المؤلف: جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري
الناشر: المكتبة المرتضويّة للإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: 0
الموضوع : الفقه
تاريخ النشر : 0 ه.ق
الصفحات: 415
المكتبة الإسلامية
كنز العرفان في فقه القرآن
للشيخ الأجل جمال الدين المقداد بن عبد اللّه السيوري
المتوفی سنة 826 رحمه اللّه
علق عليه المحقق البارع حجة الإسلام الشيخ محمد باقر (شريف زاده) مد ظله
وأشرف علی تصحيحه اخراج احاديثه محمد باقر البهبودي
من منشورات المكتبة المرتضوية لاحياء الآثار الجعفرية
حقوق الطبع بهذه الصورة محفوظة
1343 ش 1384 ق
الجزء الأول
ناشر: انتشارات مرتضوی (تهران)
تاريخ نشر: 1373
چاپخانه: حیدری
نوبت چاپ: پنجم
تیراژ: 3000
محرر الرقمي: محمّد علي ملك محمّد
ص: 1
بسمه تعالى
الحمد للَّه ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطَّاهرين.
وبعد : فان كتاب كنز العرفان في فقه القرآن تأليف المحقّق الوجيه المدقّق النبيه ، الشيخ الفاضل الفقيه ، جمال الدين ، وشرف المعتمدين ، أبي عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه السيوري المعروف عند الفقهاء الأعلام بالفاضل السيوريّ والفاضل المقداد ، لمّا كان من أحسن ما كتب في ذلك الفنّ ، مطلوب كلّ راغب ، وبغية كلّ طالب ، لكنّه مع عزّة نسخة المطبوعة ، وكثرة الطالبين لها ، لم يكن طبعاته مطبوع أهل الفضل ، عزمنا بحول اللّه وقوّته أن نطبعه بالطبعة الحروفيّة فطبعناه على أحسن ترتيب وأجمل صورة ، مزدانا بالتعاليق النافعة ، مذيّلاً بتخريج أحاديث والإشارة إلى مواضع آياته ، ليكون نفعه أتمّ وفيضه أعمّ.
فهذا هو المجلّد الأوّل منه بين يدي القرّاء الكرام ، من كتاب الطهارة إلى كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجاء بحمد اللّه يروق الناظرين ، يجده الطالب على ما كان يأمله من حسن النظم والتريب ، وجمال الطبع والأوراق.
وسننتشر المجلّد الثاني - إن شاء اللّه - من أوّل كتاب المكاسب إلى آخر الكتاب واللّه وليّ التوفيق ، وهو نعم الموفّق والرفيق.
الشيخ عبد الكريم المرتضوي
مدير المكتبة المرتضوية
ص: 2
باسمه تعالى الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين.
وبعد فيقول الغريق في بحر العصيان ابن محمّد محمّد باقر المدعوّ بشريف زاده گلپايگانى : إنّه سألني الأخ العزيز الحاج الشّيخ عبد الكريم المرتضوي أيّده اللّه تعالى بتأييداته ، عند ما حاول تجديد الطبع لكتاب كنز العرفان للفاضل المقداد السيوريّ ، أن أشرح بعض مطالبه ، وانقح بعض مباحثه ، وأبيّن بعض المكنون من نفائس محتوياته ، فأجبته شاكرا إقدامه على طبع الكتب الدينيّة ، ونشره العلوم الإسلاميّة ، راجيا من القارئين الكرام أن يعذروني إن وقفوا على خطاء أو سهو ، ويقيلوني إن وجدوا عثرة أو زلّة ، وأن لا يضنّوا عليّ بملاحظاتهم القيّمة فانّي أتقبّلها مع الشّكر الجزيل ، وأسأل اللّه أن يجعل ذلك ذخرا لي ليوم المعاد.
ص: 3
هو الشّيخ الفاضل الفقيه جمال الدّين وشرف المعتمدين أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه بن محمّد بن الحسين بن محمّد السيوريّ الحلّي الأسديّ الغرويّ المعروف بالفاضل السيوريّ والفاضل المقداد ، عند الفقهاء المتأخّرين ، كان من أجلّاء الأصحاب ، وعظماء مشايخ الرّجال جامعا بين المعقول والمنقول ، عالما فاضلا متكلّما محقّقا مدقّقا من أعاظم الفقهاء قد أثنى عليه كلّ من عنونه بالثناء الجميل ، والذّكر النبيل. أفاض اللّه على تربته سجال لطفه.
لكنّا لم نعثر في كتب الرّجال والتراجم على شرح حاله وكيفيّة حياته إلّا على أنّه سيوريّ ، أسديّ ، غرويّ من أجلّ تلامذة الشّهيد فالرّجل مع نبالته وعظم شأنه عند الأصحاب ، ورواج كتبه المؤلّفة في شتّى المواضيع ، لم يعرف إلّا بأنّه من سيور قرية من قرى حلّة (1) وأنّه كان من بني أسد المتوطّنين بالعراق
ص: 4
وتتلمّذ عند الشّهيد وسمع منه عند ما ارتحل الشّهيد إلى النّجف الغريّ ، وتوفّي رحمه اللّه سنة 826 الهجرية ودفن في مقابر النجف (1).
إلّا أنّه حيّ معروف بحياته العلميّة ، مذكور بكتبه القيّمة ، وقد اعتنى المترجمون بالبحث والتّنقيب عن كتبه ، والتطلّع على ما فيها من التحقيقات والعوائد ، والتدقيقات والفوائد ، يثنون عليه الثّناء الجميل. فليس لنا إلّا أن نعرّفه بحياته العلميّة ، ونسرد إليكم كتبه القيّمة الثمينة.
ص: 5
كان رحمه اللّه من أجلّاء تلامذة الشّهيد ، والرّاوين عنه ، وهو :
تاج الشّريعة ، وفخر الشّيعة ، علّامة المتقدّمين ، شمس الملّة والدّين ، أبو عبد اللّه محمّد بن الشّيخ جمال الدّين مكّيّ بن الشّيخ شمس الدّين محمّد بن حامد بن أحمد النبطيّ العامليّ الجزّينيّ - نسبة إلى جزّين من قرى جبل عامل - وهو المعروف بالشّهيد الأوّل قدّس اللّه سرّه ، ذو الفضل الباهر ، والثّناء العاطر ، أشهر وأعرف وأعظم من أن يعدّ فضائله في هذا المجال.
كان مؤلّفنا - أعلى اللّه مقامه - من مشاهير تلامذته والرّاوين عنه ، له اختصاص وحظوة عند الأستاذ ، وولع بالبحث والتّنقيب عنده ، ومن ذلك عمد إلى كتاب شيخه « القواعد الفقهيّة » فنضده ورتّبه على أحسن ترتيب وسمّاه « نضد القواعد » كما سيجي ء ، كما أنّه ساءله - أو كاتبه - في مسائل عديدة خلافيّة فأجاب عنها ، فسمّيت تلك المسائل مع أجوبتها بكتاب « المسائل المقداديّة » قال صاحب الرّوضات : وهو الّذي ينقل عنه في كتبنا الاستدلاليّة الفتاوي والخلافيّات وكان نسبة تلك المسائل إلى تلميذه الشّيخ مقداد السيوريّ قدس سره النوريّ (1).
وقد نقل رحمه اللّه كيفيّة شهادة أستاذه وشيخه الشهيد ننقله بعين عبارته المنقولة المكتوبة :
قال العلامة المجلسي في بحار الأنوار (2) : وجدت في بعض المواضع ما صورته : قال السيد عزّ الدّين بن حمزة بن محسن الحسينيّ رحمه اللّه : وجدت بخطّ شيخنا المرحوم المغفور له ، العالم العابد ، أبي عبد اللّه المقداد السيوريّ ما هذه صورته :
وقال صاحب اللؤلؤة (3) : ورأيت بخطّ شيخنا العلّامة أبي الحسن الشيخ
ص: 6
سليمان بن عبد اللّه البحرانيّ ما صورته : وجدت في بعض المجموعات بخطّ من أثق به منقولا من خطّ الشيخ العلّامة جعفر بن كمال الدّين البحرانيّ ما هذه صورته :وجدت بخطّ شيخنا المرحوم المبرور ، العالم العامل ، أبي عبد اللّه المقداد السيوريّ ما هذه صورته :
كانت وفاة شيخنا الأعظم ، الشّهيد الأكرم ، أعني شمس الدّين محمّد بن مكّيّ قدّس في حظيرة القدس سرّه ، تاسع عشر جمادى الأولى سنة ستّ وثمانين وسبعمائة قتل بالسيف ، ثمّ صلب ، ثمّ رجم ، ثمّ أحرق ببلدة دمشق ، لعن اللّه الفاعلين لذلك والرّاضين به ، في دولة بيد مرو ، وسلطنة برقوق ، بفتوى المالكيّ ، يسمّى برهان الدّين وعباد بن جماعة الشافعيّ ، وتعصّب عليه في ذلك جماعة كثيرة بعد أن حبس في القلعة الدمشقيّة سنة كاملة.
وكان سبب حبسه أن وشى به تقيّ الدّين الجبليّ - أو الخياميّ - بعد ظهور أمارات الارتداد منه ، وأنّه كان عاملا ثمّ بعد وفاة هذا الواشي [ الفاجر ] ، فأقام على طريقته شخص اسمه يوسف بن يحيى ، وارتدّ عن مذهب الإماميّة ، وكتب محضرا شنّع فيه على الشّيخ شمس الدّين محمّد بن مكّي بأقاويل شنيعة ، ومعتقدات فضيعة وأنّه كان أفتى بها الشّيخ محمّد بن مكّيّ ، وكتب في ذلك المحضر سبعون نفسا من أهل الجبل ، ممّن كان يقول بالإمامة والتشيّع ، وارتدّوا عن ذلك ، وكتبوا خطوطهم تعصّبا مع يوسف بن يحيى في هذا الشّأن ، وكتب في هذا ما يزيد على ألف من أهل السّواحل من المتسنّين ، وأثبتوا ذلك عند قاضي بيروت ، وقيل قاضي صيدا ، وأتوا بالمحضر إلى القاضي عبّاد بن جماعة لعنه اللّه بدمشق ، فنفذه إلى القاضي المالكيّ وقال له : تحكّم فيه بمذهبك وإلّا عزلتك.
فجمع الملك بيد مرو الأمراء والقضاة والشّيوخ ، لعنهم اللّه جميعا ، وأحضروا الشّيخ رحمه اللّه وأحضروا المحضر وقرئ عليه ، فأنكر ذلك وذكر أنّه غير معتقد له - مراعيا للتقيّة الواجبة - فلم يقبل منه وقيل له قد ثبت ذلك شرعا ولا ينتقض حكم القاضي.
ص: 7
فقال الشّيخ للقاضي عبّاد بن جماعة : إنّي شافعيّ المذهب وأنت إمام المذهب وقاضيه ، فاحكم في بمذهبك ، وإنّما قال الشّيخ ذلك لأنّ الشافعيّ يجوّز توبة المرتدّ ، فقال ابن جماعة لعنه اللّه : على مذهبي يجب حبسك سنة كاملة ثمّ استتابتك أمّا الحبس فقد حبست ، ولكن تب إلى اللّه واستغفر حتّى أحكم بإسلامك ، فقال الشّيخ : ما فعلت ما يوجب الاستغفار - خوفا من أن يستغفر فيثبت عليه الذنب - فاستغلظه ابن جماعة وأكّد عليه فأبى عن الاستغفار فسارّه ساعة ثمّ قال : قد استغفرت فثبت عليك الحقّ.
ثمّ قال للمالكيّ : قد استغفر والآن ما عاد الحكم إليّ ، غدرا منه وعنادا لأهل البيت عليهم السلام ، ثمّ قال عبّاد : الحكم عاد إلى المالكيّ فقام المالكيّ وتوضّأ وصلّى ركعتين ثمّ قال : قد حكمت بإهراق دمه ، فألبسوه اللباس ، وفعل به ما قلناه من القتل ، والصّلب ، والرّجم ، والإحراق ، وساعد في إحراقه شخص يقال له محمّد بن الترمذيّ مع أنّه ليس من أهل العلم وإنّما كان تاجرا فاجرا. انتهى
كان - رحمه اللّه - علما من الأعلام ، ووجها من وجوه أصحابنا ، يرود إليه طلّاب العلم ، وروّاد الفضل ، فهو شيخ من المشايخ العظام ، أسطوانة للفقه والكلام قد تخرّج عليه جمع من الفقهاء ، وسمع منه كثير من مشايخ الإجازة :
منهم : شيخ مشايخ الإماميّة في عصره ، أبو الحسن علي بن هلال الجزائري مولدا العراقيّ أصلا ومحتدا ، ففي إجازة المحقّق الكركيّ للقاضي صفيّ الدّين عيسى ، قال بعد ما أثنى على شيخه أبي الحسن عليّ بن هلال الجزائريّ ثناء بالغا :وهذا الشيخ الجليل يروي عن جماعة من الأساطين من أجلّاء تلامذة الشهيد الأوّل وفخر المحقّقين منهم الشّيخ مقداد بن عبد اللّه السيوريّ عن الشهيد (1).
ص: 8
2 - الشّيخ شمس الدّين محمّد بن الشجاع القطّان الأنصاريّ الحلّي العالم الكامل صاحب كتاب معالم الدّين في فقه آل ياسين المعروف بابن القطّان.
3 - رضيّ الدّين عبد الملك بن شمس الدّين إسحاق بن عبد الملك بن محمّد بن محمّد بن فتحان الحافظ القميّ محتدا القاسانيّ مولدا.
4 - الشّيخ الصالح العالم الفاضل زين الدّين عليّ بن الحسن بن علالة وكان من تلامذته أيضا أجازه في ثاني جمادى الآخرة سنة 822 قال صاحب الرّياض : رأيت كتاب الأربعين حديثا للمقداد رحمه اللّه في أردبيل في مجموعة بخطّ تلميذ المصنّف وعليه إجازته له صورتها :
« أنهى قراءة هذه الأحاديث الشّيخ الصالح العالم الفاضل زين الدّين عليّ بن حسن بن علالة وأجزت له روايتها عنّي عن مشايخي قدّس أرواحهم وكتب المقداد ابن عبد اللّه السيوريّ في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة 822 (1).
5 - الفاضل الفقيه والشاعر الأديب الشّيخ حسن بن راشد الحلّيّ ، وكان من تلامذته أيضا ، له ارجوزة في تاريخ الملوك والخلفاء ، وارجوزة في تاريخ القاهرة ، وارجوزة نظم فيها ألفيّة الشّهيد قدس سره المسمّاة « بالجمانة البهيّة في شرح الألفيّة » فرغ من نظمها سنة 825 وعدد الأبيات 653 ، وقد قرّظ منظومته الجمانة هذه شيخه المقداد تقريظا لطيفا ، وهو الّذي أرّخ وفاة شيخه المقداد لسنة 826 ، له أيضا قصائد تعرف بالحلّيّات وغير ذلك (2).
وكان رحمه اللّه معاصرا للشيخ فخر الدّين أحمد بن عبد اللّه بن سعيد بن المتوّج البحرانيّ صاحب المؤلّفات الكثيرة الّتي منها « النّهاية في تفسير الخمسمائة آية » وهي آيات أحكام القرآن بمقتضى حصر الفقهاء المحقّقين (3). قال في اللؤلؤة عند
ص: 9
ذكره لابن المتوّج : كان معاصرا للشّيخ المقداد صاحب كنز العرفان وهو المعنيّ بقوله قال المعاصر (1)
أقول : قد عبّر المصنّف رحمه اللّه عنه بقوله : قال المعاصر في ص 108 و 143 و 222 و 390 وغير ذلك من طبعتنا هذه وكأنّه ينقل عن كتابه النّهاية في آيات الأحكام وهذا دليل على أنّ كتابه النّهاية كان عند المصنّف رحمه اللّه يطالعه فيبحث عنه ولذلك يقول : قال المعاصر. وأمّا ما ذكره الرّوضات : « والمعني بقوله فيه ( يعنى كتاب النّهاية ) قال المعاصر هو الشّيخ شرف الدّين مقداد بن عبد اللّه السيوريّ في كنز العرفان (2) » فالظاهر أنّه خلط لكلام صاحب اللؤلؤة كما لا يخفى.
وكان للمقداد رحمه اللّه ولد يسمّى عبد اللّه ولأجل ذلك كنّوه بأبي عبد اللّه وهو الّذي ألّف له المقداد كتاب الأربعين حديثا ، على ما صرّح به في رياض العلماء (3).
كان - رحمه اللّه - فاضلا محقّقا مدقّقا أديبا ، ذا رأى بديع ، وذوق لطيف فأتقن تآليفه وكتبه أحسن إتقان ، ورتّبها على أجمل ترتيب وأقوم برهان ، أودع فيها من لطائف التّحقيقات ، وبدائع الفوائد ، ما يروق النّاظر ، ويفيد الطّالب ، ويهديه إلى بغيته المطلوبة.
فمنها رسالة آداب الحجّ. قال في الرّياض : رأيته في مجموعة بخطّ تلميذ المصنّف رحمه اللّه الشيخ زين الدّين عليّ بن الحسن بن علالة ، وعلى ظهره إجازة المصنّف لتلميذه الكاتب المذكور ، وتاريخ الإجازة الخامس والعشرون من جمادى الآخرة سنة 822 (4).
ص: 10
ومنها الأدعية الثّلاثون. يحوي ثلاثين دعاء من أدعية النّبيّ والأئمّة المعصومين عليهم السلام ، قال في الذّريعة (1) : رأيت نسخة منه بخطّ جعفر بن محمّد بن بكّة الحسينيّ سنة 940 في كتب السّيد محمّد علي السّبزواري بالكاظميّة.
ومنها الأربعون حديثا. قال صاحب الرّياض : رأيته في أردبيل في مجموعة بخطّ تلميذ المصنّف - ره - وعليه إجازته له وقد ألّفه لولده الشّيخ عبد اللّه كما مرّ الإشارة إليه.
ومنها إرشاد الطّالبين : إلى نهج المسترشدين. هو شرح نهج المسترشدين في أصول الدّين تأليف العلامة الحلّي. شرحه المترجم له رحمه اللّه بعنوان « قال :أقول : » فرغ منه آخر نهار الخميس الحادي والعشرين من شعبان سنة 792 ، وطبع ببمبئى سنة 1303 (2).
ومنها شرح ألفيّة الشّهيد قدس سره (3) قال في اللؤلؤة نسبه إليه بعض مشايخنا المعاصرين نوّر اللّه مراقدهم (4).
ومنها الأنوار الجلاليّة : في شرح الفصول النصيريّة لخواجه نصير الدّين الطوسيّ. والفصول أصله فارسيّ قد ترجمه إلى العربيّة ركن الدّين محمّد بن عليّ الجرجانيّ تلميذ العلّامة الحلّي والمؤلّف رحمه اللّه قد شرح تلك النسخة المعرّبة بعنوان « قال أقول » وصدّره باسم الملك جلال الدّين عليّ بن شرف الدّين المرتضى العلويّ الحسيني الآوي ، وسمّاه باسمه. قال في الذّريعة : رأيت منه نسخا منها نسخة بخطّ عليّ بن هلال والظّاهر أنّه الكركيّ (5) المجاز من المحقّق الكركيّ
ص: 11
تاريخ كتابتها سنة 980 ، وقال في الرّوضات : وإنّما نقله إلى العربيّة ( يعني الفصول النصيريّة ) قريبا من عصر المصنّف شيخنا المحقّق ، المتقن المنصف ، ركن الملّة والدّين ، محمّد بن عليّ الفارسيّ الجرجانيّ الأصل والمحتد ، والأستراباديّ المنشأ والمولد ، كما استفيد لنا من شرحه الرّشيق الّذي كتبه على سبيل التّحرير والتّحقيق الشّيخ مقداد بن عبد اللّه السيوريّ الحلّيّ فيما وجدنا النسبة إليه - رحمه اللّه - على ظهر بعض نسخه الّذي شاهدناه ، وفيه أيضا أنّ قلم هذا الشّارح المؤيّد المسدّد ، خدم بشرحه ذلك جناب صاحب البلد ، والملك الأوحد الأمجد ، والرئيس الأجلّ الأنجب الأرشد الأسعد ، الأمير جلال الدّين أبي المعالي عليّ بن شرف الدّين المرتضى العلويّ الحسينيّ الآويّ ، وسمّاه من هذه الجهة ، والعلّة الغائيّة ، بالأنوار الجلاليّة للفصول النصيرية (1).
ومنها تجويد البراعة : في شرح تجريد البلاغة. في علمي المعاني والبيان المتن تأليف الشّيخ كمال الدّين ميثم بن عليّ بن ميثم البحرانيّ المتوفّى 679 ويقال له أصول البلاغة. وبلحاظ الجناس سمّى الفاضل المقداد شرحه له بتجويد البراعة في شرح تجريد البلاغة (2).
ومنها التنقيح الرائع : في شرح مختصر الشرائع. قال صاحب الرّوضات :وأمّا كتابه التنقيح ، الّذي هو في الحقيقة معلمه الوضيع ، فهو أمتن كتاب في الفقه الاستدلاليّ ، وأرزن خطاب ينتفع به الدّاني والعالي ، وفيه من الفوائد الخارجة شي ء كثيرا ومن الزوائد النافجة نبذ غفير ، منها ما نقل فيه عن ابن الجوزيّ أنّه قال في وجه تسمية أيّام البيض من أقسام الآونة في الشّهور : سمّيت بذلك لبياض لياليها والعامّة تقول : الأيّام البيض. حتّى أنّ بعض الفقهاء جرى في كتبه على طريق العامّة في ذلك وهو خطأ فإنّ الأيّام كلّها بيض لكنّ العرب يسمّي كلّ ثلاث ليال من الشّهر باسم وسيأتي تفصيلها في النكاح.
ص: 12
ثمّ ذكر في كتاب النّكاح أنّ العرب تسمّي كلّ ثلاث ليال من الشّهر باسم فلها حينئذ عشرة أسماء : غرر ، ثمّ نفل ، ثمّ تسع ، ثمّ عشر ، ثمّ بيض ، ثمّ درع ثمّ ظلم ، ثمّ حنادس ، ثمّ الدادي ، ثمّ محاق. » فذكر وجه تسمية الأيّام بتلك الأسماء فراجع (1)
وقال في الذريعة : التّنقيح الرائع من المختصر النافع الّذي هو اختصار الشّرائع. والتّنقيح شرح وبيان لوجه تردّداته في المختصر الّذي هو كأصله للمحقّق الحلّيّ المتوفّى 676 والشّرح للفاضل المقداد وهو شرح تامّ من الطهارة إلى الدّيات في مجلّدين بعنوان « قوله : قوله : » فرغ منه في تاسع ربيع الأوّل سنة 818 ونسخة عصر المؤلّف توجد في الخزانة الرضويّة كما في فهرسها كتبت في 821 (2)
ومنها الجامع الفوائد : في تلخيص القواعد. كما نسب إليه قدس سره (3) وكأنّه بعد ما نضّد كتاب شيخه الشهيد القواعد الفقهيّة وسماه نضد القواعد على ما يأتي ، لخّصه ثانيا وسمّاه الجامع الفوائد في تلخيص القواعد
ومنها شرح سى فصل : لخواجه نصير الدّين الطوسيّ في النجوم والتّقويم الرقميّ (4)
ومنها كنز العرفان : في فقه القرآن وسيأتي تمام البحث فيه.
ومنها اللّوامع الإلهيّة : في المباحث الكلاميّة قال في الرّوضات : من أحسن ما كتب في فنّ الكلام ، على أجمل الوضع وأسدّ النظام ، وهو في نحو من أربعة آلاف بيت ، ليس فيه موضع ليت كان كذا وليت (5).
ومنها النّافع يوم الحشر : في شرح الباب الحادي عشر ، للعلامة. وهو المتداول عند الطلاب المطبوع مرارا من بين الشّروح ، وقد كتبت عليه حواشي وتعليقات (6).
ص: 13
ومنها نضد القواعد الفقهيّة : على مذهب الإماميّة. قال في الرّوضات :
وهو كتاب بديع رتّب فيه قواعد شيخه الشّهيد على ترتيب أبواب الفقه والأصول من غير زيادة شي ء على أصل ذلك الكتاب ، غير ما رسّمه في مسألة القسمة منه.
قال قدس سره في ديباجة كتابه ذلك : أمّا بعد فإنّ اتباع الحسنة بالحسنة في العمر الّذي سنه منه سنة ، من أعظم الرغائب ، وأسنى المواهب ، ولمّا وفّق اللّه لزبر كتاب اللّوامع الإلهيّة ، في المباحث الكلاميّة ، رأيت اتباعه بكتاب في المسائل الفقهيّة ، والمباحث الفروعيّة ، إحدى الحسنيين ، وأجدى الموهبتين ، وكان شيخنا الشّهيد قدس سره قد جمع كتابا مشتملا على قواعد وفوائد في الفقه تأنيسا للطلبة بكيفيّة استخراج المنقول من المعقول ، وتدريبا لهم في اقتناص الفروع من الأصول لكنّه غير مرتّب ترتيبا يحصّله كلّ طالب ، وينتهز فرصة كلّ راغب ، فصرفت عنان العزم إلى ترتيبه وتهذيبه ، وتقرير ما اشتمل عليه وتقريبه ، وسمّيته نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الإماميّة إلخ (1)
وقد رتّبه على مقدّمة في تعريف الفقه وما يتعلّق بذلك ، وقطبين : الأوّل منهما في العبادات والثّاني في المعاملات وفيه أحكام العقود والإيقاعات.
وقد كان عندنا نسخة منه تفضّل بها الفاضل المحترم الأستاذ المكرّم مرتضى المدرّسيّ الچاردهيّ ، فنقلنا قاعدتين منه الاولى في ص 135 والثانية في ص 198 حيث أحال المصنّف رحمه اللّه توضيح المرام إلى كتابه النضد. فراجع.
ومنها نهج السّداد : في شرح واجب الاعتقاد ، للعلامة (2).
ومنها شرح مبادئ الأصول : للعلامة (3).
ومنها تفسير مغمضات القرآن (4).
ص: 14
قد ألّف الباحثون المدقّقون من أصحابنا رضوان اللّه عليهم مؤلّفات كثيرة في آيات الأحكام قديما وحديثا لكنّه لم يرزق واحد منها من الشّهرة والرّغبة والتّنافس في أخذه ونسخه وبحثه والتطلع عليه مثل ما رزق هذا السفر القيّم الّذي ألّفه الفاضل الفقيه ، والمحقّق النبيه ، الشيخ جمال الدّين ، وشرف المعتمدين ، أبو عبد اللّه المقداد بن عبد اللّه السيوريّ المعروف بالفاضل السيوريّ والفاضل المقداد ، وليس ذلك إلّا لفضله الباهر ، وبيانه القاهر ، وتحقيقاته العميقة ، وفوائده العامّة الأنيقة.
فطار صيت هذا المؤلّف كفضل مؤلّفه بين العامّ والخاصّ وتعاطي نسخه وكتابته الفضلاء والعلماء ، ورغب فيه كلّ باحث وطالب ، فترى نسخه الخطيّة وافرا موجودا في كلّ مكتبة ، وعندنا منه ثلاث نسخ خطيّة قابلنا عليها نسختنا المطبوعة هذه وسنعرّفها بعيد هذا.
وهذا السفر القيّم كنز العرفان في فقه القرآن في فضله واشتهار صيته يشبه مجمع البيان في تفسير القرآن لأمين الدّين الفضل بن الحسن الطبرسيّ. كما أنّه يشبهه في نسقه وترتيبه ، ونقل الأقوال ، وحسن الانسجام ، وبديع الجمال.
وقد اعتمد عليه مؤلّفنا أعلى اللّه مقامه فأكثر النقل منه عند بيان الأقوال ، ونقل الأحاديث والرّوايات (1) وشأن نزول الآيات ، كما ستعرف ذلك عند سبر
ص: 15
أوراق الكتاب مع ما أشرنا إليه في ذيلها من المصادر والمآخذ.
وكما اشتهر عند العامّة تفسير مجمع البيان للطبرسيّ اشتهر عندهم كنز العرفان للفاضل السيوريّ ، وقد عنونه بعض المتأخّرين من المعاصرين في كتابه « التّفسير والمفسّرون (1) ».
فجعل كتابه رابع أربعة بعد كتاب أحكام القرآن للجصّاص وابن العربيّ وقال : مؤلّف هذا التفسير هو مقداد بن عبد اللّه بن محمّد بن الحسين بن محمّد السيوريّ أحد علماء الإماميّة الاثنى عشريّة ، والمعروف بينهم بالعلم والفضل ، والتّحقيق والتّدقيق ، وله مؤلّفات كثيرة.
ثمّ قال : تحت عنوان « التّعريف بهذا التّفسير وطريقة مؤلّفة فيه » :
يتعرّض هذا التفسير لآيات الأحكام فقط ، وهو لا يتمشّى مع القرآن سورة سورة على حسب ترتيب المصحف ، ذاكرا ما في كلّ سورة من آيات الأحكام كما فعل الجصّاص وابن العربيّ مثلا ، بل طريقته في تفسيره : أنّه يعقد أبوابا كأبواب
ص: 16
الفقه ، ويدرج في كلّ باب منها الآيات الّتي تدخل تحت موضوع واحد ، فمثلا يقول : باب الطّهارة ثمّ يذكر ما ورد في الطّهارة من الآيات القرآنيّة ، شارحا كلّ آية منها على حدة ، مبيّنا ما فيها من الأحكام ، على حسب ما يذهب إليه الإماميّة الاثنا عشريّة في فروعهم ، مع تعرّضه للمذاهب الأخرى وردّه على من يخالف ما يذهب إليه الإماميّة الاثنا عشريّة ، إلى آخر ما قال.
وقد اعتمدنا في تصحيح الكتاب ومقابلته على النسختين المطبوعتين من قبل إحداهما المستقلّة المطبوعة بالقطع الوزيري ، وثانيهما المطبوعة في هامش تفسير محمّد ابن القاسم الأستراباديّ المنسوب إلى الامام العسكري عليه السلام بالقطع الكبير.
وعلى نسخ خطّيّة نذكر منها ثلاث نسخ مصحّحة مع صورتها الفتوغرافيّة :
1 - نسخة عتيقة مصحّحة وعليها حواشي كثيرة غير أنّها ناقصة من ورق 125 إلى ورق 133 ومن ورق 267 إلى ورق 283 وهو آخر الكتاب وهكذا قد ضاع قدر سطر أو سطرين من ورق 184 إلى ورق 267 آخر النسخة العتيقة فرقّعها الوصّال وكتب عليها بخطّ آخر.
وقد كتب على ظهر النسخة محمّد الموسويّ الجزائريّ في 11 شعبان 1383 ما هذا لفظه :
هذا كتاب كنز العرفان في شرح آيات الأحكام للفاضل المقداد قدس سره وهو مطبوع ، والنسخة تمتاز بالتعليقات الّتي عليها للعلامة الشيخ يعقوب بن إبراهيم البختياري الحويزيّ المتوفّى حدود سنة 1150 المترجم في الإجازة الكبيرة لمعاصره العلّامة النابغة السيد عبد اللّه الجزائريّ المتوفى 1173 وقد كانت ناقصة فكمّلها الفاضل الشيخ حسين بن الحسن بن عليّ بن عليّ النجّار التستريّ ، والد العلّامة المجتهد الواعظ الشيخ جعفر الشهير وكانت لي فوهبتها لشيخنا العلّامة التقيّ ، الحاجّ الشيخ محمّد تقيّ حفيد الشّيخ المزبور وأرجو منه القبول ، وألتمس منه الدعاء. انتهى
ص: 17
2 - نسخة مصحّحة مخطوطة بخطّ جيّد كتبه مسعود بن حيدر الحسنيّ الزواري فرغ منها ليلة الأربعاء الرابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة تسع وتسعين وتسعمائة. (979). وعليها حواشي متفرّقة وفي أوّلها لوحة مذهّبة.
3 - نسخة مصحّحة مخطوطة بخطّ علي أكبر بن عين اللّه الويسي فرغ منها في شهر جمادى الآخرة من سنة 1041 وعليها أيضا حواشي متفرّقة.
وهاتان النسختان لمكتبة آية اللّه العلّامة الأستاذ أبي المعالي السيّد شهاب الدّين الحسينيّ المرعشيّ النجفيّ دامت بركاته.
والحمد لله أوّلا وآخرا
ربيع الثّاني 1384
محمد الباقر البهبودى
ص: 18
ص: 19
ص: 20
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الّذي أنزل (1) على عبده الكتاب لكلّ شي ء تبيانا ، وجعله لتصديق نبوّته وتأييد رسالته معجزا وبرهانا ، فنزّله نورا وهدى وعبرة للعالمين ، وضمنه جوامع الكلم فكان تبصرة وذكري للعالمين ، وأخرس بفصاحته ألسنة العرب العرباء (2) وأبكم ببلاغته مصاقع (3) البلغاء والخطباء ، وأتقن تهذيبه وأحكم ترتيبه غاية الإحكام ، وصيّره دليلا وحجّة للحكّام في اقتناص (4) الأحكام ، وعصم من تمسّك به
ص: 1
وبالعترة من الزّيغ والطّغيان ، ووعد على التمسّك بهما الفوز برضاه والخلود في الجنان.
والصّلوة على المكنّي عنه بالعبوديّة والنبوّة والإرسال ، المنعوت بالرّأفة الموصوف بالرّحمة المؤيّد بالعصمة في الأقوال والأفعال ، محمّد البشير النّذير ، والدّاعي إلى الحقّ والسّراج المنير ، وعلى آله المعصومين وعترته الأطهرين ، كنوز العلم ورعاته ودعاة الحقّ وولاته ما استدارت الخضراء على الغبراء ، واستنارت الغبراء من الخضراء.
أمّا بعد : فانّ القرآن بحر لا يفنى عجائبه ، ولجّ لا ينقضي غرائبه ، من طلب الهدى وجده في ظواهره وخوافيه ، ومن رام العصمة من العمى وجدها في منشورة ومطاويه ، علومه لا تعدّ ولا تحصى ، وفنونه لا تحصر ولا تستقصى ، وكان علم الأحكام الشرعيّة والمسائل الفقهيّة الّذي هو فنّ من فنونه وقطف (1) من غصونه أعمّ نفعا للعوامّ والخواصّ ، وأجدى عائدة وأولى بالاختصاص ، إذ به ينتظم قواعد المعاش في العاجلة ، ويتمّ سعادة المعاد في الآجلة ، وكانت الآيات الكريمة الّتي هي مرجع جملة من مسائله أجلّ حجج فتواه وأكبر دلائله ، قد اعتنى العلماء بالبحث عنها واستخراج السرّ الدّفين منها ، لكني لم أظفر بكتاب في تنقيح تلك الآيات بما يبرد الغليل ويشفي العليل ، ويحتوي على جملة ما يبغيه الراغب ، ويستطرفه الطّالب بل إمّا مسهب (2) بذكر الأقاويل والأخبار ، أو مقصّر قد ملّل بالايجاز والاختصار فحداني ذلك على وضع كتاب يشتمل على فوائد قد خلا عنها أكثر التّفاسير وفرائد لم يعثر عليها إلّا كلّ نحرير ، وضممت إلى ذلك فروعا فقهيّة تقتضيها نصوص تلك الآيات أو ظواهرها ، ونكات معان وعجيب غرائب يلمع لدى الفضلاء زواهرها ، يظهر بذلك من الآيات سرّها المكنون وجوهرها الثمين المصون بحيث يعجب بذلك النّاظرون وما يعقلها إلّا العالمون. وسمّيته : كنز العرفان في فقه القرآن والمسؤول
ص: 2
من ذي الجود والإفضال ، أن يجعله نورا في صحائف الأعمال ، أنّه بطوله وكرمه يسمع ويجيب ، وما توفيقي إلّا باللّه عليه توكّلت وإليه أنيب.
وهو مرتّب على مقدّمة وكتب ، أما المقدّمة فيشتمل على فوائد (1).
الأولى : اللّفظ المفيد وضعا إن لم يحتمل غير ما فهم منه بالنّظر إليه فهو النصّ وإن احتمل فان ترجّح أحد الاحتمالين بالنّظر إليه أيضا فهو الظّاهر والمرجوح المؤوّل ، وإن تساوى الاحتمالان فهو المجمل ، والقدر المشترك بين النصّ والظّاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه. وقد يتركّب بعض هذه مع
ص: 3
بعض ، مثال النصّ : قوله تعالى ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) (1) إذ لا يحتمل غير الوحدانيّة مثال الظّاهر : قوله ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) (2) مثال المؤوّل ( يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (3) في إرادة القدرة ، مثال المجمل ( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ ) (4) في احتمال أقبل وأدبر.
الثّانية : اللّفظ الدّالّ على الماهيّة إمّا أن يدلّ عليها من حيث هي هي لا بقيد وحدة أو كثرة أولا ، والأوّل المطلق والثّاني إن دلّ بقيد وحدة فإمّا معيّنة فهو العلم كزيد والمضمر ، أو غير معيّنة وهو النكرة ويقال له أيضا الشّخص المنتشر ، وإن دلّ بقيد كثرة فامّا محصورة بالنّظر إليه وهو اسم العدد ، أو غير محصورة فامّا أن يكون شاملة لكلّ الأفراد فهو العامّ أو غير شاملة وهو الجمع المنكّر ، فالفرق حينئذ بين العامّ
ص: 4
والمطلق أنّ المطلق يدلّ على الماهيّة من حيث هي هي لا بقيد وحدة أو كثرة والعامّ يدلّ عليها مع قيد الكثرة الشاملة ، وألفاظ العموم : كلّ وجميع ومتى ومن وما وحيثما وأنّى والجمع المعرّف باللّام والجمع المضاف والحق غيرها وتحقيقه في الأصول.
ثمّ العام إن ورد [ عليه ] ما يدلّ على إخراج بعض ما يصحّ أن يتناوله اللّفظ سمّي ذلك المخرج مخصّصا والعام مخصوصا ، وكذا المطلق إن ورد ما يدلّ على الماهيّة بصفة زائدة سمّي ذلك مقيّدا والمطلق مقيّدا ، وكذلك المجمل إن ورد لفظ أو فعل مبيّن لأحد محتملاته سمّي ذلك مبيّنا والمجمل مبيّنا وتحقيق ذلك كلّه في أصول الفقه.
الثالثة : اشتهر بين القوم أنّ الآيات المبحوث عنها نحو من خمسمائة آية وذلك إنّما هو بالمتكرّر والمتداخل وإلّا فهي لا تبلغ ذلك ، فلا يظنّ من يقف على كتابنا هذا ويضبط عدد ما فيه : أنّا تركنا شيئا من الآيات فيسيئ الظنّ به ولم يعلم أنّ المعيار عند ذوي البصائر والأبصار ، إنّما هو التّحقيق والاعتبار ، لا الكثرة والاشتهار.
وعلى التقديرين يرد هنا سؤال تقريره أنّه ورد في الحديث عنهم عليهم السلام :القرآن أربعة أرباع ربع فينا وربع في عدوّنا وربع [ في ] فرائض وأحكام وربع في قصص وأمثال (1) والقرآن ستّة آلاف آية وستّمائة وستّة وستّون آية فكيف يكون خمسمائة وأقلّ ربعه؟ والجواب من وجهين :
الأوّل : ليس المراد الرّبع حقيقة وهو جزء من أربعة أجزاء متساوية في المقدار ، بل الرّبع باعتبار المعنى فلا يلزم أن يكون الأرباع متساوية من حيث المقدار.
الثّاني : أنّ الفرائض والأحكام قد تكون فقهيّة وقد تكون أصوليّة والآيات المذكورة فقهيّة لا غير فجاز كون تمام الرّبع في فرائض وأحكام غير فقهيّة إذا تقرّر هذا فلنشرع في الكتب.
ص: 5
وفيه مقدّمة وآيات.
أمّا المقدّمة :فالطّهارة لغة النّزاهة قال اللّه تعالى ( يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ ) (1) أي نزّهك وشرعا تطلق حقيقة عند بعضهم على رافع الحدث أو المبيح للصّلوة فتعريفها حينئذ هو ما يبيح الدّخول في الصّلوة وإن أطلقت على غير المبيح فمجاز كغسل الجمعة والوضوء المجدّد وعند الأكثر تطلق عليهما حقيقة فأجود تعريفاتها حينئذ استعمال طهور مشروط بالنيّة ، وقد تطلق مجازا بالاتّفاق على إزالة الخبث إمّا عن الثّوب أو عن البدن لأنّ إزالة الخبث في التّحقيق أمر عدميّ فلا حظّ له في المعاني الوجوديّة حقيقة ، وهل إطلاقها في المعنى الحقيقيّ متواط أو مشكّك؟ فيه خلاف ، ومقصود الكتاب هنا ذكر الطّهارة بسائر اعتباراتها المذكورة حقيقة ومجازا.
وأمّا الآيات ، فالأولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (2).
هنا مسائل :
1 - : قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) مورد سؤال تقريره أنّه يلزم اختصاص الوجوب بالمؤمنين مع أنّ عندكم الكافر مكلّف بالفروع؟. (3) جوابه :
ص: 6
اللّزوم من حيث مفهوم المخالفة وليس بحجّة عندنا ، ووجه التخصيص بالذين آمنوا أنّهم المتهيّئون للامتثال ، المنتفعون بالأعمال.
2 - : قوله تعالى ( إِذا قُمْتُمْ ) ، قيام الصّلاة قسمان قيام للدّخول فيها وقيام للتهيّؤ لها ، والمراد هنا الثّاني وإلّا لزم تأخّر الوضوء عن الصّلوة وهو باطل إجماعا ، فلذلك قيل : المراد على الأوّل : إذا أردتم القيام كقوله تعالى ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ) (1) عبّر عن إرادة الفعل بالفعل المسبّب عنها فهو من إطلاق المسبّب على السّبب [ له ] كقولهم « كما تدين تدان » وفيه نظر لأنّ معنى الإرادة مفهوم من العقل لا من اللّغة بل ما من فعل إلّا وهو مسبّب عن الإرادة فتخصيص القيام يفتقر
ص: 7
إلى مخصّص وليس ، وقيل : المراد إذا قصدتم الصّلوة ، لأنّ القيام إلى الشي ء والتوجّه إليه يستلزم القصد إليه فيكون من إطلاق الملزوم وإرادة (1) اللّازم والأولى أنّ ذلك كلّه يخرج « إلى » عن موضوعها الحقيقي وهو كونها للغاية الزمانيّة أو المكانيّة والحقيقيّ (2) أولى ، وذلك مستلزم لتقدير زمان هي موضوعة لغايته فيكون التّقدير : إذا قمتم زمانا ينتهي إلى الصّلوة ، فيكون القيام على حقيقته ، فالمقدّر هو الزّمان الّذي يقتضيه لفظة إلى والفعل معا.
ثمّ اعلم أنّ ظاهر الخطاب يعمّ كلّ قائم محدثا كان أو غيره وهو باطل لأنّه خلاف الإجماع ، ولأنّه صلى اللّه عليه وآله صلّى الخمس في يوم فتح مكّة بوضوء واحد فقال عمر : صنعت ما لم تصنعه؟ فقال صلى اللّه عليه وآله : عمدا فعلته (3) وقيل : كان كذلك و [ قد ] نسخ ، وهو ضعيف أيضا لقوله عليه السلام : « المائدة آخر القرآن نزولا فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها » (4).
والحقّ أنّ المراد : إذا قمتم إلى الصّلوة محدثين ، فهو مطلق أريد به التّقييد (5).
3 - ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) : الأمر حقيقة في الوجوب على قول الأكثر وتحقيقه في الأصول أي أمرّوا الماء على وجوهكم ، وفيه دلالة على عدم جواز التولية
ص: 8
بل المباشرة. ولا حاجة إلى الدلك خلافا لمالك والوجه (1) اسم لما يقع به المواجهة فلا يجب تخليل الشّعور الكثيفة عليه بخلاف الخفيفة فإنّ المواجهة تقع بما تحتها.
4 - ( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) قيل : إلى بمعنى مع كما في « مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللّهِ » (2) فيدخل المرفق ضرورة وقيل : إلى على حقيقتها وهو انتهاء الغاية ، فقيل بدخول المرفق أيضا لأنّه لمّا لم يتميّز الغاية عن ذي الغاية بمحسوس وجب دخولها والحقّ أنّها للغاية ولا يقتضي دخول ما بعدها فيما قبلها ولا خروجه لوروده معهما أمّا الدّخول فكقولك : حفظت القرآن من أوّله إلى آخره ومنه ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) (3) وأمّا الخروج : فك ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (4) و ( فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (5). وحينئذ لا دلالة له على دخول المرفق ولذلك حكم داود الأصبهانيّ الظّاهريّ (6) وزفر (7) بعدم وجوب غسلهما وكذا
ص: 9
لا دلالة على الابتداء بالمرفق ولا بالأصابع ، لأنّ الغاية قد تكون للغسل وقد تكون للمغسول وهو المراد هنا ، بل كلّ من الابتداء والدّخول مستفاد من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه توضّأ وابتدأ بأعلى الوجه وبالمرفقين وأدخلهما ، وإلّا لكان خلاف ذلك هو المتعيّن لأنّه قال صلى اللّه عليه وآله : هذا وضوء لا يقبل اللّه الصّلوة إلّا به (1). أي بمثله فلا يكون الابتداء بالأعلى (2) وبالمرفقين وعدم دخولهما مجزيا بل يكون بدعه ، لكنّ الإجماع على خلافه.
5 - ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) . قيل : الباء للتّبعيض (3) لأنّه الفارق بين مسحت بالمنديل ومسحت المنديل وقيل : زائدة لأنّ المسح متعدّ بنفسه ولذلك أنكر أهل العربيّة إفادة التّبعيض. والتّحقيق أنّها تدلّ على تضمين الفعل معنى الإلصاق ، فكأنّه قال : الصقوا المسح برؤسكم وذلك لا يقتضي الاستيعاب ولا عدمه ، بخلاف :امسحوا رؤوسكم ، فإنّه كقوله ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) .
ثمّ اختلف في القدر الواجب مسحه فقال أصحابنا : أقلّ ما يقع عليه اسم المسح أخذا بالمتيقّن ، ولنصّ أئمّتهم عليهم السلام ، وبه قال الشّافعي. وقال أبو حنيفة : ربع
ص: 10
الرّأس لأنّه عليه السلام مسح على ناصيته وهو قريب من الرّبع وهو غلط. ومالك يمسح الجميع (1).
ص: 11
1 - : المسح عندنا مختصّ بالمقدّم لوقوع ذلك في البيان فيكون متعيّنا ، ولأنّه مجزئ بالإجماع لأنّ جميع الفقهاء قالوا بالتخيير أيّ موضع شاء.
2 - : الحقّ أنّه لا يجب الابتداء بالأعلى لإطلاق المسح ، ولقول أحدهما عليهما السلام : « لا بأس بالمسح مقبلا ولا مدبرا » (1).
3 - : أنّه لا يتقدّر بثلاثة أصابع لما بيّنّاه من الإطلاق ، ولقول الباقر عليه السلام :« إذا مسحت بشي ء من رأسك أو بشي ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك (2) ، نعم بثلاث أصابع أفضل ».
4 – ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص بالنّصب عطفا على محلّ برؤوسكم ، إذ الجارّ والمجرور محلّه النّصب على المفعوليّة كقولهم :مررت بزيد وعمروا. وقرئ : « تنبت بالدّهن وصبغا للآكلين » (3). وكقول الشاعر :
معاوي إنّنا بشر فأسجح *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا (4)
ص: 12
وقرأ الباقون بالجرّ عطفا على رؤسكم وهو ظاهر. فإذا القرائتان دالّتان على معنى واحد وهو وجوب المسح كما هو مذهب أصحابنا الإماميّة ويؤيّده ما رووه عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنّه توضّأ ومسح قدميه ونعليه (1) :
ومثله عن عليّ عليه السلام وابن عبّاس وأيضا عن ابن عبّاس : أنّه وصف وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فمسح رجليه (2) وإجماع أئمّة أهل البيت عليهم السلام على ذلك ، قال
ص: 13
الصّادق عليه السلام : يأتي على الرّجل الستّون أو السّبعون ما قبل اللّه منه صلاة ، قيل له : وكيف ذلك؟ قال : لأنّه يغسل ما أمر اللّه بمسحه (1). وغير ذلك من الرّوايات وقال ابن عبّاس وقد سئل عن الوضوء : غسلتان ومسحتان (2) وقال الفقهاء الأربعة بوجوب الغسل ، محتجّين بقراءة النصب عطفا على وجوهكم ، أو أنّه منصوب بفعل مقدّر - أي : « فاغسلوا أرجلكم » كقولهم : علّفتها تبنا وماء باردا (3). أراد وسقيتها - وقوله : متقلّدا سيفا ورمحا (4) أي و
ص: 14
معتقلا رمحا - (1) ويؤيّده قراءة وأرجلكم بالرّفع - أي وأرجلكم مغسولة - وأمّا قراءة الجرّ فيه فبالمجاورة كقوله تعالى ( عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) (2). بجرّ أليم وقراءة حمزة ( وَحُورٌ عِينٌ ) (3) فإنّه ليس معطوفا على قوله ( وَلَحْمِ طَيْرٍ ) (4) وما قبله وإلّا لكان تقديره يطوف عليهم ولدان مخلّدون بحور عين لكنّه غير مراد ، بل هم الطّائفون
ص: 15
لا المطوف بهم (1) فيكون جرّه على مجاورة لحم طير ، ولأنّ القول بالغسل قول أكثر الأمّة.
والجواب عن الأوّل : بأنّ العطف على وجوهكم حينئذ مستهجن إذ لا يقال : ضربت زيدا وعمروا وأكرمت خالدا وبكرا ويجعل بكرا عطفا على زيدا وعمرا المضروبين هذا ، مع أنّ الكلام إذا وجد فيه عاملان عطف على الأقرب منهما كما هو مذهب البصريّين ، وشواهده مشهورة خصوصا مع عدم المانع كما في المسئلة ، فانّ العطف على الرّؤس لا مانع منه لغة ولا شرعا. وأمّا النّصب بفعل مقدّر فإنّه إنّما يجوز ويضطرّ إلى التّقدير إذا لم يمكن حمله على اللّفظ المذكور كما مثّلتم. وأمّا هيهنا فلا ، لما قلنا من العطف على المحلّ. وأمّا قراءة الرفع فيحتمل أيضا مذهبنا : أي وأرجلكم ممسوحة ، بل هو أولى لقرب القرينة. وعن الثّاني : بأنّ إعراب المجاورة ضعيف جدّا لا يليق بكتاب اللّه خصوصا وقد أنكره أكثر أهل العربيّة هذا ، مع أنّه إنّما يجوّز بشرطين (2) :
ص: 16
الأوّل : عدم الالتباس كقولهم : جحر ضبّ خرب ، فإنّه لا التباس في أنّ الخرب صفة للجحر ، بخلافه هنا ، فإنّ الأرجل يمكن أن يكون ممسوحة ومغسولة.
إن قلت الالتباس زائل بالتحديد بالغاية ، فإنّ التحديد إنّما هو للمغسول كالأيدي إلى المرافق. قلت : جاز في شرعنا اختلاف المتّفقات في الحكم وبالعكس فلا يزول الالتباس (1).
الثّاني : أن لا يكون معه حرف عطف كالمثال وهنا حرف عطف.
إن قلت : قد جاء مع العطف كقوله :
فهل أنت إن ماتت أتانك راحل *** إلى آل بسطام بن قيس فخاطب (2)
جرّ خاطبا مع حرف العطف وهو الفاء قلت : إنّ المراد رفع خاطب عطفا على راحل ، وإنّما جرّه وهما أو إقواء (3) ، أو أنّ المراد فخاطب فعل أمر لا أنّه اسم فاعل وكسره للقافية. وأمّا قراءة أليم ، فلعدم الالتباس بيوم. وحور عين مجرور عطفا على جنّات أي المقرّبون في جنات ومصاحبة حور عين ، وذلك لأنّ الجرّ بالجوار مع الواو ممنوع.
وعن الثالث : بالمنع من كونه حجّة مع مخالفة علماء أهل البيت ، خصوصا وقد بيّنّا وروده من طرقكم ، ولهذا كان الجبائيّ يغسل ويمسح ويفتي بالجمع بينهما ثمّ الكلام في إلى كالّذي تقدّم في احتمال المعيّة والغاية والأقوى عندي الثّاني ، والغاية للممسوح فلا دلالة على الابتداء ، وفروع المسح المتقدّمة آتية هنا فيجوز
ص: 17
ولو بإصبع ومنكوسا وغير مستقيم ، نعم محلّه ظاهر القدم للبيان. وأمّا الكعبان : فملتقى الساق والقدم (1) والناتيان لا شاهد لهما لغة ولا عرفا ولا شرعا وقيل : لو أريد ملتقى الساق والقدم لقال : إلى الكعاب إذ كلّ رجل لها كعبان. أجيب بأنّ المراد الكعبان من كلّ رجل. وبأنّ أبا عبيدة قال : الكعب هو الّذي في أصل القدم ينتهي إليه الساق بمنزلة كعاب القنا (2).
ص: 18
فائدة : إن قلنا : أنّ واو العطف يفيد الترتيب كما هو رأي الفرّاء وبعض النّحاة والفقهاء فدلالة الآية على التّرتيب ظاهر ، وإن قلنا بعدمه كما هو المشهور
ص: 19
وهو الحقّ فنقول : يجب الابتداء بغسل الوجه لإتيانه بفاء التعقيب وكلّ من قال بذلك قال بوجوب التّرتيب ، ولأنّه محتمل للوجهين ، والوضوء البيانيّ وقع فيه
ص: 20
الترتيب وإلّا لكان خلافه متعيّنا وهو باطل (1).
أخرى : إن كان الأمر للفور فالموالاة واجبة قطعا ، وإلّا فمستفادة
ص: 21
من خارج (1) كقوله تعالى ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) ونحوه.
7 - ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) الجنب جنس يصدق على الواحد والجمع
ص: 22
مذكّرا ومؤنّثا كعدل ورضى ، وهو اسم جرى مجرى المصدر - أعني الإجناب وهو لغة بمعنى الإبعاد ، وشرعا هو من بعد عن أحكام الطّاهرين ، إمّا لجماع أو خروج منيّ يقظة أو نوما قيل : الجملة معطوفة على ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) أي إذا قمتم إلى الصّلوة فإن كنتم محدثين فتوضّأوا وإن كنتم جنبا فاغتسلوا ، فعلى هذا الغسل واجب لغيره ولا يفتقر إلى ضمّ الوضوء ، لأنّه جعله قسيما له والأولى أنّها جملة شرطية معطوفة على مثلها. أي : يا أيّها الّذين آمنوا إن كنتم جنبا فاطّهّروا ، أي اغتسلوا وحينئذ يكون الغسل واجبا لنفسه لا للصّلوة ، لعدم تقييد ( فَاطَّهَّرُوا ) بالقيام إلى الصّلوة ، ويجب حصول المسبّب وهو الطّهارة عند حصول السّبب وهو الجنابة (1) ويؤيّد هذا قول علي عليه السلام في قضيّة الأنصار : أتوجبون عليه الحدّ والمهر ولا توجبون عليه صاعا من الماء (2) وقول الصّادق عليه السلام : إذا أدخله فقد وجب الغسل. (3) وغير ذلك (4) وإنّما قلنا المراد اغتسلوا لأنّه أمر بالتّطهير على الإطلاق بحيث لم يكن مخصوصا بعضو معيّن فكان أمرا بتطهير كلّ البدن ، ولأنّ الوضوء لمّا كان مخصوصا ببعض الأعضاء ذكرها على التّعيين ، وهنا لمّا لم يذكر عضوا معيّنا علم إرادة الإطلاق ، ولأنّ المراد ليس هو
ص: 23
الوضوء بالإجماع ، ولا هو مع الغسل ، وإلّا لزم استعمال المشترك في كلا معنييه وهو باطل لما تقرّر في الأصول ، فلم يبق إلّا الغسل ، وكذا في قوله فيما بعد : ليطهّركم.
8 - ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) . ذكر أمورا يباح عندها التيمّم :
أحدها : المريض المتضرّر باستعمال الماء أو العاجز عن السّعي إليه.
وثانيها : المسافر الّذي لا يجد الماء في سفره ، وعلى هنا تفيد الحال : أي حال سفركم ، كقولهم : زرت فلانا على شدّته أي على حال كربته ، وتخصيص السّفر للأغلبيّة لا لاختصاصه بالإباحة ، بل يباح سفرا وحضرا مع عدم الماء ، وبه قال مالك ، وقال الشّافعيّ : الحاضر يتيمّم ويعيد الصّلوة مع الوجدان. وقال زفر (1) بمنع التيمّم بل يصبر حتّى يجد الماء. وعن أبي حنيفة القولان. والحقّ ما قلناه من العموم ، إذ المفهوم المخالف ليس بحجّة والنصوص عامّة.
وثالثها : المجي ء من الغائط ، أي الموضع المطمئنّ من الأرض ، كنى بذلك عن الحدث : أي الخارج من دبر الإنسان من العذرة ، وسمّي شرعا غائطا تسمية الحالّ باسم محلّه. ومن للتّبيين : أي جاء موضعا من الغائط ، وعند الأخفش هي زائدة لتجويزه الزّيادة في الإثبات فلا حاجة عنده إلى تقدير المفعول والمعنى : إن كنتم محدثين بأحد الأحداث أي البول والغائط والرّيح ، وأو ، هنا بمعنى الواو ، وأمّا الحدث بغير الثلاثة فيستفاد من غير الآية (2).
ص: 24
ورابعها « أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ » قرأ الكسائي لمستم كقوله « لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ». والباقون لامستم بالألف لأنّ فاعل قد جاء بمعنى فعل كعاقب بمعنى عقب ، واللّمس والملامسة كنايتان عن الجماع ، قاله ابن عبّاس والحسن ومجاهد وقتادة وإنّما كنى به عنه لأنّه به يتوصّل إليه ، واختاره أصحابنا الإماميّة وقال الشّافعيّ : تلاقي بشرتي ذكر وأنثى مطلقا في غير المحارم موجب للوضوء. وقال مالك : إن كان ذلك بشهوة انتقض الوضوء وإلّا فلا. وقال أبو حنيفة إن انتشر عضوه انتقض وإلّا فلا. والحقّ الأوّل لإجماع أصحابنا ولقول الباقر عليه السلام وقد سئل عن معنى الآية : ما يعني
ص: 25
إلّا المواقعة في الفرج (1) [ دون اللّمس ]. ووجه التّقسيم المذكور أنّ المرخّص له في التيمّم إمّا محدث أو جنب والحال المقتضية له في الغالب إمّا مرض أو سفر ، فكان المعنى إن كنتم جنبا أو محدثين أو كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء.
9 - « فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ » الفاء هنا ليست جوابا للشّرط بل عاطفة على كنتم ، لأنّ لم تقلب المضارع ماضيا وتنفيه ، بل الجواب فتيمّموا ، والمعنى : فلم تتمكّنوا من استعمال الماء - لأنّ الممنوع من الشي ء كالفاقد له - فتيمّموا أي فتعمّدوا واقصدوا صعيدا أي شيئا من وجه الأرض كقوله ( صَعِيداً زَلَقاً ) (2) طيّبا أي طاهرا ولذلك قال أصحابنا : لو ضرب المتيمّم يده على حجر صلب ومسح أجزأه. وبه قال الحنفيّة. وقالت الشّافعيّة
ص: 26
لا بدّ أن يعلّق باليد شي ء لقوله « فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ». وفيه نظر لجواز أن يكون من هنا ابتدائيّة. (1) والوجه المراد به بعضه وهو الجبهة عند أكثر أصحابنا إمّا لكون الباء للتّبعيض أو للنّصوص عن أهل البيت عليهم السلام فيمسح الجبهة إلى طرف أنفه الأعلى. وكذا المراد باليدين ظهر الكفّ من الزّند إلى أطراف الأصابع.
10 - ( ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
ختم الآية بثلاثة أحكام تشتمل على ذكر ألطاف عظيمة :
1 - : ما يريد بالأمر بالوضوء والغسل ثمّ التيمّم بدلهما إلّا التّوسعة عليكم والتّخفيف لا الحرج وهو التّضييق ، ومن ههنا مبيّنة ، وكذا اللّام في ليطهّركم لبيان المراد.
2 – ( وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) . واختلف في هذا. فقال الحنفيّة : إنّ المحدث نجس نجاسة حكميّة فالتّطهير إزالة تلك النّجاسة ، ومنع الشّافعيّة من ذلك وقالوا لو كان نجسا حكما ، لكان مع كون أعضائه رطبة يتنجّس الملاقي بإصابتها ، ولكان إذا حمله إنسان وصلّى بطلت صلوته ، بل المراد طهارة القلب عن صفة التمرّد عن طاعة اللّه لأنّ الأمر بتطهير الطاهر يجعل العبد في مظنّة التمرّد ، لأنّه غير
ص: 27
معقول المعنى ، فإذا انقاد وتعبّد به زال عن قلبه آثار التمرّد ، وفيه نظر لأنّه جهل بحقيقة النّجاسة الحكميّة فإنّ الّذي ذكروه حكم النّجاسة العينيّة وأيضا الطّهارة الشّرعيّة حقيقة في إزالة النّجاسة الحكميّة لا غير ذلك ، فإذن الأولى ما قال الحنفيّة ، ويمكن أيضا أن يكون الثّاني مرادا.
3 – ( وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) بشرعه لكم كيفيّة (1) أحكامه بتطهير أبدانكم وقلوبكم وما هو تكفير لذنوبكم. ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . لعلّة [ الغاية ] أنّكم تقومون بالشّكر على تلك النّعمة ، وفي ذلك إيماء إلى كون العبادات تقع شكرا ، وهو قول البلخي وتحقيقه في الكلام.
الثّانية : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ) (2).
الواو في وأنتم للحال وكذلك نصب جنبا بالعطف عليه ، وقرئ سكرى جمعا كهلكى ، والسّكر [ من السّكر ] بمعنى السدّ ، قيل : المراد : لا تقربوها ( وَأَنْتُمْ سُكارى ) من خمر أو غيره حتّى تعلموا ما تقولون ، والنّهي متوجّه إلى الثّمل أي الّذي لم يزل عقله بعد ، وقيل : المراد النّاعس ، وقيل : المراد النّهي عن السّكر نفسه أي : لا تسكروا وأنتم مخاطبون بالصّلوة ، وهما ضعيفان ، أمّا الأوّل : فلأنّه خروج عن الحقيقة ، وأمّا الثّاني : فلأنّ أكثر المفسّرين قالوا : نزلت قبل تحريم الخمر عندهم ، وأيضا النّهي هنا صريح عن قرب الصّلوة لا السّكر.
وقيل : المراد : لا تقربوا مواضع الصّلوة وهي المساجد وهو المرويّ عن
ص: 28
الباقر عليه السلام (1) وهو الحقّ ، ويؤيّده قوله تعالى ( إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) . إذ العبور حقيقة في الجواز المكانيّ.
فعلى الأوّل يكون قوله « وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ » أي مسافرين سفرا يقع فيه التيمّم فتصلّون كذلك. وعلى الثّاني : إلّا مجتازين في المساجد من غير استقرار ، وهو مذهبنا ومذهب الشّافعيّة ، خلافا لأبي حنيفة فإنّه منع من الجواز إلّا إذا كان فيه الماء أو الطّريق ، وفيه دلالة على عدم جواز الاستقرار في المساجد وهو استثناء من قوله « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ». أي لا تقربوا المساجد للصّلوة وغيرها إلّا عابري سبيل لكون الطّريق في المسجد ، وهذا العامّ مخصوص عندنا بما عدا المسجدين وأمّا هما فلا يجوز عبورهما ، وقد تقدّم في الآية الأولى تفسير باقي الأحكام.
واعلم أنّ عندنا أنّه إذا فقد الماء وجب طلبه في الحزنة غلوة سهم ، وفي السّهلة غلوة سهمين من أربع جوانب ليتحقّق عدم الوجدان ، ويجب ضربة واحدة للوضوء واثنتان للغسل. وقال أبو حنيفة والشّافعيّ : ضربتان فيهما للوجه ضربة ولليدين اخرى ، وكذا ، قال الشّافعيّ : إنّ المراد بالوجه كلّه ، وباليدين من رؤس الأصابع إلى المرفقين قياسا على الوضوء. ولما روي : أنّه عليه السلام تيمّم ومسح يديه إلى مرفقيه (2). وروايات أهل البيت (3) عليهم السلام تدفع ذلك.
وقوله تعالى ( إِنَّ اللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ) . أي لم يؤاخذكم بذنوبكم فيشدّد
ص: 29
عليكم التّكاليف كما شدّدها على اليهود من قبلكم ، بل يسرّها عليكم ورخّصها لكم.
وفي الآية أحكام كثيرة.
1 - : تحريم السّكر لكونه منافيا للواجب (1)
2 - : نقضه الوضوء.
3 - : إبطاله الصّلوة.
4 - : وجوب قضاء صلاة وقعت حالة السّكر.
ص: 30
5 - : كون عدم التعقّل مبطلا للطهارة فيدخل فيه النّوم والإغماء والجنون
6 - : كون ذلك مبطلا للصّلوة.
7 - : كون الجنابة ناقضة للوضوء.
8 - : كونها مبطلة للصّلوة.
9 - : كونها موجبة للغسل.
10 - : كون التيمّم لا يرفع حدث الجنابة ، بل يبيح معها الصّلوة.
11 - : احترام المساجد.
12 - : منع السّكران وشبهه من دخولها.
13 - : منع الجنب من الاستقرار فيها.
14 - : تسويغ الجواز فيها.
15 - : كون الغسل رافعا لحكم الجنابة.
16 - : عدم افتقار الغسل إلى الوضوء لقوله تعالى ( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) . وإلّا لكان بعض الغاية غاية وهو باطل
17 - : تسويغ التيمّم.
18 - : كونه بحيث يقع بدلا من كلّ واحد من الوضوء والغسل.
19 - : إباحته حال المرض المتضرّر باستعمال الماء.
20 - : كونه مباحا إمّا للعجز عن الماء بالضّرر من استعماله أو لعدمه
21 - : كون وجود الماء ناقضا للتيمّم.
22 - : كون الغائط ناقضا للوضوء موجبا له.
23 - : كون الجنابة تقع بمجرّد الوطي من غير إنزال.
24 - : وجوب كون التيمّم بالتّراب.
25 - : جوازه بالحجر الصّلب لصدق اسم الصعيد عليه.
26 - : وجوب كون الصّعيد طاهرا.
27 - : وجوب كونه مباحا.
ص: 31
28 - : وجوب مسح الوجه واليدين.
29 - : كون الوجه يراد به بعضه لمكان الباء عند القائل بذلك وكذا اليد لعطفها على الوجه.
30 - : وجوب الابتداء بمسح الوجه لفاء التعقيب.
31 - : وجوب الموالاة إن قلنا : الأمر للفور.
الثالثة ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )(1).
دلّت على وجوب النيّة في كلّ عبادة ، فيدخل الطّهارات الثّلاث المتقدّمة ، ومعنى الإخلاص هو المراد بالقربة الّتي يذكرها أصحابنا في نيّاتهم ، وهو إيقاع الطّاعة خالصة لله تعالى وحده ، ويؤيّده قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الحديث القدسيّ : من عمل لي عملا أشرك فيه غيري تركته لشريكه (2). فقيل : معنى كونه له تعالى : أن يفعله خوفا من عقابه ورجاء لثوابه. وقيل : يفعله حياء منه أو حبّا له ، وقيل :تعظيما له ومهابة وانقيادا ولا يخطر بباله غرض آخر سواه ، ويقرب من هذا قول عليّ عليه السلام : ما عبدتك خوفا من نارك ولا شوقا إلى جنّتك ، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك (3). وهو الأقوى لأنّ ما عدا ذلك شرك مناف للإخلاص ، فعلى هذا لا يجوز في النيّة ضمّ الرياء ولا ضمّ التبرّد أو التسخّن بالماء أو إزالة الكسل أو الوسخ ، لأنّ منطوق الآية يدلّ على أنّ الأمر منحصر في العبادة المخلصة ، والأمر بالشي ء نهي أو مستلزم للنّهي عن الضدّ فيكون كلّ ما ليس بمخلص [ منها ] منهيّا عنه فيكون فاسدا
ص: 32
لما تقرّر في الأصول.
واعلم أنّ الشافعيّ وأحمد ومالكا وافقونا في اشتراط النيّة في الطّهارات وإن خالفونا في الكيفيّة وأبو حنيفة خصّ الشّرط بالترابيّة لا غير (1) لقوله تعالى :
ص: 33
( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) أي اقصدوا ، والحقّ الأوّل لقوله عليه السلام « إنّما الأعمال بالنيّات » (1) والجمع المعرّف للعموم ولقوله عليه السلام « وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » (2) ومن طريق الأصحاب ما ورد من قول الرّضا عليه السلام : « لا قول إلّا بالعمل ولا عمل إلّا بالنيّة ولا قول ولا عمل إلّا بإصابة السنّة (3).
ثمّ اعلم أنّ شرعيّة النيّة لغرض تميّز الفعل عن غيره فيجب أن يتصوّر فيها تصوّرا قلبيّا حقيقة الفعل المنويّ من كونه وضوءا أو صلاة أو صوما أو غير ذلك ونوعه ليمتاز عن نوع آخر كالإباحة للوضوء والظهر للصلاة ورمضان للصوم والماليّة أو الفطرة للزّكوة والتمتّع أو غيره للحجّ ووصفه الفارق بين أفراد نوعه كالوجوب للواجب والنّدب للمندوب ووقته المحدود له بالشّخص إن كان موقّتا فينوي الأداء إن فعله فيه والقضاء إن فعله خارجا عنه ثمّ الرّكن الأعظم الّذي هو الإخلاص وقد مرّ معناه.
الرابعة ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (4)
كريم أي حسن مرضيّ في جنسه وقيل : كثير النفع لاشتماله على أصول العلوم المهمّة في المعاش والمعاد. ( فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) أي مصون مستور عن الخلق في لوحه المحفوظ.
وقيل : المصحف الّذي بيد الناس والضمير في « لا يَمَسُّهُ » يعود إلى الكتاب لأنّه أقرب ، فعلى القول الأوّل : لا يمسّه إلّا الملائكة المطهّرون من الذّنوب وعلى
ص: 34
الثّاني : لا يمسّه إلّا المطهّرون من الأحداث والخباثات وهو مرويّ عن الباقر عليه السلام (1) وجماعة من المفسّرين ومذهب مالك والشافعيّ وأبي حنيفة وزاد الشافعيّ حتّى الحاشية ويكون المراد النّهي عن مسّه (2) لا نفي المسّ الّذي هو خبر وإلّا لزم الكذب لأنّا نعلم ضرورة أنّه يمسّه من ليس بمطهّر.
ويؤيّده الرواية عن الصادق عليه السلام وقد قال لولده إسماعيل : « اقرأ المصحف قال : لست على وضوء فقال لا تمسّ الكتابة ومسّ الورق (3) » وإذا لم يجز لغير المتوضّي مسّه فللجنب أولى ، وهل يمنع الجنب والحائض من قرائته؟ فقال أصحابنا بمنع سور العزائم الأربع لا غير وجواز السّبع بغير كراهيّة وما فوقها على كراهيّة وتشتدّ بزيادة القراءة وتضعف بقلّتها لعموم قوله تعالى ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) (4) خرج العزائم من العموم وبقي ما عداها على الجواز وقال الشافعيّ : لا يجوز مطلقا وكذا أحمد وجوّز أبو حنيفة دون الآية وما لك للجنب الآية والآيتين على سبيل التعوّذ وللحائض أن تقرأ ما شاءت وكذا قال داود للجنب ويحتجّ عليهم في الجواز بكتاب النبيّ (5) صلى اللّه عليه وآله إلى هرقل عظيم الرّوم المتضمّن لقوله تعالى ( يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) (6) الآية وهو كافر مجنب فيقرء الكتاب ضرورة وإلّا لانتفت فائدة بعثته.
الخامسة ( فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) (7)
ص: 35
قال الحسن البصري : المراد الطّهارة من الذّنوب والأكثر : أنّها الطّهارة من النّجاسات فقيل : نزلت في أهل قباء ، روي ذلك عن الباقر والصّادق عليهما السلام (1) ( يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) بالماء عن الغائط. روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال لهم : « ماذا تفعلون في طهركم فإنّ اللّه قد أحسن عليكم الثّناء؟ فقالوا نغسل أثر الغائط بالماء (2) ».
واعلم أنّ الغائط إن تعدّى المخرج تحتّم الماء لإزالته وإن لم يتعدّ فللمكلّف الخيار بين استعمال ثلاثة أحجار وشبهها طاهرة مزيلة للعين وبين الماء والجمع بينهما أفضل لاجتماع إزالة العين والأثر وفي قولهم : نغسل أثر الغائط. إشارة إلى هذا لدلالته على زوال العين قبل تغيّر الماء وإزالة الأثر بالماء وكذا ورد في رواية أخرى أنّهم قالوا : نتبع الغائط بالأحجار ثمّ نتبع الأحجار بالماء (3) وأمّا البول فلا يجزي فيه إلّا الماء خاصّة تعدّى أو لم يتعدّ.
وقال الشافعيّ : الاستنجاء منهما واجب بالماء أو الأحجار وأوجب إعادة الصلاة على من لم يستنج وبه قال مالك وقال أبو حنيفة هو مستحبّ غير واجب.
قوله ( يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ) المحبّة تأكيد الإرادة ولذلك لم يقل يريدون لشدّة إرادتهم وقابل سبحانه محبّتهم بمحبّته بالمعنى المذكور فقال ( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ) .
ثمّ اعلم أنّه يمكن عندي أن يستدلّ بهذه الآية على استحباب الكون على
ص: 36
الطّهارة لأنّ الطهارة شرعا حقيقة في رافع الحدث ، والثّناء والمحبّة وتأكيد الإرادة والإتيان بلفظ المبالغة مشعر بالتكرّر ودوام حصول المعنى وكلّ ذلك دليل على ما قلناه واللّه أعلم.
السّادسة ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (1).
هنا فوائد.
1 - لا ريب أنّ الطّهور لغة ورد لأمور :
أحدها : مبالغة في الطّاهر فيكون صفة للماء وسبب الوصف أن يعلم أنّ الطّهارة صفة ذاتيّة له.
وثانيها : اسم لما يتطهّر به كالبخور لما يتبخّر به والوقود لما يتوقّد به.
وثالثها : بمعنى الطّهارة كقوله عليه السلام : « لا صلاة إلّا بطهور » (2).
إذا تقرّر هذا فقال بعض الحنفيّة أنّه في الآية والاستعمال بالمعنى الأوّل لا غير لأنّ فعولا يفيد المبالغة في فاعل كما يقال ضروب وأكول لزيادة الضّرب والأكل ولا يفيد شيئا مغايرا له فعلى هذا لا يكون بمعنى المطهّر عنده لأنّ كونه مطهّرا مغاير لمعنى الطّاهر فلا يتناوله المبالغة ولأنّه قد يستعمل فيما لا يفيد التّطهير كقوله تعالى ( وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) (3) وقول الشّاعر : « عذاب الثّنايا ريقهنّ طهورا ».
وقالت الشافعيّة وأصحابنا أنّه بمعنى المطهّر فيكون مأخوذا من الوضع الثّاني واستدلّوا بالنّقل والاستعمال :
أمّا الأوّل فلما ذكره اليزيديّ حيث قال : الطّهور بالفتح من الأسماء المتعدّية وهو المطهّر غيره وأمّا الثاني فلأنّه مراد فيه فيكون حقيقة إمّا إرادته فلقوله عليه السلام :
ص: 37
« جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا (1) » ولو أراد الطّاهر لم يكن له مزيّة ولقوله عليه السلام أيضا وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال : « هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته » (2) ولو لم يرد كونه مطهّرا لم يصلح جوابا ولأنّ فعولا للمبالغة ولا يتحقّق إلّا مع إفادة التطهير ولأنّهم يقولون ماء طهور ولا يقولون ثوب طهور فلا بدّ من فائدة تختصّ بالماء ولا يظهر الفائدة إلّا مع إفادة التطهير لغيره.
والحقّ أنّه بالنظر إلى القياس اللّفظيّ كما قال الحنفيّ لأنّ التعدّي في الحقيقة لمطهّر وألحقوا طهورا به توقيفا لا قياسا وليس الطهور من مطهّر بمنزلة ضروب من ضارب لأنّك تقول هذا ضارب زيدا كما تقول ضروب زيدا وتقول الماء مطهّر من الحدث ولا تقول طهور من الحدث وأمّا بالنظر إلى الاستعمال فكما قال أصحابنا والشافعيّة فإن منع ذلك الحنفيّ فهو مكابرة.
2 - ما يزيل عنه الطّهارة والطهوريّة ، فعند أبي حنيفة مخالطة النجاسة يقينا أو ظنّا وإن لم يتغيّر وجوّز استعمال ما لا يتحرّك بحركة الأجزاء المتنجّس وقدّره بعشرة أذرع في مثلها وعند مالك التغيير في أحد أوصافه قليلا أو كثيرا وعند الشّافعيّ في الكثير التغيّر وفي القليل الملاقاة وعند أصحابنا كذلك (3) إلّا أنّ الكثير عنده
ص: 38
قلّتان : نحو خمسمائة رطل وعندنا كرّ وهو ألف ومائتا رطل بالعراقي الّذي هو أحد وتسعون مثقالا قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وقد سئل عن بئر بضاعة فقال : الماء طهور لا ينجّسه إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه (1) وروى الشّيخ مرسلا عنه صلى اللّه عليه وآله : إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا (2) وعن الصّادق عليه السلام : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي ء » (3) قالوا : الحديث الأوّل مكّيّ فيكون إطلاقه منسوخا فيقيّد بالكثير.
هذا كلّه في الماء الرّاكد أمّا الجاري فلا ينجس إلّا بالتغيّر والأولى اشتراط بلوغه كرا إلّا أن يكون جاريا عن مادّة فلا يشترط وقال الشافعي : الماء الّذي قبل النجاسة طاهر وما بعدها إن لم يصل النجاسة إليه طاهر وما يجاوره ويخالطه النجاسة
ص: 39
إن كان أكثر من قلّتين فطاهر وإن كان أقلّ فنجس.
3 - إذا زالت عنه الطهوريّة فعندنا يطهر بإلقاء كرّ عليه دفعة يزيل تغيّره إن كان متغيّرا فان لم يزل فكرّ آخر وهكذا حتّى يزول التغيّر وغير المتغيّر يكفي إلقاء الكرّ المذكور أو اتّصاله بالكرّ أو وقوع الغيث السّاكب عليه. وقال الشافعي : تزول النجاسة بأمور الأوّل : ورود ماء طاهر يزيل التغيّر ولم يقدّره الثّاني : زوال التغيّر من نفسه ، الثّالث : أن ينبع من تحته ما يزيل تغيّره ، الرّابع : أن يستقى منه ما يزيل تغيّره ، الخامس : ما ذكر بعض أصحابه وهو وقوع تراب يزيل تغيّره وكلّ هذه تحكّمات لا دليل عليها فيجب الاعراض عنها.
السابعة : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) (1).
