تفسيرات فسيولوجية في نهج البلاغة

هوية الکتاب

تفْسيراتٌ فِسيُولُوجيّة

في نَهجُ البَلاغَةِ

د. عمّار جاسم مسلم

منشورات الإجتهاد

الطبعة الأولى / 1000 نسخة

1430 ه- / 2009 م

ISBN: 978 - 964 - 2941 - 91 - 9

توزيع

الغدير للطباعة والنشر والتوزيع: 989125514426+

E - mail:algadeer_pub@yahoo.com

محرر رقمي: روح الله قاسمي

ص: 1

اشارة

ص: 2

تفسيرات فسيولوجية في نهج البلاغة

د. عمّار جاسم مسلم

منشورات الإجتهاد

الطبعة الأولى / 1000 نسخة

1430 ه- / 2009 م

ISBN: 978 - 964 - 2941 - 91 - 9

توزيع

الغدير للطباعة والنشر والتوزيع: 989125514426+

E - mail:algadeer_pub@yahoo.com

ص: 3

تفْسيراتٌ فِسيُولُوجيّة

في نَهجُ البَلاغَةِ

الدّكتور عَمَّار جَاسِم مُسْلِمْ

ص: 4

ص: 5

الاهداء

اليك يا رمز التضحية والإباء

اليك يا مصداق الإيثار والفداء

اليك يا عنوان الأخوّة والوفاء

اليك سيدى أبا الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين

وللمقتدين بنهجك والمستشهدين على دربك

أُهدى جهدي المتواضع

راجياً منكم القبول.

محبّكم عمّار

ص: 6

شكر وتقدير

الحمد لله تعالى على عظيم منّه وآلائه.

والصلاة والسلام على خير خلقه وآله.

انّ من دواعي سروري واعتزازي أن أتقدّم بجزيل الشكر والامتنان إلى كل مَن أسدى لى التوجيه والمشورة العلميّة، ممّا كان له أكبر الأثر في إنجاز هذا الكتاب وأخص بالذكر:

سماحة آيه الله السيد مهدي الخرسان (دام ظله) لما أبداه من توجيهات سديدة ومباركة.

وسماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيد محمد صادق الخرسان (دام عزُّه) لما تفضّل به من مقترحات واضافات على الكتاب بعد قراءته.

وحجّة الإسلام السيد عبد الحليم الحلو (دام عزُّه) الذي تفضّل بمراجعة الكتاب وتدقيقه لغوياً ومقابلة النصوص ...

كما أتقدّم بالشكر الجزيل إلى سماحة حجّة الإسلام الشيخ علي الزبيدي (دام عزُّه) لما تحمّله من عناء كبير في نشر الكتاب.

وإلى كل من: سماحة الشيخ حسين صالح خرس، وسماحة الشيخ أحمد العوادي، وسماحة السيد شعيب السويج، والأخ الشيخ يوسف التميمي، والأخ الشيخ سلام ناصر الشمّري، والأخ الشيخ عبد الله علي العبودي، والأستاذ سعيد ابراهيم.

داعياً العزيز القدير أن يوفّق الجميع لكل خير وصلاح.

المؤلّف

ص: 7

ص: 8

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أولاً: لقد ألّف الكثير من علماء الشيعة والمذاهب الإسلامية الأخرى شروحاً وتفسيرات لنهج البلاغة، وقد امتدّ ذلك إلى كتّاب وأدباء من المسيحيين والمستشرقين ولكل منهم رؤى خاصة وأهداف معيّنة على طول التأريخ، وكان بعضها ولا يزال يُستمد منه الكثير من الجوانب العلميّة والتربوية والفلسفية، وبعد مضي السنين وتعاقب الحقب وتكامل العقول وتوفّر الأموال والتقنيات والأجهزة والأدوات وتوالى البحوث بعد البحوث تمكّن العلم ولو بصورة جزئية من فهم ما يراد من تلك النصوص، وما تحويه العبارات خلفها من معاني علميّة فضلاً عن معانيها الظاهرية التي تناولها الكثيرون.

والذي دفعني للقيام بتفسيرات لمقاطع ونصوص من نهج البلاغة من الناحية الفسيولوجيّة «العلم الذي يهتم بدراسة وظائف الكائنات الحيّة» هو حاجة المكتبة الشيعية والإسلامية لتفسير علمي لنهج البلاغة ممتزج بالنظريات العلميّة الحديثة والتفسيرات الطبيّة في زمن يتزايد فيه التوجّه إلى الجوانب العلميّة لأدراك الحقائق، وبالتالي فالرؤية التي تناولناها في هذه التفسيرات لا تتعلق بالجوانب العقائدية أو اللغوية أو التاريخية بل تتعلق بالجانب العلمي المرتبط بوظائف جسم الإنسان والعلوم المرتبطة به من خلال خطب ورسائل وحكم وكلمات الإمام أمير

ص: 9

المؤمنين علیه السلام، فانّنا نروم رفد المكتبة الإسلامية بكتاب يعكس الجوانب العلميّة المشرقة لكتاب نهج البلاغة على رغم درايتنا بعدم الإحاطة بذلك، وبالتالي نأمل أن يكون الكتاب الذي تقدّمنا به هو خطوة أولى أمام فتح الآفاق حول دراسات علميّة أخرى لاختصاصات أخرى، كون كلام سيد البلغاء «وهو القرآن الناطق» لا تنفذ علومه ومكنوناته وكنوزه. ثانياً: لقد رافقت الكتابة عقبة اختيار المصادر العلميّة التي تدعم هذه التفسيرات وواجهت الباحث الكثير من المشاكل في الحصول على تلك المصادر ولكن لا بد من الإشارة إلى ما قدّمه الكثير من الأخوة المؤمنين لسد النقص فضلاً عن الاستفادة من الكثير من مواقع شبكة الانترنت.

ثالثاً: وقد تمّ ذكر أسماء السور وأرقام الآيات القرآنية ومصادر الأحاديث الشريفة والنص المفسّر من النهج في هوامش الصفحات لمتن الكتاب أما المصادر الأخرى فقد ذكرت نهاية الكتاب.

ولم تقسّم مباحث الكتاب إلى أبواب أو فصول بل اعتمد الباحث على اقتطاع النص الذي يجد فيه أبعاداً علميّة فسيولوجيّة وأسباب ذكرها واختيارها من قبل أمير المؤمنين علیه السلام، كما راعى الباحث ذكر الآيات القرآنية التي تتعلق بنصوص النهج المفسّرة فضلاً عن إعطاء فكرة عن العلاقة بين النص والآية القرآنية.

وأخيراً أيها القاريء الكريم، فما بين يديك مقاطع ونصوص من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام الذي تضافرت الجهود وحشدت الطاقات من أجل شرحه وفهمه وتوظيفه للاستفادة منه في المجالات المختلفة على مرّ العصور.

وما قدّمناه في «تفسيرات فسيولوجيّة في نهج البلاغة» ليس إلّا إطلالة من الكاتب حاول من خلالها الاستفادة العلميّة في كلام سيد الأوصياء علیه السلام متقدّماً بين يديه علیه السلام بالاعتذار عن الزلل والخطأ والتقصير، ثمَّ إلى القارىء الكريم.

والله ولى التوفيق

ص: 10

الخوف

قال أمير المؤمنين علیه السلام وهو يعظ الناس ويهديهم من ضلالتهم، ويقال انّه خطبها بعد قتل طلحة والزبير:

«بنَا اهْتَدَيْتُمْ في الظَّلْمَاءِ، وَتَسَنَّمْتُمُ العلْيَاءَ (1)، وبِنَا أنْفَجَرْتُم عَنِ السِّرَارِ (2)، وُقِرَ (3) سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ (4)، كَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ (5) مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ؟». (6)

ويذكر الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز وهو يصف تأثيرات الخوف على الحركات الظاهرية للإنسان والتي هي أساساً استجابات وظيفية داخلية ومنها دوران أعينهم.

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (7).

وهذا من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في إحدى خطبه التي يوضّح فيها ارتباط الخوف بتفكير الإنسان الذي يرافقه إرباك لعملية التفكير واتخاذ القرارات

ص: 11


1- تَسَنّمْتم العلياء: ركبتم سَنامها وارتقيتم إلى أعلاها.
2- السّرار - ككتاب - : آخر ليلة في الشهر يختفي فيها القمر، وهو كناية عن الظلام.
3- وُقِرَ: صُمّ.
4- الواعية: الصارخة والصراخ نفسه، والمراد هنا العِبرَة والمواعظ الشديدة الأثر ووُقِرَتْ أُذُنُهُ فهي مَوْقُورة وَوَقِرَت كسَمِعَتْ صُمّتْ، دعاء بالصَّمَم على من لم يفهم الزواجر والعبر.
5- النّبْأة: الصوت الخفي.
6- شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 70.
7- الأحزاب: 19.

الصائبة.

والخوف يراود الإنسان لأسباب شتى منها خوفه لفقدان ما يحب، وخوفه لضياع جهده في عمل ما، أو خوفه ممّا يفاجئه ولم يحسب له حساباً، وغيرها من الأسباب الدنيوية والأخروية، ولكن هناك من ينتابه الخوف على الآخرين بسبب ارتكابهم المعاصي ومعرفة عاقبتهم، وهذا هو خوف الأولياء على العباد، والخوف من الله هو من تقوى القلوب كما أنّ للخوف آثاراً على العمليات العقليّة وهذا يعتمد على شدة الخوف وأسبابه والتي منها:

1 - تشتيت الانتباه.

2 - اضطراب التفكير.

3 - ضعف الذاكرة.

4 - فقدان الثقة بالنفس.

كما أنّ للخوف تأثيرات فسيولوجيّة على أجهزة الجسم كثيرة، ولكن الذي تناوله أمير المؤمنين علیه السلام منها عضلة القلب، واحتمالية المراد ما يلي:

علاقة الخوف بالخفقان

كما هو معروف أنّ معدل ضربات القلب لدى البالغين في حالة الراحة يتراوح من (70 - 74 ض / د)، ولكن عند تعرّض الفرد إلى أحد المواقف أو التفكير بأحد المواضيع التي تثير الخوف تثار الأعصاب السمبثاوية المسؤولة عن زيادة الحوافز للعقدة الجيبية المسؤولة عن زيادة عدد ضربات القلب، والتي تسبب ارتفاع بمعدل ضربات القلب عن الحد الطبيعي، وبشكل ينسجم وتلك الشدة لآثار الخوف ومع استمرار عامل الخوف يعني استمرار خفقان القلب واضطرابه ولا يعود إلى حالته حتى زوال المؤثر وهو إزالة أسباب الخوف، وأن زيادة فترات الخوف ومرافقة

ص: 12

فترات الاضطرابات لعضلة القلب يعرّضها للإصابات المرضيّة المستقبلية وربّما يكون هول وشدة موقف الخوف مؤديّاً إلى الهلاك.

ولعلّ المراد باتخاذ عضلة القلب مثلاً لتعميمه على سائر أجهزة الجسم ولكن الاختيار وقع عليها لأهميتها فضلاً عن إمكانية اختبارها بصورة مباشرة في الزمن السابق، وبالتالي يمكن التحقق من صدق المقولة والاقتناع بها من قِبل العامة.

إظهار القوة

قال أمير المؤمنين علیه السلام لابنه محمّد بن الحنفية لمّا أعطاه الراية يوم الجمل:

«تَزُولُ الجِبَالُ وَلَا تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ (1)، أَعِرِ (2) اللهَ جُمجُمَتَكَ، تِدْ (3) في الْأَرْضِ قَدَمَكَ، أرْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى القَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ (4)، وَأعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِندِ اللهِ سُبْحَانَهُ» (5).

تشير الآية الأولى الآتية إلى دور البصر في اكتشاف الأمور من خلال العملية العقليّة وهي الانتباه، في حين تشير الآية الثانية إلى دور القوة والإعداد لها في مواجهة الأعداء ودفع الأخطار، أمّا الآية الأخيرة فهي تأمر المؤمنين بعدم الفرار عند ملاقات الكفار أي توضّح السلوك والتصرّف الواجب اتّباعه في ساحة المعركة.

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ۖ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِنْ فُطُورٍ) (6).

ص: 13


1- النَّاجِذُ: أقصى الضّرْس وجمعه نواجذ، وإذا عَضّ الرجل على أسنانه اشتدّت حَمِيّتُهُ.
2- أعِرْ: أمر من أعار: أي ابذل جمجمتك لله تعالى كما يبذل المعير ماله للمستعير.
3- تِدْ قَدَمَكَ: ثَبّتْها، من وَتَدَ يَتِدُ.
4- غضّ النظر: كفّهُ. والمراد هنا لا يَهُولَنّكَ منهم هائلٌ.
5- شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 80
6- الملك: 3.

(قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ) (1)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ) (2).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل يوضّح من خلالها الترابط بين السلوك النفسي والعقلي وعلاقته بالأداء الجسدي وانعكاسه على الأداء الوظيفى لأجهزته ولما لها من علاقة بسلوك الأفراد وكانت الموعظة تخص الاستعداد لدخول المعركة وأساليب إظهار القوة ومواجهة الأعداء واحتمالية المراد من موعظة الحرب ما يلي:

اصطكاك الأسنان

إنّ اصطكاك الأسنان لا يتم إلّا من خلال اشتراك أغلب أو كل عضلات الفك من خلال تقلّصها، وهي عضلات إرادية موصولة بفرع حركي حسّي من العصب القحفي الخامس أو «التوأمي الثلاثي» الذي ينشأ من قنطرة ساق الدماغ وشبكة الأعصاب الشوكيّة ويُعدّ أكبر الأعصاب المخية: «وهو حسّاس لفروة الرأس وعضلات الوجه والأسنان وعضلات الفك» أثناء تنبيهه، و تصل قوة تقلّص عضلات اصطكاك القواطع إلى (55 باوند) أمّا اصطكاك القواطع فتصل قوتها إلى (200 باوند) وعليه ستقوم الألياف الحسّية بنقل هذه القوة المنتجة إلى الدماغ وإلى القنطرة التي هي منشأ العصب الحركي لتلك العضلات، والتي إثارتها ستؤدي إلى تنبيه وإثارة مواقع التنبيه والتركيز وزيادة شدّة الغضب والتهيؤ للدفاع وزيادة التوترات العضلية في الجسم.

كما وأنّ نوع التقلّص المستخدم هو «التقلصات الثابتة» «الاستاتيكيّة» وم--ن ميزاتها إعاقة جريان الدم المحمّل بالأوكسجين لتلك العضلات العاملة في التقلّص

ص: 14


1- :هود: 80
2- الأنفال: 15.

والمشاركة معها؛ ممّا يسبّب زيادة من نسبة (CO2) ثاني أوكسيد الكاربون وتراكم نواتج العمليات الأيضية فيها بسبب تحرير الطاقة، وتُعدّ هذه العملية إحدى منبّهات زيادة معدل ضربات القلب والناتج القلبي، وعدد مرات التنفس، وتوسّع الأوعية الدموية في هذه المنطقة من الرأس والعضلات التي أصابها التوتر، والتي تعدّ تهيئة سريعة للجهاز العصبي المركزي واستثارته على زيادة نشاطه لمواجهة العمل القادم وهو دخول المعركة وأداء مهارات القتال وما يتطلّبه من حركات مختلفة تمتاز بالقوة والسرعة والرشاقة والجري وردّ الفعل السريع فضلاً عن الانتباه بأنواعه واتخاذ القرارات، وما يتطلّب ذلك من تنشيط للدورة الدموية وتهيئة أجهزة الجسم الحيوية.

مركز ثقل الجسم

كما أنّ النصيحة تحث المقاتلين بإبقاء القدمين بتماس مع الأرض، والذي يعدّ أحد أساليب إظهار القوة، كون القدمين ملتصقتين في الأرض، إذ الحركات التي يقوم بها المقاتل في أرض المعركة يجب أن لا ترتفع قدماه عن الأرض أو إحداهما، وإذا حدث ذلك يكون فيها مركز الثقل بعيداً عن الأرض، وهذا يعرّضه لفقدان التوازن مع أية ضربة أو دفعة، كما أنّ القوة التي يظهرها هي أقل عمّا إذا كانت قدماه على الأرض.

وثانيهما أنّ التصاق القدم في الأرض تدلل على الاستقرار والتوازن والثبات، وهي إشارة إلى علم البايوميكانيك وهو علم الحركة الذي يعدّ أحد العلوم التي ظهرت حديثاً مع بدء التقدّم التكنولوجي الحادث في هذا العصر، ومع تقدّم المختبرات العلميّة وأجهزة التصوير والقياس وتوظيف العلوم بعضها إلى البعض الآخر واجتماع العقول مع بعضها، بينما أشار إليها أمير المؤمنين منذ ذلك الوقت ممّا

ص: 15

يدلّل على معرفته بأصول ونظريات علم الحركة والتي أشار إليها في هذه الموعظة.

القصور الذاتي

ربّما الحديث يشير إلى قانون «نيوتن الأول» والذي أحد مضامينه هو كيفية الاستفادة من وزن الجسم وكتلته بإصدار القوة ضد الخصوم بمواجهتهم، والتغلّب على المقاومة، إذ في حالة ثبات القدمين على الأرض يزداد القصور الذاتي، أي يحتاج الخصم بذل قوة أكبر لتحريك جسم المقاتل أو دفعه ف--ي ح--ي-ن الشخص المقاتل يظهر قوة أكبر ممّا هي عند رفع قدميه عن الأرض، وعندها تقل القوة التي يحتاجها الخصم والتي يسلطها أثناء هجومه وإخلال توازن المقاتلين والتغلب عليهم.

العمليات العقليّة - الانتباه

إنّ جميع العوامل النفسيّة ما هي إلّا عمليات عقلية وانّ عملية رمى البصر أقصى القوم التي وعظ بها أمير المؤمنين علیه السلام ما هي إلّا إحدى أنواع الانتباه الذي يعرّفه علماء النفس بعدّة تعريفات منها:

هو تركيز شعور الفرد إلى شيء ما، ويرتبط الانتباه بالإدراك العقلي أي الوعي ارتباطاً وثيقاً، وعندها يمكن للفرد أن يركّز تفكيره في موضوع معين ويبعد المؤثرات الخارجية الأخرى حوله.

كما يسمى يسمى هذا النوع من الانتباه «بالانتباه الواسع الخارجي» وهو يساعد القائم بالعمل بزيادة الإثارات العصبية وإدراك حجم الواجب الحركي المطلوب واحصاء وتحديد مواقع القوة والضعف لدى الخصوم، فضلاً عن زيادة الإصرار والعزيمة من خلال التهيؤ لمستوى الحدث وشدته.

ص: 16

أمّا «وغضّ بصرك» هي الأخرى عملية عقلية ونوع آخر من الانتباه المسمى «الانتباه الضيق الخارجي» والذي يراد به عزل المؤثرات عن الموقع الشخصي بالقتال أي الاهتمام بالواجب وإبعاد المؤثرات الأخرى من المعركة لوجود رجال لهم أدوار في تلك المواقع المواجهة للعدو.

و عليه تكون احتمالية المراد من توظيف القدرات العقليّة في المعركة من خلال استثمار قدراتها وقابلياتها الوظيفية في تحقيق الهدف، وهو إنجاز الواجب المكلف به بالميدان من خلال وجود نوع من القلق بمستوى المكان الذي هو يشغله وإبعاد خطر ارتفاع التوتر والخوف والقلق الذي يؤدي إلى ارباك عملية اتخاذ القرارات والتركيز بأداء الواجبات من خلال وصيته علیه السلام بغض البصر وهو: استخدام «الانتباه الضيق الخارجي»، بعد معرفة سعة الانتباه يجب التركيز مع بدء القتال والتفكير بالموقع القتالي وليس بعموم المواقع لأنّه يسبب تشتتاً بالانتباه وضعف القدرة والارتباك في اتخاذ القرارات السليمة في القتال وعليه أمرهم بالانتقال من وسع الانتباه إلى ضيقه فضلاً عن أن هذا الانتقال يعدّ أحد وسائل كبح جماح الخوف إن وجد، كما أنّ حدّة الانتباه على أمر معين يجعل الأشخاص لهم القابلية على القرارات الصائبة فيه بسبب تحديد المشكلة ووضع الحلول الناجعة لها، أمّا تعدد الجبهات ربّما يربك صواب القرار المتخذ علماً أن المتحدّث لا يقصد بذلك المخاطب في هذه الموعظة لأنّه معروف في شجاعته وممارسته في القتال وهو من تربّى بأحضان الإمامة وتغذّى منها، وعليه المقصود به إسماع العسكر في هذا الموضع.

علم الوراثة

قال أمير المؤمنين علیه السلام لمّا أظفره الله تعالى بأصحاب الجمل وقد قال له بعض

ص: 17

أصحابه: وددت أن أخى فلاناً معك شاهداً ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال

له علیه السلام:

«أَهْوَى أَخِيكَ (1) مَعَنَا؟

قال: نَعَم.

قالَ: فَقَدْ شَهِدنًا، وَلَقَدْ شَهِدَنَا في عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ في أَصْلابِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعُفُ بِهِمُ الزَّمَانُ (2)، ويَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ» (3).

تشير الآيتان الكريمتان إلى علم الوراثة والأجنّة وكيفية نشوء السلالة واستمرارها فضلاً عن تصوير تلك المخلوقات في بطون أمهاتهم وهو نظام التدبير الإلهى.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (4).

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (5).

هذا من كلام له بعد ما نصره الله على أصحاب الجمل وفيه وصف لبعض مقاتليه الذين أظهروا رباطة الجأش وصلابة الموقف وقوة العزيمة التي كان أساسها التقوى، وبلغوا درجات عالية في الإيمان، وبهذا أظهر تنبؤه بوجود أقوام يقوى بهم الإيمان مستنداً على أساس علم الوراثة لما تحمله أصلاب المقاتلين وتحتضنه أرحام النساء، وإشارة إلى علم الوراثة. 6.

ص: 18


1- هوى أخيك: أي ميلُهُ ومحبته.
2- يَرْعُفُ بهم الزمان: يجود على غير انتظار كما يجود د الأنفُ بالرّعاف.
3- شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 28.
4- النساء: 1.
5- آل عمران: 6.

وقد استدل بهذا العلم على هذا المرض الذي يصاب به عادة بعض الناس في عمر الطفولة الطفولة بين (5 - 12) سنة وهو يسمى «الرعاف» ويعدّه الكثير من العلماء أحد الإصابات المرضية الوراثية، وهذا يوضّح أنّ الموعظة تتحدّث عن علم الوراثة والاستدلال بمرض وراثي ليس بخبيث أو مزمن بل بشكل يناسب الموصوف بنقل الصفات الوراثية التي يتميز بها المشاركون في تلك المعركة إلى أبنائهم، وأهم ما أشار إليه سوف يقوى بهم الإيمان، وعليه نقل تلك الصفات والسلوك الحسن وعزائم الرجال وشجاعتهم إلى أبنائهم وأنّ المصطلح العلمي Deoxyribo Nucleic Acid ومختصره D.N.A والذي تمّ اكتشافه لاحقاً في الكورموسومات التي تتألف من سلسلتين لولبيتين متداخلتين من المركبات النووية الحيّة وأنّ هذه الجزيئات «D.N.A» تضم كافة المعلومات التي تخص الإنسان البالغ والتي تعرف اليوم ب- «بنك المعلومات» وأن الخلية الواحدة الحيّة تجمع من المعلومات ما يثير الدهشه والانبهار إذ يفوق ما تجمعه المجمعات العلميّة والثقافية لمكتبات عملاقة علماً أن مجموع الكروموسومات في كل خلية حية هو (46 كروموسوم)، ولك--ل كرموسوم واحد قدرة على حمل معلومات ما يقارب من (46) مجلداً يحوي كل منها على 120 ألف صفحة تحتوي على تفاصيل من وظائف وأحجام وطباع وغرائز الإنسان.

الرعاف

إنّ الرعاف ناتج عن تمزّق الأوعية الشعرية الدموية الدقيقة في باطن الأنف مسبباً تدفق الدم، وكما هو معروف هناك واجبات ووظائف للدم منها:

1 - نقل الماء والغازات والهرمونات والمغذيات ومخلّفات العمليات الأيضية داخل الجسم وخارجه.

ص: 19

2 - الدفاع عن الجسم.

3 - يعمل على المحافظة على توازن «الحامض - القاعدة» في الجسم.

4 - يساعد في حفظ درجة الحرارة.

و عليه استعار بخلايا ذات فائدة عظيمة لجسم الإنسان ودور كبير في استمرار حياته بصورة طبيعية ولها القدرة التعويضية عن الكريات التالفة أو الميتة، ومنها التي تدفقت خارج الجسم وبالتالي قدرة هؤلاء الرجال على اخراج رجال من أصلابهم وأرحام النساء هم بمستوى آبائهم بالشجاعة والتقوى كما مثّل الإسلام بالجسم والسائل الدموي وهو أحد رجاله وقدرة الجسم على تعويض الرجال واستمرار الحياة فيه.

وأنّ ما بين الوظائف التي تقوم بها كريات الدم الحمراء في السائل الدموي هي حمل الأوكسجين وطرح ثاني أوكسيد الكاربون من خلال مادة الهيموكلوبين المحمولة في الكرية الحمراء ولما للكرية الحمراء – أي الدم – من دور عظيم في الجسم.

كما أنّ عملية توليد كريات جديدة تتم في مناطق محددة من الجسم ولا يتم إلّا عند حاجة الجسم إليها، ولا بد أنّ تكون مشابهة وبنفس خصائص وكفاءة الخلايا السابقة.

وعليه أنّ الآباء سينجبون أبناءً يملكون نفس صفات الآباء لاسيما لو عرفنا أن الجينات التي تتحكم في وراثة الأبناء للآباء هي نفسها الجينات التي تتحكم أيضاً في تكاثر الخلايا وفي وظائفها اليومية المستمرة، وتتحكم بتركيب المواد بداخل الخلية التي ستولد.

وبما أنّ الرعاف من تمزّق الأوعية الدموية الشريانية فإنّ الدم يسيل على شكل دفقات وليس مستمراً كما هو في التمزّق الوريدي، وعليه هو يناسب

ص: 20

عمليات التوالد والتنبؤ أي ستجود الأرحام بهم بشكل دفعات وبشكل مستقبلي إلى سوح الإيمان والوغى.

وبالتالي نستشف من هذه الموعظة: عظمة الترابط العلمي من الاستعارات المتعددة وأسبابها، فبدأ بعلم الوراثة واستدل بالرعاف؛ كونه أحد الإصابات المرضية التي تخص الكرية الحمراء والتي تعدّ الممثل الرئيسي إلى السائل الدموي وبما أنّ الحديث يعنى بالتوالد، فإنّ الكرية الحمراء تتميز بالتوالد وتعويض النقص الحادث من خلال عملية دقيقة، فضلاً عن أنّ أمير المؤمنين قد اختار الكرية الحمراء على الرغم من وجود الكثير من الخلايا التي لها القدرة على التوالد والسبب يعود إلى قدرة الخلايا الحمراء على تقديم ولادات متشابهه مع الخلايا التالفة، ومن حيث الجانب الموروفولوجي والوظيفي أي نقل جميع الصفات الوراثية من الآباء إلى الولادات الجديدة، وهذا ينطبق مع المراد من التنبؤ للولادات التي سيرعف بها الزمن للمؤمنين هو الذي يصبو إليه أمير المؤمنين علیه السلام من الموعظة.

الضمور والتضخّم الفسيولوجي

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«أللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّوني، وَسَئِمْتُهُمْ وَسَيْمُونِي، فَأَبْدِلِنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ. وأَبْدِلُهمْ بِي شَرَّاً مِنِّى اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ (1) كَمَا يُمَاتُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، أَمَا وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ» (2).

تشير الآية الكريمة الأولى الآتية إلى قوة الله سبحانه وتعالى بتسخير العذاب على قوم عاد وصوّرت الآية أجسادهم بعد تسليط الريح عليهم، كما تشير الآية الكريمة الثانية إلى النظام الإلهي لمسيرة الإنسان التي تبدأ بضعف ثمَّ قوة ثمَّ ضعف

ص: 21


1- مِنْ قلوبهم: أَذِبْها، مائه يميثه: أذابه.
2- شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 110.

وشيبة، وتصاحب هذه المراحل تغيّرات فسيولوجيّة وكيميائية وفيزيائية كبيرة.

(سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) (1).

(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (2).

هذا من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بعد أن توافدت الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية (لعنه الله) على البلاد، فصعد على المنبر داعياً أصحابه إلى الجهاد وموبخاً وداعياً على المتخاذلين عن أحد الأركان الأساسية في الإسلام وهو الجهاد، وطالباً من الله سبحانه وتعالى للمخالفين لرأيه وقراره باذابة قلوبهم، ولعلّ المراد من إذابة تلك القلوب كما يذوب الملح في الماء هو فقدان شكلها وتركيبها وقوتها وضعف فاعليتها وكفاءتها الوظيفية، ومن الاحتماليات المرادة في هذا المثل هو ما يلي:

إنّ عضلة القلب هي عضلة لا إرادية مخططة تحتوي على ألياف «المايوسين» و «الاكتين» والتي هي عبارة عن خيوط بروتينية، فضلاً عن احتوائها على بيوت للطاقة وماء وسائل السايتوبلازم ... محاطة بغشاء يسمى الغمد العضلي «الساركوليم»، وعند النمو والنضج وأداء النشاطات والفعاليات يزداد حجم هذه الألياف من خلال زيادة سوائل تلك الخلايا العضلية ومكوناتها وبيوت الطاقة وكميّة البروتينات فيحدث التضخم الفسيولوجي للعضلة القلبية وكبر حجمها وكتلتها؛ وهذا سيؤدي إلى كفاءة عمل العضلة والجسم ككل، في حين التوقف عن الحركة والرقود والسأم والملل والتقاعس والهم والخوف والمرض يؤدي إلى تقليل حجمها وكتلتها وتجاويفها من خلال صغر أليافها العضلية بسبب فقدان عدد 4

ص: 22


1- الحاقة: 7.
2- الروم: 54

من بيوت الطاقة وصغر البيوت المتبقية وسوائلها ومكونات الخلية وبروتيناتها مسببة صغر قطر العضلة وحجمها وتغير في شكلها ككل.

فوصفها مولانا أمير المؤمنين بالتحلل والإذابة إلى موادها الأولية كما يحدث في الملح الذي يتحلل من كلوريد الصوديوم إلى «ك--ل-ور س--الب» و «صوديوم موجب» والمراد به اضعاف قدرتهم؛ لأنّ القلب هو أحد وسائل سلامة الأجساد وقدرتها وقوتها، والذى يعدّه علماء الفسلجة مقياساً فسيولوجياً سهل القياس وله مدلولات كبيرة على أجهزة الجسم الحيوية وسلامتها.

الانقطاع عن العمل

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ) (1).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ۙ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ۚ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) (2).

(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ۚ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (3).

كما يشير إلى ناحية علميّة مهمّة قام الكثير من العلماء بدراستها وهي أث-ر الانقطاع عن التدريب، أو الأنشطة والواجبات اليومية والتوقف عن الحركة وما لها من تأثيرات كبيرة على الجسم وأجهزته، وما يسبب من ضمور تلك الأجهزة ومنها عضلة القلب التي يؤدي ضمورها إلى قلة كميّة الدم في الضربة الواحدة، وبالتالي قلة الناتج القلبي وكميّة الأوكسجين، وما يترتب عليها من قصور في وظائف الجسم.

ص: 23


1- فاطر: 10.
2- المائدة: 53.
3- هود 111.

الإنسانية في الدعاء

من خلال المثل الذي قدّمه أمير المؤمنين علیه السلام، - وهو كما يماث الملح في الماء - يظهر عمق الإنسانية لأمير المؤمنين كون هذه التغيرات الكيميائية على ملح الطعام وتحلله في الماء يمكن اعادته إلى حالته الطبيعية، كذلك يمكن اعادة القلب إلى وضعه الطبيعي من خلال ازالة العوامل المؤثرة، أي اصلاح حالهم وبيان صدقهم وصفاء نيتهم واتباع الحق وجهاد الإنسان لنفسه سيعالج فساد أمره.

الاضطرابات النفسية والتقرّحات

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ! حُلُومُ الْأَطْفَالِ، وَعُقُولُ رَبّاتِ الحِجَالِ (1)، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكمْ مَعْرِفَةً - وَاللهِ - جَرَّتْ نَدَماً، وَأَعقَبَتْ سَدَماً (2).

قَاتَلَكُمُ اللهُ لَقَدْ مَلَأُتُمْ قَلْبِي قَيْحاً (3)، وَشَحَنْتُمْ (4) صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ (5) التَّهْمَامِ (6) أَنْفَاساً (7)» (8).

إنّ أحد مضامين الآية المباركة الآتية تشير إلى تأثيرات الحزن على وظائف الجسم ومنها اصابة العين:

(وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ

ص: 24


1- حِجال: جمع حَجَلة وهي القبة، وموضع يزين بالستور، وربات الحجال: النساء.
2- السّدَم - محرّكة - الهم مع أسف أو غيظ، وفعله كفرح.
3- :القيح ما في القرحة من الصديد، وفعله كباع.
4- شحنتم صدري: ملأتموه.
5- النُّعْب: جمع نُغْبَة كجرعة وجُرَعٍ لفظاً ومعنى.
6- التّهْمَام - بالفتح - الهم، وكل تَفْعال فهو بالفتح إلّا التِبيان والتِلقاء فهما بالكسر.
7- أنفاساً: أي جرعةً بعد جرعة، والمراد أن أنفاسه أمست هماً يتجرّعه.
8- شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 141 .

كَظِيمٌ) (1).

وهي من خطبة لمولانا أمير المؤمنين علیه السلام بسبب مقتل عامله «حس-ان ب-ن حسان» من قبل خيل لمعاوية (لعنه الله) وردت الأنبار، وأنّ كثرة الموعظة والنصح الذي أسداه لرعيته وتخلفهم عن الجهاد كان أحد أسباب تمنّي أمير المؤمنين علیه السلام عدم رؤيتهم ومعرفتهم لما جرت عليه من آلام وأحزان وغيض.

وهنا يستدل بأحد الأمراض التي تصيب المعدة «القرحة» وأثر الجانب النفسي عليها، ولعلّ احتمالية المراد ما يلي:

أسباب القرحة

يتم التحكم في السلوك من مناطق مختلفة في الدماغ، أهمها الهيبوثلامس والتي لها الدور الكبير في تولّي الجانب الانفعالي واحساسات «الألم – الغضب - الهم - الندم ...» فضلاً عن دورها في حفظ وظائف الجسم غير الشعورية «اللاإرادية» «الضغط الشرياني - التوازن لسوائل الجسم - محتوى الأملاح في السوائل - التغذية - النشاط المعدي - الغدد الصماء ...».

ولوحظ أنّ السلوك الانفعالي الشديد وبحالته المارة الذكر من خلال تنبيه الهيبوثلامس يؤدي إلى زيادة إفراز الهرمون المنشط للحاء الغدد الادرينالية والذي يقوم بإفراز الفص المقدمي للغدة النخامية والمسببة زيادة درجة الحموضه في المعدة بسبب إفراز حامض «الهيدروليك»، وعليه أنّ الانفعالات المستمرة تؤدي إلى زيادة الحامض ضعف الحالة السوية مسببة ذلك التقرح «الجروح» في المعدة والتي يسبب عدم معالجتها ظهور القيح وهو سائل أبيض متخثر لا يختلط بالدم يخرج من الجروح.

ص: 25


1- يوسف 84 .

أمّا سبب الاستعارة لقرحة المعدة بالقلب على الرغم من عدم وجود إصابة للقلب بمرض القرحة.

وهي استعارة تدلل على المعرفة الدقيقة لمولانا أمير المؤمنين علیه السلام لأحد أسباب ظهور الألم الحادث في قرحة المعدة بعد حدوث الإصابة، هو الحركات القوية للمعدة، وبما أنّ إحدى حالات ظهور الألم هو الحركة أي عمليات التقلّص التي تؤديها المعدة من هنا جاءت الاستعارة لعضلة القلب بوصفها للمعدة من خلال إحدى ميزاتها، وهي الحركة المستمرة من خلال التقلّص المنظّم والمستمر وهي تشير إلى استمرار الألم وتواجده.

التعلّم الحركي والتغذية الراجعة

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً (1)، وَشَحَنْتُمْ (2) صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ (3) التَّهْمَامِ (4) أَنْفَاساً (5)، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالعِصْيَانِ وَالخذْلان، حَتَّى قَالَتْ قُريْشٌ: إِنَّ إِبْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالحَرْبِ.

للَّهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً (6)، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ العِشْرِينَ، وها أناذا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ (7) وَلَكِنْ لا

ص: 26


1- :القيح ما في القرحة من الصديد، وفعله كباع.
2- شحنتم صدري: ملأتموه.
3- النُغب: جمع نُغْبَة كجرعة وجُرَعٍ لفظاً ومعنى.
4- التّهْمَام - بالفتح - : الهم، وكل تَفْعال فهو بالفتح إلّا التِبيان والتِلقاء فهما بالكسر.
5- أنفاساً: أي جرعةٌ بعد جرعة، والمراد أن أنفاسه أمست هما يتجرّعه.
6- مِراساً: مصدر مارسه ممارسة ومراساً، أي عالجه وزاوله وعاناه.
7- ذَرّفْتُ على الستين: زدتُ عليها، وروى المبرد «نَيّفت»، وهو بمعناه.

رَأيَ لَمِنْ لَا يُطَاعُ!» (1).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى تشريع إلهي بمقاتلة الكفار وان كان كرهاً للمؤمنين فليس كل ما كان ظاهره مكروه كان باطنه كذلك، فلربما باطنه في علم الله تعالى خيراً من ظاهره.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (2).

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) (3).

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهي من مشاهير خطبة، وكانت بسبب ورود خيل معاوية (العنه الله) على الأنبار وقتل عامل الإمام علیه السلام على الأنبار وهو «حسان بن حسان»، وعندها خرج غاضباً يحث الناس على الجهاد ويتضح من سياق الحديث استخدامه لعلوم أوجدت وتعرّف عليها في الزمن المعاصر ومنها التعلم الحركي والذي كتب عنه علماء مختلفون وأوجزه أمير المؤمنين علیه السلام بتلك الكلمات.

انّ الولايه المطلقة التي يمتاز بها سيد الأوصياء علیه السلام وتطبيقه لفروع الدين، وما يخص الخطبة هو «الجهاد»؛ هو الذي جعله مقاتلاً وفارساً يفر منه أبطال العرب ولا يشوب حركاته ومهاراته النقص أو الخطأ وهو ما يطلق عليه في علم التعلم الحركي «تثبيت التوافق الدقيق» أو الأوتوماتيكيّة في أداء الحركات من خلال دقة وصواب القرارات المتخذة والمنسجمة مع استراتيجية الفعل وهو القتال، فأشار إلى هذه المعرفة من خلال سياق كلامه علیه السلام بالممارسة في سوح القتال منذ صغر سنة وفي جميع المعارك التي خاضها المسلمون، كما حدّد لها زمناً عمرياً وليس بيولوجياً .

ص: 27


1- شرح نهج البلاغة: ج 1 ص 141.
2- البقرة: 216.
3- الأنفال: 65.

وهو تحت سن «العشرين»، وربّما يريد أن يشير فيها إلى الاختلاف فيما بينهما علماً أنّه كان في جميعها مصدراً أساسياً في حسم المعارك والنصر، والمدافع عن راية «لا أله إلا الله محمد رسول الله»، وعليه أنّ ذكر الممارسة الطويلة جعلها أحد الأسباب الرئيسة في عملية التعلّم والتي تشمل كل عمليات التدريب «المتسلسل والثابت والمتغير فضلاً عن التدريب الذهني والانتقائي» وهي طرق تعليمية وتدريبية تدخل ضمناً في عملية الممارسة والتعلّم للوصول إلى المهارة والتخطيط والقوة والقرارات في ساحات الوغى.

كما توجد إشارة مهمّة أخرى وهى عدم جعل العمر عائقاً باستمرار التعلّم والممارسة، فهو كان فيها ابن «الستين» عاماً وهو يضرب بساعد الشباب.

وقد كانت بداية علم التعلّم الحركي عام 1899م على يد العالم Woodworth

إذ كان يسعى لتحديد الأسس التي تحدد حركة الذراع بسرعة ودقة ومنها توالت الدراسات وبشكل أوسع من قبل العالم «وودورث» و «ثورندايك» الذي أسس حجر الزاوية لهذا العلم من خلال قانونه: «ان الاستجابة التي يعقبها تعزيز واثابة وتشجيع تميل إلى التكرار والتعلم وبالعكس بالنسبة إلى الحركات التي لا ترافقها تشجيع أو تكرار فإنّها لا تسبب التعلّم»، ثمَّ جاء «آدم» 1971م بالدائرة المغلقة والتي تعني أنّ الحركة تنفذ عن طريق المقارنة بين التغذية الراجعة Feed back من أعضاء الجسم وبين مراجع التصحيح الذي تعلّمه الفرد سابقاً، والذي يعتمد على الأثر الحسي إذ بالتكرار يترك أثراً أعمق، ثمَّ ظهرت التغذية الراجعة المفتوحه والتي تؤكد على وجود نوعين من الذاكرة وهما ذاكرة الاسترجاع وذاكرة التمييز.

وبالتالي مجموع ما نستخلصه من تلك الأبحاث: أنّ التدريب والممارسة له آثاره العميقة في الجهاز العصبي المركزي بحيث يكون مرجعاً سهلاً لمرور

ص: 28

الاستجابة عند تكرارها وتحديد وقتها بالاعتماد على الأثر الحسّي والمعتمد على المعلومات الراجعة والتي تحدد نسبة الخطأ أو البعد عن المرجع الصحيح.

وهذا ما أختصره أمير المؤمنين علیه السلام بأنّ تلك الحوافز الواقعة في ساحات الحرب وما واجهها من استجابات من خلال الممارسة والتكرار جعلت من خططة ومهاراته وقوته وباستخدام التغذية والمقارنة بين نزال و آخر بطلاً یعتز به الأصحاب والأعداء على حد سواء لا يمكن مواجهته مطلقاً وقد صرع أبطالاً يعدون بآلاف الفرسان وقد سجّل في صحف التاريخ بأحرف لن تنسى.

المكونات وهيئة الإنسان

قل أمير المؤمنين علیه السلام في خلق العالم:

«أَنْشَأَ الخَلْقَ إِنْشَاءً، وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً، بِلا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا (1)، وَلَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا، وَلَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا، وَلاَ هَمَامَةِ نَفْسٍ (2) أظْطَرَبَ فِيهَا.

أَحَالَ الأشياءَ لأَوْقَاتِهَا، وَلَأَمَ (3) بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا، وَغَرَّزَ غَرَائِزَهَا (4)، وَأَلْزَمَهَا أشبَاحَهَا، عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، مُحيطاً بِحُدُودِها وَأَنْتِهَائِهَا، عارفاً بِقَرَائِنِها وَأَحْنَائِهَا (5).

ثُمَّ أَنْشَأَ - سُبْحَانَهُ - فَتْقَ الْأَجْوَاءِ، وَشَقَّ الْأَرْجَاءِ، وَسَكَائِكَ (6) الَهوَاءِ، فأَجازَ فِيهَا مَاءً مُتَلاطِماً تَيَّارُهُ (7)، مُتَراكِماً زَخَّارُهُ (8)، حَمَلَهُ عَلَى مَتْن» (9).

ص: 29


1- الرّوِيّة: الفكر، وأجالها: أدارها وَرَدَدَها.
2- هَمَامَة النفس - بفتح الهاء - : اهتمامها بالأمر وقصدها إليه.
3- لَأَمَ: قَرَنَ.
4- غَرّزَ غَرائزها: أودع فيها طباعها.
5- القرائن - هنا - جمع قَرُونة وهي النفس، والأحْنَاء: جمع حِنْو - بالكسر - : وهو الجانب.
6- السكائك: جمع سُكاكة - بالضم - : وهي الهواء الملاقي عنان السماء.
7- التيّار - هنا - :الموج.
8- الزّخَار: الشديد الزخر، أي الامتداد والارتفاع.
9- شرح نهج البلاغة: ج 1، ص 252.

تشير الآية الكريمة الأولى الآتية إلى كيفية خلق آدم علیه السلام ومراحل الخلقة كما تشير إلى أنّ ما تحمل الأنثى ولا تضع إلّا بعلمه، وإلى كيفية ملائمة ماء الرجل والمرأة وتكوين خلق جديد كما أنّ ما يعمر من معمر أو ينقص من أعمار العباد فهو محفوظ في كتاب عند الله. كما تشير الآية الكريمة الثانية إلى أنّ الله تعالى غ--رز بالنفس الإنسانية غرائزها ومنها التقوى والفجور.

(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ۚ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (1).

(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (2).

وهو مقطع من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام يتحدّث فيه عن خلق السماوات والأرض وخلق آدم علیه السلام ويصف به جسم الإنسان وأنّه متكوّن من تراكيب مختلفة، بل في الجهاز الواحد ذي الهدف الوظيفي الواحد توجد اختلافات بين أعضاء ذلك الجهاز وأنسجته، ففضلاً عن الاختلاف في التركيب التشريحي هناك اختلاف في التركيب الكيميائي، ولكن انسجمت جميعها من أجل تكيف الفرد مع البيئة الخارجية من خلال المحافظة على بيئته الداخلية كما اختلفت أشكال واحجام وكتل وقياسات أجهزة الجسم الحيوية مع أدائها الوظيفي وموقعها في الجسم ولمراحل النمو المختلفة وما تحتاجه كل مرحلة من نسب وإفرازات من الغدد الهرمونية ومستوى من النضج البايولوجي لكافة الأجهزة بشكل لا يؤثر على الأداء الوظيفي والنفسي خلال تلك المرحلة من النمو، ومن خلال ذلك هناك العديد من الاحتمالات والوجوه التي أراد توضيحها مولانا أمير المؤمنين علیه السلام ومنها: 8.

ص: 30


1- فاطر: 11.
2- الشمس: 8.

أولاً: - الصفات البدنية

(قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ (1)

(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (2).

«انّ الله منح الإنسان صفات بدنية يمكن قياسها واختبارها وملاحظتها ومنها القوة والسرعة والمرونة والجلد ...» ومنهم من يصنف تلك الصفات إلى (7) صفات ومنهم من يصنّفها إلى (42 صفة)، ومن تلك الصفات ما يؤثّر بعضها ع-ل-ى البعض الآخر طردياً، ومنها ما يؤثر بصورة عكسية، إنّ امتلاك الإنسان مستوى معين من الصفات البدنية يعدّ أمراً مهمّاً للقيام بجميع فعالياته اليومية وأنشطته، وعلى الرغم من وجود اختلاف في أهمية تلك الصفات وكيفية بنائها وتنميتها غير أنّ صفة القوة التي تعدّ الصفة الرئيسية لدى الإنسان تتناسب عكسياً مع صفة المرونة، ولكن يصبح أداء أي حركة في غاية الصعوبة عند فقدان المرونة لدى الإنسان والتي أسبابها «الأربطة - والأوتار - والغضاريف» فضلاً عن مطاطية و مرونة «العضلات والألياف العضلية»، ومن هنا تلاءمت الصفتان المتعاكستان في أداء إحدى حاجات الجسم وهي الأداء الحركي الذي تعود إلى شكل وحجم السطوح المتفصل عليها والتي لها تأثير على نوع الحركة ومداها فضلاً عن مكوّنات المفصل.

ثانياً: الجهاز العضلي

رغم التشابه الوظيفي للجهاز العضلي والذي يتميز بالتقلّص والانبساط، كما ويختلف في طريقة التنبيه العصبي فمنها «إرادي - لاإرادي»، «عصبية - وعضلية

ص: 31


1- هود 80.
2- الروم: 54.

المنشأ»، ولوحظ أثناء العمل اللاهوائي «انتاج الطاقة لاهوائياً» أنّ زيادة حامض اللاكتيك يعدّ أحد أسباب التعب العضلي للعضلات الإرادية المعوقة لاستمرار العمل العضلي، وفي المقابل يستخدم هذا الحامض من قبل عضلة القلب كأحد مكونات الطاقة.

وعليه رغم الجهاز الواحد «العضلي» وآلية التقلّص واحدة ولكن اختلفت بطريقة نوع الطاقة المستخدم الذي هو مؤثر لدى احداها سلبياً، وفي الأخرى يعدّ أحد مصادر الطاقة المهمة وهو نوع من الانسجام في العمل الوظيفي.

كما اختلفت الألياف العضلية في العضلة الواحدة منها سريعة التقلّص، ومنها بطيئة التقلّص وهذا يعود إلى أسباب في التركيب الخاص بالخلية العضلية، فالبطيئة التقلّص تحتوي على كميات أكبر من الشعيرات الدموية ومن الدم الواصل المحمّل بالأوكسجين بخلاف الخلايا العضلية السريعة التقلّص على الرغم من وقوعهما في نفس الجهاز، بل في نفس العضلة التي تغذيها نفس الشرايين والأعصاب، ولكن تختلف بالعمل الوظيفي.

ثالثاً: المضيقات والموسعات الوعائية

(ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (1).

عند تعرّض الفرد إلى انخفاض درجات الحرارة أو ارتفاعها أو أداء عمل معين أو عند تناول الطعام فإنّ ذلك سيؤدي إلى تغيير مجرى الدم نحو أماكن العمل وتقليلها في المواقع غير العاملة، وهذا يتم من خلال انسجام المقلّصات والموسّعات للأوعية الدموية «العصبية والهرمونية» ففى مواقع تعمل المقلصات للأوعية في حين تعمل الموسعات في مواقع أخرى وبشكل ينسجم مع اتجاه حاجة

ص: 32


1- الحاقة: 46.

الجسم للدم المحمل بالأوكسجين.

رابعاً: القياسات الجسمية

(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (1).

(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) (2).

إنّ عملية النمو التي تشمل مظاهرها جميع أجزاء الجسم نلاحظ اختلافاً في مستوياتها بين أجزاء وأجهزة الجسم المختلفة، إذ نلاحظ زيادة أكبر في جهاز دون آخر، ولكن تلك الزيادة تكون محسوبة من حيث الحجم والطول والكتلة بشكل لا تؤثّر على عملها أو عمل الأجهزة المجاورة، فمثلاً الزيادة الحادثة في عضلة القلب نتيجة ممارسة الأنشطة الرياضية تكون زيادة منسجمة ومتناسبة مع المحددة له في الجسم بشكل لا يؤثر على عمل وظيفة الرئتين أو الكبد أو غيرها من الأجهزة، كما أنّ التغير الذي شمل جميع أجزاء العضلة القلبية كانت النسبة الأكبر في التغيير حدثت في المخدع الفعال وهو البطين الأيسر.

وعليه نلاحظ مستوى التلاؤم حتى في حجم الأجهزة ومواقعها ومساحاتها المحددة لها، بل النمو في العضلة الواحدة يختلف وكما ذكرناه أي تلاؤم النمو مع حاجة العمل الوظيفي للعضلة.

خامسا: الهيكل العظمي

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا

ص: 33


1- النحل: 78.
2- المنافقون: 4.

الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (1)

إنّ عدد عظام الجسم ما يقارب (200 عظم) وهي مختلفة في الأطوال والأشكال والمساحات والأحجام والأقطار، وهذا ينسجم مع نوع العمل الذي يقوم به العظم. وعلى الرغم من وحدة التركيب لتلك العظام ووحدة الواجب وهي الحماية للأجهزة الوظيفية وانتصاب الجسم والمساعدة في حركته ولكن هناك اختلافات بينها، ومنها يمتاز بالطول كعظام الفخذ والساق، والأقل طولاً ومنها: عظام الساعد والكعبرة والزند ... في حين يتميّز الآخر بالقصر كعظام مشط اليد والقدم، كما بعضها يتميز بجسم وطرفان والآخر بطرف واحد، في حين توجد عظام تتميّز بالاستقامة، وأخرى بالتقوس وأخرى لا تمتلك شكلاً معيناً،، ومنها ما تقع على مفاصل الجسم وتتميز بالحركة لزاوية (90 - 180 - 360) ومنها بزاوية أقل من ذلك ومنها بزاوية (صفر).

وإنّ لكل حركة وزاوية أثراً في وظائف المفاصل، وكذلك إظهار مستوى القوة، كما أنّ طول العظام هو الآخر له الأثر في إظهار القوة تحت قوانين العتلات ولكنها اشتركت بأهداف محددة رغم اختلافها وهي:

1 - تكون الهيكل العام لجسم الإنسان ومن خلاله يتميز الجسم بالاستقامة والانتصاب.

2 - تكوّن العظام بعضها مع البعض الآخر المفاصل المختلفة التي تقوم بالحركة ومن خلالها يقوى الإنسان على القيام بالحركات المختلفة.

3 - كما تقوم بعض أجزاء الجهاز العظمي بتغليف وحماية بعض الأجهزة الحيوية في الجسم مثل حماية الدماغ.

4 - كما يمكن الاستفادة من الكالسيوم المترسّب في العظام عند الحاجة فهو 4.

ص: 34


1- المؤمنون: 14.

مستودع للكالسيوم.

5 - وهو يعدّ مركز تكوين كريات الدم الحمراء عند النقص فيها.

6 - كما يعدّ موضع استقرار عضلات جسم الإنسان إذ يكون منشؤها ومدغمها على تلك العظام.

سادساً: جهاز القلب

(مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (1)

على الرغم من الاختلافات بین عضلة القلب والجهاز التنفسى فالأول يقوم بوظيفة دفع الدم لجميع أجزاء الجسم ومنها الرئتان فكلاهما تعدّان منطقة التقاء الجسم بالهواء الخارجي، ولكن رغم الاختلاف في التركيب والوظيفة يلاحظ الانسجام الكبير في أداء الوظيفة الرئيسية للجهاز التنفسي بشكل تصبح فيه جدران الأسناخ الهوائية من طبقة واحدة يبلغ سمكها (1،5 مايكرون)، يتمكن الهواء الخارجي من الانتقال بفعل قانون اختلاف الضغوط من الحويصلات الهوائية إلى الأوعية الدموية الوريدية وبالعكس من الأوعية الشريانية إلى الأكياس الهوائية كما تلاءم العمل بشكل لا يمكن أن يتم النقل الغازي إلّا من خلال إذابة الغازات في السائل الدموي وعليه توفّرت الظروف بالنقل بالإذابة.

سابعا: الجهاز الهرمونى والانزيمات

وهو جهاز يتكوّن من غدد عديدة وفي مواقع مختلفة من الجسم بعضها صغير الحجم وبعضها يمتاز بالكبر، ولكل منها دور في عملية بناء وحماية وتنظيم وظائف الجسم من خلال دقة الأوامر الصادرة من الجهاز العصبي وعظمة الاتصالات بها

ص: 35


1- الأحزاب: 4.

وبمواقع تأثيرها، ومن بين تلك الغدد: الغدة «النخامية» التي يبلغ قطرها (1 سم) وزنها (5.0 - 1 غم) والتي تقع في تجويف عظمي عند قاعدة الدماغ والتي تقسم فسيولوجياً إلى قسمين: «النخامي الأمامية» «الغدّية» والثانية: «النخامي الخلفية» «العصبية»، ويوجد بين هذين القسمين منطقة صغيرة تسمى الجزء المتوسط وهي لدى الإنسان مفقودة تقريباً، وتفرز الغدة النخامية الأمامية حوالي ستة هرمونات وتقوم بأدوار رئيسة في التحكم بالوظائف الاستقلابية وفي كل انحاء الجسم وهناك الفص النخامي للغدة النخامية الذي يتحكم بالهرمون المضاد للابالة «الفازوبريسين» ويعدل افراغ الماء بالبول وبتركيز الماء في سوائل الجسم، أمّا هورمون «الأوكسيتوسين» فيساعد في توصيل الحليب من غدد الثدي إلى الحلمة أثناء الرضاعة.

من خلال ما تقدّم يظهر أن بمقدور ذلك الحجم الصغير أن تنتج خلاياه مجموعة كبيرة من الهرمونات المختلفة في الوظيفة والمختلفة في الخلايا

المستهدفة.

أمّا الانزيمات فإنّها تعمل على بناء المواد أو هدمها ولحد معين، لذلك إذا ما وصل تركيز المادة المطلوبة إلى الحد المطلوب فانّه يبطىء عمل الانزيم وتبتدىء مجموعة أخرى بالعمل، في حين أنّ الهرمونات تعمل على تنظيم فعاليات الجسم، وعملها يكاد يشابه من حيث التفعيل والتنشيط عمل الانزيمات، ولكن بعض الانزيمات والهورمونات تعمل بشكل متضاد من أجل حماية البيئة الداخلية للجسم واستمرار فعاليات الجسم بصورة سليمة فعلى سبيل المثال الهرومنات المنظمة لتركيز السكّر فى الدم هما: الأنسولين والكولوكاكون وكلاهما يفرز من البنكرياس ولكن عن طريق نوعين من الخلايا إذ يفرز الأنسولين من خلايا «بيتا» بينما الكلوكاكوون من خلايا «الفا» ويعمل الأنسولين على تسهيل دخول السكّر

ص: 36

إلى الخلايا، ويعمل على بناء البروتينات والشحوم، كما ينشّط عملية انتاج السكّر وعملية تكسير الكلاكوجين، ويكون عمله عندما يكون مستوى السكّر عالياً في الدم، أمّا عند وصول تركيز السكّر إلى حد منخفض فيبدأ عمل الكلوكاكون وعمله يتمثّل بتنشيط عمليات بناء السكّر وتكسير الكلايكوجين لانتاج الكلكوز وينشط عمليات بناء البروتينات من الكلوكاكون وبناء الدهون لتنظيم تركيز السكّر في الدم.

وما ذكرناه من أمثلة تكاد لا تشكل نسبة تذكر ضمن اختلاف التركيب والمكونات، فالأجهزة والأشكال والوظائف وكيفية انسجامها على الرغم من اختلافها في المكونات الكيميائية والتركيب والوظيفة يجعل من ذلك الجهاز البيولوجي المعقّد والمدهش في التكوين منسجماً بشكل دقيق بأداء وظائفه من خلال التعاون الكبير بين الأجهزة والتي هدفها التكيف مع البيئة الخارجية، ولضمان الاستقرار في البيئة الداخلية وضمان البقاء على قيد الحياة ومقاومة المؤثرات وأداء الأعمال فإنّ تلك الأشكال رسمت بطريقة تلائم وظائفها ومراحل النمو منذ الولادة إلى الشيخوخة، فضلاً عن الانسجام في الراحة والعمل بل الانسجام مع اختلاف شدة العمل وخارجيّة المهارات التي يقوم بها الإنسان.

وبالتالي ما تمّ ذكره هو بعض الأمثلة من ملايين الأمثلة حول تشابه وتضاد و تلاؤم الخلايا في الجهاز الواحد أو الأجهزة الأخرى واشتراكها في هدف واحد هو التكيّف مع البيئة الخارجية للإنسان من أجل استمرار أعماله وواجباته، وهو الآخر يتطلّب توازناً فسيولوجياً وكيميايياً للبيئة الداخلية للجسم، ومن هنا يتضح معنى الوصف الرائع لأمير المؤمنين علیه السلام في كيفية تلاؤم عمل الأجهزة مع بعضها البعض رغم اختلاف الشكل والتركيب والوظيفة ومواقع التحكم والسيطرة بها واختلاف مراحل النمو منذ الولادة إلى الشيخوخة.

ص: 37

أعراض الخوف

من خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام في استنفار الناس إلى الشام بعد فراغه من أمر الخوارج، وفيها يتأقّف بالناس، وينصح لهم بطريق السداد:

«أُفٍّ لَكُمْ (1)! لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ! أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ عِوَضاً؟ وَبِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً؟ إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ (2)، كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي غَمْرَةٍ (3)، وَمِنَ الذُّهُولِ فِي سَكْرَةٍ، يُرْتَجُ (4) عَلَيْكُمْ حَوَارِي (5) فَتَعْمَهُونَ (6)، فَكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَالُوسَةٌ (7)، فَأَنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ» (8).

إنّ الآية الكريمة الآتية تبيّن حال الكفار إذا حلّ بهم الخوف «وهو الخوف من المعركة» إذ تطرأ عليهم ايماءات وحركات وتغيرات فسيولوجيّة وكيميائية وواحدة منها عدم استقرار أعينهم.

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (9).

وهذا الكلام من خطبة لمولانا أمير المؤمنين علیه السلام في استنفار الناس على أهل الشام يصوّر فيها تصرّفاتهم وايماءاتهم واستجاباتهم التي تظهر عليهم عند دعوتهم إلى الجهاد والذين رضوا بالذل والهوان وحب الدنيا على الآخرة وعدم اتّباع ولي أمرهم رغم معرفتهم بالحق وبالباطل كل ذلك للخوف من الموت وملاقاته.

ص: 38


1- أُفّ لكم: كلمة تضَجّر واستقذار ومهانة.
2- دوَرَان الأعين: اضطرابها من الجزع.
3- الغمرة الواحدة من الغمر وهو: الستر وغمرة الموت: الشدّة الّتي ينتهي إليها المحتضر.
4- يُرْتَجُ: بمعنى يغلق، تقول: رتج الباب أي: أغلقه.
5- الحَوار - بالفتح وربّما كسر - المخاطبة ومراجعة الكلام.
6- تَعْمَهُون: مضارع عَمِهَ، أي تَتَحَيّرون وتتردّدون
7- المَألُوسة: المخلوطة بمس الجنون.
8- شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد، ج 1، ص 177.
9- الأحزاب: 19.

الخوف وحركة العينين

يشير مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في ظاهر النص من الخطبة بدعوة الناس واستنفارهم إلى الجهاد ضد جيش الضلالة في الشام ويصوّر حال هؤلاء - الذين يدعوهم إلى أحد أركان الدين وهو الجهاد - بأنّهم ذو استجابات وظيفية تناسب شدة خوفهم من قبول الجهاد والتي صوّرها من خلال حركات العينين ودورانها والتي شبهها بحركتها أثناء الموت بسبب ما يشاهده الإنسان من أهوال وسكرات وشدة الموت وأنّ احتمالية المراد من ذلك التشابه ما يلي:

أولاً: توجد باحات في دماغ الإنسان تتحكم بتوجيه العينين نحو الجسم المراد رؤيته، ويتم التحكم بحركات العينين من خلال ثلاث أزواج منفصلة من العضلات، وهذه الأزواج الثلاث لكل منها نوع من الحركة، فزوج منها يمنح الحركة العلوية السفلية، وزوج يمنحها الحركة العرضية للجانبين، والأخير يمنح دوران العينين، وهذه الأزواج مرتبطة بالأعصاب القحفية «الثالث - الرابع – السادس» ومن خلال هذه الأعصاب المرتبطة «بالتحكم القشري» الجهاز المحرك للعينين يتم انتشار الإشارات عن الباحات البصرية القذالية خلال السبيلين: القذالي السقفي والقذالي الأكيمي إلى الباحتين أمام السقفية والاكيمية العلوية في جذع الدماغ.

ثانياً: - يعدّ تثبيت حركات العينين على جزء محدد لرؤيته من أهم حركات العينين، وتتحكم بحركات التثبيت آليتان عصبيتان الأولى تسمح للشخص بأن يحرّك عينيه «إرادياً» ليجد الجسم الذي يركّز عليه بصره وتسمى «آلية التثبيت الأولى»، والآلية الثانية هي آلية «لاإرادية» تثّبت العينين بإحكام على الجسم متى وجدتاه، وتسمّى «آلية التثبيت اللاإرادية».

أما آلية تثبيت العينين،لا إرادياً، فتتحكّم بها الباحات البصرية الثانوية القشرية القذالية، وبصورة رئيسية في باحة «برودمان». ووجد من خلال التجربة أنّ تدمير

ص: 39

هذه الباحة في الجهتين؛ يسبب صعوبة الابقاء على العينين متجهتين نحو نقطة تثبيت معيّنة، وعليه - يولد غالباً أيّ اضطراب مفاجيء في الباحة الوحشية من المجال البصري حتى بعد تخريب القشرة البصرية - دوراناً مباشراً فى الاتجاه.

ثالثاً: غير أنّ الاضطرابات غير البصرية مثل «الأصوات الشديدة - ضرب الجسم»، يمكن أن تُفقد العينين حركة التثبيت الإرادي واللاإرادي؛ بسبب دوران العينين الاضطراب «بصري - سمعي - جسدي».

وفي جامع الأخبار قال إبراهيم الخليل علیه السلام الملك الموت: «هلا تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض فيها روح الفاجر؟ قال: لا تطيق ذلك. قال: بلى، قال: فأعرض عنى، فأعرض عنه، ثمَّ التفت إليه، فإذا هو برجل أسود، قائم الشعر منتن الريح، أسود الثياب، يُخرج الريح من فيه ومناخره لهيب النار والدخان، فغشي على إبراهيم ثم أفاق فقال: لو لم يلق الفاجر عند موته إلّا صورة وجهك، لكان حسبه» (1).

ومن هنا احتمالية أنّ الذين هم في غمرات الموت وما يشاهدونه من أهوال الموت جعلهم يرتعدون خوفاً، ممّا جعلت هناك ظواهر خارجية وأخرى داخلية تلاحظ عليهم منها الارتجاف مثلاً، وتسارع ضربات القلب ... ولكن الذي ذكره أمير المؤمنين علیه السلام واحدة من أهم استجابات الخوف وهي: حركة العينين ودورانها، وهي نتيجة استجابة داخلية، وكما وصفها الأنبياء والأولياء «صلوات الله عليهم أجمعين»، ففي البحار عن العسكري علیه السلام، عن آبائه علیه السلام، قال: «قيل للامام الصادق علیه السلام: صف لنا الموت، قال علیه السلام: للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس بطيبه، وينقطع التعب والألم كله عنه. وللكافر كلسع الأفاعي ولذع العقارب أو أشد، قيل: فإنّ قوماً يقولون: إنّه أشد من نشرٍ بالمناشير، وقرضٍ بالمقاريض، ورض-خ .

ص: 40


1- جامع الأخبار: ص 198.

بالأحجار، وتدوير قطب الأرحية على الأحداق؟ قال: كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين» (1).

وهي مختلفة بين المشاهدات الصورية والسمعية والجسدية ممّا يسبّب دوران العينين بتأثير على مراكز التثبيت الإرادي واللاإرادي للعينين.

وعليه أنّ استعارة الأجواء المكانية والزمانية لغمرة الموت والذهول الذي يرافقها عند دعوتهم للجهاد هذا لا يمكن شموله بتعطيل الباحات التي تتحكم بثبيت العينين، ولكن احتمالية الدوران وقتية أثناء دعوتهم، وهذا عائد للاضطرابات السمعية والبصرية والمتحققة للأسباب الآتية:

1 - التفكير والتذكّر لمواقف القتال المصحوبة بالخوف من الموت.

2 - بلاغة مولانا أمير المؤمنين علیه السلام باختيار الألفاظ والعِبر والأمثلة، وإظهار الحقائق بشكل يدركها المتلقي ويعيش أحداثها، ومخالفتهم له تعدّ مخالفة للشريعة، وبالتالي يعدّ أحد أسباب الاضطراب السمعي والبصري لدوران العينين.

3 - ربّما استعارة دوران العينين؛ كونهم إرادياً لا يريدون تثبيت الأعين باتجاه أمير المؤمنين علیه السلام، لأنّ تثبيت النظر هو جزء من عملية التركيز والانتباه لمكان التثبيت وهم لا يملكون القناعة بالقتال لضعف ايمانهم.

دور الرأس التوجيهي

ومن خطبة لأمير المؤمنين علیه السلام في استنفار الناس إلى الشام، بعد فراغه من أمر الخوارج، وفيها يتأفّف بالناس وينصح لهم بطريق السداد:

«مَا أَنْتُمْ لي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيالي (2)، وَمَا أَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُمَالُ بِكُمْ (3)،

ص: 41


1- البحار ج 6، ص 152 نقلاً عن تسلية الفؤاد في بيان الموت والمعاد.
2- سَجِيس - بفتح فكسر - كلمة تقال بمعنى أبداً، وسجيس: أصله من «سَجَسَ الماء» بمعنى تغيّر وتكدّر، وكان أصل الاستعمال: «مادامت الليالي بظلامها».
3- يُمال بكم: يُمَال على العدو بعزّكم وقوّتكم.

وَلَا زَوَافِرُ (1) عِزّ يُفْتَقَرُ إِلَيْكُمْ. مَا أَنْتُمْ إِلّا كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا، فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبِ انْتَشَرَتْ مِن آخَرَ لَبِئْسَ - لَعَمْرُ اللَّهِ - سُعْرُ (2) نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ! تُكَادُونَ وَلَا تَكِيدُونَ، وَتُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ فَلَا تَمْتَعِضُونَ (3): لَا يُنَامُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ في غَفْلَةٍ سَاهُونَ، غُلِبَ وَاللهِ الْمُتَخَاذِلُونَ وَأيْمُ اللهِ إِنِّي لَأَظُنُّ بِكُمْ أنْ لَوْ حَمِسَ (4) الْوَغَى (5)، وَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ (6)، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنْفِرَاجَ الرَّأْسِ (7)» (8).

تعطي الآيتان الكريمتان الآتيتان تصويراً ظاهرياً لحركات الإنسان، ومنها حركتان مختلفتان للرأس كل منها تدلّل على سلوك وإجابة عن موضوع معيّن طرحته الآية القرآنية.

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (9).

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ) (10).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في استنفار الناس لحرب أهل الشام، وقد أدلى بتنبؤاته بمجريات المعركة، بعدم وثوبهم في ساحة القتال عند اشتداد .

ص: 42


1- الزَّافرة من البناء: رُكْتُهُ، ومن الرجل عشيرته وأنصاره.
2- السَّعْر - بالفتح - مصدر سَعَرَ النار - من باب نَفَعَ - : أوقدها، وبالضم جمع ساعر، وهو ما أثبتناه، والمراد «لبئس موقدوا الحرب أنتم».
3- امْتَعَضَ: غَضِبَ.
4- حَمِسَ - كفَرِحَ - : اشتد وصَلُبَ في دينه فهو حَمِسُ.
5- الوَغى: الحرب، وأصله الصوت والجَلَبَة.
6- اسْتَحَرّ: بلغ في النفوس غاية حدّته.
7- انفرجتم انفراج الرأس: أي كما ينفلق الرأس فلا يلتئم.
8- شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد، ج 1، ص 177
9- المنافقون: 5.
10- الأنبياء: 65.

المعركة، وبالتالي وصفهم بالانفراج وهو الابتعاد عن طريق الحق والانحراف هربا، واحتمالية المراد من هذا المثل ما يلي:

دور الرأس السلوكي والحركي والتحكّم في الوظائف

يعدّ الرأس القائد والموجّه لجميع حركات الإنسان، بل ويعتمد نجاح أداء حركات الإنسان ونشاطه على دور الرأس في توجيه الحركة، لاحتوائ--ه ع-ل-ى الجهاز العصبي وحواس الجسم، كما يحتوى على جهاز توازن الجسم، فهو يؤثر في الانتصاب والدوران والثني والتركيز والبناء الحركي وردّ الفعل، كما يعدّ تنبيه الأقنية الهلالية نتيجة لدوران الرأس تنبيهاً طبيعياً في الجسم.

«الاقنية الهلالية» تقع داخل الأذن الداخلية وهي خاصة بالتوازن، وهنا أصبح الرأس مع الأذن يقوم بردود الفعل والمحافظة على توازن الجسم ودورانه وميوله ... بالتالي جاء التأكيد واستعارة ذلك الجزء من الجسم لمايلي:

أولاً: يعدّ الرأس قيادياً في أغلب الحركات، بل جميعها وهو يعود لعدة أسباب، منها وجود حاسة «البصر والسمع» فيه، ولما لهما من دور في اكتشاف طريق سير حركة الجسم نحو الأهداف التي ينبغي الوصول إليها، كما يسبق في حركات كثيرة أجزاء الجسم الأخرى فضلاً عن الدور التوجيهي لحركة الجسم إذ يسبب التحكّم باتجاهات الرأس إلى توجيه حركة الجسم ككل، فمثلاً ثنى الحنك عن عن الجذع يسبب حركة دورانية في الجسم، وكذلك رميه لخلف الجسم يسبب سقوط الجسم ودورانه للخلف، في حين يسبب ميلان الرأس لأحد جانبية هو الآخر ميلان الجسم إلى تلك الجهة.

وهنا جاءت الاستعارات بانفراج الرأس وهي ميلانه بقيادة الجسم إلى الهرب من الثبات والمواجهة للأعداء، فضلاً عن خذلان الحق ونصرة الباطل بذلك

ص: 43

الانفراج.

ثانياً: استعارة الرأس كونه يتحكم بالسلوك والقرارات المصنوعة والمنفّذة التي يتخذها الإنسان وعليه كان الوصف بالانفراج هو ضعف القرار وميوله وانحرافه عن جادة الحق، ومن هنا ربّما كان الفرار والميول بعيداً عن المواجهة قراراً مسبقاً قبل الدخول في القتال استشفّه أمير المؤمنين من خلال سلوكهم وتصرفاتهم وما تبديه أنفسهم خلال المواقف المختلفة.

ثالثاً: وهناك سبب يعود إلى التركيب العظمي لعظام الرأس، والذي ينفصل إلى قسمين متشابهين في الشكل والحجم والوظيفة والذي يمكن فصله إلى قسمين وهو جزء من التشابه والتلاؤم مع ظاهر الاستعارة وهي انفراجه إلى قسمين.

الأجهزة الحسّية

و من كلام له علیه السلام: وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله جرير بن عبدالله البجلي إلى معاوية:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «إِنَّ اسْتَعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَجِرِيرٌ عِنْدَهُمْ، إِغْلَاقٌ لِلشَّامِ، وَصَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرَادُوهُ، وَلَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لَا يُقِيمُ بَعْدَهُ إِلَّا مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً، وَالرَّأْيُ مَعَ الْأَنَاةِ (1)، فَأَرْوِدُوا (2)، وَلَا أَكْرَهُ لَكُمُ الْإِعْدَادَ (3).

وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذَا الْأَمْرِ وَعَيْنَهُ (4)، وَقَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطنَهُ، فَلَمْ أَرَ لِي إِلَّا

ص: 44


1- الأناة: التثَبّتُ والتأني.
2- أزوِدُوا: ارفقُوا، أصله من أرْوَدَ في السير إرواداً، إذا سار برفق.
3- الإعْداد: التهيئة.
4- وَلَقَدْ ضَرَبْتُ أنْفَ هذا الأمْرِ وعَيْنَهٌ: مَثَلٌ تقوله العرب في الاستقصاء في البحث والتأمل والفكر.

الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ. إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى الْأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً، وَأَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالاً (1)، فَقَالُوا، ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّروا» (2).

تصف الآية القرآنية الكريمة الآتية الكافرين الذين يمتلكون الحواس التي يمكنهم بواسطتها استقبال المعلومات وإدراك الأمور وحقائقها، ولكن رغم ذلك فهم لا يعتبرون لما يذكر من الحق إليهم بسبب تلبس الشيطان بهم وسيطرته على مستقبلاتهم الحسّية، وبالتالي على عقولهم.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) (3).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بعد أن أشار إليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد ارساله «جرير بن عبد الله البجلي» إلى معاوية (لعنه الله)، وفيه يظهر أن صواب القرار هو القتال وقد استعان مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بالأجهزة الحسّية ووظائفها لتوضيح هذا الأمر واحتمالية المراد ما يلي:

حاستي الأنف والعين

أولاً: العين تقع في نقرة من عظام الجمجمة تسمى «محجر العين» في حين يبرز الأنف من الوجه من خلال عظم الجمجمة ومن هنا جاءت الاستعارة إلى المواقع البارزة والغايرة من هذا الأمر، أي استطلاع مقدمة ومؤخرة الأمر في اتخاذ قرار الحرب.

ثانياً: فضلاً عن كون الخلايا الشمّية تقع في مقدمة هذا العضو وتقوم بواجباته، في حين حاسة البصر «الرؤية» تتم في مؤخرة العين، وعليه معرفة وظيفة وأهداف

ص: 45


1- أوْجَدَ الناسَ مَقالاً: جعلهم واجدين له.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1، ص 219
3- الأعراف: 198.

مقدمة ومؤخرة أهل الشام كما هو فى العين والأنف.

ثالثاً: الاستعارة في استقصاء الأمر لحاستين مهمتين في حياة الإنسان، كون الدور الوظيفي لعضو الأنف الذي هو جزء من الجهاز التنفسي الذي هو أساس إيصال الأوكسجين وتحرير الطاقة لإدامة الفعاليات الحيوية في الجسم، فضلاً عن دور البصر باكتشاف المحيط الخارجي والتي يمكن من خلاله الاكتشاف والتعرّف على البيئة ودوره في التعلّم بجميع أنواعه، ولما له من دور في العمليات العقليّة المختلفة، والتحقق من الأمور واكتشاف خفاياها واتخاذ القرار السليم.

ولأهمية الأمر الذي وصفه أمير المؤمنين «بالقتال أو الكفر» ضرب المثل بحاستين أولاهما تسبب الوفاة بتوقفها، والثانية إمّا تسبب الإبصار أو الظلام

للإنسان.

رابعاً: أنّ حاسة الشم لا تقل أهمية عن باقي حواس الجسم الأخرى في زمان زادت فيه الغازات القاتلة، كما أكدت الدراسات وجود علاقة بين الشم وحاسة الذوق إذ تضيف للحياة معنى وقيمة ولكن موضوعنا أبعد من ذلك، إذ نجح الخبير النفساني الأمريكي «وليم كين» من خلال أبحاثه وتجاربه التي أجراها على عدّة أشخاص في إثبات أنّ لهذه الحاسة قدرة نفسية على الإثارة بل لها قدرة ذهنية أيضاً، وقد وجد من خلال الدراسات أنّ الانزعاج أو الفرح يتسبب عن تلك الروائح التي تثير الذاكرة عن مواقف معيّنة، مثلاً يثير دخان الخشب عند أحدهم الحزن والكآبة كونه يتذكر الحرب العالمية الثانية ومنها نيران برلین، و عليه وصفت حاسة الشم بالحاسة البعيدة كونها ذات علاقة بالتذكر و يمتلك الإنسان «عشرة ملايين» خلية شمّية، وبالتالي فإنّ هذا يعدّ أمراً مهمّا بأنه يشم رائحة معيّنة تثير ذاكرته في موضوع معين سبق أن حدث في زمنه أو في زمن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، لاسيما وأنّه وضع نتائجها وهي إمّا الكفر أو القتال.

ص: 46

خامساً: كما ضرب المثل بالعين والأنف كون العلاقة بينهما وطيدة في العمل.

يذكر الإمام الصادق علیه السلام في معرض حديثه حول أسباب وضع الأجهزة والأعضاء في هذه المواقع، إذ يقول: «وجعل الأنف فيما بينهما (العينين) ليقسم النور قسمين إلى كل عين سواء».

وعليه عدم وجود الأنف يسبب اختلاف الرؤية وهذا هو الآخر يرجح احتمالية أن يكون أمير المؤمنين علیه السلام أراد أن يقول: أن لا خلط في الرؤية لديه.

الظهر والبطن

احتمالية المراد هو إظهار المخفي من الأمر المخبأ من خلال معرفة ما في بطن ذلك الأمر فضلاً عن كشف الأهداف الملقاة على ظهره.

وكما أشار أمير المؤمنين في أحد روائعه وحِكَمه في نهج البلاغة: «انّ لکل شيء ظاهراً وباطناً»، كأن يكون عملاً أو أداة أو كائناً أو جهازاً وظيفياً في الجسم، وعليه ربّما المراد من استعارة أمير المؤمنين علیه السلام أنّ دوافع السلوك وأهداف الأفعال التي يقوم بها معاوية (لعنه الله) لها ظاهر لمسمع ومرأى الناس ومنها ما هو مخفي خلف السلوك والحديث المعلن، وعليه يؤكد أمير المؤمنين علیه السلام على انّه قلب ظهر وبطن هذا الأمر لبيان حقيقته وكشف المخفي من الأهداف السيئة فيه، فضلاً عن إقناع الأصحاب والعوام بمواجهة الخطر المترتب على فعل معاوية (لعنه الله).

وربّما الاستعارة للبطن كون البطن في الجسم البشري والتي يكون مع الظهر الجذع والذي يحوي بداخله أهم الأجهزة الحيوية والأعضاء، ولكن الجدار البطني يخفي ما خلفه من تلك الأعضاء ومن عمل لهذه الأعضاء وواجباتها في الجسم البشري.

وأمّا سبب استعارته للظهر فربما لما يمثل المكون الخلفي للجذع الذي هو

ص: 47

الآخر يخفي تلك الأجهزة فضلاً عن كونه يحتفظ بمكانه خاصة في الجسم لمرور العمود الفقري فيه كما على ما يحتوى ذلك العمود من أجهزة عصبية حسية وحركيّة تتحكم في عمل الجسم، وبالتالي الاستعارة لموقع يكشف فيه أماكن السيطرة و على كثير من أجهزة الجسم كما يمثل منطقة ذات أهمية في انتصاب الجسم.

ومن هنا كانت الاستعارة لما تخفيه هذه المواقع فضلاً عن أهميتها في السيطرة والتي تنسجم مع أهداف أفعال معاوية (لعنه الله) والمخفية والتي يتحكم بها بعيداً عن أنظار العامة والتي يريد الإمام أن يوضّحها.

علم الحركة

قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصفه النبي صلی الله علیه و آله و سلم:

«أجْعَلْ شَرَائِفَ (1) صَلَوَاتِكَ، وَنَوَامِىَ (2) بَرَكَاتِكَ، عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، الْخَاتمِ لِمَا سَبَقَ (3)، وَالْفَاتِح لِمَا أَنْغَلَقَ(4)، وَالْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ، وَالدَّافِعِ جَيْشَاتِ الْأَباطِيلِ (5)، وَالدَّامِغ صَوْلَاتِ الْأَضَالِيلِ (6)، كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ (7)، قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً (8) فِي مَرْضَاتِكَ، غَيْرَ نَاكِلٍ (9) عَنْ قُدُمٍ (10)،

ص: 48


1- الشَّرَائِف: جمع شريفة.
2- النّوَامي: الزوائد.
3- الخاتم لما سَبَقَ: أي لما تقدّمَهُ من النبوّات.
4- الفاتح لما انْغَلَقَ: كانت أبواب القلوب قد أُغلقت بأقفال الضلال عن طوارق الهداية فافتتحها صلی الله علیه و آله و سلم بآيات نبوّته.
5- جَيْشات الأباطيل: جمع باطل على غير قياس كما أن الأضاليل جمع ضلال على غير قياس، وجيْشاتها: جمع جَيْشة - بفتح فسكون - من جاشت القدر إذا ارتفع غليانها.
6- الصّوْلات: جمع صَوْلة، وهي السطوة، والدامغ: من دمغه إذا شَجّهُ حتى بلغت الشجَةُ دماغَه.
7- فاضْطَلَع: أي نهض بها قوياً. والضّلاعة: القوة.
8- المُسْتَوْفِز: المسارع المستعجل.
9- الناكل: الناكص والمتأخّر، أي: غير جبان.
10- القُدُم - بضمتين - : المشي إلى الحرب، ويقال: مضى قُدُماً أي سار ولم يعرّج.

وَلَا وَاهٍ (1) فِي عَزْمِ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ (2)، حَافِظاً لِعَهْدَكَ، مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ؛ حَتَّى أَوْرَىٰ قَبَسَ الْقَابِسِ (3)، وَأَضَاءَ الطَّرِيق لِلْخَابِطِ (4)، وَهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ ...» (5).

تتضمن الآية الكريمة الأولى الآتية خطاب الله سبحانه وتعالى إلى الذين آمنوا وجاهدوا في سبيل نصرة الدين والذي يصفهم بالاتزان والثبات والوقوف على قاعدة صلبة وهو وصف ظاهر لحركات ومهارات الإنسان من خلال ما يهيؤه من أسباب النصر لهم، بينما تتضمّن الثانية الدعاء من الله تعالى بالثبات.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (6)

(وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (7)

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في إحدى خطبه التي علّم فيها الناس الصلاة على محمد و آله، فقد أوضح في هذا المثل حمل الرسالة السماوية ووصفها حرکياً لحملها ونشرها من خلال تصوير المظهر الخارجي لحركة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والذي يسمى في عصرنا الحالي «علم الحركة»، إذ أنّ مظهر الحركة يبحث العلاقة بين شكل الحركة الظاهري وهدفها وأنّ هذه المظاهر متعلقة بجهاز الحركة للإنسان وبقوانين الميكانيك للحركة، وفسلجة الجسم وتشريحه وجميع الظواهر الحركيّة 7.

ص: 49


1- الواهي: الضعيف.
2- واعياً لِوَحْيك: أي حافظاً وفاهماً، وَعَيْت الحديث، إذا حفظته وفهمته.
3- أوْرَى قَبَسَ القابِس: يقال: وَرَى الزَّنْدُ كوعى - وَوَرِيَ كَوَلِيَ - يَرِي وَرْيأ فهو وارٍ: خرجت نارُه، وَأَوْرَيْتُهُ ووَرّيْته واسْتَوْرَيْته. والقَبَس: شُعلةٌ من النار، والقابس الذي يطلب النار.
4- الخابِط: الذي يسير ليلاً على غير جادّة واضحة، فإضاءة الطريق له جعلها مضيئة ظاهرة.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 50.
6- محمد: 7.
7- آل عمران: 147.

تعطي الشكل الخارجي للحركة ودرجاتها ووضعها مختلف من حركة إلى أخرى وهذه الظواهر هي بالأساس تعين ثبات التوافق الحركي بشكل واضح، إذ تنتقل حركة الأجزاء من عضو إلى آخر بشكل منفصل ومتوازن ومنساب بقوة اقتصادية مناسبة، وتنتقل الحركة من الجذع إلى الأطراف في نفس وقت انتقال الحركة الهادفة والتي هي مرسلة بالأساس من المركز العصبي إلى الأعصاب الحركيّة المحدثة للتقلصات العضلية، فيتم إنجاز الحركة والتغلّب على القوى الخارجية أو المحافظة على التوازن وبالتالي فإنّ الحركة الناتجة من حركة العظام على المفاصل تكون بواسطة تقلص العضلات مكونة نظام العتلات، وبما أنّ أمير المؤمنين يملك علم الأولين والآخرين ويتحدّث بكل كلمة ذات معنى علمي مبيناً علوماً غير معروفة في زمنه أو لزمن يليه وعليه وضع بين أيدينا علوماً من خلال الإشارة إلى سبل طرقها ومناهجها في مواضعه ومنها علم الحركة.

