مفعول « كُلُوا » محذوف أي كلوا شيئا ومن في « مِمّا » للتبعيض و « حَلالاً طَيِّباً » صفتان للمفعول المحذوف وقيل حالان منه ، وأريد بالطيّب ما يكون بالنسبة إلى الطبع وإلّا لكان ترادفا والأصل عدمه « وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ » أي لا تقتدروا به في تناول المحرمات وفي الآية دلالة على إباحة ما علمت إباحته.
قيل : وفيه دلالة على إباحة أكل ما يمر به الإنسان من الثمرة إذا لم يقصده ولم يحمل معه شيئا ولم يعلم كراهية المالك. وفيه نظر لأنّا بيّنّا أنّها تدلّ على إباحة ما علم إباحته لا ما لم يعلم إباحته فلو جعل دليلا على إباحة ما ذكر لكان مصادرة على المطلوب.
فإن قيل : إنّه علم بالبيان من النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام إباحة ذلك قلنا يكون ذلك هو الدليل لا الآية مع أنّا نقول : الأولى عدم جواز أكل ما ذكر من الثمرة لأصالة عصمة مال المسلم إلّا عن طيب نفس منه وما ورد من أخبار الآحاد الموهمة لا يعارض ذلك وسبب نزول الآية أن قوما حرّموا على أنفسهم أشياء من المباحات اللّذيذة زهدا فنزلت (2).
ص: 8
الرابعة ( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ) (1).
« من » للبيان والطيّب الحلال وفيه دلالة على إباحة التكسّب وطلب الرزق وأن لا يشتمل على الطغيان إمّا بتجاوز الحدود الشرعيّة في جهات التكسّب وإمّا في حالات المكتسب بعد حصول المال له ، من منع الفقراء حقوقهم والتكبّر عليهم واستشعار الفخر والتجبّر كما قال اللّه تعالى « إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى » (2) وقرئ يحلّ بضمّ الحاء أي ينزل وبكسرها من الحلال أي الحلال العقليّ وقيل : بمعنى الوجوب من قولهم حلّ الدّين أي وجب أداؤه و « هوى » أي سقط والمراد لازم السقوط وهو الهلاك.
الخامسة ( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) (3).
« مُبارَكاً » كثير المنافع « وَحَبَّ الْحَصِيدِ » من باب إضافة الموصوف إلى صفته كبقلة الحمقاء والمراد به الحنطة والشعير وما شابههما من [ الخضراوات ] المحصودات « باسِقاتٍ » أي طوالا وقيل : حوامل من قولهم بسقت الشاة إذا حملت والنضيد بمعنى المنضود أي بعضه فوق بعض و « رِزْقاً » منصوب على المفعول له وهو علّة لأنبتنا أو مصدر والبلدة الميتة أي المجدبة وفي الآية دلالة على أنه خلق هذه الأشياء لأجل انتفاع العباد بها بسائر وجوه الانتفاعات فتكون مباحة لهم إلّا ما ورد النهي عن استعماله.
السادسة ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا
ص: 9
مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (1).
« ذَلُولاً » أي لينة يسهل لكم السلوك فيها و « مَناكِبِها » جبالها أو جوانبها وهو مثل لفرط التذلّل فإنّ منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب ولا يتذلّل له فإذا جعل الأرض في الذلّ بحيث يمشي في مناكبها لم يبق شي ء منها لم يتذلّل وفي الآية دلالة على جواز طلب الرزق خلافا للصوفية حيث منعوا من ذلك لاشتماله على مساعدة الظلمة بإعطاء التمغاء والباج وهو جهل منهم فإنّ ذلك الإعطاء غير مقصود بالذات بل لو أمكن المنع لما أعطوا شيئا وفي الحديث أنّه لمّا نزل « وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ » (2) انقطع رجال من الصحابة في بيوتهم واشتغلوا بالعبادة وثوقا بما ضمن اللّه لهم فعلم النبيّ صلى اللّه عليه وآله بذلك فعاب عليهم ذلك وقال : إنّي لأبغض الرجل فاغرا فاه إلى ربّه يقول اللّهمّ ارزقني ويترك الطلب » (3).
ثمّ طلب الرزق ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة واجب وهو ما اضطرّ الإنسان إليه ولا جهة له غيره ، وندب وهو ما قصد به زيادة [ في ] المال للتوسعة على العيال وإعطاء المحاويج والافضال على الغير ، ومباح وهو ما قصد به جمع المال الخالي عن جهة منهيّ عنها ، ومكروه وهو ما اشتمل على ما ينبغي التنزه عنه ، وحرام وهو ما اشتمل على وجه قبح.
وفي طلب الحلال للعود على العيال أجر عظيم قال النبي صلى اللّه عليه وآله : « الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل اللّه (4) ».
ص: 10
وفيه آيات :
الاولى ( قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (1).
أي خزائن أرض مصر واللّام للعهد لأنّه لم [ يكن ] يملك سواها. لمّا قال له الملك « إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ » فوصفه بوصفين صالحين للولاية ، وجد فرصة للسؤال فسأل الولاية وقال « إِنِّي حَفِيظٌ » أي حافظ لما تستحفظنيه « عَلِيمٌ » أي عالم بوجوه التصرفات.
واستدلّ الفقهاء بهذه الآية على جواز الولاية من قبل الظالم إذا عرف المتولّي من حال نفسه وحال المنوب [ عنه ] أنّه يتمكّن من العدل ولا يخالفه المنوب عنه كحال يوسف عليه السلام مع ملك مصر ، والّذي يظهر لي أنّ نبيّ اللّه أجل قدرا من أن ينسب إليه طلب الولاية من الظالم وإنّما قصد إيصال الحقّ إلى مستحقّه لأنه وظيفته.
واعلم أنّ الولاية تنقسم أقساما : الأوّل : أن تكون من قبل الامام العادل إلزاما فيجب قبولها الثاني : أن يأمره لا إلزاما فيستحب قبولها الثالث : أن لا يأمره بها ويكون مستعدّ لها وليس هناك مستعدّ سواه ولم يعلم به الامام فيستحبّ طلبها الرابع : الفرض بحاله ويكون هناك مستعدّ آخر فيباح طلبها ولا يستحبّ لجواز أن لا يكون صالحا لها من جهة لا يعلمها الخامس : أن لا يكون مستعدّا [ لها ] ولم يأمره الإمام بها فيكره له طلبها بل قد يحرم للزوم القبح لو ولّاه أو العبث إن لم يولّه ، السادس الولاية من قبل الجائر ولم يتمكّن من العدل ولم يلزمه بها فيحرم
ص: 11
طلبها ، السابع : الفرض بحاله ويتمكّن من العدل فيباح طلبها ولا يستحبّ الثامن : الفرض بحاله وألزمه إلزاما يخشى بمخالفته الضرر فيجب قبولها ، التاسع : الفرض بحاله ولم يخش الضرر بالمخالفة فيستحب قبولها العاشر : الفرض بحاله ولم يتمكّن من العدل وألزمه إلزاما يخشى الضّرر الكثير بالمخالفة فيباح إلّا في قتل غير سائغ فيحرم إذ لا تقيّة في الدماء ، ولو كان الضرر يسيرا ولم يستلزم الحكم قتلا كره قبولها.
الثانية ( سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ) (1).
روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّ السّحت هو الرشوة في الحكم وعن عليّ عليه السلام هو الرشوة في الحكم ومهر البغيّ وكسب الحجّام وعسيب الفحل وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستعمال (2) في المعصية وعن الصادق عليه السلام [ أنّ ] السحت أنواع كثيرة فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه (3) وهنا فوائد :
1 - حاصل تفسير السحت أنّه كل ما لا يحل كسبه ، واشتقاقه من السّحت وهو الاستئصال يقال : سحته وأسحته أي استأصله وسمّي الحرام به لأنه يعقّب عذاب الاستئصال وقيل لأنّه لا بركة فيه وقيل لأنه يسحت مروءة الإنسان.
2 - لمّا كان الرشا في الحكم يجمع عدّة قبائح فإنّه يأخذه بقصد إبطال الحقّ فيستلزم ذلك الكذب على اللّه وعلى رسوله ، والعمل بشهادة الزور ، وأخذ المال من مستحقّه وإعطاؤه غير مستحقّه ، وسماع شهادة الفسّاق ، والخيانة لله ولرسوله وعدم المروّة ، ومخالفة حسن الظنّ ممّن احتكم إليه ، وغير ذلك فلذلك فسّر عليه السلام السحت بالرّشوة.
ص: 12
3 - دافع الرشوة إن توصّل بها إلى باطل فهو كآخذها في فعل الحرام وإن توصّل بها إلى حقّ لا يمكنه تحصيله إلّا به فليس فاعلا للحرام وأمّا آخذها فهو فاعل حرام سواء حكم بحقّ أو بباطل للدافع أو عليه.
4 - القاضي إذا لم يوجد غيره في البلد ممّن يقوم بوظيفته يتعيّن عليه القضاء ويكون بالقضاء مؤديا للواجب فلا يجوز أخذ الأجرة على ذلك وهل يجوز لهذا أخذ الرزق من بيت المال فنقول : إن كان ذا كفاية فلا وإلّا جاز.
5 - إن لم يتعيّن عليه القضاء فلا يجوز [ أخذ ] الأجرة [ عليه ] أيضا فإن كان ذا كفاية فالأفضل له ترك الرزق من بيت المال وإن لم يكن جاز لأنه من المصالح.
الثالثة ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).
يستدلّ بهذه الآية على تحريم أجر الزانية وكان ذلك سنة في الجاهليّة ولذلك كان سبب نزولها أنّ عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين كان له جوار يكرههنّ على الزنى ويضرب عليهنّ ضرائب فاشتكت منهنّ اثنتان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت الآية (2) وهنا فوائد :
1 - أجر الزانية حرام سواء كانت حرّة أو أمة مكرهة أو غير مكرهة للإجماع على ذلك.
2 - التحريم شامل للزانية وغيرها ممّن يعلم ذلك وإلّا فلا ، نعم يكره معاملة من هذه سيرتها.
3 - تحريم الإكراه مع إرادة التحصّن خرج مخرج الغالب ولعدم تحقق الإكراه بدون الإرادة وإلّا فالإكراه مطلقا حرام سواء أردن التحصّن أو لم يردن وسواء كان لطلب عرض الدّنيا أو لا.
ص: 13
4 - قوله « فَإِنَّ اللّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ » أي لهنّ لأنّهنّ مكرهات والإكراه رافع للإثم كما قال صلى اللّه عليه وآله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه (1) » ولذلك قرأ عبد اللّه بن عباس « فانّ اللّه لهنّ غفور رحيم » وأمّا المكرهون فهم أيضا مغفورون عند الوعيديّة مع التوبة وعندنا يجوز لا معها تفضّلا من اللّه لمن يشاء.
الرابعة والخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) (2).
هاتان آيتان اشتملتا على محرمات وهي آخر آية نزلت في شأن الخمر (3) وقد أكد التحريم في الآية بتسعة أمور الأوّل : تصديرها بانّما المؤكّدة الثاني : ضم
ص: 14
ص: 15
ص: 16
الخمر إلى الأصنام في وجوب اجتنابها الثالث : تسميتها رجسا الرابع : جعلها من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلّا الشرّ الخامس : أنه أمر باجتنابها الشامل لجميع أوصافها السادس : أنه جعل الاجتناب موجبا للفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الركون إليه خيبة السابع : أنه ذكر ما ينتج منها وهو العداوة والبغضاء. الثامن : أنها تصدّ عن ذكر اللّه والصلاة التاسع : إنّ فيه وعيدا بقوله ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) ؟ وهو مبالغة في الوعيد والتهديد وهو أبلغ من « انتهوا » عرفا وسيأتي في الخمر مزيد كلام. والضمير في « فَاجْتَنِبُوهُ » يعود إلى « الرّجس » أو إلى « عمل الشيطان » وعمل الشيطان أعمّ من الرجس والرجس أعمّ من الخمر والميسر والنهي عن العامّ يستلزم النهي عن الخاصّ وإنّما خصّ العداوة والبغضاء بالخمر والميسر ، لأنّ الخمر موجب لزوال العقل والميسر موجب لزوال المال وزوال العقل والمال موجبان للعداوة والبغضاء بخلاف الأنصاب والأزلام فإنّهما يوجبان سخط اللّه والنار لا العداوة بين العابدين إذا عرفت هذا فهنا أحكام :
1 - يحرم التكسّب بالخمر وسائر المسكرات (1) فانّ اللّه إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه كما قال صلى اللّه عليه وآله « لعن اللّه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها » (2).
ص: 17
وكذا الأجرة على عمل يتعلّق بها من حمل أو عصر أو سقي أو غير ذلك « روى جابر أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لعن الخمر وشاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها فقام إليه أعرابيّ فقال يا رسول اللّه إنّي كنت رجلا هذه تجارتي فحصل لي من بيع الخمر مال فهل ينفعني المال إن عملت به طاعة؟ فقال صلى اللّه عليه وآله : « لو أنفقته في حجّ أو جهاد لم يعدل عند اللّه جناح بعوضة إنّ اللّه لا يقبل إلّا الطيّب فنزل « قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) (1) ».
2 - « الميسر » هو القمار بسائر أنواعه كالنرد والشطرنج قاله جل المفسّرين وهو المرويّ عن أهل البيت عليهم السلام حتّى قالوا : إنّ لعب الصبيان بالجوز من القمار فيحرم التكسّب به وعمل آلاته وبيعها والجلوس على مجلس يكون فيه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « اللّاعب بالنرد شير كمن غمس يده في لحم الخنزير ودمه » (2) وقال الصادق عليه السلام « اللّعب بالشطرنج شرك والسلام على اللّاهي به معصية (3) » ولا خلاف في تحريم النرد (4) وكذا الشطرنج إلّا ما نقل عن بعض الشافعيّة من جوازه إلّا حال إلهائه عن الصلاة.
3 - « الأنصاب » قيل هي الأصنام الّتي كانوا يعبدونها ويحرم أيضا التكسّب بعملها وبيع الخشب وشبهه ليعمل صنما قال الشيخ : وكذا يحرم بيعه على من عهد منه عملها وكذا بيع العنب على من يعمل الخمر والمشهور كراهية ذلك إلّا مع الشرط فيحرم.
4 - « الأزلام » جمع زلم بفتح الزاء وضمّها كحمل وصرد وهي قداح لا ريش لها ولا نصل كانوا يتفاءلون بها في أسفارهم وأعمالهم مكتوب على بعضها أمرني ربّي وعلى بعضها نهاني ربّي وبعضها غفل لم يكتب عليها شي ء فإذا أرادوا أمرا أجالوا تلك القداح فان خرج الّذي عليه أمرني ربّي مضى الرجل لحاجته وإن
ص: 18
خرج الّذي فيه النهي لم يمض وإن خرج ما ليس عليه شي ء أعادوها.
هذا قول جماعة من المفسّرين.
ونقل عليّ بن إبراهيم عن الصادق (1) عليه السلام أنّها عشرة سبعة لها أنصباء وثلاثة لا أنصباء لها فالسبعة هي الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلّى ، فالفذ له سهم والتوأم له سهمان والرقيب له ثلاثة والحلس له أربعة والنافس له خمسة والمسبل له ستّة والمعلّى له سبعة والثلاثة الباقية هي السفيح والمنيح والوغد ، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّؤنه أجزاء ثمّ يجتمعون عليه
ص: 19
فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل ، وثمن الجزور على من لم يخرج له شي ء من الغفل وهو القمار.
ونقل الزمخشريّ أنّهم كانوا يجعلون الأجزاء عشرة وقيل ثمانية وعشرون ولا شي ء للغفل ومن خرج له سهم من ذوات الأنصباء أخذ ما سمّى له ذلك القدح وكانوا يدفعون ذلك إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئا ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل معهم فيه ويسمّونه البرم وقد جمع بعض الفضلاء (1) أسماء القداح في أبيات وهي هذه شعر :
هي فذّ وتوأم ورقيب *** ثمّ حلس ونافس ثمّ مسبل
والمعلّى والوغد ثمّ سفيح *** ومنيح وذي الثلاثة تهمل
ولكلّ ممّا عداها نصيب *** مثله أن تعدّ أوّل أوّل
إذا عرفت هذا فاعلم أنه تعالى حرم العمل بهذه الأزلام أما على الأوّل فلأنّه نوع من التكهّن من غير إذن من اللّه فيه وأما القرعة الشرعيّة (2) كما نقل
ص: 20
ص: 21
ص: 22
ص: 23
ص: 24
ص: 25
ص: 26
ص: 27
« أنه صلى اللّه عليه وآله كان إذا أراد سفرا يقرع بين نسائه في استصحاب إحداهنّ » (1) فليست من هذا القسم لكون الرسول صلى اللّه عليه وآله أخذ ذلك باذن من اللّه ، فالقرعة كاشفة عن معلوم اللّه وكذا ما يتداولها الأصحاب من الاستخارة في الرقاع والحصى والسبحة وما نستعمله الفقهاء في الأمور المشكلة من القرعة كما نقل عن أهل البيت (2) عليهم السلام « كلّ أمر
ص: 28
مشكل فيه القرعة » وكل ذلك أمر متلقّى من الشارع فلا مطعن فيه وأمّا على الثاني فلأنّه قمار منهي عنه.
5 - كما يحرم استعمال هذه الأمور الأربعة كذا يحرم اقتناء آلاتها بل يجب إتلافها وإخراجها عن صورها وكذا الخمر يجب إهراقه ويحرم اقتناؤه اللّهمّ إلّا أن يقصد التخليل ولو بعلاج فانّ ذلك سائغ.
ص: 29
السادسة ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (1).
استدلّ الفقهاء بهذه الآية على جواز التصرّف بالأكل لا غير من بيوت الأقارب المذكورين باعتبار رفع الجناح المستلزم للإباحة لكن يشترط عدم كراهة الملّاك وعدم الإسراف في التصرف ، سواء كان الملّاك حاضرين أو غائبين وبعضهم شرط في الإباحة كون الملّاك أمروهم بالحضور في بيوتهم وظاهر الآية عدم التقييد بأمرهم بالدّخول وبعضهم وهو الجبائيّ جعلها منسوخة بقوله « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه » (2) والمنقول عن أهل البيت عليهم السلام استثناء هذه من العموم بالشرط المذكور ويكون من باب تخصيص السنّة بالكتاب.
وهنا سؤال تقريره : إذا كان شرط الإباحة عدم كراهة الملّاك فأيّ فرق بين بيوت المذكورين ، وبين بيوت غيرهم؟ جوابه الفرق هو أنّ بيوت غيرهم يشترط العلم بعدم الكراهة أي العلم بالرّضى ، وأمّا بيوت الأقارب المذكورين فيكفي عدم العلم بالكراهة وكفى بذلك فرقا.
ولنتمّم الكلام في الآية بفوائد :
ص: 30
1 - ذكر ذوي الأعذار الثلاثة هنا ، عن ابن المسيّب أنّ جماعة خرجوا إلى الغزاة فسلّموا بيوتهم لهؤلاء فكانوا يتحرّجون من الأكل [ والشرب ] من تلك البيوت فنزلت وهذا أجود ما قيل في سببها وقيل بل كان ذووا القرابات يستصحبونهم إلى بيوت قراباتهم إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ثمّ تحرّجوا من ذلك فنزلت وقيل : كانوا يتوقّون مؤاكلتهم خوف انظلامهم أو كراهة ذلك طبعا فنزلت (1).
2 - أنّه لم يذكر الأولاد ، قيل لأنّ ذلك معلوم بالمفهوم لأنّ مدلولها جواز الأكل من بيت الأبعد فمن بيت الأقرب أولى ، وقيل إنهم المرادون من « بيوتكم » لأنّ بيوتهم بيوت آبائهم لأنّ مال الولد مال الوالد لقوله صلى اللّه عليه وآله « أنت ومالك لأبيك » ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « أطيب ما أكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه (2) » ولذلك لم يثبت الربا بينهما لكون مالهما واحدا وكذا البحث في الزّوج والزوجة.
3 - قيل : المراد ب « ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ » بيوت المماليك وليس بشي ء لأنّ العبد لا يملك لأنّ ماله لسيّده ، وقيل المراد الوكيل في حفظ البيت أو البستان يجوز له أن يأكل منه لأنّه كالأجير الخاص الّذي نفقته على مستأجره ، والمفاتح قيل هي الخزائن كقوله ( وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ ) (3) وقيل جمع مفتاح.
4 - « أَوْ صَدِيقِكُمْ » أي بيوت صديقكم بحذف المضاف ، عن الصادق عليه السلام « هو واللّه الرجل يدخل في بيت صديقه فيأكل طعامه بغير إذنه (4) وحكي عنه عليه السلام « أيدخل أحدكم يده إلى كمّ صاحبه أو كيسه فيأخذ منه؟ فقالوا لا قال فلستم بأصدقاء (5) » والأصل أنه إذا تأكّدت الصداقة علم الرضا وبالأكل فيقوم العلم مقام الإذن.
ص: 31
وعن ابن عبّاس أنّ الصداقة أقوى من النسب فإنّ أهل النار لا يستغيثون بالآباء ولا الأمّهات بل بالأصدقاء ، فيقولون ( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (1).
5 - كانوا يتحرّجون أن يأكلوا وحدانا كما كان دأب العرب وربما قعد الرجل ينتظر من يأكل معه من الصباح إلى الرواح فإذا أيس أكل للضرورة فنزل ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً ) وعن عكرمة : نزلت في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلّا معه ، فنزلت رخصة لهم أن يأكلوا كيف شاؤا.
6 - « فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً » قيل المتقدّمة وقيل : المساجد والعموم أولى وعن الصادق عليه السلام « هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثمّ يردّون عليه فهو سلامكم على أنفسكم (2) » وعن الحسن : ليسلّم بعضهم على بعض ، والمراد أنّ الداخل ذا سلّم على صاحب المنزل فردّ عليه ، فيكون سلامه سببا للردّ لأنّ فاعل السّبب فاعل المسبّب قوله « تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ » فإنّه الآمر بها أو أنّها دعاء وإجابة الدعاء من عند اللّه ، وهي مصدر من غير لفظ التسليم ، ووصفها بالبركة لأنّها تغرس المحبّة في القلوب وتوجب البسط وحسن الخلق ، وتؤذن بالأمن من شرّ الملاقي.
وعن أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « متى لقيت من أمّتي أحدا فسلّم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلّم عليهم يكثر خير بيتك (3) ».
7 - أنّه تعالى بيّن في هذه الآية مكارم الأخلاق تنزيلها لهم عن رذيلة البخل وعدم الايتلاف فقال ( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ ) .
ص: 32
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) (1).
الخطاب عام والمراد لا تأكلوا أموال بعضكم ، فحذف المضاف للعلم به ، ويحتمل عدم الحذف وتكون الإضافة لا للتمليك بل لمطلق الاختصاص كقوله ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ) (2) هذا.
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على ثلاثة أحكام :
1 - النهي عن أكل الأموال بالباطل أي بالسبب الباطل فيعمّ كلّ ما لم يبحه الشارع من الغصب والسرقة والخيانة والعقود الفاسدة ، سواء اشتملت على الربا أو لا بل يكون فسادها بسبب آخر كما هو مذكور في الكتب الفقهيّة ويدخل في الباطل أيضا ما لم يكن بعقد كالقمار وأجر الزانية وغير ذلك ، وبالجملة هذا من المجملات المفتقرة إلى بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام وخصّ الأكل لأنه أعظم المنافع ، أو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللّازم وهو التصرّف فيعم سائر التصرّفات.
2 - إباحة ما كان بسبب التجارة ، والاستثناء هنا منقطع والمراد بالتجارة التملّك بعقد معاوضة ماليّة محضة ، وخص التجارة لأنّها الأغلب في طرق الكسب ولقوله صلى اللّه عليه وآله « الرزق عشرة أجزاء تسعة منها في التجارة » (3).
ص: 33
وهنا فروع :
1 - شرط في التجارة كونها عن تراض ، أي صادرة عن تراض من المتعاقدين فيخرج ما لم يكن كذلك عن الإباحة.
2 - قال مالك وأبو حنيفة : المراد تراضي المتعاقدين حال العقد فإذا حصل تمّ البيع ولزم ، فلا خيار قبل التفرق عندهما وقال الشافعي : المراد التفرّق عن تراض فلهما الخيار قبل التفرق ، وهو مذهب الأصحاب لقوله صلى اللّه عليه وآله « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا (1) ».
3 - عقد المكره باطل : نعم لو أجاز فيما بعد صحّ لحصول الرّضا [ به ].
4 - الرضا يراد به المعتبر شرعا فلا اعتبار برضى الصبيّ والمجنون والسكران والسفيه والمفلّس ، فلا يصحّ عقودهم ، ولو أجازوا بعد زوال المانع ، والفرق بينهم وبين المكره اعتبار عقده لو لا الإكراه ، فالإكراه مانع الحكم لا مانع السبب.
5 - الرّضا شرط في سائر العقود للإجماع على عدم الفرق ، نعم خيار المجلس مختصّ بالبيع.
6 - لا يكفي في التملّك حصول الرضا من غير عقد سواء كان المبيع جليلا أو حقيرا ، لاشتراطه في الإباحة حصول التجارة الصادرة عن التراضي ، والتجارة تستلزم العقد ، فلا يكون الرضا بمجرّدة كافيا ، وقال أبو حنيفة : يكفي في المحقّرات الرضا وحده ، والأصح عند أصحابه الاكتفاء به مطلقا.
7 - حصول الرضا بعقد الفضوليّ بعده كاف عند جماعة منّا ، وهو المشهور عندهم ، وعليه الفتوى وقال جماعة : لا يكفي بعده لقبح التصرّف في مال الغير عقلا ولقوله صلى اللّه عليه وآله « لا تبع ما ليس عندك » وقوله « لا بيع إلّا فيما تملك (2) » ويعضد الأوّل قضيّة عروة البارقيّ والنبيّ صلى اللّه عليه وآله لا يقرّر على الباطل ، والنهي في المعاملات لا يقتضي البطلان ، ونفي الحقيقة يراد به نفي صفة من صفاتها أي لا بيع لازم
ص: 34
وإلا لما صحّ بيع الوليّ والوكيل ، ولو حمل على ظاهره فيكون المراد لا بيع إلّا فيما هو ملك أو كالملك ، بسبب الرضا أو الاذن ، واشتراط التقدم ممنوع يحتاج مثبتة إلى دليل.
8 - ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) فإنّه إذا قتل غيره قتل به قصاصا فصار هو القاتل لنفسه ، أو المضاف محذوف أي أنفس غيركم فحذف لعدم الاشتباه ، وقيل الكلام على ظاهره لأنّه تعالى كلّف بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ليكون القتل توبة لهم عن ذنوبهم ، فرفع ذلك عن امّة محمّد صلى اللّه عليه وآله رحمة لهم ، ولذلك قال ( إِنَّ اللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) .
ويحتمل أن يكون المراد لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الإثم في أكل المال بالباطل ، وهو وجه حسن ليكون الكلام بعضه آخذا بحجزة بعض.
الثانية ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) (1).
كان الرجل في الجاهلية إذا حل له مال على غيره وطالبه به ، يقول له الغريم : زد لي في الأجل حتّى أزيدك في المال ، فيفعلان ذلك ويقولان سواء علينا الزيادة في أوّل البيع بالربح أو عند المحلّ لأجل التأخير ، فردّ اللّه عليهم بقوله « لا يَقُومُونَ » أي من قبورهم إلّا قياما كقيام المصروع ، زعمت العرب أنّ المصروع يخبطه الشيطان فيصرعه ، والخبط حركة على غير النحو الطبيعيّ وعلى غير اتّساق كخبط العشواء « مِنَ الْمَسِّ » أي من مسّ الشيطان والجار متعلّق ب « لا يَقُومُونَ » أي لا يقومون من المسّ الّذي بهم إلّا كما يقوم المصروع : بمعنى أنّ نهوضهم و
ص: 35
قيامهم كقيام المصروع ، لأنّه تعالى أربى في بطونهم ما أكلوه ، فأثقلهم فهو سيماهم الذي يعرفون بها يوم البعث ، والموعظة دليل التحريم ، قوله ( وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ ) أي يجازيه على أعماله بحسب ما علم منه في صدق نيّته في الانتهاء.
إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - الرّبا لغة هو الزيادة ، وشرعا هو الزيادة على رأس المال من أحد المتساويين جنسا ممّا يكال أو يوزن فقيل يحرم الزيادة لا غير ، وقيل : هي مع المزيد عليه وهو الصحيح خصوصا مع عدم التميز ، ولا يحصل الملك لما اقتضاه العقد من العوضين لما تقرّر أن العقد الفاسد لا يترتّب عليه أثره.
2 - المراد بالجنس هنا هو الحقيقة النوعيّة ، ويتحقّق ذلك بكون الأفراد يشملها اسم خاصّ ، والزيادة قد تكون عينيّة وهو ظاهر ، وحكميّة كبيع أحد المتجانسين بمساويه قدرا نسيئة ، والمراد بالكيل والوزن ما كان حاصلا في عهد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وكلما علم له حال بني عليه وما لم يعلم يرجع فيه إلى العادة ، فلو اختلفت [ البلدان ]؟ قيل : لكلّ بلد حكم نفسه ، وقيل : يغلب التحريم احتياطا وهو أولى.
3 - الربا يثبت في النسيئة إجماعا لقوله صلى اللّه عليه وآله « إنّما الربا في النسيئة (1) » واقتصر عليه ابن عبّاس للحصر المذكور ، وقال الباقون بعمومه للنقد أيضا وهو الحقّ والحصر للمبالغة.
واعلم أنّ الإجماع حصل على وقوع الربا في ستّة نصّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله عليها هي : الذهب ، والفضّة ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والملح.
واختلف العامّة بعد ذلك في العلّة فيما عداها فقال أبو حنيفة الجنسيّة والتقدير وقال الشافعيّ مع ذلك الطعم والثمنيّة وقال مالك : القوت والادّخار ، وعن أحمد روايتان إحداهما كأبي حنيفة ، والأخرى الكيل والمأكوليّة ، ولا يكفي الوزن
ص: 36
عنده ، وأمّا أصحابنا فقد عرفت رأيهم.
4 - هل المراد بقوله « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا » أنّهم قاسوا الربا على البيع أم لا؟ قيل بالأوّل لأنّهم قالوا يجوز أن يشتري الإنسان شيئا يساوي درهما لا غير بدرهمين ، فيجوز أن يبيع درهما بدرهمين ، فردّ اللّه عليهم بالنصّ على تحليل البيع وتحريم الربا ، إبطالا لقياسهم ، فانّ القياس المخالف للنصّ باطل اتّفاقا.
قيل : فعلى هذا كان ينبغي أن يقال « إنّما الربا مثل البيع » لأنّ الربا محل الخلاف أجيب أنّه جاء مبالغة في أنّه بلغ من اعتقادهم في حلّ الربا أنّهم جعلوه أصلا يقاس عليه.
وقيل بالثاني لجواز أن يكون قوله ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) من تتمّة كلامهم على وجه الردّ ، أي إنّ اللّه فرّق بين المتساويين ، وذلك غير جائز ، وسبب غلطهم الجهل بحكم الربا.
ووجه الجواب المنع من المساواة فإنّ تحريم الربا معلّل بعلّة غير حاصلة في البيع.
تذنيب : في قوله « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ » دلالة على إباحة سائر أقسامه ، من النقد والنسيئة والسلف ، وأنواعه من بيع المرابحة والمواضعة والتولية والمساومة وأنواع المبيعات من الثمار والحيوان والصرف وغير ذلك ممّا ورد به البيان النبوي.
5 - قيل في قوله « فَلَهُ ما سَلَفَ » دلالة على أنّه لا تجب إعادة الربا مع الجهل بتحريمه بل يكفي مع ورود العلم الانتهاء وهو التوبة لا غير ، وفيه نظر لجواز أن يكون المراد به سقوط الإثم بالتوبة لا سقوط حقّ الغير لأنّه لا يسقطه إلّا أداؤه.
6 - الربا من الكبائر للتوعّد عليه بالنار في آخر الآية ، ولقول الصادق عليه السلام « درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعين زنية بذات محرم في بيت اللّه الحرام » (1) وقال أيضا عليه السلام « إنّما شدّد اللّه في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا ورفدا (2) » وقال عليّ عليه السلام « لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الربا خمسة : آكله
ص: 37
وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه (1).
7 - أنّه تعالى لم يكتف في النهي عن الربا والتنفير عنه بوعيد النار حتّى أخبر أنّه لا خير [ فيه ] ولا بركة فيه وأنه يذهب ويذهب لقوله تعالى فيما بعد ( يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (2) فانّ المحق هو نقصان الشي ء ، حتّى يذهب ثمّ قال ( وَاللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ ) تغليظا لشأن الربا فانّ آخذه بمنزلة الكافر والأثيم : الكثير الإثم ، وكذا في حكمه بخلود العائد في النار الّذي هو من أحكام الكفّار.
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) (3).
عن الباقر عليه السلام أنّ الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهليّة ، وبقي له بقايا على ثقيف ، فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت ، وقيل كان العبّاس وخالد شريكين في الجاهليّة يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة فأنزل اللّه الآية « فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع ، وأوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب وكلّ دم في الجاهليّة موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب (4) » وهنا فوائد :
1 - « ذَرُوا ما بَقِيَ » أي اتركوا وقوله « إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » مبالغة اخرى
ص: 38
في تشديد أمر الربا أي إن كنتم آمنتم بما انزل على محمّد فالتزموا (1) بأحكام الإيمان الّذي من جملتها تحريم الربا ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون الكافر مكلّفا بتحريم الربا ، لأنّ الكافر لا يطالب حال كفره بأحكام الايمان أوّلا بل به.
2 - ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ ) أي اعلموا بها من أذن بالشي ء إذا علم به وقرء حمزة وأبو بكر « فآذنوا » أي أعلموا غيركم ، وهو من الاذن وهو الاستماع وحرب اللّه هو حرب رسوله ، وقيل حرب اللّه بالنار وحرب الرسول بالقتال ، وإنّما لم يقل بحرب اللّه لأنّ المراد : بنوع من الحرب عظيم لكون التنوين للنوعيّة وفي هذا الكلام أيضا مبالغة زائدة على ما تقدّم.
3 - ( وَإِنْ تُبْتُمْ ) إلى آخر الآية قال الزمخشريّ والقاضي إن لم يتب يكون مصرّا على التحليل ، فيكون مرتدّا وماله في ء ، وليس بشي ء لأنّا نمنع أنّه إذا لم يتب يكون مرتدّا الجواز أن يفعله ويعتقد تحريمه والحقّ أنّه يجب ردّه على مالكه ، أمّا مع العلم بتحريمه فبالإجماع ، تاب أو لم يتب ، فان جهل صاحبه وعرف الربا تصدّق به ، وإن عرفه وجهل الربا صالح عليه ، وإن مزجه بالحلال وجهل المالك والقدر تصدّق بخمسه وأمّا مع الجهل فقد تقدّم الكلام فيه.
4 - لا ريب في أنّ قوله تعالى ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) وقوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ) صريحتان في أنّه لا يجب ردّ الربا السابق على نزول التحريم ، ونحن قد قرّرنا أنه يجب ردّ الربا مع العلم والجهل ، فما وجه الجمع بين الكلامين؟
فنقول : وجه الجمع أنّه لا يجب على الكافر رد ما أخذه حال كفره إلّا أن يكون عينه موجودة ، فإذا أسلم حرم عليه أخذ ما بقي له عند معامليه ، وأمّا المسلم فيجب عليه ردّ الربا مطلقا ، سواء علم بالتحريم أو لم يعلم على الأصحّ لأنّ الموعظة جائت إليه ، وعدم علمه ليس عذرا لتمكّنه من العلم.
ص: 39
قوله « لا تَظْلِمُونَ » أي بأخذ ما هو زائد على رؤوس أموالكم ، ( وَلا تُظْلَمُونَ ) بنقص حقّكم.
الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1).
فيها تصريح بالنهي عن أكل الربا زيادة على ما تقدّم ، وكان الرجل إذا حلّ له الدين زاد فيه وأخّره إلى أجل آخر ، ثمّ إذا حلّ زاد فيه أيضا وأخّره وهكذا ، فكان يستغرق بالشي ء الطفيف مال المديون ، فنهاهم عن ذلك ، وقيل معنى الاضعاف المضاعفة أي لا تزيدوا به أموالكم فتصير أضعافا مضاعفة ، وخصّ النهي بالأكل وإن كان المراد سائر التصرّفات ، لأنّه المقصود غالبا من التناول وباقي مقاصد الآية ظاهر.
تذنيب : أجمعت الإماميّة على أنّ آيات تحريم الربا مخصوصة ليست على عمومها لما ثبت عندهم عن أئمتهم عليهم السلام من إباحة الربا بين الوالد وولده ، والزّوج وزوجته والسيد وعبده ، والمسلم والحربي.
الخامسة ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) (2).
التطفيف البخس في الكيل والوزن ، لأنّ ما يبخس شي ء طفيف أي حقير و « على » هنا إمّا بمعنى « من » أي اكتالوا من الناس أو يتعلّق ب « يستوفون » قدّم للاختصاص أي يستوفون على الناس خاصّة وأمّا أنفسهم فيستوفون لها أو يكون التقدير : اكتالوا ما على الناس. كلّ ذلك محتمل.
( وَإِذا كالُوهُمْ ) أي كالوا للناس أو وزنوا لهم فحذف الجارّ كقوله :
ص: 40
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا *** ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
أي جنيت لك ، أو على حذف المضاف أي كالوا مكيلهم أو موزونهم ، وإنّما لم يقل « أو اتّزنوا » في الأوّل لأن الاكتيال أمكن لهم بالسرقة بالملأ من الاتّزان وهنا فوائد :
1 - روي أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا فنزلت فأحسنوا ، وعن ابن عبّاس أنّه صلى اللّه عليه وآله قدم المدينة وبها رجل يقال له أبو - جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت الآية في حاله (1).
2 - دلّت الآية على وجوب إيفاء الكيل والوزن ، وتحريم النقص منهما لأنّ « ويل » يستعمل للذمّ وقيل « ويل » واد في جهنّم.
3 - حيث إنّ إيفاء الكيل والوزن واجب ، ندب إلى إعطاء الراجح حذرا من النقص المحرّم ، ومن ذلك قال صلى اللّه عليه وآله : « يا وزّان زن وأرجح » (2).
4 - في معنى الآية آيات كثيرة كقوله ( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ) (3) وقوله ( وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ ) (4) وغير ذلك والجميع مشترك في تحريم نقص الكيل والوزن ووجوب إيفائه.
السادسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (5).
في الآية دلالتان إحداهما على أرجحيّة الإنفاق من كسب الحلال ، والنهي عن الإنفاق من كسب الحرام ، وثانيها على وجوب التفقّه قبل الاتّجار ليعلم الحلال
ص: 41
والحرام ، ويؤيده قوله صلى اللّه عليه وآله « من اتّجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا (1) » وقد تقدّم ، في هذه الآية فوائد :
السابعة : قيل ان قوله تعالى :
( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) (2).
يدل على أمرين أحدهما كراهية الربح على المؤمن إلّا مع الضرورة ، وأنّ ترك الربح من الإحسان ، فيكون من العرف ، وثانيهما كراهة معاملة الأدنين والسفلة الّذين لا يبالون ما قيل لهم وما قيل فيهم لأنّ الأمر بالاعراض عنهم يستلزم ترك معاملتهم بسائر أنواع المعاملة.
وفيهما نظر لأنّ العامّ لا دلالة له على الخاص بنفسه ، بل بدليل من خارج فيكون ذلك كافيا مع أنّ الاعراض عن الجاهلين يراد به التجاوز والعفو عن سيّئاتهم لا عدم معاملتهم ، ولذلك قيل : لمّا نزلت سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله جبرئيل عليه السلام عن معناها فقال لا أدري حتّى أسأل ربّك ، ثمّ رجع فقال : يا محمد إنّ ربّك أمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمّن ظلمك (3) » وقال الصادق عليه السلام : « أمر اللّه نبيّه فيها بمكارم الأخلاق ».
الثامنة ( إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها ) (4)
قيل إنّها تدل على كراهية الدخول في سوم المؤمن لأنّ الأكثر على أنّ داود عليه السلام خطب على خطبة أوريا فعوتب على ذلك ، والكلام فيها كما تقدّم في
ص: 42
الاولى ، لكنّ الدلالة هنا قريبة ، وإن كان الاعتماد على نصّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام أولى.
التاسعة : قال الراوندي ان قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (1).
تدل على النهي عن الاحتكار ، وفيه نظر لأنّ قولهم مسنا الضر أعمّ من الحاجة إلى القوت ، أو إلى ثمنه التامّ فلا دلالة حينئذ وكذا قال في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (2) أنها تدلّ على تحريم كتمان العيب ووجوب إعلام المشتري ، والكلام فيه أيضا كما تقدّم ولنذكر هنا حكمين :
1 - قيل : الاحتكار مكروه لقول الصادق عليه السلام « مكروه أن تحتكر الطعام وتذر الناس لا شي ء لهم (3) » وقيل حرام وهو الأصح لقوله صلى اللّه عليه وآله « الجالب مرحوم والمحتكر ملعون (4) » وإنّما يكون حراما بشرطين أحدهما حبس القوت الّذي هو الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح طلبا للزيادة في الثمن وثانيهما أن لا يوجد باذل سواه ، فيجبر حينئذ على البيع وهل يسعّر عليه؟ قيل نعم ، وإلّا لا نتفت فائدة الجبر ، وقيل لا ، وهو الأصح لقوله عليه السلام « النّاس مسلّطون على أموالهم » (5) وقوله أيضا « الأسعار إلى اللّه (6) » اللّهمّ إلّا أن يطلب شططا فيسعّر عليه.
2 - العيب إمّا أن يخفى على المشتري أو لا؟ والثاني يجوز البيع مع عدم ذكره للمشتري ، نعم يكره ذلك وكذا يكره البيع في موضع يستتر فيه ، والأوّل
ص: 43
يجب ذكره إلّا أن يبيع بالبراءة من العيب إجمالا أو تفصيلا ، وعلى الأوّل لو باع ولم يتبرّأ صحّ البيع ، ويكون المشتري بالخيار بين الردّ والأرش ، وفيه تمام بحث مذكور في كتب الفقه.
العاشرة ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (1).
الفقهاء يستدلّون بهذه الآية على مسائل :
1 - أنّ الكافر إذا أسلم عبده ، قهر على بيعه من مسلم ، فان امتنع باعه الحاكم وسلّم الثمن إليه.
2 - أنّه لا يصحّ بيع العبد المسلم على الكافر.
3 - لا يصح إيجار العبد المسلم من كافر ، وهل يصح إيجار الحرّ نفسه من كافر؟ إمّا للخدمة فلا يجوز ، وأمّا لا لها ، فامّا لعمل مطلق ، فيصحّ لأنّه كالدّين وإما أجيرا خاصّا فاحتمالان أحدهما المنع للآية ، والآخر الجواز لعدم استقرار السبيل وهو قوي
4 - رهن العبد المسلم عنده أمّا مع قبضه له فلا يجوز ، وأمّا مع عدم قبضه فالأصح جوازه.
5 - كون الكافر وكيلا على مسلم سواء كان الموكّل مسلما أو كافرا لا يجوز.
6 - كذا لا يصح كونه وصيّا على صبيّ مسلم.
7 - لا يصح إعارة العبد المسلم للكافر.
8 - إذا أسلمت أمّ ولده يجوز بيعها على أقوى الوجهين.
9 - لا تصحّ الوصيّة بالعبد المسلم للكافر وكذا لا يصحّ وقفه عليه ، ولا هبته له ، وبالجملة كلّما يستلزم إدخاله في ملكه أو السلطنة عليه فهو باطل للآية.
ص: 44
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلّا تَرْتابُوا إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ، وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).
« تَدايَنْتُمْ » أي تفاعلتم بالدّين إمّا بالسلم أو بالنسيئة أو الإجارة ، وفي الجملة كلّ معاملة أحد العوضين فيها مؤجّل ، وقال الزمخشريّ معناه إذا داين بعضكم
ص: 45
بعضا ، يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين ، وفيه نظر المفرق بين التفاعل والمفاعلة فإنّ الأوّل لازم والثاني متعدّ ، تقول تضارب زيد وعمرو ، وضارب زيد عمروا فلا يجوز تفسير أحدهما بالآخر.
إن قيل : قوله « بِدَيْنٍ » لم يكن محتاجا إليه لأنّ الدين معلوم من لفظ « تَدايَنْتُمْ » ولو لم يذكره لكان الضمير عائدا إلى مصدر « تَدايَنْتُمْ » أجاب الزمخشري بأنّه لو لم يذكره لوجب أن يقول « فاكتبوا الدين » ولا يجي ء بحسن ما ذكر من النظم وفيه نظر لأنّا نمنع وجوب ذكر الدين لما قلنا من عود الضمير إلى المصدر.
ويحتمل في الجواب أنّه لو لم يذكر الدّين وأعاد الضمير إلى المصدر ، لكان ينبغي أن يكتب المعاملة بالدين ، مع أنه لا حاجة إلى كتابتها ، بل يكتفي بكتابة الدين ، فلو باع نسيئة ليكتب المشتري للبائع الدين إلى أجل معلوم ، ولم يحتج إلى ذكر المبايعة وفيه أيضا نظر لأنّ كتبة المعاملة بالدّين أحرز وأضبط لدفع الدعوى بإنكار سبب الدين
وقيل : ذكره تأكيدا كقوله تعالى « ( طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) (1) » وقيل ليرفع احتمال [ كون ] التداين من المجازاة كقولهم « كما تدين تدان » فيزول الاشتراك وهو حسن.
إذا عرفت هذا ففي الآية أحد وعشرون حكما بل ربّما يذكر فيها فوائد تزيد على ذلك :
1 - إباحة الاستدانة لأنّها ممّا قد يضطرّ الإنسان إليه في معاشه ، فتكون سائغة ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله استدان ، وكذا عليّ عليه السلام وجماعة من الأئمّة عليهم السلام نعم هو من غير ضرورة مكروه لقوله صلى اللّه عليه وآله « إيّاكم والدين فإنّه مذلّة بالنهار ، ومهمّة باللّيل (2) » وقد يحرم إذا لم يكن له ما يقضيه به ، فإنّه خديعة ، قاله
ص: 46
التقيّ (1) ويقوى عندي ذلك إذا لم يكن الدائن مطلعا على حاله ، وإلّا فالكراهية شديدة ، وقبول الصدقة له أولى من الاستدانة ، ولو كان له وليّ يقضيه خفّت الكراهية وحكم ابن إدريس ببقاء الكراهية مع الوليّ لعدم وجوبه عليه ممنوع لأنّ عدم الوجوب لا يرفع الجواز.
2 - إباحة التأجيل بقوله « إِلى أَجَلٍ » لأنّ الدين حقّ يثبت في الذمّة ، فهو أعمّ من المؤجّل وغيره قال ابن عبّاس نزلت في السلم خاصّة ، وهو بيع مضمون إلى أجل معلوم ، والأكثر على أنّها أعمّ من ذلك.
3 - وجوب كون الأجل مضبوطا لقوله « مُسَمًّى » كاليوم والشهر والسّنة لا ما يحتمل الزيادة والنقيصة ، كإدراك الثمرة وقدوم الحاجّ.
4 - الأمر بكتابة الدين لئلّا يذهب مال المسلم بعوارض النّسيان ، والموت والجحود ، والأمر هنا عند مالك للوجوب والأصح أنّه إمّا للندب أو الإرشاد إلى المصلحة.
5 - وجوب كون الكاتب أمينا لقوله « بِالْعَدْلِ » وهو صفة « الكاتب » أي موصوف بالعدل كيلا يزيد وينقص أو يفعل خلاف ما تراضى به المتعاملان ، ويعلم منه اشتراط كونه فقيها عالما بدقائق تلك المعاملة ، ليكمل المقصود منها.
6 - « وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ » قيل النهي للتحريم ، فيكون الكتابة واجبة لكن على الكفاية ، قاله الشعبيّ وجماعة ، وقيل : فرض عين مع عدم غيره ممّن له علم بها ، أو مع ضرر صاحب الدين بترك الكتابة ، وقيل : كانت واجبة عينا فنسخ بقوله « وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ » والأجود أنّها مستحبّة على الأعيان العارفين بها ، لأنها من باب « ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) (2) » واجبة على الكفاية ليتمّ نظام النوع.
فرعان :
ألف : إذا وجد بيت المال اعطي الكاتب رزقه منه ، لأنّه من المصالح ، وإلّا
ص: 47
جاز له أخذ الأجرة من الآمر بالكتابة لأصالة عدم وجوب بذل المنفعة مجّانا.
ب : أخذ المداد من بيت المال ، وكذا الورق المكتوب فيه لأنّه من المصالح أيضا وإن لم يوجد فمع أخذ الكاتب الأجرة يجب عليه المداد ، ولا يجب عليه القرطاس بل هو على صاحب الدين لأنّه لمصلحته ، ولا يجب على المديون قطعا.
7 - « كَما عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ » قيل : هو متعلّق ب « يَأْبَ » أي لا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه اللّه ، فيكون « فَلْيَكْتُبْ » أمرا بعد النهي تأكيدا كقولك لعبدك لا تقعد هنا قم ، ويحتمل أن يكون متعلّقا بالأمر أي فليكتب كما علّمه اللّه وحينئذ يحتمل معنيين :
أحدهما كما علّمه اللّه تفضّلا منه فليتشبّه بأخلاق اللّه ، وليتفضّل بكتابة الدين كما تفضّل اللّه عليه كقوله تعالى ( وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ ) (1).
وثانيهما أمره بأن يكتب كما علّمه اللّه من الفقه في تلك المعاملة بحيث لا يكتب شيئا يخالف مقتضاها ممّا فيه ضرر أو بخس على المتعاملين ، فعلى الأوّل الأمر للندبيّة وعلى الثاني للوجوب وعلى الاحتمال الأوّل يكون النهي السابق مقيّدا وعلى الثاني يكون مطلقا.
8 - « وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ » الإملال والإملاء بمعنى واحد وقد ورد بهما القرآن كقوله ( فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ ) (2) وإنّما وجب كون المملل : الّذي عليه الحقّ ، لأنّه المشهود عليه ، ثمّ إنّ هذا المملي يجب عليه تقوى اللّه فيما يملله ، ولا يبخس من الحقّ الّذي عليه شيئا ، والبخس النقص ، وإنّما أمره ونهاه لجواز أن يكون صاحب الحقّ أمّيا مغفّلا لا خبرة له بالأمور ، فلو لم يستعمل المديون الورع في إملائه لزم إضرار الدائن وهو حرام.
9 - « فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ » السفيه المبذّر وهو الّذي يصرف أمواله في غير الأغراض
ص: 48
الصحيحة أو ينخدع في المعاملة « والضعيف » أي في العقل بأن كان صبيّا أو كبيرا لا عقل له ، والّذي لا يستطيع الإملاء فهو إمّا لبكم أو خرس فليملل أولياء هؤلاء وقيل الضمير في « وليّه » يرجع إلى الحقّ أي وليّ الحقّ أي صاحبه لأنّه أعلم بدينه ، والأوّل أولى ، لعود الضمير إلى الأقرب ، ولأنّه أنسب بالمقام.
وهنا فروع يتضمّن أحكاما مستخرجة من الآية :
ألف - شرعيّة الولاية على السفهاء والأصاغر ، وتدخل المجانين بطريق الأولى.
ب - عدم صحّة استقلالهم بعقود المعاملة إذ لا يصحّ إملالهم ، فلا يصحّ استقلالهم بالعقد بطريق الأولى.
ج - جواز استدانة الوليّ لمن له عليه ولاية ، مع الحاجة إلى ذلك.
د - صلاحية ذمّة الصبيّ والمجنون والسفيه لتعلّق الدّين بها ، لكن لا مطلقا بل مع مباشرة الوليّ سبب الدين ، فلا يرد أرش الجناية إذا لم يكن له مال.
ه- - أنّه يجب على الوليّ مراعاة المصلحة للمولّى عليه ، وعدم بخسة لقوله تعالى « بِالْعَدْلِ » أي في الإملاء ففي المعاملة بطريق الأولى.
و - الوليّ للصبيّ والمجنون أمّا الأب أو الجدّ له ، ومع عدمهما الوصي عن أحدهما ، ومع عدمه الحاكم ، وأمّا السفيه ، فان كان سفهه مستمرّا عقيب الصبا فوليّه الأب والجد كما تقدّم ، وإن كان طارئا فوليّه الحاكم.
ز - تجوز الترجمة عن الأخرس والأبكم والأعجمي لاشتراكهم في عدم [ إمكان ] استقلالهم باملال الحقّ.
ح - وجوب كون المترجم عدلا لاشتراط إملاله بالعدل المستلزم ذلك لعدالته.
ط - صحّة الشهادة على الأخرس (1) والأعجميّ مع الترجمة عنهما ، ويكون الشاهد أصلا لا فرعا لتعقيب الإملال بالاستشهاد.
ى - الوليّ في الآية يراد به القدر المشترك ، بين كلّ من قام مقام غيره في حق على ذلك الغير ، فيشمل الوكيل أيضا ، فيجوز الشهادة على الوكيل باستدانته
ص: 49
لموكّله ، فيجوز للشاهد أن يشهد على الموكّل مع ثبوت الوكالة حالة الشهادة ، وقد يمكن استخراج فروع أخر غير هذه ، وبذلك يظهر سرّ قوله صلى اللّه عليه وآله « أوتيت جوامع الكلم ».
10 - « وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ » السين للطلب أي اطلبوا شهيدين ، والفرق بين الشاهد والشهيد أنّ الأوّل بمعنى الحدوث والثاني بمعنى الثبوت ، فإنّه إذا تحمّل الشهادة فهو شاهد باعتبار حدوث تحمّله ، وإذا ثبت تحمّله لها زمانين أو أكثر فهو شهيد.
ثم يطلق الشاهد عليه بعد تحمّله مجازا تسمية الشي ء بما كان عليه ، كما يطلق الشهيد قبل تحمّله لها مجازا كما في الآية ، فإنّ الطلب إنّما يكون قبل حصول المطلوب ، وهذا حكم باشتراط الاثنينيّة في الشهادة بالدين فيدلّ على عدم قبول الواحد أمّا مع انضمام اليمين من المدّعي فيقبل عندنا ، وعند الشافعيّ (1)
ص: 50
لقضاء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وعليّ عليه السلام بذلك :
11 - « مِنْ رِجالِكُمْ » أي من المؤمنين ويفهم من ذلك حكمان :
1 - اشتراط البلوغ في الشاهد لقوله « مِنْ رِجالِكُمْ ».
2 - اشتراط الايمان فلا تقبل شهادة الصبيّ ويدخل المجنون بطريق الأولى لعدم تعقله ، ولا الكافر إلّا على تفصيل يأتي في الوصيّة ، وجوّز أبو حنيفة شهادة الكفّار بعضهم على بعض ، على اختلاف الملل.
12 - « فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ » فيه دلالة على جواز شهادة النساء منضمّات إلى الرجال ، لكن في الديون والمعاملات ، وكلّ ما يقصد فيه المال وفي قوله فيما بعد « أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما » إشارة إلى جواب سؤال مقدّر ، تقريره
ص: 51
لم جعل امرأتان مقام رجل؟ فأجاب [ بأن ] جعل ذلك مخافة أن تضلّ إحداهما أي تنسى فإنهنّ لضعف عقولهنّ وبرد مزاجهنّ أميل إلى النسيان ، بخلاف الرجال ، فإنّهم أبعد عن النسيان لزيادة عقولهم وحرارة مزاجهم وقرأ حمزة « إن تضلّ » على أنّها حرف الشرط وجوابه ، فتذكّر ، والباقون بفتح الهمزة بأنّها منصوبة المحلّ على أنّها مفعول له والعامل محذوف.
قال الزمخشريّ : ومن بدع التفاسير « فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا » أي فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا بمعنى أنّهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر والقائل به سفيان بن عيينة.
قيل : والضمير في إحداهما الاولى ، يرجع إلى الشهادة أي أن تضيع إحدى الشهادتين من قوله تعالى « ضَلُّوا عَنّا » أي ضاعوا فتذكّر إحدى المرأتين الأخرى فيكون الضمير في الثانية للمرأتين لئلّا يلزم التكرار من غير فائدة وفيه تعسّف.
ص: 52
13 - « مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ » أي من الرجال المرضيّين ، والنساء المرضيّات في الدين ، وفي ذلك إشارة إلى اشتراط العدالة ، فإنّ الفاسق غير مرضيّ ويدلّ على بطلان قول أبي حنيفة في قبول شهادة الكفّار ، ويلزم من اشتراط الرضا بهم أن يكون الشاهد ممّن يحسن الظنّ به في صدقه في شهادته ، فلا تقبل شهادة المتّهم ، فإنّه يدفع ضررا أو يجلب نفعا ولم يقل من المرضيّين من الشهداء إشارة إلى الاكتفاء بظاهر العدالة ، وعدم اشتراطها في نفس الأمر وإلّا لتعذّر الاستشهاد. فهنا إذن ثلاثة أحكام فشرائط الشهادة حينئذ خمسة : البلوغ ، والعقل ، والايمان والعدالة ، وارتفاع التهمة.
واختلف في شهادة العبد فمنعه الفقهاء الأربعة : ورووه عن عليّ عليه السلام وقبلها ابن سيرين وشريح وعثمان البستيّ وعن أهل البيت روايات أشهرها وأقواها القبول إلّا على سيّده خاصّة فتقبل لسيّده ولغيره وعلى غيره.
ص: 53
14 - « وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا » قيل : ذلك في التحمّل وقيل في الإقامة وقيل فيهما معا والأوّل أنسب لأنّ الكلام في التحمّل لا في الإقامة ، ولو حمل عليهما لزم استعمال المشترك في معنييه معا وهو ممنوع ، والنهي عن الإباء يستلزم الأمر بالتحمّل لكنّه فرض على الكفاية ، فان لم يوجد غير ذينك الشاهدين. صار فرض عين.
15 - « وَلا تَسْئَمُوا » أي لا تملّوا « أَنْ تَكْتُبُوهُ » الضمير للدين « صَغِيراً » أي
ص: 54
سواء كان الدين قليلا أو كثيرا وقيل المراد الكاتب فانّ البلوغ ليس بشرط في الكاتب وقيل الكتاب أي مختصرا كان أو مطوّلا وكل ذلك تعسّف والأوّل أولى ، وفي ذلك دلالة على استحباب كتابة الدين والاشهاد به.
ثمّ ذكر سبحانه لرجحانه ثلاثة أسباب الأوّل أنّه « أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ » أي أعدل الثاني أنّه « أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ » أي أعون لها لأنّ المكتوب أبعد زوالا من الحفظ الثالث أنه « أَدْنى أَلّا تَرْتابُوا » أي أقرب في انتفاء الريب أي الشكّ لأنّ عدم الكتابة سبب لريب أحد الغريمين في أنّه صادق أو كاذب.
16 - « إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً » هذا استثناء من الأمر بالكتابة أي إن كانت المعاملة بينكم في تجارة حاضرة يدا بيد من غير غيبة لأحد العوضين ، فليس عليكم جناح أن لا تكتبوا تلك المعاملة ، فإنّه لا يتوقّع فيها شكّ استقبالي.
17 - « وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ » أي إذا لم يكن المبايعة بالدّين وإلّا لزم التكرار وإنّما أمر بالإشهاد عند المبايعة إرشادا إلى رعاية مصلحتها لأنّه لولاه لجاز أن يندم أحد المتبايعين على البيع أو يقع نزاع في كميّة أحد العوضين ، أو شرط أو خيار أو غير ذلك فالأمر هنا للإرشاد ، وقال داود : إنّه للوجوب ، وليس بشي ء لما قلناه من ترتّب المصلحة الدنيويّة.
18 - « وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ » فيه قراءتان (1) : إحداهما « لا يضارر » بالإظهار والكسر والبناء للفاعل قرأ به أبو عمرو ، فعلى هذا يكون المعنى لا يجوز
ص: 55
وقوع المضارّة من الكاتب بأن يمتنع من الإجابة أو يحرّف بالزيادة والنقصان ، وكذا الشهيد لا يمتنع إذا دعي للتحمّل أو الإقامة ، ولا يكتم شيئا ممّا شهد به ، أو يزيد أو ينقص بما فيه ضرر على المشهود عليه.
وثانيهما قراءة الباقين « لا يضارّ » بالإدغام والفتح ، والبناء للمفعول ، فعلى هذا يكون المعنى لا يفعل بالكاتب ولا الشهيد ضرر بأن يكلّفا قطع مسافة مشقّة من غير تكلّف مؤنتهما أو لا يعطى الكاتب أجرته وافية أو غير ذلك من أسباب المضارّة.
19 - « وَإِنْ تَفْعَلُوا » أي تلك المضارّة على أحد التقديرين « فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ » أي خروج عن أوامر اللّه سبحانه.
20 - « وَاتَّقُوا اللّهَ » أي اعتمدوا التقوى في كلّ ما أمركم اللّه به في أمور دينكم ودنياكم.
21 - « وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ » أي هذه الأحكام المذكورة كلها من تعليم اللّه لكم ما فيه مصالحكم فلا ترتابوا في شي ء من ذلك لأنّه بكلّ شي ء عليم وفي ذلك دلالة على أنّ الأحكام كلّها بتعليم اللّه سبحانه لا بالقياس والاستحسان.
وذكر علي بن إبراهيم في تفسيره أنّ في البقرة خمس مائة حكم وفي هذه الآية خاصّة خمسة عشر حكما وأنت فقد ظهر لك أكثر من ذلك.
الثانية ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1).
كان هنا تامّة لا تفتقر إلى خبر كقول الربيع ابن ضبع الفزاريّ (2)
إذا كان الشتاء فأدفئوني *** فانّ الشيخ يهدمه الشتاء
أي إن وجد ذو عسرة والفاء جواب الشرط ، والنظرة بمعنى الانظار وهو
ص: 56
التأخير ، والمراد بالمعسر عندنا من يعجز عن أداء ما عليه من الدّين ، ولا يحسب عليه قوت يومه ودست ثوبه ودار سكناه وخادمه المعتاد ، فانّ ذلك لا يجب صرفه في الدّين ، فإذا تحقّق العجز عمّا عدا ذلك وجب الانظار. وحرم المطالبة والحبس ومع القدرة تحلّ المطالبة ويجوز الحبس قال صلى اللّه عليه وآله « لي الواجد يحلّ عقوبته وعرضه (1) » واللّي المطل ، والعقوبة الحبس ، والعرض المطالبة.
قوله « وَأَنْ تَصَدَّقُوا » أي تسقطوا عن المعسرالدّين « فهو خَيْرٌ لَكُمْ » وفيه فوائد :
1 - أنّ الإبراء صدقة فيستلزم قصد القربة.
2 - أنّ الإبراء لا رجوع فيه كالصدقة.
3 - عدم اشتراط القبول فيه فيقع وإن لم يقبل المديون فلا يشترط حضوره ولا مشافهته.
4 - فهم بعضهم من هذا أنّ المندوب أفضل من الواجب لأنّ الانظار واجب والإبراء ندب ، وقد جعله خيرا فيكون أفضل ، وهو غلط فإنّ الإبراء جامع للنظرة والصدقة ، فالخيريّة باعتبارهما معا.
قوله « إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » أي إن علمتم حقيقة الصدقة ، علمتم خيريّتها فانّ
ص: 57
العلم التصديقي مسبوق بالعلم التصوّريّ وموقوف عليه لأنّ المراد إن كنتم تعلمون أنّه خير لكم ، كما قاله الزمخشريّ.
الثالثة ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) (1).
وفي معناها ثلاث آيات أخرى :
ألف - ( إِنْ تُقْرِضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ ) (2).
ب - ( وَأَقْرِضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) (3).
ج - ( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللّهَ قَرْضاً حَسَناً ) (4).
هذه أربع آيات استدلّ المعاصر بها على أرجحيّة القرض للمؤمن ، وأنّ فيه أجرا عظيما وأنّ اللّه هو المكافى ء عليه إذ الحقيقة ممنوعة لاستحالة الحاجة عليه تعالى ، فيحمل على إقراض عبيده.
وعندي في ذلك نظر فإنّ إطلاق القرض الّذي هو إعطاء شي ء ليستعيد عوضه وقتا آخر استعارة للأعمال الصالحة فإنّ الأعمال الصالحة يفعلها العبد ويحصل له العوض في الدار الآخرة وحينئذ لا دلالة في الآية على مشروعيّة القرض ، وقوله « إنّ الحقيقة ليست مرادة » مسلّم ، لكن حمله على إقراض المؤمنين من غير دلالة حمل من غير دليل ، ولا ضرورة إليه مع إمكان المجاز الّذي ذكرناه.
فان قال : حيث صدق لفظ القرض ومعناه بين اللّه وبين عبادة ، دلّ ذلك على مشروعيّته. قلنا فحينئذ كان ينبغي له أن يتعرّض لذلك في دليله ولم يفعل.
ص: 58
هذا مع أنّه لا وجه للملازمة خصوصا مع الفرق بين القرضين ، فانّ قرض العبد للربّ ليستعيض أضعافه ، والقرض بين العبيد يحرم فيه الزيادة على المثل.
ولو استدلّ عليه بغير ذلك من العمومات القرآنيّة كقوله ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) (1) وقوله ( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (2) وقوله ( إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ) (3) » وعن الصادق عليه السلام أنّ المعروف القرض (4) لكان أولى واللّه أعلم.
وهو لغة الثبات والدوام ومنه نعمة راهنة واللّغة الغالبة الكثيرة « رهن » وأما « أرهن » فلغة قليلة ، وشرعا وثيقة للمدين يستوفي منه دينه وفيه آية واحدة وهي :
( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ، فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) (5).
في الآية فوائد :
1 - الارتهان جائز مطلقا وتقييده في الآية بالسّفر وعدم وجدان الكاتب خرج مخرج الأغلب ، فإنّ السفر مظنّة إعواز الكاتب ، ولأنّ التقييد بالسّفر لا
ص: 59
يدل على شرعيّته في الحضر ولا عدم شرعيّته إلّا بدليل خارجيّ ، وقد وجد وهو فعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه رهن درعه وهو حاضر عند يهوديّ (1) والإجماع فإنّه لا خلاف في جوازه مطلقا.
وقال مجاهد والضحّاك بعدم جوازه إلّا في السفر وقد أبطل قولهما الإجماع.
2 - الجمهور على أنّه يشترط القبض في الرهن إلّا مالكا فإنّه اكتفى بالإيجاب والقبول ، وبالأوّل قال أكثر أصحابنا مستدلّين بالآية ، وبقول الباقر عليه السلام فيما رواه محمّد بن قيس « لا رهن إلّا مقبوضا » (2).
وقال المحقّقون منهم بالثاني لأصالة عدم الاشتراط ولعموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » والآية إنّما تدل بدليل الخطاب ، وهو باطل ، ولأنّها لو دلّت على شرطيّة القبض لزم التكرار ، ولا فائدة فيه ، وبيان الملازمة أنّه سمّاها رهنا قبل ذكر القبض فلو كان شرطا لما حسنت التسمية بدونه ، كما لا يقال : رهن مقبولة ، والمجاز وإن أمكن لكنّه خلاف الأصل ، والرواية ضعيفة ، لأنّ في طريقها محمّد بن قيس وهو مشترك بين الضعيف وغيره وفي الكلّ نظر وقد بيّنّاه في التنقيح.
3 - أكثر من يشترط القبض لا يشترط دوامه ، بل يكفي مسمّاه ، ولو أعاده جاز وحصل الرهن ، وقال أبو حنيفة : استدامته شرط.
4 - يجوز أخذ الرهن على كلّ حقّ ثابت في الذمّة سلما كان أو غيره وهو إجماع ولأنّ آية الدين عامّة.
5 - الرهن أمانة لا تضمن (3) إلّا مع تعد أو تفريط ، وقال أبو حنيفة : إنّه
ص: 60
مضمون بأقلّ الأمرين من قيمته وقدر الدين ، لنا أصالة البراءة من الضمان ، ولرواية سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال « لا يغلق الرهن الرهن من صاحبه الّذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه (1) » يعني بقوله « من صاحبه »
ص: 61
أي من ضمانه ومعنى لا يغلق أي لا يملكه المرتهن وإن شرط له ذلك عند الحلول.
6 - نبه في الآية بأخذ الرهن على الدين على حفظ المال وعدم التهوين به لما في ذلك من الدخول في حيّز التبذير وإهمال المصلحة المنافي ذلك لأفعال العقلاء.
ص: 62
ويؤيّده قوله صلى اللّه عليه وآله « إنّ اللّه يكره القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال (1) ».
وقوله « فرهن » أو « فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ » على القراءتين تقديره فالّذي يستوثق به رهن أو ينبغي أخذ رهن ، ووصفها بالقبض إذ لولاه لم يحصل كمال التوثّق لجواز إنكار الراهن أو النسيان أو الزيادة أو النقصان.
وفيه أيضا إشارة إلى كون الرهن عينا يمكن قبضها فلا يصح رهن الدين لعدم إمكان قبضه حالته (2) ويصحّ بيعها وإلّا لم يحصل الاستيثاق لو تعذّر الأداء.
7 - قوله « فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً » أي فان أمن بعض الدائنين بعض المدينين وحسن ظنّه به ، ولم يأخذ منه رهنا فليؤدّ ذلك [ المؤتمن ] المرتهن أمانته وسمّى الدين أمانة باعتبار عدم أخذ الرهن عليه ، وائتمان المديون عليه ، كذا قيل.
ولو قيل بأنّ المراد فإن أمن بعض الراهنين بعض المرتهنين ولم يأخذ منه الرهن بيده بل جعله في قبضه فليؤدّ ذلك أمانته لكان حسنا. وبالجملة في الكلام دلالة على وجوب أداء الأمانة والتزام التقوى في أدائها بعدم الخيانة وعدم التعدّي والتفريط.
8 - يحرم كتمان الشهادة ويجب أداؤها وهذا العموم مخصوص بما لم يشتمل
ص: 63
على ضرر غير مستحقّ يصل إلى الشاهد أمّا مع حصوله فلا يجب الأداء حينئذ ثمّ إنّه تعالى لم يقتصر على النهي عن كتمانها المستلزم للإثم بل أكّد ذلك مبالغة بالنصّ على الوصف بالإثم بقوله « فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » وفائدة ذكر « قلبه » أنّ كتمان الشهادة من أفعال النفس الأمّارة الّتي هي النفس الحيوانيّة والقلب محلّها فإسناد الإثم إلى القلب من باب إسناد فعل الشي ء إلى محلّه كقولهم جرى الميزاب أي ماء الميزاب وقال الزمخشريّ : إنّه من باب إسناد الفعل إلى الجارحة الّتي يعمل بها كقولهم هذا ممّا أبصرته عيني وفعلته يدي. وفيه نظر لانّه لو كان كذلك قال آثم لسانه لأنّ إقامة الشهادة آلتها اللّسان وكذا كتمانها.
وفي النظر نظر لأنّه حينئذ لا يكون في الكلام مبالغة ، والأحسن أن يقال إنّما ذكر القلب لئلّا يظنّ أنّ كتمان الشهادة من الآثام المتعلّقة باللّسان فقطّ بل القلب أصل متعلّقه ومعدن اقترافه واللّسان ترجمان عنه وهنا مسائل :
1 - حيث تقدّم جواز ثبوت الدين على الصبيّ والسفيه وأمثالهما جاز أخذ الرهن من أموالهم وجاز للوليّ فعل ذلك للمصلحة لأنّه من توابع الدّين.
2 - عقد الرهن لازم من طرف الراهن ، وإلّا لانتفت فائدته ، وجائز من طرف المرتهن لأنّه لمصلحته.
3 - لا يصحّ الارتهان على ما ليس ثابتا في الذمّة كالأمانات وكذا لا يصحّ على الإجارة المتعلّقة بالعين ويصح على العمل المطلق ، وهل يصحّ على الأعيان المضمونة الأقوى ذلك.
4 - لا يشترط ملكيّة الراهن للرهن ، بل جواز تصرّفه فيه فيجوز الاستعارة للرهن ، ويدخل في ضمان الراهن بقبضه من المعير ، وإن لم يقع العقد بعد على الأصحّ ، ولا يضمنه المرتهن وإن قبضه.
5 - المرتهن إن كان وكيلا للمالك باع مع حلول دينه واستوفى ، وكذا لو كان وصيّة وإن لم يكن أحدهما فله إلزام المالك أو وارثه بالبيع أو أداء الحقّ بل وله ذلك أيضا وإن كان وكيلا أو وصيّا ومع تعذر الكلّ يستأذن الحاكم في البيع.
ص: 64
وفيه آيتان :
الاولى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (1).
الثانية ( سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ) (2).
الزعامة والكفالة والضمان مترادفة وهنا فوائد :
1 - الضمان عندنا بنقل المال من ذمّة إلى ذمّة ، وقيل ضم ذمّة إلى ذمّة ، وهو قول الفقهاء الأربعة ، فعلى هذا يكون المضمون له مخيّرا في مطالبة أيّهما شاء ، والحقّ الأوّل لما ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه حضرته جنازة فقال « على صاحبكم دين؟قالوا نعم درهمان ، فقال صلّوا على صاحبكم فقال عليّ عليه السلام هما عليّ يا رسول اللّه وأنا لهما ضامن فصلّى عليه النبيّ صلى اللّه عليه وآله ثمّ أقبل على عليّ عليه السلام فقال جزاك اللّه عن الإسلام خيرا ، وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك (3) » وهذا الحكم كان في صدر الإسلام أنّه لم يصلّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله على من لم يخلف وفاء دينه ثمّ نسخ بقوله تعالى « النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (4) » دلّت هذه الرواية على أنّ الميّت قد انتقل الحقّ من ذمّته.
ص: 65
2 - مورد الضمان هو كل ما صحّ أخذ الرهن عليه فلا يصحّ ضمان الأمانات ولا العمل المتعلّق بالعين.