هنا مسئلتان :
1 - إنّ غير الماء من المائعات لا يطهّر لا من الحدث ولا من الخبث (2) أمّا
ص: 40
الحدث فإجماع إلّا من أبي حنيفة في الوضوء بالنّبيذ مطبوخا مع عدم الماء في السّفر وأمّا الخبث فأكثر أصحابنا (1) على ذلك وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة كلّ مائع مزيل للعين يجوز إزالة النجاسة به ، حجّتنا أنّ صريح الآية يدلّ على الامتنان بكون الماء مطهّرا فلا يكون غيره كذلك وإلّا لما تمّ الامتنان بل كان ذكر الأعمّ وهو المائع أولى.
2 - ( وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) قيل هو الجنابة ، والرّجز النّجاسة وقيل العذاب وقيل الوسوسة فإنّه لمّا نزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه أقدامهم على غير ماء [ وناموا ] فاحتلم أكثرهم والمشركون سبقوهم إلى الماء فتمثّل لهم إبليس وقال تصلّون على غير وضوء وعلى جنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحقّ لما غلبكم هؤلاء على الماء. فحزنوا حزنا شديدا فمطروا ليلا حتّى جرى الوادي وتلبّد الرمل حتّى ثبتت عليه الأقدام وطابت النفوس. فعلى القول الأوّل فيه دلالة على نجاسة المنيّ ولذلك قرئ رجس وهو مرادف للنجاسة.
الثامنة : ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (2).
ص: 41
المحيض يجي ء مصدرا كالمجي ء والمبيت واسم زمان واسم مكان فالمحيض الأوّل مصدر لا غير لعود الضّمير إليه لقوله هو أذى أي مستقذر وأمّا الثّاني فيحتمل المصدر فيكون فيه تقدير مضاف أي في زمان الحيض ويحتمل اسم الزمان أو المكان فلا يحتاج إلى تقدير مضاف. ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ ) أي لا تجامعوهنّ عرفا لا لغة حتّى يطهّرن بالتّشديد على قراءة حمزة والكسائي أي يغتسلن وقرأ الباقون بالتّخفيف أي ينقين من الدّم وحيث ظرف مكان.
إذا عرفت هذا ففي الآية أحكام.
1 - إنّ الحيض نجس لقوله أذى وهو المستقذر وهو إجماع أهل العلم.
2 - إنّ نجاسته مغلّظة لقوله « هُوَ أَذىً » مبالغة فيه بالقذارة بالإتيان باسم الظّاهر أوّلا ثمّ بالضّمير الّذي كنى به عنه ثمّ بتنكير خبره ووصفه بالأذى وكلّ ذلك أمارة غلظة نجاسته فيجب إزالة قليله وكثيره عندنا وإلّا لما كان لغلظته فائدة زائدة وكذا النّفاس لأنّه حيض كان محتبسا.
3 - إنّ دم الحيض من الأحداث الموجبة للغسل لإطلاق الطّهارة المتعلّقة به وقد تقدّم أنّ ذلك يراد به الغسل وأقلّ مدّته الّتي يصير بها موجبا للغسل عندنا ثلاثة أيّام وأكثره عشرة وبه قالت الحنفيّة وقال الشافعي : أقلّه يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما.
4 - وجوب اعتزال النّساء في مكان الحيض (1) وهو القبل أي ترك مجامعتهنّ
ص: 42
إذ الأمر حقيقة في الوجوب والإجماع يؤيّده وفي وصفه بالأذى وترتيبه الحكم عليه بالفاء إشعار بأنّه العلّة. وفي كيفية الاعتزال عندهم خلاف فقال محمّد بن الحسن كما قلناه إنّه القبل وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي هو ما اشتمل عليه الإزار.
روي أنّ أهل الجاهليّة كانوا لا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يساكنونها في البيت كفعل اليهود والمجوس فلمّا نزلت الآية أخذ المسلمون بظاهرها ففعلوا كذلك فقال أناس من الأعراب : يا رسول اللّه البرد شديد والثياب قليلة فان آثرناهنّ بالثّياب هلك سائر أهل البيت وإن استأثرناها هلكت الحيض فقال عليه السلام : إنّما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ولم آمركم بإخراجهنّ كفعل الأعاجم.
وقيل : إنّ النّصارى كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض واليهود كانوا يعتزلونهنّ في كلّ شي ء فأمر اللّه تعالى بالاقتصاد بين الأمرين.
5 - اختلف في مدّة زمان الاعتزال وغايتها فقال الشافعيّ حتّى تغتسل ويحتجّ بأنّه جمع بين القرائتين ولقوله ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ) فعنده لا يجوز وطيها حتّى تطهر وتتطهّر. وقال أبو حنيفة بالجمع بين القرائتين (1) بأنّ له أن يطأها في أكثر
ص: 43
الحيض بعد الانقطاع وإن لم تغتسل وفي أقلّه لا يقربها بعد الانقطاع إلّا مع الاغتسال
ص: 44
وأمّا أصحابنا فجمعوا بينهما بأنّه قبل الغسل جائز على كراهيّة وبعده لا على كراهية وقال بعض أصحابنا بقول الشافعيّ وليس بشي ء لأنّ تفعّل قد جاء بمعنى فعل كالمتكبّر في أسمائه تعالى وكقولك تطعّمت الطعام بمعنى طعمته.
6 - ( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) الأمر هنا ليس للوجوب مطلقا بل قد يكون للوجوب كما لو كان قد اعتزلها أربعة أشهر آخرها أوّل رمان الانقطاع والغسل وكذا لو وافق انقضاء مدّة التربّص في الإيلاء والظهار وقد يكون للندب كما في اقتضاء الحال ذلك فهو إذا لمطلق الرّجحان واختلف في معنى « مِنْ حَيْثُ » قيل عن ابن عبّاس أنّه من حيث أمركم اللّه بتجنّبه وهو محلّ الحيض أعني القبل وقيل من حيث الطهر دون الحيض وقال محمّد بن الحنفيّة من قبل النكاح دون الفجور ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ) عن النجاسات الباطنة وهي الذنوب ( وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) من النجاسات الظاهرة.
التاسعة ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (1).
إنّما للحصر معناه لا نجس من الإنسان غير المشركين (2) والنجس مصدر في
ص: 45
الأصل تقول نجس بكسر العين ينجس بفتحها نجسا بفتحتين فهو نجس بفتح العين وكسرها وإذا استعمل مع الرّجس كسر أوّله ويقال رجس نجس بكسر أوّلهما وسكون الجيم قاله الفرّاء وقرئ به شاذا ولكون النّجس مصدرا في الأصل لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث قال ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ولم يقل نجسون والمراد بالمسجد الحرام قيل هو جملة الحرم سمّي به تسمية للشي ء باسم أشرف أجزائه ( فَلا يَقْرَبُوا ) قيل المراد أمر المؤمنين أن لا يمكّنوهم منه ولذلك صدّر الآية بيا أيّها الّذين آمنوا والنهي عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع من دخول الحرم وذلك العام قبل سنة حجّة الوداع والأصحّ أنّه سنة تسع لمّا بعث أبا بكر ببراءة ثمّ أمره اللّه بردّها وأن لا يقرأها إلّا هو أو أحد من أهله فبعث عليّا عليه السلام ويدلّ عليه قول عليّ عليه السلام « لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك » (1) وبه قال أبو حنيفة وفي الآية أحكام :
1 - إنّ المشركين أنجاس نجاسة عينيّة لا حكميّة وهو مذهب أصحابنا (2)
ص: 46
وبه قال ابن عبّاس قال : إنّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير وقال الحسن : من صافح مشركا توضّأ. والوضوء قد يطلق على غسل اليد وخالف باقي الفقهاء (1) في ذلك وقالوا معنى كونهم نجسا أنّهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتجنّبون النجاسات أو كناية عن خبث اعتقادهم.
واعلم أنّ تعليق الحكم على المشتقّ يدلّ على أنّ المشتقّ منه علّة في الحكم كقولك : « أكرم العلماء » أي لعلمهم و « أهن الجهّال » أي لجهلهم فلو غسلوا أبدانهم سبعين مرّة لم يزيدوا إلّا نجاسة وروايات أهل البيت عليهم السلام وإجماعهم على نجاستهم مشهورة (2).
2 - إنّهم إذا كانوا أنجاسا فأسئارهم وكلّما باشروه برطوبة نجس أيضا (3) و
ص: 47
هو ظاهر ، أمّا قوله تعالى ( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (1) فالمراد به الحنطة والشعير والحبوب (2) وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام (3) وسيأتي تمام البحث
ص: 48
في الأطعمة إنشاء اللّه تعالى.
3 - أنّه لا يجوز دخولهم المسجد الحرام وكذا باقي المساجد عندنا لنصوص أهل البيت عليهم السلام (1) وبه قال مالك واقتصر الشافعيّ على المسجد الحرام وهو عجيب فهلّا قاس ما عداه عليه لأنّه قائل بالقياس والعلّة وهي النّجاسة حاصلة وأبو حنيفة لا يمنعهم دخوله ولا دخول غيره ويقول : إنّ النهي عن حجّهم لقوله عليه السلام : « لا يحجّنّ بعد العام مشرك » وذلك لا يستلزم النّهي عن الدخول. (2) وهو فاسد لأنّ دخولهم يستلزم القرب المنهيّ عنه.
4 - أنّه لا فرق بينهم وبين باقي الكفّار عندنا في جميع ما تقدّم للإجماع
ص: 49
المركّب (1) فانّ كلّ من قال بنجاستهم عينا قال بنجاسة كلّ كافر ولأنّ أهل الذمّة مشركون لقوله تعالى ( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ) إلى قوله ( سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (2) وكلّ مشرك نجس بالآية.
ص: 50
العاشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1).
استدلّ أصحابنا القائلون بنجاسة الخمر (2) بهذه الآية ووجه الاستدلال بها من وجهين :
ص: 51
1 - أنّه وصفه بالرّجس وهو وصف النّجاسة لترادفهما ولذلك يؤكّد الرجس بالنّجس فيقال : رجس نجس.
2 - أنّه أمر باجتنابه وهو موجب للتّباعد المستلزم للمنع من الاقتراب بسائر أنواعه لأنّ معنى الاجتناب كون كلّ منهما في جانب وهو مستلزم للهجران ويؤيّد ذلك أيضا روايات عن أهل البيت عليهم السلام في طرقها ضعف ينجبر بموافقة القرآن (1).
1 - كلّ مسكر حكمه حكم الخمر في النجاسة (2) لأنّه خمر فكلّ خمر نجس أمّا الكبرى فقد تقدّمت وأمّا الصغرى فلأنّ الخمر إنّما سمّي خمرا لأنّه يخمر العقل أي يستره فكلّ ما يساويه في هذا المعنى فهو مساو له في الاسم ولقول أبي جعفر عليه السلام « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كلّ مسكر حرام وكلّ مسكر خمر » (3) ومثله
ص: 52
رواية ابن عمر عنه صلى اللّه عليه وآله (1).
2 - العصير من العنب قبل غليانه طاهر حلال وبعد غليانه واشتداده نجس حرام وذلك إجماع من فقهائنا أمّا بعد غليانه وقبل اشتداده فحرام إجماعا منّا وأمّا النّجاسة فعند بعضنا أنّه نجس أيضا وعند آخرين أنّه طاهر (2) والأوّل أحوط والمراد بالاشتداد صيرورة أعلاه أسفله أو أن يصير له قوام ، هذا إذا لم يذهب ثلثاه بالغليان وإلّا فهو طاهر حلال.
3 - الفقّاع عندنا حكمه حكم الخمر في النجاسة والتحريم لما ورد من طريقهم عن ضميرة قال : الغبيراء الّتي نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله عنها هي الفقّاع. (3) ومن طريقنا عن سليم بن جعفر « قال قلت للرضا عليه السلام : ما تقول في شرب الفقّاع فقال هو خمر مجهول (4) » وعن الوشّاء « قال كتبت إليه يعني الرّضا عليه السلام أسأله عن الفقّاع فقال هو حرام وهو خمر (5) » وعنه عليه السلام « هي خمر استصغرها النّاس (6) » قال ابن الجنيد
ص: 53
من أصحابنا : تحريمه من جهة نشيشه وضراوة إنائه إذا كرّر فيه العمل. وفي الآية المذكورة فوائد تأتي في باب الأطعمة.
الحادية عشر ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (1).
الأكثر على أنّ المراد الطّهارة من النّجاسات وقيل ثيابك فقصّر لأنّه أبعد من القذر والتّلف وترك لعادات العرب في طول ثيابهم المستهجن وقيل نفسك فطهّر من الرّذائل يقال فلان طاهر الثوب نقيّ الجيب ومنه قول عنترة الشّاعر :
وشككت بالرّمح الأصمّ ثيابه *** ليس الكريم على القنا بمحرّم
كنّى بما يشتمل على البدن عنه وهو أمر باستكمال قوّته العملية.
وفي الآية أحكام :
1 - أنّ الأمر بالتّطهير واجب لأنّه حقيقة في الوجوب.
2 - أنّه واجب لأجل الصّلاة لا لذاته أمّا أوّلا فللإجماع وأمّا ثانيا فلقرينة ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (2) فإنّ المراد تكبير الافتتاح كما سيجي ء.
3 - أنّ هذا العموم مخصوص لما ورد في النقل بالعفو عن الدّم غير المغلّظ الّذي يقصر عن الدّرهم والجروح والقروح الّتي لا ترقأ أو حال الضّرورة ولا يمكن النّزع أو كون الملبوس لا تتمّ الصّلاة فيه وحده أو غير ذلك من الرّخص.
4 - أنّ التّطهير لغير الصّلاة ليس بواجب بل يستحبّ للتهيّأ لها وللتمرّن عليه فيسهل عند إرادتها :
5 - الرّجز إمّا العذاب لقول الأكثر فيكون أمره بهجرانه أمرا بهجران أسبابه الموجبة له وهو أمارة وجوب تطهير الثّياب ، أو النّجاسة فهو حينئذ صريح في وجوب توقّي النّجاسة حال الصّلاة.
ص: 54
الثانية عشر ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (1).
قيل هي خمس (2) في الرّأس وخمس في البدن أمّا الرّأس فالمضمضة والاستنشاق والفرق وقصّ الشّارب والسّواك وأمّا البدن فالختان وحلق العانة وتقليم الأظفار ونتف الإبطين والاستنجاء بالماء. وإذا كانت هذه من شريعة إبراهيم عليه السلام كانت أيضا من شريعة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ) (3) ولقوله تعالى ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) (4) أي اتّبعوها فهنا أحكام :
1 - المضمضة والاستنشاق مستحبّان في الطّهارتين الصّغرى والكبرى (5) ويبدأ بالمضمضة ثلاثا بثلاث أكفّ من الماء ومع الإعواز بكفّ واحد ويدير الماء في فيه ثمّ يمجّه وليبالغ فيها بإيصال الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللّثات ويمرّ إصبعه عليها وكذا الاستنشاق ثلاثا بثلاث أكفّ لكنّ الصّائم لا يبالغ فيهما.
2 - الفرق يكون لمن اتّخذ شعرا مستحبّا والرّواية بأنّه « إذا لم يفرّقه فرّق
ص: 55
بمنشار من نار (1) » محمول على شدّة الاستحباب أو على ترك اعتقاد المشروعيّة أو أنّه يمنع المسح في الوضوء على البشرة.
3 - السّواك مستحبّ لمن عدا النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأمّا هو عليه السلام فيجب عليه لقوله عليه السلام « ما زال جبرئيل يوصيني بالسّواك حتّى خشيت أن أحفي - أو أدرد (2) - » وهما رقّة الأسنان وتساقطها وقال عليه السلام : « لو لا أنّ أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند وضوء كلّ صلاة (3) » وفيه إشعار بأنّ الأمر للوجوب مع أنّ الندبيّة مجمع عليها واستحبابه عامّ للصّائم والمحرم وغيرهما وينبغي أن يكون عرضا ويكون بقضبان الأشجار عدا الرّمان والرّيحان ويجوز بالإصبع والخرقة لحصول المعنى ويكره في الخلإ ويستحبّ عند قراءة القرآن والقيام إلى الصّلاة وعند تغير النّكهة إمّا لنوم أو لطول سكوت أو ترك أكل أو أكل شي ء كريه الرّائحة أو وسخ الأسنان أو أبخرة المعدة.
4 - الختان حال الصّغر مستحبّ للذّكر وللأنثى الخفض ومع البلوغ يجب على الذّكر فعله فيعاقب لو تركه متمكّنا ولا يصحّ طوافه وأمّا صلوته فان تمكّن من كشف الغلفة للتطهير من البول وجب ومع تركه يبطل الصّلاة وإن لم يتمكّن فلا ويحتمل ضعيفا بطلانها مطلقا لنجاسة الغلفة إذ هي في حكم المنفصلة وفي القدوة بالأغلف تفصيل حرّرناه في بعض رسائلنا.
5 - حلق العانة مستحبّ بل تنوير البدن كلّه في كلّ خمسة عشر يوما مرّة وأكثره أربعون يوما.
6 - حلق الإبطين أفضل من النّتف والإطلاء بالنّورة أفضل من الحلق.
7 - الاستنجاء لغة استفعال من النجوة وهو ما ارتفع من الأرض وأصله للسباع لأنّها تقصد النّجوات عند الحاجة وقيل من نجوت الشّجرة أي قطعتها كأنّه يقطع
ص: 56
الأذى عنه ويسمّى أيضا استطابة وشرعا هو واجب في محلّ البول بالماء لا غير عندنا وعند الجمهور يجوز فيه الاستجمار ما لم يتعدّ المخرج وأمّا الغائط فمع التعدّي يتعيّن الماء فيه إجماعا ومع عدم التعدّي يتخيّر المكلّف بين الحجارة والماء ولا يجزي أقلّ من ثلاثة أحجار. وقال أبو حنيفة لا يجب إذا لم يتعدّ.
وهي لغة الدّعاء (1) قال اللّه تعالى ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) أي ادع لهم وقال الأعشى :
عليك مثل الّذي صلّيت فاغتمضي *** نوما فانّ لجنب المرء مضطجعا
وقيل أصلها من رفع الصّلاة في الرّكوع وهو عظم في العجز وشرعا قيل هي أذكار معهودة مقترنة بحركات وسكنات يتقرّب بها إلى اللّه تعالى. قيل هو منقوض طردا بأذكار الطواف وعكسا بصلاة الأخرس والأولى أنّها أفعال معهودة يجب فيها القيام اختيارا افتتاحها التّكبير واختتامها التسليم يتقرّب بها إلى اللّه تعالى. فصلاة الجنازة صلاة بحسب المجاز.
واعلم أنّ أكثر المحقّقين على ثبوت الحقيقة الشرعيّة (2) لوجود خواصّها
ص: 57
وقد قرّر ذلك في الأصول فعلى هذا هل إطلاق لفظ الصّلاة على المعنى المذكور من باب النقل أو من باب المجاز؟ قيل بالأوّل وقيل بالثّاني وهو الأصحّ لأنّ المعنى اللّغويّ موجود في الحقيقة الشرعيّة قطعا على القولين ثمّ البحث هنا يتنوّع أنواعا.
وفيه آيات :
الاولى ( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (1).
كتابا أي مكتوبا فإنّ الكتاب مصدر كالقتال والضّراب والمصدر قد يراد به المفعول أي المكتوب وهو يرادف الفرض ومنه ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) (2) أي فرض والموقوت أي المحدود بأوقات لا تزيد فيها ولا تنقص ولا يجوز التقديم عليها ولا التأخير. وفي الآية أحكام :
1 - أنّها واجبة وفرض على كلّ مؤمن.
2 - أنّها تدلّ بظاهرها على أنّ الوجوب يختصّ بمن له صفة التعقّل إذ الإيمان
ص: 58
التّصديق فالمؤمنون هم المصدّقون والتّصديق لا يصدر إلّا عن تصوّر وجزم وإذعان وذلك غير متصوّر إلّا فيمن له تعقّل فلا يجب على الصبيّ ولا على المجنون ولا على المغمى عليه.
3 - أنّ الصّلاة ليست من العبادات المطلقة غير المحدودة بحدّ ووقت بل هي محدودة بحدود وشرائط وأوقات لا يجوز تغييرها وتبديلها.
4 - ربّما يذهب بعض الأفهام إلى اختصاص الوجوب بالمؤمنين فلا يجب على الكافر كما هو مذهب أبي حنيفة وهو خلاف مذهبنا ومذهب الشافعيّ والجواب أنّ التخصيص بالذّكر لا يدلّ على نفي ما عداه إلّا بدلالة مفهوم المخالفة وليس بحجّة عندنا هذا مع أنّ غير هذه من الآيات تنادي بالوجوب عليهم وأنّهم يعاقبون على تركها كقوله تعالى ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) إلى قوله ( وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) (1) وهو صريح في إرادة الكفّار بالخطاب.
الثّانية ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (2).
المحافظة عليها هي شدّة الاعتناء بإيقاعها وعدم تضييعها في أوقاتها والوسطى إمّا بمعنى التوسّط أي بين الصلوات أو الفضلي أي الكثيرة الفضل والقنوت قيل هي المداومة على الشي ء أي قوموا لله مداومين على القيام وقيل الدّعاء قائما وقيل الخشوع أي قوموا لله خاشعين والشائع عند الفقهاء هو الدّعاء في الصّلاة مع رفع اليدين فالأولى الحمل على ذلك ولذلك قال ابن المسيّب المراد به القنوت في الصّبح والرّجال جمع راجل كالقيام جمع قائم وكذا الرّكبان جمع راكب.
ص: 59
( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ ) أي فصلّوا صلاة أمن واشكروا لله كما علّمكم ثمّ إن قلنا أنّ الذّكر هو الصّلاة يكون معناه صلّوا كما علّمكم من الصّلاة وكيفيّتها وإن قلنا أنّه الشّكر يكون معناه فاشكروه شكرا مماثلا لإنعامه عليكم بتعليمكم ما لا تهتدي إليه عقولكم من كيفيّة الصّلاة حال الأمن وحال الخوف وفيها أحكام :
1 - وجوب المحافظة على الصّلوات الموجب ذلك للثّناء الجميل والأجر الجزيل كما قال في موضع آخر ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) (1) وفي موضع آخر ( الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) (2) فقيل المحافظة متعلّقها الأفعال والحدود والشّرائط (3) والمداومة متعلّقها التكرّر بحسب الأوقات وقيل المحافظة على الفرائض والمداومة على النّوافل وهو مرويّ عن الباقر والصّادق عليهما السلام (4) كلّ ذلك فرارا - من التّرادف والتّأكيد غير المفيد - فائدة زائدة - إلى التأسيس المفيد.
2 - يمكن أن يستدلّ بهذه الآية وما قبلها على وجوب الصّلوات التّسع المشهورة (5) وبيان ذلك أنّهما دلّتا على وجوب الإتيان بكلّ ما يصدق عليه اسم الصّلاة
ص: 60
شرعا ، خرج من ذلك ما لم يدّع وجوبه وما اجمع على ندبه فيبقى الباقي داخلا وهو المطلوب.
3 - تخصيص الصّلاة الوسطى بالأمر بالمحافظة عليها مع أنّها داخلة في الصّلوات إذ اللّام فيها للاستغراق لاختصاصها بمزيد فضل يقتضي رفع شأنها وإفرادها بالذّكر كأفراد النّخل والرمّان عن الفاكهة وجبرئيل وميكائيل عن الملائكة.
واختلف فيها على أقوال (1) فقيل الصّبح لتوسّطها بين صلاتي النّهار وصلاتي
ص: 61
اللّيل وبين الظّلام والضّياء ولأنّها لا يجتمع مع غيرها فهي منفردة بين مجتمعتين ولأنّها يشهدها ملائكة اللّيل والنّهار فتكتب في العملين معا قال الشّافعيّ ولذلك عقّبها بذكر القنوت إذ القنوت عنده مشروع في الصّبح.
وقيل الظّهر وبه قال جماعة وروي ذلك عن الباقر والصّادق (1) عليهما السلام لأنّها وسط النّهار ووقت الحرّ فكانت أشقّ عليهم فكانت أفضل لقوله عليه السلام « أفضل العبادات أحمزها (2) » ولأنّها أوّل صلاة فرضت ولأنّها في السّاعة الّتي يفتح اللّه فيها أبواب السّماء ولا تغلق حتّى يصلّى الظهر ويستجاب الدّعاء فيها.
ص: 62
وقيل العصر لأنّها بين صلاتي اللّيل والنّهار ولأنّها تقع حال اشتغال النّاس بمعاشهم فيكون الاشتغال بها أشقّ عليهم ولقوله صلى اللّه عليه وآله « من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله » (1) وفي رواية « حبط عمله » ولما روي أنّه صلى اللّه عليه وآله « قال يوم الأحزاب : « شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر » (2) فان صحّ ذلك فهو صريح فيها.
وقيل المغرب لتوسّطها عددا بين ثنائيّ ورباعيّ ووقتا بين ليليّة ونهاريّة.
وقيل العشاء لتوسّطها بين ليليّة ونهاريّة وقيل إنّ اللّه تعالى أخفاها ليحافظ على جميعها كإخفاء ليلة القدر وإخفاء الاسم الأعظم والوليّ وساعة الإجابة وعن بعض أئمّة الزيديّة أنّها صلاة الجمعة يوم الجمعة والظّهر في سائر الأيّام (3).
4 - وجوب القيام في الصّلاة لصيغة الأمر.
5 - شرعيّة القنوت في الصّلوات كلّها لذكره عقيب الأمر بالمحافظة على جملتها وعطف القيام حال القنوت على ذلك.
6 - جواز الصّلاة حال الخوف مشيا وركوبا.
7 - جوازها حال المسايفة كيف كان وبه قال الشافعيّ خلافا لأبي حنيفة فإنّه قال : لا يصلّى حالة المشي والمسايفة ما لم يتمكّن من الوقوف
الثّالثة ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) (4).
في هذه الآية الكريمة فوائد :
1 - أمره صلى اللّه عليه وآله أن يأمر أهله بالصّلاة أي صلّ وأمرهم بها فيجب علينا أيضا أمر أهالينا بها لدلالة التأسّي به صلى اللّه عليه وآله ويؤيّده قوله تعالى ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ
ص: 63
ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (1) قال الباقر عليه السلام : « أمره اللّه تعالى أن يخصّ أهله دون النّاس ليعلم النّاس أنّ لأهله عند اللّه منزلة ليست للنّاس فأمرهم مع الناس عامّة ثمّ أمرهم خاصّة » (2).
2 - اصطبر عليها أي احمل نفسك على الصّلاة ومشاقّها وإن نازعتك الطّبيعة إلى تركها طلبا للرّاحة فاقهرها واقصد الصّلاة مبالغا في الصّبر ليصير ذلك ملكة لك ولذلك عدل عن الصّبر إلى الاصطبار لأنّ الافتعال فيه زيادة معنى ليس في الثّلاثيّ وهو القصد والتّصرف ولذلك قال [ اللّه ] تعالى ( لَها ما كَسَبَتْ ) بأيّ نوع كان من الفعل ( وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (3) بالقصد والتّصرف والمبالغة رحمة منه تعالى بعباده وإذا وجب عليه صلى اللّه عليه وآله الاصطبار وجب أيضا علينا لما قلناه والقائم بذلك يحصّل أعلى المراتب إذا لم يكن متحرّجا منها ومستعظما لها كما قال اللّه تعالى ( وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلّا عَلَى الْخاشِعِينَ ) (4).
3 - لمّا كان قبل هذه الآية النّهي عن النّظر إلى زخارف الدّنيا (5) وكان المقصود بالذّات من الأمر بالصّلاة الاشتغال بها عن النّظر إلى تلك الزّخارف الدنيويّة فلا ينبغي أن يكون بشي ء من ذلك مشتغلا عن الصّلاة بل إذا عرض في النّفس شي ء من الميل إليها ينبغي الإقبال على الصّلاة والاصطبار عليها ليكون ذلك صادّا للطبيعة عن الميل إلى خلافه ولذلك كان عروة بن الزّبير إذا رأى الزّخارف عند الملوك قرأ هذه الآية ثمّ نادى الصّلاة الصّلاة رحمكم اللّه.
4 - لمّا كان النّهي عن النّظر إلى الزّخارف والأمر بالصّلاة يمكن أن يقال معه أنّ من جملة ذلك الرّزق الّذي لا بدّ منه أردف ذلك بقوله « لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً » إي طلب رزق بل اكتف برزق يأتيك ولا تكلّف نفسك بالطّلب فإنّه يشغلك عن الآخرة
ص: 64
وأطلبها بالعبادة والهداية نحن نرزقك ، إذا قنعت بما يأتيك كفيناك مؤنة الطّلب.
إن قلت : إذا منع صلى اللّه عليه وآله من طلب الرّزق فنحن أيضا كذلك لدلالة التأسّي لكنّه ليس كذلك بالإجماع.
قلت : الطّلب على قدر المطلوب ولمّا كان مطلوبه صلى اللّه عليه وآله أعلى المطالب جاز تكليفه بما لم يكلّف به غيره فيكون ذلك من خواصّه الّتي لا يجب التأسّي به فيها.
5 - أنّه لمّا كانت الزّخارف المنهيّ عن النّظر إليها قد تستعقب فائدة وعاقبة أردف ذلك بأنّ تلك ليست في الحقيقة فائدة ولا عاقبة بل هي عدم بالنّظر إلى عواقب العبادات اللّذيذة الدّائمة وإنّما العاقبة بالحقيقة أو العاقبة المحمودة لذوي التّقوى.
الرّابعة ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (1).
في الآية دلالة على وجوب الصّلاة وبشرى فاعلها بالفلاح الّذي هو الفوز بأمانيّهم والظّفر بمطلوبهم من الخلاص من عذاب اللّه والبقاء على دوام رحمته لهم و « قد » مثبتة للمتوقّع كما أنّ « لمّا » تنفيه ولمّا كان المؤمنون متوقّعين ذلك صدّرت بها لبشارتهم وأصل الفلاح لغة الشقّ ومنه الفلاحة لشقّ الأرض بالزّراعة. قوله ( فِي صَلاتِهِمْ ) أضافها إليهم لأنّهم المنتفعون بها وأمّا المصلّي له فغنيّ عنها والخشوع خشية القلب وعلامتها التزام كلّ جارحة بما أمر به في الصّلاة من النّظر والوضع.
قيل : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يصلّي رافعا بصره إلى السّماء فلمّا نزلت التزم بنظره إلى موضع سجوده (2) ونظر صلى اللّه عليه وآله إلى رجل يصلّي ويعبث بلحيته فقال : لو خشع قلبه لخشعت جوارحه (3).
ص: 65
وفيه آيات :
الاولى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) (1).
إقامة الصّلاة هو تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في أفعالها ، من أقام العود إذا قوّمه وقيل المواظبة عليها ، مأخوذة من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة ، قال الشّاعر :
أقامت غزالة سوق الضّراب *** لأهل العراقين حولا قميطا (2)
فإنّه إذا حوفظ عليها كانت كالنّافق الّذي يرغب فيه وإذا ضيّعت كانت كالكاسد المرغوب عنه وقيل التشمّر لأدائها من غير فتور ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه وتجلّد وضدّه قعد وتقاعد وقيل أداؤها ، عبّر عنه بالإقامة لاشتمالها على القيام كما عبّر عنها بالرّكوع والسّجود والقنوت والكلّ هنا محتمل وأمّا في قوله « يُقِيمُونَ الصَّلاةَ » في معرض المدح فالأولى أن يراد به الأوّل لأنّه أقرب إلى الحقيقة وأفيد لتضمّنه التّنبيه على أنّ المستحقّ للمدح هو من حاله كذا.
ص: 66
والدّلوك الزّوال نصّ عليه الجوهريّ من الدّلك لأنّ النّاظر إليها يدلك عينيه ليدفع شعاعها وقيل الغروب وتمسّك بقول الشاعر :
هذا مقام قدمي رباح *** دبّب حتّى دلكت براح(1)
وبراح علم للشّمس كقطام وحذام لمرأتين والحقّ أنّه لا دلالة فيه على المدّعى لاحتمال إرادة زوالها وكذا على الرّواية الأخرى « غدوة حتّى دلكت براح » وعلى تقدير الدّلالة لا ينافي كونه بمعنى الزوال لاحتمال الاشتراك.
والغسق أوّل ظلمة اللّيل وذلك حين يغيب الشّفق ولذلك قال الجوهريّ :الغاسق اللّيل إذا غاب الشّفق وقيل غسق اللّيل شدّة ظلمته وذلك إنّما يكون في نصف اللّيل والتهجّد تكلّف السّهر للصّلاة والتهجّد والهجود من أسماء الأضداد لأنّهما يأتيان بمعنى النّوم والسّهر وفي الآية أحكام(2) :
1 - إذا حمل الدّلوك على الغروب خرج الظّهران والأولى حمله على الزّوال
ص: 67
ص: 68
ص: 69
ص: 70
إذ أصل التركيب للانتقال (1) ومنه الدّلك (2) لأنّ الدّالك لا تستقرّ يده وكذا كلّما يتركّب من الدّال واللّام وما يتبعهما من الحروف كدلج ودلع (3) وبه قال ابن عبّاس وروي ذلك عن الباقر والصّادق عليهما السلام (4) ويؤيّده قول النّبي صلى اللّه عليه وآله : « أتاني جبرئيل لدلوك الشّمس حين الزّوال فصلّى بي الظّهر (5) » فعلى هذا يكون الأربع الصّلوات : الظّهر والعصر والمغرب والعشاء ، داخلة في الآية واللّام في « لِدُلُوكِ » للتّوقيت مثلها في لثلاث خلون.
2 - في الآية دلالة على امتداد وقت الأربع من الزّوال إلى الغسق فيكون أوقاتها موسّعة لأنّ اللّام قد قلنا أنّه للوقت وإلى لانتهاء الغاية فيكون الوقت ممتدّا من الزّوال إلى نصف اللّيل أو ذهاب الشّفق على الخلاف ومن المعلوم أنّ الصلوات الأربع يسعها بعض ذلك للأداء فلم يبق إلّا أن يكون المراد اتّساع وقتها بمعنى أنّ كلّ جزء منه صالح للأداء على سبيل الوجوب.
وخالف أبو حنيفة في ذلك حيث قال : الوجوب مختصّ بآخر الوقت لأنّ المكلّف مخيّر قبل ذلك والتّخيير ينافي الوجوب وجوابه لا نسلّم أنّ التّخيير ينافي الوجوب وإنّما ينافيه الوجوب المضيّق وأمّا الموسّع فلا ، ويكون معنى التّخيير إمّا العزم على الإتيان به كما قاله السيّد أو كون جزئيّات الوقت يتعلّق الوجوب
ص: 71
فيها بالإيقاع على سبيل التّخيير كما في الواجبات المخيّرة.
3 - في الآية دلالة على أنّ الظّهر هي الصّلاة الأولى لأنّ الانتهاء يستدعي ابتداء هو الدّلوك.
4 - أنّ آخر وقت العشاء نصف اللّيل على أحد التفسيرين للغسق وهو الأولى وهو مرويّ عن الباقر والصّادق عليهما السلام (1).
5 - « قُرْآنَ الْفَجْرِ » إشارة إلى صلاة الصبح تسمية للكلّ باسم جزئه وقال بعض الحنفيّة فيه دلالة على ركنيّة القراءة كما دلّ تسميتها ركوعا وسجودا على كونهما ركنين وليس بشي ء لأنّ التسمية لغويّة وكونها ركنا أو غيره شرعيّة فإنّ القراءة جزء سواء كانت ركنا أو غيره فالركنيّة مستفادة من دليل خارج.
وكان قرآنها مشهودا لأنّ الملائكة الليليّة والنهاريّة مجتمعون فيه فيكتب في الدّيوانين معا.
6 - كون نافلة اللّيل من خواصّه صلى اللّه عليه وآله أي وجوبها زائدا على فرائضك مختص بك ، من النفل وهو الزّيادة ومنه الأنفال بمعنى أنّها تجب له صلى اللّه عليه وآله وإلّا فالنّدبيّة ثابتة في حقّ كلّ الأمّة وإنّما عبّر عنها بالنّافلة لكونها تسمّى كذلك بالنّسبة إلى كلّ الأمّة.
7 - أنّه ضمّن « يَبْعَثَكَ » معنى يقيمك « مَقاماً مَحْمُوداً » وهو مقام الشّفاعة لأمّته وكان محمودا لأنّه يحمده كلّ من عرفه.
الثّانية ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ ) (2).
قال ابن عبّاس والحسن والجبائيّ : أنّ « طَرَفَيِ النَّهارِ » وقت صلاة الفجر والمغرب
ص: 72
وقال مجاهد : وقت صلاة الغداة والظّهر والعصر ، بناء على أنّ ما بعد الزّوال يعدّ من العشاء و « زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ » العشاءان ويحتمل قولا ثالثا بناء على أنّ النهار اسم لما بين الصّبح الثّاني وذهاب الشّفق المغربيّ وأنّ المراد ب « طَرَفَيِ النَّهارِ » نصف النّهار وصلاة الفجر في النّصف الأوّل وباقي الصّلوات الفرائض في النّصف الثّاني.
« وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ » أي قربا منه أي طاعات يتقرّب بها في بعض اللّيل فيكون المراد نوافل اللّيل فيكون زلفا عطفا على الصّلاة لا على طرفي النّهار وعلى الأوّلين يكون عطفا على طرفي النّهار ، والزّلف جمع زلفة كظلم جمع ظلمة والزّلفى بمعنى الزلفة من أزلفه إذا قرّبه فيكون المعنى ساعات متقاربة من اللّيل ويكون من هنا للتّبيين فيكون المعنى ساعات المغرب والعشاء القريبة من النّهار. واعلم أنّ دلالة الآية على اتّساع الوقت ظاهرة.
قوله « إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ » الأكثر على أنّ المراد بالحسنات هي الصّلوات الخمس وفي معنى إذهابها للسيّئات قولان الأوّل أنّها لطف في ترك السيّئات كما قال سبحانه وتعالى ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (1) الثّاني أنّها تكفّر الخطيئات الحاصلة من العبد بمعنى عدم مؤاخذته بها وعدم العقاب عليها وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة أحسنها ما رواه أبو حمزة الثماليّ عن أحدهما عليهما السلام في حديث طويل (2) عن عليّ عليه السلام :
« قال : سمعت حبيبي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : أرجى آية في كتاب اللّه « أَقِمِ
ص: 73
الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ » إلى آخرها والّذي بعثني بالحقّ بشيرا ونذيرا إنّ أحدكم ليقوم في وضوئه فيتساقط عن جوارحه الذّنوب فإذا استقبل اللّه بوجهه وقلبه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شي ء كما ولدته أمّه فإن أصاب شيئا بين الصّلوتين كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصّلوات الخمس ثمّ قال : يا عليّ إنّما منزلة الصّلوات الخمس لأمّتي كنهر جار على باب أحدكم فما يظنّ أحدكم لو كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك واللّه الصّلوات الخمس لأمّتي ».
قوله « ذلِكَ » إشارة إلى ما ذكره من إقامة الصّلاة فإنّ ذلك سبب لذكر اللّه وذكر اللّه سبب لدوام فيض الرّحمة على العباد المستعدّين لها كما قال اللّه تعالى : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) (1).
قوله « ذِكْرى لِلذّاكِرِينَ » أي عظة للمتّعظين حيث علموا أنّ ذكرهم لله سبب لذكر اللّه إيّاهم.
الثّالثة ( فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ) (2).
أخبار في معنى الأمر بالتّنزيه لله تعالى والثّناء عليه في هذه الأوقات فيكون سبحان مصدرا بمعنى الأمر أي سبّحوا سئل ابن عبّاس هل تجد الصّلوات الخمس في القرآن قال نعم وقرأ هذه الآية ، تمسون صلاة المغرب والعشاء ، وتصبحون صلاة الفجر ، وعشيّا صلاة العصر ، وتظهرون صلاة الظّهر.
ووجه تسمية الصّلاة بالتسبيح أنّ التسبيح تنزيه [ ا ] لله تعالى عن صفات المخلوقين لأنّ المخلوق لا يستحقّ العبادة وكما أنّه منزّه عن صفات المخلوقين كذلك هو متّصف بصفات الكمال الّتي لا يتّصف بها المخلوقون ومن كان كذلك استحقّ مطلق
ص: 74
الحمد والثّناء ولذلك قرن الحمد بالتّسبيح وقال « وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ».
وقوله « وَعَشِيًّا » يجوز نصبه على الظّرف عطفا على معنى « فِي السَّماواتِ » لأنّه أقرب ويجوز عطفه على « حِينَ تُمْسُونَ » فيكون « وَلَهُ الْحَمْدُ » اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه فعلى الأوّل يكون تسمية صلاة النّهار حمدا لأنّ الإنسان يتقلّب [ في النهار ] ظ في أحوال توجب الحمد وفي اللّيل على أحوال توجب تنزيه اللّه تعالى عنها كالنّوم وتوابعه.
قال الحسن : إنّ هذه السورة أعني الروم مكيّة إلّا هذه الآية فإنّها مدنيّة وذلك لأنّ الصلوات الخمس إنّما فرضت بالمدينة وكان الواجب في مكّة ركعتين ركعتين فلمّا هاجر أقرّت صلاة السفر وزيدت في الحضر الزيادات المشهورة وأكثر الأقوال على خلافه وأنّ الصلوات كلّها فرضت بمكّة.
واعلم أنّه يقال أمسى إذا دخل في المساء وكذا أصبح وكذا الباقي فعلى هذا يمكن أن يحتجّ بها من يجعل الوجوب مختصّا بأوّل الوقت على التضيّق لتقييد الوجوب بالحينيّة المختصّة بحال الدّخول في المساء والصباح وليس بشي ء لأنّ ذلك إشارة إلى أوّل الوقت فانّ لكلّ صلاة وقتين أوّل للفضيلة وآخر للإجزاء.
ثمّ الذي يدلّ على التوسعة ما تقدّم في قوله « إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ » ورواية ابن عبّاس « عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّ جبرئيل عليه السلام صلّى به في اليوم الأوّل حين صار ظلّ كلّ شي ء مثله وفي اليوم الثّاني حين صار ظلّ كلّ شي ء مثليه وقال ما بينهما وقت » (1) ورواية محمّد بن مسلم « قال ربّما دخلت على أبي جعفر عليه السلام وقد صلّيت الظّهر والعصر فيقول : صلّيت الظّهر؟ فأقول نعم والعصر أيضا فيقول : ما صلّيت الظّهر ، فيقوم مسترسلا غير مستعجل فيغتسل أو يتوضّأ ثمّ يصلّي الظّهر ثمّ [ يصلّي ] العصر » (2).
ص: 75
الرّابعة ( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى ) (1).
أي فاصبر على ما يقولون من أنّك ساحر أو شاعر فإنّه لا يضرّك وأقبل على ما ينفعك فعله ويضرّك تركه وهو ذكر اللّه من التّسبيح وغيره ، والباء بمعنى مع أي سبّح مع حمد ربّك على هدايته وتوفيقه ، إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - قال المفسّرون : المراد من هذه الآية إقامة الصّلوات الخمس في هذه الأوقات فقبل طلوع الشّمس إشارة إلى الفجر وقبل غروبها إشارة إلى الظّهرين لكونهما في النّصف الأخير من النّهار ومن آناء اللّيل إشارة إلى العشائين وآناء اللّيل ساعاته جمع إنى بالكسر والقصر وآناء بالفتح والمدّ.
2 - أنّ « من » في « وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ » للابتداء وفيه تنبيه على أنّ ابتداء وقت العشائين من أوّل اللّيل وإنّما قدّم الزمان هنا لاختصاصه بمزيد الفضل فانّ القلب فيه أجمع لتفرّغه عن هموم المعاش أو لأنّ النّفس أميل إلى طلب الاستراحة من تعب الكدّ في النّهار فكان العبادة فيه أحمز ، ولذلك قال اللّه تعالى ( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ) (2) وقال ابن عبّاس : إنّ المراد من آناء اللّيل صلاة اللّيل كلّه.
3 - اختلف في أطراف النّهار فقيل الفجر والمغرب وفيه نظر لأنّ طرفي الشي ء منه لا خارج عنه ، وصلاة المغرب تقع في اللّيل فكيف يكون في النّهار اللّهمّ إلّا على الاحتمال المتقدّم. وقيل الظّهر لأنّ وقته عند الزّوال وهو طرف النّصف الأوّل نهاية وطرف الثّاني بداية ، وقيل العصر أعادها لأنّها الوسطى كما تقدّم وإنّما قال أطراف النّهار لأنّ أوقات العصر تقع في النّصف الأخير من النهار فيصدق على كلّ ساعة منه أنّها طرف أو أنّه جمعه للأمن من الالتباس نحو قوله تعالى ( صَغَتْ قُلُوبُكُما ) (3).
ص: 76
وقول الشّاعر : ظهراهما مثل ظهور الترسين.
4 - أنّ في الآية نصّا صريحا بسعة الوقت للصّبح والظّهرين لأنّه ذكر أواخر أوقاتها إذ ليس مرادنا بالتّوسعة إلّا أنّ الصّبح يمتدّ إلى طلوع الشّمس وأنّ الظّهرين يمتدّ وقتهما إلى غروبها وأمّا العشاءان فإنّ جعل اللّيل طرفا لهما صريح باتّساع وقتهما.
سؤال : ما ذكرتم من اتّساع الوقت هنا وفيما تقدّم صريح في مذهب ابن بابويه بأنّ الوقت مشترك بين الفرضين من ابتدائه إلى انتهائه إلّا أنّ هذه قبل هذه وأنتم لا تقولون بذلك بل تقولون إنّ الوقت يختصّ من أوّله بالظّهر قدر أدائها ومن آخره بالعصر قدر أدائها وكذا المغرب والعشاء؟.
جواب : لا ريب أنّ ظاهر هذا الكلام بل وظاهر أكثر روايات أهل البيت عليهم السلام يقتضي الاشتراك والدّليل والبحث والإجماع يقتضي الاختصاص وحينئذ يجب الجمع والتوفيق بوجوه : الأوّل أن يراد بالاشتراك ما بعد الاختصاص وقبله.
الثّاني أنه لمّا لم يكن للظّهر وقت مقدّر بل أيّ وقت أدّيت فيه فهو مختصّ بها فإنّها لو كانت تسبيحة كصلاة الشدّة كانت العصر بعدها وأيضا لو ظنّ دخول الوقت وصلّى ولم يكن دخل حين ابتدائه ثمّ دخل فيه قبل إكمالها بلحظة فإنّ أكثر الأصحاب يفتون بالصحّة وحينئذ يصلّي العصر في أوّل الوقت إلّا ذلك القدر فلقلّة الوقت وعدم ضبطه عبّر عنه في الآيات والرّوايات بالاشتراك.
الثّالث أنّ ذلك مطلق قابل للتقييد فيقيّد بما رواه داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن الصّادق عليه السلام « قال إذا زالت الشّمس دخل وقت الظّهر فإذا مضى قدر أربع ركعات دخل وقت الظّهر والعصر حتّى يبقى عن مغرب الشّمس قدر أربع فيخرج وقت الظّهر ويبقى العصر حتّى تغرب الشّمس » (1) ويمكن أيضا أن يكون قوله في الآية السّابقة ( فَسُبْحانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ) إلى آخرها إشارة إلى الوقت المختصّ لأنّ الإمساء حال الدّخول في المساء وكذا الإصباح والإظهار
ص: 77
فيقيّد به إطلاق غيرها من الآيات.
الخامسة ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ ) (1).
وتقرب منها الآية في الطّور ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ ) (2).
الكلام في الآيتين متقارب وبحثه يعلم ممّا تقدّم فلا وجه لإعادته.
بقي ههنا فوائد نوردها مختصرة :
1 - المراد بأدبار السجود التعقيب بعد الصّلوات بالتّسبيح والدّعاء عن ابن عبّاس ، وعن عليّ عليه السلام الركعتان بعد المغرب وعن الصّادق عليه السلام أنّه الوتر آخر اللّيل (3) وعن الجبائيّ النوافل بعد المفروضات وعندي أنّ حمله على العموم أولى والأدبار جمع دبر وقرأ حمزة بكسر الهمزة مصدرا مضافا والكلّ من أدبرت الصّلاة أي انقضت نحو أتيتك خفوق النّجم والمراد هنا وقت انقضاء الصّلاة.
2 - « حين تقوم » قيل : المراد تقوم من مجلسك بأنّه يقول : « سبحانك اللّهمّ وبحمدك لا إله إلّا أنت اغفر لي كلّ ذنب وتب عليّ » عن سعيد بن جبير ، ولذلك ورد مرفوعا أنّه كفّارة المجلس (4) وعن عليّ عليه السلام : « من أحبّ أن يكتال حسناته بالمكيال الأوفى فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه « سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » (5).
وقيل : تقوم في اللّيل من النّوم ، في الحديث عن الباقر والصّادق عليهما السلام أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يقوم من اللّيل ثلاث مرّات فينظر في آفاق السّماء ويقرأ الخمس من آخر
ص: 78
آل عمران إلى قوله « إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ » ثمّ يفتتح صلاة اللّيل (1) وقيل تقوم إلى الصّلاة فعلى هذا يمكن أن يحتجّ به على التوجّه إلى الصّلاة بالأذكار المشهورة.
3 - « إِدْبارَ النُّجُومِ » أي أعقاب النّجوم والمراد حين يسترها ضوء الصّبح ، فقيل المراد صلاة الفجر وعن الباقر والصّادق عليهما السلام الركعتان قبل صلاة الفجر (2) وبه قال ابن عبّاس وقيل المراد لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا ومساء وعلى كلّ حال.
وفيه آيات :
الاولى ( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ ما وَلّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (3).
أتى بفعل الاستقبال إخبارا عمّا يجي ء أعدادا للجواب إذ قبل الرّمي يراش السّهم أو لتوطين النّفس على المكروه لأنّ المفاجأة به شديدة والسّفهاء خفاف العقول الّذين ألفوا التّقليد وأعرضوا عن النّظر ، والقبلة مثل الجلسة للحال الّتي يقابل الشّي ء غيره عليها كما أنّ الجلسة للحال الّتي يجلس عليها وكان يقال هو لي قبلة وأنا له قبلة ثمّ صار علما للجهة الّتي تستقبل في الصّلاة « ولّاهم » أي صرفهم.
روى عليّ بن إبراهيم بإسناده عن الصّادق عليه السلام : حوّلت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبيّ صلى اللّه عليه وآله بمكّة ثلاث عشر سنة إلى البيت المقدّس وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إليه أيضا بستّة أشهر - وقيل تسعة وقيل عشرة وقيل ثلاثة عشر
ص: 79
شهرا وقيل تسعة عشر - قال ثمّ وجّهه اللّه إلى الكعبة وذلك أنّ اليهود عيّروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بأنّه تابع لهم ويصلّي إلى قبلتهم فاغتمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من ذلك غمّا شديدا وخرج في جوف اللّيل ينظر إلى آفاق السّماء ينتظر من اللّه في ذلك أمرا فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظّهر وكان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظّهر ركعتين فنزل جبرئيل عليه السلام فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة وأنزل عليه « قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ » فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام » وكان قد صلّى ركعتين إلى البيت المقدّس وركعتين إلى الكعبة. فقالت اليهود « ما وَلّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ » إنكارا منهم للنسخ (1).
وقيل القائل منافقوا المدينة حرصا منهم على الطّعن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقيل مشركو مكّة فقالوا إنّه اشتاق إلى مولده وقبلة آبائه وسيرجع إلى دينهم فنزل.
« قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ » أي مالك لهما ولسائر الأمكنة يشرّف ما شاء منهما بالتّوجه إليه بحسب ما يراه من المصلحة أو أنّه تعالى ليس في جهة حتّى إذا انحرف المصلّي عنها انحرف عن اللّه تعالى بل نسبته إلى أمكنة الشّرق والغرب على السّواء وهي نسبة التملّك وإنّما الاعتبار بتوجّه قلب المصلّي إلى اللّه سبحانه ، وتوجّه وجه المصلّي إلى جهة عنوان لتوجّه قلبه ، وحيث إنّ الجهات كلّها متساوية في ذلك فالمرجّح هو الأمر لا خصوصيّة الجهة والمراد بالمشرق والمغرب ما ينقسم من الأرض إليهما ولا واسطة بينهما.
وقال الزمخشريّ المراد بلاد المشرق والمغرب ، فيلزمه أن لا يكون البراري والخربان منهما وليس كذلك.
قوله تعالى ( يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي الطّريق المستقيم بحسب ما يقتضيه المصلحة والحكمة تارة إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ، ووجه كون التوجّه إلى الكعبة صراطا مستقيما أنّه غير مائل إلى قبلة اليهود وهو بيت المقدس
ص: 80
ولا إلى قبلة النّصارى وهو المشرق فإنّ اليمين والشّمال مضلّة لأنّ التوجّه إليهما مظنّة أنّ العبادة للشّمس وفي الآية دلالة على جواز النّسخ ووقوعه.
الثّانية ( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (1)
هنا فوائد :
1 - « وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ » يحتمل وجهين :أحدهما أنّه ضمن الجعل معنى التّحويل أو أنّه من باب إطلاق العامّ على الخاصّ والمراد وما حوّلنا إذ التحويل جعل أيضا وهذا بناء على أنّه صلى اللّه عليه وآله كان يتوجّه في مكّة قبل هجرته إلى البيت المقدّس كما نقلناه عن الصّادق عليه السلام ورواه ابن عبّاس إلّا أنّه كان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس في الصّلاة وثانيهما أنّ الموصوف محذوف والتقدير وما جعلنا القبلة الجهة الّتي كنت عليها وهي الكعبة ويكون « الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها » هو المفعول الثّاني « لَجَعَلْنا » لا أنّه صفة للقبلة كما قيل وهذا بناء على أنّه كان يصلّي بمكّة إلى الكعبة كما قاله بعض المفسّرين وإنّما صلّى إلى الصخرة في المدينة تألّفا لليهود فالمخبر به على الأوّل المنسوخ وعلى الثّاني النّاسخ والأوّل أصحّ لأنّه قول علماء أهل البيت عليهم السلام.
2 - « إِلّا لِنَعْلَمَ » (2) ضمّن العلم معنى التّمييزأي لنتميّز بالعلم فانّ العلم صفة
ص: 81
تقتضي تميّز المعلوم فيتميّز النّاس التّابعون لك والنّاكصون عنك وذلك إمّا بمكّة فأمرناك ببيت المقدس ليمتاز من يتّبعك من مشركي مكّة لأنّهم ألفوا التوجّه إلى الكعبة وإمّا بالمدينة فأمرناك بالكعبة ليمتاز منافقوا اليهود لأنّهم كانوا يتوجّهون إلى البيت المقدّس ، وقيل المراد بذلك : لنعلم ذلك علما يتعلّق به الجزاء ، أي لنعلمه موجودا قاله الزّمخشريّ وفيه ضعف لا يخفى. « مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ » أي يرتدّ عن دينك وفي ذلك دلالة على كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض.
3 - « وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً » أي التّحويلة خصلة كبيرة على ضعفاء العقول والإيمان لعدم فهمهم الحكمة فيها وقد بيّن ذلك بقوله « إِلّا لِنَعْلَمَ » وهذا كما ميّز بين الصّادقين في الإيمان وبين غيرهم من امّة طالوت وداود بقوله ( إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ) (1) الآية. « إِلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ » إلى معرفة حكمته في أحكامه.
4 - « وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ » أي ثبات أيمانكم أو إيمانكم بتحويل القبلة وحكمته أو ما رواه ابن عبّاس أنّ القبلة لمّا حوّلت قال النّاس : كيف بمن مات قبل التّحويل من إخواننا فنزلت (2) واللّام في « لَكَبِيرَةً » هي الفاصلة بين إن المخفّفة والنّافية وفي « لِيُضِيعَ » لام تأكيد النّفي وينتصب الفعل بتقدير أن لكن لا يجوز إظهارها « إِنَّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ » لا يضيع أجورهم ولا يغفل عن
ص: 82
مصالحهم وقدّم الرّؤف وهو أبلغ لتوافق الفواصل.
الثّالثة ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ ) (1).
في الآية فوائد :
1 - المشهور أنّ « قَدْ نَرى » معناه ربّما نرى ومعناه التّكثيركقوله « قد أنرك القرن مصفرا أنامله » (2) والتّحقيق أنّه على أصل التّقليل في دخوله على المضارع وإنّما قلّل الرّؤية لتقلّل المرئيّ فإنّ الفعل كما يقلّ في نفسه فكذلك يقلّ لقلّة متعلّقه ولا يلزم من قلّة الفعل المتعلّق قلّة الفعل المطلق لأنّه لا يلزم من عدم المقيّد عدم المطلق وكذا القول في ( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ) (3) وكذا في البيت المراد تقليل التّرك لقلّة متعلّقه فلا ينافي كثرة مطلق التّرك المقصود للشّاعر.
2 - « تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ » أي تردّد وجهك وتصرّف نظرك تطلّعا للوحي كذا قيل والتّحقيق أنّه لا يجوز تعلّق « فِي السَّماءِ » ب « نرى » لتنزّه الرّائي عن المكان ولا بالتّقلّب لأنّ تقلّب الوجه ليس في السّماء ولا بصفة مقدّرة أي وجهك الكائن في السّماء لما قلناه بل تقديره تقلّب مطارح شعاع عين وجهك في السّماء ومطارح شعاع العين في السّماء.
بيان غلط : ظهر لك ممّا قرّرناه غلط من استدلّ بهذه الآية على كون الباري تعالى في جهة السّماء من حيث توقّعه صلى اللّه عليه وآله نزول الحكم من السّماء والحكم يجي ء من عند اللّه تعالى فيكون في السّماء وأقرّ على ذلك من غير إنكار. جوابه أنّه كان ينتظر الوحي من جهتها على لسان جبرئيل عليه السلام ولا يلزم من ذلك كون الباري فيها وإلّا
ص: 83
لزم من صعود الملائكة بالأمر من الأرض أن يكون اللّه فيها وهو باطل.
3 - ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) تقدّم أنّه أمر بالتوجّه إلى الصخرة تألّفا لليهود وكان صلى اللّه عليه وآله يحبّ التوجّه إلى الكعبة لأنّها قبلة أبيه إبراهيم أو لما تقدّم أنّ اليهود قالوا يخالفنا محمّد في ديننا ويصلّي إلى قبلتنا فقال صلى اللّه عليه وآله لجبرئيل وددت أن يحوّلني اللّه إلى الكعبة فقال جبرئيل عليه السلام إنّما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فاسأل أنت فإنّك عند اللّه بمكان فعرج جبرئيل وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يديم النّظر إلى السّماء رجاء أن ينزل جبرئيل بما يحبّ من أمر القبلة فنزلت ، وقيل كان قد وعد بالتّحويل فكان ينتظره ويترقّبه لموافقته لمحبّته الطّبيعيّة ولا يلزم كونه ساخطا للقبلة الاولى.
« فَلَنُوَلِّيَنَّكَ » من قولهم ولّيت فلانا الأمر أي مكّنته منه وحكّمته فيه « وترضاها » صفة ل « قبلة » أي مرضيّة لك.
4 - ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) هو النّاسخ للتوجّه إلى الصخرة وكان ذلك في رجب قبل قتال بدر بشهرين قال ابن عبّاس هو أوّل نسخ وقع في القرآن وقيل هو نسخ للسنّة بالكتاب فإنّه ليس في القرآن أمر بالتوجّه إلى الصخرة صريحا. ثمّ اعلم أنّ الأمر هنا على التحتّم والجزم لا على التّخيير كما قيل لانعقاد الإجماع على بطلان التوجّه إلى الصخرة والشّطر هو النّحو والجهة قاله الجوهريّ وأنشد :
أقول لامّ زنباع أقيمي *** وجوه العيس شطر بني تميم (1)
وقرأ أبيّ « تلقاء المسجد الحرام » وقول الجبّائي إنّ الشّطر النّصف باطل باتّفاق المفسّرين وإنّما كان حراما لحرمة القتال فيه أو لمنعه من الظّلمة أن يتعرّضوه.
ص: 84
تحقيق : المحقّقون من أصحابنا على أنّ القبلة هي الكعبة بالحقيقة لمن كان مشاهدا لها أو في حكمه كالأعمى ومن كان بينه وبينها ما لو أزيل لشاهدها وأمّا من ليس كذلك فقبلته الجهة وبه قال جملة الفقهاء وهو الحقّ لوجوه الأوّل إجماع العلماء على وجوب استقبالها لمن هو مشاهد لها دون شي ء من أجزاء المسجد فتكون هي القبلة الثّاني رواية أسامة بن زيد أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله صلّى قبل الكعبة وقال هذه القبلة (1) الثّالث رواية الأصحاب عن أحدهما عليهما السلام أنّ بني عبد الأشهل أتوا وهم في الصّلاة وقد صلّوا ركعتين إلى البيت المقدّس فقيل إنّ نبيّكم قد صرف إلى الكعبة فتحوّل النساء مكان الرّجال والرّجال مكان النّساء وجعلوا الرّكعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلّوا صلاة واحدة إلى القبلتين فلذلك سمّوا مسجدهم مسجد القبلتين ، وغير ذلك من الرّوايات (2).
سؤال : على قولكم هذا لم قال « فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » أليس كان ينبغي أن يقول : فولّ وجهك إلى الكعبة.
جواب : قال اللّه تعالى ذلك وهو صلى اللّه عليه وآله في المدينة ولا ريب أنّ البعيد فرضه الجهة لا العين لأنّه حرج وأيضا لو كان الواجب التوجّه إلى المسجد أو جهته عملا بظاهر الآية لوجب ذلك أيضا للحاضر المشاهد واللّازم كالملزوم في البطلان وبيان الملازمة ظاهر إن قلت ذلك مسلّم لولا المخصّص قلت الجواب بضعف المخصّص إذ رواته بعضها عاميّ المذهب وبعضها زيديّ وبعضها مرسل وأمّا رواية المفضّل بن عمر
ص: 85
الجعفيّ فقد طعن الكشّيّ فيه بفساد العقيدة (1).
تنبيه : في تعبيره بالشّطر بمعنى الجهة إيماء إلى أنّ أمر القبلة مبنيّ على المساهلة والمقاربة دون التّحقيق فإنّ العراقيّ والخراسانيّ [ علامة ] قبلتهم واحدة مع أنّه إذا حقّق كان توجّه العراقيّ إلى غير موضع الخراساني لاختلاف البلدان في العروض.
5 - « وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ » خصّه صلى اللّه عليه وآله بالأمر أوّلا تعظيما لشأنه وإجابة لرغبته ثمّ عمّم بالأمر تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة وحضّا للأمّة على المتابعة ، وحيثما للمكان أي في أيّ مكان كنتم ويلزم من ذلك أن
ص: 86
يكون أهل العالم في صلواتهم على دوائر حول المسجد بعضها صغيرة قريبة وبعضها كبيرة بعيدة.
6 - ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) الضمير عائد إلى التّحويل أو التوجّه لأنّهم يعلمون جملة أنّ كلّ شريعة لا بدّ لها من قبلة وتفصيلا لتضمّن كتبهم أنّه صلى اللّه عليه وآله يصلّي إلى القبلتين لكنّهم لا يعترفون بذلك لشدّة عنادهم « وَمَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ » بالياء - وعيد لأهل الكتاب وبالتّاء وعد لهذه الأمّة.
الرّابعة ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ) (1).
في هذه الآية إخبارات يلزمها أحكام :
ص: 87
1 - أنّه أخبره أنّ أهل الكتاب لا يسلمون ولا يتّبعون قبلته فقوله « وَلَئِنْ أَتَيْتَ » اللّام موطّئة لقسم محذوف و « الَّذِينَ » مع صلته مفعول به والباء في « بِكُلِّ آيَةٍ » للمصاحبة نحو قولك أتيت الأمير بحجّتي أي مع حجّتي و « ما تَبِعُوا » جواب القسم واستغني به عن جواب الشّرط لأنّهما في المعنى واحد والغرض من الكلام قطع طمعه صلى اللّه عليه وآله في صلاحهم لأنّهم لم يتركوا متابعته لشبهة حتّى تزول ببرهان ودليل بل عنادا ولذلك قال علماء الحكمة العمليّة : إنّ علاج الجهل المركّب غير ممكن. وهل هذا عامّ في أهل الكتاب أو خاصّ بالمعاندين منهم الأولى الثاني لأنّ منهم من أسلم وتبع قبلته ولا بعد في ذلك لأنّ العامّ قابل للتّخصيص قال ابن عبّاس ما من عامّ إلّا وقد خصّ إلّا قوله « وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » مع أنّ من جملة الحكماء وغيرهم قوما قالوا لا يعلم ذاته ولا الجزئيّ الزمانيّ.
2 - أخبر أنّه صلى اللّه عليه وآله ليس بتابع قبلتهم وفيه قطع لأطماعهم لأنّهم قالوا لو ثبت على قبلتنا لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا ، وإنّما وحّد القبلة مع أنّ لليهود بيت المقدس وللنصارى مطلع الشمس إرادة لمعنى الجنس الصّادق في حالتي الإفراد وغيره.
3 - أنّ كلّ واحد من أهل القبلتين لا يتّبع قبلة الأخرى بدلالة قوله تعالى ( وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) وكذا قوله عنهم ( وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ ) (1).
4 - أنّه توعّده صلى اللّه عليه وآله على اتّباع أهوائهم بأنه يكون في عداد الظّالمين مبالغة في قطع طمعهم والشّرطية قد يتركّب من محالين كقولنا إن كان زيد حجرا فهو جماد.
قوله ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) (2) أي لكلّ شخص والتّنوين بدل المضاف إليه والوجهة والجهة بمعنى واحد ويقرب أن يكون المراد منه أنّ لكلّ نبيّ جهة يتعبّد بالتوجّه إليها أو يكون المراد أنّ لأهل كلّ إقليم من المسلمين جهة من جهات الكعبة يتوجّهون إليها كالّذي فيه الحجر لأهل العراق والّذي مقابله لأهل
ص: 88
المغرب واليماني لأهل اليمن والّذي مقابله لأهل الشام. قوله « هُوَ مُوَلِّيها » أي ولّاه اللّه إيّاها أي أمره بتولّيها [ وقرئ « هو مولاها » أي هو مولّى تلك الجهة ظ ] وهي قراءة ابن عامر والباقون « مولّيها » بالياء أي هو مولّيها وجهه حذف المفعول الثّاني أو الضّمير لله أي اللّه مولّيها.
الخامسة ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ ) (1).
لمّا أمره بالتوجّه إلى جهة المسجد الحرام أمرا مطلقا محتملا للتقييد وعدمه بيّن له أنّ ذلك واجب في كلّ مكان وعلى كلّ حالة فقال « وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ » أي من أيّ مكان خرجت وصلّيت ( فَوَلِّ وَجْهَكَ ) والضّمير في إنّه عائد إلى الأمر أي أمرك بذلك هو الحقّ وأكّده بالإتيان بالجملة الاسميّة وإنّ واللّام في خبرها ووصفه بالحقّ أي الثابت الّذي لا يزول كلّ ذلك دافع لاحتمال النّسخ.
السّادسة ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (2).
تقدّم البحث في صدر هذه الآية بقي فيها فوائد :
1 - سبب التّكرار، ذكر له وجوه : الأوّل أنّه من باب التّأكيد اللّفظيّ فإنّه يجي ء في المفرد والجملة. الثّاني تأكيد أمر القبلة في دفع احتمال النّسخ فانّ كلّ حكم شرعيّ في مظنّة أن ينسخ. الثّالث أنّه أعيد ليتعلّق عليه ما بعده من الكلام كما في قوله هنا « لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ » إلخ وكذا ما تقدّم. الرّابع أنّه مهما أمكن حمل الكلام على معنى فلا يعدل عنها إلّا للضرورة وإذا كان كذلك فلا تكرار كما تقول هنا : إنّ الراد من الأوّل إذا خرجت مترقّبا للوحي في أمر القبلة طالبا للصّلاة
ص: 89
في مسجدك فولّ وجهك وكذلك أصحابك حيث كانوا من المواضع في المدينة ومن الثّاني إذا خرجت إلى السّفر وأردت الصّلاة ومن الثّالث أيّ مكان كنتم من البلاد فولّوا وجوهكم أو على أيّ حالة كنتم حاضرين أو مسافرين. الخامس أنّه كرّره لتعدّد علله فإنّه ذكر للتّحويل ثلاث علل تعظيم الرّسول بابتغاء مرضاته وجري العادة الإلهيّة أنّه يولّي كلّ صاحب دعوة وأهل كلّ ملّة جهة يستقبلها ويتميّز بها عن غيره ودفع حجّة المخالفين على ما بيّنه وقرن بكل علّة معلولها كما يقرن المدلول بكلّ واحد من دلائله.
2 - « لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ » أي أمرتم بالتوجّه إلى الكعبة لئلّا يكون ، فإنّ العرب يقولون إنّه على ملّة إبراهيم كما يزعم وقبلة إبراهيم الكعبة واليهود عندهم في التورية أنّه يصلّي إلى الكعبة بعد صلوته إلى الصّخرة فلو دمتم على بيت المقدس لتوجّه ذلك الإيراد من الطّائفتين عليكم « إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ » أي المعاندين من أولئك « فَلا تَخْشَوْهُمْ » فانّي من ورائكم « وَاخْشَوْنِي » بمخالفتكم وسمّى شبهة الّذين ظلموا حجّة بالنّسبة إلى اعتقاد موردها.
3 - « وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ » عطف على قوله « لِئَلّا يَكُونَ » أي وجوب التّولية ليتمّ نعمتي عليكم فانّ قبلتكم وسط كما أنّ نبيّكم وسط وشريعتكم وسط وأنتم أمّة وسط « وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » سبب ثالث غائيّ للتّولية.
السّابعة : ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (1).
قيل : إنّها نزلت ردّا على اليهود في اعتراضهم على النّبيّ صلى اللّه عليه وآله في توجّهه إلى الكعبة وقيل إنّه كان في مبدء الإسلام مخيّرا في التوجّه إلى الصخرة أو الكعبة بهذه الآية فنسخ بقوله « فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » وقيل نزلت في الدّعاء والأذكار وعن الباقر والصّادق عليهما السلام أنّ هذه الآية في النّافلة سفرا حيث توجّهت
ص: 90
الرّاحلة وقوله « فَوَلِّ وَجْهَكَ » في الفريضة لا يجوز فيها غير ذلك (1) فهذه الآية خاصّة بالنّافلة سفرا.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه مهما أمكن تكثير الفائدة مع بقاء اللّفظ على عمومه كان أولى فعلى هذا يمكن أن يحتجّ بالآية في الفريضة على مسائل :
1 - صحّة صلاة الظانّ أو النّاسي فتبيّن خطاؤه وهو في الصّلاة غير مستدبر ولا مشرّق ولا مغرّب فيستدير.
2 - صلاة الظّانّ فتبيّن خطاؤه بعد فراغه وكان التّوجّه بين المشرق والمغرب فتصحّ.
3 - الصّورة بحالها وكانت صلاته إلى المشرق أو المغرب والتبيّن بعد خروج الوقت.
4 - المتحيّر الفاقد الامارات يصلّي إلى أربع جهات وتصحّ صلوته.
5 - صحّة صلاة شدّة الخوف حيث توجّه المصلّي.
6 - صحّة صلاة الماشي ضرورة عند ضيق الوقت متوجّها إلى غير القبلة.
7 - صحّة صلاة مريض لا يمكنه التوجّه بنفسه ولم يوجد غيره عنده يوجّهه.
وأمّا الاحتجاج بها على صحّة النّافلة حضرا ففيه نظر لمخالفته فعل النّبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه لم ينقل عنه فعل ذلك ولا أمره به ولا تقريره فيكون إدخالا في الشّرع ما ليس منه نعم يحتجّ بها على موضع الإجماع وهو حال السّفر والحرب ويكون ذلك مخصّصا لعموم قوله تعالى ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ ) بما عدا ذلك وهو المطلوب.
قوله « إِنَّ اللّهَ واسِعٌ » أي واسع الرّحمة لعباده لم يشدّد عليهم « عَلِيمٌ » أي بمصالحهم وغيرها فيدبّرهم بعلمه.
ص: 91
الثّامنة ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).
سمّيت كعبة لتربيعها وكان المربّع مكعّبا لنتوء زواياه وقرأ ابن عامر « قيما » والباقون « قياما » مصدرا كالصّيام والعياذ والمعنى أنّ اللّه جعلها لتقويم النّاس والتوجّه إليها في متعبّداتهم ومعاشهم أمّا المتعبّدات فالصّلاة إليها والطّواف حولها والتوجّه إليها في ذبائحهم واحتضار موتاهم وغسلهم ودفنهم ودعائهم وقضاء [ أ ] حكامهم وهنا قيل بالعكس وأمّا معاشهم فآمنهم عندها من المخاوف وأذى الظّالمين وتحصيل الرّزق عندها بالمعاش والاجتماع العامّ عندها بجملة الخلق الّذي هو أحد أسباب انتظام معاشهم إلى غير ذلك من الفوائد قوله « ذلِكَ » أي ذلك الجعل « لِتَعْلَمُوا » أنّه تعالى عالم بكلّ معلوم فيعلم أسرار الموجودات وعواقب أمرها فيدبّرها بعلمه وحكمته.
وفيه آيات :
الاولى ( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (2).
في الآية فوائد :
1 - إنّما قال أنزلنا لأنّ التّأثير بسبب العلويّات أو عند مقابلاتها وملاقياتها
ص: 92
على اختلاف الرأيين والتأثّر للسفليّات ويجوز عليكم باعتبار التّأثير وإليكم باعتبار التأثّر.
2 - اللّباس اسم لما يلبس والمواراة السّتر والسوءة العورة وإنّما سمّيت سوءة لأنّ صاحبها يسوؤه كشفها لاقتضاء طبيعة الإنسان ذلك ليتميّز عن باقي الحيوانات والرّيش مصدر قولهم رشت فلانا إذا أصلحت حاله ثمّ استعمل اسما بمعنى الثّوب الفاخر الّذي يتجمّل به وقرأ عثمان في الشواذّ رياشا وهو بمعنى ريش بشهادة الجوهريّ مثل اللّبس واللّباس.
وقال الزّمخشريّ : إنّه جمع ريش كشعب وشعاب وفيه نظر لأنّ الجمع غير مراد هنا وقرأ ابن عامر والكسائيّ لباس التّقوى بالنّصب عطفا على لباسا ويجوز على ريشا وقرأ الباقون بالرّفع خبر مبتدأ ويجي ء الكلام عليه.
3 - أنّه تعالى ذكر لحكمة إنزال اللّباس ثلاثة أغراض :
أحدها ستر العورة وينقسم أقساما الأوّل أن يكون واجبا مطلقا عن كلّ ناظر محترم وغيره حتّى عن نفسه وهو حالة الصّلاة والمراد بذلك للرّجل القبل والدّبر وهو قول أكثر علمائنا وقال شاذّ منهم أنّه ما بين السرّة والركبة وأمّا المرأة فجسدها كلّه عورة عدا الوجه والكفّين والقدمين وقال ابن عباس في قوله تعالى : ( إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها ) (1) المراد الوجه والكفّان الثّاني أن يكون واجبا لا مطلقا بل عن كلّ ناظر محترم غير مكفوف بعمي وغيره لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لعن الناظر والمنظور إليه (2) كما في غير الصّلاة من سائر الحالات الثّالث أن يكون مستحبّا وهو في الصّلاة وهو ستر ما بين السرّة والرّكبة وأفضل منه ستر البدن كلّه وفي غير الصّلاة مستحبّا مطلقا ولو في الخلوة حتّى وهو في الماء.
وثانيها التجمّل به بين النّاس فانّ اللّه يحبّ أن يرى آثار نعمه على عبده وقد لبس زين العابدين عليه السلام ثوبين للصيف بخمسمائة درهم وأصيب الحسين عليه السلام و
ص: 93
عليه الخز ولبس الصّادق عليه السلام الخزّ (1).
وثالثها كونه للتّقوى قيل المراد به ما يحترز به عن الضّرر كالحرّ والبرد وحال الحرب وليس بشي ء إذ التقوى عرفا وشرعا يراد بها الطّاعة وقيل ما يقصد به العبادة أو الخشية من اللّه تعالى والتّواضع له كالصّوف والشّعر.
4 - يظهر من كلام الزمخشريّ كون الأغراض الثّلاثة لثلاثة أثواب وفيه تكلّف والأولى أنّ اللّباس يوصف بالصّفات الثلاث لإمكان كون الثوب الواحد يجتمع فيه الأغراض الثّلاثة فيكون أبلغ في الحكمة فعلى هذا يكون قراءة الرفع في « ولباس » على أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو أيضا لباس التقوى.
5 - « ذلِكَ خَيْرٌ » يحتمل أن يكون « خير » أفعل التفضيل كما هو المشهور فيكون ذلك إشارة إمّا إلى لباس التّقوى أو إلى اللباس الجامع للصّفات الثلاث ويحتمل أن لا يكون أفعل التفضيل وتنكيره للتعظيم أي ذلك اللباس الجامع للصفات خير عظيم أنزل ولذلك أردفه بقوله « ذلِكَ مِنْ آياتِ اللّهِ » أي إنزال اللّباس الموصوف على نوع الإنسان آية عظيمة دالّة على غاية حكمة اللّه سبحانه ونهاية رحمته « لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » أي يتذكّرون ما دلّت عليه عقولهم الصّريحة من حكمة اللّه وعنايته الشّاملة لبريّته.
الثّانية ( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (2).
روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال كان العرب يطوفون بالبيت عراة ويعلّلون ذلك بأنّهم لا يطوفون في ثياب قد عصوا اللّه فيها فطافت امرأة وعلى فرجها خرقة أو سير وهي تقول :
ص: 94
اليوم يبدو بعضه أو كلّه *** فما بدا منه فلا أحلّه
فنزلت. (1) واتّفق المفسّرون على أنّ المراد بأخذ الزّينة هو ستر العورة في الصّلاة وهنا أحكام :
1 - الستر واجب لصريح الأمر والأمر للوجوب.
2 - هل السّتر شرط في الصّحة مع الإمكان مطلقا أو مقيّدا بحال العمد ، الشّيخ وابن سعيد على الثّاني وابن الجنيد على الأوّل وهو الأقوى ويظهر الفائدة في الناسي وغير العالم بالكشف فأوجب ابن الجنيد الإعادة عليهما في الوقت خاصّة والحقّ الوجوب مطلقا لأنّ الإخلال بالشّرط الواجب مطلقا مبطل مطلقا كالطّهارة.
3 - لا يسقط الصّلاة مع عدم السّاتر بل يجب فإن أمن المطّلع صلّى قائما مؤميا ومع عدم أمنه جالسا مؤميا.
4 - يجب شراء السّاتر أو استيجاره ويقدّم ثمنه على ثمن الماء لو تعارضا إذ الماء له بدل وكذا يجب قبول إعارته وهبته لا قبول هبة ثمنه.
5 - يجب كونه غير ميتة لما يجي ء ولا جلد غير مأكول ولا صوفه ولا شعره ولا ريشه مطلقا إلّا الخزّ إجماعا والسّنجاب على قول ويزيد في الرّجل أن لا يكون حريرا محضا ولا ذهبا.
قوله « عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ » أي كلّ صلاة تسمية الحالّ باسم المحلّ وعن الباقر والصّادق عليهما السلام هو استحباب لبس أجمل الثياب في الجمع والأعياد (2) وفيه دليل على استحباب التحسّن في الصّلاة لا التّخشّن اللّهمّ إلّا أن يكون الخشن شعارا (3) كما فعل الرّضا عليه السلام في لبسه الخزّ فوق والصّوف تحت وقضيّته مع جهلة الصّوفية مشهورة (4).