الحمل وخط سير القوة «التحليل الحركي»

يشير أمير المؤمنين علیه السلام هنا إلى علاقة الحمل وبعض الصفات البدنية فضلاً

عن خط سير خط القوة، ولعلّ احتمالية المراد هنا ما يلي:

أولاً: التحليل الحركي للمظهر الخارجي للجسم - ويُعد أحد العلوم الحديثة النشوء - من خلال ما يقع عليه من عبء خارجي إذ سمي بالحمل لأنّه الثقل الذي يقع على الظهر، ووصف قدرة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بالتغلّب على ذلك الحمل الذي كلّفه به الله سبحانه وتعالى، وهو ثقل الرسالة السماوية ووصف الرسول بالناهض بذلك الحمل من خلال القيام المليء بالقوة وهذا يعدّ نوعاً من التغلّب على المقاومات الخارجية ضد الجاذبية الأرضية إذ هناك من ينهض ولكن ليس لديه القدرة على الاستقرار والتوازن أثناء قيامه والسيطرة على مركز ثقل جسمه مسبباً انحرافات في خط سير

ص: 50

القوة أثناء النهوض.

ثمَّ وصف ذلك القيام بالحمل متّبعاً بالحركة الانتقالية السريعة لنشر قيم الرسالة الإسلامية، كما يصف صفة المقدرة وهي اشتراك صفة «القوة والسرعة» في حمل ذلك التوكيل الإلهي، كما وصف خط كما سير الحركة الحركة مع تلك الأعباء الرسالية بأنّها باتجاه محصلة القوى وأداء سير الحركة بانجاز الهدف من خلال السيطرة على وصف حركة الساقين والقدم بالسرعة مع وصفها بعدم التأخر أو الضعف، هذا دليل آخر على القوة والسرعة كون الحركة الانتقالية تكون أسرع كلّما قلّ زمن استقرارها في الأرض وعليه وصفها أمير المؤمنين علیه السلام بعدم التأخير أو الضعف.

كما وتُعد حركة الوقوف على القدمين والتي تعقب البروك من الحركات الأساسية لدى الإنسان والتي تتم عادة بصورة انسيابية من خلال مد مفاصل الجسم «الورك – الركبة – القدم» ويقوم الإنسان أثناء النهوض بالمحافظة على ابقاء مركز ثقل جسمه ضمن قاعدة الاستناد حتى يتم نهوضه وانتصابه في نفس موقعه، أمّا في حالة وجود وزن إضافي متمثل بحمل خارجي يوضع على الظهر أو الأكتاف فإنّ النهوض «الوقوف» مع هذا الحمل الإضافي يؤدي إلى فرض متطلبات جديدة على الإنسان في حالة قيامه بالحركة، وتتمثل هذه المتطلبات في ضرورة بذل جهد أكبر عن طريق العضلات العامة على مد مفاصل الجسم «الورك - الركبة - القدم» ومقاومة وزن الجسم مضافاً إليه الحمل الخارجي بالإضافة إلى أنّ وجود حمل خارجى على الظهر والأكتاف يؤدي إلى تغيير موقع مركز ثقل الجسم وبالتالي يحتاج الإنسان إلى أن يكون لديه القدرة على التوازن لغرض المحافظة على مركز ثقل الجسم الجديد ضمن قاعدة الاستناد أثناء عملية النهوض حيث إنّ خروج مركز ثقل الجسم عن قاعدة الاستناد أثناء النهوض يؤدي إلى اخلال التوازن.

في حين أنّ أداء حركة المشي أو الجري مع وجود حمل اضافي على الظهر

ص: 51

والأكتاف يختلف عن أداء هذه الحركة بدون وزن مضاف، إذ يغيّر الوزن الإضافي من شكل الحركة لأنّ وجود الحمل على الظهر يؤدي بالإنسان إلى أن يميل بجذعه إلى الأمام لغرض توازن ثقل الجسم ضمن قاعدة استناده، وبالتالي يسير الإنسان أو يجري وهو مائل بجذعه نحو الأمام والذي يختلف عن الوضع العادي، كما أنّ وجود الوزن المضاف يزيد من العبء المسلّط على عضلات الجسم أثناء الجري أو المشي وكما يلي:

1 - زيادة العبء الواقع على عضلات الظهر التي تعمل على موازنة الثقل المضاف.

2 - زيادة العبء الواقع على عضلات الساقين والتي تعمل على امتصاص وزن الجسم أثناء هبوط القدم على الأرض من خلال مقاومة ثني مفاصل الساقين وبالتالي توفير مقدار من الدفع الموجب نحو الأمام لتحريك الجسم نحو الخطوة التالية مع بقاء مركز ثقل الجسم ضمن المد المسيطر عليه «من المعروف أنّ مركز ثقل الجسم يخرج إلى الأمام أثناء عملية الجري أو المشي» وبالتالي تغير موقعه يحتاج إلى بذل مجهود إضافي للسيطرة عليه.

3 - وجود الوزن الإضافي على الظهر يعمل على إعاقة حركة مرجحة الذراعين وبالتالي التقليل من فاعليتهما في المحافظة على التوازن وتوفير زخم إضافي للجسم يساعده على الانطلاق نحو الأمام.

وعليه ما وصفه أمير المؤمنين من حمل الرسالة السماوية لحركة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما هو ظاهر للحركة بالتكليف الإلهي، وباطنها هو وصف علمي دقيق للحركة الظاهرة من الرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من خلال استغلال أحد العلوم الحديثة وهو علم الحركة والذي يستخدم اليوم بجميع الاتجاهات منها الصحية والقوامية والاختبارات والقياس، فضلاً عن تطوير مستوى الإنجاز في أداء مهارتهم الحركيّة في جميع

ص: 52

أعمالهم وعلى اختلافها ويستخدم للتقويم الصحي ومعالجة التشوهات وتقليل الأوضاع الخاطئة والتي تسبب الإصابات المختلفة، علماً أنّ هذا التحليل يتم بأدق عمليات التصوير الفيديوي والصوري حالياً.

بداية ونهاية الإنسان

و من كلام له علیه السلام في صفة الدنيا:

«مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ (1)! وَآخِرُهَا فَنَاءٌا فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ، وَفِي! حَرَامِهَا عِقَابٌ. مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ، وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ، وَمَنْ سَاعَاهَا (2) فَاتَتْهُ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ (3)، وَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ، وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتُهُ» (4).

تبيّن الآيتان الكريمتان الآتيتان وصف الخالق لبدء النشأة ومراحل النمو من عالم الأجنّة إلى سن الهرم ومن ثمَّ الوفاة وهو النظام الإلهي وبالتالي هناك تغيرات مصاحبة لكل مرحلة بما يناسبها فضلاً عن مستوى القوة والإدراك وتطوّر العمليات العقليّة.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (5).

ص: 53


1- العناء: التعب.
2- ساعاها: جاراها سعياً.
3- واتَتْهُ: طَاوَعَتْهُ.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 84.
5- الحج: 5.

(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (1).

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يتحدّث عن وصف الدنيا وحال الإنسان فيها، ويشير المقطع إلى بداية ونهاية الإنسان، أمّا النهاية فهي ليست محددة بأجل زمني محدد ومعلوم، فربما يتوفى الجنين في بطن أمّه أو أثناء ولادته، أو في أي مرحلة من مراحل عمره وفناء الإنسان لا يحتاج إلى دليل، فإنّ النهاية الحتمية شاخصة وملموسة لدى الناس، أمّا الأهم من ذلك الذي يتطرّق إليه أمير المؤمنين علیه السلام هو عناء البداية، والتي هي الأخرى لم يحددها بمرحلة معينة من عمر الكائن الحي هل في فترة العلقة أم المضغة أم الجنين أم الرضيع ...

ألم الجنين والولادة

ربّما احتمالية المقصود في ذلك العناء الذي يصيب الكائن الحي وهو في طور التكوين في رحم أمّه، والذي يشير إلى ذلك ما تتحدّث عنه المصادر العلميّة الحديثة حول علم الأجنّة إذ على الرغم من تطوّر عملية تغذية الجنين وتطورها بعد عملية الإخصاب وانغراسها في تجويف الرحم والتي تنتهي بالاعتماد على المشيمة والذي يحدث أثناء ولادته أنها تتوقف عن العمل، ولا بد من البدء بالاعتماد على النفس في عملية التنفس مثلاً وعندها يمر بمرحلة من الإختناق أثناء ولادته، وكذلك كل ما كان يعتمد عليه وهو في بطن أمّه من انزيمات وبروتينات وأملاح معدنية وماء وتغذية هو الآخر قد توقف، وهذا يتطلب الحصول عليه من الخارج وبعضه يتطلب تصنيعه داخلياً في خلايا الجسم كالكبد مثلاً ممّا يقتضى تغيرات وبداية جديدة لعمل الأجهزة تتطلب عبأً على الأجهزة التي كانت

ص: 54


1- النحل: 70.

قليلة العمل أو متوقفة، وكل تلك التغيرات الجديدة زمنها الجهاز الدوري التنفسى ولاسيما التغير في كميّة الدم الدائرة في الجسم والتي كان يستخدمها في بطن أمّه حوالي (12٪)، وبالتالي سيستخدم جميع الكمية في السائل الدموي م-ن أج-ل مواجهة التغيرات الجديدة، لاسيما أنّ التغيّرات تشمل تحويل مجرى الدم من منطقة الحبل السرّى الذي كان يعتمد عليه بشكل كلّي تقريباً إلى تقسيم نسب من السائل الدموي على الأجهزة العاملة كالكبد والطحال والكلية والرئة والدماغ ...، كذلك يواجه اختلافاً في مستوى الضغوط ولاسيما الضغط الدموي الشرياني، كما يواجه في هذه المرحلة انغلاق الفتحة البيضوية «الفتحة الولادية» بين الأذين الأيسر والأيمن، فضلاً عن تنظيف الرئتين من السوائل التي كانت تملؤها في جوف أمّه من خلال عمليات القيء.

كما يواجه الطفل عدم ثبات مختلف أنظمة التحكم الهرموني والعصبي لعدم اكتمال النضج فيها ناهيك عن الزيادة العالية في التنفس التي تصل إلى (40) مرة في الدقيقة وهو يعدّ جهداً كبيراً على الطفل لمواجهة الحياة والتغلب على صغر رئتيه، كما يواجه الطفل انخفاض في درجة حرارته من (99 ف) إلى (70 ف) خلال الساعتين الأولى من الولادة ثمَّ تعود لترتفع، ولكن آلية التحكم بدرجة الحرارة ضعيفة في الأيام الأولى مما يسبب انحراف شديد في درجة الحرارة.

وهذا يعني أنّ أمير المؤمنين كان يتحدّث عن تلك وغيرها من التغيرات التي ترافق الرضيع والمراد بها هي عناء وصعوبة عملية التكيّف التي تحتاج إلى فترة ليست بالقصيرة ما بين النظام البيولوجي في رحم أمّه وما هو في البيئة الخارجية لاسيما ما يرافقه من قصور في قابلية ذلك الرضيع وعدم اكتمال نضجه البيولوجي.

ص: 55

ألم النمو

أهتم العديد من العلماء في الآونة الأخيرة بالآلام التي يشكو منها الأطفال منذ الولادة أي من السنة الأولى ولغاية سن (12 سنة)، ووجدوا فيها أرضاً خصبة للبحث على الرغم من تعقيد وصعوبة الوصول إلى الحقائق والأهداف، وتشير الدراسات العلميّة إلى أنّ مصطلح ألم النمو قد استخدم في الأبحاث الطبيّة بواسطة العالم «دوشامب» عام 1823 أول مرة ولازال يستخدم، وحدّد بعض الباحثين ذلك الألم بأنّه يصيب الأطراف السفلى ومنهم حدّده بإصابة الأطراف العليا ومنهم من سمّاه «بألم الطرف» وربّما يعود ذلك لاختلاف معايير التشخيص.

وألم النمو هو: عبارة عن وصف حالة مرضية محددة يشعر خلالها الطفل بألم داخلي عميق يصيب مثلاً الأطراف السفلى أو العليا وربّما يوقظه من النوم؛ بسبب شدّة الألم، وهناك ثلاث نظريات حول أسباب حدوث الألم وهي:

1 - نظرية التعب المجهد: وظهرت هذه النظرية في عام 1984 والتي تنص على أنّ الأطراف قد أنجزت عملاً مجهداً ممّا سبب الإرهاق عند الأطفال وظهور الألم ليلاً.

2 - النظرية التشريحية: والتي تعكس تلك الآلام بسبب التشوهات القوامية في الساقين والقدمين والعمود الفقري.

2 - النظرية الانفعاليّة: والتي لاقت اهتماماً أكبر والتى أو عزت إلى أنّ ألم النمو ليس ناتجاً عن الجانب البدني فقط ولكنها تعود إلى أسباب النمو الانفعالي ذات الأثر الأكبر والذي يكون مؤلماً بشكل كبير وبالتالي التوازن الانفعالي هو سبب ظهور الألم. وبغضّ النظر عن ما أعطته تلك النظريات من حقائق وما ذكرناه قبلها من ألم الولادة ربّما كان يعطي بعض التفسيرات التي كان يقصدها أمير المؤمنين علیه السلام، وربّما هناك من الحقائق الذي سوف يثبت مستقبلاً.

ص: 56

العوامل والأجهزة الحسّية

قال أمير المؤمنين علیه السلام في خطبة له في التذكير بضروب النعم:

«جَعَلَ لَكُمْ أسْمَاعاً لِتَعِي مَا عَنَاهَا (1)، وَأَبْصَاراً لِتَجْلُوَ (2) عَنْ عَشَاهَا (3). وَأَشْلَاءً (4) جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا، مُلَائِمَةً لِأَحْنَائِهَا (5) في تَرْكِيبِ صُوَرِهَا، وَمُدَدِ عُمُرِهَا، بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا (6)، وَقُلُوبِ رَائِدَةٍ (7) لِأَرْزَاقِهَا» (8).

تشير الآيات الكريمة التالية إلى بعض نعم الله تعالى على الإنسان ومنها الأجهزة الحسّية للاستقبال والجهاز العصبي المركزي والأجهزة والأعضاء الأخرى التي انسجمت في عملها على الرغم من اختلاف أشكالها ومكوّناتها ووظائفها وتحت مختلف الظروف ومراحل النمو بشكل أصبح هذا الإنسان جهازاً با يولوجياً منسجماً في العمل قادراً على مواجهة البيئة والظروف المحيطة الأخرى به.

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) (9).

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (10).

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (11).

(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ

ص: 57


1- تعي ما عناها: تحفظ ما أهمها.
2- تجلو: تكشف.
3- العَشَا: مقصور، مصدر من عَشِيَ فهو عَشٍ إذا أبصر نهاراً ولم يبصر ليلاً.
4- الأشْلاء: جمع شِلْو وهو العضو.
5- الأحْناء - جمع حِنْو بالكسر - وهو كل ما اعوجَ من البدن ومُلاءمة الأعضاء لها: تناسبها معها.
6- الأرْفاق: جمع رِفّق - بالكسر: المنفعة، أو ما يستعان به عليها.
7- رائدة: طالبة.
8- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 91.
9- البلد: 8، 9.
10- الحج: 46.
11- آل عمران: 6.

وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (1).

هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام من خطبته المسماة «الغرّاء» التي يعدد فيها بعض نعم الله، ومن خلالها يبيّن وظائفها بصورة علميّة دقيقة خلف كلماته من خلال إشارته إلى وظائف الأسماع والأبصار وكيفية تركيب وتجميع ومواقع الأجهزة وأشكالها وانحرافاتها ومن إشارته العملية احتمالية المراد ما يلي:

السمع

إنّ الأذن تسمع أكثر من صوت في وقت واحد وبدرجات مختلفة الاهتزازات، ولكن يختار الإنسان من بين تلك الأصوات ما يراد سماعه إلى الأعصاب السمعية والتي يفسّر الدماغ في باحته السمعية تلك الموجات الصوتية واختيار المراد للإصغاء إليه من مجموع تلك الأصوات.

ولكن الأهم من ذلك عندما تنتقل الأصوات خلال مجموعة العظيمات إلى الجهاز العصبي المركزي يحدث بعد فترة 40 - 80 ملثانية منعكس يولّد تقلّص العضلة «الركابية» خاصة والعضلة «المؤثرة للطبلة» بمدى أقل، وتسحب العضلة المتوترة للطبلة مقبض المطرقه للداخل بينهما، وتسحب العضلة الركابية الركاب للخارج، وتعاكس هاتان القوتان أحدهما الآخر، ولها العديد من الوظائف ف--ي عملها هذا ولكن الذي يهمّنا منه أنّ هذه العملية تساعد الشخص على أن يركّز سمعه على الأصوات التي يحتاج سماعها بين هذا الكم من الأصوات، وبالتالي لاحجّة لبني آدم حتى في زحمة هذه الأصوات ولديه القدرة على اختيار ما يريد سماعه.

ص: 58


1- غافر: 64.

البصر

تعدّ الشبكيّة القسم الحساس للضوء في العين والذي يحتوي على المخاريط المسؤولة عن الرؤية في الضوء وعلى العصيبات المسؤولة بصورة رئيسية عن الرؤية في الظلام وعند استثارة المخاريط والعصيبات تنقل الإشارات إلى ألياف العصب البصري إلى القشرة المخية.

تحتوي العصيبات والمخاريط مواد كيمياوية تتحلل عند تعرّضها للضوء فتستثير الألياف العصبية التاركة العين، وتسمى المادة الكيمائية في العصيبات «الرودوبسين»، وتسمى المواد الكيميائية الحاسة للضوء في المخاريط أصبغة المخاريط، وهي تختلف في التركيب عن «الرودوبسين»، وما يهمّنا هو الرؤية في الضوء الساطع فتعدّها نسبة كبيرة من المواد الكيميائية الضوئية.

العصيبات والمخاريط تختزل إلى «رتينال» ومن ثمَّ إلى «فيتامين»، وعندما تنقص حاسة العين للضوء لدرجة كبيرة، ويسمى تلازم النور.

في حين تتم الرؤية في الظلام بتحوّل «الرتينال» في العصيبات والمخاريط مرة ثانية إلى أصبغة حساسة للضوء، ويعاد تحويل «فيتامين» ثانية إلى «رتينال» لبعض أصبغة حساسة للضوء، والذي «يسمّى بتلازم الرؤية في النور والظلام»، فهناك آليّة تغيّر حجم الحدقة، والآلية الأخيرة هي التلازم العصبي الذي يشمل العصبونات في المراحل المتتالية للسلسلة البصرية في الشبكيّة نفسها وفي الدماغ، ومن هنا رفع الله عن البصر تلك الظلمة، فلها القدرة على الإبصار في الظلام كما هو في النور.

اتصال الأنسجة والأعضاء والأجهزة

وقد مرّ بنا معنى قوله وملائمة «تركيب صورها»، وهنا ربّما تصوير لتلك الأنسجة والأعضاء المكوّنة للأجهزة الحيوية، قد ركّبت بصورة يمكن من خلالها

ص: 59

القيام بأداء الأعمال والوظائف المختلفة، كما كسبت الهيئة الخارجية والصورة الحسنى للإنسان، إذ يختلف وجه الإنسان باحتوائه وعدم احتوائه لعضلات الوجه.

أمّا «لاءم بقدرته بين متضادها، ووصل أسباب قرائنها» (1).

وهذا من المحتمل، يعني به: أنّ جسم الإنسان المتكوّن من مجموعة مختلفة من الأجهزة - التي تقوم بوظائف متعددة - تلاءمت بانسجام من أجل الوصول بالإنسان للتكيّف البيئة الخارجية، واستمرار الحياة وأداء العمل والنشاطات اليومية وغيرها، غير أنّ هذه الأجهزة - باختلاف وظائفها - هي ذات هدف واحد وهو: بقاء الجسم البشري على مواجهة الحياة بكل متطلباتها، وهذا لا يتم إلّا بتعاون تلك الأجهزة فيما بينها، بالحفاظ على المحيط الداخلي للخلايا المكوّنة لتلك الأنسجة والأعضاء والأجهزة، ويقصد بالمحيط الداخلي هو السائل البيني الذي يقع بين الخلايا التي يجب أن يكون نسبة ذلك السائل متوازناً وثابتاً قدر الامكان وهي البيئة الملائمة لحياة الخلايا من هنا يمكن أن نوضح ما يلي:

1 - إنّ الأجهزة مختلفة فى الوظيفة، ولكن مشتركة في المحافظة على المحيط الداخلي، ومثال على ذلك: عند أداء نشاط بدني أو حمل معين لفترة متوسطة الزمن وليكن 10 دقائق وبشدّة عالية، فإنّ ذلك يؤدي إلى زيادة سرعة العمليات الأيضية في الخلايا العضلية، وبالتالي زيادة نواتج العمليات الأيضية وزيادة الضغط الجزيئي لغاز PCO2، وكذلك ظهور حامض اللاكتيك، وهو أحد نواتج عملية إنتاج الطاقة، فتظهر حاجة العضلات القائمة بذلك العمل للأوكسجين، وزيادة الدم من خلال زيادة الحوافز السمبثاوية، وتزداد كميّة الدم الخارجة في الخفقة الواحدة، وتعزّز الغدد الصمّاء مثل: «لب الغدة الكظرية» الهرمونات المضيّقة مثل: «الابنفرين والنوربنفرين» من أجل تقليل نِسَب الدم الشرياني في العضلات غير العاملة، .

ص: 60


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 1، ص 166.

الزيادة الدم الواصل للعضلات لها من خلال الايعازات العصبية والهرمونية، فضلاً عن زيادة عدد مرات وعمق التنفس من أجل سد حاجة الجسم من الأوكسجين.

هدف ذلك كله إعادة الوضع الداخلي للاستقرار بوضعه الطبيعي، من أجل استمرار عملية الأيض وإبقائها حيّة دون اضطرابات فى عملها وتحقيق الهدف الرئيسي وهو إنجاز الجري (10 دقائق)، أي: اشتراك الأجهزة المختلفة في الوظيفة بشكل يوفّر الوضع الوظيفي الملائم لاستمرار العمل، وتلك الأجهزة هي: «عضلة القلب العضلات الهيكلية، العضلات الملساء للأعصاب، مخزونات الطاقة ...» الأعصاب المنظمة لعمل الغدد الهرمونية «الموسعة والمضيقة» الرئتين والانزيمات التي تعمل على طرح ثاني أوكسيد الكاربون والتخلص من حامض اللاكتيك، والفضلات الأيضية، وايصال الأوكسجين، والمواد الغذائية، والدم الكافي.

وهو مثل من ملايين الأمثال للانسجام بين أجهزة الجسم في العمل، إذ يتأثر بعضها بالبعض الآخر ويؤثر بعضها بالبعض الآخر من أجل استقرار الجسم واستمرار ديمومة حياته بصورة طبيعية في جميع الظروف التي يتعرّض لها للبيئة الداخلية والخارجية.

الشباب والهرم

قال أمير المؤمنين علیه السلام في التذكير بضروب النعم:

«مُجَلَّلَاتِ (1) نِعَمِهِ، وَمُوجِبَاتِ مِنَنِهِ، وَحَوَاجِزِ (2) عَافِيَتِهِ. وَقَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ، وَخَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ مِنْ مُسْتَمْتَعِ

ص: 61


1- مُجَلَّلات على صيغة اسم الفاعل: من «جلّله» بمعنى غطّاه، أي: غامرات نعمه. يقولون: سحاب مجلّلٌ، أي يطبق الأرض.
2- حواجز: موانع.

خلاقِهِمْ (1)، وَمُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ (2).

أَرْهَقَتْهُمُ (3) الْمَنَايَا دُونَ الْآمَالِ، وَشَذَّبَهمْ عَنْهَا (4) تَخَرُّمُ الآجَالِ (5)، لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الْأَبْدَانِ (6)، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ (7) الْأَوَانِ.

فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ (8) الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ؟» (9).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى ضعف بداية الإنسان كونها نطفاً، ثمَّ ببلوغه يمتلك القوة وتتّبعه الشيخوخة، فإنّ الله هو مدبر لأمركم، وبالتالي: هو ليس لمعرفة سبل الخلق بل لاستثمار مراحل الحياة للوصول إلى رضا الله تعالى.

(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (10).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (11).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام من خطبة تدعى ب «الغرّاء أو العجيبة» .

ص: 62


1- الخلاق: النصيب الوافر من الخير.
2- الخَنَاق - بالفتح - : حبل يخنق به.
3- أرهقتهم: أعجلتهم.
4- شَذَّبَهُمْ عنها: قَطّعَهُمْ وَمزّقهم من تشذيب الشجرة وهو تقشيرها.
5- تَخَرّمُ الأجل: استئصاله واقتطاعه.
6- لم يَمْهَدوا في سلامةِ الأبدان: أي لم يمهدوا لأنفسهم بإصلاحها.
7- أُنُف - بضمتين - يقال: أمر أُنُف، أي مُسْتأنَف لم يَسْبِقُ به قَدَرٌ.
8- البَضَاضَة: رخص الجلد ورقته وامتلاؤه.
9- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، 92.
10- الروم: 54.
11- الحج 5.

والتي يصف فيها الإنسان الذي يمرّ بمراحل من النمو المختلفة، ومنها مرحلة الشباب التي تمتاز بأفضل مراحل الكفاءة الوظيفية خلال مراحل العمر والتي صوّرها: «بالبضاضة»، بامتلاء الآبدان ورقّة الجلد، وهذا يعود إلى سلامة ونضج وانسجام الأجهزة الحيوية ومحافظتها على قيم السوائل المختلفة والاستقرار الذاتي داخل وخارج خلايا الجسم من خلال تحكّم الجهاز العصبي المركزي والجهاز الهرموني.

كما يذكّر مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بعض هولاء الشباب بالنظر إلى علل الهرم ووصفه أحد تلك العلل ومنها الظاهرة، والتي لا تحتاج إلى تمحّص باكتشافها وهي علّه تَحدّب العمود الفقري.

التشوّهات القِوامية في الشيخوخة

ومن هنا فإنّ المراد: هو حلول الإنسان على مرحلة الشيخوخة، وهو غير مستأنس بها كون أرض الضيافة خصبة للمهاجمة بالعلل والأسباب كثيرة واحتمالية ذلك ما يلي: إنّ اختيار أمير المؤمنين علیه السلام مثلاً يمكن أن يلاحظه الجاهل والعالم وهو: التشوّه القوامي الذي لا يحتاج إلى اختبار لتحديده، بل من خلال الملاحظة الذاتية يمكن تحديد التحدّب للعمود الفقري في مرحلة الهرم والذي من أسبابه:

1 - ليونة الأربطة والتوتر العضلي.

2 - بعض الأمراض العضلية العصبية مثل: مرض باركنسون والشلل المخي والتهابات المفاصل الروماتيزمية ...

3 - تليّف العضلات المحيطة بالهيكل العضلي.

4 - عجز العضلات المادة والمعاكسة لعمل الجاذبية الأرضية، والتي تكسب

ص: 63

الجسم استمرار الاستقامة والتغلّب على عزم القصور الذاتي للجسم «وه-و تغلّب الإنسان على مقاومة وزن جسمه والعوامل الخارجية أثناء أداء الحركة»، وهذا يدلّل على ضعف عمل الجهاز العضلي وضمور عضلاته، وبالتالي يؤثر على خط الحركة الانتقالية، ومهارات المسك والرمي، والسحب والدفع، وغيرها من الحركات الإرادية.

كما أنّ لذلك التحدب آثاراً وأخطاراً على عمل الأجهزة الوظيفية وهي: القلب والرئتان وغيرها من الأجهزة الوظيفية.

الجهاز المناعي في الهرم

وكما ذكرنا هناك إشارة من مولانا أمير المؤمنين علیه السلام حول تهيؤ ظروف العلل والأمراض في مرحلة الهرم، وهذا تصوير إلى ضعف الجهاز المناعي في هذه المرحلة العمرية واحتمالية ذلك الضعف ما يلي:

أولاً: تُعدّ فترة (12 عاماً) أطول مدة يمكن أن يحياها إنسان بدون جهاز مناعي فعّال، إذ استطاع الأطباء في مستشفى «هيرستن» في «تكساس» المحافظة ع-ل-ى وليد يعاني من «نقص مناعي مركب وحاد»، ولأنجاز ذلك توجب ابقاؤه في حجرة مطاطية ذات جو خال من المكروبات فور ولادته وتشخيص حالته المرضية النادرة، فوجب عليه عدم التماس مع أي كائن، فقد كان يزوّد بالطعام المعقّم عبر منظومة خاصة من الأبواب تضمن عدم دخول الهواء الخارجي إلى داخل الحجرة، وتوجب ترشيح الهواء بمرشحه احترازاً من وصول أي نوع من البكتريا، أو الفطريات أو الفيروسات.

وعليه فإنّ هذا الطفل عاش في داخل «فقاعة كبيرة» مدة 12 سنة من المطاط. فإذاً ما هو ذلك السرّ الإلهي في قابلية ذلك الجهاز؟ وما هو فضل النعمة علينا بهذا

ص: 64

الجهاز؟.

من خلال حاجتنا إلى هذا الجهاز المناعي، ومن بين تلك الأجهزة المناعية مثلاً للدفاع عن الإصابة هو الجلد والذي بعض واجباته مايلي:

1 - يعدّ الجلد الدعامة الأولى للحماية ضد الأمراض والمكروبات.

2 - يقوم بافراز وانتاج الحوامض الدهنية والتي تعدّ من المواد السامة ضد الأحياء المجهرية التي تحاول مهاجمة الجسم والدخول إليه.

3 - الأجزاء غير المغطاة كالعينين والفم والرئتين والجهاز الهضمي، وهي عرضة للهجوم الميكروبي، فإنّها تحتوي على دفاعات بديلة، فالدمع واللايسوسوم وهو انزيم يمكنه من قتل أنواع معيّنة من البكتريا والحوامض المعدية والتي تقوم بقتل كافة الأحياء المجهرية في الغذاء.

وهناك الخلايا التي تسمى بجامعة النفايات المونوسايت الموجودة في الدم التي تشكل 6 % وإذا تحدثنا عن هذا الجهاز فسيطول الحديث بنا لكثرة الأجهزة الدفاعية.

وهناك الكثير من النظريات التي تؤكد ضعف الجهاز المناعي في الجسم، والتي تعود وبطبيعة الحال إلى ضعف كفاءة الأجهزة والأعضاء والأنسجة ويعني ذلك كله: ضعف الخلية والتي تعدّ أساس كل تلك الأجهزة والأعضاء، والمكونة لذلك الجهاز المناعي.

ومنهم ما يؤسّس نظريته على أساس التوالد والاخلاف والتعويض والبناء والهدم «الأيض البنائي والهدمي»، الذي يحدث في عموم الأجهزة إذ مع استمرار ظاهرة التوالد أو الترميم والبناء لها سوف لا يكون بنفس الكفاءة في المرة التي سبقتها وهكذا كل تكرار لهذه العمليات سيتم انتاج جيل جديد من الولادات أو عمليات الترميم والبناء أقل من سابقتها، ولكن هذا لا يعني تغير خصائصها ب-ل

ص: 65

خفض كفاءتها فقط، وهذا يحدث مع تقدّم العمر، ويصوّر ذلك كما في حالة استخدام الاستنساخ من ورقه مستنسخة هي أصلا، فسوف تكون أقل وضوحاً من الورقة الأصلية، كما لو كررت العملية على كل ورقه مستنسخة بالتعاقب سوف نصل إلى ورقه لا تحتوي إلّا على نقاط من الحبر الأسود لا تفهم كتابتها وهكذا ستفقد وظيفتها ومعناها، وهذا ينسجم مع ما يحدث في الأجهزة المكوّنة للجسم والتي منها يعدّ ضعف الجهاز المناعي، ممّا يسبب ذلك الضعف في الجهاز مع تقدّم العمر.

الخوف والبدن

قال أمير المؤمنين علیه السلام في التحذير من هول الصراط:

«وَاعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ (1) عَلَى الصِّراطِ وَمَزَالِقِ دَحْضِهِ (2)، وَأَهَاوِيل زَلَلِهِ، وَتَارَاتِ (3) أَهْوَالِهِ؛ فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ، وَأَنْصَبَ الخَوْفُ بَدَنَهُ (4)، وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ (5)، وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ (6) يَوْمِهِ» (7).

وهذه الآية الكريمة التي تشير إلى تأثيرات الخوف على حركات الإنسان ووظائفه.

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ۖ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ

ص: 66


1- مجازكم: مصدر ميمي من جاز يجوز أي قطع المكان واجتازه.
2- مَزالِق دَحْضِه؛ الدّحْض: هو انقلاب الرّجْل بغتةً فيسقط المارّ، والمزالق: مواضع الزّلل والانزلاق.
3- التارات: النّوَبُ والدّفَعَات.
4- أنْصَبَ الخَوْفُ بَدَنَهُ: أتعبه.
5- أسْهَرَ التّهَجّدُ غِرارَ نومه؛ الغِرار بالكسر: القليل من النوم وغيره و «أسهره التهجد» أي: أزال قيامُ الليل نومَهُ القليل، فأذهبه بالمرة.
6- الهَواجر: جمع هاجرة، وهي نصف النهار عند اشتداد الحر.
7- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 141.

عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ۚ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (1).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في الخطبة الغرّاء، التي يعظ فيها الناس بأن يولون جلّ أوقاتهم وشغل أفكارهم بتعلم السلوك والقيام بالأفعال التي تقيهم عذاب الآخرة، وهنا استخدم أمير المؤمنين علیه السلام عدّة مصطلحات لها مفاهيم علميّة تحتاج إلى توضيح، ولعلّ المراد منها ما يلى:

التفكير والخوف وتعب البدن

هناك تعريفات عديدة للتفكير، منها: فهم الإنسان بما يحيطه وإدراكه للمعلومات الحسّية وعواقب الأمور، والتي تتم في «باحة فرنكيه»، ومنطقة التلفيف الزاوي فإنّ ما يضر بهما يضر في عملية التفكير غير أنّه لوحظ أنّ تخريب مناطق التفكير السابقة تؤدي إلى تغيرات كثيرة منها - والذي يخص بحثنا - هو:

1 - عدم قدرتهم على حلّ المسائل المعقدة.

2 - عدم امكانية ربط الأعمال المتتالية مع بعضها للوصول إلى الهدف المعين.

3 - هبوط مستوى العدوانية والخوف لديهم.

ومن هنا كانت موعظه مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بالتأكيد على وجوب انشغال تفكير الإنسان بعاقبته، واستذكار ساعات مفارقته للحياة ووضعه في مشاهد ووقائع النشور وساعة الحساب، وفاقد التفكير يعني فاقد الخوف، ومن ثمَّ ربط آثار الخوف بمظاهر تعب البدن، وهذا يعني التأثيرات النفسيّة للخوف تحدث استجابات وظيفية على الأجهزة الحيوية مسببة تعب البدن، والسبب في ذلك أنّ: علامات الخوف تؤدي إلى رفع معدل ضربات القلب والضغط الدموي، وزيادة

ص: 67


1- الأحزاب: 19.

الناتج القلبي من خلال زيادة الحوافز العصبية السبمثاوية والهرمونية، وكذلك زيادة معدل التنفس وزيادة عمليات التعرق التي يرافقها تغيرات في مجرى الدم والسوائل، فضلاً عن توترات في أغلب عضلات الجسم وزيادة صرف الطاقة و تحريرها، وغيرها من التغيرات التي تسبب تراكم الفضلات مسببة في ذلك ظهور آثار التعب على الإنسان، وهي نفسها تصاحب الأداء الحركي ولكن آثارها تختلف عمّا هو في حالات الخوف.

تأثيرات الخوف على الجهاز المناعي

لقد أثبتت دراسة جديدة نشرتها مجلة «أحداث الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم»: أنّ الأفكار السوداء والحزينة والسلبية تُضعِف نظام المناعة في الجسم، وتجعل الإنسان أكثر استعداداً للمرض.

ووجد الباحثون في جامعة ويسكونسن ماديسون - بعد دراسة 52 شخصا، تراوحت أعمارهم بين 57 - 60 عاماً يعانون من مستويات عالية من النشاط الدماغى في المنطقة المرتبطة بالأفكار السلبية - أنّ استجابة الأشخاص الذين يملكون أعلى مستوى من هذا النشاط للقاح الزكام كانت الأسوأ.

وكانت الدراسات قد أظهرت أن المتشائمين والحساسين للأحداث التوترية والسلبية، يظهرون نشاطاً أكبر في منطقة الدماغ التي تعرف بالقشرة قبل الجبهوية اليمنى، في حين يرتبط النشاط الأعلى في القشرة قبل الجبهوية اليسرى بالاستجابات العاطفية الايجابية.

ولاحظ الباحثون بعد تحليل مجموعة من الأحداث السارة والحزينة والمخيفة والمغضبة التي مرت في حياة المشاركين، وقياس النشاط الدماغي في القشرة قبل الجبهوية اليمنى واليسرى، بعد إعطائهم لقاح الأنفلونزا، أنّ العواطف تلعب دوراً

ص: 68

مهمّاً في وظائف أنظمة الجسم التي تؤثر على الصحة.

وقد استخدم العلماء اللقاحات لأنّها تنشّط الاستجابات المناعية التي يفترض بها مساعدة الجسم على مكافحة الإصابات والأمراض وغيرها من التهديدات الخارجية عند دخولها.

ووجد هؤلاء - عند قياس مستويات الأجسام المضادة التي أنتجها اللقاح في دماء المشاركين بعد مرور ستة أشهر - أنّ الاستجابات والتفاعلات المناعية كانت الأسوأ عند الأشخاص الذين أظهروا نشاطاً قوياً في منطقة القشرة قبل الجبهوية اليمنى، وكان العكس صحيح، أي: أنّ النشاط القوى في هذه المنطقة من الجهة اليسرى المرتبطة بمشاعر السرور، أدّى إلى حدوث تفاعلات مناعية قوية.

مراحل النمو

قال أمير المؤمنين علیه السلام في صفة خلق الإنسان:

«أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ، وَشُغُفِ الأَسْتَارِ (1)، نُطْفَةٌ دِفاقاً، وَعَلَقَةً مِحَاقاً (2)، وَجَنِيناً (3) وَرَاضِعاً، وَوَلِيداً وَيَافِعاً (4).

ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً، ولساناً لَافِظاً، وَبَصَراً لَاحظاً، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً، وَيُقَصِّرَ مُزْدَجِراً؛ حَتَّى إِذَا قَامَ أعْتِدَالُهُ، وَاسْتَوَى مِثالُهُ (5)، نَفَرَ مُسْتَكْبِراً، وَخَبَطَ سَادِراً (6)، ماتِحاً (7) فِي غَرْبِ هَوَاهُ، كَادِحاً (8) سَعْياً لِدُنْيَاهُ، فِى لَذَّاتِ طَرَبِهِ،

ص: 69


1- شُغُف الأسْتَار: جمع شَغاف - مثل: سَحاب وسُحُب - وهو في الأصل غِلاف القلب، استعارة لِلْمَشِيمَةِ.
2- عَلَقَةً مِحَاقاً: أي خَفِيَ فيها ومُحِقَ كلّ شكل وصورة.
3- الجَنين: الولد بعد تصويره مادام في بطن أُمه.
4- اليافع: الغلام رَاهَقَ العشرين.
5- استوى مثالُه: أي بلغت قامته حدّ ما قُدّرَ لها من النماء.
6- خَبَطَ سادِراً؛ خَبَطَ البعيرُ: إذا ضرب بيديه الأرض لا يَتَوَقَّى شيئاً، والسادر: المتحيّر والذي لا يهتم ولا يبالي ما صنع.
7- مَتَحَ الماءَ: نزعه وهو في أعلى البئر، والماتح: الذي ينزل البئر إذا قلّ ماؤها فيملأ الدلو. والغَرْبُ: الدلو العظيمة.
8- الكَدْح: شدة السعي.

وَبَدَوَاتِ (1) أَرَبِهِ، لا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةٌ (2)، وَلَا يَخْشَعُ تَقِيَّةٌ (3): فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً (4)، وَعَاشَ فِي هَفْوَتِهِ (5) أسيراً، لَمْ يُفِدْ (6) عِوَضاً، وَلَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً.

دَهِمَتْهُ (7) فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ (8)، وَسَنَنِ (9) مِرَاحِهِ» (10).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى كيفية نشوء الخلق ومراحل النمو ونهاية الإنسان، كما توضّح بعض صور وقابليات وقدرات كل مرحلة من مراحل النمو عند الإنسان.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (11).

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (12) .

ص: 70


1- بَدَوَاتُ رَأيِهِ: جمع بَدْأة وهي ما بدا من الرأي، أي ذاهباً فيما يبدوله من رغائبه.
2- لا يَحْتَسِبُ رَزِيّة: أي لا يظنها، ولا يفكر في وقوعها.
3- لا يخشع من التّقِيّة: أي الخوف من الله تعالى
4- غَريراً - برَائَيْنِ مهملتين - أي مغروراً.
5- عاش في هَفْوَته: عاش في أخطائه وخطيئاته الناشئة عن الخطأ في تقدير العواقب.
6- لم يُفِدْ: أي لم يستفد ثواباً ولم يكتسب.
7- دَهِمته: غَشِيَتْهُ.
8- غُبّر جماحه: بقايا تَعَنّته على الحق.
9- السَنن - بفتح السين - الطريقة.
10- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 2، ص 95.
11- الحج 5.
12- غافر: 67.

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يصف خلق الإنسان، ويتطرّق فيه إلى أحد العلوم المهمة في الطب وهو «علم النمو»، كما يشير إلى السلوك الفطري «الغريزى» فضلاً عن السلوك التعليمى «المكتسب»، ويبتدئ بوصف قدرة الخالق العظيم بكيفية خلق الإنسان وأماكن تكوينه بوصفها بالأماكن المظلمة، وربّما أراد بها: أماكن تكوين البويضة والنطف التي تمرّ بمراحل مختلفة وفي تجاويف مظلمة إلى أن تستقر في رحم هو الآخر مظلم بعد عملية الإخصاب، ثمَّ يوضّح أنّ ذلك المخلوق يحاط بعدد من الأغلفة والأغشية لكل منها عملها في الحفظ والنضج لذلك المخلوق، وبعد تطوّر الأجهزة والتقنيّات تمّ معرفة ومشاهدة تلك الأغشية، وهي: «الأمنوس، كوريون، والساقط» وقال الله في محكم كتابه العزيز:

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ) (1).

1 - الغشاء الأمنوسي Amniotic membrane: و هو يحيط بالجوف الأمنوسي المملوء بالسائل الأمنوسي، الذي يسبح فيه الجنين بشكل حرّ.

2 - الغشاء الكوريوني Chorione membrane: الذي تصدر عنه الزغابات الكوريونية التي تنغرس في مخاطيّة الرحم.

3 - الغشاء الساقط Disidua memb: وهو عبارة عن مخاطيّة الرحم السطحية بعد عملية التعشيش و نمو محصول الحمل، وسمّي بالساقط؛ لأنّه يسقط مع الجنين عند الولادة.

انّ أمير المؤمنين ليوضّح ذلك بالألغاز لدرايته في قدرات العالم الذي يحيط به في ذلك الوقت. .

ص: 71


1- الزمر 6.

علم الأجنّة

يضع أمير المؤمنين علیه السلام في هذا التقسيم حقائق القرن العشرين عن علم الأجنّة Embryology، وقد اهتم كثير من الباحثين به، وعلى الرغم من أنّ عملية النمو هي عملية متواصلة ومتسلسلة منذ الإخصاب «التقاء ماء الذكر بالأنثى» إلى لحظة الوفاة فإنّ سرعة النمو تختلف باختلاف المراحل العمرية، وأسرعها منذ لحظة الإخصاب إلى لحظة الولادة كما توجد تقسيمات مختلفة تناولها العلماء لمراحل النمو منها «بيولوجيّة، سيكولوجيّة، وعقلية ...» و توضّحه الخطبة، هناك تصنيفاً بيولوجياً لمراحل نمو الإنسان:

1 - المرحلة الأولى: نطفة دهاقاً

يتكوّن المني للذكور الذي يتدفق أثناء العملية الجنسية من السائل والنطاف من الاسهر حوالي (10 %) و من سائل الحويصلات المنوية حوالي (60 %) ومن سائل غدّة البروستاتة حوالي (30 %) ومن كميّة صغيرة من المادة المخاطية، وبالتالي معظمه السائل المنوي وهو سائل من الحويصلات المنوية وأنّ البالغ يكوّن حوالی (120) مليون نطفة يومياً ولكن في عملية الملامسة يقذف حوالي ربع إلى نصف بليون.

ومن هنا وصف أمير المؤمنين علیه السلام المرحلة الأولى بالماء الكثير، وبالتالي عمر هذه المرحلة يمتد حوالي منذ لحظة التقاء ماء الذكر بالأنثى، وما يجري عليها من تغيرات داخل البويضة وانتقالها الذي يدوم من (3 - 4) أيام من البوق إلى جوف الرحم، والذي تحدث خلاله أكثر من مائة انقسام للبيضة والذي يسمّى: «الكيسة الاريمية»، فضلاً عن تراصف الصبغة الوراثية الذكرية والأنثوية، وبعد وصولها إلى جوف الرحم يكون فيه الغذاء عن طريق ما يسمى بغثيث الرحم «وهو إفرازات من بطانة الرحم ...» إلى أن تتم مرحلة الغرس في تجويف الرحم بعد وصولها

ص: 72

(3 - 1) أيام.

ومن هنا نشاهد ربّما أحد أسباب جعل هذه الفترة رغم قصرها مرحلة من مراحل النمو: ابتداء كون سرعة التغيرات الحادثة فيها داخل البويضة واختلاف طريقة التغذية فيها عن باقي المراحل التالية، فضلاً عن هذه المرحلة هي مرحلة تمتاز بالانتقال وليس الثبات والسكون.

2 - المرحلة الثانية: علقة محاقاً

وهي مرحلتين متداخلتين: الأولى تبدأ في يوم علوق البويضة في بطانة الرحم، وفيها يتغير أسلوب التغذية من غثيث الرحم إلى طريقة الخلايا الساقطة وكما تستمر فيها عملية تكاثر الاورومات الغاذيه والمجاورة المتولدة من الكيسة الاريمية وبطانة الرحم مكوّنة المشيمة وأغشية الرحم، وفيها تبدأ المشيمة بتوفير جانب من الغذاء ابتداء من اليوم السادس عشر بعد الإخصاب، أي تقريباً بعد (9) أيام من عملية الغرس في جوف الرحم، وتبدأ عمليات جريان الدم في جسم ذلك الكائن وعندها تبدأ المرحلة الثانية، أي الفترة الممتدة من اليوم الذي تبدأ فيه عملية التغذية المشيمية وإلى طول الفترة التي لا يمكن فيها تميّز الشكل الجنيني أي لازال شكله ناقصاً «محاقاً»، أي لغاية الشهر الثالث - الرابع الذي يمكن عندها أن يكون فيها الجنين قد استكمل بناء أجهزته ومظهره الخارجي كما هو عند ولادته ما عدا صغر الحجم والكتلة والطول والوزن، وعليه ما قبلها يسمى محاقاً.

3 - المرحلة الثالثة: جنيناً

وهي المرحلة التي تبدأ بعد اكتمال أجهزة جسم الجنين ومظهره الخارجي، أي بعد الشهر الرابع من الإخصاب إلى مرحلة ولادته وخروجه إلى العالم الجديد والذي فيه اختلف عمل كافة أجهزة الجسم ومنها التنفس والدوران وطريقة التغذية.

ص: 73

4 - المرحلة الرابعة: راضعاً

وهي الفترة التي تبدأ منذ الولادة إلى يوم فطمه، أي انقطاع التغذية عن طريق حليب الأم والتي تمتد سنتين.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (1).

5 - المرحلة الخامسة: وليداً

وهي المرحلة التي تبدأ بعد سن الثانية إلى مرحلة ما قبل النضوج الجنسي والتي تنحصر من «ثلاث سنوات إلى غاية 9 - 10 سنوات».

6 - المرحلة السادسة: يافعاً

وهي المرحلة التي تبدأ فيها التغيرات والنمو للأجهزة الجنسية ولغاية اكتمال النضج والبلوغ، أي من سن «11 سنة ولغاية 14 سنة».

وقت البلوغ:

وهي مرحلة اكتمال النضج والبلوغ وهي في سن «15 سنة».

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (2).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (3).

ويقول الإمام الباقر علیه السلام:

«الغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع، ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمسة عشر سنة، أو يحتلم، أو يُشعر أو يُنبت قبل ذلك» (4).

7 - المرحلة السابعة: اكتمال النمو والنضج البيولوجي «منحه قلباً حافظاً

ص: 74


1- لقمان 14.
2- القصص: 14.
3- يوسف 22.
4- ميزان الحكمة: محمّد الريشهري ج 1 ص 390.

ولساناً لافظاً وبصراً لاحظاً».

وهي المرحلة التي تبدأ بعد انتهاء مرحلة المراهقة واكتمال النضج، والتي تبدأ بعد سن «15 ولغاية سن 24»، وهنا يجب أن نميّز بين العمر الزمني والعمر البيولوجي.

8 - المرحلة الثامنة: الرجولة المبكرة «قام اعتداله واستوى مثاله، نفر مستكبراً، وخبط سادراً، ماتحاً في غرب هواه ...».

وهي المرحلة العمرية التي تبدأ بعد سن «25 سنة وتستمر إلى ما قبل الوفاة».

9 - المرحلة التاسعة: الوفاة

مرحلة خروج الروح والانتقال إلى عالم جديد.

وفي زماننا الحاضر نلاحظ هناك تقسيمات مختلفة مستندة إلى ن-وع وخصائص ذلك العلم الذي ينبثق عنه ذلك التقسيم، ولكن ربّما اختار أمير المؤمنين علیه السلام هذا التقسيم لعدّة أسباب أهمها أنّه اختار المراحل التي لا يمكن الاطلاع عليها لعدم وجود الوسيلة إليها في ذلك الوقت، وهي جزء من الممارسة لاثبات الرسالة العلميّة التي جاء بها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولكي يرعوي أهل العلم ف--ي زماننا هذا وما بعده على معرفة تلك التفاصيل، في عصر لا يمتلك أهله غير الرحى والسيف والناقة، مقارنة بزمن تضافرت به الجهود والعقول والأموال، وصبرت عبر عقود من الزمن حتى توصلت إليه.

علم التشريح

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«نَطَقَتْ بِهِ آثارُ حِكْمَتِهِ، وَاعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا

ص: 75

بِمِسَاكِ (1) قُوَّتِهِ، مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَها آثَارُ صَنْعَتِهِ، وَأَعْلَامُ حِكْمَتِهِ، فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَدَلِيلاً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً، فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ.

فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ، وَتَلَاحُم حِقَاقِ (2) مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ (3) لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ، لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ، وَلَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَانِدَّ لَكَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّوَ التَّابِعِينَ مِنَ المَتبُوعِينَ إِذْ يَقُولُونَ: (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)

كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ (4)، إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ وَنَحْلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ (5) بِأَوْهَامِهِمْ، وَجَزَّأُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّماتِ بِخَوَاطِرِهِمْ» (6).

تبيّن الآية الكريمة التالية قدرة الله تعالى كيف ركّب الأشياء والأجزاء والأعضاء بجسم الإنسان بشكل يمكن له أداء أعماله بأقل جهد، من خلال انسجام تلك الأجهزة بالعمل بشكل متوافق، وقدرتها على النقل الحركي لمواجهة أعباء الحياة وطبيعتها المختلفة، فضلاً عن جماليّة الحركة التي لا تشوبها العيوب.

﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (7).

هذا من كلام في خطبة مولانا أمير المؤمنين علیه السلام والتي تسمى بخطبة «الأشباح»، والتي يوضّح فيها قدرة الله وحكمته وتدبيره في خلق الأعضاء وتباينها وتلاحمها، 4

ص: 76


1- المِسَاك - بكسر الميم - : ما يمسك الشيء كالمِلاك ما به يملك.
2- الحِقاق: جمع حُقَّة - بضم الحاء - وهو رأس العظم عند المَفْصِل.
3- احتجاب المفاصل: استتارها باللحم والجلد.
4- العادلون بك: الذين عدلوا بك غيرك أي سوّوْه بك وشبّهوك به.
5- نَحَلُوكَ: أعطَوْك، وحِلْية المخلوقين: صفاتهم الخاصة بهم من الجسمانية وما يتبعها.
6- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 144
7- المؤمنون: 14

وأخفى ذلك التباين والتلاحم ويمكن تصوير احتمالية المراد بما يلي:

تباين الأعضاء:

على الرغم من اعتبار الإنسان منظومة بايولوجيّة تعمل بانسجام غاية في الدقة ومكون من تراكيب معقدة فى غاية الدهشة ولكن تركيباته في الشكل والحجم والوظيفة هي مختلفة رغم أنّ الأساس لها هو الخلية، فيلاحظ في الجهاز الواحد ذي الهدف الوظيفي الواحد هناك تبايناً، إذ ما تقوم به الغدّة الكظرية من انتاج أكثر من هرمون مختلف في التأثير، على الرغم من وجودها في نفس الغدّة، ومنها غدة البنكرياس التي تنتج هرمون الأنسولين والكلوكاكون اللذان يختلفان في الوظيفة من خلال التحكّم بالكلوكوز في السائل الدموي، إذ الأنسولين يعمل على خفضه في الدم، في حين الآخر يعمل على زيادته في الدم ولكن هذا التباين في العمل يصب في خدمة الكائن الحي باستمرار حياته وضمان تكيّفه مع البيئة الخارجية.

الهيكل العظمي

1 - اختلاف أطوال وسمك العظام ومرونتها وأشكالها حسب مواقعها ووظيفتها.

2 - التراكيب التي تعمل على ترابط مكونات الهيكل العظمي مع بعضه البعض «رباطات غضاريف، أوتار، عضلات»

3 - نسب الماء في العظام مختلفة حسب مواقعها وعملها في الجسم.

4 - تباين شكل وعمل عظام القفص الصدري عن عظام الجمجمة، وعن عظام الطرف السفلى والعلوي.

ص: 77

الوعاء الدموي

رغم الهدف الوظيفي الواحد، ولكن تباين أعضاء هذا الجهاز كما يلي:

1 - هناك تباين بين تركيب الجدار المكوّن للشرايين والمكوّن للأوردة.

2 - بل هناك اختلاف في تركيب الجدران المكوّنة للأوعية المحمّلة للدم المؤكسج من «الشرايين الشرينات، أوعية الشعرية» وتركيب الجدران المكوّنة للأوردة.

3 - سعة الشرايين المختلفة 2،50 سم 2 - 40 سم 2،

وسعة الأوردة 2500 سم 2 - 250 سم 2.

4 - سرعة جريان الدم في الشرايين والأوردة 40 سم/ ثا - 0،45 سم/ثا.

المفاصل

وهنا يشير مولانا أمير المؤمنين علیه السلام إلى أنّ المفاصل توجد خلف اللحم والجلد، وقد وصفها بأنّها محتجبة ومختفية خلف الجلد والعضلات وبالتالي هي الأخرى مختلفة في الوظيفة والعمل والتي أشار إليها بطريقة ت--راب-طها وتثبيتها «بالتلاحم».

ومن تلك المفاصل حسب حركتها التي يسمح بها:

1 - مفاصل ليفية: ومنها يلتقي سطحها العظمي معاً ويربط بينهما نسيج ليفي وهو عديم الحركة، مثل: مفاصل عظام الوجه والجمجمة.

2 – مفاصل غضروفية: وتكون أطراف العظام المشتركة في هذه المفاصل مغطاه بغضروف، وترتبط العظام بنسيج غضروفي ووجود طبقة غضروفية تربط العظمتين بعضهما ببعض وهو قليل الحركة مثل الارتباط بین نهایات عظام الفقرات.

ص: 78

3 - المفاصل الزلالية: وهي التي تمثل أغلب أنواع المفاصل المتحركة للجسم ولاسيما الأطراف السفلية وهي أنواع، ومنها «مفصل كرة الحُق» وهي التي تتكون من طرفتين عظميتين، إحداهما مقعّرة الشكل منها تجويف كالحق والآخر كروي الشكل، وتوجد الكرة منفصلة في التجويف الحُقى وبذلك تكون الحركة سهلة وحرة، ومنها «مفصل الكتف - والفخذ».

ومن أسباب القوة للمفاصل تلاحم طرفي الع-ظمتين المتجاورتين ولو استعرضنا واحداً من أهم هذه المفاصل «مفصل الفخذ» لوجدنا أسباب القوة:

1 - طول عنق عظم الفخذ الذي يتجه مائلاً عند الزاوية بينه وبين رأس العظم.

2 - احاطة المفصل بالعضلات الكبيرة والقوية.

3 - توجد أربطة قوية تزيد من قوة المحفظ.

4 - توجد أربطة قوية تعمل على متانة وتثبيت المفصل، ومنها «الرباط العرقفي الفخذي - الرباط العاني الفخذي».

وأنّ لبعض هذه المفاصل القدرة الدورانية، ومنها تحدد بحركة منفرجة، ومنها الحادة، ولكل منها سببه في تحديد تلك الزاوية، فإنّ مفصل الركبة لو زاد على 180 لأصبحت حركة الإنسان وما يقوم به من حركات «السير – والهرولة – والركض ...» هي عملية ترافقها الصعوبة الكبيرة، فضلاً عن ضعف الجمالية في القوام والانتصاب.

كما أنّ زوايا المفاصل تتناسب مع عملها فضلاً عن مستوى القوة التي تظهرها بارتباطها بالعظام الطويلة والقصيرة والتي تسمى بقانون العتلات «طول ذراع القوة - والمقاومة».

ومن هنا جاءت الموعظة لبيان عظمة الخالق وسبوغ نعمائه علينا، وقد أوضحها أمير المؤمنين ببلاغة علميّة وإيجاز، وأمثلتها في الجسم البشري لا حصر

ص: 79

لها، ولكن عرّج أمير المؤمنين عليها لأهمية تلك المفاصل المحتجبة عن النظر وكيفية خلقها، وما هي وظيفتها في الجسم، فضلاً عن إعطاء صورة لما خفي عن نظر الإنسان والذي تعدّ الخطبة باعثاً إلى الاكتشافات في ذلك التبتين في جسم الإنسان الذي يتطلب الدراسة المستمرة.

علم الفسيولوجيا

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«وَبِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا، وَبِفُرَجِ (1) أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا (2).

وَخَلَقَ الأَجَالَ فَأَطَالَهَا وَقَصَّرَهَا، وَقَدَّمَهَا وَأَخَّرَهَا، وَوَصَلَ بَالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا (3)، وَجَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا (4)، وَقَاطِعاً لمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا. (5)

عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ، وَنَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ (6)، وَخَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ (7)، وَعُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ (8)، وَمَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ (9)، وَمَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ (10) الْقُلُوبِ، وَغَيَابَاتُ الْغُيُوبِ (11)، وَمَا أَصْغَتْ لاِسْتِرَاقِهِ (12) مَصَائِخُ (13)

ص: 80


1- الفُرَج: جمع فُرْجة، وهي التّفَصّي من الهم.
2- أتراح: جمع تَرَح - بالتحريك - وهو: الغم والهلاك.
3- أسبابها: حبالها.
4- خالجاً: جاذباً لأشطانها جمع شَطَنَ - كَسَبَب - وهو: الحبل الطويل، شبه به الأعمار الطويلة.
5- المرائر: جمع مريرة، وهو الحبل يقتل على أكثر من طاق، أو الشديد الفتل والأقران: جمع قرن - بالتحريك - وهو الحبل يجمع به بعيران
6- التّخَافت: المكالمةُ السّريّة.
7- رَجْم الظنون: ما يخطر على القلب أنه وقع أو يصح أن يقع بلا برهان.
8- العُقَد: جمع عُقْدة، وهو ما يرتبط القلب بتصديقه، لا يصدق نقيضه، ولا يتو ممن والعزيمات جمع ريمة، وهو ما يوجب البرهانُ الشرعيّ أو العقليّ تصديقَه والعملَ به.
9- مَسَارق - جمع مَسْرِق - : مكان مُسَارَقَةِ النظر أو زمانها، أو البواعث عليها، أو من «فلان يسارق ... ينتظر منه غفلةً فينظر إليه. والإيماض: اللمعان.
10- ضمنته: حوته. والأكنان: جمع كنّ - بالكسر - وهو كلّ ما يستتر فيه.
11- غيابات الغُيوب: اعماقها.
12- استِرَاق الكلام: استماعه خُفْيةً.
13- المَصَائخ: جمع مَصَاخ، وهو مكان الاصاخة، وهو ثقبة الأذُن.

الْأَسْمَاعِ، وَمَصَائِفُ الذَّرِّ (1)، وَمَشَاتِي (2) الْهَوَامِّ، وَرَجْعِ الْحَنِينِ (3) مِنْ الْمُولَهَاتِ (4)، وَهَمْسِ (5) الْأَقْدَامِ، وَمُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ (6)» (7).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى دور الأجهزة التي يتم من خلالها كسب المعارف والعلوم والعمل بها ومعرفة الحق والباطل، وبالتالي لها الدور في اتخاذ القرارات فضلاً عمّا تحمله الآيتان من مسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى يوم الحشر.

(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (8).

(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (9)

هذا من كلام أمير المؤمنين علیه السلام من خطبته التي تسمى «بالأشباح» وهو يصف قدرة الله سبحانه وتعالى بأنّه عليم بما يجول بفكر الناس، وما تخفيه صدورهم والذي لا يطرحونه على ألسنتهم ولا يظهر على مقلهم، كما هو عالم بما يدور من تناقل للأسرار بين الأفراد، ورغم وصفها بخفاء تلك الأصوات، كما يعلم ما تعقد عليه القلوب وتتأكد من سلامة وصحة قراراتها، وكما أوضح في خطبته قدرة الباري عز وجل على حساب حركات الأفراد وضرب لها مثلاً وهو حركة الجفون فضلاً عن ضربه لمثل ما يحيط بالقلوب من أغطية، وعليه احتمالية المراد ايضاحه .

ص: 81


1- الذّرّ: صغار النمل، ومصائفها محل إقامتها في الصيف.
2- مَشاتيها: محل إقامتها في الشتاء.
3- رَجْع الحنين: ترديده.
4- المولهَات: الحزينات.
5- الهمس: أخفى مايكون من صوت القدم على الأرض.
6- مُنفَسَح الثمرة: مكان نمائها.
7- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 2، ص 166.
8- ق: 37.
9- الاسراء: 36.

من تلك الامثلة ما يلي:

الأجفان

ابتداءً أنّ المراد من هذا المثل هو كوامن عديدة منها:

1 - من خلال العضلات التي تقوم بفعل تقلصها وانبساطها بعملية اغلاق وفتح العيون إلى الأبصار، وبالتالي أنّ إجراء هذه العملية - رغم سهولتها - تحقق الرؤية، وبالتالي سوف تتم المحاسبة على تلك المشاهدات.

2 - لأنّ فعل تلك العضلات والتي تسمى «بالمدارية» والتي تزوّد بطرف من العصب القحفي السابع والتي تتميز بالقدرة السريعة على عملية التقلص والانبساط وهي تعدّ أسرع العضلات تقلصاً في الجسم، وبالتالي رغم تلك السرعة فهي تقع ضمن معرفة الله سبحانه وتعالى.

طول فترة الاستيقاظ تتم عملية اغماض الجفن بمعدل خمسة وعشرين مرة بالدقيقة، ولكل طرفة بزمن قدره حوالي 1 / 5 ثانية، وبالتالي المراد أنّ هذه العملية تتم بسرعة كبيرة أراد أمير المؤمنين أن يوضح من خلالها، تقريب أنّ تلك الحركة وبما تمتاز من السرعة، هي ليست بخافية عن الله سبحانه ويحاسب عليها الإنسان.

أكنان القلوب

إنْ كان المراد من هذا المثل هو عضلة القلب فالمراد بأكنان القلوب هو إحاطة القلب من الخارج بغشاء على شكل كيس ليفي مبطّن بنسيج مَصلي يدعى «التامور» والذي يتكوّن من ثلاث طبقات، وهو السبب الذي جعل مولانا أمير المؤمنين يصف تلك الأغطية بالجمع وليس المفرد، ومن وظائفه ثبات القلب في مكانه، وفصله عن باقي الأعضاء المحيطة به، ويهب له حرية الحركة، ويقسم التامور إلى ما يلي:

ص: 82

1 - التامور الليفي.

2 - التامور المصلي.

التامور المصلي: يتكوّن من طبقتين الخارجية والتي تبطّن التامور الليفي، والداخلية والتي تحيط وتلتصق بعضلة القلب، ويفصل بين هاتين الطبقتين فراغ فيه سائل مصلى لايزيد وزنه على خمسة غرامات يدعى شراب التامور يكفي لمنع الاحتكاك بين الطبقتين ويربطهما دوماً، كما أنّ لهذه الأغطية الدور المهم في توفير الضغط الملائم على عضلة القلب وأداء عملها بصورة إيجابية، وإذا مازاد السائل داخل الكيس إلى (250 سم3) فانّه يسبب الموت، أمّا إذا كان المقصود بأغطية القلب هو العقل فإنّ العقل هو الآخر يحاط بأغطية من الخارج إلى الداخل وكالآتي:

1 - الأُم القاسية: غشاء كثيف متكوّن من طبقتين داخل الجمجمة.

2 - الأُم العنكبوتية: الغشاء الثاني الذي يوجد تحت الأُم القاسية، والسطح الداخلي لهذا الغشاء يحيط بالقمة تحت العنكبوتية التي يدور بها السائل المخّى الشوكي.

3 - الأُم الحنون: وهو الغشاء الداخلي، ويلتصق بالسطح الخارجي للدماغ والحبل الشوكي ويغلق الأخاديد والتلافيف المخية.

ومن هنا يمكن أن يكون سبب الاستعارة كون ما تحيط به تلك الاكنّه من معلومات تختزن في ذاكرة الفرد، والتي يعبّر بها عن سلوكه وأفعاله وأهدافه والتي يطلع عليها الباري رغم خفائها عن الرؤية، فضلاً عن أنّها إشارة إلى مواقع خزنها في الدماغ كون الدماغ مقسّم إلى باحات لكلٍّ منها وظيفته.

ص: 83

الوظائف التوالدية والهرمونية للذكر والانثى

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«وَلَائِجِ (1) غُلُفِ الْأَكْمَامِ (2)، وَمُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ (3) مِنْ غِيرَانِ (4) الْجِبَالِ وَأَوْدِيَتِهَا، وَمُخْتَبَأْ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ (5) الْأَشْجَارِ وَالْحِيَتِهَا (6)، وَمَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ (7)، وَمَحَطِّ الْأَمْشَاجِ (8) مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ (9)، وَنَاشِئَةِ الْعُيُومِ وَمُتَلَاحِمِهَا، وَدُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ في مُتَرَاكِمِهَا، وَمَا تَسْقِي (10) الأَعَاصِيرُ (11) بِذُيُولِهَا، وَتَعْفُو (12) الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا» (13).

تشير الآيات الكريمة الآتية إلى نشأة الإنسان من المني المتدفق والخارج من الظهر والأظلاع، وما تحفظه الأرحام من الأجنّة وبالتالي هو تصوير لمراحل النشأة وأسبابها، وتوضيح لأنواع السوائل الموجودة لدى الرجل والمرأة والفروق بينهما وكيفيّة انتقائها وتهيئة البيئة لخلق جديد.

(خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (14)

ص: 84


1- الولائج: جمع وَلِيجة، بمعنى البِطانة الداخلية.
2- الغُلُف: جمع غِلاف، والأكمام جمع كِمّ - بالكسر - وهو غطاء النّوار ووِعاء الطّلْع.
3- مُنْقَمَع الوحوش: موضع انقماعها، أي اختفائها.
4- الغِيران: جمع غار.
5- سُوق: جمع ساق، وهو أسفل الشجرة تقوم عليه فروعها.
6- الألْحِيَة: جمع لحاء، وهو قشر الشجرة.
7- الأفنان: الغصون.
8- الأمْشاج: النّطف، جمع مَشِيج - مثل يتيم وأيتام - وأصله مأخوذ من «مَشَجَ» إذا خلط، لأنّها مختلطة من جراثيم مختلفة، كل منها يصلح لتكوين عضو من أعضاء البدن.
9- مَسَارب الأصلاب: جمع مَسْرَب، وهي ما يتسرب المنيّ فيها عند نزوله أو عند تكوّنه.
10- سَفّت الرّيح الترابَ: ذَرَتْهُ أو حملته.
11- الأعاصير: جمع إعصار، وهي ريح تثير السحابَ أو تقوم على الأرض كالعمود.
12- تعفو: تمحو.
13- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 166.
14- الطارق: 6 - 7.

(اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (1).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّىٰ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (2).

وهو كلام من خطبة لمولانا أمير المونين علیه السلام المُسمّاة «بالأشباح» وهنا توضيح عملية النطف لدى الرجل والبيضة لدى الأناث، والتي صوّرها بالتقاء ماء الرجل بماء المرأة، ومن هنا أوضح الإمام الباقر علیه السلام معنى ذلك بقوله:

«في قوله تعالى (من نطفة أمشاج) ماء الرجل والمرأة اختلطا» (3).

فضلاً عن مواقع سير تلك النطف والبيضة في الجسم داخل الجهاز التناسلي الذكري والأُنثوي، ولعلّ المراد ما يلي:

تكوين وخزن النُّطَف وتدفقها

أولاً: تتكون النطف في كل النبيبات الناقلة للمنى من خلال الخلايا الظهارية الانتشائية، التي تسمى برزات النُطَف، ويتمايز قسم منها ليولّد النطف، تمر بعد ذلك بمراحل مختلفة للنضج تستمر (24 يوماً) تنقسم فيه كل خلية نطفة أولية تكوّن خليّتين نطفيّتين ثانويتين، ويسمى بالانقسام الانتصافي الأوّلي، ثمَّ يمر بمرحلة تكون الرأس والغشاء والذنب المكوّن للنطفة، وتستغرق عملية تكوّن النطف من

ص: 85


1- الرعد 8.
2- الحج 5.
3- ميزان الحكمة: ج 3.

الخلايا المنتشية إلى النطفة حوالي 64 يوماً، وتتكون النطف بصورة موجزة ممّا يلي:

1 - الرأس: عبارة عن نواة مع طبقة رقيقة من الهيلوى وغشاء خلوى حولها ويحيط بالرأس من الخارج من الجهة الأمامية قلنسوة سميكة تسمى الجسم الطرفي الذي يتكوّن من جهاز كولجي ويحتوى على عدد من الانزيمات التي تؤدي أدواراً مهمّة للنطفة بإخصاب البويضة.

2 - الذنب: ذنب النطفة وله ثلاثة مكوّنات:

أ - هيكل مركزى مركّب من (11) نبيباً.

ب - غشاء خلوي رقيق يغطّي الخيط المحوري.

ج - مجموعة من القدرات التي تحيط بالخيط المحوري.

كما توجد عوامل هرمونية تنبّه النطف، ولكل منها دور كبير في تنشيط حركة النطف، ومن هذه الهرمونات «التستوسيترون - الاستروجينات - هرمون النمو».

ثانياً: مسار النطف: تسير بعد تكوينها في النبيبات الناقلة للمنى عدّة أيام لكي تجتاز «الستة أمتار» البربخ ويجب على النطف لكي تتمكن من الإخصاب أن تبقى داخل البربخ من 18 - 24 ساعة لكي يكتمل نموّها ونضجها، وبعد الدفق تكون النطف قادرة على الحركة والإخصاب.

ثالثاً: خزن النطف: وتخزن النطف أغلبها فى الأسهر وقليل منها في البربخ وللنطف القدرة على الحركة السوطية خلال السائل بسرعة تقارب (1 - 4 ملم / د) وبخط مستقيم، وتعزز فعاليتها في الأوساط المتعادله والقليلة القلوية، وتكبت في الوسط الحامضي، كما أنّ ارتفاع درجة الحرارة تزيد من فعاليتها ولك-ن ض-من حدود معيّنة.

رابعاً: تدفق النطف: وعند دفق النطف تقوم غدّة «البروستات» بمعادله

ص: 86

الحامضية للمحافظة على الأنطاف، وعند دخولها إلى الجهاز الأُنثوي تلتقى بسوائل الجهاز التناسلي الأُنثوي الذي يحدث تغيّرات تنشط من فعاليات النطف لتلقيح البيضة.

خامساً: امتزاج و تلقيح واختلاط ماء الرجل ببيضه المرأة:

التغيّرات عند التقاء ماء الرجل بماء ودم وبيضه الأنثى والذي يحدث تغيّرات على فعالية النطف يحتاج من (1 - 10) ساعات، وكذلك في سوائل الرحم أي توفر الظروف لبقاء النطف وتلقيح البيضة.

انّ ما ذكرناه هو مختصر لتلك العملية ولكن يتضح أنّ أمير المؤمنين علیه السلام أوجزها بخزن النطف وتلقيح البويضة وامكان الولادة من خلال قوله: «محط الأمشاج ومسارب الأصلاب».

البصر

قال أمير المؤمنين علیه السلام في إحدى خطبه، والتي ينبّه بها على فضله وعلمه ويبيّن فتنة بني أُمية:

«أَمَّا بَعْد، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنِّي فَقَأْتُ (1) عَيْنَ الْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِيءَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا (2)، وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا (3).

فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ فِيَما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ، وَلَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مائةً وَتُضِلُّ مائةً إِلَّا نَبَّأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا (4)

ص: 87


1- فَقَأتها: قَلَعْتُها، تمثيل لتغلّبه عليها.
2- الغيْهَب: الظلمة. وموجها: شمولها وامتدادها.
3- الكَلَب - محركة - : داء معروف يصيب الكلاب، فكل من عضته أُصيب به فَجُنّ ومات إن لم يُبادر بالدواء.
4- ناعِقُها: الداعي إليها من نَعَقَ بغنمه صاح بها لتجتمع.

وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، وَمَنَاخِ (1) رِكَابِهَا، وَمَحَطَّ رِحَالِهَا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً» (2).

هذا من كلام أمير المؤمنين علیه السلام من خطبةٍ له بعد قتاله «الخوارج» وقد نصره الله عليهم، وقد شبّههم «بعين الفتنة» ولا يوجد أحد ليجرأ على اتخاذ قرار الحرب مع هولاء القوم إلّا هو؛ لأنّه يملك من القدرة على ايضاح الأمور، وإعطاء كل ذي حق حقّه، وتحليل الملابسات والاجابة على كل الأسئلة المهمة والقدرة على اقناع الناس في القتال، وقد استعار أمير المؤمنين علیه السلام لهؤلاء القوم وصف العين التي ماج غيهبها ففقأها.

واحتمالية المراد في ذلك المثل ما يلي:

نظام سوائل العين

إنّ حاسّة البصر لها من الأهمية وعظم المكانة أمام الأجهزة والأعضاء الحسّية؛ ولذلك وصفها أمير المؤمنين علیه السلام بعدم قدرة أي شخص على فقئها كما أنّ هذه الأهمية تنسجم مع أهل الفتنة كونهم يوصفون «ق-راء - علماء ...» و عليه وصفهم بموضع العين في الأهمية ولكن أظهر تشديده ووجوب قلعها لا حاطته بآثارها السلبية على الدين الإسلامي مستقبلاً.

وقد استخدم كلمة «فقأت» أي بخقها لخروج السوائل منها، فهي كلمة تستخدم لخروج سوائل الدم والقروح، وهو يشير إلى مكوّنات وأهمية السوائل في وظيفتها إذ يملأ السائل داخل مقلة العين وهو يحافظ على ضغط كاف في مقلتها ليبقيها متمددة، ويمكن تقسيم هذا إلى قسمين الخلط المائي الذي يوجد أمام العدسة وعلى جوانبها وسائل الخلط الزجاجي الذي يوجد بين العدسة والشبكيّة ويبلغ

ص: 88


1- المُناخ - بضم الميم - محلّ البُرُوك.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 173.

معدل الضغط السوي داخل المقلة حوالي (12 - 20 ملم ز) ويعد أحد أسباب العمى الرئيسي هو «الزراق»، وهو مرض يصيب ارتفاع ضغط العين داخل المقلة (60 - 70 ملم ز) وبارتفاع الضغط تنضغط محاور العصب البصري من منطقة خروجها من المقلة عند القرص البصري، وإلى إقلال التغذية وبالتالي إلى موت العصبونات المؤثرة مسببة العمى وهذا باجعمه ناتج من انصباب سائل العين وعدم قدرته على المحافظة لضغط العين. كما كانت الاستعارة كون أي منطقة تحتوي على سوائل وعند بخقها سوف تتسرب تلك السوائل، ويعدّ أحد أسباب علاجها ما عدا حاسة البصر، فإنّه يؤدي إلى فقدان تلك العين، وهذا يتناسب مع ايقاف تلك العين وتعطيلها كونها تمثل عين الفتنة كما لا يمكن ابقاء العين التالفة بجانب العين السليمة لاسيما أمراض ضغط العين إلّا من خلال معالجتها كونها تؤثّر على نشر المرض إلى العين الأخرى ووصفها ب- «ماج غيهبها» وهو انتشار وارتفاع السائل عن سطحه المحدد ووصف ذلك السائل بالمظلم.

انّ عمليات التغيّر في الماء الزجاجي، والخلط المائي في العين هي في حالة تبادل مستمر، وعليه عندما تتوقف أو تغلق القنوات التي تمتص الماء الخارج من الخلط الزجاجي يؤدي إلى زيادة الضغط في العين مسببة الضغط على العصب البصري وبالتالي إلى ايقاف عمله مؤدياً أخيراً إلى العمى إذا لم يتم معالجته.

علم الوراثة

قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصفه للأنبياء:

«فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ، وَأَقَرَّهُمْ فِي خَيْرٍ مُسْتَقَرٍّ، تَنَاسَخَتْهُمْ (1)

ص: 89


1- تَنَاسَخَتْهُم: تَنَاقَلَتْهُم.

كَرَائِمُ الأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ؛ كُلَّمَا مَضَى سَلَفٌ، قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ الله خَلَفٌ.

حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله و سلم» (1).

تشير الآيتان الكريمتان التاليتان إلى أسلوب النشأة الإلهية ومواقع استقرار تلك «النطف» «الماء»، التي هي أحد أسباب النشأة ومقراتها في جسم الإنسان وانتقالها بين أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أن تولد، وهي إشارة إلى الحامض النووي الرايبوزي المنقوص الأوكسجين المسؤول عن نقل الصفات والاحتفاظ بها إلى الأحفاد وهو ما يسمى الآن بعلم الوراثة.

(خُلِقَ مِن مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) (2).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (3).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في خطبة يصف فيها الأنبياء وكيف أنّ الله حفظهم في أفضل مكان وأسكنهم في خير مسكن من خلال تداولهم بين أصلاب الأنبياء وأزواجهم المطهرة.

واحتمالية المراد ايضاحه ما يلي:

أولاً: أنّ النطف تستودع بعد تكوينها في نبيبات ناقلة للمني وانتقالها بالبريخ فلأنّها تستودع في «الأنبولة والأسهر»، وجزء صغير من «البربخ»، ويمكن أن تحتفظ بخصوبتها لفترة (30 يوماً).

أمّا «وأقرهم في خير مستقر» وهي مواقع استقرار النطف بعد الملامسة وتلقيحها، وقد وصفها أمير المؤمنين بأنّه أثبتهم وأسكنهم خير مسكن، وه-و ف-ي

ص: 90


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 180.
2- الطارق: 6 - 7.
3- الأنعام: 98.

حقیقته تثبيت البيضة المخصبة وتغرس في جدران الرحم.

وهنا تكون أفضلية المستودعات وخير المستقرات إلى تهيئة كل ما تتطلبه ظروف الحياة، من خلال كل ما تحتاجها من تغذية وسوائل وايونات ودرجة الحرارة ... وبشكل يمنحها النمو والنضج.

ثانياً: غير أنّ أفضل مستودع وخير مستقر اضافة إلى ما ذكر في رقم (1) هي عائد على رعاية الله لهم وحفظه لهم من الدنس والنجاسات والخبائث، ومنها المأكل والمشرب والأفعال والألفاظ إذ لا يمكن نمو ونضج تلك الأجهزة الجسمية، إِلّا من خلال المأكل والمشرب والأفعال الحركيّة، فيحفظ الله تلك الأجهزة أي حفظه للإنسان من خلال تعليمه وتربيته وتزكيته ومعرفته بالله وسلامة تلك الأجساد من الشرك والوثنية والابتعاد عن ما لا يرضي الله.

ثالثاً: «وتناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام».

أي تناقلت تلك الصفات النبوية من خلال الصبغات الوراثية لأصلاب الأنبياء إلى تلك الأرحام المطهرات من خلال محل النطف (23) صبغة وراثية غير مزدوجة، وفي نفس الوقت تحمل البيضة المخصبة (23) صبغة وراثية غير مزدوجة والتي تحمل كل الصفات الأبوية بكل تفاصيلها الصورية والجسمية والحركيّة والسلوكية.

وبالتالي وصف أمير المؤمنين عملية نقل الصفات الوراثية وكيفية نشأة النطف والاحتفاظ بها وعملية امتزاج ماء الرجل بماء الأنثى وبشكل لا يمكن إدراكه إلّا من خلال الشرح والتفسير لتلك العمليات التوالدية التي تمّ شرحها.

ص: 91

الوضع عند المرأة

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلَاثٍ وَاثْنَتَيْنِ: صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ، وَبُكُمْ ذَوُو كَلَامٍ، وَعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ، لَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلَاءِ! تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ! يَا أَشْبَاهَ الْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا! كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ، وَاللَّهِ لَكَانِّي بِكُمْ فِيما إخالُ (1): لَوْ حَمِسَ الْوَغَى (2)، وَحَمِيَ الضَّرَابُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبْلِهَا (3)، وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَمِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي، وَإِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ الْقُطُهُ لَقْطاً (4).

أنْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ (5)، وَأَتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدىً، وَلَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدىً» (6).

تبيّن الآيتان الكريمتان التاليتان رغم وضوح التشريع الإلهي والأمر بالقتال على كافة المؤمنين، فهي تركز بجانب آخر بوصف حال بعضهم بالخوف من القتال، وخشيتهم من الناس كالمحتضر بسبب أمرهم بالقتال ومطالبتهم بتأخيره، ودليل على ترجيحهم للعيش الدنيوي اليسير على كرامة الجهاد في سبيل الله.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) (7)

ص: 92


1- إخال: أظنّ.
2- حَمِسَ - كَفَرِحَ - : اشتد؛ والوَغَى: الحرب.
3- انفراج المرأة عن قُبُلها يكون عند الولادة أو عندما يُشْرَعُ عليها سلاح. وفيه كناية عن العَجْز والدناءة في العمل
4- اللّقطْ: أخذ الشيء من الأرض.
5- السّمْت - بالفتح - : طريقهم أو حالهم أو قصدهم.
6- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 183.
7- النساء: 77

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ) (1).

هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في إحدى خطبه التي يصف بها أهل الكوفة المتقاعسين والراضين بالذل والهوان غير مكترثين مما يُراد بهم التاركين نصيحة أمير المؤمنين العاصين عن ركن الجهاد؛ ولهذا اختار لهم مثلاً لتصغير شأنهم وحطّ قدرهم واحتمالية، المراد من هذا المثل ما يلي:

أولاً: المثل من الناحية الظاهرية هو وقت الولادة، وفيه المرأة تستعد وتتهيأ لهذا الموعود من خلال جملة من التغيرات الفسيولوجيّة الداخلية يقوم بها جهازها اللاإرادي لوضع حملها، وعليه أنّ هولاء القوم وصفهم بأنّهم مهيؤون أنفسهم في موعد ساحات الوغى على الانفراج أي الهروب والفرار وهو قرار متخذ مسبقاً وليس وليد حالة المعركة، وبالتالي هو الآخر مهيّاً مسبقاً لدى المرأة الولود.

ثانياً: أنّ مستوى الانفراج في الوضع الولادي للساقين هو مهيّاً من خلال سيطرة الجهاز العصبي وأوامره إلى الغدد والأجهزة الوظيفية كافة لاستقبال هذا الأمر، ومنها إفرازات الهرمونات الجنسية المبيضية وهي «الاستروجينات» والتي أهمها «الاستراديول» الذي يهيئ الظروف الخروج الجنين من خلال:

1 - إرخاء أربطة الحوض إذ يصبح المفصل العجزى الحرقفي مرتخياً نسبياً.

2 - ويصبح الارتفاق العاني مرناً.

3 - توسع القُبُل نفسه.

وهي عملية تهيئ لمرور الجنين فضلاً عن شدّة التقلّصات لعضلات البطن والرحم والجذع، من خلال الايعازات العصبية والتي تصل قوة الدفع إلى (25

ص: 93


1- محمد:20.

باوند) والتي تكون مصحوبة بانفراج الساقين لأبعد ما يمكن.

ومنه أراد افتراق الطايفتين عن بعضهما في القرارات والأهداف والإيمان والتقوى وبالتالي الانفراج عن مواقع الحق إلى مواقع الباطل.

ثالثاً: انّ انفراجهم الذي وصفه بوضع المرأة أثناء ولادتها هو ولادة فتنة جديدة للمسلمين، لعدم ثباتهم على الحق.

علم الحركة

قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصفه لرسول الله وأهل بيته:

«الْحَمْدُ للهِ النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ، وَالْبَاسِطِ فِيهِمْ بِالْجُودِ يَدَهُ، نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً (1)، وَبِذِكْرِهِ نَاطِقاً، فَأَدَّى أَمِيناً، وَمَضَى رَشِيداً، وَخَلَّفَ فِينَا رايَةَ الْحَقِّ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ (2)، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ (3)، وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلامِ (4)، بَطِيءُ الْقِيَامِ (5)، سَرِيعٌ إِذَا قَامَ، فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ، وَأَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ، جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ، فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللهُ حَتَّى يُطْلِعِ اللَّهُ لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ وَيَضُمُّ نَشْرَكُمْ (6)، فَلا تَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مُقْبِلٍ (7)، وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ (8)، فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَيْهِ (9)، وَتَثْبُتَ الْأُخْرى، فَتَرْجِعَا حَتَّى تَتْبُنَا جَمِيعاً»(10).

ص: 94


1- صَادِعاً: فالقاً به جدران الباطل فهادِمَها.
2- مَرَقَ: خرج عن الدين.
3- زَهَقَ: اضمحلّ وهلك.
4- مَكِيث: رَزِين في قوله، لا يبادر به من غير رويّة.
5- بطيء القيام: لا ينبعث للعمل بالطيش، وإنما يأخذ له عدّة إتمامه.
6- يضُمّ نشْرَكُم: يصل متفرّقكم.
7- المُقْبِل: المتوجّه إلى الأمر الطالب له، الساعي إليه.
8- المُدْبِر: من أدبرت حاله، واعترضته الخيبة في عمله وإن كان لم يَزَلْ طالباً له.
9- قائمتاه: رِجْلاه.
10- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 189

تُشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى وصف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من خلال علامات الخشوع لله تبارك وتعالى، وملكة الأخلاق التي تصدر منها الأفعال الحسنة.