3 - لا يشترط العلم بقدر المضمون حالة الضمان فاللازم حينئذ ما تقوم به البيّنة بتاريخ سابق عليه ، لا [ على ] ما تأخّر تاريخه أو يقرّ به الغريم وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال الشافعيّ وأحمد لا يصح ضمان المجهول ، وبه قال بعض الأصحاب لئلّا يلزم الغرر ، والحق الأوّل لعموم قوله صلى اللّه عليه وآله « الزعيم غارم (1) » والغرر يندفع بما تقوم به البيّنة.
4 - الضمان عقد يشترط فيه رضى الضامن قطعا ولا يشترط رضى المضمون عنه وأمّا المضمون له فالأصحّ اشتراط رضاه وللشافعيّ [ فيه ] قولان لنا أنه إثبات حقّ له في ذمّة غير من هو عليه ، فلا بدّ من رضاه وقال الشيخ : لا يشترط محتجا بقضيّة علي عليه السلام ويمكن أن يجاب بإمكان أنّه كان حاضرا فرضي أو اختصاص ذلك بالميّت أو رضى الرسول صلى اللّه عليه وآله قام مقامه لأنّه وليّ المؤمنين.
5 - حيث لا اعتبار برضى المضمون عنه فلو أدّى الضامن وكان ضمانه بغير إذنه فلا رجوع له به ، ولو كان الأداء بإذن المضمون عنه ، ولو أذن في الضمان رجع الضامن بما أدّاه ولو كان الأداء بغير إذنه [ ولو كان بسؤاله رجع عليه بالأقلّ ممّا أدّى وممّا ضمن به ] (2).
6 - في صدر الآية الأولى حكمان :
1 - مشروعيّة الجعالة وهي تقع على كلّ عمل محلّل مقصود وإن كان مجهولا.
2 - شرعيّة ضمان مالها لأنّه وإن لم يكن لازما لكنّه آئل إليه واستدلّ بعضهم بجواز ضمان مالها على لزومها إذ غير اللّازم لا يصحّ ضمان ماله وفيه نظر إذ جواز الضمان مشروط بتمام العمل وحينئذ يصير لازما فصحّ ضمانه لذلك.
ص: 66
( الصلح )
وفيه آيات ستّ :
الاولى ( فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) (1).
الثانية ( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ ) (2).
الثالثة ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (3).
الرابعة ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما ) (4).
الخامسة ( فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) (5).
السادسة ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (6).
إذا عرفت هذا ففي هذه الآيات فوائد :
1 - مشروعيّة الصلح ويؤكّده قوله صلى اللّه عليه وآله « الصلح جائز بين المسلمين إلّا ما
ص: 67
حرّم حلالا أو حلّل حراما (1).
2 - في الآيات دلالة على أنّه شرّع لقطع التنازع. فهو المقصود [ منه ] بالذات وإن أفاد أمرا زائدا على ذلك فبحسب ما ينضم إليه من القرائن.
3 - أنّه يصحّ مع الإقرار والإنكار ، وعلى المعلوم والمجهول ، وعلى الدين والعين ، والمنفعة ، وعلى إطفاء النائرة ، وحقن الدماء ، وإصلاح ذات البين ، وإصلاح حال الزّوجين ، فموضوعه أعمّ من موضوع باقي العقود ، فلذلك اشتهر بين الأنام أنّه سيّد الأحكام.
4 - حيث ظهر لك أنّه أعمّ موضوعا فاعلم أنه عقد قائم بنفسه ليس فرعا على غيره وإن أفاد فائدته.
5 - يشترط فيه مراعاة الأمور الشرعيّة المعتبرة في العقود وسيأتي تفصيل شي ء من مجملات كلّيّاتها.
6 - في الصلح نفع عظيم إذ مع قطع النزاع يحصل تمام نظام النوع ، وفوائد المعاش ، فلذلك وصفه سبحانه بأنه « خير » أي خير عظيم والسعي فيه لإصلاح ذات البين فيه أجر جزيل قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام (2) » وقال الباقر عليه السلام « إنّ الشيطان يغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهما عن ذنبه فإذا فعلا ذلك استلقى على قفاه ومدّ يده وقال فزت. فرحم اللّه امرءا ألّف بين وليين لنا ، يا معشر المؤمنين تآلفوا وتعاطفوا (3) ».
ص: 68
وهي لغة مشتقّة من وكل إليه الأمر أي فوّضه إليه ، وشرعا استنابة في التصرّف ، واستدلّ الراونديّ والمعاصر على مشروعيّتها بثلاث آيات :
الأولى ( إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (1).
قال : وهو شامل للوليّ ، والوصيّ في موضع ، والوكيل.
الثانية ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) (2).
أي أعطوه دراهمكم وأقيموه مقام أنفسكم في الابتياع.
الثالثة ( فَلَمّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا ) (3).
والعرب تسمّي الوكيل والخادم فتى ، والمراد في الآية هو يوشع عليه السلام وليس خادما فتعيّن كونه وكيلا فدلّ [ ت الآيات ] على مشروعيّة الوكالة وعندي في الاستدلال بهذه الآيات نظر.
أمّا الاولى فلأنّ المراد بالّذي بيده عقدة النكاح الوليّ الإجباريّ أو الزّوج وسيأتي تحقيقه.
وأمّا الثانية فإنّها حكاية حال غير مشرّع ولا معصوم فلا يكون حجّة.
وأمّا الثالثة فلأنّ المراد بالفتى العبد والخادم ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله : « ليقل
ص: 69
أحدكم فتاي وفتأتي ولا يقل عبدي ولا أمتي (1) » وبالجملة ليس في الآيات المذكورة نصوصيّة على مشروعيّة الوكالة في هذه الشريعة فلا يكون حجّة اللّهمّ إلّا الآية الثانية فإنّها حكاية فعل قوم صالحين في سياق مدحهم ، فلو لم يكن سائغا لما حسن ذكره ، وفي آية بعث الحكمين (2) إشارة إلى مشروعيّتها ، ولذلك قيل : إنّ البعث توكيل.
واعلم أنّ متعلّق الوكالة هو كلّ ما لم يتعلّق غرض الشارع بإيقاعه من مباشر بعينه وهو سائر العقود والفسوخ والإيقاعات ، إلّا الظهار والإيلاء واللّعان والنذر والعهد واليمين ولا تصح فيما تعلّق حكم الشارع بوقوعه من مباشر بعينه ، كالقسم بين الزوجات ومباشرة المعاصي وأمّا العبادات فقد تقدّم لنا فيها تفصيل واف وفي صحّة التوكيل بإثبات اليد على المباحات خلاف أقربه الجواز وللوكالة أحكام تفاصيلها معلومة في كتب الفقه.
ص: 70
وفيه مقدّمة وأبحاث :
أمّا المقدّمة ففيها آية واحدة تشتمل على أحكام كلّية وهي :
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1).
قيل : كلّ آية صدّرت ب « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » فهي مدنيّة وب « يا أَيُّهَا النّاسُ » فهي مكية والأصحّ أنّ هذا على الأغلب يقال : وفي بعهده وأوفى بمعنى واحد والمراد بالعقود كلّ ما يعقده الناس في معاملاتهم ، وقيل المراد بالعقود العهود الّتي عقدها اللّه على عباده والأولى حمله على الجميع لعموم اللفظ وعدم ثبوت المخصّص فهنا فوائد :
1 - الوفاء بالعقد : القيام بمقتضاه ، فان كان لازما وجب الوفاء بلزومه ، وإن كان جائزا وجب الوفاء بجوازه ، وحينئذ يكون في العقد إجمال يعلم حاله من البيان النبويّ أو الإماميّ.
2 - العقد شرعا اسم للإيجاب والقبول :
وهو قد يكون لازما من طرفيه كالإجارة ، والمزارعة ، والمساقاة ، والصلح والوقف ، والنكاح ، والهبة في بعض صورها ، والكتابة بنوعيها ، على الأقوى وعقد السبق على قول ، والضمان.
وقد يكون جائزا من طرفيه كالوديعة ، والعارية ، والقراض ، والشركة والوكالة ، والوصيّة ، والقرض ، والجعالة ، والهبة ، في بعض صورها.
وقد يكون لازما من طرف وجائزا من آخر كالرهن وكفالة البدن (2) وعقد الذمّة ، والأمان ، وقيل : والهبة من ذي الرحمن أو مع القربة أو مع التعويض أو التصرّف
ص: 71
والأولى اللّزوم من الطرفين إذ لا يجب على الواهب القبول بفسخ المتّهب ولأنّه ملك جديد.
وقد يكون جائزا في مبدئه ثمّ يؤول إلى اللزوم كالهبة بعد القبض ، وقبل أحد الثلاثة السابقة ، والوصيّة قبل الموت والقبول وتلزم بعدهما.
وقد يكون لازما في مبدئه ثمّ يصير جائزا كالبيع إذا طرء عليه فسخ بخيار أو فوات شرط معيّن أو وصف كذلك أو انفساخ كلف مبيع قبل قبضه أو ثمن كذلك أو غير ذلك.
3 - كلّ عقد لازم يجب فيه أمور الأوّل : أن يكون إيجابه وقبوله لفظيين الثاني : أن يوقعا بالعربيّة اختيارا. الثالث : أن يوقعا بصيغة الماضي ، الرابع : فوريّة القبول ومطابقته بما يعدّ كذلك عرفا وكذا يجب في الرهن على الأولى الخامس تنجيزه فلا يصحّ معلّقا ولا يجب في الجائز شي ء من ذلك بل اللّفظ الدال على المقصود منها مع القرينة.
4 - يجب في كلّ عقد صدوره عن مالك أو [ من في ] حكمه كالأب أو الجدّ له أو الوكيل أو الوصيّ أو الحاكم أو الأمين أو القاضي أو ناظر الوقف أو الملتقط إذا خاف هلاك اللّفظة وتعذّر الحاكم وكذا الودعيّ في الوديعة أو بعض المؤمنين في مال الطفل عند تعذّر الوليّ.
5 - يجب في كلّ عقد اشتماله على مقتضاه فلو شرط فيه غير مقتضاه كان باطلا فيما يكون ركنا فيه وما لم يكن ركنا فيه ويشتمل على غرر أو محرّم فكذلك وإلّا فجائز.
وحكم العقد الصحيح ترتّب أثره وتوابعه ، وحكم غير الصحيح عدم ترتّب أثره وتوابعه ، والشرط اللّازم الوفاء هو ما يقع بين الإيجاب والقبول فلو تقدّم على العقد أو تأخّر فلا أثر له.
7 - حيث أخذنا العقود بالمعنى الأعمّ ، تصلح الآية للاستدلال بها على
ص: 72
وجوب إيفاء النذر والعهد واليمين ، بما عقده مع ربّه أو مع غيره ، ممّا لم يخالف المشروع كالمزارعة والمساقاة والسكنى والإجارة وغير ذلك من الأحكام والإيقاعات فلنذكر ما ورد من الآيات في مشروعيّة شي ء منها نصا أو ظاهرا وذلك أنواع :
وفيها آيتان :
قوله تعالى ( يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ) (1).
وقوله تعالى ( عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) (2).
دلّتا على مشروعيّة الإجارة. وإن كانت في شرع غيرنا لأصالة عدم النسخ مع اشتمال عقدها على كونه من متممات (3) نظام النوع ، لأنه ممّا يضطرّ إليه لما تقرّر في العلوم الحقيقيّة أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش وحده ، فيفتقر إلى التعاضد وذلك غير واجب على الغير القيام به ، فيجوز أخذ العوض عليه ، فتشرّع المعاوضة على المنفعة وذلك هو المطلوب ، وفي الآية الثانية إشارة إلى وجوب ضبط العمل بالمدّة إن قدّر بها وإلّا فبغيرها من الضوابط.
وذكر المعاصر وغيره ثلاث آيات :
الاولى ( فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ) (4).
ص: 73
دلّت على اشتراك الغانمين في الغنيمة لجمعهم في الخطاب.
الثانية قوله في المواريث ( فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ ) (1).
وكذا باقيها لاقتضائها الشركة التزاما.
الثالثة ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) . الآية (2).
على قول من يقول بوجوب البسط على الأصناف والأصحّ أنّها لبيان المصرف فلا تدلّ على الشركة وهذه الآيات تدلّ على حصول معنى الشركة ، فيجوز تعاطيها بإيجاد أسبابها ، وهي يتحقّق بأمور :
1 - مزج المتساويين بحيث لا تمايز لأحدهما عن الآخر.
2 - تملّك الشخصين سلعة واحدة بالبيع أو بما يشبهه من العقود.
3 - حيازتهما معا سلعة واحدة دفعة وفي معناها قبضهما سلعة واحدة من دينهما ولا حكم للشركة بغير ذلك من الوجوه والمفاوضة والأبدان.
الثالثة ( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ ) (1).
قال المعاصر : يمكن أن يستدلّ بها على جواز المضاربة لأنّها دلّت على رجحان التكسّب ولم يفرّق بين كونه بمال المكتسب أو بمال غيره وعندي في الاستدلال بها نظر يعلم ممّا تقدّم في باب القرض ، ولأنّ الضرب في الأرض هو التصرّف فيها وهو أعم من المتنازع والعام لا دلالة له على الخاصّ وأيضا المضاربة يكون حضرا وسفرا فالاستدلال بهذه يخصّص موضوعها.
وهو أن يدفع الإنسان إلى غيره مالا ليبتاع له به متاعا ولا حصّة له في ربحه وفي مشروعيّتها ثلاث آيات :
الاولى ( وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ ) (2).
الثانية ( وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ) (3).
الثالثة ( وَلَمّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ) (4).
والبضاعة في هذه الآيات هي ثمن طعام اشتروه من يوسف ، وفي العرف لا يطلق إلّا على ما وقع فيه التجارة ، وفي اصطلاح الفقهاء يقال على ما ذكرناه.
ثمّ اعلم أنّ عامل البضاعة حيث لا حصّة له في الربح فان تبرّع بالعمل فلا اجرة له أيضا وإلّا كان له اجرة مثل عمله في تلك البضاعة.
ص: 75
وفيه آيات :
الاولى ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (1).
الثانية ( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ ) (2).
الثالثة ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ) (3).
وهنا فوائد :
1 - الأمانة مشتقّة من الأمن الحاصل من حسن الظنّ بالمستأمن ، فيجب عليه أن يكون كذلك ، فيحرم عليه الخيانة ، والتعدّي والتفريط بإهمال أسباب حفظها من المؤذيات ، ويختلف ذلك بحسب اختلاف الأمانة في كيفية حفظها عرفا.
2 - الأمانة نسبة إلى يد غير المالك تقتضي عدم الضمان ، وهي قد تكون من المالك كالوديعة والعارية والرهن والإجارة وغيرها ، وقد تكون من الشرع ، وهي المسمّاة بالأمانة الشرعيّة فالآية الأولى شاملة للقسمين والأخيرتان تختصّان بالقسم الأوّل.
3 - يجب في الأمانة الشرعيّة المبادرة إلى إعلام المالك مع المكنة فإن تمكّن وأهمل ضمن ، وإلّا فالظاهر عدم الضمان ولها صور :
ص: 76
الاولى : إطارة الريح الثوب إلى داره ، فيجب الإعلام أو أخذه وردّه إلى مالكه.
الثانية : انتزاع الصيد من المحرم أو من محلّ أخذه من المحرم.
الثالثة : انتزاع المغصوب من الغاصب بطريق الحسبة.
الرابعة : أخذ الوديعة من صبي أو مجنون خوف إتلافها.
الخامسة : تخليص الصيد من جارح ليداويه أو من شبكة في الحرم.
السادسة : لو تلاعب الصبيان بالجوز أو البيض وصار في يد أحدهما جوز الآخر أو بيضه وعلم به الوليّ فإنّه يجب ردّه على وليّ الآخر ، ولو تلف في يد الصبيّ قبل علم الوليّ ضمنه في ماله ، ولا عبرة بعلم غير الوليّ كأمّ أو أخ لأنّه ليس قيّما عليه ، فلو أخذه أحدهما بنية الرد على المالك أمكن إلحاقه بالأمانة ، ولو كان أحد المتلاعبين بالغا ضمن ما أخذه من الصبيّ ، وهل يضمن الصبيّ ، المأخوذ من البالغ؟ فيه نظر أقر به عدم الضمان لتسليطه إيّاه على إتلافه.
السابعة : لو ظفر المقاصّ بغير جنس حقّه ، فهل هو أمانة شرعيّة حتّى يباع؟ الأقوى [ عدم ] (1) الضمان عند بعض الأصحاب ، وهو جيّد ، لكن في قدر حقّه أمّا الزائد على قدر حقّه إذا لم يمكن التوصّل إلى حقّه إلّا به ، فالأجود عدم الضمان كمن كان له مائة فلم يجد إلّا دابّة تساوي مائتين.
الثامنة : لو مات المودع ولم يعلم الوارث بالأمان ، وكذا لو أودع الوكيل مالا ليوصل إلى المالك. فوصل الودعيّ إلى بلده ولم يعلم المالك بها ، وكذا الولي لو بلغ الطفل ورشد ولم يعلم بماله. وأمثال ذلك كثيرة ، أمّا الكتب المرسلة فيقوى فيها ذلك ، ويحتمل العدم لأنّها ملك المرسل. والأمر بإيصالها لا يقتضي الفوريّة شرعا ويضعّف بأنّ العرف يقتضيه ، والشرع وإن لم يقتضيه ، فلم يقتض عدمه ومن هنا هل يجب رد الرقاع على ورثة المرسل؟ يحتمل ذلك لملكه لها فتنتقل إلى ورثته ، ويحتمل العدم للعادة ، هذا مع بقاء عينها وإلّا فلا ضمان قطعا.
4 - تشترك الأمانتان في عدم الضمان بغير التعدّي والتفريط ، وفي وجوب
ص: 77
الردّ مضيّقا إلى المالك أو وكيله أو وليه مع الطلب ، وتفترقان في وجوب الاعلام فورا في الشرعيّة وعدم قبول قوله في ردّها بخلاف غير الشرعيّة في الحكمين.
قوله في الثانية « فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ » الأمر هنا للوجوب بشرط الطلب من المالك أو من بحكمه وفي الآيتين حثّ على وجوب ردّ الأمانة ، وتهديد صريح ، ووعظ على عدم ذلك لقوله في آخر الآية الاولى ( إِنَّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) والوعظ هو التحذير من عقاب اللّه ، والترغيب في ثوابه ، وقوله في الثانية « وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ».
5 - الممدوح بأداء الأمانة في الآية الثالثة هم النصارى ، والمذموم هم اليهود لأنّ النصارى لا يستحلّون أموال من يخالفهم في الاعتقاد بخلاف اليهود فإنّهم يستحلّون أموال من يخالفهم بدليل قوله تعالى حكاية عنهم « لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) (1) والمراد بالاميّين من ليس على دينهم فكذّبهم اللّه في مقالتهم هذه بقوله « وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ » بأنّه كذب وقوله « إِلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً » أي إلّا مدّة إقامتك على رأسه مبالغا بالتقاضي والمطالبة.
وهي إذن في الانتفاع بالعين تبرّعا وموضوعها كلّ عين ينتفع بها مع بقائها.
واشتقاقها إمّا من العري لعرائها من العوض أو من « عار » إذا ذهب ورجع ومنه قول الشاعر :
أعيروا خيلكم ثمّ اركضوها *** أحقّ الخيل بالركض المعار (2)
ص: 78
وذكر المعاصر لمشروعيّتها آيتين :
الاولى ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (1).
الثانية ( وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ ) (2).
ومدلول الأولى الأمر بالتعاون على البرّ ، وهو صريح في العارية ، لما قلناه من الاذن فيها تبرّعا ، ومدلول الثانية أنّه عطفه على أمور مذمومة ، وهي السهو عن الصلاة والرياء بها ، فيكون المنع من الماعون وهو ما يتعاون به عادة مذموما أيضا قضيّة للعطف ، فيكون عدم المنع في معرض المدح ، وذلك هو المطلوب وهنا فوائد :
ص: 79
1 - العارية أمانة وليست مضمونة خلافا للشافعيّ محتجّا بقوله صلى اللّه عليه وآله لمّا استعار من صفوان بن أميّة أدرعا فقال أغصبا يا رسول اللّه! فقال « لا بل عارية مضمونة (1) » وليس بحجّة بل هو اشتراط لضمانها ، ونحن نقول به وإلّا لكان تأكيدا والتأسيس خير منه.
2 - العارية تضمن بأمور الأوّل : اشتراط الضمان ، الثاني : التعدّي والتفريط الثالث : الاستعارة من غاصب الرابع : استعارة المحرم للصيد ، الخامس : كون العين [ المعارة ] ذهبا أو فضّة ، السادس : الاستعارة للرهن.
3 - ينتفع بالعين في كلّ ما جرت العادة به عرفا ولو عيّن المالك نوعا اقتصر عليه ولو خالف المستعير ذلك ضمن ، ولو تلفت بالاستعمال لا مع المخالفة ، لم يضمن.
وفي مشروعيّتهما مصلحة جليلة وهي الارتياض لممارسة القتال مع الكفّار لإعزاز كلمة الإسلام ، وإلّا فهي في الأصل رهان وقمار وفي الحديث « إنّ الملائكة لتنفر من الرهان وتلعن صاحبه ، إلّا في النصل والريش والخفّ والحافر (2) » ويدخل في النصل الرّمح والسيف والسهم ، وفي الخفّ الإبل والفيلة ، وفي الحافر الفرس والبغل والحمار ، وهنا آيات :
الاولى ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) (3).
ص: 80
وردّ بأنّ المراد بالقوّة الرمي.
الثانية ( إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ) (1).
والأصل بقاء المشروعيّة وعدم النسخ.
الثالثة ( فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) (2).
أي ما أجريتم عليه ، من الوجيف وهو سرعة السير.
واشتقاقها إمّا من الشفع وهو الزّوج كأنّ المشفوع كان فردا فصار زوجا أو من الشفاعة وليس في الآيات الكريمة ما يدلّ عليها صريحا بخصوصيّتها بل لمّا كان مشروعيّتها لازالة الضّيق والضرر والمضاغنة الحاصلة من الشركة ، جاز أن يستدلّ عليها حينئذ بآيات تدلّ على رفع ذلك كقوله تعالى :
( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3).
وقوله ( وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ) (4).
وقوله ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (5).
وموضوعها عندنا كلّ عقار مشترك بين اثنين فيبيع أحدهما حصّته فللآخر الانتزاع من المشتري مع بذل الثمن له ، ولها شروط نذكر منها كلّياتها وهي ثمانية :
ص: 81
1 - كون الشركة في عقار ثابت لا ما ينتقل من المبيعات.
2 - انتقال الحصّة بالبيع لا بغيره من العقود.
3 - عدم زيادة الشركاء على اثنين.
4 - بقاء الشركة بالجزء المشاع ، فلو قسم وميّز فلا شفعة إلّا مع بقائها في الطريق أو النهر.
5 - قدرة الشفيع على الثمن.
6 - أن لا يكون كافرا والمشتري مسلما.
7 - كون العقار قابلا للقسمة فلا شفعة في العضائد الضيّقة.
8 - المطالبة على الفور لقوله صلى اللّه عليه وآله « الشفعة لمن واثبها » (1) ولا تثبت عندنا بالجوار ولا في غير ما ذكرنا من المبيعات ولا مع زيادة الشركاء على اثنين ولا غير ذلك ممّا قيل ، لأنّ هذا الانتزاع على خلاف الأصل فيقتصر فيه على محلّ الوفاق.
وهي إمّا إنسان أو حيوان أو مال أو غير ذلك ولم يرد في الكتاب في شرعنا نصوصيّة عليها بل عموم :
( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (2).
وقوله ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (3).
ولا ريب أنّ أخذ اللّقيط في موضع الحاجة برّ وإحسان إليه فلو لا مشروعيّته لأدّى إلى تلفه المنافي لحكمة الصانع الجواد الكريم الرؤف الرحيم وقد ورد حكاية اللّقطة في القرآن العزيز عن القرون الماضية كقوله :
ص: 82
( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ) (1).
وقوله ( يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيّارَةِ ) (2).
وهاتان وإن لم يكن في ظاهرهما أمر لكن في مضمونهما تنبيه وإشارة إلى هذه الوظيفة المناسبة للشفقة على خلق اللّه تعالى.
واعلم أنّ أخذ اللّقيط واجب لظاهر قوله تعالى ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) لكن على الكفاية لحصول المقصود بقيام من يحضنه وأمّا الحيوان والمال فلهما أحكام وتفاصيل علمت من السنّة الشريفة النبويّة والإماميّة تذكر في غير هذا المكان.
وهو الاستيلاء على مال الغير بغير حقّ وقد ورد في النهي عنه آيات كثيرة منها ما يدلّ بعمومه كقوله تعالى :
( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (3).
وقوله ( إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ ) (4).
ومنها ما يدلّ بخصوصه ويدلّ على جواز المقاصّة والاستيفاء كقوله :
( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (5).
وقوله ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) (6).
ص: 83
وقوله ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (1).
وتفاصيل ذلك وأحكامه مذكور في المطوّلات من كتب الفقه. فلتطلب منها لكنّا نذكر هنا فوائد.
1 - الاعتداء قد يكون بالاستيلاء ، وقد يكون بالإتلاف للمنفعة أو العين مباشرة أو تسبيبا من العامد أو المخطئ.
2 - يجب على الغاصب والمعتدي ردّ ما غصبه أو أتلفه أو عوض ذلك مع التعذر فان لم يفعل تسلّط المالك على الانتزاع وسمّاه اعتداء وسيّئة مجازا تسمية للشي ء بمقابله.
3 - مع وجود العين ، للمالك انتزاعها ، وإن لم يرض الغاصب ، ومع تلفها وبذل الغاصب واعترافه لا يسلّط على أخذ العوض إلّا برضى الغاصب لأنّ له الخيار في جهات القضاء من أيّ أمواله شاء ، فان ماطل أو أنكر ولا بيّنة أو كانت على الأصحّ فللمالك الأخذ من أيّ أمواله اتّفق ، لكنّ المماثل أولى فان لم يجد أخذ المخالف.
4 - المثل في الآية يمكن حمله على المساوي في الحقيقة ، وعلى المساوي في الحكم ، وعلى المساوي في الماليّة ، وقد يعبّر عن الأوّل بما يشترك جزؤه وكلّه في صدق الاسم وهو المراد بالمثليّ في عبارة الفقهاء.
5 - المغصوب إن كان مثليّا بالمعنى الأوّل تعيّن مع فقده مثله ، ولا اعتبار بتفاوت الأسعار في الزيادة والنقصان عن حال الغصب ، فان تعذّر فقيمته حين الإعواز وإن لم يكن مثليّا بالمعنى المذكور ، وهو المعبّر عنه بأنّه من ذوات القيم يضمن بقيمته العليا من حين الغصب إلى حين التلف.
6 - فوائد المغصوب ومنافعه مضمونة على الغاصب كالأصل بأعلى القيم كما قلناه ، سواء انتفع الغاصب بها أولا ، والحرّ المعتقل (2) يضمن منافعه بالتفويت لا
ص: 84
الفوات والعبد كغيره من الأموال يضمن فوائده فواتا وتفويتا.
7 - مع تعاقب الأيدي على المغصوب يرجع المالك على من شاء ببدل واحد أو على الجميع ببدل واحد ، فان كان المرجوع عليه مغرورا رجع على من غرّه وإلّا فلا.
8 - يجب ردّ المغصوب وإن تعسّر كالساجة في البناء واللّوح في السفينة وإن أدّى إلى تلف مال الغاصب أمّا لو خشي غرق الغاصب أو حيوان محترم أو مال لغير الغاصب لم ينزع اللّوح وشبهه ، وكذا لو خيط بالمغصوب جرح حيوان له حرمة وخيف التلف بالنزع لم ينزع ، وضمن في الجميع القيمة ، ولو أمكن في اللّوح الصبر إلى الساحل انتزع فيه وأخذ الأجرة ، والخيار للمالك ، ولو طرء على المغصوب نقص انتزع مع أرشه ، ولو خلطه الغاصب بمساويه أو أجود ولم يمكن التميز تشاركا ولو كان بالأردء ضمن وكذا لو خلطه بغير جنسه كالزيت والشيرج.
9 - زوائد المغصوب وإن كانت بفعل الغاصب مضمونة إن كانت متقوّمة عرفا وإلّا فلا ، ولو عدم المقوّم ووجد غيره لم يجبر الأوّل ، وكانا مضمومين أمّا لو كان الزائد بعين من الغاصب كالصنع كلّف الفصل وضمن النقص.
10 - المقبوض بالبيع الفاسد حكمه حكم المغصوب في الضمان بعينه وكذا فوائده وزوائده وبالجملة كلّ مضمون بعقد صحيح فهو مضمون بالفاسد ، وما لا فلا.
وهو إخبار عن حقّ لازم للمخبر فالأخبار جنس وقولنا لازم للمخبر يخرج الشهادة فإنّها إخبار عن حقّ لكنّه لازم لغير المخبر ثمّ الحقّ قد يكون مالا وقد يكون عقوبة ، وقد يكون نسبا ، والمال قد يكون معلوما فيتّبع مدلول لفظه شرعا فان فقد فعرفا ، فان فقد فلغة ، وقد يكون مجهولا فيرجع إلى تفسير المقر بالمحتمل والعقوبة إن عيّنها لزمته ، وإن أبهم رجع إليه ، سواء كانت العقوبة عليه لقذف أو
ص: 85
لجناية على غيره والنسب يلزم مع الشرائط وانتفاء الموانع حسّا وشرعا وفيه آيات :
الاولى ( فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ) (1).
والاعتراف افتعال من المعرفة ويقال عرفا [ على ] الإقرار مع المعرفة بما أقر به فلو لم يكن دليلا لما رتّب الذمّ والدعاء عليهم بقوله ( فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ ) أي بعدا لهم من رحمة اللّه من أسحقه إذا أبعده.
الثانية ( وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) (2).
وشهادة الإنسان على نفسه إقرار منه بما شهد به.
الثالثة ( قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا ) (3).
ودلالتها على لزوم الحكم للمقرّ ظاهرة.
لو قال : لي عندك كذا فقال : أنا مقرّ لك به ، لزمه قطعا أمّا لو قال أنا مقرّ هل يلزمه ذلك أم لا؟ قيل لا يلزم لاحتمال إضمار غير ما تقدّم أي مقر بالوحدانيّة أو النبوّة أو ببطلان دعواك فلا يكون صريحا في الجواب إذ هو أعم ، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ وقيل يكون إقرارا لوجوده عقيب الدعوى ، فيكون منصرفا إليها للعرف وللآية فإنّهم لم يقولوا أقررنا بذلك.
إن قلت : إنّما ترك ذكر المتعلّق لعلمه تعالى بقصدهم ذلك ولذلك ترك ذكره في السؤال بقوله « أَأَقْرَرْتُمْ » ولم يقل « بذلك » قلت مراده تعالى إلزامهم بإقرارهم وكلامهم ولذلك قال « فَاشْهَدُوا » أي ليشهد بعضكم على بعض ، فيكون المراد إقرارهم لا قصدهم لعلمه بذلك.
ص: 86
ثمّ اعلم أنّ الصور المفروضة هنا لفظا أربعة :
1 - أنا مقرّ لك به وهو صريح في الإقرار.
2 - أنا مقرّ لك ولم يقل به ، وفي هذا احتمال أنه مقرّ لك بغيره فلا يكون صريحا في الجواب.
3 - أنا مقرّ به ولم يقل لك قال العلّامة يكون إقرارا وظاهر كلام الشهيد يكون إقرارا لاحتمال إقراره به لغيره لا له.
4 - أنا مقر لا غير ولم يذكر الضميرين وفيه الاحتمالان المتقدّمان. فظاهر الآية يدل على كون كلّ إقرارا وحذف الضمير الدالّ على الربط لا يضرّ هنا لأنّه كثيرا مّا يحذف الضمير للعلم به ، ويؤيّده العرف ، وقرينة الخطاب ، ولأنّه لو قال : نعم ، في هذه الصور - لكان إقرارا فكذا فيما قلناه.
الرابعة ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) (1).
وتقريره كما تقدّم.
الخامسة ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى ) (2).
وكذا قوله ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) (3).
يستدلّ بهاتين الآيتين وشبههما على كون حرف الإيجاب يصلح إقرارا وأن بلى إيجاب بعد النفي و « نعم » تقرير لما سبق ، إن نفيا فنفيا وإن إيجابا فايجابا ولذلك قال ابن عبّاس في الآية الثانية لو قالوا نعم لكفروا ، أي نعم لست بربنا وفيه نظر لأنّ أهل العرف يستعملون نعم بمعنى بلى ويدلّ عليه قول الشاعر :
أليس اللّه يجمع أمّ عمرو *** وإيّانا فذاك بنا تداني
ص: 87
نعم وترى الهلال كما أراه *** ويعلوها النهار كما علاني(1)
والحقّ عندي التفصيل وهو أنّ الكلام إن صدر عن أهل اللّغة لم يكن إقرارا وإن صدر عن أهل العرف كان إقرارا وهنا فوائد :
1 - في الآية الأولى إشارة إلى كون المقرّ ذا معرفة بما أقرّ به ، فيدخل في ذلك اشتراط بلوغه وعقله ورشده.
2 - في الآية الثانية والثالثة إشارة إلى وجوب الحكم على المقرّ بما أقرّ به مطلقا كما يجب الحكم بالبيّنة ولهذا سمّاه شهادة ، فيكون الإقرار أحد أدلّة الحكم.
ص: 88
3 - في الآية الرابعة إشارة إلى وجوب الإقرار بالحقّ اللّازم للمقرّ لقوله ( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ ) أي بالعدل ، والأمر للوجوب.
4 - في الآية الثالثة ( وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي ) أي عهدي ، سمّى العهد إصرا لأنّه يوصر أي يشدّ ، والآثار ما يعقد به الشي ء ويشدّ ، أو لأنّ الوفاء به شديد.
وهي لغة مشتقّة من وصى يصي أي يصل (1) يقال أوصى يوصي إيصاء ، ووصّى يوصّي توصية ، والاسم الوصيّة والوصاية ، وشرعا هو تمليك عين أو منفعة بعد الوفاة وسمّي ذلك وصيّة لأنّ الموصى يصل تصرفه بعد الموت بما قبله.
وفيه آيات ثلاثة :
الأولى ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (2).
وهنا فوائد :
1 - « كتب » أي فرض وفاعله « الوصيّة » وإنّما ذكّره لكون تأنيث الوصيّة غير حقيقيّ أو لوجود الفصل أو لأنّ معناها أن يوصي ، ومعناه المصدر ، وحضور الموت ظهور أسبابه وأماراته ، والخير المال بدليل قوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (3).
ص: 89
2 - قيل الآية منسوخة بآية الإرث وبقوله صلى اللّه عليه وآله « إنّ اللّه تعالى أعطى كلّ ذي حق حقّه ألا لا وصيّة لوارث (1) » قلنا الأصل عدم النسخ ولأنّ شرطه المنافاة ولا منافاة بين الوصيّة والإرث ، إذ هو زيادة في الصلة ولو سلّم النسخ فهو رافع للوجوب لا الجواز ، وذلك لأنّ رفع المركّب لا يستلزم رفع جميع أجزائه ، كما بيّن في الأصول ، وأمّا الحديث فنمنع صحّته ولو سلّم فآحاد لا ينسخ الكتاب عند الأكثر ، ولو سلّم جواز النسخ به ، لكان لنا هنا أن نحمله على التخصيص بما زاد على الثلث ، والتخصيص خير من النسخ ، لما تقرر في الأصول أو نحمله على الإضمار الّذي هو خير أيضا أي لا وصيّة واجبة لوارث.
وبالجملة الإجماع منعقد على مشروعيّة الوصيّة فلا تكون منسوخة فيكون الحديث على تقدير صحّته مخصّصا وليس تخصيص الوارث بعدم الوصيّة له مطلقا أولى من تخصيصه بما زاد على الثلث ، وقد روى أصحابنا عن الباقر عليه السلام أنّه سئل هل يجوز الوصيّة للوارث؟ فقال : نعم ، وتلا هذه الآية (2) وأمّا رواية السكونيّ عن عليّ عليه السلام أنّه قال « من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية (3) » فضعيفة لكون السكونيّ عاميّا ومع تسليمها فلا تنفي الوصيّة للوارث إلّا من حيث مفهوم المخالفة وليس بحجّة.
3 - دلالة الآية على جواز الوصيّة للوارث ظاهرة لأنّ الوالدين وارثان قطعا وكذا قوله « وَالْأَقْرَبِينَ » يعمّ كلّ قريب وارثا كان مع الوالدين كالأولاد إجماعا والاخوة عند الخصم ، أو غير وارث لأنّ الجمع المعرّف باللّام للعموم ، كما تقرر في الأصول.
ص: 90
فائدة : الأقارب الّذين يرثون لكن معهم من يحجبهم مثل الأخت (1) مع الأب أو مع الولد يستحب الوصيّة لهم وبه قال جميع الفقهاء وعامّة الصحابة ، وقال قوم يجب الوصيّة لهؤلاء وهو ضعيف.
4 - اختلف في المال المتروك الّذي تعلّق الأمر بحصوله فقال الزهريّ كل ما يقع عليه اسم المال قليلا كان أو كثيرا وقال النخعيّ من ألف إلى خمسمائة درهم وقال ابن عبّاس ثمان مائة درهم ، « وروي عن عليّ عليه السلام أنه دخل على مولى له في مرضه وله سبع مائة أو ستّمائة درهم ، فقال ألا اوصي؟ فقال : لا إنّما قال اللّه تعالى ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) وليس لك كثير مال (2) » قال الراوندي وبهذا نأخذ.
5 - قوله « بِالْمَعْرُوفِ » قيل المراد به المعلوم فعلى هذا لا تصح الوصيّة بالمجهول ، وهو باطل عندنا فإنّه لو أوصى بشي ء أو بجزء أو نصيب صحّ لعموم الآية الثانية ، ورجع في غير المنصوص إلى الوارث ، وقيل المراد به بالعدل وهو أولى فيحتمل وجوها : الأوّل : أنّه ممّا لا يزيد على الثلث الثاني : أن يوصي للفقير والأشدّ حاجة ولا يفضّل الغنيّ على الفقير ، الثالث : أن لا يضرّ بورثته لو كانوا فقراء ، ولو أوصى بما دون الثلث ، الرابع : أن يقلّل في الوصيّة ولو كان الوارث غنيّا فالرّبع أفضل من الثلث ، والخمس أفضل من الربع ، والسدس أفضل من الخمس ، لما ورد عن سعد بن أبي وقّاص قال : مرضت فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يعودني فقلت : يا رسول اللّه اوصي بمالي كلّه؟ قال : لا ، قلت النصف؟ قال : لا ، قلت : الثلث؟ قال الثلث ، والثلث كثير إنّك إن تدع ذرّيتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس بأيديهم (3) » قوله « حَقًّا » مصدر أي حقّ ذلك حقّا.
ص: 91
6 - « فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ » إلى آخره ، الوصيّة وإن كانت جائزة لكن يجب العمل بها بعد الموصى من غير تغيير ولا تبديل ، ولذلك قال « فَمَنْ بَدَّلَهُ » أي بدّل ذلك الإيصاء من وصيّ وشاهد ووارث وحاكم وغيرهم بعد ما سمعه وتحقّقه فإنّما إثم ذلك التبديل على المبدّل ، والضمير في « بدّله » راجع إلى مصدر أوصى وهو الإيصاء وفي « إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » وعيد للمبدّل والمغيّر ، أي يسمع ويعلم التبديل والتغيير ، ولا يفوته شي ء.
7 - « فَمَنْ خافَ » أي توقّع أو علم من قولهم أخاف أن يرسل السماء « مِنْ مُوصٍ » قرء حمزة والكسائي وأبو بكر « موص » من وصى بالتشديد والباقون موص بالتخفيف من أوصى يوصي والضمير في « خاف » يرجع إلى « من » والجنف الميل إلى إفراط أو تفريط « أَوْ إِثْماً » بأن يوصي بالباطل أي بما لا يجوز الوصيّة به كالمحرّمات فعلى هذا الجنف هو الوصيّة بزائد على الثالث أو بما فيه إضرار بالوارث « فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ » أي بين الوارث والموصى له « فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » وفي الكلام تنبيه على أنّ مطلق التبديل والتغيير غير منهيّ عنه ، بل التبديل بالباطل عن الحقّ أمّا عن الباطل إلى الحقّ فجائز.
قيل : كان الأوصياء يمضون الوصيّة بعد نزول قوله ( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) ولو كان الوصيّة بهما كانت ولو بالمال كلّه فنسخ بقوله « فَمَنْ خافَ » إلى آخره.
وقيل : المراد فمن خاف من موص في حال مرضه الّذي يريد الوصيّة فيه جنفا أو إثما فلا جناح عليه أن يردّه عن ذلك ، ويشير عليه بالنهج الصحيح ، ويصلح بين الموصى والورثة والموصى له ، بحيث لا يقع بينهم خلاف يؤدّي إلى الإثم ويكون الخوف على ظاهره ، ولا يكون مترقّبا ولا متوقّعا ، وهو وجه حسن جيّد مطابق غير أن الأوّل عليه الأكثر ، وبه قال الباقر والصادق عليهما السلام وكفى بقولهما مرجّحا له. قوله ( إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) وعد لمن بدّل الباطل بالحقّ مقابل لوعيد من بدل الحقّ بالباطل.
ص: 92
الثانية ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) .
وكذا قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) .
وقوله ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1).
دلّت هذه الآيات ونظائرها على تأخير الميراث عن الوصيّة والدين وبقي هنا سؤال تقريره لم قدّم الوصيّة على الدين مع أنّ الفقهاء مجمعون على تقديم مؤنة التجهيز من أصل التركة ، ثمّ الدين من الأصل أيضا ثمّ الوصيّة من الثلث وأيضا الدين يجب أداؤه سواء أوصى به الميّت أو لا ، والوصيّة لا يجب إلّا إذا أوصى بها والجواب أنّ « أو » هنا بمعنى « إلّا » تقديره من بعد وصيّة إلّا أن يكون هناك دين.
فان قلت : إنّ « أو » لا يكون بمعنى « إلّا » أو « إلى » إلّا إذا دخلت على فعل مضارع ، وهنا ليس كذلك. قلنا : الفعل هنا مقدّر ، وهو يحصل أو يكون أو يوجد وإنّما قدّرنا ذلك لئلّا يلزم حمل القرآن على الركاكة.
فإن قلت : إذا كانت بهذا المعنى يجب أن يكون جوابا لأحد الأمور الثمانية وليس ها هنا شي ء منها ، قلت : هي هنا جواب الأمر إذ تقدير « يُوصِيكُمُ اللّهُ » أعطوا أولادكم ، وهذا أحسن من قول من قال إنّ أو هنا للإباحة ، ليدلّ على أنّ لوصيّة والدين واجبان يستحقّان التقديم على قسمة التركة مجتمعين ومنفردين ، وإنّه إنّما قدّم الوصيّة لأنّها مشتبهة بالميراث ، شاقّة على الورثة ، مندوب إليها ، لأنّ ما قلناه مطابق للقاعدة الشرعيّة منصور بالدليل اللّغويّ وهنا فوائد :
1 - دلّت هذه الآية على مشروعيّة الوصيّة مطلقا ، لوارث وغيره وأنّها مقدّمة على الميراث.
2 - ظاهر الآية يقتضي وجوب العمل بالوصيّة مطلقا ، والإجماع والأحاديث خصّا ذلك بالثلث ، فما دون ، وأنّ الزائد موقوف على إجازة الوارث.
3 - استدلّ الشافعيّة وبعض الفقهاء بالآية على أنّ الموصى له يملك الوصيّة
ص: 93
بالموت ، لأنّه جعل الإرث بعدها فلو لم ينتقل إلى الموصى له بقي بغير مالك ، لأنّ الميّت زال ملكه بالموت ، ولأنّ الملك يستحيل كونه بلا مالك لأنّه نسبة بينه وبين المملوك ، ويستحيل ثبوته للميّت ، فانّ الموت علّة في زوال الاملاك عنه ، ويستحيل أيضا ثبوته للوارث وإلّا لتلقّى الموصى له الملك عنهم ، وهو باطل إجماعا فعلى هذا يكون القبول كاشفا.
وقال جماعة : إنّ القبول سبب في الملك لأنّ الملك حادث لا بدّ له من سبب وليس هو الموت وحده ، وإلّا لكفى من غير قبول ، ولا الإيجاب وحده لذلك أيضا ولا هما معا لأنّهما لو كفئا لما صحّ الردّ بعدهما قبل القبول ، كما لا يصح بعد القبول ، لكنّه يقع الردّ بعدهما ، ولا يقع بعد القبول ، وليس الفارق إلّا حصول الملك في الثاني دون الأوّل.
فعلى هذا يكون الملك قبل القبول للوارث لكنّه غير مستقرّ كما يملك المشتري المبيع في زمن الخيار ، فان وقع الفسخ عاد الملك إلى البائع كذا هنا إذا قبل الموصى له عاد الملك إليه ، وإلّا استقرّ ملك الوارث ، ولأنّ الملك قبل القبول وبعد الموت لا بدّ له من مالك ليس هو الميّت لعدم صلاحيّته ، ولا الموصى له لعدم قبوله ، فيكون للوارث وهو المطلوب.
ويجاب عن الآية بأنّ المراد بعد وصيّته كاملة ، وهي المشتملة على الإيجاب والقبول ، وهذا القول يقوى في نفسي ويتفرّع عليه ملك النماء قبل القبول. فعلى الثاني يكون للوارث وعلى الأوّل يكون للموصى له.
4 - إطلاق الآية يقتضي عدم اشتراط تعيين الموصى به ، ولا الموصى له ، كما لو أوصى لأحد هذين فإنّه يعيّن الوارث ، ولو أوصى بعتق أحد هذين ، فإنّه يعيّن الوارث أيضا نعم يستحبّ القرعة لازالة التهمة.
الثالثة ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) (1).
ص: 94
وقوله ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) (1).
لو أوصى بجزء من ما له قال الشافعيّ ليس فيه مقدّر والأمر فيه إلى الورثة وأجمع أصحابنا على خلافه لكن اختلفوا :
فقال الشيخ وجماعة إنّه العشر استدلالا برواية ابن سنان (2) عن الصادق عليه السلام صحيحا « قال إنّ امرأة أوصت إليّ وقالت : ثلثي تقضى به ديني وجزء منه لفلانة فسألت ابن أبي ليلى فقال ما أرى لها شيئا ما أدري ما الجزء فسألت الصادق عليه السلام بعد ذلك وأخبرته الخبر فقال : كذب ابن أبي ليلى لها عشر الثلث إنّ اللّه أمر إبراهيم عليه السلام وقال له ( اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ) وكانت الجبال يومئذ عشرة ، فالجزء هو العشر » ومثله رواية أبان بن تغلب عن الباقر عليه السلام (3).
وقال المفيد وسلّار إنّه السبع استدلالا برواية [ ابن ] أبي نصر قال سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل أوصى بجزء ماله فقال : واحد من سبعة إنّ اللّه يقول ( لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) ومثله رواية إسماعيل بن همام عن الرضا عليه السلام (4).
والأقوى العمل على الأوّل لأن الأصل بقاء الملك على الوارث خولف في العشر لأنّه أقل ما قيل ، ولولاه لحمل على أقلّ ما يتملّك كما لو أوصى بنصيب وشبهه وكذا قال الشيخ لو أوصى بسهم كان ثمنا لأنّه أقلّ السهام المفروضة ، وبشي ء ، كان سدسا حملا على آية الخمس ، فإنّه يقسم ستّة أقسام وهو ضعيف وقال الشافعيّ هنا كما قال في الجزء.
ص: 95
الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) (1).
هنا فوائد :
1 - روي أنّ تميما الداريّ وعدّي بن بدّاء خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلمّا قدموا الشام مرض بديل فدوّن ما معه في صحيفة ، وطرحها إلى متاعه ، ولم يخبرهما به ، وأوصى إليهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات ، ففتّشاه وأخذا منه إناء من فضّة وزنه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذّهب ، فغيباه.
فأصاب أهله الصحيفة وطالبوهما بالإناء فجحدوا فترافعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فحلفهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعد صلاة العصر عند المنبر وخلّا سبيلهما.
ثمّ وجد الإناء في أيديهما فأتاهم بنوسهم في ذلك فقالا قد اشتريناه منه ، ولكن لم يكن لنا عليه بيّنة فكرهنا أن نقرّ به ، فرفعوهما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت ( فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً ) فقام عمرو بن العاص والمطّلب بن أبي وداعة السهميّان
ص: 96
فحلفا وأخذا الإناء (1).
2 - في تفسير الآيتين وحلّ تركيبهما : قوله « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » مبتدأ خبره محذوف أي عليكم شهادة بينكم و « اثْنانِ » فاعل فعل محذوف أي يشهد اثنان وفائدة الإبهام والتفسير تقرير الحكم في النفس مرّتين ولمّا قال « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » كأنّ قائلا يسأل من يشهد؟ فقال « اثْنانِ » أي يشهد اثنان لا أنّ « شَهادَةُ بَيْنِكُمْ » مبتدأ خبره « اثْنانِ » لأنّ شرط الاخبار وبالمفرد أن يجمعهما ذات واحدة و « إِذا حَضَرَ » ظرف لمتعلّق الجارّ والمجرور ، أي عليكم شهادة بينكم إذا حضر أحدكم أسباب الموت و « حِينَ الْوَصِيَّةِ » بدل منه وقوله « مِنْكُمْ » أي من المسلمين « و ( غَيْرِكُمْ ) » أي غير المسلمين ، وقيل « مِنْكُمْ » أي من أقاربكم و « غَيْرِكُمْ » أي من الأجانب ، وقد وقع الجارّان والمجروران هنا صفة للاثنان « تَحْبِسُونَهُما » أي تقفونهما وهو صفة لآخران ، والشرط مع جوابه المحذوف المدلول عليه بقوله « أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ » اعتراض فائدته الدلالة على أنّه ينبغي أن يشهد منكم اثنان فان تعذّر كما في السفر فآخران من غيركم والأولى أنّ « تَحْبِسُونَهُما » لا تعلّق لهما بما قبلهما لفظا ولا محلّ لها من الاعراب ، والمراد بالصلاة صلاة العصر ، لأنّه وقت اجتماع الناس ، أو أنّها وقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار ، فاللّام فيها للعهد وقيل أيّ صلاة كان فاللّام للجنس وهو أولى.
وقوله « لا نَشْتَرِي بِهِ » هو المقسم عليه « وإِنِ ارْتَبْتُمْ » أي ارتاب الوارث ، وهو اعتراض فائدته اختصاص القسم بحال الريبة ، والمعنى لا نستبدل بالقسم أو باللّه عرضا من الدنيا ، أي لا نحلف باللّه كذبا لأجل طمع ولو كان المقسم له ذا قربى ، و
ص: 97
جوابه محذوف أي لا نستبدل « وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ » أي اللّه الّذي قد أمرنا بإقامتها ف « إِنّا إِذاً » أي إذا كتمناها « لَمِنَ الْآثِمِينَ » وكان الشعبيّ يقف على « شهادة » ويبتدئ ب « آلله » بالمدّ على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام عنه ، « فَإِنْ عُثِرَ » أي اطّلع على أنّهما فعلا ما يوجب إثما فشاهدان آخران « مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ » وهم الورثة ، وقرأ حفص استحقّ على البناء للفاعل ، والأوليان أي الأحقّان بالشهادة ، لقرابتهما وهو خبر مبتدأ محذوف أي هما الأوليان أو خبر « آخران » أو بدل منهما أو من الضمير في « يقومان » وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم « الأوّلين » على أنّه صفة للّذين أو بدل منه.
قوله « لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما » أي يميننا أصدق من يمينهما لخيانتهما وكذبهما في يمينهما. وإطلاق الشهادة على اليمين مجاز لوقوعها وموقعها كما في اللّعان.
قوله « ذلِكَ » أي الحكم الّذي تقدّم أن تحليف الشاهد قوله « عَلى وَجْهِها » أي على نحو ما حملوها من غير تحريف ولا خيانة فيها ، وقوله « أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ » أي تردّ اليمين على المدّعين بعد إيمانهم فيفتضحون بظهور الخيانة واليمين الكاذبة وإنّما جمع الضمير لأنّه حكم يعمّ الشهود كلّهم.
3 - في هذه الآية أحكام :
1 - أنّ الّذي يحضره أسباب الموت ينبغي أن يشهد عدلين على وصيّته إمّا من ذوي نسبه أو من أهل دينه ، وهو الإسلام ، فإن تعذّر ذلك عليه بأن كان في سفر فآخران من الأجانب أو أهل الذمة.
2 - أنّه إذا حمل الضمير في « مِنْكُمْ » على المسلمين وفي « غَيْرِكُمْ » على غيرهم (1) هل الحكم باق غير منسوخ أو لا؟ قال أصحابنا بالأوّل ، وجوّزوا شهادة أهل الذمة
ص: 98
مع تعذّر المسلمين في الوصيّة ، وقال جماعة من الفقهاء بالثاني وأنّ الآية منسوخة والأصحّ الأوّل لأصالة عدم النسخ ، وتكون الآية مخصّصة لأدلّة اشتراط الايمان والعدالة في الشاهد بما عدا الوصيّة ، نعم يشترط عدالتهم في دينهم ، ويرجّحون على فسّاق المسلمين.
3 - أنه إذا حمل الضمير في « مِنْكُمْ » على الأقارب ، دلّ على قبول شهادة القريب على قريبه مطلقا ، وفيه ردّ على من منع ذلك من المخالفين ، وسيأتي تمام ذلك في كتاب القضاء والشّهادات.
4 - أنّه على قول أصحابنا بقبول شهادة الذّمّي في الوصيّة مع عدم عدول المسلمين هل يشترط السّفر كما في ظاهر الآية أم لا؟ الأصحّ العدم وبالاشتراط رواية مطروحة.
5 - يرد على قول أصحابنا بقبول شهادة أهل الذمّة في الوصيّة [ مع عدم عدول المسلمين ] على ظاهر الآية وعدم نسخها سؤال وهو أنّ الآية دلّت على أنّه إذا وقع ارتياب يحلّف الشاهدان والإجماع منعقد على عدم تحليف الشاهد فلا يكون الحكم بشهادتهما باقيا فيكون منسوخا.
والجواب على تقدير كون الآية حجّة على المدّعى وبقاء حكمهما جاز أن يكون التحليف مختصّا بهذه الصّورة فكما أنه جاز قبول شهادة الذّمي جاز تحليفه ولهذا أفتى العلّامة بوجوب التحليف بعد العصر أو نقول لا نسلم أنّ تحليفهما لمكان شهادتهما حتّى يلزم تحليف الشاهد الّذي هو خلاف الإجماع ، بل إنّما حلّفا على تقدير دعوى خيانتهما ، ولم يكن لهما بيّنة بصدق قولهما فتوجّه اليمين عليهما وهذا أسد في الجواب.
6 - ردّ اليمين على الورثة ، قيل سببه ظهور خيانة الوصيين ، فانّ تصديق الوصيّ باليمين على تقدير أمانته ، وعدم ظهور خيانته ، وهنا ظهر خيانتهما والوجه إنّه إنما ردّ اليمين لأنّ الوصيّين ادّعيا الشراء عن الميّت فأنكر الورثة الشراء فتوجّه عليهما اليمين على نفي العلم بالشراء.
ص: 99
7 - جواز شهادة أهل الذّمة في الوصيّة عند أصحابنا مختص بالمال ، فلا تسمع في الولاية إجماعا.
8 - في جعل « حِينَ الْوَصِيَّةِ » بدلا من « إِذا حَضَرَ » تنبيه على الحضّ والحثّ على الوصيّة ، ووجوب الاشهاد بها لأنّ البدل هو المقصود بالنسبة.
9 - في الآية دلالة على جواز التغليظ في اليمين بالوقت لقوله « بعد الصلاة » وفي القصّة أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حلّفهما عند المنبر وفيه دلالة على التغليظ بالمكان.
10 - قد يفهم من القصّة أنه يجوز الدعوى لظاهر الظنّ أو لقرينة كالكتابة وكذا يجوز التحليف أيضا للظنّ مع عدم البيّنة لأنّ الورثة ادّعوا على الوصيّين بمجرد الكتاب الّذي وجدوه في متاع الميّت.
وفيه نظر لجواز استناد دعواهم إلى علم غير الكتابة أو إلى إخبار محفوفة بالقرائن المفيدة للعلم.
11 - أنّ الآية يقتضي جواز الدعوى بعد الإحلاف ، وهو خلاف الفتوى ومناف لقوله عليه السلام « من حلف فليصدّق ، ومن حلف له فليرض ، ومن لم يرض فليس من اللّه في شي ء (1).
ويمكن أن يجاب عنه بأنّ الدعوى إنّما توجّهت بعد اعتراف المدّعى عليهما بالإناء ، وأنّه كان للميّت ، ومع اعتراف الحالف يجوز المطالبة ثمّ لمّا جازت المطالبة لمكان اعترافهما بملكيّة الميّت الّتي حلّفا على نفيها أوّلا وبراءة ذمّتهما ، ادّعيا الشراء ، فأنكر الورثة فحلّفوا على نفي العلم وروي أنّ تميما الداريّ لمّا أسلم كان يقول ، صدق اللّه ورسوله إنّا أخذنا الإناء فأتوب إليه تعالى وأستغفره.
12 - فهم بعضهم من ظاهر الآية جواز الاستدلال بها على ردّ اليمين من المنكر على المدّعي خلافا لأبي حنيفة فإنّه لم يجوّزه ، وفيه نظر لأنّ الردّ هنا مجاز والتحقيق ما قلناه من دعوى الشراء وإنكار الورثة ، فتوجّه عليهم اليمين لمكان إنكارهم وحلفهم على عدم العلم.
ص: 100
واعلم أنّ الوصيّة كما تكون بمال كذا تكون بالولاية ، والولاية إمّا بإخراج حقّ على الميّت ، كدين أو أداء أمانة ، أو بالنظر في حال أولاده الأصاغر وحفظ أموالهم والسعي في تنميتها ، وهو البحث عن اليتامى فلنتبع هذا الفصل بذلك. والمراد باليتيم هو الصغير الّذي لا أب له من اليتم وهو الانفراد ومنه الدّرّة اليتيمة ، والاشتقاق يقتضي صدقه على الصغير والكبير لكنّ العرف خصصه بالصغير وهذا البحث فيه آيات.
الاولى ( وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً ) (1).
الابتلاء الاختبار ، و « آنَسْتُمْ » أي أبصرتم وأدركتم و « حَتّى » حرف ابتداء لأنّ بعده جملة شرطيّة ، وهو « إِذا بَلَغُوا » والجزاء جملة أخرى شرطيّة وهي « فَإِنْ آنَسْتُمْ » فالفاء الاولى جواب الشرط الأوّل ، والثانية للثاني « و ( إِسْرافاً وَبِداراً ) » منصوبين على الحال أي مسرفين ومبادرين ، والأولى أنّهما مصدران لأنّهما نوعان للأكل ، لا أنّهما مفعول لهما كما قال الزمخشري لأنّ الشي ء لا يعلّل بنوعيه « و ( أَنْ يَكْبَرُوا ) » مفعول به ، لبدارا ، أي لا تبادروا كبرهم بالأكل بمعنى أن تأكلوها خوفا أن يكبروا فيأخذوها منكم « ويستعفف » بمعنى يعفّ مثل يستقر بمعنى يقرّ وقال الزمخشريّ أنّه أبلغ من يعفّ لأنّه يطلب بالسين زيادة العفّة وفيه نظر لأنّ السّين يطلب بها الفاعل أصل الفعل لا زيادته نحو استكتب.
إذا تقرر هذا فهنا أحكام :
ص: 101
1 - دلّ الأمر بابتلائهم على وجوب الحجر عليهم في التصرفات وإلّا لانتفت فائدة الابتلاء الّذي يترتّب عليه وجوب دفع الأموال إليهم.
2 - الآية ظاهرة في تقدم الابتلاء على البلوغ ، وفائدته عدم الاحتياج إلى اختبار آخر ، بل يسلّم إليه ماله إن علم رشده ، وقال بعض الجمهور إنّه بعد البلوغ وهو باطل وإلّا لزم الحجر على البالغ الرشيد ، وهو باطل إجماعا.
3 - اختلف في معنى ابتلائهم فقال أبو حنيفة هو أن يدفع إليه ما يتصرّف فيه ، وقال أصحابنا والشافعيّ ومالك هو تتبع أحواله في ضبط أمواله وحسن تصرّفه بأن يكل إليه مقدّمات البيع لكن العقد لو وقع منه كان باطلا ويلزم على قول أبي حنيفة أن يكون العقد صحيحا.
4 - أنه أشار إلى غاية الحجر بقوله « حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ » وهو حال البلوغ أي أوان يصلح له أن ينكح بأن يحتلم أو يبلغ خمسة عشر سنة عندنا ، وعند الشافعيّة لقوله صلى اللّه عليه وآله « إذا استكمل المولود خمسة عشر سنة كتب ماله وعليه وأقيمت عليه الحدود (1) وعند أبي حنيفة ثمانية عشر سنة هذا في الذّكر والخنثى وأمّا الأنثى فعندنا تسع سنين ، وقال الشافعي كالذكر وقال أبو حنيفة سبعة عشر سنة ، وقال صاحباه كالذّكر وقال مالك كما حكي عنه : البلوغ أن يغلظ الصّوت أو ينشقّ الغضروف وهو رأس الأنف قال وأمّا السن فلا تعلّق له بالبلوغ.
وقال داود : الحكم بالبلوغ بالسنّ ورواية ابن عمر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنه ردّه عن الجهاد عام بدر وله ثلاثة عشر سنة (2) ثمّ ردّه في أحد وله أربع عشر سنة ، و
ص: 102
عرض عليه في الخندق وله خمسة عشر سنة تدل على قولنا.
وهل يحصل البلوغ بالإنبات ، قال أصحابنا : نعم مطلقا وقال أبو حنيفة لا مطلقا وقال الشافعيّ هو دلالة في حقّ المشركين وأمّا المسلمين ففيه قولان ، وقضيّة سعد بن معاذ وأمره بأن يكشف عن مؤتزرهم فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت فهو من الذراري فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وآله فقال « لقد حكمت بحكم اللّه من فوق سبع أرقعة (1) » يصدّق ما قلناه وهو عام.
5 - انه لا بدّ مع البلوغ من إيناس الرشد ، وهو عندنا عقله للمعاش ، بأن لا ينخدع في المعاملات والتصرفات اللّائقة به ، وهل يشترط صلاح الدين أيضا؟ قال الشافعي : نعم ، فيحجر عنده على الفاسق وقال أبو حنيفة : لا حجر عليه ، وبه قال أكثر أصحابنا اللّهمّ إلّا أن يكون فسقه بإتلاف ما له فالحجر باق.
وقال الشيخ بمقالة الشافعيّ ومنشأ القولين خلو كلام المفسّرين من قيد العدالة ، قال ابن عباس : الرشد أن يكون ذا وقار وعقل وعلم ، ولم يذكر العدالة
ص: 103
وقال قتادة العقل والدّين ، وهو غير دالّ على العدالة أيضا إذ يكفي في صلاح الدين حسن الاعتقاد.
احتجّ الشيخ بوجوه الأوّل أنّ الرشد والغيّ صفتان متباينتان والفاسق موصوف بالغيّ فلا يكون موصوفا بالرّشد ، الثاني أنّ الفاسق سفيه ، فلا يجوز أن يعطى ماله للآية. الثالث أنّ الحجر متحقّق فلا يزول إلّا بدليل ولا دليل.
ويمكن أن يجاب عن الأوّل بالمنع من أنّ وصفه بالغيّ يمنع من وصفه بالرّشد ، لأنّهما وإن تضادّا مفهوما ، لم يتضادّا متعلّقا ، لأنّهما يطلقان في أمور المعاش وأمور المعاد ، والمراد بالرشد في الآية في أمور المعاش فجاز أن يكون الفاسق غاويا في أمور معاده رشيدا في أمور معاشه نعم يلزم المنافاة ، لو كانا متناقضين لكنّه ليس كذا.
وعن الثاني بأنّ الفاسق سفيه في معاده لا في معاشه وعن الثالث أنّ الدّليل على زوال الحجر هو الآية مع ما ذكرناه من جواب الشبهة.
6 - علّق دفع المال على الرشد فإذا لم يحصل الرشد بقي على الحجر عندنا وعند الشافعيّ وأصحاب أبي حنيفة ، ولو طعن في السنّ ، عملا بانتفاء المشروط لانتفاء شرطه ولأنّه سفيه فلا يعطى شيئا للآية.
وقال أبو حنيفة : يزاد على زمان بلوغه سبع سنين ثمّ يعطى ماله رشد أو لا محتجّا بقوله صلى اللّه عليه وآله « مروهم بالصوم والصلاة وهم أبناء سبع (1) » فانّ هذه المدّة هي مدّة تتغيّر أحواله فيها ، وهذا عليه لا له. لأنّه يقتضي أن يكون البلوغ في أربع عشر سنة أو في أحد وعشرين.
7 - يجب دفع المال عند تحقّق البلوغ والرشد على الفور ولا يجوز التأخير لحصول سبب الدّفع وهو البلوغ والرّشد ، ولإتيانه بالفاء الدالة على التعقيب.
8 - قوله « وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً » فيه إيماء إلى جواز الأكل بوجه وهو قوله
ص: 104
( وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قيل هو أن يأكل قدر كفايته وما لا بدّ له منه وقيل على قدر عمله وقيل أقلّ الأمرين ، وهو أجود لقوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1) ولا ريب أنّ هذا أحسن ، وفي الحديث أنّ رجلا قال للنبيّ صلى اللّه عليه وآله إنّ في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال : بالمعروف غير متأثّل مالا ولا واق مالك بماله ، فقال : أفأضربه؟ قال : ممّا كنت ضاربا منه ولدك (2).
وعن ابن عبّاس أنّ وليّ يتيم قال له أفاشرب من لبن إبله؟ قال إن كنت تبغي ضالّتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضرّ بنسل ولا ناهك في الحلب (3).
وروى محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال : سألته عن رجل بيده ماشية لابن أخ له يتيم في حجره أيخلط أمرها بأمر ماشيته؟ قال إن كان يلوط حياضها ويقوم على مهنتها ويرد نادتها فليشرب من ألبانها غير منهك للحلاب ولا مضرّ بالولد (4).
9 - الغنيّ : ذو الملاءة ، وظاهر الآية يقتضي عدم جواز أخذه شيئا من مال اليتيم على عمله لقوله « فَلْيَسْتَعْفِفْ » أي يعف كما قلناه والأمر للوجوب ، وهل يجب على الفقير إذا صار غنيّا رد ما أخذه حال فقره أم لا؟ قال بعض المفسّرين نعم ، والأولى عدم الوجوب ويحمل ما ورد من ذلك على الندب أو على أخذه زائدا عن مستحقّه فيجب رده حينئذ ، وأمّا ما أخذه بحقّ فقد ملكه والأصل البراءة من وجوب الردّ.
10 - إذا دفع الوليّ إلى اليتيم المال ، فليشهد عليه بقبضه ، وهو على الندب
ص: 105
أو الإرشاد إلى المصلحة ، فإنّ له فائدتين : أحدهما دفع التهمة عن الوليّ بأكل مال اليتيم وثانيهما سقوط الضمان لو أنكر القبض أو سقوط اليمين لو ادّعى الولي التلف بغير تفريط ، وظاهر الآية يقتضي عدم تصديق الوليّ في قوله إلّا بالبيّنة ، وبه قال الشافعيّ ومالك والحقّ فيه التفصيل كما قلناه ، وهو قبول قوله في التلف بغير تفريط ، وفي النفقة على الطفل بما جرت العادة به ، أمّا تسليم المال فلا يقبل قوله فيه إلّا بالبينة ، وهذا الأمر بالإشهاد من حسن نظر اللّه للأولياء وكمال لطفه في حقّهم.
قوله ( وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً ) أي كافيا في الشهادة عليهم بالدّفع ، كذا قيل والأولى أنّ معناه كفى باللّه محاسبا فانّ الاشهاد في الظّاهر وأمّا براءة الذمة في الباطن فا [ نّ ا ] لله متولّيه يوم القيامة.
الثانية ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ) (1).
المأمور بتسليم أموالهم إليهم إمّا البالغون لما تقدّم في الآية الاولى وسمّاهم هنا يتامى تسمية للشي ء باسم ما كان عليه لقرب عهدهم بالصّغر حثّا على أن يدفع إليهم أموالهم أوّل زمان بلوغهم ، ولذلك أمر بابتلائهم صغارا أو غير البالغين فيكون الحكم مقيّدا ببلوغهم وإيناس الرشد منهم قوله « وَلا تَتَبَدَّلُوا » أي لا تستبدلوا مثل لا تتعجلوا بمعنى لا تستعجلوا « والخبيث » المال الحرام و « الطيّب » المال الحلال وقيل المراد بالطيّب هنا ما أعدّ في الجنّة لمن عفّ عن مال الأيتام ، وقيل المراد بالخبيث الرّدي وبالطيّب الجيّد قال السدّي كانوا يجعلون الشاة المهزولة مكان السمينة قيل هذا تبديل لا استبدال اللّهمّ إلّا أن يكون مكرمة مع الأصدقاء فيأخذ من الصّديق عجفاء ويعطيه من مال اليتيم سمينة.
ص: 106
قوله ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ) أي ضامّين إلى أموالكم وقيل « إلى » هنا بمعنى « مع » والمنهي عنه هنا هو ما ليس على وجه الأجرة بالمعروف كما تقدّم وعبّر بالأكل لأنّه أعظم وجوه الانتفاع والتصرف ، حيث يصير بدل ما يتحلّل.
قوله ( إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً ) أي ذنبا كبيرا.
وروي أنّ الآية نزلت في رجل كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم فلمّا بلغ اليتيم طلب المال فمنعه منه فترافعا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فنزلت فلمّا سمعها العم قال أطعنا اللّه وأطعنا الرسول ، ونعوذ باللّه من الحوب الكبير ، ودفع إليه ماله فقال صلى اللّه عليه وآله : ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنّه يحل داره أي الجنّة ولمّا أخذ الفتى ماله أنفقه في سبيل اللّه فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله ثبت الأجر وبقي الوزر ، فقيل له كيف يا رسول اللّه فقال ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على الوالد (1).
قال بعض الفضلاء هذا الخبر يحمل على أنّ والده لم يكن يحترز في تحصيل المال من الشبهات أو لم يخرج الحقوق المالية وعندي في هذا الحمل نظر إذ مقتضاه أنّ في المال حقوقا يجب إيصالها إلى أربابها فكان يجب على النبيّ صلى اللّه عليه وآله الأمر بتسليمها إلى مستحقّها ولا يدع الغلام يتصرّف فيها إذا لا يجوز له صلى اللّه عليه وآله أن يقرر على الباطل.
فالأولى أن يقال : الوزر قد يراد به الثقل كما ورد التعبير عن مثل ذلك بالعب كما جاء في حديث آخر « إلهنا لغيره والعب ء على ظهره » وحينئذ يكفي في الثقل ندم الميّت وأسفه على فوات ثوابه بصرفه في وجوه القرب ، وعدم انتفاعه به في آخرته أو أنّه إذا شاهد ما حصل لوارثه ممّا كدّ حينئذ في تحصيله تألّم بذلك.
وأمّا السؤال المشهور هنا وهو أنّ أكل مال اليتيم حرام قطعا منفردا أو منضما فلم خصّ النهي بأكله منضما؟ فأجاب عنه الزمخشريّ بأنهم لمّا كانوا أغنياء فأكل مال اليتيم منهم أقبح ، وأيضا كانوا يفعلون كذلك فنهوا عنه نغيا عليهم وتسميعا (2).
ص: 107
وقيل : لا وجه للسؤال لأنّ قوله ( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) نهي عن أكل مال اليتيم وحده لما تقدّم في التفسير الأوّل ، أي لا تتبدلوا أموالهم مكان أموالكم ولا تأكلوها منضمّة إلى أموالكم فقد استوفى النهي القسمين معا.
الثالثة ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) (1).
قيل : المراد بالآية الأولى الّذين يجلسون عند المريض ويقولون إنّ أولادك لا يغنون عنك من اللّه شيئا فقدّم مالك في سبيل اللّه فيفعل المريض بقولهم فيبقى أولاده ضائعين كلّا على الناس : فأمر [ اللّه تعالى ] هؤلاء بأن يخافوا اللّه في هذا القول ويقدّرون أنّ أولادهم هم المخلّفون ويفعلون بهم ما أشاروا به.
ويقوّي هذا القول قوله ( فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) أي موافقا بأن لا يشيروا بزائد على الثلث بل بأقلّ ، وقصّة سعد بن أبي وقّاص المتقدّمة تدلّ على هذا المعنى ، فيكون الأمر هنا على الندب.
وقيل : هو للأوصياء بأن يخشوا اللّه في القيام بأمر اليتامى ، وليقدّروا أنّهم لو كانوا هم الموتى وذرّيتهم للضعفاء تحت ولاية أوصيائهم ، كيف كانوا يخافون عليهم من الضياع ، ويريدون من الأوصياء أن يفعلوا بأبنائهم؟ فليكونوا هم في ولاية اليتامى كذلك.
ثمّ إنّه تعالى أكّد النهي عن تناول مال اليتامى زيادة عن تناول مال غيرهم لمكان ضعفهم وعجزهم وغفلتهم فقال ( إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) أي سببا للنار والتنوين فيه للنوعيّة أي نوعا من النار ، لا أيّ نار كانت ، وفي ذلك غاية التهديد قوله ( وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) إعادة ليعلم أنّ أكل مال اليتيم سبب تامّ لدخول النار
ص: 108
لا أنّه سبب ناقص صغير ، بل هو كبيرة من الكبائر.
وسئل الرضا عليه السلام كم أدنى ما يدخل به النار آكل مال اليتيم؟ فقال : قليله وكثيرة واحد إذا كان من نيّته أن لا يردّه إليهم (1).