ص: 95
قوله ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) كان بنو عامر في أيّام حجّهم لا يأكلون الطّعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظّمون بذلك حجّهم فقال المسلمون نحن أحقّ بفعل ذلك فنزلت الآية.
واعلم أنّ خصوص السّبب لا يخصّ العامّ كما بيّن في الأصول فالآية حينئذ عامّة في الأمر بالأكل والشّرب وعدم الإسراف فيهما وفيه جمع لقواعد الطبّ البدنيّ في بعض آية وكذا جمع النبيّ صلى اللّه عليه وآله في قوله : « المعدة بيت الداء والحميّة رأس الدّواء وأعط كلّ بدن ما عوّدته » وقضيّة عليّ بن واقد بين يدي الرّشيد مع بختيشوع الطّبيب مشهورة (1).
الثّالثة ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ) (2).
لا ريب أنّ إسناد التّحريم إلى الذّوات ليس حقيقة لكونها غير مقدورة فلا بدّ من تقدير مضاف يتعلّق به التّحريم فقال قوم ليس بعض المقدّرات أولى من بعض
ص: 96
فيقدّر لفظ يعمّ الجميع وهو هنا الانتفاع وفيه نظر لأنّا نسلّم أنّه لا بدّ من تقدير لكنّ الذّهن يسبق عند الإطلاق إلى تقدير ما يراد من تلك الذّوات كما يسبق إلى الذّهن من إطلاق ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (1) تحريم النّكاح فعلى الأوّل تقدير الآية حرّمت عليكم وجوه الانتفاعات بالميتة فيدخل في ذلك لبس جلدها واستعمالها بسائر وجوه الاستعمال سواء دبّغ أولا (2) ويؤيّده قول الباقر عليه السلام وقد سئل عن جلد
ص: 97
ص: 98
ص: 99
ص: 100
الميتة أيلبس في الصّلاة إذا دبّغ فقال لا ولو دبّغ سبعين دبغة (1) ووافقنا في ذلك أحمد ابن حنبل وخالف الشافعيّ حيث قال : يجوز مع الدبغ مستثنيا للكلب والخنزير وأبو حنيفة استثنى الخنزير لا غير ، وقال مالك ويطهر ظاهره بالدبغ لا باطنه.
2 - استثني من الميتة مالا تحلّه الحيوة كالصّوف والشّعر والوبر والرّيش والظلف والظفر والسنّ والقرن والبيض مع القشر الأعلى والأنفحة والعظم إذ الموت فقدان الحيوة فما لا حيوة له لا تأثير للموت فيه وخالف الشافعيّ في العظم والشعر والصوف ويحتجّ عليه بقوله تعالى ( وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ ) (1) وهو أعمّ من كونه من حيّ أو من ميّت مع الجزّ فلا يكون نجسة.
3 - ما لا نفس له بسائلة لا ينجس بالموت.
4 - الدم ولحم الخنزير نجسان لعطفهما على الميتة فلا يجوز الصلاة معهما ويخرج من الدم دم ما لا نفس له وما لا يقذفه المذبوح.
ص: 102
5 - الخنزير عندنا نجس كلّه حتّى عظمه وشعره وإنّما خصّ اللّحم في الآية لأنّها في معرض تحريم الأكل ، واللّحم هو المقصود به ، وفي الآية فوائد آخر يأتي إنشاء اللّه تعالى.
الرّابعة والخامسة ( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) (1) ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ ) (2).
الدف ء مصدر تقول دفئنا اليوم دفأ والمراد به ما يدفأ به من الأكسية والملابس المأخوذة من صوفها وشعرها ووبرها والسكن أهل الدار ويقال أيضا لكلّ ما سكنت إليه وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو « يوم ظعنكم » بتحريك العين والباقون بسكونها وهما لغتان كنهر ونهر ، والمراد بالبيوت قباب العرب المتّخذة من الأدم. والأثاث قال الجوهريّ : هو متاع البيت ، قال الفرّاء لا واحد له وقال أبو زيد الأثاث المال أجمع الواحدة أثاثة والأوّل أصحّ ويشهد بذلك العرف والأصل عدم النقل والفرق بين الأثاث والمتاع فرق ما بين الصفة والموصوف فإنّ الأثاث ما من شأنه أن ينتفع به في الدار والمتاع ما ينتفع به في الجملة أعمّ منه ولذلك قيل الأثاث ما يفرش في البيت والمتاع ما يتّجر فيه وفي الآية دلالة على أمور :
1 - جواز اتّخاذ الملابس من الصوف والشعر والوبر والصلاة فيها.
2 - جواز اتّخاذ الفرش والآلات من جلودها وأصوافها وإشعارها وجواز الصلاة عليها إلّا ما أخرجه الدليل من عدم جواز السجود على شي ء من ذلك بل إمّا
ص: 103
على الأرض أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس.
3 - طهارة الصوف والشعر والوبر ولو من الميتة مع أخذه منها جزّا لإطلاق اللّفظ من غير تقييد. إن قلت : فقد أطلق أيضا الجلود فينبغي أن يجوز من الميتة مع الدبغ. قلت : خرج الميتة بقوله « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ » وقد سبق (1)
السادسة ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) (2)
الظلال جمع ظلّ وهو ظلّ الشجر وغيره ممّا يستظلّ به عند الحرّ « أَكْناناً » جمع كنّ وهي غير ان الجبال للاكتنان من الحرّ والبرد والجارّ والمجرور حال من أكنانا وكان صفة فلمّا تقدّم صار حالا والسرابيل جمع سربال قال الزجّاج : هو كلّ ما يلبس « وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ » هي الدروع وعدم ذكر البرد لأنّ الخطاب لأهل البلاد الحارّة فالحرّ أهمّ عندهم أو اكتفى بأحد المتقابلين عن ذكر الآخر لاشتراكهما في العلّة. وفيها دلالة على أمور :
1 - جواز اتّخاذ الثياب من القطن والكتّان وغيرهما لأنّه ذكر أوّلا جواز اتّخاذ اللّباس من جلود الأنعام وأصوافها وإشعارها ثمّ عقّب ذلك بذكر سرابيل إلى آخره فدلّ ذلك على أنّ المذكور ثانيا غير المذكور أوّلا وإلّا لزم التكرار وهو مستهجن أو التأكيد والتأسيس خير منه لاشتماله على الفائدة إلّا ما أخرجه الدليل من الحرير والذّهب للرجال لقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « هذان محرّمان على ذكور أمّتي دون إناثهم » (3).
2 - جواز الصلاة في اللّباس المذكور وهو ظاهر.
ص: 104
3 - جواز الصلاة في بقاع الأرض والسجود عليها ينبّه على ذلك قوله تعالى : ( مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً ) .
[ 4 - ] قوله « كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ » يريد أنّ إمتاعكم بالإمتاع المذكورة نعمة له وتنبيهكم على ذلك هو إتمام النعمة و « لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ » تعليل لإتمام النعمة وأتى بكلمة الترجّي لقلّة من يسلم منهم إسلاما حقيقيا بل يستسلمون خوفا من السيف. وقرأ ابن عباس تسلمون بفتح التاء من السلامة أي تسلمون من أذى الحرّ ومن القتل والجرح في الحرب بسبب السرابيل المذكورة.
السّابعة ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلّا خائِفِينَ ) (1).
في الآية فوائد :
1 - أنّ الاستفهام هنا على سبيل التقرير لظلم من فعل هذه الفعلة واستعظام ظلمه.
2 - « أن يذكر » مفعول ثان لمنع مثل قوله ( وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ) (2) ( وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا ) (3) كلّ ذلك منصوب بنزع الخافض أي من أن يذكروا من أن نرسل وشرط النصب بنزع الخافض أن يكون الفعل متعدّيا إلى مفعول آخر وقال الزمخشريّ أنّه مفعول له أي كراهة أن يذكر وفيه نظر لأنّ « منع » تعقّله يتوقّف على متعلّقين ولا يمكن أن يقدّر غير الذكر فيها لأنّه هو الممنوع منه.
3 - « مَساجِدَ اللّهِ » عامّ في كلّ مسجد لأنّ الجمع المضاف للعموم كما بيّن في أصول الفقه إن قلت قيل إنّها نزلت في الرّوم لمّا خربوا البيت المقدّس وطرحوا
ص: 105
الأذى فيه ومنعوا من دخوله وأحرقوا التورية وقيل بل نزلت في المشركين لمّا منعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من دخول المسجد الحرام عام الحديبيّة قلت قد بيّن في الأصول أيضا أنّ خصوص السبب لا يخصّص العامّ بل الاعتبار بعموم اللّفظ.
4 - « ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلّا خائِفِينَ » يحتمل وجوها الأوّل ما كان لهم أن يدخلوها إلّا بخشية وخضوع فضلا أن يجترؤا على تخريبها. الثاني ما كان لهم أن يدخلوها إلّا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يمنعوهم كما وقع في عام الفتح ، وفي ذلك إخبار منه تعالى بنصرة نبيّه صلى اللّه عليه وآله. الثّالث ما كان لهم في علم اللّه فيكون ذلك وعدا للمؤمنين بالنصر واستخلاص المساجد منهم الرابع قيل معناه النهي عن تمكينهم من الدخول إلى المساجد وفيها أحكام :
1 - وجوب اتّخاذ المساجد لما فيه من إقامة مشاعر الدين لكن على الكفاية لأصالة عدم الوجوب على الكلّ.
2 - وجوب عمارة ما استهدم منها وإلّا لزم السعي في التخريب المنهيّ عنه.
3 - وجوب شغلها بالذكر وإلّا لزم التعطيل المنافي لعمارتها بذكر اسم اللّه تعالى فيها لكن على الكفاية أيضا.
4 - تحريم تخريبها ويرجع في ذلك إلى العرف فكلّ ما يعدّ تخريبا فهو حرام فمنه هدم جدرانها وأخذ فرشها وإطفاء السرج والإضواء فيها وشغلها بما ينافي العبادة وغير ذلك.
5 - استحباب اتّخاذها على الأعيان لأنّ كلّ واجب على الكفاية فهو مستحبّ على الأعيان قال النبيّ : صلى اللّه عليه وآله من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى اللّه له بيتا في الجنة (1) ».
6 - استحباب دخولها بالخضوع والخشوع والخشية من اللّه فإنّه في بيت اللّه فينبغي أن يكون حاله كحال العبد الواقف بين يدي سيّده.
ص: 106
7 - روى زيد بن عليّ عن آبائه عليهم السلام أنّ المراد بالمساجد بقاع الأرض كلّها لقوله صلى اللّه عليه وآله « جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا » (1).
قيل إنّ عجز الآية ينافي ذلك وهو قوله « وَسَعى فِي خَرابِها » وأجاب بعض المعاصرين ممّن اعتنى بالآيات الكريمة بأنّه لا منافاة فإنّ المراد الوعيد على خراب الأرض بالظلم والجور لقوله تعالى ( وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً ) (2).
قلت إنّ ذلك وإن أمكن حمله عليه لكن كيف يصنع بقوله « أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلّا خائِفِينَ » ومن هو في الأرض لا يقال دخلها إلّا مجازا والأصل عدمه.
الثامنة ( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) (3).
دلّت هذه الآية على غاية عناية اللّه تعالى بالمساجد وأنّ الّذين يسعون في عمارتها عنده في أعظم المنازل ولذلك وصفهم بالصفات الكماليّة وهي الإيمان به وباليوم الآخر وهو المعاد واقتصر على الايمان باللّه واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولم يذكر الايمان برسوله والعبادات الباقية لأنّ الإيمان باللّه يستلزم الإيمان بالرسول إذ حكمه يقتضي ذلك والصلاة أعظم العبادات البدنيّة وأشقّها والزكاة أعظم العبادات الماليّة وأصعبها ومن أتى بالأعظم الأصعب لم يترك ما دونه.
ثمّ اعلم أنّ عمارة المساجد فسّرت بمعنيين : الأول رمّها وكنسها والإسراج فيها وفرشها. الثاني شغلها بالعبادة وتنحية أعمال الدنيا واللّهو واللّغط وعمل الصنائع [ منها ]
ص: 107
وإكثار زيارتها قال اللّه تعالى ( وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ ) (1) قيل هو السعي إلى المساجد وقال صلى اللّه عليه وآله « قال اللّه تعالى إنّ بيوتي في الأرض المساجد وإنّ زوّاري فيها عمّارها فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره » (2) وقال عليه السلام « من ألف المسجد ألفه اللّه تعالى » (3) وقال عليه السلام « إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان (4) » وعنه عليه السلام « من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه » (5).
وهنا آيات أخر تتعلّق بالمساجد يحسن ذكرها تابعة لهذه الآية لا منفردة كما فعله المعاصر وغيره.
الاولى ( وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (6).
معناها واللّه أعلم الأمر بالتوجّه إلى الصلاة في كلّ مسجد يتّفق كونه فيه وصلاة ما يتهيّأ له من الصّلوات إمّا تحيّة أو غيرها ويكون إقامة الوجه كناية عن الصلاة ثمّ أمرهم بالدعاء أيضا عند كلّ مسجد وفيه حضّ وحثّ على الدعاء في المساجد وأنّها محلّ الإجابة ثمّ أمرهم بإيقاع ذلك كلّه على وجه الإخلاص لا للرياء وغيره من الأغراض.
الثانية ( وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (7).
ص: 108
يقال تبوّأت له منزلا أي اتّخذته وأصله الرجوع من باء إذا رجع سمّي المنزل مباءة لكون صاحبه يرجع إليه إذا خرج والمراد أن اجعلا مصر دار إقامتكما وإقامة قومكما واجعلا فيها بيوتا أي مرا لهم بذلك كما يقال بنى السلطان مسجدا أي أمر ببنائه « وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً » أي مسجدا فأطلق اسم الجزء على الكلّ أي صلّوا في بيوتكم ، أمروا بذلك لخوفهم من فرعون وقومه وفيه دلالة على جواز صلاة الإنسان في بيته إذا خاف من ظالم وغيره وإنّما ثنّى الضمير أوّلا لأنّ موسى وهارون كانا مقدّمين على قومهما والعادة جارية بتوجيه الخطاب إلى مقدّم القوم ليأمر قومه بالمأمور به وجمعه ثانيا لأنّ التكليف لم يختصّ بهما بل عمّ الجميع ووحّده ثالثا لأنّ المخبر بالبشارة لا يعمّ الجميع بل يختصّ بمن كان أقرب إلى اللّه وكان موسى أقرب إلى اللّه من غيره فاختصّ بذلك.
الثالثة ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ) (1).
سبب نزولها على ما روي أنّ بني عمرو بن عوف لمّا بنوا مسجد قبا (2) بعثوا
ص: 109
إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه فحسدا إخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا نبني مسجدا ونرسل إلى رسول اللّه يصلّي فيه ويصلّي فيه أبو عامر الراهب أيضا وسيأتي
ص: 110
قصّته ليثبت لهم الفضل والزيادة فبنوا مسجدا بجنب مسجد قبا وقالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو يتجهّز إلى تبوك إنا قد بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة واللّيلة المطيرة واللّيلة الشاتية وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة ، فقال عليه السلام إنّي على جناح السفر وإذا قدمنا إن شاء اللّه أتيناكم فصلّينا لكم فيه.
فلمّا قدم من تبوك أنزلت الآية فأنفذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عاصم بن عوف العجلانيّ ومالك بن الدّخشم فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه. وروي أنه بعث عمّار بن ياسر ووحشيّا فحرّقاه وأمر النبيّ صلى اللّه عليه وآله بأن يتّخذ مكانه كناسة يلقى فيها الجيف قيل كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين وقيل خمسة عشر.
ثمّ إنه تعالى أخبر نبيّه صلى اللّه عليه وآله بقصدهم وهو أنّهم بنوه مضارّة لبني عمرو بن عوف وتفريقا بين المؤمنين لأنّهم كانوا يجتمعون في مسجد قبا وإرصادا لأبي عامر الراهب بحيث يقدم إليهم وكلّ هذه المقاصد قبيحة منافية للدين وفي ذلك دلالة على وجوب الإخلاص بعمارة المساجد لله لا لغرض آخر. ثمّ إنّه تعالى أخبر عن مجيئهم في أخبارهم بضدّ مقصدهم وأنّه تعالى شهد بكذبهم مؤكّدا ذلك بعدّة من التواكيد ولمّا نهاه سبحانه أن يقوم فيه أبدا أقسم أنّ غيره أحقّ وأولى بالقيام فيه وهو مسجد أسّس على التقوى فقيل هو مسجد قبا وقيل مسجده بالمدينة ومعنى « مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ » أي من أوّل يوم بني و « أحقّ » هنا إمّا بمعنى حقيق فإنّ أفعل التفضيل يجي ء بمعنى الصفة كقولهم : « الأشجّ والناقص أعدلا بني مروان » أو أنّه على بابه أي أحقّ من كلّ مكان حقيق بالصلاة فيه ، أو أنّ الصّلاة في مسجدهم باعتبار كونه أرضا خالية من المسجديّة يجوز فيها الصلاة فالقيام فيها حسن في نفسه وإنّما صار قبيحا باشتماله على مفسدة تزيد على حسنه.
قصة ابى عامر الراهب :
إنّه ترهّب في الجاهليّة (1) ولبس المسوح ، فلمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه وآله المدينة
ص: 111
حسده وحزّب عليه الأحزاب ، ثمّ هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف فلمّا أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام ولحق بالروم وتنصّر فسمّاه النبيّ صلى اللّه عليه وآله الفاسق ثمّ إنّه أنفذ إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا مسجدا فانّي أذهب إلى قيصر وآتى من عنده بجنود واخرج محمّدا من المدينة فكان أولئك المنافقون يتوقّعون قدومه فمات قبل أن يبلغ ملك الرّوم بأرض يقال لها قنّسرين. ثمّ إنّ هذا أبو عامر كان له ولد اسمه حنظلة وهو رجل مؤمن من خواصّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قتل معه يوم أحد وكان جنبا فغسلته الملائكة فسمّاه النبيّ صلى اللّه عليه وآله غسيل الملائكة رحمة اللّه عليه ولعنة اللّه تعالى على أبيه أبدا.
التاسعة ( وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ) (1)
اتّفق المفسّرون على أنّ المراد بالنداء هنا الأذان فيستدلّ بذلك على مشروعيّته وهو لغة إمّا من الأذن بمعنى العلم أو من الإذن بمعنى الإجازة وعلى التقديرين الأذان أصله الإئذان كالأمان بمعنى الإيمان والعطاء بمعنى الإعطاء وقيل إنّه فعال بمعنى التفعيل كالسّلام بمعنى التسليم والكلام بمعنى التكليم فأذان المؤذّن حينئذ بمعنى التأذين وهو أقرب.
واختلف في سبب الأذان فعند العامّة أنّ أبا محذورة (2) رأى في المنام أنّ
ص: 112
شخصا على حائط المسجد يورد هذه الألفاظ المشهورة فانتبه فقصّ الرؤيا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال له إنّه وحي انده على بلال فإنّه أندى منك صوتا (1)
وأنكر أئمّتنا ذلك وقالوا إنّه وحي من اللّه تعالى على لسان جبرئيل (2) وروى منصور بن حازم عن الصادق عليه السلام « قال لمّا هبط جبرئيل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
ص: 113
بالأذان كان رأسه في حجر عليّ عليه السلام فأذّن جبرئيل عليه السلام وأقام فلمّا انتبه رسول اللّه قال. يا عليّ هل سمعت؟ قال نعم. قال : حفظت؟ قال نعم. قال : ادع بلالا فعلّمه فدعا عليّ بلالا فعلّمه » (1) وفي رواية أخرى عن الفضيل بن يسار عن الصادق عليه السلام « قال لمّا اسري برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فبلغ البيت المعمور وحضرت الصلاة فأذّن جبرئيل وأقام فتقدّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصفّ الملائكة والنبيّون خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثمّ ذكر الأذان المشهورة » (2) ولا منافاة بين الحديثين لجواز حصوله عن جبرئيل عليه السلام مرّتين.
وهنا مزيد بحث (3) وهو أنّ الأذان تارة يكون لتكميل فضيلة الصلاة كأذان المنفرد وأذان المرأة في بيتها وقد يكون للإعلام لا غير كأذان المؤذّن في البلد على مرتفع وقد يكون لهما كأذان صلاة الجماعة وفي الحديث « من صلّى بأذان وإقامة صلّى خلفه صفّان من الملائكة فإن صلّى بإقامة لا غير صلّى خلفه صفّ واحد (4) ».
ص: 114
وفيه آيات :
الاولى ( وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) (1).
قد تقدّم ذكر هذه الجملة في ضمن صدر آيتها ولنذكر هنا فوائد :
1 - استدلّ الفقهاء بهذه الصيغة على وجوب القيام في الصلاة ويرد عليهم سؤال وهو أنّ قوله تعالى ( وَقُومُوا ) ليس فيه إشعار بكونه في الصلاة. أجيب بأنّ القيام في غير الصلاة ليس بواجب ولفظ الآية يدلّ على وجوبه فيصدق دليل هكذا : شي ء من القيام واجب+ ولا شي ء منه في غير الصلاة بواجب - فيكون وجوبه في الصلاة وهو المطلوب.
إن قلت الكبرى ممنوعة بأنّ القيام في الطواف واجب وهو ليس بصلاة فالجواب المنع من كون القيام في الطواف واجبا مطلقا بل إذا كان ماشيا وأمّا حال الركوب اختيارا فلا.
ثمّ إنّا نزيد هنا ونقول إنّما استدلّ على ذلك لوجهين أحدهما أنّه عطفه على الأمر بالمحافظة على الصلاة وذلك مقتض لكون القيام فيها وثانيهما أنّه ذكر معه قيدا حاليّا وهو كونهم قانتين والقنوت هو رفع اليدين بالدعاء في الصلاة في عرف الفقهاء فيكون القيام أيضا فيها وذلك هو المطلوب.
2 - في قوله « لله » إشارة وتنبيه على وجوب النيّة في الصلاة وكذلك قوله ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (2) وقوله ( فَادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ ) (3)
ص: 115
وقد تقدّم ذكر شي ء من ذلك في أحكام النيّة ونزيد هنا فنقول : النيّة لغة الإرادة ومنه قولهم نواك اللّه بخير أي أرادك به واصطلاحا إرادة أيضا لأصالة عدم النقل وحقيقتها إرادة قلبيّة لإيجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعا فهي هنا استحضار ماهيّة الصلاة المقصودة وصفتها المميّزة لها عن غيرها من الصلوات فان كان ذلك في وقتها قصد الأداء وفي خارجه قصد القضاء ويوقع ذلك لوجوبه أو ندبه إخلاصا لله وتقرّبا إلى رضاه كلّ ذلك بالقلب ولا يكفي اللّسان وحده ، ولو ضمّه إلى التصوّر القلبيّ لم يضرّ. وعند بعضهم أنّه مكروه لكونه كلاما بعد الإقامة وعندي في كراهته نظر لأنّ المكروه بعد الإقامة ما لم يتعلّق بالصلاة وهذا متعلّق بها خصوصا مع كونه معينا على الاستحضار القلبيّ.
3 - يجب القيام في حال النيّة والتحريم والقراءة والركوع.
4 - قال ابن عباس المراد بقانتين أي داعين والقنوت هو الدعاء في حال القيام وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام (1) وقيل خاشعين وقيل ساكتين وقال زيد ابن أرقم كنّا نتكلّم في الصلاة فنزلت (2) والأوّل أقرب إلى موضوعه العرفيّ ولذلك قال ابن المسيّب إنّ المراد به القنوت في الصبح.
الثانية والثالثة ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) (3).
وقوله ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (4).
ليس المراد بالحمد هنا معنى الشكر بل معنى الثناء المطلق الّذي يستحقّه
ص: 116
المحمود ولذلك لم يذكر بعده نعمته بل ذكر صفاته الدالّة على كامليّة ذاته :
الاولى : أنّه لم يتّخذ ولدا لنفسه لأنّه لو كان له ولد لكان بقاء نوعه بتعاقب أولاده كحال الحيوانات لكنّه ليس كذلك لأنّ بقاء نوعه ليس إلّا ببقاء شخصه لكونه واجب الوجود وأيضا لو كان له ولد لكان له صاحبة ولو كان له صاحبة لكان له شهوة الوقاع ولو كانت لكانت محتاجا إليها لكنّه غنيّ بالإطلاق.
الثانية : أنّه ليس له شريك في ملكه إذ لو كان لكان إمّا مخلوقا له فلم يكن حينئذ شريكا بل عبدا أو ليس مخلوقا له فيكون شريكا له في ذاته وهو محال لما ثبت من دلائل التوحيد.
الثالثة : ليس له وليّ من الذّلّ والوليّ هو الّذي يقوم مقامه في أمور تختصّ به لعجزه كوليّ الطفل والمجنون فيلزم أن يكون محتاجا إلى الوليّ وهو محال لكونه غنيّا مطلقا. وأيضا إن كان الوليّ محتاجا إليه تعالى لزم الدور المحال وإلّا لكان مشاركا له. وإنّما قيّده بكونه من الذلّ لأنّه لو لم يكن وليّا من الذلّ لم يكن وليّا في الحقيقة بل من الأسباب وهو تعالى مسبّب الأسباب.
إذا تقرّر هذا فنقول : دلّت الآيتان على وجوب شي ء من التكبير ولا خلاف في عدم الوجوب في غير الصلاة فيكون الوجوب في الصلاة وهو المطلوب فهنا مسائل :
1 - يجب صيغة « اللّه أكبر » لأنّه المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ التكبير.
2 - تجب مراعاة اللّفظ المذكور من غير تغيير لترتيبه ولا يجوز الإتيان بمرادفه ولا تعريف المنكّر ولا المدّ المخرج عن المعنى إلى الاستفهام كمدّ لفظ الجلالة أو إلى الجمع كما في لفظ أكبر إذ تصير جمع كبر وهو الطبل.
3 - لا يجوز الترجمة بغير العربيّة لأنّه ليس بكلام اللّه ولا رسوله وقول أبي حنيفة بجوازها محتجّا بقوله ( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى ) (1) علّق الصلاة على ذكر اسمه الّذي هو أعمّ من كونه عربيّا أو غيره باطل إذ المراد بالاسم الأذان خصوصا
ص: 117
وقد أتى بالصلاة عقيبه بالفاء المقتضية للمغايرة والترتيب مع أنّ التحريمة جزء داخل في الصلاة فلا يكون هي المعيّنة بالآية.
الرابعة ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ) (1) ومثلها ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) (2).
دلّنا على وجوب قراءة شي ء من القرآن فيصدق دليل هكذا : قراءة شي ء من القرآن واجب+ ولا شي ء. من القراءة في غير الصلاة بواجب - فيكون الوجوب في الصلاة وهو المطلوب أمّا الصغرى فلصيغة الأمر الدالّة على الوجوب وأمّا الكبرى فإجماعية.
إن قلت إنّ الكبرى ممنوعة وسند المنع أنّ الوجوب إمّا عينيّ ولا إشعار به في الكلام أو كفائيّ فعدمه في غير الصلاة ممنوع بل يجب لئلّا يندرس المعجزة قلت المراد بالوجوب العينيّ إذ هو الأغلب في التكاليف ولأنه المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق ولا شكّ أنها غير واجبة عينا في غير الصلاة إجماعا. هذا وما ذكرناه قول أكثر المفسّرين وقد قيل إنّ المراد بالقراءة الصلاة تسمية للشي ء ببعض أجزائه وعني به صلاة اللّيل ثمّ نسخ بالصلوات الخمس وقيل الأمر في غير الصلاة فقيل على الوجوب نظرا إلى بقاء المعجزة ووقوفا على دلائل التوحيد وإرسال الرسل وقيل على الاستحباب فقيل أقلّه في [ اليوم و ] اللّيلة خمسون آية وقيل مائة وقيل مائتان وقيل ثلث القرآن.
إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :
1 - القراءة الواجبة هنا مجملة علم بيانها بالسنّة النبويّة والمراد بها الفاتحة لقوله صلى اللّه عليه وآله « لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب » (3) وقوله صلى اللّه عليه وآله « كلّ صلاة لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج » (4) وبه قال الشافعيّ ومالك وأحمد وقال أبو حنيفة
ص: 118
بعدم تعيينها بل ثلاث آيات من أيّ القرآن شاء ويدفعه الحديثان المذكوران.
2 - يتعيّن الفاتحة في الأوليين ويتخيّر في الأخيرتين بينها وبين التسبيح وقال الشافعيّ ومالك وأحمد يجب في كلّ ركعة لنا ما رووه ورويناه عن عليّ عليه السلام أنّه قال « اقرأ في الأوليين وسبّح في الأخيرتين » (1) رواه الحارث عنه وكذا تواتر عن أهل البيت عليهم السلام (2).
3 - يجب قراءتها على الوجه المنقول ترتيبا ولفظا ولا يجوز ترجمتها بغير العربيّة لأنّ ذلك غير قرآن لأنّ القرآن عربيّ بالنصّ ولأنّه معجز بلفظه ونظمه والترجمة غيرهما وقول أبي حنيفة بالجواز لقوله تعالى ( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [ صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ] ) (3) ضعيف لعود الإشارة إلى الحكم وكذا لا يقرأ في خلالها من غيرها فمن خالف شيئا من ذلك عمدا بطلت صلوته وسهوا استأنف المتروك إن ذكر في موضع القراءة وإلّا فلا.
4 - البسملة آية من الحمد ومن كلّ سورة (4) وعليه إجماع علمائنا وبه قال الشافعيّ (5).
ص: 119
ونفاه مالك (1) وقال أبو حنيفة إنّها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها بل كتبت للتبرّك وللفصل بين السور (2).
لنا تواتر روايات أهل البيت عليهم السلام (3) ومن طرقهم (4) رواية أبي هريرة (5)
ص: 120
ص: 122
حتّى قال ابن عبّاس : من تركها فقد ترك مائة وبضع عشر آية من كتاب اللّه (1) »
5 - يجب عند أكثر أصحابنا قراءة سورة بعد الحمد في الأوليين وقال الأقلّ لا تجب (2) وبه قال الشافعيّ وغيره من الجمهور ، لنا ما تواتر من فعله صلى اللّه عليه وآله أنّه
ص: 123
كان يقرأ في الأوليين من الظهر بالفاتحة وسورتين (1) وقال صلى اللّه عليه وآله « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (2) وروايات أهل البيت عليهم السلام بذلك متظافرة (3) هذا في حال الاختيار أمّا حال الاضطرار فتركها جائز قطعا.
الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (4).
في الآية فوائد :
1 - الأمر بالركوع والسجود يفيد وجوبها والركوع لغة الانحناء قال الشاعر :
لا تهين الفقير علّك أن تركع
يوما والدهر قد رفعه (5)
ص: 124
وشرعا هو الانحناء قدر أن يصل معه الكفّان الركبتين والسجود لغة الخضوع قال الشاعر (1) « ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر » (2) وشرعا وضع شي ء مكشوف
ص: 125
من الجبهة أو ما قام مقامها على الأرض أو ما قام مقامها.
2 - يجب في الركوع الذكر وسيأتي والطمأنينة بقدره ورفع الرأس والطمأنينة بعده بمسمّاها وفي السجود الذكر والطمأنينة قدره والسجود على ستّة أخرى وهي الكفّان والركبتان وإبهاما الرّجلين ورفع الرأس بعدها والجلوس مطمئنّا مسمّاها ثمّ السجود ثانيا كالأوّل ورفع الرأس ولا يجب الجلوس بعده بل يستحبّ خلافا لأبي حنيفة حيث منع شرعيّته وحمل ما ورد من فعله صلى اللّه عليه وآله على الضعف للكبر وهو خطأ.
3 - الأمر بالعبادة وهي غاية الخضوع والتذلّل ومنه طريق معبّد أي مذلّل وثوب ذو عبدة إذا كان في غاية الصفاقة ولذلك لا يستعمل إلّا لله تعالى والمراد بالذلّة تذليل النفس الأمّارة واللّوّامة لتطيعا النفس المطمئنّة فيحصل الترقّي إلى الكمال ورضى ذي الجلال وإنّما قال « ربّكم » إشارة إلى أنّ الموجب للعبادة هو مقام الربوبية.
4 - يمكن أن يكون هذه الآية دالّة على أربع عبادات : الصلاة وعبّر عنها بالركوع والسجود تسمية للشي ء باسم أعظم أجزائه ولم يقل صلّوا لئلّا يتوهّم إرادة الصلاة لغة وهو الدعاء « وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ » إشارة إلى الصوم والحجّ وإن كان نزولها بعد وجوبهما « وَافْعَلُوا الْخَيْرَ » إشارة إلى الزكاة ويكون قوله « وَجاهِدُوا » في الآية التالية لها إشارة إلى الجهاد.
5 - استدلّ الشافعيّ بهذه الآية على استحباب سجود التلاوة عندها محتجّا بقول عقبة بن عامر قال قلت للنبيّ صلى اللّه عليه وآله في سورة الحجّ سجدتان؟ قال نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما (1) ومنعه أبو حنيفة لأنّ قران الركوع بالسجود يدلّ
ص: 126
على أنّ المراد سجود الصلاة وفيه قوّة وحكم أصحابنا بالسجود هنا ندبا بالدليل خارج.
6 - قال ابن عبّاس إنّ فعل الخير إشارة إلى صلة الرحم ومكارم الأخلاق فيكون حثّا على سائر المندوبات والقربات.
السادسة ( وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (1).
روي أنّ المعتصم سأل أبا جعفر محمّد بن عليّ بن موسى عليهم السلام عنها فقال هي الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها وبه قال سعيد بن جبير والزجّاج والفرّاء (2) ويؤيّده قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « أمرت أن أسجد على سبعة آراب » (3) أي أعضاء ومعنى « فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً » لا تشركوا معه غيره في سجودكم عليها وقيل لا تراؤوا أحدا بصلاتكم وقيل المراد بها المساجد المعروفة فلا ينبغي أن يذكر فيها أحد غير اللّه وقيل [ المراد ] بقاع الأرض لقوله صلى اللّه عليه وآله « جعلت لي الأرض مسجدا [ وطهورا ] (4) وقيل المسجد الحرام وقيل جمع مسجد والمسجد مصدر بالميم بمعنى السجود والأوّل أولى.
السابعة ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (5)
ومثلها ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) (6)
باسم ربّك أي بذكر اسم ربّك أو الاسم الذكر أي سبّح بذكر ربّك « والعظيم » يحتمل كونه صفة للاسم أو للربّ و « سبّح اسم ربّك » أي نزّهه عمّا لا يجوز إطلاقه
ص: 127
عليه أو نزّهه عن إطلاق اسمه على غيره أو نزّهه عن ذكره لا على وجه التعظيم والأعلى صفة الربّ ويحتمل الاسم. إذا عرفت هذا فهنا مسائل :
1 - روى عقبة بن عامر قال : لمّا نزل « فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ » قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله اجعلوها في ركوعكم. ولمّا نزل « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى » قال اجعلوها في سجودكم » (1) ومثله من طرقنا رواية هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام « تقول في الركوع سبحان ربّي العظيم وفي السجود سبحان ربّي الأعلى الفريضة واحدة والسنة ثلاث » (2)
2 - حكم بعض فقهائنا بوجوب الذكر المعيّن عينا والأولى الندب وإجزاء مطلق الذكر لما رواه الهشامان عن الصادق عليه السلام « أيجزئ أن يقول مكان التسبيح في الركوع والسجود لا إله إلّا اللّه والحمد لله واللّه أكبر قال نعم كلّ هذا ذكر » (3) وفيه معنى التعليل فلو لم يكن الذكر كافيا لما سمّاه بالذكر نعم لفظ التسبيح أولى للآية والحديث.
1 - وافق أحمد على وجوب الذكر وقال الشافعيّ وأبو حنيفة باستحباب الذكر المقدّم وقال مالك : ليس في الركوع والسجود شي ء محدود. وسمعت أنّ فيهما التسبيح. دليلنا ما تقدّم.
4 - يجوز إضافة « وبحمده » في الذكرين استحبابا عندنا وأنكرها الشافعيّ وأبو حنيفة لأنّها زيادة لم تحفظ ، وتوقّف أحمد ، لنا رواية حذيفة عنه صلى اللّه عليه وآله أنّه قاله (4) ومن طرقنا رواية زرارة وغيره عن الباقر عليه السلام (5).
الثامنة ( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) (6).
ص: 128
يحتمل وجوها الأول ولا تجهر بكلّ صلوتك ولا تخافت بكلّها بل اجهر بصلاة اللّيل والفجر وخافت بالظهرين.
الثاني عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يصلّي بمكّة فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن جاء به فنزلت (1) أي فلا تجهر فيسبّوك ولا تخافت فلا يسمعك أصحابك بل حالة وسطى.
الثالث أن يكون خطابا لكلّ واحد من المكلّفين أو من باب « إيّاك أعني واسمعي يا جارة » (2) أي لا تجهر بصلوتك أي لا تعلنها إعلانا يوهم الرّياء ولا تخافت بها أي لا تسرّ بها بحيث يظنّ تركها والتهاون بها.
الرابع أن يكون المراد بالصّلاة الدعاء.
الخامس أنّها منسوخة بقوله ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ) (3) والأولى الأوّل لقربه من ظاهر لفظ الآية وحينئذ يكون الآية من المجملات واستفيد بيانها من فعله صلى اللّه عليه وآله والمنقول تواترا أنّه فعل كما هو المشهور وحيث إنّ الأمر للوجوب فالواقع في بيانه واجب والسبيل المأمور به هو ذلك وهنا فوائد :
1 - المراد بالجهر أن يسمعه القريب الصحيح السمع إذا استمع وبالإخفات
ص: 129
أن يسمع نفسه ، ولا يكفي تخيّل الحروف عن السماع.
2 - أطبق الجمهور على استحباب الجهر والإخفات في مواضعهما وبه قال شاذّ منّا والحقّ الوجوب لما قلناه ومفصّله أنّه يجب على الرجل الجهر بالصبح وأوليي المغرب وأوليي العشاء والإخفات في البواقي أمّا المرأة ففرضها الإخفات في الكلّ ولو أمنت سماع الأجنبيّ صوتها هل يجوز لها الجهر في موضعه أم لا احتمالان أحوطهما العدم وأمّا الخنثى المشكل فالأولى مع أمن سماع الأجنبيّ أن يكون كالرّجل ومع عدمه كالمرأة
3 - أطبق أصحابنا على استحباب الجهر بالبسملة فيما فيه الإخفات وأكثر الجمهور على خلافه.
4 - الأذكار غير القراءة لا جهر فيها موظّف ولا إخفات لكنّ الأولى للإمام الجهر وللمأموم الإخفات. وللمنفرد التخيير.
5 - الصلوات غير اليوميّة أمّا واجبات أو مندوبات فالأولى المصلّي فيها بالخيار لأصالة عدم وجوب شي ء من الوصفين والثانية نوافل النهار إخفات واللّيل جهر.
التاسعة ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1).
قرئ برفع « ملائكته » فقال الكوفيّون بعطفها على أصل إنّ واسمها وقال البصريّون مرفوعة بالابتداء وخبر إنّ محذوف أي إنّ اللّه يصلّي وملائكته يصلّون فحذف للقرينة ونظائره كثيرة كقول الشاعر (2) :
ص: 130
نحن بما عندنا وأنت بما عندك
راض والأمر مختلف
(1) أي نحن راضون.
والصلاة وإن كانت من اللّه الرحمة فالمراد بها هنا هو الاعتناء (2) بإظهار شرفه ورفع شأنه ومن هنا قال بعضهم تشريف اللّه محمّدا صلى اللّه عليه وآله بقوله « إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ » أبلغ من تشريف آدم بالسّجود له.
والتسليم قيل المراد به التسليم بمعنى الانقياد له كما في قوله ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ
ص: 131
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1) وقيل هو قولهم السلام عليك أيّها النبي [ ورحمة اللّه وبركاته ] قاله الزمخشريّ والقاضي في تفسيريهما وذكره الشيخ في تبيانه وهو الحقّ لقضيّة العطف ولأنّه المتبادر إلى الذهن عرفا ولرواية كعب الآتية وغيرها.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - ذهب أصحابنا والشافعيّ وأحمد إلى وجوب الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الصلاة خلافا لأبي حنيفة ومالك فإنّهما لم يوجباها ولم يجعلاها شرطا في الصلاة واستدلّ بعض الفقهاء بما تقريره : شي ء من الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله واجب ولا شي ء من ذلك في غير الصلاة بواجب ينتج أنّها في الصّلاة واجبة أمّا الصغرى فلقوله « صَلُّوا » والأمر حقيقة في الوجوب وأمّا الكبرى فظاهرة وفيه نظر لمنع الكبرى كما يجي ء وحينئذ فالأولى الاستدلال على الوجوب بدليل خارج أمّا من طرقهم فما رووه عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول « لا تقبل صلاة إلّا بطهور وبالصلاة عليّ » (2) وكذا عن أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قال إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد اللّه ثمّ ليصلّ عليّ » (3) ومن طرقنا ما رواه أبو بصير وغيره عن الصادق عليه السلام : « قال من صلّى ولم يصلّ على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وتركه عمدا فلا صلاة له » (4) حتّى أنّ الشيخ جعلها ركنا
ص: 132
في الصلاة فإن عنى الوجوب والبطلان بتركها عمدا فهو صحيح وإن عنى تفسير الركن بأنّه ما يبطل الصلاة بتركه عمدا وسهوا فلا.
2 - قال علماؤنا أجمع : إنّ الصلاة على النبيّ واجب في التشهّدين معا وبه قال أحمد وقال الشافعيّ مستحبّ في الأوّل وواجب في الأخير وقال مالك وأبو - حنيفة هي مستحبّة فيهما دليل أصحابنا روايات كثيرة عن أئمّتهم عليهم السلام.
3 - هل يجب الصلاة على النبيّ في غير الصلاة أم لا؟ ذهب الكرخيّ إلى وجوبها في العمر مرّة وقال الطحاويّ كلّما ذكر واختاره الزمخشريّ ونقل عن ابن بابويه من أصحابنا وقال بعضهم في كلّ مجلس مرّة والمختار الوجوب كلّما ذكر لدلالة ذلك على التنويه بذكر شأنه والشكر لإحسانه المأمور بهما ولأنّه لولاه لكان كذكر بعضنا بعضا وهو منهيّ عنه في آية النور [ وهي قوله ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ ) » (1) الآية ] ولما روي عنه صلى اللّه عليه وآله « من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ فدخل النار فأبعده اللّه » (2) والوعيد إمارة الوجوب وروي أنّه قيل له يا رسول اللّه أرأيت قول اللّه « إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ » فقال عليه الصلاة والسلام « هذا من العلم المكنون ولو لا أنّكم سألتموني عنه لما أخبرتكم به إنّ اللّه وكل بي ملكين فلا اذكر عند مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال له ذلك الملكان غفر اللّه لك وقال اللّه وملائكته آمين ولا اذكر عند مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال له الملكان لا غفر اللّه لك وقال اللّه تعالى وملائكته آمين » (3) وأمّا عند عدم ذكره فيستحبّ استحبابا مؤكّدا لتظافر الروايات على أنّ الصلاة عليه وعلى آله تهدم الذنوب وتوجب إجابة الدعاء المقرون بها (4).
4 - روى كعب بن عجرة قال « لمّا نزلت الآية قلنا يا رسول اللّه هذا السلام
ص: 133
عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك فقال : قولوا اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد » (1) وعلى هذا الحديث سؤال مشهور بين
ص: 134
العلماء ذكرناه في نضد القواعد وذكرنا ما قيل في أجوبته من أراده وقف عليها هناك ففيه فوائد كثيرة (1).
ص: 135
ص: 136
5 - دلّ حديث كعب المذكور على مشروعية الصلاة على الآل تبعا له صلى اللّه عليه وآله
ص: 137
وعليه إجماع المسلمين (1) وهل يجوز الصلاة عليهم لا تبعا له بل إفرادا كقولنا اللّهمّ صلّ على آل محمّد بل الواحد منهم لا غير أم لا؟ قال أصحابنا بجواز ذلك وقال الجمهور (2) بكراهته لأنّ الصلاة على النبيّ صارت شعارا له فلا تطلق على غيره ولإيهامه الرفض (3)
ص: 138
والحقّ ما قاله الأصحاب لوجوه (1) :
الأوّل قوله تعالى مخاطبا للمؤمنين كافة ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ ) (2) وهو نصّ في الباب.
الثاني قوله ( الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ) (3) ولا ريب أنّ أهل البيت عليهم السلام أصيبوا بأعظم المصائب الّذي من جملتها اغتصابهم مقام إمامتهم.
الثالث أنّه لمّا أتى أبو أوفى بزكوته قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « اللّهمّ صلّ على أبي أوفى وآل أبي أوفى (4) » فيجوز على أهل البيت عليهم السلام بطريق أولى.
ص: 139
الرابع أنّ الصلاة من اللّه بمعنى الرحمة ويجوز الرحمة عليهم إجماعا ويجوز مرادفها لما تقرّر في الأصول أنّه يجوز إقامة أحد المترادفين مقام الآخر.
الخامس قولهم أنه صار شعارا للرسول صلى اللّه عليه وآله قلنا مصادرة على المطلوب لأنّها كما دلّت على الاعتناء برفع شأنه كذلك تدلّ على الاعتناء برفع شأن أهله القائمين مقامه ويكون الفرق بينهم وبينه وجوبها في حقّه صلى اللّه عليه وآله كلّما ذكر كما اخترناه إن قلت عادة السلف قصره على الأنبياء قلت العادة لا تخصّص كما تقرّر في الأصول هذا مع أنّ من أعظم السلف الباقر والصادق عليهما السلام ولم يقولا بذلك.
السادس أنّ قولهم : إنّ ذلك يوهم الرفض تعصّب محض وعناد ظاهر نظير قولهم من السنّة تسطيح القبور لكن لمّا اتّخذته الرافضة شعارا لقبورهم عدلنا عنه إلى التسنيم فعلى هذا كان يجب عليهم أن كلّ مسئلة قال بها الإماميّة أن يفتوا بخلافها وذلك هو محض التعصّب والعناد نعوذ باللّه من الأهواء المضلّة والآراء الفاسدة.
ص: 140
6 - مذهب علمائنا أجمع أنه يجب الصلاة على آل محمّد في التشهّدين وبه قال بعض الشافعيّة وفي إحدى الروايتين عن أحمد وقال الشافعيّ بالاستحباب لنا رواية كعب وقد تقدّمت في كيفيّة الصلاة عليه صلى اللّه عليه وآله وإذا كانت الصلاة عليه واجبة كانت كيفيّتها واجبة أيضا وروى كعب أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يقول ذلك في صلوته (1) و « قال صلى اللّه عليه وآله صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (2) وعن جابر الجعفي عن الباقر عليه السلام عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من صلّى صلاة ولم يصلّ فيها عليّ وعلى أهل بيتي لم تقبل منه » (3).
7 - الّذين تجب الصلاة عليهم في الصلاة ويستحبّ في غيرها هم الأئمّة المعصومون عليهم السلام لإطباق الأصحاب على أنّهم هم الآل ولأنّ الأمر بذلك مشعر بغاية التعظيم المطلق الّذي لا يستوجبه إلّا المعصومون وأمّا فاطمة عليها السلام فتدخل أيضا لأنها بضعة منه صلى اللّه عليه وآله.
8 - استدلّ بعض شيوخنا على وجوب التسليم المخرج عن الصلاة بما تقريره : الف شي ء من التسليم واجب ب ولا شي ء منه في غير الصلاة بواجب النتيجة فيكون وجوبه في الصلاة وهو المطلوب أمّا الصغرى فلقوله « وَسَلِّمُوا » الدالّ على الوجوب وأمّا الكبرى فللإجماع وفيه نظر لجواز كونه بمعنى الانقياد كما تقدّم ، سلّمنا لكنّه سلام على النبيّ صلى اللّه عليه وآله لسياق الكلام وقضيّة العطف وأنتم لا تقولون أنّه المخرج من الصلاة بل المخرج غيره.
9 - استدلّ بعض شيوخنا المعاصرين على أنه يجب إضافة « السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته » على التشهّد الأخير بما تقريره : السلام على النبيّ صلى اللّه عليه وآله واجب ولا شي ء منه في غير التشهّد الأخير بواجب - ينتج أنه فيه واجب. وبيان المقدّمتين قد تقدّم.
ص: 141
قيل عليه إنّه خرق الإجماع لنقل العلّامة الإجماع على استحبابه ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يعلّمه الأعرابيّ في كيفيّة التشهّد (1) ولا هو في حديث حمّاد في صفة الصلاة عن الصادق عليه السلام (2) فلو وجب لتأخّر البيان عن وقت الحاجة وهو باطل اتّفاقا ولضبط الأصحاب الواجبات في الصلاة ولم يعدّوه فيها ولعدم دلالة الآية عليه صريحا ولو دلّت لم تدلّ على الفوريّة ولا على التكرار ولا على كونه في الصلاة ولا على كونه آخرها ولا كونه بصيغة مخصوصة.
ويمكن الجواب عن الأوّل بمنع الإجماع على عدم وجوبه والإجماع المنقول على مشروعيّته وراجحيّته وهو أعمّ من الوجوب والندب وعن الثاني والثالث بأنّ عدم النقل لا يدلّ على العدم مع أنّ حديث حمّاد ليس فيه إشعار بالعبارة المتنازع فيها بالوجوب وجودا وعدما مع إمكان الدخول في التشهّد لأنّه « قال فلمّا فرغ من التشهّد سلّم » وعن الرابع بأنّه معارض بوجوب التسليم المخرج من الصلاة فإنّ كثيرا من الأصحاب لم يعدّه في الواجبات مع الفتوى بوجوبه وعن الخامس قد بيّنّا فيما تقدّم أنّ سياق الكلام وقضيّة العطف يدلّ على أنّ المراد السلام على النبيّ وعن السادس بأنّ الفوريّة والتكرار استفيدا من خارج الآية وهو أنّه لمّا ثبت كونه جزءا من الصلاة فكلّما دلّ على فوريّتها وتكرارها دلّ على فوريّته وتكراره تضمّنا وعن السابع والثامن والتاسع بما تقرّر في بيان الكبرى إذ لا قائل بالوجوب في غير الصلاة ولا في غير التشهّد الأخير ولا بغير الصيغة.
وبالجملة الّذي يغلب على ظنّي الوجوب ويؤيّده ما رواه أبو بصير عن الصادق عليه السلام « قال إذا كنت إماما فإنّما التسليم أن تسلّم على النبيّ وتقول : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين » (3) وأيضا رواية الشيخ في التهذيب عن أبي كهمس
ص: 142
عن الصّادق عليه السلام « قال سألته إذا جلست للتشهّد فقلت وأنا جالس السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته انصراف هو قال عليه السلام لا ولكن إذا قلت السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين فهو انصراف (1) وهي ظاهرة في أنّه من التشهّد والإجماع حاصل منّا على وجوبه وعن الحلبي عن الصادق عليه السلام « قال كلّما ذكرت اللّه والنبيّ صلى اللّه عليه وآله فهو من الصلاة فإن قلت السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين فقد انصرفت » (2) دلّ ظاهر هذه الروايات على كون التسليم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله من الصلاة ودلّت الآية على الوجوب فيكون واجبا فيها وهو المطلوب.
وفيه آيات :
الاولى ( وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) (3).
قال المعاصر (4) ما هذا لفظه يمكن الاستدلال بهذه الآية على ندبيّة القنوت في الصلاة إذ لا قائل بوجوبه والأصل براءة الذمّة ولأنّ صيغة الأمر استعملت في الندب مثل قوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (5) أقول في هذا الكلام غلط من وجوه الأوّل أنّ قوله لا قائل بوجوب القنوت يدلّ على عدم الاطّلاع على النقل فانّ ابن بابويه وابن أبي عقيل قائلان بالوجوب وهما في الفقه بمكان عال الثاني أنّ أصالة البراءة إنّما يكون حجّة مع عدم الدليل لا مطلقا الثالث أنّ قوله صيغة الأمر استعملت
ص: 143
في الندب إن عنى بصيغة الأمر هنا لفظة « قُومُوا » فتلك للوجوب كما استدلّ هو وغيره بها على وجوب القيام في الصلاة وإذا كانت للوجوب لا تدلّ على الندب إذ لا يجوز استعمال المشترك في كلا معنييه كما تقرّر في الأصول وإن عنى لفظ « قانِتِينَ » فليس بأمر وهو ظاهر الرابع أنّ تمثيله للندب بقوله « وَأَشْهِدُوا » سهو فإنّ الأمر فيها للإرشاد إلى مصلحة دنيويّة لا أخرويّة بخلاف الندب فإنّه إشارة إلى مصلحة راجحة أخرويّة هي نيل الثواب.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه قد تقدّم الكلام في هذه الآية بما فيه كفاية فلا وجه لإعادته لكن نقول أكثر أصحابنا قالوا باستحباب القنوت وقال بعضهم بوجوبه كما تقدّم ومحلّه في جميع الصلوات الواجبة والمندوبة بعد قراءة السورة في الثانية وقبل ركوعها وفي الجمعة قنوتان في الأولى قبل الركوع وفي الثانية بعده وقال الشافعيّ باستحبابه في الصبح خاصّة بعد ركوع ثانيتها وما عداها يستحبّ إن نزلت نازلة [ من الخوف ] وإلّا فقولان وقال مالك باستحبابه في الوتر في النصف الأخير من رمضان لا غير وقال أبو حنيفة هو مكروه إلّا في الوتر خاصّة فإنّه مسنون قال أحمد إن في فلاو قال يقنت الجيوش ويحتجّ على المانع بأنه دعاء فيكون مأمورا به ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ ) (1) وبما رواه براء بن عازب قال « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لا يصلّي صلاة مكتوبة إلّا قنت فيها » (2) وروي أيضا أنّ عليا عليه السلام قنت في المغرب ودعا على أناس وأشياعهم (3) وقنت النبيّ عليه السلام في الصبح ودعا على جماعة وسمّاهم (4) ومن طرق الأصحاب روايات كثيرة (5).
ص: 144
وهنا فروع :
1 - يجوز الدعاء فيه لأمور الدنيا إجماعا منّا وأنكره أبو حنيفة وأحمد لأنه يشبه كلام الآدميّين ويحتجّ عليهم بما رووه أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال « إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد اللّه والثناء عليه ثمّ يصلّي عليّ ثمّ يدعو بعده بما شاء (1) » قوله بما شاء يعمّ أمور الدين والدنيا ومن طرق الأصحاب عن عبد الرحمن بن سيابة « قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام أدعو اللّه وأنا ساجد قال نعم ادع للدنيا والآخرة فإنّه ربّ الدنيا والآخرة (2) » وعن إسماعيل بن [ أبي ] الفضل عن الصادق عليه السلام أيضا « قال سألته عن القنوت وما يقال فيه فقال ما قضى اللّه على لسانك ولا أعلم فيه شيئا موقّتا (3) ».
2 - يجوز القنوت بالفارسيّة لقول الصادق عليه السلام « كلّ شي ء مطلق حتّى يرد فيه نهي (4) » ولم يرد هنا نهي ولقول الباقر عليه السلام « لا بأس أن يتكلّم الرجل في الصلاة بكلّ ما يناجي به ربّه (5) » وعن الصادق عليه السلام « كلّما ناجيت به ربّك في الصلاة فليس بكلام (6) » يريد ليس بكلام مبطل.
3 - قال الصدوق القنوت كلّه جهار وقال المرتضى وابن إدريس والعلّامة هو تابع للصلاة في الجهر والإخفات وقال الشافعيّ كلّه يخافت به لأنّه مسنون فأشبه التشهّد الأوّل وقياسه ممنوع أصلا وفرعا ويحتجّ الصدوق بما رواه عن زرارة عن الباقر عليه السلام « قال إنّ القنوت كلّه جهار (7) ».
4 - إذا نسي القنوت قضاه بعد الركوع لرواية محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السلام (8) ولو ذكر بعد ركوع الثالثة قال الشيخان قضاه بعد فراغه من الصلاة
ص: 145
لرواية أبي بصير عن الصادق عليه السلام (1) وفي الرواية الأولى « فان لم يذكر حتّى ينصرف فلا شي ء عليه ».
الثانية ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) (2).
أكثر المفسّرين على أنّ المراد صلاة العيد. والنحر الهدي أو التضحية قال أنس « كان النبيّ صلى اللّه عليه وآله ينحر قبل أن يصلّي الغداة فأمره اللّه أن يصلّي ثمّ ينحر » (3) وقيل معناه صلّ لربّك الصلاة المكتوبة واستقبل القبلة بنحرك يقول العرب منازلنا تتناحر أي هذا ينحر هذا أي يستقبله وأنشد :
أبا حكم ها أنت عمّ مجالد
وسيّد أهل الأبطح المتناحر (4)
أي ينحر بعضه بعضا قاله الفرّاء وروى الجمهور « عن علىّ عليه السلام أنّ معناه ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة (5) » وهذا نقل باطل عنه بل كذب وزور عليه لأنّ عترته الطاهرة مجمعون على خلافه والّذي ورد عنهم روايات (6) الاولى روى عمر بن يزيد « قال سمعت الصادق عليه السلام يقول في قوله تعالى ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) هو رفع يديك حذاء وجهك » الثانية عبد اللّه بن سنان عنه مثلها الثالثة عن جميل بن درّاج « قال قلت للصّادق عليه السلام ما معنى « فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ »؟ فقال بيده
ص: 146
هكذا يعني استقبل بيديه حذوة وجهه في افتتاح الصلاة ». الرابعة حمّاد بن عثمان قال « سألت الصادق عليه السلام ما النحر فرفع يديه إلى صدره فقال هكذا : ثمّ رفعهما فوق ذلك فقال هكذا يعني استقبل بيديه القبلة في افتتاح الصلاة ». الخامسة روى مقاتل بن حيّان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال « لمّا نزلت هذه السورة قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله لجبرئيل عليه السلام ما هذه النحيرة الّتي أمرني بها ربّي قال : ليست بنحيرة ولكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصّلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت فإنّه صلوتنا وصلاة الملائكة في السموات السبع وإنّ لكلّ شي ء زينة وزينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة. وقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله رفع الأيدي من الاستكانة قلت ما الاستكانة قال ألا تقرأ هذه الآية ( فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ ) (1) أورده الثعلبي والواحدي في تفسيريهما.
إذا تقرّر هذا فنقول دلّت هذه الروايات على مندوبات الأوّل التكبير للركوع والسجود وضعا ورفعا الثاني استحباب رفع اليدين مع كلّ تكبيرة الثالث الاستقبال باليدين القبلة الرابع كون الرفع إلى حذاء الوجه.
الثالثة ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (2).
تقدّم الكلام في هذه الآية (3) قيل المراد بالخشوع غضّ الطرف والتذلّل وخفض الجناح وقيل المراد صرف النظر في كلّ حال إلى موضع معيّن كصرف النظر حال القيام إلى موضع سجوده وحال الركوع إلى ما بين رجليه وحال السجود إلى طرف أنفه وحال التشهّد إلى حجره وحال القنوت إلى باطن كفّيه
وقيل في قوله تعالى ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) (4) هو وضع الجبهة والأنف على الأرض والظاهر أنّ المراد : ذلّت وخضعت له خضوع العناة وهم الأسارى
ص: 147
في يد الملك القهّار ولفظ الوجوه يعطي العموم ويحتمل إرادة الخصوص وهي وجوه المجرمين لأنّ قبله « وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلّا يَوْماً وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ » فيكون اللّام بدل الإضافة كما في قوله تعالى ( وَأَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) (1) أي مأواه ويؤيّد هذا الاحتمال قوله تعالى بعد ذلك ( وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ) .
الرابعة ( فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ) (2).
أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ باللّه [ من الشيطان الرجيم ] أطلق الملزوم على لازمه فانّ كلّ فعل اختياريّ يلزمه الإرادة قال الزمخشريّ هي مثل قوله ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) (3) أي إذا أردتم القيام ، وفيه نظر لأنّ بين ابتداء القيام وبين ابتداء الصلاة زمانا هو زمان الطهارة المأمور بها مثل إذا قمت إلى الأمير فتجمّل في ثيابك فانّ بين قيامك ولقائه زمانا فيه لبس الثياب وليس كذا هنا وإلّا لقال إذا قمت إلى القراءة لا إذا قرأت فإنّ بينهما فرقا.
والاستعاذة طلب العياذ وهو اللّجاء والمراد الاستجارة أي أستجير باللّه دون غيره والشيطان كلّ متمرّد عن الطاعة إنسانا كان أو جنّا ووزنه فيعال من شطنت الدار إذا بعدت وقيل فعلان من شاط يشيط إذا بطل فالنّون على الأوّل أصليّ وعلى الثاني زائدة والرجيم فعيل بمعنى مفعول أي مرجوم من الرجم بمعنى الرمي فمعناه : البعيد من الخير المرميّ باللّعنة. إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - أنّ الخطاب حقيقة للنبيّ صلى اللّه عليه وآله ودخل فيه غيره لدليل التأسّي به.
2 - روى عبد اللّه بن مسعود عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قال قرأت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله
ص: 148
فقلت أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي يا ابن أمّ عبد قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرئيل عن القلم عن اللّوح المحفوظ » (1) وهذا موافق للفظ القرآن وبالأوّل قرأ بعض القرّاء وفيه ما فيه.
3 - أكثر العلماء على أنّ الأمر هنا للاستحباب ونقل عن بعض علمائنا الوجوب والأوّل أقوى لأصالة البراءة ولأنّه قول الأكثر.
4 - أنّه يستحبّ الإسرار به ولو في الجهرية إجماعا قيل لأنّه ذكر بين التكبير والقراءة فليس فيه إلّا الإسرار كالاستفتاح وفيه ما فيه.
5 - أنّه عندنا في أوّل ركعة لا غير وقال غيرنا إنّه في كلّ ركعة لأنّ الحكم المرتّب على شرط يتكرّر بتكرّره قياسا ، قلنا لفظ القرآن للجنس فهو كالفعل الواحد فيكفي استعاذة واحدة ولأنّه صلى اللّه عليه وآله كذا فعل. هذا ولو تركه عمدا أو سهوا لم يتداركه في الثانية لفوات محلّه.
6 - قال بعض الحنفية إنّها من سنن الصلاة لا القراءة فعنده يستحبّ للمأموم وإن لم يقرأ وكذا للمسبوق وهو ممنوع لأنّ لفظ القرآن يدلّ على خلافه بل هي من سنن القراءة.
الخامسة : آيات متعددة ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ) (2).
أصل المزّمّل متزمّل أدغم التاء في الزاي من تزمّل أي تلفّف بثيابه سمّى به النبيّ صلى اللّه عليه وآله تهجينا لما كان عليه لأنّه كان نائما أو مرتعدا لما دهشة ابتداء الوحي فتزمّل
ص: 149
بقطيفة أو تحسينا له إذ روي أنّه كان يصلّي متلفّفا بمرط مفروش بعضه على عائشة فنزلت أو تشبيها له في تثاقله بالمتزمّل لأنّه لم يكن قد تمرّن بعد في قيام اللّيل أو من تزمّل الزمل إذا تحمّل الحمل أي الّذي تحمّل أعباء النبوّة أعني أثقالها.
« قُمِ اللَّيْلَ » أي إلى الصلاة والاستثناء من الليل ونصفه بدل من قليلا. أو بدل من اللّيل والاستثناء يكون من النصف والضمير في منه وعليه للأقلّ من النصف كالثلث فيكون التخيير بينه وبين الأقلّ منه كالرّبع والأكثر منه كالنصف أو يكون الضمير للنصف ويكون التخيير بين أن يقوم أقلّ منه على البتّ وأن يختار أحد الأمرين من الأقلّ والأكثر. وقيل الاستثناء من اللّيالي وهي ليالي العذر كالمرض ونحوه.
والترتيل القراءة على تؤدة بحيث يتبيّن الحروف بعضها من بعض كقولهم ثغر رتل ورتل أي مفلّج والقول الثقيل القرآن لما فيه من التكاليف الشاقّة و « ناشِئَةَ اللَّيْلِ » قيل النفس الناهضة من مضجعها إلى العبادة من نشأ من مكانه إذا نهض وقيل قيام اللّيل وقيل المراد العبادة الّتي تنشأ باللّيل أي تحدث وهو أقوى عندي إذ الإسناد إليها في قوله « أَشَدُّ وَطْئاً » حقيقة وقيل المراد ساعات اللّيل الحادثة واحدة بعد أخرى أو الساعات السابقة من نشأت إذا ابتدأت. وقرء أبو عمرو وابن عامر « أشدّ وطاء » أي مواطاة وموافقة والباقون وطأ أي كلفة أو ثبات قدم فعلى الأوّل قيل المراد موافقة القلب اللسان أو موافقة القلب لما يراد من الخشوع والإخلاص بموافقة السرّ العلانية وهو أولى لما روي عن الصادق عليه السلام « هي قيام الرجل عن فراشه لا يريد به إلّا اللّه » (1) وهو يؤيّد ما قلناه في الناشئة « وَأَقْوَمُ قِيلاً » أي أسدّ مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدوء الأصوات.
و « سَبْحاً طَوِيلاً » أي تصرّفا في المعاش والمهامّ وحيث الحال كذلك فعليك بالتهجّد ليلا فانّ مناجاة الحقّ يستدعي فراغا من الخلق والتبتيل الانقطاع أي انقطع إليه بالعبادة وجرّد نفسك عمّا سواء وقال « تَبْتِيلاً » والقياس تبتّلا لمراعاة
ص: 150
الفواصل. إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - قيل كان قيام اللّيل واجبا على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وأصحابه في مكّة قبل فرض الصلوات الخمس ثمّ نسخ بالخمس عن ابن كيسان ومقاتل وعن عائشة أنّ اللّه تعالى فرض قيام اللّيل في أوّل هذه السورة فقام صلى اللّه عليه وآله وأصحابه حولا وأمسك اللّه خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتّى أنزل [ اللّه ] في آخر السورة التخفيف فصار قيام اللّيل تطوّعا بعد أن كان فريضة وعن ابن عبّاس لمّا نزل أوّل المزّمّل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان وكان بين أوّلها وآخرها سنة وعن سعيد بن جبير كان بين أوّلها وآخرها عشر سنين هذه أقوال المفسّرين.
2 - قيل في آخر السورة وهو قوله ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) (1) أنّ معنى « فَتابَ عَلَيْكُمْ » نسخ الحكم الأوّل بأن جعل قيام اللّيل تطوّعا بعد أن كان فرضا وقيل معناه لم يلزمكم إثما ولا تبعة وقيل خفّف عليكم ، لأنّهم كانوا يقومون اللّيل كلّه حتّى انتفخت أقدامهم فنسخ ذلك عنهم.
وعلّل هذا الترخّص بأمور : الأوّل أنّه يعسر عليكم ضبط أوقات اللّيل وحصر ساعاته بل اللّه سبحانه هو المقدّر لذلك أي العالم بمقداره الثاني أنّه ربما يكون منكم من هو مريض فيشقّ عليه قيام اللّيل. الثالث أنكم قد تكونون في سفر تجارة أو غزو. قال المعاصر وظاهر الآيات تدلّ على الندبيّة لأنّ أو معناها التخيير والواجب لا تخيير في مقداره قلت في كلامه نظر من وجوه : الأوّل أنّ الندبيّة إن استفيدت من دليل خارج فلا يكون ذلك من ظاهرها وإن استفيدت من لفظ « قُمِ اللَّيْلَ » فالأمر حقيقة في الوجوب عند الأكثر أو قدر مشترك فكيف يكون ظاهره الندب وإن استفيدت من التخيير فباطل لما يجي ء الثاني أنّ استدلاله على الندبيّة
ص: 151
بكون أو للتخيير وأنّ الواجب لا تخيير في مقداره فيه غلط ظاهر أمّا أوّلا فلأنّ انحصار معنى أو في التخيير باطل باتّفاق أهل العربيّة فإنّهم مجمعون على أنّها قد تكون للشكّ والإبهام والتقسيم والتخيير والإباحة فانحصار معناها في التخيير باطل وأمّا ثانيا فلأنّ قوله الواجب لا تخيير فيه باطل أيضا فإنّ التخيير قد وقع في الواجب بين الكلّ وألحن كتخيير المصلّي عندنا في الأماكن الأربعة بين ركعتين والأربع وكذا تخيير المصلّي في الأخيرتين بين التسبيح ثلاثا أو مرّة والتخيير بين الحمد والتسبيح مرّة واحدة وهي تقصر عن الحمد مقدارا والتخيير في الكسوف بين إتمام السورة بعد الحمد أو قراءة بعضها. الثالث أنّه ذكر فيما بعد أنّ المختار من الأقوال أنّ صلاة الليل كانت فرضا على النبيّ صلى اللّه عليه وآله ونافلة لأصحابه وحينئذ كيف يكون ظاهرها الندبيّة مطلقا.
3 - الترتيل في القراءة سنّة مؤكّدة واختلف في تفسيره قيل هو تبيين الحروف وإخراجها من مخارجها وتوفية حقّها من الحركات والإشباع وعن ابن عبّاس هو القراءة على هنيئتك وعنه قال لأن أقرء البقرة وأرتّلها أحبّ إلىّ من أن أقرء القرآن كلّه ليس كذلك وعن عليّ عليه السلام في معناه أنّه « قال بيّنه بيانا ولا تهذّه هذ الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن أقرع به القلوب القاسية ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة » (1) وعن الصادق عليه السلام « قال إذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فاسئل اللّه الجنّة وإذا مررت بآية فيها ذكر النار فتعوّذ باللّه من النار (2) » وقيل المراد التحزين به أي قراءته بصوت حزين ويؤيّده رواية أبي بصير عن الصادق عليه السلام في هذا « قال هو أن تتمكّث فيه وتحسّن به صوتك » (3) والتحقيق أنّ الغرض من الترتيل تدبّر القرآن والتفكّر في معانيه والايتمار عند أوامره والانزجار عند زواجره
ص: 152
4 - استدلّ بقوله « وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ » على وجوب البسملة في أوّل الحمد والسورة وقيل المراد بها الدعاء بذكر أسماء اللّه الحسنى وصفاته العليا ومنه قوله تعالى ( وَلِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) (1) ويستدلّ بذلك على جواز الدعاء في جميع الحالات وفي الصلاة للدّين والدنيا له ولإخوانه المؤمنين ولشخص بعينه وليس ذلك بعيدا عن الصواب لعموم قوله تعالى ( وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) (2).
5 - روى محمّد بن مسلم وحمران بن أعين عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّ التبتيل هنا رفع اليدين في الصلاة (3) وفي رواية أبي بصير « قال هو رفع يديك إلى اللّه وتضرّعك إليه » (4) ويمكن أن يكون ذلك علامة على الانقطاع إلى اللّه ، الّذي هو معنى التبتيل.
6 - قيل المراد بقوله تعالى ( وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (5) هو صلاة اللّيل وقيل الاستغفار آخر الوتر وفي معنى ذلك (6) قوله تعالى « كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (7).
والأولى حمله على الحقيقة وهو طلب المغفرة وخصّ الاستغفار بالسّحر الّذي هو آخر اللّيل لأنّ العبادة فيه أشقّ والنفس أصفى لعدم اشتغالها بتدبير
ص: 153
المأكول ولخلوّ المعدة عنه فيتوجّه النفس بكلّيّتها إلى حضرة الحقّ سبحانه و « ما » في قوله « ما يَهْجَعُونَ » قيل زائدة أي يهجعون في طائفة من اللّيل أو يهجعون هجوعا قليلا وقيل مصدريّة أو موصولة أي في قليل من اللّيل هجوعهم أو ما يهجعون فيه ولا يجوز أن تكون نافية لأنّ ما بعدها لا يعمل فيما قبلها. وفي الآية مبالغة في تقليل نومهم واستراحتهم في الليل الّذي هو وقت السبات وذكر الهجوع الّذي هو الغرار من النوم وفي الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وآله « من ختم له بقيام اللّيل ثمّ مات فله الجنّة » (1) و « جاء رجل إلى عليّ عليه السلام فقال إنّي قد حرمت صلاة اللّيل فقال له أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك » (2)
وفيه آيات :
الاولى ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً ) (3).
أصل تحيّة تحيية نقلت كسرة الياء إلى ما قبلها وأدغم الياء في الياء وتعدّي بتضعيف العين وإنّما قال بتحيّة بالباء لأنّه لم يرد بها المصدر بل المراد نوع من التحايا والتنوين فيها للنوعيّة واشتقاقها من الحياة لأنّ المسلّم إذا قال سلام عليكم فقد دعا للمخاطب بالسّلامة من كلّ مكروه والموت من أشدّ المكاره فدخل تحت الدعاء.
ص: 154
واعلم أنّه لم يرد بحيّيتم سلام عليكم بل كلّ تحيّة وبرّ وإحسان ويؤيّده ما ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السلام « أنّ المراد بالتحيّة في الآية السلام وغيره من البرّ (1) ».
والحسيب إمّا بمعنى الحفيظ لكلّ شي ء أو بمعنى المحاسب أي يحاسبكم على التحيّة وغيرها إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :
1 - السلام من السنن المؤكّدة والردّ فرض لصيغة الأمر الدالّة على الوجوب لكن على الكفاية لأصالة البراءة ولأنّ المقصود حصول المكافاة على التحيّة وقد حصل وللحديث (2) هذا إذا كان السلام على جماعة أمّا إذا سلّم على واحد فهو فرض عين عليه.
2 - اتّفق الجمهور من الفقهاء والمفسّرين على أنّه إذا قال المسلّم سلام عليكم فأجيب بقوله سلام عليكم ورحمة اللّه فهو أحسن منها ولو لم يقل ورحمة اللّه فهو ردّ لها بمثلها وإذا قال سلام عليكم ورحمة اللّه فأجيب بقوله سلام عليكم ورحمة اللّه فهو ردّ بالمثل ولو زيد وبركاته فهو أحسن وإذا قال سلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فليس فوقها ما يزيد عليها.
3 - قال ابن عبّاس إنّ المراد بقوله « بِأَحْسَنَ مِنْها » أي للمسلمين وبقوله « أَوْ رُدُّوها » أي لأهل الكتاب لا يزاد على قوله وقال غيره « أَوْ رُدُّوها » للمسلمين أيضا وأمّا الكتابيّ فيقال عليكم أو وعليكم لأنّهم ربّما قالوا السام عليكم أي الموت.
4 - إذا سلّم أحد على المصلّي وجب عليه الردّ لإطلاق الأمر بالردّ المتناول لحال الصلاة وغيرها وليس هو من كلام الآدميّين فيدخل تحت النهي لأنّ هذه الصيغة وردت في القرآن إن قلت إذا قصد الردّ خرج عن كونه قرآنا قلت ذلك ممنوع لأنّه قرآن باعتبار لفظه ونظمه وقصد الردّ لا يخرجه كما لا يخرج بقصد
ص: 155
الدعاء لو قال ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ) (1) وقال الشافعيّ لا يرد بلفظه بل بالإشارة برأسه أو بيده وبه قال مالك وأحمد ومنع أبو حنيفة الردّ مطلقا لفظا وإشارة [ في الصلاة ] دليلنا ما تقدّم وروايات الأصحاب عن أئمّتهم عليهم السلام (2).
5 - ذكر بعض الشافعيّة والحنفيّة أنّه يسقط وجوب الردّ إذا كان في حال الخطبة وقراءة القرآن وقضاء الحاجة وفي الحمّام وذلك ممنوع لأنّ الواجب لا يسقطه الاشتغال بمندوب نعم الأقوى عندي كراهة السلام على المصلّي لأنّه ربّما شغله عن القيام بالواجب إذا ردّ أو ترك الواجب إذا لم يردّ.
6 - لا يسلّم على اللّاعب بالنرد والشطرنج والمغنّي ومطير الحمام لهوا وكذا كلّ مشتغل بمعصية وكذا لا يسلّم على الأجنبيّة ولو سلّم عليها وجب عليها الردّ ولا يجب عليها قصد الإنشاء.
7 - ينبغي في مرتبة التسليم أن يسلّم القائم على القاعد والماشي على الواقف والراكب على الماشي وراكب الفرس على راكب الحمار والصغير على الكبير (3) ويجوز العكس تأسّيا به عليه الصلاة والسلام فإنّه كان يسلّم على الصبيان (4).
8 - حيث قلنا يجب الردّ من المصلّي لو سلّم عليه فلو أخلّ هل تبطل صلوته؟ قال بعض شيوخنا المعاصرين لا ، وقال غيره تبطل وهو قويّ عندي وربّما فصّل بعضهم بأنّه إن اشتغل لسانه بشي ء من القراءة أو الذكر زمان الردّ بطلت وإلّا فلا وليس ذلك بعيدا عن الصواب هذا إن سكت سكوتا غير طويل أمّا إذا طال وخرج عن العادة بطلت قطعا.
ص: 156
9 - هل يجوز الردّ بغير سلام عليكم بل بقوله عليكم السلام أم لا قيل نعم لأنّه دعاء ويجوز الدعاء بما شاء من الألفاظ وقيل لا لأنّه ليس من لفظ القرآن فيكون من كلام الآدميّين فلا يجوز في الصلاة ولمنع كونه دعاء بل ردّا للسلام وهذا أولى.
الثانية ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (1).
« نسكي » أي عبادتي كلّها وقيل أعمال الحجّ ومحياي أي جميع ما أنا عليه في حال حياتي من الايمان والطاعات كلّها وقيل المراد بمحياي الخيرات الّتي يفعل في الحياة منجّزة والممات الأفعال الّتي تعلّق على الموت كالوصيّة والتدبير وقيل المراد الحياة والممات أنفسهما « لله » أي مخلصة لله « وَبِذلِكَ أُمِرْتُ » أي بالإخلاص أو بالقول المذكور.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه يستدلّ بهذه الآية على أمور :
1 - وجوب الإخلاص بالعبادة لله تعالى وأنّه لا يجوز الإشراك معه فيها مطلقا سواء كان شركا ظاهرا كالعبادة للأصنام أو الكواكب أو غيرها أو خفيّا كالرياء بل أبلغ من ذلك وهو قصد الثواب بالعبادة لأنّ ذلك أيضا مناف للإخلاص كما تقدّم من كلام عليّ عليه السلام (2).
2 - أنّ الإخلاص المذكور من أحكام الإسلام الّتي يلزم كلّ مسلم وأنّ كلّ مسلم مأمور بذلك لقوله تعالى ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) .
3 - أنّ صحّة الصلاة بل وصحّة سائر العبادات متوقّفة على معرفة اللّه تعالى ووحدانيّته وكونه ربّا للعالمين أي مربّيا ومنشئا لهم فيستلزم ذلك وجوب العلم بكونه قادرا وعالما وحكيما إذ الإخلاص يستلزم ذلك ويتفرّع على ذلك عدم صحّة عبادة الكافر الجاحد لشي ء من هذه الأصول بل وعدم صحّة عبادة من لم يكن
ص: 157
عارفا باللّه تعالى هذه المعرفة بدليل وإن كان في الظاهر مسلما.
4 - أنّ في الآية إيماء إلى كون العبادة شكرا لنعمة التربية والإيجاد لذكر هذه الصّفة عقيب ذكر العبادة إشعارا بالعلّيّة.