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (1).

(وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (2).

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام بوصفه لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ويحدّد فيها بعض مميزاته ومن خلال باطن الوصف يضيف أحد العلوم المهمّة، وهو «علم الحركة» إلى «علم البلاغة»، انّ الكلام المنطوق ما هو إلّا نماذج لمهارات حركيّة إرادية محكمة شأنها شأن أي حركة إرادية تعتمد على درجة التكامل الآلية العصبية المستقبلة، وبالتالي استخدم أمير المؤمنين أحد العلوم لوصف خارجيّة الكلام المنطوق لرسول لله صلی الله علیه و آله و سلم.

شروط القرار

إنّ عمليات اتخاذ القرار تمر بمراحل عديدة منها:

1 - التنبؤ

2 - التخطيط

والكثير من المراحل

وعليه يصف أمير المؤمنين علیه السلام خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم بسرعة صنع القرار واتخاذه

ص: 95


1- الفتح: 29.
2- القلم: 4.

للمعرفة الكاملة به، ومدى تحقيقه للأهداف المرجوة من اتخاذه مع خارجيّة الموقف، هذا من جانب، والجانب الآخر: ربّما أراد به أَنّه لا (يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) إليه، وبالتالي لا مجال في مخالفته ومناقشته في تلك القرارات التي تهمّ المجتمع الإسلامي آنذاك.

سريع القيام

كما يصفه بسرعة القيام، أي قوة وسرعة الحركة، أي المقدرة العالية بجدّية أداء تلك القرارات، وهو وصف ظاهري لحركة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم.

وبالتالي نستخلص أنّ أمير المؤمنين علیه السلام في هذا المقطع يعطي وصفاً ظاهرياً لحركات رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أي تحديد المظاهر الحركيّة لما لها من أهمية كبيرة في إعطاء الصورة عن البشر ومدى استعدادهم وكفاءتهم، وبالتالي تحديد الفوارق والاختلاف بينهم من خلال توظيف أحد العلوم المهمّة وهو «علم الحركة»، الذي يهتم بدراسة المظهر الخارجي دون معرفة مسبّبات الحركة.

الموت

قال أمير المؤمنين علیه السلام في بيان قدرة الله وانفراده بالعظمة وأمر البعث:

«وَ لَا رَجْعَةَ كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ وَ قَدِمُوا مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ: اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ.

ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً (1) فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ

ص: 96


1- وُلُوجاً: دُخُولاً.

أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ (1) فِي مَطَالِبِهَا وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ (2) جَمْعِهَا وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ [يُنَعَّمُونَ] يَنْعَمُونَ فِيهَا وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ ل(3) ِغَيْرِهِ وَ الْعِبْ ءُ (4) عَلَى ظَهْرِهِ وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ (5) بِهَا فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ (6) عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ وَ يَتَمَنَّى أَنَ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ.!

فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ (7) فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ وَ لَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ وَ لَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ.

ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً (8) بِهِ فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ قَدْ [أُوحِشُوا] أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ لَا يُسْعِدُ بَاكِياً وَ لَا يُجِيبُ دَاعِياً.

ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ. (9)» (10).

ص: 97


1- أغْمَض: لم يفرّق بين حلال وحرام، كأنه أغمض عينيه فلا يميّز.
2- تَبِعاتها - بفتح فكسر - : ما يطالبه به الناس من حقوقهم فيها، وما يحاسبه به الله من منع حقه منها وتخطّي حدود شرعه في جمعها.
3- :المَهْنأ: ما أتاك من خير بلا مشقة.
4- العبء: الحمْل والثّقَل.
5- غَلِقَتْ رهُونُهُ: استحقّها مُرْتَهِنُهَا، وَأعْوَزَتْهُ القدرةُ على تخليصها، كناية عن تعذّر الخلاص.
6- أصْحَرَ له: من «أصْحَرَ» إذا برز في الصحراء، أي على ما ظهر له وانكشف من أمره.
7- خالط لسانُه سَمْعَهُ: شارك السمع اللسان في العجز عن أداءِ وظيفته.
8- الْتِياطاً: التصاقاً به.
9- زَوْرَته: زيارته.
10- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 229.

تشير الآيات الكريمة الآتية إلى أنّ كل نفس ذائقة الموت، وهو وعد للمصدّق ووعيد للمكذّب، ولا دافع له ولو كان في حصون مرفوعة ومهما كانت أنواع الوقاية فليس هناك مأمن من الموت أيّاً كان شدّة الركن الذي يأوون إليه، فسوف يتجرعون الموت جرعةً جرعةً، وسوف يأخذون أجورهم بالكامل.

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (1).

(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ۗ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) (2).

(يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) (3)

(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (4)

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في أحد روائع خطبهِ، والتي يذكّر الناس فيها بأسباب خلق الله لهم، وماهو تكليفهم في هذه الدنيا، وكثير منهم من غلبتهم القوة الشهوانية على القوة العقليّة، فصار همهم ما يأكلون، وما يشربون، وما يلبسون، وكل ما تميل إليه شهواتهم، بل عبدوا الدنيا طول أعمارهم ولم تف بصغيرة لهم.

حتى حانت ساعة الانتقال إلى العالم الآخر إذ اجتمعت عليه شدة الموت، وبدأ يتذكر فيما حرق عمره وأفناه وهو في حسرة وندم بعدم الانتباه إلى مافاته، وعدم توبته قبل ساعة خروج روحه.

ص: 98


1- آل عمران: 185.
2- النساء: 78.
3- إبراهيم: 17.
4- ق: 19.

وهنا يصف أمير المؤمنين كيفية انتقال الإنسان إلى عالم «البرزخ» أي وفاته ومفارقته للحياة، من خلال مراحل تمّ تسميتها ووصفها لما يجري عليه من تغيّرات يمكن ملاحظتها من الخارج وتحسسها والتي هي تدلّل على تغيّرات فسيولوجيّة على الأعضاء والأجهزة وانعكست على وظائفها واحتمالية المراد من ذلك ما يلي:

مراحل الموت

المرحلة الأولى: اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ

وهي المرحلة التي يغشى الموت فيها الإنسان، وتكون في شدتها وقد تمّ ذكرها على لسان الرسل والأنبياء والأوصياء، والتي يشاهد فيها الإنسان أهوالاً كثيرة، إذ يذكر إبراهيم الخليل علیه السلام لملك الموت: «هلا تستطيع أن ترينى صورتك التي تقبض فيها روح الفاجر؟ قال: لا تطيق ذلك. قال: بلى قال: فأعرض عني، فأعرض عنه ثمَّ ألتفت إليه فإذا هو برجل أسود، قائم الشعر منتن الريح، أسود الثياب، يخرج الريح من فيه ومناخره لهيب النار والدخان. فغشي على إبراهيم ثمَّ أفاق، فقال: لو لم يلقَ الفاجر عند موته إلّا صورة وجهك لكان حسبه» (1).

ومن هنا احتمالية أنّ الذين هم في غمرات الموت، وما يشاهدونه من أهوال الموت وهى كما وصفها الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم أجمعين.

في البحار عن العسكري علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال: قيل للامام الصادق علیه السلام: صف لنا الموت قال علیه السلام: «للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس بطيبه وينقطع التعب والألم كله عنه، وللكافر كلسع الأفاعي، ولدغ العقارب أو أشد، قيل: فإنّ قوماً يقولون انّه أشدّ من نشرٍ بالمناشير، وقرض بالمقاريض، ورضخ بالأحجار، وتدوير قطب

ص: 99


1- جامع الأخبار: ص 198.

الأرحية على الأحداق؟ قال: كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين» (1).

وخلال هذه المرحلة عندما يصبح يقيناً لدى الإنسان من خلال مالمسه وشاهده وسمعه أنّه مفارق الدنيا يصف هذه المرحلة مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بمرحلة مراجعة النفس ومجالستها، والندم على قضاء العمر في المعاصي، وما لا يرضي الله، وهي تعدّ نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى إذ منحه برهةً للندم والتوبة وقد تكون الأخيرة في عالم الدنيا وهذا دليل من خلال كلام مولانا، أنّ الموت قد اجتمع عليه ولكنّه في هذه المرحلة محتفظ بكل قواه وقدراته العقليّة، ومنها محاسبة النفس من خلال التذكّر واستدعاء المعلومات من الذاكرة وتصوّرها وتسلسلها وإدراك أنّ أعماله السابقة على خطأ ولكنّه استثنى في هذه المرحلة «فترات أطرافهم»، واحتمالية المراد من أسباب تلك الفترات ما يلي:

1 - ضعف وسكون في حركة الذراعين والساقين والتي كانت لها القابلية والقدرة على التحرّك وأداء الواجبات ودفع الأذى عن النفس، وهنا ضعفت وسكنت واستسلمت لما شاهدته وتأكدت من عدم قدرتها على درية.

2 - يعني بدء توقف الحياة مع بدء توقف تلك الأطراف، وهذا ربّما يعود للأسباب الآتية:

أ - كما هو معلوم أنّ الحركات التي تقوم بها الأطراف هي إرادية قادمة من «قشرة المخ» من القشرة الحركيّة والتي تتكون من ثلاث باحات ثانوية وفضلاً عن قسم من هذه الحركات تأتي ايعازاتها من جذع الدماغ والعقدة القاعدية والمخيخ والنخاع.

وعليه ربّما يكون التوقف فى عمل الأطراف هو لتوقف عمل إحدى الباحات المسؤولة عن الإشارات العصبية الحركيّة لعضلات الأطراف.

ص: 100


1- البحار ج 6، ص 152. عن تسلية الفؤاد في بيان الموت والمعاد.

ب - وربّما ذلك التوقف في الأطراف ناتج عن قصور كبير في كميّة الدم الواصل عن طريق الشرايين إلى الأطراف السفلى والعليا، وهذا ناتج عن تحوّلات كبيرة في مجرى الدم، نتيجة ما أحدثته سكرات الموت والمخاوف الكبيرة، وما سببته أعراض الخوف من زيادة عمل الأجهزة، وانخفاض في عمل أجهزة أخرى مما يسبب تحويل مجرى الدم إلى مكان الأجهزة الأكثر عملاً كالدماغ والكلى وبالتالي انعدام الدم المحمّل بالأوكسجين والمغذيّات الكافية سيؤثر على اضعاف بل ايقاف عمل الأطراف، لاسيما تصاحب هذه المرحلة انخفاض درجة حرارة الأطراف والتي أحد أسبابها قلة الدم الواصل إلى المحيط الجلدي للساقين والأطراف، والذي يعدّ أحد أعماله الحفاظ على التوازن الحراري.

ج - عدم السيطرة على التوزيع الآيوني خارج وداخل خلايا تلك الألياف العضلية المكوّنة لعضلات الأطراف السفلى والعليا مسببة هي الأخرى فقدان وتعطيل عملها.

كما شملت هذه المرحلة تغير ألوانهم، والتي لم يستثن أمير المؤمنين علیه السلام أي جزء من الجسم، أو تحديد موقع معين، وعليه قد شمل الجسم ككل ويعود تغير الألوان إلى احتمالية ما يلي:

1 - إنّ أحد الأعراض التي تصاحب الخوف الشديد، هو تغيّر لون الوجه إلى:

أ - احمراره

ب - اصفراره

وعليه هذا يؤكد ما ذكرناه في التغير الأول للمرحلة الأولى وه-و «ف-ترات أطرافهم»، والعائد إلى حدوث تغيرات كبيرة في حجم الدم وقابلية ناتجة، مما أثر على تغيّر ألوان وجوههم، وهذا ينسحب على تغير في مجرى سوائل الجسم ومنها الماء الذي يشكل نسبة 60 - 75 % من وزن الجسم، وبالتالي أثر ذلك على شكل

ص: 101

البشرة، ولاسيما المكونة للجلد وطبقاته القريبة من تناقص في كميّة الدم والماء بسبب الاضطراب في تحكّم التوزيع لها، كما يدلّل على دور الدم والماء وسوائل الجسم في التأثير على لون البشرة، وما نشاهده من تغير ألوان بشرة الأفراد الذين يصابون «بفقر الدم - عجز الكلى - النزف الشديد - التهاب الكبد الفايروسي - الجفاف ...».

توثر تلك الأمراض والإصابات على نسبة الدم والسوائل في الجسم ونسبتها، ممّا يؤثر على ألوانهم.

2 - الميلانين: إنّ لون الجلد ناشى عن صبغة متعددة أكثرها أهمية صبغة الميلانين، وهي من مشتقات الحامض الأميني تايروسين، ويعتقد أنّ الفروق العرقية في الجلد تعود كلياً إلى كميّة الميلانين الموجودة في الجسم فضلاً عن أنّ عدد الخلايا لدى المختلفين في الألوان من الميلانين ه-و متشابه ولكن يعود الاختلاف إلى نشاط تلك الخلايا من الميلانين.

المرحلة الثانية: ثمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً

وهنا يصوّر مولانا أمير المؤمنين علیه السلام مرحلة جديدة يمر بها الإنسان أثناء مفارقته للدنيا وهي مرحلة ازدياد الموت فيهم ولوجاً أي دخولاً في أجسامهم، وابتداءً أنّ كل شيء يدخل في جسم مادي لابد أن يكون له موقع أو مواقع لدخوله ونفس الشيء لخروجه وانّ ازياد الموت دخولاً فيهم قد جعل مظاهر الموت على الإنسان أكثر كما يصفها أمير المؤمنين علیه السلام، اضافة إلى ما سبقها في المرحلة الأولى وقد أشار علیه السلام أول مظاهر هذه المرحلة هو «حيل بينه وبين منطقه» والمراد هنا حدوث حاجز بينه وبين قدرته على اصدار النطق بالأحرف المعروفة والكلمات المفهومة، أي توقف قابيلة النطق والتكلم كما أكد على عدم توقف البصر والسمع وصحة عقله.

ص: 102

واحتمالية أسباب التوقّف الحادث ما يلي:

1 - كون عملية التكلّم تعدّ من المهارات الحركيّة الإرادية تعتمد على عضلات محرّكة وهي «عضلات الحنجرة (الطيات اللحمية) - عضلة اللسان - وعضلات الشفتين» نتيجة مرور الهواء «الزفير» على الحبال الصوتية وبما أنّها عضلات إرادية مجهزة بأعصاب حركيّة مسببة بأجمعها عملية اصدار الأصوات والنطق، وبما أنّه تمّ ذكر أحد أسباب توقف عمل العضلات في الأطراف «السفلى والعليا» وهو الاضطراب والتوقف في عملية القشرة الحركيّة الأولية في الدماغ ذات الصلة في التحكم بحركات «اللسان - الشفتين - عضلات الحنجرة – وعضلات الساقين - والأطراف العليا ...».

2 - كما أنّ تخريب «باحة بروكا للنطق» التي تعدّ الباحة المسؤله إلى حدّ كبير عند توقفها أو تخريبها إلى تدهور النطق ومؤدية إلى حبسة كلامية، أي عدم قدرة الفرد على النطق ولكن دون أن يكون هناك خلط عقلي وتدهور في العمليات العضلية ولذلك أوضح ذلك أمير المؤمنين علیه السلام إذ أنّ توقف النطق لم يصطحبه توقف في قدرة التفكير والتذكر والسمع والبصر ...

كما انّه استخدم كلمة «النطق» كون الإصابات ربّما تؤدّي إلى اخراج الأصوات والصيحات ولكن لا تعدّ كلمة مفهومة ولذلك حدّد ذلك بالنطق أي الكلام المفهوم.

المرحلة الثالثة: فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ

وهي المرحلة الثالثة التي وصفها أمير المؤمنين علیه السلام بزيادة شدة الموت وغلبته على الإنسان وقد زادت ظواهر زحفه نحوه ففارقته الحياة بتوقف حاسة السمع التي تبعت التوقفات الأخرى للمراحل السابقة، ولكن استثنى بقاء البصر بأداء وظيفته من خلال ما ذكره بقدرته على النظر بوجه أهله، ولكن في هذه المرحلة لم يشر أو يؤكد على استمرار قدرته على التحكم أو فقدان القدرات العقليّة كما ذكر

ص: 103

في المرحلة السابقة أو ما يدلّل على معافاتها، ومن المحتمل أسباب مخالطة سمعه لسانه هو ما يلي:

أولاً: احتمالية توقف العصب السمعي الذي يؤدي إلى الصمم.

ثانياً: تدمير و توقف الباحات الرئيسية للمنطقة السمعية في الدماغ الواقعة في «القفص الصدعى»

ثالثاً: أنّ ما تمّ ذكره في النقطتين (1 - 2)، ربّما كان السبب في توقفهم هو العجز في ايصال الدم المحمّل بالأوكسجين إلى الدماغ ولاسيما إلى هذه المناطق أو أجزاء منه مسببة التوقف لاسيما أنّ الدماغ يحتاج إلى (900 مليلتر / د) من الدم، فإذا عجز ايصاله خلال (20 ثانية)، ربّما يسبب تلفاً في خلايا الدماغ، وتظهر آثاره على المناطق التي يتحكم بها ذلك الجزء في الجسم.

المرحلة الرابعة: ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ

وهي المرحلة الأخيرة التي يصوّرها بالتصاق الموت فيهم، فقبض البصر وضمه إلى باقي الوظائف التي أوقفها الموت وتبعه بخروج الروح من جسده، ومن هذه اللحظة يعتبر أمير المؤمنين علیه السلام أنّ ذاك الجسد أصبح جيفة، وهنا ربّما المراد لفت النظر إلى بدء التفسّخ الذي يبدأ في الكائن الحي من لحظة خروج الروح وتشير المصادر العلميّة إلى أنّ مفارقة الروح إلى الجسد، والتي يرافقه توقف في جميع أجهزة الجسم أنّ أول مرحلة من مراحل التفسّخ تبدأ في الدم؛ إذ يفقد جميع صفاته وهو الذي يعدّ النسيج الحيوى المسبب إلى بقاء البيئة الداخلية للجسم سليمة بسبب ما يحمله من مواد إلى جميع أجهزة الجسم لمواجهة التغيّرات الحادثة بسبب التغيّرات الخارجية، وعليه فإنّ جميع أو أغلب النظام الدفاعي يكون قد توقف بتوقف هذا السائل.

فضلاً عن أنّها إشارة إلى أنّ التفسخ في الجسد يمر بمراحل مختلفة، كما قلنا

ص: 104

تبدأ بتخثّر الدم والتفسّخ، وتذكر المصادر العلميّة أنّ بدء التفسخ يبدأ من منطقة في إحدى جهتي البطن، ويظهر الاختلاف في اللون فيها ثمَّ تتسع لتشمل جميع الجسم، وهذا لا يعني أنّ في الأعضاء والأنسجة الأخرى لا يبدأ الت-فسّخ حتى وصول التفسّخ من منطقة البطن.

علم التغذية

قال أمير المؤمنين علیه السلام في ذم الدنيا:

« ... مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ! وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ (1)، وَزَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ.

كَمْ مِنْ وَايْقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ، وَذِي طُمَانِينَةٍ إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ، وَذِي أُبَّهَةٍ (2) قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً، وَذِي نَخْوَةٍ (3) قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلاً!

سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ (4)، وَعَيْشُهَا رَنِقٌ (5)، وَعَذْبُهَا أُجَاجٌ (6)، وَحُلُوهَا صَبِرٌ (7)، وَغِذَاؤُهَا سِمَامٌ (8)، وَأَسْبَابُهَا رِمَامٌ (9)! حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ، وَصَحِيحُهَا بَعَرَضِ، سُقْمٍ! مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ، وَعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ، وَمَوْفُورُهَا (10) مَنْكُوبٌ، وَجَارُهَا مَحْرُوبٌ (11).

ص: 105


1- يُوبِقُهُ: يُهْلكه.
2- أُبّهَة - بضم فتشديد - : عظَمَة.
3- النَّخْوَة - بفتح النون - : الافتخار.
4- دُوَّل - بضم الدال وفتح الواو المشددة - : المتحوّل.
5- رَنِق - بفتح فكسر - : كَدِر.
6- أُجاج: شديد المُلوحة.
7- الصّبِر - كَكَتِف - : عُصارة شجر مُرّ.
8- سِمام جمع سم، مثلّث السين وهو من المواد ما إذا خالط المزاج أفسده فقتل صاحبه.
9- رِمام: جمع رُمّة بالضم: وهي القطعة البالية من الحبل.
10- مَوْفُورها: ما كثر منها. مصاب بالنكبة، وهي المصيبة: أي في مَعْرِض لذلك.
11- مَحْرُوب: من «حَرَبَهُ حَرْباً» - بالتحريك - إذا سلب ماله.

أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً وَ أَبْقَى آثَاراً وَ أَبْعَدَ آمَالًا وَ أَعَدَّ عَدِيداً وَ أَكْثَفَ جُنُوداً؟ تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ وَ آثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ، ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَ لَا ظَهْرٍ قَاطِعٍ (1)» (2).

تشير الآيات القرانية الكريمة الآتية إلى وصف الناس الذين ينقطعون إلى حب الشهوات من النساء والبنين والأنعام والزرع، والمال وحب الأكل، بأنّهم لا يشبعون منها تاركين أمر آخرتهم، والواجب عليهم أن يوظفوا هذه النعم التي أسبغها الله عليهم في الدنيا متاعاً إلى آخرتهم.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (3).

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (4).

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) (5).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (6).

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في وصف الدنيا والتحذير من التمسك بها، ومن خلاله يظهر التحذير الكبير عن «الغذاء»، وعلى الرغم من الأهمية الكبرى التي

ص: 106


1- ظهر قاطع: راحلة تُرْكَبُ لقطع الطريق.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 239.
3- آل عمران: 14.
4- آل عمران: 185.
5- الأعراف: 51.
6- الأنعام: 141.

يقوم بها الغذاء والذي يعزى له البناء الحادث في أجهزة الجسم السليمة هي في ذات الوقت تعدّ سموماً كما يصفها أمير المؤمنين علیه السلام وهذا عند عدم تقدير العلاقة بينه وبين الغذاء أي عند الافراط في تناولها أو التركيز على أحد أنواع الأغذية والتقصير في الأغذية الأخرى، فمثلاً الافراط في تناول البروتينات الحيوانية يعدّ أحد الأسباب لمرض «النقرس»، كما أنّ الافراط في تناول المواد الغذائية السكّرية يؤدي إلى مرض السكّر والسمنة وكذلك اصابات القلب، وغيرها من الإصابات المرضية من خلال تهيئة المناخ المناسب للإصابة، كما أنّ التأكيد على الوجبات الدهنية هو الآخر يؤدي بداية إلى زيادة في خزن الشحوم في الخلايا الدهنية في الجسم، وتوسع تلك الخلايا وإلى زيادة في الوزن بصورة غير طبيعية، وزيادة الدهون القاتلة في السائل الدموي، وترسب جزء منها في الشريان مسببة بداية إلى اصابات شتى في الجهاز الدوري التنفسي، كما أنّ الإكثار من تناول الفيتامينات هى الأخرى ضارة؛ لأنّ جزءً منها يكون الجسم غير قادر على طرحها خارج الجسم في حالة زيادتها عن معدلها الطبي مما يسبب خزنها وبالتالي تكون عواقبها خطيرة على وظائف الجسم ناهيك عن النقص الحادث في مستوى المواد الغذائية الأخرى في حالة التأكيد على نوع واحد.

أمّا إذا كان الافراط في جميع صنوف الغذاء هو الآخر يصب في نفس الاتجاه ولكن تكون له سلبيات آنية وأخرى مستقبلية، والآنية وعندما يصاب الإنسان بالتخمة يكون معرضاً إلى ما يلي:

1 - خناق الصدر، لاسيما إذا كانت الوجبة الغذائية تمتاز «بالدهون» أكثر من باقي الصنوف الأخرى.

2 - الإصابة ببعض الجراثيم، كالكوليرا، وعصيات الحمّى التيفية، والأطوار الاغتذائية للأميبا؛ وذلك لعدم تعرّض كامل الطعام للحموضه المعدية وللهضم

ص: 107

المبدئي في المعدة، إذ حموضة المعدة هي المسؤولة عن القضاء على تلك الجراثيم وأنّ كثرة الطعام في جوف المعدة والذي لا يتناسب مع امكانياتها هو السبب في ذلك التقصير من الجهاز الهضمي.

3 - توسع المعدة الحاد وهي حالة خطيرة ربّما تؤدي إلى الوفاة.

4 - أنقتال المعدة وهي إحدى الإصابات الخطيرة التي تصيب المتخمين.

وهناك الكثير من الإصابات التي ترافق الافراط في التغذية، منها آنية ومنها تظهر آثارها مستقبلية بسبب تراكم سموم تلك الأغذية وبشكل أكبر مما تمّ ذكره، وبالتالي من هنا جاء التحذير عن مشاكل التغذية والتي تصل إلى حدّ السمية التي وصفها أمير المؤمنين علیه السلام.

مسبّبات الهرم

قال أمير المؤمنين في ذم الدنيا:

«أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً وَ أَبْقَى آثَاراً وَ أَبْعَدَ آمَالًا وَ أَعَدَّ عَدِيداً وَ أَكْثَفَ جُنُوداً؟ تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ وَ آثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ، ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ وَ لَا ظَهْرٍ قَاطِعٍ(1).

فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ (2)؟ أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ؟ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً؟، بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَادِحِ (3) وَ أَوْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ (4) وَ ضَعْضَعَتْهُمْ (5) بِالنَّوَائِبِ وَ عَفَّرَتْهُمْ (6) لِلْمَنَاخِرِ وَ وَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ (7) وَ أَعَانَتْ

ص: 108


1- ظهر قاطع: راحلة تُرْكَبُ لقطع الطريق.
2- الفِدْية: الفّداء.
3- أَرْهَقَتْهُمْ: غَشِيَتْهُمْ. الفوادح - من فدحه الأمر - إذا أثقله.
4- القوارع: المِحَن والدواهي.
5- ضَعْضَعَتْهُمْ: ذَلّلَتْهُمْ.
6- عَفّرَتْهم: كَبَتْهُم على مَنَاخِرَهِم في العَفَر، وهو التراب.
7- المناسم: جمع مِنْسَمْ، وهو مقدم خُفّ البعير، أو الخُفّ نفسه.

عَلَيْهِمْ (رَيْبَ الْمَنُونِ)؛ فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا (1) وَ آثَرَهَا وَ أَخْلَدَ إِلَيْهَا (2) حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الْأَبَدِ.

هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلَّا السَّغَبَ (3)؟ أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلَّا الضَّنْكَ (4)؟ أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلَّا الظُّلْمَةَ؟ أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلَّا النَّدَامَةَ؟

أَ فَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ؟ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ؟ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا!» (5).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى أنّ كل نفس إنسانية سوف تلتقى بالموت، وأنّ الحياة الدنيا ما هى إلّا دار أختبار سيلاقي بها الإنسان الشر والخير وستعود الروح إلى خالقها وسيجزى الإنسان على أعماله.

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (6)

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (7).

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ۖ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (8)

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يصف ما تقدّمه الدنيا للإنسان، وبهذا يصنف مراحل الحياة التي يمر بها الإنسان وما تتركه عليه من تأثيرات فسيولوجيّة وسايكولوجيّة ومورفولوجيّة تقرّبه إلى الهرم والمنية.

ص: 109


1- دَان لها: خضع.
2- أخلدَ لها: ركن إليها.
3- السّغَب - بالتحريك - : الجوع.
4- الضّنْكَ: الضّيق.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 239.
6- الأنبياء: 35.
7- البقرة: 155.
8- آل عمران: 151

تصنيف مراحل الضعف والهرم

انّ الحديث عن أسباب الضعف وإعطاء تصنيف لمراحل الهرم، بل التحدّث عن أسبابه هو أمر في غاية التعقيد لاسيما أنّ هذه المسأله «الشيخوخة» تأخذ قسطاً كبيراً من تفكير الأفراد، بل شغلت العلماء بالبحث المستمر لكشف أسرار ذلك الغموض وأصبحت بعض الدول تجعل من هذه المرحلة من حياة الإنسان بأنّها أحد مسببات العجز الاقتصادي وتبحث عن الحلول لها، وباتت الدول المتقدّمة ترصد مبالغ خيالية من أجل التعرّف على الأسباب الكامنه وراء الشيخوخة، بل أصبح الهمّ الشاغل لذلك الزائر الذي لا يمكن غلق الباب بوجهه وهناك كمّاً كبيراً من الأبحاث العلميّة لحل ذلك اللغز، ولكن كل منهم يرى المشكلة ويوعز لأسبابها من جانبه التخصّصي العلمي، بل في الاختصاص الواحد كلّاً له رؤيته، تجدها تارةً تنسجم وأخرى تختلف، وأنّ أكثر المصادر العلميّة تؤكد أنّ عمليات الهدم في الأجهزة الوظيفية، تبدأ بعد سن (30 سنة) وببساطة تعزى أسباب الشيخوخة إلى العجز الاعتيادي في الوظائف الفسيولوجيّة، ولكن لا زالت الشفرة الخاصة التي تحدد أسباب الضعف والشيخوخة، وكيفية ايقافها مبهمة.

وأمير المؤمنين علیه السلام الذي وضع بصماته على جميع العلوم الأخروية والدنيوية منذ تلك الحقبة التاريخية حدّد أسباب الوهن وكيف يزداد زحف الشيخوخة؟ كما وضّح لها تصنيفاً علمياً يمتاز بالدقة والوضوح إذ ما يظهره المقطع من الخطبة تسلسلاً للضعف والهرم، ومن وجهات بيولوجيّة، وسايكولوجيّة، ومرضية، منها خارج عن إرادة الإنسان ومنها بإرادته معززة الضعف والشيخوخة وهي:

1 - أرهقتهم بالفوادح.

2 - أو هقتهم بالقوارع.

3 - وضعضعتهم بالنوائب.

ص: 110

4 - عفرتهم للمناخر.

5 - وطئتهم بالمناسم.

6 - أعانت عليهم ريب المنون.

ان هذه الحصيلة الدنيوية لم يحددها أمير المؤمنين علیه السلام بمرحلة عمرية، أو فئةٍ دون أخرى وهذا في غاية الأهمية، إذ يمكن أن يصاب بها الجميع وفي أي مرحلة من مراحل حياته، إذا مرّت عليه تلك المراحل، وفي حياتنا نشاهد الكثير من الناس متساوون في العمر الزمني ولكن يختلفون كثيراً في العمر البيولوجي، فمنهم من تجده ينسجم مع مرحلته العمرية، ومنهم من ترتسم على حركته وقوامه وقابليته - فضلاً عن شكله ومظهره الخارجي وتقاسيم وجهه - علامات التقدّم بالسن «الشيخوخة».

وفي الجانب الآخر أمر في غاية الأهمية وهو ذلك التسلسل لمراحل الضعف والشيخوخة وأسبابها؛ إذ لا يمكن أن تتقدم مرحلة على أخرى، كأنّما وضعها الإمام علیه السلام لبيان أهمية المرحلة بفتح الطريق للمرحلة التي تليها، ومن هنا مثلاً «وضعضعتهم بالنوائب» لا يمكن وضعها في مقدمة المراحل كون النوائب لا تحدث ذلك الصدع والتغير النفسي والبيولوجي والفسيولوجي، على جسم الإنسان في الأعمار الصغيرة؛ لقلة الإدراك وعدم نضج العمليات العقليّة، وبالتالي خصصت المرحلة الأولى وهي «أرهقتهم بالفوادح»، وما تصيب الإنسان من آفات فتضعف الفرد بغض النظر عن المرحلة العمرية كأن يكون جنيناً أو رضيعاً أم وليداً ...

المرحلة الأولى: أَرْهَقَتْهُمْ بِالْفَوَادِحِ

لقد حدّد أمير المؤمنين هذه المرحلة كونها تنسج أول خيوط الضعف والشيخوخة وهي الآفات «المرضية» التي تصيب الإنسان، وهي تعزى لأسباب مختلفة، منها إرادية كالافراط في تناول أغذية أو الادمان على الخمور

ص: 111

والمخدرات أو أي عادة سيئة لها تأثيراتها على أجهزة الجسم المختلفة، ومنها الجهاز العصبي والهرموني مسببة أضعافه وتحميل تلك الأجهزة مما لا يطيقها والعمل على تغيير ايقاعها الحيوى بالاتجاه السلبي وبالتالي اضعاف كفاءة ذلك الجهاز وغيره مسببة انخفاض الكفاءة الوظيفية للإنسان.

أما الطريقة الثانية التي يصاب بها هذا الإنسان ربّما أسبابها خارجه عن أرادته كالتلوث الذي يصيب البيئة والذي ينعكس عليه بأنواع من الإصابات المرضية المختلفة كالتسمم بالغازات أو الأمراض الفيروسية وغيرها ... ومن هنا حدّد أمير المؤمنين علیه السلام المرحلة الأولى بأحد فروع الطب وهو «الأمراض السريرية».

المرحلة الثانية: وأَوْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ

أى أضعفت بدنهم المحن وهو ما يتعرّض له الإنسان من بلايا في مسيرة حياته وأنّ البلوى والمحن منها ما يكون خيرا، ومنها ما يكون شراً والأهم من ذلك هو ما يرافق ذلك البلاء فإنّ أعظم ما يرافقه هو «الغم» و «الخوف» و «القلق» و «التوتر» ... كما وأوضح أمير المؤمنين علیه السلام الفرق بين الغم والخوف حين سئل عن ذلك فقال: «الخوف مجاهدة الأمر المخوف قبل وقوعه، والغم ما يلحق الإنسان من وقوعه» (1).

وقد تعرضنا في مواضع سابقة إلى تأثيراته الفسيولوجيّة على أجهزة الجسم ولاسيما العصبية الهرمونية والعضلية والتي تجعل من ذلك الكائن البيولوجي أرضاً مهيأة وخصبة للإصابة المرضية، ولا خلاف ان كانت خارجيةً أو داخليةً من خلال اضعاف جهازه المناعي وخير شاهد على خطورة الخوف والغم ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات وجعلها بلاء ومنها:

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ

ص: 112


1- شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد، ج20، ص 285.

إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (1).

وبالتالي أنّ أمير المؤمنين حدّد المرحلة الثانية من الضعف وأسباب تقدّم العمر والوصول للشيخوخة بأحد العلوم المهمة وهو «علم النفس الفسيولوجي الذي عرف حديثاً»، ومدى تأثيراتها على جسم الإنسان.

المرحلة الثالثة: وضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَايِبِ

أي أضعفتهم، وأذلتهم، وأبلت أجسادهم تلك المصائب التي يواجهونها على مختلف مراحل حياتهم والتي لها الأثر البالغ في نفوسهم وسلوكهم، وما تحدثه من تأثيرات فسيولوجيّة معقدة على قابليتهم، وهي الأخرى ما يمر به الفرد من أحداث يفاجأ بها كفقد الأحبة، والأهل، أو الأصدقاء، أو ضياع الثروة، والمال ... أو غيرها ذات الوقع النفسي على الفرد، وما تسببه من حزن أو ندم وألم ... محدثة تغيرات في أجهزة القلب والدوران والتنفس، والجهاز الهرموني والعصبي، محملة تلك الأجهزة أعباء فوق أعبائها مؤديةً إلى اضعافها.

المرحلة الرابعة: وعَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ، وَوَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ

وهي مرحلة تجمع كل ما سببته المراحل الأخرى مجتمعة على هدم البنية الأساسية للجسم، ووصفها بأنها تنهك القوى وترمي بهم أرضاً وتدوسهم بأرجلها و تضغطهم بشدة، وهو وصف لآثار تلك المراحل من الآفات والمحن والنوائب التي ضعضعتهم، وبالتالي جعلت ذلك الجسد عرضة للأخطار والبلى الناتج من انهيار القوى البدنية والمناعية غير قادر على درء الأخطار المحدقة، التي يلمسها أو التي يراها أو غير الواقعة تحت تلك الحواس.

5 - المرحلة الخامسة: وأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ.

ان كل ما جرى على الإنسان في تلك المراحل الحياتية وما واجهه يصل به في

ص: 113


1- الأنبياء: 87

حقيقة الأمر إلى نهايته، ولما لهذه المرحلة من ضغوط نفسية؛ لتعلق الإنسان بالدنيا وحب البقاء والتصارع مع الحقيقة العقليّة أمام القوة الشهوانية، وكيفية القبول بحقيقة القاء ذلك الجسد بتلك الحفرة لملاقاة عمله، وعليه ما يتملك الإنسان في هذه المراحل مجموعة مختلفة من العوامل النفسيّة لها تأثيراتها الإضافية مع سابقتها تجعله هيّناً على أضعف الأخطار أن يحقق أهدافه داخل ذلك الجسد نتيجة فقدان قدرته على التحكم بأجهزته المختلفة معجلة بذلك هلاكه.

الجانب النفسي والعمليات العقلية والسلوك الإنساني

قال أمير المؤمنين علیه السلام في حث أصحابه على القتال:

«فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ (1) وَ أَخِّرُوا الْحَاسِرَ(2)، وَ عَضُّوا عَلَى الْأَضْرَاسِ فَإِنَّهُ أَنْبَى (3) لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ (4)، وَ الْتَوُوا (5) فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ (6) لِلْأَسِنَّةِ، وَ غُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ وَ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ، وَ أَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ.

وَ رَايَتَكُمْ فَلَا تُمِيلُوهَا وَ لَا تُخِلُّوهَا وَ لَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ» (7).

تشير الآيتان الكريمتان التاليتان إلى وصف المواجهة والقتال بين صف الإيمان وصف الكفر، ودور البصر والسمع في العمليات العقلية ومنها الانتباه والإدراك وعلاقتها بأتخاذ القرارات.

ص: 114


1- الدارع: لابس الدّرْع.
2- الحاسِر: من لا دِرْعَ له.
3- أنْبَي: صيغة أفعل التفضيل من «نَبَا السيف» إذا دَفَعَتْهُ الصلابة من موقعه فلم يَقْطَعْ.
4- الهام: جمع هامة، وهي الرأس.
5- الْتَوُوا: انْعَطِفوا وأميلوا جانبكم لِتَزْلَقَ الرماح ولا تنفذ فيكم أسنّتها.
6- أمْوَرُ: أي أشدّ فعلاً للمَوْر، وهو الاضطراب الموجب للانزلاق وعدم النفوذ.
7- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 267.

(قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) (1).

(إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) (2).

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام يوصى به أفراد الجيش في ساحات المعركة ومواجهة الأعداء، ويتضح فيه انّه يتناول فيه أحد العمليات العقليّة وهي تركيز الانتباه المستمدة من العوامل النفسيّة وآثارها في السلوك، وذات التأثير الكبير في شجاعة الأفراد وهو الخوف والمراد كيفية إبعاد تلك التأثيرات العقليّة والنفسيّة بارادة الإنسان من خلال تحكمه بقواه والسيطرة العصبية.

تركيز الانتباه وعلاقته بالخوف

يؤكد أمير المؤمنين علیه السلام في الموعظة اهتمامه بالعمليات العقليّة وكيفية استخدامها ولاسيما أثناء مجريات مواجهة الأعداء وكيفية السيطرة على الحالة النفسيّة وإبعاد خطر الترويع والأهوال المرافقة للقتال من خلال التحكم بتقليل المواقف التي تثير مشاعر القلق والخوف من خلال الاستفادة من القدرات العقليّة ومنها استخدام أحد أنواع الانتباه وهو «تركيز الانتباه» والذي ينسجم مع المراد تحقيقه دون استخدام الانتباه الموزع أو الانتباه التحويلي أو العام أو الواسع، وبالتالي أمر أفراد الجيش «بغضً الأبصار» إذ الرؤية لكل ما يدور حوله في المعركة فضلاً عن تشتيت الانتباه يؤدي إلى تملك الخوف عليه، وهذا يؤدي إلى ارباك القرارات التي يجب تنفيذها والانشغال في ما يبصر وبالتالي أخضع أمير المؤمنين علیه السلام إحدى العمليات العقليّة التي تحدث في لحاء الدماغ لخدمة الجانب

ص: 115


1- آل عمران: 13.
2- الأحزاب: 10.

السلوكي وما ينتابه من انفعالات الخوف بشكل ينسجم مع المكان والزمان والواجب المراد تحقيقه.

علم التغذية

قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصفه لفناء الدنيا:

«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ(1) الْمَنَايَا، مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ، وَفي كُلِّ أكْلَةٍ غَصَصٌ!» (2).

كما قال: «لَا تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى» (3).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى المشركين والعاصين الذين ضلوا عن طريق الحق، ولا يمتلكون الدوافع والبواعث لمعرفته، بل سلكوا سبل اللذات، فلا منطق لهم إلّا منطق الأنعام، فهم يبدلون الأفضل بالأسوأ، والخير بالشر، فهم لا يعتبرون بما تحدوهم إليه.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (4)

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(5).

ومن هاتين الموعظتين المليئتن بالغرابة وما تحتويه من أسرار جمّة ربّما

ص: 116


1- تَنْتَضِل فيه: تترامى إليه.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 423.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 423.
4- البقرة: 61.
5- الحجر 3.

يكون جواباً شافياً لذوي العقول الذين نشاهدهم في يومنا هذا، فمنهم من يحسد البدين والآخر يضرب بخياله ويتمنى أن يكون نحيفاً، فالأول يعتقد بأنّه يعاني من ضعف ولا يمكن له أن يصبح سميناً ويهمّ في معاودة الأطباء لتناول المشهيات والمقويات والمنبهات، وما يصفه لهم الأطباء من وجبات غنية بالزيوت التي لا تستطيع أجهزتهم مواجهتها، فهم بالتالي يتعاطون السموم من حيث لا يشعرون في حين الآخر وهو من أصحاب البنية البدينة في دوامة انقاص الوزن والتمني بأن يتراجع مقياس الوزن إلى الوراء، وهم أسوأ حالاً من النحاف فهم يتناولون الأدوية المثبطة لمشاعر الجوع بالتأثير السلبي على مناطق الدماغ فضلاً عن العلاجات الطبيّة الكيميائية التي يطلق عليها «علاجات التجميل» لانقاص الوزن، وما لها من تأثيرات حادة، ومنها عملية سحب الدهون من تحت الجلد ...

ولو كانوا يعلمون لما للنحافة من سلامة للجسم وكبح الهرم المبكر لما قدموا على مراجعة طبيب من حيث انّ السمان لو كانوا يعلمون بأنّ ما في اللقمة الواحدة المتناولة - والتي هي زائدة عن حاجة الجسم - من مردودات سلبية بل سمّية على الجسم لما كانوا في هذا الحال.

وعليه أنّ الحمية الغذائية لابد أن تتم بالعلاقة المهذبة مع الغذاء وليس بعد الإسراف وتوارث السموم كما أنّ عملية الحمية لا تعني الانقطاع عن الأكل مثلما يعمل البعض، كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام:

«قلّةُ الغذاء أكرمُ للنفس ودوامٌ للصحة» (1).

«مَنْ قلّ طعامُه قلّت آلامُه» (2)

«أسهروا عيونكم، وضمَّروا بطونكم، وخذوا من أجسادكم، تجودوا بها على

ص: 117


1- ميزان الحكمة ج 1، ص 112
2- ميزان الحكمة: ج 1، ص 112

أنفسكم» (1).

وتقول العالمة في مجال التغذية «كلاير ماكيفيللي»: في حالة الحمية الطويلة الأمد يصبح الغذاء وتناول الغذاء مسألة مهمّة، وبعد قليل من الوقت فإنّ العقل والجسم يتمردان على الحمية، ويفقد الملتزم بالحمية توازنه ثمَّ مرحه.

وبدلاً من التركيز على فقدان كميّة محددة من الوزن ضمن مدة محددة من الزمن طور عاداتك الغذائية الصحية بحيث تعيش ضمن هذه العادات بشكل دائم هذا الطريق سيخلصك من عدد من الكيلو جرامات، ويجنبك كذلك رجوعها ثانية.

وهذا ما أمر به النبي والأئمة الأطهار في أفعالهم وأقوالهم بتربية الناس، وكيفية التحكم بالعلاقة مع الأكل للتغلب على أضرارها والاستفادة من نعمها.

ويقول النبي وأهل بيته الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم عن الافراط في تناول الأطعمة:

عن موسى بن جعفر، عن آبائه علیه السلام قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «الأكل على الشّبعِ يُورثُ البرص» (2).

وعن الأصبغ بن نباته، قال: قال أمير المؤمنين علیه السلام للحسن علیه السلام: «ألا أعلمك أربع خصال تستغني عن الطب؟ قال: بلى، قال: لا تجلس على الطعام إلّا وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلّا وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء، فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطب» (3).

ويقول الإمام الصادق علیه السلام في الحمية: «لا تنفع الحمية بعد سبعة أيام» (4).

ويقول الإمام الكاظم علیه السلام: «ليس فيما أصلح البدن اسراف ... إنّما الإسراف

ص: 118


1- ميزان الحكمة: ج 1، ص 1527.
2- طب الإمام الصادق ط 1، ص 107.
3- ميزان الحكمة: ج 6، ص 2280.
4- طب الإمام الصادق: ط 1، ص 52.

فيما أتلف المال وأضر البدن» (1).

وما تحتويه موعظة أمير المؤمنين من حقائق علميّة نوجزها بما يلي:

التوازن الحراري

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في أحد مواعظه، في خطبة تؤكد حقائق علميّة حول علاقة الغذاء بالإنسان، وكيفية تحرير الطاقة، ومدى الاستفادة منها بشكل يظهر به أنّ عملية الإسراف فى التغذية لا تعدّ حالة صحية، فضلاً عن أنّ التناول بشكل ينسجم وحاجة الجسم هو الأفضل من الناحية الصحية من خلال ما يمكن امتصاصه وتحويله إلى طاقة مع الأشارة إلى عمليات صرف الخزين منها وعلى الرغم من المواعظ الأولى هو شمول النعم بأجمعها وفي الموعظة الثانية إلى الغذاء وتناوله ولكن يمكن أن يكون مضمونها واحداً مع اختلاف النعم الإلهية، واحتمالية المراد ما يلى:

الأيض البنائي والهدمي

إنّ عملية تناول أيّ مادة غذائية لا يمكن الاستفادة منها إلّا من خلال تحللها الذي يتم من خلال مرور الغذاء بمراحل منها: عمليات التقطيع والطحن ومضغ الطعام في الفم من خلال حركة الفكين المسيطر عليها من قبل عضلات المضغ الموصلة بالعصب القحفي الخامس، ويتحكم بها من نوى في جذع الدماغ.

ومنها: ينتقل إلى المعدة عن طريق المريء، والذي يتم فيه عملية هضم المواد الغذائية بفعل الحركة «التمعجية» للمعدة، وكذلك ما تفرزه المعدة من عصارات هاضمة على الطعام وانّ ما ذكرناه هو عملية مختصرة وغير كاملة عن ما يقوم به

ص: 119


1- ميزان الحكمة: ج 4، ص 1730.

الجهاز الهضمي أثناء عملية الهضم، والمراد بها توضيح ما يلي:

إنّ جميع الفعاليات التي تؤدّيها العضلات الإرادية واللاإرادية لعملية هضم ومزج وتقطيع وطحن الطعام ونقله تمت من خلال الحوافز العصبية التي رافقها صرف للطاقة المخزونة في تلك العضلات.

إنّ عمليات الإفراز هي الأخرى تمت من خلال حوافز عصبية وهرمونية إلى الغدد والعصارات الهاضمة، كما تكون مصحوبة بتنبيهات من الجهاز العصبي إلى تغيير مجرى الدم وزيادة النسبة الواصلة إلى الجهاز الهضمي من الدم المحمّل بالأوكسجين، وغيرها من التغيرات الهرمونية والعصبية التي ترافق هذه العمليات التي لا جدوى من ذكرها.

والمراد ممّا تمّ ذكره: لا يتم امتصاص تلك المواد الغذائية المتناولة إلّا بعد صرف مقدار معين من خزين الطاقة في الجسم عليها، وبالتالي الغذاء الذي تمّ امتصاصه سيحل عوضاً عمّا تمّ فقده في عملية هضمه وامتصاصه، وعليه لا يمكن «أنْ ينال نعمة إلّا بفقدان أخرى»

كما تشير المصادر العلميّة الخاصة بعلم التغذية من خلال التجارب والدراسات الحديثة أنّ الافراط في تناول السكّريات والدهون تؤدي إلى الشيخوخة المبكّرة، وعليه يجب عدم الامتناع أو اتخاذ إجراءات الحمية في وقت متأخّر من العمر، بل يجب الاهتمام بذلك منذ عمر الطفولة بتحديد العلاقة مع الغذاء وتكيّفه على نظام غذائي معين خالي ممّا تثيره عملية الافراط في تناول بعض الأغذية من أمراض غذائية أو من سموم لأجهزته الوظيفية، مؤدية إلى زحفه السريع نحو الهرم.

وكما يمكن لنا تفسير الموعظة بقراءة علميّة أخرى، وهي: أنّ كل الأفعال التي يقوم بها الإنسان خلال نشاطاته على مدار اليوم والتي تشمل - مثلاً - القراءة

ص: 120

العمل اليومي، تناول الغذاء، ملامسة النساء، النوم، الجلوس، وغيرها من النشاطات اليومية التي يقوم بها الإنسان فهي أفعال لا يمكن القيام بها مهما كانت شدّة الأداء منخفضة إلّا من خلال تحرير قدر معين من الطاقة المخزونة في الجسم وبشكل ينسجم مع تلك الأفعال وشدتها، وبما أنّ قدرة الإنسان على ممارسة أفعاله اليومية وقضاء حاجته واشباع رغباته ما هي إلّا نعمة من نعم الله تعالى عليه، لا يمكن أن ينالها إلّا من خلال صرف الطاقة وتعرّض الخلايا إلى جزء من الهدم في مكوّناتها، وهذا ما يطلق عليه «الأيض الهدمي»، وأنّ إحدى طرق أعادته إلى الوضع الطبيعي أو أعلى ممّا كان سابقاً هي التغذية وأخذ قسط من الراحة، وعليه أنّ عمليات تحریر الطاقة التي يطلق عليها عمليات الأيض الأساسي هي نوعان:

الأيض الهدمي: وهو كل ما يتم صرفه من أجل أداء الفعاليات والأنشطة.

والأيض البنائي: وهو ما يتم تعويضه من عمليات الهدم السابقة، ومن هنا فما يتم تناوله من غذاء إنّما هو لسدّ النقص الحادث في الأيض الهدمي؛ للمحافظة على التوازن الفسيولوجي للجسم.

علم النمو

قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصفه لفناء الدنيا:

«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ (1) الْمَنَايَا، مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ! لَا تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى، وَ لَا يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ» (2).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى نظام إلهى وهو أنّ الخالق سبحانه جعل لكل نفس إنسانية نهايتها بالموت، وربّما يكون موتها في عمر متوسط، ومنها ما

ص: 121


1- تَنْتَضِل فيه: تترامى إليه.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 ص 423.

يتوفي في سن الهرم، كما أنّ أحد مضامين الآيتين تشير إلى أنّ استمرار التقدّم بالعمر يوهن الإنسان ويضعف قواه البدنية والعقليّة وهي إشارة إلى انخفاض كفاءة الأجهزة والأعضاء بصورة عامة.

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (1)

(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (2).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في إحدى خطبه التي يعظ بها الناس ويحذرهم طول الأمل والتعلق في هذه الدنيا، وويندبهم للتزود لآخرتهم، ويذكرهم بأنّ الإنسان يزحف نحو أجله منذ ولادته، بل كل يوم يمر عليه «أي البقاء في الدنيا» ما هو إلّا عملية هدم واقتراب من أجله، ولكن ربط البقاء بالهدم انما هو من أهداف علميّة تتوضح خلفها حقيقة نهاية الإنسان بملاقاته للموت من خلال عمليات الهدم الحادثة في أجهزته مع استمرار تقدّمه في العمر ...

كما ينبّه الناس بأنّ أي مرحلة من مراحل العمر التي يعتقد الإنسان أنّها مرحلة القوة وزيادة القابلية والعنفوان فإنّها تخفى بين طياتها عمليات هدم ظاهرة وباطنه على أعضائه المختلفة وتقريبه نحو أجله.

النمو والشيخوخة

رغم أنّ المرحلة الجنينية تكون أعلى مراحل النمو إلّا أنّها تقل بعد الولادة والطفولة مقارنة بسابقتها، على الرغم من كونها أعلى في عمليات البناء ممّا هي عليه من عمليات الهدم الحادثة في المراحل التي تليها، لا سيما بعد عمر (30) سنة إذ يرافقها انخفاض في عمليات البناء وكبر نسبة عمليات الهدم والقصور في

ص: 122


1- الأنبياء: 35.
2- النحل: 70.

عمليات التعويض وضعف القدرة المناعية، وهذا يشمل ما هو ظاهر وباطن في كافة أعضاء وأجهزة الجسم، ومنها الجهاز التنفسي والدوران وعضلة القلب والجهاز العصبي والجهاز العضلي ... وباقي الأجهزة الأخرى التي يدب فيها الضعف في الكفاءة الوظيفية عمّا كانت عليه سابقا، وهناك الكثير من الأمثلة التي يمكن أنّ نستدل عليها أو نلاحظها في ضعف تلك الأجهزة، ومنها تناقص وضعف مطاطية ومرونة وحجم الرئتين، وبالتالي تناقص في حجم الأوكسجين الداخل والمستخلص منه لأعضاء الجسم، كما يرافقها زيادة عدد مرات التنفس وهذا يعدّ قصوراً في كفاءة الجهاز ويقابل ذلك زيادة في عدد ضربات القلب في الدقيقة من (70) ضربة بالدقيقة إلى حوالي (85 - 95) ضربة بالدقيقة، وهذا ناتج عن ضعف قابلية التقلص للعضلة القلبية وضيق الشرايين وصغر حجم التجاويف وقلة كميّة الدم العائدة للقلب، فضلاً عن أنّ الإنسان يفقد نحو (85) في المئة من حاستي الشمّ والتذوّق عند بلوغه سن الستين.

ومع تقدّم العمر تزداد الجذور الحرة التي تسبب إحدى العقبات أمام صحة الإنسان والتي تكمن خطورتها بالتحطيم الكامل للخلايا أو ايقاف وظائفها، كما يمكن ملاحظة الاختلاف في انتصاب الجسم والتغير في طريق رسم الحركة في السير أو الهرولة للكبار، وهذا ناتج عن ضعف قوة العضلات الهيكلية وضعف الأربطة والأوتار والمفاصل والمسببة حرية ذات مردودات وظيفية سلبية على خارجيّة الحركة ونوع المهارات كالمسك والرمي وغيرها، كما يلاحظ الضعف في الأجهزة الحسّية وتناقصها بشكل كبير من خلال ضعف البصر والسمع وضعف في شم الروائح المختلفة والصعوبة في تمييز الأصوات واتجاهاتها.

وتشير المصادر العلميّة الحديثة إلى أنّ الشعيرات الموجودة داخل الأذن لوحظ من خلال التجربة بعد استأصالها من الأذن عند تعرضها إلى الأصوات

ص: 123

المختلفة تبدأ بالحركة من خلال تقلّصها وانبساطها، وبعدمه تتوقف حركتها كما لوحظ من خلال المقارنة بين الشباب وكبار السن أنّ هذه الشعيرات تبدأ بالتناقص لدى المسنين لموتها وبالتالي تضعف حاسة السمع لديهم، كما فسّر العلماء في إحدى استنتاجاتهم حول أسباب الشيخوخة من خلال دراستهم المتواصلة على الجهاز البيولوجي للإنسان أنّ في أغلب أنسجته يقوم بعمليات التوالد والاخلال مع اختلاف الطريقة والمدة الزمنية إذ جميع بطانات تجاويف الأجهزة والأعضاء في الجسم تتبدل كل (3 أيام) إلى (3 أسابيع) وهذا يشمل الطبقة الخارجية للعظام إذ تتبدل كل (3 - 6 أشهر)، ولكن تم أكتشاف أنّ هذا التبدّل والاختلاف لا يتم استنساخه بكل كفاءته السابقة، وبالاستمرار يؤدّي ذلك إلى اضعاف قابلية ذلك الجهاز أو العضو وقدرته ونضارته.

وهناك الكثير من الأمثلة التي لا تعدّ ولا تحصى، والتي توضّح كيفية تقدّم الإنسان نحو أجله وهدم أيّام عمره والتقائه بحقيقة الموت التي نعجل لها من كثرة حذرنا منها.

علم الإخلاف والتعويض والتوالد

قال أمير المؤمنين علیه السلام في وصفه لفناء الدنيا:

«لَا تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى، وَ لَا يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ، وَ لَا تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلَّا بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ، وَ لَا يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ إِلَّا مَاتَ لَهُ أَثَرٌ، وَ لَا يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ (1) لَهُ جَدِيدٌ، وَ لَا تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلَّا وَ تَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ، وَ قَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا، فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ!» (2).

ص: 124


1- يَخْلَق: يَبْلَى.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 423.

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام لها في واحدة من خطبة التي يوضح فيها عمليات التوالد والتكاثر والتعويض لدى الإنسان خلال مراحل عمره في أنسجة وأعضاء الجسم المختلفة.

التعويض والتوالد

وهنا يتم توضيح عملية التغير الحادث في الجسم «لا يحيى له أثر إلّا مات له أثر»، إذ أنّ التكاثر والتوالد والتعويض في أجهزة الجسم لا يتم إلّا بعد عملية فقدان أو هلاك يسبقها، وكذلك لا يمكن أن يصيبه جديد في أعضائه وأجهزته إلّا بعد أن يبلى ويتلف له جديد، وأنّ الجسم يستبدل ما يقارب (مليون) خلية في اليوم الواحد، وهناك أمثلة عديدة ومنها بلوغ معدل كريات الدم في ملم3 الواحد لدى الرجل السوي حوالي (5/200/000) وعند النساء (4/700/000) وعمر الكرية الواحدة يصل إلى (120) يوماً قبل موعد موتها وتلفها، وعندها يتم تحفيز النشاط في الخلايا المخصصة لتقي العظام المسؤولة عن تعويض هذا النقص الحادث، وهذا ما نشاهده لتعويض الخلايا الميتة والمفقودة أثناء النزف.

كما تلاحظ عمليات التكاثر في تعويض خلايا الكبد عند استقطاع جزء من الكبد جراحياً في حالات تستدعي ذلك، يلاحظ حدوث عملية تعويض واعادة الخلايا المفقودة بشكل يعيد الكبد إلى حجمه الطبيعي السابق قبل الاستقطاع.

كما أنّ الأنثى البالغة تكوّن في كل شهر تقريباً بيضه واحدة تبلى وتطرح خارج جسمها إذا لم تخصب، وبالتالي يعاد تجديد عملية تحرير بيضه جديدة جديدة أي بعد أن تبلى سابقتها، كما أنّ للماء داخل الجسم وظائف مختلفة أهمها ما يلي:

1 - يعمل وسط لجميع الفعاليات الحيوية في الجسم.

2 - يعمل على تخفيض السموم في داخل الجسم.

ص: 125

3 - واسطة نقل إلى كافة أنحاء الجسم.

4 - يسهم في تنظيم درجة حرارة الجسم.

وأنّ الكمية التي تدخل الجسم تكون عن طريق مصدرين: الأول: تناوله على شكل سوائل، والثاني: ماء صرف أو عن طريق الطعام وما يحتويه من مقدار معين من الماء، ويبلغ المدخول الكلى (2300 مليلتر) في اليوم الواحد، أمّا فقدانه فيتم من خلال طرق مختلفة هي: «الإدرار الغائط التعرّق، الانتشار من خلال الجلد والزفير» وهذه الكمية مختلفة بشكل كبير حسب النشاط الذي يقوم به الفرد ومستوى درجات الحرارة المحيطة به وبالتالي تختلف حاجة الجسم لكمية الماء الداخلة والمطروحة منه وعليه لا يمكن تجديد الحاجة من الماء الداخل إلّا من خلال ما يظهره الجسم من «العطش»، أي إلّا بعد أن يبلى ويطرح الكمية السابقة من الماء المتناولة بالطرق المارّة الذكر، وهذا ما نلاحظه من الفرق في تناول الماء بين فصلي الشتاء والصيف.

كما أنّ رأس الإنسان يحتوى على ما يقارب (125/000 شعرة) وتسقط منها كل يوم حوالي (45 - 60 شعرة) وينبت بدلاً عنها.

كما أنّ الرجل المتوسط العمر يفقد ما يقارب (600/000 جزئية) من جلده خلال السنة وما يقارب (675 غرام)، وفي السبعين من عمره يكون ما يفقده حوالي (48 كغم) أي ما يعادل نسبة (70 %) من جسمه.

انّ كل ما تمّ عرضه ما هو إلّا جزء يسير من عمليات التعويض والتكاثر التي تحدث في أعضاء معيّنة من الجسم لا تتم فيها إلّا بعد فقدان أو تلف برافق مكونات ذلك العضو أو النسيج أو لجزء منه، وهي عمليات معقّدة تتم في غاية التنظيم بشكل يتم التوازن بين ما تمّ فقده وما يتم تعويضه، وهي التي أوجزها أمير المؤمنين علیه السلام بموعظته العلميّة التي تضم بين طياتها الكثير من المعارف والنظريات العلميّة والتي

ص: 126

لم تكتشف إلّا بعد مضي المئات من السنين وبتظافر الآلاف من جهود العلماء، والصرف المالي وتسخير الأجهزة والأدوات، بل إنّ الكثير من العلوم لازالت دون اکتشاف، وربّما تحتاج إلى سنوات بقدر ما مرّ علينا ليتمكن من اثباتها والتعرّف عليها، والتي هي ضمن خطب أمير المؤمنين علیه السلام، ولكن جهلنا بالجانب العلمي و بعدنا عن الدراسة المعمّقة والعلميّة وعدم الانفتاح للعلوم بعضها على البعض الآخر، وعدم تلاقح أفكار العلماء في الاختصاصات المختلفة مع الاختصاصات الأخرى، جعل تحقق ذلك في غاية الصعوبة.

مراحل الجنين

قال أمير المؤمنين علیه السلام «ابتداع المخلوقين»:

«لَمْ يَخْلُقِ الْأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ وَ لَا مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِيَّةٍ، بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ حَدَّهُ (1)، وَ صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ. لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ، وَ لَا لَهُ بِطَاعَةِ شَيْءٍ انْتِفَاعٌ. عِلْمُهُ بِالْأَمْوَاتِ الْمَاضِينَ كَعِلْمِهِ بِالْأَحْيَاءِ الْبَاقِينَ، وَ عِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى.

أَيُّهَا الْمَخْلُوقُ السَّوِيُّ (2) وَ الْمُنْشَأُ الْمَرْعِيُّ (3) فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَ مُضَاعَفَاتِ الْأَسْتَارِ، بُدِئْتَ (مِنْ سُلالَةٍ (4) مِنْ طِينٍ) وَ وُضِعْتَ (فِي قَرارٍ مَكِينٍ (5) * إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) وَ أَجَلٍ مَقْسُومٍ، تَمُورُ (6) فِي بَطْنِ أُمِّكَ جَنِيناً، لَا تُحِيرُ (7) دُعَاءً وَ لَا تَسْمَعُ نِدَاءً، ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلَى دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا وَ لَمْ

ص: 127


1- أقام حدّه: أي ما به امتاز عن سائر الموجودات.
2- السّوِي: مستوي الخلقة لا نقص فيه.
3- المنشأ: المبتدع. والمَرْعي: المحفوظ المعنيّ بأمره.
4- السُلالة من الشيء: ما انسلّ منه.
5- القرار المَكِين: محل الجنين من الرحم.
6- تَمُور: تَتَحَرّك.
7- لا تحيرُ: من قولهم: ما أحار جواباً، أي لم يستطع ردّاً.

تَعْرِفْ سُبُلَ مَنَافِعِهَا. فَمَنْ هَدَاكَ لِاجْتِرَارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ وَ عَرَّفَكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَ إِرَادَتِكَ؟ هَيْهَاتَ، إِنَّ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي الْهَيْئَةِ وَ الْأَدَوَاتِ فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ وَ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ الْمَخْلُوقِينَ أَبْعَد!» (1).

تشير الآيات الكريمة الآتية إلى أنّ بداية الخلق هو النبي آدم علیه السلام وقد خلقه الله من الطين، ثمَّ جعل نسله من سلالة من ماء «ضعيف» وهي النطف التي تسكن في أرحام الأمهات بعد التقائها بماء الأناث، كما تصوّر الآيات مرور الأجنّة بمراحل مختلفة فضلاً عن تصوير موقعها المحاط بثلاث أغشية، كما صوّرت خروج الإنسان إلى عالم الدنيا وهو لا يعلم شيء، وقد أسبغ الله عليه النعم ومنها «السمع والبصر والعقل ...» وكأنّ أحد مضامينها تتحدث عن التعلّم والتعليم ودور تلك الأجهزة الحسّية والأعضاء الأخرى فيها.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِن طِينٍ) (2).

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) (3).

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ) (4).

(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (5).

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يتحدث عن نشأة الإنسان، ويخص في

ص: 128


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 480.
2- المؤمنون: 12.
3- السجدة 8.
4- الزمر: 6.
5- النحل: 78.

بداية حديثه المخلوق السوي، لأن ليس كل ما تحدّث به سوف ينطبق على جميع الأجنّة، وبالتالي ابتدأ بوصفه مخلوقاً سوياً غير ناقص الخلقة.

ظلمات الأرحام

والمقصود به تواجد الجنين بداخل ثلاث أغلفة، وهو محفوظ داخل تلك الظلمات في رحم أمّه في (بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) وتلك الأغشية المهمة هي: «الامنيون - والكوريون - الانتريز» والتي تظهر في المراحل المبكرة من نمو الجنين، ويلاحظ أنّ بين الجنين وغشاء الامنيون تجويف يسمى تجويف الامنيون، يملؤه سائل يحمي الجنين من الصدمات والجفاف، ولا يمكن لنا التحدّث عن واجبات وأهمية كل غشاء فيعدّ اسهاباً ولكن المراد هو توضيح أسماء وأماكن وبعض أهمية تلك الأغشية الثلاثة والتي تجعل الجنين متواري وفي ظلمات وبقرار مكين محفوظ بعناية إلهية.

القرار المكين

وهو مقر اقامة ذلك الجنين إلى موعد ولادته وبالتالي يتم غرس البويضة المخصّبة في بطانة الرحم بعد وصولها ب «أيام» وتبقى إلى موعد خروجه إلى العالم الجديد وهو الخارجي.

حركة الجنين

وصف أمير المؤمنين علیه السلام بدأ الحركة الجنينية بعد وصوله إلى الرحم وتكوين الأغشية واستقراره في تجويف الرحم وتبدأ حركة الجنين الأولى والتي تمكّن الأطباء من مراقبتها بين الأسبوع السابع ومنتصف الأسبوع الثامن وهي حركات

ص: 129

غير محسوسة لدى الأم وهي عبارة عن حركات فجائية تستمر من ثانية إلى ثانيتين، وهي كأنّها إنتقال لجسم الجنين ككل الذي يبلغ طوله (2 سم)، وتبدأ بعد هذه المرحلة الزمنية الحركات أشكالاً مختلفة، والتي كان يعتقد العلماء أنّها ردود فعل، ولكن أثبتت أنّها حركات تلقائية عفوية غير مخطط لها، منها ضم وثنى ومد جذعه وأطرافه وتحريك سائر أعضاء جسمه، وتزداد في الأسبوع ال (12) بين القوة والضعف، وبالتالي انّ الحركات المؤداة من قبل الجنين هي حركات غير هادفة، ومن هنا اختار لها أمير المؤمنين علیه السلام مفردة «تمور»، أي مضطربة.

نطق الجنين

وصف أمير المؤمنين علیه السلام هذه المرحلة بعدم قدرته على الاجابة ولا ارجاع أي جواب، وبما أنّ الاجابة تعتمد على النطق، ولو افترضنا اكتمال الجهاز الخاص في النطق وما يتصل به من الباحات المتحكمة في النطق بالدماغ واتصالاته العصبية والعضلية الأخرى وفي أي مرحلة من عمره الجنيني فإنّ العملية التي تحدث للنطق لا تتم إلّا بمرور هواء الزفير على الطيّات اللحمية في الحنجرة، وبما أنّ ذلك الكائن لن يتنفس الهواء عن طريق جهازه التنفسي إلّا بعد خروجه من مقر أقامته في بطن أمه، وبالتالي لا يمكن اصدار أي صوت في بطن أمه ناهيك عن أنّه في تلك الفترة غير مدرك حتى يتمكن من معرفة وتعلّم اللغة.

السمع الجنيني

كما وصف أمير المؤمنين علیه السلام تلك المرحلة العمرية من الإنسان بأنّه لا يملك فيها القدرة على سماع الأصوات إذا ما تمّت مناداته وهذا لم يأت من كون نضج أو عدم نضج الجهاز السمعي، ولكن الصوت ينتقل بوجود الهواء وبصورة أكبر في الماء

ص: 130

ولا ينتقل في الفراغ الخالي من الهواء، وبما أنّ الجنين داخل تجويف مغلق وبمعزل عن الاتصال بالبيئة الخارجية وعمليات التنفس تتم من خلال الدم الوارد إليه من الأم ومنه إلى المشيمة والحبل السرّي فبالتالي لا توجد نسب من الهواء داخل التجويف الرحمي، ومن هنا لا يتمكن من سماع الأصوات الخارجية لعدم قدرتها على الانتقال في محل اقامته ببطن أمّه، وبالتالي لا يمكن أن يسمع أي صوت خارجي.

تغذية الجنين

كما وصف أمير المؤمنين علیه السلام انّ تلك الدار التي خرج إليها تغيّرت فيها سبل منافعها وهي إشارة إلى أسلوب التغذية في رحم الأم إذ يختلف عمّا هو في محل إقامته الجديدة في الدنيا، وذلك التغير يبتدئ من كونه في التجويف الرحمي بطريقة لا إرادية، ناهيك عن الأساليب المستخدمة والمختلفة منذ التلقيح للبويضة حتى يوم الولادة فضلاً عن طريقة الايصال التي اختلفت من المشيمة والحبل السري والغذاء المحمول بدم الأم إلى بدء عمليات التغذية عن طريق جهازه الهضمي، فضلاً عن الأسلوب التغذوي الذي يبدأ بحليب الأم المحتوى على مكوّنات تختلف وبنسب هي الأخرى تختلف عمّا كانت عليه في بطن أمّه.

السلوك الفطري

كما يصف أمير المؤمنين علیه السلام على الرغم من ذلك الاختلاف في التغذية كيفية تمكّن ذلك الرضيع في أول ساعاته من حاجته إلى التغذية، ومَن هو الذي دلّه على مواقع ذلك الغذاء المنسجم وقابليته الوظيفية، ومَنْ علّمه طريقة وأسلوب الحركات التي يمتص بها الحليب من «حلمة ثدى أمّه»، وثمَّ يتطرّق أمير المؤمنين علیه السلام إلى السلوك الغريزى والفطري الذي يولد مع الإنسان، وهي إشارة إلى السلوك

ص: 131

المكتسب والسلوك الفطري، ومن هنا كان ذلك الأمير الذي لا يمكن أن يفصح بكل ما يجول في فكره وما علّمه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في تلك الحقبة ولكن وضع بين طيات الكلمات الجانب العلمي والإعجاز الإلهي منسجماً مع الإعجاز البلاغي في مجتمع لا يسوده إلّا بعض اللمحات العلميّة والثقافية ولا يتعامل بأي نوع من أنواع الآلات البسيطة.

علم التغذية

قال أمير المؤمنين علیه السلام في الموعظة وبيان قرباه من رسول الله:

«أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ وَ التَّارِكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ، مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللَّهِ ذَاهِبِينَ وَ إِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ! كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ (1) أَرَاحَ بِهَا (2) سَائِمٌ (3) إِلَى مَرْعًى وَبِيٍّ (4) وَ مَشْرَبٍ دَوِيٍّ (5)، وَ إِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى (6)، لَا تَعْرِفُ مَا ذَا يُرَادُ بِهَا إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا، تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا وَ شِبَعَهَا أَمْرَهَا. (7)» (8).

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يخاطب عموم الناس كون الدنيا لن يكن هدفها اشباع جوفه وبأى وسيلة كانت واتباع خطوات السابقين دون بصيرة من أمرهم، وكما يظهر من الموعظة نوع من النصح ممزوج بالتوبيخ للغافلين لاهتمامهم بالمأكل والمشرب، وهي ضمن نصائحه في علم التغذية الذي عرف حديثاً.

ص: 132


1- النَعَم - محركة - : الابل أوهي الغنم.
2- أراح بها: ذهب بها. وأصل الاراحة: الانطلاق في الريح فاستعمله في مطلق الانطلاق.
3- السائم: الراعي.
4- الوَبي: الردي يجلب الوباء.
5- الدويّ: الوبيل يفسد الصحة، أصله من الدوا بالقصر أي المرض.
6- المُدَى - جمع مُدْية - : السكين، أي معلوفة للذبح.
7- تحسب يومها دهرها: أي لا تنظر إلى عواقب أمورها فلا تعد شيئاً لما بعد يومها، ومتى شبعت ظنت أنه لا شأن لها بعد هذا الشبع.
8- شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد، ج 2، ص 507،1.

الإفراط بالتغذية

تُشير الموعظة إلى أنّ الافراط في التغذية، وعدم الاهتمام بنوعية الغذاء وما هي مصادره وعدم تنظيم العلاقة بين وظائف الجسم وحاجته والغذاء المتناول والذي يكون وبالاً على الشخص لاسيما أنّ أمير المؤمنين علیه السلام وصف تلك العلاقة بأنّها: «مرعى وبيّ ومشرب دويّ»، أي ينقلب ذلك الغذاء إلى سموم قاتلة إذا لم يهتم بمعرفة مدى الحاجة ونوع الأغذية وسعراتها الحرارية وما تخلفه في حالة الزيادة المفرطة فيها، علماً أننا تطرّقنا سابقاً إلى بيان الدور السلبي للافراط بالتغذية.

و عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ناهياً عن الافراط في الأكل:

«اول ما عُصي الله تبارك وتعالى بستّ خصال: حبّ الدنيا، وحبّ الرئاسة، وحبّ الطعام، وحبّ النساء، وحبّ النوم، وحبّ الراحة» (1).

كما يذكر أمير المؤمنين في مواطن أخرى بحديثه ذمَّ كثرة الأكل والافراط به ضمن وصيته لابنه الحسن علیهما السلام.

«يابني، ألّا أعلّمك أربع خصال تستغنى بها عن الطبيب؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، قال: لا تجلس على الطعام إلّا وانت جائع، ولا تقم عن الطعام إلّا وأنت تشتهيه، وجوّد المضغ، وإذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء، فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطبيب» (2).

ومن ذلك نلاحظ أنّ سيطرة القوة الشهوانية في الغذاء تؤدّي بالفرد إلى فقدان الشخصية والسلوك الحسن والاذلال وفقدان الصحة ... ومن هنا جاء التأكيد المستمر على كبح هذه الغريزة الشهوية، لما لها من الآثار السلبية المتعددة، والتي وصفها أمير المؤمنين علیه السلام بموطن الداء: «مرعى وبيّ ومشرب دويّ».

ص: 133


1- ميزان الحكمة: ج 4 ص 1359
2- ميزان الحكمة: ج 1، ص 1280.

طرق استقراء الباطن

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«فِيهِمْ كَرَائِمُ (1) الْقُرْآنِ وَ هُمْ كُنُوزُ الرَّحْمَنِ، إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا وَ إِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا. فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ وَ لْيُحْضِرْ عَقْلَهُ وَ لْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ وَ إِلَيْهَا يَنْقَلِبُ.

وَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ وَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عِنْدَهُ.

فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ، وَ الْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ؛ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ؟!

وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ، فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ وَ مَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ» (2).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى تأثير الأعمال الحسنة والسيئة على عاقبة الإنسان في الدنيا والآخرة، فالذين كسبوا السيئات وصفتهم الآية بأنّ وجوههم كأنّها قطع من الليل مظلمة اسودت وهم أصحاب النار، كما توضح حال الذين يعملون الصالحات وهم مؤمنون بالحق تظهر عليهم الانعكاسات الوظيفية والبايولوجيّة والحركيّة في جوارحهم وأركانهم من علامات الخشوع لله والرحمة بينهم.

وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۖ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا

ص: 134


1- الكرائم: جمع كريمة، والمراد آيات في مدحهم كريمات.
2- شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد، ج 2، ص 453.

خَالِدُونَ) (1).

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (2).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام وهو يحمل في ثناياه معاني كثيرة ويشمل علوماً عدة والظاهر منها أنّ كل ذي هيئة جميلة ان كان نباتاً أم حيواناً أم غذاءً أم ثمراً أم جهازاً وظيفياً أم أسلوب عمل ما أو مهارة أو سلوكاً أو قراراً ... يعدّ باطنه مماثل لتلك النظارة والبهاء والطيبة.

علم تشخيص الأمراض

يعدّ التشخيص (75 %) من العلاج للمصابين والمرضى وبالتالي هو فن من فنون علم الطب وواحدة من عملياته هو النظر إلى مواقع الإصابة والمعاينه لها ومقارنتها بالأجزاء السليمة والمتناظرة وكذلك ما في الجسم من الأعضاء المصابة الغير متناظرة إذ الالتهابات والإصابات الفيروسية والميكروبات التي تهاجم الإنسان وأجهزته تؤدّي إلى تعطيل أو توقّف أو تغيير في البنية لذلك الجهاز فضلاً عن ما يقدّمة الجسم ذاته من دفاع عن طريق جهازه المناعي كارتفاع درجة الحرارة أو الاغماء أو الغثيان أو التقيؤ أو تغير لون المنطقة كالاحمرار أو الاصفرار أو التورم أو ارتفاع أو انخفاض في معدل ضربات القلب والضغط الدموي والتنفس ... كل تلك الاستجابات الفسيولوجيّة والمورفولوجيّة الظاهرة تدلل على باطن

ص: 135


1- یونس: 27.
2- الفتح: 29.

الجسم أو العضو أو الجهاز المصاب بمرض معين، سوء التغذية له علامات ظاهرة على الفرد فنقص فيتامين (B2) يسبب تشقق زوايا الفم وتقشر البشرة للجلد وتكون خلايا دهنية بالقرب وخلف صيوان الأذن. كما أنّ التشوهات القوامية التي تحدد حركة ومسيرة الفرد تدلل على أنّ هناك نوعاً معيناً من العوق ربّما في الهيكل العظمي أو العضلي أو العصبي وهذا هو الآخر يشير إلى وجود تغيّرات فسيولوجيّة داخلية مرافقة لذلك التشوّه ان كان في الساقين أو الذراعين أو في الفقرات ... ومن تلك الأمثال لا تعد وتحصى.

ومن هنا اشتملت الموعظة على معاني علميّة لا يمكن حصرها ولكن يمكن القول انّ أمير المؤمنين علیه السلام يسلّم مفاتيح العلوم ومداخلها ويترك لذوي العقول التمعن والتفحص ليس إلّا لحثهم على التعلّم والتفكّر فى أسرار تلك العلوم.

الألم والجلد والمستقبلات الحسّية:

قال أمير المؤمنين علیه السلام في الوصية بالتقوى:

«فَبَادِرُوا الْمَعَادَ وَ سَابِقُوا الْآجَالَ، فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَمَلُ وَ يَرْهَقَهُمُ الْأَجَلُ (1) وَ يُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ؛ فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ (2) مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ أَنْتُمْ بَنُو سَبِيلٍ عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ، وَ قَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالارْتِحَالِ وَ أُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ.

وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا.

ص: 136


1- يَرْهَقُهُم بالأجل: أي يَغْشاهم بالمنية.
2- يريد بالرجعة هنا: ما يسأله الإنسان المذنب من العودة إلى الدنيا ليعمل صالحاً كما قال الله: (ربّ أرجعونِ لعلّي أعملُ صالحاً فيما تركت).

أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَ الْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَ الرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ وَ قَرِينَ شَيْطَانٍ؟!

أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً (1) إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ وَ إِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ؟!». (2)

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى وصف نار جهنم وحال الكفار فيها، وقد وعدهم الله أنّهم سيصلون ناراً تذيب جلودهم وما في بطونهم وتبدّل جلودهم كلّما أحترقت، كما يمكن ملاحظة أنّ الآيتين تشيران إلى أن مواقع الاحساس بالألم في مناطق محدودة من الجسم.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) (3).

(يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) (4).

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يَعظ الناس ويصوّر لهم عواقب دخول النار في حالة يأسوا من السبقة إلى الجنة كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام عند أطاعتهم للشيطان، ويصوّر لهم حال جهنم وهي طابقين من النار وضجيع وحجر كما يظهر من بين بواطن الموعظة هي الجلد أولاً لارت الجلد أولاً لارتباطه باستقبال المنبهات الخارجية عن طرق المستقبلات الحسّية المتواجدة فيه، والتي ترسل اشاراتها إلى المخ حتى تخبرنا بوجود شدة المنبه ومستوى التلف الذي أحدثه، وكلما زادت شدة ذلك المنبه كلّما زادت شدّة الألم وزادت معها الإشارات العصبية الحركيّة، وبالتالي هناك أمر في غاية الأهمية نستدل عليه، وهو التحدّث عن الألم والحواس الجسدية وأنواع المنبهات.

ص: 137


1- مالك: هو الموكّل بالجحيم.
2- شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد، ج 2، ص 544.
3- النساء: 56.
4- الحج: 20.

الجلد

الجلد هو العضو الأكبر حجماً في جسم الإنسان ومن أهم وظائفه:

1 - إعطاء المظهر الخارجي.

2 - حماية الجسد من المؤثرات الخارجية كالغبار والبكتريا والجراثيم المختلفة.

3 - المحافظة على درجة حرارة الجسم الطبيعية.

4 - التخلّص من بعض الفضلات عن طريق الغدد العرقية فيه.

5 - حماية الأعضاء الداخلية من الجروح والكسور والإصابات المختلفة.

6 - صناعة فيتامين «D».

ويتكون الجلد من ثلاث طبقات وهي:

الطبقة الخارجية «البشرة»، وهي لا تحتوي على أعصاب أو أوعية دموية.

الطبقة الثانية وهي «الأدمة»، وتحتوي على أطراف الأعصاب التي تحسّ بمختلف درجات الحرارة والألم كما تحتوى على الأوعية الدموية والأوعية اللمفية.

والطبقة الثالثة وهي الطبقة «الدهنية»، وهي تتكون من خلايا تقوم بتخزين الفائض من الطاقة التي تزيد عن الحاجة.

الأحاسيس الجسدية:

هي الألياف العصبية التي تجمع المعلومات الحسّية من الجسم، ويمكن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع فيسيولوجيّة مختلفة، وهي:

1 - حواس الاستقبال الآلي الجسدي، وهي تشمل حاستي «اللمس والوضع» اللتين تنبهان بواسطة الانزياح الآلي لبعض أنسجة الجسم.

2 - حواس الاستقبال الحراري التي تكشف عن الحرارة والبرودة.

ص: 138

3 - أحاسيس الألم الذي يحفز بأى عمل يخرب الأنسجة.

وبالتالي مطابقة ذلك مع تصنيف أمير المؤمنين علیه السلام من خلال أمثلته التي تناسب المجتمع في تلك الفترة الزمنية هي تعني نفس ما ذكرناه «اللمسية - الحرارية - الألم»، وهي التي حدّدت بالبحوث الحديثة، ولا تزال مشكلة الاحساس والألم تشغل فكر الكثير من الباحثين، كما يعدّ طبيباً من المواضيع المعقدة وحدّدت لها فروع في الطب فضلاً عن وجود اتحاد يعرف ب «اتحاد الألم»، وهو اتحاد دولي لما لهذا الموضوع من أهمية، ويرافق تلك الآلام الكثير من المتغيرات تبدأ بارتفاع درجة حرارة المنطقة المصابة واحمرار لونها وتمزق أوعيتها وارتشاح مصل الدم والتمزّق والتورّم وزيادة النسبة أو ظهور عدد من الهرمونات والأنزيمات وأملاح البوتاسيوم والبروغسليندات ... التي لها الأثر الأكبر في الألم الحادث.

المستقبلات اللمسية

إنّ الوصف الذي استخدمه أمير المؤمنين علیه السلام للمستقبلات اللمسية كان موضحاً بمثل «الشوكة تصيبه» وهذا يحدد أحد المنبهات للمستقبلات الحسّية التي تثير الألم لدى الإنسان، والمستقبلات الحسّية مختلفة تصل بالحد الأدنى إلى ستة أنواع مختلفة موجودة في الجلد وتحته مباشرة وهي تنقل عادة التنبيهات بواسطة الأعصاب السريعة نوع «A» النخاعية.

مستقبلات الألم

إنّ الوصف الذي استخدمه أمير المؤمنين علیه السلام للمستقبلات التي تثير الألم كان موضحا بمثل «العثرة تدميه»، وهو نوع آخر من المستقبلات التي تثير الألم والناتج من تخريب الأنسجة فيه بسبب اصطدامه بجسم صلب، كما وصفها أمير المؤمنين

ص: 139

بالعثرة التي تدميه، وهذا يعني تخريب الأنسجة وهرسها، وكل مستقبلات الألم هي نهايات عصبية حرة، وهي منتشرة انتشاراً كبيراً في الطبقات السطحية من الجلد وكذلك في الأنسجة الداخلية لكن بشكل أقل وأي تخريب سيولد ألماً بطيئاً وموجعاً.

مستقبلات الحرارة

انّ الوصف الذي استخدمه أمير المؤمنين علیه السلام للمستقبلات التي تتنبّه بالحرارة كان موضّحاً بمثل «الرمضاء تحرقه» وهو نوع آخر من المستقبلات الحسية ومنبّهاتها، إذ للإنسان القدرة على الاحساس بثلاث درجات مختلفة، وهي:

«البرودة - الدفء - الحرارة»، من خلال مستقبلات كلّ منها تعمل على منبّهها، وقد خصّ أمير المؤمنين علیه السلام المستقبلات الحرارة ومنبّهها؛ لكي لا يتناقض المثل مع وعيد الله سبحانه وتعالى الكافرين بنار جهنّم، وتوضع تلك المستقبلات تحت الجلد في نقاط محدّدة، ولكلّ منها قطر تنبيهي يبلغ حوالي «ملم» وتوجد في معظم أنحاء الجسم وتصل إلى (15 - 25) نقطة في كلّ «سم»، والاهمّ في هذا الموضوع أنّ مستقبلات البرودة عندما تعمل في درجات الحرارة المنخفضة هي تثير الألم ويستمرّ ذلك الالم، ولكن في حالة تجمّد الجلد لا تتنبّه مستقبلات الألم نفسها، في حين عندما تصل درجات الحرارة (45) تبدأ مستقبلات الحرارة بالتنبّه ونقل الايعازات عن طريق الألياف العصبيّة الموردة، وبالتالي تتنبّه ألياف الألم وبشكل متفارق تبدأ بعض ألياف البرودة بالتنبيه مجدّداً بما سبّبت الحرارة من تلف لنهايات ألياف البرودة الناتج من تلك الحرارة المفرطة، مما جعل أمير المؤمنين علیه السلام يذكر «فكيف إذا كان بين طابقين من نار ضجيع حجر».