وعنه أيضا عليه السلام أنّه قال إنّ في مال اليتيم عقوبتين اثنتين إمّا إحداهما فعقوبة الدنيا وهو قوله « وَلْيَخْشَ الَّذِينَ » الآية وأمّا ثانيتهما فعقوبة الآخرة وهو « إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً » الآية (2).
وعن الصادق عليه السلام قال في كتاب عليّ عليه السلام أنّ آكل مال اليتيم سيدركه وبال ذلك في عقبه ويلحقه وبال ذلك في الآخرة وذكر الآيتين (3).
ولنتبع هذا البحث بآيتين :
إحداهما ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (4).
قال الضحّاك المراد « بالسّفهاء » النساء فإنّهنّ من أسفه السفهاء إذ السفه خفّة العقل ، وهنّ نواقص العقول كما جاء في الحديث ، وسواء كنّ أزواجا أو بنات أو أخوات أو جواري أو غير ذلك : وفيه نظر ، لأنّه عدول عن الظاهر ، وخروج عن الحقيقة ، وتخصيص للعموم.
وقيل : هو نهي لكلّ ذي مال أن يسلّم ماله إلى السّفهاء الّذين لا يقومون بحفظ المال ، وحسن رعايته ، بل يفسدونه بتصرفاتهم الفاسدة لقوله ( أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً ) أي تقومون بها قياما لأنّكم لو ضيّعتموها بإعطاء السّفهاء ، لضعفتم
ص: 109
واحتجم. وقرئ قيّما بمعنى قياما وفي الشواذّ قواما وقوام الشي ء ما يقام به كما يقال هو ملاك الأمر لما يملك به.
وقال الفقهاء ومحقّقوا المفسّرين : إنّ الخطاب للأولياء أمروا بأن يمسكوا أموال اليتامى إلى وقت بلوغهم ورشدهم ، وينفقوا عليهم ويؤيّده قوله « وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ » وإنّما أضاف الأموال إليهم لأنّها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما قال اللّه تعالى « وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ » وهذا أقرب وأولى ، لأنّه ملائم للآيات المتقدمة والمتأخّرة ، وأيضا هو حمل اللّفظ على حقيقته العرفيّة فإنّ السفيه في عرف الفقهاء هو الّذي يصرف أمواله في غير الأغراض الصّحيحة وذلك مناسب للحجر عليه ، وإنّما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنّها في تصرفهم وتحت ولايتهم فالإضافة لمطلق الاختصاص.
وقوله « وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً » هو الوعد بالتسليم إليهم عند رشدهم وحضّهم على سولك طريق الصّواب في تصرفاتهم وهنا فوائد :
1 - إنّما ذكر الحجر على السّفيه منفردا بآية مع أنّ ذلك معلوم من قوله « فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً » للدلالة على أنّ السّفه علية برأسه في الحجر ، سواء كان للصبيّ أو البالغ ، وسواء كان تابعا للصبي أو طارئا بعد البلوغ والرشد ، خلافا لأبي حنيفة فإنّه لا يحجر على البالغ العاقل للسّفه والتبذير وخالفه صاحباه ، وتصرّفه عنده جائز وإن لم يوافق مصلحته.
2 - تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّيّة عند الأكثر ، فهل بمجرّد ظهور السفه يقع الحجر به أو لا بدّ من حكم الحاكم؟ قيل بالأوّل لحصول العلّة ، وقيل بالثاني لأنّها مسئلة اجتهاديّة فتفتقر إلى نظر وضبط فيتوقّف على الحاكم ، وكذا الخلاف في أنّه هل يزول الحجر بزواله ، أو لا بدّ من الحكم ، والحقّ الأوّل في المسئلتين مع التحقّق.
3 - الحجر على السفيه مختصّ بالتصرف الماليّ عملا بالعلّة ، فيقع تصرفه في غير المال كاستيفاء القصاص والطلاق وغيرهما بخلاف الصّبيّ والبالغ غير الرشد
ص: 110
فإنّه ممنوع من التصرّف مطلقا.
4 - تصرف السّفيه في المال مع نظر الوليّ أو إذنه فيه مع موافقته للمصلحة جائز ماض بخلاف الصبيّ والمجنون ، فانّ تصرّفهما باطل ولو أذن الولي ووافق المصلحة.
5 - في قوله « وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ » دون « منها » فائدة وهي أن يرزقوهم من ربحها لا من أصلها (1) لئلّا يأكلها الاتفاق أو أن الرزق من اللّه فيها بمعنى أنّ اللّه جعل رزقكم ورزقهم فيها فعلى الأوّل يمكن أن يحتجّ بالآية على وجوب التكسّب بمال المولّى عليه ، لظاهر الأمر ، ولئلا يأكلها النفقة ، ويحتمل عدم الوجوب للأصل ، ولأنّه اكتساب ولا يجب ، والحقّ أنّه يجب استنماؤه قدر النفقة ، فأمّا الزيادة على ذلك فندب.
وثانيتهما ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) (2).
أي عبدا لله و « مَمْلُوكاً » أي للناس « لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ » أي على شي ء من التصرّفات ، والجملة صفة « للمملوك » صفة تخصيص ليخرج المكاتب والمأذون في التصرف ، فإنّهما يقدران على التصرف في المال ، ويحتجّ بها على حكمين :
1 - الحجر على المملوك في تصرّفاته بمعنى عدم صحّة شي ء منها إلّا بإذن سيّده ، لكن هذا العموم مخصوص بصحّة تصرّفه في طلاق زوجته وبنفوذ إقراره بالمال ، ويتبع به بعد عتقه ، وكذا يقبل قول المأذون فيما هو من ضروريّات التجارة أمّا لو أقرّ المملوك بقصاص أو حدّ فعندنا لا ينفذ في الحال خلافا لأبي حنيفة اللّهمّ إلّا أن يوافقه السيد فينفذ.
2 - أنّه لا يملك شيئا سواء ملّكه مولاه أو لا ، وبه قال الشافعيّ في الجديد وأحمد وأكثر أهل العلم ، وقال في القديم يملك إذا ملّكه مولاه وقال مالك يملك
ص: 111
وإن لم يملّكه مولاه ووجه ما قلناه أنه ليس المراد من الآية نفي القدرة على الفعل لأنّه معلوم البطلان ضرورة ، فيكون المراد أنّه لا يملك وهو المطلوب وأيضا نفى عنه القدرة عموما لأنّ النكرة في النّفي يعم ، خرج من ذلك ما أخرجه الدليل فيبقى الباقي على النفي.
إن قلت : إنّ النفي وإن كان عاما لكنّه متعلّق بعبد منكّر ، وهو لا يدل على العموم فلا يلزم عدم تملّك العبيد كلّهم.
قلت : تعليق الحكم على المشتقّ يدل على كون المشتقّ منه علّة في الحكم كقولك أكرم العلماء فإنّه يدل على أنّ علّة إكرامهم علمهم ، فيعمّ أينما وجد المشتقّ منه ، وصورة النزاع كذلك ، فيعم أينما وجد الملك.
وأيضا يؤيّد ما قلناه قوله تعالى ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) (1) شبّه حاله مع عباده في نفي المشاركة في الملك بحال السادات مع مماليكهم ، ومعلوم أنّ عبادة لا يشاركون اللّه في الملك ، فكذا المماليك.
احتجّ من قال بملكه بقوله تعالى ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (2) وجه الدّلالة أنّه لو لم يصحّ تملّكهم لم يصحّ إغناؤهم ، لكن صحّ فصحّ ، وبما روي أنّ سلمان كان عبدا فأتى النبيّ صلى اللّه عليه وآله بشي ء فقال : هو صدقة فردّه فأتاه ثانيا وقال : هذه هديّة فقبله فلو كان لا يملك لما قبله منه.
وأجاب الشيخ عن الأوّل بجواز أن يريد اللّه أن يغنيهم بالعتق ، وعن الثاني بالمنع من كون سلمان مملوكا حقيقة بل كان محكوما عليه من غير التملّك الشرعيّ وإن سلّم جاز أن يكون الهديّة بإذن سيّده ، وعلم النبيّ صلى اللّه عليه وآله ذلك فقبلها.
وفي الجواب الأوّل نظر لأنّه إن توجّه فإنّما يتوجّه على تقدير تزويج
ص: 112
العبيد والإماء بالأحرار ، لأنّه ربما يؤدّي إلى عتقهم بسبب أولادهم ، وأمّا إذا زوّجوا بأمثالهم فلا ، وأيضا لو كان العتق غنى كان الرّق فقرا وحينئذ كان فقر العبد متحقّقا فيكون حجّة لنا وكلمة « إن » وإن كان محلّها المحتمل لكن جاز استعمالها في المتحقّق مثل قوله تعالى ( وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ) (1).
في العطايا المنجزة كالوقف والسّكنى والصّدقة والهبة وغير ذلك وليس في الكتاب آيات مختصّة بذلك بل آيات تدلّ بعمومها وظواهرها على الحضّ على فعل الخيرات ، فيدخل في ذلك ما ذكرناه وقد ذكر الراونديّ والمعاصر من ذلك آيات :
الاولى ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (2).
الثانية ( وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ) (3).
الثالثة ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ - الى قوله وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ ) (4).
وقد مضى البحث في ذلك فلا وجه لإعادته ، وتمام البحث في الأمور الأربعة مستوفى في كتب الفقه.
ص: 113
وفيه أبحاث :
وفيه آيتان :
الاولى ( وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) (1).
« ما » موصولة وهي مبتدأ ولتضمنها معنى الشرط دخل الفاء في خبره ، ومعناه وما أنفقتم من نفقة في الطّاعات أو في المعاصي فإنّ اللّه يعلم ذلك فيجازي على عمله من الثواب والعقاب بقدر علمه ، فإنه لا يفوته شي ء من خفيّات الأمور وكذلك حكم ما نذرتم من نذر في طاعة أو معصية.
والضمير في « يَعْلَمُهُ » عائد إلى لفظة ما ، ولذلك ذكّره ، « وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ » أي ليس للّذين يمنعون الصّدقات أو ينفقون في المعاصي أو لا يوفون بالنذر أنصار يوم القيامة وهنا فوائد :
1 - في ذكر العلم بعد الإنفاق والنذر ، وإردافه بالظلم بسبب المخالفة دلالة على وجوب الوفاء بالنذر وذلك هو المطلوب.
2 - النذر قد يكون مطلقا كقوله « لله عليّ أن أفعل كذا من الطاعات » وقد يكون مشروطا بحصول أمر واجب أو مندوب أو مباح أو انزجار عن محرّم أو مكروه فيقول : إن كان كذا فعليّ كذا من الطاعة الواجبة أو المندوبة ، ولا خلاف في انعقاد
ص: 114
الثاني وفي الأوّل خلاف والأصح انعقاده لعموم « ( إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ) (1) » وعموم قوله صلى اللّه عليه وآله « من نذر أن يطع اللّه فليطعه (2) ».
وقال المرتضى بعدم انعقاده مدّعيا الإجماع ولأنّ غلام ثعلب نقل أنّ النذر لغة وعد بشرط ، فيكون كذلك شرعا لأنّه جاء بلغتهم والأصل عدم النقل ، وأجاب القائل بانعقاده بمنع الإجماع لعدم تحقّقه ، ومنع النقل فإنّه نقل أنّه وعد بغير شرط وقد وجد في أشعارهم كقول جميل :
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي *** وهمّوا بقتلي يا بثين لقوني (3)
3 - النذر عبادة لفظيّة ، وكذا العهد واليمين ولا تكفي النيّة القلبيّة ، وإن كانت شرطا من غير تلفّظ ، وقال بعض الفقهاء بالاكتفاء وليس بشي ء.
الثانية ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (4).
نزلت هذه الآية الكريمة في عليّ وفاطمة عليهما السلام وقصّتهما مشهورة والاستدلال بها من وجهين :
1 - أنّها خرجت مخرج المدح لهم عليهم السلام ، وذلك دليل رجحان الوفاء بالنذر.
2 - إرداف الوفاء بخوف شر يوم القيامة ، وفيه دلالة على وجوب الوفاء إذ المندوب لا يخاف من تركه العقاب ، و « المستطير » المنتشر.
ص: 115
وفيه آيات.
الاولى ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) (1).
دلّت على وجوب الوفاء بالعهد من وجهين :
1 - صيغة الأمر في قوله « وَأَوْفُوا » والأمر للوجوب.
2 - كون العهد مسئولا ولا يسئل عن غير الواجب ، فيكون الوفاء به واجبا.
الثانية ( وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (2).
وهذه أيضا فيها أمر صريح بالوفاء فيكون واجبا ، وأكّد ذلك الوجوب بأنّه وصاهم به وفيه حضّ عظيم على الوفاء وعلّله بقوله « لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » أي لتتّعظوا به لتنالوا به مرتب التّقوى.
الثالثة ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ ) (3).
عهد اللّه هنا أعم من أن يكون بنذر أو عهد أو يمين ولذلك قال « وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها » وفي الآية حكمان :
1 - وجوب الوفاء بالعهد.
ص: 116
2 - وجوب الوفاء بمقتضى اليمين ، وأكّد ذلك بعدّة تواكيد :
الأوّل « جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً » أي رقيبا فانّ الكفيل يراعي حال المكفول فهو حفيظ عليه.
الثاني « إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ » من الوفاء وعدمه ، وفيه تهديد عظيم على النكث وحضّ على الوفاء.
الثالث : شبّههم في نقضهم وعدم وفائهم بحال « الّتي ( نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) » جمع نكث بكسر النون ، في خرقها وقلّة عقلها وهي امرأة يقال لها ريطة بنت سعد بن تميم وكانت خرقاء اتّخذت مغزلا قدر ذراع ، وصنارة مثل إصبع ، وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن.
الرابع : وبّخهم في نقضهم بقوله « تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ » بفتح العين قال الجوهريّ : هو المكر والخديعة ، وهو منقول من قولهم فلان دخل في بني فلان إذا انتسب إليهم ، ولم يكن منهم ، وانتصابه على أنّه مفعول ثان « وتتّخذون » حال من « لا تنقضوا » أي لا تتّخذوا أيمانكم متّخذين لها دخلا بينكم « أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ » أي لأجل أنّ امّة هي أكثر من امّة نفسا أو مالا أو عزّا أو جاها أي إنّكم إذا حلفتم على أمر لقلّتكم وضعفكم ، ثمّ كثّر اللّه عددكم أو مالكم لا تنقضوا الأيمان واثبتوا عليها و « أربى » منصوب المحلّ لكونه خبرا « وهي » ضمير فصل ، وقال الزجّاج إنّه مرفوع المحلّ على أنّه خبر المبتدأ و « هي » مبتدأ ولا يجوز الفصل بين نكرتين.
الخامس « إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ » أي يختبركم اللّه بالأمر بالوفاء بالعهد ليجازيكم في القيامة على الوفاء والنكث وهنا أحكام :
1 - في الآية إشارة إلى أنّ حكم اليمين والعهد واحد ولهذا عبّر عن العهد باليمين بقوله « وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ » عقيب قوله « وَأَوْفُوا ».
ص: 117
2 - أنّ النذر والعهد واليمين تشترك في كونها تكون مطلقة ومشروطة. وفي كون الشرط طاعة أو مباحا أو زجرا عن محرم أو مكروه ويخالف الأخيران الأوّل في كون الجزاء في الأوّل لا يكون إلّا طاعة ، وجزاء الأخيرين أعمّ فإنّه قد يكون مباحا مع تساوي طرفيه دينا ودنيا فيأتي بمقتضى عهده أو يمينه ، أمّا لو ترجّح أحد طرفيه فيهما ، فان كان ذلك هو المتعلّق وجب الوفاء به ، وإن كان غيره جازت المخالفة ، لقوله صلى اللّه عليه وآله « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذي هو خير » (1) ولا كفّارة عندنا خلافا للقوم.
3 - يتبع في متعلّق الثلاثة مدلول لفظه شرعا ، فان لم يكن فمدلوله عرفا فان لم يكن فمدلوله لغة.
4 - النقض هو مخالفة ما وقع العهد واليمين عليه ، فانّ الفعل أو الترك يصير واجبا باليمين والعهد ، وترك الواجب حرام.
5 - قوله « بَعْدَ تَوْكِيدِها » أي توثيقها بذكر اللّه ، وفيه دلالة على أنّ الحالف والناذر إذا لم يذكر اللّه لم يصر المحلوف عليه والمعاهد واجبا ، ويجوز مخالفته على كراهية أمّا لو حلف أو عاهد على فعل محرّم ، فيجب مخالفته.
وفيه آيات :
الاولى : ( وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2).
العرضة فعلة من العرض ، والفعلة للمقدار كالخطوة ، أي مقدار ما يعرض من
ص: 118
أيّ شي ء كان ، سواء كان العارض حاجزا بين الشيئين كما يقال فلان عرضة دوننا أو لم يكن بل يكون معرضا للشي ء كما يقال فلان عرضة للناس ، أي نصب للوقوع فيه.
فعلى هذا يحتمل أن يكون الآية من المعنى الأوّل أي لا تجعلوا اللّه حاجزا لأيمانكم أي حاجزا لما حلفتم عليه ، وسمّي المحلوف عليه يمينا لتلبّسه باليمين كقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله لعبد الرّحمن بن سمرة « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير » (1) ويكون « أَنْ تَبَرُّوا » نصبا على أنه عطف بيان « لِأَيْمانِكُمْ » أي للأمور المحلوف عليها الّتي هي البرّ والتقوى والإصلاح ، كذا قيل ، وفيه نظر لأنّ حمل الأيمان على المحلوف عليه إن صحّ كان مجازا ولا يصار إليه إلّا مع تعذر الحقيقة ، وليست متعذّرة لجواز أن يكون الآية من المعنى الثاني أي لا تجعلوا اللّه معرضا لأيمانكم أي لا تكثروا الحلف به حتى في المحقّرات ، وفي غير المهمّات الضروريّة ، ولذلك ذمّ الحلّاف بقوله « وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلّافٍ مَهِينٍ » (2) ويكون « أَنْ تَبَرُّوا » علّة للنهي أي أنهاكم عن ذلك إرادة برّكم وتقواكم وإصلاحكم بين الناس ، فانّ الحلّاف مجترئ على اللّه والمجترئ ، لا يكون بارّا ولا متّفقا ولا موثوقا به في إصلاح ذات البين.
ويستفاد من التأويل الأوّل أنّه متى تضمن اليمين ترك برّ أو تقوى أو إصلاح ، فإنّها باطلة لا يجب العمل بمضمونها ، ويجوز مخالفتها ومن الثاني النهي عن كثرة الأيمان ، وإن كانت صادقة.
وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة وهذا الّذي فسّرنا به الآية هو تحقيق ما قاله المفسّرون ، ولهم هنا أقوال في الآية أعرضنا عنها لعدم تحقيقها.
الثانية ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ
ص: 119
قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (1).
يمكن أن يكون هذا جواب سؤال مقدّر ، تقديره إذا نهى عن جعل اللّه عرضة للأيمان ، هلك الناس لكثرة حلفهم باللّه ، فأجاب بقوله « لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ » و « اللغو » لغة هو الساقط أو ما لا فائدة فيه ، واختلف في المراد بالآية فقال طاوس هي يمين الغضبان ، وقال الحسن هي يمين الظانّ ، وهو أن يحلف على شي ء يظنّه أنه على ما حلف عليه ولم يكن ، وبه قال أبو حنيفة وقال ابن عبّاس هو قول الرّجل لا واللّه وبلى واللّه ممّا يؤكّد به كلامه من غير قصد إلى القسم حتّى لو قيل له إنّك حلفت قال لا ، وبه قال الشافعيّ وأصحابنا وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام (2).
وقال مالك هي الحلف على الماضي وهي الغموس ، والمراد بعدم المؤاخذة هو عدم العقاب ، وعدم الكفّارة معا ، وقال الزّمخشري : يكفي عدم أحدهما ، وفيه نظر لأنّه لو ثبت أحدهما لثبت المؤاخذة ، لكنّه ليس فليس.
قوله « وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ » الفرق بين كسب اللّسان وكسب القلب أنّ القلب لا يخالف النفس المكلّفة بخلاف اللّسان ، فإنّه فضوليّ قد يخالفها ، ويصدر منه ما لم يأذن به النفس ، فلا يليق بالحكيم المؤاخذة بما لم تأذن النفس في فعله ، وفي هذا الكلام إشارة إلى اشتراط القصد في اليمين والنيّة ، فلا يقع يمين الغضبان ، غضبا يرتفع معه القصد ، وكذا الساهي والغافل « وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ » يغفر لكم ما لم يكسبه قلوبكم ، ويحلم عنكم بعدم المؤاخذة.
الثالثة ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ
ص: 120
وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (1).
هنا فوائد :
1 - قد تقدّم معنى يمين اللّغو ونزيد هنا فنقول : الحقّ أنّه ما يسبق إلى اللسان من غير قصد ، وسئل الحسن عنه فقال الفرزدق وكان حاضرا دعني أجبه يا أبا سعيد فقال :
وليست بمأخوذ بلغو تقوله *** إذا لم تعمّد عاقدات العزائم
وهو الّذي أردناه ، وذلك أنّ حكم الأيمان حكم الايمان ، فكما أنّ الايمان باللّسان ليس إيمانا في الحقيقة ما لم يعقده بقلبه كذلك الأيمان باللّسان ليس بأيمان يوجب كفّارة [ ولا ] إثما.
2 - قرأ حمزة والكسائيّ « عَقَّدْتُمُ » بالتخفيف وقرء ابن عامر « عاقدتم » وهو من فاعل بمعنى فعل كعافاه اللّه ، والباقون بالتشديد ، ومعنى الجميع وثّقتم أيمانكم بالقصد والنيّة.
ومنع الطبري من قراءة التشديد لأنّه لا يكون إلّا مع تكرير اليمين ، والحال أنّ المؤاخذة تحصل باليمين الواحدة وأجيب بوجوه :
الأوّل : أنّ التعقيد أن يعقدها بقلبه ولسانه ، ولو عقد بأحدهما لا غير لم يكن تعقيدا ، الثاني قال أبو علي الفارسي أنه لتكثير الفعل ولمّا كان مخاطبا للكثرة يقوله « لا يُؤاخِذُكُمُ » اقتضى كثرة اليمين والتعقيد كقوله « ( وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ) (2) » قال أو يكون « عقّد » مثل ضعّف فإنّه لا يراد به التكثير كما أنّ ضاعف لا يراد به فعل من اثنين ، الثالث قال الحسن بن علي المغربي : في التكثير فائدة وهو أنّه إذا كرّر اليمين على المحلوف الواحد ، ثمّ حنث لم يلزمه إلّا كفّارة واحدة ، على خلاف بين الفقهاء.
ص: 121
قوله « وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ » فيه حذف تقديره بنكث ما عقّدتم الإيمان أو يكون التقدير وحنثتم « فَكَفّارَتُهُ » أي كفّارة حنثه.
3 - إذا حنث الحالف عمدا اختيارا ، وجبت عليه الكفّارة المذكورة في الآية وهي جامعة بين التخيير في الثلاثة الأول ، والترتيب بعد العجز بوجوب الصيام.
وهنا أحكام :
1 - الإطعام يصدق إمّا بالتسليم إليهم ، أو بإحضارهم ، وجعل الطعام بين أيديهم ليأكلوا.
2 - اختلف في قدره ما يعطى المسكين ، فقال أبو حنيفة : نصف صاع من برّ أو صاع من غيره ، أو يغدّيه ويعشّيه ، وقال الشافعي لكل مسكين مدّ وهو قول أصحابنا.
3 - المراد بالأوسط إمّا في النوع أو القدر والظاهر الأوّل.
4 - لا يجزي إطعام مسكين عشرة أيّام ، لعدم صدق العشرة على الواحد ولاختصاص الكثرة بمزيد فائدة وكذا في الظهار خلافا لأبي حنيفة فيهما.
5 - المسكين هو الّذي يجوز دفع الزكاة الواجبة إليه ، وقد تقدّم تحقيق معناه ولا يجوز إطعام أهل الذمّة خلافا لأبي حنيفة.
6 - كسوة الفقير : قيل ثوبان ، والحق أنّه يكفي الواحد ولو غسيلا ولا يكفي النعل ولا القلنسوة ، وبه قال الشافعيّ وقال مالك : إن أعطى رجلا كفى الواحد ، وإن أعطى امرأة لا يجزي إلّا ما يجوز فيه الصلاة وهو ثوبان قميص ومقنعة ، وقال أبو يوسف لا يجوز السراويل وقرأ سعيد بن المسيّب أو كاسوتهم (1) بمعنى أو مثلما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا.
7 - يشترط في الرّقبة الإيمان أو حكمه حملا للمطلق على المقيّد في كفّارة القتل ، وبه قال الشافعي ، قياسا على القتل ، وقال أبو حنيفة : يجوز عتق الكافر
ص: 122
وهو باطل لأنّه خبيث لا يتقرّب بمثله كما تقدّم.
8 - يشترط في الصيام التتابع ، وبه قال أبو حنيفة ، وبذلك قرأ ابن مسعود « ثلاثة أيّام متتابعات » ولأنّه أحوط وتحصيل البراءة معه يقينا وقال مالك : هو مخيّر إن شاء تابع ، وإن شاء فرّق ، وللشافعيّ القولان ، واختيار أصحابنا وإجماعهم على الأوّل.
4 - قوله « ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ » أي إذا حلفتم وحنثتم :
وهنا أحكام :
1 - أنّ الكفّارة مختصّة بالحنث في المستقبل ، ولا يجب في الغموس (1) صادقا كان أو كاذبا ، عامدا كان أو ناسيا.
وبه قال مالك ، وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد ، وقال قوم : إن كان كاذبا عالما لزمته الكفّارة قولا واحدا وإن كان ناسيا فقولان ، وهو مذهب الشافعيّ.
دليلنا : أخبار أهل البيت عليهم السلام وحينئذ يكون ظاهر الآية مخصوصا بما قلناه 2 - لا يجوز تقديم الكفّارة على الحنث إذ لا يتقدّم المسبب على السبب وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعيّ : يجوز التقديم بالمال لا الصيام لأنّه بدل عنه.
3 - إنّما تجب الكفّارة بالمخالفة ، عمدا اختيارا إجماعا ، ولا تجب بالمخالفة نسيانا عندنا ، وللشافعيّ قولان ، لنا عموم قوله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان (2) » ولم يثبت المخصّص.
5 - قوله « وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ » أي من الحنث ، وذلك إذا كان المحلوف عليه ، فعل واجب أو مندوب ، أو ترك محرّم أو مكروه أو مباح متساوي الطّرفين.
ويحتمل أن يكون المراد بحفظ اليمين عدم ابتذالها في كلّ أمر فإنّ كثرتها مكروهة ، ولذلك تقدّم « وَلا تَجْعَلُوا اللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ » وورد في بعض الأحاديث عن الصادق عليه السلام « لا تحلفوا باللّه لا صادقين ولا كاذبين » (3)
ص: 123
قوله « كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ » أي ما تحتاجون إليه « لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » نعمته على ذلك.
فائدة :
لو حلف لا يكلّمه حينا فهو ستّة أشهر لقوله تعالى « تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ ) (1) » وعليه إجماع الإماميّة ، والزمان عندهم خمسة أشهر وقال أبو حنيفة : الحين والزّمان ستّة أشهر وقال الشافعيّ لا حدّ لهما. والحقب قال أصحابنا لا حدّ له ، وبه قال الشافعيّ وقال مالك أربعون سنة ، وقال أبو حنيفة ثمانون لما روي عن ابن عباس أنّه قال في قوله تعالى « لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ) (2) » الحقب ثمانون عاما وروي أنّ الأحقاب الدّهور ، وقيل غير ذلك ، ولو نذر عتق كلّ عبد له قديم ، عنق من له في ملكة ستّة أشهر وهي رواية صحيحة عن الرّضا عليه السلام مستدلا بقوله تعالى : « ( حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (3) ».
وهنا فرع :
وهو أنه هل يجري تفسير القديم في غير ذلك من الأحكام كالإقرار أم لا ، وسيجي ء توجيه الاحتمالين ، ولو نذر الصّدقة بمال كثير كان ثمانين ، وهي واقعة أمّ المتوكّل ، لمّا نذرت ذلك ، فجمع المتوكّل الفقهاء فكلّ قال قولا ثمّ إنّ المتوكل قال له بعض جلسائه وكان الرّجل إماميّا : هل عند الأسود في هذا علم؟ يعني الهادي عليه السلام ، وكان به ادمة.
فقال المتوكّل : ويحك من تعني؟ قال : ابن الرّضا عليه السلام ، فقال وهل يحسن من هذا شيئا فقال يا أمير المؤمنين إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا ، وإلّا فاضربني مائة مقرعة ، فقال رضيت ، ثمّ قال : يا جعفر بن محمّد (4) امض إليه فاسأله
ص: 124
فقال له في الجواب : الكثير ثمانون ، فقال يا مولاي إذا قال لي : من أين له ذلك؟ فما أقول؟ فقال قل له لقوله تعالى « ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ) (1) » فعدّدنا تلك المواطن ، فكانت ثمانين.
1 - قال الصدوق يتصدّق بثمانين ، ولم يعيّن درهما وقال الشيخان ثمانون درهما ، وفصّل ابن إدريس بأنّه إن كان في عرفهم المعاملة بالدراهم ، فثمانون درهما ، وإن كان بالدنانير فثمانون دينارا ، والتفصيل حسن ، لكن قول الشيخين أقوى لما تقرر في الأصول أنّه يحتمل المطلق على المقيّد وفي رواية الحضرميّ عن الصادق عليه السلام قيّد بالدّراهم (2).
2 - لو قال بكثير من الغنم أو البقر ، كان ثمانين أيضا ، وكذا لو قال صوم كثير ، أو غير ذلك من المقيّد بالكثرة.
3 - هل يتعدى الكثير إلى الإقرار ، حتّى لو قال : « له عليّ مال كثير » كان ثمانين كما قلنا هنا أولا ، يحتمل ذلك للعلّة والاستعمال ، والأصل الحقيقة ويحتمل العدم لعدم التحديد لغة وعرفا ، ووروده في النذر لا يستلزم كونه حقيقة في المعيّن ، لأنّ الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ، خصوصا مع وروده في صور كثيرة من غير تقدير بثمانين كقوله « و ( اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً ) (3) » و « ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) (4) » وبالأوّل قال الشيخان ، وبالثاني قال ابن إدريس والفاضلان.
ص: 125
وفيه آيات :
الاولى ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) (1).
إنعام اللّه هو توفيقه للإسلام ، وإنعام النبيّ صلى اللّه عليه وآله هو العتق له ، وتخليصه من ذلّ الرّقيّة ، والمشار إليه بذلك هو زيد بن حارثة ، وكان من قصّته أنّه أسر في بعض الغزوات في جملة أسارى فجاء قومه يستفكّون أسراهم من جملتهم أبو حارثة فطلب من النبيّ صلى اللّه عليه وآله افتكاكه بثمن ، وكان قد وقع في سهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2) فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وآله اذهب إليه فإن أرادك فهو لك بغير شي ء.
ص: 126
فلمّا أتاه أبى متابعته ، وكره مفارقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فعظم ذلك على أبيه فتبرأ منه ، فخبّر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فوهبه وأعتقه وجعله ولدا له ، فكان يدعى زيد بن محمّد ، وسيأتي تمام الآية والبحث عنها ، والغرض هنا بيان مشروعيّة العتق ، وسمّاه اللّه أنعاما إذ العتق سبب لإيجاد العتيق لنفسه ففيه شبه إيجاد بعد العدم وذلك نعمة لا توازى.
واعلم أنّ العتق يحصل بأمور :
1 - مباشرة منجّزة بغير عوض ، وهو العتق بقول مطلق ، وله عبارتان التحرير بلا خلاف ، كقوله « أنت حرّ لوجه اللّه » والإعتاق على خلاف كقوله « أنت عتيق أو معتق لوجه اللّه » ولا بدّ فيه من اللّفظ والنيّة وقصد القربة ، لكونه عبادة عظيمة قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « من أعتق نسمة مؤمنة عتق اللّه العزيز الجبّار بكلّ عضو منها عضوا منه من النار (1) ».
2 - مباشرة معلّقة على الموت بغير عوض ، وهو المسمّى في اصطلاح الفقهاء تدبيرا ، وليس في الكتاب ما فيه دلالة عليه بل هو مستفاد من السنّة الشريفة.
3 - مباشرة بعوض منجّم وهذا هو المسمّى كتابة وسيأتي بحثها.
ص: 127
4 - ملك الرّجل أحد العمودين ، أو أحد المحرّمات عليه نسبا بغير خلاف ورضاعا على خلاف ، والحقّ فيه العتق ، وملك المرأة أحد العمودين خاصّة.
واستدلّ بعضهم على هذا الحكم من الكتاب بقوله تعالى ( أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ) (1).
ووجه الاستدلال به أنّه جعل بين البنوّة والعبوديّة منافاة لأنه نفى البنوّة وأثبت العبوديّة فلا يجتمعان وإلّا لكان المثبت عين المنفيّ ، وفيه نظر لأنّ المنافاة بينهما من خواصّه تعالى ، وذلك لأنّ الابن من نوع الأب ، فلو كان له ولد لكان من نوعه ولا شكّ أنّ الحقيقة الواجبة تنافي صفة الاحتياج الّتي هي لازمة للعبوديّة فالتنافي بين العبوديّة وبين البنوّة لتنافي لازميهما ، وذلك غير متحقّق إلّا في الواجب سبحانه ، فلا يكون الاستدلال تامّا في المطلوب.
وأمّا المحرّمات فاستدلّ بقوله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (2) ووجه الاستدلال أنّها تضمنت إباحة وطي ملك اليمين فلو ملكن لأبيح وطئهنّ ، واللّازم كالملزوم في البطلان ، وبيان الملازمة بأنّ « ما » من أدوات العموم وفيه أيضا نظر لأنّا نمنع أنّ كلّ مملوكة يصحّ وطيها فإنّه لو وطئ إحدى الأختين حرمت الثانية ، وكذا لو لاط بأخ مملوكته أو ابنها أو أبيها حرم وطؤها مع كونها مملوكة ، وكذا لو ملك موطوءة أبيه أو ابنه ولو استدلّ على ذلك بالسنّة الشريفة كان أليق.
5 - مباشرة عتق نصيبه من المشترك يوجب عتق الباقي عليه ، ويلزمه القيمة مع يساره بها فاضلا عن قوت يومه ، ودست ثوبه ، لقوله صلى اللّه عليه وآله « من أعتق شركا له من عبد وله مال قوّم عليه (3) » وكذا لو أعتق بعض عبده سرى عليه بطريق الأولى ولأنّ رجلا أعتق بعض غلامه فقال عليّ عليه السلام « هو حرّ ليس لله شريك (4) ».
ص: 128
6 - لو نكّل بعبده عتق عليه.
7 - إذا عمي العبد أو أقعد أو أجذم عتق عليه.
8 - إذا أسلم العبد وخرج إلى دار الإسلام عتق على سيّده.
9 - إذا استولد أمة كان ذلك موجبا لعتقها بعد موته على ولدها من نصيبه وقال العامّة أنّه لا يجوز بيعها ولا التصرف في رقبتها بوجه ، وتعتق عليه عتقا مشروطا بوفاته والحق مذهب أصحابنا لأصالة بقاء الملك على حاله ولأنّه يجوز عنقها ، فلو لم تكن ملكا لم يصحّ ، نعم على مذهبنا لا يجوز نقلها (1) ما دام ولدها حيّا إلّا في مواضع :
الأوّل : ثمن رقبتها مع الإعسار به ، الثّاني أن يفلس مولاها قبل علوقها الثّالث أن تكون مرهونة ولحق الاستيلاد ، الرّابع أن تجني جناية تستغرق قيمتها الخامس أن تسلم في يد سيّدها الكافر ، السّادس أن يموت قريبها ولا وارث سواها السّابع أن يعجز المولى عن نفقتها ، الثّامن موت سيّدها مع استغراق الدّين لتركته التاسع بيعها على من تنعتق عليه ، العاشر بيعها بشرط العتق على الأقرب.
الثانية ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ ) (2).
نقل أنّ حويطب بن عبد العزّى كان له عبد يسمّى صبيحا سأله أن يكاتبه فأبى فنزلت (3).
قوله « يبتغون » أي يطلبون و « الكتاب » بمعنى المكاتبة ، وهي مشتقّة من الكتب ، وهو الجمع كأنه قد جمع عليه نجوما وفي الآية أحكام :
1 - الأمر بها وفيه بيان لمشروعيّتها ، وهي مستحبّة مع الأمانة والكسب
ص: 129
فإن سألها العبد تأكّد الاستحباب ، ولو لم يكن العبد أمينا ولا كسوبا فهي مباحة ، وقال أحمد تكون مكروهة حينئذ وليس بشي ء.
2 - الأمر في الآية للندب لأصالة عدم الوجوب ، سواء سأل الكتابة بقيمته أو بأزيد أو بأنقص ، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعيّ ، وقال بعض أهل الظاهر : إن سألها بقيمته أو أكثر وجب إجابته ، وليس بشي ء لعموم قوله صلى اللّه عليه وآله « الناس مسلّطون على أموالهم (1) ».
3 - الكتابة معاملة مستقلّة ليست بيعا للعبد من نفسه ، لانتفاء لوازم البيع المتقدّمة والمتأخّرة ، ولا عتقا بصفة إذا العتق غير قابل للتعليق حال الحياة.
4 - عبارة الكتابة أن يقول السيد « كاتبتك على أن تؤدّي إليّ كذا في وقت كذا فإذا أدّيت فأنت حرّ » فيقبل العبد ، فان اقتصر في العقد على ذلك ، فهي مطلقة ، وإن قال « فان عجزت فأنت رقّ » فهي مشروطة ، وحكم الاولى أنه يتحرّر منه بقدر ما يؤدّي ، وحكم الثانية أنه رق ما بقي عليه شي ء ، وهي بنوعيها لازمة وبه قال مالك وأبو حنيفة ، لكن مالك لا يجبر العاجز على التكسّب وأبو حنيفة يجبره ، وقيل المشروطة جائزة من الطرفين وقيل بل جائزة من طرف العبد خاصّة وبه قال الشافعيّ ، والأصح الأوّل « لعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) ».
5 - قد بيّنا في العبارة أنّه يقول « فإذا أدّيت فأنت حرّ » قال أبو حنيفة ذلك ليس بشرط لا نية ولا لفظا ، وقال أصحابنا : لا بدّ مع ذلك من نيّة ، وبه قال الشافعيّ وأما اللّفظ ، فقال بعض أصحابنا والشافعيّ باشتراطه أيضا ، فلو عدما أو أحدهما ، لم ينعتق ، ولا شكّ أنّ ذلك أحوط.
6 - في قوله « وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ » إشارة إلى اشتراط بلوغ العبد وعقله ، إذ الصبي والمجنون لا قصد لهما معتبر ، وكذا يشترط جواز تصرّفه.
ص: 130
وهل يشترط في المال التأجيل؟ قيل : لا ، فيجوز حالا ، وفيه نظر لجهالة وقت الحصول ، ولعدم ملك العبد حالة العقد ، إذ ما بيده لمولاه ، وتجويز حصول الزكاة والهبة تعليق للواجب بالجائز ، وقيل نعم ، وبالأوّل قال أبو حنيفة ومالك وبعض أصحابنا ، وبالثاني قال الشافعيّ وأكثر الأصحاب ، وهو أولى ، نعم شرط الشافعيّ تعدّد الأجل ، وليس بشي ء بل يكفي واحد لحصول الغرض به.
7 - الخير ورد بمعنيين الأوّل ما يرجع إلى الأمور الدينيّة كقوله تعالى : ( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (1) وأمثاله والثاني ما يرجع إلى الأمور الدّنيويّة كقوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (2) وقوله ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً ) (3) واختلف في المراد هنا ، فقال الشيخ : هما معا ، بناء على حمل المشترك على كلا معنييه ، وبه قال الشافعي ومالك ، وقال ابن عبّاس هو الأوّل فقط أعني الأمانة ، وقال الحسن البصريّ والثوريّ هو الثاني أعني الاكتساب فقط.
ويتفرّع عليه صحّة كتابة العبد الكافر ، فعلى الأوّلين لا يصح ، وعلى الثّاني يصح ، والأوّل أقوى ، إذ الكافر لا خير فيه ، ولأنّ فيه تسليطا للكافر على المسلمين ، ولأنّه يعطى من الزكاة ، والكافر لا يعطى منها ، ولا يرد المؤلّف قلبه إذ إعطاؤه لغرض التقوي به على الجهاد.
فرع : المراد بالعلم ههنا الظنّ المتاخم للعلم.
8 - قال المفسّرون في قوله « وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ » إنّ المراد ضعوا عنهم شيئا من نجومهم ، فقيل الربع وقيل ليس بمقدّر ، وقال الفقهاء : السيّد إن وجب عليه الزكاة ، وجب عليه إعانة مكاتبه منها ، لقوله « مِنْ مالِ اللّهِ » أي من الزكاة كما تقدّم في قوله « وَفِي الرِّقابِ » وإن لم يجب عليه استحبّ إعانته من مال نفسه ، وهذا قول أكثر أصحابنا.
ص: 131
وقال بعضهم يجب الإيتاء مطلقا ، وبه قال الشافعيّ وقيل يستحب مطلقا ، وبه قال أبو حنيفة ، ولبعض متأخّري الأصحاب تفصيل لا وجه له وهو : وجوب إيتاء من يموت مكاتبا مطلقا عاجزا وكون المؤتي يجب عليه الزكاة ، وإن كان غير سيّده ، وبه قال بعض المفسّرين ومثار (1) هذه الأقوال من أصلين هنا :
الأوّل : هل الأمر للوجوب أو الاستحباب ، قيل بالأوّل لأنّه حقيقة فيه كما تقرّر في الأصول وبه قال الأكثر ، وقيل بالثّاني لأصالة البراءة ، ولأنّ أصل الكتابة ليس بواجب ، فلا يجب تابعه.
الثاني : هل المراد بمال اللّه هو الزكاة لأنّه المتبادر إلى الفهم؟ أو المال مطلقا لأنّ اللّه هو المالك لجميع الأشياء ، ونحن المنتفعون خاصّة ، قيل بالأوّل وقيل بالثاني.
إذا عرفت هذا فنقول : من قال بوجوب الإعانة مطلقا ، قال إنّ الأمر هنا للوجوب ، وإنّ المال ليس هو الزكاة ، ومن قال بالاستصحاب مطلقا ، قال إنّ الأمر للندب ، والمال ليس هو الزكاة ، ومن قال بأنّ المال هو الزكاة والأمر للوجوب ، فذلك ظاهر ، ومن قال إنّ المال هو الزكاة والأمر للندب جعل تخصيص مكاتبه أولى ، لأنّه إعانة له على فكّ رقبته
والحق ما ذكرناه أوّلا لأنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، فيكون مشروطا بوجوب حصول مال ، وهو الزكاة ، لأنّ شرط الواجب واجب ، وأمّا إذا لم يجب الزكاة بوجه استحبّ الإيتاء ، لأنّه تعاون على البرّ والتقوى ، فيدخل تحت قوله ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (2) » ولأنّه فكّ رقبة ، فيدخل تحت قوله « ( فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ) (3) ».
1 - لا يتقدر ما يعطيه السيّد قلّة وكثرة لإطلاق اللّفظ.
ص: 132
2 - لا يتعيّن زمانه ، نعم يتضيّق إذا بقي على العبد ما يسمّى مالا.
3 - لو أخلّ بالإيتاء حتّى انعتق بالأداء ، هل يجب القضاء ، الحقّ نعم ، لأنّه واجب أخلّ به في وقته ، فيجب قضاؤه ، ولو انعتق بغير الأداء لم يجب.
4 - يجب على المكاتب القبول إذا كان من عين مال الكتابة أو مثله ، وإن كان من غير جنسه فخلاف ، والحقّ أنّه كذلك.
5 - لو دفع إلى مكاتبه المشروط شيئا من الزكاة الواجبة عليه ، ثمّ عجز فردّه رقّا ، وجب على السيد ردّ المال ، وصرفه إلى المستحقّين ، ولو كان من زكاة غيره ردّه على مالكه ليصرفه في مستحقّيه ، ولو كان من المندوبة من السيّد ، فله وكذا إن كان من غيره.
فائدة إعرابيّة هنا ، قوله « الَّذِي آتاكُمْ » يحتمل أن يكون صفة للمضاف أعني « مال اللّه » وأن يكون صفة للمضاف إليه فعلى الأوّل يكون المفعول الثاني لآتاكم ضمير محذوفا أي آتاكموه ، ويجوز حذف ضمير جملة الصلة إذا كان مفعولا وهذا الوجه أظهر في الاعراب ، وعلى الثاني يكون مفعوله نكرة عامّة أي آتاكم كلّ شي ء.
وفيه مقدّمة وأبحاث.
أما المقدمة : فقال المعاصر : النكاح لغة الالتقاء ، وهو سهو إذ لم يذكر ذلك أحد من أهل اللّغة ، بل الالتقاء التناوح لا التناكح ، والحق أنّ النكاح لغة هو الوطي ويقال على العقد فقيل مشترك بينهما ، وقيل حقيقة في الوطي ، مجاز في العقد ، وهو أولى إذ المجاز خير من الاشتراك عند الأكثر.
وشرعا عقد لفظيّ مملّك للوطي ابتداء ، وهو من المجاز تسمية للسبب باسم المسبّب ، وفيه فضل كثير قال صلى اللّه عليه وآله « تناكحوا تناسلوا تكثروا فإنّي أباهي بكم
ص: 133
الأمم يوم القيامة ولو بالسقط (1) » وقال صلى اللّه عليه وآله « شرار موتاكم العزّاب (2) » وغير ذلك من الأحاديث وهل هو أفضل من التخلّي للعبادة أم العكس ، ولا قائل بالمساواة والحقّ الأوّل لقول الصادق عليه السلام « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ما استفاد امرء فائدة بعد الإسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر إليها ، وتطيعه إذا أمرها وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله (3) » وغير ذلك ولأنّه أصل للعبادة ، وسبب لها مع كونه عبادة ولاشتماله على بقاء النوع مع العبادة ، بخلاف باقي المندوبات.
وأمّا الأبحاث فتتنوّع أنواعا.
وفيه آيات :
الاولى ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (4).
« الأيامى » مثل اليتامى في كونهما من المقلوبات جمع أيّم ويتيم وأصلهما أيايم ويتايم والأيّم الّتي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيّبا وكذلك الرّجل قال الشّاعر :
ص: 134
فان تنكحي أنكح وإن تتأيّمي *** وإن كنت أفتى منكم أتأيّم (1)
وقال جميل :
أحب الأيامى إذ بثينة أيّم *** وأحببت لمّا أن غنيت الغوانيا (2)
والخطاب للأولياء والسّادات بأن يزوّجوا من لا زوج له من الحرائر والإماء ، والأحرار والعبيد ، وأتى بجمع المذكّر في الصالحين تغليبا فانّ المراد الذكور والإناث وقيّد الصلاح لأنه يحصن دينهم وقيل لأنّه حينئذ يشفق عليهم ساداتهم ، وقيل : المراد بالصلاح القيام بحقوق النكاح.
وفي الكلّ نظر فإنّ الأوّلين لا يوجبان التخصيص ، والثالث خلاف الظاهر والأولى أنّه ترغيب في الصّلاح ، لأنّهم إذا علموا ذلك ، رغبوا في الصلاح ، أو من باب تسمية الشي ء باسم ما يؤول إليه ، فإنّ الفاسق إذا زوّج استغنى بالحلال عن الحرام.
( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ ) قضيّة مهملة في قوّة الجزئيّة ، أي قد يكون إذا كانوا فقراء يغنهم اللّه من فضله لا كلّما كانوا فقراء يغنهم اللّه ، فلا يرد ما يقال : فلان كان غنيّا أفقره النكاح. ويؤيّده قوله ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ) (3) إلخ
ص: 135
إذا تقرر هذا فهنا أحكام :
1 - قيل : الأمر هنا للوجوب ، ولذلك قال داود بوجوب النكاح للقادر على طول حرّة ، ومن لم يقدر فلينكح أمة ، وكذلك المرأة يجب عليها أن تتزوّج عنده وقيل على الكفاية ، وهما ضعيفان لأصالة البراءة ، ولإجماع أكثر الفقهاء على خلافه ولأنّه لو وجب لما خيّر بينه وبين ملك اليمين في قوله ( فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (1) واللازم باطل فكذا الملزوم ، وبيان الملازمة بأنّه لا تخيير بين الواجب والمباح ولا شكّ في إباحة ملك اليمين ، وأنه ليس بواجب عند داود ، ولا يقوم مقام النكاح الواجب عنده ، نعم النكاح قد يجب إذا خشي الوقوع في الزنا كما سيجي ء.
2 - النّكاح مستحبّ لمن تاقت نفسه إجماعا ، ومن لم يتق ، قال أكثر الفقهاء باستحبابه أيضا لعموم الآية ، وقوله صلى اللّه عليه وآله « تناكحوا تكثروا » وقال الشيخ تركه لهذا مستحبّ لقوله تعالى ( سَيِّداً وَحَصُوراً ) (2) مدحه على الترك فيكون راجحا وفيه نظر لاحتمال اختصاصه بشرع غيرنا (3) وقال بعض فقهائنا كلّما اجتمعت
ص: 136
القدرة على النّكاح والشهوة له استحبّ للرّجل والمرأة ، وكلّما فقدا معا كره وإن افترقا بأن كان قادرا غير تائق أو تائقا غير قادر ، لا يكره ولا يستحب ، وفيه نظر لعموم الأمر في الآية والحديث ، ولما صحّ عنه « من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي ومن سنّتي النكاح (1) ».
3 - أنّ استحباب النكاح والإنكاح شامل للرّجل والمرأة ، الغنيّ والفقير التائق وغيره ، وقيل : بل المراد إن كانوا فقراء إلى النكاح والظاهر يدفعه.
4 - في الآية دلالة على أنّ المهر والنفقة ، ليس بشرط في النكاح ، وهو ظاهر ولذلك لا يجوز لها الفسخ مع عجزه ، نعم القدرة المذكورة شرط في وجوب الإجابة للكفو.
ص: 137
5 - فيه إشارة إلى أنّ العبد والأمة لا يستبدّان بالنكاح ، وإلّا لما أمر الوليّ بانكاحهما وأنّ للمولى ولاية الإجبار.
6 - فيه إشعار بأنّ الفقر ليس مانعا من الرّغبة في النكاح خوف العيلة ، فإنّ خزائن فضله تعالى لا تنقص ولا تغيض ، ولذلك عقّبه بقوله ( وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) تعليلا للأغنياء بسعة قدرته عليه وعلمه بما يصلح عباده.
الثانية ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1).
أي إن كان الفقير يخاف زيادة الفقر بالنكاح ، فليجتهد في قمع الشهوة ، وطلب العفّة بالرياضة لتسكين شهوته ، كما قال صلى اللّه عليه وآله « يا معشر الشبّان من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء (2) ».
قوله « لا يَجِدُونَ نِكاحاً » أي أسبابه إذ المراد بالنكاح ما ينكح به ، أو المراد بالوجدان التمكّن منه ، فعلى الأوّل « نكاحا » منصوب على المفعوليّة ، وعلى الثاني بنزع الخافض ، أي من النكاح حتّى يغنيهم اللّه من فضله فإنّ الأمور مرتهنة بأوقاتها.
ص: 138
ولا يرد لزوم التناقض بين الكلامين ، فإنّه أمر في الأولى بالتزويج مع الفقر وفي الثانية أمر بالصبر عنه مع الفقر لأنّا نقول إنّ الاولى وردت للنّهي عن ردّ المؤمن لأجل فقره ، وترك تزويج المرأة لأجل فقرها ، والثانية وردت لأمر الفقير بالصبر على ترك النكاح ، حذرا من تعبه به حالة الزواج ، فلا تناقض حينئذ على أنا نقول إنّهما مهملتان فلا يتناقضان.
الثالثة ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلّا تَعُولُوا ) (1)
قسط يقسط قسوطا إذا جار وأقسط إذا عدل فهو مقسط ومنه « إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ » فكان الهمزة في أقسط للإزالة نحو أشكيته أي أزلت شكايته ، والمراد بما طاب لكم قيل ما وافق طباعكم من الحلال منهنّ ، وقيل : المراد ما حلّ. ولا شكّ أنّ الطيّب حقيقة فيما وافق الطبيعة ، ومجاز في الحلال.
فعلى الأوّل يلزم الإضمار ، وعلى الثّاني المجاز ، فقيل هما سواء ، وقيل الإضمار أولى وتحقيقه في الأصول ، وإنّما قال « ما » ولم يقل « من » لأنّ لفظة « ما » موضوعة لمعنى شي ء أعمّ من « من » فيصدق على ذوي العقل وغيرهم والأعداد المذكورة معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاث ثلاث ، وأربع أربع « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا » بين الأعداد المذكورة فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم ، ولم يقل « من » لما تقدّم « ذلك » أي التخيير بين الواحدة وما ملكت أيمانكم أقرب أن لا تمونوا ولا تنفقوا ، يقال عال الرّجل عياله ، إذا مانهم وأنفق عليهم والمعنى
ص: 139
أنّ اقتصاركم على الواحدة أو ملك اليمين مظنّة لقلّة إنفاقكم بسبب قلّة عيالكم ، وقيل : أن لا تجوروا ، من قولهم : عال الحاكم في حكمه ، إذا جار ، وهو مأخوذ من قولهم عال الميزان إذا مال ، فإنّ الجائر مائل عن الحقّ.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد يتبعها أحكام :
1 - قيل في سبب نزولها أقوال الأوّل أنّهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرّجون من الزنا فقيل لهم : إن تحرّجتم من ذنب فينبغي أن تحرّجوا من مثله ، لاشتراكهما في وجه القبح ، الثاني : أنّه لمّا نزل أنّ في أكل أموال اليتامى حوبا تحرّجوا من ولايتهم ، ولم يتحرّجوا من تكثير النّساء وإضاعة حقوقهنّ فقيل لهم ذلك ، تقليلا للنساء المستلزم لسهولة العدل بينهنّ ، الثالث : أنّ الرجل كان يجد يتيمة ذات جمال ومال ، فيتزوّجها ضنّا بها ، فيجتمع عنده منهنّ عدّة ولا يقدر على القيام بحقوقهنّ ، فنزلت (1) أي إن خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى فتزوّجوا غيرهنّ والكلّ محتمل.
2 - الأمر هنا كالأمر في الآية المتقدّمة ، والبحث فيه كما تقدّم.
3 - إذا فسّرنا الطيّب بما وافق الطبيعة ، فعموم الآية مخصوص بآية المحرّمات كما يجي ء.
4 - قال الزّمخشري : إنّما أتى بصيغة المعدول دون الأصل لأنّ الخطاب للجميع ، فوجب التكرير ، ليصيب الاذن لكلّ ناكح يريد الجمع ، لما شاء من العدد الّذي أطلق له ، كما تقول لجماعة أقسموا هذا المال درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولو أفردت كما تقول اثنين وثلاثة وأربعة ، فهم منه أن يجمع بين اثنين وثلاثة وأربعة ، لأنّ الواو للجمع ، ولم يفد التوزيع ، أي وجود كلّ عدد بدلا عن صاحبه.
والأولى أن نقول : لو قال كذلك لفهم منه ، أنّه إذا اختلّ العدد المقدور
ص: 140
عليه المأمون فيه الجواز بالموت أو الطلاق ، لم يجز له تكميل ذلك العدد لأنّه استوفى العدد المباح له ، بخلاف الألفاظ المأتيّ بها فإنّه حينئذ يفيد جواز تكميل ذلك العدد وأنّه لا جناح عليه.
5 - أكثر الفقهاء والمفسّرين على أنّ الواو هنا ليست على حالها ، وإلّا لزم الجمع بين تسع نسوة ، لكون الواو للجمع ، ومن الناس من جعل الواو بحاله وجوّز الجمع بين التسع ، وكلّ ذلك جهل وخبط ، فانّ الجمع في الحكم لا يستلزم الجمع في الزمان لأنك تقول : رأيت زيدا اليوم ، وعمرا أمس ، ولو قال بلفظ « أو » لتوهّم أنّه لا يجوز لمن يقدر على عدد منها أن ينتقل إلى عدد آخر ، وليس كذلك لأنّ من زاد تمكّنه ، فله أن يزيد ما لم يتجاوز الأربع ، ومن نقص تمكّنه فله أن ينقص بلا حرج ، لكون الواو للجمع بخلاف « أو » فافهم ذلك فيجوز للرّجل أن ينكح الأعداد المذكورة في أزمنة متعاقبة.
6 - الحصر في الأربع وعدم جواز الزائد في النكاح الدائم إجماعي ولقول الصادق عليه السلام « لا يحلّ لماء الرّجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر (1) » ولمّا أسلم غيلان (2) وعنده عشرة نسوة قال له النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أمسك أربعا وفارق سائرهنّ » أي باقيهنّ ونقل عن القاسميّة من الزيديّة جواز التسع لمكان الواو
ص: 141
كما قلنا ، بل يلزمهم جواز ثمانية عشر لأنّ قوله مثنى معناه ثنتين ، وكذا البواقي ، كذا نقل عنهم ولكنّهم ينكرونه (1).
7 - هذا العدد مباح للرّجل في الحرائر ، وأمّا العبد فلا يجوز له نكاح أكثر من حرّتين غبطة أو أربع إماء عندنا ، وقال قوم : إنّه كالحرّ ، وبه قال مالك وداود وأبو ثور ، وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد : مباح له ثنتان لا غير حرّتين كانتا أو أمتين ، لنا قوله تعالى ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) (2) نفى المساواة بين السيد وعبده ، وذلك على عمومه إلّا ما خصّ بدليل.
8 - أجمع أصحابنا على جواز نكاح المتعة وأنّه لا حصر لها (3) في عدد للحرّ
ص: 142
والعبد ، وسيأتي البحث في جوازها.
9 - أجمع المسلمون على أنّ ملك اليمين لا ينحصر في عدد ، وعموم لفظ الآية يؤيّده فإنّ « ما » من ألفاظ العموم ، وكذا الحديث المتقدّم عن الصادق عليه السلام لتقييده بالحرائر ، ولا يرد عليه منع جواز الزائد في المتعة ، لدخولها في الأزواج وإلّا لما كانت مباحة ، والأزواج لا يجوز فيها تعدّي النّصاب ، فلا يجوز في المتعة لأنّا نقول إنّه محمول على الدائم لأغلبيّته.
ص: 143
10 - الاقتصار على الواحدة غير مشترط لخوف عدم العدل ، بل يجوز مطلقا وإنّما سوّى بين الحرّة الواحدة ، وبين الإماء ، وإن كثرن ، لأنّهنّ أخفّ مؤنة ولا عدل بينهنّ في القسم ، مع جواز العزل عنهنّ ، ولذلك أطلق إباحتهنّ ولم يقيّدها بعدد ، وفيه دلالة على عدم وجوب القسمة لملك اليمين.
الرابعة ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (1).
أي يضبطونها ويمنعونها عن المباشرة ، واللّام لا يقوّى بها العامل الضعيف عن العمل ، ولذلك لا يؤتى بها في فعل تأخّر عنه مفعوله ، لا يقال ضربت لزيد ، ويقال لزيد ضربت ، وكذا « عمرو لزيد ضارب » لتقدم المفعول على الفعل وكون اسم الفاعل في العمل فرعا على الفعل فقد ضعف بالوجهين معا.
قوله « إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ » إلخ أي لا يضبطونها على أزواجهم وإمائهم ، وعدّاه بعلى كما يقال « حفظت على زيد ماله » استعلاء للحافظ على المحفوظ عليه ، لأنّه متفضّل عليه به.
وذكر الزّمخشريّ أنه في موضع الحال أي إلّا والين على أزواجهم أي إنّهم حافظون في كافّة أحوالهم إلّا في حال تزويجهم وتسرّيهم ، أو أنّهم يلامون إلّا على أزواجهم « فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ » أي فمن طلب نكاح غير الصّنفين ، فهم متجاوزون حدود اللّه ، وفائدة الفصل ب « هم » الحصر أي لا عادي كاملا في العدوان سواهم ، ولا يلزم من نفي كمال العدوان ، نفي العدوان من غيرهم.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - العبارة صريحة في الرّجال لتذكير الضمير ويكون حكم النساء مستفادا من دليل خارج ، كما أنّ حكم أهل عصرنا مستفاد من بيان الرسول صلى اللّه عليه وآله والإجماع لقبح خطاب المعدوم وتكليفه وحينئذ لا يلزم جواز نكاح العبد لمالكته.
ص: 144
وقيل : المراد الصنفان معا ، وغلب المذكّر ويلزم حينئذ جواز نكاح العبد لمالكته ، بحكم الاستثناء ، فيحتاج إلى منعه بدليل فكان الأوّل أولى لأنّه استعمال حقيقيّ.
2 - أنّ الآية صريحة في انحصار سبب الإباحة في القسمين المذكورين ، وهما الزواج وملك اليمين ، على سبيل الانفصال الحقيقيّ ، أي إمّا زواج أو ملك يمين بحيث لا يجتمعان ، ولا يرتفعان ، وأكّد ذلك بقوله « فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ».
3 - لمّا حكم أصحابنا بإباحة المتعة ، وتحليل الأمة للغير ، وجب دخولهما في المنفصلة المذكورة ، وإلّا لكانا باطلين ، فالمتعة داخلة في الأزواج وأمّا التحليل فقال بعضهم إنّه داخل في الأزواج ، ويجعل التحليل كالعقد المنقطع ، فيفتقر حينئذ إلى مهر وتقدير مدّة ، والحق خلافه ، بل هو داخل في ملك اليمين ، لأنّ الملك يشمل العين والمنفعة ، والتحليل تمليك منفعة ، ولذلك قال « أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ » لأنّها لا يشترط في مدلولها العقل ، ولو أراد ملك العين ، لقال « من ملكت أيمانهم » ويؤيّده روايات الأصحاب المتظافرة وحينئذ نقول : ملك المنفعة أعمّ من أن يكون تابعا لملك الأصل أو منفردا.
إن قلت : يلزم على قولك إباحتها في الإجارة ، وغير ذلك من العقود المملّكة للمنافع؟ قلت : خرج ذلك بالإجماع.
4 - ظهر ممّا ذكرناه أنّ البضع لا يتبعّض ، فلو ملك بعض أمة لم يحلّ له له العقد على باقيها ، وإلّا لزم التبعيض ، فيستبيح بعضها بالملك ، وبعضها بالعقد وهو باطل ، واختلف الأصحاب في تحليل الشريك له حصّته هل يبيحه الوطي أم لا؟ قال جماعة لا يبيح ، وإلّا لزم التبعيض وقيل : يبيح وهو قول ابن إدريس ، واختاره الشهيد وهو الأقوى عندي. لما قلنا إنّ الإباحة داخلة في الملك ، فيكون مستبيحا لها بالملك ، ولا يضرنا كون بعضه تبعا للعين ، وبعضه منفردا لأنّ الملك له أسباب كالشراء والاتّهاب والإرث ، ومن جملتها التحليل ، إلّا أنّه سبب ملك
ص: 145
منفعة البضع وتبعّض سبب الملك ليس بضارّ ، وإلّا لزم تحريم بعضها إذا كان بعضها بالشراء وبعضها بالإرث ، وليس كذلك اتّفاقا.
5 - دلّ قوله « فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ » على تحريم كلّ إيلاج في غير زوج أو ملك ، حتّى جلد غيره فإنه أيضا ممّا وراء ذلك
6 - حيث إنّ الزواج حكم شرعيّ حادث ، فلا بد له من دليل يدل على حصوله ، وهو العقد اللفظي المتلقّى من النصّ ، وهو إيجاب من المرأة أو من قام مقامها ، وقبول من الزوج أو من قام مقامه ، وألفاظ الإيجاب ثلاثة الأوّل « أنكحتك » لقوله تعالى ( حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (1) الثاني « زوّجتك » لقوله « ( زَوَّجْناكَها ) (2) » الثالث « متعتك » لقوله « ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) (3) » والقبول كلّ لفظ دالّ عليه.
الخامسة ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (4).
« أحلّ » أي أحلّ اللّه وقرئ ( أُحِلَّ ) عطفا على « حُرِّمَتْ » - « ما وَراءَ ذلِكُمْ » أي ما عدا تلك المحرّمات المذكورة قبل هذه ، وسيجي ء و « ما » موصولة بمعنى اللّاتي منصوبة المحلّ على القراءة المشهورة ، وعلى الثانية مرفوعة و « أَنْ تَبْتَغُوا » بدل من « ما وَراءَ ذلِكُمْ » بدل الاشتمال أي أحلّ لكم ابتغاء ما شئتم من الحلائل عدا المحرّمات المذكورة.
وقال الزمخشريّ : مفعول له ، وهو فاسد ، لأنّ المفعول له شرطه أن يكون
ص: 146
فعلا لفاعل الفعل المعلّل ، وليس الابتغاء فعلا لفاعل « أُحِلَّ » والتقدير غير محتاج إليه مع أنّه خلاف الأصل « مُحْصِنِينَ » حال من « أَنْ تَبْتَغُوا » وقال « غَيْرَ مُسافِحِينَ » ولم يستغن بقوله « مُحْصِنِينَ » لانّ المحصن بهند مثلا يمكنه أن يسافح بغيرها و « المسافحة » من السفح ، وهو صب المنيّ ، ومعناها المغالبة في صبّه ، هذا في اللغة ثمّ خصّ شرعا بالزنا لأنّ الزاني لا يحصل له بفعله إلّا صبّ المنيّ في رحم الزانية قال الجوهريّ استمتع بمعنى تمتّع ، والاسم متعة ، وما موصولة ، فقيل : المعنى : الّذي انتفعتم به من النساء ، من الجماع والتقبيل والنظر ، فآتوهنّ أجورهنّ ، وهو فاسد كما يجي ء بل المراد نكاح المتعة.
قوله « وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ » إلى آخره إشارة إلى أنّ المتعاقدين بعد انقضاء المدّة (1) إن شاء أرادا في الأجرة والأجل أو تفارقا ، لا أنّ المراد لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من الإبراء (2) عن المهر والافتداء ، بناء على أنّ المراد به
ص: 147
العقد الدائم لما يجي ء تقريره « إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً » في الأزل بمصالحكم ، ومن جملة ذلك نكاح المتعة « حَكِيماً » واضعا للأشياء مواضعها ، فوضع عقد المتعة لكم لئلا تقعوا في الزنا واللّواط كما قال عليّ عليه السلام « لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا الأشقياء (1) ويروى « إلّا شقيّ (2) ».
ص: 148
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الآية تدل صريحا على إباحة عقد المتعة من وجوه :
1 - أنّ اللفظ الشرعيّ يحمل إذا ورد على الحقيقة الشرعيّة كما تقرّر في الأصول ، ولا خلاف في أنّ النكاح المشروط بالأجل والمهر ، يسمّى متعة ، وفاعله متمتّع ، ويؤيده ما نقلناه عن الجوهريّ وقد تقدّم.
إن قلت : لم لا يجوز أن يراد به الدائم هنا لأنّه يحصل به الانتفاع فيسمّى متعة بذلك الاعتبار ، ويؤيّد هذا صدر الآية فإنّه يتضمّن انتفاء الإحصان ، ومعلوم أنّ المتعة لا تحصن عندكم.
قلت : الجواب عن الأوّل قد بيّنّا أنّ ذلك حقيقة في المتعة فلو دلّ على غيره لزم المجاز أو الاشتراك ، وهما خلاف الأصل ، ولو دلّ على القدر المشترك لم يفهم أحدهما بعينه ، وعن الثاني بالمنع من إرادة الإحصان الّذي يثبت معه الرّجم بل معنى التعفّف ويؤيّده قوله « غَيْرَ مُسافِحِينَ » سلّمنا لكن بعض أصحابنا حصّن به.
2 - لو لم يكن المراد المتعة المذكورة ، لم يلزم شي ء من المهر من لا ينتفع
ص: 149
من المرأة الدائمة بشي ء ، واللّازم باطل فكذا الملزوم ، أمّا بطلان اللّازم ، فللإجماع على أنّه لو طلّقها قبل أن يراها وجب نصف مهرها.
وأمّا بيان الملازمة ، فإنّه علّق وجوب إيتاء الأجرة بالاستمتاع ، فلا يجب بدونه.
إن قلت : لم لا يجوز أن يراد المهر المستقر ومعلوم أنّه لا يستقر إلّا مع الدخول فعبّر بالاستمتاع عن الدّخول.
قلت : لم يتعرّض في الآية للاستقرار ، بل لوجوب الإيتاء ، على أنّا نقول الاستمتاع أعمّ من الدّخول وعدمه ، والعامّ لا دلالة له على الخاصّ ، ويكون حينئذ تقدير الآية : فالذي استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ مجموع أجورهنّ ، لأنّ الأجرة في الكلّ حقيقة وفي بعضه مجاز ، فكان يجب الاستقرار ولو بتقبيله أو نظرة بشهوة وهو باطل.
3 - قرأ ابن عبّاس (1) وابن جبير وأبيّ بن كعب وابن مسعود وجماعة
ص: 150
كثيرة « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فآتوهن أجورهنّ فريضة » وذلك صريح في إرادة المتعة المذكورة وقد روى الثعلبي عن جبير بن أبي ثابت قال أعطاني ابن عبّاس مصحفا فقال هذا على قراءة أبيّ فرأيت فيه « فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ».
ص: 151
إن قلت : إنّ ذلك وإن أثبته هؤلاء ، فقد أنكره غيرهم ، على أنّه لو ثبت لكان قرآنا والقرآن لا يثبت بالآحاد.
قلت : الجواب عن الأوّل أنّ المثبت يقدّم على النافي ، إذ قد يخفى على إنسان ما يظهر لغيره ، ولأنّه فيه صيانة للمسلم الظاهر العدالة عن الكذب ، وعن الثاني أنّه إذا لم يثبت قرآنا فما المانع أن يثبت به الحكم ، ونحن نقنع بخبر الواحد
ص: 152
في هذه الصورة ، خصوصا مع تأكّده بإجماع أهل البيت ورواياتهم ، والخصم يحتجّ بأضعف من رواية هؤلاء المعظّمين ، بل منهم من ينسخ به الأحكام الثابتة ، هذا تقرير الآية ويدل أيضا على إباحة هذا العقد وجوه أخر :
1 - إجماع أهل البيت عليهم السلام ورواياتهم به مشهورة ، مذكورة في كتب أحاديثهم ولو لا خوف الإطالة لذكرت نبذة منها ، وإجماعهم حجّة كما تقرّر في الأصول ، و
ص: 153
قال صلى اللّه عليه وآله « إنّي تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا (1).
2 - نقل الخاصّة والعامّة عن ابن عباس (2) أنّه كان يفتي بها ويعمل و
ص: 154
مناظرته مع عبد اللّه ابن الزبير في ذلك مشهورة (1) وقول ابن عباس في ذلك حجّة
ص: 155
كما قال [ رسول اللّه ] صلى اللّه عليه وآله « إنّه كنيف ملي ء علما (1) » ودعوى الخصم رجوعه عن ذلك ممنوع (2).
3 - اشتهرت الروايات عن عمر بن الخطّاب أنّه قال : متعتان كانتا على عهد
ص: 156
ص: 157
رسول اللّه أنا محرّمهما ومعاقب عليهما : متعة الحجّ ومتعة النساء (1)
وروى الطبري عنه في كتاب المستنير أنّه قال : ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنا محرّمهنّ ومعاقب عليهنّ : متعة الحجّ ومتعة النساء ، وحيّ على خير العمل في الأذان (2) فهذه شهادة منه أنّها كانت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ومعلوم
ص: 158
أنّ عمر ليس له تحليل ولا تحريم (1).
4 - أنّه لا نزاع ولا خلاف في أنّها كانت مشروعة ، والخصم يقول إنّها نسخت قلنا المشروعيّة دراية ، والنسخ رواية ، ولا تطرح الدراية بالرّواية.
5 - أنّها منفعة خالية من جهات القبح ، ولا نعلم فيها ضررا عاجلا ولا آجلا وكل ما هذا شأنه فهو مباح ، فالمتعة مباحة أمّا الكبرى فإجماعيّة وأمّا الصغرى فلأنّا نتكلّم على تقديره ، ولأنّه لو كان فيها شي ء من المفاسد لكان إمّا عقليا وهو منتف اتّفاقا وإمّا شرعيا وليس ، وإلّا لكان أحد متمسّكات الخصم ، ولكن ليس فليس.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل بقوله ( فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) والمتمتّع بها ليست زوجة ولا ملكا أمّا الثاني فاتّفاقي وأمّا الأوّل فلأنّها لو كانت زوجة لثبت لها النفقة والإرث والقسم ، ولوقع بها طلاق ، وغير ذلك من أحكام الزّوجات ، واللّازم باطل باتّفاق الإماميّة فكذا الملزوم.
الثاني الرّوايات منها ما رواه عبد اللّه والحسن ابنا محمّد بن عليّ عن أبيهما عن عليّ عليه السلام (2) عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن الحمر
ص: 159
ص: 160
ص: 161
الإنسيّة (1) ومنها ما رواه الربيع بن سبرة عن أبيه قال (2) شكونا العزبة في حجّة الوداع فقال « استمتعوا من هذه النساء » فما بيّن إلّا أن نجعل بيننا وبينهنّ أجلا فتزوّجت امرأة فمكثت عندها تلك اللّيلة ثمّ غدوت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو قائم
ص: 162
بين الركن والمقام وهو يقول « إنّي كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع ألا وإنّ اللّه قد حرّمها إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهنّ شي ء فليخلّ سبيلها ولا تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا.
ومنها ما روي عن عمر بن الخطّاب (1) أنّه قال اذن لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في المتعة
ص: 163
ص: 164
ثلاثا ثمّ حرّمها واللّه لا أعلم أنّ رجلا تمتّع وهو محصن إلّا رجمته بالحجارة إلّا أن يأتي بأربعة يشهدون أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أحلّها بعد إذ حرمها (1).