5 - أنّه لا يجوز أن ينسب شيئا من هذه النعم إلى غيره مستقلّا أو مشاركا له كالكواكب والأفلاك والعقول الفعّالة وغيرها لقوله تعالى ( لا شَرِيكَ لَهُ ) .
6 - التنبيه على عظمة اللّه تعالى وكونه أهلا للعبادة ومستحقّا لها.
الثالثة ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (1).
ذكر متكلّمو الأصحاب في الكتب الكلاميّة في هذه الآية مباحث شريفة وأنّها دالّة على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام من أرادها وقف عليها (2) وذكرنا في كتابنا المسمّى باللّوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة في هذه الآية ما فيه كفاية للطالب وشفاء للعليل الراغب وأمّا هنا فنستدلّ بها على أمور :
1 - أنّ الفعل القليل لا يبطل الصلاة لأنّ قوله « وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ » إشارة إلى فعل عليّ عليه السلام لمّا تصدّق على السائل بخاتمه في حال ركوعه وذلك فعل قليل لا يؤثّر في بطلان الصلاة.
2 - أنّ النيّة فعل قلبيّ لا لسانيّ لأنّ فعله ذلك وهو في الصلاة يستلزم النيّة لأنّه عمل وكلّ عمل لا بدّ له من النيّة واللفظ في الصلاة بغير القرآن والدعاء مبطل فلم يقع منه حينئذ وإلّا لبطلت صلوته واللّازم كالملزوم في البطلان ويتفرّع على ذلك صحّة نيّة الزكاة احتسابا على الفقير غير الحاضر وصحّة نيّة الصوم
ص: 158
في الصلاة اللّيليّة ونيّة الوقوف بعرفات في الظهر ونيّة الوقوف بالمشعر في الصبح إلى غير ذلك من النيّات الممكنة حال الصلاة وأمّا نيّة الإحرام فيشترط اقترانها بالتلبية فهل يجوز التلبية في الصلاة يحتمل المنع إذ ليست من المعهود في الصلاة والأولى الجواز لأنّها ذكر وثناء على اللّه تعالى فيجوز حينئذ نيّة الإحرام أمّا لو قارن بالنيّة التسليم فوقعت التلبية بعده جاز قطعا.
3 - أنّ استحضار النيّة فعلا واستمرارها عينا غير شرط في العبادة لأنّه عليه السلام حال نيّة الزكاة لم يكن مستحضرا لنيّة الصلاة فلو كان شرطا لأثّر البطلان المستلزم للذمّ المنافي لهذا المدح العظيم ، ويتفرّع على ذلك الاكتفاء باستمرار النيّة حكما.
4 - تسمية الصدقة المندوبة زكاة إذ لا يجوز كون ذلك الخاتم من الزكاة الواجبة لأنّ إخراجها واجب مضيّق لا يجوز عليه الاشتغال عنه بواجب موسّع أو مندوب وحينئذ يكون ذلك من الصدقات المندوبة وهو المطلوب.
الرابعة ( إِنَّنِي أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (1).
ذكر الذات الشريفة ولفظ الوحدانيّة فيه إشعار بكونها سببا للعبادة والصلاة فإنّ ترتّب الحكم بالفاء مشعر بالعلّيّة كقولك فلان جواد فاسترفده قوله « أَكادُ أُخْفِيها » قال الجوهريّ الهمزة في اخفيها للإزالة نحو شكى زيد فأشكيته أي أزلت شكايته والمعنى أكاد أزيل خفاءها أي أقارب إظهارها وذلك أنّه أخبر بإتيانها جملة فالمقاربة من حيث إظهارها إجمالا وعدم الوقوع المستفاد من أكاد من حيث التفصيل « لِتُجْزى » اللّام تتعلّق بآتية أو أكاد على وجه التنازع أي إنّ الساعة آتية أو أكاد اخفيها لتجزى كلّ نفس على سعيها إن خيرا فخبر وإن شرّا فشرّ إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
ص: 159
1 - ذكر الزمخشريّ وبعض الفقهاء واختاره المعاصر أنّ المراد بقوله « لِذِكْرِي » أي لذكر الصلاة بعد نسيانها لقوله صلى اللّه عليه وآله « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها » (1) ويكون ذلك دليلا على وجوب قضاء الصلاة الفائتة وإنّما قال « لِذِكْرِي » ولم يقل لذكرها إمّا لأنّه إذا ذكر الصلاة ذكر اللّه أو لحذف المضاف أي لذكر صلوتي أو لأنّ خلق الذكر والنسيان منه تعالى.
وفيه نظر إذ هو خلاف الظاهر والأصل عدم التقدير وكونه إذا ذكر الصلاة فقد ذكر اللّه مسلّم لكنّ الكلام في العكس وهو أنّه إذا ذكر اللّه ذكر الصلاة لم قلت إنّه يذكر الصلاة والأولى أنّ اللّام يتعلّق بأحد الفعلين على طريق التنازع وهما « فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ » ويكون اللّام للتعليل أي تجب العبادة والصلاة لوجوب ذكري فإنّهما تستلزمانه وقال مجاهد معنى لذكري أي لذكري إيّاها في الكتب السالفة وليس بشي ء ويحتمل أيضا وجوها أخر : الأوّل لذكري في الصلاة على طريق التعظيم الثاني لذكري خاصّة لا تشوبه بذكر غيري أي للإخلاص لي لا للرّياء الثالث لتكون ذاكرا لي غير ناس الرابع لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة ويكون اللّام للتاريخ نحو جئتك لستّ ليال خلون.
2 - في قوله « إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ » إشارة إلى وجوب سرعة المبادرة إلى العبادة والصلاة لكون الساعة متوقّعة في كلّ آن.
3 - قو له ( لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (2) وقوله ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى ) (3) يدلّان على أنّه لا يجوز للإنسان تولية غيره شيئا من عباداته الواجبة البدنيّة حال حياته ممّا يتمكّن من مباشرته من طهارة أو صلاة أو صوم أو غيرها لأنّ ما
ص: 160
باشره غيره ليس من سعيه فلا يستحقّ عليه جزاء ولا يكون له أيضا أمّا حال العجز فقد جوّز الفقهاء أن يتولّى طهارته غيره ويتولّى هو النيّة وأمّا الصلاة فيأتي بها على القدر الممكن قائما مستندا أو قاعدا أو مضطجعا أو مستلقيا وممّا يشعر بجواز الصلاة حال العجز كذلك قوله تعالى ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ) (1) وأمّا الصوم فيسقط أداؤه حال العجز عنه ويجب القضاء حال التمكّن بنفسه ولا يجوز النيابة وأمّا الحجّ الواجب مع العجز فيسقط حينئذ وهل يجوز النيابة فيه خلاف والأصحّ جوازه مع سبق الوجوب على العجز عنه وأمّا الجهاد فمع التعيّن لا يجوز النيابة ومع عدمه يجوز النيابة وهل يجب؟ فيه خلاف أظهره الوجوب مع القدرة والاستحباب مع العجز واليسار وأمّا العبادات الماليّة فيجوز التوكيل في إخراجها حال الحياة كالزكاة والخمس والنذورات وشبهها وقضاء الديون والكفّارات وغيرها وكذا يجوز في ذبح الهدي الواجب وأمّا المندوب من العبادات فالماليّة يجوز التوكيل فيها قطعا وأمّا البدنيّة فالحجّ يجوز النيابة فيه بلا خلاف فقد ورد أنّ عليّ بن يقطين رحمه اللّه صاحب الكاظم عليه السلام احصي له خمسمائة وخمسون رجلا يحجّون عنه بالنيابة أقلّهم بسبعمائة دينار ، وأكثرهم بعشرة آلاف درهم (2) وكذا يجوز النيابة في زيارات الأئمّة عليهم السلام.
وأمّا الصلاة والصيام فلم نظفر بدليل يدلّ على جواز النيابة فيهما فالأولى المنع لعموم الآيتين وأمّا بعد الموت فيجوز النيابة في الحجّ الواجب بلا خلاف وكذا في الصدقة بأنواعها الواجبة والمندوبة وأمّا الصوم والصلاة الواجبان فجوّزهما الأصحاب مجمعين على ذلك لتظافر رواياتهم عن أئمّتهم بذلك حتّى أنّه لم يرد حديث واحد بمنع ذلك وهو أقوى حجّة على الجواز إذ أكثر المسائل قد ورد فيها حديث يخالف مقتضاها إلّا هذه المسئلة.
فممّا ورد ما رواه ابن بابويه عن الصادق عليه السلام « من عمل من المؤمنين عن
ص: 161
ميّت عملا صالحا أضعف اللّه له أجره ونفع اللّه به الميّت (1) » وروى أيضا عنه عليه السلام وقد سئل أيصلّى عن الميّت « فقال نعم حتّى أنّه ليكون في ضيق فيوسّع عليه ذلك الضيق ثمّ يؤتى به فيقال له خفّف عنك هذا الضيق بصلاة فلان أخيك عنك » (2) إلى غير ذلك تمام أربعين حديثا خالية عن معارض وأكثر الجمهور يمنعونهما محتجّين بقوله تعالى ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى ) وبقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له » (3) وعلى هذين اعتمد الثوري والجواب عن الآية والحديث أنّهما عامّان مخصوصان بما اتّفق على جوازه كالحجّ والصدقة فما أجيب به فهو جوابنا على أنّا نقول الأعمال الواقعة عنه بعد الموت نتيجة سعيه في تحصيل الإيمان المسوّغ للنيابة عنه وأيضا الخبر يدلّ على انقطاع عمله ومحلّ النزاع أنّه يصل إليه من عمل غيره هذا مع أنّ صاحب الحاوي حكى عن عطاء ابن أبي رباح وإسحاق بن راهويه أنّهما قالا : يجوز الصلاة عن الميّت وابن أبي عصرون اختار ذلك في كتابه الانتصاف وفي صحيح البخاري في باب من مات وعليه نذر : أنّ ابن عمر أمر امرأة ماتت أمّها وعليها صلاة أن تصلّي عنها (4).
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه وقع الاتّفاق على أنّه يصل إلى الميّت ثواب الصدقة والحجّ والدّعاء والاستغفار وكذا غيرها عندنا لقول الصادق عليه السلام « تدخل على الميّت في قبره الصلاة والصوم والحجّ والصدقة والبرّ والدعاء ويكتب أجره للّذي فعله وللميّت » (5) وعنه عليه السلام أيضا « أنّ الميّت ليفرح بالترحّم عليه والاستغفار له كما يفرح الحيّ بالهديّة الّتي تهدى إليه » (6) وغير ذلك من الأحاديث وقد حكى شارح
ص: 162
صحيح مسلم من الشافعيّة أنّه يصل إلى الميّت ثواب جميع العبادات.
الخامسة ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) (1).
« خلفة » أي يخلف كلّ واحد منهما الآخر إذ لو دام أحدهما لاختلّ نظام الوجود ولم يكونا رحمة « لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ » أي يتذكّر بمقتضى العقل « أَوْ أَرادَ شُكُوراً » أي شكر من أنعم بهذه النعم وهو سبب غائيّ للجعل المذكور أي جعلت ذلك ليتذكّروا نعمتي ويشكروني عليها. وكلمة أو هنا ليست لمنع الجمع بل لمنع الخلوّ الّذي سمّاه النحاة بالإباحة ومثّلوه بقولهم جالس الحسن أو ابن سيرين أي لا تخل من مجالستهما ويجوز لك الجمع بينهما.
إذا عرفت هذا فنقول : استدلّ الفقهاء بها على مشروعيّة قضاء فائتة اللّيل نهارا وفائتة النهار ليلا أي اللّيل خليفة النهار في وقوع ما فات فيه وبالعكس والقضاء هو الإتيان بمثل الفائت في غير وقته فيقضي التمام تماما والقصر قصرا والفائت أوّلا يأتي به أوّلا لقوله صلى اللّه عليه وآله « من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته » (2) ولا يحصل المماثلة إلّا بجميع وجوهها من الكيفيّة والكميّة والترتيب. مسئلتان :
ص: 163
1 - لم يشترط الشافعيّ الترتيب في الفائت فيجوز عنده العصر قبل الظهر والعشاء قبل المغرب قياسا على قضاء صوم رمضان ولأنّ وجوب الترتيب على خلاف الأصل فيكون منفيّا وقال أبو حنيفة يترتّب ما لم يدخل في التكرار وقال أصحابنا يترتّب وإن كثرت.
لنا ما تقدّم من الحديث المذكور آنفا (1) وما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام قال : « إذا كان عليك قضاء صلوات فابدء بأولاهنّ فأذّن لها وأقم » (2) وقياس الشافعيّ باطل لما تقدّم ولعدم الجامع ولوجود الفرق فانّ ترتّب الصلوات لمعنى فيها وترتّب أيّام رمضان لتحصيل أيّام الشهر لا لمعنى يختصّ بترتّب الأيّام وفرق أبي حنيفة تحكّم.
2 - أجمع العلماء على قضاء صلاة الحضر تماما حضرا وسفرا أمّا صلاة السفر فعندنا تقضى قصرا حضرا وسفرا وبه قال أبو حنيفة ومالك وقال أحمد : تقضى أربعا وهو أحد قولي الشافعيّ لأنّ القصر رخصة في السفر وقد زال محلّها.
لنا أنّ القصر عزيمة كما يجي ء فيقضي فائتته كذلك للحديث المتقدّم ولرواية زرارة عن الصادق عليه السلام « قال يقضيها كما فاتته إن كانت صلاة سفر أدّاها في الحضر مثلها » (3).
السادسة ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) (4).
ص: 164
استدلّ بهذه الآية على أنّ تارك الصلاة مستحلّا مرتدّ يجب قتله لأنّه علّق المنع من قتلهم على أمور هي التوبة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأنّهم إذا فعلوا ذلك يخلّى سبيلهم ولا شكّ أنّ تركهم للصلاة كان على وجه الاستحلال لعدم تحقّق اعتقاد وجوبها من المشرك والحكم المعلّق على مجموع لا يتحقّق إلّا مع تحقّق المجموع ويكفي في حصول نقيضه فوات واحد من المجموع وذلك هو إباحة قتلهم.
السابعة ( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1).
هنا مسئلتان :
1 - أنّ الكافر عندنا وعند الشافعيّة مكلّف بفروع الإسلام لعموم الأدلّة المتناولة للمسلم والكافر كهذه الآية وغيرها فإنّ لفظ الناس عامّ ومنع أبو حنيفة من ذلك لأنّه لو كلّف بالفروع لكان فائدة التكليف الإتيان بها إمّا حال كفره وهو باطل إجماعا أو بعد إسلامه على وجه القضاء وهو أيضا باطل لقوله عليه الصلاة والسلام « الإسلام يجب ما قبله » (2) والجواب المنع من الحصر لجواز أن يكون الفائدة العقاب على تركها لو مات على كفره ويؤيّده قوله تعالى ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتّى أَتانَا الْيَقِينُ ) (3) والكلام عن الكفّار. ثمّ الّذي يؤيّد ما قلناه قوله تعالى ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) (4) والمراد الكفّار لقوله بعدها بلا فصل « إِلّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ».
ص: 165
2 - يجب على المرتدّ قضاء ما فات زمان ردّته ممّا كلّف به وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة ومالك لا يجب وعن أحمد روايتان لنا عموم الأدلّة على وجوب قضاء ما فات عن كلّ مكلّف اجتمعت فيه شرائط الوجوب أداء إذا لم يفعل ، خرج الكافر الأصلي بالإجماع وبقوله تعالى ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) (1) و « ما » للعموم فيبقى الباقي على عمومه ولأنّه وجب عليه أداؤها بعد اعتقاد وجوبها فيجب قضاؤها كغيره.
احتجّوا بعموم « الإسلام يجبّ ما قبله » (2) قلنا مخصوص اتّفاقا لوجوب أداء حقوق الناس كالديون والغرامات والقصاص فلا يكون حجّة في الباب.
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (3).
المراد بالنداء هنا الأذان « مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ » من هنا للتبيين وكان في اللّغة القديمة يسمّى ذلك اليوم عروبة وأوّل من سمّاها جمعة كعب بن لؤي الاجتماع الناس فيه إليه. وقال ابن سيرين إنّ أهل المدينة جمعوا قبل أن يقدم إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقبل أن ينزل الجمعة وذلك أنّهم قالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه وكذلك للنصارى
ص: 166
فلنجعل نحن [ لنا ] يوما نجتمع فيه بذكر اللّه تعالى فقالوا : لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلّى بهم فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاتا فتغدّوا وتعشّوا من شاة واحدة لقلّتهم فأنزل اللّه في ذلك « إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ » الآية فهي أوّل جمعة جمعت في الإسلام وأمّا أوّل جمعة جمعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فهي أنّه لمّا قدم مهاجرا حتّى نزل قباء على بني عمرو بن عوف فأقام عندهم ثلاثا ثمّ خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فنزل وخطب وجمع بهم فهي أوّل جمعة جمعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الإسلام وفي الحديث أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « قال اعملوا أنّ اللّه تعالى قد افترض عليكم الجمعة فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي ولهم إمام عادل استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع اللّه شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ألا ولا زكاة له ألا ولا حجّ له ألا ولا صوم له ألا ولا بركة له حتّى يتوب » (1).
إذا تقرّر هذا فهنا مسائل :
1 - الجمعة واجبة لا وجوبا مطلقا بل وجوبا مشروطا اتّفاقا من العلماء نعم اختلف في ذلك الشرط على أقوال مذكورة تفصيلا في كتب الخلاف ونحن نذكر المهمّ من ذلك فاعلم أنّه روى محمّد بن مسلم وأبو بصير عن الصادق عليه السلام « أنّ اللّه فرض في كلّ أسبوع خمسا وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلّا خمسة : المريض والمملوك والمسافر والمرأة والصبيّ » (2) وروى زرارة عن الباقر عليه السلام قال « فرض اللّه على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها اللّه في جماعة وهي الجمعة ووضعها عن تسعة : الصغير و
ص: 167
الكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين » (1) وغير ذلك من الروايات.
2 - السلطان العادل أو نائبه شرط في وجوبها وهو إجماع علمائنا (2) وقال أبو حنيفة يشترط وجود إمام وإن كان جائرا ولم يشترط الشافعي إماما ومعتمد أصحابنا فعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّه كان يعيّن لإمامة الجمعة وكذا الخلفاء كما يعيّنون القضاة وروايات أهل البيت عليهم السلام متظافرة بذلك (3) وأمّا اشتراط عدل الامام فلأنّ الاجتماع مظنّة النزاع ومثار الفتن فيجب أن يكون هناك حاكم عادل غير محتاج إلى مسدّد ، يرتدع بوجوده غيره ويكون وجوده حاسما لمادّة النزاع وقاطعا لمثار الفتن.
3 - أجمع العلماء على اشتراط العدد في الجمعة فقال الشافعيّ وأحمد أقلّهم أربعون وقال أبو حنيفة أربعة الإمام أحدهم ولم ينقل أصحاب مالك عنه تقديرا وأما أصحابنا فلهم قولان أحدهما سبعة والآخر خمسة وهو قول الأكثر وعليه أكثر الروايات ولأنّ الاجتماع معتبر فيعتبر جمع لو وقع بين اثنين نزاع كان عندهما شاهدان فيكون أربعة والحاكم ، ويؤيّد ذلك قوله تعالى ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) فإنّ الأمر بالسعي إلى الجمعة بصيغة الجمع الّذي أقلّ مدلوله ثلاثة والإمام هو المسعيّ إليه لأنّه الذاكر لله حال خطبته فيكون خارجا عن الجمع والمؤذّن هو المنادي الّذي السعي مشروط بندائه فيكون المجموع خمسة.
4 - اختلف في تفسير السعي مع الاتّفاق على كون الأمر به للوجوب فقيل هو الإسراع والأولى حمله على مطلق الذهاب إذ المستحبّ المضيّ على سكينة في البدن ووقار في النفس وقال الحسن : ليس السعي على الأقدام ولكن على النيّات وقرأ
ص: 168
ابن مسعود : « فامضوا إلى ذكر اللّه » وروي ذلك عن علي عليه السلام والباقر والصادق عليهما السلام قال ابن مسعود : لو علمت الإسراع لأسرعت حتّى يقع ردائي عن كتفي ونقل مثله عن عمر (1).
5 - قيل ذكر اللّه هو الصلاة هنا وقيل الخطبة والأولى حمله عليهما معا لاشتمالهما على ذكر اللّه فإنّ الخطبة يجب فيها حمد اللّه والصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله والوعظ وقراءة سورة من القرآن.
6 - لمّا أمروا بالسعي إلى ذكر اللّه استلزم ذلك وجوب ترك كلّ ما يشغل عنه ولمّا كان الأهمّ في عقل المعاش هو البيع خصّه بالذّكر وأوجب تركه ولأنّهم كانوا ينفضون (2) في ذلك اليوم من قراهم وبواديهم إلى البيع والشرى.
ألف - هل يجب ترك ما عداه من العقود كالإجارة والمزارعة وغيرهما من المعاملات أم لا أكثر أصحابنا بل لم ينقل خلاف بين المتقدّمين منهم أنّ البيع هو المختصّ بالنهي وقال بعض المتأخّرين بتعديته إلى كلّ معاملة وليس قياسا بل من باب اتّحاد طريق المسئلتين وهو الشغل عن ذكر اللّه وبه قال جماعة من الجمهور وليس بعيدا من الصواب.
ب - هل يقتضي النهي عن البيع فساده أم لا؟ قال مالك وأحمد نعم وبه قال الشيخ في المبسوط لمكان النهي وقال أكثر الجمهور والشيخ في الخلاف بعدم فساده وهو الحقّ لما تقرّر في الأصول أنّ النهي في المعاملات لا يدلّ على الفساد إذ لا مانع من أن يقول : حرّمت عليك البيع ولو بعت انعقد. ويكون المقصود بالنهي إيقاع الفعل لا ذاته بخلاف النهي عن العبادة فإنّه إذا تعلّق النهي بها أو بجزء منها أو بلازم من لوازمها فإنّها تفسد.
ص: 169
7 - في الآية إشارة إلى أنّ الخطاب مختصّ بالأحرار دون العبيد لأنّ العبد محجور عليه ممنوع من التصرّف.
8 - فيها أيضا دلالة على اختصاص الجمعة بمكان خاصّ يجب السعي إليه وهو قولنا أنّه لا يجمع جمعتان في فرسخ.
9 - « ذلِكُمْ » أي السعي إلى ذكر اللّه وترك البيع « خَيْرٌ لَكُمْ » فانّ نفع الآخرة خير وأبقى « إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » حقيقة الخير والشرّ أو تعلمون حقيقة السعي إلى ذكر اللّه.
الثانية ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1).
المراد هنا بقضاء الصلاة أداؤها فإنّ القضاء يقال على معان ثلاثة الأوّل بمعنى الفعل والإتيان بالشي ء وهو المراد هنا الثاني فعل العبادة ذات الوقت المحدود المعيّن بالشخص خارجا عنه الثالث فعل العبادة استدراكا لما وقع مخالفا لبعض الأوضاع المعتبرة فيها وقد يسمّى هذا إعادة والمراد بالانتشارفي الأرض التفرّق في جهاتها والابتغاء الطلب وهنا فوائد :
1 - اللّام في الصلاة للعهد أي الصلاة الّتي تقدّم ذكرها وهي الّتي وجب السعي إليها.
2 - اختلف الأصوليّون في الأمر الوارد عقيب النهي هل هو للوجوب أو للإباحة الرافعة للحظر؟ واحتجّ أصحاب القول الثاني بهذه الآية وهي « فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ » فإنّه أطلق لهم ما حرّمه من المعاملة ، والانتشار ليس بواجب اتّفاقا وكذا قوله ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) (2).
3 - في الأمر بالانتشار إشارة إلى كون الساعي الّذي وجبت عليه الجمعة
ص: 170
ممّن له القدرة على التصرّف في المعاش والاضطراب في طلب الرزق وكذا إذا فسرنا السعي بالإسراع في المشي ولمّا لم يكن الهمّ أي الشيخ الكبير والأعرج والمريض والأعمى كذلك دلّ على عدم الوجوب عليهم وكونهم غير مخاطبين بها.
4 - الابتغاء من فضل اللّه هو طلب الرّزق وعن الصادق والباقر عليهما السلام « الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت » (1) وقيل المراد طلب العلم عن سعيد بن جبير والحسن وروى أنس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ليس هو بطلب دنيا ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في اللّه » (2).
5 - « وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً » على إحسانه إليكم بالتوفيق وقيل المراد بالذكر الفكر كما قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « فكرة ساعة خير من عبادة سنة » (3) وقيل اذكروا اللّه في تجارتكم وليس بعيدا من الصواب أن يكون المراد : وابتغوا من فضل اللّه واذكروا أوامر اللّه ونواهيه في طلب الرزق فلا تأخذوا إلّا ما حلّ لكم أخذه لا ما حرّم [ لكم ] أو يكون المراد الذكر حال العقد فإنّه يستحبّ التكبير عنده والشهادتان واللّه أعلم.
الثالثة ( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ مِنَ اللّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللّهُ خَيْرُ الرّازِقِينَ ) (4).
قال المقاتلان : ابن سليمان وابن قتادة (5) بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يخطب يوم
ص: 171
الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبيّ من الشأم بتجارة وكان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق إلّا أتته وكان يقدم إذا قدم بكلّ ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيرهما فينزل عند أحجار الزيت وهو مكان في سوق المدينة ثمّ يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قائم على المنبر يخطب فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلّا اثنى عشر رجلا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله « لولا هؤلاء لسوّمت لهم الحجارة من السماء » وأنزل اللّه هذه الآية. وفي رواية أنّه صلى اللّه عليه وآله « قال والّذي نفسي بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا » (1) وعن ابن عباس : لم يبق إلّا ثمانية وعن ابن كيسان : أحد عشر.
فعلى هذا « اللّهو » هو الطبل وفي الأصل اللّهو كلّ ما ألهى عن ذكر اللّه و « انْفَضُّوا » أي تفرّقوا والضمير في « إِلَيْها » للتجارة وإنّما عاد إليها لا غير لأنّها هي المقصودة بالذات من الخروج وقيل التقدير إذا رأوا تجارة انفضّوا إليها أو لهوا انفضّوا إليه ، واكتفى بخبر أحدهما والترديد بأو للدلالة على أنّ منهم من خرج للتجارة ومنهم من خرج للهو وقدّم التجارة أوّلا للترقّي إذ التقدير أنّهم انفضّوا إلى التجارة مع حاجتهم إليها وذلك مذموم بل أبلغ من ذلك أنّهم انفضّوا إلى ما لا فائدة لهم فيه وأخّرها ثانيا لأنّ تقديره أنّ ما عند اللّه خير من اللّهو بل أبلغ من ذلك أنّه خير من التجارة المنتفع بها.
إذا تقرّر هذا فنقول : قيل المراد بقوله « وَتَرَكُوكَ قائِماً » أي تخطب وقيل قائما في الصلاة ، فعلى الأوّل يكون فيه دلالة على اشتراط القيام في الخطبة وأنّه لا يجوز فيها القعود اختيارا وبذلك قال الشافعيّ ولم يوجبه أبو حنيفة والحقّ الأوّل للآية ولرواية جابر بن سمرة قال « ما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله خطب إلّا وهو قائم فمن
ص: 172
حدّثك أنّه خطب وهو جالس فكذّبه (1) » وسئل ابن مسعود « أكان النبيّ صلى اللّه عليه وآله يخطب قائما قال أما تقرأ « ( وَتَرَكُوكَ قائِماً ) (2) » وروى معاوية بن وهب عن الصادق عليه السلام « أوّل من خطب وهو جالس معاوية استأذن الناس في ذلك من وجع كان بركبتيه ثمّ قال عليه السلام : الخطبة وهو قائم خطبتان يجلس بينهما جلسة ثمّ لا يتكلّم فيها قدر ما يكون فصلا بين الخطبتين » (3).
وعلى الثاني يمكن أن يستدلّ به على أنّ الجماعة في الجمعة شرط في الابتداء لا الاستدامة بمعنى أنّه لو انقضت الجماعة بعد عقد النيّة والتحريم لم تبطل صلاة الإمام وأتمّها جمعة ، وهو أحد قولي الشافعيّ ، وقال أبو حنيفة : إن كان بعد أن صلّى ركعة أتمّها جمعة وإن كان قبل ذلك أتمّها ظهرا والحقّ الأوّل لانعقاد الصلاة فوجب إتمامها لتحقّق شرط الوجوب واشتراط الاستدامة منفيّ. هذا مع أنّ جعلها ظهرا إبطال لها وهو منفيّ بقوله تعالى ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (4).
الرابعة ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) (5).
قد ذكرنا هذه الآية وذكرنا ما فيها من الأقوال وتركنا قولا واحدا إلى هنا وهو أنّ المراد بالنحر نحر البدن للتضحية والمراد بالصلاة صلاة العيد ، وأجمع
ص: 173
علماؤنا على أنّها فرض عين محتجّين بعد إجماعهم بالآية فإنّ الأمر للوجوب ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله فعلها مواظبا عليها وقال « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » (1) ولتظافر روايات الأصحاب بوجوبها (2) وقال أحمد بوجوبها على الكفاية وقال الشافعيّ ومالك هي سنّة وعن أبي حنيفة روايتان إحداهما أنّها سنّة والأخرى أنّها واجبة وليست فرضا.
واعلم أنّ شرائط وجوبها عندنا شرائط وجوب الجمعة ويقع الفرق بينهما بأمور : الأوّل أنّ هذه مع عدم الشرائط تكون مستحبّة بخلاف الجمعة الثاني أنّ هذه يسقط وجوبها بالترك لها عمدا أو نسيانا حتّى يخرج وقتها بخلاف الجمعة فإنّها تقضى ظهرا الثالث أنّ الخطبتين فيها مستحبّتان وفي الجمعة واجبتان ويجب استماعهما على خلاف. وأمّا هنا فيستحبّ استماعهما بلا خلاف الرابع أنّ الخطبتين هنا بعد الصلاة وتقديمهما بدعة وفي الجمعة قبلها الخامس أنّ صلاة العيد يجب فيها تكبيرات زائدة مع أدعية معها على أقوى القولين لنا وهي خمس في الأولى وأربع في الثانية غير تكبيرة الإحرام وتكبيرتي الركوع وقال الشافعيّ سبع في الاولى وخمس في الثانية عدا تكبيرة الافتتاح والركوعين وجعل أحمد تكبيرة الافتتاح من السبع وقال أبو حنيفة الزائد ثلاث في كلّ ركعة.
ومحلّ التكبير عندنا بعد القراءة وقبل الركوع في الموضعين وقال الشافعيّ وأحمد قبل القراءة فيهما وقال أبو حنيفة قبل القراءة في الاولى وبعدها في الثانية ومستند الكلّ روايات أوردوها لا تقوم لها عندنا حجّة (3) واستناد أصحابنا تظافر الروايات عن أئمّتهم عليهم السلام (4).
ص: 174
إذا نسي هذه التكبيرات أو بعضها حتّى ركع مضى في صلوته ولا قضاء عليه وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة يأتي بها في الركوع.
فائدة : يستحبّ التكبير (1) بعد صلاة ظهر الأضحى وما بعدها من الصلوات إلى تمام خمس عشرة صلاة لمن كان بمنى وإلى تمام عشرة لمن كان بغيرها لقوله تعالى ( وَاذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ ) (2) والمراد بها أيّام التشريق وليس فيها ذكر مأمور به سوى التكبير ، وعرفة ليس منها وبه قال مالك وهو المشهور عن الشافعيّ وقال أبو حنيفة يكبّر يوم عرفة والنحر إلى بعد عصره لقوله تعالى ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ ) (3) وهي عشر ذي الحجّة ولا تكبير قبل عرفة بالإجماع فيكون في عرفة والنحر وفي قوله نظر لاحتمال إرادة ذكر اللّه على الهدي والأضحيّة يوم النحر ويوم عرفة بالدعاء.
وفي عيد الفطر يستحبّ ليلة العيد عقيب المغرب والعشاء والفجر وصلاة العيد لقوله تعالى ( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ ) (4) وهو مذهب أصحابنا ولم نسمع للعامّة في ذلك قولا.
الخامسة ( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ ) (5).
مات وقع صفة للنكرة وهو أحد وأتى بصيغة الماضي وإن كان متعلّق النهي
ص: 175
مستقبلا نظرا إلى وقت إيقاع الصلاة فإنّه بعد الموت فيكون الموت ماضيا بالنسبة إليه وإنّما قال أبدا وإن كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ليس بأبديّ لأنّ المراد لا تصلّ أنت ولا أمّتك أبدا أو يكون المراد أنّهم لا يستحقّون الصلاة أبدا لكفرهم والأولى أنّه قيّده بالتأبيد قطعا لأطماعهم في ذلك أو قطعا لتجويز النسخ « وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ » أي لأجل الدعاء وسؤال الرحمة لهم وقوله « إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ » تعليل من حيث المعنى للنهي عن الصلاة عليهم وفائدة قوله « وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ » أنّهم ثبتوا على الكفر إلى الموت لأنّ « كفروا » يدلّ على الحدوث لا على الثبوت إلى الموت والواو في « وماتوا » للحال أي على حال فسقهم والفسق هنا الكفر لأنّه أعمّ منه ويجوز إطلاق العامّ على الخاصّ.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - نقل أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يصلّي على المنافقين ويقوم على قبورهم ويدعو لهم تألّفا للأحياء منهم وترغيبا في تحقّق إسلامهم فلمّا مرض عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول بعث إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله ليأتيه فلمّا دخل عليه قال له أهلكك حبّ اليهود فقال يا رسول اللّه بعثت إليك لتستغفر لي لا لتوبخني وسأله أن يكفّنه في ثوبه الّذي لاقى جسده ويصلّي عليه فلمّا مات دعاه ابنه حباب إلى الجنازة فسأله عن اسمه فقال حباب فقال صلى اللّه عليه وآله : حباب اسم شيطان وأنا سمّيتك عبد اللّه بن عبد اللّه فلمّا همّ بالصلاة عليه نزلت الآية وجذبه جبرئيل عليه السلام عن الجنازة.
وروي أنّه كان قد أنفذ إليه قميصه فقيل له في ذلك فقال إنّ قميصي لا يغني عنه من اللّه شيئا وإنّي أؤمّل من اللّه أن يدخل بهذا السّبب في الإسلام خلق كثير فروي أنّه أسلم من الخزرج يومئذ ألف رجل.
وقيل إنّما فعل صلى اللّه عليه وآله بعبد اللّه ذلك مكافأة له على حسناه في الحديبيّة فإنّه لمّا قال المشركون لا نأذن لمحمّد ولكن نأذن لعبد اللّه فقال : لا ، لي أسوة برسول اللّه وأيضا لمّا أسر العبّاس يوم بدر ولم يجدوا له قميصا على طوله وكان طويلا كساه عبد اللّه هذا قميصا.
ص: 176
وقيل : فعل ذلك إكراما لولده فإنّه قال أسألك أن تكفّنه في بعض قمصانك وتنزل إلى قبره ولا تشمت بي الأعداء وفي بعض الروايات أنّه صلّى عليه فقال له عمر : أتصلّي على عدوّ اللّه؟ فقال له وما يدريك ما قلت فانّي قلت : اللّهمّ احش قبره نارا وسلّط عليه الحيّات والعقارب (1).
ص: 177
2 - الصلاة على الميّت خمس تكبيرات بعد الاولى الشهادتان وبعد الثانية
ص: 178
الصلاة على النبيّ وآله وبعد الثالثة الدعاء للمؤمنين وبعد الرابعة الدعاء للميّت إن كان مؤمنا والدعاء عليه إن كان منافقا وبدعاء المستضعفين إن كان مستضعفا. دلّ على ذلك روايات أهل البيت عليهم السلام وإجماعهم ولا يشترط عندنا فيها قراءة الفاتحة ولا التسليم ولا الطهارة لأنّها صلاة بحسب المجاز فلا ينصب عليها دليل « لا صلاة إلّا بطهور. ولا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب » (1).
وأجمع الفقهاء الأربعة على عدم وجوب التكبيرة الخامسة (2) ومن
ص: 179
الشافعيّة من جوّزها وقال لا تبطل بالخامسة ثمّ إنّهم أجمعوا على التسليم فيها كتسليم الصلاة وعلى اشتراط الطهارة ثمّ إنّ الشافعيّ عين الفاتحة عقيب الاولى وجعل الشهادتين والصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله عقيب الثانية وأبو حنيفة قال يحمد اللّه في الأولى.
3 - قد ظهر أنّ الصلاة على الميّت مجموع مركّب من التكبير والأذكار المذكورة والنهي في الآية يتعلّق بالمجموع من حيث هو مجموع لا بكلّ واحد من الأجزاء إلّا الدعاء للميّت الكافر فإنّ الكافر غير مغفور له فالدعاء له عبث وتسميتها صلاة تسمية الشي ء باسم بعض أجزائه والفرق بين الأمر بالمجموع وبين النهي عنه أنّ الأمر بالمجموع يستلزم الأمر بكلّ واحد من أجزائه بخلاف النهي. إن قلت : يجوز أن يكون المراد ب « لا تصلّ » لا تدع على أصل اللّغة كقوله ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (1) قلت المتبادر إلى الفهم من الصلاة على الميّت ما قلناه فيحمل عليه.
4 - في تعليل النهي بالكفر إشارة إلى وجوب الصلاة على كلّ مسلم ولذلك نقل أنّه لمّا مات النجاشي بالحبشة صلّى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لموضع إسلامه
ص: 180
الحقيقيّ (1) وهو الّذي نزلت فيه وفي أصحابه الآيات في المائدة (2) وهي قوله « ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ) » الآيات فقال المنافقون : أتصلّي على علج نصرانيّ فنزلت ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ ) (3) الآية واستدلّ الشافعي بذلك على جواز الصلاة على الميّت الغائب ومنعها أبو حنيفة وأصحابنا وحملوا ما ورد من الصلاة على الاستغفار على الميّت والدعاء له وعلى تقدير تسليمه نقل إنّ جنازته رفعت للنبيّ صلى اللّه عليه وآله حتّى شاهده على سريره.
5 - دلّ قوله تعالى « وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ » على مشروعيّة الوقوف على قبور الموتى من المؤمنين والترحّم عليهم وزيارة قبورهم والتردّد إليها وقد روي في ذلك أجر جزيل فما صحّ لنا روايته عن الرضا عليه السلام أنّه قال « من أتى قبر أخيه المؤمن وقرء عنده ( إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) سبع مرّات ودعا له أمن من الفزع الأكبر (4) » قيل : الآمن الميّت وقيل القاري وقيل هما معا قاله بعض شيوخنا وهو الأصحّ وورد أيضا غير ذلك من الروايات (5) وكانت زيارة القبور في أوّل الإسلام محرّمة ثمّ نسخ ذلك (6).
السادسة ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ) (7).
ص: 181
الضرب في الأرض هو السير فيها والجناح الإثم ونفي الجناح يستعمل في الواجب والندب والمباح وقصر الصلاة من القصور بمعنى النقص وهو قد يكون في كيفيّتها وفي كمّيّتها والفتنة قيل القتل والأصحّ أنّها التعرّض للمكروه.
إذا تقرّر هذا فهنا فوائد :
1 - قصر الصلاة جائز إجماعا فقال الشافعيّ هو رخصة لقوله تعالى « فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ » (1) فهو من المخيّر عنده لكنّه قال القصر أفضل وقال المزنيّ من
ص: 182
أصحابه الإتمام أفضل وقال مالك وأبو حنيفة [ وأحمد ] وأصحابنا أنّه عزيمة (1) وبه قال عليّ عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام وابن عبّاس وجابر وابن عمر وغيرهم ونفي الجناح لا ينافي الوجوب فإنّه قد استعمل في الوجوب كما في قوله تعالى
ص: 183
( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ ) إلى قوله ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) (1) والطواف بهما واجب ، ولما روي عن يعلى بن أميّة وقد سأل عمر ما بالنا نقصر وقد أمنّا فقال عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : « تلك صدقة تصدّق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته » (2) والأمر للوجوب وغير ذلك من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام وغيرهم (3).
ص: 184
2 - ظاهر الآية (1) تدلّ على أنّ القصر مشروط بالخوف وليس كذلك بل الخوف خرج مخرج الأغلب لما قلناه من حديث عمر وتحقيق الحال هنا أن نقول ليس السفر والخوف شرطين على الجمع للإجماع ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قصر سفرا مع زوال الخوف (2) وإذا لم يكونا شرطين على الجمع فإمّا أن يكون أحدهما شرطا في الآخر دون العكس وهو باطل أمّا أوّلا فلاستلزام الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا ثانيا فلأنّ اشتراط السفر بالخوف باطل للإجماع المذكور والنصّ وعكسه أعني اشتراط الخوف بالسفر باطل أيضا لكونه ينفى سببيّة الخوف مطلقا ولأنّ السبب التامّ يستحيل أن يكون شرطا في سببيّة آخر وإذا بطل ذلك فلم يبق إلّا أن يكون كلّ واحد منهما سببا تامّا في وجوب القصر ولما صحّ عن الباقر عليه السلام أنّه « سئل عن صلاة الخوف وصلاة السفر أنقصر ان جميعا فقال نعم وصلاة الخوف أحقّ أن تقصر من
ص: 185
صلاة السفر الّذي ليس فيه خوف بانفراده » (1) جعل عليه السلام الخوف سببا أقوى من السفر الخالي عنه فيكون كلّ واحد منهما سببا تامّا منفردا وهذا تقرير لوجوب القصر فيهما معا.
3 - لم نسمع خلافا في أنّ القصر في السفر معلّق بالمسافة إلّا أنّ داود قال : أحكام السفر تتعلّق بالطويل والقصير وأطلق ثمّ المقدّرون اختلفوا (2) فقال الشافعيّ
ص: 186
مرحلتان ستّة عشر فرسخا وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة وأصحابه ثلاث مراحل أربعة وعشرون فرسخا وقال أصحابنا مرحلة ثمانية فراسخ أو مسير يوم متوسّط السير وبه قال الأوزاعيّ دليلنا بعد الإجماع منّا إطلاق الآية خرج ما دون الثمانية بالإجماع فيبقى ما عداه ولرواية عيص بن القاسم عن الصادق عليه السلام « قال التقصير حدّه أربعة وعشرون ميلا يكون ثمانية فراسخ » (1).
4 - حيث بيّنّا أنّ التقصير نقص من الصلاة كمّا أو كيفا فالنقص في الكمّ في الرباعيّات بتنصيفها وجعلها اثنتين وكذلك في حال الخوف غير الشديد وأمّا في حال الخوف المنتهى إلى الشدّة فإنّ النقص هناك في الكمّ والكيف معا أمّا الكمّ فكما قلنا وأمّا الكيف فبحسب الإمكان قائما وقاعدا ومؤميا بل ويقوم مقام الركعة تسبيحة واحدة وتفصيل ذلك في كتب الفقه.
5 - القصر المشار إليه سفرا وخوفا إنّما يكون فيما ساغ من السفر والأحوال واجبا كان أو مندوبا أو مباحا لا في غير السائغ وذلك لأنّه تخفيف وترفيه للمشقّة الّتي مظنّتها السفر فلا يحسن جعله للعاصي بسفره خصوصا على قولنا بحكمة الشارع وامتناع القبيح عليه نعم لا يشترط انتفاء المعصية في السفر بل كون السفر نفسه غير معصية أو غايته غير المعصية.
6 - وجوب القصر وإن كان عامّا لظاهر الآية لكنّه عندنا مخصوص بما عدا المواضع الأربعة مسجد مكّة والمدينة وجامع الكوفة والحائر الشريف على ساكنه الصلاة والسلام وعليه إجماع أكثر الأصحاب فإنّ الإتمام فيها أفضل لكونها مواضع شريفة تناسب التكثير من العبادة فيها.
السابعة ( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ
ص: 187
يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) (1).
الطائفة أقلّها واحد والسلاح اسم لما يدفع به الإنسان عن نفسه والجمع أسلحة كخمار وأخمرة وأخذ الحذر كناية عن شدّة الاحتراز عن العدوّ بالاستعداد له واللام في « فَلْتَقُمْ » و « لْيَأْخُذُوا » للأمر وهي ساكنة باتّفاق القرّاء وأصلها الكسر فسكنت استثقالا و « أَنْ تَضَعُوا » موضعه إمّا نصب بنزع الخافض إي لا إثم عليكم في أن تضعوا فسقطت في بعمل ما قبلها ، أو جرّ بإضمار حرف الجرّ وقال « طائِفَةٌ أُخْرى » ولم يقل آخرون وقال « لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا » ولم يقل لم تصلّ فلتصلّ حملا للكلام تارة على اللّفظ واخرى على المعنى كقوله « وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا » (2) ولم يقل اقتتلا.
إذا تقرّر هذا فلنورد كيفيّة صلاة الخوف على ما قاله الفقهاء ثمّ نذكر ما في الآية من الفوائد فنقول : الخوف إذا انتهى إلى حال لا يمكن معها الاستقرار وإيقاع الأفعال بل إلى المسايفة والمعانقة صلّى الناس فرادى بحسب إمكانهم كما تقدّم وإذا لم ينته إلى ذلك فقد ذكروا ثلاثة أنواع (3) :
ص: 188
الأوّل صلاة بطن النخل (1) وهي أن يكون العدوّ في جهة القبلة ويفرّق الامام أصحابه فرقتين فيصلّي بإحداهما ركعتين ويسلّم بهم والثانية تحرسهم ثمّ يصلّي بالثانية ركعتين نافلة له وهي فريضة لهم وهذه تصحّ أيضا مع الأمن.
الثاني صلاة عسفان (2) وهي أن يكون العدوّ في جهة القبلة أيضا فيرتّبهم صفّين ويحرّم بهما جميعا ويركع بهم ويسجد بالأوّل خاصّة ويقوم الثاني للحراسة فإذا قام الإمام بالأوّل سجد الثاني ثمّ ينتقل كلّ من الصفّين إلى مكان صاحبه فيركع الإمام بهما ثمّ يسجد بالّذي يليه ويقوم الثاني الّذي كان أوّلا لحراستهم فإذا جلس بهم سجدوا وسلّم بهم جميعا.
الثالث صلاة ذات الرقاع (3) وشروطها كون العدوّ في خلاف جهة القبلة أو
ص: 189
كونه في جهتها لكن بينه وبين المسلمين حائل يمنع من رؤيتهم لو هجموا وقوّة العدوّ بحيث يخاف هجومه وكثرة المسلمين بحيث يمكن افتراقهم فرقتين يقاوم كلّ فرقة العدوّ وعدم الاحتياج إلى زيادة التفريق : فينحاز الإمام بطائفة إلى حيث لا يبلغهم سهام العدوّ فيصلّي بهم ركعة فإذا قام إلى الثانية انفردوا واجبا وأنمّوا والأخرى تحرسهم ثمّ تأخذ الأولى مكان الثانية وتنحاز الثانية إلى الامام وهو ينتظرهم فيقتدون به في الركعة الثانية فإذا جلس في الثانية للتشهّد قاموا وأنمّوا ولحقوا به ويسلّم بهم ويطوّل الامام القراءة في انتظار الثانية والتشهّد في انتظار فراغها وفي المغرب يصلّي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة أو بالعكس.
فالآية الكريمة ، لم يقل أحد بحملها على صلاة عسفان بل إمّا على صلاة بطن النخل وهو قول الحسن البصري أو على صلاة ذات الرقاع وفيها قولان أحدهما قول أصحابنا والشافعيّة وهو أنّ الطائفة الأولى بعد فراغها من السجود تصلّي ركعة أخرى كما حكيناه وثانيهما أنّ الطائفة الأولى إذا فرغوا من الركعة يمضون إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة الأخرى ويصلّي بهم الركعة الثانية ويسلّم الإمام خاصّة ويعودون إلى وجه العدوّ ويأتي الاولى فيقضون ركعة بغير قراءة لأنّهم لاحقون ويسلّمون ويرجعون إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة الثانية ويقضون ركعة بقراءة لأنّهم مسبوقون وهو مذهب أبي حنيفة ومنقول عن عبد اللّه بن مسعود وفي الفرق بين الطائفتين بترك القراءة نوع تحكّم لا يصلح ما ذكروه لعلّته.
وقيل إنّ الطائفة الأولى تصلّي ركعة وتسلّم وتنصرف وكذا الثانية وهو قول جابر ومجاهد فعلى هذا يكون صلاة الخوف ركعة واحدة (1) فالسّجود في قوله « فَإِذا سَجَدُوا » على ظاهره عند أبي حنيفة وعلى قول أصحابنا وقول الشافعيّ بمعنى الصلاة ويعضده قوله تعالى ( وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ )
ص: 190
ولا خلاف في أنّ الطائفة الّتي تقابل العدوّ غير المصلّية تأخذ السلاح وأمّا المصلّية فقيل لا تأخذه وبه قال ابن عبّاس وقيل تأخذه وهو الصحيح لعود الضمير إليهم ظاهرا وهنا فوائد
1 - قيل (1) إنّ الصلاة على هذا الوجه تختصّ بحضرته صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ ) وليس بشي ء (2) لأنّ سائر الشرعيّات هو مقرّرها بأقواله وأفعاله مع عموم التكليف بها لوجوب التأسّي به مع أنّ مفهوم المخالفة ليس بحجّة عندنا.
2 - أخذ السلاح واجب لصيغة الأمر وقد تقرّر أنّه للوجوب.
3 - يجوز ترك أخذ السلاح مع المرض أو حصول الأذى به وكذا إذا منع أحد واجبات الصلاة لقوله « ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر ».
4 - في الآية دلالة على أرجحيّة صلاة الجماعة للأمر حالة الخوف بالمحافظة عليها.
5 - في قوله « وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ » إشارة
ص: 191
إلى علّة وجوب أخذ السلاح والحذر وهو أنّه إذا لم تفعلوا يميلون عليكم ميلة واحدة أي يشدّون عليكم شدّة واحدة.
6 - في الآية ونزولها معجزة له صلى اللّه عليه وآله وذلك أنّها نزلت والنبيّ صلى اللّه عليه وآله بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا فصلّى النبيّ صلى اللّه عليه وآله بأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع والسجود فهمّ المشركون أن يغيروا عليهم فقال بعضهم إنّ لهم صلاة أخرى أحبّ إليهم من هذه يعنون [ بها ] صلاة العصر فأنزل اللّه الآية المذكورة فصلّى بهم صلاة العصر صلاة الخوف (1).
7 - لمّا أمرهم بأخذ الحذر أو همهم أنّ العدوّ يوقع بهم ضررا لقوّة العدوّ [ أ ] وخداعه فأزال هذا الوهم بأنّ اللّه يهيمهم بسيف الإسلام فإنّه تعالى كثيرا ما يفعل الأشياء بأسبابها فقال « إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ».
إن قلت : تعليق الأخذ بالحذر مجاز وبالأسلحة حقيقة فإن أراد أحدهما لم يجز الآخر وإن أرادهما فباطل لأنّهم منعوا من استعمال اللّفظ في الحقيقة والمجاز معا قلت إنّما منعوه على وجه الحقيقة لا مطلقا فجاز إرادتهما معا مجازا أو يكون أحدهما منصوبا بالملفوظ والآخر بمقدّر على طريقة « علّفتها تبنا وماء باردا (2) أراد وسقيتها.
ص: 192
الثامنة ( فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (1).
المراد بالقضاء هنا فعل الشي ء والإتيان به أي إذا أتيتم بالصلاة كقوله تعالى ( فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ ) (2) فعلى هذا يكون المراد الأمر بالمداومة على الذكر في جميع الأحوال كما جاء في الحديث القدسيّ « يا موسى اذكرني فإنّ ذكري حسن على كلّ حال » (3) أو المراد التعقيب بالأدعية بعد الصلاة كما هو مذكور في مظانّه ويمكن أن يكون المراد التسبيح عقيب كلّ صلاة مقصورة ثلاثين مرّة « سبحان اللّه ، والحمد لله ، ولا إله إلّا اللّه ، واللّه أكبر » كما رواه أصحابنا فإنّه ذكر ذلك عقيب كلّ صلاة القصر (4)
وقيل : في الكلام إضمار أي إذا أردتم الإتيان بالصلاة فأتوا بها على حسب
ص: 193
أحوالكم في الإمكان بحسب ضعف الخوف وشدّته « قِياماً » أي مسايفين ومقارعين « وَقُعُوداً » أي مرامين « وَعَلى جُنُوبِكُمْ » أي مثخنين بالجراح ووجه هذا أنّها في معرض ذكر صلاة الخوف.
قوله « فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ » أي سكنتم وأقمتم في مدنكم « فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ » تقدّم معنى إقامة الصلاة أي أدّوها كاملة في كمّيّتها وكيفيّتها بأن تأتوا بها تماما لا قصرا وعلى إيفاء الكيفيّات حقّها لا كما هو حال الشدّة وباقي الآية تقدّم تفسيره في أوّل كتاب الصلاة (1)
التاسعة ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ ) (2).
لمّا تقرّر في أصول الفقه أنّ التأسيس أولى من التأكيد لاشتماله على مزيد فائدة لم يجز حمل قوله « وَارْكَعُوا » على الصلاة أي صلّوا مع المصلّين تسمية للصلاة باسم بعض أجزائها لكونه أوّل فعل يظهر منها كما قيل في ذلك سواء كان الخطاب لليهود لعدم الركوع في صلوتهم أو لغيرهم فإنّ الأمر بإقامة الصلاة يستلزم الأمر بأجزائها لأنّ الأمر بالكلّ أمر بكلّ واحد من أجزائه ضرورة وحينئذ فالأولى حمل الآية على الأمر بصلاة الجماعة فيكون راجحة إمّا وجوبا كما في الجمعة والعيدين أو استحبابا كما في باقي الصلوات الواجبة وهو قول أكثر المسلمين وقال أحمد بوجوبها على الكفاية.
وأمّا الجماعة في النوافل فأجمع علماء أهل البيت عليهم السلام على تحريمها إلّا في نفل أصله فرض كالإعادة والعيدين والاستسقاء لما فيها من غرض الاجتماع لإجابة الدعاء واحتجاج أحمد على وجوبها بأنّه صلى اللّه عليه وآله توعّد جماعة تركوها بإحراق بيوتهم (3)
ص: 194
لا يدلّ على مطلوبه لاحتمال اعتقادهم عدم المشروعيّة أو إصرارهم على ترك السنن أو على شدّة الاستحباب الّذي لا نزاع فيه فانّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفدّ بخمس وعشرين صلاة كما ورد في الحديث النبويّ (1) وهو دليل على استحباب الجماعة معتضدا بأصالة البراءة من الوجوب وأمّا مبالغة داود في جعلها واجبة عينا فأظهر في المنع.
العاشرة ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )(2).
لم أجد أحدا من المفسّرين فرّق بين الاستماع والإنصات والّذي يظهر لي أنّ استمع بمعنى سمع والإنصات توطين النفس على الاستماع مع السكوت فظاهر الآية يدلّ على راجحيّته إذا قرئ القرآن إمّا وجوبا أو استحبابا واختلف في سبب نزولها (3) فقال ابن عبّاس وجماعة أخرى إنّهم كانوا يتكلّمون في صلوتهم أوّل فرضها فكان الرجل يجي ء وهم في الصلاة فيقول كم صلّيتم فيقولون كذا وكذا وقال الزهريّ كان النبيّ صلى اللّه عليه وآله يقرء فيعارضه فتى من الأنصار فيقرء معه فنزلت وقيل كان أصحابه كلّما قرأ قرؤا معه رافعين أصواتهم فيخلطون عليه وقال ابن جبير نزلت في الإنصات والإمام يخطب في الجمعة وقيل هو أمر بالاستماع نظرا في المعجزة النبويّة وهو قويّ وقال الصادق عليه السلام المراد استحباب الاستماع في الصلاة وغيرها (4) وهو المختار لإطلاق اللّفظ وأصالة البراءة من الوجوب وهنا فوائد :
- استدلّ أصحابنا والحنفيّة على سقوط القراءة عن المأموم بالآية فإنّ الإنصات لا يتمّ إلّا بالسّكوت وخالفت الشافعيّة في ذلك حيث استحبّوا له قراءة
ص: 195
الفاتحة مطلقا وربّما فصّل أصحابنا بأنّ في الجهريّة الأولى ترك القراءة لما قلناه من الإنصات وأمّا الإخفاتيّة والجهريّة إذا لم يسمع ولا همهمة فيستحبّ قراءة الفاتحة وقيل بل يستحبّ الذكر في النفس تسبيحا أو تحميدا أو تهليلا أو تكبيرا وهو الأولى ويؤيده رواية زرارة عن أحدهما عليه السلام « إذا كنت خلف إمامه تأتمّ به فأنصت وسبّح في نفسك » (1) يعني فيما [ لا ] يجهر به وإليه أشار في الآية التالية لهذه بقوله ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً ) (2).
2 - ينبغي لكلّ واحد من قارئ القرآن ومستمعه تخلية سرّه وتحزين قلبه والاستشفاء به من داء جهله وتفريطه وأن يجعل نفسه هي المخاطبة بجملة أوامره ونواهيه وأنّها المؤاخذة بوعيده والمرغّبة بوعده.
3 - ينبغي ترك الكلام حينئذ واستشعار الذلّة والخضوع وتصوّر عظمة المتكلّم به وهو اللّه تعالى وقراءته قائما وجالسا متأدّبا كالحاصل بين يدي ملك عظيم لا يشغل عنه شاغل وتحرّي الخلوة بقرائته فإنّها نعم العون على ذلك كلّه.
الحادية عشرة ( إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) (3).
حكم أصحابنا بوجوب السجود عند قراءة هذه الآية واستماعها وفي سماعها خلاف أحوطه الوجوب وكذا في حم عند قوله ( لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ ) (4) وآخر اقرأ : ( وَاسْجُدْ
ص: 196
وَاقْتَرِبْ ) (1) وعند آخر النجم ( فَاسْجُدُوا لِلّهِ وَاعْبُدُوا ) (2) وسمّوها بسور العزائم الأربع مستدلّين بعد إجماع الفرقة بقول عليّ عليه السلام « عزائم السجود أربع » (3) وقول الصادق عليه السلام « إذا قرئ شي ء من العزائم الأربع فسمعتها فاسجد وإن كنت على غير وضوء وإن كنت جنبا وإن كانت المرأة لا تصلّي وسائر القرآن أنت فيه بالخيار » (4) ولأنّها واردة بصيغة الأمر الدالّ على الوجوب.
إن قلت : نمنع كون كلّها بصيغة الأمر فإنّها هنا في الآية المذكورة ليست بصيغة الأمر مع أنّه يلزمكم وجوب السجود في آخر الحجّ لكونه بصيغة الأمر وأنتم لا تقولون به قلت الجواب أمّا عن الأولى فلأنّها إن لم يكن بصيغة الأمر لكنّها علامة على كمال الإيمان المشعر ذلك بوجوبها وأمّا عن الثانية فلأنّها سجود الصلاة بدليل اقترانها بالركوع فهي واجبة في الصلاة والنزاع في سجود ليس في الصلاة هذا مع أنّه مختلف في مشروعيّتها كما يجي ء.
وما عدا هذه الأربع من السجود مندوب لأصالة البراءة من الوجوب ولما ذكرنا من قول الصادق عليه السلام ، وهي إحدى عشرة : في الأعراف والرعد والنحل وبني إسرائيل ومريم والحجّ في موضعين والفرقان والنمل وص وإذا السماء انشقّت.
وقال الشافعيّ إنّها كلّها مسنونة وأسقط ص وقال أبو حنيفة كلّها واجبة وأسقط ثانية الحجّ فهي عندهما أربعة عشرة.
فائدة : يجب في السجدات المذكورة وضع الجبهة والسجود على الأعضاء السبعة ولا يجب فيها طهارة ولا ذكر ولا تشهّد ولا تسليم ولا استقبال على الأصحّ
ص: 197
نعم الذكر فيها مندوب صورته على ما رواه ابن بابويه في أماليه « لا إله إلّا اللّه حقّا حقّا لا إله إلّا اللّه تعبّدا ورقّا لا إله إلّا اللّه إيمانا وصدقا سجدت لك يا رب تعبّدا ورقّا لا مستنكفا ولا مستكبرا (1) [ ولا متعظّما بل أنا عبد ذليل خائف مستجير ].
وهو لغة قيل قيام بلا عمل قاله الخليل وقال الجوهريّ الصوم الإمساك وشرعا قيل هو الإمساك عن أشياء مخصوصة في زمان مخصوص ممّن هو على صفات مخصوصة ونقض بأنّ الإمساك عدميّ مع إبهام الأشياء المخصوصة وإطلاقها وقيل هو الكفّ عن المفطرات مع النيّة وفيه نظر إذ الكفّ يشمل اللّيل وذلك ليس بصوم مع أنّ التناول سهوا ليس بمناف فلا بدّ من قيد العمد فاذن هو ليس بمانع لدخول الأوّل ولا جامع لخروج الثاني. هذا مع أنّ كفّ الكافر والمسافر والحائض والجنب عن المفطرات مع النيّة ليس بصوم فلا بدّ من قيد يخرج أمثال ذلك ، وربّما زيد التوطين فقيل توطين النفس على الكفّ إلى آخره وهو أيضا غير سديد ويرد عليه ما قلناه أيضا.
فالأولى أن يقال هو كفّ شرعيّ عن تعمّد تناول كلّ مزدرد والجماع وما في حكمها يوما أو حكمه مع النيّة ، وفيه أجر جزيل بل هو من أفضل الأعمال ففي الحديث القدسيّ « كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به » (2) وفي توجيه هذا الحديث أقوال ذكرناها في النّضد من أرادها وقف عليها (3).
ص: 198
وهنا آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1).
ص: 199
كتب أي فرض عليكم والّذين من قبلنا هم الأنبياء وأممهم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدنا « لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » أي تتّقون المعاصي فإنّ الصوم يكسر الشهوة كما جاء في الحديث عنه صلى اللّه عليه وآله « من لم يستطع الباه فليصم فإنّ الصوم له وجاء » (1) أو لعلّكم تنتظمون في زمرة المتّقين فانّ الصوم شعارهم وهنا فوائد :
1 - في قوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » تنبيه على عدم الوجوب على الصبيّ والمجنون والمغمى عليه إذ الإيمان هو التصديق والإذعان بعد تصوّر الأطراف وذلك لا يحصل إلّا من عاقل.
2 - حيث إنّ الصوم تشبّه بالملائكة وحسم لمادّة الشيطان وكسر للقوّة الشهوية الحيوانيّة ونصر للقوّة العاقلة الملكيّة كتب علينا كما كتب على الّذين من قبلنا من الأنبياء والأمم الماضين.
3 - قيل إنّ النصارى كتب عليهم شهر رمضان فأصابهم موتان فزادوا عشرا قبله وعشرا بعده فصار صومهم خمسين يوما وقيل كان وقوعه في الحرّ الشديد أو البرد الشديد فشقّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم فحوّلوه إلى الربيع وزادوا فيه عشرين يوما كفّارة للتحويل وعن الباقر عليه السلام « إنّ شهر رمضان كان واجبا على كلّ نبيّ دون أمّته وإنّما وجب على امّة محمّد صلى اللّه عليه وآله محبّة لهم » (2).
4 - في قوله « لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » إشارة إلى أنّ التكاليف السمعيّة ألطاف مقرّبة إلى طاعات أخر وإلى اجتناب كثير من المعاصي كما قال ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (3).
5 - فائدة إعلامنا بتكليف من قبلنا بالصوم إمّا تأكيد للحكم فإنّه إذا كان
ص: 200
مستمرّا في جميع الملل تأكّد الانبعاث إلى القيام به أو تنبيه لنا على علّة مشروعيّته بوقوع التكليف به عامّا أو تطييب للنفس وتسهيل عليها.
الثانية ( أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (1).
« أَيّاماً » منصوب على أنّه ظرف لفعل مقدّر يدلّ عليه الصيام أي صوموا أيّاما لا أنّه منصوب بالصّيام كما قال الزمخشريّ لأنّ المصدر إعماله مع اللام ضعيف والإضمار من محاسن الكلام « و ( مَعْدُوداتٍ ) » أي قلائل فإنّ الشي ء إذا كان قليلا يعدّ وإذا كان كثيرا يهال هيلا وفي قوله « أَيّامٍ أُخَرَ » وهي جمع اخرى تأنيث آخر سؤال فإنّ الأيّام جمع يوم وهو مذكّر وكان قياسه أواخر جمع آخر فلم قال أخر؟ أجيب عنه بأنّ كلّ صفة لموصوف مذكّر لا يعقل فأنت فيها بالخيار إن شئت عاملتها معاملة الجمع المذكّر وإن شئت [ عاملتها ] معاملة الجمع المؤنّث وإن شئت معاملة المفرد المؤنّث وعلى هذا جاز أن يقال أيّام أواخر وأخر واخرى لكون الأيّام لا تعقل بخلاف جائني رجال ورجال أخر لم يجز بل أواخر أو آخرون.
« وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ » أي يبلغونه أقصى طاقتهم والضمير للصوم وقرء نافع وابن عامر « فدية طعام مساكين » بإضافة فدية إلى طعام وجمع المساكين وقرأ الباقون « فدية » منوّنة « وطعام » بالرفع وإضافته إلى « مسكين » مفردا وقرأ حمزة يتطوع والباقون تطوّع : إذا تقرّر هذا ففي الآية مسائل :
1 - قال ابن عباس وجماعة « الأيّام المعدودات » هنا ثلاثة أيّام من كلّ شهر ويوم عاشوراء ثمّ نسخ بشهر رمضان وعنه أيضا أنّها شهر رمضان وبه قال الأكثر لأنّه مهما أمكن صيانة الحكم عن النسخ فهو أولى فيكون قد أوجب الصوم أوّلا فأجمله ثمّ بيّنه بأيّام معدودات ثمّ بيّنه بشهر رمضان وعلى القول الأوّل لا يلزم
ص: 201
عدم جواز صيام ثلاثة أيّام من الشهر فانّ رفع الوجوب لا يستلزم رفع الجواز.
2 - قيل مطلق المرض مبيح للإفطار حتّى أنّ ابن سيرين أفطر فقيل له فاعتذر بوجع إصبعه وقال مالك وقد سئل : الرجل يصيبه الرّمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه فقال إنّه في سعة من الإفطار وقال الشافعيّ لا يفطر حتّى يجهد الجهد الغير المحتمل والأصحّ عندنا أنّه ما يخاف معه الزيادة أو عسر البرء وأمّا السفر فقد تقدّم حدّه وشرائطه وزاد أكثر أصحابنا شرطا زائدا على شرائط قصر الصلاة فقال الشيخ هو تبييت النيّة من اللّيل للسفر وقال المفيد هو الخروج قبل الزوال وهو الأقوى وقال فقهاء العامّة عدا أحمد متى تلبّس بالصوم أوّل النهار ثمّ سافر في أثنائه لم يجز له الإفطار وقال أحمد يجوز.
3 - قوله « فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ » جواب للشرط أي ففرضه عدّة من أيّام أخر وفيه دلالة على وجوب الإفطار على المريض والمسافر لما ذكرناه ومن قدّر في الآية « فأفطر فعدّة » فقد خالف الظاهر ثمّ إنّ أكثر الصحابة (1) أوجبوا الإفطار سفرا وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام وعن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « الصائم في السفر كالمفطر في الحضر » (2) وروي ذلك عن الصادق عليه السلام (3) وسمّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله جماعة لم
ص: 202
يفطروا عصاة فقال وقد قيل له عنهم : « أولئك العصاة أولئك العصاة » (1).
4 - قوله تعالى ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ) قيل كان القادر على الصوم مخيّرا بينه وبين الفدية بكلّ يوم نصف صاع وقيل مدّ « فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً » أي زاد على الفدية « فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ » ولكن صوم هذا القادر خير له ثمّ نسخ ذلك بقوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) وقيل إنّه غير منسوخ بل المراد بذلك الحامل المقرب والمرضع القليلة اللّبن والشيخ والشيخة فإنّه لمّا ذكر المرض المسقط للفرض وكان هناك أسباب أخر ليست بمرض عرفا لكن يشقّ معها الصوم ذكر حكمها فيكون تقديره وعلى الّذين يطيقونه ثمّ عرض لهم ما يمنع الطاقة
ص: 203
فدية وهذا روي عن الصادق عليه السلام (1) وهو أولى لأنّ التخصيص خير من النسخ ويؤيّد هذا القول ما قرئ شاذّا عن ابن عبّاس « يطوّقونه » أي يتكلّفونه وعلى قول من قال إنّ الآية بجملتها منسوخة لا منافاة لما قلناه لأنّ رفع الوجوب كما قلنا من قبل لا يستلزم رفع الجواز كما تقرّر في الأصول.
فإن قلت : فعلى هذا ما معنى قوله تعالى ( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) قلت جاز أن يكون كلاما مبتدءا لا تعلّق له بما قبله وتقديره إنّ صومكم خير عظيم لكم إن كنتم تعلمون فضائل الصوم وخواصّه الّتي تقدّم ذكرها فإنّكم إذا علمتم ذلك علمتم أنّه خير لكم بالنظر العقليّ وإن لم تعلموا ذلك كنتم عالمين به بالسّمع لا غير وذلك نقص بالنسبة إلى من جمع بين العلمين.
الثالثة ( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (2).
سمّى الشهر شهرا لاشتهاره أي ظهوره برؤية الهلال وهو هنا من باب إضافة العامّ إلى الخاصّ كيوم الجمعة من باب حركة نقلة وقيل إنّ شهر رمضان معا علم لهذا الشهر ك « ابن داية » (3) ولهذا قال بعض أصحابنا نقلا عن أئمّتهم عليهم السلام « لا تقولوا رمضان بل [ قولوا ] شهر رمضان فإنّكم لا تدرون ما رمضان » (4) وفيه نظر
ص: 204
لأنّ الأعلام لا تتصرّف فيها وقد جاء في الحديث « من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه » (1) فان كان ولا بدّ فيحمل النهي على الكراهية لمخالفته لفظ القرآن وسمّي رمضان قيل لأنّ التسمية وافقت أيّام رمض الحرّ وقيل لارتماضهم في حرّ الجوع والأحسن ما قاله ابن السكّيت إنّه مأخوذ من رمضته أرمضه وأرمضه ورامضته إذا جعلته بين حجرين أملسين ثمّ دقّقته وذلك لأنّ الصائم يجعل طبيعته بين حجري الجوع والعطش لتليين الحواسّ للنفس كي لا تعارضها في مقتضاها والأجود في رفعه أنّه خبر مبتدا محذوف تقديره هي شهر رمضان أي الأيّام المعدودات وعلى القول بنسخها يكون مبتدأ خبره « فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ » لأنّ فيه معنى الشرط أي إذا حضر فمن شهد منكم. وقيل خبره الّذي أنزل وقيل إنّه مرفوع بالبدل من الصيام في كتب عليكم وفيه نظر لأنّ الصّيام ليس هو الشهر. وإذا قلنا إنّ القرآن اسم جنس كالماء والتراب فمعنى إنزال القرآن فيه ظاهر لأنّ كلّ ما اتّفق نزوله فيه فهو قرآن وإن جعلناه علما فقيل لأنّه أنزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثمّ انزل نجوما إلى الأرض أو إنّه ابتداء إنزال فيه أو إنّه نزل في شأنه.
ص: 205
« هُدىً » حال من القرآن أي هاديا لِلنّاسِ « وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى » أي من جملة الهدى وذكر البيّنات بعد الهدى ذكر الأخصّ من الشي ء معه فانّ كلّ بيّنة هدى ولا ينعكس ( وَالْفُرْقانِ ) ما يفرّق بين الحقّ والباطل وهو عطف على الهدى « فَمَنْ شَهِدَ » أي حضر بلده من الشهود أي الحضور وهو عامّ مخصوص بمن حصل له شرطه : البلوغ والعقل والخلوّ من الحيض والنفاس وذلك لأدلّة منفصلة كقوله عليه السلام « رفع القلم عن ثلاثة » (1) وأدلّة اشتراط الطهارة في الصوم وغير ذلك.
والشهر منصوب على الظرف وكذا الهاء في يصمه وقيل مفعول لشهد أخذا من المشاهدة أي المعاينة وفيه نظر فإنّ المسافر والمريض يشاهدان ولا يصومان وأجيب بأنّهما خصّا بالذكر نعم يرد الحائض وشبهها ويجاب [ عنه ] بأنّه عام خصّ بمنفصل كما تقدّم. واللّام في الشهر للعهد والمعهود نوع الشهر لا شخصه وتكرار ذكر المرض والسفر دليل على تأكيد الأمر بالإفطار وأنّه عزيمة فرض (2) لا يجوز
ص: 206
تركه ويؤيّده مع ما تقدّم قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ليس من البرّ الصيام في السفر » (1) وهو مذهب أصحابنا الإماميّة وقال الباقون إنّه رخصة واختلفوا فقيل الصوم أفضل وقيل الفطر أفضل واختلف في القضاء هل هو متتابع أم لا قال بعضهم بتتابعه ويروى عن عليّ عليه السلام والشعبيّ وعن ابن عمر يقضى كما فات متتابعا وقرأ أبيّ « أخر متتابعات » والأكثر على التخيير بين التفريق والمتابعة وهو الأصحّ لعدم
ص: 207
دلالة اللّفظ عليه والقراءة المذكورة شاذّة وهذا الحكم وهو وجوب القضاء مخصوص عند أكثر أصحابنا بمن لم يستمرّ مرضه إلى رمضان آخر أمّا من استمرّ فإنّه يسقط عنه القضاء ويكفّر عن الأوّل عن كلّ يوم بمدّ كما دلّت عليه الروايات.
قوله « يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ » إلى آخره جواب سؤال تقديره إنّ المريض والمسافر حيث سقط عنهما الفرض فلم يقضيان؟ أجاب بأنّه أراد بكم اليسر في البدن فأمركم بالفطر وأراد بكم القيام بالصوم لتفوزوا بالثواب فأوجب عليكم القضاء ولمّا
ص: 208
كان امتثال الأمر فرعا على تكبير الآمر وتعظيمه وأراد منكم امتثال أمره استلزم ذلك إرادة تعظيمه ولمّا كان من هذا وصفه منعما وجب شكره فأراد لكم الفوز بهذه الفضيلة فأمركم بشكره فلذلك عطف بعضها على بعض. وفي الآية إيماء إلى أنّ التكاليف تقع شكرا لله على نعمه كما هو مذهب بعض المتكلّمين.
ص: 209
تتمة : قال بعضهم معنى « وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ » أنّ شهر رمضان لا ينقص أبدا وهو باطل فانّ الواقع خلافه بل ولتكملوا عدّة الشهر تامّا كان أو ناقصا.
الرّابعة ( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) (1)
هذه الآية ليس لها تعلّق بالصّوم وإنّما ذكرناها لما تضمّنت من ذكر الدعاء
ص: 210
وإجابته وجاء في الحديث « دعوة الصائم لا تردّ » (1) فصار [ ت ] من وظائف الصائم [ الدعاء ] بل من أعظم وظائفه خصوصا في شهر رمضان فإنّه ورد فيه من الأدعية والأعمال شي ء كثير ذكره أصحابنا في كتب تختصّ به روي أنّ سائلا سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت الآية (2).
وقيل إنّ يهود المدينة قالوا : يا محمّد كيف يسمع ربّنا دعاءنا وأنت تزعم أنّ بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام وأنّ غلظ كلّ سماء مثل ذلك فنزلت وقيل وجه ذكر هاهنا أنّه لمّا أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدّة وحثّهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقّبه بهذه الآية الدالّة على أنّه خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم فقال إنّي قريب وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم كحال من قرب مكانه منهم.
والتحقيق أنّه لمّا ثبت تجرّده عن الموادّ الجسمانيّة كانت نسبته إلى الموجودات نسبة واحدة فكان محيطا بكلّ ذرّة من ذرّات الموجودات علما.
وقد اختلف المفسّرون في هذا المقام فقيل : الدعاء هو الطاعة والإجابة هو الثواب وكذا في قوله ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (3) وقيل الإجابة هي المتعارفة فورد هنا سؤال وهو أنّه كثيرا ما يقع الدعاء ولم تحصل الإجابة فقيل في الجواب أنّ تقديره إن شئت فيكون الإجابة مخصوصة بالمشيّة مثل قوله ( فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ
ص: 211
إِلَيْهِ إِنْ شاءَ ) (1) وقيل مشروطة بكونها خيرا وقيل أراد بالإجابة لازمها وهو السماع فإنّه من لوازم الإجابة فإنّه يجيب دعوة المؤمن في الحال ويؤخّر إعطاءه ليدعوه كثيرا ويسمع صوته فإنّه يحبّه وقيل إنّ للإجابة أسبابا وشرائط إن حصلت حصلت الإجابة وإلّا فلا ومعنى « فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي » أي إنّي أدعوهم إلى طاعتي فليطيعوني ( وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) وبرسولي « لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ » أي لكي يهتدوا بإصابة الحقّ.
الخامسة ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (2).
قرئ شاذّا أحلّ على البناء للفاعل ونصب الرفث والقراءة الصحيحة أحلّ على البناء للمفعول ورفع الرفث فقيل هو الفحش من القول عند الجماع والأصحّ أنّه الجماع لقوله تعالى ( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ) (3) وهو المراد هنا وعدّاه بإلى لأنّه ضمّنه معنى الإفضاء وتسمية كلّ من الزوجين لباسا استعارة لما بينهما من الشبه فإنّ اللباس ما يواري البدن والعورة وكلّ من الزوجين يواري بدنه وعورته بصاحبه عند غيره فإنّه لولاه لانكشف عورته عند غيره.
وقال الزمخشريّ : لأنّ كلّ واحد يشتمل على صاحبه اشتمال اللّباس وفيه
ص: 212
نظر لأنّ الاشتمال فيه ممنوع والالتزاق لا يكفي فيه. وإنّما لم يعطفه لأنّه علّة للحكم وعلّة الشي ء لا تعطف عليه. والفرق بين خان واختان أنّ اختان يدلّ على الفعل مع القصد إليه بخلاف خان مثل كسب واكتسب ومعنى اختيان النفس هو نقصها من حظّها من الخير وباقي الألفاظ ظاهرة وهنا فوائد :
1 - كان في مبدء الإسلام يباح للصائم الأكل والجماع ليلا ما لم ينم فإذا نام حرم ذلك إلى القابلة وقيل الجماع كان محرّما ليلا ونهارا وروي عن الصادق عليه السلام « أنّ رجلا من أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وآله يقال له مطعم بن جبير وكان شيخا ضعيفا وكان صائما فأبطأت امرأته عليه بالطعام فنام قبل أن يفطر فلمّا انتبه قال لأهله : قد حرم عليّ الأكل في هذه اللّيلة فلمّا أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فرق له (1). وروي أنّ القصّة مع قيس بن صرمة كان يعمل في أرض له وهو صائم فلمّا أصبح لاقى جهدا فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2). وكان شبّان من المسلمين ينكحون ليلا لغلبة شهوتهم وروي أنّ عمر أراد أن يواقع امرأته ليلا فقالت إنّي نمت فظنّ أنّها تعتلّ عليه فلم يقبل ثمّ أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فنزلت الآية » (3).
2 - الحلّ هنا مقابل التحريم وليس للوجوب إجماعا وقيل للندب ولذلك
ص: 213
روي (1) عن الباقر والصادق عليهما السلام كراهية الجماع أوّل ليلة من كلّ شهر واستحبابه أوّل ليلة من شهر رمضان لتنكسر شهوة الجماع نهارا. والظاهر أنّه لمطلق الحلّ الشامل للندب وغيره والمراد بليلة الصيام كلّ ليلة يصبح فيها صائما.