ص: 140

الثواب والعقاب والتخيّل والتعلّم

قال أمير المؤمنين علیه السلام وهو يصف يصف فيها المتيقّن:

«قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَ شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَ أَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَ أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ.

صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً، أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ (1) يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ.

أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وَ أَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا.

أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا (2) يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ (3) بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَ ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ (4) جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا (5) فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ فَهُمْ حَانُونَ عَلَى ...» (6).

تشير الآيات الكريمة الآتية أدناه إلى: استجابة المؤمنين الذين إذا ذُكر الله عندهم، أو تُليت آياته عليهم وواحدة من تلك الاستجابات هي انقباض جلودهم ثمَّ تلين بسبب الاطمئنان. ولعلّ المراد هو أنّ الذين آمنوا وأدركوا الحقّ انسجمت لديهم كلمات السماء بحركاتهم وتصرّفاتهم وتخيّلهم لوصف تلك الكلمات ومعانيها وبالتالي فإنّ لذلك تأثيرات نفسية وعقلية ووظيفية على أعضاء وأجهزة الجسم.

ص: 141


1- أرْبحت التجارة: أفادت ربحاً.
2- الترتيل: التبيين والإيضاح.
3- استثار الساكنَ: هيّجه، وقارىء القرآن يستثير به الفكر الماحي للجهل.
4- زَفِير النار: صوت توقّدها.
5- شهِيق النار: الشديد من زفيرها كأنه تردد البكاء.
6- شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد، ج 2، ص 547.

(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (1).

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (2)

(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (3)

رُوي أنّ صاحباً لأمير المؤمنين علیه السلام يُقال له همّامٌ كان رجلاً عابدا فقال له: يا أمير المؤمنين، صِفْ لى المتّقين كأنّي أنظر اليهم. فتثاقل عن جوابه، ثمَّ قال علیه السلام:

يا همّامُ، اتقِ اللهَ وأَحْسِنْ فَ (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)، فلم يقنع همّامٌ بِذَلِكَ القول حتّى عزم عليه. ومن تلك الخطبة لأمير المؤمنين علیه السلام وهو يصف بها المتّقين عند قراءتهم القرآن أو سماعهم لآية تشويق أو تخويف، وبالتالي هو يتحدّث عن مواضيع علمية مرتبطة بعلم النفس والعمليّات العقلية وتأثيراتها على سلوك الفرد من خلال البواعث والأحاسيس والتخيّل ...

البواعث والمخيّلة

منذ زمن بعيد أراد علماء النفس حلّ لغز «التخيّل» ومنهم مَن ربط التخيّل بالاحساس، ومنهم مَن جعله سبباً للأحاسيس، ومنهم مَن وصفه لأسباب سيكولوجيّة مختلفة، ومنهم من جعل الايقاع الانفعالي والتخيّلى متلازمان ويكمّل أحدهما الآخر، ويُعدّ هؤلاء الأقرب إلى الحقيقة بأن الأحاسيس هي باعث من

ص: 142


1- الزمر: 23.
2- الأنفال: 2.
3- التوبة 124.

البواعث الرئيسية للخيال، ومنذ عصر أفلاطون كانت الدهشه تعدّ محرّضاً قويّاً لكل عمليّات المعرفة، كما أوجدت التجارب البحثيّة أنّ الإرادة إلى جانب الانفعالات تُعدّ قوّة قادرة على التحكّم في الخيال ومقاومة الانفعالات إذا دعتْ الحاجة. وبالتالي أكّد أحد العلماء النفسيين «دونما» أنّ قوّة الإرادة العقلية تنظّم الخيال انْ جاز التعبير، وأنّ اثبات عمليّة التخيّل تُحرِّكها الانفعالات، وقوّة الإرادة هي أهمّ المعالم باتّجاه توضيح البواعث على التخيّل. ووفقاً لمدرسة التحليل النفسي تبعثها المطامح العلميّة غير المشبعة التي تُحدث التوتّرات في نفس الإنسان، وتثير الذكريات القائمة على انطباعات في مراحل عمرية مختلفة ولكن يوضّحها الآخرون، إنما المخيّلة هي حركة فعّالة إلى الأمام وقد تشمل الأفكار والتصوّرات الراغبة في التعبير عن الذات أو تحقيق الذات.

وبالتالي المخيّلة بواعثها آليتَي النشاط الذهني الداخليّتين الافتراضيّتين، وهما رفض صحّة الشيء والافراط في تقدير صحّة الشيء.

ومن هنا فإنّ لغز التخيل وأسبابه كانت أجابته لدى أمير المؤمنين علیه السلام متناوله في هذا الموضوع في مجتمع لا يسوده إلّا التنقّل والترحال وراء الماء والمأكل في تلك الأراضي الحاصبة، وبالتالي حلّ هذا اللغز من خلال آليتي البواعث والانفعالات لرفض صحّة الشيء أو الافراط في تقدير صحّته من خلال الآيات الكريمات، والأولى فيها الثواب والجزاء واللذّة التي يعد بها المتّقين والتي تُعدّ باعثا، والأخرى التي يتوعّد بها الله الكافرين وهي الأخرى يمتلكها العقاب والتخويف، وهو الآخر يعدّ أحد البواعث الانفعاليّة، وبما أن الآيات تتحدّث عن «الثواب والعقاب»، أي عن الجانب الانفعالي والذي يتمّ السيطرة عليه من خلال «الهيبوثلامس» في الدماغ ومن خلال التجارب على عدد من الحيوانات بالتنبيه الكهربائي لمناطق تخصّ الثواب واللذّة أو العقاب، يلاحظ الاختلاف في

ص: 143

الاستجابات الظاهرية لتلك الحيوانات على أجسادهم فضلاً عن التغيّرات الفسيولوجيّة على أجهزتهم الداخلية، والاهمّ من ذلك لوحظ أنّ تلك الحيوانات تبدأ بتكرار ضرب أداة التحكّم الخاص باللذّة، كلّما انطفأت اللذّة لديهم، وتُفضِّل تناول الطعام المقدّم إليها على تكرار هذه العلميّة على الرغم من احساسها بالجوع، وهذا يعني أنّ «الثواب والعقاب» لهما دور في التعلّم في حين التجارب الخالية من تأثيرات البواعث الانفعاليّة تكون معلوماتها لا تحتفظ بالذاكرة ولا تُسهم في عمليّة التعلّم.

كما أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ابتدأ يتحدّث عن مداخل تعلّم اللغة، وهي «البصر والسمع»، ومن جهة أخرى يلاحَظ كانت الآيات تتحدّث عن «المكافأة والعقاب» وانّ اختيار هذين المنبّين لهما الأثر فى التعلّم الذي يرافقه التفكير والإدراك للكلمات ومعناه وخزْن المعلومة، وشملت الآيات المنبّهات لأثارات الجوانب الانفعاليّة التي دفعت المؤمنين بالتخيّل في حالتى الرغبة بالتطلّع للجنان والخوف من عذاب جهنّم؛ وبالتالي كانت الموعظة تُترجِم الجانب العلمي للتخيّل الناتج عن البواعث والانفعالات التي تتملّك الإنسان.

زفير وشهيق جهنّم

مما يتّضح من سياق الوصف أنّ أمير المؤمنين علیه السلام قد أسبق الزفير للشهيق على الرغم من أنّهما عمليّتان متعاقبتان، ولكن هذا لا يعود إلّا لأساس وحقيقة علمية مفادها: أنّ الزفير هو سابق الشهيق فى أوّل عمليّة يؤدّيها الوليد، إذ يلقى بشكل زفير ما تحتويه ريتاه من أجل القيام بالشهيق الأوّل هذا من جانب، والجانب الآخر هو التسهيل في عمليّة الوصف بما يحدث في الإنسان من هاتين العمليّنين التي تكون فيهما الشهيق ايجابي بورود الأوكسجين الذي يحتاجه الجسم لديمومة عمل

ص: 144

الإنسان بانتاج الطاقة، في حين الزفير هو طرح المخلّفات المؤذيه والتي بتراكمها تؤدّي إلى قتل الإنسان؛ وبالتالي استعار بالزفير للتوضيح لِمَا يلفظه الجهاز التنفسي من غازات خطرة عليه والتى تورد من أعماق الجسم، وعليه أراد أَنْ يُصوّر غلاظه ذلك الزفير المنبعث من أعماق جهنّم وما يحمله من جحيم لا يوصف.

الأعمال والماء

قال أمير المؤمنين علیه السلام في إحدى خطبه وهو يذكر فيها فضائل أهل البيت علیهم السلام:

«فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ، وَ الْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ؛ فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ أَ سَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ؟!

وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ، فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ وَ مَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ ... (1).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان:

أوّلاً: إلى دورة المياه في حياة الإنسان وممارسته للزراعة فضلاً عن استقراره، كما أنّ المياه مختلفة، الأمر الذي له آثار على الزرع وثماره وهو ينسجم مع آثار الأعمال ان كانت صالحة أو سيئة، فلكل منها ثماره المستقبلية الخيّرة والشريرة.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (2)

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ ۖ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) (3)

ص: 145


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 2، ص 453.
2- الأعراف: 58.
3- السجدة: 27.

هذا من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في أحدى خطبه التي يصوّر فيها الأعمال، ما هي إلّا نباتات تكبر وتنمو بسقْيها بالماء، فما كان سَقْيه بماء طيّب وعذب ستكون تلك النبتة طيّبة الثمار، ناضجة الجسم، جميلة الشكل، محبوبة الرؤية، ويمكن الاستفادة منها ومن ثمارها، كما يمكن الاعتماد عليها لسدّ الحاجة في التغذية وبناء الجسم البشري، في حين تلك النباتات التي تُسقى بالمياه التي صوّرها أمير المؤمنين علیه السلام بالخبيثة وهي الرديئة المكوّنات هي الأخرى ستعمل على نضج تلك النباتات عند سقْيها بها، ولكن ستكون مؤثّراتها على النباتات كبيرة بحيث يظهر ذلك على افساد ثمارها وعدم الاستفادة منها، وبالتالي لا تعكس جماليّة تلك الشجرة وثمارها، وربّما تكون سمّية أثناء أكلها، والمراد في ذلك هو وصف الأعمال بالنباتات ومدى حاجة النباتات إلى الماء ونوعيّته وما تنتجه من ثمار وهي هدف تلك النباتات لمن يزرعها ويقوم بمراعاتها، فإنّ الأعمال هي الأخرى تُسقى بماء الأخلاق الحميدة الحسنة وعليه أنّ الأعمال تكبر وتعطي ثمارها إلى الفرد والأسرة والمجتمع، وهناك الكثير من الأعمال والأفعال العلميّة والأدبية والتكنولوجيّة والطبيّة والاجتماعيّة التي ظلّت ارْثاً لكلّ المجتمعات الإنسانية خالدة ومخلّدة أصحابها على منابر العلم وخدمة الإنسان، معتمدة على غذاء ذلك العمل ودوافعه، لا سيّما إنْ كانت محمودة فإنّها تنمو وتكبر وتُثمر بشكل يمكن الاستفادة منها، ليس من قِبل صاحبه فحسب بل لِمَا يحتاجه المجتمع الإنساني، ويذكر أمير المؤمنين علیه السلام فى مواطن أخرى عن الفعل الحسن.

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «غارس شجرة الخير يجتنيها أحلى ثمرة» (1).

وما يقابلها من سقْى للأعمال بماء الرذيلة والبغضاء والعادات السيّئة المنافية لقِيَم السماء، فإنّ مؤثّراتها ستكون وخيمة على الفرد والمجتمع؛ إذ تعليمه هو الآخر

ص: 146


1- ميزان الحكمة: ج 3، ص 1124.

يتعلّمه الناس إذ تعلّم العادات السيّئة كلعب القمار، وشرب المخدّرات والخمور والسرقة، والربا، والتحايل، وكلّ السلوك المنافي للأخلاق الحميدة هي الأخرى لها وسطها وبيئتها التي تترعرع فيها من خلال أصحاب السوء ووسائل اللهو وغيرها، والذين يعدون هم ماء الرذيلة. ويذكر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في أهمية الماء: «كل شيء خلق من الماء» (1).

كما قال أمير المؤمنين علیه السلام في باب الأعمال الحسنة: «فعل الخير ذخيرة باقية، وثمرة زاكية» (2).

الماء والنباتات

من الملاحَظ أنّ النباتات التي تُسقى بالمياه العذبة تكون ثمارها ناضجة، في حين النباتات التي تُسقى بمياه مالحة مثلاً ستكون ثمارها تمتاز بشحّة الماء والمذاق غير الجميل، ولكن الاهمّ من ذلك أنّ أمير المؤمنين علیه السلام وصف النباتات التي تُسقى بمياه والتي سمّاها «بالخبيثة» والمراد هنا هو حتّى النباتات المثمرة والتي يتناول ثمارها الإنسان تصبح ساميّة عند سقْيها بتلك المياه، والتي أوضحتْها الدراسات من خلال التجربة والاستكشاف أنّ النباتات المثمرة التي تُسقى بمياه يكون فيها تركيز «السلينيوم» مثلاً عالياً يؤدّي إلى جعل الثمار ساميّة.

ومن هنا فإنّ هذا المثل والموعظة تدلّل على نصيحة أمير المؤمنين علیه السلام بأهمية معرفة التأثير الكبير للماء على نوع الثمار تقرأ فيها وجوه علمية بين ثناياها.

الماء وحياة الإنسان

إنّ الوصف الذي تحمله الموعظة يؤكّد على ابراز أهمية الماء، ولعلّ المراد

ص: 147


1- ميزان الحكمة: ج 3، ص 1028.
2- ميزان الحكمة: ج 3، ص 1124.

تنبيه العامّة أنّ للماء أثراً كبيراً في حياة الإنسان، وقد ذكر الله الماء في مواضع شتّى في القرآن الكريم وأهمّها في الآية الكريمة:

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (1).

ويذكر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في أهمية الماء: «كلّ شيء خُلق من الماء» (2).

والتي تعطي أبعاداً مهمّة لتأثير الماء في الكائنات الحيّة، ومنها الإنسان والنباتات على حدّ سواء، كما أشار في أحد مواعظه إلى التفريق بين المياه وأهمّيّتها بقوله: «إنّ ماء زمزم هو خير ماء على وجه الأرض، وشرّ ماء على وجه الأرض هو ماء برهوت في حضر موت» (3).

إنّ نسبة الماء في الإنسان تصل إلى (60 - 65 %) من وزنه، في حين يكون حوالي (80 %) من وزن العضلات، وحوالي (80 %) من وزن السائل الدموي، ويصل الى (85 %) من الدماغ والى حوالي (20 %) من العظام، وهي مقسّمة إلى داخل الخلايا وخارج الخلايا، وانّ المحافظة على هذه النسب ذو أهمية بالغة على استمرار الفعّاليّة الحيويّة؛ لعمل الأجهزة وبقاء الإنسان.

ورغم أنّ الاستعارة إلى النباتات وأهمية سقْيها بالمياه الطيّبة والعذبة له مردوداته الايجابيّة التي أوضحها أمير المؤمنين علیه السلام، ولكن تُشير هذه الموعظة إلى الدور الكبير في أهمية الماء ونظافته وسلامة نقاوته ونِسَبِهِ التي يتركّب منها، والتي تكسوه العذوبة وهي التي لها التأثيرات الكبيرة على سلامة الأجساد والأجهزة الوظيفيّة، والتي تُظْهِر ملامح النضج عليها بالمقابل أمام تلك المياه التي يتناولها الإنسان وهي عالية الملوحة والعسرة والمرارة بسبب نِسَب تكوينها غير الصحية

ص: 148


1- الأنبياء: 30.
2- ميزان الحكمة: ج 3، ص 1028.
3- طب الإمام أمير المؤمنين: أحمد شوقي الامين، بيروت. ص 346.

وما لها من مخلفات في بناء ونموّ الإنسان في تلك المناطق ففي إحدى مناطق اليمن يُصاب جميع أهلها بسواد كبير يغطّي الأسنان ومِن بَعدُ إضعافها وتآكلها وينتهي بسقوطها السريع، وبعد الدراسة المستفيضة لهذه المنطقة لوحِظ الاختلاف الكبير فى نِسَب مكوّنات المياه الذي يتناولونه وبشكل أكبر بمادّة «الفلورايد» التى زادت عن نسبتها الطبيعيّة ممّا أثّرت على الأسنان بدلاً من فائدتها التي تتّصف بها هذه المادّة.

الماء ومعالجة الأمراض

كما تقول العالمة «كلاير ماكيفيللي» وتضيف: أشرب كثيراً من الماء، فدور الماء في الجسم وأنشطته المختلفة غاية في الأهمية، والماء مضادّ طبيعي للاجهاد والأمراض، وتبيّن أنّه عند افتقاد الجسم للماء، فأنّه يكشف عن التفاعلات نفسها الناجمة عن الاجهاد، مثل زيادة الإفرازات الهرمونية، والتوتّر، وتسارع خفقان القلب.

ويعتبر الماء من أهمّ المواد التي يحتاج إليها الجسم للحفاظ على الصحّة، خاصّةً وأنّ نسبة ما تحويه أجسامنا من الماء يُقدّر ب (65 %)؛ لذلك عليك الانتباه إلى ضرورة تناول الماء لأنّه من العناصر الأساسية لبناء الخلية وإجراء التفاعلات الكيميائيّة التي تحصل داخل الخلايا.

وعندما لا تتناول الماء بكمّيّات كافية يوميّاً فإنّ الخلايا تقوم بسحبه من الدم، ما يسبّب عرقلة في حركة الدم الذي يصبح أكثر لزوجة. انّ حالات الجفاف التي تحصل نتيجة نقص الماء في الجسم ولو بما مقداره (25 %) تؤثّر في عمل وقدرة الدماغ فى إنجاز التفاعلات العصبيّة.

كما أنّ هناك دراسة حديثة لأحد الأطبّاء تؤكّد أنّ أثناء تعرّض الإنسان

ص: 149

للخوف تُفْرَز في الدماء مادّة معيّنة ترتعش منها الأطراف، فلا تثبت، ومن وسائل التخلّص من تلك المادّة المسبّبة لارتعاش الأطراف يتمّ رَشّ الماء على الوجه أو الأطراف أو الجسم، ومن هنا كان أحد أسباب هطول المطر على المسلمين في معركة بدر عندما علم الله سبحانه وتعالى خوف بعض المسلمين من المعركة وبالتالي يُعدّ ذلك أحد الوسائل التي جعلها الله لتثبيت القلوب والاطراف للمسلمين في معركة بدر وإبعاد الخوف وتأثيراته.

وكلّما زادت كمية الماء المفقود من الجسم أصبح الدماغ أكثر ضعفاً ووهنا، وقد يسقط الإنسان «يهوي» أرضاً لعدم قدرة الدماغ على الحفاظ على الجسم، فما عليك إلّا شرب الماء. وكلّما شعرت بأنّ مرّات وكمية التبوّل قد زادت عندك فهذا يعني أنّك بدأت تستفيد من كمّيّات الماء التي تشربها، كما أنّك ستلاحظ أنّ لون البول يُصبح مائلاً إلى اللون الفاتح.

شرب كوب كبير من الماء قادر على تهدئة الأعصاب فوراً عند التعرّض لصدمة عاطفيّة أو ضغط مفرِط. حيث يؤدّي الاجهاد إلى سلب الماء من الجسم؛ ممّا يولّد الاحساس بجفاف الفم. لذا يكفي شرب «لتر ونصف» من الماء يوميّاً لوقف هذه الحلقة المفرغة.

وأظهرت الدراسات الحديثة أنّ الماء يلعب دوراً مهمّاً في تخفيف الوزن وحماية الإنسان من الأمراض وخاصة الخبيثه منها. وقالت الدكتورة «سوزان كلاينر» أخصائيّة التغذية الأمريكيّة انّ الماء يساعد على التخلّص من السموم ومقاومة الجوع، فضلاً عن دوره في المحافظة على مرونة المفاصل ومنع تشكّل حصوات الكلى المؤلمة. وأشارت إلى أنّ الماء قد يساعد أيضاً في الوقاية من أورام سرطانية معيّنة، مثل: سرطانات الثدي، والقولون والبروستات والكلى، لذلك يُنْصَح بتناول «لتر

ص: 150

ونصف» من الماء يوميّاً وتجنّب الإكثار من المشروبات الغازيّة لاحتوائها على الأملاح التي تشجّع الجسم على تخزين الماء.

أنظمة السيطرة في الجسم الحي

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ، وَ لَا فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ.

عِبَادَ اللَّهِ، احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَ يَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ وَ تَشِيبُ فِيهِ الْأَطْفَالُ.

اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً (1) مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَ عُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ وَ حُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَ عَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ وَ لَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ(2)» (3).

تشير الآية الكريمة الآتية إلى أنّ الإنسان محاسب ومسؤول عن النعم التي وهبها الله تبارك وتعالى له، ومن تلك النعم التي لا تُعدّ ولا تُحصى أجهزة الاستقبال الحسية والتي بواسطتها يستطيع الإنسان أنْ يفرّق بين النافع والضارّ، والحسن والقبيح، والخير والشر، وهي تسهّل عليه كذلك حركته الإراديّة واللاإرادية، فضلاً عن نعمة العقل الذى يُدرَك بواسطته العلوم والمعارف، فهو محاسب من على كلّ ذلك، وغيره من النعم وهي شهيدة عليه يوم الحساب.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) (4).

وكلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام السالف الذكر في إحدى خطبه التي يعظ بها

ص: 151


1- الرّصَد: الرّقيب. ويريد به هنا رقيب الذمة وواعظ السر.
2- الرّتاج - ككتاب - : الباب العظيم إذا كان مُحْكَم الغَلْق.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 2، ص 463.
4- المؤمنون: 78.

رعيّته والناس من خلالهم بوجود ما يراقب ويتابع الإنسان في أفعاله وأعماله باختلاف أشكالها انْ كانت «فكرية - حركيّة - وظيفية ...» وعليه انّ ما يُثير الإنسان في بيئته الخارجية المحيطة به أو الداخلية لأداء سلوك معيّن أو ردّ فعل خاص أو انعكاس شرطي أو غير شرطي، فهناك تغيرات تَحدث في داخل الجسم مقابل اخراج هذه الأفعال بشكل تضبط وتهذب وتتلاءم مع المؤثّر الخارجي أو الداخلي فيرافقها الكثير من التحفيز والتثبيط، ومن أجهزة رئيسية وأخرى مساعدة من أجلها تترصّد إلى تلك الأفعال والحركات والسلوكيّات.

التوازن الحيوي

انّ جسم الإنسان معقّد ومدهش ويمتلك قابليّة فائقة في التنظيم ويتألّف الجسم الحي من مواد كيميائيّة ارتفعت في تنظيمها لتصبح مواد حية، فكوّنت خلايا وأنسجة وأعضاء وأجهزة، وبمجموعها تكوّن الإنسان. كما توجد في جسم الإنسان أنظمة للسيطرة تشترك فيها أجهزته وخلاياه لأدامة حالة الثبوت والتوازن فيها وابقاء الظروف الجسميّة بحالتها المثلى لتعمل وتستمر بوظائفها بصورة طبيعيّة؛ ليتمكّن الفرد من البقاء والتكيّف مع المحيط وأداء نشاطاته اليومية على الرغم من التغيرات التي تطرأ على البيئة المحيطة والبيئة الداخلية له.

وعلى سبيل المثال المحافظة على درجة الحرارة (37) للجسم والضغط الدموي ونسبة الماء والسكّر والأملاح المعدنية في الجسم ... وآلاف من العمليات الوظيفيّة في الجسم ذات الدقّه في العدد والنِسَب المحدّدة والتي لها العلاقة المباشرة على سَير حياة الإنسان وبقائه وعليه عند التغيّر في تلك النسب يتم ارسال الإشارات من مواقع محدّدة في الجسم إلى أجهزة السيطرة وبطرق مختلفة لأعادة التوازن لتلك النسب وإلى وضعها الطبيعي، وانّ لكلّ جهاز القدرة في التأثير

ص: 152

والتأثّر، وبالتالي هناك اتصالات وعلى درجة عالية بين الخلايا والأجهزة التي تعدّ بحدّ ذاتها أجهزة سيطرة في الجسم الحي.

أنزيم كلوتوثيون بروكسيديز

نتيجة للنشاطات والجهود البدنية التي يقوم بها الإنسان خلال اليوم فضلاً عن تعرّضه لاشعة الشمس بشكل كبير اضافة إلى التناول المفرط للوجبات الغذائية العالية الدهون ... يتسبّب تكوّن ذرّات الاوكسجين الأُحاديّة «الجذور الحرّة» والتي تُسبّب تمزق أغشية الخلايا وتعطيل وظائفها، ولكن بنفس الوقت هناك خطوط دفاعيّة ضدّ هذه الجذور يقوم بها الجسم دون شعور الإنسان وهو جزء من النظام الدفاعي المدهِش في عمله، إذْ يقوم انزيم «كلوتوثيون بروكسيديز»، بالارتباط بتلك الجذور الحرّة والعمل على تثبيطها، وهناك الكثير من الدفاعات الأخرى لتثبيط تلك الجذور كفيتامين «سي - ي» و «دفاعات الحالة الصلبة وغيرها ...».

بروتينات الإنذار المبكّر

وهي تعدّ بروتينات تُنتجها الخلايا عند تعرّضها لمنبّهات معيّنة لتنبيه الجسم وحمايته من أذى التلوّث أو الحرارة، ويُعتقد أنّ هذه البروتينات ذات فائدة عظيمة؛ إذْ تستجيب كلّ أنواع الخلايا للشروط البيئيّة المؤذية فتقوم بتركيب بروتينات تُسمّى «الإنذار المبكّر» والتي تُعرف ب «بروتينات الصدمة الحرارية»، إذْ يزداد انتاجها مع زيادة الاخلال بالتوازن والتي تَظهر نتيجة عدّة عوامل، منها: «ارتفاع درجة الحرارة، ونقص الأوكسجين، والتعرّض للمعادن الثقيلة، والايثانول، والصدمات الجسديّة ...» كما لوحظ وجود ما لا يقلّ عن (30) نوعاً من هذه البروتينات يقوم بانتاجها الجسم، وهنا الدور الكبير الذي تستجيب له هذه البروتينات في حالات عديدة، وبالتالي تنذر بحدوث الخطر فهي تتحسّس

ص: 153

وتراقب وترصد البيئة الخارجيّة والداخلية للجسم كما أوضح مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بتلك المواد وغيرها التي تقوم بواجبات الترصّد الداخلي والخارجي من خلال موعظته وتُعدّ هذه المعلومات التي ذكرناها هي من المعلومات والاكتشافات الحديثة القيّمة.

انعكاسات الشدّ والتوتّر

ومن خلال الاستعراض السابق نلاحظ أنّ المقصود باستعارة مولانا أمير المؤمنين علیه السلام لكلمة «رصد من أنفسكم عيوناً من جوارحكم»، هو: هناك مَن يراقب وينظّم عمل الأجهزة ويوازن النِسَب ويعدّل أماكن الاضطراب في عمل أيّ جهاز من أجهزة الجسم في كافة الجسم والجهاز العصبي ومستقبلاته الحسية واتّصالاته العصبيّة وأعصابه الحركيّة بشكل يحقّق الاستجابات الوظيفيّة مع البيئة الخارجيّة من خلال مراقبة العمل الباطن في الجسم، وليس المقصود فقط الجهاز الحسّي البصري الذي يراقب الأفعال الظاهرة من الإنسان.

المستقبلات الحسّيَّة للعضلات

لا يحتاج التحكّم المناسب في وظائف العضلات استثارة العضلات بالعصبونات الحركيّة الأمامية فقط، بل أنّه يحتاج أيضاً إلى تقليم راجع حسّي مستمرّ من المعلومات في كلّ عضلة إلى النخاع، تُعْلِمُهُ عن حالة العضلة في كلّ لحظة، أي انّ طول العضلة ومستوى الشدّ التي تبديه وتَغيّر سرعة الطول ومستوى التوتّر الحاصل فيها، ولتوفير هذه المعلومات وغيرها لا بدّ من وجوده كما يذكر أمير المؤمنين علیه السلام: «رصداً عليكم من أنفسكم» ومنها:

1 - المغازل العضليّة: المنتشرة في كلّ بطن العضلة، والتي تُرسِل معلومات إلى الجهاز العصبي عن طول العضلة أو عن سرعة تغيّر ذلك الطول.

ص: 154

2 - أعضاء كولجي الوَتَرِيّة: والموجودة في أوتار العضلات، والتي تنقل معلومات عن توتّر الوتر، أو عن سرعة تغيّره.

وتستمرّ هاتان الإشارتان بصورة تامّه تقريباً لغرض تحكّم العضلة بنفسها بالإضافة إلى كم هائل من المعلومات المرسلة، ليس للنخاع فقط بل إلى المُخَيْخ والقشرة المخية، من أجل مساعدة الجهاز العصبي للتحكّم بالحركة من خلال العضلات في كلّ لحظة زمنيّة.

وبالتالي انّ الموعظة تُشير وبوضوح إلى جُسَيْمَات وخلايا ترتبط بالأجهزة الحسية العميقة بالجسم والتي تقوم باليسطرة على كلّ حركات الجسم من خلال ايصال المعلومات للجهاز العصبي المركزي لمعالجتها، وعليه انّ الحديث يدور في أدقّ التفاصيل الوظيفية لجسم الإنسان والتي لن يتمكّن الإنسان من اكتشافها إلّا باستخدام الآلات والأجهزة الحديثة والتقنيّات المتطوّرة، ومن خلال زمن بعيد من إجراء البحوث المتعاقبة.

درجات الحرق ومناطق الخطورة

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

« ... لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ، وَ قَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالارْتِحَالِ وَ أُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ.

وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا.

أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَ الْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَ الرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ وَ قَرِينَ شَيْطَانٍ؟!

أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً (1) إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ وَ إِذَا

ص: 155


1- مالك: هو الموكّل بالجحيم.

زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ؟!» (1)

تصف الآيتان الكريمتان الآتيتان حال الكفّار وهم في نار جهنّم، وهو ما توعّدهم الله تبارك وتعالى به وأنذر الناس منه.

(فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى) (2).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (3).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في إحدى خطبه التي يصوّر فيها حال المشركين والعاصين في جهنّم، وقد اختار في هذا الوصف أحد مواقع الجسم على الرغم من أنّ التعرّض للنار هو لجميع الجسم، ولعلّ المراد في التحديد بيان الفرق في درجات الخطورة والألم عند الحرق في المواضع المختلفة في الإنسان، ومن هنا أوضح أطبّاء التخصّص في الحروق أنّ أخطر المناطق تعرّضاً إلى الحرق في جسم الإنسان هي منطقة الرقبة؛ ولأسباب عديدة منها:

تعدّ هذه المنطقة الأقرب إلى الرأس، وهو يعدّ الموجّه والمحرّك لفعّاليّات الإنسان بأجمعها، فضلاً عن مرور جميع الأعصاب للجهاز العصبي الذاتي والمركزي من خلالها واتّصالها بالحبل الشوكي، وفضلاً عن وقوع المستقبلات الحسية المسيطرة على الضغط الدموي ومعدّل ضربات القلب فيه والجهاز التنفسي، وان تعرّضها يسبّب الانتفاخ الذي يؤدّي إلى الضيق في المجاري التنفسية وايقاف عمليّة التنفس لدى الإنسان مسبّبهً الموت الموت خنقاً.

في حين يصوّر في المقطع الثاني من الخطبة كيفيّة نشوب الجوامع التي تقيّد الأيدي، حتّى أكلت لحوم السواعد، فانّه تنبيه إلى درجات الحرق التي يحدّد لها

ص: 156


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 2، ص 544.
2- الليل: 14.
3- التحريم: 6.

الأطباء المختصّون بأنّه حرق من الدرجة السادسة وهو أخطر الحروق بسبب التلف الحادث في النظام الدفاعي من قبل أجهزة الجسم، ومنها الجلد بكلّ طبقاته والعضلات والذي يسمّونه «بالتفحّم» الذي تكون فيه المنطقة المحترقه معرّضه بالكامل إلى الهواء الجوّى، أي إلى البكتريا والفايروسات وتنعدم القدرة في السيطرة على سوائل الجسم وغيرها من الأسباب الكثرة والتي يعدّ فيها بقاء الفرد على الحياة أمراً في غاية الصعوبة على الأطبّاء.

كما أنّ الموعظة بكاملها تشير إلى موقعين وهما: تطويق الأعناق وتقييد الأيدي، وبالتالي تُعدّ عمليّة الدفاع غير موجودة أوّلا، وانّ الإنسان يكون مساقاً كون الرقبة والرأس تُعدّ موقع التوجيه والقيادة في حركات الإنسان، كما أراد أنْ يشير إلى وجود درجات من الحرق وهي:

1 - الدرجة الأولى: تؤدّي إلى احمرار الجلد.

2 - الدرجة الثانية: تؤدّي إلى احتراق الطبقة السطحيّة من الجلد.

3 - الدرجة الثالثة: تؤدّي إلى احتراق جميع طبقات الجلد إلى البشرة والأدمة.

4 - الدرجة الرابعة: تؤدّي إلى احتراق الجلد والطبقة الموجودة تحته.

5 - الدرجة الخامسة: تؤدّي إلى احتراق الجلد والطبقة تحته والعضلات.

6 - الدرجة السادسة: تؤدّي إلى احتراق الجلد والطبقة التي تحته والعضلات والعظام وتسمّى «بالتفحّم».

تقدم العمر البيولوجي والأجهزة الوظيفيّة

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«وَمِنْهُمُ النَّاجِي عَلَى مُتُونِ الْأَمْوَاجِ، تَحْفِزُهُ (1) الرِّيَاحُ بِأَذْيَالِهَا، وَتَحْمِلُهُ عَلَى

ص: 157


1- تَحْفِزه: أي تدفعه.

أَهْوَالِهَا، فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَكٍ وَ مَا نَجَا مِنْهَا فَإِلَى مَهْلَكٍ!

عِبَادَ اللَّهِ، الْآنَ فَاعْلَمُوا [فَاعمَلوا]، وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ وَ الْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ وَ الْأَعْضَاءُ لَدْنَةٌ(1) وَ الْمُنْقَلَبُ(2) فَسِيحٌ وَ الْمَجَالُ عَرِيضٌ، قَبْلَ إِرْهَاقِ(3) الْفَوْتِ(4) وَ حُلُولِ الْمَوْتِ، فَحَقِّقُوا عَلَيْكُمْ نُزُولَهُ وَ لَا تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ» (5).

تشير الآيتان الكريمتان التاليتان إلى الانفاق فوق الواجب الشرعي قبل أن يأتي الموت، وعندها تتوقّف امكانية التصرّف ويطلب بقليل من التمديد؛ لكي يتمكّن من التصديق وليكن صالحاً وعليه يعدّ أحد مضامين الآيتين هو استغلال مراحل العمر لا سيّما عندما يكون الإنسان قادراً على الاتفاق، فعندما يأتي الموت سيتوقّف كلّ شيء ومنها الأعمال التي تعدّ الأساس الذي يُجزى عليه الإنسان.

(وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (6).

(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ (7).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في إحدى خطبه التي يَعِظ بها الناس لاستثمار الوقت الذي هم فيه، وليبادروا لأداء الأعمال الخيّرة والتزوّد بها قبل فوات الأوان، قبل يوم لا تقوى فيه أبدانهم وأعضاؤهم على التحرّك بسهولة، إشارة منه إلى مراحل العمر المتقدّمة ومنها الشيخوخة، ويمكن ملاحظة الإشارات العلميّة التالية:

ص: 158


1- اللَدْن - بالفتح - : اللين.
2- المُنْقَلَب - بفتح اللام - : مكان الانقلاب من الضلال إلى الهدى في هذه الحياة.
3- أرهقه الشيء: أعجله فلم يتمكن من فعله.
4- الفَوْت: ذهاب الفرصة بحلول الأجل.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 560.
6- المنافقون: 10.
7- النحل: 70.

الأبدان والأعضاء

يلاحظ الربط الدقيق بين «صحّة الأبدان» و «ليونة الأعضاء» كون العلاقة وطيدة بينهما؛ إذ كلّ منهما يعكس الصورة إلى الآخر، إذ وصف الأعضاء بالليونة أي احتوائها على النسب الطبيعيّة لمكوّناتها من السوائل والأملاح وبيوت الطاقة والبروتينات والدهون والفيتامينات ... وكلّ ما يخصّ مكوّنات الخلايا والأنسجة والأجهزة وبنسبها السليمة بالشكل الذي يجعلها قادرة على عملها بأدقّ وأفضل كفاءة، وبالتالي ستنعكس هذه القابليّة على أفعال وأعمال ذلك الإنسان.

ولعلّ المقصود المباشِر هو الجهاز العصبي والعضلي؛ كونه يعكس الحركات والأعمال الظاهرة والباطنة التي يقوم بها الإنسان، وإذا كان ذلك هو المقصود، فإنّ ليونة العضلات تُعدّ أحد أسباب أداء وظيفتها المتمثّلة بالانبساط والتقلّص لأداء العمل حسب موقع العضلة في الجسم، والذي يسهّل آلية الانزلاق للألياف العضليّة على بعضها لحدوث التقلّص وسهولة عودتها بالانزلاق لحالة الانبساط بالمحافظة على نسبة الماء في العضلات، والتي تكسبها الليونة وتصل نسبة الماء في الجهاز العضلي إلى (80 %) من وزن العضلة. وبالتالي انّ سلامة الأجهزة الداخلية تعني سلامة الأبدان والعكس صحيح.

ومِن ثَمَّ أوضح مولانا أمير المؤمنين علیه السلام أنّ تلك السلامة والصحّة للأبدان والأعضاء اللدنة سوف تتغيّر مع تقدّم العمر، وسيصيب تلك الأعضاء قصور في عطائها الوظيفي بسبب ما تتعرّض له من عمليّات هدم وتلف في مكوّناتها، والقصور في أجهزة التوازن والمحافظة على السوائل ولا سيّما الماء الذي تتناقص نسبة مع تقدّم العمر، فضلاً عن ضعف النطق والذي هو إشارة إلى جميع الأجهزة المختلفة التي سيصيبها الضعف والقصور.

ص: 159

اضطرابات النوم والمرض

قال أمير المؤمنين علیه السلام من دعاء له كان يدعو به كثيراً:

«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَ لَا سَقِيماً وَ لَا مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ؛ وَ لَا مَأْخُوذاً بِأَسْوَإِ عَمَلِي وَ لَا مَقْطُوعاً دَابِرِي (1) وَ لَا مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي وَ لَا مُنْكِراً لِرَبِّي وَ لَا مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي وَ لَا مُلْتَبِساً (2) عَقْلِي وَ لَا مُعَذَّباً بِعَذَابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي.

أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي، لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَ لَا حُجَّةَ لِي ...» (3).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى أنّ الله تعالى أنعم على الناس بالليل الذي يتمّ فيه توقّف العمل وجعل النهار للسعي والكسب، كما أنّ الله يقبض الارواح من أبدانها، والموت والنوم كلاهما توفّي، ولكنّ الموت توفّي لا ارسال بعده، والنوم توفی ربّما كان بعده ارسال.

(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (4).

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) (5).

والكلام المتقدم هو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في إحد أدعيته، ويظهر فيه دعاء أمير المؤمنين علیه السلام بعد استيقاظه من النوم، والذي حَمَدَ الله به الذي لم يُصبح به مفارِقاً للحياة ولا مريضاً، أو يشتكي من عجز أو ضعف وسوء لأحد

ص: 160


1- الدابر: بقية الرجل من ولده ونسله، وأصل الدابر: الظهر، وكنّى بقطعه عن الدواعي ... وإبادة النسل.
2- الالتباس: الاختلاط
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3، ص 281
4- الزمر: 42.
5- الفرقان: 47.

أعضائه، وقبل الحديث عن علاقة النوم مع الإصابات المرضية لا بدّ من الإشارة العلميّة التي وجّهها أمير المؤمنين علیه السلام حول تأثيرات النوم التي كانت - ولز من قصير - لا تُأخذ من مفردات التدريس في كلّيّات الطبّ في جميع دول العالم المتقّدمة غير صفحة واحدة أو محاضرة لا تتجاوز الساعة في قاعات التدريس، وعليه انّ التفاتة أمير المؤمنين علیه السلام حول الدور الكبير لهذا العلم وتوجيه الباحثين والعلماء للاهتمام بعلم طبّ النوم وهو فن دراسة التغييرات التي تحدث أثناء النوم أو نظام لتصرّفات الجسم أثناء النوم، أي انحراف عن ذلك يمثّل مشكلة طبّيّة تحتاج إلى التدخل. يمثّل النوم أكثر من ثلث حياة الإنسان، ورغم ذلك لم تمتدّ إليه المراجع و الأبحاث إلّا فى مرحلة متأخّرة جدّاً. وإذا كنّا قلنا انّ طبّ النوم هو الابحار في خريطة و سلوك الجسد أثناء النوم من خلال قياس هذه التصرّفات مثل حالة التنفّس، حالة العضلات حالة القلب، حالة الأحلام وغير ذلك.

وعليه يمكن ملاحظة ذلك من خلال كلام أمير المؤمنين بالتأثيرات الكبيرة الحادثة أثناء النوم وعلاقته في الإصابات المرضية، وربّما يعود ذلك إلى المتغيّرات المصاحبة للنوم بشكل يجعل الإنسان في النوم مهيّئاً إلى مهاجمة الفايروسات والبكتريا المرضية بسبب ضعف العوامل الدفاعيّة الناتجة عن انخفاض كفاءة عمل الأجهزة في النوم. وبما أنّ النوم هو ارتخاء وفقدان للوعى ويمكن أيقاظ الشخص من خلال منبّهات حسية أو بغيرها إذْ يُقسّم العلماء النوم تبعاً إلى الاختبارات للتغيّرات الكهربائيّة للدماغ الى ثلاثة مراحل، هي:

1 - حالة الألفا: وهي صدور موجات كهربائيّة في حدود ثمان موجات خلال الثانية الواحدة وهي حالة بداية النوم او نهايته.

2 - حالة الدلتا: وهي انبعاث أكثر من موجتين خلال الثانية الواحدة، و هي حالة

ص: 161

النوم العميق.

3 - حالة ثيتا: وهي صدور نصف إلى اثنين موجة في الثانية و هي حالة النوم العميق جدّاً.

كما يقسّم بعض العلماء النوم إلى مرحلتين؛ تبعاً للاستجابات الوظيفية للجسم:

1 - نوم الموجات البطيئة.

2 - نوم الموجات السريعة (نوم الريم).

ويُراد بنوم الموجات البطيئة:

نوم عميق يرافقه نقص في كلّ التوتّر الوعائي المحيطي وفي العديد من وظائف أجهزة الجسم، وبنسبة تصل إلى 10 - 30 % من ضغط الدم وسرعة التنفّس وسرعة العمليّات الأيضيّة ...

في حين يتميّز نوم الريم:

بالحركة السريعة للعينَين، وهو يظهر النوم البطيء ويدوم من (30 - 50 دقيقة)، وفيه يصعب ايقاظ الفرد بالمنبّهات الحسية مقارنة بالنوم ذي الموجات البطيئة، كما يؤدّي الجهاز العصبي الباراسمبثاوي دوراً كبيراً في نوم الموجات البطيئة.

ومن خلال ما تقدّم وبشكل مختصر لآثار النوم على الاستجابات الفسيولوجيّة للجسم في كلا النوعين من النوم ولا سيّما الموجات البطيئة، يكون الإنسان فاقد الوعي والاحساس بالمحيط الخارجي ولا يعلم ما يدور حوله؛ بسبب الانخفاض الذي تمّ ذكره في جميع عمليّات المستقبلات الحسية وباقي الفعّاليّات الجسميّة، ممّا تجعل قدرة الفرد الدفاعيّة وفاعليّة الجهاز المناعي للجسم أقلّ كفاءة بشكل كبير، ممّا هي في حالة اليقظة فضلاً عن أنّ النشاط الكبير للأعصاب الباراسمبثاوية في تثبيط عمل الأعصاب السمبثاوية وعلى سبيل المثال خفض معدّل ضربات القلب إلى 25 ضربة في الدقيقة ممّا هي عليه في حالة اليقظة والبالغة (70) ضربة

ص: 162

في الدقيقة، ربّما لا يمكن الجهاز العصبي المركزي من اعادة فعّاليّة العضلة القلبية إلى وضعها عند الاستيقاظ.

وبالتالي هي إشارة من أمير المؤمنين علیه السلام إلى الأضطرابات الحادثة في النوم والتي أصبح في الآونة الأخيرة من القرن الحالي الاهتمام بها من قبل الأطبّاء بتقديمعدد من الدراسات حول هذا الموضوع، وتؤكّد على أنّ مرحلة نوم «الريم» هي من المراحل الخطرة التي يزداد فيها كثير من فعّاليّات الجسم، والتي ربّما تخرج عن سيطرة الجهاز العصبى مسبّبةً آثاراً كبيرة ربّما تصل إلى الجلطة القلبية أو الدماغية. ومنْ هنا جاءت الموعظة فذكَرَ أميرُ المؤمنين علیه السلام «سقيماً أو مضروباً على عروقي» أي خصّصها بكلّ دقّه باختياره للوعاء الدموي «الشرايين» فقد أكّدت الدراسات في مستشفى «الملك خالد الجامعي» أنّ أكثر من (40 - 50 %) من مرضى فشل القلب يعانون انقطاع التنفّس بسبب انسداد المجاري التنفسية العلوية أثناء النوم ممّا يسبّب ارتفاع ضغط الدم المفاجيء بسبب انقباض الشرايين الرئويّة وبالتالي يسبّب الفشل في الجانب الأيمن من القلب في أقلّ تقدير. كما نشرت صحيفة ال «بي بي سي»: أنّ مجموعة من العلماء وجدوا من خلال التجارب البحثيّة أنّ أكثر من (10 % من الرجال» المتوسّطي العمر يسبّب أضطراب النوم لديهم - ولا سيّما في مرحلة نوم «الريم» - إلى اضطرابات في التنفس، تُعرّضهم إلى اصابات مرضية خطيرة ومتعدّدة والتي يكون له أثر مدمّر؛ نتيجة قلّة نسبة تركيز الاوكسجين في الدم، وكما أظهرت نتائج بحثهم إلى قرب هولاء بشكل كبير لمرض السكّر نتيجة ما أظهرتْه الفحوصات من خلل في وظايفهم الحيويّة التي لها علاقة بالسيطرة على «الجلوكوز» سكر الدم.

ص: 163

تربية السلوك الانفعالي

قال أمير المؤمنين علیه السلام وهو يحثّ أصحابه للجهاد:

«وَ اللَّهُ مُسْتَأْدِيكُمْ (1) شُكْرَهُ، وَ مُوَرِّثُكُمْ أَمْرَهُ، وَ مُمْهِلُكُمْ (2) فِي مِضْمَارٍ مَحْدُودٍ (3) لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَهُ (4)؛ فَشُدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ (5)، وَ اطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِرِ (6)؛ لَا تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَ وَلِيمَةٌ (7)، مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ، وَ أَمْحَى الظُّلَمَ (8) لِتَذَاكِيرِ الْهِمَمِ!» (9).

تبيّن الآيات الكريمة الآتيات لوصف بعض المؤمنين الذين يأتمرون بأمر الله تعالى ويسعون إلى رضاه، ومنهم مَن يدركهم الليل وهم عابدون لله وليس همهم لذّات الدنيا بقدر توضيف تلك النعم الإلهيّة لقضاء حاجاتهم بقدرٍ لا يزيد إلى حدّ الإسراف، كما لا يبخلون على أنفسهم بشيء ممّا أنعم الله عليهم:

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (10).

ص: 164


1- مُسْتأْدِيكم: طالب منكم أداء شكره.
2- مُمْهِلكم: معطيكم مهلة.
3- أصل المضمار: المكان تضمّر فيه الخيل أي تحضر للسباق، وهو هنا كناية عن مدة العمر. وفي بعض النسخ: في مضمار ممدود.
4- لتتنازعوا سَبَقَهُ: أي تتنافسوا في سَبَقِهِ والسَبَق - بالتحريك - : الخطر يوضع بين المتسابقين يأخذه السابق منهم، وهو هنا الجنة.
5- العُقَد: جمع عُقْدة، والمآزر: جمع مِئْزَر، وشدّ عُقَد المآزر: كناية عن الجد والتشمير.
6- اطووا فُضول الخواصر: أي ما فضل من مآزركم يلتف على أقدامكم، فاطووه حتّى تَخِفّوا في العمل ولا يعوقكم شيء عن الإسراع في عملكم. وفي بعض النسخ: وأوطئوا فضول الخواصر.
7- لا تجتمع عزيمة ووليمة: أي لا يجتمع طلب المعالي مع الركون إلى اللذائذ.
8- الظُلَم - جمع ظُلْمة - : متى دخلت محت تذكار الهمة التي كانت في النهار.
9- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3، ص 47.
10- الفرقان: 64.

(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) (1).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (2)

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يَعِظُ بكيفيّة تربية النفس والسلوك الانفعالى لدى الأفراد، ويُظهر ما يؤثّر عليه وما له علاقة به.

التغذية

ابتداءً هو ينهى عن الإفراط في الأكل من خلال نصيحته «وأطووا فضول الخواصر» وهذا لا يحدث لدى الأفراد الذين يمتازون بالسمنة؛ إذ بسبب امتلاء الجوف المعدي فضلاً عن الترهّل وزيادة الوسع في المعدة وامتلاء الخلايا الدهنية بالطبقات الشحمية ولاسيّما تحت الجلد ... وبالتالي لا يمكن طوي فصول الخواصر، وعليه هو نهى عن كثرة الأكل إلى حدّ التخمة، ويناسب الحديث الأفراد الذين يتناولون الغذاء بمستوى حاجتهم فقط، وبالتالي لديهم القدرة على طوي فصول خواصرهم. وقد نهى عن ذلك أمير المؤمنين علیه السلام لعلمه بما للتخمة من آثار كبيرة آنيّة و مستقبلية على الفرد من الناحية الوظيفيّة والانفعاليّة والسلوكيّة؛ إذ كلّ السلوك الانفعالي والتربوي والذهني لا ينسجم مع نموّ القوّة الشهوية «الغذاء»، وربّ سائل يسأل ما هي علاقة قلّة التغذية مع الحفظ والتعلّم؟

هناك أسباب كثيرة، ومنها:

نحن نعلم أنّ لكلّ مادّة غذائيّة لها زمن معيّن في هضْمها وامتصاصها من المعدة

ص: 165


1- الفرقان: 67.
2- الأنعام: 141.

والأمعاء وأقلها زمناً هى الكاربوهيدرات التي يصل (3 ساعات)، وأكبرها الدهون التي تصل إلى (4 - 5 ساعات)، وبالتالي إذا كان الفرد في كلّ وجبة يتناولها وهو يملأ جوف معدته بالطعام ويُفرط في ذلك، فإنّ كلّ وجبة سوف تحتاج إلى ذلك الزمن أو أكثر لهضم وامتصاص الطعام المتناوَل، وهذا يتطلّب الكثير من العمليّات العصبيّة والهرمونية والأنزيمية والعضليّة ... وانشغال عدد كبير من الأجهزة كالقلب والتنفس والكلى والكبد وتحويل مجرى الدم بشكل كبير باتّجاه إنجاز عمليّة الهضم والامتصاص، وطرح الفضلات، وهذه العمليّات أجمعها يسيطر عليها الجهاز العصبي في باحات وأقسام مختلفة من الدماغ فضلاً عن الباحة المسؤولة عن الجوع والشبع في الدماغ، وبالتالي لا يتوفّر الوقت والقابليّة في تلك الفترة للقراءة والاطّلاع والتفكير وأداء الأنشطة المختلفة؛ لانشغال قسم كبير من أجهزة الجسم بعملية تناول الطعام وهضْمها ...

الآلية العصبية في الإفراز

يشترك الجهاز العصبي اللاودي في عمليّات تنبّه الإفراز وسرعته عته من الغدد ولا سيّما في القسم العلوي من الجهاز الهضمي «الغدد اللُعابية، والغدد المريئيّة، والغدد المعديّة، والبنكرياس، وغدد برونر في الاثنى عشر»، وكذلك ينبّه القسم الأسفل من الأمعاء الغليظه.

كما يشترك الجهاز العصبي الودي في زيادة بسيطة في القسم المعدي والمعوي ومعتدله في إفراز الغدد ولكنّه يؤدّي تنبيهه إلى تضيّق الأوعية الدموية التي تغذّى الغدد. وبالتالي له مساعدة بسيطة في الزيادة ببعض الأقسام، ولكن عند الزيادة الكبيرة في الإفراز فانّه يُقلّل من تلك الزيادة.

ص: 166

تنظيم الإفراز الغدّي بالهرمونات

نتيجة لدخول الطعام في المعدة فإنّ تنبيه الخلايا في المعدة والأمعاء إلى إفراز هرمونات مَعِديّة ومعوية تُساهم في تنظيم حجم الإفراز وتمتصّ الدم وتنبيه الغدد إلى الإفراز من البنكرياس والمرارة.

أطوار الإفراز المعدي: يتمّ بثلاث أطوار منفصلة

أوّلاً: الطور الرئيسي.

ثانياً: الطور المعدي.

ثالثاً: الطور المعوي.

الأوّل يحدث قبل دخول الطعام نتيجة الملاحظة، أو شمّ رائحة أو الشاهية.

أما الطور المعدي بعد أنْ يدخل الطعام المعدة.

في حين الطور المعوي يكون والطعام في القسم العلوي للأمعاء الدقيقة.

العزيمة والوليمة

يُعدّ الجهاز الطرفي هو المسيطر على علاقة الجسم مع المحيط الخارجي من خلال سيطرته على الجهاز العصبي الذاتي والغدد الصمّاء، وبالتالي السيطرة على العمل والتغيّرات الفسيولوجيّة والبيوكيميائيّة الداخلية في الجسم.

ولوحظ اهتمام كبير في الآونة الأخيرة في مظاهر السلوك الانفعالي للإنسان، وهناك العديد من الدراسات والتجارب ومنها وُجد أنّ الحيوانات التي يتلف فيها الجانب «الهيبوثلامس» يلاحظ المظاهر السلوكيّة عليها التحضّر والانتباه فضلاً عن الشدّ والتوتّر في الجهاز العضلي الإرادي وما يرافقه من تغيّرات فسيولوجيّة في ارتفاع التنفس ومعدّل ضربات القلب، كما شوهد عزوفه عن الأكل في تلك الفترة. ومن خلال ذلك يعني أنّ الثبات على الأمر والعزيمة عليه والمضى في تحقيق القرار.

ص: 167

لا ينسجم مع الشهيّة للأكل هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ربّما المراد به أنّ الافراط في الأكل يثبّط المضى على تحقيق الأهداف؛ كون تعزيز التنبيهات الحادثة في جانب الهبوثلامس الذي يحتوى على مراكز الجوع والشبع فانّه يجعل الفرد مشغولاً في التفكير بالبحث عن الأكل وتناوله دون التفكير بالمخاطر والمحاذير التي تحيط به، وهذا ما أُثبت بالتجارب على الحيوانات كالقطط التي حُفّزتْ موضوعيّاً ممّا انشغلت في الاستمرار بتناول الأغذية وقامت بتكرار عمليّة الضغط على الأداة الخاصّة بتجهيز المناطق الدماغيّة الزيادة الشهيّة مرافقاً لها سلوك اللامبالاة بالمواقف المحيطة بها.

العزائم والنوم

انّ الانتباه والتركيز على مواضيع معيّنة واتّخاذ القرارات يزيد كثيراً من درجة التنبّه العصبي للعضلات الهيكليّة في الجسم، كما تزيد فعاليّة الجهاز العصبي السمبثاوي. في حين حالات «النعاس» يُحدث العكس؛ إذ يزيد نشاط الجهاز الباراسمبثاوي وارتخاء العضلات، وهذا بدوره يؤدّي إلى تغذية مرتدّة للمستقبلات العصبيّة في العضلات إلى الجهاز الشبكى المنشّط وينطلق «الابنفرين» في الدم بسبب النشاط السمبثاوي فيعمل على الاستثارة المباشرة للجهاز الشبكي المنشّط فيؤدّي هذان التأثيران للحفاظ على درجة اليقظة والانتباه، وهي تمنع النوم بدرجة كافية كما يرافقها ذلك تنبيه الغدّة النخامية الأمامية، وبطريقة غير مباشرة يعمل الهبو تلامس على زيادة إفراز الغدّة الادريناليّة «الابنفرين والنور ابنفرين»، كما أنّ زيادة إفراز الغدّة النخامية الأمامية سوف يزيد من إفراز الغدّة الدرقيّة والتي تزيد من إفراز الثيروكسين لحاجته للعمليّات الايظيّة في الانتباه وما يرافقه من نشاط.

ص: 168

كلّ ذلك يرافق اتّخاذ القرارات والعزم على تنفيذها والتي تكبح أسباب النعاس والنوم، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علیه السلام ببلاغه علمية دقيقة بوصفه لا ينسجم النوم والعقد على العزيمة لِما لكلّ منهما تأثيرات مختلفة تماماً في أجهزة ووظائف الجسم.

كما نشير إلى أحد الاحاديث الشريفة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والتي تحذّر من مغبّة اتّباع القوّة الشهوية بحبّ الغذاء والجري وراء الموائد المليئة بألوان الأغذية التي تُثير النفس دون إدراك عواقبها، إذ يقول:

«اول ما عُصي الله تبارك وتعالى بستّ خصال: حبّ الدنيا، وحبّ الرئاسة، وحبّ الطعام، وحبّ النساء، وحبّ النوم، وحبّ الراحة» (1).

ومن خلاله يعظ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنّ معصية الله سبحانه وتعالى تجلّت أوّلاً بستّ خصال منها «حبّ الطعام والنوم»، وبالتالي هذا دليل على سوء هاتين الخصلتين النابع من تأثيراتها على السلوك الانفعالي والفسيولوجي للجسم البشري.

ما بعد الموت

قال أمير المؤمنين علیه السلام بعد تلاوته: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾:

«وَ تَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا، وَ إِنَّمَا الْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ بَوَاكٍ (2) وَ نَوَائِحُ (3) عَلَيْكُمْ.

أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ (4) وَ فُرَّاطُ (5) مَنَاهِلِكُمْ (6)، الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ (7) الْعِزِّ وَ حَلَبَاتُ (8) الْفَخْرِ، مُلُوكاً وَ سُوَقاً (9) سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ

ص: 169


1- ميزان الحكمة: ج 2، ص 1006.
2- بواکٍ: جمع باكية.
3- نوائح جمع نائحة.
4- سلف الغاية: السابق إليها، وغايتهم حد ما ينتهون إليه، وهو الموت.
5- الفُرّاط - جمع فارط - وهو كالفَرَط - بالتحريك - : متقدم القوم إلى الماء ليهييء لهم موضع الشرب.
6- المَنَاهِل: مواضع ما تشرب الشاربة من النهر مثلاً.
7- مَقَاوِم: جمع مَقام.
8- الحَلَبات - جمع حَلْبة بالفتح - : وهي الدفعة من الخيل في الرِهان.
9- السُوَق - بضم ففتح - : جمع سُوقة - بالضم - : بمعنى الرعية.

سَبِيلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ (1) قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ (2)» (3).

توضّح الآيتان الكريمتان الآتيتان ترجّى الكافرين للنجاة ممّا هم فيه من عذاب في عالم البرزخ والانتظار إلى يوم يبعثون، وهناك أحاديث تُشير إلى الجزاء في هذا العالم متّبعاً إلى نوع العمل في الحياة الدنيا واستمرار هذا العمل.

(لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (4).

(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) (5).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام من إحدى خطبه وهو يعظ الرعيّة والناس من خلالها بوصفه حال الإنسان بعالم البرزخ، وهم في آخر ما يملكونه ولكن تحت الأرض حفراً، ويصفهم بأروع وصف علمي لعملية تحلّل أجسادهم في تلك الفجوات بين ثنايا عالمهم الجديد الموحِش.

قوّة الأرض

وانّ المقصود بقوّة الأرض من خلال وصْفه لها بالسلطة فإنّها تسلّطت على تلك الأجساد من خلال قوّتها بما تحتضنه من هوامّ وديدان وعقارب، فضلاً عن خارجيّة الأرض ومكوّناتها التي تحتضن أنواعاً مختلفة من المواد ذات التأثير على جسم الإنسان باتّجاهات مختلفة ربّما ايجابية وربّما سلبية، وبما أنّ الموعظة

ص: 170


1- الفَجَوات - جمع فَجْوة - : وهي الفُرْجة، والمراد منها هنا شق القبر.
2- يَنْمُون: من النماء، وهو الزيادة في الغذاء.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3، ص 1، 50.
4- المؤمنون: 100.
5- العاديات 9.

هدفها هو تحلّل تلك الأجساد فالمقصود بها ربّما تلك الأراضي ذات الطبيعة المساعِدة على التحلّل، مثل الأراضي الرطبة وهي أكثر من الأراضي المالحة التي تقلّ فيها عمليّات التفسّخ ... اضافةً إلى عدم قدرة الموتى بابداء اي نوع مر المقاومة ازاءها فهي مستسلمة وفاقدة الإرادة، بغضّ النظر عن مستوى تلك القوّة.

ومن ثُمَّ تناول التدرّج في عمليّات التفسّخ وابتداء بأكل لحومهم ومِن ثمُّ شرْب دمائهم، ويُعدّ توضيحاً علميّاً إلى أنّ الوعاء الدموي هو عبارة عن أقنية محاطة بالعضلات والدعامات الخارجيّة، وعليه يتمّ تمزيق وهتْك الدعامة الخارجيّة وهي: الجلد والعضلات، ومن ثُمَّ مصّ تلك الدماء من الأقنية الوعائية أي التدرّج المنطقى للتفسّخ؛ إذ لا يمكن الاختراق لتلك اليَرَقَات المسؤولة على مهاجمة ذلك الجثمان وللوصول إلى الدماء إلّا بعد هتك تلك اللحوم.

النمو والموت

كما وصف أمير المؤمنين الموتى في فجواتهم جماداً لا ينمون، وهنا إشارة إلى موضوعَين علميّين من خلال وصْفهم بأنّهم جماد وهى لفصلهم عن الأجسام الحيّة أي عدم قدرتهم على أداء وظائف معيّنة؛ إذ لا يمتلكون القدرة على التفكير أو الاحساس أو التكاثر أو أىّ فعّاليّة تُدلّل على وجود الحياة فيهم ... ولكن أُثبت علميّاً مؤخراً بأنه لا يوجد على وجه الطبيعة شيء لا يمتلك الروح، وهو يعدّ أحد أسرار قوّة أو مرونة الحديد والنحاس والفضّه ... بل في النوع الواحد من المادّة يوجد تفاوت في مستوى الصلابة والقوّة؛ إذ يعتمد ذلك على مستوى أوزانها الجزيئيّة، إذ بتقارب الذرّات تزداد الصلابة وبابتعادها تزداد المرونة.

فضلاً عن أنّ الجماد ربّما في فترة من فتراته يزداد حجمه وكتلته ووزنه، وربّما يَحدث العكس وهذا يعود إلى موقعه على الأرض أو في باطنها وكذلك تعرّضه إلى

ص: 171

عوامل التعرية، وبالتالي هذا المعنى سوف لا يتناسب مع ما ذكر في المقطع الأول من وصف للتفسّخ «أكلت لحومهم وشربت من دمائهم» أي الوصف في التناقص لتلك الأجساد ومن هنا جاء الوصف الثاني لهم وهم «لاينمون» والنمو يعني في معناه الظاهري تلك التغيّرات البدنية في الطول والوزن والحجم والكتلة لكن في مضمونه الحقيقي يشمل - فضلاً عمّا سبق - تغيّرات اللغة والمهارة والتغيّرات العقلية والانفعاليّة والاجتماعيّة وما تُخفيه وراءها من تغيرات كيميائيّة وفسيولوجيّة، أي نمو عضوى ووظيفي في آن واحد.

ومن هنا أعطى أمير المؤمنين علیه السلام صفة عدم النمو لأهل القبور بحيث تشمل جميع معالم ايقاف النمو الظاهرة والباطنة لهم بمعنى بدء عودتهم إلى ما خُلقوا منه أوّل مرّة. وهو تفسير لِمَا أقرّه القرآن الكريم في مواضع عدّة، منها قوله تعالى:

(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (1)

آخر ما يرثه الإنسان

قال أمير المؤمنين علیه السلام بعد تلاوته: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾:

« ... وَ بِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً، فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ (2) صَرْعَى (3) سُبَاتٍ (4)، جِيرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ. بَلِيَتْ (5) بَيْنَهُمْ عُرَا (6) التَّعَارُفِ وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ، فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَ هُمْ جَمِيعٌ وَ بِجَانِبِ الْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلَّاءُ لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً وَ لَا لِنَهَارٍ مَسَاءً.

ص: 172


1- الأنبياء: 104.
2- ارتجال الصفة: وصف الحال بلا تأمل.
3- صرعى - جمع صريع - : أي هالك.
4- السُبات - بالضم - : أي النوم.
5- بَلِيَتْ: رثّت وَفَنِيَت.
6- العُرا - جمع عُرُوة - : وهي مَقْبِض الدلو والكوز مثلاً.

أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ (1) ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً؛ شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا وَ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا. فَكِلَا الْغَايَتَيْنِ (2) مُدَّتْ لَهُمْ إِلَى مَبَاءَةٍ (3) فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَ الرَّجَاءِ.

فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوا (4) بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَايَنُوا، وَ لَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ وَ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ (5) وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ وَ تَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ، فَقَالُوا كَلَحَتِ (6) الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ (7) وَ خَوَتِ (8) الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ وَ لَبِسْنَا أَهْدَامَ (9) الْبِلَى وَ تَكَاءَدَنَا (10) ضِيقُ الْمَضْجَعِ وَ تَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ وَ تَهَكَّمَتْ (11) عَلَيْنَا الرُّبُوعُ (12) الصُّمُوتُ (13)، فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَ تَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا وَ طَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا وَ لَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً ...» (14).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في أحد خطبة ذكرها بعد تلاوته سورة «التكاثر»، وهنا يدور الحديث في وصف أهل القبور وكأنّ لسان حالهم يقول: بأنّ الأجساد خوت أي فقدتْ قوّتها بسبب فقدانِ وتهدّم وتلف أسباب القوّة، ومنها: الأجهزة، والأعضاء، والأنسجة، والخلايا ذات العلاقة بإظهار القوّة.

ص: 173


1- الجديدان: الليل والنهار.
2- يريد بالغايتين هنا: الجنة والنار.
3- المَبَاءة: مكان التبوّء والاستقرار والمراد منها ما يرجعون إليه في الآخرة.
4- عَيّوا: عجزوا.
5- العِبَر - جمع عِبْرة - : وهي ما يعتبر به، ويتخذ موعظة
6- كَلَح - كمنع - كُلُوحاً: تكشّر في عُبوس.
7- النواضر: الحسنة البواسم
8- خَوَت: تهدمت بنيتها.
9- الأهدام - جمع هدم بكسر الهاء - : الثوب البالي أو المرقع.
10- تَكَاءدَهُ الأمرُ: أي شقّ عليه.
11- تهكّمت: المراد هنا تهدمت
12- الرُبُوع: أماكن الإقامة.
13- الصُموت: جمع صامت، والمراد بها القبور.
14- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3، ص 50.

كما أنّ أسباب الهدم عديدة ومختلفة فوصفها بأنّها أنواع من الأثواب البالية، أي انّ التفسّخ يمرّ بعدّة مراحل وبعدّة أشكال من المسبّبات:

فمنها الأرض وطبيعتها، ومنها ما تحتويه الأرض من الديدان والعقارب والهوام واليرقات والبكتريا الداخلة من خارج الجسم، ومنها الموجودة في داخل الجسم خلال خلال حياته ولكن كانت عاجزة عن العمل بسبب القدرة الدفاعيّة لأجهزة الجسم، وبتوقّف تلك الأجهزة بدأت دورها في التحلّل والتفسّخ ومهاجمة أعضائه، وهي الأخرى أنواع مختلفة.

كما يشير الحديث إلى أروع غاية علمية وهي وحشه أبنائه واخوانه وأصحابه بعد مفارقته للحياة، فيسرعون به إلى مثواه الأخير ليهيلون عليه التراب أي أنّنا جميعاً آخر ما نَرِثُهُ من آباينا وأحبّاينا هو وحشه وجودهم بيننا بعد موتهم.

مراحل التفسّخ

قال أمير المؤمنين علیه السلام بعد تلاوته: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ):

«فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ وَ قَدِ ارْتَسَخَتْ (1) أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ (2) فَاسْتَكَّتْ (3) وَ اكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَاب، فَخَسَفَتْ (4) وَ تَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا (5) وَ هَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا وَ عَاثَ (6) فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى (7) سَمَّجَهَا (8) وَ سَهَّلَ طُرُقَ الْآفَةِ إِلَيْهَا مُسْتَسْلِمَاتٍ، فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ وَ لَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ، لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ (9)

ص: 174


1- ارتسخ: مبالغة في رسخ، ورسخ الغدير: نش ماؤه، أي أخذ في النقصان ونضب.
2- الهوام: الديدان.
3- استكّت الأذن: صمّت.
4- خسفت عين فلان: فقئت.
5- ذلاقة الألسن: حدتها في النطق.
6- عاث: أفسد.
7- البِلى: التحلل والفناء.
8- سمّج الصورة تسميجاً: قبّحها.
9- أشجان القلوب: همومها.

وَ أَقْذَاءَ عُيُونٍ (1)، لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ» (2).

وهي من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام من خطبة ذكرها بعد تلاوة سورة «التكاثر»، في وصف أهل القبور، وفيه موعظه إلى بيان نهاية الإنسان، وكيفيّة تفسّخ أعضائه وأجهزته، ومراحل ذلك التفسّخ وطرقه من خلال هذا المقطع الرائع لمّا تمرّ به الأجساد تحت طيّات الأرض، ومنها:

أوّلاً: من خلال الوصف يظهر هناك تدرّج وترتيب وظيفي في تناول الحواس فبدأ بالسمع الذي يُعدّ من حيث الأهمية الوظيفيّة للإنسان أولى من البصر، والأخير هو أهمّ من الذوق والنطق، ومن مميّزات السمع على البصر ما يلي:

1 - انّ الأذن تمنح الإنسان توازناً «معرفيّاً وخلقيّاً وسلوكياًّ ...»

2 - الأذن تعدّ من أوائل الأجهزة التي تخلق وتكتمل لدى الجنين في الأسابيع (2 - 4) بعد اخصاب البويضة.

3 - انّ الأذن تسمع وتؤدّي وظيفتها بجميع الاتّجاهات.

4 - تعمل الأذن ليلاً ونهاراً.

وهي ميزات لا نجدها في مقارنة بحاسة البصر.

لذلك نجد القرآن الكريم في مواضع عدة يقدم السمع على البصر لما له من أهمية كبيرة من ذلك قوله تعالى:

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ۚ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ۚ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) (3).

(أُولَٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ۘ

ص: 175


1- أقذاء العيون: ما يسقط فيها فيؤلمها.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3، ص 50.
3- يونس: 31.

يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ۚ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) (1)

كما يمكن ان نستدل على تقديم السمع على البصر ان نبي الله يعقوب قد فقد بصره وهو نبي ولم يخل ذلك العمى بنبوته وبعثته، ولكن لم يبعث الله رسولا أصم ولم يصم رسول خلال بعثته فهذا دليل على أهمية السمع وتقدمه على البصر.

﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (2).

ثانياً: كما أنّ عمليّات التفسّخ تحدث بتدرّجٍ حسب التسلسل الذي تناوله أمير المؤمنين علیه السلام من خلال وصفه لحاسّة السمع «بارتساخ الأسماع»، وأنّ استعارة «الارتساخ» ماهي إلّا تعريف العامّة باحتواء هذا الجهاز الحيوى في الجسم على السوائل، والتي تعدّ أحد مميّزات عمله الوظيفي، ومنها التوازن الحركي التي وصفها بأنّها نضبتْ ونشفتْ وربّما يعود ذلك إلى تناولها وامتصاصها من قبل اليرقات والهوامّ التي هاجمت الجثّة، أو ربّما إلى التغيّرات التي تحدث بعد الوفاة والتي ذتشمل تغيّرات في اختلاف الضغوط، ممّا يسبّب الانتقال والتغيّر في مواقع السوائل أو لأسباب أخرى، كما وصف الهوامّ بأنّها قد ثبتت في هذا المكان وهو «الجهاز السمعي»، ويعدّ سبب اختيارها أو البدء في هذا الجهاز؛ كونه الطريق الآهل فى الوصول إلى داخل الجسم، كون الحاجز الوحيد بينه وبين المحيط الخارجي هو غشاء رقيق يُسمّى «الغشاء الطبلي» أو ما يُسمّى بغشاء طبلة الأذن، وهو سهل الاختراق مقارنةً بباقي المناطق الأخرى في الجسم التي هي أكثر احكاماً وصعوبة في الاختراق. كما يذكر باحثو الطبّ العدلي والفسيولوجي أنّ بداية التغذية لليرقات الدوديّة تكون على سوائل الجسم، وهذا يعدّ سبباً آخر دَعَا أمير المؤمنين صلی الله علیه و آله و سلم بالبداية إلى توجيه الأنظار بنضب ماء وسوائل الأُذن، والذي بعدَ

ص: 176


1- هود: 20.
2- الاسراء: 36.

توجيه العلماء والباحثين في هذا المجال إلى الالتفاتة لموضوع التفسّخ للموتى و بدايته بامتصاص السوائل.

ثالثاً: ومِن ثمَّ تدرّج في وصفه إلى حاسّة البصر «اكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت»، وبدأ الوصف بإشارة إلى انهيار بعض أتربة المضجع عليهم وحدّد وجوههم واستعار بكلمة التكحّل التي ترتبط بأحد أساليب إظهار مفاتن العيون، وهي تعدّ إذلالاً بوصفه بعودة الإنسان إلى حقيقة تكوينه التي نادراً ما تواضع لها، كما صوّر تلك العيون بمرور الزمن عليها بأنّها تخسف أي تغور عن موقعها وهو توضيح إلى فقدان مكوّناتها ومنها سوائلها بأنّها فقأت وغابت حَدَقتُها التي ميّزتْها سوائلها في شكلها، وبالتالي انخفضت وغارتْ وسقطت في حفرتها «فتحة العين في عَظْم الوجه» والذي كان يمسكها من ذلك مكوّناتها وعضلاتها التي تُحيط وتُمسك بها، فهي الأخرى دبّ بها التحلّل وفقدتْ عملها، والتي تحوّلت تلك البروتينات المكوّنة للعضلات المثبّتة لكرة العين في موقعها هي الأخرى تحوّلت إلى سوائل بعد تحلّلها، ممّا سبّب غَور العين في داخل حفرتها في الجمجمة.

وعليه انّ الصورة العلميّة التي رسمها أمير المؤمنين علیه السلام توضّح مكوّنات العين ودورها في إعطاء شكلها، وكذلك إلى خارجيّة التفسّخ وإلى ما خلْف العين من فتحات و شقوق عظمية تستقرّ وتعلو منها العين وتنزوي بفقد ذلك الشكل وتغور بها بعد تحلّل مكوّنات العين، فضلاً عن فتح باب مهمّ إلى دراسة مراحل التفسّخ، والذي يُعدّ عِلْماً مهمّاً فى وقتنا الحاضر يمكن من خلاله اكتشاف أسباب الوفاة ووقت الوفاة ومسبّباتها ... وبالتالي يكون أمير المؤمنين علیه السلام قد وضع الأُسس لدراسة هذا الموضوع وترك للباحثين الغَور فيه.

رابعاً: كما تناول في المرحلة التالية «عَضَلَه اللسان» التي تُناط بها حاسّة الذوق وإظهار النطق، فوصفها «تقطّعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها»، وهما

ص: 177

اشارتان للذوق والنطق، ويُعدّ الأخير من أهمّ الأسباب لوقاية الإنسان من النار أو ليرمي به في قعر جهنّم لكلمهٍ نَطَقَ بها لسانُه، وقد وصف أمير المؤمنين علیه السلام تفسّخ هذه العضلة بالمرحلة الثالثة في وصْفه لمراحل التفسخ. وكونها تعدّ من الأهمية الوظيفيّة أقل من سابقاتها، فضلاً عن كونها تصل إلى مراحل الانقطاع في الأفواد بمرحلة زمنيّة تلى عمليّات تفسّخ الجهاز السمعي والبصري، كما يُظهر الوصف الدقيق في أسلوب التفسخ بانقطاع عضلة اللسان عن موقع اتصالها الذي يُعدّ توضيحاً لعملية تقطّع الأنسجة والأعضاء وانفصال الأجهزة عن بعضها وعودتها التدريجيّة إلى مكوّناتها الأوليّة؛ بسبب انفصام أسباب الاتّصال وانقطاع عمليّات الارتباط.

كما أنّ عمليّة الاتّصال تدلّل بصورة غير مباشرة إلى أنّ انفصال العضلة يعود إلى تحلّل الخيوط البروتينية الليفيّة بعضها عن البعض الآخر، ممّا أدّى إلى انفصالها وانقطاعها، كما هي إشارة إلى أنّ عمليّة الانفصال تُعدّ من مراحل التفسّخ المتقدّمة من خلال ملاحظة انقطاع العضلات التي لكلّ منها منشأ ومدغم عن موقع اتّصالها، فضلاً عن انفصال الأعضاء عن اتّصالها ببعضها في الجهاز الواحد، وهكذا ...

خامساً: كما تطرّق أمير المؤمنين علیه السلام إلى أهمّ عضلة في جسم الإنسان وهي عضلة القلب ووصفها بأنّها «همدتْ في الصدور بعد يقظتها»، وهو أوّلاً ابراز أهميّة هذه العضلة التي أشار إليها العلماء - ولزمن ليس بالبعيد - بأنّها تُعدّ العضلة الأولى في الأهمية في الجسم بين باقي العضلات المختلفة، كما أشار من خلال الوصف إلى ابراز أهمّ خاصِّيَّة وظيفية تميّزها في أداء عملها والتي تعطي الإنسان سلامة الحياة وهي استمرارها بعمليّات التقلّص والانبساط المنتظم من خلال وصفها بأنّها «همدت» أي توقّفت، عِلْماً أنّ عمليّات التقلّص المنتظم تبدأ في الأسبوع الرابع بعد اخصاب البيضة حتّى مفارقة الحياة، كما يُعدّ وصفها «باليقظة» إذ يعدّها علماء

ص: 178

الفسيولوجي بأنّها تُعدّ قياساً فسيولوجيّاً سهْل القياس وذو أهميّة كبيرة لعكس كفاءة وسلامة القلب والأجهزة الأخرى من خلال تأثّرها بالمواقف المختلفة المُحزِنة والمُفرِحه وفي نشاط الفرد، فضلاً عن تأثّرها في يقظته ونومه، كما تعكس واقع البيئة الداخلية أثناء الإصابات المختلفة ومنها المرضية التي يتعرّض لها الإنسان.

والأهمّ من ذلك كلّه والذي يخصّ موضوع البحث وهو التفسّخ أنّ حديث أمير المؤمنين علیه السلام في هذه المرحلة لم يُشِر إلى تفسّخها، إذ يُشير علماء الطبّ العدلي ضمن هذه المرحلة التي يصفها يمكن تمييز عضلة القلب، ولكن لا يمكن تمييز الكبد وبعض الأعضاء في الجسم داخل القفص الصدري؛ إذ تكون مجموعة مختلطة من الأنسجة المتداخلة المتحلّلة وإلى فقاعات كمية من السوائل.

طُرُق الآفات

كما يذكر أمير المؤمنين علیه السلام:

«وعَاث (1) فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلىِّ (2) سَمَّجَهَا (3)، وَسَهَّلَ طُرُقَ الْآفَةِ إِلَيْهَا مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ، وَلَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ» (4).

وهو يصف علیه السلام في هذه الأسطر أبلغ أسباب التحلّل والتفسّخ للجسد بعد الموت والتي يمكن قراءة ما خلف الكلمات من الجانب العلمي لعمليّات التفسّخ من خلال ما يلي:

ابتداءً تبيّن الدراسات الجنائيّة والطبيّة الحديثة أنّ الإنسان عند انقطاع الحياة وتوقّف الأجهزة لديه يمرّ ب:

المرحلة الأولى: وهي الارتخاء.

ص: 179


1- عاث: أفسد.
2- البِلى: التحلل والفناء.
3- سمّج الصورة تسميجاً: قبّحها.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3، ص 50.

والمرحلة الثانية: وهي ما يسمّى بالصمل الموتي أو «التيبّس الموتي»، والتي تبدأ عمليّة التفسّخ،بعدها، ولكنّ أمير المؤمنين علیه السلام لم يصف هذه المراحل لأنّها ظاهرة للعيان؛ ولذلك وصف التفسّخ بعد دفن الموتى، ولذلك قال علیه السلام: «فلو مثلتَهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك» وهي المرحلة المحجوبة عن الرؤيّة والمجهولة المعالم، ومنها بَدَأَ الوصف بمراحل التفسّخ وطرقها، وبالتالي وصف أنّ لكلّ جارحه تفسّخ وهو يختلف تبعاً إلى خارجيّة ومكوّنات ذلك العضو هل هو «بروتينات، أو كاربوهيدرات، أو دهون، أو أملاح معدنية، أو قد تكثر فيه نسبة السوائل أو تقل»، كلّ ذلك له الديدان واليرقات التي تتغذّى عليه، كما لكلّ مرحلة هناك من اليرقات والديدان ما تقوم به من نخر ذلك الجسد وبالتالي تكون قد فتحت الطريق إلى آفة أُخرى للوصول إلى جهاز أو عضو لا تمام واستمرار عمليّة التفسّخ والمقصود في ذلك أنّ البكتريا والطفيليّات التي تعيش في جسم الإنسان في حياته وتتغذّى بداخله والتي تُسمّى بالبكتريا اللاهوائيّة عند وفاة الإنسان وتوقّف الجهاز المعناى له تَنْشط وتقوم بفعّاليّاتها في عمليّة التفسّخ وهي تهاجم المواقع التي تعيش فيها ومنها المنطقة الأولى في جسم الإنسان وهي الأمعاء الغليظه والتي تحتوي على الفضلات، ومنها تكبر هذه المنطقة المتفسّخة لتشمل الجسد بأكمله، فضلاً عن ذلك، هناك من البكتريا والديدان واليرقات التي لا تتمكّن من الوصول إلى غذائها الرئيسي في داخل الجسد إلّا بعد الانتهاء من هتْك الدعامات الجسديّة، ومنها الجلد مثلاً، وعليه انّ كلّ نوع من تلك الهوام التي تُهاجم الجسد يقوم بفعله لفتح الطرق أمام أنواع أخرى لمهاجمة الجسد ونخْرها.

الجهاز المناعي

كما وصفَ استسلام الموتى من خلال «توقف عمل الأيدي والقلوب» عن دفع

ص: 180

الأذى، هو في ظاهر الكلام يصف حقيقة ذلك التوقّف فضلاً عن دور الموصوف بأداء واجب الدفاع، ولكن باطن الأمر هو وصْف للاستسلام الجماعي لذلك الجسد والمراد به توقّف قدرة أنظمة الدفاع الكلِّيَّة، والمراد الإشارة إلى دور الجهاز المناعي الذي يدرء الخطر عن الإنسان في نومه ويقظته وعمله وتوقّفه ممّا نعلم به ونحسّه وممّا لا نعلم به ولا نحّسه وممّا نراه وممّا لا نراه، وممّا نلمسه ونقدّره وممّا لا يمكن لنا لَمْسه و تقدير خطره علينا، ومنها الأشكال المختلفة من البكتريا التي تصل أنواعها إلى عدّة آلاف من البكتريا وفي مواقع مختلفة من الجسم، ومنها ما تشير إليه إحدى الدراسات الحديثة بأكتشاف أكثر من (200) نوع من البكتريا في عضو المريء والتي شُخّص ما يقارب (50) منها بطبيعة دورها، والآخر يُجهل دورها ولكن يبقى دور الجهاز المناعي بايقاف هذه الأنواع عن الفعاليّة السلبيّة، وبالتالي هي تنشط بانتهاء هذا الجهاز، وعليه كانت الاستعارة لذلك الجهاز بالأيدي والقلوب.

ما قبل الموت

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَ تَضْحَكُ إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ (1)، إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ (2) وَ نَقَضَتِ الْأَيَّامُ قُوَاهُ وَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ (3) مِنْ كَثَبٍ (4)، فَخَالَطَهُ (5) بَثٌّ (6) لَا يَعْرِفُهُ وَ نَجِيُّ (7) هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُهُ وَ تَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ (8)

ص: 181


1- عيش غَفول: وصف العيش بالغفلة لأنه إذا كان هنيئا يوجبها.
2- الحَسَك: نبات تعلق قشر ته بصوف الغنم، ورقه كورق الرجلة أو أدق، وعند ورقه شوك ملزز صلب ذوثلاث شُعب، وهو تمثيل لمسّ الآلام.
3- الحُتوف: المهلكات، وأصل الحَتْف: الموت.
4- كَثَب - بالتحريك - أي قُرْب.
5- خالطه الحزن: مازج خواطره.
6- البَثّ: الحزن.
7- النَجيّ: المُناجي.
8- الفَترات: جمع فتْرة، وهي المدة من الزمن، ويريد بفترات العلل أوائلَ السقم والمرض وانحطاط القوة.

عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ، فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الْأَطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ (1) وَ تَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ، فَلَمْ يُطْفِئْ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً وَ لَا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا هَيَّجَ بُرُودَةً وَ لَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ (2) لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ، حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ (3) وَ ذَهَلَ مُمَرِّضُهُ وَ تَعَايَا أَهْلُهُ (4) بِصِفَةِ دَائِهِ» (5).