الثالث : الإجماع ، فإنّ فتوى الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار على اختلاف الأعصار على منعها.
والجواب عن الأوّل بالمنع من كونها ليست زوجة أمّا عندنا فبالإجماع ، وأمّا عند الجمهور (2) فبالرواية المذكورة عن الربيع بن سبرة فإنّه قال : فتزوّجت امرأة
ص: 165
قولهم لو كانت زوجة لثبت لها النفقة إلى آخره ، قلنا نمنع الملازمة لصدق الزوجيّة مع عدم لزوم هذه الأحكام فإنّ النفقة تسقط مع النشوز ، والميراث يسقط مع الرقّ والقتل والكفر ، والإحصان لا يثبت قبل الدّخول بالزوجة ، والقسم لا يجب دائما ويسقط في السفر واللّعان لا يقع بين الحرّ والأمة عند كثير منهم ، فقد انتفت هذه الأمور مع صدق الزوجيّة فكما خصّت تلك العمومات بوجود الدلالة فكذا هنا.
وعن الثاني أمّا الرّواية عن عليّ عليه السلام فباطلة لأنّا نعلم بالضرورة من مذهبه ومذهب أولاده خلافها فمحال أن يروي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ما يخالفه ، على أنّ خبر ابن سبرة دلّ على أنّ الاذن في حجّة الوداع ، وخبر عليّ عليه السلام في يوم خيبر وحجة الوداع متأخّرة عن خيبر فلو كان النهي الّذي نسب إلى علي عليه السلام على التحريم لزم نسخها مرّتين ولا قائل بذلك ، وأيضا خبر ابن سبرة يرفع النهي الّذي تضمنه خبر عليّ عليه السلام فسقط الاحتجاج به.
وأمّا خبر ابن سبرة فبالطعن في سنده أوّلا (1) وباختلاف ألفاظه الدالّ على
ص: 166
ص: 167
ص: 168
ص: 169
ص: 170
اضطراب روايته ثانيا (1) وبمعارضته بأخبار أهل البيت عليهم السلام عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بالإباحة ثالثا ، وبأنّه خبر واحد فيما يعم به البلوى رابعا ، وأمّا قول عمر فلا حجّة فيه
ص: 171
فإنّه رجوع إلى قول صحابيّ وهو معارض بقول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما.
وعن الثالث بالمنع من تحقّق الإجماع مع مخالفة الشيعة بأجمعها وفيهم فضلاء أهل البيت وساداتهم عليهم السلام.
ص: 172
السادسة ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).
« من » شرطية و « يستطع » مجزوم بلم لفظا وبمن محلّا ، ولم يعكس لقرب « لم » والقريب أولى باللّفظ من البعيد و « من » في « منكم » للتبعيض وتركيب « طولا » كيف استعمل ، للزيادة لكن مع استعماله في المقادير فمصدره الطّول بضمّ الطاء ، والصّفة طويل وفي غير المقادير مصدره الطّول بفتحها والصفة طائل ومراده من لم يكن له زيادة مال لنكاح الحرائر فلينكح الإماء بعقد عليهنّ لأنّهنّ أخف مئونة من الحرائر. والفتيات المملوكات ، لقول العرب للأمة فتاة وللعبد فتى ، والمراد بالمحصنات هنا العفيفات أي أحصنّ أنفسهنّ بعقلهنّ التامّ وكذا المراد بقوله « مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ » والأخدان الأصدقاء أي آخذات أصدقاء تنكحوهنّ سرّا ، والفرق بينهنّ وبين مسافحات فرق ما بين العامّ والخاصّ ، فانّ المسافحات يكنّ جهرا وسرّا ، ومتّخذات الأخدان يكنّ سرّا وقوله « فَإِذا أُحْصِنَّ » أي تزوّجن وصرن محصنات بالأزواج.
وفسّر الزّمخشري « المحصنات » في أوّل الآية بالحرائر لأنّه أثبت عند تعذّر نكاحهنّ نكاح الإماء ، فلا بدّ أن يكون المراد منهن كالضدّ ، وسمين محصنات
ص: 173
لاحصانهنّ عن أحوال الإماء من الابتذال والامتهان وفيه نظر لأنّه عدول عن ظاهر اللّفظ ، وجعل الموصوف محذوفا أي الحرائر المحصنات أولى.
إذا تقرّر هذا فهنا أحكام :
1 - ظاهر الآية أنّ إباحة نكاح الإماء بالعقد مشروطة بعدم الطّول وخشية العنت واحتجّ به الشافعيّ على تحريم نكاحهنّ بدون الشرطين ، وخالف أبو حنيفة وجعل ذلك على الأفضل لا أنّه يكون محرّما بدونهما وجوّز نكاحهنّ للغنيّ ، وبالأوّل قال بعض أصحابنا محتجّا بالشرطيّة المذكورة ، ويقول الباقر عليه السلام وقد سئل عن الرّجل يتزوّج المملوكة قال : إذا اضطرّ إليها فلا بأس (1) والحقّ الثاني لعموم قوله « وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ » (2) وقوله تعالى ( وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ) (3).
والجواب عن الآية بالمنع من دلالتها على التحريم بل هي دالّة على جواز نكاحهنّ عند عدم الاستطاعة ، وليس لها تعرض لعدم الجواز إلّا بدليل الخطاب ، وليس بحجّة عندنا ، وعلى تقدير حجّيّته ليس دلالتها على التحريم بأولى من دلالتها على الكراهية ، ويؤيّد الكراهية قوله « وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ » وكذا الجواب عن الرواية.
ألف - على القول بالتحريم ، يجوز نكاح الواحدة قطعا ، وتحرم الثانية لانتفاء أحد الشرطين وعلى القول بالكراهية تباح الثانية.
ب - يقبل قول الزّوج في عدم الطّول ، وخوف العنت ، ولو كان في يده مال وادّعى أنّه ليس له أو عليه دين بقدره ولا يملك غيره قبل.
ص: 174
ج - لو تجدّد عدم الشرطين بعد النكاح لا ترتفع الإباحة ، ولو كان السابق العقد خاصّة.
د - قال بعض المحرّمين : إنّ التحريم راجع إلى الوطي والعقد يتبعه ، وقال بعضهم بل يرجع إلى العقد أيضا بالذات لكن لا يحرم.
ه- - لو تزوّج أمتين دفعة على القول بالتحريم قيل يتخيّر واحدة والحقّ البطلان لأنّ العقد نسبة إليهما على السواء فلا يصح في إحداهما دون الأخرى وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح.
2 - اختلف في تفسير الطّول فقيل الزيادة في المال ، وقيل ليس له حدّ معيّن بل الإنسان أعرف بنفسه وما يكفيه له ولعياله ، فان عرف العجز عن ذلك ، جاز له نكاح الأمة ، وقال محقّقوا أصحابنا هو مهر الحرّة ونفقتها ووجودها ، وإمكان وطيها قبلا ، فعلى هذه الأقوال يكون قوله « أن ينكح » إما مفعول فعل محذوف وهو صفة طولا أي يبلغ به أن ينكح أو يكون مجرورا بلام جرّ مقدّرة ، قبل « أن » لأنّها تحذف كثيرا قبلها تقديره ومن لم يستطع منكم طولا لأن ينكح.
وقال أبو حنيفة : الطول القوّة والفضل ، وجعل قوله « أن ينكح » « أن يطأ » وجعله بدلا عن « طولا » بدل الكلّ لأنّ النكاح قوّة وفضل ، فيكون معنى الآية على قوله من لا يملك وطي الحرّة وفراشها ، فلينكح أمة ، فإذا كان الشخص غنيّا ولا يكون في فراشه حرّة جاز له أن ينكح أمة.
3 - قيل : الآية ظاهرة في تحريم نكاح غير المؤمنات من الكتابيات وغيرهنّ من الحرائر والإماء لتكرار الوصف فيهما وبه قال أهل الحجاز وقال أهل العراق الأفضل نكاح المؤمنات وترك نكاح الكتابيّات ، والحقّ عندنا الأوّل وسيأتي تحقيقه.
4 - قوله « وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ » فيه إشارة إلى الاكتفاء بظاهر الايمان وأنه لا يجب أن يكون على التحقيق فيجوز نكاح المنافق حينئذ وفيه دلالة على أنّ
ص: 175
الكفاءة يكفي فيه التساوي في الايمان بين الغنيّ والفقير والحرّ والرقّ ، ولذلك عقّبه بقوله « بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ » أي الجميع منكم ومن أقاربكم ، من نسل آدم عليه السلام لا مزيّة لأحدكم على رقيقه.
5 - قوله « فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ » فيه دلالة على عدم استقلال الأمة بالعقد على نفسها بل لا بدّ من إذن السيّد ، لأنّها مملوكة عينها ومنافعها للسيّد ، ومن جملتها منفعة البضع ، فلا يصحّ التصرّف فيها إلّا بإذنه أو برضاه بعده العقد على خلاف في صحّة عقد الفضوليّ ، وليس فيه دلالة على قول أبي حنيفة بجواز مباشرتهنّ العقد حتّى يحتجّ له به.
واعلم أنّه لا فرق بين العبد والأمة في ذلك ، وكذا لا فرق بين كون السيّد رجلا أو امرأة ، ولا بين كون النكاح دائما أو منقطعا.
6 - قوله ( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) أي مهورهنّ ، وسمّى المهر أجرا ، لأنّ الأجر يقال في عوض والبضع منفعة قوله « بِالْمَعْرُوفِ » أي بسهولة وطيب نفس من غير مطل ولا سوء خلق.
وهنا سؤال وهو أنّ المهر ملك السيّد ، فهلّا قال : فآتوا مواليهنّ أجورهنّ.
جواب قيل الأداء إليهنّ أداء إلى السادات لأنّهن وما في أيديهنّ ملك السادات أو أنّ المضاف محذوف ، أي فآتوا مواليهنّ وفيهما نظر ، أمّا الأوّل فلأنّ كونهنّ ملكا لهم مسلّم لكن كون التسليم إليهنّ تسليما إلى الموالي ممنوع ، وأمّا الثاني فلأنّ المضاف لا يحذف مع الاشتباه والاشتباه موجود هنا.
والأولى في الجواب أنّه كان من عوائدهم مهور الأزواج ، فيكون الاذن في النكاح مستلزما للإذن في قبض المهر.
7 - في ذكر الإحصان بمعنى العفّة ونفي السّفاح ، دلالة على المنع من نكاح الزانية إمّا تحريمها على قول من يحرّمه أو كراهة على الأقوى ، وسيأتي تحقيقه ، وقوله « مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ » محال منهنّ أي فانكحوهنّ حال إحصانهنّ وعدم سفاحهنّ.
8 - « فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ » أي فإذا تزوّجن ثمّ أتين بالزنا فعليهنّ
ص: 176
نصف حدّ الحرائر « والعذاب » هو الحد بدليل قوله « وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » وغير ذلك ، والمراد به الجلد خاصّة لا الرّجم للإجماع ولأنّه إهلاك أموال وهنّ أموال لمواليهنّ فلا يجوز إضرارهم بذنب غيره ولأنّ الرجم لا ينتصف كما ينتصف الجلد.
إن قيل فما الفائدة في قوله « فَإِذا أُحْصِنَّ » لأنّ الجلد واجب عليهنّ مطلقا إذا زنين وإن لم يحصن قلت : ذهب قوم إلى عدم وجوب الجلد عليهنّ إلّا مع الإحصان لهذه الشبهة ، والأكثر على خلافه لأنّه لا دلالة له على عدم الحدّ إلّا بدليل الخطاب وليس بحجّة على أنّه لا يلزم من عدم دلالة الآية على وجوب الحدّ عليهنّ عدم الوجوب لأنهنّ يدخلن في آية « الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » (1) فتكون هذه الآية مخصّصة لتلك بالأحرار والحرائر واعلم أنّ الإجماع انعقد على أنّه لا فرق بين العبد والأمة في تنصيف الحدّ.
9 - قوله « ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ » ذلك إشارة إلى نكاح الإماء ، فظهر به أنّه مشروط بشرطين واختلف في تفسير « العنت » قيل الوقوع في الزنا لأنّه في الأصل انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكلّ مشقّة وضرر ولا ضرر أعظم من الوقوع في الإثم بأفحش القبائح وقيل الحد.
10 - قوله « وَأَنْ تَصْبِرُوا » أي عن نكاح الإماء « خَيْرٌ لَكُمْ » وإنّما كان خيرا قيل لئلّا يجي ء الولد رقا كما هو مذهب الشافعيّ وليس بشي ء لأنّ الولد يتبع أشرف الطرفين. والحريّة أشرف ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « لا يرقّ ولد حرّ » (2) وقيل لئلّا يتبع سادتها وأهلها ولئلّا يفرق السيّد بينهما بوجه ، والأولى أنّه خير لئلّا يعيّر الولد بأنّه ولد أمة الغير ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « الحرائر صلاح البيت والإماء
ص: 177
هلاكه » قوله « وَاللّهُ غَفُورٌ » عمّا سلف من خلاف هذه الأحكام « رَحِيمٌ » بالرّخصة في نكاح الإماء.
في أسباب التحريم(1)
وفيه آيات :
الاولى ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً ) (2).
قال الطبري : مراده ولا تنكحوا نكاح آبائكم أي مثله من الأنكحة الفاسدة ويكون « ما » مصدريّة والأولى خلاف ذلك ، بل مراده ولا تنكحوا منكوحات آبائكم ويكون « ما » موصولة وضمير المفعول محذوف تخفيفا لأنّه هو المتبادر إلى الفهم والاستثناء هنا قيل منقطع تقديره لكن ما قد سلف ، فإنّه لا مؤاخذة فيه وليس ببعيد وقيل متّصل والاستثناء من اللفظ تقديره إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يحلّ لكم غيره ، وذلك غير ممكن والغرض المبالغة في التحريم وسدّ الطريق إلى إباحته كما تعلّق بالمحال للتأبيد في قولهم حتّى يبيضّ القادر.
والأجود : أنه استثناء من محذوف أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم ، فإنّه قبيح حرام معاقب عليه ، إلّا ما قد سلف في الجاهليّة ، فإنّكم معذورون فيه ، ونفّر عن فعله زيادة على النهي بتوصيفه بثلاثة أوصاف :
الأوّل كونه « فاحِشَةً » مبالغة في قبحه فإنّه مناف لما يجب من تعظيم الآباء بالتهجّم على فراشهم ، وأتى بكان إيذانا بأنّه لم يكن حلال في ملّة سالفة.
الثاني كونه « مَقْتاً » أي موجبا لمقت اللّه أو ممقوتا فانّ ذوي المروءات منهم
ص: 178
كانوا يمقتون فاعل ذلك أي يبغضونه ، ويسمّون الولد الحاصل منه بالمقتيّ.
الثالث كونه « ساءَ سَبِيلاً » أي بئس طريقا فعلى هذا ، الضمير راجع إلى نكاح منكوحات الآباء ، وإن لم يجر له ذكر ، لكون الكلام دالا عليه ، وعلى قول الطبريّ : الضمير راجع إلى نكاح الجاهليّة المشبّه به ، والأجود ما قلناه فهنا أحكام :
1 - إن جعلنا النكاح حقيقة في العقد كما هو المشهور ، فيكون النهي صريحا في المعقود عليها سواء دخل بها أو لا ، ولا تدخل من وطئت لا بعقد إلّا بدليل خارجيّ وإن جعلناه حقيقة في الوطي دخل كل موطوءة بعقد وغيره ، وكذا إن قلنا أنّه مشترك ، والعمل بهذا أحوط ، وإن كان الأوّل أقوى ، لما تقرّر في الأصول من وجوب حمل اللّفظ على الحقيقة الشرعيّة.
2 - الأجود دخول الموطوءة بالشبهة لما تقرّر عند الأكثر أنّ حكم الشبهة كالصحيح في أغلب الأحكام فهنا كذلك.
3 - قيل لا تدخل المزنيّ بها في الآية إمّا لأنّ النكاح حقيقة في العقد ، وهذه ليست معقودا عليها ، أو لأنّ الزنا لا حرمة له ، ولهذا تنكح وهي حامل بعد مضيّ أربعة أشهر وعشر ، وتنقضي عدّتها بالأشهر أو الإظهار من غير اعتبار بوضع حملها ، فلا تكون محرّمة بالنّسبة إلى ولد الزاني ، والحقّ التحريم إلّا مع سبق عقد الابن فإنّه لا يحرم.
4 - تحرم منكوحة الجدّ ، وإن علا لقوله « آباؤُكُمْ » والجد أب هنا ، وكذا تحرم موطوءة الجدّ للامّ ومن عقد عليها.
5 - كل من قال بتحريم المعقود عليها على ابن العاقد ، قال بتحريم الموطوءة بالملك ، فهي إجماعيّة من سائر الفقهاء ، وكذا عندنا من عقد عليها متعة أو وطئها بالتحليل.
ص: 179
الثانية ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (1).
المضاف هنا مقدّر أي نكاح أمّهاتكم ، فحذف لقرينة استحالة تحريم الذّوات لكونها غير مقدورة فلا بدّ من تقدير فقدّر ما يراد منهنّ وهو النكاح كما قدّر في « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ » أي أكله لأنّ المراد من اللّحم الأكل وكذا نظائره ، وذهب قوم وهم بعض الأصوليين إلى أنّ الآية مجملة وليس بشي ء لسبق المراد إلى الفهم كما قلناه والمجمل لا يسبق إلى فهم الإنسان شي ء من معانيه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية محرّمات تنقسم أقساما ثلاثة :
وهو سبعة :
1 - الأم وإن علت ، أي امّه وأم أبيه وأم جدّه وأمّ امّه وأم أبيها سواء كان النسب صحيحا أو فاسدا.
2 - البنت وإن نزلت أي بنته ، وبنت بنته ، وبنت ابنه ، سواء كان الولادة
ص: 180
عن نكاح صحيح أو شبهة أو زنا ، ولا خلاف في الأوّلين ووافق أبو حنيفة أصحابنا في تحريم بنت الزنا لصدق البنت لغة فيتبعه التحريم ، وقال الشافعيّ لا تحرم البنت المخلوقة من الزنا لعدم لحوق نسبها شرعا.
3 - الأخت لأب كانت أو لامّ أولهما.
4 - العمّة وهي أخت الأب ، وكذا إذا علت أي أخت الجدّ لأب كان أو لامّ وليس المراد بعلوّها كونها عمّة العمّة لأنّ عمة العمّة قد لا تحرم فانّ أخت زيد لامّه عمّة لابنه وعمّتها لا تحرم على ابن زيد.
5 - الخالة وهي أخت الأمّ ، وكذا إذا علت أي أخت الجدّة لأب كانت أو لام ، وكذا ليس المراد بعلوّها كونها خالة الخالة لأنّها قد لا تحرم.
6 - بنت الأخ وإن نزلت أي بنت ابنه وبنت بنته وهكذا.
7 - بنت الأخت وإن نزلت أي بنت بنتها وبنت ابنها.
إن قلت : ولد الولد غير ولد حقيقة لصدق النفي إذ يقال ليس ولدي لكنّه ولد ولدي ، وإذا كان كذلك لا يتناوله النص إذ اللّفظ يحمل على حقيقته دون مجازه.
قلت : الإجماع دلّ على اعتبار المجاز هنا ، على أنّا نقول المراد مطلق التولّد أعم من أن يكون بالذات أو بالواسطة وكذا البحث في جانب العلو على أنّ إيراد ذلك بصيغة الجمع يشعر باعتبار المرتبتين.
ص: 181
وهو اثنان :
1 - الامّ.
2 - الأخت. للنصّ عليهما ، وأمّا تحريم البنت فبالتنبيه بالأدنى على الأعلى لأنّ الأخت إذا حرمت فالبنت أولى وأما العمّة والخالة فبالسنّة كما يجي ء وأمّا الجدّة فأمّ تدخل في إطلاق النصّ فهنا فوائد :
1 - قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب (1) » فعلى هذا كل ما تقدّم ذكره من المحرّمات نسبا يحرم مثله من الرّضاع ، فهو نسب ثان.
2 - الرضاع كما يحرّم سابقا كذا يحرم لاحقا ، فلو زوّج رضيعا بامرأة ثمّ ارتضع من أمّها حرمت عليه زوجته ، وانفسخ النكاح وكذا في سائر الفروض.
3 - قال الزمخشريّ : قالوا تحريم الرّضاع كتحريم النسب إلّا في مسئلتين إحداهما أنّه لا يجوز للرّجل أن يتزوّج أخت ابنه من النسب ، والعلّة وطي أمّها (2) وهذا المعنى غير موجود في الرّضاع ، وثانيتهما لا يجوز للرجل أن يتزوّج أمّ أخته من النسب ويجوز من الرّضاع لأنّ المانع في النسب وطي الأب إيّاها وهذا المعنى غير موجود في الرضاع.
وكذا استثني مسئلتان أخريان إحداهما أمّ الحفدة ، وثانيتهما جدّة الولد فإنّهما محرّمتان من النسب دون الرضاع ، أمّا أم الحفدة ، فلأنّها بنتك أو زوجة
ص: 182
ابنك ، ولو أرضعت أجنبيّة ولد ولدك لم تحرم ، وأمّا جدّه الولد فإنّها أمّك أو أم زوجتك ولو أرضعت أجنبيّة ولدك كانت أمّها جدّة ولدك ، ولم تحرم عليك.
وفي استثناء هذه الصور نظر ، لأنّ النصّ إنّما دلّ على أنّ جهة الحرمة في النسب جهة الحرمة في الرّضاع ، والجهات الّتي في هذه الصور ليست جهات الحرمة في النسب فإنّ جهة أختيّة الابن مثلا لم تعتبر من جهات الحرمة بل المعتبر فيها إمّا كونها ربيبة ، وإمّا كونها بنتا ، وأيّة جهة من هاتين الجهتين لو وجدت في الرّضاع كانت محرّمة.
وتوضيحه أنّ أخت الابن إذا كانت بنتا تكون لها جهتان جهة الأختيّة للابن وجهة البنتيّة لك ، ولا شكّ في تغايرهما والنصّ دلّ على الحرمة من جهة البنتيّة لا من جهة الأختيّة للابن ، وكذا إذا كانت ربيبة كان لها جهتان : جهة الأختيّة للابن ، وكونها ربيبة ، وجهة الحرمة منهما ليست إلّا كونها ربيبة.
على أنّ جهة الحرمة بحسب المصاهرة لا بحسب النسب فلا يصحّ الاستثناء من جهة حرمة النسب.
4 - الرّضاع له شرائط بمعرفتها يتقيّد إطلاق الآية ، وهي إمّا بحسب المقدار فعند الأكثر منّا خمسة عشر رضعة ، أو ما أنبت اللّحم وشدّ العظم أو رضاع يوم وليلة ، لأصالة الحلّ ، وما ذكرناه مجمع على تحريمه النكاح ولتضافر روايات أهل البيت عليهم السلام.
واكتفى الشافعيّ وأحمد بخمس لا أقلّ ومن الصحابة من قال بثلاث ، واكتفى مالك وأبو حنيفة بالرّضعة الواحدة.
وأمّا بحسب الزمان فهو أن يكون في الحولين لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا رضاع بعد فصال (1) » فلو وقع بعضه في الحولين وبعضه خارجا عنهما لم ينشر حرمة ، وبه قال الشافعي وهو أحد قولي مالك ، والآخر خمسة وعشرون شهرا وقال أبو حنيفة
ص: 183
ثلاثون شهرا ، وقال زفر ثلاث سنين.
وأمّا بحسب كيفيّة الرّضعة فهو أن يلتقم [ من ] ثدي المرأة الحيّة المنكوحة ويشرب منه لبنا خالصا حتى يروّي ويتركه باختياره ، فلو وجر أو سعط به أو حقن لم ينشر ، وقال الفقهاء ينشر ، وفي الرّضاع مسائل كثيرة تذكر في كتب الفقه.
وقد ذكر أربعا والمصاهرة أن يطأ الرّجل امرأة أو يعقد عليها فيحرم عليه نكاح امرءة أخرى أو يحرم نكاحها على غيره فهنا مسائل :
1 - أمّ الزّوجة وإن علت تحرم على الزّوج تحريما مؤبدا ويدلّ على تحريم الأمّ العالية صيغة الجمع في الأمّهات وهذه تحرم بمجرّد العقد على بنتها لما يجي ء.
2 - بنت الزوجة وإن نزلت أي بنتها ، وبنت بنتها ، وبنت ابنها ، وهكذا وإليهنّ أشار بالرّبائب جمع ربيبة لأنّ الرجل في الأغلب يكون يربّي ابنة زوجته في حجره.
3 - حلائل الأبناء جمع حليلة إمّا من الحلّ ضدّ الحرمة ، لأنّه يحل له وطيها. أو من الحلول ، لأنّها تحل معه في فراشه. أو من الحلّ ضدّ العقد ، لأنّه يحلّ إزارها عند الجماع ، ففعيل ، على الثاني فاعل ، وعلى الثالث مفعول ، وقيّد بكون الابن للصّلب احترازا من الولد المتبنّى ولذلك قيل نزلت ردّا على المنافقين لمّا تزوّج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بزينب بنت جحش زوجة زيد ، والأبناء هنا أيضا شامل لولد الولد ، لأنه ولد [ ك ] لكن بواسطة.
4 - الجمع بين الأختين في النكاح والتحريم هنا ليس تحريم عين ، فلو فارق
ص: 184
إحداهما بفسخ أو طلاق أو موت حلّت الأخرى ، ولذلك قيّد التحريم بالجمع وهنا فوائد :
1 - المملوكة الموطوءة تحرم أمّها وإن علت لأنّها أيضا من نسائه فتحرم أمّها وكذا بنتها وإن سفلت.
2 - الدخول المشار إليه كناية عن الجماع لا أنه يدخل معها الستر أو الحجلة وعند أبي حنيفة أنّ اللّمس ونحوه ملحق بالجماع ونقل عن عمر أنه خلا بجاريته فجردها فاستوهبها ابنه فقال لا يحل لك وطيها.
وعن عطا : إذا نظر الرجل إلى فرج امرأة فلا ينكح أمّها ولا بنتها والحق ما ذكرناه أوّلا وبه قال ابن عباس وعلماء أهل البيت عليهم السلام إلّا من شد كابن الجنيد ومن تابعه لأصالة الحلّ الخالي عن موجب التحريم بغير الجماع ولقوله « فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ » واللّامس والناظر غير داخلين.
3 - بنت الزّوجة تحرم سواء كانت في حجره أو لا ، وسواء ولدتها بعد مفارقته أو قبل نكاحه ، والتقييد للأغلبية كما قلنا. وقال داود الظاهريّ : إنّ التحريم يختص بمن ولدتها بعد مفارقته والإجماع على خلافه.
4 - قوله « اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ » يحتمل أن يكون بيانا « لأمّهات نسائكم » في الجملة الاولى ، وأن يكون بيانا ل « نسائكم » في الثانية وأن يكون بيانا لهما معا ، ولذلك اختلف الصّحابة فيه :
فقال ابن عبّاس وزيد وابن عمر وابن الزبير بالأوّل حتّى أنهم قرأوا « أمّهات نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ » وهي قراءة شاذة وقال عمر وعمران بن حصين بالثاني ، وهو قول أكثر علماء أهل البيت عليهم السلام ولذلك حرم عندهم الام بمجرّد العقد على بنتها ، وهو الحقّ وروايات أهل البيت عليهم السلام متضافرة به
وروى الجمهور عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله في رجل تزوّج امرأة ثمّ طلقها قبل أن يدخل بها أنّه قال « لا بأس أن يتزوّج بنتها ولا يحل له أن يتزوّج أمّها (1) » ويؤيّده اعتبار
ص: 185
القرب في الصّفة الّتي يأتي بعد الجمل المتعدّدة.
لا يقال الربائب غنية عن البيان لأنهنّ لا يكنّ في حجره إلّا بعد الدخول بالأمّ فيكون قوله « مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ » تأكيدا والتأكيد مرجوح بالنسبة إلى التأسيس لأنّا نقول نمنع الأوّل فإنّ التقييد خرج مخرج الأغلبيّة.
وأمّا الثّالث وهو كونه بيانا لهما فضعيف لأنّ « من » إذا تعلّقت بالربائب كانت ابتدائيّة ، وإذا تعلّقت بالأمّهات كانت بيانيّة ، والكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء مع أنّ هذا قال به بعض علمائنا.
واستدلّ بحديثين عن الصادق عليه السلام قال الشيخ إنهما محمولان على التقيّة لأنّهما مخالفان للكتاب [ والسنّة ] لأنه تعالى عمّم تحريم « أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ » وقيّد تحريم الربائب بالدخول بامّهاتهنّ ، فيكون الأوّل على عمومه ، ويؤيّده ما رواه إسحاق بن عمّار عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّ عليّا عليه السلام كان يقول في الآية : أبهموا ما أبهم اللّه (1) وتردّد العلّامة في مختلفة في الاحتمالين ، وبعض المتأخّرين حكم بكراهة أمّ غير المدخول بها والأجود التحريم للاحتياط إذ الفروج مبنيّة على الاحتياط التامّ.
5 - حليلة الابن من الرضاع محرّمة إجماعا ولا دلالة في الآية على المنع بقوله « مِنْ أَصْلابِكُمْ » لما قلنا أنّه لإخراج ولد التبني ، وهل حكم الملموسة والمنظورة بالشهوة حكم الجماع في التحريم؟ قال أبو حنيفة : نعم ، وهو قول أكثر أصحابه كما حكيناه ، وبه قال بعض أصحابنا أيضا لما رواه محمّد بن إسماعيل عن أبي الحسن عليه السلام وقد سأله عن الرّجل يكون له الجارية فيقبّلها هل تحلّ لولده فقال بشهوة؟ قلت : نعم ، قال ما ترك شيئا إذا قبّلها بشهوة ، ثمّ قال ابتدءا منه : إذا نظر إلى فرجها وجسدها بشهوة حرمت على أبيه وابنه قلت إذا نظر إلى جسدها؟ قال
ص: 186
إذا نظر إلى فرجها وجسدها حرمت عليه (1) وبه قال العلّامة في مختلفة.
6 - الجمع بين الأختين المعقود عليهما حرام إجماعا وهل يحرم الجمع بين الموطوءتين بالملك؟ الحقّ ذلك لظاهر الآية ، وعن عليّ عليه السلام وعثمان أحلّتهما آية وهي قوله « أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » وحرّمتهما آية وهي هذه ، ورجّح عليّ عليه السلام التحريم وعثمان التحليل ، وقول عليّ عليه السلام أحقّ أن يتّبع لأنّ الحقّ يدور معه كيف ما دار ، ويؤيّده أيضا أنّ آية التحليل مخصوصة بلا خلاف فلا يكون قاطعة في الاستدلال ، هذا وقد قال صلى اللّه عليه وآله « ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال (2) ».
7 - لا خلاف في أنّ النسب الحاصل من وطي الشبهة صحيح موجب لحرمة النكاح ، وكذا لا خلاف في أنّ الزنا لا يحصل به التحاق النسب ، ولقوله صلى اللّه عليه وآله « الولد للفراش وللعاهر الحجر (3) » وهل يحرم النكاح فلا يجوز نكاح بنته ولا أخته من الزنا أم لا؟ تقدّم الخلاف فيه.
8 - أكثر أصحابنا والشافعيّة على أن الوطي بالشبهة ينشر حرمة المصاهرة لحصول النسب به ، ولأنّه أحوط وأمّا الزنا فهل ينشر حرمة المصاهرة فلا يجوز نكاح بنت المزنيّ بها ولا أمّها وتحرم على ابنه وأبيه أم لا؟ فيه خلاف.
قال بعض أصحابنا لا ينشر لعموم قوله تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) وقوله ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ولرواية هشام بن المثنّى عن الصّادق عليه السلام قال كنت عنده فقال له رجل : رجل فجر بامرأة أتحل له بنتها أم لا؟ قال نعم إنّ
ص: 187
الحرام لا يفسد الحلال (1) وقال الأكثر بالتحريم إن كان سابقا لروايات كثيرة عن العيص بن القاسم عن الصادق عليه السلام وكذا عن منصور بن حازم عنه عليه السلام ومحمّد ابن مسلم عن أحدهما عليهما السلام (2) ولأنّه أحوط ولأنّه تصدق على المزنيّ بها اسم نسائه إذ الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ككوكب الخرقاء وهذا أجود للاحتياط في الفروج.
والجواب عن الآيتين أمّا الأولى فلأنّها مخصوصة فلا يكون حجّة قاطعة وأمّا الثانية فلأنّ المراد بما طاب ما حلّ ، وعن الرواية أنّ الفجور أعمّ من الزنا واللّمس وغيره ، مع أنّ في قوله « إنّ الحرام لا يفسد الحلال » إشارة إلى ما قلناه.
9 - الوطي بالملك حكمه حكم العقد سواء ، في نشر الحرمة بالمصاهرة ، وكذا الوطي بالعقد المنقطع عندنا.
10 - لو زنا بعمّته أو بخالته حرمت عليه بناتهما عندنا تحريما مؤبدا ، ولو تزوّج امرأة حرمت عليه بنت أختها وبنت أخيها مع عدم رضاها إجماعا ومع إذنها قال أصحابنا يحلّ عليه إحداهما خلافا لباقي الفقهاء ولو جمع بين الامّ وبنتها في عقد فسد العقد ، وجاز نكاح البنت خاصّة فيما بعد ، ولو جمع بين الأختين في العقد فسد وجاز له استينافه على إحداهما.
وههنا فائدة حسنة جليلة غفل عن التنبيه عليها كثير وهي أنّ الاجتماع مطلوب لله سبحانه وتعالى ، ولذلك ندب الناس إلى الاجتماع في العبادات ليحصل لهم مع عبادة اللّه الكمال الممكن لهم ، وهو خروج ما بالقوّة إلى الفعل ، فكان بقاء الأشخاص ملزوما لذلك الاجتماع ، وحيث كان بقاء النوع ببقاء أشخاصه كان نوع الإنسان لا يحصل بقاؤه إلّا ببقاء أشخاصه وذلك لا يحصل إلّا بالتناكح ، و
ص: 188
التناكح لا يحصل إلّا بالمحبّة بين الزوجين ، ولذلك جعل سبحانه وتعالى المودّة بينهما من الآيات حيث قال ( وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) (1) والمحبّة لا تحصل إلّا بالإنس والاجتماع ، فكان الانس والاجتماع مطلوبين له.
ولمّا كان النسب موجبا للمودّة والمحبّة ، لم يكن الاجتماع فيه مطلوبا لحصوله ، فلذلك لم يشرع نكاح الأقارب لحصول المودّة والاجتماع بينهم بدون النكاح ، وأمّا الأجانب فحيث فاتهم اجتماع النسب ندب إلى اجتماع السبب النكاحيّ لهم ، ولو ندب الأنساب إلى ذلك لكان ضائعا لا فائدة فيه لحصوله مع حرمان الأجانب [ عن ] ذلك ، فيفوت الاجتماع المطلوب لله من الناس.
ولذلك إذا ضعف الاجتماع النسبي كبنات العمّ والخال ، وبنات العمّة والخالة ، جبر الضعف بالإذن في نكاحهنّ ، ولمّا كان الرضاع موجبا لانفعال المزاج عن لبن المرضعة ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « الرضاع يغيّر الطباع » (2) كان فيه اجتماع أيضا مشابه لاجتماع النسب فكان حكمه حكمه في تحريم النكاح.
ولمّا كانت الطباع تنفر عن المشاركة في الخيرات وتحبّ الاختصاص بها كانت المشاركة ملزومة للتباغض المنافي للمحبّة ، ولذلك حرّم الجمع بين الأختين
ص: 189
لئلّا يقع التباغض بينهما ، وتنغص العيش على الرجل.
الثالثة ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ) (1).
« الْمُحْصَناتُ » مرفوع عطفا على قوله « أُمَّهاتُكُمْ » أي وحرّمت المحصنات أى المزوّجات ما دمن في نكاح أزواجهنّ فهنّ على غيره حرام وكذلك ما حكمه حكم النكاح كالمعتدّات وقرئ بفتح الصّاد كما قلناه ، وبكسرها على أنّه اسم الفاعل لأنهنّ أحصنّ فروجهنّ بالتزوج ، قوله « إِلّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » استثناء من الإماء المزوّجات ، ثمّ يحدث لهنّ استرقاق إمّا باشتراء أو اتّهاب أو ميراث أو سبي أو غير ذلك ، فانّ المالك الجديد له فسخ النكاح والوطي بعد العدّة ، ويدخل فيه أيضا الأمة المزوّجة بمملوك السيّد ، فانّ له فسخ نكاحها ، فيجوز له وطيها بعد العدّة.
وقال أبو حنيفة : إنّ السبي لا يرفع النكاح ، ولا يحلّ بذلك للسابي ، وإطلاق الآية حجّة عليه ، وكذا خبر أبي سعيد الخدري يدل على ذلك ، وهو أنّ المسلمين أصابوا في غزاة أوطاس سبايا ، ولهنّ أزواج في دار الحرب ، فنادى منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن ، ولا غير الحبالى حتّى يستبرئن بحيضة (2) وقد أشار الفرزدق (3) في شعره إلى ذلك بقوله :
ص: 190
ص: 191
وذات حليل أنكحتها رماحنا *** حلال لمن يبني بها لم تطلّق (1)
ص: 192
قوله « كِتابَ اللّهِ » مصدر مؤكّد أي كتب اللّه عليكم تحريم المذكورات كتابا.
فائدة : الإحصان يقال على معان الأوّل بمعنى العفّة كقوله تعالى « ( أَحْصَنَتْ فَرْجَها ) (1) » الثاني بمعنى الزواج كالمذكور في الآية ، الثالث بمعنى الحرّيّة كقوله ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ ) (2) على قول تقدّم ، الرابع : بمعنى الإسلام كقوله ( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ ) (3) على أحد التفسيرين.
الرابعة ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ ) (4).
هل اسم المشرك مختصّ بمن ليس بكتابيّ من الكفّار أو هو شامل لكلّ كافر منكر لنبوّة نبيّنا محمّد صلى اللّه عليه وآله؟ قيل بالأوّل للعطف على أهل الكتاب في قوله « لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ » (5) والعطف يقتضي
ص: 193
ص: 194
ص: 195
المغايرة ، وفيه نظر لأنّا نمنع كون العطف يقتضي المغايرة مطلقا بل إذا لم يدع إلى العطف فائدة أمّا معها فلا كقوله « جِبْرِيلَ وَمِيكالَ ) (1) » و « نَخْلٌ وَرُمّانٌ ) (2) » مع أنا نقول : إنّ العطف هنا للعامّ على الخاصّ ، وهو موافق للقاعدة ، وهو وجوب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه ، والحال هنا كذلك فانّ المشرك أعم من الكتابيّ.
وقيل بالثّاني لقوله « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (3) » ولا شكّ في كراهة أهل الكتاب لنبوّته عليه السلام ولقوله تعالى في حقّهم « وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ » إلى قوله « سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ » (4) ولقول النصارى بالتثليث.
فعلى الأوّل الآية عامّة باقية الحكم ، غير منسوخة اتّفاقا ، فيحرم نكاح المشركة وإنكاح المشرك ، وعلى الثاني قيل : هي أيضا عامّة ولا يحل نكاح الكتابيات أيضا ويؤيّده قوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » (5) فتكون ناسخة للاية
ص: 196
في المائدة وهي قوله « وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ ] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (1) الآية.
وقيل بعدم نسخ آية المائدة لأنّ المائدة آخر ما نزل كما قيل ، ولأنّ الأصل عدم النّسخ فعلى هذا يكون هذه مخصّصة بآية المائدة لما تقرّر في الأصول أن التخصيص خير من النسخ ، فلذلك حكم بعض أصحابنا بتحريم الكتابيّات مطلقا على الأوّل من الثاني ، وبعضهم حكم بحلّ الكتابيّات مطلقا على الثاني منه وهو قول شاذّ ينسب إلى ابن الجنيد.
والمتأخّرون من الأصحاب حكموا بحلّ الكتابيّات متعة لا غير لأنّ آية المائدة لا تدل على إباحة نكاح الدّوام بل نكاح المتعة لقوله تعالى « إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » ولم يقل مهورهنّ ، وعوض المتعة سمّي اجرا لقوله « فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » (2)
وفي هذا القول نظر أمّا أوّلا فلأنّ آية المائدة منسوخة بقوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » كما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام ونمنع كون المائدة آخر القرآن نزولا لعدم الدلالة القاطعة عليه ، وعلى تقديره جاز أن يكون أكثرها هو الأخير نزولا عن جملة السورة ، ويكون هذه الآية ضمّت إليها بعد نسخها ، وتكون من الّذي نسخ حكمه دون تلاوته كآية عدّة الوفاة بالحول وأمّا ثانيا فلأنّا نمنع دلالتها على المتعة فإنّ المهر مطلقا يسمّى أجرا كقوله « عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ » (3).
ويمكن أن يجاب أمّا عن الأوّل فلأنّها جزء من المائدة قطعا ، وتأخّر المائدة مشهور (4) وقرائن أحكامها تدل عليه مع أصالة عدم النسخ وأمّا عن الثاني
ص: 197
فلأنّ اشتراط إيتاء المهر في الحلّ دليل على إرادة المتعة لعدم اشتراط ذلك في صحّة الدائم نعم الأجود تحريم الكتابيّات اختيارا مطلقا لوجوه :
الأوّل أنّها مشركات ولا شي ء من المشركات يحل نكاحهنّ والمقدّمتان تقدّم تقريرهما.
الثاني أنّ الكتابية لا تواد ، وكلّ زوجة تواد ، فلا شي ء من الكتابيّة
ص: 198
بزوجة أمّا الصغرى فلقوله « لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (1) » وهي محادّة وأمّا الكبرى فلقوله تعالى « وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » (2).
الثالث أنّها كافرة ولا شي ء من الكافرة بذات عصمة أمّا الصغرى فظاهرة ، وأمّا الكبرى فلقوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » (3) والنكاح عصمة وهو ظاهر وأمّا حال الاضطرار وهو حصول المشقّة بالترك ، وخوف الوقوع في العنت ، فيجوز المتعة بهنّ وعليه يحمل آية المائدة فيكون مخصّصة لما تقدّم ، وكذا تحمل الروايات الواردة بالإباحة.
واعلم أنّ ملك اليمين هنا كالمتعة في الجواز عند الصرورة وأمّا حال الاختيار فحكمه كالعقد في المنع وأطبق فقهاء العامّة على إباحة الكتابيّات مطلقا وهنا فوائد :
ص: 199
1 - قال الراوندي : في الآية دلالة على جواز نكاح الأمة مطلقا من غير شرط عدم الطول وخشية العنت ، وفيه نظر لأنّ المطلق يحمل على المقيّد مع المعارضة كما تقرّر في الأصول.
2 - في الآية إشارة إلى اشتراط الايمان في النكاح لوجهين أحدهما قوله « وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ». « وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ » وثانيهما تعليله بأنّ « أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ » ولا شبهة أنّ المخالف يدعو إلى النار فلا يجوز نكاحه وإنكاحه نعم لما كانت المرأة سريعة الانفعال ضعيفة العقل ، جاز نكاح المؤمن المخالفة دون العكس ، ولهذا قيل : المرأة تأخذ من دين بعلها.
3 - في تعليله بأنّ « أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النّارِ » إشارة إلى كونه كبيرة وأيضا فإنّ النكاح يستلزم إرادة دوامه ولا صغيرة مع الإصرار.
4 - قيل : النهي في الآية لا شكّ في إفادته التحريم لكن نمنع إفادته الفساد لما تقرّر أنّ النهي في غير العبادات لا يفسده أجيب : قد تقرّر في الأصول أنّ النهي في المعاملة إن كان عن الشي ء لذاته أو لجزئه أو للازمه ، أفاد الفساد كبيع الحصاة والملاقيح والرّبا وحينئذ نقول : وإن كان النكاح حقيقة في العقد أو الوطي أو مشتركا فالنهي متوجّه إلى الشي ء لذاته أو للازمه ، فيكون مفيدا للفساد وهو المطلوب.
5 - أنه لا خلاف في أنّ الذميّ إذا أسلم فهو باق على نكاحه ، فيكون مخصّصا لعموم « وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ». « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » بالإجماع والنّصّ الحديثيّ.
6 - لقائل أن يقول إنّ « خيرا » في قوله « خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ » و « خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ » أفعل التفضيل ، المستلزم للمشاركة ، فيفيد زيادة خيريّة نكاح المؤمنة وإنكاح المؤمن ، فيكون في خلافهما خيريّة مّا ، فلو كان فاسدا لما كان كذلك فيجاب بأنّ الخيرية في هذه ليست باعتبار صحّة النكاح وفساده ، بل لمّا كان الجمال والحسب والمال بواعث على النكاح ، وتلك خيرات دنيويّة ، فهي مشاركة للخيرات الدينيّة الحاصلة في نكاح المؤمنين ، في مطلق الخيريّة ، لكن الخيارات الدّينيّة
ص: 200
أعظم لكونها أمورا حقيقية دائمة لا وهميّة زائلة ، فلذلك ساغ إيراد صيغة التفضيل.
7 - الواو في « ولو » للحال ، و « لو » بمعنى « إن » وهو كثير ، والإعجاب في الحسن والمال والجاه وفيه إشارة إلى كراهة قصد الجمال والمال في النكاح بل السنّة والدّين كما قال عليه السلام « عليك بذات الدّين تربت يداك (1) » والمراد بدعائهم إلى النار أي إلى أسبابها فانّ بسبب المخالطة قد يكتسب الصاحب من صاحبه دينه ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل » (2) وهنا محرّمات أخر تذكر في كتب الفقه ، مستفادة من السنّة فلنقتصر على ما في الكتاب.
ديانة فيكون مفعولا له ، وقيل نحلة من اللّه وتفضّلا منه عليهنّ ، فيكون نصبا على الحال من الصدقات ، وقيل النحلة بكسر النون العطيّة الّتي تكون عن طيب النفس من غير طلب وقيل هو من غير عوض والفعل منه نحل ينحل نحلا ، فعلى هذا يكون نصبا على المصدر من غير لفظه ، و « نفسا » نصب على التميز من الجملة ، والهني ء والمري ء صفتان لمحذوف أي أكلا هنيئا مريئا يقال هنوء الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا نقص فيه ، وقيل الهني ء ما يلذه الآكل والمري ء ما تحمد عاقبة ، إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - أنّ الخطاب هنا للأزواج وهو الأصحّ لذكره عقيب الأمر بالنّكاح وقيل للأولياء لأنّهم كانوا يأخذون مهور بناتهم ، فكان إذا ولد لأحدهم بنت يهنّئونه ويقولون هنيئا لك النافجة يعنون به أنّ أخذ مهرها ينفج به ماله أي يعظّمه.
2 - في قوله « فَإِنْ طِبْنَ » دلالة على عدم جواز غصبها أو خديعتها أو إكراها على عطيّته وكان قوم يتحرّجون من قبول شي ء ممّا ساقه إلى زوجته فنزلت والضمير في « منه » راجع إلى المهر لسبق ذكر معناه.
3 - روى العياشيّ أنّ رجلا جاء إلى أمير المؤمنين فشكى إليه وجع بطنه فقال عليه السلام ألك زوجة؟ قال : نعم ، قال استوهب منها شيئا طيّبة به نفسها من مالها ثمّ اشتر به عسلا ثمّ اسكب عليه من ماء السماء ، ثمّ اشربه فإنّي سمعت اللّه تعالى يقول « وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً » وقال « يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ » وقال « فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً » فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهني ء والمري ء شفيت إن شاء اللّه تعالى قال ففعل ذلك فشفي (1).
الثانية ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى
ص: 202
بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) (1).
القنطار المال الكثير ، والبهتان هو أن ينسب الإنسان غيره إلى فعل أو قول يسوؤه إذا سمعه ، وهو بري ء منه ، وانتصابه وانتصاب « إِثْماً » على المفعول له إلّا أنّ « بُهْتاناً » سبب فاعليّ و « الإثم » سبب غائيّ بمعنى أنّ سبب أخذ المال بهتانه على زوجته ، ويؤول أخذه إلى الإثم ، فاللّام المقدّرة في « إثما » لام العاقبة لأنّ أخذ المال ليس لأجل الإثم ، لا أنّهما حالان بمعنى باهتين وآثمين كما قال الزمخشري لأنّ الأخذ ليس في حال البهتان بل مسبوق به والاستفهام على سبيل الإنكار و « مبينا » أي مظهرا لخساسة أنفسكم ثمّ أعاد الإنكار بقوله و « كَيْفَ » والحال أنّه « قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ » والإفضاء الوصول وهو هنا كناية عن الجماع ، والميثاق الغليظ العهد الوثيق ، وقيل هو عقد النكاح ، وقيل هو حق الصّحبة والممازجة ، وقد قيل صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف صحبة الزوجين ، وقيل الميثاق هو ما أوثق اللّه عليه في قوله « فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ » وقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أخذتموهنّ بأمانة اللّه واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه (2) [ عن الباقر عليه السلام ] إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - في الآية دلالة على عدم تقدير المهر بقدر بل بحسب ما يتراضيان عليه ولذلك لمّا منع عمر عن المغالاة في الصّداق على المنبر قالت له امرأة : أتمنعنا ما جعله اللّه لنا وتلت الآية ، فقال كل أفقه من عمر حتّى النساء ورجع عن رأيه (3).
2 - فيها دلالة على استقرار المهر بالدخول لتعليل الإنكار بالإفضاء.
3 - روي أنّ الرّجل منهم كان إذا أراد أن يتزوّج جديدة بهت الّتي تحته بالفاحشة حتّى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليجعله مهرا للجديدة ، فنهوا عن
ص: 203
ذلك فالتقييد للنهي بحال الاستبدال لأجل السّبب وقد تقرّر في الأصول أنّ خصوص السبب لا يخصص.
4 - قيل الآية منسوخة بقوله « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (1) » وقيل : بل هي محكمة غير منسوخة ، وهو قول الأكثر وهو الأصحّ لأنّ النهي فيها مقيّد بالبهتان ، وهو نوع من الإكراه ولا كلام أنّ مع إكراه الزوجة على الافتداء ، لا يقع الملك ولا يتم الخلع.
الثالثة ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) (2).
المراد بالمسّ الجماع والفرض التقدير ، والمراد بالفريضة المهر المقدّر ، ففعيل هنا بمعنى مفعول ، والتاء لنقل اللّفظ إلى الاسميّة ، والمتعة والإمتاع بمعنى النفع والفائدة وأوسع الرّجل إذا صار ذا سعة من المال ، وأقتر إذا صار ذا إقتار ، بمعنى الضيق ضدّ السّعة أو صار ذا قترة ، وهي الغبار ومنه قوله تعالى ( تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) (3) كأنه لفقره يتغيّر حليته فكأنّ عليه غبارا و « ما » هنا بمعنى المدّة أي مدّة لم تمسّوهنّ و « مَتاعاً » اسم للمصدر بمعنى التمتيع كالسلام بمعنى التسليم وهو منصوب على المصدرية و « حَقًّا » صفة له إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - أنّ « أو » في « أَوْ تَفْرِضُوا » يحتمل أن يكون بمعنى الواو ، وأن يكون للترديد ، وأن يكون بمعنى « إلّا أن » فعلى الأوّل يكون منطوق الآية أنّكم إن طلّقتم النّساء قبل مسّهنّ وقبل فرضكم لهنّ مهرا فلا جناح عليكم ، قدّم جواب الشرط عليه.
ص: 204
وإنّما نفى الجناح لأنّ في الطلاق مظنّة الجناح لكون النكاح مطلوبا لله فيكون تركه مظنّة الكراهة ، خصوصا قبل الدّخول ، وأمّا بعد الدّخول فقد حصل الامتثال فضعّفت الكراهية للترك ، فلذلك خصّ النفي بما قبل المسّ ، أو لأنّ الطلاق بعد الدّخول يفتقر إلى الاستبراء وقبله لا وقيل : المعنى لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولم يسمّ لها مهرا إذ لو كانت ممسوسة لكان عليه المسمّى أو مهر المثل ، ولو كانت غير ممسوسة وقد سمّي لها مهرا كان لها نصفه ، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الاولى ، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين.
وفيه نظر لأنّه لو كان ذلك هو المراد لما حسن نفي الجناح مطلقا ، لأنّه وإن لم يجب عليه المهر كملا فإنّه يجب عليه المتعة فكان ينبغي فيه التقييد لكنّه لم يقيّد فلم يكن ذلك هو المراد.
وعلى الثاني يكون المنطوق نفي الجناح قبل المسّ مطلقا أي مع الفرض وعدمه وقبل الفرض مطلقا أي مع المسّ وعدمه ، فيثبت المتعة على الأحوال الأربعة فتكون واجبة مع الطّلاق منضمّة إلى نصف المهر وإلى مهر المثل لكن ذلك لم يقل به أحد من أصحابنا لكنّه قول الشافعيّ كما يجي ء.
وعلى الثالث يكون المنطوق نفي الجناح وثبوت المتعة مع عدم الفرض فيكون الحكم كالأوّل وهو الّذي عليه الفتوى.
2 - « وَمَتِّعُوهُنَّ » أي حيث لا جناح عليكم في ذلك فمتّعوهنّ جبرا لا يحاش الطّلاق بشي ء من أموالكم ، وذلك الشي ء يختلف باعتبار حال الزّوج فالغنيّ يجب عليه دابّة أو ثوب رفيع أو عشرة دنانير من الذّهب ، والمتوسّط خمسة أو ثوب متوسّط ، والفقير دينار أو خاتم ، وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة إن نقص مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل.
3 - لا متعة عندنا لغير هذه ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه و
ص: 205
في القول الآخر ألحق بها الممسوسة المفروضة وغيرها قياسا ، وهو مقدّم على المفهوم عنده.
4 - لو تراضيا على تقدير مهر بعد العقد ، لزم ، ولو طلّقها بعد ذلك لزم نصف المقدّر.
5 - في الآية دلالة صريحة على صحّة عقد الدوام من غير ذكر مهر مطلقا ويسمّى ذلك تفويض البضع ، وقد يقال تفويض المهر ، وهو أن يتزوّجها بمهر مجمل كأن يفوّض تقديره إلى أحدهما أو إلى أجنبيّ ، فيلزم ما يقدّره ، لكن إن كان هو الزّوج لزم كلّ ما يقدّره بما يتملّك ، وإن كانت الزّوجة لزم ما لم يتجاوز مهر السنّة ، وهو خمسمائة درهم أو خمسون دينارا ، والأجنبيّ حكمه تابع لمن هو من قبله ، فإذا طلّق مفوّضة البضع لزمته المتعة كما قلناه ، ولو طلّق مفوّضة المهر لزم نصف ما يحكم به من إليه الحكم ، ولو لم يكن حكم الزم الحكم ، فيلزم نصفه.
6 - لو مات الزّوج قبل الدخول ، ففي مفوّضة البضع لا شي ء ، وفي مفوّضة المهر ، قيل لها المتعة للرواية عن الباقر عليه السلام رواها محمد بن مسلم (1) وقيل لا شي ء لعدم الموجب.
7 - في الآية دلالة على تملّك المهر المقدّر بالعقد لوصفه بالفريضة أي المفروضة فلو لم يجب كلّه لم يكن مفروضا مطلقا.
8 - قوله « بِالْمَعْرُوفِ » أي بما يعرفه أهل العقل والمروءة ، من حال الزّوج كما قلنا ، ووصف التمتّع بالحقّ دلالة على وجوبه ، وسمّى الأزواج ب « الْمُحْسِنِينَ » أي إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى جبر وحشة الطلاق للمسارعة ترغيبا وتحريصا.
الرابعة ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا
ص: 206
أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (1).
قوله « فَنِصْفُ » أي فالواجب نصف واللّام في النكاح للعهد الذهنيّ « و ( يَعْفُونَ ) » جمع معتل يستوي فيه المذكّر والمؤنّث لفظا وهو هنا للمؤنّث وهو مبني غير معرب إذا عرفت هذا فنقول دلّت هذه الآية على أحكام :
1 - تنصيف المهر بالطّلاق.
2 - أنّ النّساء إذا عفون لم يكن لهنّ على الزّوج شي ء والمراد بالعفو هنا إمّا الهبة إن كان المهر عينا أو الإبراء إن كان دينا ، وهل يقعان بلفظ العفو؟ التحقيق هنا أن نقول : المهر إن كان دينا في ذمّة الزّوج صحّ بلفظ العفو ، ولفظ الهبة ولفظ الإبراء ، ولفظ الاسقاط ، وهل يشترط القبول؟ فيه خلاف الأصح عدمه وإن كان عينا فيصحّ بلفظ الهبة إجماعا ولا يصحّ بلفظ الإبراء إجماعا ، وهل يصحّ بلفظ العفو؟ قيل نعم ، لعموم اللّفظ في الآية ، وقيل لا ، لأنّه لا مجال له في الأعيان كلفظ الإبراء ، فإنّه لا يقع على العين ، وهو الأصح ، ولا بدّ من القبول هنا قطعا وبالجملة حكمه في العين حكم الهبة ، وتمام البحث في كتب الفقه.
3 - أنّه كما يجوز للمرأة العفو عن حقّها ، كذا يجوز لوليّها وهو المشار إليه بقوله « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » واختلف في الوليّ فقال أصحابنا هو الولي الإجباري أعني الأب والجد له ، بالنسبة إلى الصّغيرة ، وهو قول الشافعيّ في القديم ، وألحق به بعض أصحابنا الوكيل الّذي تولّيه أمرها ، وفيه نظر لأنّ الوكيل ليس بيده عقدة النكاح أصالة ، بل بيدها ، والإطلاق ينصرف إلى الأصالة نعم لو أذنت للوكيل في العفو جاز قطعا.
وقال الشافعيّ في الجديد وأحمد وأصحاب الرأي أنّ الّذي بيده عقدة النكاح هو الزّوج ، لأنه مالك لعقده وحلّه ، فعلى هذا القول يكون الطلاق قبل المسّ مخيّرا للزوج ، بين دفعه كملا وبين تشطيره ، فلا يكون الطّلاق مشطّرا بنفسه
ص: 207
والأوّل أصح لأنّه لمّا ذكر عفو النّساء عن نصيبهنّ اقتضى أن يكون « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » وليّا لهنّ ليكون العفو في الجهتين واحدا ولأنّه بدأ بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله « وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ » ثمّ قال « يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي » وهما خطاب لغير حاضر ، فيتغايران.
1 - أنّ الزوجة لها العفو عن كلّ حقّها ، وأمّا وليّها فليس له العفو إلّا عن بعضه لا غير.
2 - حيث جاز للوليّ العفو عن بعض حقّها ، فهل له إنكاحها ابتداء بدون مهر مثلها قيل لا ، فلو زوّجها بدون مهر المثل صحّ النّكاح وفسد المسمّى ، ويكون بمنزلة من لم يسمّ لها ، لأنّ معاوضات المولّى عليه يشترط في فعلها مساواة العوض وإذا فسد المسمى ثبت لها مهر المثل بنفس العقد.
وقيل : له ذلك ، لأنّه كما جاز له أن يعفو عن بعض ما وجب لها ، جاز له في الابتداء قبل الوجوب ، ولأنّه منصوب لنظر المصلحة ، فجاز أن يرى في ذلك مصلحة ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله زوّج بنته بخمسمائة درهم (1) ومعلوم أنّ مهر بنته لا يكون هذا القدر.
وفي هذا نظر لأنّ نظر النّبوّة يقيني ولأنّه « أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ » ولأنّه جاز أن يكون باذنها ، وأيضا فإنّه إذا فسد المسمّى ثبت مهر المثل ، وهو لا يتجاوز مهر السنّة وهذا مهر السنّة ، والأصحّ أنه إن تعلّق بذلك مصلحة عائدة إليها جاز وإلّا فلا.
3 - في الآية دلالة على ثبوت الولاية في النكاح على المرأة أصالة لقوله « بِيَدِهِ » أي في ملكه لأنّ اليد تدل على الملك عرفا ، وهذا من المجملات الّتي بينها السنّة الشريفة فعند أصحابنا ناقلين عن أئمتهم عليهم السلام أنّ الولاية أربعة أقسام :
ص: 208
الأوّل القرابة وهي منحصرة في الأب والجدّ للأب خاصّة ، دون باقي الأقارب من العصبات ، وغيرهم لكن ذلك على الصّغيرين ، ومن عرض له الجنون حال الصّغر مستمرّا إلى البلوغ دون من تجدّد جنونه سواء كانت المرأة بكرا أو ثيّبا ، واختلف في البكر البالغة الرشيدة فالأقوى والأقرب سقوط الولاية عنها لسقوط الولاية في المال ، فتسقط في النكاح ولعموم « حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ » وللروايات المتضافرة عن الباقر والصادق عليهما السلام ثمّ إنّ ولاية الأب والجدّ كلّ منهما مستبدّة وولاية إجباريّة ليس للمولّى عليه الاختيار (1).
الثّاني ولاية الحاكم وهي تختص بمن بلغ فاسد العقل ، وليس له وليّ أو فسد عقله ورأيه بعد بلوغه ورشده ، ويراعي في كلّ ذلك مصلحة المولّى عليه في النكاح.
الثالث ولاية الوصيّ عن الأب أو الجدّ له ، لكنّها مختصّة بمن بلغ فاسد العقل دون غيره ، ويراعي المصلحة أيضا.
الرابع ولاية الملك وهي ثابتة على الرقيقين ذكرا كان المالك أو أنثى وكذا المملوك بالغا كان أو غيره ، عاقلا كان أو غيره ، وهي أقوى الولايات فإنّها مقدّمة على ولاية القرابة والحكم ، وقالت العامّة بما قلناه وزادوا ولاية العصوبة وهي باطلة عندنا ، لإطباق علماء أهل البيت عليهم السلام على ذلك وكفى به حجّة.
4 - قوله « وَأَنْ تَعْفُوا » خطاب للأزواج إجماعا لكن عند من فسّر « الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » بالزوج قال إنّه أعاد خطابهم تأكيدا وعندنا لمّا ذكر عفو المرأة ووليّها ذكر عفو الرّجل وجمعه مطابقة لجمع النّساء ولأنّه خطاب لكلّ زوج.
ونقل الطبرسيّ أنّه خطاب للزّوج والمرأة معا عن ابن عبّاس قال : وهو أقوى لعمومه وفيه نظر أما أوّلا فلأنّ اجتماع العفوين غير ممكن لو أراده لأنّه وصف العفو بكونه أقرب للتقوى ، فيكون ترغيبا لهما ، وأمّا ثانيا فلأنّ تعفو هنا خطاب للمذكّر حقيقة بحذف نونه ، وجعله معربا بالناصب فلا يتناول المؤنّث.
ص: 209
إن قلت : التغليب جائز. قلت : هو خلاف الأصل.
إذا عرفت هذا فعفو الزّوج أنواع :
الأوّل أن يكون قد سلّم المهر إليها جملة ، وهو موجود بيدها فيهبها الزائد عن النصف لو طلّقها ، ويشترط قبولها.
الثاني أن يكون قد سلّمه وتصرّفت فيه ولم يبق عينه ، فعفوه إبراء ولا يشترط القبول.
الثالث : أن يكون موجودا بيده فيدفعه إليها جملة بعد الطلاق ، فيكون واهبا للزائد عن النصف فيشترط قبولها.
الرابع أن يكون في ذمّته دينا فعفوه إحضاره وتعيينه ، وتمليكها الزائد فيشترط أيضا قبولها.
ففي النوع الثاني يصح بأيّ لفظ شاء من الأربعة المتقدّمة وفي البواقي لا يقع إلّا بألفاظ الهبة ، وأمّا لفظ العفو فقد تقدّم الخلاف فيه ، نعم لفظ العفو لو حصل لم يفد ملكا بل إباحة وروي عن جبير بن مطعم أنّه تزوّج امرأة وطلّقها قبل الدّخول فأكمل لها الصداق فقال : أنا أحقّ بالعفو (1).
وقوله « أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » أي اتّقاء الظلم ، فانّ الباذل لغيره حقّه فقد استبرأ لذمته واحتاط ، أو لاتّقاء الكلام في عرضه ، بأن يقال إنّه طلّقها وأدخل عليها ذلّ الخذلان وبخس المهر.
5 - نقل عن سعيد بن المسيب أنّ هذه الآية ناسخة لحكم المتعة في الآية السابقة وليس بشي ء لأنّ النسخ إنّما يتصوّر مع المنافاة بين الحكمين ، ولا منافاة هنا لأنّ محلّ المتعة الطلاق قبل الدخول مع عدم الفرض ، وهنا ثبوت النصف مع الفرض ، فلا منافاة نعم أقول : لو قلنا بثبوت المتعة لكلّ مطلّقة على الاحتمال الثاني في « أو » كما تقدّم يكون هذه الآية مخصّصة لذلك العموم ، والتخصيص
ص: 210
خير من النسخ مع معارضتهما.
قوله « وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ » أي لا تتركوا الأخذ بالفضل بينكم والإحسان ، ويمكن أن يستفاد من هذا استحباب الأخذ ناقصا والإعطاء راجحا في سائر المعاوضات.
الخامسة ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللّهُ وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ) (1).
القنوت لزوم الطاعة والمداومة عليها ، والنشوز الارتفاع ، والمراد هنا الارتفاع عن مطاوعة الأزواج فيما يجب لهم ، وسبب نزول هذه الآية أنّ سعد بن الرّبيع وكان من الأنصار نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد فلطمها فانطلق بها أبوها إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال أفرشته كريمتي فلطمها! فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله لتقتصّ من زوجها ، فانصرفت لتقتصّ منه فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ارجعوا هذا جبرئيل أتاني وأنزل هذه الآية فقال النبي صلى اللّه عليه وآله أردنا أمرا وأراد اللّه أمرا والّذي أراد اللّه خير ورفع القصاص. ثمّ إنّ الآية فيها أحكام :
1 - أنّ « الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ » أي لهم عليهنّ قيام الولاية والسّياسة وعلّل ذلك بأمرين أحدهما موهبيّ من اللّه وهو أنّ اللّه فضّل الرّجال عليهنّ بأمور كثيرة من كمال العقل وحسن التّدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات ، ولذلك خصّوا بالنبوّة والإمامة والولاية ، وإقامة الشعائر والجهاد ، وقبول شهادتهم في كلّ الأمور ، ومزيد النصيب في الإرث وغير ذلك. وثانيهما كسبيّ وهو أنّهم ينفقون عليهنّ ويعطوهنّ المهور ، مع أنّ فائدة النكاح مشتركة بينهما.
ص: 211
والباء في قوله « بِما فَضَّلَ اللّهُ » وفي قوله « وَبِما أَنْفَقُوا » للسببيّة ، وما مصدريّة أي بسبب تفضيل اللّه وبسبب إنفاقهم ، وإنّما لم يقل بما فضّلهم عليهنّ؟ قال بعض الفضلاء لأنّه لم يفضّل كلّ واحد من الرّجال على كلّ واحدة من النساء لأنّه كم من امرأة أفضل من كثير من الرجال وإنّما جاء بضمير المذكّر تغليبا فيدخل الرّجل المفضّل والمرأة المفضّلة قال : ولا يلزم من تفضيل الصّنف على الصنف تفضيل الشخص على الشخص.
قلت : فحينئذ لا يكون في الآية دليل على تفضيل الصّنف الّذي هو عين المدّعى ، لأنّه إذا كان بعض اشخاص الرجال أفضل من بعض أشخاص النساء وبالعكس فأيّ دليل على تفضيل الصنف على الصنف الآخر الّذي هو المراد فالسؤال باق على حاله.
2 - أنّه لمّا فضّل الرّجال ، أراد جبر قلوب النساء فقال « فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ » أي مطيعات قائمات بما عليهنّ لأزواجهنّ « حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ » أي حافظات لما يكون بينهنّ وبين أزواجهنّ في الخلوات من الأسرار ، وقيل : حافظات لفروجهنّ ولأموال أزواجهنّ ولأولادهنّ كما جاء في الحديث.
وفيه نظر وإلّا لقال حافظات في الغيب لا للغيب على تقدير حذف المفعول به.
قوله « بِما حَفِظَ اللّهُ » أي بما حفظهنّ اللّه حين أوصى بهنّ الأزواج ، وأوجب لهنّ عليهم المهر والنفقة ، فالباء حينئذ للمقابلة والجزاء والمراد بسبب حفظ اللّه لهنّ وتوفقه لهنّ أو بحفظه لهنّ بتعويضه للثواب على فعلهنّ.
3 - بيان حكم النشوز ، وأصله الارتفاع كما قلنا ثمّ نقل شرعا إلى العصيان للزّوج ، وأتى بالفاء في الخبر ، لتضمّن المبتدأ معنى الشرط والجزاء ، لكونه موصولا والوعظ التخويف باللّه وبالعواقب ، والهجر في المضاجع ، قيل هو أن لا يجامعها ، وقيل أن يولّيها ظهره في الفراش ، وقيل أن لا يبيت معها في الفراش بل في فراش آخر « وَاضْرِبُوهُنَّ » أي ضربا غير جارح لحما ولا كاسر عظما ، وهل تترتّب الثلاثة لترتّبهما في الذكر؟ الوجه نعم ، لا من حيث اللّفظ فانّ الواو
ص: 212
لا يفيد الترتيب ، بل من حيث المعنى لأنّه يترتّب الأخفّ فالثقيل فالأثقل ، كما يجب في النهي عن المنكر.
قيل قوله « تَخافُونَ » بمعنى تعلمون وليس بشي ء ، وقيل : معناه إن ظهرت أمارة النشوز « فَعِظُوهُنَّ » وإن أظهرن النشوز « وَاهْجُرُوهُنَّ » وإن استمرّ نشوزهنّ « وَاضْرِبُوهُنَّ ». قوله « فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ » أي إن رجعن عن نشوزهنّ إلى الطاعة ، فلا تتعرّضوا لهنّ بشي ء من الأذى لزوال سببه ، فانّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
قوله « إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً » أي إنّه مع علوّ شأنه في ذاته وصفاته تعصونه ويعفو عنكم إذا تبتم ، فكذلك يجب عليكم أن تقبلوا توبتهنّ إذا تبن أو معناه أنّه يتعالى أن يظلم أحدا أو يبطل حقّه.
السادسة ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً ) (1).
يريد إن خفتم استمرار الشقاق ، لأنّ الشقاق الماضي لا يخاف منه ، والمستقبل لا يعلم ، وكذا تقول في قوله « وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ » فانّ الاستمرار هو المخوف ، وأمّا إذا لم يستمرّ فلا يتعلّق به حكم لزواله ، وحاصل الشقاق الاختلاف وعدم الاجتماع على رأي واحد ، كأنّهما باختلافهما كلّ واحد في شقّ أي في جانب.
قوله « فَابْعَثُوا » هنا مسائل :
1 - قيل : الخطاب في قوله « فَابْعَثُوا » للزّوجين ، وقيل أهل الزّوجين وقيل للحكّام المتداعي عندهم ، وهو المنقول عن الباقر والصادق عليهما السلام ، وهو الأصح لأنّ أوّل الكلام في « خِفْتُمْ » يدل عليه.
ص: 213
2 - هل يشترط رضي الزّوجين بهما بحيث يكون إلزاما لهما بما يحكمان به أم لا؟ قيل نعم ، ومنهم من لا يشترط ذلك وهو مذهب مالك.
3 - هل بعثهما تحكيم أو توكيل ، قال بعض أصحابنا بالثاني لأنّ البضع حقّ للزوج ، والمال حقّ للمرأة ، فليس لأحدهما التصرف فيهما إلّا بإذنهما وفيه نظر لأنّه استبعاد في ثبوت الولاية على الرّشيد حين امتناعه من أداء حقّ عليه كما يقضى دين المماطل بغير اختياره.
وقال أكثر أصحابنا بالأوّل محتجّين بأنه قد ورد أنّ لهما الإصلاح من غير استيذان ، وليس لهما التفريق إلّا بإذنهما ، ولو كان توكيلا لكان ذلك تابعا للوكالة ويدل عليه قوله « فَابْعَثُوا » فإنّه خاطب الحكّام ، وسمّاهما حكمين ، ولو كان توكيلا لخاطب الزّوجين ، وقال « فابعثا » وأصل الخلاف مبنيّ على أنّه هل يشترط رضي الزّوجين أم لا؟ فمن شرط رضاهما ، قال : هو توكيل ، ومن لا يشترط قال هو تحكيم.
4 - هل يجوز البعث لحكمين من غير أهل الزّوجين؟ قيل لا ، لأنّ الأهل أعرف بحال الزّوجين وكيفيّة صلاحهما ومحبّتهما وكراهتهما ، ولأنّ الأهل يسكن إليه ويطمئنّ إلى حكمه ، بخلاف الأجنبيّ ، وللآية ، وقيل يجوز لأنّ الغرض حصول الصّلاح وتقييد الآية للأغلبية ، وهذا هو المشهور بين الأصحاب.
5 - هل للحكمين الجمع والتفريق بغير إذن الزوجين أم لا؟ قيل نعم بناء على اشتراط رضاهما وأنّهما وكيلان ، وقيل لهما الجمع وليس لهما التفريق إلّا بعد استيذان المرأة في البذل ، والرّجل في الطلاق إن كان خلعا وهذا هو المشهور بين الأصحاب وعليه الفتوى.
وقال بعض أصحابنا : إن جعل الحاكم الإصلاح والطلاق إليهما أنفذا ما رأياه صلاحا ، وإن أطلق القول لم يجز التفريق إلّا بعد مراجعتهما وهو كلام حسن بناء على أنّ بعث الحاكم الحكمين بإذنهما واختيارهما ، فإنّ الإذن أوّلا كالاذن أخيرا.
ص: 214
6 - لو اختلف الحكمان : بأن اختيار أحدهما الإصلاح ، والآخر التفريق لم يمض حكمهما قطعا ، وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح أو الجمع بين النقيضين.
7 - يشترط في الحكمين : العقل والبلوغ والعدالة والحرّية والذكورة ويلزم كل ما شرطاه من أمر سائغ وإلّا نقض ويلزم الحكم بالصلح ، وإن كان أحد الزّوجين غائبا ، وقيل لا يلزم ، وهو ضعيف فانّ الحكم على الغائب جائز عندنا.