ثمّ اعلم أنّ ظاهر اللّفظ يدلّ على إباحة الجماع في أيّ وقت [ كان ] من اللّيل ولو قبل الفجر لكن لمّا اشترط أصحابنا الطهارة في الصوم من الجنابة وجب بقاء جزء من اللّيل ليقع فيه الغسل فكانت الإباحة مخصوصة بما عداه فلو خالف عالما فسد صومه وكان عليه القضاء والكفّارة ولو لم يعلم وظنّ بقاء الوقت من غير مراعاة فاتّفق خلافه كان عليه القضاء خاصّة ولو راعى لم يكن عليه شي ء وعلى التقديرين الأخيرين لو طلع عليه الفجر مجامعا وجب عليه النزع وصحّ صومه في الأخير خاصّة.
وقال الشافعيّ : إذا وافاه الفجر مجامعا فوقع النزع والطلوع معا لم يفسد صومه ولا قضاء ولا كفّارة وبه قال أبو حنيفة وقال المزنيّ : يفسد وعليه القضاء خاصّة وأمّا إذا وافاه مجامعا فلم ينزع وتمكّث فيه فهو بمنزلة من وافاه [ النهار ] فابتدأ بالإيلاج فإن كان جاهلا بالفجر فعليه القضاء خاصّة وإن كان عالما به فعليه لقضاء والكفّارة وقال أبو حنيفة بلا كفّارة وعلّله أصحابه بأنّه ما انعقد فالجماع لم يفسد صوما منعقدا فلا كفّارة ونحن نقول إنّه انعقد بالنيّة المتقدّمة فكان جماعه واردا على صوم منعقد وهو المطلوب.
3 - « عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ ». بيان لنعمته وإحسانه ورفعه الحرج في المستقبل.
4 - « فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ » قيل المراد بها الجماع وقيل هو ومقدّماته من القبلة وغيرها وأصل المباشرة إلصاق البشرة بالبشرة ثمّ كنى به عن الجماع تارة وعنه وعن مقدّماته تارة وهو نسخ للسنّة بالكتاب ونسخ الشي ء بما هو أسهل منه.
5 - قوله تعالى ( وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ) قيل اطلبوا الولد فإنّه الغرض
ص: 214
الأهمّ في نظر الشارع وقيل ابتغوا ما أحلّ اللّه لكم لا ما حرّم وهما محتملان.
6 - « وَكُلُوا وَاشْرَبُوا » إلخ هذا من باب ما خصّ بمتّصل وهو هنا الغاية أعني « حَتّى يَتَبَيَّنَ » وهل هي راجعة إلى جميع الجمل المتقدّمة أو إلى الأخيرة قال الشافعيّ بالأوّل وأبو حنيفة والمحقّقون منّا بالثاني وقال المرتضى صالحة للكلّ وللبعض ويتفرّع إباحة الجماع إلى الفجر فالغسل بعده على قول الشافعيّ فالطهارة غير شرط. قالوا ويدلّ أيضا على جواز النيّة نهارا لأنّه لمّا أباح المباشرة والأكل إلى الفجر كان ابتداء الصوم بعده والصوم ليس بمجرّد الإمساك بل مع النيّة فيكون الأمر بإيقاع النيّة بعد الفجر وفيه نظر لأنّه لو كان كذلك لوجبت بعد الفجر وليس كذلك إجماعا على أنّ نيّة الصوم معناها القصد إليه وقصد الشي ء متقدّم عليه وابتداؤه من الفجر فالنيّة قبله ، هذا مع أنّه يلزم وقوع جزء فيه بلا نيّة وهو باطل وعلى قولنا يرجع إلى « كُلُوا وَاشْرَبُوا » ويبقى حكم المباشرة يخصّ بمنفصل.
7 - الخيط الأبيض هو الفجر الثاني المعترض في الأفق كالخيط الممدود والخيط الأسود ما يمتدّ معه من الغبش تشبيها بخيطين أبيض وأسود وليسا بمستعارين لقوله « مِنَ الْفَجْرِ » لأنّ من شرط الاستعارة أن يجعل المستعار منه نسيا منسيّا. روى سهل الساعدي أنّها نزلت ولم يكن قوله « مِنَ الْفَجْرِ » فكان رجال إذا صاموا يشدّون في أرجلهم خيوطا بيضا وسودا فلم يزالوا يأكلون ويشربون حتّى يتبيّن لهم ثمّ نزل لهم البيان في قوله « مِنَ الْفَجْرِ » (1) فان صحّ هذا النقل ففيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب وهو مذهب الأشاعرة ومنعه أبو الحسين محتجّا بأنّ الخطاب بما لا يفهم منه المراد عبث وهو قبيح لا يصدر عن الحكيم وفيه نظر لجواز أن يكون المراد بالخطاب هو استعداد الامتثال والعزم على فعل المأمور به بعد البيان فيثاب على العزم فلا يكون عبثا لكن ينبغي أن يكون هذا قبل دخول
ص: 215
رمضان وإلّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو باطل إجماعا.
8 - قوله تعالى ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) حدّ للصوم وبيان لآخر وقته ليعلم منه تحريم صوم اللّيل ويتبعه تحريم صوم الوصال لأنّه جعل اللّيل غاية الصوم وغاية الشي ء منفصلة فيكون الإفطار بعده وفيه نظر لأنّه غاية وجوب الصوم وأمّا أنّه لا يجوز فلا دلالة في الآية عليه.
إن قلت : لا يتحقّق مضيّ النهار حتّى يبدو اللّيل فيلزم صوم جزء منه. قلت : ذلك ليس بالأصل بل من باب مقدّمة الواجب والمراد باللّيل عندنا على القول الأقوى هو ذهاب الحمرة المشرقيّة وقال بعض أصحابنا وجملة فقهاء العامّة هو غيبوبة الشمس. ثمّ إنّ الأمر بإتمام الصوم يستلزم كون كلّ جزء من أجزاء النهار شرطا في الآخر فيجب الإتيان بجملتها.
ويتفرّع على ذلك فرعان :
ألف - لو نوى الإفطار في جزء من النهار بطل ذلك الصوم ولو عاد إلى النيّة.
ب - أنّه يجب إتمام الصوم الفاسد للأمر المذكور والإفساد غير مانع ثمّ إنّ الإفساد سبب لصوم آخر فيجب القضاء.
9 - « وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ » تقدّم معنى المباشرة فيحرم الجماع ومقدّماته على المعتكف وههنا أحكام :
ألف - تحريم المباشرة والقبلة وغيرها من مقدّمات الجماع.
ب - عموم اللّيل والنهار بالتحريم المذكور لأنّه معلّق بحال الاعتكاف.
ج - اشتراط الاعتكاف بالكون في المساجد وظاهر المساجد العموم لأنّه جمع معرّف باللّام وبه قال جملة الفقهاء وبعض أصحابنا ومنّا من قال كلّ مسجد جامع وفسّر بأنّه الأعظم وأكثر أصحابنا قالوا ما جمع فيه نبيّ أو وصيّ للمسلمين جمعة وقيل أو جماعة وهذا القول أحوط لحصول البراءة معه بيقين وفسّر ذلك بمسجد مكّة والمدينة وجامع الكوفة والبصرة فعلى هذا يكون الآية مخصوصة بخبر الواحد إن لم يكن الأخبار به متواترة.
ص: 216
د - أنّ الاعتكاف يبطل مع المباشرة المذكورة أمّا أوّلا فلأنّ النهي في العبادة مبطل كما تقرّر في الأصول وأمّا ثانيا فلأنّها تبطل الصوم والصوم عندنا شرط في الاعتكاف وبطلان الشرط مستلزم لبطلان المشروط وهنا مسئلتان :
ألف - أنّ الشافعي لا يشترط الصوم وأبو حنيفة يشترطه كقولنا.
ب - لم يحدّ الشافعيّ للاعتكاف حدّا فعنده يجوز وأو ساعة واحدة وأبو حنيفة حدّه بيوم [ واحد ] ومالك لا يجوّز أقلّ من عشرة أيّام وقال أصحابنا : لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام لرواياتهم الصحيحة عن أئمّتهم عليهم السلام (1).
10 - « تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ » إشارة إلى ما تقدّم من أحكام الصوم والاعتكاف « فَلا تَقْرَبُوها » وهو أبلغ من قوله فلا تفعلوها إذ النهي عن قرب الحدّ الحاجز بين الحقّ والباطل لئلّا يداني الباطل أبلغ من النهي عن فعله و « روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ألا وإنّ حمى اللّه محارمه فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه » (2).
« كَذلِكَ » أي مثل ذلك البيان « يُبَيِّنُ اللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ » مخالفة الأوامر والنواهي.
1 - قوله تعالى ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (3) قيل : المراد بالصبر الصوم ومنه سمّي شهر رمضان شهر الصبر أي استعينوا بهما على أهوال الدنيا والآخرة ثمّ إنّ الصوم له أقسام يدلّ عليها آيات تذكر في أماكنها إنشاء اللّه تعالى.
2 - قوله تعالى ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ ) (4) سأله صلى اللّه عليه وآله معاذ بن جبل ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط ثمّ يزيد حتّى يستوي ثمّ
ص: 217
لا يزال ينقص حتّى يعود كما بدأ فنزلت (1) « هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ » أي يوقّتون الناس بها أمورهم ، ومعالم للعبادات الموقّتة كالصّيام والزكاة خصوصا الحجّ فانّ الوقت مراعى فيه أداء وقضاء وكون المبتدأ والخبر معرفتين من دلائل الحصر فلا يحصل التأقيت بدون الأهلّة فيكون علامة شهر رمضان رؤية الهلال لا غيره ممّا قيل [ من حساب التنجيم وغيره ].
وفيه مقدّمة وآيات :
فالزكاة لغة تقال لمعنيين أحدهما الطهارة ومنه ( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ) (2). أي طاهرة لم تجن ما يوجب قتلها وثانيهما النماء ومنه قوله تعالى ( ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) (3) أي أنمى لكم وإلّا لكان تأكيدا والتأسيس خير منه وشرعا قيل اسم لحقّ يجب في المال يعتبر في وجوبه النصاب ونقض في طرده بالخمس وفي عكسه بالمندوبة فبدّل يجب بيثبت فقيل حقّ يثبت في المال بشرائط يأتي ذكرها ويشكل بأنّه غير واضح والحدّ للإيضاح.
وقيل : صدقه راجحة مقدّرة بأصل الشرع ابتداء فالصدقة يخرج الخمس والراجحة يشمل المندوبة والمقدّرة يخرج بها برّ الاخوان ونحوه وبالأصالة تخرج المنذورة وشبهها والابتداء يخرج الكفّارة وفيه نظر أمّا أوّلا فلاشتماله على زيادة فإنّ الراجحة يغني عنها صدقة فإنّها لا تكون إلّا راجحة وأمّا ثانيا فلانّ من المندوبة ما هو مقدّر كقوله صلى اللّه عليه وآله « تصدّقوا ولو بصاع أو بعضه ولو بقبضة أو بعضها ولو بتمرة
ص: 218
ولو بشقّ تمرة » (1) وذلك ليس بزكاة اصطلاحا.
فالأولى أن يقال : صدقة متعلّقة بنصاب بالأصالة. فالصدقة تشمل الواجبة والمندوبة والفطرة والماليّة وبالتعلّق بالنصاب يخرج المنذور والتطوّعات المطلقة وبالأصالة يخرج ما نذر إخراجه من نصاب واستعمال لفظها إمّا للنقل أو للمجاز تسمية للسبب باسم المسبّب فإنّها سبب للطهارة والنماء في المال.
إن قلت : الطهارة من أيّ شي ء وكذا النماء في أيّ شي ء؟ قلت : أمّا الطهارة فمن إثم المنع أو نقول إذا لم يخرج الزكاة يبقى حقّ الفقراء في المال فإذا حمله شحّه على منعه فقد ارتكب التصرّف في الحرام والاتّصاف برذيلة البخل فإذا أخرجها فقد طهّر ما له من الحرام ونفسه من رذيلة البخل وأمّا النماء ففي البركة والثواب.
ثمّ البحث هنا ينقسم أقساما بحسب ما ورد من الآيات.
وفيه آيات :
الاولى ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (2).
ص: 219
قرأ حمزة وحفص عن عاصم « لَيْسَ الْبِرَّ » بالنصب على أنّه خبر ليس مقدّم على اسمها وهو ضعيف لجعل الاسم جملة وقرء الباقون بالرفع على الأصل وقرء نافع « وَلكِنَّ الْبِرَّ » بالتخفيف والرفع بجعلها عاطفة والباقون بالتشديد والنصب بجعلها من أخوات إنّ ورفع « الموفون » عطف على « من آمن » ونصب « الصابرين » على المدح.
والبرّ كلّ فعل مرضيّ قلبيّا كان أو لسانيّا أو جوارحيّا أو ماليّا والخطاب لأهل الكتاب فإنّهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّلت وادّعى كلّ فريق أنّ البرّ التوجّه إلى قبلته فردّ عليهم بأنّه ليس البرّ التوجّه إلى المشرق قبلة النصارى أو المغرب قبلة اليهود وقيل هو عامّ للمسلمين وغيرهم أي ليس البرّ مقصورا على أمر القبلة.
« وَلكِنَّ الْبِرَّ » إمّا بمعنى البارّ فإنّ المصدر يقام مقام الفاعل كزيد عدل أي عادل أو بحذف المضاف من الخبر أي برّ من آمن فاللّام في الكتاب للجنس أي كلّ كتبه وباقي مقاصد الآية ظاهر لكن نذكر ما تضمّنته من الأوامر وهي أقسام :
الأوّل : الايمان باللّه وبكلّ ما جاءت به كتبه وصحّة نبوّة أنبيائه وتصديقهم في كلّ ما أخبروا به.
الثاني : إخراج المال على حبّة أي حبّ اللّه وقيل حبّ الإيتاء أو حبّ المال والكلّ محتمل والأوّل أوجه لتضمّنه الكلّ ولدلالته على القربة والإخلاص والجهات المذكورة سيأتي تفسير أكثرها وأمّا ذوي القرابة (1) فقيل قرابة المعطي فيكون حثّا على صلة الأرحام ويدخل في ذلك النفقات الواجبة والمندوبة وغيرهما من الصلات وقيل قرابة النبيّ صلى اللّه عليه وآله لقوله تعالى ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (2) وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام (3) واليتيم صغير لا أب له والجمع يتامى و
ص: 220
أيتام وأبرزهم بالذكر وإن كانوا داخلين في القربى لشدّة الاعتناء بحالهم.
الثالث إقامة الصلاة الرابع إيتاء الزكاة واتّفق الكلّ [ على ] أنّ المراد بها الواجبة هنا وأمّا الإيتاء الأوّل فيشمل الواجب وغيره ولهذا قال ابن عباس في المال حقوق واجبة سوى الزكاة وقال الشعبيّ هي محمولة على حقوق واجبة غير الزكاة ممّا له سبب كالنفقة على من يجب نفقته وعلى الجائع المشرف بسدّ رمقه والنذور والكفّارات ويحتمل أن يكون المراد الزكاة المفروضة في الموضعين لكن الغرض من الأوّل بيان مصرفها ومن الثاني أداؤها والحثّ عليها وهذا عندي قويّ ليكون الآية مشتملة على الواجبات ولأنّه وقع بين الإيمان الواجب وإقامة الصلاة وهي واجبة أيضا.
الخامس : الوفاء بالعهد ويدخل فيه النذر وكلّما التزمه المكلّف من الأعمال مع اللّه تعالى ومع غيره وهو واجب أيضا.
السادس : الصبر وهو حبس النفس على المكروه امتثالا لأمر اللّه تعالى وهو من أفضل الأعمال حتّى قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « الايمان شطران شطر صبر وشطر شكر » (1) والبأساء ما يتعلّق بالمال كالفقر وغيره والضرّاء ما يتعلّق بالبدن كالمرض والعمى والزمانة وغيرها وحين البأس هو الحرب في الجهاد « أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا » أي في دعوى الإيمان « وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ » أي هم الجامعون لوظائف التقوى.
الثانية ( وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) (2).
هذه الآية الشريفة صريحة في وجوب الزكاة على الكافر للتوعّد على عدم إتيانها لكنّه لا يصحّ منه أداؤها حال كفره لعدم إخلاصه ولقوله تعالى ( وَما مَنَعَهُمْ
ص: 221
أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ ) (1) فإذا أسلم سقطت عنه لقوله صلى اللّه عليه وآله « الإسلام يجب ما قبله » (2) ولو تلفت حال كفره لم يضمنها.
قال المعاصر : ويمكن الاستدلال بها على أنّ مانع الزكاة مستحلّا مشرك وهو حقّ لأنّ من لا يعتقد وجوبها كافر قلت : في هذا الكلام خطأ لفظا ومعنى أمّا لفظا فقوله مشرك فانّ المشرك من يجعل مع اللّه شريكا ومعلوم أنّ ذلك غير لازم من منع الزكاة فلو قال كافر لكان أولى وأمّا معنى فلأنّ منطوقها أنّ المشرك لا يؤتى الزكاة ولا يلزم منه أنّ الّذي لا يؤتى الزكاة يكون مشركا لأنّ الموجبة الكلّيّة لا تنعكس كنفسها ولو انعكس جزئيّا فلا دلالة له على المطلوب بنفسه بل بدليل خارج وذلك كاف في المطلوب فلا يكون الآية هي الدالّة بل غيرها.
الثالثة ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) (3).
اعلم أنّ الآيات العامّة في وجوب الزكاة في المال خصّت بقول الرسول صلى اللّه عليه وآله وتقريره [ يأتي ] واتّفق أصحابنا أنّ الزكاة تجب في تسعة أشياء لا غير هي : الإبل والبقر ، والغنم ، والذهب ، والفضّة ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب لروايات كثيرة من أهل البيت عليهم السلام منها رواية زرارة ومحمّد بن مسلم وغيرهما عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّهما قالا « أنزل اللّه الزكاة في كتابه فوضعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في تسعة وعفى عمّا عدا ذلك » (4) وأيضا أصالة البراءة وعموم قوله تعالى
ص: 222
( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) (1) يعمّان كلّ مال ، خرج من ذلك ما وقع الإجماع عليه فيبقى الباقي على أصله.
إن قلت : قوله تعالى ( وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (2) والزرع يعمّ كلّ ما أنبتت الأرض والضمير في حقّه وحصاده يرجع إلى الجميع فيكون واجبا فيه وهو المطلوب. قلت : الجواب من وجهين الأوّل أنّها مكّيّة وآية وجوب الزكاة مدنيّة فهي ناسخة للمكّيّة والمنسوخ لا دلالة فيه الثاني سلّمنا عدم نسخها لكن نمنع أنّ المراد بالحقّ (3) الزكاة أعني العشر ونصفه لجواز أن يراد ما يتصدّق به يوم الحصاد على المارّة وغيرهم من السؤال من إعطاء الضّغث والضغثين وهذا مرويّ عن أئمّتنا عليهم السلام (4) ويؤيّده قوله تعالى ( وَلا تُسْرِفُوا ) وهو قول الشافعيّ أيضا.
فأيده : أوجب الشافعيّ الزكاة في كلّ ما أنبته الآدميّون (5) وكان مقتاتا حال ادّخاره بخلاف ما ينبت من نفسه كبزر قطونا أو أنبته الآدميّون ولا يقتات كالبطّيخ والقثّاء والخيار وغيرها من الخضراوات والبقول أو يقتات ولا ينبته الآدميّون كالبلّوط فانّ ذلك كلّه لا زكاة فيه وبه قال مالك وقال أبو حنيفة تجب في كلّ خارج قصد إنباته مقتاتا كان أو لا فيجب عنده في الخضراوات.
إذا تقرّر هذا فلنشرع في الآية فنقول : الآية صريحة في وجوب الزكاة في الذّهب والفضّة لكن بشرط كونهما مسكوكين بسكّة قد تعومل بها قديما أو حديثا وأن يكونا باقيين طول الحول أمّا ما تعومل به أو دير في البيع والشراء فلا
ص: 223
تجب لأصالة البراءة وأيضا روى زرارة في الصحيح قال كنت قاعدا عند الباقر عليه السلام وليس عنده غير ابنه جعفر عليه السلام فقال « يا زرارة إنّ أبا ذرّ وعثمان تنازعا في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال عثمان : كلّ مال من ذهب أو فضّة يدار ويعمل به ويتّجر به ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول وقال أبو ذرّ أمّا ما اتّجر به أو دير وعمل به فليس فيه زكاة إنّما الزكاة فيه إذا كان ركازا كنزا موضوعا فإذا حال عليه الحول فعليه الزكاة فاختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : القول ما قال أبو ذرّ » (1) وغير ذلك من الروايات.
واتّفق فقهاء العامّة على وجوب الزكاة فيهما مطلقا مسكوكا وغيره صحيحا ومكسورا تبرا ونقرة واختلفوا في جمع النصاب من النقدين فقال مالك وأبو حنيفة بالضمّ وخالف الشافعيّ وأحمد كما هو رأي أصحابنا ثمّ الأوّلون اختلفوا فقال مالك : الضمّ بالأجزاء وقال أبو حنيفة بالقيمة واتّفق العلماء كافّة على اشتراط الحول وأنّ النصاب الأوّل في الذهب عشرون مثقالا وفي الفضّة مائتا درهم ثمّ اتّفق العامّة على الوجوب في الزائد مطلقا إلّا أبا حنيفة فإنّه يقول بقولنا إنّه لا يجب حتّى يبلغ أربعة دنانير في الذهب وأربعين في الفضّة.
فائدة : أوجب أبو حنيفة لا غير الزكاة في الحليّ المباح واتّفقوا على وجوبها في الحرام وهنا فوائد :
1 - أنّ الكنز هو جمع المال تحت الأرض أو فوقها حفظا له وإنّما لم يقل ولا ينفقونهما إمّا لعود الضّمير إلى الكنوز وإن لم تكن مذكورة أو أنّه عائد إلى الفضّة والتقدير يكنزون الذهب ولا ينفقونه ويكنزون الفضّة ولا ينفقونها فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك *** راض والرأي مختلف (2)
2 - اعلم أنّ من يجمع المال للإنفاق على العيال أو بعد إخراج الحقوق
ص: 224
الماليّة خارج عن هذا الوعيد لأنه تعالى قيّد الكنز بعدم الإنفاق وإذا عدم القيد عدم الحكم ولما روي عنه عليه السلام أنه قال « ما أدّى زكوته فليس بكنز وإن كان باطنا وما بلغ أن يزكّى فلم يزكّ فهو كنز وإن كان ظاهرا » (1) وعن ابن عمر :كلّما أدّيت زكوته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين. وأمّا ما ورد عنه صلى اللّه عليه وآله أنه « لمّا نزلت قال تبّا للذهب والفضّة قالها ثلاثا فقالوا أيّ مال يتّخذ فقال لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا وزوجة تعين أحدكم على دينه » (2) وقال أيضا « من ترك صفراء وبيضاء كوي بهما » (3) فمحمول على مال لم يؤدّ حقّه أو على من ليس له أولاد ولا ورثة محتاجون وأمّا من له ورثة محتاجون فيجوز التبقية لهم جمعا بين قوله هذا وبين قوله لمن أوصى بماله في سبيل اللّه فنهاه [ عنه ] عليه السلام « فقال : النصف؟ فقال لا فقال الثلث؟ فقال عليه السلام : الثلث والثلث كثير ثمّ قال لأن تتركه لعيالك خير لك » (4).
3 - « يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها » منصوب على الظرف بعامل محذوف أي بعذاب أليم كائن يوم يحمى عليها وفائدة ذكر « عليها » المبالغة في الأحماء فانّ الجسم إذا سلّطت عليه النار حتّى تعمل فيه كان أشدّ حرارة من مروره بها.
4 - قيل إنّما خصّ هذه الأعضاء بالكيّ لأنّ أصحاب الكنوز إذا سألهم الفقير تعبّسوا في وجهه وأمالوها عنه فعبّر عنها بالجباه وإذا دار الفقير أعطوه جنوبهم فإذا دار أعطوه ظهورهم وقيل : لا زورار وجوههم عند الطلب وجعلهم الفقير وراء ظهورهم وأخذهم عن المعروف جانبا وقيل : لأنّها أشرف الأعضاء لاشتمالها على
ص: 225
الأعضاء الرئيسة الّتي هي الدماغ والقلب والكبد.
الرابعة ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (1).
حقّ معلوم أي يقدّرونه في أموالهم ويلزمون أنفسهم بإخراجه وليس المراد به ما أوجبه الشارع وإلّا لقال يؤدّون ما أوجبنا عليهم أو ندبنا إليه. والسائل المستجدي والمحروم الّذي يظنّ غنيّا لتعفّفه فيحرم وقيل : لا ينمي له مال. وقيل : الّذي لا كسب له.
إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ بعضهم على وجوب زكاة التجارة بهذه الآية وليس بشي ء لعدم دلالتها على محلّ النزاع لا نصّا ولا ظاهرا بل إنّما خرجت مخرج المدح لهم في سياق مدحهم بالقيام للعبادة ليلا والاستغفار الّذي هو من المندوبات الّتي ألزموا أنفسهم بها وتسمية ما التزموا إخراجه حقّا لا تدلّ على وجوبه لأنّ الحقّ قد يطلق على الوظيفة المقدّرة وإن لم تكن واجبة على أنّا لو سلّمنا أنّه يدلّ على الوجوب لكان دلالته على الزكاة العينيّة أولى.
وفيه آيات :
الاولى ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2).
روي أنّ جماعة تخلّفوا عن تبوك ولم يخرجوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله منهم أبو لبابة وهم الّذين شدّوا أنفسهم بالسّواري توبة وندما على فعلهم وكان سبب
ص: 226
تأخّرهم اشتغالهم بإصلاح أموالهم فلمّا قدم النبيّ صلى اللّه عليه وآله من تبوك دخل المسجد فصلّى ركعتين وكان ذلك دأبه إذا رجع من سفره فرأى الموثّقين بالسواري فسأل عنهم فقيل له إنّهم حلفوا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يحلّهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : إنّي لا أحلّهم حتّى أومر به فلمّا نزلت الآية وهي ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ) (1) إلى آخرها أطلقهم وعذرهم (2).
ثمّ إنّه لمّا حلّهم قالوا يا رسول اللّه هذه أموالنا الّتي تخلّفنا لإصلاحها خذها وتصدّق بها وطهّرتا من الذنوب فقال صلى اللّه عليه وآله : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت فأخذ منهم الزكاة المقرّرة شرعا وعلى ذلك إجماع الأمّة.
ص: 227
و « من » للتبعيض أي بعض أموالهم و « تُطَهِّرُهُمْ » صفة للصدقة أي صدقة مطهّرة ويجوز كون التاء للخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أي تطهّرهم أنت « وَتُزَكِّيهِمْ » أي تنمي في أموالهم وقيل بمعنى تطهّرهم ليكون تأكيدا وقد عرفت أنّ التأسيس أولى وإنّما لم يجزم الفعلين ليكون جوابا للأمر لأنّ في جعلهما صفتين فائدة زائدة وهي أنّ المأمور به أخذ صدقة مطهّرة وهي الّتي تكون عن طيب نفس وانشراح صدر بنيّة خالصة لا مطلق الصدقة ومع الجزم لا يفيد إلّا مطلق الصدقة فعلى هذا لا يكون التاء للخطاب. والسكن ما يسكن إليه والمراد أنّهم تسكن نفوسهم بصلاته عليهم وتطيب قلوبهم بقبول صدقتهم « وَاللّهُ سَمِيعٌ » لدعائك لهم « عَلِيمٌ » بنيّاتهم فإنّها صدرت عن إخلاصهم من غير رياء ولا سمعة إذا عرفت هذا فهنا أحكام :
1 - أنّها تدلّ على اشتراط الملك للنصاب بقوله « أموالهم » والإضافة حقيقيّة للام الملك.
2 - فيها دلالة على وجوب أخذ الإمام الصدقة لصيغة الأمر وهل يجب حملها إليه ابتداء قيل نعم لأنّ الإيجاب عليه يستلزم الإيجاب عليهم والمشهور أنّه يجوز تولّي المالك إخراجها لكن حملها ابتداء مستحبّ لكونه أبصر بمواقعها ومع طلب الإمام يجب حملها إليه ولو فرّق حينئذ فالأقوى عدم إجزائها وقال الشافعيّ يجوز إخراج زكاة الأموال الباطنة قولا واحدا وأمّا الظاهرة فله قولان قال في الجديد يجوز أيضا وقال في القديم لا يجوز وبه قال مالك وأبو حنيفة.
3 - هل الصلاة منه صلى اللّه عليه وآله على المالك واجبة أو مستحبّة قال أكثر أصحابنا بالأوّل لقوله تعالى ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) وصيغة افعل للوجوب هذا مع عطفه على الواجب وتعليله بلفظه إنّ في لطفيّته للمكلّف واللّطف واجب فالموصل إليه كذلك وقال الآخرون بالثاني وهو قول عامّة الفقهاء للأصل ويضعّف بقيام الدليل على وجوبه.
4 - إذا قلنا بالوجوب على النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو الاستحباب فهو كذلك على
ص: 228
الإمام القائم مقامه بل والساعي والفقيه أيضا لوجوب التأسّي به ولحصول معنى اللطفيّة في الجميع.
5 - دلّت الآية الكريمة دلالة صريحة على لفظ الصلاة وفعله النبيّ صلى اللّه عليه وآله في حقّ أبي أوفى لمّا أتاه بصدقته « فقال اللّهمّ صلّ على أبي أوفى وعلى آل أبي أوفى » (1) كما نقل العامّة في الصحيحين فيكون جائزا نعم يجوز الدعاء بلفظ آخر غير الصلاة للترادف ولعدم القائل بالمنع ومنع أكثر العامّة من لفظ الصلاة بل يقول آجرك اللّه فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت ونحوه.
6 - قد تقرّر في أصول الفقه أنّ خصوص السبب لا يخصّص وقد نقلنا إنّ الآية نزلت في شأن من تخلّف عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله فلا يظنّ ظانّ قصرها عليهم بل هي على العموم في كلّ متصدّق وهو المطلوب.
7 - في قوله « مِنْ أَمْوالِهِمْ » دلالة على أنّ الزكاة في العين لا في الذمّة كما قال بعض الفقهاء من العامّة ويتفرّع أنّه لو مضى على النصاب الواحد حولان من غير إخراج زكّى لسنة واحدة على الأوّل ولكلّ حول زكاة على الثاني.
الثانية ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ) (2).
الاستفهام ههنا يحتمل معنيين : أحدهما التقرير والتنبيه على وجوب علمهم بأنّ اللّه هو يقبل التوبة وهو الّذي يأخذ الصدقة وهو مجاز عن الرضا بها والجزاء
ص: 229
عليها وإليه الإشارة في الحديث « إنّ الصدقة تقع في يد اللّه قبل أن تصل إلى يد السائل » (1) وإنّما وجب العلم بذلك ليكون داعيا ومقرّبا إلى وقوع التوبة وإعطاء الصدقة وثانيهما الإنكار لعدم علمهم وذلك أنّهم لمّا سألوا الرسول صلى اللّه عليه وآله أن يأخذ أموالهم ويقبل توبتهم كما تقدّم ذكره ولم يعلموا أنّه لا يقبل التوبة غير اللّه ، ولا يأخذ الصدقة إلّا هو ، أنكر ذلك عليهم وفايدة لفظ هو حصر أي لا يقبل إلّا هو وفي الآية من المبالغة في وجوب العلم بقبول التوبة وأخذ الصدقة وأنّه توّاب أي كثير القبول للتوبة ورحيم بعباده ما يظهر لمن تدبّر [ في ] تركيبها بإيراد الاستفهام بالمعنيين المذكورين وإردافه بالعلم ثمّ الإتيان بالجملة المؤكّدة بأنّ وأداة الحصر وذلك غاية في رأفته بعباده ورحمته لهم.
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (2).
هنا مسائل :
1 - يحتمل أن يراد بالطيّب هنا الحلال ولذلك « روي عن الصادق عليه السلام أنّها نزلت في قوم لهم مال من رباء الجاهليّة وكانوا يتصدّقون منه فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك وأمرهم بالصدقة بالحلال » (3) كما ورد في الحديث « إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا الطيّب » (4) ولما في الحرام من القبح الحاصل من التصرّف في ملك الغير الّذي هو
ص: 230
قبيح عقلا وشرعا. إن قلت : عندكم أنّ الحلال المختلط بالحرام ولا يتميّز مالكه ولا قدره يخرج منه الخمس وذلك من المجتمع من المالين فيكون إنفاقا وتصرّفا من الحرام وفيه وهو مناف لمنطوق الآية. قلت : نمنع أنّ ذلك تصرّف في الحرام لأنّا إنّما حكمنا بإخراج الخمس لمكان الضرورة الماسّة إلى التصرّف في الحلال لقوله صلى اللّه عليه وآله « الناس مسلّطون على أموالهم » (1) ولمّا جهل المالك وتعذّر رضاه أذن الشارع لا مطلقا بل بإخراج ما يمكن أن يكون عوضا للمالك يوم القيامة كما يأذن الحاكم في المعاوضة على مال الغائب والمحجور عليه وذلك لا يكون إنفاقا وتصرّفا من الحرام ولا فيه هذا ويحتمل أن يراد بالطيّب الجيّد من المال والمستحسن منه ولذلك قيل إنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف ويدخلونه في تمر الصدقة (2) روي ذلك عن علي عليه السلام (3) ويؤيّد ذلك قوله تعالى ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (4) فعلى هذا قيل إنّ المراد الصدقة الواجبة وهي الزكاة وقيل المندوبة والأصحّ العموم للقسمين بل سائر الإنفاق في سبيل الخير وأعمال البرّ.
إن قلت : لو كان النصاب النعمي كلّه مراضا لم يكلّف شراء صحيحه وكذا لو كان تمره محشفا لم يكلّف شراء غيره بل يخرج منهما فيكون إنفاقا من الرديّ وهو خلاف المأمور به. قلت : إن حمل الأمر على المندوب فذلك على الأفضل فخلافه غير ممنوع وإن حمل على الواجب فإنّما لم يكلّف شراء الصحيح والجيّد لئلّا يلزم الظلم في حقّ المالك لأنّ الزكاة تعلّقت بعين المال فلا تتناول غيره هذا ، مع أنّ الأفضل له إخراج الجيّد وفي الآية دلالة على أنّ إخراج الصدقة من كسب الإنسان أفضل من
ص: 231
غيره خصوصا ما كان بالجارحة فإنّه أشقّ تحصيلا فيكون أفضل.
ويمكن الاستدلال بها على استحباب زكاة التجارة بقرينة التكسّب ومن قال بوجوبها من العامّة يدفعه أصالة البراءة وما حكيناه من رواية أبي ذرّ.
ثمّ إنّ بعضهم قال : إنّ مال التجارة ما دام عروضا لا زكاة فيه ولو بقي أحوالا فإذا بيع زكّوه لسنة واحدة وهو قول مالك والشافعيّ في القديم وقال في الجديد وأبو حنيفة : بل كلّ حول يقوّم ويخرج عنه.
2 - « وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ » أي ومن طيّبات ما أخرجناوحذف المضاف لدلالة ما قبله عليه وإنّما أعاد الجارّ ولم يكتف بالعطف « على ما كسبتم » لزيادة الاعتناء بالإنفاق من الغلّات والثمار قيل والمعادن أيضا فإنّها تخرج من الأرض فعلى هذا يستدلّ بها على استحباب الزكاة في كلّ ما يخرج من الأرض خرج الخضر وما لا يكال ولا يوزن للإجماع فيبقى الباقي وكذا على وجوب إخراج الخمس من جميع أنواع الزرع ممّا يفضل عن مؤنة السنّة والمعدن كما يقوله أصحابنا إذا بلغ بعد المؤن ما قيمته عشرون دينارا وكلّ هذه مجملات يعلم تفاصيلها من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة عليهم السلام.
3 - « وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ » أي لا تتعمّدوا ، والخبيث هنا مقابل الطيّب فيكون هنا إمّا الحرام أو الرديّ ويؤيّد الثاني قوله « وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ » أي تتساهلوا [ فيه ] من أغمض بصره إذا غضّه.
وفي قوله « وَلا تَيَمَّمُوا » إشارة إلى أنّ المنهيّ عنه إنّما هو تعمّد إخراج الرديّ وأمّا ما كان لا عن تعمّد فلا حرج فيه ، وفيه أيضا دلالة على عدم وجوب شراء الجيّد لأنّه لم يتعمّد الرديّ فأخرج منه بل اتّفق ذلك عنده وعلى الأوّل يمكن أن يكون قوله « وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ » أي لستم بحال يجوز لكم أخذه والتصرّف فيه إلّا أن تتساهلوا في دينكم بعدم القيام بنواهيه فتغمضوا في أمر الحرام فتأخذونه وهذا وجه لا يدفعه اللّفظ ولا المعنى.
واستدلّ بعضهم بها على أنّه لا يجوز عتق الكافر وردّه المعاصر بأنّ العتق
ص: 232
ليس إنفاقا لأنّه قسيم له في [ نحو ] الكفّارات وقسيم الشي ء مغاير له. وفيه نظر أمّا أوّلا فللمنع من عدم كون العتق إنفاقا فانّ الأوامر الواردة بالإنفاق عامّة يصدق عليه فانّ الإنفاق هو بذل المال تقرّبا إلى اللّه تعالى وأمّا ثانيا فلأنّ وقوعه قسيما لانفاق خاصّ لا يستلزم عدم كونه قسما من الإنفاق العامّ نعم كون العبد الكافر خبيثا بأحد المعنيين المذكورين ممنوع فإنّه ليس حراما وإلّا لحرم بيعه وتملّكه ولا رديّا عرفا ولهذا جاز رفعه إلى الفقير صدقة لكونه مالا قابلا للتملّك والنقل « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ » عن صدقاتكم حقيق بالحمد منكم على إنعاماته الجليلة.
الرابعة ( وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (1).
لمّا أخبر سبحانه « أنّ ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (2) وفي موضع آخر ( كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) (3) أخبر هنا أنّ الّذين يؤتون الزكاة مخلصة لوجه اللّه هم الّذين يضعفون حسناتهم أي يجعلونها مضاعفة والاضعاف [ في ] زيادة الأجر والثواب إن قلت كيف الجمع بين هذه الاضعافات وبين قوله تعالى ( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلّا ما سَعى ) (4) قلت المراد ليس له إلّا ما سعى من باب العدل وأمّا الاضعاف فمن قسم التفضّل وفي الآية دلالة على وجوب النيّة في الزكاة وإيقاعها على سبيل الإخلاص لله تعالى.
الخامسة ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (5).
ص: 233
لمّا عاب المنافقون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في قسمة الصدقات بأنّه يعطي من أحبّ ونزل فيهم ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ) (1) أي يعيبك - يقال لمزه يلمزه بكسر العين في المضارع وضمّها إذا عابه على وجه المساترة - أنزل اللّه هذه الآية قاطعة لأطماعهم وأتى بإنّما الّتي للحصر للدلالة على أنّه لا يستحقّها سوى هؤلاء المذكورين.
واختلف في اللّام في « لِلْفُقَراءِ » هل هي للتمليك أو لبيان المصرف؟ فقال الشافعيّ بالأوّل فيجب البسط على الأصناف ويعطي من كلّ صنف ثلاثة لا أقلّ منهم وقال مالك وأبو حنيفة بالثاني فلا يجب البسط بل لو أعطى زكوته واحدا من أيّ صنف كان جاز لكن أبو حنيفة لا يعطي ما يؤدّي إلى الغني فلو خالف فعل مكروها وملكه المعطى وبرئت الذمّة ومالك يجوّز ذلك إذا أمل غناءه وقال أصحابنا بجواز أيّ صنف كان ولو واحدا منهم لكنّ البسط أفضل وبذلك قال ابن عبّاس وحذيفة وغيرهما من الصحابة لأنّ كون اللّام للتمليك لا وجه له فانّ المستحقّ لا يملك قبل الأخذ ولأنّ حملها على بيان المصرف موافق لفعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله الّذي عابه المنافقون فيكون أولى.
إذا عرفت هذا فلنذكر الأقسام مفصّلة والخلاف فيها فنقول :
الأوّل الفقراء ، الثاني المساكين قيل إنّهما قسم واحد وإنّما أتى باللّفظين لا لتغاير المعنى بل لتأكيد أحدهما بالآخر كعطشان بطشان وقيل بالتغاير وبه قال الشافعيّ وأبو حنيفة فقيل الفقير متعفّف لا يسأل والمسكين بخلافه وقيل بالعكس ويؤيّد الأوّل قوله تعالى ( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً ) (2) ويؤيّد الثاني قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ليس المسكين الّذي تردّه الأكلة و
ص: 234
الأكلتان والتمرة والتمرتان ولكنّ المسكين الّذي لا يجد غنى فيغنيه ولا يسئل الناس شيئا ولا يفطن به فيتصدّق عليه (1) » وقيل الفقير الزمن المحتاج والمسكين الصحيح المحتاج قاله قتادة والتحقيق أنّهما يشتركان في معنى عدميّ وهو عدم ملك مؤنة السنّة له ولعياله الواجبي النفقة ولو كان غنيّا وهل أحدهما أسوء حالا من الآخر بمعنى أنّه لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته والآخر أجود حالا [ من ] له مال أو كسب يقع موقعا من حاجته لكن لا يكفيه للسنة؟ الأكثر على ذلك فقيل الفقير هو أسوء حالا للابتداء بذكره الدالّ على الاهتمام بحاله ولأنّه مشتق من فقار الظهر فكأنّ الحاجة قد كسرت فقار ظهره ولاستعاذة النبيّ صلى اللّه عليه وآله من الفقر [ وسؤاله المسكنة ] فقال « اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفقر وأسئلك المسكنة » (2) حتّى قال « كاد الفقر أن يكون كفرا » (3) وبهذا قال الشافعيّ وقيل المسكين هو الأسوء للتأكيد به ولأنّه من السكون كأنّ العجز أسكنه ولقوله تعالى ( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) (4) وبهذا قال أبو حنيفة ويرجّح الأوّل قوله تعالى ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) (5) وأجيب بأنّها لم يكن لهم ملكا بل كانوا اجراء فيها ويرجّح الثاني قول ابن السكّيت : الفقير الّذي له بلغة من العيش والمسكين لا شي ء له وأنشد قول ابن الراعي :
ص: 235
أمّا الفقير الّذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سبد (1)
والأقوى عندي هو الثاني لقول الصادق عليه السلام في رواية أبي بصير « الفقير الّذي لا يسئل والمسكين أجهد منه والبائس أجهد منهما » (2) وهو نصّ في الباب ولأنّه قول أئمّة اللّغة كابن السكّيت وابن دريد وأبي عبيدة وأبي زيد وقال يونس قيل لأعرابيّ أفقير أنت فقال لا واللّه بل مسكين ثمّ إنّ فائدة الخلاف لا تظهر في باب الزكاة لاجزاء إعطاء كلّ منهما بل في أفضليّة العطاء وفي الكفّارات والنذر والوقف والوصيّة وذكر أحدهما بلفظه بخلاف ما لو قال المحاويج فإنّه شامل للقسمين.
الثالث العاملون [ عليها ] وهم السعاة لجبايتها قولا واحدا.
الرابع المؤلّفة قلوبهم وهم كفّار أشراف في قومهم كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يعطيهم سهما من الزكاة يتألّفهم به على الإسلام ويستعين بهم على قتال العدوّ ، قال الشيخ ولا نعرف مؤلّفة غيرهم وقال المفيد بل ويكونون أيضا من المسلمين إمّا سادات لهم نظراء من المشركين إذا أعطوا رغب النظراء في الإسلام وإمّا سادات مطاعون يرجى بعطائهم قوّة أيمانهم ومساعدة قومهم في الجهاد وإمّا مسلمون في الأطراف منعوا الكفّار من الدخول وإمّا مسلمون إذا أعطوا أخذوا الزكاة من مانعيها.
وهل هذا السهم ثابت بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أم لا؟ قال الشافعيّ نعم وهو مرويّ عن الباقر عليه السلام إلّا أنّه « قال : من شرطه أن يكون هناك إمام عادل يتألّفهم على ذلك » (3) وقال أبو حنيفة هو مختصّ بزمانه صلى اللّه عليه وآله وفتوى أصحابنا حال الغيبة على الثاني.
ص: 236
الخامس الرقاب وهم المكاتبون وأضاف أصحابنا العبد المؤمن يكون في شدّة عند سيّده يشترى ويعتق وبه قال ابن عباس والحسن ومالك وأحمد وكذا جوّز أصحابنا مع عدم المستحقّ شراء العبد من الزكاة وعتقه.
السادس الغارمون وهم الّذين ركبتهم الديون في غير معصية بل إمّا في نفقة واجبة أو مندوبة أو معاش مباح ثمّ إنّ أبا حنيفة ومالك وأحمد قالوا لا يدفع إلى الغارم شي ء إلّا مع فقره وفصّل الشافعيّ فقال : إن كان لتحمّل دية عن الغير لإطفاء النائرة يعطي مطلقا وإن كان لا لذلك لا يعطى مع الغنى وما كان لمصلحة نفسه له قولان في القديم يعطى وفي الجديد لا [ يعطى ] وعندنا متى قصرت أمواله عن أداء ديونه اعطي أمّا لو استدان لإصلاح ذات البين فإنّه يعطى مطلقا وإن كان غنيّا.
السابع في سبيل اللّه قال الشيخ يختصّ بالجهاد وبه قال الشافعيّ ومالك وأبو حنيفة وقال أحمد والحجّ أيضا لكن خصّه أبو حنيفة بالفقير من الغزاة وقال الأوّلان وأحمد والغنيّ أيضا وقال أكثر أصحابنا وهو الحقّ أنّه يعمّ كلّ مصلحة للمسلمين كالحجّ وبناء القناطر وغيرهما وبه قال البلخي وعطا وابن عمر عملا بعموم اللّفظ فانّ السبيل لغة الطريق وهو هنا كذلك مجازا في كلّ ما يقرّب إلى اللّه سبحانه.
الثامن ابن السبيل وهو المنقطع به في الغربة وإن كان غنيّا في بلده وهل يعطى منشئ السفر من بلده؟ قال ابن الجنيد منّا والشافعيّ وأبو حنيفة نعم وهو ممنوع مع كونه غنيّا حينئذ نعم لو كان مضطرّا إلى السفر وهو فقير جاز لكن ذلك ليس من الباب وأمّا الضيف فقيل داخل في ابن السبيل والحقّ عندي أنّه إن كان
ص: 237
منقطعا به في غير بلده فهو داخل في المنقطع به ولا حاجة إلى ذكره وإلّا فنحن من وراء المنع من استحقاقه.
1 - لا فرق في السفر بين الواجب والمندوب والمباح ومنع ابن الجنيد المباح وليس بشي ء.
2 - لو نوى إقامة عشرة فصاعدا قال الشيخ يمنع لخروجه عن اسم السفر ولذلك لم يقصّر وقال ابن إدريس واختاره العلّامة إنّه لا يمنع وهو الحقّ لصدق الاسم.
3 - لو فضل مع ابن السبيل شي ء عند وصوله بلده استعيد لانتفاء علّة الاستحقاق.
4 - يقبل قوله في عدم المال وكذا يقبل قول الفقير في فقره وكذا لو قال كان لي مال فتلف وقال الشيخ يكلّف هنا البيّنة وليس بشي ء لأداء ذلك إلى ضرره إذ قد يخفى التلف وكذا لا يفتقر [ ان ] إلى اليمين وأمّا الغارم والمكاتب فالمشهور قبول قولهما إلّا مع تكذيب الغريم والسيّد وفي الآية فوائد :
1 - قيل إنّ الصدقات هنا للعموم فيشمل الواجبة والمندوبة ويشكل ذلك مع الحصر فإنّ المندوبة لا تنحصر في الفقراء والمساكين بل تجوز للغنيّ وحينئذ لا بدّ مع الحصر من الإضمار.
2 - هنا سؤال تقريره : لم قال في الأصناف الأربعة الأول باللّام وفي الباقية بفي ثمّ إنّه كرّرها فقال « وَفِي سَبِيلِ اللّهِ »؟ الجواب ذكروا وجوها :
الأوّل إنّما عدل إلى في عن اللّام المفيدة للاختصاص إيذانا بأنّهم أرسخ في الاستحقاق حيث جعلوا مظنّة وموضعا لها لأجل فكّ الرقاب وفكّ الغارمين من الغرم ولجمع الغازي بين الفقر والعبادة عند من يشترط فقره والمسافر بين الفقر والغربة وإنّما كرّر في الأخيرين لفضل ترجيح لهما.
الثاني أنّ الفرق من حيث إنّ ظاهر اللّام شمول التملّك للأشخاص وظاهر في عدم شموله كما إذا قيل المال لبني تميم فإنّه يفيد اشتراكهم فيه فإذا قيل في بني
ص: 238
تميم يفيد أنّ فيهم من يستحقّه ولذلك لم يسمع أنّ أحدا قال يجب البسط في الأربعة الأخيرة.
الثالث اعلم أنّ المستحقّ [ ين ] قسمان قسم يقبض لنفسه وهم الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلّفة وهؤلاء يصرفونه في أيّ جهة شاؤوا فهم مختصّون به فناسب ذلك [ ذكر ] اللّام وقسم يقبض لأجل جهة معيّنة يصرفه فيها ولا يجوز صرفه في غيرها وهم الرّقاب والغارمون وابن السبيل وأمّا سبيل اللّه فان كان لمعونة المجاهدين فإنّه يتعيّن صرف ما يقبضه في مصالح الجهاد خاصّة وكذا الحاجّ والزائرين وإن كان لغير ذلك فإنّه يتعيّن صرفه في تلك الجهة فناسب ذلك ذكر في لأنّه يعيّن صرفه في جهات معيّنة.
3 - فريضة منصوب على المصدر المؤكّد لما دلّت عليه [ هذه ] الآية نحو ( هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً ) (1) وقرئ شاذّا بالرفع أي هذه فريضة.
السادسة ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (2).
[ فنعمّا هي ] ظ : أي فنعم شيئا هي دلّت الآية على أنّ إظهار الصدقة حسن في نفسه وأنّ إخفائها أفضل لأنّه لا معنى للخيريّة إلّا الأفضليّة عند اللّه تعالى فقيل على العموم لكلّ صدقة لأنّه جمع معرّف باللّام وهو للعموم بلا خلاف ولذلك جاء في الحديث « صدقة السرّ تطفئ غضب الرب [ وتدفع الخطيئة ] كما يطفئ الماء النار وتدفع سبعين بابا من البلاء (3) » وعنه صلى اللّه عليه وآله « سبعة يظلّلهم اللّه بظلّه يوم لا ظلّ إلّا
ص: 239
ظلّه إمام عادل وشابّ نشأ في عبادة اللّه ورجل قلبه معلّق بالمسجد حتّى يعود إليه ورجلان تحابّا في اللّه اجتمعا على ذلك وتفرّقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنّي أخاف اللّه ورجل تصدّق بصدقة وأخفاها حتّى لا تعلم يمينه ما ينفق شماله ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه » (1).
وقال ابن عبّاس ورواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادق عليه السلام « إنّ الإخفاء تختصّ بالمندوبة وأمّا المفروضة فإظهارها أفضل لئلّا يتّهم بالمنع ولما فيه من الاقتداء به فانّ كثيرا من الناس تنبعث دواعيهم إذا رأوا من يفعل الطاعة ولأنّ الرياء لا يتطرّق إليها كتطرّقه إلى المندوبة » (2) والأوّل أشبه بمنطوق الآية ويؤيّد الثاني استحباب حمل الواجبة إلى الامام ابتداء ووجوبه عند الطلب مع أنّ تخصيص الكتاب بالسنّة جائز وقد ورد عن ابن عباس « صدقة السرّ في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة وعشرين ضعفا » (3) وعلّته ما ذكرناه.
وفي الآية دلالة على جواز تولّي المالك مباشرة إخراج الصدقة لقوله تعالى « وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ » قال العلّامة : إنّ لفظ أفعل [ التفضيل ] قد يرد للمساواة كما يرد للأفضليّة ولأنّ استحباب الحمل إلى الامام لا ينافي استحباب الإخفاء لإمكان الجمع بينهما بأن يدفع من غير إشعار أحد وفيه نظر أمّا أوّلا فلأنّ أفعل للأفضليّة حقيقة ولغيره مجازا فلا يعدل إليه إلّا لضرورة مع أنّ التخصيص خير من المجاز وأمّا ثانيا فلمنع عدم المنافاة فإنّ الإخفاء لا يصدق حينئذ ولأنّ موضوع الخيريّة مركّب من الإخفاء وإيتاء الفقراء والمركّب يعدم بعدم أحد أجزائه ، هذا وقوله
ص: 240
« نكفّر » قرئ بالرفع أي ونحن نكفّر وبالجزم عطفا على جواب الشرط ومن للتبعيض وقيل زائدة وهو ضعيف لضعف زيادتها في الإثبات.
وفيه آيات :
الاولى : ( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (1).
هنا ثلاثة أحكام :
1 - الحضّ على الإنفاق بأنّه (2) في الحقيقة عائد إلى المنفق فانّ الشخص إذا علم أنّ فائدة إنفاقه تعود إليه كان أشدّ انبعاثا على الإنفاق وأقوى داعية إليه والمراد بالخير هنا المال كقوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (3).
2 - ( وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللّهِ ) وهو نفي ويراد به النهي كقوله صلى اللّه عليه وآله « لا تنكح المرأة على عمّتها ولا خالتها » (4) ومراده هنا لا تنفقوا شيئا إلّا ابتغاء وجه اللّه أي طلب وجه اللّه وفيه نهي عن الرّياء وطلب السمعة بالإنفاق وأمر بالإخلاص لما في الكلام من النفي والإثبات.
فائدة : ليس المراد بالوجه هنا العضو لاستحالة الجسميّة عليه تعالى ولا الذات لأنّها قديمة والقديم لا يراد حصوله بل المراد بالوجه الرّضى وإنّما حسن الكناية به عن الرضا لأنّ الشخص إذا أراد شيئا أقبل بوجهه عليه وإذا كرهه أعرض بوجهه
ص: 241
عنه وكأنّ الفعل إذا أقبل عليه بالوجه حصل الرضا به فكان إطلاقه عليه من باب إطلاق السبب على المسبّب.
3 - الحكم بأنّهم إذا فعلوا الإنفاق ابتغاء وجه اللّه يوفّ إليهم أجرهم وفاء تامّا من غير نقص. والخير هنا إيصال المال وفي الكلام حذف تقديره : يوفّ إليكم جزاؤه.
الثانية ( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (1).
لمّا ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المنفق من الصفة ذكر الّذين ينبغي وصول النفقة إليهم واللّام متعلّقة بمحذوف يدلّ عليه ما تقدّم أي النفقة المذكورة للفقراء كأنّه سئل لمن هذه النفقة فأجيب « لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا » أي حبسوا أنفسهم للجهاد « لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ » أي سفرا للتكسّب وتحصيل المال أي إنّهم حبسوا أنفسهم للجهاد ولم يشتغلوا بغيره من التصرّفات التكسّبية حصر من لا يستطيع تصرّفا لا لعجزهم في نفس الأمر بل لرغبتهم في العبادة هكذا ينبغي أن يقال حتّى يكون في سياق مدحهم لا أنّهم تركوا الضرب لعجزهم بمرض أو خوف « يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ » بحالهم « أَغْنِياءَ » لتعفّفهم بعدم إظهارهم الحاجة والسؤال « تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ » أي لهم علامة يعرفون بها وهي صفرة اللّون ورثاثة الحال. والالحاف الإلحاح وهو أن يلازم المسؤول لا يفارقه إلّا بشي ء من قولهم لحفني فلان من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إنّ اللّه يحبّ الحييّ الحليم المتعفّف ويبغض البذيّ الشاكي الملحف » (2) ونفي السؤال على وجه الالحاف
ص: 242
لا يستلزم نفي مطلق السؤال فيجوز أن يكونوا سائلين على وجه اللّطف وعلى ذلك كان حالهم وهو منصوب على المصدر أي لا يسألون سؤالا إلحافا.
إذا عرفت هذا فقيل : إنّ هؤلاء قوم من مهاجري قريش لم يكن لهم شي ء من الدنيا ولا عشائر في المدينة وكانوا يسكنون في صفّة المسجد فيتعلّمون القرآن باللّيل ويلتقطون النّوى بالنهار يخرجون مع كلّ سريّة يبعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وكانوا نحوا من أربعمائة رجل فمن كان عنده فضل رزق يأتيهم به إذا أمسى.
وعن ابن عبّاس « وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يوما عليهم فرأى جهدهم وفقرهم وطيب قلوبهم بذلك فقال « أبشروا يا أصحاب الصفّة فمن بقي من أمّتي على النعت الّذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنّهم رفقائي » (1) بشّر (2) [ رسول اللّه ] إلى من يحبس نفسه على طلب العلم وتشييد معالم الدين في هذا الزمان قائما بوظيفة ما يجب عليه من العبادة ملتزما بولاية أهل البيت عليهم السلام فإنّه إنشاء اللّه أفضل من أولئك ثمّ أكّد سبحانه الحثّ على الإنفاق بإعادة قوله « وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ » الآية وفي الآية إشارة إلى استحباب إعطاء أهل التجمّل والتعفّف والتوصّل إليهم بإعطاء الصدقة خصوصا من اتّصف بمزيد علم أو ورع في دين.
الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (3).
نزلت في عمرو ابن الجموح وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال يا رسول اللّه بما ذا أتصدّق وعلى من أتصدّق فنزلت وقد عرفت أنّ خصوص السبب لا يخصّص العامّ بل هو على عمومه وليست منسوخة بآية الزكاة كما قال السدّي إذ لا مانع من إجراء حكمها ولا يقين بنسخها فيجوز حينئذ حملها على الصدقة الواجبة ولا ينافي ذكر الوالدين لوجوب نفقتهما المانع ذلك من إعطاء الواجبة لجواز إعطائهما لا في
ص: 243
جهة النفقة ولو من سهم الفقراء كاعطائهما ما يحتاجان إليه في طلب علم أو فعل عبادة زائدا عن قدر حاجتهما أو في مؤنة الزواج إذ لا يجب إعفاف الوالد والوجه حملها على العموم فيدخل الواجبة وغيرها من مندوبات الصدقات وواجبات النفقات وصلة الأرحام وغير ذلك وفي الآية إشارة إلى استحباب تخصيص القرابة [ بالإنفاق ] والخير هنا المال أيضا.
وهنا سؤال وهو أنّه سئل عمّا ينفق وأجاب بالمنفق عليهم والجواب قيل :إنّه من باب المغالطة وهو حمل كلام السائل على غير مطلوبه تنبيها على أنّه أولى به والأولى في الجواب هو أنّ سؤالهم لم يكن عن مطلق الإنفاق بل عن إنفاق المال النافع في الآخرة فالنافع هو فضل المسؤول عنه فأجاب بملزوم الفضل وهو أن يكون الإنفاق على المذكورين.
الرابعة ( وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) (1).
عن الصادق عليه السلام « أنّ العفو هو الوسط من غير إسراف ولا إقتار » (2) وعن الباقر عليه السلام « ما فضل عن قوت السنة قال ونسخ ذلك بآية الزكاة » (3) وعن ابن عبّاس ما فضل عن الأهل والعيال أو الفضل عن الغنى وقيل هو أفضل المال وأطيبه.
وقرئ العفو بالرفع على الخبريّة أي الّذي ينفقونه هو العفو وقرئ بالنصب على المفعوليّة أي أنفقوا العفو.
روي أنّ رجلا أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ببيضة من ذهب أصابها في بعض الغزوات فقال خذها منّي صدقة فأعرض عنه فأتاه من جانب آخر [ فقال له مثله ] فأعرض عنه ، ثمّ أتاه من جانب آخر [ فقال له مثله ] فأعرض عنه ثمّ قال له هاتها مغضبا فأخذها وحذف بها حذفا لو أصابته لشجّته أو عقرته ثمّ قال يجي ء أحدكم بماله كلّه فيتصدّق
ص: 244
به ويجلس يتكفّف الناس إنّما الصدقة عن ظهر غنى » (1).
وهنا فوائد :
1 - كلام الصادق عليه السلام يدلّ على الالتزام بالأوساط في الإنفاق كلّه واجبا كان أو مندوبا صدقة وغيرها وهو طريق السلامة والأمن من الإفراط والتفريط الموبقين.
2 - كلام الباقر عليه السلام يدلّ على استحباب الصدقة بما فضل عن القوت وبذلك وردت أخبار كثيرة وترغيبات عظيمة حتّى أنّ زين العابدين عليه السلام كان يتصدّق بفاضل كسوته.
3 - كلام ابن عبّاس يدلّ على كراهية الصدقة بما هو توسعة على العيال ولذلك قال عليه السلام « لا صدقة وذو رحم محتاج » (2) وعلى كراهية ما لم يبق غنى فان آل إلى الإعدام ولا كسب له ربّما يصير حراما خصوصا مع وجود العيال وعليه تحمل الرواية المذكورة لأداء ذلك إلى الإضرار الممنوع عقلا وشرعا وقال عليه السلام « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (3).
4 - القول الرابع يدلّ على أنّه يستحبّ الصدقة بالمال اللذيذ والشهيّ و
ص: 245
لذلك نقل عن الحسن عليه السلام (1) أنّه كان يتصدّق بالسكّر فقيل له في ذلك فقال : إنّي أحبّه وقال اللّه تعالى ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (2).
الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (3).
المنّ هو أن يقول له ألم أعطك كذا ألم أحسن إليك وشبه ذلك والأذى أن يقول أراحني اللّه منك أو يعبّس في وجهه أو يجبّهه بالكلام أو يتناقص به وبالجملة المنّ والأذى يشتركان في كلّ ما ينغّص الصنيعة ويكدّرها وإنّما كانا مبطلين للصدقة لأنّ صدورهما يكشف عن كون الفعل لم يقع خالصا لله تعالى وهو معنى بطلانه فانّ من كان موطّنا نفسه على طاعة اللّه وطلب مرضاته لا يصدر عنه إلّا الخيرات وذلك في هذا الباب إمّا إعطاء السائل أو ردّه بأحسن الردّ كأن يقول رزقك اللّه أو سهّل اللّه عليك وشبهه وإن صدر عن الفقير سوء كلام أو تعنيف في السؤال غفر له ولم يؤاخذه به وإلى الأوّل أشار من قبل بقوله « قَوْلٌ مَعْرُوفٌ » إشارة إلى حسن الردّ « وَمَغْفِرَةٌ » إشارة إلى العفو عن سوء يقع من السائل كما قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « إذا لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم » (4) ويحتمل أن يريد بالقول
ص: 246
المعروف والمغفرة ما هو أعمّ [ من ذلك ] كسائر الأخلاق الحسنة فيدخل حسن الردّ وغيره.
ثمّ إنّه تعالى جعل المانّ بصدقته والمؤذي لمن يتصدّق عليه كالمرائي بنفقته وكالمنفق الّذي لا يؤمن باللّه و [ لا ] باليوم الآخر فانّ قوله « كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ » صفة لمصدر محذوف أي إبطالا كابطال الّذي ينفق ماله فانّ كلّ واحد من الرياء والكفر سبب تامّ لعدم فائدة الإنفاق وفي الحقيقة يندرج المان والمؤذي والمرائي في عدم الايمان باللّه إذ لو كان مؤمنا به ومصدّقا بصفاته الكماليّة لما أشرك معه غيره فيما غايته الإخلاص له وطلب مرصاته ، هذا وإنّه تعالى جعل مثل الّذي ينفق ماله رئاء أو ينفقه ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر « كَمَثَلِ صَفْوانٍ » أي حجر أملس « عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ » أي مطر عظيم القطر « فَتَرَكَهُ صَلْداً » أي أجرد نقيّا بلا تراب فالصفوان مثل للنفس والتراب مثل للإنفاق والوابل مثل للرياء والكفر وزوال التراب عنه مثل لزوال فائدة الإنفاق وقوله « لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا » أي لا يجدون يوم القيامة شيئا من ثواب ما كسبوا « وَاللّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ » أي لا يلطف لهم لطفا يجبرهم على فعل الطاعة لمنافاة ذلك الحكمة.
وفي وضع الكافرين موضع المرائين تشديد عظيم لحال الرياء وأنّه والشرك في واد واحد ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « الشرك في أمّتي أخفى من [ دبيب ] النملة السوداء في اللّيلة الظلماء [ على الصخرة الصمّاء ] (1) » وقال صلى اللّه عليه وآله « إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قيل وما الشرك الأصغر قال الرياء » (2).
ص: 247
السادسة ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى ) (1).
قيل المراد بمن تزكّى أي [ من ] أدّى زكاة الفطرة وصلّى صلاة العيد وبه قال ابن عمر وأبو العالية وابن سيرين وروي ذلك مرفوعا عن أئمّتنا عليهم السلام (2) وتفصيلها وتفصيل ما تقدّم من الزكاة معلوم من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة عليهم السلام فلنقتصر على ذلك.
وهو اسم لحقّ يجب في المال يستحقّه بنو هاشم وله شروط وتفصيل وفيه آيات :
الاولى ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ) (3).
اعلم أنّ البحث في هذه الآية على أقسام ثلاثة :
الغنيمة في الأصل هي الفائدة المكتسبة والنفل واصطلح جماعة على أنّ ما أخذ من الكفّار إن كان من غير قتال فهو في ء وإن كان مع القتال فهو غنيمة و
ص: 248
هو مذهب أصحابنا والشافعيّ وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما السلام (1) وقيل إنّهما بمعنى واحد. ثمّ إنّ عند أصحابنا أنّ الفي ء للإمام خاصّة والغنيمة يخرج منها الخمس كما يجي ء والباقي بعد المؤن للمقاتلين ومن حضر وسيأتي بيانه أمّا في باب الخمس فعمّم أصحابنا موضوعها بأنّه جميع ما يستفاد من أرباح التجارات والزراعات والصناعات زائدا عن مؤنة السنّة والكنوز والمعادن والغوص والحلال المختلط بالحرام ولا يتميّز المالك ولا قدر الحرام وأرض الذمّيّ الّذي اشتراه من مسلم وما يغنم من دار الحرب كما تقدّم.
وعند الفقهاء أنّ الغنيمة هنا هي ما أخذ من دار الحرب لا غير دون الأشياء المذكورة نعم أوجب الشافعيّ في معدن الذّهب والفضّة الخمس دون باقي المعادن وقال أبو حنيفة يجب في المنطبع خاصّة ، فقد ظهر لك أنّ أصحابنا عمّموا موضوع الخمس وعلى قولهم دلّت الروايات عن أئمّتهم عليهم السلام.
إن قلت قوله تعالى « من شي ء » يدلّ على وجوب الخمس في كلّ ما يغنم حتّى الخيط والمخيط كما قيل وهو لا يتوجّه على قولكم فإنّكم تشترطون النصاب في الكنز والمعدن والغوص قلت : اللّفظ وإن اقتضى العموم لكنّ البيان من الأئمّة عليهم السلام خصّصه وحصره.
في كيفيّة قسمته ويظهر منه من يستحقّه. فنقول اتّفق علماء الجمهور على أنّ اسم اللّه هنا للتبرّك وأنّ قسمة الخمس على الخمسة (2) المذكورين في الآية في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وأنّ المراد بذي القربى هم بنو هاشم وبنو [ عبد ] المطّلب دون بني عبد الشمس وبني نوفل لقوله عليه السلام « إنّ بني المطّلب ما فارقونا في جاهليّة
ص: 249
ولا إسلام وبنو هاشم وبنو المطّلب شي ء واحد وشبّك بين أصابعه وإنّ الثلاثة الباقية من باقي المسلمين » (1).
وأمّا بعد حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله فقال مالك : الأمر فيه إلى الامام يصرفه إلى ما يراه أهمّ من وجوه القرب وقال أبو حنيفة يسقط سهمه صلى اللّه عليه وآله وسهم ذي القربى وصار الكلّ مصروفا إلى الثلاثة الباقية من المسلمين وقال الشافعيّ إنّ سهم الرسول صلى اللّه عليه وآله يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين وقيل إلى الامام وقيل إلى الأقسام الأربعة ونقل الزمخشري في الكشّاف عن ابن عباس أنّه كان يقسّم على ستّة : لله والرسول سهمان وسهم لأقاربه حتّى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة وكذلك روي عن عمر وباقي الخلفاء بعده قال وروي أنّ أبا بكر منع بني هاشم من الخمس وقال إنّما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيّمكم ويخدم من لا خادم له منكم فأمّا الغنيّ منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنيّ لا يعطى من الصدقة شيئا ولا يتيم موسر ونقل عن عليّ عليه السلام أنّه قيل له إنّ اللّه تعالى يقول « وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ » فقال : « أيتامنا ومساكيننا » وعن الحسن البصريّ أنّ سهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لوليّ الأمر بعده هذا.
وقال أصحابنا الإماميّة إنّه يقسم ستّة أقسام ثلاثة للرسول صلى اللّه عليه وآله في حياته وبعده للإمام القائم مقامه وهو المعني بذي القربى والثلاثة الباقية لمن سمّاهم اللّه تعالى من بني عبد المطّلب خاصّة دون غيرهم وقولهم هو الحقّ أمّا أوّلا فلأنّه لا يلزمهم مخالفة الآية الكريمة بسبب إسقاط سهم اللّه من البين وكذا إسقاط سهم الرسول بعد حياته وأمّا ثانيا فلما ورد من النقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم السلام وكذا نقله الخصم عن عليّ عليه السلام وعن ابن عبّاس كما حكيناه عن الزمخشريّ وأمّا ثالثا فلأنّا إذا أعطيناه لفقراء ذوي القربى من اليتامى والمساكين وابن السبيل جاز بالإجماع
ص: 250
وبرئت الذمّة يقينا وإذا أعطيناه غيرهم لم يجز عند الإماميّة فكان التخصيص بذوي القربى أحوط.
إن قلت : لفظ الآية عامّ قلت : ما من عامّ إلّا وقد خصّ فهذا مخصوص بما رويناه عن أئمّة الهدى كزين العابدين والباقر والصادق وأولادهم عليهم السلام على أنّا نقول لفظ الآية عامّ مخصوص بالاتّفاق فانّ ذي القربى مخصوص ببني هاشم ، واليتامى والمساكين وابن السبيل عامّ في المشرك والذمّيّ وغيرهم مع أنّه مخصوص بمن ليس كذلك.
قال السيّد المرتضى : كون ذي القربى مفردا يدلّ على أنّه الإمام القائم مقام النبيّ صلى اللّه عليه وآله إذ لو أراد الجميع لقال ذوي [ القربى ] وفيه نظر لجواز إرادة الجنس. قوله إذ لو كان المراد جميع قرابات بني هاشم لزم أن يكون ما عطف عليه أعني اليتامى والمساكين وابن السبيل من غيرهم لا منهم لأنّ العطف يقتضي المغايرة وفيه نظر أيضا لجواز عطف الخاصّ على العامّ لمزيد فائدة ووفور عناية فالأولى حينئذ الاعتماد في هذه المجملات على بيانه صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة عليهم السلام بعده.
في الآية المذكورة من التواكيد ما ليس في غيرهافإنّه صدّرها بالأمر بالعلم أي يتحقّق عندكم ذلك حتّى أنّه لم يرد لها ناسخ اتّفاقا ثمّ أتى بأنّ المؤكّدة في موضعين ثمّ قال « إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ » وهو متعلّق بمحذوف أي كون الخمس لهؤلاء المذكورين واجب فأدّوه إن كنتم آمنتم بدليل « فاعلموا » لأنّ المراد هنا من العلم العمل بمقتضاها قال الواقديّ : نزل الخمس في غزاة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيّام للنصف من [ شهر ] شوّال على رأس عشرين شهرا من الهجرة وعن الكلبيّ نزلت ببدر.
قوله تعالى ( وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا ) أي محمّد صلى اللّه عليه وآله من النصر بالملائكة والفتح وغير ذلك من الآيات « يَوْمَ الْفُرْقانِ » وهو يوم بدر لأنّه فرّق بين الحقّ والباطل
ص: 251
و « يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ » بدل من « يَوْمَ الْفُرْقانِ » والجمعان أهل بدر وقريش وعن الصادق عليه السلام أنّه كان التاسع عشر من [ شهر ] رمضان والمشهور أنّه السابع عشر منه « وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ » أي قادر على نصر القليل على الكثير والذليل على القويّ.
الثانية ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (1).
وكذا قوله تعالى ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) (2).
اعلم أنّ المراد بذي القربى في هذه الآية وأمثالها هو قرابة الرسول صلى اللّه عليه وآله وإعطاؤه حقّه هو إعطاؤه ما وجب له من الخمس وغيره ، روى السدّيّ « قال : إنّ زين العابدين عليه السلام قال لرجل من أهل الشام حين بعث به عبيد اللّه بن زياد إلى يزيد ابن معاوية : أقرأت القرآن؟ قال نعم قال أما قرأت « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » قال وإنّكم ذوو القربى قال (3) نعم » وفي تفسير الثعلبيّ « عن منهال بن عمرو قال سألت زين العابدين عليه السلام عن الخمس فقال هو لنا فقلت إنّ اللّه يقول « وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ » قال يتامانا ومساكيننا » (4).
وروى العيّاشيّ عن الصادق عليه السلام قال : « كتب نجدة الحروريّ إلى ابن عباس يسئل عن موضع الخمس فكتب إليه ابن عبّاس أمّا الخمس فانّا نزعم أنّه لنا ويزعم قومنا أنّه ليس لنا فصبرنا » (5) وعن الصادق عليه السلام « قال : إنّ اللّه لمّا حرّم علينا
ص: 252
الصدقة أنزل لنا الخمس فالصدقة علينا حرام والخمس لنا فريضة والكرامة لنا حلال » (1) وعن الرضا عليه السلام « إنّ الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا وما نفكّ وما نشتري من أعراضنا ممّن نخاف سطوته فلا تزووه (2) عنّا ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه فانّ إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم والمسلم من لقي اللّه بما عاهد وليس المسلم من أجاب باللّسان وخالف بالقلب » (3).
وروى عليّ بن أسباط قال لما ورد الكاظم عليه السلام على المهديّ العبّاسيّ وجده يرد المظالم فقال : ما بال مظلمتنا لا تردّ. فقال وما هي يا أبا الحسن فقال إنّ اللّه لمّا فتح على نبيّه صلى اللّه عليه وآله فدكا وما والاها ممّا لم يوجف عليه أنزل اللّه عليه « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » فلم يدر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من هم فراجع جبرئيل عليه السلام في ذلك فسأل اللّه عزوجل فأوحى اللّه إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة عليها السلام فدعاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال لها إنّ اللّه أمرني أن أدفع إليك فدك فقالت قد قبلت يا رسول اللّه من اللّه ومنك وساق الحديث إلى أن ذكر قصّة أبي بكر وعمر معها فقال له المهديّ حدّها فحدّها فقال هذا كثير وأنظر فيه » (4).
ص: 253
الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (1).
اختلف في الأنفال ما هي فقال ابن عبّاس وجماعة إنّها غنيمة بدر وقال قوم هي أنفال السرايا وقيل هي ما شذّ من المشركين من عبد وجارية من غير قتال وقال قوم هي الخمس والصحيح ما قاله الباقر والصادق عليهما السلام أنّها ما أخذ من دار الحرب من غير قتال كالّذي انجلى عنها أهلها وهو المسمّى فيئا وميراث من لا وارث له وقطائع الملوك إذا لم تكن مغصوبة والآجام وبطون الأودية والموات فإنّها لله ولرسوله وبعده لمن قام مقامه يصرفه حيث يشاء من مصالحه ومصالح عياله (2) وقال الصادق عليه السلام « إنّ غنائم بدر كانت للنبيّ صلى اللّه عليه وآله خاصّة فقسّمها بينهم تفضّلا منه صلى اللّه عليه وآله » (3) وهو مذهب أصحابنا الإماميّة ويؤيّده أنّ الأنفال جمع نفل وهو الزيادة على شي ء سمّي به لكونه زائدا على الغنيمة كما سمّيت النافلة نافلة لزيادتها على الفرض وسمّي ولد الولد نافلة لزيادته على الأولاد وقيل سمّيت الغنيمة نفلا لأنّ هذه الأمّة فضّلت بها على سائر الأمم. وهنا فوائد :
1 - هل الآية منسوخة؟ قال جماعة من المفسّرين نعم نسخت بآية ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ) إلخ (4) وقال الطبريّ وأصحابنا ليست منسوخة وهو الحقّ لعدم المنافاة بينها وبين آية الخمس لما ذكرنا من المغايرة بين الموضوعين.
2 - هل حكم الأنفال باق بعد الرسول صلى اللّه عليه وآله قال سعيد بن المسيّب وجماعة لا نفل بعده ومنعه جماعة من الفقهاء وأصحابنا لما بيّنّا أنّها للإمام القائم مقامه.
ص: 254
3 - قال قوم : إنّها نزلت في غنائم بدر لاختلاف وقع بينهم فيها (1) وقيل : إنّ أصحابه سألوه غنيمة بدر فأعلمهم اللّه أنّ ذلك لله ولرسوله ليس لهم فيه شي ء وعن ابن عباس أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال يوم بدر من فعل كذا فله كذا فانبعث الشبّان وبقي الشيوخ تحت الرايات فلمّا كانت [ وقت ] (2) الغنيمة جاءت الشبّان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ لا تستأثروا علينا فانّا كنّا ردءا لكم فنزلت الآية فقسّم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بينهم بالسويّة وقال عبادة بن الصامت اختلفنا في النفل وساءت فيه اختلافنا فنزعه اللّه من أيدينا فجعله إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقسّمه بيننا على السواء.
4 - فايدة الجمع بين اللّه و [ بين ] رسوله في الآية كفائدته في قوله تعالى ( فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) (3) أي ملكه لله ورسوله وتخصيصها علم بفعل الرسول صلى اللّه عليه وآله فإنّ فعله حجّة كقوله وقال الزمخشريّ إنّ حكمها يختصّ بهما : اللّه حاكم والرسول منفذ.
5 - « فَاتَّقُوا اللّهَ » أي في المنازعة في الأنفال « وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ » أي الحال الّتي بينكم من المنازعة وقال الزجّاج « ذاتَ بَيْنِكُمْ » أي حقيقة وصلكم ومنه ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) (4) أي وصلكم واجتماعكم على أوامر اللّه « وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ » إن كنتم كاملين في الإيمان أو أنّ طاعة اللّه ورسوله من لوازم الايمان فالتزموا باللّازم إن كنتم صادقين في الملزوم.
الرابعة (5) ( وَما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ
ص: 255
وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ) (1).
أي والّذي أفاءه اللّه أي ردّه إليه من أموال اليهود فذلك لم توجفوا أي لم تسيروا إليه بخيل - والإيجاف من الوجيف وهو سرعة السير - ولكن بقدرة اللّه تعالى وتسليطه لرسوله عليهم.