تشير الآيات الكريمة الآتية إلى أنّ الله سبحانه وتعالى يصف حال الكافر الذي أَنْسَتْهُ ملذّات الدنيا طريق الرشاد، وأنّ الدنيا هي دار امتحانات، وهي ذات وجهين يوم خير ويوم حرمان وفقر وكفاح وهذه إرادة الله لكي يجزى عليها العباد، كما تصف الآيات أنّ البكاء والضحك وجوده من الله سبحانه وتعالى ولكن فعله من الإنسان، وبالتالي انّ كلّ نفس إنسانية سوف تتجرّع الموت وتعود إلى خالقها سبحانه وتعالى:

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ) (6).

(يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) (7).

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (8).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام من خطبة سبقها تلاوة سورة «التكاثر» والتي يصوّر فيها حال الإنسان قبل مداهمته المنيّة، فهو مشغول باشباع غرائزه

ص: 182


1- القارّ - بتشديد الراء على وزن اسم الفاعل - هنا: البارد.
2- اعتدل بممازج: أي طلب تعديل مزاجه بدواء يمازج ما فيه من الطبائع.
3- مُعَلَّل المريض: من يسليه عن مرضه بترجية الشفاء.
4- تَعَايا أهله: اشتركوا في العجز عن وصف دائه.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3، ص 51.
6- النجم: 43.
7- إبراهيم 17.
8- الأنبياء: 35.

غافلاً عمّا يُراد به وما هى إلّا أيَّام ومسرعاً زحف نحوه الأجل وداهمه المرض من حيث لا يحتسب، وبدأ بضعف قواه فيخالطه حزن لا يعرف سببه ففزع به الألم والمرض مسرعاً إلى مراجعة الأطبّاء متأمّلاً كَسْب سعادته بسلامة صحّته وزوال ألمه ومرضه بمشورتهم.

النموّ والهرم والوهْن

أشار أمير المؤمنين علیه السلام إلى النموّ ومراحله وصولاً إلى سنّ الشيخوخة، من خلال وصْف حال الإنسان في قضاء عمره وهو في طور البناء، والتي من مظاهرها بروز القدرات والقابليّات المختلفة له ومنها الجسديّة وفنائها باللذائذ واشباع الغرائز الشهوانية، متّبعاً هواه إلى أنْ يقدم به العمر.

ويصوّر علم «الأجِنَّه» أنّ أسرع مراحل العمر باستثناء مرحلة الإخصاب حتّى الولادة فإنّ أسرعها هي في عمر الطفولة، والتي يبدأ التناقص في هذه السرعة مع تقدّم العمر إلى أنْ تصبح عمليات البناء أقل من عمليات الهدم في خلايا وأجهزة الجسم، ممّا يسبّب وضوح ضعف الأجهزة الجسميّة وتناقص القوّة عليه، ويذكر علماء الفسلجة أنّ التناقص في سنّ (30 سنة) يصل إلى (10 %)، أمّا في سنّ (40 سنة) يصل التناقص في القوّة إلى نسبة (30 %)، أمّا بعد سن (50 سنة) يصل التناقص في القوّة إلى نسبة (40 %).

ويذكر الإمام الصادق علیه السلام في بيان كيفيّة ولوج الشيخوخة وزحْفها وضعْف الجهاز المناعي للجسم مع تقدّم العمر، ويبيّن عمراً زمنيّاً لذلك والذي يُعدّ تحذيراً لتلك المستويات العمرية إذْ يقول: «إذا بلغ العبد ثلاثاً وثلاثين سنة فقد بلغ أشدّه، وإذا بلغ أربعين سنة فقد انتهى منتهاه، وإذا بلغ إحدى وأربعين فهو في النقصان،

ص: 183

وينبغى لصاحب الخمسين أنْ يكون كمَن هو في النزاع» (1).

وبالتالي أوضح أميرُ المؤمنين علیه السلام في هذه الموعظة ما خلْف ذلك التناقص بالقوّة وما هي أسبابه من خلال مراحل النموّ وعلاقته بتقدّم العمر.

كما أنّ الاختيار الواقع بالوصف لصفة القوّة بين الصفات الأخرى التي تميّز قدرة الإنسان وقابليّته «كالسرعة، والجلَد، والرشاقة، والمرونة ...» مبيّناً عظمة هذه الصفة عن باقي الصفات واعتماد الصفات الأخرى أجمعها عليها في بنائها أو أثناء تنفيذها في الحركات المطلوبة.

وفى الآونة الأخيرة ومِن خلال جمْع من العلماء تمّ الاتّفاق على أنّ صفة القوّة تُعدّ أهمّ الصفات البدنية للإنسان، والتي لا يمكن أداء أيّ حركة مهما كانت سهلة أو معقّدة، منخفضة في شدّتها أو عالية، إلّا من خلال المشاركة وبنسبة عالية من صفة القوّة، على الرغم من اختلاف هدف الحركة ومستوى مشاركة الصفات الأخرى فيها.

وقد نجد أنّ هذه الصفة تناقصت مع تقدّم العمر؛ كون الأسباب التي تعتمد عليها القوّة في إظهارها وظيفيّاً تناقصتْ وأصابها الضعف، ومنها:

1 - ضعْف التنبيهات العصبيّة وشدّتها الواصلة إلى العضلات العاملة.

2 - قلّة مستوى المرونة في الألياف العضليّة التي تُعدّ أحد أسباب ظهور القوّة.

3 - انخفاض الحوافز الهرمونية والأنزيمات المساعِدة في سرعة التفاعل.

4 - تناقص بيوتات الطاقة وحجمها وكمِّيَّتها في العضلات العامِلة.

5 - انخفاض نسبة السوائل - ومنها - الماء ولا سيّما في العضلات التي تعتمد في عمليّة انزلاقها عليها.

6 - تناقص مستوى مرونة ومطاطيّة الألياف العضلية.

ص: 184


1- ميزان الحكمة: ج 7، ص 2811.

ملامح الحتوف

ويصوّر أمير المؤمنين علیه السلام ملامحَ بدْء زحف المَنِيَّة على الإنسان وأمراض الهلاك مع تقدّم العمر، وضعْف القوّة وما يخيّم عليه من حزن لا يُعرف أسبابه وما تساوره من هموم و ضعْف قدرته على مقاومة المرض والعلل، ما كان يدركها ويقتنع من الوصول إليها في شبابه وقوّته وعليه مراحل الهلاك يقسّمها أمير المؤمنين علیه السلام إلى ما يلي:

1 - ضعف القوة.

2 - الحزن.

3 - الهم.

4 - المرض.

كما أنّ لهذا الترتيب له دلالة علمية كبيرة من خلال تدرّجه في مساعدة كلّ مرحلة على المرحلة التي تليها، مُبتدِءاً بضعف قوّة الإنسان وجعْله أرضاً مهيّأة إلى العوامل الخارجيّة والعلل المختلفة، وإذا كانت تعني الصفة البدنية القوّة ذاتها أو شمول الصفات البدنية الأخرى تحتها، وفي كلتا الحالتَين هو يعدّ العجز عن القدرة في أداء متطلّبات الحياة وواجباتها الذي وصفه مولانا في موعظه أخرى بأنّه «عجز» ووصف ذلك العجز «بالآفة»، ومِن هنا يعظ الأمير علیه السلام بأنّ بداية الضعف تعني التهيّؤ للأمراض النفسية والأمراض الفايروسية، مسبّبة العلل والأسقام التي تُعدّ هى الأخرى طرق جديدة للإصابة والتأثير على باقي أجهزة الجسم السليمة.

ومن هنا جاء الحزن والهمّ ولِمَا يصاحبهما من استجابات فسيولوجيّة سلبية مؤثّرة على الجسم «تمّ ذكرها سابقاً»، وتجعل الجسم وأجهزته أرضاً خصبة للإصابة المرضية، بل عاملاً مساعداً على استفحال تلك الأمراض، كما ويذكر أمير المؤمنين علیه السلام في موضع آخر حول الحزن والآثار المترتّبة عليه، إذْ يقول:

ص: 185

«إيااك والجزع، فانّه يقطع الأمل، ويُضعف العمل، ويُورث الهمّ» (1).

ومن خلال ما تمّ عرضه مِن إحدى النتائج التي أُجريت على الحيوانات، وهي استمرار التنبيه إلى مناطق الحزن والهمّ في الدماغ وبصورة مستمرّة، يؤدّي إلى اضعاف قوّتها، ولوحظ رغبتها الكبيرة في العزله والامتناع عن تناول الطعام، وإذا استمرّ التنبيه لفترة بين (24 - 48 ساعة) لوحظ أنّ ذلك يؤدّي إلى قتْل الحيوانات، وبالتالي مشاركة هذه العوامل النفسية «الهم والحزن» إلى ما دبّ من ضعْف لجسم الإنسان، كما ويذكر أمير المؤمنين علیه السلام في موضع آخر حول الهمّ والآثار المترتّبة إذْ يقول:

«الهمْ يَهْدمُ الجَسَد» (2).

وبمجموع هذه المراحل وتكاتفها يصبح الجسم قاصراً بجهازه المناعي والدفاعي عن دفع الأخطار المحيطة به، مسبّباً سهولة الإصابات.

الداء والدواء

وهنا يصف أمير المؤمنين علیه السلام نوع الإصابة المرضية التي تمّ تحديدها «بالحار والقار»، كما وصف دواء الأطبّاء من خلال تسكين الحار بالقار وتحريك البارد بالحار، وعندها يصف استجابة الأجسام المرضية إلى ذلك العلاج «فلم يطفىء ببارد إلّا أثور حرارة ولا حرّك بحار إلّا هيّج برودة، ولا اعتدل بمازج لتلك الطبائع إلّا أمدّ منها كلّ ذات داء»

لعلّ المراد لكلّ دواء آثاره السلبيّة على وظائف الجسم الأخرى، رغم ما يقدّمه من أستطباب إلى الإصابة المرضية التي تناول من أجلها.

والمراد من الموعظة هو الاستطباب والعلاج ووصف سبب وشكل المرض

ص: 186


1- غرر الحكم: 158.
2- ميزان الحكمة.

وطريقة علاجه في هذا الموضع وإعطاء أقرب مثال وأكثرها مشاركة في الإصابات المرضية وعلاجها لا سيّما أنّ حديثه عن ضعْف القوّة وبعض العوامل النفسية ذات التأثيرات الفسيولوجيّة على الجسم والتي أغلبها مسيطر عليها من قبل الجهاز العصبي المركزي ومن خلال الأعصاب السمبثاوية المسرعة للعمل الوظيفي والباراسمبثاوية المثبّطة للعمل الوظيفي، ومِن هنا كان المقصود بتسكين الحار بالقار تثبيط العمليات المسرعة؛ بسبب التنبيهات الكبيرة للأعصاب السمبثاوية من خلال علاجات تحفيز الأعصاب الباراسمبثاوية فيما إذا كان هناك ضعف في العمليّات الوظيفيّة، فيكون التحفيز بالعلاجات للأعصاب السمبثاوية والتثبيط للأعصاب الباراسمبثاوية وهذا يشمل عمل الجهاز الهرموني المشابه للجهاز العصبي المستقل من خلال فعّاليّته بتصعيد أو تثبيط العمليّات الأيضيّة والوظيفيّة، فعلى سبيل المثال في حالة الإصابات المرضية لعضلة القلب وما يرافقها من الجهاز التنفسي في زيادة معدّل ضربات القلب ومعدّل التنفس في حالات الاضطرابات للعقدة المسؤولة عن تنظيم الانقباض والانبساط وهي «العقدة الجيبية الأذينية»، فإنّ الجزء الأهمّ من العلاجات هو التأثير على تلك العقدة والجهاز العصبي الباراسمبثاوي بالتحفيز وتثبيط الجهاز السمبثاوي المسرع لأعادة معدّل ضربات القلب إلى وضعه الطبيعي، ويشمل الجهاز التنفسي وباقي الأجهزة الأخرى ... وهو يسري في عمل الهرمونات في تحفيزها وتثبيطها. وكما أشرنا ربّما كان المراد تعيين ووصف أهم أماكن الألم وأسبابه في المرض، فضلاً عن موقع السيطرة في العمل الوظيفى والتأثير عليه في العلاج.

غير أنّ أمير المؤمنين علیه السلام يصف كلّ تلك العلاجات هي الأخرى رغم ما تعالجه من جزء يسير، إلّا أنّها تُثير الحوافز السلبيّة على الجسم في مواقع أخرى منه من خلال ما ذكره: «فلم يطفىء ببارد الا ثوّر حرارة ولا حرّك بحار إلّا هيّج برودة ولا

ص: 187

اعتدل بمازج لتلك الطبائع إلّا أمد منها كلّ ذات داء»، كما يصف تلك العلاجات وما تحقّقه بجانب معيّن ويسير من معالجه المرض، فهي تُعدّ محفّزاً بجانب آخر من الجسم؛ لإثارة المرض وانتشاره.

واليوم نلاحظ ما هي التأثيرات السلبيّة الكبيرة التي ترافق تعاطى الأدوية والعلاجات على الجسم، والتي كثيراً ما تكون مسبّبة إظهار أعراض جانبية جديدة على المرضى لا حصر لذكرها.

ولذلك يذكر الإمام الكاظم علیه السلام في مجال الآثار المترتّبة على الدواء، إذْ يقول:

«ليس من دواء إلّا وهو يهيّج داء، وليس شيء في البدن أنفع من امساك اليد عمّا تحتاج إليه» (1).

غير أنّ ذلك لا يعني أنّ أمير المؤمنين علیه السلام لا يشجّع معاودة الأطبّاء وتناول العلاجات، ولكن هنا يصف ويذكر لا يجوز قضاء العمر في اشباع الغرائز المختلفة وجعل الهه هواه وكان بغفلة عمّا يراد به ولم يتحسب ويستعدّ لمثل هذا اليوم الموعود، كما أنّ مرض المنيّة لا يدفعه أيّ علاج وانّ ما مرّ به من مراحل «الضعف والحزن والهم، والمرض» ما هي إلّا قواعد أساسية لزحف المنية ومفارقة الحياة وهي تعدّ إحدى النعم التي ربّما تثير عودة الإنسان بتوبته بمعرفة نهايته.

فراق الدنيا

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«وَمُصَبِّرُ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ، يُذَكِّرُهُمْ أُسَى (2) الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ.

فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَىٰ جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا، وَتَرْكِ الْأَحِبَّةِ، إِذْ عَرَضَ لَهُ

ص: 188


1- ميزان الحكمة: ج 3، ص 1260.
2- أُسى: جمع أُسوة.

عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ، فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ (1)، وَيَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ، فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ (2) عَنْ رَدِّهِ، وَدُعَاءٍ مُؤْلِمٍ لِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ، مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ، أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ! وَإِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ (3) هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ، أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ (4) أَهْلِ الدُّنْيَا» (5).

تُشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى لحظة خروج الروح والتأكّد من الانتقال إلى العالم الآخر «البرزخ» وهو النظام الإلهي الذي حدّده الله تبارك وتعالى لكلّ نفس إنسانية لها يوم لترجع فيه إلى باريها سبحانه وتعالى.

(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ) (6).

(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (7).

وهنا يصف مولانا أمير المؤمنين علیه السلام سرعة فراق هذه الدنيا والانتقال إلى عالَم البرزخ من خلال عارض الموت الذي صوّره بما يعترّض في مجرى التنفّس، وهنا يوجد احتماليّة الاستعارة بوظيفة الجهاز التنفّسي وتوقّفه؛ لأنّه يعني توقّف العمليّات الأيضيّة في جميع خلايا الجسم أي عدم تحرير الطاقة في أداء فعّاليّاتها الحيويّة وتوقّف الحياة فيها، كما تُعدّ الحركات التنفسية من خلال التوسّعات الحادثة أثناء العلميّة الميكانيكيّة للتنفس والظاهرة من الخارج «حركة الحجاب الحاجز، والقفص الصدري، والحركة البطنية» دليلاً لوجود الحياة، وانّ توقّفها يُعدّ أحد علامات مفارقة الكائن الحي للحياة.

كما أنّ عمليّات التحكّم لعضلة القلب والجهاز التنفّسي تكمن في منطقة واحدة

ص: 189


1- نوافذ الفِطْنة: ما كان من أفكار نافذة أي مصيبة للحقيقة.
2- عَيّ: عجز لضعف القوة المحركة للسانه.
3- الغَمرات: الشدائد، ويريد بها هنا سَكَرات الموت.
4- تعتدل على عقولهم: أي تستقيم عليها بالقبول والإدراك.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3، ص 51.
6- القيامة: 28.
7- سورة ق: 19.

في جذع الدماغ، كما يرتبطان بعلاقه ايجابية مهمّة، ففي حالة زيادة العمل في أيٍّ منهم فانّه سيشمل الآخر، وهو كذلك في انخفاض العمل، كما أنّ تحفيز أيّ منطقة من خلايا «جذع الدماغ» تعمل على شمول التحفيز في الجهازين التنفّسي وعضلة القلب، كما يُعدّ أحد أسباب إظهار النطق مرورُ هواء الزفير على الطيّات اللحمية للحنجرة، لا سيّما أنّ مولانا أمير المؤمنين علیه السلام وصف حالهم بأنّهم لا يستطيعون جواباً، وبالتالي فإنّ أحد الأسباب الرئيسة لعمليّات النطق قد توقّفتْ، ولعلّ ذلك يُعدّ من الأسباب التي دَعَتْ إلى اختيار الجهاز التنفّسي عن باقي الأجهزة.

رطوبة اللسان

وهنا يذكر مولانا أمير المؤمنين علیه السلام أنّ اللسان يفقد رطوبته في تلك المرحلة، لا سيّما أنّ الإنسان تفرز غددُه اللعابية يوميّاً حوالي: (800 - 500 مليلتر) من اللُعاب الذي له عدّة وظائف منها: اكساب عضلة اللسان الرطوبة الدائمة؛ لِمَا لها من دور كبير في عمليّة التذوّق، إذ كلّ عمليّة تذوّق لا تحدث إلّا من خلال إذابة ولو لجزء بسيط من المادّة المتناولة على عضلة اللسان بواسطة المادّة اللعابية، وهناك كم من التجارب التي أكّدتْ عند تنشيف اللسان بصورة دقيقة من الرطوبة فيه ووضع أيّة قطعة ذات مذاق مُر، أو حلو، أو حامض ... لا يمكن اكتشاف طعمها من قبل الشخص المختبر؛ بسبب عدم إذابتها. وهذا يعني فقدان التذوّق في تلك اللحظات، وكيف لا وهو ينازع وقد أستيقن بذهابه إلى منزل جديد من منزل الآخرة وما ينتظره في ذلك المنزل من حساب عسير، فضلاً عن فقدانه للنطق والتي تناولنا سببه كما أوضحه أمير المؤمنين وهو انقطاع التنفّس، وبالتالي أضاف إليه يبوسة اللسان والذي هو الآخر ذو التأثير الكبير في اخراج الأحرف والأصوات. وربّما أنّ جذع الدماغ أوقف تنبيهاته إلى النوى اللعابية العلوية والسفليّة بأداء

ص: 190

عملها؛ لفضاعة الأمر الذي يمرّ به وهوله، ونحن كثيراً ما نلاحظ أحد مظاهر الخوف والخطر المُحْدِق بحياة الإنسان يسبّب يبوسة لسانه.

اسباب الأختلاف بين البشر

قال أمير المؤمنين علیه السلام وهو يذكر اختلاف الناس ورواه اليماني، عن أحمد بن قتيبة، عن عبد الله بن يزيد عن مالك بن دِحْيَة:

«إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِىءُ طِينِهِمْ (1)، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً (2) مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ (3) وَعَذْبِهَا، وَحَزْنِ تُرْبَةٍ وَسَهْلِهَا، فَهُمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ، وَعَلَى قَدْرِ اخْتِلَافِها يَتَفَاوَتُونَ، فَتَامُّ الرُّوَاءِ (4) نَاقِصُ الْعَقْلِ، وَمَادُّ الْقَامَةِ (5) قَصِيرُ الْهِمَّةِ، وَزَاكِي الْعَمَلِ قَبِيحُ المَنْظَرِ، وَقَرِيبُ الْقَعْرِ (6) بَعِيدُ السَّبْرِ، مَعْرُوفُ الضَّرِيبَةِ (7) مُنْكَرُ الْجَلِيبَةِ (8)، وَتَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ، وَطَلِيقُ اللَّسَانِ حدِيدُ الْجَنَانِ» (9).

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يوضّح أسباب الاختلاف بين الناس وهو في غاية الصعوبة كما هو كثير الاحتمالات، وقد أوضحه «أبن ابي الحديد» هو الآخر باحتمالات متعدّدة؛ ولذلك سوف نوضّح احتمالات الاختلاف ولكن بوجهات علمية مختلفة، مستمدّين التفسير من خلال التصنيف الذي قدّمه أمير المؤمنين علیه السلام:

ص: 191


1- طِينهم - جمع طينة - : يريد عناصر تركيبهم.
2- الفِلْقَة - بكسر الفاء: القطعة من الشيء.
3- سَبَخ الأرض: مالحها.
4- الرُواء - بالضم والمد - : حسن المنظر.
5- مادّ القامة: طويلها.
6- القَعْر: يريد به قعر البدن، أي أنه قصير الجسم لكنه داهي الفؤاد.
7- الضريبة: الطبيعة.
8- الجليبة: ما يتصنعه الإنسان على خلاف طبعه.
9- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3، ص 186.

منها ما يتّبع الجانب الوراثى.

ومنها الجانب السلوكي ومنها القوامي ...

الاختلاف السلوكي

الاختلاف الأوّل بينهم هو «مبادىء طينهم» وبالتالي هم يتقاربون حسب قرب أرضهم وعلى قدر اختلافها يتفاوتون، والمراد هنا هي فعلاً الأرض ولكن ليس مكوّناتها «العذبة والمالحة ...» إنّما هي استعارة ممّا صدر من الأرض، وما ينبت فيها، وما يتناوله الإنسان منها مباشرة أو بصور غير مباشرة عن طريق ما يتغذّى عليه الحيوانات، كما هو الآخر ليس الغاية في المعنى كما يتّضح الثمار الحلوة المذاق أو المرّة أو المالحة ... بل سبل الحصول عليها، أي ما يدخل جوف الإنسان من طعام وما هو أسلوب الحصول عليه «حراماً أَمْ حلالاً»، وبالتالي فمنهم كلّ ما يتغذّاه هو حرام، والآخر خلط حلالاً وحراماً، وفيه تتغذّى ما هو حلالاً، كما هناك فيه تتغذّى ما هو حرام أكله من الحيوانات أو طريقة صيدها أو ذبحها، والآخرين على العكس من ذلك فمنهم مَن يتغذّى ولكن بمال الربا أو السرقه أو الاحتيال ... ومنهم ما يتغذّى بمال الكسب الحلال، وبالتالي يقصد أمير المؤمنين أنّ تلك الثمار الحلوة والثمار المرّة ... هي ما تُحدثه في جوف ذلك الإنسان تبعاً إلى سبل الحصول على الطعام والمال كون الغذاء هو سبب البناء الرئيسي في الجسم والنمو والنضج وما ينبت منها بجسده وبخلاياه وتحتفظ به تلك الخلايا الحاملة للذاكرة والكروسومات في بيوضها أو انطافها، وبالتالي سيتقاربون ويتفاوتون على قدر ما حملتْه تلك الجينات من ارث إلى الأبناء، وعليه انّ تلك الأرض وما ينبت فيها هي القاسم الوحيد إلى نقل تلك الأفعال الرذيلة أو الحسنة والغرائز والطباع من الآباء إلى الأبناء من خلال «23 صبغة من الكروموسومات الذكرية وما يقابلها بنفس

ص: 192

العدد من الأنثى» وبالتالي السُرّاق يتقاربون مع بعضهم وأصحاب الربا هم الآخرين يتقاربون مع بعضهم وهلمّ جرى، كما يتقارب أصحاب العلم وأصحاب المعرفة مع بعضهم وأصحاب الخلق الحميد ... وبالتالي تلك البروتينات والأحماض الأمينية هي السرّ في التقارب والقادمه أساساً من الغذاء القادم من الأرض والذي لا يمكن تصنيعه في جسم الإنسان إلّا من خلال التغذية قسماً منه، والقسم الآخر يتكوّن بعد تكوّن ذلك القسم الأوّل بعد التغذية.

وربّما يعود ذلك الوصف إلى مبرّر آخر «فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون وعلى قدر اختلافها يتفاوتون» يعني به أمير المؤمنين علیه السلام مصدر منشأهم أي أنّ الجنين يتكوّن من التقاء ماء أبويه «الذكر والانثى» وبالتالي يُغرس بداخل رحم أُمّه، وهو يُمثّل تلك التربة التي ينبت فيها ذلك الوليد، ويترعرع ويتغذّى من ذلك الرحم، وعليه مصادر التغذية وسلامتها الدينية والذي ينسحب إلى مصادر الوراثة إلى هؤلاء الأبناء سيخلق لهم السلوك العادات الفطرية والغريزيّة والتي على أثرها يتقاربون وعلى قدر اختلافها يتفاوتون.

القوام

كما يصف «تام الرواء ناقص العقل» وهنا ربّما المراد ليس حسن المنظر بل الاختلاف في البُنية، وهي «الممتلئة البدينة»، ووصفها بناقصه العقل وهو من ناحية حثّ للمحافظة على قِوام الجسم والابتعاد عن الافراط في التغذية، ومن ناحية أخرى بيّن أنّ التعلّم واكتساب العلم لا يتمّ بالأجواف الممتلئة والهامّة بأنواع الغذاء، إذْ أنّها كما يقول أمير المؤمنين علیه السلام فى موضع آخر من نهج البلاغة تعاقب أصحابها بعقوبات ثلاث وهي: «مَن شبع عوقب في الحال بثلاث عقوبات يلقى الغطاء على

ص: 193

قلبه والنعاس على عينه والكسل على بدنه» (1).

كما يذكر الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «من أكل الطعام للشهوة حرّم الله على قلبه الحكمة» (2). كما يذكر على علیه السلام: «لا تجتمع الشهوة والحكمة» (3).

وهذه تأكيدات على علاقة الطعام ونظام التغذية وأهمّيّته بالتعلّم، وبالتالي هي موعظه للتحكّم بتلك العلاقة بواسطة القوّة العقلية وبالتالي يباعدون الناس حسب بنيتهم في التعلّم واكتساب العلوم إذْ الأجسام البدينه والمفرطة في التغذية غير ميّالة للتعلّم مقارنة بالقوام النحيف الذي يحدّد نوع العلاقة بالغذاء تبعاً إلى الحاجة ووظائف الجسم.

مركز ثقل الجسم

كما يصف الاختلاف في الاختلاف بين الناس على طول القامة «قريب القعر بعيد السبر» وربّما المقصود بها قريب مركز الثقل من الأرض هو الأكثر نشاطاً و توازناً وقدرة على السيطرة على حركاته، وكذلك على إظهار القوّة، وهذا تمّ اثباته من قِبل علماء علم الحركة بأنّ الاقرب للأرض في مركز ثقله هو الأسرع حركة والأكثر توازناً، وهذا يمكن مقارنته بين حركة الطويل القامة والتي تمتاز بالبطيء بسبب ارتفاع مركز ثقله فضلاً عن ضعف توازنه مقارنة بأصحاب مركز الثقل المنخفض.

اختلاف القوة

كما يصف اختلاف الناس بالقدرة على إظهار القوّة من خلال «مادّ القامة

ص: 194


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 560.
2- تنبيه الخواطر: 116/2.
3- غرر الحكم: 10573.

قصير الهمّة وهي إشارة إلى أنّ الناس الذين يمتلكون قامة طويلة يمتازون بالحركة البطيئة مقارنة بالمعتدلين القامة، ولهذا علاقة بارتفاع مركز ثقل الجسم عن الأرض فضلاً عن إظهار القوّة.

التغيرات الكهربائية لأغشية الخلايا

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«أَلَا وَقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْي وَالْنَّكْثِ (1) وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَأَمَّا النَّاكِتُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ (2) فَقَدْ جَاهَدْتُ، وَأَمَّا الْمَارِقَةُ (3) فَقَدْ دَوَّخْتُ (4)، وَأَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ (5) فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ (6)» (7).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى أحد الظواهر الكونية التي خلقها الله سبحانه وتعالى والتي يصيب بها مَن يشاء، وهي عبارة عن صوت شديد وكتلة نارية ولا مردّ لأمره.

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) (8).

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) (9)

والكلام المتقدّم هو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام من إحدى خطبه التي يتحدّث فيها كيف تخلّص بها من شيطان الردهه وهو من رؤساء الخوارج في معركة

ص: 195


1- النَكْث: نقض العهد.
2- القاسطون: الجائرون عن الحق.
3- المَارقة: الذين مرقوا من الدين أي خرجوا منه.
4- دَوّخهُم: أضعفهم وأذلهم.
5- الرَدهة - بالفتح - : النُّقْرَة في الجبل قد يجتمع فيها الماء، وشيطان الرَدْهة: ذو الثَدِيّة، من رؤساء الخوارج وُجد مقتولاً في ردهة.
6- الصَعْقَة: الغَشِيّة تصيب الإنسانَ من الهول.
7- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 245
8- الرعد: 13.
9- فصلت: 13.

النهروان، والتي صوّر عملية التخلّص منه بواسطة «الصعقة الكهربائية» التي سبّبت له الموت والتي وجّهها إلى قلبه وصدره، وهنا أراد تصوير فسيولوجيا الأغشية والعضلات والأعصاب وجهود الغشاء وجهود فعل الخلية أي التغيّرات الكهربائيّة على أغشية الخلايا ودورها في العمل الوظيفي للجسم.

آثار الصاعقة

انّ الغيوم تكتسب الشحنات الكهربائيّة المختلفة بين طرفيها بعد اصطدامها بتيّارات الهواء السريعة بدقائق المطر المكوِّنة للغيوم، فتتولّد الشحنات الكهربائيّة الكبيرة بحيث يحمل أحد طرفيها الشحنات الموجبة والآخر يحمل الشحنات السالبة وتحدث الصواعق عندما يحصل التفريغ الكهربائي بين الغيمة والأرض، وتؤدّي الشحنات الكهربائيّة في الغيمة في الطرف الأسفل منها إلى شحن الأرض أو الشجر أو المباني أو الأشخاص بشحنات مخالفة بطريقة التأثير «الحث».

وانّ للصاعقة الكهربائية آثاراً مختلفة منها:

1 - حرق المنطقة التي تصيبها.

2 - تأثير الجهد الكهربائي على الأغشية والأنسجة والأجهزة التي تصيبها.

3 - يؤدّي إلى توتّر عضلات الجسم وتقلّصها ومنها عضلة الحجاب الحاجز، مسبّباً قطع عمليّة التنفّس.

4 - توقّف عضلة القلب عن العمل.

وبالتالي انّ حديث أمير المؤمنين علیه السلام يُشير إلى جانب علمي مهمٌ وهو أنّ خلايا الإنسان لها فرق جهد كهربائي يُسمّى بجهد الغشاء وجهد فعل لتقوم بأداء فعّاليّاتها الحيويّة المختلفة ومنها التقلّص والانبساط والتغذية وطرح الفضلات ... ومنها أنّ لتاثيرات تلك الصاعقة الكهربائيّة حدوث تغيّر في فرق الجهد الكهربائي

ص: 196

تجعلها تتقلّص، مسبّباً فقدان خاصّيّتها الرئيسية بالتقلّص والانبساط المنتظم، مهلكةً صاحبها، فضلاً عمّا يرافقها تغيّر في فرق الجهد لخلايا عضلة الحجاب الحاجز موقفة عملها وبالتالي موقفة وظيفة الرئتين، ناهيك عن ما تسبّبه الصاعقة من آثار الحرق لذلك الإنسان، وربّما العكس يفقد الإنسان حياته دون ملاحظة وجود آثار خارجيّة على الجلد ومنها الحرق، وهذا عادة يحدث عند التعرّض للتيّار الكهربائي في وسط مائي أو أرض مبتلّه بالماء، وبالتالي أنّ أمير المؤمنين علیه السلام أوضح أبتداءً أنّ عمليّة قتلة «شيطان الردهه» تمّ بواسطة الصعقة الكهربائيّة، ثمَّ وصف مكان القتل وهي «الردهه» وهي منخفض مائي، ثمَّ وصف مكان توجيه الصعقة وهي «المنطقة الصدرية» وهي الحاوية لأهمّ عضلتين في الجسم وهما القلب والحجاب الحاجز وكذلك الرئتين ... بعدها وصف الآثار المترتبة على القتل بالصاعقة وهي «بصعقة سُمعت لها وجبة قلبه ورجّه صدره» وعليه أنّ علماء الفسيولوجي يشيرون إلى أنّ حالات الصعقة الكهربائيّة في الماء لا يظهر عليها الآثار الخارجيّة وإنّما يمكن التأكّد من آثارها داخليّاً على الأجهزة المتضرّرة، ومن هنا لم يصف أمير المؤمنين علیه السلام بوجود آثار خارجيّة على الجسد.

كما يمكن القول انّ الجانب المهمّ الآخر فى هذه الجزء من الخطبة هو إشارة إلى أهمية التغيّرات الكهربائيّة التي تسود جميع أغشية الخلايا، والتي من خلالها تقوم الخلية بأغلب فعّاليّاتها ومنها التقلّص والانبساط ودخول وخروج المواد ... التي تنظّم من خلالها عمل الأجهزة الحيويّة التي تساهم في سلامة وصحّة الإنسان، والذي يعدّ أحد الفروع المهمّة لعلم الفسيولوجي.

تنظيم العمل مع النغم الحيوي

قال أمير المؤمنين علیه السلام من وصيّته لمعقل بن قيس الرياحى حين أنفذه إلى الشام

ص: 197

في ثلاثة آلاف مقدّمةً له:

«اتَّقِ اللَّهَ الَّذِي لَا بُدَّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ وَ لَا مُنْتَهَى لَكَ دُونَهُ؛ وَ لَا تُقَاتِلَنَّ إِلَّا مَنْ قَاتَلَكَ، وَ سِرِ الْبَرْدَيْنِ (1) وَ غَوِّرْ (2) بِالنَّاسِ وَ رَفِّهْ (3) فِي السَّيْرِ، وَ لَا تَسِرْ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ سَكَناً وَ قَدَّرَهُ مُقَاماً لَا ظَعْناً (4)، فَأَرِحْ فِيهِ بَدَنَكَ وَ رَوِّحْ ظَهْرَكَ، فَإِذَا وَقَفْتَ حِينَ يَنْبَطِحُ السَّحَرُ (5) أَوْ حِينَ يَنْفَجِرُ الْفَجْرُ فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَإِذَا لَقِيتَ الْعَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِكَ وَسَطاً وَ لَا تَدْنُ مِنَ الْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِبَ الْحَرْبَ، وَ لَا تَبَاعَدْ عَنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ الْبَأْسَ، حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي. وَ لَا يَحْمِلَنَّكُمُ شَنَآنُهُمْ (6) عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ وَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِم (7)» (8).

تُشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى أنّ الله سبحانه وتعالى خلق نظاماً كونيّاً فيه المجرّات والكواكب التي من خلال حركتها لها آثارها على حياة الإنسان ونظامه الوظيفي، وبالتالي تصف الآيتان أنّ الليل وظلمته ستْر للإنسان؛ ليتعبّد فيه و لتجديد قواه والراحة، أمّا النهار فهو للسعي والعمل وأصلاح معاشهم.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (9).

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) (10).

والكلام المتقدم هو كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام وهي من وصيّته إلى «معقل

ص: 198


1- البَرْدان: وقت ابتراد الأرض والهواء من حر النهار، الغَداة والعَشيّ.
2- غَوِّرْ: أي انزلْ بهم في الغائرة وهي القائلة: وقت اشتداد الحر.
3- رفّه: هوّن ولا تتعب نفسك ولا دابتك.
4- الظعن: السفر.
5- ينبطح السّحَر: ينبسط مجاز عن استحكام الوقت بعد مضي مدة منه وبقاء مدة.
6- الشَنآن: البغضاء.
7- الإعذار إليهم: تقديم ما يُعْذَرون به في قتالهم.
8- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 413 - 414.
9- يونس: 67.
10- الفرقان: 47.

بن قيس الرياحي» أوصاه بها حين أنفده إلى الشام في ثلاثة آلاف من العسكر وفيها وصايا متعدّدة، منها:

من المعروف أنّ هناك دورات حيوية تنظّم حركة الجسم وتفاعلاته الداخلية وردود فعله باتّجاه محيطه الداخلي والخارجي «Intenal and External Enviroments» ففي اليوم الواحد يدخل الهواء ويخرج من الرئتين بمعدّل: (25/000 ألف مرّة)، وينبض القلب بمعدّل: (100/000 ألف مرّة)، كما تتحرّك أهداب العين بمعدّل: (30 مرّة فى الدقيقة)، وكذلك تفرز الغدد الهضمية وتترك الأمعاء وتفرز الفضلات كما يلاحظ المعدّل الطبيعي للكورتيزول في البلازما هو (8 - 26 مايكروغرام 100/ سم3) في الساعة من (800 - 1000)، بينما يهبط هذا المعدّل إلى أقل من (10 مايكرو غرامات 100 / سم 3) في الساعة (2200 - 2400)، وبشكل مختصر لوحظ وجود آثار لدوران الأرض حول الشمس وحول نفسها تحت ظاهرة الليل والنهار التي لوحظ فيها أكثر من خمسين عمليّة فسيولوجيّة في الدقيقة والتي يلعب الجهاز العصبي والجهاز الهرموني دوراً كبيراً في تنظيمها وبنسبٍ أخرى، وقد أوضح دارسو هذه الظاهرة باصطلاح: «الساعة البايولوجيّة» للتعبير عن النظام الداخلي للجسم، وهو من الدقّه والتناغم ما ينتج الاستيقاظ في الساعة التي يرغبون الاستيقاظ فيها مثلاً بعد ليلة من النوم العميق.

وبالتالي هذا النسق في الفعّاليّات الوظيفية في خلال اليوم الواحد (24 ساعة) وبدورته بالليل والنهار تظهر لها تغيّرات تبلغ قمتها الوظيفيّة أعلى درجاتها، في حين تثبط إلى أقل قيمها الوظيفيّة في ساعات آخر اليوم الواحد. كما وجدوا في تجربة لمدّة (6 - 8) أسابيع على متطوّعين وُضعوا في ظروف بيئيّة مريحة بمعزل عن العالم الخارجي وتحت اضاءة اصطناعيّة وقد جُرِّدوا مِن كلّ آلات القياس للزمن، وتُركتْ لهم حرية إدراك قياس الزمن كما يحلوا لهم، فلوحظ أنّهم حافظوا

ص: 199

على نسق مشابه وطبيعي لليوم الواحد (24 ساعة) رغم وجود قدر معيّن من الاختلاف في ساعات النوم والعمل في اليوم الواحد.

الفعّاليّة الحيويّة لدورة الليل والنهار

أوصاه أمير المؤمنين علیه السلام بأفضلية المسير في وقتين محدّدين خلال دورة اليوم الواحد، وهو «الغداة والعَشِى»، وهما الساعتان الأكثر برودة واعتدالاً في درجات الحرارة، وفيها يكون العطاء الوظيفي لأجهزة الجسم أفضلية خلال ساعات اليوم الواحد، وبالتالي لا يسبّب السير أعباء اضافية على المقاتلين، فضلاً عن عدم تأثير حالات الجو مثل ارتفاع درجات الحرارة على سلامتهم وكفاءتهم أو زيادة العِبء عليهم، وعليه تكون الوصية بتقليل الجهد الواقع عليهم جرّاء السير باختيار ساعات تكون فيها درجات الحرارة منخفضة فضلاً عن أنّه لا يسبّب بزيادة «التعرّق الشديد» وفَقْد السوائل، كما لا يؤثّر فى زيادة صرف الطاقة ومن خلال اختيار الوقت الذي ينسجم مع أفضل كفاءة وظيفية لعمل الأجهزة الحيويّة إلى الجسم.

كما أوجدت الدراسات أنّ المسير ولفترة طويلة وتحت أشعة الشمس - ولا سيّما العموديّة - يُكثر من نسب الجذور الحرّة التي تزيد من التعب العضلي واضطراب العمل الوظيفي والتفاعل مع الحامض النووي للخلايا أو مع جدارها الخارجي. وعليه كان اختيار الوقت في المسير فيه تكون أشعة الشمس مائلة بمسقطها على الأرض وهي في الساعات المبكرة من الصباح وما قبل الغروب، بشكل يقلّل هذه الجذور ونسب وجودها في الجسم، فضلاً عن تقليل الطاقة المصروفة وتقليل أعباء المسير وزيادة القدرة على تحمّل أعباء السفر.

ص: 200

سوائل الجسم

كما أوصاه أمير المؤمنين علیه السلام: «غور بالناس، ورفّه بالسير» والمراد به إعطاء الفرصة المنتظمة للناس «المقاتلين»، وكذلك إلى تلك الخيول؛ لأداء السير المنتظم والراحة المنتظمة وما يتخلّلها من التزوّد بالماء، وهما اشارتان إلى عمليّات التعويض لمصروفات الماء واعادة التوازن لِمَا فُقِدَ منها؛ كون الجسم يُقسم فيه الماء إلى قسمين: «داخل الخلايا» ونسبته (20 %) من وزن الجسم وهو حوالي (14 لتراً)، و «خارج الخلايا» ونسبته (40 %) من وزن الجسم وهو حوالي: (28 لتراً)، وانّ استقرار تلك النِسَب والمحافظة عليها تستقرّ معها العمليّات الوظيفيّة والحيويّة والأيظية لخلايا الجسم. لا سيّما أنّ المسير في الأجواء الحارّة مع كونهم محمّلين بأسلحة المعركة وألبستها وما تحتوي من غطاء حديدى للرأس والجذع، وهي تعمل على زيادة درجة حرارتهم وبالتالي تزيد من عمليّات التعرّق التي تصل في الاجواء الحارّة إلى: (2 - 3 لتراً)، وهذا يسبّب فقدان الماء وربّما الصوديوم والبوتاسيوم، ممّا يسبّب ضعفاً في العضلات العاملة، وعليه يعدّ هذا أحد الأسباب لاختياره للسير في الأجواء المعتلة، فضلاً عن الأسباب السابقة الذكر والتي تُعدّ ذات أثر سلبي على سلامتهم وكفاءتهم.

كما أوصاه بفترات من الراحة وهو يعي أهميّة تلك الفترات في اعادة الاستشفاء واعادة الجسم وأجهزته إلى حالتهم الطبيعية من خلال التعويض للمصروفات من الغذاء والماء، وهناك نظرية علمية تؤكّد أن البناء لأنظمة الطاقة لا يتمّ إلّا في حالات الراحة، ومِن هنا كانت أسباب وصيّته في الراحة.

كما نهاه عن متابعة السير في الليل، والذي وَصَفَه في موعظته باستعارة من كلام الله تعالى في القرآن المجيد، وانّ لذلك النهي مردودات وظيفية وايجابية مهمّة؛ كونها تعدّ فترة لأعادة قابليّة الإنسان إلى ما كانت عليه وازالة عوامل التعب، فضلاً

ص: 201

عن أنّ الكفاءة الوظيفيّة للأجهزة الحيويّة تميل إلى الانخفاض بمقدار: (10 - 35 %) من قدرات وكفاءة تلك الأجهزة، ولكن في نفس الوقت هناك بعض الأنزيمات والهرمونات التي تزداد في الليل وأثناء النوم لقيامها بعمليّات كما يذكرها بعض العلماء بتصفير الحاسوب [الجهاز العصبي] والبدء مرّة ثانية بالنشاط لليوم التالي.

النوم

وقد أمره بأنّ يوظّف أوّل الليل إلى ساعات السحر أو جزء منه إلى الراحة والنوم، فالإنسان دورة من أربع وعشرين ساعة تتفاوت بين اليقظة والنوم، وهي ربّما نشأت كاستجابات للتناوب بين حالتى الضوء والظلام التي تحدث بسبب دوران الكرة الأرضية، كما لاحظ علماء الفسلجة أنّ حاجة الإنسان إلى النوم هي أكثر من حاجته إلى الطعام، أو صبره عليه هو أكبر من صبره على النوم؛ إذ لوحظ من خلال التجربة أنّ ارغام الحيوانات على اليقظة لأيّام من خلال منبّهات خارجيّة إلى مناطق اليقظة في الدماغ «الهيبوثلامس» يسبّب الموت لتلك الحيوانات.

كما يعدّ النوم أحد أسباب اعادة الجسم إلى حالته الطبيعية والاستشفاء من حالات التعب خلال اليقظة، فضلاً عن التخلّص من الفضلات للعمل السابق واعادة منجزات الطاقة إلى وضْعها الطبيعي أو بشكل أكبر والتي يعدّ النوم أحد أسبابها مع أسباب أخرى كالتغذية وشرب السوائل ... كما وجد من خلال التجربة أنّ أفضل وقت لإفراز هرمون الميلاتونين المُسمّى بهرمون الشباب هو الليل بعد أخذ قسطاً كافياً من النوم والراحة والذي يُسهم هذا الهرمون بزيادة الحيويّة للجسم وإبعاد مخاطر الشيخوخة.

ومن هنا ذكر الإمام الصادق علیه السلام في مجال أهمية النوم والحاجة إليه:

« ... يا مفضل في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم والنوم ... لو كان

ص: 202

إنّما يصير إلى النوم بالتفكّر في حاجته إلى راحة البدن واجمام قواه كان عسى أنّ يتثاقل عن ذلك، فيدمغه حتّى ينهك بدنه» (1).

الراحة

وهنا يعظه أمير المؤمنين علیه السلام بأنْ يريح في النوم بدنه وكذلك ظهره، ومن خلال الوصية بأكملها نلاحظ بأنّ أمير المؤمنين علیه السلام أوصاه بعدّة أنواع من الراحة، وهي:

1 - التوقّف عن السير خلال ساعات الحر الشديد أثناء النهار.

2 - الرِفق في السير، أي بشدّة منخفضة أثناء الحركة.

3 - التوقّف عن السير في مناطق مختلفة للتزوّد بالماء وتعويض السوائل عند الحاجة.

4 - وأمره بالركون إلى النوم بضعة ساعات وحدّدها بين أوّل الليل إلى أوّل السحر.

ومِن هنا تبرز الأهمية الكبرى التي أولاها أمير المؤمنين علیه السلام إلى راحة المقاتلين من خلال التأكيد على الراحة مفضِّلاً تنويع تلك الراحة ولا سيّما أنّ الانتقال والمسير لمسافات طويلة وبلباس المعركة وثقل حمل الحديد وعدّة المعركة وتحت أشعة الشمس يُعدّ أعباء اضافية على المقاتلين، وعليه نَبّه وحذّر وأوعظ بأنواع من الراحة لهم تضمن قدرتهم على التعويض وبناء الطاقة التي تمّ صرفها، وكذلك التخلّص من مظاهر التعب للمسير والعمل السابق والتهيّؤ للأعمال الجديدة.

غير أنّ أمير المؤمنين علیه السلام أشار إلى البدن بشكل عام وإلى الظهر بشكلٍ خاص وهذا يعود إلى نوع العمل والعضلات العاملة فيه؛ إذ السير على ظهر الخيول ليس

ص: 203


1- ميزان الحكمة: ج 3، ص 1059.

لعضلات الذراعين والساقين فعّاليّة كبيرة فيها، في حين تلعب عضلات الظهر والجذع الدور الأكبر فيهما، وهي إشارة علمية أخرى كون لكلّ عمل مهارة معيّنة فيها تؤدّي عضلات رئيسية وأخرى ثانوية ومنها مثبتة للعمل، وبالتالي يجب الانتباه إلى إعطاء الراحة ليس فقط للبدن بل هناك مع التعميم يوجد التمييز المنسجم مع نوع المهارة وخصائص الأداء وشكله والتأكيد على العضلات ذات العلاقة الرئيسية في الجهد المنفذ.

وقد أظهر مؤتمر الألم في ألمانيا أنّ معظم حالات الألم المباغت الذي يصيب الإنسان أثناء العمل: (61 %) من «العصب الملتو» وهو تشخيص عبر عنه المؤتمر المنعقد عام 1998 والذي كشف تفاقم الإصابة في العمود الفقري في جميع دول العالم، ولا سيّما ألمانيا بشكل أصبح المرض الشعبي لديها، والذي كلّف الحكومة الألمانيّة خسائر اقتصاديّة تنسجم مع الخسائر البريطانية لنفس السبب والتي تصل إلى: «17،6 مليار مارك» سنويّاً، وبالتالي لا بدّ أنْ تكون وصية أمير المؤمنين علیه السلام منبثقة عن علم بأهمية هذا الجهاز للإنسان وأهميّة الراحة البينية له، وربّما هذا ناتج عن القناعة بصعوبة العلاج في بعض اصاباته، فضلاً عن كفاءة وقدرة عطائه المحدودة في تحمل الحمل الخارجي الشديد، فضلاً أنّ الموعظة تدلّل على إجراءات الوقاية من الإصابة فيه.

وهناك أمر آخر وهو أنّه لا يتمّ اعادة المصروف من الطاقة أثناء السير إلّا من خلال عدد من الساعات يخلد فيها الفرد إلى النوم، ولا سيّما أنّ وصية أمير المؤمنين علیه السلام كانت في عمليّة السير هي برفقٍ ومنخفضة الشدّة وهي تعتمد في صرف الطاقة على نوع من أنظمة الطاقة وهي: «الأُوكسجينية» أي تحرير الطاقة بوجود الأوكسجين، وهذا لا يتمّ إلّا من خلال السير برفق، وبتحليل الكلايكوجين التي يتمّ تعويضها من خلال توفّر وجبة من الكاربوهيدرات مع ساعات من النوم.

ص: 204

وعليه خصّص الوقت حين دخول السحر أو ساعة الفجر إلى المسير وهو الوقت الذي يحدث فيه أقلّ درجة حرارة خلال اليوم، فضلاً عن أفضل نشاط أجهزة الجسم يكون في هذا الوقت، وبالتالي سيكون صرف الطاقة منتظماً وهادفاً مع نوع العمل، اضافة إلى تقليل أعباء السير ومنها درجات الحرارة للمحيط الخارجي.

الوقاية

كما يظهر من محتوى الموعظة واحدة من فروع علم الطبّ الرياضي وهي الوقاية من الإصابات والاهتمام بالتغيّرات الوظيفيّة الحادثة نتيجة السَفَر فضلاً عن الاهتمام بالاجواء المحيطة بالجسم أثناء السفر والاهتمام بالراحة والاهتمام بالتغذية وتناول السوائل وهي ضمن علوم التغذية، وهي أحد فروع الطبّ الريّاضي. ويذكر أمير المؤمنين في نهج البلاغة في غير هذا الموضع للوقاية من الإصابة ما يلى:

«ضرّ الناس أنفسهم في ثلاثة أشياء: الافراط في الأكل اتّكالاً على الصحّة، وتكلّف حمل ما لا يُطاق اتّكالا على القوّة، والتفريط في العمل اتّكالاً على القدرة» (1).

محاذير التقدّم بالعمر

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«أتتْ عليه الأربعون من السنين قيل له خذْ حِذْرك من حلول المقدور فانّك غير معذور وليس أبناء الأربعين بأحقّ بالحذر من أبناء العشرين، فإنّ طالبهما

ص: 205


1- ميزان الحكمة: ج 4 ص 533.

واحد، وليس عن الطلب براقد، وهو الموت فاعمل لِمَا أمامك من الهول ودعْ عنك زخرف الغفول» (1).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى أنّ الموت واقع على الإنسان لا محال، وهو النظام الذي أوجده الله سبحانه وتعالى، كما توضّح أنّ الموت لا تدفعه حصون أو أبْنِيَة أو علاجات أو وقاية عندما يأمر الله سبحانه بقبض الروح.

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (2).

(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ۗ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) (3).

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يحثّ بالتزوّد والتهيّؤ للدار الآخرة والانتقال من دار الدنيا من خلال ملاقات العدالة الإلهيّة، والذي يُثير الانتباه تحديد العمر الزمني وهو ال «40 عاماً».

الأيض البنائي والهدمي

إنّ كميّة الطعام التي يستمدّها الإنسان من خلال تحريها بداخله في حالة السكون الكامل تقريباً هي تُعدّ الحدّ الأدنى وتُعرف ب «الأيض الأساسي» وفي حالة أداء أيّ عمل معيّن استجابة إلى منبّه فالزيادة في صرف الطاقة تُعرف ب «الأيض الهدمي» والتي من خلالها يمكن مواجهة البيئة أو التغلّب عليها، والذي يرافقه هدم في بعض مكوّنات الخلايا العاملة «وبروتوبلازمها»، ولكن بعد ايقاف

ص: 206


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 356.
2- آل عمران: 185.
3- النساء: 78.

ذلك العمل أو النشاط يتبعه اعادة البناء في الجزء الذي تمّ هدمه وتعويض للطاقة المصروفة وهذا يُسمّى ب «الأيض البنائي».

وعليه تُشير المصادر العلميّة عندما يكون الأيض البنائي هو أكبر من الأيض الهدمي فإنّ الجسم يكون في حالة نمو «فسيولوجي» أي زيادة في حجم الأنسجة والأعضاء وكتلة الجسم ... أمّا في حالة العكس فعندها يكون الجسم في حالة «ضمور فسيولوجي» وهذا يعني الضعف والوهن يصب الضعف والوهن يصيب الأعضاء والأجهزة، وبالتالي تظهر علاماته على المظهر الخارجي على الجسم فضلاً عن الأجهزة الداخلية، في حين تساوي الأيضين الهدمي والبنائي عندها يكون الجسم في حالة «توازن فسيولوجي» وعليه تؤكّد المصادر العلميّة المهتمّة في النموّ وفسيولوجيا الإنسان أنّ التجارب البحثيّة تبدأ الكفاءة الوظيفيّة لأجهزتها عموماً بالانخفاض بعد سن (40 سنة) بشكل واضح وبنسبة: (30 %) وبعد سن (50 سنة) بنسبة: (40 %)، كما تؤكّد أنّ عمليّات النمو التي تبدأ بشكل سريع بعد عمليّة الإخصاب تستمرّ في النموّ وبمعدّلات أقل بعد الولادة، ولكن تبقى عالية إلى سن النضج والبلوغ بعدها تبدأ بالانخفاض ولا سيّما بعد سن (30 - 40) سنة، وعليه يكون الجهاز المناعي هو الجزء الأهمّ تضررّاً في الجسم، وهو يُعدّ الأهم في بقاء الإنسان واستمرار تكيّفه ومقاومته لِمَا يُحيط به من فيروسات وبكتريا وجراثيم تفتك به، بل هي موجودة في داخله، ويؤكّد ذلك أحد البحوث التي أظهرت نتائجها وجود ما لا يقل عن (200) نوع مختلف من البكتريا فقط في عضو المريء هو خامل عن العمل، فهذا يبدأ مع ضعف الجهاز المناعي.

وبالتالي قد حدّد أمير المؤمنين علیه السلام العمر الزمني لبداية الانخفاض في النموّ وزيادة مستوى الأيض الهدمي على البنائي في تلك المرحلة الزمنية وأشعرهم بضعف الجهاز المناعي، أي أنّ الإنسان يكون في هذه المرحلة وما بعدها أكثر

ص: 207

عرضة للإصابات وعدم القدرة لمقاومة الأخطار المُحْدِقَة به وهي بداية الوهن والضعف والشيخوخة، ناهيك عن عدم اغفاله لباقي المراحل العمرية والتي اختار فيها قمّة العطاء والنضج البيولوجي وعنفوان الشباب، محذِّراً إيّاهم بعدم ابتعاد المخاطر والمهالك حولهم؛ كون الموت لا يَعرف صغيراً أو كبيراً، ولكن ربّما أصحاب هذه المرحلة لا يفكّرون بورود الموت لمصدر القوّة التي يتمتّعون فيه، ولكن هذا لا يغني عن حتمية الأجل.

ميكانيكية الوعاء الدموي

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «سرّك دَمُكَ فَلا تُجْرِيَنَّهُ إِلَّا فِي أَوْدَاجِكَ» (1).

وهو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام والذي يُبيّن فيه أهميّة السرّ والذي يضعه بأهمية ذلك السائل الإعجازي وما يقوم به من وظائف يعجز عنها أيّ سائل آخر في الطبيعة، كما يعتبر واحداً من أهمّ أسباب سرّ نجاح ذلك السائل هو استمرار عمليّة جريانه والتي يوضّحها أمير المؤمنين علیه السلام والتي تُعدّ استمراراً للحياة في الكائن البشري، فضلاً عن اشارته أنّ انصباب ذلك السائل يعني تعرّض الإنسان إلى مخاطر تصل إلى الوفاة؛ إذْ يحذّر بعدم جريانه «إلّا بأوداجك» كما يتّضح منها إشارة إلى خارجيّة الوعاء الدموي بأنّه أقْنِيَة مغلقة يسير فيها ذلك السائل ولا يمكنه أداء وظائفه إلّا من خلال وجوده ودورانه في داخل تلك الشرايين والأوردة والشبكة الشعرية الدموية، والتي تُعدّ - كما ذكرنا - ما هى إلّا أقنية مغلقة ومتّصلة مع بعضها البعض كما أختار لمثله أمير المؤمنين علیه السلام أحد الأوردة الرئيسية المهمّة من الجانبين الجانب التشريعي وكذلك العلمي، وهذا لا يعني في حديثي بأنّ الإسلام بعيد عن العلم فهذا تناقض مع ما نكتبه عن سيّد الأوصياء الذي يَزْحر علماً

ص: 208


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 544.

ويفيض علوماً لا طاقة لعالِمٍ على حَمْلها أو تفسيرها، ولكن من الجانب التشريعي تُعدّ الحيوانات التي تُذبح غير مذكّاة إذا لم يتمّ قطع هذا العِرق؛ إذ لا يبقى مع قَطْعه حياة، ومن الجانب العلمي فإنّ قَطْعه يؤدّي إلى خروج كلّ أو أغلب الدم الموجود في داخل الجسد، وبالتالي تكون طاهرةً مذكّاة.

وبالتالي أنّ اختيار السائل الدموي كمثلٍ من قِبل أمير المؤمنين علیه السلام وتشبيهه بإباحة السرّ؛ لأنّ كليهما يُسبّب سَفْك الدماء واثارة الفتن.

علم الطب الرياضي

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«وَ أَنَّهُ لَا غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الِارْتِيَادِ (1) وَ قَدْرِ بَلَاغِكَ (2) مِنَ الزَّادِ مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ، فَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ فَيَكُونَ ثِقْلُ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْكَ. وَ إِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ (3) مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَاغْتَنِمْهُ وَ حَمِّلْهُ إِيَّاهُ وَ أَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلَا تَجِدُهُ؛ وَ اغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ فِي حَالِ غِنَاكَ لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِي يَوْمِ عُسْرَتِكَ» (4).

تُشير الآية الكريمة الآتية إلى أنّ التكليف بغير القدرة ظلم، وأنّ الله ليس بظلّام للعبيد، كما تُشير الآية إلى دعاء والْتِجاء إلى الله وهو التوسّل إليه بعدم التكليف الشاقٌ مِمّا لا يستطيع حَمْله، كما يمكن أنْ نفهم أنّ أحد مضامين الآية الكريمة وجود تنبيه و تحذير بوجوب عدم تكليف الإنسان لنفسه بما لا يطيقه من الأحمال إن كانت نفسية أو بدنية أو الأعمال التي لا يمكن إنجازها فتعود بالخسارة

ص: 209


1- الارتياد: الطلب. وحسنه: إتيانه من وجهه.
2- البَلاغ - بالفتح - : الكِفاية.
3- الفاقة: الفقر.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 32

والخذلان وتَبدّد الجهود والطاقات، وربّما الإيذاء للنفس ولغيرها.

(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (1).

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في وصيّته لابنه الحسن علیه السلام، ويُستقرأ من هذه الموعظة كيفيّة الوقاية من الإصابات بصورة عامّة ولا سيّما اصابات الظهر، وبالتالي هو يتحدّث في إحدى العلوم التي عُرفت حديثاً وهي علم الطبّ الريّاضي، وإحدى أهمّ فروعه: علم الإصابات الرياضية والوقاية منها.

الإصابات والوقاية

وقبل أنْ نشرع بالتحدّث على موضوع الوقاية من الإصابات يجب إعطاء تعريف الإصابة وكيفيّة حدوثها كون أمير المؤمنين علیه السلام أشار إلى حدوث الإصابات وحذّر منها، وكيفيّة الوقاية منها.

وتُعرّف «الإصابة الرياضيّة» هي تأثّر نسيج أو مجموعة من الأنسجة بمؤثّر خارجي أو داخلي، يؤدّي إلى تعطيل أو توقّف في وظيفة تلك الأنسجة.

ويحدّد علماء الفسيولوجي أنّ المؤثّرات ثلاث أنواع، والتي خصّ منها أمير المؤمنين علیه السلام المؤثّر الخارجي والناتج عن الفعل الإرادي للشخص القائم بالعمل تاركاً المؤثّرات الذاتية أو الداخلية؛ كونها أخطاء تحدث امّا بسبب الأداء الخاطىء، أو لضعف التقديرات القادمة من القرارات العصبيّة المركزيّة، والتي ذات صلة بالمؤثّر الخارجي.

ص: 210


1- البقرة: 286.

وبالتالي أنّه حذّر في موعظته من الوقاية من تلك المؤثّرات ومنْع حدوث الإصابة من خلال عدم تكليف الإنسان بحمل ما لا طاقة له، أي الأحمال التي لا تنسجم وقابليّته البدنية والوظيفيّة، كما أنّه علیه السلام ذكر كلمة علمية دقيقة وهي «الأحمال» إذ لم يميز أو يخصّص، ولكن عَمَّمَ ما يقع على الفرد من أحمال داخلية وخارجيّة إذ تعني مكوّنات كلمة الأحمال بأبسط معانيها هي «شدّة العمل، وزمن العمل، وما يُرفع من أوزان أو أثقال» وعليه أو جز حدوث الإصابة امّا في طول العمل وشدّته ومستوى الأحمال المرفوعة، أو عدم الحصول على الراحة الكافية خلال فترات العمل ممّا يُسبّب الإصابة.

إصابات العمود الفقري

كما يتّضح من الموعظة تشخيص موقع واحد للاصابات وهو «العمود الفقري» في حين هناك آلاف الإصابات بمواقع مختلفة من الجسم، ولعلّ المراد احتمالات كثيرة، منها:

1 - أنّ خارجيّة وخصوصية وحاجة الجسم لهذا العمود الفقري - الذي هو جزء من جهاز الهيكل العظمي في انتصاب الجسم - هو الذي يجعله قادراً على استمرار أداء فعّاليّاته ونشاطاته المختلفة.

2 - كون تعقيد مكوّنات هذا الموقع الذي يتكوّن من (7) فقرات عُنُقِيَّة، و (12) فقرة صَدْرِيّة، و (5) فقرات ظهْرية، و (5) عَجزيّة مختلفة في الشكل والتقوّس والوظيفة ونوع العضلات المحاطة بها والأعصاب الناشئة منها، ولوجود الأقراص والغضاريف بين تلك الفقرات والتي تمتصّ الأحمال والأثقال تُسْهِم بمرونة الحركة للعمود الفقري من خلال فقراته.

3 - لمرور النخاع الشوكي بداخله والمحافظة عليه؛ الأهمية الكبرى في التحكم

ص: 211

الإرادي واللاإرادي في وظائف الجسم المختلفة.

وغيرها من الأسباب التي لا تقلّ أهميّة عمّا ذكرناه، وهذا يدلّل على أنّ أمير المؤمنين علیه السلام أراد ابراز دور هذا الموقع والإشارة إلى خطورة الإصابة فيه؛ لتعقيد خِلْقته وتركيبه الإلهي.

ونحن في هذا العصر أصبحت اصابات العمود الفقري هي اصابات العصر؛ ولذا خُصِّصتْ مراكز علاجيّة كبرى لمعالجة - فقط - اصابات العمود الفقري، وبدأتْ هذه الإصابة تُكلَّف الدول المتقدّمة والنامية مبالغ باهضه بسبب توقّف الكثير من العاملين عن العمل؛ لإصابتهم، وهذا ما أشار إليه الاتّحاد الدولي لمعالجة «الألم» في مؤتمره المنعقد عام 1998، والذي كشف تفاقم الإصابة في العمود الفقري في جميع دول العالم ولا سيّما ألمانيا بشكل أصبح المرض الشعبي لديها، والذي كلّف الحكومة الألمانية خسائر اقتصادية تنسجم مع الخسائر البريطانية لنفس السبب، والتي تصل إلى: «17،6 مليار مارك» سنويّاً، وبالتالي لا بدّ أنْ تكون وصية أمير المؤمنين علیه السلام منبثقة عن علم بأهمية هذا الجهاز للإنسان وأهميّة الراحة البينية له، وربّما هذا ناتج عن كفاءة وقدرة عطائه المحدودة في تحمّل الحمل الخارجي الشديد، فضلاً من أنّ الموعظة تدلّل على إجراءات الوقاية من الإصابة فيه.

ومِن هنا كانت استعارة أمير المؤمنين علیه السلام كون الظهر هو المكان المحدّد لحمل الأثقال، فضلاً عن كونه المشارك في الحمل وإنْ كان الحمل مثلاً في الذراع، وذلك السبب يعود لوضعه التشريحي والكتل العضليّة الكبيرة والدور الكبير في العمل العصبي لمرور النخاع الشوكي في داخل فقرات العمود الفقري، ومن هنا صوّر أمير المؤمنين الحمْل في المكان الأكثر تخصّص في الجسم البشري والأكبر على حَمْل الأثقال، والذي خصّصه بحمل الذنوب والآثام والتي شبّهها بالأحمال والتي سوف تكون وَبَالاً عليه يوم لقاء ربّه.

ص: 212

رياضة الأنفس

قال أمير المؤمنين علیه السلام من كتاب له إلى عثمان بن حنيف الأنصاري:

«وَمَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ (1) وَغَيْرِ فَدَكٍ، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا (2) فِي غَدٍ جَدَثٌ (3)، تَنْقَطِعُ في ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وَحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا، وَأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا، لَأَضْغَطَهَا (4) الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ (5)، وَسَدَّ فُرَجَهَا (6) التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ، وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُها (7) بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ، وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ (8).

وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِج هذَا الْقَزِّ (9)، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي(10) إِلَىٰ تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ» (11).

تُشير الآيات الكريمات الآتيات إلى حال المؤمنين والكافرين، فالأخير تصفه الآيات بأنّه روّض نفسه على الفعل السيّء وسيطرت القوّة الشهوانية عليه بشكل أصبح يأكل نصيبه ونصيب غيره دون تمييز بين الخبيث والطيّب، أمّا

ص: 213


1- فَدَك بالتحريك - : قرية لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكان صالح أهلها على النصف من نخيلها بعد خيبر؛ وإجماع الشيعة على أنّه كان أعطاها فاطمة علیها السلام قبل وفاته، إلّا أن أبا بكر سلبها من يدها غصباً.
2- المظانّ: جمع مظنة وهو المكان الذي يظنّ فيه وجود الشيء.
3- جَدَث - بالتحريك - أي: قبر.
4- أضْغَطَها: جعَلها من الضيق بحيث تضغط وتعصر الحال فيها.
5- المَدَر - جمع مَدَرة مثل قَصَب وقصبة - : وهو التراب المتلبد أو قطع الطين.
6- فُرَجها - جمع فُرْجَة مثال غُرَف و غُرفة: كل منفرج بين شيئين.
7- أرُوضُها: أذلّلها.
8- المزلق ومثله المزلقة: موضع الزلل، وهو المكان الذى يخشى فيه أن تزل القدمان، والمراد هنا الصراط
9- القزّ: الحرير.
10- الجشع: شدة الحرص.
11- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 77.

المؤمنون فقد وصفتْهم الآيات المباركة بعدم ظهور استجابات للظلم الواقع عليهم ولا الانتقام من فعل الظالمين وهم يعملون وينفقون لوجه الله، فلا تضجرهم أيّام ضرّائهم ولا تبطرهم أيّام سرّائهم فقد سيطرت عليهم قِوَاهم العقلية من خلال تربية أنفسهم على الأفعال الخيّرة والحسنة.

(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (1)

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (2).

(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) (3).

وهو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في أحد كتبه لعامله على البصرة وهو «عثمان بن حُنَيْف الأنصاري» وكان سببها سماع أمير المؤمنين علیه السلام دعوته إلى وليمة قوم من أهل البصرة فمضى إليها.

إنّ الموعظة جاءت بسبب قبول الدعوة على تناول الطعام، ولكن باطن الموعظة يشمل جوانب عديدة يتّضح فيها البعد العلمي بأنّ مظاهر الجوع التي هي الشعور بوخزات يمكن تكيّف النفس عليها وتحملها واسكاتها بقرص رغيف وجمع طمعها للموائد العامرة، كما شملت الموعظة النفس بمجموعها؛ كون حبّ الغذاء أحد غرائز النفس وترويضها بالتقوى والمراد إذلال النفس وتعويدها بتحمّل المراد وتكيّفها للبيئة الخارجيّة المحيطة بها من خلال وقاية تلك النفس ممّا يؤذيها ويضرّها آنياً ومستقبلاً فى الدنيا والآخرة ممّا لا يُحاط بأبعاده.

ص: 214


1- الفجر: 19 - 20.
2- آل عمران: 134.
3- الفرقان: 67

النفس

يُشير السيّد كمال الحيدري بأنّ النفس تشمل قوى مختلفة، وهي:

1 - القوى العقليّة.

2 - القوى الغضبيّة.

3 - القوى الشهوانيّة.

4 - القوى الوهميّة. (1)

العقل في اللغة: هو تعقّل الأشياء وفَهْمها.

كما عُرِّف العقل: «أنّه غريزة يتهيّأ بها إدراك العلوم النظرية وتدبير الصناعات، وكأنّه نورٌ يُقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء»، كما يقول عنها البعض بأنّها غريزة يتعرّف من خلالها على عواقب الأمور فتمنع الشهوات والتصرّفات الخاطئة السيّئة وتُحاسِب السلوك والأفعال.

كما يذكر أمير المؤمنين علیه السلام أهميّة العقل إذ يقول: «كلّ شيء يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى الأدب» (2).

وعليه أنّ القوى الشهوية والغضبية والوهمية لا تميّز مفسدة من مصلحة ولا حلالاً عن حرام، ولا ما يبعد أو يُقرّب إلى الله تعالى، وبالتالي هناك حاجة للإنسان أنْ يركن إليه في تحديد مصيره فأوجد الله تعالى القوّة العقلية وأَوْكَلَ لها القيام بهذا الدور المهم في مسيرة الإنسان.

وقال الله في محكم كتابه العزيز:

(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا

ص: 215


1- التربية الروحيّة: كمال الحيدري، مطبعة دار الفرقد، ط 6، ص 158. سنة 1424 ه.
2- ميزان الحكمة: ج 1، 70.

وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (1).

أي أخرجنا من هذه القرية التي يوجد فيها كلّ شيء من الوسائل والامكانات إلّا العقل؛ ولذا هي تسفك الدماء وتُحرق وتُفسد وتفعل كلّ شيء بدون خوف ولا محاسب.

والقوى الغضبية هي منشأ صدور الأفعال الدفاعيّة «الغضب - التوثّب - الايذاء ...) و من فوائدها هي إظهار الحمية والغيرة والدفاع عن الأرض والمال والعرض ...

أمّا القوى الشهوانية التي تقوم بوظائف، منها: «الأكل والشرب» والتي يحصل بها الإنسان على حفظ البدن وكذلك الجماع «والتي لها فائدة حفظ النسل واشباع الغريزة الجنسيّة».

ويذكر أمير المؤمنين علیه السلام في أهميّة ترويض النفس وتأديبها إذ يقول:

«ولوا من أنفسكم تأديبها واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها» (2).

أمّا القوى الوهمية فهي قوى الاستنباط والحيل والمكر والخداع، وهي من القوى المهمّة للإنسان، وإنْ أصبحت هذه القوى تحت إرادة العقل فإنّها تعمل على التقريب الإلهي، أمّا إذا أصبحت القوى الوهميّة فوق القوى الأخرى أصبح الإنسان أصعب من الشيطان «الملعون».

التكيّف

وإحدى الاستنباطات العلميّة التي أراد الأمام علیه السلام ايضاحها في هذه المواعظ هو وجوب الوصول بالإنسان بادارة قِواه من خلال قِوى العقل وتحقّق «التكيّف الوظيفي» التي تبدأ تحت معنى النفس التي تضمّ الأفعال الدفاعيّة وحاجة الجسم للأكل والشرب واستخدام الحيل والمكر والخداع، فإنّ تلك الوظائف ما هي إلّا

ص: 216


1- النساء: 75.
2- ميزان الحكمة: ج 1، ص 71.

عمليّات عقلية لها مواقعها في قشرة وباحات الدماغ يمكن تحفيزها وتثبيطها، أي يمكن تحفيز القوّة الشهوانية بحبّ الأكل والشرب، ولكنّ إدراك الفرد إلى عواقب الإسراف في «الأكل والشرب» وما يسبّب من تهيئة العلل وبالمقابل عدم التقصير في حاجة الإنسان إلى كميّة وشكْل وأنواع الأطعمة التي يحتاجها والتي حدّد لها الله نِسَبَاً معيّنة في جسمه، وبنقصانها تسبّب العلل والضمور لبعض أو أغلب الأجهزة الوظيفيّة واضعاف البدن.

ومن هنا تعويد القِوى الشهوية تحت ادارة القِوى العقلية من خلال ضبط العلاقة بين المتناول من الغذاء والحاجة الجسميّة إليه بشكل يضمن تنمية البدن و اشباع الغريزة الجنسية من خلال الحفاظ على النسل. ومِن هنا إدراك الجوانب الايجابيّة والسلبيّة للقِوى النفسية يكون خطّ الشروع لبداية التكيّف لدى الإنسان. وتُعدّ واحدة من أساليب رياضة النفس للقِوى الشهوانية قول رسول لله صلی الله علیه و آله و سلم:

«كُلْ وأنت تشتهي، وامْسك وأنت تشتهي (1)

قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أوّل ما عُصي الله تبارك وتعالى بستّ خصال: حبّ الدنيا، وحبّ الرئاسة، وحبّ الطعام، وحبّ النساء، وحبّ النوم، وحبّ الراحة» (2).

كما قال أمير المؤمنين علیه السلام في تهذيب النفس وتنظيم الحاجة مع وظيفة أعضاء الجسم ومستوى المتناول من الأغذية لإبعاد خطر الأمراض: «لا تَرفع يدك من الطعام إلّا وأنت تشتهي فإنْ فَعَلْتَ ذلك فأنت تستمريه» (3).

وتُعدّ تلك هي أحد الوسائل لترويض النفس الشهوية وتهيئتها إلى الانصياع إلى إرادة العقل، وفي الجانب الآخر ما هى إلّا عمليّة تحديد لمدخلات الطاقة بما يناسبها من المصروفات الخارجة في العمل، وانّ هذا سوف يوفّر الحمْيَة الغذائية

ص: 217


1- ميزان الحكمة: ج 1، ص 117.
2- ميزان الحكمة: ج 4 ص 1359.
3- ميزان الحكمة: ج 1، ص 117.

وإبعاد الأضرار الصحية للاسراف فى الأكل والشرب، ويوفّر نموّاً فسيولوجيّاً متوازناً للإنسان، ويُعدّ أحد أساسيّات التكيّف.

كما أنّ القِوى الغضبية هى ذات فائدة كبيرة كما ذكرنا في الدفاع عن الإنسان وردّ الايذاء عنه ... وهي الأخرى تحتاج إلى قوّة البدن التي يجب أنْ تكون هي قادرة على الحدّ من القِوى الشهوانية، وهي من العمليّات العقلية التي ترافق المواقف التي يمرّ بها الإنسان، والتي تعمل على تحفيزها وتثبيطها.

وهذا المبدأ في ترويض النفس بأصنافها الثلاثة أكّدتْها الشريعة الإلهيّة في مواضع عديدة «بالفعل، واللسان، وبالحكمة، والصمت» كما ذكرناها سابقاً.

كما أكّدتْها السُّنَّة النبوية الشريفة عملاً وقولاً، فمنها:

«إذا اراد الله بعبدٍ خيراً حَالَ بينه وبين شهوته».

كما أنّ من أساليب ترويض القِوى الغضبية قول رسول لله صلی الله علیه و آله و سلم لأبي الدرداء: «ازددْ عقلاً تَزْدَدْ مِن ربّكَ قُرْبَاً» (1).

فقال: بأبي أنت وأمّي وكيف لي ذلك؟ فقال نبّي الله صلی الله علیه و آله و سلم: «اجتنبْ محارم الله وأَدِّ فرائض الله، تكن عاقلاً، واعمل بالصالحات من الأعمال تَزْدَدْ في عاجل الدنيا رفعة وكرامة، وتَنَلْ من ربّك القرب والعز» (2).

قول الإمام الصادق علیه السلام: «ليس بين الإيمان والكفر إلّا قلّة العقل»، قيل: وكيف یابن رسول الله؟ قال: «إنّ العبد يرفع رغبته إلى مخلوق، فلو أخلص نيّته لله لأتاه الذي يريد في أسرع من ذلك» (3).

كما أنّ من أساليب ترويض القِوى الغضبية قال رسول صلی الله علیه و آله و سلم: «انّ الغضب جمرة تتوقّد في القلب، ألم تَرَ إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينه، فإذا وَجَدَ أحدكم من ذلك

ص: 218


1- فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي: ج 1، ص 114.
2- المحجة البيضاء: ج 1.
3- المحجة البيضاء: ج 1.

شيئاً فإنْ كان قائما فَلْيجلس، وانْ كان جالساً فلْيَنَم، فإنْ لم يزل فليتوضّأ بالماء البارد وليغتسل، فإنّ النار لا يطفيها إلّا الماء» (1).

من أساليب ترويض القِوى الشهوية قال رسول صلی الله علیه و آله و سلم: «تخيّروا لِنُطَفِكُم» (2).

كما قال صلی الله علیه و آله و سلم: «إيّاكم وخضراء الدِمَنْ» (3)

هذا يسري على باقي قِوى النفس التي هي عمليّات يتحكّم فيها الدماغ و تستجيب إليه وظائف الجسم في زيادة عمليّاتها وفاعليّتها أو تثبيط تلك الفاعليّة الكيميائيّة والفيزيائيّة والميكانيكيّة.

ويتمّ ذلك التكيّف مع البيئة الخارجيّة والذي ينعكس على وظائف الأجهزة والسلوك الإنساني من خلال تحكّم العقل وقيادته إلى باقي القِوى الأخرى، وإدراك الإنسان لعواقب عدم السيطرة عليها، وكما هو معروف أنّ الإنسان لا يقي نفسه ويحميها إلّا من خلال الإدراك والوعي للمحذورات التي تظهر آثارها السلبيّة على الجسم ربّما آنيّاً أو مستقبلاً، إذ سيطرة قِوى الغضب تعني ظهور سلوك التهوّر والعدوانية التي يصاحبها أثار وظيفية سلبية على الجسم، منها التوتّر العصبي والايعازات العصبيّة المحفِّزة، والافراط في الإفرازات الهرمونية التي تزيد من عمليّات الأجهزة كزيادة معدّل ضربات القلب وعدد مرّات التنفس والعمليّات الأيضيّة والتوتّرات العصبيّة، والتي تُصبح سِمَةً وليست حالة تعكس تكيّفاً سلبيّاً، بل تهيي أرضَاً خِصْبَة للاصابات المرضية والعلل الخطيرة التي تجعل زحف الهرم على الإنسان يزداد سرعة وخطورة.

ص: 219


1- المحجة البيضاء: ج 5.
2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي.
3- الكافي: ج 5، ص 332.

علم الغذاء

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ (1) *** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ (2)

أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَ لَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ (3) الْعَيْشِ. فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا (4) تَكْتَرِشُ (5) مِنْ أَعْلَافِهَا (6) وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ (7) طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ (8)(9).

تُشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى علاقة الإنسان بالمال والغذاء والشهوات، وكأنّما تُوحي بوجوب تنظيم العلاقة معها، كما تشمل التحذير من الإسراف بسبب عواقبه الشرعيّة والصحيّة والاجتماعيّة والاقتصادية ...

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (10).

(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (11).

ص: 220


1- البِطْنَة - بكسر الباء - : البطر والأشر.
2- القِدّ - بالكسر - : سير من جلد غير مدبوغ.
3- الجُشوبة: الخشونة، وتقول: جشب الطعام - كنصر وسمع - فهو جَشْب، وجَشِب كشهم وبطر، وجشيب ومِجْشاب ومجشوب أي غَلُظَ فهو غليظ.
4- تقمّمها: التقاطها للقمامة، أي الكناسة.
5- تكترش: تملأ كرشها.
6- الأعلاف - جمع علف - : ما يهيأ للدابة لتأكله.
7- اعْتسف: ركب الطريق على غير قصد.
8- المَتاهة: موضع الحيرة.
9- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 106.
10- الأنعام 141
11- الأعراف: 31.

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين لها في كتابه إلى عامله على البصرة «عثمان بن حنيف الأنصاري» والتي يصوّر فيها علاقة الإنسان بالأكل، ويبتدؤها بأنّ الإنسان لم يُخلق ليكون هَمّه جوفه وما يقع فيه «وهي إشارة إلى القوّة الشهوانية ووجوب السيطرة عليها» إنّما تناول الطعام لابقائه على قيد الحياة؛ المواكبة القيام بالأعمال التي هو مكلّف بها داخل المجتمع الإنساني. كما تُشير الموعظة إلى أحد العلوم الحديثة وهو «علم الغذاء» والذي يهتمّ بدراسة العلاقة بين الغذاء ووظيفة الإنسان، كما تناول عملية تناول الغذاء وتحرير الطاقة وعمليّات النموّ والبناء.

التوازن بين مدخولات الطاقّه ومصروفاتها

إنّ تشبيه أمير المؤمنين علیه السلام للإنسان بالبهيمة - والتي همّها تناول الأعلاف ووَصَفَهَا بقلّة الحركة - توضيح إلى أنّ مدخلات الطاقة «الغذاء المتناول» هو أكبر من مصروفاتها بسبب قلّة الحركة والمراد بها القيام بالأعمال، وهو استعارة المراد بها الإنسان الذي يكون همّة مِعْدَتَهُ وعدم أداء واجباته ودوره في الحياة «وهو موعظه لأهمِّيَّة العمل» فضلاً عن أنّ تلك الطاقة الداخلة ستتحوّل بعد تحلّلها إلى دهون تُخزن فى الخلايا الدهنية والأنسجة الدهنية وتُحاط بالأجهزة الوظيفيّة، مكوِّنهً طبقة تحت الجلد، مسبِّبهً الزيادة المُفرِطة في الحجم والوزن والكتلة، كما أُثبت في الآونة الأخيرة عِلميّاً أنّ ثلثي الطاقة أو ثلاثة أرباعها الداخلة عن طريق الغذاء يتمّ استخدامه للعمل العضلي، وبالتالي إذا كانت الحركة معطّلة أو محدودة كما وصفها أمير المؤمنين علیه السلام فإنّ مصيرها الخزن كدهون داخل الجسم.

ص: 221

الهايبوثلامس والقِوى الشهوانية

كما تُشير الموعظة إلى هؤلاء الذين هَمّهم في الدنيا بطونهم، ووصفهم كالبهيمة التي هَمّها من الدنيا اشباع غرائزها الشهوانية ومنها علفها، كما وصفهم بأنّهم لاهون عمّا يُراد بهم وما ينتظرهم في الدنيا وفى عالم البرزخ ويوم الحساب، كما أنّ تشبيه هؤلاء بالبهيمة دليل على تغلّب حوافز الشراهة وحبّ الأكل لديهم، وهذا ما توصّل إليه العلماء من خلال تحفيز منطقة في الدماغ تُدعى «الهايبوثلامس» التي تؤدّي إلى الشراهة في الأكل عند تحفيز الجهة الوحشيّة منها، ويلاحظ عدم الشعور بالشبع أو الاكتفاء عند الاستمرار في ذلك التحفيز، وظهر لديهم عدم الاهتمام بما يدور حولهم غير الرغبة في سدّ الشعور بالجوع الناتج عن ذلك التحفيز، في حين يؤدّي تحفيز المنطقة الانسيّة منها إلى التوقّف عن الأكل وتظهر مشاعر الاكتفاء والشبع لديهم.

وعليه لعلّ من الإشارات التي أراد ايضاحها أمير المؤمنين علیه السلام أنّ التغذية ما هي إلّا مجموع العمليّات التي بواسطتها يحصل الإنسان أو الكائن الحي على المواد اللازمة لحفظ حياته، وليس الهدف الأسمى في الحياة.

مصادر السمنة

تعني ترسّب الدهن المُفرِط في الجسم؛ بسبب تناول كمِّيَّات من الطعام أكثر من حاجة الجسم التي يستخدمها في إنجاز أعماله وفعّاليّاته التي لا يرافقها صرف للطاقة، وعليه تُخزن الكمِّيّات الفائضة من «السُكَّرِيَّات والبروتينات والدهون» بشكل دهون في النسيج الدهني، ومن خلال التجارب البحثيّة التي قام بها العلماء لوحظ أنّ لكلّ (9،3) سعرات فائضة من الطاقة الداخلة للجسم يخزن فيه «غرام واحد من الدهن» ومع زيادة مدخلات الطاقة الزائدة عن الحاجة يزداد حجم

ص: 222

الدهون المخزونة التي يرافقها زيادة في عدد الخلايا الدهنية وزيادة أحجامها في النسيج الدهني، وبالتالي تتّضح مظاهر السمنة وأسبابها التي أوجزها بالبلاغه العلميّة وممّا تسبّب من آثار سلبية على الفرد وسلامة صحّته من خلال وصفه بزيادة تناول الأغذية والقصور في الحركة، وعدم الاهتمام بما يجري في البيئة الخارجيّة، والمراد بها هموم المجتمع وأحواله.

وانّ استعارة أمير المؤمنين علیه السلام «بالبهيمة المكترشة» هو على الرغم من كونه موضع تأنيب إلى الذين هَمُّهم الجلوس على الموائد العامرة والتي تقودهم إليها بصیرتهم الشهوانية، في حين تصبّهم الغشاوة عن البطون المخمّصة فضلاً عن ما يترتّب عليه من فقدان جماليّة القوام الجسمي واللياقة البدنية، مؤدّيةً إلى تقليل الحركة البدنية، كما أنّ تحريك الكتلة الزائدة من الدهون المكوّنه للجسم تستدعي بذْل طاقة اضافية والجانب الخلقي والذوق العام للإنسان فهو مرتبط بشكل كبير بالجانب الصحّي والاقتصادي للفرد والمجتمع، الذي أصبح من الموضوعات الهامّة التي تُثار في جميع البلدان ولا سيّما المتقدّمة منها.