8 - اختلف في ضمير « إِنْ يُرِيدا » وفي « بَيْنِهِما » قيل هما معا للحكمين أي إن قصدا الإصلاح يوفّق اللّه بينهما ليتّفق كلمتهما ، ويحصل المقصود وقيل للزّوجين فيهما أي إن أرادا الإصلاح وزوال الشقاق بينهما أوقع اللّه الألفة والوفاق ، وفيه تنبيه على أنّ من أصلح نيّته فيما يتحرّاه أصلح اللّه مبتغاه.
وقيل : الأوّل للحكمين والثاني للزّوجين ، ومعناه إن اتّفق الحكمان على الإصلاح يوقع اللّه الوفاق بين الزّوجين ، لأنّ الأمور بأسبابها ، وأما إذا أرادا الفساد أو اختلفا ، فلا يوفّق اللّهب بينهما لعدم سبب الوفاق ولا يستبعد أن يكون إرادتهما للإصلاح سببا للاتّفاق ، لأنّ الأعمال بالنيّات.
قوله « عَلِيماً » أي بالكلّيات « خَبِيراً » أي بالجزئيّات.
السابعة ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (1).
أي لن تستطيعوا أن تعدلوا بين أزواجكم عدلا حقيقيّا بحيث يتساوين في المحبّة والتعهّد والنظر والميل القلبيّ « وَلَوْ حَرَصْتُمْ » أي بذلتم جهدكم في حصوله ، ولذلك كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقسم بين نسائه ويقول « اللّهم هذه قسمتي
ص: 215
فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك (1).
قوله « فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ » أي حيث لا يمكن العدل الحقيقيّ ، فلا يترك جملة ، بحيث تميلوا كلّ الميل ، فانّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.
« فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ » أي ليست ذات بعل ولا مطلّقة ، دلّت هذه على وجوب القسمة بين النساء والتسوية بينهنّ فيها لكن على سبيل الاجمال ، والسنّة الشريفة بيّنت ذلك فنقول : صاحب النكاح الدائم إمّا أن يكون له زوجة واحدة فلها ليلة واحدة من الأربع والثلاث له يضعها حيث يشاء ، وإن كان له زوجتان فلهما ليلتان وله ليلتان ، وإن كان له ثلاث فله واحدة وإن كان له أربع فلا يفضل له شي ء ويجوز القسمة أكثر من ليلة أمّا أقلّ فلا ، لما فيه من التنغيص.
قوله « وَإِنْ تُصْلِحُوا » يعني بين الأزواج وتسوّوا بينهنّ ( وَتَتَّقُوا ) الجور في ذلك « فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً » لكم ما مضى « رَحِيماً » بكم.
روي عن الصّادق عليه السلام أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به عليهنّ وروي أنّ عليّا عليه السلام كان له امرأتان فإذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى (2)
الثامنة ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (3).
كانت بنت محمّد بن مسلمة عند رافع بن خديج وقد دخلت في السنّ وكانت عنده امرأة شابّة سواها فطلّقها تطليقة حتّى إذا بقي من أجلها يسير قال لها : إن شئت
ص: 216
راجعتك وصبرت على الأثرة ، وإن شئت تركتك ، فقالت : بل راجعني وأصبر على الأثرة ، فراجعها بذلك الصلح روي ذلك عن الباقر عليه السلام.
وقيل إنّ سودة بنت زمعة زوجة النبيّ صلى اللّه عليه وآله خشيت أن يطلّقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت : لا تطلّقني وأجلسني مع نسائك ولا تقسم لي واجعل يومي لعائشة ، فنزلت الآية عن ابن عباس رضي اللّه عنه (1) وقد تقدّم معنى خوف النشوز والاعراض وفي الآية دلالة على جواز الصّلح عن ترك القسمة ، وجعل عوض الصلح منفعة.
ثمّ قال « وَالصُّلْحُ خَيْرٌ » و « خير » يحتمل أن يكون هنا أفعل التفضيل ، أي خير من الفرقة. ويحتمل أن تكون جملة معترضة أي خير عظيم أو خير من الخيرات كما أنّ الخصومة شرّ من الشرور.
قوله « وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ » جملة معترضة أيضا ، ولذلك لم يجانس ما قبلها ، والجملة الأولى مرغّبة في الصّلح ، والثانية لتمهيد العذر في المماكسة ومعنى إحضار الأنفس الشحّ كونها مطبوعة عليه ، فلا يكاد تسمح المرأة بالاعراض عنها والتقصير في حقّها ، ولا الرّجل بالإمساك لها والإنفاق عليها مع كراهية لها وتمام الآية ظاهر.
التاسعة ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ) (2).
أي أسكنوهنّ مكانا من سكناكم قوله « مِنْ وُجْدِكُمْ » أي من وسعكم ممّا تطيقون ولا تضاروهنّ في السّكنى لتضيّقوا عليهنّ فتلجئوهنّ إلى الخروج ، و
ص: 217
التعاسر التضايق ، وهنا أحكام :
1 - وجوب [ كون ] السكنى للمطلّقات إجمالا من غير بيان كونه رجعيّا أو بائنا لكنّ السنّة الشريفة بيّنت ذلك فنقول : المطلقة الحائل إمّا رجعيّة وسيأتي بيان الرّجعي إن شاء اللّه ، فهذه يستحقّ الإنفاق والإسكان كما كانت ، مدّة العدّة ، ويدل عليه إطلاق الآية ، وإمّا بائنة فقال أبو حنيفة لها أيضا النفقة والسكنى ، وهو مرويّ عن عمرو ابن مسعود وقال الشافعي إنّ لها السّكنى لا غير ، وقال الحسن وأبو ثور إنّه لا سكنى لها ولا نفقة ، وهو مذهب أصحابنا نقلا عن الأئمّة عليهم السلام وأيضا نقل ذلك من طريق الجمهور عن الشعبيّ والزّهري في قضيّة فاطمة بنت قيس ، فيكون إطلاق الآية مخصوصة بالمطلّقة الرجعيّة.
2 - أنّه يجب أن يكون المسكن ممّا يليق بها كافيا لينتفي المضارّة المنهيّ عنها بقوله « وَلا تُضآرُّوهُنَّ ».
3 - المطلقة الحامل تستحقّ السكنى والنفقة إجماعا ، بائنا كانت أو رجعيّة لإطلاق الآية من غير تقييد.
ثمّ اختلف الفقهاء في نفقة الحامل البائن ، هل النفقة لها أو للحمل؟ فقيل :
النفقة للحمل إذ لولاه لما كان لها شي ء ، فقد دار الوجوب مع الحمل وجودا وعدما وهو الأقوى ، وقيل : للحامل بشرط الحمل ، ويظهر الفائدة في مسائل كثيرة منها عدم وجوب قضائها على الأوّل ، ومنها وجوبها على الجدّ وغير ذلك.
4 - أنّ الحامل إذا وضعت وانقضت عدّتها لا يجب عليها إرضاع الولد وسقطت نفقتها بخروج العدّة ، فإن تبرّعت بإرضاع الولد فلا بحث وإلّا يجب على الأب أجرة رضاعه لقوله تعالى ( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) وفيه دلالة على جواز الاستيجار على الرضاع قوله « وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ » أي ليأمر بعضكم بعضا بالجميل في إرضاع الولد بأن لا يقع بخس على الوالد : بأن يؤخذ منه أزيد من الأجر ، ولا الوالدة بأن ينقص من أجرها ، ولا الولد بأن يرضع أقلّ من المقدّر الشرعيّ.
ص: 218
5 - قوله « وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى » فيه دلالة على جواز أخذ الولد من الام واستيجار مرضعة أخرى ، وذلك ليس على إطلاقه بل إن تبرّعت فهي أحق ، وكذا إن رضيت بما يرضى به الغير ، وأمّا إذا لم يرض وهو المراد بالتعاسر ، فيقدّم حق الزّوج ، لأصالة البراءة ويسلمه إلى أخرى ترضعه ، وهل يسقط ذلك حضانة الأمّ؟ فيه خلاف ، قيل نعم ، لحصول الحرج ، وقيل لا ، لتغاير الموضوعين.
العاشرة ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) (1).
هنا فوائد :
1 - رجحان التوسعة على العيال لقوله « مِنْ سَعَتِهِ ».
2 - الأمر بالاقتصاد للمعسرين لقوله « وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ » أي ضيق عليه رزقه « فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ ».
3 - الإخبار بأنّ اللّه « لا يكلّف نفسا ( إِلّا ما آتاها » وفيه دلالة على سقوط النّفقة في الحال عن المعسر.
4 - الوعد باليسر بعد العسر ، وفيه تطيب لنفس المنفق والمنفق عليه.
5 - قال المعاصر : في هذه والّتي قبلها دلالة على أنّ المعتبر في النفقة حال الزوج لا حال الزوجة ، ولذلك أكّده بقوله « لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها » إذ لو كان المعتبر حال الزوجة ، لأدّى ذلك في بعض الأوقات إلى تكليف ما لا يطاق ، بأن تكون ذات شرف والزّوج معسر.
وعندي فيه نظر : أما أوّلا فلفتوى الأصحاب أنّه يجب القيام بما يحتاج إليه المرأة من إطعام أو كسوة وإدام وإسكان تبعا لعادة أمثالها. وأمّا ثانيا فللمنع من دلالة الآيتين على المدّعى أمّا الأولى فلأنّه نهى فيها عن المضارة لهنّ فلو
ص: 219
اعتبرنا حال الزوج لزم مضارّتها في بعض الأحوال كما قال في الزّوج بأن يكون معسرا وهي شريفة وهو خلاف مدلول الآية وأمّا الثانية فلأنّ قوله « لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها » قابل للتقييد أي في الحال الّتي قدر فيها الرزق ، وحينئذ جاز أن يكون الواجب عليه ما هو عادة أمثالها فيؤدّي ما قدر عليه الآن ، ويبقى الباقي دينا عليه ، ولذلك اتّبع الكلام بقوله « سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ».
وفيه آيات :
الاولى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) (1).
غضّ البصر هو ترك النظر ، والمراد هنا ترك النظر إلى الأجنبيّات ومقول القول محذوف أي قل لهم غضّوا يغضّوا ، فيكون يغضّوا في الآية جوابا للأمر المحذوف وكذلك « يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ » تقديره قل لهم احفظوا فروجهم يحفظوا.
و « من » عند الأخفش زائدة ، وهو ضعيف لضعف زيادتها في الإثبات إلّا شاذا وعند سيبويه هي للتبعيض وهو الحقّ فإنه لا يجب الغض عن جميع المحرّمات فإنّه قد يجوز النظر إلى ما عدا عورة المحارم وإلى ما يظهر في العادة من وجوه الأجنبيّات وأكفّهنّ حال الضّرورة ، وكذا إلى وجوه الإماء المستعرضات للبيع وكذا الطبيب للعلاج ، والشاهد لتحمّل الشهادة وإقامتها ، والنظر إلى المخطوبة مع إمكان نكاحها شرعا وعرفا ، ويقتصر على نظر الوجه ، وكذا النظرة الاولى من
ص: 220
غير لذّة أو ريبة لقوله صلى اللّه عليه وآله (1) « لكم أوّل نظرة فلا تتبعوها بالثانية فتهلكوا ».
وأمّا حفظ الفرج فهو أضيق من الغضّ لاختصاص التحريم بمن عدا الزّوجة وملك اليمين ، فلذلك لم يقل : من فروجهم ، ولمّا كان المستثنى من الفرج كالشاذّ النادر ، أطلقه ولم يقيّده بخلاف الغضّ.
وقيل : إنّ المراد هنا بحفظ الفرج ستره ، بحيث لا ينظر إليه أحد ، وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام « ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ » أي الغضّ والحفظ أطهر لهم من النجاسات النفسانيّة ، لأنّ النظر يدعو إلى الجماع وتوابعه وكلّها من الأجنبيّات محرّم ، قوله « إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ » فيه نوع من التهديد.
الثانية ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (2).
هنا فوائد :
1 - أنّ حكم النساء حكم الرّجال في وجوب غضّ الطّرف وحفظ الفرج
ص: 221
وقد تقدّم تفسير ذلك وعلّة الإتيان بمن في الأوّل دون الثاني.
روي عن أمّ سلمة أنّها قالت كنت أنا وميمونة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فدخل علينا ابن أمّ مكتوم بعد آية الحجاب ، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله لنا : احتجبا فقلنا : يا رسول اللّه إنّه أعمى؟ فقال : أفعميا وان أنتما؟ ألستما تبصرانه (1) وإنّما قدّم غضّ الطرف على حفظ الفرج لكونه مقدّما عليه داعيا إلى الجماع.
2 - تحريم إبداء الزينة ، فقيل المراد مواقعها على حذف المضاف لأنفس الزينة ، لأنّ ذلك يحل النظر إليه كالحليّ والثياب والأصباغ ، وقيل : المراد نفسها ويظهر لي أنّ المراد نفس الزينة ، وإنّما حرم النظر إليها إذ لو أبيح لكان وسيلة إلى النظر إلى مواضعها ، وأمّا ما ظهر منها فليس بمحرّم ، للزوم الحرج المنفيّ في الدّين.
3 - قيل المراد بالظاهرة الثّياب فقط وهو الأصحّ عندي لإطباق الفقهاء على أنّ بدن المرأة كلّها عورة إلّا على الزّوج والمحارم ، فعلى هذا المراد بالباطنة الخلخال والسوار والقرط ، وجميع ما هو مباشر للبدن ويستلزم نظره نظر البدن.
وأمّا باقي الأقوال في ذلك ، فهي أنّه الوجه والكفّان ، أو الكحل والخضاب أو الخاتم ، وأنّه إنّما تسومح فيها للحاجة إلى كشفها ، فضعيفة لا تحقيق لها ، فإنّه إن حصل ضرورة ولزم حرج فذلك هو المبيح لا الآية ، وإلّا فلا وجه لذلك.
4 - الخمر جمع خمار وهي المقنعة ، والمراد بضربها إسدالها على الصدر والعنق سترا لهما ، وتغييرا لعادة الجاهليّة في لبس المخانق ، مع كشف الصدر وما فوقه.
5 - أنّه لمّا نهى عن إظهار الزينة مطلقا عدا الظاهرة ، أشار إلى تخصيص ذلك بإباحته للبعولة والمحارم المذكورين أمّا البعولة فلأنّ ذلك يدعو إلى المباشرة
ص: 222
المقصودة وأمّا المحارم فوجه اختصاصهم احتياجهم إلى مداخلتهم ، وعدم خوف الفتنة من جهتهم ، لما في الطباع من النفرة عن مماستهم ، واحتياج المرأة إلى مصاحبتهم في الأسفار للركوب والنزول ، ويدخل أجداد البعولة وأحفادهم لأنّهم أيضا آباء وأبناء وإنّما لم يذكر الأعمام والأخوال؟ قيل لئلّا يصفها العمّ والخال لا بينهما فيكون الوصف كالنظر ، وقيل لأنّهم في معنى الاخوان.
6 - إنّه أباح إظهار الزينة لنسائهنّ أي النساء المسلمات دون الكافرات لأنهنّ لا يتحرّجن من وصفهنّ للرجال.
7 - اختلف في المراد بملك اليمين هنا ، فقيل بعمومه الذكر والأنثى ، وهو رأي عائشة ، وبه قال الشافعيّة ، وقال سعيد بن المسيّب أنّه الإماء خاصّة ، ولا يباح نظر المذكّر سواء كان فحلا أو خصيّا وبه قال أبو حنيفة حتّى قال إنّه لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم وينبغي أن يحمل ذلك على بيعهم لأجل إدخالهم على النساء ، لأنّ ما كان لأجل المحرّم فهو محرّم ، كبيع العنب ليعمل خمرا ، والفتوى على الثاني.
إن قلت : على تفسيركم هذا يكون تكرارا لأنّ الإماء يدخلن في نسائهنّ قلت : قد بيّنّا أنّ المراد المسلمات دون الكافرات ، فعلى هذا يكون نظر الإماء مباحا وإن كنّ كافرات ، فإنهنّ لدخولهنّ تحت القهر لا يحكين ما يرين.
8 - أنّه يباح النظر للتابعين (1) وهم الّذين يتبعون لأجل العافية والانتفاع والخدمة وقيل المراد الشيوخ الّذين سقطت شهوتهم ، وليس لهم حاجة إلى النساء وهو المروي عن الكاظم عليه السلام.
والإربة ، قيل هي الحاجة وقيل هم البله الّذين لا يعرفون شيئا من أمور النساء ، وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام وابن عباس ، وعن الشافعيّ هو الخصيّ المجبوب ، ولم يسبق إلى هذا القول ، وعن أبي حنيفة هم العبيد الصغار ، وقرئ
ص: 223
« غير » بالنصب على الحال ، وبالجرّ صفة للتابعين.
قوله « أَوِ الطِّفْلِ » ذلك يصدق على الواحد والجمع كقوله تعالى « ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً » قوله « لَمْ يَظْهَرُوا » أي لم يطّلعوا على العورة ، فيميّزون بينها وبين غيرها.
9 - كانت الجاهليّات يضربن بأرجلهنّ على الأرض ليسمع صوت خلخالهنّ فنهى المسلمات عن ذلك لأنّه في حكم النظر فإنّه قد يورث ميلا في الرجال فهو أبلغ في النهي عن إظهار الزينة ، قوله « وَتُوبُوا » أي عن إبداء الزينة وغلّب التذكير في العبارة.
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).
هنا فوائد :
1 - أنّه خاطب المؤمنين أن يأمروا عبيدهم وأطفالهم المميّزين [ بين ] العورة وغيرها حيث أمرهم إليهم ، بأن يستأذنوا في دخولهم عليهم في هذه الأوقات الثلاثة ، فهو بالنسبة إلى البالغين تكليف ، وبالنسبة إلى الأطفال تمرين ، وكان قد تقدّم الأمر بالاستيذان العامّ وهذا استيذان خاصّ وهل الإماء أيضا مأمورات؟ قيل نعم وغلب المذكّرين بقوله « الّذين » وقيل : لا ، وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام.
2 - إنّما اختصّت هذه الأوقات الثلاثة لأنّها مظنّة كشف العورة أمّا قبل الفجر ، فإنّه وقت القيام من المضجع ، وتبديل لبس اللّيل بلبس النهار ، وأمّا
ص: 224
وقت الظهيرة فإنّه وقت القيلولة ومظنّة ظهور العورة وأمّا وقت العشاء فإنّه وقت تبديل لبس النهار بلبس اللّيل.
3 - قوله « لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ » جواب سؤال [ مقدّر ] محذوف تقديره : وما حكم الأوقات الأخر وراء هذه الأوقات؟ أجاب بأنّه ليس عليكم ولا عليهم جناح في ترك الاستيذان ، لزوال سبب الاستيذان وهو مظنّة كشف العورة والضمير في « بَعْدَهُنَّ » للأوقات الثلاث.
4 - قوله « طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ » هو تعليل في المعنى لعدم الاستيذان فيما عدا الأوقات الثلاثة ، لاستلزام الاستئذان في ذلك الحرج ، لأنّه لا بدّ من المخالطة بين هؤلاء وهؤلاء للخدمة والاستخدام ، والاستيذان حينئذ مستلزم للحرج « وطوّافون » خبر مبتدأ محذوف أي هم : طوّافون ، وإنّما لم يكتف بهذا بل قال « بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ » لأنّه ليس أحد الفريقين أولى بالطواف دون الآخر بل هو شامل لهما معا هؤلاء لطلب الخدمة ، وهؤلاء لطلب الاستخدام ، فانّ الخادم إذا غاب عن عين مخدومه واحتاج المخدوم إليه ، لا بدّ أن يطوف ويطلبه وكذا حكم الأطفال للتربية فيكون « بعضكم » بدلا من « طوّافون » والمبدل منه ساقط لا أنّه مرفوع بالابتداء وخبره على بعض ، كما قيل ، وقرأ أهل الكوفة غير حفص « ثلاث » بالرفع خبرا للمبتدإ المحذوف أي هذه ، والباقون بالنصب بدلا « من ثلاث مرات » لاشتمال هذه الأوقات على ثلاث كشفات للعورة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الاعراب والجمع.
الرابعة ( وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).
« منكم » في موضع النصب على الحال أي كائنين منكم ، والخطاب للأحرار
ص: 225
لأن بلوغ الأحرار يوجب رفع الحكم المذكور في تخصيص الاستيذان بالأوقات الثلاثة وأما بلوغ الأرقّاء ، فالحكم باق كما كان في التخصيص لأجل بقاء السبب المذكور.
قوله « مِنْ قَبْلِهِمْ » معناه كالّذين بلغوا من قبلهم وهم الأحرار البالغون لا الّذين ذكروا من قبلهم في قوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ) (1) » كما قال الزمخشريّ والطبرسيّ لعدم القرينة في هذه الإضمار ، وأمّا قرينة البلوغ فموجودة وهي قوله « وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ».
وظنّ قوم أنّ الآية منسوخة ، وليست كذلك قال ابن جبير : يقولون : هي منسوخة ، لا واللّه ما هي منسوخة لكنّ النّاس تهاونوا بها ، وقيل للشعبيّ : إنّ الناس لا يعملون بها ، فقال : اللّه المستعان.
الخامسة ( وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2).
المراد به اللّاتي يئسن من المحيض والولد ، ولا يطمعن في نكاح لكبر سنّهنّ فقد قعدن عن التزويج لعدم الرغبة فيهنّ ، والمراد بالثياب ما يلبس فوق الخمار من الملاحف وغيرها ، فإنّه رخّص لهنّ وضع هذه الثياب للأجانب لعدم رغبتهم فيهنّ وزوال التهمة والتبرّج : التبرّز ، وهو من الأفعال اللّازمة.
قوله « غير » هو نصب على الحال من « أن يضعن » والمعنى أنّهنّ إذا خرجن
ص: 226
من بيوتهنّ بالزينة الّتي يجب سترها من الحليّ وثياب التجمل ، لا يترخّص لهنّ وضع ثيابهنّ « وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ » أي العفاف بالستر خير لهنّ لأنّ وضع ثيابهنّ رخصة لهنّ فتركها خير ، وفي ضمنه أنهنّ لو تبرّجن بغير زينة لا جناح عليهنّ إذا لم يضعن ثيابهنّ ، والباء في « بزينة » ليس للتعدية ، بل للمصاحبة وذلك لأنّ خروجهنّ بالزينة يدل على أنهنّ متبرّجات وداعيات للشوابّ إلى التبرّج لا طالبات لحاجاتهنّ.
السادسة ( يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (1).
قال المعاصر : في هذه دلالة على أنه إذا خطب المؤمن القادر على النفقة يجب إجابته وإن كان أخفض نسبا وكذا يجب على الوليّ إلّا مع العدول إلى الأفضل من الخاطبين ، وعندي في دلالتها على ذلك نصّا أو ظاهرا نظر ، أمّا النصّ فظاهر وأمّا الظاهر فلأنّ دلالتها ظاهرا ليس إلّا على تساوي الأشخاص من حيث المادّة والصورة النسبيّة ، وأنّه لا فضل لأخذ على غيره إلّا بالتقوى ، وذلك ليس بنفسه دالّا على وجوب الإجابة عند الخطبة بل مع انضمام دليل آخر إليه وهو قوله صلى اللّه عليه وآله في خطبته لمّا قال : يا أيّها الناس هذا جبرئيل يخبرني أنّ البنات كالثمر وأنّ الثمر إذا أدرك ولم يقطف فسد ، كذلك البنات إذا بلغن ولم يزوّجن فسدن. فقالوا لمن نزوّج يا رسول اللّه؟ قال الأكفاء قالوا : وما الأكفاء؟ قال : إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه ، (2) فدلّ على أرجحية الأتقى على غيره في المنزلة وأنه إذا تعارض خاطبان متساويان في الدّين استحبّ إجابة الأتقى منهما لقوله « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ ».
ص: 227
السابعة : قوله ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) (1).
قال المعاصر قيل : أريد بالثياب الزّوجات لقوله « هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ » فينبغي أن يتخيّر لنفسه من النساء العفيفة الكريمة الأصل ، ويؤيّده قوله ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلّا نَكِداً ) (2).
قلت وعندي فيه نظر لمنع دلالتها على ذلك ، فانّ الثياب حقيقة في الساتر للجسد ، واستعمال اللّباس في النساء مجازا في موضع لا يستلزم استعماله في غيره لأنّ المجاز لا يطّرد كما تقرّر في الأصول وأيضا الطهارة حقيقة في استعمال الماء فاستعمالها في غير ذلك مجاز ، والأصل عدمه ، نعم يدلّ على المطلوب قوله صلى اللّه عليه وآله « تخيّروا لنطفكم » (3) وكذا قوله ( الزّانِي لا يَنْكِحُ إِلّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ) (4) أي لا يرغب إلّا في نكاح الزانية ، وفي ذلك دلالة على استحباب اختيار العفيفة ، وكراهة اختيار غيرها ، وكذلك قوله ( الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ ) (5) وهو خبر في معنى الأمر.
الثامنة ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (6).
قالوا : فيها دلالة على جواز الوطي في الدّبر ، وتحرير القول هنا أن نقول :أكثر المخالفين منعوا منه ، وأجازه مالك قال : ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنّ وطي المرأة في دبرها حلال ثمّ قرأ الآية المذكورة.
وأمّا أصحابنا فلهم في ذلك روايتان إحداهما التحريم ، وهو قول الصّادق
ص: 228
عليه السلام قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « محاشّ النساء على أمّتي حرام » (1) وثانيتها الحلّ وهو رواية عبد اللّه بن أبي يعفور في الصحيح عن الصادق عليه السلام قال سألته عن الرّجل يأتي المرأة في دبرها قال لا بأس (2) وأفتى به أكثر علمائنا.
واحتجّوا لتأييد ذلك بآيات :
1 - هذه الآية ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) ولفظ « أنّى » للمكان كائن يقال اجلس أنّى شئت أي أيّ موضع شئت.
إن قيل : يحمل على القبل لكونه موضع الحرث ، قلنا إنّما يصح ذلك أن لو كان الحرث اسما للقبل ، وأمّا إذا كان اسما للنساء فلا ، كيف ولو حمل على القبل فقطّ لزم تحريم التفخيذ أيضا ولا قائل به.
2 - قوله ( هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) (3) وجه الاستدلال أنّه علم رغبتهم في الدّبر فيكون الاذن مصروفا إلى تلك الرغبة.
3 - قوله ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ ) (4) وفي هذين نظر لجواز أن يكون أمرهم بالاستغناء بالنساء لأنّ قضاء الوطر يحصل بهنّ وإن لم يكن مماثلا كما يقال : استغن بالحلال عن الحرام ، وأيضا فإنّه غير شرعنا فلا يكون حجّة في شرعنا.
4 - قوله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (5) وجه الاستدلال أنّه أمر بحفظ الفروج مطلقا ثمّ
ص: 229
استثنى الأزواج فيسقط التحفّظ في الطرفين مطلقا ولأنّه منفعة تتوق النفس إليها عارية عن مانع عقلي أو شرعي ، فتكون مباحة ، أمّا الأولى فلأنّه الفرض ، وأمّا الثانية فظاهر إذ لا مانع عقليّ وأمّا الشرعيّ فلما يأتي في جواب المانع.
احتجّوا بقوله ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) (1) والمأمور به هو القبل ، برواية أبي هريرة عنه صلى اللّه عليه وآله « لا ينظر اللّه إلى رجل جامع امرأته في دبرها » (2) وبرواية خزيمة عنه صلى اللّه عليه وآله « أنّ اللّه لا يستحيي من الحقّ » قالها ثلاثا « لا تأتوا النّساء في أدبارهنّ » (3).
والجواب عن الآية المنع من دلالتها على موضع النزاع ، فانّ المراد بالأمر الإباحة ، والمكروه مباح ، فيكون التقدير من حيث أباحكم ، إن قيل إنّ الأمر حقيقة في الوجوب قلنا فحينئذ يكون المأمور به القبل ولا يدلّ على المنع من إباحة الآخر على أنّا نقول إنّ ذلك متروك الظاهر بالإجماع ، فإنّه لا يجب أن يطأ عقيب الطهارة ، بل ولا يستحبّ بل يباح وأبو هريرة كذّاب ويروى أنّ عمر أدّبه على كذبه بالدّرّة ، مع أنّه لا يلزم منه التحريم ، لجواز عدم النظر ، لكراهته وخبر خزيمة خبر واحد ، مع أنّه معارض بأخبار كثيرة من طرق أهل البيت عليهم السلام (4).
قوله : و « قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ » قيل : المراد التسمية عند الجماع ، وقيل :
ص: 230
الدّعاء عند الجماع ، وقيل طلب الولد ، فانّ اقتناء الولد الصالح تقديم لثواب عظيم « قال صلى اللّه عليه وآله إذا مات المؤمن انقطع عمله إلّا من ثلاث : ولد صالح يدعو له وصدقة جارية بعده ، وعلم ينتفع به » (1) وباقي الآية ظاهر.
التاسعة ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (2).
في هذه الآية أحكام :
1 - أنّ الوالدات ينبغي لهنّ أن يرضعن أولادهنّ لأنّ هذه الجملة خبر في معنى الأمر تقديره ليرضعن أولادهنّ إذ لا جائز أن يكون على الخبريّة ، وإلا لزم الكذب ، فإنّه قد يرضعن أزيد وأنقص ، وليس الأمر للوجوب لأصالة البراءة بل لمطلق الرجحان ، الشامل له وللندب ، فقد يكون واجبا كما إذا لم يرتضع الصبيّ إلّا من امّه ، أو لم يوجد ظئر ، أو عجز الوالد عن الاستيجار أو إرضاع اللّباء وهو أوّل لبن يجي ء بعد الولادة فإنّه يجب عليها إرضاعه إيّاه ، قيل لأنّه لا يعيش بدونه ، وقد يكون مندوبا كما إذا لم يحصل أحد الأسباب الموجبة فإنّه أفضل ما يرضع لبن امّه ، ويستحب لها أن تفعل ذلك.
ص: 231
2 - أنّ مدّة الرّضاع حولان ، وإنّما قيدهما بالكمال؟ قيل : للتأكيد لجواز إطلاق الحول على بعضه ، وقيل : لأنّ الحول قسمان تام وهو الشمسي وناقص وهو القمري لنقصان بعض أشهره ، لأنّ التأسيس لا يعدل عنه إلى التأكيد إلّا مع تعذّره ، ولم يتعذّر هيهنا.
ويظهر لي أنّ الحول قد استعمل شرعا في أحد عشر شهرا ويوم من الثاني عشر كما في الزكاة ، وقد استعمل مع تمام الثاني عشر كما في الدّين المؤجّل حولا فأزال الاحتمال الأوّل بقوله « كاملين ».
3 - قوله « لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » اللّام متعلّقة بيرضعن كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، فانّ إرضاعهنّ لأجل أزواجهنّ ، لأنّ نفقة الولد على والده ، وكذلك يجب أن يتّخذ للولد ظئرا ترضعه إذا امتنعت الامّ من الرضاعة ويجوز فتح راء الرّضاعة وكسرها وقرئ بهما.
وفي ذلك دلالة على أنّ أقصى مدّة الرّضاع حولان وأنّه لا حكم له بعدهما في تحريم النكاح ولا استحقاق الأجرة لو أرضعت بعد استيجاره للرضاع الشرعيّ وأنّه يجوز أن ينقص عن ذلك.
ثمّ اختلف هل هذا التحديد لكلّ مولود أم لا؟ قال ابن عبّاس رضي اللّه عنه : ليس لكلّ مولود ، ولكن لمن ولد لستّة أشهر وإن ولد لسبعة فثلاثة وعشرون شهرا ، وإن ولد لتسعة فأحد وعشرون شهرا ، وروى أصحابنا أنّ ما نقص عن أحد وعشرين فهو جور على الصبيّ ، وقال الثوريّ وجماعة : هو لازم لكلّ مولود وأنّه إذا اختلف والداه ، رجع إلى ذلك ، وتفصيل ابن عبّاس حسن ، لما فيه من الجمع بين الآيات في قوله « وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً » وقوله « وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ » وبين [ مدد ] الوقوع فإنّ مدّة الحمل تكون ستّة ، وتكون سبعة ، وتكون تسعة ، وهو الغالب في الوقوع والولد يعيش في هذه المدد ، وأمّا في الثمانية فقالوا إنّه لا يعيش.
وعلّل [ ذلك بأنّ الحمل إذا كان له سبعة أشهر ، طلب الخروج فيضطرب
ص: 232
اضطرابا شديدا ، فإذا أفضت حركته إلى الخروج فذاك ، وإلّا ضعف بدنه لذلك فان خرج في الثامن خرج ضعيفا فلا يعيش غالبا وإذا استمرّت تلك المدّة يعيش من ضعفه وقوي على البروز في التاسع فيخرج صحيحا (1) ].
4 - أنّه يجب على الوالد اجرة الرضاع لقوله تعالى « وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ » و « على » تستعمل للوجوب كما يقال على فلان دين ، وإنّما لم يقل على الزوج لأنّه قد يكون على غير الزّوج كالمطلّق ، وفي قوله « الْمَوْلُودِ لَهُ » إشارة إلى أنّ الولد في الحقيقة للأب ، ولهذا ينسب إليه ، ويجب عليه نفقته ابتداء. قوله « رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ » أي كمال المؤنة لهنّ والرزق المأكول وقوله « بِالْمَعْرُوفِ » أي بما يعرفه أهل العرف من حقّها ، وفيه إشارة إلى وجوب اجرة مثلها ، وأنّه ليس لها إلّا قدرها ، ولا ينقص أيضا عن قدرها ولذلك قال « لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها ، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ » فيكون الباء حينئذ للسببيّة ، وقيل فيه وجهان آخران :
الأوّل : أي لا توقع به الضرر ، بأن تترك إرضاعه تعنّتا أو غيظا على أبيه فإنّها أشفق عليه من الأجنبيّة ، ولا يوقع الأب أيضا الضرر بولده بأن ينزعه من امّه ويمنعها من إرضاعه ، فتكون المضارّة على هذا بمعنى الإضرار ، واتي بفعل المفاعلة الواقعة بين الاثنين مبالغة.
الثاني : أنّ المراد لا يضارّ الوالدة بأن يترك جماعها خوفا من الحمل ، ولا هي تمتنع من الجماع خوفا من الحمل أيضا فتضر بالأب ، عن الباقر والصادق عليهما السلام (2).
وفي قوله « وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ » إلى آخره إشارة إلى جواز المعاوضة على الرّضاع من الزّوج وهل يجوز استيجارها للرضاع أم لا؟ قال
ص: 233
أصحابنا والشافعي بجوازه ، ومنع أبو حنيفة ذلك ما دامت زوجته أو معتدّة عن نكاح ، قال : لأنّ الزّوج يملك منافعها كالأجير الخاصّ. فلا يجوز أن يوقع عليها عقد إجارة ، ونحن نمنع تملّكه لمنافعها ، ولا يلزم من استحقاقه لمنفعة البضع ملكه لجميع منافعها.
وقيل : في قوله « لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلّا وُسْعَها » إشارة إلى أنّ النّفقة تعتبر بحال الزّوج وقد تقدّم كلامنا فيه.
5 - أنّ اجرة المرضعة واجبة أيضا على الطفل إذا كان له مال وإليه الإشارة بقوله « وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ » أي وارث الأب وهو الصبي بأن يقوم الوصي أو الحاكم بمؤنتها عوضا عن إرضاعها عند موت الأب من مال يرثه من أبيه.
إن قلت : إن كان للولد مال حياة أبيه كانت المؤنة ثابتة في ماله ، فأي فائدة في تقييده بالوارث؟ قلت : الأغلبيّة.
وقيل : الوارث هو الباقي من الأبوين يجب عليه مؤنة إرضاعه ، فإنّ الوارث يعبّر به عن الباقي كما في قوله عليه السلام « اللّهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منّا (1) » وهو صحيح عندنا لأنّ مع عدم الأب وآبائه يجب النفقة على الامّ ، وهو موافق لمذهب الشافعيّ فإنّ عنده لا نفقة على غير الأبوين.
وقيل : إنّ المراد الوارث للصبيّ أو الوارث للأب يجب عليهما ما كان يجب على الأب ، وهو بناء على وجوب النفقة على كلّ وارث وهو مذهب ابن أبي ليلي.
وعند أبي حنيفة يجب الإنفاق على الوارث المحرم ، وقيل على العصبات وما ذكرناه اولى.
6 - وأنّه لمّا قرّر أنّ مدة الرضاع حولان ، أشار إلى أنّه يجوز أيضا الاقتصار على أقلّ من ذلك بقوله « فَإِنْ أَرادا فِصالاً » وإنّما قيّده بالتراضي
ص: 234
والتشاور منهما مراعاة لمصلحة الطفل ، إذ لو اقتصر على رأي أحدهما جاز أن يقدم على ما يضربه الطفل لغرض مّا وحينئذ يكون للآخر منعه. والتشاور : المشاورة والمشورة والشورى ، وهو استخراج الرأي من شرت العسل أي استخرجته.
7 - أنّه لمّا قرّر أنّ « الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ » أوهم وجوب كونهنّ كذلك وأنّه لا يجوز استرضاع غيرهنّ مطلقا ، فأزال ذلك بقوله : وإن أردتم أن تسترضعوا المراضع أولادكم يقال : أرضعت المرأة الطفل واسترضعتها إيّاه تعدّى إلى مفعولين : حذف الأوّل للاستغناء عنه ، وإطلاقه يدل على أنّ للزوج أن يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع ، لكن ذلك مناف لقوله « لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها » فيكون هنا مقيّدا بقيد ، وهو تعذّر استرضاع الامّ كانقطاع اللّبن أو غير ذلك.
قوله « إِذا سَلَّمْتُمْ » أي أعطيتم المراضع ما أردتم إيتاءه للوالدات ، وليس التسليم للأجرة شرطا في جواز الاسترضاع ، بل الغرض التنبيه على أنّ المرضعة ينبغي أن يكون طيّبة النفس ، لتقبل على الطفل بقلبها ، وتراعي مصلحته حقّ المراعاة.
قوله « وَاتَّقُوا اللّهَ » مبالغة في المحافظة على ما شرّع في أمر الأطفال والمراضع وقوله « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » حثّ وتهديد.
فائدة : دلّ قوله « وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً » وقوله « وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ » وقوله « حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر لأنّا إذا أسقطنا حولين ، وهما أربعة وعشرون شهرا من ثلاثين شهرا بقي ستّة أشهر ، وما أظن أحدا خالف في ذلك وأمّا أكثر الحمل فعندنا عشرة أشهر وعند أبي حنيفة ثلاثون شهرا ، ويتأوّل الآية بأنّ كلّ واحد من حمله وفصاله ثلاثون شهرا وعند الشافعيّ أربع سنين ، وعند أحمد ومالك ستّة سنين ، والكلّ من أقوالهم مناف للوقوع.
ص: 235
العاشرة ( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (1).
قال أهل البلاغة : التعريض هو إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا ويرادفه التلويح ، كقول السائل : جئتك لا سلّم عليك ، والكناية هي الدّلالة على الشي ء بذكر لوازمه ، كقولك فلان طويل النجاد ، كثير الرّماد ، إذا عرفت هذا فالآية تشتمل على جمل تتضمّن أحكاما :
1 - أنّه لا حرج في التعريض للمعتدّات بالخطبة ، والمراد به هنا كلام يفهم منه الرّغبة في النساء من غير تصريح كقوله ربّ راغب فيك وإنّك لجميلة ، وإنّ اللّه لسائق إليك خيرا وأمثاله ، ونفي الحرج في التعريض يستلزم ثبوته في التصريح لهنّ بالخطبة ، وهذا فيه إجمال علم تفصيله وبيانه من السنّة الشريفة فنقول :
المعتدّة رجعيّة يحرم التعريض والتصريح لها من الأجنبيّ ، وكذا يحرمان لكلّ محرّمة أبدا كالملاعنة والمطلقة تسعا للعدّة من الزوج أمّا من غيره فيجوز التعريض لا التصريح والمعتدّة بائنا يحرم التصريح لها في العدّة من غير الزّوج ويجوز التعريض ، وأمّا منه فيجوز له التعريض مطلقا ، وأمّا التصريح فيجوز للمختلعة والمفسوخة بعيب أو تدليس ولا يجوز للمطلّقة ثلاثا لا في العدّة ولا بعدها إلّا بعد أن تنكح ، وحكم التعريض حكم الاكنان في النفس أي الستر والإضمار ، يقال : كنفته أي سترته.
2 - قوله « عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ » أي في القلب فاذكروهنّ لأنّ تركه غير مقدور ، ثمّ إنّه نهى عن المواعدة سرّا أي جماعا ووطيا ، لأنّه يسر أي يفعل
ص: 236
سرّا ، لكونه كلاما فحشا ولا يجوز الخطبة به مطلقا ، ثمّ استثنى من قوله « لا تُواعِدُوهُنَّ » القول المعروف أي ما فيه تعريض أي لا تواعدوهنّ إلّا مواعدة معروفة أو بقول معروف ، وقيل الاستثناء منقطع من قوله « سِرًّا » وهو ضعيف لأدائه إلى قولك لا تواعدوهنّ إلا التعريض وهو غير موعود.
3 - « وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ » هو نهي عن عقدة نكاح المعتدات بالنهي عن لازمه لأنّ الفعل الاختياريّ من لوازمه العزم عليه ، والنهي عن اللّازم يستلزم النّهي عن ملزومه ، وأصل العزم القطع فانّ العازم قاطع لا يجوّز نقيض مراده والكتاب المكتوب من العدّة ، وأجله منتهاه وهنا مسائل :
1 - لا تحرم المخطوبة بتحريم الخطبة.
2 - لو عقد على المعتدّة عالما بالتحريم والعدّة حرمت أبدا مطلقا وإن كان جاهلا ودخل ، فكذلك وإلّا فلا.
3 - خصّ الشافعيّة الآية بعدّة الوفاة واختلفوا في عدّة الفراق ، وعندنا لا خلاف فيها.
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) (1).
ص: 237
ذكر لنزولها وجهان : أحدهما في تفسير ينسب إلى الصادق عليه السلام أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لمّا حصل له الغنائم من خيبر قالت له نساؤه أعطنا من هذه الغنيمة قال قسمتها بين المسلمين بأمر اللّه فغضبن وقلن لعلّك تظن إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك ، فأمر اللّه تعالى باعتزاله لهنّ والجلوس في مشربة أمّ إبراهيم حتّى حضن فطهرن ثمّ أنزل اللّه هذه الآية (1).
وثانيهما ، قال المفسّرون (2) أنّ أزواجه سألنه شيئا من عرض الدّنيا وطلبن زيادة في النفقة ، وآذينه لغيرة بعضهنّ من بعض فآلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله منهنّ شهرا فنزلت آية التخيير. وهي هذه ، وكنّ يومئذ تسعا : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أميّة فهؤلاء من قريش ، وصفيّة بنت حيّ الخيبريّة ، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة ، وزينب بنت جحش الأسديّة ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة.
فلمّا نزلت طلبهنّ وخيّرهنّ في المفارقة والبقاء ، فاخترنه عليه السلام وأصل « تعال » أن يكون الآمر في مكان مرتفع والمأمور في مكان مستقل ثمّ كثروا ستعير للآمر بإقبال القلب وهو المراد هنا.
والسراح كالسّلام والكلام ، بمعنى التسريح والتكليم (3) وهو كناية عن الطلاق ووصفه بالجميل أي يكون لا عن مشاجرة ومخاصمة بين الزّوجين ، أو أن يكون من غير إضرار وبدعة ، وهنا فوائد :
1 - أنّ التخيير لنسائه بين المقام والمفارقة على التقديرين المذكورين واجب عليه لقوله « قل » والأمر للوجوب ، والتخيير هنا كناية عن الطلاق ، فمن اختارت الدنيا انفسخ نكاحها وهو من خواصّه.
2 - قيل إنّ المتعة لا يكون إلّا للمطلّقة قبل الدّخول وقبل فرض المهر
ص: 238
كما تقدّم ، وأزواج النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يكنّ كذلك فما وجه هذه المتعة؟ قلنا يحتمل هنا وجوها
الأوّل : أن لا يكون المراد تلك المتعة المعهودة ، بل مطلق النّفع ، بأن يزيدهنّ على المهور أو يعطيهنّ ما كان عندهنّ من أثاث وغيره.
الثاني : أنّه قد تقدّم أنّ المتعة لكلّ مطلقة عند قوم [ وعند قوم ] إلّا المختلعة والمباراة فعلى هذا يكون المراد المتعة المعهودة.
الثالث : جاز أن يكون من خواصّه صلى اللّه عليه وآله وجوب التمتّع كما وجب عليه التخيير. وهذا أولى في الجواب.
3 - اختلف العلماء في حكم التخيير على أقوال :
الأوّل : أنّ الرجل إذا خيّر امرأته فاختارت زوجها فلا شي ء وإن اختارت نفسها فهي تطليقة واحدة وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة وأصحابه.
الثاني : أنّه إذا اختارت نفسها فهي ثلاث تطليقات وإن اختارت زوجها وقعت واحدة ، وهو قول زيد ومذهب مالك.
الثالث : أنّه إن نوى بالتخيير الطلاق كان طلاقا وإلّا فلا ، وهو مذهب الشافعيّ.
الرّابع : أنّه لا يقع بذلك طلاق وإنما كان ذلك من خواصّه عليه السلام ولو اخترن أنفسهنّ لمّا خيّرهنّ لبنّ منه فأمّا غيره فلا يجوز له ذلك وهو المروي عن الصّادق عليه السلام حيث قال « ما للناس والخيار؟ وإنّما هذا شي ء خصّ اللّه تعالى به رسوله » (1).
قال ابن الجنيد وابن أبي عقيل منّا بوقوعه طلاقا مع نيّته واختيارها نفسها على الفور ، فلو تأخّر اختيارها لحظة لم يكن شيئا
والأكثر منّا على خلاف قولهما لقول الصادق عليه السلام إنّما الطلاق أن يقول لها : « أنت طالق » (2).
ص: 239
الثانية ( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) (1).
هذه أيضا تدل على خاصّة أخرى له صلى اللّه عليه وآله وهو أضعاف العذاب لنسائه على السيّئات ، وإيتاء الأجر مرّتين على الطاعات.
أمّا الأوّل فلأنّ العذاب على قدر قبح المعصية ، وقبح المعصية على قدر العلم به ونساء النبيّ صلى اللّه عليه وآله أشد صحبة له صلى اللّه عليه وآله ويشاهدن الوحي كأنّ علمهنّ بالأحكام كالضروريّ ، فأضعف لهنّ العذاب لذلك.
وأمّا الثاني فظاهر لأنّه لمّا كان عقابهنّ مضاعفا اقتضى العدل كون ثوابهنّ كذلك ، وعلم من ذلك كون الضعف مثلا واحدا والمراد بالفاحشة الخطيئة الكبيرة والمبيّنة الظاهرة الفحش ، والقنوت هنا المداومة على الطاعة ، وإن استعمل في غير ذلك كالدعاء في الصّلاة وطول العبادة.
الثالثة ( وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيماً ) (2).
هذه أيضا تدل على خاصّة أخرى له صلى اللّه عليه وآله وهو عدم جواز نكاح نسائه بعد وفاته إجماعا فقيل لكونهنّ أمّهات لقوله « وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ » وهو باطل وإلّا لحرم بناتهنّ لأنّهنّ أخوات بل تسميتهنّ أمّهات لأجل تحريم نكاحهنّ ، فالأولى كونه من خواصّه صلى اللّه عليه وآله وحذرا من غيرته لذلك ، فيكون إيذاء له وسبب نزولها أنّه لمّا نزلت آية الحجاب قال طلحة بن عبد اللّه أينهانا أن نتكلّم بنات عمّنا إلّا من وراء
ص: 240
الحجاب لئن مات لأتزوّجنّ فلانة (1).
وعندنا أنّ من فارقها بطلاق أو فسخ كذلك ، سواء دخل بها أو لا ، وللشافعيّة هنا ثلاثة أوجه الأوّل التحريم مطلقا لأنّهنّ أمّهات ، الثاني الإباحة مطلقا وإلّا لم يكن للبينونة فائدة ، الثالث الحلّ في الّتي لم يدخل بها لما روي أنّ أشعث بن قيس تزوّج المستعيذة في أيّام عمر ، فهمّ برجمها فأخبر بأنّه صلى اللّه عليه وآله فارقها قبل أن يدخل بها ، فترك (2) فيكون التحريم ثابتا في المدخول بها.
وكذا لهم هذه الوجوه في سراريه وعموم الآية يدفع هذه الاحتمالات.
الرابعة ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّا أَفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) (3).
ص: 241
هذه أيضا تشتمل على ذكر ما هو من خواصّه ، وهو استباحة الوطي بالهبة والدّليل على كونه من خواصّه قوله « خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ » واختلف في أنّ ذلك هل وقع أم لا؟ قال ابن عبّاس لم يكن أحد عنده صلى اللّه عليه وآله بالهبة ، وقال غيره بل وقع وعدوّا أربعا : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت حزام : أمّ المساكين الأنصاريّة ، وخولة بنت حكيم.
قيل : إنّ هذه لمّا وهبت نفسها له صلى اللّه عليه وآله قالت عائشة : ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟ فنزلت الآية ، فقالت عائشة : ما أرى اللّه إلّا أن يسارع في هواك فقال صلى اللّه عليه وآله فإنّك إن أطعت اللّه سارع في هواك ، والرابعة قيل أمّ شريك بنت جابر من بني أسد ، عن عليّ بن الحسين وهنا فوائد :
1 - جوّز الكرخيّ وقوع النكاح بلفظ الإجارة لقوله ( اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) والأجر يختصّ بالإجارة ، وليس بشي ء لجواز أن يكون الأجر مستعارا للمهر وقال أبو بكر الرازيّ لا يجوز بالإجارة ، لأنّ الإجارة عقد موقت وعقد النكاح مؤبّد فهما متنافيان.
2 - قيل يجوز وقوعه أيضا بلفظ الهبة لغير النبيّ صلى اللّه عليه وآله وليس بشي ء أيضا لقوله تعالى ( خالِصَةً لَكَ ) وهو مذهب أصحابنا والشافعيّة.
3 - أيّ فائدة في القيود الثلاثة وهي ( اللّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) و ( اللّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ) و ( مِمّا أَفاءَ اللّهُ عَلَيْكَ ) فانّ الإحلال حاصل بدونها؟ قلت فائدتها أنّها
ص: 242
كانت حاصلة ولا يلزم من ذكرها عدم إحلال غيرها إلّا بدليل الخطاب وليس حجّة وقيل فائدتها أنّ اللّه أحلّ له صلى اللّه عليه وآله ما هو الأفضل ، وفيه نظر لأنّه يقتضي أن لا يحصل الإحلال للمذكورات إلّا بالقيود الثلاثة وليس كذلك وأيضا لو كان كذلك لكان ينبغي أن يأتي بعبارة تدلّ على إرادة الأفضل وقول القاضي يحتمل أن يكون من خواصّه ، ويؤيّده قول أمّ هانئ بنت أبي طالب خطبني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فاعتذرت إليه فعذرني ثمّ أنزل اللّه هذه الآية فلم أحلّ له ، لأنّي لم أهاجر معه ، وكنت من الطلقاء ، ضعيف ، لأنّه لم ينقل أنّه من خواصّه ، وقولها فلم أحلّ له فهمته من دليل الخطاب وليس بحجّة ، وقال الطبرسيّ كان ذلك قبل تحليل غير المهاجرات ثمّ نسخ شرط الهجرة في التحليل ، وهو ضعيف لأنّ ذلك وإن تمّ في المهاجرات فلا يتمّ في القيدين الأخيرين فالأولى ما قلناه ، فانّ الوصف كما يكون للتخصيص يكون للتوضيح.
الخامسة ( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً ) (1).
الإرجاء التأخير ، يقال أرجأت بالهمزة ، وأرجيت بغير همز لغتان ، بمعنى واحد ، وقرئ في الآية بالهمز وعدمه ، والعبارة تحتمل وجوها :
1 - تطلّق من تشاء وتترك طلاق من تشاء.
2 - تدعو من تشاء إلى الفراش ، وترجئ من تشاء ، فلا تدعوها.
3 - ترجئ من تشاء فلا تقسم لهنّ ، وتؤوي إليك من تشاء ، فتقسم لهنّ فأرجأ سودة ، وجويرية ، وصفيّة ، وميمونة ، وأمّ حبيبة ، وكان يقسم بينهنّ
ص: 243
ما شاء ، وآوى عائشة ، وحفصة ، وأمّ سلمة ، وزينب ، فكان يقسم بينهنّ ، فاستدلّ به من قال بعدم وجوب القسمة عليه ، وأنّ ذلك من خواصّه وإنّما كان ما يفعله من القسمة تفضّلا منه ، وطلبا للعدل ، وأن لا ينسب إليه الجور ، وهذا هو المشهور عند أصحابنا.
4 - أنّ ذلك راجع إلى الواهبات ، أي ترجئ من تشاء من الواهبات وتؤوي إليك من تشاء منهنّ.
قوله ( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ) أي إنّ المعزولات لك أن تؤويهنّ وبعد ابتغائك إيّاهنّ وإيوائك لهنّ. لك أيضا أن ترجئ من تشاء منهنّ وتؤوي ، ولا جناح عليك في ذلك كلّه.
قوله ( ذلِكَ أَدْنى ) إشارة إلى أنّ التخيير بين إيواء من تشاء ، وتأخير من تشاء ، أقرب إلى قرّة أعينهنّ ، وعدم حزنهنّ ورضاهنّ ، لأنّه حكم كلّهنّ يتساوين فيه ، ثمّ إن سوّيت بينهنّ وجدن ذلك تفضّلا وإحسانا منك ، وإن رجّحت بعضهنّ على بعض علمن أنّه بحكم اللّه فتطمئنّ قلوبهنّ.
وقيل : إنّ ذلك إشارة إلى جواز ردّ المعزولات إليك ، فإنّهنّ إذا علمن بذلك علمن أنّهنّ غير مطلّقات ورجون أنّك ترجعهنّ إليك وباقي الآية معلوم.
السادسة ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً ) (1).
قيل : إنّها منسوخة بقوله ( إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ ) (2) الآية وهو فتوى أصحابنا وقيل بقوله ( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ ) على الوجه الأوّل ، فإنّهما وإن تقدّمتا قراءة فمتأخّرتان نزولا كآية العدّة فإنّه أبيح له بعد ذلك تزويج ما شاء ، وروي عن عائشة أنّها قالت : ما فارق رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله حتّى حلّل له ما أراد من النساء ، وقيل بعدم ذلك
ص: 244
فإنّها باقية الحكم لأصالة عدم النسخ.
ثمّ اختلف في تأويلها بسبب قوله « مِنْ بَعْدُ » على وجوه الأوّل من بعد التّسع اللّاتي كنّ عنده ومات عنهنّ وقد تقدّم أسماؤهنّ وأنّ التّسع في حقّه كالأربع في حقّنا ، الثاني من بعد النساء اللّاتي ذكرن في الآية المتقدّمة ، وهي ( إِنّا أَحْلَلْنا لَكَ ) وهي ستّة أجناس غير المملوكات ، فعلى هذا يباح له فوق التّسع ، إذ الجمع من كلّ جنس أقلّه ثلاثة ، الثالث روي عن الصادق عليه السلام أنّ المراد بعد المحرّمات في سورة النساء (1) فعلى هذا لا يكون فيها شي ء من خواصّه صلى اللّه عليه وآله وعلى الأوّل لا يجوز له طلاق واجدة منهنّ ، ولا التبدّل بها لو ماتت ، و « من » في قوله ( مِنْ أَزْواجٍ ) زائدة ، للاستغراق.
قوله ( وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ) أي ليس لك أن تطلّق بعضهنّ وتتزوّج بدلها وإن كان البدل أحسن ( إِلّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) فإنّه لا حصر فيهنّ ، وقيل إنّه استثناء من النساء ، لأنّه يتناول الأزواج والإماء ، وعلى ما قلنا من رأي أصحابنا إنّها منسوخة ، كلّ هذه الوجوه لا فائدة فيها إلّا الوقوف عليها والرواية المذكورة عن الصادق عليه السلام ضعيفة لمخالفتها الحكم المجمع عليه من جواز تبديله لنسائه وجواز تبديل أمته بالطلاق والفسخ.
السابعة ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ) (2).
ص: 245
روي أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خطب زينب بنت جحش الأسديّة وكانت أمّها أميمة بنت عبد المطّلب عمّة رسول اللّه لزيد بن حارثة ، وعندها أنّه يخطب لنفسه فلمّا علمت أنّه لزيد أبت وأنكرت ذلك لعلوّ نسبها ، فنزلت ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (1) فقالت : رضيت يا رسول اللّه فأنكحها لزيد ، فدخل بها وساق إليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عشرة دنانير وستّين درهما مهرا ، وخمارا ، وملحفة ، ودرعا وإزارا ، وخمسين مدّا من الطعام ، وثلاثين صاعا من تمر.
وروى عليّ بن إبراهيم في تفسيره (2) أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان شديد الحبّ لزيد ، وكان إذا أبطأ عليه زيد أتى إلى منزله فيسأل عنه ، فأبطأ عليه يوما فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله منزله فإذا زينب جالسة في وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها ، فدفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الباب فلمّا نظر إليها قال « سبحان اللّه خالق النّور تبارك اللّه أحسن الخالقين » ورجع ، فجاء زيد فأخبرته زينب بما كان ، فقال لها : ولعلّك وقعت في قلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فهل لك أن أطلّقك حتّى يتزوّجك رسول اللّه؟ فقالت أخشى أن تطلّقني ولا يتزوّجني ، فجاء زيد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال إنّ زينب تتكبّر عليّ وتؤذيني بلسانها ، فأريد أن أطلّقها ، فقال « أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّهَ » ثمّ طلّقها بعد ذلك. وروي أنّها لمّا اعتدّت قال لزيد ما أجد في نفسي أحدا أوثق منك اخطب لي زينب فقال فجئت إليها وهي تخمر عجينها فلمّا رأيتها عظمت في نفسي حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذكرها ، فولّيتها ظهري وقلت : يا زينب أبشري إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يخطبك ، ففرحت بذلك ، وقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربّي ، فقامت إلى مسجدها فنزلت الآية فتزوّجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ودخل بها وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها : ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللّحم حتّى اشتدّ النهار.
ص: 246
إذا عرفت هذا فنقول قوله ( اتَّقِ اللّهَ ) نهي تنزيه لا تحريم ، لأنّ الطّلاق ليس بحرام ، بل مبغوض لله ، لأنّه ضدّ النكاح المندوب إليه ، وقيل : معناه لا تذمّها بسبب تكبّرها وأذى زوجها.
ثمّ اختلف فيما أخفاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على وجوه الأوّل أنّ اللّه أعلمه أنّها من نسائه ، وأنّ زيدا سيطلّقها ، فلمّا جاء زيد وأراد أن يطلّقها قال له أمسك عليك زوجك فقال له سبحانه لم تقول له أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنّها تكون من أزواجك عن عليّ بن الحسين عليهما السلام وهذا مطابق للآية لأنّه تعالى أعلمه أنه يبدي ما أخفاه ولم يظهر غير التزويج فقال ( زَوَّجْناكَها ) ولو كان غير ذلك لأبداه ، فعاتبه اللّه على ذلك.
الثاني : أنّه الميل الطبيعيّ إليها وذلك لا يوصف بالإباحة والتحريم ، لكونه بغير الاختبار لكنّه صلى اللّه عليه وآله كره إظهاره للناس لبشاعته وربّما كان المنافقون يقولون إنّه قد عشق وأذن اللّه في تزويجه بما عشقه ، وذلك مناف لما هو بصدده من تبليغ الرّسالة وهداية الخلق ، ولم يعلموا أنّ ذلك أمر جبلّيّ غير مقدور.
الثّالث : أنّه أضمر أنّه إن طلّقها زيد يتزوّجها من حيث إنّها ابنة عمّه فأراد ضمّها إلى نفسه لئلّا يصيبها ضيعة ، كما يفعل الرّجل بأقاربه ، وليكون جبرا لقلبها حيث زوّجها مولاه أوّلا مع كراهتها مع أنّه قال ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ) .
الرّابع : أنّه كان يريد نكاحها مع مفارقة زيد ليكون مبطلا لستّة الجاهليّة في تنزيل الأدعياء منزلة الأبناء ، لكنّه عزم على عدم ذلك مخافة أن يطعنوا عليه بأنّه تزوّج امرأة ابنه فأنزل اللّه الآية لكيلا يمتنع عن فعل المباح خشية الناس ولذلك عقّب الكلام بقوله ( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ ) .
قوله ( وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) أي تخشى مقالتهم واعتراضهم عليك بغير حقّ ، واللّه أحقّ أن تخشاه في إيقاع أوامره الحقّة ، قوله ( فَلَمّا قَضى زَيْدٌ ) إلى آخره أي فرغ من إرادته لها وإعطاء شهوته منها مقتضاها.
قوله ( وَكانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ) أي ما أراد اللّه أن يكون من فعله لا بد أن
ص: 247
يقع ، لوجود الداعي ، وعدم الصارف ، بخلاف ما أراد اللّه من فعل غيره فإنّه قد وقد.
إذا تقرّر هذا فقد استفيد من هذه القصّة أحكام :
1 - أنّ التساوي في النسب غير شرط في النكاح فانّ زينب كانت أشرف من زيد ولهذا زوّج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ضباعة بنت الزّبير بن عبد المطلّب ابن عمّه بالمقداد ابن عمرو ، وهو عاميّ النسب (1).
2 - وجوب الإنفاق على الزوجة وكيفيّة الكسوة ، من الدّرع وهو القميص والخمار ، وهو المقنعة ، والملحفة وهو الإزار ، ويمكن أن يعنى به السراويل وضمّ الأدم إلى القوت كضمّ التمر إلى الطعام ، لأنّ ذلك وقع في بيان الواجب فيكون واجبا.
3 - وجوب مفارقة زوج المرأة لها إذا رغب فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.
4 - عدم جواز الخطبة في العدّة لأنّه لمّا انقضت عدّتها أمر زيدا بخطبتها ويدلّ عليه من الكتاب قوله ( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ ) (2) وقد تقدّم (3).
5 - كون النكاح يقع بلفظ التزويج ، ووجوب كونه بصيغة الماضي.
6 - استحباب الوليمة عند الزفاف ، ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « لا وليمة إلّا في خمس : عرس أو خرس أو ختان أو وكاز أو ركاز ». والخرس : النفاس ، والوكاز : بناء الدار ، والركاز : قدوم الحاجّ.
ص: 248
وهي أقسام :
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) (1).
الطلاق لغة اسم للتطليق أو الإطلاق بمعنى إزالة القيد ، وشرعا إزالة قيد النكاح وهو إمّا من قبيل التخصيص أو النقل ، والأوّل أولى لما تقرّر في الأصول ولا يقع عندنا إلّا بلفظه الصّريح الدالّ على الجملة بالمواطاة ، لما تقدّم من قول الباقر عليه السلام و « إنّما » (2) للحصر كقولك أنت أو هذه أو فلانة طالق ، فخرج ما لا يكون منه كسائر الكنايات كخليّة وبريّة وغيرهما ، وما يكون من لفظه ، و
ص: 249
لكن لا تدلّ بالمواطاة كقوله أنت طلاق أو الطلاق أو من المطلقات وغير ذلك من العبارات المختلفة ، وللمخالفين هنا أقوال ليس هنا موضع ذكرها ، إذا عرفت هذا فهنا أحكام يتبعها فوائد :
1 - قيل : خصّ الخطاب بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وعمّ الحكم ، لأنّه إمام أمّته ، فنداؤه كندائهم ، وقيل لأنّ الحكم يعمّه ، وهم تابعون له ، وعن الجبائيّ تقديره : قل إذا طلّقتم ، وهذا أحسن الوجوه ، ولا يلزم خروجه صلى اللّه عليه وآله عن الحكم على هذا الوجه لأنّه إنّما جعله صلى اللّه عليه وآله آمرا تنزيها له عن فعل المكروه لغير داع يدعو إليه ، فإنّ الطلاق من غير داع مكروه ، لكونه خلاف النكاح المطلوب ، ولما رواه الثعلبيّ في تفسيره عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال « تزوّجوا ولا تطلّقوا فانّ المطلق يهتزّ منه العرش » (1) وعن ثوبان يرفعه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أيّما امرأة سألت من زوجها الطلاق من غير ما به بأس فحرام عليها رائحة الجنّة » (2) وعن أبي موسى الأشعريّ عنه صلى اللّه عليه وآله « لا تطلّقوا النساء إلّا من ريبة إنّ اللّه لا يحبّ الذوّاقين والذوّاقات (3) وعن أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلّا منافق (4).
2 - قوله ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) أي لوقت عدّتهنّ ، فانّ اللام للتأقيت وفيه دلالة على وجوب إيقاع الطّلاق في طهر لأنّ الأقراء هي الأطهار لما يجي ء ، وهو مذهب أصحابنا والشافعيّ لكن عندنا لو فعل خلاف ذلك بطل ، وعند الشافعيّ وباقي الفقهاء فعل حراما وصحّ طلاقه (5) أمّا الحرمة ، فلأنّ الأمر بالشي ء يستلزم
ص: 250
النهي عن ضدّه ، وأمّا الصحّة فلأنّ النهي لا يستلزم الفساد ، ونحن نمنع الثانية فإنّ النهي عن نفس الطلاق وقد تقدّم أنّ عند المحقّقين أنّ النهي عن الشي ء نفسه أو جزئه أو لازمه يدلّ على الفساد وقال أبو حنيفة إنّ الأقراء هي الحيض ، فتقدير الكلام عنده لمستقبل عدّتهنّ ، وقبل عدّتهنّ.
ثمّ إنّ هذا العموم مخصوص بأمرين أحدهما غير المدخول بها ، وثانيهما الغائب عنها زوجها غيبة يعلم انتقالها من طهر إلى آخر ، أو خرج عنها في طهر لم يقربها فيه بجماع ، فانّ هاتين يصحّ طلاقهما من غير تحريم ، وعلى ذلك إجماع أصحابنا وتضافر أخبارهم ، ويدلّ على الأوّل آية الأحزاب وسيأتي.
3 - قوله ( وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء ، وقيل : عدّوا أوقات الأقراء لتطلّقوا للعدّة ، فعلى الأوّل فائدة الأمر بالإحصاء أنّها يتعلّق بها حقوق النّكاح أمّا للزّوجة ، فالنفقة والسكنى ، وأمّا للزّوج فالرّجوع إذا شاء مع بقائها لا مع خروجها ، ولذلك له منعها من الأزواج ، وأيضا إلحاق النسب لو أتت بولد يمكن إلحاقه به في العدّة وتحريم الخطبة فيها تصريحا إلى غير ذلك.
وعلى الثاني ففائدته العلم بزمان الحيض وزمان الطّهر ، ومع الدم يعلم مع الضبط وقت الحيض ، فلا يقع فيه طلاق ، ووقت الاستحاضة فيقع فيه ، إلى غير ذلك.
وأمر سبحانه وتعالى بالتقوى في ضبط العدّة ، بحيث لا يخالف في ذلك أوامره ويحتمل تعلّقه بما بعده أي بقوله ( لا تُخْرِجُوهُنَّ ) .
4 - أنّه لمّا ذكر سبحانه العدّة ذكر بعض أحكامها وهي أنّه لا يجوز إخراج المرأة المطلقة من البيت الّذي طلّقت فيه ، والإضافة هنا للاختصاص كقولك : جلّ الفرس ، وكذلك لا يجوز لها أيضا الخروج وإن لم يخرجها الزّوج لقوله ( وَلا يَخْرُجْنَ ) كلّ ذلك في عدّة الطلاق الرّجعيّ ، بخلاف البائن ، فإنّه يجوز خروجها وإخراجها ، واستثنى سبحانه من ذلك إتيانهنّ بالفاحشة فقيل : هي الزنا ، فتخرج
ص: 251
لإقامة الحدّ عليها ، وعن الباقر والصادق عليهما السلام هي البذاءة على أهله وأذاهم وشتمهم ، وعن ابن عبّاس رضي اللّه عنه روايتان إحداهما كقول السيّدين والأخرى أنّ كلّ معصية لله فهي فاحشة فيحتمل كون الاستثناء من الأوّل كما قلناه ، ويحتمل أن يكون من الثاني أي قوله ( لا يَخْرُجْنَ ) للمبالغة في النهي ، أي أنّ خروجها فاحشة وفيه قوّة لو لا النقل.
5 - ثمّ إنّه تعالى بيّن أنّ الأحكام المذكورة أمور محدودة مقدّرة واجبة الوقوع وأنّ مخالفها يستحقّ الذمّ والعقاب ، لقوله ( فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) وذلك ملزوم لهما.
7 - قوله ( لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) أي بعد الطلاق أمرا هو الرّغبة في المطلقة ، والرّجوع عن عزمه الأوّل على المفارقة ، وهو كالتعليل لعدم الإخراج والخروج من البيت ، وفيه دلالة على كون المراد بذلك الطلاق الرجعيّ لا البائن.
8 - روى البخاريّ ومسلم عن قتيبة عن ليث بن سعد عن نافع عن عبد اللّه ابن عمر أنّه طلّق امرأته وهي حائض تطليقة واحدة فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر وتحيض عنده حيضة أخرى ، ثمّ يمهلها حتّى تطهر من حيضها فإذا أراد أن يطلّقها فليطلّقها حين تطهر ، من غير أن يجامعها ، فتلك العدّة الّتي أمر اللّه أن يطلّق بها النساء (1).
وروى البخاري عن سليمان بن حرب وروى مسلم عن عبد الرّحمن بن بشير عن فهر وكلاهما عن شعبة عن أنس بن سيرين قال : سمعت أنّ ابن عمر طلّق امرأته وهي حائض ، فذكر ذلك عمر للنبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال : مره فليراجعها وإذا طهرت فليطلّقها إن شاء (2).
وفي هذه الرواية إشارة إلى أنّه يشترط الطهر في الطلاق وفي الأوّل إشارة
ص: 252
إلى أنه يشترط أن لا يقربها فيه بجماع.
واحتجّ الفقهاء من الجمهور على وقوع طلاق الحائض وإن كان حراما بهذين الحديثين من حيث قوله صلى اللّه عليه وآله « مره فليراجعها » في الثاني وفي الأوّل « أمر أن يراجعها » فالمراجعة تدلّ على وقوع الطلاق.
وفيه نظر فإنّه لا دلالة في ذلك لأنّه كما يحتمل الأمر بالمراجعة وقوع الطلاق يحتمل أيضا أن يراد بالمراجعة التمسّك بمقتضى العقد ، وبقاء الزوجيّة فانّ من طلّق طلاقا فاسدا وظنّ أنّه واقع فاعتزل زوجته صحّ أن يقال له راجعها فيكون المراد حينئذ المراجعة اللغويّة لا الاصطلاحيّة بمعنى بعد الطلاق.
الثانية ( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (1).
المراد بالأجل هنا العدّة ، ومراده ببلوغه مقاربته ومشارفة انقضائه ، لا انقضاؤه ، وإلّا لما كان للزّوج رجوع وهنا حكمان :
1 - جواز الرّجوع في العدّة وإليه أشار بقوله ( فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) أي بحسن عشرة وإنفاق مناسب وقوله ( أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) بأن تتركوهنّ حتّى يخرجن من العدّة فيبنّ منكم لا بغير معروف بأن يراجعها ثمّ يطلّقها تطويلا للعدّة وقصدا للمضارّة.
2 - قوله ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) قيل : هو راجع إلى الرّجعة قاله الشافعيّة ، وذلك عندهم على الندب ، ونقل عن الشافعيّ وجوبه ، وقال أصحابنا : هو راجع إلى الطّلاق ، وذلك على الوجوب وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام لكون الكلام في الطلاق فيكون ذلك قرينة دالّة على رجوعه إليه.
ص: 253
لا يقال : إنّه راجع إلى الإمساك المراد به المراجعة ، لأنّه أقرب من الطّلاق لأنّا نقول الأقربيّة لو كانت مرجّحة لكان عوده إلى الفراق لكونه أقرب أولى.
إن قلت : إنّ الفراق هنا ترك الرّجعة ، وترك الشي ء لا يحتاج إلى الإشهاد لكونه أصلا بعد وقوع الطّلاق فلهذا الوجه لا يرجع إلى الفراق ، قلت : إنّ ما ذكرتم من اعتبار القرينة هو عين مرادنا ، إذ هو خروج عن دعوى كون القرب مرجّحا ورجوع إلى القرينة ، وإذا كان الاعتبار بالقرينة فهي حاصلة في الطلاق لاحتياجه إلى الإشهاد غاية الاحتياج ، لجواز وقوع النزاع في وقوعه وعدمه ، فيحتاج إلى طريق في إثباته لو ادّعى وقوعه ، وذلك بالإشهاد إذ ليس غيره إلّا اعتراف الزوجة ، فيجوز عدمه ، أو يمينها فيجوز أيضا عدم علمها ، أو ردّ اليمين على الزّوج فيجوز موته ، ويكون النزاع مع ورثته.
ولا يستبعد رجوعه إلى الطلاق وإن كان بعيدا مع وجود القرينة وعدم الفصل بكلام أجنبيّ ، فإنّ القصّة واحدة ، ونظيره في الكلام أن يقول الرّجل لوكيله « اشتر من فلان سلعة كذا ، وبع على فلان سلعة كذا ، واقبض الثمن ، وسلّمه إلى البائع ، وأهد السلعة إلى فلان ، وأشهد عليه ذوي عدل » في أنّ الإشهاد يعود إلى ما يحتاج إلى الإشهاد هذا مع أنّه يمكن عود الأمر بالإشهاد إليهما معا.
إن قلت : عوده إليهما يستلزم تساوي الطّلاق والرّجعة في وجوب الإشهاد واستحبابه ، وأنتم لا تقولون به ، بل بالوجوب في الطلاق والاستحباب في الرّجعة.