ثمّ قال ( ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) (2) بيان للأولى ولذلك لم يعطفه عليه « فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ » قيل كان قسمة الفي ء في مبدء الإسلام هكذا مسدّسة ثمّ نسخ ذلك بالآية المتقدّمة. ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ) (3) وقيل بل ذلك إشارة إلى قسمة غنيمة بدر الّتي كانت تختصّ بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وفيه نظر لأنّ هذه على تقدير كونها بيانا للأولى تكون في أحكام بني النضير والأولى واللّه أعلم أن لا تكون بيانا بل تكون إشارة إلى قسمة الخمس ستّة أقسام ويكون المذكورون مع الرسول هنا هم مستحقّي الخمس وقد تقدّم بيانهم وهذا أجود الوجوه ويكون قوله تعالى ( كَيْ لا يَكُونَ ) أي الّذي أفاءه اللّه على رسوله « دُولَةً » أي متداولا « بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ » فيمنعونه مستحقّه.
واعلم أنّ لمباحث الخمس تفصيلا وشروطا علمت من بيانه صلى اللّه عليه وآله وبيان الأئمّة [ المعصومين ] عليهم السلام مذكورة في كتب الفقه (4).
ص: 256
وهو لغة القصد المتكرّر وشرعا قيل هو القصد إلى بيت اللّه لأداء مناسك مخصوصة عنده وفيه نظر لاستلزامه خروج عرفة ومناسك منى من البين بل خروج سائر المناسك لانطباقه على من يقصد البيت لأداء المناسك ولم يؤدّها وقيل هو اسم لمجموع المناسك المؤدّاة في المشاعر المخصوصة وفيه أيضا نظر لأنّ من أخلّ ببعضها سهوا ممّا ليس بمبطل للحجّ يصحّ حجّه ويسمّى حاجّا مع أنّه ما أتى بمجموع المناسك ولأنّه إن أراد المناسك الصحيحة لم يحتج إلى قوله المؤدّاة في المشاعر المخصوصة لأنّ الصحيح لا يكون إلّا كذلك وإن أراد الأعمّ دخل الفاسد هذا مع انطباقه على كلّ عبادة مقيّدة بمكان.
والأولى أن يقال إنّه القصد إلى بيت اللّه بمكّة مع أداء مناسك مخصوصة في مشاعر مخصوصة هناك.
واعلم أنّ التعريف الثاني فيه استعمال النقل والأوّل والثالث فيهما التخصيص وهو خير من النقل.
والحجّ من أعظم أركان الإسلام وأفضلها لأنّه تكليف شاقّ جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرّد عن الشهوات والإقبال على اللّه وهو من المعلوم وجوبه ومشروعيّته من دين الإسلام ضرورة والبحث [ فيه ] هنا أنواع :
ص: 257
وفيه آيتان :
الاولى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (1).
اللّام في « لَلَّذِي » لام تأكيد وقع في خبر إنّ و « مُبارَكاً » منصوب على الحال قيل والعامل فيه وضع وقيل العامل متعلّق الجارّ والمجرور يعني « بِبَكَّةَ » أي استقرّ ببكّة مباركا فعلى الأوّل يجوز أن يكون قد وضع قبله بيت وعلى الثاني لا يجوز. وبكّة ومكّة لغتان (2) وقيل مكّة البلد كلّه وبكّة موضع المسجد وقيل هو مشتقّ من بكّة إذا زحمه سمّيت بذلك لازدحام الناس بها وقيل لأنّها تبك أعناق الجبابرة أي تدقّها إذا قصدوها بالأذى وهنا بحثان :
ص: 258
قوله « وُضِعَ لِلنّاسِ » أي لعبادتهم سئل النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن أوّل مسجد وضع فقال المسجد الحرام ثمّ بيت المقدس وسئل عليّ عليه السلام أهو أوّل بيت قال لا قد كان قبله بيوت لكنّه أوّل بيت وضع للناس وأوّل من بناه إبراهيم عليه السلام ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم ثمّ هدم فبنته العمالقة ثمّ هدم فبناه قريش وعن ابن عباس هو أوّل بيت حجّ بعد الطوفان وقيل أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماوات
ص: 259
والأرض خلقه اللّه قبل أن خلق الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء ثمّ دحيت الأرض من تحته وهذا القول محمول على مكان البيت نفسه وقيل أوّل بيت بناه آدم عليه السلام في الأرض وقيل [ إنّه ] لمّا اهبط آدم عليه السلام قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به الملائكة وقيل إنّه أوّل بيت بالشرف لا بالزمان (1)
وعن أبي خديجة « عن الصادق عليه السلام أنّ اللّه أنزله من الجنّة وكان درّة بيضاء فرفعه اللّه إلى السماء وبقي أساسه وبني بحيال هذا البيت يدخله كلّ يوم سبعون
ص: 260
ألف ملك ثمّ لا يرجعون إليه أبدا فأمر اللّه إبراهيم وإسماعيل ببنيان البيت على القواعد » (1).
« مُبارَكاً » كثير الخير والبركة لما يحصل لمن حجّه وعكف عنده من مضاعفة الثواب وتكفير الذنوب ولما يحصل لمن قصده من نفي الفقر وكثرة الرزق « وَهُدىً لِلْعالَمِينَ » لأنّه متعبّدهم « فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ » أي دلالات واضحات كإهلاك أصحاب الفيل وغيرهم واجتماع الظبي مع الكلب في حرمة فلا ينفر عنه مع نفرته في غيره وأنّ الطير لا تعلوه.
قوله تعالى « مَقامُ إِبْراهِيمَ » قيل هو عطف بيان لآيات ولذلك قرأ ابن عباس آية بيّنة والمشهور الجمع وعليه التواتر فعلى هذا كيف يصحّ بيان الجمع بالواحد أجيب إمّا بأن يكون بمنزلة الجمع نحو قوله ( إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ) (2) وفيه نظر لأنّه مجاز أو بأنّ المقام يشتمل على آيات كأثر رجليه في الحجر وغوصهما فيه إلى الكعبين ولأنه بعض الصخرة دون بعض وحفظه من المشركين مع كثرة أعدائه وإبقائه [ إلى ] مدّة من السّنين فساغ البيان به وفيه أيضا نظر لأنّ المقام نفسه ليس بآية بل فيه الآيات فلا يجوز جعل ما فيه الآيات عطف بيان لنفس الآيات لوجوب توارد البيان والمبيّن على ذات واحدة ، أو يكون « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » آية ثانية ويكون الآيتان جمعا أو الآيات الباقية مطويّة كقول جرير :
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم
من العبيد وثلث من مواليها(3)
ومنه قوله صلى اللّه عليه وآله « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرّة عيني في الصلاة » (4) وفيه أيضا نظر لأنّ الطيّ إنّما يكون إذا وجدت دلالة على المطويّ
ص: 261
كقول جرير فإنّه يعلم أنّ الثلث الباقي من الأوساط ليسوا من العبيد ولا الموالي ولا نسلّم أنّ قوله صلى اللّه عليه وآله من الطيّ.
والّذي يقوى في الظنّ أنّ « مَقامُ إِبْراهِيمَ » عطف بيان لخبر إنّ وهو « لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً » فانّ الحرم كلّه مقام إبراهيم فضلا عن البيت وحده كما يقال مكّة مقام فلان فإنّه لا يشترط مساواته للمقيم كما يقال فلان في السوق وفي المسجد ولذلك قيل إنّ سبب نزول الآية الردّ على اليهود في تفضيلهم بيت المقدس على المسجد الحرام والكعبة فعبّر سبحانه عن ذلك بمقام إبراهيم (1) وعلى هذا يكون الآيات مطويّة غير مذكورة وقد ذكرنا طرفا منها.
قوله « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » ليس معطوفا على « مقام » ليكونا عطف بيان لما عرفت من ضعفه بل هو عطف على ما سبق من كونه هدى وفيه آيات بيّنات وشرف آخر له وهو كونه أمنا لمن دخله وحينئذ يحتمل أن يكون خبرا عن إجابة دعاء إبراهيم في قوله تعالى ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (2) فانّ اللّه تعالى ألان قلوب العرب لحصول هذا الغرض حتّى أنّ الرجل منهم لو جنى أيّ جناية [ في غير الحرم ] ثمّ التجأ إلى الحرم لم يطلب.
ويحتمل أن يكون أمرا أي من دخله فليكن آمنا وذلك أيضا لا يخرجه عن الشرف لأنّ هذا الأمر معلّل بشرف ذلك المكان ولذلك حكم أصحابنا بأنّ من وجب عليه حدّ أو تعزير أو قتل ثمّ التجأ إلى الحرم لم يتعرّض بل يضيّق عليه
ص: 262
مطعما ومشربا حتّى يخرج وبه قال أبو حنيفة خلافا للشافعيّ وعن الباقر عليه السلام « من دخله عارفا بجميع ما أوجبه اللّه عليه كان آمنا في الآخرة من العذاب الدائم » (1).
قوله « ولله » أي هو حقّ له على المستطيع منهم. قوله « فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ » لمّا ذكر أنّه حقّ له أوهم أنّ ذلك للحاجة إليه فأزال ذلك الوهم بذكر الاستغناء وهذا البحث بطوله وإن لم يكن من الفقه لكنّه نافع فيه.
قوله « وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ » هنا مسائل :
1 - « عَلَى النّاسِ » عامّ أبدل منه « مَنِ اسْتَطاعَ » بدل البعض من الكلّ وهو عامّ للذكور والإناث والخناثى ، خصّ بمنفصل إمّا عقلا وهو اشتراط الفهم للخطاب لاستحالة تكليف غير الفاهم أو نقلا وهو قوله صلى اللّه عليه وآله « رفع القلم عن ثلاثة عن الصبيّ حتّى يبلغ والمجنون حتّى يفيق والنائم حتّى ينتبه » (2) فخرج حينئذ الصبيّ والمجنون عن الوجوب ولمّا كان العبد محجورا عليه لا قدرة له على التصرّف في نفسه لم يكن مستطيعا فخرج أيضا من العموم.
2 - لم نسمع خلافا في أنّ تخلية السرب واتّساع الزمان والسلامة من المرض المانع من السفر شروط في الاستطاعة فلا يجب على فاقد واحد منها لعدم استطاعته.
3 - ورد في الحديث عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه فسّر الاستطاعة بالزاد والراحلة
ص: 263
ولذلك قال الشافعيّ أنّها بالمال فأوجب الاستنابة على الزمن المقعد إذا وجد اجرة من ينوبه وقال مالك إنّها بالبدن فيجب عنده على من قدر على المشي والتكسّب في الطريق وقال أبو حنيفة إنّها بمجموع الأمرين فلم يوجب إلّا على من قدر على الزاد والراحلة ونفقة الذهاب والإياب فاضلا عن حوائجه الأصليّة ونفقة عياله إلى حين عوده وبذلك قال أصحابنا الإماميّة غير أنّ بعضهم يشترط مع ذلك الرجوع إلى كفاية من مال أو صناعة أو حرفة ويحتجّ على ذلك بما رواه أبو الربيع الشاميّ (1) « عن الصادق عليه السلام أنّه سئل ما الاستطاعة؟ فقال ما يقول هؤلاء؟ فقيل يقولون الزاد والراحلة فقال عليه السلام قد قيل ذلك لأبي جعفر عليه السلام فقال هلك الناس إذن إذا كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما ممّا يمون به عياله ويستغني عن الناس يجب عليه الحجّ ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفّه فقد هلك إذن ، فقيل له ما السبيل عندك يا ابن رسول اللّه فقال : السعة في المال وهو أن يكون له ما يحجّ ببعضه ويبقى بعضه يمون به عياله ثمّ قال أليس قد فرض اللّه الزكاة فلم يجعل إلّا على من ملك مائتي درهم ».
ص: 264
والجواب بالمنع من صحّة السند (1) وبتقدير صحّته نحملها على أن يبقى له ما يمون به عياله لذهابه وإيابه والأقوى الأوّل لظاهر الآية ولروايات كثيرة عن الباقر والصادق عليهما السلام ولمراعاة جانب الاحتياط.
فائدة : لا يشترط عندنا ملك الزاد والراحلة بل التمكّن من الانتفاع بهما فلو بذل له باذل وجب عليه لصدق الاستطاعة (2) في حقّه وقال أبو حنيفة وأحمد و
ص: 265
مالك لا يجب وللشافعيّ قولان.
4 - أنّ الوجوب المذكور على الفور تضيّقا لا يجوز معه التأخير وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعيّ إنّه واجب موسّع محتجّا بأنّ آية الحجّ نزلت ولم يحجّ عليه السلام إلّا في حجّة الوداع أجيب بأنّه أخّر لعدم الاستطاعة لأنّه كان قد هادن أهل مكّة أن لا يأتي إليهم فلمّا نزلت آية الحجّ سار إلى أن وصل الحديبية فصدّوه فحلق وأحلّ (1).
ثمّ الّذي يدلّ على أنّها على الفور عموم قوله تعالى ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) أي ما هو سبب المغفرة والحجّ كذلك ولقوله صلى اللّه عليه وآله « من وجب عليه الحجّ فلم يحجّ فليمت يهوديّا أو نصرانيّا » (3) أتى بفاء التعقيب ورتّب الوعيد وهو صريح في الفوريّة.
5 - أنّه يجب في العمر مرّة واحدة لأنّ اللّفظ المطلق يحمل على أقلّ مراتبه لأصالة البراءة من الزائد ولأنّ الأمر لا يقتضي التكرار ولما رواه ابن عباس « قال لمّا خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالحجّ قام إليه الأقرع بن حابس فقال أفي كلّ عام فقال عليه السلام لا ولو قلت نعم لوجب ولو وجب عليكم لم تعملوا بها ، الحجّ في العمر مرّة [ واحدة ] فمن زاد فتطوّع فنزلت ( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ) (4) الآية.
ص: 266
6 - أنّه تعالى ذكر في الآية [ أمورا ] من التوكيد لأمر الحجّ ما لم يذكره في غيرها من وجوه الأوّل إيراده بصيغة الخبر الثاني إيراده في صورة الاسميّة الثالث إيراده على وجه يفيد أنّه حقّ لله في رقاب الناس الرابع تعميم الحكم أوّلا ثمّ تخصيصه وهو كايضاح بعد إبهام وتثنية وتكرار للمراد فهو أبلغ من ذكره مرّة واحدة الخامس تسمية ترك الحجّ كفرا من حيث إنّه فعل الكفرة وأنّ تركه من أعظم الكبائر ولذلك قال صلى اللّه عليه وآله « فليمت » الخبر ، السادس ذكر الاستغناء فإنّه في هذا الموضع يدلّ على شدّة المقت والخذلان وعظم السخط السابع قوله « عَنِ الْعالَمِينَ » ولم يقل عنه لما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنّه إذا استغنى عن العالمين فقد استغنى عنه لا محالة ولأنّه يدلّ على الاستغناء الكامل فكان أدلّ على السخط.
7 - روى محمّد بن الفضيل « عن الكاظم عليه السلام في قوله ( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) (1) أنّهم الّذين يتمادون بحجّ الإسلام ويسوّفونه (2) وروى معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ) المراد من تحتّم عليه الحجّ ولم يحجّ [ أعمى أي ] أعمى عن طريق الخير » (3) وقيل في قوله تعالى ( فَفِرُّوا إِلَى اللّهِ ) (4) أنّه أمر بالحجّ أي حجّوا إلى بيت اللّه وفيه دليل على أنّ الحجّ كفّارة للذنوب أي ففرّوا إلى اللّه من ذنوبكم.
ص: 267
الثانية ( وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (1).
قيل الخطاب لإبراهيم عليه السلام قال ابن عبّاس قام في المقام - وعنه أنّه قام على جبل أبي قبيس - ووضع إصبعيه في اذنيه وقال يا أيّها الناس أجيبوا ربّكم فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء وقال الحسن والجبائيّ الخطاب لرسول اللّه (2) وكذلك روي عن الصادق عليه السلام : « أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مناديه أن يؤذّن في الناس بالحجّ فاجتمع بالمدينة خلق كثير من الأعراب وغيرهم وأكثر أهل الأموال (3) من أهل المدينة وخرج لأربع بقين من ذي القعدة فلمّا انتهى إلى مسجد الشجرة وكان وقت الزوال اغتسل ونوى حجّ القرآن بعد أن صلّى الظهرين » (4) وسيأتي تمام الحديث. ثمّ هنا أحكام :
1 - « يَأْتُوكَ رِجالاً » مجزوم على جواب الأمرورجال جمع راجل كقيام جمع قائم أي يأتوك مشاة « وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ » أي كلّ جمل أو ناقة ضامر أي من شأنه أن يهزل من طول السّري (5) أي ركبانا على كلّ ضامر فهو حال معطوف على حال « ويأتين » صفة « لضامر » وقرئ شاذّا يأتون صفة لرجال وركبان.
ص: 268
والفجّ الطريق والعميق البعيد الأطراف أي من المفازات ومنه بئر عميق أي بعيد القعر وفيها دلالة على راجحيّة المشي في الحجّ من حيث ابتدء بذكره وهو يدلّ على الاهتمام به وأيضا أتى بلفظ يدلّ عليه صريحا ولكونه أشقّ فيكون أفضل ومنهم من فضّل الركوب لاشتماله على استخدام المال والبدن والحقّ أنّ المشي إذا لم يضعّف عن العبادة فهو أفضل لما روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « للحاجّ الراكب بكلّ خطوة يخطوها راحلته سبعون حسنة وللحاجّ الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل وما حسنات الحرم قال الحسنة بمائة ألف » (1) وكان الحسن بن عليّ عليه السلام يمشي في الحجّ والبدن تساق بين يديه (2).
2 - « لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ » قيل هي التجارات وهي ترغيب فيها لكون مكّة واديا غير ذي زرع ولولا الترغيب لتضرّر سكّانها ولذلك قال إبراهيم عليه السلام ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (3) وقيل منافع الآخرة وهي الأجر والعفو والمغفرة وهو مرويّ عن [ الصادق و ] الباقر عليه السلام (4) ولو حمل على منفعتي الدنيا والآخرة لما كان بعيدا من الصواب ولذلك نكّر المنافع الدالّ ذلك على تكثيرها.
ص: 269
3 - « وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ » قال الحسن هي عشر ذي الحجّة وسمّيت معلومات للحرص على علمها من أجل وقت الحجّ وبه قال أبو حنيفة وقيل هي أيّام التشريق يوم النحر وثلاثة بعده وكذا الخلاف في المعدودات قيل هي العشرة وقيل هي الثلاثة وهو أقوى لقوله ( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (1) والتعجيل لا يتصوّر في العشرة ويؤيّد القول الثاني في المعلومات أنّ الذكر على البهيمة هو التسمية على ما يذبح أو ينحر وذلك يقع فيها وعن الصادق عليه السلام أنّ الذكر هنا هو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة أوّلها ظهر العيد (2) وهو أيضا مؤيّد للقول الثاني وهو المرويّ عن الباقر عليه السلام (3) هذا ويجب على الفقيه معرفة هذه من هذه ليفتي بها لو نذر شخص الصدقة أو الصلاة أو غيرهما في أحد الأيّامين.
4 - « بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ » هي الإبل والبقر والغنم من باب إضافة العامّ إلى الخاصّ كحركة نقلة وأصل البهيمة من الإبهام وهو عدم الإيضاح والذكر عليها هو التسمية والنيّة للتضحية والأمر بالأكل هنا للإباحة أو الندب والأمر في الإطعام للندب لا للوجوب هذا إن كان الذّبح لغير الهدي والتضحية وإلّا فالأمران في الهدي للوجوب وفي الأضحيّة للندب والبائس ذو ضرر من الفقر.
« ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ » عن ابن عباس ليقضوا مناسك الحجّ كلّها وعن الحسن ليزيلوا قشف الإحرام من تقليم ظفر وأخذ شعر وغسل رأس واستعمال طيب وفي الأوّل نظر لأنّه ذكره بعد الذّبح بكلمة « ثمّ » الدالّة على الترتيب والتراخي ولم يقع جميع المناسك [ للطواف ] بعد الذبح بالإجماع فيحمل على ما يفعل بعد الذبح من الحلق والرمي وغيرهما من المناسك ويكون عطف الطواف من باب « [ مَلائِكَتِهِ ] وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ » (4). و ( فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ ) (5).
ص: 270
6 - « وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ » أي ما نذروه من الحجّ أو غيره من الطاعات في تلك الأيّام فيضاعف لهم الثواب ، وفيه دلالة على وجوب إيفاء النذر مطلقا مع حصول شرائطه.
7 - « وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ » صريح في الأمر بالطواف بالبيت الدالّ على الوجوب اتّفاقا لكنّه مجمل علم بيانه من الرسول صلى اللّه عليه وآله لقوله صلى اللّه عليه وآله « خذوا عنّي مناسككم » (1) فيكون شاملا لطواف الزيارة والنساء وغيرهما من طواف العمرة فلا وجه [ حينئذ ] لحمله على طواف الزيارة لا غير أو النساء لا غير.
وسمّي البيت عتيقا لأنّ اللّه أعتقه من الغرق في الطوفان أو أعتقه من أيدي الجبابرة وحفظه منهم كما فعل بأبرهة لمّا قصده بالسوء فأهلكه ولا ينتقض بالحجّاج لعنه اللّه قيل لأنّه لم يقصد البيت وإنّما قصد أخذ ابن الزبير ولهذا لمّا قبضه بناه وليس بشي ء لأنّ إقدامه على تلك الفعلة قبيح ومخالف لقوله تعالى ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (2) بل الأولى في الجواب أنّه إنّما لم يهلكه لبركة سيّدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فانّ هذه الأمّة معصومة من عذاب الاستيصال في الدنيا وقيل سمّي عتيقا لقدم عهده فإنّه بناه آدم عليه السلام ثمّ إبراهيم عليه السلام وقيل لأنّه بيت كريم [ بناه كريم ] كما يقال عتاق الخيل [ والطير ] للكريم منهما.
ص: 271
وفيه آيات :
الاولى ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) (1).
في الآية أبحاث
تمام الحجّ والعمرة قيل هو أن يحرم بهما من دويرة أهله وقيل أن يفرد لكلّ واحد منهما سفرا وقيل أن يكون النفقة حلالا وقيل إخلاصهما للعبادة لا للمعاش والحقّ أنّ المراد أن يؤتى بجميع أجزائهما وكيفيّات تلك الأجزاء لكن [ ل ] كون كلّ واحد منهما مركّبا من أجزاء مختلفة ربّما يوهم أنّ من أتى ببعض تلك الأجزاء وأخلّ بالباقي عمدا يصحّ منه ذلك المأتيّ به ويجب عليه قضاء الباقي كمن صام بعض رمضان وترك الباقي وذلك وهم باطل فانّ كلّ واحد من تلك الأجزاء
ص: 272
شرط في صحّة الباقي كأجزاء الصلاة فإذا لم يأت الحاجّ أو المصلّي بكلّ الأجزاء بطل حجّه وصلوته بخلاف الصوم فانّ كلّ يوم من [ أيّام ] رمضان عبادة مستقلّة لا ارتباط لها بيوم آخر ولا شرطيّة لأحدهما بالآخر ولذلك قال المحقّقون من أصحابنا : إنّ كلّ يوم من أيّام رمضان يفتقر إلى نيّة مستقلّة.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه يلزم من ذلك أحكام :
1 - ما قاله أصحابنا أنّ من أفسد حجّه وجب عليه إتمامه والحجّ من قابل لوجوب إتمام الحجّ والإفساد غير مانع منه. ثمّ إنّ الإفساد عندنا سبب مستقلّ لوجوب الحجّ كغيره من الأسباب كالنذر والاستيجار فيجب حجّ آخر غير الأوّل ولو كان مندوبا وكذا نقول فيمن أفسد صومه الواجب المعين أنّه يجب إتمامه وقضاؤه.
2 - استدلّ أصحابنا بالآية أيضا على وجوب إتمام الحجّ والعمرة المندوبين وتقريره يعلم ممّا تقدّم
3 - أنّ الأمر باتمامهما قد يستدلّ به (1) على وجوب كلّ واحد منهما لأنّ
ص: 273
الأمر للوجوب ووجوب كلّ واحد من الأجزاء يستلزم وجوب الماهيّة المركّبة من
ص: 274
تلك الأجزاء ضرورة فتكون العمرة واجبة خلافا لأبي حنيفة فإنّه جعلها سنّة وكذا قال مالك وأوّلا الآية بأنّ المراد إذا شرعتم فيهما ، فانّ الشروع في الندب يوجب إتمامه عندهم أيضا.
4 - قوله تعالى « لِلّهِ » يدلّ صريحا على وجوب إيقاعهما خالصين لله تعالى لا للرّياء والسمعة ولا لقصد المعاش خاصّة وعلى وجوب النيّة في كلّ فعل من الأفعال وعلى عدم صحّة وقوعهما من الكافر لعدم الإخلاص منه وإن كانا واجبين عليه خلافا للشافعيّ فإنّه جعل الإسلام شرطا في وجوب الحجّ مع قوله إنّ الكافر مكلّف بالفروع.
5 - الحجّ والعمرة من المجملات المفتقرة إلى بيان الرسول صلى اللّه عليه وآله فلنذكر بيانهما على مذهب أصحابنا الناقلين ذلك عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام فنقول :
أفعال الحجّ الواجبة على سبيل الإجمال : الإحرام ، ووقوف عرفة ، ووقوف المشعر ، ثمّ مناسك منى الّتي هي الرمي ، والذّبح ، والحلق أو التقصير ، وطواف البيت ، وركعتاه والسعي بين الصفا والمروة ، وطواف النساء ، وركعتاه ، ثمّ المبيت بمنى ليالي التشريق الثلاث ، ورمي الجمار الثلاث في كلّ يوم.
وأفعال العمرة الواجبة : الإحرام ، والطواف ، [ وركعتاه ] والسعي ، والتقصير ويزيد في المفردة طواف النساء ، وركعتاه.
ثمّ إنّ الحجّ ينقسم ثلاثة أقسام (1) تمتّع وقران وإفراد فالتمتّع هو الّذي
ص: 275
تكون العمرة فيه مقدّمة على الحجّ بخلاف أخويه والقران هو أن يقرن بإحرامه سياق هدي (1) يعقد إحرامه بإشعاره أو تقليده وإن شاء بالتلبية والمفرد يقتصر على عقد إحرامه بالتلبية لا غير ثمّ يقع الفرق بين التمتّع وأخويه تفصيلا بوجوه :
الأوّل أنّ وجوب الهدي يختصّ بالمتمتّع بخلافهما الثاني أنّه لا يجب في عمرة التمتّع طواف النساء. الثالث أنّ ميقات (2) عمرة التمتّع.
ص: 276
لأهل العراق (1).
ص: 277
ص: 278
ص: 279
ص: 280
العقيق (1) ....
ص: 281
الجحفة (1) وهي ....
ص: 285
ميقات أهل الشام (1) اختيارا. وميقات حجّه مكّة وميقات حجّهما المواقيت المذكورة ومن كان منزله أقرب إلى عرفات فمنزله [ ميقاته ] وميقات عمرتهما الجعرانة (2) أو التنعيم (3) ....
ص: 286
أو الحديبية (1) الرابع أنّ المتمتّع يجب اتّحاد السنة لعمرته وحجّه بخلافهما الخامس أنّ المتمتّع لا يحلّ من عمرته إلّا بالتقصير والمفرد يتخيّر بينه وبين الحلق السادس أنّ عمرة المتمتّع في أشهر الحجّ بخلاف عمرتهما السابع أنّ المتمتّع لا يصحّ منه تقديم طواف حجّه على الموقفين اختيارا بخلافهما الثامن أنّ المتمتع يجب عليه طواف الحجّ وسعيه وطواف النساء في العاشر أو الحادي عشر فلو أخّر أثم وأجزأه وأمّا هما فيجوز لهما التأخير طول ذي الحجّة ولا إثم.
« فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ » فيه مسائل :
1 - يقال : أحصر الرّجل إذا منع من مراده بمرض أو عدوّ أو غيرهما قال اللّه تعالى ( الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (2) وحصر إذا حبسه عدوّ عن المضيّ أو سجن ومنه قيل للحبس الحصر وهما بمعنى المنع من كلّ شي ء مثل صدّه وأصدّه فعند أبي حنيفة كلّ منع بعدوّ أو مرض أو غيرهما يثبت له حكم الإحصار وعند مالك والشافعيّ وأحمد يختصّ [ الحصر ] بمنع العدوّ وحده وأمّا المنع بالمرض فقالوا يبقى على إحرامه ولا يتحلّل حتّى يصل إلى البيت فان فاته الحجّ فعل ما يفعله المفوّت من عمل العمرة والهدي والقضاء هذا إذا لم يشترط عندهم أمّا مع الشرط فالصدّ والحصر سواء.
وعند أصحابنا الإماميّة أنّ الإحصار يختصّ بالمرض والصدّ بالعدوّ وما ماثله لاشتراك الجميع في المنع من بلوغ المراد ولمّا كان لكلّ منهما حكم ليس للآخر اختصّ باسم فإنّ حكم الممنوع بالمرض أن يبعث هديه مع أصحابه ويواعدهم يوما
ص: 287
لذبحه فيتحلّل في ذلك اليوم من كلّ شي ء إلّا من النساء حتّى يحجّ في القابل إن كان حجّه واجبا أو يطاف عنه للنّساء إن كان حجّه ندبا والممنوع بالعدوّ يذبح هديه حينئذ ويحلّ له كلّ شي ء حتّى النساء.
ألف - يتحقّق الصدّ عندنا بالمنع عن الموقفين معا لا عن أحدهما مع حصول الآخر أمّا الصدّ عن مكّة مع حصول الموقفين خاصّة فإشكال أقربه عدم تحقّقه إن كان قد تحلّل فيبقى على إحرامه بالنسبة إلى الطيب والنساء والصيد لا غير حتّى يأتي بباقي المناسك وإن لم يتحلّل يتحقّق فيتحلّل ويعيد الحجّ من قابل وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعيّ في القديم وقال في الجديد وأحمد الإحصار في الكلّ متحقّق.
ب - هل الاشتراط يسقط الدّم ويفيد التحلّل عند حصول الشرط أم لا؟ قال الشافعيّ وأحمد نعم وقال مالك وجوده كعدمه لا يفيد شيئا وقال أبو حنيفة الشرط يفيد سقوط الدّم لا التحلّل لأنّ التحلّل يستفاد من الإطلاق [ في الآية ] عنده ولأصحابنا قولان : الأقوى بقاء الدم على حاله والتحلّل مع الشرط عزيمة ومع عدمه رخصة.
ج - هل لهدي التحلّل بدل أم لا؟ الأقوى عندنا أنّه لا بدل له مطلقا وبه قال أبو حنيفة والشافعيّ في أحد قوليه وقال في الآخر وأحمد بدله صوم عشرة أيّام ولا يتحلّل عندهما إلّا مع البدل.
2 - « فَمَا اسْتَيْسَرَ » بمعنى يسر وتيسّرمثل استصعب بمعنى صعب وتصعّب إمّا بدنة أو بقرة أو شاة والهدي جمع هدية كجدي جمع جدية السرج وهي ما يحشى تحت ظلفة الرّحل وقيل هو مفرد مؤنّثة هدية وجمعه هديّ بتشديد الياء واشتقاقه قيل من الهديّة وقيل من هداه إذا ساقه إلى الرشاد ، لأنّه يساق إلى الحرم وموضع « ما استيسر » رفع أي فعليكم أو نصب أي فاهدوا أو فاذبحوا.
3 - « وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ » أي لا تحلّوا ، كنى بالحلق عنه لكونه من لوازمه
ص: 288
« حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ » عند الشافعيّ حيث صدّ وأحصر لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله ذبح هديه في الحديبية وهي من الحلّ وعند أبي حنيفة محلّه الحرم مطلقا لصدّ وحصر وعند أصحابنا لا يراعى للصدّ زمان ولا مكان وأمّا الحصر فمكّة إن كان في عمرة ومنى إن كان في حجّ ولا خلاف [ في ] أنّه يجب القضاء في حجّ الفرض إلّا في رواية عن مالك وأمّا حجّ الندب فعندنا لا يجب وبه قال مالك والشافعيّ وقال أبو حنيفة يجب ولأحمد قولان والمحلّ بالكسر من الحلّ أي لا تحلقوا حتّى يذبح حيث يحلّ ذبحه فيه ولو كان من الحلول لقال محلّه بفتح الحاء.
4 - « فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً » يحتاج إلى حلق الشعر أو به أذى في رأسه وهو القمل فعليه فدية إذا حلق رأسه والفدية إمّا صيام ثلاثة أيّام أو إطعام ستّة مساكين لكلّ مسكين مدّان أو عشرة لكلّ مسكين مدّ أو شاة يذبحها ويعطيها الفقراء والنسك مصدر وقيل جمع نسيكة « روي أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال لكعب بن عجرة وقد كان قمل رأسه لعلّك أذاك هو أمّك قال نعم يا رسول اللّه قال له احلق رأسك وصم ثلاثة أيّام أو أطعم ستّة مساكين أو أنسك شاة ، فكان كعب يقول في نزلت هذه الآية وروي أنّه مرّ به النبيّ وقد قرح رأسه فقال صلى اللّه عليه وآله كفى بهذا أذى (1).
( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ) الآية. هنا فوائد :
الأولى : لمّا ذكر حكم المحصر ومن به أذى أو مرض قال « فَإِذا أَمِنْتُمْ » أي من المرض والعدوّ أو فإذا كنتم في حال أمن « فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ » أي انتفع بسببها قاصدا إلى الحج فعليه ما تهيّأ له من الهدي بدنة أو بقرة أو شاة والفاء في « فمن » جواب إذا وفي « فما » جواب من و « ما » موصولة وقد تقدّم وصف حجّ التمتّع والفرق بينه وبين أخويه.
ص: 289
ثمّ إنّ حجّ التمتّع قد يكون ابتداء كمن يحرم أوّلا بالعمرة ثمّ بعد قضاء مناسكها يحرم بالحجّ وذلك ممّا لا نزاع في مشروعيّته وقد يكون بالعدول عن حجّ الافراد (1) فإنّ من دخل مكّة محرما بحجّ الإفراد فالأفضل له أن يعدل بإحرامه
ص: 290
إلى عمرة التمتّع ويتمّ حجّ التمتّع وهذا منعه جميع فقهاء العامّة (1).
ثمّ إنّ جماعة من أصحابنا جوّزوا هذا العدول حتّى في فرض العين ومنهم
ص: 291
من منعه في فرض العين وجوّزه في الندب والفرض غير المتعين وحمل النصّ الوارد (1) على ذلك جمعا بين الدليلين وهو أولى.
فائدة : هذه هي الّتي منعها عمر (2) فقال : « متعتان كانتا على عهد رسول اللّه
ص: 292
صلى اللّه عليه وآله أنا احرّمهما وأعاقب عليهما » (1).
وأمّا من دخل قارنا فلا يجوز له العدول :
روى معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام وقد تقدّم صدر الرواية ثمّ ساق الحديث
====
(1)
ص: 293
إلى أن قال : « فلمّا وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالمروة بعد فراغه من السعي أقبل على الناس بوجهه فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال هذا جبرئيل - وأومى بيده إلى خلفه - يأمرني أن
ص: 294
آمر من لم يسق هديا أن يحلّ فلو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم ولكنّي سقت الهدى ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحلّ حتّى يبلغ الهدي محلّه فقال رجل من القوم - يعني عمر بن الخطّاب - (1) أنخرج حجّاجا ورؤسنا تقطر؟فقال : إنّك لن تؤمن بها أبدا ».
وفي رواية أخرى : أنحلّ ونواقع النساء وأنت أشعث أغبر.
« قال : فقام إليه سراقة بن مالك بن جعشم الكنانيّ (2) فقال يا رسول اللّه
ص: 295
علّمتنا ديننا فكأنّما خلقنا اليوم فهل الّذي أمرتنا به لعامنا هذا أو لما يستقبل؟ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : بل هو للأبد إلى يوم القيامة ثمّ شبّك بين أصابعه بعضها في بعض وقال : [ ا ] دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة هكذا » (1).
وكان ذلك في حجّة الوداع ومات صلى اللّه عليه وآله على ذلك وليس لأحد أن ينسخ حكما ثبت في زمانه فدعوى النسخ باطلة.
« وقدم عليّ عليه السلام من اليمن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو بمكّة فدخل على فاطمة عليها السلام وهي قد أحلّت فوجد ريحا طيّبة ووجد عليها ثيابا مصبوغة فقال لها : ما هذا يا فاطمة؟ قالت أمرني بهذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فخرج عليّ عليه السلام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مستفتيا محرّشا على فاطمة فقال : يا رسول اللّه إنّي رأيت فاطمة قد أحلّت وعليها ثياب مصبوغة؟ فقال أنا أمرت الناس بذلك وأنت يا عليّ بما أهللت؟ فقال : قلت يا رسول اللّه إهلالا كإهلال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كن على إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي » (2).
1 - لا خلاف في وجوب الهدي على المتمتّع ولكن هل هو نسك في نفسه أو جبران قال أصحابنا بالأوّل لظاهر التنزيل وقال الشافعيّ هو جبران لنقص إحرامه لوقوعه في غير المواقيت وليس بشي ء لأنّا نمنع كون ذلك نقصا بل ميقاته مكّة كما أنّ غيره ميقاته خارج عنها ويتفرّع على ذلك أنّ عند الشافعيّ لا يجوز الأكل منه كغيره من الكفّارات وعندنا وعند أبي حنيفة يجوز الأكل منه.
2 - يجب الهدي على المتمتّع بنفس إحرامه ويستقرّ في ذمّته لتعليق وجوبه على المتمتّع لقوله تعالى ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )
ص: 296
وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعيّ لا يجب حتّى يقف بعرفة وقال مالك لا يجب حتّى يرمي جمرة العقبة وكلاهما عدول عن الظاهر.
3 - لا يجوز إخراج الهدي قبل إحلال العمرة إجماعا وكذا بعد إحلالها قبل إحرام الحجّ عندنا وعند أبي حنيفة. وقال الشافعيّ في أحد قوليه يجوز وأمّا بعد إحرام الحجّ فجزء الشافعيّ بجواز إخراجه وقال أصحابنا محلّه يوم النحر وبه قال أبو حنيفة.
الثانية : إذا عدم الهدي ووجد ثمنه خلّفه عند ثقة ليشتريه له ويذبحه طول ذي الحجّة فإن تعذّر تعيّن الهدي في القابل وإذا عدم الثمن أيضا صام وعند بعض أصحابنا ينتقل إلى الصوم بعدم وجدان الهدي وإن وجد الثمن والأوّل أقوى وعليه دلّت الرواية (1) ثمّ الصوم في الحجّ هو أن يصوم يوما قبل التروية ويومها ويوم عرفة متتابعا وروي جوازها في أوّل ذي الحجّة مع تلبّسه بالمتعة وقال أبو حنيفة إذا أهلّ بالعمرة جاز الصوم إلى يوم النحر وقال الشافعيّ لا يجوز قبل إحرام الحجّ وقال الشيخ رحمه اللّه لا خلاف بين الطائفة أنّ الصوم المذكور مع الاختيار وأنّ الإحرام بالحجّ ينبغي أن يكون يوم التروية فخرج من ذلك جواز الصوم قبل الإحرام بالحجّ.
1 - لو وجد الهدي قبل الصوم تعيّن الذّبح ولم يجزئ الصوم وللشافعيّ أقوال منشؤها اعتبار حال الوجوب أو الأداء أو أغلظ الحالين.
2 - لو وجده بعد الشروع في الصوم لم يجب عليه الرجوع إلى الهدي لكنّه أفضل وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة بذلك إن وجده في السبعة وإن كان في الثلاثة أهدى وفيما بينهما إن كان قد أحلّ فالصوم وإلّا فالهدي.
3 - إذا لم يصم السابع والثامن والتاسع بل ابتدأ بالثامن صام الثالث بعد
ص: 297
أيّام التشريق ولا يجوز صومها في أيّام التشريق وبه قال الشافعيّ في الجديد وجوّز صومها في القديم.
4 - إذا لم يصمها في الذي تقدّم صامها بقيّة ذي الحجّة أداء فإذا أهلّ المحرّم ولم يصم تعيّن الهدي وقال أبو حنيفة إذا جاء النحر ولم يصم تعيّن الهدي في ذمّته وقال الشافعيّ في الجديد يصومها بعد أيّام التشريق باقي ذي الحجّة قضاء.
5 - يجب فيها التتابع ولذلك قرئ شاذّا « متتابعات » فلو أفطر لغير عذر في أثنائها استأنف إلّا في كون الثالث العيد ويصحّ صوم هذه ولو صدق عليه اسم السفر.
6 - السبعة يصومها [ إذا فرغ من أفعال الحجّ ] بعد الرجوع إلى أهله ولو أقام بمكّة انتظر قدر وصول صحبه أو مضيّ شهر وقال أبو حنيفة يصومها إذا فرع من أفعال الحجّ وللشافعيّ قولان لنا ظاهر الآية فإنّ الرجوع لا يفهم منه إلّا ذلك.
7 - لا يجب التتابع في السبعة على أصحّ القولين عندنا ويجوز صومها متتابعة للثلاثة إذا اتّفق الشرط.
فائدة : هنا سؤالان الأوّل : لم قال « تِلْكَ عَشَرَةٌ » فإنّ ذلك معلوم من ضمّ أحد العددين إلى الآخر. الثاني : لم قال « كامِلَةٌ » فإنّ صدق العشرة يستلزم كمالها.جواب الأوّل : لمّا كان الواو قد يجي ء بمعنى أو كما في قوله ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) (1) أمكن تصوّرها هنا فأزيل الوهم بذلك وجواب الثاني أنّها كاملة في بدليّة الهدي إجزاء وثوابا.
ص: 298
[ الثالثة ] (1) « ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ » قال الشافعيّ « ذلك » إشارة إلى الهدي أو الصيام والحقّ خلافه بل هو إشارة إلى التمتّع فانّ اللام في « ذلك » للبعيد وذكر التمتّع أبعد من الهدي وأيضا فإنّه أجمع فائدة من قوله.
ثمّ اختلف في « حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » فقال الشافعيّ من كان دون مسافة القصر وقال أبو حنيفة هم أهل الميقات فما دونه ولأصحابنا قولان أحدهما من كان على اثني عشر ميلا فما دون ولم نظفر له بدليل وثانيهما ثمانية وأربعون ميلا وهو الحقّ لما رواه زرارة عن الباقر عليه السلام « قال قلت له [ ما معنى ] قول اللّه تعالى ( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) قال يعني أهل مكّة ليس عليهم متعة كلّ من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلا ذات عرق وعسفان وكلّما يدور حول مكّة فهو ممّن دخل في هذه الآية وكلّ من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة » (2).
إذا عرفت هذا فعندنا أنّ التمتّع فرض عين لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لا يجوز له الحجّ في فرض الإسلام بغيره اللّهمّ إلّا لضرورة تحوجه إلى العدول كضيق الوقت أو الحيض للمرأة وأمثاله وكذا عندنا أنّ القران والإفراد قرض عين لمن هو حاضر المسجد [ الحرام ] وليس له العدول إلى التمتّع إلّا لضرورة ومع العدول يجب الدّم خلافا للشافعيّ فإنّه لم يوجبه بناء على ما قاله من عود الضمير في ذلك إلى الهدي وقد عرفت ضعفه.
واتّفق الفقهاء الأربعة على أنّه ليس في الثلاثة فرض عين ثمّ اختلفوا في أيّها أفضل فقال مالك وأحمد : التمتّع أفضل وهو أحد قولي الشافعيّ وفي قوله الآخر
ص: 299
الإفراد أفضل ولذلك جعل الهدي جبرا لا نسكا وقال أبو حنيفة القران أفضل والحقّ عندنا أنّ التمتّع أفضل لما ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله « لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي » (1) تأسّفا منه صلى اللّه عليه وآله على فوات العمرة المتمتّع بها ولا تأسّف على فوات غير الأفضل ولأنّه مشتمل على نسكين العمرة والحجّ فيكون أفضل من نسك واحد ولما ورد عن الباقر عليه السلام « لو حججت ألفا وألفا لتمتّعت » (2).
الثانية ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ ) (3).
فيه فوائد :
1 - تقدير الآية زمان الحجّ أشهر، كقولهم البرد شهران « معلومات » أي معروفات للناس يريد أنّ زمان الحجّ لم يتغيّر في الشرع وهو ردّ على الجاهليّة في قولهم بالنسي ء كما يجي ء وهي شوّال وذو القعدة وذو الحجّة عند المحقّقين من أصحابنا وبه قال مالك وقيل تسعة من ذي الحجّة وبه قال الشافعيّ وقيل عشرة وبه قال أبو حنيفة والأوّل أصحّ لأنّ الأشهر جمع والجمع لا يصدق على أقلّ من ثلاثة وإطلاق الاسم على الكلّ حقيقة وعلى البعض مجاز والأصل عدمه.
هذا مع أنّ التحقيق هنا أن يقال إن أريد بزمان الحجّ ما يقع فيه أفعاله فهو كمال الشهر لأنّ بعض المناسك يقع فيه كالذّبح والطواف كما تقدّم وإن أريد ما يفوت الحجّ بفواته فهو إمّا التاسع أو العاشر وحينئذ يكون إطلاق الشهر
ص: 300
على بعضه مجازا أو نقول إنّ الفعل الواقع في ظرفه لا يجب مساواته كما تقول رأيت زيدا في الشهر الفلانيّ وإن لم يكن رؤيتك له إلّا في بعض ساعة.
2 - « فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ » أي ألزم نفسه به بإيقاع النيّة والتلبيات الأربع للمتمتّع والمفرد وأمّا القران فمخيّر كما تقدّم وفي هذا دلالة على أنّ إحرام الحجّ لا ينعقد إلّا في هذه الأشهر وبه قال الشافعيّ إذ لو انعقد في غيرها لزم كون المبتدأ أعمّ من خبره وهو باطل وخالف أبو حنيفة بتجويز عقده في غيرها لكنّه مكروه عنده وعمرة التمتّع لمّا كانت داخلة في الحجّ بالنصّ المتقدّم فهي جزء منه فكان حكمها حكمه في عدم انعقاد إحرامها في غير الأشهر المذكورة.
3 - « فَلا رَفَثَ » إلى آخره قيل الرّفث الفحش من الكلام والفسوق الخروج عن أحكام الشرع والجدال المراء والمنفيّات الثلاث منهيّات في المعنى لما تقدّم من إقامة الخبر مقام النهي وإنّما أبرزها في صورة النفي لينفى حقائقها من البين وخصّها بالحجّ وإن كانت واجبة الاجتناب في كلّ حال إلّا أنّه في الحجّ أسمج كلبس الحرير في الصلاة والتطريب بقراءة القرآن هذا وروى أصحابنا أنّ الرفث الجماع والفسوق الكذب والجدال الحلف بقول لا واللّه وبلى واللّه (1) وقيل الرفث المواعدة للجماع باللّسان والغمز بالعين له وقيل الجماع ومقدّماته والفسوق التنابز بالألقاب أو السباب لقوله صلى اللّه عليه وآله « سباب المؤمن فسوق » (2) وأنّ الجدال هو المراء بإغضاب على وجه اللّجاج والمماحكة.
قال الزمخشريّ : وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأوّلين بالرفع حملا لهما على النهي أي فلا يكوننّ رفث ولا فسوق والثالث كباقي القرّاء على معنى الاخبار
ص: 301
بانتفاء الجدال كأنّه قال لا شكّ ولا جدال في الحجّ وذلك أنّ قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر [ الحرام ] وسائر العرب يقفون بعرفة وكانوا يقدّمون الحجّ سنة ويؤخّرونه سنة فردّ إلى وقت واحد وردّ الوقوف إلى عرفة فأخبر اللّه أنّه قد ارتفع الخلاف في الحجّ.
واستدلّ على أنّ المنهيّ عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى اللّه عليه وآله :« من حجّ ولم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمّه » (1) وأنّه لم يذكر الجدال وفيه نظر لأنّه إذا حمل على الاخبار عن عدم الخلاف لزم الكذب لأنّه كم من خلاف قد وقع بين الفقهاء وغيرهم في الحجّ فانّ نفي الماهيّة يستلزم نفي جميع جزئيّاتها والأولى أن يقال إنّما نصب الثالث لأنّ الاهتمام بنفي الجدال أشدّ من الأوّلين لأنّ الرفث عبارة عن قضاء الشهوة والفسوق مخالفة أمر اللّه والجدال مشتمل عليهما فانّ المجادل يشتهي تمشية قوله ولا ينقاد للحقّ مع أنّه يشتمل على أمر زائد وهو الإقدام على الإيذاء المؤدّي إلى العداوة وأمّا الحديث المذكور فلا ينافي ما ذكرناه ولأنّه مركّب من المنفيّين.
4 - « وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ » حضّ وحثّ على فعل الخير عقيب نهيه عن الشرّ وإنّما لم يقل وما تفعلوا من شي ء ليكون شاملا للشرّ لأنّه لم يرد الإخبار عن علمه بل الحضّ على فعل الخير عقيب نهيه عن الشرّ ثمّ إنّ العاقل يستدلّ بذلك على علمه بالشرّ [ والخير ] لأنّهما متساويان في صحّة المعلوميّة.
[ 5 - ] « وَتَزَوَّدُوا » أي من العمل الصالح وقيل إنّ قوما من اليمن ما كانوا يتزوّدون في الحجّ ويقولون نحن متوكّلون ونحن نحجّ بيت اللّه أفلا يطعمنا فيكونون كلّا على الناس فنزلت (2) ويؤيّد الأوّل « فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى » والثاني سبب النزول.
ص: 302
الثالثة ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ ) (1).
هنا أحكام :
1 - أنّه لا حرج ولا إثم في طلب الرزق حال الحجّ أمّا بالتجارة أو الصنعة أو المكاراة أو غيرها إذ لا مانع من ذلك عقلا ولا شرعا وكان ناس من العرب يتأثّمون أن يتّجروا أيّام الحجّ وإذا دخل العشر كفّوا عن البيع والشرى فلم يقم لهم سوق ويسمّون من يخرج بالتجارة الداج ويقولون هؤلاء الداج وليسوا بالحاجّ فرفع اللّه عنهم ذلك التأثّم « وروى جابر عن الباقر عليه السلام : أن تبتغوا مغفرة من ربّكم » (2).
2 - « فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ » الإفاضة الدفع بكثرة من إفاضة الماء وهو صبّه بكثرة وأصله أفضتم أنفسكم [ و ] ترك ذكر المفعول وفيه دلالة على وجوب الكون بعرفة وأنّه من فرائض الحجّ لأنّه سبحانه أمر بالإفاضة منه بقوله « ثُمَّ أَفِيضُوا » وهو يستلزم الكون به ولا خلاف في وجوبه لقوله صلى اللّه عليه وآله « الحجّ عرفة » (3) وهو ركن يبطل الحجّ بتركه عمدا ووقته من الزوال يوم التاسع إلى الغروب هذا للمختار وأمّا للمضطرّ فإلى طلوع فجر النحر.
ص: 303
1 - لو أفاض قبل الغروب عامدا ولم يعد صحّ حجّه وعليه بدنة وقال أبو حنيفة وأحمد صحّ حجّه وعليه دم وللشافعيّ قولان أحدهما كقولهما والآخر لا شي ء وقال مالك إذا لم يعد بطل حجّة إلا أن يرجع قبل الفجر.
2 - عرفات اسم لبقعة سمّيت بالجمع كأذرعات وقنّسرين وحدّها من الأراك إلى ذي المجاز إلى ثويّة إلى [ بطن ] عرنة وسمّيت عرفات لأنّ إبراهيم عليه السلام عرّفها بعد وصفها له وقيل لأنّ آدم عليه السلام وحوّا اجتمعا فيه فتعارفا وقيل إنّ جبرئيل عليه السلام كان يري إبراهيم عليه السلام المناسك فيقول عرفت عرفت وقيل إنّ إبراهيم عليه السلام رأى ذبح ولده ليلة الثامن فأصبح يروّي يومه أجمع أي يفكّر : أهو أمر من اللّه أم لا؟ فسمّي يوم التروية ثمّ رأى اللّيلة التاسعة ذلك فلمّا أصبح عرف أنّه من اللّه وقيل إنّ آدم عليه السلام اعترف بذنبه بها وقيل سمّيت بذلك لعلوّها وارتفاعها ومنه عرف الديك لارتفاعه.
3 - « فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ » وفيه دلالة على وجوب الكون به كما يقوله أصحابنا خلافا للفقهاء وذلك لأنّ الذكر المأمور به عنده يستلزم الكون فيه فيكون واجبا وهو ركن كعرفة ولو أخلّ بهما سهوا بطل حجّه لا بأحدهما فيجتزئ بالآخر ووقته من طلوع فجر العاشر إلى طلوع شمسه للمختار وللمضطرّ إلى الزوال وحدّه من المأزمين إلى الحياض إلى وادي محسّر وسمّي مشعرا مفعلا من الشعارة وهي العلامة لأنّه معلم للعبادة وحراما لحرمته ويقال مزدلفة من ازدلف أي دنا لأنّ الناس يدنو بعضهم من بعض ويقال جمع لاجتماع آدم عليه السلام مع حوّا وللجمع بين الصلاتين والذكر هنا هو مطلق التسبيح والتحميد وما شاكلهما.
4 - « وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ » أي اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها وما مصدريّة أو كافّة ( وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ ) أي قبل الهداية أو قبل محمّد صلى اللّه عليه وآله « لَمِنَ الضّالِّينَ » أي الجاهلين بالايمان والطاعة و « إن » هي الخفيفة من الثقيلة واللّام هي الفارقة بينها وبين النافية.
ص: 304
الرابعة ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1)
هنا فوائد :
1 - اختلف في المراد بالإفاضة هنا على قولين : الأوّل نقل عن الباقر عليه السلام وابن عبّاس وجماعة أنّ المراد إفاضة عرفات وأنّ الأمر لقريش وحلفائهم ويقال لهم الحمس (2) لأنّهم كانوا لا يقفون بعرفات مع سائر العرب بل بالمزدلفة كأنّهم [ كانوا ] يرون لهم ترفّعا على الناس فلا تساوونهم في الموقف ويقولون نحن أهل حرم اللّه فلا نخرج منه فأمرهم اللّه بموافقة سائر العرب وقيل « الناس » هو إبراهيم عليه السلام أي أفيضوا من حيث أفاض هو وسمّاه بالناس كما سمّاه امّة وكما قال ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ
ص: 305
النّاسُ ) (1) والمراد نعيم ابن مسعود أو أنّه أراد إبراهيم وولديه فعلى هذا القول في الآية أمر بالكون بعرفة أصرح من الأوّل. الثّاني عن الصّادق عليه السلام أنّه إفاضة المشعر (2) واختاره الجبائيّ وهو الّذي يقوى في نفسي لأنّه ذكر إفاضة عرفات أوّلا فوجب كون هذه غير تلك تكثيرا للفائدة بتغاير الموضوع وأيضا يكون « ثُمَّ » على حقيقتها من المهلة والترتيب فيكون « أَفِيضُوا » معطوفا على « اذكروا » والمهلة هي من أوّل الوقت إلى آخره والمراد بالناس على هذا قيل هم الحمس كما حكينا وقوفهم بالمزدلفة وقيل هو إبراهيم عليه السلام وقيل آدم عليه السلام تنبيها على أنّ
ص: 306
الحجّ من السنن القديمة ولذلك قرئ شاذّا من حيث أفاض الناس بكسر السين أي الناسي من قوله ( فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (1).
2 - على القول الأوّل ما معنى الترتيب هنا فقيل في الكلام تقديم وتأخير وفيه ضعف وقيل معناه تفاوت ما بين الافاضتين وأنّ إحداهما صواب والأخرى خطأ والتحقيق هنا أنّ التراخي كما يكون في الزمان كذا يكون في الرتبة كقوله ( كَلّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) (2) فإنّ مراتب العلم متفاوتة بحسب حال النفس في البعد عن العوائق كذلك نقول هنا إنّ مطلق الإفاضة المأمور به أوّلا يقصر رتبة عن الإفاضة المقيّدة المأمور بها ثانيا.
3 - « وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ » أي اطلبوا منه المغفرة تنبيها على أنّ الإتيان بأفعال الحجّ سبب معدّ لاستحقاق الغفران وإفاضة الرحمة.
الخامسة ( فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ) (3).
هذه الآية يحسن ذكرها هنا متابعة لنسق الكتاب ويحسن [ أيضا ] ذكرها بعد الطواف والسعي وغيرهما لقوله « مَناسِكَكُمْ » وهو جمع مضاف فيفيد العموم لكلّ المناسك الّتي هي أعمال الحجّ ورأينا مراعاة الأوّل أولى وهنا فوائد :
1 - لمّا اشتدّت عناية اللّه تعالى بعبيده بفعل الأصلح لهم وكان اللطف في ذلك يقع منه تارة ومن العبيد اخرى فما كان منه فعله بحكمته وما كان منهم اقتضت
ص: 307
الحكمة حضّهم عليه وإرشادهم إلى القيام به فلذلك كرّر الأمر بالذكر في هذه الآيات خمس مرّات وجعل محلّ الذكر الأزمنة الشريفة والأمكنة المنيفة ضمن العبادات العظيمة ليكثر لهم الجزاء كلّ ذلك إعلاما بشدّة العناية بعبيده وإلّا فالجناب القدسيّ أعظم من أن يعود إليه من ذلك نفع أو ينتفي عنه ضرر.
2 - الذكر يراد به اللّساني تارة والقلبيّ أخرى لكنّ المقصود بالذات هو الثاني وأمّا الأوّل فترجمان للثاني ومنبّه للقلب عليه لكونه في الأغلب مأسورا في يد الشواغل البدنيّة والموانع الطبيعيّة وهذا هو السرّ في تكرار الأذكار والتسبيحات والتحميدات وغيرها.
3 - لا يتوهّم أنّ ذكره تعالى ينقطع بانقطاع المناسك لتعليق الأمر بقضائها بل هو دائم مستمرّ لا ينبغي للمكلّف أن يغفل عنه ودلالة مفهوم المخالفة باطلة كما تقرّر في الأصول وإنّما سبب التعليق ما كانت العرب تعتاده بعد قضاء مناسكها من الوقوف بمنى وذكر محامد الآباء ومفاخرهم فأمرهم بالعدول عن ذلك الّذي لا يفيد إلى ما هو المفيد.
4 - إنّما جعل ذكر الآباء مشبّها به والغالب في التشبيه أنّ المشبّه به أقوى في الوجه مع أنّ ذكره تعالى ينبغي أن يكون أقوى ، جريا على الواقع فإنّ أكثر الناس لا يذكر اللّه إلّا أحيانا يسيرة ولا يغفل عن ذكر آبائه فكان ذكر الآباء أكثر وجودا فحسن جعله مشبّها به وإنّما ردّد بقوله « أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً » لتفاوت النفوس في مراتب القبول فإنّ منهم من لا يخلو عن الذكر طرفة عين ومنهم من لا يخطر بباله ذكر ربّه إلّا أن ينبّهه غيره وبينهما مراتب كثيرة ولذلك ردّد في خطابهم فقنع من قوم بذكر كذكر آبائهم كالعوامّ ومن قوم أشدّ من ذلك كالخواص.
5 - [ ثمّ ] انّه تعالى قسم الذاكرين إلى قسمين أحدهما من مطلوبه بذكره أغراض دنيويّة من المال والجاه والخدم والحشم وغيرها من الحظوظ « وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ » أي من حظّ ونصيب ومفعول « آتِنا » محذوف وإنّما حذفه لكونه فضلة ولاختلاف إرادات الناس فكان ذكر كلّ المرادات يطول وذكر البعض تخصيص من
ص: 308
غير مخصّص وذكرها بلفظ مجمل مستغنى عنه بدلالة الفعل (1) فلم يبق إلّا الحذف فهو مثل قولنا فلان يعطي ويمنع وثانيهما من مطلوبه أغراض أخرويّة فإن خطر أمر دنيويّ فلا يطلبه ولا يريده إلّا أن يكون عونا على أمر أخرويّ لا لذاته وقوله : « أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا » يحتمل عوده إلى القسم الثاني لقربه ويحتمل عوده إلى القسمين معا فإنّ قوله « مِمّا كَسَبُوا » شامل للحسنة والسيّئة معا ومعناه من قصد بذكره شيئا نال ذلك الشي ء من حسنة أو سيّئة وإلى ذلك أشير في الحديث عن الباقر عليه السلام : « ما يقف أحد على تلك الجبال برّ ولا فاجر إلّا استجاب اللّه له فأمّا البرّ فيستجاب له في آخرته ودنياه وأمّا الفاجر فيستجاب له في دنياه » (2).
قوله « وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ » أي [ في ] مجازاته لإعمال عبيده ولا يحتاج إلى فكر يعلم به ماذا يستحقّ المكلّف من ثواب أو عقاب أو لا يستحقّ وإذا لم يحتج إلى فكر كان سريع الحساب.
السادسة ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (3).
البيت من الأسماء الغالبة كالثريّا والصعق و « مَثابَةً » من ثاب إذا رجع وهو مفعول ثان « لجعلنا » وهو مصدر وكذا « أمنا » والمراد ذا أمن مثل رجل عدل أي ذو عدل وقد تقدّم ذكر كيفيّة الأمن فيه وقرأ نافع وابن عامر « واتّخذوا » على صيغة الماضي عطفا على « جعلنا » وباقي القرّاء على صيغة الأمر « ومقام إبراهيم » عرفا غالبا هو محلّ الصخرة الّتي فيها أثر قدميه وهو المراد هنا لا أنّه الحرم أو عرفة أو المشعر أو منى وغير ذلك وهنا أحكام :
ص: 309
1 - استحباب تكرار الحجّ لقوله « مثابة » أي مرجعا ومفهوم الرجوع يقتضي العود إلى ما كان عليه ولذلك ورد استحباب نيّة العود وورد في الحديث « من رجع من مكّة وهو ينوي الحجّ من قابل زيد في عمره ومن خرج من مكّة وهو لا ينوي العود إليها فقد قرب أجله » (1).
2 - وجوب الصلاة في مقام إبراهيم عليه السلام للأمر باتّخاذه مصلّى الدالّ على الوجوب وهو ركعتا الطواف إذ لا صلاة واجبة عنده غيرهما بلا خلاف وهو مرويّ عن الصادق عليه السلام (2) وبه قال الحسن وقتادة والسدّيّ وعلى وجوب ركعتي الطواف إجماع أصحابنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وقال أحمد : هما سنّة وللشافعيّ قولان.
3 - في الآية إشارة إلى أرجحيّة الطواف بالبيت وقد تقدّم دليل وجوبه في قوله تعالى ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) وأنّه من المجملات المفتقرة إلى البيان من النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو الأئمّة عليهم السلام ثمّ الطواف عندنا ركن يبطل النسك بتركه عمدا لا سهوا بل يجب عليه العود للإتيان به فان تعذّر استناب فيه ويجب بعد السعي طواف النساء ولو تركه عمدا لم يبطل حجّه بل يجب عليه العود للإتيان به ولو تركه سهوا جاز أن يستنيب ولو مع القدرة.
4 - قوله « وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ » أي أمرناهما بالتطهير وفيه دلالة على وجوب تنحية النجاسات عن البيت والمسجد وقيل طهّراه من الأصنام وعبادة الأوثان.
5 - ظاهر الآية أنّ وجوب التطهير لأجل الطائفين والعاكفين فيكون واجبا لغيره لا لذاته مع أنّ ظاهر الفتوى أنّه تجب تنحية النجاسة عن المساجد لذاتها لقوله صلى اللّه عليه وآله « جنّبوا مساجدكم النجاسة » (3) ويمكن أن يجاب بجعل اللّام للعاقبة نحو
ص: 310
« لدوا للموت وابنوا للخراب ».
6 - إذا وجب إزالة النجاسة لأجل الطائف فوجوب إزالتها عنه (1) أولى فلا يجوز الطواف مع مقارنة شي ء من النجاسات العينيّة ولا الحكميّة وكذا الكلام في المعتكف والمصلّي فلو أخلّ المكلّف بشي ء من ذلك عمدا بطل طوافه واعتكافه وصلاته لما تقرّر أنّ النهي في العبادة يستلزم البطلان.
السابعة ( إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ ) (2).
الصفا في أصل اللّغة الحجر الصلب الأملس والواحدة صفاة مثل الحصا والحصاة ونقل الجوهريّ عن الأصمعيّ أنّ المرو حجارة بيض برّاقة يقدح منها النار والواحدة مروة ثمّ صارا علمين لجبلين في مكّة مشهورين والشعائر قال الجوهريّ هي أعلام (3) الحجّ وكلّ ما كان علما لطاعة اللّه وواحدها عند الأصمعيّ شعيرة وعند بعضهم شعارة والجناح الإثم وأصله من الجنوح وهو الميل عن المقصد وأصل « يطّوّف » يتطوّف فأدغم التاء في الطاء وقرئ « أن يطوف » من طاف وإنّما قال « فلا جناح » لأنّ المسلمين كانوا في بدء الإسلام يرون أنّ فيه جناحا بسبب ما حكي أنّ أسافا ونائلة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين ووضعا على الصفا والمروة للاعتبار فلمّا طال الزمان توهّم أنّ الطواف كان تعظيما للصنمين فلمّا جاء الإسلام وكسرت الأصنام تحرّج المسلمون من السعي بينهما فرفع اللّه ذلك التحرّج وأصل التطوّع التبرّع من طاع يطوع طوعا : إذا تبرّع وقرأ حمزة والكسائيّ « يطّوّع » بالياء وتشديد الطاء وسكون العين والباقون بالتاء وفتح العين على أنّه فعل ماض وعلى الأوّل هو مضارع مجزوم بأداة الشرط إذا عرفت هذا فهنا أحكام :
ص: 311
1 - السعي عندنا واجب وركن من تركه عمدا بطل حجّه وبذلك قال مالك والشافعيّ لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله « قال اسعوا فإنّ اللّه كتب عليكم السعي » (1) ولنصوص أهل البيت عليهم السلام وقال أبو حنيفة واجب غير ركن وقال جماعة من المفسّرين والفقهاء هو سنّة لظاهر العبارة فإنّ رفع الجناح لا يستلزم الوجوب لأنّه أعمّ منه والعامّ لا يستلزم الخاصّ قلنا علم الاستلزام من بيان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وبيان أهل بيته عليهم السلام.
2 - السعي سبعة أشواط من الصفا إلى المروة شوط وبالعكس وقال قوم من الصفا إلى الصفا شوط كما أنّ الطواف بالبيت من الحجر إلى الحجر شوط وهو باطل لعدم النصّ في بيانه عليه السلام.
3 - يجب البدءة بالصّفا وإن كانت الواو لا يفيد ترتيبا لكن لقوله صلى اللّه عليه وآله : « ابدؤا بما بدء اللّه به » (2) ولأنّه هكذا فعل في بيانه فيكون واجبا.
4 - قيل في قوله تعالى ( وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ) أي زاد في السعي بينهما بعد إتيانه بالواجب وليس بشي ء لأنّه لم يرد استحباب السعي ابتداء بل إذا زاد شوطا سهوا استحبّ له إكمال أسبوعين وحينئذ يكون المراد به من تطوّع بالحجّ أو العمرة بعد الإتيان بالواجب أو يكون المراد به الصعود على الصفا وإطالة الوقوف عليه فقد ورد (3) أنه يستحبّ الوقوف عليه قدر قراءة سورة البقرة في ترتيل وروي أنّه يورث الغنى وقال بعضهم إنّه على إطلاقه أي أيّ خير كان من القربات « فَإِنَّ اللّهَ » تعالى « شاكِرٌ » أي مجاز على الشكر بأضعافه من الثواب « عَلِيمٌ » بقدر ما يجب إيصاله من الجزاء.
الثامنة ( وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ
ص: 312
وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) (1).
البدن جمع بدنة وهي من الإبل خاصّة سمّيت بها لعظم بدنها ونصبها من باب ما أضمر عامله على شريطة التفسير والأصل بدن بضمّتين جمع بدن كثمرة وثمر « ومن » ههنا للتبعيض أي بعض شعائر اللّه ويتعلّق الجارّ والمجرور بفعل محذوف أي جعلناها لكم [ و ] جعلناها من شعائر اللّه « لَكُمْ فِيها خَيْرٌ » أي لكم فيها مال من ظهورها وبطونها والخير يطلق على المال كما يجي ء وإنّما ذكر ذلك لأنّه في المعنى تعليل لكون نحرها من شعائر اللّه بمعنى أنّ نحرها مع كونها كثيرة النفع والخير وشدّة محبّة الإنسان للمال من أدلّ الدلائل على قوّة الدين وشدّة تعظيم أمر اللّه وتقدّم معنى ذكر اسم اللّه « و ( صَوافَّ ) » أي قائمات في صفّ واحد وانتصابها على الحال وقرئ صوافي أي خوالص لله وقرئ أيضا صوافن و « وَجَبَتْ جُنُوبُها » أي سقطت إفطارها على الأرض وسكنت وبردت ومثله وجب الحائط إذا سقط وهنا فوائد :
1 - أنّ الأمر بالأكل منها يخرجها عن كونها كفّارة فإنّ الكفّارات تجب الصدقة بها بجملتها حتّى بجلودها وشعورها وحينئذ يكون هنا إمّا ضحايا أو هدي قران أو هدي تمتّع فالأكل من الأضحيّة ندب وكذا من هدي القران اتّفاقا واختلف في هدي التمتّع فقيل بالوجوب وقيل بالندب ويحتجّ من قال بالوجوب بظاهر قوله « فَكُلُوا مِنْها » فإنّه حقيقة في الوجوب على الرأي الأقوى وبقول الصادق عليه السلام « إذا ذبحت أو نحرت فكل وأطعم كما قال تعالى ( فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) (2) وهذا هو المختار.
ص: 313
فائدة : كانت الأمم من قبل شرعنا يمتنعون من أكل نسائكهم فرفع اللّه تعالى الحرج من أكلها في هذه الملّة.
2 - قال الجوهريّ « القانع » الراضي بما معه وبما يعطى من غير سؤال من قنع بالكسر يقنع قناعة فهو قانع وقيل من قنع يقنع بفتح العين فيهما قنوعا فهو قانع إذا خضع وسأل « والمعترّ » على الأوّل المتعرّض للسؤال بل السائل وعلى الثاني المتعرّض من غير سؤال وفي الروايات ما يدلّ على القولين إن قلت : قد تقدّم « وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ » وهنا « الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ » فما وجههما؟ قلت : لا منافاة لجواز اجتماع الوصفين في واحد بأن يكون ذا ضرّ من فقره يسأل أولا يسأل.
فائدة : ظاهر الروايات والفتيا على قسمة الهدي أثلاثا قيل وجوبا وقيل ندبا وهو الأشهر يتصدّق بثلثه ويهدي ثلثه ويأكل ثلثه ولو كان المأكول أقلّ من الثلث جاز.
3 - يجب كون الهدي الواجب تامّا غير مهزول والهزال أن لا يكون على كليتيه شحم وينبّه على ذلك قوله تعالى « لَكُمْ فِيها خَيْرٌ » والنّاقص والمهزول لا خير فيهما.
4 - « لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها » أي لن ينال رضا اللّه لحوم هذه البدن ولا إراقة دمائها لينتفع بها الفقراء فقطّ بل ينال رضاه التقوى منكم بامتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه وإخراج تلك البدن من مال طيّب لا شبهة فيه عن سخاء نفس فانّ الطبيعة شحيحة ومخالفتها من التقوى والمراد بنيل الرضا تحصيله قيل إنّ الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لله لطخوا البيت بدمائها فأراد المسلمون أن يفعلوا [ ك ] ذلك فنهاهم اللّه بهذه الآية (1).
5 - « كَذلِكَ سَخَّرْناها » لمّا وصفها بأنّها بدن عظام لهم فيها منافع وأنّها قائمة أخبر بأنّه كما جعلها بتلك الأوصاف سخّرها لكم وذلك نعمة عظيمة يستحقّ بها الشكر وكرّر ذلك التسخير لأنّه ذكر أوّلا أنّ تسخيرها معلّل بالشكر ولم يبيّن
ص: 314
كيفيّة الشكر فضمّن التكبير معنى الشكر أي لتشكروه بالتكبير « عَلى ما هَداكُمْ » إلى ما هو سبب تقوى القلوب ، وقد تقدّم أنّ تعظيم المنعم الآمر من لوازم امتثال أمره.
التاسعة ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) (1).
قيل إنّ اللّه تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنّ المسلمين قد دخلوا المسجد الحرام فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنّهم داخلو مكّة في عامهم ذلك فلمّا صدّوا قال المنافقون ما حلقنا ولا قصّرنا ولا دخلنا المسجد حتّى قال عمر : « ما شككت منذ أسلمت إلّا يومئذ فأنزلت » (2) وكان دخولهم
ص: 315
في العام القابل وقوله « الرؤيا » نصب بنزع الخافض أي في الرؤيا و « بالحقّ » إمّا حال من الرؤيا أي متلبّسة بالحقّ أو يكون التقدير صدقا متلبّسا بالحقّ ويراد بالحقّ الحكمة وهي تمييز المحقّ من المبطل ولام « لَتَدْخُلُنَّ » جواب قسم محذوف ودخول الاستثناء في كلامه تعالى إمّا تعليما لعباده أو أنّه من الدخول فانّ منهم من مات قبله أي لتدخلنّ كلّكم إنشاء اللّه أو آمنين إنشاء اللّه قوله « فَعَلِمَ » أي فعلم في التأخير من الصلاح ما لم تعلموا أنتم « فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ » أي قبل الدخول
ص: 316
« فَتْحاً قَرِيباً » قيل هو فتح خيبر وقيل صلح الحديبيّة.
إذا عرفت هذا فنقول : يجب على الحاجّ يوم العاشر الرّمي ثمّ الذّبح للمتمتّع ثمّ الحلق أو التقصير فيحلّ بأحدهما من كلّ ما أحرم منه إلّا الطيب والنساء والصيد ثمّ إنّ بعض أصحابنا قال : إنّ الحلق متعيّن على الصرورة والملبّد لشعره وأمّا غيرهما فهو مخيّر بين الحلق والتقصير والخلق أفضل مستدلّين على ذلك
ص: 317
بروايتي أبي بصير ومعاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام (1) وقال الأكثر بالتخيير مطلقا لكنّ الحلق في حقّ الصرورة والملبّد آكد استدلالا بالآية فإنّه ليس المراد الجمع بينهما اتّفاقا بل [ المراد ] إمّا التخيير أو التفصيل والثاني بعيد وإلّا لزم الاجمال فتعيّن الأوّل ولقول الصادق عليه السلام : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « اللّهمّ اغفر للمحلّقين قيل والمقصّرين يا رسول اللّه قال والمقصّرين » (2) وفي الاستدلال بالآية نظر لأنّه لو أراد التخيير لأتى بأو فيكون الواو للجمع فيكون المراد التفصيل أي محلّقين على تقدير التلبيد والصرورة ومقصّرين على تقدير غيرهما ومعنى الجمع حاصل بالنسبة إلى الصنف وإن لم يحصل بالنسبة إلى كلّ شخص ، ولزوم الاجمال ليس محذورا بعد البيان.
ويمكن أن يجاب عنه بأنّ الواو فيه كما في قوله ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) (3) فيكون للتخيير وقوله الاجمال ليس محذورا بعد البيان قلنا ليس في الآية بيان ولا في أحاديث متواترة بل آحاد معارضة بمثلها معتضدة بالأصل.
1 - التقصير هنا غير متعيّن من الرأس وإن كان ظاهر الآية ذلك بل هو من سائر البدن كما في العمرة.
2 - أنّ الحلق مختصّ بالرجال وحرام على النساء ويتعيّن عليهنّ التقصير وكذا يتعيّن على الخنثى فلو حلقا أثما ولم يجزئهما.
3 - يجب في الحلق أن يحلق جميع الرأس ولا يجزئ بعضه أمّا التقصير فيجزئ مسمّاه
ص: 318
4 - الأصلع والأقرع الأمردان يمرّان الموسى على رؤسهما وجوبا وكذا كلّ من لا شعر على رأسه.
5 - يجب كونه بمنى فلو رحل قبله وجب العود والحلق أو التقصير بها فان تعذّر خلق مكانه وبعث بشعره ليدفن بها استحبابا.
العاشرة ( وَاذْكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (1).
هذه الأيّام هي أيّام التشريق وهي الحادي عشر ويسمّى يوم القرّ والثاني عشر ويسمّى يوم الصدر والثالث عشر ويسمّى يوم النفر وسمّيت أيّام التشريق لتشرّق لحوم الأضاحي فيها وقيل : لشروق القمر فيها طول اللّيل وقال ابن الأعرابي لأنّ الهدي لا ينحر حتّى تشرق الشمس وقيل : لقولهم « أشرق ثبير كيما نغير » وهنا أحكام :
1 - الذكر في هذه الأيّام [ و ] قد تقدّم أنّه التكبير عقيب خمس عشرة صلاة لمن كان بمنى وعقيب عشر لمن كان بغيرها وصورته « اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه واللّه أكبر اللّه أكبر ولله الحمد اللّه أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا واللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام ».
2 - وجوب الكون بمنى تلك اللّيالي ويستحبّ النهار وهو لازم عن الأمر بالذكر فيها وعن قوله « فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » فيستلزم ثبوت الإثم للمستعجل (2) قبل ذلك.
3 - أنّ وجوب الكون في الثلاثة تخييريّ بينها وبين اليومين الأوّلين خاصّة
ص: 319
لكنّ اليوم الثاني عشر له حكمان أحدهما أنّه لا يجوز النفر فيه إلّا بعد الزوال والثاني أنّه متى غربت الشمس وهو بمنى تحتّم عليه المبيت بها اللّيلة الثالثة لأنّ التعجيل محلّه النهار فإذا مضى ولم يتعجّل فلو تعجّل في اللّيلة الثالثة لزم كون تعجيله ليس في اليومين فيكون آثما وهو المطلوب.
4 - أنّ ذلك التخيير ليس مطلقا بالنسبة إلى كلّ حاجّ بل هو لمن اتّقى واختلف فيه على قولين قيل : معناه اتّقى الصيد والنساء في إحرامه وقيل اتّقى سائر المحرّمات في الإحرام والأوّل هو المرويّ (1) والفتوى عليه.
5 - أنّ غير المتّقي يتحتّم عليه الكون في اللّيالي الثلاث ويكون نفره يوم الثالث عشر ولا يجوز قبله.
6 - أنّ من بات اللّيلة الثالث عشر لا ينفر حتّى تطلع الشمس ويرمي الجمار وكذا في النفر الأوّل لا ينفر إلّا بعد رمي الجمار ووقته بعد طلوع الشمس أيضا وبه قال الشافعيّ وقال أبو حنيفة ينفر قبل طلوع الفجر قيل : كان في الجاهليّة منهم من تأثّم بالتعجيل ومنهم من تأثّم بالتأخير فجاء القرآن برفع الإثم عنهما معا.
فائدة : قيل في قوله تعالى ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) هي أعمال الحجّ من الموقفين والطواف (2) والسعي وغيرها « فَأَتَمَّهُنَّ » أي وفى بإيقاعها وقيل هي التكاليف العقليّة والشرعيّة وقيل هي السنن العشرة وقد تقدّم في باب الطهارة ذكر أحكامها (3).
ص: 320
وفيه آيات :
الاولى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (1).