ففي دراسة أظهرتْ بياناتها الاحصائيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة أنّ ما يقارب (50) مليون رجل و (60) مليون امرأة تتراوح أعمارهم بين (18 - 79) سنة تزيد أوزانهم عن المعدّل الطبيعي، ويمكن أنْ تطلق عليهم «أشخاصاً ذوي سمنه ظاهرة»، وأفادت البيانات أنّ الوزن الزائد لدى الرجال بلغ (377) مليون كيلو غرام ولدى النساء بلغ (667) مليون كيلو غرام أي (1044) مليون كيلو غرام لدى الجنسين.

وأوضح فريق العمل البحثي أنّه لو اتّبع أىٌّ من هؤلاء حِمية غذائيّة لتخفيض الوزن، وتخفيض استهلاك السعرات الحرارية بمقدار (600) سعرة في اليوم فضلاً عن المردودات الصحية لهؤلاء، فانّهم يوفّرون (5،7) ترليون سعرة أو ما يكافي

ص: 223

(4.9) بليون لتر من البنزين يكفي لسير (900/000) سيّارة لمدّة سنة كاملة.

كما هي إشارة إلى اقرار العدالة الاجتماعيّة في توزيع الأغذية من خلال تحديد علاقة الإنسان بتناول الطعام. وعليه يتّضح من البلاغة العلميّة في ايضاح الصور العلميّة وايجازها وما تخفيه الكلمات من مدلولات علمية.

القِوام ومصادر الطاقة

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «وَكَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ: إِذَا كَانَ هَذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ.

أَلَا وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ (1) أَصْلَبُ عُوداً، وَالْرَّوَائِعَ الْخَضِرَة (2) أَرَقُّ جُلُوداً، وَالنَّابِتَاتِ العِذْيَة (3) أَقْوَى وَقُوداً (4)، وَأَبْطَأُ خُمُوداً، وَأَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلی الله علیه و آله و سلم كَالصِّنْوِ مِنَ الصِّنْوِ (5)، وَالذِّراعِ مِنَ العَضُدِ (6).

وَاللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا، وَلَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا، سَأَجْهَدُ (7) فِي أَنْ أُطَهَّرَ الأَرضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْكُوس» (8).

تُشير الآيات الكريمة الآتيات عن وجوب السعي لطلب العلم والقوّة، وهناك مَن يصطفيه الله سبحانه وتعالى ويزيده بذلك جسماً وعلماً على الرغم من تشابه

ص: 224


1- الشجرة البريّة: التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه.
2- الرَوَائِع الخَضِرة: الأشجار والأعشاب الغضة الناعمة التي تنبت في الأرض الندية.
3- النابتات العِذْية: التي تنبت عذياً، والعِذْي - بسكون الذال - الزرع لا يسقيه إلّا ماء المطر.
4- الوَقود: اشتعال النار.
5- الصنوان: النخلتان يجمعهما أصل واحد.
6- الذراع من العضد: شبه الإمام نفسه من الرسول بالذراع الذي أصله العضد كناية عن شدة الامتزاج و القرب بينهما.
7- جَهَدَ - كمنع - : جد.
8- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 107.

نوع التغذية أو اختلافها كمّاً ونوعاً، وطرق المعرفة واكتسابها.

كما تُشير الآيات الكريمة إلى الذين إذا أنفقوا لم يقلّلوا ولم يسرقوا. وهذا ينسحب ليس على جانب صَرف الأموال فقط، بل على علاقتهم مع الغذاء وممارسة لذّاتهم التي أنعم بها الله تعالى عليهم، وبالتالي يصفهم «القوّامين»، ولا بدّ أنْ تكون لذلك مردودات إيجابية كثيرة، ومنها: رضا الله تعالى ورضا الناس، ووقاية الإنسان من الآفات الصحية والاقتصاديّة والاجتماعيّة.

(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) (1).

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (2).

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (3).

وهذا الكلام المتقدّم من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في كتابه لعامله على البصرة «عثمان بن حنيف الأنصاري» التي يوضّح بها علاقة الإنسان بالغذاء، ونحن نتناول هذا الموضوع الذي أصبح هَمّ الدول ويرتكز علية بناؤها الاقتصادي والصِحّي والبدني، والتي يأخذ منها جهوداً استثنائيّة للوصول إلى ضبط وحصر كمّيّات واحتياجات بلدانهم وتوازنه في خططها المستقبليّة على جميع الأصعدة، وانّ مولانا أمير المؤمنين علیه السلام يعطي لها صورة بلاغيّة، مستندةً إلى أُسس علمية رائعة، فإنّ المثل الذي استعاره أمير المؤمنين علیه السلام بالمقارنة بين النباتات البرية

ص: 225


1- الفرقان: 67.
2- البقرة: 247.
3- الرعد: 4.

والمزروعة بالأراضي الندية أو الوفيرة المياه، قبل كلّ شيء يجب أنْ نعلم أنّ هذا المَثَل لا يقلِّل من أهميّة المياه والسوائل بالنسبة للجسم البشري الذي يشكّل الماء نسبة (60 - 70 %) من وزن الجسم وهي تلعب الدور الكبير والمتميّز في حياة الكائن الحي ولا سيّما الإنسان، وانّ الله سبحانه وتعالى يذكر في كتابه المجيد:

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (1).

وعليه، لا يعدّ محتوى الكتاب تناقضاً مع الآية الكريمة.

ولكن أراد أمير المؤمنين علیه السلام استعارة الظروف المحيطة بالنباتات البرية من عوامل المناخ واختلافها، وما تواجهه من المصاعب المناخية والمكانية وقابليّتها بالتكيّف إلى تلك المصاعب ومقاومة تلك الظروف، في حين الأشجار التي تُزرع في الأراضي الغنية بالمواد العضوية والخصبة بالمعادن والمياه الوفيرة والمناخ المعتدل والتي لا تظهر فيه المصاعب، فإنّ تلك الأشجار مع أيّ فقدان للتوازن لتلك الظروف المناخية أو المكانية سيؤدّي إلى عدم قدرتها على المقاومة، وربّما مع أيّ ريح شديدة يؤدّي إلى اقتلاعها، ومن هنا يطالب أمير المؤمنين علیه السلام بإعداد النفس والبدن إلى المصاعب من خلال زَجّها في ساحات التدريب والعمل وعدم الإسراف باللذائذ من الأكل والشرب والنوم وقلّة الحركة، فإنّ تلك الخضرة في الأبدان هي عوامل سلبية على صحّة الفرد وسلامته.

التأقلم للبيئة

انّ النباتات البرية تختلف عن النباتات الصحراوية، والأخيرة لا تنبت إلّا في البيئة الصحراوية، كما أنّها ربّما تكون حوليّة «فصلية» أو سنوية، ومن ميزاتها تكون

ص: 226


1- الأنبياء: 30.

جذورها سطحية، وقد تكون نباتات خازنة للماء، مثل الصبّيريّات، أو نباتات جافّه متكيّفة لتحمل الجفاف على مدار السنة، وهي التي تكون مجموعها الجذري أكبر من مجموعها الخضري.

في حين النباتات البرية فإنّها تنبت في البيئة الصحراوية أو المائيّة أو البيئة الوسطيّة، كما أنّها تنمو بدون تدخّل الإنسان فيها وربّما تكون من النباتات التي يُدجّنها الإنسان.

ولكنّ الفرق كبير بين النباتات البرية التي تنمو في البيئة الصحراوية وفي المناطق الأخرى، إذ تمتاز النباتات البرية التي تنبت في الصحراء بصغر الأوراق وسمكها والسيقان الشوكيّة، وتُغطّى الأوراق بشمع لتقليل تبخّر الماء منها، ويمتاز النبات بالتقزّم فضلاً عن مجموعِهِ الجذري هو أكبر من مجموعِهِ الورقي، ويمتاز الجذر بالتعمّق.

ولكن تمتاز النباتات البرية بالقوّة؛ وهذا يعود إلى الوحدة البنائيّة للخلية، وإلى الجينات الوراثيّة لخلايا النبات نفسه، كما أنّ نوع التربة الصحراوية التي تتميّز بالملوحة تجعل الضغط الأزموزي فيه عالى من أجل زيادة القدرة على سحب الماء من التربة، وعليه نستنتج أنّ النباتات البرية ربّما تكون من النوع المُثمِر والتي تتميّز بالقوّة الكبيرة مقارنة بمثيلاتها فى البيئة الوسطيّة أو المائيّة، واعتمادها الكلّى على نفسها في البقاء من خلال مقاومة كلّ أشكال عوامل التغيير والتعرية في البيئة.

كما أنّ المظهر الخارجي للنباتات البرية هو يمتاز بالجماليّة بشكل أكثر من النباتات الصحراوية، فضلاً عن أنّ طريق تجمّع الأحماض الأمينية مثل «البرولين» أو السكّرّيات والمواد المعدنية داخل الخلية من أجل تكيّف نفسها للعيش في التراب ذات المحتوى الواطئ من الرطوبة هو كبير لديها.

وعليه، يتّضح أنّ مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في استعارته لن يشمل النباتات

ص: 227

الصحراوية؛ لأنّها لا تنسجم وشخصيّة الإمام شكلاً ووظيفة وعطاء وقوّة ومكانة ... وعليه كانت الاستعارة ذات مدلول صوري وعلمي يتناسب وعظمة شخصية الإمام الإنسانية باختيار النباتات البرية، والتي لها مواصفاتها المارّة الذكر بالاعتماد الذاتي على بناء الجانب التربوي والذهني والعلمي والانفعالي والبدني ... فضلاً عن المظهر الخارجي والعطاء الإنساني المُثمِر للأجيال.

الطاقة

وعليه، أنّ لممارسة الجلَد وإقحام الفرد نفسه بأداء الأعمال ما هي إلّا عمليّة إعداد مسبقة لمواجهة الصعوبات المتوقّعة التي تؤدّي إلى بناء الجسم وامتلاكه إلى قدر من القوة البدنية من خلال زيادة مقدار الطاقة المتوفّرة في العضلات العاملة وبیوت الطاقة وكبر حجمها، فضلاً عن زيادة بروتينات العضلات وبروتينات بلازما الدم، وغيرها من التغيّرات التي تخصّ العضلات والدم والأجهزة المرتبطة بإظهار القوّة، ومن هنا وصف النباتات البرية بأنّها أصلب عوداً وأقوى وقوداً وأبطأ خموداً، أي أنّ الإنسان الذي مثله بالنبات البري له القدرة على اصدار القوّة وإظهارها؛ وذلك بسبب كونه «أكبر وقوداً» أي زيادة كميّة الطاقة المخزونة وحجم بيوت الطاقة وعددها «وابط خموداً» ويعني ذلك أنّ لديه القدرة في إظهار تلك القوّة والاستمرار في أداء الأعمال لفترة أطول بسبب تكيّفه لمقاومة القِوى والأحمال ولتوفّر خزين الطاقة.

السمنة

إنّ الحديث فيه إشارة إلى أنّ كثرة الإسراف في الأكل، والتلذّذ بالنعم فوق مستوى الحاجة الجسميّة وعدم زجّ النفس في معترك الأعمال وخدمة المجتمع

ص: 228

الإنساني ومواجهة مصاعب الحياة سيؤدّي إلى عواقب ربّما وخيمة من خلال ما ذكره أمير المؤمنين علیه السلام «والروائع الخضر أرقّ جلودأ» أي أنّ تلك الجلود الممتلئة هي ليست من دواعي الصحّة، ويمكن استقراء عيوب تلك الأجسام بما أوضحه من مدح للأجسام المشبّهه بالنباتات البرية ومنها قلّة بيوت الطاقة وصغر حجم تلك البيوت أي صغر حجم خزين الطاقة، وهذا ما هو إلّا مثلاً يسري على جميع الأجهزة الوظيفيّة في جسم الإنسان، فإنّ زيادة القوّة وخزين الطاقة يعكس سلامة الأجهزة الوظيفيّة والعكس صحيح.

ويذكر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في أهميّة العمل والحركة وتقليل الحُبّ للطعام والراحة:

«اول ما عُصي الله تبارك وتعالى بستّ خصال: حبّ الدنيا، وحبّ الرئاسة وحبّ الطعام، وحبّ النساء، وحبّ النوم، وحبّ الراحة» (1).

وعليه أنّ الرقّه والغضارة تعكس الافراط في تناول المواد الغذائية وتحولها في نهاية المطاف إلى خزين من الدهون المتراكمة التي تُضعف الحركة وتحدّد مرونة المفاصل وتُجهد وظائف الجسم بأعباء اضافية، فضلاً عن كونها عازِلاً عن البيئة الخارجيّة وزيادة في صرف الطاقة بشكل غير هادف.

تربية القوّة الشهوانيّة

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «وَالدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْمٍ حَانَ (2) انْسِلَاخُهُ (3).

أَعْزُبِي (4) عَنِّي! فَوَاللَّهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي، وَلَا أَسْلَسُ (5) لَكِ فَتَقُودِينِي.

ص: 229


1- ميزان الحكمة: ج 4 ص 1359.
2- حان: حضر.
3- انسلاخه: زواله.
4- عزب يعزب: أي بَعُد.
5- لا أسلس: أي لا أنقاد.

وَايْمُ اللهِ - يَمِيناً أسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللهِ عَزَّوَجَلّ - لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهشُّ (1) مَعَها إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرتْ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً (2): وَلَأَدَعَنَّ (3) مُقْلَتِي (4) كَعَيْنِ مَاءٍ، نَضَبَ (5) مَعِينُهَا (6)(7).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى نهي تحريمي بتجاوز الحدّ في الأكل والشرب، وما ينهى الله عنه فيه الخطر الكبير على الإنسان، فإنّ ذلك الإسراف له مخاطر كثيرة على صحّة الإنسان والمجتمع.

(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (8).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (9)

هذا من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام، وهو من كتابه إلى «عثمان بن حنيف الأنصاري» يُشير فيها إلى عدّة جوانب علمية تخصّ كيفيّة التدريب النفسي لغرائزها والوصول إلى «التكيّف» وتحديد القِيَم الغذائية ذات الأهمية إلى الجسم فضلاً عن تثبيط «القوّة الشهوانية» والانسياق وراء الأغذية والأطعمة المختلفة.

علاقة التدريب والتكيّف

وهنا - في الكلام المتقدّم - يُشير مولانا أمير المؤمنين علیه السلام إلى وجوب إعداد

ص: 230


1- تهشّ إلى القُرص: تنبسط إلى الرغيف وتفرح به من شدة ما حرمته.
2- مأدوماً حال من الملح، أي مأدوماً به الطعام.
3- لأدَعَنَّ: لأتْرُكَنّ.
4- مقلتي: عيني.
5- نَضَب: غار.
6- مَعِينها - بفتح فكسر - : ماؤها الجاري.
7- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 109.
8- الأعراف: 31
9- الأنعام: 141

النفس من خلال تدريبها، والتي يقصد بها عمليّة إعداد ورفع قابليّة الفرد ذهنيّاً وفكريّاً وتربويّاً وبدنيّاً ومهاريّاً مع النشاط الذي يعدّ من أجله لتحقيق الهدف المنشود منه لذلك التدريب، ولا سيّما إذا كان التدريب على تقوية ادارة القوّة العقلية على باقي القِوى وبالتالي الوصول إلى التكيف بانسجام الفرد وظيفيّاً وفكريّاً مع أداء ذلك النشاط مع وجود بواعث أثناء أدائه.

وعليه أنّ تدريب النفس ليس القيام بالجوع القسري أو الامتناع عن الطعام لمعرفته الدقيقة بحاجة الجسم إلى الطعام وما هي مؤثّراته الصحيّة على سلامة الأفراد، بل استعارته «الشاهية» إعداد النفس بشكل أنّها تميل إلى القناعة للغذاء البسيط ومحاربة الإسراف من خلال تثبيط التنبيهات للقوّة الشهوانية في اختيار الأطعمة والتلذّذ بأشكالها المختلفة وليس لسدّ حاجته الجسميّة، وهذا له عواقب بسيطرة القوّة الشهوانية على إرادة القوّة العقلية وباقي القِوى النفسية فضلاً عن مضارّه الصحية في سلامة أجهزة الجسم.

الكاربوهيدرات

لا نعلم الزمن الحقيقى لاستخدام الخبز من قِبل الإنسان، ولكن من خلال أهميّته الغذائية وتكرار استخدامه في الوجبات الغذائية يدلّل على أنّ الشعوب تعرّفت على هذا الطعام منذ زمن ليس بالقريب وما له من المكانة الغذائية في الوقت الحاضر، إذ انّ كثيراً من الشعوب تنتفض وتثور بسبب ارتفاع الأسعار الغذائية، ومنها المادّة الأوّلية للخبز وهو الطحين.

وهناك الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة والأقوال البلاغيّة للأئمة علیهم السلام حول مكانة وأهمية الخبز، ومنها دعاء الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «اللهم أَدِمْ علينا رغيفنا».

وخصّ أمير المؤمنين علیه السلام سدّ الجوع برغيف الخبز، وهو أحد أنواع الأغذية

ص: 231

التي يتناولها الإنسان في وجباته الغذائية ولا بدّ من وجود أسباب لهذا الاختيار من الناحية العلميّة والقيمة الغذائية، ومنها:

قد ظلّ سائداً - ولزمن طويل - بأنّ الأغذية الفاخرة وذات السعر الكبير تُعدّ سبباً فى بناء القوّة الجسديّة،وإظهارها ولا سيّما اللحوم الحمراء والبيضاء، ولكن أُثبتت من خلال التجارب العلميّة الحديثة بأنّ تلك اللحوم لا تشارك في إظهار القوّة وبنائها بشكل كبير مقارنةً بالمادّة الغذائية الكاربوهيدرات ولِمَا تعطيه من قيمة غذائيّة عالية للجسم، ومِن هنا جاء السبب الرئيسي لموعظة أمير المؤمنين علیه السلام بالتأكيد على قرص الخبز لمكوّناته الأساسية «الكاربوهيدراتية» وعلاقته بالبناء الجسمي.

كما تحتوي الكابوهيدرات على نِسَب متفاوتة بالبروتين الذي يتراوح بين (7 - 14 %) كما يُعدّ بروتين الحبوب ذا قيمة غذائيّة ليست بالعالية، غير أنّه يحتوى على كمية جيّدة من الأملاح والفيتامينات والتي تلعب دوراً كبيراً في العمليّات الكيميائيّة والفيزيائيّة في الجسم، فضلاً عن بناء واثارة الأنزيمات الموجودة في الجسم، ومنها: «فيتامينات ب 6 - ب 2 - ب 1 - حامض الفوليك - النياسين».

كما أثبتت الدراسات العلميّة أنّ احتراق غرام واحد من الدهون يولِّد (9) سعرات حرارية، في حين احتراق غرام واحد من البروتينات يولّد (4) سعرات حرارية، كما أنّ احتراق غرام واحد من الكاربوهيدرات يولّد (4) سعرات حرارية، ولكن يُعدّ الكاربوهيدرات من المواد الغذائية الأولى لتجديد الطاقة في الجسم وكذلك المصدر الأوّل لانتاج الطاقة في أداء الأعمال التي يؤدّيها الإنسان في حياته اليومية، وتأتى بدرجة أقل المواد الدهنية والبروتينات، وهذا بمجموعِهِ يدلّل على سبب الاختيار لرغيف الخبز ودوره في البناء الجسمي، ضارباً كلّ أنواع المناهج الغذائية التي رسمت في العصر الحديث حول أهمية أنواع الغذاء في بناء

ص: 232

البُنْيَة الجسديّة.

كما يُسهم «الحنطة» في تعويض نقْص هرمون «الميلاتونين»، والذي يُعدّ في الدراسات الحديثة باسم «هرمون الشباب» لاحتوائها على حامض أميني لا يستطيع جسم الإنسان تصنيعه، وهو هرمون «التربتوفان» الذي تستخدمه الغدّة الصنوبرية لانتاج الميلاتونين.

مصادر الجوع والشبع

وعلى الرغم من أنّ جسم الإنسان متكوّن من الغذاء الذي يتناوله، إذ انّ وزن الطفل عند الولادة يصل إلى (3 - 4 كغم)، وعند سنّ البلوغ يصل ما بين (60 - 70 كغم)، وهذا أحد أسبابه الرئيسية عائد إلى تناول الغذاء وما حقّقه من نموٍّ، كما أنّ الطعام مهمّ ليس في البناء وإنّما للوقاية من الإصابات المرضية، كما يضيف صفات قوّة التحمّل العضلي، كما يؤدّي إلى النموّ بكلّ جوانبه ولا سيّما العقلى وانّ الاحساس بالجوع بسبب حركة المعدة بالتقلّصات تسبّب نوعاً من الألم يُسمّى «وخزات الجوع» وهذا ناتج عن تنبيهات في منطقة في الدماغ تُسمّى «الوطأ الوحشي»، أمّا الشبع، فهو ناتج عن تنبيهات توقّف تلك الوخزات من مناطق الدماغ وتُسمّى «الوطأ الانسي».

وانّ أحد أسباب حدوث تلك التنبيهات للوطأ الوحشى هو انخفاض نسبة تركيز «الكلوكوز» في الدم، وعند وصوله إلى مناطق «الوطأ الوحشي» في الدماغ يُسبّب التنبيهات والوخزات الخاصّة بالجوع وعليه إنّ الاستعارة «للرغيف» كونه يتحلّل إلى سكّريّات ويتمّ امتصاصه من المعدة من قِبل الدم بصورة «كلوكوز»، مسبِّباً تثبيط وخزات الجوع والشعور بها فضلاً عن خزن الفائض من السكّريّات الممتصّة على شكل كلايكوجين في خلايا الألياف العضليّة العاملة في جميع

ص: 233

الجسم وخلايا الكبد، وعند الحاجة إليه يمكن تحويله إلى سكّريّات لتحرير الطاقة كما يمكن تحويل السكّريّات إلى دهون لسدّ حاجة الجسم منها، فضلاً عن أنّ الكاربوهيدرات تُعدّ المصدر الأوّل للطاقة المتحرّرة في الجسم والمستخدمة في الأعمال والأفعال التي يقوم بها الإنسان بين أنواع الطاقة «الغذائية» الأخرى التي يتناولها في وجباته، كما يُعدّ الكلوكوز المصدر الرئيسي للعمليّات الأيضيّة القائمة في الدماغ.

ومن هنا جاء الاختيار في هذه الموعظة البليغه على المادّة الغذائية «الرغيف» دون غيرها من المواد الغذائية الأخرى؛ لِمَا لها من مردودات وظيفية على جسم الإنسان، وفي الجانب الآخر يوضّح قدرات الإنسان وكفاءته وابداعه العقلي والبدني ... ودوره في المجتمع لا يتوقّف على الإسراف في تناول الأطعمة واختيار الأنواع ذات الأسعار الباهظه منها، وعليه إنّ بمقدور الإنسان أن يُبدع في خير الإنسانية مع سدّ رمقه برغيف الخبز الزهيد.

كم أنّ هذه الموعظة تُشير بدورها إلى أنّ المخلّفات التي تسبّبها البيئة والمواد الغذائية المتناولة من الجانب المرضي يعدّ التجوّع هو أنسب الطرق للتخلّص من تلك المخلّفات السمية للأغذية والإسراف فيها، فضلاً عن جعلها إحدى المعالجات للاصابات المرضية.

ويذكر أمير المؤمنين علیه السلام في أهميّة التقليل من تناول الغذاء ودوره في المعالجة المرضية: «التجوّع أنفع الدواء» (1).

ملح الطعام

يُعدّ ملح الطعام من المواد المقدّسة في التاريخ القديم لدى كثير من الشعوب

ص: 234


1- ميزان الحكمة: ج 3، ص 1262.

والحضارات، ومنها ما كان قبل الإسلام، وكان المصريّون القدماء يعدّونه من المواد المقدّسة كونه يدخل في حفظ اللحوم، كما يروى التاريخ أنّ من عادات الاغريق القدماء أنّهم كانوا يحكمون بالموت على كلّ مَن يترك ملح الطعام يسقط على الأرض، كما أنّ المسلمين أعطوا أهميّة كبيرة لملح الطعام، ومِن خلال مواعظ وخطب أمير المؤمنين علیه السلام التي يؤكّد - وبشكل كبير - على دور هذه المادّة على جسم الإنسان ووظائف أجهزته، فضلاً عن اشتراكها، درء الأخطار المرضية المختلفة عنه.

ولقد أُثبت علميّاً بأنْ لا يمكن الاستغناء عن تناول الملح يوميّاً وبشكل ينسجم مع العمل وشدّته والظروف المكانية والمناخية «درجات الحرارة» ومستوى التعرّق؛ لِمَا للملح من دور كبير في أداء الأجهزة لأعمالها الوظيفيّة، كما أنّ تناوله بافراط يسبّب الاضطرابات في عمل الأجهزة العاملة في الجسم، وربّما يؤدّي إلى اصابات مرضية خطيرة، كما يُعدّ مادّة علاجيّة لكثير من الإصابات المرضية والاضطرابات الوظيفيّة، ومنها «انخفاض الضغط الدموي الشرياني، كما يعطى في حالات الاسهال الشديد وعند فقدان السوائل والأملاح منها بكثرة ...».

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لأمير المؤمنين علیه السلام: «ياعلي، افتح بالملح، واختم به فإنّه شفاء من سبعين داء، منها: الجنون والجذام والبرص ووجع الحلق والأضراس ووجع البطن» (1).

كما قال أمير المؤمنين علیه السلام الأحاديث كثيرة تدلّل على أهمية ملح الطعام ومنها قوله: «أبدأوا بالملح في أوّل الطعام، فلو علم الناس ما في الملح لاختاروه على الترياق المُجرّب» (2).

ولذا إنّ اختيار ملح الطعام لا بدّ له من الأسرار العلميّة لحاجة الجسم

ص: 235


1- مكارم الأخلاق: حسن بن فضل الطبرسي، ج 1.
2- المصدر السابق.

البشري، وعليه إنّ الصيغه الكيميائيّة لملح الطعام هي (NaCl).

والتي من أهمّ وظائفه في الجسم ما يلي:

1 - يُعدّ العنصر الرئيسي للأيونات الموجبة في سائل خارج الخلايا والذي يعدّ أحد أسباب توليد فرق الجهد الكهربائي عبر غشاء الخلايا.

2 - له الأثر الكبير في الحفاظ على توازن «الحامض - القاعدة» من خلال ارتباطه بصورة كبيرة مع كلوريد الصوديوم والكاربونات الحامضية.

3 - يعمل الصوديوم في الحفاظ على الضغط التنافذي السوائل الجسم، وعلى حماية الجسم من فقدان السوائل بكمِّيّات كبيرة.

4 - يحافظ على قابليّة استجابة العضلة ونفوذيّة الخلايا.

أمّا الكلورين، وهو المكوّن الثاني لكلوريد الصوديوم فيقوم بالوظائف التالية:

1 - يعمل على حفظ توازن الماء في الجسم.

2 يحافظ على الضغط التناضحي.

3 - يُسهم في الحفاظ على توازن «القاعدة – الحامض».

4 - يؤدّي دوراً كبيراً في الدم بواسطة تأثير انتقال الكلوريد.

5 - وهو يُسهم في تكوين حامض «الهيدروكلوريك» وهو العصير المعوي.

فاختيار الملح «كلوريد الصوديوم» إذن ما هو إلّا لفت النظر لأهمية هذه المادّة التي يحتاج منها الجسم يوميّاً (5 - 15 غم)، كما يرتبط بنوع الأعمال التي يقوم بها الفرد والأجواء المحيطة ومستوى التعرّق والمتناول من الماء.

العين ومكوّناتها

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «وَالدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْمٍ حَانَ (1) أَنْسِلَاخُهُ (2).

ص: 236


1- حان: حضر.
2- انسلاخه: زواله.

أَعْزُبي (1) عَنِّي! فَوَاللَّهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلّینِي، وَلَا أَسْلَسُ (2) لَكِ فَتَقُودِينِي.

وَايْمُ اللهِ - يَمِيناً أسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّوَجَلّ - لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهشُّ (3) مَعَها إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرتْ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً (4)؛ وَلَا دَعَنَّ (5) مُقْلَتِي (6) كَعَيْنِ مَاءٍ، نَضَبَ (7) مَعِينُهَا (8)، مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا» (9).

تُشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى أنّ الضحك والبكاء هو من خلْق الله تبارك وتعالى فى الإنسان، ولكن القيام به وفعله هو من قبل الإنسان وكأنّما المراد أنّ المؤمنين الذين تفيض أعينهم من الدمع لِمَا عرفوا من الحقّ، وبالتالي كأنّما تريد أن توضّح أنّ البكاء من الاستجابات الفسيولوجيّة التي ترتبط مع الجانب الانفعالي، والذي له مردودات ايجابية على الإنسان.

(وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ (10).

(وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (11).

والكلام المتقدّم هو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام من كتابه لعامله «عثمان بن حنيف الأنصاري»، وعلى الرغم من ظاهر التأكيد على مبدأ البكاء، ولكن بالجانب الآخر يمكن لمس التحدّث عن سوائل العين ودروس علمية وظيفية و تشريحية لحاسة البصر.

ص: 237


1- عزب يعزب: أي بَعُد.
2- لا أسلس: أي لا أنقاد.
3- تهشّ إلى القُرص: تنبسط إلى الرغيف وتفرح به من شدة ما حرمته.
4- مأدوماً: حال من الملح، أي مأدوماً به الطعام.
5- لأدَعَنَّ: لأتْرُكَنّ.
6- مقلتي: عيني.
7- نَضَب: غار.
8- مَعِينها - بفتح فكسر - : ماؤها الجاري.
9- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 109.
10- المائدة: 83
11- يوسف: 84

سوائل العين

إنّ الإشارة بالدعوة إلى جعْل مُقلة العين كعين ماء نَضَب معينها هو بيان أهميّة الدور الذي تلعبه السوائل في وظيفة العين وتركيبها فضلاً عن شكلها ونظامها داخل العين، ومنها المحافظة على ضغط كاف في مقلتيها ليبقيها متمدّدة.

ويُقسَّم السائل داخل العين إلى قسمين، هما:

1 - الخلط المائي الذي يوجد أمام العدسة وعلى جوانبها.

2 - الخلط الزجاجي الذي يوجد بين العدسة والشبكيّة.

وهناك نظام يدير عمليّة المحافظة على تراكيز ونِسَب تلك السوائل في العين وإنّ أنصباب الخلط المائي وربّما الزجاجي يُسبّب ارتفاع ضغط العين من (12 - 15 ملم ز) إلى (60 - 70 ملم ز)، مسبّباً اضطرابات في الرؤية وربّما فقدان البصر.

وانّ انصباب سوائل العين أو فقدانها يُسبّب التغيّر في شبكيّة العين وموقعها، فإنّها تغور في الفتحة التي تستقرّ فيها بالرأس في عظام الوجه؛ ولذا كانت الاستعارة بعین الماء،الناضبة، فهي لا تُشاهد من بعيد كونها فارغة وتبقى نقرة فقط، في حين أنّ عين الماء المُتدفّقة تبرز عن مستوى سطح الأرض في رؤيتها.

الدمع

من الناس مَن يذرف الدمع عند مواقف الفرح، ومنهم من يعبّر به في مواقف الحزن والأسى، وهنا تختلف العواطف والمشاعر رغم تشابه ظاهرة ذَرْف الدموع، وانّ الذين يكبتون دموعهم أكثر عرضة للأصابات المرضية ولا سيّما العصبيّة فالدموع تُعدّ المتنفّس للتخلّص من الكبت النفسي والضغوط والضيق لمواقف الحزن.

وتنتج الغدد الدمعيّة «Lacrimai glands» الكائنة في الجزء العلوي الخارجي

ص: 238

من كلّ مدار الدموع، وبجانب الانتاج النفسي يحرض إفراز الدموع من خلال تحفيز مستقبلات في أجفان العين والملتحمات وتزوّد الغدد الدمعيّة بالأعصاب عن طريق الألياف الذاتية من الدماغ الوسطى والتي تسير بصورة متتالية في العصب القحفي الخامس والسابع وينتج أقل من (واحد مليلتر) تقريباً من الإفراز الدمعي كل يوم وهو متساوي التوتر مع المحلول الملحي الاعتيادي (0،9 %) كلوريد الصوديوم واعتدال القاعدية، «7.4 PH»، ويوجد في الإفراز أنزيم يحلّل المخاط وله فعل في قتل البكتريا، كما يرطّب السائل الدمعي جفان القرنية والملتحمة، وبذلك يعمل كمِزْيه لحركة الجفن ويَغسل الأجسام الغريبة كما يتبخّر السائل الدمعي. ومِن هنا أنّ الموعظة بالجانب الآخر تبرز أهميّة البكاء وذَرْف الدموع للأسباب السابقة. واضافة إلى ذلك أنّ البكاء دليل على التواضع والمعرفة والخُلُق، والنفس التي تفيض بالإنسانية والتي تتعاطف مع الحدث، ويذكر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في دور البكاء: «من علامات الشقاء جمود العين» (1).

وكما يذكر أمير المؤمنين علیه السلام في دور البكاء:

«ما جفّت الدموع إلّا لقسوتْ القلوب، وما قستْ القلوب إلّا لكثرة الذنوب» (2).

الغضب جُنْد إبليس

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«وَوَقِّرِ اللهَ، وَأَحْبِبْ أَحِبَّاءَهُ، وَاحْذَرِ الْغَضَبَ، فَإِنَّهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ مِنْ جُنُودِ إبْلِيسَ وَالسَّلَامُ» (3).

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَىٰ

ص: 239


1- ميزان الحكمة: ج 1، ص 378.
2- ميزان الحكمة: ج 1، ص 378.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 227.

مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) (1).

هذا - الكلام المتقدّم - من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام، وهو من كلام له لأحد أصحابه وهو «الحارث الهمداني»، والمراد به ايضاح عمْق آثار ثورات الغضب الذي مثّله أمير المؤمنين علیه السلام بجند عظيم لإبليس (لعنه الله)، أي أنّ هناك دوراً كبيراً في القرارات التي تؤخذ بسبب الغضب، ومن هنا جاء التحرّز والتنبيه من هيجان الغضب؛ لأنّه يعدّ المناخ الملائم الذي يوسوس فيه الشيطان بقلوب الناس ويشاركهم الرأي، والذي محتواه وظاهره هو مخالفة الخالق.

الاستجابات الفسيولوجيّة المصاحِبة للغضب

إنّ الغضب أحد السلوكيّات الانفعاليّة العقلية التي تحدث من خلال التشبيهات الحادثة في الجهاز «الحوفي»، ولا سيّما الهبوثلامس «الوطأ»، وفي جهته الوحشيّة التي يؤدّي تحفيزه واستثارته إلى ظهور «الغيض، والغضب، والعدوانية ...».

ويرافق ثورات الغضب ما يلي:

1 - ارتفاع حادّ في معدّل ضربات القلب وعدد مرّات التنفس.

2 - سرعة جريان الدم وحجمه.

3 - اتّساع حَدَقَه العين.

4 - زيادة في الحوافز العصبيّة السمبثاوية.

5 - تغيّر في مجرى الدم من خلال عمل الموسّعات والمضيّقات للأوعية الدموية.

6 - زيادة توتّر العضلات من خلال زيادة الحوافز للعضلات الهيكليّة.

7 - زيادة الإفرازات الهرمونية المحفّزة.

ص: 240


1- البقرة: 90.

8 - سرعة العمليّات الأيضيّة.

9 - زيادة عمليّة التعرّق.

وهناك العديد من التغيّرات الفسيولوجيّة الأخرى التي ستكون فيه القرارات والأحكام لا تَتّسِم بالوعي والتفهّم والتأنّي، بل قرارات تكسوها العدوانية والتهجّم، كما لوحظ من خلال الفحص المختبري لعينات مختلفة بأنّ الغضب وعدم الارتياح والانزعاج الدائم يقلِّل من نِسَب إفراز هرمون «الميلاتونين» الذي يُعدّ أحد هرمونات الشباب ونقصانه يؤدّي إلى الوهن والضعف المبكّر والشيخوخة وبالمقابل لوحظ أنّ التأمّل والتفكير والارتياح والرضا النفسي واحد مِن أهمّ أسباب زيادة نِسَب إفراز هرمون الشباب «الميلاتونين».

كما تذكر المصادر العلميّة بأنّ الجذور الحرّة التي تقوم بإعاقة العمل الوظيفي واضطراب عمل الخلايا والأنسجة والأجهزة بسبب تدمير أغشيتها الخارجيّة تُنشّط تلك الجذور في حالات الغضب الشديد، فضلاً عن أنّ التجارب العلميّة أثبتت من خلال التنبيه المستمر إلى مراكز الغضب في الجهة الوحشيّة «للهيبوثلامس» ولفترة تزيد عن أربع وعشرين ساعة تؤدّي إلى اضطرابات كبيرة وواضحة على سلامة الفرد وصحّته، والاستمرارية تؤدّي إلى الموت، ومن هنا كانت موعظة أمير المؤمنين علیه السلام للتحذير والتنبيه والتحرّز من الجانب الصحّي والاجتماعي والسلوكيّات الخلقيّة فضلاً عن الجانب القضائي.

كما أثبتت إحدى الدراسات الحديثة والتي تنطلق من عدم القدرة على فصل التأثيرات النفسية عن التغيّرات والاستجابات الوظيفيّة لأعضاء الجسمم ككل ومنها الغضب الشديد، والذي يصبح سِمَة للإنسان، ممّا يُسبّب إفراز عصارات من عدد من الغدد بشكل أعلى من المستويات الطبيعيّة، والذي يُسبّب سدّ الطريق أمام جهاز المناعة في الجسم وإعاقة معالجه عمله بالتخلّص من التغيرات السيّئة

ص: 241

الحادثة في الجسم والمصاحِبة للغضب، وعلى العكس من ذلك يُسبّب الغضب ضعف بعض الغُدَد من إفراز عصاراتها؛ نتيجة لتقلّصها عند حدوث أزمات نفسية خطيرة، وذلك يفسّر احتمالات تحوّل الخلايا السليمة إلى سرطانيّة في غيبة النشاط الطبيعي لجهاز المناعة؛ ومن هنا جاء التأكيد على لسان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في ذمّ الغضب وآثاره وهو يقول:

«ألا وإنّ الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه؟! فَمَن أَحَسّ بشيء من ذلك فليلصق بالأرض» (1). وكذلك الأئمّة الصادقون صلوات الله عليهم أجمعين بذمّهم الغضب، ومنهم الإمام الصادق علیه السلام يقول: «الغضب مفتاح كل شر» (2).

العمل والصحّة

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«وَالْبُخْلُ عَارٌ، وَالْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ، وَالفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ، وَالْمُقِلُّ (3) غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ، وَالْعَجْزُ آفَةٌ، وَالصَّبْرُ شَجَاعَةٌ، وَالزُّهْدُ ثَرْوَةٌ، وَالوَرَعُ جُنَّةٌ (4)» (5).

تُشير الآية الكريمة الآتية إلى أهميّة العمل، ليس ليجزي الإنسان عليه فقط. ولكن من مضامين الآية أنّ للعمل مردودات اقتصاديّة وصِحية واجتماعية للإنسان ...

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ

ص: 242


1- البحار: 73 / 265 / 15 ص 21/267.
2- الكافي: 3/303/2.
3- المُقِلّ - بضم فكسر وتشديد اللام - : الفقير.
4- الجُنّة - بالضم - : الوقاية.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 240.

وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (1).

وهو - الكلام المتقدّم - من مواعظ مولانا أمير المؤمنين علیه السلام وتحذيره من حبّ الراحة والانقطاع عن العمل، وعدم تشجيع النفس لأداء واجباتها المختلفة من خلال التكاسل والتقاعس فإنّ عدم القيام بالأعمال والأفعال البدنية - مثلاً - سيؤدّي إلى تكيّف وظيفي سيّئ من خلال الضمور للأجهزة والمتّضح في طولها أو حجمها وكتلتها، فضلاً عن تجاويفها والمؤدّي إلى انخفاض كفاءة عملها الوظيفي مِمّا جعل مولانا علیه السلام يصف ذلك العجز والتناقص «بالآفة».

انّ البناء الهندسي للجسم البشري مهيّاً للنشاط البدني والحركة، وعبر القرون تَعَيّن على الإنسان أنْ يكون نشيطاً لأداء واجباته والتكيّف مع البيئة الخارجيّة والحصول على طعامه والبقاء على قيد الحياة، ولوحظ من خلال العديد من الدراسات العلميّة تَميّز الأفراد الخاملين وقليلى الحركة بالبدانة واختلال عدد من الوظائف لأجهزة الجسم، منها: اختلال وظيفة عضلة القلب، ومن إحدى التجارب التي أُجريت على عدد من المتطوّعين الذين التزم أفرادها بالرقود في الفراش لمدّة اسبوعين وأظهرتْ النتائج قصوراً وفقداناً كبيراً في الحالة الصحيّة للجسم.

ومنها: القوّة العضليّة لأغلب عضلات الجسم، وتدهوراً لوظيفة عضلة القلب، فضلاً عن سوء الجانب النفسي، وارتفاع مستوى القلق والتوتر لديهم، ولم يستطيعوا استرداد عافيتهم ومستواهم البدني والصِحّى إلّا بعد ستّه أسابيع من التدريب المستند إلى الأسس العلميّة لرفع قابليّتهم.

و عليه انّ التوقّف عن الحركة وأداء الأعمال يؤثّر بعدّة اتجاهات ومنها تناقص في حجم السائل الدموي وبروتيناته وبروتينات الألياف العضلية وبيوت الطاقة وعددها، ومن الجانب الآخر لا يعني كلّ التناقص هو تناقص حجمي أو كَمّي أو

ص: 243


1- التوبة: 105.

رقمي؛ لِمَا ذكرناه أعلاه، بل يعني ذلك التناقص هو تناقص في كفاءة الأجهزة، إذْ ربّما يصاحب ذلك: العجز وعدم القدرة على أداء الأعمال، والتقاعس في أداء الواجبات؛ إلى زيادة في الأحجام والأجهزة الناتجة عن افراط في المدخلات للطاقة أمام قلّة في صَرْفها مِمّا يؤدّي إلى طبقة شحمية تحت الجلد وفي الأنسجة والخلايا الدهنية وحول الأجهزة، مسبّبة ما يُعرف «بالسمنة»، ومؤثّرة - بالتالي - في ضَعْف العمل الحركي والأفعال الحيويّة للأجهزة.

وعليه أنّ الموعظة لا تُحيط بفئة عمرية معيّنة أوّلاً، كما أنّ الأفعال الحركيّة والاهتمام بممارسة الأعمال والأنشطة هي جزء من بقاء الإنسان وحفاظه على عطائه الوظيفي، وتطوير تلك الكفاءة الوظيفيّة، ومنع ظهور الاضطرابات الوظيفية التي هي بداية مؤكّدة إلى الإصابات المرضية المختلفة، من خلال ضعف الجهاز المناعي في الإنسان.

ويذكر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في النهي على التكاسل والميول إلى العزلة والراحة إذ يقول: «اول ما عُصي الله تبارك وتعالى بستّ خصال: حبّ الدنيا، وحبّ الرئاسة، وحبّ الطعام، وحبّ النساء، وحبّ النوم، وحبّ الراحة» (1).

أهمّ الأعضاء لعمل الأجهزة

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«أعْجَبُوا لِهَذَا الْإِنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْمٍ (2)، وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ (3)، وَيَسْمَعُ بِعَظْمٍ (4)،

ص: 244


1- ميزان الحكمة: ج 4، ص 1359.
2- يَنْظُرُ بشحْمٍ: يريد بالشحم، شَحْم الحدقة.
3- يتَكلّم بلحم: يريد باللحم، اللسان.
4- يسْمَع بعظْم: يريد عظام الأذن يضربها الهواء فتقرع عصب الصماخ فيكون السماع.

وَيَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ!» (1).

والكلام المتقدّم هو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام، أثناء مخاطبته للعامة والتي يوضّح فيها قدرة الخالق، واعجازه في خلقة الإنسان، وبيان بعض الحواسّ الخاصّة «البصر - السمع»، فضلاً عن مهارة النطق، وأحد أعضاء الجهاز التنفّسي والتي يصف تراكيبها ومكوّناتها وأسباب عملها، وقد أشار بها إلى مواقع هي أصل الوظيفة وسببها.

حاسة البصر:

من الناحية التشريحية فإنّ العين مقسّمة من الأمام إلى الخلف إلى ما يلي:

1 - القَرَنية.

2 - البُؤبؤ.

3 - القُزَحية.

4 - العَدَسَة.

5 - السائل الزجاجي.

6 - الشَبِيَّة.

7 - العَصَب البَصَرِي.

هذه التراكيب أكثرها مكوّن من أنسجة خاصة، لكن من الناحية الخلوية، فإنّ كلّ خلايا مكوّنة من نسبة من الدهون والبروتينات والكاربوهيدرات، وعليه أنّ الأعصاب الموصِلة إلى العين - ومنها العصب البصري - تكون فيها نسبة الدهون كبيرة.

ص: 245


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 244.

النطق:

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (1).

(وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (2).

(وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (3).

وقال أمير المؤمنين علیه السلام: «ويتكلّم بلحم».

انّ اللغة والكلمات هي ناشئة من المدركات العقلية والصور في الدماغ، فهي ناتجة عن منبّهات ولا بدّ للدماغ من تَميِيز معنى الكلمات والارتباط بين مختلفاتها؛ لتكوين الجُمَل التي تنقلها الحِبَال الصوتية في الحنجرة واللسان والشفتين عند النطق وعليه يعدّ الكلام إحدى المهارات الحركيّة والإراديّة وتعتمد على الميكانزمات العصبيّة والمستقبلة. ولكن يبقى الأساس في صدور الأحرف وترتيب الكلمة هو من خلال مرور هواء الزفير على تلك الطيّات اللحمية الصغيرة التي توجد في داخل تجاويف الحنجرة، من خلال قابليّة الشدّ والانبساط فيها وكذلك تؤدّي عضلة اللسان هي الأخرى العامل المهمّ في إظهار الأحرف بصورة سليمة من خلال حركته لأعلى الفم والأمام والأسفل والجانب أي أنّ سلامة عضلات الحنجرة والحِبال الصوتية «وعضلة اللسان»، التي من خلال حركتها المتسبّبة بسبب خصائصها؛ كونها متكوّنة من ألياف بروتينية لها القدرة على التقلّص والانبساط، وبالتالي فعّاليّة الحركة كما في اللسان «التقريب - والأبعاد» وبالتالي تكون أحد أهمّ أسباب سلامة النطق «عضلة اللسان - الجبال الصوتية»، التي حدّدها أمير المؤمنين علیه السلام «بالتكلّم، والنطق باللحم».

ص: 246


1- النحل: 103.
2- مریم: 50.
3- الشعراء: 84.

حاسة السمع:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «يسمع بعظم»، هناك آليّة تستقبل بها الأُذن الموجات الصوتية، وتميّز تردّداتها، ومِن ثمَّ تنقل المعلومات السمعيّة إلى الجهاز العصبي والمركزي، حيث تحلّ معاني رموزها، وانّ تركيب الأُذن الخارجيّة، والوسطى، والداخلية هي تراكيب معقّدة، لكلٍّ منها دور في عمليّة السمع، وهناك ما يُسمّى بالغشاء الطبلي، والشائع «بطبلة الأذن» ومجموعة العُظيمات التي تُوصِل الصوت خلال الأُذن الوسطى إلى القوقعة، التي تُمثّل الأذن الداخلية.

ويمكن للصوت أنْ ينتقل عند غياب مجموعة العظيمات والطبلة مباشرة خلال الهواء إلى الأذن الوسطى، ويمكنه دخول القوقعة خلال النافذة البيضوية، ولكن حساسية السمع تكون عند ذاك (15 - 25 دسبيل) - الدسبيل وحدة قياس عالمية - وهذا الانتقال أقلّ من انتقاله بالعظيمات، ومسبّباً نقصاناً في مستوى الصوت، مِن صوت معتدل إلى صوت يصعب إدراكه.

وكما ينقسم الصَمَم إلى نوعين:

النوع الأوّل:

هو الصمم الذي يتولّد عن ضعف «القوقعة»، أو العصب السمعي.

والثاني

هو الذي يتولّد عن ضَعف آليّات انتقال الصوت إلى القوقعة، وعليه إذا دُمِّرتْ عظام القوقعة أو العصب السمعي أو مجموعة العظيمات مِمّا يُسبّب صعوبة في أدراك الصوت المعتدل يُسبّب صَمَمَاُ دائميّاً. وعليه نلاحظ أهميّة مجموعة العظيمات وعظام القوقعة في عمليّة نقل الصوت والسمع، التي أوجز أمير المؤمنين فيها ببيان أهمّيَّتها في عمليّة السمع عن باقي مكوّنات الجهاز السمعي الذي يتّصف بالتعقيد والقيام بأكثر من عمل ومنها عمليّة التوازن.

ص: 247

الأنف والتنفس

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «ويتنفّس بخرم»، هنا يُشير مولانا أمير المؤمنين على علیه السلام إلى الثقب الذي تبدأ فيه عمليّة التنفس وهو الأنف على الرغم من امكانية التنفّس عن طريق الفم، ولكن يُعدّ الأنف العضو الأوّل والمخصَّص في عمليّة التنفّس بعلاقته مع المحيط الخارجي للجسم وللدور الوظيفي الذي يقوم به من خلال:

1 - تدفئة الهواء الداخل

2 - ترطيب الهواء الداخل.

3 - تصفية الهواء الداخل.

4 - الاحساس والتميّز بقيمة ذلك الهواء الداخل.

ولكن لعلّ المقصود في ذلك أعمق من ذِكْر ذلك الثقب أو الشق الذي وصفه مولانا أمير المؤمنين علیه السلام، إذ هي إشارة إلى أنّ عمليّات التنفس التي لها الأثر الكبير في بقاء الكائن الحي من خلال استخلاص الأوكسجين وطرح ثاني أوكسيد الكاربون وبخار الماء، والتي تمرّ من خلال المراحل التالية:

التهوية الرئوية: دخول وخروج الهواء بين المحيط الخارجي والرئتين انتشار الأوكسجين وثاني أوكسيد الكاربون ومكوّنات الهواء بين الاسناخ الرئوية والدم ونقل الأوكسجين (O2) و (CO2) من سوائل الجسم إلى خلايا الجسم وتنظيم التهوية ووظائف التنفّس الأخرى، إذ انّ تلك العمليّات بأجمعها تبدأ بذلك الثقب الموجود وهو «الأنف»، كما أنّ احتماليّة المراد من خلال الشقّ أو الثقب هو ليس الأنف فقط، بل جميع الثقوب والمسالك التنفسية في جهاز التنفس التي تبدأ بفتحة الأنف والحنجرة والاعصاب والقصبات، والتي تُعدّ امتداداً لذلك الثقب، وانّ أيّ اصابة تحدث لتلك المسالك ستُسبّب اضطراباً أو ايقافاً في عملية التنفّس، وعليه

ص: 248

تُحفظ تلك المسالك بحلقات غضروفيّة تَمنع انسدادها، كما تُحاط بعضلات تُوصَل بأعصاب باراسمبثاوية على المحافظة على تلك الفتحات وتعمل على التوسّع عند الحاجة.

المناهج العلاجيّة والتأهيلية:

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«أَمْشِ بِدَائِكَ مَا مَشَى بِكَ (1) (2)».

تُشير الآية الكريمة الآتية إلى الخطاب لعموم الناس، مؤمن وكافر ومنافق، بأنْ يعملوا وأنّ الله سبحانه وتعالى سيرى ذلك العمل وحقيقته من خير وشرّ، وليس آثاره الآنية، بل المزمنه وفوائده لزمن بعيد كشيوع التقوى واصلاح شؤون المجتمع الإسلامي وامداد الفقراء في معايشهم، كما لا تستثني الآية في الخطاب منه ضرير أو مريض، وعليه انّ للعمل تأثيرات فضلاً عن جوانبها الشرعيّة لها مردوداتها الصحيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والإنسانية.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (3).

هو - الكلام المتقدّم - من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام وفيه يعظ الناس بعدم الاستسلام للعلل والأمراض التي يتعرّضون لها، بل أمرهم بأداء أعمالهم وواجباتهم ونشاطاتهم اليومية بالقدر الذي يستطيعونه بتحمّل ألم ذلك الداء، كما فرض عليهم التوقّف لحظة الشعور بألم تلك الإصابة، ويلاحَظ هناك قراءات علمية خلف هذه الموعظة وهي:

ص: 249


1- امْشِ بدائكَ أي: مادام الداء سهل الاحتمال يمكنك معه العمل في شؤونك فاعمل، فان أعياك فاسترح له.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 253.
3- التوبة: 105.

انّ الركون للأمراض والتوقّف عن ممارسة الأعمال واستسلام الفرد لتلك العلل يُعدّ عاملاً ومناخاً لاستفحال المرض والتعرّض للاضطرابات الجديدة في عمل الأجهزة الجسميّة.

فنلاحظ الأطباء المختصّين في علاج كافّة الأمراض ومنها الباطنيّة والجراحة والكسور ... يقترن علاجهم الدوائي بعلاج بدني تأهيلي وبجميع الإصابات، وبالتالي انّ الدعوة إلى المسير بالداء والتوقّف عند ظهور الآلام يُعدّ أحد الأُسس العلميّة التي يُعتمَد عليها عند صياغة المناهج التأهيلية والعلاجية للمصابين بين الأمراض.

ولو ضربنا مثلاً حول الإصابات المرضية الخطرة - كأمراض القلب - يُخصّصون مع العلاجات الدوائيّة منهجاً بدنيّاً يحتوى على العديد من الحركات المناسبة لهؤلاء المصابين واجبارهم على تنفيذها لحاجة الجسم إليها ولِمَا لها من دور كبير في المحافظة على مستوى اللياقة البدنية، والمحافظة على استمرار عمل الأجهزة الأخرى، فضلاً عن أهمّيّتها للاصابة المرضية «في عضلة القلب» وانّ التوقّف عن الحركة يُسبّب تعرّض الجسم إلى أزمات جديدة، ومنها: «قرحة الفراش - ضمور العضلات - ضعف كفاءة الأجهزة الحيويّة - عدم الرغبة على تناول الغذاء - الإمساك ...» حتّى الذين يخضعون لجميع العمليّات الجراحية والكبرى منها، فإنّ ضمن برنامجهم العلاجي هو منهج تدريبي تأهيلي يعتمد على أداء الحركات البسيطة والسهلة التنفيذ ولتكن السير ببطء.

كما يذكر البروفسور «كاي برونه» من جامعة «أبر لانجن» ورئيس مؤتمر الألم في ألمانيا عام (1998) أنّ القصور في علاج حالات الألم هو أحد أسباب الارتفاع الملحوظ في العقدَين الأخيرين.

وبالتالي يقول «كاي برونه» في دراسة قدّمها إلى المؤتمر مستَخْلَصَة لبحوث

ص: 250

قام بها وتجارب علمية مفادها: أنّ أنجع الحلول ضدّ الألم ولا سيّما ألم الظهر ليس إعطائه راحة الفراش أو الاسراع في تعريضه إلى الأشعة ولا إلى العمليّات الجراحية، بل الاهتمام أوّلاً باعادة حركة موقع الإصابة من خلال إجراء الحركات ولو كانت بسيطة وسهلة، وينطلق من هذه النتيجة بتخفيف الألم من خلال حركة الجزء المصاب، إذ يقول ربّما يُسبّب نقاهة الفراش إلى تخفيف للألم بشكل وجيز ولكن سرعان ما يتحوّل إلى ألم مُزْمِن ويعتقد في ذلك بأنّ الخلايا المصابة تحمل الكروسومات، وبالتالي وجود الألم واستمراره فيها لفترة ربّما يُسجَّل ذلك في ذاكرتها، وبالتالي تصبح أيّ حركة في ذلك العضو تُثير الألم حتّى لو كان قد شُفي منه المصاب. وعليه ينطلق باعتقاده يجب - ومِن اللحظة الأولى في العلاج - ارغام المصاب بحركة الجزء المصاب. ومن هنا كانت موعظه أمير المؤمنين علیه السلام هي الطريقة الأولى في علاج المنطقة المصابة دون الاستسلام لها.

كما أنّ ممارسة الأعمال وأداء الحركات تُؤخّر تغلّب الداء على الجسم، وإذا لم تُشارك الأفعال الحركيّة فى التخلّص من ذلك الداء فإنّها ستشارك في رفع كفاءة الأجهزة غير المصابة.

كما أنّ استعارة أمير المؤمنين علیه السلام النوع الحركة بفعّاليّة المشي، وتُعدّ هذه الفعّاليّة نوعاً من أنواع الرياضات ذات الحركات المتشابهة التي يؤدّيها الإنسان من خلال نقل القدم بالإرادة الواحدة بعد الأخرى، ولكنّ الأهم من ذلك هو النظر إلى النوع المستخدم في تحرير الطاقة في هذه الفعّاليّة التي تمتاز بالعمليّات «الأيضية الهوائية» أي تحرير الطاقة بوجود الأوكسجين، فضلاً عن ثبات في معدّل مرّات وعمق التنفّس أثناء السير وإلى ارتفاع لا يزيد عن (120 - 130ض / د) وإلى استخدام الكلايكوجين كمصدر للطاقة، وعليه لا يحدث دينا أكسيجينياً أى عجزاً بوصول الأوكسجين الذي يُسبّب ارتفاعاً لنسبة حامض اللاكتيك وتراكم الفضلات

ص: 251

وإلى العديد من المتغيّرات التي تُسبّب أعباء على كاهل الأجهزة الوظيفيّة للفرد المصاب، وعليه وقع اختياره على أحد الفعّاليّات التي يمكن أنْ تُمارَس من قِبل جميع المصابين بالأمراض على اختلاف شِدّتها، كما هي تُعدّ من الحركات الفطرية ولا تحتاج إلى تعقيد أو مهارة معيّنة إلى أدائها.

الصحّة والعامل النفسي:

إنّ الموعظة تُشير إلى علاقة بين الصحّة والعامل النفسي والتحذير من الاستسلام والخنوع للأمراض فهو بداية الانهيار النفسي الذي يُعدّ جوّاً مناسباً لاستفحال المرض وشيوع أمراض أخرى، وبالتالي يجب الاهتمام وعدم التوقّف عن النشاطات اليومية حتّى فى ظروف الإصابة المرضية.

الدهر والعمر:

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «لدَّهرُ يُخْلِقُ الْأَبْدَانَ، وَيُجَدِّدُ الأمَالَ، وَيُقَرِّبُ المَنيَّةَ، ويُبَاعِدُ الْأُمْنِيَّةَ (1)، مَنْ ظَفِرَ بِهِ نَصِبَ (2)، ومَنْ فَاتَهُ تَعِبَ» (3).

تُشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى أنّ الله سبحانه هو الخالق، وهو الذي يتوفّى الأنفس فمنهم بعمر متوسّط ومنهم من يتوفّى في سنّ الهَرم، كما يتّضح من الآية المباركة أنّ هناك اختلاف في مراحل النموّ، وأن الشيخوخة تُسبّب ضَعْفاً في أجهزة الجسم ومنها الإدراك والتفكير والانتباه ...

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) (4).

(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ

ص: 252


1- يُبَاعِدُ الأمْنِيَة أي: يجعلها بعيدة صعبة المنال.
2- نَصِبَ - من باب تَعِب - : وهو بمعناه مع مزيد الإعياء.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 274.
4- يس: 68.

شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (1).

هذا - الكلام المتقدّم - من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في موعظة للناس، يوضّح الله فيها أنّ مرور الأيّام يمزّق ويهتك الأبدان التي تُعْجِب أصحابها، والتي تتميّز بالقوّة والصلابة وسرعة الحركة، وبالتالي تزحف الأيّام به إلى الهدم الذي هو نقطة التقاء الإنسان بمفارقة الحياة، كما يُلاحَظ أنّ أمير المؤمنين علیه السلام لم يُحدِّد سنوات محدّدة للدهر الذي يمرّ على الإنسان، وعليه لعلّ المراد به أمران بهذا المعنى هما:

أولاً: إذا كان المقصود به مراحل النموّ التي يبدأ بها الإنسان سريعاً في النضج، فإنّه يبتدأ بانخفاض ذلك النموّ بعد سنّ الرجولة المبكّرة، وعندها تبدأ عمليّات التناقص في كفاءة قابليّات وقدرات وقِوى الإنسان التي تعود إلى ضَعْف كفاءة الأجهزة الحيويّة في الجسم، كما أنّ المقصود بعرى التفكّك يعني ضَعْف الانسجام بين أداء أعمالها وبالتالي يَضعف جزء من القابليّة المناعيّة لمواجهة الأعمال والأحمال والمصاعب والأجواء والبيئة الخارجيّة.

وتشير بعض المصادر إلى أنّ انخفاض كفاءة الإنسان تبتدأ بعد سن (30 - 50) سنة بنسبة بين (10 - 40 %) من قِواها وقابليّتها السابقة.

كما توصّلتْ العديد من الدراسات حول أسباب وأسرار الشيخوخة، إذْ مع بِدْء تخطّى الأربعين عام تبدأ خطوات الانهيار والضعف بشكلٍ جَلِيّ، وأنّ الذين تخطّوا سِنِىّ عمرهم الخمسين أو فوق، يشعرون أنّ كلّ شيء فيهم يتغيّر ويهبط، ويتمرّد على ذلك النظام الذي كان يسري في أجسامهم قبل ذلك، وكأنّما بصمات السنين قد تركتْ آثارها على ظاهرهم وباطنهم، فبشرة الجلد الغضّة الليّنة أصبحت متجعّدة ومتهدّلة، وتحوّلتْ سوداء الشعر إلى بيضاء، وبرزت عروق الأطراف، وضعف البصر وزاغ وانخفضت كفاءة السمع، ونقصت معدّلات الاسقلاب العامّة. ولقد وجد

ص: 253


1- النحل: 70.

العلماء أنّ معدّل هذا التدهور يتراوح بين (5،0، 1،3 %) في كلّ عام. وكمثال، فإنّ القلب يقوم في الدقيقة الواحدة (70 - 80) عمليّة انقباض واسترخاء، وفي اليوم أكثر من مائة ألف انقباض، وفى العام أكثر من (36) مليون انقباض واسترخاء، وفلْنتصوّر ذلك العِبء الذي يقوم به على مَرّ السنين، أنّ كفاءته ستنخفض حتماً، وبالتالي سينخفض معدّل ورود الدم إلى الأنسجة الأخرى، ومنها الكلية التي تفرز مادّة الرينين؛ لتزيد ضغط الدم في محاولة منها لرفع معدّل ورود الدم إليها، وهكذا يدخل الجسم في حلقة مغلقة تؤدّي لإصابة الإنسان بارتفاع الضغط عندما يتقدّم في السن.

انّ هبوط كفاءة أيّ عضو هو انعكاس لهبوط كفاءة الوحدات التي تكوّنه والوحدات الحيويّة الوظيفيّة في أيّ عضو هي الخلايا، كما أنّ واحد من أشكال الشيخوخة الواضحة التي توصّل إليها العلماء في دراساتهم أنّ الخلايا لا تستطيع أنْ تتخلّص تماماً من جميع النفايات وجميع بقايا التفاعلات التي تجري بداخلها، فتتجمّع تلك النفايات على شكل جزيئات، قد تكون نشيطة أحياناً فتتّحد بوحدات الخلية الحيويّة كمصانع الخلية «الشبكة السيتوبلازمية» ... ويؤدّي هذا الاتّحاد إلى نقص فعّاليّة هذه الوحدات وبالتالي فعّاليّة الخلية ككل، وتسير هذه العلميّة ببطء شديد فلا تظهر آثارها إلّا على مدى سنوات طويلة ... وهكذا يدخل الجسم في مرحلة الضعف ببطء وهي تبيّن لنا حقيقة علمية ثابتة، وسُنّة حيويّة تقوم عليها كلّ عمليّات الكائنات الحيّة على الاطلاق. أمّا بالنسبة للخلايا العصبيّة والعضليّة فإنّها لا تتجدّد، وكلّ خلية تموت يفقدها الجسم ويشغل النسيج الليفي مكانها. وإذا غُصْنًا مع المجهر الالكتروني إلى داخل الخلايا الهرمة، فإنّه سيرينا ترسّبات أُطلق عليها بعض العلماء اسم أصباغ الشيخوخة، وهي مواد كيميائية غربية تتجمّع في خلايا المخ والعضلات وتكسبها لوناً خاصّاً، وهي عبارة عن بروتينات وأشباه بروتينات

ص: 254

ودهون متأكسدة، هذه المواد تتشابك أحياناً لتشكّل شبكة على مرّ الأيّام وكأنّها خيوط العنكبوت التي تكبّل الخلية وتسير بها إلى النهاية التي لا مفرّ منها أَلا وهي الموت، ومن العلامات التي تُدلّل على تأثيرات التقدّم بالعمر ما يلي:

1 - يذبل الجلد، ولا سيّما جلد الوجه والرقبة والأطراف، كما يصبح جافّاً ومتجعِّداً وقليل المطّاطيّة.

2 - تغيّر لون الشعر إلى رمادي، ثمَّ يَشيب.

3 - يقلّ انتصاب القامة؛ لانحناء العمود الفقري التدريجي.

4 - تبدّل الحركات المعبّرة في الوجه واليدين، وتُصبح ثقيلة بل أقل مهارة.

5 - ضعف في جميع الحواس «البصر - السمع - اللمس - الشم - والذوق».

6 - ضعف في قابليّة وظائف الرِئَة، إذْ تَقلّ السِعَات ومطّاطيّة الرئتين

7 - كما تتضاءل مطّاطيّة الأوعية الدموية وعضلة القلب، وتتراكم في جدرانها الرواسب الصلبة.

8 - تضعف حركة الأمعاء ويضطرب الهضم.

9 - تنعدم مزاولة العمل الجنسي.

10 - يعتري الجسم - بشكل عام - ضعف القوّة.

وبالتالي يؤدّي هذا الضعف إلى ظهور العلل والأمراض وضعف المقاومة، ويقرّب المنايا ويزيد من سرعة زَحْف الناس باتّجاه مفارقتهم للحياة.

ثانياً: كما أنّ الدهر لم يُحدّد بمرحلة عمرية، ولكن لغويّاً: يعني الزمن الطويل الذي يعيشه الإنسان وعليه مع ما تقدّم مِن تأثيرات للتغيّرات الانمائيّة الحادثة ربّما يكون المقصود بها الأعمال التي يقوم بها الإنسان هي الأخرى ضمن ذلك الزمن الطويل فهي تزيد من إضعاف قِوى الفرد وقدرته، وبالتالي اسراع المنية نحوه، كما قال الإمام الصادق علیه السلام: «يعيش الناس بإحسانهم أكثر ممّا يعيشون

ص: 255

بأعمارهم، ويموتون بذنوبهم أكثر ممّا يموتون بآجالهم» (1).

وبالتالي الصفات غير الحسنة - والتصرّفات البعيدة عن السلوك المحمود، والإفراط في الغِيْبَة والنميمة والعدوانية والإسراف في تناول الغذاء وغيرها من العادات السيّئة التي لا تبعث القناعة والرضا والاستقرار النفسي والبدني والذهني - لها أثرها على عمل وظائف الأجهزة التي تصبح بمرور الزمن سِمَة، وليست حالة مؤدّية إلى ظهور أعراض الأمراض التي يطلق عليها أمراض العصر ومنها السكّر والضغط وعجز القلب وغيرها من الأمراض التي تُقرّب المنية والآجال لهم.

كما توضّح الموعظة جانباً مهمّاً وهو عدم التطرّق إلى ضعف أو اضطراب في

القِوى العقلية كالإدراك والوعي والانتباه والتفكر، بل والابداع الفكري والعلمي، وعليه أنّ مهاجمة الشيخوخة للأبدان واضعافها ربّما لا تعمل عملها في تلك القِوى العقلية، إذ هناك شواهد لا تُعدّ ولا تُحصى ممّن هم في سنّ الشيخوخة ومع ضعف قابليتهم وقدراتهم البدنية، ولكن كانوا مبدعين في أعمالهم وأفكارهم وقدراتهم الادارية والعلميّة، ومن هنا لم يتطرّق مولانا أمير المؤمنين علیه السلام لهذا الجانب.

العلم والأخلاق

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«أَوْضَعُ الْعِلْمِ (2) مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ (3)، وَأَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ (4)» (5).

تُشير الآية المباركة التالية إلى المؤمنين الذين تزينوا بالعلم بالحق وبكلمات

ص: 256


1- ميزان الحكمة ج 1 ص 30.
2- أَوْضَع العلمِ أي: أدناه.
3- ما وقف على اللسان أي: لم يظهر أثره في الأخلاق والأعمال.
4- أركان البدن: أعضاؤه الرئيسة كالقلب والمخ.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 282.

السماء والتي تلبست بأبدانهم وسلوكهم وقراراتهم، بشكل أصبحت معياراً لأعمالهم، فوصفتْهم الآية بأنّهم يخرّون إلى الأذقان عند سماع كلمات الله تعالى، كما أعطتْ وَصْفاً ظاهريّاً لحركاتهم بتذلّلهم وتواضعهم لخشية الله، والتي تُعدّ استجابة إلى عمليّاتهم العقلية ومستوى إدراكهم.

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) (1).

(وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (2).

ولعلّ المراد هنا له عدّة اتجاهات أبرزها:

1 - حثّ الناس على التعلّم والعمل به وِفق التعاليم الإسلامية.

2 - لا خير في علم يحمله صاحبه غير ذي نفع لنشر الدين وخدمة المجتمع.

3 - العلم والأخلاق مؤتمنان لدى العالِم، يجب مزجهما ونفع المجتمع بهما.

وعليه أنّ كثيراً من الناس مَن يهدر الزمن والجهد في تعلّم علم لا يُتاب به في الدنيا والآخرة من الله سبحانه وتعالى، وربّما لا يثاب من قبل الناس.

كما يحذّر أمير المؤمنين علیه السلام حَمَلَه العلم - وبمختلف أختصاصاته - بأهمية ملازمة الأخلاق الحسنة الحميدة لحمّال العلم؛ ليكونوا مياه زاكية تُسقى بها طلبة العلم ليتوارثوا العلم والأخلاق، ولِمَا له من مردوادت جَمّة بالجانب العلمي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي ...

ومِن هنا نبدأ بتفسير ما أراده أمير المؤمنين علیه السلام بموعظته التي تدلّل على علاقة وارتباط العِلْم بسلوك وإيما آت وحركات أصحابه.

إنّ العلماء والمختصّين يعدّون البحث في مشاكل: «الوعي، والسلوك، والتفكير،

ص: 257


1- الاسراء: 107.
2- الفرقان: 63.

والانفعالات والذاكرة». وهي من المسائل البحثيّة المعقّدة؛ لِمَا يشوبها من غموض لقصر الاكتشافات، ولعدم معرفة الآليّات العصبيّة لها، ولكن أيّ فكرة معيّنة وتعلّم جديد من دون شكّ يشمل اشارات متزامنة إلى أغلب أقسام قشرة الدماغ، والمهاد والجهاز الحوفي والوطاء، والتكوين الشبكى لجذع الدماغ.

وبما أنّ الباحة الترابطيّة أمام الجبهيّة مسؤولة عن القيام بالعمليّات الفكرية الطويلة، فضلاً عن تنبيه الحركات أي التحكّم بالأنماط الحركيّة والغير حركيّة، ومِن هنا يبتدأ سرّ العلاقة بين التعلّم والمعرفة والسلوك الإنساني «الأخلاق»، وبما أنّ هذه الباحة هي الأخرى ذات علاقة بالباحة الترابطيّة الحوفيّة ذات القدرة على جمْع المعلومات من باحات الدماغ المنتشرة - ومنها باحة الترابط أمام الجبهية - واستعمالها في أنماط فكرية عميقة؛ لتحقيق أهداف والتي تضمّ الأنشطة الحركيّة والفكرية، وهو الآخر أوجد العلاقة بين التعلّم وبين طريقة وأُسلوب الفرد في التصرّف.

وعليه انّ تحكّم الجهاز العصبي بالسلوك والانفعالات هي أحد وظائفه والتي تلعب الدور الكبير في الانفعالات المختلفة التي ربّما تكون خارج نطاق العُرف والتقاليد والدين وما يقرّه الشارع أو بالعكس، إذْ الكراهية والحِقد والقساوة والاضطهاد والحيلة واستغلال مشاعر الآخرين وتوظيف قدراتهم بطريقة غير عادله ربّما تصدر من خلال أحد حَمَلَه العِلم والعكس صحيح.

فالمراد: انّ العلم يمكن حَمْله من قِبل الجميع ولكن يختلف في تأثيراته بالمجتمع تبعاً لسلوك حامليه وغاية تعلّمه من قِبلهم، فمنهم من نضج وترعرع في محاريب الإيمان من أجل غاية إنسانيّة وواضب على التعلّم، ومنهم لمصلحة شخصيّة وردت لديه بواعث التعلّم، والأوّل سوف يُظهر تأثيرات تلك العلوم في انفعالاته أمام الحقّ والباطل وأمام مواقف الظلم، ويختلف سلوكه في مواقف العدل

ص: 258

إذْ منهم مَن تُملأ عيناه دموعاً لكلمة يذكر فيها موقفاً حزيناً، والآخرون لديهم القدرة على الظلم وتجرّع الفقراء للمآسي والأحزان ويتلذّذون بحرمان وإيذاء البشر، رغم أنّهم يمتلكون العلم ولكن كما يُشير أمير المؤمنين علیه السلام ما أوضع ذلك العلم الذي يُسخّر لخراب وتفتيت المجتمعات وما أرفع العلوم التي يسعى أصحابها إلى اشاعتْ الأُلفة والمودّة والرحمة بين أبناء الإنسانية.

كما يقول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في العلم والتعلّم هي المواصلة والأساس للعمل بقوله: «العلم أمام العمل والعمل يتبعه» (1).

وعليه انّ الباحات العاملة في العِلم والتفكّر لها علاقة بالتحكّم بالحركة والنشاط العضلي، وعليه يبقى ذلك الإنسان مُخيّراً بالاختيار في انتقاء ما يشرب من تربية موبوءة بأفكار الرذيلة، أو ينهل من ينابيع الأخلاق لتنقيتها وتزكيتها.

وقال الله تعالى في محكم كتابه العزيز:

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (2).

تَلِجُ المنية من جهة الاطمئنان:

قيل لأمير المؤمنين علیه السلام:

«كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟

فقال: كَيْفَ يَكُونُ مَنْ يَفْنَى بِبِقَائِهِ (3)، وَيَسْقَمُ بِصِحَّتِهِ (4)، وَيُؤْتَى مِنْ

ص: 259


1- أمالي الطوسي: 1069/488.
2- الشمس: 6 - 10.
3- يفنى ببقائه: كلما طال عمره - وهو البقاء - تقدم إلى الفناء.
4- يَسْقَمُ بصحّته أي: كلما مدّت عليه الصحة تقرب من مرض الهَرَم، وسَقِم - كفرح - : مَرِض.

مَأْمَنِهِ (1)(2).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى ان الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء على الرغم مما يعتقد به الإنسان بان تلك الحصون أو الأساليب تقيه وتدرء عنه عذاب الله تعالى فإنّ الله يأخذهم من حيث لا يشعرون، فمنهم من يأخذه بالرعب والخوف على الرغم من عدتهم وعددهم.

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (3).

(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (4).

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في أحد مواعظه للعامة والتي يُطمْيِنُ بها النفوس المهووسة والقَلِقَة على دُنياها، ويُحاور مشاعر الناس، ويضع الدلائل والقناعة بين أيديهم من خلال دور الإنسان في بناء مجتمع هو أسمى من التفكير والخضوع للعلل والأمراض النفسية، التي تتّصف في حبّ الحياة وطول الأمل والتضحية بالغالي والنفيس من أجل البقاء، لا سيّما النهاية واحدة ومعروفة السبيل، وعليه لعلّ المراد أنّ أسرع مراحل النموّ والنضج بعد مرحلة الولادة، ولكنّ هذا التسارع في النموّ والنضج يقابله تسارع نحو الأجل المحدّد، إذ تنخفض مستويات النموّ مع تقدّم العمر ويبتدأ الضعف يدبّ إلى كفاءة الأفراد والتي تتّضح

ص: 260


1- يأتيه الموت من مأمنه أي: الجهة التي يأمن إتيانه منها، فإن أسبابه كامنة في نفس البدن.
2- نهج البلاغة: تعليق محمد عبده ج 4، ص 27.
3- الحشر: 2.
4- الأنعام: 44.

من خلال ظهور عدم الانسجام بين أجهزة الجسم، وكذلك عدم ملاحظة تحرير مستويات الطاقة بمستوى الأعمال المنجزة، فضلاً عن ضَعْف في المهارات السابقة ومستوى القوّة، واضطرابات في عمل الأجهزة الوظيفيّة.

وبالتالي أنّ النضج في مرحلته ما هو إلّا دليل لقرب زمن استهلاك تلك الأجهزة الوظيفيّة.

ويقول أمير المؤمنين علیه السلام: «ما انقضتْ ساعة مِن دهرك إلّا بقطعة من عمرك» (1).

غير أنّ الأهمّ مِن ذلك يوضّح أمير المؤمنين علیه السلام حقيقة مفادها أنّ تلك الأمراض العارضه والمزمنه والتى يُعانى منها المصابون كثيراً ويعاودون فيها الأطبّاء من أجل التخلّص منها والتي تكون بمثابه خطر يهدّد حياتهم ويقرّب آجالهم بما يتصوّرونه هؤلاء يُفصح أمير المؤمنين علیه السلام عليكم بأنْ ترموا ذلك الظنّ والهمّ والتفكير والقلق؛ كون حقيقة الموت غير مدركة بالأمراض الطبيعيّة أو من أماكن العلل المشخّصه، بل مِن أماكن الاطمئنان، ويعني ذلك أنّ كثيراً من المصابين بالأمراض الخطرة والمزمنه يتطلّب المدارات المستمرّة لهم والعلاجات، كما أنّ أمراض الجلطة الدماغيّة أو القلبية أو السرطان يكون سبب وفاتهم مثلاً عجز الكلى أو فقر الدم المفاجيء، أي من الأجهزة، لم يتّضح عليها الاضطراب أو ظهور الألم منها.

والمراد هنا من الإنسان أنْ لا يركن ويخضع للأمراض ويجعل همّه وجُلّ تفكيره بذلك المرض والتخلّص منه، والذي يعتقد بسببه أنّه سيفارق الحياة بسبب عدم السيطرة عليه واستفحاله؛ إذ كلّ ذلك - فضلاً عمّا يرفقه من همًّ وقلق - هو مناخ لاستفحال تلك الأمراض، بل لظهور علل جديدة؛ لِمَا للعامل النفسي من ن آثار

ص: 261


1- غرر الحكم: 3874، 9608.

فسيولوجيّة على أجهزة الجسم ووظائفها.

وعليه عدم الاعتقاد - مهما كانت خطورة المرض - بأنّها نهاية المطاف لحياته، وعليه يجب أنْ لا تتوقّف اهتماماته الاجتماعيّة والإنسانية، وعليه ممارسة عمله إنْ أمكن.

كما يوجد قول للأمام الصادق علیه السلام: «انّ الناس لا يموتون بآجالهم بل بأعمالهم» (1).

الايقاع الحيوي

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«تَوَقَّوا الْبَرْدَ (2) فِي أَوَّلِهِ، وَتَلَقَّوْهُ (3) فِي آخِرِهِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ فِي الْأَبْدَانِ كَفِعْلِهِ فِي الْأَشْجَارِ، أَوَّلُهُ يُحْرِقُ وَآخِرُهُ يُورقُ (4)» (5).

تشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى أحد الظواهر الكونية اليومية والتي لها الأثر على البيئة وعلى النظام البايولوجى للإنسان، إذ انّ حركة الأجرام السماوية فى مسارات محدّدة ودوران الأرض حول نفسها يؤدّي إلى ظاهرة الليل والنهار، كما تصف الآية أنّ الله تعالى يدفع سحاباً متفرّقاً ثمَّ يجمعه ويجعله متراكما ثمَّ يُنزل المطر إلى الأرض، كما يُنزل البَرَد وهو يصيب به مَن يشاء مِن زرع أو مواشي أو مِن الناس ويصرفه عمّا يشاء، وربّما أحد مضامين الآية تُريد أنْ تشير إلى وجود مردودات ايجابية وسلبية لتلك الظواهر، ولا بدّ من توظيفها من قبل الإنسان

ص: 262


1- ميزان الحكمة ج 1، ص 30.
2- تَوَقّوا البرد أي: احفظوا أنفسكم من أذاه.
3- تَلَقّوه: استقبلوه.
4- آخِرُه يُورِق: لأن البرد في آخره يمس الأبدان بعد تعودها عليه، فيكون عليها أخف.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 304.

والاستفادة منها.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) (1).

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (2).

هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام يعظ به الناس بتأثيرات المناخ - باختلاف الفصول - على النضج والنمو لأجهزة الجسم، وقد مثّله بأنّ بداية الأجواء الباردة - وهي في فصل الخريف وهو فصل الاستعداد لفصل الشتاء - تكون تأثيراته على أوراق النباتات «بالحرق» وهي تُيَبّسها وتُساقِطها عن الأشجار، ويلاحظ في هذه الفترة لا يوجد أيّ نموّ في النباتات.

وأمرهم بالخروج من منازلهم بتلقّي آخر البرد وهو بداية فصل الربيع، فانّه يُورِق أي تبدأ النباتات تصطبغ بمظاهر الخُضرة لتفتح أوراقها وأورادها ونموّ أعضائها، وهنا إشارة من مولانا أمير المؤمنين علیه السلام حول كيفيّة التدرّج لمواجهة الاختلافات الحادثة في البيئة ومنها تغيّر درجات الحرارة المرتفعة والمنخفضه والرطوبة، بشكل يضمن تكيّف الأجهزة الوظيفيّة معها دون الحاق الأذى بجسم الإنسان، واحتماليّة المراد من ذلك ما يلي:

التدرّج في مواجهة البيئة الخارجيّة

أوّلاً: انّ تكيّف الإنسان لفصل طويل كالصيف الذي يمتاز بارتفاع درجات الحرارة مسبيّاً تكيّفاً جسميّاً مع تلك الأجواء الحارّة والرطوبة العالية، ومن تلك التغيّرات زيادة التنبيهات القادمة من الدماغ لمناطق المحافظة على درجات

ص: 263


1- النور: 43.
2- الأنبياء: 33.

الحرارة وتوازنها داخل الجسم عند درجة (36،5 - 37،5)، وهذا يتطلّب آليّة ليست بسهلة من انسجام لمجموعة من الأجهزة للدفاع عن تلك الزيادة ومنها زيادة معدّل ضربات القلب وحجم الدم المدفوع وسرعة وحجم الدم وتوسّع في الأوعية الشعرية بسبب الايعازات القادمة للعضلات، وتفتّح لأوعية شعرية جديدة في الجلد مع تغيّرات في مجرى الدم إلى الجلد للتخلّص من الحرارة المتولّدة في مركز الجسم وطرحها خارج الجسم، فضلاً عن عمليّات التبخير والتعرّق وزيادة معدّل التنفّس وطرح بخار الماء مع الزفير، وهذا يحدث تحت تأثيرات عصبيّة وهرمونية موسّعة ومضيّقة للوعاء الدموي، فضلاً عن تأثيرات محفِّزة ومثبّطة لأداء هذه العلميّة، وهذه الظروف تسبّب آثار التراخى والكسل ممّا يسبب فقدان كبير للسوائل والأملاح المعدنية، فضلاً عمّا تسبّبه رطوبة الصيف من زيادة في نسبة بخار الماء في الهواء والذي له تأثيراته على مستوى الأوكسجين المتنفَّس من قِبل الجسم، والذي يعكس آثاراً وتغيّرات لا مجال لذكرها، كما يطرأ على الأجهزة السابقة وغيرها من تغيّرات معاكسة في حالات التعرّض لدرجات الحرارة المنخفضه وجب عليه الاهتمام الكبير في التدرّج بذلك التغيّر والتهيئة لتلك الأجهزة وإعدادها وليس بشكل مفاجيء، فإنّه سوف يسبّب اضطرابات في عمل الأجهزة.

وهناك أمثلة تشابه ما ذكره مولانا أمير المؤمنين علیه السلام: انّ عمليّة الصعود إلى المرتفعات العالية أو الغَوص في الأعماق إذا تمّ بصورة سريعة وغير متدرّجة سوف يسبّب عواقب وخيمة على الإنسان، ربّما تكلّفه حياته كما شُوهدتْ حالات كثيرة لأناس في أيّام الصيف ذات الأجواء الحارّة يقوم برمي المياه الباردة على راسة أو جسده ممّا سبّب له نكسات صحية كلّفتْ البعض حياتهم، والبعض الآخر سبّبت له أمراضاً رئويّة حادّة وغيرها من الإصابات المرضيّة.

وعليه انّ الانتقال من فصل الصيف الحار إلى فصل الخريف الذي تحدث

ص: 264

خلال أيّامه تغيّرات وموجات من البرد تكون ذات تأثيرات سلبية ليست على الناحية الصحية فقط، التي ربّما تسبّب بعض الأمراض الخطرة على مستوى كفاءة الأجهزة الوظيفيّة، إذ أُثبتت من خلال التجارب البحثيّة بأنّ مستوى نضج الأجهزة ومستوى التغيّرات الحادثة فيها فضلاً عن تطوّر الصفات البدنية «كالقوة - السرعة - المطاولة» كانت في فصل الربيع هي أفضل من فصلي الخريف والشتاء.

وربّما يعود ذلك إلى انخفاض درجة حرارة المحيط الذي يتطلّب إفراز هرمون الثيروكسين لزيادة الفعاليّات الأيضيّة في الجسم؛ من أجل انتاج الحرارة لمعادله البرودة الخارجيّة، وعليه سيكون ممارسة الأنشطة العنيفة مع ما تحتاجه من سعرات حرارية لانجاز تلك الأنشطة مع ما يحتاجه الجسم في الأجواء الباردة سيكون مضاعفة الأعباء على الأجهزة، وبالتالي سيكون الأيض الهدمي هو أكبر من كميّة الأيض البنائي أو مساوياً له، وبالتالي لا يحدث تطوّراً كبيراً وواضحاً في الأوقات الباردة ممّا هو عليه في الأوقات المعتدلة كالربيع والصيف.

وما تمّ ذكره هو مختصر لتلك الآثار التي تسبّبها التغيير في المناخ ومنها درجات الحرارة، وممّا تسبّبه من الاستجابة ذات الأثر الكبير على أجهزة الجسم وانّ ما تمّ ذكره هو من دراسات متعدّدة في هذا المجال مِن قِبل عدد من علماء الفسيولوجي والتي لم تُثِر انتباههم إلّا في الآونة الأخيرة، في حين أوضح أبعادها السلبيّة وكيفيّة معالجتها أميرُ المؤمنين علیه السلام من خلال موعظته من قَبل مئات السنين.