قلنا فحينئذ يكون من المجملات الّتي بيّنها العترة الطاهرة بتفصيل أحكامها بأن يكون لمطلق الرجحان ، فمع قيد عدم جواز الترك يكون في الطّلاق ومع قيد جوازه يكون في الرّجعة ، ثمّ إنّه تعالى أمر بإقامة الشهادة لله لا لرغبة أو رهبة وأخبر بأنّ ذلك المنتفع بالأمر هو المؤمن باللّه واليوم الآخر.
الثالثة ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
ص: 254
بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).
استفيد من هذه أحكام :
1 - أنّ عدّة مستقيمة الحيض ثلاثة أقراء ، وهو ليس على عمومه بل مخصوص بالمدخول بهنّ ، لما يأتي أنّ غير المدخول بها لا عدّة عليها ، وكذا الآئسة والصّغيرة وكذا الحكم يختصّ بالحرّة ، فانّ الأمة عدّتها قرءان ، إذا كانت مستقيمة الحيض ولمّا كان القرء مشتركا بين الحيض والطّهر لإطلاقه عليهما أمّا على الحيض فلقوله صلى اللّه عليه وآله : دعي الصّلاة أيّام أقرائك (2) وأمّا على الطهر فلقول الأعشى (3)
ص: 255
وفي كلّ عام أنت جاشم غزوة *** تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
مورّثة مالا وفي الحيّ رفعة *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا (1)
اختلف هل المراد هنا الطهر أو الحيض؟ قال أصحابنا والشافعيّة إنّها الطّهر لوجوه الأوّل : قوله تعالى ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) وقد تقدّم أنّ الطّلاق المشروع لا يكون في الحيض ، الثاني قضيّة ابن عمر ، وقد تقدّم ذكرها
ص: 256
دلّت على أنّه الطهر ، الثالث أنّه قال « ثَلاثَةَ قُرُوءٍ » وإلحاق التاء بالعدد يراد به المذكّر ، والطهر مذكّر والحيض مؤنّثة.
الرابع روى أصحابنا عن زرارة قال سمعت ربيعة الرأي يقول إنّ من رأيي أنّ الأقراء هي الأطهار بين الحيضتين ، وليس بالحيض فدخلت على الباقر عليه السلام فحدّثته بما قال فقال عليه السلام « كذب لم يقل برأيه وإنّما بلغه عن عليّ عليه السلام » فقلت أصلحك اللّه أكان عليّ عليه السلام يقول ذلك؟ قال نعم كان يقول إنّما القرء الطهر يقرء فيه الدّم فيجمعه فإذا جاء الحيض قذفته ، قلت أصلحك اللّه رجل طلّق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين ، قال إذا دخلت في الحيضة الثّالثة فقد انقضت عدّتها وحلّت للأزواج قال قلت إنّ أهل العراق يروون عنه عليه السلام أنّه كان يقول : هو أحقّ برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، قال كذبوا (1).
وقال أبو حنيفة إنّه الحيض لقوله صلى اللّه عليه وآله طلاق الأمة تطليقتان وعدّتها حيضتان (2) وأجيب بأنّه غير معلوم الصحة.
2 - أنّه يرجع إلى قول المرأة في طهرها وحيضها لأنّه قال سبحانه ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ) فلو لم يكن القول قولها لما حرّم عليها كتمانه ، فقيل : المراد الحيض وقيل الحمل ، وقيل هما معا وهو أولى لعموم اللّفظ لهما ولقول الصادق عليه السلام قد فوّض اللّه إلى النساء ثلاثة الحيض والطّهر والحمل (3) ، وإنّما لم يحلّ لهنّ كتمان ذلك لأنّ فيه إبطالا لحقّ الزوج.
3 - أنّ الزّوج أحقّ بالرّجعة ما دامت في العدّة لقوله ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) لكن مع كون الطّلاق رجعيّا للآية الّتي تتلوها فالضّمير أخصّ من المرجوع إليه وهو المطلقات الّذي هو من صيغ العموم ، ولا امتناع في ذلك كما لو كرّر الظّاهر ثمّ خصّصه ، وهل يتخصّص العامّ بذلك؟ خلاف ، وتحقيقه في
ص: 257
الأصول وقوله ( إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً ) ليس شرطا للرّجعة ، بل حضّا للزّوج على إرادة الإصلاح للنّساء ، وعدم المضارّة لهنّ.
4 - أنّ لكلّ واحد من الزّوجين حقّا على الآخر لقوله ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ ) والمماثلة في الوجوب لا الجنس ، وأمّا حقّ المرأة فالمهر والنفقة والإسكان والكسوة ، وعدم إضرارها ، وأمّا حقّه عليها فالطاعة له وعدم التبرّم لحوائجه ، وأن لا تدخل فراشه غيره ، وأن تحفظ ماءه ، ولا يحتال في إسقاطه.
روي أنّ امرأة معاذ قالت يا رسول اللّه ما حقّ الزّوجة على زوجها؟ قال أن لا يضرب وجهها ، ولا يقبحها ، وأن يطعمها ممّا يأكل ويلبسها ممّا يلبس ولا يهجرها (1) ».
وعن الباقر عليه السلام « قال جاءت امرأة فقالت يا رسول اللّه ما حقّ الزّوج على المرأة؟ فقال تطيعه ولا تعصيه ، ولا تتصدّق بشي ء من بيتها إلّا باذنه ، ولا تصوم تطوّعا إلّا باذنه ، ولا تمنعه نفسها ، وإن كانت على ظهر قتب ، ولا تخرج من بيتها إلّا بإذنه فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السّماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرحمة حتّى ترجع ، قالت من أعظم الناس حقّا على المرأة؟ قال زوجها قالت فمالي من الحقّ مثل ماله عليّ؟ قال : لا ولا من كلّ مائة واحدة قالت والّذي بعثك بالحقّ لا يملك رقبتي رجل أبدا (2).
وقال صلى اللّه عليه وآله لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها (3).
قوله ( وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) أي زيادة في الحقّ ، وفضل فيه ، لأنّهم يشاركونهنّ في غاية النكاح ، ويختصّون بزيادة وجوب المهر والإنفاق والرعاية وغير ذلك.
5 - استفيد من ذكر الحقّ أنّه يجب على المرأة عقيب مراجعة الزّوج الانقياد
ص: 258
له والدخول في طاعته وذلك سبب ذكره هنا.
6 - إن قلنا باجتماع الحيض مع الحمل فالآية مخصوصة بمن عدا الحامل وإلّا فلا يكون الآية شاملة للحامل لانتفاء شرط حكمها وهو حصول القرء.
الرابعة ( وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ) (1).
روي أنّه لمّا نزلت الآية السابقة في عدّة ذوات الأقراء قيل فما عدّة اللّائي لم يحضن؟ فنزلت هذه الآية ، واختلف في أيّ شي ء وقعت الرّيبة؟ قيل في كون انقطاع حيضهنّ لكبر أم لعارض ، وقيل في حكمهنّ فلا تدرون ما الحكم فيهنّ والأوّل موافق لمذهب أكثر الأصحاب من كون الآئسة لا عدّة لها لما رواه جماعة منهم عبد الرحمن بن الحجّاج « عن الصادق عليه السلام ثلاث يتزوّجن على كلّ حال الّتي لم تحض ومثلها لا تحيض ، قال قلت وما حدّها؟ قال إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين ، والّتي لم يدخل بها والّتي قد يئست من المحيض ومثلها لا تحيض قال قلت وما حدّها؟ قال إذا كان لها خمسون سنة (2).
فعلى هذا تكون العدّة المذكورة أعني الأشهر الثلاثة لمن هي في سنّ من تحيض وانقطع منها الحيض لعارض ، من مرض أو رضاع أو غير ذلك سواء كان ذلك الانقطاع مع الشكّ في سنّها أو لا معه؟ بل الشّكّ في سبب الانقطاع وهو المشار إليه بقوله ( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) أو لا للشكّ بل مع القطع بانقطاعه والجزم بسببه ، وهو المشار إليه بقوله ( وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) .
فعلى هذا يكون المراد بقوله ( وَاللّائِي يَئِسْنَ ) أي حصل لهنّ صفة الآئسات
ص: 259
وهو انقطاع الحيض إمّا مع الريبة أو مع القطع ، فعدّتهنّ ثلاثة أشهر ، ولا يكون حينئذ في الآية دليل على عدم العدّة في اليائسة والصّغيرة ولا على وجودها نعم الحقّ أن لا عدّة عليهما لأنّ الغاية والحكمة في شرعيّتها العلم باستبراء الرّحم وهو منتف فيهما.
والثاني هو قول أكثر المفسّرين وبه قال السيّد المرتضى رضي اللّه عنه : أنّ الارتياب في وجوب العدّة لا في السّنّ ، وأنّ المراد باللّائي لم يحضن أي لم يبلغن سنّ الحيض ، عدّتهن ثلاثة أشهر حذف الخبر لدلالة ما تقدّم عليه واحتجّ بوجهين الأوّل سبب النّزول وهو أنّ أبيّ بن كعب قال يا رسول اللّه إنّ عددا من عدّة النساء لم تذكر في الكتاب الصّغار والكبار وأولات الأحمال فنزلت. الثاني أنّه لو أراد ما ذكره الأصحاب من الشكّ في ارتفاع الحيض لقال إن ارتبتنّ لأنّ المرجع في الحيض إليهنّ والجواب عن الأوّل أنّه لو كان المراد ما ذكره لقال إن جهلتم ولم يقل إن ارتبتم لأنّ سبب النزول كما ذكر يوجب ذلك لأنّ أبيّا لم يشكّ في عدّتهنّ بل جهل وعن الثّاني أنه أتى بالضّمير مذكّرا لكون الخطاب مع الرّجال لقوله ( وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ) ولأنّ النساء يرجعن في تعرّف أحكامهنّ إلى رجالهنّ وإلى العلماء ، فكان الخطاب لهم لا للنساء ، لأنّهنّ يأخذن الحكم منهم.
قوله ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ ) أي أجلهنّ مدّة وضع الحمل فإنّ « أن » مع الفعل في تقدير المصدر ، وهذا لا خلاف فيه في الطلاق ، وهل هو كذلك في الوفاة ، بمعنى أنّه لو تقدّم الوضع على أربعة أشهر وعشر ، يكون العدّة منقضية بذلك أم لا؟
قال أصحابنا لا بل عدّتها أبعد الأجلين وهو قول عليّ عليه السلام وابن عبّاس وقال الفقهاء الأربعة والأوزاعي بالأوّل محتجّين بعموم الآية.
واحتجّ أصحابنا بدخولها في عموم قوله ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) فقد دخل تحت عامّين ، ولا وجه للجمع بينهما إلّا بالقول بأبعد الأجلين
ص: 260
ولطريقة الاحتياط ولاختصاص آية الوضع بالمطلّقات ، ولو سلّم عمومها فهي مخصوصة بإجماع الإماميّة لدخول المعصوم فيهم.
وقال الجمهور : آية الوضع عمومها بالذات « وأزواجا » عمومها بالعرض وهو وقوعها تبعا للعامّ ، وهو « الّذين » والمحافظة على العموم الأوّل أولى ، ولأنّ الحكم معلّل بالوضع الموجب لنقاء الرّحم من ماء الميّت الّذي تعتدّ لأجله بخلاف آية ( أَزْواجاً ) ولأنّها متأخّرة نزولا فتقديمها تخصيص وتقديم تلك بناء للعامّ على الخاصّ والأوّل أرجح للاتّفاق عليه.
والجواب عن الأوّل بأنّه لا فرق بينهما عند الأصوليّين وعن الثاني بأنّ العلّة حاصلة على قولنا أيضا على أنّا نمنع أنّ الوضع علّة وعن الثّالث بأنّ التخصيص والبناء معا دليلان ، فلا فرق بينهما.
وهنا فوائد تتضمّن أحكاما :
1 - أنّها تبين بالوضع بعد الطلاق ولو بلحظة.
2 - أنّه لا يشترط في الوضع التماميّة فلو وضعت علقة بانت بها.
3 - لو كانت حاملا باثنين فوضعت واحدا بانت لكن لا تنكح حتّى تضع الآخر إلّا أن يكون الناكح الزّوج بعقد جديد.
4 - أنّ الوضع للحمل يتساوى فيه الحرّة والأمة ، وأمّا الأشهر فعدّة الأمة فيها النصف.
قوله ( وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ ) أي من النساء والرّجال في أحكام العدّة يسهّل عليه أموره.
الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) (1).
ص: 261
هنا فوائد :
1 - أنّ النكاح لم يجي ء في القرآن إلّا بمعنى العقد وهو دليل على كونه حقيقة فيه شرعا ، ولأنّه لو استعمل في الوطء لكان تصريحا بكونه حقيقة فيه لغة لا شرعا لأنّ من دأب القرآن التعبير عنه بالملامسة والمماسّة والمقاربة والتغشّي والإتيان والدخول والوطء والكلّ كناية وليس الصّريح فيه لغة إلّا النيك.
2 - أنّ المراد بقوله ( مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ) أي تنيكوهنّ ، وليست الخلوة الخالية عن ذلك قائمة مقامه في إسقاط العدّة واستقرار المهر جملة خلافا لأبي حنيفة.
3 - في قوله ( فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ) تنبيه على أنّ العدّة حقّ للزّوج لكون الرجوع للزوج فيها لا بعدها والزّوجة وإن كان لها حقّ النفقة والإسكان لكن حقّه أقوى ، لأنّ المنع من التزويج بغيره لأجله لا لها.
4 - قوله ( تَعْتَدُّونَها ) بمعنى تستوفون عددها ، من عددت لهم الدّراهم فاعتدّها ، كقولك كلته فاكتال ووزنته فاتّزن.
5 - أنّ الأمر بالتمتّع إمّا على الندب إذ لا متعة لغير المفروضة عند الأكثر أو المراد به نصف المهر أو الأمر مقيّد بعدم الفرض ، وليس المراد بالسراح هنا الطلاق إجماعا بل المراد به الإخراج من المنزل ، لعدم وجوب العدّة هنا فلا يجب الإسكان وكونه « جميلا » أى من غير إضرار ولا إخلال بحقّ.
والآية صريحة في عدم وجوب العدّة على غير المدخول بها.
السادسة ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (1).
( الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ) مبتدأ ( يَتَرَبَّصْنَ ) خبر مبتدأ محذوف ، تقديره أزواجهم
ص: 262
يتربّصن حذف لقرينة قوله تعالى ( وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) وتقدير الكلام والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا أزواجهم يتربّصن ، والمبتدأ الثاني مع خبره خبر للمبتدإ الأوّل.
وقيل : إنّ التقدير أزواج الّذين يتوفّون ، فحذف المضاف وأقيم المضاف » إليه مقامه ، وفيه نظر لأنّه لو كان كذلك لم يحتج إلى قوله ( وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ) لأنّ ذلك يعلم من تأنيث الضّمير. وتأنيث العشر باعتبار اللّيالي لأنّها غرر الشهور والأيّام ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله قطّ حتّى أنّهم يقولون صمت عشرا ويدلّ عليه قوله تعالى ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا عَشْراً ) (1) ثمّ قال ( إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا يَوْماً ) إذا عرفت هذا ففي الآية أحكام :
1 - أنّها ناسخة للآية الّتي بعدها في الترتيب وهي قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ ) فإنّ ذلك كان في أوّل الإسلام أعني العدّة سنة والنفقة والإسكان ، ثمّ نسخ ، وهو قول أبي حنيفة وعند الشافعيّ الإسكان ثابت لم ينسخ ، وقال أبو مسلم الأصفهانيّ إنّ حكمها باق في الحامل.
وقال شاذّ من فقهاء العامّة وهو أبو حذيفة أنّه إن أوصى للزّوجة بشي ء وأنفق الورثة عليها فالحول ، وإن لم يوص وامتنع الورثة من الإنفاق كان لها أن يتصرّف في نفسها كيف شاءت بعد أربعة أشهر وعشر ، وهذان القولان انعقد الإجماع على بطلانهما ، نعم تضمّنت الآية الوصيّة للزّوجة فعند فقهاء العامّة أنّها منسوخة أيضا بآية الإرث من الثمن والرّبع ، ولقوله صلى اللّه عليه وآله « لا وصيّة لوارث » وعندنا الوصيّة جائزة لها وإن كانت وارثة لما يأتي من جواز الوصيّة للوارث.
2 - أنّها عامّة في المدخول بها وغيرها ، الصغيرة والكبيرة والحامل والحائل لكنّ الحامل بأبعد الأجلين كما تقدّم ، وكذا حكمها ثابت في الدائم والمنقطع
ص: 263
على الأقوى ، وهل حكمها ثابت في الأمة ، كما في الحرّة؟ للأصحاب قولان بعضهم أجرى في الأمة عمومها. وهو قول الشافعيّ والأصمّ وبعض جعل عدّتها النصف من ذلك وهو الأقوى أمّا أمّ الولد يموت سيّدها فحكم الأمة غير ثابت فيها قطعا (1) لكونها حال الاعتداد حرّة.
3 - هذه العدّة ليس فيها إنفاق ولا إسكان ، فلها أن تبيت حيث شاءت نعم يجب فيها الحداد وهو ترك الزينة لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت أكثر من ثلاثة أيّام إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا (2) فهل ذلك واجب على الأمة؟ قيل : نعم ، لعموم الحديث وقيل لا ، لأصالة البراءة والحديث عن الباقر عليه السلام كما رواه زرارة « الحرّة تحدّ والأمة لا تحد » (3) وعليه الفتوى.
4 - العدّة في الطلاق مبدأها وقوعه لأنّه السبب فلا يتأخّر مسبّبه أمّا هذه فمبدؤها للحاضر الموت ، وللغائب بلوغ الخبر ، ولو بخبر واحد فاسق لأنّه تكليف يكفي في ثبوته الظنّ لكن لا تنكح حتّى تثبت الموت بشاهدين عدلين أو بالشياع.
5 - علّل بعضهم التقدير بالأربعة أشهر وعشر بأنّ الجنين في الغالب يتحرّك بثلاثة أشهر إن كان ذكرا ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما يضعف حركته في المبادي فلا يحسّ بها.
6 - قوله ( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) أي انقضى أجلهنّ ( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ) من التعرّض للأزواج ، وعدم الحداد وغير ذلك ، إذا فعلن ذلك ( بِالْمَعْرُوفِ ) أي الوجه الّذي لا ينكره العقل ولا الشّرع. دلّ مفهومه على وجوب الإنكار عليهنّ لو فعلن خلاف المعروف.
ص: 264
السابعة ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) (1).
قالت الشافعيّة المراد التطليق الرّجعيّ اثنان لما روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله سئل أين الثالثة فقال عليه السلام « أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » وقال أصحابنا والحنفيّة (2) المراد
ص: 265
ص: 266
ص: 267
ص: 268
ص: 269
ص: 270
ص: 271
ص: 272
ص: 273
ص: 274
التطليق الشرعيّ تطليقة بعد تطليقة على التفريق كقوله تعالى ( ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ) (1) أي كرّة بعد كرّة ومثله لبّيك وسعديك ، ولذلك قالوا : الجمع بين الطّلقتين أو الثلاث بدعة ، واحتجّ أصحابنا بعد أخبارهم الّتي رووها عن أهل البيت عليهم السلام بما روي في حديث ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال « إنّما السنّة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلّقها لكلّ قرء تطليقة » (2) وبأنّ هذا الكلام أعني « الطلاق
ص: 275
مرّتان » ليس إخبارا وإلّا لزم الكذب ، بل بمعنى الأمر أي ليكن الطّلاق مرّتين مثل قوله تعالى ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (1) أي يجب أن تؤمنوه.
ثمّ إنّ الأصحاب لمّا حكموا بتحريم الثلاث المرسلة ، والثنتين المرسلتين ، وأنّ ذلك بدعة اختلفوا في أنّه هل يقع واحدة بقوله « أنت طالق » وتلغو الضميمة والتفسير؟ أم لا يقع شي ء؟ قال جماعة بالأوّل وهو الحق (2) لأنّ قصد الكلّ
ص: 276
قصد لكلّ واحد من أجزائه ، فالواحدة إذن مقصودة صادرة من أهلها في محلّها فيكون واقعة وهو المطلوب.
وقال جماعة بالثاني (1) للنهي عن الجملة فتكون فاسدة قلنا النهي عن الجملة ليس نهيا عن كلّ فرد ، وقد حقّق في الأصول.
فائدة : قوله ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) يدلّ على مشروعيّة الرجعة لأنّ طلاق المطلقة غير متصوّر عقلا لأنّه إزالة قيد النّكاح ، ولا نكاح هنا ، وهو مثل الأمر بالعتق المتوقّف على الملك ، فهو من باب دلالة الاقتضاء ، قوله ( فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ) أي على وجه سائغ ، وهو كناية عن ردّها إلى النكاح إمّا بالرّجعة إن كانت العدّة باقية ، أو باستيناف العقد إن انقضت.
واختلف في معنى التسريح بالإحسان ، فقيل هي الطلقة الثالثة ، لما تقدّم من قوله صلى اللّه عليه وآله ، وقال السّدى والضحّاك هو ترك المعتدّة حتّى تبين بانقضاء العدّة وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما السلام وهو الأصحّ لأنّ الطّلاق لا يقع عندنا بالكناية بل بالتصريح.
الثامنة ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (2).
ص: 277
هذه إشارة إلى الطّلقة الثالثة ، وبه قال الباقر والصادق عليهما السلام والسدّى والضحّاك والنظّام وقال مجاهد : هو تفسير قوله ( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) فإنّ ذلك عنده هو الثالثة ، وبه قال الطبريّ والحقّ الأوّل إذا تقرّر هذا فهنا أحكام :
1 - مدلول الآية أنّه إذا طلّقها الزّوج عقيب الطّلقتين الأوليين ، والإمساك بعدهما ، طلقة ثالثة ، حرمت عليه حتّى تنكح زوجا غير ذلك المطلق ، وهذا الحكم عند أصحابنا مخصوص بما عدا طلاق العدّة ، فإنّ ذلك تحرم في التاسعة أبدا وطلاق العدّة هو أن يطلّق المدخول بها على الشرائط ثمّ يراجعها في العدّة ويطأها ثمّ يطلّقها مرّة ثانية ويفعل كما فعل أوّلا ثمّ يطلّقها ثالثة فإذا فعل ذلك ثلاثة أدوار حرمت عليه عندهم أبدا.
2 - يشترط في الزّوج الثاني شروط :
الأوّل أن يطأها بالعقد الدّائم فلو وطئ بالمنقطع (1) أو بالملك أو بالتحليل لم يفد إباحة.
الثاني أنّ العقد بمجرّده غير كاف عن الوطء لقوله صلى اللّه عليه وآله (2) لزوجة رفاعة (3)
ص: 278
لمّا حلّلها عبد الرّحمن بن الزّبير بفتح الزاء (1) فقالت إنّ له هدبة كهدبة الثوب (2) فقال صلى اللّه عليه وآله أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك (3) » والآية مطلقة قيّدتها السنّة الشريفة.
ص: 279
واقتصر ابن المسيّب على مجرّد العقد عملا بإطلاقها ، والإجماع على خلافه ويمكن تفسير النّكاح هنا بالإصابة ، ويكون العقد مستفادا من لفظ الزّوج.
الثالث : أن يطأها وهو بالغ مسلم (1) فلو وطئ صبيّا أو حال ارتداده لم تحلّل.
الرّابع : الوطي في القبل وهو مستفاد من ذوق العسيلة (2) نعم لا يشترط الإنزال إذ المراد بالعسيلة اللّذة ، وهي تحصل من دونه.
فرعان :
ألف - لو وطئ حراما بعد عقد صحيح كالوطي صائما أو مع الحيض هل يحلّل أم لا؟ إشكال من أنّه منهيّ عنه فلا يكون مأمورا به ، ومن صدق الوطي بعقد صحيح
ص: 280
وبه قال أكثر أهل العلم ، وقال مالك إنّ الوطي في الحيض لا يحلّل وإن أوجب العدّة وكلّ المهر.
ب - النكاح المعقود بشرط التحليل أي بشرط أن ينكحها ثمّ يطلّقها لتحلّ على الزّوج الأوّل قال الأكثر إنّه فاسد ، وجوّزه أبو حنيفة مع الكراهية ، وعنه أيضا إن أضمرا التحليل ولم يصرّحا به فلا كراهية.
3 - قوله ( فَإِنْ طَلَّقَها ) أي الزّوج الثّاني ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) أي على الزوجة والزّوج الأوّل ( أَنْ يَتَراجَعا ) أي بعقد جديد ومهر لأنّه نسبة إليهما فكان مشترطا برضاهما فيكون عقدا إذ الرّجعة لا يشترط فيها رضاها.
قوله ( إِنْ ظَنّا ) أي إن ترجّح عندهما بقرائن الأحوال وما يظهر من أخلاقهما أنّهما يقيمان حدود اللّه في حقوق الزوجيّة ، وذلك ليس بشرط في صحّة العقد لجواز الغفلة عن الطّرفين ، والظنّ هنا على حقيقته وهو الاعتقاد الراجح لا أنّه بمعنى العلم إذ العواقب غير معلومة إلّا لله. واعلم أنّه يستفاد من قوله ( فَإِنْ طَلَّقَها ) اشتراط كون عقد المحلّل دائما لا منقطعا ولا بشبهة ، لعدم دخول الطلاق فيهما.
تتمة : هذا الحكم وهو التحريم في الثّالثة إلّا مع التحليل يختصّ بالحرّة أمّا الأمة فيكفي في تحريمها طلقتان ، فيفتقر إلى المحلّل سواء كان زوجها حرّا أو عبدا ، للعلم بذلك من السنّة الشريفة وبيان أهل البيت عليهم السلام.
التاسعة ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) (1).
بلوغ الشي ء هو الوصول إليه ، وقد يقال للدّنوّ منه وهو على الاتّساع ، وهو المراد هنا ، والأجل يقال للمدّة كلّها ، ولمنتهاها وغايتها ، والمعنى حينئذ في
ص: 281
الآية إذا قاربن انتهاء العدّة لأنّ بعد انتهائها لا إمساك ( فَأَمْسِكُوهُنَّ ) أي أرجعوهنّ إلى النّكاح ( أَوْ سَرِّحُوهُنَّ ) أي أبقوهنّ على حكم العدّة ، ويكون الأمران بالمعروف : أي على وجه لا ضرر فيه ، ولا مخالفة لأوامر اللّه ، وهذا الحكم قد تقدّم لكنّه أعاده للاهتمام به.
قوله ( وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً ) أي لا تراجعوهنّ إرادة الإضرار بهنّ كالتقصير في النفقة أو المسكن أو لتطويل المدّة في حبالكم ، ويكون ذلك مكروها لها. قوله ( لِتَعْتَدُوا ) أي لتظلموهنّ بالتطويل عندكم أو بالإلجاء إلى الافتداء بالمهر ، واللّام متعلّقة بالضرار إذ المراد تقييده ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ) أي الإمساك للضرار ( فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) بإيقاعها في الإثم واستحقاق العقاب.
العاشرة ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).
البلوغ هنا هو الوصول إلى الشي ء تامّا ، والأجل هو المدّة كلّها ، فقد دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين ، والعضل بالضاد المعجمة الحبس والتضييق ومنه عضلت الدجاجة إذا نشبت بيضها فلم تخرج ، قيل نزلت هذه في الأولياء لما روي أنّ معقل بن يسار عضل أخته أن ترجع إلى زوجها بعد طلاقه لها فنزلت ، وقال السدىّ نزلت في جابر بن عبد اللّه عضل بنت عمّة له ، واستدلّ الشافعيّة بذلك على ثبوت الولاية على المرأة ، وأنّها لا تزوّج نفسها إذ لو تمكّنت لم يكن لعضل الوليّ معنى وارتضاه المعاصر وقال الراوندي إنّ الخطاب للأزواج لقوله ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) ولأنّه لا ولاية عندنا على البالغة الرشيدة ، ولإسناد النكاح إليها في قوله ( أَنْ يَنْكِحْنَ ) فعلى هذا يكون المعنى ولا تعضلوهنّ بأن تراجعوهنّ عند قرب انقضاء
ص: 282
الأجل لا للرغبة فيهنّ بل للإضرار ومنعهنّ من التزويج هذا آخر كلامه.
وفيه نظر من وجوه الأوّل أنّ هذا المعنى على قوله قد تقدّم ، فيكون إعادته تأكيدا والتأسيس أولى ، الثّاني أنّ بلوغ الشي ء هو إدراكه بتمامه والأجل حقيقة في المدّة فحمل البلوغ على المقاربة عدول عن الظاهر من غير ضرورة ، ولا يرد حملنا البلوغ في السابقة على المقاربة لأنّ ذلك لدليل وهو الأمر بالإمساك ، الثالث أنّ النكاح في العدّة باطل والخطبة فيها حرام ، وعلى قوله يلزم وقوع النكاح أو الخطبة في العدّة ، فلا يجوز توجّه النهي إلى المنع من الحرام والباطل [ و] لأنّ العضل على ما ذكر يستلزم إضمار المراجعة [ في العدّة ] والأصل عدمه ، ولا ضرورة إليه.
فإذن الأولى أن يكون الخطاب للمطلّقين ، ويكون العضل للنساء لا بالمراجعة في العدّة بل تعدّيا وظلما ويكون ذلك بعد انقضاء العدّة وتسمية الخطّاب أزواجا تسمية الشي ء بما يؤل إليه على جهة المجاز.
ثمّ قال الراونديّ : ويجوز أن يحمل العضل في الآية على الجبر والحيلولة بينهنّ وبين التزويج دون ما يتعلّق بالولاية لأنّ العضل هو الحبس والمنع والضيق وهذا الوجه حقّ.
قلت : ولا يكون الخطاب حينئذ للأولياء ولا للأزواج ، لإطلاق كلامه لكن ما قلناه لقوله ( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) أولى.
قوله ( ذلِكَ ) أي الخطاب المذكور يوعظ به المؤمنون لأنّهم هم المنتفعون به دون غيرهم ، كقوله ( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) وقوله ( ذلِكُمْ ) أي عملكم بمقتضى ما ذكر ( أَزْكى لَكُمْ ) أي أنفع ( وَأَطْهَرُ ) لنفوسكم من دنس الآثام.
ص: 283
وفيه آية واحدة :
وهي قوله ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (1).
الخطاب للأزواج جملة ثمّ ثنّاه بالنسبة إلى كلّ زوجين ، والمراد بما آتيتموهنّ المهور ، والضمير في ( فَإِنْ خِفْتُمْ ) للحكّام لأنّهم الآمرون بذلك ، روي أنّ جميلة بنت عبد اللّه بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت تبغضه وهو يحبّها فأتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت يا رسول اللّه لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شي ء [ واحد ] واللّه ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكنّني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضا إنّي رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدّهم سوادا وأقصرهم قامة ، وأقبحهم وجها فنزلت الآية ، وكان قد أصدقها حديقة فقال ثابت يا رسول اللّه مرها فلتردّ عليّ الحديقة ، فقال صلى اللّه عليه وآله ما تقولين؟ قالت نعم وأزيده قال لا حديقته فقطّ فقال صلى اللّه عليه وآله لثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها ، فاختلعت منه بها وهو أوّل خلع كان في الإسلام.
إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - دلّت الآية الكريمة على عدم جواز أخذ شي ء ممّا أمهر به النساء إلّا في
ص: 284
صورة الافتداء ، وهو أن تكره المرأة الرجل ، فتبذل له صداقها أو غيره أو الصداق مع غيره ليخلعها ويطلّقها بذلك فيجيب الزّوج على الفور إلى مطلوبها ويسمّى خلعا أيضا لأنّ المرأة كاللّباس لقوله ( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ) (1) فمفارقتها كخلع اللّباس.
2 - إذا كانت الكراهة من الزوجة يسمّى خلعا وإن كانت منهما معا يسمّى مباراة ويختلف حكمهما بوجوه :
الأوّل : ما ذكر من اختصاص الكراهية بالزوجة في الخلع كما دلّ عليه حديث ثابت بن قيس والمبارأة الكراهة منهما كما دلّ عليه ظاهر الآية.
الثّاني : أنّ المبارأة لا بدّ فيها من الاتباع بلفظ الطلاق ، وأمّا الخلع ففيه خلاف أجود القولين الاتباع احتياطا.
الثالث : لا يجوز في المبارأة أخذ الزائد عمّا دفع ، بخلاف الخلع فإنّ أكثر الفقهاء على جواز الزائد فيه وكرّهه أبو حنيفة وابن المسيّب قال لا يجوز إلّا البعض لا الكلّ ولا الزائد وكأنّه نظر إلى قوله ( مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ ) ومن هنا يحتمل التبعيض وقوله صلى اللّه عليه وآله في حديث ثابت « لا حديقته فقط » لا يمنع الزائد لأنّه حكاية حال مطلوب زوجها فإنّه لم يطلب سوى الحديقة.
3 - الطلاق يقع بالفدية ويفيد فائدة الخلع والمبارأة وحكمه حكمهما في أخذ الزائد وعدمه.
4 - يشترط فيهما شرائط الطلاق كلّها من غير فرق.
5 - قيل يجب الخلع إذا قال لأدخلنّ عليك من تكرهه أو لأوطئنّ فراشك من تكرهه والحقّ عدمه ، بل يستحبّ ذلك استحبابا مؤكّدا لمكان الحميّة والنخوة وقبح الصّبر على المعاشرة مع ذلك الخطاب.
6 - الفرقة في هذا الباب فرقة بينونة لا يصحّ للزّوج الرّجوع بعدها إلّا أن ترجع الزّوجة في البذل والعدّة باقية ، فللزوج حينئذ أن يرجع.
ص: 285
7 - يرد على قوله تعالى ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) سؤال وهو أنّ المرأة تعطي ما هو لها فأيّ جناح عليها في ذلك حتّى ينفى ، وأجيب بوجوه :
الأوّل جواب الراونديّ وهو أنّه لو خصّ الرّجل بالذكر لأوهم أنّها عاصية وأن كانت الفدية له جائزة ، فبيّن الاذن لهما لئلّا يوهم أنه كالربا المحرّم على الآخذ والمعطي.
الثاني : جواب الفرّاء أنّه كقوله تعالى ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (1) والإخراج إنّما هو من الملح دون العذب فجاز للاتّساع.
الثالث ما قاله الراونديّ أيضا الّذي يليق بمذهبنا أنّ المبيح للخلع هو ما لولاه ، لكانت المرأة به عاصية ، فهما مشتركان في أن لا يكون عليهما جناح إذا كانت تعطي ما نفى عن الزّوج فيه الإثم فاشتركت فيه لأنّها إذا أعطت ما يطرح الإثم احتاجت هي إلى مثل ذلك أي أنّها نفت عن نفسها الإثم بأن افتدت لأنّها لو أقامت على النشوز والإضرار لأثمت ، وكان عليها جناح في النشوز فخرجت عنه بالافتداء.
الرّابع ما خطر لهذا الضعيف وهو أنّه لمّا كان النكاح مرغّبا فيه ومندوبا إليه ، بل ربّما آل إلى الوجوب فالساعي في رفعه على حدّ الخطيئة والجناح فالمرأة لمّا بذلت الفدية ورغّبته في فراقها فقد شاركته في إزالة ذلك الفعل المرغّب فيه المندوب إليه ، بل ربّما ألجأته إلى ذلك بإظهار كراهيتها له فنفى عنها الجناح لموضع الافتداء.
8 - لا يحلّ للزّوج أخذ الفدية لو كان هو سببا لكراهتها له ، بأن يكرهها بالتقصير في حقوقها ليحملها على كراهيتها له فتبذل الفدية ، واستفيد من قوله ( فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) أنّه لا يقع ذلك من المتبرّع وأنّه لا بدّ فيه من المعلوميّة لاقتضاء عقود المعاوضات العلم بالعوضين وأنّه يكون مملوكا لها أيضا لعدم جواز التصرّف في ملك الغير.
ص: 286
ولنتبع هذا الباب بهذه الآية وهي
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) (1).
اشتملت هذه الآية على أحكام ثلاثة :
1 - النهي عن إمساك الزّوجة مع عدم القيام بحقوقها على وجه المضارّة بها حتّى تموت فيرثها فعلى هذا يكون ( كَرْهاً ) منصوبا على الحال أي وهنّ كارهات لذلك ، والمصدر بمعنى الحال وقيل : كان الرّجل إذا مات وله قريب من أب أو أخ أو حميم عن امرأة ألقى ثوبه عليها ، وقال أنا أحقّ بها من كلّ أحد فقيل ( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) أي تأخذوهنّ على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهنّ كارهات لذلك ، على قراءة كرها بالفتح ، أو مكرهات على قراءة كرها بالضمّ فعلى الأوّل الموروث نفسها وعلى الثاني مالها (2) وقيل الخطاب للأولياء والأقرباء ، لأنّهم كانوا يمنعون المرأة القريبة من التزويج ليكون مالها لهم من غير مشارك.
2 - قوله ( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ) أي تحبسوهنّ عندكم لا لرغبة فيهنّ بل مضارّة لتفتدي نفسها منه بالمهر كلّه أو بعضه وظاهرها يدلّ على قول ابن المسيّب.
3 - أنّها مع الإتيان بالفاحشة ، يجوز عضلها ، فقيل الفاحشة الزنا وقيل سوء العشرة ، وشكاسة الخلق ، وإيذاء الزّوج والأصحّ الأوّل فإذا ثبت ذلك فيها شرعا جاز حبسها ومضارّتها لتفتدي نفسها وقيل نسخ ذلك بوجوب الحدّ ، وبه قال قتادة.
ص: 287
وهو تشبيه الرّجل زوجته المنكوحة دائما أو منقطعا على قول بظهر امّه أو إحدى المحرّمات نسبا أو رضاعا. واشتقاقه من الظهر ، وكان ذلك طلاقا في الجاهليّة فجاء الإسلام بتحريمه ، لكن مع ترتّب الأحكام عليه كما يجي ء ونزل فيه آيات أربع هي قوله في أوّل سورة المجادلة بكسر الدّال وفتحها :
( قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (1)
روي أنّ خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت أخي عبادة جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابّة مرغوبة فلمّا علا سنّي ونثرت بطني أي كثر ولدي ، جعلني [ إليه ] كأمّه وإنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا
ص: 288
وإن ضممتهم إليّ جاعوا فقال صلى اللّه عليه وآله « ما عندي في أمرك شي ء » وروي أنه قال لها « حرمت عليه » فقالت يا رسول اللّه ما ذكر طلاقا وإنّما هو أبو أولادي وأحبّ الناس إليّ فقال عليه السلام حرمت عليه فقالت فأشكو إلى اللّه فاقتي ووحدتي ، وكلّما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « حرمت عليه » هتفت وشكت إلى اللّه فنزلت الآيات فطلبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وخيّره بين الطلاق والإمساك فاختار إمساكها (1).
إذا عرفت هذا فهنا فوائد تتبعها أحكام :
1 - لمّا أتت المرأة في خطاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالمقدّمات المشهورة [ المسلّمة ] الّتي ليست حجّة في نفس الأمر على الأحكام الشرعيّة سمّى كلامها مجادلة إذ القياس الجدليّ مركّب من المقدّمات المشهورة أو المسلّمة والتحاور التراجع في الكلام سؤالا وجوابا والإتيان بالجملة المضارعيّة أي ( وَاللّهُ يَسْمَعُ ) بعد أن قال ( قَدْ سَمِعَ اللّهُ ) كأنّه جواب لتوقّع الرسول صلى اللّه عليه وآله أو المرأة سماع اللّه ذلك الخطاب ثمّ أكّد ذلك وعلّله بقوله ( إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ ) أي للأقوال ( بَصِيرٌ ) أي بالأحوال.
2 - المظاهرة كما قلنا عبارة عن قول الرّجل لزوجته : « أنت عليّ كظهر أمّي » ويشترط فيه شروط الطلاق كلّها من الطهارة من الحيض ، وسماع العدلين وغير ذلك ، وهل يقع لو شبّهها بغير الظهر كالبطن والفخذ وغير ذلك من الأعضاء؟ الأقوى عندنا عدم الوقوع وكذا لو شبّه عضوا من زوجته بظهر أمّه الأقرب عدم وقوعه أيضا اقتصارا على منطوق النصّ وجمودا في التحريم على ما اجمع عليه وقال الفقهاء إذا شبّهها بجزء يحرم النظر إليه كالبطن والفخذ وقع.
3 - في قوله ( ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ) إشارة إلى أنّه مع التشبيه المذكور لا تصير الزوجة امّا حقيقة وعلّله بقوله ( إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ ) وقد يستفاد من هذا التعليل عدم الوقوع لو شبّهها بالأمّ من الرضاع ، لعدم التوليد والأصحّ عدمه لقوله صلى اللّه عليه وآله « يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب (2) » نعم لو شبّهها بغير الامّ
ص: 289
من المحرّمات النسبيّة كالأخت وقع على الأصحّ ، وفاقا من أبي حنيفة والنخعيّ والحسن والأوزاعيّ لكن عندنا إن أتى بصيغة الظهر وقع وإلّا فلا ، خلافا للشافعيّ فإنّه قصّره على الامّ ، وبه قال قتادة والشعبيّ ولو شبّهها بمحرّمات المصاهرة مؤبّدا أو غيره لم يقع عندنا خلافا للحنفيّة.
4 - الظهار المذكور حرام لوصفه بالمنكر ، نعم لا عقاب فيه لتعقّبه بذكر المغفرة والرّحمة ، فهو ملحق بالصغائر الّتي تقع مكفّرة ، والزّور المحرّف من القول.
5 - إذا حصل الظهار بشرائطه فإن صبرت المرأة فلا كلام ، وإن رفعت أمرها إلى الحاكم طلبه وخيّره بين الطلاق والإمساك ، فإن اختار الطّلاق وطلّق وقع رجعيّا وإن اختار الإمساك أمره بالتكفير قبل العود ، فإذا كفّر ساغ له العود إليها وإن امتنع من الأمرين معا أنظره ثلاثة أشهر ثمّ طلبه وأمره بما أمر به أوّلا فإن أصرّ ضيّق عليه في المطعم والمشرب وحبسه حتّى يختار أحدهما ، ويجب كون الكفّارة قبل المسيس إجماعا ، وصريح الآية يدلّ عليه ، وأنّه يحرم الوطء قبلها فلو فعل وجب كفّارة أخرى عليه عندنا ، وعند القوم يستغفر اللّه لا غير ، وليس عليه سوى كفّارة الظهار.
6 - الآية صريحة في كون الكفّارة مرتّبة ومن حقّ المرتّبة أن لا ينتقل إلى الثانية إلّا بعد العجز عن الاولى ، وقد تقدّم وصف الرّقبة والإطعام ، ويشترط في الصيام المتابعة بين الشهرين ، لوصفهما في الآية بذلك نعم لو صام يوما من الشهر الثاني ثمّ أفطر كفى في صدق المتابعة ، لكن لا يباح حينئذ الوطء حتّى يتمّ الصّوم وكذا في أثناء الإطعام.
7 - قوله ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) إلخ فيه وجوه :
الأوّل أنّ الّذين كانت عادتهم هذا القول في الجاهليّة ثمّ قطعوه بالإسلام ثمّ قالوه بعد الإسلام فكفّارته كذا.
الثّاني : يعودون إلى ما قالوه بالاستدراك لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه
ص: 290
ومنه المثل عاد غيث على ما أفسده أي تداركه بالإصلاح ، أي ينقض ما اقتضاه قوله « وذلك » عند الشافعيّ أن يمسكها زمانا يمكنه مفارقتها فيه وعند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها ولو بنظره بشهوة وعند مالك بالعزم على الجماع ، والمعنى أنّ تدارك هذا القول وتلافيه بالتكفير.
الثّالث أن يراد بما قالوا ما حرّموه على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلا للقول منزلة المقول فيه ، نحو قوله تعالى ( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) (1) والمعنى؟؟؟؟ يريدون العود للتماسّ ، والمماسّة كناية عن الجماع ، وهذا القول أجود لأنّه الموافق لقول أصحابنا من تفسير العود بإرادة الوطي ، وإضمار الإرادة هنا كاضمارها في قوله ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ) (2).
الرابع قول الظاهريّة وهو تكرار الظّهار وليس ببعيد لأنّ عندنا يتكرّر الكفّارة بتكرّر الصيغة ، لكن يلزمه بدليل الخطاب أن لا تجب الكفّارة إلّا مع تكرار الصّيغة ، ولا تجب بدونه ، وليس كذلك.
الخامس قول أبي مسلم يعني أن يحلف على ما قال.
السّادس أن يعود إلى المقول فيها ، بإمساكها أو استباحة استمتاعها.
8 - إنّما ذكر كون العتق والصّيام قبل المسيس ، ولم يقيّده في الإطعام لكونه بدلا عنهما فالقيد فيهما قيد فيه.
9 - روي أنّه صلى اللّه عليه وآله لمّا طلب الأوس واختار الإمساك فقال له صلى اللّه عليه وآله « كفّر بعتق رقبة » فقال ما لي غيرها ، وأشار إلى رقبته ، فقال « صم شهرين متتابعين » فقال لا طاقة لي بذلك ، فقال « أطعم ستّين مسكينا » فقال ما بين لابتيها أشدّ مسكنة منّي فأمر له النبيّ صلى اللّه عليه وآله بشي ء من مال الصدقة وأمره أن يطعمه عن كفّارته فشكى خصاصة حاله وأنه أشدّ فاقة وضرورة ممّن أمر بدفعه إليهم فضحك النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأمره بالاستغفار ، وأباح له العود إليها (3) وفيها دلالة على أنّه مع العجز عن
ص: 291
الكفّارة يستغفر اللّه ويعود ويؤيّده رواية عمّار موثّقا عن الصادق عليه السلام أنّ الظهار إذا عجز صاحبه عن الكفّارة فليستغفر ربّه ولينو أن لا يعود ، فحسبه بذلك كفّارة.
وبعض أصحابنا قال إذا لم يطق إطعام ستّين مسكينا صام ثمانية عشر يوما. ومنهم من قدّم الصوم الثمانية عشر على الإطعام ، واجتزأ بها عن الإطعام والأولى أنّه مع العجز عن الخصال المنصوصة في الكتاب ينتقل إلى الاستغفار.
وهو الحلف باللّه على ترك الوطء للزوجة المنكوحة بالعقد مضارّة لها إمّا مطلقا أو مؤبّدا أو مقيّدا بمدّة يزيد على أربعة أشهر أو مضافا إلى فعل لا يقع إلّا بعد انقضاء مدّة التربّص قطعا أو ظنّا وفيه آيتان هما :
قوله تعالى ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1).
هنا مسائل :
1 - إذا وقع الإيلاء على الوجه المذكور إن صبرت المرأة فلا كلام وإن رفعت أمرها إلى الحاكم أمره بالكفّارة والعود ، فان أبى أنظره أربعة أشهر ثمّ ألزمه إمّا الطّلاق أو الفئة والتكفير ، فان امتنع منهما معا حبسه وضيّق عليه في المطعم والمشرب حتّى يختار أحدهما ولا يأمره الحاكم بذلك إلّا مع مرافعتها (2) وكذا في الظّهار ، والجارّ والمجرور في قوله « للّذين » خبر والمبتدأ « التربّص » وهو الانتظار و « من » متعلّق بتربّص لأنّه يتضمّن معنى التعدّي فعدّي « بمن »
ص: 292
وإن كان في الأصل يعدّى بعلى ، ويجوز أن يراد : لهم من نسائهم تربّص أربعة أشهر كقولك : لي منك نصر ومعونة.
2 - المراد بالفئة هو الجماع إن كان قادرا عليه ولا مانع منه شرعا ولا عرفا فلو عجز أو حصل المانع الشرعيّ أو العرفيّ ففئته إظهار العزم على ذلك ، وتعقيب ذلك بالغفران والرحمة ، لما في ذلك من الإثم بقصد إضرار الزّوجة.
3 - استفيد من تقدير المدّة بأربعة أشهر أنّه لا يجوز ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر ، وإلّا لما جاز لها المرافعة والمطالبة.
4 - دلّ قوله « وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ » على عدم وقوعه بالمستمتع بها إذ لا طلاق في نكاحها ومنهم من يقول بوقوعه بها ويقدّر في الكلام إضمارا أي وإن عزموا الطّلاق فيمن يقع بها فانّ اللّه سميع عليم ، وهو ضعيف لأصالة عدم التقدير وانتفاء الضرورة ، ولفظ « نسائهم » وإن كان جمعا مضافا وهو من صيغ العموم فقد خصّ بأخبار أهل البيت عليهم السلام وفي قوله « فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » تهديد ، والعزم تصميم الإرادة على أن يفعل الشي ء.
وهو لغة الطرد والإبعاد وشرعا مباهلة بين الزّوجين سببها قذف الرّجل امرأته بالزنا مع دعوى المشاهدة وعدم البينة أو نفي ولد ولد على فراشه مع شرائط إلحاقه به ، وفيه آيات أربع هي قوله :
( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ
ص: 293
لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ ) (1).
روى الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه قال لمّا نزلت ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) الآية قال سعد بن عبادة يا رسول اللّه إنّي لأعلم أنّها حقّ من عند اللّه تعالى لكن تعجّبت أن لو وجدت لكاع يفخذها لم يكن لي أن أهيجه ولا أحرّكه حتّى آتي بأربعة شهداء ، فو اللّه إنّي لا آتي بهم حتّى يقضي حاجته؟ فما لبثوا حتّى جاء هلال بن أميّة فقال يا رسول اللّه إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت عليها رجلا يقال له شريك بن السّحماء فرأيت بعينيّ وسمعت باذنيّ فكره النبيّ صلى اللّه عليه وآله ذلك فقال سعد : الآن يضرب النبيّ صلى اللّه عليه وآله هلال بن أميّة ويبطل شهادته في المسلمين فقال هلال لرسول اللّه : واللّه إنّي لأرجو أن يجعل اللّه لي منها مخرجا فبينا هم كذلك إذ نزلت « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ » الآيات فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أبشر يا هلال فقد جعل اللّه لك فرجا ومخرجا.
وروي أنّ المعترض هو عاصم ابن عدي الأنصاري فقال جعلني اللّه فداك إن وجد رجل مع امرأته رجلا فأخبر جلد ثمانين جلدة وردّت شهادته أبدا وإن ضربه بالسّيف قتل به ، وإن سكت سكت على غيظ وإلى أن يجي ء بأربعة شهداء فقد قضى حاجته ومضى ، اللّهم افتح وخرج ، فاستقبله هلال بن أميّة فأتيا النبيّ صلى اللّه عليه وآله فأخبر عاصم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وكلّم خولة زوجة هلال فقالت لا أدري الغيرة أدركته أم بخلا بالطعام ، وكان الرّجل نزيلهم ، فقال هلال لقد رأيته على بطنها فنزلت الآية فلاعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بينهما وقال لها إن كنت ألممت بذنب فاعترفي به فالرّجم عليك أهون من غضب اللّه فانّ غضبه هو النار ثمّ قال إن جاءت به اصيهب اثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك ، وإن جاءت به أورق جعدا جماليّا خدلّج السّاقين فهو لغير الّذي رميت به قال ابن عبّاس رضي اللّه عنه جاءت بأشبه خلق اللّه بشريك فقال صلى اللّه عليه وآله لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن وروي أيضا أنّ عويمر العجلانيّ
ص: 294
رمى زوجته فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله البيّنة وإلّا حد في ظهرك ، فنزلت (1)
إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - الكلام المذكور ليس على ظاهره ، وذلك لأنّ فيه مشاكلة وحذفا أمّا المشاكلة فلأنّ المراد بالشهادة هنا القسم سمّي بها لقيامها مقام شهادة الشهداء كما هو في باقي القضايا الشرعيّة ، ولتطابق قوله « وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ » وأمّا الحذف فلأنّ تقديره وإن لم يكن لهم شهداء فشهادة أحدهم أي يمينه يقوم مقام الشهداء وقرئ « أربع » بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف أي هنّ أربع وقرئ بالنّصب على أنّ فعله محذوف أي يشهد أربع ، ومن عرف عادة القرآن في الحذف والاكتفاء بسياق الكلام لا ينكر ذلك وقيل الرفع على أنّه خبر « شهادة » أي فواجب شهادة أحدهم والنصب على المصدر وهو ضعيف أمّا الأوّل فلا قرينة تدل عليه والثاني لا نظير له في كلامهم فانّ المصدر لا ينصب بالمصدر.
2 - صورة اللّعان أن يبدء الرّجل فيقول أشهد باللّه إنّي لمن الصّادقين فيما رميتها به ، ويكرّر ذلك أربع مرات مع الاولى ثمّ يقول إنّ لعنة اللّه عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به ، ثمّ تقول المرأة أربع مرّات : أشهد باللّه إنّه لمن الكاذبين فيما رماني به ، وتقول في الخامسة إنّ غضب اللّه عليّ إن كان من الصادقين فيما رماني به. عملا بصورة النصّ ، ويجب إيقاعه بهذه الألفاظ من غير تغيير ولا تبديل مراعيا للاعراب والترتيب والموالاة ، فلو غيّر كلمة أو حرفا بدلا عن المذكور لم يكن لعانا صحيحا ويجب كونه بالعربيّة ، وعند الحاكم ، وتعيين المرأة بالإشارة أو التسمية الصريحة.
3 - إذا تمّ اللّعان وقعت الفرقة بينهما تحريما مؤبّدا ولا يفتقر إلى طلاق الحاكم ولا حكمه بالفرقة عندنا وبه قال الشافعيّ ولقوله صلى اللّه عليه وآله المتلاعنان لا يجتمعان
ص: 295
أبدا (1) وقال أبو حنيفة تقع الفرقة بحكم الحاكم فرقة طلاق بائن ولا يتأبّد التحريم فلو أكذب نفسه جاز له أن يتزوّجها عنده.
4 - اشترط أكثر الأصحاب كونها مدخولا بها وعقدها دائم ، فلو لم يدخل. أو كان النكاح منقطعا فعليه الحد للقذف ولا لعان ، واستدلّوا بالأحاديث ، وقال جماعة بعدم ذلك عملا بعموم اللّفظ فإنّ « أزواجهم » جمع مضاف وهو للعموم ، والتحقيق أن نقول إن صحّ تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، فالقول هو الأوّل وإن لم يصحّ فالقول هو الثاني هذا في القذف بالزنا ، أما نفي الولد فلا بدّ من الدّخول. ليحصل شرط الإلحاق.
5 - يشترط كونها زوجة أو في حكمها حال القذف ، فلو قذف أجنبيّة أو مطلّقة بائنة فالحدّ ولا لعان أما المرمي به (2) فهل يشترط كونه حال الزوجيّة أم يكفي ولو كان سابقا على النكاح قولان منشؤهما من عموم « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ » وهو أعم من السابق وغيره ، ولأنّه يصدق أنه قذف زوجته فيدخل في الآية ، ومن. عموم « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً » (3) والأقوى الأوّل فلو قذف زوجته ثمّ أبانها كان له اللّعان.
6 - دلّ قوله « وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ » على اشتراط عدم حصول الشهداء إذ الجملة حاليّة أي والحال أنّه لم يكن لهم شهداء إلّا أنفسهم ، فلا لعان مع. وجود الشهداء ، فلو عدل عن الشّهادة هل له أن يلاعن؟ قيل نعم والحقّ عدمه أمّا. أوّلا فللآية ، والمشروط عدم عند عدم شرطه إذ المبتدأ هنا فيه معنى الشرط ، وأمّا أوّلا فللآية ، والمشروط عدم عند عدم شرطه إذا المبتدأ هنا فيه معنى الشرط ، وأمّا. ثانيا فلأنّ اللّعان على خلاف الأصل فإنّ شهادة الإنسان لنفسه أو يمينه لنفسه غير مقبولين فاقتصر على مورد النصّ.
7 - لمّا قذف وجب عليه حدّ القذف فلمّا لاعن سقط عنه ووجب عليها حد
ص: 296
الزنا لأنّ أيمانه شهادات فلمّا لاعنت سقط عنها لقوله « وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ » وهو الحد هنا فلو أكذب نفسه لم يزل حكم اللّعان ، نعم هل يحدّ للقذف؟ قيل لا لسقوطه بلعانه ، وقيل : نعم ، لزيادة الهتك وتكرار القذف ، وهو قويّ ولو أكذبت نفسها فإشكال : من قوله « وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ » ولا موجب للعود ، ومن عموم « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (1) » فإذا أقرّت أربعا وجب الحد.
8 - لمّا ثبت في الأصول أنّ خصوص السّبب لا يخصّص وثبت قوله صلى اللّه عليه وآله « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (2) كان حكم آية اللّعان عامّا باقيا وكذا الكلام في الظّهار.
وهو قطع الإسلام بقول كإنكار ما علم من الدّين ضرورة أو عمل كالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات وغير ذلك ممّا علم من الدّين ضرورة وجوب تعظيمه ويستدلّ على قطعه النكاح بآيات تحريم المشركين والمشركات ، وبقوله « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (3) » وقد تقدّم بيان ذلك ثمّ الارتداد له أحكام مذكورة في كتب الفقه فلتطلب هناك ولنقتصر من كتاب النّكاح على هذا.
ص: 297
والآيات هنا أقسام.
وهو آيات :
الاولى ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (1).
امتنّ على عباده بأنّه خلق جميع ما في الأرض لهم ، والمراد به ما ينتفع به لأنّ ما فيه إضرار أو خلا عن نفع لا يقع به امتنان ثمّ إنّ ذلك المنتفع به ، لو لم يكن محلّلا لما حسن أيضا الامتنان إذ لا يمتنّ أحد على أحد بشي ء حال بينه وبينه لقبحه في نظر العقل ، فيكون الأشياء كلّها على أصالة الإباحة وهو المطلوب ، وإن خالف هنا قوم فقولهم باطل ، وقد تبين ذلك في الأصول.
الثانية ( يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) (2).
قيل : نزلت في قوم حرّموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس والأمر هنا للإباحة وأمّا « حَلالاً » فيحتمل نصبه على مفعوليّة « كُلُوا » والأجود أنّه صفة مصدر محذوف والأجود منه أنّه حال « مِمّا فِي الْأَرْضِ » والطيّب يقال لمعان الأوّل : ما هو مستلذ الثاني : ما حلّله الشارع ، الثّالث : ما كان طاهرا ، الرّابع : ما خلا عن الأذى في النفس والبدن ، وهو حقيقة في الأوّل لتبادره إلى الذهن وهو المراد هنا
ص: 298
لئلّا يلزم التكرار لو أريد الثاني أي كلوا ما جمع وصفي الحلّ واللّذّة ثمّ الخبيث يقال في مقابلة الطيّب في معانيه وهنا فوائد :
1 - ظاهر الآية إباحة الانتفاع بالأشياء المحلّلة المستلذّة لكنّه على الاجمال فبيانه إمّا بالكتاب أو السنة.
2 - يحتمل أن يراد بالطيب هنا المعنى الرابع ، فيدلّ على تحريم ما فيه أذى في البدن إمّا مرض أو هلاك أو في النفس إما إذهاب عقل أو شي ء من الإدراكات فعلى هذا لو كان قليله لا يؤذي في البدن بل كثيره حرم القدر المؤذي لا غير أمّا ما يذهب العقل كثيره دون قليله فيحرم كلّه لاقتضاء الحكمة المحافظة على العقل ولأنّه لو أبيح القليل لأدّى إلى الاشتمال ، وعدم المبالاة لغلبة الشهوة على النفس بخلاف الأذى البدني فانّ الحيوان بطبعه يحاذر على بدنه ، ويمتنع من المؤذي له ، فلم يحتج إلى تأكيد تحريم ما يؤذيه.
3 - « مِمّا فِي الْأَرْضِ » « من » للتبعيض و « ما » للعموم ، فيشمل النبات والحيوان والمعدن وقد خصّ ذلك العموم الكتاب والسنّة بتحريم أشياء يأتي بعضها هنا.
4 - قيل إنّ اللّه تعالى حافظ كلّ شريعة بحفظ خمسة أشياء الأوّل النفوس بشرع القصاص ، الثّاني : الدين بعقاب المرتدّ ، الثّالث : النسب بتحريم الزّنا ووجوب الحدّ عليه ، الرّابع الأموال بتضمين الغاصب والسّارق وتعزير الأوّل وقطع الثّاني الخامس : العقول بتحريم المسكرات وإيجاب الحدّ في تناولها.
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) (1).
ص: 299
المعنى هنا قريب ممّا تقدّم ، وذكر الأمر بالشكر دليل على كون الطيّب هنا منتفعا به حسنا وإلّا لما وجب الشكر في مقابله ، لأنّ الشكر إنّما يجب في مقابلة النعمة ، وفيه إشارة إلى كون العبادة قد يقع شكرا.
وفيه آيات :
الاولى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ) (1).
قد تقدّم البحث في صدر هذه الآية في كتاب الصّلاة فلا وجه لإعادته فلنذكر المهمّ منها فنقول أشار في هذه الآية إلى تحريم أشياء كانت الجاهليّة لا تحرّمها :
1 - الميتة وهي ما فاتت حياته لا على وجه التذكية الشرعيّة ، واستثنى النبيّ صلى اللّه عليه وآله من ذلك السّمك والجراد بقوله « أحلّ لكم ميتتان ودمان » (2).
2 - الدّم وكانوا يأكلونه أنواعا من الأكل منها العلهز ، كما قال عليّ عليه السلام في بعض كلامه تقريعا للعرب ، وبيانا لنعمة اللّه عليهم بتحريم الخبائث بقوله « تأكلون العلهز » وهو أن يجعل الدّم في المصارين والمباعر ويشوونها ويأكلونها ثمّ إنّ الدّم استثنى منه الطحال على قول ، والأولى تحريمه نعم الدّم المستخلف في تضاعيف اللّحم حلال طاهر لإجماع الفقهاء عليه ، وقيل التحريم في موضع آخر بكونه مسفوحا أي سائلا وذلك إنّما يكون ممّا في العروق ، ويلزم من ذلك أنّ
ص: 300
ما لم يكن في العروق ، أو بقي فيها وتخلّف في اللحم أن لا يكون محرّما وكأنّه تقييد للمطلق.
3 - لحم الخنزير ، خصّ اللّحم وإن كان شحمه وكلّ أجزائه محرّما لأنّه المقصود بالأكل وغيره تابع له.
4 - « ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ » أي ما ذبح على اسم الصّنم ولم يذكر عليه اسم اللّه ، والإهلال لغة رفع الصوت ، فيدخل في ذلك كلّ ذبيحة لم يذكر عليها اسم الحقّ تعالى سواء كان من كافر أو مسلم غير محقّ كالمجسّمة صريحا والمشبّهة.
5 - « الْمُنْخَنِقَةُ » أي الّتي ماتت بالخنق ، سواء كان بخنق من غيرها أو اختنفت من نفسها لعارض.
6 - « الْمَوْقُوذَةُ » وهي المضروبة بخشب أو حجر ونحو ذلك من المثقل حتّى يموت ، من قولك وقذته : إذا ضربته.
7 - « الْمُتَرَدِّيَةُ » أي تردّت من علو إلى بئر فماتت.
8 - « النَّطِيحَةُ » أي التي تنطحها اخرى فتموت ، ففعيل هنا بمعنى المفعول والتاء فيها للنّقل من الوصفيّة إلى الاسميّة.
9 - « ما أَكَلَ السَّبُعُ » أي ما أكل منه السبع وبقي منه بقيّة فيها حياة غير مستقرّة فإن كانت مستقرّة جاز أكله بعد التذكية ، وهو المراد بالاستثناء والتذكية هي قطع الأعضاء الأربعة ، وهي الحلقوم ، والمري والودجان ، بحديد أو ما في حكمه ، هذا في غير الإبل أمّا في الإبل فذكاتها النحر ، وهو الطعن في لبّة الثغرة وهي الوهدة المنخفضة ، وقيل الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدّم ممّا يقبل التّذكية وهي الستّة المتأخّرة ، وهو قول عليّ عليه السلام وابن عباس وإدراك الذّكاة على هذا قيل أن يدرك وذنبه يتحرّك أو رجله أو يطرف عينيه ، وهو المرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام وقيل هو أن يمكن أن يعيش اليوم أو الأيّام ، وقيل الاستثناء هنا منقطع ليس فيه إخراج والكل حسن.
قوله « وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ » أي وحرّم عليكم ما ذبح على النصب قيل هو
ص: 301
مفرد مثل عنق وجمعه أنصاب كأعناق وهي حجارة منصوبة حول البيت كانوا يذبحون عليها ويشرحون اللّحم عليها ، يعظّمونها بذلك ويتقرّبون به إليها وقيل هي الأصنام و « على » إمّا بمعنى اللّام وإمّا على أصلها ، فتقديره وما ذبح مسمّى على الأصنام والاستقسام طلب معرفة ما قسّم له ممّا لم يقسّم « والأزلام » تقدّم معناها.
وهنا فوائد :
1 - أنّ الأشياء الّتي ذكرها من المنخنقة والموقوذة إلى آخرها إمّا أن يكون ميتة ، أولا؟ فإن كان الأوّل فذكر الميتة أغنى عن ذكرها ، وإن كان الثاني لزم وجود واسطة بين الميّت والحيّ وهو باطل ، والجواب : إنما ذكرها لأنّهم ما كانوا يعدّونها ميتة بل من قسم المذبوحات ، ويخصّون الميتة بما يموت حتف أنفه فعرّفهم أنّ حكم الجميع واحد.
2 - لهذه الآية نظير وهي قوله في البقرة « إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ » (1) وهنا وفي الأنعام والنحل قال « لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ » فهل بينهما فرق أم لا؟ قيل الأصل هو الأوّل لأنّ الباء المعدّية للفعل بمنزلة جزء منه ، فيكون أحقّ بالتقديم ، بخلاف ما يتعدّى باللّام ، فإنّه ليس كالجزء ثمّ لمّا كان الإهلال بالمذبوح لا يستنكر إلّا إذا كان لغير اللّه ، فيكون ذلك المستنكر ممّا يتعلّق الاهتمام به قدّم في الموضعين الآخرين.
فالحاصل أنّ في البقرة قدّم الباء لأنّه الأصل ولأنّه كالجزء وفي الآخرين قدّم « لِغَيْرِ اللّهِ » لشدّة الاهتمام كما يقدّم بعض المفعولات على فاعله.
3 - لمّا كان الحكم اللّاحق بالجملة لمعنى يوجد في شي ء من أجزائها ألحق. بالميتة ما أبين من حيّ ، لوجود معنى التحريم ، وهو الموت وفقد الحياة.
الثانية ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ
ص: 302
يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (1)
تقدّم ما يغني عن تفسير هذه ، و « فِسْقاً » منصوب ، عطفا على « مَيْتَةً » وقوله « أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ » محلّه النصب صفة لفسقا.
وهنا سؤال : وهو أنّه قد وجد كثير من المحرّمات ، وهو غير مذكور في الآية فكيف يقول لا أجد إلّا كذا الدالّ على الحصر ، وكذا في قوله « إِنَّما حَرَّمَ » وإنّما للحصر.
والجواب أنّ اوحي فعل ماض « وأجد » للحال فمنطوقها لا أجد فيما اوحي إلىّ في الماضي غير هذه الأربعة ، وليست هذه الآية آخر ما نزل عليه صلى اللّه عليه وآله فجاز أن يكون جاءه تحريم أشياء بعد نزولها ، وكذا الكلام في « إنّما » فانّ الحصر فيها للحكم الحاليّ.
قوله « فَإِنَّهُ رِجْسٌ » الضّمير للحم الخنزير ، وهو نص في نجاسته وهي معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه.
فائدة : روي أنّ ابن عبّاس وعائشة استدلا بهذه الآية على حلّ لحم الحمار وهو قريب وكذا تدلّ على حلّ لحم الخيل والبغال لأنّ منطوقها أنّ ما عدا المذكور حلال ، فمن ادّعى التحريم المتجدّد فعليه الدّلالة ، وقال بعض فقهاء العامّة يدلّ على تحريم الثلاثة قوله « وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً » (2) ووجه الدلالة أنّه علّل خلقها بالرّكوب والزينة ، فلا يكون لها فائدة غيرهما. وهو غلط فإنّه لا يلزم من تعليل الشي ء بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غير ذلك أصلا ، هذا وكونها زينة ومركوبة لا ينافي حلّها كما في الإبل فإنّ الأمرين حاصلان فيها مع حلّ لحمها.
ص: 303
الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) (1).
الخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره سمّي به عصير العنب والتمر إذا غلا واشتدّ لأنّه يخمر العقل أي يستره كما سمّي مسكرا لأنّه يسكره أي يحجزه وهو حرام إجماعا مطلقا وكذا كلّ ما أسكر في الجملة وإن لم يسكر قليله عندنا وقال أبو حنيفة نقيع الزّبيب والتمر إذا طبخ حتّى ذهب ثلثاه حلّ شربه إلّا ما ورث السكر والحقّ خلافه لما تقدّم.
ثمّ اعلم أنّ مذهب الإماميّة أنّ الخمر محرّمة في جميع الشرائع وما أبيحت في شريعة قط وكذا كل مسكر ، وأوردوا في ذلك أخبارا عن أئمتهم عليهم السلام وأمّا المفسّرون فقالوا نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكّة « وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً (2) » وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثمّ إنّ عمرو معاذا ونفرا من الصّحابة قالوا : يا رسول اللّه أفتنا في الخمر فإنّها مذهبة للعقل ، مسلبة للمال ، فنزلت « فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ » فشربها قوم ، وتركها آخرون ، ثمّ دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ « قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون » فنزلت « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى (3) » فقلّ من يشربها ثمّ دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقّاص ، فلمّا شربوا وسكروا افتخروا وتناشدوا حتّى أنشد سعد شعرا فيها هجاء الأنصار ، فضربه أنصاريّ بلحى بعير فشجّه موضحة فشكا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال عمر : اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت « إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ »
ص: 304
إلى قوله « فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » (1) فقال عمر انتهينا يا ربّ.
وعن علي عليه السلام لو وقعت قطرة في بئر فبنيت منارة مكانها لم أؤذّن عليها ولو وقعت في بحر ثمّ جفّ ونبتت فيه الكلا لم أرعه.
قال المحقّقون ويمكن الاستدلال على تحريمها جزما بكلّ واحدة من هذه الآيات أما الأولى فلأنّه قال « تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً » فوصف الرزق الّذي هو قسيم للسكر بالحسن من أدلّ الدّلائل على أنّ المسكر ليس بحلال ، وإلّا لم يختصّ الوصف بالرزق إن قلت إنّ الآية وردت في معرض الامتنان ، وهو سبحانه لا يمتن بالمحرّم قلت الامتنان بخلق أصولها من الثمرات ، وكونها صالحة للانتفاع بها على وجوه متعدّدة.
وأما الثانية فلأنّه أخبر أنّ فيها إثما كبيرا ، والإثم هو الكبيرة بدليل قوله « وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً » (2).
وأمّا الثالثة فلأنّه بيّن منافاة السكر للصّلاة ، والصلاة واجبة ، ووجوب أحد المتنافيين يستلزم تحريم الآخر ، لأنّ الأمر بالشي ء يستلزم النهي عن ضدّه كما قرّر في الأصول.
وأمّا الرابعة فلما تقدّم في المكاسب.
ثمّ إنّ السيّد المرتضى رضي اللّه عنه وجماعة استدلّوا على تحريم الخمر وكلّ مسكر بآية خامسة وهي قوله في الأعراف « قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ » (3) والإثم هنا الخمر (4) لقول الشاعر
ص: 305
شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي *** كذاك الإثم يفعل بالعقول (1)
والمراد بما ظهر زنا وذوات الأعلام ، وما بطن زنا المستترات واللّواط ، هذا وقوله « وَالْمَيْسِرِ » هو مصدر كالموعد سمّي به القمار لأنّه أخذ من مال الغير بيسر
ص: 306
أو سلب يساره ، والمعنى يسألونك عن تعاطيهما قل فيهما إثم كبير وقرئ « كثير » ضد القليل ، وعلى القراءتين هي محرّمة جدّا ، والمنافع قيل ما هي يربحون فيهما من التجارة في الخمر وكسب المال في القمار ، وقيل هي المال والطرب والاستلذاذ ومصادقة الفتيان ، وفي الخمر خصوصا تشجيع الجبان ، وتوفير المروّة وتقوية الطبيعة.
قوله « وَإِثْمُهُما » أي الخطاء والقبح والمفاسد الّتي ينشأ منهما أعظم من المنافع المتوقّعة ، منهما ولذلك قلنا إنّ هذه الآية محرّمة لهما فإنّ المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضيت تحريم الفعل.
وأمّا ما ذكره المفسرون والفقهاء من كونها كانت قبل حلالا فباطل بإجماعنا والنقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم السلام وقوله صلى اللّه عليه وآله « كلّ مسكر حرام » وأنّه صلى اللّه عليه وآله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها ، وقال صلى اللّه عليه وآله « شارب الخمر كعابد الوثن » وغير ذلك من الأخبار.
ص: 307
وفيه آيات :
الاولى ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (1).
لمّا حرّم عليهم الأشياء المتقدّمة من الميتة والدّم ولحم الخنزير والمنخنقة وغير ذلك ، سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أي شي ء أحلّ. لهم ولم يقل أحلّ لنا على سبيل الحكاية لأنّ يسألونك للغيبة فوافق بينهما مع أنّ كلا الوجهين سائغ وفي الآية فوائد :
1 - قوله « أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ » أي المستلذّات وقد تقدّم أقسام الطيّب ويمكن حمل الطيّبات على كلّ واحدة منها لكنّ هذا العامّ مخصوص عندنا بتحريم أشياء وردت به السنّة الشريفة النبويّة والإماميّة ، واستدلّ الشافعيّ بهذه المفهوم على تحريم ما استخبثته العرب والمفهوم عندنا غير حجّة.