هنا فوائد أربع :
1 - أنّه خاطب المؤمنين وإن كان التكليف عامّا لأنّهم القابلون لذلك المنتفعون به بأنّه يبلوهم أي يختبرهم ليتميّز مطيعهم من عاصيهم واللّام للابتداء أو التأكيد « بِشَيْ ءٍ مِنَ » جنس « الصَّيْدِ » ومن هنا للبيان كما ابتلي قوم موسى بتحريم صيد السمك يوم السبت ثمّ إنّه كان يجيئهم ذلك اليوم حتّى يدخل بيوتهم فإذا خرج السبت لم يبق منه شي ء وكما ابتلي قوم طالوت بالنهر.
2 - أنّ ذلك الصيد المبتلى به ليس بعيدا عنهم ولا ما يصعب عليهم تناوله فانّ ذلك ممّا لا فائدة في الاختبار به كما لا يبتلي [ اللّه ] العنّين بالحسناء والأخشم (2) بلذيذ الرائحة بل بما هو قريب منهم تناله أيديهم ورماحهم وكان قد كثر الصيد عندهم بالحديبية وهم محرمون بحيث يدخل في أمتعتهم حتّى كانوا يتمكّنون من قبضه بأيديهم وقيل المراد بما تناله أيديهم الصغار ورماحهم الكبار عن الصادق عليه السلام وابن عباس وقيل (3) بل الأوّل صيد الحرم لأنسه بهم والثاني صيد الحلّ لنفوره عنهم.
3 - أنّ ذلك الابتلاء ليس عبثا لصيانة أفعال الحكيم عن ذلك كما دلّ عليه
ص: 321
الدليل بل لغاية مقصودة وهي تميّز (1) من يخافه بالغيب أي في القيامة ممّن لا يخافه وقيل الغيب حال انفراد المكلّف عن الناس إن قلت : إنّه تعالى عالم قبل الابتلاء فما فائدة الابتلاء قلت إنّه عالم بالكلّيّات أزلا وأبدا وأمّا الجزئيّات فلا يتعلّق علمه بها متميّزة إلّا بعد وجودها (2) لأنّ التعلّق نسبة بين المتعلّق والمتعلّق به والنسبة متأخّرة عن المنتسبين أو يكون المراد ليتميّز فانّ العلم يقتضي التمييز فأطلق العلم وأراد لازمه.
4 - « فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ » الابتلاء وخالف « فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ » أي مؤلم وفي تنكير العذاب وإبهامه تشديد لحال الصيد.
الثانية ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ) (3).
الصيد يجي ء مصدرا واسما للمصيد وهو المراد هنا والحرم جمع حرام وهو أيضا مصدر سمّي به المحرم مجازا لأنّ الحرام في الحقيقة يوصف به الفعل وقرأ أهل الكوفة « فَجَزاءٌ » منوّنا ورفع « مثل » تقديره فالواجب جزاء فيكون خبرا أو فعليه جزاء فيكون مبتدأ « ومثل » صفة على التقديرين والباقون بضمّ جزاء و
ص: 322
إضافته إلى مثل و « يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ » إمّا صفة جزاء أو حال من ضميره و « هَدْياً » منصوب على الحال من الهاء في به « و ( بالِغَ ) » صفة هديا ولمّا كانت إضافته لفظيّة لم يتعرّف بالإضافة وقرأ نافع وابن عامر « أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ » بالإضافة للتبيين كخاتم فضّة والباقون « كفّارة » بالتنوين و « طعام » عطف بيان أو بدل و « صياما » منصوب على التمييز من العدل والفاء في « فَيَنْتَقِمُ [ اللّهُ مِنْهُ ] » جواب الشرط تقديره فهو ينتقم اللّه منه إذا تقرّر هذا فهنا أحكام :
1 - اختلف في الصيد المعنيّ بالنهي فقيل هو ما أكل لحمه وهو قول الشافعيّ محتجّا بأنّه الغالب عرفا قالوا ويؤيّده قوله عليه السلام : « خمس يقتلن في الحلّ والحرم الحدأة والغراب والعقرب والفارة والكلب العقور » (1) وفي رواية الحيّة بدل العقرب وفيه تنبيه على قتل كلّ موذ وقال أبو حنيفة كلّ وحشيّ أكل أولا ، وأمّا أصحابنا فقالوا : إنّ المحلّل حرام مطلقا وأمّا المحرّم فقالوا بتحريم الأسد والثعلب والأرنب والضبّ واليربوع والقنفذ لتظافر الروايات عن أهل البيت عليهم السلام بذلك (2).
2 - إنّما قال « لا تَقْتُلُوا » ولم يقل لا تذبحوا للتعميم (3) واختلف في المذبوح المأكول منه هل هو لاحق بحكم الذبائح المنهيّ عنها كالّذي ذبحه الوثنيّ فيكون كالميتة أو يكون لاحقا بمحرّم التصرّف كالمغصوب إذا ذبحه الغاصب الحقّ عندنا الأول فهو عندنا حرام على المحلّ والمحرم وجلده جلد ميتة لا يطهر بالدبغ وبالجملة حكمه حكم سائر الميتات.
3 - أنّ الصيد يحرم في كلّ إحرام بحجّ كان أو بعمرة واجبا كان الحجّ والعمرة أو نفلا لعموم اللّفظ.
ص: 323
4 - أنّ الصيد يجب جزاؤه بجميع أنواع الإتلاف عمدا كان أو خطاء أو نسيانا ذاكرا لإحرامه حال العمد أولا وقال قوم إذا تعمّد القتل وهو ذاكر لإحرامه فلا كفّارة لعظم الذنب فلا يكفّره شي ء وليس قولهم بشي ء وإنّما قيّد القتل بالعمد في الآية لأنّ سبب نزولها فيمن تعمّد فقد روي أنّه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل إنّك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت (1) أو لأنّ الأصل فعل المتعمّد والحق به الخطاء للتغليظ ويدلّ عليه قوله تعالى ( لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ ) قال الزهريّ نزل الكتاب بالعمد ووردت السنّة بالخطاء وقال ابن جبير لا أرى في الخطاء شيئا أخذا باشتراط العمد في الآية وعن الحسن روايتان.
5 - قال أبو حنيفة المراد بالمماثلة القيمة فعنده يقوّم الصيد فان بلغت قيمته ثمن هدي تخيّر بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وبين أن يشتري بقيمته طعاما فيعطي كلّ مسكين من البرّ نصف صاع ومن غيره صاعا وإن شاء صام عن إطعام كلّ مسكين يوما فان لم يبلغ ثمن هدي أو لم يبلغ إطعام مسكين صام يوما أو تصدّق به وقال مالك والشافعيّ وأكثر المفسّرين والفقهاء المثل في الخلقة والهيئة فيجب نظيره من النعم.
وأمّا أصحابنا فقسموا الصيد إلى ما له مثل من النعم كالنعامة مثلها البدنة والحمار الوحشيّ مثله البقرة والظبي مثله الشاة فهذا يجب فيه مماثله وإلى ما لا مثل له من النعم فمنه ما عيّن جزاؤه فيجب ذلك المعيّن ومنه ما لم يعيّن فيجب فيه القيمة.
6 - على قولنا وقول الشافعيّ هل المماثلة شخصيّة فيفدي الصغير بصغير والكبير بكبير والذكر بذكر والأنثى بالأنثى أو نوعيّة فيجزئ الصغير عن الكبير والذكر عن الأنثى احتمالان والثاني أظهر في الفتوى لكنّ الأفضل الأوّل لتيقّن حصول البراءة نعم لا يجزي المعيب عن الصحيح ويجزي عن مثله بعينه فلا يجزي الأعرج عن الأعور وإذا كان المقتول حاملا فداه بحامل لا بحائل ومع التعذّر يقوّم الجزاء حاملا.
ص: 324
7 - يجب أن يحكم في ذلك الجزاء بالمماثلة والتقويم « ذَوا عَدْلٍ » أي رجلان صالحان فقيهان عارفان بالصيد ومثله وقيمة مثله ولو كان أحدهما القاتل جاز إن كان القتل خطأ ولا كذا لو كان عمدا لأنّه فاسق وفي قراءة الباقر والصادق عليهما السلام « ذو عدل » وفسّر بالإمام (1) وقال ابن جنّي أراد من يعدل و « من » يكون للاثنين كما يكون للواحد كقول الشاعر « نكن مثل من يا ذئب يصطحبان » (2) وقوله « منكم » أي من المسلمين.
وهنا سؤال تقريره أنّ العدالة تستلزم الإسلام وذكرها يغني عن ذكره فلم قال « منكم » والجواب أنّه زيادة في الإيضاح أو لئلّا يتوهّم جواز حكم العدل في دينه وإن لم يكن مسلما.
8 - « هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ » قيل معناه يذبح [ الهدي ] في الحرم وأمّا الصدقة به ففي الحرم أيضا عند الشافعيّ وعند أبي حنيفة حيث يشاء وأمّا أصحابنا فقالوا إن كان في إحرام العمرة ذبح في الحرم بفناء الكعبة في الحزورة وتصدّق به هناك وإن كان في إحرام الحجّ ذبح بمنى وتصدّق به فيها.
9 - قال أصحابنا : إذا قتل نعامة كان عليه بدنة فان عجز قوّم البدنة وفضّ ثمنها على البرّ وأطعم ستّين مسكينا لكلّ مسكين نصف صاع فلو لم يف بالستّين كفاه ولو زاد لم يلزمه الزائد وكان له فان عجز عن الإطعام صام عن كلّ مسكين يوما ولو قتل حمارا وحشيّا أو شبهه فعليه بقرة أهليّة ومع العجز يفضّ ثمنها على
ص: 325
ثلاثين والحكم كما تقدّم وإن قتل ظبيا فعليه شاة ومع العجز يفضّ ثمنها على عشرة والحكم أيضا كما تقدّم والعبرة بقيمة هذه النعم في منى إن كان في حجّ وفي مكّة إن كان في عمرة.
قالوا وأمّا غير هذه الثلاثة فما قدّر فيه جزاء فقيمة الجزاء مع التعذّر وقت الإخراج وما لم يقدّر فيه جزاء فقيمة الصيد وقت إتلافه.
10 - هل الإبدال في الأقسام الثلاثة على التخيير لظاهر الآية لمكان « أو » أو على الترتيب حتّى لا ينتقل إلى الإطعام إلّا مع العجز عن البدنة وشبهها ولا ينتقل إلى الصوم إلّا مع العجز عن الإطعام؟ قولان : قال أبو حنيفة والشافعيّ وبعض المفسّرين بالأوّل وقال ابن عباس في إحدى الروايتين وجماعة بالثاني وكلا القولين رواه أصحابنا فقال المفيد وابن إدريس بالتخيير والشيخ وابن بابويه بالترتيب والعمل به أحوط لحصول تيقّن البراءة وعلى القول الأوّل قيل التخيير للقاتل وهو الأقوى وقيل للحكمين.
11 - قد حكينا عن أصحابنا أنّ التقويم إنّما هو للنعم وبه قال عطا وجماعة وقال قتادة يقوّم الصيد المقتول حيّا ويجعل ثمنه طعاما وكذا اختلف في الصيام فقال الشافعيّ يصوم عن كلّ مدّ يوما وبه قال عطا وقال أصحابنا عن كلّ مدّين يوما وبه قال أبو حنيفة وجماعة.
قوله « أَوْ عَدْلُ ذلِكَ » أي عدل الإطعام وقرئ شادّا عدل بكسر العين ويستعمل الكسر في المساوي مقدارا والفتح في المساوي حكما وإن لم يكن من جنسه.
قوله « لِيَذُوقَ [ وَبالَ أَمْرِهِ ] » متعلّق بقوله « فجزاؤ » أي فعليه كذا ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام والوبال المكروه والضرر في العاقبة ومنه قوله ( فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ) (1) والطعام الوبيل ما يثقل على المعدة.
قوله « عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ » أي سلف قبل نزول [ هذه ] الآية وقيل قبل مراجعة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسؤاله وقيل قبل الإسلام ويمكن أن يفهم من قوله « لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ »
ص: 326
أنّ الكفّارة تقع عقوبة لا مكفّرة وهذا ظاهر من التعليل.
12 - « وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ » أي ومن عاد إلى قتل الصيد بعد هذا النهي فهو ممّن ينتقم اللّه منه وهل ذلك مانع من وجوب الكفّارة عليه أم لا قال ابن عباس نعم وبه قال أكثر أصحابنا وقال الحسن وابن جبير وعامّة الفقهاء لا بل تجب وبه قال بعض أصحابنا وهو الحق.
وتحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول : إذا تكرّر في عامين في إحرامين لا كلام في لزوم الكفّارة أمّا في العام الواحد في إحرامين فيحتمل أن يكون كالأوّل أعني لزوم الكفّارة لتحقّق الإحلال بينهما وهو الظاهر وأن لا يكون فيقع فيه الخلاف. ثمّ التكرار أقسام : الأوّل : خطأ أو سهو عقيب عمد. الثاني : خطأ أو سهو عقيب مثلهما ، ولا كلام ولا خلاف في لزوم الكفّارة فيهما ، الثالث : عمد عقيب خطأ أو سهو. الرابع : عمد عقيب عمد وفيهما الخلاف فقال المرتضى وأبو الصلاح وابن إدريس والشيخ في الخلاف والمبسوط بلزوم الكفّارة لعموم « وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً » وهو عامّ بحسب الأشخاص وقوله « وَمَنْ عادَ » غير صالح للتخصيص إذ لا منافاة بينهما الّتي هي شرط في التخصيص لما قرّرناه من قبل أنّ الكفّارة عقوبة فلا يكون منافية للانتقام ولقول الصادق عليه السلام في صحيحة ابن أبي عمير « عليه كلّما عاد كفّارة » (1) وهي عامّة بحسب الزمان وقوله عليه السلام أيضا في حسنة معاوية ابن عمّار « عليه الكفّارة في كلّ ما أصاب » (2) وهي عامّة بحسب الأحوال إن كانت
ص: 327
ما مصدريّة وبحسب أشخاص المصيد إن كانت موصولة أو موصوفة.
وقال الشيخ في النهاية وابن البرّاج لا يلزم العائد كفّارة لقوله « وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ » والتفصيل قاطع للشركة فكما لا انتقام في الأوّل فلا جزاء في الثاني والجواب قد بيّنّا أنّه لا منافاة بينهما وأنّ الكفّارة عقوبة لقوله تعالى « لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ » ولأنّ التكرار في الخطاء لازم قطعا فيكون في العمد أولى من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
قوله « وَاللّهُ عَزِيزٌ » أي ليس ممّن يعصى ويغلب بل هو الغالب على من سواه « ذُو انْتِقامٍ » أي ليس ممّن يجهل السياسة ويهمل تأديب من يحتاج إلى التأديب بل ينتقم منه بقدر الاستحقاق.
الثالثة ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) (1).
حيوان البحر (2) ما لا يمكن أن يعيش إلّا في الماء فقيل كلّه حلال لقوله عليه السلام « هو الطهور ماؤه والحلّ ميتته » (3) وهو مذهب الشافعيّ ومالك وقيل يحلّ السّمك وماله مثل في البرّ يؤكل وقال أبو حنيفة لا يحلّ إلّا السّمك وعندنا لا يحلّ إلّا سمك له فلس لا غير والمراد بطعامه قيل هو ما قذفه البحر ميّتا وهو باطل عندنا وعن ابن عبّاس أنّه المملوح وهو الموافق لمذهب أهل البيت عليهم السلام وإنّما سمّي طعاما لأنّه يدّخر ليطعم فيصير كالمقتات من الأغذية فعلى هذا الصيد ما كان
ص: 328
طريّا والطعام ما كان مملوحا.
قوله « مَتاعاً » بمعنى تمتيعا كالسراح بمعنى التسريح والسلام بمعنى التسليم وهو مفعول له أي أحلّ لكم تمتيعا أي لأجل تمتيعكم وانتفاعكم والسيّارة المسافرون يتزوّدون من السّمك طريّا وقديدا وصيد البرّ ما يبيض ويفرخ في البرّ وإن كان يعيش في بعض الأوقات في الماء.
ثمّ اعلم أنّه لا خلاف [ في ] أنّ ما صاده المحرم فهو حرام عليه وعلى غيره من محرم آخر وأمّا ما صاده المحلّ فعندنا يحرم أيضا على المحرم وبه قال ابن عمر وابن عبّاس وقال عطا ومجاهد وابن جبير : لا يحرم إلّا أن يدلّ عليه أو يشير إليه وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وعند مالك والشافعيّ وأحمد : لا يباح له ما صيد لأجله وكذا الخلاف فيما صاده المحرم قبل إحرامه وما قلناه في المسئلتين دليله ظاهر فانّ المراد بالصيد هنا المصيد لا الاصطياد وإلّا لزم أن لا يحرم ما صاده المحرم لكنّه يحرم بلا خلاف وقد تقدّم هذا.
واعلم أنّ مذهب أصحابنا أنّه يحرم على المحرم مطلقا مصيد البرّ اصطيادا وأكلا وذبحا وإشارة ودلالة [ عليه ] وإغلاقا وبيعا وشراء وتملّكا وإمساكا وإغراء للحيوان به ويمكن أن يستدلّ على ذلك كلّه بقوله « وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً » وعلى هذا يظهر أنّه لا تكرار لتحريم الصيد على المحرم بل المذكور ثانيا أعمّ.
فائدة : الحرم يحرّم أيضا ما حرّمه الإحرام من المصيد إلّا أكل ما صيد خارج الحرم فإنّه مباح للمحلّ في الحرم ويمكن أن يستدلّ على الحكم الأوّل بالآية الاولى وهي قوله « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ » لعموم حالتي الإحرام ودخول الحرم وغيرهما فيخرج الثالث بالإجماع فيبقى الأوّلان داخلين تحت العموم ومنهم من استدلّ بقوله « وَأَنْتُمْ حُرُمٌ » وبقوله « ما دُمْتُمْ حُرُماً » فانّ الحرم جمع حرام ويقال رجل حرام ومحرم ، وأحرم إذا أهلّ بالحجّ أو العمرة
ص: 329
وأحرم إذا دخل الحرم وأحرم [ إذا ] دخل في الشهر الحرام وفيه ضعف.
وللصيد أحكام وتفاصيل مستفادة من البيان النبويّ مذكورة في كتب الفقه فليطلب هناك.
الرابعة ( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ) (1).
قد تقدّم شي ء من بحث هذه الآية في الصلاة (2) بقي هنا فوائد :
1 - قيل معنى قوله « قِياماً لِلنّاسِ » أي في معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف ويربح عنده التجّار ويكثر مكاسبهم ، الحاصل ذلك من الاجتماع عندها من سائر أطراف الأرض. وقيل معناه لو تركوه عاما واحدا لا يحجّونه لهلكوا رواه علي بن إبراهيم عنهم عليهم السلام « قال ما دامت الكعبة يحجّ الناس إليها لم يهلكوا فإذا هدمت أو تركوا الحجّ هلكوا » (3).
2 - « الشَّهْرَ الْحَرامَ » اللّام فيه للجنس وهو أربع ثلاثة سرد [ وهو ] ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم وواحد فرد وهو رجب وهي الأشهر الحرم المشار إليها في قوله « مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ » (4) وسمّيت بذلك لتحريمهم القتال فيها وكانوا ينصلون أسنّتهم ويتفرّغون لمعايشهم وصلاح أحوالهم.
3 - « وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ » أي وجعل الهدي والقلائد مشروعين لانتفاع
ص: 330
المحاويج والمساكين ، والقلائد البدن وشبهها الّتي علّق عليها النعل لتتميّز عن غيرها ويعلم أنّها صدقة.
4 - « ذلِكَ لِتَعْلَمُوا » أي جعل ذلك لتعلموا بمعنى أنّكم إذا اطّلعتم على الحكمة في جعل الكعبة قياما للنّاس وما في معنى الحجّ إليها وحكمة مناسك الحجّ وكيفيّتها علمتم أنّ اللّه يعلم ما في السماوات وما في الأرض من الجواهر والأجسام والأعراض كلّيّاتها وجزئيّاتها لاستحالة صدور تلك الحكم عمّن يجهل الأشياء وتلك الحكم وإن لم تعلم تفصيلا فهي معلومة إجمالا من كون الأحكام إنّما شرّعت لدفع المضارّ وجلب المنافع أو لكونها ألطافا في العقليّات أو في غيرها من الشرعيّات.
قوله « وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق وهو من أحسن الانتقالات في الكلام.
الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) (1).
قيل نزلت في رجل يقال له الحطم بن هند البكريّ حين أتى النبيّ وخلّف خيله خارج المدينة فقال له : إلى ما تدعو [ الناس ] قال : أدعو إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال حسن فأنظرني لعلّي أسلم ولي من أشاوره وكان النبي صلى اللّه عليه وآله قد قال لأصحابه : يدخل عليكم اليوم من يتكلّم بلسان شيطان فلمّا خرج قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لقد دخل بوجه كافر وخرج بعزم غادر فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به وهو يرتجز [ شعرا ] :
قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم *** ليس براعي إبل ولا غنم
ص: 331
ولا بجزّار على ظهر وضم *** باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم *** خدلّج الساقين ممسوح القدم
ثمّ أقبل من عام قابل حاجّا قد قلّد هديا فأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يبعث إليه فنزلت : ولا آمّين [ البيت ] ». (1)
وقيل : إنّه لم ينسخ من هذه السورة أعني المائدة غير هذه وعن الحسن ليس في المائدة منسوخ وقد تقدّم ذكر الشهر الحرام والقلائد ، وقيل الشعائر هنا جميع معالم الحلال والحرام والمراد بإحلالها عدم العمل بمقتضاها وإبطالها وقيل المراد مناسك الحجّ وقيل الحرم وقيل معالمه وإحلال الشهر الحرام هو إباحة القتال فيه وإحلال الهدي والقلائد عدم صرفها في جهاتها أو منع أهلها من ذلك بالصدّ أو الغصب أو السرقة وعطف القلائد على الهدي وهي من جملته لأنّها أشرف أقسامه.
« وَلَا آمِّينَ » أي قاصدين البيت وهو أعمّ من أن يكونوا مسلمين أو كفّارا فإنّ الكفّار كانوا يحجّون في الجاهليّة ثمّ نسخ ذلك ب ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (2) وبقوله ( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (3).
قوله « يَبْتَغُونَ » إلى آخره جملة وقعت صفة لآمّين أي يطلبون « فَضْلاً » هو الربح في التجارة « وَرِضْواناً » أي رضا منه تعالى بنسكهم ، وصفهم اللّه بما كانوا يظنّونه في أنفسهم من أنّهم على سداد في الدّين وأنّ حجّهم يقرّبهم إلى اللّه وقيل لم ينسخ من هذه الآية شي ء لأنّه لا يجوز أن يبدأ المشركون بالقتال في الأشهر الحرم إلّا إذا قاتلوا قاله ابن جريج وهو المرويّ عن الباقر عليه السلام (4) وهو أيضا موافق لما ورد « أنّ المائدة
ص: 332
آخر ما نزلت » (1) وقال عليه السلام « أحلّوا حلالها وحرّموا حرامها » (2) وأيضا أنّ التخصيص خير من النسخ.
قوله تعالى ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) أمر إباحة بعد أن كان الصيد حراما في حال الإحرام قوله « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ » أي لا يحملنكم على الجرم ومن قرأ يجرمنّكم بضمّ الياء جعله متعدّيا لأنّ جرم مثل كسب يتعدّى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته ادخل عليه الهمزة يقال أجرمته أي حملته على الجريمة ومراده لا يحملنكم بغض قوم لأنّهم صدّوكم عن المسجد الحرام على أنّكم تعتدون وتتجاوزون حكم اللّه. وباقي مقصد الآية ظاهر.
السادسة ( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (3).
الأحسن في « ذلك » أن يكون فصل خطاب كقوله أيضا ( وَإِنَّ لِلطّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ) (4) قوله ( وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللّهِ ) ابتداء كلام وحرمات اللّه ما حرّمه اللّه من ترك الواجبات وفعل المحرّمات ومثله قوله ( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (5) وتعظيم الحرمات والشعائر هو اعتقاد الحكمة فيها وأنّها واقعة على الوجه الحقّ المطابق ولذلك نسبها إلى القلوب ويلزم من ذلك الاعتقاد شدّة التحرّز من الوقوع فيها وجعلها كالشي ء المحتمى عنه كالمرعى الوبيل وإلى هذا المعنى أشار النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الحديث : « ألا وإنّ لكلّ ملك حمى وإنّ حمى اللّه محارمه فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه (6) وقيل حرمات اللّه خمس البيت الحرام
ص: 333
والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والحرم وهنا فوائد :
1 - قوله « وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ » أي حال إحرامكم وليس حكمها حكم الصيد « إِلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ » أي إلّا ما حرّمه اللّه في المائدة من الميتة والدّم وسيجي ء ذكرها مفصّلة.
2 - « فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ » لمّا كان الرجس أعمّ من الأوثان أتى بمن المبيّنة وهو إشارة إلى الشرك باللّه وقيل « قَوْلَ الزُّورِ » هو الشرك باللّه أيضا عطفه عليه لمغايرتهما بالاعتبار فإنّ المشرك قائل بالزور لأنّه يكذّب على اللّه وقيل هو أعمّ من ذلك وهو شهادة الزور وقيل هو أعمّ من ذلك وهو الكذب مطلقا والبهتان وقيل هو قول الجاهليّة :
« لبّيك لا شريك لك. إلّا شريك هو لك. تملكه وما ملك »
3 - قيل قوله « فَهُوَ خَيْرٌ » ليس هو للتفضيل بل هو اسم نكرة وتنكيره للتعظيم وقيل بل هو أفعل التفضيل لأنّه حقيقة فيه وهو الأجود.
السابعة ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) (1).
عطف المضارع على الماضي لأنّ المراد من شأنهم الصدّ وقيل كفروا في الماضي وهم الآن يصدّون إشارة إلى صدّهم له عليه السلام عام الحديبية والإلحاد الميل عن القصد ومنه اللحد لأنّه مائل عن سمت القبر وهنا مسائل :
1 - قيل المسجد الحرام هو المسجد نفسه وبه قال الشافعيّ وبعض أصحابنا وقيل بل مكّة كلّها لقوله تعالى : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
ص: 334
[ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ] ) (1) وكان الإسراء من مكّة لأنّه صلى اللّه عليه وآله كان في بيت خديجة وقيل في الشعب أو في بيت أمّ هانئ وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحابنا ويتفرّع على هذا جواز بيع بيوت مكّة وجواز سكنى الحاجّ فيها وإن لم يرض أهلها فعلى الأوّل يجوز (2) لعدم تناول النصّ لها وعلى الثاني لا يجوز لقوله « سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ » والعاكف المقيم والبادي الطاري ويضعّف الثاني بأنّه على تقدير صحّة النقل فالتسمية مجاز والأصل في الكلام الحقيقة فلذلك نقل عن بعض الصحابة أنّه اشترى فيها دارا وقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ما ترك لنا عقيل من دار ».
2 - قوله « وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ » مفعول يرد محذوف و « بِإِلْحادٍ » و « بِظُلْمٍ » صفتان له اقيما مقامه أي من يرد فيه أمرا بإلحاد وبظلم فقيل الإلحاد هو الميل عن قانون الأدب كالبزاق وعمل الصنائع وغيرهما والظلم ما يتجاوز فيه قواعد الشرع والحاصل من هذا القول أنّ الإلحاد فعل المكروهات والظلم فعل المحرّمات وقيل هو قول لا واللّه وبلى واللّه وقيل هو الاحتكار وهو بناء على أنّ المراد بالمسجد مكّة وقيل هو دخولها بغير إحرام.
3 - يمكن أن يستفاد من الآية أنّ من أحدث في الحرم ما يوجب حدّا أو تعزيرا يعاقب زيادة على ذلك لقوله « نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ».
الثامنة ( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (3).
« بَلَداً آمِناً » تسمية المحلّ باسم الحالّ فيه فإنّ الا من في الحقيقة هو أهل البلد فهو كقولهم فلان ليله قائم ونهاره صائم ويحتمل أن يكون تقديره ذا أمن
ص: 335
كقولهم لابن وتأمر أي ذو لبن وذو تمر « وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ » دعاء لهم بالرفاهية وطيب العيش لأنّه أسكنهم بواد غير ذي زرع قوله « مَنْ آمَنَ » بدل من « أهله » بدل البعض من الكلّ وفيه تصريح بأنّه خصّ دعاءه بالمؤمنين فقال اللّه سبحانه في جوابه ( وَمَنْ كَفَرَ [ فَأُمَتِّعُهُ ] ) » أي وأرزق من كفر أيضا على وجه الاستدراج لأنّي خلقتهم والتزمت برزقهم فيكون « مَنْ كَفَرَ » في موضع النصب ويجوز أن يكون « من » للشرط ولذلك دخل الفاء على خبره وعلى الأوّل الفاء للاستيناف قوله « ثُمَّ أَضْطَرُّهُ » إنّما أتى بكلمة التراخي إشعارا بأنّ زمان تمتيعه ليس قليلا لا تقوم فيه الحجّة بل هو طويل والاضطرار يقع بعد مهلة وقال « أَضْطَرُّهُ » لأنّه تعالى إذا علم عدم انتفاعهم بالآيات ودلائل العقل والألطاف والزواجر تركهم في يد الطبيعة حتّى تجرّهم إلى أسفل سافلين ولا ريب أنّ الشي ء يجب وجوده عند سببه التامّ وهو معنى الاضطرار والسبب هو دواعي الطبيعة وعدم مواقع الألطاف الإلهيّة.
إذا تقرّر هذا فنقول هنا فوائد :
1 - قيل المراد بالأمن هنا هو أنّه لا يصاد صيده ولا يقطع شجره ولا يختلا خلاه وإلى هذا أشار الصادق عليه السلام « من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن من سخط اللّه ومن دخله من الوحش والطير كان آمنا من أن يهاج أو يوذى حتّى يخرج من الحرم » (1) وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يوم الفتح « إنّ اللّه حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحد بعدي ولم تحلّ لي إلّا ساعة من النهار » (2) وقيل : المراد الأمن من الجدب والقحط لأنّه أسكنهم بواد غير ذي زرع.
2 - في الآية دلالة على جواز سؤال اللّه تعالى الرزق وتوسعته بل سؤال الرفاهية في المعيشة وحسن الحال وطيب المآكل لقوله « مِنَ الثَّمَراتِ » إذ لو كان المراد القوت
ص: 336
وهو ما يسدّ الخلّة لما أحوج إلى ذكر الثمرات وعن الصادق عليه السلام : هو ثمرات القلوب أي حبّبهم إلى الناس ليثوبوا إليهم وعن الباقر عليه السلام أنّ المراد أنّ الثمرات تحمل إليهم من الآفاق وقد استجاب اللّه له حتّى لا يوجد في بلاد الشرق والغرب ثمرة إلّا وتوجد فيها حتّى حكى أنّه يوجد فيها في يوم واحد فواكه ربيعيّة وصيفيّة وخريفيّة وشتائيّة.
3 - الوصف لمكّة بالأمن وللبيت أيضا والدعاء لأهلها بكثرة الرزق وغير ذلك من النعم أمور مشعرة بأفضليّتها وأفضليّة المجاورة فيها وحينئذ يرد سؤال وهو أنّه لم كانت المجاورة فيها مكروهة فيجاب بأنّه ذكر للكراهية أسباب الأوّل خوف عدم احترامها وسقوط محلّها من القلوب الثاني حذر مقارفة الذنب فيها فإنّه عظيم موجب لتضاعف العقاب الثالث أنّ المداومة على صحبتها يورث الملالة ومفارقتها تبعث على الشوق إليها والحصول بها.
4 - قيل إنّ مكّة كانت آمنة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام من لدن آدم عليه السلام من الخسف والزلازل والطوفان وغيرها من أنواع المهلكات وإنّما تأكّد ذلك بدعائه عليه السلام وقيل بل كانت قبل دعوته عليه السلام كسائر البلاد واستدلّ على ذلك بقول نبيّنا صلى اللّه عليه وآله « إنّ إبراهيم عليه السلام حرّم مكّة وإنّي حرّمت المدينة » (1).
التاسعة ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (2).
« يرفع » فعل مضارع وقع حكاية حال [ الماضي ] وقيل إنّه خبر يراد به الأمر وليس بشي ء لأنّه مجاز والأصل عدمه و « القواعد » جمع قاعدة وهي السافات ولذلك
ص: 337
جمعها فإنّ كلّ ساف قاعدة بالإضافة إلى ما فوقه وبناء بالإضافة إلى ما تحته ومعنى يرفع أي يثبت ويبني فإنّ كلّ ساف إذا فرغ منه يتّصف بالثبوت ورفع البناء أمر لازم لثبوته فأطلق اللازم وأراد ملزومه وهو أفصح من قولنا يبني على القواعد ولم يقل قواعد البيت لأنّ البيان بعد الإبهام أفصح من البيان ابتداء لأنّ الإبهام يوجب ألما والبيان يوجب لذّة واللذّة بعد الألم أقوى « وإسماعيل » مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره وإسماعيل يناوله والواو للحال وحذف الخبر للعلم به فانّ بناء البيت يحتاج إلى من يناول ما يبنى به « ربّنا » أي قائلين ربّنا وكذلك قرأ عبد اللّه ابن مسعود (1) « إنّك أنت السميع » أي لدعائنا « العليم » بضمائرنا ونيّاتنا.
وهنا فوائد :
1 - قال مجاهد إنّ أوّل من بناه إبراهيم عليه السلام ولذلك قال الحسن إنّ أوّل من حجّ البيت إبراهيم والقولان ضعيفان والحقّ أنّ البيت كان قبل إبراهيم عليه السلام فقد روي « أنّ اللّه أنزله ياقوتة من يواقيت الجنّة له بابان [ من زمرّد ] شرقا وغربا وقال اللّه لآدم عليه السلام قد أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي فتوجّه آدم عليه السلام من الهند يمشي إلى مكّة فتلقّته الملائكة فقالوا برّ حجّك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام » وقيل حجّ آدم عليه السلام أربعين حجّة على رجليه من الهند وفي رواياتنا عن الباقر عليه السلام « أتى آدم هذا البيت ألف أتية على قدميه منها سبعمائة حجّة وثلاثمائة عمرة وكان يأتيه من ناحية الشام وكان يحجّ على ثور » (2).
2 - لمّا كان الطوفان رفع البيت إلى السماء الرابعة وهو البيت المعمور ثمّ أمر اللّه إبراهيم عليه السلام فبناه وعرّفه جبرئيل مكانه وقيل بعث اللّه سبحانه سحابة أظلّته ونودي أن ابن على ظلّها لا تزد ولا تنقص وروي أنّه بناه من خمسة أجبل طور سينا وطور زيتا ولبنان والجوديّ وأسّه من حراء ثمّ جاءه جبرئيل عليه السلام بالحجر الأسود من السماء وقيل تمخّض أبو قبيس فانشقّ عنه وكان مخبّئا فيه أيّام الطوفان
ص: 338
وكان ياقوتة بيضاء ثمّ اسودّ بملامسة الحيّض له في الجاهلية (1).
3 - في قوله « ربّنا تقبّل منّا » دلالة على أنّهما بنياه للعبادة لا للسكنى فانّ سؤال التقبّل لا يتصوّر إلّا فيما وقع عبادة واستدلّ بعض حشويّة العامّة بهذه الآية على أنّ الإجزاء قد ينفكّ عن القبول فانّ المجزئ ما وقع على الوجه المأمور به شرعا وبه يخرج عن العهدة والقبول ما يترتّب عليه الثواب فإنّهما عليهما السلام سألا التقبّل مع أنّهما لا يفعلان إلّا فعلا صحيحا مجزئا فكان ذلك السؤال لحصول استحقاق الثواب وهذا نظر فاسد فإنّ السؤال قد يكون بالواقع كما في قوله « ربّ احكم بالحقّ » أو يكون على وجه الانقطاع إليه تعالى.
العاشرة ( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ ) (2).
هذا السؤال أيضا انقطاع إلى اللّه سبحانه ومرادهما اجعلنا منقادين لأوامرك ونواهيك وثبّتنا على الإسلام في المستقبل والتحقيق أنّ هذا الكلام يقع إمّا في حال السلوك فمعناه زدنا إذعانا وإخلاصا أو بعد الوصول فمعناه ثبّتنا و « من » هنا يحتمل التبيين والتبعيض وعلى التقديرين إنّما خصّا الذرّيّة لأنّهم أحقّ بالشفقة والنصيحة كما قال ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (3) قيل أراد أمّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وعن الصادق عليه السلام أراد بني هاشم خاصّة و « أرنا مناسكنا » أي عرّفنا مواضع عبادتنا في الحجّ فأجاب اللّه دعاءهما وبعث جبرئيل عليه السلام وأراهما المناسك من أوّلها إلى يوم عرفة فلمّا بلغ عرفات قال يا إبراهيم عرفت؟ قال نعم فسمّي الوقت عرفة والموضع عرفات « وتب علينا » من ترك ما هو الأولى بنا فعله كترك المندوبات والاشتغال بالمباحات لأنّ عصمتهما مانعة من الإقدام على معصيته.
ص: 339
فائدة :قيل قوله ( وَأَذانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ) (1) يريد بالحجّ يوم عرفة لأنّ موقف عرفة يسمّى الحجّ ومنه قوله صلى اللّه عليه وآله « الحجّ يوم عرفة » (2) وروي ذلك عن عليّ عليه السلام وقال عطا الحجّ الأكبر ما فيه الوقوف والحجّ الأصغر ما ليس فيه وقوف وهو العمرة وقيل يوم النحر عن عليّ عليه السلام وابن عبّاس وروي عن الصادق عليه السلام (3) وقيل جميع أيّام الحجّ وعن الحسن هو يوم اتّفق فيه ثلاثة أعياد عيد المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى روي أنّه لم يتّفق ذلك فيما مضى ولا يتّفق بعده إلى يوم القيامة.
وهو لغة فعال من الجهد وهو المشقّة البالغة والجهاد بكسر الجيم مصدر جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة وبفتح الجيم الأرض الصلبة والجهد بفتح الجيم وضمّها الطاقة ومنه قوله تعالى ( وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلّا جُهْدَهُمْ ) (4) قرئ بهما وشرعا إن أخذ من الأوّل فهو بلوغ المشقّة في النفس والمال وإن أخذ من الثاني فهو بذل الطاقة من النفس والمال وعلى التقديرين فهو بذل النفس والمال لإعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان فيدخل في الأوّل قتال الكفّار وفي الثاني قتال البغاة وهو من أعظم أركان الإسلام قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « فوق كلّ برّ برّ حتّى يقتل الرجل في سبيل اللّه فليس فوقه برّ » (5) وقال عليّ عليه السلام « ألا وإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لأوليائه » (6) هذا وهو من فروض الكفايات لم نسمع وجوبه
ص: 340
على الأعيان إلّا عن سعيد بن المسيّب وله شروط وأحكام تذكر في كتب الفقه والمقصود هنا ذكر آيات تتعلّق به وهي أنواع :
وفيه آيات :
الاولى ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).
كتب بمعنى وجب وفرض والكره بضمّ الكاف وفتحها مصدر بمعنى المكروه كاللّفظ بمعنى الملفوظ لا أنّه كالخبز بمعنى المخبوز لأنّ الخبز بضمّ الخاء اسم لا مصدر وإنّما المصدر بفتح الخاء وإنّما كان القتال مكروها لأنّه على خلاف الطبع [ وكلّما كان على خلاف الطبع ] فهو مكروه ولهذا استحقّ عليه الثواب قال [ النبي ] صلى اللّه عليه وآله : « حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النار بالشّهوات » (2).
قوله « وعسى أن تكرهوا شيئا » إلى آخره لا شكّ أنّ نسبة الشارع إلى المكلّف كنسبة الطبيب إلى المريض وكما أنّ ما يأمر به الطبيب مكروه له وما ينهاه عنه محبوب له كذلك الشارع بالنسبة إلى نفس المكلّف ولذلك علّل سبحانه بقوله : « واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون ».
إذا عرفت هذا فهنا أحكام :
1 - أنّه واجب على الكفاية للأصل ولإجماع الصحابة وغيرهم ولانتفاء
ص: 341
المسبّب عند انتفاء السّبب وذهب قوم إلى أنّه واجب على الأعيان لقوله صلى اللّه عليه وآله : « من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق » (1) وليس بدالّ على مطلوبهم.
2 - أنّ الواجب على الكفاية قد يصير واجبا على الأعيان بحسب الأحوال المقتضية لذلك وهو هنا إمّا بقصور القائمين عن الكفاية أو تعيين صاحب الأمر أو غير ذلك.
3 - ذهب قوم إلى أنّ الوجوب مختصّ بالصحابة لتوجّه الخطاب إليهم وهو باطل لعموم قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا - إلى قوله - وَجاهِدُوا ) (2) ولقوله صلى اللّه عليه وآله : « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (3) وللإجماع.
4 - الخيريّة في الجهاد ظاهرة أمّا في العاجلة الغنيمة والغلبة ولذّة الظفر والعزّة وأمّا في الآخرة فالثواب والفوز بمنازل الشهداء وفي تركه أضداد ذلك من الفقر والذلّة والخذلان والعقاب ودركات الأشقياء.
الثانية ( وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (4).
هذه أيضا دالّة على وجوب الجهاد لصيغة الأمر الدالّ على الوجوب ثمّ اعلم أنّ الجهاد هنا يحتمل ثلاثة معان الأوّل الجهاد مع الكفّار في نصرة الإسلام وإعلاء كلمة اللّه الثاني الجهاد مع النفس الأمّارة واللّوّامة في نصرة النفس العاقلة المطمئنّة وهو الجهاد الأكبر ولذلك ورد عنه صلى اللّه عليه وآله : « أنّه رجع عن بعض غزواته فقال رجعنا
ص: 342
من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (1) » الثالث الجهاد بمعنى رتبة الإحسان كما قال سبحانه ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (2) ومعنى رتبة الإحسان هو أن تعبد ربّك كأنّك تراه فان لم تكن تراه فإنّه يراك ولذلك قال « حقّ جهاده » أي جهادا حقّا كما ينبغي بجدّ النفس وخلوصها عن شوائب الرياء والسمعة مع الخشوع والخضوع وقوله « في اللّه » أي في عبادة اللّه « هو اجتباكم » أي اختاركم على الموجودات وجعلكم خلائف في الأرض وسلّم إليكم مفتاح الخير والشرّ.
قوله « وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » أي صعوبة وضيق جواب سؤال مقدّر تقديره أنّ حقّ جهاده إنّما يتمكّن منه بعض الناس لا كلّهم بل لا يكاد يقدر عليها أحد كما قال صلى اللّه عليه وآله « لا احصي ثناء عليك » (3) فكيف يؤمر به الكلّ أجاب بأنّه لم يجعل عليكم حرجا و « من » زائدة بل كلّ واحد عليه الاجتهاد قدر تمكّنه و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (4).
الثالثة ( وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (5).
هذه أيضا صريحة في الأمر بالقتال قيل هي أوّل آية نزلت في القتال ولذلك قال « الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ » ليخرج الكافّون عن القتال فانّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان بعد الهجرة يكفّ عن الكافّين عنه وعلى هذا القول هي منسوخة بقوله ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (6) وقيل أراد بالّذين يقاتلون الّذين هم من أهل القتال ليخرج الشيوخ
ص: 343
والصبيان والنساء وهو أولى لأنّ النسخ على خلاف الأصل وقولهم إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كان يكفّ عمّن يكفّ عنه ممنوع بل كان ينتظر الفرصة وحصول الشرائط قوله « وَلا تَعْتَدُوا » معناه على الأوّل لا تبدأوا بقتال من لم يقاتلكم وعلى الثاني لا تقتلوا من لا يجوز قتاله كالنساء والصبيان.
الرابعة ( الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (1).
كان أهل مكّة قد منعوا النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن الدخول عام الحديبية سنة ستّ في ذي القعدة وهتكوا الشهر الحرام فأجاز اللّه للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وأصحابه أن يدخلوا في سنة سبع في ذي القعدة لعمرة القضاء ويكون ذلك مقابلا لمنعهم في العام الأوّل ثمّ قال « وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ » أي يجوز القصاص في كلّ شي ء حتّى في هتك حرمة الشهر ثمّ عمّم الحكم فقال : « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ » فانّ دفع الشرّ خير وتسمية المجازي معتديا مجاز تسمية للشي ء باسم مقابله « وَاتَّقُوا اللّهَ » في أخذكم ممّن اعتدى عليكم بحيث لا يتجاوز مثل فعلهم وفي الآية أحكام :
1 - إباحة القتال في الشهر الحرام لمن لا يرى له حرمة أعمّ من أن يكون ممّن كان يرى الحرمة أولا لأنّه إذا جاز قتال من يرى حرمته فقتال غيره أولى.
2 - أنّه يجوز مقاتلة المحارب المعتدي بمثل فعله لقوله « والحرمات قصاص ».
3 - أنّه إذا دهم المسلمين داهم من عدوّ يخشى منه على بيضة الإسلام يجوز قتاله ويكون ذلك واجبا لا أنّ الجهاد من خاصيّته أنّه إذا كان جائزا كان واجبا سواء كان الامام حاضرا أولا.
ص: 344
4 - أنه إذا كان الإنسان بين قوم ودهمهم عدوّ فخشي منه على نفسه جاز قتال ذلك العدوّ ويكون قصده الدفاع عن نفسه لقوله « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ».
5 - أنه يجوز أيضا بمقتضى الآية أنّ الغاصب والظالم إذا لم يردّ المظلمة أن يؤخذ من ماله قدر ما غصب سواء كان بحكم الحاكم أولا.
6 - أنّ المجازي منصور إذا اتّقى في مجازاته التعدّي لأنّ اللّه معه.
الخامسة ( وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) (1).
كان قوم من المسلمين بمكّة قد عجزوا عن الهجرة فاجتهد الكفّار على افتتانهم عن دينهم وتوعدوهم بالمكروه استضعافا فدعا أولئك المستضعفون ربّهم أن يخلّصهم منهم وينصرهم عليهم فأنزل اللّه هذه الآية حضّا للمؤمنين وحثا لهم على الجهاد وتخليص إخوانهم من أيدي الكفّار والاستفهام هنا مشوب بالتحضيض قوله « وَالْمُسْتَضْعَفِينَ » منصوب عطفا على محلّ « فِي سَبِيلِ اللّهِ » وقيل المضاف محذوف أي وفي نصرة المستضعفين أو إعزاز المستضعفين « والقرية » هي مكّة فلمّا فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مكّة كان لهم وليّا فاستعمل عليهم عتّاب ابن أسيد فكان لهم نصيرا وفي الآية دلالة على وجوب الهجرة عن دار الشرك وعذر العاجزين عن ذلك ووجوب السعي على المؤمنين في تخليصهم من أيدي الكفّار وفيها أيضا أخبار بإجابة الدعاء خصوصا لمن هو في حال الضرورة والعجز وفيها أيضا دلالة على وجوب المدافعة عن المؤمن العاجز عن دفع من يظلمه لأنّه من باب الحسبة.
ص: 345
السادسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً ) (1).
الخطاب للمسلمين من المنافقين والمؤمنين المخلصين بدليل قوله فيما بعد « وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ » أي يثبّطنّ « و خُذُوا حِذْرَكُمْ » أي خذوا طريق الاحتياط واسلكوه واجعلوا الحذر ملكة في دفع ضرر الأعداء عنكم والحذر والحذر بمعنى واحد كالإثر والأثر « فَانْفِرُوا » أي سيروا إلى العدوّ « ثُباتٍ » أي جماعة بعد جماعة وهي السرايا « أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً » أي جيشا واحدا وقيل الحذر السلاح عن الباقر عليه السلام قال الطبرسيّ وهو الأصحّ لأنه أوفق بقياس كلام العرب ويكون من باب حذف المضاف أي آلات حذركم (2) وفيه نظر لأنّه في غير هذه الآية عطف السلاح على الحذر كما تقدّم (3) والعطف يقتضي المغايرة وقوله إنّه من باب حذف المضاف خروج عن القول المنقول لأنّه فسّر الحذر بأنّه السلاح ولو قال إنّه سمّي السلاح حذرا لأنّه به يحصل الحذر لكان أصوب وعلى هذا يكون قوله « خُذُوا » مستعملا في موضوعه أي تناولوا وفي الآية حثّ على الاستعداد للجهاد وإيجاب النفور إلى الأعداء للجهاد.
السابعة ( فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (4).
لمّا أمر المسلمين كافّة بالجهاد في سبيله أخبر هنا بأنّ الأمر في الحقيقة إنّما يتوجّه إلى السعداء المخلصين وهم الّذين يبيعون الحياة الدنيا بالحياة الآخرة أي
ص: 346
يستبدلون تلك بهذه رضى وإيثارا كما يرضى البائع بالثمن عوضا عن سلعته والشرى يستعمل بمعنى البيع وبمعنى الاشتراء والأوّل أظهر في الاستعمال وهو المراد هنا ثمّ إنّه تعالى حثّ على الجهاد حثا عظيما بأنّ المجاهد لا بدّ له من الفوز بإحدى الحسنيين (1) إمّا الأخروية فلازمة حتما فإنّها تابعة لقصده ونيّته سواء غلب أو غلب وأمّا الدنيويّة فإنّها حاصلة مع الظفر قطعا ومع عدمه يتخلّص من الملامة والمذمّة ويحصل [ على ] المدح والثناء.
ومثل هذه الآية قوله تعالى ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (2) وسبب نزولها أنّه لمّا بايعت الأنصار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ليلة العقبة وهم سبعون رجلا قال عبد اللّه بن رواحة : اشترط لربّك ولنفسك ما شئت فقال أشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال الجنّة قال [ عبد اللّه ] ربح البيع لا نقيله ولا نستقيله فنزلت (3).
وفيها أيضا حثّ على الجهاد وعظم فائدته ومعناه إنّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم الحيوانيّة الأمّارة [ بالسّوء ] بالجنّة فالبائع هي أنفسهم العاقلة والمشتري هو اللّه والسلعة هي النفس الحيوانيّة والثمن هو الجنّة والمراد بالاشتراء هو إبدال أنفسهم الحيوانيّة بالجنّة فاستعار له الاشتراء والاستعارة مبالغة في التشبيه تقول زيد كالأسد فإذا بالغت قلت زيد الأسد وليس شراء حقيقيّا لأنّ اللّه هو المالك للثمن والسلعة والبائع إلّا أنّ للبائع اختصاصا بالسّلعة كاختصاص المستعير بالعين المعارة وكما لا يصحّ أن يبيع المستعير العين على مالكها فكذلك هنا ولمّا كانت السلعة غير حاضرة
ص: 347
احتاج إلى رهن يثق به البائع وهو هنا تأكيد الوعد فلذلك قال « وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا » وهو مصدر مؤكّد لمضمون الجملة وهو « أنّ لهم الجنّة » و « حقّا » صفته.
قوله « وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ » استفهام على وجه الإنكار وأوفى للتفضيل أي ليس أحد أكثر وفاء ولا أصحّه من اللّه وكيف لا وخلف الوعد قبيح والقبيح محال عليه سبحانه « فَاسْتَبْشِرُوا » أي خذوا حظّكم من الغبطة والسرور في هذه المبايعة وكيف لا وقد أعطيتم الشي ء الحقير الفاني وأخذتم الخطير الباقي « وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ».
روي أنّ رجلا قال لزين العابدين عليه السلام إنّك قد آثرت الحجّ على الجهاد واللّه يقول « إِنَّ اللّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ » فقال عليه السلام فاقرأ ما بعدها « التّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السّائِحُونَ » إذا رأيت هؤلاء فالجهاد معهم أفضل من الحجّ (1) إشارة منه عليه السلام إلى أنّ الجهاد المأمور به هو الجهاد مع الامام المعصوم لا أيّ جهاد كان تنبيها للسائل على جهله فإنّه ليس ممّن له الاعتراض على مثل هذا الرجل العظيم الشأن العالم بشرائط العبادات وأسرار الطاعات.
الثامنة ( ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (2).
المراد بأهل المدينة من سكنها من المهاجرين والأنصار و « الأعراب » جمع
ص: 348
عرب كالأعجام جمع عجم وهم الّذين يسكنون البوادي يقال رجل عربيّ إذا كان من العرب وإن سكن البلاد وأعرابيّ إذا سكن في البادية والظمأ شدّة العطش والنصب التعب والمخمصة الجوع والموطئ في قوله « وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً » إمّا مصدر أو مكان الوطي والمراد الوطي بالقدم والحافر وقيل الإيقاع والابادة كقوله عليه السلام « آخر وطأه وطئها اللّه » (1) وفيه نظر لأنّه مجاز وما قلناه حقيقة ولا ضرورة للنقل عنه ولا قرينة والنيل مصدر ومعناه كلّما يسوؤهم ويضرّهم من قول أو فعل والنفقة الصغيرة هي القليلة فإنّ القليل صغير أيضا فإنّ الصغير يقال بالنسبة إلى الحجم والقليل بالنسبة إلى الثقل والوزن وبينهما تلازم ولذلك يستعمل أحدهما مكان الآخر وكذا الكلام في الكبير والكثير والوادي في الأصل كلّ منفرج بين الجبال والآكام يكون مجمعا للسيل وهو اسم فاعل من ودى إذا سال وهو صفة للماء فيسمّى المكان به تسمية المحلّ باسم الحالّ وقد يستعمل الوادي في مطلق المكان ويمكن أن يكون هو المراد هنا.
إذا عرفت هذا ففي الآية تحريم التخلّف عن الجهاد وعدم الخروج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لقوله « ما كان » أي ما كان لهم في حكم اللّه وشرعه أن يتخلّفوا وكذلك ما كان لهم أن يرغبوا في حفظ أنفسهم عن متاعب السفر وما لاقوه من العسرة عن نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أي ليست أنفسهم بأعزّ من نفسه ثمّ إنّ ذلك التحريم له فائدتان كلّيّة وجزئيّة أمّا الكليّة فلم يصرّح بها في الآية وهي إهانة الكفّار وإذلالهم وكسر شوكتهم فيحصل بذلك إعزاز الدين وأهله وأيضا لو لم ينفروا إليهم ولا يطأوا أرضهم لجاز أنّ المشركين يطأون أرض المسلمين ويحصل الفساد العظيم وأمّا الجزئيّة فإنّ المجاهدين يكتب لهم ثواب الجهاد بمجرّد النيّة وإن لم يحصل قتال وثواب ما يحصل لهم من عطش أو تعب أو جوع وغير ذلك فإنّ ذلك كلّه إحسان « إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ » وهنا فوائد :
1 - سبب نزول الآيت [ ين ] أنّه لمّا تخلّف جماعة عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله في غزاة تبوك بغير
ص: 349
إذن منه فقرّعهم [ اللّه ] على تخلّفهم ووبّخهم بآيات كثيرة كقوله ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ ) (1) وغيرها اعتذر بعضهم بأنّه لم يكن في تلك الغزاة قتال ولا حرب فأيّ فائدة كانت تحصل بالخروج فنزلت ، ولذلك استدلّ أبو حنيفة بها على أنّ المدد الّذي يلحق العسكر بعد الفراغ من القتال يسهم لهم من الغنيمة بمجرّد قصدهم وهو مذهب أصحابنا أيضا خلافا للشافعيّة.
2 - استدلّ بعضهم بالآية على أنّ الجهاد واجب على الأعيان وفيه نظر لجواز أنّه كان في مبدء الإسلام حيث كان في المسلمين قلّة فلمّا كثروا نسخ عنهم (2) ولذلك قال بعدها « وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ».
3 - قال قتادة هذا الحكم مختصّ بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله لا يجوز التخلّف عنه في غزاة من الغزوات إلّا لعذر وأمّا غيره من الأئمّة فيجوز التخلّف عنهم وقال الأوزاعيّ وابن المبارك إنّ هذا الحكم عامّ لأوّل الأمّة وآخرها وهو موافق لمذهبنا من قيام الإمام مقام الرسول في كلّ الأحكام نعم إنّ الجهاد من فروض الكفايات إذا قام به بعض فيه كفاية سقط عن الباقين.
4 - في الآية دلالة على أنّ كلّ تعب وظماء وجوع وإنفاق يحصل في حجّ أو جهاد أو زيارة أحد المعصومين عليهم السلام أو طلب علم أو أيّ طاعة كانت فإنّ ذلك يكتب لصاحبه وإن لم تحصل غايته وتعذّرت من غير جهته.
التاسعة ( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (3).
ص: 350
قرئ « غير » بالحركات الثلاث أمّا الرفع فصفة للقاعدون أو بدل وأمّا النصب فعلى الاستثناء وقال الزجّاج حال من القاعدون أي لا يستوي القاعدون حال خلوّهم من الضرر وأمّا الجرّ فهو صفة للمؤمنين أو بدل منه « ودرجة » نصب على المصدر أو على التميز « وكلّا » منصوب على المفعوليّة قدّم على عامله لكونه أهمّ و « أجرا » أيضا منصوب إمّا على المصدر أو على التميز.
واعلم أنّ القاعدين عن الجهاد من المؤمنين قسمان أحدهما من لا ضرر به لكنّه قعد للاذن له في ذلك أو لقيام من فيه كفاية وثانيهما من به ضرر يمنعه عن الخروج ولولاه لخرج فنفي المساواة وقع بين القسم الأوّل وبين المجاهدين في الآية صريحا وأمّا القسم الثاني فنفي المساواة بين المجاهدين وبينه أيضا حاصل لأنّ النيّة مشتركة بينهما ويزيد المجاهدون بالفعل فلا مساواة أيضا ثمّ لمّا كان نفي المساواة مجملا أردفه بالبيان وهو قوله « فَضَّلَ اللّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً » ولمّا قضت الضرورة أنّ من قعد لعذر ليس كمن قعد لا لعذر وجب كون التفضيل على الأوّل أعني من قعد لعذر أقلّ وإليه أشار بقوله « درجة » وعلى الثاني وهو من قعد لا لعذر أكثر وإليه أشار بقوله « أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً » أي للذنوب « وَرَحْمَةً » أي تفضّلا زائدا على المستحقّ بحسب مشيّته تعالى.
وقيل : المجاهدون الأوّلون من يجاهد الكفّار والآخرون من بجاهد نفسه وعليه دلّ قوله صلى اللّه عليه وآله « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (1) وقيل بل الدرجة ارتفاع شأنهم عند اللّه والدرجات منازلهم في الجنّة وقيل الدرجة ما حصل لهم في الدنيا من الثناء الحسن والغنيمة والدرجات في الآخرة. قوله « وَكُلًّا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى » أي المثوبة الحسنى وهي الجنّة والتنوين عوض من المضاف إليه أي كلّ واحد من المذكورين. وفي الآية فوائد :
1 - التصريح بأنّ الجهاد ليس فرض عين وإلّا لما كان القاعد لا لضرورة معذورا وهو باطل.
ص: 351
2 - سقوطه عمّن به ضرر كالعمى والعرج والإقعاد وكبر السنّ والفقر لأنّ جميع ذلك يشمله لفظ الضرر.
3 - « روى زيد بن ثابت أنّه لم يكن في الآية « غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ » فجاء ابن أمّ مكتوم وهو أعمى وهو يبكي وقال يا رسول اللّه كيف بمن لا يستطيع الجهاد فغشيه الوحي ثانيا ثمّ سري عنه فقال اقرأ « غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ » فألحقتها والّذي نفسي بيده لكأنّي أنظر إلى ملحقها عند صدع [ الوحي ] في الكتف (1) وفيه دلالة على [ جواز ] تأخير البيان عن وقت الخطاب.
العاشرة ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (2).
هذه الآية صريحة في عدم وجوب الجهاد على هؤلاء المذكورين « والضعفاء » هم الهرمى والزمنى والنصح لله ورسوله هو الإيمان الحقيقيّ بهما وفي الآية دلالة على نفي الحرج عن العاجز مطلقا أي بنفسه وبماله فلا يجب عليه الاستنابة ولو قدر عليها بماله ، وقال بعض أصحابنا يجب على العاجز بنفسه القادر بماله أن يستنيب عنه غيره لقوله تعالى ( وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) ذمّهم على عدم إنفاقهم أموالهم مع القدرة عليها وليس ذلك مع الجهاد بالنفس وإلّا لكان إنفاقه على نفسه فيكون لا معه وهو المطلوب وفيه قوّة وفي الآية دلالة أيضا على عدم وجوبه على العبد لقوله « لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ » والعبد لا يملك شيئا عندنا فلم يحصل الشرط في حقّه.
ص: 352
وفيه آيات :
الاولى ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ] ) (1).
قتال مجرور على أنّه [ م ] بدل بدل الاشتمال من « الشهر الحرام » و « صدّ عن سبيل اللّه » أي منع عن طاعة اللّه و « كفر به » أي باللّه « والمسجد » ليس معطوفا على « به » بل مجرور عطفا على « سبيل اللّه » أي صدّ عن المسجد [ الحرام ] « وإخراج » مرفوع عطفا على صدّ وهما مرفوعان بالابتداء « وأكبر » خبر عن الجميع لأنّ أفعل التفضيل يستوي فيه المفرد والمثنّى والمجموع « والفتنة » هو ما ارتكبوه من الإخراج أو الشرك.
قيل سبب نزولها أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعث سريّة أميرها عبد اللّه بن جحش الأسديّ - وكان ابن عمّته صلى اللّه عليه وآله - قبل قتال بدر بشهرين في جمادى الآخرة يرصدون عير القريش عليها تجارة من الطائف وكان في العير [ عمرو بن ] عبد اللّه الحضرميّ
ص: 353
وثلاثة معه فالتقوا بهم أوّل يوم من رجب وهم يظنّونه من جمادى الآخرة فقتلوا [ عمرو بن ] عبد اللّه واستأسروا اثنين من أصحابه واستاقوا العير فقالت قريش قد استحلّ محمّد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف فردّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله العير والأسارى وكتب قريش إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله يسألونه عن القتال في الشهر الحرام تشنيعا وتبكيتا (1).
وقيل : السائل المسلمون وأهل السريّة تألّما ممّا وقع منهم وقالوا لا نبرح حتّى تنزل توبتنا وعن ابن عبّاس لمّا نزلت أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله الغنيمة وأخرج خمسها وهو أوّل خمس وغنيمة في الإسلام وقسم الباقي بعد الخمس في السريّة (2) وفيه دلالة على إخراج الخمس من أصل الغنيمة ونقل الطبرسيّ أنّه صلى اللّه عليه وآله عقل ابن الحضرميّ أي أدّى ديته وفي الآية أحكام :
1 - تحريم القتال في الشهر الحرام لقوله تعالى ( قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) أي ذنب كبير لكن عند أصحابنا ليس ذلك على إطلاقه بل التحريم بالنسبة إلى من يرى حرمة الشهر إذا لم يبدأ أمّا من لا يرى له حرمة أو يرى ويبدأ فيجوز القتال ولذلك قال [ اللّه ] تعالى « قتال » بالتنكير والنكرة في الإثبات لا تعمّ وقال الأكثر إنّه كان حراما مطلقا ثمّ نسخ وقال عطا بل التحريم باق لم ينسخ.
2 - أنّه لمّا اعترض المشركون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بفعل السريّة أمره اللّه تعالى بمقابلتهم بأعظم ممّا فعلته السريّة على غير قصد وذلك هو صدّهم عن سبيل اللّه وكفرهم به وإخراج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأتباعه من المسجد الحرام وصدّهم له عام الحديبيّة و [ أنّ ] ذلك أعظم عند اللّه من قتل ذلك الشخص.
3 - أنّ أهل السريّة لمّا عظم عليهم ما فعلوه وتابوا منه ظنّ قوم أنّهم إن خلصوا من الإثم فليس لهم من الأجر شي ء فأنزل اللّه تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ ) (3).
ص: 354
4 - أخبر سبحانه بإصرار أهل الكفر على عداوة المسلمين وأنّهم لا يزالون على ذلك حتّى يرجعوهم عن دينهم و « حتّى » هنا للتعليل وقوله « إِنِ اسْتَطاعُوا » استبعاد لاستطاعتهم كقولك لعدوّك إن ظفرت بي فلا تبق عليّ وأنت واثق بعدم ظفره.
5 - لمّا ذكر الارتداد استطرد حكمه فقال « وَمَنْ يَرْتَدِدْ » واختلف [ في أنّه ] هل نفس الردّة محبط للعمل أو مع الموت عليها قال أبو حنيفة بالأوّل والشافعيّ بالثاني وبه قال أصحابنا وهو الحقّ سواء كان ارتداده عن فطرة أولا فإنّ الموافاة عندنا بالإيمان شرط في استحقاق الثواب.
الثانية ( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ) (1).
يقال ثقفت الرجل إذا وجدته وأنت متمكّن منه حاذق على ذلك وأصله الحذق للشي ء علما وعملا وهذه الآية ناسخة لكلّ آية فيها أمر بالموادعة أو الكفّ عن القتال كقوله تعالى ( وَدَعْ أَذاهُمْ ) (2) وقوله ( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (3) وأمثاله لأنّ حيث للمكان أي في أيّ مكان أدركتموهم من حلّ أو حرم وكان القتال في الحرم محرّما ثمّ نسخ بهذه الآية وأمثالها فصدرها ناسخ لعجزها قوله « وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ » أي من مكّة فإنّهم أخرجوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وجماعة من المسلمين من الحرم وكذلك صدّوهم عن الدخول عام الحديبية فلا جناح في إخراجهم لأنّ البادي أظلم وقد فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عام الفتح كذلك « وَالْفِتْنَةُ » أي المحنة والبليّة بإخراجهم عن وطنهم « أَشَدُّ » عليهم من قتلهم لدوام التألّم بذلك وقيل
ص: 355
الشرك أي شركهم في الحرم أشدّ عليهم من قتلكم لهم ومن إخراجهم من الحرم.
قوله « وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » قيل سبب نزولها أنّ المسلمين لمّا وقع صلح الحديبية خافوا أنّهم إذا رجعوا في العام المقبل أن لا يفي المشركون بعهدهم فيضطرّون إلى قتالهم في الحرم في الشهر الحرام فأمرهم اللّه بقتالهم إن لم يفوا فإنّ جزاء السيّئة سيّئة.
فائدة :في حكم هذه الآية قوله تعالى ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وفيه زيادة (1) تحريص للنبيّ صلى اللّه عليه وآله عليهم بقوله « وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ».
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (2).
« يَلُونَكُمْ » أي يقربون منكم أي قاتلوا الكفّار كلّهم الأقرب فالأقرب لأنّ قتالهم مع تباين أمكنتهم دفعة واحدة من المحالات فلا بدّ من الترتيب والأحوط البدأة بالأقرب ما لم يكن الأبعد أشدّ خطرا من الأقرب ولذلك قاتل النبيّ صلى اللّه عليه وآله بني قريظة وبني النضير أوّلا وفتح مكّة قبل حرب هوازن ولم يحارب أهل فارس لبعدهم وسئل ابن عمر عن قتال الديلم فقال عليكم بالروم. والغلظة الشدّة وخلاف اللّين « وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ » لأنّه أمر بالتقوى ومن المحال أن يأمر بشي ء ويكون مع ضدّه ويجوز أن يريد المتّقين عن الفشل واللّين والفرار لأنّه أمر بأضدادها.
الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (3).
ص: 356
قيل : المراد بالزحف الجيش الدهم الّذي يرى لكثرته كأنّه يزحف وقيل الزحف الدنوّ يسيرا يسيرا من زحف الصبيّ إذا دبّ على مقعده وهو مصدر منصوب على الحال نحو جاء زيد ركضا وهو إمّا حال من المفعول وهو ظاهر الآية أو حال من الفاعل أو منهما معا والتحرّف الميل إلى حرف أي طرف ومنه التحرّف إلى طلب الرزق وهو الميل إلى جهة يظنّ فيها الرزق قوله « لقتال » أي لا يكون للفرار بل لحضانة الموضع وقيل هو الكرّ بعد الفرّ والتحيّز الميل إلى حيّز والفئة قيل هي الجماعة من الناس المنقطعة عن غيرها وقيل هو رئيس العسكر سمّي به لأنّ أصحابه يرجعون إليه في حوائجهم وانتصابهما على الحال أي ومن يولّ دبره فقد باء بغضب من اللّه إلّا في هذين الحالين ويحتمل نصبهما على الاستثناء وفيها أحكام :
1 - أنّه يحرم الفرار من قتال الكفّار بعد الالتقاء بهم إلّا في حالتي التحرّف أو التحيّز.
2 - أنّ الخطاب عامّ في كلّ الكفّار وكلّ المسلمين وقيل مختصّ بحرب بدر لأنّها نزلت في تلك الواقعة وقد عرفت مرارا أنّ خصوص السبب لا يخصّص.
3 - أنّ وجوب الثبات وحرمة الفرار ليس مطلقا بل مقيّد بعدم زيادة العدوّ على الضعف إذ مع زيادته يجوز الفرار لما يأتي.
4 - أنّه إذا لم يزد على الضعف وتحقّق العطب هل يجب الثبات ويحرم الفرار أم لا ، الحقّ الأوّل لعموم قوله ( إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ) (1) وقيل بالثاني لقوله ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (2) وفيه ضعف لأنّ التغرير في الحرب من لوازمه.
5 - التحرّف للقتال الاستعداد له بأن يصلح لأمته أو يطلب ماء لمكان عطشه أو مأكولا لجوعه أو تكون الشمس في مقابلته ويتأذّى بها أو غير ذلك ويشترط في ألفية صلاحيّتها للاستنجاد بدونه أو معه قريبة كانت أو بعيدة اللّهمّ إلّا أن يفرط
ص: 357
البعد بحيث يعد فرارا.
6 - الفرار هنا مع الشرائط كبيرة للتوعّد عليه بالنار والتوبة منه العود إلى مركزه وإظهار الندم والعزم على القتال.
7 - (1) في معنى الآية قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (2) في العموم والتقييد بعدم الزيادة على الضعف وقوله « وَاذْكُرُوا اللّهَ » أي اذكروا عظمة اللّه لتستعظموا مخالفته بعدم الثبات كي تفلحوا بذلك.
الخامسة ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ ) (3).
التحريض والتحضيض والتحريص بمعنى واحد وهو الترغيب والحثّ على الشي ء ومدلول الآية الأولى أمر اللّه لرسوله أن يرغّب المؤمنين في القتال ووعدهم النصر على ذلك وإن كثر العدوّ حتّى يقاوم العشرة مائة ولفظه خبر ومعناه الأمر وكان ذلك تكليفهم في مبدء الإسلام ثم نسخ ذلك عنهم بعد مدّة بالآية الثانية وهي قوله « الْآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنْكُمْ » وهو من باب النسخ بالأخفّ وسببه أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعث حمزة عليه السلام في ثلاثين راكبا فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب فثقل ذلك
ص: 358
عليهم وضجّوا منه فخفّف اللّه عنهم بمقاومة الواحد الاثنين وهنا فوائد :
1 - لمّا كان مطلوب الكفّار في القتال ضدّ مطلوب اللّه كانوا مغالبين لله ومن غالب اللّه غلبه اللّه ولمّا كان المؤمنون مطلوبهم مطلوب اللّه كان اللّه ناصرهم ومن نصره اللّه لن يخذل أبدا ولذلك علم بالاستقراء أنّ الباغي مصروع دائما ولهذا السرّ قال تعالى ( بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ) أي لا يفقهون أنّهم مغالبون اللّه تعالى ومغالبة مغلوب. ووجه آخر وهو أنّ من لا يعرف الآخرة فالحياة عنده لا تكون إلّا هذه الدنيوية فهو يشحّ بها فيجين [ ويفرّ ] ومن اعتقد الآخرة وأنّ سعادته فيها لم يبال بهذه الحياة [ الدنيا الفانية ] فيخوض الغمرات ويقاتل الجماعات.
2 - المراد بالضعف الضعف البدنيّ لا في البصيرة في الدين كما قال الطبرسي أما أوّلا فلأنّه المتبادر إلى الذهن فيكون حقيقة فيه وأمّا ثانيا فلأنّ قرينة التخفيف تدلّ على ذلك وأمّا ثالثا فلأنّ الضعف البدنيّ مناسب للتخفيف والنسخ بخلاف الضعف في البصيرة.
3 - الفرق بين الحكمين أنّ المسلمين لمّا كان فيهم قلّة كلّفهم بمقاومة عشرة لمائة وإن علم فيهم ضعفا ولمّا كثروا زال المانع فخفّف عنهم لسعة رحمته وقرئ بفتح الضاد وضمّها للسبعة وقرأ أبو جعفر ضعفاء جمعا.
4 - إنّما كرّر العدد في الناسخ والمنسوخ لأنّ الحال قد يتفاوت في المقاومة فربّما لا يقاوم العشرة المائة ويقاوم المائة الألف وكذلك قد لا يقاوم المائة المائتين ويقاوم الألف الألفين فالتكرار للدلالة على وقوع الغلبة للمؤمنين مع قلّتهم وكثرتهم وبعبارة اخرى إنّما ذكرت القرينة الثانية للدلالة على أنّ غلبة المؤمنين متحقّقة وإن ازداد الكفّار بتلك النسبة أضعافا مضاعفة.
5 - أنّ مدلول الآية وجوب ثبات الجمع لمثليه وأنّه لا يجب لو كان العدوّ أكثر من الضعف فعلى هذا هل يجوز انهزام مائة بطل عن مائتي ضعيف وواحد من اثنين أم لا؟ الأولى لا يجوز لأنّ العدد معتبر مع تقارب الأوصاف فعلى هذا يجوز هرب مائة ضعيف من المسلمين من مائة بطل مع ظنّ العجز وفيه نظر.
ص: 359
6 - لو زاد الكفّار على الضعف وظنّ السلامة استحبّ الثبات ولو ظنّ العجز وجب الهرب لقوله ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (1).
7 - لو انفرد اثنان بواحد هل يجب الثبات احتمالان من كونهما لم يزيدا على الضعف ومن جواز اختصاص الحكم في الآية بالجماعة إذ الهيئة الاجتماعيّة لها أثر في المقاومة وهو الأقرب.
السادسة ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (2).
قال ابن عباس : جهاد الكفّار بالسيف وجهاد المنافقين باللّسان يريد بإقامة الحجّة عليهم والوعظ لهم واختاره الجبائيّ وقال الحسن وقتادة جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم وفيه نظر فانّ الحدود تقام أيضا على الفسّاق من المسلمين مع أنّ ذلك لا يسمّى جهادا « وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ » أي أسمعهم الكلام الغليظ ولا تحابّهم ولا ترقّ لهم وعن ابن مسعود إن لم يستطع بيده فبلسانه فان لم يستطع فليكفهرّ في وجهه فان لم يستطع فبقلبه بالبغض له والتبرّي منه وفي قراءة أهل البيت عليهم السلام « جاهد الكفّار بالمنافقين » قالوا لأنّه لم يكن عليه السلام يجاهد منافقا بل يتألّفه (3) فان صحّ هذا النقل فهم أعلم بما قالوه وإلّا فالقراءة المشهورة المنقولة تواترا معها الدليل ولها الحجّة فإنّ تألّف المنافقين لم يكن مقصودا لذاته بل ليكون وسيلة إلى تليين قلوبهم فتقبل ما يرد عليها من الحجّة والموعظة وإقامة الأدلّة على دفع الشبهات عنهم وذلك هو الجهاد المأمور به وفي الآية فوائد :
1 - الأمر بجهاد الكفّار ، وهم قسمان من له كتاب أو شبهة فهؤلاء يقاتلون
ص: 360
حتّى يسلموا أو يلتزموا بشرائط الذمّة وإن لم يحصل منهم أحد الأمرين قتلوا وسيأتي حكمهم ومن ليس له كتاب ولا شبهة فهؤلاء يقاتلون حتّى يسلموا وإلّا [ ي ] قتلوا وسيأتي أيضا حكمهم.
2 - الأمر بجهاد المنافقين بإقامة الحجّة فيدخل فيه جهاد كلّ مبتدع ومعتقد خلاف الحقّ قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : « إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه ومن لم يفعل فعليه لعنة اللّه » (1).
3 - الأمر بالغلظة شامل للقسمين فتجب الغلظة على الكفّار وإهانتهم وكذا على المنافقين وأرباب البدع ومعتقدي خلاف الحقّ إلّا لتقيّة تمنع من ذلك أو لخوف ضرر.
السابعة ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) (2).
هذه [ الآية ] إشارة إلى قتال أهل الكتاب وقد وصفهم بصفات أربع كلّ واحدة منها توجب قتالهم الأولى أنّهم لا يؤمنون باللّه في نفس الأمر لأنّهم يعتقدون اللّه على صفة يستحيل أن يوصف بها كقولهم ( عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ) - و ( الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ) (3) ولذلك وصفهم بالاشراك الثانية أنّهم لا يؤمنون باليوم الآخر كما يجب كقولهم ( لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً ) (4) الثالثة أنّهم لا يحرّمون ما حرّم اللّه كشرب الخمر ونكاح المحرّمات وإباحة لحم الخنزير الرابعة أنّهم لا يدينون دين الحقّ والدين إمّا
ص: 361
الإسلام أو الطاعة أي [ إنّهم ] إن كانوا يدّعون دينا أو يفعلون طاعة فهي غير مطابقة للحقّ لتحريفهم كتابهم وانتحالهم أمورا غير مشروعة إذا عرفت هذا فهنا مسائل :
1 - أهل الكتاب هم اليهود والنصارى حقيقة وأمّا المجوس فلهم شبهة كتاب وقيل ليسوا بأهل الكتاب لقوله ( إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ) (1).
وإنّما للحصر والجواب أنّ لهم شبهة وقد ورد في أخبارنا أنّه كان لهم نبيّ فقتلوه وكتاب فحرّقوه ولهذا قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب » (2) و « من » في الآية للبيان.
2 - تقدّم أنّ أهل الكتاب يقاتلون حتّى يلتزموا بأحد الأمرين إمّا الإسلام وأحكامه أو شرائط الذمّة وإنّما اقتصر هنا في غاية القتال على أداء الجزية ولم يذكر الإسلام ولا باقي الشرائط لأنّ الإسلام معلوم الإرادة ولأنّهم وصفوا بالأوصاف الأربعة وفيه قطع لطمع الإسلام منهم وأمّا الاقتصار على ذكر الجزية فلأنّها الركن الأعظم في الشرائط وإذا أخلّوا بها ولم ينقادوا لأحكام الإسلام خرقوا الذمّة.
3 - شرائط الذمّة هي قبول الجزية وأن يجري عليهم أحكام الإسلام وأن لا يؤذوا المسلمين في أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأن لا يحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا يضربوا ناقوسا وأن لا يتظاهروا بشي ء من المحرّمات وأن لا يتناقصوا دين الإسلام بذكر اللّه سبحانه ونبيّه بما لا يجوز وبمخالفة الأوّلين يخرجون عن الذمّة.
4 - الجزية فعلة كجلسة وهي اسم للنوع أي لنوع من الجزاء وعندنا أنّها غير مقدّرة بل بحسب ما يراه إمام المسلمين لأنّه أنسب بالصغار وعند أبي حنيفة يؤخذ في أوّل كلّ سنة من الفقير المكتسب اثنى عشر درهما ومن المتوسّط أربعة وعشرون ومن الغنيّ ثمانية وأربعون ولا يؤخذ من الفقير الّذي لا كسب له وعند الشافعيّ يؤخذ في آخر كلّ سنة من كلّ واحد دينارا فقيرا كان أو غنيّا ولم يفصّل
ص: 362
الفقير إلى المكتسب وغيره.