آثار الصيام والزكاة

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَالْحَجُّ جِهَادُ كُلِّ ضَعِيفٍ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ

ص: 265

الْبَدَنِ الصِّيَامُ، وَجِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ (1)» (2).

تشير الآية الكريمة التالية إلى فرض الصيام على المسلمين وعلى أُمَم سابقة، والصيام: هو الكفّ عن الفعل ... لِمَنْ أراد الوصول إلى عالم الطهارة والرفعة والكمال يجب أنْ يكفّ نفسه عن لذائذ الجسم وواحدة من هذه الكمالات والرفعة هي المردودات الصحية للجسم والاجتماعيّة والاقتصاديّة والعلميّة ...

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (3).

و الكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام حول أهميّة ودور الصيام وتأثيراته على البدن، ابتداءً من أنّ الصيام هو أيّام معدودات كما ذكرها الله سبحانه وتعالى، وبالتالى أنّ لتلك الأيّام التي تقع بين (29 - 30) يوماً تأثيرات تختلف فيما لو زاد العدد أو نقص، وربّما يكون احتمال ذلك أنّ الله فرض عقوبات في القرآن الكريم بالصيام تصل إلى (60 يوماً)، وعليه أنّ الزيادة تعمل عملها بايذاء الجسم وربّما تُرهقه وتُتْعبه جزاءً لِمَا اقترفه مِن ذنب.

وعليه أنّ تلك الأيام لا بدّ أنّ تكون ذات معنى ومغزى علمي؛ لِمَا لها من مردودات وظيفية على الجسم، وبالجانب الآخر نجد الموعظة تتحدّث عن أحد فروع الدين الإسلامي وهي الزكاة والذي يعني تطهير الأموال: لِمَا لها من حقّ فيه للسائل والمحروم ... وبالتأكيد أنّ لفلسفة الزكاة أبعاد جمّة، أهمها:

1 - حفظ المجتمع من الطبقيّة والانهيار.

2 - نشر العدالة بين أبناء الخلق الواحد.

3 - ملء الأجواف الجائعة والمعرّضة للأمراض والهلاك.

ص: 266


1- حُسْنُ التَّبَعّل: إطاعة الزوج.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 307.
3- البقرة: 183.

كما يذكر أمير المؤمنين علیه السلام في أهميّة واحد من أهمّ أصول الدين الإسلامي وعلّته إذ يقول:

«إنّ الله فرض على أغنياء الناس في أموالهم قَدَرَ الذي يسع فقراءهم، فإن ضاع الفقير أو أُجهد أو عُري، فبما يمنع الغني، وانّ الله عزّ وجل محاسِب الأغنياء في ذلك يوم القيامة، معذبهم عذاباً اليماً» (1).

وغيرها من الأسباب ... ولعلّ ذلك المثل الذي وظّفه أمير المؤمنين علیه السلام يحمل المعاني العلميّة بين الزكاة والصيام وتأثيراتها الكبيرة على جسم الإنسان، إذ الصيام يجعل ذلك الجهاز البيولوجي في حالة من الاستثارة لمعالجة ما ينقص و استغلال مواطن الخزين الفائض بشكل منسجم بين أجهزته المختلفة وبتعاون مثمِر لا يحدث في باقي الأيّام، ممّا يحقّق العدالة في الحصص للمواد الغذائية المستهلكة بشكل عادل دون التأكيد لجهة دون أخرى، كما في أيّام الافطار لكثرة التناول فى أىّ وقت.

فضلاً أنّ الصيام ولمدّة (30 يوماً) تجعل وتيرة العمل الوظيفي لدى أجهزة الجسم منتظمة إلى حدّ كبير للقيام بأعمالها الخاصّة وأعمالها المرتبطة بالأجهزة الاخرى من خلال ما أثبتَته البحوث العلميّة الحديثة، التي قام بها الكثير من الأطبّاء والعلماء والتي كانوا يعتقدون أنّ الصيام ما هو إلّا عمليّة إرادية تَتَّسِم بالانقطاع عن الأكل والشرب لأيّام وساعات محدودة لا غير، وذلك ثبت عكسه علميّاً، ممّا يتكفّل به الصوم من رفع الكفاءة الوظيفيّة للجسم وأجهزته والوقاية من الأمراض وما يقدّمه من علاج لكثير من الإصابات والأمراض الخطيرة والتي لا حصر لها، ولكن سوف نتطرّق بإيجاز لتلك المهام.

انّ الإنسان في أيّ نشاط داخلي أو خارجي يحتاج إلى تحرير وصرف الطاقة

ص: 267


1- ميزان الحكمة: ج 4، ص 1537.

على تلك الفعاليّات التي يقوم بها، والتي تتّسم بالإنسجام تقريباً معها، والمراد هنا أنّ تلك الطاقة التي يتمّ استخدامها هي سكّر الكلوكوز الذي يمكن انتاجه من المواد الغذائية التي يتناولها الإنسان، وعليه في حالة الصيام يتمّ استنفاذ ما هو موجود في الدم وبالتالي يتمّ انتاجه والحصول عليه من الخزين الموجود في الكبد والعضلات «الكلايكوجين» والذي يحوّل إلى سكّر الكلوكوز، وفي حالة استنفاذه يمكن تحويل الكليسترول - وهو أحد نواتج المواد الغذائية الدهنية - إلى سكّر الكلوكوز بعد تحويله إلى كلايكوجين في الكبد، كما يمكن انتاج ما نسبته: (10 %) من الطاقة من المواد الغذائية البروتينية المتناولة بمساعدة هرمون الكورتزون والمراد هنا عدم إعطاء الفرصة إلى تحويل المواد الكاربوهيدراتية الفائضة إلى دهون مخزونة وكذلك عدم خزن و ترسّب الدهون ذاتها والذي يسبّب الكثير من المشاكل الخطيرة للجسم منها: زيادة ترسّب الكورسترول في الشرايين، وزيادة حجوم الخلايا والأنسجة الدهنية بسبب الخزن الكبير فيها، فضلاً عن زيادة الوزن، وبمجملها تُعدّ مواد سَمية في الجسم تُشكّل من ذلك الإنسان بيئة خصبة تهاجمه الأمراض، منها أمراض القلب والدماغ، وتولّد الحصى والترسّبات الكِلْسِيّة ... وفي الصيام يمكن التخلّص من هذه المواد السمّية الفائضة عن حاجة الجسم كما بُيِّن سابقاً.

كما لوحظ أنّ الصيام يقوم بعمليّات هدم للخلايا القديمة للتخلّص منها والخلايا الزائدة عن الحاجة، فضلاً عن التطهير للمواد الغذائية المخزونة، إذ يقوم مقام المشرط الذي يستخدمه الجرّاح بازالة الخلايا التالفة والضعيفة إذ الجوع الذي يفرضه الصيام يعمل على تنشيط أجهزته الداخلية لاستهلاك الخلايا الضعيفة لمواجهة الجوع فتُتَاح فرصة كبيرة لاسترداد نشاطه من ذلك الحطام والتراكمات التي حمّلتْه أعباءً كثيرة، كما لوحظ أنّ الصيام يُسْهِم في عمليْة استهلاك الأجزاء المريضة والتخلّص منها كالزوائد اللحمية والأكياس الدهنية والأورام، لا سيما التي

ص: 268

في بدايتها، كما يعطي غدّة البنكرياس راحة كبيرة إذ هي تعمل على تناقص كميّة الكلوكوز في الدم والتحكّم فيها من خلال إفراز هرمون الأنسولين لتسهيل عمليّة دخول الكلوكوز الفائض من السائل الدموي إلى خلايا الجسم، كما يُسْهِم في علاج الأمراض الجلديّة، إذ يُقلِّل من كميّة الماء فى الدم والجلد ممّا يعمل على زيادة مناعة الجلد ضدّ المايكروبات والفايروسات من الدخول إلى الجسم وتخفيف أمراض الحسّاسية ومشاكل البشرة الدهنية.

وبالتالي لم يَعُد هناك أيّ شكّ لدى الباحثين المنصفين من أنّ الصوم هو ضرورة من ضرورات الحياة، وقد أثبتتْ الحقائق التاريخية والدينية والعلميّة هذه المقولة، والحقيقة أنّ الإنسان لا يصوم بمفرده، فقد تبيّن لعلماء الطبيعة أنّ جميع المخلوقات الحيّة تمرّ بفترة صوم اختياري مهما توفّر الغذاء من حولها، فالحيوانات تصوم وتحجز نفسها أيّاماً وربّما شهوراً متوالية في جحورها تمتنع فيها عن الحركة والطعام، والطيور والأسماك والحشرات كلّها تصوم.

كثير من العلماء الغربيّين قد قاموا بأبحاث عديدة على الصوم وتوصّلوا إلى حقائق علمية، واليك سرد لبعض أقوالهم:

* ذكر البروفيسور نيكولايف بيلوى من موسكو فى كتابه: «الجوع من أجل الصحة 1976» أنّ على كلّ إنسان - وخاصة سكّان المدن الكبرى أنْ يمارس الصوم بالامتناع عن الطعام لمدة 3 - 4 أسابيع كلّ سنة؛ كي يتمتّع بالصحّة الكاملة طيلة حياته.

* أما ماك فادون من علماء الصحّة الأمريكيّين فيقول: انّ كلّ إنسان يحتاج إلى الصوم وانْ لم يكن مريضاً؛ لأنّ سموم الأغذية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض فتُتْقِلُهُ ويقلّ نشاطه، فإذا صام خفٌ وَزْنُه وتحلّلت هذه السموم من جسمه وتَذهب عنه حتّى يصفو صفاءً تامّاً، ويستطيع أنْ يسترد وزنه ويجدّد خلاياه

ص: 269

في مدّة لا تزيد عن (20 يوماً) بعد الافطار، لكنّه يحسّ بنشاط وقوّة لا عهد له بهما مِن قَبل. وقد كان ماك فادون يعالِج مرضاه بالصوم وخاصة المصابين بأمراض المعدة، وكان يقول: فالصوم لها مثل العصا السحرية، يُسارع في الشفاء.

وقد بيّن ألن سوري «Alain Saur» قيمة الصوم في تجديد حيوية الجسم ونشاطه ولو كان في حالة المرض، وأورد حالات عدد من المسنّين، تجاوزتْ أعمارهم السبعين، استطاعوا بفضل الصوم استرجاع نشاطهم وحيويّتهم الجسمانية والنفسانية، حتّى أنّ عدداً منهم استطاع العودة إلى مزاولة عمله الصناعي أو الزراعي كما كان يفعل في السابق نسبيّاً.

* كما توصّل «reanik» ومساعدوه - 1964 - عدداً من المضاعفات الخطيرة من جرّاء استمرار الصيام لأكثر من (31 - 40) يوماً، وتتّضح هنا المعجزة النبوية بالنهي عن الوِصَال في الصوم.

* كما يقول الدكتور ليك «Like»: يوفّر الجسم بفضل الصوم الجهد والطاقة المخصّصة للهضم، ويدّخرها لنشاطات أخرى ذات أولوية وأهميّة قُصْوى كالْتِيَام الجروح، ومحاربة الأمراض.

* ومن دراسة شلتون «Shelton» في كتابه عن الصوم «Le Jeune»، ودراسة لوتزنر «H. lutzner» في كتابه «العودة إلى حياة سليمة بالصوم» وذكرا أهمّ فوائد الصيام: 1 - الصوم راحة للجسم يمكّنه من اصلاح أعطابه ومراجعة ذاته.

2 - الصوم يوقِف عمليّة امتصاص المواد المتبقيّة في الأمعاء، ويعمل على طرحها والتي يمكن أن يؤدّي طول مكثها إلى تحولها لنفايات سمّبة، كما أنّه الوسيلة الوحيدة الفعّالة التي تسمح بطرد السموم المتراكمة في البدن والآتية من المحيط الملوّث.

ص: 270

3 - بفضل الصوم تستعيد أجهزة الاطراح والافراغ نشاطها وقوتها، ويتّحسّن أداؤها الوظيفي في تنقية الجسم، ممّا يؤدّي إلى ضبط الثوابت الحيويّة في الدم وسوائل البدن؛ ولذا نرى الاجماع الطبّي على ضرورة إجراء الفحوص الدموية على الريق، أي يكون المفحوص صائماً. فإذا حصل أنّ عاملاً من هذه الثوابت في غيرمستواه فانّه يكون دليلاً على أنّ هناك خللاً ما.

4 - بفضل الصوم يستطيع البدن تحليل المواد الزائدة والترسّبات المختلفة داخل الأنسجة المريضة.

5 - الصوم أداة يمكن أنْ تعيد الشباب والحيويّة إلى الخلايا والأنسجة المختلفة في البدن. ولقد أكّدت أبحاث مورغوليس «Morgulis» أنّ الصوم وحده قادر على إعادة شباب حقيقي للجسد.

6 - الصوم يضمن الحفاظ على الطاقة الجسديّة، ويعمل على ترشيد توزيعها حسب حاجة الجسم.

7 - الصوم يحسّن وظيفة الهضم، ويسهّل الامتصاص، ويسمح بتصحيح فرط التغذية.

8 - الصوم يفتح الذهن ويقوّي الإدراك.

9 - للصوم تأثيرات هامّة على الجلد تماماً كما يفعل مرهم التجميل، يُجَمّل وينظّف الجلد.

10 - الصوم علاج شافٍ هو الأكثر فعّاليّة والأقل خطراً لكثير من أمراض العصر المتنامية فهو يخفّف العِبْء عن جهاز الدوران، وتهبط نسبة الدسم وحَمْض البول في الدم أثناء الصيام، فيَقِي البدن من الإصابة بتصلّب الشرايين، وداء النَّفْرَس، وغيرها من أمراض التغذية والدوران وآفات القلب.

وهكذا وبعد أنْ ينظّف الجسم من سمومه وتأخذ أجهزته الراحة الفيزيولوجيّة

ص: 271

الكاملة بسبب الصوم، يتفرّغ إلى لأمِ جُرُوْحِهِ واصلاح ما تلف من أنسجته، وتنظيم الخلل الحاصل في وظائفها، إذ يسترجع الجسّد أنفاسه ويستجمع قواه لمواجهة الطوارىء بفضل الراحة والاستجمام اللذين أُتِيْحَا له بفضل الصوم.

كما يذكر الباقر علیه السلام أنّ النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم ذكر لأصحابه يوماً أهمية الزكاة في المال والبدن إذ يقول:

«ملعون كلّ مالٍ لا يُزَكّى ملعون كلّ جَسَدٍ لا يُزَكّى ولو في كلّ أربعينَ يوماً مرّة.

فقيل: يارسول الله، أمّا زكاة المال فقد عرفناها، فما زكاة الأجساد؟

قال لهم: أنْ تُصَاب بآفة.

قال: فتغيّرتْ وجوه القوم الذين سمعوا ذلك منه، فلمّا رآهم قد تغيّرتْ ألوانهم، قال لهم: هل تدرون ما عَنَيْتُ بقولي؟

قالوا: لا يارسول الله!

قال صلی الله علیه و آله و سلم: بلى، الرجل يخدش الخدش، وينكب النكبة، ويعثر العثرة، ويمرض المرضة، ويشاكّ الشوكة وما أشبه هذا، حتّى ذكر في آخر حديثه: اختلاج العين» (1).

كما يجب أن يُفهم أنّ البناء والصحّة والنمو والتحصين في الصيام والتي شبّهها بالزكاة، كما في حديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إذ يتحدّث عن النموّ الذي تُسبّبه الزكاة: «إذا أردتَ أنْ يثرى الله مالك فزكّه» (2).

كما في حديث الإمام الصادق علیه السلام عن رسول صلی الله علیه و آله و سلم إذْ يتحدّث عن التحصين - والذي يُعدّ الوقاية ولإبعاد الاخطار من الجسد - الذي تسبّبه الزكاة: «إذا منعوا

ص: 272


1- ميزان الحكمة: ج 4، ص 1544.
2- ميزان الحكمة: ج 4 ص 1538.

الزكاة مَنَعَتْ الأرض بركاتها من الزرع والثمار والمعادن كلّها» (1).

ومِن هنا نرى العلاقة التي دَعَتْ أمير المؤمنين علیه السلام الربط الزكاة بالصيام ومدى تأثيراته على البدن وصحّته، من خلال ما يتكفّل به مِن رفع القدرات والقابليّات لأعضاء وأجهزة الجسم المختلفة، تنشيطاً لاستجاباتها للمؤثّرات الداخلية والخارجيّة، فضلاً عن ما يحدث من تطهير من الإصابات الخطيرة الآنية والمستقبليّة والتي لا يدركها الإنسان.

الهمّ والشيخوخة

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«قِلَّةُ الْعِيَالِ أَحَدُ الْيَسَارَيْنِ، وَالتَّوَدُّدُ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَالْهَمُّ نِصْفُ الْهَرَم» (2).

وكما تُشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى اللجوء لله بالدعاء للتخلّص من الحزن، وقد أوضحتْ الآيتان أساليب التخلّص منه، فضلاً عن الدعاء وهو الصبر والعفو، ولعلّ الآية تُشير في واحدة من مبتغياتها لمخاطر ذلك الكرب والغمّ ومِن تأثيراته على الإنسان وصحّته وسلوكه وقراراته، لحدّ يصل تأثره على عاقبته، وبالتالي هناك تحذير واُسلوب للوقاية من الحزن.

(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ (3).

(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (4).

والكلام المتقدّم هو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في الحذر من الهمّ وآثاره الصحية على الإنسان، ووصف أنّ الهرم نصفه «همٌّ»، وترك النصف الآخر يعود إلى أسباب متعدّدة، وتنطلق أسباب احتلال الهمّ هو نصف النسبة لتأثيراته

ص: 273


1- ميزان الحكمة: ج 4، ص 1539.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 309.
3- الشورى: 43.
4- الأنبياء: 88.

السلبيّة على الأجهزة الجسميّة، ومنها:

1 - ارتفاعات حادّة واضطرابات في ضربات القلب من خلال التنبيهات العصبيّة والهرمونية على العقدة الحُبَيْبية الأُذَيْنِيَّة «العقدة الخاصَة بتنبيه عضلة القلب».

2 - زيادة معدّل الضغط الشرياني.

3 - زيادة معدّل التنفّس.

4 - الحوافز المستمرّة لقشرة الدماغ ومواقع التخيّل والتصوّر والتذكّر والتفكير ولمناطق الغضب والعقاب والعدوانيّة.

5 - توتّر في أغلب العضلات الهيكليّة.

6 - تغيّرات في مجرى الدم بشكلٍ لا ينسجم مع العمل الوظيفي.

7 - زيادة مستمرّة في حركة حدقه العين وتوتّرات في عضلات الوجه.

8 - اضطرابات في الجهاز الهضمي.

9 - زيادة فعّاليّة صرف الطاقة غير الهادف «هدر في الطاقة المصروفة».

و غيرها من التغيّرات المصاحبة للهمّ والاستمرار ما يؤدّي إلى جعل تلك التغيّرات الفسيولوجيّة غير الطبيعية سِمَةً ما تُعَرِّض الإنسان إلى أزمات صحية ك: «عجز القلب، والجلطة الدماغيّة، وقرحة المعدة، وداء السكّر ...» فضلاً عن ضعف وتناقص في قياسات أجهزة الجسم وضمورها عن حدودها الطبيعية.

يذكر أمير المؤمنين علیه السلام في مواطن أخرى حول النهي عن الهمّ وتأثيراته على البدن، إذ يقول: «الهَمّ يُنْحِلُ الأبدان» (1).

وبالتالي كلّ تلك الآثار التي يسبّبها الهمّ حدّدها أمير المؤمنين علیه السلام وأحصى أسبابها المرافِقة والمؤثّرة على الجسم، ولكنّ الأهمّ مِن ذلك كلّه أنّ ذلك الشبح

ص: 274


1- ميزان الحكمة: ج 2، ص 806.

«الشيخوخة» الذي أصبح يألّمُ ذكره أمام الناس وظلّ الشاغل الكبير لهم مع تقدّم العمر بهم والذي جنّدتْ له الكثير من الدول المتقدّمة دعمها للأطبّاء العاملين في هذا الاختصاص لدراسة أسبابه وخباياه؛ من أجل تأخير هذه المرحلة، ولكن لم يرافقها إلّا الفشل المنقطع النظير، ومنذ زمن بعيد حدّد أمير المؤمنين نصف النسبة المئويّة للشيخوخة «للهمّ»، وأعطى النِسَب الأخرى النصف الثاني منها، كما أنّه أكّد من خلال هذه الموعظة وبصورة غير مباشرة إذا أمكن ايقاف النصف الأوّل منها فإنّ النصف الثاني لا يمكن ايقافه فهى تحلّ شِئْنَا أَمْ أَبَيْنَا.

آثار الهمّ والخَوف والغمّ على الشيخوخة

حيث تدخل أجسامَنا الجراثيمُ فإنّ الجسم يمرض ويُهْتَك وتكون مقاومته ضعيفة، ولكن مَن ذا الذي يُضْعِفُ مقاومته ويُوهِن جسمه بحيث تجد فيه الجراثيم؟

لقد بيّنتْ البحوث والدراسات أنّ: «التوتّر والهمّ والغمّ والقلق» - والذي يعرف ب «ليّ الجسم»، بسبب النشاطات المختلفة - الذي تحدث نتيجة الانفعالات وللاجابه عن كيف يحدث ذلك؟

أثبتتْ التجارب أنّ كلّ انفعال يُحدِث تغيّراً أوتوماتيكيّاً معيّناً في الجسم، وأوضحُ مثالٍ على ذلك: أنّ رجلاً أُجريت له عمليّة فتْح معدة، بعد تعرّضه لحادث من خلالها أمكن الأطباء مراقبة التغيّرات التي تطرأ على معدته في مختلف الظروف، فهو حين يكون «متوتّراً ومنزعجاً ومضطرباً»:

* تحتقِن معدتُه وتصطبغ باللون الأحمر.

* ثمَّ تصبح طيّاتها أكثر سُمْكاً وتورّماً.

* كما يزداد الإفراز الحامضي «الهيدروليكي» بشكل حاد.

* مع مرافقة التقلّصات الشديدة.

ص: 275

وهذا يَحدث عادة كلّما كان الإنسان مُنهَكَاً ب «التفكير، والقلق، والتوتّر» من موضوع معيّن، أو ينتابه الخوف والغضب من أمر معيّن، والذي تتأهّب فيه الحواس و تشرع به كلّ جزيئات الجسم بالعمل من خلال تنبيه الغدّة النخامية تحت قاعدة الدماغ، ممّا يجعلها تفرز مادّة «ACTH» في مجرى الدم والتي تقوم باثارة الغدّة الكظرية فوق الكليتين فتفرز بدورها «الكورتيزون»، عندها يأخذ كلّ شيء في الجسم بالانتفاض والتسارع بالعمل والضرب بقوّة، مثل:

* زيادة حادّة في معدّل ضربات القلب.

* وتقلّص عضلات المعدة والأمعاء بشدّة مرغِمَة الدم على الدوران بشكل أسرع.

* ويصاحبه تسارع في التنفّس ...

وإنّ تكرار هذه الاستثارات أو استمرارها يُساعد على توفّر مناخ ملائم لاضعاف قدرة الفرد وللاصابة بالأمراض والعلل:

* التهاب المفاصل.

* والربو.

* والاجهاد العصبي.

* وآلام الرأس.

* وارتفاع نسبة الكولسترول.

* وأزمات القلب.

* والقرحة.

إذ المشاعر السلبيّة تنخر في جسم الإنسان وتودي بصحّته وتُساعد على سهولة مهاجمة الشيخوخة له.

وعليه هناك وشيجة وثيقة تربط بين التوتّر والشيخوخة، فالشيخوخة هي

ص: 276

محصّلة لمجموعة الاجهادات والضغوط النفسية التي يتعرّض لها الجسم خلال حياته، وانّ كلّ مرحلة من الضغط النفسي - لا سيّما التي يرافقها الاحباط والفشل - تترك «ندوباً» كيميائيّة يستعصي علاجها، وتتراكم لِتُكَوِّن علامات تدلّ على شيخوخة النسيج الحي.

ومن هنا جاء تحذير نبيّ الله عيسى علیه السلام من الهمّ وآثاره على الصحّة، إذ يقول: «مَنْ كَثُرَ همّه سَقُمَ بَدَنُهُ» (1).

قانون فرانك - ستارلنك

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«يَا كُمَيْل بْن زِيَادٍ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ (2)، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا (3)، فَاحْفَظْ عَنِّى مَا أَقُولُ لَكَ» (4).

تُشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى اتّباع الحقّ، من خلال استخدام أجهزة وأعضاء الجسم التي يُمكن من خلالها اكتساب العلوم، وتوظيفها بشكلٍ تُدْرِك من خلاله العقولُ والقلوب الحقائقَ الإلهيّة، وتهتدي إليها، فإنّ القلوب والعقول أوعية.

(إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (5)

(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (6)

الكلام المتقدّم هذا هو كلام أمير المؤمنين علیه السلام، وهو يتحدّث مع كميل بن زياد النخعي وظاهر هذه الموعظة؛ أنّ القلب هو عضلة مجوّفة واحدة وظيفتها تَجمُّع الدم فيها من جميع أجزاء الجسم، وكما يُعدّ إشارة إلى سلامة شكل العضلة بحفظ ذلك

ص: 277


1- أمالي الصدوق 3/436.
2- أوعِيَة: جمع وِعاء، وهو الإناء وما أشبهه.
3- أوْعَاها: أشدّها حفظاً.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 310.
5- سورة ق: 37.
6- سورة محمد: 24.

السائل الدموي عند انصبابه بداخلها، فضلاً عن أنّها توضّح الوعاء الدموي: ما هو إلّا عبارة عن أقنية متّصلة يسير فيها الدم وتحفظه من الانصباب خارج ذلك الوعاء، ولِمَا لذلك الحفظ من سلامة للكائن الحيّ وبقائه؛ كون تمزّق تلك الأوعية بسبب النزف الداخلي الذي يسبّب خطراً على الكائن الحيّ، بل ربّما يسبّب له الوفاة.

ولكن الأهم من ذلك يُشير مولانا أمير المؤمنين إلى أن أفضل تلك القلوب هي أو عاها، والمراد ما يلي:

كما هو معلوم أنّ الوظيفة الأولى لعضلة القلب هي امتلاؤها بالدم في حالة الانبساط، وضخّ الدم إلى جميع أجهزة الجسم في مرحلة التقلّص أي أنّ زيادة هذه التجاويف - أي حَجْمها وقطرها وكتلتها والحادثة في مرحلة انبساطها والناتجة بسبب تمدّد الألياف العضليّة القلبية ولا سيّما في البُطَين الأيسر - ممّا يعني زيادة العائد الدموي إلى القلب، وهذا هو أحد أسباب زيادة قوّة التقلّص، ممّا يسبّب زيادة حجم كميّة الدم المدفوعة في الضربة، وبالتالي زيادة الناتج القلبي وهو يُعدّ تغيّراً فسيولوجيّاً مهما يعبّر عن كفاءة عضلة القلب وسلامتها، وهذا ما أشار إليه «فرانك - ستارلنك» في دراسته، والتي تُعدّ إنجازاً علميّاً رائداً في هذا المجال.

وتعني آليّة «فرانك - ستارلنك» أساساً: أنّ القلب كلّما امتلأ بالدم بكمية أكبر أثناء الانبساط، كبرتْ كميّة الدم التي يضخّها إلى الأَبْهَر، وتزداد قوّة تقلّص العضلة القلبية.

ولتعليل آليّة عمل «فرانك - ستارلنك»، ناتج عن تمدّد القلب إلى درجة أكبر عندما تجري إليه كميّة اضافية من الدم، ويسبّب ذلك بدوره تقلّص عضلاته بشدّة أكبر؛ لأنّ خيوط «الأكتين والمايوسين» تقرب إلى الدرجة المُثْلَى للتعشيق ولِتُوَلِّد تقلّص أشد وبالتالي يضخّ القلب كميّة اضافية من الدم إلى الشرايين، وبالإضافة إلى

ص: 278

عامل التمدّد للعضلة القلبية هناك عامل آخر يزيد من ضخّ القلب وهو عندما یزید حجم القلب وكتلته.

وبالتالي أنّ هذا الحدث العلمي الكبير وباستخدام أفضل التقنيات التي ساعدت على عمليّة اكتشافه قد أسّس نظريّته أمير المؤمنين علیه السلام وطرحها إلى الناس في وقت تعجّ الأُمّة بالظلام والأُمِّيَّة، ولا يُدركون أبعاده وقيمته العلميّة، وامتدّ لفترة اكتشاف «فرانك - ستارلنك» كما لم يعطِ أحدٌ اهتماماً لحقيقة الإعجاز العلمي لكلام أمير المؤمنين علیه السلام.

العقل والتعلّم

يُعدّ من أصعب المشاكل التي تواجه علماء الفسيولوجي البحث في الوع والأفكار والذاكرة والتعلّم بسبب القصور في فَهْم آليّة الفكرة والذاكرة، والتي هي تُعدّ أساس التعلّم، فمثلاً فَهْم رؤية بصريّة في موقف معيّن يمكن أنْ تكون نوعاً من الفكر أو الفهم ما يحيط بالإنسان من المعلومات الحسية يمكن أنْ يكون نوع آخر من الفكر وهكذا ...

ولغرض ربط التذكّر بالفكر والتفكير نتطرّق إلى أحد تعاريف الذاكرة، وهي: «القدرة على استعادة فكرة واحدة على الأقل».

ولمعرفة علاقة التفكير والذاكرة بالتعلّم، يمكن من خلال تعريف التعلّم، وهو: «قدرة الجهاز العصبي على اختزان الذكريات واستدعائها».

وهناك ما يُسمّى بالتعلّم الفطري «الولادي»، والثاني هو «المُكْتَسَب»، الذي في يهمّنا بحثنا هذا هو النمط المكتسب والذي يعنيه أمير المؤمنين علیه السلام في خطبته، وبالتالي لوحظ أنّ العمليّات المكتسبة تتفاوت تَبَعَاً للبيئة والاستجابات الفسيولوجيّة والطبيعة العِرْقيّة، وتمكّن هذه العمليّات المكتسبة للفرد من التكيّف

ص: 279

والافادة من خبراته الذاتية، فالجهاز العصبي مهيّاً لمرونة الاستجابة بغرض مساعدة الفرد على تبنّي سلوك توافقي، كما يمكن للسلوك أنْ يتعدّل بتغيّر المواقف التنبيهيّة، والذي يضيف هذا التغيّر في السلوك الناتج عن تراكم الخبرات تحت «التعلم» وقد يؤدّي التعلّم إلى سلوك توافقي، كما يمكن أنْ يؤدّي تعلّم خاطئ أو سلوك غير توافقي، ومِن هنا الكثير من السلوك السيّىء ناتج عن عمليّة تعلّم غير ملائمة أو من خبرات سيّئة، ومِن هنا تُطْرَح التساؤلات بشأن قضية التعلّم، وما هو خاصّ بعملية تعديل السلوك الذي يتضمّن عملية تعلّمٍ، بغضّ النظر عن الظروف البيئيّة والفسيولوجيّة والذي يتطلّب اعادة تنظيم سلوك سَبَقَ اكتسابه إلى سلسلة من الاستجابات الجديدة.

وأمّا إذا كان تعلّم عدم الاستجابة لبعض المنبّهات؛ لأنّه ليس لها قيمة «التعوّد» أو لأنّها «فقدت قيمتها» زوال أو انطفاء مطابقة أو حتّى مشابهه للتعلّم الذي يتدخّل

في اكتساب استجابات مدعمة.

هذه المقدّمة المختصرة يمكن أنْ نستدلّ على أسباب وصْف أمير المؤمنين علیه السلام للقلب الذي أحياناً يقصد به العقل بأنّها أوعية، والمقصود بالوعاء: «هو ذلك التجويف الذي يخزن به»، وأنّ عمليّة الاختزان للمعلومات والأفكار هي تحدث داخل الخلايا التي تعدّ أصغر وحدة تنظيمية وبنائيّة في الجسم أي شبّه تجويف الخلية بالوعاء الذي تختزن به المعلومات، وأنّ مجموع هذه الخلايا المتشابهة تدعى النسيج ويقسّم الدماغ إلى مجموعة من الأنسجة والمناطق المختلفة؛ تبعاً إلى وظيفتها، فكلٌّ منها تخزن المنبّهات والمواقف وتقوم باستدعائها عند الحاجة، وعليه أمير المؤمنين علیه السلام شمل الدماغ بكامل أقسامه وباحاته ومثّله بالوعاء؛ كونه مكوّن من ملايين من الخلايا المخصَّصة لخزن المعلومات داخل تجاويفه، فضلاً عن كون الدماغ بكامله هو الآخر يشكّل تجويفاً؛ كونه محاطاً من

ص: 280

الخارج بغطاء عظمي ويليه مجموعة من الأغشية الأُخرى التي تغلّفه، ومن هنا وَصَفَهُ بالوعاء.

غير أنّ وصفه «أوعاها» لا يعني أكبرها حجماً تجويفاً، وهذا لا يصحّ كون الخلايا العصبيّة لدى الإنسان متشابهه بالعدد، وليس هناك ما يُشير في الأبحاث لتأثير الطول أو الكتلة والحجم على زيادة التعلّم، ولكنّ المراد أنّ تلك العقول خيرها أكثرها وَعْياً وطلباً للمعرفة وتعديلاً للسلوك.

وهي تُعدّ عمليّة حثّ الهمم؛ لأجل التعلّم وملء تلك التجاويف أي «الدماغ وخلاياه» بما يخدم تقدّم المجتمعات والإنسانية، وبما يُرضي الله سبحانه وتعالى، وتُعد تلك الأعمال هى الفيصل لعاقبة الإنسان.

علم الغذاء

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «كَمْ مِنْ أَكْلَه مَنَعَتْ أَكَلَات!» (1).

في الآيات الكريمات الآتيات يَعِدُ اللهُ سبحانه وتعالى المؤمنين بالجِنَان وثمارها، ويصف الكفّار كالأنعام في مأكلهم واقبالهم على لذائذ الدنيا، وأنّ مصيرهم ومثواهم النار، وفيها أيضاً نهى عن الإسراف، فضلاً عن التأكيد على أهميّة الغذاء والتحذير من الإسراف فيه.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (2).

ص: 281


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 324.
2- البقرة: 61.

(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) (1).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (2)

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام، وهو يعظ به العامّة ويبيّن علاقة الإنسان بالطعام، فظاهر الموعظة تحذير صحّى وباطنها يتحدّث عن الأهمية الاقتصاديّة، ويحدّد جوانبها، والبناء الخلقي للإنسان، وعليه لعلّ المراد ما يلي:

أولاً: المضمون الصحي

وهنا يوضّح مولانا أمير المؤمنين أمرين، هما:

1 - أنّ كميّة حج المتناول من الغذاء الذي يسبّب الإسراف فيه عواقب ربّما تكون وخيمة على سلامة الإنسان؛ إذ الافراط في وجبة مليئة بالدهون - مثلاً - تزيد من الجذور الحرّة والتي تعمل على اضطراب عمل الخلايا، فضلاً عن زيادة فترة الهضم وزيادة الخزين الدهني في الخلايا والأنسجة الدهنية.

2 - كما تُشير الموعظة إلى نوع الأطعمة أي أنّ الاهتمام بنوع واحد من أنواع الغذاء والإكثار منه هو الآخر يسبّب أزمات صحية، مثلاً أَكْل وجبة مليئة بالدهون أو مليئة بالسكَّرِيَّات فإنّ ذلك يسبّب اضطرابات صحية هو الآخر، وعليه أنّ كثيراً من الناس يزيد من تناول الفيتامينات اجتهاداً منه بأهمّيَّتها، وبالتالي هناك من الفيتامينات منها الذائبة بالدهون وعند زيادة نِسَب تناولها لا يمكن التخلّص منها عن طريق الإدرار أو الابراز ممّا يسبّب خَزْنها في الكبد، وتلك النِسَب العالية منها تعدّ سموماً فوق حاجة الجسم، وبالتالي الحاجة إلى تنوّع الأطعمة وعدم الإكثار

ص: 282


1- محمد: 12.
2- الأنعام: 141.

من نوع واحد.

كما يلاحظ أنّ الموعظة تدعو إلى الأهمية الغذائية التي هي وقاية من الإصابات المرضية، فضلاً عن كونها أهمّ من العلاج.

ثانياً: المضمون الخلقي

انّ أحد المضامين الرئيسية لهذه الموعظة هو تنظيم علاقة الإنسان بالمأكل والمشرب، وبالتالي يُحذِّر الشراهة والنهم فهو يغيّر من طبائع الإنسان وأهداف خَلْقه، وعليه يجب أنْ لا يكون همّه بما يدور بين فمه ومعدته، فإنّ واجبه أسمى بكثير من ذلك وإلّا أصبح لا يُفَرَّق عن نهم البهائم وسلوكها.

ثالثاً: المضمون الاقتصادي

كما تُشير الموعظة إلى جوانب اقتصاديّة مهمّة، إذ انّ عمليّة الإسراف والتبذير في الأكل وأنواعه وكمّيَّته يُعدّ هدراً في الأموال العامّة والخاصّة والتي تؤدّي بالتالي إلى زيادة العِبْ المالي على الفرد والمجتمع، وإلى سوء في توزيع المواد الغذائية، فضلاً عن ارتفاع الأسعار.

* تقول الباحثة الأمريكيّة «جوديت وورتماث» وهي متخصّصة في شؤون التغذية بأنّ مَن يتناول فيتامينات كثيرة يمكن أنْ يُصاب بأمراض خطرة ولا سيّما إذا كانت على شكل «مساحيق وأقراص».

* كما أكّد الكاتب «أوريش روكرت» وهو ألماني متخصّص في الشؤون الطبيّة في كتابه الجديد: «الفيتامينات والمواد الغذائية» على خطورة الفيتامينات المركّبة وبكمّيّات كبيرة والتي تؤدّي إلى اصابات وتشوّهات.

* كما يذكر أحد الأطبّاء الأمريكيّين أنّ الإكثار من تناول فيتامين «B6» يؤدّي إلى اختلال التوازن وعدم السيطرة على الحركة، وكذلك بالنسبة إلى الفيتامين «C» إذْ يُؤدّي الإكثار منه إلى الإصابة بحالات مرضية حادّة، كما أكّد

ص: 283

علماء التغذية أنّ زيادة نسبة تناول فيتامين «A» بمعدّل نصف غرام في الطعام يؤدّي إلى اتلاف (95 %) من فيتامين «D12» الضروري للأعصاب والمكوِّن للدم.

ومِن هنا جاء التنبيه الذي أكّده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في جعْل حبّ الطعام من خصال عصيان الله تبارك وتعالى، إذ يقول:

أول ما عُصي الله تبارك وتعالى بستّ خصال: حبّ الدنيا، وحبّ الرئاسة، وحبّ الطعام، وحبّ النساء، وحبّ النوم، وحبّ الراحة» (1).

طرق معالجة الخوف

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«إِذَا هِبْتَ أَمْراً (2) فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَفِّيهِ (3) أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ» (4).

تُشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى إحدى العمليّات العقلية الفسيولوجيّة وهي الخوف، وفيها أمر التوكّل وعدم الخوف من الجبابرة، وعليه هذه العلميّة العقلية النفسية «الخوف» لها آثار سلبية على صحّة الإنسان وتركيزه ومستوى انتباهه وبشكلٍ يؤثّر على إدراكه وفهمه للأُمور وحلّها باتّخاذ القرارات الصائبة والمناسبة.

﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (5).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ

ص: 284


1- ميزان الحكمة: ج 4، ص 1359.
2- هِبْت أمراً: خفت منه.
3- تَوَقّيه: الاحتراز منه.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 326.
5- المائدة: 23.

لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (1)

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام الذي يعظ به العامة والذي يهتمّ باطارين هما:

أوّلاً: الخوف

وقد تكلّمنا عنه سابقاً وذكرنا بأنّه يتحكّم به في مواقع الدماغ تُسمّى «الهيبوثلامس» وعند تحفيز المنطقة الوحشيّة منها فيؤدّي إلى تغيّرات فسيولوجيّة تُصاحب الخوف، فضلاً عن علامات ظاهرة عن الجسم الخارجي ك:

* احمرار الوجه أو اصفراره.

* أو زيادة وُسْع العين.

* وتوتّر عضلات الوجه المصاحِبة لتوتر العضلات الهيكليّة.

* فضلا عن التغيّرات الحادّة لسرعة ضربات القلب وما يصحبها في جهاز الدوران والجهاز التنفّسي، والتي يتمّ التحكّم بها من خلال الايعازات العصبيّة والهرمونية.

بالتالي أنّ «الغيظ، والهمّ والغضب والقلق» المستمرّ يُعدّ من العمليّات العقلية والتي تفسح الطرق إلى الإصابات المرضية.

وقال الله تعالى:

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (2).

وهنا يُشير الله تعالى إلى الآثار السلبيّة للغمّ بأنّ الله ينجى ذا النون من تلك الغموم، وقد لوحظ من خلال التجربة أنّ استمرار الهمّ والخوف لفترات طويلة تسبّب اضطرابات صِحية كبيرة في أجهزة الجسم المختلفة.

ص: 285


1- مائده: 54.
2- الأنبياء: 87.

ثانياً: كما تُرَبِّي وتُنَمِّي الموعظة أهميّة اتّخاذ القرار وبناء الشخصية لمواجهة مصاعب ومشاكل الحياة باتجاهاتها المختلفة، وتُعَدّ عمليّة الالتقاء والمواجهة هي السبيل الوحيد لضمان الاستقرار واستمرار الحياة والاطمئنان للمجتمعات وبخلافه يكون الوعيد والتهديد والتأهّب والترقّب والتحسّب وما يساوره من غيض وهمّ وهذا سيهدّد الأمن والاستقرار وما يصاحب ذلك من تطوّر.

علم النفس العصبى المناعى

أعلنتْ أحد الأكاديميّات الوطنية الأمريكيّة للعلوم أنّ الحزن الشديد لموضوعٍ ما ولْتكن «الصدمة الكهربائيّة - الجوع - الخوف - الرعب - الضجيج العالي - البرد - الهم» يمكن أنْ يزيد بشكل جِدِّي مِن خطر التقاط مرض مُعْدٍ «سهولة العدوى» أو الموت بالنوبة القلبية.

وقد وجد عددٌ من المختصّين في علوم النفس والمناعة والفسلجة والأعصاب علاقاتٍ وثيقة بين الجسد والعقل، وأنّ الحالات النفسية السلبيّة قد تسبّب الاختلال في التوازن الكيميائي، وبالتالي احداث اضطراب في الجهاز المناعي للجسم أي قدرة الدماغ على ممارسة السيطرة على الجهاز المناعي، ويصوّرون هذا الحقل الجديد من العالَم والذي يُسمّى ب: «علم النفس العصبي المناعي»: psychohruro immunology وبعبارة أبسط: «الطبّ السلوكي».

ولدراسات قُدِّمتْ في هذا المجال يتعرّض الأفراد إلى محفزّات شديدة أو ما يُسمّى بالاجهاد، مثل: «الغضب - الرعب - الجوع - البرد - الخوف - الصدمة - الكهربائية»، ففي أوائل القرن الحالي سجّل «وولتر كانون» أخصّائي علم الفلسجه مجمل نتائجه استجابة الجسم إلى هذه الأنواع من الاجهاد، ممّا أظهر سلسلة من الاستجابات لأعضاء وغُدد عديدة في الجسم تدخل في الاستجابة بما في ذلك

ص: 286

«الهيبوثلامس» والغدّة «النخامية» والغدّة «الكظرية».

كما وجد أحد الأطبّاء أن تعرّض الإنسان لجهدٍ معيّن «الغضب» سيعمل هذا الجهاز على زيادة حادّة في معدّل ضربات القلب وعمل العضلات امّا للعراك أو تحاشي الأمر.

و عليه ظهرتْ مقالات و دراسات حول «الاجهاد ومضارّه» أو «الاجهاد يجلب الأمراض».

ويقول «ايسد ورفر»: لا يسبّب الاجهاد أي تلك العوامل والحالات النفسية.

* الحادّة إلى مرض، إنّما ما يفعله هو سيجعل الجسم عُرْضَةً له أو سيمهّد الإصابة المرضية خارجيّة أو داخلية.

* ووجد كلٌّ مِن «مارتت سليجان و تنيفن ماير» من جامعة بنسلفانيا أنّ تعرّض الفيران إلى صدمة كهربائيّة تجعلها كسولة وخاملة.

* كما أكّد «لود نسلاجر» المتخصّص في علم النفس في جامعة «دينفر» أنّ الصدمة الكهربائيّة تؤدّي إلى اخماد استجابة الليمفوسایت «T»: وهي خلايا المفتاح في تميّز غزاة وميكروبات الجسم.

* وأكّدتْ دراسات أخرى من الباحثين أنّ الاجهاد النفسى يعمل بشكل مباشر على تعطيل الليمفوسات وخلايا الدم البيضاء، تاركة الطريق مفتوحاً للمرض.

* وأظهر فريق بحث من مختبر «جون لاسيكاينر» النفسي أنّ نوعين مختلفين من الصدمات التي تعرّض لها الدماغ «الفيران» قد أثّرت بشكلين مختلفين من ردود الفعل، فإنّ صدمات متقطّعة من نفس الشدّة قد سبّبتْ في إفراز الدماغ «اندروفين» و «لانكافاليتر» وهما مادّتان کیمیائیّتان تشبهان مادّة «اوبيتان» المخدّرة التي توجد بشكل طبيعي في الجسم تشتركان معها في عدم الاحساس

ص: 287

بالألم، ومواصلة تعريضها للصدمات من نفس الشدّة لم يقوّ ردّة الفعل هذه.

و من جهة أخرى وجد من خلال تجربة أنّ تعرّض مادّة الاوبيتان المخدِّرة إلى الصدمة الكهربائيّة قد آلمتْ الجسم، ويُعتقد أنّ هذا يحدث فجأة في الجهاز المناعي؛ وذلك بامساكها بكريات الدم البيضاء المسمّاة ب «المحارب الطبيعي» التي تتصيّد أو تقتل الخلايا الغازِيَة، وعليه أنّ المادّة المخدِّرة ستحفّز عمليّة تحرير بعض الهرمونات التي تنشط الخلايا المحاربة أثناء ذلك الضغط والجهد التنفسي.

الأيض الأساسي

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«إِنَّمَا الْمَرْءُ فِى الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ (1) الْمَنَايَا (2)، وَنَهْبُ (3) تُبَادِرُهُ الْمَصَائِبُ، وَمَعَ كُلِّ جُرْعَة شَرَقٌ، وَفِي كُلِّ أَكْلَة غَصَصٌ، وَلَا يَنَالُ الْعَبْدُ نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقٍ أخرى، وَلاَ يَسْتَقْبِلُ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا بِفِرَاقِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ، فَنَحْنُ أَعْوَانُ الْمَنُونِ، وأنفسنَا نَصْبُ الْحُتُوفِ» (4).

وتشير الآيتان الكريمتان الآتيتان إلى النهي والتحريم عن الإسراف، وهذا يشمل احتياجات الإنسان في جميع موارد الحياة وجوانبها، ولكنّ الظاهر من الآيتين هو وجوب تنظيم العلاقة بين الإنسان والغذاء؛ لِمَا لذلك من مخاطر عليه فضلاً عن أنّهما لا تستثنيان صنفاً عن آخر، وهذا دليل أنّ الافراط في أيّ نوع منها له مردودات سلبية على الإنسان والمجتمع.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ

ص: 288


1- تَنْتَضِل فيه: أي تصيبه وتثبُت فيه.
2- المنايا: جمع مَنِيّة، وهي الموت.
3- النَهْب - بفتح فسكون: ما يُنْهَب.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 330

وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (1).

(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (2).

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام من إحدى خُطَبِهِ وهو يذكر فيها حال الدنيا والإنسان، وفيما ذكر أعلاه والتي توضّح أحد أوجه الابداع والبلاغة العلميّة لمولانا أمير المؤمنين علیه السلام، والتي يصف فيها حال الإنسان من جوانب عديدة لا يمكن حصرها، على الرغم من أنّ الظاهر منها أنّ الإنسان يجب عليه القناعة والرضا؛ لأنّه لا يستطيع امتلاك نعمة من نعم الله سبحانه إلّا أنّه سيفقد أخرى كان يمتلكها، ولكنّ هذا ما كان ينفع أفراد عصره، وباطن الموعظة يتخلّلها القيمة العلميّة التي يرسمها ويرشد بها العلماء من العصور التي تليه. ولعلّ المراد بهذه الموعظة ما يلي:

أوّلاً: أنّ ما يظهر من تغيّرات منذ لحظة اخصاب البويضة إلى مرحلة الشيخوخة ما هي إلّا عمليّات نمو يرافقها نضج في أجهزة الجسم، وبالتالي لكلّ مرحلة مستوى من النمو والنضج الحادث في الجسم الذي ينسجم مع تلك المرحلة العمرية، وبالتالي تلك التغيّرات تعدّ نعمة من نِعَمِ الله في مرحلتها، ولكن عند الانتقال إلى مرحلة عمرية جديدة - ولا يتمّ التغيّر في حالة النمو وعدم حدوث نضج يتناسب مع هذه المرحلة الجديدة - تصبح التغيّرات السابقة ما هي إلّا «تخلّف في العمليّات الإنمائيّة»، فاذاً لابدّ للحصول على نعمة التطوّر والنمو مفارقة نِعَم أُخرى.

وعليه أنّ الجهاز الهضمي للطفل الرضيع متهيّئ لامتصاص الحليب والسوائل؛ والسبب العائد لعدم استخدام المواد الغذائية الأخرى يعود إلى ما يلي:

ص: 289


1- الأنعام: 141.
2- الأعراف: 31.

1 - يكون إفراز «أميلاز» البنكرياس لدى الوليد قليلاً ممّا يجعل استعماله للنشويّات أقلّ كفاءة ممّا هو لدى الطفل الأكبر سِنّاً.

2 - يكون امتصاص الدهون من السبيل المعدي بصعوبة بالِغة.

3 - كون الكبد يعمل بطريقة غير كفوءة.

وعليه هيّئتْ الظروف للسوائل والحليب المنخفض الدسم للامتصاص من السبيل المعدي. ولكن بعد التقدّم بالعمر والنضج الحادث في الجهاز الهضمي والأجهزة ذات العلاقة به وما طرأ عليها من تغيّر وتكيّف للأعمال الجديدة، يلاحظ قدرته على تناول الأغذية المختلفة وتحليلها وامتصاصها.

ثانياً: أنّ أداء أي نوع من أنواع الأنشطة الذهنية والبدنية أو ممارسة الأعمال اليومية الاعتياديّة هو بحدّ ذاته يُعدّ مِن نِعَم الله علينا ولكن لا يمكن أداء تلك الأنشطة إلّا من خلال فراق نِعَم أُخرى، وهي أنّ تلك الأعمال لا يمكن إنجازها إلّا من خلال حرق وتحرير الطاقة المخزونة في خلايا الجسم وعضلاته، بل مستوى استنفاذ تلك الطاقة ينسجم مع نوع النشاط وشِدّته ومدّته.

وكما هو معروف أنّ تحرير عمليّات الطاقة بحاجة إلى مستلزمات، منها: الأوكسجين الذي يحمل بالسائل الدموي، والذي يتطلّب سلامة عضلة القلب ونبضاتها المنتظمة والمنسجمة مع نوع العمل، وغيرها هي الأخرى تحتاج للاستمرار بعملها إلى استنفاذ قدر معيّن من الطاقة المخزونة في الجسم.

ثالثاً: كلّ لقمة يتناولها الإنسان سوف يتمّ تقطيعها وطحنها من قبل الأسنان وترطيبها باللعاب وتدويرها باللسان وتهيئتها لِبَلْعِها وايصالها إلى المعدة التي تُعَرِّضُهَا إلى عصاراتها الهاضِمة وإلى حركات تقلّصية لتحليلها إلى موادٍّ أخرى وهي:

1 - الكاربوهيدرات: يتمّ تحويلها إلى سكّرّيات ثنائيّة، ثمَّ تحليلها في الأمعاء

ص: 290

إلى سكّريّات أُحاديّة، ولا سيّما الكلوكوز، وثُمّ امتصاصها.

2 - البروتينات: وهي الأخرى تمرّ بعدّة مراحل وتنتهي بمرحلة تحويلها إلى أحماض أمينية وتحليلها وامتصاصها في الأمعاء الدقيقة.

3 - الدهون: تمرّ الدهون بعمليّات تحليل ولكنّ هضمها وامتصاصها يتمّ في الأمعاء الدقيقة، ويتمّ تحويلها إلى أحماض دهنية والتي يتمّ امتصاصها في المعدة والأمعاء.

ونقلها بالسائل الدموي إلى مناطق حاجتها في الجسم وإلى مناطق خزنها، فضلاً عن طرح الفائض منها، كما أنّ ما ذكرناه لا يتمّ إلّا من خلال استنفاذ قدر معيّن من الطاقة المخزونة في الجسم، وهذا يُعدّ بطبيعة الحال تفسيراً لِمَا ذكره أمير المؤمنين علیه السلام ما هو إلّا مفارقة لِنِعَمٍ كان يحتفظ بها الجسم مقابل نوال نِعَم جديدة، وكذلك هو فتح الأبواب أمام دراسة عمليّات الأيض الأساسي وما يتناوله من الأيض الهدمي والبنائي والذي لازال العلماء يقدّمون الدراسة تِلْوَ الأخرى في وظائف الجهاز الهضمي أو عمليّات تحرير الطاقة أو ما يخصّ التغذية وعلاقتها بالإنسان.

وعاء العلم

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلَّا وِعَاءَ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ» (1).

تُشير الآيات الكريمات التالية إلى دور وأهميّة الأجهزة والأعضاء المخصَّصة لاكتساب المعرفة والعلوم، والتي من خلالها يتمّ تمييز الخبيث من الطّيب والحقّ عن الباطل وسَلْك الطرق الواضحة التي لا يضلّ سَالِكُوْهَا.

ص: 291


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 335.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) (1).

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) (2).

(يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (3).

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهي من روائع النظريّات العلميّة التي تحتاج إلى علماء متخصّصين يتناوَبون على مَرّ السنين لاثباتها وتحقيقها، وضمن كلامه الظاهر هو دعوة إلى صَقْل المواهب وإلى زيادة الدوافع نحو التعلّم والمعرفة، والتي كانت دَيْدَن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والأئمّة الأطياب الأطهار علیهم السلام، فإنّها تَجْلِي الصدأ الذي على العقول وتهب الوعي للإنسان، وهي بعكس الأبدان التي بتقدّم العمر تضعف وتقلّ كفاءتها ويُصاب الإنسان بالهرم، بل مع تقدّم العمر يزداد علماً وإدراكاً، كما أنّ طلب العلم لا يُنهك صاحبه بل يزيده التزاماً وخلقاً وتوازناً واستقراء واستشفاء لكلّ ما يحيط به.

وهناك دراسات عديدة تعطي ولو مؤشّرات بسيطة نحو معنى هذه الموعظة أو تطوف حولها، نذكرها لبيان احتماليّة المراد منها:

انّ عمليّات السيطرة والتحكّم بالسلوك والدافعيّة والحركات التكاملية والتعلّم والتفكير والوعي وخزن المعلومات التي يشترك فيها أجزاء عديدة من الدماغ، منها «الفصّ الصدغي - الفص الجبهوي - فرس البحر»، ولعلّ الوجه الأوّل من الموعظة هو الدماغ وبما أنّ الاستعارة كانت بالوعاء والذي «يحفظ ويجمع الشيء المراد» فعليه أنّ الدماغ يعدّ ذلك الوعاء الذي يُملأ ويُخزن بالمعلومات خلال عمليّات التعلّم، فضلاً عن أنّ ايصال جميع المعلومات المسموعة والمرئيّة والمقروءة تتمّ من

ص: 292


1- الأنفال: 22.
2- الاسراء: 107.
3- مریم 43.

خلال الأجهزة الحسية المرتبطة بالدماغ والتي يقوم بتفسير تلك الموجات والرموز وإدراكها والتعامل معها وخزنها مع الدماغ.

وعليه لا بدّ مع زيادة مراحل فترات التعلّم وتلقّي العلوم يزيد الوعاء، وربّما تكون الزيادة المقصودة بها من خلال ما تقدّم به العلماء من أبحاث في هذا المجال والتي نختصرها كما يلي:

أولاً: هناك شواهد من خلال التجارب المختبرية التي تدلّ على نموّ الجهاز العصبي المركزي للكائن الحيّ ونضجه خلال مناهج التعلّم التي يخوضها:

1 - لوحظ زيادة النموّ البروتوبلازمي المستمر للخلايا العصبية بعد التعلّم والزوائد الشجيرية عند أطراف الخلية، وهو ما أكّده «رامون وكاخال».

2 - هناك تجدّد في الخلايا العصبيّة بمناطق معيّنة في لِحَاء الدماغ التي دمّرتْ بشكل متعمّد شعاعيّاً، وبعد مرور سبعة أسابيع لوحظ تجدّد في تلك المناطق «روز».

3 - اكتُشف استمرار نموّ الأنسجة العصبيّة ببطء خلال مراحل النموّ وإلى نهاية العمر محدِثَاً فايضاً من الاتّصالات المشتبكة، وهذا يحدّد قدرة الكائن الحيّ على التعلّم من خلال زيادة الاتصالات المشتبكة. كما يرى أنّ التعلّم هو نتاج لتنبيه خارجي يتطلّب جهازاً عصبيّاً دائم النمو.

ثانياً: الفروض البايوكيميائيّة في التعلّم

بما أنّ افتراض التفكير والذاكرة ذو علاقة كبيرة بالتعلّم فتعرض التجارب البحثيّة لكثير من العلماء في التغيّرات البايوكيميائية الحادثة من جرّاء التعلّم وكما یلی:

1 - انّ جزيئات حامض الرايبوز النووي «RNA» لا بدّ وانْ تتعدّل بواسطة نشاط خلوى، ومِن ثَمَّ تكون قادرة على اختزان الذاكرة، وقد سُنّ هذا الافتراض

ص: 293

على شواهد تجريبية إذ لوحظتْ تغيّرات في تركيب جزيئات حامض «RNA» في تجارب تتضمّن تقديم منبّهات حِسّيَّة جديدة، والمتضمِّنه عمليّات تعلّم، كما شوهد تغيّر في كمِّيَّته وتركيزه في أجزاء المخ وهو ما أكده «هايدين».

2 - كما وجد من خلال التجارب المختبرية والمقارنة بين الحيوانات الثدية المتشابهة فرقاً في تركيز «الاستيل كولين» والأنزيم المحطّم له «استريز كولين»، والتي عُزيتْ إلى زيادة التعلّم من خلال التجربة التي تعرّضتْ لها تلك الحيوانات في مستوى التعلّم، وعليه فكرة المواد العصبيّة الناقلة؛ لأنها مسؤولة عن تسهيل المشتبكي الذي يعتقد أنّه يحدث كنتاج لعملية التعلّم، ولوحظ ما يلي:

أ - أنّ التعلّم يزيد من كمية «الاستيل كولين» المتحرّرة في المخ.

ب - أنّ العقاقير التي تحمى «الاستيل كولين» من التدمير تعمل على تحسين الاكتساب واستعادة الذاكرة.

ج - أنّ العقاقير التي تتدخّل في تأثير عمل «الاستيل كولين» أو تعوقه يمكن أنْ تدخل في عمليّات الاكتساب والتوثيق واعادة الذاكرة.

3 - كما وجد تأثير «الابنفرين» والعقاقير المماثلة مثل «النور أبنفرين» و «الامفيتامين» على زيادة الاكتساب والتعلّم؛ لأنّ الإفرازات الأدريناليّة من «الابنفرين» تُعدّ جانباً مهمّاً من جوانب استجابة الكائن الحي للضغط، وعليه يلاحظ «النور بنفرين» يؤدّي وظائف ناقل مشتبكي في أجزاء عديدة من المخ، وهو يشمل «ألافيتامين» الذي لا يُعدّ موصِلاً عصبيّاً إلّا أنّه يعدِّل من النشاط العصبي في كثير من مناطق المخ.

ثالثاً: التغيّرات الفيزياويّة المرتبطة بالتعلّم

من خلال الصور المجهرية الالكترونية التي أخذتْ للمشابك العصبيّة بطريقة تزيد من حسّاسيّتها للنقل للإشارات العصبيّة، والتي تلعب دوراً كبيراً في تطوّر الذاكرة الطويلة، وأهم تلك التغيّرات الفيزياوية التي تحصل ما يلي:

ص: 294

1 - زيادة مواقع تحرير الحويصلات لِفَرْز المادّة الناقلة، إذ مِن خلال الصور - بعد دقائق من التدريب للذاكرة - تزداد عدد مواقع التحرير، وهذه من النهايات قبل المشبكيّة.

2 - زيادة عدد النهايات قبل المشبكيّة، إذ لا يزداد عدد المواقع لتحرير الحويصلات فقط، بل يزداد أيضاً عدد الحويصلات الناقلة في كلّ نهاية قبل المشبكيّة.

3 - زيادة عدد النهايات قبل المشبكيّة مع استمرار التدريب الشديد، فإنّ عدد النهايات قبل المشبكيّة يزداد ويصل إلى ضعف الحالة السوية.

ومن دراسه على دماغ «انشتاين» صاحب النظرية النسبية وجد أنّ ذلك النابغة كان يستخدم ما بين (8 - 10 %) من قدراته العقلية في حين يستخدم الإنسان العادى متوسّط الذكاء أكثر من (4 - 7 %)، وعليه أنّ الإنسان لازال عاجزاً عن استخدام كامل قواه العقلية أو لنسبة عالية منها.

كما لوحظ من دراسة الدكتورة «مريان دياموند» أنّ دماغ «انشتاين» غني جدّاً في بعض مراكزه بما يُعرف بخلايا «غيليال» التي تزوّد «النيورونات العصبيّة» بالغذاء والحيويّة والإثارة، وتلك النيورونات تنقل الرسائل من الدماغ إلى الأطراف والجهاز العصبي كلّه.

كما تذكر الدكتورة أنّ لها بحثاً أجرته على الفيران باعطائهم مطلق الحرية في الحركة والألعاب، فلاحظت زيادة تلك الخلايا السابقة الذكر في أدمغتهم.

وتقول الدكتورة أنّها لاحظتْ تلك الزيادة الكبيرة لهذه الخلايا في دماغ انشتاين بالجزء الأسفل لجهة اليسار، والذي هو يعرف علاقته بالتحليل المنطقي وتجميع المعلومات.

وعليه أنّ ما تمّ عرضه من نتائج التجارب المختبرية وعلى مستوى التغيّرات الكيميائيّة أو الفيزياوية، بل كلّ جوانبها التي يلاحظ عليها النموّ والنضج والزيادة

ص: 295

في العدد والتركيز والناتجة من خلال زيادة الخبرات المكتسبة في التعلّم والتي تملأ بوعاء دماغ الخلايا ترافقها الزيادة بمكوّناتها أي الاتّساع لذلك الوعاء.

وهذه الكلمات الموجزة بالبلاغة والعظمة فتحتْ الباب بمصراعَيه ليتسابق العلماء، فيما يزداد مكوّنات الدماغ أَمْ لا في حالة زيادة التعلّم أنّ وليد تلك البيئة التى لا يعلم أهلها إلّا لغة السيف تارة ولغة الشعر تارة أخرى يدرك أنّ وعاء العلم والمتمثّل في الدماغ هو فى اتّساع يرافق اتّساع المعرفة منذ ذلك الحين.

الحسد والصحّة

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «الْعَجَبُ لِغَفْلَةِ الْحُسَّادِ عَنْ سَلَامَةِ الأجساد!» (1).

كما قال علیه السلام: «صِحَّةُ الْجَسَدِ مِنْ قِلَّةِ الْحَسَدِ» (2).

تُشير الآيات الكريمة الآتية إلى ذمّ الله سبحانه وتعالى للحسد والتحرّز بالله من شرّه، وهذا يدلّ على أهميّة الحسد وما له من تأثيرات خطيرة على كلا الطرفين الحاسِدِين والمحسودِين.

(وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (3)

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (4)

(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (5).

ص: 296


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 341.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 353.
3- الفلق: 5.
4- النساء: 54.
5- البقرة: 109.

والكلام المتقدّم هو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام، وفي كلا الموعظتين هو يحذّر من الحسد و آثاره على سلامة الجسد، فإنّ الحاسد مشغول بالانتباه والمتابعة إلى ما أنعم الله على خلْقه وفضّلهم به من تلك النِعَم الإلهيّة، متمنِّياً زوالها أو يكون هو أوّلاً بها، والتعجّب الذي أظهره أميرُ المؤمنين علیه السلام نظراً لكون الحاسد شديد الانتباه والتركيز والحسّاسية والمراقبة للناس بتفاصيل أعمالهم وحياتهم ومَلْبسهم ومأكلهم وانتقالاتهم ... ولكلّ ما يرافق حياتهم مِن نِعَم الله كيف لم ينتبه لزوال ما أنعم به عليه اللهُ سبحانه وتعالى، وهي من أسْبَغ النِعَم الإلهيّة، صحّته وسلامة جسده وأعضائه من السقم والعلل التي يخلقها الحسد بتأثيراته السيّئة والمستمرّة على وظائف الأجهزة المختلفة.

ولو نلاحظ ما يشمل الحسد ويرافقه من عمليّات عقلية ونفسية ووظيفية على الجسم، وكما يلي:

1 - ينتابه الألم لِمَا يفقده ويناله الآخرون.

2 - الهمّ والغيظ الذي يرافقه لِمَا لم يستطِع امتلاكه.

3 - شديد الانتباه والمراقبة للناس ومعرفة أحوالهم.

4 - كثير الندم والتوبيخ لنفسه على ما فاته، وعدم قدرته على أنْ يعمل ويركب ويلبس كما يرى لدى الآخرين.

5 - تلازِمُهُ حالات الغضب والضجر؛ لعدم قدرته على تحقيق ما يصبوا إليه.

6 - سوء صفاته تجعله في عزله وفشل ببناء علاقات اجتماعيّة مع الآخرين.

ومِن هنا جاء تحذير رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والنهي عن الحسد، وما يثيره من همّ وحزن وغيظ، والتي تعود بالجانب السلبي على بدن وصحّة الفرد والتأثيرات النفسية في شخصيّته، إذ يقول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «مَن نظر إلى ما في أيدي الناس طال

ص: 297

حزنه ودام أَسَفهُ» (1).

إنّ كلّ ما تمّ ذكره يُعدّ جزءاً ممّا ينتاب الحاسِد وهي تُعدّ عمليّات تحتلّ مواقع دماغ الإنسان تؤدّي عمليّات تنبيهاتها إلى حدوث استجابات وظيفية في الجسم عديدة أغلبها يدور حول زيادة الحوافز المسرعة لعمليّات تلك الأجهزة إلى مستويات فوق الحالة السوية في حالات الراحة، ممّا يسبّب إجهاد تلك الأجهزة واستهلاك قدراتها دون عمل منجز، كما أنّ استمرار عمليّات التنبيه والتحضير يكسب الفرد «تكيّفاً وظيفيّاً سلبيّاً»، ومنه التسارع في ضربات القلب يؤدي إلى ارتفاع الضغط الدموي الشرياني المُزمِن الاضطرابات المعدية، ومنها القرحة، وغيرها من الأمراض الكثيرة.

ومن هنا ذكر أمير المؤمنين في مواضع أُخرى حول الضرر الصحّي والبدني الذي يخلّفه الحسد على أصحابه، إذ يقول:

«الحسد شَرِّ الأمراض» (2).

«الحسد يُذِيْبُ الجسد» (3).

«الحسود أَبَدَأ عليل» (4).

وبالتالي أغلب الحُسّاد تجدهم هزيلي البُنْيَة الجسميّة، يميلون إلى النحافة، يعانون مِن بعض الأمراض الباطنيّة، ولأنّ الكثير من الدراسات التي تبحث أسباب الحسد و آثاره والتحقّق صدقه، غير أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ينظر إلى ما لم ينظر من إليه الآخرون من خلال التحذير من الحسد لمردوداته السلبيّة على الحُسّاد وليس على المحسودين فقط مُمَارِسٌ دورَه القيادي في معالجة الظواهر السيّئة في المجتمع.

ص: 298


1- أعلام الدين: 294.
2- غرر الحكم: 1332.
3- غرر الحكم: 981.
4- غرر الحكم: 1038.

الخمر والعقل

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«فَرَضَ اللَّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً مِنَ الشِّرْكِ، وَ الصَّلَاةَ تَنْزِيهاً عَنِ الْكِبْرِ، وَ الزَّكَاةَ تَسْبِيباً لِلرِّزْقِ، وَ الصِّيَامَ ابْتِلَاءً لِإِخْلَاصِ الْخَلْقِ، وَ الْحَجَّ تَقْرِبَةً لِلدِّينِ (1)، وَ الْجِهَادَ عِزّاً لِلْإِسْلَامِ، وَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَوَامِّ، وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ رَدْعاً لِلسُّفَهَاءِ، وَ صِلَةَ الرَّحِمِ مَنْمَاةً (2) لِلْعَدَدِ، وَ الْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ، وَ إِقَامَةَ الْحُدُودِ إِعْظَاماً لِلْمَحَارِمِ، وَ تَرْكَ شُرْبِ الْخَمْرِ تَحْصِيناً لِلْعَقْلِ، وَ مُجَانَبَةَ السَّرِقَةِ إِيجَاباً لِلْعِفَّةِ، وَ تَرْكَ الزِّنَى تَحْصِيناً لِلنَّسَبِ، وَ تَرْكَ اللِّوَاطِ تَكْثِيراً لِلنَّسْلِ» (3)

تُشير الآيتان الكريمتان التاليتان إلى حرمة كلّ مائع مسكر، حيث تَصِفُهُ الآية بأنّه رِجْس وقذر، وهو مِن عمل الشيطان الذي هدفه ايقاع العداوة ونفور القلوب عن بعضها، وهو يعود إلى تأثيرات الخمر على الجهاز العصبي المركزي والقوّة العقلية وسيطرة الشهوة البهيمية فضلاً أنّ الآيتان تصفان علاجه عن طريق اجتنابه.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (4).

والكلام المتقدّم هو من كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام وهو يعظ به على وجوب ترك الخمر؛ لِمَا له من آثار وخيمة على العقل والآن ومع تطوّر العلم أوضح بعض العلماء الآثار السلبيّة التي يسبّبها تناول الخمر على الجسم ككل وعلى الدماغ

ص: 299


1- تَقْرِبَةً أي: سبباً لتقرّب أهل الدين بعضهم من بعض، إذ يجتمعون من جميع الأقطار في مقام واحد لغرض واحد. وفي بعض النسخ: تقويةً للدين.
2- مَنْماة: إكثار وتنمية.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 350.
4- المائدة: 90 - 91.

«العمليّات العقلية» مراكز التحكّم لعمل أجهزة الجسم، ومنها:

نتيجة لاتّصاف جُزَيْئة الكحول «الايثانول» بقابليّتها السريعة بعبور غشاء الخلية الذي يتمّ من خلال طريق النقل غير الفعّال من خلال الطبقة الشحمية المزدوجة المكوِّنة للغشاء، وانّ كلّ تأثير كحول «الايثانول» يعتمد على كميّة تناوله، ويتمّ امتصاصه من خلال الغشاء المبطّن للفم والمريء والمعدة والجزء الأول من الأمعاء الدقيقة الذي يُعدّ المكان الرئيسي لامتصاص الكحول به بكمّيّات معتدله. كما يتمّ طرح الكحول عن طريق الرئتين والغدد العرقيّة، ولكنّ الكمية الكبيرة منه قابلة للأيض والتحوّل إلى «الاستيالديهايد» في الكبد.

تأثير الكحول على تغذية الجسم

كما وُجِدَ من خلال النتائج البحثيّة أنّ (1 غم) مِن كحول الايثانول يعطى حوالي (7،1 كيلو سعره)؛ لذا فإنّ شربة واحدة من الكحول تعطي (70 - 100 كيلو سعرة)، على الرغم من عدم احتواء الكحول على أيّ نوع من أنواع المواد الغذائية ك «البروتينات - والفيتامينات - والمعادن» وعليه أنّ الأشخاص المدمنين على تناول الكحول يعانون من:

* فقدان الفيتامينات ومنها حامض الفوليك وفيتامين «B6 - B1 - B3 - A».

* كما يعانون من نقص العناصر المعدنية المهمّة في الجسم، كنقص البوتاسيوم الذي يؤدّي إلى شلل العضلات وفقدان الحركات الانعكاسية للعضلات.

* ونقص المغنيسيوم الذي يؤدّي إلى ضعف الجهاز الحِسّي.

* ونقص الكالسيوم الذي يؤدّي إلى التكزز والضعف.

* ونقص الفسفور يؤدّي إلى هبوط في كفاءة عضلة القلب واختلال في الدماغ وعسر وظيفة كريات الدم البيضاء والصفيحات الدموية. وهذا الاختلال في

ص: 300

العناصر المعدنية؛ نتيجة التوازن الحامضي القاعدي في الجسم أثناء الافراط في شرب الكحول.

* كما اكتُشِفَتْ بعض تأثيراته على أجهزة الجسم ومنها «الجهاز العصبي المركزي»، انّ جرعات كبيرة من الكحول تؤدّي إلى الاختلال العصبي المحيطي الناتج من التأثير المباشر ل «الايثانول»، ونقص فيتامين «B1» والذي يعاني فيه الفرد من الخَدَر والتنمّل واضطراب الحسّ، كما أنّ الإدمان يسبّب اضمحلال المُخَيْخ، كما يسبّب مشاكل في الفَهْم والدِرَاية، وربّما يسبّب فقدان الذاكرة الوقتي.

ولعلّ مِن أخطر الإصابات للجهاز العصبي المركزي بسبب الكحول هو «اختلال الدماغ الكحولي»، فضلاً عن ما يسبّبه الكحول من أمراض نفسية وعصبيّة وتشمل:

«الحزن والقلق والهلوسة، والتخيّل والتوهّم»، وكذلك مرض: «تسمّم الانفعال الذاتي الكحولي، إذ يُصاب المريض بالهياج، والخض، والارتباك، والعنف، والجنون».

فضلاً عن زيادة نسبة هرمون الكلور تيزول في الجسم، ومنع إفراز هرمون ضدّ الإبالَة «الإدرار»، وقلّة نسبة هرمون الغدّة الدرقيّة «T3 - T4» في الجسم.

ناهيك عن ما يحدثه من اضطرابات وعلل في الجهاز الهضمي «المريء، والمعدة، والأمعاء الدقيقة» فضلاً عن اصابة تشمّع الكبد الذي أحد مضاعفاته تضخّم الطحال والالتهابات التي تصيب البنكرياس، كما يؤثّر على انتاج كريات الدم الحمراء وغيرها من مئات الإصابات التي لا حصرَ لها، كما يعدّ واحد من أهمّ تأثيرات الخمر على عضلة القلب في الإصابات التالية:

1 - اعتلال العضلة القلبية الغولي: حيث يسترخي القلب ويصاب الإنسان بضيق في النفس وإعياء عام، ويضطرب نظم القلب، وتضخّم الكبد، مع انتفاخ في القدمين، والمريض ينتهي بالموت إذا لم يرتدع الشارب عن الخمر.

ص: 301

2 - قد يزيد الضغط الدموي؛ نتيجة الادمان.

3 - داء الشرايين الاكليلية الغولي: يؤدّي إلى تصلّب و تضيّق في شرايين القلب، تتظاهر بذبحة صدرية.

4 - اضطراب نظم القلب.

من هنا جاء تأكيد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ونَهْيِهِ عن تناول الخمور، ووصفها بوصف شامل، وجعلها بمثابة الأُم للخبائث بأجمعها، إذ يقول: «الخمر أُمّ الخبائث» (1).

وعليه أَوْجَزَ أمير المؤمنين علیه السلام ما يريد تعليمه وترك العلماء بتجاربهم المعمليّة والمختبريّة يبحثون عن تلك الآثار الوخيمة لتناول الخمر، كما أوضح أهمّ ما يؤثّر عليه تناول الخمر وهو العقل.

العزائم ومقاربة النساء

شَيَّعَ أمير المؤمنين علیه السلام جَيْشاً بِغَزْيَهٍ فَقَالَ:

«أَعْذِبُوا عَنِ النِّسَاءِ مَا اسْتَطَعْتُمْ». ومعناه اصدفوا عن ذكر النساء وشغل القلب بهنّ وامتنعوا من المقاربة لهنّ؛ لأنّ ذلك يفت في عضد الحمية ويقدح في معاقد العزيمة ويكسر عن العدو ويلفت عن الإبعاد في الغزو، فكلّ مَن امتنع من شيء فقد عذب عنه والعاذب والعذوب الممتنع من الأكل والشرب (2).

تُشير الآية الكريمة الأولى الآتية إلى تأكيد فريضة الجهاد ضدّ الكفار من خلال الاستعداد والجهوزيّة للعدو بشكل يكون الأعداد فيه رهبة لعدو الله. كما تُشير الآية الكريمة الثانية إلى دناءة الفكر والتحقير لهولاء الذين عَمَتْهُم غرائزهم

ص: 302


1- ميزان الحكمة: ج 3، ص 1091.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 358، ولا يخفى أن ما بعد كلمة (ومعناه) كلام الشريف الرضي رحمه الله وليس كلام الأمير علیه السلام

بحبّ النساء والولع بهنّ وحبّ الفضّة والمال ... فإنّ كلّ ذلك متاع الحياة الدنيا، وليست الحياة الرفيعة المليئة باللذات الحقيقيّة الأبديّة.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (1).

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (2)

يقول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «اول ما عُصي الله تبارك وتعالى بستّ خصال: حبّ الدنيا، وحبّ الرئاسة، وحبّ الطعام، وحبّ النساء، وحبّ النوم، وحبّ الراحة» (3).

دوافع المقاربة

يختلف الدافع الجنسي عن غيره من الدوافع الجنسية مثل الجوع والعطش ... إذ عدم اشباعه لا يؤدّي إلى فقدان الحياة أو إلى اصابات مرضية وخيمة، فاشباع الدافع الجنسي ربّما يكون مرغوباً به مِن الوِجهة النفسية، كما أنّ جزءاً منه يكون مكتسَباً عن طريق «التعلّم»، كما أنّ شدّة الدافع الجنسي تتفاوت بين الأفراد ويعتمد على عوامل عدّة، منها: حجم البواعث وخصائصها، فضلاً عن السلوك الاجتماعي الذي يسبق المقاربة ومن خلال إحدى التجارب على الحيوانات المختبرية والتي وُضع لها عائقاً كهربائيّاً مختلف الشدّة وُجد أنّ الذكور تتّجه نحو الاناث عبر هذا الحاجز، ولكن اختلفوا بدرجات الشدّة الكهربائيّة فمنهم لا يتجاوز ذلك المانع عند

ص: 303


1- الأنفال: 60.
2- آل عمران: 14.
3- ميزان الحكمة: ج 4 ص 1359.

ارتفاع درجته الكهربائيّة، والبعض الآخر تجاوزه رغم شدّته الكهربائيّة، ولخّص العلماء أنّ درجة الحافز الجنسي متفاوت ويعتمد على: «درجة البواعث، وعلى الشريك الآخر، والبيئة، والظروف الزمانية، والتكامل الحسّي والحركي للشريكين ...».

الوظائف التوالديّة الذكريّة

وللكشف عن الوظائف التوالديّة الذكرية لأهمّيَّنها في بحثنا وإعطاء الصورة المختصرة لِمَا يدور من عمليّات كيميائيّة وعصبيّة وهرمونية وفيزيائيّة وصرفاً للطاقة واستجابات فسيولوجيّة آنية وتراكمية، تمّ تقسيم تلك الوظائف إلى ما يلي:

أوّلاً: تكوين الانطاف SPRMATOGENESIS

ثانياً: الآثار المترتّبة على المقاربة.

ثالثاً: تنظيم الوظائف التوالديّة الذكرية بالجهاز العصبي والهرموني.

ونتطرّق بشكل مختصر إلى هذه المراحل الثلاث

أولاً: تكوين الأنطاف

انّ هذه العلميّة تطلب دوراً كبيراً للجهاز العصبي والهرموني، ومِن الهرمونات التي تشارك في هذه الولادات هي:

1 - التستوستيرون: TESTOSERONE

2 - الملونت: HL» LUTEINIZING»

3 - هرمون المنبّه للجريب: FSH» FOLLICLE - STIMULATING»

4 - هرمون الاستروجينات: ESTROGENS

5 - هرمون النمو: GROWTH HORMON

وتكوّن خِصْيَتَا الشخص البالغ حوالي (120) مليون نطفة يومياً، وهي قادرة

ص: 304

على الإخصاب إذا لم تقضي بين (18 - 24) ساعة في «البربخ» من أجل تطوّر مَقْدِرَة الحركة لديها، وخلالها يتمّ تغذيتها، فضلاً عن دور هرمون التستوستيرون والاستروجينات على نضجها داخل البربخ.

كما يشارك في عمليّة قذْف الأنطاف السائل المنوي المتكوّن من الحويصلات المنوية: وهو عبارة عن مادّة مخاطيّة تحتوي على الكثير من الفركتوز والبروستا غليند والفبرينوجين والمواد الغذائية، والتي لها دور في تغذية الأنطاف في رحم الأنثى، كما تفرز غدّة البروستات سائلاً حليبيّاً يحتوي على أيونات الكالسيوم والسترات والفوسفات، كما هي الأخرى لها الدور الكبير في توفير مناخ وبيئة مناسبة لتلك الأنطاف داخل رحم الأنثى.

ثانياً الآثار المترتّبة على المقاربة

فلهذه العلميّة ولما للمواقف التنبيهيّة من دور رئيس ممّا تسبّب استثارة عصبيّة تبدأ «بالنعوظ» وهو الدور الذي تتحكّم به الباراسمبثاوية والتي تفرز أكسيد النتريك بدلاً من الاستيل كولين، والتي توسّع الشرايين والشبكة التربيقيّة للألياف العضلية الملساء والنسيج الأسفنجي والجسم الكهفي وجميعها في «القضيب»، والتي ترافقها تغيّرات في مجرى الدم لهذه المنطقة وبشكل كبير تهيئة لفعل العمل.

أمّا الدور الآخر الذي يرافق عمل الأعصاب الباراسمبثاوية هي الأعصاب السمبثاوية والتي تقوم بعملية القذف والدفق، عِلْماً أنّ ما تمّ ذكره لا يتمّ إلّا بمشاركة مجموعة كبيرة من العضلات العاملة الهيكليّة والملساء، ومنها عضلات الورك والجذع بأكمله، فضلاً عن عضلة القلب والعضلات الملساء في الأوعية الدموية، اضافة إلى عضلات أخرى مساعدة وثانوية. كما يُرافق هذه المقاربة تحوّلات كبيرة في الدم لا سيّما للعضلات العاملة، وارتفاع معدّل التنفّس وضربات القلب والناتج القلبي وحجم الدم المدفوع في الضربة الواحدة، اضافة إلى ارتفاع

ص: 305

نسبة الانفعالات، وبمجموعها تحتاج الى التحكّم والسيطرة الدقيقة من الجهاز العصبي المركزي وتأثيراته على الجهاز الهرموني.

ثالثاً: تنظيم الوظائف التوالدية الذكرية بالجهاز العصبي والهرموني

تفرز الخصيتان عدّة هرمونات جنسية تُسمّى بمجموعها الانروجينات ANDROGENS وهي تشمل كلّاً من:

1 - هرمون التستوستيرون TESTOSERONE

2 - هرمون الديهيدروتستوستیرون DIHYDROTESTORTERONE

3 - هرمون الاندروستينديون.

ويُعدّ هرمون التستوستيرون الأكبر كميّة في الجهاز التناسلي الذكري والأكثر أهميّة من باقي الهرمونات السابقة الذكر، وبعد إفرازه من الخصيتين يصبح معظمه ضعيف الارتباط مع ألبومين البلازما أو محكم الارتباط مع غلوبين بيتا والمُسمّى الغلوبين ... للهرمون الجنسي والذي يدور في الدم ولمدّة ساعة أو أكثر وعندها التستوستيرون يثبّت في الأنسجة أو يحوّل الى مواد غير فعّالة تطرح خارج الجسم، وانّ أكثر الأنسجة التي يستهدفها هي البروستاته، ومِن أهمّ وظائف التستوستيرون هى أنّه له الأثر الكبير في توليد الصفات الجنسية الذكرية والتي منها:

أ - انتشار الشعر.

ب - التأثير على الصوت.

ج - التأثير على الجلد.

د - ترسيب البروتين في الخلايا والأنسجة الجسمية.

ه - علاقته بالنمو واحتباس الكالسيوم.

و - زيادة كمية الكريات الحمراء.

ز - امتصاص الصوديوم من الكلى والمحافظة على الماء داخل الجسم.

ص: 306

و من خلال ما تمّ سَرْده وباختصار الى مراحل التوالد الذكرية وما يصاحبه من تأثيرات في التحكّم والسيطرة العصبيّة والهرمونية والجهد البدني واستهلاك الطاقة واستنزاف لقدرات الفرد من خلال ما يرافقها من تغيّرات فسيولوجيّة مختلفة کارتفاع معدّل ضربات القلب، والناتج القلبي، وارتفاع الضغط الدموي الشرياني والتهوية الرئوية، وتحويل مجرى الدم من الأعضاء العاملة الى الأعضاء غير العاملة، وما يرافقها من انفعالات، وربّما يشغل ويشارك التقارب مع النساء أغلب أجهزة وأعضاء الجسم بل يتوقّف الفرد عن التفكير بأيّ أمر غير اشباع غايته ويترتّب على ذلك سيطرة عصبيّة وهرمونية كاملة.

وانّ جميع تلك الاستجابات هي الأخرى تحتاج الى تنظيم وتحكّم بجانب التنظيم والسيطرة لعملية مقاربة النساء، وعلى سبيل المثال أنّ التحوّل في مجرى الدم يتطلّب السيطرة العصبيّة والهرمونية للتوسع في المناطق القائمة بالعمل مقابل التضييق في الأوعية في المناطق الأقل عملاً، وهكذا لباقي الاستجابات والتغيّرات الفسيولوجيّة.