2 - « وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ » والمراد بها المكاسب والكواسب من سباع الطير والبهائم ، و « ما » هنا يحتمل كونها موصولة والواو عاطفة فتقدير الكلام حينئذ « وصيد ما علّمتم » أي أحلّ لكم صيد ما علّمتم ويحتمل كونها شرطيّة فيكون الواو ابتدائيّة وجواب الشرط قوله « فَكُلُوا » ويستفاد هذا أحكام :
1 - أنّه لا يباح أكل صيد غير المعلّم.
2 - إباحة تعليم الجوارح كلّها والصيد بها.
ص: 308
3 - أنّه لا بدّ في إباحة الصيد من العقر والجرح لمدلول « الجوارح » هذا ومعنى مكلّبين قيل مؤدّبين ، وفيه نظر لأنّه لا يصحّ « وما علّمتم مؤدّبين » لأنّ التعليم سر التأديب والأولى أنّ معناه حاذقين في التعليم وهو نصب على الحال ، وفيه إيماء إلى أنّه لا يكون التعليم إلّا للكلب ، لأنّ المكلّب صاحب الكلب ، والكلب وإن أطلق على كلّ سبع لقوله صلى اللّه عليه وآله « سلّط عليه كلبا من كلابك » (1) لكنّه حقيقة في هذا المعهود ، فيكون الاشتقاق منه فيكون مقيّدا مخصّصا لما سبق ولذلك قسم أصحابنا صيد الجوارح إلى قسمين ما أدرك ذكاته فلا يحل إلّا بالتذكية مطلقا وما لم يدرك ذكاته إن كان مقتول الكلب فهو حلال وإلّا فهو حرام ، صيد أيّ الجوارح كان وهو المنقول عن الصادق والباقر عليهم السلام.
فائدة : قيل نزل جبرئيل إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فوقف بالباب فاستأذن فأذن له فلم يدخل فخرج النبيّ صلى اللّه عليه وآله وقال قد أذنّا لك فقال عليه السلام إنّا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم كلب فقال صلى اللّه عليه وآله لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته فهربت الكلاب حتّى بلغت العوالي فلمّا نزلت الآية قالوا : يا رسول اللّه كيف نصيد بها وقد أمرت بقتلها؟ فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فجاءه الوحي بالإذن في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها فاستثنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث ، وأذن في اتّخاذها (2)
4 - « تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ » فيه دلالة على كون التعليم أمرا مستفادا كيفيّته من الشارع فقال أصحابنا نقلا عن أئمّتهم عليهم السلام أنّ التعليم يحصل بأمور الأوّل : الاسترسال إذا أخرى. الثاني : الانزجار إذا زجر الثالث : أن لا يعتاد أكل
ص: 309
صيده الرابع : الاستمرار على ذلك غالبا ولا اعتبار بالندرة نفيا أو إثباتا.
4 - « فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » فيه دلالة على أنّه لا يباح ما أكل منه الكلب ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله لعديّ بن حاتم « وإن أكل منه فلا تأكله لأنّه أمسك على نفسه » (1) وهو قول أصحابنا وأكثر الفقهاء وقال بعضهم يعتبر ذلك في سباع البهائم لا الطير لتعذّر تأديبها إلى هذا الحدّ ، وقال قوم منهم مالك وسعد بن أبي وقّاص لا يعتبر ذلك مطلقا وإن أكل ثلثه ، والحقّ ما ذكرناه وفيها دلالة على أنّه لا يباح أكل ما غاب عن النظر لأنّه إذا غاب لم يكن قد أمسكه على صاحبه بل على نفسه ، وهو الإنماء قال صلى اللّه عليه وآله « كل ما أصميت ودع ما أنميت » (2) سواء وجد به أثر الكلب من جرح أو غض أو لا.
و « من » في قوله « ممّا » الأصحّ أنّها للتبعيض إذ لا يباح كلّما يمسكه الكلب بل بعضه.
[ وهو ] أمّا من نفس الحيوان المباح فإنّه يحرم الدم والفرث والغدد والطحال والمشيمة والعلباء وذات الأشاجع والفرج والقضيب والأنثيان والمرارة والنخاع والحدقة وخرزة الدّماغ.
وأمّا من غيره فإنّه يحرم عندنا الأرنب والثعلب والضبّ واليربوع وغيرها من المصيدات ممّا ورد النصّ بتحريمه وقيل هي زائدة وهو باطل لشذوذ زيادتها في الإثبات وإنما قال : « عليكم » وعدّاه بعلى لأنّ فيه معنى التفضيل أي ممّا تفضّلن عليكم بإمساكه وفيه دلالة على تحريم ما اصطاده للكافر (3) لقوله « عليكم » بالخطاب للمسلمين.
5 - قوله « وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ » الضمير راجع إلى « ما عَلَّمْتُمْ » والمعنى سموا عليه عند إرساله أو إلى ما أمسكن بمعنى سمّوا عليه إذا أدركتم ذكاته و
ص: 310
الكلّ محتمل لكنّ الأوّل أوفق للمذهب ، ثمّ يستفاد من ظاهرها أحكام :
1 - وجوب التسمية لأنّ الأمر للوجوب.
2 - أنّه لو تركها نسيانا فلا جناح.
3 - لا يباح صيد الكافر لأنّه لا يعرف اللّه حتّى يذكر اسمه ، سواء كان معلّم الكلب مسلما أو كافرا كما أنه مع تسمية المسلم لا اعتبار بمعلّم الكلب وإن كان كافرا ، نعم يكره الصيد بما علّمه مجوسيّ ثمّ اعلم أنّه يجوز أكل ما صاده الصبيّ المميز من الأولاد المسلمين إلحاقا بالأبوين.
قوله « وَاتَّقُوا اللّهَ » أي اجتنبوا أكل ما نهيتم عن أكله فإنّ اللّه يحاسبكم عليه.
الثانية ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) (1).
حمل فقهاء الجمهور قوله و « طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » على عمومه بحيث يدخل فيه الذبائح وغيرها ممّا يصيدونه (2) قالوا واستثنى عليّ عليه السلام منهم نصارى بني تغلب ، وقال : ليسوا على النصرانيّة ولم يأخذوا منها إلّا شرب الخمر ، وكذا قالوا لا يلحق بهم المجوس وإن الحقوا في تقرير الجزية لقوله صلى اللّه عليه وآله « سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب غيرنا كحي نسائهم ، ولا آكلي ذبائحهم » (3) وأمّا أصحابنا فحملوا الطعام هيهنا على الحبوب وشبهها من الجامدات أمّا أو لا فلحكمهم بنجاستهم المانعة من أكل ما يباشرونه وأما ثانيا فلقوله « وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (4) » وذبائحهم لم يذكر اسم اللّه عليها لكونهم غير عارفين به لوصفهم بالشرك في قوله :
ص: 311
« وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ » إلى قوله ( سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (1) ولأنّهم إذا ذكروا اسم اللّه اعتقدوا أنّه أبّد شرع موسى عليه السلام وأنّه والد عيسى عليه السلام وأنّه لم يرسل محمدا صلى اللّه عليه وآله.
إن قلت قوله « وَطَعامُ الَّذِينَ » إلى آخره عامّ وقوله « وَلا تَأْكُلُوا » عام أيضا فليس تخصيص عامّنا بعامّكم أولى من العكس ، قلت : تخصيص عامّكم لا محذور فيه وأمّا تخصيص عامّنا ففيه محذور ، وهو أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، وأيضا قد دللنا على وجوب التّسمية عند إرسال آلة الصيد (2) وعند الذبيحة وأنّ من تركها عمدا لا يحل ذبيحته ، وكلّ من قال بذلك قال بتحريم ذبائح أهل الكتاب وأنّ قوله « وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » مخصوص ، فلو قلنا بالأوّل ولم نقل بالثاني كان خرقا للإجماع.
هذا تقرير ما ذكره الفريقان ، غير أنّ عندي في كلام الأصحاب إشكالا تقريره أنّ الحبوب وغيرها من الجامدات داخلة في الطيّبات في قوله « الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ » وعطف الخاصّ على العامّ نصّ أهل البلاغة أنّه لا يجوز إلّا لنكتة أو فضيلة كعطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة ، فأيّ نكتة هنا اقتضت الإخراج والعطف على قولكم ، نعم النكتة متوجّهة على قول الخصم. وذلك أنّه لمّا ذكر أنه حرّم ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، وأنّ أهل الكتاب مشركون وأنّهم يكفّرون أهل السلام وأنّهم من أهل الخبائث أمكن أن يقال إنّ طعامهم مطلقا ليس من الطيّبات فناسب ذلك إخراجه وعطفه بيانا للرّخصة ، وأمّا على قولكم فانّ ذلك عزيمة وللرخصة مزية في بيان الأحكام ، خصوصا فيما ورد في معرض الامتنان ، وهو هذه الآية ، وأرجو من اللّه أن يفتح عليّ الجواب عن هذا الاشكال بكرمه ومنه.
الثالثة ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا ) (3)
ص: 312
وفي آية أخرى :
( وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا ) (1).
دلّت الآيتان الكريمتان على إباحة أكل ما يصاد من السّمك ، وتقييده بالطريّ ليس مخصّصا له بالتحليل ، للإجماع على إباحة غيره ، وإنّما قيّده بالطراوة لأنّ طيبته في طراوته ، فإذا لبث تغير طراوته ، وذهب طيبه. والآية الكريمة خرجت مخرج الامتنان ، فلا يليق إلّا بما هو لذيذ ، ثمّ اللام في الآية الأولى يجوز أن يكون للتعليل بمعنى أنّ السبب الغائيّ بخلق البحر انتفاع الإنسان به ، ويجوز أن يكون للعاقبة ، بأن يكون خلقه لسبب آخر لكن آل الأمر إلى انتفاعنا به.
واعلم أنّه استدلّ بعض الفقهاء بالآية على أنّ السمك لحم ، وأنه إذا حلف أحد لا يأكل لحما يحنث بالسمك وليس بشي ء لأنّه لحم لغة لا عرفا ، والأيمان مبنيّة على الحقيقة العرفيّة لا اللّغويّة لما تقرّر في الأصول من تقديم العرف على اللّغة لكونه طارئا ناسخا لحكمها.
الرابعة ( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ ) (2).
وأمثالها من الآيات الدالة على الامتنان بخلق الماء ، وإنزاله من السماء فإنّ الجميع دالّ على إباحته وحلّه ، إذ لا امتنان بالممنوع من الانتفاع به شرعا.
الخامسة ( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً
ص: 313
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (1).
دلّت الآيتان على أمور :
1 - إباحة العسل وهو المعني بالشراب.
2 - كونه شفاء من الأمراض لأنّه يقال في مقابلة المرض كقوله « وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ » (2) ويؤيّده قوله صلى اللّه عليه وآله « شفاء أمّتي في ثلاثة : آية من كتاب اللّه ، ومشراط حجّام ، ولعقة من عسل (3) » وفي توجيه الحديث فائدة وهو أنّه صلى اللّه عليه وآله أخبر أنّ شفاء أمّته في هذه الثلاثة أمّا الآية فعلى وجه الخاصية فإنّ لكلامه تعالى خواصّ لا ينكرها من له بصيرة ، فإنّ كلامه تعالى فعل من أفعاله فلا ينكر اشتماله على خاصيّة ليست لغيره كما في باقي أفعاله فإنّ جذب المغناطيس للحديد لا ينكره عاقل ، وأمّا المشراط فعند هيجان الدّم ، وأمّا العسل فإنّه مع الأدوية الحارّة شفاء من البلغم ، وقد يكفي فيه وحده ، ومع الحموضات شفاء من الصفراء ومع الأدهان شفاء من السوداء.
قال بعضهم قلّ معجون يركّبه الأطبّاء يخلو من العسل ، وروي أنّ رجلا قال لرسول اللّه إنّ أخي يشتكي بطنه قال اسقه العسل فذهب ثمّ جاء فقال سقيته فما نفع فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله اسقه عسلا فقد صدق اللّه وكذب بطن أخيك ، فسقاه فبرأ (4).
واعلم أن العسل وإن لم يكن شفاء من كلّ داء لكنّه شفاء من كثير منها ، والحديث المذكور في البطن لا يدلّ على أنّه شفاء من كلّ داء ، لجواز أن يكون قد
ص: 314
عرف صلى اللّه عليه وآله من جهة الوحي أنّ داء أخيه ممّا ينفعه العسل ، فالتنكير في « شفاء » إمّا للتبعيض أو للتكثير مبالغة فيدل على الأكثريّة الكليّة.
3 - في الآية إيماء إلى جواز العلاج من الأمراض فإنّ إباحة الخاصّ لعلّة تستلزم إباحة خاصّ آخر توجد فيه تلك العلّة إلّا ما ورد فيه النهي كقوله صلى اللّه عليه وآله : لا شفاء في محرّم. وهنا فوائد :
1 - الوحي هنا بمعنى الإلهام وقد يقال بمعنى الإشارة كقوله « فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً (1) » وبمعنى الاسرار كقوله « يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً » (2) والوحي الحقيقيّ وحي النبوّة ، والجامع لهذه المعاني كلّها إلقاء شي ء إلى الغير على وجه السرّ.
2 - « من » في « مِنَ الْجِبالِ » للتبعيض أي بعض الجبال ، وبعض الشجر ، وبعض ما يعرشون : أي يسقّفون وسمّى ما تبنيه بيتا تشبيها له ببيت الإنسان ، لما فيه من حسن الصنعة وصحّة القسمة الّتي لا يقوى عليها حذّاق المهندسين ، والثمرات :الأزهار والأنوار ، فإنّ الثمرة اسم لكلّ فائدة يحصل من الشجرة للإنسان أو غيره وقد يستدلّ بذلك على جواز المساقاة شرعا على ما لا فائدة له إلّا الورق والزهر والنّور ، لصدق الثمرة عليه ، وقوله « فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً » أي طرقا موصلة لمأكولك إلى صورة العسل وفيه دلالة على كونه تعالى يفعل بالسبب أو طرقا توصلك إلى الأزهار و « ذُلُلاً » جمع ذلول أي الموطّأة للسلوك ، وقال قتادة إنّها صفة للنحل أو حال عن الضمير في « اسلكي » أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به.
3 - « يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها » فيه التفات عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه في محلّ الانعام عليهم ، قوله « شَرابٌ » احتجّ به من قال أنّ النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة ، فيستحيل في باطنها عسلا ثمّ تقيئه ادّخارا للشتاء ومنهم من زعم أنّها تلتقط بأفواهها أجزاء طيّبة حلوة صغيرة متفرّقة على الأوراق
ص: 315
والأزهار وتضعها في بيوتها ادّخارا للشتاء فإذا اجتمع في بيوتها شي ء كثير منها كان العسل ، وكأنّ هذا القائل فسّر البطون بالأفواه ، وجعل في الكلام إضمارا أي أفواه بطونها أو فسّر البطون بالأفواه مجازا قوله « إِنَّ فِي ذلِكَ » أي في ذلك التدبير من أقدارها على بناء البيوت المحكمة ، وتصيير غذائها المختلف في المرارة والحموضة عسلا حلوا مختلفا ألوانه متّحدا في صورته وطبعه « لَآيَةً » ودلالات على صانع مختار حكيم عالم بالجزئيات والكلّيّات « لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » في أنّه لو كان صادرا عن موجب لما اختلف آثاره ، بل كانت كلّها على نهج واحد.
السادسة ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (1).
أي ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المباحات إذا ما اتّقوا المحرّم ، وثبتوا على الإيمان والأعمال الصالحة ثمّ هنا فوائد :
1 - قيل سبب نزولها أنّه لمّا نزلت آيات تحريم الخمر قالت الصحابة يا رسول اللّه كيف بإخواننا الّذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون من الميسر فنزلت والأصح أنّها نزلت في القوم الّذين تعاهدوا على ترك الطيّبات كعثمان بن مظعون وأصحابه بمعنى أنّه ليس عليهم جناح في تناول الطيّبات والمستلذّات إذا ما داوموا على الإيمان وعمل الصّالحات واتّقاء المحرّمات.
2 - في التكرار المذكور وجوه :
الأوّل : على قول من يقول بقبول الإيمان للزيادة والنقص ، والمراد بالتكرار تزيد الإيمان ، وتفاوت مراتبه.
الثاني : أنّه كرّره ثلاثا باعتبار الأوقات الثلاثة الماضي والحال والاستقبال.
ص: 316
الثالث : أنّه باعتبار الأحوال الثلاث : الاولى باعتبار حاله مع نفسه ، والثانية : باعتبار حاله مع الناس ، والثالثة : باعتبار حاله مع اللّه ، ولذلك بدّل الايمان بالإحسان ، إشارة إلى قوله صلى اللّه عليه وآله في تفسير الإحسان « أن تعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ».
الرابع : باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والمنتهى والوسط.
الخامس : أنّه باعتبار ما يتّقى فإنّه يتّقى ترك المحرّمات حذرا من العقاب وترك الشبهات تحرّزا من الوقوع في الحرام وهي مرتبة الورع وترك بعض المباحات وهي ما يفيد تحفّظا للنفس عن الخسّة ، وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة.
السادس : أنّ المراد تجديد الإيمان والعزم على التقوى ، لتقوى الداعية للمكلّف ويصير الايمان والتقوى ملكتين راسختين في النفس ليس للشبهات عليه فيهما مجال ، بخلاف ما إذا لم يكونا ملكتين ، فإنّ للشبهة والجناح عليه مجالا.
3 - في الآية دلالة على أنّ الأشياء على الإباحة ما لم يعلم فيها وجه من وجوه القبح ، قوله « وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » فيه دلالة على أنّ من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار محبوبا لله.
4 - روي أنّ قدامة بن مظعون شرب الخمر على عهد عمر ، فأراد أن يحدّه فقال له قدامة : إنّه لا يجب عليّ الحدّ وتلا الآية ، فدرأ عنه الحدّ فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فأتى المسجد وفيه عمر فقال له : لم تركت إقامة الحدّ على قدامة فقال تلا عليّ آية وذكرها عمر ، فقال عليه السلام ليس قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرّم اللّه ، إنّ الّذين آمنوا لا يستحلّون حراما فاردد قدامة فاستتبه ممّا قال : فإن تاب فأقم عليه الحدّ وإن لم يتب فاقتله فإنّه قد خرج عن الملّة ، فعرف قدامة الخبر فأظهر التوبة (1).
ص: 317
السابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (1).
روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله جلس للناس ووصف لهم يوم القيامة ، ولم يزدهم على التخويف ، فرقّ الناس وبكوا ، واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا اللّيل ، ولا يناموا على الفراش ، ولا يأكلوا اللحم ، ولا الودك ، ولا يقربوا النساء ولا الطيب ، ويلبسوا المسوح ويرفضّوا الدّنيا ويسبحوا في الأرض ويترهّبوا ويحبّوا المذاكير.
فبلغ ذلك النبيّ صلى اللّه عليه وآله فأتى منزل عثمان فلم يجده فقال لامرأته : أحقّ ما بلغني؟ فكرهت أن تكذّب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأن تبدي على زوجها فقالت يا رسول اللّه إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فأخبرت عثمان بذلك فأتى هو وأصحابه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فقال لهم ألم أنبّأ أنّكم اتّفقتم على كذا وكذا؟فقالوا : ما أردنا إلّا الخير فقال إنّي لم أومر بذلك ثمّ قال إنّ لأنفسكم عليكم حقّا فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا فانّي أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.
ثمّ جمع الناس وخطبهم وقال : ما بال أقوام حرّموا النساء والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين ورهبانا إنّه ليس في ديني ترك اللّحم والنساء ولا اتّخاذ الصوامع إن سياحة أمّتي الصوم ، ورهبانيّتها الجهاد اعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا وحجّوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا شهر رمضان واستقيموا يستقيم لكم فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم فأولئك بقاياهم في الديرات والصوامع ، فأنزل اللّه الآية (2) إذا عرفت هذا فاعلم أنّ في الآية والقصّة دلالة على أمور :
ص: 318
1 - أنّه لا يجوز تحريم ما أحلّه اللّه من الطيّبات ، ولا تحليل ما حرّم اللّه من الخبائث.
2 - أنّ الترهّب والتقشّف ليس من سنن هذه الشريعة الشريفة ، بل من سننها تناول الطيّبات والمستلذّات المحلّلة.
3 - أنّه لا ينعقد العهد واليمين على ترك المندوب ، ولا على ترك مباح الاولى فعله
الثامنة ( كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (1).
قيل لنزولها أسباب :
1 - أنّه لمّا منع اليهود مشروعيّة النسخ نزلت تكذيبا لهم وبيانا لوقوعه.
2 - لمّا نزل قوله تعالى « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » وقوله و « عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ » (2) قالوا لسنا بأوّل من حرّمت عليه هذه الأشياء ، وما هو إلّا تحريم قديم كانت محرّمة على نوح وإبراهيم ومن بعده ، وهلم جرّا إلى أن انتهى التحريم إلينا ، وغرضهم تكذيب شهادة اللّه عليهم بالظلم والبغي وأكل الرّبا فقال تعالى « فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ».
3 - أنّهم طعنوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في تحليل لحوم (3) الإبل وألبانها ودعواه موافقة إبراهيم عليه السلام فنزلت إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - الحل مصدر حلّ الشي ء يحلّ حلّا ولذلك استوى فيه المذكّر والمؤنّث والواحد والمثنّى والمجموع قال اللّه تعالى « لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ » (4)
ص: 319
والمراد كلّ المطاعم لم تزل حلالا لهم قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرّم اللّه عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، ولم يحرّم منها إلّا ما حرمه إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام.
2 - المراد بما حرّمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها. وسبب تحريمه قيل كان به عرق النساء فنذر إن شفي لم يأكل أحبّ الطعام إليه وكان ذلك أحبّه إليه وقيل فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطبّاء.
3 - احتج من جوّز الاجتهاد على الأنبياء بقوله « إِلّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ » حيث أسند التحريم إليه ، ولمانع أن يقول : ذلك بإذن من اللّه سبحانه فهو كتحريمه ابتداء.
التاسعة ( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنّا لَصادِقُونَ ) (1).
هنا فوائد :
المراد بذي الظفر هو كلّ ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل والنعام والبطّ والإوز ، وقيل كلّ ذي مخلب وحافر ، وسمّى الحافر ظفرا مجازا ، أخبر سبحانه أنّه حرّم عليهم كلّ ذي ظفر بجميع أجزائه وأمّا البقر والغنم فحرّم منهما الشحوم واستثنى من الشحوم ثلاثة أنواع الأوّل ما على الظهر ، الثاني ما على الحوايا وهي الأمعاء ، الثالث : ما اختلط بعظم ، وهو شحم الجنب والألية ، لأنّها مركّبة (2) على العصعص وقيل في « الحوايا » أنّها عطف على الشحوم ، و « أو » بمعنى الواو ، فتكون محرّمة والأجود ما قلناه ، وهو عطفها على الظهور فتكون مرفوعة وتكون داخلة في المستثنى لقربه.
ص: 320
2 - في الآية دلالة على حلّ هذه الأشياء في هذه الشريعة ، وإلّا لما كان لتخصيص اليهود بالتحريم فائدة.
3 - في الآية دلالة على جواز النسخ وكونه تابعا للمصلحة واللطفيّة (1).
4 - في قوله « ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ » دلالة على جواز ضم العقاب الدنيويّ إلى العقاب الأخرويّ ، بل وعلى جواز العقاب على الذّنب في الدنيا لا غير ، على قول من يقول بانقطاع عقاب المعاصي كما هو مذهب الحق ، وفيه دلالة على كون التضييق والمشاقّ ألطافا ، وعلى جواز كون منع المنافع لأجل العصيان كما قال صلى اللّه عليه وآله « إنّ الإنسان ليحرم الرّزق بذنب يصيبه (2).
5 - في قوله « وَإِنّا لَصادِقُونَ » من المبالغة والتأكيد في الردّ عليهم ما لا يخفى ، لإتيانه بالجملة الاسميّة ، والتصدير بانّ المؤكّدة للإسناد ، واتباعها باللّام في خبرها : [ لصادقون ]
العاشرة ( وَما لَكُمْ أَلّا تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ) (3)
أي أيّ سبب حصل لكم فيه؟ أي لا سبب لكم في ترك أكل ما ذكر اسم اللّه عليه ، والواو في « وَقَدْ فَصَّلَ » للحال أي لأيّ سبب تركتم أكله ، والحال أنّ اللّه قد فصّل لكم الحلال من الحرام ، وليس هذا من جملته ، وهو إشارة إلى قوله « ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) (4) » الآية « إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ » من الحرام فهو حلال
ص: 321
لكم على وجه الرخصة ، وإنّ كثيرا من الناس ليضلّون فيحرّمون ما أحلّه اللّه بمجرّد أهوائهم لا مستندين إلى علم « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ » أي المتجاوزين الحقّ إلى الباطل ، والحلال إلى الحرام ، وهنا فوائد :
1 - دلّت الآية الكريمة على إباحة ما ذكر اسم اللّه عليه ، وتحريم ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، ودلّ على الثاني قوله تعالى فيما بعد « وَلا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ » وهو نصّ في تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا وإليه ذهب داود وأحمد وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله صلى اللّه عليه وآله « ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم اللّه عليه » (1) وقال أصحابنا وأبو حنيفة بتحريم ما تركت التسمية فيه عمدا لا نسيانا لقوله صلى اللّه عليه وآله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان » (2) والحديث محمول على النسيان هذا إن صحّ سنده وأما الآية فأوّلها الحنفيّة بالميتة ، وجعلوا التسمية اسما للمذكّى أو أنّها محمولة على ما أحلّ لغير اللّه به ، لقوله « وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ » فإنّ الفسق عبّر به عن ذلك كما تقدّم ، والأولى حملها على إضمار العمد أو التخصيص به ، لما تقرّر في الأصول أنّها خير من النقل.
2 - الواجب في التسمية ذكر اللّه تعالى مع التعظيم مثل بسم اللّه أو اللّه أكبر أو سبحان اللّه أو الحمد لله أو لا إله إلّا اللّه ولو اقتصر على لفظة « اللّه » لم يجز على الأقرب ويجب كونها بالعربيّة مع الاختيار ، وصادرة عن الذابح فلو سمّى غيره لم يحلّ.
3 - المراد بالاضطرار المستثنى في الآية ما يخاف معه التلف أو المرض أو الضّعف عن متابعة الرفقة مع الضرورة إلى المرافقة ، أو عن الركوب مع الضرورة إليه ولا يشترط الاشراف على الموت ، بل يباح إذا خيف ذلك وإذا أبيح له وجب ذلك لوجوب حفظ النفس ثمّ يتناول قدر ما يزول معه الضرر من غير زيادة عملا بالعلّة.
4 - هذا العام وهو قوله « إِلّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ » مخصوص بالنسبة إلى الفاعل
ص: 322
وإلى المستباح : أمّا الأوّل بأن لا يكون باغيا ولا عاديا لقوله « فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » والباغي هو الخارج على الإمام أو الّذي يبغي الميتة أي الراغب في أكلها والعادي هو قاطع الطريق أو الّذي يعدو شبعه ، ونقل الطبرسي أنّه باغي اللّذّة والعادي سدّ الجوعة ، أو عاد بالمعصية أو باغ في الإفراط في التقصير ، وعلى التفسير بالمعصية لا يباح للعاصي بسفره كطالب الصيد لهوا وطربا ، وتابع الجائر والآبق ، ولو اكره على الأكل فهو كخائف التلف وأمّا الثاني فهو كلّ ما لا يؤدّي إلى قتل معصوم الدّم كمسلم أو ذمّي أو معاهد لا ما أباح الشارع دمه كاللّائط والزاني المحصن والحربيّ والمرتدّ عن فطرة أمّا الخمر فيحرم التداوي بها إجماعا بسيطا ومركّبا وأمّا دفع التلف فقيل بالمنع أيضا والحق عدمه بل يباح دفعا للتلف وكذا باقي المسكرات ، نعم لو وجد الخمر وباقي المسكرات أخّر الخمر ، هذا كلّه مع عدم قيام غير الخمر مقامه وأما مع القيام فلا يجوز مطلقا.
وفيه آيات :
الاولى ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً ) (1).
الموالي هنا الورّاث فالتقدير حينئذ : جعلنا لكلّ إنسان موالي يرثونه ممّا ترك ، ومن للتعدية ، والضمير في « ترك » للإنسان الميّت أي يرثونه ممّا تركه و « الوالدان » خبر مبتدأ محذوف أي هم الوالدان والأقربون ويترتّبون (2) الأقرب فالأقرب ، لقرينة معنى القرب ، وقال الزمخشري : تقديره ولكلّ شي ء [ جعلنا ] ممّا
ص: 323
ترك الوالدان والأقربون موالي يرثونه ويحوزونه أو تقديره ولكلّ قوم جعلناهم موالي نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون وفيهما نظر (1) أمّا الأوّل فلأنّه يفهم منه حينئذ أنّ لكلّ صنف من أصناف التركة وارثا وهو فاسد ، لأنّ الورّاث مشتركون في كلّ جزء من كلّ صنف من التركة وأمّا الثاني فلأنّ الوالدين والأقربين هم الورّاث لا الموتى ، بدليل أنّه عطف عليهم « وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ » وهم الورّاث لأنّه قال « فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » وقرئ عقدت وعاقدت ، والمعنى واحد والأيمان هنا جمع يمين اليد لأنّهم كانوا عند العهد يمسحون اليمنى باليمنى ، فيقول العاقد : دمك دمي ، وثأرك ثاري ، وحربك حربي ، وسلمك سلمي : ترثني وأرثك ، وتطلب بي واطلب بك وتعقل عنّي وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث حليفه وهذا من باب إسناد الفعل إلى آلته ، وقيل جمع يمين الحلف فيكون من باب إسناد الفعل إلى سببه إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - كانوا في الجاهليّة يتوارثون بهذا العقد دون الأقارب ، فأقرّهم اللّه عليه في مبدء الإسلام ثمّ نسخ ذلك فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة فروي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله آخى بين المهاجرين والأنصار لمّا قدم المدينة فكان المهاجري يرث الأنصاري وبالعكس ولم يرث القريب ممّن لم يهاجر ونزل في ذلك « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّى يُهاجِرُوا (2) » ثم نسخ ذلك بالقرابة والرحم والأنساب والأسباب لقوله « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ (3) ».
2 - هذا الحكم أعني الميراث بالمعاهدة والمعاقدة ، وهو المسمّى بضمان الجريرة
ص: 324
منسوخ عند الشافعيّ مطلقا لا إرث له ، وعند أصحابنا ليس كذلك ، بل هو ثابت عندنا عند عدم الوارث النسبيّ والسّببيّ لما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنّه خطب يوم الفتح فقال ما كان من حلف في الجاهليّة فتمسّكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلّا شدّة ولا تحدثوا حلفا في الإسلام (1) » وعند أبي حنيفة إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صحّ.
3 - على ما قلناه من بقاء حكم الإرث بالتعاهد ، يكون الآية غير منسوخة جملة بل تكون محكمة لكنّ الإرث فيها مجمل يفتقر إلى شرائط ومخصّصات تعلم من موضع آخر من الكتاب أو من السنّة الشّريفة.
وقال بعضهم : المعاقدة هنا هي المصاهرة ، فيكون إشارة إلى إرث الزّوجين واحتاره المعاصر ، وفيه بعد لأنّه عدول عن الظاهر ، وعن قول الأكثر.
الثانية ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً ) (2).
قد ذكرنا أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يورّثهم بالهجرة لا بالقرابة تأليفا لقلوبهم كإسهام الكفّار من الصّدقة وأنّه نسخ ذلك بهذه الآية ، وبآيات الإرث ، والمعنى أنّ اولي الأرحام بعضهم أولى بميراث بعضهم من المهاجرين وغيرهم ، ثمّ استثنى الوصيّة للأولياء بقوله « إِلّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً » أي أصدقائكم من المؤمنين والمعروف الوصيّة وعدّى الفعل بإلى لتضمّنه معنى الاسداء ، وقال بعضهم في الآية دلالة على أنّه لا وصيّة لوارث وليس بشي ء.
الثالثة ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ) (3).
ص: 325
كان الجاهليّة لا يورّثون إلّا من ذاد عن الحريم بالصفاح ، وطاعن عنهم بالرماح وقيل كانوا يورّثون الرجال دون النساء ، فنزلت هذه الآية وأمثالها ردّا عليهم ، وسبب نزولها أنّ الأوس بن ثابت الأنصاريّ مات وترك زوجة مسمّاة بأمّ كحّة وثلاث بنات ، فقام ابنا عمّه سويد وعرفجة ، وهما وصيّاه وأخذا ماله ولم يعطيا زوجته وبناته شيئا وكانوا كما قلنا عنهم لا يورّثون النساء ، ولا الصغار.
فجاءت أمّ كحّة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في مسجد الفضيخ وحكت القصّة ، واشتكت من حاجتهنّ إلى النفقة ، فدعاهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالا يا رسول اللّه ولدها لا يركب فرسا ولا ينكأ عدوّا فنزلت ، وأثبت لهنّ الميراث في الجملة ، ولم يتبيّن كيفيّة التوارث ، فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لا تحدثا في مال أوس شيئا حتّى انظر ما ينزّل اللّه فانّ اللّه جعل لهنّ ميراثا ولم يبين كم هو؟ فنزل « يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ » الآية.
وفي الآية دلالة على بطلان التعصيب لأنّه فرض الإرث لصنفي الرجال والنساء فلو جاز أن يقال للنساء لا يرثن في موضع لجاز أن يقال للرجال لا يرثون واللّازم باطل وكذا الملزوم ، وبيان الملازمة بنصّ الآية ، وقوله « مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً » يؤكّد ذلك ، أي النصيب ثابت في كلّ جزء ممّا ترك.
إن قلت : هذا وارد عليكم لأنكم تقولون إنّ الأخ لا يرث مع البنت ، قلنا إنّما قلنا ذلك لبعد الدرجة والآية يراد بها توارثهما مع التساوي في الدرجة لا مطلقا.
الرابعة ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ
ص: 326
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) (1).
هنا أبحاث :
1 - في تفسير الآية وكلماتها :
« يُوصِيكُمُ » أي يأمركم ويعهد إليكم في ميراث أولادكم وإنّما لم يقل للذكر من أولادكم لأنّ الحكم المبهم إذا أبهم ثمّ فسير كان أوقع في النفس وأحفظ لجواز فوات المقصود لو وقع مفسّرا ابتداء وتقديره للذكر منهم ، فحذفت لدلالة الكلام عليه كما حذف في قولهم « البرّ الكرّ بستّين » وقدّم الذّكر لشرفه ولذلك ضوعف حظّه كما ضوعف عقله ودينه والضمير في « كُنَّ نِساءً » للورثة وتأنيثه بتأنيث الخبر كما في قولهم من كانت أمّك وإنما قال « كانَتْ واحِدَةً » ولم يقل بنتاكما قال « نساء » لأن الغرض هنا الامتياز في العدد ، وهناك الامتياز في الصنف ، والضمير في « أبويه » للميّت يفسّره سياق الكلام. و « لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا » بدل منه بدل البعض عن الكلّ وباقي الفوائد تأتي في محلّها.
2 - دلّت الآية الكريمة على اجتماع الأولاد والأبوين في الميراث فيكون النوعان في مرتبة واحدة ، يرث كل واحد من النوعين مع صاحبه ، ولو انفرد أحد النوعين عن الآخر حاز الإرث ، ثمّ إنّه تعالى ذكر أحوال الذكور مع الإناث وأحوال الإناث منفردات وحال الأبوين منفردين وحال الأبوين مع الأولاد ، ولم يذكر حال الذكور منفردين ، فيرد سؤال عن علّته والجواب أنه لمّا ذكر الإناث منفردات ، وفصل بين الواحدة والأكثر ، علم أنّ الذكور يتساوون وإلّا لفصّلهم كما فصّل الإناث وحينئذ لم يحتج إلى ذكرهم.
3 - أنّه ذكر أنّ الواحدة من الإناث لها النصف ، وأنّ النساء فوق اثنتين
ص: 327
لهنّ الثلثان ، ولم يذكر الاثنين فما وجهه ، والجواب أنّهم اختلفوا فيهما فقال ابن عبّاس لهما النصف لظاهر الآية وهو قوله « فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ » وقال الباقون وهو الحق أنّ حكمهما حكم ما زاد وهو أنّه لهما الثلثان لوجوه الأوّل النص عن أهل البيت عليهم السلام وإجماع الطائفة بل إجماع الأمّة الثاني : أنّه لو كان لهما النصف لكان التقييد بالواحدة ضائعا الثالث أنّ البنت الواحدة لهما مع أخيها الثلث إذا انفردت فبالأولى أن يكون لها مع أختها الثلث فيكمل لهما الثلثان الرّابع أنّه أوجب للأختين الثلثين ، والبنات أقرب وأمسّ رحما من الأختين فيكون لهما أيضا الثلثان على وجه الأولى.
4 - ولد الولد يقوم مقام أبيه ، ويرث ميراثه ، قيل لأنّه ولد ، ولهذا حرمت بنت البنت وبنت الابن لدخولهما في حكم « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ (1) » ولأنّه تحرم زوجته على جدّه وكذا تحرم عليه منكوحة الجدّ ، ولدخوله في في الوقف الآن لو وقف على بني هاشم وبني عليّ وإلّا لبطل الوقف ولا قائل به ، وكذا نقول في الوصيّة.
كذا قال الراونديّ والمعاصر وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنّه لو كان ولدا حقيقة لشارك الولد في الميراث ، واللّازم باطل إجماعا فكذا الملزوم وأمّا ثانيا فلصدق النّفي عليه وهو ينافي الحقيقة ، وأمّا ثالثا فلضعف متمسّكهم فانّ التحريم فيما ذكروه مستفاد من خارج وكذا الدخول في الوقف مستفاد من القرينة.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يرث كلّ منهم نصيب من يتقرّب به ، فلبنت الابن الثلثان ، ولابن البنت الثلث لو اجتمعا ، وقال المرتضى بالعكس والأكثر على ما قلناه لتضافر الروايات بذلك ، وانعقاد الإجماع بعده على ما قلناه.
5 - أنّه جعل للأبوين لكلّ واحد منهما مجتمعا أو منفردا السدس مع وجود الولد ، سواء كان ذكرا أو أنثى. لإطلاق لفظه ، ثمّ الولد إن كان ذكرا حاز الباقي إجماعا وإن كان أنثى واحدة ، فلها نصف الأصل ، يبقى السدس يردّ عندنا
ص: 328
على الأبوين والبنت ، أخماسا إلّا مع الاخوة ، فيرد أرباعا على البنت والأب ، وقال الفقهاء إن كان الأب موجودا كان الباقي له ، لأنّه عصبة ، وإلّا فإنّه يكون للعصبة من الاخوة والأخوات والأعمام وأولادهم الذكور إلّا أولاد الأخت فإنّهم ليسوا عصبة وسيأتي دليلهم على التعصيب ، وأمّا مع الاثنتين فصاعدا فلا فاضل في التركة إلا مع فقد أحدهما فيكون الزائد عندهم للعصبة.
واعلم أنّ ولد الولد يقوم أيضا مقام أبيه في مقاسمة الأبوين خلافا لبعض أصحابنا فإنّهم خصّوا الإرث بالأبوين والإجماع على خلافه.
6 - مع عدم الولد وإن نزل الأمّ الثلث كما نصّت الآية الكريمة عليه إلا أن يكون هناك إخوة أقلّهم ذكران أو أربع إناث ، أو أربع خناثى ، أو ذكر وأنثيان فيكون لها السدس من الأصل فيهما والباقي بعد السدس والثلث في الصورتين يكون للأب لإجماع أصحابنا ، ولما يأتي من بطلان التعصيب.
هذا لو وجد الأبوان أمّا مع فقد أحدهما فإن كان الموجود الأب فالمال له إجماعا وإن كان الام فلها الثلث والباقي يردّ عليها عندنا ، وقال الفقهاء إنّ الزائد على الثلث يكون للاخوة بناء على قولهم بالتعصيب ، فعندهم أنّ الاخوة يحجبون الأمّ لأنفسهم إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - يشترط عندنا لحجب الاخوة شروط : الأوّل : وجود الأب ، الثاني :العدد المذكور ، الثالث أن لا يكونوا كفرة ولا قتلة ولا رقّا الرابع : إن يكونوا كلّهم منفصلين لا حملا ، الخامس : كونهم للأبوين أو للأب.
2 - إنّما حجبوا الامّ توفيرا لنصيب الأب لكونه ذا عيلة بوجودهم ، فاقتضت الحكمة التوفير عليه لمكان نفقتهم.
3 - يرد هنا سؤال ، وهو أنّكم قلتم إنّ الأخوين يحجبان ، وهو مناف اللفظ الجمع الّذي هو منطوق الآية وأجيب بأنّه لمّا حصل الإجماع على ذلك وجب التأويل بأنّه لو أتى بلفظ التثنية لم يتناول الجمع لا حقيقة ولا مجازا بخلاف لفظ الجمع فإنّه يغلب على المثنّى كما يغلب المذكّر على المؤنّث ، والمخاطب على الغائب ، و
ص: 329
في الجملة الأشرف على الأخسّ والجمع أشرف لأنّ فيه معنى الزيادة ، ولذلك شرط في جمع السلامة ما لا يشترط في المثنّى من العقل وغيره ، لا أنّ المثنى جمع لغة كما قال الزمخشري لأنّ العرف طار على اللّغة ، وقد ثبت في الأصول تقدم الحقيقة العرفيّة ، ولذلك إذا قال زيد : « فلانة طالق » حمل على إزالة قيد النكاح لا غير ، من إزالة الرقّ والحبس وغير ذلك ، هذا ونقل عن ابن عبّاس أنّه لم يحجب إلّا بثلاثة فما زاد ، والإجماع على خلافة.
4 - قوله « لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً » الحق أنّه أراد النفع الأخرويّ بأن يشفع بعضهم في بعض ، فان كان الوالد أرفع درجة شفع أن يرفع ولده إليه ، وإن كان الولد أرفع سأل اللّه بأن يرفع أباه إليه ، وقيل النفع الدنيوي وقيل المراد وجوب النفقة من الطرفين إذا كان أحدهما محتاجا دون الآخر أعني الأب والابن وقيل لا تدرون أيّكم يموت قبل صاحبه فينتفع الآخر بما له.
الخامسة ( وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1).
لمّا فرغ من ميراث الوالدين والأولاد ، شرع في بيان إرث الأزواج والكلالات ، وقدّم الأزواج لأنّهم ورّاث مع جميع الطبقات ، والزوج يطلق لغة على الرّجل والمرأة بالإضافة إلى الآخر ، وفي العرف يخصّ بالرّجل وتتميّز الأنثى بالتاء ، فيقال زوج وزوجة ، وإنما جعل للزوج النصف وللمرأة الربع للعلّة المتقدّمة ، وأجاب الأئمّة عليهم السلام بوجوه :
ص: 330
الأوّل جواب الصادق عليه السلام لمّا سأله ابن أبي العوجاء : أنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا عقل إنما ذلك على الرّجال.
الثّاني جواب الرّضا عليه السلام أنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت يعني المهر والرجل يعطي فلذلك وفّر على الرّجل ولأنّ الأنثى في عيال الذكر إن احتاجت وعليه أن يعولها وعليه نفقتها وليس على المرأة أن تعول الرجل ولا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفّر على الرّجال لذلك وذلك قوله تعالى « الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ » الآية (1).
الثالث جواب الصادق عليه السلام لمّا سأله عبد اللّه بن سنان عن ذلك فقال عليه السلام لما جعل لها من الصّداق (2).
الرابع جواب العسكريّ عليه السلام لمّا سأله الفهفكيّ على ما رواه أبو هاشم الجعفري ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما ويأخذ الرّجل القوي سهمين؟
فأجاب عليه السلام لأنّ المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ولا معقلة وإنما ذلك على الرّجال قال السائل فقلت في نفسي قد كان قيل لي أنّ ابن أبي العوجاء سأل الصادق عليه السلام فأجابه بمثل هذا الجواب ، فأقبل عليه السلام عليّ فقال : نعم هذه مسئلة ابن أبي العوجاء والجواب منّا واحد إذا كان معنى المسئلة واحدا (3) إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - المراد بالولد في قوله « إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ » أعم من أن يكون الولد من الزّوج الوارث أو من غيره من الأزواج وكذلك الولد من الزّوج أعم من أن يكون من المرأة الوارثة أو من غيرها من الزوجات أو الإماء ، وكذلك أعمّ من كونه ذكرا أو أنثى وكذا ولد الولد يقوم مقام أبيه.
2 - يشترط في الولد هنا أن يكون وارثا فلو كان كافرا أو قاتلا أو رقّا لم يكن لوجوده تأثير.
3 - نصيب الزوجة إن كانت واحدة فهو لها ، وإن كنّ أزيد اشتركن فيه ربعا كان أو ثمنا ، لظاهر الآية والإجماع.
ص: 331
4 - استحقاق الزّوجة عندنا مخصوص بالزّوجية الدائمة فلا ترث بالمنقطع على الأصح.
5 - إن كانت الزوجة ذات ولد من الميّت ورثت من جميع تركته وإن لم يكن لها ولد منه ورثت ممّا عدا العقار عينا وأمّا العقار فلا ترث من رقبة الأرض شيئا لا عينا ولا قيمة ، وأمّا الأبنية والأخشاب والأشجار فيعطى منها القيمة ربعا أو ثمنا على القول الأصحّ لأصحابنا ، وهذا تخصيص انفردت به الإماميّة لما دلت عليه رواياتهم عن أئمتهم عليهم السلام.
6 - إرث الزوجة عندنا غير مشروط ببقاء الزوجيّة إلى الموت فإنّها قد ترث وإن ارتفعت الزوجيّة كما في المريض يطلّق في مرضه فانّ زوجته المطلقة ترث ما لم تخرج السنة أو يبرء من مرضه أو تتزوج ، على ذلك إجماع الإمامية.
السادسة ( وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) (1).
الكلالة القرابة ، واشتقاقها إمّا من الكلال وهو نقصان القوّة الجسمانيّة أو من الاكليل الّذي يحيط بالرأس والوسط خال ، ويطلق على الوارث والموروث من جهة أنّ كلّا منهما منتسب إلى الآخر ، وانتصابها هنا قيل خبرا لكان و « رجل » اسمها و « يورث » صفة الرّجل ، وقيل على أنّه مفعول له ، مثل قعدت عن الحرب جنبا ، والأجود أنّه على التميز لأنّ « يورث » يحتمل وجوها رفع إبهامه بقوله « كلالة ».
ثمّ إطلاقها على الموروث بمعنى أنّه لم يخلّف والدا ولا ولدا ، وعلى الوارث فقيل من ليس بوالد ولا ولد ، والأصح أنّه القرابة من جهة العرض لا لطول كالاخوة
ص: 332
والأخوات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات وأولاد الجميع ، والمراد هنا هم الاخوة ممّن يتقرّب بالأمّ خاصّة أمّا أولا فلقراءة أبيّ وسعيد بن مالك « وله أخ أو أخت من الامّ » وأمّا ثانيا فلأنّه تعالى جعل للكلالة في آخر السّورة كما يجي ء للأختين الثلثين ، وللإخوة الكلّ ، وهنا جعل للواحد السدس وللأكثر الثلث فعلم أنّ الاخوة هنا غير الاخوة هناك ، وحيث إنّ المقدّر هنا نصيب الامّ كما تقدّم ناسب أن يكون المراد هنا الإخوة من قبلها ، وأمّا ثالثا فلروايات أصحابنا المتضافرة وأمّا رابعا فلأنّه إجماعيّ وهنا فوائد :
1 - أنّ الزائد عن المذكور من السدس والثلث يرد على الوارث منهم إذا لم يكن سواه عندنا وعند الفقهاء لأقرب عصبته كما يجي ء.
2 - هذه المرتبة أعني مرتبة الاخوة هي المرتبة الثانية ، بعد مرتبة الأبوين والأولاد ، لا ينتقل الإرث إليها إلّا بعد عدم المرتبة الأولى بكلّيّتهم ، وكذا لا ينتقل عن هذه إلى الثالثة إلّا بعد عدمها بكلّيّتها.
3 - قد تكرّر ذكر الوصيّة وأنّها مقدّمة على الميراث تأكيدا لحالها وقوله « غَيْرَ مُضَارٍّ » حال من يوصي بها و « المضارّة في الوصيّة » هو أن يوصي بأكثر من ثلث ماله أو يقرّ بدين ليس بحقّ عليه ، قصدا لمضارّة الوارث ودفعه عن الإرث.
4 - قوله « وَصِيَّةً مِنَ اللّهِ » نصب على المصدريّة » أي يوصيكم اللّه وصيّة كقوله فيما تقدّم « فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ ». « وَاللّهُ عَلِيمٌ » بنيّاتكم أي يعلم قصدكم في الوصيّة أنّها لوجه اللّه أو لأجل المضارّة « حَلِيمٌ » أي يتجاوز عن قصدكم المضارّة ولا يستعجل بعقوبتكم.
السابعة ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
ص: 333
الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).
الكلالة قد عرفت أنّها قد تصدق على الإخوة من الأبوين وعلى الاخوة من أحدهما ، وقد تقدّم ذكر كلالة الأم ، والمراد هنا على الاخوة من الأبوين أو من الأب فنقول إذا اجتمع الكلالات كلّهم كان لمن تقرّب بالأمّ السدس إن كان واحدا والثلث إن كانوا أكثر ، والباقي للمتقرّب بالأبوين ويسقط المتقرّب بالأب ، لكنّه يقوم مقام المتقرّب بالأبوين عند عدمهم ، ويرث نصيبهم وإن عدم المتقرّب بالأمّ كان المال للمتقرّب بالأبوين ، ومع عدمهم للمتقرّب بالأب كما قلناه.
وقد قلنا فيما مضى أنّه إذا لم يكن سوى المتقرّب بالأمّ أخذ ما سمّي له من الثلث أو السدس فرضا والباقي بالردّ عليه عند أصحابنا ، وعند الفقهاء للعصبة ، وكذا نحن نقول أيضا في الأخت الواحدة من الأبوين ، أو الأختين فصاعدا لها أو لهنّ النصف أو الثلثان والباقي يرد عليها أو عليهنّ ، وعندهم للعصبة.
وهنا فوائد :
1 - في قوله « وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ » دلالة على بطلان قول العامّة بارث الأخ النصف مع البنت لأنّه شرط في إرثه انتفاء الولد ، والبنت ولد بدليل قوله « يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » فلا يكون الأخ وارثا مطلقا حينئذ لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه ، فلو ورث النصف لزم مخالفة الكتاب.
2 - في قوله « وَهُوَ يَرِثُها » دلالة على أنّ الأخ يرث بالفرض للنصّ على أنّه مع عدم الولد يكون إرثها كلّه له ، فيكون من أصحاب الفروض.
3 - أولاد الاخوة والأخوات عندنا يقومون مقام آبائهم ، ويرث كلّ نصيب من يتقرّب به.
4 - الأجداد عندنا في مرتبة الاخوة ، فإذا اجتمعوا معهم كان الجدّ للأب
ص: 334
كالأخ له ، والجدّة له كالأخت له ، والجد للأمّ كالأخ منها ، وكذا الجدّة.
5 - المرتبة الثالثة من مراتب الإرث الإمام والأخوال عندنا وعند بعض فقهاء العامة ، ليس في الكتاب دلالة صريحة على إرثهم ، نعم يمكن الاستدلال على ذلك بآية اولي الأرحام فإنّها عامّة في كلّ ذي رحم ، وهؤلاء ذوو أرحام ، وكذا هذه الآية دليل على الردّ على أرباب الفروض ، ولإجماع الكلّ على أنّها إذا دلّت على الإرث وجب مراعاة الأقرب فالأقرب ، ولا أقرب من أرباب الفروض ، وإلّا لقدّمه اللّه عليهم هذا خلف وأمّا دلالتها على الإرث فقد تقدّم ، هذا مع إجماع الطائفة المحقّة الّذين دخل فيهم المعصوم على ذلك ودلالة المتواتر من الأحاديث عن الأئمّة عليهم السلام أيضا على ذلك ، وأمّا تفاصيل إرثهم فعلم من السنّة الشريفة ، ومن بيان الأئمة عليهم السلام.
الثامنة ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (1).
مساواة التركة للسهام ممّا لا بحث فيه كأبوين وابنتين ، وأمثالهما وإنّما البحث فيما إذا زادت التركة عن السهام أو نقصت.
والأول مسئلة التعصيب ، وهو الرد على العصبة دون أرباب الفرض ، كما قاله المخالفون ، واستدلّوا عليه بهذه الآية ، ووجه الدلالة أنّ زكريّا عليه السلام سأل وليّا ولو لا التعصيب لم يخصّ السؤال به ، بل قال وليا أو وليّه فلمّا خصّصه به دلّ على أنّ بني عمّه يرثونه مع الوليّه ، فلذلك لم يطلبها ، واستدلّوا أيضا بما رووه عن طاوس عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال « ألحقوا بالأموال الفرائض فما أبقت الفريضة فلأولى عصبة ذكر (2) ».
ص: 335
والجواب عن الآية أن تخصيص السؤال لفوائد الاولى أنّ الذّكر أحبّ إلى طباع البشر من الأنثى ، الثانية أنّه طلبه للإرث ، والقيام بأعباء النبوّة معا ، ولا شك أنّ ذلك غير متصوّر في النساء لأنّهنّ ناقصات عقل وحظّ ودين ، الثالثة : أنّه أراد الجنس الشامل للذّكر والأنثى ، وعن الخبر بأنّه مطعون على سنده ، وقد أنكره ابن عبّاس كما رواه قاربة بن مضرب ، قال قلت لابن عباس روى أهل العراق عنك وعن طاوس أنّ ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر؟ قال من أهل العراق أنت؟ قلت : نعم؟ قال أبلغ أنّي أقول أنّ قول اللّه عزوجل « آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ » وقوله « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ » وهل هما إلّا فريضتان وهل أبقتا شيئا؟ ما قلت بهذا ولا طاوس يرويه ، قال قاربة : فلقيت طاووسا فقال : لا واللّه ما رويت هذا وإنّما الشيطان إلقاء على ألسنتهم (1) وهذه الرواية لم ترو إلّا عن طاوس.
والثاني مسئلة العول كأبوين وبنتين وزوج أو زوجة وأمثاله فإنّ أصل الفريضة من ستّة فأصحابنا يعطون الأبوين السدسين والزوج الرّبع ، ولا ربع صحيح هنا فيصير من أربعة وعشرين للأبوين ثمانية ، وللزّوج ستّة إن كان وللزوجة ثلاثة إن كانت والباقي وهو عشرة أو ثلاثة عشر للبنتين فيدخل النقص عليهما وأمّا المخالف فيعيل الفريضة على تقدير الزوج إلى ثلاثين فيعطي البنتين ستّة عشر والأبوين ثمانية ، والزّوج ستّة ، وعلى تقدير الزّوجة إلى سبعة وعشرين للأبوين ما تقدّم ، وللزّوجة ثلاثة ، فيصير ثمنها تسعا
ويستدلّون على ذلك بالقياس على تركة لا تفي بالدّيون ، فإنّه يدخل النقص على الجميع ، وبما رواه سماك ابن حرب عن عبيدة السّلمانيّ قال كان عليّ عليه السلام على المنبر فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين رجل مات عن ابنتيه وأبويه وزوجة فقال علىّ عليه السلام « صار ثمن المرأة تسعا » وبأنّ عمر حكم بالعول ولم ينكر عليه أحد فصار إجماعا.
ص: 336
واستدلّ أصحابنا بوجوه الأوّل أنّه لا بد من مخالفة ظاهر آيات الإرث وكلّما كانت المخالفة أقلّ كان أولى ، وهو قولنا. الثاني : إجماع الطائفة المحقّة وهو حجة عندنا الثالث : تواتر الأحاديث عن الباقر والصّادق عليهما السلام وأنّ ذلك في كتاب الفرائض بإملاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وخطّ علي عليه السلام وأنّ فيه أنّ السهام لا تعول. الرابع : أنّ كل واحد من الأبوين والزّوجين له سهمان أعلى وأدنى ، وليس للبنت والبنتين والأختين كما قلنا إلّا سهم واحد ، فإذا دخل النقص عليهما استوى ذوو السهام في ذلك.
وأجابوا عن حجّة الخصم أمّا عن القياس فببطلانه عندنا وعلى تقدير تسليمه نقول إنّما دخل النقص في الديون لأمر غير حاصل هنا وهو الترجيح من غير مرجّح وأمّا هنا فالمرجّح موجود ، وهو ما ذكرناه من أنّ البنتين ليس لهما النصيب الأدنى بخلاف الزّوجين والأبوين ، وأمّا عن الخبر فانّ عليا عليه السلام أجاب على جهة الإنكار على القائلين بالعول ، لإجماع أهل بيته عليهم السلام على أنّه لم يكن قائلا بالعول بل منكرا له ، وأمّا حكاية عمر فبمنع الإجماع ، وبأنّ السكوت لا يدل على الموافقة ولا ظهار ابن عبّاس المخالفة بعد عمر ، وقال هبته وكان رجلا مهيبا.
التاسعة ( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (1).
قيل : هذه الآية منسوخة بآية الإرث بالنسب وقيل بل هي محكمة وإنّه يستحب للورثة حين اقتسامهم الرّضخ لمن لا سهم له من الأقارب والجيران والمساكين واليتامى وعن سعيد بن جبير أنّ أناسا يقولون نسخت ، واللّه ما نسخت ولكنّه ممّا يتهاون به الناس ، وقيل : إنّ ذلك مختصّ بالعين أمّا الأرضون والرقيق فلا ، بل يقولون حينئذ القول المعروف هو الاعتذار ، وقيل العذر عن مال الطفل لو كان فيهم صغير يعتذر وليه بأنّه لو كان لي لأعطيتكم ، وقيل الخطاب للمريض إذا حضرته أمارات
ص: 337
الموت وأراد قسمة أمواله والإيصاء بها أن يفعل ذلك ، والأوّل أشهر وقرينة الخطاب تدلّ عليه.
واعلم أنه وقع الإجماع ، ودلّت السنّة الشريفة ، وبيان الأئمّة الصادقين على شرائط الإرث وعلى موانع له كالكفر والرقّ والقتل ، فيكون فوات الشرط ووجود المانع كالمخصّص لعموم الآيات المذكورة ، فتكون من العمومات المخصّصة وهو المطلوب.
الحدّ يقال لغة الحاجز بين الشيئين ، ويقال أيضا للمنع ومنه قيل للبوّاب حدّاد ، ويقال لمنتهى الشي ء ، ومنه يقال حددت الدار أحدّها حدّا أي بيّنت منتهاها ، وشرعا هو إيقاع عقوبة قدّرها الشارع للمكلّف على ارتكاب معصية ، ويمكن أخذه من المعنى الأوّل لكونه حاجزا بين أكثر العقلاء وبين ارتكاب المعصية ومن الثاني لأنّ فيه معنى المنع ، وعن الثالث لأنّه عقوبة لها قدر وغاية لا يجوز التجاوز عنه وهو أقسام :
وفيه آيات :
الاولى ( وَاللّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) (1).
ص: 338
هنا فوائد تتبعها أحكام :
1 - قيل المراد بالفاحشة المساحقة ، والأكثر أنّ المراد الزنا ، فعلى هذا قيل المراد المحصنة وهي المراد بالثّيب (1) لأنّه أضافهنّ إضافة زوجيّة إذ لو أراد غير الزوجات لقال من النساء.
2 - ( فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) فيه دلالة على نصاب الشهادة ، واشتراط الإسلام والذكورة على تفصيل يأتي.
3 - « فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ » قيل المراد صيانتهنّ عن مثل فعلهنّ والإمساك كناية عنه ، والأكثر أنّه على وجه الحدّ على الزنا ، وكان ذلك في أوّل الإسلام ثمّ نسخ بآية الجلد ، وقوله « حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ » أي ملك الموت ، حذف المضاف (2) للعلم به ، بقرينة استحالة استناد التوفّي إلى الموت لكونهما بمعنى واحد.
4 - « أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً » قيل السبيل النكاح المغني من السّفاح ، وهذا لا يتم على تقدير إرادة المحصنات وقيل السبيل الحكم الناسخ ، ولهذا لما نزلت آية الجلد قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قد جعل اللّه لهنَّ سبيلا » واحتمال كونه التوبة لا دليل عليه لكنّه محتمل والجعل حينئذ كناية عن التوفيق.
الثانية ( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً ) (3).
هنا فوائد :
1 - قال أبو مسلم : المراد اللّواط ، لإتيانه بلفظ التذكير ، وأكثر المفسّرين على إرادة إتيان الزّنا والتثنية للفاعل والمرأة وغلب التذكير في العبارة.
ص: 339
2 - قيل المراد بالأذى التوبيخ والاستخفاف فعلى هذا لا يكون منسوخا لأنّه حكم ثابت مطلقا بل المنسوخ الاقتصار عليه ، وعلى قول أبي مسلم يمكن حمله على القتل لأنّه حدّ اللواط ، وإطلاق الأذى ينصرف إلى أبلغ مراتبه ، وهو القتل وقال الفرّاء إن هذه ناسخة للآية السّابقة ، وقيل بل بالعكس ، وأمر بوضعها في التلاوة بعدها وإن كانت قبلها نزولا ، وقيل : المراد به حد البكر ، وهو الجلد والتغريب ، كما أنّ حدّ الثيّب الجلد والرّجم.
3 - « فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما » فيه دلالة على أنّ الزاني إذا تاب قبل الرّفع إلى الحاكم لا يحدّ وأمّا بعد الرفع والحضور ، فان ثبت بالإقرار تخيّر الامام ، وإن ثبت بالبينة تحتّم الحد ، والمراد بالإصلاح الاستمرار على التوبة قوله « إِنَّ اللّهَ كانَ تَوّاباً » أي كثير القبول للتوبة وهو تعليل للإعراض ، وإردافه بالرّحمة ، فيه إشارة إلى أنّ قبول التوبة تفضّل ، وقيل المراد باللّذان الشاهدان بالزنا قبل كمال نصاب الشهادة ، والمراد بالأذى حدهما حدّ الفرية وهو ضعيف.
الثالثة ( الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (1).
الاسمان مرفوعان بالابتداء ، وخبرهما محذوف عند الخليل وسيبويه ، أي مما فرض اللّه حكم الزانية والزاني ، وقوله « فَاجْلِدُوا » جملة أخرى معطوفة على الاولى وعند المبرّد أنّهما جملة واحدة ، إلّا أنّ المبتدأ لمّا تضمّن معنى الشرط والمبتدأ موصول بفعل أتى بالفاء أي الّتي زنت والّذي زنى فاجلدوا.
وإذا تقرّر هذا فقد اشتملت على أحكام ثلاثة :
1 - الأمر بالجلد مائة ، والجلد ضرب الجلد بحيث لا يتجاوز ألمه إلى اللّحم
ص: 340
وهذا الحكم مخصوص بالسنّة والكتاب أمّا السنّة فبالزيادة تارة كما في حقّ البكر الذكر ، فإنّه يزداد التغريب سنة لقوله عليه السلام « البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام (1) » ومنعه أبو حنيفة والخبر يبطل قوله ، وكذا عمل الصّحابة ، وقوله إنّ الآية ناسخة للخبر ضعيف لأنّ عدم ذكر التغريب ليس ذكرا لعدمه ، لتكون ناسخة له وفعل الصحابة متأخّر عن الآية فكيف يكون التغريب منسوخا بها ، وبالإبدال تارة كما في حقّ المحصن والمحصنة ، فانّ حدّهما الرّجم هذا إن قلنا بعدم ضمّ الجلد إلى الرّجم ، وإلّا فهو أيضا زيادة ، نعم قيل الضمّ في حقّ الشيخين خاصّة وقيل عامّ وهو الحق لأنّ عليا عليه السلام جلد سراجة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنّة رسول اللّه (2) وكانت سراجة شابّة وفعله عليه السلام حجّة.
والمراد بالمحصن من له فرج مملوك بالعقد الدائم أو ملك اليمين تغدو عليه وتروح ، وبالمحصنة من لها زوج بالعقد الدائم يغدو عليها ويروح والبكر قيل هو ما عدا المحصن ، وقيل من أملك ولم يدخل ، والطلاق رجعيّا لا ينافي الإحصان مع بقاء العدّة بخلاف البائن ، وإن بقيت ، وعندنا لا جزّ على المرأة ولا تغريب وأمّا الكتاب فينصّف الجلد في حقّ الأمة لقوله « فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) (3) واختلف في العبد فقيل كالحرّ وقيل كالأمة ، وهو الأقوى.
2 - قوله « وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ » والرأفة الرحمة وفيها لغتان فعالة وفعلة نحو كأبة وكآبة وشأمة وشآمة والخطاب هنا وفي قوله « فَاجْلِدُوا » للأئمّة والحكّام ، قوله « فِي دِينِ اللّهِ » أي في حفظه ، وقوله « إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ » معناه أنّ حفظ دين اللّه من لوازم الإيمان ، فمن أتى بالملزوم يلزمه الإتيان بلازمه ، وإلّا لم يكن مؤمنا فإنّ عدم اللّازم ملزوم لعدم ملزومه ، وهذا على سبيل المبالغة في الحكم
ص: 341
وتشديدا لأمر الزنا ، وحسما لمادته ليتحفّظ النسب ، ويجري الأحكام الشرعيّة المترتبة عليه على أصولها ، ولذلك « قال صلى اللّه عليه وآله يا معشر الناس اتّقوا الزنا فإنّ فيه ستّ خصال ثلاث في الدّنيا وثلاث في الآخرة أمّا اللاتي في الدنيا فإنّه يذهب البهاء ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأمّا اللاتي في الآخرة فإنّه يوجب السخط ، وسوء الحساب ، والخلود في النار (1) وفي الآية دلالة على أنّه يضرب أشدّ الضرب وأنّه لا ينقص من الحدّ شي ء ، وأنّه لا يجوز الشفاعة في إسقاطه ، وفي الحديث عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا فيقول رحمة لعبادك فيقول له : أنت أرحم بهم منّي؟ فيؤمر به إلى النار ويؤتى بمن زاد سوطا فيقول : لينتهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار (2).
3 - « وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » أي ليحضر لأجل التشهير ليرتدع الناس عن مثل فعلهما ، وقيّد الطائفة بالمؤمنين لئلّا يكون إقامة الحدّ مانعة للكفّار عن الإسلام ، ولذلك كره إقامته في أرض العدوّ واختلف في الطائفة فعن الباقر عليه السلام أقلّها واحد ، وبه قال مجاهد وإبراهيم ، وقال عكرمة اثنان وقتادة والزهريّ ثلاثة وابن عباس أربعة لأنّ بهذا العدد يثبت هذا الحد وهو قريب لكن قول الباقر عليه السلام أقوى ويؤيّده أنّ الفرقة جمع وأقلّه ثلاثة ، والطائفة بعضها فيكون واحدا.
الرابعة ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) (3).
ص: 342
أي لا يحزنك صنع الّذين يسارعون في الكفر أي يقعون فيه سريعا وقسمهم إلى المنافقين وهم الّذين قالوا آمنّا إلى آخره ، وإلى اليهود المتّبعين للكذب ، وهو ما حرّفوه من أحكام التوراة وهم أيضا مطيعون لقوم آخرين لم يحضروا مجلسك بغضا لك ، وقوله « يُحَرِّفُونَ » صفة أخرى لهم ، قيل نزلت هذه في يهود خيبر حيث أرسلوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله يسألونه عن محصن زنى ، وقالوا لرسلهم : إن أفتاكم محمّد بالجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوه ، وذلك لأنّهم حرّفوا حكم التوراة برجم المحصن إلى أنّه يجلد أربعين سوطا ويسوّد وجهه ويشهر على حمار.
وعن الباقر عليه السلام إنّ خيبريّة من أشرافهم زنت فكرهوا رجمها فأرسلوا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله يستفتونه طمعا في رخصة تكون في دينه ، فقال صلى اللّه عليه وآله : أترضون بحكمي؟ فقالوا : نعم ، فأفتاهم بالرّجم ، فأبوا أن يقبلوا فقال جبرئيل عليه السلام للنبيّ صلى اللّه عليه وآله : سلهم عن ابن صوريا واجعله بينك وبينهم حكما فقال لهم : أتعرفون ابن صوريا؟ قالوا نعم ، وأثنوا عليه وعظّموه ، فأرسل إليه فأتى فقال له النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنشدك اللّه هل تجدون في كتابكم الّذي جاء به موسى عليه السلام الرّجم على المحصن فقال نعم ، ولو لا مخافتي من ربّ التوراة إن كتمت لما اعترفت ، فنزلت « يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (1) فقام ابن صوريا وسأله أن يذكر الكثير الّذي أمر بالعفو عنه ، فأعرض عن ذلك ، واسم ابن صوريا عبد اللّه وكان شابّا أمرد أعور ، وكان أعلم يهوديّ في زمانه.
ونقل الزمخشري أنّهم أرسلوا الزانيين مع رهط منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول اللّه عن أمرهم ، وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا ، فأمرهم بالرّجم فأبوا عنه ، فجعل ابن صوريا حكما بينه وبينهم فقال له : أنشدك اللّه الّذي لا إله إلّا هو الّذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والّذي أنزل عليكم كتابا وبيّن حلاله وحرامه
ص: 343
هل تجد فيه الرّجم على من أحصن؟ فقال : نعم ، فوثبوا عليه ، فقال : خفت إن كذّبته أن ينزل علينا العذاب فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالزانيين فرجما عند باب المسجد ولنتبع هذا البحث بفوائد :
1 - قد نقلنا أنّ حدّ اللواط يدلّ عليه الآية الثانية على قول ، وحد المساحقة يدل عليه الاولى ، فيكونان أيضا ثابتين بالكتاب لكنّ المراد باللّواط الموجب للقتل هو الّذي فيه إيقاب لا غيره وفي المساحقة الجلد مائة (1) وروى محمّد بن حمزة عن الصادق عليه السلام أنه دخل عليه نسوة فسألته امرأة عنهنّ عن السّحق ، فقال : حده حد الزنا فقالت المرأة ما ذكر اللّه ذلك في كتابه؟ فقال : بلى ، قالت : وأين؟ قال : هنّ أصحاب الرسّ (2).
2 - روي أنّ المتوكّل بعث إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكريّ عليهما السلام من سأله عن نصراني فجر بامرءة مسلمة ، فلمّا أخذ ليقام عليه الحدّ أسلم؟ فأجاب عليه السلام إنّ الحكم فيه أن يضرب حتّى يموت لأنّ اللّه تعالى يقول « فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ » وفي هذه دلالة على أنّ الكافر إذا زنى بمسلمة فحده القتل (3).
3 - روي أنّ امرأة أتت عمر فقالت : إنّي فجرت فأقم عليّ حدّ اللّه ، فأمر برجمها وكان عليّ عليه السلام حاضرا فقال له : سلها كيف فجرت؟ فقالت كنت في فلاة من الأرض أصابني عطش شديد فرفعت لي خيمة فأتيتها فأصبت فيها أعرابيا فسألته الماء فأبى عليّ أن يسقيني إلّا أن أمكّنه من نفسي ، فوليت منها هاربة ، فاشتدّ بي العطش
ص: 344
حتّى غارت عيناي فلمّا بلغ منّي أتيته فسقاني ووقع عليّ فقال عليّ عليه السلام هذه الّتي قال اللّه تعالى « ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (1) » غير باغية ولا عادية فخلّ سبيلها ، وفيه دلالة على أنّ المكره لا حدّ عليه.
4 - لو كان من يجب عليه الحد مريضا يخشى تلفه تخير الحاكم بين الصبر حتى يبرأ وبين الضرب بالضغث المشتمل على العدد ، لأنّه روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله اتي بمستسق قد زنا بامرأة فأمر صلى اللّه عليه وآله بعرجون فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة ثمّ خلّى سبيله (2) وهذا يمكن أن يكون مأخوذا من قوله « وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ ) (3) ».
وفيه آيتان :
الاولى ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (4).
قال سعيد بن جبير : إنّها نزلت في قصّة عائشة وقال الضحّاك بل في سائر نساء المؤمنين وهو أولى لأنّه أعمّ فائدة ، ولو سلّمنا فهي أيضا عامّة لما عرفت أن خصوص السبب لا يخصّص وقد دلّت على أحكام :
1 - أنّ القذف هو الرمي بالزنا ، لما تقدم أنّه يثبت بأربعة شهداء فقال
ص: 345
هنا « ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ » فعلم أنّ المراد الرّمي بالزنا والإجماع على ذلك.
2 - يشترط في الحدّ عفّة المقذوفة وإليه أشار بقوله « الْمُحْصَناتِ » ولم يرده بالمعنى السابق في الزناء للإجماع على ثبوت الحدّ بالقذف لغير الزوجة ، أمّا غير العفيفة فإنّه يجب التعزير إلّا أن يبلغ حالها إلى الاشتهار بالزّناء بحيث لا يستنكف من المخاطبة به فحينئذ لا حدّ ولا تعزير.
3 - أنّه إنّما يجب الحد إذا ثبت عند الحاكم وثبوته إمّا بالإقرار أربعا أو بأربعة شهود في مجلس واحد غير متفرّقين بل متّفقين على الفعل الواحد بالوصف الواحد مع اتّحاد الزّمان وإمكان ، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يشترط اتّحاد مجلس الشهود وقال أصحابنا يثبت أيضا بثلاثة رجال وامرأتين أو رجلين وأربع نسوة على تفصيل يذكر في كتب الفقه.
4 - أنّ القاذف يجلد ثمانين جلدة ، حرّا كان أو عبدا ، رجلا كان أو امرأة لعموم اللّفظ والتصنيف في العبد إنّما جاء في الزنا.
5 - أنّه لا تقبل شهادته ، والمراد به ما دام فاسقا.
6 - أنّه محكوم بفسقه وهو دليل على كونه كبيرة.