5 - لا تؤخذ الجزية من النساء والصبيان لأنّهم ليسوا من أهل القتال وهل تؤخذ من الشيوخ؟ قيل نعم للاستسعاد (1) برأيهم وقيل لا ، لعجزهم عن القتال والأوّل أنسب.
6 - اختلف في معنى « عَنْ يَدٍ » قيل أن يعطوها نقدا لا نسية كما يقال بعته يدا بيد أي نقدا بنقد وقيل أن يعطوها بأيديهم لا بنائب فإنّه أنسب بذلّتهم وهو أقرب وقيل عن قدرة وقهر لكم عليهم وقيل اليد هنا النعمة أي عن إنعام لكم عليهم بقبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم.
7 - « وَهُمْ صاغِرُونَ » من الصغار وهو الذلّة والواو للحال أي يعطونها حال ذلّتهم قيل هو أن يدفع ويقهر بحيث تظهر ذلّته وقيل أن يجي ء ماشيا يسلّمها وهو قائم والآخذ جالس ويقال له أدّ الجزية وأنت صاغر ويصفع على قفاه صفيعة.
وقال فقهاؤنا : إنّه التزام أحكام الإسلام وأن تجري عليهم وأن لا يقدّر الجزية عليهم فيوطّنوا أنفسهم على حال وقيل أن يأخذهم بما لا يطيقون حتّى يسلموا وقال الصادق عليه السلام « إنّ اللّه تعالى يقول « حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ » وللإمام أن يأخذهم بما لا يطيقون حتّى يسلموا وإلّا كيف يكون صاغرا وهو لا يكترث بما يؤخذ منه » (2).
8 - قال أبو حنيفة تؤخذ الجزية عن كلّ كافر حربيّا كان أو ذمّيا عابد وثن أو عابد كوكب إلّا من مشركي العرب لقوله عليه السلام لأهل مكّة « هل لكم في كلمة إذا قلتموها ذلّت (3) لكم العرب وأدّت إليكم العجم الجزية » (4) وعند الشافعيّ لا تؤخذ من مشركي العجم وعند أصحابنا إنّما تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس.
ص: 363
الثامنة ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ) (1).
هنا فوائد :
1 - اللّقاء هنا في الحرب « فضرب » أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدّم المصدر نائبا منا به مضافا إلى المفعول هذا ، مع التأكيد والاختصار ، والتعبير به عن القتل إشعار [ ا ] بأنّه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة إن اختاره الامام عندنا وفيه أيضا تصوير له بأشنع صورة والإثخان قيل إكثار القتل وإغلاظه من الثخين وهو
ص: 364
الغليظ وقيل إكثار الجراح بحيث لا يتمكّن من النهوض والوثاق بفتح الواو وكسرها ما يوثق به « فَشُدُّوا الْوَثاقَ » كناية عن الأسر « فَإِمّا مَنًّا [ بَعْدُ ] » أي تمنّون منّا أو تفدون فداء و « أوزار الحرب » آلاتها وأثقالها الّتي لا تقوم إلّا بها كالسّلاح والكراع أي تنقضي الحرب والإسناد مجازيّ أي يضع أهل الحرب وقيل آثامها ومعناه حتّى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم ظاهرا بحيث لم يبق إلّا مسلم أو مسالم « ذلك » أي الأمر ذلك فيكون فصل خطاب أو مفعول أي افعلوا ذلك.
2 - قالت الشافعية إذا أسر الحرّ الذكر المكلّف تخيّر الامام بين القتل والمنّ والفداء والاسترقاق وقالت الحنفيّة يتخيّر بين القتل والاسترقاق فعلى قولهم الآية منسوخة أو مخصوصة بواقعة بدر وظاهر الآية قريب من مذهب الشافعيّة وفي التحقيق الآية تمنع القتل بعد الإثخان والأسر لتقييد المنّ والفداء بكونه بعد الأسر ولم يذكر معهما القتل وعلى التقادير فالاسترقاق علم بالسنّة هذا وقد قيل إنّ الأسر كان محرّما لقوله ( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ) (1) الآية ثمّ نسخ بهذه الآية وقال الحسن البصريّ إنّ الامام مخيّر بين المنّ والفداء والاسترقاق وليس له القتل بعد الأسر وكأنّه جعل في الآية تقديما وتأخيرا تقديره « فَضَرْبَ الرِّقابِ ) ، ( حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) » ثمّ قال « ( حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً ) » وقيل حكم الآية منسوخ بآية السيف وليس بشي ء لأصالة عدم النسخ والتخصيص خير منه.
3 - المنقول عن أهل البيت عليهم السلام (2) أنّ الأسير إن أخذ والحرب قائمة تعيّن قتله إمّا بضرب عنقه أو قطع يديه ورجليه ويترك حتّى ينزف ويموت وإن أخذ بعد تقضّي الحرب يتخيّر الامام بين المنّ والفداء والاسترقاق ولا يجوز القتل ولو حصل منه الإسلام في الحالين منع القتل خاصّة فعلى هذا يكون قول الحسن موافقا لمذهبنا ويقوى القول بالتقديم والتأخير ولا حرج في ذلك.
ص: 365
4 - اختلف القائلون بأنّ الآية لا تقديم فيها ولا تأخير في قوله « حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها » قيل هو غاية لضرب الرقاب وقيل غاية لشدّ الوثاق وقيل للمنّ والفداء وقيل للمجموع بمعنى أنّ هذه الأحكام جارية فيهم حتّى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم وقيل حتّى لا يبقى أحد من المشركين وقيل حتّى لا يبقى دين غير الإسلام وقيل حتّى ينزل عيسى عليه السلام.
5 - أخبر سبحانه أنّه لو يشاء استأصل الكفّار باهلاكهم من غير توسّط فعلكم ولكن أمركم بذلك ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب الجزيل والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم فينقلبوا إلى العذاب الوبيل.
6 - ثمّ أخبر أنّ « الذين قاتلوا في سبيل اللّه » وقرأ البصري وحفص « قتلوا » « فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ » أي لن يضيعها ويهديهم إلى الثواب أو يثيبهم « وَيُصْلِحُ بالَهُمْ » أي شأنهم في الدنيا « وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ » تفصيل لعاقبتهم بعد الاجمال « عَرَّفَها لَهُمْ » في الدنيا فاشتاقوا إليها وعملوا لها أو بيّنها لهم فيعرف كلّ واحد منزله ويهتدي إليه كأنّه كان ساكنه منذ خلق أو طيّبها من العرف وهو طيب الرائحة.
التاسعة ( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).
ص: 366
خمس آيات « ما كان » ما هنا للجحد وكان ناقصة واسمها « أن يكون » على تقدير المصدر أي لا يجوز كون الأسرى عند نبيّ وقرأ أبو جعفر أسارى والباقون أسرى والإثخان هو تكثير القتل وقيل الغلبة على البلدان والتذليل لأهلها « وعرض الدنيا » متاعها سمّي به لعروضه وعدم بقائه إذا عرفت هذا فهنا فوائد :
1 – روي (1) أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله أخذ سبعين أسيرا يوم بدر وفيهم العبّاس عمّه وعقيل ابن عمّه أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال قومك وأهلك استبقهم لعلّ اللّه يتوب عليهم وخذ منهم فدية يتقوّى بها أصحابك فقال : عمر كذّبوك [ ونبذوك ] وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم فإنّهم أئمّة الكفر ولا تأخذ منهم الفداء مكّن عليّا من عقيل وحمزة من العبّاس ومكّنّي من فلان وفلان لنسب له فيهم فقال [ له رسول اللّه ] إنّ اللّه يلين قلوب رجال حتّى تكون ألين من اللّين ويقسّي قلوب رجال حتّى تكون أشدّ من الحجارة فمثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال « فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام إذ قال « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً » ثمّ قال صلى اللّه عليه وآله لأصحابه : إن شئتم قتلتم وإن شئتم فاديتم ويستشهد منكم بعدّتهم فقالوا بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بعدّتهم بأحد كما قال صلى اللّه عليه وآله.
ونقل عليّ بن إبراهيم أنّه لمّا قتل النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسرى فقالوا يا رسول اللّه قتلنا سبعين وهم قومك واسرتك أتجذّ أصلهم فخذ يا رسول اللّه منهم الفداء وكان [ أكثر ] الفداء أربعة آلاف درهم وأقلّه ألف درهم وقيل كان فداء كلّ واحد عشرين أوقية وقال ابن سيرين مائة أوقيّة والأوقية أربعون درهما وروي عن الصادق عليه السلام أنّ الفداء كان أربعين أوقيّة والأوقيّة أربعون مثقالا إلّا العباس فانّ فداءه كان مائة أوقيّة وكان قد أخذ منه حين أسر عشرين أوقيّة ذهبا فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذلك غنيمة ففاد نفسك
ص: 367
وابني أخيك نوفلا وعقيلا فقال يا محمّد ليس معي شي ء تتركني أتكفّف الناس ما بقيت؟ فقال أين الذهب الّذي دفعته إلى أمّ الفضل حين خروجك من مكّة وقلت لها ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فان حدث بي حدث فهو لك ولعبد اللّه ولعبيد اللّه والفضل [ وقثم ] فقال العبّاس وما يدريك به فقال أخبرني به ربّي فقال العباس أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك عبده ورسوله واللّه لم يطّلع عليه أحد إلّا اللّه ولقد دفعته إليها في سواد اللّيل قال : فلمّا أخذوا الفداء نزلت الآية وروي أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله كان يكره أخذ الفداء ولمّا رأى سعد بن معاذ كراهته في وجهه قال يا رسول اللّه هذا أوّل حرب لقينا فيه المشركين أردت أن تثخن فيهم القتل حتّى لا يطمع أحد منهم في خلافك وقتالك فقال كرهت ما كرهت ولكن رأيت ما صنع القوم واستدلّ جماعة من مخالفينا كأحمد بن حنبل وغيره بهذه القصة على جواز الاجتهاد على النبيّ صلى اللّه عليه وآله فإنّ أخذ الفداء لم يكن بالوحي وإلّا لما أنكره اللّه والجواب جاز أنّه كان مخيّرا بين القتل والفداء وكان القتل أولى والعتاب على تركه وأيضا قد نقلنا أنّه كان كارها للفداء فالعتاب كان لغيره.
2 - قال ابن عبّاس وقتادة إنكار الفداء كان من عذر لقلّة المسلمين فلمّا كثروا أذن لهم فيه فنزلت « فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً » وسبب ذلك أنّ اللّه تعالى أراد إرهاب الكفّار وإلقاء الرعب في قلوبهم لإعزاز دينه ونصرة رسوله ولا يتأتّى ذلك إلّا بتكثير القتل فلمّا كثر المسلمون حصل المقصود بسبب كثرتهم فاذن لهم في المفاداة.
3 - قوله « لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ » قال مجاهد معناه لو لا أنّه لا يعذّب على ذنب إلّا بعد النهي عنه لعذّبكم لكن لم يسبق منه نهي فلم يعذّبكم وقال الجبائيّ لو لا ما سبق في حكمه أنّه لا يعذّب على الصغائر لعذّبكم وقال ابن جبير لو لا ما سبق أنّه يحلّ لكم الفداء فيما بعد لعذّبكم قلت ويحتمل معنيين آخرين أحدهما لولا ما سبق في حكمه أنّ أمّة محمّد صلى اللّه عليه وآله لا يعذّبون في الدنيا على ذنب كما كانت الأمم الماضية لعذّبكم وثانيهما لو لا ما كتب لكم أنّكم لا تؤاخذون على خطأ في الاجتهاد لعذّبكم وبيان خطائهم أنّهم قالوا لا مصلحة في قتلهم لرجاء إسلامهم وفي
ص: 368
أخذ الفداء منهم مصلحة للمسلمين لأنّ أكثرهم كانوا فقراء لا مركوب لهم ولا زاد ولا شكّ أنّ مصلحة المسلمين جزئيّة والإثخان في الأرض مصلحة كلّيّة فإذا تعارضتا فالكلّية أولى كما إذا وقعت آكلة في عضو فإنّه يجب قطعه لئلّا يتعدّى إلى البدن كلّه والخطاب لمن أخذ الفداء لا له صلى اللّه عليه وآله لعصمته من الخطاء ولما نقلنا من كراهته لأخذ الفداء وقال الجبائيّ إنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله عصى في هذه القضيّة إجماعا ولم يعيّن والظاهر أنّه في ترك القتل والإثخان وقوله باطل لما ثبت من عصمته مطلقا هذا وقد نقلنا كراهته لأخذ الفداء حتّى قال البلخيّ أجلّاء الصحابة [ كانوا ] برآء من أخذ الفداء وإنّما رغّب فيه غيرهم.
4 - « فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً » إشارة إلى إباحة المغنم قال صلى اللّه عليه وآله : « فضّلت على الأنبياء بخمس بعثت إلى الكافّة وأحلّ لي المغنم ونصرت بالرعب وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وخصّصت بالشفاعة » (1) والغنيمة ما أخذ من الكفّار قهرا وهل الفداء من الغنيمة قيل نعم والمراد بها هنا هو الفداء لأنّ الكلام فيه وقيل لا ، لأنّ الفداء ما أخذ عوضا من النفس وهو غير الغنيمة وفائدة الخلاف في وجوب الخمس وعدمه وأصل الحلال من حلّ العقد ولا فرق بينه وبين المباح في المعنى إلّا أنّ المباح ليس مسبوقا بالحظر بخلاف الحلال لما قلناه أنّه من حلّ العقد ولمّا كانت الغنائم محرّمة على الأمم السالفة قال حلالا والمباح مأخوذ من باحة الدار وسعتها فكونه مباحا معناه موسّع فيه والطيّب ما كان موافقا للطبع و « من » في « مِمّا غَنِمْتُمْ » للتبعيض ولولاها لأوهم تحريم الانتفاعات الباقية وتخصيص الأكل لكونه أعظم الانتفاعات.
5 - [ ثمّ ] إنّه تعالى بشّر الأسرى عقيب أخذ الفداء منهم بأنّه إذا صلحت نيّاتهم وخلص الإسلام في قلوبهم أن يؤتيهم خيرا ممّا أخذ منهم من الفداء وروي عن العبّاس أنّه قال أبدلني اللّه خيرا ممّا أخذ منّي أملك الآن عشرين عبدا وإنّ
ص: 369
أدناهم ليضرب بعشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحبّ أنّ لي بها جميع أموال مكّة وأنا أنتظر المغفرة.
وأنذرهم أنّهم إن يريدوا خيانة الرسول بالردّة عن الإسلام فقد خانوا اللّه من قبل بالشرك ومعاونة المشركين فأمكن منهم بالقدرة عليهم ، كذلك إذا ارتدّوا يمكّن منهم ثانيا كما مكّن منهم أوّلا كما وقع لدريد بن الصمّة ومن ضارعه ممّن أسلم ثمّ ارتدّ وخرج على النبيّ صلى اللّه عليه وآله مع المشركين.
العاشرة ( فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) (1).
الضمير عائد إلى الّذين نقضوا عهدهم وهم بنو قريظة عاهدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله على أن لا ينصروا قريشا فأعانوا مشركي مكّة يوم الخندق فلمّا عرّفهم نقضهم قالوا نسينا وأخطأنا فأمره اللّه بمكافاتهم « وإن » شرطية « وما » زائدة لتأكيد الشرط والنون للتوكيد في الفعل أيضا ومعناه إن صادفتهم يا محمّد في الحرب فشرّد بهم من خلفهم أي نكّل بهم تنكيلا تشرّد غيرهم من ناقضي العهود خوفا أن ينكل به قاله أكثر المفسّرين « لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » أي إذا فعلت ذلك كان عظة لغيرهم فيعلمون أنّ عاقبة الغدر وخيمة « وَإِمّا تَخافَنَّ » أيضا جملة شرطيّة كما تقدّم أي إن خفت « مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً » أي نقض عهد « فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ » عهدهم أي ألق إليهم عهدهم واقتصر على ذلك ولا تحاربهم قوله « عَلى سَواءٍ » أي على عدل فإنّهم إذا نقضوا العهد فنبذت إليهم عهدهم لتساويتم لكنّهم لمّا بدءوا استحقّوا الذمّ فعلى هذا نكون الآية الاولى في حال من تكرّر منهم نقض العهد لقوله قبلها « الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ » وهذه لمن ظهر منه أمارات النقض لأنّ التفصيل قاطع للشركة.
ص: 370
لكن يرد هنا سؤال وهو أنّ أهل مكّة حاربهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مع عدم تكرار النقض منهم فيجاب بأنّ معنى الآية الثانية ظهور أمارة النقض وظنّ ذلك وأهل مكّة نقضوا العهد بالفعل وقتلوا رجلا من خزاعة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وفرق بين ظنّ النقض وبين تيقّنه أو يكون المراد أنّ النقض بغير القتل ولم يتكرّر فيقتصر معه على نبذ العهد وبالقتل كأهل مكّة أو مع التكرار كبني قريظة تجوز المحاربة فيكون ممّا خصّ بمنفصل.
قوله « إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ » عدم المحبّة أعمّ من البغضة لجواز أن لا يحبّ ولا يبغض كما أنّ ظهور أمارة النقض أعمّ من نقضه بالفعل ومن عدمه.
الحادية عشر ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (1).
روي في سبب نزولها أنّ رجلا يقال له مرداس من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سريّة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأميرهم غالب العبسي (2) فهربوا و
ص: 371
بقي مرداس متّكلا على إسلامه فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد فلمّا تلاحقوا وكبّروا كبّر ونزل وقالت لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه فأخبروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بذلك فوجد وجدا شديدا وقال قتلتموه إرادة ما معه فنزلت وقيل كان أمير السريّة المقداد وقرأ حمزة وابن عامر « السلم » بغير الألف والباقون « السلام » بالألف ومعناهما واحد قوله « لَسْتَ مُؤْمِناً » أي لست مصدّقا بالإسلام عن قصد وإنّما قلتها خوفا [ من القتل ] « كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ » أي كنتم كفّارا فلمّا أظهرتم الإسلام قبل منكم وقيل كنتم مستخفين بالإسلام خوفا على أنفسكم كذلك مرداس « فَتَبَيَّنُوا » أعادها للتأكيد وقرأ الكسائيّ « فتثبّتوا » بالثاء المنقّطة ثلاثا والباقون بالتاء فوقها نقطتان وهنا فوائد :
1 - أنّ كلمة الإسلام تحقن الدّم والمال على أيّ حال حصلت.
2 - أنّ أسامة بن زيد لم يخرج بتلك الفعلة عن الايمان لمخاطبته به وأنّه لم يقتله إلّا طمعا في ماله لا غير لا لله تعالى ولا إنكارا لإيمانه.
3 - روى ابن عبّاس أنّه لمّا نزلت هذه الآية حلف أسامة أنّه لا يقتل رجلا يقول لا إله إلّا اللّه وبهذا اعتذر إلى عليّ عليه السلام لمّا تخلّف عنه ، وهو عذر غير مقبول لأنّه قام الدليل على وجوب إطاعته في محاربة من حاربه من البغاة خصوصا وقد سمع النبيّ صلى اللّه عليه وآله يقول « يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي » (1) ولكن كرم
ص: 372
علي عليه السلام ستر خطيئته « والعذر عند كرام الناس مقبول ».
4 - في الآية إشارة إلى التثبّت في الأمور والنهي عن العجلة حذرا من سوء عاقبتها.
الثانية عشر ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ) (1).
هذه [ الآية ] إشارة إلى قصّة بدر ومضمونها أنّ جبرئيل عليه السلام أخبر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّ عيرا لقريش أقبلت من الشأم وهي خمس مائة بعير موقّرة عن أمتعة الشأم وفيها أربعون راكبا وإنّ فيها أبا سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام فأخبر المسلمين بذلك وأمرهم بالخروج إليها وقال لعلّ اللّه أن ينفلكموها فخفّ بعضهم وثقل بعض ولم يظنّوا أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يلقى حربا فخرجوا لا يريدون إلّا العير ، فسمع أبو سفيان بخروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فاستأجر رجلا يقال له ضمضم بعشرة دنانير وبعثه إلى مكّة يخبر قريشا بذلك وكانت عاتكة بنت عبد المطّلب قد رأت قبل ذلك في المنام أنّ رجلا صعد على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه فما ترك دارا من دور قريش إلّا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة وأخبرت العباس [ بذلك ] وبلغ ذلك أبا جهل فقال هذه نبيّة ثانية في بني عبد المطّلب ف [ ل ] ما كان اليوم الثالث من الرؤيا [ حتّى ] جاء ضمضم يصيح بأعلى صوته يا آل غالب اللطيمة اللطيمة العير العير إنّ محمّدا وأصحابه قد خرجوا يتعرّضون لعيركم فخرج أبو جهل ينادي النجا النجا عيركم وأموالكم إن أصابها محمّد لن تفلحوا ، فخرجوا بأجمعهم وهم النفير وفي المثل السائر « لا يعدّ في العير ولا في النفير » (2).
ص: 373
وأخرجوا معهم القيان يضربون بالدفوف فأخبروا أنّ العير أخذت الساحل ونجت وقيل لأبي جهل نرجع إلى مكّة قال لا واللّه لا يكون ذلك حتّى ننحر الجزور ونشرب الخمور فيتسامع العرب أنّ محمّدا لم يصب عيرنا فمضى بهم إلى بدر وهي ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنّة.
فنزل جبرئيل عليه السلام فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بالقصّة وأنّ اللّه وعده إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا النفير فاستشار النبيّ صلى اللّه عليه وآله أصحابه أيّهما أحبّ إليكم فقالوا العير فتغيّر وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقال إنّ العير قد مضت وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا عليك بالعير فاشتدّ غضبه صلى اللّه عليه وآله فقام أبو بكر وعمر فتكلّما بكلام مضمونه إنّها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت ولا ذلّت منذ عزّت فقال لهما اجلسا فجلسا فقام المقداد رحمه اللّه فقال إنّا نشهد بأنّ ما جئتنا به حقّ واللّه لو أمرتنا أن نخوض الجمر لخضناه معك لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ) (1) بل نقول امض لأمر ربّك إنّا معك [ م ] مقاتلون فجزّاه رسول اللّه خيرا.
فاستبشر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثمّ قال أشيروا عليّ ويريد
ص: 374
بذلك الأنصار لأنّهم كانوا أكثر الناس يومئذ ولأنّهم كانوا بايعوه بالعقبة فقالوا إنّا برآء من ذمّتك حتّى تصل إلى دارنا ثمّ أنت في ذمّتنا نمنعك ما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا وكان النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يتخوّف أن لا يرى الأنصار نصرته إلّا على عدوّ دهمه بالمدينة لا غير ، فقام سعد بن معاذ فقال كأنّك أردتنا يا رسول اللّه! قال : نعم ، فقال : إنّا آمنا بك وصدّفناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، إنّا لصبر عند الحرب وصدق عند اللّقاء واللّه لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ولعلّ اللّه أن يريك ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة اللّه. ففرح بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقال سيروا على بركة اللّه وعونه إنّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه وعده واللّه لكأنّي أنظر إلى مصرع أبي جهل وعتبة بن ربيعة وفلان وفلان.
ثمّ أمر بالرحيل إلى بدر فأقبلت قريش وبعثت عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقالوا من أنتم قالوا نحن عبيد قريش قالوا فأين العير قالوا لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يصلّي فانفتل من صلاته وقال إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم [ عليّ بهم ] فأتوه بهم فقال من أنتم قالوا يا محمّد نحن عبيد قريش قال كم القوم قالوا لا علم لنا بعددهم قال كم ينحرون في كلّ يوم من جزور قالوا تسعة إلى عشرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله القوم تسعمائة إلى ألف رجل وأمر عليه السلام بحبسهم فحبسوا ، وبلغ ذلك قريشا ففزعوا وندموا على مسيرهم ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختريّ بن هشام قال أما ترى هذا البغي واللّه ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا [ على محمّد وأصحابه ] واللّه ما أفلح قوم بغوا قطّ ولوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير.
فقال له أبو البختري إنّك سيّد من سادات قريش فسر في الناس وتحمّل العير الّتي أصابها محمّد وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرميّ فإنّه حليفك فقال له عليّ ذلك وما على أحد منّا خلاف إلّا ابن الحنظليّة - يعني أبا جهل - فسر إليه وأعلمه
ص: 375
أنّي تحمّلت العير ودم ابن الحضرميّ وهو حليفي وعليّ عقله.
قال [ أبو البختري ] فقصدت خباءه وأبلغته ذلك فقال إنّ عتبة يتعصّب لمحمّد فإنّه من بني عبد مناف وابنه معه فيريد أن نخذل بين الناس لا واللّات والعزّى حتّى نهجم عليهم بيثرب أو نأخذهم أسارى فندخلهم مكّة ويتسامع العرب بذلك وكان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وكان أبو سفيان لمّا جاز بالعير بعث إلى قريش : قد نجّى اللّه عيركم فارجعوا ودعوا محمّدا والعرب وادفعوه بالسراح ما اندفع وإن لم ترجعوا فردّوا القيان فلحقهم الرسول بالجحفة فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم وردّوا القيان من الجحفة قال وفزع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لمّا بلغهم كثرة قريش واستغاثوا وتضرّعوا فأنزل اللّه تعالى ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) (1) قال ابن عبّاس فلمّا اصطفّ القوم قال أبو جهل اللّهمّ أولانا بالنصر فانصره وقيل إنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لمّا نظر الكثرة من المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال « اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض » فما زال يهتف ربّه مادّا يديه حتّى سقط رداؤه [ عن منكبيه ] قال ولمّا أمسى رسول اللّه وجنّه الليل ألقى اللّه على أصحابه النعاس وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا يثبت فيه قدم فأنزل اللّه المطر رذاذا حتّى اشتدّ وتثبّت أقدامهم وكان المطر على قريش مثل العزالى وألقى اللّه في قلوبهم الرّعب كما قال سبحانه ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) (2).
فعبّأ رسول اللّه أصحابه وكان معه فرسان لا غير أحدهما للزبير ابن العوّام والأخرى للمقداد وسبعون جملا يتعاقبون عليها وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعليّ بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنويّ يتعاقبون على جمل لمرثد وكان مع قريش أربعمائة فرس وقيل مائتان وقيل خمسمائة فلمّا نظروا إلى قلّة المسلمين قال أبو -
ص: 376
جهل ما هم إلّا أكله رأس ولو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد فقال له عتبة أترى لهم كمينا في الحرب أو مددا فبعثوا عمرو بن وهب فجال بفرسه حول المسلمين فرجع فقال : ما لهم كمين ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون ويتلمّظون تلمّظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلّا سيوفهم وما أراهم يألون حتّى يقتلوا ولا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم فقال أبو جهل كذبت وجبنت.
فأنزل اللّه تعالى « وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها » (1) فبعث إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يا معشر قريش إنّي أكره أن أبدأ بكم فخلّوني والعرب وارجعوا فقال عتبة ما ردّ هذا قوم قطّ فأفلحوا ثمّ ركب جملا له أحمر فنظر إليه رسول اللّه وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال فقال عليه السلام إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر فان يطيعوه يرشدوا فخطب عتبة فقال أطيعوني اليوم واعصوني الدهر كلّه إنّ محمّدا له إلّ وذمّة وهو ابن عمّكم فخلّوه والعرب فان يك صادقا فأنتم أعلى عينا به وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره فقال له أبو جهل جبنت وانتفخ سحرك (2) فقال يا مصفّر استه (3) أمثلي يجبن ستعلم قريش أيّنا الأم وأجبن
ص: 377
وأيّنا المفسد لقومه ولبس درعه وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد وقالوا يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار فانتسبوا لهم فقالوا ارجعوا إنّما نريد الأكفاء فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إلى عبيدة ابن الحارث وكان له يومئذ سبعون سنة فقال له قم يا عبيدة ونظر إلى حمزة وقال قم يا عمّ ثمّ نظر إلى عليّ بن أبي طالب وهو أصغر القوم فقال قم يا عليّ واطلبوا بحقّكم الّذي جعله اللّه لكم فلقد جائت قريش بخيلائها وفخرها « يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّهِ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ».
ثمّ قال يا عبيدة عليك بعتبة ويا حمزة عليك بشيبة ويا عليّ عليك بالوليد فمرّوا حتّى انتهوا إلى القوم فقالوا أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأظنّها فسقطا جميعا وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتّى انثلما وحمل أمير المؤمنين عليه السلام على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه فقال عليّ عليه السلام لقد أخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها على هامتي فظننت أنّ السماء وقعت على الأرض.
ثمّ اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون يا عليّ أما ترى الكلب قد بهر عمّك فحمل عليه عليّ عليه السلام ثمّ قال يا عمّ طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه عليّ عليه السلام فطرح نصفه ثمّ جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز
ص: 378
عليه وحمل عبيدة حمزة وعليّ حتّى أتيا به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فاستعبر فقال يا رسول اللّه ألست شهيدا قال : أنت أوّل شهيد من أهل بيتي.
وقال أبو جهل لقريش لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتّى ندخلهم مكّة فنعرّفهم ضلالتهم وجاء إبليس في صورة سراقة مالك بن جعشم فقال لهم إنّي جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم فدفعوا إليه راية الميسرة وكانت الراية مع بني عبد الدار فنظر إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال لأصحابه « غضّوا أبصاركم وعضّوا على النواجذ » ورفع يديه فقال « يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد » ثمّ أصابه الغشي فسري عنه وهو يسكب العرق عن وجهه فقال « هذا جبرئيل عليه السلام قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين ».
وروي عن سهل بن حنيف قال لقد رأينا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه من جسده قبل أن يصل إليه السيف وقتل ذلك اليوم من المشركين اثنان وسبعون من صناديدهم قتل عليّ عليه السلام منهم ستّة وثلاثين والملائكة وباقي المسلمين ستّة وثلاثين ولمّا ظفر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وفرغ من الحرب قال له بعض أصحابه يا رسول اللّه عليك بالعير فإنّه ليس دونها ذائد فقال العباس وهو في القيد لا يصلح لك فقال عليه السلام ولم ذلك فقال إنّ اللّه وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك وهذه القصّة وقعت في البين (1).
وهنا فوائد :
1 - أنّ المراد بإحدى الطائفتين العير أو النفير وذات الشوكة هي النفير وغير ذات الشوكة [ هي ] العير والشوكة القوّة.
ص: 379
2 - أنّه أخبرهم إجمالا أنّه وعدهم إحدى الطائفتين وأشار إلى أنّ الواقع هو الظفر بذات الشوكة لأنّه قال « وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ » وقال « وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ » وقطع دابرهم هو الظفر بذات الشوكة وإذا أراد اللّه أمرا وجب وقوعه خصوصا إذا كان من أفعال نفسه وكانت إرادة العبد لا أثر لها ومن هذا المعنى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كأنّي أنظر إلى مصارع القوم. وقال العبّاس لا يصلح لك الظفر بالعير.
3 - معنى قوله « يُحِقَّ الْحَقَّ » أي يثبته ويظهره « بِكَلِماتِهِ » أي آياته المنزلة أو أفعاله الخارقة للعادة كانزال الملائكة وقذف الرّعب في قلوب الكفّار وضرب الملائكة أعناقهم وقطع أيديهم. وقطع دابر الكافرين أي استيصالهم ودابر الإنسان عرقوبه ودابر الطائر كالإصبع يضرب بها وهذه الآية ليس فيها شي ء من فقه الجهاد ولكنّي ذكرتها وذكرت القصّة متابعة لمن تقدّمني ولما فيها من معجزة الرسول صلى اللّه عليه وآله.
الثالثة عشر ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (1).
جنح أي مال والسلم المسالمة أي المصالحة قال ابن عباس هي منسوخة بقوله ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (2) وقال الحسن وقتادة ومجاهد منسوخة بقوله ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (3) والحقّ أنّها غير منسوخة لتعلّق الصلح برأي الامام وبحسب المصالح المتجدّدة ويدلّ على عدم نسخها أنّ قوله « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ » نزلت في سنة تسع وبعث بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إلى مكّة ثمّ صالح أهل نجران على ألفي حلّة ألف في صفر وألف في رجب.
واعلم أنّ الصلح ويقال له الهدنة جائز شرعا لأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله صالح أهل مكّة عام الحديبية وكأنّ الآية إشارة إلى ذلك ثم إنّه إنّما يجوز مع رعاية المصلحة
ص: 380
للمسلمين وقد يجب مع الحاجة إليها إمّا لقلّتهم أو لرجاء إسلام جماعة مع الصبر أو لحصول ما يحصل به الاستظهار (1) فان لم يكن حاجة ولا ضرورة ولا مصلحة فلا يجوز ومع حصول أحدها فأقلّ زمانها أربعة أشهر لقوله تعالى ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) (2) وفي طرف الكثرة لا تجوز الزيادة على سنة وفيما بينهما خلاف أقربه اعتبار الأصلح ولا بدّ من تعيين المدّة فلو شرط مدّة مجهولة لم يصحّ ويجب الوفاء بالهدنة الصحيحة ولا يجوز النقض إلّا مع انقضاء المدّة أو ظهور خيانة من الكفّار ولو استشعر الخيانة جاز نبذ العهد إليهم وينذرهم ولا يجوز مع التهمة وكذا يجب الوفاء بالشروط الصحيحة ولو كانت فاسدة فلا يجوز الاغتيال إلّا بعد الإنذار.
الرابعة عشر ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) (3).
قال ابن عبّاس لمّا وقع صلح الحديبية [ وكتبوا كتابا بطريق الصلح ] تضمّن
ص: 381
أنّ من جاء منهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يردّه عليهم ومن أتاهم من أصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يردّ فقدمت سبيعة بنت الحارث الأسلميّة مسلمة بعد ختم الكتاب فقدم زوجها مسافر وقيل صيفيّ ابن الراهب وكان كافرا فقال يا محمّد اردد عليّ امرأتي فإنّك شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا وهذه طينة الكتاب لم تجفّ فنزلت الآية (1) وقد تضمّنت أحكاما :
1 - قد تقدّم وجوب الوفاء بما تضمّنه عقد الصلح من الشروط الصحيحة لا الفاسدة وصلح الحديبية وإن تضمّن ردّ من أتا [ نا ] منهم لكنّه مطلق قابل للتقييد بعدم الاشتمال على المفسدة فلذلك كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يردّ من الرجال من له عشيرة يمنعونه من الفتنة عن دينه وأمّا من ليس له عشيرة يمنعونه فلم يردّه خوفا من الفتنة وكذا لم يردّ المرأة مطلقا وإن كان لها عشيرة لأنّهم لا يمنعونها من التزويج بالكافر وحينئذ لا تؤمن فتنتها من زوجها فإنّ المرأة تأخذ من دين بعلها.
2 - إذا قدمت المرأة مسلمة تمتحن بمقتضى الآية أي تختبر قال ابن عباس هو أن تستحلف أنّها ما خرجت من بغض زوج [ ها ] ولا رغبة في أرض ولا التماس دنيا ولا عشقا لرجل منّا وإنّما خرجت حبّا لله ولرسوله وبالجملة إذا تحقّق إسلامها لم تردّ وقوله « اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ » أي أنتم مكلّفون بما يظهر لكم من حالها وحقيقة إيمانها معلومة لله سبحانه.
3 - « فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ » أراد الظنّ المتاخم للعلم لا العلم حقيقة فإنّه غير ممكن وعبّر عن الظنّ بالعلم إيذانا بأنّه كهو في وجوب العمل به « فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ » فيه تصريح بوقوع فسخ النكاح من غير طلاق بمجرّد إسلامها لكن ذلك إن كان قبل الدخول وقع الفسخ في الحال وإن كان بعده توقّف استقراره على انقضاء العدّة فلو أسلم الزوج في العدّة فهو أحقّ بها هذا في غير الكتابيّين أمّا هما فان كان الإسلام من الزوج فهو على نكاحه وإن كان من الزوجة فكما تقدّم والتكرار للتأكيد أو الأوّل للفرقة والثاني لتحريم الاستيناف.
ص: 382
4 - إذا قدمت مسلمة ولها زوج فجاء في طلبها فمنعناه وجب على الإمام أو نائبه أن يدفع إليه ما سلّمه إليها من مهر خاصّة دون ما أنفقه عليها من مأكل وغيره ولو كان المهر محرّما كخمر أو خنزير أو لم يكن قد دفع إليها شيئا لم يدفع إليه شي ء ولا قيمة المحرّم وإن قبضته ولو جاء أبوه أو أخوه لم يدفع إليه شي ء هذا ويدفع الإمام أو نائبه ذلك المهر من بيت المال لأنّه من المصالح ولو قدمت بلدا ليس فيه الامام ولا نايبه لم يدفع إلى الزوج شي ء وإن منعناه زوجته [ و ] هذا كلّه في زمان الهدنة أمّا لو قدمت لا مع الهدنة فلا يدفع إليه شي ء لأنّه حربيّ يقهر على ماله.
5 - « وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ » أي لا جناح في نكاح المؤمنات المهاجرات لوقوع الفسخ في نكاحهنّ واستدلّ أبو حنيفة بذلك على أنّه إذا خرج إلينا أحد الزوجين مسلما أو بذمّة وبقي الآخر حربيّا وقعت الفرقة ولا يرى العدّة على المهاجرة ويصحّ نكاحها إلّا أن يكون حاملا وليس بشي ء لجواز اشتراطه بالعدّة كما في حقّ الحامل عنده.
قوله « إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » أي مهورهنّ وفايدة ذكر ذلك إعلام أنّ ما أخذه الأزواج من المهور لا يكفى عن مهر آخر لنكاح مستأنف.
6 - « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » أي لا تتمسّكوا بنكاح الكافرات والعصمة ما يتمسّك به من عقد أو ملك في النكاح وسمّي النكاح عصمة لأنّها لغة المنع والمرأة بالنكاح تكون ممنوعة من غير زوجها وفيه دلالة على أنّه لا يجوز نكاح الكافرة مطلقا حربيّة وذمّيّة دائما ومنقطعا وسيأتي تحقيقه قال مجاهد هو أمر بطلاق من بقي مع الكفّار وقال النخعيّ هي المرأة تلحق بدار الحرب فترتدّ وقال ابن عباس من كانت له امرأة [ كافرة ] بمكّة فلا يعتدّ بها من نسائه لأنّ اختلاف الدارين قطع عصمتها [ وحلّ عقدتها ] وكلّ ذلك تخصيص لعموم اللّفظ من غير دليل وكذا قول من قال : إنّ المراد بالكوافر الوثنيّات لسبب النزول ، باطل أيضا لما عرفت أنّ العبرة بعموم اللّفظ وأنّ السبب لا يخصّص.
7 - « وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا » أي إذا لحقت امرأة منكم بأهل
ص: 383
العهد مرتدّة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها وهم أيضا فليفعلوا ذلك « ذلِكُمْ » أي ما ذكر في الآية « حُكْمُ اللّهِ » في شرعه « يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ » لأنّه عليم بحقائق الأمور محكم لأفعاله.
8 - « وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ » لمّا أمر بأداء المهر إلى الزوج الكافر فقبل ذلك المسلمون وأمر الكفّار بأداء مهر اللّاحقة بهم مرتدّة فلم يقبلوا نزلت هذه « وَإِنْ فاتَكُمْ » أي سبقكم وانفلت منكم « شَيْ ءٌ » أي أحد « مِنْ أَزْواجِكُمْ » إلى الكفّار « فَعاقَبْتُمْ » قيل معناه فغزوتم فأصبتم من الكفّار عقبى وهي الغنيمة فأعطوا الزوج الّذي فاتته امرأته إلى الكفّار من رأس الغنيمة ما أنفقه من مهرها وقيل معناه من العقبة وهي النوبة شبّه أداء كلّ مهر نساء الآخرين بأمر يتعاقبون عليه أي فان جائت عقبتكم من أداء المهر فآتوا من فاتته امرأته إلى الكفّار مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر وقال الزجّاج « فَعاقَبْتُمْ » أي فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتّى غنمتم فآتوا الّذي ذهبت زوجته من الغنيمة المهر قال وقرئ « فأعقبتم » و « فعقّبتم » بتشديد القاف و « فعقبتم » بتخفيف القاف وفتحها وكسرها والجميع معناه واحد فكانت العقبى لكم أي الغلبة حتّى غنمتم.
وكان جميع من لحق بالكفّار ستّ نساء لا غير فأعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أزواجهنّ مهورهنّ من الغنيمة.
الخامسة عشر ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).
نزلت يوم فتح مكّة ، لمّا فرغ النبيّ صلى اللّه عليه وآله من مبايعة الرجال جاءه النساء
ص: 384
يبايعنه قيل كانت مبايعتهنّ بأن يغمس يده في قدح من ماء ثمّ يغمسن أيديهنّ فيه وقيل كان يصافحهنّ وعلى يده ثوب ويشترط عليهنّ الشروط الستّة المذكورة في الآية والقتل إشارة إلى وأد البنات واللّفظ في الآية أعمّ والبهتان قيل إلحاق الولد بزوجها ولم يكن منه وكانت المرأة تلتقط الولد فتقول لزوجها هذا ولدي منك وقيل هو أن تحمل به من الزناء لأنّ بطنها الّذي تحمله بين يديها وفرجها الذي تقذفه بين رجليها ، والمعروف هو كلّ طاعة يؤمر بها وقيل عني به النهي عن النوح وتمزيق الثياب وجزّ الشعر وشقّ الجيب وخمش الوجه والدعاء بالويل واللّفظ أعم من ذلك كلّه.
قوله « وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّهَ » أي فيما فعلنه في حال الكفر وفيه دلالة على أنّ الكافر يعاقب على ترك الفروع وأنّ الإسلام يسقط الإثم عنه وروي (1) أنّه صلى اللّه عليه وآله بايعهنّ على الصفا وكان عمر أسفل منه وهند بنت عتبة متنقبّة متنكّرة مع النساء خوفا من أن يعرفها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : « أبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا » فقالت هند إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال وذلك أنّه بائع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقطّ فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « ولا تسرقن » فقالت هند إن أبا سفيان رجل ممسك وإنّي أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أم لا فقال أبو - سفيان ما أصبت من شي ء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعرفها فقال لها وإنّك لهند بنت عتبة فقالت نعم فاعف عمّا سلف يا نبيّ اللّه عفى اللّه عنك فقال « ولا تزنين » فقالت هند أو تزني الحرّة فتبسّم عمر بن الخطّاب لما جرى بينه وبينها في الجاهليّة فقال عليه السلام « ولا تقتلن أولادكنّ » فقالت هند ربّيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة ابن أبي سفيان قتله عليّ بن أبي طالب عليه السلام يوم بدر فضحك عمر حتّى استلقى [ على قفاه ] وتبسّم النبيّ صلى اللّه عليه وآله ولمّا قال « ولا تأتين ببهتان تفترينه » قالت هند : واللّه إنّ البهتان قبيح وما تأمرنا إلّا بالرشد
ص: 385
ومكارم الأخلاق ولمّا قال « ولا تعصينني في معروف » (1) قالت هند ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شي ء.
وفيه آيات :
الاولى ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (2).
استدلّ بهذه الآية المعاصر على قتال البغاة وهو خطاء فإنّ الباغي هو من خرج على الإمام العادل بتأويل باطل وحاربه وهو عندنا كافر لقوله صلى اللّه عليه وآله لعليّ عليه السلام « يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي » (3) فكيف يكون الباغي المذكور مؤمنا حتّى يكون داخلا في الآية ولا يلزم من ذكر لفظ البغي في الآية أن يكون المراد بذلك البغاة المعهودين عند أهل الفقه كما قال الشافعيّ ما عرفنا أحكام البغاة إلّا من فعل عليّ عليه السلام يريد فعله في حرب البصرة والشام والخوارج من أنّه لم يتبع مدبري أهل البصرة والخوارج ولم يجهّز على جريحهم لأنّهم ليس لهم فئة وتبع مدبري أهل الشام وأجهز على جريحهم ، ولذلك لم يجعلها الراونديّ حجّة على قتال البغاة بل
ص: 386
جعلها في قسم من يكون من المسلمين أو المؤمنين فيقع بينهم قتال وتعدّى بعض على بعض فيكون البغي بمعنى التعدّي فيقاتل المتعدّي حتّى يرجع عن تعدّيه إلى طاعة اللّه وامتثال أوامره.
قال الراونديّ ذكر الطبريّ أنّها نزلت في طائفتين من الأنصار وقع بينهما حرب وقتال ، نعم استدلّ الراونديّ على قتال أهل البغي بقوله تعالى ( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) (1) أي انفروا شبّانا وشيوخا وأغنياء وفقراء ومشاتا وركبانا. قال وظاهر الآية يقتضي قتال البغاة وهو أيضا غلط فإنّ أيّ ظاهر فيها يدلّ على قتال البغاة حتّى يكون حجّة على المطلوب بل ظاهرها يفيد تأكيد الأمر بالجهاد والمبالغة في ذلك كذا ذكره الطبرسيّ وغيره فيكون المراد بذلك جهاد الكفّار المعهود [ ين ] نعم إن كان ولا بدّ يستدلّ على قتال البغاة بعموم وجوب طاعة اولي الأمر في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (2) أو بقوله ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) (3) والمنافق من ظاهره الإسلام والباغي كذلك لاظهاره الإسلام وخروجه عنه ببغيه على إمامه فهو حقيق باسم النفاق ولذلك قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله لعليّ « لا يحبّك إلّا مؤمن [ تقيّ ] ولا يبغضك إلّا منافق [ شقيّ ] » (4) رواه النسائيّ في صحيحه ورويناه نحن أيضا في أخبارنا ومن يحاربه لا يحبّه قطعا فيكون منافقا وهو المطلوب ولا يلزم من عدم جهاد النبيّ صلى اللّه عليه وآله للمنافقين عدم ذلك بعده ولذلك قال عليّ عليه السلام يوم الجمل : « واللّه ما قوتل أهل هذه الآية إلّا اليوم » يريد به قوله تعالى ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) الآية. (5)
ص: 387
الثانية ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (1).
الإعداد والاستعداد بمعنى واحد قوله « مِنْ قُوَّةٍ » أي ما هو سببها وسبب الانتصار على عدوّكم من العدد والعدد والآية صريحة في الأمر بالرباط وهو حفظ الثغر من هجوم العدوّ [ أ ] وإرهابه ولذلك قال « تُرْهِبُونَ » وكأنّه جواب سؤال مقدّر تقديره لم نعدّ لهم ما استطعنا والعدوّ غائب عنّا؟ فأجاب بأنّ إعداد القوّة لأجل الترهيب لا القتال حتّى يشترط حضوره ويحتمل أن يكون حالا من « أَعِدُّوا » أي [ أعدّوا ] مرهّبين به من الترهيب وهو الإخافة والضمير في « بِهِ » يرجع إلى ما استطعتم و « عَدُوَّ اللّهِ » قيل هم أهل مكّة لأنّها في حال حرب قريش وفيه ما فيه لما عرفت من أنّ خصوص السّبب لا يقتضي خصوص الحكم بل هو عامّ في كلّ عدوّ لله.
« وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ » قيل هم بنو قريظة وقال السدّيّ أهل فارس وقال الحسن هم المنافقون وهو أجود لقوله « لا تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ » وليس بعيدا أن يكون إشارة إلى البغاة لأنّ الضمير في « مِنْ دُونِهِمْ » عائد إلى « عَدُوَّ اللّهِ » وقال الطبرسيّ إنّهم الجنّ أي الكفرة منهم وقد ورد أنّ صهيل الخيل يؤذيهم وهنا فوائد.
1 - قيل المراد بالقوّة الرمي رواه عقبة بن عامر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وعن عكرمة هي الحصون وفسّر ابن سيرين الحصون بالخيل وقيل له : رجل أوصى بثلث ماله في الحصون فقال يشترى به خيل وتربط في سبيل اللّه يغزى عليها فقيل له إنّما أوصى في الحصون فقال ألم تسمع قول الشاعر « إنّ الحصون الخيل لا مدر القرى » وفيه ركاكة فإنّ إطلاق الحصون على الخيل مجاز ولا يصرف اللّفظ إليه إلّا لقرينة ولا قرينة ظاهرة هنا.
ص: 388
2 - الخيل من أعظم عدد القتال « قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ارتبطوا الخيل فانّ ظهورها لكم عزّ وأجوافها لكم كنز » (1) وعطفها على « قوّة » من باب عطف أعظم أجزاء الشي ء عليه ك [ قوله ( فِيهِما ] فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ ) (2).
3 - قيل في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا ) (3) أنّ قوله رابطوا من الرباط المذكور لأنّه المتبادر إلى الفهم ويحتمل أن يكون المراد في قوله « اصْبِرُوا » أي على الطاعات « وَصابِرُوا » أي أنفسكم على مخالفة الهوى و [ « رابِطُوا » أي ] رابطوها على ذلك أو صابروا الأعداء ورابطوا أبدانكم وخيولكم في الثغور ويحتمل المرابطة على سائر الطاعات قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة » (4) وعنه صلى اللّه عليه وآله « من رابط في سبيل اللّه يوما وليلة كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه ولا يفطر ولا ينفتل عن صلاة إلّا لحاجة » (5).
4 - المرابطة جائزة مع ظهور الامام بلا خلاف وهل يجوز حال الغيبة؟ منع الشيخ منها معتمدا على رواية (6) والأجود جوازها لعموم الأمر ولأنّها ليست جهادا حتّى تكون مشروطة بالإمام بل هي إرصاد لحفظ الثغر وهو واجب على المسلمين على الكفاية والرواية لاشتمالها على الكتابة تضعف عن مقاومة الدليل.
5 - من لم يرابط بنفسه فليساعد المرابطة بماله ففي ذلك أجر جزيل ولذلك أردف الأمر بالمرابطة بقوله « وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ » أي لا تنقصون [ من أجوركم ] شيئا.
ص: 389
الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (1).
قال الراونديّ والمعاصر : إنّها نزلت في أهل البصرة ونقلا ذلك عن الباقر عليه السلام وابن عباس وعمّار وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال يوم الجمل : « واللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم » (2) وتلا الآية. وعن حذيفة مثله وعندي فيه نظر بل هي أعمّ من ذلك وإنّما هي خطاب لكافّة المؤمنين في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله وإعلام منه تعالى أنّ منهم من يرتد بعد وفاته بالقيام والتمالؤ على وصيّه صلى اللّه عليه وآله وإنكارهم النصّ عليه وذلك هو ما يقوله جمهور أصحابنا أنّ دافعي النصّ كفرة والارتداد هو قطع الإسلام بما يوجب الكفر فيكون ذلك شاملا لأهل البصرة وغيرهم.
وقول عليّ عليه السلام « واللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم » حقّ وصدق فانّ منكري إمامته من المتقدّمين لم يقع بينه وبينهم قتال بل أوّل قتال وقع له عليه السلام بعد وفاة الرسول صلى اللّه عليه وآله هو حرب الجمل فلذلك قال ما قال وقد عرفت أنّه مهما أمكن حمل الكلام على عمومه فهو أولى.
ويدلّ على أنّ الارتداد بإنكار النصّ والقيام على أمير المؤمنين عليه السلام ذكر أوصافه في متن الآية بقوله « يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ » فهو كقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله يوم خيبر : « لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله كرّار غير فرّار » (3)
ص: 390
وقوله « أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ » أي من شدّة تواضعهم ولين جانبهم يكونون كالذليل وقوله « أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ » أي من شدّتهم في ذات اللّه ودينه يكونون على الكافرين كالقاهر والغالب على من بيده (1) وكذا قوله « يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ » وقوله « وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ » فهذه الصفات الخمس نصوص على أنّه عليه الصلاة والسلام هو المراد بذلك ولذلك أردفه أيضا بقوله ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (2) ولا يشكّ في ذلك كلّه إلّا مكابر.
قوله « ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ » أي تلك الأوصاف هبة ومنحة من اللّه سبحانه يخصّ بها من يشاء من عباده ممّن علم منه قبول الألطاف الإلهيّة واستعدّ للمنح الربّانيّة لاستحالة العبث عليه تعالى.
الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3).
« اتَّقُوا اللّهَ » باجتناب معاصيه « وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ » بفعل طاعاته ولمّا كان هذان القسمان إنّما يتمّان بقهر القوّة الغضبيّة والشهوانيّة والمحاربة مع النفس الأمّارة واللّوّامة أردفه بالأمر بالجهاد معهما في سبيل اللّه أي جهادا حاصلا في طريقه وطلب مرضاته لا لغير ذلك من الأغراض إذ لو لا ذلك الجهاد لم يحصل التقوى والوسيلة فلم يحصل الفوز برضوان اللّه واستحقاق دخول جنانه كما قال سبحانه ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (4) والاستفهام على سبيل الإنكار.
ص: 391
الخامسة ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (1).
اعلم أنّه لا يجوز المحاربة والمقاتلة للكفّار والبغاة إلّا بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام وإقامة الحجّة عليهم كما قال سبحانه ( لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى ) (2) وكأنّ الآية إشارة إلى وجوب دعاء الكفّار إلى الدّين أوّلا قبل محاربتهم فقيل المراد بالحكمة الكتاب والموعظة الحسنة وصف ثان له والجدل دليل العقل والتحقيق أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يدعو الناس على قدر استعدادهم كما قال صلى اللّه عليه وآله « أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس على قدر؟؟؟؟؟؟ ثلاثة أقسام لأنّه لا يخلو المخاطب إمّا أن يكون له قدرة على إدراك المطلوب بالبرهان أولا والثاني إمّا أن يكون له قوّة الجدال والمغالبة أو لا فغاية [ أمر ] النبيّ صلى اللّه عليه وآله ومن قام مقامه في هداية الخلق مع الفرقة الأولى إقامة البرهان وإيقاع التصديق الجازم في أذهانهم وغايته مع الفرقة الثانية الإلزام ليلتزموا بما أمروا به وغايته مع الفرقة الثالثة إيقاع المقدّمات الاقناعيّة في أذهانهم لينقادوا للحقّ لقصورهم عن رتبة البرهان والجدال.
فالحكمة إشارة إلى البرهان والموعظة الحسنة إشارة إلى الخطابة « وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » إشارة إلى علم الجدل ، وإنّما قدّم الخطابة على الجدل لأنّ المنتفعين به أكثر لأنّهم أغلب الناس أو لأنّ الواو لا يفيد الترتيب. ووصف الموعظة بالحسنة أي يظهر لهم حسنها والجدال بالّتي هي أحسن أي بالرفق والخلق (3)
ص: 392
الحسن والكلام الطيّب فانّ ذلك أقرب إلى القبول والانقياد لا على وجه السفاهة والغلظة.
قوله « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ » أي ليس عليك أن توقع فيهم الهداية ولا أن تردّهم عن الضلالة وإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب واللّه أعلم.
السادسة ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (1).
« مَنْ » مبتدأ و « فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ » خبره و « إِلّا مَنْ أُكْرِهَ » مستثنى من قوله « فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ » وقوله « وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً » في المعنى بيان للكفرة أي الّذين كفروا باللّه [ و ] هم الّذين تطيب (2) به قلوبهم لا بإكراه قيل إنّ جماعة ممّن أسلم من أهل مكّة فتنوا وارتدّوا عن الإسلام طوعا وبعضهم اكرهوا وهم عمّار وأبواه ياسر وسميّة وصهيب وبلال وخبّاب أمّا سميّة فربطت بين بعيرين ووجئ في قبلها بحربة وقيل لها إنّك أسلمت طلبا للرجال فقتلت وقتل ياسر معها وأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه ونجا [ منهم ] ثمّ أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بذلك وقال قوم كفر عمّار فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : كلّا إنّ عمّارا ملي ء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه وجاء عمّار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وهو يبكي فقال صلى اللّه عليه وآله ما وراءك قال شرّ يا رسول اللّه ما تركت حتّى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يمسح عينيه ويقول له : فان عادوا لك فعدلهم بما قلت (3).
ثمّ اعلم أنّ هنا فوائد :
1 - دلّت الآية الكريمة على جواز التقيّة في الجملة وكذا قوله تعالى ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي
ص: 393
شَيْ ءٍ إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (1) وقرئ تقيّة ولأنّها دافعة للضرر لأنّه الغرض ودفع الضرر وإن لم يكن واجبا فلا أقلّ من جوازه ولأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله محي اسمه يوم الحديبية وأعطاهم أمورا هو محارب عليها في الباطن وهو قريب من النقيّة ولأنّ البخاريّ نقل في باب الإكراه عن الحسن البصريّ « التقيّة إلى يوم القيمة » يعني أنّها باقية أو جائزة إلى يوم القيمة ولأنّ [ الفقهاء ] الأربعة عدا أبي حنيفة (2) يفتون بأنّ طلاق المكره لا يقع وقالوا من اكره على شرب الخمر والزناء فلا إثم عليه ولا حدّ وقال جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام « التقية ديني ودين آبائي » (3).
واحتجّ المخالف بأنّها نفاق لأنّ كلّ واحد منهما إبطان أمر وإظهار خلافه دفعا للضرر والنفاق حرام ، ولأنّها لو جازت لجاز على الأنبياء إظهار كلمة الكفر تقيّة واللازم كالملزوم في البطلان.
وأجيب عن الأوّل بالفرق بينهما فانّ النفاق إبطان الكفر واعتقاده وهو حرام والتقيّة إبطان الإيمان واعتقاده وهو واجب فلا يكون أحدهما هو الآخر وعن الثاني بأنّه خارج بالإجماع وبأنّه لو جاز لزم انعدام الدين بالكليّة لأنّه لو جاز لكان أولى الأوقات به ابتداء الدعوة لكثرة العدوّ والمنكر حينئذ وذلك باطل.
2 - قسم أصحابنا التقيّة إلى ثلاثة أقسام الأوّل حرام وهو في الدماء فإنّه لا تقيّة فيها فكلّ ما يستلزم إباحة دم من لا يجوز قتله لا يجوز التقيّة فيه لأنّها إنّما وجبت حقنا للدّم فلا تكون سببا في إباحته الثاني مباح وهو في إظهار كلمة الكفر فإنّه يباح الأمران استدلالا بقضيّة عمّار وأبويه فإنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله صوّب الفعلين معا كما نقل. الثالث واجب وهو ما عدا هذين القسمين فإنّ الأدلّة المذكورة تقتضي ذلك ولأنّ إجماع الطائفة على ذلك هذا مع تحقّق الضرر بتركها أمّا لو لم يتحقّق ضرر فيكون فعلها مباحا أو مستحبّا.
ص: 394
3 - اختلف أيّهما أفضل (1) فعل عمّار أو فعل أبويه؟ فقيل فعل أبويه أفضل
ص: 395
لأنّ في ترك التقيّة إعزازا للدين وتشييدا له ولما روي أنّ مسيلمة الكذّاب أخذ
ص: 396
رجلين من المسلمين فقال لأحدهما : ما تقول في محمّد؟ قال : رسول اللّه [ حقّا ] قال
ص: 397
فما تقول في؟ قال [ له ] أنت أيضا فخلّاه وقال للآخر : ما تقول في محمّد؟ قال :
ص: 398
رسول اللّه قال : فما تقول في؟ قال أنا أصمّ فأعاد عليه ثلاثا فأعاد جوابه الأوّل فقتله
ص: 399
فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : أمّا الأوّل فقد أخذ يرخصه اللّه وأمّا الثاني فقد
ص: 400
صدع بالحقّ فهنيئا له (1).
وقيل بل فعل عمّار أفضل لأنّ التقيّة دين اللّه ومن ترك التقيّة فقتل فكأنّما هو قتل نفسه ومن قتل نفسه فقد قتل نفسا معصومة ويؤيّده قوله تعالى ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (2) والرواية خبر واحد لا يتحقّق صحّته فلا تعارض ما ذكرناه.
4 - التبرّي من الأئمّة عليهم السلام حرام تباح التقيّة فيه ولو تركها وصبر كان أفضل ولذلك قال عليّ عليه السلام في كلام له « أمّا السبّ فسبّوني فإنّه لي زكاة ولكم نجاة وأمّا البراءة فلا تتبرّؤا منّي فإنّي ولدت على الفطرة [ وسبقت بالإسلام ] وفي رواية أخرى وأمّا البراءة فمدّوا دونها الأعناق » (3) وذلك دليل [ على ] الأفضليّة
ص: 401
ص: 402
خصوصا إذا كان ممّن يقتدى به وفعل يعقوب ابن السكّيت (1) رحمه اللّه مع المتوكّل حيث لم يفضّل ولديه على الحسنين عليهما السلام من هذا الباب فانّ تفصيل الفاسق عليهما صلّى اللّه عليهما في قوّة البراءة بل هو تكذيب للرسول صلى اللّه عليه وآله لقوله « هما سيّدا شباب أهل الجنّة »
ص: 403
السابعة ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ) (1).
دلت الآية على حكمين :
1 - أنّهم إذا أسلموا يغفر لهم ما قد سلف منهم من حقوق اللّه من [ فعل ] المعاصي وترك الواجبات وهو دليل على أنّهم مكلّفون بذلك حال كفرهم.
2 - أنّهم إذا ارتدّوا بعد إسلامهم أخذوا بالعذاب والنكال كما هو دأب اللّه في الأمم [ الماضية ] وفيه دليل على جواز قتل المرتدّ لكن ذلك بعد استتابته ثلاثة أيّام وإنّما خصّصنا الأوّل بحقوق اللّه لقيام الدليل على عدم سقوط حقّ الآدميّ فهو عامّ خصّ بمنفصل.
[ و ] الأمر طلب مستعل فعلا من غيره والنهي طلبه كفّا من غيره. والمعروف : الفعل الحسن المشتمل على صفة راجحة والمنكر الفعل القبيح ولا خلاف في وجوبهما شرعا وإنّما اختلف في وجوبهما عقلا فقال الشيخ به وهو حقّ لكونهما لطفين وكلّ لطف واجب ومنع السيّد وإلّا لزم وقوع كلّ معروف وارتفاع كلّ منكر أو إخلاله تعالى بالواجب وهما باطلان والملازمة تظهر بأنّ الواجب العقليّ لا يختلف بالمنسوب إليه.
وفيه نظر لأنّ الواجب مختلف فانّ القادر يجبان عليه بالقلب واللّسان والعاجز يجبان عليه بالقلب لا غير وإذا اختلف بالنسبة إلينا جاز اختلافه هنا فانّ الواجب عليه تعالى التخويف والإنذار لئلّا يبطل التكليف. وكذا اختلف هل الوجوب
ص: 404
عينيّ أو كفائيّ الشيخ على الأوّل والسيّد على الثاني ثمّ إنّ الوجوب هنا ليس مطلقا بل مشروط بالعلم بكون المعروف معروفا والمنكر منكرا وإصرار الفاعل وتجويز تأثير الأمر والنهي والأمن من الضرر اللّاحق بغير مستحقّ له بسبب ذلك ومراتب الأمر مختلفة بالتقديم والتأخير وضابط ذلك تقديم الأسهل فالأسهل من الفعل والقول فان انتهى إلى ما يفتقر إلى جرح أو قتل فتلك وظيفة إماميّة (1) هذا وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوائد عظيمة وثواب جزيل قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله « لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر وإلّا تولّى عليكم شراركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم » (2) وقال عليّ عليه السلام « هما خلقان من أخلاق اللّه تعالى » (3) وكفى بذلك فضيلة لمن اتّصف بهما.
إذا عرفت هذا فهنا آيات :
الاولى ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ ) (4).
كان تامّة بمعنى وجدتم و « خَيْرَ أُمَّةٍ » منصوب على الحال المقيّدة « أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ » أي من العدم إلى الوجود لنفع الناس أي لنفع بعضكم بعضا وهو إجمال تفصيله « تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » وهو حال أيضا لا من « كنتم » بل من « خير امّة » فيكون وجودهم مقيّدا بالخيرية والخيرية مقيّدة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمراد من ذلك أنّ من شأنهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس المراد حصول الصّفة لهم بالفعل وإلّا لزم أنّهم حال النوم و
ص: 405
السكوت عن الأمر والنهي لا يكونون خير أمّة.
وإنّما اقتصر على الايمان باللّه ولم يقل وبجميع ما أتى به الرسول صلى اللّه عليه وآله لأنّ الإيمان بالبعض دون البعض ليس بايمان باللّه لقوله « وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ » إلى قوله ( أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ) (1).
وهنا فوائد :
1 - قيل قوله تعالى ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) جملة مستأنفة وأنّه خبر يراد به الأمر كقوله ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ) (2).
2 - ظاهر الآية على التقديرين يدلّ على وجوب الأمر والنهي على الأعيان لإطلاقه وهو الأصحّ وليس المراد به بعد تأثير الأمر [ الأوّل ] والنهي لفقد شرطه وهو الإصرار بل وجوب مبادرة الكلّ إلى الإنكار وإن علم قيام غيره مقامه.
3 - استدلّ بعض مخالفينا بالآية على كون الإجماع حجّة من حيث إنّ اللام في المعروف والمنكر للاستغراق أي تأمرون بكلّ معروف وتنهون عن كلّ منكر فلو اجمع على خطأ لم يتحقّق واحدة من الكلّيّتين وهو المطلوب وأجيب بمنع كون اللّام في اسم الجنس للاستغراق وإن سلّم فنحمله على المعصومين لعدم تحقّق ما ذكرتم في غيرهم وبذلك ورد النقل أيضا عن أئمّتنا عليهم السلام قالوا : « وكيف يكونون خير امّة وقد قتل فيها ابن بنت نبيّها صلى اللّه عليه وآله ».
الثانية ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (3).
هذه الآية صريحة في الأمر واستدلّ بها من قال بوجوب الكفاية لكون « من » هنا للتبعيض وقيل للبيان وهو ضعيف لأنّ البيان لا يتقدّم على المبيّن و
ص: 406
إذا كانت للتبعيض تكون صريحة في ما قلناه وهو معارض بعمومات القرآن ومطلقاته.
وهنا فوائد :
1 - الأمر والنهي من وظائف العلماء فانّ الجاهل ربّما أمر بمنكر ونهى عن معروف وربما يكون شي ء منكرا في مذهب الآمر غير منكر في مذهب المأمور بأن تكون المسئلة فرعيّة يجوز اختلاف المجتهدين فيها وأيضا الجاهل ربّما يغلظ في موضع اللّين وبالعكس.
2 - أنّهما يوجّهان إلى من يؤثّران عنده إمّا لجهله أو لدخوله في المنكر اضطرارا من غير تعمّد أو لدخول شبهة عليه أمّا من دخل في المنكر عن قصد وعلم به واختيار وإذعان فإنّه لا يجب أمره ولا نهيه بل يجوز فان تحقّق ضرره أو خيف ذلك فلا جواز أيضا ومن هذا ورد في الخبر عنهم عليهم السلام « من علّق سوطا أو سيفا فلا يؤمر ولا ينهى » (1).
3 - يجب الابتداء فيهما بالأيسر فالأيسر من القول والفعل ويدلّ على الترتيب قوله « فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما » ثمّ قال « فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ » (2) فقدّم الإصلاح على المقاتلة.
4 - المعروف لاختصاصه بصفة راجحة يشمل الواجب والندب فينقسم الأمر حينئذ بانقسامه فيكون تارة واجبا وتارة مندوبا ويحتمل في النهي انقسامه باعتبار التحريم والكراهية فيكون أيضا واجبا ومندوبا.
5 - المعروف والمنكر قد يكونان معلومين بالضّرورة فيعمّان كلّ أحد وقد يكونان معلومين بالاستدلال فيختصّ وجوبهما بمن ظهر له ذلك بالدليل ولا يجب
ص: 407
على غيره النظر ليجبا عليه لكون وجوبهما مشروطا فلا يجب تحصيل شرطه.
6 - لا يشترط في المأمور به والمنهيّ عنه أن يكون مكلّفا فانّ غير المكلّف إذا علم إضراره لغيره منع من ذلك وكذلك الصبيّ ينهى عن المحرّمات لئلّا يتعوّذها ويؤمر بالطاعات ليتمرّن عليها.
7 - من ارتكب حراما أو ترك واجبا لا يسقط عنه وجوب الأمر والنهي لأنّه لا يسقط بترك أحد الواجبين الواجب الآخر وعن السلف : « مروا بالخير وإن لم تفعلوه » ولقوله ( لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (1).
الثالثة : آيات كثيرة تدل على ذلك كقوله ( الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ) (2).
وغير ذلك :
ثمّ إنّه تعالى جعل الوجوب مقولا بالشدّة والضعف كقوله تعالى ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (3) وقوله ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ ) (4) وغير ذلك فإنّه أكّد الأمر الدالّ على الوجوب هنا لشدّته وأولويّته.
[ تمّ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتلوه ]
[ كتاب المكاسب إن شاء اللّه ]
ص: 408
رقم الآية / العنوان / الصفحة
مقدمة الكتاب 1
بيان في تفسير القرآن 3
* ( كتاب الطهارة ) *
1 - أبحاث في الوضوء والغسل والتيمم 6
في أن الكافر مكلف بالفروع 7
في المسح وأنه على بعض الممسوح 10
مباحث في مسح الرجلين وقراءة « وأرجلكم » بالجر 12
في المعنى المراد من الكعبين 18
في المسح على الخفين 19
في نواقض الوضوء 24
في لزوم العلوق في التيمم 27
2 - أبحاث أخر في الوضوء والغسل والتيمم 28
في حد التيمم 29
3 - أبحاث في النية 32
4 - في الطهارة لمس كتابة القرآن 34
5 - في الاستنجاء 35
6 - أبحاث في معنى الطهور 37
أحكام الكر والماء القليل 39
7 - بحث في الماء المضاف 40
8 - أبحاث في الحيض وأحكامه 41
في وجوب الاعتزال وكفارة الوطئ 42
بحث في عدم تواتر القراءات 43
9 - أبحاث في نجاسة المشرك 45
دلالة الآية على نجاستهم العينية 46
نجاسة الكفار من أهل الكتاب؟ 48
10 - أبحاث في حرمة الخمر والميسر 51
نجاسة الخمر والفقاع 53
11 - في طهارة الثوب والبدن 54
12 - سنن الوضوء والغسل 55
* ( كتاب الصلاة ) *
1 - في البحث عن الصلاة بقول مطلق
1 - في وجوب الصلاة 58
2 - في المحافظة على الصلوات 59
المراد بالصلاة الوسطى 63-60
3 - في الاصطبار على الصلاة 63
4 - في الخضوع والخشوع 65
ص: 409
رقم الآية / العنوان / الصفحة
2 - في دلائل الصلاة الخمس وأوقاتها
1 - في مواقيت الصلاة الخمس 66
جواز الجمع بين الصلاتين 70-67
2 - ميقات صلاة المغرب والعشاء 73
إن الصلاة تكفر الخطيئة 74
3 - في تسمية الصلاة الخمس بالتسبيحات 74
4 - أيضا في مواقيت الصلاة 76
5 - في التعقيب 78
3 - في القبلة
1 - في وجه تحويل القبلة 79
2 - في الغرض من تحويل القبلة 81
3 - في أن الكعبة هي القبلة 83
4 - لكل ملة قبلة تخصها 88
5 - عود إلى أن الكعبة هي القبلة 89
6 - أيضا عود إلى ذلك مع وجه التحويل 89
7 - في قبلة المتحير - ما بين المشرق والمغرب 90
8 - بالكعبة قيام الناس وقوام عبادتهم 92
2 و 3 - في التكبيرات - تكبيرة الاحرام 116
إن البسملة آية من كل سورة 121
في قراءة السورة 123
4 - في مقدمات آخر للصلاة
1 - في نزول اللباس والساتر 92
2 - أحكام الستر والساتر 94
3 - في طهارة الستر والساتر 96
نجاسة الميتة ودباغها 101-97
4 و 5 - ما يتخذ منه اللباس 103
6 - أيضا فيما يتخذ منه اللباس 104
7 - أحكام المساجد 105
8 - في المعنى المراد من تعميرها 107
* آيات آخر تتعلق بالمساجد *
1 - الصلاة في المساجد 108
2 - مسجد الضرار ومسجد قبا 109
بحث في شأن نزول الآية 110
9 - في نداء الصلاة وهو الأذان 112
بدء الأذان والقصة في ذلك 113
5 - في مقارنات الصلاة
1 - قيام الصلاة - القنوت 115
4 - في القراءة 118
ص: 410
رقم الآية / العنوان / الصفحة
5 - في الركوع والسجود 124
6 - في أعضاء السجدة 127
7 - في أذكار الركوع والسجود 127
8 - الجهر والاخفات 128
9 - في الصلاة على النبي وآله 130
مباحث في وجوب الصلاة على النبي وآله في الصلاة 131
جواز الصلاة على غير النبي 139
في وجوب التسليم 141
6 - في المندوبات
1 - القنوت واستحبابه 143
2 - رفع اليدين عند التكبيرات 146
3 - في الخشوع في الصلاة 147
4 - في الاستعاذة 148
5 - في صلاة الليل وميقاتها 149
7 - في أحكام متعددة تتعلق بالصلاة
1 - في رد السلام في الصلاة 154
2 - النية في العبادات 157
3 - مما يتعلق بالنية - جواز الفعل القليل كاعطاء خاتم 158
4 - قضاء الصلاة بعد نسيانها 159
النيابة في العبادات 160
5 - وقت القضاء 163
6 - تارك الصلاة مستحلا مرتد 164
7 - الكافر مكلف بالفروع 165
8 - فيما عدا اليومية من الصلاة
1 - أبحاث في صلاة الجمعة 166
2 - وقت الانتشار والابتغاء من فضل اللّه 170
3 - وجوب الاعراض عن اللّهو والتجارة عند النداء 171
4 - صلاة العيد الأضحى 172
5 - صلاة الجنائز 175
بحث في صلاة النبي على عبد اللّه بن أبي بن سلول المنافق 177
عدد التكبير في صلاة الجنائز 179
6 - أبحاث في صلاة المسافر 181
في أن التقصير عزيمة لا رخصة 183
7 - أبحاث في صلاة الخوف وكيفيته وأنواعه 188
8 - الصلاة بعد الاطمئنان والأمنة 193
في صلاة الجماعة 194
10 - الانصات في الجماعة 195
11 - في سجدة العزائم 196
ص: 411
رقم الآية / العنوان / الصفحة
* ( كتاب الصوم ) *
1 - في أن الصوم مكتوب على كل ملة 199
2 - شرائط وجوب الصوم وأيامه 201
بحث في أن الافطار للمريض عزيمة لا رخصة 203
3 - أيام الصوم أيام شهر رمضان 204
بحث في الافطار للمسافر عزيمة لا رخصة 206
4 - في الحث على الدعاء 210
5 - مفطرات الصوم - وبعض أحكام الاعتكاف 212
* ( كتاب الزكاة ) *
1 - في الوجوب ومحله
1 - إثناء الزكاة من البر 219
2 - وجوب الزكاة على الكافر 221
3 - زكاة الذهب والفضة 222
4 - الزكاة المندوبة في الأموال 226
2 - في قبض الزكاة واعطائها المستحق
1 - الدعاء عند قبض الزكاة للمزكي بالبركة والرحمة 226
2 - إن اللّه تعالى هو الآخذ للصدقات 229
3 - الانفاق من الطيبات لا من الخبيثات 230
4 - في النية والاخلاص فيها 233
5 - أصناف المستحقين 234
6 - صدقة السر والعلانية 239
3 - في أمور تتبع الاخراج
1 - الانفاق لوجه اللّه 241
2 - الانفاق على المتعففين 242
3 - الانفاق على الوالدين والأقربين و ... 243
4 - إنفاق العفو 244
5 - الرياء والمن في الزكاة 246
6 - زكاة الفطرة 248
* ( كتاب الخمس ) *
1 - وجوب الخمس وأصناف المستوجبين له 248
2 - في قرابة النبي صلى اللّه عليه وآله 252
3 - في الأنفال 254
4 - في معنى الأنفال والمستوجبين لها 256
ص: 412
رقم الآية / العنوان / الصفحة
* ( كتاب الحج ) *
1 - في وجوبه
1 - أول بيت وضع للناس 258
بحث في أسامي مكة المكرمة 258
بحث في الاستطاعة 263
2 - مباحث في مناسك الحج 268
2 - في أفعاله وأنواعه
1 - تمام الحج والعمرة وبيان مناسكهما 272
بحث في وجوب العمرة كالحج 273
الميقات قبل الاحرام 276
مواقيت الحج والعمرة 276
في الإحصار والصد 287
أبحاث في وجوب الهدي 289
أبحاث في العدول عن حج الإفراد 290
المتعة التي نهى عنها عمر بن الخطاب 292
وجوب الهدي على المتمتع 296
2 - أشهر الحج ومناسكه 300
3 - الإفاضة من عرفات إلى المشعر 303
4 - الإفاضة من المشعر 305
بحث في معنى الحمس وأفعالهم 306
5 - الذكر عند قضاء المناسك 307
6 - صلاة الطواف 309
7 - السعي بالصفا والمروة 311
8 - البدن وأحكامها 313
9 - عمرة الحديبية 315
بحث في خلاف عمر على النبي صلى اللّه عليه وآله في الحديبية 316
10 - أيام التشريق والتعجيل من منى 319
3 - في أشياء من أحكام الحج
1 - أحكام الصيد 321
2 - كفارة الصيد بالهدي 322
3 - إحلال صيد البحر وتحريم صيد البر 328
4 - الشهر الحرام والهدي والقلائد 330
5 - شعائر اللّه وحرمتها 331
6 - تعظيم حرمات اللّه 333
7 - الصد والالحاد بظلم في المسجد الحرام 334
8 - دعاء إبراهيم لأهل مكة 335
ص: 413
رقم الآية / العنوان / الصفحة
9 - رفع قواعد البيت 337
10 - إراءة مناسك الحج لإبراهيم وإسماعيل 339
* ( كتاب الجهاد ) *
1 - في وجوبه
1 - وجوب القتال وكونه مكتوبا 341
2 - الجهاد حق الجهاد 342
3 - حرمة الاعتداء 343
4 - الحرمات قصاص 344
5 - القتال لتخليص المستضعفين 345
6 - الغزوات والسرايا 346
7 - الجهاد اشتراء الحياة الآخرة بالحياة الدنيا 346
8 - تحريم التخلف عن الجهاد 348
9 - فضل المجاهدين على القاعدتين 350
10 - إنما على الضعفاء والمرضى الانصاح لا الجهاد 352
2 - كيفية القتال ووقته
1 - القتال في الشهر الحرام 353
2 - القتال عند المسجد الحرام 355
3 - قتال الأقرب فالأقرب 356
4 - الفرار من الزحف 356
5 - مقاومة المسلمين عند القتال 358
6 - جهاد الكفار والمنافقين 360
7 - قتال أهل الكتاب وأخذ الجزية منهم 361
8 - أخذ الأسير بعد الاثخان ثم الفداء أو المن 364
9 - أحكام الأسر والأسير 366
10 - العهد ونقضه بالنبذ إلى الكفار على سواء 370
11 - كلمة الاسلام تحقن الدم وتحرم القتال 371
12 - غزوة بدر الكبرى 380-373
13 - السلم والمهادنة 380
14 - امتحان المهاجرات 381
15 - مبايعة النساء وشرائط البيعة 384
3 - أنواع آخر من الجهاد
1 - قتال أهل البغي والمراد منهم 386
2 - إعداد القوة ورباط الخيل لسد الثغر 388
3 - قتال أهل الردة 390
4 - الجهاد مع النفس 391
ص: 414
الصورة
ص: 415
الصورة
ص: 416