وهذا جميعه يؤدّي الى خفض القدرات والقابليّات البدنية للفرد، لا سيّما إذا تكرّر ذلك أكثر من مرّتين أو ثلاث مرّات في الأسبوع، وانّ ما تحدّثنا عنه التغيّرات المرافقة الفوريّة لهذه العمليّة وعليه تحذير أمير المؤمنين علیه السلام يشمل الآثار الفورية والمستقبليّة في حالة الإكثار من المقاربة، إذ فضلاً عن الجهد البدني وصرف الطاقة والتغيّرات الحادثة في الجهاز الدوري التنفّسي وفقدان الفركتوز والكالسيوم والفوسفات والبروساغلنيد ... ويرافقه من تغيّرات في البيئة الداخلية، فإنّ تلك البيئة تحتاج الى عدد من الساعات بل ربّما تصل الى (24) ساعة، والى تغذية وعدد من ساعات النوم من استرجاع البيئة الداخلية وتعويض ما فقده، وعليه كيف إذا تمّ تكرار هذه العلميّة أكثر من (2 - 3) مرّة أسبوعيّاً فعليه ستكون عمليّات الهدم

ص: 307

أكثر من عمليّات البناء، وبالتالي أنّ هذه العلميّة الممارسة بكثرة ستتسبّب خفض قدرات الفرد الممارِس.

أمّا الجانب الآخر الذي حذّرتْ منه الموعظة هو الدعوى الأخرى للابتعاد عن شغل التفكير في النساء؛ كون ذلك يُعدّ من الاهتمام بالجوانب الدنيوية الزائلة التي تضعف العزيمة والإصرار أمام الأمر الأهم والأسمى وهو الدفاع عن الدين والمذهب، كما أنّ من دواعي الابتعاد هو شغل التفكير بالاستعداد من خلال تركيز الانتباه لمواجهة الأعداء والدفاع عن مبادىء الدين الحنيف.

منظّم ضربات القلب

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«يَا أَيُّها النَّاسُ، مَتَاعُ الدُّنْيَا حُطَامٌ (1) مُوبِيءٌ (2) فَتَجَنَّبُوا مَرْعَاهُ (3)! قُلْعَتُهَا (4) أَحْظَى (5) مِنْ طُمَأْنِينَتِهَا (6)، وَبُلْغَتُهَا (7) أَزْكَى (8) مِنَ ثَرْوَتِهَا، حُكِمَ عَلَى مُكْثِرٍ مِنْهَا بِالْفَاقَةِ (9)، وَأُعِينَ مَنْ غَنِي عَنْهَا (10) بِالرَّاحَة مَنْ رَاقَهُ (11) زِبْرِجُهَا (12) أَعْقَبَتْ (13) نَاظِرَيْهِ كَمَهاً (14)، وَمَنِ اسْتَشْعَرَ الشَّغَفَ (15) بِهَا مَلَأَتْ ضَمِيرَهُ أَشجاناً (16)، لَهُنَّ رَقْصٌ (17) عَلَى سُوَيْدَاءِ قَلْبِهِ (18): هَمُّ يَشْغَلُهُ، وَغَمُ يَحْزُنُهُ،

ص: 308


1- الحُطام - كغُرَاب - : ما تكسر من يبس النبات.
2- مُوبِيء أي: ذو وَباء مُهْلك.
3- مَرْعاه: محلّ رَعْيِهِ والتناول منه.
4- القُلْعَة - بالضم - : عدم سكونك للتوطّن.
5- أحظى أي: أسعد.
6- طمأنينتها: سُكونها وهدوؤها.
7- البُلْغَة - بالضم - : مقدار ما يُتَبَلّغُ به من القُوت.
8- أزكَى - هنا - : أَنْمَى وأكثر.
9- المُكْثِرُ بالدنيا: حكم الله عليه بالفقر، لأنه كلما أكثر زاد طمعه وطلبه، فهو في فقر دائم إلى ما يطمع فيه.
10- غَنِيَ - كَرَضِيَ - استغنى.
11- رَاقَه: أعجبه وحَسُنَ في عينه.
12- الزبْرج - بكسر فسكون فكسر - : الزينة.
13- اعْقَبَت الشيء: تركته عُقِبها أي بعدها.
14- الكَمَهُ - محركة - : العَمَى.
15- الشَغَف - بالغين، محركة - : الوَلُوع وشدّة التعلق.
16- الأشْجان: الأحزان.
17- رَقْص - بالفتح وبالتحريك - : حركة واثب.
18- سُوَيْداء القلب: حَبّته.

كَذلِكَ حَتَّى يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ (1) فَيُلْقَى (2) بِالْفَضاءِ مُنْقَطِعاً أَبْهَرَاهُ (3)، هَيِّناً عَلى اللهِ فَناؤُهُ، وَعَلَى الْإخْوَانِ الْقَاؤهُ (4).

وَإِنَّمَا يَنْظُرُ الْمُؤْمِنُ إِلَى الدُّنْيَا بَعَيْنِ الْاعْتِبَارِ (5)، وَيَقْتاتُ (6) مِنْهَا بِبَطْنِ الاضْطِرَارِ (7)، وَيَسْمَعُ فِيهَا بِأُذُنِ الْمَقْتِ (8) وَالْإِبْغَاضِ، إنْ قِيلَ أَثْرى (9) قِيلَ، أَكْدَى (10)! وَإِنْ فُرِحَ لَهُ بِالْبَقَاءِ حُزِنَ لَهُ بِالْفَنَاءِ!» (11).

انّ أحد مضامين الآيات الكريمة الآتية تُشير الى ضرب من ضروب النصر الذي وعد الله سبحانه وتعالى به رسولَ الله صلی الله علیه و آله و سلم، وهو القاء الرعب والخوف في قلوب الكافرين وما لذلك من تأثيرات على وظائف الإنسان وسلوكه وإدراكه، ولا سيّما عضلة القلب وجهاز الدوران.

(ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (12).

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ۖ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (13).

(وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ

الرُّعْبَ فِرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) (14)

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يعظ الناس بأنّ هذه الدنيا

ص: 309


1- الكَظَم - محركة - : مَخْرَج النفس.
2- يُلْقى: يُطرح ويُنْبَذ.
3- الأبْهَرَان: وَرِيدا العنق، وانقطاعهما كناية عن الهلاك.
4- إلقاؤه: المراد - هنا - طرحه في قبره.
5- الاعتبار: أخذ العِبرة والعِظَة.
6- يَقْتَات: يأخذ من القُوت.
7- بطْن الاضطِرَار: ما يكفي بطن المضطر، وهو ما يُزيل الضرورة.
8- المَقْت: الكُرْه والسخْط.
9- فلان أثْرَى أي: اسْتَغْنى.
10- أَكْدَى أَي افْتَقَرَ.
11- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 404.
12- الحاقّة: 46.
13- آل عمران: 151.
14- الأحزاب: 26.

هي الوسيلة لغاية؛ ولذا كان يصف الدنيا ومتاعها بأنّها مرعى موبيء بالمرض، وعليه مَن تعلّق حبّه بها ضمنت له ذلك المرض الذي كبره عنه يملأه أحزاناً وواضح تأثيرات ذلك الحزن بما تُحْدِثُهُ من اضطرابات على عضلة القلب والتنفّس والوعاء الدموي، الى أنْ يلقى حَتْفَه.

العقدة الجيبية - الأذينيّة

يوضّح مولانا أمير المؤمنين علیه السلام العلاقة بين العوامل النفسية التي تعقد عمليّات عقلية ذات تأثيرات مباشرة على الجسم، وقد خصّصت من تلك التأثيرات ما تحدثه من اضطرابات وسرعة الحركة على تلك العقدة التي وصفها سويداء قلبه، والتي تُعدّ الجزء المنظّم لضربات القلب والمكوَّنة من ألياف متخصّصه لها القدرة على زوال واعادة الاستقطاب وإظهار الحافز الى العضلة القلبية الذي يكون في الحالات الطبيعية (70 - 74 ض / د)، وهناك عدّة عوامل تؤثّر على ارتفاع وانخفاض معدّل ضربات القلب، ولكنّ الذي يخصّ حديثنا هو ذلك الهم والحزن والجزع بسبب زيادة حادّة في معدلات ضربات القلب من خلال زيادة الحوافز العصبية السبمثاوية المسرعة لتلك العقدة الموصَلَه معها، كما أنّ وصف ذلك الارتفاع يعكس بصورة غير مباشرة عمّا يدور في الجسم من زيادة عمليّات التنفّس وتحرير الطاقة وسرعة جريان الدم وتوتّر العضلات الهيكليّة، وهذه التغيّرات التي تصبح ملازمة له مع استمرار عدم القناعة والرضا وزيادة الطموح غير المشروع الذي يصاحبه الحزن والنكد والندم والتوتّر المستمر، ويتعرّض له من عدم الشهيّة فيجعله معرّضاً للأزمات الصحيّة الحادّة التي ربّما تؤدّي الى حَتْفِه.

ومن هنا جاء التحذير للنهي عن الجزع وما يرافقه من حزن وهمّ وما له من تأثيرات خطيرة على الفرد إذ يقول أمير المؤمنين علیه السلام في مواضع أخرى ما يلي:

ص: 310

«أيّاك والجزع، فانّه يقطع الأمل، ويُضْعِف العمل، ويورث الهمّ» (1).

«الهَمّ يُنْحِلُ البَدَن» (2).

وبالتالي المزاد آنئذ الافراط في الجزع والهمّ والحزن ليس له مبرّره؛ لأنّ ذلك يُعدّ قضاء وقدراً، وبالتالي آثار ذلك الافراط هو تعذيب للنفس وهلاكها، إذ يقول الإمام الصادق علیه السلام:

«إنْ كان كلّ شيء بقضاء وقدر، فالحزن لماذا؟» (3).

الرئتان والشرايين

(والصُّبْح إذَا تَنَفَّسَ) (4).

كما وصف أمير المؤمنين علیه السلام مع تلك الاضطرابات لعضلة القلب المستمرّة تكون نهايتها انقطاع وظائف التنفّس والأبهرين، وهنا كان الربط بين جهاز التنفّس وعضلة القلب والوعاء الدموي في خطبة أمير المؤمنين علیه السلام لأسباب وظيفية دقيقة، كون مناطق التحكّم في جذع الدماغ لعضلة القلب والجهاز التنفسي في موقع واحد وعمليّة تحفيزها يكون مرتبطاً معاً، وكذلك تثبيطهما معاً، وعليه العلاقة طرديّة وانّ أي مظاهر للاصابة في إحداهما تنسحب على الآخر.

كما أنّ توقّف عمل الرئتين أي وصول الأوكسجين الى الجسم ككل والى عضلة القلب ممّا اسكت ذلك عمل القلب والدماغ وباقي الأجهزة فوصفه مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بالانقطاع. فضلاً عن أنّ عدم وصول الأوكسجين يعني توقّف عمليّات تحرير الطاقة في الخلايا أي توقّف الحياة.

ص: 311


1- غرر الحكم: 214.
2- ميزان الحكمة: ج 2 ص 806.
3- أمالي الصدوق: 16/5.
4- التكوير: 18.

علاقة القرارات بالنوم

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «وَاطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِر (1)، وَلَا تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَوَلِيمَةٌ (2)، وَمَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ، أَمحَى الظُّلَمَ (3) لِتَذَاكِيرِ الْهِمَمِ!» (4).

والكلام المتقدّم هو من كلام مولانا أمير المؤمنين وفيه يوضّح هناك مَن يثير انفعالاته ويعقد النيّة لعمل معيّن، ولكن تبدّدت تلك العزائم بعد نومه فما هو السرّ الذي يربط عقد العزيمة وتبدّدها بعد النوم؟ ما هو إلّا إشارة من مولانا أمير المؤمنين علیه السلام للفروقات الحادثة لِمَا عليه الجسم بين اليقظة والنوم وواحدة من تلك المؤثّرات التي يثيرها النوم على الإنسان هو فقدان العزيمة.

وعليه أنّ الإنسان في حالة اليقظة يكون بكامل فعّاليّاته الحيويّة ومنها العقلية، وبالتالي فعند التفكير في أمرٍ ما تستثيره الحوافز ويُدرِك بواعث ذلك الأمر ويسلّسل الأفكار ويستدعي الصور المخزونة والذكريات ويرسم في مُخَيَّلته الأهداف والسبل لها وعندها يعقد العزيمة باتّخاذ القرارات المناسبة باتّجاه ذلك الأمر وكلّ ذلك يتم التحكّم به في مواقع الدماغ وباحاته.

ولكن عندما يذهب ليخلد الى النوم يكون الفعل المعاكس لليقظة أنْ يصاحب النوم انخفاض لأغلب فعّاليّات الأجهزة الحيويّة بمستوى (15 - 30 %) من مستواها، والى تحفيز الأعصاب المثبطة «الباراسمبثاوية» التي تقوم بهذا الدور بشكل كبير مع باقي الأجهزة الأخرى، فضلاً عن توقّف التفكير في ذلك القرار

ص: 312


1- اطووا فُضول الخواصر: أي ما فضل من مآزركم يلتف على أقدامكم، فاطووه حتّى تَخِفّوا في العمل ولا يعوقكم شيء عن الإسراع في عملكم. وفي بعض النسخ: وأوطئوا فضول الخواصر.
2- لا تجتمع عزيمة ووليمة: أي لا يجتمع طلب المعالي مع الركون إلى اللذائذ.
3- الظُلَم - جمع ظُلْمة - : متى دخلت محت تذكار الهمة التي كانت في النهار.
4- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 476.

المُتَّخذ أثناء النوم، وانّ أكثر المواقع تأثيراً في حدوث النوم في الدماغ «الهيبوثلامس»، وهو الآخر يؤدّي ضبط وظائف الجسم الهامّة للحياة، مثل ضبط تغيّرات الضغط الشرياني وتوازن سوائل الجسم والحواس والأملاح ... فضلاً عن دوره في اللذّة والألم والثواب والعقاب والتفكير والحزم والانتباه، والتي لها دور في تجمّع العزائم واقتصادها، وبالتالي عند النوم ينخفض دور وظائف الهيبوثلامس من خلال اطفاء عمل المناطق السلوكيّة والانفعاليّة، كما أنّ نشاط الهرمونات التي تُحفَّز من خلال الهيبوثلامس هي الأخرى تنخفض وظائفها مثل الهرمونات التي تفرزها الغدّة النخامية التي تقوم بوظائف تُثير القشرة الكظرية والتي تقوم بافراز مادّة «الابنفرين والنوربنفرين» المحفِّزة والمسرّعة للعمليّات والفعّاليّات الحيويّة بالجسم، وهي الأخرى لها دور في تحفيز مستوى التوتّر والشدّ لدى الأفراد.

ومِن هنا جاء نهي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن كثرة النوم والخلود إليه والذي يعدّ أحد أسباب النهي ما تمّ ذكره إذ يقول:

اول ما عُصي الله تبارك وتعالى بستّ خصال: حبّ الدنيا، وحبّ الرئاسة، وحبّ الطعام، وحبّ النساء، وحبّ النوم، وحبّ الراحة» (1).

الضحك والعقل

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَرْحَهً إِلَّا مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّةً» (2).

تُشير الآيات الكريمة التالية الى وعيد الله تعالى للكافرين الذين استهزؤوا وسخروا وكانوا يضحكون على المؤمنين فى هذه الدنيا، فالنار مثواهم سوف يبكون كثيرا، ولا يعني ذلك تحريم للضحك فكلٌّ منهم هو خلْق الله تعالى ولكنّ الفعل من الإنسان وأُسلوب ومكان وزمن وأسباب استخدامه كلّه بيد الإنسان وبارادته.

ص: 313


1- ميزان الحكمة: ج 4، ص 1359.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 479.

(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (1).

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ) (2).

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (3).

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يعظ الناس ويحذّرهم من تأثيرات المزاح الذي يعني لغويّاً: «الهزل، والمداعبة، أو ازاحة الأمور عن الحقّ، وكذلك تعني الضحك والسخرية». كما هناك نهي آخر لأمير المؤمنين عن الضحك ونقله وهو في وصيّته لابنه الإمام الحسن علیه السلام: «اياك أنْ تذكر من الكلام ما يكون مضحِكَاً وانْ حكيتَ ذلك مِن غيرك» (4).

وقبل البِدء بايضاح تأثيرات الافراط بالمزاح والضحك وما هي مردوادته السلبيّة على أجهزة ووظائف الجسم، يجب بيان ليس المراد هو رفض فكرة المزاح والضحك ولكن هو النهي عن الافراط فيه، وممّا يؤثّر في شخصية الإنسان سَلْبَاً، وبالتالي فَقَدَ اعتبارَه واحترامه والتنازل عن مقتضيات الوِقار والحشمة، وربّما لم يؤكّدها أمير المؤمنين علیه السلام من خلال كلماته في هذا النصّ؛ لكونها لا تخفى عن سلوك المجتمع آنذاك، وبالتالى أوضح أميرُ المؤمنين علیه السلام وجوهاً أخرى غير ظاهرة للعيان ولم يتمكن أبناء العصر السابق وعلى مرّ العصور بالتحقّق منها إلّا في الوقت المعاصِر: لِمَا تحتاج من عمليّات بحث يُسْهِم فيها علم الفسيولوجي والبيوكمستري وعلوم أخرى ... كون الافراط في الضحك يُحدِث تأثيرات وتغيّرات في وظائف الجسم تشمل من لحاء المخ الى أخمص القدم.

ص: 314


1- المؤمنون: 110.
2- النجم: 43.
3- التوبة: 82.
4- نهج البلاغة: ج 3 ص 56.

مواقع الضحك في الدماغ

يُذْكَر أنّ علماء الفسلجة وأخصائيي الأعصاب والباحثين من النفسانيّين والتربويّين استنزفوا زمناً وجهداً كبيراً لمعرفة ما الذي يبعث الضحك؟

وما الذي يجري في أبداننا عندما نضحك؟

وهل هو حالة مرضية أَمْ علاجيّة؟

وهذا يدلّل على أهميّة هذه الظاهرة الحركيّة الإراديّة التي تتحكّم بها مواقع في دماغ الانسان والتي تبدأ أصوات الضحك مع الشهر الخامس أو السادس لدى الأطفال.

وهو يحدث نتيجة لتنبيهات ربّما تكون خارجيّة أو التذكر لمواقف معيّنة، وفي بعض الأحيان عندما يكون الإنسان متكدّراً لا يمكن لأحد إضحاكه حتّى لو عرضه الى تنبيهات ومواقف مضحكة، كما يمكن أنْ يُثار الضحك بلا سيطرة عن طريق التحضير الميكانيكي لأجزاء معيّنة في الدماغ، أو عن طريق الاخلال بأدائه الوظيفي بواسطة عقاقير كيمياوية تؤدّي الى انبعاث الضحك الشاذ، وهذا ما يحدث عند اصابة ما تحت المهاد «الهيبوثلامس» الذي يُشكّل قاعدة المخ والمنظِّم للانفعالات، ويحدث الشيء نفسه عند تعرّض المناطق الواقعة بين ما تحت المهاد والمخ الشوكي وكذلك بين العصب الصدري والجبهي للمخ. كما أنّ الكحول «الخمر يُثير الضحك وبلا سيطرة عليه، وكذلك الكوكايين، وغاز الضحك، وأُوكسيد الازوت».

هناك أمراض عديدة تُصيب المجموعة العصبيّة وتُثير نوبات الضحك، وقد انتشر في مطلع العشرينات في أفريقيّة الوسطى في منطقة البحيرات الكبرى مرضٌ غامض سبّب «نوبات الضحك» لدى الفتيات، وقد أدّى الى وفاتهنّ من جرّاء انهاك الجهاز العصبي.

ص: 315

التغيّرات الفسيولوجيّة المصاحِبة للضحك

يحدث العديد من التغيّرات الفسيولوجيّة المصاحِبة للضحك، ومنها:

1 - تقلّص عضلات الوجه، وانفراج الشِفَاه، وترتفع زاوية الفم الى الأعلى و تنجذب الشفة العليا، وترتفع الحواجب، وتظهر تجاعيد عميقة مع اتساع الخياشيم قليلا.

2 - يقترن تقلّص العضلات بأصوات قوية أحياناً يبعثها التنفّس العميق المتعقّب بتقلّصات تشنجيّة قصيرة في الحجاب الحاجز والحنجرة ولسان المزمار، والتي تبلغ في الحالات الاعتيادية ثمانية عشر تقلّصاً وتهزّ جميع القفص الصدري.

3 - وعندما يكون الضحك قويّاً يستقيم الجذع ثمَّ يبدأ بالانحناء الى الخلف لغاية ما ينحسر شدّ الحجاب الحاجز والعضلات المساعدة، وفي بعض الإصابات لا يستطيع بعض الناس أثناء الضحك الوقوف على أرجلهم «فينهارون» ويصل الحال ببعضهم الى أنّهم يتدحرجون على الأرض.

4 - كما يُسبّب توسّعاً في الشرايين والشُعَيرات القريبة من جلد الوجه، وربّما يشمل الرأس والرقبة، بل حتّى اليدين.

5 - كما يؤدّي الى بروز العينين عن محجريهما، وتنشط الغدد الدمعيّة.

وعليه ما تمّ ذكره هناك وظائف عديدة تُرافِق ظاهرة الضحك، وعليه أنّ الهزل والضحك المستمر هو استنفاذ لعزائم وقابليّات وقدرات الفرد، فضلاً عن صَرْف مخازن الطاقة بأداء تلك الوظائف مع اضافة أعباء وجهود اضافية على تلك الأجهزة العاملة.

ويمكن من خلال تشابه آثار التحفيز لمناطق الدماغ لأحداث ظاهرة الضحك مع تأثيرات تناول الكوكايين والغاز المضحِك والكحول يمكن التأكّد من الآثار السلبيّة للضحك والامتناع عنه.

ص: 316

ومن خلال ذلك قد طبل الكثير بآثار الضحك على العلاج النفسي والعلاج للاصابات المرضية، وبالتالي فما ذكروه هم أنفسهم قاموا بتفنيده، فيجب علينا الالتزام بما ذكره رسولنا العظيم صلی الله علیه و آله و سلم هو وأمير المؤمنين علیه السلام والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين، الذين لم يتركوا باباً إلّا طرقوه، ولم ينسوا أمراً نحن نحتاجه سَلْباً أو ايجاباً، فخطّ أمير المؤمنين علیه السلام الآثارَ السلبيّة للضحك مِن ذلك الزمن، وترك الأمر الى أولي الألباب للتفكّر واختيار ما تقرّ به بصيرتُهم.

الوقاية مِن الإصابات

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«اضرّ الناس أنفسهم في ثلاثة أشياء: الإفراط في الأكل اتّكالاً على الصحّة، وتكلّف حمل ما لا يطاق اتّكالا على القوّة، والتفريط في العمل اتّكالاً على القدرة» (1).

تُشير الآيتان الكريمتان الآتيتان الى كلّ ما يصيب الناس من نوائب، فهي ممّا كسبت أيديهم، وبالتالي اللجوء الى الله تعالى بالدعاء برفع التحميل الشاقّ عليهم ودعوتهم بعدم تحميلهم ما لا يستطيعون تحمّله. وعلى الرغم مِن ما تعيّنه الآية من التكليف الشرعي، فإنّ ذلك لا يبتعد عن النصيحة بعدم ظلم النفس بتحميلها فوق طاقتها، بل العمل على وقايتها لاستمرار قدرتها على العمل والعطاء.

(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (2).

(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ

ص: 317


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 533.
2- الشوری: 30.

الْكَافِرِينَ) (1).

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يعظ فيه العامّة في كيفيّة الوقاية من الإصابة وإبعاد أشباحها، وهو في معرض كلامه يتحدّث عن فروع من علم الطبّ وهو:

علم الطبّ الريّاضي.

وكذلك في فروع علم الطبّ الرياضي وهي:

* «علم التغذية».

* و «علم الإصابات والوقاية منها».

* و«الإجهاد».

وهي علوم استُحْدِثَتْ في وقت ليس ببعيد، وبالتالي فهي تحمل معاني علمية جمّة.

علم التغذية

إنّ علم التغذية هو أحد العلوم الحديثة والتي تنضوي تحت علم الطبّ الرياضي: وهو العلم الذي يفسّر العلاقة بين الغذاء ووظيفة الإنسان من خلال تناول الغذاء وتحرير الطاقة والنمو. وهو يعدّ من العلوم التي تشغل الدول المتقدّمة والنامية وباتّجاهات مختلفة ومنها بناء جيل قوى البنية متمتّع بالصحّة الجسميّة والعقلية والقدرة الانتاجية.

وانّ ما يمرّ فيه الإنسان في مسيرة حياته من ظروف سايكولوجيّة بين الفرح والحزن والأمان والقلق والخوف والتوتّر ... تجعله ربّما يفرّط أو يعزف عن تناول

ص: 318


1- البقرة: 286.

الأغذية، وكلاهما يسبّب أمراض تُسمّى بأمراض سوء التغذية، كما أنّ عدم تفهّم العلاقة بين ما يناسب الإنسان من نوعيّة أو كمية الغذاء وقيمها الحرارية، فضلاً عن اختلاف أهمِّيَّتها حسب النوعيّة أو الكمّيّة حسب المراحل العمرية وخارجية الجهد والنشاط المؤدَّى، يكون فيها الإنسان مهيّئاً الى الإصابة المرضية الغذائية، والتي ربّما تكون عوناً الى هلاكه.

ومِن هنا جاء الوصف والتنبيه حول الحمْيَة والوقاية من الأمراض، وتنظيم العلاقة مع الغذاء، إذ يذكر الإمام الكاظم علیه السلام في هذا الموضع:

«الحمْيَة رَأْسُ الدواء والمعدة بيت الداء، عوّد بَدَنَاً ما تعوّد» (1).

ومِن هنا كان التأكيد وفي مواعظ كثيرة على عدم الافراط في التغذية؛ بسبب أخطارها الآنية والمستقبلية على الإنسان.

فالآنيّة: وهي التي تُسبّب إحدى نتائجها التخمة وسوء الهضم والتي تمّ ذكرها سابقاً.

والثانية المستقبليّة: فإنّ الاستمرار في الافراط في التغذية يكون أحد أسباب الأمراض المستعصية والمزمنة والزحف المبكّر للشيخوخة، ومن تلك الأمراض التي لا حصر لها:

1 - الجلطة الدماغيّة والقلبيّة.

2 - ارتفاع الضغط الدموي الشرياني المُزْمِن.

3 - مرض السكّر المُزْمِن.

4 - التشمّع الكبدى.

5 - أمراض الكلى.

6 - داء النقرس.

ص: 319


1- ميزان الحكمة: ج 3، ص 1261.

وغيرها من الأمراض التي تمّ تحديدها من قِبل الأطبّاء والتي ربّما سيَكشِف عنها الزمن المقبل.

كما يذكر الإمام السجّاد علیه السلام في أهميّة الاهتمام بالتغذية ولكن ضمن الحدود، ولِمَا هذا التنظيم من مردودات كثيرة للجسم من الناحية الصحية والجسديّة والتعلّم والمعرفة، إذ يقول:

«إنّ العاقل عن الله الخائف منه العامل له، يمرّن نفسه ويعوّدها الجوع، حتّى ما تشتاق الى الشبع، وكذلك تضمر الخيل لسبق الرهان» (1).

ومن هنا جاء التأكيد المستمر الأمير المؤمنين علیه السلام في تنظيم العلاقة حسب الوظيفة وحاجة الجسم ومستوى الجهد المؤدَّى من قِبل الفرد لإبعاد خطر الإصابات والتعرّض للآفات المرضية، إذ يقول:

«أَسْهِرُوا عيونكم، وضمّروا بطونَكم، وخذوا مِن أَجْسَادِكُم، تَجُوْدُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُم» (2).

علم الإصابات والوقاية منها

أمّا الجزء الآخر الذى شملتْه الموعظة يخصّ «تكلّف حَمْل ما لا يطاقه اتّكالاً على القوّة» و «التفريط في العمل اتّكالا على المقدرة» هما تعدّان من إحدى النصايح التي تُسْدَى الى العاملين في جميع مجالات الحياة، والتي يُرافق عملهم حمْل الأثقال والحاجيّات، ومنهم العاملين في الحقل الريّاضي، وكذلك لعامة الناس الذين يمارسون أنشطتهم اليومية إذ يتّضح منها أنّه تحذير عن التكلّف بالأَحْمَال التي لا طاقة للفرد بها، فإنّ ذلك سوف يكون أحد نتائجه هو الإصابة الحتمية.

ولو استعرضنا تعريفاً للاصابة فهي: «تأثّر نسيج أو مجموعة من أنسجة الجسم

ص: 320


1- ميزان الحكمة: ج 1، ص 116.
2- ميزان الحكمة: ج 4، ص 1527.

نتيجة مؤثّر خارجي أو داخلي، ممّا يؤدي الى تعطيل عمل أو وظيفة ذلك النسيج».

والمؤثّرات نوعان هما:

1 - الخارجي: وهو ربّما الاصطدام بأداة أو آلة أو رفع ثقل معيّن.

2 - الداخلي: و هو نتيجة الاستمرار في العمل ولفترة طويلة فوق قابليّة الإنسان، ممّا يسبّب استنفاذ الطاقة وتراكم الأحماض «حامض اللاكتيك» وفقدان الأملاح ...

الإجهاد

كما يمكن أنْ نستشفّ جانباً آخر من الموعظة لا سيّما المقطع الأخير «والتفريط في العمل اتّكالاً على المقدرة»، إذ الاستمرار في العمل دون قابليّة الفرد ودون فترات من الراحة البينيّة والتعويض للسوائل والطاقة لا يؤدّي الى عمليّة التعويض، وبالتالي ينتج عنه الإصابة، ومن هنا جاء اهتمام العلماء في علم الفسيولوجي الى صنوف العمل الذي يستمرّ فيه وقت الدوام الى (14 - 16 ساعة) يوميّاً وبشكل عنيف، ولاحظوا حدوث عدد من التغيّرات ومنها تعرّض هؤلاء الى اصابات كثيرة؛ وهذا ناتج كما وضّحه أميرُ المؤمنين علیه السلام أنّهم يتكلّون على المقدرة تاركين قابليّتهم الحقيقيّة.

ويشير «هيند ريكسون» 1994 بهذا الصدد الى أنّ أعراض هذه الظاهرة وما تُسبِّبه الى الفرد من مخاطر كثيرة تصل الى (50) علامة خارجيّة وداخلية، ويمكن ايجازها بما يلي:

1 - انخفاض المقاومة العامّة للجسم، وتظهر الإصابة في ارتفاع درجات الحرارة والصداع وربّما الطَفَح الجِلْدِى

2 - أَلَمٌ فوق المتوسّط في عموم الجسم، ولا سيّما في الأماكن الأكثر استخداماً.

3 - فقدان الرغبة في معاودة العمل.

ص: 321

4 - الشعور بالكآبة والقلق والأرق الليلي، والعزوف عن النوم.

5 - فقدان الشهيّة عن الأكل.

وفي دراسة أخرى يرجع أسباب التعرّض الى الإصابة والأخطار التي تواجه العاملين أثناء الافراط في العمل لبعض مؤثّرات الجهاز العصبي السمبثاوي والباراسمبثاوي، والتي تنعكس على المفرطين لا سيّما كما وصفهم أمير المؤمنين بالتفريط في العمل «الاجهاد» ممّا يسبّب ارتفاع ضربات القلب نتيجهَ الحوافز العصبيّة السمبثاوية وانقاص الوزن وارتفاع الضغط الدموي.

وبالتالي يمكن الاستدلال من هذه الموعظة البالغة الأهمية والتي توضّح العديد من الجوانب العلميّة والتي خصّصت لها الأجهزة والكوادر وسخّرت لها العقول، حتّى أثبتتْ في عصرنا الحالي أنّ أمير المؤمنين علیه السلام يحذر من مساوىء التفريط في العمل: لِمَا لها من مخاطر جمّة، وبالتالي يجب مراعاة ما يلي:

1 - العمل ضمن القابليّة والمقدرة للفرد.

2 - الاهتمام بفترات الراحة أثناء أداء العمل الشاقّ وبين وجبات العمل اليوميّة.

3 - الاهتمام بساعات النوم لأنّها أحد وسائل اعادة الأجهزة الحيويّة الى عملها الطبيعي.

4 - الاهتمام بالتغذية، ولا سيّما بشكل يناسب خارجيّة العمل والجهد المؤدّي.

وكلّ ما ذكرناه المراد به الوصول الى حالة الاستشفاء والتعويض للطاقة؛ لأمكانية معاودة العمل بنفس الهمّة والقابليّة ولإبعاد خطر الإصابة.

الصفات البدنيّة

كما يتّضح من عموم الموعظة أنّ أمير المؤمنين علیه السلام ينبّه إلى أنّ الإنسان يمتلك صفات بدنية، وأعطى نوعين منها وهما يتناسبان مع نوع الفعل الموصوف في

ص: 322

الموعظة الأولى وهي: «صفة القوّة» والتي استعارها لحمل الأثقال التي يتكلّف فيها الفرد. والثانية: «المقدرة» وهي ربّما المراد بها الجلد أي «المطاولة» أو خليط بين الصفتين «القوة والمطاولة»، إذ لا يمكن الاستمرار في العمل لفترة طويلة بصفة السرعة، ولكن من خلال صفة المطاولة، وبالتالي هذه الصفة هي الأخرى تحتاج القوّة بين ثناياها.

البدن والحكمة

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«قُوْتُ الأجسامِ الغذاءُ، وقُوْتُ العقولِ الحِكْمَهُ، فَمَتَى فَقَدَ واحدٌ منهما قوتَه بَارَ واضْمَحَلَّ» (1).

تُشير الآيتان الكريمتان التاليتان الى العلاقة بين البُنية الجسميّة والعقلية، فكلُّ منها مُكَمِّل للآخر، وذو ارتباط وثيق به فلا يمكن اكتساب الحكمة مع الافراط في الغذاء، كما لا يمكن الاستمرار بالبناء الجسمي دون التغذية المناسبة، فضلاً عن أنّ سلامة العقول تحتاج الى تشجيع على اكتساب العلوم. وبالتالي تحدّد الآيتان العلاقات بين التعلّم والقدرات العقلية والبُنية الجسميّة والمتناوَل من الغذاء.

(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) (2).

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (3).

ص: 323


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 541.
2- المنافقون: 4.
3- البقرة: 247.

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام الذي يَعِظُ فيه العامّة بحاجة الإنسان الى الاهتمام ببناء الجسم والعقل على حدٍّ سواء وبشكلٍ متوازِن؛ إذ لا فائدة من جسم يمتلك الصحّة والقوّة وفاقد الحكمة، فكم من عاقلٍ رشيدٍ لا يمتلك البنية الجسديّة السليمة لا يتمكّن من ترجمة تلك الأفكار والعمل بها، وبالتالى لتحقيق الفاعليّة في المجتمع لا بدّ من التركيز على الجانبين البَدَني والعقلي، كما أنّ الاهتمام بحاجة الأجسام على حساب النضج التربوي والذهني يُعدّ هَدْرَاً للاقتصاد والانتاج وَعَدّ القدرة على التعامل بشكل ينسجم مع آليّة الماكنة أو أساليب العمل المختلفة، كما أنّ فقدان البُنية الجسديّة والاهتمام بالجانب المعرفي يُوقِف التقدّم في نهضت المجتمعات، فإنّ الحركة أساسية في التطوّر والتقدّم.

كما يتّضح من الموعظة أنّ ادامة البناء الجسمي لا يمكن أنْ يتمّ إلّا من خلال شِقَّين أساسيَّين:

أوّلهما: الاهتمام بالنشاط والحركة وِفق طاقة الإنسان في ميادين العمل.

وثانيهما: ادامة التعويض الحادث لذلك الاستنزاف الحادث للطاقة والمتهدّم من الخلايا، وبناء الخلايا الجديدة من جرّاء الحركة من خلال التغذية المنظّمة.

كما يتّضح ممّا نَسْتَشِفّه من الموعظة بأنّ الانقطاع أو سوء في التغذية له مؤثّراته الكبيرة على الجسم، وهناك - حالياً - ما يُسمّى ب «أمراض التغذية» والتي تحدث في حالتَي تجنّب الغذاء أو الافراط به؛ ولهذا قد قرن أمير المؤمنين علیه السلام فقدان الغذاء أو حرمانه يؤدّي الى الهلاك والتوقّف عن أداء النشاطات والأعمال والاضمحلال وهذا يفسّره العِلْم الحديث.

انّ عدم التغذية يؤدّي الى مشاكل كثيرة تؤدّي بالفرد الى: «الوهن والضعف، وانخفاض الوزن» الناتج عن تغذية الفرد على مقدّراته الداخلية دون تعويض الى أنْ ينتهي به الأمر الى الهلاك.

وهذا الأمر ينطبق هو الآخر على البناء العقلي والتغذية الروحية للإنسان، وكما

ص: 324

ذكرنا سابقاً بأنّ التجارب العلميّة أثبتتْ أنّ التعلّم وزيادة المعرفة تزيد من إفرازات الدماغ، فإنّ الانقطاع عن: «اكتساب المعرفة والتعلّم وتحفيز المواقع الخاصّة بالتفكير والذاكرة، وكلّ الباحات الخاصّة بتعلّم ما هو جديد من المعارف»، سوف يلازم تلك المواقع عدم النمو، حالها حال أيّة خلية أخرى في الجسم، ممّا يسبّب الضعف والوهن لتلك المراكز الدماغيّة.

الحركة لقاح

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «الحركة لقاح الجِدِّ العظيم» (1).

تؤكّد الآيتان الكريمتان التاليتان على أهميّة العمل في بقاء الحياة وأستمراريّتها، وتؤكّد كذلك على التمييز بين الأعمال.

وتُشير أيضاً الى وعد الله تعالى الذين يعملون الصالحات بالحياة الطيّبة وحسن العاقبة وسعة العطاء الإلهي من العِلْم والإدراك والصحّة ما ليس لغيرهم.

(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (2).

(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (3).

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام وهو يحثّ الناس الى ممارسة العمل والحركة والنشاط والابتعاد عن العجز والتقاعس والاتّكال ويتّضح من الموعظة خفايا فسيولوجيّة ومورفولوجيّة من خلال استعارته علیه السلام العملية اللقاح.

ص: 325


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 4، ص 546.
2- الأنعام: 132.
3- النحل 97.

الحركة

الحركة: هي النشاط، وصورة فعّالة من صُوَر الحياة، بل الشكل الأساسي للحياة ومضمونها، استجابة بدنية، والمقصود منها الحركة الهادفة والمثمرة لقابلية الجسم من خلال العضلات الهيكليّة والجهاز العصبي والهرموني، فضلاً عن الهيكل العظمي، وربّما يكون المثير خارجياً أو داخلياً، ويرافق أداء الحركة الإراديّة مجموعة من العمليّات الفورية والتراكمية والتي لا حصر لذكرها، ولكنّها تنتهي بتكيّف الفرد الوظيفي وزيادة كفاءته وعطائه، ومن هنا يأتى الاهتمام الذي يوجّهه أمير المؤمنين علیه السلام بالحَثِّ على الحركة؛ لِمَا لها من مردودات كبيرة على ذلك الجهاز البيولوجي، والذي اختصره بالحثّ لل «حركة». وهنا الكثير من المواعظ لأئمة أهل البيت حول أهميّة العمل والنشاط والحركة، ومنها:

قول الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم: «عَلِّموا أولادَكم السِبَاحَةَ والرِمَايَةَ وَرُكُوْبَ الخَيْلِ» (1).

وتلك التي ينهى بها عن حبّ الراحة والكسل، إذ يقول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

«اول ما عُصي الله تبارك وتعالى بستّ خصال: حبّ الدنيا، وحبّ الرئاسة، وحبّ الطعام، وحبّ النساء، وحبّ النوم، وحبّ الراحة» (2).

اللقاح

أمّا بخصوص هذه الاستعارة التي توضّح مدى أهميّة فعل الحركة والتي تأخذ معاني كثيرة، ولكن لو وُضّح من جانبٍ عِلْمِيِّ فإنّ اللقاح: لا يتمّ إلّا مِن خلال مُنَبِّهٍ ما، ومِن التقاء وتفاعل الخلايا بعضها مع البعض الآخر، وبطريقة لا إرادية أو

ص: 326


1- مسئوليتنا في ضوء نهج البلاغة: حسن مكّي الخويلدي، دار النخيل، ص 84.
2- ميزان الحكمة: ج 4، ص 1359.

إرادية، وهذا ما يحدث في الكائنات الحيّة المختلفة النباتية والحيوانية، وما يحدث لدى الإنسان، وبّما أنّ فِعل الحركة كان المقصود به الإنسان، فعليه عمليّة اللقاح هي عمليّة إرادية بمحض إرادته، وهذا يناسب فعل «الحركة التي تحدَّثنا عنه سابقاً بأنّه ناتِج عن استجابة لمنبّهٍ خارجي أو داخلي وبفعل إرادي بالعمل والحركة».

و من الجانب الآخر لمعنى اللقاح لدى بني الإنسان يعني:

التقاء ماء الذكر بماء الأنثى، وهو دلالة عن «الحمل أو الولادة»، وهو الآخر وَصْف عِلْمي بليغ للحركة، إذ ما يرافق الحركة ويتبعها من متغيّرات على عموم الجسم، إذ الحركة تُعدّ السبب الرئيسي لتجدّد الخلايا وبنائها وولادتها ومنها كريات الدم الحمراء التي تزيد مع زيادة الأداء والحركة لحاجة الجسم لها لسدّ النقص الأُوكسجيني، فضلاً عن زيادة الأطوال والحجوم والكتل والأوزان التي يسري على أجهزة الجسم والناتج من تراكم الى مواد البناء، ومنها البروتينات بفعل هرمون النمو وبالتالي تكون الحركة هي سبباً في الولادات الجديدة والبناء للخلايا ومكوّنات الأنسجة الجسميّة وهو الذي يدلّل على عمليّة النمو لمراحل الحياة والتي تُعدّ كلّ واحدة منها ولادة جديدة من الجانب البيولوجي تنسجم مع عمره الزمني مورفولوجيّاً وبيولوجيّاً ووظيفيّاً ...

كما يُشير آخرون الى أنّ اللقاح هو عملية استطباب ضدّ الأمراض، وهي الأخرى تُضاف الى البلاغة العلميّة للاستعارة، إذ الحركة والعمل والنشاط وما تحدثه من تكيّف هو زيادة مضاعفة وقوّة الجهاز المناعي ضدّ الأمراض البيئيّة المحيطة بالإنسان.

ص: 327

الساعة البيولوجيّة

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «العادة خارجيّة ثابتة غالبة» (1).

كما قال علیه السلام: «سوء العادة كمين لا يُؤْمَن» (2)

تُركّز الآيات الكريمة التالية على النهي والتحريم للمعاصي التي تُعدّ بارتكابها وتكرارها سلوكاً يزين لصاحبه فيراه حسناً، وبالتالي لها عواقب على صاحبها وعلى المجتمع ككل.

(أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (3).

(وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (4).

(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (5).

والكلام المتقدّم من كلام أمير المؤمنين علیه السلام ويخصّ العادات التي تتملّك الإنسان في سلوكه وطبائعه وبالتالي تكون غالبةً على تفكيره وأدائه وحركاته ولها تغيّرات داخلية: الفسيولوجيّة والبيوكيميائيّة.

وبما أنّ الزمن هو أحد ركائز الحياة المهمّة وسرّ تنظيمها، فكلّنا يسعى الى تقسيم ذلك الزمن ومتابعته؛ من أجل تنظيم حياتنا، وبالتالي «النوم، والأكل والاستيقاظ والعمل ...» مرتبط بوحدات الزمن وما تعوّد عليه الفرد من خلال مجاهدة أفعاله يُعدّ تكيّفاً وظيفيّاً يقع ضمن «العادات»، فمثلا: النهوض في ساعة مبكّرة ليكن لأداء فريضة الصلاة أو القيام بعمل معيّن يرتبط في بداية الأمر بتوقيت

ص: 328


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4 ص 522.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 522.
3- محمد: 14.
4- الأنعام: 152.
5- الاسراء: 32.

المنبّهات ولكن لبضعة أيّام تجد يحدث الاستيقاظ ربّما قبل أو أثناء بدء المنبّه بالعمل، والى أنْ يتمّ الاستغناء عن ذلك المنبّه، وعليه فإنّ الاستيقاظ أصبح تكيّفاً سُجّلت شفرته ضمن مواقع الدماغ للذاكرة والتحفيز في زمن الاستيقاظ المحدّد والتي يطلق عليها العلماء حاليّاً بالساعة «البيولوجيّة»، وهذا يُعدّ من العادات التي تكيّف لها الفرد وتكون غالبة عليه ثابتة.

ولكن توجد آلاف العادات الأخرى:

* منها يخصّ التغذية.

* ومنها يخصّ نوع معيّن من الحركات في اليقظة أو المنام.

* ومنها خارجيّة الحديث.

* ومنها السلوك ... ومنها الضارّ ومنها النافع.

ولكلّ منها حوافزه وطريقة استجاباته وتأثيراته في أجهزة الجسم العصبيّة والهرمونية ...؛ ولذا وصف أمير المؤمنين علیه السلام العادات السيّئة بأنّها «كمين لا يؤمن» وعلى سبيل المثال الافراط في تناول اللحوم له عواقبه الوخيمة منها: مرض داء النقرس، وارتفاع الضغط الدموي الشرياني؛ لترسب الكولسترول في جدران الشرايين ... والذي يظهر دون نذير معيّن.

ومن هنا جاء التنبيه على لسان الأئمة والنهي عن العادات السيّئة، ويقول الإمام الكاظم علیه السلام في باب تأثير العادات والحمْيَة ما يلي:

«الحِمْيَة رَأْسُ الدَوَاء، والمَعِدَةُ بَيْتُ الدَاء، عَوِّد بَدَنَأ مَا تَعَوّد» (1).

كما قامت إحدى الجامعات بتجربة على (6 - 8) متطوّعين وضعوا لأسابيع في ظروف بيئيّة مريحة وبمعزل عن العالم الخارجي وتحت اضاءة اصطناعيّة، وقد جُرِّدوا من كلّ أدوات وآلات التحسّس للزمن وتُركت لهم حُرِّيَّة إدراك وقياس

ص: 329


1- ميزان الحكمة: ج 3، ص 1261.

الزمن كما يحلو لهم، ووجدوا أنّهم يتّبعون نَسَقَاً مشابهاً للنسق الطبيعي لليوم الواحد (24 ساعة)، وبالتالي يعني أنّ الطِبَاع والعادات التي تكيّفوا عليها أصبحتْ يرافقها عمل وظيفي لا يمكن أنْ يتناساه الجهاز العصبي المركزي والغدد الهرمونية ولا جميع خلاياهم التي هي الأخرى تحمل الذاكرة، ومن هنا جاء وصف أمير المؤمنين علیه السلام أنّ العادة «خارجيّة غالبة ثابتة».

العادات

هي تبدأ استجابات الى استثارات خارجيّة أو داخلية تمتلك الفرد لتحقيق اشباع دوافعه المختلفة ينتج عنها سلوك ينسجم مع خارجيّة الدوافع، يمارس كلّما ظهرتْ تلك الحوافز لاشباع تلك الرغبات، وبالتالي تلعب الذاكرة دوراً كبيراً بخزن تلك المعلومات لتلك العادات، وعليه يصبح لتلك العادات ايقاع بيولوجي في الفرد ليس من السهل التخلّص منه؛ لمرافقته بتغيّرات فسيولوجيّة وبيوكيميائيّة وعصبيّة وهرمونية وربّما مورفولوجيّة، ولذا جاء تأكيد أمير المؤمنين علیه السلام على موضوع العادات؛ لِمَا له أهميّة بالغة في حياة الإنسان ووصفها بأنّها «خارجيّة غالبة ثابتة» ولَفَتَ النظر إليها لِمَا لها من تأثيرات على سلوك الفرد وتُغيّر في وظائفه.

ومن خلال التجارب البحثيّة التي قام بها الكثير من العلماء ولأهداف مختلفة يمكن أنْ نستفيد منها ونوظّفها لهذا الموضوع والتي أُقيمت على الحيوانات التي يتمّ استثارة من اللّذّة في الدماغ عن طريق عتلة خارجيّة يلاحظ أنّ الحيوان يبدأ هو الآخر بتكرار هذه العلميّة عند انتهاء فترة ذلك الحافز لأعادت تلك اللّذّة مرّة ثانية ممّا يُشير الى استجابة من أجل اشباع تلك الدوافع والرغبات، كما لوحظ من تلك التجربة أنّ الحيوانات تفضّل تكرار هذا العمل على تناول الطعام المحبّب لها وبالتالي فإنّ تلك الدوافع التي يُراد تحقيقها جعلتْها تعزف عن ضروريّات حياتها

ص: 330

وهي الغذاء، كما أنّ لتلك الاشباع للدوافع تغيّرات فسيولوجيّة تتناسب وتلك الأسلوب والطريقة المتّبعة للحصول على تلك اللّذّة والثواب.

ولكن هناك من العادات:

* ما هو ايجابي.

* وما هو سلبي له تأثيراته على وظائف أجهزة الجسم في مواقع معيّنة منه.

* ومنها تشمل عموم الجسم.

* كما منها يكون له تأثير آني.

* ومنها تأثيراته مستقبلية يزداد مع تكرار تلك العادة السيّئة متجاهِلاً عواقبها.

وبالعكس عند التعوّد على العادات الحميدة والحسنة هي الأخرى لها تأثيراتها الايجابيّة الآنية والمستقبليّة على وظائف أجهزة الجسم وسلوك الإنسان.

وربّما تكون تلك العادات هي حركة أو حركات معيّنة ظاهرية يقوم الإنسان بتكرارها بين الحين والآخر، وعلى سبيل المثال «مصّ الأصابع وقَضْم الأظافر ...»، كما ذكرتْ إحدى الدراسات حول سوء العادات على الدماغ إذ الكثير من الناس يتعوّدون بالتخلّى عن وجبة الافطار، ووجدتْ تلك الدراسة أنّ هذه العادة تؤدّي الى انخفاض معدّل سكّر الدم لديهم، وهو يقود الى عدم وصول غذاء كافٍ لخلايا المخ، ممّا يؤدّي الى انحلالها، كما وجدت من جانب آخر أنّ الافراط لدى بعضهم في وجبة الافطار يزيد من نسبة السكّر في الدم عن الحدود الطبيعيّة ويسبّب تصلّب شرايين الدماغ ونقص في القوّة الذهنية.

كما يكون الادمان على تناول أغذية معيّنة أو مشروبات معيّنة وعلى سبيل المثال: ما نلاحظة اليوم من المشاكل المستعصية للفرد والمجتمع في هذا العصر ممّا سبّبه من الاستمرار والادمان على تناول «الخمور والمنشّطات بأنواعها المخدّرة

ص: 331

أو المنشّطة ...» وما لتلك العادات تأثيرات لا مجال لحصرها بالجانب الوظيفي والسلوكي تنتهي بهؤلاء إلى الأمراض العصبيّة والأمراض الباطنيّة ... يشاهَدُون وهم مُلْقونَ على قارعة الطريق، ومَن أَسْعَفَهُ الحظ امّا خَلْفَ قضبان السجون، أو في المستشفيات المخصّصة لتلك الأمراض الناتجة عن العادات السيّئة.

وتُعتبر مشكلة المخدّرات في الوقت الراهن مِن أكبر المشكلات التي تُعاني منها دول العالَم، لِمَا لها من أضرار جسيمة على النواحي الصحيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والأمنيّة.

لقد أصبحت المخدّرات متفشِّيّة في كلّ أنحاء العالم؛ نظراً لتنوّع المخدّرات وانتشار تجارتها بصورة واسعة، فيقع الإنسان فريسة الادمان من جهل وضعف الوازع الديني، ممّا ينتج عنه آثار وأضرار خطيرة على صحّة الفرد والمجتمع، خلال السنوات الماضية ظهرتْ في الأسواق مركبات عديدة جديدة تتمتّع بتأثير واضح على الجملة العصبيّة والدماغيّة، وتؤدّي الى انحراف عقلي واضح، حتّى أنّ كثيراً منها يؤدّي الى الاذعان والاستعباد نتيجة الادمان والحاجة الماسّة للمخدّر التي تنشأ عن هذا الادمان.

كما يوجد اعتقاد خاطي شائع بأنّ مَن تعاطى المخدّرات يوماً أو أَدْمَنَ عليها لن يتمكّن من التغلّب عليها مستقبلاً. ابداً. بل انّ عمليّة العلاج ذات أبعاد متعدّدة تبدأ بوجود الإرادة والعزيمة الجادّة والقوية لدى المُدْمِن والمتعاطِي وتنتهي بالتكامل بين مراحل العلاج المختلفة من سحب السموم والتأهيل واعادة الدمج مع المجتمع والدعم الذاتي.

ومِن هنا جاء تأكيد أمير المؤمنين في مواضع أخرى عن كيفيّة تأديب النفس ومحاربتها بعاداتها السيّئة بقوله:

ص: 332

«ولوا مِن أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها» (1).

وفي نفس الوقت أنّ العادات الاجتماعيّة السلوكيّة لها مواقعها الخاصّة في باحات الدماغ في مناطق التعلّم والتفكير والذاكرة، وهي لها تأثيراتها على وظائف الجسم وأجهزته، فإنّ العفّة والأمانة والشجاعة والزهد والكرامة والاجتهاد وجميع السلوك الحسن وما يقابلها من السلوك السيّىء ليس من الممتلكات الذاتية للشخص، ولكنّها أنواع من التكيّف الواقعي بين قدرات الشخص وبين القِوَى البيئيّة المحيطة به أي ما هي إلّا عادات تنمو وتدخل فيها القِوَى البيئيّة ويُسْهِم فيها التكوين العام للفرد من ناحية والعالَم الخارجي من ناحية أخرى؛ ولذلك ورد في هذا المضمار عن أمير المؤمنين علیه السلام: «تَخَيَّر لنفسك من كلّ خُلق أحسنه، فإنّ الخير عادة وتجنّب من كل خُلْق أسواه، وجاهِد نفسك على تجنّبه، فإنّ الشرّ لجاجة» (2).

وهذا دليل خضوع الإنسان الى تأثيرات البيئة والتأثير الوراثي وبالتالي يستطيع الفرد بالتعود على العادات الحسنة أو السيّئة.

ومن هنا جاء وصف أمير المؤمنين علیه السلام للعادات السيّئة «كمين لا يؤمن»؛ لِمَا لها من تأثيرات في الجانب العصبي والهرموني والفسيولوجي على أجهزة الجسم المختلفة آنيّاً ومستقبليّاً.

عقوبات الشبع

قال أمير المؤمنين علیه السلام:

«مَنْ شبع عوقب في الحال بثلاث عقوبات: يُلْقَى الغِطَاء عَلَى قَلْبِهِ، وَالنعاس على عَيْنِهِ والكَسَل على بَدَنِهِ» (3).

ص: 333


1- ميزان الحكمة: ج 1، ص 71
2- ميزان الحكمة.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 4، ص 560.

تُشير الآية الكريمة الآتية الى عدم الإسراف بما يزيد عن الحاجة، وهذا يعني عدم وضع الأموال والامكانات الماديّة فيما يعصى بها الله تعالى ويشمل ذلك في جميع جوانب الحياة وتعاملات الإنسان، ومنها حاجاته من الغذاء.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (1)

والكلام المتقدّم هو من كلام أمير المؤمنين علیه السلام ويتّضح ظاهريّاً من الموعظة أنّها تخصّ مخاطر الافراط في التغذية والتي يصفها بالعقوبات جزاءً الى الخطأالمُرْتَكَب، وتوضيحها بثلاث مراحل هي:

1 - يُلْقَى غطاء على القلب.

2 - النعاس.

3 - كسل البدن.

ابتداءً أنّ هذا التسلسل في العقوبات هو تسلسل علمي يحدث نتيجة التغيّرات الحادثة في وظائف الجسم مِن جرّاء الافراط بالغذاء، أي لا يمكن أنْ يسبق إحداهما الآخر.

الشبع والقلب

يظهر من كلام أمير المؤمنين علیه السلام المراد هو الآثار السلبيّة «للشبع» على العمل الايقاعي لأجهزة الجسم، ولكنّ الأكثر احتمالاً هو عضلة القلب أو الجهاز العصبى المركزي، وعليه انْ كان المراد الاحتمال الأوّل: وهو عضلة القلب، فإنّ إلقاء الغطاء يُراد به إلقاء الحمل الثقيل والتحميل لتلك العضلة فوق طاقتها عند تناول الطعام

ص: 334


1- الأنعام: 141.

وبشكل يتلاءم وحاجة الجسم الطبيعيّة، وبالتالي الزيادة في كَمية الغذاء المتناوَل تعني زيادة نشاط القلب، أي زيادة اثارة العقدة الجيبية الأذينية، ومِن خلال استثارة الحوافز القادمة من العصب السمبثاوي واستمرار هذا الارتفاع لفترات طويلة نتيجة لامتلاء المعدة وما يُسبّبه من سوء وعُشر في الهضم، كما وتُشير المصادر العلميّة أنّ كلّ مادّة غذائيّة لها زمنٌ معيّنٌ، حتّى يتمّ هَضْمها وامْتِصَاصها مِن المعدة والأمعاء، وكما هو مُبَيَّن أدناه:

1 - الكاربوهيدرات: (3 - 3،5 ساعة).

2 - البروتينات: (3،5 - 4 ساعة).

3 - الدهون: (4،5 - 5 ساعة).

وهذا في الوضع الطبيعي ولمعدّلات التغذية الطبيعية فكيف عند امتلاء المعدة فوق قابليّتها وبحدوث التخمة وسوء الهضم، فمن الطبيعي سيزيد من ساعات الهضم والامتصاص، وهذا يرافقه زيادة في جميع العمليّات التي تُرافق الهضم والامتصاص، ومنها: «عمل العضلات الإراديّة، والعصارات الهاضمة، والجهاز العصبي والهرموني، وجهاز الدوران، والتنفس، والأعباء الواقعة على عضلة القلب التي تتكلّف بالنصيب الأكبر للنقل والتنبيه ...» وهذا يُعدّ حمل يقلِّل مِن قِوَاه في تلك اللحظات وكذلك يستنفذ مِن جهد وقابليّة العضلة في عملها طيلة عمرها الزمني.

كما ذكر الإمام علیه السلام: «قلّة الغذاء أَكْرُم للنَفْسِ وَأَدْوَمُ لِلصِحَّة» (1).

أمّا إذا كان المقصود بالموعظه «للقلب» هو الجهاز العصبي المركزي، أي الدماغ، فإنّ وصْفَ أمير المؤمنين علیه السلام بإلقاء الغطاء عليه يَدخل ضمن معنى مَنْع قدرته على الابصار والترصّد والمراقبة التي يقوم بها على جميع أجهزة الجسم

ص: 335


1- ميزان الحكمة: ج 1، ص 112

وضبْط عمليّاتها الوظيفيّة بشكل ينسجم وحاجة الجسم، وبالتالي اضعاف قدرته بالتحكّم بالواجبات المُنَاطة به، ومنها التحكّم الشعوري واللاشعوري ممّا يُدلِّل على أنّ عمليّة امتلاء جوف المعدة فوق قابلية الإنسان وتعرّضه للتخمة «الشبع» تأخذ دوراً كبيراً من الدماغ ممّا يُقلِّل من تنبيهاته الواردة الى بعض باحات الدماغ التي تُسيطر على بعض وظائف الجسم، ومنها المراكز الخاصّة باليقظة والنوم مؤدِّيةً الى تقليل تنبيهات اليقظة واستثارة النعاس لدى الإنسان أي الدماغ، ويقدّم حاجة إنجاز الهضم والامتصاص على بعض الفعّاليّات الشعوريّة واللاشعوريّة.

كما يذكر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من الآثار السلبيّة التي تؤدّي لها التخمة والشراهة

«ايّاكُم والبطنة، فإنّها مُفْسِدَةٌ للبَدَن، وَمُوْرِثَةٌ للسَقَمِ، وَمُكَسِّلَةٌ عَنِ العِبَادَةِ» (1).

التغذية والنوم

تَبَيَّنَ في معرض حديث إحدى المصادر العلميّة التي تتحدّث عن التغذية وعمليّات الهضم والعمليّات المرافقة لها أنّ «الشبع» يُسبّب الى عمل وظيفي كبير للتخلّص من تلك الكمّيّة التي لا تتلاءم وحجْم تجويف المعدة والقابليّة الوظيفيّة لها وقابليّة الوظائف الأخرى ذات العلاقة بالهضم والامتصاص وطرح الفضلات، وهذا يعني زيادة في كمّيّة الدم المدفوعة من عضلة القلب الى الجهاز الهضمي بصورة عامّة والى الأجزاء المِعَدِي والمِعَوِي بصورة خاصة؛ من أجل الاستمرار في عمليّة إنجاز هضْم الغذاء وامتصاصه والتخلّص من فضلاته، وهذا يتبعه تغيّر كبير في مجرى الدم داخل بيئة جسم الإنسان عن طريق تقليل الدم الواصل الى كثير من أجهزة الجسم غير العاملة ومنها العضلات الهيكليّة، وربّما بعض مناطق الدماغ.

وعليه أنّ تناول الطعام بصورته الاعتيادية يكلّف: الجهاز العصبي، والهرموني،

ص: 336


1- ميزان الحكمة: ج 1، ص 113.

والعضلات اللاإراديّة، والجهاز التنفّسي، والدوران، وعضلة القلب. كيف إذا كان ذلك في حالة الشبع فإنّ الواجبات وثِقْل الأعباء ستتضاعف، وهذا يزيد من حموضه المعدة؛ لمعالجة تلك الكمّيّة الكبيرة من الطعام مِمَّا يزيد من سحب كميّة أكبر من الدم وتقليل الدم عن باقي أجهزة الجسم، ومنها - كما ذكرنا مناطق معيّنة من الدماغ، ممّا يُثير النعاس والميول الى النوم والكسل وارتخاء العضلات.

كسل البدن

يولّد الشعور بالنعاس لدى الإنسان والميول الى النوم نوعين رئيسين من التأثيرات الفسيولوجيّة هما:

أولاً: حدوث تأثيرات على الجهاز العصبي المركزي ذاته.

ثانياً: تأثيرات على تركيب الجسم.

التأثير الأوّل هو الأهمّ؛ إذ يُلاحَظ من خلال التجربة أنّ النوم لدورة تعزيز وكبت الاستثاريّة العصبيّة التي تتلو دورة اليقظة وللنوم تأثيرات فسيولوجيّة معتدله على محيط الجسم، فمثلاً توجّه فعّاليّة عصبيّة «ودّيّة» من الدفعات العصبيّة الهيكليّة للعضلات التي تزيد من توتّرها العضلي، وعلى العكس من ذلك تقلّ الفعّاليّة الودّية مقابل زيادة في الدفعات اللاوُدِّية أثناء الميول الى النوم أو النوم لا سيّما في النوم الهادىء الذي يشكّل (80 %) من النوم الكلّي والذي يكون لا بدّ بداية النوم هو من النوم الهادىء، والذي يرافقه انخفاض في معدّل ضربات القلب والضغط الدموي وتوسّع الأوعية الدموية الجلديّة وارتخاء العضلات بشكلٍ عام وهبوط في سرعة العمليّات الأيضيّة في الجسم بحوالي (10 - 30 %) عن المستوى الطبيعي.

كما أنّ التغيّر الحاصل في مجرى الدم أثناء أداء عمل بَدَنِي باتّجاه العضلات الهيكليّة العاملة وزيادة الإثارة العصبيّة لدوام العمل يقابله العكس أثناء عمليّة

ص: 337

التغذية، ولا سيّما إذا زاد عن الحدّ الطبيعي لها.

كما يشمل هذا التغيّر تغيّرٌ في الإثارات العصبيّة وتزايدها على الأجهزة العاملة وتسخيرها من أجل إنجاز العمل وتثبيطها عن الأجهزة غير الفعّالة والعاملة أو غير المشتركة في عمليّة الهضم، ممّا يؤدّي ذلك الى الكسل والخمول المرافِق لعملية الاشباع.

ومن هنا تتّضح الصورة عن أسباب النعاس والتكاسل في البدن، وكذلك عن السؤال الذي فرضناه بسبب التسلسل العلمي لتلك العقوبات الثلاثة، إذ لا يحدث التكاسل للبدن قبل حدوث النعاس، كما أنّ الأخير لا يُسبق برمي الغطاء على القلب بسبب الاشباع.

علم الوقاية من الإصابات

قال أمير المؤمنين علیه السلام: «استجادة الحذاء وقاية للبدن وعون على الصلاة الطهور» (1).

وهذا الكلمات هي من مولانا أمير المؤمنين علیه السلام بمعرض وصيّته لابنه الأمام الحسن علیه السلام، والظاهر والباطن من الموعظة يدخل ضمن علم الوقاية من الإصابات وقد اتّخذ أميرُ المؤمنين علیه السلام من «الحذاء» مثلاً للتنبيه عن كيفيّة التعامل مع المستلزمات والأدوات التي يلبسها أو يستخدمها أو ينتعلها الإنسان؛ لِمَا لها من أضرار في حالة عدم انسجامها مع حجم وشكل ووظيفة ذلك الجزء من الجسم أو بأكمله، فضلاً عن أنّ تلك الموعظة تُشير بشكلٍ دقيق وموضوعي الى أنّ الآثار المترتّبة لتلك الأدوات والمستلزمات تنعكس على البدن وليس على مواقع الاستخدام فيه، إذْ استخدام الحذاء الضيّق يُسبّب جملة من الإصابات منها:

ص: 338


1- الكافي للشيخ الكليني: ج 6، ص 462.

1 - النفطات: وهي انفصال الطبقة السطحيّة العليا من الجلد عن الطبقة السفليّة؛ بسبب الاحتكاك المستمِر بين سطح الجلد البشري وجلد الحذاء. وتُعدّ هذه النفطات هي بداية لاختراق الميكروبات والفيروسات من خلالها إذا لم يتم معالجتها، ناهيك عمّا تُحْدِثُهُ من آلالم واضطراب في الحركة.

2 - يمنع الحركة الطبيعيّة للقدم وفي مفاصلها، والاستمرار في استخدامه يخفّض من مرونة العظام المكوِّنة للقدم ومطّاطيّة أليافها العضلية.

3 - كما يحدث إعاقة وصول الدم الشرياني، والأكثر أهميّة إعاقة رجوع الدم الوريدي، مؤدِّيَةً الى زيادة الضغط بين الصمامات الهلاليّة في الأوردة، مكوّنةً أكياس تُعرَف ب «الدوالي».

4 - يعيق الحركة والمسير مسبّباً آلاماً في القدم.

وبالتالي كانت الموعظة في الوقاية من الإصابات من خلال معرفة المستلزمات المستخدمة وكيفيّة التعامل معها من خلال انسجامها مع وظائف الجسم، ومنع تأثيراتها السلبيّة على ذلك الجسد وأجهزته الحيويّة.

والله ولي التوفيق

ص: 339

ص: 340

المصادر والمراجع العربيّة والأجنبية

المصادر العربيّة:

1 - الإعجاز العلمي في القرآن: لبيب بيضون. مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات. بیروت. سنة 2003 م.

2 - أساسيّات علم الفسيولوجيّة: رشدي فتوح عبد الفتّاح. الطبعة الثانية، مطبعة ذات السلاسل، سنة 1988 م.

3 - الأمالي: لأبي جعفر محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (ت 460 ه ق) تحقيق مؤسسة البعثة، دار الثقافة - قم، الطبعة الأولى 1414 ه ق.

4 - الأمالي: لأبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (ت 413 ه ق) تحقيق: الأستاذ حسن ولي وعلي أكبر الغفّاري، مؤسّسة النشر الإسلامي - قم.

5 - الأمالي: لأبي جعفر محمد بن الحسن بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (ت 381 ه ق) مؤسسة الأعلمي - بيروت، الطبعة الخامسة، 1400 ه ق.

6 الأدوية وصحّة البدن: الحاج أحمد الوائلي. أنوار الهدى. قم، سنة 2004م

7 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار علیهم السلام: العلّامة محمد باقر بن محمد تقي المجلسي (ت 1110 ه. ق)، دار أحياء التراث - بيروت، الطبعة الثالثة 1403 ه ق.

8 - تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام). لأبي الحسين ورام بن أبي

ص: 341

فراس (ت 605 ه ق)، دار التعارف ودار صعب - بيروت.

9 - بحوث في علم النفس الفلسفي: دروس للسيّد كمال الحيدري. بقلم الشيخ عبد الله الأسعد. دار فرقد، الطبعة الأولى سنة 2003 م.

10 - التربية الروحيّة: السيّد كمال الحيدري. دار فرقد. الطبعة السادسة، سنة 2003م.

11 - التحليل البيوكيميائي والفسلجي في التدريب الرياضي: ريسان خريبط. دار الحكمة جامعة البصرة، سنة 1991.

12 التحليل البيوكيميائي والفسلجي في التدريب الرياضي: ريسان خريبط. دار الحكمة جامعة البصره، سنة 1991.

13 - جامع الأحاديث: لأبي محمد بن أحمد بن علي القمي المعروف بابن الرازي (القرن الرابع الهجري)، تحقيق: السيد محمد الحسيني النيشابوري، مؤسسة الطبع والنشر التابعة للحضرة الرضوية المقدسة - مشهد، الطبعة الأولى 1413ه. ق.

14 - جامع الأخبار أو معارج اليقين في أصول الدين: لمحمد السبزواري (القرن السابع الهجري ه ق)، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت - قم، الطبعة الأولى 1414ه. ق.

15 - دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام: لأبي حنفية النعمان بن محمّد بن منصور التميمي المغربي (ت 363 ه ق)، تحقيق: آصف بن علي أصغر فيضي، دار المعارف - مصر، الطبعة الثالثة 1383 ه ق.

16 - راحة الرياضي: علي البك وآخرون. مطبعة معادي الاسكندرية القاهرة، سنة 1994.

17 - شرح نهج البلاغة: لعز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي حديد المعتزلي المعروف بابن أبي الحديد (ت 656 ه ق) تحقيق: محمد أبو الفضل

ص: 342

إبراهيم، دار احياء التراث - بيروت، الطبعة الثانية 1385 ه ق.

18 طب الإمام الصادق علیه السلام: السيد محمّد كاظم القزويني. دار الكتاب العربي. بغداد سنة 2004م.

19 - طب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام: بقلم عبد الحسين الجوهري، تقديم الشريف أحمد شوقي الأمين دار المفيد، بيروت. سنة 2002 م.

20 - علم حياة الإنسان: محمد سليم صالح وعبد الرحيم عشير. مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، بغداد سنة 1982.

21 - علم الفسلجة: محيسن حسن عداي وفؤاد شمعون حنّا. الجزء الأول، دار الكتب، الموصل، سنة 1987 م.

22 - غرر الحكم ودرر الكلم عبد الواحد الآمدي التميمي (القرن السادس الهجري)، التحقيق: ميرسيد جلال الدين المحدّث، جامعة طهران، الطبعة الثالثة 1360 ه ق.

23 - الفسلجة: قيس إبراهيم الدوري وطارق عبد الملك. دار الكتب للطباعة الموصل، سنة 1981.

24 فسيولوجيا التدريب الرياضي: محمد حسن علاوي وأبو العلا عبد الفتاح. دار الفكر العربي، القاهرة.

25 - الكافي: لأبي جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني الرازي (ت 329 ه ق)، تحقيق: على أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية - طهران، الطبعة الثالثة 1388 ه ق.

26 الكيمياء الحيوية للعضلات: سعد عبد الحميد. مطبعة التعليم العالي والبحث

العلمي، سنة 1989.

27 - الكيمياء الفسلجية: هارولد هاربر. الطبعة الأولى، ترجمة لفيف من أعضاء

ص: 343

هيئة التدريس في عدد من الجامعات العراقية، الجزء الثالث المكتبة الوطنية بغداد سنة 1988.

28 - المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء: لمحمد بن المرتضى المدعو بالمولى محسن الفيض الكشاني (ت 1091 ه ق)، تحقيق: علي أكبر الغفاري، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، الطبعة الثانية.

29 - مكارم الأخلاق: لأبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي (القرن السادس الهجري)، تحقيق: علاء آل جعفر، مؤسسة النشر الإسلامي - قم، الطبعة الأولى 1414 ه ق.

30 - مسؤليتنا في ضوء نهج البلاغة: حسن مكي الخويلدي. دار النخيل. بيروت. سنة 1995م.

31 - الميزان في تفسير القرآن: العلّامة السيد محمّد حسين الطباطبائي (ت 1402 ه ق)، اسماعيليان - قم، الطبعة الثالثة، 1393 ه. ق.

32 - ميزان الحكمة: محمد الريشهري. دار الحديث. بيروت سنة 2001م.

33 - المنجد في اللغة والأعلام لوييس معلوف. دار المشرق – بيروت، الطبعة السادسة والعشرون، 1973م.

34 ماذا تعرف عن قلبك وكيف تحافظ عليه: عبد المنعم مصطفى. الطبعة الأولى مطبعة الشؤون الثقافية العامة، بغداد، سنة 1993.

35 - نهج بلاغة الإمام الصادق علیه السلام: عبد الرسول الواعظي الطبعة الثانية. مطبعة الآداب. النجف. سنة 1383 ه.

36 - نهج البلاغة: ما أختاره أبو الحسن الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى الموسوي من كلام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام، تحقيق: الدكتور محمد الدشتي دار نشر أمير المؤمنين علیه السلام، الطبعة الأولى. مطبعة الهادي

ص: 344

37 - نهج البلاغة: ما أختاره أبو الحسن الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى الموسوي من كلام الإمام أمير المؤمنين علیه السلام، شرح: الشيخ محمد عبده مطبعة النهضة قم المقدسة الطبعة الأولى 1412 ه ق.

38 - وظائف أعضاء التدريب الرياضي / مدخل تطبيقي: محمد على أحمد القط. سلسلة الفكر العربي في التربية الرياضية والبدنية عدد (21)، القاهرة، سنة 1999.

المصادر الأجنبية:

39 - Anany N. Alterations in Ventriclar Mass and perfor Mance induced By Exercise Training in Man Eraluated Br Echocardiog Rapby.Circulatuon Vol 57, No 2, 1979

40 - Astrand P. O. and Khare Rodehl. Text Book of Work Physiology.U.S.A.Mc Graw

41 - Beare B. G. and MyErs J.L.: Brinciples and practice Of Adult Healht Nursing Cvmosbu, St Loais, 1990.

42 - Bergstrom, J. and E. Hulth Man, The effect Of exercise On Muscle glycogen and electrolytes in Normal. Scand. J. Clin. Lab invest. 18: 1966.

43 - Bonner. R.M. and Otherss Effect of heat a cclimatizion on intraseular Respons to acute heat stress in man. J. Appl. Physiol. (41) 5. 1976.

44 - Bruce J - noble Physiology of exercise and sport, times mirror Mosby college, Pablishing 1986.

ص: 345

45 - C. H. Gray Clinical chemical pathology. the english language book society and edward Arnold (Publishers) Seven edition 1974.

46 - Fox. M. The Physiological Basis of physical Education and Athleties 1981.

47 - Ganong W. F. Reriew of medical Physiology. 18 ThEd.prentice - Itall International In alange medical book.

48 - Guyton A.C.and Hall, J.E: Textbook of Medical Physiology. 9tl Ed, W. B. saunders company, Philadelphia, 1996.

49 - Heller, L.j and Mohr man D. E Cardiovascular Physiology, Mc Graw - Hill New york 1981.

50 - John. C. Echocardio graphic left Ventricular masses indistance runners and weight lifters. American Physiological Society 1980.

51 - Lamb, D. R.: Physiology of Exercise Resposes and Adaptations Macmillan Publishing co. 1984.

52 - Larry - G - Sharer, Essential of exercise Phyioiogy.burgess publishing Company. 1981.

53 - Lipman, b. C. and cascio, T.: ECG Assessment and Interprtation, F. A. Daris company, Philadelphia 1994.

54 - Louis Kreel. Roberte. Medical Imaging Ct, U \ S, IS, Nmr, Abasic Course. Mpublishers, Saylesbury Bucks. london.

55 - Marriot, H.J.L.: Practical Electrccardiography. 7th Ed, Willians and willkins, Baltimore, 1983.

ص: 346

56 - Mckechnie J.K. and others, Some eleotrocardiographic and biochemical changes recded in marathon runners. S. African. Med.J.41. 1967.

57 - Michael. F. Robert, Control of skin oirculation during exercise and heat stress. Med. Sci. sport. No, 1979.

58 - Paridon, S.M.Bicker, J. T. Quantitative Qrs changes with exercisein children and adolescents. Med. Sci.sports. 22 (2). 1990.

59 - Petersdorf, R.G.Adams, R.D,: Braunwald, E.Isslbacher, K. J. Marten, J.B.and witson, J.D. Harrisson's principles of internal medicicine, 10ht Ed. 4th Prenting, Mcgraw - Hill, 1985.

60 - Rose, Leslie and others. Serum electrolyte changes after marthon Running. J. Appl.physiol 29(4) 1976.

61 - Roy - J - Shephard,: Responses of the cardio rascular system to exercise and training. Current the rapy in sports medicinge. Toronte.can ada. 1995.

62 - M. Cardeac hypertrophy in response to dynamic, 62 - Steven conditionin in female athletes. Auerican physiological Society 1978.

63 - Vedya Ratan. Hand book of human physiology. 5Th edition Jaypee brothletes medecal publishers. 1983.

64 - West, J. B. Best and Taylor's physiological Basic of Medical practice. 11th.Ed. Wiliams and Willkins, London, 1991.

65 - Winaim. D. Mcardle and others, Exercise physiology, enegy

ص: 347

nutrition and haman per formance. Lea and febiger. 1981.

66 - Wilkerson.J. E and others. Plasma electrolyte content and concentration during treadmill exercise in hurnans. S.J. Appl.physiol respirat environ. Exereise physiology. 53. 6. 1982.

67 - Weir, J. B, dev. Metabolic Rate and body temperature. 1949.

ص: 348

الفهرس

الاهداء ... 5

شكر وتقدير ... 7

المقدمة ... 9

الخوف ... 11

علاقة الخوف بالخفقان ... 12

إظهار القوة ... 13

اصطكاك الأسنان ... 14

مركز ثقل الجسم ... 15

القصور الذاتي ... 16

العمليات العقلية - الانتباه ... 16

علم الوراثة ... 17

الرعاف ... 19

الضمور والتضخّم الفسيولوجي ... 21

الانقطاع عن العمل ... 23

الإنسانية في الدعاء ... 24

الاضطرابات النفسيّة والتقرحات ... 24

أسباب القرحة ... 25

التعلم الحركي والتغذية الراجعة ... 26

المكونات وهيئة الإنسان ... 29

أولاً: - الصفات البدنية ... 31

ثانياً: الجهاز العضلي ... 31

ثالثاً: المضيقات والموسعات الوعائية ... 32

ص: 349

رابعا: القياسات الجسمية ... 33

خامساً: الهيكل العظمي ... 33

سادساً: جهاز القلب ... 35

سابعا: الجهاز الهرموني والانزيمات ... 35

أعراض الخوف ... 38

الخوف وحركة العينين ... 39

دور الرأس التوجيهي ... 41

دور الرأس السلوكي والحركي والتحكّم في الوظائف ... 43

الأجهزة الحسّية ... 44

حاستي الأنف والعين ... 45

الظهر والبطن ... 47

علم الحركة ... 48

الحمل وخط سير القوة «التحليل الحركي» ... 50

بداية ونهاية الإنسان ... 53

ألم الجنين والولادة ... 54

ألم النمو ... 56

العوامل والأجهزة الحسّية ... 57

السمع ... 58

البصر ... 69

اتصال الأنسجة والأعضاء والأجهزة ... 59

الشباب والهرم ... 61

التشوّهات القِوامية في الشيخوخة ... 63

الجهاز المناعي في الهرم ... 64

الخوف والبدن ... 66

التفكير والخوف وتعب البدن ... 67

ص: 350

تاثيرات الخوف على الجهاز المناعي ... 68

مراحل النمو ... 69

علم الأجنة ... 72

وقت البلوغ ... 74

علم التشريح ... 75

تباين الأعضاء ... 77

الهيكل العظمى ... 77

الوعاء الدموي ... 78

المفاصل ... 78

علم الفسيولوجيا ... 80

الأجفان ... 82

أكنان القلوب ... 82

الوظائف التوالدية والهرمونية للذكر والانثى ... 84

تكوين وخزن النطف وتدفقها ... 85

البصر ... 87

نظام سوائل العين ... 88

علم الوراثة ... 89

الوضع عند المرأة ... 92

علم الحركة ... 94

شروط القرار ... 95

سريع القيام ... 96

الموت ... 96

مراحل الموت ... 99

علم التغذية ... 105

مسببات الهرم ... 108

ص: 351

تصنيف مراحل الضعف والهرم ... 110

الجانب النفسي والعمليات العقليّة والسلوك الإنساني ... 114

تركيز الانتباه وعلاقته بالخوف ... 115

علم التغذية ... 116

التوازن الحراري ... 119

الأيض البنائي والهدمي ... 119

علم النمو ... 121

النمو والشيخوخة ... 122

علم الإخلاف والتعويض والتوالد ... 124

التعويض والتوالد ... 125

مراحل الجنين ... 127

ظلمات الأرحام ... 129

القرار المكين ... 129

حركة الجنين ... 129

نطق الجنين ... 130

السمع الجنيني ... 130

تغذية الجنين ... 131

السلوك الفطري ... 131

علم التغذية ... 132

الإفراط بالتغذية ... 133

طرق استقراء الباطن ... 134

علم تشخيص الأمراض ... 135

الألم والجلد والمستقبلات الحسّية ... 136

الجلد ... 138

الأحاسيس الجسدية .... 138

ص: 352

المستقبلات اللمسية ... 139

مستقبلات الألم ... 139

مستقبلات الحرارة ... 140

الثواب والعقاب والتخيل والتعلّم ... 141

البواعث والمخيّلة ... 142

زفير وشهيق جهنّم ... 144

الأعمال والماء ... 145

الماء والنباتات ... 147

الماء وحياة الإنسان ... 147

الماء ومعالجة الأمراض ... 149

انظمة السيطرة في الجسم الحي ... 151

التوازن الحيوي ... 152

أنزيم كلوتوثيون بروكسيديز ... 153

بروتينات الانذار المبكّر ... 153

انعكاسات الشدّ والتوتّر ... 154

المستقبلات الحسية للعضلات ... 154

درجات الحرق ومناطق الخطورة ... 155

تقدّم العمر البيولوجي والأجهزة الوظيفيّة ... 157

الأبدان والأعضاء ... 159

اضطرابات النوم والمرض ... 160

تربية السلوك الانفعالي ... 164

التغذية ... 165

الآلية العصبيّة في الإفراز ... 166

تنظيم الإفراز الغدّي بالهرمونات ... 167

العزيمة والوليمة ... 167

ص: 353

العزائم والنوم ... 168

ما بعد الموت ... 169

قوة الأرض ... 170

النموّ والموت ... 171

آخر ما يرثه الإنسان ... 172

مراحل التفسّخ ... 174

طرق الآفات ... 179

الجهاز المناعي ... 180

ما قبل الموت ... 181

النمو والهرم والوهن ... 183

ملامح الحتوف ... 185

الداء والدواء ... 186

فراق الدنيا ... 188

رطوبة اللسان ... 190

اسباب الأختلاف بين البشر ... 191

الاختلاف السلوكي ... 192

القوام ... 193

مركز ثقل الجسم ... 194

اختلاف القوّة ... 194

التغيرات الكهربائية لأغشية الخلايا ... 195

آثار الصاعقة ... 196

تنظيم العمل مع النغم الحيوي ... 197

الفعّاليّة الحيويّة لدورة الليل والنهار ... 200

سوائل الجسم ... 201

النوم ... 202

ص: 354

الراحة ... 203

الوقاية ... 205

محاذير التقدّم بالعمر ... 205

الأيض البنائي والهدمي ... 206

میکكانيكيّة الوعاء الدموي ... 208

علم الطب الرياضي ... 209

الإصابات والوقاية ... 210

إصابات العمود الفقري ... 211

رياضة الأنفس ... 213

النفس ... 215

التكيّف ... 216

علم الغذاء ... 220

التوازن بين مدخولات الطاقّة ومصروفاتها ... 221

الهايبوثلامس والقوى الشهوانية ... 222

مصادر السمنة ... 222

القوام ومصادر الطاقة ... 224

التأقلم للبيئة ... 226

الطاقة ... 228

السمنة ... 228

تربية القوة الشهوانيّة ... 229

علاقة التدريب والتكيّف ... 230

الكاربوهيدرات ... 231

مصادر الجوع والشبع ... 233

ملح الطعام ... 234

العين ومكوّناتها ... 236

ص: 355

سوائل العين ... 238

الدمع ... 238

الغضب جُند ابليس ... 239

الاستجابات الفسيولوجيّة المصاحبة للغضب ... 240

العمل والصحّة ... 242

أهمّ الأعضاء لعمل الأجهزة ... 244

البصر ... 245

النطق ... 246

السمع .... 247

الأنف والتنفس ... 248

المناهج العلاجيّة والتأهيلية ... 249

الصحّة والعامل النفسي ... 252

الدهر والعمر ... 252

العلم والأخلاق ... 256

تَلِجُ المنية من جهة الاطمئنان ... 259

الايقاع الحيوي ... 262

التدرّج في مواجهة البيئة الخارجيّة ... 263

آثار الصيام والزكاة ... 265

الهمّ والشيخوخة ... 273

آثار الهمّ والخَوف والغمّ على الشيخوخة ... 275

قانون فرانك - ستارلنك ... 277

العقل والتعلّم ... 279

علم الغذاء ... 281

طرق معالجة الخوف ... 284

علم النفس العصبي المناعي ... 286

ص: 356

الأيض الأساسي ... 288

وعاء العلم ... 291

الحسد والصحّة ... 296

الخمر والعقل ... 299

تأثير الكحول على تغذية الجسم ... 300

العزائم ومقاربة النساء ... 302

دوافع المقاربة ... 303

الوظائف التوالديّة الذكريّة ... 304

منظّم ضربات القلب ... 308

العقدة الجيبية - الأذينيّة ... 310

الرئتان والشرايين ... 311

علاقة القرارات بالنوم ... 312

الضحك والعقل ... 313

مواقع الضحك في الدماغ ... 315

التغيّرات الفسيولوجيّة المصاحِبة للضحك ... 316

الوقاية مِن الإصابات ... 317

علم الطبّ الريّاضي ... 318

علم التغذية ... 318

علم الإصابات والوقاية منها ... 320

الاجهاد ... 321

الصفات البدنيّة ... 322

البدن والحكمة ... 323

الحركة لقاح ... 325

الحركة ... 326

اللقاح ... 326

ص: 357

الساعة البيولوجيّة ... 328

العادات ... 330

عقوبات الشبع ... 333

الشبع والقلب ... 334

التغذية والنوم ... 336

كسل البدن ... 337

علم الوقاية من الإصابات ... 338

المصادر العربيّة ... 341

المصادر الأجنبية ... 345

الفهرس ... 349

ص: 358

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.