7 - أنّه إذا تاب قبلت شهادته عندنا وعند الشافعيّ بناء على أنّ الاستثناء من قوله « وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً » والواو للعطف على جزاء الشرط ، فيكون من جملة الجزاء ، وهو قول أكثر التابعين وروي عن عمر أنّه قال لأبي بكرة في شهادته على المغيرة أن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يكذّب نفسه وقال أبو حنيفة لا يقبل شهادته أبدا إلّا أن يشهد قبل إقامة الحدّ عليه أو قبل تمامه ، بناء على أنّ الواو في قوله « وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » للاستيناف ، والاستثناء عن « الفاسقين » وهو قول ابن جريج وابن المسيّب والحسن والمراد بالإصلاح المعطوف على التوبة هو الاستمرار عليها ، وقيل لا بدّ من عمل وإن قلّ ثمّ هنا فوائد :
1 - لا فرق في كون المقذوف ذكرا أو أنثى ، ولفظ التأنيث في الآية لخصوص الواقعة ، وقد عرفت أنّه غير مخصّص.
ص: 346
2 - القذف باللّواط كالقذف بالزنا ، من غير فرق ، وكذا السحق أمّا القذف بالكفر أو الشرب وغير ذلك من المعاصي فيوجب تعزيرا.
3 - أنّه يجلد بثيابه بخلاف حدّ الزنا فإنّه يجلد عريانا وقيل في الزنا يجلد كما وجد ، والضرب في القذف متوسّط ، وقال الباقر عليه السلام « يجلد الرّجل قائما والمرأة قاعدة (1) ».
4 - يشترط في المقذوف الحرّيّة والبلوغ والإسلام ، ولو كان بخلاف ذلك عزّر قاذفه.
5 - حد القذف حق الآدميّ يتوقف إقامته على المطالبة ، ولا يسقطه التوبة مطلقا إلّا مع العفو من المقذوف قبل الثبوت لا بعده ، ورضاه جزء من التوبة وحدّها إكذاب نفسه إن كان كاذبا والتخطئة إن كان صادقا فلا يقبل شهادته بدون ذلك.
6 - قال بعضهم أشدّ الضرب يكون في التعزير ، ثمّ بعده في الزنا ، ثمّ بعده في الشرب ، ثمّ بعده في القذف ، لأنّ القاذف قد يكون صادقا فيما قاله ، وإنّما عوقب صيانة للأعراض ، وقد حافظ الشارع على صيانتها بقوله « وَلا تَجَسَّسُوا » وبقوله ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (2).
الثانية ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (3).
« الْمُحْصَناتِ » العفائف « الْغافِلاتِ » السّليمات القلوب من الخبائث النفسانيّة وإنّما جمع وإن كان السّبب واحدا وهي عائشة ليعلم عموم الحكم في كلّ محصنة قذفت بالزّنا وقد شدّد اللّه أمر القذف ما لم يشدّد في غيره حيث جعل القاذفين ملعونين
ص: 347
في الدّنيا والآخرة ، وتوعّدهم بالعذاب الأليم وأوجب عليهم الحدّ في الدّنيا.
فائدة قد تقدّم حديث قدامة لمّا شرب الخمر وقول عليّ عليه السلام لعمر : إن تاب أقم عليه الحدّ فلمّا أظهر لتوبة لم يدر عمر كيف يحدّه ، فقال لأمير المؤمنين عليه السلام أشر عليّ في حدّه فقال : حدّه ثمانين لأنّ شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذي ، وإذا هذي افترى قال اللّه تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) إلى آخرها فدلّ ذلك على أنّ حدّ المسكر ثمانون ، وهذا ليس قياسا منه عليه السلام لأنّ مذهبه تحريم القياس ، بل بيانا للعلّة كما سمعه عن النبي صلى اللّه عليه وآله ولذلك لمّا سكر الوليد فأراد عثمان بن عفان حدّه وكان رأيه في الحدّ أربعين فأشار إلى علىّ عليه السلام بضربه فضربه بدرّة لها رأسان أربعين جلدة فكانت ثمانين.
وفيه آيتان :
الاولى ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1).
إعراب السارق والسارقة كما تقدّم في الزاني والزانية من المذهبين « وجزاء » و « نكالا » منصوبان على المفعول له والنكال العذاب ولا شكّ أن الآية مشتملة على أحكام كلّها مجملة تفتقر إلى بيان من النبيّ صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (2) وعندنا أنّ الأئمّة عليهم السلام كذلك لما ثبت من كونهم حفظة للشرع بعده صلى اللّه عليه وآله.
1 - « السّارِقُ وَالسّارِقَةُ » سواء قلنا إنّ اسم الجنس المعرّف باللّام للعموم
ص: 348
أو لم نقل ، فإنّه مجمل يحتمل عموم كلّ سارق وبعضه ، لكنّ البيان النبويّ والإماميّ عليهم السلام أخرج الأب إذا سرق مال ولده ، والعبد [ إذا سرق ] مال سيّده والغانم من الغنيمة ، والشريك من المشترك ما يظنّه حقّه ، وكلّ ذي شبهة محتملة.
2 - قوله « فَاقْطَعُوا » القطع قد يراد به الشق من غير إبانة نحو برئت القلم فقطعت السكّين يدي ، وقد يراد مع الإبانة فهو حينئذ محتمل للقسمين لكنّ البيان الشرعيّ حكم بإرادة الثاني.
3 - وقع الإجماع على أنّه لا يقطع إلّا يد واحدة ، وهي محتملة لإرادة اليمين واليسار ، لصدق اليد على كلّ واحد منهما ، لكنّ البيان المذكور خصّ اليمين وإنّما قال « أَيْدِيَهُما » ولم يقل يديهما لعدم الاشتباه ، نحو قوله تعالى « فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) (1) ».
4 - اليد أطلقت لغة وعرفا على الجارحة المخصوصة من الكتف إلى رؤس الأصابع ، وشرعا من المرفق إلى الرؤس كما في آية الوضوء ، ومن الزّند إلى الرؤس كما في التيمّم عندنا وعلى الأصابع لا غير كما في قوله « فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ) (2) » ولم يبيّن في الآية المراد وحينئذ ليس أحد الاحتمالات أولى من الآخر فيكون اللفظ مجملا وقيل إنّه غير مجمل لأنّ اليد حقيقة في الأوّل ، مجاز في الباقي ، ولذلك يصح أن يقال لما دون المنكب بعض اليد فيكون اللّفظ ظاهرا في جملة اليد ، ولذلك قال به الخوارج فلا يكون مجملا.
والحق الأوّل لأنّ القطع من المنكب غير مراد إجماعا ، لأنّ قول الخوارج باطل لكفرهم بانكارهم ما علم من الدين ضرورة فلا يكون الحقيقة حينئذ مرادة فيحمل على بعض اليد من الأقسام المذكورة ، وليس بعضها أولى من بعض بالنسبة إلى اللّفظ فيثبت الاجمال وهو المطلوب.
إذا عرفت هذا فالمشهور عند الفقهاء القطع من مفصل الكفّ عن الساعد ، و
ص: 349
عند أصحابنا هو قطع الأصابع الأربع من اليد اليمنى ، ويترك له الراحة والإبهام فإن عاد ثانيا مع الشرائط والقطع أوّلا قطعت رجله اليسرى ، ويترك له العقب فان عاد ثالثا بعد قطع الرّجل خلّد في السجن حتى يموت فان سرق في السجن قتل. واعتمدوا في ذلك على نقلهم المتواتر عن أئمّتهم عليهم السلام وعلى أنه يصدق على ذلك اسم اليد كما قلناه وعلى أصالة عدم التهجّم على أكثر من ذلك إلّا بدليل ولم يثبت.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - النصاب الّذي يجب القطع بأخذه عندنا ربع دينار ذهبا خالصا مسكوكا أو ما قيمته ذلك وبه قال مالك والشافعيّ وبه حكم الخلفاء الأربعة ، وقال أبو حنيفة عشرة دراهم وقال الحسن البصريّ درهم ، وقال الطبري لا حدّ له بل أيّ شي ء كان من قليل أو كثير.
2 - يشترط مع ما تقدّم الأخذ خفية لا مشاهدة ، والإخراج بنفسه لا بغيره ولا مع غيره إلّا أن يبلغ حصّته نصابا.
3 - يشترط أيضا الإخراج من حرز ، وحدّه أصحابنا بأنّه ما ليس لغير المالك الدخول إليه وقال الجبائي هو أن يكون في بيت أو دار يغلق عليه وله من يراعيه والأولى أن يرجع فيه إلى العرف فلكلّ شي ء حرز يخصّه.
4 - يثبت هذا الحدّ بالإقرار مرّتين أو شهادة عدلين فلو أقرّ مرّة لا غير ثبت المال لا غير ، وكذا لو شهد واحد وحلف المدّعي.
الثانية ( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).
المراد هنا بظلمه سرقته و « الإصلاح » الاستمرار على التوبة ، ولا كلام في سقوط العقاب الأخرويّ بذلك وأمّا الحد فهل يسقط بها أو لا؟ قال أبو حنيفة لا يسقط وهو أحد قولي الشافعيّ ، وقال أصحابنا بسقوطه بالتوبة قبل الثبوت عند الحاكم أمّا بعده فإن ثبت بالبيّنة فلا سقوط ، وبالإقرار قيل يتحتّم الحد كما في البيّنة
ص: 350
وقيل يتخيّر الامام لفعل علىّ عليه السلام لمّا وهب يد السارق المقرّ بسرقته ثمّ تاب فقال عليه السلام له : هل تحفظ شيئا من القرآن فقال نعم سورة البقرة قال : وهبت يدك بسورة البقرة فقال له الأشعث أتعطّل حدّا من حدود اللّه؟ فقال له وما يدريك إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن يعفو ، قال اللّه تعالى « الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ » وإذا أقرّ الرجل على نفسه بسرقة فذاك إلى الامام ، إن شاء عفى ، وإن شاء عاقب (1) هذا وأمّا حقّ المالك فلا يسقط بالتوبة مطلقا إلّا مع تصريحه بالإبراء ، وكذا لا يسقط المال بالقطع بل يجب ردّه بعينه أو قيمته وقال أبو حنيفة لا يجب عليه القطع والغرامة معا بل إن قطعت سقطت عنه وإن غرم سقط القطع وهو فرق ضعيف ومع ثبوت التوبة الحقيقية تقبل شهادته لقوله تعالى « إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ »
وفيه آيتان :
الأولى ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (2).
محاربة اللّه ورسوله محاربة المسلمين ، جعل محاربتهم محاربة اللّه ورسوله تعظيما للفعل ، وأصل الحرب السلب ، ومنه حرب الرّجل ماله أي سلبه فهو محروب وحريب وعند الفقهاء كلّ من جرّد السلاح لإخافة الناس في برّ أو بحر ، ليلا أو نهارا ، ضعيفا كان أو قويّا ، من أهل الريبة كان أو لم يكن ، ذكرا كان أو أنثى فهو محارب ، ويدخل
ص: 351
في ذلك قاطع الطريق والمكابر على المال أو البضع و « فسادا » منصوب صفة لمصدر محذوف أي سعيا فسادا أو على الحال أي مفسدين أو على أنّه مفعول له.
واختلف في حدّه فقيل على التخيير لظاهر الآية إذ المجاز والإضمار على خلاف الأصل فيتخيّر الامام بين الأقسام الأربعة على أيّ فعل صدر منه من قتل أو أخذ مال أو جرح أو إخافة فعلى هذا يصلب حيّا قطعا ، وقيل بالترتيب والتفصيل وهو أقسام الأوّل : يقتل إن قتل خاصّة ، فلو عفى الولي قتل حدّا ولا معه قصاصا الثاني إن أخذ المال وقتل ، استرجع المال ، وقطع مخالفا ثمّ قتل وصلب ، الثالث إن أخذ المال خاصّة قطع مخالفا ونفي ، الرابع : إن جرح ولم يأخذ شيئا اقتصّ منه ونفي ، الخامس : إن أشهر السلاح وأخاف خاصّة نفي لا غير.
ومن العجيب قول الراوندي إنّ هذا التفصيل يدلّ عليه الآية وليت شعري من أيّ طريق ندل الآية و « أو » صريحة في التخيير بين الأقسام الأربعة اللّهمّ إلا مع إضمار ، وقد قلنا إنّ الأصل عدمه ، فان دلّ دليل على تقديره فيكون الدّلالة مستفادة من ذلك الدليل ، لا من الآية فإذا ألحق القول بالتخيير وهنا فوائد :
1 - الصّلب على القول الأوّل يكون وهو حيّ قطعا وعلى الثاني قيل يقتل ثمّ يصلب ، وقيل بل يصلب حيّا ويترك حتّى يموت ، وقيل يصلب وينجع حتى يموت.
2 - القطع مخالفا وهو أن يقطع يمناه أوّلا حيّا ثمّ يقطع رجله اليسرى وقد تقدّم كيفيّة القطع.
3 - فسّر أبو حنيفة النفي بالحبس وقال الشافعيّ وأصحابنا هو النفي من بلده وأيّ بلد يستقر فيه أو يقصده يكتب إليهم أنّه محارب فلا يبايع ولا يعامل ولا يعاشر ، وقيل بل يقتصر على نفيه من بلده لا غير.
الثانية ( إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1)
ص: 352
عندنا وعند الشافعيّ أنّ هذا الاستثناء من حقوقه تعالى ، أمّا حق الآدميّ من القتل والجرح والمال ، فلا يسقطه إلّا القصاص والأداء ، سواء كان المال موجودا بعينه أو تلف فيلزمه حينئذ قيمته ، وقال بعضهم الاستثناء من كلّ حقّ ، إلّا أن يوجد عين المال فيؤخذ منه ، وتقييد التوبة بكونها قبل القدرة يدلّ على أنّها لو حصلت بعد القدرة لم يسقط الحد وإن سقط العقاب الأخرويّ.
وفيه آيات :
الاولى ( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ) (1).
يقال من أجل ذلك فعلت ، بفتح الهمزة وكسرها أي بسببه ، سواء كان السبب فاعليّا أو غائيا و « من » لابتداء الغاية فإنّ الشي ء يبتدئ من سببه وقد يبدل « من » باللّام فيقال لأجل ذلك وهو إشارة إلى ما تقدّم من قتل قابيل وهابيل ، وقوله « بِغَيْرِ نَفْسٍ » إلى آخره أي لا على وجه القصاص ، ولا على فساد يصدر منها موجب لقتلها.
واختلف في التشبيه الأوّل على أقوال الأوّل أنّ التشبيه معناه أنّه بمنزلة من قتل الناس جميعا في أنّهم خصومة في قتل ذلك الإنسان الثاني : أنّ معناه في تعظيم الوزر والإثم ، والثالث أنّه كأنّما قتل الناس جميعا عند المقتول الرابع أنّه يجب عليه من القتل والقود ، مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعا.
وكذا في التشبيه الثاني أقوال الأوّل أنّه كمن أحيا الناس جميعا عند المستنقذ
ص: 353
الثاني أنّه من نجّاها من غرق أو حرق فأجره كأجر من أحيا الناس جميعا الثالث أنّه من عفى قتلها وقد وجب عليها القود (1) الرّابع أنّه من زجر عن قتلها ونهى عنه ، بما فيه حياتها ، أو حال بين من يريد قتلها وبينها (2).
وإنّما قال « أَحْياها » على جهة المجاز من إطلاق السبب على المسبّب والتحقيق هنا في الموضعين أنّه تشبيه على سبيل المبالغة تعظيما لشأن القتل ، وتهويلا لأمره ، وكذلك في طرف الاحياء ، وإلّا فالتشبيه الحقيقي هنا لا وجه له ، لمنافاته الحسّ والعقل والعدل.
الثانية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (3).
هنا فوائد :
1 - أنّه كان بين حيّين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما على الآخر طول فأقسموا ليقتلنّ الحرّ بالعبد ، والذكر بالأنثى ، والرّجلين بالرّجل ، فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت فأمرهم أن يتساووا أي يتكافؤا ، والقصاص من قصّ الأثر وهو الاتّباع ، فإنّ الوليّ في القصاص يتبع أثر الجاني ، ويفعل كفعله ، وحينئذ لا يرد سؤال أنّ الوليّ له الخيار في العفو وأخذ الدية والقصاص ، فلم قال كتب ومعناه وجب كما تقدم لأنّ المراد بيان ما هو
ص: 354
واجب في الأصل ونفس الأمر ، وأمّا العفو وأخذ الدّية ففرعان على الاستحقاق ولذلك لا يجب على الجاني قبول أداء الدّية عندنا وهو مذهب أبي حنيفة ، وقال الشافعيّ للوليّ الخيار بين الدية والقصاص ، وإن لم يرض الجاني إذ المراد بالوجوب عدم جواز التعدي إلى غير المكافي كما حكيناه من حكاية الحيين.
2 - قوله تعالى « الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى » قيل هذا منسوخ بقوله « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنّه حكاية ما في التورية فلا ينسخ القرآن وأمّا ثانيا فلأصالة عدم النسخ إذ لا منافاة بينهما وأمّا ثالثا فلأنّ قوله « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » عام وهذا خاص ، وقد تقرّر في الأصول بناء العامّ على الخاصّ مع التنافي.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يجوز قتل العبد بالحرّ والأنثى بالذكر إجماعا ، ولعدم دلالة الآية على منعه ، ولأنّه إذا جاز قتل القاتل بمثله فبالأشرف أولى ، وهل يجوز قتل الحرّ بالعبد والذّكر بالأنثى أم لا؟ جوّزه أبو حنيفة عملا بعموم « النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » ومنعه مالك والشافعي لا لمفهوم « الْحُرُّ بِالْحُرِّ » إلى آخره لأنّ المفهوم إنّما يكون حجّة حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم ، وقد بيّنا الغرض وهو دفع حكم الحيّين بل منعناه لما رواه عليّ عليه السلام أنّ رجلا قتل عبده فجلده رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ونفاه سنة ولم يقد منه (1) ولما روي أنّه صلى اللّه عليه وآله قال « لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حرّ بعبد (2) » ولفعل الصحابة من غير نكير وهو مذهب أصحابنا لعدم العمل بالمفهوم مطلقا ولدلالة الأحاديث من أئمتهم عليهم السلام.
بقي هنا كلام وهو أنّه إنّما يقتل الحر بالحرّ مع التكافي وهو التساوي في الإسلام والعقل وأن لا يكون القاتل أبا للمقتول خلافا لمالك في الأخير ، وهل حكم الامّ حكم الأب؟ عندنا ليس كذلك ، بل تقتل بالولد وعند الفقهاء حكمها حكم الأب ، أمّا قتل الولد بأبيه فجائز إجماعا وكذا الإجماع على قتل الجماعة بالواحد
ص: 355
ولقوله صلى اللّه عليه وآله « لو اجتمعت ربيعة ومضر على قتل مسلم قيدوا به (1) » نعم عندنا يرد عليهم فاضل الدية.
3 - قوله تعالى « فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ » إلى آخره ، قيل عفي بمعنى ترك وشي ء مفعول به ، وهو ضعيف إذ لم ينقل عفى الشي ء بمعنى تركه ، بل أعفاه وقال الزمخشريّ تقديره فمن عفي له من أخيه شي ء أي شي ء من العفو لأنّ عفي لازم لا يتعدّى بنفسه ، وفائدته الإشعار بأنّ بعض العفو كالعفو التامّ في إسقاط القصاص فعلى الأوّل يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذّنب ، قال اللّه تعالى « عَفَا اللّهُ عَنْكَ » و « عَفَا اللّهُ عَنْها » (2) فإذا عدّي إليهما عدّي باللّام إلى الجاني وعليه الآية كأنّه قال فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني وليّ الدّم وذكره بلفظ الاخوّة الثابتة بينهما من الجنسيّة والإسلام ليرقّ له ويعطف عليه.
ثمّ العفو تارة يكون مطلقا بأن يعفو ولا يشترط شيئا وحينئذ لا يلزم الجاني شي ء ، وتارة يكون مع اشتراط الدية وإلى الأخير أشار بقوله « فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ » أي فالأمر اتّباع أو فليكن اتّباع ، وهو وصيّة للعافي بأن يطلب الدية بالمعروف ولا يطلبه بالزيادة ولا يعنّفه ووصيّة للجاني بأن يؤدّيها بإحسان ، وهو أن لا يماطل ولا يبخس بل يشكره على عفوه وأكثر العلماء من الصّحابة والتابعين على أنّ أخذ الدية مشروط برضا القاتل وقيل غير مشروط به ، وقيل الوصيّة للجاني لا غير ، أي فعليه اتّباع إلى آخره وعلى الأوّل يمكن أن يكون فيه دلالة على تأجيل الدية سنة ، وقيل في الآية دليل على أنّ الدية أحد مقتضي العمد وإلّا لما رتّب الأمر بأدائها على مطلق العفو ، بل كان ينبغي أن يقيّده بالعفو عن الخطاء وليس بشي ء.
4 - قوله « ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ » أي ذلك الحكم بترك القصاص وأخذ الدية تخفيف من اللّه لهذه الأمّة وذلك لأنّ حكم التوراة القصاص لا غير وحكم الإنجيل العفو مطلقا من غير دية وخيّر هذه الأمّة بين الثلاثة تيسيرا عليهم.
ص: 356
5 - قوله « فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ » أي بعد العفو أو الدية ، بأن يقتل الجاني « فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ » في الآخرة وقيل في الدّنيا بأن يقتل بجنايته لسقوط حقّه بالعفو أو الصلح على الدية.
الثالثة ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1).
ظاهر هذا الكلام أنّه كالمتناقض لأنّ القصاص هو القتل فكيف يكون القتل حياة؟ وفي التحقيق تحته من الحكمة البالغة ما يعجز عن مثله كلام الآدميين ، فإنّه أوجز الكلام وأفصحه.
أما أنّه أوجز فإنّه نتيجة مقدّمات ، فانّ القصاص ردع عن القتل ، وفي الرّدع ارتفاع عنه ، وفي الارتفاع عنه عدم القتل ، وعدم القتل حياة ، ينتج : القصاص حياة.
وأمّا أنّه أفصح فلأنّ من كلام العرب القتل أنفى للقتل ، وقد رجح أهل البلاغة كلامه تعالى على كلامهم بوجوه متعدّدة لكونه أقلّ حروفا ودلالته على الحياة بالمطابقة وتنكيرها الدالّ على التعظيم ، وعدم التكرار ، وغير ذلك ممّا ذكرناه في كتابنا المسمّى بتجويد البراعة.
وكانوا يقتلون الجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم ، فلمّا جاء شرع القصاص وقرّرت قواعده ارتفعت تلك الفتن.
وقيل : المراد بالحياة هي الأخرويّة فإنّ القاتل إذا اقتصّ منه في الدّنيا لم يؤاخذ به في الآخرة وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنّه خلاف المتبادر إلى الفهم ، وثانيا فلأنّ القصاص حقّ للوارث للحيلولة بينه وبين مورثه ، وحقّ للميّت بإدخال الألم عليه [ فان ] لم يؤخذ ما يقابله فكيف يكون ساقطا بالقصاص وليس كذلك المال وإنّما القتل من الآلام الداخلة على الإنسان الّتي أعواضها مختصّة به غير منتقلة عنه ، نعم يمكن أن يكون مع التوبة النصوح والإتيان بالكفّارة يتفضّل اللّه على
ص: 357
الجاني بأعواض مكافئة لفعله ، ثمّ ينقلها إلى المقتول.
قوله « يا أُولِي الْأَلْبابِ » أي أولى العقول الكاملة ، ناداهم بصفة العقل للتأمّل في حكم القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس « لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » في المخافة على القصاص فيكفّوا عن القتل.
الرابعة ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) (1).
هنا فوائد :
1 - المفعول في قوله « حَرَّمَ اللّهُ » محذوف أي قتلها ، قوله « إِلّا بِالْحَقِّ » أي بإحدى ثلاث إمّا زنى بعد إحصان ، أو كفر بعد إيمان ، أو قتل المؤمن عمدا كلما ، والمظلوم من قتل بغير استحقاق.
2 - « فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً » إلى آخر ، المراد بالوليّ من يلي أمره وهو الوارث ومن قام مقامه والسلطان يراد به هنا الحكم والتسلّط على الجاني أو العاقلة أمّا بالعفو أو أخذ الدّية أو القصاص في موضعه.
3 - « فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ » قيل : الضّمير للقاتل بأن يقتل من لا يجوز قتله فانّ العاقل لا يفعل ما فيه هلاكه وقيل الضمير للوليّ أي فلا يسرف الولي بأن يقتل غير القاتل ، أو يقتل الجماعة بالواحد ، أو الرّجل بالمرأة من غير ردّ للزائد عن حقّه ، فإنّ دية المرأة على النصف من دية الرجل (2) فإذا قتلها الرّجل فللوليّ قتله
ص: 358
ص: 359
ص: 360
ص: 361
ص: 362
ص: 363
ويرد عليه نصف الدية (1) وكذا يرد على الزائد عن الواحد لو قتل بالواحد جماعة فانّ للوليّ قتلهم كلّهم ، ويردّ عليهم الفاضل ، أو يقتل بعضهم ويردّ الباقون قدر جنايتهم ويتمّ الوليّ ما بقي ، أمّا لو قتلت المرأة رجلا فليس للوليّ إلّا قتلها لقوله
ص: 364
صلى اللّه عليه وآله « لا يجني الجاني على أكثر من نفسه » (1).
وكذا لو قتل الواحد جماعة ليس لأوليائهم إلّا قتله ، وكذا لو قتل العبد حرّا ليس لوليّه إلّا قتل العبد ولا سبيل له على مولاه وقرأ ابن عامر وحمزة « فلا تسرف » بالتاء جريا على أنّه خطاب إمّا للقاتل أو للوليّ ، وقيل الخطاب للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وفيه ضعف.
4 - « إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً » الضمير للوليّ بمعنى أنّ اللّه نصره بشرع القصاص وقيل للمقتول بمعنى أنّ اللّه نصره في الدّنيا بالقصاص وفي الآخرة بالثواب العظيم وقيل للمقتول إسرافا بمعنى أنّ اللّه ينصره بإيجاب القصاص ، فيما تعدّى به الوليّ وثبوت الوزر على المسرف.
الخامسة ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً ) (2)
ص: 365
عظّم اللّه شأن قتل المؤمن وبالغ في التوعّد عليه حتى أنّه ذكر هنا خمس توعّدات كلّ واحد منها كاف في عظم الجرم إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :
1 - اختلف في قتل العمد ما هو؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه هو ما كان بحديد لا بغيره ، وهو أحد قولي الشافعيّ وقال في الآخر وأصحابنا إنّ كلّ من قصد قتل غيره بما يقتل مثله غالبا سواء كان بحديد حادّ أو مثقّل أو خنق أو سمّ أو إحراق أو تغريق أو ضرب بعصا أو بحجر أو غير ذلك فإنّه عامد ، وكذا لو قصد القتل بما لا يقتل غالبا فاتّفق الموت فإنّه عمد أيضا على الأصحّ.
أمّا ما لا قصد فيه أصلا ، لا القتل ولا غيره فيتّفق الموت فذلك هو الخطاء ، وما كان فيه قصد لا للقتل بل لتأديب أو لغيره فيتّفق الموت فذاك شبه عمد ولازم الأوّل القصاص كما تقدّم والثاني الدية على العاقلة كما يجي ء والثالث الدّية في مال الجاني خاصّة وكذا دية العمد لو عفي عنها ، فإنّها أيضا على الجاني ، ولو هرب العامد حتّى يموت ولم يقدر عليه فانّ الدية يلزم من تركته على الأصحّ لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا يبطل دم امرء مسلم » (1)
2 - ثبت في علم الكلام بطلان الإحباط ، وثبت أنّ عصاه المؤمنين عقابهم غير دائم ، وظاهر الآية ينافي ذلك وأجيب بوجوه :
الأوّل ما روي عن الصّادق عليه السلام أنه قتله على دينه ولإيمانه ولا شكّ أنّ ذلك كفر من القاتل موجب لتخليده.
الثاني أنّه مخصوص بغير التائب وليس بشي ء لأنّه محلّ النزاع لأنّه مع التوبة لا عقاب أصلا.
الثالث أنه قتله مستحلّا لقتله قاله عكرمة ويؤيّده أنّه نزل في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار ولم يظهر قاتله فأمرهم رسول اللّه أن يدفعوا إليه ديته ثمّ حمل على مسلم وقتله ، ورجع إلى مكّة مرتدّا.
ص: 366
الرّابع أن يراد بالخلود المكث الطويل جمعا بين الدليلين.
3 - توبة القاتل عمدا الندم الخالص والكفّارة الجامعة للخصال الثلاث وهو عتق رقبة ، وصيام شهرين متتابعين ، وإطعام ستّين مسكينا ، والانقياد للورثة إمّا يقتلونه أو يرضون بالدّية أو يعفون.
السادسة ( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ وَكانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (1).
أي ما جاز لمؤمن أو ما ثبت في حكم اللّه لمؤمن ، والاستثناء منقطع ونصب « خطاء » على أنّه صفة لمصدر محذوف أي إلّا قتلا خطاء لا أنّه مفعول له ، ولا حال كما قال الزمخشريّ لأنّ الخطاء ليس بسبب فاعليّ ولا غائيّ عند التأمّل [ فلا يكون مفعولا له ] ولا هو صفة للفاعل ولا للمفعول ، والحال يجب أن يكون صفة لأحدهما.
قوله « فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » أي فيجب عليه ، و « توبة » منصوب على التميز عن الجملة إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الآية مشتملة على أحكام :
1 - أنّ القاتل خطاء يجب عليه كفّارة [ و] هي تحرير رقبة ولا خلاف في اشتراط إيمانها ، وهذه واجبة في مال القاتل ، بلا خلاف ، ووجه هذا أنّ القاتل لمّا أخرج المقتول عن قيد الحياة لزمه أن يخرج نفسا من قيد العبوديّة فإنّه كالأحياء إذ العبد كالميّت في أنّه لا حكم في نفسه وتصرّفاته.
2 - تسليم الدية إلى أهل المقتول أعني ورثته ، وهم كلّ من يرث المال إلّا الإخوة والأخوات من قبل الامّ لروايات متضافرة ، وقيل والأخوات أيضا من الأب
ص: 367
وقيل بل يرثها وارث المال لعموم آية الإرث ، والأقرب منع قرابة الأمّ مطلقا إخوة وغيرهم.
ثمّ هذه الدية ليست لازمة للجاني في ماله بل لعاقلته ، وهم الأب والأولاد ومن يتقرّب بالأبوين أو بالأب خاصّة من الذكور ، دون الامّ ومن يتقرّب بها ويقسمها الامام عليهم على حسب ما يراه الأقرب فالأقرب ، فإن قصرت الأقارب واتّسعت الدية ، دخل فيهم مولى النعمة ، ثمّ ضامن الجريرة ، ثمّ الامام على ترتيب الإرث.
والدية في الأقسام الثلاثة إمّا ألف مثقال من الذهب المسكوك الخالص أو عشرة آلاف درهم أو ألف شاة أو مائتا حلّة من برود اليمن كلّ حلّة ثوبان أو مائتا بقرة أو مائة من الإبل ، لكن يقع الفرق في أمرين الأوّل أنّه في العمد يستأدى في سنة وفي شبهه في سنتين ، وفي الخطاء المحض في ثلاث سنين الثاني في أسنان الإبل ، فإنّها في العمد من المسانّ أي من الكبار ، وفي الشبيه ثلاثة وثلاثون بنت لبون ، ومثلها من الحقائق وأربع وثلاثون ثنيّة طروقة الفحل ، وفي الخطاء عشرون بنت مخاض ومثلها من أبناء اللّبون وثلاثون حقّة ، ومثلها من بنات اللّبون.
قوله « إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا » أي الورثة إذا أبرؤا ذمّة العاقلة برئت ، جعل الإبراء صدقة كما تقدّم في آية الدّين تحريصا على الفعل.
واعلم أنّ الدية حكمها حكم أموال الميّت يقضى منها ديونه ، وينفذ وصاياه من أيّ الأقسام كانت ، نعم دية العمد لا يجب على الورثة أخذها وصرفها في الدّيون والوصايا ، بل لهم القصاص وإن لم يضمنوا الدّين على الأصحّ ، فإن اصطلحوا على أخذها كانت من التركة ، ودلّ على ذلك البيان النبويّ صلى اللّه عليه وآله والتبليغ الإماميّ كما تضافرت به الروايات.
3 - أنّ المقتول خطاء إذا كان من قوم أهل حرب لكنّه هو مؤمن فإنّه يجب الكفّارة لا غير لأجل إيمانه ، ولا يجب الدّية لكونهم كفرة لا يستحقّون في دية (1) المسلم شيئا.
ص: 368
4 - أنّ المقتول خطأ إذا كان بين قوم معاهدين أمّا أهل كتاب لهم ذمّة أو قوم كفّار لهم عهد فاختلف في هذا المقتول ، قيل هو كافر إلّا أنّ ديته تلزم لمكان العهد مع قومه فديته عندنا على هذا التقدير ثمان مائة درهم وعليه إجماع أصحابنا واختلف الفقهاء منهم ، فقال أبو حنيفة كدية المسلم لظاهر الآية وإطلاق لفظ الدية وقيل النصف ، وقال الشافعيّ الثلث ، وقيل أربعة آلاف درهم ولا خلاف عندهم أنّ دية المجوسيّ ثمانمائة درهم وقيل هو مؤمن وهو المرويّ في أخبارنا ويؤيّده وجوب الكفّارة بقتله لأنّه لا كفّارة بقتل الكافر وأيضا سياق الآية يدلّ عليه لعطفه على قوله « وَهُوَ مُؤْمِنٌ » في الجملة المتقدّمة ، لكنّ الدّية هنا إنّما تعطى لورثته من المسلمين خاصّة وحينئذ يكون ظاهر الآية مخصوصا بالمسلمين إذ الكافر لا يرث المسلم لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا توارث بين أهل ملّتين (1) ».
5 - قوله « فَمَنْ لَمْ يَجِدْ » يشير إلى أنّ الكفّارة هنا مرتّبة لإتيانه بالفاء الموجبة للتعقيب ، والمراد بعدم الوجدان هو أن لا يملك الرقبة ولا ثمنها ، فاضلا عن قوت يومه ودست ثوبه ودار سكناه ، وكذا يحكم بعدم وجدانه لو كان مريضا يفتقر إلى الخدمة أو من أهل الإخدام وإن لم يكن مريضا مع حاجته إلى الخدمة ، أمّا من جرت عادته بخدمة نفسه فإنّه يعتق عليه إلّا مع المرض ، والمراد بتتابع الشهرين أن يصوم شهرا ومن الثاني ولو يوما لوقوع التتابع صفة للشهرين لا للأيّام ، فلو أفطر في الأوّل لعذر بنى عند زواله هذا ، وقيل عدم الوجدان راجع إلى عدم وجدان الدّية ، وقيل إلى عدم وجدان الدّية والرقبة معا وكلاهما شاذّان لأنّ الدية على العاقلة ، لا الجاني حتّى يوصف بعدم الوجدان.
واعلم أنّه مع عدم القدرة على الصوم ينتقل إلى إطعام ستّين مسكينا كما تقدّم مثله ثمّ اعلم أنّ الكفّارة واجبة على الفور أمّا أوّلا فلأنّها كالتوبة الواجبة على الفور ، وأمّا ثانيا فلإتيانه بالفاء عقيب قوله « وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ » إلى آخره.
ص: 369
قوله ( تَوْبَةً مِنَ اللّهِ ) أي شرع هذا الحكم كلّه أو الانتقال إلى الصوم رحمة من اللّه لكم لكونه ( عَلِيماً ) بحالكم ( حَكِيماً ) واضعا لكلّ شي ء في موضعه.
السابعة ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ ) (1).
( وَكَتَبْنا ) عدّاه بعلى لتضمّنه معنى الحكم أي حكمنا عليهم بذلك والباء للبدليّة كقولك هذا بهذا أي هذا كائن بدل هذا وتقدير الكلام حكمنا على بني إسرائيل في التوراة أنّ النفس تكون بدل النفس المعصومة إذا قتلت ، وكذا البواقي وهنا فوائد :
1 - لا يقال حكم هذه الآية معمول به في هذه الشريعة مع الإجماع على كون التوراة منسوخة بهذه فكيف يعمل بما هو منسوخ؟ وأيضا أكثر الأصوليّين على أنّه صلى اللّه عليه وآله غير متعبّد بشرع من قبله فكيف نعبّد بهذا الحكم مع كونه شريعة لموسى لأنّا نقول لا شكّ أنّ الشريعة السابقة منسوخة بالشريعة المسبوقة بمعنى أنّ مجموع أحكام المسبوقة من حيث المجموع لا من حيث كلّ واحد واحد [ من الأحكام ] ناسخ لمجموع أحكام السابقة من حيث المجموع ، ولا يلزم من ذلك أن يكون كلّ واحد واحد من الأحكام ناسخا ومنسوخا لأنّ النسخ هو الرّفع ، ورفع المجموع من حيث المجموع لا يستلزم رفع كلّ واحد بل واحد منها لا بعينه ، والتعيين إلى الشارع ثمّ إنّ كلّ واحد من أحكام المسبوقة إمّا أن يكون منافيا لحكم من أحكام السابقة أو لا فان كان الأوّل كان ناسخا له وإن كان الثاني فإمّا أن يكون موافقا له أو لا فان كان الأوّل كان ذلك من جملة الاتّفاقات في الأحكام وإن كان الثاني وهو أن لا يكون منافيا ولا موافقا لم يجز التعبّد به إلّا بدليل خارجيّ وعلى التقادير الثلاثة
ص: 370
لا يكون النبيّ صلى اللّه عليه وآله متعبّدا بأحكام الشريعة السابقة ولذلك قال سبحانه ( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) (1).
2 - لا شكّ أنّ ما تضمّنه الآية وإن كان معمولا به في شرعنا ، لكنّه من العمومات المخصوصة لاشتراط القصاص نفسا وطرفا بالتساوي في الإسلام والحرّيّة وقد حكينا ما في ذلك من الخلاف وكذلك يشترط في الأطراف التساوي في المحلّ والصفات ، فلا تفقأ العين اليمنى باليسرى ولا تصمّ الاذن اليمنى باليسرى ولا يقلع السّنّ بغير مقابله ، ولا يجدع الأنف الصّحيح بالأشلّ ، ولا تؤخذ العين الصّحيحة بالعمياء ولا السنّ الصّحيح بالأسود ، ولا الاذن الصحيحة بالشلّاء إلى غير ذلك من التفاصيل المذكورة في الفقه المستفادة من البيان النبويّ صلى اللّه عليه وآله والتبليغ الإماميّ.
3 - قرئ بنصب « الجروح » وكذا السوابق عليها نحو « والعين والأنف » إلى آخرها وقرئ بالرفع فيها كلّها أمّا النصب فبالعطف على لفظ اسم « أنّ » وأمّا الرّفع فبالعطف على محلّ اسمها. قوله ( وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ ) أي ذات قصاص وهو أيضا من المخصوصات فانّ الجرح إذا كان مشتملا على غرر وخطر لا قصاص فيه بل ينتقل إلى الدّية كالهاشمة والمنقّلة والمأمومة والجائفة بخلاف ما لا غرر ولا خطر فيه فانّ حكم القصاص فيه ثابت كالحارصة والدامية والمتلاحمة والسمحاقة ويراعى في ذلك أيضا التساوي في المحلّ والقدر طولا وعرضا لا نزولا ، بل يكفي صدق الاسم فيه ، ويشترط أيضا ما تقدّم من التساوي في الإسلام والحرّية.
4 - قوله ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ ) أي بالقصاص ( فَهُوَ ) أي التصدّق « كَفّارَةٌ لَهُ » أي لذنبه ، والضمير للمتصدّق لأنّه المالك للقصاص ، ولعود الضمير إلى « من » الّذي هو المذكور ، وقيل يرجع إلى المتصدّق عليه لأنّ العفو قائم مقام أخذ الحقّ منه وليس بشي ء أمّا أوّلا فلأنه خلاف الظاهر ، وأمّا ثانيا فلأنّه نوع تأكيد والتأسيس خير منه ، وأما ثالثا فلأنّه لو كان كذلك لما وجبت الكفّارة على القاتل بالعفو واللّازم باطل فكذا الملزوم والملازمة ظاهرة هذا.
ص: 371
واعلم أنّ مذهبنا بطلان الإحباط والتكفير لقيام الدّليل على ذلك كما هو مقرر في علم الكلام وحينئذ يجب حمل ما ورد من تكفير السيّئات بالحسنات كما ذكر هنا وكقوله صلى اللّه عليه وآله « الصلوات الخمس كفّارة لما بينهنّ من الذّنوب (1) » وقول عليّ عليه السلام « الحجّ والعمرة يد حضان الذّنب (2) » إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث على أنّ اللّه تعالى يتفضّل على فاعل الحسنات بإسقاط عقاب سيّئاته لعظم محلّ تلك الحسنة ، وكذا نقول في قوله ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (3) أنّ اللّه يتفضّل على مجتنب الكبيرة بالعفو عن صغائره لعظم محلّه باجتناب الكبائر.
الثامنة ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (4).
فيها دلالة على أنّه من أوقع به ظلم في نفس أو طرف أو شجاج أو مال فانتصر بعد ظلمه أي استوفي حقّه فليس عليه سبيل من المعاقبة واللّوم ، « ومن » زائدة لكونها بعد النفي وفيها أيضا دلالة على أنّه يجوز الاقتصاص من غير حكم حاكم في طرف أو جرح أو مال ممّن يماطل ، بعد أن يراعى في ذلك عدم التجاوز إلى غير حقّه.
التاسعة ( وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ ) (5).
هذه تدلّ على أمور ثلاثة :
1 - ما دلّت عليه السابقة وسمّي الجزاء مع كونه حسنا « سيّئة » إمّا على
ص: 372
المجاز تسمية الشي ء باسم مقابله أو لأنّها تسوء من توقع به.
2 - تدل على حسن العفو عن السيّئة وأنّه يستحق في مقابله أجر عظيم لا يدرى كهنة ، لإبهامه وعدم تعيينه.
3 - أنّه يجب في الاقتصاص الاقتصار على المثل ، وعدم التجاوز عنه لقوله تعالى « إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ » ومثل هذه الآية في الدلالة قوله ( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ ) (1) وقيل نزلت هذه لما قتل حمزة عليه السلام ونظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إليه وقد شقّ بطنه وجدع أنفه وأذناه فقال لو لا أن يكون سنّة بعدي لتركته حتّى يبعثه اللّه من بطون السّباع والطير ولأقتلنّ مكانه سبعين رجلا ثمّ دعا ببردة فغطّى بها وجهه فخرجت رجلاه فجعل على رجليه شيئا من الإذخر ، ثمّ قدّمه فكبّر عليه سبعين تكبيرة فنزلت الآية ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : بل نصبر يا ربّ.
العاشرة ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (2).
لنذكر شرحها أوّلا ثمّ نذكر غرض الفقهاء منها فنقول : الخلق التقدير إمّا لأجزاء المخلوق أو لهيئة تركيبها لأوقاته ، ومنه « خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ » (3) والمراد بالإنسان الهيكل المحسوس والفعالة موضوعة لمقدار ما يفصل عن شي ء سواء كان من شأنه أن يرمى به كالقلامة والنجارة أو يتمسّك به ويتحفّظ كالخلاصة والسلالة ، و « من » في الموضعين لابتداء الغاية فإنّ آدم عليه السلام خلق من سلالة مخلوقة
ص: 373
من الطين لا أنّ الثانية للبيان ، كما قال الزمخشري لأنّ كونها لابتداء الغاية يغني عن البيان « ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً » أي أولاده من نطفة فانتصابها بنزع الخافض والقرار المكين أي محكم وهو ظهر الأقرب والجارّ والمجرور صفة لنطفة لا أنّ المقرّ بطن الامّ كما قال ، وإلّا لكان يجب أن يقول « ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً » لأنّ مبدء خلقة العلقة لا يتراخى في بطن الامّ عن النطفة بل عن كونها نطفة في ظهر الأب « ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً » أي بعد انتقالها من ظهر الأب إلى الرّحم ، ولذلك قال « ثمّ » لأنّ النطفة موجودة قبل انتقالها وحال الانتقال إلى أن يستقرّ في الرّحم
« فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ » أتي بالفاء نظرا إلى استعداد كونها مضغة فإنّه يتعقّب العلقة ولا يتراخى زمانا وكذلك الانتقالات بعده « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » أي نفخنا فيه الرّوح فصار إنسانا بمعنى آخر ، بعد أن كان بدنا له ، وأتى بثمّ لأنّ في العادة أنّ تركيب شي ء من شيئين محتاج إلى توسط زمان بينهما ، وهو قول ابن عبّاس ومجاهد وقيل هو إنبات الشعر والأسنان وقيل كونه ذكرا أو أنثى والعلقة قطعة دم ثخين والمضغة قطعة لحم واحتجّ أبو حنيفة على مذهبه أنّه لو غصب أحد بيضا فصار عنده فرخا أو حبّا فصار دقيقا أنّه يملكه ، وليس عليه غير البيض والحبّ بقوله « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » وهو غير مصيب في قوله ، لأنّ الصورة تتبع المادّة ، والمادّة لغيره ، وهب أنه ملك الصورة فكيف يملك المادّة نعم يصح في خمر غصبه مسلم من مسلم فصار خلا في يد الثاني أنه له لأنّه ملكه باليد لعدم تملّك الأوّل له.
إذا عرفت هذا فنقول استدلّ معظم الفقهاء بالآية على توزيع الدّية على هذه الحالات فأوجبوا في النطفة بعد استقرارها في الرّحم عشرين دينارا لأنّ فيها عشرة قبل وقوعها فيه ، بدليل أنّه لو أفزع مجامعا فعزل ضمن المفزع عشرة وكذا لو عزل الزّوج من حرّة بعقد الدوام كان عليه عشرة دنانير فيستفيد بالوقوع في الرّحم حالة أخرى زائدة ، فلها دية. وأوجبوا في العلقة أربعين وفي المضغة ستّين وفي العظم ثمانين وإذا اكتسى اللّحم ولم تلجه الرّوح مائة ، وإذا ولجته الرّوح الدية الكاملة للذكر ونصفها للأنثى فان لم يعلم فنصف الدّيتين ، وقيل بالقرعة.
ص: 374
إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - قيل بين كلّ حالة سابقه وما بعدها عشرون يوما ، ولا ينافي ذلك الإتيان بالفاء لما قلناه من التعقيب الاستعداديّ فيكون لكلّ يوم دينار ، فإذا لبثت النطفة عشرين يوما كان فيها عشرون دينارا وفي أحد وعشرين يوما أحد وعشرون دينارا وفي ثلاثين يوما ثلاثون دينارا وعلى هذا ، وهو مشهور ، لكن لا يعلم مستنده ، نعم روى الشيخ في التهذيب عن يونس الشيبانيّ قال قلت للصادق عليه السلام فإذا خرج من النطفة قطرة دم ، قال القطرة غير النطفة ، فيها اثنان وعشرون دينارا ، قال قلت فان قطرت قطرتين؟ قال : أربعة وعشرون دينارا ، قلت : فان قطرت ثلاثا قال ستّة وعشرون قلت فأربع قال ثمانية وعشرون دينارا وفي خمس ثلاثون دينارا وما زاد على النصف فعلى حساب ذلك حتى يصير علقة ، فإذا صار علقة ففيها أربعون وفي طريقها صالح بن عقبة وهو كذّاب غال له مناكير.
2 - قال بعض فقهائنا في الجنين قبل أن تلجه الرّوح غرّة عبد أو أمة ، وقدّر ابن الجنيد قيمة الغرّة بنصف عشر الدّية.
3 - روي أنّ الصحابة اختلفوا في الموؤدة ما هي؟ وهل الاعتزال وأد؟ وهل إسقاط المرأة جنينها عمدا وأد؟ فقال عليّ عليه السلام إنّها لا تكون موؤده حتى يأتي عليه التارات السّبع ، فقال له عمر صدقت أطال اللّه بقاءك ، وأراد عليه السلام طبقات الخلق السبع المبنيّة في الآية المذكورة فأشار عليه السلام إلى أنّه إذا استهلّ بعد الولادة ثمّ دفن فهو وأد فلا يكون الحامل المسقط قد وأدت.
ص: 375
كتاب القضاء والشهادات (1) وفيه آيات :
الاولى ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) (2).
الخليفة يراد بها عرفا لمعنيين إمّا كونه خلقا لمن كان قبله من الرسل أو كونه مدبّرا للأمور من قبل غيره وقد دلّت الآية على أمور :
1 - مشروعيّة القضاء والحكم وقد تقدّم أقسام الولاية في باب المكاسب.
2 - وجوب الحكم بالحقّ أي بما هو مطابق لما في نفس الأمر بحسب ما يقود إليه الدليل أو الأمارة.
3 - أنه لا ينبغي اتّباع الهوى أي الميل بمجرّد الحظّ النفساني ، ويدخل في ذلك وجوب الانصاف والإنصات والتسوية بين الخصوم في السلام والكلام وأنواع الإكرام أمّا الميل القلبيّ إلى أحدهما مع الحكم بالحقّ فذاك مكروه.
الثانية ( وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) (3).
دلّت هذه على ما دلّت عليه السابقة.
الثالثة ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (4).
ص: 376
كما وجب على الحاكم الحكم بالحقّ ، كذلك يجب على المحكوم عليه الانقياد والإذعان وأكّد ذلك بالقسم المتبوع بعدم أيمانهم ، إن لم يحكّموا وينقادوا للحقّ ظاهرا وباطنا ، قوله « فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ » أي اختلف ، يقال تشاجر القوم إذا اختلفوا والحرج الضيق ، وقيل الشك لأنّ الشاكّ في ضيق من أمره والتسليم الانقياد.
الرابعة ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) . ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) . ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (1).
قيل هذه الثلاث حيث وردت في حكاية ما أنزل اللّه على أهل الكتاب فهي مختصّة بهم ، وليس بشي ء ، بل هو عامّ في كلّ ملة لأنّ خصوص السّبب لا يخصّص ثمّ الحاكم بغير ما أنزل اللّه إن كان مع اعتقاده لذلك الحكم فهو كافر ، وإن كان لا مع اعتقاده فهو ظالم أو فاسق.
الخامسة ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (2).
تقدم ذكر صدرها وأمّا عجزها فيدل على وجوب العدل في الحكم بين الناس صريحا.
السادسة ( إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) (3).
ص: 377
الانزال هو نقل الشي ء من مكان عال أو رتبة عالية إلى ما دونهما ، والكتاب القرآن ، وبالحقّ أي بالسبب الحقّ أو متلبّسا بالحقّ وقد دلّت على أمرين :
1 - خطابه صلى اللّه عليه وآله بأن يحكم بما أراده اللّه أي أعلمه بالوحي ، وليس من الرؤية بمعنى العلم ، وإلّا لاستدعى ثلاثة مفاعيل ، وفيه دلالة على أنّه لا يجوز الحكم بغير علم.
2 - خطابه صلى اللّه عليه وآله بأن لا يجادل أي لا يخاصم لأجل الخائنين ، بحيث يذبّ عنهم خصومهم البريئين ، وفيه دلالة على عدم جواز المجادلة عن أحد الخصمين ، وعدم جواز تلقينه ما يستظهر به على خصمه.
السابعة ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (1).
دلّت على أنّه إذا تحاكم أهل الذمة إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو إلى من يقوم مقامه من الأئمّة عليهم السلام أو الفقهاء تخيّر الحاكم بين أن يحكم بينهم بمذهب الإسلام وبين أن يردّهم إلى حكّامهم ، قيل : إنّ هذا التخيير منسوخ بقوله « أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ » وهو مرويّ عن مجاهد وابن عبّاس ، وقال ما نسخ من المائدة سوى هذه وسوى قوله « لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ » نسخها قوله « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ».
وقيل : ليس بمنسوخ بل الأمر بالعكس ، والتخيير باق ، وهو مذهب أصحابنا لكنّه ليس على إطلاقه بل إذا كان الخصمان من ملّة واحدة ، أمّا إذا كان أحدهما مسلما فلا يجوز للحاكم رد الحكم فيه إلى أهل الذمّة قطعا ولو كانا متغايرين في الملّة كاليهوديّ والنصرانيّ يحتمل الرد إلى الناسخ والأقوى تحتّم الحكم بينهما بمذهب الإسلام ، لأنّ ردّهما إلى أحد الملّتين موجب لإثارة الفتنة.
الثامنة ( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
ص: 378
الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) (1).
قيل الحرث الزّرع وقيل الكرم وقد تدلّت عما قيده ، والنفش الرعي ليلا والهمل يكون ليلا ونهارا ، حكم داود عليه السلام بأن يسلّم الغنم إلى صاحب الحرث عوضا عمّا أفسدته ، ونظيره حكم أبي حنيفة في العبد الجاني يسلّم إلى المجنيّ عليه فقال سليمان عليه السلام وهو ابن أحد عشر سنة : يا نبيّ اللّه غير هذا أوفق لهما فعزم داود عليه ليحكمنّ بينهما فقال أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بألبانها وأولادها وأصوافها ، والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم بإصلاحه حتّى يعود كما كان ثمّ يترادّان ، فقال : القضاء ما قضيت ، ونظيره قول الشافعيّ يغرم الأجرة للحيلولة للعبد المغصوب ، وحكم الحرث المذكور في شرعنا ضمان صاحب الغنم قيمة التالف إن فرّط في حفظها ، وإلّا فلا ، وقال الشافعيّ يجب ضمان ما تلف ليلا إذ المعتاد وجوب ضبط الدّوابّ ليلا ولذلك قضى النبيّ صلى اللّه عليه وآله لمّا دخلت ناقة البراءة حائطا فأفسدت ، فقال على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل الماشية حفظها باللّيل (2) وهو قول جماعة من أصحابنا وعند أبي حنيفة لا ضمان إلّا أن يكون معها حافظ لقوله صلى اللّه عليه وآله : جرح العجماء جبار (3) وهنا سؤالات :
1 - هل كان حكمهما بوحي أو اجتهاد؟ الجواب الحقّ عندنا أنّه بوحي والثاني ناسخ [ للإذن الأوّل ] وهو قول الجبّائي قيل عليه : الوقت كان واحدا فيكون بداء وهو غير جائز ، ومن جوّز على الأنبياء الاجتهاد قال كان الحكمان باجتهاد وبعض فضلائنا جوّز الاجتهاد للنبيّ إذا حضرت الواقعة وفقد الوحي ، وكان
ص: 379
تأخير الحكم ضررا ، ولا يلزم العمل بالظنّ مع إمكان العلم إذ الفرض عدمه ، قلت إنّ الحكم حينئذ ليس بالاجتهاد لدلالة الوحي على نفي الضّرر ، فيكون حكما بالنصّ النوعيّ.
2 - ظاهر الكلام أنّ الحكمين صوابان لقوله تعالى « وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً » مع أنّ بينهما منافاة ، والصواب لا يكون في المتنافيين والجواب المنع من المنافاة ، لجواز أن يكون قيمة الغنم بقدر ما فات من الحرث ، ولذلك حكم بتسليم الغنم إذ لا يجب عليه الصّبر ، فيكون حكمه صوابا. لكن حكم سليمان كان أصوب لأنّه راعى مصلحة الجانبين والصبر وإن لم يكن واجبا لكنّه ندب من قسم التفضّل ، فلا منافاة كما لا منافاة بين المصلحة والأصلح والفصيح والأفصح.
قلت فعلى هذا لا يكون الثاني ناسخا للأوّل إذ لا منافاة بين الأوّل والثاني والنسخ شرطه المنافاة بل يكون بيان شرع زائدة وقد تقرّر في الأصول أنّ الزيادة على النصّ ليس نسخا على الأصحّ ، وعلى هذا يخرج الجواب عن السؤال الأوّل وعن القول بلزوم البداء.
3 - على قول من قال إنّ حكمهما كان بالاجتهاد ، يرد سؤال ، إنّه لا يجوز للمجتهد أن يرجع عن اجتهاده لأجل اجتهاد غيره الجواب أنّه رجع لاجتهاد ثان له ، وهو جائز اتّفاقا.
واعلم أنّ قوله « فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ » أي الفتوى أو الحكومة ، فيه دلالة على أنّه لم يكن باجتهاد بل بوحي فبطل قول من استدلّ بها على تصويب قول كلّ مجتهد لأنّه مخالف لمدلولها قوله « لِحُكْمِهِمْ » أضاف الحكم إلى الحاكمين والمتحاكمين.
التاسعة ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1).
دلّت هذا الآية على النّهي عن جملتين :
ص: 380
1 - النهي عن أكل أموال الناس بالسبب الباطل. إن قلت إنّه أضاف الأموال إلى المخاطبين ، فكيف يكون باطلا ، فانّ مال الرّجل حلال له ولا شي ء من الحلال بباطل قلت هذا مجاز من باب إطلاق الكلّ على البعض ، والمراد لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل كالنهب والسرقة والتزوير وغير ذلك.
2 - « تُدْلُوا بِها » أي لا تدلوا حذف « لا » اعتمادا على العطف ، ومعناه لا تعطوا الحكّام أموالكم ليحكموا لكم ، وهو مستعار من قولهم أدلى دلوه إذا أرسلها والرشوة ترسل إلى الحكّام. قوله « لِتَأْكُلُوا » علّة غائيّة للادلاء قوله « فَرِيقاً » أي طائفة « مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ » أي بالظلم الّذي هو سبب الإثم ، « وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » الواو للحال أي والحال أنّكم تعلمون أنّها باطلة ، وإنّما قيّد الحكم بالعلم ، لأنّ التكليف مشروط بالعلم.
روي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال لخصمين اختصما عنده : إنّما أنا بشر مثلكم فلعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشي ء من حقّ أخيه فإنّما أقضي له قطعة من النار (1).
العاشرة ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ) (2).
قيل نزلت في شأن رجل منافق ورجل يهودي كان بينهما خصومة ، فطلب المنافق المحاكمة إلى كعب بن الأشرف وطلب اليهودي المحاكمة إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله فنزلت « والطاغوت » هنا من يحكم بالباطل ، وسمّي به لفرط طغيانه وقال عليّ عليه السلام كلّ حاكم يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت وقرء الآية » (3) وعن أبي بصير
ص: 381
عن الصادق عليه السلام أنّه قال يا أبا محمّد إنّه لو كان لك على رجل حق فتدعوه إلى حاكم أهل العدل فيأبى عليك إلّا أن يحاكمك ويرافعك إلى حاكم الجور فإنّه ممّن حاكم إلى الطاغوت ، وهو قول اللّه عزوجل « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ » الآية ، وقال وإيّاكم وأن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم قاضيا ، فانّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه وقال عليه السلام لما ولّى عليّ عليه السلام شريحا اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتّى يعرضه عليه ، وورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة (1).
الحادية عشرة ( وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ ) (2).
« وَشَدَدْنا مُلْكَهُ » أي عقدناه عقدا لا يقدر أحد على حلّه ، قيل كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه وقيل ألقى اللّه هيبته في قلوب الناس بسبب أنّ رجلا ادّعى على رجل بدعوى ولم يكن له بها بيّنة فرأى داود عليه السلام في منامه أن اقتل المدّعى عليه فقال في نفسه إنّه منام ، ولم يقتله حتّى أوحى اللّه إليه في اليقظة وأعلمه داود عليه السلام فاعترف الرّجل أنّه قتل أبا المدّعي وهو سبب هيبته ، فاشتدّ ملكه بذلك وإذا أراد اللّه أمرا هيّا سببه ، ولعليّ عليه السلام أحكام كثيرة تضاهي أحكام داود عليه السلام بل أعظم ، وصورها في المطوّلات من كتب الأحاديث ، وفي أحكام داود وعليّ عليهما السلام دلالة على جواز حكم الحاكم بعلمه وإن لم يقم بيّنة.
قوله « وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ » هي الزبور ، وقيل كلّ كلام وافق الحقّ ، وامّا « فَصْلَ الْخِطابِ » فقيل هو الكلام الفاصل بين الحقّ والباطل ، والصحيح والفاسد في الحكومات وغيرها ، وقيل هو الفصل في الكلام في موضعه والوصل في موضعه ونقل الزمخشريّ عن عليّ عليه السلام هو قوله عليه السلام البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى
ص: 382
عليه وذلك لأنّه فاصل بين المدّعيين ، وأوّل من اوتي هذا الحكم داود عليه السلام.
وقد ذكر المعاصر والراوندي في هذه القصّة أشياء لا تعلّق لها بالفقه ، أعرضنا عنها ، نعم ذكرنا في كتابنا المسمّى باللّوامع في علم الكلام قصّة داود عليه السلام على وجه مستوفى فليطالع ثمّة ، ومن جملة ما فيها أنّ موضع الخطيئة منه عليه السلام قيل هو قوله « لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ » فإنّه وصفه بالظلم قبل التفحّص عن حاله فعوتب عليه ، وعلى هذا ينبغي للحاكم التثبّت في الحكم ، وأن لا يسارع إلى التخطئة والتصويب ، إلّا بعد الاستكشاف.
الثانية عشرة ( وَإِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) (1).
قيل نزلت في بشر المنافق واليهودي اللّذين تقدّم ذكرهما وقيل كانت المنازعة بين عليّ عليه السلام والمغيرة بن وائل في أرض وبناء وأبى المغيرة المحاكمة عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقال إنّه يبغضني وأخاف أن يحيف عليّ وقال البلخي أنّ المنازعة كانت بين عليّ عليه السلام وعثمان في أرض اشتراها عثمان منه فخرج فيها أحجار وأراد عثمان ردّها بالعيب وأبى علي عليه السلام وقال بيني وبينك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال الحكم بن أبي العاص : إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له ، فلا تحاكمه فنزلت.
قوله « وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ » ومعناه أنّ هؤلاء المنافقين إذا دعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعلموا أنّ الحقّ معهم ، ينقادون إلى المجي ء ، وإن علموا أنّهم مبطلون لا يأتونه ، لعلمهم أنّه لا يحكم إلّا بالحقّ ، وفي الآية توبيخ ونعي على من لا يجيب إلى الحكم بالحقّ ، ويأبى عنه ، وأما قصّة الأرض والحجارة فانّ الحقّ كان مع عليّ عليه السلام لأنّ الحجارة إذا كانت مخلوقة ولا ضرر على المشتري فلا خيار له.
ص: 383
الثالثة عشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1).
قرئ « فتبيّنوا » أي تفحصوا وقرئ فتثبّتوا أي تثبّتوا إلى أن يتبيّن لكم الحال والفسق لغة الخروج عن الشي ء وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من بيتها واصطلاحا الخروج عن طاعة اللّه تعالى مع الايمان به والنّبإ الخبر ، فان كان الإخبار عن الغير ، فهو شهادة وإلّا فهو إقرار.
قوله « أَنْ تُصِيبُوا » أي كراهة أن تصيبوا « قَوْماً بِجَهالَةٍ » أي جاهلين بحالهم إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 - في الآية دلالة على اشتراط العدالة لأنّها ملزومة لعدم الفسق ، وقد عرّفها الفقهاء بأنّها ملكة تبعث على ملازمة التقوى والمروّة ، وتزول بمواقعة كبيرة أو إصرار على صغيرة ، إذ بواحد من ذينك يدخل في حيّز الفسق ، ووجه الدّلالة أنّه تعالى أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق ويلزم منه أن لا يجب التثبّت عند إخبار العدل ، أمّا أوّلا فللإجماع ، وأمّا ثانيا فلأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه وحينئذ نقول إمّا أن تقبل شهادة الفاسق أو لا؟ فان كان الأوّل لزم أن يكون أعظم مرتبة من العدل ، وهو باطل وإن كان الثاني فهو المطلوب.
2 - الكبيرة المشار إليها هنا وفي قوله تعالى « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » (2) قيل كلّ ذنب رتّب الشارع عليه حدّ أو صرّح بالوعيد فيه ، وقيل ما علم حرمته بدليل قاطع وعن النبيّ صلى اللّه عليه وآله إنّها سبع : الإشراك باللّه ، وقتل النفس الّتي حرّم اللّه ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والربا ، والفرار من الزّحف ، وعقوق الوالدين (3) ، وعن ابن عبّاس هي إلى سبعمائة أقرب منها
ص: 384
إلى سبع ، وقال بعض أصحابنا الذنوب كلّها كبائر ، وإنّما صغر الذنب وكبره بالإضافة إلى ما فوقه وما تحته ، فأكبر الكبائر الشرك باللّه ، وأصغر الصّغائر حديث النفس وبينهما وسائط يصدق عليها الأمران ، فالقبلة بالنسبة إلى الزّنا صغيرة وبالنسبة إلى النظر كبيرة ، فمعنى التكفير في الآية أنّ المكلّف متى عن له أمران منها ودعته نفسه إليهما بحيث لا يتمالك إلّا أن يكفها عن الأكبر منهما يكفّر عنه ما ارتكب لا للاحباط بل بما استحقّ من الثواب على اجتناب الأكبر.
3 - الإصرار على الصّغيرة إمّا فعلي وهو المداومة على نوع واحد منها بلا توبة ، أو الإكثار من جنس الصّغائر بلا توبة ، وإمّا حكميّ وهو العزم على فعل تلك الصّغيرة بعد الفراغ منها أمّا من فعل صغيرة ولم يخطر بباله بعدها توبة ولا عزم على فعلها فالظاهر أنه غير مصرّ ، ولعلّه مما يكفّره الأعمال الصالحة كما تقدّم توجيهه.
4 - المروّة المشار إليها فيما تقدّم هي تنزيه النفس عن الدناءة الّتي لا يليق بأمثاله كالسخرية والمزاح الكثير ، وكشف العورة الّتي يتأكّد استحباب سترها في الصّلاة والأكل في الأسواق غالبا ، ولبس الفقيه لباس الجنديّ بحيث يسخر منه وبالعكس ، وبالجملة المباحات الّتي يستخفّ بفاعلها ، وليس من ذلك الصنائع الدّنيّة كالكنس والحجامة والحياكة وإن استغنى عنها.
الرابعة عشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (1).
يريد كونوا مواظبين على العدل مجتهدين في إقامته « شُهَداءَ لِلّهِ » أي تقيمون الشهادة لوجه اللّه وهو خبر كان أو حال « وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ » أي ولو كان ذلك بإقراركم
ص: 385
على أنفسكم (1) لأنّ الشهادة بيان الحقّ سواء كان عليه أو على غيره وسواء كان المشهود له أو عليه غنيّا أو فقيرا فلا تمتنعوا من الشهادة أو لا تجوروا فيها ميلا إلى الغنيّ أو ترحّما على الفقير ، فانّ اللّه هو المتولّي لهما ، والعارف بمصالحهما ، وتثنية الضّمير في « بِهِما » لرجوعه إلى ما دلّ عليه المذكور ، وهو جنسا الفقير والغنىّ ، لا إليه وإلا لوحّد ، ويدلّ عليه أنّه قرئ شاذّا « فَاللّهُ أَوْلى بِهِما ».
قوله « أَنْ تَعْدِلُوا » أي لأن تعدلوا عن الحقّ ، أو كراهة أن تعدلوا ، قوله « وَإِنْ تَلْوُوا » ألسنتكم عن شهادة الحقّ أو حكومة العدل « أَوْ تُعْرِضُوا » عن أدائها « فَإِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً » فيجازيكم عليه وفيه نوع تهديد ومبالغة.
إذا عرفت هذا فقد دلّت الآية على أمور :
1 - وجوب إقامة العدل في الحكومات مطلقا على نفسه أو على غيره.
2 - وجوب إقرار الإنسان على نفسه بحقّ يكون ثابتا في ذمّته.
3 - وجوب إقامة الشّهادة على الوالدين ، وهو مذهب المرتضى (2) وابن
ص: 386
الجنيد (1) ويدل عليه أيضا رواية داود بن الحصين (2) وغيره (3) وقال الشيخ وأكثر الأصحاب (4) لا يقبل شهادة الولد على والده ، لاستلزام ذلك تكذيب والده ، وهو
ص: 387
عقوق (1) يمنع قبول الشهادة ، ووجوب الإقامة الّذي هو مدلول الآية لا يستلزم القبول (2) لأنّ الإقامة صدوع بالحقّ وهو أعمّ من القبول وعدمه ، وهل حكم الجدّ للأب (3) حكمه؟ الأقرب ذلك أمّا الأم (4) فيقبل شهادة الولد عليها ولها وكذا للأب
ص: 388
ويقبل أيضا شهادة الأب للولد وعليه ، لعموم أدلّة وجوب الإقامة (1) ووجوب القبول من غير معارض.
4 - وجوب الإقامة على الأقارب كلّهم وكذا لهم ، من غير فرق بينهم ، وخالف الفقهاء في ذلك (2) لما فيه من التهمة المانعة من القبول ، ولأنّ الولد بعض الوالد
ص: 389
لكونه مخلوقا من نطفته ، والوالد مادّة للولد ، فهو كالجزء منه ، فيكون كل واحد منهما شاهدا لنفسه ، وكذا الكلام في الأقارب والحقّ خلاف ذلك أمّا أولا فلنصّ الآية الكريمة ، وأمّا ثانيا فلأنّ التهمة مدفوعة بالعدالة ، فلا تكون معارضة للأدلة العامّة ، وأمّا ثالثا فلأنّ البعضيّة ليست حقيقة بل مجازا ، ولكلّ واحد منهما حكم نفسه ، ولذلك قد يكون أحدهما حرّا وإن كان الآخر رقّا.
ص: 390
ص: 391
ص: 392
الخامسة عشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) (1)
أمر سبحانه وتعالى بجعل الحركات وكالأفعال كلّها له أي لوجهه ، بحيث لا يكون فعل من الأفعال إلّا ويوقع إخلاصا لله ، وأمر أيضا بإيقاع الشهادة بالعدل إذ به قوام الدّنيا والآخرة ، قوله « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ » أي لا يحملنكم بغض قوم على
ص: 393
ترك العدل فيهم ، وذلك مستلزم للعدل ، لكن لمّا كانت دلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام ، أمر بالعدل ثانيا ، وقوله « هُوَ » أي العدل « أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » أي إليها ، وفي ذلك مبالغة عظيمة في العدل حيث جعله أقرب إلى حصول مفهومها.
هذا وفي الآية أيضا تأكيد للأمر بإقامة الشهادة ، رعاية لمصالح عباده كما قال وليّ اللّه أمير المؤمنين عليه السلام « فرض اللّه الشهادات استظهارا على المجاحدات » (1) وقال عليه السلام إذا كان الغدر طباعا فالثقة إلى كلّ أحد عجز.
ولنقطع الكلام حامدين لله على جميل إحسانه شاكرين له على توفيقه وامتنانه
ص: 394
قائلين ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربّنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الّذين من قبلنا ، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنّا ، واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على أكرم المرسلين وأشرف الأوّلين والآخرين محمّد خاتم النبيين وآله الطيّبين الطاهرين.
الصورة
ص: 395
الموضوع / الصفحة
كتاب المكاسب
البحث عن الاكتساب بقول مطلق 1
البحث عن أشياء يحرم التكسب بها 11
في تحريم الخمر والميسر 15
البحث في القرعة وأن حكمها ثابت بالكتاب والسنة والاجماع 21
كتاب البيع
أكل الأموال بالباطل 33
الربا 35
ايفاء الكيل 41
الاحتكار 43
كتاب الدين وتوابعه
جواز الاستدانة 45
استدانة الولي للمولى عليه 49
الاستشهاد عند المبايعة والدين 51
شرائط الشهادة 53
إنظار المعسر وإبراء ذمته 57
الرهن
أحكام الرهن وشرائطه 59
الضمان
أحكام الضمان وشرائطه 65
الصلح
أحكام الصلح 67
الوكالة
أحكام الوكالة 69
كتاب فيه جملة من العقود
وجوب الوفاء بالعقد 71
الإجارة. الشركة 73
المضاربة 74
الابضاع 75
الايداع 76
العارية 78
السبق والرماية 80
الشفعة 81
اللقطة 82
الغصب 83
الاقرار 85
الوصية وأحكامها 89
ص: 396
الموضوع / الصفحة
الاشهاد على الوصية 96
أحكام الحجر 101
الوقف والسكنى والصدقة والهبة 113
النذر وأحكامه 114
العهد وأحكامه 116
اليمين وأحكامه 118
العتق وتوابعه 126
كتاب النكاح
أقسام النكاح 134
في عدد الأزواج 139
الزواج وملك اليمين 145
في إباحة المتعة 149
نكاح الإماء 173
في أسباب التحريم
نكاح الأمهات 178
ما يحرم بالنسب 180
ما يحرم بالرضاع 182
ما يحرم بالمصاهرة 184
نكاح المحصنات 190
نكاح المشركات 193
نكاح الكتابيات 199
لوازم النكاح
المهر والصداق والنفقة 201
أقسام الولاية 209
الرجال قوامون على النساء 211
النشوز وبعث الحكمين 213
توابع النكاح
حفظ الفروج والحجاب 220
استيذان العبيد 224
النكاح في الدبر 229
أحكام الرضاع 231
فيما يتعلق بنكاح النبي وأزواجه صلى اللّه عليه وآله 237
روافع النكاح
الطلاق وأحكامه 249
الطلاق الثلاث 265
في التحليل 279
الخلع والمبارات 284
الظهار 288
الايلاء 292
اللعان 293
الارتداد 297
كتاب المطاعم والمشارب
أصل الإباحة 298
ما يحرم على التعيين : الميتة والدم ولحم الخنزير 300
ص: 397
الموضوع / الصفحة
الخمر والميسر 304
في أشياء من المباحات 308
كتاب المواريث
ميراث النسب والولاء 323
طبقات الوراث 326
ميراث الأبوين 329
ميراث الأزواج 331
ميراث الكلالة 332
العول والتعصيب 335
كتاب الحدود
حد الزناء 338
حد القذف 345
حد السرقة 348
حد المحارب 351
كتاب الجنايات
قتل النفس 353
دية المرأة والرجل 359
قتل الخطاء 369
القصاص 371
دية الجنين 375
كتاب القضاء والشهادات
الحكم بغير ما أنزل اللّه 376
حكم داود وسليمان في الغنم 379
تحريم الرشوة 381
وجوب الانقياد للحكم 383
الشهادة بالعدل 385
شهادة القريب للقريب وعليه 387
ص: 398